Professional Documents
Culture Documents
M رواية
بئر الأفاعي
M
هالة سامي
لمزيد من الكتب الحرصية
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
�إهداء
هالة �سامي
�أحداث الرواية غري حقيقية و�إن تخللتها �إحدى
الوقائع فهذا من �سوء حظي و�سوء حظ العامل.
لن تن�ضج حتى ُيهدم �أمام عينيك كل ما ُكنت ت�ؤمن به
14يناير 1998
ص ع
رائحة الدخان التي ملأت �أنفه م�صحوبة برائح ٍة عطن ٍة لهواءٍ مكتوم ،كان
الكت ري
يجاهد لأن يحافظ على رباطة ج�أ�شه ،يحاول �أن ي�ستبدل �أذنيه مكان عينيه املُغطاة
ع
الليلة مب�شاهدتك متوت ببطء؟! �أنت �أ�صبحت مديو ًنا يل الآن ،و�أنا ال �أتنازل عن رد
ع والتوزي
�شعر ب�أمل �ضئيل يف طريقه للظهور ،فهتف�« :أوامرك �سيدي �س�أفعل كل ما
ت�أمرين به ،اطلب �أي �شيء و�س�أقدمه لك»
�ساد ال�صمت للحظات والرجل ينظر له بقوة ،وملحة من الق�سوة املُكللة باالنت�صار
ُت�ضيء عينيه ،ليجيبه ُمت�سل ًيا«:حان وقت العودة لأر�ضك لرتد دينك»
M
القاهرة
22يونيو 2016
كنت»
«جاهزة �أم ال �أنا قادم �أينما ِ
تكاد ت�شعر بنب�ضات قلبها املُ�ضطرب وهي تخرج من مكانها ،انزوت يف �أحد
الأركان و�أخفت ج�سدها ال�ضئيل بغطاء �سميك كريه الرائحة
أجدك يف النهاية » . «:مهما � ِ
أجدت االختباء �س� ِ
11
ارجتف ج�سدها ب�أكمله وهي ت�ستمع لل�صوت الأكرث ُب ً
غ�ضا لأذنيها ،بينما دمعات
يتيمة ت�سللت من عينيها ب�صمت.
مكانك وتوقفي عن التنف�س!»
ِ ابق يف
أقدامكِ ،
ِ « ِ
اخف �آثار �
�شهقت برعب وهي تلمحه يرفع الغطاء عن وجهها بقوة وينظر لها بنظراته
الكريهة ،انهمرت دموعها بقوة ،وخيط من املاء الدافئ ي�سيل من بني قدميها وي�صل
وجدتك �أخ ًريا».
ِ يف �سكون للأر�ض وهي ت�سمعه يقول« :
انتف�ضت من على �سريرها بفزع ،وهي تل ّوح ب�س ّكينها التي جذبتها من �أ�سفل
الو�سادة ،وحتارب ذرات الهواء ،ك�أنها �شنت احلرب �ضدها ،حلظات وهي تلهث
ريص ع
وعيناها املُت�سعتان برعب تفح�ص الغرفة و�سكونها حتى ،ونور الأباجورة بجوارها
ن ل
توزيع شر وال
�أخذت تهدئ من �أنفا�سها وحبات عرق تت�سلل من �أعلى جبينها لت�صل لعنقها،
�ألقت ب�س ّكينها على ال�سرير بقوة واعتدلت يف نومتها لتجل�س على طرف ال�سرير،
رفعت كفيها املُرتع�شتني تتخلل خ�صل �شعرها الأ�سود الغجري املعقود يف ربطة
ُمرتاخية وقد هربت منها بع�ض اخل�صل� ،أغم�ضت عينيها وهي تهم�س ب�صوت
م�سموع لروحها:
إيذائك
تخطيته كان هذا يف املا�ضي ،هو لي�س بقاد ِر على � ِ
أنت ِ «� ِ
أنت بعيدة عنه � ِ
زلت يف
لك ،يجب �أن تتما�سكي ،ما ِ
آالمك التي �سب ّبها ِ
بجراحك ،ب� ِ
ِ أنت قوية
بعد الآن � ِ
يهمك �أمرهم رحمة ،ليلى و�سهيلة».
بداية احلرب ،تذكري جيدً ا من ِ
�سكنت للحظات ثم فتحت عينيها التي ظهر بها بريق ناري ك�أ�شجار الزيتون
املُ�شتعلة ،خفت يف الثانية التالية لتتحول عينيها للوح جليدي �شفاف ال يعك�س ما
�صباحا لتهم�س ب�شرود« :ها هو
ً يخفيه ،نظرت لل�ساعة بجوارها لتجدها ال�ساد�سة
يوم املواجهة».
M
12
�شمال �سيناء ،حمافظة العري�ش ،منزل ممدوح العزامي
طرقات ُمرتددة على الباب جذبت انتباهها ،لت�أذن للطارق بالدخول ،وهي
تدرك هويته �أو بالأدق هويتها.
دخلت فتاة رقيقة املالمح ذات �شعر �أ�شقر ي�شبه خيوط الع�سل ،يحمل ق�ص ًة
�صبيانية ،يف بداية عامها الثامن ع�شر ،بهدوئها املُعتاد ،وحتدثت بجمودها الذي
ا�ستيقظت
ِ تت�صف به مع اجلميع ،ما عدا ُغفران العزيزة ،قالت ليلى« :جيد � ِ
أنك
�أخ ًريا».
نظرت لها رحمة ب�شرود وهي جتيبها« :لقد �سهرت بالأم�س».
ص ع
«�أعلم» كلمة وحيدة جعلت رحمة تنتق�ض بداخلها وهي تهم�س لنف�سها�« :إىل
ع والتوزي
ال�صمت للحظات ،حتى بادرت باحلديث « ::يبدو �أن هناك �شيئا تريدين قوله»،
�أجابتها ليلى بجمودُ « :غفران قادمة اليوم ..ات�صلت �أم�س على هاتف املنزل
وحتدّثتُ معها».
التفتت رحمة وردت بده�شة« :اليوم! �أمل تقل �إنها �ست�أتي يف نهاية ال�شهر حتى
تنهي عملها ..هل �س�أ َلت عني؟!» ،ملحت ليلى بتدقيق �شحوب مالمح رحمة وهي
ل�ست باملنزل» ،ابتلعت رحمة
أنك ِ تلقي ب�س�ؤالها الأخري ف�أجابتها« :نعم ،و�أخربتها � ِ
ريقها وجاهدت لتخفي توترها عن ليلى�« :س�أت�صل بها بعد قليل».
التفتت رحمة وهي ترجتف داخل ًيا وتدعو اهلل �أن تتوقف ليلى عن التدقيق بها
كما تفعل ،ف�أع�صابها على و�شك االنهيار بعد �أحداث الأيام ال�سابقة.
�أغم�ضت رحمة عينيها متنع دمعة هاربة منها ،وهي تهم�س داخلها�« :أيام �أم
�سنني يا رحمة!» ،فاج�أها �صوت ليلى القريب من �أذنها وهي تقف خلفها وتهم�س:
عنك مع �أحد رجال عبده �صباحا وهو يتح ّدث ِ
ً «�إىل �أين �سرتحلني؟ لقد �سمعته
اجلن».
13
التفتت رحمة برعب ،لترتاجع خطوتني للخلف ،وقد فقدت ال�سيطرة على
التحكم يف مالمح وجهها ،لي�شوبه الفزع ،فهتفت من دون وعي« :رجال عبده اجلن!
�سي ّحلني!»
ُ
مدت ليلى كفيها وم�سكت ذراع رحمة بقوة وهي تهتف بغ�ضب مكتوم« :ما الذي
رحيلك؟! �إىل ماذا ت�سعيان م ًعا؟! هل �سي�سعى
ِ لك؟! �أخربيني الآن َمل يريد
يحدث ِ
بروحك؟!».
ِ آثام
بك؟! هل �سيخفي �آثار ما اقرتفه من � ٍ لإ�صالح ما �أف�سده ِ
مل ي�شفع �شحوب وجهها ب�شيء �أمام غ�ضب ليلى ،التي نف�ضت ذراع رحمة بقوة
من بني يديها ،وك�أنها �شيء قذر تخ�شى مل�سه ،لكن �ألي�ست كذلك!؟
ص ع
تتحرك من
ِ نظرت لها ليلى با�شمئزاز وا�ضح ،وهي تهتف �أمام وجهها « ::لن
الكت ري
أ�صررت على الرحيل �س�أقف
ِ هنا حتى ت�أتي ُغفران وتدرك فداحة ما ِ
و�صلت له ،و�إن �
شر وال
ِ بوجهك رحمة ،حتى لو ا�ضطررت
ِ �أنا
توزيع
ابتعدت ليلى عنها بقوة وهي تنظر لها بغ�ضب ،ثم حتركت لتخرج من الغرفة
قبل �أن تتهور وت�صفعها بقوة ،ثم جتذبها حل�ضنها وتع ّنفها ملا فعلته بنف�سها ،بينما
جل�ست رحمة على طرف �سريرها وهي حتيط بج�سدها الذي ينتف�ض ب�أكمله
و�أفكارها تع�صف بعقلها ،وهي تعي معرفة ليلى باحلقيقة الكاملة التي حاولت
جاهدة �إخفاءها� ،أغم�ضت عينيها وهي تت�ساءل :هل اليوم هو النهاية؟!
M
القاهرة يف منزل ب�أحد الأحياء الب�سيطة
اقبلي يا فتاة النار
دلفت ُغفران للغرفة وهي ت�سمع نداء ال�سيدة العجوز ،ابت�سامة �صغرية ز ّينت
وجهها وهي تنظر للمر�أة التي تنظر لعينيها مبا�شرة ،وابت�سامة ر�ضا تزين ثغرها،
ت�شري بيديها للكر�سي املجاور لها يف دعوة ل ُغفران للجلو�س ،جل�ست ُغفران بهدوء
غريب عليها ي�صيبها دائ ًما يف ح�ضرة تلك املر�أة«:كيف تدركني �أنها �أنا قبل �أن
�آتي؟!» ازدادت ابت�سامة العجوز وهي جتيبها بحب«:قلب الأم يا ابنتي».
14
جمدت مالمح وجه ُغفران ،و�ساد ال�صمت للحظات ،قطعه �صوت العجوز
يحملك رحمي ،فال تنزعجي يا فتاة النار».
ِ احلنونِ �«:
أنت ابنة يل حتى ولو مل
«�أنا مل �أنزعج ،فقط غري ُمعتادة على� »...صمتت ُغفران لتكمل العجوز
كالمها« :غري ُمعتادة على امل�شاعر اجلميلة» ،ابت�سمت ُغفران بته ّكم وهي جتيبها:
«بل على احلب ،دعينا من كل هذا الكالم ..كيف هي �صحتك؟ هل حتافظني على
�أدويتك؟»
ابت�سمت العجوز لها بتف ّهم وهي تدرك ته ّربها من احلديث« :وهل هناك مهرب
منها!؟ �إن مل �أحافظ هاجمتني الآالم يا ابنتي ..و�أنا مل �أعد �أقوى على حت ّملها».
ع
مم ت�شتكني؟ ما الذي ي�ؤملك؟!» التفتت ُغفران لها باهتمام وهي ت�س�ألهاَ « :
ر ش
والتوزي
فيه العجوز وتبد�أ يف فح�صها من دون تردد.
ع
مرت دقائق وهي تقي�س نب�ضها وتفح�ص عينيها وج�سدها ،وهي تتحدث بهدوء:
«�أين �سعاد؟ مل �أجدها حني طرقت الباب ،وا�ضطررت ال�ستخدام املفتاح االحتياطي
�أ�سفل الزرع املجاور للباب».
�أجابتها« :ت�شرتي بع�ض احتياجات املنزل من ال�سوق� ،أخربتني �أنها لن تت�أخر».
لنجل�سك على ال�سرير �أوال».
ِ فح�صك ،ولكن
ِ «ح�س ًنا ،دعينا ننهي
�ساعدتها ُغفران حتى جعلتها ت�ستلقي على ال�سرير ،وج�سد العجوز ال�ضئيل مل
ي�شكل عائ ًقا مع قدرة ُغفران ،ومرت دقائق حتى �أنهت فح�صها وع ّدلت من و�ضعيتها
حتى جتعلها مريحة لها.
بجوفك ويجعل ك ًما ً
هائل من ِ «والآن اجل�سي يا فتاة النار و�أخرجي ما تكتمينه
منك».
الطاقة ال�سلبية يفوح ِ
«كيف ميكنك معرفة كل هذا و�أنت� »...صمتت ُغفران لتكمل العجوز وهي ما
أنك ت�صمتني زالت على ابت�سامتها« :و�أنا �ضريرة! من معرفتي الوثيقة ِ
بك �أدرك � ِ
15
أنت ال تعلمني �أن �أول خطوات عالج املر�ضعن البوح بها مراعاة مل�شاعري ،و� ِ
االعرتاف به».
نظرت ُغفران بجمود ملالمح العجوز الب�شو�ش ،ولعينيها اخلاليتني من ملعة
كالمك هو احلديث عني؟!»
ِ احلياة بهما ،وهي جتيبها« :ملاذا �أ�شعر ب�أن املغزى من
«�أخربيني ما تتهربني من قوله و ُي�صيبك بالهم».
�صمتت ُغفران للحظات ،ثم �أجابتها�« :أنا عائدة للبلد ،اليوم �س�أواجهه مبا
�أملك� ،إما �أجد الإثبات الأخري و�أعود به �أو ال �أعود نهائ ًيا حتى �أنهيه بنف�سي»،
خفتت ابت�سامة العجوز ،وملحة قلق ظهرت على وجهها« :هل حان الوقت؟!»
ريص ع
�أجابتها بنعم ،لتتنهد العجوز وهي جتيبها« :ال �أعلم ما �أقوله لك يا ابنتي �سوى
ب الكت
قرارك ،ويبدو
ِ يثنيك عن
إخوتك ،ف�أي حديث �آخر لن ِ أنت و� ِ الدعاء ،فليحفظك اهلل � ِ
توزيع
«ال �شيء �سيمنعني من فعل ما نويته يا �أم عمران».
ات�سعت ابت�سامة العجوز وهي جتيبها« :جتيدين اللعب يا فتاة النار ،ها �أنت
ت�صيبي قلبي بالقلق يف حلظة لت�سعديه يف اللحظة التالية و�أنت تناديني بالغايل».
مل تعقب ُغفران ب�شيء على كالمها ،لتقول بعد حلظات�« :س�أترك ل�سعاد رقم
احتجت ل�شيء �ستت�صل بها على الفور لت�أتي ،و�س�أكتبِ هاتف ممر�ضة �أثق بها� ،إن
لك جميع الأدوية التي ت�أخذينها حتى حت�ضرها �سعاد �إن �أنهي ِتها» ،لت�س�ألها العجوز:
ِ
«هل �سيطول الأمر؟!» ،مل جتبها ُغفران ب�شيء لت�س�ألها العجوز�« :أتعلمني َمل
دوما بفتاة النار؟!».
�أناديك ً
أنت كتلة من النار قادرة على تدفئة�أكملت العجوز من دون انتظار جوابهاِ �« :
غ�ضبك يا ابنتي
ِ حولك بحنانها املدفون حتت �أل�سنة النريان ،نريان
ِ جميع من
مينعك من �إدراك مقدار امل�سافة التي تتق ّل�ص حتى
ِ كربكان كامن ،غ�ضبك الذي
مينعك
ِ ت�شتعل النريان من حولك فت�ؤذي القريب قبل البعيد ،احذري يا ابنتي من �أن
الغ�ضب من ر�ؤية القريب قبل �أن حترقي البعيد».
16
مل تلمح العجوز بب�صرها الآالم التي ارت�سمت على وجه ُغفران ،لكن بب�صريتها
و�صمت ُغفران �أدركت �أنها �أو�صلت لها ر�سالتها كما تريد.
M
ع�ص ًرا مبنزل ممدوح العزامي
وقفت �أمام املنزل ال�ضخم تنظر �إليه مبالمح �ساكنة تخفي الكثري من االنفعاالت،
الكثري من اخلوف ،الكثري من الغ�ضب �أن�ساها �إجهاد ال�سفر� ،أخذت تت�أمل واجهة
املنزل وما يحيطه من �صحراء قاحلة ،وارتفاع اجلبال املحيطة به يجعله يبدو كبيت
�أ�شباح خميف يف منطقة مقفرة من ال�سكان ،ولكن �ألي�س هذا الغر�ض منه؟! �أال
ريص ع
يكون هناك �أي �سكان يف املحيط ،لكي ال يت�سنى لهم �سماع ال�صراخ� ،سماع البكاء!
والتوزي
فكان هذا دخل �أ�سرة املنزل �أو بالأدق الدخل الذي تعرفه العائالت القريبة وباقي
ع
ُ�س ّكان البلد.
ُ�س ّكان البلد الذين ال يعلمون �شي ًئا عن عائلة العزامي �سوى �أنها عائلة من �ضمن
العائالت التي لي�س لها جذور عريقة باملنطقة ،عائلة انتقلت لل�سكن بالعري�ش منذ
ثمايةن ع�شر عاما ،وح�صل رب الأ�سرة على مكانته بني �شيوخ القبائل و�أعيان
القرية من دون جهد ُيذكر ويف وقت ق�صري ،عائلة ا�شتهرت ب�أنها ُمو ّرد �أ�سا�سي
للرثوة احليوانية يف القرية ،حيث متد ُ�س ّكانها وبع�ض ُ�س ّكان القرى املُجاورة مبا
ميلأ حظرية منزلها ،هذا و�إن كان ما ميلأ احلظرية �أكرث من جمرد �أغنام وما�شية
ودواجن! عائلة تتكون من �أب و�أم و�أربع �أخوات (غفران ،رحمة التي ت�صغرها ب�سنة،
والتوءمني ليلى و�سهيلة اللتني ت�صغرانها بع�شر �سنوات) وابنتا العم (خلود و�سمر)
�أو هكذا �أ�صبحتا و�سنهما الكبرية قليال ال ت�ساعد على �أن تكونا �أخوات لهن ،فهذا
قد يك�شف اخلدعة الكبرية.
تنهدت ُغفران بتعب وهي تفكر كيف ملكان واحد �أن يحمل كل تلك الآثام؟! كيف
بواجهة نظيفة تخدع النا�س وحتوي الكثري من الف�ساد ،الكثري من ال�شر دون �أن
يعرف �أحد عنه.
17
لفت انتباهها باب املزرعة وهو ُيفتح لتقابلها �صغريتها ،ابت�سمت عيناها وهي
تنظر لل�صغرية التي كربت ،مل ت�ستطع ق�صة ال�شعر ال�صبيانية واملالب�س الرجالية
�أن تخفي ن�ضجها� ،أن تبعد عنها عيون ذلك ال...
ابتلعت ريقها ونظرات ليلى الفرحة ُتطمئنها �أن الوغد مل ي�ستطع الو�صول �إليها،
و�أنه ا�ستجاب لتهديدها ،اقرتبت بهدوء للبوابة لتلمح ارتباكا طفيفا يف مالمح ليلى
وارجتاف ج�سدها للحظة� ،أدركت �أن �سببه ذلك الذي ظهر خلفها ب�ضخامة ج�سده
وطوله الفارع وبع�ض ال�شيب قد ت�س ّلل ل�شعرياته ،فتخدع من يراه ب�أنها تزيده هيبة
بينما مل تر هي فيه �سوى النفور واال�شمئزاز ،ق�شعريرة �سرت ب�أو�صالها وهي ترى
ات�ساع عينيه القامتتني وهو يبت�سم لها ابت�سامته الكريهة ،كم مر من الوقت عن �آخر
ريص ع
الكت
مرة ر�أت فيها تلك املالمح وتلك االبت�سامة البغي�ضة! نقلت نظراتها �سري ًعا لليلي
ب
لع َّلها جتد اجابة عن خماوفها ،فلم متنحها ليلى �شي ًئا وهي ت�سبل �أهدابها وت�ضع
توزيع
تع ّلموها جمي ًعا منذ �صغرهم لكي ال ُيظهروا م�شاعرهم لأي �أحد«:.ال م�شاعر �إذا
�ستُنجني من املوت».
و�صل لأ�سماعها نف�س ال�صوت الكريه الذي تبغ�ضه �أكرث من �أي �شيء ،نف�س
�صباحا وهو يفتح �أبواب ذكريات اجلحيم على روحها: ً ال�صوت الذي حلمت به
«ال نرى تل ّهف �صغريتنا ليلى ال�شديد ل�شيء �إال �إذا كان له عالقة ب ُغفران العزيزة،
لهفتها ال�صباحية وتر ّقبها حلدوث �شيء وهي تنظر كل فرتة والأخرى لبوابة املزرعة
جعلني �أتي ّقن بقدوم عزيزتنا ُغفران ،عودًا حميدً ا طبيبتنا ،مهما طال ِ
غيابك ومهما
جلذورك».
ِ ابتعدت حت ّنني ً
دوما ِ
جتاهلته ُغفران كعادتها وهي تقرتب من ليلى وجتذبها لأح�ضانها حتت نظراته
املُ�شتعلة ،فلم حتد بعينيها عنه وهي تهم�س ب�شيء لليلى ،التي رفعت ذراعها تت�ش ّبث
ب�سرتة ُغفران ،ك�أنها تتل ّم�س فيها الأمان ،حلظات وهما على نف�س الو�ضع بينما
نظرات ممدوح تنتقل بحرية على منحنيات ج�سدها.
اق�شعر ج�سدها وهي تبعد ليلى عنها بهدوء لتلم�س وجنتيها بحنان ،وتهز ر�أ�سها
لها ب�إ�شارة لتدلف للداخل ،فا�ستجابت لها ليلى وهي تدرك جيدً ا �أ�سبابها.
18
�أ�سبلت ُغفران �أهدابها وهي ترى ممدوح على وقفته املائلةُ ،م�ستندً ا على البوابة
يتابع بعينيه مرور ليلى بجواره ،حتى دخلت للمنزل ليتحدث ب�سخريته املُعتادة:
والدك عنا ًقا هو الآخر؟!»
«�ألن متنحي ِ
رفعت ُغفران عينيها لتنظر له بربود تام ،ال يبدو عليها الت�أثر مبا قاله ،لتتحدث
بهدوء« :رجال عبده اجلن يف املنطقة!» ،اعتدل ممدوح يف مكانه وابت�سامته تت�سع
بينما يقرتب ليقف �أمامها ويتحدث بطريقته الك�سولة« :تلميذتي مل ُت ِ
ن�سها معي�شة
القاهرة و�أهلها مبا تع ّلمته على يدي».
مل ترم�ش بعينيها وهي تكمل حديثها« :من الهدوء املُحيط باملزرعة ،ال �أتوقع
ريص ع
�ست ّحل �شيء �أو ».
ا
وجود �ضيوف هنا لذا �أنت �إما ُ
ر ش
والتوزي
قبل ،وما عادت تفعل وهو يجيبها�« :أظن �أنه يجب ِ
عليك الراحة �أوال قبل اخلو�ض يف
ع
�أمور لي�ست بالأهمية التي متنحيها لها ،خم�س �ساعات �أو �أكرث من القاهرة للعري�ش
ج�سدك اجلميل هذا يف حاجة لراحة».
ِ لي�ست بهينة ،حت ًما
اقرتبت ُغفران اخلطوة التي تف�صلها عنه وهي تهم�س بجمود �أمام وجهه:
«احذر من �أن تكون الأمور بالأهمية التي �أظنها ،ف�أنا ما زلت على ق�سمي الذي
هد ّدتك به منذ �سنوات».
حانت منه ابت�سامة جانبية �أظهرت �سنته الذهبية ،وهو يجيبها بينما �أنفا�سه
عائلتك ،ف�أنت غائبة منذ
ِ الكريهة تل ّفح وجهها« :ادخلي لتطمئني على �أفراد
�سنتني! �سنتني حتمالن الكثري والكثري من الأحداث».
مل حتد بعينيها عن عينه وهي تنظر �إليه بثبات بينما رجفة �أ�صابت قلبها وهي
تت�ساءل :هل يعي الأحداث التي مرت هنا �أم الأحداث التي مرت هناك بالقاهرة؟!
M
19
مركز ق�سم العري�ش ،مكتب اللواء فريد الكيالين
«هل قابلتها؟!» �س�ؤال خرج من اللواء فريد وهو جال�س على مكتبه وهو ينظر
بهدوء للرجل الذي يقف �أمامه ،ورفيقه يف املهام منذ �أن مت نقله من العا�صمة ليكون
هنا معه ب�أوامر ُعليا ،النقيب �سمري �أيوب ،ف�أجابه« :نعم �سيدي جعلنا الأمر يبدو
بروتينية ونحن نطلب منها �أن تنزل هي وكل الن�ساء بال�سيارة ،و�أخذنا بطاقاتهن
تفتي�شا لأغرا�ضهن ،ثم �أخذناها هي وامر�أة �أخرى لنقطة ً ال�شخ�صية و�أجرينا
التفتي�ش حتى �أ�ستطيع �أن �أنفرد باحلديث معها من دون �أن ي�شك بها من يراقبونها»
هز اللواء فريد ر�أ�سه وهو ي�س�أل ب�شرود�« :إذا هل �أخربتك �شي ًئا؟!»�أجابه:
ريص ع
الكت
«نعم ،رجال عبده اجلن يف املنطقة ،هي ملحت جمموعة من رجاله يف �أماكن
شر وال
لي�س هناك �أي �ضيوف هناك لذا»..
توزيع
�سي ّحل �أحد ُ�س ّكان املنزل اليوم» هز �سمري ر�أ�سه
قاطعه اللواء بقلق« :هو ُ
وهو يقول«:نعم ،وهذا ما يقلقها» �س�أله اللواء« :ح�س ًنا ،ماذا عن رجلنا؟!»
�أجابه«:و�صل بعدها بقليل ،وقد علم �أن عملية البيع �ستتم على حدودنا» �س�أل
اللواء بتوتر« :احلدود!» �أجاب عن ت�سا�ؤله« :حدودنا مع ا�سرائيل �سيدي ،رجالنا
يف ق�سم �شرطة ال�شيخ زويد �أكدوا علينا وجود حركات ع�شوائية لبع�ض رجال عبده
يف املنطقة هناك ،وهم يف و�ضع ت�أهب يف حالة حدوث �شيء»
نه�ض اللواء فريد من مكانه وهو يتناول هاتفه« :ح�سنا� ،أريد ً
رجال ُمتخفني يف
�أماكن متفرقة طول الطريق بيننا وبينهم ،و�أريد �أن �أقابل رجلنا يف �أقرب وقت� ،آه..
�سمري �أنا �أريد الأمر �أن يتم يف �سرية تامة� ،أنت تعلم عيونه هنا يف كل مكان ،و�أريد
رجل على مقربة من املنزل يتابعها كظلها �إن خرجت� ،أنا يجب �أن �أت�صل بالعا�صمة ً
حت ًما لديهم معلومات لنا»
M
20
ً
ليل مبنزل ممدوح العزامي
دلفت للمطبخ تبحث عن ماء تروي به عط�شها ،وهي حتاول جاهدة مللمة �شتات
روحها ،فهي تعي جيدً ا �أن نظرة واحدة من ُغفران حلالتها و�ستدرك كل ما حدث،
لذا يجب �أن ُترتّب �أفكارها جيدً ا.
جت ّمدت مكانها وهي ترى ُغفران ت�ستند على �أحد الكرا�سي وتنظر لها برتكيز،
وغفران تتابع جيدً ا ردود �أفعال رحمة لر�ؤيتها و�شحوب �ساد ال�صمت للحظات ُ
وجهها ،حت ّدثت بهدوء�« :أ�صررت على ال�سهر قليال حتى يت�سنى يل الفر�صة لأقابل
�أختي التي تته ّرب من ر�ؤيتي طوال اليوم بالنوم ،ومل ُتك ّلف نف�سها ا�ستقبايل بعد
ع
غياب» ،تنهدت رحمة بخفوت وهي تهدئ من �ضربات قلبها املُرجتف ،هي ب�أمان
والتوزي ر
ُغفران ظنها وهي ترفع ذراعيها وحتاوطها هي الأخرىُ ،طرفت عيناها بالدموع،
ع
دوما ُغفران ت�ستطيع مل�س روحها ب�سهولة.
ً
هم�ست بهدوء« :عودًا حميدً ا حبيبتي».
ربتت ُغفران على ظهرها بحنان ال يظهر �إال لها ولإخوتهان وبعد دقائق كانتا
يف وقفتهما املُعتادة �أعلى �سطح املنزل ،ت�ستندان على �سور ال�سطح ،بينما الظالم
يحيط بهما من كل جانب� ،أدارت ُغفران ر�أ�سها لرحمة التي تقف بجوارها تتابع
�شرود عينيها وهي تنظر للقمر الذي يبدد وح�شة هذا الظالم ،وبادرت باحلديث:
عقلك هكذا؟!».
«�ألن تخربيني ما ي�شغل ِ
بدت رحمة بعيدة يف هذا الوقت وهي جتيبها ب�شرود« :لقد � ِ
أتيت بحقيبة
�صغرية» ،مت ّعنت ُغفران يف النظر �إليها ،وهي تعي ما وراء عبارتها ،بينما �أكملت
رحمة�« :سرتحلني ُمددًا �ألي�س كذلك؟!» ،مل تبعد ُغفران عينيها عنها وهي
جتيبها بخفوت من دون التط ّرق ملا تخفيه عنها«:يجب �أن �أفعل هناك �أمور عالقة
بالقاهرة».
21
تنهدت رحمة وهي جتيبها بحزن�« :سنة �أخرى» ،هزت ُغفران ر�أ�سها بالنفي،
وهي جتيبها« :ال فقط ب�ضعة �أ�سابيع �إن مل �أ�صل ملا �أريده� ،صدقيني رحمة �إن الأمر
هام».
ملحت ُغفران ا�ضطراب تن ّف�س رحمة وارتعا�ش ج�سدها وهي تقول ب�صوت
خمنوق« :لن �أ�ستطيع ،وهي لن ت�ستطيع ال�صمود لب�ضعة �أ�شهر �أخرى بدون �أحد
معها»� ،شعرت ُغفران بحالة رحمة غري الطبيعية ،ف�أدارتها لتكون �أمامها وهي
تنظر لعينيها برتكيز ،وهي تهتف ب�شك« :ما ال�شيء الذي لن ت�ستطيعي ال�صمود
معك؟!»
�أمامه ،ومن التي تتحدثني عنها؟! ما الذي يحدث ِ
ص ع
ملحت ُغفران دموع رحمة تت�ساقط بوهن ،فا�شتعلت عيناها بنريان الغ�ضب،
الكت ري
والقلق �أ�صاب �أعماق قلبها فهدرت بها «:ما كل هذا الوهن الذي � ِ
أ�صابك؟! �أخربيني
ص ع
عودتي اليوم فقط لإنهاء العديد من الأمور� ،أنا على بعد خطوة من �إنهاء كافة الأمور
والتوزي
على الأقل بالن�سبة يل ،ف�أنا �أ�صبحت يف اجلحيم بالفعل وال خمرج �آخر يل منه»
ع
رم�شت ُغفران بعينيها للحظات وهي ت�شعر بالقلق يع�صف بها فتح ّدثت بارتباك:
«ما الذي تق�صدينه؟!» .
«�آه� ..أنتما هنا ونحن نبحث عنكما يف الأ�سفل».
التفتت ُغفران لل�صوت ذي البحة الذي قاطعهما ،بينما �أدارت رحمة وجهها
مت�سح دموعها حتى ال يلمحها �أحد ،يف حماولة منها لإيقاف انهيارها.
نظرت ُغفران بجمود لتلك املر�أة التي تقف �أمام باب ال�سطح تنظر لها بعيون
�شابهت عينيها با�ضطراب حتاول �أن ُتخفيه ،بينما ملحت ُغفران �شحوب وجهها
وج�سدها الذي فقد الكثري من الوزن ف�أ�صبحت بحجم طفلة يف ال�ساد�سة ع�شرة من
عمرها ،لكن خ�صل �شعرها التي حتمل �صبغة تخفي بها �شيبها ك�شفت عن عمرها
اخلام�س والأربعني .قطعت املر�أة ال�صمت وهي تتحدث بخفوت ل ُغفران« :عو ٌد
عودتك ،ف�أنا كنت نائمة».
ِ أرك عند
حمي ٌد يا ابنتي ،مل � ِ
23
ارتعا�شة ج�سدها التي �أخفتها برباعة وهي ت�شعر باال�شمئزاز ل�سماع كلمة ابنتي
من فمها ،بينما نظرت رحمة لها با�ستغراب ،فلأول مرة تنادي والدتهما �إحداهن
بابنتي� ،أو حتى ُت ّ
ربر �أين كانت وماذا تفعل.
مالمح ُغفران اجلامدة مل ِ
تعط لها �أي �إجابة ،فتنهدت وهي تنظر لرحمة وتقول
إليك» .
ب�صيغة الأمر املُعتادة« :انزيل رحمة ،ممدوح يريد التح ّدث � ِ
ملحت ُغفران بطرف عينيها ارتعا�شة ج�سد رحمة وهي جتيبها بنعم ،فكادت �أن
تتحرك ،حتى م�سكت ُغفران ذراعها ونظرت لها بقوة وهي تقول « ::كالمنا مل
أتبعك بعد �أن �أنهي حديثي مع ال�سيدة �سمرية» .
ينته� ،س� ِ
ص ع
ملحة �أمل مرت يف عني رحمة ،لت�سبل �أهدابها عن ُغفران وهي تهز ر�أ�سها من دون
الكت ري
قول �شيء ،لترتكها ُغفران وتتبعها بعينيها وهي ت�صل لباب ال�سطح وتنزل للأ�سفل.
توزيع
برت ّقب ،فتحدثت ُغفران وابت�سامة ته ّكم تزين ثغرها« :كيف ِ
حالك �سيدة �سمرية؟!
�أمتنى �أال تكوين بخري!» .
رم�شت �سمرية بعينيها وهي تعي جملتها بينما �أجابتها بربود« :احذري مما
لك �أحد غريي» �ضحكت ُغفران ب�سخرية وهي تقرتب من تتمنينه يا ُغفران ،فلي�س ِ
غرورك لي�س له حد ح ًقا ،هل � ِ
أنت ِ ال�سيدة التي حظيت بلقب والدة لها ولإخوتها« :
�شئت �أم
والدتك ِ
ِ غريك؟»� ،أجابتها �سمرية بغ�ضب مكتوم�« :أنا
واثقة ب�أن لي�س يل ِ
أبيت ،ال ت�ستطيعني تغيري ذلك».� ِ
�أجابتها ُغفران بربود« :ليتني �أ�ستطيع� ،أخربيني يا �سيدة �سمرية كيف حال
أتيك
أنفك با�ستمرار �أو رمبا ت� ِ
�صحتك؟! هل ت�شعرين ببع�ض الإرهاق؟! ،رمبا ينزف � ِ
ِ
إمكانك
جمهودك مل يعد كال�سابق ،فلم يعد ب� ِ
ِ ُحمى كل فرتة و�أخرى ،ومن يعلم رمبا
ج�سدك دون �سبب» .ِ جلد �أحد بال�سياط ،بينما كدمات غريبة تظهر على
ازداد �شحوب وجه �سمرية وهي ت�ستمع لكلمات ُغفران التي مل تكن جمرد
عرفت كل
ِ ت�سا�ؤالت بل كانت حقائق تق ّرها عليها ،حت ّدثت بارتباك« :كيف كيف
هذا؟! ما الذي فعل ِته يل؟!» .
24
�أنهت �س�ؤالها الأخري وهي تقب�ض على ُمقدمة �سرتة ُغفران وجتذبها مبا
ا�ستطاعت من قوة لتت�سع ابت�سامة ُغفران وهي تنظر لها وجتيبها بربود« :لي�س
�أنا من فعلت بل عدالة ال�سماء ،فيبدو �أن القدر يختم ال�شر بال�شر وال ير�ضى �أن
أنك ُم�صابة بـ« :لوكيميا» �أو بالأدق مراعاةأخربك � ِ
تنعمي مبوت هادئ ،ي�س ّرين �أن � ِ
جلهلك ما ي�سمى �سرطان الدم».
ِ
انتف�ضت �سمرية ُمبتعدة عن ُغفران وهي تهز ر�أ�سها بال ،راف�ضة �أن ُت�ص ّدق ما
أنت كاذبة ،ال �أنا ل�ست ُم�صابة ب�شيء� ،أنا لن �أموت».
ت�سمعه �أذناها لتهتفِ �« :
احتل اجلمود مالمح ُغفران وهي تنظر لها بخواء �«:أنا ال �أكذب يا �سيدة �سمرية،
ع
كان على �أحدهم �أن يعلم احلقيقة ،حقيقة ما يحدث يف تلك احلياة التي نحياها
ع
يوما كانت حقيقة يل ،عك�سهم حقيقة بغي�ضة� ،أدفع عمري كله وال التي مل �أرغب بها ً
قلت ال �أ�ستطيع تغيريها ،لأتفاج�أ بطبيبة التحاليل تخربين �أحياها حلظة ،ولكن كما ِ
ب�أن العينة التي طلبت فح�ص حم�ض نووي لها حتمل �صاحبتها مر�ض �سرطان الدم،
دمك ،وكانوا ُمتيقنني بن�سبة
نظ ًرا لزيادة غري طبيعية لعدد خاليا الدم البي�ضاء يف ِ
مظهرك
ِ كبرية ،لذا يجب �أن تقوم �صاحبتها بالتحاليل الالزمة لتت�أكد ،ولكن من
�أمامي �أ�ستطيع �أن �أ�ؤكد �أن الن�سبة مئة باملئة» ،هزت �سمرية ر�أ�سها وهي ت�سمع ما
�ألقته عليها ُغفران وهي ت�شد �شعرها بقوة وتهم�س بتكرار« :ال ،ال ميكن»� ،شعرت
بالدوار للحظة لت�سند ج�سدها على احلائط خلفها ،وتنظر ب�شحوب ل ُغفران وهي
تقول ب�ضعف« :هل �س�أموت يا ُغفران؟!» .
رم�شت ُغفران بعينيها للحظات وقد ُبوغتت ب�س�ؤالها الذي �ألقته بكل ال�ضعف
يوما طوال حياتها الثمانية والع�شرين ،هي كانت الذي بداخلها ومل تلمحه ُغفران ً
تع ّد نف�سها بقوة لهذه اللحظة لتلقي عليها اخلرب بكل برود وجمودُ ،موكدة لنف�سها
�أنها لن تت�أثر ،لن ي�ؤملها قلبها ،ولن تهتم ،فتلك التي �أمامها لي�ست والدتها ،هي فقط
املر�أة التي �سكنت يف رحمها لت�سعة �أ�شهر ،لكن �أن ت�س�ألها بكل هذا ال�ضعف �إن كانت
25
�ستموت قد زلزل الأر�ض التي �سعت طوال كل تلك ال�سنوات يف تثبيتها حتت قدميها
بكل م�شاعر الكره والغ�ضب.
قاطع �أفكارها نحيب �سمرية وهي تقرتب من ُغفران ومت�سك بكفي يديها
أنت طبيبة، بتو�سلِ �« :
أرجوك افعلي �أي �شيء� ،أنا ال �أريد �أن �أموتِ � ، وتتح ّدث ّ
�أخربيني بالدواء و�س�أح�ضره �أو �س�أطلب من ممدوح �أن يبحث بني الدفعة القادمة
على �أحد ُمنا�سب ت�ستطيعي �أن حت�صلي منه على النخاع ومتنحينه يل� ،ألي�س العالج
نخاعا؟ لقد �سمعت �أحد الذين تعاملنا معهم وكان يبحث عن الأف�ضل �أن تزرعي يل ً
نخاع البنته� ،إن الأمر كله يف نخاع يكون منا�س ًبا لف�صيلة دمي �ألي�س كذلك؟!» .
ع
طارت كل الذرات التي ل�سعت قلبها ب�أمل منذ قليل لتنقلب لرياح غ�ضب هادر
الكت ريص
وهي ت�سمع كلماتها الأخرية لتنظر لها با�شمئزاز وا�ضح ،لتجيبها بربودِ « :
لديك
شر وال
ِ
توزيع
بينما مل تفعلي �شيئا �سوى تدمري حياتي وحياتهن؟».
نظرت �سمرية لها ب�صدمة لتبتعد عنها وقد �أ�صابتها ال�صدمة به�ستريية �ضحك
حتول لغ�ضب بعد حلظات وهي تهدر فيها ،بينما ج�سدها ينتف�ض بخوف مما �أدركته
جعلتك حتيني حياة ما
ِ عن حالتها�« :أي حياة التي دمرتها ،لقد � ِ
أنقذتك يا غبية ،لقد
كنت
كنت لت�صبحي طبيبة وما ِ تركتك منذ ثمانية ع�شر عاما ،ما ِ
ِ كنت لتعي�شينها لو
ِ
�صرت جارية لأحدهم �أو م�صدرا
حتى لتتمكني من ال�صمود يف ذلك الكهف �أو رمبا ِ
أح�ضرك معي ُمرغمة ،وهكذا
ِ لك خدمة العمر و�أنا �
جيدا للأع�ضاء ،لقد قدمت ِ
دينك ب�أن ت�أتي بكل برود تخربيني عن مر�ضي وتتل ّفظني بكل تلك الرتهات،
تردين ِ
عليك التنفيذ� ،س�أحت ّدث مع ممدوح ليعطي هذا �أنا ال �أطلب ُغفران �أنا � ِ
آمرك ويجب ِ
أنت لن تخرجي من هذا املنزل حتى تعاجليني ..انتهى الأمر الأهمية الق�صوى و� ِ
الأمر».
دفعتها �سمرية وحتركت لباب ال�سطح ليوقفها �صوت ُغفران الذي و�صل
بتيه �أول مرة
لأ�سماعها غريبا �ضعيفا! جعلها تلتفت لها با�ستغراب لرتاها تنظر لها ٍ
تلمحه عليها لت�سمعها وهي تقول�« :أخربيني �سيدة �سمرية هل �أح�ضرتني ِ
معك هنا
26
ابنتك �أم لأنه
لهذا املنزل ومل ترتكيني �أتعفن يف ذلك الكهف الذي ولدت فيه لأنني ِ
لك؟!» .
�سيكون يل فائدة يف امل�ستقبل ِ
طويل ُتاول به ال�سيطرة على �أع�صابها ،لتُجيبها بربودها نف�سا ً �أخذت �سمرية ً
أح�ضرك،
ِ أخربتك �أنني كنت ُمرغمة و�أنا �
ِ دوما مع اجلميع�« : الذي تعاملت به ً
لك؟!» لتقرتب �سمرية منها وتقف على بعد خطوة منها وتهتف فماذا يعنيه هذا ِ
بكر ٍه �أظهر قبح روحها وارتعا�شة ج�سدها اخلائن �أو�ضح �إرهاقها« :هل تريدين
يوما ب�أن تكوين معي ،ومل �أكن لأ�شعر أخربك بها� ..أنا مل �أرغب ً�سماعها؟! ح�س ًنا �س� ِ
تركتك هناك» ،حركت �سمرية ر�أ�سها جانبها وهي تنظر ل ُغفران ِ بذرة ندم واحدة لو
بنظرات حملت كل م�شاعر البغ�ض ،وهي تكمل« :هل � ِ
أخربك بالأهم؟! �أنا مل �أرغب
ريص ع
إجها�ضك لوال ممدوح الذي �أعلم الآن بعد ما قل ِته
ِ بك ابنة ،كنت على خطوة من � ِ
والتوزي
أنكهدف �أ�سمى جنحنا �أنا وهو يف الو�صول �إليه ،رغم � ِهذا احلمل البغي�ض من �أجل ِ
ع
كنت ال�سبب يف العقاب الذي نلته لأعود مل�صر جمددًا وتعبي و�إرهاقي مل ي�ساعداين ِ
والدك
ِ كنت ال�سبب يف جناح خطتنا� ،أما عن أنك ِ لأهتم بكل تفا�صيل العملية� ،إال � ِ
عمرك املُتبقي جاهلة مبن يكون� ،أتعلمني ملاذا؟! لأنني ال ِ احلقيقي ف�ستبقني طوال
نت نتاج عالقة دامت ليوم �أو رمبا ل�ساعة ال �أتذكر جيدً ا، أنت ُك ِ�أتذكر من يكون؟! ف� ِ
بذرة من عالقة فا�سدة».
لتتعاىل �ضحكات �سمرية وقد فقدت ال�سيطرة على م�شاعرها وهي تنظر لها
بجنون ،لترتكها وتتحرك جتاه الباب لتلتفت ر�أ�سها وهي تقول« :ا�ستعدي جيدً ا
بعنقك اجلميل هذ،ا واحذري يا
ِ ردك للدين الذي يحيط والدتك ،فهذا ِ
ِ لتُنقذي
عيناك التي ُ�سحبت منهما
ِ منك �ست�شهدُغفران من الغدر ،ف�إن مل تفعلي ما �أردته ِ
أنت تدركني جيدً ا ما �أ�ستطيع فعله».
أخواتك الغاليات و� ِ
احلياة الآن موت � ِ
وغفران جامدة يف مكانها تنظر للفراغ �ساد ال�صمت للحظات حت ّولت لدقائقُ ،
الذي خ ّلفته �سمرية وراءها ،قطرة من املاء �سقطت على كف يديها لتنظر لها
با�ستغراب ،فرفعت يديها مت�سح على وجنتيها لتجد قطرة ت�سقط وراءها الأخرى،
27
لتدرك �أنها تبكي� ،أدموعها هذه ب�سبب ذلك الأمل القا�سي الذي يحتل قلبها الآن
ويقتلها مع كل نف�س تخرجه؟! هل ح ًقا تبكي ق�سوة والدتها؟! �أغم�ضت عينيها ب�أمل
وهي ترفع قب�ضتها ت�ضرب بها �صدرها بقوة مكان قلبها لع ّل الأمل يخبو ،وهي تهم�س:
«توقف عن الأمل توقف» ،رفعت قب�ضتها الأخرى وهي مت�سح دموعها بق�سوة ،وقد
فقدت قدرتها على التحكم بها لتنهمر دموعها بغزارة ،لت�شهق ُغفران وهي ت�شعر
بقطرات �أخرى تت�ساقط فوق ر�أ�سها لتفتح عينيها وترفع ر�أ�سها للأعلى لرتى مطر
ال�سماء قد بد�أ يف الت�ساقط بهدوء ،مطر جاء يف غري مو�سمه لينهمر بعدها بقوة
لتغم�ض عينيها جمددًا والقطرات متتزج مع دموعها وهي ت�سمح لروحها �أن تتطهر
مبطر ال�سماء لع ّله رمبا ميحو كل تلك الآالم.
ريص ع
الكM M M
ن ل ل ب ت
و ت ل ا و ر ش
يع ز
28
خوفنا هو ما ُيجربنا على جعل من الال�شيء �شي ًئا ً
بغي�ضا
الف�صل الثاين
حياة وموت
طرقت باب املكتب بارجتاف لت�سمع �صوته ي�أذن لها بالدخول ،دلفت للغرفة
لتلمحه يتحدث يف هاتفه وهو جال�س على الأريكة التي حتتل مكا ًنا كب ًريا بالغرفة،
ص ع
ملحته وهو ينقل نظراته على انحناءات ج�سدها وابت�سامة ترت�سم على وجهه
الكت ري
ف�أحاطت ج�سدها بذراعيها ،وهي ت�شيح ب�أنظارها عنه لت�سمعه ينهي املكاملة وينظر
شر وال
بوقتك مع
ا�ستمتعت ِ
ِ
توزيع
أنك ُغفران العزيزة؟!» ،ارتع�ش ج�سدها ومل جتبه ب�شيء ،ليكمل�« :أرى من ِ
هيئتك � ِ
مل ت�ستطيعي البوح مبا حدث� ،آه رحمة كم �أنت فا�سدة �صغرية» �أجابته بغ�ضب�« :أنا
مل �أخربها ب�شيء ،لأنها �إن عرفت فلن ترتدد من غرز �سكينها يف عنقك» ،نه�ض
أنك قلقة على منرتي� ،ستجعليني من مكانه وهو ي�ضحك قائال�« :آه ال تخربيني � ِ
لك بد ًءا من اليوم» ،رفعت �أنظارها له لتلمحه هكذا �أغري املُخطط الذي ر�سمته ِ
يقف على مقربة منها يلم�س �شعرها ب�أنامله ،لت�س�أله با�ضطراب�« :أي خمطط؟!»
علي يثريين يا منرتي» ،جذبها قلقك ّنفيك ِرفع حاجبه الأمين وهو يقول« :عدم ِ
له بقوة وهو يحيط بذراعه ج�سدها لتنتف�ض بقوة بني يديه وهي حتاول با�ستماتة
تعط لنف�سك قيمة قلقي على ُغفران �أن تتح ّرر من �أح�ضانه لتهتف بغ�ضب« :ال ِ
وم�ستقبلها الذي �سينتهي �إن قتلتك ..ابتعد عني».
�أرجع ر�أ�سه للخلف وهو ي�ضحك بقوة ليعود لينظر �إليها وهو ي�ضمها له �أكرث�« :آه
منك ،ولكني
يا منرتي كم �س�أ�شتاق لتلك الأظافر التي تنه�شني بها كل من يقرتب ِ
عليك �سيتلذذ بها و�ستكوين دُميته املف�ضلة» ،توقفت عن مت�أكد �أن من �سيح�صل ِ
قتاله وهي ت�سمع جملته الأخرية لرتتع�ش �شفتاها وهي تنظر له بعيون دامعة لريفع
هام�سا�« :ستكونني له �أكرث من
�أ�صابعه ومي�سح دموعها التي ت�ساقطت وهو يقول ً
30
بتو�سل«:ال
كنت يل و�أكرث» ،هزت ر�أ�سها بال وهي تنهار بالبكاء هام�سة ّ دُمية كما ِ
�أرجوك ،ال» ،نظر ل�شفتيها ليكمل بجنون وهو يقول « ::ال منرتي ال تتو�سل لأحد،
عليك يا عزيزتي ،فهم يريدون ب�ضاعة ُم�ستعملة �أو امر�أة �صغرية
لقد وقع االختيار ِ
مل يلم�سها �أحد بعد».
�شهقت برعب وهي تعي ما يل ّمح له بكالمه عن ليلى ،منذ قليل كانت تفكر يف
قتاله حتى ال ُيرح ّلها ملكان �آخر بعيد عن ليلى ،وقد �أدركت من ُغفران �أنها لن تكون
كاف ،والآن �سرتحل� ،ستوافق �أن ير�سلها لأي مكان حماية لـ ليلى لتقول:هنا لوقت ٍ
«ال ،ليلى ال� ،أرجوك» ،ابت�سم لها وهو يقول ب�سخرية« :مل �أظن �أن تلك امل�شاعر
يوما ما ،كم كنت �أبغ�ض ما تفعله ُغفران من زرع احلب بينكن،
ع
التي بينكن �ستفيدنا ً
ا ريص
علي �أن �أ�شكرها» ،ابتعد عنها وهو يتجه للمكتب ليخرج بع�ض الأوراق
ل
ولكن الآن ّ
والتوزي
تجاهل
ع
طلبها ،الغبية ال تعلم �أن ُغفران �ستكون يف نومتها الهادئة بعد تناولها املنوم يف
طعام الع�شاء«:،الليلة �سيكون حت ّركنا ،ا�ستعدي عزيزتي ،ال داعي لأي حقائب ،فهم
يريدونك فقط» .
ِ
M
مقر الأمن الوطني
طرقات على باب مكتبه تبعها دخول �أحد رجاله�«:سامي الأبنوبي» �أواله اهتمامه
وهو يلمح على وجهه مالمح �أخبار جديدة عاجلة ،بادره باحلديث�« :أخربين».
�أجابه �سامي« :الأمر �سيتم الليلة �سيدي» ،نه�ض اللواء ح�سني ثروت من مكانه
وهو يجذب �سرتته لريتديها على عجال ،بينما يتح ّدث« :اجتماع �سري عاجل
لرجالنا �سامي ،و�أريد ات�صاال ُمبا�شرا يف العري�ش و�أريد عي ًنا و�أذ ُنا هناك خطوة
أجر ات�صاال �آمنا باللواء فريد و�أو�صلني به على الفور� ،أريد �أن �أعرفبخطوةِ � ،
خمططه وبلغ �سكرتري مدير الأمن برغبتي يف لقائه يف مو�ضوع ذي �أهمية ق�صوى».
31
بعد منت�صف الليل مبنزل ممدوح عزامي
و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات مكتومة يف اخلارج ،عقدت حاجبيها با�ستغراب وهي
�صباحا ،نه�ضت من على �سريرها وهيً تنظر لل�ساعة التي ت�شري عقاربها للثانية
تقرتب من النافذة بهدوء لتلمح عربة �سوداء رباعية الدفع يقف �أمامها رجالن
يبدو من هيئتهما الإجرامية �أنهما لي�سا من املنطقة لتت�أكد من ظنونها وهي تراهما
يلتفتان لباب املنزل الذي ُفتح ،لتدقق النظر لتت�سع عيناها يف اللحظة التالية
ب�صدمة وهي ترى ممدوح يتحدث مع �أحد الرجلني وبجواره رحمة ،بينما تقف
خلفهما �سمرية وهي تهم�س ب�شيء لرحمة وابت�سامتها ال�شيطانية على وجهها ،بينما
ازداد �شحوب وجه رحمة قبل �أن تركب ال�سيارة يف اخللف ويجاورها ممدوح.
ريص ع
الكت
ال تعلم كيف حتركت ُم�سرعة من غرفتها حماولة عدم �إيقاظ ليلى يف ال�سرير
شر وال
تنزل من على الدرج لتتجمد مكانها ،وهي ترى �سمرية واقفة �أمام باب املنزل
توزيع
ويجاورها �سمر ،ويف يدي كل منهما �سالح .حتدثت �سمر ب�سخرية« :كان يجب �أن
لك».
أنك لن تتناويل �أي �شيء قدمناه ِ
�أدرك � ِ
�أجابتها ُغفران بجمود وعينيها ال تفارق عني �سمرية�« :أنا لن �أجازف بتناول
�شيء د�س�ستم فيه �أي �شيء ،فحتما وجود رجال عبده اجلن لي�س ب�صدفة ،ال تريدونني
ُم�ستيقظة ،خا�صة وقد تفاج�أمت بعودتي اليوم� ،إىل �أين �أخذ رحمة؟!» ابت�سمت �سمر
ب�سخرية وهي جتيبها بينما ال تعي حلرب النظرات بني ُغفران و�سمريةَ « :مل ال
بالك مبا يحدث الآن مع رحمة؟».
لغرفتك وال ت�شغلي ِ
ِ ت�صعدي
ملحت ُغفران �سالح �سمر الذي رفعته و�صوبته باجتاهها لتنظر لها للحظة لتعيد
�أنظارها جمددًا ل�سمرية«:،لقد خرقتم االتفاق» �أجابتها �سمرية بهدوء بينما
تقب�ض على م�سد�سها بقوة بني يديها دون �أن ترفعه«:،ا�صعدي لغرفتك ُغفران،
الأمر يتعدى �أي اتفاق بيننا ،رحمة يف طريقها حلياة جديدة ،وكما ر�أي ِتها يف النافذة
لقد رحلت ب�إرادتها ومل يجربها �أحد على �شيء».
كررت ُغفران حديثها وهي تنظر لها بثبات« :لقد خرقتم االتفاق».
32
لرتفع �سكينها يف اللحظة التالية لتقذفها جتاه �سمر مبهارة في�صيب ذراعها،
ما جعلها ت�سقط �سالحها وهي تت�أوه ب�أمل ،اقرتبت ُغفران ُم�سرعة ُم�ستغلة ان�شغال
�سمر ب�أملها وهي جتذب ال�سكني من ذراعها ،لتلتقط ُغفران �سالح �سمر يف اللحظة
التي رفعت �سمر ال�سكني من ذراعها لرتفعها جتاه ُغفران ،كانت قد ابتعدت الأخرية
عنها مبهارة وهي ت�ضرب مب�ؤخرة ال�سالح ر�أ�س �سمر بقوة كبرية ،لت�سقط على
الأر�ض مغ�شية عليها ،التفتت ُم�سرعة ل�سمرية وهي ت�صوب ال�سالح جتاهها لتتفاج�أ
بالأخرية وهي ترفع �سالحها على بعد �إن�شات من جبني ُغفران.
حت ّدثت ُغفران بهدوء غري عابئة بال�سالح املُلت�صق بجبينها�« :ست�صطحبيني
ملكان رحمة الآن ،و�إال �س�أُ ّ
ع
عجل من املحتوم الذي قد ي�صيبك يف �أي حلظة»،
ك
ل�ست يف و�ضع ي�سمح ِأنت ِ
ر ش
والتوزي
�سمرية» ،تنهدت �سمرية وهي تنزل �سالحها بينما تتجاهل تهديد ُغفرانَ « :مل ال
ع
ترتكيها ترحل ..رمبا جتد حياتها يف املكان الذي �ستذهب �إليه» ،اقرتبت ُغفران
منها وهي تلتقط �سكينها التي �ألقت بها �سمر مبكان قريب منها ،ثم مبهارة �شخ�ص
�أجاد ا�ستعمال ال�سكني �صوبتها جتاه عنق �سمرية وهي تهتف بغ�ضب« :الآن ،الآن
وجودك يف تلك اللحظة ،و�أنا بقادرة
ِ لك ب�أنني �س�أنهي
�ست�أخذيني �إليها ،و�إال �أق�سم ِ
حياتك مقابل مكان رحمة».
ِ على الو�صول �إليهم بطريقتي والآن اختاري
ارتع�شت �سمرية ون�صل ال�سكني ينغرز �أكرث يف ج�سدها لتهز ر�أ�سها بهدوء ،وهي
أخربك مكانها ،ولكن لقد ت�أخر وقت �إنقاذها» ،و�ضعت ُغفران �سكينها
تقول�« :س� ِ
بجيب �سروالها ،و�صوبت ال�سالح الآخر جتاه �سمرية ،وهي تخربها« :التقطي مفتاح
ال�سيارة ولنذهب».
انطلقت ال�سيارة تقودها �سمرية بينما ُغفران بجوارها ت�صوب ال�سالح جتاه
�سمرية ،ويف يدها الأخرى هاتفها حتاول �أن تت�صل بامل�ساعدة ،ولكن االت�صاالت ال
تكتمل يف املنطقة التي بها� ،شتمت يف �سرها وهي ت�شعر بنفاد الوقت بالفعل ،نظرت
يف مر�آة ال�سيارة اجلانبية وهي تلمح �أنوار �إحدى ال�سيارات خلفها ُتب ّدد القليل
33
من الظلمة ،دققت النظر لتلمح وج ًها م�ألو ًفا هتفت ب�سمرية« :هدئي ال�سرعة»،
ا�ستجابت لها �سمرية وهي تنقل عينيها بني ُغفران وال�سالح امل�صوب جتاهها بقلق.
اقرتبت ال�سيارة الأخرى لرتى ُغفران �سائقها ينظر لها باطمئنان« :لقد علم
اللواء فريد بالأمر ،الرجال يف كل مكان ،نحن فقط ال نعلم �أي طريق �سي�سلكه»،
�أجابته ُغفران بجمود�« :إىل �أين؟!» �أجابها ال�سائق�« :إىل احلدودُ ،
�ست ّحل
لإ�سرائيل»� ،شحب وجهها وهي تدير ر�أ�سها ل�سمرية التي �شعرت بالتوتر من حديث
ُغفران مع الرجل ليقع قلبها وهي ترى نظرات ال�شر يف عني ُغفران لتبتلع ريقها
عال قبل �أن توجه لها احلديث�« :أ�سرعي،
ب�صعوبة وهي ترى ُغفران ت�شتم ب�صوت ٍ
ص ع
لك �س�أقتلكم جمي ًعا �إن �أمتم �صفقته ،الوغد احلقري».
�أق�سم ِ
الكت ري
ب
بعد مرور ن�صف �ساعة يف الطريق� ،شعرت ُغفران بالقلق وهي مل تر �أي �سيارات
توزيع
وتقوم بات�صالها� ،سمعتها �سمرية وهي تقول« :ال�شيخ عزيز ،رمبا حان الوقت لرتد
دين ابنك� ،أريد خدمة منك عاجلة».
ارجتاج ال�سيارة بها يف الطريق والظالم الذي ي�سود كل ما حولها مل يخفف من
الرعب الذي �أ�صاب قلبها وهي ترى نهايتها ترت�سم �أمامها ،بينما ُت�ساق كاجلارية
لعاملها اجلديد� ،أغم�ضت عينيها وهي ت�شعر بالقليل من الراحة لأنه �أخذها ً
بدل
من ليلى ،الغالية ليلى مل تكن لتتحمل ر�ؤيتها تت�أذى ب�أي طريقة .فتحت عينيها على
تو ّقف ال�سيارة فانتف�ض قلبها برعب وهي ت�شعر بقرب النهاية ،ليجذب انتباهها
حديث �أحد الرجال مع ممدوح اجلال�س بالكر�سي جوارها هو ي�س�أل الرجل« :ما
الذي تق�صده؟!» ليجيبه الرجل�« :سيدي يخربك �أن الأمر يجب �أن يت�أجل ً
قليل،
رمبا ل�ساعة �أو ل�ساعتني ،فالطريق ُمل ّغم برجال �أمن ُمتخفني»� ،أجابه ممدوح
بع�صبية« :ال ميكننا الت�أجيل ،فهناك موعد للت�سليم ال ميكن الت�أخري عنه» ،قال
الرجل« :ح�س ًنا �س�أخرب �سيدي ،لكن حتى ن�صل حلل يجب �أن نخفي �آثارنا حتى �إذا
مرت دوريات ال�شرطة هنا ال جتدنا ،اتبعني ب�سيارتك».
34
�سمعت ممدوح ي�سب وهو ي�أمر ال�سائق �أن يتبع ال�سيارات التي �أمامه ،و�صلوا
ملنطقة جبلية يبدو �أنها �أحد �أوكارهم ،وملحت توقف ال�سيارات لرتى ممدوح يجذب
هاتف الرثيا من جيبه ليت�صل ب�أحدهم� ،أخذ ج�سدها يرجتف خو ًفا وهي حتاول
�أن ترى �أي �شيء من الظالم حولها ،لتغم�ض عينيها وهي ت�ستدعي ذكرى ،ذكرى
طمرتها منذ �سنوات ،ذكرى مل تتوقف للحظة عن العودة والظهور �أمام عقلها يف
�أق�سى حلظات حياتها� ،صوت رمبا تنا�ست وجه �صاحبه لكن مل تن�س الأمان الذي
كان ميلأ روحها بوجوده فهم�ست داخلها« :ابق �أرجوك».
حركة �أثارت انتباههم وهم يرون �سيارات رباعية الدفع قادمة من بعيد متر على
الطريق الرئي�سي بجوار مكان اختبائهم ،ركز ممدوح نظراته على ال�سيارات ليدرك
ريص ع
�أنها م�ألوفة له� ،ساد ال�صمت و�سط الرجال حني ملحوا �إحدى ال�سيارات تتوقف لينزل
والتوزي
ً
طويل ينظر باجتاه مكانهم ،ف�أخذ نف�سه �أخ ًريا وهو يراهم يعودون لل�سيارة وحلظات
ع
وانطلقوا جمددًا يف طريقهم.
�س�أله �أحد الرجال�« :شرطة؟!» ،هز ممدوح ر�أ�سه وهو يجيبه« :ال� ،إنها
�سيارات ال�شيخ عزيز ،فحتما ه�ؤالء رجاله ،يجب �أن نتحرك الآن ،ف�إن �صدق حد�سي
فنحن �سنكون يف انتظار �صحبة غري مرغوبة بها الآن».
انطلقت ال�سيارات ت�شق �صمت الليل الأ�سود وهي ما زالت قابعة مكانها ُمغم�ضة
العينني تتبع �صوت ذلك الذي ي�سكن عقلها ،لع ّله يهبها بع�ض الأمان املفقود .مرت
يرتجل من ال�سيارة ورجاله
�ساعة �أخرى حتى توقفت ال�سيارات كلها لتلمح ممدوح ّ
معه ،فر�أت �أربع �سيارات �أخرى �أمامها لتُدرك �أن حت ًما هذا مكان االتفاق.
ارتع�ش ج�سدها بينما ي�صل لأ�سماعها �أ�صوات �ضحكات ولغة غري مفهومة
لها ،فلمحت �أحد رجال عبده اجلن يقرتب من ال�سيارة ليفتح بابها ويجذبها من
ذراعها� ،شهقت بخوف ،وكل ج�سدها يرتع�ش ،وهي ترى الوجه الكريه لعبده اجلن
دوما
وتلك الندبة التي تبد�أ من جانب عينيه لفمه تثري داخلها الرعب ،كما تفعل ً
حني كانت تلمحه وهو ي�أتي للمنزل لي�أخذ الب�ضاعة املعتادة ،نظر لها با�ستخفاف
35
لي�ضحك �ضحكته الكريهة وهي تراه ي�ستلم من رجل كان يرتدي ز ًيا ع�سكر ًيا -لي�س
حمل ًيا -حقيبتني يبدو �أن بهما املقابل من �صفقة بيعها ،ارجتفت حني ملحت الرجل
كالما ملمدوح جعل الرجلنييتق ّدم منها ويدور حولها وهو يتل ّم�س ذراعها ليقول بلغته ً
عال.
ي�ضحكان ب�صوت ٍ
�ضغط الرجل ب�أ�صابعه على ذقنها لريفع وجهها ليت�أملها ب�شهوة ،وقبل �أن ينطق
بحرف �أ�صوات ر�صا�ص عالية ظهرت من �أكرث من �أماكن ،جذبها �أحد رجال عبده
اجلن جتاه �إحدى ال�سيارات لتختبئ خلفها ليبد�أ تبادل �إطالق النار� ،أغم�ضت
عينيها وهي ترتع�ش ورفعت كفيها لت�ضغط على �أذنيها لع ّلها متنع جميع الأ�صوات
ع
من حولها ،و�صراخها ال يتوقف� ،شهقت بخوف حني ملحت �أحدهم يجذبها من
الكت ريص
ذراعها ،فلم يكن �سوى ذلك الرجل الغريب وهو يلقي بها لأحد رجاله ،ويبدو �أنه
ع
قدومك مع رجال ال�شيخ
ِ لك ،وال تظني �أن
يوما اهتمامي ،فقط �أوهمتك با�ستكانتي ِ ً
ع
ال �أريد �أن �أخ�سر ه�ؤالء الرجال فبيننا عمل مل ينته بعد ،وبعد �أن �أخذت مايل فيجب
ب�سالحك الآن وتعودين للمنزل
ِ �أن �أُ�سلمهم رحمة ،هكذا كان االتفاق ،لذا �ستلقني
حتى �أو�صل رحمة ملالكيها و�أعود».
مل تنزل ُغفران �سالحها وهي تهتف بغ�ضب« :على جثتي»� ،سمعت �صوتًا خلفها
يقول« :ال �أظن ذلك ُغفران» ،ابتعدت قليال عن ال�صوت لتقف بجوارها لتتجمد
مكانها وهي تلمح �سمرية ت�صوب �سكينها نحو عنقها لتقول بتهكم« :مل �أجازف
أمنعك يف الوقت املنا�سب،
لتهديدك يل حتت ال�سالح �إال ل ِ
ِ بالقدوم معك واال�ست�سالم
عينيك ،والآن �ستنزلنيِ عليك الت�أكد من عدم امتالكي �أي �سالح خمفي عن كان ِ
�سالحك وتعودين معي للمنزل ك�أي ابنة مطيعة حتى ينهي ممدوح عمله». ِ
ظلت ُغفران رافعة �سالحها جتاه ممدوح بينما عينها على �سمرية وهي
تقول«:خرقكم االتفاق الذي كان بيننا حرمكم من تنفيذي �أي �أمر تريدونه ،دقائق
و�سيعج املكان بال�شرطة ،وبالأدق الأمن الوطني ،وبعدها لن ينفذ �أحد لكم �أي �أوامر
تريدونها» ،نظر ممدوح ل�سمرية التي قالت« :نعم يبدو �أن ابنتنا الغالية على
عالقة بال�شرطة ،حار�سك الأمني يف النهاية مل يقم مبهامه جيدً ا»� ،أخذت ُغفران
37
كالمها وخزنته يف جانب من عقلها وهي ال تعي عمن تتحدث ،ولكن الآن لي�س وقت
التفكري.
دوى �صوت �صفارات �سيارات ال�شرطة قري ًبا منها لت�شعر بالقليل من االرتياح مل
يطل ،وهي ت�ست�شعر ب�صوت خلفها ،التفتت م�سرعة لتجد خلود تقرتب منها ب�سكينها
التي يبدو �أنها كانت ب�سيارتها على مقربة من ممدوح كعادتها� ،أ�صابت خلود ذراع
ُغفران بال�سكني ،ما جعل �سالحها ي�سقط منها ،فدار �شجار قوي بينهما ،فلم تلمح
اقت ّبت منهما يف حماولة منها للو�صول ل�سالح ناري لأحد الرجال املوتى تلك التي ُ
على الأر�ض� ،ضربة قوية من ُغفران خللود جعلت الدماء تنفجر من �أنفها فنه�ضت
ع
ُم�سرعة جتاه �سالحها وهي تلمح التقاط �سمرية �أحد الأ�سلحة ،التقطته ُم�سرعة
الكت ريص
وهي ت�صوبه جتاه �سمرية ،ليدوي �صوت طلقات ر�صا�ص ،جتمدت االثنتان وكال
M
39
يزعم بع�ضهم �أن الوجود على هذه الأر�ض ال ميكن ت�صوره خال ًيا من
الأمل ومن الظلم اللذين ي�ستطيعان وحدهما �أن يهي�أ للإن�سان معرفة
اخلري وال�شر.
�أال بئ�ست تلك املعرفة �إذا كان ثمنها هذا الثمن!
دو�ستويف�سكي
الف�صل الثالث
من �أنا؟!
