You are on page 1of 249

‫رحلة احل�سن‬

‫ر‬
‫واية‬

‫رحلة احل�سن‬

‫عمرو يسري‬
‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫موقع عصري الكتب‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫إهداء‬

‫إلى من تر َّبى يف َكنَف النبوة الطاهرة‪َّ ،‬‬


‫فتشرب تعاليمها‬
‫حتى فاضت هبا أقواله وأعماله‪.‬‬
‫إلى من ترك الدنيا وزينتها‪ ،‬وسعى إلى اآلخرة ونعيمها‪.‬‬
‫إلى من ُظلم ح ًّيا وميتًا‪.‬‬
‫ضحى بكل شيء يف سبيل وحدة األمة‪ ،‬وحفظ‬‫إلى من َّ‬
‫أراضيها‪ ،‬وصون دماء الناس وأعراضهم‪.‬‬
‫إلى من عاش يف وجداين وقلبي ليالي وأيا ًما وأعوا ًما‪.‬‬
‫إلى من خفق قلبي وأنا أقرأ سيرته‪ ،‬وخفق مر ًة أخرى‬
‫وأنا أكتبها‪.‬‬
‫الح َسن بن علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫إلى اإلمام َ‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫اسمي عبد اهلل‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫أبلغ من العمر خمس ًة وثالثين عا ًما‪.‬‬


‫متزوج من امرأة أذكر أنني كنت أحبها يو ًما ما‪ ،‬لكن‬
‫لست أدري أين ذهب هذا الحب؟!‬
‫لدي منها طفل وحيد يف العاشرة من عمره‪ .‬ربما يكون‬
‫هو السبب الوحيد الستمرار هذه الزيجة حتى اآلن‪.‬‬
‫كانت حيايت تسير بشك ٍل عادي‪ ،‬والعادي يف حياتنا هو‬
‫الروتين والرتابة‪ .‬حياة ليست بالفاضلة وال الفاسقة‪ .‬لكنني‬
‫لم أكن راض ًيا عنها على أي حال‪ .‬كانت تواجهني الكثير‬
‫علي كانت‬
‫من المشكالت يف البيت والعمل‪ .‬لكن أشدها َّ‬
‫‪7‬‬
‫المشكالت والصراعات التي تدور بداخلي‪ .‬تساؤالت‬
‫وأفكار وبقايا أحالم قديمة‪ ،‬شغلتني عنها الدنيا‪ ،‬لكنني لم‬
‫أنسها‪ ،‬بل أبقيت عليها بداخلي‪.‬‬
‫إلى أن جاء هذا اليوم الذي كان بداية كل شيء‪ .‬كانت‬
‫«ر َّب صدفة خير من ألف ميعاد»‪.‬‬
‫صدفةً‪ ،‬وصدق من قال‪ُ :‬‬
‫وضحت لي‬ ‫وإنني أشعر باالمتنان لهذه الصدفة التي َّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكثير من األمور التي كانت غائبة عني‪ ،‬وأعادتني لعادة‬
‫عرفتني على إنسان رائع‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫القراءة مر ًة أخرى‪ .‬واألهم أهنا َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫قلما يجود الزمان بمثله‪.‬‬

‫ع‬
‫‪G‬‬

‫‪8‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪-‬ه َّيا استيقظ يا عبد اهلل؛ حتى ال تتأخر عن العمل‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫كثيرا بالليل ثم ها أنت ذا ال‬ ‫كعادتك‪ .‬تسهر‬

‫ل‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫تستطيع‪...‬‬
‫‪-‬أعلم أعلم‪ ،‬ال أستطيع النهوض يف الصباح‪ ،‬وأتأخر‬
‫عن عملي‪ .‬أسمع هذا الكالم كل يوم‪.‬‬
‫‪-‬تسمعه كل يوم‪ ،‬وتتأخر يف االستيقاظ رغم ذلك‪ .‬ال‬
‫فائدة منك‪.‬‬
‫قالتها فريدة ثم خرجت من الغرفة وهي تغمغم بكالم‬
‫لم أسمعه‪ ،‬لكنها بالتأكيد تذ ُّمني‪ .‬من الجيد أنني لم‬
‫أسمعه‪.‬‬
‫نظرت إلى ساعة هاتفي فوجدهتا قاربت السابعة‬
‫صباحا‪ .‬حسنًا‪ ،‬يبدو أن فريدة محقة يف غضبها‪ .‬لقد تأخرت‬
‫ً‬
‫‪9‬‬
‫عن عملي ً‬
‫فعل‪ .‬قفزت سري ًعا من السرير‪ ،‬ونضحت الماء‬
‫يف وجهي؛ حتى أستفيق من غيبوبتي‪ .‬ثم بدأت يف تبديل‬
‫مالبسي‪ .‬نزلت من البيت مسر ًعا نحو سياريت‪.‬‬

‫كالعادة الشوارع مزدحمة‪ ،‬الهواء ملوث‪ ،‬اللعنات‬


‫والسباب يمآلن الجو‪ .‬ال جديد تحت الشمس‪ .‬ال‬
‫أدري كيف سأكمل حيايت وسط هذه الفوضى‪ ،‬وبين‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫هؤالء األشخاص المستهرتين؟! والمشكالت ما زالت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أيضا‪ .‬فاألمور تزداد سو ًءا خاص ًة مع‬
‫بانتظاري يف العمل ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫إصرار سمير (باشا) ‪ -‬ابن عمي ‪ -‬على تصعيد األمور‬

‫ع‬
‫ضدي‪ ،‬واستنفار مجلس إدارة الشركة يف مواجهتي‪ .‬ح ًّقا‪،‬‬
‫ال أعلم ما الذي ‪...‬‬

‫فجأ ًة انطلق بوق السيارة التي تقف خلفي‪ ،‬وانطلق معه‬


‫صوت قائدها‪« :‬لقد صارت اإلشارة خضراء‪ ،‬ه َّيا انطلق‬
‫سري ًعا قبل أن ُتغلق علينا»‪.‬‬

‫«حسنًا حسنًا يا صديقي‪ .‬سأنطلق و ُأفسح لك الطريق‬


‫يا حضرة المهم؛ حتى ال تتأخر عن الوزارة»‪ .‬صرت ألعن‬
‫سمير والذين يعرفون سمير‪ ،‬فبسبب الصراع المشتعل‬
‫بيننا على أحق َّية كل منَّا برئاسة مجلس اإلدارة‪ ،‬فقد تم‬
‫‪10‬‬
‫االتفاق على عدم استخدام سيارة رئيس مجلس اإلدارة‪،‬‬
‫وهو ما اضطرين لركوب سياريت كل يوم‪ ،‬والقيادة وسط‬
‫كل هذه الفوضى‪.‬‬

‫وأخيرا وصلت إلى مقر الشركة‪ ،‬لقد كدت أيأس أن‬ ‫ً‬
‫إلي إبراهيم مسئول موقف سيارات‬ ‫أصل اليوم‪ .‬جاء َّ‬
‫الشركة ُمسر ًعا بمجرد رؤيته لي‪ .‬فرتكت له السيارة‪ ،‬حتى‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫يقوم بركنها‪ .‬وأسرعت إلى مدخل الشركة وأنا أدعو اهلل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أن يمر هذا االجتماع الطارئ دون قتلي من الطرفين‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫«أهل عبد اهلل باشا‪ ،‬كيف أحوالك وأحوال ابنك الباشا‬‫ً‬
‫الصغير؟ أنرت المكان» هكذا ح َّياين كل َمن قابلني منذ‬
‫وقويف أمام باب الشركة حتى وقويف أمام المصعد‪ .‬بالتأكيد‬
‫يقولون نفس الكالم لسمير (باشا)‪ .‬هم يقفون على الحياد‬
‫بيننا‪ ،‬منتظرين أي باشا منَّا ستكون له الغلبة؛ حتى يكون له‬
‫والؤهم الكامل‪ .‬هكذا تسير األمور يف بالدنا‪ ،‬بل يف العالم‬
‫أجمع‪ .‬حسنًا‪ ،‬ال ألومهم‪ .‬فال أنتظر منهم الوقوف معي أو‬
‫ضدي؛ فهم يف النهاية ال ناقة لهم وال جمل يف هذا النزاع‬
‫الماراثوين بيني وبين سمير‪ .‬هم فقط يريدون أن يعيشوا‪،‬‬
‫ولو على هامش الحياة‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫خرجت من المصعد يف الدور الثاين حيث غرفة‬
‫اجتماعات مجلس اإلدارة‪ .‬وقفت أمام باهبا‪ .‬أخذت‬
‫نفسا عمي ًقا كأنما أستعد للقفز يف حمام سباحة‪ ،‬ثم فتحت‬
‫ً‬
‫الباب‪.‬‬

‫طاولة طويلة‪ ،‬كراسي أنيقة مرتاصة عن اليمين واليسار‪،‬‬


‫وعلى الطاولة يف مقابلة كل كرسي ُو ِضع كوب من الشاي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫أو القهوة الساخنة‪ ،‬وبجانبه كوب من الماء‪ .‬كرسي رئيس‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ً‬

‫ر‬
‫شامخا على رأس الطاولة‪.‬‬ ‫مجلس اإلدارة الفارغ يقف‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫لوحات أنيقة تزين الحوائط‪ .‬غرفة تليق ح ًّقا باجتماعات‬
‫مجلس إدارة واحدة من أكرب شركات االستشارات‬
‫القانونية يف البلد‪.‬‬

‫وجدت جميع األعضاء حاضرين‪ .‬متى أتوا؟! ولماذا‬


‫لم يتأخروا مثلي يف الطريق؟! أم أهنم يبيتون هنا منذ‬
‫األمس؟!‬

‫«هل ستقضي يومك كله تتأملنا يا عبد اهلل (باشا)؟!»‬


‫قالها سمير بسماجة ثم ضحك ضحكة سمجة مثله ومثل‬
‫مقولته‪ .‬وبالطبع ضحك األعضاء الموالون له‪ .‬قابلت‬
‫‪12‬‬
‫سماجة الموقف بابتسامة سمجة؛ فال يفل السمج إال‬
‫السمج‪ .‬دخلت القاعة وجلست على الكرسي المقابل‬
‫لسمير‪.‬‬

‫«بسم اهلل الرحمن الرحيم‪ .‬نبدأ اجتماعنا السابع‬


‫بتشكيل مجلس اإلدارة الحالي‪ .‬ونرجو من اهلل (تعالى)‬

‫ع‬
‫أن ُيصلح األحوال‪ ،‬ويجمع اآلراء على ما فيه الخير‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لشركتنا الموقرة»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫هبذه الكلمات بدأ األستاذ عبد الحكيم ‪ -‬أو الحاج‬
‫عبد الحكيم كما يناديه الجميع ‪ -‬االجتماع‪ .‬والحاج عبد‬
‫الحكيم هو أكرب األعضاء سنًا‪ ،‬وهو ُيوجد بالشركة منذ‬
‫عهد جدنا المؤسس؛ لذلك نرتك له رئاسة اجتماعات‬
‫تقديرا له من جهة‪ ،‬وكح ٍل وسط بيني وبين‬
‫ً‬ ‫مجلس اإلدارة‬
‫سمير من جهة أخرى‪.‬‬

‫«ونظرا للصراع القائم بين السيدين‬


‫ً‬ ‫أردف الحاج ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫عبد اهلل وسمير بخصوص األحقية يف رئاسة مجلس‬
‫«عذرا يا حاج عبد‬
‫ً‬ ‫اإلدارة‪ ،‬فإن ‪ »...‬قاطعه سمير ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫الحكيم‪ ،‬لكن ال يوجد صراع على أحقية رئاسة مجلس‬
‫‪13‬‬
‫اإلدارة؛ فالجميع يعلم أين رئيس مجلس اإلدارة الشرعي‪،‬‬
‫واألستاذ عبد اهلل هو من يحاول اغتصاب هذا الحق مني‬
‫َعنوةً»‪.‬‬

‫ارتفعت األصوات بين مؤيد ومعارض‪ ،‬وقام‬


‫بعض األفراد من أماكنهم‪ ،‬وتراشق الجميع باأللفاظ‬

‫ع‬
‫وعمت الفوضى المكان‪.‬‬
‫والصيحات‪َّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫«يا جماعة هذا ال يليق أبدً ا‪ .‬أنتم هتدرون كرامة الشركة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫هبذه التصرفات الصبيانية»‪ .‬عب ًثا حاول الحاج عبد الحكيم‬

‫ع‬
‫هتدئة األجواء‪ ،‬لكن ضاع صوته وسط الصيحات‪.‬‬

‫كان الغضب قد تم َّلكني‪ ،‬فأمسكت كوب الماء المقابل‬


‫لي وقذفته بكل قويت باتجاه النافذة‪ ،‬فانفجرت مسببة جلبة‬
‫عالية أسكتت الجميع‪ .‬ثم هدرت بأعلى صويت ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫«أبي هو أكرب إخوته‪ ،‬وهو من حمل الشركة على كتفيه بعد‬
‫وفاة جدنا المؤسس (رحمه اهلل)‪ .‬ولوال جهوده الهنارت‬
‫علي سمير‪:‬‬
‫الشركة‪ ،‬وأصبحنا جمي ًعا يف الشارع»‪ .‬رد َّ‬
‫«ولوال أموال أبي التي ضخها يف هذه الشركة الهنارت‬
‫أيضا»‪.‬‬
‫ً‬
‫‪14‬‬
‫شعرت بارتفاع ضغط دمي‪ ،‬وكأن رأسي على وشك‬
‫االنفجار‪ ،‬وعيناي على وشك الخروج من محجريهما‪ .‬ال‬
‫بدَّ أن أخرج سري ًعا من هذا الجدال البيزنطي قبل أن ينفجر‬
‫دماغي‪ .‬هدرت ً‬
‫قائل‪« :‬هذا حقي يا سمير‪ ،‬ولن أتنازل عنه‬
‫أبدً ا مهما كلفني األمر‪ .‬إما أن أدير الشركة‪ ،‬وإما أخرهبا‬
‫على رؤوس الجميع»‪ .‬قلتها وخرجت مسر ًعا من الغرفة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وأنا أشعر باختناق‪ ،‬وألعن الجميع‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫ركبت سياريت‪ ،‬فككت رباطة عنقي والزر األعلى من‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫القميص‪ .‬حاولت أن أتنفس بعمق؛ حتى أستعيد توازين‪.‬‬
‫أخذت شربة ماء من زجاجتي‪ ،‬ثم قدت السيارة عائدً ا‬
‫للمنزل‪.‬‬

‫دخلت البيت فوجدت فريدة بالداخل‪ ،‬ما زالت‬


‫بمالبس العمل‪ .‬يبدو أهنا قد دخلت البيت قبلي بدقائق‪.‬‬
‫نظرت لي باستغراب قائلةً‪« :‬غريبة! ليس من عادتك أن‬
‫لدي من‬
‫مبكرا هكذا»‪ .‬لم أرد عليها‪ ،‬فأنا َّ‬
‫تعود إلى البيت ً‬
‫الضغوط ما يكفيني ويفيض‪ ،‬ولست بحاجة إلى مزيد من‬
‫االستجوابات‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫شذرا ثم قالت‪« :‬حسنًا‪ ،‬لم أتوقع منك ر ًّدا‬
‫نظرت لي ً‬
‫أتحمل المزيد من الهراء‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫كعادتك؛ فأنت ‪ .»...‬لما أعد‬
‫هادرا‪« :‬ال أريد مزيدً ا من الكالم الفارغ‪.‬‬
‫ً‬ ‫التفت إليها‬
‫متفر ًغا لكالمك التافه هذا»‪.‬‬
‫يكفيني ما أنا فيه‪ .‬لست ِّ‬
‫علي سري ًعا قائلة‪« :‬حسنًا حسنًا‪ .‬فقط أردت‬
‫ردت َّ‬
‫إلي نتيجته‪ ،‬وقد‬
‫أن أخربك أن مدرسة حسن قد أرسلت َّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫رسب»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫لم أستوعب كالمها‪ .‬حسن رسب! كيف؟! لقد كان‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫األول على فصله يف العام الماضي!‬

‫‪ -‬وأين هو اآلن؟‬
‫‪ -‬يف غرفته‪ .‬صامت منذ أن عاد للمنزل‪ .‬أرجوك اتركه‬
‫اآلن‪ ،‬وال داعي أن تفرغ غضبك فـ ‪...‬‬
‫‪« -‬حسن‪َ ،‬‬
‫تعال اآلن»‪ .‬صرخت بكل قويت‪.‬‬
‫إلي بال‬
‫جاء حسن ووقف أمامي وهو صامت وينظر َّ‬
‫مباالة غريبة لم أعتدها منه‪.‬‬

‫‪-‬حسن‪ ،‬ما الذي تقوله والدتك؟ هل ح ًّقا رسبت هذا‬


‫العام؟!‬
‫‪16‬‬
‫علي‪ ،‬وظل على نظرته الالمبالية‪ .‬غاظني‬ ‫لم يرد َّ‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬ ‫سكوته‪ ،‬وغاظتني أكثر نظرته‪ .‬فانفجرت فيه‬
‫«أدخلتك أحسن وأغلى مدرسة‪ ،‬وجلبت لك أفضل‬
‫المدرسين يف المنزل‪ ،‬وو َّفرت لك كل ما يتمناه أي طفل‬
‫يف العالم ثم ترسب يا فاشل»‪.‬‬

‫حاولت فريدة مقاطعتي قائلةً‪« :‬حرام عليك‪ .‬ارحم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫«وأنت يا هانم‪ .‬مشغولة طوال‬ ‫الولد»‪ .‬فالتفتت إليها ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ونسيت‬ ‫الوقت بعملك‪ ،‬ومحادثة صديقاتك على الهاتف‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ابنك‪ .‬وهذه هي النتيجة‪ .‬شيء مقرف»‪.‬‬

‫نظرت إليها فوجدت الدموع محبوسة يف عينيها‪،‬‬


‫وجسدها يرتعش‪ .‬جال بخاطري أن أحتضنها‪ ،‬لكن منعني‬
‫كربيائي من هذا‪ .‬هززت رأسي كأين ُأبعد هذا الخاطر عن‬
‫رأسي‪ .‬وذهبت نحو الباب‪ .‬خرجت من الشقة صاف ًعا‬
‫الباب خلفي‪ ،‬وأنا أسمع بداية نحيب فريدة‪.‬‬

‫توجهت نحو سياريت‪ ،‬ركبتها‪ ،‬وشربت المزيد من‬ ‫َّ‬


‫المياه من زجاجتي‪ .‬ثم قررت التوجه نحو صالة األلعاب‬
‫ٍ‬
‫شديد من كل شيء‪ ،‬وأنني‬ ‫ٍ‬
‫بغضب‬ ‫الرياضية‪ .‬شعرت‬
‫ٍ‬
‫شديدة إلى تفريغ هذا الغضب‪ .‬قضيت يف الصالة‬ ‫ٍ‬
‫بحاجة‬
‫‪17‬‬
‫ثالث ساعات كاملة‪ ،‬مارست خاللها جميع األنشطة‬
‫المتاحة‪ .‬فبعد أن َّفرغت غضبي يف رفع األثقال‪ ،‬قررت‬
‫أن أذهب للساونا حتى تذوب همومي فيها مثلما تذوب‬
‫دهوين‪ .‬بعدها قررت أن أخوض جلسة تدليك‪ .‬تمددت‬
‫للمدلك‬
‫على بطني‪ ،‬وعلى مدى عشرين دقيقة استسلمت ُ‬
‫الذي كان يفرك جسدي بنعومة حتى يزيل عنه آثار التعب‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ولم يكن يدري أنه يزيل التعب عن عقلي ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫بعد خروجي من صالة األلعاب الرياضية أحسست‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫نفسي خفي ًفا كالفراشة التي ترغب يف الرتحال ً‬
‫قليل يف كون‬

‫ع‬
‫اهلل الفسيح‪ .‬فقررت أن أترك سياريت يف موقف السيارات‪،‬‬
‫وأطلق العنان لقدماي تسيران بي كما تريدان‪ .‬ظللت‬
‫محاول نسيان مشكاليت واستحضار‬ ‫ً‬ ‫أتجول يف الشوارع‬
‫بعض السالم الداخلي‪ .‬لكن كلما بدأت أشعر بصفاء‬
‫مخرجا لسانه‬
‫ً‬ ‫ذهني‪ ،‬وجدت وجه سمير يقفز إلى ذاكريت‬
‫ويسارا كأين أحاول أن‬
‫ً‬ ‫لي‪ .‬فأقوم هبز رأسي بقوة يمينًا‬
‫أطيح بوجهه خارج ذاكريت‪ ،‬بل خارج حيايت كلها‪.‬‬

‫وبعد مدة ال أدري طالت أم قصرت من المشي وجدت‬


‫وجها لوجه أمام تمثال أسد كوبري قصر النيل‬
‫نفسي أقف ً‬
‫‪18‬‬
‫شامخا‪ .‬فقد صار اليوم محا ًطا‬
‫ً‬ ‫الشامخ‪ ،‬أو الذي كان‬
‫بباعة حمص الشام والشاي واألعالم‪ .‬وتفنن المراهقون‬
‫يف نقش أسمائهم مصحوبة بأرقام هواتفهم على قاعدته؛‬
‫عسى أن يحظوا بمكالمة من إحدى الفتيات الولهانات‪.‬‬

‫وقفت على الكوبري أتأمل صفحة النيل الصافية‪،‬‬


‫فشعرت ببعض الراحة والسكينة‪ .‬تذكَّرت أيام الجامعة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫حيث كنت آيت إلى هنا مع أصدقائي؛ لنتسامر ونلتقط‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بعض الصور التذكارية‪ ،‬ثم نذهب مش ًيا على األقدام‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫إلى ساقية الصاوي لحضور إحدى الفاعليات الثقافية‪.‬‬
‫كم كنت مول ًعا بالثقافة والقراءة! لكن كل هذا تبخر بعد‬
‫الزواج‪ .‬يقولون يف المثل «آخرة الحب الزواج»‪ ،‬يقصدون‬
‫أن الحب يتكلل يف النهاية بالزواج‪ .‬لكن يبدو أن المثل يف‬
‫الحقيقة يعني أن الحب ينتهي بالزواج‪ ،‬كذلك الطموحات‬
‫واألحالم‪ .‬ال أعلم لماذا‪ .‬ألم يكن أغلب المبدعين‬
‫والمخرتعين واألدباء متزوجين؟ لكنهم استطاعوا إكمال‬
‫مسيرهتم العلمية واألدبية‪ ،‬فلماذا ال أستطيع فعل ذلك؟!‬

‫أيقظت هذه الخواطر أحالمي القديمة‪ .‬فقررت السير‬


‫بعضا من ذكريات‬
‫إلى ساقية الصاوي؛ عسى أن أسرتجع ً‬

‫‪19‬‬
‫ً‬
‫طويل وأهنكني السير‪،‬‬ ‫الماضي الجميل‪ .‬وبعد أن مشيت‬
‫أخيرا إلى الساقية‪ .‬قطعت تذكرة الدخول‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وصلت‬
‫وبمجرد أن دخلت ألقيت بنفسي على أقرب مقعد‪ ،‬حتى‬
‫قدمي‬
‫َّ‬ ‫قدمي‪ .‬وبعد أن ارتحت ً‬
‫قليل‪ ،‬وقفت على‬ ‫َّ‬ ‫أريح‬
‫مبتسما؛ فقد كنت أفتقد هذه‬
‫ً‬ ‫وتجولت بين أروقة الساقية‬
‫ُّ‬
‫األجواء الثقافية بشدة‪ :‬مجالس القراءة‪ ،‬ورش اآلليات‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الموسيقية مثل البيانو والجيتار‪ ،‬ورش التمثيل‪ ،‬وغيرها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫من األنشطة الممتعة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ثم لفت انتباهي الفتة معلقة على أحد الحوائط‪،‬‬

‫ع‬ ‫ويجلس بجانبها شات بحوزته جهاز الب توب‪.‬‬

‫(مسابقة العظماء‪ :‬يف حياة األمم أشخاص عظماء‬


‫يتجاوز تأثيرهم الزمان والمكان‪ .‬هنتدي بسيرهتم‪ ،‬ونفتخر‬
‫ماض فليس له حاضر وليس‬ ‫ٍ‬ ‫بأمجادهم‪ .‬وألن من ليس له‬
‫له مستقبل‪ .‬فإننا نعلن عن انطالق مسابقة لكتابة رواية أو‬
‫كتاب عن شخصية تاريخية من اختيارك‪.‬‬

‫آخر موعد إلرسال األعمال الفنية هو يوم ‪ 31‬ديسمرب‪.‬‬


‫علما بأنه يجب تسجيل بياناتك لدينا والشخصية التاريخية‬
‫ً‬
‫التي ستكتب عنها يف موعد أقصاه يوم ‪ 30‬مايو)‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫شعرت أن هذه المسابقة فرصة الستعادة أحالمي مر ًة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫حسنًا‪ ،‬سأفكر يف األمر خالل األيام المقبلة ثم أقرر‬


‫‪ ...‬فجأ ًة انتبهت آلخر موعد للتسجيل‪ 30 ،‬مايو! إنه‬
‫أسجل بيانايت سري ًعا وإال ستضيع‬
‫تاريخ اليوم! ال بدَّ أن ِّ‬
‫توجهت نحو الشاب صاحب‬ ‫مني هذه الفرصة الذهبية‪َّ .‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الالب توب‪ ،‬وأخربته برغبتي يف تسجيل بيانايت‪ .‬قمت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بإمالئه جميع البيانات الشخصية المطلوبة‪ .‬ثم سألني عن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫الشخصية التاريخية التي سأكتب عنها‪.‬‬

‫‪-‬لألسف لم أستقر على شخصية حتى اآلن‪ .‬هل‬


‫بإمكاين تأجيل هذه الخطوة للغد فقط؟‬
‫عفوا سيدي‪ ،‬لكن سيتم إغالق رابط التسجيل تلقائ ًّيا‬
‫‪ً -‬‬
‫بحلول منتصف الليل‪ .‬الساعة اآلن الحادية عشرة‬
‫والنصف مسا ًء‪ .‬لديك نصف ساعة حتى تقرر‪ ،‬وإال‬
‫فلن ُيعتد بتسجيلك‪.‬‬
‫جلست على أحد المقاعد القريبة‪ ،‬ألفكر يف شخصيتي‬
‫التاريخية التي سأعود من خاللها لعالمي الخاص ‪...‬‬
‫عالم الثقافة‪ .‬بدأت التفكير من عصر الفراعنة‪ ،‬لكنني‬
‫‪21‬‬
‫أيضا يف العصور‬
‫لألسف لم أتعمق يف دراسته‪ .‬فكرت ً‬
‫أيضا ال أعرف عنهم‬
‫الرومانية والبطلمية والقبطية‪ ،‬لكنني ً‬
‫الكثير‪ .‬يا لخيبتي! ال أعرف شي ًئا عن تاريخي القديم‪ .‬ثم‬
‫انتقل تفكيري للعصر اإلسالمي الذي أعرف الكثير عنه‪.‬‬
‫هو إ ًذا عصري المثالي‪.‬‬

‫بالطبع أول َمن فكرت بالكتابة عنه هو الرسولﷺ‪.‬‬


‫فمن أنا‬
‫فورا‪َ .‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫هممت أن أذهب لتسجيله‪ ،‬لكنني تراجعت ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حتى أكتب عن أعظم شخص يف التاريخ؟! لكنني أحببت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الكتابة عنه‪ ،‬فقررت أن أكتب عن أحد المقربين منه‪.‬‬

‫ع‬
‫ويف الوقت نفسه أردت أن أكتب عن شخصية عظيمة لم‬
‫مميزا‪ .‬أخذت‬
‫تأخذ حقها من التقدير‪ ،‬حتى يكون كتابي ً‬
‫أقلب شخصيات عصر صدر اإلسالم يف رأسي بح ًثا عن‬
‫الشخصية المطلوبة‪ .‬مرت برأسي عشرات الشخصيات‬
‫فردت لهم مئات الكتب على مر‬ ‫العظيمة‪ ،‬لكنهم قد ُأ ِ‬
‫الزمان‪.‬‬

‫إلى أن لمع اسمه يف ذهني‪ ،‬أحد أقرب الشخصيات‬


‫للرسول ‪ ،‬وصاحب الدور المصيري يف تاريخ األمة‪.‬‬
‫ورغم ذلك فإنه لم يأخذ حقه من الكتابة مثل الكثيرين‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫أذكر حين قرأت عبقريات العقاد اإلسالمية أنني استغربت‬
‫عدم وجود اسمه بين من ترجم لهم‪ .‬فقد ترجم للرسول‬
‫(صلى اهلل عليه وسلم) وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي‬
‫وفاطمة الزهراء‪ ،‬ثم قفز فجأة لمعاوية بن أبي سفيان‬
‫ً‬
‫متجاهل أحد أهم‬ ‫والح َسين بن علي‬
‫ُ‬ ‫وعمرو بن العاص‬
‫شخصيات اإلسالم‪ ،‬وصاحب الدور الرئيسي يف القضاء‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫على الفتنة الكربى‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫حسنًا‪ ،‬هذا هو الشخص المثالي‪ ،‬إن كان ظلمه التاريخ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫فإين سأنصفه‪ ،‬سأنشر سيرته بين الناس‪ .‬وقفت على‬
‫قدمي‪ ،‬وذهبت للشاب مر ًة أخرى‪ .‬وقفت أمامه مباشرةً‪.‬‬
‫سألني‪:‬‬

‫عمن ستكتب كتابك أو روايتك؟‬


‫‪-‬هل قررت َّ‬
‫‪-‬نعم‪ .‬سأكتب عن الحسن ‪ ...‬الحسن بن علي بن أبي‬
‫طالب‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪G‬‬
‫(‪)3‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ويف اليوم التالي ذهبت إلى ملجأ عاشقي الكتب يف‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫مراجع تساعدين على‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫القاهرة‪ ،‬سور األزبكية‪ ،‬كي أشرتي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫إنجاز الكتاب‪ .‬إال أن األمر لم يكن بالبساطة التي ظننتها‪.‬‬
‫حيث قضيت ثالث ساعات يف البحث وسط أكوام الكتب‬
‫عن مرجع يتحدث عن الحسن بن علي فلم أجد‪ .‬هالني‬
‫هذا األمر‪ .‬فكيف لشخص هبذه األهمية أال ينال حقه من‬
‫االهتمام والدراسة؟!‬

‫أخيرا كتا ًبا‬


‫وبعد أن كاد اليأس يتمكن مني‪ ،‬وجدت ً‬
‫متخف ًيا بين ثنايا الكتب‪ ،‬فاقتنصته وفرحت به مثل الطفل‬
‫الصغير الذي وجد قطعة الحلوى التي كان يبحث عنها‪.‬‬
‫عدت بعدها للمنزل وألقيت بنفسي على أريكة غرفة‬

‫‪25‬‬
‫ٍ‬
‫غفوة أصحو بعدها ألبدأ‬ ‫الضيوف‪ ،‬حتى أحصل على‬
‫رحلتي مع الحسن بن علي‪ .‬طب ًعا بعد مشاجريت األخيرة‬
‫مع فريدة بسبب رسوب حسن تركت لها غرفة النوم‬
‫مقيما يف غرفة الضيوف‪.‬‬
‫وصرت ً‬
‫وعلى مدى أسبوعين كاملين انكببت على سيرة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وأدون التواريخ المهمة يف حياته‪ .‬أعجبتني‬
‫الحسن أقرأها‪ِّ ،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫كثيرا سيرته‪ ،‬حتى إنني حاولت ‪ -‬مثل األطفال ‪ -‬تحديد‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫جوانب الشبه بيني وبينه‪ ،‬كأنني أحاول أن أوجد أي صلة‬

‫ع‬
‫تربطني به‪ .‬تمنَّيت لو جاءتني الفرصة لمقابلته‪.‬‬

‫لكن يبدو أن هذه االستفاقة الثقافية المفاجئة التي‬


‫تعرضت لها لم تكن صادقةً‪ ،‬بل كانت مجرد نزوة؛‬
‫فبالتدريج بدأت أعود لروتين حيايت مر ًة أخرى حيث‬
‫صراعايت مع سمير‪ ،‬وعنادي مع فريدة‪ ،‬ومقاطعتي لحسن‬
‫نادرا‪ .‬وهكذا‬
‫عقا ًبا على رسوبه حتى أصبحت ال أراه إال ً‬
‫اختفى حسن ابني عن دائرة اهتمامايت مثلما اختفى الحسن‬
‫بن علي تدريج ًّيا من حيايت‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫إلى أن جاءت الليلة المشئومة التي استيقظت فيها على‬
‫صياح فريدة‪.‬‬

‫‪-‬عبد اهلل‪ ،‬عبد اهلل‪ .‬استيقظ‪ .‬مصيبة مصيبة‪.‬‬

‫‪G‬‬ ‫ع‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوز عي‬

‫‪27‬‬
‫حسن‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫اسمي حسن عبد اهلل حسن‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫يف العاشرة من عمري‪.‬‬


‫طالب يف الصف السادس بإحدى المدارس الدولية‪.‬‬
‫لدي أخ‬
‫ليس لدي َّإخوة لألسف‪ .‬كنت أتمنى أن يكون َّ‬
‫أو أخت‪ ،‬نلعب م ًعا‪ ،‬نذاكر م ًعا‪ ،‬نكرب م ًعا‪ .‬لكنني نشأت‬
‫أشخاصا آنسوا‬
‫ً‬ ‫وحيدً ا‪ .‬لست وحيدً ا تما ًما؛ فقد وهبني اهلل‬
‫وحشتي‪ .‬كانت جديت ‪ -‬والدة والدي ‪ -‬هي أول هؤالء‬
‫األشخاص‪ .‬كانت تأيت لمنزلنا يف هناية كل أسبوع‪ ،‬حتى‬
‫قصصا قبل النوم‪ .‬إلى أن جاء يوم‬‫ً‬ ‫تلعب معي‪ ،‬وتقرأ لي‬
‫كنت ألعب معها كالعادة‪ ،‬وفجأة استندت إلى الحائط‪،‬‬
‫وأمسكت قلبها‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫‪-‬أبي‪ ،‬أمي‪ .‬تعاال سري ًعا‪ .‬جديت مريضة جدًّ ا‪.‬‬
‫جاء أبي وأمي ُمسرعين إلى جديت‪ .‬اتصل أبي بصديقه‬
‫الطبيب وائل (أو العم وائل كما أناديه)‪ ،‬فيما أسندت أمي‬
‫جديت إلى كتفها وقادهتا للسرير‪ .‬جاء الطبيب وائل سري ًعا‬
‫بصحبة إحدى الممرضات‪ .‬دخلوا جمي ًعا غرفة جديت‬
‫وتركوين وحيدً ا بالخارج‪ .‬بعد ساعة تقري ًبا خرج الطبيب‪،‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫سمعته يقول ألبي إن جديت يجب أن تخضع لبعض‬

‫ل‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫الفحوصات‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بعد عدة أيام‪ ،‬جاء العم وائل إلى منزلنا ومعه نتيجة‬

‫ع‬
‫الفحوصات‪ .‬قال أشياء كثيرة لم أفهمها‪ .‬كان من ضمن ما‬
‫سمعته أن قوة ضخ عضلة القلب صارت أقل من أربعين‬
‫بالمائة‪ .‬لم أفهم معنى هذا‪ .‬وأين ذهبت الستون بالمائة‬
‫الباقية؟! هل يتقلص قلب اإلنسان كلما تقدم يف العمر؟!‬
‫لكن ما فهمته جيدً ا وقتها أن جديت لن تتمكن من اللعب‬
‫معي ثانيةً‪ .‬صارت تأيت إلينا بعد ذلك على فرتات متباعدة‪،‬‬
‫وتكتفي بقراءة القصص لي فقط قبل النوم‪.‬‬

‫أما الشخص الثاين الذي يؤنس وحشتي ‪ -‬أو كان يؤنس‬


‫وحشتي ‪ -‬هو كريم ابن العم سمير‪ .‬كان أصغر مني بعام‪،‬‬
‫‪30‬‬
‫وكان يأيت إلينا مع أبيه أو نذهب نحن إليهم‪ .‬كنا نلعب م ًعا‬
‫على جهاز الـ ‪ ،Play station‬ونلعب كرة القدم يف النادي‪،‬‬
‫كما أنه كان معي يف المدرسة نفسها‪ .‬كان بمثابة أخي‪.‬‬

‫لكن فجأ ًة اضطرب كل شيء‪ .‬لم يعد العم سمير يأيت‬


‫إلينا‪ .‬وعندما طلبت من أبي أن نذهب نحن إليه هنرين‪ ،‬ون ّبه‬
‫علي أال ألعب مع كريم يف النادي أو المدرسة‪ .‬وعندما‬

‫ع‬
‫َّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫أيضا منعوه من‬ ‫قابلت كريم يف المدرسة أخربين أن أهله ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اللعب معي‪ ،‬وهددوه بالحرمان من الذهاب للنادي أو‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫المصيف إذا خالف أمرهم‪.‬‬

‫كنت أسمع أبي وأمي يتحدثان عن خالفات مع العم‬


‫سمير بخصوص إدارة الشركة‪ ،‬لكنني لم أفهم ما دخلي‬
‫أنا وكريم باألمر‪ .‬لماذا يقحموننا يف خالفاهتم؟! نحن‬
‫أطفال‪ ،‬نريد أن نلعب فقط‪.‬‬

‫وهكذا فقدت الشخص الثاين الذي كان يؤنس‬


‫وحشتي‪.‬‬

‫لدي سوى أبي وأمي‪ ،‬وكالهما مشغول عني‪.‬‬


‫يبق َّ‬‫لم َ‬
‫دائما يف‬
‫أمي مشغولة بعملها و(تحقيق ذاهتا) كما تقول ً‬

‫‪31‬‬
‫شجاراهتا مع أبي‪ .‬وأبي مشغول بخالفاته مع العم سمير‪.‬‬
‫فصار هاتفي المحمول هو صديقي الوحيد‪ .‬لم يعد لدي‬
‫رغبة لفعل أي شيء‪ .‬وبالطبع أهملت دراستي‪ ،‬حتى إنني‬
‫كنت أترك ورقة اإلجابة يف االمتحانات بيضاء‪ .‬وبالطبع‬
‫كانت النتيجة أن رسبت بعد أن كنت األول على فصلي يف‬
‫العام الماضي‪ .‬حينها سمعت من أبي أقسى كلمة جعلتني‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫غير راغب يف الحياة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫«يا فاشل»‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫عندما كان يناديني أبي فأقول له «إيه» يعاتبني ويقول‬
‫لي‪« :‬عيب يا ولد! قل نعم‪ .‬يجب أن تنتبه أللفاظك»‪.‬‬

‫وأنت يا أبي‪ ،‬لماذا لم تنتبه أللفاظك حين نعتّني‬


‫بالفاشل؟! هل كلمة «إيه» التي أقولها أحيانًا دون قصد‬
‫أسوأ من كلمة «فاشل» التي قلتها لي! حتى إنك لم تكلف‬
‫نفسك عناء االعتذار لي‪ .‬كنت أنتظرك أن تعتذر لي‪ ،‬أن‬
‫تخربين أن هذه الكلمة خرجت منك دون قصد‪ ،‬أنك لم‬
‫تكن تقصدها‪ .‬لكنك لم تفعل‪ .‬فقد رأيتك ليلتها عدت‬
‫للمنزل ونمت على أريكة غرفة الضيوف‪ .‬ورأيتك يف اليوم‬
‫‪32‬‬
‫التالي عدت للمنزل بصحبة أحد الكتب الذي انكببت‬
‫علي‪.‬‬
‫عليه طوال األسبوع‪ .‬كل هذا دون أن تطمئن َّ‬
‫صاروا يعاملونني مثل القط بعد ذلك‪ .‬فقط يضعون‬
‫لي الطعام والشراب حتى أظل على قيد الحياة‪ .‬دون‬
‫أن يسألني أحد عن أحوالي‪ .‬فهل يسأل أحدٌ قطه عن‬
‫أحواله؟! كأن قيمتي عندهم كانت فقط يف الدرجات‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫المرتفعة التي أحرزها‪ ،‬لكن بعد أن فقدت هذه الدرجات‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لم يعد لدي قيمة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫شعرت أنه ال أحد يحبني‪ .‬فاهنمكت يف ألعاب الهاتف‬
‫أفرغ فيها غضبي‪ ،‬وأمأل هبا وقتي‪ .‬كنت أدخل على متجر‬
‫انتشارا‪ ،‬وأقوم بتحميلها‬
‫ً‬ ‫األلعاب‪ ،‬أختار لعبة من األكثر‬
‫على جهازي‪ ،‬وألعبها حتى أهنيها تما ًما‪ .‬ثم أحذفها‬
‫وأحمل غيرها‪ ،‬وهكذا‪ .‬وظللت على هذا المنوال حتى‬ ‫ِّ‬
‫جاء اليوم الذي تغ َّيرت فيه حيايت تما ًما‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪33‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بعد أن مللت من لعبة ‪ Subway Surfers‬قمت بحذفها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫من هاتفي‪ ،‬ثم دخلت على متجر األلعاب أبحث عن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫خمنت‬
‫لعبة جديدة‪ .‬فوجدت لعبة لها رمز حوت أزرق‪َّ .‬‬
‫أن اللعبة ستكون عبارة عن حوت يسبح يف البحر ويقوم‬
‫بجمع العمالت المعدنية؛ فأغلب األلعاب صارت عبارة‬
‫عن مخلوق ما يركض خلف العمالت المعدنية‪ .‬قمت‬
‫بتحميلها وفتحها‪.‬‬

