Professional Documents
Culture Documents
ر
واية
رحلة احل�سن
عمرو يسري
لمزيد من الكتب الحرصية
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
إهداء
ريص ع
الكثير من األمور التي كانت غائبة عني ،وأعادتني لعادة
عرفتني على إنسان رائع
ع
G
8
()2
ريص ع
-ه َّيا استيقظ يا عبد اهلل؛ حتى ال تتأخر عن العمل
ل ا
بل ت ك
كثيرا بالليل ثم ها أنت ذا ال كعادتك .تسهر
ل
ً
ر ش
والتوزي
إصرار سمير (باشا) -ابن عمي -على تصعيد األمور
ع
ضدي ،واستنفار مجلس إدارة الشركة يف مواجهتي .ح ًّقا،
ال أعلم ما الذي ...
وأخيرا وصلت إلى مقر الشركة ،لقد كدت أيأس أن ً
إلي إبراهيم مسئول موقف سيارات أصل اليوم .جاء َّ
الشركة ُمسر ًعا بمجرد رؤيته لي .فرتكت له السيارة ،حتى
ر ش
والتوز عي
«أهل عبد اهلل باشا ،كيف أحوالك وأحوال ابنك الباشاً
الصغير؟ أنرت المكان» هكذا ح َّياين كل َمن قابلني منذ
وقويف أمام باب الشركة حتى وقويف أمام المصعد .بالتأكيد
يقولون نفس الكالم لسمير (باشا) .هم يقفون على الحياد
بيننا ،منتظرين أي باشا منَّا ستكون له الغلبة؛ حتى يكون له
والؤهم الكامل .هكذا تسير األمور يف بالدنا ،بل يف العالم
أجمع .حسنًا ،ال ألومهم .فال أنتظر منهم الوقوف معي أو
ضدي؛ فهم يف النهاية ال ناقة لهم وال جمل يف هذا النزاع
الماراثوين بيني وبين سمير .هم فقط يريدون أن يعيشوا،
ولو على هامش الحياة.
11
خرجت من المصعد يف الدور الثاين حيث غرفة
اجتماعات مجلس اإلدارة .وقفت أمام باهبا .أخذت
نفسا عمي ًقا كأنما أستعد للقفز يف حمام سباحة ،ثم فتحت
ً
الباب.
ر
شامخا على رأس الطاولة. مجلس اإلدارة الفارغ يقف
عوالتوزي
لوحات أنيقة تزين الحوائط .غرفة تليق ح ًّقا باجتماعات
مجلس إدارة واحدة من أكرب شركات االستشارات
القانونية يف البلد.
ع
أن ُيصلح األحوال ،ويجمع اآلراء على ما فيه الخير
ع
وعمت الفوضى المكان.
والصيحاتَّ ،
ع
هتدئة األجواء ،لكن ضاع صوته وسط الصيحات.
ريص ع
وأنا أشعر باختناق ،وألعن الجميع.
15
شذرا ثم قالت« :حسنًا ،لم أتوقع منك ر ًّدا
نظرت لي ً
أتحمل المزيد من الهراء. َّ كعادتك؛ فأنت .»...لما أعد
هادرا« :ال أريد مزيدً ا من الكالم الفارغ.
ً التفت إليها
متفر ًغا لكالمك التافه هذا».
يكفيني ما أنا فيه .لست ِّ
علي سري ًعا قائلة« :حسنًا حسنًا .فقط أردت
ردت َّ
إلي نتيجته ،وقد
أن أخربك أن مدرسة حسن قد أرسلت َّ
عوالتوزي
األول على فصله يف العام الماضي!
-وأين هو اآلن؟
-يف غرفته .صامت منذ أن عاد للمنزل .أرجوك اتركه
اآلن ،وال داعي أن تفرغ غضبك فـ ...
« -حسنَ ،
تعال اآلن» .صرخت بكل قويت.
إلي بال
جاء حسن ووقف أمامي وهو صامت وينظر َّ
مباالة غريبة لم أعتدها منه.
ص ع
ِ
ن ل
ونسيت الوقت بعملك ،ومحادثة صديقاتك على الهاتف
ر ش
والتوز عي
ابنك .وهذه هي النتيجة .شيء مقرف».
ص ع
أيضا.
ولم يكن يدري أنه يزيل التعب عن عقلي ً
ر ش
والتوزي
نفسي خفي ًفا كالفراشة التي ترغب يف الرتحال ً
قليل يف كون
ع
اهلل الفسيح .فقررت أن أترك سياريت يف موقف السيارات،
وأطلق العنان لقدماي تسيران بي كما تريدان .ظللت
محاول نسيان مشكاليت واستحضار ً أتجول يف الشوارع
بعض السالم الداخلي .لكن كلما بدأت أشعر بصفاء
مخرجا لسانه
ً ذهني ،وجدت وجه سمير يقفز إلى ذاكريت
ويسارا كأين أحاول أن
ً لي .فأقوم هبز رأسي بقوة يمينًا
أطيح بوجهه خارج ذاكريت ،بل خارج حيايت كلها.
ر ش
والتوز عي
إلى ساقية الصاوي لحضور إحدى الفاعليات الثقافية.
كم كنت مول ًعا بالثقافة والقراءة! لكن كل هذا تبخر بعد
الزواج .يقولون يف المثل «آخرة الحب الزواج» ،يقصدون
أن الحب يتكلل يف النهاية بالزواج .لكن يبدو أن المثل يف
الحقيقة يعني أن الحب ينتهي بالزواج ،كذلك الطموحات
واألحالم .ال أعلم لماذا .ألم يكن أغلب المبدعين
والمخرتعين واألدباء متزوجين؟ لكنهم استطاعوا إكمال
مسيرهتم العلمية واألدبية ،فلماذا ال أستطيع فعل ذلك؟!
19
ً
طويل وأهنكني السير، الماضي الجميل .وبعد أن مشيت
أخيرا إلى الساقية .قطعت تذكرة الدخول، ً وصلت
وبمجرد أن دخلت ألقيت بنفسي على أقرب مقعد ،حتى
قدمي
َّ قدمي .وبعد أن ارتحت ً
قليل ،وقفت على َّ أريح
مبتسما؛ فقد كنت أفتقد هذه
ً وتجولت بين أروقة الساقية
ُّ
األجواء الثقافية بشدة :مجالس القراءة ،ورش اآلليات
ص ع
الموسيقية مثل البيانو والجيتار ،ورش التمثيل ،وغيرها
ر ش
والتوز عي
الشخصية التاريخية التي سأكتب عنها.
ر ش
والتوزي
الكتابة عنه ،فقررت أن أكتب عن أحد المقربين منه.
ع
ويف الوقت نفسه أردت أن أكتب عن شخصية عظيمة لم
مميزا .أخذت
تأخذ حقها من التقدير ،حتى يكون كتابي ً
أقلب شخصيات عصر صدر اإلسالم يف رأسي بح ًثا عن
الشخصية المطلوبة .مرت برأسي عشرات الشخصيات
فردت لهم مئات الكتب على مر العظيمة ،لكنهم قد ُأ ِ
الزمان.
22
أذكر حين قرأت عبقريات العقاد اإلسالمية أنني استغربت
عدم وجود اسمه بين من ترجم لهم .فقد ترجم للرسول
(صلى اهلل عليه وسلم) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي
وفاطمة الزهراء ،ثم قفز فجأة لمعاوية بن أبي سفيان
ً
متجاهل أحد أهم والح َسين بن علي
ُ وعمرو بن العاص
شخصيات اإلسالم ،وصاحب الدور الرئيسي يف القضاء
ص ع
على الفتنة الكربى.
ر ش
والتوز عي
فإين سأنصفه ،سأنشر سيرته بين الناس .وقفت على
قدمي ،وذهبت للشاب مر ًة أخرى .وقفت أمامه مباشرةً.
سألني:
23
G
()3
ر ش
والتوز عي
إنجاز الكتاب .إال أن األمر لم يكن بالبساطة التي ظننتها.
حيث قضيت ثالث ساعات يف البحث وسط أكوام الكتب
عن مرجع يتحدث عن الحسن بن علي فلم أجد .هالني
هذا األمر .فكيف لشخص هبذه األهمية أال ينال حقه من
االهتمام والدراسة؟!
25
ٍ
غفوة أصحو بعدها ألبدأ الضيوف ،حتى أحصل على
رحلتي مع الحسن بن علي .طب ًعا بعد مشاجريت األخيرة
مع فريدة بسبب رسوب حسن تركت لها غرفة النوم
مقيما يف غرفة الضيوف.
وصرت ً
وعلى مدى أسبوعين كاملين انكببت على سيرة
ص ع
وأدون التواريخ المهمة يف حياته .أعجبتني
الحسن أقرأهاِّ ،
ع
تربطني به .تمنَّيت لو جاءتني الفرصة لمقابلته.
26
إلى أن جاءت الليلة المشئومة التي استيقظت فيها على
صياح فريدة.
G ع
ت ك ل ا ريص
ر ش ن ل بل
والتوز عي
27
حسن
()1
ا ريص
سمعته يقول ألبي إن جديت يجب أن تخضع لبعض
ل ع
ن ل بل ت ك الفحوصات.
ر ش
والتوزي
بعد عدة أيام ،جاء العم وائل إلى منزلنا ومعه نتيجة
ع
الفحوصات .قال أشياء كثيرة لم أفهمها .كان من ضمن ما
سمعته أن قوة ضخ عضلة القلب صارت أقل من أربعين
بالمائة .لم أفهم معنى هذا .وأين ذهبت الستون بالمائة
الباقية؟! هل يتقلص قلب اإلنسان كلما تقدم يف العمر؟!
لكن ما فهمته جيدً ا وقتها أن جديت لن تتمكن من اللعب
معي ثانيةً .صارت تأيت إلينا بعد ذلك على فرتات متباعدة،
وتكتفي بقراءة القصص لي فقط قبل النوم.
ع
َّ
ر ش
والتوز عي
المصيف إذا خالف أمرهم.
31
شجاراهتا مع أبي .وأبي مشغول بخالفاته مع العم سمير.
فصار هاتفي المحمول هو صديقي الوحيد .لم يعد لدي
رغبة لفعل أي شيء .وبالطبع أهملت دراستي ،حتى إنني
كنت أترك ورقة اإلجابة يف االمتحانات بيضاء .وبالطبع
كانت النتيجة أن رسبت بعد أن كنت األول على فصلي يف
العام الماضي .حينها سمعت من أبي أقسى كلمة جعلتني
عوالتوزي
عندما كان يناديني أبي فأقول له «إيه» يعاتبني ويقول
لي« :عيب يا ولد! قل نعم .يجب أن تنتبه أللفاظك».
ريص ع
المرتفعة التي أحرزها ،لكن بعد أن فقدت هذه الدرجات
G
33
()2
ر ش
والتوز عي
خمنت
لعبة جديدة .فوجدت لعبة لها رمز حوت أزرقَّ .
أن اللعبة ستكون عبارة عن حوت يسبح يف البحر ويقوم
بجمع العمالت المعدنية؛ فأغلب األلعاب صارت عبارة
عن مخلوق ما يركض خلف العمالت المعدنية .قمت
بتحميلها وفتحها.
لكن الوضع كان مختل ًفا ،لم يكن هناك بحر أو عمالت
معدنية .بل كانت مجموعة من التحديات .طلبت مني
اللعبة يف أول يوم أن أنحت حو ًتا على ذراعي باستخدام
آلة حادة .شعرت باالشمئزاز يف البداية ،لكن رنت يف أذين
35
كلمة أبي «فاشل» ،فأشعلت غضبي وحماسي .ذهبت
للحمام وأخذت المقص ،وعدت سري ًعا لغرفتي.
«فاشل»
«فاشل»
«فاشل»
«فاشل»
36
له .وتعللت بشعوري بالربد ،ورغبتي يف تدفئة نفسي ،رغم
أن الجو كان داف ًئا بالفعل.
ع
يف اليوم السابع عشر وقفت على حافة سطح بنايتنا.
ع
ً ً
ك
ّ ّ
ر ش
والتوزي
لهذه الخطوة.
ع
حبل غسي ٍل قديم وربطت طرفه يف مروحة أحضرت َ
السقف ،والطرف اآلخر حول رقبتي ،ووضعت كرس ًّيا
تحتي .لكن قبل أن أتم التحدي ،أحضرت ورقة صغيرة
وكتبت فيها كلمة واحدة وتركتها بجانبي .ثم وقفت فوق
نفسا عمي ًقا ،وأهنيت التحدي.
الكرسي ،أخذت ً
G
38
عبد ال� ل�ه
()1
ر
ً
والتوز عي
فريدة نحو غرفة حسن .دخلت الغرفة فرأيت أسوأ منظر
يف حيايت .حسن -ابني وقرة عيني -ملقى على األرض،
وحبل الغسيل ملتف حول رقبته .ركعت فريدة فوقه
تنتحب وتصرخ .ركعت فوقه وقمت بفك الحبل عن
رقبته .كان يتنفس بصعوبة بالغة ،وهناك حشرجة شديدة
يف حلقه.
«فاشل»
عوالتوزي
وفريدة .فقال لنا:
40
-أي جروح؟! هل تمزحان؟! الجروح تمأل ذراعي
حسن ،كيف لم ترياها؟! يبدو أنه كان يلعب تلك
اللعبة اللعينة.
-أي لعبة وأي جروح! اشرح لي!
حدِّ ثنا وائل عن هذه اللعبة اللعينة ،وتحدياهتا ،وأنه
قد قابل ثالث حاالت على مدى الشهر الماضي ألطفال
والتوز عي
هاتفه ،ووجود سجل المحادثات بينه وبين مسئول اللعبة،
وصور لجميع التحديات التي قام هبا حسن .بكيت وأنا
أشاهد الجروح التي مألت جسد فلذة كبدي .شعرت أن
هذه الجروح قد نُحتت يف قلبي.
ع
-أمي.
عوالتوزي
كل دعم وحب.
هاتفت أمي وطلبت منه أن تأيت ،بالطبع لم أخربها
بالتفاصيل ،حتى ال تنهار .فقط أخربهتا أن حسن مريض
بعض الشيء ويريدها بجانبه.
ر ش
والتوز عي
-أمي ،لم تفعليها وأنا صغير ،أتفعلينها اآلن وقد
صرت أ ًبا
-ال تقل أ ًبا .أنت ال تستحق شرف هذه الكلمة .كيف
تفعل يف ابنك هذا؟! كيف ال ترى أنت وزوجتك
كل هذه الجروح على جسد ولدك؟! شهر كامل
وال تعرفان عنه شي ًئا! كل هذا بسبب صراعك الغبي
مع سمير على إدارة الشركة .نسيت بيتك وزوجتك
وابنك.
فجأة سمعنا صوت صراخ حسن ،فأسرعت نحو
غرفته ،وأمي خلفي .أوقفنا وائل عند باب الغرفة وطلب
43
منا عدم الدخول .وجدت فريدة تخرج من الغرفة باكية.
أخربين وائل أن حسن قد صرخ بمجرد مشاهدته لفريدة
واهنار بشكل رهيب ،وغال ًبا سيفعل نفس األمر معي .وأن
الممرضة اآلن تقوم بتهدئته.
ع
كم كانت كلمات وائل قاسية على قلبي! حسن ابني ال
ع
أيضا .اخرج.