بعد �أ�سبوع
ص ع
كان يقود �سيارته ب�أ�سرع ما ميكن� ،أمل كاد �أن ميحوه الزمن� ،شعر ك�أن روحه
الكت ري
تكاد �أن تخرج من ج�سده ،ارتع�شت يداه املُم�سكتان باملقود فابتلع ريقه ب�صعوبة
ريص ع
و�صلوا للم�شفى وملحوا جت ّم ًعا كب ًريا �أمام البوابة الأمامية لأعداد كبرية من
ع والتوزي
التفت �آ�سر لوالده وحتدث بهدوء�« :س�أذهب لأري كيف ندخل بعيدً ا عن
ال�صحافة» ،هز والده ر�أ�سه بهدوء بينما ازدادت جميلة يف ال�ضغط على يديه وهي
تهم�س« :يا �إلهي كن معنا».
ّ
تخطي �آ�سر �أحد ال�صحفيني لي�صل لأمن امل�شفى املُرابط �أمام البوابة مانعني �أي
�صحفي من الدخول ،حت ّدث �أحد ال�صحفيني �أمام كامريا �إحدى القنوات امل�شهورة.
«نحن الآن �أمام امل�شفى الدويل للعا�صمة يف انتظار خروج �أحد امل�س�ؤولني ليديل
بت�صريحه املهم بعد احلادثة التي ح ّركت كل اجلهات يف البلد ،وقد و�صلتنا معلومات
�أن ال�ضحية الأوىل هي امر�أة يف العقد الرابع من عمرها وا�سمها �سمرية فتحي� ،أما
ال�ضحية الثانية فهو رجل يف منت�صف العقد الرابع من عمره وي�سمى ممدوح جابر
وقد اكت�شفت ال�سلطات امل�صرية �سجالت خطرية لكال ال�ضحيتني وعالقتهما ب�أكرب
مافيا لتجارة الأع�ضاء والعديد من الأن�شطة غري القانونية ،ولكن مل ت�صلنا معلومات
بعد عن تلك الأن�شطة� ،أما عن �أ�سماء الفتيات املقبو�ض عليهن فال نعلم بعد �إن كنَّ
تو�صلنا لأنهن حامالت هويات مزيفة طوال على �صلة بتلك اجلرائم �أم ال ،ولكن قد ّ
تو�صلنا لأ�سمائهن احلقيقية تلك الفرتة التي ق�ضينها يف كنف تلك العائلة ،وقد ّ
43
وهي ح�صرية لقناتنا ،فقد و�صلتنا يف التو من �أحد م�صادرنا وهن (زمرد م�صطفى
عاما ،و�أمرية حممد الأ�سيوطي البالغة من
خريي البالغة من العمر ثمانية وع�شرين ً
عاما� ،أما الأخرية فهي ُغفران ممدوح جابر التي يتم التحقيقالعمر ثمانية ع�شر ً
معها الآن ،حيث �إنها االبنة احلقيقية لل�ضحية الأول) ،و�صرح م�س�ؤول بهروب فتاتني
�أخريني بعد ف�شل ال�شرطة يف القب�ض عليهما ،وجار البحث عنهما� ،أما عن الفتاتني
ال�سابق ذكر ا�سميهما فقد مت الإعالن عن اختفائهما منذ ثمانية ع�شر عاما� ،أمرية
حممد الأ�سيوطي مت الإعالن عن اختفائها بعد �أ�سبوع من والدتها يف منت�صف �شهر
فرباير ،1998من م�شفى حكومي بو�سط البلد ،وقد �صادف خطفها من امل�شفى
مع طفلة �أخرى هناك ،ولكن مل نكت�شف �صلة لها مع تلك اجلماعة الإرهابية بعد،
ص ع
وقد �صادف ذلك اليوم نف�س يوم خطف ال�شابة الأخرى زمرد م�صطفى خريي من
الكت ري
�أمام �شارع منزلها ،وهي طفلة يف العا�شرة من عمرها ،نحن يف انتظار املزيد من
توزيع
�سالما
بعد ع�شر دقائق ركب �آ�سر �سيارته وبجواره �أحد رجال الأمن الذي �ألقى ً
�سري ًعا لعائلة �آ�سر ،وهو ير�شد �آ�سر للبوابة اخللفية للم�شفى حيث هناك رجال يف
ا�ستقبال عائالت الفتيات ،كان قلباهما يرجتفان رع ًبا من اللقاء وعقل كل منهما
ير�سم حوا ًرا خمتل ًفا� ،أحداثه لها عالقة بها �أمريتهما ال�ضائعة.
يف غرفة بي�ضاء ذات �ستائر �سماوية اللون هادئة كانت جتل�س على ال�سرير
بهدوء غريب ،يف انتظار �أن يفتح �أحدهم الباب ،العديد من الطبيبات قد فح�صوها
للمرة الثانية بعد رف�ضها ال�شديد لأي طبيب ،وقد تف ّهم اجلميع حالتها ،اطم�أنت
الطبيبات على حتاليلها و�صحتها خالية من �أي �إ�صابات �أو �أمرا�ض ،ال تفهم ملا
يبقونها � ًإذا كل هذا الوقت يف هذه الغرفة التي تثري �ضيقها ،لقد مر �أ�سبوع كامل
منذ ذلك اليوم الذي ا�ستيقظت فيه على �صوت �سيارات ال�شرطة وهي تط ّوق املكان
ب�أكمله بينما جاءها �أحد ال�ضباط الذي يبدو على معرفة تامة ب ُغفران ليخربها
بكل هدوء بالذهاب معه مل�شفى املدينة ،ثالثة �أيام ق�ضتها هناك دون �أن تعرف
ماذا يحدث� ،س�ؤال وحيد خرج من فمها لذلك ال�شرطي الذي جاء جمددًا لر�ؤيتها،
عن ُغفران ،ف�أجابها ب�أنها �ستقابلها قري ًبا ،مرت بنف�س ما مرت به هنا من حتاليل
44
و�أ�شعة ومل يفتها حديث املمر�ضة التي �أخربتها بعد �أن �أخذت عينة منها ب�أنه حتليل
DNAخا�ص مبعرفة من تكون� ،أ�سئلة كثرية راودتها حني مت نقلها مل�شفى العا�صمة
بالقاهرة حتت ت�أمني �شديد بالعديد من �سيارات ال�شرطة لتقبع هنا يف تلك الغرفة،
حتى مر �أ�سبوع وهي ال تعلم بعد ماذا حدث ،فقط بع�ض الكلمات التي تلتقطها
من هنا وهناك عن ق�ضية كبرية تخ�ص الأمن الوطنيُ ،ترى هل اكت�شفوا �أخ ًريا ما
حدث؟! هل �أظهرت ُغفران �أخ ًريا كل �أوراقها؟! �ألهذا ال ت�ستطيع مقابلتها؟!
�أغم�ضت عينيها بقوة وهي حتاول تذ ّكر كل ما تع ّلمته من قوانني التح ّكم بالنف�س،
ودقائق وفتحت عينيها الع�سليتني لت�شعا بنريان اخلوف التي خمدت يف حلظة وهي
ت�سمع طرقات على الباب ،تبعها دخول �إحدى الطبيبات التي تبت�سم برزانة فابت�سمت
ريص ع
ب�سخرية بداخلها وهي تلمح ا�ضطراب عني الطبيبة وهي تتق ّدم منها ك�أنها وح�ش
ع والتوزي
عائلتك؟!» .
ِ تقول« :عزيزتي هل � ِ
أنت ُم�ستعدة للقاء
ظلت تنظر لها للحظات بجمود ثم رم�شت مرتني بعينيها وقب�ضة قوية تعت�صر
قلبها خو ًفا ،وهي تعتقد �أنها ت�شري ملمدوح و�سمرية التي ال تعلم عنهما �شي ًئا حتى
الآن ،حت ّدثت بهدوء« :ماذا؟!» ف�أعادت الطبيبة �س�ؤالها جمددًا فلم جتد ردًا منها،
فتنهدت بخفوت وهي ُت ّدثها كطفلة يف اخلام�سة من عمرها مما زاد من �ضيقها:
إذنك حتى يدخلواعائلتك احلقيقية وهم باخلارج ينتظرون � ِِ «حبيبتي لقد جاءت
ؤيتك».
لر� ِ
حائطا ،فزفرت بخفوت وابتلعت ريقها بتوتر وا�ضح ،ثم ال رد ،ك�أنها ُت ّدث ً
حت ّركت جتاه الباب حتت �أعينها اجلليدية وهي ترفع كفيها ت�سمح لأحدهم بالدخول
فنه�ضت �أمرية من مكانها على ال�سرير لتقف بجمود �أمام امر�أة ورجلني« :عائلتها
احلقيقية ..ما الذي؟» هم�ست داخلها بت�سا�ؤلها وهي تنظر لهم.
رفعت جميلة كفيها لفمها متنع �شهقاتها حتى ال تخيف الطفلة التي تقف
�أمامها ،نعم هي طفلة ال يتع ّدى طولها مئة وخم�سني �سنتيمرتًا وج�سدها اله�ش
45
ال�صغري ومالمح وجهها الطفولية و�شعرها الناعم الق�صري الأ�شبه بق�صة والدية
�أمام عينيها ،عند هذه اللحظة �شهقت جميلة عال ًيا وهي تت�أملها بعينيها ،فاقرتبت
منها لتجذبها حل�ضنها بقوة وهي تهتف بني بكائها« :طفلتي� ،إنها ابنتي� ،آه يا فلذة
اختطفوك من بني يدي،
ِ والدتك ،لقد
ِ أخذوك مني يا حبيبة
قلبي� ،آه يا عمري ،لقد � ِ
�أمريتي �أنا ،ابنتي �أنا».
كانت جميلة تتح ّدث بني �شهقاتها وهي حتت�ضن �أمرية بقوة ،بينما كانت مالمح
�أمرية جليدية ال توحي ب�أي �شيء كلوح جليدي بني �أح�ضان جميلة ،تابعها �آ�سر بعينيه
وهول املوقف مل مينعه من النظر �إليها مبهنية �أدرك فيها �أنها لي�ست يف حالتها
الطبيعية ،هم�س داخله ب�ضيق« :يبدو �أنها كانت جاهلة مبا يحدث معها ،فالأغبياء
ريص ع
مل ُي ّهدوا لها الأمر».
شر وال
فرق قلبه لأبيه احلبيب ،فربت �آ�سر على كف والده دموعه التي مل ي�ستطع كتمهاّ ،
توزيع
بحنو وهو يبت�سم له بهدوء ،ويف داخله فكرة واحدة ا�شتعلت بعقله وهو يلمح جمودها:
«تلك الفتاة لن تتق ّبل �أ ًيا منهم ،فهي ما زالت يف حالة �صدمة».
اقرتب حممد من جميلة التي تق ّبل وجه �أمرية بحب ،وتتح ّدث بني دموعها،
فجذب جميلة من �أمامها بهدوء وهو يحاول جاهدً ا التحكم يف دموعه ويتح ّدث
ب�صدمة« :اتركيها قليال يا جميلة ،دعيني �أت�أمل �صغريتنا ،دعيني �أقر عيني بها،
حبيبة والدها �أمرية قلبي».
اقرتب حممد لكي يحت�ضن ابنته ،فبد�أت �إ�شعارات الإنذار لدى �أمرية باالنطالق
فجذبت نف�سها ُمبتعدة عن طريقه وهي تخرج �أخ ًريا من حالة اجلمود لتهتف عال ًيا
ب�شرا�سة�« :إياك �أن تقرتب مني»
�ساد ال�صمت يف الغرفة حتى دموع جميلة قد توقفت وهي ترى مالمح الغ�ضب
والكره ترت�سم بو�ضوح على وجه ابنتها وهي تنظر لزوجها حممد ،فابتلعت ريقها
ب�صعوبة بينما ا�ضطربت الطبيبة الواقفة خلف �آ�سر ،ومل تدر ما تفعله وهي ترى
�أخ ًريا رد فعل من �أمرية ،بينما تابعها �آ�سر مبهنية وهو يلمح مالمح الكر ِه وج�سدها
46
الذي اتخذ و�ضعية الدفاع عن النف�س ،فرفعت يديها االثنتني �أمام والده ك�أنها
�ستقاتله!
عند هذه اللحظة �أدرك �آ�سر �أن تلك الفتاة تعاين من خطب ،وم�شكلتها تبدو
ح ًقا كبرية ،فاقرتب بهدوء وهو يخفي �صدمته ويحاول تذ ّكر كل ما تعلمه يف الطب
النف�سي وكل ما مر عليه خالل �سنوات حياته الثالثني فناداها بهدوء�« :أمرية» .
التفتت �أمرية بج�سدها له وهي ما زالت على هيئتها وتنقل نظراتها بني هذا
ال�شاب والرجل الواقف ب�صدمة �أمامها ،لتجده يتح ّدث بهدوء�« :أمرية نحن
أخوك الأكرب» .
والدك و�أنا � ِ
والدتك وهذا ِ
ِ عائلتك ،هذه
ِ
ص ع
ملح �آ�سر اهتزاز حدقتي عينيها للحظة ،قبل �أن ترتدي قناع اجلمود جمددًا،
والتوزي
�أمام يد �أمرية ومل�ستها بحنان حتى �أنزلتها ،وقد ا�ستطاعت جذب عني �أمرية لها
ع
بعيدً ا عن حممد زوجها ،وحت ّدثت بحب �صادق مل�س جز ًءا بعيدً ا كان ُمغل ًقا عليه
ؤذيك �أحد
أخوك ،لن ي� ِ والدك وهذا � ِ
ِ من زمن يف قلب �أمرية«:ابنتي الغالية هذا
عائلتك احلقيقية يا �أمرية»� ،أجابتها �أمرية بجمود«:ا�سمي ليلى».
ِ بعد الآن ،نحن
�شعر �آ�سر بالتفا�ؤل قليال لتجاوبها مع والدتها فتح ّدث بهدوء�« :أبي َمل ال نرتك
�أمرية مع �أمي قليال؟!» .
رفع حممد عينيه الدامعة البنه ونقل بنظراته بينه وبني ابنته فلذة قلبه التي
تخ�شاه ،ملحت �أمرية نظرة �أمل يف عني حممد ،لكنها واجهتها بكره وا�ضح ،ف�أ�سبل
�أهدابه بحزن حتى �أعاد �آ�سر نداءه لوالده جمددًا فتحرك يف اجتاه الباب معه،
وحني التفت قبل خروجه ملح جميلة تنظر له باعتذار وتهز ر�أ�سها بهدوء ك�أنها تخربه
ب�أال يقلق ،يكفيهم عثورهم عليها بعد كل هذه ال�سنوات فابت�سم بتف ّهم حزين وحترك
ليخرج من الغرفة ويغلق الباب خلفه بعد خروج املمر�ضة.
م�سكت جميلة يد �أمرية بدفء ا�ست�شعرته الأخرية فارجتف ج�سدها وجذبتها
جميلة لتجل�س على الأريكة بجوار النافذة وهي تت�أمل مالحمها ،وعادت دموعها
47
والدتك يا �إلهي لو
ِ يف االنهمار جمددًا ،فتح ّدثت جميلة من بني دموعها« :حبيبة
لتك كث ًريا يف عقلي ولكن مل �أتخ ّي ِلك بهذا اجلمال».
إليك ،تخ ّي ِ
تعلمني كم ا�شتقت � ِ
رفعت جميلة يديها تتلم�س مالمح وجه ابنتها و�شعرها الق�صري ف�ضحكت بني
أخوتك» .
والدك يا �أمرية مثل � ِ
أخذت عني ِ دموعها وهي تهم�س لها« :لقد � ِ
ابتلعت �أمرية ريقها بتوتر مل ت�ستطع �أن تخفيه وهي ت�ست�شعر لأول مرة مل�سات
حنان مل تعرفها يف حياتها ،فهم�ست بهدوء« :ا�سمي ليلى» ابت�سمت جميلة لها وهي
أناديك بليلى؟!» .
مت�سح دموعها لتجيبها «:هل ُتريدين �أن � ِ
�صمتت �أمرية وهي تف ّكر �إن كان كل ما يحدث حولها حقيق ًيا هل تريد ح ًقا �أي
ع
�شيء يربطها با�سم ليلى؟! ولكن كيف وكل ما يرتبط بليلى كان �أملًا وق�سوة وحز ًنا
الكت ريص
وجفاء و ُيت ًما ،بينما تلك الأمرية يبدو �أنها حتظى بالكثري� ،أغم�ضت عينيها بقوة
شر وال
ت�ش ّنج ج�سدها« :نعم ا�سمي ليلى».
توزيع
هزت جميلة ر�أ�سها بتف ّهم وهي تبت�سم لها بحنان لتقول« :ح�س ًنا ليكن ليلى،
لبيتك اجلديد؟!» .
أنت م�ستعدة لتعودي معي ِ والآن هل � ِ
لزاما عليها �أن تعيد التفكري يف كل حرف يخرج �صمتت �أمرية جمددًا وك�أنه ً
منها� ،أي بيت جديد تتح ّدث عنه تلك ال�سيدة! هل �سيكون لها بيت جديد؟! ماذا عن
�أخواتها؟! ماذا عما حدث؟! هي ال تفهم الكثري� ،إن كانت هذه ال�سيدة التي تنظر لها
بحنان هي والدتها فمن تكون ال�سيدة �سمرية؟!
خطفوك من بني يدي» ،ف�س�ألتها بحذر تريد معرفة ما ِ تذ ّكرت جملة« :لقد
حدث �أو على الأقل ترتب �أفكارها حتى ت�أتي ُغفران لتفهم منها كل �شيء« :لقد ِ
قلت
يديك من هم؟!» . �أنهم خطفوين من بني ِ
تلألأت عني جميلة بالدموع جمددًا وهي تلمح ارتباك �أمرية وحريتها ف�أدركت �أن
امل�سكينة ال تعلم �أي �شيء.
ربتت جميلة على كف �أمرية بحنان لتجيبها بابت�سامة حزينة«:منذ ثمانية ع�شر
عاما يف ال�ساعة الثانية فج ًرا يف اخلام�س من �شهر فرباير ،بد�أت حرب داخلية بني
48
فتاة وولد ،كالهما ي�صارع من �أجل �أن يخرج �أوال من بطن والدته ،ف�صرخت الأم
فزعا ،وهو يدرك بعينيه املهنية قبل الأبوية �أن حان وقتعال ًيا حتى ا�ستيقظ زوجها ً
الوالدة ،ف�أ�سرع بزوجته �إىل �أقرب م�شفى حيث التجهيزات الالزمة ف�أجنبت قطعتني
من اللحم الوردي ،كان الولد �سلي ًما ُمعافى ي�صرخ ب�أعلى �صوته ،بينما الفتاة كانت
مري�ضة قليال حتتاج للمكوث يف �أحد املراكز الطبية املخ�ص�صة للأطفال الر�ضع
لبع�ض الليايل ،وعلى الرغم من مر�ضها ف�إن جمالها ي�سر النظر ،بعينيها الع�سليتني
�أ�سرت قلب والدتها منذ اللحظة الأوىل التي ر�أتهما فيها.
بعد �أ�سبوع ،وقت خروج ال�صغرية ،جاء موعد الزيارة اليومي للأم والأب
ل�صغريتهما ،ولكن تلك املرة لكي ي�أخذاها معهما للمنزل ،ف�سمعا جلبة كبرية
ريص ع
�أمام املبنى الذي به ابنتها ،والعديد من رجال ال�شرطة يف املكان ،انقب�ض قلب الأم
والتوزي
الأمن وهي تنقل الأطفال يف عربة املالب�س دون �أن يلمحها �أحد ،وانهارت الأم ل�شهر
ع
كامل حتت املهدئات بعد �أن �أخربوها �أن ابنتها واحدة من الطفلتني ،وكاد الأب
�أن ُي�صاب ب�أزمة قلبية ،ومرت الأيام وال�شهور وال�سنني والأب يعافر مع زوجته من
�أجل البحث عن ابنتهما من دون تو ّقف ،ولكن ال �أثر ،تركنا كل املعلومات يف جميع
امل�شفيات ،ذهبنا لكل �أق�سام ال�شرطة لنتوا�صل معهم يف حالة �أي جديد ولكن ال
�شيء ،حتى ا�ستيقظت الأم يف يوم لتتابع الأخبار على التلفاز فر�أت خ ًربا عن العثور
عاما ،وجار البحث عن الأ�سباب على فتيات مت اختطافهن منذ �أكرث من ثمانية ع�شر ً
والظروف.
جاهدت جميلة يف كتم �شهقات بكائها ،بينما �أمرية تنظر لها بجمود يعاك�س
ما بداخلها من ا�ضطرابات هائلة وخوف لأول مرة ت�شعر به ،ارتع�ش ج�سدها حتت
مل�سة جميلة ليديها بحنان وهي تكمل بني �شهقاتها« :مل �أ�صدق يا ابنتي ،و�أنا التي
واحت�ضنك بني �ضلوعي ،مل �أ�صدق
ِ ؤياك
ألقاك وت�ش ّبع عيناي بر� ِ
تدعو اهلل كل يوم �أن � ِ
عاما ،حتى قبل �أن يخربونا بالأ�سماء�أن اهلل ا�ستجاب لدعائي بعد ثمانية ع�شر ً
والدك وقد �شعر هو الآخر مبا �شعرت به،أنك هنا ،حتى و�صل ِ �شيء بداخلي �أدرك � ِ
49
وت�أكدنا بعد ات�صال امل�شفى لنا ويخربنا �أن حتاليل ال DNAتطابقت مع العينة
أنت ابنتي».
اختطافك مبدةِ � ،
ِ التي تركناها يف �سجل املفقودين بعد
جذبت جميلة �أمرية حل�ضنها وهي تبكي بقوة بينما الأخرية عقدت حاجبيها
ب�صدمة وهي ت�سمع احلقيقة من تلك املر�أة ،وحتاول جاهدة جتاهل تلك امل�شاعر
التي تنب�ض بقلبها ،رم�شت بعينيها �أكرث من مرة وهي ت�شعر بحرقة فيها وتهم�س
بداخلها« :لن تبكي ليلى».
�شعرت جميلة بجمود �أمرية يف �أح�ضانها ،ف�أدركت �أنها ما زالت حتت ت�أثري
ال�صدمة ،فابتعدت بهدوء وهي مت�سح دموعها التي ال جتف وتبت�سم لها بحب:
ع
«دعينا نتفق على �شيء لن �أحتدث بخ�صو�ص �أي �شيء جمددًا حتى ت�س�أليني،
الكت ريص
ألك على �شيء حتى ت�سمحي أجيبك عن جميع �أ�سئلتك ،و�أنا لن �أ�س� ِ
أعدك وقتها �أن � ِ
و� ِ
شر وال
توءمك؟!»
توزيع
ِ ينتابك الف�ضول للتعرف على
ِ �أال
رم�شت �أمرية بعينيها للحظات وابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر بانهيار قوتها،
وكل ما يحدث يجذبها جذ ًبا لل�صراخ وللهروب ،ولأ�سو�أ �شعور عا�شته وهو اخلوف،
وا�ضحا جلميلة�« :أنا ال ميكنني املكوث مع غرباء ،ذلك ال�سيد
ً فهم�ست بخوف و�صل
الذي دخل منذ قليل».
غ�صة �أملت قلب جميلة ملر�أى ابنتها بهذا الو�ضع ،لت�ستدعي �أفكارها ،فتجيبها
أيك ب�أال متكثي مع غرباء ومتكثي معي �أنا؟! لدينا منزلبعد حلظات« :ح�س ًنا ما ر� ِ
أيك
ُمكون من ثالثة طوابق ن�شغل طابقني به ،والطابق الأخري ال ي�سكنه �أحد ،ما ر� ِ
أنت فقط؟! اتفقنا ليلى!» .ب�أن ن�سكنه م ًعا �أنا و� ِ
�شعرت جميلة ب�أنها اكت�سبت نقطة يف �صاحلها بعدما نادتها با�سمها الذي ما
زالت متم�سكة به ،فهزت �أمرية ر�أ�سها بهدوء ،وهي ت�شعر ب�أنها �ستنهار قري ًبا �أمام
كل تلك امل�شاعر التي انتابتها فج�أة لأول مرة ت�شعر ب�أنها يف حاجة للبكاء.
كان الطريق للبيت طويال ،هكذا �شعرت �أمرية بعد �أن خرجت مع والدتها
لي�ستقبلهما ال�سيد حممد و�آ�سر ،الذي مل تفهم حتى الآن نظراته احلنونة لها ،التي
50
جتاهلتها من دون تردد ،ا�ستلمت والدتها دفة احلديث و�أخربتهم ب�أنهم �سيعودون
للمنزل الآن ،و�أخربتهم ب�أمر مكوثها يف الطابق الثالث باملنزل ،وهو �أمر مل يجادلها
فيه �أحد ،فحمدت اهلل ب�سرها لتف ّهمهم الأمر ،يا اهلل كم حتتاج ل ُغفران ولكن كيف
�ست�صل �إليها؟! ،ا�ستغربت يف البداية خروجهم من الباب اخللفي للم�شفى ،وكان
�آ�سر يتابع ردات فعلها ،فتحدث بهدوء �أن هناك العديد من ال�صحافة باخلارج وهو
قرر اخلروج من الباب اخللفي حتى ال تتعر�ض لأي �ضغوط من ال�صحافة ،لكنها مل
ً
�صراخا عال ًيا يتبعه بكاء جتبه ب�شيء ،هي ت�شعر ب�أن �أول �صوت �سيخرج منها �سيكون
مرير.
�أغم�ضت عينيها وهي تبتلع غ�صة ت�ؤمل قلبها قبل حلقها ،وتهم�س داخلها« :يا
ريص ع
�إلهي ما الذي يحدث؟! كيف ب�إمكان �شخ�ص �أن يعي�ش عم ًرا كامال و�سط �أهله
والتوزي
هناك �شيئا خاط ًئا ،خا�صة مع الأ�صوات التي كانت ت�سمعها داخلها ك�أن �أحدهم
ع
عاما بهوية
يحادثها ،ولكن كعادتها من ال�صغر تتجاهلها لكن �أن تعي�ش ثمانية ع�شر ً
وهم ،نعم كل هذا وهم». غري حقيقية و�سط ٍ
«ليلى» فتحت عينيها فج�أة وهي تنتف�ض مكانها على ربتة كف جميلة على
كتفها ،فرم�شت بعينيها وهي تعي �أنها ال�سيارة توقفت لتتحدث جميلة بهدوء:
أنت بخري؟! لقد و�صلنا».«حبيبتي ..هل � ِ
نقلت �أنظارها بني جميلة واملنزل الذي توقفت �أمامه ال�سيارة ،فلمحت ً
منزل
اطا بحديقة كبرية ن�سب ًيا ،مفرو�شة بالعديد من الورود والأزهار اجلميلة كب ًريا ُم ً
التي تبعث يف الروح الهدوء والطم�أنينة ،ابتلعت ريقها ب�صعوبة ثم نزلت من ال�سيارة
خلف جميلة ،ووقفت قليال دون حراك وهي تلمحهم جمي ًعا ينظرون لها برت ّقب،
معك».
فمدت جميلة يديها وحت ّدثت بهدوء« :هيا عزيزتي ال تخايف من �شيء� ،أنا ِ
هي غبية حت ًما ،ال يجب �أن تثق يف �أحد ،تلك هي القاعدة الأوىل التي اختربت
�صحتها ب�أول اختبار خا�ضته يف بيتها ،القاعدة التي ب�سببها ح�صلت على عقاب
لثالثة �أيام وحيدة يف قبو املنزل املظلم ،والآن هي تتجاهل كل ما تع ّلمته ،فهي ال
51
يجب �أن ت�شعر بالأمان يف �صوت تلك املر�أة التي تنظر لها بحنان ،ولكن ملا خفت
�شعور اخلوف داخلها؟! ملا مدت يديها لت�ضعها يف يد تلك املر�أة التي تبت�سم لها
الآن؟! ما هذا ال�سحر الذي �ألقته عليها لتجعلها تتحرك خلفها وك�أنها بال قوى..
بال عقل؟!
دخلت حلديقة املنزل ثم حلظات وملحت باب املنزل ُيفتح بقوة ،و�شاب يف نف�س
عمرها �أو �أكرب ال تعلم ،يقف �أمامهم �شاحب الوجه وينظر ب�صدمة ومل تكن نظراته
موجهة �سوى لها!
جت ّمدت مكانها وهي ت�شعر مب�شاعر غريبة داخلها ،ق�شعريرة �سرت يف �أو�صالها
ع
ب�أكملها وك�أن اجلو ازداد برودة ،وغ�صة ا�ستحكمت قلبها ف�أملته بقوة ،حتى بان
الكت ريص
مالمح الأمل على وجهها ،ف�سحبت يديها من يد جميلة ،وو�ضعتها على قلبها ُت ّ�سد
شر وال
�صدمته ،توقف �أمامها و�صدره يعلو ويهبط من انفعاله الوا�ضح� ،شهقة خرجت من
توزيع
أنت على قيد احلياة».
فمه وهو يهم�س ب�صوت خال من احلياةِ �« :
ت�ش ّنجت �أطرافها كلها وهي تلمح يف حديثه لهجة الإقرار ولي�س اال�ستف�سار،
وك�أنه يقر حقيقة.
رفع كف يديه باجتاهها ك�أنه يلم�س �شي ًئا وهم ًيا فرتاجعت خطوة ليرتاجع هو
الآخر ،وملحت ات�ساع عينيه بقوة �أخافتها ،ودمعة خائنة انطلقت من حمب�سها لتنهمر
على وجنتيه ،ثم عقد حاجبيه ومالمح الأمل ارت�سمت على وجهه وهو يهم�س ب�صوت
أنت هنا».
ُمت�أملِ �« :
«�أمري» هم�سة �أخرجته من دوامة م�شاعره ،فرفع عينيه ل�صاحبها ليجد �أخاه
ينظر له بقلق ،بينما جميلة تقف ُم�ستندة على ذراع حممد ودموعها تنهمر يف
�صمت ،وهي تتابع بعينيها لقاء طفليها �أخ ًريا ،فهم�ست بني بكائها�« :أمري ..هذه
ليلى توءمك حبيبي».
ارجتف ج�سده ب�أكمله وهو ينظر لوالدته بتيه ،ودمعة �أخرى هربت من خمدعها،
وهو يهز ر�أ�سه بالنفي وال يعلم ما ينفيه ،ويهم�س ب�ضياع�« :أمي ال».
52
�سرعا ويدخل املنزل ومنه �إىل غرفته ،وك�أنه
مل مينح والدته الرد ليعود �أدراجه ُم ً
مل يعد قاد ًرا على املواجهة.
�ساد ال�صمت للحظات ،و�آ�سر يتابع بعينيه املوقف ويعيده يف عقله ،ف�شعر ب�أن
هناك �أم ًرا ما �سيحادث فيه �أخاه� ،أما عن �أخته فرفع عينيه عند هذه النقطة
ليلمحها واقفة بثبات زائف ،فوحده ملح ارجتاف ج�سدها اخلائن بينما تعبريات
وجهها جامدة ال تخربه ب�شيء ،ويف عقله �أمر واحد يراوده يف كل مرة يتم ّعن يف
النظر �إليها« :هذه الفتاة تعاين من خطب وخطب كبري» ،حتدث بهدوء وهو يخرج
اجلميع من �صدمته�« :أمي ،مل ال ت�أخذي �أمرية للطابق العلوي لرتتاح قليال ،فلقد
م ّرت بالكثري من الأحداث اليوم ،كما �أن ال�صغريين على و�شك العودة من بيت
ع
العمة نازيل ،و�أمرية لي�ست يف حاجة للقاء �أحد الآن».
والتوزي ر
لقيادتها ،وهي ت�شكر داخلها هذا الـ�« :آ�سر» ملا قاله ،فهي يف حاجة �شديدة للبقاء
ع
وحدها ،يف حني �شعرت بالغ�ضب وهو ي�صر على مناداتها بتلك الأمرية ،الربودة
التي احتلت ج�سدها بعد مقابلة ذلك ال�شاب انت�شرت يف جميع �أو�صالها ،وكلمة
أخوك التو�أم»� ،شعرت بها ت�أخذها لطريق جانبيال�سيدة بجواره ترتدد بداخلهاِ �« :
م�سبحا �صغ ًريا يجاوره درج خارجي يبدو �أنه ي�ؤدي للطابق
ً بجوار املنزل ،فلمحت
العلوي الأخري� ،صعدت الدرج مع والدتها ،حتى و�صلت للطابق الثالث ففتحت
والدتها الباب وهي تتحدث ب�صوتها احلنون« :حمدً ا هلل �أن �سعدية جاءت بالأم�س
لك ،تف�ضلي عزيزتي». قليل حتى �أُنظفه ِ
انتظرت ً
ِ كنت
لتُنظف املنزل و�إال ِ
مل جتبها �أمرية ب�شيء ودخلت خلفها ،فلمحت �صالة وا�سعة بها �أريكة كبرية
وكر�سيان وتلفاز على احلائط يقبع �أ�سفله من�ضدة كبرية حتوي القليل من الكتب،
هل الهواء بداخل املنزل خمتلف؟! هل هناك �سحر يف �أنحاء املنزل؟! رم�شت بعينيها
وهي تت�أمل املنزل بجمود بينما ت�شعر ك�أنها تعرف كل ركن به ،ك�أنها كانت هنا من
قبل.
قاطعت جميلة ت�أملها وهي تتح ّدث بارتباك�« :إنه قليل الأثاث قليال عن باقي
املنزل لأن ال �أحد يعي�ش به �سوى ال�ضيوف �إن زارنا �أحد ،و�أحيا ًنا يق�ضي فيه �أمري
53
أريك باقي الغرف».
بع�ض الوقت يف فرتة االمتحانات ،هذه ال�صالة ،تعايل معي ل ِ
�أخذتها جميلة من يديها وهي تتحرك باجتاه املطبخ الذي يجاور ال�صالة ،ويبدو
�أنه ُمعد بكل �أجهزته ،ثم حت ّركت باجتاه ممر طويل �أمام املطبخ يف �أول ميينه غرفة
فتحتها جميلة لرتيها لها ،ثم حتركت باجتاه غرفة �أخرية يف نهاية املمر لتدخلها
مع �أمرية وهي تريها لها ،كانت غرفة ب�سيطة حتوي �شرفة تطل على امل�سبح ال�صغري
وجزء من احلديقة ،وبها �سرير �صغري وخزانة مالب�س منا�سبة حلجم الغرفة
ومن�ضدة �صغرية وكر�سي �أمامها ،بينما هناك باب بجوار اخلزانة يبدو �أنه احلمام،
�شعرت �أمرية فيها بالراحة عن الغرفة الأخرى فتح ّدثت بخفوت�« :س�آخذ هذه
الغرفة� ،إنها ُمريحة».
ريص ع
الكت
ابت�سمت لها جميلة بحنو و�أجابتها« :ح�س ًنا حبيبتي كما تريدين� ،أنا من اخرتت
شر وال
عليك� ،أنا �س�أكون يف الغرفة الأوىل� ،س�أعود فقط للأ�سفل لبع�ض
�أن الأمر كله �صعب ِ
توزيع
لك بع�ض املالب�س لتنامي بها وطعام تتناولينه قبل النوم».الوقت� ،أح�ضر ِ
�أجابتها �أمرية بجمود« :ال داعي للطعام� ،أنا ل�ست جائعة� ،أريد فقط مالب�س»،
عليك».
�أجابتها جميلة بهدوء« :لن �أت�أخر ِ
حتركت جميلة جتاه باب الغرفة ،ثم توقفت للحظة �أمام �أعني �أمرية ،ثم عادت
لها ُم�سرعة وهي حتت�ضنها بقوة وتت�أوه بخفوت�« :آه ..ال حرمني اهلل من هذا
احل�ضن �أبدً ا».
ارتع�شت �شفتا �أمرية ف�ضمت فمها بقوة وهي تنازع الرغبة يف البكاء �أمام كل
يوما ،ابتعدت جميلة عنها ف�أخف�ضت �أمرية عينيها
تلك امل�شاعر التي مل ت�شعر بها ً
للأر�ض حتى ال ترى انهيارها ،فهم�ست لها جميلة ب�أنها لن تت�أخر ،وخرجت من
الغرفة لترتك �أمرية خلفها وهي على حافة االنهيار.
M
54
�أود �أن �أبكي وارجتف و�ألت�صق ب�أحد الكبار ..ولكن احلقيقة
القا�سية هي �أنني �أحد الكبار
ص ع
خرج من االجتماع بوجه �شاحب يف طريقه ملكتبه منذ ات�صال �صديقه عليه
الكت ري
الأ�سبوع ال�سابق وهو يخربه بق�ضية كبرية �ستقلب الر�أي العام ،وهو ي�شعر بقب�ضة
ص ع
عاما مع
برجمة �أفكاره التي جتمدت بعقله� ،صغريته عا�شت لأكرث من ثمانية ع�شر ً
ش
تاريخا كب ًريا يف اجلرائم املختلفة� ،شعر باملرارة يف حلقه
والتوزي ر
وهو يرى الك�شف الطبي اخلا�ص بها لتجذب انتباهه جملة �أ�صابته يف مقتل«:لي�ست
ع
عذراء» ،ليعلم �أنها الوحيدة التي حملت جملة«:لي�ست عذراء» يف ك�شفها الطبي،
�أخذته �أفكاره لبعيد هل تزوجت؟! هل عا�شت حياة طبيعية و�سط ه�ؤالء املجرمني؟!
هل �أ�صبحت مثلهم؟! كيف كانت حياتها؟! هل تتذكره؟! وال�س�ؤال الأهم الذي يتجنبه
ويخ�شاه هل تغفر له؟! زفر بتعب وهو ي�صل ملكتبه ليقف قليال وهو يتذكر �إ�صراره
على تويل الق�ضية رغم رف�ض اللواء الأمر ل�صلة القرابة بينه وبني �إحدى املتهمات
ولكنه �أقنعه �أن رمبا يكون �سب ًبا للتق ّرب منها واحل�صول على ثقتها في�صلوا جلميع
املعلومات التي يريدونها منها ،يعلم �أنه حتايل لكنه مل ي�ستطع فقط مل ي�ستطع �أال
يتدخل �أال يقرتب ،خا�صة حني عرف من �صديقه امل�س�ؤول عن الق�ضية انهيارها ّ
بعد و�صولها ب�ساعة وهي تخربه ب�أنها قتلت بدم بارد ب�أنها تعرتف اعرتا ًفا كامال
بقتلها ال�ضحية دون �أي ذرة ندم ودون �أي تهديد منه لها� ،أي قتال متعمدا ،خم�سة
�أيام مرت وهي تقبع يف نف�س املكان الذي هو به وال يقوى على الدخول �إليها ،ال
يجر�ؤ على مقابلتها ،ي�شعر باملرارة وهو يعي �أنه ت�أخر كث ًريا عن �إنقاذها ومل ميتلك
ال�شجاعة لإخبار عائلته ب�أنه وجدها ،ال يجيب عن ات�صاالتهم وال يعود ملنزله ،يعلم
�أنهم يحملون العديد من الت�سا�ؤالت ،خا�صة بعد انت�شار الق�صة يف الأخبار ،ولكنه
57
مل ي�ستطع �أن ي�ؤكد لهم �أنها هي بعد كل ما عرفه والآن حان الوقت ملعرفة احلقيقة،
ملعرفة كل ما حدث يف تلك ال�سنوات ،تلك املرارة التي �سمعها تتحدث بها وهي
تعرتف ،رغم اختالف ما تقوله عن الفتاة الأخرى التي �أخربتهم بو�ضوح ما حدث
�أو بالأدق للعميد ،حيث ظهر له �أنه كان على معرفة تامة بها حيث �إن هناك ً
خيوطا
لهذه الق�ضية منذ �سنتني لكن كانوا يعملون عليها يف اخلفاء.
جل�ست بهدوء على الكر�سي املوجود �أمام الطاولة العري�ضة وهي حتاول جاهدة
ال�سيطرة على ارجتافة يديها� ،أغم�ضت عينيها وهي ال ت�صدق حتى الآن �أنها قتلت
قتلتها �أخ ًريا! هم�ست من دون وعي« :يا �إلهي».
ع
انتف�ضت مكانها وباب املكتب يفتح ليدلف رجل يبدو �أنه يف منت�صف العقد
الكت ريص
الثالث مم�شوق اجل�سد ،مالحمه هادئة حتمل القليل من ال�صرامة بحكم عمله،
ن
اطلع
شر وال
على بع�ض الأمور التي تخ�ص املزرعة �أو هناك �أمر �آخر!
توزيع
جل�س على كر�سي املكتب وقاطع �أفكارها �صوته الرخيم وهو يتح ّدث بهدوء
وينظر لعينيها بتم ّعن ،ف�أدركت �أنه يدر�س �صدقها« :م�ساء اخلري� ،أنا املُق ّدم يامن
بك ،قبل �أن نبد�أ التحقيق الر�سمي �أريد
�سعيد خريي ،امل�س�ؤول عن الق�ضية اخلا�صة ِ
منك ما حدث �آن�سة ُغفران �ألي�س كذلك �أم تف�ضلني �أن � ِ
أناديك بالطبيبة �أن �أ�سمع ِ
ُغفران؟!» .
�س�ألها ال�س�ؤال الأخري وهو يبحث يف الأوراق �أمامه ،فلم يلمح جمود مالحمها
عاما با�سم وهوية وعائلة وملحة �أمل ظللتها ،وهي تتذكر �أنها عا�شت ملدة ثمانية ع�شر ً
غري مزورة على عك�س الأخريات� .أجابته بجمود وهي تفكر جيدً ا �أن التحقيق مل يبد�أ
بعد معها ،مبا �أن اللواء لي�س هنا« :نعم ما الذي تريد معرفته �أيها املُق ّدم؟! كيف
قتلت من ربتني؟! �أم ما حدث خالل �أعوامي الت�سعة والع�شرين هناك؟! �أم تريد
فقط معرفة بع�ض الإجابات لترثثر بها مع �أ�صدقائك».
نظر يامن لها بقوة ،وهو ي�شعر ب�أنها تدرك جيدً ا تخ ّبطه ،تدرك �صدمته مبا
�سمعه ور�آه ،خالل �سنوات عمله مل ي�صادفه ق�ضية كهذه ،بعد اجتماع دام ل�ساعتني
58
تو�صلوا لأن يتم التحقيق حتت �إ�شراف �أطباء نف�سيني نظ ًرا
مع كبار القادة بال�شرطة ّ
جلهلهم مبا يواجهونه مع ه�ؤالء الفتيات ،هذه الفتاة ذات املالمح اجلميلة الهادئة
اجلامدة التي جتل�س �أمامه بجمود قد قتلت! لكن جرميتها لي�ست كجرمية زمرد!
تنهد يامن بخفوت وحت ّدث بهدوء اكت�سبه خالل �سنوات عمله�« :أخربيني
برتبيتك».
ِ ب�صلتك بال�ضحية �سمرية فتحي غري �أنها املر�أة التي قامت
نظرت ُغفران �أمامها بجمود وحتدثت بربود �صدمه« :غري �أنها قامت برتبيتي،
ال �شيء يذكر فهي للأ�سف والدتي احلقيقية ،و�أنا �أعلم �أنك �أدركت ذلك بنتيجة
دفاعا عن النف�س
التحليل ف�أنا االبنة الوحيدة احلقيقية يف تلك العائلة لقد قتلتها ً
ص ع
ولديك ال�شهود ،قد �شاهد رجال ال�شرطة ما حدث �أمام �أعينهم ،هي �سحبت
ش
ف�أوقفتها �أنا ف�إن مل �أفعل كانت �أختي هي القتيلة� ،أنا من قتلتها ً
والتوزي ر
أفرغت ال�سالح ب�أكمله بج�سدها».
�أكمل يامن عنها« :نعم بعد �أن � ِ
ع
ملح يامن اهتزاز حدقتي عينيها ومل يفته ارتعا�ش ج�سدها ف�أجابته بجمود
كاذبة« :مل �أتوقف ب�سبب ال�صدمة� ..إنها املرة الأوىل يل»� ،س�ألها بحذرً «:
دفاعا
عن �أختك رحمة! املُتهمة بقتل ال�ضحية ال�سيد ممدوح» ،التفتت بغ�ضب مل ت�ستطع
التحكم به وهي غا�ضبة من نف�سها قبل �أن تغ�ضب من كل ما حولها وهي تهتف:
«�ضحية! لقد ا�ستحق هذا الوغد املوت ،لو مل تفعلها رحمة وقتها لفعلتها �أنا دون
تردد».
ُ�صدم يامن من كم الكره واال�شمئزاز الذي ظهر بعينيها ،ولكن حافظ على
هدوئه وهو ي�س�ألها« :ملاذا؟!»
�أزاحت ُغفران نظراتها عنه وهي تنظر لنقطة يف الفراغ ُميبة �إياه بكل م�شاعر
الكره والغ�ضب بداخلها« :لأنه قذر ُمتحر�ش و ُمغت�صب ،يبيع الفتيات كجوا ٍر ملن
يدفع �أكرث ومن ي�ستخدمها كجارية ي�ستفيد منها ك�صندوق يحوي كنزا مكونا من
عني وكبد وقلب وكلي هل هذا يكفي؟!» حاول يامن تخطي املرارة يف �صوتها وهو
59
وكالمك هو الدليل الوحيد
ِ كالمك؟! �إنها ق�ضية كبرية
ِ يقول« :هل تدرين معني
لنا».
�أجابته ُغفران بثقة« :ال لي�س الدليل الوحيد �إن كنت على علم بالق�ضية ،كما
تقول �إنك م�س�ؤول عنها �ستدرك جيدً ا �أنه لي�س الدليل الوحيد ،هناك �أدلة �أخرى
�أملكها كما يعرف اللواء ولكن �أريد �أن �أعرف �أوال ماذا �سيحدث لرحمة؟! وهل الأدلة
التي �أملكها ت�ستطيع م�ساعدتها يف ق�ضيتها؟!»
اختلجت ع�ضلة يف وجه يامن وهو يحاول ال�سيطرة على غ�ضبه الدفني بعد
ما �سمعه ف�أجابها بجمود�« :إن كانت الأدلة تدينه كما تقولني فرمبا ي�ساعدها يف
ع
ق�ضيتها ،ولكن ما قالته �أُثبت �ضدها».
الكت ريص
هتفت ُغفران بغ�ضب وبدافع حماية متلكها منذ ال�صغر« :لقد �أُجربت على
توزيع
نظر يامن لها بقوة و�س�ألها برت ّقب« :لقد قام مباذا؟!» ملحة �أمل مرت بعينيها
قبل �أن تبعدها عنه وهي تهم�س�« :إنه خطئي ،كنت بعيدة عنها ،ان�شغلت مبا عرفته
فلم� ...صدقني هي لي�ست كما �أخربتكم� ،أنا �أعرفها جيدً ا ،رحمة مل تكن.»...
رفعت ُغفران يديها و�أحاطت بها ر�أ�سها وهي تهم�س« :يا �إلهي» ال ت�صدق حتى
الآن ما قاله اللواء لها عن الك�شف الطبي اخلا�ص برحمة حني قابلها وقت و�صولها،
خا�صة حني قر�أت ن�سخة منه ليجذب انتباهها جملة« :لي�ست عذراء» انتف�ضت
مكانها وقتها وهي تهتف بال لتطلب منه مقابلتها ،خا�صة �أن منذ احلادث وهم
يف�صلونهما عن بع�ض ،ا�ستجاب لطلبها لتزورها يف غرفة اال�ستجواب ليرتكهما على
انفراد ،تذكرت كم بدت ه�شة وتائهة ك�أنها ال تعلم �أين هي �أو ماذا حدث ،لرتفع
رحمة نظراتها اجلامدة لها ،ليظال على و�ضعهما لت�س�ألها ُغفران بقلق وهي ت�ست�شعر
حالة رحمة الغريبة عليها عما حدث يف غيابها بينها وبني ممدوح ،تتذكر ُغفران
وقتها كيف نظرت لها رحمة بجمود وهي تعي معرفة ُغفران باحلقيقة فهي حتما
اطلعت على الك�شف الطبي اخلا�ص بها لت�ضحك ب�سخرية وهي تتذكر حديثها معها
60
على ال�سطح لتجيبها وجملتها ما زالت ترن يف �أذنيها حتى الآن« :ما حدث بيني
أنت
كنت حتاولني فعله و� ِيخ�صك ب�شيء ،هل كل هذا ما ِ ِ وبينه طوال تلك ال�سنوات ال
بعيدة ُغفران»� ،س�ألتها ُغفران عن مق�صدها لت�س�ألها رحمة ب�سخرية« :هل ِ
كنت
على عالقة بال�شرطة ُغفران كل تلك ال�سنوات؟!» ،ابتلعت ُغفران ريقها ب�صعوبة
وهي ت�ست�شعر حالة رحمة غري الطبيعية لتدرك �أنها �أ�س�أت فهم ما حدث لتربر لها:
«رحمة ا�سمعيني جيدً ا ،مل �أ�ستطع �أن �أطالبهم ب�إلقاء القب�ض عليه وقتهاِ � ،
أنت ال
تفهمني كان يجب �أن ننتظر حتى يو�صلنا ملن يعمل لديهم ،الأدلة كانت كافية لتدينه
رجل كب ًريا خلف كل ما يحدث كان يجب �أن ننتظر هو فقط ،ولكن علمنا �أن هناك ً
ع
حتى ن�صل �إليه» ،نه�ضت رحمة من على الكر�سي بقوة وهي ت�ضرب بقب�ضتيها على
ر ش
والتوزي
ال حتيا يف الوحل كما ع�شنا نحن؟! ما الذي �ستخ�سرينه فلننتظر �شه ًرا� ..سنة..
ع
منك�سنوات ..فلن يحدث �شيء� ،ألي�س كذلك يا طبيبة يا �شجاعة؟ ح�س ًنا �أعتذر ِ
لهدفك كما تريدين لأنني قتلته بيدي ،قتلته من دون ذرة ِ ب�شدة ُغفران مل ت�صلي
لك مل تخ�سري �شي ًئا مه ًما..
ندم ،قتلته وهو مل يحاول حتى الدفاع عن نف�سه ،هني ًئا ِ
بيديك �أن تلقي القب�ض عليه منذ
فقط عذريتي ،حيث كنت جمرد ع�شيقة للذي كان ِ
أهداك لالنتظار قليال ،ع�شيقة يلهو بج�سدها كما يريد ومتى غباءك � ِ ِ �سنني ،ولكن
أي�ضا ا�ستمتعت بهذا الدور!» .
يريد ،ولكن �أتعلمني �أنا � ً
عادت من �أفكارها التي جتلدها وهي تنظر ليديها ،فغ�شت عينيها الدموع وهي
تتذكر ال�صفعة التي �أ�صابت وجه رحمة بعد �أن قالت جملتها الأخرية ،هي ال ت�صدق
ما قالته �أو بالأدق �آخر جملتها ،جذب انتباهها �صوت تن ّف�س يامن الغا�ضب ،فرم�شت
أنت مل تخربيني باحلقيقة بعينيها لتطرد الدموع وهي ت�سمعه يقول بغ�ضب دفنيِ �« :
الكاملة» ،هم�ست ُغفران ب�صوت مكتوم« :وهل احلقيقة �ستغري �شي ًئا؟!» .
نه�ض يامن من مكانه واقرتب من ُغفران وجل�س �أمامها ،فانتف�ضت بقوة وهي
تراه قري ًبا منها ،فده�شت للهفته وهو يقول�« :أخربيني كل �شيء و�أعدك �أنني
61
أنت �أكرث قوة
أنت كبرية ونا�ضجة ،بعد ما ر�أيته � ِ أ�ساعدك ،ا�سمعي �آن�سة ُغفرانِ � ..
ِ �س�
ق�ضيتك وق�ضية
ِ أ�ساعدك يف
ِ أعدك �إن �ساعد ِتني �س�
من رحمة والفتاة الأخرى ،لذا � ِ
قتلت بغر�ض الدفاع عن أنك ِعليك �أن حت�صلي على براءة ل ِ أختك� ،أعلم �أنه �سهل ِ
� ِ
دفاعا عن النف�س ،هي قتلت النف�س ،و�سهل �إثبات ذلك� ،أما رحمة فهي مل تفعل ذلك ً
بدافع القتل ،ولكن ميكن �إثبات �أنها مل تكن يف وعيها �أو يف حالة نف�سية واعية �أو بعد
االطالع على احلقيقة الكاملة عما حدث يف تلك املزرعة ميكن �إثبات براءتها ،لأن
لديك كل املعلومات التي �ست�ساعدين يف �إثبات أنت ِ يف تلك احلالة هي ال�ضحيةِ � ،
ذلك ،هناك فتاتان قد هربتا وال �أثر لهما ،و�أي�ضا ما وجدناه يف ملفات ال�ضحايا
ع
أعدك ب�أن �أبذل كل ما بو�سعي حتى �أثبت لديك و�أنا � ِ
لي�س به ٍني لذا �أخربيني كل ما ِ
الكت ريص
احلق .هناك �أمور خفية مل تعرفها ال�شرطة بعد ،وخالل التحقيق �سيتم عر�ضكم
ل ب
مبهنتك تعرفني جيدً ا معنى وجود الأطباء».
ن ل
ِ أنت
على �أطباء نف�سيني و� ِ
62
حتدثت ُغفران ب�شرود وهي جتيبه«:كانت دائمة احلديث عنك ،يف الليايل
الأوىل كانت تبكي ب�شدة وتقول �إن يامن مان ُمنقذها �سي�أتي ليعيدها لأهلها ،مرت
�سنوات وهي تهم�س لنف�سها بهذا كل ليلة ،ولكنك مل ت� ِأت ..مل ي�أت �أحد».
قالت ُغفران جملتها الأخرية ب�سخرية ،فلمحت ت�ش ّنج ج�سده وهو يقب�ض على
يديه بقوة ،ف�شعرت ب�صدق معاناته ،لتنظر له هذه املرة بنظرة خمتلفة ،تف ّهمت
حالته وغ�ضبه املكتوم ،خا�صة �أنه رجل �شرطة ،ثم �أعادت التفكري يف الأمر ،حت ًما
كم اخلونةاللواء مل يكن لي�سمح ب�أي �أحد ليحقق معها �إال �إن كان ثقة ،فهي تعي جيدً ا ّ
يف دائرة الأمن .تنهدت بعد حلظات وهي تقول �« ::س�أخربك بكل �شيء».
ع
خرج من مكتبه بعد �ساعة بعد �أن �شعر باالختناق� ،شعر ب�أن �صدره ي�ضيق به
ع
كانوا مر�ضى.
توجه للمكتب يف نهاية الدور ،وهو يدري جيدً ا جهته ،فقط الآنتن ّف�س بقوة ثم ّ
ميكنه مواجهتها ،هو عرف احلقيقة التي تعرفها ُغفران وال تعيها زمرد ،وعليه الآن
�أن يعرف احلقيقة التي تعرفها زمرد وال تعيها ُغفران ،طرق باب الغرفة ودخل
متعجل« :فتحي �أريد الدخول».ً مكتب �صديقه فتحي ليبادره
نه�ض فتحي من مكتبه بده�شة وهو يرى حالة يامن ،ثم نظر لباب الغرفة
أنت بخري؟! وجهكالداخلية وعاد بنظره له لي�س�أله بقلق« :يامن ماذا بك؟! هل � َ
�شاحب!» �أجابه يامن وهو مي�سد على قلبه وعيناه على باب الغرفة« :يجب �أن
�أدخل فتحي» ،ا�ستغرب فتحي حالة �صديقه« :ولكننا مل نبد�أ التحقيق بعد� ،أنت
تعلم الأطباء مل ي�أتوا بعد»� ،أجابه يامن وهو ينظر ل�صديق عمره�« :أعرف ولكني
بحاجة للدخول� ،أرجوك».
�صمت فتحي قليال وهو يلمح انهيار �صديقه لأول مرة ،لقد عرف من اللواء �صلة
القرابة بينه وبني املتهمة �أو ال�ضحية� ،أ ًيا كانت ال�صفة التي تليق بها ،ولكن �صديقه
63
الواقف �أمامه الآن يبدو �أنه يعرف ما عرفه� ،أو بالأدق ما �سمعه قال له�«:أنت
تعرف؟!» ازداد �شحوب وجه يامن وهو يقول�« :أثناء دخويل الغرفة املقابلة لغرفة
اال�ستجواب ،والتي يف�صل بينهما بلوح من الزجاج العازل ،بينما كنت �أح�ضر بع�ض
الأوراق ،ف�سمعت ال�شجار الذي دار بينهما».
�شعر جمددًا ب�أن هناك ثق ًبا يت�سع بروحه ،مرارة �شعر بها يف حلقه ،وهو ينظر
ل�صديقه ب�شحوب ،كان يعرف �أن ُغفران لن تخربه كل �شيء ،وحتما مل تخربه عن
ذلك ال�شيء ،فاق من �أفكاره على ربتة �صديقه وهو يقول�« :س�ألتك لأنني �شعرت
�أنه كان يجب �أن تعرف هذا الأمر ،فرمبا لن يتحدث فيه �أحد ،هي منهارة يامن
ع
و�أ�شعر ب�أن الأمر له �أبعاد �أخرى ،لذا كن ر�ؤو ًفا بها ،فنحن ال نعلم مقدار العذاب
الكت ريص
الذي ع�شنه �سوى ما �سمعناه من اللواء ،لديك ع�شر دقائق قبل �أن ي�أتي �أحد وهذا
والتوزي
فيهما ليح�ضر لها ما تريده من املثلجات.
ريص ع
الكت
ب�أكمله وقمة ر�أ�سها تلم�س �صدره فت�أوه ب�أمل وهو يجذبها بقوة حل�ضنه يكتم �شهقات
ل ب
بكائها العالية فيه� ،أراد �أن ي�ضربها ،يقتلها ،يك�سر كل ما حولها عليها ثم يقتل نف�سه
ن ل
شر وال
بعد �أن يع ّذبها ،ولكن مل ي�ستطع فعل �شيء �سوى �أن زاد من احت�ضانها وهو يربت على
توزيع
عدت».
عدت يا زمرد ،لقد ِظهرها بحنو ويهم�س لها ب�صوت ُمع ّذب« :لقد ِ
حت ّدثت بني �شهقات بكائها باجلملة التي ُتع ّذبه منذ �أن قالتها الفتاة الأخرى
ُغفران« :مل ت� ِأت ،مل ت� ِأت انتظرتك ومل ت� ِأت� ،آه يامن ،لقد �آذوين لقد �آذيت نف�سي،
مل تعد زمردتك كما كانت ..مل تعد غالية».
�أغلق عينيه بقوة وهو ي�شعر ب�أنه يريد قتل �أحدهم يف هذه اللحظة ،لوال �أنها مل
نف�سا ُمت�أملًا
تقتل ذلك الوغد لقتله بيديه� ،شعر ب�آالم قلبه تعاوده بقوة وقبل �أن يخرج ً
تفاج�أ بها تدفعه بعنف وهي ت�صرخ بقوة« :ال تقرتب مني� ،أنا ُمل ّوثة ،ال تقرتب مل
�أعد نظيفة كما تركتني ..لقد ل ّوثني بقذارته ،لقد ل ّوثت نف�سي بنف�سي».
نريان ا�شتعلت بداخله من الغ�ضب وهو يراها مت�سح يديها بعنف على ج�سدها
نظفه وهي ت�صرخ بقوة ،حتى توقفت وهي تلهث ،وحلظات و�سقطت �أمام ك�أنها ُت ّ
عينيه مغ�شيا عليها وات�سعت عيناه ب�صدمة وهو يرى دماء تت�ساقط من بني قدميها.
M
66
وحدهن الالتي تغلنب على �أوجاعهن يعرفن كيف يخفني
دموعهن وهن يف قمة احلاجة للبكاء
فهد العودة
الف�صل اخلام�س
العائلة
ص ع
وقفت �أمام املر�آة يف احلمام وهي تنظر لهيئتها جامدة املالمح ،تنهدت بخفوت
الكت ري
وهي ت�شعر ب�أنها �أف�ضل بعد ا�ستحمام كانت يف حاجة �إليه ،يعي�ش الإن�سان عمره
توزيع
�أحالمه وي�سعى خلفها ،هي كادت �أن ت�صل لأحالمها وت�سعى خلفها لتجد نف�سها
تعود لأول نقطة جمددًا وتت�ساءل من هي؟! من تكون ح ًقا! هل هي تلك الفتاة التي
يوما
تَر ّبت على الأمل؟! �أم تلك الفتاة التي حتتويها الآن عائلة �أخرى؟! هل �ستعلم ً
من هي ح ًقا؟!
�سمعت �صوتًا خارج الغرفة �أخرجها من تفكريها ،فخرجت من احلمام وهي
تظن �أن ال�سيدة جميلة باخلارج ،لتتج ّمد �أمام الباب وهي تلمح طفلني �أحدهما
ينظر لها با�ستغراب والآخر ُيع ّدل من مكان الفازة التي وقعت من على املن�ضدة
�أثناء دخوله الغرفة ،تابعتهما بده�شة وهي ترى من ينظر لها ي�سحب �سرتة �أخيه
املُن�شغل بالفازة ويهم�س له�« :آدم ..انظر».
و�ضع �آدم الفازة على املن�ضدة وهو يهتف ب�ضيق بينما ي�سحب �سرتته التي
يجذبها �أخوه« :اتركني يا �أحمق ماذا تريد؟!» نظر لأخيه فوجده يبتلع ريقه وينظر
قمي�صا ر�آه من
�أمامه ب�شحوب ،فتت َّبع نظراته ليجد فتاة تنظر لهما بده�شة ترتدي ً
قبل على �أخيه �أمري وبنطاال رجاليا يبدو �أنه له.
68
م�صدوما وي�شري بيديه للبنطال الذي ترتديه
ً «هذا بنطايل» ،هتف بها �آدم
�أمرية� ،ضربه �أحمد بذراعه يف خ�صره فت�أوه وهو ينظر له ب�ضيق بينما حت ّدث لها
بك ..نعتذر لدخولنا الغرفة ،ولكن �سعدية ب�صوت يحاول �أن يك�سبه الرزانة�« :أهال ِ
�أخفت كرة التن�س هنا �أثناء تنظيف املنزل ،ونحن �أتينا لن�أخذها قبل �أن ت�أتي �أمي
ومل نعلم �أن هناك �أحدا».
مل جتبهما �أمرية ب�شيء ،بينما ارتفع حاجب �آدم بده�شة وهو يهم�س لأخيه:
«�أظن �أنها خر�ساء» ،عقدت �أمرية حاجبيها ب�ضيق من فظاظة هذا الطفل �أمامها
بينما هم�س �أحمد له«:اخف�ض �صوتك يا غبي �إنها ت�سمعك ،يجب �أن نخرج الآن،
مبا �أنها هنا فهذا يعني �أن لدينا �ضيو ًفا ..وهذا معناه»...
ر
وتغ�ضن مالمح الفظ الذي
والتوزي
�أمامها ،تتبعتهما بعينيها وهما يتهام�سان يبدوان �أ�صغر منها �س ًنا ،رمبا يف الرابعة
ع
ع�شر �أو اخلام�سة ع�شر من عمرهما ،لديهما نف�س عينيها ومن كالم ال�سيدة جميلة
يبدو �أنهما �أخواها .ت�أوهت بخفوت وهي ترى نف�سها يف دوامة كبرية من الأ�شخا�ص
الغريبة ،ت�شعر ب�أن عقلها �سينفجر من كم الأ�سئلة التي بداخلها« :يا �إلهي �أنا يف
حاجة ل ُغفران».
من ُغفران؟! ات�سعت عيناها وهي ترى التوءمني ينظران لها بده�شة ويبدو �أن
م�سموعا لهما فنظرت لهما للحظات ثم دلفت جمددًا ً هم�سها الأخري قد و�صل
للحمام حتت �أنظارهما املُنده�شة و�آدم يهم�س لأحمد« :اخرج م�ضرب التن�س من
احلقيبة ب�سرعة و�أنا �س�أم�سك بع�صا الكاراتيه».
ف�أجابه �أحمد بارتباك« :ولكن ملاذا؟!» �أردف �آدم وهو يخرج الع�صا من
حقيبته« :تبدو غريبة الهيئة و�أنا بد�أت �أ�شك يف �أنها ل�صة مبا �أنها كانت م�صدومة
من ر�ؤيتنا وال جتيب عن �أ�سئلتنا ،بالإ�ضافة الرتدائها مالب�سي �أنا و�أمري ،فهي حتما
هنا ل�سرقتنا ،هيا �أ�سرع قبل �أن تخرج من احلمام ب�سالحها وحينما �أهتف با�سمك
عال».ناد على �أمي و�أبي ب�صوت ٍ
69
ارتبك �أحمد للحظات ثم �أ�سرع ب�إخراج م�ضرب التن�س اخلا�ص به من احلقيبة
وم�سكه بقوة وهو يبتلع ريقه ب�صعوبة ويع ّدل من عويناته على وجهه يف حركة ال
�إرادية منه.
خرجت �أمرية من احلمام ويف يديها كرة التن�س لتجدهما �أمامها� ،أحدهما
ُم�سك مب�ضرب التن�س بارتعا�ش بينما الآخر ج�سده قد �أخذ وقفة دفاعية ُتدركها
جيدً ا ويف يديه ع�صا الكاراتيه!
ارتفع حاجبيها بده�شه وهي تتحدث �أخ ًريا بهدوء«:ما الذي تفعالنه؟!» هتف
�آدم بقوة وهو يندفع يف اجتاه �أمرية« :الآن �أحمد» فلمحت �أمرية �آدم يقرتب منها
ص ع
عال�«:أمي �أبي يوجد ل�صة يف
ري
ليقاتلها بع�صا الكاراتيه بينما �أحمد يهتف ب�صوت ٍ
الكت
املنزل �أبي �أمي».
توزيع
كانت يف طريق وجهها ،وبد�أت يف الدفاع عن نف�سها �أمام حركات �آدم غري املُتقنة،
ويف حركة واحدة ا�ستطاعت �أن ت�سحب منه ع�صا الكاراتيه ،واحلركة التالية كانت
تثني ذراعه للخلف تدفع بج�سده على الأر�ض وتقبع فوقه بج�سدها متنعه من احلركة
و�صدرها يعلو ويهبط من حركتها وهي ما زالت على ده�شتها من الأمر كله وتنظر
أنت جتيدين الكاراتيه».
لآدم الذي يبادلها ال�صدمة ومل ينطق �سوىِ �« :
نظرت له بجمود وهي تتحدث بهدوء بينما �صراخ �أحمد ي�صدح فوقهما« :هل
هذا كل ما ا�ستطعت قوله لل�صة ت�سرق بيتك؟!» .
نه�ضت �أمرية من عليه و�أبعدت برجليها ع�صا الكاراتيه عن متناول يد �آدم
واقرتبت من �أحمد ووقفت �أمامه لتتح ّدث بهدوء« :توقف» ،ابتلع �أحمد �صراخه
وهو ينظر لها ُمت�سع العينني ،وينقل نظراته بينها وبني �أخيه القابع على الأر�ض
ويحاول النهو�ض ُمت�أوها ،وحلظات وملحت والدتها ت�أتي ُم�سرعة من املمر ويف بدايته
ملحت �آ�سر يقف برت ّقب قل ًقا .هتفت جميلة« :ما الذي� ...أحمد� ،آدم ماذا تفعالن
هنا؟!» .
70
نه�ض �آدم من على الأر�ض وهو ينقل نظراته بني والدته وتلك الفتاة لريدف:
«�أمي يجب �أن ت�س�أليها هي هذا ال�س�ؤال؟!»
ارتبك �أحمد وهو ينظر لأمرية التي �أخف�ضت نظراتها للأر�ض وهو ي�شعر �أنه
و�أخاه الغبي قد ت�س ّرعا�« :آدم يبدو �أنها �ضيفة ولي�ست ل�صة».
�أغم�ضت جميلة عينيها وتنهدت بهدوء ثم حتركت جتاه �أمرية وابت�سمت لها
منك عزيزتي ،مل �أعلم بعودتهما» ،التفتت جميلة لهما وهو حتت�ضن
بهدوء«:اعتذر ِ
�أمرية بذراعها�« :أحمد و�آدم حممد الأ�سيوطي ..هل هناك تف�سري لكل تلك ال�ضجة
التي قمتما بها؟!» .
ص ع
«�أمي لقد»«:..ظننتها ل�صة»
ع والتوزي
ات�سعت عني �أحمد بده�شة حتت عويناته وهو يهتف« :ماذا؟!» بينما ارتفع
حاجب �آدم بانبهار« :يا اهلل� ..أخ ًريا لدي �أخت وجتيد الكاراتيه».
�ضحكت جميلة وعيونها متتلئ جمددا بالدموع ،وهي ترى ردات فعل طفليها،
بينما اقرتب �أحمد بهدوء من والدته حينما ملح دموعه�« :أمي ..ال ِ
تبك� ..أنا ال
لدعائك �أمي» ،كتمت
ِ أنت �سعيدة الآن ،اهلل ا�ستجاب
�أعلم ماذا حدث ولكن حتما � ِ
جميلة �شهقتها ودموعها تنهمر وهي ت�ست�سلم حل�ضن طفلها ال�صغري الذي احت�ضنها
بحنان جنح يف �إثارة ارتباك �أمرية للحظات وهي تري تلك امل�شاعر الغريبة �أمامها،
مل ت�شعر ب�آدم الذي مر بجوارها وانخف�ض للأر�ض يلتقط ع�صاه ثم عاد جمددًا
لها وحتدث بفظاظته املُعتادة�« :س�أقبل ِ
بك �أختي �إن عل ّم ِتني كل ما تعرفينه عن
الكاراتيه».
ارتفع حاجب �أمرية بربود وهي تنظر له من دون قول كلمة ،بينما ابتعدت جميلة
عن �أح�ضان ابنها ال�صغري وهي ترفع يديها لت�ضرب بها ر�أ�س توءمه ال�شقي وتهتف:
«ت�أدب �آدم ..ليلى �أختك الكبرية».
71
ارتبك �أحمد يف مكانه ورفع يديه ل ُيع ّدل عويناته وهو يتح ّدث بهدوء�«:أعتذر
منك عما بدر م ّنا� ،أخي غبي قليال» ،وابت�سم لها بحب و�أكمل« :حمدً ا هلل على
ِ
ا�سمك ليلى �أم �أمرية؟!».