‫لكن الوضع كان مختل ًفا‪ ،‬لم يكن هناك بحر أو عمالت‬
‫معدنية‪ .‬بل كانت مجموعة من التحديات‪ .‬طلبت مني‬
‫اللعبة يف أول يوم أن أنحت حو ًتا على ذراعي باستخدام‬
‫آلة حادة‪ .‬شعرت باالشمئزاز يف البداية‪ ،‬لكن رنت يف أذين‬

‫‪35‬‬
‫كلمة أبي «فاشل»‪ ،‬فأشعلت غضبي وحماسي‪ .‬ذهبت‬
‫للحمام وأخذت المقص‪ ،‬وعدت سري ًعا لغرفتي‪.‬‬

‫«فاشل»‬

‫أمسكت المقص بارتجاف‪.‬‬

‫«فاشل»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫أحكمت قبضتي عليه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫«فاشل»‬

‫ع‬ ‫وضعت شفرته على يدي وبدأت يف النحت‪.‬‬

‫«فاشل»‬

‫أطبقت أسناين حتى أمنع الصراخ‪.‬‬

‫«فاشل»‬

‫أهنيت المهمة بنجاح‪ ،‬وأرسلت الصورة لمسئول اللعبة‬


‫حتى يعلم جديتي ورغبتي يف االستمرار‪.‬‬

‫قمت بتغطية ذراعي بعد ذلك؛ حتى ال ينتبه أبي وأمي‬

‫‪36‬‬
‫له‪ .‬وتعللت بشعوري بالربد‪ ،‬ورغبتي يف تدفئة نفسي‪ ،‬رغم‬
‫أن الجو كان داف ًئا بالفعل‪.‬‬

‫بعد ذلك توالت التحديات من نحت بعض الرسومات‬


‫على ذراعي إلى االستماع ألصوات مخيفة يف منتصف‬
‫الليل إلى مشاهدة فيديوهات مرعبة‪.‬‬

‫ع‬
‫يف اليوم السابع عشر وقفت على حافة سطح بنايتنا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫يف اليوم التاسع عشر تسلقت رافعة أمام إحدى البنايات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫تحت اإلنشاء القريبة من بيتنا‪.‬‬

‫كانت كلمة «فاشل» ترن يف أذين كلما شعرت بأي تردد‪.‬‬


‫كانت داف ًعا لي للتغلب على جميع التحديات‪.‬‬

‫لو أن أبي استبدل هذه الكلمة اللعينة بكلمة تشجيع‬


‫لتغ ّيرت حيايت‪ ،‬لكنت اآلن أجتاز تحديات المسابقة‬
‫الثقافية يف المدرسة‪ ،‬والمسابقة الرياضية يف النادي‪.‬‬

‫يف اليوم الثامن والعشرين طلبت اللعبة مني أال أكلم‬


‫أحدً ا لمدة يوم كامل‪ .‬لم أفهم ما التحدي يف هذا‪ .‬فأنا عاد ًة‬
‫ال أكلم أحدً ا وال يكلمني أحد طوال عدة أيام وليس يو ًما‬
‫واحدً ا‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫إلى أن جاء اليوم الثالثون‪ ،‬حيث التحدي األخير‪،‬‬
‫أيضا‪ .‬أخربتني‬
‫المحطة األخيرة يف اللعبة‪ ،‬وربما يف حيايت ً‬
‫تحد واحد يجب أن أقوم به حتى‬‫اللعبة أنه يتبقى لدي ٍ‬
‫كامل‪ .‬أن ُأهني حيايت بنفسي‪.‬‬
‫أصبح حو ًتا ً‬

‫لو أن أحدً ا جاء لي منذ شهر وأخربين أن أجرح يدي‬


‫صغيرا لرفضت ذلك تما ًما‪ .‬أما اآلن وبعد ما‬ ‫جرحا‬

‫ع‬
‫ً‬ ‫ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫والدي‪ ،‬وعدم انتباههم لجسدي‬ ‫تعرضت له من إهمال‬

‫ك‬
‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫المليء بالجروح طوال هذا الشهر‪ ،‬فقد أصبحت مستعدً ا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لهذه الخطوة‪.‬‬

‫ع‬
‫حبل غسي ٍل قديم وربطت طرفه يف مروحة‬ ‫أحضرت َ‬
‫السقف‪ ،‬والطرف اآلخر حول رقبتي‪ ،‬ووضعت كرس ًّيا‬
‫تحتي‪ .‬لكن قبل أن أتم التحدي‪ ،‬أحضرت ورقة صغيرة‬
‫وكتبت فيها كلمة واحدة وتركتها بجانبي‪ .‬ثم وقفت فوق‬
‫نفسا عمي ًقا‪ ،‬وأهنيت التحدي‪.‬‬
‫الكرسي‪ ،‬أخذت ً‬

‫‪G‬‬
‫‪38‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫مذعورا‪ ،‬وانطلقت خلف‬ ‫قفزت من فوق األريكة‬

‫ر‬
‫ً‬

‫والتوز عي‬
‫فريدة نحو غرفة حسن‪ .‬دخلت الغرفة فرأيت أسوأ منظر‬
‫يف حيايت‪ .‬حسن ‪ -‬ابني وقرة عيني ‪ -‬ملقى على األرض‪،‬‬
‫وحبل الغسيل ملتف حول رقبته‪ .‬ركعت فريدة فوقه‬
‫تنتحب وتصرخ‪ .‬ركعت فوقه وقمت بفك الحبل عن‬
‫رقبته‪ .‬كان يتنفس بصعوبة بالغة‪ ،‬وهناك حشرجة شديدة‬
‫يف حلقه‪.‬‬

‫فورا مصطح ًبا‬


‫التقطت هاتفي وكلمت وائل‪ .‬جاء وائل ً‬
‫معه الممرضة التي جاءت عند تعب أمي‪ .‬دخال غرفة‬
‫حسن‪ ،‬وطلبا مني ومن فريدة البقاء يف الخارج‪ .‬ظلت‬
‫فريدة تصرخ يفَّ‪« :‬أنت السبب‪ .‬أنت السبب‪ .‬انظر لهذه‬
‫‪39‬‬
‫الورقة الصغيرة التي تركها حسن بجانبه ماذا كتب‬
‫فيها؟!»‪ .‬ألقت الورقة يف وجهي ثم ابتعدت عني منتحبةً‪.‬‬

‫أمسكت الورقة‪ .‬لم يكن فيها سوى كلمة واحدة‪.‬‬

‫«فاشل»‬

‫عيني‪ .‬واهنرت يف‬


‫أطبقت الورقة بقوة يف يدي‪ .‬أغلقت َّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بكاء شديد‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫بعد ساعة خرج وائل من غرفة حسن‪ .‬أسرعت إليه أنا‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫وفريدة‪ .‬فقال لنا‪:‬‬

‫‪-‬الحمد هلل‪ .‬الحالة صارت مستقرة اآلن‪ .‬من حسن‬


‫الحظ أن حسن قد ربط حبل الغسيل بدون إحكام يف‬
‫وأيضا الحبل كان مهرتئًا فانقطع‪ ،‬وسقط‬
‫المروحة‪ً ،‬‬
‫تعرض له من صعوبة يف‬ ‫حسن على األرض‪ .‬وما ّ‬
‫تعرض لها‬
‫التنفس كان بسبب الصدمة النفسية التي ّ‬
‫بسبب إقباله على هذه التجربة المروعة‪ .‬وقد قمت‬
‫بتطبيب الجروح التي تمأل ذراعيه‪.‬‬
‫‪ -‬أي جروح يا وائل؟‬

‫‪40‬‬
‫‪ -‬أي جروح؟! هل تمزحان؟! الجروح تمأل ذراعي‬
‫حسن‪ ،‬كيف لم ترياها؟! يبدو أنه كان يلعب تلك‬
‫اللعبة اللعينة‪.‬‬
‫‪-‬أي لعبة وأي جروح! اشرح لي!‬
‫حدِّ ثنا وائل عن هذه اللعبة اللعينة‪ ،‬وتحدياهتا‪ ،‬وأنه‬
‫قد قابل ثالث حاالت على مدى الشهر الماضي ألطفال‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لديهم نفس الجروح التي وجدها على ذراع حسن‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫فتّشنا هاتف حسن لنصعق بوجود هذه اللعبة على‬

‫والتوز عي‬
‫هاتفه‪ ،‬ووجود سجل المحادثات بينه وبين مسئول اللعبة‪،‬‬
‫وصور لجميع التحديات التي قام هبا حسن‪ .‬بكيت وأنا‬
‫أشاهد الجروح التي مألت جسد فلذة كبدي‪ .‬شعرت أن‬
‫هذه الجروح قد نُحتت يف قلبي‪.‬‬

‫وحتى تزداد جروح قلبي‪ ،‬أخربين وائل أن حسن كان‬


‫يردد كلمة «فاشل» طوال الوقت‪ .‬واستفسر مني عن‬
‫السبب‪ .‬حاولت أن أتملص منه‪ ،‬لكن وائل ‪ -‬صديق‬
‫طفولتي ‪ -‬كان يعرفني جيدً ا حين أحاول التملص‬
‫من شيء‪ .‬نظر لي هذه النظرة التي أعرفها جيدً ا‪ ،‬نظرة‬
‫التشكك‪ ،‬فاضطررت أن أخربه بما حدث‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫امتزجت عالمات األسف مع الغضب مع الصدمة‬
‫على وجه وائل‪ ،‬ثم أخربنا بضرورة وجود شخص قريب‬
‫من حسن هذه الفرتة معه‪ .‬وضرورة االستعانة بأحد‬
‫االختصاصيين النفسيين‪.‬‬

‫‪ -‬من أكثر شخص يحبه حسن ويرتاح له؟‬

‫ع‬
‫‪-‬أمي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪-‬حسنًا‪ ،‬من األفضل أن هتاتفها اآلن وتطلب منها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫المجيء لتبقى بجانب حسن‪ .‬هو اآلن يحتاج إلى‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫كل دعم وحب‪.‬‬
‫هاتفت أمي وطلبت منه أن تأيت‪ ،‬بالطبع لم أخربها‬
‫بالتفاصيل‪ ،‬حتى ال تنهار‪ .‬فقط أخربهتا أن حسن مريض‬
‫بعض الشيء ويريدها بجانبه‪.‬‬

‫جاءت أمي على وجه السرعة بواسطة سيارة أجرة‪.‬‬


‫عندما دخلت الشقة وجديت أنا وفريدة نبكي‪ ،‬فبدأت يف‬
‫البكاء قبل أن تعرف ما حدث‪ .‬سحبها وائل من ذراعها‬
‫إلى غرفة حسن‪ ،‬وأحضر لها كوب ماء‪ ،‬وشرح لها كل‬
‫شيء بالتفصيل‪ .‬وعندما خرجت أمي من غرفة حسن‪،‬‬
‫‪42‬‬
‫وجدت الدموع قد أغرقت وجهها‪ .‬جاءت وجلست على‬
‫األريكة بجانبي وطلبت من وائل وفريدة أن يرتكاين معها‬
‫وحدها‪.‬‬

‫بمجرد أن خرجا‪ ،‬هوت صفعة رهيبة على خدي‬


‫األيمن كأهنا قذيفة هاون‪ .‬فقدت السمع يف أذين اليمنى‬
‫لعدة ٍ‬
‫ثوان‪ ،‬ثم بالتدريج بدأ السمع يعود لها‪ .‬ارتفعت يدي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لخدي تلقائ ًّيا ونظرت ألمي وعلى وجهي كل عالمات‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫الدهشة واأللم‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪-‬أمي‪ ،‬لم تفعليها وأنا صغير‪ ،‬أتفعلينها اآلن وقد‬
‫صرت أ ًبا‬
‫‪ -‬ال تقل أ ًبا‪ .‬أنت ال تستحق شرف هذه الكلمة‪ .‬كيف‬
‫تفعل يف ابنك هذا؟! كيف ال ترى أنت وزوجتك‬
‫كل هذه الجروح على جسد ولدك؟! شهر كامل‬
‫وال تعرفان عنه شي ًئا! كل هذا بسبب صراعك الغبي‬
‫مع سمير على إدارة الشركة‪ .‬نسيت بيتك وزوجتك‬
‫وابنك‪.‬‬
‫فجأة سمعنا صوت صراخ حسن‪ ،‬فأسرعت نحو‬
‫غرفته‪ ،‬وأمي خلفي‪ .‬أوقفنا وائل عند باب الغرفة وطلب‬
‫‪43‬‬
‫منا عدم الدخول‪ .‬وجدت فريدة تخرج من الغرفة باكية‪.‬‬
‫أخربين وائل أن حسن قد صرخ بمجرد مشاهدته لفريدة‬
‫واهنار بشكل رهيب‪ ،‬وغال ًبا سيفعل نفس األمر معي‪ .‬وأن‬
‫الممرضة اآلن تقوم بتهدئته‪.‬‬

‫‪ -‬من األفضل أال يراكما هذه الفرتة‪.‬‬

‫ع‬
‫كم كانت كلمات وائل قاسية على قلبي! حسن ابني ال‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫يريد رؤيتي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫قالت لي أمي‪ :‬اخرج اآلن واذهب إلى بيت أبيك‪.‬‬

‫ع‬
‫أيضا‪ .‬اخرج‪.‬‬
‫حسن ال يريد رؤيتك اآلن‪ ،‬وال أنا ً‬

‫توجهت نحو األريكة‪ ،‬وأخذت مفاتيحي وهاتفي‪.‬‬ ‫ّ‬


‫رأيت كتاب اإلمام الحسن بن علي بجانب األريكة قد‬
‫غ ّطاه الرتاب‪ .‬ال أعلم ما الذي جعلني آخذه رغم أن حالتي‬
‫لم تكن تشي بقدريت على القراءة‪ .‬ثم خرجت من البيت‬
‫هائما على وجهي‪ ،‬لم أكن مصد ًقا لكل ما يحدث‪ .‬كيف‬ ‫ً‬
‫ينهار كل شيء فجأة هكذا! لقد كانت أمي محقة عندما‬
‫صفعتني‪ .‬كأن هذه الصفعة أيقظتني من غفلتي‪ .‬أهملت‬
‫كل شيء يف سبيل ذلك الصراع الغبي مع سمير‪ .‬اهنارت‬
‫عالقتي بفريدة‪ ،‬ولم يعد ابني يريد رؤيتي‪ ،‬وكدت أفقد‬
‫‪44‬‬
‫مركزي بالشركة‪ .‬فال أنا رئيس مجلس اإلدارة‪ ،‬وال أنا‬
‫مدير الشئون القانونية ‪ -‬كما كنت ساب ًقا ‪ .-‬صرت مثلما‬
‫يقولون «مثل البيت الوقف»‪ .‬صرت عال ًقا بين كل شيء‪.‬‬

‫كثيرا يف الشوارع كما هي عاديت عندما أشعر‬‫مشيت ً‬


‫بالضيق والحزن‪ .‬فكرت أن أذهب إلى صالة األلعاب‬
‫الرياضية‪ ،‬حتى أفرغ شحنة الطاقة السلبية التي بداخلي‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لكنني شعرت بالضعف الشديد‪ .‬كنت ضعي ًفا للغاية‪ .‬لم‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫قادرا على حمل نفسي‪ ،‬فما بالك بحمل الحديد؟!‬ ‫أكن ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أفرغ الطاقة التي بداخلي يف‬ ‫حسنًا‪ ،‬من األفضل أال ِّ‬
‫أفرغها يف‬
‫الحديد‪ ،‬بل ينبغي أن أحتفظ هبا بداخلي حتى ّ‬
‫تصحيح شئون حيايت‪.‬‬

‫كثيرا للغاية كأنني أعاقب نفسي على ما اقرتفت‬


‫مشيت ً‬
‫من أخطاء يف حق كل من حولي‪ .‬وصلت إلى بيت أبي‬
‫مش ًيا‪ .‬تركت المصعد‪ ،‬وصعدت الدَ َرج على قدمي حتى‬
‫الدور السادس كأنني أستمر يف معاقبة نفسي‪.‬‬

‫توجهت إلى غرفتي القديمة‪،‬‬


‫بمجرد أن دخلت الشقة ّ‬
‫وألقيت بنفسي بكامل مالبسي وحذائي على السرير وأنا‬
‫أردد‪:‬‬
‫‪45‬‬
‫كيف أهملت حسن هبذه الطريقة؟!‬

‫كيف أهملت فريدة هبذه الطريقة؟!‬

‫كيف سمحت لغروري أن يتح ّكم يفَّ هبذا الشكل؟!‬

‫كيف فعلت ‪...‬‬

‫ع‬
‫كيف ‪...‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫كـ ‪...‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫زيع‬‫والتو‬
‫ثم غبت عن الوعي‪.‬‬

‫‪G‬‬

‫‪46‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بدأت أستيقظ من النوم‪ .‬شعرت أن إهناك العالم كله‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫قادرا حتى‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫قد انسكب فوق جسدي وعقلي‪ .‬لم أكن ً‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫عيني‪ .‬كنت أتنفس بصعوبة كأنني أركض يف‬ ‫َّ‬ ‫على فتح‬
‫سباق أوليمبي‪ .‬تحسست وجهي فوجدت عليه طبقة‬
‫من تراب‪ .‬هل تركت نافذة الغرفة مفتوحة؟! شعرت أن‬
‫السرير تحتي صار صل ًبا على غير العادة‪ .‬مددت يدي على‬
‫الطاولة بجانبي حتى ألتقط الهاتف‪ ،‬فلم أجد الهاتف‪ .‬بل‬
‫لم أجد الطاولة من األساس‪ .‬بدأت أشعر باالضطراب‪،‬‬
‫فاضطررت لفتح عيني حتى أفهم ما يحدث حولي‪ .‬ويا‬
‫ليتني لم أفتحهما!‬

‫وجدت نفسي ُملقى على األرض وحيدً ا يف صحراء‬


‫شاسعة‪ ،‬والشمس فوق رأسي تما ًما‪ .‬وال يوجد زرع أو‬

‫‪47‬‬
‫حجر أحتمي به من الشمس‪ .‬ال يوجد سوى جبل بعيد‬
‫ال تبدو عليه الحياة‪ .‬وقفت على قدمي بصعوبة‪ .‬شعرت‬
‫بفزع شديد كأين طفل صغير تاه من والديه يف شار ٍع ٍ‬
‫خال‪.‬‬
‫كنت أشعر بظمأ شديد‪ ،‬شعرت أن حلقي قد تحجر‪،‬‬
‫وتشققت شفتاي‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جريت يف كل اتجاه دون هدف‪ .‬تذكّرت السيدة هاجر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وهي تسعى بين الصفا والمروة بح ًثا عن الماء‪ .‬فأنَّى لي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫منتظرا‬
‫ً‬ ‫ببئر زمزم! وبعد أن أهنكني التعب جلست مكاين‬

‫ع‬
‫الموت‪.‬‬

‫شبحا يتحرك من بعيد‪ ،‬ظهر من خلف‬


‫ً‬ ‫فجأة‪ ،‬رأيت‬
‫الجبل‪ .‬قلت لنفسي إن هذه بالتأكيد مجرد هالوس بفعل‬
‫العطش واإلهناك‪ ،‬أو ربما هي سكرات الموت‪ .‬أغمضت‬
‫عيني وفتحتها‪ ،‬لكنني رأيت الشبح كما هو‪ .‬يبدو أنه حقيقة‬
‫ً‬
‫صارخا‪« :‬أرجوك‪.‬‬ ‫وليس مجرد هالوس‪ .‬ركضت نحوه‬
‫أنقذين‪ .‬أعطني شربة ماء»‪ .‬كنت أسقط أكثر مما أركض‪.‬‬

‫‪-‬أرجوك انتظر يا أستاذ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫قلتها بأعلى صويت‪ .‬فجأة توقف الشبح مكانه واستدار‬
‫ليواجهني‪ .‬اقرتبت منه أكثر فأكثر‪ .‬مشى سري ًعا باتجاهي‬
‫وأسندين بيده القوية‪.‬‬

‫‪-‬ماء‪ .‬أرجوك‪ .‬شربة ماء‪.‬‬


‫أخرج من جيب ثوبه قِربة ماء وأعطاها لي‪ .‬شربت‬

‫ع‬
‫بشراهة كأنني لم أشرب طوال عمري‪ .‬أسقطت نصف‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫القربة تقري ًبا على األرض وأنا أشرب‪ .‬بعد أن ارتويت‬

‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫أعدهتا له ً‬
‫قائل بأنفاس متقطعة‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ً‬
‫جزيل‪ ،‬لقد أنقذت حيايت‪.‬‬ ‫شكرا‬
‫‪ً -‬‬
‫عفوا يا بني‪ .‬هل أنت بخير اآلن؟‬
‫‪ً -‬‬
‫خيرا‪.‬‬
‫‪-‬نعم‪ .‬الحمد هلل‪ .‬جزاك اهلل ً‬
‫بعد أن شعرت بالماء يسري يف جسدي‪ ،‬بدأت أستعيد‬
‫ً‬
‫طويل قو ًّيا‪ ،‬له ذقن طويل‬ ‫توازين‪ .‬نظرت للرجل‪ .‬كان‬
‫وقورا‪ .‬انتبهت لثيابه‪ ،‬كانت‬
‫ً‬ ‫وسيما‬
‫ً‬ ‫وشعر جميل‪ .‬كان‬
‫ثيا ًبا جميلة لكنها قديمة الطراز‪ .‬حتى قربة الماء انتبهت‬
‫أهنا ليست بالستيكية أو زجاجية كالمعتاد‪ ،‬بل كانت من‬
‫الجلد‪ .‬نظر إلي الرجل بدفء ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪49‬‬
‫‪-‬أال تعرفني؟‬
‫‪-‬آسف يا أستاذ‪ .‬لكن يبدو أن العطش واإلهناك أ ّثرا‬
‫على ذاكريت‪ .‬هل أعرفك؟‬
‫‪-‬حسنًا‪ ،‬على أي حال لم أتوقع أن تعريف من أول‬
‫الح َسن بن علي بن أبي طالب‪.‬‬
‫وهلة‪ .‬أنا َ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪G‬‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫زيع‬ ‫شر وال وت‬

‫‪50‬‬
‫فريدة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪-‬صباح الخير‪ .‬كيف حالك؟‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬
‫شكرا‪.‬‬
‫ك‬
‫‪-‬بخير الحمد هلل‪ً .‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫«شكرا»‪ ،‬أسرع يف صعودي على‬
‫ً‬ ‫بمجرد أن ُأهني كلمة‬
‫السلم‪ ،‬حتى ال ُيالحظ عبد اهلل احمرار وجنتي‪.‬‬
‫والدي يف بناية فاخرة يف إحدى ضواحي‬
‫َّ‬ ‫كنت أسكن مع‬
‫القاهرة حديثة النشأة‪ .‬كانت نصف شقق البناية تقري ًبا ال‬
‫تزال فارغة‪ ،‬ومن ضمنها الشقة التي تقع أسفل شقتنا‪.‬‬
‫ويف أحد األيام‪ ،‬سمعت جلبة يف البناية‪ ،‬سألت والدي‪،‬‬
‫فأخربين أن هناك جيرانًا جدد قد اشرتوا الشقة التي تقع‬
‫تحتنا‪ ،‬ويقومون بنقل أثاثهم لها‪.‬‬
‫كان أبي هو رئيس اتحاد سكان العمارة‪ ،‬لذلك فقد‬
‫يتعرف عليهم‪.‬‬
‫قام بزيارهتم بعد مجيئهم بعدة أيام‪ ،‬حتى ّ‬
‫‪51‬‬
‫أخربنا أهنم أسرة صغيرة العدد مثلنا‪ .‬ثالثة أفراد‪ :‬األب‬
‫‪ -‬حسن ‪ -‬نائب رئيس مجلس إدارة يف إحدى شركات‬
‫االستشارات القانونية‪ ،‬واألم ‪ -‬فاطمة ‪ -‬ربة منزل‪ ،‬واالبن‬
‫‪ -‬عبد اهلل ‪ -‬طالب بكلية الحقوق‪.‬‬

‫هكذا كانت بداية معرفتي بعبد اهلل‪ .‬تبادل للسالمات‬

‫ع‬
‫واالبتسامات على السلم يف أثناء موعد رجوعي من‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫المدرسة الثانوية الذي كان يصادف موعد رجوعه من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الجامعة‪.‬‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫دائما ما ألمح كت ًبا يف يده طوال فرتة دراسته‪.‬‬
‫أيضا أشاركه حب القراءة‪ .‬لكننا كنا نختلف يف‬
‫كنت ً‬
‫كنت أنا ً‬
‫مجاالت القراءة‪ ،‬فكنت أحب قراءة الروايات الرومانسية‬
‫واالجتماعية‪ .‬بينما كان هو يحب قراءة التاريخ‪ .‬وهكذا‬
‫فتحت الكتب بيننا با ًبا جديدً ا للحديث؛ فكنا نتناقش‬
‫سري ًعا عن آخر ما قرأنا‪ .‬كنت ألمح يف عيونه نظرات‬
‫اإلعجاب الربيء‪ .‬لكنه كان ملتز ًما‪ ،‬فلم يحاول أبدً ا أن‬
‫دائما ما كان‬
‫جارحا‪ ،‬أو يرميني بنظرة خارجة‪ً .‬‬
‫ً‬ ‫يقول شي ًئا‬
‫عبد اهلل ملتز ًما‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫كان االلتزام هو مفتاح شخصية عبد اهلل‪ .‬لكن االلتزام‬
‫الذي كان سب ًبا يف إعجابي به يف البداية‪ ،‬كان سبب كل‬
‫مشكالتنا فيما بعد؛ فعبد اهلل يقوم بكل أدواره بالتزام‬
‫شديد‪ ،‬وينتظر يف المقابل أن يقوم الشخص اآلخر بدوره‬
‫بنفس االلتزام‪ .‬واألسوأ أنه ينتظر أن يقوم الشخص بدوره‬
‫بنفس الكيفية التي يقوم هو هبا‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫والحقيقة؛ فإنني كنت أعاين قبل الزواج صرام َة أبي‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫رجل عسكر ًّيا يعشق النظام ويحب السيطرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فقد كان‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫حتى إنه قد طلب أن يتولى رئاسة إدارة اتحاد ساكني‬

‫والتوز عي‬
‫العمارة بمجرد انتقالنا إليها‪ .‬كان يعدُّ البيت ثكنة عسكرية‬
‫ال مجال فيها لعصيان األوامر‪ .‬وقد استسلمت أمي لنظامه‬
‫هذا منذ زمن طويل‪ ،‬فرتكته يفعل ما يريد دون معارضة‪.‬‬
‫تسبب هذا يف نشأيت بشخصية ضعيفة‪ ،‬أو باألحرى بال‬
‫شخصية‪ .‬لذلك فقد كنت أتتوق للزواج‪ ،‬حتى أتخلص‬
‫من هذه السيطرة‪ ،‬ويكون لي شخصيتي الخاصة‪.‬‬
‫وقد أعجبني يف عبد اهلل ثقافته‪ ،‬فكل مثقف يف نظري‬
‫شخص رائع متفاهم‪ .‬لكن األيام أثبتت خطأ رأيي‪ .‬فيبدو‬
‫أن استغراق عبد اهلل يف المجاالت الدسمة من خالل‬
‫دراسته للقانون‪ ،‬وقراءته للتاريخ َأثرت عقله‪ ،‬لكنها‬
‫‪53‬‬
‫أصابت مشاعره بالجمود‪ .‬لكنني لألسف لم أكتشف هذا‬
‫ٍ‬
‫بفرتة‪ ،‬فكما نقول «مرآة الحب عمياء»‪.‬‬ ‫إال بعد الزواج‬
‫فنحن ال نرى عيوب الطرف اآلخر إال بعد الزواج‪.‬‬
‫فاكتشفت بعد الزواج أنني تزوجت بنسخة معدلة‬
‫من أبي‪ ،‬لكن الفارق أن أبي كان عسكر ًّيا‪ ،‬بينما عبد اهلل‬
‫مدين‪ .‬كان ‪ -‬مثل أبي ‪ -‬عاش ًقا لاللتزام‪ .‬يريد مني أن أحبه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بطريقته‪ ،‬وأقوم بدوري يف المنزل وتربية حسن بطريقته‬
‫دليل على عدم التقدير‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أيضا‪ .‬وأي طريقة أخرى يعتربها ً‬‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫كان هذا هو سبب خالفه الشديد مع سمير؛ فقد كان‬

‫ع‬
‫يرى أن التزامه يف العمل بالشركة كمدير للشئون القانونية‬
‫كفيل بجعله هو رئيس مجلس اإلدارة بعد وفاة والده‬
‫أيضا سبب حنقه على حسن وتعنيفه‬ ‫وعمه‪ .‬وكان هو ً‬
‫إياه؛ فهو يرى أنه قد التزم بدوره وو ّفر كل شيء لحسن؛‬
‫وبالتالي فإن الولد ملتزم هو اآلخر بالنجاح وإحراز أعلى‬
‫التقديرات‪.‬‬
‫كان عبد اهلل عقالن ًّيا بشكل كبير‪ ،‬بشكل مبالغ فيه‪.‬‬
‫ً‬
‫حامل يف‬ ‫لم يكن يعطي للمشاعر وزنًا‪ .‬أذكر حين كنت‬
‫حسن‪ ،‬أنه قد جهز لي مفاجأة‪ ،‬فرحت هبا‪ .‬لكن يبدو أنني‬

‫‪54‬‬
‫دليل على عدم‬ ‫لم أفرح بالشكل الذي يريده‪ ،‬فاعترب هذا ً‬
‫حبي وتقديري له ولهديته‪ .‬حاولت أن أشرح له أن الهدية‬
‫كثيرا‪ ،‬لكن الحمل يرهقني جسد ًّيا وذهن ًّيا إال‬
‫قد أعجبتني ً‬
‫أنه لم يفهم ذلك‪.‬‬
‫شعرت أنني خرجت من سجن إلى سجن‪ .‬لكنني‬
‫أتحول إلى نسخة من أمي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫قررت أال أخضع له‪ ،‬حتى ال‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قررت أن تكون لي شخصيتي الخاصة‪ ،‬وأقوم بتحقيق‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ذايت‪ .‬كنت موقنة أن هذا حقي‪ .‬لكن يبدو أنني قد أصبت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫الهدف‪ ،‬وأخطأت الطريق؛ ً‬


‫فبدل من أن أقوم بتحقيق ذايت‬

‫والتوز عي‬
‫داخل المنزل‪ ،‬بحثت عنه يف الخارج‪ .‬طلبت من إحدى‬
‫صديقايت أن تبحث لي عن وظيفة يف الشركة التي تعمل‬
‫هبا‪.‬‬
‫وهكذا اهنمكت يف العمل وتحقيق ذايت‪ .‬شعرت أنني‬
‫بدأت أجد شخصيتي المفقودة‪ ،‬ولم أعلم أنني يف الوقت‬
‫نفسه كانت أفقد ابني وبيتي بالتدريج‪ .‬انخفضت درجات‬
‫حسن بشكل كبير‪ ،‬فبدأت بتعنيف الولد بشدة‪.‬‬
‫دائما ً‬
‫أول‬ ‫‪-‬كيف ترسب وأنا أذاكر معك دروسك ً‬
‫بأول؟!‬

‫‪55‬‬
‫هكذا عاتبته بعد أن ظهرت نتيجته‪ .‬لم أنتبه أن كلمايت‬
‫صارت تشبه كلمات عبد اهلل‪ .‬يبدو أنني تطبعت بطبعه‪.‬‬
‫العتاب والتعنيف ولوم اآلخر صاروا غالبين على كالمي‪.‬‬
‫***‬
‫جلست أسرتجع كل هذه الذكريات بعد أن رحل عبد‬

‫ع‬
‫اهلل ووائل‪ ،‬ودخلت حمايت ‪ -‬أو ماما فاطمة كما أناديها‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪ -‬والممرضة غرفة حسن‪ .‬بكيت بحرقة يف هذه الليلة‬

‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫كما بكيت ليلة رحيل أبي‪ ،‬وليلة رحيل أمي‪ .‬شعرت أنني‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫فقدت حسن كما فقدهتما‪ .‬لكن ‪ -‬على األقل ‪ -‬فإن أبي‬

‫ع‬
‫وأمي* رحال دون اختيارهما‪ ،‬أما حسن فقد رحل بسبب‬
‫جهلي وغبائي وأنانيتي‪ .‬لم أكن أتخيل أن يأيت اليوم الذي‬
‫يصرخ فيه ابني عندما يراين‪.‬‬
‫كنت أشعر باإلرهاق الذهني والبدين الشديدين‪ .‬يف‬
‫هذه األحوال يكون النوم هو أفضل عالج‪ .‬وعلى أي‬
‫حال‪ ،‬فإنني ال أملك شي ًئا كي أفعله اآلن‪ .‬سأنام ً‬
‫قليل أو‬
‫كثيرا‪ .‬وسأترك التفكير يف كل هذا للصبح‪ .‬أليس الصبح‬
‫ً‬
‫بقريب؟!‬

‫‪G‬‬ ‫‪56‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫‪-‬ماذا! َم ْن؟! الحسن بن علي! كيف وأين ومتى؟!‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫هل مت وانتقلت إلى عالم الربزخ؟! أم ‪...‬‬
‫هون عليك يا بني‪ .‬كنت تتمنى أن تأيت الفرصة‬ ‫‪ِّ -‬‬
‫لتقابلني‪ .‬وها أنا ذا أمامك‪ .‬فال تض ِّيع الفرصة يف‬
‫أسئلة ال طائل منها‪.‬‬
‫عذرا يا إمام‪ .‬لكن األمر أكرب من استيعابي‪ .‬لكنني‬
‫‪ً -‬‬
‫باألمس نمت على سريري‪ ،‬وها أنا ذا أستيقظ ألجد‬
‫نفسي يف صحراء قاحلة‪ .‬وبرفقة من! اإلمام الحسن‬
‫بن علي‪ ،‬حفيد رسول اهللﷺ‬
‫‪-‬عليه أفضل الصالة وأتم التسليم‪ .‬هل قرأت سيريت؟‬

‫‪57‬‬
‫‪«-‬نعم‪ ،‬لقد بدأت فيها»‪ .‬قلتها بحماس ثم طأطأت‬
‫رأسي‪ ،‬وقلت بصوت خفيض‪« :‬لكنني لم أكملها»‪.‬‬
‫‪-‬ال عليك يا بني‪ .‬لكن أخربين بدايةً‪ ،‬كيف قرأهتا؟‬
‫أدون التواريخ المهمة‪ ،‬وأكتب أهم األحداث‬
‫‪-‬كنت ِّ‬
‫بالتسلسل‪.‬‬

‫ع‬
‫‪-‬فقط؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪-‬نعم فقط‪ .‬هل هذا خطأ؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪-‬يف أي عام كانت غزوة بدر؟‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫‪ -‬يف العام الثاين بعد الهجرة‪.‬‬
‫‪ -‬ويف أي شهر؟‬
‫‪ -‬يف شهر رمضان المبارك‪.‬‬
‫‪-‬ماذا برأيك كان سيحدث لو اهنزم المسلمون يف‬
‫بدر؟‬
‫‪-‬لم أفكر يف هذا من قبل‪ .‬ربما كان سيتم القضاء على‬
‫اإلسالم يف مهده؟‬
‫‪-‬لو كان بيدك أن تختار مكانًا آخر لغزوة بدر‪ ،‬أين‬
‫كنت ستختار؟‬
‫‪58‬‬
‫‪ -‬ال أعلم‪ .‬ال أعلم حتى أين يقع موقع غزوة بدر على‬
‫الخريطة‪.‬‬
‫‪-‬فما فائدة أن تعلم الشهر والعام الذي وقعت فيه‬
‫الغزوة دون أن ُتعمل عقلك يف كل جوانبها؟!‬
‫إن كنت تريد ح ًّقا االستفادة من التاريخ فعليك‬
‫أن تدرس الشخصيات التي أثرت يف األحداث‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫والظروف المحيطة هبا‪ ،‬والنتائج التي أدت إليها‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وتسأل نفسك ماذا كان يمكن أن تفعل لو كنت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫حوارا بينك وبين الشخصيات‬ ‫ً‬ ‫مكاهنا‪ .‬وتتخ ّيل‬
‫كهذا الحوار الذي يدور بيننا اآلن‪ .‬وتحاول الربط‬
‫بين أحداث التاريخ وبين حياتك الشخصية‪ ،‬وتنظر‬
‫إلى جوانب الشبه بينهما‪ ،‬وكيف يمكنك االستفادة‬
‫من التاريخ‪ .‬التاريخ ال ُيقرأ لكن ُيعاش‪ .‬ال تظن‬
‫أين أعاتبك أو أعنفك‪ ،‬فاهلل يعلم كم أحبك وأحب‬
‫جميع أفراد األمة‪ .‬لكنني أحبك‪ ،‬وأنصحك‪ .‬ما‬
‫رأيك أن ُتعيد قراءة سيريت مر ًة أخرى بالطريقة التي‬
‫قلت لك عليها‪ ،‬وربما يكون لنا حينها لقاء آخر؟‬
‫‪-‬حسنًا يا إمام‪ .‬نِعم الرأي رأيك‪ .‬لكن أخربين أرجوك!‬
‫هل كل هذا حقيقي أم أنه فقط يف رأسي؟!‬
‫‪59‬‬
‫ضحك اإلمام بوقار ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬بل يف رأسك يا بني‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬

‫‪60‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬
‫عيني‪ .‬تحسست وجهي فلم أجد عليه ترا ًبا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ص‬ ‫ع‬ ‫فتحت‬

‫ك‬
‫َّ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫بدأت أتحسس سريري‪ ،‬هاتفي الموجود على الطاولة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫بجانبي‪ .‬وجدت كل شيء كما تركته باألمس‪ .‬حسنًا‪،‬‬
‫فعل هذه المرة‪ ،‬وليس‬ ‫يبدو أنني قد استيقظت من النوم ً‬
‫حلما جديدً ا‪ .‬جلست يف سريري أفكر فيما رأيت‪ .‬لم أكن‬ ‫ً‬
‫يو ًما مؤمنًا بالصدفة‪ .‬أؤمن أن كل شيء يحدث لهدف‪.‬‬
‫مصرا على أن أعرف الغاية وراء كل هذا‪.‬‬‫وقد كنت ً‬
‫خرجت من السرير‪ ،‬ووقفت يف الشرفة‪ .‬كانت السماء‬
‫مظلمة‪ ،‬والهواء عليل‪ .‬وقفت أتأمل كل ما حدث لي‪.‬‬
‫علي فجأة يف البيت والعمل‪،‬‬‫المشكالت التي تراكمت َّ‬
‫ذهابي إلى ساقية الصاوي‪ ،‬المسابقة الثقافية التي صادفت‬
‫أن آخر موعد للتقديم فيها هو نفس الموعد الذي علمت‬

‫‪61‬‬
‫هبا فيه‪ ،‬اختياري لشخصية الحسن بن علي ألكتب عنها‪،‬‬
‫ما حدث البني حسن‪ ،‬الحلم‪ .‬انتبهت أن ابني يحمل نفس‬
‫اسم الحسن بن علي‪ .‬بالتأكيد هناك هدف من وراء كل‬
‫هذا‪.‬‬