حسن ال يريد رؤيتك اآلن ،وال أنا ً
ل
ن ل بل ت ك
قادرا على حمل نفسي ،فما بالك بحمل الحديد؟! أكن ً
ر ش
والتوز عي
أفرغ الطاقة التي بداخلي يف حسنًا ،من األفضل أال ِّ
أفرغها يف
الحديد ،بل ينبغي أن أحتفظ هبا بداخلي حتى ّ
تصحيح شئون حيايت.
ع
كيف ...
G
46
()2
ريص ع
بدأت أستيقظ من النوم .شعرت أن إهناك العالم كله
ل ا
قادرا حتى
ن
ر ش
والتوز عي
عيني .كنت أتنفس بصعوبة كأنني أركض يف َّ على فتح
سباق أوليمبي .تحسست وجهي فوجدت عليه طبقة
من تراب .هل تركت نافذة الغرفة مفتوحة؟! شعرت أن
السرير تحتي صار صل ًبا على غير العادة .مددت يدي على
الطاولة بجانبي حتى ألتقط الهاتف ،فلم أجد الهاتف .بل
لم أجد الطاولة من األساس .بدأت أشعر باالضطراب،
فاضطررت لفتح عيني حتى أفهم ما يحدث حولي .ويا
ليتني لم أفتحهما!
47
حجر أحتمي به من الشمس .ال يوجد سوى جبل بعيد
ال تبدو عليه الحياة .وقفت على قدمي بصعوبة .شعرت
بفزع شديد كأين طفل صغير تاه من والديه يف شار ٍع ٍ
خال.
كنت أشعر بظمأ شديد ،شعرت أن حلقي قد تحجر،
وتشققت شفتاي.
ص ع
جريت يف كل اتجاه دون هدف .تذكّرت السيدة هاجر
ع
الموت.
48
قلتها بأعلى صويت .فجأة توقف الشبح مكانه واستدار
ليواجهني .اقرتبت منه أكثر فأكثر .مشى سري ًعا باتجاهي
وأسندين بيده القوية.
ع
بشراهة كأنني لم أشرب طوال عمري .أسقطت نصف
ت
ن ل بل
أعدهتا له ً
قائل بأنفاس متقطعة:
ر ش
والتوز عي
ً
جزيل ،لقد أنقذت حيايت. شكرا
ً -
عفوا يا بني .هل أنت بخير اآلن؟
ً -
خيرا.
-نعم .الحمد هلل .جزاك اهلل ً
بعد أن شعرت بالماء يسري يف جسدي ،بدأت أستعيد
ً
طويل قو ًّيا ،له ذقن طويل توازين .نظرت للرجل .كان
وقورا .انتبهت لثيابه ،كانت
ً وسيما
ً وشعر جميل .كان
ثيا ًبا جميلة لكنها قديمة الطراز .حتى قربة الماء انتبهت
أهنا ليست بالستيكية أو زجاجية كالمعتاد ،بل كانت من
الجلد .نظر إلي الرجل بدفء ً
قائل:
49
-أال تعرفني؟
-آسف يا أستاذ .لكن يبدو أن العطش واإلهناك أ ّثرا
على ذاكريت .هل أعرفك؟
-حسنًا ،على أي حال لم أتوقع أن تعريف من أول
الح َسن بن علي بن أبي طالب.
وهلة .أنا َ
50
فريدة
ريص ع
-صباح الخير .كيف حالك؟
ل ا
ن ل بل ت
شكرا.
ك
-بخير الحمد هللً .
ر ش
والتوز عي
«شكرا» ،أسرع يف صعودي على
ً بمجرد أن ُأهني كلمة
السلم ،حتى ال ُيالحظ عبد اهلل احمرار وجنتي.
والدي يف بناية فاخرة يف إحدى ضواحي
َّ كنت أسكن مع
القاهرة حديثة النشأة .كانت نصف شقق البناية تقري ًبا ال
تزال فارغة ،ومن ضمنها الشقة التي تقع أسفل شقتنا.
ويف أحد األيام ،سمعت جلبة يف البناية ،سألت والدي،
فأخربين أن هناك جيرانًا جدد قد اشرتوا الشقة التي تقع
تحتنا ،ويقومون بنقل أثاثهم لها.
كان أبي هو رئيس اتحاد سكان العمارة ،لذلك فقد
يتعرف عليهم.
قام بزيارهتم بعد مجيئهم بعدة أيام ،حتى ّ
51
أخربنا أهنم أسرة صغيرة العدد مثلنا .ثالثة أفراد :األب
-حسن -نائب رئيس مجلس إدارة يف إحدى شركات
االستشارات القانونية ،واألم -فاطمة -ربة منزل ،واالبن
-عبد اهلل -طالب بكلية الحقوق.
ع
واالبتسامات على السلم يف أثناء موعد رجوعي من
عوالتوزي
دائما ما ألمح كت ًبا يف يده طوال فرتة دراسته.
أيضا أشاركه حب القراءة .لكننا كنا نختلف يف
كنت ً
كنت أنا ً
مجاالت القراءة ،فكنت أحب قراءة الروايات الرومانسية
واالجتماعية .بينما كان هو يحب قراءة التاريخ .وهكذا
فتحت الكتب بيننا با ًبا جديدً ا للحديث؛ فكنا نتناقش
سري ًعا عن آخر ما قرأنا .كنت ألمح يف عيونه نظرات
اإلعجاب الربيء .لكنه كان ملتز ًما ،فلم يحاول أبدً ا أن
دائما ما كان
جارحا ،أو يرميني بنظرة خارجةً .
ً يقول شي ًئا
عبد اهلل ملتز ًما.
52
كان االلتزام هو مفتاح شخصية عبد اهلل .لكن االلتزام
الذي كان سب ًبا يف إعجابي به يف البداية ،كان سبب كل
مشكالتنا فيما بعد؛ فعبد اهلل يقوم بكل أدواره بالتزام
شديد ،وينتظر يف المقابل أن يقوم الشخص اآلخر بدوره
بنفس االلتزام .واألسوأ أنه ينتظر أن يقوم الشخص بدوره
بنفس الكيفية التي يقوم هو هبا.
ص ع
والحقيقة؛ فإنني كنت أعاين قبل الزواج صرام َة أبي،
والتوز عي
العمارة بمجرد انتقالنا إليها .كان يعدُّ البيت ثكنة عسكرية
ال مجال فيها لعصيان األوامر .وقد استسلمت أمي لنظامه
هذا منذ زمن طويل ،فرتكته يفعل ما يريد دون معارضة.
تسبب هذا يف نشأيت بشخصية ضعيفة ،أو باألحرى بال
شخصية .لذلك فقد كنت أتتوق للزواج ،حتى أتخلص
من هذه السيطرة ،ويكون لي شخصيتي الخاصة.
وقد أعجبني يف عبد اهلل ثقافته ،فكل مثقف يف نظري
شخص رائع متفاهم .لكن األيام أثبتت خطأ رأيي .فيبدو
أن استغراق عبد اهلل يف المجاالت الدسمة من خالل
دراسته للقانون ،وقراءته للتاريخ َأثرت عقله ،لكنها
53
أصابت مشاعره بالجمود .لكنني لألسف لم أكتشف هذا
ٍ
بفرتة ،فكما نقول «مرآة الحب عمياء». إال بعد الزواج
فنحن ال نرى عيوب الطرف اآلخر إال بعد الزواج.
فاكتشفت بعد الزواج أنني تزوجت بنسخة معدلة
من أبي ،لكن الفارق أن أبي كان عسكر ًّيا ،بينما عبد اهلل
مدين .كان -مثل أبي -عاش ًقا لاللتزام .يريد مني أن أحبه
ريص ع
بطريقته ،وأقوم بدوري يف المنزل وتربية حسن بطريقته
دليل على عدم التقدير.
ع
يرى أن التزامه يف العمل بالشركة كمدير للشئون القانونية
كفيل بجعله هو رئيس مجلس اإلدارة بعد وفاة والده
أيضا سبب حنقه على حسن وتعنيفه وعمه .وكان هو ً
إياه؛ فهو يرى أنه قد التزم بدوره وو ّفر كل شيء لحسن؛
وبالتالي فإن الولد ملتزم هو اآلخر بالنجاح وإحراز أعلى
التقديرات.
كان عبد اهلل عقالن ًّيا بشكل كبير ،بشكل مبالغ فيه.
ً
حامل يف لم يكن يعطي للمشاعر وزنًا .أذكر حين كنت
حسن ،أنه قد جهز لي مفاجأة ،فرحت هبا .لكن يبدو أنني
54
دليل على عدم لم أفرح بالشكل الذي يريده ،فاعترب هذا ً
حبي وتقديري له ولهديته .حاولت أن أشرح له أن الهدية
كثيرا ،لكن الحمل يرهقني جسد ًّيا وذهن ًّيا إال
قد أعجبتني ً
أنه لم يفهم ذلك.
شعرت أنني خرجت من سجن إلى سجن .لكنني
أتحول إلى نسخة من أمي.
َّ قررت أال أخضع له ،حتى ال
ريص ع
قررت أن تكون لي شخصيتي الخاصة ،وأقوم بتحقيق
والتوز عي
داخل المنزل ،بحثت عنه يف الخارج .طلبت من إحدى
صديقايت أن تبحث لي عن وظيفة يف الشركة التي تعمل
هبا.
وهكذا اهنمكت يف العمل وتحقيق ذايت .شعرت أنني
بدأت أجد شخصيتي المفقودة ،ولم أعلم أنني يف الوقت
نفسه كانت أفقد ابني وبيتي بالتدريج .انخفضت درجات
حسن بشكل كبير ،فبدأت بتعنيف الولد بشدة.
دائما ً
أول -كيف ترسب وأنا أذاكر معك دروسك ً
بأول؟!
55
هكذا عاتبته بعد أن ظهرت نتيجته .لم أنتبه أن كلمايت
صارت تشبه كلمات عبد اهلل .يبدو أنني تطبعت بطبعه.
العتاب والتعنيف ولوم اآلخر صاروا غالبين على كالمي.
***
جلست أسرتجع كل هذه الذكريات بعد أن رحل عبد
ع
اهلل ووائل ،ودخلت حمايت -أو ماما فاطمة كما أناديها
ت
ن ل بل
كما بكيت ليلة رحيل أبي ،وليلة رحيل أمي .شعرت أنني
ر ش
والتوزي
فقدت حسن كما فقدهتما .لكن -على األقل -فإن أبي
ع
وأمي* رحال دون اختيارهما ،أما حسن فقد رحل بسبب
جهلي وغبائي وأنانيتي .لم أكن أتخيل أن يأيت اليوم الذي
يصرخ فيه ابني عندما يراين.
كنت أشعر باإلرهاق الذهني والبدين الشديدين .يف
هذه األحوال يكون النوم هو أفضل عالج .وعلى أي
حال ،فإنني ال أملك شي ًئا كي أفعله اآلن .سأنام ً
قليل أو
كثيرا .وسأترك التفكير يف كل هذا للصبح .أليس الصبح
ً
بقريب؟!
G 56
عبد ال� ل�ه
()1
57
«-نعم ،لقد بدأت فيها» .قلتها بحماس ثم طأطأت
رأسي ،وقلت بصوت خفيض« :لكنني لم أكملها».
-ال عليك يا بني .لكن أخربين بدايةً ،كيف قرأهتا؟
أدون التواريخ المهمة ،وأكتب أهم األحداث
-كنت ِّ
بالتسلسل.
ع
-فقط؟
عوالتوزي
-يف العام الثاين بعد الهجرة.
-ويف أي شهر؟
-يف شهر رمضان المبارك.
-ماذا برأيك كان سيحدث لو اهنزم المسلمون يف
بدر؟
-لم أفكر يف هذا من قبل .ربما كان سيتم القضاء على
اإلسالم يف مهده؟
-لو كان بيدك أن تختار مكانًا آخر لغزوة بدر ،أين
كنت ستختار؟
58
-ال أعلم .ال أعلم حتى أين يقع موقع غزوة بدر على
الخريطة.
-فما فائدة أن تعلم الشهر والعام الذي وقعت فيه
الغزوة دون أن ُتعمل عقلك يف كل جوانبها؟!
إن كنت تريد ح ًّقا االستفادة من التاريخ فعليك
أن تدرس الشخصيات التي أثرت يف األحداث،
ريص ع
والظروف المحيطة هبا ،والنتائج التي أدت إليها.
G
ل ا ريص ع
ن لبل ت ك
ر ش
عوالتوزي
60
()2
ري
عيني .تحسست وجهي فلم أجد عليه ترا ًبا.
ك
َّ
61
هبا فيه ،اختياري لشخصية الحسن بن علي ألكتب عنها،
ما حدث البني حسن ،الحلم .انتبهت أن ابني يحمل نفس
اسم الحسن بن علي .بالتأكيد هناك هدف من وراء كل
هذا.
عوالتوزي
كأنني ألول مرة أعرف بوجود هذا المقطع يف أذان
الفجر.
ألول مرة أشعر بكلمات األذان .شعرت هبا تتغلغل يف
عقلي وقلبي.
قلبي!
ريص ع
للمذاكرة ،فأنت يجب أن تنجح .قضي األمر .لكن يبدو
روحا .يبدو ً
فعل أن كأنني أكتشف ألول مرة أن لدي ً
كبيرا يحدث يف حيايت .منذ لحظات ذكرت تغييرا ً
ً هناك
قلبي ،وها أنا اآلن أذكر روحي .كأنني أعيد اكتشاف حيايت
من جديد.
ص ع
نفسا عمي ًقا ثم
وقفت على باب الجامع .أخذت ً
(اهلل أكبر)
لن أبالغ إذا قلت إنني كنت أصلي بعقلي فقط قبل
ر ش
والتوز عي
أكون مستح ًقا لنعمه يف المقابل .كم كنت غب ًّيا! وهل يو ِّفي
اإلنسان بحق خالقه؟! هل لو صمت كل هناري ،وأقمت
كل ليلي أكون بذلك قد وفيت بحقه؟!
ع
ً
ر ش
والتوزي
فعل كنت أشتاق لهذا الفطور .فقد كنت الجسدية ،لكنني ً
ع
أذهب يوم ًّيا إلى عملي دون فطور ،وأكتفي فقط بفنجان
صباحا.
ً من القهوة يف التاسعة
ر ش
والتوز عي
أغلقت الهاتف .أمسكت بكتاب الحسن بن علي.
مسحت الرتاب بيدي عن غالفه .ثم قررت أن أبدأ قراءته
من البداية بالكيفية التي نصحني هبا اإلمام.
G
67
فريدة
أخيرا .أخذت
ً
ا ريص ع
بعد ليلة مليئة بالكوابيس استيقظت
ل
ن ل بل ت ك
نفسا عمي ًقا ورفعت رأسي ألعلى كأنني كنت أغرق يف ً
ر ش
والتوز عي
البحر ،وجاء َمن سحب رأسي لألعلى ،حتى أحصل على
بعض الهواء يبقيني على قيد الحياة .كانت أضواء الشمس
الساطعة تخرتق زجاج النافذة لتسقط على سريري
تمنحني بعض الدفء.
69
أمسكت هاتفي ،وكلمت زميلتي رانيا .طلبت منها أن
تقدِّ م لي يف العمل على إجازة طويلة األمد.
ع
المشاغل ما هو أكرب من سخافات مديرنا الهمام.