عودتك لنا �أختي» بينما �س�ألها �آدم با�ستغراب�« :إذا هل ِ
ِ
�أخف�ضت �أمرية نظراتها عنهما وحتدثت بهدوء�« :أنا ليلى» فتابع �آدم �س�ؤاله:
لك بدال من �أمرية؟!» مل جتبه �أمرية ب�شيء بينما �س�ألها «�أهو ا�سم تدليل ِ
كنت كل هذه ال�سنوات؟!» .
�أحمد«:ماذا حدث؟! �أين ِ
جتمدت مالمح �أمرية ومل ترفع عينيها عن الأر�ض ،فو�صل لأ�سماعها �صوت �آ�سر
احلنون احلازم« :ح�س ًنا �أيها ال�شباب لنرتك �أمرية ترتاح قليال ،فلقد كان ً
يوما
ريص ع
طويل و�أنتما ا�ستعجلتما اللقاء بها ،ولكن ما حدث قد حدث ،هيا لندعها تنعمً
الكت
ببع�ض الهدوء قليال بعد هذا الطوفان الذي مرت به».
توزيع
ينظر لها بتم ّعن يراقب مالمح وجهها وكل ما ي�صدر منها ،ف�أبعدت عينيها عنه
لتلمح والدتها ت�أتي �إليها تق ّبل وجنتيها�« :س� ِ
أتركك الآن لرتتاحي ووقت الغداء �س�آتي
إليك ..هل ترغبني يف تناول �شيء ُمدد؟». � ِ
هزت �أمرية ر�أ�سها بال ،وهي ت�ستقبل قبالت والدتها احلنونة التي تدغدغ
م�شاعرها ،وحلظات وملحت خروجهم من ال�شقة ،فنظرت من ال�شرفة لتجد �أحمد
يحت�ضن والدته بحنان بينما يتق ّدمهما �آدم الذي يخرب �آ�سر ما حدث ويهتف بانبهار
عن قدرات �أمرية يف الكاراتيه من خالل حركاتها التي واجهته بها.
عادت لل�سرير وارمتت بكامل ج�سدها عليه حتاول �أن ُت ّ
نظم كل الأفكار بعقلها
ورغبة قوية داخلها �أن تهرب منها بالنوم ،نه�ضت من على ال�سرير و�أغلقت باب
الغرفة باملفتاح ،و�أ�سندت خلفه الكر�سي كما اعتادت منذ �صغرها ،ثم عادت لل�سرير
وا�ست�سلمت لرغبتها و�أغم�ضت عينيها ،و�آخر ما جال بخاطرها نظرة الده�شة التي
ملحتها يف عني والدتها عندما رف�ضت منامتها وطلبت منها قمي�صا و�سرواال رجاليا.
M
72
مقر الأمن الوطني
غرفة اال�ستجواب
�سرعا و�أخذ يهزها وهو ينادي ا�سمها« :زمرد �أجيبيني» ،وعندما
اقرتب منها ُم ً
ملح عدم ا�ستجابتها حملها للخارج ،قابله فتحي الذي كان يقف �أمام مكتبه وقد
ارتعب من ال�صراخ الذي بالداخل وعندما ملحه يخرج حامال رحمة جت ّمد مكانه
للحظات حتى تبعه وهو ي�س�أله عما حدث فلم يجبه �سوى ب�أنها يف حاجة للذهاب
للم�شفى حاال.
M
ر ش
والتوزي
وقلبه يكاد �أن يتوقف ،ارتفع �ضغط دمه ف�سارع فتحي يف طلب الطبيب ليك�شف عليه
ع
ويعطيه دواء �سري ًعا ويخربه ب�ضرورة االنتباه ل�صحته ،ابت�سم ب�سخرية� ،أي �صحة
و�أي اهتمام هو ي�شعر ب�أنه ميوت بالبطء ،منذ �أن خرج الطبيب من غرفة العمليات
ليخربه �أن زوجته فقدت جنينها ،زوجته! �شعر ب�أمل يجتاحه وهو يعلم �أن الطبيب ال
يعلم �أنه لي�ست زوجته و�أن جنينها مل يكن...
�ضرب احلائط خلفه بقب�ضته وهو يحاول التنفي�س عن الغ�ضب املُ�شتعل بداخله،
رفع ر�أ�سه على �أ�صوات يف نهاية املمر ليتج ّمد مكانه وهو يرى زوجة عمه قادمة مع
ابنتها رحاب بوجهها ال�شاحب والدموع تغرق وجهها ،ملحته زوجة عمه فاقرتبت منه
ُم�سرعة وهي تكاد ترك�ض رغم ج�سدها املمتلئ وحجابها الذي مل تربطه بحر�ص
قد ت�ساقطت منها على كتفها ،و�صلت �إليه وهي تلهث ومت�سك ذراعيه وتهتف بني
بكائها.
مفيدة (والدة زمرد)« :يامن �أخربين يا حبيب �أمك� ،أخربين �أن ما �سمعناه يف
التلفاز �صحيح ،هل عادت ابنتي؟! هل هي ح ًقا؟!»
73
رق قلبه لهيئة زوجة عمه احلنون ،الوحيدة التي �ساحمته على ما اقرتفه منذ
�سنوات ،الوحيدة من عائلة زمرد التي مل تبعده عنها ،رفع يديه املُرتع�شة وم�سك
حجابها لي�ضعه على ر�أ�سها بحنان وهو يحاول جاهدً ا جلب ابت�سامة لوجهه
ليطمئنها�«:إنها هي يا عمتي� ،إنها زمرد».
�شهقت رحاب ب�صدمة وارمتت مفيدة يف �أح�ضان يامن وهي تبكي وتهتف بني
ن�شيج بكائها« :خذين �إليها يا بني خذين �إليها يا غايل �أريد ر�ؤيتها و�أقر عيني
بها».
ربت يامن على ظهرها وهو يتحدث ب�صوت يحاول جاهدً ا جعله هاد ًئا« :اهدئي
ع
يا حبيبتي �سوف ترينها ،تعايل معي» ،م�سك يديها وجذبها بحنان بينما هي ُتع ّدل
الكت ريص
حجابها وخلفها رحاب ال�شاحبة.
توزيع
ك ًفا ُمرجت ًفا تتل ّم�س بطنها وحلظات وارتع�شت �شفتها لتدخل يف نوبة بكاء جديدة
وهي تهم�س«:لقد رحلت يا �صغري ،لقد ر�أف اهلل بك ،لقد رحلت»� ،أخذ ج�سدها
يهتز بقوة بكائها ،وحلظات وارتفعت يداها تكتم �شهقاتها يف نف�س الوقت الذي
�سمعت فيه طر ًقا على الباب و�أحدهم يدلف.
جتمد كل �شيء حولها وهي تراه �أمامها ،يا �إلهي تريد �أن متوت كل حلظة ينظر
�إليها ،ات�سعت عيناها ب�صدمة وهي تراه يدلف وخلفه امر�أة طاملا زارتها يف �أحالمها
وهي حتت�ضنها ،امر�أة مل تتغري مالحمها �سوى التجاعيد التي ر�سمت حز ًنا دفي ًنا
عليها.
كتمت �شهقة خرجت من فمها بيديها بينما �ستار من الدموع قد غ�شي عينيها
لتهم�س ب�صوت و�صل ل�صاحبته�« :أمي!».
�أكان نداء عدم ت�صديق �أم نداء ا�ستغاثة ال تعلم ،كل ما تعرفه �أن الأمر �أخذ
منها حلظة �أو حلظتني حتى ا�ستطاعت �أخ ًريا التن ّف�س لتقرتب منها ُم�سرعة وهي
ت�ضم ج�سد ابنتها ،تقب�ض على ذراعيها بقوة وتن�شج بالبكاء وتهتف بني قبالتها التي
متطر بها وجه زمرد�« :صغريتي ،ابنتي حبيبة قلبي ،يا اهلل قلبي يكاد �أن يخرج من
74
أمك ،يا غالية القلب ،يا عقلي يا روحي
أنت معي يا زمرد ،حبيبة � ِ
أنت هناِ � ،
مكانهِ � ،
ؤياك قبل �أن �أموت».
مل يحرمني اهلل من ر� ِ
حلظات وهي ُمتج ّمدة يف �أح�ضان �أمها تتقبل منها ُقبالتها حتى مل ت�ستطع
ال�صمود �أمام كلماتها ،لت�ضم والدتها لها بقوة وهي تهتف بني دموعها�«:أمي يا
إليك ،كم حلمت ب�أن �أكون يف �أح�ضانك� ،آه �أمي لقد ُمت من
�إلهي �أمي �آه كم ا�شتقت � ِ
منك يا �أمي».
دونك لقد خطفوين ِ ِ
مل ي�ستطع النظر �إليها وهي �أمامه يف �أح�ضان والدتها بهذه اله�شا�شة ،بينما
رحاب بجانبه تن�شج يف بكاء �صامت وال ت�صدق �أن �أختها الكبرية التي طاملا ح ّدثتها
ص ع
عنها والدتها قد عادت ً
فعل.
ع والتوزي
تلك ال�سنوات.
ابتعدت مفيدة عن زمرد وهي مت�سح دموعها وتتحدث ب�سعادة وا�ضحة يف نربة
والدك على قيد احلياة
أمك ..يا ليت ِ�صوتها« :اليوم فقط ُردت يل روحي يا حبيبة � ِ
دوما».
بك كما متنى ًفيقر عيناه ِ
�أجه�شت مفيدة بالبكاء جمددًا وهي حتت�ضنها بقوة بينما �شعرت زمرد ب�أمل
يعت�صر قلبها ،لقد حرموا والدها من ر�ؤيتها قبل وفاته ،لقد حرموها من التن ّعم
يف �أح�ضانه ،هي مل تره منذ �سنوات ولكن �شعور اليتم الذي اجتاح قلبها و�أمل
روحها جعلها ت�شعر ك�أن الع�شر �سنوات التي م�ضتها معه كان عمرها كله وك�أنها
مل تع�ش بعده .اقرتب يامن وهو ي�شعر بانهيار زمرد ،وربت بيديه على كتف زوجة
كفاك بكاء ،هيا �ألن تع ّريف زمرد على رحاب �أختها؟».
عمه«:يكفي هذا عمتيِ ،
ابتعدت مفيدة عن �أح�ضان ابنتها التي تنقل نظراتها بني والدتها وتلك الفتاة
اجلميلة ال�شاحبة الوجه بجوار يامن وتبكي يف �صمت ،خرجت من �أفكارها على
�صوت والدتها ال�ضاحك بني دموعها« :اعذرين يا بني لقد مرت �سنوات كثرية،
75
أختك
مل �أ�شبع منها بعد ،ال �أذاقك اهلل �إح�سا�س الفقد �أبدً ا ،حبيبتي هذه رحاب � ِ
ال�صغرية رحاب هذه هي �أختك الكبرية زمرد».
مدت مفيدة يديها لرحاب اجلامدة مكانها ودموعها تنهمر ب�صمت فاقرتبت
رحاب وهي ترفع عينيها لأختها تت�أملها ب�سكون ،ال تعلم ملا ت�شعر ب�أنها بعيدة ،بعيدة
ب�أميال عنها رغم �أنها جال�سة �أمامها.
كانت زمرد تت�أملها بحب خال�ص وهي ال ت�صدق �أنها لها �أخت� ،أخت حقيقية،
يا �إلهي لقد حرموها من الكثري لقد حرموها من كل ما هو جميل ،كم تبدو �أختها
جميلة ،هادئة ،نقية ..نقية وطاهرة.
ص ع
عند هذه اللحظة كانت رحاب قد وقفت �أمامها مت�سك بيد والدتها ،فتج ّمدت
الكت ري
مكانها وهي تلمح �أختها جته�ش بالبكاء بقوة وتبعد وجهها عنها وتدير ظهرها لهم
توزيع
أنت طاهرة ونقية ،وجودي �سوف لك � ِ « ِ
ابق بعيدة عني �أنا ال �أ�ستطيع �أن �أكون �أختًا ِ
طهارتك� ،أنا»...
ِ ُيل ّوث
تعالت �شهقات زمرد بقوة بينما والدتها تنظر ب�صدمة لها والبنتها الأخرى ،ثم
نقلت �أنظارها ليامن اجلامد املالمح لتقول بارتباك«:يامن ما الذي »...قاطعها
أنت تعلمني �أنها ما زالت يامن وهو يتحدث بهدوء« :لندعها ترتاح عمتي ً
قليل ف� ِ
حتت ال�صدمة وحالتها اجل�سدية ال ت�ساعدها على التعايف ب�سرعة».
اقرتب بهدوء من رحاب اجلامدة مكانها تنظر لأختها ب�صدمة وهم�س لها
بهدوء« :رحاب دعيها ترتاح قليال ،هي مل تق�صد ما قالته ..فقط »...قاطعته
رحاب بهدوء بعد �أن ا�ستعادت تركيزها وهي ت�سند والدتها لتنه�ض من على ال�سرير:
«هيا �أمي هي يف حاجة للراحة� ،سننتظر باخلارج».
نظرت مفيدة البنتها نظرات قلق وخوف وحزن على حالتها فنه�ضت مع رحاب
ب�صمت والقلق ينه�ش قلبها ،تبعهما يامن بعد �أن �ألقى نظرة على ج�سد زمرد املُهتز
من بكائها ال�صامت ل ُيحادث رحاب« :ال تنزعجي رحاب �إنها يف حالة �صدمة وعدم
ا�ستيعاب لكل ما مرت به».
76
�أجابته رحاب بهدوء يناق�ض �شحوب وجهها�« :أنا �أتف ّهم ذلك ،ولكن هي يف
حاجة لطبيب نف�سي فيبدو عليها االنهيار»� .أجابها ب�شرود�« :أنا �س�أتك ّفل بهذا
املو�ضوع» قاطعته مفيدة بلهفة �أم« :متى �ستخرج يا بني؟! متى �ستعود لبيتها؟!» .
�أخف�ض يامن نظراته عن زوجة عمه ،وقد �شعر ب�أنه حان الوقت ليخربها
حقيقة الو�ضع� ،أخربها عن اجلرمية التي متت واتهام زمرد بالقتل ولكن مل ي�ستطع
مواجهتها بحقيقة فقدان ابنتها ل�شرفها و�إجها�ضها جنينها ،فهو يعلم �أن �صدمة
الأمر الأول كبرية عليها ،وبالفعل بعد �أن �أنهى كالمه ملح تر ّنح زوجة عمه يف مكانها
�سرعا وهي تتحدث من دون وعي « ::قتل! يا �إلهي �صغريتي قتلت ف�أ�سندها ُم ً
�شخ�صا» �أجاب يامن بتعب وهو ي�شعر بذلك ال�شعور اجلاثم فوق قلبه« :عمتي ً
ريص ع
أرجوك ،لقد كانت ...لقد ا�ستحق ما ناله يا عمتي ،ال تقلقي �س�أتابع الق�ضية
اهدئي � ِ
بل
ِ جيدً ا و�ستخرج منها على خري لتبقى يف �
والتوزي ر
ع
مل ي�ستطع �أن يخربها �أنها كانت تدافع عن نف�سها ،هي مل تدافع ،هي فقط كانت
تنتقم ،كانت تقتل �سبب عارها.
حتدثت رحاب بعد �أن فاقت من �صدمتها« :ما الذي ق�صدته بالداخل بقولها
�إنها �ستل ّوثني؟!»
نقل �أنظاره بينها وبني زوجة عمه ال�شاردة وحمد اهلل داخله �أنها مل ت�سمع �س�ؤال
ابنتها فنظر برجاء لرحاب لع ّلها تتف ّهمه« :لي�س الآن رحاب � ِ
أرجوك لي�س الآن ،هيا
أو�صلك مع عمتي للمنزل ثم �س�أعود �إليها ،عمتي يجب �أن ترتاح قليال».
�س� ِ
هزت رحاب ر�أ�سها بتف ّهم وهي ت�شعر �أن يامن يخفي عليها �شيئا ولكنها �ستعلم
يف النهاية لكن لي�س الآن.
�ش ّدد على الع�سكري املُقيم �أمام الباب الذي جاء ب�أمر من النيابة �أال ي�سمح
لأحد بالدخول �أو باخلروج �إال بعد الت�أكد من هوية الأطباء واملمر�ضني وقت دخولهم
لغرفتها ثم ذهب ليو�صلهم حتى يعود لزمردته.
77
بعد �ساعتني
�شعرت ب�أن �سيارة كبرية قد اخرتقت ج�سدها ،فتحت عينيها ببطء وهي تت�أوه من
الأمل ،رم�شت �أكرث من مرة وهي حتاول �أن تتذ ّكر �أين هي حتى داهمتها �آخر ذكرى
وهي تغم�ض عينيها وتهرب من واقعها بالنوم .و�صل لأ�سماعها �صوت هادئ�«:أخ ًريا
ا�ستيقظت».
ِ
�أدارت ر�أ�سها ُمفلة على �صوت يامن الهادئ ،فلمحته يجل�س على الكر�سي
بجوار �سريرها وربطة عنقه حملولة ،يبدو على وجهه الإرهاق� ،أخذت تت�أمل وجه
القريب منها لتقارنه بذلك الفتى ال�صغري من �أحالمها ،لقد نبتت حليته قليال مما
ع
زاد من جاذبيته ،وملعة عينيه الع�سليتني كما كانت وهو �شاب �صغري ي�شوبها احلزن
الكت ريص
انتهيت من
ِ وملحة �آخر مل تفهم مغزاها .خرجت من �شرودها على حديثه« :هل
والتوزي
أنت تواجهني ق�ضية قتل احلكم فيها �سيكون أ�ساعدك زمردِ � ،
ِ
ع
�صديقتك و�ضعكما لي�س ُمت�ساو ًيا،
ِ أنت ُ
وغفران م�ؤكدً ا ،خا�صة �أمام كل ما تقولينهِ � ،
قتلت من �أجل »...قاطعته وهي أنت ِدفاعا عن النف�س حتت �شهود� ،إمنا � ِ هي قتلت ً
تهتف بغ�ضب« :من �أجل الدفاع عن �سنني من العذاب ،عن ج�سدي الذي انتهكه،
يل ك�أنني فرطت فيه برغبتي». عن �شريف املهدور الذي يجعلك تنظر �إ ّ
نه�ض يامن بغ�ضب وهو ي�شعر بفقدان ال�سيطرة �أمام جملتها الأخرية فهتف من
أنت
�شرفك مل ُيهدرِ � ،
ِ كنت ع�شيقة له لذا دون وعي�« :أولي�ست هذه احلقيقة؟! � ِ
أنت ِ
وعيك قتل ِته من �أجل االنتقام فقط الذي ال �أفهم �أ�سبابه ..يا
وغبائك وقلة ِ
ِ بتهورك
ِ
أنت نا�ضجةأنت نا�ضجة مبا يكفي لتعلمي امل�شاعر احلقيقية من اخلادعةِ � ، �إلهي � ِ
نف�سك ،لتوقفي كل �شخ�ص يحاول �شرفك ،لتحافظي على ِ ِ مبا يكفي لتحافظي على
أنت الوحيدة منهن من كانت ع�شيقة له ..فبماذا يوحي ذلك انتهاكك ،اللعنة زمرد � ِ
ِ
للجميع؟!» .
تن ّف�س بقوة وهو يحاول التح ّكم ب�أع�صابه حتى ال ينق�ض عليها وي�ضربها بقوة
ثم يحت�ضنها ليحمي تلك الطفلة التي تنظر له من عينيها املُت�سعتني وت�ضم �شفتيها
املُرتع�شتني من هول ما قاله� ،أدار وجهه عنها ونظر لل�شرفة �أمامه وهو يتح ّدث
79
بجمود وقلبه يئن وج ًعا ب�سببها وعليها« :توقفي عن العي�ش مب�شاعر دور ال�ضحية،
ل�ست
أنانيتك والنظر للق�ضية بجديةِ ، وتذكري جيدً ا �أنه حان وقت التخ ّلي عن � ِ
أهلك و�أحبا� ِؤك لهم حق يف �أن يعي�شوا
حولك � ِ
وحدك من تعي�شني يف هذا العاملِ ، ِ
أ�صابك ف�ستموت بحزنها
والدتك �إن علمت ما � ِ
ِ معك بعد غياب طال ل�سنوات،�أيامهم ِ
�أنا مل ا�ستطع �إخبارها �سوى بق�ضية القتل املُتهمة بها ،توقفي عن �إبعاد كل من يحبك
بت�صرفاتك».
ِ عنك
ِ
حترك يامن ليخرج ُمتجاهال النظر �إليها حتى ال ي�ضعف بعد ما قاله ،حتى ال
ينظر لعينيها ويرى اخلذالن بها ،حتى ال ترى �أنه على ا�ستعداد �أن يحارب العامل كله
ع
فقط من �أجلها دون �أن ترحل عن عينيه للحظة ،هو فقط ال يفهم كل تلك امل�شاعر
الكت ريص
املتناق�ضة داخله .وقف �أمام الباب وقبل �أن يخرج حتدث بجمود« :تعايف ب�سرعة
ن
حتى ي�ستطيع املحامي ُم ِ
ص ع
احلم�ض النووي وتفا�صيل يف كل م�شفى وق�سم باملدينة ،لقد قابلت عائلتها ولأن ال
ر ش
والتوزي
فق�ضيتها مل تنته».
ع
حت ّدثت ُغفران بجمود«:املُق ّدم يامن �ألي�س كذلك؟!» �أكملت وهي تلمح
ا�ستغرابه ملعرفتها لتجيب ت�سا�ؤله« :لقد حت ّدث معي ،كان يف حاجة ملجموعة من
التفا�صيل ،رمبا مل �أخربه بالكثري ولكن �أخربته مبا يحتاجه على الأقل� ،أدركت من
اهتمامه �أنه رجل تثق به».
�أجابها اللواء«:بالفعل يامن من �أجدر رجالنا هنا ،كما �أنه �سيتوىل بنف�سه
ق�ضية زمرد» ،تنهدت ُغفران وهي تقول« :بعد التحقيق الأويل والأدلة التي �أملكها
�ست�ستطيع زمرد اخلروج �ألي�س كذلك؟!» .
�أجابه اللواء بغمو�ض« :نعم بالطبع» زفرت ب�ضيق وهي تقول« :لقد حدث كل
�شيء ب�سرعة رهيبة ،لقد �أف�سد ُمططه ما خططنا له تلك ال�سنتني»� ،صمت اللواء
حمتفظا مبا لديه وهو ي�سمعها تكمل« :هكذا لن ن�ستطيع �أن ن�صل للزعيم الكبري،
ً
لدي �شعور داخلي �أن الأمر مل ينته بهروب خلود و�سمر ،هناك �أمر حدث� ،أمران يف
الواقع ،الأول هو �أن هناك من �أر�سله ممدوح ملراقبتي ومل يو�صل ملمدوح معلومات
عن ات�صايل بال�شرطة ،ولكن �أنا ربطت الأمر باالحتياطات التي كنت �أتخذها و�أنا
81
�أقابلك بامل�شفى رغم �شكي بالأمر ،والأمر الثاين هو كيفية و�صول النقيب �سمري
ملكان االتفاق مع رجال ال�شرطة ،الرجل الذي �أر�سلته ليخربين ب�أمر البيع لأ�شخا�ص
على احلدود مل يتبعني بعربته ،و�أنا علمت باملكان من رجال ال�شيخ عزيز الذين
راقبوا ممدوح منذ اختفائه يف �إحدى املناطق النائية عن الطريق الرئي�سي».
�أغم�ضت عينيها وهي ت�شعر ك�أنه عقلها �سينفجر من التفكري لت�ضع كفيها على
قليل ليجيبها اللواءِ �« :
أنت حمقة بالفعل ،مل يو�صل ر�أ�سها حتاول �إيقاف الأمل ً
تعاملك مع ال�شرطة ،وذلك لأن هذا
ِ يراقبك معلومات ملمدوح عن
ِ الرجل الذي
الرجل يعمل معنا ،وهو �أي�ضا من �أخرب �سمري مبكان االتفاق حتى ي�سرع برجال
ال�شرطة للمكان».
ريص ع
الكت
فتحت ُغفران عينيها لتنظر ب�صدمة للواء لرتاه يبت�سم لها بهدوء ً
قائل:
ع
كل تلك ال�سنوات ،اللعنة �إنه مع ممدوح منذ �أن كان عمري � 5سنوات».
والتوزي
له ثم نه�ض من مكانه وهو يقولُ «:غفران عمران يريد التح ّدث ِ
ع
معك يف �أمر مهم،
�أمر �سي�ساعدنا بخ�صو�ص الق�ضية� ،أمتنى �أن ت�ستمعي �إليه� ،إن مل تثقي به فثقي بي
ثقتك �أنا الآخر».
�أما �أنني خ�سرت ِ
رم�شت ُغفران بعينيها وهي ترى العتاب يف عني اللواء لتزيح عينيها عنه وهي
تتنف�س بقوة ُماولة ال�سيطرة على غ�ضبها لتجل�س على الكر�سي جمددًا دون التفوه
ب�شيء ،حت ّدث اللواء�«:س�أترككما قليال فلدي اجتماع مع القادة وجمموعة من
الأطباء الذين ح�ضروا من �أجل الق�ضية».
طويل حتى قطعه عمران وهو ينه�ض من رحل اللواء و�ساد ال�صمت بالغرفة ً
مكانه ليجل�س على الكر�سي املُقابل لغفران جاذ ًبا انتباهها له لتنظر له بغ�ضب ازداد
حالك ُغفران؟!» لتهتف«:اللعنة عليك ،ماذا تظن بعد �أن �سمعت �س�ؤاله«:كيف ِ
حايل الآن� ،أنا غا�ضبة ،يف �أ�شد غ�ضبي كيف ب�إمكانك ال�صمت كل تلك ال�سنوات؟!
كيف مل تقل �شي ًئا و�أنت تعي جيدً ا عالقتي بال�شرطة؟! هل تظن �أنني �أ�شعر باالمتنان
الآن لأنك يف اجلهة ال�صاحلة؟! �أنت خمطئ �أنا ال �أ�شعر �سوى بالغ�ضب منك؟!»
83
حانت منه ابت�سامة �أجفلتها لت�سمعه يقول بهدوء�«:أنا مل �أتوقع �أي �أمر
يوما� ،س�ؤايل بخ�صو�صك �أبدً ا ُغفران ،لطاملا ِ
كنت لغ ًزا بالن�سبة يل ،لغ ًزا مل �أفهمه ً ِ
لديك� ،أنا فقط �أردت االطمئنان علىحالتك لي�س لأزيد من م�شاعر الغ�ضب ِ ِ عن
والدتك».
ِ قتلت
حالك بعد �أن ِِ
نف�سا ً
طويل �آمل �صدرها، جت ّمد الهواء من حولها وهي ت�سمع جملته ،لت�أخذ ً
لرتم�ش بعينيها وت�صمت للحظات وهو يرى بو�ضوح حربها الداخلية ،يعلم جيدً ا
الأمل الذي ت�شعر به ،تريد �أن تلهي نف�سها ب�أي م�شاعر �أخرى� ،أن تغ�ضب وتغ�ضب من
كل �شيء حولها حتى ال تغ�ضب من نف�سها ،وهو ُم�ستعد لأن يتلقى منها �أي م�شاعر
أي�ضا ُيريدها �أن ُتن ّف�س عما داخلها.
�سلبية يف هذه اللحظة ،لكنه � ّ
ريص ع
الكت
أنت حايل بعد �أن قتلتها؟! هيا �أخربين وا�صدمني �أجابته بجمود«:ماذا تظن � ِ
ن
ِ
MMM
85
و�أنا �أحتاج �أن ُير ّبت كتفي �أي �شيء ولو كان قطرة مطر
منزل �أمرية
ص ع
�شعرت بقرب انهيار طاقتها وهي تلهث من التعب ،مل تعد ترى الطريق �أمامها
الكت ري
وهي ترك�ض بقوة ثم ازدادت اخلطوات التي ت�سمعها خلفها ،ف�أ�صاب قلبها الرعب
توزيع
على هيئتها ف�سمعت �صوتًا من بعيد يناديها�«:أمرية� ..أمرية» ،ازداد اختناقها
وخارت قواها ف�سقطت على الأر�ض وهي ت�صرخ«:ليلى ا�سمي ليلى».
�شعرت ب�أحدهم مي�سك بذراعها ويجذبها منه فانتف�ضت مكانها ،ويف حلظة
�سحبت �سكينها من جانبها ونه�ضت وهي ت�ضعها على رقبة من مي�سك بها وهي
ال ت�ستطيع ر�ؤية مالحمه من الظالم ،ثم �أخذت تدفعه حتى ارتطم باحلائط
وال�سكني ما زالت على رقبته ،حتى �إنها �أحدثت �ش ًقا مل تلمحه وهي ما زالت على
�صرختها«:ا�سمي ليلى ..ليلى».
ثم فج�أة �أُ�ضيئت الغرفة ف�أغم�ضت عينيها للحظات وفتحتها جمددًا وهي ت�سمع
�آ�سر وهو يهتف«:ماذا يحدث؟» ،بينما هي عقدت ما بني حاجبيها وهي تلهث
ب�صعوبة غري واعية �إن كانت يف حلم �أم واقع ،لتدرك �أنها كانت حتلم ،فنظرت
�أمامها للرجل الذي دفعته للحائط و�سكينها على رقبته ومل يكن �سوى ال�سيد حممد.
مل تتحرك � ً
إن�شا ،وقد ازداد غ�ضبها ،فزادت من �ضغط ال�سكينة على رقبته وهي
تهتف �أمام وجهه«:ما الذي تفعله هنا؟!»
88
و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات �أقدام كثرية لت�سمع هتاف �أحدهم«:ما الذي تفعلينه؟!
أنت جمنونة؟! اتركي �أبي»� ،أدارت عينيها لتدرك �أن ال�صوت مل يكن �إال لأمري،
هل � ِ
فازداد غ�ضبها لتهتف«:لي�س قبل �أن يجيب �س�ؤايل».
ارتع�شت جميلة الواقفة بني �أمري و�آ�سر وخلفها �أحمد و�آدم ي�شاهدان ما يحدث
ب�صدمة ،ازداد غ�ضب �أمري وهو يرى والده ينظر ب�صدمة م�صحوبة ب�أمل لأمرية ،ال
ي�صدق ما تفعله ،كاد �أن يقرتب فمنعه �آ�سر وهو يهم�س لوالدته ب�أن تتقدم ،حتركت
جميلة ب�سرعة لتقف بجوار �أمرية التي حتتجز حممد ب�سكني على رقبته ،ويدها
الأخرى تقب�ض على قمي�صه فتح ّدثت بارجتاف«:ليلى حبيبتي اهدئي ً
قليل� ..إنه
ع
والدك حممد لن ي�ؤذيك يا �صغريتي فقط اتركي ال�سكني جان ًبا».
ص
ِ
ع والتوزي
�شهقت جميلة وازداد ات�ساع عني حممد غري املُ�صدق ملا يحدث ،بينما ارتعب
ال�صغار من هيئة �أمرية الغا�ضبة ،ت�ساقطت دمعة من عني حممد وهو ي�شاهد
�صغريته بهذه احلالة ف�أجابها وهو ما زال حتت ت�أثري ال�صدمة«:فقط .ا�شتقت
أ�سبوعا ً
كامل ؤيتك ،لي�س ً
عدل �أن متكثي هنا � ً ل�صغريتي ،جئت لأنني فقط �أردت ر� ِ
غرفتك
ِ أراك يا ابنتي ،لي�س ً
عدل بعد كل هذه ال�سنوات ،طرقت باب وال جتعليني � ِ
فلمحتك تعانني ،فبدا
ِ أنك تنازعني فدلفت للغرفة،
�صوتك ك� ِ
ِ ومل جتيبي ،ف�سمعت
ك�أنه كابو�س و�أنا كنت»...
ارتع�ش ج�سد �أمرية للحظات وهي تلمح دموعه ،فعقدت ما بني حاجبيها بعدم
ت�صديق فالتفتت جميلة وهي حتاول ال�سيطرة على الو�ضع وهتفت لأمري ب�أن يرحل
وي�أخذ �إخوته ال�صغار معه ،رغم رف�ضه ال�شديد �إال �أنه ا�ستجاب بعد �أن �ألقى نظرة
غا�ضبة �أخرية على �أمرية ،فخرج من الغرفة مع �أخويه و�آ�سر ما زال يف مكانه يحاول
جاهدً ا درا�سة املوقف وحالة �أخته املُ�ضطربة ،حت ّدثت جميلة بهدوء«:ليلى ..اتركي
ال�سكني حبيبتي هيا �أال تثقني بي؟!» �أجابتها ب�صوت مكتوم�«:أنا ال �أثق ب�أحد..
89
زوجك العزيز يدخلها ً
ليل لي�شاهد �أخرب ِتني �أن هذه ال�شقة ال يدخلها �أحد ،وها هو ِ
الفتاة ال�صغرية يف املنزل وهي نائمة يف غرفتها».
كانت مالمح اال�ستنكار واالحتقار على وجه �أمرية لوالدها مما جعل قلبه يتفتت
ل�شظايا ،ليقول ب�أمل ُمداف ًعا عن نف�سهَ «:مل ال تقويل �إن زوجها قد جاء لريى �صغريته
النائمة وي�شبع عينيه بالنظر �إليها لأنها ال ت�سمح له بر�ؤيتها والنزول من م�سكنها
لتجل�س ولو ل�ساعة بالأ�سفل معه ومع �إخوتها؟! لتتحدث �إليه ،لتدعه يتحدث �إليها».
رفع حممد يديه التي ما زالت حتمل قطعة وردية من الثياب ،ورفعها �أمام عني
�أمرية وهي يريها ف�ستا ًنا �صغريا لطفلة ،و�أكمل من بني دموعه التي مل ي�ستطع �أن
ع
لك منذ ثمانية ع�شر ثيابك الوحيدة التي ا�شرتيتها ِ
أريك ِ ي�سيطر عليها�«:أردت �أن � ِ
الكت ريص
انتظارك كل تلك ال�سنوات ،كم حلمت ب�أن �أمل�س
ِ أخربك كم كنتُ يف
عاما� ،أردت �أن � ِ
ً
شر وال
أنت
عينيك و� ِ لوالدتك ،وكم حلمت ب�أن �أرى نظرة احلب يف لك عن ق�صة حبي�أحكي ِ
توزيع
ِ ِ
أخربك كم ا�شتقت أناديك ب�أمريتي ال�صغرية� ،أردت �أن � ِ
تناديني ب�أبي احلبيب و� ِ
الحت�ضان ابنتي الوحيدة التي حرمني منها جمرمون قد ح ّولوها لإن�سانة غريبة
عني ،لإن�سانة ال تثق يف عائلتها».
ازداد ن�شيجه وهو يتابع موج ًها حديثه جلميلة�«:ساحميني جميلة مل �أ�ستطع �أن
�أ�صرب يا �إلهي �إنها ابنتي ،كيف �أمنع نف�سي عن ر�ؤيتها وقد غابت عن عيني كل تلك
ال�سنوات ،مل �أ�ستطع� ..أق�سم لكم مل �أ�ستطع».
�أخف�ض حممد وجهه واهتز ج�سده ببكائه ال�صامت ،بينما �شاركته جميلة البكاء
وقلبها يت�أمل لر�ؤية حبيبها هكذا ،بينما ملعت الدموع يف عني �آ�سر وهو يتف ّهم حالة
تعر�ضت لأمر مماثل ملا حدث يا
ِ أي�ضا ،وهو يهم�س داخله«:لقد والده وحالة �أخته � ً
�أمرية ومل يكن �أم ًرا بري ًئا».
�شعرت �أمرية مب�شاعر غريبة داخل قلبها وهي تلمح بعينيها �صدق كالمه بخربتها
وعدم ادعائه وهي تهم�س بداخلها«:هل يعقل؟! هل يوجد مثل هذه امل�شاعر؟! هو مل
يحمل �أي نوايا �سيئة!»
90
ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر ب�أن هناك �شيئا غري �صحيح ،فانتف�ضت مبتعدة
عنه ويف يديها �سكينها ما زالت ُم�سكة بها بقوة ،فلمحت جميلة وهي تقرتب من
زوجها وحتت�ضنه بقوة وهي تهم�س له�«:آ�سفة �ساحمني».
رفعت نظراتها لأ�سر فوجدته ينظر لها بتم ّعن فرم�شت بعينيها وهي تبعدها عن
عينيه ،هي ال ترتاح لنظراته ت�شعر به يفهمها ويفهم ما يدور داخلها ،وهي تكره
هذا ،ال تريد �أن يعرفها �أحد �أو يفهمها �أحد ،هي ال تريد �أي �شخ�ص بالقرب منها.
خرجت من دوامة �أفكارها على �صوت جميلة وهي تقول ملحمد«:هيا دع �آ�سر
ُيعالج جرح رقبتك» فنقلت �أمرية نظراتها للدماء التي لونت قمي�صه الأبي�ض
ع
وذلك ال�شق الذي يلم�س عظمة الرتقوة فارجتف ج�سدها للحظات ورفعت عينيها له
ر ش
والتوزي
نومتها على �صوت �صراخ �أمرية وهي تهتف ا�سم ليلى ،و�شعرت ب�أن الدنيا كلها ت�ضيق
ع
بها لتخرج ُم�سرعة لغرفة �أمرية التي جتاور غرفتها لتلمح بعدها �أبناءها ي�صعدون
الدرج وهم يف حالة �صدمة ل�سماع هذا ال�صراخ الذي ال يتوقف فكان �آ�سر هو الأ�سرع
يف دخول الغرفة لرتى بعينيها ما حدث.
نحت جميع �أفكارها بعيدً ا وهي تتذ ّكر جملة �آ�سر�«:أمي �أمرية يف حالة
للم�ساعدة» ،نظرت لأمرية التي كانت تراقبها بجمود ومازالت ُم�سكة بال�سكني
يف يديها فاقرتبت جميلة منها وهي تبت�سم بهدوء وتنقل نظراتها بينها وبني ال�س ّكني
دوما تعتادين على حملها فرفعت كفيها لتُحيط بوجنتي �أمرية وتتح ّدث بحنان«:هل ً
أنت نائمة؟!» مل جتيبها �أمرية للحظات وهي ت�شعر باخلدر من مل�سة كفيها معك و� ِ
ِ
لوجنتيها ثم هزت ر�أ�سها بنعم فتبعتها جميلة ب�س�ؤالها«:هل تخافني من �شيء؟!»
«�أنا ال �أخاف» �سارعت �أمرية بالرد بقوة فابت�سمت جميلة لها وهي ترى يف
�أعماق عينيها طفلة �صغرية ترجتف خو ًفا� ،أبعدت جميلة كفيها عن وجنتي �أمرية
لت�شعر الأخرية بربودة غريبة ثم �شعرت بكف جميلة مي�سك ذراعها جاذبة �إياها
ليجل�سا م ًعا على ال�سرير لتقول جميلة ب�شرود«:هل تعلمني و�أنا يف ِ
�سنك كنت �أخاف
91
أحتجج ب�أي حجة حتى �أنام مع �أمي ،كنت �أ�شعر
دائ ًما �أن �أنام وحدي بالغرفة ،كنت � ّ
ب�أن �أحدهم �سيدخل غرفتي وي�ؤذيني».
أنت �شعت عني �أمرية حماية لها وهتفت من دون وعي«:هل � ِ
أذاك �أحد و� ِ
�صغرية؟!»
ابت�سمت جميلة لها وهي ُتر ّبت على وجنتيها«:ال يا حبيبتي مل ي�ؤذين �أحد �أبدً ا
على الأقل �أذية ج�سدية ولكن �شهدت �أمام عيني موت والدي ف�أثر بي كث ًريا» حتول
ج�سد �أمرية للوح جليدي ومل ترم�ش بعينيها ومل تغب حالتها عن جميلة فبادرت
عينيك؟!»
ِ �شاهدت موت �أحد �أمام
ِ ب�س�ؤالها«:هل
ريص ع
ت�شجعة
مل جتبها �أمرية للحظات فقط هزة ر�أ�س خفيفة بنعم ف�أكملت جميلة ُم ّ
الكت
أنت �صغرية؟!» �ساد ال�صمت للحظات و�شعرت با�ستجابتها«:هل � ِ
ب
أذاك �أحد و� ِ
توزيع
ابتلعت جميلة ريقها بتوتر وهي ت�ست�شعر ب�أن هناك �أم ًرا ما خلف جملتها«:هل
أذيتك؟!»
حاول �أحدهم � ِ
دوما ب�أال يحاول جمددًا».
ف�أجابتها �أمرية بكر ٍه«:تركت على ذراعه �أث ًرا ليتذ ّكر ً
�شعرت جميلة بقلبها يتفتت �أملًا وهي ترى طفلتها تتح ّدث بكر ٍه وا�ضح يف عينيها
و�أع�صاب يديها ُمنتف�ضة نتيجة �ضغطها على ال�س ّكني بقوة ،فلم�ست جميلة كفيها
ملكك؟!»
وهي تنظر لل�س ّكني لت�س�ألها«:هل هذه ِ
�أبعدت �أمرية نظراتها عن جميلة وهي تنظر لل�س ّكني يف يديها وهم�ست
�شاردة«:منذ العام ال�سابع� ،أعطتني �إياها �أختي ،هي �أعطت كل واحدة م ّنا
�سالحا».
ً
رتك من التعامل مع كتمت جميلة �شهقتها وهي حتاورها بهدوء«:هل ح ّذ ِ
الرجال؟!» �أجابتها ب�صوت مكتوم«:بل ح ّذرتنا من التعامل مع الأوغاد» ف�س�ألتها
أمامك جيد ولي�س وغدً ا؟!»
جميلة«:وكيف تعرفني �أن الذي � ِ
92
خرجت �أمرية من حالة �شرودها وهي تنظر بقوة جلميلة لتهتف«:ما الذي
تريدين �إثباته؟!» �أجابتها جميلة بهدوء«:حممد لي�س وغدً ا ،و� ِ
إخوتك لي�سوا
�أوغادًا»� ،صمتت �أمرية ومل جتبها ب�شيء لتحاول جميلة �إخراجها من حالتها وهي
تقول ب�ضحكة�«:أحيا ًنا �أمري ي�صبح م�ستف ًزا ولكننا نحاول معاجلته» ،حانت من
�أمرية ابت�سامة وهي تنظر لها بانبهار ملحته الأخرية لت�س�ألها«:ملاذا تنظرين يل
هكذا؟!»
مثلك �أبدً ا، فقالت �أمرية ب�شرود«:رمبا ر�أيت من هن �أجمل ِ
منك ،لكن مل �أر ِ
�ضحكتك جميلة للغاية والوحيدة التي �أجد نف�سي �أرتاح �إليها رغم حذري ال�شديد
ِ
ع
مع كل من حويل» ،ابت�سمت جميلة لها بحنان وهي حتاول طرد دموعها لتقول«:لقد
ابت�سامتك من
ِ جمالك وجمال
ِ
ر ش
والتوزي
نبت�سم مع الغرباء».
ع
لك؟!» رفعت �أمرية عينيها لها�س�ألتها جميلة ب�أمل«:وهل �أنا غريبة ِ
أعتربك غريبة ولكن هذا يرف�ض ب�شدة».
و�أردفت«:يجب �أن � ِ
و�أتبعت جملتها بالإ�شارة لقلبها فرقت عني جميلة لها ودمعت وهي جتذبها
لوالدك كما زرع
ِ حل�ضنها لتهم�س لها بحب�«:أدعو اهلل �أن يزرع يف ِ
قلبك احلب
قلبك يا حبيبتي».
احلب يل يف ِ
�شعرت جميلة بارجتافة ب�سيطة يف ج�سد �أمرية فهم�ست لهاِ �«:
أعطنا فر�صة
�صغرية يا �صغريتي ،فقط فر�صة �صغرية لتتع ّريف علينا و ُت�ص ّدقي م�شاعرنا ،و�إن
منك �شي ًئا �آخر».
خ�سرنا فر�صتنا لن �أطلب ِ
�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن تهز �أمرية ر�أ�سها ب�إمياءة �صغرية جعلت جميلة
حتت�ضنها بقوة وهي تهم�س داخلها فرحة«:احلمد هلل».
M
93
بعد �أيام مبنزل �أمرية
«�آ�سر هناك واحدة تريد احلديث مع �أمرية ،و�أنا ال �أعرف ماذا �أفعل؟!» رفع
�آ�سر ر�أ�سه من على الكتاب الذي كان يقر�أ فيه وهو ينظر بده�شة لأحمد«:ماذا؟!
من تكون؟!»
�س�أله �آ�سر وهو ينه�ض من على كر�سيه بغرفته متج ًها مع �أحمد للبوابة و�أحمد
يجيبه«:ال �أعرف ،ولكن هيئتها توحي باخلطر».
فتح �آ�سر البوابة ليجد �أمامه فتاة تت�شح مالب�سها املُكونة من بلوزة �سروال
بال�سواد ،كانت تدير وجهها عنه فتحدث جاذ ًبا انتباهها«:مرح ًبا ،كيف �أ�ستطيع
ص ع
م�ساعدتك؟!»
الكت ري
ب
التفتت ُغفران يف هذه اللحظة وهي ت�شعر بال�ضيق داخلها ورجل �أكرب �س ًنا من
توزيع
مع مالمح ال�شاب لتجيبه بهدوء ُماولة ا�ستعادة �أنفا�سها الهاربة وهي تفكر �أن هذا
الرجل لديه هالة حوله ت�شعرها باالرتباك ،با�ستنفار ا�ست�شعارات الإنذار لديها�«:أنا
�أريد التحدث مع ليلى� ،أمرية� ،أخربها �أن ُغفران تريدها».
أنت ُغفران ،ولكن كيف �ساد ال�صمت للحظات وهو ينظر �إليها وهو يقول�«:إذا � ِ
أنك ل�ست واحدة من الذين فروا من املزرعة �أو من ال�صحافة». ب�إمكاين الت�أكد ب� ِ
تذ ّكر منذ يومني واللواء ح�سني يطالب بر�ؤيته ليح ّدثه عن الق�ضية الكبرية
ويطالبه مبقابلة �أمرية لتتح ّدث عما حدث حتت �إ�شراف �أطباء ليطلب منه �أن يتوىل
هو معاجلتها مبا �أنه طبيب نف�سي ،ويف نف�س الوقت �أخوها ،ليف ّكر اللواء قليال قبل
�أن يوافق على طلبه ويخربه باملُ�ستجدات عن هروب فتاتني«:خلود و�سمر» ما زال
البحث عنها �سار ًيا ولكن رمبا ت�سببان �أذى للفتيات.
قلبت عينيها وهي تخرج بطاقتها ال�شخ�صية من احلقيبة التي ترتديها لتعطيها
له بنفاد �صرب جعله يرفع حاجبيه م�ستغر ًبا من تغ�ضن مالحمها بالغ�ضب ،نقل
�أنظاره بينها وبني البطاقة ال�شخ�صية بني يديه لي�س�ألها بده�شةِ �«:
أنت طبيبة ،ب�أي
تخ�ص�ص تعملني؟!» مل ت�ستطع كتم غ�ضبها �أكرث وهي ت�شعر بربودة هذا الرجل
94
لتهتف من بني �أ�سنانها�«:أنا �أريد التح ّدث مع �أمرية ،والآن بعد �أن ت�أكدت من هويتي
هل ب�إمكاين ر�ؤيتها؟!»
رم�ش بعينيه وهو ي�شعر بطاقة غريبة تفوح منها ليقول بعد �صمت دام
للحظات«:اتبعيني».
ملحته يخرج من املنزل ليمر بقربها فابتعدت على الفور وهي تراه ي�أخذ مم ًرا
بجانب املنزل فتبعته بحذر وهي ترى احلديقة اخللفية للمنزل ،ثم ملحته ي�صعد
الدرج وي�ضغط على جر�س باب فتوقفت مكانها ومل ت�صعد وهي تلمح بعد حلظات
امر�أة تفتح الباب لتبت�سم له ليهم�س لها ب�شيء جعلها تنقل �أنظارها ل ُغفران لتتململ
ريص ع
الأخرية يف وقفتها وهي تعي �أن احلديث عليها ،ال تريد �أن تفقد �سيطرتها حتى ترى
ع والتوزي
هي وعمران ليتم الإفراج عنها هي وزمرد ب�ضمان حمل �إقامتهما ومنعهما من
ال�سفر حتى ينتهي هذا التحقيق باعتبارهما �شهودا يف الق�ضية ،لذا �أخربها اللواء
أي�ضا مبا �أنها ق�ضت �سنوات عمرها هناك ،فطلبت منه �أنهم بحاجة ل�شهادة �أمرية � ّ
عنوانها فهي تريد ر�ؤيتها واالطمئنان عليها ،فمن حقها معرفة حقيقة ما حدث.
�سمعت ال�سيدة تقول لها«:تف�ضلي ابنتي»� ،شعور ق ّل�ص معدتها وهي ت�ست�شعر
نربة حنان ذ ّكرتها ب�أخرى غالية لقلبها� ،صعدت الدرج لتلمح �آ�سر يبتعد عن طريقها
�ساب ًقا �إياها للداخل.
ؤيتك»،«�أنا والدة �أمرية ،هي بغرفتها �س�أناديها الآن حت ًما �ستكون �سعيدة بر� ِ
هزت ر�أ�سها بتحية ُمقت�ضبة وهي ال تقوى على قول �شيء حماولة مغالبة ذلك ال�شعور
الغريب الذي اكتنفها وقت دخولها املنزل الذي يبدو �أنه مت ت�أثيثه بحب جعل للمكان
روحا دافئة ،ارتع�ش ج�سدها وهي حتاول �أن تخرج تلك الأفكار ال�سخيفة من ر�أ�سها ً
بينما ذلك ال�ساذج يقف مكانه بدون حراك وهو ينظر �إليها بتم ّعن ،كادت �أن ت�س ّبه
اول اكت�شاف �سر خطري ال يعرفه.وهي ت�شعر ب�أنه ينظر �إليها ُم ً
95
�أ�صوات �أقدام و�صلتها من املمر لتلمح يف حلظة �أمرية وهي تنظر �إليها ب�شحوب
ك�أنها ال ت�صدق وجودها كما �أخربتها والدتها ،ثم يف حلظات انتف�ضت مكانها
لتلقي بج�سدها يف �أح�ضان ُغفران وهي ت�شد ذراعيها حول ج�سدها هاتفة ب�صوت
أتيت».
أتيت لقد � ِ
انتظرتك كث ًريا ،لقد � ِ
ِ أتيت ،لقد عالُ «:غفران � ِ
أنت هنا� ،أخ ًريا � ِ ٍ
راحة افتقدتها منذ �أ�سابيع �شعرت بها جتتاحها وهي ت�ضم ج�سد �أمرية لها
أر�ضا وهي تتنهد بقوة ،ربتت على �شعرهامغم�ضة عينيها ،رامية بقناع جمودها � ً
الق�صري تهم�س لها�«:أنا هنا عزيزتي».
فتحت عينيها وهي ت�ست�شعر �أنظا ًرا ُموجهة لها ،لي�صدق ظنها وهي ترى نظرات
ص ع
خمتلفة من الرجل الذي يقف على مقربة منها ،وابت�سامة �صغرية يوجهها لأمرية
الكت ري
جعلت ق�شعريرة غريبة ت�سري بج�سدها ،لتنقل �أنظارها للمر�أة التي �أخربتها �أنها
توزيع
موجهة �سوى لها هي ،ف�أبعدت �أمرية عنها وهي تتنحنح بخفوت ،مت�سح دموع �أمرية
بحنان لتقول لها ب�صوت خرج ب�صعوبة«:هل ب�إمكاننا التحدث قليال على انفراد؟!»
ملحت ارتباك �أمرية وهي تدير ر�أ�سها لوالدتها لتنظر والدتها لآ�سر ك�أنها ت�س�أله
امل�ساعدة فقال �آ�سر وهو ينظر ل ُغفران بغمو�ض�«:أمي ِمل ال حت�ضري كوبني من
الع�صري حتى جتل�س ليلى قليال مع �ضيفتها».
هزت والدتها ر�أ�سها وهي تخرج من ال�شقة ولكن بعد �أن ق ّبلت �شعر �أمرية التي
�أ�سبلت �أنظارها للأ�سفل جاذبة انتباه ُغفران لها ،رفعت ُغفران عينيها لآ�سر وهي
تفهم الآن حمائيته يف الدفاع عن �أختها ،لتجده واق ًفا مكانه لتقول�«:أنا مل �أق�صد
ب�س�ؤايل ال�سيدة فقط».
حانت منه ابت�سامة �صغرية وهو يقول�«:أنا لن �أترك ليلى وحدها» ،رفعت ليلى
�أنظارها با�ستغراب لآ�سر وهي تقول«:ال داعي لذلك �إنها ُغفران ال تقلق» ،نظر
لها �آ�سر بحنان وهو يقول«:ال �أ�ستطيع عدم القلق يا عزيزتي» ،نظرت له ُغفران
بجمود وهي تراه يعيد كلمته ،ما الذي يحاول �إي�صاله لها؟!
96
«�أظن �أن ال�سيدة جميلة قالت �إنه غري م�سموح لكم بال�صعود لهنا» �ضحك
�آ�سر لرتتبك الفتاتان ليقول لها بتفاهم�«:أوت�ش لقد مت ق�صف اجلبهة بنجاح،
بغرفتك ليلى و�أنا �س�أبقي على باب ال�شقة حتى
ِ �ضيفتك
ِ ح�س ًنا ميكنك التح ّدث مع
تعود �أمي».
م�سكت �أمرية كف ُغفران ودلفت بها لغرفتها وهي تف ّكر �أنه منذ حادثة ال�سيد
دوما بـ»ليلى»� ،أغلقت الباب خلفها باملفتاح �أثار انتباه
حممد و�أ�سر �أ�صبح يناديها ً
ؤذيك �أحد هنا؟!» لتلتفت لها �أمرية وهي ترى قلقها ُغفران لت�س�ألها بقلق«:هل ي� ِ
الهتمامك بي ُغفران» ،اقرتبت منها ُغفران
ِ لتبت�سم لها بني دموعها«:لقد ا�شتقت
هذه املرة لتبادر باحت�ضانها وهي تقول�«:ساحميني حبيبتي
ع
تركتك لتواجهي كلِ
ع
حدث باملزرعة و�أين رحمة؟! وهل ه�ؤالء �أهلي ح ًقا؟! �أنا ال �أفهمهم هم مينحونني
م�شاعر مل �أتف ّهمها ،مينحوين حبا غريبا ي�شعرين بالقلق �أحيا ًنا ،وهيُ .غفران هي
ال ترتكني منذ �أ�سابيع� ،أتتخيلني لقد طلبت منها �أن �أبقى بعيدً ا عنهم فوافقت على
علي هذه ال�شقة لأمكث فيها معها ،رغم بقائي الفور من دون قول �شيء ،عار�ضة ّ
بالغرفة �إال �أنها تبقى يف ال�شقة ،ال تذهب ملنزلها معهم �إال لإح�ضار الطعام ،وهم هم
احرتموا رغبتي ،و�آ�سر يحاول كل فرتة و�أخرى احلديث معي ولكنني �أخاف حديثه
�أنا� ..أنا فقط ال �أ�ستوعب ما يفعلونه� ،أ�شعر ب�أنه �سيتم الغدر بي يف �أي حلظة و�أحيا ًنا
�أ�شعر ب�أن هذه طبيعتهم ،هم ال ي ّدعون ،وهي ال تتوقف عن احت�ضاين و�إخباري مبدى
حبها ومدى �سعادتها ،يا �إلهي ُغفران �أنا �أ�شعر بها كل ليلة تدخل الغرفة و ُتق ّبل ر�أ�سي
لتهم�س ب�أنها حتبني ثم تخرج بهدوء كامتة دموعها فخفت لكن �أنا مل �أ�ستطع �إغالق
الباب يف الليل ك�أنني �أرغب مبا تفعله وال �أرغب به �أنا ال �أفهم �أنا.»...
�شعرت ب�أمل بقلبها وهي ت�ست�شعر �ضياع �أمرية �أمامها فجذبتها لأح�ضانها
ُمطمئنة عليها بني عائلة واثقة ب�أنها ت�ستطيع احتواءها لتقول«:يا �صغرية هذا ما
97
لك وتف ّهمهم مزروع داخل قلوبهم
ي�سمى الغريزة �أو الفطرة ،هم عائلتك لذا حبهم ِ
أنك �أختهم �أمرية».
أنك ابنتهم ،ل ِ
حبونك ل ِ
عاملونك من القلبُ ،ي ِ
ِ و�أرواحهم ،هم ُي
ابتعدت �أمرية وهي تعقد حاجبيها غا�ضبة من كلمتها«:ال تناديني ب�أمرية �أنا
ليلي ،لقد �أجربتهم ب�أن ينادوين بليلي� ،أنا ال �أتق ّبل تلك الـ �أمرية»
ابت�سمت لها ُغفران بحنان وهي جتذبها لتجل�سا على الأريكة املوجودة لتقول
لك يف غاية الأهمية».
لها«:ا�سمعيني جيدً ا ليلى لأن ما �س�أقوله ِ
�أخذت ُغفران تخربها بكل ما حدث تلك الليلةُ ،مو�ضحة لها ما حتتاج معرفته
من تفا�صيل ،غافلة عن البع�ض ،ثم �أخربتها بتعاونها مع ال�شرطة لت�صمت يف
ريص ع
الكت
النهاية ُمنتظرة رد فعلهاُ ،متم ّنية �أن تفهم �أمرية �أ�سبابها ،ال ت�سيء الظن بها كما
ل ب
فعلت رحمة.
ن ل
شر وال
ملحت �شرود �أمرية ودمعة تر�سم الب�ؤ�س على وجهها لتقول لها«:لطاملا كنت
توزيع
مت�أكدة �أن من امل�ستحيل �أن يكونا �أبا و�أما لنا فمن يفعل هذا ب�أبنائه ،ذلك التحليل
طلبت مني �أن �آخذ عينة من �سمرية كان لإثبات ذلك �ألي�س كذلك؟!» الذي ِ
هزت ُغفران ر�أ�سها بنعم ،وهي تنظر لأمرية برت ّقب لت�س�ألها �أمرية ال�س�ؤال الذي
لديك لتطلبي من ال�شرطة �أن يلقوا القب�ض تنتظره«:ملاذا مل ِ
تكتف بالأدلة التي ِ
عليهم؟!»
�أجابتها ُغفران«:لأنها مل تكن كافية لإدانة ر�ؤ�سائهم ،ممدوح ال يعمل وحده
�أمرية بل يعمل لدى ع�صابة لها �أفرادها الكرث يف كل مكان داخل وخارج م�صر� ،أنا
ا�ضطررت لالنتظار من �أجل معرفة حتت �إمرة من يعمل� ،أق�سم �أنني مل �أفكر �سوى
بالق�ضاء عليهم جمي ًعا حتى ننتهي من �شرهم للأبد».
�صمتت ُغفران يف انتظار رد فعل �أمرية لرتاها تتنهد بتعب مت�سح دموعها
باك�«:أتف ّه ِ
مك لكن ما فعلوه يا ُغفران كان فوق وهي تنظر للأر�ض قائلة ب�صوت ِ
املحتمل».
98
لك �أعلم» �أجابتها ُغفران �شاعرة بالندم لرتكهم كل تلك «�أعلم �أق�سم ِ
الفرتة ،لتنظر لها �أمرية وهي تقول«:هناك الكثري مما ال تعلمينه �أنا لن �أقوى على
أخربك مبا �أجربونا على فعله ،و�أمتنى وقتها �أن
لك الآن ،رمبا فيما بعد � ِ التح ّدث به ِ
أ�ساحمك الآن ،ففي النهاية كلنا ا�ضطررنا لفعل ما ال نرغب به».
ِ ت�ساحميني كما �
جذبتها ُغفران حل�ضنها وهي تقول�«:شك ًرا لتف ّهمك ،رغم انتفا�ض قلبي رع ًبا
أعدك �أنني
أنتظرك يف �أي وقت لتخربيني مبا تريدينه ،و� ِ
ِ ملا قل ِته الآن �إال �أنني �س�
أنت قبل �أي �شيء ابنتي ال�صغرية».
دوما ،ف� ِ
أ�ساحمك ً
ِ أ�ساحمك و�س�
ِ �
حنانك هذا يذ ّكرين بال�سيدة جميلة».
ابت�سمت �أمرية لها وهي تقولِ «:
ع
حتاول تعوي�ضي كل تلك ال�سنوات التي �ضاعت ،ال تتوقف عن �إخباري مبدى تعا�سة
حياتها يف الفرتة التي ق�ضوها بني امل�ست�شفيات ومراكز ال�شرطة يف البحث عني،
�أتعلمني �أنهم مل يتوقفوا �أبدً ا ،كل �شهر كانوا يذهبون للبحث يف كل مكان ،يت�صلون
باجلهات املخت�صة التي تركوا بها �أرقامهم بح ًثا عن �أي جديد ،مل يتوقفوا عن
فقدان الأمل �أبدا» ،ابت�سمت ُغفران لها بحب وهي حتت�ضن وجنتيها بكفها لتجد
أخيك �آ�سر؟!» تنهدت �أمرية وهي تقول«:ال نف�سها ت�س�ألها دون تفكري«:وماذا عن � ِ
مثلك كث ًريا ،يقوم بكل ما يجب من �أجل حمايتي ،قام بالكثري يف منع �أعلم �أ�شعر به ِ
ال�صحافة من الو�صول �إيل ،واحرتم رغباتي بعدم التح ّدث لأي �شيء حتى الآن رغم
يل ،فكما تعرفني قد عينوا طبي ًبا نف�س ًيا لكل واحدة طلب الأمن الوطني بالتح ّدث �إ ّ
منا فطالب هو ب�أن يكون طبيبي»� ،س�ألتها ُغفران با�ستغراب«:هل هو طبيب؟!»
�أجابتها �أمرية«:نعم يف احلقيقة العائلة ب�أكملها �أطباء ،يبدو �أنه �أمر متوارث بينهم
أخربك �أن يل كما �سمعت من ال�سيدة جميلة� ،إن �أمري يريد � ً
أي�ضا �أن يكون طبي ًبا مل � ِ
توءما �ألي�س كذلك؟!»
99
«تو�أم!» �أجابتها �أمرية ب�ضحكة«:نعم تخيلي �أنا لدي تو�أم غري �سهيلة ،تو�أم
غريب» �س�ألتها ُغفران با�ستغراب«:ملاذا غريب؟!» قالت �أمرية ب�شرود«:ال �أعلم
رمبا مل نتح ّدث بكلمة حتى الآن �سوى يوم عودتي �إال �أنني �أ�شعر �أحيا ًنا �أنه نادم على
عودتي ،و�أحيانا �أ�شعر ك�أن روحي تتع ّري �أمامه �إن �صادف ور�أيته من نافذتي ،ك�أن
نظرته اجلامدة يل تخربين ب�أنه يعرف».
�أجابت ال�س�ؤال بعني ُغفران«:نعم ُغفران� ،أ�شعر ب�أنه يعرف عما حدث يل� ،أنا
أي�ضا ال �أفهم رمبا �أتخ ّيل ورمبا ال ولكن �أحيا ًنا �أ�شعر به �أ�شعر �أحيا ًنا ك�أنه يناديني
� ً
و�أحيا ًنا ك�أنه ي�شكو يل �شي ًئا ال �أعرفه ال �أعلم� ،أ�شعر �أن ر�أ�سي �سينفجر».
ص ع
ربتت ُغفران على كفيها وهي تقول بحنان«:ه ّوين على ِ
ري
نف�سك عزيزتي ،تق ّبلي
الكت
آخذك معي ولكنني بحاجة لأرتب �أموري ً
ب
قليل �س�أحاول الأمور برت ٍو� ،أنا �أردت �أن � ِ
توزيع
أي�ضا؟!» �أجابتها
�سماعها خطة ُغفران لت�س�ألها بارتباك«:هل عادت رحمة لعائلتها � ً
ُغفران بجمود«:نعم �إنها و�سط عائلتها الآن ،مل �أذهب لر�ؤيتها بعد» �س�ألتها �أمرية
وهي ت�شعر �أن قلبها يتوقف من اخلوف«:ملاذا؟! هل هناك �شيء بخ�صو�ص عائلتها؟!
هل قالوا �شيئا �أو فعلوا �شيئا؟!»
نظرت لها ُغفران با�ستغراب وهي تقول«:ملاذا تقولني هذا؟!» �أجابتها �أمرية
ُم�سرعة«:ال ال �شيء �أنا فقط �أطمئن عليها» ،اخلوف الذي كان داخلهما رغم
اختالف �أ�سبابه �إال �أنه يف النهاية كان يلتقي ب�شبيهه يف نقطة واحدة ،كلتاهما
خائفة من معرفة الأخرى مبا تعر�ضت له رحمة هناك ،ف�ساد ال�صمت بينهما مل
يقطعه �سوى طرق الباب لتفتحه �أمرية بينما وقفت ُغفران مكانها لتلمح �أخو �أمرية
يدخل حامال بني يديه �أكوابا من الع�صري قائال بهدوء وهو ينقل �أنظاره بني مالمح
�أمرية الباكية ووجه ُغفران اجلامد«:طلبت من �أمي �أن تت�أخر ً
قليل حتى ال نقاطع
أنت
جل�ستكما ولكن ال �أريد ل�ضيفتنا �أن تعتقد �أننا بخالء ف�أتيت بالع�صري ،ليلى هل � ِ
بخري؟!»
100
االرتباك الذي �شعرت به ُغفران من كالمه ذهب مع الريح حني �سمعت �س�ؤاله
الأخري لتقول ب�صوت مكتوم«:ال تقلق مل �ألتهمها بعد»� ،أجابها �آ�سر بهدوء وهو
ل�ست من �آكلي حلوم
أنك ِ ي�ضع الأكواب على طاولة موجودة بالقرب منها�«:أعلم ب� ِ
وغفران وهما يقفان �أمام بع�ضهما �آ�سر الب�شر» نقلت �أمرية �أنظارها بني �آ�سر ُ
بوقفته الهادئة الرزينة وهو ينظر ل ُغفران بنظرة الغمو�ض التي ملحتها منه من
قبل ،بينما ُغفران تقف بوقفتها الدفاعية ك�أنها �ستنق�ض على �آ�سر يف �أي حلظات
لت�سمعها تقول«:ح�س ًنا �س�أذهب الآن �أمرية و�س�أعود ل ِ
أراك كل فرتة حتى ُنن ّفذ ما
بنف�سك جيدً ا».
ِ أخربتك به ،اهتمي
ِ �
اقرتبت من �أمرية يف نهاية كلمتها وهي ُتق ّبل جبينها لت�سمع �آ�سر يقول
ريص ع
لك» �أجابته باقت�ضاب بت�سلية�«:ألن تتناويل الع�صري لقد �أح�ضرته �أمي خا�صة ِ
ع
عن جمودها الغريب هذا ليقول�«:ألن ت�شكريني حتى؟!» التفتت وهي �أمام باب
ال�شقة غافلة عن والدته التي نه�ضت من جمل�سها وعن �أمرية التي تقف خلفه
لتقول�«:س�أ�شكر والدتك مبا �أنها من �أح�ضرت الع�صري».
هويتك فلقد ن�سيتها معي
ِ «�أنا مل �أحت ّدث عن الع�صري ،كنت �أريد �أن �أعطيك
يف غمرة غ�ضبك غري املفهوم �أ�سبابه» ،ملحته يرفع البطاقة �أمامها لت�شعر بالغباء
للحظة لرتفع يدها ت�أخذ البطاقة منه من دون قول �شيء لينظر لها للحظات قبل �أن
تلتفت لتفتح باب ال�شقة قائلة ب�صوت مكتوم�«:إىل اللقاء �أمرية».
نظر �آ�سر للباب بغمو�ض لتحني منه ابت�سامة �صغرية ُملتفتًا حلديث والدته
�صديقتك
ِ أزعجتك
ِ أنت بخري؟! َمل يبدو ِ
عليك البكاء؟! هل � لأمرية«:حبيبتي هل � ِ
لك بـ �أمرية؟!»�ضايقتك من مناداتها ِ
ِ ب�شيء؟! هل
نظرت �أمرية لوالدتها ب�صمت وهي تعي كالم ُغفران الآن ،تلك املر�أة التي تقف
�أمامها ُتبهاُ ،تبها من قلبها حتى لو مل ُتق ّدم لها �شيئا ،حتى لو مل تطلب منها �أن
حتبها ،ذلك اخلوف والقلق الذي ملحته يف عينيها �آمل قلبها فجعل دموعها تت�ساقط
101
جمددًا لتقرتب منها والدتها وهي تلم�س وجنتيها قائلة«:حبيبتي َمل البكاء؟!» تابعها
�آ�سر بعينيه وهي مت�سح دموعها وتنظر للأر�ض بحرج لتقول ب�صوت ُمنخف�ض«:ال
�شيء� ،أنا ُمتعبة فقط� ،س�أذهب لأنام قليال».
تركتهما �أمرية لتدخل غرفتها بينما نظرت جميلة لآ�سر بقلق وهي ت�س�أله«:بني
ماذا يحدث معها؟!» �أجابها �آ�سر ب�شرود و�أفكار كثرية تدور بعقله«:هي تكت�شف
من حولها �أمي ،قلبها يتق ّبل تلك امل�شاعر اجلديدة التي �صادفتها والآن احلرب مع
عقلها غري املُ�صدق كينونة تلك امل�شاعر ،دعيها قليال �أمي ،هي يف حاجة لكل الوقت
لتتق ّبلنا بقلبها وعقلها».
ريص ع
الكت
MMM
ن ل ل ب
توزيع شر وال
102
وبعد عام تدرك �أن عا ًما واحدًا يفعل الكثري
الف�صل ال�سابع
�أنا هنا �أنا هناك
اخللبة التي ُتز ّين م�سكنها �إال �أن تلك رغم امل�ساحة التي حولها والطبيعة ّ
ع
اخلنقة التي تعتلي �صدرها تزداد ب�سرعة قا�سية ،خرج نف�سها ببطء ك�أن عذاب
الكت ريص
روحها يتج ّدد مع كل نف�س يدخل �صدرها ،كانت تظن �أن عودتها للبيت �ستجعل كل
104
هل عادت للبيت ح ًقا؟! الت�شو�ش الذي ر�أته يف عني والدتها وهي حتت�ضنها
وترحب بها يف املنزل� ،شحوب وجه �أختها الذي حاولت ُمداراته بابت�سامتها ،مراعاة
عائلتها عدم ال�س�ؤال عن �أي �شيء وك�أنهم هكذا �سيتجنبون �أبواب اجلحيم التي
بانتظار �أحدهم �أن يفتحها ،كل هذا �أكد لها �أنها مل تعد للبيت �أو �أن هذا البيت كما
مل يكن بيتها ملدة ثماين ع�شرة �سنة مل يعد بيتها الآن ،ول�سخرية القدر هي ا�شتاقت
لغرفتها باملزرعة ،ا�شتاقت للغ�ضب الذي كانت جتده يف عني ليلى ،هي ا�شتاقت
ل ُغفران وب�شدة.