‫فجأة انطلق صوت المؤذن ُمعلنًا دخول وقت الفجر‪.‬‬


‫ألول مرة منذ فرتة طويلة أسمع أذان الفجر؛ ففي هذا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫نائما‪.‬‬
‫ع‬
‫الوقت أكون ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫(الصالة خير من النوم ‪ ...‬الصالة خير من النوم)‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫كأنني ألول مرة أعرف بوجود هذا المقطع يف أذان‬
‫الفجر‪.‬‬
‫ألول مرة أشعر بكلمات األذان‪ .‬شعرت هبا تتغلغل يف‬
‫عقلي وقلبي‪.‬‬
‫قلبي!‬

‫لطالما أهملت تلك المضغة يف جسدي‪ .‬تلك المضغة‬


‫التي سمعت خطيب الجمعة يو ًما يقول إهنا إن صلحت‬
‫صلح الجسد كله‪ ،‬وإن فسدت فسد الجسد كله‪ .‬كنت‬
‫دائما الجانب األعظم يف حيايت‪ .‬فالعقل‬
‫أعطي عقلي ً‬
‫‪62‬‬
‫هو الملك المتوج على عرش جميع أعضاء جسدي‪ .‬لم‬
‫أكن أسمح لعاطفة عابرة أو خلجة نفس أن تأخذ مكاهنا‬
‫بداخلي‪ .‬وها أنا ذا قد وقفت على حافة حيايت‪ ،‬كل شيء‬
‫منهار‪ .‬هل أخطأت حين اعتمدت على عقلي فقط؟!‬
‫لذلك فقد غضبت عندما رسب حسن‪ ،‬فاألمر عندي‬
‫عقالين بحت‪ .2=1+1 .‬لقد و َّفرت لك كل ما تحتاجه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫للمذاكرة‪ ،‬فأنت يجب أن تنجح‪ .‬قضي األمر‪ .‬لكن يبدو‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أن لألمر ُبعدً ا آخر لم أنتبه له‪ .‬لقد كان حسن يحتاج لما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫هو أكرب من مجرد مدرسة مرموقة‪ ،‬ومدرسين مخضرمين‪.‬‬
‫كان يحتاج إلى أمور لم أعطِها قيمة يف حيايت‪ .‬كان يحتاج‬
‫مديرا‪.‬‬
‫أب وليس ً‬ ‫إلى ٍ‬

‫تنفست بعمق وتألألت بعض الدموع يف عيني عندما‬


‫تذكرت ما حدث لحسن‪ .‬ثم قررت أن أذهب ألتوضأ‬
‫وأصلي الفجر يف الجامع ألول مرة منذ سنوات تقري ًبا‪.‬‬
‫شعرت كأنه الوضوء األول يف حيايت‪ .‬شعرت كأنني أعتنق‬
‫أيضا‪ ،‬ولم أركب‬ ‫اإلسالم من جديد‪ .‬نزلت على الساللم ً‬
‫المصعد‪ .‬هل ما زلت أرغب يف معاقبة نفسي؟! ال أعلم‪.‬‬
‫أم أنني أريد أن أطيل عمر هذه التجربة الروحية التي أمر‬
‫هبا؟!‬
‫‪63‬‬
‫التجربة الروحية! هل ح ًّقا استخدمت هذا المصطلح؟!‬

‫روحا‪ .‬يبدو ً‬
‫فعل أن‬ ‫كأنني أكتشف ألول مرة أن لدي ً‬
‫كبيرا يحدث يف حيايت‪ .‬منذ لحظات ذكرت‬ ‫تغييرا ً‬
‫ً‬ ‫هناك‬
‫قلبي‪ ،‬وها أنا اآلن أذكر روحي‪ .‬كأنني أعيد اكتشاف حيايت‬
‫من جديد‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نفسا عمي ًقا ثم‬
‫وقفت على باب الجامع‪ .‬أخذت ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫خلعت حذائي ودخلت‪ .‬جاء صوت المؤذن معلنًا وقت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫إقامة الصالة‪.‬‬

‫ع‬‫والتوزي‬ ‫اصطففت يف الصف الثاين مع المصلين‪.‬‬

‫(حاذوا المناكب وسدوا ال ُف َرج‪ .‬أقبلوا على اهلل‬


‫بقلوبكم‪ ،‬يقبل عليكم برحمته)‪.‬‬

‫للمرة الثانية يف غضون نصف ساعة يأخذ القلب موقعه‬


‫يف حيايت‪.‬‬

‫(اهلل أكبر)‬

‫ربما هي المرة األولى التي أشعر فيها بمعنى هذه‬


‫الكلمة‪ .‬اهلل أكرب ‪ ...‬أكرب من العمل والبيت‪ .‬أكرب من‬
‫‪64‬‬
‫الخالفات‪ .‬أكرب من عقلي الذي طالما أجلسته على عرش‬
‫حيايت‪ .‬لكن يبدو أنه بدأ يتزحزح عن عرشه‪ ،‬وسيجد لك‬
‫مضطرا‬
‫ً‬ ‫شركاء يف الفرتة المقبلة‪ .‬سيجد نفسه ألول مرة‬
‫القتسام السلطة مع آخرين‪ .‬يبدو أن الثورة قد اشتعلت‬
‫بداخلي‪.‬‬

‫لن أبالغ إذا قلت إنني كنت أصلي بعقلي فقط قبل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ذلك‪ .‬كنت أصلي كنوع من االلتزام نحو خالقي‪ ،‬حتى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أكون بذلك قد أديت واجبي نحوه‪ ،‬ووفيت بحقه‪ ،‬وبالتالي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أكون مستح ًقا لنعمه يف المقابل‪ .‬كم كنت غب ًّيا! وهل يو ِّفي‬
‫اإلنسان بحق خالقه؟! هل لو صمت كل هناري‪ ،‬وأقمت‬
‫كل ليلي أكون بذلك قد وفيت بحقه؟!‬

‫كانت هذه هي أول مرة أصلي ح ًّقا يف حيايت‪ .‬أعني أول‬


‫مرة أشعر بالصالة وبآيات القرآن التي يتلوها اإلمام‪ .‬ربما‬
‫ألنني قد سمعت نصيحة اإلمام وأقبلت على اهلل بقلبي‪.‬‬
‫وألول مرة تذرف عيني الدموع يف أثناء الصالة‪ .‬شعرت‬
‫كأن الدموع تغسلني من الداخل‪ .‬كأين أولد من جديد‪.‬‬

‫بعد أن أهنيت الصالة‪ ،‬قررت أن أتجول ً‬


‫قليل يف‬
‫الشوارع‪ ،‬حتى َأنعم ببعض الهواء النقي‪ .‬كنت أسمع ً‬
‫دائما‬
‫‪65‬‬
‫مبكرا‪ ،‬لكن ألول مرة أشعر هبذه‬
‫ً‬ ‫عن فوائد االستيقاظ‬
‫الفوائد‪ .‬أول مرة أستنشق هذا الهواء النقي الذي سيتلوث‬
‫بعد قليل بعوادم السيارات عندما يستيقظ الناس‪ ،‬ليذهبوا‬
‫ألعمالهم‪.‬‬

‫عندما بدأت الحركة تدب يف الشوارع‪ ،‬قررت أن‬


‫أصيل‪ .‬فول وطعمية وبطاطس‬ ‫ً‬ ‫فطورا مصر ًّيا‬ ‫أشرتي‬

‫ع‬
‫ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وباذنجان مخلل‪ .‬حسنًا‪ ،‬أعلم أن هذا النوع من الطعام‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫المش َّبع بالزيوت يتناىف مع قواعد الصحة واللياقة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫فعل كنت أشتاق لهذا الفطور‪ .‬فقد كنت‬ ‫الجسدية‪ ،‬لكنني ً‬

‫ع‬
‫أذهب يوم ًّيا إلى عملي دون فطور‪ ،‬وأكتفي فقط بفنجان‬
‫صباحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫من القهوة يف التاسعة‬

‫أحضرت الفطور وصعدت إلى شقتي‪ .‬هاتفت مازن‬


‫مساعدي يف العمل‪ ،‬ألخربه أين سأحصل على إجازة لعدة‬
‫أيام بسبب ظروف خاصة‪.‬‬

‫إجازة يا أستاذ عبد اهلل يف هذه الظروف! أنت تعلم أن‬


‫رأسا على عقب بعد االجتماع األخير‪ .‬هذه‬
‫الشركة مقلوبة ً‬
‫اإلجازة ستعطي الفرصة ألستاذ سمير وفريقه أن يسيطروا‬
‫على زمام األمور‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫صدقني يا مازن‪ .‬لو جئت للشركة بوضعي الحالي‬
‫سأتسبب يف مزيد من المشكالت‪ .‬أحتاج أن أكون وحدي‬
‫قليل‪ ،‬حتى أعيد ترتيب شئوين‪ ،‬وبالتالي شئون العمل‪.‬‬ ‫ً‬
‫وأنا أثق بقدرتك على إدارة دفة األمور يف غيابي‪.‬‬

‫أهنيت المكالمة‪ .‬فكرت أن أكلم أمي حتى أطمئن‬


‫أقو حال ًّيا على‬
‫على حسن‪ ،‬لكني تراجعت يف النهاية‪ .‬لم َ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫مواجهة أمي أو حسن أو فريدة‪ .‬فريدة‪ ،‬ترى كيف حالها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫اآلن؟!‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أغلقت الهاتف‪ .‬أمسكت بكتاب الحسن بن علي‪.‬‬
‫مسحت الرتاب بيدي عن غالفه‪ .‬ثم قررت أن أبدأ قراءته‬
‫من البداية بالكيفية التي نصحني هبا اإلمام‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪67‬‬
‫فريدة‬

‫أخيرا‪ .‬أخذت‬
‫ً‬
‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد ليلة مليئة بالكوابيس استيقظت‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫نفسا عمي ًقا ورفعت رأسي ألعلى كأنني كنت أغرق يف‬ ‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫البحر‪ ،‬وجاء َمن سحب رأسي لألعلى‪ ،‬حتى أحصل على‬
‫بعض الهواء يبقيني على قيد الحياة‪ .‬كانت أضواء الشمس‬
‫الساطعة تخرتق زجاج النافذة لتسقط على سريري‬
‫تمنحني بعض الدفء‪.‬‬

‫خرجت من غرفتي فوجدت ماما فاطمة متوجهة نحو‬


‫غرفة حسن‪ .‬أسرعت إليها سائلة عن أحواله‪ .‬فأجابتني‬
‫نائما‪ ،‬ثم تركتني ودخلت غرفته‪.‬‬
‫باقتضاب أنه ما زال ً‬
‫عذرت معاملتها الجافة معي؛ فما حدث لم يكن ً‬
‫سهل‬
‫على أي منَّا‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫أمسكت هاتفي‪ ،‬وكلمت زميلتي رانيا‪ .‬طلبت منها أن‬
‫تقدِّ م لي يف العمل على إجازة طويلة األمد‪.‬‬

‫‪-‬لكنك يا فريدة تعلمين مديرنا‪ ،‬سيرفض اإلجازة‬


‫بالطبع‪.‬‬
‫‪-‬حتى لو قام بطردي من العمل‪ ،‬ال أهتم‪ .‬لدي من‬

‫ع‬
‫المشاغل ما هو أكرب من سخافات مديرنا الهمام‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪-‬حسنًا حسنًا‪ ،‬سأفعل ما بوسعي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫أهنيت المكالمة‪ .‬وأغلقت الهاتف تما ًما‪ .‬لم أكن قادرة‬

‫ع‬
‫على التعامل مع أي شخص اآلن‪ .‬ولم أكن قادرة على‬
‫التفكير يف أي شيء سوى حسن‪ .‬لم أكن مصدقة لما‬
‫حدث حتى اآلن‪ .‬حسن الفتى الحساس الرقيق يجرح‬
‫ذراعيه هبذا الشكل البشع! حسن الذي كان يلومني عندما‬
‫أقتل نملة يف المطبخ‪ ،‬يحاول أن يقتل نفسه!‬
‫ِ‬
‫كفاك لو ًما لنفسك»‪.‬‬ ‫«حسنًا حسنًا يا فريدة‬

‫ويسارا‬
‫ً‬ ‫قلتها لنفسي بحزم‪ ،‬وأنا أهز رأسي بقوة يمينًا‬
‫كأين أزيح هذه األفكار السلبية عن رأسي‪ .‬لم يعد أمامي‬
‫متسع من الوقت للعب دور الشخصية الضعيفة أو‬
‫‪70‬‬
‫دائما ما أرجو أن تأيت اللحظة‬
‫المغلوبة على أمرها‪ .‬كنت ً‬
‫التي أثبت فيها نفسي‪ ،‬وأحقق ذايت‪ .‬وها هي الفرصة قد‬
‫ٍ‬
‫قاس جدًّ ا وغير متوقع‪ ،‬لكنها‬ ‫جاءت‪ .‬نعم جاءت بشك ٍل‬
‫جاءت على أي حال‪ ،‬ولن أسمح لها أن تفلت من يدي‪.‬‬
‫سيكون حسن هو هديف ومستقبلي وذايت‪.‬‬

‫أحضرت جهاز الالبتوب الخاص بي‪ .‬وفتحت‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫متصفح اإلنرتنت بح ًثا عن بعض المواقع المتخصصة يف‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫تقديم الدعم النفسي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫«حسن سيعود أفضل مما كان»‪.‬‬

‫عال‪ ،‬وبدأت رحلتي عرب فضاء اإلنرتنت‪.‬‬ ‫ٍ‬


‫بصوت ٍ‬ ‫قلتها‬

‫‪G‬‬
‫‪71‬‬
‫الحسن بن علي‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫يف السنة الثالثة من هجرة جدي المصطفى ﷺ كان‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫ميالدي‪ .‬حيث اجتمعت النسوة يف بيت أمي فاطمة الزهراء‬
‫ليك َّن بجانبها يف هذا الخطب الجلل الذي تقر به عين كل‬
‫أم‪ ،‬أال وهو والدة أول مولود لها‪ .‬وعندما وصلت البشارة‬
‫وعلي‪ .‬كان وجهه‬
‫َّ‬ ‫إلى جدي ﷺ قام ليطمئن على أمي‬
‫وقورا‪ ،‬متواض ًعا‪ .‬كانت سعادته‬
‫ً‬ ‫كالبدر ليلة التمام‪ ،‬مهي ًبا‪،‬‬
‫بوالديت كبيرة‪.‬‬

‫وعندما رآين قال‪« :‬أروين ابني‪ .‬ما سميتموه؟»‪ .‬يا‬


‫لسعاديت‪ ،‬أن يصفني رسول اهلل ﷺ بـ «ابني»‪.‬‬

‫فرد عليه أبي ‪ -‬علي بن أبي طالب ‪ :-‬سميناه حر ًبا‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫فقال جدي‪« :‬بل هو َح َسن»‪ .‬وهكذا كنت أول من‬
‫«ح َسن» يف العرب‪.‬‬
‫ُس ّمي بـ َ‬
‫وأقبل الصحابة الكرام يقدّ مون التهاين لجدي وأبي‪.‬‬
‫هكذا كانت بدايتي‪ ،‬تحت رعاية جدي رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫ويف كنف فتى قريش علي بن أبي طالب‪ ،‬وأقرب بنات‬

‫ع‬
‫الرسول لقلبه فاطمة الزهراء‪ ،‬ويف مجتمع من الصحابة‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الكرام المؤمنين الشجعان ُولدت ونشأت‪.‬‬

‫ت‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوزي‬
‫لكن رغم كل هذه المكانة التي تمتع هبا أبواي يف‬

‫ع‬
‫مجتمعهما فإهنما كانا يعيشان حياة بسيطة زاهدة‪ .‬فكانت‬
‫أمي تقوم بكل األعمال المنزلية بنفسها‪ ،‬تغسل الثياب‪،‬‬
‫وتنظف البيت‪ ،‬وتعجن وتخبز‪ ،‬وتقوم على رعايتنا‪ .‬لم‬
‫يكن لها خادم‪ .‬فتعلمت من أمي الصرب والزهد واالعتماد‬
‫على النفس‪.‬‬
‫أما أبي فكان يمتاز بالقوة البدنية والشجاعة وسرعة‬
‫أهله ليكون أحد قادة الجيش اإلسالمي يف‬ ‫البديهة‪ ،‬وهو ما ّ‬
‫عهد جدي‪ .‬لكن قوة أبي لم تتوقف فقط عند القوة البدنية‪،‬‬
‫فكثيرا ما بعثه جدي‬
‫ً‬ ‫أيضا بالفصاحة‪ ،‬لذلك‬‫بل كان يمتاز ً‬
‫أيضا ممن‬ ‫سفيرا إلى القبائل ليدعوها لإلسالم‪ .‬وكان ً‬‫ً‬
‫‪74‬‬
‫يجيدون القراءة والكتابة‪ ،‬فكان من كتبة الوحي‪ .‬وهم‬
‫الصحابة الذين وكلهم جديﷺ بكتابة القرآن فور نزوله‬
‫عليه‪ ،‬حتى ال يضيع‪ .‬وهكذا تعلمت من أبي الشجاعة‬
‫وحمل السالح والفصاحة والقراءة والكتابة‪.‬‬

‫ً‬
‫طويل؛ فإنني‬ ‫أما جديﷺ‪ ،‬فرغم أين لم أعش معه‬
‫تعلمت منه الكثير مما ال يتسع الزمن لسرده أو تكفي‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫األوراق لحصره‪ .‬فقد كان قرآنًا يمشي على األرض‪ .‬كان‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫رفي ًقا لينًا يلعب معنا ‪ -‬نحن األطفال ‪ -‬وينصحنا‪ .‬فرتاه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫الح َسين‪ ،‬وتارة ُيرسل هبدية‬
‫تار ًة يداعبني‪ ،‬وتار ًة يق ّبل أخي ُ‬
‫ألمامة ابنة خالتي زينب‪ ،‬وتارة يحمل عبد اهلل ابن عمي‬
‫جعفر‪ .‬بل كان حنانه يتجاوز أطفال أهل بيته إلى جميع‬
‫األطفال‪ .‬وال يرى عي ًبا يف هذا‪ .‬بل إنني وأخي الحسين كنا‬
‫نثب على ظهره وهو يصلي فال ينهانا عن ذلك‪.‬‬
‫مثار إعجاب الناس‪ .‬أذكر‬ ‫كان حبه ورفقه باألطفال َ‬
‫أنه يو ًما كان يالعبني ويقبلني كعادته‪ ،‬فرآه أحد الرجال‪،‬‬
‫وقاله له متعج ًبا‪« :‬إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدً ا‬
‫رحم»‪.‬‬‫منهم»‪ ،‬فقال له جدي ﷺ‪« :‬من ال َيرحم ال ُي َ‬
‫وهكذا تعلمت من جدي الرحمة والرفق واللين‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫ويا لشدة سعاديت حين يمدحني أحد الناس ً‬
‫قائل‪« :‬أنت‬
‫أشبه الناس بجدك»‪.‬‬

‫أذكر أنني كنت ألعب مع الصبيان يو ًما‪ ،‬فخرج أبي‬


‫بصحبة أبي بكر الصديق من المسجد‪ ،‬فحملني الصديق‬
‫على عاتقه وقال‪« :‬بربي شبيه النبي‪ .‬ال شبيه علي»‪ .‬وأبي‬
‫يضحك من كالمه‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫دائما هو األمل الذي ينير لي‬ ‫كان حب جدي لي ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الطرقات المظلمة‪ .‬فهو لم يكن يرتك مناسبة إال ويعرب‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫الح َسين‪ .‬فكان يقول عنَّا‪« :‬هما‬
‫فيها عن حبه لي وألخي ُ‬
‫ريحانتاي من الدنيا»‪ .‬وكان يحملني على عاتقه‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫«اللهم إين ُأحبه فأحبه»‪ .‬ما زال صدى كلماته يرتدد يف أذين‬
‫وعقلي وقلبي وكل كياين‪ .‬لكن بين كل هذه الكلمات‪،‬‬
‫تأثيرا يف‬
‫كانت هناك كلمة هي األقرب لقلبي‪ ،‬واألكثر ً‬
‫نفسي‪ .‬كانت هي المحرك األساسي لي بعد ذلك يف كل‬
‫أمور حيايت‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪76‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كان جدي واق ًفا على المنرب خطي ًبا يف الناس‪ .‬والناس‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫أمامه جالسون كأن على رؤوسهم الطير من شدة االنتباه‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫لما يقول‪ .‬فدخلت المسجد أركض بين الصفوف‪ .‬ولم‬
‫يكن جدي يمنع األطفال من المسجد‪ ،‬بل كان يهذبنا‬
‫ويعلمنا آدابه‪ ،‬حتى نحبه ونعتاد على المجيء له‪ .‬أقبلت‬
‫مبتسما‪ ،‬وحملني‬
‫ً‬ ‫علي كعادته‬
‫راكضا‪ ،‬فأقبل َّ‬
‫ً‬ ‫على جدي‬
‫على عاتقه‪ .‬وكان يلتفت للناس مر ًة ويلتفت لي مرةً‪.‬‬

‫ً‬
‫مشغول باللعب‬ ‫ال أذكر ما كان يقوله حينها؛ فقد كنت‬
‫فوق عاتقه‪ .‬لكني فجأة انتبهت له وهو يقول‪:‬‬

‫«إن ابني هذا سيد‪ ،‬ولعل اهلل أن ُيصلح به بين فئتين‬


‫عظيمتين من المسلمين»‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫ال أذكر ما قاله قبلها أو بعدها‪ .‬بل ال أذكر ما حدث‬
‫باقي اليوم‪ .‬كأن كل انتباهي وتركيزي يومها اجتمع فقط‬
‫يف هذه اللحظة‪ .‬هذه اللحظة التي ش ّكلت مسار حيايت فيما‬
‫دائما لإلصالح بين الناس‪.‬‬
‫بعد‪ .‬فقد كانت سب ًبا يف سعيي ً‬
‫كانت كلمته هذه كالوصية بالنسبة لي‪ .‬كنت أخشى إن‬
‫تركت اإلصالح أن أكون بذلك قد خالفت وصيته‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫أيضا جعلتني بعد ذلك أنتبه‬
‫والحقيقة فإن هذه الكلمة ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫للشبه الكبير بيني وبين جدي‪ ،‬فالشبه بيننا لم يكن يف‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫الشكل فقط‪ ،‬بل كان أعمق من هذا‪.‬‬
‫قام جده بتسميته حين مولده‪ ،‬وقام هو ‪ -‬جدي ‪-‬‬
‫بتسميتي حين مولدي‪.‬‬
‫كان أول من ُس ّمي محمدً ا من العرب‪ ،‬وكنت أول من‬
‫ُس ّمي حسنًا من العرب‪.‬‬
‫فقد أمه يف السادسة من عمره‪ ،‬وفقدت أمي يف الثامنة‬
‫من عمري‪.‬‬

‫كان هو دعوة جده إبراهيم‪:‬‬

‫‪78‬‬
‫ك و َيُع َل ِّمُهُم ُ‬ ‫}ر َ َب ّنَا و َاب ْع ْ‬
‫َث ف ِيه ِ ْم رَسُول ًا مِّنْه ُ ْم يَت ْلُو عَلَيْه ِ ْم آي َات ِ َ‬
‫و َالْح ِ ْكم َة َ و َي ُزَكّ ِيه ِ ْم{‬ ‫الْكِتَابَ‬

‫وكنت دعوة جدي‪« :‬لعل اهلل أن ُيصلح به بين فئتين‬


‫عظيمتين من المسلمين»‪.‬‬

‫أيضا يف الظروف المحيطة‪ .‬وقد‬


‫فقد كان هذا الشبه ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عزمت منذ صغري أال يتو ّقف الشبه عند الشكل والظروف‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫أيضا‪ .‬فعزمت أن‬
‫فقط‪ ،‬بل يف الصفات واألخالق والسيرة ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫أسير بسيرته طوال حيايت حتى ألقاه على الحوض يوم‬
‫القيامة‪.‬‬

‫سميت اثنين من أبنائي باسم محمد‪،‬‬


‫ولشدة حبي له فقد ّ‬
‫و ُكنّيت باسمه‪ .‬فصار اسمه مالز ًما السمي ً‬
‫دائما‪ .‬صرت‬
‫أبا محمد الحسن بن علي بن أبي طالب‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪79‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬

‫نفسا عمي ًقا‪ .‬كأين‬


‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫رفعت وجهي عن الكتاب وأنا آخذ ً‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫هبذا أعود لعالمي مر ًة أخرى‪ .‬شعرت كأين غبت لشهور‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫وسنين داخل هذه السيرة الطيبة‪ .‬فال أعلم كم من الوقت‬
‫علي‪ ،‬هل هي ساعات أم أيام؟!‬
‫مر َّ‬
‫َّ‬
‫ذهلت لما قرأت من طفولة الحسن‪ .‬ما هذا المجتمع‬
‫الفاضل؟! ما هذا الرسول الجد العظيم؟! عندما قرأت‬
‫التاريخ اإلسالمي يف المرحلة الثانوية والجامعية‪ ،‬مررت‬
‫حينها سري ًعا على سيرة اإلمام الحسن‪ ،‬لكنني لم أتو ّقف‬
‫َ‬
‫تحظ باالهتمام الكايف من قبل‬ ‫كثيرا عندها‪ .‬ربما ألهنا لم‬
‫ً‬
‫ال ُكتّاب والمؤرخين مقارنة بسير باقي الصحابة‪ ،‬بل حتى‬
‫الح َسين‪ .‬فقد كانت المجزرة الرهيبة‬
‫مقارنة بسيرة أخيه ُ‬
‫الح َسين وآل البيت النبوي يف كربالء‬
‫تعرض لها ُ‬ ‫التي َّ‬
‫‪81‬‬
‫الح َسين‪ .‬أما‬
‫سب ًبا رئيس ًّيا يف اهنماك األقالم يف الكتابة عن ُ‬
‫مسالما فلم َ‬
‫يحظ بمثل االهتمام‬ ‫ً‬ ‫شخصا‬
‫ً‬ ‫الح َسن فألنه كان‬ ‫َ‬
‫رغم أهمية دوره يف تاريخ األمة‪.‬‬
‫شعرت بدموع ساخنة تسيل على خدي‪ .‬ال أعلم هل‬
‫كانت تسيل من عبق هذه السيرة الطاهرة؟! أم تسيل حزنًا‬
‫وند ًما على عدم عنايتي بابني كما ينبغي؟! فارق شاسع‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بين ما وجده الحسن بن علي من عناية وتربية يف صغره‪،‬‬

‫ل‬
‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫وبين ما وجده حسن بن عبد اهلل من إهمال وصرامة‪.‬‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫أذكر أين يو ًما أخذت حسن معي صالة الجمعة فأحدث‬

‫ع‬
‫جلبةً‪ ،‬كباقي األطفال يف عمره‪ .‬إال أين تعاملت مع األمر‬
‫بصرامتي المعتادة‪ .‬فأمسكت يده الصغيرة‪ ،‬وعصرهتا يف‬
‫يدي بقوة حتى آلمته‪ ،‬وبعد أن رجعنا إلى البيت وبخته‬
‫بقوة ومنعته من المجيء معي للصالة ثانيةً‪ .‬ال َع َجب أنني‬
‫كرهته يف الصالة‬ ‫لم أره يصلي بعد ذلك‪ .‬يبدو أنني قد َّ‬
‫دون قصد‪.‬‬

‫وأذكر يو ًما آخر أن أغضبني حسن‪ ،‬فقمت بمنعه‬


‫من ورشة الرسم التي كان يحضرها يف النادي كنو ٍع من‬
‫العقاب‪ .‬يا لغبائي منعته من أكثر شيء يحبه ويفرغ فيه‬
‫طاقته!‬
‫‪82‬‬
‫وأذكر ‪ ...‬وأذكر ‪ ...‬وأذكر ‪...‬‬

‫شريرا‪ .‬وليست عندي مشكالت نفسية‪ .‬لكنه‬ ‫ً‬ ‫لست أ ًبا‬


‫الفهم الخاطئ للرتبية‪ .‬أو باألصح الجهل هبا‪ .‬لم أقرأ‬
‫يو ًما يف مجال تربية وتعليم األطفال‪ ،‬بل كنت أعتمد على‬
‫االرتجال والموروثات‪ .‬كنت أظن أن الصرامة هي الحل‬
‫الوحيد إلنشاء طفل قوي صالح‪ .‬لكن ها أنا ذا أقرأ سيرة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الحسن بن علي‪ ،‬ألجده قد تمتع بحنان وعطف أبويه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وجده على عكس ما كنت أظن‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫إلى أين تسير بي يا إمام؟! كنت قد بدأت قراءة سيرتك‬
‫يف األساس؛ كي أشارك هبا يف مسابقة‪ .‬وها هي اآلن‬
‫تكشف لي خطأ تربيتي البني‪.‬‬

‫هكذا إ ًذا ُتقرأ سير العظماء‪ .‬ليس بتدوين التواريخ‬


‫المهمة وحفظ األحداث الكبيرة فحسب‪ .‬بل بالعلم‬
‫والفهم ومشاهبة األحداث بالواقع‪.‬‬

‫ال وقت للندم على ما فات اآلن‪ .‬سأصحح مسار كل‬


‫شيء‪ .‬وإن كنت قد أخفقت يف تربية ابني قبل ذلك‪ ،‬فلن‬
‫صغيرا يف العاشرة من عمره‪.‬‬
‫ً‬ ‫أخفق اآلن‪ .‬ما زال حسن‬

‫‪83‬‬
‫سأعيد اكتشاف عالقتي به مر ًة أخرى‪ .‬وسأعيد اكتشاف‬
‫علي أن ُأصلح عالقتي‬
‫أيضا‪ .‬لكن قبل كل هذا َّ‬ ‫نفسي معه ً‬
‫بفريدة وأمي‪ .‬حتى نكون جمي ًعا يدً ا واحدة يف إصالح ما‬
‫أفسدته‪.‬‬

‫أمسكت هاتفي‪ ،‬فتحته‪ ،‬اتصلت بفريدة‪ .‬لكن هاتفها‬


‫أيضا قد أغلقت هاتفها مثلي‬
‫كان خارج الخدمة‪ .‬يبدو أهنا ً‬
‫كثيرا يف‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫منذ الحادثة‪ .‬حسنًا‪ ،‬سأذهب إلى البيت‪ .‬ترددت ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الذهاب إليه طوال اليومين الماضيين خشي ًة أن يؤثر هذا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫سل ًبا فيهم‪ .‬ال أعلم إن كان هذا سيسرهم أو يسوؤهم‪ .‬ال‬

‫ع‬ ‫أعلم إال أنني أريد إصالح كل شيء اآلن‪.‬‬

‫‪G‬‬

‫‪84‬‬
‫فريدة‬

‫ري‬
‫خرجت من غرفة حسن وأنا أحمل طبق الطعام بين‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫يدي‪ .‬أحمد اهلل أنه بدأ يأكل بعد أن كان قد امتنع عن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫الطعام طوال اليومين الماضيين حتى شحب لونه‪ .‬كان‬
‫يتغذى على السوائل وقطع الفاكهة الصغيرة فقط‪ .‬أخربين‬
‫عرفنا عليه وائل أن االمتناع‬
‫االختصاصي النفسي الذين ّ‬
‫عن الطعام أمر طبيعي يف حاالت الصدمة النفسية سواء‬
‫للكبار أو الصغار‪.‬‬
‫كانت هذه هي المرة الثانية التي أدخل فيها غرفة حسن‬
‫بعد المرة األولى المشئومة التي صرخ فيها عندما رآين‪.‬‬
‫دخلت وأنا أقدم قد ًما وأؤخر األخرى؛ خو ًفا أن يفعل‬
‫مثلما فعل أول مرة‪ .‬لكنه الحمد هلل كان هادئًا‪ .‬صحيح أنه‬
‫لم يتكلم معي‪ ،‬لكن على األقل لم يصرخ‪ .‬اعتربت هذا‬
‫تقدّ ًما يف حالته‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫كانت ماما فاطمة والممرضة تقومان بدور رائع يف‬
‫التخفيف عنه ومؤانسته‪ .‬كانت ماما فاطمة تحكي له‬
‫قصصا قبل النوم التي يحبها‪ .‬صحيح أنه لم يكن يتجاوب‬
‫ً‬
‫معها كالسابق‪ ،‬لكن على األقل لم يكن يمتعض‪ .‬يف مثل‬
‫هذه الحاالت الصعبة يعدُّ عدم االمتعاض تقد ًما يف حد‬
‫ذاته‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد أن وضعت طبق الطعام يف المطبخ ونظفته‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ذهبت ألجلس على األريكة‪ .‬فتحت جهاز الالب توب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫الذي صرت أقضي عليه الكثير من الوقت‪ .‬كنت أتصفح‬

‫ع‬
‫المجموعة التي تقدم النصائح المناسبة للتعامل مع‬
‫حاالت الصدمة النفسية‪ .‬هذه المجموعة التي يديرها‬
‫االختصاصي النفسي على موقع الفيسبوك‪ ،‬ونصحني‬
‫باالنضمام إليها‪.‬‬
‫هالتني أعداد اآلباء واألمهات الموجودة على‬
‫المجموعة‪ .‬وهالتني أكثر أنواع الصدمات النفسية التي‬
‫يتعرض لها األطفال وأسباهبا التي تتنوع بين إهمال األهل‬
‫والتعرض لتجربة‬
‫ّ‬ ‫والتنمر من األصدقاء وزمالء المدرسة‬
‫ّ‬
‫صعبة أو اعتداء‪ .‬لم أكن أدري أن وضع األطفال صار هبذا‬
‫السوء يف عالمنا‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫وبينما أنا أتصفح منشورات هذه المجموعة‪َّ ،‬‬
‫رن جرس‬
‫الباب‪.‬‬
‫من قد يأتينا يف مثل هذا الوقت؟! نظرت من العين‬
‫السحرية ألجد عبد اهلل واق ًفا أمام الباب‪.‬‬
‫شديد بمجرد رؤيته‪ .‬أين كان طوال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بغضب‬ ‫شعرت‬

‫ع‬
‫اليومين الماضيين؟! حسنًا‪ ،‬لن أفتح له الباب‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لكنه استمر يف رن الجرس‪ .‬فاضطررت أن أفتح له‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حتى ال يثير صوت الجرس أعصاب حسن‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫‪-‬حسنًا‪ ،‬ماذا تريد اآلن؟! أين كنت طوال اليومين‬
‫الماضيين؟!‬
‫‪-‬آسف جدًّ ا‪ ،‬لكنني ‪...‬‬
‫‪-‬ال مجال لالعتذارات‪ .‬كيف ترتك ابنك وترتكني‬
‫يومين دون سؤال‪ ،‬ونحن يف هذه الظروف الصعبة!‬
‫هل اكتفيت منَّا اآلن؟!‬
‫‪-‬بالطبع ال‪ .‬ما الذي تقولينه؟!‬
‫‪-‬أين كنت؟ وماذا كنت تفعل إ ًذا؟‬
‫‪-‬كنت أقرأ سيرة الحسن بن علي‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫‪-‬ماذا! تقرأ سيرة َم ْن؟‬
‫‪-‬الحسن بن علي‪ .‬أال تعرفينه؟!‬
‫‪-‬يبدو أنك تمزح اآلن‪ .‬وما عالقة الحسن بن علي‬
‫بحسن ابننا! أم أن هذه كذبة لتحاول إخفاء حقيقة‬
‫غيابك؟! وما هذا الذي تحمله يف يدك؟ وردة‬
‫وحقيبة! ماذا بداخلها؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪-‬بعض الحلوى لحسن‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫‪-‬هل اختفيت يومين لتعود لنا بوردة وبعض‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫الحلوى؟!‬

‫ع‬
‫فجأة انفتح باب غرفة الضيوف‪ ،‬وخرجت منه ماما‬
‫فاطمة مسرعة‪ ،‬وقالت لنا هامسةً‪:‬‬
‫‪-‬ما هذه الضوضاء؟! أال تعلمان أن هناك ً‬
‫طفل بالبيت‬
‫يحتاج إلى بعض الراحة؟!‬
‫‪-‬انظري البنك يا ماما فاطمة‪ .‬يغيب يومين ثم يعود‬
‫بوردة وحلوى‪.‬‬
‫‪-‬جلبت بعض الحلوى لحسن‪ ،‬حتى أصالحه‪.‬‬
‫قالت ماما فاطمة هبدوء‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫حسنًا يا عبد اهلل‪ .‬هذا لطف منك‪ .‬لكن الطبيب نصحنا‬
‫باالعتماد على الطعام الصحي مثل الفواكه والخضراوات‬
‫الطازجة والعصائر الطبيعية‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا يا أمي‪ .‬هل بإمكاين أن ألقي نظرة على حسن؟‬
‫عم الصمت الجميع‪ .‬وأخذت أتبادل النظرات مع ماما‬
‫َّ‬
‫فاطمة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪-‬أرجوكما‪ .‬هذا ابني‪ .‬لم أره منذ يومين‪ .‬وآخر مرة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫رأيته فيها كان هناك حبل غسيل مربوط حول رقبته‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫‪-‬حسنًا‪ .‬بإمكانك أن تدخل‪ .‬لكن إذا شعرت أنه ال‬
‫يرغب يف لقائك ‪...‬‬
‫‪-‬سأخرج من تلقاء نفسي‪ .‬اطمئنا‪.‬‬
‫تركنا عبد اهلل يدخل غرفة حسن‪ .‬وذهبت ماما فاطمة‬
‫تحس ًبا ألي رد‬
‫لتجلس بجوار باب الغرفة من الخارج‪ّ ،‬‬
‫فعل سلبي من حسن‪.‬‬
‫دخلت غرفتي وجلست على طرف السرير‪ .‬وتركت‬
‫العنان لدموعي كي تسيل‪ .‬ال أعلم هل هي دموع الغضب‬
‫من عبد اهلل أم دموع حزن على معاملتي الجافة له؟‬

‫‪89‬‬
‫كانت هذه أول مرة يجلب لي عبد اهلل وردة‪ .‬وأول مرة‬
‫أراه بكل هذه الرقة‪ .‬وأول مرة أرى الدموع محبوسة يف‬
‫تعجبت من هذه التغ ّيرات التي حدثت يف يومين‬‫عينيه‪ّ .‬‬
‫فقط‪.‬‬
‫عبد اهلل الصارم العقالين صار عاطف ًّيا بشكل لم أتوقعه‪.‬‬
‫فما السر وراء ذلك؟!‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫تذكَّرت كالمه عن الحسن بن علي‪ ،‬لكنني لم أفهم‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫ما عالقته بكل هذا‪ .‬لذلك فقد عزمت على قراءة بعض‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫المعلومات عن شخصيته‪ ،‬حتى أعرف أكثر عن الرجل‬

‫ع‬ ‫التحول المفاجئ لعبد اهلل‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫الذي كان سب ًبا يف هذا‬
‫أحضرت رفيقي يف هذه المرحلة‪ ،‬جهاز الالب توب‪.‬‬
‫فتحته‪ ،‬وفتحت متصفح اإلنرتنت‪ .‬وكتبت‪ :‬الحسن بن‬
‫علي‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪90‬‬
‫حسن‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫‪-‬هل هو بخير اآلن؟‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫‪-‬نعم يا ماما فاطمة هو بخير‪ .‬اطمئني‪.‬‬


‫‪-‬تفضلي كوب الماء هذا‪ .‬اشربيه؛ فلونك شاحب‬
‫للغاية‪.‬‬
‫بدأت أسمع أصوا ًتا خافت ًة من حولي‪ .‬كانت يف البداية‬
‫ٍ‬
‫أصوات‪،‬‬ ‫مشوشة‪ ،‬ثم بدأت تتضح شي ًئا فشي ًئا‪ .‬كانوا ثالثة‬
‫ّ‬
‫م ّيزت اثنين منها‪ .‬كان الصوت األول هو صوت جديت‬
‫كثيرا‪ .‬والصوت الثاين هو‬ ‫فاطمة‪ .‬اشتقت للعب معها ً‬
‫العم وائل الطبيب‪ .‬أما الصوت الثالث فهو صوت أنثوي‬
‫لم أعرفه‪ .‬فتحت عيني بالتدريج كأين أخشى أن ُيصيبني‬
‫ضوء الغرفة بالعمى‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫‪-‬لقد فتح عينه يا وائل‪.‬‬
‫إلي جديت‪ .‬استندت بيدها على السرير‪ .‬ثم‬
‫أسرعت َّ‬
‫علي وق ّبلت جبهتي وخدي‪.‬‬
‫انحنت َّ‬
‫‪-‬على رسلك يا ماما فاطمة‪ .‬الولد ما زال يحتاج إلى‬
‫الراحة‪ .‬الحمد هلل على سالمتك يا بطل‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫قالها العم وائل ثم طلب من صاحبة الصوت الثالث‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫‪ -‬التي يبدو من ثياهبا أهنا ممرضة ‪ -‬أن تأيت معه‪ .‬ذهبا إلى‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أحد أركان الغرفة‪ ،‬وتحدّ ثا بكالم خافت لم أسمعه‪.‬‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫جلست جديت على طرف سريري‪ ،‬وهي تمسح‬
‫على وجهي‪ ،‬وتتمتم بكلمات خافتة لم أم ّيزها‪ .‬غال ًبا‬
‫تقرأ بعض آيات القرآن الكريم‪ .‬فهذه هي عادهتا عندما‬
‫أمرض‪ .‬نظرت إليها‪ ،‬ورأيت وجهها ملي ًئا بالدموع‪ .‬أردت‬
‫أن أمسح الدموع عن وجهها‪ ،‬لكنني كنت ُمت َع ًبا بشكل‬
‫يجعلني أعجز حتى عن مجرد رفع يدي‪ .‬أرجو أال يكون‬
‫ما حدث لي قد أ ّثر فيما تبقى من كفاءة عضلة قلبها‪.‬‬