ع
على التعامل مع أي شخص اآلن .ولم أكن قادرة على
التفكير يف أي شيء سوى حسن .لم أكن مصدقة لما
حدث حتى اآلن .حسن الفتى الحساس الرقيق يجرح
ذراعيه هبذا الشكل البشع! حسن الذي كان يلومني عندما
أقتل نملة يف المطبخ ،يحاول أن يقتل نفسه!
ِ
كفاك لو ًما لنفسك». «حسنًا حسنًا يا فريدة
ويسارا
ً قلتها لنفسي بحزم ،وأنا أهز رأسي بقوة يمينًا
كأين أزيح هذه األفكار السلبية عن رأسي .لم يعد أمامي
متسع من الوقت للعب دور الشخصية الضعيفة أو
70
دائما ما أرجو أن تأيت اللحظة
المغلوبة على أمرها .كنت ً
التي أثبت فيها نفسي ،وأحقق ذايت .وها هي الفرصة قد
ٍ
قاس جدًّ ا وغير متوقع ،لكنها جاءت .نعم جاءت بشك ٍل
جاءت على أي حال ،ولن أسمح لها أن تفلت من يدي.
سيكون حسن هو هديف ومستقبلي وذايت.
ل
ن ل بل ت ك
تقديم الدعم النفسي.
ر ش
والتوز عي
«حسن سيعود أفضل مما كان».
G
71
الحسن بن علي
()1
73
فقال جدي« :بل هو َح َسن» .وهكذا كنت أول من
«ح َسن» يف العرب.
ُس ّمي بـ َ
وأقبل الصحابة الكرام يقدّ مون التهاين لجدي وأبي.
هكذا كانت بدايتي ،تحت رعاية جدي رسول اهلل ﷺ،
ويف كنف فتى قريش علي بن أبي طالب ،وأقرب بنات
ع
الرسول لقلبه فاطمة الزهراء ،ويف مجتمع من الصحابة
ت
ر ش ن ل بل
والتوزي
لكن رغم كل هذه المكانة التي تمتع هبا أبواي يف
ع
مجتمعهما فإهنما كانا يعيشان حياة بسيطة زاهدة .فكانت
أمي تقوم بكل األعمال المنزلية بنفسها ،تغسل الثياب،
وتنظف البيت ،وتعجن وتخبز ،وتقوم على رعايتنا .لم
يكن لها خادم .فتعلمت من أمي الصرب والزهد واالعتماد
على النفس.
أما أبي فكان يمتاز بالقوة البدنية والشجاعة وسرعة
أهله ليكون أحد قادة الجيش اإلسالمي يف البديهة ،وهو ما ّ
عهد جدي .لكن قوة أبي لم تتوقف فقط عند القوة البدنية،
فكثيرا ما بعثه جدي
ً أيضا بالفصاحة ،لذلكبل كان يمتاز ً
أيضا ممن سفيرا إلى القبائل ليدعوها لإلسالم .وكان ًً
74
يجيدون القراءة والكتابة ،فكان من كتبة الوحي .وهم
الصحابة الذين وكلهم جديﷺ بكتابة القرآن فور نزوله
عليه ،حتى ال يضيع .وهكذا تعلمت من أبي الشجاعة
وحمل السالح والفصاحة والقراءة والكتابة.
ً
طويل؛ فإنني أما جديﷺ ،فرغم أين لم أعش معه
تعلمت منه الكثير مما ال يتسع الزمن لسرده أو تكفي
ريص ع
األوراق لحصره .فقد كان قرآنًا يمشي على األرض .كان
75
ويا لشدة سعاديت حين يمدحني أحد الناس ً
قائل« :أنت
أشبه الناس بجدك».
عوالتوزي
الح َسين .فكان يقول عنَّا« :هما
فيها عن حبه لي وألخي ُ
ريحانتاي من الدنيا» .وكان يحملني على عاتقه ،ويقول:
«اللهم إين ُأحبه فأحبه» .ما زال صدى كلماته يرتدد يف أذين
وعقلي وقلبي وكل كياين .لكن بين كل هذه الكلمات،
تأثيرا يف
كانت هناك كلمة هي األقرب لقلبي ،واألكثر ً
نفسي .كانت هي المحرك األساسي لي بعد ذلك يف كل
أمور حيايت.
G
76
()2
ريص ع
كان جدي واق ًفا على المنرب خطي ًبا يف الناس .والناس
ل ا
ن ل بل ت ك
أمامه جالسون كأن على رؤوسهم الطير من شدة االنتباه
ر ش
والتوز عي
لما يقول .فدخلت المسجد أركض بين الصفوف .ولم
يكن جدي يمنع األطفال من المسجد ،بل كان يهذبنا
ويعلمنا آدابه ،حتى نحبه ونعتاد على المجيء له .أقبلت
مبتسما ،وحملني
ً علي كعادته
راكضا ،فأقبل َّ
ً على جدي
على عاتقه .وكان يلتفت للناس مر ًة ويلتفت لي مرةً.
ً
مشغول باللعب ال أذكر ما كان يقوله حينها؛ فقد كنت
فوق عاتقه .لكني فجأة انتبهت له وهو يقول:
77
ال أذكر ما قاله قبلها أو بعدها .بل ال أذكر ما حدث
باقي اليوم .كأن كل انتباهي وتركيزي يومها اجتمع فقط
يف هذه اللحظة .هذه اللحظة التي ش ّكلت مسار حيايت فيما
دائما لإلصالح بين الناس.
بعد .فقد كانت سب ًبا يف سعيي ً
كانت كلمته هذه كالوصية بالنسبة لي .كنت أخشى إن
تركت اإلصالح أن أكون بذلك قد خالفت وصيته.
عوالتوزي
الشكل فقط ،بل كان أعمق من هذا.
قام جده بتسميته حين مولده ،وقام هو -جدي -
بتسميتي حين مولدي.
كان أول من ُس ّمي محمدً ا من العرب ،وكنت أول من
ُس ّمي حسنًا من العرب.
فقد أمه يف السادسة من عمره ،وفقدت أمي يف الثامنة
من عمري.
78
ك و َيُع َل ِّمُهُم ُ }ر َ َب ّنَا و َاب ْع ْ
َث ف ِيه ِ ْم رَسُول ًا مِّنْه ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َات ِ َ
و َالْح ِ ْكم َة َ و َي ُزَكّ ِيه ِ ْم{ الْكِتَابَ
ص ع
عزمت منذ صغري أال يتو ّقف الشبه عند الشكل والظروف
G
79
عبد ال� ل�ه
ل ا
ل بل ت ك
هبذا أعود لعالمي مر ًة أخرى .شعرت كأين غبت لشهور
ن
ر ش
والتوز عي
وسنين داخل هذه السيرة الطيبة .فال أعلم كم من الوقت
علي ،هل هي ساعات أم أيام؟!
مر َّ
َّ
ذهلت لما قرأت من طفولة الحسن .ما هذا المجتمع
الفاضل؟! ما هذا الرسول الجد العظيم؟! عندما قرأت
التاريخ اإلسالمي يف المرحلة الثانوية والجامعية ،مررت
حينها سري ًعا على سيرة اإلمام الحسن ،لكنني لم أتو ّقف
َ
تحظ باالهتمام الكايف من قبل كثيرا عندها .ربما ألهنا لم
ً
ال ُكتّاب والمؤرخين مقارنة بسير باقي الصحابة ،بل حتى
الح َسين .فقد كانت المجزرة الرهيبة
مقارنة بسيرة أخيه ُ
الح َسين وآل البيت النبوي يف كربالء
تعرض لها ُ التي َّ
81
الح َسين .أما
سب ًبا رئيس ًّيا يف اهنماك األقالم يف الكتابة عن ُ
مسالما فلم َ
يحظ بمثل االهتمام ً شخصا
ً الح َسن فألنه كان َ
رغم أهمية دوره يف تاريخ األمة.
شعرت بدموع ساخنة تسيل على خدي .ال أعلم هل
كانت تسيل من عبق هذه السيرة الطاهرة؟! أم تسيل حزنًا
وند ًما على عدم عنايتي بابني كما ينبغي؟! فارق شاسع
ل
ل بل ت ك
وبين ما وجده حسن بن عبد اهلل من إهمال وصرامة.
ن
ر ش
والتوزي
أذكر أين يو ًما أخذت حسن معي صالة الجمعة فأحدث
ع
جلبةً ،كباقي األطفال يف عمره .إال أين تعاملت مع األمر
بصرامتي المعتادة .فأمسكت يده الصغيرة ،وعصرهتا يف
يدي بقوة حتى آلمته ،وبعد أن رجعنا إلى البيت وبخته
بقوة ومنعته من المجيء معي للصالة ثانيةً .ال َع َجب أنني
كرهته يف الصالة لم أره يصلي بعد ذلك .يبدو أنني قد َّ
دون قصد.
ر ش
والتوز عي
إلى أين تسير بي يا إمام؟! كنت قد بدأت قراءة سيرتك
يف األساس؛ كي أشارك هبا يف مسابقة .وها هي اآلن
تكشف لي خطأ تربيتي البني.
83
سأعيد اكتشاف عالقتي به مر ًة أخرى .وسأعيد اكتشاف
علي أن ُأصلح عالقتي
أيضا .لكن قبل كل هذا َّ نفسي معه ً
بفريدة وأمي .حتى نكون جمي ًعا يدً ا واحدة يف إصالح ما
أفسدته.
ر ش
والتوزي
سل ًبا فيهم .ال أعلم إن كان هذا سيسرهم أو يسوؤهم .ال
G
84
فريدة
ري
خرجت من غرفة حسن وأنا أحمل طبق الطعام بين
ريص ع
بعد أن وضعت طبق الطعام يف المطبخ ونظفته،
ع
المجموعة التي تقدم النصائح المناسبة للتعامل مع
حاالت الصدمة النفسية .هذه المجموعة التي يديرها
االختصاصي النفسي على موقع الفيسبوك ،ونصحني
باالنضمام إليها.
هالتني أعداد اآلباء واألمهات الموجودة على
المجموعة .وهالتني أكثر أنواع الصدمات النفسية التي
يتعرض لها األطفال وأسباهبا التي تتنوع بين إهمال األهل
والتعرض لتجربة
ّ والتنمر من األصدقاء وزمالء المدرسة
ّ
صعبة أو اعتداء .لم أكن أدري أن وضع األطفال صار هبذا
السوء يف عالمنا.
86
وبينما أنا أتصفح منشورات هذه المجموعةَّ ،
رن جرس
الباب.
من قد يأتينا يف مثل هذا الوقت؟! نظرت من العين
السحرية ألجد عبد اهلل واق ًفا أمام الباب.
شديد بمجرد رؤيته .أين كان طوال ٍ ٍ
بغضب شعرت
ع
اليومين الماضيين؟! حسنًا ،لن أفتح له الباب.
والتوز عي
-حسنًا ،ماذا تريد اآلن؟! أين كنت طوال اليومين
الماضيين؟!
-آسف جدًّ ا ،لكنني ...
-ال مجال لالعتذارات .كيف ترتك ابنك وترتكني
يومين دون سؤال ،ونحن يف هذه الظروف الصعبة!
هل اكتفيت منَّا اآلن؟!
-بالطبع ال .ما الذي تقولينه؟!
-أين كنت؟ وماذا كنت تفعل إ ًذا؟
-كنت أقرأ سيرة الحسن بن علي.
87
-ماذا! تقرأ سيرة َم ْن؟
-الحسن بن علي .أال تعرفينه؟!
-يبدو أنك تمزح اآلن .وما عالقة الحسن بن علي
بحسن ابننا! أم أن هذه كذبة لتحاول إخفاء حقيقة
غيابك؟! وما هذا الذي تحمله يف يدك؟ وردة
وحقيبة! ماذا بداخلها؟
ع
فجأة انفتح باب غرفة الضيوف ،وخرجت منه ماما
فاطمة مسرعة ،وقالت لنا هامسةً:
-ما هذه الضوضاء؟! أال تعلمان أن هناك ً
طفل بالبيت
يحتاج إلى بعض الراحة؟!
-انظري البنك يا ماما فاطمة .يغيب يومين ثم يعود
بوردة وحلوى.
-جلبت بعض الحلوى لحسن ،حتى أصالحه.
قالت ماما فاطمة هبدوء:
88
حسنًا يا عبد اهلل .هذا لطف منك .لكن الطبيب نصحنا
باالعتماد على الطعام الصحي مثل الفواكه والخضراوات
الطازجة والعصائر الطبيعية.
-حسنًا يا أمي .هل بإمكاين أن ألقي نظرة على حسن؟
عم الصمت الجميع .وأخذت أتبادل النظرات مع ماما
َّ
فاطمة.
89
كانت هذه أول مرة يجلب لي عبد اهلل وردة .وأول مرة
أراه بكل هذه الرقة .وأول مرة أرى الدموع محبوسة يف
تعجبت من هذه التغ ّيرات التي حدثت يف يومينعينيهّ .
فقط.
عبد اهلل الصارم العقالين صار عاطف ًّيا بشكل لم أتوقعه.
فما السر وراء ذلك؟!
والتوزي ر
المعلومات عن شخصيته ،حتى أعرف أكثر عن الرجل
G
90
حسن
()1
ص ع
قالها العم وائل ثم طلب من صاحبة الصوت الثالث
عوالتوزي
جلست جديت على طرف سريري ،وهي تمسح
على وجهي ،وتتمتم بكلمات خافتة لم أم ّيزها .غال ًبا
تقرأ بعض آيات القرآن الكريم .فهذه هي عادهتا عندما
أمرض .نظرت إليها ،ورأيت وجهها ملي ًئا بالدموع .أردت
أن أمسح الدموع عن وجهها ،لكنني كنت ُمت َع ًبا بشكل
يجعلني أعجز حتى عن مجرد رفع يدي .أرجو أال يكون
ما حدث لي قد أ ّثر فيما تبقى من كفاءة عضلة قلبها.
92
جهزت
انقبض قلبي عندما سمعت كلمة «أباك» .فقد كنت ّ
حالي أنني سأترك الدنيا ولن أراه أو أسمع اسمه ثانيةً.
ع
صرخت بأعلى صويت بشك ٍل ال إرادي ،وأنا ُأبعد
والتوز عي
واندفع العم وائل نحويً ،
قائل للممرضة:
فورا.
-جهزي الحقنة المهدئة ً
أمسك العم وائل ذراعي ،وهو يطمئنني أن كل شيء
سيكون بخير .أعطتني الممرضة الحقنة .كنت أشعر
بتشنج شديد .ثم شي ًئا فشي ًئا بدأ التشنج يهدأ حتى غبت
عن الوعي تما ًما.
G
93
()2
ر ش
والتوز عي
على سريري .وجدت جديت تجلس على كرسي بجانب
سريري ،وهي تمسك بمسبحتها التي ال تفارقها .تأملت
كثيرا؛ فرغم عمرها الذي جاوز جديت بتم ُّعن .أحبها ً
الستين ومرضها ،فإهنا تسهر بجانبي طوال الليل ،حتى
تدعو لي وتقرأ القرآن .القرآن الذي ال أعرف عنه الكثير.
فالدين ليس مادة أساسية يف مدرستنا .لم أكن أعرف يف
أي يو ٍم نحن أو كم َّ
مر من الوقت منذ تلك الليلة الحزينة.
95
-صباح الخير يا بطلنا .إن شاء اهلل تكون أحسن اليوم.
اكتفيت أن ابتسمت لها ابتسامة خافتة ،فما زلت أشعر
بإهناك شديد.