دمعت �سقطة من عينيها وهي تتذ ّكر �إمالء يامن الأوامر عليها ك�أنه �أمر ُم�س ّلم
به �أن ُتن ّفذ كل ما يقوله.
ل
قليل،
ع
�سوف تقابلني �أحد الأطباء النف�سيني ،يجب �أن تخربينا ما حدث هناك بالتف�صيل
ف�أي تفا�صيل �صغرية �ست�ساعدنا جيدً ا يف الق�ضية.
تذ ّكرت وقتها هتافها بعد �صمت دام لفرتة�«:أنا لن �أقابل �أي طبيب ل�ست بحاجة
له� ،أنا ل�ست جمنونة».
فتحت عينيها لتنهمر دموعها بغزارة وهي تتذ ّكر غ�ضبه و�صراخه بوجهها ك�أن
رد فعلها لي�س ما كان ينتظره منها«:ال ل�ست جمنونة ِ
لكنك الأقرب منهم له ،ففي
ق�ضيت معه �أكرث �أوقاته املُريحة».
ِ أنت من
النهاية � ِ
رفعت كفها تكتم �شهقاته وهي ت�ضرب بالكف الآخر على �صدرها وال تعلم �سبب
ذلك الأمل الذي يقتلها كلما جاء يامن بذكر احلياة املُهينة التي عا�شتها.
طرقات على الباب جعلتها تنتف�ض وهي تعي �أخ ًريا �أنها بغرفتها التي عا�شت
فيها طفولتها وقد احتفظت بها والدتها كما كانت يف انتظار طفلتها لتعود ،والدتها
التي ت�أبى حتى الآن ُمفارقتها يف �أي وقت ،حتى �إنها تدخل كل ليلة غرفتها لتت�أكد
فقط �أن وجودها حقيقة ال حم�ض خيال.
105
م�سحت دموعها بكفها وحاولت هندمة الثياب التي �أخذتها من رحاب �أختها
نف�سا حتاول تهدئة نف�سها به واقرتبت من الباب لتُجيب من
ال�صغرية ،ثم �أخذت ً
خلفه ب�صوت مبحوح«:من؟!»
«هل ب�إمكان ابن العم �أن يرى ابنة عمه بعد مرور ثماين ع�شرة �سنة؟!»
تخلله حنان دافئ وت�أثري ما زال له �أثر على روحها لتفتح الباب وهي �صوت ّ
ترى ال�شاب الذي كان دائم التحالف معها يف �أي مقلب �صغري كانت تقوم به ويقوم
بالتغطية على جميع الأ�شياء التي حتطمها من دون ق�صد �أو ق�صد ل ُيخربهم �أنه
من فعلها� ،أخذت تنظر ملالحمه احلبيبة لها وهي تراه قد غدا رجال ما زال يحمل
ع
الطفولة يف مالحمه وابت�سامته التي �شابها احلزن وهو يت�أملها هو الآخر ليخرج
الكت ريص
لك يا ابنة العم».
مبحوحا وك�أنه ُيغالب دمعه«:ا�شتقت ِ
ً �صوته
ريص ع
يوما» �ضحكت نتناول بع�ض املثلجات ،ما زلت �أتذ ّكر � ِ
أنك مل ت�ستطيعي مقاومتها ً
بل
يوما يا
ع
�صمتت لينظر لها بتم ّعن وهو يرى �أن ت�أثري يامن عليها ما زال �سار ًيا رغ ًما عنها
قائل«:ما زال هادم اللذات �ألي�س كذلك؟!» لي�صدق ظنه وعن ذلك العنيد ليبت�سم ً
وهو يراها ترد عليها ُمدافعة عنه«:ال هو فقط يحاول حمايتي»
زلت ُمدافعة عنه ،يا اهلل ك�أن الزمن مل مير ،ح�س ًنا دعيني �أح�ضر لنا «وما ِ
املُثلجات ونتناولها يف احلديقة بالأ�سفل حتى ال ُنك�سر �أوامر �سيادة املُق ّدم ما
أيك؟!» ابت�سمت له لتهز ر�أ�سها باملوافقة ليبت�سم لها بحنان غافلني عن عيون ر� ِ
تراقبهما ب�أمل.
M
منزل حممد الأ�سيوطي
ال تعلم كم من الوقت مر عليها وهي جال�سة على �سريرها ال تفعل �شيء �سوى
النظر لل�سقف ،تدير حديث ُغفران لها بعقلها ،حتاول �أن تفهم� ،أن تدرك جيدً ا
حياتها اجلديدة ،حياتها التي ت�شبه الروايات التي داومت على قراءتها ،حياة كانت
107
تظنها من �صنع الكاتب فقط ،فهي مل تذق حنان �أم �أو حب �أب ،حتى �إخوتها مل
يكن �أحد قريب منها �سوى ُغفران التي غابت عنها يف �أق�سى �أيام حياتها ،رمبا هي
الآن تتف ّهم �أ�سبابها ،رمبا هي تعلم الآن ا�ضطرار ُغفران لل�صمت كل تلك الفرتة،
ُت�ساحمها ،فقلبها ال ي�ستطيع الغ�ضب منها وهي كانت � ًأما لها منذ والدتها.
عادت �أفكارها جمددًا لتلك ال�سيدة القابعة باخلارج تنتظر منها �أي كلمة� ،أي
فعل� ،أي �شيء .هي لديها �أم لديها �أم حتبها ،لديها �أم ال تنظر �إليها با�شمئزاز،
لديها �أم ال تبث �سمومها داخل عقلها ،لديها �أم تفعل �أق�صى ما ت�ستطيع من �أجلها.
يوما � ًأما ،تلك التي
�أغم�ضت عينيها وهي تفكر يف �سمرية ،تلك التي مل تعتربها ً
ع
مل تتهاون حلظة عن بيع �أبنائها لل�شيطان نف�سه� ،سمرية التي كانت تنظر لها بكر ٍه
الكت ريص
وحني تخطئ ت�ستغل املوقف يف جلدها مهما كان خط�ؤها �صغريا.
توزيع
يدعمك بكل نظرة و�آخرون مل
ِ ُت ّدث نف�سها«:لديك �إخوة يا ليلى� ،أخ �أكرب ِ
منك
مينحك حبه
ِ منك بعد ،لديك �أب� ،أب كان يبكي من �أجل �أن
ت�سمح لهم باالقرتاب ِِ
الذي رف�ض ِته بق�سوة جارحة �إياه يف ج�سده قبل قلبه وروحه»
�أغم�ضت عينيها جمددًا كامتة �شهقاتها وهي ت�شعر ب�أمل غريب داخلها� ،أمل تريده
�أن ي�ؤذيها �أكرث و�أكرث� ،أمل تريده �أن يتوغل بروحها �أكرث لع ّله يلهيها عن �أفكارها،
لتتوه جمددًا يف ذلك العامل الذي يجذبها حني تريد الهروب من �آالمها ،مل تكد
تخطو خطواتها فيه حتى �أتتها �أ�صوات باخلارج.
فتحت عينيها وهي تنه�ض من على �سريرها لتم�سح دموعها ،اقرتبت من الباب
أعطها بع�ض الوقت فقط� ،أعلملي�صل لأ�سماعها والدتها ُت ّدث �أحدهم«:حبيبي � ِ
�أنك و�إخوتك تريدون التق ّرب منها ولكن من الأف�ضل �أن نن ّفذ رغباتها فهذا حقها».
�أتاها �صوت لطفل جلوج�«:أمي لكن �أنا لن �أ�س ّبب لها ال�ضيق� ،أنا �س�أمنحها �شيئا
يجعلها �سعيدة� ،صدقيني �ستجدينها ُم�ستمتعة بوقتها معي هيا �أمي ،دعيني �أح ّدثها
وبعدها دعي القرار لها �أرجوك �أرجوك �أرجوك».
108
«ح�س ًنا ح�س ًنا يا �إلهي �آدم» تن ّهدت جميلة لتقول ب�صوت قلق�«:آ�سر �سوف
يقتلك»
و�صل لأ�سماعها �أ�صوات �أقدام لتبتعد عن الباب ُمفلة وهي ت�سمع طر ًقا عليه،
م�سحت �آثار بكائها وابتلعت ريقها ت�شعر باالرتباك من مطلب �آدم لتفتح الباب،
تنظر ب�صمت لوالدتها التي تفرك كفيها لتقول لها«:عزيزتي� ،آدم يريد التحدث
معك بخ�صو�ص �أمر ما». ِ
ق ّلب �آدم عينيه وهو يبعد والدته من �أمامه قائال ببهجة«:يا �إلهي �أمي ،ال داعي
لتلك املُق ّدمة� ،أنا لن �أتناولها كحلوى قبل الغداء»� ،ضحك على كالمه ك�أنه �ألقى
ص ع
نكتة لينظر لوجه �أمرية الباهت ،لتخفت �ضحكته وهو ي�شعر بنف�سه �سخيفا ليقول
ر
ِ
والتوزي
تدري ًبا عال ًيا� ،أنا �أريد �أن �أمت ّرن ووالدتي ت�صر على �أنها ريا�ضة عنيفة ،وتخربين �أن
ع
التن�س �أف�ضل ،ولكن التن�س ممل ال �أ�شعر بال�سعادة و�أنا �أمار�سه كما يفعل �أحمد الذي
يبدو �أنه واقع يف غرام الكرة».
�ضربة على م�ؤخرة ر�أ�سه من والدته جعلته يت�أوه وهو يلتفت �إليها ي�س�ألها
بتذمر«:ماذا؟! ماذا فعلت الآن؟!»
�أجابته والدته وهي ت�ست�شعر رف�ض �أمرية«:تتح ّدث كث ًريا ،وتتح ّدث بكالم غري
ُمنا�سب ل�سنك ،ممن ت�سمع ذلك الكالم؟!» كاد �أن يجيبها حني �سمع �صوت �أمرية
اخلافت«:ح�س ًنا»
التفت االثنان لها ليقول �آدم«:ماذا؟!» �أجابته �أمرية بحرج«:ح�س ًنا ميكنني
تعليمك ولكن ليكن باحلديقة اخللفية� ،أنا ال �أريد اخلروج من املنزل».
�أخفت جميلة ت�أثرها لرتم�ش بعينيها دافعة بالدموع بعيدً ا ،تتذكر كالم �آ�سر وهو
يخربها �أنه يجب �أن ُنعاملها بطبيعية حتى ال تنفر من �أفعالنا ،وجدت �آدم يرفع
كفيه بت�شجيع وهو يقول ببهجة«:نعم ،ح�س ًنا متى نبد�أ؟!» حانت من �أمرية ابت�سامة
109
وهي ترى حما�سه لتجيبه«:غدً ا �إن �أردت» ،ارتفع حاجبا �آدم لتزداد ابت�سامته وهو
بانتظارك بالأ�سفل».
ِ يقول«:ح�س ًنا ،غدً ا �س�أكون
عال�«:أحمد ..ليلى وافقت� ،أخ ًريا �س�أتعلم
تركها ورك�ض وهو يهتف ب�صوت ٍ
الكاراتيه ياااه».
نظرت جميلة لأمرية بحنان وهي تلمح ابت�سامتها ال�صغرية لتقول لها
ال�ستجابتك لطلبه� ،إنه �أكرث من حلوح يف �أي �أمر يريده ،لذا مل
ِ بحنانِ �«:
أ�شكرك
ؤالك».
�أ�ستطع �أن �أرف�ض طلبه ب�س� ِ
أي�ضا �أرغبنظرت �أمرية لوالدتها لتقول لها بهدوء«:ال داعي لل�شكر� ،أنا � ً
ريص ع
باخلروج من الغرفة قليال و�شغل عقلي ب�أي �شيء غري التفكري ،من قبل كنت �أقر�أ
ب الكت
الكثري من الروايات التي جتعلني �أتلهى عمن حويل ،لذا كانت تبعدين عنهم م�ؤقتًا،
توزيع
ابت�سمت جميلة لها وهي تتنهد بارتياح ثم ملحت ارتباك �أمرية وهي ت�س�ألها«:هل..
هل �سيكون ال�سيد حممد غدً ا يف نف�س الوقت باملنزل؟!»
انقب�ض قلب جميلة �أ ًملا لر�ؤية ابنتها تنادي �أبيها بال�سيد لتجيبها و�سط
دموعها«:ال �إنه �إنه بامل�شفى لديه غدً ا عمل �إ�ضايف ،لن يعود �إال ُمت�أخرا»
�أ�سبلت �أمرية عينيها عن دموع جميلة هي تعرف �أنها جترحها بتباعدها عن
زوجها ولكنها ال ت�ستطيع تق ّبل وجوده حتى اللحظة.
M
منزل زمرد
�أر�سل الهواء البارد ق�شعريرة �سرت بني �أو�صالها لت�شد ال�شال الذي يحيط
بج�سدها رغم �أنهم يف نهاية ال�صيف �إال �أن ال تزال ت�شعر بالربودة ،ال تعلم هل
ال�سبب ُمقابلتها �سليم واحتوا�ؤه مل�شاعرها �أم لتلك الأرجوحة التي وجدتها كما هي
يف مكانها ،كادت �أن تبكي بانهيار جمددًا وهي ت�صل للحديقة وتلمح �أرجوحتها
كما هي مل تتغري ،ليزداد نحيبها وهي تعي �أنها تتحمل وزنها وهي ُت ّربها لت�شعر
110
بتلك الطفلة التي فقدتها منذ زمن ،رم�شت بعينيها حتاول منع الدموع من االنهمار
جمددًا وهي تلمح �سليم يقرتب من البوابة الأمامية للمنزل ويحمل معه املثلجات
ُمبت�سما لها بحنان ما زالت حتمله روحه.
و�صل �إليها وهو يقول«:بالطبع �ستتح ّمل وزنك ف�أنت كالع�صفورة» ،ابت�سمت له
بحزن وهي تتل ّم�س الأرجوحة بكفها قائلة ب�صوت مبحوح«:ال �أ�صدق �أنها ما زالت
أر�ضا �أمامها وهو يجيبها بينما يخرج املثلجات من الكي�س«:يامن من هنا» ،جل�س � ً
�أ�صر على بقائها» ليعطيها املثلجات وهو يقول بابت�سامة واعيا على ملحة الأمل التي
ثلجاتك بنكهة الفراولة كما حتبينها �أم تف�ضلني نكهة �أخرى
ِ مرت بعينيها«:ها هي ُم
ذوقك �أم ال».
تغي ِال �أعلم �إن ّ
ع
لي�س�ألها دون مواربة«:هل �أجربوك على ما ال ترغبني؟» ،ارتع�ش ج�سدها وهي
متتنع عن النظر له جميبة«:ا�س�أل ال�س�ؤال ال�صحيح يا ابن العم� ،أهناك ما مل
يجربوين عليه؟!» �أ�صابت مالحمه اجلمود وهو يقول لها«:زمرد� ..أنا �أريد �أن
عليك»
ؤالك ،ال لرف�ضي ما �ستنطقني به ولكن خلويف ِ
�أعرف و�أخ�شى �س� ِ
ابت�سمت ب�سخرية وهي ترفع عينيها لتناظره �أخ ًريا«:الوحيد منذ عدت وهو
يرغب ح ًقا يف املعرفة وال يخ�شى منها» ،مل يبت�سم لها ليقول بغ�ضب مكتوم«:هل
مررت به؟»
�ضايقك �أحدهم بالكالم؟ هل جر�ؤ �أحدهم �أن يح ّم ِلك ذنب ما ِ
ِ
«لهم كل احلق يف ذلك �سليم ،فما فقدته مل تكن روحي فقط بل ج�سدي �شريف»
�أجابته ب�أمل.
�سجل ما تقوله داخل عقله ُم ً
اول تف�سريه انتف�ض داخله بعنف وهو يحاول �أن ُي ّ
مررت به ،كيف جر�ؤوا على هذا؟ من؟ليقول بغ�ضب«:ال يحق لهم �شيء ،يكفي ما ِ
�أخربيني من لأك�سر له ر�أ�سه؟» ابت�سمت له بحزن وخطان من الدموع ير�سمان
معاناتها على وجهها لتقول«:مل يعد �أي �شيء مه ًما �سليم لقد»...
111
�أ�شاحت ب�أنظارها بعيدً ا عنه حتاول مللمة �شتات نف�سها وهي تنظر لل ُملحقني
التابعني للمنزل حيث ت�سكن عائلتها ب�أكملها به ،لتقول له بهم�س«:حني دخلت هنا
�صباحا منذ يومني �شعرت باملرارة ،نظرت لذلك املبنى الكبري وتذ ّكرت �أن مت خطفي
ً
من بني عائلتي ،من �شارعي الذي �أ�سكن فيه ،من بني يديه بعد �أن تركها للحظات».
عادت ب�أنظارها للمثلجات التي بد�أت يف الذوبان دون �أن تتذوق منها �شي ًئا
لتقول«:لقد تركني للحظة من �أجل �أن يح�ضر يل املثلجات ،كانت جمرد حلظة �أدار
فيها وجهه عني لي�سود العامل من حويل ُم�ستيقظة يف مكان �آخر با�سم �آخر بعائلة
�أخرى يف مبنى كبري كهذا»� ،أغم�ضت عينيها وج�سدها يرتع�ش تتذ ّكر ذكريات
ص ع
الليلة الأوىل لها�«:أزاحت املالب�س من على ج�سدي و�أحرقتها ،نزعت عني قرطي
الكت ري
ب
الذي �ألب�سني �إياه والدي� ،أخذت ت�س�ألني عن ا�سمي ف�أخربها ب�أنني زمرد لت�صفعني
توزيع
وتتكرر �إجابتي ويتكرر �صفعها و�أنا ال �أعلم ما اخلط�أ ،لي�أتي ليقف �أمامي» ،ملح
�سليم مالمح الكره على وجهها وج�سدها ينتف�ض يحاول عدم مقاطعتها رغم الأمل
الذي �سكن داخله وهو يراها تنهار هكذا� ،سمعها تكمل ب�صوت مكتوم«:لقد وقف
�أمامي بربود ليهدر �صوته عال ًيا«:ا�سمك رحمة ممدوح العزامي» مل �أفهم وخويف
مل ي�ساعدين وقتها على الفهم لأت�ساءل ب�صوت مرجتف ماذا؟ لأجد بدل ال�صفع
جلدً ا على ج�سدي ُمرددًا جملته ا�سمك رحمة ممدوح العزامي ،لتتواىل جلداته و�أنا
�أ�صرخ من الأمل حتى ح�صل مني على ما يريد ،لأردد ب�صراخ �أنا رحمة ممدوح،
رحمة ممدوح ،وقتها كدت �أفعل �أي �شيء له فقط ليتوقف عن جلدي فتتوقف تلك
النريان التي ت�صيب ج�سدي» ،رفعت كفها تكتم �شهقاتها لتت�ساقط املثلجات � ً
أر�ضا
ُم�صطدمة بالع�شب قائلة بني بكائها«:ليته مل يتوقف عن ا�ستعمال ال�سوط ،ليته مل
ي�ستخدم �أ�ساليبه الأخرى ليح�صل مني على ما يريده ،ليتني حت ّملت قليال ،ليتني
مل �أتفوه باال�سم الذي �أراده رمبا رمبا مت �صغرية من قوة الأمل وال �أن �أحيا بذلك
اال�سم ،اللحظة التي تخ ّليت فيها عن زمرد ماتت لتحيا رحمة والآن بعد ثمانية ع�شر
112
عاما يريدون �أن �أكون زمرد مرة �أخرى ،كيف �أفعل هذا يا �سليم؟ كيف �أكونها و�أنا ً
قتلتها بيدي كما قتلته ،يا اهلل لقد قتلته يا �سليم لقد قتلته بيدي».
قطر منها ،لتنتف�ض مكانها وهي حتاول نظرت به�ستريية لكفها وك�أن الدماء ُت ّ
م�سح كفها ب�شالها يف انهيار مت�أخر منها ،ت�ضغط عليه بقوة لعلها مت�سح تلك الدماء
ليقف �سليم مراق ًبا انهيارها عاجزا عن فعل �شيء لها ليهتف لها«:زمرد انظري يل
زمرد ،زمرد» ،لت�صرخ ب�صوت �أوقظ جميع �سكان املنزل«:لقد ماتت ،لقد ماتت،
�سرعا منها وهو يراها جترح كفيها ب�أظافرها ليحت�ضنها لقد ماتت» اقرتب �سليم ُم ً
اول احتواء غ�ضبها وتخ ّبطها بني ذراعيه لتتوقف بعد حلظة وهو ي�شعر بقوة ُم ً
ع
بثقل ج�سدها عليهُ ،مدر ًكا ب�أنها فقدت الوعي ،ملح عائلته تخرج من البيت وعائلتها
ر ش
والتوزي
ليال وقد �شعرت باليتم جمددًا ،اللعنة لقد مت اختطافها �صغرية ،مل ترتك املنزل
ع
هاربة لتُح ّملكم العار».
«ما الذي يحدث هنا؟!» هتاف خرج ب�صدمة من يامن الذي عاد من عمله يف
م�صدوما من امل�شهد الذي �أمامه ،عائلته ب�أكملها يف احلديقة اخللفية
ً هذه اللحظة
و�سليم يحمل زمرد بني ذراعيها ويبدو عليها االنهيار ،هتف �سليم به«:ا�ستد ِع طبي ًبا
على الفور يا ابن العم ،ومن الأف�ضل �أن يكون طبي ًبا نف�س ًياُ ،مبارك جفا�ؤكم جتاهها
عجل من انهيارها ،وا�صلوا فعلتكم ليومني �آخرين و�ستجدونها ميتة بينكم» ،نظر ّ
لهم �سليم بغ�ضب وهو مير من جانب يامن حامال زمرد ُمتج ًها بها �إىل منزلها،
ُمتجاهال ال�شهقات من خلفه.
M
منزل حممد الأ�سيوطي
تن ّف�ست بقوة وهي تنظر جل�سد �آدم املُلقى على الأر�ض يت�أوه لت�سمع �ضحكات
�أحمد التي ال تتوقف ،اعتدلت يف وقفتها حتاول تنظيم �أنفا�سها وهي ت�سمع �صوت
113
أخربتك �أنني �أمار�س الكاراتيه؟ ح�س ًنا
ِ �آدم املُت�أمل«:يا �إلهيِ � ،
أنت ل�ست عادلة ،هل �
لقد كذبت �أنا ل�ست ُمبتدئا حتى لقد �شاهدت القليل من الفيديوهات فقط عنه».
حانت منها ابت�سامة وهي جتذب احلقيقة من فمه �أخ ًريا ذلك املغرور ال�صغري،
التفتت لأحمد الذي وقع من على الكر�سي من كرثة ال�ضحك وهو يتابع �أخاه يحاول
النهو�ض� ،أحمد اخلجول ما عرفته عنه من كالم جميلة مل يكن كاف ًيا لو�صفه ،هذا
الطفل يحمل براءة يف قلبه تكافئ مكر �أخيه التوءم� ،أحمد الذي ا�ست�أذنها بخجل
�أن يتابعهما من بعيد فلم ت�ستطع الرف�ض �أمام طلبه وهي تراه يجاهد لكيال يزعجها
بطلبه� ،أحمد املناق�ض متاما لتوءمه ال�شقي �آدم.
ص ع
ملحته يناديها وهو يقول بلهفة«:احذري» لتلتفت يف اللحظة التي جذبها �آدم من
الكت ري
رجلها برجله لت�سقط على الأر�ض بجواره لينه�ض يف حلظة وهو يقول من بني �أنفا�سه
شر وال
قوانينك اخلا�صة �أختاه ،ال تبعد عينيك عن مناف�سك �أبدً ا ،ها،
ِ
توزيع
أوقعتك �أخريا».
لقد � ِ
حاولت النهو�ض وهي ُتداري ابت�سامتها لت�شعر بالأمل يف كتفها ويبدو �أنه
ا�صطدم بحجر �ضخم ُملقى على الأر�ض ،اقرتب �أحمد منها وهو ي�سندها لي�س�ألها
أنت بخري؟! يا �إلهي ماذا فعلت �آدم؟!»
باهتمام«:هل � ِ
ملحت قلق �أحمد وهو يزيح الع�شب من على ر�أ�سها ومي�سد على �شعرها ليقرتب
�آدم وهو ي�شعر باالرتباك حني ملحها مت�سك كتفها«:هل حدث �شيء؟! �أنا� ..أنا مل
�أق�صد �أن»...
التفتت له وهي تراه �شاحب الوجه لتُجيبه بابت�سامة هادئة«:مل يحدث �شيء� ،أنا
مل �آخذ حذري فقط»
«ماذا يحدث هنا؟!» التفت ثالثتهم �إىل �آ�سر الذي ال ُي�ص ّدق حتى الآن وجود
�أمرية و�سط �أخويه� ،أمرية التي ظنها �أحد �أ�صدقاء �آدم ب�شعرها الق�صري وهيئتها
ال�ضعيفة حني دلف للمنزل و�شاهدهم يلعبون باحلديقة ،وحني اقرتب لريى عن
قرب ماذا يفعلون ملحها لتزداد ده�شته لنزولها من ال�شقة ولعبها مع �آدم و�أحمد.
114
�سمع �إجابة �آدم املُرتبكة�«:أنا� ..أنا طلبت من ليلى �أن ُتعلمني الكاراتيه ،واليوم
كان �أول در�س� ،أنا مل �أق�صد �أن �أ�ؤذي ذراعها».
«ذراعها» هم�سة خرجت من �آ�سر ليقرتب من �أمرية وهي تلمحه يفح�ص كتفها
بحر�ص حتى و�صل ملنطقة الأمل فت�أوهت لتبعد ذراعها عنه ،وهي تقول بحرج الحمة
قلقهم الذي �أثار داخلها مب�شاعر ُمتلفة«:مل يحدث �شيء� ،صدقني �أنا مل �أكن
حذرة فقط� ،آدم مل يفعل �أي �شيء»
�أجابها �آ�سر بهدوء«:ح�س ًنا ،دعينا نفح�صه �أوال لنطمئن»� ،أجابته �أمرية وهي
ُتع ّدل من ثيابها �شاعرة باحلرج و�سطهم«:ال داعي ح ًقا �أنا بخري ،بالكاد �أ�شعر
بالأمل».
ر ش
والتوزي
�سنكمل تدريبنا ،الآن اعذروين يجب �أن �أ�صعد فلقد ت�أخر الوقت» ،تركت الثالثة
ع
�إخوة و�صعدت لل�شقة وهم جامدين مكانهم فاحتني �أفواههم غري ُم�صدقني جتاوبها
معهم ورغبتها بتكملة التدريب.
كان �آ�سر �أول من خرج من ده�شته ،ليقب�ض بكفيه على قمي�ص �آدم و�أحمد من
اخللف وهو يجذبهما لداخل املنزل و�آدم يت�أوه من قب�ضة �آ�سر ليجل�سهما �آ�سر على
الأريكة وهو ي�س�ألهما من دون ُمقدمات«:ح�سنا ما الذي حدث الآن؟!» كاد �أحمد �أن
يجيبه حني نظر �آ�سر لآدم وهو يقول بلهجة ذات معنى«:بالتفا�صيل».
بعد �ساعة
غيت ثيابها وهي مت�سك كتفها ب�أمل لتكتم ت�أوهها، خرجت من احلمام بعد �أن ّ
لقد انخلع كتفها من مكانه و�أعادته ملو�ضعه �أثناء ا�ستحمامها ،يبدو �أن الوقعة كانت
�أقوى مما تخيلت ،ولكن الأمل يفوق قدرتها على التح ّمل� ،أغم�ضت عينيها وهي
ت�ست�شعر �سخونة رهيبة مكان الأمل لتفتح عينيها على �صوت طرق على باب الغرفة،
جففت وجهها باملن�شفة لتقرتب من الباب ت�س�أل عن الطارق لي�أتيها �صوت �آ�سر�«:إن
كتفك مل يبد بخري».أرجوكِ ،
أفح�صك � ِ
ِ انتهيت من معاينة نف�سك دعيني �
115
�أغم�ضت عينيها وكادت �أن ت�ضحك وهي تظن �أنها �أخفت �أملها عنه هو الطبيب!
تنهدت بخفوت وهي تفتح الباب ُماولة �أن تبدو طبيعية لتقول بهدوء بعد
�أن �شعرت ب�إحراجه وهو ينظر ل�شعرها املُبتل من املياه فبدت كطفل �صغري يريد
االهتمام�«:أنا ال �أعلم ما الذي تتح ّدث عنه� ،أنا بخري والأمل بكتفي ب�سيط».
�س�ألها بهدوء«:ح ًقا! ح�س ًنا يبدو �أنني خمطئ ،تف�ضلي هذه الكتب كانت مبكتبتي
بع�ضا من الكتب التي لدي»، حبك للقراءة فقلت َمل ال � ِ
أعطيك ً �أخربتني �أمي عن ِ
و�أتبع حديثه وهو ي�ضع الكتب بني ذراعيها ُم�ستغال ده�شتها لتت�أوه والكتب تقع منها
لت�سب يف �سرها املاكر املُخادع.
على الأر�ض عاجزة عن حملها ّ
ص ع
ب�سيط!؟» «هل ما ِ
زلت ُم�ص ّرة على �أن الأمل ٌ
الكت ري
نظرت له لتقول من بني �أ�سنانها كامتة �أملها«:لقد انخلع كتفي من مكانه وقمت
توزيع
�إخبار والديك مبا حدث ف�آدم مل يفعل �شيئا ال هو وال �أحمد� ..أنا من وقعت».
�أخذ الأمر منه دقائق لي�ستوعب ما تقوله� ،شحوب وجهها وحمائيتها ،يف البداية
ُ�صدم من تعاملها مع خلع كتفها بب�ساطة ك�أنه ال �شيء ُيذكر ،ثم ازدادت �صدمته
وهي ُتهدده بعدم �إخبار والديه عما حدث ،هي ال تريد العقاب لآدم ظنا منها �أنهم
وحو�ش �سيعاقبونه �أ�شد العقاب و ُيع ّذبونه ملا فعل!
ظننت �أن �أبي و�أمي �سيلقيان عليه �أ�شد عقاب ملا فعل �أو�س�ألها ببهوت«:هل ِ
ي�ؤذيانه؟!»
جاء دورها بالبهوت وهي تتذ ّكر عقاب ممدوح و�سمرية لهم حني يخطئ �أحدهم،
لعنتهم يف �سرها وهي ت�شعر باخلجل ملقارنة والدي �آ�سر بهما ،بالطبع فمن هي
ليعاقبوا ابنهم من �أجلها ،حتدث �آ�سر وهو ي�شعر بت�ضارب �أفكارها«:نعم للأوىل
وال للثانية».
نظرت له با�ستغراب يتبعه ده�شة وهي تراه يجيب عن الأ�سئلة بر�أ�سها«:نعم
ع�شت معهما تلك الفرتة،
ووالدتك لي�سا كذلك الرجل وتلك املرة اللذين ِ
ِ والدك
ِ
116
ل�ست ذات �أهمية� ،أبي و�أمي
أنك ِ بك ل ِوال تظني �أن �أبي و�أمي لن يعاقبا �آدم ملا فعله ِ
خارجا عن �إرادتكما ولكن وجب بالفعل �سيعاقبان �آدم ولكن بتفاهم ،رمبا الأمر كان ً
عدت �أخ ًريا حلياتنا وال لأننا ُن ِ
عاملك أنك ِ أنك �ضعيفة وال ل ِمعك ،ال ل ِ
احلذر يف تعامله ِ
وبنيتك تختلف عن بنيته ،رمبا
ِ أنك �أخته ،فتاة ال ك�أ�صدقائه ال�صبية،
بلطف ،بل ل ِ
معك لأن �أبي و�أمي
أنت فتاة ،فكان يجب �أن ي�أخذ حذره ِ أنت �أقوى ،ولكن يف النهاية � ِ
� ِ
يعلمان جيدً ا �أن �آدم عنيف ال�شخ�صية على العك�س من �أحمد ،لذا كل ما �سيفعله
قبلت
لك ولو ِ والداي هو �أن يتحدثا معه يف هذا الأمر ل ُيف ّهماه ما وجب فعله ليعتذر ِ
اعتذاره �سيكون وقتها الأمر انتهى.
�شعر بها تائهة بعد حديثه الطويل ن�سب ًيا� ،شعر بها ك�أنها تعي�ش يف غمامة من
ريص ع
الظالم تريد لأحد �أن ينت�شلها منها ،وهو �أق�سم داخله �أنه لن يدعها فيها بعد الآن،
ع والتوزي
حني ملح دموعها املُرتقرقة يف عينيها حتدث بهدوء وهو يحمل الكتب من على
الأر�ض لي�ضعها على الطاولة بغرفتها«:والآن اجل�سي قليال حتى �أح�ضر �صندوق
كتفك»
الإ�سعافات لأعالج ِ
تركها وخرج من الغرفة لت�سند ج�سدها بذراعيها ،وهي ت�ست�شعر دوران كل ما
حولها ،جل�ست على ال�سرير لتدمع عيناها وهي تنظر بجمود باجتاه املمر يف انتظار
عودة �آ�سر.
M
مقر الأمن الوطني
جل�س يف مكتب اللواء ح�سني يفكر يف ذلك اليوم الذي عالج فيه كتف �أمرية،
تذ ّكر دموعها املُت�ساقطة التي جت ّنب احلديث عنها وهو يداوي كتفها وي�أتي ب�أدويتها
بعد �أن كتب لها مواعيد الأدوية التي ت�ساعدها على ال�شفاء ،طال ًبا منها عدم �إجهاد
نف�سها تلك الفرتة ،ليتفاج�أ هو وهي بقدوم جميلة ُم�سرعة وهي حتت�ضنها ُمكررة
اعتذارها لها من بني دموعها وخلفها �آدم املُن ّك�س الر�أ�س وهو يدلف لغرفتها ليت�أ�سف
117
لها وهو ي�شعر باخلجل واحلزن لأذيتها بهذا ال�شكل ،لتبتعد �أمرية عن ح�ضن جميلة
ُمقرتبة منه لرتفع ر�أ�سه بكفها لتحرك ر�أ�سها بالنفي وهي تبت�سم له ك�أنها تخربه �أنه
مل يحدث �شيء ،رمبا كان موق ًفا �صع ًبا �إال �أنه �ساعد يف تقارب �آدم و�أمرية و�أحمد
من بع�ضهم ،تذ ّكر حديث والدته عن �أمري الذي جاء �أثناء ت�أنيب والديه لآدم ف�س�أل
والدته عما حدث لتجيبه بهدوء مالحظة �ضيق �أمري الذي مل يخفه عنهم وهو يقول
بغ�ضب«:هي من �أخط�أت ،مل مير عليها فرتة وها هي تن�شر العنف يف ابنكما ،رمبا
من الأف�ضل �أن تبقى بغرفتها بالأعلى» ،ا�ستغرب وقتها من رد فعل �أمري املُبالغ فيه
لتخربه والدته عن دفاع والدها عنها وهو يهدر به«:احفظ ل�سانك �أمري ،ما الذي
يحدث معك؟! لقد �أخط�أ �آدم بدون ق�صد ،و�أختك مل تفعل �سوى ما طلبه �آدم منها،
ريص ع
الكت
وهذا منزلها كما هو منزلكم ،لذا لها احلق يف التواجد ب�أي مكان تريده� ،أنا مل �أتوقع
ب
منك هذا �أمري» ،لينظر له �أمري بحزن ثم تركهم لي�صعد لغرفته.
تركهما اللواء لتلمح ُغفران �آ�سر يجل�س بهدوء على الكر�سي ،وتلك االبت�سامة
ال�سخيفة ُتز ّين وجهه ،لتتفاج�أ به وهو ي�س�ألها«:يبدو �أن ر�ؤيتي مل ت�س ّر ِك كما �س ّرتني
طلبك مل�ساعدتي ،ف�أنا �أخربته بحاجتي لك لأن اللواء ِ ؤيتك ،ولكن �أنا لن �أعتذر ِر� ِ
ع
لأوراق ت�ساعدين يف التعامل مع ليلى وهو �أخربين �أنه �سيح�ضر يل ما هو �أف�ضل من
ك
الأوراق ،لذا هو من ِ
والتوزي
بدون مقدمات«:رمبا من الأف�ضل �أن تبد�أ ُمبناداتها �أمرية حتى ُتربها على
ع
تق ّبلكم».
ملحها تنظر له بجمود لريفع حاجبيه ُم�ستغر ًبا من احلالة التي بها«:ملاذا تبدين
أنك على و�شك قتلي ب�أ�سنانك؟! �أنا �شخ�ص م�سامل» ،قالها بابت�سامة لرتفع
دائ ًما ك� ِ
حاجبيها هي الأخرى بته ّكم لتكمل حديثها ك�أنه مل يقل �شيئا«:ما الذي تريد معرفته
عن �أمرية؟!»
ملحت مالحمه تت�سم باجلدية �أ�شعرتها باال�ستغراب من احلالة التي تب ّدل فيها
من الته ّكم لت�سمعه ي�س�ألها«:كل �شيء� ،أمرية حتتاط من كل �شيء حولها� ،أ�ستطيع
قليل من والدتي ،ومن �أن �أخربك �أنها مل تثق ب�أي فرد م ّنا حتى الآن ،رمبا تق ّربت ً
�أخي ً
قليل بحكم �أنها ُتد ّربه للكاراتيه ولكن ثقة ال ،حني تراين تبد�أ برفع دفاعاتها
مثلك ك�أنني �س�أقوم باغتيالها يف �أي حلظة ،بينها وبني توءمها حرب نظرات كلها ِ
ك�أن كليهما يف �سباق من �سينت�صر �أوال� ،إن ا�ستمر يف الغ�ضب �أكرث ،و�أبي مو�ضوع
�آخر ،هي ح�سنا بدون جتميل للكالم هي ُت ِكن له كرهً ا ال نهاية له».
119
�أن�صتت ُغفران له باهتمام وهي ت�ست�شعر ب�صدق م�شاعره ،هذا الرجل �أمامها
يريد ح ًقا م�ساعدة �أمرية ،جذبت انتباهها اجلملة الأخرية لتقول بهدوء وهي
أر�ضا«:لي�س والدك هو املن�شود بهذا الكره� ،أمرية تكره
الأخرى تلقي بدفاعاتها � ً
�أي رجل يكربها �س ًنا� ،أي رجل ت�ست�شعر منه م�شاعر غريبة ،يبدو �أن والدك �شخ�ص
متاما
حنون لذا هي ت�ستغرب من م�شاعره هذه ،يف حياتنا مل جند �سوى النقي�ض ً
تتم�سك بالكراهية بدال من �أن
من والدك ،لذا من الطبيعي مع عدم ثقتها بكم� ،أن ّ
ت�ست�سلم للحب».
مل ال ت�ست�سلم للحب؟!»
�س�ألها �آ�سر با�ستغراب«:ملاذا؟! َ
ع
ابت�سمت وهي جتيبه ب�شرود«:لأنه يف اللحظة التي �سوف ت�ست�سلم فيها للحب لن
الكت ريص
تبقى على قوتها� ،ست�صبح �ضعيفة ،ويف العامل الذي ن�ش�أنا فيه �سيد �آ�سر ،ال�ضعيف
ريص ع
�أجل من يعمل لديهم ،ر�أت �أ ًبا ي�ضرب ويقتل ويغت�صب».
ر ش
والتوزي
لكن �سمعت و�أدركت ممن حولها ،حت ًما هذا هو ال�سبب� ،أنا تركتهما فرتة ،تلك
ع
الفرتة رمبا �أكملت على �صورة ممدوح القذرة يف عقلها ،ذلك الظالم الذي بروحها
يكاد ينق�شع ،لقد ملحت ذلك حني قابلتها ،هناك �شيء خمتلف بها ال �أدركه ،لكن
تاما وقلبها يت�ش ّرب كل ما ُتق ّدمونه لها ،واحلل �أ�شعر به ،عقلها يرف�ضكم ً
رف�ضا ً
يا �سيد �آ�سر حتى ننهي هذا احلوار هو �أن ُتعاملوها بطبيعية ،امنحوها من حبكم
الكثري ومن عطفكم ما ميلأ روحها ،ال تدعوها لكوابي�سها ،ال تبعدوها عنكم يف
ال�سكن ،اجربوها على �أن تق�ضي معكم معظم �أوقاتكم باملنزل� ،سرتف�ض وتعاند
بالبداية لكنها �ستملأ روحها بكل حماوالتكم ،و�ستفي�ض م�شاعرها مبا متنحونها
�إياه لكن �إياكم و�إهمالها بعد �أن تعطوها كل �شيء ،لأنني وقتها لن �أ�ساحمكم �أبدا،
تريد �أن تتق ّرب منها لت�سرد لك �أ�سرارها تق ّرب ،ا�ستفد بوظيفتك كما �أخربت اللواء
وعاجلها لكن ال تعاملها ك�أخت عاملها كمري�ضة وقتها �ست�صل لداخلها� ،أما بالن�سبة
للثقة فاتركها للوقت فالثقة ال ُتنح بل ُتكت�سب».
نه�ضت من مكانها وهي حتمل حقيبتها لريم�ش بعينيه مبهوتا بالطاقة التي حتيط
أنك بها لي�س�ألها دون �أي مقدمات«:ملاذا مل تبلغي ال�شرطة قبل ذلك؟! � ِ
أنت تقولني � ِ
121
هناك قبلها فلماذا مل تقيها �شر ما ر�أته من قبل �أن يخطفوها؟!» التفتت بر�أ�سها له
وهي تقول ب�صوت خال من احلياة«:ومن قال لك �أنني مل �أفعل؟!»
إليك؟!» التفتت له لتبت�سم
�س�ألها با�ستغراب�«:إذا ماذا حدث؟! �أمل ي�ستمعوا � ِ
بتهكم«:بلى ،ا�ستمعوا للطفلة ال�صغرية التي �أتتهم ،ا�ستمعوا لكل كلمة ُبحت لهم
بها ،ا�ستمعوا وقاموا بواجبهم ف�أعادوين للمنزل جمددًا لي�ستلموا املقابل الذي
جعلهم ال يتفوهون بكلمة ،وكم كان ال�سيد ممدوح كر ًميا مع �أمثالهم ،وكن على
ثقة �سيد �آ�سر �أنه مل يتوان يف جعلي ال �أتفوه بكلمة مع �أحد لفرتة طويلة من الزمن،
�أمتنى �أال يكون لديك �أ�سئلة �أخرى».
ص ع
�شعر باملرارة يف جملتها الأخرية وهو يلمح �إرهاقها الوا�ضح على مالحمها
الكت ري
لي�شكرها بخفوت �أتبعه باعتذار ،رفعت ر�أ�سها با�ستغراب له لرتاه يجيبها بحنان
شر وال
ِ
توزيع
لتُجيبه بهم�س قبل �أن ترحل�«:أنا مل �أن�س لأتذ ّكر �سيد �آ�سر».
MMM
122
ال تقويل �إنك خائفة �أبدا يا �صغريتي� ،أبدا و�إال ف�إن ما تخافينه
�سيتعاظم حتى يهزمك
جوزبه كاتوت�سيال
الف�صل الثامن
ابق �أرجوك
ص ع
ال تدري كيف �أقنعتها ال�سيدة جميلة بالنزول ،حاولت بقوة ال�سيطرة على قلقها
الكت ري
وهي تلمح خلو املنزل من �ساكنيه بالفعل كما �أخربتها ،ولكن ال تعلم َمل هذا ال�شعور
ع
ومل تكمل كالمها لتبت�سم جميلة لها وهي تكمل كالمها«:و�أنا �أحتدث عن حممد!
ر
عليك
والتوزي
يوما ما»
ً
ع
مل جتبها �أمرية و�أ�شاحت بنظراتها عنها فكادت جميلة �أن تتحدث حني رن
جر�س الباب ف�أخربت �أمرية �أن تتناول احللوى حتى ترى من باخلارج ،و�صلت جميلة
للباب وهي تت�ساءل من جاء يف هذا الوقت .ملحت ً
رجل عري�ض املنكبني يرتدي
نظارة �شم�سية تخفي عينيه ،بينما اعتدل يف وقفته وهو يخرج كفيه من جيب بدلته
ليتحدث بهدوء«:عذ ًرا �سيدتي هل هذا منزل الطبيب حممد الأ�سيوطي؟» �أجابته
جميلة بتوتر«:نعم ،من تكون؟!» �أجابها�«:أنا املُق ّدم يامن �سعيد خريي من الأمن
البنك الطبيب �آ�سر ،هل هو باملنزل؟!»
الوطني و�صديق قدمي ِ
�أجابته جميلة بارتياح بعد �أن عرفت �أنه ي�س�أل عن �آ�سر«:ال مل يعد بعد ،هل
هناك ر�سالة ُمعينة ُتريدين �أن �أو�صلها له؟!» �ساد ال�صمت للحظات ثم حتدث
يامن�«:أريد التحدث مع الآن�سة �أمرية حممد الأ�سيوطي»
جت ّمدت جميلة للحظات وهي ُم�سكة بباب املنزلُ ،متذ ّكرة حديث �آ�سر معه عن
هروب باقي �أفراد الع�صابة ،فتح ّدثت �أخ ًريا بقلق«:ملاذا؟! ماذا تريد منها؟! هل
حدث �شيء؟!»
125
�أ�شفق يامن على هيئة التوتر التي �أ�صابت جميلة واخلوف ي�شع من
عينيها«:اهدئي �سيدتي ال يوجد �أي �شيء ،فقط بع�ض املعلومات نريد �أن نعرفها
منها»� ،أجابته بارتباك«:ولكن هي ال تتعامل نهائ ًيا مع �أحد ،هي بالكاد بد�أت يف
وقليل مع �إخوتها».
التعامل معي ً
�س�ألها يامن�«:إذا هل ت�أذنني يل باالت�صال ب�آ�سر و�إخباره باملجيء؟! �صدقيني
�سيدتي الأمر هام»
هزت جميلة ر�أ�سها باملوافقة بعد تردد وهي تنظر خلفها لأمرية التي ت�أكل
احللوى با�ستمتاع طفلة ،وحديثها مع يامن بعيدً ا عن �أ�سماعها.
ص ع
مرت ربع �ساعة ويامن ُمنتظر باخلارج ُم�ستندا على �سيارته يفكر يف كل ما مر
الكت ري
حتى الآن ،انهيار زمرد مل ي�ساعده يف جعلها تذهب للطبيبة التي حجز معها موعدً ا
ع
جاهدً ا �إخفاء توتره ،ملح والدته جتل�س يف ال�شرفة مع �أمرية املُ�ستمعة ب�إن�صات ملا
تقوله والدته ،وفج�أة رفعت عينيها له ليقف مكانه للحظة وهو يلمح ارتباكها قبل �أن
يتنحنح بخفوت ويقرتب ُمبت�سما بهدوء«:م�ساءكم �سعيد ،ت�ش ّرفت �شقتنا الب�سيطة
بوجودك ليلى»
ِ
ارتبكت �أمرية �أمام نظراته ومتتمت بكلمة �شكر وهي تنه�ض مكانها تخربهم
ب�أنها �ست�صعد لغرفتها
قليل؟!» ليوقفها �آ�سر مناد ًيا �إياها«:ليلى هل ميكنني التحدث � ِ
إليك ً
التفتت �أمرية بهدوء لتنظر له بقوة حماولة معرفة ما يريده ،فلمحت ارتباكه
لت�س�أله بجمود«:عن �أي �شيء تريد التح ّدث؟!» �أجابها �آ�سر«:ح�سنا ل�ست �أنا من
مل�ساعدتك»
ِ يريد يف الواقع ،ولكن �أنا يف حاجة
ميكنك
ِ نظرت له بده�شة ورددت كالمه«:م�ساعدتي �أنا؟!» �أجابها«:هل
قليل؟!»
اجللو�س ً
127
جل�ست �أمرية مكانها ليجل�س �أمامها �آ�سر ُمبتعدا ً
قليل حتى ال يخيفها ،و�أخربها
بقدوم يامن وما يريد معرفته عن رحمة ،و�أن م�ساعدتها �ستفيده كث ًريا وتفيد رحمة
يف ق�ضيتها.
�ساد ال�صمت للحظات والتوتر �أ�صاب �آ�سر وهو يلمح جمود مالحمها لتتحدث
بجفاء«:ما الذي يريد معرفته عن رحمة؟!» �أجابه �آ�سر بقلق«:ال �أعلم جيدا ،ولكن
أنت تعلمني �أن التحقيق ما
كل ما �أعرفه �أن تلك املعلومات �ستفيده كث ًريا يف ق�ضيتهاِ � ،
زال �سار ًيا ..ما حدث معكم يف املزرعة ومقتل ذلك الرجل ممدوح»
ارتع�ش ج�سدها للحظة ،وملح �آ�سر ا�شمئزاز مالحمها ف�أجابت بجمود«:ال �أريد»
ع
تجاهل حالتها ،وهو يتحدث بهدوء«:ح�س ًنا، .مل يجبها �آ�سر للحظات ،ثم نه�ض ُم ً
الكت ريص
برف�ضك م�ساعدتها» ،حترك �آ�سر جتاه باب املنزلِ كما تريدين� ،س�أخرب يامن
128
جل�ست �أمرية على �أريكة بجوار املكتب ،ليجل�س �آ�سر ويامن على كر�سيني مقابلني
حالك �آن�سة �أمرية؟!» �أجابته بجمود«:ليلى».
لها ،بادر يامن باحلديث«:كيف ِ
ارتفع حاجب يامن بده�شة من �صوتها القوي� ،أو الذي حتاول �أن تخرجه قو ًيا،
ليجيبها«:عذ ًرا».
قالت«:ا�سمي ليلى» ،نظرة من �آ�سر له جعلته يفهم �أنها ما زالت مل تتق ّبل
واقعها اجلديد ،فتح ّدث بهدوء«:ح�س ًنا �آن�سة ليلى� ،أنا املُق ّدم يامن� ،أريد �أن �أ�س�ألك
�صديقتك رحمة� ..ست�ساعدنا كث ًريا يف ق�ضيتها».ِ ب�ضعة �أ�سئلة عن
نطقت �أمرية من دون وعي«:ق�ضيتها! يجب �أن ُتنح جائزة لقتلها ذلك
ع
احلقري».
والتوزي ر
�شي ًئا غري ًبا يف لغة ج�سده وما وراء كلماته«:ملاذا؟!».
ع
حانت منه ابت�سامة �صغرية وهو يرى حمائيتها ليجيبها«:رحمة تكون زمرد ابنة
عمتي» ،ات�سعت عني �أمرية بده�شة وهي تهتف من دون ت�صديق«:يامن مان!»
خرجت منه �ضحكة �صغرية خافتة ،وهو يتحدث ب�صوت بدا حزي ًنا«:يبدو �أنها
�أخربت اجلميع عن لقبي».
نظرت �أمرية للأر�ض بحرج ،وهي تهز ر�أ�سها بالنفي ،لتقول«:ال مل تخربين به،
لقد �سمعتها تهم�س به كث ًريا وهي نائمة ،خ�صو�صا يف تلك الليلة.»...
قالت �أمرية �آخر كلمة بخفوت ف�شعر يامن ب�أن هذا طرف اخليط ،ليلمع الأمل
دوما كانت تناديه ،لي�س�ألها�«:آن�سة ليلىِ � ..
أنت تعلمني َمل يتم بعينيه وهو يعي �أنها ً
التحقيق يف الق�ضية التي تخ�ص املزرعة ،وق�ضية قتله نحن نحاول �أن جنمع جميع
مل�ساعدتك� ،إن
ِ الأدلة التي ُتدينه وننهي بها حتقيقنا ون�صل ملن هرب� ،أنا يف حاجة
لديك �أي معلومات تخ�صها �أو تخ�ص ذلك الـ ...تخ�ص ال�ضحية ف�أمتنى �أن كان ِ
تخربيني بها».
129
�صمتت �أمرية ً
قليل وهي تتابع حماوالته لكبح غ�ضبه ،و�أدركت من مالمح وجهه
�أن هذا الرجل يعاين ،لت�س�أله من دون مقدمات«:هل حتبها؟!»
رفعت يامن ر�أ�سه لها بقوة ،بينما ات�سعت عني �آ�سر بده�شة من �س�ؤالها،
ارتبك يامن وهو ينقل نظراته بينها وبني �آ�سر ليقول بارتباك«:ما »...لتقاطعه
�أمرية«:لديك نف�س اللمعة التي متتلكها ال�سيدة جميلة وهي تتحدث عن زوجها،
لذا �أ�س�ألك لأعرف� ،أتريد �أن تعرف احلقيقة؟! والأهم هل �ستتقبل ما ت�سمعه؟!
ك�شخ�ص يحبها �أم ك�شخ�ص قريب لها يرغب فقط بحل الق�ضية».
جتمدت مالمح يامن وهو يلمح �أ�سئلتها التي تخربه بها بهدوء ،ف�شعر بغ�صة ت�ؤمل
ع
أخربتك �أنها مهمة بالن�سبة يل ،و�أنني
ِ قلبه ،فابتلع ريقه ب�صعوبة وهو يقول�«:إن �
الكت ريص
�أريد �أن �أعرف احلقيقة ومهما كانت �س�أتق ّبلها ،فهل �ستقولني يل كل ما تعرفينه؟!»
توزيع
جليدي �أثار الق�شعريرة يف ج�سد يامن و�آ�سر«:ل�سنتني �أقام الأب عالقة مع ابنته،
بعد �أن ف�شل من قبل مع ابنته الأخرى».
تخ ّلل ال�صمت الغرفة ،ال ي�سمع �سوى �أ�صوات �أنفا�سهم ،لتكمل �أمرية بعينني
م�شمئزتني«:بعد ف�شله مع ابنته الأخرى ،والأخرى ،والأخرى ،لتقع االبنة ال�ساذجة
يف فخه ،فتُ�س ّلم نف�سها له كل ليلة وتذهب �إليه كلما �أرادها ،لتعود يف فجر اليوم
التايل قبل �أن ي�ستيقظ َمنْ يف البيت».
�شدد يامن على قب�ضته بقوة وهو ي�سمع ما حدث وكلماتها القا�سية جتلده مرة
وراء الأخرى ،من دون توقف ،بينما عقد �آ�سر حاجبيه ب�صدمة ،وهو يلمح ق�سوة
كلمات �أمرية وملحات اال�شمئزاز على وجهها ،ثم جتمدت نظراته وهو يلمحها تنظر
مل رفعت ال�سكني يف وجهه؟!»
له بقوة«:هل علمت الآن َ
ارت�سم الأمل على وجه �آ�سر بينما مل ي�سمع يامن جملتها الأخرية ،وهو يفكر يف
ما �سمعه ،هو عرف الكثري من املعلومات من ُغفران ،ولكن مل يعرف �أن الأمر حدث
هكذا ،وملدة طويلة �سنتني ،تلك ال�سنتني.
130
لي�س»... ابتلع يامن ريقه وهو يك�سر ال�صمت الذي �سادِ �«:
أنت تعلمني �أنه
قاطعته ب�سخرية«:ماذا؟! لي�س والدنا! ح�س ًنا �أنا مل �أعرف ذلك �إال بعد �أن مات،
رمبا راودتني ال�شكوك قبل موته ب�أ�شهر».
ثم رفعت �أمرية عينيها لآ�سر لتتحدث بنف�س جمودها«:ل�سنتني و�أنا �أعي�ش يف
عامل قذر ،بني �أب خمتل وابنة ع�شيقة له ،و�سنوات و�أنا �أرى �أ ًبا يتلذذ ب�أن يرى نظرة
دوما ،وهو يحاول التعدي عليهن ،وقد حاول معي الرعب يف عني فتياته ،كما ُيلقبهم ً
و�أنا ابنة الثالثة ع�شرة ،فتخ ّيل بنف�سك كيف كانت طفولتي وكيف �أ�صبحت فرتة
ن�ضجي».
ريص ع
�أدارت ر�أ�سها ليامن ونه�ضت من مكانها وهي تقرتب منه بجمود لتقف �أمامه،
والتوزي ر
ع
كانت مراهقة ..بعد تفكري �أدركت �أنها حت ًما كانت تعلم ب�أنه لي�س والدها ..و�إال مل
تكن لت�سمح ب�أن يلم�سها ..ولكن هذا ال يربر خط�أها وينايف كل ما تعلمناه منذ �صغرنا
يف ذلك املكان ،بعد فرتة �أدركت �أن رحمة عا�شت �سنتني كاملتني يف جحيم ،وهي
تعي �أنه يلهو بها وبج�سدها ويبدو �أنها عانت خاللهما من حماوالت اغت�صابه لها
لأكرث من مرة ،من مر�ضها املُ�ستمر والكدمات التي كانت تخفيها كل فرتة و�أخرى،
تر�أّف بحالها وكن بجوارها حتى لو رف�ضت ،حتى لو �أثبتت لك ولكل من حولها
يوما تهم�س يف كوابي�سها با�سمك ،وهي �أنها ت�ستحق ما هي فيه ،لقد ظلت لت�سعني ً
تناجيك لت�أتي ،فال ترتكها بعد �أن �أتيت و�إال �ستموت ،ووقتها �س�أقتلك �أنا بيدي� ،أظن
�أن هذا كل ما تريد معرفته ويخ�ص الق�ضية ،هذا الرجل كان جمرد حثالة ،وكان
ي�ستحق �أال ميوت موتة رحيمة بطلقة ر�صا�ص ،كان ي�ستحق �أن يتع ّذب كل حلظة يف
حياته حتى ميوت ُمتعفنا غارقا يف دمائه القذرة».
لهثت �أمرية بقوة ،وك�أنها كانت حتارب �أحدهم ،وخرجت من غرفة املكتب وهي
ت�شعر بانهيارها.
131
جل�س يامن وهو ي�شعر بالأر�ض متيد به ،بينما ما زال �آ�سر على �صدمته ،رفع
عينيه ل�صديقه وهو ال يعلم كيف يوا�سيه ،ال يعلم ما الذي يجب قوله بعد ما �سمعه،
ويفكر يف �أن الطريق لأخته طويل جدً ا.
بعد �أن و ّدع �آ�سر يامن ب�صمت ،وقد �شكره يامن ب�صوت مكتوم ،دخل املنزل
ليعرف من والدته �أن �أمرية �صعدت لل�شقة ،ف�صعد خلفها.
كانت ت�شعر ب�أن كل ما �أرادت �أن تن�ساه خالل الفرتة ال�سابقة قد هجم على
ذاكرتها كالوح�ش ال�ضاري ،تن ّف�ست ب�صعوبة وهي تغم�ض عينيها بقوة ،حتاول
جاهدة منع ا�سرت�سال كل تلك امل�شاهد التي طاملا غزت �أحالمها لتحولها لكوابي�س،
ع
�شعرت بالغثيان ف�أ�سرعت للحمام بغرفتها لتخرج كل ما بجوفها.
الكت ريص
تن ّف�ست بتعب بعد انتهائها ،لتجل�س على �أر�ضية احلمام الباردة حتاول تنظيم
توزيع
و�أجه�شت بالبكاء �أخ ًريا ،تبكي روحها ،طفولتها ،حياتها ،تبكي مرارة �أبوة زائفة.
�أغم�ضت عينيها وذكرى �أول ليلة بد�أت تعي فيها ما يحدث حولها وهي جمرد
طفلة تعود لعقلها ،تنه�ش من روحها ب�أمل وهي تتذكر دخوله غرفتها ،مل�ساته
جل�سدها ،ا�ستيقاظها الفزع وهي ت�شعر به قربها ،نفور روحها و�صراخها الذي كتمه
ب�سرعة قبل �أن ي�سمعه �أحد� ،أنفا�سه القذرة التي هم�ست لها يف �أذنها �أن تهد�أ،
ورف�ض ج�سدها االن�صياع لأوامره.
نه�ضت من مكانها جمددًا لتتجه للحو�ض وغثيانها ال يتوقف ودموعها ال تن�ضب،
ارتع�ش ج�سدها بقوة بعد �أن انتهت من ا�ستفراغ كل ما مبعدتها ،وحلظات ووجدت
�أحدهم يحاوط ج�سدها مبن�شفة ،فا�ستدارت ُمرتعبة و�صورة ممدوح تغ�شي عينيها،
ف�صرخت بال وعي«:ال �أرجوك ال تلم�سني ..ابتعد».
«اهدئي �صغريتي� ..أنا �آ�سر� ..آ�سر» ،جملة و�صلت لأ�سماعها و�سط �صراخها،
لتنزاح الغ�شاوة التي �أعمت عينيها ،لتظهر �صورة �آ�سر وا�ضحة وهو يقف �أمامها
ُم�س ًكا بيديه املن�شفة ومالمح وجهه ت�شاركها �أملها ،ف�أخف�ضت ر�أ�سها وهي جته�ش
بالبكاء جمددًا ،وتلعن �ضعفها الذي ظهر �أمامه.
132
اقرتب �آ�سر من �أمرية بهدوء ،وقب�ضة �أمل تع�صر قلبه ملر�آها ه�شة و�ضعيفة
هكذا ،وهو يلمح بكاءها بانهيار لأول مرة ،حتى و�صل �إىل ج�سدها املُرجتف
و�أحاطها مبن�شفة طويلة و�ضمها بهدوء له ،لي�شعر بت�ش ّنج ج�سدها يف ح�ضنه ،ليعاود
الربت على ظهرها بهدوء و ُيه ّدئ ج�سدها من االرتعا�ش قليال.
مل ت�ستطع �أن توقف دموعها ،قدرتها على التحمل بد�أت ت�ضعف �أمام كل احلب
الذي جتده لأول مرة يف هذا البيت ،هي طفلة يف النهاية مل ت�ستطع �أن ت ّدعي القوة
ً
طويل ،فقط لدقائق تنعم من هذا احلب.
�أخذت تقنع نف�سها بتلك الكلمات وهي يف ح�ضن �آ�سر احلنون ،حتى مرت دقائق
ص ع
طويلة هد�أت فيها وابتعدت بهدوء عنه ،وهي ال تقوى على النظر لعينيه ،فهم�ست
ع والتوزي
حاجة لأن تكون مبفردها لت�ستعيد قوتها ً
قليل ،وبعدها �سي�س�ألها بهدوء عن كل ما
يريد معرفته.
خرجت من احلمام بعد �أن �سمعت �صوت باب غرفتها يغلق ،لتدرك �أن �آ�سر
احرتم رغبتها وتركها ،فتوجهت ل�سريرها لع ّل النوم يريحها من كل هذه امل�شاعر
املُ�ضطربة التي ت�شعر بها.
M
منزل زمرد
دلف بهدوء للحديقة الداخلية للمنزل ،بعد �أن �شعر ب�أنه غري ُم�ستعد للعودة
لغرفته الآن ،ولأحزانه التي ال تنتهي ،رفع ر�أ�سه وهو يتنهد بخفوت ،وفتح عينيه
ليتجمد مكانه على ما وقعت عيناه عليه ،يا �إلهي كم م ّر على �آخر لقاء بينهما بعد
عودتها للمنزل؟! بعد �شجارهما حني �أخربها ب�ضرورة الذهاب لطبيب نف�سي! متى
حتدث معها و�أ�شبع روحه بر�ؤيتها �أمام عينيه!؟ هي هنا �أمامه يف بيته.
133
ت�أوه بخفوت ليجذب انتباه تلك التي كانت جتل�س على الأرجوحة وبيديها كتاب،
فعادت بذاكرتها لطفولتها الربيئة مع ال�شخ�ص الوحيد الذي كانت تتبعه بقلبها ،وها
هو يقف �أمامها ُمنهك اجل�سد ،يبدو عليه التعب ال�شديد ،ونظرة �أخرى مل تفهمها،
طال ال�صمت بينهما ،و�صمت الليل يرتك �أثره على نف�سهما ،بينما تتحادث العيون
يف�سراه.
يف حوار طال انتظاره ،بني عتاب وندم واعتذار ،و�أخ ًريا �شعور �آخر مل ّ
قطعت زمرد ال�صمت بحديثها بهدوء«:مل تتغري الأرجوحة ،ك�أين تركتها
بالأم�س فقط».
ارتبكت بعد حديثها وهي تلمح نظرة �أمل يف عينيه� ،أخفاها �سري ًعا وهو يجيبها
ع
بجمود«:يبدو �أنها الوحيدة التي مل تتغري مع الزمن» �شعرت بطعنة تخرتق قلبها،
الكت ريص
ومل تدر �أن �أثرها عاد لقلبه ب�آالمه وهو يلمح الأمل يف عينيها� ،أخف�ضت �أنظارها
توزيع
بليلى احلبيبة ،ك�أنها حتتمي به ،وحتركت لتخرج من احلديقة ،وهم�ست له بعد �أن
مرت بجانبهُ «:مبارك عقد قرانك»
ت�ش ّنج ج�سده ب�أكمله ،و�شحب وجهه بعد هم�ستها ،وهو يردد داخله جملتها«:عقد
قرانك!» التفت ُم ً
�سرعا وهو ما زال على �صدمته ،ولكن مل يجد �شي ًئا ،فقط فراغ،
ال �أحد غريه ي�سكن فيه.
�أغم�ض عينيه وهو يت�أوه داخله بخفوت ،وهو يدرك جيدً ا �أن �سايل قد قامت
بزيارتها امل�ؤجلة لوالدته ،ومل جتد �سوى اليوم من �ضمن كل الأيام كلها.
جل�ست على �سريرها وم�صباح �صغري بجوارها ي�ضيء ُظلمة الغرفة ،بينما تنظر
ل�سقفها ب�شرود ،حلظة وراء الأخرى فت�ساقطت �أول دمعة وهي تتذ ّكر اجتماع العائلة
اليوم ووالدة يامن تخربها«:زمرد ..هذه �سايل» ،لتت�ساقط الدمعة الثانية�«:سايل
خطيبة يامن» ،لتت�ساقط الدمعة الثالثة«:هي �صحفية نابغة يف جريدة احلرية»،
لتت�ساقط الدمعة الرابعة«:لقد مت عقد قرانهما منذ � 6أ�شهر» ،رفعت يديها
ُم�سرعة لتكتم �شهقة بكاء مل ت�ستطع كتمها ،وهي ت�ستغرب ذلك الأمل الذي ت�شعر به
134
لأول مرة� ،أمل خمتلف� ،أمل قادر على �سلب روحها ب�سهولة وهي تفكر«:يامن تزوج
يا زمرد ،تزوج من امر�أة رائعة ،تزوج من امر�أة �شريفة لي�ست ملوثة مثلك ،لي�ست
يراك �سوى عاهرة ُمل ّوثة».
لك؟! فهو مل ولن ِ فهمت الآن كرهه ونبذه ِبقذارتك ،هل ِ
ِ
انخرطت يف بكاء مرير مل تعد ت�سيطر عليه ،وهي ترفع يديها وت�ضعها على قلبها
تدلك مكانه ،وتهم�س ب�أمل«:يا �إلهي قلبي ي�ؤملني ب�شدة».
M
ع
منزل يف �أحد الأحياء الب�سيطة
والتوزي ر
املكان؟! هذا املكان خميف» ،ربت على كفها بحنان وهو ي�ضم الغطاء جل�سدها
ع
أوقظك معك فال تخايف ،حاويل �أن تنامي ً
قليل و�س� ِ مطمئ ًنا �إياها«:ال تقلقي� ،أنا هنا ِ
أنت جائعة». حني ينتهوا من �إعداد الطعام ،فحتما � ِ
هزت ر�أ�سها بارتباك وهي تقول�«:أين �أمي؟!» �سمعته يتنف�س بغ�ضب ليقول
ب�صوت حاول �أن يبدو هادئا«:هي تق�ضي �أم ًرا ما و�ستعود ..لن تت�أخر ال تقلقي»
هزت ر�أ�سها وهي ت�ضم الغطاء جل�سدها ،تنظر له بقلق لرتاه ينظر لها باطمئنان،
وحلظات وبد�أت عيناها باالنغالق وقد ا�ستجاب ج�سدها للنوم �أخريا بعد �أن
�شعرت بالدفء ،لت�س�أله ب�صوت ناع�س«:ما ا�سمك؟!» ليجيبها وهو يربت على
�شعرها«:عمران».
ابت�سمت له وهي تقول«:و�أنا ُغفران» ،لتنام على الفور ويداه ال تتوقف عن
الربت على �شعرها وهو يقول بهم�س�«:سعدت بر�ؤيتك ُغفران� ،أعدك ب�أن �أحميك
من �شرورهم».
فتح عينيه فج�أة وظالم الغرفة ير�سم مع خياالته تلك الذكرى التي تع ّلقت بقلبه
وعقله ،نه�ض من على �سريره وهو يتنف�س بتعب ،حتى الآن ال ي�صدق كل ما حدث،
135
ال ي�صدق �أن الأمر كاد �أن ينتهي ،ال يعلم كيف �سيخرب والدته القابعة يف الغرفة
متخف هنا ،كما �أمره اللواء ح�سني ،وهو يثق به ،ولكناملجاورة له؟! منذ �أ�سبوع وهو ٍ
ي�شعر بالقلق عليها ،ال يعلم كيف هي الآن وكيف هي �أيامها وهي وحيدة يف �سكنها،
ثالثة �شوارع هي كل ما يف�صله عنها وال يجازف مبحاولته ر�ؤيتها.