‫بعد أن أهنت تمتمتها‪ ،‬قالت لي‪« :‬سأذهب ألبشر أباك‬


‫بسالمتك وأتحدَّ ث معه ً‬
‫قليل»‪ ،‬وخرجت من باب الغرفة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫جهزت‬
‫انقبض قلبي عندما سمعت كلمة «أباك»‪ .‬فقد كنت ّ‬
‫حالي أنني سأترك الدنيا ولن أراه أو أسمع اسمه ثانيةً‪.‬‬

‫وبينما أنا غارق يف أفكاري‪ ،‬اندفعت أمي من باب‬


‫الغرفة نحوي‪ .‬انحنت فوقي وهي تق ّبلني وتقول‪« :‬حسن‪.‬‬
‫حبيبي‪ .‬لقد ‪.»...‬‬

‫ع‬
‫صرخت بأعلى صويت بشك ٍل ال إرادي‪ ،‬وأنا ُأبعد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جسدي عنها‪ .‬اندفعت الممرضة لتبعدها عني‪ ،‬وتطلب‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فورا من الغرفة‪ .‬خرجت أمي من الغرفة‪.‬‬
‫منها الخروج ً‬

‫والتوز عي‬
‫واندفع العم وائل نحوي‪ً ،‬‬
‫قائل للممرضة‪:‬‬

‫فورا‪.‬‬
‫‪-‬جهزي الحقنة المهدئة ً‬
‫أمسك العم وائل ذراعي‪ ،‬وهو يطمئنني أن كل شيء‬
‫سيكون بخير‪ .‬أعطتني الممرضة الحقنة‪ .‬كنت أشعر‬
‫بتشنج شديد‪ .‬ثم شي ًئا فشي ًئا بدأ التشنج يهدأ حتى غبت‬
‫عن الوعي تما ًما‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪93‬‬
‫(‪)2‬‬

‫شعرت بدفء يف جسدي ووجهي‪ .‬فتحت عيني‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫بالتدريج‪ ،‬فوجدت أشعة الشمس تخرتق الزجاج لتسقط‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫على سريري‪ .‬وجدت جديت تجلس على كرسي بجانب‬
‫سريري‪ ،‬وهي تمسك بمسبحتها التي ال تفارقها‪ .‬تأملت‬
‫كثيرا؛ فرغم عمرها الذي جاوز‬ ‫جديت بتم ُّعن‪ .‬أحبها ً‬
‫الستين ومرضها‪ ،‬فإهنا تسهر بجانبي طوال الليل‪ ،‬حتى‬
‫تدعو لي وتقرأ القرآن‪ .‬القرآن الذي ال أعرف عنه الكثير‪.‬‬
‫فالدين ليس مادة أساسية يف مدرستنا‪ .‬لم أكن أعرف يف‬
‫أي يو ٍم نحن أو كم َّ‬
‫مر من الوقت منذ تلك الليلة الحزينة‪.‬‬

‫انفتح باب غرفتي هبدوء‪ ،‬ودخلت منه الممرضة‪.‬‬


‫وقالت لي‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫‪-‬صباح الخير يا بطلنا‪ .‬إن شاء اهلل تكون أحسن اليوم‪.‬‬
‫اكتفيت أن ابتسمت لها ابتسامة خافتة‪ ،‬فما زلت أشعر‬
‫بإهناك شديد‪.‬‬

‫‪-‬صحيح نسيت أن أعرفك بنفسي‪ .‬أنا الممرضة‬


‫صفية‪ ،‬أو بإمكانك أن تناديني بـ «ماما صفية»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫هززت رأسي‪ ،‬وابتسمت ابتسامة خافتة‪ .‬وسألت‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫نفسي‪ :‬هل يا ُترى لديها أبناء يف مثل عمري؟ وهل تعاملهم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫هبذا الحنان أم أنه من دواعي العمل فقط؟ هل هتتم هبم أم‬

‫ع‬
‫هتملهم مثلما أهملتني أمي؟‬

‫استيقظت جديت على صوت الممرضة‪ .‬ودار بينهما‬


‫حديث خفيف‪.‬‬

‫‪-‬صباح الخير‪ ،‬سيديت‪.‬‬


‫‪-‬ناديني بـ «ماما فاطمة» أحسن‪ .‬فالجميع يناديني هبذا‬
‫اللقب المحبب لقلبي‪.‬‬
‫عذرا لم‬
‫‪-‬حسنًا‪ ،‬يا ماما فاطمة‪ .‬وأنا اسمي صفية‪ً .‬‬
‫أعرفك بنفسي باألمس بسبب ‪...‬‬ ‫ّ‬
‫‪96‬‬
‫قالتها وسكتت‪ ،‬ربما لم ترد أن تذكّرين بما حدث‬
‫باألمس‪.‬‬

‫ثم أكملت قائلة‪:‬‬

‫لك كو ًبا من الشاي يا ماما فاطمة؟‬‫‪-‬هل أعد ِ‬

‫أيضا‬ ‫ِ‬
‫لنفسك ً‬ ‫سمحت‪ .‬وأعدي‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬نعم‪ ،‬يا صف َّية إذا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كو ًبا‪ .‬اعتربي نفسك يف بيتك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫خرجت ماما صفية‪ .‬وجلست جديت على كرسيها‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫تعجبت أي صالة هذه يف هذا‬
‫وأخذت وضعية الصالة‪َّ .‬‬
‫الوقت؟!‬

‫بعد أن انتهت جديت من صالة ركعتين‪ .‬نظرت لي‬


‫متعج ًبا‪ .‬فضحكت وقالت لي‪ :‬هذه صالة‬ ‫ِّ‬ ‫فوجدتني‬
‫الضحى‪ .‬ألم َتر أ ًّيا من والديك يصليها؟‬
‫ُ‬

‫هززت رأسي ناف ًيا‪.‬‬

‫بدا عليها األسف‪ ،‬وقالت‪ :‬هما ركعتان يتم أداؤهما‬


‫عند ارتفاع الشمس يف السماء‪ .‬وهي ليست فريضة بالطبع‪.‬‬
‫فالفرائض خمسة فقط كما تعلم‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫عادت ماما صفية حامل ًة صينية عليها كوبان من الشاي‪،‬‬
‫وكوب من اللبن‪ ،‬وتفاحة‪ .‬أعطت جديت كوب شاي‪ ،‬ثم‬
‫ناولتني كوب اللبن والتفاحة‪ .‬ثم وضعت الصينية‪.‬‬

‫نظرت لي وقالت‪:‬‬

‫‪-‬أمك استأذنتني أن تدخل هي بكوب اللبن لك‪،‬‬


‫أول‪ .‬هل أنت مستعد‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫لكنني أحببت أن أسألك ً‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫لرؤيتها؟ هي تقول لك إهنا تحبك جدًّ ا‪ ،‬وتتمنى أن‬

‫وال‬ ‫ر‬ ‫ش‬


‫توزيع‬
‫تأخذك يف حضنها‪.‬‬
‫لم أرد‪ .‬فلم أكن أعلم الجواب‪ .‬هل أنا ً‬
‫فعل مستعد‬
‫لرؤيتها اآلن أم أين سأصرخ كما فعلت باألمس؟‬

‫تولت جديت الرد عني‪:‬‬

‫‪-‬حسنًا‪ ،‬دعي الرجل يرتاح اآلن‪ .‬وليقابل أمه غدً ا‪،‬‬


‫أيضا يحبها‪ .‬أليس‬
‫حتى يكون بكامل صحته‪ .‬هو ً‬
‫كذلك يا بطلي؟‬
‫لم أرد بلساين‪ ،‬لكنني رددت بقلبي‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫أيضا‪ .‬وأعلم أهنما يحباين‪ .‬لكن‬
‫نعم أحبها‪ ،‬وأحب أبي ً‬
‫ما فائدة الحب دون التعبير عنه؟! والتعبير عن الحب ليس‬
‫فقط بالمدرسة الدولية ذات المصروفات الغالية‪ ،‬وال‬
‫بالهاتف الحديث‪ ،‬وال بجهاز الـ ‪ play station‬كما يظن‬
‫أبي‪ .‬وليس فقط بالفطور المقدّ م يف الـ ‪ ،lunch box‬وال‬
‫يف كوب اللبن قبل النوم كما تظن أمي‪ .‬بل يف االهتمام‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫والرعاية واللعب والكالم معي حتى يف أموري التافهة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ومشاركتي ما أحب‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫لقد فعلت ما فعلته من أجل لفت انتباههما إلى‬
‫احتياجي الهتمامهما‪ .‬عنادي‪ ،‬وإهمالي لمذاكريت‪،‬‬
‫ورسوبي‪ ،‬وإقدامي على التخلص من حيايت‪ ،‬كانت كل‬
‫هذه وسائل للتعبير عن حاجتي الهتمامهما ورعايتهما‪.‬‬
‫ً‬
‫مشغول بعمله وتحقيق ذاته‪ .‬ألست‬ ‫لك َّن كلًّ منهما كان‬
‫دائما؟!‬
‫جز ًءا من ذاهتما؟! ألست قطعة منهما كما يقوالن ً‬
‫حاولت أن أوقف سيل هذه األفكار يف رأسي؛ عسى‬
‫أن أحصل على بعض الراحة‪ .‬رفعت كوب اللبن لفمي‬
‫وارتشفت منه رشفةً‪ .‬ثم قررت أن ُأنصت للحديث الدائر‬
‫‪99‬‬
‫بين جديت وماما صفية حول البيت واألطفال واألسعار‬
‫وأحوال البلد والعمل والخضراوات والفواكه وكل‬
‫شيء‪ .‬كنت مستمت ًعا بحوارهما رغم عدم اهتمامي بما‬
‫ُيقال‪ .‬لكنني كنت سعيدً ا هبذا الجو الدافئ الذي لم أنعم‬
‫والدي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫به مع‬

‫عصري الكت ‪G‬‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬

‫‪100‬‬
‫(‪)3‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يف اليوم التالي‪ ،‬استيقظت مرتاحا إلى ٍ‬

‫ري‬
‫حد ما‪ .‬فقد كان‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ً‬
‫أثر كبير‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫للجو الدافئ الذي غمرتني به جديت وماما صفية ٌ‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يف هدوء نفسي‪ .‬استيقظت ألجد جديت نائم ًة يف كرسيها‬
‫كاألمس‪ .‬بينما لم تكن ماما صفية قد جاءت بعد؛ فهي‬
‫تذهب إلى بيتها مسا ًء بعد أن أنام‪ ،‬وتأيت يف الصباح‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لفرتة‬ ‫كان جسدي قد أتعبني بسبب نومي يف السرير‬
‫ٍ‬
‫طويلة‪ ،‬لذلك فقد قررت أن أخرج منه‪ ،‬وأقف أمام النافذة‪،‬‬
‫حتى أستمتع هبواء الصباح النقي وشمسه الدافئة‪ .‬وبعد أن‬
‫براحة يف جسدي وروحي‪ .‬جال بخاطري أن أفعل‬ ‫ٍ‬ ‫شعرت‬
‫مثلما فعلت جديت باألمس‪ ،‬أن أصلي الضحى‪.‬‬

‫خرجت من غرفتي للمرة األولى منذ تلك الليلة‬


‫الحزينة‪ .‬تأملت الردهة وغرفة أبي وأمي دقيقةً‪ .‬كأين أنتظر‬
‫‪101‬‬
‫أي منهما منها‪ .‬لكن هذا لم يحدث‪ .‬فأكملت‬ ‫أن يخرج ُ‬
‫توضأت‪ ،‬وعدت إلى غرفتي سري ًعا‪.‬‬ ‫طريقي نحو الحمام‪ّ .‬‬
‫يدي‪ ،‬وقلت‪ :‬اهلل أكرب‪ .‬كانت‬
‫استقبلت القبلة‪ ،‬ثم رفعت َّ‬
‫أول كلمة أنطق هبا منذ الليلة الحزينة‪.‬‬

‫دائما ما يقولون لنا يف‬


‫أجربه‪ً .‬‬
‫شعورا غري ًبا أول مرة ّ‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫صغرنا إننا يجب أن نصلي الخمس صلوات‪ ،‬حتى يرضى‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫عنَّا اهلل‪ ،‬و ُيدخلنا الجنة‪ ،‬وال ُيدخلنا النار‪ .‬فكانت الصالة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عندي كالواجب المدرسي‪ ،‬يجب أن أؤديها سواء رغبت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫أم ال‪ .‬أما اآلن فإنني أصلي برغبتي‪ .‬لم أستطع أن أحدد‬

‫ع‬ ‫مريحا على أي حال‪.‬‬


‫ً‬ ‫شعوري هذا‪ ،‬لكنه كان‬

‫بعد أن أهنيت صاليت‪ ،‬وجدت جديت مستيقظة يف‬


‫إلي مبتسمةً‪ ،‬وهي تتمتم كعادهتا‪ .‬ألقيت‬
‫كرسيها وتنظر َّ‬
‫كثيرا حتى بللت‬
‫ً‬ ‫بنفسي تلقائ ًّيا يف حضنها‪ ،‬وبكيت‬
‫صدرها بالدموع‪ .‬ازداد شعوري بالراحة بعد أن بكيت‪.‬‬
‫الحزن كانت جاثمة على صدري‪ ،‬ثم فتتها‬
‫كأن صخر ًة من ُ‬
‫سيل الدموع وجرفها خارج جسدي‪.‬‬
‫بعد أن توقفت دموعي‪ ،‬أخرجت رأسي من حضن‬
‫جديت‪ ،‬وابتسمت لها‪ .‬فوجدت الدموع تغرق وجهها‬
‫‪102‬‬
‫أيضا‪ .‬بعد أن مسحنا دموعنا‪ ،‬وصلت ماما صفية‪ .‬دخلت‬ ‫ً‬
‫مبتسم ًة كعادهتا‪ .‬اندهشت من وجودي خارج سريري‪،‬‬
‫لكنها ابتسمت سري ًعا فامتزجت ابتسامتها بنظرة الدهشة‪.‬‬
‫ثم قالت‪:‬‬

‫‪-‬صباح الخير‪ .‬يبدو أن بطلنا صار أفضل بكثير اآلن‬


‫الحمد هلل‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫ردت عليها جديت‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪-‬نعم يا صفية‪ .‬هي بركة صالة الضحى‪ .‬ما رأيك أن‬
‫ُتحضري الفطور لهذا البطل؟‬
‫‪-‬بالتأكيد‪ .‬وسنضيف إليه اليوم بيض ًة وقطعة عيش‬
‫بالجبن مكافأة له على نشاطه‪.‬‬
‫ُ‬
‫خرجت ماما صفية من الغرفة‪ ،‬ثم بعد ربع الساعة‬
‫سمعنا طرقات على باب الغرفة‪.‬‬

‫قالت جديت‪:‬‬

‫‪-‬ادخلي يا صفية‪.‬‬
‫انفتح الباب‪ ،‬لكنها لم تكن ماما صفية‪ ،‬بل كانت أمي‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫نظرت لي جديت بقلق‪ ،‬خشية أن أصرخ كما فعلت يف‬
‫ناظرا نحو‬
‫المرة الماضية‪ .‬لكنني لم أفعل‪ .‬بل بقيت صامتًا ً‬
‫أمي بدون أي تعبير على وجهي‪.‬‬

‫وعندما اطمأنت جديت لهدوئي‪ ،‬وعدم صراخي قالت‪:‬‬

‫‪-‬ادخلي يا فريدة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫دخلت أمي‪ ،‬وضعت صينية الفطور على الطاولة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫ووقفت صامتة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫وال‬
‫قالت جديت‪:‬‬

‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬سأترككما م ًعا‪ ،‬وأذهب ألتوضأ وأصلي‬


‫الضحى يف غرفة الضيوف‪.‬‬
‫خرجت وأغلقت الباب خلفها‪.‬‬

‫اقرتبت مني أمي بحذر‪ ،‬كأين سيارة مفخخة تخشى أن‬


‫كثيرا ما أسمع لفظ سيارة مفخخة‬
‫تنفجر يف وجهها فجأة‪ً .‬‬
‫يف نشرات األخبار‪ .‬وبعد أن وقفت أمامي تما ًما‪ ،‬اهنمرت‬
‫بقوة‪ .‬غصت يف حضنها‬ ‫الدموع من عينيها‪ .‬ثم احتضنتني ٍ‬
‫تما ًما‪ .‬كانت تبكي وهي ترتعش وتنتفض‪ .‬كنت أسمع‬
‫صوت دقات قلبها المتسارعة‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫قالت لي من بين أنفاسها المتقطعة‪:‬‬

‫‪-‬حسن ‪ ...‬ابني ‪ ...‬حبيبي‪ .‬كدت أن أفقدك يا روح‬


‫قلبي‪ .‬آسفة على كل شيء‪ .‬آسفة على عدم فهمي‬
‫وعدم اهتمامي‪ .‬يعلم اهلل كم أحبك وأنني مستعدة‬
‫أن أضحي بروحي من أجلك‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شديد‪.‬‬ ‫ثم سكتت واهنارت يف ٍ‬
‫بكاء‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫لم أرد عليها‪ .‬لكنني قلت لها يف نفسي‪« :‬هل كان‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫األمر يتطلب أن أرسب يف االمتحانات‪ ،‬وأؤذي نفسي‬

‫والتوز عي‬
‫حتى تعلمي أن أحتاج إلى هذا الحضن‪ ،‬هذا الكالم‪ ،‬هذا‬
‫أيضا أحبك‪.‬‬
‫االهتمام‪ ،‬هذا الشعور‪ .‬ال تقلقي يا أمي‪ ،‬أنا ً‬
‫فقط ال أرغب يف الكالم اآلن‪ .‬أرغب فقط يف هذا ِ‬
‫العناق»‪.‬‬

‫كان هذا ثاين ِعناق أحصل عليه يف غضون نصف‬


‫الساعة‪ .‬شعرت حينها هبدوء داخلي كبير‪ .‬كانت مساحة‬
‫الهدوء تتمدد لتستولي على مساحة الحزن‪ .‬ال أعلم لماذا‬
‫يبخل الناس على أحباهبم بمشاعرهم وعناقهم؟! هل‬
‫ينبغي أن نفقد أحبابنا حتى نتذكر حينها كم كنا نحبهم؟!‬
‫لو أن محاولتي نجحت يف الليلة الحزينة لكانت اآلن أمي‬
‫تحتضن جسدي الخالي من الحياة الممدد على األرض‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫بعد أن هدأت أمي‪ ،‬أمسكت رأسي وأخرجته من‬
‫صدرها‪ ،‬ورفعتها نحو رأسها‪ .‬ق ّبلتني على جبهتي‬
‫وخدي‪ ،‬وأخذت تتأمل وجهي ثم قالت‪« :‬فليتناول البطل‬
‫فطوره» وصفقت بيديها كأهنا تستحضر عفريت المصباح‬
‫السحري‪ .‬وأمسكت الصينية وضعتها على رجلها‪ ،‬ثم‬
‫بدأت تضع لي الطعام يف فمي وهي مبتسمة‪ ،‬وما زال‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وجهها ملي ًئا بآثار الدموع‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫فتحت هذه الجرعة الكبيرة من الحنان واالهتمام‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫شهيتي للطعام‪ .‬فتناولت الفطور إال ً‬
‫قليل‪ .‬فقالت أمي‪:‬‬

‫ع‬
‫«ومكافأة لبطلنا الهمام على تناوله الفطور‪ ،‬فقد أحضرت‬
‫له هدية أرجو أن تعجبه»‪ .‬ذهبت نحو باب غرفتي‪،‬‬
‫أحضرت حقيبة قد وضعتها بجانب الباب من الخارج‪،‬‬
‫ثم أغلقت الباب ثانيةً‪.‬‬

‫جلست على طرف السرير بجانبي‪ .‬وضعت الحقيبة‬


‫على رجلها وفتحتها‪ .‬أخرجت منها كراسة رسم كبيرة‬
‫‪ Sketch‬ومجموعة أقالم رصاصية وملونة‪ ،‬والمجموعة‬
‫الكاملة ألدوات الرسم مثل‪ :‬الممحاة والمسطرة وغيرها‪.‬‬
‫وقالت‪:‬‬

‫‪106‬‬
‫‪-‬كنت قد وعدتك هبذه الهدية يف حال نجاحك‪.‬‬
‫لكنني قد اكتشفت خطئي‪ ،‬فسواء نجحت أم ال‪ ،‬فال‬
‫ينبغي أن أحرمك من هوايتك التي تحبها‪ .‬سأظل‬
‫أدعمك حتى تصير أشهر رسام يف العالم‪ .‬ابتسمت‬
‫لها‪ .‬فأمسكت وجهي ثانية وق ّبلت جبهتي‪ ،‬وهمست‬
‫يف أذين‪« :‬أحبك جدًّ ا‪ .‬سأتركك اآلن حتى تأيت لك‬

‫ع‬
‫األفكار الملهمة‪ ،‬فأنا أعرفك تحب أن تكون‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بمفردك عندما ترسم»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ثم حملت صينية الفطور‪ ،‬وخرجت‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫أمسكت أدوات الرسم أتحسسها وأتأملها بسعادة‪.‬‬
‫أخيرا صار عندي ورشة رسم صغيرة خاصة بي‪ .‬بدأت‬ ‫ً‬
‫رن جرس الباب‪ .‬سمعت‬ ‫أفكر فيما أرسم‪ .‬لكن فجأة َّ‬
‫بعدها أصوا ًتا عالي ًة يف الخارج‪ ،‬ثم خفتت‪ .‬بعد ذلك‬
‫سمعت صوت طرق على الباب‪ .‬انفتح الباب ببطء ألجد‬
‫أبي أمامي‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫‪G‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد أن فتحت باب غرفة حسن‪ ،‬وقفت عند عتبة الباب‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ولم أدخل‪ .‬كنت خائ ًفا من رد فعله‪ .‬هل سيصرخ؟ هل‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫سيبكي؟ هل سيركض نحوي؟ ال أعلم‪ .‬وقفت ونظرت‬
‫أيضا ينظر لي‪ ،‬لكن بال تعبير على‬
‫يف عينيه مباشرةً‪ .‬ألجده ً‬
‫وجهه‪ .‬دخلت الغرفة ببطء‪ ،‬وأغلقت الباب خلفي‪.‬‬

‫اقرتبت من سريره ببطء‪ ،‬كأنني أتوقع منه أن يصرخ‬


‫يف وجهي فجأة‪ ،‬لكنه حافظ على هدوئه‪ .‬غريب أمر‬
‫هذا الطفل‪ ،‬كيف يستطيع أن ُيبقي وجهه هكذا خال ًيا من‬
‫التعبيرات؟!‬

‫جلست على طرف سريره صامتًا‪ .‬حقيق ًة أنا لم ّ‬


‫أجهز‬
‫وأخيرا‬
‫ً‬ ‫شي ًئا ألقوله‪ .‬فقط أردت أن أكون بقربه‪ .‬أن أتأمله‪.‬‬
‫وبعد الكثير من المحاوالت المضنية‪ ،‬تكلمت بحذر‪:‬‬
‫‪109‬‬
‫‪-‬كيف حالك يا حسن؟‬
‫لم يرد بالطبع‪ .‬فقد تو َّقعت ذلك‪.‬‬

‫ال أعلم ما األنسب يف هذه الحاالت‪ .‬هل أحتضنه؟‬


‫ً‬
‫محاول تلطيف‬ ‫هل أتحدث معه بجدية؟ أم أمزح ً‬
‫قليل‬
‫األجواء بيني وبينه؟ يف النهاية قررت أن أتقمص شخصية‬

‫ع‬
‫األب التي لم ُأتقنها من قبل‪ ،‬وأتحدث معه ً‬

‫ص‬
‫رجل لرجل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫نعم‪ ،‬فللمرة األولى أنتبه أن ابني لم يعد الطفل الصغير‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الذي ُتسعده قطعة حلوى‪ .‬لقد صار أكرب من هذا‪ ،‬خاصة‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫مر هبا‪ .‬لذلك فقد قررت أن‬‫بعد التجربة المريرة التي َّ‬
‫نفسا عمي ًقا‬
‫أطلق العنان لعقلي ولساين ليرتجال‪ .‬أخذت ً‬
‫ثم قلت‪:‬‬

‫‪-‬حسن‪ ،‬أعلم أن كل كلمات الدنيا ال تكفي لالعتذار‬


‫عما حدث‪ .‬ما مررت به كان رهي ًبا بحق‪ .‬كنت‬
‫صار ًما معك بشكل كبير‪ .‬لكن يعلم اهلل أين فعلت‬
‫هذا كله بدافع الحب‪ .‬ربما كنت أفهم الحب بشكل‬
‫خاطئ‪ ،‬أو باألصح ال أفهمه على اإلطالق‪ .‬كنت‬
‫أظن أنني عندما أقسو عليك فإنك بذلك ستنشأ‬

‫‪110‬‬
‫قو ًّيا ال تكسرك الدنيا‪ .‬لكن لألسف كنت أنا من‬
‫كسرتك‪ .‬لكن صدقني‪ ،‬لقد تعلمت الدرس جيدً ا‪.‬‬
‫درسا قاس ًيا للغاية علينا جمي ًعا‪ .‬لكن المهم‬
‫لقد كان ً‬
‫أن نتعلم منه‪ ،‬وال نكرر أخطاءنا‪.‬‬
‫أخرجت ورق ًة صغير ًة من جيبي‪ ،‬الورقة التي تركها‬
‫حسن بجانبه يف تلك الليلة الحزينة‪ ،‬وقلت له‪ :‬واعلم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جيدً ا‪ ،‬إن كان هناك فاشل يف هذه الغرفة‪ ،‬فهو أنا بالتأكيد‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ر‬
‫حقيقة‪ :‬أحبك جدًّ ا يا بني‪.‬‬ ‫بلهفة‬ ‫سكت برهة ثم قلت‬
‫ُّ‬

‫والتوز عي‬
‫بدأ صويت يختنق‪ ،‬وعضالت وجهي تتقلص‪ .‬لم أستطع‬
‫أن أتمالك نفسي أكثر من هذا‪ .‬فأطلقت سراح دموعي‪،‬‬
‫ٍ‬
‫شخص‪.‬‬ ‫كي تنهمر بشدة‪ .‬كانت هذه أول مرة أبكي أمام‬
‫ويشاء اهلل أن يكون هذا الشخص هو ابني‪ .‬ألقيت بنفسي‬
‫كثيرا حتى بللت صدره‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬وأنا أبكي وأنتحب‪ .‬بكيت ً‬
‫بعد أن انتهيت من البكاء‪ ،‬رفعت وجهي‪ .‬نظرت إليه‪.‬‬
‫أتعجب من هذا‪.‬‬
‫كانت عالمات الدهشة تعلو وجهه‪ .‬لم ّ‬
‫لطالما أخربته أن الرجل ال يبكي‪ ،‬ثم ها أنا أبكي بحرقة‬
‫بين يديه‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫نظرت إليه‪ ،‬ومسحت على شعره‪ .‬نظرت إليه بتم ّعن‪.‬‬
‫شعرت كأنه كرب فجأة‪ .‬طفلي الصغير صار على أعتاب‬
‫مرحلة المراهقة‪ .‬شعرت كأين أنظر لنفسي‪.‬‬

‫أمسكت حقيبة الحلوى‪ ،‬وقلت له‪:‬‬

‫‪-‬كنت قد أحضرت لك بعض الحلوى التي تحبها‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لكن جدتك أخربتني أن وائل منعك عنها‪ .‬حسنًا‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫هذا أفضل‪ ،‬فالحلوى ضارة على أي حال‪ .‬لكني‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫أحضرت لك شي ًئا آخر‪.‬‬

‫ع‬
‫أدخلت يدي يف الحقيبة‪ ،‬وأخرجت منه رزمة من‬
‫األوراق‪ .‬وضعتها بجانبه على الطاولة‪ .‬لمحت كراسة‬
‫وأدوات رسم جديدة بجانبه على السرير‪ .‬ابتسمت وقلت‬
‫له‪:‬‬

‫‪-‬حسنًا‪ ،‬يبدو أن أمك قد سبقتني وأحضرت أدوات‬


‫الرسم‪ .‬لكني قد أحضرت لك شي ًئا آخر أرجو أن‬
‫تحبه‪ .‬رزمة األوراق هذه هي بداية كتاب جديد‬
‫بدأت أكتبه‪ .‬ألم أقل لك إن الكثير من األمور قد‬
‫تغ َّيرت! لقد عدت إلى القراءة والكتابة ثانيةً‪ .‬وهذا‬
‫‪112‬‬
‫بفضلك‪ ،‬وبفضل ما فعلت‪ ،‬وبفضل هذا الشخص‬
‫الذي أكتب عنه اآلن‪ .‬لقد غ ّيرت حياتنا دون أن‬
‫تدري‪ .‬أرجو أن تقرأ هذه األوراق‪ ،‬وتخربين رأيك‬
‫فيها‪ .‬فنحن اآلن أصدقاء‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫نظر لي دون أن يتكلم‪ .‬لكن تعبيرات وجهه كانت‬
‫هادئة‪ ،‬وهو ما أراحني نسب ًّيا‪ .‬على األقل لم يرفض‬
‫قائل‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وجودي‪ .‬فأكملت كالمي ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪-‬يبدو عليك اإلرهاق‪ .‬ال أريد أن أكون ً‬
‫ثقيل عليك‪.‬‬

‫والتوز عي‬
‫دائما‬
‫قليل‪ .‬لكن أعلم جيدً ا أنني ً‬‫سأتركك ترتاح ً‬
‫دائما عند حسن ظنك‪.‬‬ ‫موجود ألجلك‪ .‬وسأكون ً‬
‫سأعود لك غدً ا إن شاء اهلل‪ ،‬حتى أطمئن عليك‪،‬‬
‫ونتناقش فيما قرأت‪ .‬صحيح‪ ،‬نسيت أن أخربك أن‬
‫بطل الكتاب يحمل نفس اسمك‪ .‬أو باألصح أنت‬
‫تحمل نفس اسمه‪ ،‬فهو أول من ُس ّمي يف العرب به‪.‬‬
‫اقرتبت منه واحتضنته بعمق‪ ،‬ثم ق ّبلت جبهته‪ .‬وهمست‬
‫يف أذنه‪:‬‬

‫‪ -‬أحبك يا ابني‪ ،‬ويا صديقي‪.‬‬


‫‪113‬‬
‫شعرت برعشة سرت يف جسدي وجسده‪ ،‬لكن لم‬
‫يرد‪ .‬اقرتبت من باب الغرفة وأنا أتلكأ‪ .‬ربما كنت أنتظره‬
‫أيضا أحبك يا أبي»‪ .‬لكنه لم يفعل‪.‬‬ ‫أن يقول لي‪« :‬وأنا ً‬
‫خرجت من الغرفة‪ ،‬وأغلقت الباب خلفي‪.‬‬

‫نفسا عمي ًقا‪ .‬ذهبت‬


‫بعد أن خرجت من الغرفة‪ ،‬أخذت ً‬
‫إلى غرفة الضيوف‪ .‬كانت أمي جالسة على األريكة‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بينما لم أجد فريدة‪ .‬أشارت لي أمي أن أجلس بجوارها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫جلست وأنا أتجنّب النظر إليها‪ .‬ابتسمت لي‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬
‫إلي مثلما كنت تفعل وأنت صغير‬ ‫‪-‬تتجنّب النظر َّ‬
‫عندما تفعل شي ًئا ُيغضبني‪ .‬لكنك اآلن لم تعد‬
‫صغيرا حتى أعنّفك أو أضربك‪ .‬بل صرت أ ًبا لفتى‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫صغير على مشارف مرحلة المراهقة‪.‬‬
‫رفعت يدها نحو وجهي‪ ،‬فوضعت يدي على خدي‬
‫بشك ٍل تلقائي‪ .‬تذكّرت ما حدث آخر مرة‪ .‬لكنها ضحكت‬
‫وأبعدت يدي عن خدي‪ ،‬ثم مسحت عليه وق ّبلته‪.‬‬
‫فأمسكت يدها وق ّبلتها‪ ،‬وقلت لها‪:‬‬

‫‪-‬آسف جدًّ ا يا أمي‪ .‬لقد خذلتك‪ .‬سامحيني‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫دائما ما‬
‫‪-‬سامحتك يا بني من قبل أن تعتذر‪ .‬األم ً‬
‫تسامح أوالدها حتى إن لم يعتذروا‪ .‬المهم أن تكون‬
‫تعلمت مما حدث‪ .‬فارق كبير يا بني بين الحزم‬
‫صغيرا حتى ُتسرف‬
‫ً‬ ‫والقسوة‪ .‬وابنك اآلن لم يعد‬
‫يف عقابه أو تحاول التح ّكم به‪ .‬وقد رأيت ما صنع‬
‫بنفسه عندما فاض الكيل به‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫درسا قاس ًيا‪،‬‬
‫‪-‬لقد تعلمت الدرس تما ًما يا أمي‪ .‬كان ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لكنه غ َّير نظريت للكثير من األمور‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫وال‬
‫‪-‬هل تكلمت مع حسن؟‬
‫علي‪ .‬لكنه على األقل لم يصرخ يف‬
‫‪-‬نعم‪ .‬لم يرد َّ‬
‫وجهي كما كنت أخشى‪.‬‬
‫‪-‬اطمئن يا بني‪ .‬سيلين معك بالتدريج‪ ،‬وتكون األمور‬
‫أحسن مما كانت‪.‬‬
‫‪-‬إن شاء اهلل‪ .‬لقد أعطيته رزمة أوراق كتبتها عن اإلمام‬
‫الحسن بن علي؛ فأنا أقرأ سيرته حال ًّيا‪.‬‬
‫‪-‬الحسن بن علي! ولماذا هو تحديدً ا من بين كل‬
‫الصحابة الكرام؟‬

‫‪115‬‬
‫‪-‬ال أعرف تحديدً ا‪ .‬عندما بدأت أقرأ سيرته يف البداية‬
‫كنت أنوي كتابة كتاب أو رواية عنه فقط من باب‬
‫الرتويح عن نفسي‪ .‬أما اآلن فالوضع صار مختل ًفا‪،‬‬
‫صرت أشعر أنني مرتبط روح ًّيا به‪ .‬كأن بيننا راب ًطا‬
‫خف ًّيا يمر عرب القرون‪.‬‬
‫يقر اهلل عينك بحسن ابنك‪ ،‬وتراه مثل‬
‫‪-‬إن شاء اهلل ّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الحسن بن علي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫‪ -‬أرجو هذا‪ .‬وسأسعى له بكل وقتي وجهدي‪ .‬وماذا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫عن فريدة؟ أين هي اآلن؟‬

‫ع‬
‫‪-‬يف غرفتها‪ .‬اتركها ترتاح ً‬
‫قليل‪ .‬وحاول أن تصلح‬
‫األمور بينكما يف األيام المقبلة‪ .‬هي تحبك‪.‬‬
‫اتسعت عيناي‪ ،‬وقلت بلهفة‪ :‬ح ًّقا‪ .‬هل هي من أخربتك‬
‫بذلك؟‬
‫ضحكت أمي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪-‬لم تقل‪ .‬لكن أنا امرأة عجوز وأعرف المرأة عندما‬
‫تحب‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا‪ .‬هل تسمحين لي بالبقاء يف المنزل هنا أم أعود‬
‫لبيت أبي؟‬
‫‪116‬‬
‫ابق هنا‪ .‬حتى تكون بجانب ابنك وزوجتك‪.‬‬ ‫‪-‬بل َ‬
‫بإمكانك المبيت هنا يف غرفة الضيوف حتى تعود‬
‫األمور لمسارها الطبيعي بينك وبين فريدة‪ .‬واطمئن‪،‬‬
‫أنا سأسعى للصلح بينكما‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا يا أمي‪ .‬ال أعرف كيف أشكرك على كل ما‬
‫تفعلينه من أجلنا‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪-‬تشكرين بأن تعدين باالعتناء بابنك وزوجتك‪ .‬وتقدّ م‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مصلحتهما على أي شيء آخر‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪-‬أعدك يا أمي‪.‬‬

‫‪G‬‬

‫‪117‬‬
‫الحسن بن علي‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪-‬مات رسول اهلل ‪ ...‬مات رسول اهلل‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫هكذا جاء صوت زوجة جدي السيدة عائشة من‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫حجرهتا خلف المسجد‪ُ .‬ذهل الناس من وفاة جدي‪،‬‬
‫كأهنم تو ّقعوا بقاءه معهم أبدً ا‪ .‬رأيت أبي يومها قد قعد‬
‫مكانه يف المسجد غير مصدق‪ .‬وأجهش الجميع بالبكاء‪.‬‬
‫شاهرا سيفه مهد ًدا كل من يقول‬ ‫ً‬ ‫وقف عمر بن الخطاب‬
‫بوفاة جدي بأنه سيقطع رأسه‪ .‬بينما دخل أبو بكر الصديق‬
‫قائل‪« :‬من كان يعبد‬ ‫على جدي ثم خرج من عنده باك ًيا ً‬
‫محمدً ا فإن محمدً ا قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد اهلل فإن اهلل حي‬
‫ال يموت»‪ .‬فبدأ الناس يعودون إلى رشدهم بالتدريج‪.‬‬

‫صلى الناس على جدي جماعات دون إمام‪ .‬صلى‬


‫عليه الرجال ً‬
‫أول‪ ،‬ثم النساء‪ ،‬ثم نحن ‪ -‬األطفال ‪ .-‬كان‬
‫علي‪ .‬فبينما يبكي الناس رسول اهلل ﷺ‪،‬‬
‫الموقف رهي ًبا َّ‬
‫‪119‬‬
‫أبكي أنا جدي الحبيب‪ .‬بعد الصالة عليه‪ ،‬ذهب أبي مع‬
‫بعض الرجال‪ ،‬ليقوموا بدفن جدي يف نفس مكان وفاته‪،‬‬
‫يف حجرة السيدة عائشة‪.‬‬

‫لو كان الحزن خارج بيتنا قيرا ًطا‪ ،‬فإن الحزن داخل بيتنا‬
‫كان ألف ألف قيراط‪ .‬لم َأر أمي ضاحكة منذ ذلك اليوم‪.‬‬

‫ع‬
‫وكان حزن أبي حزنين‪ :‬حزن على وفاة رسول اهلل وابن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عمه ووالد زوجته‪ ،‬وحزن على حزن أمي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫رحيما بأمي‪ ،‬فقد رحلت عن الدنيا بعد‬ ‫ً‬ ‫لكن اهلل كان‬

‫ع‬
‫وفاة جدي ببضعة أشهر‪ .‬وهكذا فقدت جدي وأمي يف‬
‫غضون ستة أشهر تقري ًبا‪ .‬ووجد أبي نفسه وحيدً ا مع أربعة‬
‫الح ّسين وأختاي زينب وأم كلثوم‪ .‬لكنه‬ ‫أطفال‪ :‬أنا وأخي ُ‬
‫صابرا قو ًّيا حنونًا فأحسن تربيتنا على أكمل وجه‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان‬