ريص ع
هززت رأسي ،وابتسمت ابتسامة خافتة .وسألت
ع
هتملهم مثلما أهملتني أمي؟
أيضا ِ
لنفسك ً سمحت .وأعدي ِ -نعم ،يا صف َّية إذا
ريص ع
كو ًبا .اعتربي نفسك يف بيتك.
ل ا
ن ل بل ت ك
خرجت ماما صفية .وجلست جديت على كرسيها،
ر ش
والتوز عي
تعجبت أي صالة هذه يف هذا
وأخذت وضعية الصالةَّ .
الوقت؟!
نظرت لي وقالت:
98
أيضا .وأعلم أهنما يحباين .لكن
نعم أحبها ،وأحب أبي ً
ما فائدة الحب دون التعبير عنه؟! والتعبير عن الحب ليس
فقط بالمدرسة الدولية ذات المصروفات الغالية ،وال
بالهاتف الحديث ،وال بجهاز الـ play stationكما يظن
أبي .وليس فقط بالفطور المقدّ م يف الـ ،lunch boxوال
يف كوب اللبن قبل النوم كما تظن أمي .بل يف االهتمام
ر ش
والتوز عي
لقد فعلت ما فعلته من أجل لفت انتباههما إلى
احتياجي الهتمامهما .عنادي ،وإهمالي لمذاكريت،
ورسوبي ،وإقدامي على التخلص من حيايت ،كانت كل
هذه وسائل للتعبير عن حاجتي الهتمامهما ورعايتهما.
ً
مشغول بعمله وتحقيق ذاته .ألست لك َّن كلًّ منهما كان
دائما؟!
جز ًءا من ذاهتما؟! ألست قطعة منهما كما يقوالن ً
حاولت أن أوقف سيل هذه األفكار يف رأسي؛ عسى
أن أحصل على بعض الراحة .رفعت كوب اللبن لفمي
وارتشفت منه رشفةً .ثم قررت أن ُأنصت للحديث الدائر
99
بين جديت وماما صفية حول البيت واألطفال واألسعار
وأحوال البلد والعمل والخضراوات والفواكه وكل
شيء .كنت مستمت ًعا بحوارهما رغم عدم اهتمامي بما
ُيقال .لكنني كنت سعيدً ا هبذا الجو الدافئ الذي لم أنعم
والدي.
َّ به مع
100
()3
ص ع
يف اليوم التالي ،استيقظت مرتاحا إلى ٍ
ري
حد ما .فقد كان
ل ا
ً
أثر كبير
ن
ر ش
والتوز عي
يف هدوء نفسي .استيقظت ألجد جديت نائم ًة يف كرسيها
كاألمس .بينما لم تكن ماما صفية قد جاءت بعد؛ فهي
تذهب إلى بيتها مسا ًء بعد أن أنام ،وتأيت يف الصباح.
ٍ
لفرتة كان جسدي قد أتعبني بسبب نومي يف السرير
ٍ
طويلة ،لذلك فقد قررت أن أخرج منه ،وأقف أمام النافذة،
حتى أستمتع هبواء الصباح النقي وشمسه الدافئة .وبعد أن
براحة يف جسدي وروحي .جال بخاطري أن أفعل ٍ شعرت
مثلما فعلت جديت باألمس ،أن أصلي الضحى.
ر ش
والتوزي
أم ال .أما اآلن فإنني أصلي برغبتي .لم أستطع أن أحدد
قالت جديت:
-ادخلي يا صفية.
انفتح الباب ،لكنها لم تكن ماما صفية ،بل كانت أمي.
103
نظرت لي جديت بقلق ،خشية أن أصرخ كما فعلت يف
ناظرا نحو
المرة الماضية .لكنني لم أفعل .بل بقيت صامتًا ً
أمي بدون أي تعبير على وجهي.
-ادخلي يا فريدة.
ص ع
دخلت أمي ،وضعت صينية الفطور على الطاولة.
والتوز عي
حتى تعلمي أن أحتاج إلى هذا الحضن ،هذا الكالم ،هذا
أيضا أحبك.
االهتمام ،هذا الشعور .ال تقلقي يا أمي ،أنا ً
فقط ال أرغب يف الكالم اآلن .أرغب فقط يف هذا ِ
العناق».
ص ع
وجهها ملي ًئا بآثار الدموع.
ع
«ومكافأة لبطلنا الهمام على تناوله الفطور ،فقد أحضرت
له هدية أرجو أن تعجبه» .ذهبت نحو باب غرفتي،
أحضرت حقيبة قد وضعتها بجانب الباب من الخارج،
ثم أغلقت الباب ثانيةً.
106
-كنت قد وعدتك هبذه الهدية يف حال نجاحك.
لكنني قد اكتشفت خطئي ،فسواء نجحت أم ال ،فال
ينبغي أن أحرمك من هوايتك التي تحبها .سأظل
أدعمك حتى تصير أشهر رسام يف العالم .ابتسمت
لها .فأمسكت وجهي ثانية وق ّبلت جبهتي ،وهمست
يف أذين« :أحبك جدًّ ا .سأتركك اآلن حتى تأيت لك
ع
األفكار الملهمة ،فأنا أعرفك تحب أن تكون
والتوز عي
أمسكت أدوات الرسم أتحسسها وأتأملها بسعادة.
أخيرا صار عندي ورشة رسم صغيرة خاصة بي .بدأت ً
رن جرس الباب .سمعت أفكر فيما أرسم .لكن فجأة َّ
بعدها أصوا ًتا عالي ًة يف الخارج ،ثم خفتت .بعد ذلك
سمعت صوت طرق على الباب .انفتح الباب ببطء ألجد
أبي أمامي.
107
G
عبد ال� ل�ه
ريص ع
بعد أن فتحت باب غرفة حسن ،وقفت عند عتبة الباب
ل ا
بل ت ك
ولم أدخل .كنت خائ ًفا من رد فعله .هل سيصرخ؟ هل
ن ل
ر ش
والتوز عي
سيبكي؟ هل سيركض نحوي؟ ال أعلم .وقفت ونظرت
أيضا ينظر لي ،لكن بال تعبير على
يف عينيه مباشرةً .ألجده ً
وجهه .دخلت الغرفة ببطء ،وأغلقت الباب خلفي.
ع
األب التي لم ُأتقنها من قبل ،وأتحدث معه ً
ص
رجل لرجل.
عوالتوزي
مر هبا .لذلك فقد قررت أنبعد التجربة المريرة التي َّ
نفسا عمي ًقا
أطلق العنان لعقلي ولساين ليرتجال .أخذت ً
ثم قلت:
110
قو ًّيا ال تكسرك الدنيا .لكن لألسف كنت أنا من
كسرتك .لكن صدقني ،لقد تعلمت الدرس جيدً ا.
درسا قاس ًيا للغاية علينا جمي ًعا .لكن المهم
لقد كان ً
أن نتعلم منه ،وال نكرر أخطاءنا.
أخرجت ورق ًة صغير ًة من جيبي ،الورقة التي تركها
حسن بجانبه يف تلك الليلة الحزينة ،وقلت له :واعلم
ر
حقيقة :أحبك جدًّ ا يا بني. بلهفة سكت برهة ثم قلت
ُّ
والتوز عي
بدأ صويت يختنق ،وعضالت وجهي تتقلص .لم أستطع
أن أتمالك نفسي أكثر من هذا .فأطلقت سراح دموعي،
ٍ
شخص. كي تنهمر بشدة .كانت هذه أول مرة أبكي أمام
ويشاء اهلل أن يكون هذا الشخص هو ابني .ألقيت بنفسي
كثيرا حتى بللت صدره.
عليه ،وأنا أبكي وأنتحب .بكيت ً
بعد أن انتهيت من البكاء ،رفعت وجهي .نظرت إليه.
أتعجب من هذا.
كانت عالمات الدهشة تعلو وجهه .لم ّ
لطالما أخربته أن الرجل ال يبكي ،ثم ها أنا أبكي بحرقة
بين يديه.
111
نظرت إليه ،ومسحت على شعره .نظرت إليه بتم ّعن.
شعرت كأنه كرب فجأة .طفلي الصغير صار على أعتاب
مرحلة المراهقة .شعرت كأين أنظر لنفسي.
ص ع
لكن جدتك أخربتني أن وائل منعك عنها .حسنًا،
ع
أدخلت يدي يف الحقيبة ،وأخرجت منه رزمة من
األوراق .وضعتها بجانبه على الطاولة .لمحت كراسة
وأدوات رسم جديدة بجانبه على السرير .ابتسمت وقلت
له:
والتوز عي
دائما
قليل .لكن أعلم جيدً ا أنني ًسأتركك ترتاح ً
دائما عند حسن ظنك. موجود ألجلك .وسأكون ً
سأعود لك غدً ا إن شاء اهلل ،حتى أطمئن عليك،
ونتناقش فيما قرأت .صحيح ،نسيت أن أخربك أن
بطل الكتاب يحمل نفس اسمك .أو باألصح أنت
تحمل نفس اسمه ،فهو أول من ُس ّمي يف العرب به.
اقرتبت منه واحتضنته بعمق ،ثم ق ّبلت جبهته .وهمست
يف أذنه:
ر ش
عوالتوزي
إلي مثلما كنت تفعل وأنت صغير -تتجنّب النظر َّ
عندما تفعل شي ًئا ُيغضبني .لكنك اآلن لم تعد
صغيرا حتى أعنّفك أو أضربك .بل صرت أ ًبا لفتى
ً
ٍ
صغير على مشارف مرحلة المراهقة.
رفعت يدها نحو وجهي ،فوضعت يدي على خدي
بشك ٍل تلقائي .تذكّرت ما حدث آخر مرة .لكنها ضحكت
وأبعدت يدي عن خدي ،ثم مسحت عليه وق ّبلته.
فأمسكت يدها وق ّبلتها ،وقلت لها:
114
دائما ما
-سامحتك يا بني من قبل أن تعتذر .األم ً
تسامح أوالدها حتى إن لم يعتذروا .المهم أن تكون
تعلمت مما حدث .فارق كبير يا بني بين الحزم
صغيرا حتى ُتسرف
ً والقسوة .وابنك اآلن لم يعد
يف عقابه أو تحاول التح ّكم به .وقد رأيت ما صنع
بنفسه عندما فاض الكيل به.
ريص ع
درسا قاس ًيا،
-لقد تعلمت الدرس تما ًما يا أمي .كان ً
115
-ال أعرف تحديدً ا .عندما بدأت أقرأ سيرته يف البداية
كنت أنوي كتابة كتاب أو رواية عنه فقط من باب
الرتويح عن نفسي .أما اآلن فالوضع صار مختل ًفا،
صرت أشعر أنني مرتبط روح ًّيا به .كأن بيننا راب ًطا
خف ًّيا يمر عرب القرون.
يقر اهلل عينك بحسن ابنك ،وتراه مثل
-إن شاء اهلل ّ
ص ع
الحسن بن علي.
ع
-يف غرفتها .اتركها ترتاح ً
قليل .وحاول أن تصلح
األمور بينكما يف األيام المقبلة .هي تحبك.
اتسعت عيناي ،وقلت بلهفة :ح ًّقا .هل هي من أخربتك
بذلك؟
ضحكت أمي ،وقالت:
-لم تقل .لكن أنا امرأة عجوز وأعرف المرأة عندما
تحب.
-حسنًا .هل تسمحين لي بالبقاء يف المنزل هنا أم أعود
لبيت أبي؟
116
ابق هنا .حتى تكون بجانب ابنك وزوجتك. -بل َ
بإمكانك المبيت هنا يف غرفة الضيوف حتى تعود
األمور لمسارها الطبيعي بينك وبين فريدة .واطمئن،
أنا سأسعى للصلح بينكما.
-حسنًا يا أمي .ال أعرف كيف أشكرك على كل ما
تفعلينه من أجلنا.
ر ش
والتوز عي
-أعدك يا أمي.
G
117
الحسن بن علي
ريص ع
-مات رسول اهلل ...مات رسول اهلل.
ر ش
والتوز عي
حجرهتا خلف المسجدُ .ذهل الناس من وفاة جدي،
كأهنم تو ّقعوا بقاءه معهم أبدً ا .رأيت أبي يومها قد قعد
مكانه يف المسجد غير مصدق .وأجهش الجميع بالبكاء.
شاهرا سيفه مهد ًدا كل من يقول ً وقف عمر بن الخطاب
بوفاة جدي بأنه سيقطع رأسه .بينما دخل أبو بكر الصديق
قائل« :من كان يعبد على جدي ثم خرج من عنده باك ًيا ً
محمدً ا فإن محمدً ا قد مات ،ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل حي
ال يموت» .فبدأ الناس يعودون إلى رشدهم بالتدريج.
لو كان الحزن خارج بيتنا قيرا ًطا ،فإن الحزن داخل بيتنا
كان ألف ألف قيراط .لم َأر أمي ضاحكة منذ ذلك اليوم.
ع
وكان حزن أبي حزنين :حزن على وفاة رسول اهلل وابن
ع
وفاة جدي ببضعة أشهر .وهكذا فقدت جدي وأمي يف
غضون ستة أشهر تقري ًبا .ووجد أبي نفسه وحيدً ا مع أربعة
الح ّسين وأختاي زينب وأم كلثوم .لكنه أطفال :أنا وأخي ُ
صابرا قو ًّيا حنونًا فأحسن تربيتنا على أكمل وجه.
ً كان
ريص ع
ً
شمال جهة الشام والعراق.
ص ع
خصوصا من الفرس والروم الذين أزال ُع َمر دولهم.
ً ل ُع َمر
عوالتوزي
عشرة أعوام زاهرة من ُحكم الفاروق.
122
إلى عثمان بن عفان يطلب منه إمداده بجيش من المدينة
للمشاركة يف فتح إفريقية .فبعث عثمان ً
جيشا من الصحابة
الح َسين وغيرنا الكثير.
وأبنائهم .كنت فيهم أنا وأخي ُ
ففتحها اهلل على أيدينا.
ل
ن ل بل ت ك
أكسبنا الكثير من الخربة يف الحرب والتخطيط العسكري.
ر ش
والتوز عي
كانت األمور تسير يف بداية عهد عثمان على ما يرام.
لكن انفتاح العرب على غيرهم من األمم ،ودخول الكثير
من الخلق يف اإلسالم بشكل غير مسبوق ،باإلضافة إلى
سياسة التخفيف التي اتبعها عثمان خال ًفا لسياسة التقشف
التي كان يتبعها ُع َمر من قبل كان له تأثير كبير على تغيير
نسيج المجتمع اإلسالمي.
فبدأت األوضاع تتبدل يف النصف الثاين من خالفة
عثمان .وبدأ الكثيرون ممن دخلوا يف اإلسالم حدي ًثا،
يتشربوا تعاليمه بعد ،يف إثارة الفتن بين الناس.
الذين لم ّ
إنذارا ببداية الفتنة ال ُكربى التي غ ّيرت وجه
ً وكان هذا
123
المجتمع اإلسالمي إلى األبد .والتي أراد اهلل أن أكون أنا
وأبي وأخي يف القلب منها.