ُ « :غفران» هم�سة خرجت من فمه ف�آملت قلبه وهو يتذ ّكر كيف كانت حياته
معها ،لقد ق�ضوا فرتة يف كهف مهجور يف ال�صحراء بعد و�صوله لأخيه ،ومعرفته
للمخطط الذي �سيقوم به مع باقي ع�صابته ،بعد �أن عادوا من ليبيا ،خمطط �أمره
به رئي�سه املجهول ،تذكر كيف كانت حياتهما مرتابطة م ًعا منذ �أول مرة وقعت
عيناه عليها� ،صغرية �شاحبة وخائفة حتى ذلك اليوم ،يعلم �أنه خ�سرها فيه ،لكنه
ريص ع
الكت
مل ي�ستطع �أن مينع نف�سه ،علم �أنه �سيجازف مبكانته لديها ولكن كل �شيء فداء
ل ب
لروحها وحياتها ،ذلك اليوم الذي قررت فيه الذهاب لل�شرطة وهي طفلة مل يتع َّد
ن ل
شر وال
عمرها الثالثة �أو الرابعة ع�شرة ،كما يتذ ّكر ،بعد �أن �أخربته مبا ر�أته يف القبو ،ذلك
توزيع
اليوم الذي جاءت فيه مذعورة ،وقد �شهدت بعينيها انتزاع روح من ج�سد تاله انتزاع
�أع�ضائه.
لطاملا كانت ذكية ،وقد ا�ستطاعت �أن تربط بني كل ما دار يف املنزل رغم �سنها
ال�صغرية ،ا�ستطاعت �أن جتد مربرات لكل تلك االختفاءات التي حدثت ،لكل ذلك
ال�صراخ املكتوم الذي كان يوقظها من نومها فزعة ،يعلم �أنه ك ّذب عليها ويعلم
�أنه خان ثقتها ،ذلك اليوم الذي ت�شاجرت فيه معها وهو يحاول منعها من الذهاب
لل�شرطة حتى ال ي�ؤذيها ممدوح ليتذ ّكر ذهابه بعد هروبها و�إخبار ممدوح بفعلتها،
�أدرك �أن �سيكون هناك �أذية لها ،ولكن �أذية �أخف من قتل ممدوح لها.
�أغم�ض عينيه وهو يتذ ّكر ما فعلوه بها ،وهو يتذ ّكر �إخ�ضاعها الذي ا�ستمر لثالثة
�أيام بني جلد وحب�س وتعذيب ،ولكن ُغفران القوية ما زالت �صامدة فالتج�أ ممدوح
للأ�سلوب الذي جعله يقتل الروح يف ج�سد بناته.
النزال ،قتال بني اثنني يجب �أن ينتهي مبوت �أحدهما ،ليكن الطرف الأول ُغفران
والطرف الثاين �أعز �أ�صدقائها«:فريوز» التي كانت معها منذ ال�صغر.
136
نه�ض من مكانه وهو ي�شعر بالغرفة ت�ضيق به ،وكل الأفكار ال�سوداء تغتاله بال
رحمة ،هو ُمدرك �أن ما و�صلت �إليه ُغفران من تب ّلد مب�شاعرها هو وحده ال�سبب فيه،
لو كان منعها بقوة من الذهاب لل�شرطة ،لو كان �ضربها وحب�سها قبل �أن تهرب منه
وي�ضطر لإخبار ممدوح مبا حدث ما تع ّر�ضت لكل تلك الآالم.
خرج من غرفته ليتجه لغرفة والدته احلبيبة ،فوجدها نائمة يف �سريرها ،جل�س
بجوار ال�سرير على الكر�سي ،وهو ينظر �إليها بحب بينما ي�صدح �صوت«:املن�شاوي»
بالقر�آن الكرمي يف الغرفة بخفوت� ،صوت ن�شر الهدوء يف �أنحاء ج�سده وعيناه ال تزال
على والدته ،عائدً ا بذكرياته مع تلك التي احت ّلت قلبه من دون �أي مقدمات ،تلك
التي احت ّلت قلب والدته هي الأخرى ،تذ ّكر املرة الأوىل التي ُ�صدم فيها مبعرفتها
ر ش
والتوزي
خرجت من املطبخ فتاة يف �أوائل الع�شرينات ،ذات هيئة �ضعيفة ،تربط �شعرها
ع
بغطاء وردي ذي عقدة خلف ر�أ�سها ،وهي مت�سح يديها يف املن�شفة ،وجتيبه بقلق وهي
ترى مالمح الذعر على وجهه«:ماذا حدث؟!»
�أجابها بخوف�«:أمي �إنها ال جتيب ،هاتفي الطبيبة التي �أخربتني عنها» ،هرعت
�سعاد للهاتف الأر�ضي و�ضربت بع�ض الأرقام وهي تنتظر الإجابة من الطرف الآخر.
مرت �سبع دقائق حتى �سمع رنني الباب ،فهرع ليفتح ليتجمد مكانه وهو ينظر
بعدم ت�صديق ل�صاحبة الطرقات ،مرت حلظة ف�أخرى قبل �أن يخرج من �صدمته
على �صوت �سعاد وهي تهتف خلفه�«:سيد عمران هل �أتت الطبيبة ُغفران؟!»
جتاوزته ُغفران وهي تزيحه عن طريقها ب�سرعة لتدلف لغرفة والدته ،بينما ظل
مكانه ينظر لأثرها يف ذهول وهو ال ي�صدق وجودها هنا ،رم�ش بعينيه �أكرث من مرة
وهو يحاول ا�ستعادة تركيزه ليطمئن على والدته � ًأول ،وبعدها ي�ستف�سر عن كل �شيء،
الأمر الذي يطمئنه ً
قليل �أنه حت ًما والدته ال تعلم عمن تكون ُغفران ،و�إال قد علمت
احلقيقة منذ فرتة طويلة.
137
دلف للغرفة فلمحها وهي تعالج والدته مبهنية ،بينما مالمح وجهها اجلامدة ال
تعرب عن �شيء ،هو على يقني ب�صدمتها وقت �أن ر�أته ،ولكنها كانت الأ�سرع يف ّ
تخطي
ال�صدمة ،طاملا كانت الأ�سرع.
�أخرجه من �أفكاره �صوتها وهي تقول بهدوء ل�سعاد�«:إنها نوبة �سكر ،يبدو �أنها
أهملت هذا الأمر �سعاد؟!» �أجابتها �سعاد بحزن�«:أنا
مل ت�أخذ عالجها اليوم ،كيف � ِ
لك ُغفران».�س�ألتها عند عودتي من ال�سوق و�أخربتني �أنها �أخذته� ،أق�سم ِ
تنهدت ُغفران بخفوت ،وهي تلمح بعينيها ذلك الذي يقف على الباب �صامتًا،
فتحدثت بهدوء بينما تتجنب النظر �إليه«:لقد �أعطيتها حقنة الآن ،ودقائق وتفيق،
ع
هي بخري ال تقلق».
الكت ريص
ب
هز ر�أ�سه من دون �أن يقول �شيئا ،وبالفعل بعد دقائق ملح والدته وهي تفيق،
توزيع
تتابعه بعينيها بتدقيق ،لت�سمعه يجيب والدته بعد �أن �س�ألت عما حدث«:ملاذا � ِ
أهملت
حفاظك على العالج ،لقد
ِ دخلت يف غيبوبة �سكر ب�سبب عدم
عالجك �أمي!؟ لقد ِ
ِ يف
ووجدتك فاقدة الوعي ،فطلبت من �سعاد االت�صال
ِ ارتعبت عندما عدت من ال�سفر
بطبيبتك».
ِ
ابت�سمت له بحب وهي تقول«:عمران حبيب والدتك� ،أنا بخري حبيبي ،لقد
دوما لها«:و�أنا
ا�شتقت �إليك» ،ق ّبل كفها بحنان وهو يجيبها بابت�سامة يخ�صها ً
لك يا غالية». � ً
أي�ضا ا�شتقت ِ
وغفران التي تتابعهما بجمود بينما عقلها ُيرتب كل �أدارت وجهها يف الغرفةُ ،
معلومة جمعتها من هذا احلديث الب�سيط ،ومن وجود عمران يف هذا البيت ،عمران
الذي يعمل لدى ممدوح هو ابن �أغلى �سيدة لقلبها ،قاطعت �أفكارها الأخرية ب�صوتها
احلرج وهي تقول بارتباك�«:أنا� ..أنا بخري ُغفران» ،ف�أجابتها بجمودهاَ «:مل
أنك تناول ِته؟!» نظرت للأ�سفل من دون قول �شيء، أخربت �سعاد � ِ
أهملت العالج و� ِ
� ِ
وهي ت�شعر باحلرج لكذبها على �سعاد�«:أنا� ..إن مذاقه م ٌّر ُغفران».
138
نظرت لها ُغفران للحظات قبل �أن توجه حديثها ل�سعاد بغ�ضب�«:إن �أهملت
عالجها جمددًا ال تت�صلي بي» ،مل يعجب عمران لهجتها يف الرد على والدته
لينه�ض بغ�ضب �ساه ًيا عن ابت�سامة والدته لها ليقول«:نحن ل�سنا يف حاجة � ِ
إليك
با�ستطاعتي االت�صال ب�أف�ضل الأطباء لها» نظرت له �أخ ًريا بجمود قبل �أن جتيبه
اق�ض بع�ض الوقت معها �أوال قبل �أن ت�أتي ب�أف�ضل الأطباء ليداويها».
بربودِ «:
كاد عمران �أن يجيبها بغ�ضب حتى مل�ست والدته كفه ،وهي تقول بابت�سامة«:اهد�أ
عمرانُ ،غفران قلقة فقط على �صحتي لذا قالت ما قالته»� ،أجابتها ُغفران
بربود�«:أنا ال �أقلق على �أحد».
ع
دوما لها �أثر عليها لتُجيبها وهي متد
�ضحكت والدته �ضحكتها احلنونة التي ً
ر ش
والتوزي
لتزداد ده�شته وهو يرى ُغفران جتل�س على الكر�سي بجانب �سرير والدته ،راف�ضة
ع
�أن متد يديها لكف والدته ،ف�ضحكت والدته بتعب وهي تقول�«:ساحميني ابنتي
واعذري كرب �سني وتخريف العجوز» ،نظرت لها ُغفران ب�ضيق وهي تقولِ �«:
أنت
أ�ساحمك ب�سهولة».
ِ لن ت�ستدرجيني هكذا� ،أنا لن �
مدت والدته يدها لها وتلم�ست طريقها حتى مل�ست كفها و�ضغطت عليه بحنو،
لك»� ،ساد ال�صمت للحظات قبل �أن ترفع وهي تقول«:لن �أفعلها جمددًا �أق�سم ِ
ُغفران �أنظارها لها لتقول بهدوء وهي تتجاهل كفها الذي حتيطه العجوز«:ال تهملي
أرجوك ،كان يجب �أن تخربيني ب�أنك ال ت�ستطيعني تناول الدواء ملذاقه، �صحتك � ِ
ِ
لك هذا الأمر ال �أن تهمليه» ،ابت�سمت لها بحنان وهي جتيبها«:ح�سنا كنت عاجلت ِ
لن �أكررها جمددًا» ،هزت ُغفران ر�أ�سها من دون قول �شيء ،ثم نه�ضت من على
أعرفك على عمران،
قليل ل ِ الكر�سي لتقول لها العجوز وهي ت�سمع خطواتهاِ «:
ابق ً
ولكنك مل تقابليه من قبل ،عمران هذه الطبيبة ُغفران ،مالك ِ ثك عنه
دوما �أح ّد ِ
ً
الرحمة يل» ،نظرا كالهما لبع�ض للحظات قبل �أن ت�شيح ُغفران �أنظارها عنه وهي
حتمل حقيبتها لتقول بهدوء«:يف وقت الحق� ،أما الآن فيجب �أن �أذهب ،لدي العديد
�صحتك» ،من دون انتظار
ِ �صباحا لأطمئن على
ً من الأمور غري املُنتهية� ،س� ِ
أزورك
139
ردها على حديثها خرجت على الفور ،ليتحدث عمران بهدوء ل�سعاد�«:سعاد ِ
ابق مع
قليل حتى �أو�صل الطبيبة فالوقت مت�أخر».
�أمي ً
خرج بهدوء من الغرفة لي�سرع باجتاه الباب ،ولينظر للدرج فلمحها تنزل
بهدوء� ،أ�سرع ينزل خلفها الدرج حتى قب�ض على ذراعها ،فالتفتت له ُم�سرعة وهي
تدفعه بقوة للجدار من خلفه وتنظر له بغ�ضب وهي تهم�س«:ال تلم�سني»� ،أجابها
بهدوء«:يجب �أن نتحدث» ،ثم و�صل لأ�سماعهما �صوت �أحدهم ي�صعد الدرج،
ف�أم�سك بذراعها جمددًا وهو يجذبها خلفه قا�صدً ا �سطح املنزل.
ت�أكد من خلو ال�سطح من �سكان العمارة ،ليلتفت �إليها وهو ينظر لها بقوة ليلمح
ص ع
و�صلت لهنا؟!» �أجابته بربود�«:أنا
قائل«:كيف ِ
ري
نظراتها اجلامدة له ،ليتنف�س بقوة ً
الكت
�أ�سكن على بعد ثالثة �شوارع من منزل والدتك»� ،ساد ال�صمت للحظات قبل �أن
توزيع
ب�سخرية قبل �أن يكمل �س�ؤاله«:هي ال تعرف �سوى القليل»� ،س�ألها بحذر وهو يقرتب
بقدومك لعالجها؟!»
ِ منها«:ما الذي تق�صدينه بالقليل؟! وهل يعلم �أحد غري �سعاد
�صمتت للحظات وهي تعيد ترتيب �أفكارها ،و�أ�سئلته تفتح العديد من املتاهات
بعقلها ،فاقرتبت منه بهدوء وهي ت�س�أله«:ال �أحد يعلم عنها �أي �شيء �ألي�س كذلك؟!،
ال �أحد يعلم عن حياتك ال�شخ�صية �شي ًئا ،ومن انفعالك الوا�ضح وغ�ضبك غري املُربر
�أنت ال تريد لأحد �أن يعرف عنك �أو بالأخ�ص عنها �شي ًئا».
نظر لها بجمود للحظات ،قبل �أن يجيبها وهو يقب�ض على ذراعها بقوة«:نعم،
أنت لن تتفوهي ب�شيء ُغفران� ،أنا ال �أعلم بعد ما الذي تخططني له ،ولكن �أق�سم
و� ِ
أقتلك على الفور».
لك �إن �أ�صاب والدتي �شيء �س� ِ
ِ
�أبعدت ذراعها بقوة عن قب�ضته وهي ترفع �إ�صبعها لتدفعه يف �صدره�«:أنا ال
�أتهدد عمران ،واليوم فقط عرفت �أنها والدتك ،و�أدركت َمل ال ي�شفيها الدواء ،فاملال
احلرام ال ي�شفي الأمرا�ض ،رغم جهلي ب�إخفائك �أمرها عن اجلميع �إال �أنني لن
�أ�ستفيد �شي ًئا و�أنا �أجته لهم لأخربهم �أنني قابلت والدتك».
140
�ساد ال�صمت للحظات وملحة �أ ٍمل مرت بعينيه لتلتقطها ب�سهولة وهي ترتاجع
خطوة عنه لت�سمعه يقول�«:إن علم ممدوح بوجودها �سيقتلها»� ،شحب وجهها وهي
تبتعد عنه خطوتني ،لي�سود ال�صمت للحظات قبل �أن ت�س�أله«:ملاذا؟!» ،نظر لها
قك ُغفران و�أعلم من والدتي طويل قبل �أن يقول«:ال �أ�ستطيع � ِ
إخبارك� ،أنا �أ�ص ّد ِ ً
أخربت ممدوح ما كانت والدتي حية حتى كنت � ِ �أن هناك طبيبة تتابعها لأ�شهر ،فلو ِ
أنت ُمراقبة من رجال ممدوح ،و�إنلك بهدوء ال ت� ِأت جمددًا لأميِ � ،
الآن ،لذا �س�أقول ِ
أنت لن ترى �أمي
جميئك هنا �سي�صل ممدوح لأمي ،لذا � ِِ ا�ستعلم �أحدهم عن �سبب
جمددًا».
خرج من �أفكاره على ربتة على كفيه ،لينظر لكف والدته التي حتيط بكفه،
ريص ع
لينظر لها بحب بعد �أن قالت«:ما الذي يحزنك يا بني؟!»� ،أجابها بابت�سامة وهو
ع والتوزي
والداك» ،رم�ش عمران بعينيه حتى يبعد الدموع عنها ،ليقرتب منها وهو يق ّبل
أعو�ضك عن هذا ب�أجمل �إفطار
ِ جبينها قائال مبزاح«:يا يل من ُم ّ
ق�ص ًرا �إذا� ،س�
ملالكة القلب»� ،ضحكت والدته �ضحكتها املُحببة له وهي ت�ستقبل ُقبلته ،وبعد
حلظات من خروجه حانت منها ابت�سامة حزينة وهي تقول«:لقد لهف قلبي عليك
يا ابن بطني ،ولهف قلبي على ابنة قلبي ،يا اهلل كن معهما يا اهلل».
M
141
�إن الكثريين ال يريدون منا ً
حل مل�شكالتهم بقدر ما يريدون
القلب الذي يتوجع ويت�أ�سى ،وكما قيل وال بد من �شكوى �إىل ذي
مروءة يوا�سيك �أو ي�سليك �أو يتوجع
�سلمان العودة
الف�صل التا�سع
عودة من املوت
منزل يامن
ع
جل�ست �سايل بهدوء على كر�سي باملطبخ ،وهي ترى حماتها تعد الطعام ،لتقول
ت ك
ِ
ر ش
والتوزي
أنت الأدري بيامن ،تعلمني �أنه دائم ال�صمت ،خا�صة �إن كان �أم ًرا يخ�ص
ولكن � ِ
ع
عمله».
تنهدت �سايل وهي تقول«:فقط لو ي�سمح يل باحلديث معها؟!» ،رفعت �شادية
مينعك يامن ،ال �ضرورة من
ِ عينيها ل�سايل وهي تقول بقلق«:ال يا ابنتي ،حتى لو مل
احلديث معها� ،إن حالتها النف�سية ال ت�سمح لأحد باحلديث ،لقد انهارت من فرتة
وجعلتنا جميعا نتوخى احلذر يف التعامل معها» ،قالت �سايل بتذمر«:هذا لي�س
عدل ،كيف �إذا �س�أكمل ال�سبق ال�صحفي اخلا�ص بي و�أنا زوجة ُمق ّدم قريبته كانتً
فردًا من تلك الع�صابة؟».
انتف�ضت من على كر�سيها على �صوت حماها وهو يقول ب�صوت جامد«:قريبته
تلك تكون ابنة عمه�ُ ،سمعتها من ُ�سمعته ،و�أي رجل لديه كرامة لن ي�سمح لأحد
باخلو�ض يف �شرف عائلته مهما كان َمن ،هذا لي�س له عالقة بالعمل بل بالأخالق
�سبقك ال�صحفي لن جتدي م�ساعدة هنا يف تقدميه� ،أم يامن لقدِ واملبادئ ،لذا
ت�أخر الوقت عن الغداء» �أجابته �شادية بارتباك«:نعم لقد جهز الطعام� ..سنعد
الطاولة الآن �أبا يامن».
145
التفت ليخرج ف�أوقفته �سايل وهي تقول بقلق خو ًفا من معرفة يامن
بكالمها«:عمي �أنا مل �أق�صد ما قلته كما و�صل لك� ،أنا فقط �أريد ن�شر احلقيقة ً
بدل
مما يتحدث به النا�س� ،أنا ال �أعي �أن ما يقولونه حقيقي ،فاهلل وحده يعلم ما حدث
معها يف ذلك املنزل ،ولكن ِل َك ِتم �أقاويل النا�س يجب �أن نرد عليهم برد قوي نظهر به
احلقيقة ..هذا ما ق�صدته فقط».
نظر والد يامن لها بهدوء ليقول�«:إن جاهدنا يف طريقنا بهذه احلياة لإر�ضاء
النا�س مبا يريدونه لن نتحرك مكاننا يا ابنتي ،رمبا نتحرك خطوة للأمام ،ولكن
�أمامها نعود مائة خطوة للخلف ،النا�س ال يريدون احلقيقة بل يخ�شونها ،النا�س
يريدون حدي ًثا يلهيهم عن �أحاديث حياتهم ،يريدون اخلو�ض يف �أعرا�ض النا�س
ريص ع
الكت
للرتفيه عن �أنف�سهم ،و�أنا لن �أ�سمح البنة �أختي �أن تكون و�سيلة ترفيه لهم ،نحن
ل ب
لك نحنأنت ل�ست ا�ستثناء ،وكما قلت ِ
منعنا ال�صحافة كلها من �أي حوار معها ،لذا � ِ
ن ل
شر وال
رجال لدينا كرامة ونفدي �أهل بيتنا ب�أرواحنا جتاه �أي �شيء قد ي�ؤذيهم مهما كان
توزيع
قربه».
ارت�سم اجلمود على مالمح �سايل وهي تعي مق�صده ،لتخرجهما والدة يامن من
دفاعا عن �أهله لتقول«:ح�س ًنا،
هذا احلوار ،وهي تعي �أن زوجها لن يتوانى عن التوقف ً
هيا لقد انتظرنا كث ًريا و�سيربد الطعام ،هيا �سايل دعينا نعد املائدة».
جذبت �سايل من ذراعها لتعد معها الطعام ،وخرج والد يامن وهو ي�ستغفر ربه
يوما ما،
را�ض عن خطيبة ابنه و�أفكارها التي قد ت�ؤذيها وت�ؤذي ابنه ً
يف �سره ،غري ٍ
بينما �أخذت �سايل ت�ساعد حماتها وهي ت�ست�شعر كره حميها لها ،حميها الذي مل
يقبلها حتى الآن ِكنة له ،ولكن منذ متى وكان يهمها �شيء تافه كهذا ،هي لديها
هدف و�ستح�صل عليه مهما ا�ضطرت لفعل ما ال يرغبون فيه.
احلاج �سعيد خريي كبري عائلة خريي ،الأخ الأكرب لوالد زمرد ولوالد �سليم،
يعمل يف جتارة الأخ�شاب ،وراثة يف العائلة �أ ًبا عن جد.
جل�س �أمام طاولة الطعام يتذ ّكر ما حدث قبل �أ�سابيع وقلب كيان العائلة ب�أكملها،
عودة االبنة املُختطفة ،ابنة �أخيه الغالية زمرد ،مل يتذ ّكر ً
يوما ارتباطه ب�أحد �أطفال
146
العائلة كما ارتبط بالفتاة ال�صغرية التي كانت ُتق ّبله على خده يف كل مرة تراه فيها،
�آمله قلبه حني ر�آها �شابة �أنهكتها الآالم� ،شابة مبالمح عجوز قا�ست يف احلياة الكثري
ور�أت من �أهوالها الأكرث ،ما �سمعه من والده يامن ك�سر ظهره ،وهو يعي �أن ما
غال ،هو يعي رد
ا�ستعادوه بعد كل تلك الأيام هو بقايا فتاة �أخذوا منها كل ما هو ِ
فعل ابنه ويرف�ضه بقوة ،ولكن هو يعطيه الوقت ليتف ّهم ،لقد ر�أى ابن �أخيه ما مل يره
ابنه ،زمرد ال يحق لأحد �أن يلومها على �أي �شيء فعلته ،ال يحق لأحد عتابها على
�أي خ�سارة خ�سرتها� ،آه فقط لو ابنه يعي ذلك الأمر و ُيدركه ويعي قرارته اخلط�أ
الذي داوم على �أخذها يف تلك ال�سنة ،ا�ستغفر �سره وهو يدعو له بالهداية وعدم
االجنذاب خلفه ِعنده.
M
ل ا ريص ع
ن ل بل ت ك
ش
منزل زمرد
والتوزي ر
نظرت ب�شرود للطعام الذي �أمامها وهي تفكر �أنها هنا منذ ثالثة �أ�سابيع ،مرت
ع
عليها ك�سنني� ،أقل من �أ�سبوعني مرا منذ انهيارها املُخجل �أمام �سليم ،لت�ستيقظ
بعدها لتجدهم حولها يتنف�سون ال�صعداء ،وجوههم �شاحبة ووالدتها حتت�ضنها
بقوة تذرف الكثري من الدموع ،لتعي �أنها ظلت فاقدة الوعي ليوم كامل ،ا�ستغربت
بعدها ردود الأفعال من حولها� ،أعمامها وزوجاتهم يحاولون بقدر امل�ستطاع
ُمعاملتها بلطفُ ،متفادين الكم من الت�سا�ؤالت التي ترتاق�ص داخل �أعينهم ،والدتها
على الرغم من عدم ا�ستطاعتها النظر لعينيها �إال �أن مل�ساتها مل ت�ستطع املقاومة
لتحت�ضنها كل فرتة و�أخرى ُمق ّبلة ر�أ�سها ُمتمتمة«:حفظك اهلل يل يا قرة عيني»،
ورحاب التي حتاول فتح املوا�ضيع معها لتحدثها يف �أي �شيء ُمتج ّنبة احلديث عنها
وعن حياتها.
وحده من توقف عن احلديث معها ،عن النظر �إليها ،عن التواجد يف نف�س املكان
الذي هي به منذ �آخر لقاء بينهما يف احلديقة ،بعد �أن باركته على عقد قرانه ،حتى
تغ�ضنت مالمح�سليم توقف عن املجيء لها ،وحني �س�ألت عنه يف اجتماع العائلة ّ
والده بالغ�ضب ،وهو يخربها �أنه يف �سفرية عملُ ،معتذ ًرا منها عما بدر منه جتاهها،
147
و�أنه لن يكرر فعلته جمددًا ،لتت�ساءل غري ُم�ستوعبة حديثه ،لتجيبها والدته ب�أنه مل
يجب �أن ينفرد بها مبكان واحد مبفردهما يف وقت مت�أخر ،ومل يجب �أن يحملها
معدوما يف
ً لغرفتها كما فعل ،لي�صطدم عقلها فج�أة بعامل من املبادئ والأخالق كان
عاملها ،من معا�شرتها لهم تلك الفرتة �أدركت مدى التزام عائلتها القوي.
�أخرجتها من �أفكارها ربتة على كفها من والدتها لتقول لهاَ «:مل ال ت�أكلني يا قرة
طعاما �آخر نع ّده لك؟!» لتهز ر�أ�سها بالنفي
عيني؟! �أال يعجبك الطعام؟! �أتريدين ً
حماولة التقاط لقيمات من الطعام دون قول �شيء.
طرقات على باب ال�شقة جذبت انتباههم ،لتنه�ض رحاب ُمرتدية حجاب ر�أ�سها
ص ع
تفتح الباب ،ليقابلها يامن بابت�سامته احلنونة لها ،جاذبة انتباه زمرد التي مل تره
الكت ري
يوما ُمبت�س ًما� ،سمعته ي�س�أل رحاب عن حالها ودرا�ستها ،ثم ملحت والدتها تنه�ض ً
توزيع
ت�سمعه يخرب والدتها �أن الطبيبة ق ّدمت امليعاد لليوم بدل الغد ،الطبيبة التي �أجربها
على ر�ؤيتها ُمدعيا �أنها �أوامر ُعليا من ر�ؤ�سائه بخ�صو�ص الق�ضية ،طبيبة زارتها
�أربع مرات ،راف�ضة فيها احلديث معها ب�أي �شيء ،راف�ضة حماوالتها لبدء �أي تقارب
جتاهها ،وقفت من مكانها �شاحبة وهي ت�سمعه يقول �إنه يجب الذهاب �إليها يف
بدل من جميئها باملنزل. عيادتها اليوم ً
التفت ثالثة �أزواج من العيون لها ،اثنان بقلق وزوج بربود ،لرتتع�ش مكانها وهي
تقول بارجتاف�«:أنا لن �أخرج� ..أنا ال �أ�ستطيع اخلروج».
ملحته يدلف لل�شقة ويتجه ناحيتها ،فقب�ضت على كفيها حتاول ادعاء الثبات
�أمامه لت�سمع نربته الباردة«:الطبيبة جتد �أن املنزل هنا ال ي�ساعدك على التوا�صل
أجلك ،لع ّل ِك تبدئني باحلديث معها» ،ك�أنها مل
معها ،و�أ�صرت على تغيري املكان من � ِ
ت�ستمع ملا قاله لتكرر كالمها�«:أنا ال �أ�ستطيع اخلروج».
أنت ال تن ّف�س بغ�ضب وهو يقولِ «:
عليك اخلروج وتنفيذ تعليمات الطبيبةِ � ،
تتقدمني يف العالج وال تتفوهني ب�شيء ،والوقت مير دون �أن نعرف ما نريده من
معلومات ت�ساعد يف التحقيق».
148
هتفت بغ�ضب وهي ترى ت�ش ّنج مالحمه«:و�أنا ال �أريد �أن �أحتدث ..لقد �أخربتكم
مبا يفيد التحقيق ،ال �شيء �إ�ضاف ًيا ميكن �أن �أقوله»� ،أجابها«:املعلومات التي
ح�صلنا عليها من ُغفران والفتاة الأخرى غري كافية ،ووحدك من متلكني املعلومات،
ق�ضيت تلك ال�سنتني يف املزرعة» ،هتفت بغ�ضب«:مل �أكن هناك وحدي، ِ بحكم �أنك
أي�ضا ،وما قلته ال يزيد �شيئا عما قالته»� ،ضرب بكفيه على الطاولة
ليلى كانت معي � ً
�أمامه«:اللعنة ،ال تدعيني �أقولها حتى ال �أخ�سر احرتام �أهلك يل».
�شحب وجهها وهي تعي مق�صده ،لي�شحب وجهه وهو يعي ما تفوه به ،زفر بغ�ضب
أجدك بالأ�سفل»� ،أغلق
وهو يتجه ناحية الباب قائال ب�صوت مكتوم«:ع�شر دقائق و� ِ
الباب خلفه ،لرتفع نظرها لوالدتها و�أختها تراهما ب�صورة ُم�شو�شة من غمامة
ريص ع
الدموع� ،أ�شاحت بنظرها عنهما جتر رجلها لغرفتها ،ت�شعر بتلك ال�س ّكني التي
والتوزي
وهي تنظر باجتاه احلمام لتلمح زمرد تخرج منه ووجهها يبدو عليه البكاء ،انتف�ضت
ع
زمرد مكانها وهي ترى رحاب �أختها تنظر لها ب�شرود ،رحاب �أختها ال�صغرية التي
�أخذت الكثري من مالمح والدها العزيز ،يف الكثري من الأوقات تختل�س النظر �إليها
من دون علمها لتلمح فيها مالمح ا�شتاقت لتذ ّكرها� ،أختها ال�صغرية املتف ّوقة بكلية
دوما
الإعالم يف �سنتها الأوىل� ،أختها التي تخ�شى �أن تزعجها بوجودها فتلتزم ً
ال�صمت وهي مبجل�سها معها ،حتاورها كل فرتة و�أخرى يف �أي �شيء ال عالقة له بها.
ابتلعت ريقها وهي ت�سمع رحاب تقول لها بهدوء�«:أردتُ �أن � ِ
أخربك فقط �أن يامن
إزعاجك بكالمه هذا ،الكالم يخرج من فمه دون الدخول على �أي فلرت
ِ ال يق�صد �
ين ّقي الكلمات حني ي�شعر بال�ضغط» ،حانت من زمرد ابت�سامة وهي ترى �ضحكة
لك فا�سمحي رحاب لتقرتب منها رحاب بهدوء وتقول لها«:مبا �أن هذا �أول خروج ِ
لك».يل �أن �أعطيك بع�ض مالب�سي ترتدينها حتى نذهب م ًعا ل�شراء مالب�س ِ
ملعت الدموع يف عني زمرد لتهز ر�أ�سها باملوافقة دون قول �شيء ،فرتى حما�س
عليك» ملحتها تخرج منرحاب وهي تقول«:حلظة �س�أح�ضر الثياب ..لن �أت�أخر ِ
الغرفة ُم�سرعة لتغم�ض زمرد عينيها ودمعتان يتيمتان ت�سطران �آالمها على وجهها.
149
مقر الأمن الوطني
نزلت من �سيارة الأجرة ونظرت للمقر �أمامها فتذكرت وجودها هنا منذ �أكرث
من ثالثة �أ�سابيع ،منذ �أن قتلت �سمرية ،تنف�ست بهدوء حتاول جاهدة احلفاظ على
هدوئها ،هي هنا اليوم من �أجل �أمر مهم ،رحمة �أو زمرد ،حانت منها ابت�سامة
�صغرية وهي تهم�س داخلها �أن زمرد يليق بها �أكرث ،تريد �أن تقابل املُق ّدم يامن
لت�س�أله عنها و ُتطالبه بر�ؤيتها ،فهي ا�شتاقت لها ب�شدة.
عربت الطريق حتى ت�صل ملركز ال�شرطة ،وبينما هي ترفع عينيها عن الطريق
ملحت �سيارة �سوداء تخرج من �شارع يجاور املركز ،و�شد انتباهها وجه م�ألوف يظهر
ع
من خلف زجاج �أحد الأبواب الأمامية لتجد يف حلظة زجاج الباب اخللفي ينزل،
الكت ريص
و�آخر وجه قد ت�صدق يف يوم �أن تراه جمددًا ينظر �إليها ،وابت�سامته الكريهة على
توزيع
ثوان ملحت ر�صا�صة تخرج من الفوهة ،ف�أغم�ضت عينيها يف انتظارها لتخرتق
ج�سدها ،وهي ت�ست�شعر ب�أنها النهاية حت ًما ،ولكن ج�سدً ا قو ًيا �أحاط بج�سدها،
و�أدارها بقوة حتى �سقطا م ًعا على الأر�ض.
كان يف حاجة للقدوم ملقابلة اللواء ح�سني ،لع ّله ي�صل لغفران ،ال يعلم ما به،
ولكن منذ فرتة وهي ت�أتي لتفكريه كث ًريا� ،أخذ يف ّكر منذ يومني �أن لكل من �أمرية
وزمرد عائلة ماذا عن غفران!؟ مما �سمعه من التحقيقات والأخبار �أنها االبنة
احلقيقية لتلك العائلة ،لذا �أين تعي�ش الآن؟! وكيف حتيا حياتها بعد �أن قتلت
والدتها؟! خرج من �أفكاره على ر�ؤيتها ت�أتي من بعيد يف اجتاهها ملقر الأمن الوطني،
حانت منه ابت�سامة وهو يرى الهالة التي حتيط بها نف�سها ،بال�سواد الذي تت�شح به
دوما ك�أنها هكذا تخفي نف�سها وهيئتها ،بال ُعقدة املُرتاخية ل�شعرها الغجري �أ�سود
ً
اللون ك�أنها قا�صدة �أن تهمل االهتمام به ،ازدادت ابت�سامته وهو يف ّكر �أنها املرة
الأوىل له ليت�أمل فتاة بهذه الدقة ،فتاة غري طبيعية يف كل �شيء ،جذب انتباهه
تو ّقفها و�شحوب وجهها ،عقد حاجبيه وهو ينظر باجتاه نظراتها فلمح �سيارة �سوداء
تقف يف احلارة املجاورة للمقر ،ال يعلم َمل �شعر بقب�ضة تعت�صر قلبه جعلته يتحرك
150
�سالحا ويبدو ك�أنه
ً �سرعا وهو يلمح من بال�سيارة ي�صوب لها
باجتاهها لريك�ض ُم ً
�سالح تخدير ،فلم يفكر للحظة وهو يجذبها باجتاهه بعيدً ا عن الر�صا�ص ،لي�سقطا
كالهما � ً
أر�ضا بعد �أن �شعر بحرقة يف جانب ج�سده.
ت�أوهت ب�أمل وهي ت�ست�شعر ب�أنه من �سقوطها ولي�س من الر�صا�صة ،فكرت للحظة
�أن الر�صا�صة مل تخرتق ج�سدها بل...
عند هذه اللحظة �أدركت �أنها ما زالت يف �أح�ضان �أحدهم ،وهو يت�أوه ،فابتعدت
بقوة عنه ليزداد ت�أوهه ،وهي تلمح جت ّمع بع�ض النا�س حولهم ليتحدث �آ�سر بت�أوه«:يا
أنت قوية!».
�إلهي كم � ِ
ص ع
�شهقت ب�صدمة وهي ترى �آ�سر على الأر�ض ومي�سك جانبه ب�أمل ،فاقرتبت بعملية
ر ش
والتوزي
أنت ت�ؤمليني».
ليقول بت�أمل وهو ي�ضحك«:توقفي ..يا �إلهي � ِ
ع
توقفت عن دفعه وهي ت�سمع �صوته ،فهتفت ب�صدمة�«:أنا ال �أرى �أي جرح
بج�سدك» ،ملحت تراخي مالمح �آ�سر وهو يبت�سم بخفوت ،بينما يقاوم �إغماءه وهو
يرفع يديه لتلمح �سه ًما خمد ًرا يف يديه.
ليقول ب�صوت خافت�«:إنها ر�صا�صة خمدرة لي�ست حية ،يا �إلهي مل �أ�صدق
للحظة �أن من املمكن �أن �أتذ ّوق ما �أفعله مبر�ضاي هذا املخدر� ،»...ضحك �آ�سر
بخفوت قبل �أن يكمل جملته لي�ست�سلم لإغمائه ويذهب يف النوم �أمام �صدمة ُغفران
لهيئته.
M
منزل حممد الأ�سيوطي
كانت تبحث يف املكتبة عن كتاب ممتع تقر�أه لع ّلها ت�شغل عقلها به ،منذ فرتة
وهي تلمح �أن �ساعة الظهرية ال يكون �أحد باملنزل �سواها هي وجميلة ،التي اعتذرت
منها اليوم لتذهب لق�ضاء �أمر بامل�شفى ،بعد �أن انقطعت عن العمل كل تلك الفرتة
151
لتبقى معها� ،أخذت تتم�شى باملنزل وهي ترى �صور العائلة على اجلدران ،وكم بدوا
�سعيدين للغاية ،ثم ملحت تلك الغرفة التي حني دخلتها جتمدت مكانها وهي ترى
�أكرب مكتبة قد ر�أتها ،مكتبة ت�أخذ جدران الغرفة ب�أكملها ،ف�أخذت تبحث بني كتبها
املختلفة ،غارقة فيها بعيدً ا عن العامل كله.
قاطعها طرق على باب املنزل ،فخرجت من غرفة املكتب بتوج�س وهي تت�ساءل
من ي�أتي يف هذا الوقت ،اقرتبت بهدوء وت�ساءلت عن الطارق فات�سعت عيناها
بده�شة وهي ت�سمع �صوت ُغفران ،ففتحت لها الباب على الفور .جتمدت يف مكانها
وهي تلمح ُغفران ت�سند �أخاها �آ�سر بج�سدها ،و�إغماء �آ�سر وا�ضح للعني� ،أخرجها
أخيك ثقيل».
من جمودها هتاف ُغفران«:حتركي �أمرية و�ساعديني ..فج�سد � ِ
ريص ع
الكت
اقرتبت �أمرية بتوتر وا�ضح و�ساعدت ُغفران يف �إ�سناد ج�سد �آ�سر حتى و�ضعتاه
شر وال
وحترك ذراعيها لرتفع عنهما الآالم ،بينما �أمرية ما زالت يف مكانها تنقل عينيها
توزيع
بده�شة بني ُغفران و�آ�سر ،الذي يبدو �أنه نائم! لت�س�ألها«:ما الذي حدث؟!»
�أخف�ضت ُغفران عينيها عن �أمرية وحتدثت بهدوء ك�أنها مل تتعر�ض ملحاولة
قتل«:ال تقلقي� ،إنه فقط نائم� ..س�أرحل الآن» وقفت �أمرية �أمامها ُم�سرعة ،متنعها
من الرحيل ،وهتفت بقلقُ «:غفران� ..أخربيني ماذا يحدث؟!»
ابت�سمت لها ُغفران بحب ،ورفعت كفيها ُتر ّبت على وجنتيها بحنان �أر�سل رجفة
يف ج�سد �أمرية.
«ال تقلقي �أمرية» ،انزعجت ليلى من مناداة ُغفران لها ب�أمرية لتقول
بارتباك«:ال تناديني �أمرية� ،أنا ليلى».
اقرتبت منها ُغفران واحت�ضنتها بحنان وهي تقول«:ال فرق لدي بني االثنتني،
فكالكما غالية لقلبي ،ورغ ًما عني بد�أت يف حب �أمرية �أكرث ،فهي تبدو �أقوى
و�أجمل».
ابتعدت ُغفران ُم�سرعة هر ًبا من �أ�سئلة �أمرية التي هي متيقنة من عدم
ا�ستطاعتها الإجابة عنها يف الوقت احلايل ،كادت �أن تفتح باب ال�شقة حتى التفتت
152
لآ�سر النائم على الأريكة ،ونظرت له بغمو�ض لتقول ب�صوت ُمرتبك�«:أو�صلي ل ِ
أخيك
�شكري».
خرجت ُغفران من املنزل ُم�سرعة ،ومل تلمح ال�ضياع الذي �شعرت به �أمرية من
كلماتها الب�سيطة ،مل ت�ستطع قبول واقعها اجلديد ،فهي لي�ست بقوة ُغفران ،نظرت
بوجوم لأخيها النائم وهي تتذ ّكر م�شاعر اخلوف التي ملأت قلبها يف اللحظة التي
ر�أته مغ�شيا عليه ُ
وغفران ت�سنده بج�سدها.
كيف تخاف على �شخ�ص غريب عليها؟! ولكن هل �آ�سر غريب ح ًقا؟!
اقرتبت بهدوء وجل�ست على الأر�ض بجوار الأريكة و�أخذت تت�أمل مالمح وجهه
ع
الهادئة ،حانت منها ابت�سامة �صغرية وهي تهم�س«:ت�شبه ال�سيدة جميلة كث ًريا يف
والتوزي ر
توقفت وهي تلهث ك�أنها يف رك�ض طويل ،فلمحت مقعدً ا على جانب الطريق فجل�ست
ع
عليه بهدوء وهي تنقل نظراتها بني النا�س الذين يتحركون يف ال�شارع� ،أخذت تعد يف
دوما حينما تريد الهرب من التفكري وتهدئ قلبها من ر�أ�سها الأ�شخا�ص كما تفعل ً
اخلوف ،ف�أخذت تهم�س وهي تعد كل ما تراه عيناها:
«واحد اثنان ثالثة ممدوح حي� ،أربعة خم�سة �ستة يا �إلهي مل ميت� ،سبعة ثمانية
ت�سعة لقد حاول تخديري ،ع�شرة �آ�سر تلقى الر�صا�صة عني».
كم امل�شاعر التي �أ�صابت قلبها يف
ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله وهي ُمنده�شة من ّ
هذه اللحظة ،رفعت ذراعيها حتيط بهما ج�سدها لتكمل بهم�س«:مل ميت ممدوح،
زمرد مل تقتله! لقد حاول تخديري ..هل هذا معناه �أنه ما زال على خمططه؟! �آ�سر
يا �إلهي».
�أخف�ضت وجهها تنظر للأر�ض وهي تفكر فيما �شعرت به حينما تلقى الر�صا�صة
عنها ،اخلوف ..اخلوف من �أن ي�صيبه �أذى ب�سببها ،مل يفعل �أي �شخ�ص من قبل ما
يفدها �أي �شخ�ص من قبل بحياته .هي مل تره �سوى مرتني فكيف يفديها فعله ،مل ِ
بحياته هكذا من دون �أي تردد؟! هل هو بحكم عمله كطبيب �أم!...
153
�ضحكت بته ّكم من اجتاه م�شاعرها ،ثم هزت ر�أ�سها ميي ًنا وي�سا ًرا ك�أنها تنف�ض
جميع �أفكارها وهم�ست داخلها:
«يبدو �أن ال�صدمة �أ�صابت عقلك ..ركزي ُغفران ممدوح مل ميت ،ممدوح مل
ميت».
�سكتت للحظات تفكر ،ثم نه�ضت من مكانها م�سرعة وهي توقف �إحدى �سيارات
الأجرة ،وتخرب ال�سائق �أن يو�صلها ملقر الأمن الوطني.
M
ع
منزل زمرد
الكت ريص
فتحت عينيها بتثاقل على �أ�صوات مكتومة من بعيد ،رم�شت بعينيها �أكرث من
توزيع
لتجل�س على �سريرها ،وهي ت�شعر بقب�ضة تتو�سط �صدرها ،ع�صف ال�صداع بر�أ�سها
ف�أغم�ضت عينيها حتاول التخفيف عن �آالمها ،م�سدت بيديها مو�ضع قلبها وهي
تت�ساءل :هل حقا �أثر �شجارها مع يامن عليها هكذا �أم �أن روحها بد�أت يف رف�ض
احلياة من حولها؟
عادت الأ�صوات البعيدة جمددًا لأ�سماعها ،فنه�ضت من مكانها تتوجه لل�شرفة
تنظر من خلف �ستائرها ،لتلمح �أربعة رجال يت�شابهون يف البنية القوية والهيئة
ال�صارمة التي تدل على عملهم يقفون �أمام بوابة املنزل ،ملحت يامن بعينيها يوجه
لهم احلديث ويبدو الغ�ضب على مالحمه� ،شعرت بالقلق يع�صف بها يف اللحظة التي
رفع فيها وجهه لي�شحب حني نظر ل�شرفتها.
ابتعدت عن ال�شرفة ،وحلظات و�أبدلت ثيابها لتخرج على الفور وهي ت�ست�شعر
بروحها �أن هناك �أم ًرا و�أم ًرا كب ًريا ،ملحت والدتها جتل�س على �أحد الكرا�سي حتاول
االت�صال ب�أحد ،وزوجة عمها جتل�س بقربها ُتر ّبت على ظهرها ،فرفعت االثنتنت
�أعينهما لها حينما ملحتا نزولها ،لت�س�ألهما على الفور حني ملحت �شحوب وجه
والدتها«:ماذا يحدث هنا؟!»
154
�سائل زوجة عمه«:هل ردت على كادت والدتها جتيب حني دلف يامن للمنزل ً
ات�صالك عمتي؟!» ُمتجمدا مكانه وهو يلمحها واقفة تبادلهم النظر بقلق ،لتعيد
ِ
�س�ؤالها جمددًا«:ما الذي يحدث هنا؟!» جتاهل يامن �س�ؤالها وهو ي�س�أل زوجة
ات�صاالتك؟!» لتجيبه قلقة«:ال يا بني ،يبدو �أنها يف
ِ عمه«:هل �أجابت رحاب على
حما�ضرة ،لقد �أخربتني �أن لديها اليوم ثالث حما�ضرات فقط ،لو تخربين ماذا
ً
حماول يحدث فلقد ارتعب قلبي عليها» ،اقرتب منها ُيربت على كفها وهو يقول
حماول بقوة عدم �إظهار �أي �شيء �أمام تلك التي تقف خلفه«:ال �شيء،ً طم�أنتها
فقط �أريد االطمئنان عليها ،بع�ض ال�شغب حدث يف �أحد ال�شوارع املُحيطة باجلامعة
لذا مبا �أنها لديها ثالث حما�ضرات فمعناه �أنها لن تخرج من مبنى اجلامعة،
ص ع
وهذا وحده ُمطمئن ،و�أنا بنف�سي �س�أذهب لأح�ضرها ..ال تقلقي» ،نظر لوالدتها
والتوزي
ومتى يتج ّنبها«:ما الذي يحدث� ..أجبني؟!» تنهد بقوة ليجيبها بهدوء«:ال يوجد
ع
�شيء زمرد ..فقط �أريد �أن اطمئن على »...نزلت درجتني لتقف �أمامه وهي تنظر
له بجمود«:ال تخربين بق�صتك التي رويتها لأمي حماولة منك لطم�أنتها ..ما الذي
يحدث مع رحاب ومن ه�ؤالء الرجال باخلارج؟»� ،صمت يت�أمل مالحمها الغا�ضبة
غري قادر على الإ�شاحة بعينيه عنها ،يت�أمل �شحوب مالحمها والإرهاق البادي على
وجهها ً
حامل �آثاره عليها ،ال ي�صدق ما �سمعه من رئي�سه منذ �ساعات ،ليقع قلبه
يف رجليه وهو يعي �أن الرجل الذي �شوه روحها ما زال على قيد احلياة طلي ًقا يف
اخلارج ،ال �أحد يعرف مكانه ،وقد حاول اختطاف ُغفران ،ترى كيف �ستكون ردة
فعلها حني تعرف بذلك؟!
«يامن� ..أنا �أ�س�ألك �أنت ال تبدو على ما يرام ،كما �أنك تتجنب النظر لعني
والدتي ،لذا حتما �أنت تخفي �شي ًئا ،هل هناك �شيء �أ�صاب رحاب؟ �أنا ال �أفهم».
رق قلبه وهو ي�شاهد قلقها وتر ّقرق الدموع بعينيها ،ليجيبها بهدوء ُملقيا
قنبلته«:ممدوح العزامي على قيد احلياة ،وقد حاول اختطاف ُغفران ،ولكنه
ف�شل».
155
حلظات ت�ستوعب فيها جملته املُكونة من كلمات ب�سيطة ،لتتحول لدقائق وهي
جامدة تنظر له ،ك�أنها يف انتظار �أن يخربها �أن هذه مزحة ،ممدوح على قيد احلياة
هو مل ميت ،مل ميت� ،شعرت بالقب�ضة التي بروحها تت�سع �أكرث فت�ضيق على �أنفا�سها،
قادما من بعيد ويبدو �أنه يقول �شي ًئا� ،شعرت بالأمل الذي بر�أ�سها
لت�سمع �صوت يامن ً
يكاد ميزقها لتغم�ض عينيها ُم�ست�شعرة كفني مي�سكان بها بقوة بينما تدور الأر�ض
بها.
و�صلت لأ�سماعها ُ�س ّبة �أطلقها يامن وهو ي�سندها بج�سده«:اللعنة ،تعايل
معي» ،جذبها بكفه وهو ينزل الدرج غا�ض ًبا من حاله بعد �أن �شك بردة فعلها جتاه
اخلرب ،فهو ظن �أنها �ستت�أثر فرحة باخلرب ،مما ي�ؤكد له ارتباط م�شاعرها ح ًقا
ريص ع
الكت
غي من كل �أفكاره ،و�صل للحديقة بذلك الوغد� ،إال �أن الرعب الذي ر�آه على وجهها ّ
توزيع
الذي يجاورها ُم�سكا بكفها يف بادرة لأول مرة منهُ ،متجاهال م�شاعره وهو ي�شعر
يل زمرد» ،لتنفذ �أمره ،قاتلة �إياه بدموعها التي
بربودة كفيها ليهتف بها«:انظري �إ ّ
اول ت�أكيد كل كلمة تخرج منه�«:أنا لن �أدعه �أظهرت مدى رعبها ليقول بقوة ُم ً
منك»� ،شهقت بقوة وهي تنه�ض إليك مهما كان الثمن ،لن �أدعه يلم�س ذرة ِ ي�صل � ِ
على الكر�سي ُمبتعدة عنه ،ت�ضم ج�سدها بذراعيها ،تقف ُم�شتتة تنظر يف كل اجتاه
حولها برعب ،ك�أنها ت�شعر بوجود ممدوح بقربها ،لتهم�س من دون توقف�«:سي�أتي،
�سي�أتي ليكمل ما مل ينهِ ه� ،سي�صل �أنت ال تعرفه ،هو »...و�ضعت يديها على قلبها
عال «:لن يفعل ولو ك ّلفني
ت�شعر ب�أنه �سيقف فو ًرا لتلمح يامن �أمامها يهدر ب�صوت ٍ
هذا موتي» ،انتف�ضت مكانها وهي ت�سمع جملته لتقول بوجع«:ال يامن ،ال تذكر
املوت� ،أرجوك ال تفعل» ليت�ضح �أمامها ما كان يفعله منذ ال�صباح«:يا �إلهي ،رحاب
�أنت تظن �أنه قد »...هز ر�أ�سه بالنفي ي�ؤكد لها«:ال �أنا فقط �أ�ضع احتماالت ،هو لن
يغامر بالو�صول لأفراد العائلة� ،أنا فقط ال �أ�ضع ً
جمال �أمام �شكوكي� ،أريد �أن �أكون
ُم�ستعدً ا لأي �شيء� ،س�أذهب �إىل اجلامعة و�أح�ضرها بنف�سي ،ولكن �أريد �أن �أذهب
أتاك �أي ات�صال
عليك �أال تخرجي من املنزل لأي �سبب ،حتى لو � ِ ُمطمئ ًنا زمردِ ،
156
من �أي �شخ�ص ال تخرجي �أبدً ا من املنزل»� ،صمتت ك�أنها تفكر يف �شيء�«:أنت
قلت �أنه حاول اختطاف ُغفران ،هل �أ�صابها »...قاطع �س�ؤالها وهو يرى دموعها
املُنهمرة«:ال مل ي�صبها �شيء ،هي بخري كما هي ب�سحرها الأ�سود ال�شرير» ،حانت
منها ابت�سامة و�سط دموعها لتجيبه«:هي لي�ست �شريرة ..هي فقط تائهة».
يوما ما بقلبها هذا وبابت�سامتها هذه ،ابتلع ريقه يحتوي م�شاعره �ستقتله ً
ليهدئ من وجيب قلبهُ ،مبتعدً ا عنها ،وهو يقول بعملية ك�أن حلظات قربه منها
قد ولت«:ح�س ًنا ،والآن هناك �أربعة من رجايل باخلارج لن يتحركوا من مكانهم،
دوما هنا بوجودي �أو يف حالة عدم وجودي ،ال �أريد �أن تعرف والدتك �شي ًئا،
�سيكونون ً
ع
حالتها ال�صحية ال ت�سمح لها باالنفعال جمددًا ،لذا �أمتنى �أن يبقى الأمر بعيدً ا
ل
ِ بك الأفكار والو�ساو�س هي
ب�أنه مهما دارت ِ
ع
منك». نظرة تف ّهم وهو يقول«:الأم هي الوحيدة التي يحزن قلبها ِ
عليك ال ِ
قبل �أ�سبوع
دلفت �إىل امل�شفى م�سا ًء ،وحولها رجالن يتبعانها كظلها ،لتنظر بهدوء حولها
ُماولة عدم جذب االنتباه لها ،قابلها �أحد رجال اال�ستقبال �سائال �إياها عمن تكون
لتجيبه بلهجة ثابتة�«:أنا لدي هنا موعد مع الدكتور وليد �صادق» ،ا�ستغرب رجل
اال�ستقبال من حديثها ،ليمنع دخولها حتى يت�أكد من حديثها ،فات�صل بغرفة الطبيب
وليد ليجيبه على الفور ويخربه �أنه بانتظار مري�ضة بالفعل قد �أعطاها موعدً ا.
تنف�ست بهدوء وهي تدخل امل�صعد مع الرجلني ،وحلظات حني �أغلق الباب
�سالحا كا ًمتا لل�صوت ،انفتح باب
�أخرجوا �أ�سلحتهم من احلقيبة كل منهم يحمل ً
امل�صعد لتجد �أمامها الدكتور وليد وهو ينظر �إليها ب�شحوب ،لتبت�سم له ب�سخرية
وهي تقول«:مواعيدك م�ضبوطة دكتور وليد والآن ادخل».
157
دخل الطبيب امل�صعد بارتباك وهو يرى �أ�سلحتهم ليغلق باب امل�صعد ،وهو
أخربتك �أنني
ِ ي�ضغط على الدور وجهتهم لي�س�ألها بقلق«:هل هناك �سبب للأ�سلحة� ،
اترك عائلتي بحالها».
�س�أنفذ كل ما تريدينه فقط ِ
مل جتبه ب�شيء ليلمحهم يخفون �أ�سلحتهم خلفهم ،حتى فتح امل�صعد وخرجوا
لي�سريوا يف املمر خلفه بهدوء مارين مبمر�ضتني تتابعان حالة مري�ض يف غرفة
يف بداية املمر ،حتى و�صلوا للغرفة املن�شودة ،ملحت �شرط ًيا يوقف الطبيب وي�س�أله
عن وجهته يف ذلك الوقت ،وقبل �أن يجيبه الطبيب ب�شيء ر�صا�صة اخرتقت ر�أ�س
ال�شرطي لي�سقط على الفور ،حامال �إياه �أحد الرجال وهو يدخل به الغرفة ليخلع
معطفه الذي غطى على بدلة م�شابهة لبدلة ال�شرطي ،وحمل �سالحه لي�أخذ مكانه
ريص ع
الكت
خالل الأيام القادمة يف انتظار التعليمات القادمة ،ارتعب الطبيب مكانه وهو
ل ب
يلمحهم يلقون بج�سد الرجل على الأر�ض.
ن ل
شر وال
اقرتبت من ال�سرير الوحيد بالغرفة الذي يحمل ج�سده ،لتبت�سم وهي تقرب
توزيع
فمها من �أذنه�«:أنا هنا ،لقد و�صلت حبيبي»� ،س�ألها الطبيب بارتباك«:ح�س ًنا �أنا
أو�صلتك له فماذا �ستفعلني الآن؟» التفتت �إليه وهي ت�صوب �سالحها جتاه لتقول
ِ �
بهدوء«:ال �شيء ،جمرد ت�صريح خروج منك با�سم مزيف ملري�ض ،ف�أنا ال �أريد
�أن يلمح �أحد خروجه الآن ،دعهم يتفاج�أون بعد �أيام بالهدية التي �س�أتركها لهم،
بالإ�ضافة �إىل �أنك �ستمنع دخول املمر�ضات للغرفة ،وحدك من تدخل وتخرج ك�أنك
تطمئن على حالته»� ،أجاب الطبيب«:ولكن مل نتفق على هذا؟» �أجابته بجمود
وهي تق ّرب ال�سالح من جبينه�«:أنا مل �أتفق معك على �شيء� ،أنت تنفذ ما �أريده
مقابل حياة عائلتك لذا نفذ».
�أعطاه الرجل ورقة ينق�صها توقيعه وا�سم املري�ض ليقوم مبا يلزم ،وبعد �أن انتهى
�أمرته ب�أن يت�صل باال�ستقبال ليجهزوا له �سيارة �إ�سعاف تو�صل املري�ض لوجهته،
فن ّفذ �أمرها ُم�ضط ًرا حتى بد�أت مب�ساعدة الرجل نقل ممدوح ب�سيارة الإ�سعاف مع
الطبيب املرافق له.
M
158
بعد �ساعتني
فتح عينيه وهو ي�شعر ب�أمل يف �صدره و�ساقه� ،أغم�ض عينيه ُمددًا ،و�إ�ضاءة
الغرفة ت�ؤذيه ليلمح �صوتًا قري ًبا منه جعله ينظر ل�صاحبه �أو بالأدق ل�صاحبته«:كنت
على يقني �أن تلك احلقنة التي �أعطتك �إياها خلود يف غفلة عن �أعني غفران �ستقوم
بواجبها ،عودًا حميدً ا رئي�سنا الغايل».
�أغم�ض عينيه ُمددًا وهو يتنهد بارتياح وابت�سامة �صغرية ُتز ّين فمه ،ليقول
ب�صوت مبحوح�«:سمر غاليتيَ ،مل كل هذا الت�أخري؟! �آه ما �أحلي العودة للمنزل».
M
ر ش
والتوزي
بالغ�ضب ال�شديد ل ُيجيبه النقيب �سامي«:لقد ب ّلغ �أحدهم عن وقوع حادثة على
ع
الطريق ال�سريع يف نف�س الوقت الذي �أبلغونا به يف امل�شفى مبقتل ال�شرطي الذي كان
تغي
يحر�س ممدوح ،بعد �أن ملحت ممر�ضة خلو املمر من ال�شرطي الذي يبدو �أنه ّ
من �أيام ،دلفت للغرفة لتجد جثة الع�سكري ،ووجدنا يف امل�شفى تعليمات من الطبيب
بعدم دخول �أي ممر�ضات له و�أنه �سيتابع حالته بنف�سه.
للطبيب؟!» �س�أله اللواء«:ح�س ًنا هل ت�أكدوا من �أن اجلثة باحلادثة تعود
�أجابه«:نعم ،للأ�سف �سيدي كانت هناك عربة �إ�سعاف و�سيارة �أخرى مالكي،
وجدنا جثة الطبيب بالإ�سعاف ور�صا�صة تخرتق جبينه و»...
�س�أله اللواء بقلق«:ماذا �سمري؟!» �أجابه �سامي ب�أ�سف«:بال�سيارة املالكي
وجدنا ثالث جثث المر�أة وطفلني فارغني �سيدي» �س�أله اللواء ب�صدمة«:ماذا
تق�صد بفارغني؟!»
«فارغني من �أي �أع�ضاء �سيدي» �أجابه �سامي ليهتف اللواء بغ�ضب«:اللعنة
على ذلك الوغد اللعني».
159
�أكمل �سامي«:يبدو �أن من �أنقذ ممدوح مل يقم بعملية انتزاع الأع�ضاء على
الطريق ،فال دماء �سوى دماء الطبيب ،لذا حني عادت بع�ض القوات ملنزل الطبيب
اكت�شفوا الكثري من الدماء فيبدو �أنهم قاموا بنقل الأع�ضاء هناك».
جل�س اللواء على الكر�سي وهو يقول«:اللعنة عليهم عدميي ال�ضمري� ،أر�سل قوة
ُمتخفية ملنزل �آ�سر ويامن ،وحاول �أن جتد ُغفران� ،أحاول الو�صول �إليها من �أيام
وال �أ�ستطيع ،فيبدو �أن ممدوح �سيقوم ب�ضربته يف �أقرب وقت حاملا ي�ستعيد قوته»،
�أجابه �سامي«:ح�س ًنا �سيدي ،واللواء �سامح راغب قد توىل ق�ضية مقتل الطبيب
�سيدي».
ص ع
نظر له اللواء ح�سني ب�صدمة«:ملاذا ولوا له الق�ضية؟! �أال يعلمون �أ�ساليبه؟!»،
160
�أغلق ممدوح الهاتف بعد �أن �أغلق رئي�سه اخلط ،وهو يزفر ب�ضيق ُمتوعدً ا
ل ُغفران بالكثري بعد �أن �أف�سدت عليه اخلطط جمددًا.
على الطرف الآخر
جل�س رجل يف �أوائل ال�ستينات ين ّفث دخان �سيجاره وهو ينظر �أمامه ب�شرود ،يفكر
يف خطوته التالية ،ليقطع تفكريه م�ساعده وذراعه الأمين�«:إذا ما اخلطة �سيدي؟!»
�أجابه بهدوء«:داوم على عملك كما تفعل دون جذب انتباه ،وغدً ا �س�أقوم مبا يجب
يف �سبيل �إخفاء �أي �أثر لنا� ،أخطاء ممدوح كرثت ولكن دعنا نرتكه ينفذ لنا ما
نريد حتى نق�ضي عليه بعدها قبل �أن يجذبنا معه للهاوية» ،حت ّدث م�ساعده«:اللواء
ح�سني علم بتو ّليك الق�ضية» ،ابت�سم الرجل ب�سخرية وهو يقول«:دعه يلهو ً
ع
قليل
ن ل
شر وال وت
M
زيع منزل حممد الأ�سيوطي
لقد مرت �ساعة وهو نائم مكانه ال يتحرك� ،شعرت بالقلق عليه وهي حتاول
�أن توقظه ب�شتى الطرق وال ا�ستجابة منه ،دمعت عيناها وهي ت�شعر بالعجز لعدم
قدرتها على الو�صول لأحد من عائلتها� ،أخرجها من قلقها رنني هاتف ،ف�أن�صتت
ال�سمع لتجده من جيب �سرتة �آ�سر ،فاقرتبت ُم�سرعة لتخرج الهاتف ،فر�أت ا�سم
باك�«:أمري تعال للمنزل،
�أمري على الهاتف ،مل تنتظر لتفتح املكاملة وتقول ب�صوت ِ
�آ�سر.»...
مل تكمل املكاملة لتجد اخلط قد ُف�صل ،نظرت للهاتف ب�صدمة وهي ال ت�صدق
�أن �أمري �أغلق الهاتف وهو يحدثها� ،أخذت حتاول فتحه لكن ف�شلت يف معرفة الكود
اخلا�ص به ،جل�ست ُمددًا على الكر�سي وهي تنظر �إليه �ساك ًنا ال يتحرك لتت�ساقط
دموعها غري قادرة على منعها ،وهي جتهل ما يجب فعله لأول مرة.
161
ع�شر دقائق مرت لتجد باب املنزل ُيفتح فج�أة ويدخل منه �أمري الذي نظر حوله
بقلق حتى �سقطت �أنظاره عليها وهي واقفة تبكي بدموع ُم�سكة هاتف �آ�سر ،نقل
ب�أنظاره ليجد �آ�سر على الأريكة ويبدو �ساك ًنا يف مكانه ،اقرتب ُم ً
�سرعا منه وهو
يهتف بها«:ما الذي فعل ِته به؟! ماذا �أ�صابه؟!» ،ابتعدت عن طريقه وهي تراه
يفح�ص نب�ض �آ�سر«:مل �أفعل �شي ًئا ،لقد �أح�ضرته ُغفران هكذا ،ومل تخربين مبا
حدث؟!»
�صديقتك؟! هل �آذيتماه؟!» هتفت بغ�ضب ودموعها ِ «ومن ُغفران هذه؟! �أهي
ال تتوقف«:توقف عن هذا وعاجله ،ات�صل بالطبيب �أو �أي �أحد» ،نه�ض من مكانه
ريص ع
يتوجه حلقيبته التي �ألقاها حني دخل للمنزل و�أخرج هاتفه ليت�صل بوالده فلم يكد
ب الكت
يت�صل حتى ملح والده يدلف للمنزل ويبدو �أنه قد عاد ُمبك ًرا اليوم ،نظر لأمري الواقف
توزيع
يكمل حديثه وهو يلمح �أمرية واقفة تنظر له ب�شحوب ودموعها تنهمر منها ،نقل
�أنظاره بينها وبني �أمري القلق لي�س�أله«:ما الذي يحدث؟!» ،حتركت �أمرية من
مكانها مبتعدة عن �آ�سر ليلمحه حممد الذي نظر بده�شة له بينما يقول �أمري�«:أبي،
ال �أعلم ما حدث له� ،إنه ال يتحرك ونب�ضه �ضعيف� ،أخربتكم �أنها لن تهد�أ حتى
ت�ؤذينا جمي ًعا».
«اخر�س �أمري» هتف حممد وهو يقرتب ب�سرعة من ج�سد �آ�سر ويتعامل بعملية
ليفح�ص عينيه ونب�ضه ،بينما �أمرية تتابعه بجمود ،وجملة �أمري ترتدد يف عقلها،
�سمعت حممد يقول لأمري«:هناك حقنة .اذهب لل�صيدلية و�أح�ضرها على الفور»،
حترك �أمري على الفور وهو يح�ضر لوالده احلقنة بينما وقفت �أمرية ُم�سكة بهاتف
�آ�سر ك�أنه جندتها وج�سدها كله ينتف�ض رع ًبا ،بينما ترى حممد يفح�ص ج�سده
جرحا �صغ ًريا بجانب �ساقه ،رمبا يحتاج لقطبة �أو قطبتني ،فتحرك
ب�أكمله ليلمح ً
باجتاه احلمام وهو يح�ضر علبة الإ�سعافات ليوجه حديثه �إليها وهو يراها �شاحبة
إمكانك م�ساعدتي؟!»
الوجه«:هل ب� ِ
162
حتركت دون وعي باجتاهه وهي ت�س�أله عما تفعله ،ليخربها �أن تفتح علبة
الإ�سعافات بعد �أن �شق �سروال �آ�سر وبد�أ يداوي جرحه ،ويطلب منها بعملي ٍة الأدوات
الالزمة.
ا�ستمر عمله لدقائق حتى عاد �أمري ليجد �أمرية بجوار والده ُم�سكة ب�إحدى
الأدوات ،فاقرتب منها و�أعطى والده احلقنة ،ثم �أخذ من يديها الأدوات وهم�س
لغرفتك نحن ال
ِ بجانب �أذنيها بعيدً ا عن �سمع والده«:ابتعدي عن هنا ،ا�صعدي
نحتاجك»� ،شعرت ب�آالم تغزو قلبها وهي ترى مالمح الكره على وجهه ،ليلتفت �إىل
ِ
�آ�سر وير ّكز �أنظاره عليه� ،شعرت ب�أنها �ستبكي جمددًا فرك�ضت على الفور باجتاه
غرفتها خارج املنزل ،و�أغلقت بابها بعد �أن و�صلت لتجل�س على ال�سرير وت�شهق
ريص ع
بالبكاء.
M
بل ت ك ل ا
ر ش ن ل
توزيع وال
م�سا ًء
طرقات على الباب للمرة التي ال تعلم عددها ،ولكن هذه املرة لي�س �صوت والدتها
بل �صوت �آ�سر ،مل ت�شعر بنف�سها �إال وهي تقفز من على ال�سرير وتفتح الباب ب�سرعة
لتجده واق ًفا �أمامه ُم�ستندً ا على الباب ،ليقول بابت�سامته املعتادة�«:إذا هذا �صحيح
يخرجك �أحد من الغرفة �إال �أنا».
ِ كما قالت �أمي ،لن
مل ي�ستطع �أن يكمل جملته ليلمحها ترمتي بح�ضنه وهي تقول بهم�س�«:أنا مل
�أفعل �شي ًئا �أق�سم لك ،مل �أفعل �شي ًئا� ،أنت بخري� ،أنت حي»� ،ضمها �آ�سر لها وهو
م�صدوم من �أول رد فعل لها جتاههُ ،لي ّبت على �شعرها بحنان وهو يقول«:اهدئي
يا �صغرية� ،أنا بخري ،ما زلت ح ًيا �أرزق».
ابتعدت عنه وهي ت�شعر با�ضطراب يف م�شاعرها لتنظر للأر�ض غري واعية
لنظراته احلنونة لها لي�صل لأ�سماعها �صوت والدتها«:هل فتحت الباب؟! �آه يا �إلهي
عليك حبيبتي».
ليلى ،لقد �أقلق ِتني ِ
163
احت�ضنتها والدتها بقوة وهي ت�ضم جل�سدها ،بينما ملحت �آ�سر ينظر لها بحنان
ويجل�س على �أحد الكرا�سي املوجودة باملمر ،يريح �ساقه قليال ،لتبتعد والدتها
لك ليلى؟! هل حدث مني �شيء عنه تقول بعتاب«:كيف ال جتيبي على نداءاتي ِ
أزعجك؟!»