‫كانت األعوام التالية أعوا ًما مصيري ًة يف حياة اإلسالم‪،‬‬


‫حريصا على إطالعنا على كل أخبار اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫فقد كان أبي‬
‫رغم صغر سننا‪ .‬كان يعتربنا إخوته الصغار وليس مجرد‬
‫أبنائه‪ .‬وهو ما كان له أكرب األثر يف تشكيل شخصياتنا‬
‫القيادية التي ستتخذ قرارات مصيرية فيما بعد‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫فبعد وفاة جدي‪ ،‬ارتدت قبائل كثيرة من العرب‬
‫عن اإلسالم‪ .‬بل إهنم قد حاولوا الهجوم على المدينة‬
‫المنورة؛ للقضاء على اإلسالم يف عقر داره‪ .‬فأرسل أبو‬
‫بكر الصديق ‪ -‬وقد صار قائدً ا للمسلمين بعد جدي ‪-‬‬
‫الجيوش للقضاء على هذه القالقل‪ .‬وبعد ذلك تم ّكن‬
‫التوسع‬
‫ّ‬ ‫المسلمون من القضاء على الفتنة هنائ ًّيا‪ ،‬بدأوا يف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ً‬
‫شمال جهة الشام والعراق‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬فقد رحل إلى‬ ‫لكن خالفة أبي بكر لم تستمر‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫الحكم‪ .‬وخلفه يف الحكم‬ ‫جوار ربه بعد عامين تقري ًبا يف ُ‬
‫عمر بن الخطاب‪ .‬كان عمر شديد الحب لنا‪ .‬فقد كان‬
‫أبي من كبار مستشاريه‪ .‬كان يستشيره يف الكثير من األمور‬
‫الفقهية والسياسية مثل ذهابه الستالم مدينة بيت المقدس‬
‫من الروم‪.‬‬

‫أذكر أنه يف أحد األيام قد جاءته مالبس من اليمن‪،‬‬


‫وفرقها عليهم‪ .‬ثم رآين‬
‫فاجتمع الناس إليه يف المسجد ّ‬
‫الح َسين ولم نأخذ من المالبس شي ًئا‪ .‬فأرسل‬
‫أنا وأخي ُ‬
‫إلى واليه يف اليمن يأمره أن يرسل إليه مالبس جديدة على‬
‫وجه السرعة‪ .‬فكساين هبا أنا وأخي‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫وقد ّتوج ُع َمر هذه العالقة القوية بالزواج من أختي أم‬
‫كلثوم‪ ،‬وأنجبت له زيدً ا ورقية‪.‬‬

‫ويف عهد ُعمر انطلقت الجيوش اإلسالمية شر ًقا وغر ًبا‬


‫تفتح البالد الواحدة تلو األخرى‪.‬‬

‫ونتيج ًة التساع رقعة اإلسالم‪ ،‬فقد زاد عدد المبغضين‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫خصوصا من الفرس والروم الذين أزال ُع َمر دولهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ل ُع َمر‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫فقام أحد موالي الفرس و ُيد َعى أبو لؤلؤة المجوسي بطعن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ُع َمر يف أثناء إمامته للناس يف المسجد النبوي‪ .‬لتنتهي هبذا‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫عشرة أعوام زاهرة من ُحكم الفاروق‪.‬‬

‫لكن قبل وفاته كان قد حدَّ د ستة من كبار الصحابة‬


‫الختيار خليفة من بينهم‪ ،‬كان من بينهم أبي‪ .‬وانحصر‬
‫االختيار يف النهاية بين أبي وعثمان بن عفان‪ .‬ثم استقر‬
‫الرأي يف النهاية على عثمان‪.‬‬

‫كنت قد جاوزت العشرين من عمري يف بداية عهد‬


‫أخيرا بااللتحاق بالجيش اإلسالمي‪.‬‬ ‫عثمان‪ِ .‬‬
‫فسمح لي ً‬ ‫ُ‬
‫فقد كانت هذه أمن ّيتي منذ الصغر‪ ،‬أن ُأجاهد يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫كانت البداية حين أرسل عبد اهلل بن سعد بن أبي السرح‬

‫‪122‬‬
‫إلى عثمان بن عفان يطلب منه إمداده بجيش من المدينة‬
‫للمشاركة يف فتح إفريقية‪ .‬فبعث عثمان ً‬
‫جيشا من الصحابة‬
‫الح َسين وغيرنا الكثير‪.‬‬
‫وأبنائهم‪ .‬كنت فيهم أنا وأخي ُ‬
‫ففتحها اهلل على أيدينا‪.‬‬

‫وجهنا عثمان لالنضمام لجيش سعيد‬ ‫ثم بعد ذلك ّ‬


‫بن العاص للمشاركة يف فتح طربستان‪ .‬وهكذا انطلقت‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بصحبة أخي شر ًقا وغر ًبا مجاهدين يف سبيل اهلل‪ .‬وهو ما‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫أكسبنا الكثير من الخربة يف الحرب والتخطيط العسكري‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫كانت األمور تسير يف بداية عهد عثمان على ما يرام‪.‬‬
‫لكن انفتاح العرب على غيرهم من األمم‪ ،‬ودخول الكثير‬
‫من الخلق يف اإلسالم بشكل غير مسبوق‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫سياسة التخفيف التي اتبعها عثمان خال ًفا لسياسة التقشف‬
‫التي كان يتبعها ُع َمر من قبل كان له تأثير كبير على تغيير‬
‫نسيج المجتمع اإلسالمي‪.‬‬
‫فبدأت األوضاع تتبدل يف النصف الثاين من خالفة‬
‫عثمان‪ .‬وبدأ الكثيرون ممن دخلوا يف اإلسالم حدي ًثا‪،‬‬
‫يتشربوا تعاليمه بعد‪ ،‬يف إثارة الفتن بين الناس‪.‬‬
‫الذين لم ّ‬
‫إنذارا ببداية الفتنة ال ُكربى التي غ ّيرت وجه‬
‫ً‬ ‫وكان هذا‬
‫‪123‬‬
‫المجتمع اإلسالمي إلى األبد‪ .‬والتي أراد اهلل أن أكون أنا‬
‫وأبي وأخي يف القلب منها‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬

‫‪124‬‬
‫فريدة‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫أهنيت قراءة جزء ال بأس به من سيرة الحسن بن علي‪،‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫خاصة الجزء المتعلق بطفولته وبدايات شبابه‪ .‬كانت‬
‫كثيرا بقراءة‬
‫هذه أول مرة أقرأ سيرته؛ فأنا لم أكن مهتمة ً‬
‫والس َير قبل ذلك‪ .‬كما أن سيرته لم تأخذ حظها‬‫التاريخ ِ‬
‫من االنتشار‪ .‬ربما ألنه ‪ -‬كما يبدو مما قرأت حتى اآلن‬
‫‪ -‬كان شخصا هادئًا مسالما‪ ،‬والناس يميلون أكثر ِ‬
‫لس َير‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫المغامرين المندفعين‪.‬‬

‫أكثر ما أعجبني هو أن اسم ابني حسن على اسم الحسن‬


‫بن علي‪ .‬حتى إنني يف بعض المواقف تخ َّيلت ابني مكانه‪.‬‬
‫لكن شتَّان بين االهتمام والرعاية والحنان الذين تلقاهم‬
‫الحسن بن علي‪ ،‬وبين اإلهمال والجفاء اللذين تلقاهما‬
‫‪125‬‬
‫حسن ابني‪ .‬لعل قراءيت وعبد اهلل لهذه السيرة هي عالمة‬
‫لنا على ضرورة تغيير معاملتنا البننا‪ .‬فرغم كل ما حدث‪،‬‬
‫وقت لنصلح ما أفسدناه بغبائنا وجهلنا بأمور‬
‫ما زال لدينا ٌ‬
‫الرتبية‪.‬‬

‫طويل أمام شاشة الالب توب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كنت قد قضيت وقتًا‬


‫أتنقل بين صفحات اإلنرتنت‪ .‬فتار ًة أقرأ عن سيرة الحسن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بن علي‪ ،‬وتار ًة أدخل على مجموعة الدعم التي يديرها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫االختصاصي النفسي‪ .‬كان االختصاصي قد نصحني‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بعدم ترك حسن للفراغ أوقا ًتا طويلةً‪ ،‬حتى ال تزحف إليه‬

‫ع‬
‫األفكار السلبية ثانيةً‪ .‬وأرشدين إلى ضرورة شغل وقت‬
‫فراغه بما يحب من األعمال والهوايات‪ .‬تذكّرت أن‬
‫حسن يحب الرسم‪ .‬ولذلك فقد اشرتيت له كراسة رسم‬
‫كبيرة وأدوات رسم كاملة وأعطيتها له‪ .‬وأكون بذلك قد‬
‫واحد‪ :‬من ناحية جعلت حسن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحجر‬ ‫أصبت عصفورين‬
‫يشغل وقت فراغه بشيء يحبه‪ ،‬ومن ناحية أستنتج من‬
‫خالل رسوماته ما يف ّكر به‪.‬‬

‫أحرقتني عيني من كثرة النظر يف شاشة الالب توب‪،‬‬


‫قليل وأذهب ألقف يف شرفة غرفة‬ ‫فقررت أن أتركه ً‬

‫‪126‬‬
‫الضيوف‪ .‬فتحت باب غرفة الضيوف‪ ،‬ألجد عبد اهلل‬
‫تسمرت مكاين؛ فلم أكن أعلم أنه سيبيت ليلته هنا‪.‬‬
‫أمامي‪ّ .‬‬
‫عدت إلى غرفتي سري ًعا‪ ،‬وأغلقت الباب خلفي‪ .‬ال أعلم‬
‫ٍ‬
‫غريب! حتى إنني قد‬ ‫لماذا شعرت حينها أنني أمام رج ٍل‬
‫استغربت رد فعلي‪.‬‬

‫‪-‬هل أكره عبد اهلل؟! سألت نفسي هذا السؤال‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫أيضا‪ :‬ال‪ ،‬ال أكرهه‪.‬‬
‫لكن سرعان ما جاء الرد من نفسي ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫بل ما زلت أحبه‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫شعرت كأن صوتين يتناطحان بداخلي‪.‬‬

‫كثيرا‪ ،‬ولم يهتم إال بنفسه وعمله‬


‫‪-‬لقد أهملني ً‬
‫وصراعه على إدارة الشركة‪.‬‬
‫‪-‬ال تبالغي‪ .‬فهو لم يكن هبذا السوء‪ِ .‬‬
‫أنت تعلمين أنه‬
‫يحبك‪ ،‬لكنه لم يكن يعرف كيف يع ّبر عن حبه هذا‪.‬‬
‫ِ‬
‫أنت تعلمين أن الرجال يف عالمنا العربي يتم تلقينهم‬
‫منذ الصغر أن الرجل ال يجب أن يع ّبر عن مشاعره‪.‬‬
‫أن الرجل ال يبكي‪ .‬أن الرجل ال يدلل امرأته وإال‬
‫صار لعب ًة بيدها‪ .‬هو نتاج موروثات خاطئة‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫‪-‬لكنه استسلم لهذه الموروثات‪ ،‬ولم يحاول أن‬
‫يقاومها من أجلي‪ .‬اختار هذه الرجولة الزائفة على‬
‫حسابي‪.‬‬
‫‪-‬أال ترين أنه قد تغ َّير خالل األيام الماضية؟! ألم تري‬
‫رقته عندما جاء اليوم؟! ألم تري الدموع المحبوسة‬
‫لك وردة ألول مرة منذ ٍ‬
‫فرتة‬ ‫يف عينيه؟! ألم يجلب ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ٍ‬

‫ا‬ ‫ري‬
‫طويلة؟!‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫‪-‬وردة! يريد أن يمحي كل ما حدث بوردة!‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬
‫‪-‬ال تكوين قاسية‪ .‬بالطبع األمر ال يقتصر على وردة‬
‫فحسب‪ .‬فالوردة كما نقول «عربون مح َّبة»‪ .‬دليل‬
‫على رغبته يف إصالح ما فسد‪ .‬كما أنه ما زال مبتدئًا‬
‫يف الحب واالهتمام‪ .‬ألم تقولي اآلن إن الرجل‬
‫يف عالمنا العربي يتم تربيته على عدم التعبير عن‬
‫مشاعره؟! هو ح ًّقا ال يعرف كيف يع ّبر عنها‪ .‬هو‬
‫بالفعل يحاول أن يتغ ّير ويصلح ما حدث‪.‬‬
‫‪-‬وماذا لو كانت هذه مجرد ثورة عاطفية مؤقتة‪،‬‬
‫وسرعان ما ستحدث ثورة مضادة بداخله لتقضي‬
‫عليها؟!‬
‫‪128‬‬
‫‪-‬حينها سيكون هو من قضى على هذه العالقة‪.‬‬
‫ِ‬
‫عليك‪ .‬و ُيصبح بإمكانك‬ ‫ِ‬
‫أديت ما‬ ‫وتكونين ِ‬
‫أنت قد‬
‫حينها االنفصال عنه بدون ندم‪ .‬فقط امنحيه فرصة‪.‬‬
‫ألجل ابنك حسن‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا‪ ،‬سأعطيه فرصةً‪ ،‬فرص ًة واحد ًة فقط‪ .‬وبالتأكيد‬
‫قليل حتى أرضى عنه‪ .‬ليس تعذي ًبا له‪،‬‬ ‫سأتركه ُيعاين ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بل ألخترب مدى جديته يف مشاعره واهتمامه‪.‬‬
‫قليل من أجلك‪ .‬أتفق ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫معك‬ ‫‪-‬بالتأكيد ال بدَّ أن ُيعاين ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫يف هذا‪ .‬فالرجال ال بدَّ أن يركضوا خلفنا حتى لو كنّا‬
‫رأيك أن تطمئني على حسن‬ ‫ِ‬ ‫نحن المخطئات‪ .‬ما‬
‫اآلن‪ .‬وترتكي أمر أبيه للغد؟‬
‫خرجت من الغرفة‪ ،‬وجدت عبد اهلل واق ًفا أمام باب‬
‫غرفة الضيوف كأنه ينتظرين‪ .‬تظاهرت كأين لم أنتبه‬
‫أحضر‬
‫ِّ‬ ‫لوجوده‪ ،‬وأكملت طريقي نحو المطبخ‪ ،‬حتى‬
‫لحسن كو ًبا من العصير‪.‬‬

‫دخلت غرفة حسن‪ ،‬فوجدته يمسك برزمة من األوراق‬


‫يقرأها بجد َّية‪ .‬لم أرد مقاطعته؛ فأنا سعيدة بانشغاله رغم‬
‫أنني لم أعرف ما يوجد يف هذه األوراق‪ .‬وضعت كوب‬
‫‪129‬‬
‫العصير بجانبه‪ ،‬وق ّبلت رأسه‪ .‬همست يف أذنه‪ :‬أح ّبك‬
‫كثيرا‪ .‬ثم ذهبت لغرفتي متجاهلة عبد اهلل‪.‬‬
‫ً‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬

‫‪130‬‬
‫(‪)2‬‬

‫تتحسن شي ًئا‬
‫ّ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫على مدى األيام التالية‪ ،‬كانت األمور‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫فشي ًئا‪ .‬حسن حالته النفسية صارت أفضل‪ .‬يبدو أن ماما‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫تحسنت شه ّيته بشكل‬ ‫فاطمة وصفية تقومان بدور رائع‪ّ .‬‬
‫كبير‪ .‬وأفضل شيء أنه صار يأكل طعا ًما صح ًّيا‪ ،‬وتو ّقف‬
‫عن أكل الحلوى والوجبات السريعة‪ .‬صدق من قال‪ُ :‬ر َّب‬
‫ٍ‬
‫ضارة نافعة‪.‬‬

‫أما بخصوص عبد اهلل‪ ،‬فقد واصل محاوالته يف‬


‫التقرب منّي‪ .‬لكنني كنت أستخدم ذكاء األنثى يف التعامل‬
‫ّ‬
‫معه‪ .‬فكنت أتجاهله أحيانًا‪ ،‬وأعطيه ً‬
‫أمل أحيانًا‪ .‬لم أكن‬
‫أفعل ذلك رغب ًة يف تعذيبه أو كراهي ًة له‪ ،‬لكني كنت أخترب‬
‫مدى جد َّيته‪ .‬وقد بدأت أشعر هبا ً‬
‫فعل‪ .‬لقد كان التغيير‬

‫‪131‬‬
‫الذي حدث له حقيق ًّيا‪ ،‬مثلما كان التغيير الذي يحدث لي‬
‫أيضا‪.‬‬
‫حقيق ًّيا ً‬

‫كنت أجلس يف غرفتي كعاديت بعد أن أعطيت حسن‬


‫فطوره‪ .‬فتحت صديقي الالب توب‪ ،‬حتى أواصل قراءة‬
‫سيرة الحسن بن علي‪ .‬فرغم عدم اهتمامي بالتاريخ قبل‬

‫ع‬
‫ذلك؛ فإن سيرته قد جذبتني‪ .‬ربما بسبب التغيير الذي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫أحدثته يف حياة عبد اهلل‪ .‬أو ربما بسبب نقاء سريرته التي‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫نفتقدها هذه األيام‪ .‬لكن فجأة‪ ،‬سمعت طر ًقا على باب‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫غرفتي‪ .‬ف ّكرت أهنا ربما تكون ماما فاطمة‪ ،‬فهي الوحيدة‬
‫التي تأيت لغرفتي هذه األيام‪ .‬فقلت‪:‬‬

‫‪-‬ادخلي يا ماما‪.‬‬
‫انفتح الباب‪ ،‬لكنها لم تكن ماما فاطمة‪ ،‬بل كان ابنها‪،‬‬
‫عبد اهلل‪.‬‬

‫‪-‬هل تسمحين لي بالدخول؟‬


‫تسمرت مكاين‪ ،‬وانعقد لساين‪ .‬ثم وجدت يف نفسي‬ ‫ّ‬
‫شو ًقا إليه وإشفا ًقا عليه‪ .‬فقلت له بصوت خافت‪ :‬ادخل‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫دخل هبدوء وأغلق الباب خلفه‪ .‬اقرتب مني ببطء‪.‬‬
‫ودار بيننا حوار مليء بالمشاعر المضطربة‪ ،‬واألصوات‬
‫الخافتة المرتعشة‪.‬‬
‫‪-‬هل ِ‬
‫أنت بخير‪ ،‬فريدة؟‬
‫‪-‬نعم‪.‬‬

‫ع‬
‫أيضا إن كنت ٍ‬
‫بخير أم ال؟‬ ‫‪-‬ألن تسأليني ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫‪-‬هل أنت بخير ‪ ...‬عبد اهلل؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫‪-‬كأين أول مرة أسمعك تنطقين اسمي‪ .‬ألول مرة‬
‫أشعر أن اسمي جميل هكذا‪.‬‬
‫ابتسمت ولم أرد‪ .‬لكن هذه المرة ليس عنا ًدا‪ ،‬بل‬
‫ً‬
‫خجل‪.‬‬

‫نفسا عمي ًقا ثم قال‪:‬‬


‫اقرتب مني أكثر‪ .‬أخذ ً‬
‫‪-‬اعذري صمتي؛ ألين ألول مرة أحس هبذا الشعور‪.‬‬
‫ال أقصد شعور الحب بالطبع‪ ،‬فأنا أحبك منذ أول‬
‫يوم رأيتك فيه‪ .‬لكن أقصد شعور االشتياق‪ ،‬اللهفة‪،‬‬
‫الخوف من أن أخسرك‪ .‬مهما وصفت فلن أستطيع‬
‫وصف شعوري حال ًّيا‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫اقرتب مني أكثر‪ ،‬ثم احتضنني بعمق وهدوء كأنه يخشى‬
‫أن أنكسر بين ذراعيه‪ .‬أغمضت عيني‪ ،‬بكيت كما لم ِ‬
‫أبك‬
‫من قبل‪ .‬وكنت أشعر ببكائه هو اآلخر‪ .‬ال أعلم كم امتد‬
‫هذا العناق‪ .‬ربما لحظات أو ساعات أو أيا ًما‪ .‬لن أبالغ‬
‫إذا قلت أعوا ًما‪ .‬لقد اختصر هذا العناق كل شيء‪ .‬اختصر‬
‫سنوات الزواج‪ ،‬وكلمات اللوم والعتاب‪ ،‬ومشاعر الحب‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عمرا قد مضى‪.‬‬ ‫واالشتياق‪ .‬فتحت عيني وأنا أشعر أن ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫حتى إنني وجدت صعوبة يف فتحهما‪ ،‬كأنني طفل قد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫خرج من رحم أمه لتوه‪ .‬شعرت كأن هذا العناق هو والدة‬

‫ع‬
‫جديدة لي وله ولعالقتنا‪.‬‬

‫نظرت لوجهه‪ ،‬فوجدته ملي ًئا بالدموع‪ .‬مسحت دموعه‬


‫بيدي‪ .‬كان كالطفل تما ًما‪ .‬صدقت ماما فاطمة حين قالت‬
‫لي إن الرجل يكون كالطفل بين يدي محبوبته‪ .‬حقيق ًة فإن‬
‫كبير يف استمرار هذه الزيجة‪ .‬ويف‬
‫دور ٌ‬
‫نصائحها كانت لها ٌ‬
‫هذه اللحظة التي نعيشها اآلن‪.‬‬

‫أدخل يده يف جيب قميصه وأخرج قالدة ذهبية وضعها‬


‫حول رقبتي‪ .‬لمستها بيدي وبكيت مر ًة أخرى‪ .‬ال أعلم من‬
‫أين أتت كل هذه الدموع‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫ٍ‬
‫بوردة مر ًة أخرى‪،‬‬ ‫ابتسم وقال لي‪ :‬خشيت أن آيت‬
‫ِ‬
‫فعلت المرة الماضية‪.‬‬ ‫فتصرخي يف وجهي كما‬

‫ضحكت من كالمه‪ ،‬وقلت له ضاحكةً‪ :‬أيها األبله‪،‬‬


‫ُتغضبني وتختفي ليومين دون سبب ثم تعود لتصالحني‬
‫بوردة‪.‬‬

‫ع‬
‫قهقه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ِ‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫بل‬
‫لكنك لم‬ ‫أيضا حلوى‪.‬‬
‫‪-‬ال تكوين ظالمة‪ ،‬كان معي ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫تأخذيها ِ‬

‫والتوز عي‬
‫أنت أو حسن‪.‬‬
‫‪-‬وبالتأكيد أكلتها كلها وحدك‪ ،‬ولم ترتك لنا شي ًئا‪.‬‬
‫قال لي غائ ًظا‪:‬‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬وكان طعمها ً‬
‫لذيذا جدًّ ا‪.‬‬
‫ضحكنا م ًعا‪ ،‬وتعانقنا ثانيةً‪ .‬ثم همس يف أذين‪:‬‬
‫‪ -‬أحبك جدًّ ا‪ ،‬ولن أبتعد ِ‬
‫عنك ثانيةً‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ابتسمت بخج ٍل قائلة‪:‬‬

‫أيضا أحبك‪.‬‬
‫‪-‬وأنا ً‬

‫‪135‬‬
‫كان هذا أجمل يوم يف حيايت‪.‬‬

‫لكن فجأة رن هاتف عبد اهلل‪ .‬قال لي‪ :‬لن أرد عليه‪.‬‬
‫أريد أن أمضي الباقي من عمري معك وحدك‪.‬‬

‫أيضا حبيبي‪ .‬لكن من األفضل أن ترى َمن‬ ‫‪-‬وأنا ً‬


‫المتصل‪ .‬لقد انعزلنا عن العالم الخارجي منذ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫أسبوع تقري ًبا‪ .‬هل نسيت عملك وشركتك؟ ال أريد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أن أكون عائ ًقا يف حياتك‪ ،‬بل سأكون داف ًعا لك‪ .‬ه َّيا‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫أجب الهاتف‪.‬‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫أجاب عبد اهلل الهاتف‪ .‬تغ ّير وجهه ثم أهنى المحادثة‬
‫لك إنه من األفضل أال أجيب! يجب أن‬ ‫قائل‪ :‬ألم أقل ِ‬
‫ً‬
‫أذهب للشركة اآلن‪ .‬سمير ُيخرب كل شيء‪.‬‬
‫ِ‬
‫واعتن بأمورك‪ .‬واطمئن‬ ‫‪-‬حسنًا حبيبي‪ .‬اذهب اآلن‬
‫كل شيء سيكون بخير‪ .‬وال تنفعل مهما حدث!‬
‫أنت وحسن معي سيكون كل شيء بخير‪ .‬يف‬ ‫‪-‬طالما ِ‬
‫أمان اهلل حبيبتي‪.‬‬
‫‪-‬يف أمان اهلل حبيبي‪.‬‬
‫خرج عبد اهلل مسر ًعا‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫تحسست وجهي فوجدته داف ًئا‪ .‬لم أشعر هبذا الدفء‬
‫طويلة‪ .‬جلست على سريري‪ .‬فتحت جهاز‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫فرتة‬ ‫منذ‬
‫الالب توب‪ .‬وأكملت قراءة سيرة الحسن بن علي‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪137‬‬
‫الحسن بن علي‬

‫ا‬ ‫ري‬
‫كانت أحداث الفتنة رهيبة وشديدة الوطأة على‬

‫ل‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫الجميع‪ ،‬خاصة المهاجرين واألنصار‪ .‬فهؤالء الصحابة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫الكرام الذين اعتادوا على مواجهة أعداء اإلسالم م ًعا‬
‫يف حياة الرسول  وبعد وفاته وجدوا أنفسهم فجأة‬
‫يواجهون مسلمين مثلهم‪ .‬يشهدون أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن‬
‫محمدً ا رسول اهلل‪.‬‬

‫وقد كان التساع رقعة الدولة اإلسالمية دور رئيسي يف‬


‫هذه الفتنة‪ ،‬لثالثة أسباب‪:‬‬

‫أول‪ :‬ألن العرب ألول مرة يف تاريخهم يتمددون خارج‬ ‫ً‬


‫الجزيرة العربية‪ .‬وهذا ليس تمد ًدا عاد ًّيا‪ ،‬بل إهنم يقودون‬
‫األمم وأهلها‪ .‬وهذا تسبب يف حدوث بعض الصدامات‬

‫‪139‬‬
‫مع أهل هذه البالد‪ ،‬وعلى رأسها مصر والعراق؛ فقد‬
‫زادت النعرات القبل ّية‪ ،‬وظن بعض الجهالء العرب أن‬
‫انتماء الرسول  لقبيلة قريش ُيعطي لهم األفضل َّية‬
‫على غيرهم من المسلمين‪ .‬لذلك فقد انطلقت من مصر‬
‫والكوفة الجماعات التي قتلت عثمان‪.‬‬

‫ع‬
‫ثان ًيا‪ :‬فتحت الدنيا أبواهبا على مصاريعها أمام العرب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بأنواع الرتف والرفاهية كافة التي لم يعهدها العرب من‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قبل‪ .‬وأ َّدى هذا إلى انشغال الكثير من المسلمين عن‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫َّ‬
‫وملذاهتا‪ .‬والدنيا دار فتنة‪.‬‬ ‫آخرهتم‪ ،‬وركضهم وراء الدنيا‬

‫ثال ًثا‪ :‬اتساع رقعة الدولة أضعف سلطة الخليفة عليها‪.‬‬


‫فقد تمددت البالد من فارس شر ًقا حتى إفريقية غر ًبا‪،‬‬
‫شمال حتى اليمن جنو ًبا‪ .‬وتسبب هذا يف‬ ‫ً‬ ‫ومن الشام‬
‫تسلط بعض الوالة‪ ،‬وسوء معاملتهم لرعاياهم‪ .‬ورغم أن‬
‫عثمان حاول تدارك الموقف بعزل بعض الوالة؛ فإنه قد‬
‫سبق السيف العذل‪ ،‬وانطلق أهل هذه البالد نحو المدينة‪.‬‬

‫فجاءت جماعات من الناس من مصر والعراق إلى‬


‫المدينة؛ ليشكوا الوالة إلى الخليفة مباشر ًة بعد أن فاض‬
‫‪140‬‬
‫هبم الكيل‪ .‬وقد كان ألبي دور مهم يف الوساطة بين‬
‫الخليفة والناس‪ .‬ونجحت وساطة أبي وكبار الصحابة يف‬
‫هتدئة المحتجين وعودهتم إلى بالدهم‪ .‬إال أن مكائد قد‬
‫حدثت‪ ،‬فعاد المحتجون مر ًة أخرى إلى المدينة‪ .‬لكنهم‬
‫هذه المرة كانوا مصرين على عزل عثمان‪.‬‬

‫جلل‪ ،‬فارتجت المدينة بسببه‪ .‬فرغم‬ ‫كان هذا األمر ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫اعرتاض عدد من الصحابة على سياسات عثمان‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫المتساهلة من الوالة؛ فإن مسألة عزل الخليفة كانت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫غير مقبولة من قِ َبل أغلب الصحابة‪ .‬واألمر ليس متعل ًقا‬
‫بعثمان فقط‪ ،‬بل هو متعلق بمنصب الخليفة ذاته‪ .‬فلو‬
‫ُس ِمح لبعض الناس أن يخلعوا الخليفة‪ ،‬فإن هذا سيهدر‬
‫هيبة المنصب‪ ،‬ويفتح الباب بعد ذلك أمام أي جماعة من‬
‫الناس أن تتمرد على الخليفة وتخلعه‪ .‬فال يثبت أي خليفة‬
‫يف منصبه أيا ًما معدودة‪ .‬لذلك فقد رفض عثمان وأغلب‬
‫التوصل إلى حل‬
‫ُّ‬ ‫الصحابة فكرة عزل الخليفة‪ ،‬وحاولوا‬
‫وسط ُيرضي جميع األطراف‪.‬‬

‫لكن األحداث كانت أسرع من مساعيهم‪ .‬والفتنة كانت‬


‫أشد من الجميع‪ .‬فقد حاصر المتمردون بيت الخليفة‪،‬‬
‫‪141‬‬
‫ومنعوا عنه الطعام والشراب‪ ،‬ومنعوه من الخروج من‬
‫هب الكثير من أبناء‬
‫بيته‪ .‬بل أصروا على قتله‪ .‬لذلك فلقد َّ‬
‫الصحابة للدفاع عن عثمان‪ .‬كنت يف مقدمتهم أنا وأخي‬
‫الح َسين وعبد اهلل بن الزبير ومحمد بن طلحة‪ .‬أسرعنا‬
‫ُ‬
‫نحو بيت الخليفة حتى ندفع عنه المهاجمين‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان األمر جنون ًّيا‪ .‬أنا الذي كنت أتمنى أن أكرب سري ًعا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫حتى أحمل السالح وأقاتل يف سبيل اهلل‪ ،‬أجد نفسي فجأة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫وجها لوجه أمام مسلمين مثلي يف معركة الجميع فيها‬
‫ً‬

‫ع‬
‫خاسر‪ .‬تكاثر المهاجمون أمام بيت الخليفة‪ .‬حاولت‬
‫دفعهم دون قتلهم‪ .‬فكيف أقابل ربي يوم القيامة ويدي‬
‫ملطخة بدماء مسلم؟! حتى لو أخطأ هذا المسلم‪ ،‬كيف‬
‫عسيرا للغاية‪ .‬كنت أدفع الناس عن الدار‬
‫ً‬ ‫أقتله؟! كان األمر‬
‫وأتجنّب قتلهم أو إصابتهم‪ .‬أتل َّقى ضربات السيوف‪ ،‬وال‬
‫أردها‪.‬‬

‫وبالطبع فقد كانت النتيجة محسومة‪ .‬فريق ُيهاجم دار‬


‫الخليفة وقد عقد العزم على قتله يف مواجهة فريق يتل ّقى‬
‫الضربات دون أن يردها‪ .‬اقتحم الناس بيت الخليفة‪،‬‬
‫‪142‬‬
‫وقتلوه وهو يقرأ القرآن‪ .‬يا ليتني لم أحيا حتى أحضر هذا‬
‫اليوم!‬

‫ُأصبت بجراحٍ عديدة هذا اليوم حتى إنني قد ُح ِملت‬


‫جريحا‪.‬‬
‫ً‬
‫كان األمر شديد الوطأة على نفسي‪ .‬فألول مرة أجد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وجها لوجه ضد مسلمين مثلي‪ .‬وألول مرة يرتك‬ ‫ً‬ ‫نفسي‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫بعضا‪ .‬وألول‬‫المسلمون قتال أعدائهم ليقاتلوا بعضهم ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫مرة أشعر هبذا العجز‪ ،‬أن ُيقتَل الخليفة وأنا أقف على بابه‪.‬‬
‫نتهك حرمات مدينة جدي (صلى اهلل عليه‬ ‫وألول مرة ُت َ‬
‫وسلم) هبذا الشكل‪ ،‬ومِن َمن؟! من مسلمين‪ .‬ترك هذا‬
‫أثرا ال يزول‪.‬‬
‫اليوم يف نفسي ً‬
‫يرض هؤالء الذين قتلوه‬‫ليل؛ فلم َ‬‫وتم دفن عثمان ً‬
‫وخلسةً‪ .‬كان مقتل عثمان أشد وطأة‬ ‫ليل ِ‬ ‫أن ُيد َفن إال ً‬
‫علينا من مقتل ُع َمر؛ فقد ُقتِل ُعمر بيد غير مسلمة أما‬
‫بأيد مسلمة‪ .‬كما أن ُع َمر قد أوصى ستة من‬ ‫عثمان ف ُقتِل ٍ‬
‫كبار الصحابة أن يتولى أحدهم الخالفة بعده أما عثمان‬
‫يوص‪ .‬وهنا شعر المسلمون بخطورة فراغ‬ ‫ِ‬ ‫فمات ولم‬
‫‪143‬‬
‫منصب الخالفة‪ ،‬خاصة مع الظروف الحالية‪ ،‬ومع سيطرة‬
‫المتمردين على المدينة‪.‬‬

‫يلحون‬
‫وأقبل كبار الصحابة وأهل المدينة على أبي ّ‬
‫شاغرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫عليه يف قبول الخالفة؛ حتى ال ُيرتّك المنصب‬
‫اضطرب قلبي حينها‪ ،‬فما حدث لعثمان من الوارد أن‬

‫ع‬
‫يحدث ألبي يف ظل الظروف الحالية‪ .‬لقد أصاب الفقد‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كثيرا‪ ،‬فقد فقدت جدي وأمي يف ُعمر صغير‪ .‬ولم‬
‫قلبي ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ُأرد أن أفقد أبي ً‬

‫ر‬
‫أيضا‪.‬‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫رفض أبي إلحاحهم‪ .‬عرض عليهم أن يختاروا خليفة‬
‫ووزيرا إن أراد‪ .‬إال‬
‫ً‬ ‫مستشارا‬
‫ً‬ ‫غيره‪ ،‬ووعدهم أن يكون له‬
‫أهنم قد أصروا عليه‪ .‬فقد كانوا يرونه األحق بالخالفة يف‬
‫هذا الوقت‪ ،‬خاص ًة أنه كان َمن انحصرت الخالفة بينه‬
‫وبين عثمان بعد مقتل ُع َمر‪ .‬خاف أبي أن َيرتك منصب‬
‫شاغرا‪ ،‬فيتقاتل الناس عليه أو يستولى عليه بعض‬
‫ً‬ ‫الخليفة‬
‫الغوغاء‪ ،‬فاضطر لقبول هذا المنصب على مضض‪.‬‬

‫كان أبي وس ًطا بين الجميع؛ فهو كان ً‬


‫رافضا لسياسات‬
‫رافضا لعزل‬
‫ً‬ ‫الوالة المتجاوزين‪ ،‬ويف الوقت نفسه كان‬
‫‪144‬‬
‫الخليفة أو قتله‪ .‬كما أنه لم يكن بينه وبين أي من األطراف‬
‫صراع شخصي‪ .‬لذلك فقد كنت أظن أن األمور ستهدأ‬
‫بتولي أبي الخالفة إال أن ظني كان يف غير محله‪ .‬ولم أكن‬
‫أعلم أن األسوأ لم ِ‬
‫يأت بعد‪.‬‬

‫‪G‬‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوز عي‬

‫‪145‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫نزلت من البيت سري ًعا‪ ،‬فوجدت مازن ‪ -‬مساعدي ‪-‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫ينتظرين‪.‬‬

‫‪-‬ما األمر يا مازن؟‬


‫‪-‬اركب معي السيارة يا أستاذ‪ ،‬وسأخربك بكل شيء‬
‫يف الطريق‪.‬‬
‫ركبت السيارة‪ ،‬وانطلقنا بأقصى سرعة‪.‬‬

‫‪-‬ماذا فعل سمير يف غيابي؟‬


‫‪-‬لقد استغل غيابك أسوأ استغالل‪ .‬فأثار مجلس‬
‫اإلدارة ضدك‪ .‬وأوعز إليهم أنك غير قادر على‬
‫تحمل المسئولية‪ .‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل أخربهم بما‬
‫ّ‬
‫‪147‬‬
‫حدث لحسن ابنك‪ ،‬وقال إن هذا دليل على فشلك‬
‫يف حياتك الخاصة‪ ،‬وبالتالي يف إدارة الشركة‪ .‬انقسم‬
‫مجلس اإلدارة‪ :‬بعضهم يأخذ ص ّفنا‪ ،‬وبعضهم يأخذ‬
‫صف سمير‪ ،‬والبعض رأى أن يتم تنحيتكما واختيار‬
‫أحد األشخاص غير المحسوبين على أي منكما‪.‬‬
‫وبالطبع استغل منافسونا هذه الصراعات للرتويج‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ضدنا بشكل غير مباشر‪ .‬فتس ّبب هذا يف سحب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫عدد من عمالئنا ألعمالهم منّا‪ ،‬ودفعها إلى شركات‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫المنافسين‪ .‬وأ َّدى هذا إلى تأخير دفع الرواتب‬

‫ع‬
‫كبيرا من الموظفين‬ ‫للموظفين‪ .‬لم ُي ِ‬
‫رض هذا عد ًدا ً‬
‫فطلبوا عقد اجتماع مع مجلس إدارة الشركة إال أن‬
‫سمير تجاهل مطالبهم‪ .‬فن ّظموا مظاهرة أمام مقر‬
‫الشركة‪ ،‬فقرر سمير أن يفصلهم من العمل ُمدّ ع ًيا‬
‫حاجة إليهم‪.‬‬‫ٍ‬ ‫أهنم ِعمالة زائدة‪ ،‬والشركة ليست يف‬
‫وهؤالء الموظفون معتصمون منذ األمس أمام مقر‬
‫الشركة‪.‬‬
‫فورا؟!‬
‫‪-‬كيف يحدث كل هذا وال تخربين ً‬
‫عذرا أستاذ عبد اهلل‪ .‬لكنني أعرف أن لديك بعض‬
‫‪ً -‬‬
‫الظروف العائلية اآلن‪ ،‬كما أن هاتفك كان خارج‬
‫‪148‬‬
‫الخدمة ألكثر من يوم‪ .‬وقد حاولت أن أقوم مقامك‪،‬‬
‫وأوقفه عند حدّ ه‪ .‬لكنه أخربين أنني ال صفة لي يف‬
‫الشركة حتى أ ّتخذ قرارات‪ .‬عندها قررت أن آيت‬
‫فورا‪.‬‬
‫إليك ً‬
‫وصلنا إلى مقر الشركة يف ٍ‬
‫وقت قياسي؛ فقد كنّا نطير‬
‫فوق الطريق‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫كانت أحوال الشركة بادية على واجهة مقرها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫فالموظفون المفصولون يفرتشون ساحتها والرصيف‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫المواجه لها‪ .‬وبالطبع فالزروع واألشجار الموجودة يف‬
‫هملة‪ .‬وأمن الشركة موجود بكثافة‪ .‬وتوجد سيارة‬
‫الفناء ُم َ‬
‫أيضا أمام الشركة‪ .‬باختصار فوضى‬‫لألمن المركزي ً‬
‫عارمة‪.‬‬

‫بمجرد أن رآين الموظفون‪ ،‬ركضوا نحوي‪ .‬حاول‬


‫األمن منعهم بالقوة‪ ،‬لكنني طلبت منهم أن يرتكوهم؛ فال‬
‫حاجة إلى مزيد من االشتباكات والفوضى هنا‪ .‬تعالت‬
‫أصوات الموظفين‪:‬‬

‫‪-‬هل هذا جزاء عملنا يف الشركة‪ ،‬يتم طردنا هبذا‬


‫الشكل المهين؟!‬
‫‪149‬‬
‫‪-‬خدمنا الشركة لسنوات طويلة‪ ،‬هل هذه مكافأة هناية‬
‫الخدمة؟!‬
‫‪ -‬لن نرتك ح َّقنا أبدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬أستاذ عبد اهلل نحن نثق بك‪ ،‬فال تخذلنا‪.‬‬
‫مشو ًشا‬
‫َّ‬ ‫ف ّكرت أن ُأخاطِب الموظفين‪ ،‬لكنني كنت‬