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
عوالتوزي
124
فريدة
()1
ر ش
والتوزي
بعدم ترك حسن للفراغ أوقا ًتا طويلةً ،حتى ال تزحف إليه
ع
األفكار السلبية ثانيةً .وأرشدين إلى ضرورة شغل وقت
فراغه بما يحب من األعمال والهوايات .تذكّرت أن
حسن يحب الرسم .ولذلك فقد اشرتيت له كراسة رسم
كبيرة وأدوات رسم كاملة وأعطيتها له .وأكون بذلك قد
واحد :من ناحية جعلت حسن ٍ ٍ
بحجر أصبت عصفورين
يشغل وقت فراغه بشيء يحبه ،ومن ناحية أستنتج من
خالل رسوماته ما يف ّكر به.
126
الضيوف .فتحت باب غرفة الضيوف ،ألجد عبد اهلل
تسمرت مكاين؛ فلم أكن أعلم أنه سيبيت ليلته هنا.
أماميّ .
عدت إلى غرفتي سري ًعا ،وأغلقت الباب خلفي .ال أعلم
ٍ
غريب! حتى إنني قد لماذا شعرت حينها أنني أمام رج ٍل
استغربت رد فعلي.
ر ش
والتوز عي
شعرت كأن صوتين يتناطحان بداخلي.
127
-لكنه استسلم لهذه الموروثات ،ولم يحاول أن
يقاومها من أجلي .اختار هذه الرجولة الزائفة على
حسابي.
-أال ترين أنه قد تغ َّير خالل األيام الماضية؟! ألم تري
رقته عندما جاء اليوم؟! ألم تري الدموع المحبوسة
لك وردة ألول مرة منذ ٍ
فرتة يف عينيه؟! ألم يجلب ِ
ص ع
ٍ
ا ري
طويلة؟!
ر ش
عوالتوزي
-ال تكوين قاسية .بالطبع األمر ال يقتصر على وردة
فحسب .فالوردة كما نقول «عربون مح َّبة» .دليل
على رغبته يف إصالح ما فسد .كما أنه ما زال مبتدئًا
يف الحب واالهتمام .ألم تقولي اآلن إن الرجل
يف عالمنا العربي يتم تربيته على عدم التعبير عن
مشاعره؟! هو ح ًّقا ال يعرف كيف يع ّبر عنها .هو
بالفعل يحاول أن يتغ ّير ويصلح ما حدث.
-وماذا لو كانت هذه مجرد ثورة عاطفية مؤقتة،
وسرعان ما ستحدث ثورة مضادة بداخله لتقضي
عليها؟!
128
-حينها سيكون هو من قضى على هذه العالقة.
ِ
عليك .و ُيصبح بإمكانك ِ
أديت ما وتكونين ِ
أنت قد
حينها االنفصال عنه بدون ندم .فقط امنحيه فرصة.
ألجل ابنك حسن.
-حسنًا ،سأعطيه فرصةً ،فرص ًة واحد ًة فقط .وبالتأكيد
قليل حتى أرضى عنه .ليس تعذي ًبا له، سأتركه ُيعاين ً
ريص ع
بل ألخترب مدى جديته يف مشاعره واهتمامه.
قليل من أجلك .أتفق ِ
ر ش
والتوز عي
يف هذا .فالرجال ال بدَّ أن يركضوا خلفنا حتى لو كنّا
رأيك أن تطمئني على حسن ِ نحن المخطئات .ما
اآلن .وترتكي أمر أبيه للغد؟
خرجت من الغرفة ،وجدت عبد اهلل واق ًفا أمام باب
غرفة الضيوف كأنه ينتظرين .تظاهرت كأين لم أنتبه
أحضر
ِّ لوجوده ،وأكملت طريقي نحو المطبخ ،حتى
لحسن كو ًبا من العصير.
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
عوالتوزي
130
()2
تتحسن شي ًئا
ّ
ل ا ريص ع
على مدى األيام التالية ،كانت األمور
ر ش
والتوز عي
تحسنت شه ّيته بشكل فاطمة وصفية تقومان بدور رائعّ .
كبير .وأفضل شيء أنه صار يأكل طعا ًما صح ًّيا ،وتو ّقف
عن أكل الحلوى والوجبات السريعة .صدق من قالُ :ر َّب
ٍ
ضارة نافعة.
131
الذي حدث له حقيق ًّيا ،مثلما كان التغيير الذي يحدث لي
أيضا.
حقيق ًّيا ً
ع
ذلك؛ فإن سيرته قد جذبتني .ربما بسبب التغيير الذي
والتوزي ر
ع
غرفتي .ف ّكرت أهنا ربما تكون ماما فاطمة ،فهي الوحيدة
التي تأيت لغرفتي هذه األيام .فقلت:
-ادخلي يا ماما.
انفتح الباب ،لكنها لم تكن ماما فاطمة ،بل كان ابنها،
عبد اهلل.
132
دخل هبدوء وأغلق الباب خلفه .اقرتب مني ببطء.
ودار بيننا حوار مليء بالمشاعر المضطربة ،واألصوات
الخافتة المرتعشة.
-هل ِ
أنت بخير ،فريدة؟
-نعم.
ع
أيضا إن كنت ٍ
بخير أم ال؟ -ألن تسأليني ً
ص ع
عمرا قد مضى. واالشتياق .فتحت عيني وأنا أشعر أن ً
ع
جديدة لي وله ولعالقتنا.
134
ٍ
بوردة مر ًة أخرى، ابتسم وقال لي :خشيت أن آيت
ِ
فعلت المرة الماضية. فتصرخي يف وجهي كما
ع
قهقه ً
قائل:
ِ
ت ك ل ا ريص
بل
لكنك لم أيضا حلوى.
-ال تكوين ظالمة ،كان معي ً
والتوز عي
أنت أو حسن.
-وبالتأكيد أكلتها كلها وحدك ،ولم ترتك لنا شي ًئا.
قال لي غائ ًظا:
-نعم ،وكان طعمها ً
لذيذا جدًّ ا.
ضحكنا م ًعا ،وتعانقنا ثانيةً .ثم همس يف أذين:
-أحبك جدًّ ا ،ولن أبتعد ِ
عنك ثانيةً. ُّ
ابتسمت بخج ٍل قائلة:
أيضا أحبك.
-وأنا ً
135
كان هذا أجمل يوم يف حيايت.
لكن فجأة رن هاتف عبد اهلل .قال لي :لن أرد عليه.
أريد أن أمضي الباقي من عمري معك وحدك.
ص ع
أسبوع تقري ًبا .هل نسيت عملك وشركتك؟ ال أريد
عوالتوزي
أجاب عبد اهلل الهاتف .تغ ّير وجهه ثم أهنى المحادثة
لك إنه من األفضل أال أجيب! يجب أن قائل :ألم أقل ِ
ً
أذهب للشركة اآلن .سمير ُيخرب كل شيء.
ِ
واعتن بأمورك .واطمئن -حسنًا حبيبي .اذهب اآلن
كل شيء سيكون بخير .وال تنفعل مهما حدث!
أنت وحسن معي سيكون كل شيء بخير .يف -طالما ِ
أمان اهلل حبيبتي.
-يف أمان اهلل حبيبي.
خرج عبد اهلل مسر ًعا.
136
تحسست وجهي فوجدته داف ًئا .لم أشعر هبذا الدفء
طويلة .جلست على سريري .فتحت جهاز ٍ ٍ
فرتة منذ
الالب توب .وأكملت قراءة سيرة الحسن بن علي.
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
والتوز عي
137
الحسن بن علي
ا ري
كانت أحداث الفتنة رهيبة وشديدة الوطأة على
ر ش
والتوز عي
الكرام الذين اعتادوا على مواجهة أعداء اإلسالم م ًعا
يف حياة الرسول وبعد وفاته وجدوا أنفسهم فجأة
يواجهون مسلمين مثلهم .يشهدون أن ال إله إال اهلل ،وأن
محمدً ا رسول اهلل.
139
مع أهل هذه البالد ،وعلى رأسها مصر والعراق؛ فقد
زادت النعرات القبل ّية ،وظن بعض الجهالء العرب أن
انتماء الرسول لقبيلة قريش ُيعطي لهم األفضل َّية
على غيرهم من المسلمين .لذلك فقد انطلقت من مصر
والكوفة الجماعات التي قتلت عثمان.
ع
ثان ًيا :فتحت الدنيا أبواهبا على مصاريعها أمام العرب
عوالتوزي
َّ
وملذاهتا .والدنيا دار فتنة. آخرهتم ،وركضهم وراء الدنيا
ر ش
والتوز عي
غير مقبولة من قِ َبل أغلب الصحابة .واألمر ليس متعل ًقا
بعثمان فقط ،بل هو متعلق بمنصب الخليفة ذاته .فلو
ُس ِمح لبعض الناس أن يخلعوا الخليفة ،فإن هذا سيهدر
هيبة المنصب ،ويفتح الباب بعد ذلك أمام أي جماعة من
الناس أن تتمرد على الخليفة وتخلعه .فال يثبت أي خليفة
يف منصبه أيا ًما معدودة .لذلك فقد رفض عثمان وأغلب
التوصل إلى حل
ُّ الصحابة فكرة عزل الخليفة ،وحاولوا
وسط ُيرضي جميع األطراف.
ص ع
كان األمر جنون ًّيا .أنا الذي كنت أتمنى أن أكرب سري ًعا
ع
خاسر .تكاثر المهاجمون أمام بيت الخليفة .حاولت
دفعهم دون قتلهم .فكيف أقابل ربي يوم القيامة ويدي
ملطخة بدماء مسلم؟! حتى لو أخطأ هذا المسلم ،كيف
عسيرا للغاية .كنت أدفع الناس عن الدار
ً أقتله؟! كان األمر
وأتجنّب قتلهم أو إصابتهم .أتل َّقى ضربات السيوف ،وال
أردها.
ص ع
وجها لوجه ضد مسلمين مثلي .وألول مرة يرتك ً نفسي
يلحون
وأقبل كبار الصحابة وأهل المدينة على أبي ّ
شاغرا.
ً عليه يف قبول الخالفة؛ حتى ال ُيرتّك المنصب
اضطرب قلبي حينها ،فما حدث لعثمان من الوارد أن
ع
يحدث ألبي يف ظل الظروف الحالية .لقد أصاب الفقد
ر
أيضا.
عوالتوزي
رفض أبي إلحاحهم .عرض عليهم أن يختاروا خليفة
ووزيرا إن أراد .إال
ً مستشارا
ً غيره ،ووعدهم أن يكون له
أهنم قد أصروا عليه .فقد كانوا يرونه األحق بالخالفة يف
هذا الوقت ،خاص ًة أنه كان َمن انحصرت الخالفة بينه
وبين عثمان بعد مقتل ُع َمر .خاف أبي أن َيرتك منصب
شاغرا ،فيتقاتل الناس عليه أو يستولى عليه بعض
ً الخليفة
الغوغاء ،فاضطر لقبول هذا المنصب على مضض.
145
عبد ال� ل�ه
()1
ص ع
ضدنا بشكل غير مباشر .فتس ّبب هذا يف سحب
ع
كبيرا من الموظفين للموظفين .لم ُي ِ
رض هذا عد ًدا ً
فطلبوا عقد اجتماع مع مجلس إدارة الشركة إال أن
سمير تجاهل مطالبهم .فن ّظموا مظاهرة أمام مقر
الشركة ،فقرر سمير أن يفصلهم من العمل ُمدّ ع ًيا
حاجة إليهم.ٍ أهنم ِعمالة زائدة ،والشركة ليست يف
وهؤالء الموظفون معتصمون منذ األمس أمام مقر
الشركة.
فورا؟!
-كيف يحدث كل هذا وال تخربين ً
عذرا أستاذ عبد اهلل .لكنني أعرف أن لديك بعض
ً -
الظروف العائلية اآلن ،كما أن هاتفك كان خارج
148
الخدمة ألكثر من يوم .وقد حاولت أن أقوم مقامك،
وأوقفه عند حدّ ه .لكنه أخربين أنني ال صفة لي يف
الشركة حتى أ ّتخذ قرارات .عندها قررت أن آيت
فورا.
إليك ً
وصلنا إلى مقر الشركة يف ٍ
وقت قياسي؛ فقد كنّا نطير
فوق الطريق.
ر ش
والتوز عي
المواجه لها .وبالطبع فالزروع واألشجار الموجودة يف
هملة .وأمن الشركة موجود بكثافة .وتوجد سيارة
الفناء ُم َ
أيضا أمام الشركة .باختصار فوضىلألمن المركزي ً
عارمة.
ع
للغاية ،فخشيت أن أقول كال ًما يزيد غضبهم أو أعدهم
والتوزي ر
ع
قائل :اطمئنوا ،كل شيء سيكون على ما ُيرام .وطلبت من ً
مازن أن ُيخاطبهم نيابة عني بينما أصعد لمقابلة سمير.
ً -
أهل حاج عبد الحكيم .كيف حالك؟
150
ً -
أهل بك ،أستاذ عبد اهلل .كيف حال ابنك اآلن؟
-بخير الحمد هلل .أين سمير؟
-يف غرفة رئيس مجلس اإلدارة.
رئيسا لمجلس نصب نفسه ً ازداد غضبي .إ ًذا فهو قد ّ
اإلدارة من تلقاء نفسه .ذهبت إلى الغرفة .وقفت أمام
ع
ً
محاول تجهيز بعض الكلمات ،حتى ال أبدو مرتد ًدا الباب
151
()2
ريص ع
-أستاذ عبد اهلل! لقد نسيت أنك معنا هنا يف الشركة.
ل ا
جالسا
ً
ن ل بل ت ك
قالها سمير بنربة ساخرة بمجرد أن رآين .كان
ر ش
والتوز عي
على كرسي رئيس مجلس اإلدارة الفخم.
-ماذا تفعل هنا يا سمير؟
-أدير الشركة كما ترى.
تخرب الشركة كما أرى .العمالء يسحبون -بل ّ
أعمالهم ،والموظفون معتصمون أمام الشركة .هل
هذه طريقتك يف اإلدارة؟!
-لقد خاطبت عد ًدا من العمالء ،وأحاول اآلن
استخدام عالقايت ليعيدوا أعمالهم للشركة .أما
بخصوص الموظفين فهم جالسون يف مكاتبهم.
-وماذا عن المعتصمين يف الخارج؟!
153
-لم يعودوا موظفين لدينا .لقد تم االستغناء عنهم.
تعويضا مناس ًبا لك ٍل منهم .أرأيت
ً بل إنني صرفت
كم أنا حنون!
سيعوضهم عن سنوات
ّ -وهل هذا التعويض البسيط
سيعوضهم عنّ عمرهم التي أفنوها هنا؟! هل
انكسارهم أمام أنفسهم و ُأسرهم ّ
جراء هذا الطرد
ت ك
ُ
عوالتوزي
عقالن ًّيا حاز ًما ،وكان ُيعجبني هذا فيك رغم اختاليف
معك .يبدو أن ما حدث البنك قد غ ّيرك.
أيضا!
-نعم غ َّيرين لألفضل .كم أتمنَّى أن تتغ َّير أنت ً
-حسنًا ،فلندع المشاعر والتغيرات اآلن جان ًبا .نريد
أن نصل إلى حلٍ ،حتى ال تتداعى األمور أكثر من
هذا.
-قلت لك من قبل ،لقد قضيت خمسة عشر عا ًما هنا
يف الشركة ،وبالتالي أنا األقدر بإدارهتا .كما أنني
كنت مالز ًما ألبي ،وبالتالي تع ّلمت منه كل شيء.