� ِ
مل ترفع نظراتها لوالدتها وهي تهز ر�أ�سها بال ،لت�سمع والدتها تتنهد لتقول
طعاما»� ،أجابتها ليلى على الفور�«:أنا
لك ً قليل حتى اح�ضر ِ بهدوء«:ح�س ًنا اجل�سي ً
ال �أريد ل�ست جائعة»� ،أجابتها والدتها بتعب«:ال ،ال جمال للرف�ضِ � ،
أنت مل تتناويل
�شي ًئا من ال�صباح» ،قاطعهما �آ�سر وهو يرى رف�ض �أمرية�«:أمي َمل ال حت�ضرين لنا
الطعام لنتناوله م ًعا �أنا وليلى بينما �أح ّدثها يف �أمر مهم؟».
ريص ع
الكت
«ح�س ًنا عزيزي فكرة جيدة» ،حتركت والدتها على الفور دون �أن تف ّكر يف
شر وال
أيك منينظر �إليها بتف ّك ٍه وهو ي�ضحك«:الأمر مزعج �ألي�س كذلك؟! �أن ي�أخذوا ر� ِ
توزيع
بك يف عائلة الأ�سيوطي �أختاه». أهل ِ املُ�س ّلمات! �إذا � ً
حانت منها ابت�سامة وهي ترى �ضحكته ،و�شعر مب�شاعر غريبة مل ت�ستطع �أن
�ساعدت يف �إنقاذي اليوم مع �أبي� ،إنه
ِ تف�سرها حتى لنف�سها ،حت ّدث �آ�سر�«:إذا لقد ّ
أحالمك �أن ت�صبحي طبيبة ف�ستكونني طبيبة ماهرة». ِ بك يقول �أنه لو من �
فخور ِ
�أجابته ب�ضيق�«:أنا مل �أفعل �شي ًئا ،كما �أنه ال ي�ستطيع �أن يقرر �شي ًئا عني ،ال �أحد
ي�ستطيع �أن يفعل».
بهتت ابت�سامة �آ�سر لت�شعر بقلبها يغو�ص وهي ترى احلزن بعينيه ،لتتن ّهد ب�ضيق
قائلة�«:أنا ال �أريد تناول الطعام ،لذا �إن كان هناك ما تريد �س�ؤايل عنه فتف�ضل».
نظر لها بهدوء لينه�ض ُم�ستندً ا على احلائط وهو يقرتب منها ببطء ،لرتفع
�أنظارها من على �ساقه مكان �أمله ،لتنظر لعينيه بدموع غريبة عليها ،لت�ضم �شفتيها
يخ�صك
ِ مانعة نف�سها من البكاء ليقول«:ح�س ًنا ،هناك �أمران لي�س �أم ًرا واحدً ا� ،أمر
و�أمر يخ�ص غفران» ،ا�ستطاع �أن يجذب انتباهها ليجدها ت�س�أل«:ماذا عن
�صباحا هكذا؟! ما الذي حدث معكما؟!». غفران؟! وملاذا �أح�ضرتك ً
164
«ح�س ًنا ،ح�س ًنا �س�ؤال وراء الآخر ،ولكن قبل �أن نتط ّرق لهذا املو�ضوع� ،أخربيني
وجعلك حتب�سني نف�سك يف الغرفة طوال اليوم؟!». ِ لك �أمري
مبا قاله ِ
�شحب وجهها لتنظر له بارتباك وهي تقول«:مل يحدث �شيء ،وملاذا تقول �إن
�أمري من �ضايقني بكالمه؟ من املمكن �أن يكون والدك و�أنت ال تعرف؟».
ندرك جيدً ا احرتام �أبي
أنت ِ �أجابها �آ�سر«:هذه لي�ست احلقيقة ليلى ،ف�أنا و� ِ
جرحك».ِ منك لأي �سبب ،فما زال يحمل
لرغبتك يف عدم احلديث �أو االقرتاب ِ ِ
�أجفلت من نربة العتاب ب�صوته ،لتنظر �إليه وهي تهتف بغ�ضب«:ح�س ًنا �أنا
هكذا ،ال �أريد �أحدً ا وال �أريد �أن �أتعامل مع �أي �أ�شخا�ص ال �أرغب يف معرفتهم ،و�أنتم
ريص ع
لن جتربوين على حب من �أكرههم».
ن
دموعك
ِ أنت ال تكرهني �أبي ليلى ،كما ال تكرهينني بدليل
ر ش
والتوزي
التي قابل ِتني بها».
ع
أنك ذكي وهكذا �ستحاول التع ّمق لدواخليكنت تظن � ِ «اللعنة عليك �آ�سر� ،إن ِ
ف�أنت خمطئ �أتفهم؟! �أنا ال �أحب �أحدً ا وال �أهتم ب�أحد ،و�إن مت الآن يف هذه اللحظة
لن �أهتم».
�شهقة جاءت من �آخر املمر تالها �سقوط لأطباق لتلمح �أمرية والدتها تنظر
لهما بدموع ،لرتم�ش بعينيها وهي متنع ارتعا�ش يديها عما �سمعته لتهبط بج�سدها
حماولة مللمة الأطباق املك�سورة ،فاقرتب �آ�سر منها ببطء وحني ر�أى �شهقتها وقد
�أ�صابتها قطع الزجاج املك�سورة ،فلمح من متر بجانبه ُم�سرعة وهي تقرتب من
جميلة مت�سك كفها بارتعا�ش ،لرتفع جميلة عينيها الدامعة لها لتجدها تنظر �إليها
بحزن�«:أنا� ..أنا مل �أق�صد ،فقط مل �أنا مل �أ�س ّبب لكما �سوى الأذية ،هو حمق فيما
لك».
قاله� ،أنا مل �أق�صد �أق�سم ِ
�أغم�ضت جميلة عينيها وهي جتل�س على الأر�ض جاذبة �إياها حل�ضنها ،وهي
تربت على �شعرها بكفها ال�سليم حماولة ال�سيطرة على دموعها املنهمرة وهي حتاول
تهدئة �أمرية املنهارة من البكاء.
165
مقر الأمن الوطني
دلفت بهالتها الغا�ضبة ملكتب اللواء ح�سني دون طرق الباب ،وخلفه يهتف �سامي
بهاُ «:غفران انتظري حتى ينتهي االجتماع».
التف جميع من بالغرفة لتلك التي دخلت عليهم وخلفها النقيب �سامي وهو ي�شعر
باحلرج من املوقف ،نه�ض اللواء ح�سني من مكانه وهو يقرتب من ُغفران ،وقد
ملح الغ�ضب الذي يعرتيها ،ليبادر باحلديث�«:سنتحدث ،لكن �أعط ِني ن�صف �ساعة
فقط �أنهي بها اجتماعي».
هتفت من بني �أ�سنانها«:ال �أ�صدق ذلك ،كنت على علم بالطبع ،كنت على علم
ص ع
ب�أن ذلك احلقري على قيد احلياة ومل تقل �شي ًئا ،هل تعلم �إذا ب�أمر هروبه؟!»
الكت ري
�أجابه بهدوءُ «:غفران »...لتقطع حديثه وهي تنظر �إليه و�إىل عمران الذي
توزيع
لبع�ضهم مت�سائلني عن تلك التي تتحدث بغ�ضب للواء
«بالطبع تعلم� ،أخربين �إذا هل تعلم ب�أمر حماولته اختطايف؟!»
اختطافك!»
ِ �شحب وجه عمران بعد �أن �سمع جملتها ،ليقول اللواء بارتباك«:
آذاك؟!» نظرت لهلي�س�ألها عمران على الفور«:ماذا فعل؟! هل ر�أي ِته؟! هل � ِ
ب�سخرية وهي تقول باتهام وا�ضح�«:إنك تتقن دورك بامتياز عمران� ،أراهن �أنك
كنت على علم بكل �شيء ،وال �أ�شك ب�أنك من �س ّربت عنوانه لباقي �أفراد الع�صابة
حتى يه ّربوه».
التفت اللواء ح�سني لرجاله وهو يقول ب�صوت هادئ«:ح�سنا لنكتفي بهذا القدر،
ولينفذ كل �شخ�ص ما ُطلب منه ،و�أنا يف انتظار النتائج� ،أعطوا للأمر الأهمية
الق�صوى ،ميكنكم االن�صراف الآن».
جذب عمران ذراع ُغفران بقوة وهو يبتعد بها عن طريق الرجال ،ليهدر ب�صوت
مكتوم بها«:كفي عن تلك التفاهات التي تتفوهني بها ،و�أخربيني ماذا حدث؟! هل
اختطافك؟! �أنا ال �أفهم».
ِ ر�أي ِته؟! كيف حاول
166
جذبت ذراعها من قب�ضته بقوة وهي تقول«:حاول تخديري ،يبدو �أن خمططه
ما زال �سار ًيا ،ونعم ر�أيته ويبدو �أنه يف �أح�سن حال».
جل�سوا جمي ًعا بعد �أن حاول اللواء تهدئتها ،وقد �سردت عليهم ما حدث ،ف�شعرت
ب�صمت عمران ،خا�صة بعد �أن عرف ب�أمر �إنقاذ �آ�سر لها� ،أخرجه من �صمته �س�ؤال
اللواء له«:ماذا تظن عمران!؟ هل �سيتحرك على الفور؟! حتما لديه خطة» ،هز
عمران ر�أ�سه وهو يجيبه«:بالطبع لديه خطة ،ممدوح ال يقوم ب�أي خطوة �إال وقد
دوما لديه خطة بديلة». ر�سم طريقه جيدً اً ،
ع
التفت اللواء ح�سني ليقول ب�صدقُ «:غفران ،ا�ستمعي يل جيدً ا ،نحن مل
ص
نخربك
ِ
ع والتوزي
عنك ،نحن ك ًنا فقط يف انتظار يجعل الر�ؤية وا�ضحة ،نحن مل نق�صد �إخفاء الأمر ِ
ا�ستيقاظه حتى نح�صل منه على ما نريد ،عمران نف�سه مل يعرف بهذا الأمر �إال قبل
�ساعتني فقط».
مل جتبه ب�شيء بينما عال اجلمود مالمح وجهها ،لتنظر لعمران الذي كان ينظر
فيم تفكر؟!» انتبه لها ليجيبها
لها ب�شرود ويبدو �أن عقله لي�س معهما لت�س�ألهَ «:
اختطافك فهذا معناه
ِ ب�صراحة«:ال يجب ِ
عليك البقاء وحيدة بعد الآن� ،إن حاول
�أنه ما زال على خمططه ،لذا رمبا من الأف�ضل �أن ت�أتي لت�سكني مع والدتي».
والدتك كما
ِ ارتع�ش قلبها ل�صراحته لتقول ب�ضيقِ «:
ظننتك ال تريد قربي من
وامتنعت عن
ِ ا�ستمعت حلديثي
ِ قلت �آخر مرة؟» نظر �إليها ليقول بته ّكم«:وك� ِ
أنك
ر�ؤيتها!» ،رفعت ر�أ�سها لتجيبه بغرور«:ال �أحد با�ستطاعته منعي عن ر�ؤيتها».
حانت منه ابت�سامة حنان �أر�سلت ق�شعريرة داخلها ليقول�«:إنها ال تتوقف عن
لك» ،ابتلعت ريقها ب�صعوبة لتقول ب�صدق«:وحدها عنك وال عن الدعاء ِال�س�ؤال ِ
167
دعواتها من ُت ِ
نجيني� ،أنا لن �أخاطر بالقدوم وال�سكن معها ،حت ًما ما زلت ُمراقبة،
لذا �س�أجد مكا ًنا �آخر �أمكث فيه ،املكان لي�س مب�شكلة» ،كاد ي�س�ألها �إن كانت
�ستذهب لذلك الـ»�آ�سر» ،لكن حديث اللواء معها منعه من التفوه ب�س�ؤاله ،فكتمه
داخله و�شعور مرير قد �أ�صاب حلقه ال يدري �سببه.
MMM
ريص ع
ن ل ل ب الكت
توزيع شر وال
168
�أنت العليم مبا يف القلب من وجع ..و�أنت الرحيم ب�ضعف ل�ست �أقواه
الف�صل العا�رش
حلظة فا�صلة
منزل يامن
ص ع
كانت تقف يف ردهة املنزل وهي تفرك يديها بقوة ،كانت ت�شعر بالتوتر ولكن هذا
الكت ري
نف�سا ً
طويل ثم زفرته بارجتاف الأمر مهم لها ،يجب �أن تطلب م�ساعدته� ،أخذت ً
ص ع
كفيها ت�سحبها معها للردهة ويتبعهما يامن وهو يحمل الع�صري من والدته.
والتوزي
�سجليها �أي�ضا �ست�ساعدنا كث ًريا» ،هزت ر�أ�سها
ع
عن املحافظة التي بها مدر�سة زويل ّ
باملوافقة وجل�ست ت�ستند بالدفرت على ركبتيها وت�سجل كل ما يريده من معلومات،
تركتهما والدته وهي جتيب على هاتف املنزل بينما جل�س هو بارتباك على الكر�سي
املقابل لها وهو يراها بو�ضعيتها هذه وما تكتبه ي�شغل كل تفكريها ،ليعيد به الزمن
ل�سنوات م�ضت وهما يجل�سان نف�س اجلل�سة بينما هو ي�شرح لها م�سائل الريا�ضيات
التي تكرهها وي�صعب عليها فهمها ،نب�ضة طرقت قلبه وجعلت روحه تهيم يف م�شاعر
طفل كانت حياته كلها ُمت�ش ّكلة يف الطفلة التي �أمامه.
رفعت ر�أ�سها بعد �أن انتهت فتزلزل قلبها من النظرة التي كانت يرمقها بها
فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تقول«:هذه هي كل املعلومات عنها هي يف حمافظة
البحر الأحمر� ،أعلم �أنها بعيدة ولكن �إن ا�ستطعت �أن»...
«اعتربي الأمر ُمنته ًيا ،حينما �أ�صل لها �س�أخربك على الفور» ،قاطعها بجملته
فتنهدت بارتياح هذه املرة وهي تنه�ض من مكانها وتهم�س بكلمات امتنان و�شكر له.
طلب منها �أن تبقى لت�شرب الع�صري وجتل�س ً
قليل مع والدته ،لكنها رف�ضت
�سري ًعا وتعل ّلت ب�أ�سباب يعلم جيدً ا عدم �صحتها ،فقط لتهرب من �أمامه مب�شاعرها
171
التي تكاد �أن تظهر على وجهها ،قبل �أن تخرج �أوقفها وهو يقول«:ال ِ
تن�س الليلة
لدينا موعد مع الطبيبة على ال�سابعة» ،هزت ر�أ�سها من دون قول �شيء ،وخرجت
على الفور.
م�سا ًء
ملحها بطرف عينيه ويبدو �أنها غفت مكانها ،يبدو �أن ما فعلته اليوم �أفقدها
قوتها ،تذ ّكر حديث الطبيبة بعد �أن نادته يف �آخر اجلل�سة لتخربه �أن هناك بداية
جديدة اليوم بينما كانت زمرد يف احلمام املُلحق بغرفة الطبيبة تغ�سل وجهها مكان
تو�صل مع الطبيبة �إىل ات�صالها به بعد كل زيارة لتخربه التفا�صيل وهو يف
دموعهاّ ،
ع
انتظار �إي�صال زمرد للمنزل حتى يح ّدثها.
الكت ريص
تذكر غ�ضبه عليها �أول يوم �أجربها فيه للذهاب للطبيبة ،و�شحوب وجهها بعد
توزيع
تلك القوقعة ال�صامتة التي ت�ضع نف�سها فيها بعيدً ا عن �أي �أحد ،اليوم كان موعدها
فانتظرها بعد �أن ات�صل بوالدتها و�أخربها �أنه بالأ�سفل ،منذ معرفته ب�أن ذلك
الوغد ما زال على قيد احلياة وهو ي�سعى بكل قوته ليجده ،يريد �أن يقتله بيديه،
من وقتها وهو يبتعد عن املنزل كث ًريا ،حتى �سايل ،ات�صاالتها ال تتوقف ،هي ال تفهم
�أنه يف حاجة لأن يف�صل نف�سه عن �أي حاجة ت�شعره ب�أنه حي ،حتى ي�ستطيع �أن ُير ّكز
يف �أمر ذلك الوغد ،ويتبع اخلطوط التي حوله حتى يجده ،وجدها اليوم تخرج من
املنزل بعد خم�س دقائق من انتظاره وقد ارتدت �أحد ف�ساتني رحاب التي تبدو فيها
�شبيهة للطفلة التي ترك يديها يف حلظة لتنقلب حياته ب�أكملها يف اللحظة التالية،
يدرك �أنه يحمل الذنب الأكرب يف اختطافها ،رمبا مل ي�ساحمه عمه قبل موته ،رمبا
مل يتح ّدث �أحد من عائلته عن الأمر بعد ذلك ،رمبا �ساحمته زوجة عمه وهي تقول
له ب�أنه يكفيه الآالم التي بقلبه فلن تزيد عليه بغ�ضبها منه ،لكنه يعلم �أنه لو مل
يرتكها ملا اختطفوها ،ملحها عاقدة �شعرها بربطة ُمرتاخية� ،أ�صابت هيئتها اله�شة
ووجهها ال�شاحب قلبه ب�شعور بغي�ض ومرارة يف حلقه ،ليكمال طريقهما للطبيبة
يف �صمت ،حماولة جتاهل انتفا�ض ج�سدها ويبدو �أن خروجها اليوم قد �أ�صابها
بالرعب ،خا�صة بعد معرفتها ب�أن ممدوح حي ،يدرك �أنه ال يحاول �أن يفهم رف�ضها
172
وتع ّنتها ،هو حتى ال ي�سمح لعقله مبحاولة فهمها ،ما ي ّنفك يراها حتى يبث نريان
غ�ضبه بوجهها على الفور.
زفر ب�صوت ليلمحها تنتف�ض يف نومتها ثم ت�سكن جمددًا ،ف�أبط�أ من �سرعة
ال�سيارة وهو ينظر �إليها تارة و�إىل الطريق تارة �أخرى ،ي�شعر خلف هيئتها اله�شة
عال ترف�ض �أن ت�سمح لأحد باجتيازه� ،سور يعلم جيدً ا يف اللحظة التي
هذه ب�سور ٍ
�سيجتازه فيه �ستنفتح �أبواب اجلحيم �أمامه.
و�صل للبيت �أخ ًريا ليوقف ال�سيارة بهدوء ،ليلتفت �إليها يراقب مالحمها
احلزينة ،وجزء داخل قلبه �سمح له بالتنف�س ً
قليل للحظات ،لي�سمح له ينب�ض بقوة
ع
كطفل ح�صل على �أمنيته الوحيدة ،تذ ّكر �أحالمه وحياته التي ر�سمها من �صغره
والتوزي ر
ما اكت�شفه عنها و�سمعه ب�إذنه يوم �أن وجدها.
ع
قا�س ليحا�سبها على �أمر عا�شت حياتها به ،ولكن هو فقط ال يفهم ،لو يعلم �أنه ٍ
ت�سمح للطبيبة باقتحام �أ�سرارها رمبا وقتها فقط يفهم ،ملح تلك اخل�صلة ت�سقط
اول �إبعادها لينتف�ض قلبه بقوة مللم�س وجنتيها ،ي�شعرعلى وجهها ليمد يديه ُم ً
قاب�ضا عليه بغ�ضب ،وهو يتذ ّكر احت�ضان �سليم لها وحمل بدفئهما ليبعد كفيه ً
ج�سدها لغرفتها وقت فقدانها الوعي ،ال يعلم ملاذا �شعر وقتها بالغ�ضب ليت�شاجر مع
�سليم �أمام والده وعمهُ ،مربرا غ�ضبه �أمامه ب�أنه ال يجوز له ما فعله ،بينما نظر له
�سليم بته ّكم دون �أن يقول �شيء.
رفع كفيه ي�ضغط بهما على ر�أ�سه ،هو ال يفهم نف�سه ،ال يفهم ا�ضطراب م�شاعره،
ال يفهم ما ي�صيبه بقربها ،ين�شد قربها ويبغ�ضه ،ين�شد �صوتها ويبغ�ض حديثها،
ين�شد...
�أخرجه من �أفكاره �صوتها الذي يجلده«:يامن هل و�صلنا؟ هل �أنت بخري؟!»
�أجابها بجمود وهو ي�شعر ب�أنه ع ّرى روحه �أمامها وهي ترى تخ ّبطه«:انزيل».
173
لهجة الأمر التي ح ّدثها به جعلتها تنظر له بجمود وهو ينظر �أمامه� ،أ�شعرته
ب�أنه يبذل جهدً ا يف البقاء بقربها ،ك�أنه ال يطيق املكوث �أكرث ،فتحت باب ال�سيارة
جتاهد �آالم روحها لتقول ب�صوت م�سموع قبل �أن تغلق الباب وتدخل املنزل«:ال تك ّلف
نف�سك �أمر �أخذي للطبيبة وتو�صيلي للمنزل ،ف�أنا �س�أطلب من رحاب �أن ت�أتي معي
بعد ذلك».
نزل خلفها بغ�ضب ليجذب ذراعها قبل �أن ت�صل للبوابة هات ًفا«:ال تخالفي
وحدك ،فال تفكري يف الهروب من الذهاب ِ �أوامري� ،أخربتك ب�أال خروج من املنزل
للطبيبة»� .أجابته بغ�ضب هي الأخرى ُمتجاهله �أمل ذراعها�«:أخربتك ب�أنني
�س�أذهب مع رحاب ال وحدي ،كما �أنني ال �أتهرب من �شيء ،فقط �أحاول جتنيبك
ريص ع
البقاء معي لفرتات طويلة ،فيبدو �أنك تبغ�ضه»� ،أجابها والغ�ضب من كل �شيء
ب الكت
مينعه من التفكري�«:إن ِ
ل
ويهمك م�ساعدتي فلتقوميِ لوجودك معي
ِ ملحت بغ�ضي
ن ل
شر وال
عليك والذهاب للطبيبة ك�أي عاقلة حتاول بواجبك حماولة نف�ض هذا العناد من ِ ِ
توزيع
تقدمي امل�ساعدة لع ّلنا ننتهي من هذا الكابو�س الذي وعينا عليه يف يوم وليلة ،لأرتاح
على الأقل من كل هذا اجلهد الذي �أبذله لأبقى بقربك».
�ساد ال�صمت فج�أة ،ليلمح الأمل الذي ارت�سم على وجهها ،وارتعا�ش �شفتيها،
ك�أنها على و�شك البكاء ،لي�شعر بها جتذب ذراعها من كفه ،فرتكها لتجيبه ب�صوت
جمروح�«:أعدك ب�أن هذا الكابو�س �سينتهي لتنتهي معه معاناتك للأبد ،فال حتمل
هم قربي الذي يقهرك».ّ
M
منزل يامن
بهم ،وهو يتذ ّكر ما قالته له
جل�س على �سريره والهاتف بيديه ،ينظر �أمامه ٍّ
الطبيبة منذ قليل
«هي لي�ست مري�ضة طبيعية �سيد يامن ،عليك �أن تدرك هذا� ،أنا لي�س معي
ع�صا �سحرية� ،أقول بع�ض التعويذات فت�صبح زمرد على ما يرام يف يوم وليلة ،زمرد
تعي�ش حالة من الرف�ض ،رف�ض كل �شيء حولها ،تظن ب�صمتها �أنها تعفي نف�سها من
174
الدخول يف �أماكن لن تخرج منها �سليمة ،جدران غرفتها �أ�شبه بدرع حماية ممن
حولها� .س�ألها با�ستغراب«:من �أهلها؟!»
�أجابته بتو�ضيح«:من �أ�شخا�ص غابوا عنها لثماين ع�شرة �سنة ،ثم عادت فج�أة
�إليهم ،هي تعي�ش ما ن�سميه با�ضطراب ما بعد ال�صدمة املُعقد ،هذا اال�ضطراب
ميكن �أن يبد�أ بعد �أ�سابيع �أو �شهور بعد احلادث الأليم الذي يتعر�ض له ال�شخ�ص،
فيجد نف�سه غري قادر على اال�ستمتاع ب�أي �شيء ،ي�صبح لديه انعدام م�شاعر يف
ج�سده ،والأ�سو�أ هو �سيطرته على عواطفه �إن وجدت با�ستخدام �إما املخدرات �أو
�إحلاق ال�ضرر بالنف�س كالتفكري باالنتحار».
�شحب وجه يامن لتكمل الطبيبة بعملية�«:سيد يامن ما �أحاول تو�ضيحه لك
ل
قليل ولكن ال
ع
�إن كان لديها �أعرا�ض كعدم القدرة على الرتكيز ،االكتئاب والغ�ضب يف بع�ض
الأحيان اتركوها تن ّف�س عن نف�سها قليال� ،إن �أرادت �أن ت�أخذ وقتًا يف غرفتها ،دعوها
ولكن بعد فرتة من الزمن ال تطلبوا منها ب�صيغة الأمر �أن تخرج من الغرفة بل
ا�شغلوها ب�أي �شيء ،اقرتحوا عليها هواية معينة تنف�س بها عما بداخلها ،ا�س�ألوا
ر�أيها يف �أمور احلياة الطبيعية وهكذا .والأكرث �أهمية ابتعد كل البعد عن �أن تخربها
�أنك تعلم بال�ضبط كيف ت�شعر ،وما بداخلها.
مما واجهته زمرد -من الأوراق التي �أمامي -يبدو �أن معاناتها كانت الأ�صعب
و�سط باقي الفتيات ،مبا �أنه كان هناك انتهاك ج�سدي� ،أن تق ّلل بحديثك عن �صعوبة
ما مرت به يجعلها تظن �أن معانتها ال�سابقة مل تكن �شي ًئا فتزيد من حدة اكتئابها
و�أملها ونحن بالطبع ال نريد للحالة �أن ت�سوء».
�أغم�ض عينيه وهو يت�أوه ب�صمت ،ي�شعر ب�أن عقله �سينفجر من التفكري ،والده
حت ّدث معه كث ًريا وهو يرى غ�ضبه واندفاعه يف �أي �شيء يخ�ص زمرد� ،أخربه �أن
هناك حدودًا لل�شخ�ص الطبيعي� ،إن تعداها �سيكرهه هذا ال�شخ�ص ،فما بال
175
�شخ�ص بحالة زمرد ،هو مل يفكر بر�أيها ،بنظرتها ،ب�أي �شيء ت�شعر به ،هو فقط
ين ّف�س عما ي�شعر هو به ،واجه نف�س كث ًريا َمل ي�شعر بهذا ال�شعورَ ،مل هذا التناق�ض
دوما ي�شعر به جتاهها ،تذ ّكر جملة ابن عمه وهو يراه يعاين«:دع ال�سيطرة الذي ً
قليل يا ابن العم» ،ت�ساءل بداخله �أي قلب وكيف مينحه ال�سيطرة. لقلبك ً
MMM
ريص ع
ن ل ل ب الكت
توزيع شر وال
176
عندما تقرر االنتحار تكون وقتها قد ُمتّ بالفعل ،ما ينقذونه
بعد ذلك ال يكون �أنت لكن جثتك.
بهاء طاهر
بعد منت�صف الليل
الرياح
ِ اجلبل ،ارجتف ج�سدي من الربودة التي ِاجتاحته بفعل
وقفتُ على حافة ِ
عيني �أ�ست�شعر اخلوف للحظات ،فقط للحظات فلم �أعد �أخ�شى ّ القوي ِة� ،أغم�ضتُ
�شي ًئا بل مل �أعد �أ�شعر ب�شيءِ ،فتحتُ عيني �أت�أمل هذا ال�سكون الذي ُيحيط بي من كل
أر�ض البعيد َة عني ،لكن َمل تبدو قريب َة هكذا؟! هل هي
جه ِة ،اقرتبت خطو َة لأرى ال َ
تدعوين لها؟ رفعتُ ر�أ�سي جمددًا ونظرتُ لل�سماءِ ،هل �سينجلي هذا ال�شعور؟! هل
ص ع
�سرتحل تلك ال ُغ�صة؟! هل نهاية لهذا ال�ضيق الذي يحيط بقلبي؟!
الكت ري
ل ب
ارجتف ج�سدي جمددًا� ،شعرتُ بربود ِة �شديد ِة يف �أو�صايل ،هل ت�شعر يدي
ن ل
شر وال
قدمة عليه؟! هل هذا اجلمود الذي ُيث ِّبت قدماي على الأر�ض هو ر�صا�صة مبا �أنا ُم ِ
توزيع
االنطالق؟! هل �أ�سقط الآن؟! ملا ُي�سمونه بال�سقوط؟! َمل ال ُيل ِّقبونه بالتح ّرر؟! فها �أنا
آثام التي �أثقلت كاهلي ،ها هي تلك الغ�صة التي �أحكمت قب�ضتها �أحت ّرر من كل ال ِ
على قلبي تنزاح ببطء ،ها هي الدموع تتحرر من القيود وتنهمر ب�شجاعة ،بب�ساطة،
بانهزام ،وها هي روحي تتح ّرر ،ها �أنا ِ ها هو ال�ضيق الذي ِالتحف بقلبي يتقهقر
اقرتب من الأر�ض ،مل �أ ِع متى خطوتُ اخلطوة الأخرية وحت ّررت ولكن ها هو كل
ما �أثقل روحي قد ِانزاح ،ها �أنا �أرى طفولتي� ،سعادتي� ،شبابيِ ،انك�ساري ،جروحي
غري املُلت ِئمة� ،أحالمي التعي�سة ،ذكريات ظننتُ للحظة �أنها رحلت مع من رحلوا ،هل
يجب �أن �أغم�ض عيني الآن؟! ها هي الأر�ض تقرتب ،متى حتت�ضن الأر�ض ج�سدي؟!
�أعلم �أنني لن �أت�أمل ،ال لأنني ما عدتُ �أ�شعر ب�شيء بل لأن ِاحت�ضان الأر�ض جل�سدي
لن يكون ب�أمل ما عانيته و�أنا �أ�سري عليها.
ها هي اللحظة ،ها هي الروح تتحرر وها هي الأر�ض تتل َّقف ج�سدي.
�شهقت بقوة وهي تنه�ض من نومتها لتجد الظالم من حولها� ،أ�سرعت تتلم�س
جانبها حتى و�صل كفها للم�صباح الذي يجاور �سريرها ،لتت�سع عيناها وهي ترى
178
انق�شاع الظالم من حولها ،ارتع�شت �شفتاها وهي تعي �أن هذا جمرد كابو�س ،منذ
عودتها مع يامن من عند الطبيبة وكالمه الذي قاله لها وهي ت�شعر برغبة �شديدة
يف اخلال�ص ،ال تعلم متى نامت مبالب�سها ،ولكن يبدو �أن ن�سيت �أن ت�شعل امل�صباح
بجوارها حتى ال تنام يف الظالم.
و�صل لأ�سماعها �أ�صوات دندنات غريبة ،نظرت لل�ساعة على احلائط �أمامها
فوجدتها الثانية فج ًرا ،نه�ضت من على �سريرها وهي ت�شعر بالوهن يف ج�سدها،
قليل ،خرجت من الغرفة واقرتبت فتحت الباب ببطء لت�صلها الأ�صوات وا�ضحة ً
من ال�صالة ليق�شعر ج�سدها ب�أكمله وهي ترى والدتها تقر�أ القر�آن يف خ�شوع ورحاب
خا�شعة يف �صالتها ،ارتع�شت روحها وهي ت�شعر ك�أنها انتقلت لعامل �آخر ،حالتها
ريص ع
النف�سية الوهنة بعد ما عاي�شته يف كابو�سها و�صوت والدتها يتخ ّلل خالياها تار ًكا
زيع والتو
وحدتى
يا م�ؤ ِن�سي يف َ
نقذى يف ِ�شدتى
يا ُم ِ
يا َ�سام ًعا ل ِندائي
ف�إذا َد َجى ليلي وطال ظال ُم ُه
رب ف ُك َ
نت ِ�ضيا ِئي نادَيتُ يا ّ
�أنهت رحاب �صالتها لت�صل �إليها �أ�صوات �شهقات بكاء ا�ستدارت با�ستغراب
لتلمح �أختها تنظر �إليها بده�شة ،نه�ضت رحاب وهي ت�ضم �سجادة ال�صالة ل�صدرها
ثم اقرتبت منها بهدوء وهي تلمح بعينيها والدتها من�شغلة بقراءة القر�آن ،م�سكت
رحاب كف زمرد وهي تنظر لها بحنان لتجذبها لغرفتها.
منذ اللحظة التي دخلت فيها زمرد الغرفة حتى خرجت �شهقات بكائها عالية،
فلمحتها رحاب منهارة من البكاء ،تركتها هذه املرة تبكي وتبكي ،وهي تعي �أن
آثام ،مرت ن�صف �ساعة حتى توقفت زمرد بكاءها هذا تطهري ملا يف الروح من � ِ
179
قليل؟!» ،نظر لها
ارحتت ً
ِ عن البكاء� ،أعطتها رحاب مناديل ثم قالت بهدوء«:هل
علي وال �أ�ستطيع التن ّف�س ب�سببه»،
بتيه�«:أنا �أ�شعر ب�أن هناك �شي ًئا هنا ،يجثم ّ
زمرد ٍ
و�أتبعت حديثها وهي ت�شري لقلبها�«:،صوت �أمي و�صوت الت�سجيل ذلك ال�صوت»...
�أجابتها رحاب �إنها �أنا�شيد ما قبل الفجر ،نظرت لها زمرد وهي تقول
لديك ت�سجيالت �أو »...ابت�سمت لها رحاب
بتو�سل�«:أريد �أن �أ�سمع منها �أكرث ،هل ِ
ّ
لك؟!» هزت زمردبحب وهي تقول�«:أنا �أحفظ القليل منها ،هل تريديني �أن �أقولها ِ
ر�أ�سها وهي تقول«:نعم نعم� ،إنها� ..إنها ُتريحني».
ابت�سمت لها رحاب وقالت ب�صوت هادئ وهي مت�سد على ظهر زمرد بحنان:
ريص ع
و�سرتُ على الطريق �إىل ِح َ
ماك يب ال�سائلني َح َملتُ ذنبي ِ
ُم َ
ص ع
لتبوح مبكنوناته �صدرها للوحيد الذي يعلم عنها.
والتوزي
داخلها�«:أنت تعلم �ألي�س كذلك؟! وحدك تعلم ما بي� ،أدعوك يا اهلل� ،أدعوك
ع
و�أرجوك �أن تتق ّبلني و�أن ت�ساحمني ،يا اهلل �أنا يف �أق�صى احتياجي لك ،يا اهلل �أنا..
�أنا متعبة ،ذلك الأمل وحدك القادر على حموه ،يا اهلل �أنا �أريد �أن �أتط ّهر من كل تلك
الآثام ،يا اهلل �أنت العليم مبا يف القلب من وجع و�أنت الرحيم ب�ضعف ل�ست �أقواه».
تابعتها رحاب بدموع باكية وهي تطيل يف �سجدتها وتدعو ببكاء يقطع نياط
القلب ،بينما والدتها خلفها تكتم �شهقاتها وهي ترى ابنتها تلج�أ للوحيد الذي لن
يخذلها.
مرت �ساعة وزمرد تنهي �صالتها لت�صلي جمددًا حتى �أذن الفجر ف�شعرت
برجفة قوية بج�سدها وهي تنظر لرحاب لتقول لها بحنان وهي تلمح دموعها التي ال
تن�ضب«:هيا لن�صلي م ًعا وبعدها نقر�أ القر�آن».
بالتطهر من جميع الآثام فبقراءة القر�آن �إن ظنت �أنها بال�صالة قد �شعرت ّ
�شعرت ك�أنها عادت طفلة �صغرية متت والدتها حدي ًثا� ،أعطتها رحاب القر�آن وهي
تفتحه على �صفحات معينة لتقر�أ زمرد وتنهي ال�سورة لتفتح لها رحاب �سورة �أخرى،
وهي تراها ر�سائل من اهلل لها ُتع ّري روحها ومت�سد على جروحها بحن ٍو لتقر�أ﴿:و َه ُو
181
ات و َيَعْلَم ُ م َا تَفْع َلُونَ﴾. ن ال َ ّ
سي ِّئ َ ِ عِبَادِه ِ و َيَعْف ُو ع َ ِ ل َ
الت ّو ْبَة َ ع َنْ ال َ ّذ ِي يَقْب َ ُ
و�آيات كثرية قر�أتها وكررتها ورحاب بجانبها مت�سد على ظهرها بحنان ت�شاركها
الدمع ،بينما والدتهما جال�سة على مقربة منهما تت�ساقط دموعها ب�صمت تدعي
لهما بالهداية و�أن يحفظهما لها.
M
ريص ع
الكت
منزل �أمرية
ع
لك �أو من �أو ما ميثلها ِ
لتخربيني داللتها ِ
والتوزي
قليل وهي تراه يتحدث بجدية حمببة لها ،فهزت
ع
ر�أ�سها باملوافقة ،بد�أ �آ�سر«:الراحة» لتُجيبه«:غرفتي اجلديدة».
�آ�سر :احلنان
�أمرية :ال�سيدة جميلة.
ابت�سم �آ�سر لها و�أكمل«:ال�سعادة»
قليل لتجيبه«:ال �أتذكر �سوى �آخر مرة
�ساد ال�صمت للحظات و�شردت �أمرية ً
�شعرت بها بال�سعادة وكانت بعودة ُغفران للمزرعة بعد انتهائها من اجلامعة».
التقطت �آ�سر ا�سم ُغفران ،فوجد نف�سه ي�س�ألها عنهاُ «:غفران» ابت�سمت بحزن
لتقول�«:أختي الكبرية ..كانت �أكرثهن حنا ًنا ،كانت ترتك املزرعة كل بداية درا�سة
وال ت�أتي �إال بانتهاء ال�سنة ،لأنها كانت تدر�س يف مدينة �أخرى ،هي طبيبة مثلك،
نق�صا يف
لكنها طبيبة جراحة ،عندما كانت تغيب عن املزرعة كنت �أ�شعر ب�أن هناك ً
كل �شيء ،يف �سعادتي ،يف راحتي ،يف اطمئناين ،وعند عودتها �أن�سى كل ما هو �سيئ
و�أت�ش ّبث بها ك�أين طفلتها املُدللة ،ولكن لي�س �أمام البقية.
183
�أتعلم؟ كنت �أحيا ًنا �أح�سدها على وحدتها ،فمن يرف�ض �أن يعي�ش ببلدة �أخرى
وحيدا ح ًرا على الرغم من معرفتي �أن هذا كان �إجبار ًيا لها ،لكن الفكرة نف�سها
كانت ت�ستهويني ،ثم بعد مرور بع�ض الوقت فكرت بها من جهة �أخرى� ،أولئك الذين
اختاروا الوحدة دفعوا دموعهم و�آالمهم قربا ًنا لها حتى يح�صلوا عليها ،كانت
الفكرة يف حد ذاتها ُم�ؤملة ،و�أنا �أفكر يف الأمر �أنها تعود كل يوم لتبقى وحيدة� ،أال
تخ�شي ظلمة الليل وهي تعي �أن ال �أحد هناك ي�شاركها غرفتها؟ �أال ت�شتاق ل�صحبة
ت�شعر معهم بالأمان ،باحلب ،باملودة؟ ثم وم�ض يف عقلي ذلك الأمر؛ من مي ّر�ضها
يوما
حني ي�صيبها التعب ،من ي�سهر بجانبها ليطمئن على �صحتها ،ماذا �إن مر�ضت ً
ومل ت�ستطع طلب امل�ساعدة من �أحد ،و�صلت لفكرة �أن ُغفران ممكن �أن متوت يف
ص ع
ذلك ال�سكن وال يعلم بها �أحد.
الكت ري
ب
التفكري يف الأمر م�ؤمل ولكن كعادة ُغفران منذ �سنني ذلك اجلزء اخلا�ص
توزيع
كل مرة تزورنا فيها حتى متنحنا �إياها� ،إن �ألقيت نظرة داخل قلبها �ستجد خوا ًء،
ولكنه خواء خادع يخفي حتته العديد والعديد من الآالم».
�صمت �آ�سر يفكر يف كلماتها� ،إنها بالفعل ت�صفها رغم ر�ؤيته لها ملرات تعد
على الإ�صبع� ،إال �أن تلك الفتاة ح ًقا حتمل الكثري داخل قلبها ،مل ي�ستطع �أن ين�سى
تلك النظرة اخلاوية التي كان يراها يف عينيها وهي حت ّدثه عن القليل مما حدث،
ُغفران �سر كبري ،يرغب ب�شدة ّ
التوغل فيه ،خرج من �أفكاره حني ملح �صمتها لي�س�ألها
معاقبتك من قبل؟!» ابت�سمت بحزن وهي تقول«:كث ًريا ،خا�صة ِ برتقب«:هل متت
و�أنا �صغرية ،يف احلقيقة جميعنا نحمل �آثار جلد على �أج�سادنا ،لكن كان هذا هو
العقاب ونحن �صغار� ،أما حني كربنا فالعقاب كان �أ�سو�أ» ،ملح �آ�سر �شرودها فلم
يرغب بقطع �سري ذكرياتها يف عقلها ،فرتكها تكمل وهي تنظر للنافذة«:ذات يوم
كنت قد اكت�شفت ما يحدث ح ًقا بقبو املزرعة� ،أنت لن ت�صدق ما بالقبو ،ت�ستطيع �أن
تقول �إن املكان ُم ّهز بكل ما يحتاجونه �سواء يف التعذيب �أو العمليات التي يقومون
بها ،حني �صرخت بهم و�أخربتهم �أنني �س�أب ّلغ ال�شرطة وقتها رحمة �صفعتني على
وجهي وجذبتني للغرفة ،كرهتها يف هذه اللحظة لأعي �أن تلك ال�صفعة كانت حماية
184
يل من عذاب تل ّقيته بعدما �أخربت �سمر ال�سيد ممدوح مبا قلته ،وقتها ق�ضيت ثالث
ليال يف غرفة حتت الأر�ض من دون �إ�ضاءة ودون طعام �سوى لقيمات �صغرية ،ثالثة
�أيام �شعرت بها بالرعب من الأ�صوات التي كانت ت�صل مل�سامعي ،ثالثة �أيام �أجربين
فيها على �أن �أعرتف بخويف بعد �أن واجهته قبلها ب�أنني ال �أخ�شى �شي ًئا ،ففعل كل ما
قد يخيف فتاة بالرابعة ع�شرة من عمرها».
قاطعها �آ�سر وهو ي�س ّبه بخفوت ،لتنظر لعينيه لتجد غ�ض ًبا �شبي ًها بغ�ضبها الذي
كان لتكمل بحزن�«:أتدري ما الفرق بيننا وبني الآخرين؟! �أن يف الوقت الذي كانوا
أف�ضل كنا نحن ُن�صارع من �أجل البقاء على قيد احليا ِة ،من
مب�ستقبل � ِ
ِ يحلمون فيه
أمان نتل َّم�سها يف غرفة رعب َّ
توغل يف �أعماقنا ،من �أجل نفحة � ٍ �أجل الق�ضاء على ٍ
ريص ع
إحكام لأن باخلارج
�ضيقة ي�ستند �سقفها على جدران باردة ،والأهم �أن بابها ُمغلق ب� ِ
ع
ليغي من جمرى احلديث ،وهو يحاول مدارة �صدمته، املزيد ،وتف ّهم �آ�سر حالتها ّ
ليقول بهدوء«:لنكمل اللعبة� ،آه الغرور» ،لتجيبه�«:أمري».
�ضحك �آ�سر عال ًيا بعدما ملح ا�شمئزاز مالحمها ،فنظرت �أمرية له بانبهار وهي
تفكر كم ي�شبه والدته كث ًريا.
معك حق يف هذا� ،أو على الأقل �أحيا ًنا ،لن �أعرت�ض» ،ابت�سم ليجيبها«:ح�س ًنا ِ
�آ�سر لها بعد �أن ملح ابت�سامتها وهو يكمل بغمو�ض«:حممد الأ�سيوطي»
ارتع�ش ج�سد �أمرية للحظات ،ومل ترفع نظراتها لآ�سر ،و�ساد ال�صمت للحظات
يتابع فيها بعينيه حالتها ال�صامدة واال�ضطرابات التي حتدث بداخلها ،حممد
الأ�سيوطي لغز لأمرية ،لغز ال ت�ستطيع فكه ،منذ �آخر مواجهة بينه وبينها ومل تره
�سوى وقت تعب �آ�سر ،تذ ّكرت هتافه على �أمري وقتما تفوه بكلماته القا�سية ،وتذ ّكرت
دفاعه عنها بعد �أن �أخربتها ال�سيدة جميلة مبا حدث �أثناء ت�أنيب �آدم ،وتذ ّكرت ذلك
خارجا ب�سيارته ويبدو �أنه
اليوم الذي ا�ستيقظت فيه فج ًرا لتنظر من النافذة لتلمحه ً
كان ذاه ًبا لعمله ،ور�أت ال�سيدة جميلة تو ّدعه ليلفت انتباهها خروجه من ال�سيارة
185
واحت�ضانه لها بحنان ،وهي تنظر ملالمح وجهه التي �ش ّعت ح ًبا و�سعادة لزوجته،
وقتها مل ت�ستطع النوم وهي تف ّكر �أنه بالفعل كما �أخربتها ال�سيدة جميلة«:هو كتلة
من احلنان ت�سري على الأر�ض» ،خرجت من �أفكارها وهي تنظر لآ�سر لتجيبه
بهدوء«:قلق ،تر ّقب ،القليل من اخلوف».
�ساد ال�صمت بعد كلماتها ،لي�سجل �آ�سر بهدوء بع�ض املالحظات يف دفرته الذي
يحمله معه ،رفعت �أمرية عينيها برتقب لآ�سر فلمحته ينظر لها بابت�سامة هادئة
حمافظا على ابت�سامته«:فقط
ً رزينة لت�س�أله با�ستغراب«:ماذا؟!» �أجابها بهدوء
قلت القليل من اخلوف ولي�س اخلوف» ،لرتم�ش بعينيها وهي كلماتكِ ،
ِ �أفكر يف
ع
جتيبه بحرج«:هذه احلقيقة»� ،أكمل �آ�سر بهدوء«:ح�س ًنا لنكمل ،ماذا لدينا؟ �آه
الكت ريص
�أحمد!» .
186
ارتبكت �أمرية �أمام نظراته احلنونة ،ونه�ضت من مكانها وهي تقول�«:س�أذهب
لأح�ضر مياها» ،منعها �آ�سر وهو ينه�ض من مكانه ويجيبها�«:س�أح�ضرها �أنا،
أتركك لت�سجلي ما تريدينه يف الدفرت».
وخالل تلك الفرتة �س� ِ
وتركها وخرج من غرفة املكتب وهو ي�شعر ب�سعادة ب�سبب التق ّدم الكبري يف
طريقه معها.
اقرتبت من الطاولة التي و�ضع عليها دفرته اخلا�ص بجوار دفرتها ،وفتحته
فلمحت ا�سمها يف بداية ال�صفحة �أمرية وبجواره ا�سم ليلى و�أمامه عالمة �صواب،
ثم ملحوظة �صغرية با�سم ُغفران وملحوظة �أخرى«:حممد الأ�سيوطي يف بداية
ص ع
الطريق».
ع والتوزي
على ال�سرير وحيدة ف�شعرت ب�شعور مرير بحلقها وهي متنع نف�سها عن اخلروج
لر�ؤية ال�سيدة جميلة والتح ّدث معها ،وهي متنع نف�سها من تدريب �آدم والتعر�ض
مل�شاك�سته وال�ضحك مع �أحمد ،تتذ ّكر تلك الليلة حني قر�أت جملة يف رواية وقعت يف
يوما ما
حبها ،حفظت تلك ال�سطور يف عقلها ك�أنها �ستحتاجها ً
«كنت �أرقد يف �سريري �أرمق الظالم حويل يف جميع االجتاهات� ،شاعرا �أن
العامل مل يعد م�شكلتي بعد الآن ،لي�س هناك �شيء بحاجة للقلق من �أجله ،لي�س هناك
�شيء �أنتظر وقوعه ،مل �أ�شعر من قبل ب�سالم نف�سي كالذي �شعرت به يف هذه الفرتة.
هل يكمن ال�سر يف الت�سليم؟ عدم انتظار �أي �شيء؟ الو�صول �إىل قمة املعاناة بحيث
ال ي�صبح هناك �أمل �أكرث؟ حينما �أفكر يف تلك اللحظات �أجد �أن ما فعلته ح ًقا وقتها
تق ُّبل ما �أنا فيه.
«التوقف عن الرغبة ،التوقف عن املقاومة ،اال�ستكانة لتيار احلياة ،ا�ست�سلمت
وعلي فقط التعاي�ش معه».
لفكرة �أنني م�س�ؤول عما �أ�صابني� ،أن ما حدث قد حدث ّ
�أحمد عبد املجيد
187
ولكن هي بالفعل ا�ستكانت لتيار احلياة وتق ّبلت ما هي فيه ،فقررت يف تلك
الليلة �أن ُت�شفى� ،أن ت�صبح طبيعية ،لذا قررت حمادثة �آ�سر ،فهو �أكرثهم تف ّه ًما
لها ،نظرت للدفرت الذي يجاور دفرت �آ�سر ،ثم �أخذته وجل�ست يف زاوية الغرفة
لتكتب �أول ما خطر ببالها.
MMM
ريص ع
ن ل ل ب الكت
توزيع شر وال
188
قد تبلغ املحبة بني �شخ�صني حتى يت�أمل �أحدهما بت�أمل الآخر
وي�سقم ب�سقمه وهو ال ي�شعر.
ابن القيم
الف�صل احلادي ع�رش
تو�أم الروح
ص ع
�سرعا حتى ُيب ّدل ثيابه ليلحق ب�أ�صدقائه يف النادي� ،صعد الدرجدخل املنزل ُم ً
الكت ري
حتى و�صل لغرفته ولكن �أوقفه �أمل غريب يف كف يديه ،فرفعه لنظره لكنه مل يجد
ع
جرحا كب ًريا يف كفها ينزف بغزارة ،ابتلع
مقدمات ونزع قطعة القما�ش منها فلمح ً
ن
ت� ِ
ر ش
والتوزي
ا�ستغربت حديثه وهي تراه يقر بجملته ال يت�ساءل كما فعل �أول مرة ر�آها فيها،
ع
فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�ست�شعر �شعو ًرا غري ًبا داخلها ،ذلك ال�شعور الذي
كان يراودها وهي يف �أق�سى �أيام حياتها ،فقالت بارجتاف«:اترك يدي» ،قال
بهدوء«:يجب �أن نعاجلها �إنها تنزف بغزارة» ،ارتع�شت لنربة احلنان يف �صوته
لتقول بتوتر«:اترك يدي �س�أتكفل �أنا بها» ،حاولت جذب يديها فت�أوه كالهما وهتف
بها بقوة«:توقفي �إنها ت�ؤمل».
التقت عيناهما ب�صدمة للحظات ،وهي حتاول �إبعاد ما ت�شعر به داخلها ،ولكن
ف�ضولها مل مينعها من �أن ت�ضغط جمددًا على جرح كفها ،فلمحت تغ�ضن مالحمه
من الأمل ف�شهقت برعب وابتعدت عنه بقوة ،فرتاجع هو خطوتني للخلف بنف�س
�صدمتها.
ارتفع �صدره وهو يتن ّف�س ب�صعوبة ك�أنه يلهث مما اكت�شفه بينما ات�سعت عيناها
ب�صدمة وهي تهم�س داخلها«:هل يعقل �أنه ي�شعر مبا �أ�شعر؟! هل هو توءمي لهذه
الدرجة؟! هل معنى هذا �أنه ..ال».
191
ملحها وهي تهز ر�أ�سها ميي ًنا وي�سا ًرا ك�أنها ترف�ض �أم ًرا ما ،فابتلع ريقه ب�صعوبة
م�سرعا لي�صعد الدرج ويدلف لغرفته مغل ًقا الباب خلفه. ً والتفت
M
م�سا ًء
دلف من البوابة اخلارجية للمنزل يحمل �سرتته على كتفه ،ويدلك عينيه بتعب
بعد يوم طويل من العمل ،وهو ي�شعر ب�أنه يف حاجة �شديدة للنوم ،ملح بعينيه تلك
ال�سيارة التي تقبع منذ �أيام على بعد �أمتار من بوابة املنزل ،رجال من الأمن �أر�سلهم
ع
اللواء ح�سني للت�أكد من �أمان �أمرية ،بعد الت�أكد من هروب ممدوح ،بالطبع هو مل
الكت ريص
ي�ستطع �أن يخربها احلقيقة ،خا�صة وهو يرى تطو ًرا يف حالتها.
توزيع
التفت منده�شا على نداء �أمرية ا�سمه ،فلمحها تقف �أمام باب احلديقة اخللفية
بارتباك و�شحوب وجهها جعله يقرتب منها بقلق«:ليلى! ماذا حدث؟! هل � ِ
أنت
بخري؟!» �أجابته بنف�س ارتباكها«:نعم ،ال تقلق �أنا»...
ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر مبدى غبائها وت�س ّرعها لأول مرة ،قطع �آ�سر
بك؟!» تراجعت عن نيتها لتقول له ب�سرعة�«:أعتذر�أفكارها وهو ي�س�ألها«:ليلى ماذا ِ
منك ال �شيء ،ت�صبح على خري».
التفتت لتدلف للحديقة اخللفية حتى ت�صل للدرج اخللفي للدور الذي ت�سكن
فيه ،ف�أوقفها نداء �آ�سر«:انتظري ،هناك �أمر حدث معك اليوم �ألي�س كذلك؟!»،
توقفت مكانها وهي تفرك كفها لتقول�«:أنت �أخربتني �إن واجهتني �أي �أ�سئلة �أو �أي
�شيء غري منطقي �أن �أخربك به ..ولكن».
ملح قلقها وتوترها فابت�سم لها بحنو«:ما ر� ِ
أيك يف كوب لذيذ من الع�صري الطازج
يف هذا اجلو اجلميل؟!»
192
رفعت �أمرية عينيها له وحلظات وهزت ر�أ�سها بهدوء باملوافقة .كانت تنقل
نظراتها له وهو يعد امل�شروب وبني باب املطبخ ،فجل�س �آ�سر �أمامها بكوبني من
ع�صري الربتقال وهو يهم�س بهدوء«:ال تقلقي اجلميع نيام يف هذا الوقت».
�أخذت الكوب من يديه وارت�شفته بهدوء وهو يتابعها بعينيه الناع�ستني ،لت�س�أله
بعد حلظات«:هل كان يعاين �أمري من كوابي�س يف �صغره؟!» رم�ش �آ�سر بعينيه �أكرث
قلت؟!»
يتوهم ب�سماع �س�ؤالها«:عذرا ماذا ِ
من مرة وهو ي�شعر ب�أن �إرهاقه جعله ّ
�أعادت �س�ؤالها بحرج ،ف�صمت �آ�سر للحظات يحاول �إخفاء ده�شته من اهتمامها
ب�شيء من ما�ضي �أمري ،ليقول بعد تفكري«:احم ..ح�س ًنا على ما �أتذكر هو عانى
ص ع
فرتة من الكوابي�س ،كان يف العا�شرة من عمره �أو رمبا يف احلادية ع�شرة ،ال �أتذكر
والتوزي
لها بده�شة وهو يلمح �شحوب وجهها ليقول«:نعم»
ع
ارتع�ش الكوب يف يديها فرتكته على الطاولة وهي حتاول تهدئة نف�سها ،لت�س�أله
�س�ؤالها التايل الذي جعله ي�شعر ب�أن هناك �شي ًئا غري ًبا يحدث«:هل من املمكن �أن
يت�صل التوءم ات�صاال مبا�شرا يف م�شاعرهما �أو تكون م�شاعرهما واحدة يف بع�ض
الأوقات؟!» �أجابها �آ�سر با�ستغراب«:تق�صدين التخاطر الروحي �أو النف�سي؟!»
هزت �أمرية ر�أ�سها ففكر �آ�سر بهدوء ثم �أجابها بعملية«:نعم �أحيا ًنا يكون
هناك تخاطر روحي بني التوءم ،وهناك العديد من الق�ص�ص التي تثبت حقيقة
هذا التخاطر ،بالرغم من �أنه ال يوجد دليل علمي يدعم فكرة وجود قدرات ح�سية
فائقة لدى التوائم ،وهذا جعل العلم يقف عاجزا يف تف�سري تلك الظاهرة بنظرية
علمية حمددة ووا�ضحة ،ولذا مل ي�ستطع نفي حقيقتها و�أحيانا النا�س ي�سمونها توءمة
الروح» �س�ألته بف�ضول«:ما هي تلك الق�ص�ص؟!»
�أكمل �آ�سر ُمتذكرا ما قر�أه من قبل«:ما �أتذكره هو ق�صة ا�ستغربت حني قر�أتها
عن فتاة ت�سمى جيما ،وقد �سمعت فج�أة �صوتًا غري ًبا بداخلها يقول لها«:اذهبي �إىل
193
احل ّمام �أنا يف خطر» ،رك�ضت دون وعي �أو تفكري �إىل احل ّمام لتجد �شقيقتها ممددة
يف البانيو مغمورة باملياه ولونها �أزرق.
كانت (ليليان) ال�شقيقة التوءم لـ(جيما) تعاين من (ال�صرع) ،و�صادف �أن
وقعت يف نوبة ال�صرع وهي يف احلمام .قالت جيما وقتها :لو �أنني ت�أخرت دقائق
قليلة كنا فقدناها ،لكن �أحمد اهلل �أنها بخري الآن ،ال �أعرف ما حدث يل لكنني
فج�أة �سمعت ذاك ال�صوت بداخلي يطلب مني الذهاب فورا �إىل احلمام لأن ليليان
حتتاجني».
ا�ستغرب �آ�سر ازدياد �شحوب وجه �أمرية وجمود مالحمها لي�س�ألها بقلق«:ليلى..
ريص ع
الكت
بك؟!»
ماذا ِ
ع
�أمامهما�«:س�أعطيك �إياه ،ولكن لتجل�س �أوال» ،جل�س كالهما على م�ض�ض ،بينما
ينظر �آ�سر لهما بده�شة ،فمد يده وم�سك كف �أمرية و�ضغط على جرحها بقوة فت�أوهت
�أمرية بينما قب�ض �أمري على قب�ضته دون قول �شيء ،ليهتف �آ�سر غري ُم�ص ّدق«:يا
�إلهي» ،كاد �أن ي�ضغط جمددا ليهتف �أمري به بنفاد �صرب«:ال تعيدها جمددًا �إن
كنت �صدقت كالمنا» ،ليرتاجع �آ�سر على كر�سيه وهو يقول بعدم ت�صديق«:توءمة
الروح».
�ساد ال�صمت جمددًا قطعه �آ�سر وهو يخرج من �شروده ليذهب ويح�ضر علبة
الإ�سعافات الأولية ،وجل�س �أمام �أمرية ينظف لها اجلرح ويعاجله.
�أح�ضر �شريط دواء و�أعطى حبة لكل منهما ،وبعد �أن ابتلع �أمري الدواء نه�ض
لي�صعد لغرفته ،وهو يتذ ّكر نزوله بعد �أن كاد الأمل �أن يفتك بر�أ�سه وبكفه فقرر
الذهاب لغرفة �آ�سر ليلمح نور املطبخ ُم�ضا ًء ،و�صوت همهمات تخرج منه ،فاقرتب
بهدوء لي�سمع حديث �آ�سر عن التخاطر الذهني فابت�سم ب�سخرية وهو يعلم جيدً ا
دوما يف �صغره؟!
�أن هناك تخاط ًرا ذهن ًيا بينه وبني تلك الغبية� ،أمل يتحدث معها ً
195
و�أوقات �أخرى كانت ُتدثه فهو الوحيد الذي كان واث ًقا من �أنها على قيد احلياة،
واث ًقا وخائ ًفا يف نف�س اللحظة.
قاطع تفكريه �آ�سر وهو ي�أمره ب�أن يجل�س ،ف�ساد ال�صمت للحظات جمددًا،
اجلمود يحتل مالحمهم فتنهد �آ�سر ب�ضيق ليقول«:ح�سنا �أنتما مت�صالن وبينكما
تخاطر ذهني ،كالكما ي�شعر ب�آالم الآخر ،يا �إلهي �أنتما توءم ،فلماذا تت�صرفان
هكذا؟! �أمري ما �سبب هجومك الدائم على ليلى؟».
رفع �أمري عينيه بجمود وملحة �أمل مرت ليخفيها �سريعا ،وهو ي�شيح ب�أنظاره عن
عاما لتحيا �آ�سر ليقول بدفاع«:من يهاجم من؟! عادت بعد غياب ثمانية ع�شر ً
ص ع
معنا لأكرث من �شهر وما زالت حتمل بني مالب�سها �سكينها ،هددت والدنا بها،
الكت ري
و�آملت قلبه بكلماتها ،و�أمي تت�أمل كل يوم ل�صعوبة احلياة بطبيعية جمددًا ،ت�شاركنا
توزيع
ف�أ�صبحت تتحدث معك �أنت فقط� ،إن كان عدم تق ّبلي لوجودها هو هجوم ح�س ًنا �أنا
�أهاجمها».
مل تهتز �شعرة يف مالمح �أمرية بينما داخلها يتلوى �أملًا مما �سمعته ،ال تعلم َمل
ت�شعر به؟!
�ساد ال�صمت للحظات ليقول �آ�سر بابت�سامة وهو يع ّدل من جل�سته«:هل تغار؟!»
رفع �أمري ر�أ�سه له وهو يرم�ش بعينيه ليقول با�ستنكار«:ماذا؟!» حاول �آ�سر كبت
�ضحكة تكاد تخرج منه ومالمح الغرية تظهر وا�ضحة يف كالم �أمري ليكمل �آ�سر
يل �أنا» قال �أمري بربود�«:أمل
مبكر�«:أت�ساءل فقط ..مبا �أنك غا�ضب لأنها تتحدث �إ ّ
ت�ستمع لكلمة مما قلته؟!»
هجومك الدائم ليلى
ِ ابت�سم �آ�سر له والتفت لي�س�أل �أمرية بهدوء«:ح�سنا ما �سبب
مل ال �أهاجمه؟!» على �أمري؟!» لتجيبه بربود هي الأخرى�«:إن�سان مغرور ُم ّ
تكبَ ،
جمعت هذه الأفكار التي
ِ خفتت ابت�سامة �آ�سر وهو يلمح �أمري يقول بغ�ضب«:هل
�أخذتها عني خالل �شهر ونحن مل نتحدث ثالث كلمات مع بع�ض لتخرج يف هذه
196
ال�صورة مغرور ،متكرب؟» �أجابته �أمرية ُمت�س ّلحة بربودها«:ال �أحتاج لوقت كبري يف
احلكم على الأ�شخا�ص».
نه�ض �أمري بربود م�صطنع ثم انحنى ليقول �أمام وجهها�«:أو رمبا ما ت�شعرين به
داخلك ما هو �إال مر�آة ملا هو داخلي� ،ألي�س بيننا تخاطر ذهني؟!»
ِ
ارجتفت �أمرية للحظة بينما التفت �أمري لريحل من املطبخ وهو ي�شعر بغ�صة
كبرية تقتات على قلبه ب�أمل ،بينما �آ�سر يتابعهما ب�صمت� ،ساد ال�صمت للحظات
أنت بخري؟!»
و�آ�سر يلمح ارتعا�ش �أمرية للحظة لي�س�ألها«:هل � ِ
�صمتت حتى ظن �آ�سر �أنها لن جتيبه لتفاج�أه ب�س�ؤاله«:ما الذي حدث لأمري
ريص ع
عندما كان يف الثانية ع�شرة من عمره؟!» �ضيق �آ�سر ما بني حاجبيه يتذ ّكر ما
ع والتوزي
هناك وجده يف حمام مبنى مهجور يف املركز التجاري ي�صرخ ب�أعلى �صوته �أن ينقذه
�أحدهم ،وبدا ك�أنه تاه هناك ورجال الأمن وجدوه �أثناء ت�أمينهم على املركز يف
دوريتهم بال�صدفة ،فاملكان كان مهجو ًرا وال يدخله �أحد»� ،أغم�ضت �أمرية عينيها
بقوة وهي ترفع يدها لقلبها وتتنف�س ب�صعوبة وذكرى جاءتها وا�ضحة.
أرجوك� ..أنا خائف» ،ثالث جمل مل ت�ستطع كتم �صداها
أحتاجك ..تعايل � ِ
ِ «�أنا �
يف ر�أ�سها ،والآن فقط �أدركت معناهم.
نه�ض �آ�سر واقرتب منها بهدوء وهو يلمح مالحمها املُت�أملة و�ضمها ل�صدرها
بيديها فناداها ،وكاد يلم�س كتفها حتى جتمد مكانه وهو يلمحها تبكي!
نظر �آ�سر لها بده�شة وهو يرى انهيارها دون �سبب مفهوم له ،وهي حتاول
جاهدة منع دموعها من ال�سقوط ،فاقرتب منها و�ضمها ل�صدره بحنان �أخوي وهو
يناديها«:ليلى» لتقول من بني دموعها«:لهذا هو يكرهني ،يا �إلهي� ،أنا مل �أخذل
�أحدً ا من قبل� ،أق�سم �أنني مل �أكن �أعرف �أن هناك �أحدً ا وراء تلك الأ�صوات ،مل �أكن
�أعرف �أنه ي�ستغيث بي و�أنا جتاهلت نداءه يا �إلهي� ،أنا �آ�سفة».
197
ازداد �آ�سر يف �ضمها له وهو يحاول فهم ما تقوله ،ومل يلمح ذلك الذي كان
يقف خارج املطبخ ُم�ستندً ا على احلائط بعيدً ا عن �أعينهما ،لتخونه دموعه وت�سقط
نداءك
ِ أنقذك� ،أنا � ً
أي�ضا جتاهلت ب�صمت هام�سا«:و�أنا � ً
أي�ضا �آ�سف ب�شدة لأنني مل � ِ
ومل �أ�ستطع فعل �شيء».
بعد يومني
نه�ض من مكانه وهو يلمح والدته تنزل الدرج ،ف�س�ألها بلهفة«:هل �ستنزل؟!»
هزت جميلة ر�أ�سها بال ،وهي جتل�س بجواره ويبدو �أن احلزن زاد من �سنوات
بهم«:ال �أعلم ما الذي حدث لها يا بني؟! َمل انتك�س حالها جمددًا؟!
عمرها لتقول ٍّ
ريص ع
َمل عادت لقوقعتها؟! لقد ارتاح قلبي عندما بد�أت يف النزول هنا واجللو�س معنا ولو
الكت
لوقت ق�صري» ،اقرتب �آ�سر و�ضم ذراع والدته بحنان وهو يهم�س«:ال تقلقي يا �أمي،
توزيع
بخري؟!»
تنهد �آ�سر وهو يعتدل يف جل�سته وي�ضم كفيه ليقول«:لقد حدث �شيء �أمي».
رفعت جميلة عينيها الدامعتني وهي تنظر له با�ستغراب حتول ل�صدمة ،بعد
ا�ستماعها ملا حدث بني �أمرية و�أمري ،رفعت كف يديها لفمها وهي تهم�س«:يا �إلهي».
تنهد �آ�سر بتعب وهو يكمل �شاردًا�«:أمرية تلوم نف�سها لأنها مل تكن موجودة
أي�ضا يلوم نف�سه» ،ات�سعت عينا جميلة بده�شة وهي وقتما تاه �أمري ،و�أظن �أن �أمري � ً
ت�س�أله عن ال�سبب ليجيبها�«:إن كانت �أمرية قد �شعرت به وبندائه �أثناء تلك احلادثة
ف�أمري قد �شعر بها يف فرتة طفولتها� ،أو رمبا ر�أة ما مرت به ،ال �أعرف».
�أخذت جميلة تفكر يف كالم �آ�سر للحظات ،حتى قالت«:يا �إلهي ..كوابي�سه!»
أي�ضا فكر يف ذلك ليقول«:ال �أظن �أن الأمر اقت�صر
فكر �آ�سر يف جملة والدته هو � ً
على الكوابي�س �أمي ،يجب �أن �أحتدث معه».
م�سكت جميلة كف �آ�سر وهي تهم�س بدموع�«:آ�سر �أنقذ �إخوتك� ،أعدهما يل».
198
التمعت الدموع يف عيني �آ�سر ،واحت�ضن �أمه بقوة وهو يق ّبل جبينها«:ال تقلقي
�أماه ،كل �شيء �سيكون بخري� ،أال تثقني يف ابنك الطبيب� ،أمل ت�سمعي كالم النا�س
ابنك طبيب ماهر».عني باخلارج؟ ِ
ابت�سمت جميلة بني دموعها وهي ت�ضم نف�سها حل�ضنه الآمن لتقول بحب«:بارك
اهلل فيك يا بني ،وحماك �أنت و�إخوتك من كل �شر»� ،أغم�ض �آ�سر عينيه وهو ي�ؤمن
خلف والدته.
M
منزل زمرد
ع
�ضعفها ومنحها القوة لتكمل لتعود من جديد طفلة ترى كل ما حولها جميال ،رحاب
�أختها ال�صغرية الكبرية القلب ،رحاب التي بد�أت يف التوا�صل معها ومعاملتها ك�أخت
مقربة لها وهي تنهل من هذا احلب ،رحاب التي تف ّهمت حديثها وقت انهيارها عما
حدث بينها وبني ممدوح دون �أن تع ّلق ب�شيء ،وهي ت�س�ألها �إن كان اهلل �سيغفر لها
ذنبها ،رحاب التي قابلت �أ�سئلتها برحابة �صدر ومل تبتعد عنها وتبعد عينيها عنها
ك�أنها تنفر من فعلتها ،فلم تتوقف عن التح ّدث معها بل اقرتبت �أكرث و�أكرث ك�أنها
تعو�ضها عن �صدمة والدتها بها و�صمتها عن احلديث معها بعد ما �سمعته ،فلقد
كانت موجودة حلظة انهيارها ،والدتها مل تتق ّبل �أن تفقد ابنتها �شرفها حتى �إن
كانت خمطوفة!