‫ع‬
‫للغاية‪ ،‬فخشيت أن أقول كال ًما يزيد غضبهم أو أعدهم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بشيء ال أستطيع الوفاء به‪ .‬ويف نفس الوقت خشيت إن لم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ُأخاطبهم أن يظنوا أنني أتك َّبر عليهم‪ .‬فوقفت أمامهم لحظ ًة‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫قائل‪ :‬اطمئنوا‪ ،‬كل شيء سيكون على ما ُيرام‪ .‬وطلبت من‬ ‫ً‬
‫مازن أن ُيخاطبهم نيابة عني بينما أصعد لمقابلة سمير‪.‬‬

‫دخلت الشركة سري ًعا وأنا أتجنّب النظر ألي موظف‪.‬‬


‫كنت أشعر أنني خذلتهم‪ .‬كنت مشحونًا للغاية بمشاعر‬
‫مضطربة بين غضب وذهول وتح ّفز‪ .‬لست معتا ًدا على‬
‫هذا الكم من المشاعر المتداخلة‪ .‬لم أستخدم المصعد‪،‬‬
‫وجها لوجه أمام‬
‫بل صعدت الساللم سري ًعا‪ .‬ألجد نفسي ً‬
‫الحاج عبد الحكيم‪.‬‬

‫‪ً -‬‬
‫أهل حاج عبد الحكيم‪ .‬كيف حالك؟‬

‫‪150‬‬
‫‪ً -‬‬
‫أهل بك‪ ،‬أستاذ عبد اهلل‪ .‬كيف حال ابنك اآلن؟‬
‫‪ -‬بخير الحمد هلل‪ .‬أين سمير؟‬
‫‪ -‬يف غرفة رئيس مجلس اإلدارة‪.‬‬
‫رئيسا لمجلس‬ ‫نصب نفسه ً‬ ‫ازداد غضبي‪ .‬إ ًذا فهو قد ّ‬
‫اإلدارة من تلقاء نفسه‪ .‬ذهبت إلى الغرفة‪ .‬وقفت أمام‬

‫ع‬
‫ً‬
‫محاول تجهيز بعض الكلمات‪ ،‬حتى ال أبدو مرتد ًدا‬ ‫الباب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫أمامه‪ ،‬ويسخر مني‪ .‬ثم أدرت مقبض الباب‪ ،‬ودخلت‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ G‬والتوز عي‬

‫‪151‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ -‬أستاذ عبد اهلل! لقد نسيت أنك معنا هنا يف الشركة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫جالسا‬
‫ً‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫قالها سمير بنربة ساخرة بمجرد أن رآين‪ .‬كان‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫على كرسي رئيس مجلس اإلدارة الفخم‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تفعل هنا يا سمير؟‬
‫‪ -‬أدير الشركة كما ترى‪.‬‬
‫تخرب الشركة كما أرى‪ .‬العمالء يسحبون‬ ‫‪ -‬بل ّ‬
‫أعمالهم‪ ،‬والموظفون معتصمون أمام الشركة‪ .‬هل‬
‫هذه طريقتك يف اإلدارة؟!‬
‫‪ -‬لقد خاطبت عد ًدا من العمالء‪ ،‬وأحاول اآلن‬
‫استخدام عالقايت ليعيدوا أعمالهم للشركة‪ .‬أما‬
‫بخصوص الموظفين فهم جالسون يف مكاتبهم‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن المعتصمين يف الخارج؟!‬
‫‪153‬‬
‫‪ -‬لم يعودوا موظفين لدينا‪ .‬لقد تم االستغناء عنهم‪.‬‬
‫تعويضا مناس ًبا لك ٍل منهم‪ .‬أرأيت‬
‫ً‬ ‫بل إنني صرفت‬
‫كم أنا حنون!‬
‫سيعوضهم عن سنوات‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وهل هذا التعويض البسيط‬
‫سيعوضهم عن‬‫ّ‬ ‫عمرهم التي أفنوها هنا؟! هل‬
‫انكسارهم أمام أنفسهم و ُأسرهم ّ‬
‫جراء هذا الطرد‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫المهين؟!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ -‬لم أعهدك عاطف ًّيا هكذا يا عبد اهلل‪ .‬لطالما كنت‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫عقالن ًّيا حاز ًما‪ ،‬وكان ُيعجبني هذا فيك رغم اختاليف‬
‫معك‪ .‬يبدو أن ما حدث البنك قد غ ّيرك‪.‬‬
‫أيضا!‬
‫‪ -‬نعم غ َّيرين لألفضل‪ .‬كم أتمنَّى أن تتغ َّير أنت ً‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬فلندع المشاعر والتغيرات اآلن جان ًبا‪ .‬نريد‬
‫أن نصل إلى حلٍ‪ ،‬حتى ال تتداعى األمور أكثر من‬
‫هذا‪.‬‬
‫‪ -‬قلت لك من قبل‪ ،‬لقد قضيت خمسة عشر عا ًما هنا‬
‫يف الشركة‪ ،‬وبالتالي أنا األقدر بإدارهتا‪ .‬كما أنني‬
‫كنت مالز ًما ألبي‪ ،‬وبالتالي تع ّلمت منه كل شيء‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫‪ -‬الشركة اآلن تواجه ضائقة مالية‪ ،‬وهي بالتالي‬
‫ّ‬
‫بضخها فستتحسن‬ ‫تحتاج إلى أموالي التي إذا قمت‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫األحوال ً‬
‫بضخها إ ًذا؟‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬ولماذا ال تقوم‬
‫‪ -‬وماذا يضمن لي حقي لو قمت بضخها وتم إنفاقها‬

‫ع‬
‫بشك ٍل ال ُيرضيني؟‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫‪ -‬سمير‪ ،‬أنت مدير الشئون المالية‪ ،‬وأنا مدير الشئون‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫القانونية‪ .‬والشركة بحاجة لنا م ًعا‪ .‬ما رأيك أن أكون‬
‫رئيسا لمجلس اإلدارة‪ ،‬وتكون أنت نائ ًبا لي؟‬
‫ً‬
‫‪ -‬ولماذا ال أتولى أنا رئاسة مجلس اإلدارة بما إين‬
‫ّ‬
‫سأضخ أموالي يف الشركة؟‬
‫‪ -‬لقد مللت هذا الجدل العقيم‪ .‬حسنًا‪ ،‬فلتذهب أنت‬
‫وأموالك للجحيم! واعلم أين لن أتنازل عن حقي يف‬
‫هذه الشركة مهما حدث‪.‬‬
‫خرجت من الغرفة‪ ،‬وصفعت الباب خلفي‪ .‬وأنا ألعن‬
‫سمير الذي أفسد يومي‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫وجدت مازن ينتظرين يف الردهة‪ .‬لم يك ّلمني؛ فهو‬
‫يعلمني عندما أكون غاض ًبا‪ .‬ذهبت معه إلى مكتبي؛‬
‫لتناقش يف خطواتنا القادمة‪ .‬قال لي‪:‬‬
‫‪ -‬ما رأيك أن نرفع عليه دعوى قضائية؟‬
‫دائما‪.‬‬
‫‪ -‬بأي هتمة؟! هذا الثعبان يتحرك بشكل قانوين ً‬
‫ثم إنني ال أرغب يف مزيد من الفضائح‪ .‬من قد يعمل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫معنا ثاني ًة عندما يجد أعضاء مجلس اإلدارة ُيقاضون‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بعضا! األمر يحتاج إلى الدهاء والحكمة‪.‬‬
‫بعضهم ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫دعني أفكر ً‬
‫قليل‪ .‬ويف الوقت الحالي‪ ،‬أريد منك أن‬

‫ع‬
‫تعرف كل شيء عن أنصار سمير يف مجلس اإلدارة‪.‬‬
‫فأنا لن أضرب سمير نفسه‪ ،‬بل سأضرب َمن حوله‬
‫ً‬
‫أول‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬سأبدأ يف تنفيذ المهمة من اآلن‪ ،‬أستاذ عبد‬
‫اهلل‪ .‬أستأذنك‪.‬‬
‫بعد أن خرج مازن‪ ،‬أعددت لنفسي فنجانًا من القهوة‪،‬‬
‫حتى أستطيع التفكير‪.‬‬
‫عصيب! إذا ضربت سمير بقوة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫موقف‬ ‫يا له من‬
‫أيضا بقوة‪ ،‬وتنهار الشركة‪ .‬وإذا تركته‬
‫فسيضربني هو ً‬

‫‪156‬‬
‫فسيتح ّكم فيها كيف يشاء‪ .‬األمر يحتاج إلى الحكمة‪ .‬وأنا‬
‫أحتاج إلى بعض الهدوء‪.‬‬
‫هدأت لحظ ًة ثم سألت نفسي‪ :‬هل أنا ً‬
‫فعل تغ ّيرت‬
‫مثلما قال سمير! هل هذا التغيير واضح لهذه الدرجة؟!‬
‫ماذا فعلت بي يا إمام! ُترى لو كان اإلمام الحسن يف‬
‫موقفي هذا‪ ،‬ماذا كان سيفعل؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جرين هذا السؤال الستكمال قراءة سيرة اإلمام‪ ،‬فقد‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫َّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫جلبت الكتاب معي عندما نزلت من البيت ُمسر ًعا‪ .‬صرت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫أحمله معي أينما ذهبت‪ .‬فتحت الكتاب حيث تو َّقفت‪.‬‬
‫وواصلت القراءة‪.‬‬

‫‪G‬‬

‫‪157‬‬
‫الحسن بن علي‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫بمجرد أن تولى أبي الخالفة‪ ،‬تصاعدت األصوات‬

‫والتوز عي‬
‫المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان‪ .‬وكان على رأسهم‪:‬‬
‫الزبير بن العوام‪ ،‬وطلحة بن عبيد اهلل‪ ،‬ومعاوية بن‬
‫أبي سفيان‪ ،‬والسيدة عائشة‪ .‬كان أبي يشاركهم الرأي‪،‬‬
‫ويعارضهم الكيفية‪ .‬كان يعتزم القصاص من قتلة عثمان‪،‬‬
‫لكنه كان يرى استحالة تنفيذ هذا يف الظروف الحالية‪ .‬فقد‬
‫اختلط القتلة بالناس‪ ،‬ولم يكن هناك إمكانية لتمييزهم‬
‫دون غيرهم‪.‬‬

‫واألهم من ذلك‪ ،‬أن حدود الدولة اإلسالمية صارت‬


‫يف خطر داهم‪ .‬فقد تو ّقفت حركة الفتوحات‪ ،‬وصار قادة‬

‫‪159‬‬
‫الجيوش يف حيرة من أمرهم‪ ،‬فال يمكنهم أن يتحركوا‬
‫خطو ًة دون أمر الخليفة‪ .‬والخليفة اآلن ال يقدر على‬
‫القيام بمهامه بشك ٍل كاملٍ‪ً .‬‬
‫وأيضا كان مصير الوالة غير‬
‫معلوم‪ ،‬خاصة الوالة الذين شاركوا يف هذه الفتنة‪ .‬فال بدَّ‬
‫أول‪ ،‬حتى يستطيع عزل‬ ‫للخليفة أن يسيطر على األمور ً‬
‫هؤالء الوالة ومحاسبتهم واستبدالهم بغيرهم‪ ،‬وحتى‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫يتم َّكن ً‬

‫ك‬
‫أيضا من إجراء تحقيقات واسعة لإلمساك بالقتلة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫والقصاص منهم‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫لك َّن أحدً ا لم يعذر أبي‪ .‬لم يروا األمر من الداخل‬
‫كما يراه هو‪ .‬فقط أرادوا القصاص‪ ،‬والقصاص اآلن‪.‬‬
‫واألكثر من ذلك‪ ،‬أن قميص عثمان المخضب بدمه وصل‬
‫إلى دمشق‪ ،‬فثار الناس عندما رأوه‪ ،‬وطالبوا بالقصاص‬
‫الفوري من القتلة‪ .‬بدأ األمر يخرج عن السيطرة يف الشام‪.‬‬
‫حاول أبي إفهامهم وجهة نظره عرب وسطاء‪ ،‬لك َّن الناس‬
‫فقدوا عقولهم‪ .‬لم يكونوا مستعدين لسماع أي شيء‪.‬‬
‫مجرد تلكؤ منه لعدم تنفيذ‬
‫وكانوا يرون أن كالم أبي هو ّ‬
‫القصاص‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫ال أعلم كيف يفكرون هكذا! كيف يتهمون أبي بالتلكؤ‬
‫أو الضعف أو عدم الرغبة يف القصاص من قتلة عثمان؟!‬
‫أال يعلمون من هو علي بن أبي طالب! كيف ُيتَّهم مثل‬
‫علي بمثل هذه االفرتاءات؟!‬

‫لم َير أبي ُبدًّ ا من عزل معاوية من والية الشام‪ ،‬رغم أنه‬

‫ع‬
‫كثيرا‪ .‬لك َّن معاوية رفض تنفيذ األمر‪،‬‬
‫حاول تجنّب هذا ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل أعلن نفسه ولي دمي عثمان‪ ،‬ورفض بيعة أبي‪ .‬خرجت‬
‫مضطرا‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫الشام عن سيطرة أبي تما ًما‪ .‬ولذلك وجد نفسه‬

‫والتوز عي‬
‫ً‬
‫للخروج من المدينة والذهاب لتخوم الشام‪ ،‬حتى يكون‬
‫قري ًبا من موقع األحداث‪ .‬حاول بعض الصحابة الكرام‬
‫إثناء أبي عن قراره‪ ،‬لكنه كان قد حزم أمره‪.‬‬

‫كبيرا وأنا أترك مدينة جدي! لم أكن أعلم‬


‫كم كان حزين ً‬
‫أين سأعود إليها بعد ذلك‪ ،‬لكن بدون أبي‪ .‬انطلقنا صوب‬
‫أيضا بخروج‬
‫الكوفة‪ ،‬لقرهبا من بالد الشام‪ .‬وعلمنا ً‬
‫السيدة عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة‪ ،‬ليلتحموا مع‬
‫بعض الجماعات المطالبة بدم عثمان‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫كثير مما يحدث‪ ،‬لكنني لم أكن‬‫كنت ال أرضى عن ٍ‬
‫ألخالف أبي الرأي أمام الناس‪ .‬وكانت عالقتي بأبي‬
‫عالقة أخوة على عكس ما كانت تسير عليه عالقات اآلباء‬
‫بأبنائهم من السيادة المطلقة لألب على ابنه إلى درجة‬
‫تقارب درجة االستعباد‪.‬‬

‫ع‬
‫لذلك فقد تح ّينت فرصة؛ كي أنفرد به بعد صالة‬
‫ابن يخشى على أبيه من‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫حوار مؤ ّث ٌر بين ٍ‬

‫ت‬
‫ٌ‬
‫ص‬ ‫الصبح‪ .‬ودار بيننا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫األذى‪ ،‬وأب يسمح البنه بأن ُيع ّبر عن رأيه بحرية‪.‬‬

‫ع‬‫والتوزي‬ ‫قلت له‪:‬‬

‫‪ -‬أمرتك فعصيتني‪ ،‬فغدً ا ُتقتَل وال ناصر لك‪.‬‬


‫‪ -‬وما الذي أمرته فعصيته؟‬
‫‪ -‬أمرتك أن تخرج من المدينة حين ُأحيط بعثمان‪،‬‬
‫ف ُيقتَل ولست فيها‪ .‬وأمرتك حين ُقتِل أال ُتبايع إال‬
‫بعد أن تأتيك بيعة األمصار‪ .‬وأمرتك حين خرج‬
‫طلحة والزبير أن تلزم بيتك حتى يصطلحوا‪ ،‬فإذا‬
‫حدث الفساد حدث على يدي غيرك‪ .‬فعصيتني يف‬
‫ذلك كله‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫‪ -‬أي ُبني‪ ،‬أما قولك‪ :‬لو خرجت من المدينة حين‬
‫ُأحيط بعثمان‪ ،‬فقد ُأحيط بنا كما ُأحيط به‪ .‬وأما‬
‫قولك‪ :‬ال تبايع حتى تأتيك بيعة األمصار‪ ،‬فإين‬
‫خشيت أن يضيع أمر الخالفة‪ .‬وأما قولك أال أخرج‬
‫حين خرج طلحة والزبير‪ ،‬فإن خروجهم هذا كان‬
‫وهنًا على أهل اإلسالم‪ .‬وأما قولك‪ :‬اجلس يف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بيتك‪ ،‬أتريدين أن أكون مثل الضبع التي ُيحاط هبا‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وإذا لم أنظر فيما لزمني من أمر المسلمين‪ ،‬فمن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ينظر فيه؟! فكف عني أي بني‪.‬‬
‫أسكتني قول أبي؛ فقد كان مدفو ًعا إلى قلب الفتنة‪.‬‬
‫كمن يحاول أن يمنع عاصف ًة آن أواهنا‪ .‬فهو لم يكن‬
‫كان َ‬
‫أيضا‬
‫يريد الخالفة‪ ،‬ولم يكن يرضى عن القتال‪ .‬لكنه ً‬
‫لم يكن ليقبل أن يقعد يف بيته‪ ،‬ويرتك المسلمين ينهش‬
‫بعضا‪ ،‬خاصة بعد أن تولى الخالفة‪ .‬لقد كان أبي‬
‫بعضهم ً‬
‫دائما صاحب موقف‪.‬‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫لحظة على الصلح؛ حقنًا‬ ‫حريصا حتى آخر‬ ‫وقد كان‬
‫ً‬
‫أيضا من هو حريص‬‫لدماء المسلمين‪ .‬وكان من الصحابة ً‬
‫الصلح بين فريق أبي‪،‬‬
‫فتوسط عد ٌد منهم يف ُ‬
‫ّ‬ ‫على ذلك‪.‬‬
‫‪163‬‬
‫وفريق طلحة والزبير‪ .‬ونجحوا يف مسعاهم ً‬
‫فعل‪ .‬واتفق‬
‫قادة الفريقين على الصلح‪ .‬إال أن الغوغاء من الجيشين قد‬
‫بعضا يف الليل‪ ،‬فاشتعلت الحرب‪.‬‬
‫هجموا على بعضهم ً‬

‫مروعة‪ .‬فهي أول حرب يف اإلسالم يكون‬


‫كانت حر ًبا ّ‬
‫طرفاها من المسلمين‪ .‬ورغم انتصارنا فيها‪ ،‬فإننا لم نفرح‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫هبذا النصر‪ .‬فقد راح ضح ّيتها الكثير من المسلمين‪ .‬وعلى‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫رأسهم اثنان من كبار صحابة جدي‪ :‬طلحة بن عبيد اهلل‬

‫وال‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫توزيع‬
‫والزبير بن العوام‪.‬‬

‫رحيما بالمسلمين‪ ،‬فبعد أن‬


‫ً‬ ‫وقد كان أبي كعادته‬
‫اهنزم جيش أهل البصرة‪ ،‬وولوا فارين‪ ،‬أمر أبي جيشه‬
‫أال يتّبعوهم‪ ،‬وأال ُيجهزوا على جريح‪ ،‬وأال يأخذوا من‬
‫الغنائم إال السالح‪ .‬وقام بتجهيز السيدة عائشة بالمؤن‬
‫والحراسة‪ ،‬وردها معززة مكرمة إلى المدينة المنورة‪.‬‬

‫ويرتحم عليهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وقد رأيته يسير بين القتلى من الفريقين‬
‫ثم رأي أبي طلحة بين القتلى‪ ،‬فمسح الرتاب عن وجهه‪،‬‬
‫ً‬
‫جندل يف‬ ‫علي يا أبا محمد أن أراك ُم‬ ‫وبكى ً‬
‫عزيز َّ‬
‫ٌ‬ ‫قائل‪:‬‬
‫‪164‬‬
‫الرتاب‪ .‬ثم ضمني إلى صدره وقال‪ :‬يا حسن‪ ،‬ليتني مت‬
‫قبل هذا اليوم بعشرين سنة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بنصر شاركت فيه‪ .‬فما‬ ‫ٍ‬
‫سعيد‬ ‫غير‬
‫ألول مرة أجدين َ‬
‫المفرح يف كل هذا العبث؟!‬
‫ُ‬

‫‪G‬‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوز عي‬

‫‪165‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫لم نكد نلتقط أنفسنا من حرب أهل البصرة إال وقد‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫وجدنا أنفسنا يف مواجهة مع أهل الشام بقيادة معاوية‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫بن أبي سفيان وعمرو بن العاص‪ .‬بمجرد أن علم أبي‬
‫بخروجهم‪ ،‬سار إليهم بجيش الكوفة‪ .‬كانت سيوف كل‬
‫فريق تقطر حدة على قتال الفريق اآلخر‪ .‬لم أكن أتصور‬
‫أن يشتهي المسلم قتل أخيه هبذا الشكل‪ .‬انطلق الفريقان‬
‫بمنتهى القوة‪ ،‬ودارت بينهما الحرب الضروس‪.‬‬

‫كانت الك ّفة متوازنة يف البداية إلى أن حدث ما قلب‬


‫ِ‬
‫عمار بن ياسر على يد‬ ‫كفة الحرب لصالحنا‪ .‬فقد ُقتل ّ‬
‫مناصرا ألبي منذ اللحظة‬
‫ً‬ ‫عمار الذي كان‬
‫جيش الشام‪َّ .‬‬
‫عمار الذي كان له دور كبير يف‬‫األولى‪ ،‬وحتى النهاية‪ّ .‬‬
‫عمار الذي يعرف‬‫شحذ همم أهل الكوفة لمناصرة أبي‪ّ .‬‬
‫‪167‬‬
‫جميع المسلمين أن جدي ﷺ قد قال له‪« :‬تقتلك الفئة‬
‫الباغية»‪.‬‬

‫عمار‪.‬‬
‫جيش الشام قتل عمار ‪ ...‬جيش الشام قتل ّ‬
‫انتشر خرب مقتله انتشار النار يف الهشيم‪ .‬اضطرب جيش‬
‫الشام‪ .‬فقد أيقنوا أهنم الفئة الباغية هنا‪ .‬وهجم جيشنا‬

‫ع‬
‫ٍ‬

‫ص‬
‫بقوة حتى انتكسوا‪ .‬صارت الغلبة لنا‪ ،‬وتي ّقنا أن‬

‫ري‬
‫عليهم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫النصر حليفنا‪ .‬لكن حدث ما لم يكن يف الحسبان‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫رفع جيش الشام المصاحف على أسنّة رماحهم‪ .‬وهي‬

‫ع‬
‫لدي‬
‫عالمة على رغبتهم يف تحكيم كتاب اهلل‪ .‬لم يكن َّ‬
‫شك أن هذه مجرد خدعة منهم لكسب الوقت‪ ،‬ووقف‬
‫أيضا‪ ،‬فأمر جنوده‬
‫القتال بعد اهنزامهم‪ .‬وكان هذا رأي أبي ً‬
‫باستكمال الحرب‪ .‬لكن جيشنا قد انقسم على نفسه‪،‬‬
‫فمنهم من يرى رأينا‪ ،‬أن هذه مجرد خدعة‪ ،‬ويجب علينا‬
‫إكمال الحرب‪ .‬وفريق آخر يرى االحتكام لكتاب اهلل‪.‬‬
‫حتى كاد يحدث قتال بين الفريقين‪ .‬فلم يجد أبي ُبدًّ ا من‬
‫إيقاف الحرب‪ ،‬وقبول التحكيم‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫مجرد ُخدعة‪ ،‬فقد فشلت‬
‫وبالطبع ألن التحكيم كان ّ‬
‫سفر إال عن إطالق سراح‬ ‫جميع المفاوضات‪ .‬ولم ُت ِ‬
‫األسرى من الفريقين‪ ،‬وعودة كل فريق إلى بلده‪ .‬وهكذا‬
‫لم يحل التحكيم األزمة‪ ،‬بل فاقمها؛ فقد انشقت عن‬
‫جيش أبي فئ ٌة رافضة للتحكيم‪ ،‬بل إهنم خرجوا على أبي‬
‫لقبوله إياه‪ .‬حاول أبي بالطرق السلمية ردهم إلى صواهبم‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫فأرسل إليهم عبد اهلل بن العباس لمناظرهتم‪ ،‬فغلبهم ابن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بحجته القوية‪ ،‬وعاد معه منهم ستة آالف رجل إلى‬
‫عباس ّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫جيش أبي‪ ،‬وظل الباقون على عنادهم‪ .‬بل إهنم بدأوا يف‬
‫االعتداء على الناس ممن ال يرون رأيهم‪ ،‬فلم يجد أبي ُبدًّ ا‬
‫من محاربتهم؛ للقضاء على شرهم‪.‬‬

‫تقابل الجيشان يف منطقة النهروان بالعراق‪ ،‬ولم نأخذ‬


‫رحيما فأمر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طويل حتى ننتصر‪ .‬وكالعادة كان أبي‬ ‫وقتًا‬
‫بعدم اإلجهاز على جريح أو ا ّتباع هارب‪.‬‬

‫ً‬
‫محاول تنظيم أمور‬ ‫ثم عاد أبي بالجيش إلى الكوفة‬
‫الدولة‪ .‬فقام بإنشاء جهاز للشرطة لحفظ األمن‪ ،‬وإنشاء‬
‫مراكز الخدمة العامة‪ ،‬وبناء السجون لوضع المحكوم‬
‫‪169‬‬
‫عليهم فيها‪ .‬كما أمر أبا األسود الدوؤلي بوضع قواعد‬
‫النحو‪ ،‬حيث خاف على اللغة من الضياع نتيجة اختالط‬
‫العرب بباقي األمم‪ .‬وهكذا بدأ الهدوء يعود شي ًئا فشي ًئا‬
‫للدولة اإلسالمية‪ .‬إال أن الخوارج كان لهم رأي آخر‪.‬‬

‫فانقض‬
‫ّ‬ ‫رحيما هبم؛ فإهنم لم يرحموه‪.‬‬
‫ً‬ ‫فرغم أن أبي كان‬

‫ع‬
‫عليه رجل منهم يف أثناء خروجه لصالة الفجر‪ ،‬وأصابه‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بضربة ٍ‬
‫ٍ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قاتلة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫أحضرنا الطبيب سري ًعا إلى أبي‪ .‬حاول إسعافه‪ ،‬ثم‬

‫ع‬
‫نظر إلى أبي وقال‪« :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قل وصيتك فإنك‬
‫الح َسين وأخينا ‪ -‬غير‬‫م ّيت»‪ .‬فجمعني أبي أنا وأخي ُ‬
‫الشقيق ‪ُ -‬محمد (المشهور بابن الحنفية)‪ ،‬وأوصانا وصي ًة‬
‫طويل ًة جامع ًة اشتملت على كل أمور الدين والدنيا‪.‬‬

‫ثم التفت إلى ُمحمد‪ ،‬وقال له‪« :‬إين أوصيك بتوقير‬


‫أخويك؛ لعظم حقهما عليك‪ ،‬فاتبع أمرهما‪ ،‬فال تقطع‬
‫أمرا دوهنما»‪.‬‬
‫ً‬
‫الح َسين ً‬
‫قائل‪« :‬وإين أوصيكما به؛‬ ‫إلي وإلى ُ‬
‫ثم التفت َّ‬
‫فإنه ابن أبيكما‪ ،‬وقد علمتما أن أباكما كان يحبه»‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫وبعد أن أتم وصيته‪ ،‬ظل يردد «ال إله إال اهلل» حتى‬
‫فاضت روحه إلى خالقها‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪171‬‬
‫فريدة‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫تركت الكتاب؛ فلم أعد قادر ًة على قراءة المزيد‪.‬‬

‫ل‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ٍ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫بغصة يف قلبي‪ ،‬ودمو ٍع على خدي‪ .‬هالني ما‬ ‫شعرت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ٍ‬
‫سنوات قليلة‪ ،‬تبدَّ ل‬ ‫الح َسن وأبوه‪ .‬يف غضون‬
‫تعرض له َ‬
‫َّ‬
‫الحال‪ .‬وكل هذا بسبب بعض الجهالء‪ .‬ال أفهم ح ًّقا كيف‬
‫يتَّهم البعض ابن عم رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وزوج ابنته‪ ،‬وأول من‬
‫أيضا! لكن هكذا‬‫أسلم من الفتيان بالكفر! بل ُيهدر دمه ً‬
‫دائما‪.‬‬
‫هم الجهالء ً‬
‫لفت انتباهي ثقة الجهالء الشديدة يف أنفسهم؛ فهم‬
‫فادحة ٍ‬
‫بثقة غريبة‪ .‬أهدروا دم عثمان‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫قرارات‬ ‫يأخذون‬
‫أيضا‪ .‬هكذا بمنتهى‬
‫علي وقتلوه ً‬
‫وقتلوه‪ .‬وأهدروا دم ٍّ‬
‫البساطة يقتلون اثنين من كبار صحابة الرسول‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫ويف مقابل هذه الثقة العمياء‪ ،‬رأيت تر ّيث العلماء‪ .‬فقد‬
‫رفض عثمان أن يستقدم الجيش أو حامية المدينة لقتال‬
‫الذين حاصروا داره‪ .‬كما أن عل ًّيا قد وافق على التحكيم‬
‫رغم تقدّ مه يف المعركة؛ حقنًا لدماء المسلمين‪.‬‬

‫ربما ألن العالِم يخشى أن ُيخالِف أمر اهلل؛ فيسير على‬


‫مهلٍ‪ .‬يف حين أن الجاهل ال يعلم شي ًئا من األساس‪ ،‬فهو‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫يتحرك وفق غريزته‪ .‬يكره هذا فيقتله‪ ،‬ببساطة‪.‬‬

‫ك‬
‫َّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫تعجبت من نفسي؛ فألول مرة أسأل نفسي هذه‬ ‫ّ‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫أتعمق يف التاريخ‬
‫األسئلة ذات الطابع الفلسفي‪ .‬ألول مرة ّ‬
‫هبذا الشكل‪ .‬أشعر أن رأسي يؤلمني من كثرة المشاعر‬
‫المضطربة والتفكير‪ .‬اآلن فقط فهمت كيف غ ّيرت سيرة‬
‫الح َسن عبد اهلل‪ .‬فالتاريخ ليس مجرد قصص للفخر أو‬ ‫َ‬
‫التسلية‪ ،‬لكنه يضعنا يف مواجهة مباشرة مع أنفسنا وأفكارنا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عناية‬ ‫عندما قرأ عبد اهلل عن طفولة الحسن‪ ،‬وما القاه من‬
‫واهتما ٍم شعر بالتقصير يف حق ابنه‪ ،‬فقرر أن ُيغ ّير من نفسه‪.‬‬
‫وها أنا ذا أشعر كأين نضجت فجأة‪ ،‬ولم أعد تلك الفتاة‬
‫التي تحب الروايات الرومانسية واالجتماعية فقط‪ .‬لقد‬
‫صرت اآلن أ ًّما لطف ٍل على أعتاب مرحلة المراهقة؛ طف ٍل‬

‫‪174‬‬
‫حاول قتل نفسه‪ .‬لذلك يجب أن ينضج تفكيري‪ ،‬حتى‬
‫ُأصبح قادر ًة على تربية رجل‪ ،‬ال طفل‪.‬‬

‫ذكَّرتني هذه األفكار بحسن‪ ،‬سأذهب له يف غرفته؛‬


‫ألطمئن عليه‪.‬‬

‫متوجهة نحو غرفة حسن‪ .‬فتحت‬


‫ِّ‬ ‫خرجت من غرفتي‬
‫ٍ‬

‫ع‬
‫الحسبان‪.‬‬
‫باب غرفته ألجد نفسي أمام مفاجأة لم تكن يف ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫هرعت إلى غرفتي‪ ،‬أمسكت هباتفي‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫فورا‪.‬‬
‫‪ -‬عبد اهلل‪ .‬عبد اهلل‪ .‬احضر إلى البيت ً‬

‫‪G‬‬

‫‪175‬‬
‫حسن‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫كانت هذه األيام هي أجمل أيام حيايت؛ فقد كنت‬

‫ل‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫أنعم بحب واهتمام الجميع‪ :‬أبي وأمي وجديت وماما‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫صفية‪ .‬ورغم صمتي الدائم فإنني كنت أود أن أخربهم‬
‫كم أحبهم‪ .‬لكن ال أعلم لماذا كلما هممت بذلك‪ ،‬انعقد‬
‫لساين! ربما أخشى إن كلمتهم أن يركنوا إلى هذا‪ ،‬ويعودوا‬
‫إلى أسلوهبم القديم معي من اإلهمال والتعنيف‪ .‬أخشى‬
‫أن يكون كل هذا اهتما ًما لحظ ًّيا فقط‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إلى البوح‪ ،‬حتى ال تختنق الكلمات‬ ‫لكنني كنت‬
‫والمشاعر يف صدري‪ .‬تأملت رزمة األوراق التي تركها‬
‫كثيرا‪ .‬إال أنني كنت أحب‬
‫أبي‪ ،‬لم أكن مغر ًما بالقراءة ً‬
‫سماع القصص والحكايات من جديت‪ .‬لذلك فقد انتظرت‬
‫للمساء‪ ،‬حتى تعود ماما صفية لمنزلها‪ ،‬وأكون حينها مع‬
‫‪177‬‬
‫جديت بمفردنا‪ .‬فقد كنت أتظاهر أمام الجميع بأين قد‬
‫تجاوزت مرحلة الطفولة‪ .‬إال أن الطفل الذي بداخلي كان‬
‫يرغب يف مزيد من الحكايات والتدليل‪ .‬ولم أكن أسمح‬
‫ٍ‬
‫ألحد حال ًّيا برؤية هذا الطفل إال جديت‪.‬‬

‫اشتقت لحكاياهتا‪ .‬لكنني قد مللت حكايات الشاطر‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حسن واألميرة‪ ،‬وعالء الدين والبساط السحري‪ ،‬وبياض‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫الثلج واألقزام السبعة‪ .‬ألنني على أي حال لن أملك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫بسا ًطا سحر ًّيا‪ ،‬ولن أقابل الساحرة الشريرة‪ .‬كنت أشتهي‬

‫ع‬
‫ٍ‬
‫حكايات بإمكاين أن أكون بطلها ح ًّقا أو على األقل أحاول‬
‫أن أكون‪.‬‬

‫تذكَّرت ما قاله لي أبي من أن بطل كتابه يحمل نفس‬


‫قصته‪ .‬ويف المساء‪ ،‬أعطيت‬
‫حمسني ذلك لسماع ّ‬
‫اسمي‪ّ .‬‬
‫رزمة األوراق لجديت‪ ،‬وطلبت منها أهنا تقرأها لي‬
‫بأسلوهبا الممتع‪ .‬لم أكن قد تكلمت مع ٍ‬
‫أحد بعد؛ فقد‬
‫كنت مستمت ًعا بشخصية الصامت الذي يحظى باهتمام‬
‫الجميع‪ .‬لكنني اليوم اشتقت للكالم‪ ،‬أي كالم‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫لذلك فقد انتظرت حتى المساء‪ ،‬بعد أن دخلت جديت‬
‫يف السرير بجانبي كما اعتادت أن تفعل كل ليلة منذ الليلة‬
‫الحزينة‪ .‬خلعت نظارهتا‪ ،‬ووضعتها على الطاولة بجانبها‪.‬‬
‫ثم ق َّبلتني‪ ،‬وقالت لي‪:‬‬

‫‪ -‬تصبح على خير يا حبيبي‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نفسا عمي ًقا ثم قلت‪:‬‬
‫أخذت ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫‪-‬جديت‪ِ ،‬‬

‫ن‬
‫احك لي عن الحسن بن علي!‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫إلي غير‬
‫انتبهت جديت فجأة‪ ،‬وانتفضت من السرير تنظر َّ‬
‫مصدِّ قة‪ .‬سكتت لدقيقة ثم بدأت عيناها تذرف الدموع‪،‬‬
‫واحتضنتني بعمق‪ .‬وقالت‪:‬‬

‫‪-‬حسن‪ .‬اشتقت لصوتك يا حبيبي‪ .‬الحمد هلل على‬


‫أخيرا لدعائي‪.‬‬
‫السالمة‪ .‬لقد استجاب اهلل ً‬
‫ِ‬
‫معك‪.‬‬ ‫أيضا جديت اشتقت للحديث واللعب‬ ‫‪-‬وأنا ً‬
‫واشتقت لحكاياتك المسل ّية‪.‬‬
‫‪-‬أيها الشقي‪ ،‬فعلت كل هذا‪ ،‬حتى تعلم مدى حبنا‬
‫لك‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫كنت أشتاق لالهتمام يا جديت‪ .‬آسف إن كنت قد‬
‫ِ‬
‫عليك وعلى‬ ‫أوجعت قلبك‪ .‬يعلم اهلل كم كنت أخشى‬
‫عضلة قلبك‪.‬‬

‫‪-‬قلبي بخير الحمد هلل طالما أنك بخير‪ .‬يجب أن‬


‫نخرب والديك‪ .‬سيطيران من الفرحة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪-‬ال يا جديت‪ ،‬رجا ًء‪ .‬ال تخربيهما اآلن‪ .‬أريد أن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أخربهما بنفسي‪ ،‬لكن ليس اآلن‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫‪-‬كما تحب يا حبيبي‪ .‬لكن ال ُتطل انتظارهما‪ ،‬حتى ال‬

‫ع‬
‫توجع قلبيهما‪.‬‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪ .‬حدِّ ثيني عن‬ ‫‪-‬اطمئني يا جديت‪ .‬لكن اآلن‬
‫الحسن بن علي!‬
‫‪-‬سأحدِّ ثك عنه يا بني‪ .‬لكن يف البداية أخربين كيف‬
‫عرفت الحسن؟‬
‫‪-‬لقد أعطاين أبي رزمة من األوراق قال إهنا مسودة‬
‫لكتاب له‪ ،‬وإن بطل الكتاب له نفس اسمي‪ .‬قرأت‬
‫غالف الكتاب فوجدت مكتو ًبا عليه‪ :‬الحسن بن‬
‫علي‪ .‬وقد أردت أن أعرف عنه بأسلوبك الشائق‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫‪َ -‬أحس َن أبوك االختيار‪ .‬فولد يف عمرك ال بدَّ أن يعرف‬
‫سيرة سيد شباب الجنة‪.‬‬
‫قضت جديت ليلتها تحدّ ثني عن الحسن بن علي يف‬
‫حاضرا ثم نمنا‬
‫ً‬ ‫طفولته وشبابه حتى أ َّذن الفجر‪ .‬فصليناه‬
‫بعمق‪.‬‬

‫ع‬
‫أعجبتني سيرة الحسن‪ .‬وأعجبني أن له نفس اسمي‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حتى إنني تخ ّيلت نفسي مكانه يف بعض المواقف أو‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لدي عادة أفعلها عندما تحكي لي‬ ‫بجانبه‪ .‬وقد كانت َّ‬

‫والتوز عي‬
‫جديت قصة وتعجبني‪ .‬وقد قررت أن أط ّبق عاديت هذه مع‬
‫سيرة الحسن‪.‬‬

‫‪G‬‬

‫‪181‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫كنت قد قررت السهر يف الشركة ذلك اليوم‪ ،‬حتى‬

‫والتوز عي‬
‫وأيضا التفكير يف خطوايت‬
‫أعكف على قراءة سيرة الحسن‪ً ،‬‬
‫رن جرس الهاتف يف‬ ‫المقبلة لمواجهة سمير‪ .‬لكن فجأة َّ‬
‫ٍ‬
‫متأخر‪َ .‬من قد يتصل اآلن؟! أمسكت الهاتف فإذا‬ ‫ٍ‬
‫وقت‬
‫فورا‪ .‬لم تعطني‬
‫هي فريدة تطلب مني أن أحضر للبيت ً‬
‫مزيدً ا من التفاصيل‪ .‬ال أعلم لماذا صار الجميع يطلب‬
‫فورا هذه األيام!‬
‫مني المجيء ً‬
‫وصلت البيت سري ًعا‪ ،‬واندفعت من باب الشقة‪.‬‬
‫وجدت فريدة يف انتظاري‪.‬‬

‫‪-‬هل حسن بخير؟ هل حدث له شيء ما؟‬


‫‪183‬‬
‫‪-‬اطمئن حبيبي‪ ،‬هو بخير‪ .‬لك َّن هناك شي ًئا أريدك أن‬
‫تراه بنفسك‪.‬‬
‫ذهبنا سري ًعا نحو غرفة حسن‪ .‬فتحت الباب برت ّقب‬
‫وقلق‪ .‬لم أكن مستعدً ا للمزيد من المفاجآت غير السارة‪.‬‬

‫رحيما بي؛ فقد كانت المفاجأة هذه المرة‬


‫ً‬ ‫لكن اهلل كان‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫سارة ‪ ...‬سارة للغاية‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫دخلت الغرفة ببطء‪ ،‬وأنا مندهش‪ .‬وجدت جدران‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الغرفة مز ّينة برسومات حسن‪ .‬شعرت كأنني يف أحد‬