154
-الشركة اآلن تواجه ضائقة مالية ،وهي بالتالي
ّ
بضخها فستتحسن تحتاج إلى أموالي التي إذا قمت
كثيرا.
األحوال ً
بضخها إ ًذا؟
ّ -ولماذا ال تقوم
-وماذا يضمن لي حقي لو قمت بضخها وتم إنفاقها
ع
بشك ٍل ال ُيرضيني؟
155
وجدت مازن ينتظرين يف الردهة .لم يك ّلمني؛ فهو
يعلمني عندما أكون غاض ًبا .ذهبت معه إلى مكتبي؛
لتناقش يف خطواتنا القادمة .قال لي:
-ما رأيك أن نرفع عليه دعوى قضائية؟
دائما.
-بأي هتمة؟! هذا الثعبان يتحرك بشكل قانوين ً
ثم إنني ال أرغب يف مزيد من الفضائح .من قد يعمل
ر ش
والتوزي
دعني أفكر ً
قليل .ويف الوقت الحالي ،أريد منك أن
ع
تعرف كل شيء عن أنصار سمير يف مجلس اإلدارة.
فأنا لن أضرب سمير نفسه ،بل سأضرب َمن حوله
ً
أول.
-حسنًا ،سأبدأ يف تنفيذ المهمة من اآلن ،أستاذ عبد
اهلل .أستأذنك.
بعد أن خرج مازن ،أعددت لنفسي فنجانًا من القهوة،
حتى أستطيع التفكير.
عصيب! إذا ضربت سمير بقوة ٍ ٍ
موقف يا له من
أيضا بقوة ،وتنهار الشركة .وإذا تركته
فسيضربني هو ً
156
فسيتح ّكم فيها كيف يشاء .األمر يحتاج إلى الحكمة .وأنا
أحتاج إلى بعض الهدوء.
هدأت لحظ ًة ثم سألت نفسي :هل أنا ً
فعل تغ ّيرت
مثلما قال سمير! هل هذا التغيير واضح لهذه الدرجة؟!
ماذا فعلت بي يا إمام! ُترى لو كان اإلمام الحسن يف
موقفي هذا ،ماذا كان سيفعل؟
ت ك
َّ
ر ش
والتوز عي
أحمله معي أينما ذهبت .فتحت الكتاب حيث تو َّقفت.
وواصلت القراءة.
G
157
الحسن بن علي
()1
والتوز عي
المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان .وكان على رأسهم:
الزبير بن العوام ،وطلحة بن عبيد اهلل ،ومعاوية بن
أبي سفيان ،والسيدة عائشة .كان أبي يشاركهم الرأي،
ويعارضهم الكيفية .كان يعتزم القصاص من قتلة عثمان،
لكنه كان يرى استحالة تنفيذ هذا يف الظروف الحالية .فقد
اختلط القتلة بالناس ،ولم يكن هناك إمكانية لتمييزهم
دون غيرهم.
159
الجيوش يف حيرة من أمرهم ،فال يمكنهم أن يتحركوا
خطو ًة دون أمر الخليفة .والخليفة اآلن ال يقدر على
القيام بمهامه بشك ٍل كاملًٍ .
وأيضا كان مصير الوالة غير
معلوم ،خاصة الوالة الذين شاركوا يف هذه الفتنة .فال بدَّ
أول ،حتى يستطيع عزل للخليفة أن يسيطر على األمور ً
هؤالء الوالة ومحاسبتهم واستبدالهم بغيرهم ،وحتى
ك
أيضا من إجراء تحقيقات واسعة لإلمساك بالقتلة
والتوزي ر
ع
لك َّن أحدً ا لم يعذر أبي .لم يروا األمر من الداخل
كما يراه هو .فقط أرادوا القصاص ،والقصاص اآلن.
واألكثر من ذلك ،أن قميص عثمان المخضب بدمه وصل
إلى دمشق ،فثار الناس عندما رأوه ،وطالبوا بالقصاص
الفوري من القتلة .بدأ األمر يخرج عن السيطرة يف الشام.
حاول أبي إفهامهم وجهة نظره عرب وسطاء ،لك َّن الناس
فقدوا عقولهم .لم يكونوا مستعدين لسماع أي شيء.
مجرد تلكؤ منه لعدم تنفيذ
وكانوا يرون أن كالم أبي هو ّ
القصاص.
160
ال أعلم كيف يفكرون هكذا! كيف يتهمون أبي بالتلكؤ
أو الضعف أو عدم الرغبة يف القصاص من قتلة عثمان؟!
أال يعلمون من هو علي بن أبي طالب! كيف ُيتَّهم مثل
علي بمثل هذه االفرتاءات؟!
لم َير أبي ُبدًّ ا من عزل معاوية من والية الشام ،رغم أنه
ع
كثيرا .لك َّن معاوية رفض تنفيذ األمر،
حاول تجنّب هذا ً
والتوز عي
ً
للخروج من المدينة والذهاب لتخوم الشام ،حتى يكون
قري ًبا من موقع األحداث .حاول بعض الصحابة الكرام
إثناء أبي عن قراره ،لكنه كان قد حزم أمره.
161
كثير مما يحدث ،لكنني لم أكنكنت ال أرضى عن ٍ
ألخالف أبي الرأي أمام الناس .وكانت عالقتي بأبي
عالقة أخوة على عكس ما كانت تسير عليه عالقات اآلباء
بأبنائهم من السيادة المطلقة لألب على ابنه إلى درجة
تقارب درجة االستعباد.
ع
لذلك فقد تح ّينت فرصة؛ كي أنفرد به بعد صالة
ابن يخشى على أبيه من
ك ل ا ري
حوار مؤ ّث ٌر بين ٍ
ت
ٌ
ص الصبح .ودار بيننا
ريص ع
بيتك ،أتريدين أن أكون مثل الضبع التي ُيحاط هبا.
ريص ع
هبذا النصر .فقد راح ضح ّيتها الكثير من المسلمين .وعلى
ويرتحم عليهم.
ّ وقد رأيته يسير بين القتلى من الفريقين
ثم رأي أبي طلحة بين القتلى ،فمسح الرتاب عن وجهه،
ً
جندل يف علي يا أبا محمد أن أراك ُم وبكى ً
عزيز َّ
ٌ قائل:
164
الرتاب .ثم ضمني إلى صدره وقال :يا حسن ،ليتني مت
قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ٍ
بنصر شاركت فيه .فما ٍ
سعيد غير
ألول مرة أجدين َ
المفرح يف كل هذا العبث؟!
ُ
165
()2
ل
ن ل بل ت ك
وجدنا أنفسنا يف مواجهة مع أهل الشام بقيادة معاوية
ر ش
والتوز عي
بن أبي سفيان وعمرو بن العاص .بمجرد أن علم أبي
بخروجهم ،سار إليهم بجيش الكوفة .كانت سيوف كل
فريق تقطر حدة على قتال الفريق اآلخر .لم أكن أتصور
أن يشتهي المسلم قتل أخيه هبذا الشكل .انطلق الفريقان
بمنتهى القوة ،ودارت بينهما الحرب الضروس.
عمار.
جيش الشام قتل عمار ...جيش الشام قتل ّ
انتشر خرب مقتله انتشار النار يف الهشيم .اضطرب جيش
الشام .فقد أيقنوا أهنم الفئة الباغية هنا .وهجم جيشنا
ع
ٍ
ص
بقوة حتى انتكسوا .صارت الغلبة لنا ،وتي ّقنا أن
ري
عليهم
ع
لدي
عالمة على رغبتهم يف تحكيم كتاب اهلل .لم يكن َّ
شك أن هذه مجرد خدعة منهم لكسب الوقت ،ووقف
أيضا ،فأمر جنوده
القتال بعد اهنزامهم .وكان هذا رأي أبي ً
باستكمال الحرب .لكن جيشنا قد انقسم على نفسه،
فمنهم من يرى رأينا ،أن هذه مجرد خدعة ،ويجب علينا
إكمال الحرب .وفريق آخر يرى االحتكام لكتاب اهلل.
حتى كاد يحدث قتال بين الفريقين .فلم يجد أبي ُبدًّ ا من
إيقاف الحرب ،وقبول التحكيم.
168
مجرد ُخدعة ،فقد فشلت
وبالطبع ألن التحكيم كان ّ
سفر إال عن إطالق سراح جميع المفاوضات .ولم ُت ِ
األسرى من الفريقين ،وعودة كل فريق إلى بلده .وهكذا
لم يحل التحكيم األزمة ،بل فاقمها؛ فقد انشقت عن
جيش أبي فئ ٌة رافضة للتحكيم ،بل إهنم خرجوا على أبي
لقبوله إياه .حاول أبي بالطرق السلمية ردهم إلى صواهبم،
ر ش
والتوز عي
جيش أبي ،وظل الباقون على عنادهم .بل إهنم بدأوا يف
االعتداء على الناس ممن ال يرون رأيهم ،فلم يجد أبي ُبدًّ ا
من محاربتهم؛ للقضاء على شرهم.
ً
محاول تنظيم أمور ثم عاد أبي بالجيش إلى الكوفة
الدولة .فقام بإنشاء جهاز للشرطة لحفظ األمن ،وإنشاء
مراكز الخدمة العامة ،وبناء السجون لوضع المحكوم
169
عليهم فيها .كما أمر أبا األسود الدوؤلي بوضع قواعد
النحو ،حيث خاف على اللغة من الضياع نتيجة اختالط
العرب بباقي األمم .وهكذا بدأ الهدوء يعود شي ًئا فشي ًئا
للدولة اإلسالمية .إال أن الخوارج كان لهم رأي آخر.
فانقض
ّ رحيما هبم؛ فإهنم لم يرحموه.
ً فرغم أن أبي كان
ع
عليه رجل منهم يف أثناء خروجه لصالة الفجر ،وأصابه
ت ك
قاتلة.
ع
نظر إلى أبي وقال« :يا أمير المؤمنين ،قل وصيتك فإنك
الح َسين وأخينا -غيرم ّيت» .فجمعني أبي أنا وأخي ُ
الشقيق ُ -محمد (المشهور بابن الحنفية) ،وأوصانا وصي ًة
طويل ًة جامع ًة اشتملت على كل أمور الدين والدنيا.
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
والتوز عي
171
فريدة
ل
بل ت ك
ٍ
ن ل
بغصة يف قلبي ،ودمو ٍع على خدي .هالني ما شعرت
ر ش
والتوز عي
ٍ
سنوات قليلة ،تبدَّ ل الح َسن وأبوه .يف غضون
تعرض له َ
َّ
الحال .وكل هذا بسبب بعض الجهالء .ال أفهم ح ًّقا كيف
يتَّهم البعض ابن عم رسول اهلل ﷺ ،وزوج ابنته ،وأول من
أيضا! لكن هكذاأسلم من الفتيان بالكفر! بل ُيهدر دمه ً
دائما.
هم الجهالء ً
لفت انتباهي ثقة الجهالء الشديدة يف أنفسهم؛ فهم
فادحة ٍ
بثقة غريبة .أهدروا دم عثمان ٍ ٍ
قرارات يأخذون
أيضا .هكذا بمنتهى
علي وقتلوه ً
وقتلوه .وأهدروا دم ٍّ
البساطة يقتلون اثنين من كبار صحابة الرسول.
173
ويف مقابل هذه الثقة العمياء ،رأيت تر ّيث العلماء .فقد
رفض عثمان أن يستقدم الجيش أو حامية المدينة لقتال
الذين حاصروا داره .كما أن عل ًّيا قد وافق على التحكيم
رغم تقدّ مه يف المعركة؛ حقنًا لدماء المسلمين.
ك
َّ
عوالتوزي
أتعمق يف التاريخ
األسئلة ذات الطابع الفلسفي .ألول مرة ّ
هبذا الشكل .أشعر أن رأسي يؤلمني من كثرة المشاعر
المضطربة والتفكير .اآلن فقط فهمت كيف غ ّيرت سيرة
الح َسن عبد اهلل .فالتاريخ ليس مجرد قصص للفخر أو َ
التسلية ،لكنه يضعنا يف مواجهة مباشرة مع أنفسنا وأفكارنا.
ٍ
عناية عندما قرأ عبد اهلل عن طفولة الحسن ،وما القاه من
واهتما ٍم شعر بالتقصير يف حق ابنه ،فقرر أن ُيغ ّير من نفسه.
وها أنا ذا أشعر كأين نضجت فجأة ،ولم أعد تلك الفتاة
التي تحب الروايات الرومانسية واالجتماعية فقط .لقد
صرت اآلن أ ًّما لطف ٍل على أعتاب مرحلة المراهقة؛ طف ٍل
174
حاول قتل نفسه .لذلك يجب أن ينضج تفكيري ،حتى
ُأصبح قادر ًة على تربية رجل ،ال طفل.
ع
الحسبان.
باب غرفته ألجد نفسي أمام مفاجأة لم تكن يف ُ
G
175
حسن
ا ريص
كانت هذه األيام هي أجمل أيام حيايت؛ فقد كنت
ل ع
ن ل بل ت ك
أنعم بحب واهتمام الجميع :أبي وأمي وجديت وماما
ر ش
والتوز عي
صفية .ورغم صمتي الدائم فإنني كنت أود أن أخربهم
كم أحبهم .لكن ال أعلم لماذا كلما هممت بذلك ،انعقد
لساين! ربما أخشى إن كلمتهم أن يركنوا إلى هذا ،ويعودوا
إلى أسلوهبم القديم معي من اإلهمال والتعنيف .أخشى
أن يكون كل هذا اهتما ًما لحظ ًّيا فقط.
ٍ
بحاجة إلى البوح ،حتى ال تختنق الكلمات لكنني كنت
والمشاعر يف صدري .تأملت رزمة األوراق التي تركها
كثيرا .إال أنني كنت أحب
أبي ،لم أكن مغر ًما بالقراءة ً
سماع القصص والحكايات من جديت .لذلك فقد انتظرت
للمساء ،حتى تعود ماما صفية لمنزلها ،وأكون حينها مع
177
جديت بمفردنا .فقد كنت أتظاهر أمام الجميع بأين قد
تجاوزت مرحلة الطفولة .إال أن الطفل الذي بداخلي كان
يرغب يف مزيد من الحكايات والتدليل .ولم أكن أسمح
ٍ
ألحد حال ًّيا برؤية هذا الطفل إال جديت.
ص ع
حسن واألميرة ،وعالء الدين والبساط السحري ،وبياض
ع
ٍ
حكايات بإمكاين أن أكون بطلها ح ًّقا أو على األقل أحاول
أن أكون.
178
لذلك فقد انتظرت حتى المساء ،بعد أن دخلت جديت
يف السرير بجانبي كما اعتادت أن تفعل كل ليلة منذ الليلة
الحزينة .خلعت نظارهتا ،ووضعتها على الطاولة بجانبها.
ثم ق َّبلتني ،وقالت لي:
ص ع
نفسا عمي ًقا ثم قلت:
أخذت ً
ن
احك لي عن الحسن بن علي!
ر ش
والتوز عي
إلي غير
انتبهت جديت فجأة ،وانتفضت من السرير تنظر َّ
مصدِّ قة .سكتت لدقيقة ثم بدأت عيناها تذرف الدموع،
واحتضنتني بعمق .وقالت:
ص ع
-ال يا جديت ،رجا ًء .ال تخربيهما اآلن .أريد أن
ع
توجع قلبيهما.
ِ
أرجوك .حدِّ ثيني عن -اطمئني يا جديت .لكن اآلن
الحسن بن علي!