�شردت؟!» ابت�سمت زمرد وهي تقول«:ال �شيء ،هيا فال يجب
ِ «هاااي �إىل �أين
�أن نرتكها كل هذا الوقت» ،قالت رحاب وهي حتمل �أكواب الع�صري�«:أنا �أجل�س
معها فقط من �أجلك ،فهي ذات ل�سان �سليط ،ولن �أ�سمح لها بالتق ّرب منك ففي
النهاية هي �صحفية» ،ابت�سمت زمرد بحنان لها وهي تعي عمن تتحدث ،فاليوم
زارتها خطيبة يامن ،وق�ضت معها وقتًا ً
طويل وهي تع ّرف عن نف�سها وعن عملها
199
وعن ارتباطها بيامن وق�صة حبهما التي حاربا من �أجلها ،يامن! يامن الذي توقفت
عن ر�ؤيته منذ �أ�سبوع ،بعد انهيارها مل تقو على اخلروج من املنزل ،فطلبت من
رحاب �أن تت�صل بالطبيبة وت�سرد لها ما حدث ،وتطلب منها القدوم للمنزل هذه
الأيام ،الطبيبة التي بد�أت يف التعاون معها ،وقد بد�أت يف التق ّرب منها يف حماولة
للو�صول لأعماقها ،تنهدت وهي تفكر �أن ال و�سيلة لأحد للو�صول لأعماق �آخر ما مل
ي�سمح له بذلك.
خرجا من املطبخ لرتى زمرد �سايل وهي جتل�س على مقربة من والدتها ويبدو
�أنهما كانتا تتهام�سان على �شيء ،ف�صمتتا فور خروجهما ،نه�ضت �سايل لت�أخذ كوب
الع�صري اخلا�ص بها من رحاب دون كلمة �شكر ،وهي توجه حديثها لزمرد«:ما
ريص ع
ر�أيك يا زمرد يف الأثاث احلديث� ،أرى �أنه يجعل املكان �أجمل؟!» نظرت لها زمرد
ب الكت
بابت�سامة وهي ت�سمعها تناديها بزمرد كما يفعل يامن و�سليم لتجيبها«:ال علم كاف ًيا
توزيع
طابعه احل�سن».
ظننتك على علم
ِ نظرت لها �سايل بهدوء وهي حتاول �أن تدر�سها لت�س�ألها�«:آه
بذلك ولكن بالطبع بحكم معي�شتك يف العري�ش ال تعرفني الكثري »...نظرت لها
زمرد غافلة عن مق�صدها لتجيبها رحاب«:وما عالقة العري�ش بق�صة �أثاثك
�سايل؟ و َمل تتحدثني ك�أن العري�ش بلد من الع�صر القدمي؟ �أو �أن التكنولوجيا مل
ت�صلها ،التط ّور يف كل مكان موجود»
نظرت �سايل لرحاب بت�سلية وهي تقول«:بالطبع ،ولكن مما �أعرفه عن م�سكن
أمتمت
زمرد ال�سابق هو �أنه كان يف ال�صحراء يف منطقة بعيدة عن الإ�سكان� ،آه هل � ِ
لك؟!»
تعليمك زمرد �أم مل ي�سمحوا ِ
ِ
طويل لتقول ب�صراحة«:بلى �أمتمته� ،أنا �أنهيت حقوق بامتياز،نظرت زمرد لها ً
فلقد كان لزاما علينا �أن نكمل درا�ستنا يف جمال معني يختارونه لنا لكي ننفعهم
بوجودنا».
�ساد ال�صمت يف املكان لتلمح زمرد والدتها وهي ت�ست�أذنهم لت�سرتيح ً
قليل،
والدتها التي تهرب من �أي حديث يعيدها لنقطة خطف ابنتها واغتيال �شرفها.
200
�شعرت بلم�سة رحاب ليديها فنظرت لها لتجدها تنظر لها بحب ،لت�سمع �سايل
وهي تقول«:ما ر�أيك لو خرجنا م ًعا زمرد؟!»«:،ال» ،خرجت من رحاب قوية وهي
تقول«:زمرد ال تخرج ب�سبب �أوامر الأمن ،يامن �أ�صر على ذلك و�أكد عليه» ،مل
تنظر �سايل لرحاب وهي تدر�س �صمت زمرد لتقول لها«:اهدئي حبيبتي �أنا لن �آكل
�أختك� ،أنا �أعر�ض عليها فقط اخلروج معي لن�شرتي بع�ض املالب�س ،و�سيكون هناك
رجل �أمن معنا و�سيو�صلنا ليامن ،ف�أنا �أريد مفاج�أته اليوم يف العمل ،هو يحب كث ًريا
�أن �أزوره بالعمل».
�سمعت رحاب نداء والدتها لها فنظرت لزمرد بارتباك ال تريد �أن ترتكها مع
تريدك يف �شيء
ِ تلك احلية ،لتقول لها زمرد باطمئنان«:اذهبي لأمي رحاب ،فحت ًما
ريص ع
مهم».
ر ش
والتوزي
ال�صمت للحظات لت�سمع زمرد �سايل وهي تقولِ �«:
أنت ال ت�سمعني الأخبار �ألي�س
ع
حتميك هكذا
ِ عائلتك تظن �أنها
ِ كذلك؟!» ،ف�أجابتها زمرد بالنفي لتقول بخبث«:
تبعدك فقط عن امل�شاكل وال تعاجلها»� ،س�ألتها زمرد با�ستغراب«:ملاذا
ِ وال تعلم �أنها
تقولني هذا؟!».
اقرتبت �سايل لتجل�س يف الكر�سي املجاور لزمرد لتقول«:ال�صحافة تتحدث
عن الق�ضية التي قلبت الر�أي العام ولرف�ض الأمن الوطني البوح ب�أي �أمر يتعلق
بالق�ضية ،ومنع ال�صحافة من التح ّدث مع ال�ضحايا ،بد�أت اجلرائد يف ن�سج ق�ص�ص
عالقتك مع ذلك
ِ غري حقيقية فقط من �أجل جذب النا�س �إليهم ،ومن حديثهم
معك بحوار �صحفي نو�ضح فيه للنا�س الرجل ممدوح� ،أنا �أخربت يامن ب�أن �أقوم ِ
احلقيقة لكنه كالعادة يرف�ض و ،»...مل ت�سمع زمرد �أي �شيء مما قالته �سايل بعد
عالقتك مع ممدوح» ،هي تعرف والنا�س كلها تعرف� ،شعرت باملهانة وهي ِ جملته«:
تعي �أن �أذية ممدوح لها ما زالت �سارية ،ا�ستغفرت يف �سرها فلم متنع دموعها من
إزعاجك� ،ساحميني
ِ ال�سقوط ،لتقرتب �سايل منها وهي تقول«:عزيزتي �أنا مل ق�صد �
أرجوك �أنا فقط �أردت �أن �أخربك� ،أنا مل �أرد �إال امل�ساعدة� ،ساحميني».
� ِ
201
م�سحت زمرد دموعها وهي تقول بهدوء«:ال مل يحدث �شيء� ،أنا فقط متعبة
أ�صدقك ،ح�س ًنا حتى �أت�أكد � ِ
أنك �ساحم ِتني �ست�أتني ِ قليل» ،قالت �سايل�«:آه �أنا ال �
ً
معي لن�شرتي بع�ض الثياب ،هيا �سوف ن�ستمتع كث ًريا ،و�أعدك �أننا لن نت�أخر و�سن�أخذ
رجل �أمن معنا و�سنذهب يف النهاية ليامن �سي�سعد كث ًريا بر�ؤيتنا».
M
النادي
مرت مدة على و�ضعه وهو �شارد يف كل ما حدث� ،صباحا بعد �أن �أنهى رك�ضه
تفاج�أ ب�آ�سر الذي جاء ليطمئن عليه ،ويف عينيه الكثري من الت�سا�ؤالت ،جل�سا و�سرد
ريص ع
الكت
له �أمري كل ما �شعر به من م�شاعر توا�صل بينه وبني �أمرية طوال تلك ال�سنوات
توزيع
ذلك اليوم الذي دار فيه بينه وبينها حديث ،كانت املرة الأوىل التي تتناول فيها
الغداء معهم ،تذ ّكر انطواءها على نف�سها وقت ح�ضور والده ليزداد مع ح�ضوره ،عاد
بذاكرته لذلك اليوم وهو يتذكر فخر �أخيه مبا تع ّلمه منها وهو يخربهم ليبوح والده
عن فخره هو الآخر ،فلمح خجلها املرافق الرتباكها من كالمهم ،لينتف�ض بعدها
من مكانه وهو ي�شعر باختناق روحه ،تذ ّكر تتبعها ملكانه وهو ي�سدد �ضرباته لكي�س
املالكمة يحاول جاهدً ا �إخراج كل تلك ال�شحنات ال�سالبة منه لي�سمعها تخربه ب�أنه
�سي�ؤذي نف�سه هكذا لت�سديده اخلط�أ� ،سخر منها وقتها وهي تخربه ب�أن �ضرباته غري
ُمنتظمة و�سي�شعر ب�آالم يف يديه ،ال يعلم ملاذا انتف�ض وقتها لي�صرخ بوجهها«:يبدو
بونك على القتال يف حالة ا�ضطررت �أنك على خربة جيدة باملو�ضوع ،هل كانوا ُيد ّر ِ
أجيال تكمل عملهم».
ملقابلة �أي خطر �أم كان هذا هو �أ�سا�س اختطافهم لك ُلي ّبوا � ً
تن ّف�سه الغا�ضب وهذره الذي يبدو �أنه �أ�صابها يف مقتل جعل رد فعلها غري متوقع
له وهي ترفع كفها لت�صفعه على وجنتيه ،لينظر لها ب�صدمة غري ُم�صدق ما قامت
به ليتجمد مكانه ،وهو ي�سمعها تقول ب�صوت ميت«:مل يجعلونا نتدرب بل و�ضعونا يف
202
قتال� ،آمرين �إيانا ب�أن نفوز و�إال املوت� ،ضرباتنا مل نكن نوجهها لكي�س من املالكمة
بل كي�س من عظام وحلم �أو بالأدق �إن�سان».
كما بد�أ الهذر فج�أة انتهى فج�أة ،وهي تلتفت باجتاه الدرج لت�صعد يف هدوء
ُمغلقة باب ال�شقة خلفها ،ك�أنها مل ت�صفعه منذ قليل بكالم �آذاه �أكرث من �صفعة
الوجه.
قب�ض على �صدره وهو ي�شعر بارتعا�ش ج�سده و�أمل بغي�ض �سكن �صدره ،ليعود من
ذكرياته وهو يزفر ب�ضيق ليلمح �آ�سر وهو يقرتب منه ويف يديه علبتان من الع�صري،
ف�أعطاه واحدة وجل�س بجواره وهو يتناول خا�صته ،ليبادر �أمري ب�س�ؤاله«:هل تثق
ب�أننا ميكننا �إنقاذها؟!» قال �آ�سر بغرور م�صطنع�«:أنت تهني قدراتي كطبيب
ر ش
والتوزي
لها و�إنقاذها بن�سبة �سبعني يف املائة فالآن و�أنت معي الن�سبة تعدت املائة باملائة»،
ع
التفت �أمري له وحتدث بجدية�«:أنا م�ستعد لفعل �أي �شيء من �أجلها».
ابت�سم �آ�سر له بحب وتفا�ؤل �أن القادم حتما �سيكون �أف�ضل مما فات ،ليقول له
بجدية«:عليك �أن تتق ّرب منها �أمري� ،أدخل نف�سك يف حميطها الآمن ،يف اللحظة
الأوىل التي �ستنعم فيها بوجودك الفعلي ال�صادق بجوارها �ستنهار كل ح�صونها،
�ستدرك معنى امل�شاعر احلقيقية ،معنى العطاء ،مع الأمان واالطمئنان ،دعها ترى
حب والدينا لك وحنان والدتنا لك ،دعها ترى �أبوتك املبكرة لأحمد و�آدم ،دعها ترى
م�شاعرك احلقيقية حتى ت�أمن مل�شاعرها احلقيقية» ،هز �أمري ر�أ�سه بتفهم وهو
يجيب �آ�سر ب�صدق�«:س�أفعل �أعدك».
تنهد �آ�سر وهو ي�ست�شعر الأمل ،لغز �أمرية حله بيد �أمري وحده القادر على فك
�آخر لغز يف احللقة ،لتكتمل الأحجية ويتم فك اللعنة ،تذ ّكر كلمات التي حفرت �أث ًرا
كب ًريا داخله بعد �أن تركت دفرتها ذلك اليوم ليقر�أه.
«كلنا �أ�سری ل�شيء ..كنا ُمق َّيدات بقيو ِد وهمي ِة متنعنا من العديد من الأ�شياء
من �ضمنهم العي�ش ،و�أهمها ال�شعور بالأمان.
203
مغم�ض العينني � ِآم ًنا يف بيتك كان حل ًما لنا ،رغم �سننا ال�صغرية �إال �أن
َ �أن تنام
ل�صفعات احليا ِة
ِ الرياح بال خوف ،ب�إمكاننا الت�صدي
ِ كان ب�إمكاننا �أن نقف يف مهب
بال كلل� ،أتعلم ملاذا؟! لأننا ِاعتدنا الأمل والأ�سو�أ ِاعتدنا اخلوف ،ر�أيناه يف �أب�شع
�صوره ،يف املكوث ليلة كاملة يف غرفة ُمظلمة ت�ضيق من حولك وعينيك ال تتحرك
َ
متنحك �إياه من على ج�سد �صغرية ُتاورك ،تتل َّم�س فيها دفء من امل�ستحيل �أن
وملاذا؟! لأنها فاقدة الروح .ر�أيناه يف انتهاك �أحالمنا ف�صارت الكوابي�س حل ًما لنا،
العقوبات حتى ال نفكر حني نكرب
ِ ر�أيناه يف زلة ب�سيطة نقع فيها فنت ّلقى عليها �أب�شع
�أن نخطئ� ،سياطهم مل ترتك �أث ًرا على �أج�سادنا بل ُحفرت يف �أرواحنا ،م�شوهات!
يوما على �أن ني�أ�س رغم كل �شيء ،غري ودودات! حمتمل ،فماذا رمبا ،ولكن مل نعتد ً
ص ع
تتوقع من �شخ�ص فقد كل معاين الود يف �صغره ومل يكرب �إال على الق�سوة واجلفاء.
الكت ري
لكن برغم كل هذا ما زال لدينا قلب ،بذرة و�ضعها اهلل يف قلوبنا ال تت�أثر بكل
توزيع
عند ر�ؤية فرا�شة نقية تطري ب�أجنحتها ال َّرباقة ،كان قلبنا يئن وج ًعا كلما ملحنا � ًأما
ُتر ّبت على كف ِابنتها و�أ ًبا يحمل ابنه على كتفه ،كان قلبنا يرفرف ب�سعادة حني نرى
طيارة ورقية ت�ستطيع �أن تعلو وتعلو يف ال�سماء الوا�سعة رغ ًما عن اجلميع ،ورغ ًما عما
�صنعته منه ،العطب كان بروحنا ال بقلبنا ،ولهذا ما زلنا على قيد احلياة حتى الآن
يوما ما ت�صفو روحنا».
نداويه لع ّل ً
�أمرية لديها تلك البذرة وهو لن يرتكها ،حتى يرويها مب�ساعدة عائلتهما.
MMM
204
�شخ�صا كيف مي�شي واحد م ّنا �إذا فقد ً
�شخ�صا؟! �أنا حني فقدت ً
توقفت كان هو املا�شي و�أنا �أتابعه ،كنت املا�شي فيه وحني توقف
مل تعد يل قدمان
وديع �سعادة
الف�صل الثاين ع�رش
�سهيلة
ص ع
نه�ض يامن من على كر�سيه عندما ملحها تدلف ملكتبه مع �سايل ،فنظر لهما
الكت ري
ب�صدمة وهتف«:ما الذي تفعالنه هنا؟!» ،اقرتبت �سايل بابت�سامتها وق ّبلت وجنتيه
ريص ع
قليل معي حتى �أنهي عملي و�أت�أكد من خروجنا من املركز عن زمرد ف�ستنتظر ً
والتوزي ر
أعهدك عدمية امل�س�ؤولية �سايل» ،طالت النظرات بينهما للحظات ،ف�أخف�ضت مل � ِ
ع
بغل مكتوم ،وا�ستدارت لزمرد وابت�سمت �سايل نظرها للأر�ض وم�سكت حقيبتها ٍّ
اهتماما حلديثي مع حبيبي،
ً ابت�سامة تكاد تكون قبيحة ،وقالت بربود«:ال تعريي
فنحن معتادان على هذا ،عذرا لن نكمل جولتنا اليوم ب�سبب الإجراءات الأمنية ،لذا
�إىل اللقاء للوقت الذي ي�سمح لنا عزيزنا يامن فيه باخلروج».
خرجت �سايل من الغرفة بغ�ضبها وهالتها ال�سوداء ،بينما كانت زمرد تنظر
يف الفراغ الذي خ ّلفته �سايل بفم مفتوح وهي م�صدومة مما حدث� ،شيء بداخلها
�أخربها �أن مكنون �سايل لي�س كظاهرها ،وهذا �أفزعها للحظات ،رفعت عينيها
ليامن فوجدته عاد لكر�سيه وهو ينظر للأوراق التي �أمامه برتكيز وك�أن ما حدث
�صدمتك فاجل�سي على احد
ِ انتهيت من
ِ مل يحدث معه ،قاطع تفكريها �صوته�«:إن
الكرا�سي حتى �أنهي ما بيدي» ،ابتلعت زمرد ريقها ب�صعوبة وحتركت بارتباك لأبعد
كر�سي يف الغرفة ،وجل�ست وهي تع ّدل من حجابها بطريقة ال �إرادية منها.
مرت ن�صف �ساعة وال�صمت ي�سود املكان ،ف�شعرت زمرد بكرب غبائها وما
�أو�صلها ملا هي فيه الآن ،فتحدثت ب�صوت خافت�«:أنا �آ�سفة خلروجي دون �أن
207
�أخربك»� ،أجابها يامن بجمود وهو ما زال ينظر للورق �أمامه«:ا�صنعي معرو ًفا
�صوتك ،ف�أنا �أكاد �أ�سيطر على غ�ضبي»� ،شعرت زمرد برغبة ُملحة
ِ يل وال ُت�سمعيني
يف البكاء فهتفت ب�أول �شيء جاء يف بالها�«:أنا �أريد �أن �أ�صلي» ،جتمدت يده على
الورقة املُم�سك بها ورفع ر�أ�سه لها ،فنظر لها للحظات وهو يراها قد اختلفت عن
�آخر مرة ر�آها فيها ،لقد �أ�صابتها حالة من الوهن ،ولكن وهن جميل ،نظر �إىل
ن�ضوجا م�ؤملًا ،اجتاحته رغبة قوية ب�أن ي�ضمها
ً هالتها املالئكية بحجابها وهو يرى
ل�صدره يزيل �أملها ويحميها من �أي �شر قد ي�صيبها ،كاد �أن يبت�سم ،ت�أثرياتها عليه
�أ�صبحت خطرة� ،أخف�ض ر�أ�سه للورق �أمامه وتنهد بخفوت و�أجابها ب�صوت هادئ،
ُم�شريا بيديه لباب يقبع بجوار مكتبه«:هذه غرفة �أجل�س فيها وقت راحتي بالداخل
ريص ع
ت�ستطيعني ال�صالة».
شر وال
ُمغلقة الباب خلفها� ،أرجع يامن ر�أ�سه على حافة الكر�سي ُم ً
غم�ضا عينيه يهم�س
توزيع
لنف�سهِ �«:أع ّني يا اهلل» ،جملة �شاركته فيها وهي ت�ضع يديها على قلبها الذي
ينتف�ض مكانه بينما ت�ستند بج�سدها على الباب ،مل تكن تظن �أن ر�ؤيته �ستبعرث
دواخلها بهذه الطريقة ،فتحت عينيها تت�أمل الغرفة� ،أريكة �صغرية وبجوارها مكتبة
حتوي على العديد من الكتب وامللفات ،ويف اجلهة الأخرى مكتب �صغري مو�ضوع
عليه العديد من الأوراق ،و�ضعت حقيبتها على املكتب واجتهت لآخر الغرفة وو�ضعت
�سجادة ال�صالة و�صلت لربها.
بعد مرور بع�ض الوقت من الدعاء نه�ضت وهي ت�شعر ب�أنها �أف�ضل ً
حال ،ال�صالة
كال�سحر قادرة على فعل العديد من املعجزات ،طوت ال�سجادة وو�ضعتها مكانها ثم
حتركت جتاه املكتب و�سحبت حقيبتها فوقع بع�ض الأوراق من على املكتب ،و�ضعت
حقيبتها ُم�سرعة على الأر�ض و�أخذت جتمع يف الأوراق لت�ضعها على املكتب و�أثناء
نهو�ضها ملحت جز ًءا من وجه يظهر من ورق مو�ضوعة داخل ملف� ،شعرت ب�أن ذلك
الوجه م�ألوف لها ف�سحبت الورق حتى ظهرت مالمح الوجه �أمامها ،ف�شحب وجهها
و�شهقت ب�صدمة ،وقعت الورقة من يديها وتراجعت خطوتني للخلف يف نف�س اللحظة
أخرت!»
أنت بخري زمرد؟! لقد ت� ِ التي طرق فيها يامن الباب وهو يهتف«:هل � ِ
208
بتيه للورقة املُلقاة على الأر�ض ودموعها تنهمر من عينيها غري كانت تنظر ٍ
ُم�صدقة� ،أعاد يامن الطرق مرة واثنتني حتى �أ�صابه القلق ،فدلف للغرفة ور�آها
بهذه احلالة ،ارتعب يامن للحظة واقرتب م�سرعا وهو يتحدث بقلق«:زمرد ماذا
بك؟! َمل تبكني هكذا؟!» مل جتبه وعيناها ما زالت على الورقة وهي تهز ر�أ�سها ِ
بالرف�ض ،فتتبع بعينيه نظراتها حتى ملح �صورة �ضحية يف جرمية يبدو �أنها وقعت
م�سرعا و�أخذ الورق وطواها داخل امللف ،وهو يعتذر لها لر�ؤيتها
ً من ملف ،فاقرتب
لهذا املنظر ظنا منه �أنها ت�أثرت ب�صورة الفتاة امليتة ،اقرتبت منه و�أبعدت يديه عن
امللف وهي تعيد فتحه جمددًا وترى ال�صورة جمددًا وهم�ست بوجع«:لقد ماتت..
لقد قتلها».
ريص ع
كان دور يامن هذه املرة يف ال�صدمة فتحدث بحذر«:هل تعرفينها؟!» ،ابت�سمت
والتوزي
فقط �أنا مت ،الآن فقط فقدت نف�سي ،هل �أعرفها! لأجلها فعلت كل ما فعلته ،لأجلها
ع
فقط �ضحيت بكل �شيء».
�أنهت زمرد جملتها وهي ت�شعر ب�أن الأر�ض متيد بها لت�ست�سلم للظالم الذي
جذبها لأعماقه فلم ت�سمع نداءات يامن با�سمها.
MMM
209
-ذكرى -
مل تعلم كم مر الوقت عليها وهي نائمة ،نه�ضت من �سريرها وهي تنظر حولها
فلم جتد �سهيلة ،نادتها �أكرث من مرة ولكن ال �شيء فقط الظالم يحيط بالغرفة،
�أ�شعلت النور ونظرت لل�ساعة على احلائط لتجدها احلادية ع�شرة م�سا ًء«:لقد منت
ع
كث ًريا ،يا �إلهي لقد كان دور �إنفلونزا قو ًيا هذه املرة ،ولكن �أين ذهبت �سهيلة يف هذا
الكت ريص
الوقت؟!» وقع قلبها يف رجلها وعقلها يذهب بها لأمر واحد«:ممدوح».
توزيع
يف الأروقة ،وتنادي ا�سمها ب�صوت خافت ،ثم نزلت للدور ال�سفلي وهي ت�سعل بقوة
ف�أخذت تبحث عنها يف الغرف واملطبخ ولكن ال �شيء ،رفعت ر�أ�سها للأعلى ثم
ابتلعت ريقها ب�صعوبة وكادت �أن ت�صعد جمددًا للغرفة التي تخ�شاها ،ولكن �أ�صوات
مكتومة و�صلت لأ�سماعها ،التفتت لتتبع تلك الأ�صوات ب�أذنيها حتى وجدتها ت�أتي من
اخلارج ،فتحت باب املنزل فلفحتها برودة اجلو يف هذا الوقت ويف طق�س ال�شتاء
القار�س الربودة ،بينما �صوت الرعد يدوي يف ال�سماء واملطر ينهمر بقوة ،ارتدت
معط ًفا �شتو ًيا كان على الأريكة وخرجت وهي تتبع تلك الأ�صوات وت�سعل ب�إعياء،
فوجدت الأ�صوات ت�أتي من احلظرية الكبرية ،توجهت لها بخطى ثابتة وهي ت�شعر
باخلوف يت�س ّلل لقلبها ،و�صلت فلمحت �سمر وخلود تتهام�سان ب�ضحك وهما تقفان
�أمام الباب ،فتتبعت بعينيها ملا تنظران �إليه ،فوجدت �سهيلة تتقاتل مع خديجة
وممدوح يجل�س على بعد منهما ،وهو يتابعهما بعينيه القذرتني.
هتفت ب�إعياء«:ما الذي يحدث هنا؟!» التفتت �سمر وخلود لها ونظرت خلود
عليك �أن تكوين هنا الآن» ،كادت زمرد �أن تدلف للحظرية حني
لها ب�ضيق«:ال يجب ِ
لك بالدخول» ،هتفت زمرد بها بغ�ضب«:ابتعدي منعتها �سمر بقوة«:غري م�سموح ِ
عن طريقي �سمر» ،نظرت خلود ل�سمر نظرة ذات معنى وهي تبت�سم بخبث«:ح�سنا
210
كما تريدين» ،ابتعدت االثنتان عن طريقها ف�شعرت زمرد بالريبة ،ولكنها مل ترتدد
للحظة وهي تلمح �سهيلة تتلقى العديد من ال�ضربات من خديجة ،تلك الفتاة التي
زارتهم من �أ�سبوعني ومل ُترحل بعد.
�أوقفهما ممدوح وهو يرى زمرد تدلف بغ�ضب �شديد ومالمح الإعياء تبدو على
معك يا منرة» ،هتفت زمرد وجهها ،هم�س بداخله«:يبدو �أن املخدر مل يكن قو ًيا ِ
بغ�ضب«:ما الذي يحدث هنا؟!»� ،أجابها ممدوح بربود وهو ينظر لها بنظراته
الكريهة لها«:اختبار الكفاءة»� ،أجابته زمرد ب�صدمة«:لقد انتهى هذا االختبار
منذ زمن ،و�أنت تعلم �أن ُغفران قد هددتك بعدم القيام به جمددًا ،ومن وقتها ومل
يعد لهذا االختبار معنى».
ر ش
والتوزي
ارتع�ش ج�سد زمرد للحظة ثم ا�ستعادت قوتها جمددًا«:ح�س ًنا �أنا �س�أت�صل بها
ع
و�أخربها وليحدث ما يحدث ،لن �أ�سمح ب�أن تف�سد طفولتهما كما فعلت معنا».
�ضحك ممدوح �ضحكته التي �أر�سلت ق�شعريرة بج�سد زمرد«:رحمة ال�صغرية
ظهرت لها �أنياب ،هذه هي منرتي ال�شر�سة» ،نظر ممدوح ل�سمر وخلود اللتني
تتابعان املوقف بانتباه ،و�أ�شار لهما بر�أ�سه �أن ترحال فنفذتا �أمره على الفور.
ابتلعت زمرد ريقها ب�صعوبة وهي تلمح خروج خلود و�سمر ،ثم اقرتبت ُم�سرعة
من �سهيلة حتاول م�ساعدتها للنهو�ض ،ف�سقطت �سهيلة � ً
أر�ضا بينما ارتفع ج�سد زمرد
للأعلى ،وممدوح يحملها بني ذراعيه ،ف�أخذت تتلوى بج�سدها وهي ت�صرخ«:ابتعد
�أيها الوغد» ،حتى ق ّيد ممدوح ج�سدها بج�سده وهو يل�صقها للحائط ،فهم�س �أمام
بعينيك ما �سيحدث»،
ِ �أذنها و�أنفا�سه تلفح وجهها«:اهدئي �أيتها النمرة ،وتابعي
وقف ممدوح وجذب ج�سدها لتقف �أمامه بينما احدى يديه تقيد ذراعيها ،واليد
الآخر جتد طريقها جل�سدها ،ف�أخذت تتلوى بقوة وهي ت�شعر بالرعب يقتلع قلبها،
ولكن �شعرت �أنها تبعد حائط ب�شري عنها لقوة ممدوح و�ضخامة بنيته«:،تابعي
با�ستمتاع».
211
�أ�شار بر�أ�سه خلديجة لتكمل ما كانت تفعله ف�أخذت تقاتل �سهيلة التي مل يعد
يف ج�سدها مكان �سلي ًما من الكدمات ،فكانت �سهيلة تقاتلها ب�ضعف بينما تتل ّقى
العديد والعديد من ال�ضربات ،دمعت عني زمرد وهي جتاهد ب�أن تبعد يد ممدوح
عنها ،وهي ترى قرب نهاية �سهيلة�«:أرجوك توقف� ،أتو�سل � ِ
إليك دعني �أنا �أكمل
بدل منها� ،أرجوك �ستقتلها� ،سهيلة لي�ست ُم�ستعدة بعد ،خديجة لها خربة مثلنا ً
دعني �أقاتلها».
«توقفي»� ،صدح �صوت ممدوح يف احلظرية فتوقفت قب�ضة خديجة وهي على
بعد �إن�شات من وجه �سهيلة ،ف�ألقت بها على الأر�ض وهي تلهث ،بينما كان ج�سد
�سهيلة �ساكنا بال حراك.
ريص ع
هم�س ممدوح لأذن زمرد�«:س�أ�ستمتع مب�شاهدة منرتي وهي تغرز �أنيابها»،
الكت
ترك ذراعيها و�أبعدها عنه ،وهو يقرتب من خديجة وينظر جل�سدها«:التقطي
توزيع
�سهيلة و�ضربتها بقدمها يف معدتها ثم ب�صقت عليها ،وابتعدت لتم�سح �آثار دماء
�سهيلة من على يدها ،هرعت زمرد ل�سهيلة وهي حتت�ضن ج�سدها اله�ش وتهم�س لها
أعدك».
بحنان«:اهدئي يا �صغرية كل �شيء �سيكون على ما يرام � ِ
رفعت زمرد ج�سدها ال�ضئيل و�أ�سندتها حتى و�ضعتها على �أكوام من التنب التي
كانت موجودة يف جانب من احلظرية ،وعادت لتقف جمددًا �أمام خديجة ،فنظرت
لها ثم نظرت ملمدوح الذي يتابعهما بنظراته القذرة ،ف�أعادت �أنظارها جمددًا لها
وهي تهم�س لها�«:أرجوك خديجة دعينا ال نفعل هذاِ � ،
أنت تعلمني ماذا تكون النهاية
�أرجوك لنمتنع كالنا» �ضحكت خديجة ب�سخرية وهي جتيبها«:هل تخ�شني املوت؟!
�صغريتك بعد موتك؟!»
ِ �أم تخ�شني على
«هل �سنق�ضي ال�سهرة يف الرثثرة؟!» قاطع حديثهما ممدوح مع �إ�شارته لهما
بالبدء ،ولكنه �أجرب زمرد على �أن تخلع معطفها ،فنظرت له بكر ٍه وهي تخلعه لتغطي
به ج�سد �سهيلة وحتميها من الربد.
كان القتال عني ًفا بينهما ،خديجة بج�سدها ال�ضخم �ضد ج�سد زمرد النحيف
الذي �أ�صابته الإنفلونزا بالقليل من الإجهاد ،ولكنها مل تخ�سر كل قوتها وما تد ّربته
212
على يد ُغفران ،كان ممدوح يتابعهما بتلذذ حتى و�صل النزال لنهايته وزمرد تدفع
بج�سد خديجة على الأر�ض وتكيل لوجهها املكدوم لكمة قوية خارت بها قواها،
فوقعت بج�سدها فوق ج�سد خديجة ال�ساكن على الأر�ض.
�أخذت زمرد تلهث بقوة وازداد �سعالها بينما نزيف عينيها ال يتوقف ،نه�ضت
ب�ضعف وهي تنظر جل�سد خديجة ب�أمل ،رفعت ُك ّم منامتها وم�سحت به دماء �أنفها
ومل�ست على عينيها لتوقف نزيفها� ،شهقت برعب وهي ت�شعر بج�سد ممدوح يلت�صق
بج�سدها بعنف من اخللف ،وهو ي�ضع بكفها ال�سالح ويهم�س ب�أنفا�سه الالهثة«:هيا
�أن ِه عملك».
ص ع
هزت زمرد ر�أ�سها بالرف�ض وهي تبعد وجهها عن �أنفا�سه�«:أنا لن �أقتل جمددًا»،
ر ش
والتوزي
ج�سدها ،ف�صرخت زمرد«:ال� ..أرجوك ال».
ع
خيارك» ،ارتع�ش
ِ ابت�سم ممدوح وهو ينظر ملنحنيات ج�سدها ب�شهوة«:هذا
ذقن زمرد و�ضمت �شفتيها لتمنع بكاءها وهي ت�س�أله بكر ٍه«:ما الذي �ست�ستفيده؟!»
اقرتب ممدوح منها وهو يهم�س �أمام وجهها«:لذة القتل بني الإخوة ال مثيل لها ،كما
�أن ال �أحد يرغب يف ب�ضاعة فا�سدة».
�أغم�ض عينيها عن كم الكره واحلقد الذي ي�شع من عينيه فهدر ب�صوته«:الوقت
ينفذ يا منرتي».
حملت زمرد ال�سالح بيديها ونظرت له للحظات كانت كفيلة ليتحرك ممدوح
بعيدً ا عنها فرفعت �سالحها له وهي تنظر له بغ�ضب«:لن �أقتلها ،و�إن كانت هناك
ب�ضاعة فا�سدة فهي �أنت �أيها الوغد»� ،ضحك ممدوح بقوة و�صدى �ضحكاته يتخ ّلل
هواء احلظرية ،وبعد �أن هد�أت �ضحكاته ،نظر لها ب�إعجاب وا�ضح�«:أعلم �أن هناك
بداخلك ،فقط يف انتظار �أحدهم �أن يخرجه ،و�أنا على ا�ستعداد تام
ِ �ش ًرا رائ ًعا
لإخراجه».
213
ارتع�ش ال�سالح بيد زمرد وهي تلمحه يرفع ج�سد �سهيلة �أمامه و�سكينته املو�ضوعة
جرحا كب ًريا.
على رقبتها قد �أحدثت ً
انهمرت دموع زمرد وهي ترى نف�سها عاجزة �أمامه ،فتحدث ب�سخرية«:ال ،ال
لك� ،أنا �أفهم جيدا كيف تفكرين� ،أال ترى كيف جمال للدموع منرتي� ،أال ترين ال مفر ِ
�أ�ستطيع قراءتك ب�سهولة ،والآن �س�أعد لثالثة ،و�أريد �أن �أرى جثة �أمامي� ،إما خديجة
�أو �سهيلة فاختاري».
«واحد اثنان ثالثة» وكان �صدى �صوت الر�صا�صة يدوي يف احلظرية يخفيه
�أ�صوات الرعد بال�سماء و�أنوار الربق ال�ساطعة.
ص ع
�سقط ال�سالح من يد زمرد وهي تنظر جل�سد خديجة ال�ساكن وهي تعلم �أن
الكت ري
�سكونه لي�س �إال �سكون املوتى ،مرت دقيقة فاثنتان فثالث ،وملحت �سمر وخلود
ريص ع
بهدوء«:عذ ًرا على تعطيلك ،ولكن بالفعل الأمر مهم».
ع والتوزي
با�ستغراب للملف وهو يجل�س على كر�سيه ،ثم حلظات و�أعطى يامن كل انتباهه وهو
ي�شعر �أن هناك �أم ًرا ما يخ�ص ق�ضيته ،فلم يخيب يامن ظنه وهو يكمل�«:أظن �أن
ابنة عمي تعرف ال�ضحية».
نقل حممد نظره �سريعا لتلك املر�أة التي مل تهتف ب�شيء منذ دخوله بينما �شحوب
وجهها يوحي له مبدى خوفها فبادر ب�س�ؤالها«:هل تعرفني من تكون؟!» �أجبته زمرد
وهي ت�شعر ب�أن روحها ُمع ّلقة ب�إجابة �س�ؤالها«:كيف ماتت؟!»
�ساد ال�صمت للحظات وكل من يامن وحممد يتابع �شحوب وجهها ،فقطع
حممد ال�صمت يتحدث بهدوء«:لقد ماتت �إثر �أزمة قلبية من �شدة الهلع بعد �أن
مت اغت�صابها».
ات�سعت عيناها ب�صدمة ،و�شعرت ك�أن الهواء املحيط بها غري �صالح للتنف�س،
�شعرت ك�أنها تختنق فرفعت كفها لتحيط به عنقها وهي حتاول �أخذ �شهيق يتبعه
زفري ،ولكن ال �شيء ،ال �شيء� ،شعرت مبلم�س كف يامن وهو يربت على ظهرها
بحنان ويجل�س على الكر�سي بجوارها ،فرفعت عينيها تنظر �إليه با�ستغراب ،وهي
215
تلمح �شفتيه تتحركان ،يبدو �أنه يقول �شيء ولكن �صوته ال ي�صل �إليها ،ال ت�سمع
�سوى �صفري حاد يتخلله �صوت �ضحكات رقيقة تعلم جيدً ا �صاحبتها �سهيلة� ،أختها
و�صديقتها وابنتها.
«تنف�سي زمرد ..تنف�سي»
�صوت يامن تخ ّلل لكل تلك الأ�صوات ،يطلب منها التن ّف�س� ،شهقت بعنف والهواء
ي�ضرب رئتيها بقوة ،فتم�سكت بكف يده الآخر بقوة ودموعها تت�ساقط دون وعي
منها.
أنت بخري الآن».
أح�سنت ،نعم هكذا تنف�سي � ِ «� ِ
أح�سنتِ � ،
ريص ع
�أخذ يامن يتحدث بقلق وهو ي�أخذ كوب املاء من حممد ويعطيه لها«:ا�شربي
ب الكت
قليل عزيزتي».
ً
توزيع
وهو ي�شعر بتيهها و�صدرها يعلو ويهبط من قوة تن ّف�سها ،ابتلعت القليل ثم �أبعدت
ر�أ�سها عن الكوب وهي تنظر جمددًا ملحمد ،و�ساد ال�صمت للحظات وهي تقول�«:أنا
�أعرف قاتلها� ،أعرف َمن اغت�صبها� ،س�أخربك كل �شيء ،هذه الق�ضية مل تعد �ضد
جمهول».
�ساد ال�صمت جمددًا وحممد يحاول �أن يدر�س حالتها ،وهو ال ي�صدق حتى الآن
ال�صدفة التي جعلته يرتك امللف بغرفة يامن الآمنة ليجد �أخ ًريا حل الق�ضية التي مت
فتحها مرتني ومل ي�صل �أحد ل�شيء بها.
ميكنك �أن ترتاحي ً
قليل ،و�سنبد�أ التحقيق تنحنح حممد وحتدث بهدوءِ «:
وكتابة املح�ضر بعد ع�شر دقائق ،اعذروين لدقيقة» ،نه�ض حممد وكاد يخرج من
الغرفة حتى ا�ستوقفته ب�صوتها املُهتز«:من ف�ضلك �أريد �أن يتم التحقيق دون ح�ضور
املُق ّدم يامن».
نظرا لها بده�شة وهي تتابع بينما �أ�سبلت �أهدابها عن عني الذي يجل�س
بجوارها«:هذا هو �شرطي لإبالغك بهوية القاتل» ،هز حممد ر�أ�سه من دون قول
216
�شيء ،ثم حترك للخارج ،نه�ض يامن من جوارها وهو ينظر لها بقوة يتابعها بعينيه،
كيف تلملم �شتات نف�سها ومت�سح دموعها وحتاول ال�سيطرة على م�شاعرها ،مانع ًة
نف�سها بقوة من االنهيار فتحدث بغ�صب مكتوم«:هل تظنني بعدم وجودي لن �أعلم
ما حدث� ،أنني لن �أعلم ماذا ُكتب يف املح�ضر؟!»
�أجابته بهدوئها وهي تدخل جمددًا لتلك القوقعة ال�سخيفة التي ت�سجن نف�سها
فيها فال تظهر �أي من م�شاعرها مما يزيد من غ�ضبه«:ميكنك �أن تعرف من �أي
�شخ�ص عما حدث ،ولكن لن �أكون �أنا هذا ال�شخ�ص» ،قاطع حديثها وهو يهتف
بغ�ضب«:وما الفرق؟!» ،رفعت عينيها له وملحة �أمل مرت بعينيها التقطها هو
بو�ضوح قبل �أن متحيها فه ّد�أت من غ�ضبه وهي جتيبه«:لأنني ال �أريد �أي نظرات
ريص ع
�شفقة منك ،لن �أحت ّملها �أق�سم لك».
ع
بهذه القوة وهي �أكرث من ه�شة بداخلها؟! كيف لها بكل هذه الكربياء وهي؟! ا�ستغفر
يف �سره وتوجه لباب املكتب وهو يجيبها«:كما ت�شائني ،ولكنني لن �أرحل من هنا
إغمائك».
عالقتك بال�ضحية وما معنى ما قل ِته قبل � ِ
ِ اليوم دون �أن �أعرف
M
217
و�شعرت ب�أن يف روحي ثق ًبا ،ثق ًبا يت�سع وميت�ص كل ذكرياتي
وحياتي و�أحالمي ،وددت لو كان �شخ�ص �أعرفه بقربي �أحكي له
كل �شيء �أق�ص عليه حكاية الثقب
ريص ع
التي �ألقينا القب�ض عليهم كانوا يحفرون بالقرب من مكانها ،ك�أنهم على علم
الكت
بوجودها ،فدورهم يقت�صر على �إلقاء جثتها بالبحر ،ولكن يبدو �أن ُمططهم قد
توزيع
ماذا ميكن �أن يحدث �أ�سو�أ من هذا؟! هل هناك نهاية لهذا الأمل؟! هل تلك
الغ�صة التي تخنقها الآن �سرتحل يوما؟! �أم �أ�صبح وجودها من امل�س ّلمات ،ك�أن من
الطبيعي �أن تختنق ،من الطبيعي �أن تت�أمل!
�أغم�ضت عينيها وهي تتذ ّكر كم من املعلومات قد �سردتها للمحقق� ،أخربته كل
�شيء ،بالإ�ضافة ملا يعرفه عن ممدوح� ،أخربته عن االتفاق الذي و�ضعته معه من
�أجل احلفاظ على �سهيلة� ،أخربته �أنها �ضحت بالكثري من �أجل بقائها على قيد
احلياة ،ب�أنها كانت على علم برحيلها عن املزرعة ،وكانت تعي �أنها تكمل درا�ستها
يف بلد �آخر� ،أخربته عن ات�صالها بها واطمئنانها عليها� ،إذا كانت �سهيلة قد ماتت
منذ �سنتني� ،إذا من تلك التي حتدثت معها! ليجيبها ب�أن هناك الكثري من الربامج
التي ت�سجل الأ�صوات ،ويبدو �أن ممدوح قد �سجل لها من قبل و�أخذ حذره ،فت�أكدت
من هذه وهي تتذكر �إ�صراره الدائم على التواجد يف كل مكاملة.
�أخرجها من �أفكارها طرق على الباب ،لتفتح عينيها وهي تعي �أنها ما زالت
مبكتب املُحقق الذي خرج من املكتب منذ مدة ،ملحت يامن يقف �أمام الباب يد ّقق
220
يف تعبريات وجهها ،نظرت للأر�ض وهي حتاول �أن تتما�سك حتى تعود للمنزل ،يا
�إلهي كم حتتاج للعودة ل�سريرها الآن والبكاء فقط البكاء.
«�س�أعيدك للمنزل �أوال ثم �س�أعود ليجيبني النقيب حممد عن �أ�سئلتي».
هل عاد هذا مهما لها؟! ال مل يعد مه ًما �إن عرف يامن احلقيقة �أو ال ،مل يعد �أي
�شيء مه ًما بعد �أن ماتت �سهيلة ،ارجتف ج�سدها فنه�ضت ببطء من على الكر�سي
ثقل كب ًريا يقيد حركتها ،ت�شعر بنف�سها تختنق ،تريد �أن تخرج من وهي ت�شعر ب�أن ً
هنا ،تريد �أن ترحل.
M
ر ش
والتوزي
والروح� ،صورة ت�أبى �أن تفارق خيالها� ،صورة �أخذت تدعو �أن ي�ستبدل بها اهلل �صورة
ع
�أخرى �أف�ضل ،هي تريد �صورة �سهيلة ال�ضاحكة ،ال �سهيلة التي ملأ وجهها وج�سدها
طويل زفرته بخفوت وهي تغم�ض عينيها ،ال ت�شعر ب�أي الغرز ال�سوداء� ،أخذت نف�سا ً
�شيء حولها ،ع�شرة �أيام مكثتها يف غرفتها ،ال تريد ر�ؤية �أحد ،والدتها قلقة عليها
وهي تدلف لغرفتها كل م�ساء جتل�س بجوارها على ال�سرير وتقر�أ لها القر�آن ،تعلم
�أن ادعاءها النوم هو الذي ي�سمح لوالدتها باجللو�س بجوارها واالطمئنان عليها،
فتتل ّم�س منها دف ًئا حتتاجه و�أما ًنا ُتفت�ش عنه ،ما زالت والدتها ت�شعر بالأمل بعد ما
عرفته عن ابنتها التي ف ّرطت يف �شرفها ،ترى ماذا �ستفعل �إن علمت �أ�سباب ابنتها
لذلك ،ولكن ما عاد هذا مهما.
غ�صة �أمل تقب�ض على قلبها كل فرتة و�أخرى �سببها غياب يامن املُ�ستمر عن
املنزل ،منذ �أن �أو�صلها للمنزل ذلك اليوم دون قول �شيء ليعود لل ُمحقق وهي مل
تره ،وت�سا�ؤلها الدائم ترى هل عرف احلقيقة؟! هل لهذا مل يعد للمنزل؟! �أيخ�شى
مواجهتها؟!
221
تنهدت بخفوت وهي ت�شعر بال�صداع يداهم ر�أ�سها بقوة ،ا�ستدارت لتبحث عن
�أي ُم�سكن فوجدته على طاولة املكتب ،ولكن ل�سوء حظها ال توجد مياه ،اجتهت لباب
الغرفة وخرجت لتتجه للمطبخ ،ملحت نور احلديقة ُم�ضاء وو�صل لأ�سماعها �صوت
مكتوم يف اخلارج ،ا�ستغربت وجود �أحدهم ُم�ستيقظا حتى الآن وقد انت�صف الليل
منذ �ساعة.
اقرتبت من الباب لرتى من باخلارج ،لتتفاج�أ بيامن وهو يجل�س على �أحد
الكرا�سي يخفي وجهه بني كفيه.
خفق قلبها بقوة ملر�آه هكذا ،مرت دقيقة لتتبعها الأخرى وهو ال يتحرك ،فانتابها
ع
القلق ،غطت �شعرها بحجابها و�أحاطت ج�سدها ب�شالها اخلفيف ،ثم خرجت من
الكت ريص
املنزل ،اقرتبت من مكانه وهي تراه على نف�س و�ضعه ،حتى و�صلت قريبة منه ،ملحت
شر وال
كان هناك �أحد ُم�ستيقظ من �أهل البيت فلم تلمح �أحدً ا ،تنهدت بخفوت وهي تعيد
توزيع
�أنظارها �إليه ف�شهقت وهي ترتاجع خطوة للخلف وهي ترى عيون يامن ُم�سلطة عليها
بقوة� ،أخذت تهدئ من تن ّف�سها ال�سريع ،ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تلمحه يقف
بطوله الفارع �أمامها ويبدو من هيئة مالب�سه غري املُهندمة وحليته النابتة واحمرار
كاف من الراحة� ،شعرت بت�ش ّنج ج�سده ب�أكمله
عينيه �أنه ُمتعب� ،أنه مل يحظ بق�سط ٍ
وهو ي�ضم قب�ضته بجواره ك�أنه مينع غ�ضبه من الظهور!
«هل �أنت بخري!؟» هم�ست ب�س�ؤالها وهي ت�شعر مبدى غبائها ب�أنه لي�س بوقته
ال�صحيح وهو ينظر لها بجمود ،رم�شت بعينيها وهي ت�ست�شعر برودة غريبة باجلو،
ف�أكملت بهدوء«:لقد ملحتك و�أنا يف املطبخ فظننت �أنك تريد �شيئا ،ما الذي �أتى بك
يف هذا الوقت املت�أخر؟! هل كل �شيء على ما يرام؟!»
�صمت فقط� ،صمت يحيط بهيئته فتنهدت بتعب وهي ت�ست�شعر حالته غري ٌ
الطبيعية فهم�ست بتعب�«:أين كنت طوال تلك املدة؟!»
ملحة �أمل مرت يف عينيه �سري ًعا لي�سبل �أهدابه وينظر للأر�ض ،قتله �س�ؤالها بهذا
ال�ضعف ،كان يجاهد بقوة لكي ال يحفرها يف �صدره ،يجاهد بقوة لكي ال ي�ؤذيها
222
بغ�ضبه ،لكي ال يخطفها الآن ويبتعد بها بعيدً ا عن كل �شيء ،ال يعلم َمل جاء الآن لها،
بدل من املرور باحلديقة اخللفية ملنزلهم ،ال يعلم َمل كان ُمتيقنا َمل مل يدلف ملنزله ً
من وجودها يف انتظاره ،ك�أنها كانت تعلم بقدومه �أو بالأدق ك�أنها كانت تنتظره!
�ألي�س هذا معنى �س�ؤالها الأخري؟!
ملحها وهي تبتعد خطوة وتهم�س بـ»ت�صبح على خري» ،خطوة خطوتني باجتاه
ميكنك حت�ضري كوب من القهوة يل؟!» ِ الباب اخللفي للمطبخ حتى ناداها«:هل
توقفت مكانها وهي ُمتفاجئة بطلبه ،فهم�ست دون �أن تلتف له«:ال �أحد ُم�ستيقظا
يف املنزل� ،أمي ورحاب نائمتان و »...قاطعها ُم�سرعا«:فقط خلم�س دقائق �أتناول
فيها كوب القهوة� ،أنا يف حاجة �شديدة له».
ع
الن�صل الذي بقلبه يتلوى بداخله؛ ي�ؤمله بقوة ،يجعله يتمنى �أن ي�صرخ ب�أعلى �صوته،
ما عرفه من �أ�سبوع و�أكرث كان فوق احتماله ،كان فوق قدرته على اال�ستمرار ،ما
زال يتذ ّكر كيف تلقت �أذانه حديث حممد لتظلم الدنيا من حوله و�أمل ب�أعلى �صدره
انتابه جمددًا ولكن هذه املرة �أقوى ،لي�ستيقظ بعدها يف امل�شفى والطبيب يخربه ب�أنه
تعر�ض لذبحة �صدرية ،لكن مل ي�ستمع ملا كان الطبيب يتح ّدث به وال لتنبيهاته ،مل
يخرب عائلته مبا حدث ليخربهم ُمربرا غيابه ب�أنه ُم�ضطر للبقاء يف العمل من �أجل
الق�ضية ،كان ما زال حتت �صدمة ما �سمعه وما عرفه ،تلك التي �أمامه الآن قد مت
اغت�صاب براءتها من �أجل �أن تنقذ �صديقتها ،عانت ل�سنوات العتداءات ج�سدية من
�سبب وا ٍه ،ظنا منها �أنها حتافظ على حياة �صديقتها التي اغتالها نف�س الرجل �أجل ٍ
الذي اغتال براءتها� ،أخذ يفكر كم عانت وهي مبفردها �أمام هذا الوغد ،كم حت ّملت
وكم �صمدت �أمام الآخرين ،كم ا�ستقبلت كلماته هو و�إهاناته لها منذ �أن وجدها ،يا
�إلهي كم كان قا�سيا معها.
ارتع�شت بقوة وهي تراه ينظر لها ب�أمل ودموع ترتقرق بو�ضوح يف عينيه� ،أ�شاحت
بنظرها وهي ت�ضع كوب القهوة �أمامه بارجتاف فانتف�ضت وهي تراه مي�سك يديها
223
بقوة ،يخفي وجهه بني كفيها وهو يتنهد بتعب ،ارتع�ش ج�سدها للم�سته و�أنفا�سه التي
ت�ضرب كفيها تثري بداخلها كل م�شاعر ال�ضعف ف�شعرت ب�أن �صمودها كل تلك الأيام
قد �أو�شك على النفاد ،مل ت�ستطع �أن تبكي ،حاولت بقوة بعد �أن عادت ذلك اليوم
وهي تظن �أنها �ستنفجر بالبكاء ،لكنها مل ت�ستطع� ،شعرت ب�أن روحها ماتت يف تلك
اللحظة وهي ال تقوى على ذرف دمعة واحدة.
ارتع�شت �شفتاها وهي ت�ضمهما بقوة ،متنع نف�سها عن البكاء ،عن االنهيار الآن
وهي تراه يتل ّم�س بوجهه كفيها كطفل �صغري ي�شتاق حلنان �أمه� ،شهقة مل ت�ستطع
كتمها لتنفجر بعدها بالبكاء� ،أغم�ضت عينيها بقوة ودموعها تنهمر تغرق وجنتيها،
تبكي �آالمها� ،أوجاعها ،تبكي براءة ُمغت�صبة ،تبكي روحها املُنك�سرة ،تبكي فقد
ريص ع
الكت
�صديقة وابنة ،تبكي اغتيال براءتها هي الأخرى ،كلما تتذكر كيف عانت �صغريتها،
ل ب
كيف �شعرت وهي حتت �أيديهم ،كيف ماتت من الهلع وهي تعي ما يفعلونه بها ،كيف
ن ل
شر وال
�شعرت وهي حتت يد الطبيب الذي �أخذ عينيها قبل �أن ي�أخذ كبدها وكليتها وقلبها
توزيع
فتتوجع �أ�ضعاف وجعها ،حاولت جذب كفيها من بني يديه ولكنه مل ي�سمح لها وهو ّ
يتابعها ب�أمل ،لينه�ض ببطء ويجذبها لأح�ضانه من دون �أي مقدمات� ،شعر بت�ش ّنج
ج�سدها فربت بكفيه على ظهرها بحنان وهو يهم�س بوجع بالقرب من �أذنيهاِ «:
ابك
ابك
�شجاعتكِ ،
ِ ابك آالمك و�آالمي ،ابكي ُط ِ
هركِ ، ابك � ِ
فقدكِ ،
ابك ِ وجعك ووجعيِ ،
ِ
يا حبيبتي».
لتتعاىل �شهقات بكائها ويرتع�ش ج�سدها من قوة انهيارها بني ذراعيه ،دقائق
وقد حت ّولت �شهقاتها لن�شيج مكتوم حتى ملح ج�سدها يرتخي بني ذراعيه ،ليعلم �أنها
هربت جمددًا من عاملها القا�سي مغ�شيا عليها.
M
مقر الأمن الوطني
يف انتظار النقيب �سامي ،جل�ست ُغفران تف ّكر بهدوء فيما حدث ،لقد ات�صل
بها �آ�سر وهي باجتماع مع اللواء ،هو ات�صل باللواء نظ ًرا لأنه ال يعرف رقمها،
تذ ّكرت حديثه عن �أمرية وتطور حالتها وقبولها �إياه� ،أراد �أن ي�س�ألها عن �أ�سئلة
224
معينة بخ�صو�ص املا�ضي ،ف�أخربته وهي م�ستغربة تلك الأ�سئلة ،خا�صة لتفهم فيما
بعد �أنها وتوءمها �أكرث من جمرد توءم ،فلديهما ذلك التوا�صل الذي يربطهما م ًعا،
حانت منها ابت�سامة وهي تفكر �أنه لطاملا كانت الغرابة مت�صلة ب�أمرية وحياتها،
ولكن �ألي�ست مت�صلة بحياتهم جمي ًعا� ،آ�سر دائما ما ي�شعرها بالتوتر ،تذ ّكرت نهاية
احلديث وهي حتاول �أن متنحه الإجابات التي يحتاجها لكي تنهي االت�صال بعدها
بنف�سك ُغفران»
ِ لت�شعر بتلك الآالم املتفرقة يف معدتها وهي ت�سمعه يقول«:اهتمي
جملة من ثالث كلمات �أثارت زوبعة داخلها ،ليكمل عليها وهو يقول�«:أمتنى ر� ِ
ؤيتك
قري ًبا».
تنف�ست ب�ضيق وهي تتذكر �آخر لقاء كان بينهما و�إنقاذه حياتها ،ارتع�ش ج�سدها
ريص ع
للحظة وهي تتذكر الفيديو الذي �أخذوه من كامريات املراقبة حول املركز ،لقد
والتوزي
لدواخلهما ،حاولت مع خلود ،لكن �سمر كانت تت�ش ّرب كل �شيء من ممدوح وبعدها
ع
تف�سد كل ما حتاوله مع خلود ،لقد كانتا معها منذ �أيام الكهف� ،أول الفتيات التي
التحقن بالع�صابة ،تن ّف�ست بهدوء حتاول �أن تبعد ذكريات ذلك املكان عنه ،وهي
تفكر يف فعلة ممدوح ،تكره �أن تعرتف �أنه لوال وجود �آ�سر لأ�صبحت الآن بني يديه،
هي مل تخف من اختطافه لها بل خافت من عجزها �أثناء اختطافه لها ،الوغد مل
يوما عادال يف �أمور القتال ،يجيد اخلداع ب�سهولة.
يكن ً
عادت القوات برئا�سة النقيب �سامي الذي دخل ُمكفهر الوجه ليخلع �سرتته وهو
يبعد عينيه عنها ويجل�س على كر�سيه لت�س�أله دون مقدمات�«:إذا؟!»
حت ّدث ب�ضيق وهو يعلم �أنها لن تتوانى عن معرفة احلقيقة«:لقد ذهبنا للمكان
ُغفران ،لقد وجدنا خلود غارقة بدمائها بعد �أن قطعت �شرايينها تاركة ِ
لك هذه
الر�سالة».
�أتبع كالمه وهو ميد يديه بالر�سالة املحفوظة يف كي�س الأدلة ،لتنقل عينيها بينه
وبني الر�سالة بجمود ،ثم حلظات والتقطت الر�سالة لتقر�أ ما �سطر بها�«:أعلم ب� ِ
أنك
أي�ضا لن �أفعل ،لقد �سمعته يخربين باحلقيقة وهو ثمل،لن تقبلي مب�ساحمتي ،ف�أنا � ً
225
لقد عرف والدي طوال تلك الفرتة ُغفران ،عرفه جيدً ا لأنه من قتله ،مل �أ�ستطع
ُغفران ،تلك الأ�صوات تقتلني� ،أنا مل �أ�ستطع لقد �س ّلمت نف�سي ملن قتل والدي،
�أتظنينه �سي�ساحمني ُغفران� ،أتظنينه يقبل ر�ؤيتي ومقابلتي؟!».
�أخرجها من جمودها �صوت �سامي وهو يقول لقد وجدنا �آثار خمدرات ومواد
ُمهدئة بغرفتها ،حني �س�ألنا عنها اجلريان �أخربونا �أنها ت�أتي لل�شقة مرة �أو مرتني
كل �أ�سبوع ،و�آخر فرتة ا�ستمرت على املداومة على ال�شقة لفرتة طويلة ،والآن تلك
أي�ضا خرجت من يدي� ،س�ألته ُغفران با�ستغراب«:ما الذي تق�صده؟!» الق�ضية � ً
�أجابها ب�ضيق«:اللواء �سامح راغب لقد مت �إر�ساله �إلينا منذ فرتة ،ا�ستلم ق�ضية
مقتل الطبيب وعائلته والآن تلك الق�ضية ،اللواء ح�سني يتح ّرى خلفه الآن ،فهذا
ريص ع
الكت
الرجل �سمعته لي�ست نظيفة ،ومما �أراه هو مياطل يف التحقيقات حتى ي�صل ملا يريد،
ب
�أ�ساليبه قذرة»� ،س�ألته ُغفران«:هل تظن �أن له عالقة مبمدوح؟!» �أجابه�«:أنا ال
توزيع
هذا لي�س ر�أي اللواء ح�سني»� ،صمتت ُغفران تفكر يف الكالم ثم عادت بتفكريها
خللود لتقول�«:إنها من كانت تراقبني بعد احلادثة ،هي من كان تو�صل له املعلومات
ال ه�ؤالء الرجال الذي �أوهمني بوجودهم ،لكن يبدو �أن ممدوح كان على علم
بتوا�صلي مع ال�شرطة طوال كل تلك الفرتة ،يبدو �أنه مل يثق كفاية بعمران ،ال�س�ؤال
الآن ملاذا مل يت�صرف جتاه هذا الأمر؟» �صمت �سامي ليجيبها بتوتر«:لقد فعل وما
زال يفعل حتى وقتنا هذا».
أرادك
طريقك الفتات الذي � ِِ نظرت له ُغفران با�ستغراب ليقول«:لقد �ألقى يف
يو�صلك لطريق يريدك هو فيه بعيدً ا عن الطريق الذي ر�سمه ِ �أن تتبعيه ،فتات
لنف�سه».
�أتبع حديثه مبلف �أخرجه من مكتبه وو�ضعه �أمام عينيها ،لتفتح ُغفران امللف
برتقب لتت�سع عيناها �صدمة وهي ترى �صو ًرا خمتلفة جلثة �سهيلة.
انتف�ضت من مكانها وهي مت�سك ال�صور بني يديها ،بينما ت�سمع �سامي
يخربها«:لقد وجدها رجالنا منذ �سنة مدفونة يف مكان بالقرب من ال�صحراء،
والق�ضية مت ت�سجيلها مرتني �ضد جمهول قبل �أن ي�ستلمها النقيب حممد ،لقد مت
226
دفنها بعد �أن مت ا�ستخراج جميع �أع�ضائها ،وطبيب الت�شريح وجد انتها ًكا وا�ضحا
دليال على اغت�صابها .الأوغاد �أخرجوا عينيها وهي على قيد احلياة.
قريبة يامن من اكت�شفت من تكون وهي مبكتبه �صدفة ،ويامن حالته ال�صحية
غري جيدة ،بالأم�س فقط خرج من امل�شفى ،ويبدو �أنه عرف احلقيقة ،فزمرد قررت
التح ّدث �أخريا بكل �شيء حدث يف تلك ال�سنتنيُ ،غفران �أنت يف حاجة لتهدئي حتى
�أ�ستطيع �إخبارك مبا عرفناه» ،تن ّف�ست ُغفران ب�صعوبة ودموعها ترقرقت يف عينيها
حتاول ال�سيطرة على م�شاعرها ،ومن هيئة �سامي يبدو �أن ال�صدمة احلقيقية مل
ت�سمعها بعد.
M
ل ا ريص ع
بل ت ك
منزل زمرد
ع
�أ�شعة ال�شم�س تتخ ّلل �شرفة غرفتها ،ا�ستغربت ما حدث ،و�أخذت تتذ ّكر كيف عادت
لغرفتها ونامت هكذا ،فعادت لها ذكرى عودة يامن وانهيارها بني يديه ،ارتع�شت
جمددًا وهي حتاول �أن تنه�ض من على �سريرها ،لتفزع من �صراخ رحاب العايل
وهي تنادي �أمها ،نه�ضت ُم�سرعة وخرجت للردهة لتلمح رحاب ت�صرخ ببكاء ويامن
و�سليم يحمالن والدتها ويتوجهان للخارج ويامن يهتف برحابِ «:
ابق مع زمرد،
�س�آخذ عمتي للم�شفى».
جتمدت مكانها للحظة ثم اقرتبت ُم�سرعة من رحاب ،التي انتف�ضت للحظة ،ثم
م�سكت ذراعها بقوة�«:أمي زمرد� ،إنها متوت».
ال تعلم كيف جاءت هي ورحاب للم�شفى مع �سليم ابن عمها الذي انتظر باملنزل
ب�أوامر من يامن ،فبعد �أن هد�أت من روع رحاب خرجتا لرتى �سليم باخلارج الذي
رف�ض يف البداية ،ليوافق م�صدوما من ردة فعل رحاب وهو يراها ت�صرخ يف وجهه
لأول مرة«:لتقم ب�أمر واحد �صائب يف حياتك» ،ال تعلم كم مر الوقت وهي تنتظر
مع رحاب وولدي عمها �أمام غرفة العناية املُركزة يف انتظار الطبيب الذي �أخرب
227
يامن فور و�صوله �أن والدتها تعر�ضت لأزمة قلبية ،بينما ع�ضلة قلبها �ضعيفة جدا يف
تدخل جراحي. حاجة للمتابعة الدقيقة ،وال حتتمل �أي ّ
ب�صوت
ِ رفعت عينيها تنظر لرحاب فوجدتها مت�سك مب�صحفها وهي تقر�أ
نخف�ض ،بينما دموعها ال تتوقف عن االنهمار وج�سدها ال يتوقف عن االنتفا�ض، ُم ٍ
كانت تظن �أن قلبها لن يتع ّر�ض لأي �آالم جمددًا ،ظنت �أنها و�صلت لأق�صى حد من
الوجع ولكن ما ت�شعر به الآن فاق كل حدود الوجع ،والدتها احلنون ،والدتها التي
مل تتن ّعم بح�ضنها مبا يكفي ،لن حتتمل �أن ي�صيبها مكروه ،لن حتتمل �أن تفارقها!
«يا �إلهي احفظها» هم�سة رجاء خرجت من فمها وهي تزيح عينيها عن �أختها
ع
لتلتقي بعيون حاميها� ،سندها القريب البعيد� ،شعرت به يحاول �أن يطمئنها بعينيه
الكت ريص
ولكن هي تعلم -كما هو يعلم� -أن الو�ضع غري ُمب�شر ،انتقلت �أنظارهم جميعا
ريص ع
ووثقت بروحها بينما مل �أفعل �أنا والدتها يا ابنتي».
�شقيقتك من قبل ِِ مل ِتر
والتوزي
أرجوك ال تهتم ل�شيء الآن �سوى
عليك �أميِ � ،
ع
�صحتك».
ِ
�صاف ،ال يكدره �أي �شيء �أخريا ،التفتت لرحاب ابت�سمت لها والدتها بحب ٍ
أ�سرارك معها
ِ �شقيقتك دائ ًما باحلب يا رحاب� ،آمني على �
ِ وحتدثت بتعب«:حاوطي
�صدرك يا ابنتي،
ِ مب�ستقبلك ،واف�صحي عن مكنونات
ِ حزنك ،اهتمي
تخف عنها ِ وال ِ
ومببادئك وال جتعلي �شيئا ي�ؤثر �سلبيا عليها» ،بكت رحاب بقوة وهي
ِ بدينك
ِ مت�سكي
عليك». تق ّبل كفها�«:أمي � ِ
أرجوك ال تقلقيني ِ
ابت�سمت لها والدتها ابت�سامة اق�شعر لها بدن زمرد ،و�شعرت بغ�صة حتكم حلقها
وهي تعي �أن والدتها تو ّدعهما الآن� ،سمعت طلب والدتها لرحاب ب�أن ترتكهما ً
قليل
مبفردهما فنفذت لها رحاب طلبها وهي تو ّدعها بعينيها بعد �أن ق ّبلت جبينها.
M MM
229
كانت لديها تلك النظرة بعينيها
�أي نظرة
نظرة من ذاق مرارة الفقد وهو على قيد احلياة
الف�صل الثالث ع�رش
االعرتاف
منزل �أمرية
ص ع
كانت جال�سة تقر�أ ب�صمت بينما �أذناها تلتقطان احلديث الدائر بني �أمري
الكت ري
ووالدته عن الرحلة التي يرغب �أمري يف الذهاب �إليها ،حتدث �أمري بحما�سه
ريص ع
وهي ترى بو�ضوح �شديد موافقة حممد على �سفر �أمري� .أكمل حممد حديثه«:والآن
ع
مع �أحد من عائلتها الأوىل ،بل مل يهتم �أحد منهم ب�أي �أمر يخ�صها� ،إن كان ال ي�ؤثر
ب�شيء على القوانني الأ�سا�سية للمنزل.
فلم حتاولون تغيريه ،البادرت جميلة حديثها«:الأمر مل يتغري منذ �سنوات َ
رحالت من دون العائلة ،املو�ضوع ال عالقة له ب�أنك كربت �أو �أين ال �أثق فيك ،املو�ضوع
بب�ساطة هو قلقي وخويف من �سفر لأربعة �أيام» ،هم�س �أمري ب�صوت م�سموع«:و�إن
أي�ضا»� ،أجابته جميلة بعتاب«:ارفع �صوتك يا ولدي كان ن�صف يوم لن توافقي � ً
العزيز و�أنت تتحدث ،نعم و�إن كان لن�صف يوم لن �أوافق ،يا �إلهي �أال يحق يل اخلوف
عليكم� ،أنا بكل ب�ساطة ال �أ�ستطيع �أن يبتعد عني �أوالدي ،كفانا ما ذاقه قلبي يف بعاد
ليلى» ،و�أتبعت كالمها بال�ضغط على كف يد ليلى املو�ضوع على الطاولة.
ابتلعت �أمرية ريقها ب�صعوبة وهي ال ترفع عينيها عن يد جميلة التي حتيط
بكفها ،حلظات ورفعت ر�أ�سها لها بعد �أن �سمعت �آ�سر يقول�«:أمي من دون دموع
أرجوك» فلمحت عني والدتها ترتقرق بالدموع ،م�سحتها جميلة م�سرعة بكفها � ِ
الآخر احلر و�أكملت«:ح�سنا من دون دموع �آ�سفة �أنا �أرف�ض �سفر �أمري».
233
تنهد حممد بهدوء و�أكمل«:ح�سنا لن�أخذ القرار �آ�سر» ،رفع �آ�سر عينيه لوالدته
تتو�سل �إليه �أن يرف�ض ،فرفع كفه يتخلل �شعره وهو ي�ضحك ويقول«:ال فوجدها ّ
تنظري يل هذه النظرة �أمي� ،أمري كبري الآن مبا يكفي لندعه ي�سافر وحده� ،أنا
ميكنك �أن
ِ موافق على �سفره ،قلقك ُيحرتم بالت�أكيد ،لكن هناك هاتف و�إنرتنت
ولك احلق يف االت�صال به كل �ساعة».