‫ع‬
‫المعارض الفن َّية‪ .‬كان قد وضع الرسومات على الحائط‬
‫بنظا ٍم ُمت َقن‪ .‬اقرتبت من كل رسمة أتأملها‪ .‬كانت رسوماته‬
‫بسيطة ومناسبة لسنّه الصغيرة‪ ،‬لكنها كانت جميلة‪.‬‬

‫أشخاصا‬
‫ً‬ ‫كانت رسومات تاريخية‪ .‬فهذه رسمة تصور‬
‫مجتمعين حول نار موقدة على الحطب‪ .‬وهذه رسمة‬
‫لفارسين يتبارزان بالسيف‪ .‬وهذه رسمة لخيمة يجلس‬
‫بداخلها عدد من الناس‪ .‬ورسمة أخرى لمجموعة من‬
‫الناس يسيرون يف الصحراء‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫نادتني فريدة وهي تشير إلحدى الرسومات‪.‬‬

‫‪ -‬عبد اهلل‪َ .‬‬


‫تعال تأ َّمل هذه الرسمة!‬
‫نظرت إليها‪ ،‬فوجدت رسمة لطف ٍل يف مالبس فارس‪،‬‬
‫صغيرا‪ ،‬ويركب على حصان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُيمسك يف يده اليمنى سي ًفا‬
‫الحظت أن حسن وضعها بحيث تتوسط باقي الرسومات‪.‬‬

‫ع‬
‫همست لي فريدة‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫‪-‬أال ُتالحظ أن هذا الفارس الصغير ُيشبه حسن؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوز عي‬
‫تأملت وجه الفارس الصغير‪ .‬نعم‪ ،‬لقد رسم حسن‬
‫نفسه يف هيئة فارس‪ .‬كانت هذه عادته عندما تحكي له أمي‬
‫كثيرا‪ .‬أذكر أنه قد رسم نفسه‬
‫إحدى الحكايات ويتأثر هبا ً‬
‫قبل ذلك يف هيئة الرجل الوطواط‪ ،‬ومرة أخرى يف هيئة‬
‫عالء الدين فوق بساطه السحري‪ .‬تذكَّرت رزمة األوراق‬
‫التي أعطيتها له‪ ،‬يبدو أنه قرأها أو ربما جعل أمي تحكيها‬
‫له‪ ،‬وتأثر بشخصية الحسن بن علي‪.‬‬

‫همست لفريدة‪:‬‬

‫‪-‬لقد أعطتني هذه المفاجأة فكرة رائعة جدًّ ا‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫قالت لي مازحة‪:‬‬
‫‪-‬وما فكرتك‪ ،‬س ِّيد أينشتاين؟‬
‫ضحكت ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫‪-‬دعيها تختمر اآلن يف رأسي ثم سأخربك هبا الح ًقا‪.‬‬
‫كان حسن وأمي يجلسان يف سريره يراقباننا هبدوء‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫ذهبت ألحتضن حسن‪ ،‬فوجدت فريدة قد سبقتني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫إليه‪ ،‬فاحتضنتهما سو ًّيا بقوة حتى خفت أن أكسرهما‪ .‬يا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ٍ‬
‫شعور رائ ٍع ال تصفه الكلمات! همست لهما‪:‬‬ ‫له من‬

‫ع‬ ‫‪ -‬أحبكما أيها الصغيران‪.‬‬


‫فهمس حسن‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا أحبكما جدًّ ا‪.‬‬
‫فقدت عقلي‪ .‬وقلت كالمجنون‪:‬‬
‫أخيرا سمعت صوتك يا حبيبي‪.‬‬
‫‪-‬حسن! ً‬
‫اعتصرته ٍ‬
‫بقوة يف حضني حتى تأوه من شدة عناقي له‪.‬‬
‫سحبته فريدة من حضني‪ ،‬وعانقته بشدة‪ ،‬وهي تبكي‪،‬‬
‫وتغرقه بالقبالت‪.‬‬
‫‪186‬‬
‫التفت إلى أمي‪ .‬ق َّبلت يديها واحتضنتها‪ .‬وهمست لها‪:‬‬
‫ُّ‬

‫‪ -‬كل هذا بفضل دعائك وتعبك يا أمي‪.‬‬


‫فهمست لي‪:‬‬

‫بني‪ .‬ها هو اهلل قد جمع لك‬


‫‪ -‬بل هو بفضل اهلل يا َّ‬
‫تفرط فيهم‪.‬‬
‫أهلك فال ِّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫قلت لهم فجأةً‪:‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوز عي‬
‫‪ -‬لقد فتحت هذه األجواء الشاعرية شه ّيتي‪ .‬ما رأيكم‬
‫أن نخرج اآلن لنأكل يف أحد المطاعم ونحتفل؟‬
‫قالت لي فريدة‪:‬‬

‫‪ -‬وعملك؟‬
‫‪ -‬ليس لدي عمل اليوم إال أنتم‪ .‬ه َّيا نخرج‪.‬‬
‫كانت ليلة مليئة بالمشاعر الف َّياضة‪ .‬كم كنت غب ًّيا‬
‫فرط يف هذا الدفء‬
‫حين أهملت أسريت! فأي مجنون قد ُي ِّ‬
‫الحاين!‬

‫‪187‬‬
‫ٍ‬
‫متأخر من الليل‪ .‬بعد أن‬ ‫ٍ‬
‫وقت‬ ‫عدنا إلى البيت يف‬
‫اطمأننت على حسن وأمي‪ .‬وقفت مع فريدة يف ردهة‬
‫الشقة ً‬
‫قائل لها بدالل‪ :‬هل سترتكيني أنام الليلة يف غرفة‬
‫الضيوف؟‬

‫ضحكت بخجل قائلة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪-‬ال‪ ،‬بل يف غرفتنا‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫نسيت كل شيء له عالقة بالعمل أو سمير‪ .‬وقضيت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ليلتي فقط مع حبيبتي فريدة‪.‬‬

‫ع‬
‫‪G‬‬

‫‪188‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫‪-‬ه َّيا يا عبد اهلل‪ .‬استيقظ! ستتأخر عن عملك‪ .‬لقد‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫صباحا‪.‬‬
‫ً‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫صارت السابعة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪-‬لن أذهب للعمل اليوم‪ .‬ال أريد أن أرى وجه سمير‬
‫و َمن معه‪.‬‬
‫مديرا‬
‫ً‬ ‫‪-‬استيقظ أيها الكسول‪ .‬كيف تريد أن تكون‬
‫للشركة‪ ،‬وأنت ال تستطيع النهوض من السرير!‬
‫ً‬
‫متثاقل‪ .‬لقد عشت باألمس أجمل‬ ‫قمت من السرير‬
‫ليلة يف حيايت‪ ،‬وال أريد أن أفسدها اليوم بمشاجرات‬
‫العمل السخيفة‪ .‬لكن على أي حال يجب أن أقوم‪ .‬ليس‬
‫من الحكمة أن ُأصلِح بيتي و ُأ ِ‬
‫فسد عملي‪.‬‬

‫ارتديت ثيابي‪ ،‬وخرجت من غرفتي ألجد نفسي أمام‬


‫أجمل منظر أحب أن أراه‪ .‬أسريت بالكامل مجتمعة على‬
‫‪189‬‬
‫مائدة الطعام تنتظرين حتى نفطر سو ًّيا‪ .‬هذا المنظر يساوي‬
‫عندي الدنيا وما فيها‪ .‬جلست معهم‪ ،‬وتناولت أجمل‬
‫مبكرا‪،‬‬
‫إفطار يف حيايت‪ .‬كانت الممرضة صفية قد جاءت ً‬
‫وجلست تتناول اإلفطار معنا‪ .‬قلت لها‪:‬‬

‫‪-‬ال أعرف كيف أشكرك على مجهودك طوال األيام‬


‫الماضية مع حسن‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ -‬ال داعي للشكر يا أستاذ عبد اهلل‪ .‬هذا واجبي‪ ،‬وأنا‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أعترب حسن مثل ابني‪ .‬هذا طب ًعا بعد إذن مدام فريدة‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫ضحكت فريدة‪ ،‬وضحكنا جمي ًعا‪ .‬ثم أكملت صفية‪:‬‬

‫‪ -‬أظن أنني هبذا قد أتممت دوري مع حسن‪ .‬وبداي ًة‬


‫من الغد سأعود إلى عيادة الدكتور وائل‪.‬‬
‫‪ -‬لكننا نسعد ِ‬
‫بك‪ ،‬ونعتربك فر ًدا من أسرتنا الصغيرة‪.‬‬
‫أيضا أعتربكم أسريت‪ ،‬لكن الدكتور وائل‬
‫‪ -‬وأنا ً‬
‫يحتاجني معه‪ .‬وبالطبع سأكون على اتصال دائم‬
‫بكم‪ ،‬وببطلي الصغير حسن‪.‬‬
‫أهنيت فطوري ثم و َّدعتهم‪ .‬اصطحبتني فريدة حتى‬
‫باب الشقة‪ ،‬وقالت لي‪:‬‬
‫‪190‬‬
‫‪-‬أف ِّكر أن أذهب اليوم مع حسن إلى النادي‪ ،‬كي‬
‫يشرتك يف ورشة الرسم‪ .‬ما رأيك؟‬
‫ِ‬
‫عليك باألمس‪ ،‬لكن‬ ‫‪-‬فكرة رائعة‪ .‬كنت سأقرتحها‬
‫نسيت‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا‪ .‬وأنت انتبه لعملك جيدً ا‪ .‬وال تجعل سمير أو‬
‫ألف سمير ُيع ّكرون صفوك‪ .‬نحن نحتاج إليك‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪-‬اطمئني حبيبتي‪ .‬سيكون كل شيء بخير إن شاء اهلل‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ق ّبلت جبهتها‪ .‬ثم أسرعت إلى سياريت‪ .‬انطلقت هبا‬

‫والتوز عي‬
‫حتى وصلت إلى مقر الشركة‪.‬‬

‫دخلت مكتبي سري ًعا‪ .‬كان مازن ينتظرين كما طلبت‬


‫منه‪.‬‬

‫‪-‬أخربين يا مازن‪ ،‬هل علمت أنصار سمير؟‬


‫‪-‬عرفت بعضهم‪ .‬أخطرهم هو األستاذ إبراهيم العضو‬
‫المنتدب‪ .‬وهو الذي أصدر قرار طرد الموظفين‬
‫أيضا أن سمير وعده‬ ‫بإيعاز من سمير‪ .‬وعرفت ً‬
‫بتولي منصب نائب رئيس مجلس اإلدارة‪ ،‬ومكافأة‬
‫مالية كبيرة طب ًعا‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫‪-‬حسنًا‪ .‬هو رأس الحربة إ ًذا الذي يستند إليه سمير‪.‬‬
‫يجب أن نتخ َّلص منه‪ ،‬لكن بذكاء‪ .‬يجب أن نثير‬
‫الموظفين الحاليين ضده‪ ،‬حتى يعلموا أنه قد يفعل‬
‫هبم مثلما فعل باآلخرين‪ .‬وبالتالي يثورون ضده‪.‬‬
‫وبالطبع لن يستطيع هو وسمير أن يطردوا جميع‬
‫الموظفين‪ .‬لكن هذا الموضوع ال بدَّ أن يتم بمنتهى‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫الحذر يا مازن‪ .‬هل تفهمني؟‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫‪-‬بالتأكيد‪ ،‬أستاذ عبد اهلل‪ .‬اطمئن‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬
‫‪-‬أنا أثق بقدراتك‪ .‬تو ّلى أنت هذا األمر‪ .‬وأنا سأقوم‬
‫بمراجعة جميع ملفات إدارتنا‪ ،‬حتى أؤدي األعمال‬
‫التي تع ّطلت نتيجة غيابي الفرتة الماضية‪.‬‬
‫قضيت باقي النهار أتابع أعمال إداريت‪ .‬وعقلي ال‬
‫يتو ّقف عن التفكير يف صراعي مع سمير‪ .‬ال أعلم ما هناية‬
‫هذا الصراع‪ .‬كما أنني ال أريد أن أنغمس فيه كالسابق‪،‬‬
‫حتى ال تفسد عالقتي مع أسريت ثانيةً‪ .‬شعرت كأن هناك‬
‫شخصين يتصارعان بداخلي‪ :‬أحدهما يدفعني إلكمال‬
‫الصراع لنهايته‪ ،‬واآلخر يتساءل‪ :‬ما جدوى كل هذا؟!‬

‫‪192‬‬
‫اشتقت لإلمام الحسن‪ ،‬فقد انشغلت خالل اليومين‬
‫الماضيين بأمور األسرة والعمل عن سيرته‪ .‬لذلك فقد‬
‫قررت أن أترك العمل ً‬
‫قليل‪ ،‬وأواصل قراءة سيرته‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪193‬‬
‫الحسن بن علي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بعد أن أتممنا دفن أبي‪ ،‬أقبل أهل الكوفة وقادة الجيش‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يبايعونني‪ .‬ومن قد يقبل بالخالفة يف مثل هذه الظروف!‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ُقتِل آخر خليفتين ٍ‬
‫بأيد مسلمة‪ .‬واألمة منقسمة على‬ ‫ُ‬
‫نفسها‪ .‬وحركة الفتوحات متوقفة‪ .‬كان بإمكاين الرفض‬
‫واالعتزال‪ .‬لكنني كنت كأبي‪ ،‬لم أكن ألترك المسلمين‬
‫بعضا دون أن ُأ ِّ‬
‫حرك ساكنًا‪ .‬وقد أيقنت أن‬ ‫ينهش بعضهم ً‬
‫الفتنة ستشتعل أكثر لو لم أوافق على الخالفة‪ ،‬ألن هذا‬
‫س ُيغري ضعاف النفوس بالسعي إليها‪.‬‬

‫أيقنت أن هذه هي اللحظة التي ُخلِقت من أجلها‪ .‬لقد‬


‫راض عن ٍ‬
‫كثير مما يحدث‪ ،‬لكن لم يكن لي من‬ ‫ٍ‬ ‫كنت غير‬
‫إلي دون أن أطلبه‪.‬‬
‫األمر شيء‪ .‬ها هو ذا األمر قد جاء َّ‬
‫‪195‬‬
‫ٍ‬
‫بذكاء‪ .‬فهذه الجموع الهادرة‬ ‫لكن األمر ال بدَّ أن يتم‬
‫ٍ‬
‫رغبة يف الصلح‬ ‫باسمي حال ًّيا لو علموا ما يف نفسي من‬
‫علي وقتلوين كما فعلوا مع أبي عندما خالفهم‬‫النقضوا َّ‬
‫يف أمر التحكيم‪ .‬لذلك فقد قررت أن أقبل بيعتهم‪ ،‬لكن‬
‫بشروطي‪ .‬أمرت بجمع الجيش والناس‪ ،‬ثم وقفت فيهم‬
‫خطي ًبا‪:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫‪-‬يا أيها الناس‪ُ ،‬تبايعونني على كتاب اهلل‪ ،‬وسنة رسوله‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫(صلى اهلل عليه وسلم)؟‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫صاح الناس‪:‬‬

‫‪-‬نبايعك‪.‬‬
‫سكت لحظ ًة ثم أضفت‪:‬‬
‫ُّ‬

‫‪-‬وأن ُتسالموا من سالمت‪ ،‬و ُتحاربوا من حاربت؟‬


‫هدأ الناس عندما سمعوا الجملة األخيرة‪ ،‬يبدو أهنم‬
‫قد فهموا مرادي‪ .‬لك َّن أحدً ا لم يعرتض على كالمي يف‬
‫حينها‪ ،‬أو يحاول الثورة ضدي‪ .‬ربما ألجمتهم المفاجأة‪.‬‬
‫ربما تو ّقعوا أن ُيثيرين مقتل أبي‪ ،‬ويدفعني للقتال‪ .‬لكن‬

‫‪196‬‬
‫على أي حال‪ ،‬فقد بايعوا‪ ،‬وإن كنت أشعر بالحنق يف‬
‫وجوههم‪.‬‬

‫ولم يكد يمر وقت طويل حتى تأكدت من شعوري‪.‬‬


‫علي رجل‪،‬‬
‫فبعد ذلك بأيام قليل‪ ،‬بينما أنا أصلي‪ ،‬إذ وثب َّ‬
‫وطعنني‪ .‬لكن الطعنة وقعت يف وركي‪ ،‬فلم تقتلني‪.‬‬

‫ع‬
‫تي ّقنت حينها أين محق يف رأيي بالصلح؛ فهل مثل هؤالء‬

‫ت‬
‫عول عليهم؟! هؤالء الذين خرجوا على أبي وحاربوه‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ُي ّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وقتلوه‪ .‬وها هم اآلن يحاولون قتلي‪ .‬كيف أثق هبم؟!‬

‫والتوز عي‬
‫مكثت فرت ًة ال أقوى على السير ثم شفاين اهلل‪ .‬فقمت يف‬
‫الناس خطي ًبا‪:‬‬

‫يا أهل العراق‪ ،‬اتقوا اهلل فينا فإنا أمراؤكم وضيوفكم‪،‬‬


‫ِ ِ‬
‫ب‬‫أهل البيت الذين قال اهلل فيهم‪﴿ :‬إِن ََّما ُيرِيدُ اهَّللُ ل ُي ْذه َ‬
‫عنْكُم الرجس َأه َل ا ْلبي ِ‬
‫ت َو ُي َط ِّه َرك ُْم َت ْط ِه ًيرا﴾‪.‬‬ ‫َ ُ ِّ ْ َ ْ َ ْ‬
‫فما زلت أكررها حتى بكى كل من يف المسجد‪.‬‬

‫ثم رأيت أن أوافق أهل العراق يف أمرهم شي ًئا ً‬


‫قليل‪،‬‬
‫علي بالمسير إلى أهل‬ ‫ّ‬
‫حتى يكفوا عن إيذائي‪ .‬فقد ألحوا َّ‬
‫‪197‬‬
‫الشام منذ أول يوم‪ .‬فقررت أن أوافقهم‪ ،‬وأسير إليهم‪.‬‬
‫وجعلت يف المقدمة أقوى فِرق جيشي (شرطة الخميس)‪،‬‬
‫حتى يستشعر الجميع أنني أوافقهم الرأي يف الحرب‪.‬‬
‫ولكن لم يكن يف ن ّيتي القتال‪ ،‬بل الصلح‪ .‬لكنني كنت‬
‫أيضا أرغب يف معرفة ن ّية معاوية‪.‬‬
‫أتح َّين الفرصة‪ .‬وكنت ً‬
‫ولم يكد الجيش يأخذ أماكنه حتى ظهرت رايات‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫جيش الشام يف األفق‪ .‬وحدث تبادل للرسل بيني وبين‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫معاوية يف الخفاء‪ ،‬دون أن يعلم الجيشان باألمر‪ .‬وقد‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لمست يف معاوية رغبة يف الصلح على أن يتولى الخالفة‪.‬‬

‫ع‬
‫كنت أوافقه على الصلح‪ ،‬لكنني أشرتط شرو ًطا للموافقة‬
‫على تسليم أمر الخالفة له‪ .‬وقد استجاب معاوية لهذه‬
‫رجل ليقوم بكتابة كتاب الصلح‬ ‫الشروط‪ ،‬وبعث كل منا ً‬
‫كما اتفقنا‪ .‬لكن تب َّقت الخطوة األهم‪ ،‬أال وهي إعالن‬
‫األمر للناس‪ .‬وقد قررت أن ُأ ِّ‬
‫مهد األمر للناس‪ ،‬وال أذكره‬
‫لهم مباشرةً‪.‬‬
‫فأمرت بجمع أهل العراق‪ ،‬وقمت فيهم خطي ًبا‪:‬‬
‫إين أرجو أن أكون أنصح خلف لخلفه‪ ،‬وما أنا محتمل‬
‫َع َلى أحد ضغينة َوال حقدً ا‪ ،‬وال مريد بِ ِه غائلة َوال سو ًءا‪،‬‬

‫‪198‬‬
‫أال وإن َما تكرهون فِي الجماعة خير لكم مما تحبون فِي‬
‫خيرا من نظركم ألنفسكم‪ ،‬فال‬ ‫الفرقة‪ ،‬أال وإين ناظر لكم ً‬
‫علي‪ ،‬غفر اهَّلل لي ولكم ‪...‬‬
‫تخالفوا أمري وال تردوا َّ‬
‫علي عدد منهم‪،‬‬
‫ولم أكد أكمل جملتي حتى هجم َّ‬
‫فش ّقوا ردائي‪ ،‬وسحبوا مصالي من تحتي‪ ،‬وخلعوا‬
‫فتجمع حولي عدد من أنصاري‪ ،‬فأبعدوهم‬ ‫خيمتي‪.‬‬

‫ع‬
‫َّ‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫عني‪ ،‬وأتوا ببغلتي وأركبوين عليها‪ ،‬حتى أبتعد عن األذى‪.‬‬

‫ت‬
‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫فلم أكد أبتعد هبا ً‬
‫قليل حتى ضرب البغلة رجل بالمعول‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫أرضا‪ .‬ثم ضربني به يف فخذي وهو يقول‪:‬‬
‫علي على‬
‫فأسقطني ً‬
‫«أشركت يا حسن كما أشرك أبوك»‪ .‬ثم انقض َّ‬
‫األرض وتصارعنا‪ .‬حتى جاء بعض أنصاري‪ ،‬فسحبوا‬
‫المعول من يده وقتلوه‪.‬‬

‫بعد هذه الحادثة‪ ،‬أردت إهناء هذا األمر بأسرع وقت‪.‬‬


‫فطلبت الطبيب سري ًعا‪ ،‬حتى ُيعالج جرحي‪ .‬وبمجرد أن‬
‫برئت‪ ،‬جمعت قادة جيشي‪ ،‬وكبار أهل العراق‪ ،‬وقلت‬
‫لهم‪« :‬يا أهل العراق‪ ،‬لو لم َت ْذ َه ْل نفسي عنكم إال لثالثة‬
‫أمور َل َذ َه ْل ُت‪ :‬مقتلكم أبي‪ ،‬ومطعنكم بغلتي‪ ،‬وانتهابكم‬
‫‪199‬‬
‫ردائي عن عاتقي‪ .‬وإنكم قد بايعتموين أن تسالموا من‬
‫سالمت وتحاربوا من حاربت وإين قد بايعت معاوية‬
‫فاسمعوا له وأطيعوا»‪ .‬ثم تركتهم ودخلت خيمتي‪.‬‬

‫ثم اجتمعنا أنا ومعاوية يف مكان بين الشام والعراق‪،‬‬


‫واجتمع لدينا كبار أهل الشام والعراق‪ ،‬لقراءة كتاب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الصلح أمام الناس‪ ،‬ومبايعته‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫فقام كاتب الصالح ليتلوه على الناس ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫بن علي معاوي َة‬
‫الحسن ُ‬
‫ُ‬ ‫أيها الناس‪ ،‬هذا ما صالح عليه‬
‫بن أبي سفيان‪ ،‬صالحه على‪:‬‬

‫ول َية ا ْل ُمسلمين على َأن ي ْعمل فيهم‬ ‫* َأن يسلم إِ َل ْي ِه َ‬ ‫*‬
‫بِكِتَاب اهلل َت َعا َلى َوسنة َر ُسول اهلل (صلى اهلل َع َل ْي ِه‬
‫اشدين المهديين‪.‬‬ ‫وسلم) وسيرة ا ْلخُ َل َفاء الر ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫* َو َل ْي َس لمعاوية بن أبي ُس ْف َيان َأن ي ْع َهد إِ َلى أحد من‬ ‫*‬

‫بعده بالخالفة‪ ،‬بل يكون ْالَمر من بعده ُش َ‬


‫ورى َبين‬
‫ا ْل ُمسلمين‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫ث كَانُوا من َأرض اهلل‬
‫*و َعلى َأن النَّاس آمنون َح ْي ُ‬ ‫*‬
‫( َت َعا َلى) فِي شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم‪.‬‬

‫لي وشيعته آمنون على أنفسهم‬ ‫َ َ‬


‫*و َعلى أن أ ْص َحاب َع ّ‬ ‫*‬
‫ِ ِ‬
‫الهم َون َسائ ِه ْم َو َأ ْو َل ْ‬
‫دهم َح ْي ُ‬
‫ث كَانُوا‪.‬‬ ‫َو َأ ْم َو ْ‬
‫ثم قمت يف الناس خطي ًبا‪ ،‬وقلت لهم‪« :‬أيها الناس‪،‬‬

‫ع‬
‫إين كنت أكره الناس ألول هذه الفتنة‪ ،‬وهو القتال‪ .‬وأنا‬
‫بالصلح والتنازل عن الخالفة لذي حق‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫أصلحت آخرها ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أديت إليه حقه‪ ،‬أو حق لي ُجدت به لصالح أمة محمد‪.‬‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫وإن اهلل قد والك يا معاوية هذا األمر لخير يعلمه عندك‬
‫أو لشر يعلمه فيك‪﴿ .‬و َِإ ْن أَ ْدرِي لَعَل ّ َه ُ فِت ْن َة ٌ �لَك ُ ْم وَم َتاعٌ ِإلى‬
‫حِينٍ﴾‪.‬‬

‫ثم بايعت‪ ،‬وبايع الناس‪ .‬منهم الكاره للصلح ومنهم‬


‫المستحسن له‪ ،‬لكن الكل بايع‪.‬‬
‫ُ‬
‫وبعد إتمام الصلح‪ ،‬عدت إلى الكوفة‪ ،‬فقابلني رجل‬
‫من أنصاري‪ ،‬فقال لي‪« :‬السالم عليك يا مذل المؤمنين»‪.‬‬

‫فقلت له‪« :‬ال تقل ذلك‪ ،‬لم أذل المؤمنين‪ .‬ولكني‬


‫كرهت أن أقتلهم يف َط َلب ُ‬
‫الملك»‪.‬‬
‫‪201‬‬
‫وجدت أنه ال ُمقام لي يف العراق يف ظل حالة االحتقان‬
‫الصلح‪ ،‬كما أنني‬
‫التي تسود بين أهل العراق تجاهي بعد ُ‬
‫قد اشتقت لمدينة جدي (صلى اهلل عليه وسلم)‪ .‬فأخذت‬
‫أهلي ومن جاء معي‪ ،‬ورجعت إلى المدينة‪.‬‬

‫‪G‬‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ع‬‫والتوزي‬

‫‪202‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ويسارا‪ ،‬وأنا أقرأ هذا الجزء‪.‬‬
‫ً‬ ‫هززت رأسي يمينًا‬

‫والتوز عي‬
‫شعرت باضطراب شديد‪ ،‬وأنا أقرأ هذه التفاصيل الصعبة‬
‫تعرض لها اإلمام الحسن‪ .‬كنت قد قرأت ساب ًقا عن‬‫التي َّ‬
‫الصلح بين الحسن ومعاوية‪ ،‬لكنني لم أنغمس يف كل هذه‬ ‫ُ‬
‫التفاصيل‪ .‬كان جزء منّي يتفق مع اإلمام الحسن يف صلحه‪،‬‬
‫وجزء آخر يرى أنه كان بإمكانه أن ُيدير األمر بدهاء وحزم‬
‫أكثر من هذا‪ ،‬ويحتفظ لنفسه بحق الخالفة‪ .‬شعرت كأن‬
‫هناك صوتين يتصارعان بداخلي‪.‬‬

‫استولى هذا التفكير على ذهني‪ .‬واألكثر من هذا أنه‬


‫جرين للتفكير يف الصراع بيني وبين سمير‪ ،‬رغم أنني‬ ‫َّ‬

‫‪203‬‬
‫باألساس قرأت سيرة اإلمام‪ ،‬حتى ُأريح عقلي ً‬
‫قليل من‬
‫التفكير يف هذا الصراع‪.‬‬

‫جال يف رأسي خاطر‪:‬هل يمكن أن ُأصالح سمير كما‬


‫صالح الحسن معاوية؟!‬
‫هززت رأسي ٍ‬
‫بقوة كأنني ُأزيل هذه الفكرة عنّي؛ فرئاسة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مجلس إدارة الشركة حقي‪ ،‬ولن أتنازل عنها مهما حدث‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫لكن عاد الصوت اآلخر يقول‪ :‬وإلى متى يستمر هذا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫الصراع؟! وماذا ستكون نتيجته؟! لقد كدت تفقد ابنك يف‬

‫ع‬
‫لحظة‪ ،‬وكنت ستخسر معه كل شيء‪ :‬زوجتك‪ ،‬وبيتك‪،‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫وربما أمك ً‬

‫اشتد الصراع بداخلي‪.‬‬

‫كان اإلمام الحسن يتصارع مع َمن حوله يف أمر الصلح‪،‬‬


‫أما أنا فالصراع يدور بداخلي‪.‬‬

‫إلى أين تأخذين سيرتك يا إمام؟!‬

‫هل هذا ما كنت تقصده حين أخربتني أن التاريخ ال‬


‫ُيقرأ لكن ُيعاش‪ .‬بدأت أشعر أنني أعيش سيرة اإلمام ً‬
‫فعل‪.‬‬
‫‪204‬‬
‫أشعر أهنا تتغلغل يف حيايت‪ .‬فقد غ َّيرت عالقتي بابني‪ ،‬وها‬
‫هي تجعلني للمرة األولى ُأف ِّكر يف الصلح مع سمير‪.‬‬

‫شعرت أن رأسي ثقيل‪ ،‬فأغلقت الكتاب‪ ،‬ووضعت‬


‫رأسي على المكتب‪ ،‬فربما أحصل على قلي ٍل من الراحة‪.‬‬

‫‪G‬‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫والتوز عي‬

‫‪205‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫فتحت عيني ألجد نفسي ُملقى وسط صحراء قاحلة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫شعرت أنني قد عشت هذه اللحظة من قبل‪ .‬بدأت أتحسس‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫دائما ما أستيقظ‬
‫كثيرا‪ .‬ال أعلم لماذا ً‬
‫جسدي الذي يؤلمني ً‬
‫ألجد نفسي وسط الصحراء‪ .‬أال يمكن أن أستيقظ ألجد‬
‫نفسي يف حديقة جميلة أو على شاطئ البحر ً‬
‫مثل!‬

‫التفت سري ًعا‬


‫ُّ‬ ‫سمعت أصوات صراخ تأيت من خلفي‪.‬‬
‫ورجل يصرخ‪ :‬الفرس يهجمون‬ ‫ً‬ ‫ألجد خيا ًما مشتعلة‪،‬‬
‫علينا‪.‬‬

‫فجأة اندفعت فرق من الفرسان والمشاة نحو الخيام‪،‬‬


‫قتل وحر ًقا وتشريدً ا‪ .‬لم أفهم يف أي زمن‬
‫وعاثت فيها ً‬
‫نحن‪ ،‬ومن هؤالء الذين هجم عليهم الفرس‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫فجأة صرخ رجل من أهل الخيام‪ :‬اهلل أكبر‪.‬‬

‫حسنًا إ ًذا‪ ،‬هم مسلمون‪ .‬أهل الخيام مسلمون‪ .‬هل‬


‫نحن يف خالفة ُعمر بن الخطاب‪ ،‬وهذه معركة القادسية‬
‫ً‬
‫مثل؟‬

‫عما يحدث‪ ،‬لكن األمر‬


‫حاولت أن أسأل أحد الرجال َّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫إلي‪ .‬ال أحد‬
‫كان يبدو كما لو أهنم ال يرونني‪ .‬ال أحد ينظر َّ‬

‫ت‬
‫علي أو قتلي‪ .‬شعرت كأنني أشاهد‬
‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫يحاول حتى الهجوم َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫فيلما سينمائ ًّيا من الداخل‪.‬‬

‫والتوزي‬
‫ً‬

‫ع‬
‫لمحت رجلين من أهل الخيام يختبآن خلف جبل‪،‬‬
‫فذهبت ألختبئ معهما‪ .‬ال أعلم مم أتخ َّفى! فال أحد يراين‬
‫على أي حال‪.‬‬

‫قال أحدهما‪ :‬سامح اهلل الحسن ومعاوية‪ ،‬استمرا يف‬


‫حرهبما ألربع سنوات حتى ضعفت جيوش المسلمين‪،‬‬
‫و ُقتِل الكثير من فرسان وأبطال اإلسالم والصحابة يف‬
‫حروهبما الضروس‪ ،‬وأهمال حدود الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫وهذه هي النتيجة‪ .‬لقد استجمع بقايا الفرس والروم‬
‫قواهم‪ ،‬وهجموا علينا من الشرق والغرب‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫كبيرا يف بحر‬ ‫ً‬
‫أسطول ً‬ ‫فر َّد عليه اآلخر‪ :‬لقد جمع الروم‬
‫الروم‪ ،‬وهجموا بضراوة على بالد إفريقية ومصر والشام‪.‬‬
‫مروعة‪ .‬وها هم الفرس قد جمعوا شتاهتم‪،‬‬ ‫كانت مذبحة ِّ‬
‫وهجموا علينا‪ ،‬لينتقموا منا‪.‬‬

‫فقال له األول‪ :‬ها هم الروم قد حاصروا معاوية يف‬

‫ع‬
‫الشام‪ ،‬والفرس يحاصرون الحسن يف العراق‪ .‬فماذا جنى‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫اإلسالم من صراعهما! وماذا جنى كل منهما من قتاله‬

‫ت‬
‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫على الخالفة! لقد اهنار كل شيء‪ .‬هلل األمر من قبل ومن‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬ ‫بعد‪.‬‬

‫ذهلت من هول ما سمعت‪ .‬هل اهنارت دولة اإلسالم‬


‫ح ًّقا؟! هل ضاع كل شيء؟!‬

‫راكضا يف الصحراء الجرداء‪ .‬ال‬


‫ً‬ ‫وجدت نفسي أنطلق‬
‫أعلم إلى أين أذهب‪ .‬لكنني أريد االبتعاد عن هذا المكان‬
‫المليء بالدماء والحرائق واألشالء‪.‬‬

‫تائها يف الصحراء‪ ،‬ال أدري إلى أين أذهب‪.‬‬


‫وقفت ً‬
‫ما الذي رأيته؟‬

‫‪209‬‬
‫جاء هذا الصوت من خلفي فجأةً‪ .‬انتفضت من مكاين‪،‬‬
‫وسقطت على األرض من هول المفاجأة‪.‬‬

‫التفت خلفي‪ ،‬ألجده واق ًفا أمامي هبيئته الوقورة كما‬


‫َّ‬
‫رأيته أول مرة‪.‬‬

‫‪ -‬هذا أنت يا إمام! لقد أفزعتني‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫عذرا يا بني‪ .‬هل أنت ٍ‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫بخير اآلن؟‬ ‫‪ً -‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫‪ -‬ال أدري‪ .‬لكن أخربين يا إمام‪ .‬ما هذه الخيام التي‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫تحرتق؟ وكيف عاد الفرس مر ًة أخرى؟ وكيف ‪...‬‬

‫ع‬ ‫‪ -‬على رسلك يا بني‪ .‬ما الذي رأيته؟‬


‫‪ -‬رأيت الفرس يهجمون على معسكر المسلمين‪.‬‬
‫وعلمت أن الروم قد هجموا على إفريقية ومصر‬
‫والشام‪ ،‬بسبب صراعك مع معاوية لمدة أربع‬
‫سنوات‪ .‬هل حدث هذا ح ًّقا؟ ألم ِ‬
‫ينته األمر بينكما‬
‫بالصلح؟‬
‫‪ -‬أخربين ً‬
‫أول‪ .‬هل قرأت عن هذا الصراع؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪210‬‬
‫‪ -‬وما رأيك‪ ،‬كيف ُيمكن أن ينتهي من وجهة نظرك؟‬
‫‪ -‬أرى أنك صاحب الحق‪ ،‬ويجب أن تتمسك به‪ ،‬ألن‬
‫تنازلك عن حقك سيعطي رسالة سلبية للناس أن‬
‫الحق ال ينتصر‪.‬‬
‫‪ -‬ألست تؤمن أن محمدً ا هو رسول اهلل ح ًّقا؟‬

‫ع‬
‫‪ -‬بالتأكيد يا إمام‪ .‬وهل يف ذلك شك؟!‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫‪ -‬أال تعلم أن جدي ﷺ قد صالح المشركين يف عام‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫الحديبية؟‬

‫والتوز عي‬
‫‪ -‬بلى‪ ،‬أعلم‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعلم أنه كتب يف بداية الصلح «هذا ما صالح‬
‫عليه محمد رسول اهلل»‪ ،‬لكن المشركين قد طلبوا‬
‫منه أن يحذف رسول اهلل‪ ،‬ويكتب «محمد بن عبد‬
‫اهلل» فوافقهم على هذا؟ إ ًذا فقد تنازل جدي عن‬
‫حقه يف كتابة «رسول اهلل»‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬بلى‪.‬‬
‫‪ -‬فما رأيك يف هذا؟‬
‫‪ -‬ربما هو وافقهم على ذلك‪ ،‬حتى يتم الصلح‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫‪ -‬بالفعل‪ .‬لقد تنازل عن حقه يف كتابة «رسول اهلل» من‬
‫أجل ما هو أهم أال وهو إتمام الصلح الذي كانت‬
‫نتائجه عظيمة للمسلمين‪ ،‬حتى إن اهلل قد قال فيه‬
‫}إِنَّا َفت َْحنَا َل َ‬
‫ك َفت ًْحا ُّمبِينًا{‪ .‬فقد تنازل الرسول عن‬
‫حقه يف سبيل مصلحة المسلمين‪ .‬وقد فعل ذلك مع‬
‫المشركين‪ ،‬أفال أفعله أنا مع المسلمين؟!‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬صدقت يا إمام‪ .‬لم أنتبه لهذا من قبل‪ .‬لكن هل هذا‬

‫ل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫دائما يتنازل؟!‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫معناه أن الحق ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫‪ -‬بالطبع ال‪ .‬ال تظن أن تنازلي عن الخالفة جاء‬

‫ع‬
‫لضعف منِّي‪ .‬لقد كانت رؤوس العرب بيدي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫يسالمون من سالمت‪ ،‬ويحاربون من حاربت‪.‬‬
‫وكان معي من الدهاة َمن تزول من مكرهم الجبال‪.‬‬
‫لكنني ما كنت ألريق دماء المسلمين‪ ،‬وأمكر هبم‬
‫محصورا بين‬
‫ً‬ ‫الملك‪ .‬لقد وجدت نفسي‬ ‫يف سبيل ُ‬
‫حقي‪ ،‬ومصلحة المسلمين‪ ،‬فاخرتت مصلحة‬
‫المسلمين‪ .‬وال تغفل أنني قد أمليت عليه شروطي‬
‫يف الصلح‪ ،‬فقد تنازلت من موقع قوة‪ .‬هذه هي الدنيا‬
‫يا ُبني‪ ،‬مجموعة من االختيارات الصعبة‪ ،‬وال بدَّ أن‬
‫تختار بينها‪ .‬فال تجعل نظرتك لألمور ضيقة‪ ،‬وانظر‬
‫‪212‬‬
‫للمصلحة العامة‪ .‬وإياك وإضاعة حقوق الناس‬
‫يف سبيل تحصيل حقك؛ فإن حقوق الناس ثقيلة‪،‬‬
‫وإنك لن تقدر على حملها يف اآلخرة‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا فعلت بعد الصلح يا إمام؟‬
‫‪ -‬لقد كنت كبير آل علي بن أبي طالب‪ ،‬وبني هاشم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بحاجة إلى الرعاية‪.‬‬ ‫صغارا‬ ‫وقد ترك لي أبي إخو ًة‬
‫ً‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫أيضا كان لي أطفال صغار‪ .‬لذلك فقد أخذت‬
‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫وأنا ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أهلي‪ ،‬وعدت هبم إلى المدينة ألرعى شئوهنم‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫وأعتني بأطفالهم‪ ،‬وأقيم الحق بينهم‪ ،‬وأعلمهم‬
‫أهل لهذا الدين‪ .‬أحيانًا يا‬‫أمور دينهم‪ ،‬حتى يكونوا ً‬
‫بني تحتاج إلى طي صفحة الماضي‪ ،‬وبدء صفحة‬ ‫ّ‬
‫جديدة‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫‪213‬‬
‫فريدة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كنت أجلس يف النادي أنتظر حسن حتى ُينهي ورشة‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫الرسم التي عاد الستئنافها مر ًة أخرى بعد اتفاقي مع عبد‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫اهلل‪ .‬كان الجو ً‬
‫منعشا‪ ،‬وهو ما ساعدين على التفكير يف كل‬
‫شيء حدث خالل الفرتة الماضية‪ :‬خالفايت مع عبد اهلل‪،‬‬
‫صراعه مع سمير‪ ،‬حادثة حسن‪ ،‬سيرة اإلمام الحسن‪ .‬لقد‬
‫كان التغيير الذي حدث لنا خالل الفرتة الماضية جذر ًّيا‬
‫فعال‪ .‬تذكرت مقولة أمي «ال أحد‬ ‫وعني ًفا ً‬
‫أيضا إال أنه كان ً‬
‫يتعلم مجانًا»‪.‬‬