-سأحدِّ ثك عنه يا بني .لكن يف البداية أخربين كيف
عرفت الحسن؟
-لقد أعطاين أبي رزمة من األوراق قال إهنا مسودة
لكتاب له ،وإن بطل الكتاب له نفس اسمي .قرأت
غالف الكتاب فوجدت مكتو ًبا عليه :الحسن بن
علي .وقد أردت أن أعرف عنه بأسلوبك الشائق.
180
َ -أحس َن أبوك االختيار .فولد يف عمرك ال بدَّ أن يعرف
سيرة سيد شباب الجنة.
قضت جديت ليلتها تحدّ ثني عن الحسن بن علي يف
حاضرا ثم نمنا
ً طفولته وشبابه حتى أ َّذن الفجر .فصليناه
بعمق.
ع
أعجبتني سيرة الحسن .وأعجبني أن له نفس اسمي.
والتوز عي
جديت قصة وتعجبني .وقد قررت أن أط ّبق عاديت هذه مع
سيرة الحسن.
G
181
عبد ال� ل�ه
()1
والتوز عي
وأيضا التفكير يف خطوايت
أعكف على قراءة سيرة الحسنً ،
رن جرس الهاتف يف المقبلة لمواجهة سمير .لكن فجأة َّ
ٍ
متأخرَ .من قد يتصل اآلن؟! أمسكت الهاتف فإذا ٍ
وقت
فورا .لم تعطني
هي فريدة تطلب مني أن أحضر للبيت ً
مزيدً ا من التفاصيل .ال أعلم لماذا صار الجميع يطلب
فورا هذه األيام!
مني المجيء ً
وصلت البيت سري ًعا ،واندفعت من باب الشقة.
وجدت فريدة يف انتظاري.
ص ع
سارة ...سارة للغاية.
ر ش
والتوزي
الغرفة مز ّينة برسومات حسن .شعرت كأنني يف أحد
ع
المعارض الفن َّية .كان قد وضع الرسومات على الحائط
بنظا ٍم ُمت َقن .اقرتبت من كل رسمة أتأملها .كانت رسوماته
بسيطة ومناسبة لسنّه الصغيرة ،لكنها كانت جميلة.
أشخاصا
ً كانت رسومات تاريخية .فهذه رسمة تصور
مجتمعين حول نار موقدة على الحطب .وهذه رسمة
لفارسين يتبارزان بالسيف .وهذه رسمة لخيمة يجلس
بداخلها عدد من الناس .ورسمة أخرى لمجموعة من
الناس يسيرون يف الصحراء.
184
نادتني فريدة وهي تشير إلحدى الرسومات.
ع
همست لي فريدة:
همست لفريدة:
185
قالت لي مازحة:
-وما فكرتك ،س ِّيد أينشتاين؟
ضحكت ً
قائل:
-دعيها تختمر اآلن يف رأسي ثم سأخربك هبا الح ًقا.
كان حسن وأمي يجلسان يف سريره يراقباننا هبدوء.
ر ش
والتوزي
ٍ
شعور رائ ٍع ال تصفه الكلمات! همست لهما: له من
-وعملك؟
-ليس لدي عمل اليوم إال أنتم .ه َّيا نخرج.
كانت ليلة مليئة بالمشاعر الف َّياضة .كم كنت غب ًّيا
فرط يف هذا الدفء
حين أهملت أسريت! فأي مجنون قد ُي ِّ
الحاين!
187
ٍ
متأخر من الليل .بعد أن ٍ
وقت عدنا إلى البيت يف
اطمأننت على حسن وأمي .وقفت مع فريدة يف ردهة
الشقة ً
قائل لها بدالل :هل سترتكيني أنام الليلة يف غرفة
الضيوف؟
ريص ع
-ال ،بل يف غرفتنا.
ر ش
والتوزي
ليلتي فقط مع حبيبتي فريدة.
ع
G
188
()2
ريص ع
-ه َّيا يا عبد اهلل .استيقظ! ستتأخر عن عملك .لقد
ل ا
ن ل بل
صباحا.
ً
ت ك
صارت السابعة
ر ش
والتوز عي
-لن أذهب للعمل اليوم .ال أريد أن أرى وجه سمير
و َمن معه.
مديرا
ً -استيقظ أيها الكسول .كيف تريد أن تكون
للشركة ،وأنت ال تستطيع النهوض من السرير!
ً
متثاقل .لقد عشت باألمس أجمل قمت من السرير
ليلة يف حيايت ،وال أريد أن أفسدها اليوم بمشاجرات
العمل السخيفة .لكن على أي حال يجب أن أقوم .ليس
من الحكمة أن ُأصلِح بيتي و ُأ ِ
فسد عملي.
والتوزي ر
ع
ضحكت فريدة ،وضحكنا جمي ًعا .ثم أكملت صفية:
والتوز عي
حتى وصلت إلى مقر الشركة.
ل
ن ل بل ت ك
-بالتأكيد ،أستاذ عبد اهلل .اطمئن.
ر ش
عوالتوزي
-أنا أثق بقدراتك .تو ّلى أنت هذا األمر .وأنا سأقوم
بمراجعة جميع ملفات إدارتنا ،حتى أؤدي األعمال
التي تع ّطلت نتيجة غيابي الفرتة الماضية.
قضيت باقي النهار أتابع أعمال إداريت .وعقلي ال
يتو ّقف عن التفكير يف صراعي مع سمير .ال أعلم ما هناية
هذا الصراع .كما أنني ال أريد أن أنغمس فيه كالسابق،
حتى ال تفسد عالقتي مع أسريت ثانيةً .شعرت كأن هناك
شخصين يتصارعان بداخلي :أحدهما يدفعني إلكمال
الصراع لنهايته ،واآلخر يتساءل :ما جدوى كل هذا؟!
192
اشتقت لإلمام الحسن ،فقد انشغلت خالل اليومين
الماضيين بأمور األسرة والعمل عن سيرته .لذلك فقد
قررت أن أترك العمل ً
قليل ،وأواصل قراءة سيرته.
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
والتوز عي
193
الحسن بن علي
ر ش
والتوز عي
ُقتِل آخر خليفتين ٍ
بأيد مسلمة .واألمة منقسمة على ُ
نفسها .وحركة الفتوحات متوقفة .كان بإمكاين الرفض
واالعتزال .لكنني كنت كأبي ،لم أكن ألترك المسلمين
بعضا دون أن ُأ ِّ
حرك ساكنًا .وقد أيقنت أن ينهش بعضهم ً
الفتنة ستشتعل أكثر لو لم أوافق على الخالفة ،ألن هذا
س ُيغري ضعاف النفوس بالسعي إليها.
عوالتوزي
صاح الناس:
-نبايعك.
سكت لحظ ًة ثم أضفت:
ُّ
196
على أي حال ،فقد بايعوا ،وإن كنت أشعر بالحنق يف
وجوههم.
ع
تي ّقنت حينها أين محق يف رأيي بالصلح؛ فهل مثل هؤالء
ت
عول عليهم؟! هؤالء الذين خرجوا على أبي وحاربوه
ك ل ا ريص
ُي ّ
والتوز عي
مكثت فرت ًة ال أقوى على السير ثم شفاين اهلل .فقمت يف
الناس خطي ًبا:
ن
ر ش
والتوزي
لمست يف معاوية رغبة يف الصلح على أن يتولى الخالفة.
ع
كنت أوافقه على الصلح ،لكنني أشرتط شرو ًطا للموافقة
على تسليم أمر الخالفة له .وقد استجاب معاوية لهذه
رجل ليقوم بكتابة كتاب الصلح الشروط ،وبعث كل منا ً
كما اتفقنا .لكن تب َّقت الخطوة األهم ،أال وهي إعالن
األمر للناس .وقد قررت أن ُأ ِّ
مهد األمر للناس ،وال أذكره
لهم مباشرةً.
فأمرت بجمع أهل العراق ،وقمت فيهم خطي ًبا:
إين أرجو أن أكون أنصح خلف لخلفه ،وما أنا محتمل
َع َلى أحد ضغينة َوال حقدً ا ،وال مريد بِ ِه غائلة َوال سو ًءا،
198
أال وإن َما تكرهون فِي الجماعة خير لكم مما تحبون فِي
خيرا من نظركم ألنفسكم ،فال الفرقة ،أال وإين ناظر لكم ً
علي ،غفر اهَّلل لي ولكم ...
تخالفوا أمري وال تردوا َّ
علي عدد منهم،
ولم أكد أكمل جملتي حتى هجم َّ
فش ّقوا ردائي ،وسحبوا مصالي من تحتي ،وخلعوا
فتجمع حولي عدد من أنصاري ،فأبعدوهم خيمتي.
ع
َّ
ت
ش ن ل بل
فلم أكد أبتعد هبا ً
قليل حتى ضرب البغلة رجل بالمعول
ريص ع
الصلح أمام الناس ،ومبايعته.
والتوزي ر
ع
بن علي معاوي َة
الحسن ُ
ُ أيها الناس ،هذا ما صالح عليه
بن أبي سفيان ،صالحه على:
ول َية ا ْل ُمسلمين على َأن ي ْعمل فيهم * َأن يسلم إِ َل ْي ِه َ *
بِكِتَاب اهلل َت َعا َلى َوسنة َر ُسول اهلل (صلى اهلل َع َل ْي ِه
اشدين المهديين. وسلم) وسيرة ا ْلخُ َل َفاء الر ِ
َّ َ
* َو َل ْي َس لمعاوية بن أبي ُس ْف َيان َأن ي ْع َهد إِ َلى أحد من *
200
ث كَانُوا من َأرض اهلل
*و َعلى َأن النَّاس آمنون َح ْي ُ *
( َت َعا َلى) فِي شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم.
ع
إين كنت أكره الناس ألول هذه الفتنة ،وهو القتال .وأنا
بالصلح والتنازل عن الخالفة لذي حق
202
عبد ال� ل�ه
()1
والتوز عي
شعرت باضطراب شديد ،وأنا أقرأ هذه التفاصيل الصعبة
تعرض لها اإلمام الحسن .كنت قد قرأت ساب ًقا عنالتي َّ
الصلح بين الحسن ومعاوية ،لكنني لم أنغمس يف كل هذه ُ
التفاصيل .كان جزء منّي يتفق مع اإلمام الحسن يف صلحه،
وجزء آخر يرى أنه كان بإمكانه أن ُيدير األمر بدهاء وحزم
أكثر من هذا ،ويحتفظ لنفسه بحق الخالفة .شعرت كأن
هناك صوتين يتصارعان بداخلي.
203
باألساس قرأت سيرة اإلمام ،حتى ُأريح عقلي ً
قليل من
التفكير يف هذا الصراع.
ص ع
مجلس إدارة الشركة حقي ،ولن أتنازل عنها مهما حدث.
ر ش
والتوزي
الصراع؟! وماذا ستكون نتيجته؟! لقد كدت تفقد ابنك يف
ع
لحظة ،وكنت ستخسر معه كل شيء :زوجتك ،وبيتك،
أيضا.
وربما أمك ً
205
()2
ريص ع
فتحت عيني ألجد نفسي ُملقى وسط صحراء قاحلة.
ل ا
ل بل ت ك
شعرت أنني قد عشت هذه اللحظة من قبل .بدأت أتحسس
ن
ر ش
والتوز عي
دائما ما أستيقظ
كثيرا .ال أعلم لماذا ً
جسدي الذي يؤلمني ً
ألجد نفسي وسط الصحراء .أال يمكن أن أستيقظ ألجد
نفسي يف حديقة جميلة أو على شاطئ البحر ً
مثل!
207
فجأة صرخ رجل من أهل الخيام :اهلل أكبر.
ص ع
إلي .ال أحد
كان يبدو كما لو أهنم ال يرونني .ال أحد ينظر َّ
ت
علي أو قتلي .شعرت كأنني أشاهد
ك ل ا ري
يحاول حتى الهجوم َّ
والتوزي
ً
ع
لمحت رجلين من أهل الخيام يختبآن خلف جبل،
فذهبت ألختبئ معهما .ال أعلم مم أتخ َّفى! فال أحد يراين
على أي حال.
208
كبيرا يف بحر ً
أسطول ً فر َّد عليه اآلخر :لقد جمع الروم
الروم ،وهجموا بضراوة على بالد إفريقية ومصر والشام.
مروعة .وها هم الفرس قد جمعوا شتاهتم، كانت مذبحة ِّ
وهجموا علينا ،لينتقموا منا.
ع
الشام ،والفرس يحاصرون الحسن يف العراق .فماذا جنى
ت
ش ن ل بل
على الخالفة! لقد اهنار كل شيء .هلل األمر من قبل ومن
209
جاء هذا الصوت من خلفي فجأةً .انتفضت من مكاين،
وسقطت على األرض من هول المفاجأة.
ريص ع
عذرا يا بني .هل أنت ٍ
ل ا
بخير اآلن؟ ً -
والتوزي ر
تحرتق؟ وكيف عاد الفرس مر ًة أخرى؟ وكيف ...
ع
-بالتأكيد يا إمام .وهل يف ذلك شك؟!
والتوز عي
-بلى ،أعلم.
-هل تعلم أنه كتب يف بداية الصلح «هذا ما صالح
عليه محمد رسول اهلل» ،لكن المشركين قد طلبوا
منه أن يحذف رسول اهلل ،ويكتب «محمد بن عبد
اهلل» فوافقهم على هذا؟ إ ًذا فقد تنازل جدي عن
حقه يف كتابة «رسول اهلل» ،أليس كذلك؟
-بلى.
-فما رأيك يف هذا؟
-ربما هو وافقهم على ذلك ،حتى يتم الصلح.
211
-بالفعل .لقد تنازل عن حقه يف كتابة «رسول اهلل» من
أجل ما هو أهم أال وهو إتمام الصلح الذي كانت
نتائجه عظيمة للمسلمين ،حتى إن اهلل قد قال فيه
}إِنَّا َفت َْحنَا َل َ
ك َفت ًْحا ُّمبِينًا{ .فقد تنازل الرسول عن
حقه يف سبيل مصلحة المسلمين .وقد فعل ذلك مع
المشركين ،أفال أفعله أنا مع المسلمين؟!
ل
ن ل بل
دائما يتنازل؟!
ت ك
معناه أن الحق ً
ر ش
والتوزي
-بالطبع ال .ال تظن أن تنازلي عن الخالفة جاء
ع
لضعف منِّي .لقد كانت رؤوس العرب بيدي، ٍ
يسالمون من سالمت ،ويحاربون من حاربت.
وكان معي من الدهاة َمن تزول من مكرهم الجبال.
لكنني ما كنت ألريق دماء المسلمين ،وأمكر هبم
محصورا بين
ً الملك .لقد وجدت نفسي يف سبيل ُ
حقي ،ومصلحة المسلمين ،فاخرتت مصلحة
المسلمين .وال تغفل أنني قد أمليت عليه شروطي
يف الصلح ،فقد تنازلت من موقع قوة .هذه هي الدنيا
يا ُبني ،مجموعة من االختيارات الصعبة ،وال بدَّ أن
تختار بينها .فال تجعل نظرتك لألمور ضيقة ،وانظر
212
للمصلحة العامة .وإياك وإضاعة حقوق الناس
يف سبيل تحصيل حقك؛ فإن حقوق الناس ثقيلة،
وإنك لن تقدر على حملها يف اآلخرة.