‫ف َّكرت ً‬
‫أيضا يف عملي الذي انقطعت عنه منذ حادثة‬
‫حسن‪ .‬لقد بدأت عملي هذا باألساس‪ ،‬كي أبحث عن‬
‫ذايت‪ ،‬وأحقق طموحايت‪ .‬رغم أنه عمل شاق‪ ،‬ويشغل أكثر‬
‫وأيضا لي فيه مستقبل ُم ِّ‬
‫بشر‪ .‬كنت‬ ‫وقتي فإن راتبه كبير‪ً ،‬‬

‫‪215‬‬
‫مقتنع ًة به بشدة يف البداية‪ ،‬لكن اآلن تزعزعت قناعتي‪.‬‬
‫كأنني فقدت شغفي به‪ ،‬خاصة بعد أن كدت أفقد ابني‬
‫ٍ‬
‫جديدة‪.‬‬ ‫بسبب انشغالي به‪ .‬أشعر أنني أحتاج إلى ٍ‬
‫بداية‬
‫‪-‬هل بإمكاين الجلوس ِ‬
‫معك‪ ،‬سيديت؟‬
‫قطع أفكاري هذا الصوت المألوف‪ .‬نظرت خلفي فإذا‬

‫ع‬
‫هو عبد اهلل‪ .‬تفاجأت بوجوده؛ فليس معتا ًدا أن يأيت إلى‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫أيضا‪ .‬قلت له مازحةً‪:‬‬
‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫هنا‪ ،‬ويف هذا التوقيت ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫‪-‬هل أعرفك‪ ،‬سيدي؟‬

‫ع‬ ‫‪-‬فلنعتربها فرص ًة للتعارف الجاد‪.‬‬


‫‪-‬صرت عاطف ًّيا هذه األيام على غير المعتاد‪.‬‬
‫ضك عن الماضي‪.‬‬ ‫‪-‬ربما أحاول أن أعو ِ‬
‫ّ‬
‫‪-‬وما هذه المفاجأة السعيدة! لم تخربين أنك ستأيت‪.‬‬
‫قليل يف المكتب‪ .‬وف َّكرت‬
‫أنجزت أعمالي ثم غفوت ً‬
‫أن آيت إلى هنا‪.‬‬

‫قائما بينك‬
‫‪-‬أشعر أنك مشوش‪ .‬هل ما زال الصراع ً‬
‫وبين سمير؟‬

‫‪216‬‬
‫أومأ برأسه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫‪-‬أشعر أنني يف مفرتق طرق‪ .‬وال أعلم أي طريق‬


‫أختار‪.‬‬
‫كثيرا عن تفاصيل عملك‪.‬‬
‫‪ -‬اسمعني جيدً ا‪ .‬ال أعلم ً‬
‫وال أعلم كيف ُيمكن أن ينتهي هذا الصراع‪ .‬لكن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تأكد أين سأكون معك أ ًّيا كان الطريق الذي ستسلكه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫نظرت إلى وجهه‪ ،‬فرأيته مضطر ًبا بشدة‪ .‬مددت يدي‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫ووضعتها على يده‪ ،‬وابتسمت‪ .‬فابتسم هو اآلخر ابتسام ًة‬
‫لم ُت ِ‬
‫خف اضطرابه‪ ،‬ور َّبت على يدي كأنه ُيطمئنني أن كل‬
‫بحاجة إلى بعض الهدوء‪ ،‬لذلك‬ ‫ٍ‬ ‫شيء بخير‪ .‬شعرت أنه‬
‫لم ُأكثر معه الكالم‪ .‬كم أتمنى أن ينتهي صراعه مع سمير‬
‫بأي شكلٍ‪ ،‬ألين ال أريد أن أخسره خاص ًة بعد هذا التغيير‬
‫اإليجابي الذي حدث له‪.‬‬

‫بعد ساعة‪ ،‬جاء حسن‪ .‬تفاجأ من وجود أبيه‪ ،‬لذلك‬


‫احتضنه بشدة‪ .‬ثم عرض علينا رسوماته‪.‬‬

‫‪ -‬ما رأيكما يف رسومايت؟‬

‫‪217‬‬
‫ٍ‬
‫رسومات تاريخي ًة‬ ‫‪ -‬رائعة يا حبيبي‪ .‬لقد صرت ترسم‬
‫كثيرا يف الفرتة األخيرة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬منذ أن أخربين أبي وجديت عن الحسن بن‬
‫أيضا أن أتدرب على ركوب الخيل‪.‬‬ ‫علي‪ .‬أريد ً‬
‫فرسا‪ ،‬وأقفز به من فوق‬
‫أمرا رائ ًعا أن أمتطي ً‬
‫سيكون ً‬
‫الحواجز‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫شعرت بقشعريرة تسري يف جسدي من كلمات حسن‪.‬‬
‫ع‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫يبدو أن تأثير الحسن بن علي قد وصل إلى حسن ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫فقلت له‪:‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬سنفكر يف هذا األمر‪ .‬ما رأيك أن نتناول الغداء اآلن‬
‫م ًعا ثم نذهب للبيت؟‬

‫‪G‬‬

‫‪218‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫كنت أجلس مع مازن يف مكتبي بالشركة‪ ،‬حتى ُيطلعني‬

‫ل‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫على آخر أخبار سمير ورجاله كما طلبت منه ساب ًقا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪-‬لقد بدأت بالفعل يف إشعال الموظفين ضد العضو‬
‫المنتدب كما طلبت مني يا أستاذ عبد اهلل‪ ،‬وبدأت‬
‫حالة من التذ ُّمر ضده‪ .‬وقري ًبا سنراه مطرو ًدا من‬
‫الشركة‪.‬‬
‫‪-‬وماذا بعد العضو المنتدب؟‬
‫عفوا يا أستاذ‪ ،‬لم أفهم قصدك‪ .‬ماذا بعده؟!‬
‫‪ً -‬‬
‫‪-‬أقصد ما الخطوة التالية؟‬
‫‪ -‬سنقوم باستهداف جميع األفراد الموالين لسمير‬
‫حتى نتخلص منهم الواحد تلو اآلخر ثم ن ِ‬
‫ُجهز على‬
‫سمير يف النهاية‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫‪-‬وكم سيستمر هذا األمر؟‬
‫أمرا بسي ًطا بالطبع‪ .‬وال‬
‫‪-‬ال أدري‪ .‬لكنه لن يكون ً‬
‫أيضا أن سمير هو اآلخر يتحرك ضدنا‪ ،‬وهو ما‬
‫تنس ً‬
‫َ‬
‫سيطيل عمر الصراع‪.‬‬
‫‪-‬تعني أن األمر قد يستمر لشهور وربما سنوات!‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬ ‫‪-‬ربما‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪-‬وأحوال الشركة ستظل مضطربة طوال هذه الفرتة!‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫‪-‬ربما سيخشى بعض عمالئنا من ضخ المزيد من‬
‫أموالهم وأعمالهم يف الشركة طوال هذه الفرتة‪ .‬لكن‬
‫بعد أن ينتهي هذا الصراع ‪...‬‬
‫‪-‬سأرث خرابة‪ .‬بعد أن ينتهي الصراع ستكون الشركة‬
‫تحولت إلى خرابة‪.‬‬
‫قد َّ‬
‫ثم وجدت نفسي أقولها بحزم كأنني أزيح ً‬
‫ثقل عن‬
‫صدري‪:‬‬

‫‪-‬سأتنازل عن رئاسة الشركة لسمير‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫‪-‬ماذا؟! أستاذ عبد اهلل‪ ،‬هذا حقك‪ ،‬كيف تتنازل عنه؟!‬
‫لقد قمنا بالفعل بتحديد األشخاص الموالين ‪...‬‬
‫‪ -‬صدقني يا مازن‪ .‬بعد أن نتخلص من سمير وأعوانه‪،‬‬
‫فلن تكون الشركة خالصة لنا كما تظن‪ .‬هل تظن أن‬
‫هؤالء األشخاص الموالين لنا يفعلون هذا ح ًّبا‬
‫فينا‪ .‬كال‪ ،‬إهنم يفعلون ذلك طم ًعا يف المزيد من‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الصالحيات والمال عندما نظفر بإدارة الشركة‪.‬‬
‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫وسنكون قد تخلصنا من سمير‪ ،‬وصنعنا مائة سمير‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫ً‬
‫بدل منه‪.‬‬
‫أيضا ثم‬
‫‪ -‬إن فعلوا ذلك‪ ،‬سنثير الموظفين ضدهم ً‬
‫نتخلص ‪...‬‬
‫‪ -‬وبعد أن نتخلص منهم‪ ،‬يظهر لنا آخرون فنتخلص‬
‫أيضا‪ ،‬وهكذا يفنى عمرنا كله يف الصراعات‪،‬‬ ‫منهم ً‬
‫وتنهار الشركة‪ .‬ال‪ ،‬لن أقبل هبذا‪ .‬سأقوم بتسوية األمر‬
‫مع سمير‪ ،‬وسأراعي مصلحة الجميع‪ .‬واطمئن يا‬
‫مازن‪ ،‬سأضمن لك مكاين يف الشركة‪.‬‬
‫‪ -‬مكانك! هل تقصد أنك سترتك الشركة هنائ ًّيا؟!‬

‫‪221‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أحتاج إلى طي صفحة الماضي‪ ،‬وبدء صفحة‬
‫جديدة‪ .‬ال تظن أنني أفعل هذا بسبب ضعفي‪ ،‬لكنني‬
‫ال أريد مزيدً ا من الصراعات والخسائر‪.‬‬
‫متجها نحو مكتب سمير‪ .‬كنت قد‬
‫ً‬ ‫خرجت من مكتبي‬
‫أعددت مسودة بشروط التنازل‪ ،‬ألعرضها عليه‪ .‬طرقت‬
‫باب مكتبه ثم دخلت‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬
‫ساخرا‪:‬‬ ‫قال‬

‫بل‬
‫ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫‪-‬هل جئت لتخربين أن أذهب وأموالي للجحيم كما‬

‫ع‬ ‫قلت آخر مرة؟!‬


‫ً‬
‫متجاهل سماجته‪:‬‬ ‫قلت له‬

‫‪-‬بل جئت ألعرض عليك التنازل عن رئاسة مجلس‬


‫اإلدارة‪.‬‬
‫سادت دقيقة من الصمت‪ .‬رأيت الدهشة تعلو وجه‬
‫سمير‪.‬‬

‫ثم قال لي متشك ًكا‪:‬‬

‫‪-‬هل هذه ُخدعة جديدة يا عبد اهلل؟‬


‫‪222‬‬
‫‪-‬بل حقيقة يا سمير‪ .‬وقد جئت بمسودة التنازل؛‬
‫ٍ‬
‫شروط‬ ‫حتى تتأكد من جد ّيتي‪ .‬وقد وضعت خمسة‬
‫للتنازل‪.‬‬
‫أعطيته المسودة‪ ،‬ثم جلست أتأمل تعبيرات وجهه التي‬
‫تتنوع بين الدهشة والتفكير الشديد يف أثناء قراءته المتمهلة‬
‫لها‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫بعد فرتة من الصمت قال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫‪-‬أما الشرط األول المتعلق بأخذك مبلغ من المال‬
‫لدي يف هذا‪ .‬وشرطك‬ ‫مقابل التنازل‪ ،‬فال مانع َّ‬
‫الثاين المتعلق بعودة جميع الموظفين المفصولين‬
‫لعملهم‪ ،‬فال أعلم ح ًّقا ما أهمية هؤالء الموظفين‬
‫بالنسبة لك طالما أنك ستتنازل‪ ،‬لكن حسنًا‪ ،‬ال مانع‬
‫لدي‪ ،‬سأعيدهم ألعمالهم‪ .‬أما بخصوص الشرط‬ ‫َّ‬
‫الثالث المتعلق بإهناء عمل األستاذ إبراهيم العضو‬
‫المنتدب‪ ،‬والرابع المتعلق بتعيين مساعدك مازن‬
‫مديرا للشئون القانونية ً‬
‫بدل منك‪ ،‬فال أوافق عليهما‪.‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬األستاذ إبراهيم سبب أساسي فيما يحدث اآلن‬
‫بسبب قراراته التعسفية‪ ،‬وأطماعه التي ال َتخفى‬
‫‪223‬‬
‫على أحد‪ ،‬وأنت شخص ًّيا تعلمها‪ .‬كما أن الموظفين‬
‫يتعمد إيذاءهم‪ .‬ومازن هو أكفأ‬ ‫َّ‬ ‫يكرهونه‪ ،‬ألنه‬
‫موظف يف إدارة الشئون القانونية‪ ،‬وهو األولى هبذا‬
‫المنصب‪ .‬وأنت تعلم كفاءته جيدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا تريد أن تتحكم باألمور رغم أنك ستتنازل؟!‬
‫‪ -‬ال أريد التحكم باألمور‪ ،‬بل أريد أن أطمئن على‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫وضع الشركة قبل رحيلي‪ .‬فرغم استعدادي للرحيل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عن الشركة؛ فإهنا ستظل شركة جدي وأبي‪ ،‬وال‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫أقبل أن يتدنَّى حالها أو يتأذى موظفوها الذين أفنوا‬

‫ع‬ ‫عمرهم فيها‪.‬‬


‫‪-‬ألم أقل لك إنك صرت عاطف ًّيا يا عبد اهلل! وماذا لو‬
‫رفضت هذين الشرطين؟‬
‫‪-‬سأستمر يف صراعي معك‪ ،‬وسآخذ هذا الصراع‬
‫لمستويات أعلى من الحدة‪ .‬اسمع يا سمير‪ ،‬إنني لم‬
‫أعرض عليك التنازل بسبب ضعفي أو مللي‪ ،‬لكنني‬
‫ال أريد أن تنهار الشركة التي أفنيت عمري فيها‪ .‬وال‬
‫أريد ألحد أن يتأذى‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬دعني أف ِّكر‪.‬‬
‫‪224‬‬
‫‪-‬ال مجال للتفكير‪ .‬أريد لهذا األمر أن ينتهي اآلن‪ .‬ما‬
‫رأيك؟‬
‫نفسا عمي ًقا‪ .‬ثم قال‪ :‬حسنًا‪،‬‬
‫سكت سمير‪ ،‬وأخذ ً‬
‫وافقت على شروطك األربعة‪ .‬لكنك أخربتني أن لك‬
‫خمسة شروط‪ ،‬ما الشرط الخامس؟‬

‫ع‬
‫هو شرط شخصي‪ ،‬ال عالقة له بالعمل‪.‬‬

‫***‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوز عي‬
‫بعد أن أهنيت االتفاق مع سمير خرجت من المكتب‪.‬‬

‫مزيجا من الحزن‬
‫ً‬ ‫كانت مشاعري مضطربة‪ .‬كانت‬
‫والهدوء النسبي والفراغ‪ :‬حزن على فِراق الشركة‪ ،‬وفِراق‬
‫خمسة عشر عا ًما من عمري قضيتها فيها‪ ،‬وهدوء ألين‬
‫أخيرا تخ َّلصت من هذا الصراع ُ‬
‫المرهق‪ ،‬والفراغ ألنني‬ ‫ً‬
‫ألول مرة أجد نفسي بدون عمل‪ ،‬بدون هدف‪.‬‬

‫قليل كأين أو ِّدعها‪َّ .‬‬


‫تمشيت‬ ‫أتجول يف الشركة ً‬
‫قررت أن َّ‬
‫بين طرقاهتا‪ ،‬وأنا أتأمل الحوائط والمكاتب والموظفين‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫شعرت أن الجدران حزينة لفراقي‪ ،‬فتحسستها بيدي كأين‬
‫أواسيها وأخفف عنها‪.‬‬

‫متعجبين‪ ،‬ربما‬
‫ِّ‬ ‫كان الموظفون يختلسون النظر لي‬
‫تائها حزينًا هبذا الشكل‪ .‬ال أعلم‬
‫ألهنم ألول مرة يرونني ً‬
‫كيف سيكون رد فعلهم بعد أن يعرفوا بأمر تصالحي مع‬

‫ع‬
‫سمير‪ .‬هل سيحزنون لرحيلي؟! هل سيثورون على سمير‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ُمطالبين بعوديت مر ًة أخرى‪ ،‬وأن أتولى رئاسة الشركة ً‬
‫بدل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫منه؟! هل سيطعنون يف سيريت‪ ،‬حتى يتقربوا من سمير؟!‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫ف َّكرت أن أذهب لمكتبي‪ ،‬حتى أقوم بجمع أغراضي‪،‬‬
‫أتحمل فكرة أن ُأزيل جز ًءا‬
‫َّ‬ ‫أتحمل الفكرة‪ .‬لم‬
‫َّ‬ ‫لكنني لم‬
‫مني من هذا المكان الذي احتضن شبابي‪ .‬فقررت أن‬
‫رسل أحد األشخاص بعد ذلك لجمعها‪.‬‬ ‫ُأ ِ‬

‫وصلت إلى باب الخروج‪ ،‬فوجدت الموظفين‬


‫المفصولين مفرتشين األرض كعادهتم منذ بدأوا االعتصام‪،‬‬
‫يعلو الهم والقلق وجوههم خو ًفا من المجهول‪ .‬اطمئنوا‬
‫يا رفاق‪ ،‬ما هي إال أيام قليلة وتعودون لوظائفكم مرفوعي‬
‫الرأس‪.‬‬
‫‪226‬‬
‫ذهبت نحو سياريت‪ ،‬ركبت بداخلها‪ ،‬وانطلقت نحو‬
‫المنزل‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪227‬‬
‫فريدة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كنت أجلس مع حسن وماما فاطمة يف غرفة المعيشة‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫كان حسن يعرض علينا أحدث رسوماته التاريخية‪ .‬كان‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫كبير ح ًّقا‪ .‬وهذا دليل على ُّ‬
‫تحسن‬ ‫رسمه يتطور بشك ٍل ٍ‬
‫حالته النفسية‪ .‬فجأة سمعنا صوت باب الشقة ُيفتَح ثم‬
‫باب الغرفة‪ .‬كان هذا عبد اهلل‪.‬‬

‫مبكرا عن موعدك يا عبد اهلل!‬


‫‪-‬أتيت ً‬
‫‪-‬نعم‪ ،‬لقد أهنيت أموري سري ًعا اليوم الحمد هلل‪ .‬ماذا‬
‫تفعلون؟‬
‫‪-‬نشاهد آخر رسومات حسن‪.‬‬
‫‪-‬أريد أن أراها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وفخر‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بسعادة‬ ‫أعطيت الرسومات لعبد اهلل‪ .‬كان يتأملها‬

‫‪229‬‬
‫ثم قال لحسن‪:‬‬

‫كثيرا أيها البطل‪ .‬هذا رائع‪ ،‬حتى‬


‫تحسن رسمك ً‬ ‫‪َّ -‬‬
‫أجهزها لك‪.‬‬
‫تكون مستعدً ا للمفاجأة التي ِّ‬
‫قال حسن بلهفة‪:‬‬

‫‪-‬أي مفاجأة يا أبي؟‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫‪ -‬سأقوم بإرفاق رسوماتك التاريخية مع كتابي عن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫اإلمام الحسن‪ ،‬وأطلب من دار النشر يف حال فوزي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫دمج الرسومات مع الكتاب‪.‬‬

‫ع‬ ‫اندفع حسن نحو أبيه محتضنًا إياه بقوة ً‬


‫قائل‪ :‬يا لها من‬
‫شكرا يا أبي‪.‬‬
‫مفاجأة رائعة! ً‬
‫وقلت له مازحةً‪:‬‬

‫أخيرا يف رأسك‪ ،‬س ِّيد‬


‫ً‬ ‫‪-‬هل اختمرت فكرتك‬
‫أينشتاين؟‬
‫ضحك ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪-‬نعم اختمرت كما ترين‪ .‬وهناك مفاجأة أخرى لك يا‬


‫حسن‪ .‬بإمكانك أن ُتقابل كريم يف النادي كما تشاء‪.‬‬
‫‪230‬‬
‫ً‬
‫مندهشا‪:‬‬ ‫قال حسن‬

‫‪-‬كريم ابن العم سمير!‬


‫‪-‬نعم يا صغيري‪ .‬لقد اتفقت مع عمك سمير على‬
‫ورب ضارة نافعة‪ ،‬رسوبك يف العام الماضي‬ ‫هذا‪ُ .‬‬
‫سيجعلك هذا العام برفقة كريم يف نفس الصف‬

‫ع‬
‫الدراسي‪ ،‬ألنه أصغر منك بعام كما تعرف‪ .‬وسأعمل‬
‫أيضا‪.‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جاهدً ا كي تكونا يف نفس الفصل ً‬

‫ت‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ً‬
‫جزيل يا أبي‪ .‬أحبك جدًّ ا‪.‬‬ ‫شكرا‬
‫‪ً -‬‬

‫والتوز عي‬
‫أيضا أحبك يا بطلي الصغير‪ .‬ما رأيك أن تذهب‬‫‪-‬وأنا ً‬
‫اآلن لغرفتك‪ ،‬وترسم المزيد من الرسومات‪ ،‬حتى‬
‫تكون جاهز ًة ألرفقها مع كتابي؟‬
‫‪-‬حسنًا يا أبي‪ .‬سأهبرك برسومايت‪.‬‬
‫أعطى حسن كل واحد منَّا ُقبل ًة سريعةً‪ ،‬وانطلق نحو‬
‫غرفته‪.‬‬

‫بمجرد أن خرج حسن‪ ،‬قلت لعبد اهلل‪:‬‬

‫‪-‬هل قلت إنك قد اتفقت مع سمير؟!‬

‫‪231‬‬
‫‪-‬نعم اتفقت معه على أن تعود عالقة الطفلين‬
‫ببعضهما كما كانت يف السابق‪.‬‬
‫نظرت له متشككة قائلةً‪:‬‬

‫‪-‬اتفقتما على هذا فقط؟!‬


‫نفسا عمي ًقا ثم قال‪:‬‬
‫أخذ عبد اهلل ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫‪-‬لقد تنازلت لسمير عن رئاسة الشركة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫‪ -‬ماذا؟!‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫قلتها أنا وماما فاطمة يف نفس اللحظة‪.‬‬

‫‪-‬كما سمعتما‪ ،‬تنازلت عن إدارة الشركة لسمير‪ .‬ألم‬


‫يكن صراعي معه مصدر إزعاج لكما؟ ها أنا ذا قد‬
‫تخلصت من مصدر اإلزعاج‪.‬‬
‫قالت ماما فاطمة‪:‬‬

‫‪-‬لكنها شركة جدك وأبيك‪.‬‬


‫دائما تلومينني بسبب صراعي على‬ ‫ِ‬
‫كنت‬ ‫‪ -‬لقد‬
‫ً‬
‫رئاستها‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫ني‪ .‬ال ألومك اآلن‪ ،‬لكنني حزينة أن ينتهي‬‫‪ -‬أعلم يا ُب َّ‬
‫األمر هبذا الشكل‪ .‬القرار يف النهاية قرارك‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا ِ‬
‫أنت صامتة يا فريدة؟‬
‫‪ -‬حزينة‪ ،‬لست حزينة من أجل الشركة‪ ،‬بل من‬
‫أجلك‪ .‬بعد أن أفنيت شبابك يف الشركة‪ ،‬ينتهي بك‬

‫ع‬
‫األمر هكذا‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫‪ -‬إنني لم أتنازل من موقع ضعف‪ ،‬بل قوة‪ .‬وقد تم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫التنازل بشروطي‪ .‬كما أنني قد حصلت على مبلغ‬
‫مالي كبير‪ .‬وعلى أي حال‪ ،‬لقد كنت أكره األسلوب‬
‫التقليدي للعمل يف الشركة‪ ،‬وأشعر أنه يق ّيدين‪ .‬اآلن‬
‫أستطيع توظيف هذا المبلغ المالي باإلضافة إلى‬
‫خربيت الكبيرة‪ ،‬وعالقايت الواسعة يف تأسيس مكتب‬
‫محاماة خاص بي أديره كما أحب‪.‬‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫ثم أضاف‬
‫أفن شبابي يف الشركة كما ِ‬
‫قلت‪ ،‬بل ما‬ ‫‪-‬ثم إنني لم ِ‬
‫زلت شا ًبا‪.‬‬
‫ضحكت قائلةً‪:‬‬
‫‪233‬‬
‫أيضا‪ .‬حسنًا‪ ،‬وأنا سأساعدك يف‬
‫‪-‬وس ّيد الشباب ً‬
‫عملك الخاص‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن عملك الحالي؟‬
‫‪-‬لقد تقدَّ مت باستقالتي منه اليوم‪ .‬يبدو أنه يوم‬
‫الهروب الكبير من العمل‪.‬‬

‫ع‬
‫لكنك ِ‬‫‪ِ -‬‬

‫ص‬
‫كنت تحبينه‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫‪-‬كنت‪ .‬لكنني اآلن أرغب يف بداية جديدة‪ .‬وما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫أجملها من بداية عندما تكون معك!‬

‫ع‬ ‫‪-‬وماذا ستفعلين يا ُترى يف مكتب محاماة؟‬


‫‪-‬هل نسيت أنني حاصلة على شهادة يف إدارة‬
‫األعمال؟! سأتولى إدارة شئون المكتب‪ ،‬حتى‬
‫تتفرغ أنت للمحاماة فقط‪.‬‬
‫قالت ماما فاطمة‪:‬‬

‫‪ُ -‬ر َّب ضارة نافعة‪ .‬لعل خروجك من الشركة يكون‬


‫بمثابة بداية أفضل لكما‪ .‬أستأذنكما‪ ،‬سأقوم اآلن‬
‫ألنام ً‬
‫قليل‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫‪ -‬تفضلي‪ ،‬يا أمي‪.‬‬
‫بعد أن خرجت ماما فاطمة‪ ،‬التفت عبد اهلل لي ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ِ‬
‫أهنيت سيرة اإلمام الحسن؟‬ ‫‪ -‬فريدة‪ ،‬هل‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لقد اعتكفت عليها األيام الماضية حتى أهنيتها‪.‬‬
‫علي الجزء األخير من سيرته‪،‬‬
‫تقصي َّ‬‫‪ -‬ما رأيك أن ّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫حتى أتم َّكن من إتمام كتابي عنه‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ -‬بمناسبة الكتاب‪ ،‬عندي فكرة رائعة‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قال‬

‫‪-‬يبدو أنه قد أصابك بعض من ذكائي الحاد‪.‬‬


‫فقلت مازحةً‪:‬‬

‫‪-‬إن كنت أنت أينشتاين‪ ،‬فأنا ماري كوري‪.‬‬


‫ضحك بصوت ٍ‬
‫عال‪:‬‬

‫‪-‬حسنًا‪ ،‬سيدة ماري‪ .‬ما فكرتك؟‬


‫‪ -‬دعها تختمر يف رأسي ً‬
‫أول‪ ،‬ثم سأخربك هبا‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪ -‬صرت ُتشبهينني ً‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪235‬‬
‫‪ -‬هل ستستمر يف المزاح أم أن ستسمع سيرة اإلمام؟‬
‫‪ -‬سأسمعها‪.‬‬

‫‪G‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬‫والتوزي‬

‫‪236‬‬
‫الحسن بن علي‬

‫ري‬‫ص‬
‫استمرت حيايت بعد الصلح يف المدينة المنورة على‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬


‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫نحو هادئ‪ .‬أرعى شئون أهلي وإخويت وبني هاشم‪،‬‬

‫ن‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫وأوضح للناس أمور دينهم‪ .‬وقد عاد الهدوء إلى دولة‬ ‫ِّ‬
‫اإلسالم‪ ،‬واستُئنِفت حركة الفتوحات مر ًة أخرى‪ .‬كان كل‬
‫شيء يسير على ما ُيرام إلى أن جاءت ليل ٌة رأيت نفسي يف‬
‫عيني } ُق ْل ُه َو اهَّللُ َأ َحدٌ {‪ .‬عجبت ألمر‬
‫المنام مكتوب بين َّ‬
‫هذه الرؤيا‪ ،‬فقصصتها على سعيد بن المس ّيب ‪ -‬وهو أحد‬
‫فقهاء المدينة ‪ -‬فأخربين أن تفسيرها أن أجلي قد اقرتب‪.‬‬

‫ما هي إال أيا ٌم قليل ٌة واشتد بي الوجع كما لم يشتد من‬


‫قبل‪ .‬كان الوجع رهي ًبا حتى إنني كنت ألفظ أجزا ًء من‬
‫كبدي‪ .‬أيقنت أن هذا بفعل السم‪ .‬وعندما شعرت بدنو‬
‫الح َسين فجلس بجانبي‪ .‬قلت له‪:‬‬
‫أجلي‪ ،‬جاء أخي ُ‬

‫‪237‬‬
‫‪ -‬إين قد ُسقيت السم أكثر من مرة‪ ،‬وإين لم ُأ َ‬
‫سق مثل‬
‫هذه‪ ،‬إين أللفظ كبدي‪.‬‬
‫‪ -‬من فعل ذلك بك؟‬
‫‪ -‬ل ِ َم؟ لتقتله؟ ما كنت ألخربك‪.‬‬
‫الح َسين ليعرف قاتلي‪ ،‬لكنني لم أخربه‪.‬‬ ‫علي ُ‬ ‫ألح َّ‬
‫َّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حي‪ ،‬أفأرضاه بعد أن‬
‫فقد رفضت أن ُيراق د ٌم بسببي وأنا ٌّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫أموت!‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫وال‬
‫الح َسين بوص َّيتي‪:‬‬
‫ثم أخربت ُ‬
‫‪ -‬ادفنّي عند جدي‪ ،‬إال أن تخاف أن ُيراق د ٌم بسببي‪،‬‬
‫فادفني يف مقابر المسلمين‪ .‬إياك أن تسفك الدماء‬
‫سراع إلى الفتنة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يفَّ؛ فإن الناس‬
‫كان هذا آخر عهدي بالدنيا‪ .‬كنت حتى آخر لحظة يف‬
‫حيايت أصون دماء المسلمين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫فتوحات‬ ‫فذا أو صاحب‬ ‫ربما لم أكن قائدً ا عسكر ًّيا ًّ‬
‫عظيمة‪ .‬ربما كانت إقامتي قصيرة ومعيشتي بسيطة‪ .‬إال‬
‫شهد اهلل أنني قد بذلت كل ما يف وسعي إلهناء الفتنة‬ ‫أنني ُأ ِ‬

‫‪238‬‬
‫وحفظ دماء المسلمين‪ ،‬وأنني لم ُأرق قطرة دم يف سبيل‬
‫مصلحتي الخاصة‪ .‬وبذلت كل جهدي ألكون ولدً ا ناف ًعا‬
‫صالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأ ًبا‬

‫وإنني أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمدً ا رسول اهلل‪.‬‬

‫‪G‬‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫والتوز عي‬

‫‪239‬‬
‫عبد ال� ل�ه‬
‫(‪)1‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫دخلت البيت‪ ،‬وألقيت بنفسي على أقرب أريكة‪ .‬أشعر‬

‫والتوز عي‬ ‫ر‬


‫باإلهناك الشديد‪ .‬كنت قد أعددت أوراق تأسيس مكتبي‬
‫الجديد‪ ،‬وقمت بإرساله إلى النقابة العامة للمحامين‪،‬‬
‫للحصول على التصاريح والموافقات الالزمة‪.‬‬

‫ما هي إال دقائق‪ ،‬ودخلت فريدة من باب البيت‪ ،‬وألقت‬


‫بنفسها على األريكة بجانبي‪ .‬وقالت‪:‬‬

‫‪-‬لم أكن أن أعلم أن تجهيزات المكتب الجديد‬


‫مرهقة هكذا‪.‬‬
‫مازحا‪:‬‬
‫ً‬ ‫قلت له‬
‫ِ‬
‫طلبت أن تساعديني يف المكتب الجديد‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫أنت من‬
‫‪241‬‬
‫ردت مازحةً‪:‬‬
‫‪-‬كنت غبية‪ .‬المهم‪ ،‬هل قدَّ مت األوراق يف النقابة؟‬
‫يتبق الكثير‪ .‬أيام قليلة إن شاء اهلل‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬الحمد هلل‪ .‬لم َّ‬
‫ونبدأ العمل‪.‬‬
‫أيضا أهنيت تجهيزات المكتب‪ .‬صار رائ ًعا يليق‬
‫‪ -‬وأنا ً‬

‫ع‬
‫باسمك‪ .‬صحيح‪ ،‬ما أخبار روايتك عن سيرة اإلمام‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫الحسن‪ ،‬هل قمت بإرساله للجنة المسابقة؟‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ -‬سأرسلها مساء اليوم‪ .‬لقد كانت فكرتك رائعة بشأن‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫تحويل الكتاب إلى رواية‪ ،‬ودمجها بقصة حياتنا‪،‬‬
‫وإظهار تأثير سيرة اإلمام علينا‪.‬‬
‫‪ -‬وهل اخرتت اسمها أم ما زلت مرتد ًدا بعد؟‬
‫‪ -‬هناك اسم أفكر فيه‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو؟‬
‫‪( -‬رحلتي مع اإلمام الحسن بن علي)‪ .‬ما رأيك؟‬
‫سكتت فريدة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫ٌ‬
‫جميل‪ ،‬لكن أشعر أنه طويل بعض الشيء‪ .‬ما‬ ‫اسم‬
‫‪ٌ -‬‬
‫الح َسن)؟‬
‫رأيك يف اسم (رحلة َ‬
‫‪242‬‬
‫ختصر‪ .‬سأكتبه على الغالف‬
‫‪ -‬رائع‪ .‬اسم جميل و ُم َ‬
‫ثم أرسله لهم‪.‬‬
‫تنس أن ُترفِق معه رسومات‬
‫‪ -‬بالتوفيق يا حبيبي‪ .‬وال َ‬
‫حسن‪ .‬إن شاء اهلل ستحصل على المركز األول‪،‬‬
‫نشر روايتك يف معرض الكتاب المقبل‪.‬‬‫و ُت َ‬
‫‪ -‬صدقيني يا فريدة ال أهتم بالفوز بقدر ما أهتم بنشر‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫سيرة اإلمام الحسن‪ ،‬هذا الرجل العظيم الذي لم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫تأخذ سيرته حقها من التقدير والتدوين‪ ،‬وال أعلم‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوز عي‬
‫لماذا‪.‬‬
‫ميل لقصص األبطال المغاوير الدُ هاة‬ ‫‪ -‬الناس أكثر ً‬
‫المسالمين‪ .‬صدقني‪ ،‬لو أن‬ ‫عن قصص الهادئين ُ‬
‫الحسن استخدم الحرب والخدعة لنيل الخالفة‪،‬‬
‫ربما كانت سيرته ستحظى بانتشار أكرب‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫معك حق‪.‬‬
‫سكتنا لدقائق‪ .‬أخرجت ظر ًفا ً‬
‫كبيرا‪ ،‬وأعطيته لفريدة‬
‫دون أن أتكلم‪ .‬قالت لي مازحةً‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذه ورقة طالقي؟‬
‫ضحكت دون أن أتكلم‪.‬‬
‫‪243‬‬
‫أخرجت فريدة األوراق من الظرف‪ .‬تأملتها بصمت ثم‬
‫صاحت قائلةً‪:‬‬

‫‪ُ -‬عمرة! رحلة ُعمرة! يا لها من مفاجأة!‬


‫ناق شديد‪ .‬قلت لها‪:‬‬ ‫وألقت بنفسها علي يف ِع ٍ‬
‫َّ‬
‫وأنت وحسن وأمي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬ف َّكرت أن نذهب يف ُعمرة أنا‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حتى نشكر اهلل على نِعمه العظيمة التي أنعم علينا هبا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫وأيضا قبل أن ننشغل يف عملنا‬
‫طوال الفرتة الماضية‪ً .‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫الجديد ودراسة حسن‪.‬‬

‫ع‬
‫‪ -‬فكرة رائعة يا حبيبي‪ .‬كأننا نبدأ حياتنا من جديد‪.‬‬
‫وما أجملها من بداية!‬

‫‪G‬‬

‫‪244‬‬
‫(‪)2‬‬

‫ري‬
‫خرجت من المسجد النبوي الشريف بعد أن قمت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ص‬ ‫ع‬


‫توجهت نحو مقربة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بأداء صاليت الفجر والضحى‪ .‬ثم َّ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬
‫البقيع‪ .‬وقفت أمامها أتأملها‪ .‬هذه البقعة الطاهرة التي‬
‫تضم الكثير من صحابة الرسول ﷺ وزوجاته وآل بيته‪.‬‬
‫كبيرة على عكس ما يحدث لي عادة من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫براحة‬ ‫شعرت‬
‫انقباض صدري عندما أزور قبور عائلتي يف مصر لقراءة‬
‫الفاتحة لهم‪.‬‬

‫رفعت يدي ثم قلت الدعاء المأثور عند زيارة القبور‪:‬‬

‫«السالم عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون‪،‬‬


‫غدً ا مؤجلون‪ ،‬وإنا إن شاء اهلل بكم الحقون‪ ،‬اللهم اغفر‬
‫ألهل بقيع الغرقد»‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫وجهت وجهي نحو قربٍ بعينه‪ .‬كنت قد سألت بعض‬ ‫ثم َّ‬
‫أهل المدينة عنه باألمس فدلوين عليه‪ ،‬وأشاروا إليه‪.‬‬
‫وقفت أتأمله كأين أستحضر صورة صاحبه يف ذهني‪ .‬بقيت‬
‫صامتًا‪ ،‬حتى بداخلي‪ .‬ال أجد ما أقوله من رهبة الموقف‪.‬‬
‫ها أنا ذا أقف أمام قرب الرجل الذي جعله اهلل سب ًبا يف‬
‫تغيير حيايت لألفضل‪ ،‬الرجل الذي عشت مع سيرته أيا ًما‬

‫ع‬
‫وشهورا‪.‬‬

‫ص‬
‫ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫ب‬
‫نفسا عمي ًقا ثم قلت‪:‬‬
‫أخذت ً‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫السالم عليك يا سبط رسول اهللشرﷺ وال وت‬
‫ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬ ‫السالم عليك يا إمام‬

‫السالم عليك يا خامس الخلفاء الراشدين‪ .‬زيع‬


‫ٍ‬
‫سلف‪.‬‬ ‫السالم عليك يا خير َخ ٍ‬
‫لف لخير‬
‫خيرا‪.‬‬
‫جزاك اهلل عنَّا وعن اإلسالم والمسلمين ً‬
‫خيرا‪.‬‬
‫جزاك اهلل عني وعن أهلي ً‬
‫دائما يف قلبي وعقلي ووجداين‪.‬‬
‫ستظل ً‬
‫نبراسا لي يف حياتي‪.‬‬
‫ستظل سيرة جدك وسيرتك ً‬

‫‪246‬‬
‫عسى اهلل أن يجمعني بك وبجدك ﷺ يف اآلخرة‪.‬‬
‫السالم عليك أيها الكريم البهي‪.‬‬
‫السالم عليك يا َح َسن بن علي‪.‬‬

‫‪..‬تمت بحمد ال� ل�ه‪..‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوز عي‬

‫‪247‬‬
‫المراجع‬

‫* صحيح البخاري‪.‬‬ ‫*‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫* سير أعالم النبالء للذهبي‪.‬‬ ‫*‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ش‬
‫* االستيعاب يف معرفة األصحاب‪.‬‬

‫ر‬
‫*‬

‫ع‬‫والتوزي‬
‫* أسد الغابة يف معرفة الصحابة‪.‬‬ ‫*‬

‫* البداية والنهاية البن كثير‪.‬‬ ‫*‬

‫* الطبقات الكبرى البن سعد‪.‬‬ ‫*‬

‫* اإلصابة يف تمييز الصحابة‪.‬‬ ‫*‬

‫* فضائل الصحابة لإلمام أحمد بن حنبل‪.‬‬ ‫*‬

‫* المستدرك على الصحيحين للحاكم‪.‬‬ ‫*‬

‫* الحسن بن علي شخصيته وعصره للصالبي‪.‬‬ ‫*‬

‫‪248‬‬

You might also like