-وماذا فعلت بعد الصلح يا إمام؟
-لقد كنت كبير آل علي بن أبي طالب ،وبني هاشم.
ٍ
بحاجة إلى الرعاية. صغارا وقد ترك لي أبي إخو ًة
ً
ل ا
أيضا كان لي أطفال صغار .لذلك فقد أخذت
ريص ع وأنا ً
ر ش
والتوز عي
وأعتني بأطفالهم ،وأقيم الحق بينهم ،وأعلمهم
أهل لهذا الدين .أحيانًا ياأمور دينهم ،حتى يكونوا ً
بني تحتاج إلى طي صفحة الماضي ،وبدء صفحة ّ
جديدة.
G
213
فريدة
ريص ع
كنت أجلس يف النادي أنتظر حسن حتى ُينهي ورشة
ل ا
ل بل ت ك
الرسم التي عاد الستئنافها مر ًة أخرى بعد اتفاقي مع عبد
ن
ر ش
والتوز عي
اهلل .كان الجو ً
منعشا ،وهو ما ساعدين على التفكير يف كل
شيء حدث خالل الفرتة الماضية :خالفايت مع عبد اهلل،
صراعه مع سمير ،حادثة حسن ،سيرة اإلمام الحسن .لقد
كان التغيير الذي حدث لنا خالل الفرتة الماضية جذر ًّيا
فعال .تذكرت مقولة أمي «ال أحد وعني ًفا ً
أيضا إال أنه كان ً
يتعلم مجانًا».
ف َّكرت ً
أيضا يف عملي الذي انقطعت عنه منذ حادثة
حسن .لقد بدأت عملي هذا باألساس ،كي أبحث عن
ذايت ،وأحقق طموحايت .رغم أنه عمل شاق ،ويشغل أكثر
وأيضا لي فيه مستقبل ُم ِّ
بشر .كنت وقتي فإن راتبه كبيرً ،
215
مقتنع ًة به بشدة يف البداية ،لكن اآلن تزعزعت قناعتي.
كأنني فقدت شغفي به ،خاصة بعد أن كدت أفقد ابني
ٍ
جديدة. بسبب انشغالي به .أشعر أنني أحتاج إلى ٍ
بداية
-هل بإمكاين الجلوس ِ
معك ،سيديت؟
قطع أفكاري هذا الصوت المألوف .نظرت خلفي فإذا
ع
هو عبد اهلل .تفاجأت بوجوده؛ فليس معتا ًدا أن يأيت إلى
قائما بينك
-أشعر أنك مشوش .هل ما زال الصراع ً
وبين سمير؟
216
أومأ برأسه ،ثم قال:
ص ع
تأكد أين سأكون معك أ ًّيا كان الطريق الذي ستسلكه.
217
ٍ
رسومات تاريخي ًة -رائعة يا حبيبي .لقد صرت ترسم
كثيرا يف الفرتة األخيرة.
ً
-نعم ،منذ أن أخربين أبي وجديت عن الحسن بن
أيضا أن أتدرب على ركوب الخيل. علي .أريد ً
فرسا ،وأقفز به من فوق
أمرا رائ ًعا أن أمتطي ً
سيكون ً
الحواجز.
ر ش
والتوزي
فقلت له:
ع
-سنفكر يف هذا األمر .ما رأيك أن نتناول الغداء اآلن
م ًعا ثم نذهب للبيت؟
G
218
عبد ال� ل�ه
ل
بل ت ك
على آخر أخبار سمير ورجاله كما طلبت منه ساب ًقا.
ن ل
ر ش
والتوز عي
-لقد بدأت بالفعل يف إشعال الموظفين ضد العضو
المنتدب كما طلبت مني يا أستاذ عبد اهلل ،وبدأت
حالة من التذ ُّمر ضده .وقري ًبا سنراه مطرو ًدا من
الشركة.
-وماذا بعد العضو المنتدب؟
عفوا يا أستاذ ،لم أفهم قصدك .ماذا بعده؟!
ً -
-أقصد ما الخطوة التالية؟
-سنقوم باستهداف جميع األفراد الموالين لسمير
حتى نتخلص منهم الواحد تلو اآلخر ثم ن ِ
ُجهز على
سمير يف النهاية.
219
-وكم سيستمر هذا األمر؟
أمرا بسي ًطا بالطبع .وال
-ال أدري .لكنه لن يكون ً
أيضا أن سمير هو اآلخر يتحرك ضدنا ،وهو ما
تنس ً
َ
سيطيل عمر الصراع.
-تعني أن األمر قد يستمر لشهور وربما سنوات!
عوالتوزي
-ربما سيخشى بعض عمالئنا من ضخ المزيد من
أموالهم وأعمالهم يف الشركة طوال هذه الفرتة .لكن
بعد أن ينتهي هذا الصراع ...
-سأرث خرابة .بعد أن ينتهي الصراع ستكون الشركة
تحولت إلى خرابة.
قد َّ
ثم وجدت نفسي أقولها بحزم كأنني أزيح ً
ثقل عن
صدري:
220
-ماذا؟! أستاذ عبد اهلل ،هذا حقك ،كيف تتنازل عنه؟!
لقد قمنا بالفعل بتحديد األشخاص الموالين ...
-صدقني يا مازن .بعد أن نتخلص من سمير وأعوانه،
فلن تكون الشركة خالصة لنا كما تظن .هل تظن أن
هؤالء األشخاص الموالين لنا يفعلون هذا ح ًّبا
فينا .كال ،إهنم يفعلون ذلك طم ًعا يف المزيد من
ر ش
والتوز عي
ً
بدل منه.
أيضا ثم
-إن فعلوا ذلك ،سنثير الموظفين ضدهم ً
نتخلص ...
-وبعد أن نتخلص منهم ،يظهر لنا آخرون فنتخلص
أيضا ،وهكذا يفنى عمرنا كله يف الصراعات، منهم ً
وتنهار الشركة .ال ،لن أقبل هبذا .سأقوم بتسوية األمر
مع سمير ،وسأراعي مصلحة الجميع .واطمئن يا
مازن ،سأضمن لك مكاين يف الشركة.
-مكانك! هل تقصد أنك سترتك الشركة هنائ ًّيا؟!
221
-نعم ،أحتاج إلى طي صفحة الماضي ،وبدء صفحة
جديدة .ال تظن أنني أفعل هذا بسبب ضعفي ،لكنني
ال أريد مزيدً ا من الصراعات والخسائر.
متجها نحو مكتب سمير .كنت قد
ً خرجت من مكتبي
أعددت مسودة بشروط التنازل ،ألعرضها عليه .طرقت
باب مكتبه ثم دخلت.
بل
ً
ر ش
والتوزي
أقبل أن يتدنَّى حالها أو يتأذى موظفوها الذين أفنوا
ع
هو شرط شخصي ،ال عالقة له بالعمل.
***
ت ك ل ا ريص
ر ش ن ل بل
والتوز عي
بعد أن أهنيت االتفاق مع سمير خرجت من المكتب.
مزيجا من الحزن
ً كانت مشاعري مضطربة .كانت
والهدوء النسبي والفراغ :حزن على فِراق الشركة ،وفِراق
خمسة عشر عا ًما من عمري قضيتها فيها ،وهدوء ألين
أخيرا تخ َّلصت من هذا الصراع ُ
المرهق ،والفراغ ألنني ً
ألول مرة أجد نفسي بدون عمل ،بدون هدف.
225
شعرت أن الجدران حزينة لفراقي ،فتحسستها بيدي كأين
أواسيها وأخفف عنها.
متعجبين ،ربما
ِّ كان الموظفون يختلسون النظر لي
تائها حزينًا هبذا الشكل .ال أعلم
ألهنم ألول مرة يرونني ً
كيف سيكون رد فعلهم بعد أن يعرفوا بأمر تصالحي مع
ع
سمير .هل سيحزنون لرحيلي؟! هل سيثورون على سمير
عوالتوزي
ف َّكرت أن أذهب لمكتبي ،حتى أقوم بجمع أغراضي،
أتحمل فكرة أن ُأزيل جز ًءا
َّ أتحمل الفكرة .لم
َّ لكنني لم
مني من هذا المكان الذي احتضن شبابي .فقررت أن
رسل أحد األشخاص بعد ذلك لجمعها. ُأ ِ
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
والتوز عي
227
فريدة
ريص ع
كنت أجلس مع حسن وماما فاطمة يف غرفة المعيشة.
ل ا
ل بل ت ك
كان حسن يعرض علينا أحدث رسوماته التاريخية .كان
ن
ر ش
والتوز عي
كبير ح ًّقا .وهذا دليل على ُّ
تحسن رسمه يتطور بشك ٍل ٍ
حالته النفسية .فجأة سمعنا صوت باب الشقة ُيفتَح ثم
باب الغرفة .كان هذا عبد اهلل.
229
ثم قال لحسن:
ر ش
والتوزي
دمج الرسومات مع الكتاب.
ع
الدراسي ،ألنه أصغر منك بعام كما تعرف .وسأعمل
أيضا.
ت
ر ش ن ل بل ً
جزيل يا أبي .أحبك جدًّ ا. شكرا
ً -
والتوز عي
أيضا أحبك يا بطلي الصغير .ما رأيك أن تذهب-وأنا ً
اآلن لغرفتك ،وترسم المزيد من الرسومات ،حتى
تكون جاهز ًة ألرفقها مع كتابي؟
-حسنًا يا أبي .سأهبرك برسومايت.
أعطى حسن كل واحد منَّا ُقبل ًة سريعةً ،وانطلق نحو
غرفته.
231
-نعم اتفقت معه على أن تعود عالقة الطفلين
ببعضهما كما كانت يف السابق.
نظرت له متشككة قائلةً:
عوالتوزي
قلتها أنا وماما فاطمة يف نفس اللحظة.
232
ني .ال ألومك اآلن ،لكنني حزينة أن ينتهي -أعلم يا ُب َّ
األمر هبذا الشكل .القرار يف النهاية قرارك.
-لماذا ِ
أنت صامتة يا فريدة؟
-حزينة ،لست حزينة من أجل الشركة ،بل من
أجلك .بعد أن أفنيت شبابك يف الشركة ،ينتهي بك
ع
األمر هكذا.
ع
لكنك ِِ -
ص
كنت تحبينه.
234
-تفضلي ،يا أمي.
بعد أن خرجت ماما فاطمة ،التفت عبد اهلل لي ً
قائل:
ِ
أهنيت سيرة اإلمام الحسن؟ -فريدة ،هل
-نعم ،لقد اعتكفت عليها األيام الماضية حتى أهنيتها.
علي الجزء األخير من سيرته،
تقصي َّ -ما رأيك أن ّ
ريص ع
حتى أتم َّكن من إتمام كتابي عنه.
ل ا
ن ل بل ت ك
-بمناسبة الكتاب ،عندي فكرة رائعة.
ر ش
والتوز عي
مازحا:
ً قال
G
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ر ش
عوالتوزي
236
الحسن بن علي
ريص
استمرت حيايت بعد الصلح يف المدينة المنورة على
ن
ر ش
والتوز عي
وأوضح للناس أمور دينهم .وقد عاد الهدوء إلى دولة ِّ
اإلسالم ،واستُئنِفت حركة الفتوحات مر ًة أخرى .كان كل
شيء يسير على ما ُيرام إلى أن جاءت ليل ٌة رأيت نفسي يف
عيني } ُق ْل ُه َو اهَّللُ َأ َحدٌ { .عجبت ألمر
المنام مكتوب بين َّ
هذه الرؤيا ،فقصصتها على سعيد بن المس ّيب -وهو أحد
فقهاء المدينة -فأخربين أن تفسيرها أن أجلي قد اقرتب.
237
-إين قد ُسقيت السم أكثر من مرة ،وإين لم ُأ َ
سق مثل
هذه ،إين أللفظ كبدي.
-من فعل ذلك بك؟
-ل ِ َم؟ لتقتله؟ ما كنت ألخربك.
الح َسين ليعرف قاتلي ،لكنني لم أخربه. علي ُ ألح َّ
َّ
ص ع
حي ،أفأرضاه بعد أن
فقد رفضت أن ُيراق د ٌم بسببي وأنا ٌّ
238
وحفظ دماء المسلمين ،وأنني لم ُأرق قطرة دم يف سبيل
مصلحتي الخاصة .وبذلت كل جهدي ألكون ولدً ا ناف ًعا
صالحا.
ً وأ ًبا
239
عبد ال� ل�ه
()1
ع
باسمك .صحيح ،ما أخبار روايتك عن سيرة اإلمام
عوالتوزي
تحويل الكتاب إلى رواية ،ودمجها بقصة حياتنا،
وإظهار تأثير سيرة اإلمام علينا.
-وهل اخرتت اسمها أم ما زلت مرتد ًدا بعد؟
-هناك اسم أفكر فيه.
-ما هو؟
( -رحلتي مع اإلمام الحسن بن علي) .ما رأيك؟
سكتت فريدة ،ثم قالت:
ٌ
جميل ،لكن أشعر أنه طويل بعض الشيء .ما اسم
ٌ -
الح َسن)؟
رأيك يف اسم (رحلة َ
242
ختصر .سأكتبه على الغالف
-رائع .اسم جميل و ُم َ
ثم أرسله لهم.
تنس أن ُترفِق معه رسومات
-بالتوفيق يا حبيبي .وال َ
حسن .إن شاء اهلل ستحصل على المركز األول،
نشر روايتك يف معرض الكتاب المقبل.و ُت َ
-صدقيني يا فريدة ال أهتم بالفوز بقدر ما أهتم بنشر
ريص ع
سيرة اإلمام الحسن ،هذا الرجل العظيم الذي لم
ص ع
حتى نشكر اهلل على نِعمه العظيمة التي أنعم علينا هبا
ع
-فكرة رائعة يا حبيبي .كأننا نبدأ حياتنا من جديد.
وما أجملها من بداية!
G
244
()2
ري
خرجت من المسجد النبوي الشريف بعد أن قمت
ر ش
والتوز عي
البقيع .وقفت أمامها أتأملها .هذه البقعة الطاهرة التي
تضم الكثير من صحابة الرسول ﷺ وزوجاته وآل بيته.
كبيرة على عكس ما يحدث لي عادة من ٍ ٍ
براحة شعرت
انقباض صدري عندما أزور قبور عائلتي يف مصر لقراءة
الفاتحة لهم.
245
وجهت وجهي نحو قربٍ بعينه .كنت قد سألت بعض ثم َّ
أهل المدينة عنه باألمس فدلوين عليه ،وأشاروا إليه.
وقفت أتأمله كأين أستحضر صورة صاحبه يف ذهني .بقيت
صامتًا ،حتى بداخلي .ال أجد ما أقوله من رهبة الموقف.
ها أنا ذا أقف أمام قرب الرجل الذي جعله اهلل سب ًبا يف
تغيير حيايت لألفضل ،الرجل الذي عشت مع سيرته أيا ًما
ع
وشهورا.
ص
ً
ن ل
السالم عليك يا سبط رسول اهللشرﷺ وال وت
ورحمة اهلل وبركاته. السالم عليك يا إمام
246
عسى اهلل أن يجمعني بك وبجدك ﷺ يف اآلخرة.
السالم عليك أيها الكريم البهي.
السالم عليك يا َح َسن بن علي.
247
المراجع
ر
*
عوالتوزي
* أسد الغابة يف معرفة الصحابة. *
248