تعريف �أخباره منهماِ ،
رفع �أمري يديه وو�ضعها على ذراع �آ�سر مبت�سما وهو يقول�«:شكرا �أخي» ،بينما
نظرت له والدته ب�ضيق م�صطنع ،هي تدرك مدى �صحة كالم �آ�سر ،ولكنه قلب الأم،
ابت�سم حممد وهو فخور بابنه الكبري وتفكريه العقالين«:ح�سنا الآن ليلى».
ع
رفعت ر�أ�سها ُمفلة بينما كانت �شاردة يف كالم �آ�سر وتف ّهمه ال�شديد لوالدته
الكت ريص
وحماوالته عدم �إيذاء م�شاعرها ،فنظرت ملحمد الذي ينظر لكف يديه املجموع على
ع
وحقيبة!» ف�أجابها �آدم برباءة م�صطنعة«:بالطبع ال يا �أمي ،كيف تقولني هذا؟!»
والتوزي
�ضاحكا«:ح�سنا الآن لدينا ثالثة موافقة ورف�ضان �أما �أنا ف »...قاطعته جميلة
ع
ب�صوت هام�س«:حبيبي �أرجوك».
رفعت �أمرية عينيها لوالدتها حني �سمعت هم�ستها ،فلمحتها تنظر ملحمد بنظرة
التو�سل ،ثم ملحت ت�أوهات من اجلميع فنظرت با�ستغراب لهم حب خال�صة ي�شوبها ّ
و�آ�سر ي�ضحك م�ستمتعا«:الآن �أ�صبح لدينا ثالثة موافقة وثالثة رف�ض» ،بينما �أ�سند
�أمري ر�أ�سه على الطاولة وهو يت�أوه با�صطناع�«:ضاعت الرحلة بكلمة حبيبي» ،بينما
ارتفعت قهقهات �آدم واحمر وجه �أحمد كعادته ،فهتف حممد بجدية م�صطنعة وهو
ال يرفع عينيه عن وجه حبيبته«:ماذا؟! توفقوا عن هذا الآن لقد قمنا باالجتماع
الطارئ».
وتغي قرارك عن البداية بكلمة حبيبي» ،و�أنهى ف�أجابه �آدم مازحا«:نعم �أبي ّ
�آدم كالمه وهو يق ّلد والدته وهي تقولها بخجل ف�ألقت جميلة املفر�ش ال�صغري
املو�ضوع �أمامها على وجه �آدم ال�ضاحك�«:أنا ال �أقولها هكذا» ،كانت �أمرية تتابع
امل�شهد �أمامها بانبهار ك�أنها ت�شاهد موق ًفا مكتو ًبا يف احدى الروايات اخليالية ،كانوا
يبدون �أمامها كعائلة حقيقية� ،شعرت بالدموع حترق عينيها فرم�شت �أكرث من مرة
235
وهي ت�شعر باالمتنان لأول مرة ملحمد الذي طلب منها �أن حت�ضر اجتماعهم ،رفعت
عينيها فلمحت �آ�سر ينظر لها بتم ّعن كعادته ،ف�شعرت ب�أنها يف حاجة لنظراته ،تريد
�أن تنظر له وتتو�سل �إليه �أن يخرتقها� ،أن يك�شف خبايا روحها.
قاطع نظراتهما �صوت حممد ال�ضاحك«:ح�سنا رف�ضي للأمر الآن ب�سبب �أنني
حجزت منذ فرتة لرحلة �إىل مطروح و�سنذهب جميعا بها ،وخمنوا املدة!»
جنح حممد يف جذب انتباههم جمي ًعا فهتف �آدم«:كم �أبي �أرجوك قل �أ�سبوع»
ابت�سم حممد له و�أجاب«:بل لأ�سبوعني كاملني هذا ما ا�ستطعت فعله ال �إجازات
كثرية لنا للأ�سف».
ص ع
ته ّلل وجه �أمري فرحا بينما نه�ض �آدم و�أحمد و�أخذا يهلالن ب�سعادة ،وملحت
الكت ري
�أمرية نظرات جميلة املمتنة لزوجها ،ف�شعرت مب�شاعر غريبة داخلها ال تعرف كيف
توزيع
تابعها �آ�سر بعينيه وهو يرى تخ ّبط م�شاعرها ،تذكر كلماتها التي ت�سطرها كل
فرتة و�أخرى يف دفرتها ،كلماتها التي بد�أت توحي مبدى احلزن والغ�ضب الذي
يعرتيها خا�صة بعد معرفتها ب�أمر هروب ممدوح و�أنه على قيد احلياة ،يتذ ّكر يومها
رف�ضها التام للحديث وعدم ح�ضورها اجلل�سة التي اتفقت عليها معه ،ليجد الدفرت
يف نف�س الليلة وكلمات ُكتبت ب�أمل يف �صفحاته تبوح ب�أملها و�أنهتها بتوقيعها الذي حمل
يف نهايته �أثر دمعة قد �سقطت عليه.
M
م�شفى املدينة
ملحت يامن و�سليم عائدين ب�أكواب قهوة وب�ضعة �ساندويت�شات ،تناولت مع رحاب
القليل بعد �إ�صرار يامن وتهديد �سليم ب�أنه �سيعيدهم للمنزل �إن مل ي�ستجيبا لهما،
مر النهار عليهم بزيارات عائلتها و�إ�صرار كبري منها على �أال يبقى �أحد يف انتظار
والدتها �سواها هي و�أختها ،ولكن ال يامن وال �سليم وافقا على تركهما وحدهما،
كانت ت�شعر بوجع غريب داخلها ،تلمح يامن وهو يتابعها بعينيه وك�أنه ي�س�ألها عما
236
�أ�صابها بعد خروجها �شاردة جامدة من غرفة العناية منذ �ساعات ،تنهدت بتعب
وهي ت�شعر �أنها ما عاد با�ستطاعتها التح ّمل جمددًا ،انتف�ضت واقفة على �صوت
خروج �أحدهم من الغرفة لتبوح مالمح وجه الطبيب مبا �أدركته ُمبك ًرا ،مبا �أدركته
وك ّذبت �صحته
«البقاء هلل».
�صراخ رحاب العايل وارمتا�ؤها يف ح�ضنها تبكي على �صدرها وهي تنادي والدتها
جعلها ُت�ص ّدق �صحة ظنونها ،عيناها ما زالت على باب الغرفة حيث تقبع جنتها
على الأر�ض ،حيث كانت ومل تعد ،حيث احتاجت ومل ت�شبع حاجاتها يف تلك الأ�شهر
تن�شقت لن�سمات حنان وكان القدر بخيال عليها ،ماتت والدتها الق�صرية ،حيث ّ
ريص ع
قبل �أن تبكي ب�أح�ضانها وجعها الأخري ،ولكن هل هناك وجع كوجع فقدها ،رحلت
ع
من بكائها ون�شيجها با�سم والدتها كن�صل حاد ينغرز بقوة يف قلبها� ،أ�سندت ذقنها
على ر�أ�س رحاب و�أغم�ضت عينيها ودمعة يتيمة فرت من �سجنها لتختفي �سريعا يف
حجاب �شقيقتها.
M
منزل زمرد
دخلت بهيئتها اجلاذبة النتباه اجلميع ،كنزة �سوداء على �سروال جينز �أ�سود
بغ�ضب
ِ يعلوه �سرتة �سوداء ،من يراها ي�شعر باخلطر املُحيط بها ،عيناها املُ�شتعلتان
قاد ٍر على �إحراق بلدة كاملة ،بينما �أفلتت بع�ض اخل�صل املُتمردة من عقدة �شعرها
الغجري لي�ضيف جاذبية خطرة على مالمح وجهها� ،أخذت تبحث بعينيها عنها،
ت�شعر ب�أن ر�أ�سها �سينفجر مما عرفته عما حدث يف غيابها عن املزرعة ،حلظات
وملحتها تقف و�سط ال�سيدات ويبدو �أن هم�ساتهن و�صلتها ،ا�ستمر حوار النظرات
بينهما للحظات ،حاولت ال�سيطرة على غ�ضبها ف�أ�شارت لها بر�أ�سها بجمود لتقابلها
باخلارج.
237
خرجت للحديقة اخللفية بغ�ضب وحلظات وملحت زمرد تدلف من الباب اخللفي،
مل متهلها ُغفران لت�صل �إليها فاندفعت باجتاهها ،خطوة خطوتني ،لتتوقف زمرد
وهي تعي حالة ُغفران الغا�ضبة وتدرك �أ�سبابها ،لكمة لفكها ثم تبعتها �أخرى لفمها
لت�سقط زمرد على �أثرها على الأر�ض وقلة الطعام طوال الأيام ال�سابقة ت�ضعف من
حالتها� ،أغم�ضت عينيها حتاول �أن توقف ذلك الدوار بينما ت�ستمع لكلمات ُغفران
الغا�ضبة«:كيف ب� ِ
إمكانك فعل هذا؟! َمل مل تخربيني؟! �أخرب ِتني � ِ
أنك ُت ّدثينها
عليك زمرد ،واللعنة على �أ�سلوب الكتمانكذبت؟! ،اللعنة ِكل فرتة والأخرىَ ،مل ِ
بداعي احلماية الذي تتبعينه ،لقد قتلها ،لقد اغت�صبوها �أيتها احلمقاء قبل �أن
يدفنوها ،لقد تركها حية وهم يقتلعون عينيها ،زمرة دمها النادرة كانت ال�سبب يف
ص ع
معك؟! َمل مل تخربيني �أن ذلك الوغد قداملتاجرة بهاَ ،مل مل تقويل �شيئا عما يحدث ِ
الكت ري
�سذاجتك جعلتك
ِ وافقت �أيتها احلمقاء،
ِ أنت�شرفك و� ِ
ِ �ساومك على
ِ اغت�صبك ،قد
ِ
توزيع
�أخذت تلهث من �شدة انفعالها و�صدرها يعلو ويهبط من الغ�ضب ،بينما تلمح
زمرد تقف على قدميها ومالمح الأمل مرت�سمة على وجهها.
أ�سماعك ل�شيء �آخر،
ِ �أن تعي احلقيقة وتعي�شها �شيء ،و�أن ي�سردها �أحدهم على �
ل�شيء �أكرث �إيالما.
مرت حلظات حتى حتدثت زمرد ب�ضياع�«:أمي ماتت ُغفران» ،جتمدت ُغفران
مكانها وهي تنظر بجمود ملالمح زمرد املُت�أملة ،وجرح عميق مل ُي�شف بعد بقلب
ُغفران ولن ُي�شفى �أبد الدهر ،ي�سحب روحها من ج�سدها ،هل ت�ستجديها؟! الغبية
�أال تعلم �أنها ت�شعر بوجعها� ،أنها تت�أمل لأملها.
حلظة واحدة لتقرتب ُغفران منها وجتذب زمرد لأح�ضانها لتت�شبث الأخرية
بها بقوة وهي ت�شهق بعنف وتتحدث من بني دموعها�«:أمي ماتت ُغفران مل � ِ
أكتف
منها ،مل تكفني تلك الأ�شهر املعدودة ،تركتني �أمي ورحلت ،قالت يل �أن �أبي ا�شتاق
لها ،ترى من ا�شتاق ل�سهيلة؟! مل يكن لها �أحد ،ومل ن�صل لأهلها ،لقد حاولت كل ما
لك �أنني مل �أعرف �أنه ما زال يقيم النزال كما فعل
بو�سعي لأجعلها بعيدة عنه� ،أق�سم ِ
معنا� ،أنا قتلت خديجة من �أجلها وفديت بروحي م�ستقبلها ،مل �أكن �أعلم ،لقد كان
238
يجعلني �أح ّدثها كل فرتة ،يا �إلهي ُغفران لقد كانت تت�صل بي على الهاتف وتخربين
ب�أنها بخري ،ب�أنها �سعيدة ومل �أكن �أعرف ب�أنها ماتت� ،آه ُغفران من هذا الوجع ،لقد
فارقتني كما فعلت �أمي� ،أنا فقدت الأم واالبنة ،فقدت �أمي وابنتي ،لقد كانت ابنتي،
لقد كنت �أرعاها ،لقد كانت تناديني ب�أمي ال�صغرية».
ت�شبثت ب�سرتة ُغفران وهي تبكي بقوة ،لقد خارت قواها ،مل تعد �صامدة كما
عاهدت نف�سها ،فقط مل ت�ستطع.
�سمعت �صوت ُغفران ذا البحة وكم بدا �ضعي ًفا ُمهتزا�«:أنا �آ�سفة� ،آ�سفة لأنني
مل �أكن موجودة� ،آ�سفة لأنني مل �أتابع الأمر و�أت�أكد بنف�سي من �صحته� ،آ�سفة لأنني
ع
خذلتكم ومل �أ�ستطع حمايتكم مبا يكفي ،يبدو �أنه ا�ستخدم �أحد الربامج ليقلد
ع
بقذارة� ،آ�سفة زمرد وليت لأ�سفي قيمة».
ابتعدت ُغفران عنها ُم�سرعة وحتركت باجتاه البوابة اخلارجية دون �أن تلتفت
لها ،فهمت زمرد ردة فعلها ،و�أدركت مدى احتياجها للبقاء مبفردها ،هم�ست بوجع
أ�سف قيمة ،ليته يا عزيزتي». ودموعها ما زالت تنهمر«:ليت لأي � ِ
مل ت�ستطع �أن تدخل لتكمل ا�ستقبال من جاء ليقدم واجب العزاء ،فجل�ست على
�أر�ضية احلديقة بني احل�شائ�ش اخل�ضراء ،الظالم يحيط بها من كل جانب ،ووحده
نور القمر يك�سر ظلمتها ،فلم تلمح تلك التي ا�ستمعت حلديثها مع ُغفران و�سجلت
كل كلمة �سمعتها بعقلها.
هد وهو ّ
يدخن بعيدً ا عن التفتت على �صوت �أقدام لتلمح يامن من بعيد بوجه ُم ٍ
جمل�س الرجال ،ا�ستدار على �صوت حركة خلفه ليلمح ج�سدً ا يغطيه الظلمة و�سط
احلديقة ،ليدقق النظر للحظات ليتعرف عليها من وهج عينيها احلزينتني.
تخ ّللت �أ�صوات نب�ضات قلبيهما ال�صمت وهما ينظران لبع�ضهما حتى ك�سرت
الهالة التي �أحاطتهما للحظات ،وهي تخف�ض ب�صرها لتتجه للباب اخللفي ،ف�أ�سرع
239
ليعرت�ض طريقها وكاد ي�س�ألها عما تفعله هنا ،ليتجمد مكانه وهو يلمح الكدمات
التي زينت وجهها و�أظهرها انعكا�س �ضوء القمر على وجهها ،بينما خط من الدماء
ينهمر من �أنفها.
اقرتب خطوتني منها ورفع وجهها بكفيه فت�أوهت بخفوت فهتف بغ�ضب«:من
بك؟! ماذا حدث؟!»� ،أبعدت وجهها عن طريق كفه وحتدثت الذي فعل هذا ِ
قليل».
بهدوء«:مل يحدث �شيء �س�أ�صعد لأرتاح ً
اعرت�ض طريقها ثانية ثم م�سك مع�صمها وج ّرها خلفه ملنزله ً
بدل من منزلها،
�أدخلها لردهة املنزل وهو ي�أمرها باجللو�س حتى ي�أتي ،مل ت�ستطع املجادلة فهي
ع
ُمتعبة ب�شدة ،جل�ست على �أحد الكرا�سي و�أ�سندت ر�أ�سها على ظهر الكر�سي تغم�ض
الكت ريص
عينيها لع َّل ذلك الأمل يخبو.
توزيع
بيديه علبة �إ�سعافات ،فتحدثت بهدوء«:ال داعي لذلك �أنا بخري» ،هدر بغ�ضب
�صديقتك ُغفران كانت
ِ مكتوم«:ا�صمتي زمرد� ،إنها تلك ال�ساحرة �ألي�س كذلك؟!
إليك».
هيئتها تنم عن ال�شر ولكن مل �أ�صدق �أن �شرها ي�صل � ِ
«نحن كنا نتحدث فقط» ،قالتها ب�صوت خافت وهي مبهوتة من غ�ضبه ،فنظر
غافل عن عيونها الباكية وهو يردد كالمها«:تتحدثان فقط! �أهذا هو
لها بده�شة ً
مفهوم احلديث لكما� ،إذا كيف تت�شاجران؟!»
رغم الوجع الذي ميلأ روحها قبل ج�سدها� ،إال �أن ابت�سامة �صغرية �شقت
وجنتيها ،مل ت�ستطع كتمها لتخفت ببطء بعدها وتقول«:مل تق�صد فعلها ،هي فقط
غا�ضبة».
كان يح ّدثها وهو يعالج كدماتها وي�ستمع �إليها ب�إن�صات ،حتى توقفت يده عن
املتابعة وهو يلمح مق�صد كالمها ،فتحدث بنف�س هدوئها«:غا�ضبة لأنها مل تعلم
ما حدث ل�سهيلة؟»� ،أبعدت عينيها عنه وهي تكمل بخفوت«:نعم ومل تعلم ما حدث
يل» .جت ّمدت مالحمه ب�أكملها وهو يتذ ّكر ما حدث فتحدث بخفوتَ «:مل مل تخربي
هددك؟!».
ِ �أحدا؟! هل
240
�صمت لإدراكه مدى غباء �س�ؤاله وعندم ملح جمودها� ،أخذ يلملم يف علبة
الإ�سعافات وهو يقول«:ال يوجد ك�سر ،جمرد كدمة فقط».
نظر كالهما للآخر ً
طويل وقد باحت النظرات مبا �أخفاه القلب ،حتى ارتع�شت
زمرد ف�أ�سبلت �أهدابها و�أحاطت ج�سدها بذراعيها لع ّلها تبعث بع�ض الدفء فيه،
حقيقتك ،ما �أدى
ِ �ساد ال�صمت جمددًا ليقول�«:أنا ل�ست نادما لأنني �أخربت عمتي
لتعبها ال�شديد».
مل تقل �شيئا ،يكره �صمتها وكيف حتيط نف�سها بتلك الفقاعة الباردة ،حتدثت
بهدوء بعد حلظات�«:أنا �أ�ؤمن بق�ضاء اهلل وقدره� ،أنا فقط �أردتها �أن حتبني دون �أي
حقيقة ،دون �أي �أ�سباب».
ت
لك ،احلب ال يحتاج حلقائق يا زمرد ،ال أمك ِ
ر ش
والتوزي
والدتك ،مل تخرج
ِ أنت تدركني �صعوبة املوقف على اجلميع فتخيلي الو�ضع على
لكن � ِ
ع
و�ضعك ،هي مل حتتج
ِ وجودك �أخريا بعد كل هذا العمر لتجد �صدمة
ِ من �صدمة
لك �ضعفها ،لتربر لنف�سها عدم قدرتها
لتحبك ،هي احتاجت حلقائق لتربر ِ
ِ حلقائق
عليك».
حمايتك ،على احلفاظ ِ
ِ على
�شحب وجهها وهي تنظر �إليه وهو يتحدث بهذه الطريقة معها ،وتن�صت ملعنى
كلماته ،هل هو حمق؟! �إذا كان احلب ثقة فلماذا مل...؟!
ابتلعت ت�سا�ؤلها وهي تبعد نظراتها امل�صدومة عنه ،لتنه�ض من مكانها بهدوء،
فوقف وقد فهم ارتباكها وتخ ّبطها فهم�س لها ب�صوت حنون«:هناك فرق �شا�سع بني
بجانبك».
ِ الغ�ضب النعدام الثقة وبني ال�شعور بالغ�ضب للعجز لأننا مل نكن
رفعت عينيها جمددًا له لترتقرق بالدموع وهي تردف بوجع«:الغ�ضب ي�أتي ملن
يهتم يامن ،ولي�س ملن �أكمل حياته ك�أن �شي ًئا مل يكن».
لك �أن حتكمي على الكتاب من �ساد ال�صمت للحظة ليجيبها بجمود«:ال يحق ِ
أمامك ك�أنه �أكمل حياته رمبا �أكملها ُم�ضطرا� ،أكملها لأن ال
�صورة غالفه ،من بان � ِ
خيار �آخر� ،أكملها لأن من غابوا مل يعودوا ومن معه لهم حق عليه ب�أن يكمل حياته
241
من �أجلهم وال يدركون �أنه غاب مع من غابوا ،لكنه �أكملها وهو ي�ستمد قوته من
ذكرى ،ذكرى لأيام كان فيها ح ًيا ومل يعد».
�أ�سبلت �أهدابها عنه لتتحول �صفحة وجهها للوح جليدي وهي جتيبه ب�صوت
واهن�«:أنت خمطئ� ،أنا ال يحق يل �أن �أحكم من الأ�سا�س» ،ا�ستدارت لتتجه لباب
املنزل ثم توقفت للحظة وهي تكمل«:ال تقلق لن �أح ّملك ذنب وفاتها ،فهي ارتاحت
وذهبت ملن ا�شتاق لها ،على الأقل كان لديها �أحد».
M
منزل �أمرية
ريص ع
الكت
نزلت من �سيارة الأجرة بعد �أن �أعطت لل�سائق �أجرته ،الذي كان يتابع هيئتها
شر وال
�ساعة ،ولكنها مل ت�ستطع �أن ت�أتي لهنا بعد حديثها مع زمرد ،كان عليها �أن تفرغ كم
توزيع
الغ�ضب الذي يعرتيها ،وبعد ال�سري يف �شوارع املدينة ل�ساعات ،ا�ستطاعت �أن ت�صفي
ذهنها ولكن وجدت نف�سها �أمام املاليني من الأ�سئلة ومل ت�ستطع االنتظار للغد من
�أجل احل�صول على �إجابتها ،رفعت هاتفها وات�صلت على الرقم لي�ستمر الرنني
حتى ينقطع اخلط ،فزفرت ب�ضيق وهي تتحرك للبوابة وت�ضغط على اجلر�س ،مرة
مرتني ،حتى ملحت نور املنزل ُي�ضاء ل ُيفتح الباب ويخرج �آخر �شخ�ص �أرادت �أن تراه
هم�ست بداخلها«:يا اهلل �أعني».
�أخرج نظارته الطبية من جيب �سرتته وارتداها بينما ارت�سمت مالمح الده�شة
على وجهه وهو يتحدث ب�صدمةُ «:غفران!» ،ليقرتب يف اللحظة التالية ليفتح
البوابة اخلارجية.
ارجتف ج�سدها على ندائه با�سمها فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تتحدث
بجمود�«:أعتذر عن جميئي يف هذا الوقت املُت�أخر ،لكن �أنا �أريد التحدث مع �أمرية
يف �أمر مهم ،ال يحتمل الت�أجيل».
ارتفع حاجباه بده�شة وهو ما زال على وقفته يتمعن يف النظر �إليها ،وك�أنه ال
242
ي�صدق �أنها �أمامه ،تنحنح بخفوت وهو يقول«:ولكن هي نائمة الآن فالوقت»...
قاطعته بقوة�«:أيقظها �أرجوك ،الأمر لن ي�ستغرق �سوى دقائق»� ،شعر �آ�سر ب�أن
الأمر بالغ الأهمية و�إال مل تكن لتت�صرف هكذا ،هز ر�أ�سه بتف ّهم ليقودها لل�شقة.
وطرق الباب بهدوء ،حلظة حلظتان لتفتح �أمرية الباب و�آثار النوم على وجهها،
وهي تنظر له بده�شة حتولت ل�صدمة وهي تلمح ُغفران خلفه ووجهها �شاحب اللون.
�آ�سرُ ،غفران
تريدك يف �أمر مهم» ،مل
ِ حتدث �آ�سر بهدوء«:م�ساء اخلري عزيزتيُ ،غفران
يكد يكمل كالمه حتى ملح تلك ال�شعلة تزيحه من طريقها ومت�سك ر�سغ �أمرية وتدلف
ع
بها ال�شقة وهي تقول لها«:يجب �أن نتحدث».
أنت خمطئة، أنت يف تلك احلالة ف� ِ
والتوزي ر
وهي تتحدث بوقاحة�«:أريدها مبفردها ،ال ميكنك البقاء» ،حتدث بهدوء وهو
ع
أردت احلديث معها فتف�ضلي ،لأنني لن يتجه لأحد الكرا�سي ليجل�س عليها�«:إن � ِ
تدخله ،ولكن �صوت �أمرية القلق منعها وهي�أحترك من هنا» ،كادت �أن ت�سبه وتلعن ّ
بك ُغفران؟! ما الذي حدث؟!». ت�س�ألها«:ماذا ِ
تنهدت ُغفران بتعب وهي ت�ست�شعر جدية �آ�سر يف حديثه لتجل�س على الأريكة
املوجودة وتطلب من �أمرية اجللو�س هي الأخرى بجوارها ،بادرتها دون �أي
مقدمات�«:س�ؤال و�أريد �إجابته ب�صدق ،هل � ِ
أجربك ممدوح على النزال �أو بالأدق
اختبار الكفاءة؟!».
�شحب وجه �أمرية وهي تنظر ل ُغفران ب�صدمة ،كيف جلملة واحدة �أن تعيدك
لأ�سو�أ �أيام حياتك ،جتعلك ت�شعر بطعم الأمل املر يف حلقك ،نف�س الأمل ،نف�س
اخلوف ،نف�س ال ،...ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تبعد بعينيها عنها وتتحدث بهدوء
يخفي الكثري من امل�صائب�«:أي اختبار تتحدثني عنه؟!».
رفعت ُغفران كفها لتطرق على الطاولة �أمامها بقوة وهي تتحدث بغ�ضب
مكتوم«:جاوبي على �س�ؤايل اللعنة» ،ازداد �شحوب �أمرية وهي تلمح غ�ضب عفران
243
عليها لأول مرة فرتقرقت الدموع يف عينيها وهي جتيبها بوجع«:ما الذي تريدين
معرفته؟! ،هل اقتحم غرفتي يف منت�صف الليل بعد يومني من اختفاء زمرد؟! هل
�أدخلني احلظرية لأجد نف�سي �أمام فتاة لأول مرة �أراها ،لأجد �سمر جتردين من
ثيابي ،ال �شيء ي�سرتين �سوى مالب�سي الداخلية و�أنا �أرجتف من الربد ،لأجده جال�سا
�أمامنا ويقر علينا القوانني ،اختبار يجب �أن جنتازه و�إال املوت يكون من ن�صيبنا،
قتال بيني وبني فتاة لأول مرة �أراها ،قتال ال ينتهي �سوى باملوت ،وعندما اعرت�ضت
هاجمتني الفتاة لتبد�أ قتالها فهي تريد الفوز ،تريد اجتياز االختبار ،فهي ال تريد
املوت ومن يريده!» هتفت �أمرية ب�س�ؤالها الأخري بارجتاف لتنه�ض من مكانها وتدير
وغفران ظهرها لهما تخفي �أملها وخوفها وارجتافة ج�سدها عن �آ�سر امل�صدوم ُ
ريص ع
الكت
ال�شاحبة ،نظرت �أمامها وك�أن املوقف يتكرر ،بنف�س الأحداث ك�أنها تعي�شه جمددًا
ب
�أكملت ب�أمل وهي تغم�ض عينيها بقوة ومل ت ِع لدموعها التي انهمرت ب�ضعف«:دقيقة،
توزيع
ولكنه قانون من قوانينه� ،سمعته ي�صرخ با�سمي وهو يقول�«:أفيقي ليلى �أنت على
أخربتك �أنني �شعرت بالتقزز من ا�سمي ومن الهواء الذي ِ �أعتاب املوت» هل �
قليل لرتيح قب�ضتها لأجد �أت�شاركه معه ،والفتاة التي ال �أعرف حتى ا�سمها تتوقف ً
نف�سي �أدفعها بعيدً ا عني لأ�شعر بالغثيان وحلظة �أخرى لأخرج كل ما بجويف ،نه�ضت
ببطء بعدها ،وكل ج�سدي ي�ؤملني لأتفاج�أ بها جت ّدد قتالها ويف حلظة وجدت �أن ما
تدربنا عليه طوال تلك ال�سنوات يدي حتفظه فتنفذه وك�أن عقلي مل يعد م�سيط ًرا
عليها� ،شعرت �أن عقلي منف�صل عن ج�سدي وروحي واقفة من بعيد ت�شاهد ،وقلبي
ّ
ته�شم ل�شظايا و�أنا �أ�سمع ت�أوهات الفتاة ،الأمر مل ي�ستغرق دقائق لأملحها �ساكنة على
ه�شم ودماء ت�سيل من �أنفها وعينيها� ،أدركت �أن خويف غلب غ�ضبي الأر�ض ،فكها ُم َّ
فرتاجعت بقوة و�أنا ال �أ�صدق �أين ا�ستعملت قوتي لقتال �أحد».
التفتت بقوة وهي تنظر ل ُغفران بنظرات غريبة وك�أنها انف�صلت بنف�سها عنهما
لذلك املكان جمددًا«:ولكن الأمر مل ينته بعد ،هو مل يكتف� ،أراد املوت ُغفران و�أنا
�أعطيته ما �أراد� ،أرادها جثة فكانت� ،أرادها مقتولة فكانت ،لقد قتلتها ُغفران،
بدل منقتلتها لي�س لأنه هددين باغت�صابي ،ف�أنا حتى وافقت على �أن يغت�صبني ً
244
�أن اقتلها ليتحول تهديده لإيذاء زمرد التي ال �أعرف عنها �شيئا ،التي ا�ستيقظت
من يومني لأجدها لي�ست باملنزل ،ف�أدركت �أنه �أخفاها ،لأنه يعلم �أنه �سي�ستخدم
كطعم لنحقق له مطالبه وكان الأمر ثم ماذا؟! �أنا قتلت من م�شاعرنا جتاه بع�ضنا ُ
�أجلها وهي كانت تلهو معه وهي كانت.»...
رفعت كفها امل�ضموم �أمام فمها وهي ت�شهق بعنف«:لقد قتلت يا ُغفران ،لقد
قتلت فتاة ال �أعرف حتى ا�سمها ،لقد حب�سني معها يف غرفة واحدة بعد �أن انتهى
منها ،بعد �أن تركها خاوية من �أع�ضائها! ،هل تدركني معنى �أن تقبعي يف غرفة
لك �أنه �سينه�ضذنبك ،تنظرين له ب�أعني ميتة ،ت�ست�شعر برودته ،يهي�أ ِواحدة مع ِ
أنت ال تعلمني
ألك ملاذا؟! لت�صمتي و� ِ
ويفرت�سك ،يغذي خماوفك ،وي�س� ِ
ِ أمامك
ليقف � ِ
ريص ع
حتى الإجابة يا �إلهي لقد �أردتُ االنتحار ولكنني مل �أقو على �أن �أنه�ض ،مل �أقو على
ع والتوزي
البارد ال يفارقني ،دمها الذي �سال على �أر�ضية الغرفة ال يفارق خميلتي».
اقرتبت ُغفران ُم�سرعة متنعها من �ضرب �صدرها بقوة ،وهي جتذبها لأح�ضانها
لك مل �أُرد ،حتى عندما هددين لتت�شبث فيها �أمرية بقوة«:لقد جعلني �أقتلها� ،أق�سم ِ
ب�أنه �سيغت�صبني مل �أرد قتلها ا�ست�سلمت له ولكنه مل يفعل ،لقد قتلتها من �أجل ال
�سيجربك كما �أجربين� ،آه ُغفران متنيت
ِ إليك،
أخربتك �سي�صل � ِ
ِ �شيء ،هددين �إن �
املوت ومل �أجده ،كيف �أك ّفر عن هذا الذنب ،كيف �أعي�ش به ،كيف!» �أغم�ضت ُغفران
عينيها ب�أمل ودمعة يتيمة تهرب من حمب�سها وهي ت�شدد من احت�ضانها ،بينما �آ�سر
ينظر لهما بعدم ت�صديق ،ال ي�صدق عقله ما �سمعه ،ال ي�صدق �إىل �أي مدى �ستنتهي
تلك ال�صدمات� ،أخته ال�صغرية �صغريته �آذاها هذا القذر كث ًريا� ،آذاها بقوة ،هذه
هي احللقة املفقودة ،احللقة التي كانت تلتف حولها �أمرية دون �أن جتر�ؤ على دخولها
�أو ال�سماح لأحد بدخولها ،هم�س بعدم ت�صديق«:يا �إلهي»� ،أخرجه من �صدمته
هتاف ُغفران با�سمه ليجدها تنظر له برعب وت�سند ج�سد �أمرية املُرتخي ،حلظة
�سرعا �إليها ويحملها لي�ضعها على ال�سرير ،ويطمئن عليهاوهو ينظر �إليها ليتجه ُم ً
245
وغفران تتابعه بعينيها وهو يقي�س نب�ضها ليخرج لدقائق ويعود واع ،دقائق ُ
بعقل ال ٍ
ليحقنها بحقنة ُمهدئة ،وي�سود ال�صمت الغرفة ،ظلت واقفة جامدة يف مكانها ،تتابع
�أنفا�س �أمرية املُنتظمة و�شحوب وجهها يوحي بانهيارها هي الأخرى ،بينما يجل�س
�آ�سر على ال�سرير بجوار �أمرية ينظر لها ب�ضياع.
ال تعلم كم مر الوقت وهي على حالتها ،و�آ�سر ال يتحرك من مكانه ،لتتجه لباب
ابق»� ،أغم�ضت عينيها وهي تقاوم الغرفة تنوي اخلروج عندما �سمعت هم�سهِ «:
االنهيار ،متنعه من ر�ؤية دموعها ،هم�ست بخفوت«:ال �أ�ستطيع» ليجيبها بنف�س
إليك عند ا�ستيقاظها� ،إنه انهيار ع�صبي».
هم�سها�«:ستكون يف حاجة � ِ
ع
لتهز ر�أ�سها بالنفي وهي جتيبه«:ال مل تعد يف حاجة �إ َّ
يل ،لقد خذلتهما ،لقد
الكت ريص
ف�شلت يف حمايتهما ،لقد خ�سرتهما» نه�ض �آ�سر ليقف �أمامها وهي يراها لأول مرة
ع
لتجيبه بعدها بوهن مدفون خلف �أحزانها«:لأنهما قطعة مني ،لأنهما من
ر
أنك ال
والتوزي
لك فقط الليلة
تتهاونني يف حماية من حتبني لذا ال تفعلي ،ال تتهاوين الآن� ،س�أ�سمح ِ
ع
باالنهيار ،لنعتربها ا�سرتاحة ُمارب ،لكن غدا� ،أريد ُغفران التي �أعرفها ،تلك
ال�شعلة املُتقدة التي ال تخفت �أبدا ،تلك التي حتمي �أحباءها وتفديهم بروحها ،تلك
التي تهاجم ب�شرا�سة كل من يفكر باالعتداء على ما متلكه وعلى كل عزيز لديها».
نظرت له عفران ب�ضياع لتهم�س ودمعة تفر من حمب�سها«:لكنني ُمتعبة ب�شدة»،
�أجابها بحنان ك�أنه يهاود طفلة �صغرية�«:أعرف يجب �أن تكوين ُمتعبة» ،ف�س�ألته
برباءة ودموعها قد �أفلت جلامها فانهمرت على وجنتيها بقوة«:هل �س�أرتاح؟!
هل ب�إمكاين �أن �أعود قوية جمددًا �آ�سر؟!» �أجابها بقوة وهو يحيط يديها بني
عليك يف هذا».
كفيه«:بالطبع �أنا �أعتمد ِ
ت�أوهت بتعب وهي متيل بج�سدها للأمام وت�ضع جبينها على كتفه ليرتكها هو
للحظات وهو يعي �أنها لي�ست بوعيها ،ولكن كم �أ�سعده �أنها ت�شعر بالأمان يف وجوده،
�سمع هم�سها«:مل �أرد منذ �صغري �سوى �أن �أعي�ش يف بيت هادئ ،بني �أب و�أم حمبني،
مل �أرد �أن يكون يل �إخوة ف�أنا �أنانية �أريد حبهما يل فقط ،ولكن الآن �أريد � ً
أي�ضا �إخوة
يل �آ�سر� ،أريد من يرعاين ف�أنا تعبت من املراعاة� ،أريد �أن �أعود �صغرية لأعي�ش
247
طفولة �أخرى غري طفولتي� ،أريد من يربت على وجهي بحنان ويحت�ضنني ب�أمان،
�أريد �أن يكون يل �أب ،و�أن يكون يل �أم ،و�أن يكون يل �أخ يناديني ب�صغريتي كما تفعل
مع �أمرية �أنا �أريد � ًأخا مثلك �آ�سر� ،أريد حبك هذا الذي متنحه ب�سخاء لأمرية».
تركها تخرج كل ما بداخلها يف انهيارها وكم �أوجع قلبه كلماتها لتت�أمل روحه وهو
ي�سمع نحيبها وي�ست�شعر دموعها على كتفه ،مر الوقت وهي تبكي بقوة لتهد�أ �شهقاتها
وهي تدير ج�سدها عنه وتلتفت جلهة ال�سرير الأخرى لتقول بخفوت«:اتركني وحدي
غدً ا �س�أكون ما تريده� ،س�أقبل با�سرتاحة املحارب هذه».
نه�ض مكانه وابت�سامة �صغرية حزينة زينت ثغره لتخفت بعد حلظات وهو يخرج
ع
من الغرفة متنهدا بقوة ،نظر لباب غرفة �أمرية و�آمله قلبه حلالة �أخته ،فالو�ضع
الكت ريص
يزداد �صعوبة مع كل تلك ال�صدمات ،دخل للغرفة وو�ضع كر�س ًيا بجانب �سريرها
شر وال
وو�ضعها على الطاولة ليعدل من و�ضعيته على الكر�سي وهو يهم�س لنف�سه�«:ساعة
توزيع
واحدة �آ�سر لتنه�ض جمددًا».
M
منزل �أمرية
�شعر مبلم�س يد تربت على كتفه بحنو ،رم�ش بعينيه �أكرث من مرة و�شعر ب�آالم
ُمتفرقة يف ج�سده �س ّببتها نومته اخلاطئة ،فتح عينيه بده�شة وهو يرى ُغفران �أمام
عينيه ،ظل ينظر �إليها للحظات ُم ً
نده�شا وهو غري م�ستوعب ملكانه وكيف هي �أمامه،
ابت�سم لها بحنان وهو يرفع يديه ليحاول مل�س وجهها فتحدث ب�صوت ناع�س«:ما
�أجمل الأحالم التي ت�أتيني فيها».
رم�ش بعينيه جمددًا وهو يلمح با�ستغراب جمود مالحمها ويديها التي م�سكت
كف يديه املمدود بحنان ليت�أوه ب�أمل يف اللحظة التالية وهو ينتف�ض من مكانه على
وغفران تلوي كفه بقوة وهي تهم�س بجمود«:هل ا�ستيقظت الآن؟!» الكر�سي ُ
«نعم ،نعم اتركي يدي».
248
فلتت كف يديه ليدلك مو�ضع �أمله بقوة وهو ينظر لها �شزرا ويتحدث ب�صوت
حانق�«:أهذه طريقتك لتوقظي �أحدهم؟!» �أجابته بربود وهي ت�ستدير لتقرتب من
�سرير �أمرية لتجل�س بالقرب منها«:لقد ناديتك كث ًريا ولكنك مل ت�ستيقظ ،وعندما
فتحت عينيك بدا ك�أنك ما زالت يف �أحالمك ،فكان يجب على �أحدهم �أن يوقظك».
نظر لها ب�ضيق م�صطنع ،وهو يتابعها بعينيه ليعي �أن ُغفران �أم�س قد رحلت
وعادت ال�شعلة املُتقدة ،نظر باجتاه ال�شرفة ليجد �أنه ما زال الوقت مبكرا على
كاف للراحة،
�شروق ال�شم�س ،فالتفت لها ُمنده�شا وهو يدرك �أنها مل حتظ بوقت ٍ
فلمح �شحوب وجهها والإرهاق الوا�ضح عليه ،بينما احمرار عينيها ي�شي ببكائها
ع
الذي حتما ا�ستمر ل�ساعات ،رق قلبه لهيئتها اله�شة التي تخفيها بجمودها ،تلك
ر ش
والتوزي
من �أهلها� ،شعور قوي بداخله يدفعه دف ًعا لأن يكون هو �أهلها ،لأن يكون والدها
ع
و�أخاها و�صديقها ،و�أخافته م�شاعره �أم�س وهي تبكي بني يديه ،وهو يكاد يتو�سل لها
�أن يكون � ً
أي�ضا حبيبها!
�أ�شاح بعينيه عنها وهو ي�شعر بارتباك م�شاعره �أمامها ،وبغباء �أفكاره ،فتحدث
بخفوت�«:أنا �س�أذهب لإح�ضار بع�ض القهوة لنا ،فالوقت ما زال مبكرا على ا�ستيقاظ
�أمرية» .قاطعته قبل خروجه وهي تنه�ض من مكانها«:ال داعي لذلك� ،أنا راحلة».
التفت لها وهو ي�س�ألها �سريعا«:ملاذا؟!» ارتبكت للحظات وهي ت�شعر ب�سخافة
املوقف الذي و�ضعت نف�سها فيه مبكوثها ل�ساعات تبكي يف الغرفة املجاورة لل�شخ�ص
الوحيد الذي مل ترغب يوما يف االنهيار �أمامه.
�أجابته بهدوء�«:أنا ما كان يجب �أن �أبقى بعد نوم �أمرية ،لذا يجب �أن �أرحل
الآن و�س�أعود لها اليوم للتحدث معها يف مو�ضوع مهم» ،اقرتب �آ�سر منها بهدوء
وهو يلمح ارتباكها ،بينما تبعد عينيها عنه وقال بهدوء«:ال داعي لكل هذا االرتباك
ُغفران ،ما حدث بالأم�س قد حدث وانتهى الأمر».
249
رفعت عينيها له بقوة وهي جتيبه بربود�«:أنا ل�ست ُمرتبكة ،فتوقف عن �إل�صاق
تلك ال�صفات التافهة بي».
اقرتب خطوة �أخرى وهو ينظر له بتمعن ليجيبهاِ «:
كونك مرتبكة �أو ال لي�س
بالأهمية ،ما حدث بالأم�س هو ما يجب �أن يحظى بالأهمية» ،ردت عليه بقوة«:ما
حدث بالأم�س ال يحمل �أي �أهمية ،كانت حلظة �ضعف ولن تتكرر �أبدا ،خط�أ ما كان
يجب �أن �أقرتفه».
�ضيق عينيه وهو يتابع ردات فعلها واحتقان وجهها بغ�ضب ،ف�أجابها بهدوء«:البوح
مبا نحمل داخل قلبنا لي�س ب�ضعف ُغفران وحتما لي�س بخط�أ».
ع
ابت�سمت له ب�سخرية لتجيبه بتهكم«:ها هو الطبيب ميار�س عملهَ ،مل ال تهتم
الكت ريص
ب�أختك وتدعني و�ش�أين؟!»� ،أجابها بنف�س تهكمها«:بالأم�س ِ
كنت ترغبني بي � ًأخا
ريص ع
ملحت ُغفران تتنهد بتعب بجوارها ،عادت �سيل الذكريات كلها لها لت�شعر باحلنق
ع والتوزي
لها وترقرقت بالدموع وهي تنظر ل ُغفران التي تنظر لها بحب خمتلف عن �أي حب
�شهدته يف هذا املنزل ،حب ُغفران لها هو طوق النجاة يف حياتها ،من دونه متوت
غر ًقا يف بحور احلزن والأمل ،ف�شهقت ببكاء وهي ت�ضع قب�ضتها على فمها وتهم�س
أرجوك ال تغ�ضبي مني».
ل ُغفران�«:أنا �آ�سفة � ِ
لتنه�ض ُغفران ُم�سرعة من مكانها لتن�ضم ل�سرير �أمرية وهي ترفعها من كتفيها
إياك �أن تعتذري عنلتحيطها بذراعيها وت�ضمها جل�سدها بقوة وهي تهم�س بقوةِ �«:
لك دخل به ،من يجب �أن يعتذر هو �أنا ،لأنني مل �أكن �أعلم ،مل �أكن �شيء لي�س ِ
أنت ابنتي
منك يا �صغرية ،ف� ِ
أحميك ،ال �شيء يجعلني �أغ�ضب ِ بجوارك وقتها ومل � ِِ
قبل �أن تكوين �أختي و�صديقتي».
ت�ش ّبثت �أمرية بح�ضن ُغفران بقوة وهي تف�ضي بكل دموع احلزن والأمل وال�ضعف
والقهر داخلها وتتحدث بني �شهقاتها�«:أنا ال �أ�ستطيع العي�ش من دون ِ
حبك هذا
أنت �سبب حياتي حتى الآن� ،أنا ال �أح ّم ِلك ذنب ما حدث فكالنا مل يكن يف ُغفرانِ � ،
و�ضع اختيار �سليم ،وكالنا مل يكن على دراية مبدى جربوتهم وظلمهم و�ساديتهم،
زلت طوق جناتي من اجلحيم الذي ع�شت به». كنت وما ِأنت ِ� ِ
251
�أغم�ضت ُغفران عينيها بقوة وكلمات �أمرية تنزل بردا و�سالما على قلبها ،ت�شفي
�آالم وجراح روحها لتزيد من �ضم �أمرية لها وهي ُتر ّبت على ظهرها بدفء و�صل
ب�صمت تام ،وعدة م�شاعر
ِ بو�ضوح لذلك الذي وقف على باب الغرفة يتابعهما بعينيه
جتي�ش بقلبه وروحها وهو ينظر لأغلى امر�أتني لقلبه بعد والدته.
تنحنح بعد حلظات بخفوت وهو يطرق الباب ويدلف وهو يتحدث مبرح«:وها
هي �أمريتنا قد ا�ستيقظت من نومتها يف �أح�ضان ال�شعلة».
غمز �آ�سر لأمرية مبرح وهي ي�شري لها بر�أ�سه ل ُغفران لتهتف الأخرية بغ�ضب
مكتوم«:توقف عن مناداتي ب�شعلة» ،لتنظر �أمرية لهما با�ستغراب وهي مت�سح
ص ع
دموعها ثم عادت ب�أنظارها لآ�سر وهي ترتقب مالمح وجهه لتتبني مدى ت�أثره مبا
الكت ري
�سمعه �أم�س ،لينظر لها �آ�سر بحنانه املميز وهو يرفع بني يديه مائدة �صغرية حتوي
ريص ع
�أحدهم عن ق�صد».
ع
مع زمرد وممدوح و�سهيلة.
�ساد ال�صمت بالغرفة تخ ّللته �شهقات �أمرية وهي تنقل �أنظارها لآ�سر الواقف
وغفران اجلامدة يف جمل�سها ،نظرت ل ُغفران بعدم ت�صديق وارتعا�ش بجوارها ُ
ت�سب ممدوح.
�شفتيها ينذر ببكاء مل يت�أخر لتبكي �أمرية يف اللحظة التالية وهي ّ
زفرت ُغفران بتعب وهي تقف لتجل�س بجوار �أمرية على ال�سرير وتتحدث بقوتها
املعتادة وهي مت�سك ذراعيها«:ا�ستمعي يل جيدا �أمرية ،ممدوح وغد قذر ٍ
�ساد
نف�سك ذن ًبا مل يكن لنا يد به،
ُمغت�صب وكل ال�صفات ال�سيئة يف العامل ،ال حت ّملي ِ
ً
وحو�شا ت�شبهه� ،أراد �أن كل هذا كان ُمططا منه يا عزيزتي �أراد �أن يخلق م ّنا
نكرب على البغ�ض والكره واحلقارة والقذارة� ،أرغمنا على دخول جامعات معينة
حتى ي�ستفيد م ّنا يف عملياته وجتارته� ،أراد ومل ي�صل لغايته ،وال�سبب هو �أننا معا
حتى هذه اللحظة ،نعم و�صل مع كل واحدة م ّنا ملرحلة �صعبة فكان على خطوة من
هدفه الأخري املن�شود لكنه مل يفعل ،مل ي�سعفه الوقت يف املا�ضي ولن ت�سمح له قوتنا
الآن ويف امل�ستقبل ،نحن ما عدنا ُ�ضعا ًفا وكل �شيء قد و�ضح �أمامنا الآن� ،أمرية زمرد
بك كما ظننت ،هي كانت ُمربة فقط يا عزيزتي لقد هددها ِ مل تكن ُمذنبة كما ِ
253
هددها �سابقا ب�سهيلة ،علم �أن نقطة �ضعفنا هي عالقتنا ببع�ض فا�ستغلها ل�صاحله
�أ�سو�أ ا�ستغالل وكتمان كل واحدة م ّنا على م�صابها �أبعدنا عن بع�ض وجعلنا نفقد
لك
أريدك بهذا ال�ضعف �س�أ�سمح ِ
تركيزنا وت�ضيع احلقيقة من �أمامنا ب�سهولة� ،أنا ال � ِ
مل�ساعدتك
ِ الآن باالنهيار هكذا لأنني �أعرف �أن احلقيقة �صعبة ،ولكن �أنا يف حاجة
معك،إليك ،وال التحدث ِ
حتتاجك زمرد فهي ال تقوى على النظر � ِ ِ فيما بعد كما
لتربر ما فعلته ونحن ال نريدها �أن تبعد ع ّنا ،نحن يجب �أن نكون م ًعا يف كل خطوة
�سنخطوها م�ستقبل ًيا ،ما زال هناك الكثري لنفعله ،ما زال �أمامنا العديد من ذيول
ممدوح يف كل مكان يجب �أن منحوها».
ريص ع
رم�شت �أمرية بعينيها لكلمات ُغفران وروحها تت�ش ّرب كلماتها حماولة بث روح
ب الكت
املقاتلة بداخلها ولكن هذه املرة يف الطريق ال�سليم ،رفعت ُغفران عينيها لآ�سر لرتاه
توزيع
كادت �أن تخرج من البيت بعد �أن اطم�أنت على �أمرية ،لت�سمعه يناديها ،فالتفتت
معك»� ،س�ألته
لتجده يرتدي �سرتته ويقرتب منها بهدوء قائال�«:أريد �أن �أحت ّدث ِ
با�ستغراب«:بخ�صو�ص ماذا؟!» ،كاد �أن يجيبها حني قاطعه رنني هاتفها ،فتحت
الهاتف لتجد رق ًما غري ًبا فقامت بالرد لي�صلها �آخر �شخ�ص كانت تتوقع �أن ت�سمعه.
«�إذا فلقد قتلت عزيزتنا خلود نف�سها يف النهاية ،خ�سارة ولكن مل �أتوقعها ً
يوما
�شجاعة لي�ست مثلك عزيزتي غفران» ،هتفت بغ�ضب غافلة عن ذلك الذي يقف
بالقرب منها ويراقب مالحمها�«:أيها الوغد احلقري ،لقد ماتت بعد �أن عرفت ب�أنك
من قتلت والدها»� ،ساد ال�صمت من الطرف الآخر ليقول بعد حلظات�«:إذا �إنه
جمرد انتقام ولكن انتظري هذا انتقام من نف�سها».
�سمعته ُغفران وهو ي�ضحك ب�سخرية لتقول ب�صوت مكتوم�«:أين �أنت؟! �إن كان
لديك اجلراءة �أخربين مبكانك» ،ت�أكد �آ�سر من هوية املتحدث بعد �أن ملح الغ�ضب
الكامن بكلماتها.
254
قال ممدوح وهو ميدد �ساقه امل�صابة على الأريكة �أمامه�«:آه يا ُغفران لقد
ا�شتقت �إليك ح ًقا ،كيف هو اللواء ح�سني� ،أما زال يبحث عن خطوط لإيجادي،
�أخربيه �أال يجهد نف�سه فمن امل�ستحيل �أن جتدوين».
جعلك
ِ «�س�أجدك ممدوح� ،أق�سم لك �س�أجدك وحني �أفعل لن �أتوانى عن
تذوق طعم الأمل مبرارة مل تكن تتخ ّيلها ،تذكر هذا جيدً ا» ،قاطعها ممدوح وهو
يقول«:دعينا من تلك الرثثرة و�أخربيني �أين عمران ،ف�أنا لدي معه ح�ساب مل
ينته».
ارتع�ش ج�سدها وهي ت�سمعه يذكر عمران لتجيبه بحذر�«:أنا ال �أعرف �أي �شيء
ن
اخلداع� ،أنا �أعلم بحب ذلك الأحمق ِ
ر ش
والتوزي
عميل للأمن الوطني».حمايتك ،فقط مل �أتخيل �أن يكون ً
ِ
ع
جمدت ُغفران مكانها وهي ت�سمع كلماته حب! ما الذي يهذي به ،لت�س�أله ب�صوت
حاولت �أن يبدو طبيعيا�«:أنا ال �أعرف عنه �شيئا» ليجيبها بعد تن ّهد«:خ�سارة ف�أنا
أنك تعرفني مكانه ،ف�أنا لدي عنوانان الآن ،وال �أريد �أن �أجازف بالذهاب ظننت � ِ
لواحد فقط فيهرب من الآخر».
�شعرت بالرعب وهي ت�سمعه لي�أتي يف عقلها هنية (والدة عمران) لتقول
يل جيدً ا يا ممدوح� ،أنا ال �أعلم �أي �شيء يخ�ص عمران �أو غريه بغ�ضب«:ا�ستمع �إ ّ
و »...قاطعها قبل �أن ينهي املكاملة«:ح�س ًنا� ،شك ًرا لعدم امل�ساعدة».
نظرت ُغفران للهاتف بيديها وهي ت�شعر بربودة يف �أو�صالها ،وكل ما يدور بعقلها
هو قدرة ممدوح للو�صول لوالدة عمران� ،سمعت �آ�سر يناديهاُ «:غفران �أجيبيني..
ماذا بك؟! وهل كان ذلك ممدوح؟!»
ريص
ال M M M ع
ن ل ل ب ت ك
و ت ل ا و ر ش
يع ز
256
الفقدان فجوة ي�صعب رتقها
وا�سيني الأعرج
الف�صل الرابع ع�رش
�أخوة
منزل عمران
ص ع
طرقت الباب وانتظرت بتوتر وهي تنظر بعينيها لذلك الذي يقف بجوارها
الكت ري
�صامتًا ،تذ ّكرت اخت�صارها ملا حدث له لي�صمت للحظات وهو يعر�ض عليها تو�صيلة
ريص ع
يا �سعاد فنحن راحالن» ،نظر �آ�سر لها با�ستغراب وهو يقول«:هل لديك م�شكلة
ع والتوزي
نظرت له بربود دون �أن جتيبه ب�شيء ،لتقرتب من �أم عمران ال�ضاحكة لتق ّبل كفيها
حفظك اهلل
ِ حفظك اهلل يا ابنتي،
ِ يف بادرة جعلت الدموع ترتقرق يف عينيها لتقول«:
يل» ،اقرتب �آ�سر وقام باملثل لتزيد �أم عمران من ال�ضغط على كفيه وهي تطلب منه
�أن يقرتب لتهم�س يف �أذنه«:اهتم بها جيدً ا فلقد عانت الكثري ،ال ترتكها يا بني ح ًبا
يف اهلل».
ابت�سم �آ�سر وهو يهم�س لها«:ال �أ�ستطيع تركها يا �أم عمران ،ال تقلقي هي بقلبي
قبل عيني»� ،شعر بارتعا�شة وهو يرى كف �أم عمران مي�سد على ر�أ�سه لتجيبه
ب�سعادة�«:أ�سعدكما اهلل يا بني» ،ليعتدل يف وقفته ُم�ستغر ًبا من جملته التي خرجت
من فمه دون �أن يفكر فيها ،رفع �أنظاره لها لرياها م�شغولة مع �سعاد يف ر�ؤية الأدوية
التي تتناولها �أم عمران ،فنظر �إليها برتكيز هذه املرة ،هو لي�س غب ًيا لينكر �شعورا
غريبا اجتاحه ،هو فقط م�ستغرب من ا�ضطراب م�شاعره وجد نف�سه ي�ؤ ّمن على
دعاء �أم عمران وجزء كبري داخله قد ظهر فج�أة وهو يتمنى ح ًقا �أن ي�سعدهما اهلل
معا.
259
بعد �ساعة
ات�صل به �أحد رجاله ف�أجابهم على الفور�«:أخربين» �أجابه رجله«:لقد
وقعت يف الفخ ب�سهولة ،لقد تبعناها كما قلت لنا بعد ات�صالك بها ،لقد خرجت
منذ �ساعة مع ذلك الطبيب من �إحدى ال�شقق يف نف�س احلي الذي ت�سكن فيه لكن
لي�ست �شقتها»� ،ساد ال�صمت للحظات ليجيبه ممدوح«:حاول �أن تعرف �أي ال�شقق
دخلتها ،هناك حتما تخفي �شي ًئا عن عمران ،وحاول �أال ترتك �آثا ًرا خلفك� ،س�أنتظر
ات�صالك».
�أنهى ممدوح ات�صاله وهو يفكر بابت�سامة �أنه كاد �أن ي�صل ملا يريد دون �أن يتم
ع
اكت�شافه� ،أم�سك جهاز الرثيا اخلا�ص به و�أجرى ات�صاال لي�أتيه �صوت يتكلم بلهجة
الكت ريص
عربية لي�س�أله ممدوح«:هل انتهى حت�ضري املخدر؟!» لت�أتيه الإجابة من الطرف
توزيع
�أنهى املكاملة ليلتفت على �صوت خلفه«:هل بد�أ الأمر؟!» ليجيبها بابت�سامة
تعك�س خبثه وهو يقرتب منها«:نعم عمليات البيع التي مل تتم حان وقتها ،الزعيم
لن يعفو عنا �إال �إذا نفذنا له ما �أراده ،املعلومات التي �أح�ضر ِتها يل� ،ساعدتنا
كنت املميزة عندي» رفعت ذراعيها وهي حتت�ضنه لتقول بهم�س يف كثريا ،دوما ِ
�أذنه«:ح�س ًنا دعنا الآن من العمل فلقد مللت و�أثبت يل كم �أنا مميزة لديك».
M
م�ساء
رن هاتف ممدوح ليجيب بهدوء«:ح�سنا» �أجاب رجله«:لقد دخلنا ال�شقة
ومل يكن بها �سوى امر�أة �شابة و�أخرى عجوز عمياء جتل�س على كر�سي متحرك»
�س�أله ممدوح«:هل �أنت مت�أكد من �أنها نف�س ال�شقة التي دخلتها؟» �أجابه«:مل �أكن
مت�أكدا حتى �سمعت العجوز تنادي ابنها وقد ظنته نحن وقالت«:بني عمران هل
عدت؟!»
260
جت ّمد ممدوح مكانه وهو ين�صت لرجله ليقول ب�صوت جامد«:او�صفها يل»،
ا�ستغرب الرجل �س�ؤال �سيده ليجيبه بعد حلظات«:امر�أة عجوز يبدو �أن عمرها
تعدى ال�سبعني ،ج�سدها �ضئيل بالإ�ضافة �إىل �أنها عاجزة وعمياء» ،حت ّدث ممدوح
وهو ي�شعر بان�سحاب الدماء من ج�سده«:اقرتب منها واك�شف عن ج�سدها هل
هناك �أي �أثر حلروق؟!»
�ساد ال�صمت للحظات على الطرف الآخر ليجيبه الرجل«:نعم �سيدي» ليغم�ض
ممدوح عينيه بقوة وهو يقول ب�صوت ال حياة فيه�«:إنه البيت ،ال تتحركا �أنا قادم»،
�أغلق ممدوح الهاتف ليفتح عينيه التي ت�شع غ�ضبا ليقذف بالك�أ�س التي بيديه على
احلائط فت�سقط مته�شمة ،وهو يهتف بغ�ضب�«:أيها الوغد احلقري».
ر ش
والتوزي
�آ�سر حوله بهدوء وهو يتفح�ص العمارة التي بها واملنازل من حولها ،ملحت نظراته
ع
ف�أ�ساءت فهمها وهي تقول ب�سخرية«:عذرا فاملكان ال ينا�سب الأمري»� ،أعاد �آ�سر
نظراته �إليها ليقول بهدوء وعيناه يف عينيهاِ �«:
أنت تعلمني جيدً ا �أنني ل�ست مثل
�أولئك الذين يولون انتباههم للأماكن والنا�س وهيئتهم» ،وهي ت�صدقه فهو مل
يرف�ض الذهاب من منزل �أم عمران حتى �شرب الع�صري ،يا اهلل �إنه حتى مازح
�سعاد ومل يرحل حتى جعلها ت�ضحك وهي التي كانت �صامتة منذ ح�ضوره.
خرجت من �أفكارها الغبية على �س�ؤاله«:يف �أي دور ت�سكنني؟» �س�ألته
با�ستنكار«:ملاذا ت�س�أل؟!» �أجابها بتنهد«:فقط �أجيبي على �س�ؤايل»� ،صمتت
للحظات وهي تقول«:يف الدور الأخري» ،ملحته ي�سبقها ليدخل املبنى وهو
يقول«:ح�سنا هيا» ،حلقته م�سرعة وهي ت�س�أله با�ستنكار تام�«:إىل �أين تظن
نف�سك ذاهبا؟!» التفت �إليها لينظر لها للحظات طويلة جعلتها تتململ يف وقفتها
لت�سمعه يقول بهدوء�«:أعلم �أنك تظنيني غريب الأطوار ولكن �أنا �أرى �أن هناك �سببا
معك
يت االت�صال من ذلك احلقري وهناك �سبب لقدومي ِ لوجودي معك ،وقتما تل ّق ِ
ملنزلك� ،صدقي �أو ال ت�صدقي غفرانِ معك
ملنزل �أم عمران ،وهناك �سبب لقدومي ِ
ولكن �أنا لدي �إح�سا�س قوي ي�ش ّدين لل�صعود ل�شقتك ،ك�أن هناك �شيئا يجذبني،
261
أ�سئت الظن بنظراتي �أنا مل �أكن �أرى ما حويل من �أنا�س معدوميباخلارج حني � ِ
حيطك ،كنت �أريد �أن
احلال �أو ذوي حال متو�سط� ،أنا كنت �أكت�شف العامل الذي ُي ِ
ل�شقتك وحيدة وتق�ضي
ِ أنت تعودين �إليه وحيدة لت�صعدي بنظرتك كل يوم و� ِ
ِ �أراه
ل�شقتك هناك خطب ما وال �أعلم
ِ جئت معي �أو ال �أنا �س�أ�صعد
ليلتك وحيدة ،لذا �سواء ِ
ِ
ما هو».
نظرت له بجمود وهي ت�ص ّدق كل كلمة يقولها� ،آ�سر من الأ�شخا�ص ال�صريحني
الذين ال يخفون احلقيقة لأي �سبب ،جزء من روحها ت�أثر باهتمامه حتى لو كان
جمرد ف�ضول منه ،تخطته لت�صعد الدرج ليتبعها بهدوء و�شعور غري مريح ينتابه.
ع
و�صال للدور املن�شود فتوقفت غفران مكانها منده�شة من باب �شقتها املفتوح،
الكت ريص
دلفت م�سرعة ليدلف خلفه �آ�سر وهو يرى حمتويات ال�شقة الب�سيطة ُملقاة على
ع
على الطريق لي�سرع بها �إىل �أقرب م�شفى ليقابله طاقم الطوارئ الذين �أ�سرعوا
ل
ابق
ع والتوزي
فج�أة بتوقف الطبيبة على نداء احدى املمر�ضات«:ال فائدة لقد فقدناها».
تذكر ابتعاد الطبيبة عن جثة املر�أة وتذكر ارجتاف ج�سدها ،تذكر خروجها
ال�سريع من الغرفة لت�صطدم به فيحيل بني وقوعها لتنظر له ب�ضياع ودموعها تنهمر
بغزارة على وجهها لتهم�س ببكاء«:لقد ماتت ..لقد ماتت» ،لتبعده بقوة عنها
وترك�ض خارجة من املبنى.
عاد بذكرياته ليلمحها واقفة �أمامه غا�ضبة ،ويبدو �أنها وجهت له حديثا ولكن
بحكم ذكرياته مل يكن معها ،الآن فقط تذ ّكر وجهها امل�ألوف«:هل �سمعت �إن مل
ترحل �س�أرحل �أنا» ،اعتدل يف وقفته وهو ينظر لها ب�شرود ليقول فج�أة«:لقد كان
�شعرك ق�صريا».
ِ
رم�شت غفران بعينيها للحظات ،وك�أنها قد بوغتت بحديثه«:ماذا؟» ،ليكمل
�شاردًا«:لقد ق�ص�صت �شعرك من قبل �ألي�س كذلك؟ �أنا �أتذكر ر�ؤيتك وقتها ب�شعر
ق�صري».
263
�ساد ال�صمت يف ال�شقة ،ليلمح ارتباكا طفيفا يف مالحمها ،ليقول بت�أكيدِ �«:
أنت
أنت
تخنك يف هذا الأمر � ِ
عرفتني من قبل �ألي�س كذلك؟ ذاكرتك الت�صويرية مل ِ
رك».تذ ّكرتني قبل �أن �أتذ ّك ِ
�أ�شاحت بوجهها عنه وهي تدير ج�سدها لتلتقط �أ�شياءها امللقاة �أر�ضا ،وهي
تقول«:مل يكن من ال�صعب تذ ّكرك» �س�ألها«:لطاملا �أردت �س�ؤالك منذ ذلك الوقت
لك �شيئا».
�إن كانت تلك املر�أة تعني ِ
ملح ت�ش ّنج ج�سدها لرياها تلتفت �إليه لتزجره بغ�ضب وج�سدها يرجتف�«:أنت ال
تطاق هل تعلم ذلك؟!»
ريص ع
الكت
رتك ب�شخ�ص قريبتك ،رمبا هي ذ ّك ِ
ِ ليقول دون االنتباه ملا تقوله«:هي مل تكن
ع
لتقول والدموع ترتقرق يف عينيها«:لأنني كنت خائفة� ،أنا كنت خائفة �آ�سر
وفعلتها حملت �سكينها وغرزته يف قلبها� ،أنا كنت خائفة من املوت لتموت هي و�أعي�ش
يل من ذلك �أيامي ميتة �أرغب يف موتة تريحني من احلياة ،ما زالت هنا تنظر �إ ّ
الركن املظلم تبت�سم يل ب�سخرية ك�أنها تعلم ك�أنها تعرف �أنها مبوتها كانت �أكرث
�شجاعة من حياتي».
قليل لتهم�س له�«:أنا �أ�ستحق هذا اخلوف الب�شع� ،أنا �أ�ستحق هذا الأمل،
�صمتت ً
علي �أن �أقول ال ،كان على �أن �أتركها تقتلني ،هذا الأمل ال �أريده �أن ينتهي ،ولكن
كان ّ
�أريد لظهورها �أمامي �أن يتوقف� ،أريد التوقف عن ال�شعور بوجودها حويل� ،أريد
التوقف عن ر�ؤيتها بذلك املظهر الب�شع كما ر�أيته �آخر مرة وقت �شجارنا وبعد طعنها
بال�سكني».
قربها �آ�سر منه وهو يلمح ارجتافها ال�شديد وهو يبعد يده عن ذراعها املم�سك بها
عليك التوقف عن لوم نف�سك يا غفرانليحيط بظهرها وهو يهم�س �أمام وجههاِ «:
�ساحمت نف�سك فلن تريها فلن ت�شعري بوجودها ،ذنبك
ِ حتى تتوقفي عن ر�ؤيتها� ،إن
265
نف�سك يا غفران»،
الذي تتم�سكني به يداوم الظهور �أمامك يف �أب�شع �صورة� ،ساحمي ِ
�س�ألته بهم�س«:كيف �أ�ساحمها و�أنا قتلتها من �أجل �أن �أعي�ش بينما هي متوت؟!».
كنت
قرارك ،لقد ِ
ِ �أجابها بت�أكيد«:هذا كان وقتها يا غفران ومل يكن هذا
أجربك ،لقد كان ال�سبب الوحيد ملوتهم ،وهو ال�سبب لوحيد
ُمربة ،هذا اللعني � ِ
أنت وزمرد و�أمرية».
لأ�سركم � ِ
«ال �أحد غفران ،ال �أحد على وجه الأر�ض ي�ستحق الأذية ،فال تظني � ِ
أنك
ا�ستثناء».
ع
نظرت له ب�صدمة وهي غري ُم�ص ّدقة ما جعلها تبوح به ب�سهولة� ،أدركت قربها
الكت ريص
منه دون �أن ت�شمئز ،فابتعدت عنه بقوة وهي تقول«:من الأف�ضل �أن ترحل» ،نظر
266
عال بر�أ�سها ،وهي ت�شعر ب�أن
هي مل ت�سمع �أي كلمة بعد جرمية قتل� ،صفري ٍ
الأر�ض متيد بها ،كف م�سكت بذراعها لتنظر ل�صاحبها فوجدته يناظره ب�شحوب
فتح ّدث �آ�سر ب�صوت بدا ت�أثره«:رمبا ما عليك الدخول».
هزت ر�أ�سها بال لتدلف للغرفة التي تركتها منذ فرتة ق�صرية وال تدري �أنها
�ستعود �إليها جمددا ،كل �شيء كان مبكانه ،كل �شيء حتى ال�ضحية! �شهقت وهي
تنتف�ض مكانها وهي تنظر جل�سد �أم عمران امل�سجى بالدماء� ،شعرت ب�أن كل �شيء
توقف حولها ،ك�أن كل تلك الأ�صوات بالغرفة من �أ�صوات �ضباط للطبيب اجلنائي،
للهم�سات اختفت فج�أة ومل ت�سمع �سوى �صمت� ،صمت مل تتخلله الأنفا�س الغالية
لقلبها.
ع
�أتاها �صراخ �آخر جريح ،عويل رجل فقد �أمه.
خرجت من الغرفة م�سرعة لتجده واق ًفا يت�شاجر مع رجلني من ال�شرطة وهو
يهتف�«:إنها �أمي عليكم اللعنة» ،جت ّمدت مكانها وهي ترى رئي�س املباحث يتخطاها
ليتحدث �إليه ،ويف حلظة التقت عيناهما ليهتف بها«:لقد قتلها ،لقد قتلها للمرة
الثانية لقد فعلها».
ازداد �شحوب وجهها وهذه املرة تهتز الأر�ض من حتتها لي�سندها �آ�سر وهو يراها
فاقدة اتزانها.
ال يعلم كم من الوقت مر حتى �أنهوا الإجراءات ورحل اجلميع ،كل ما ي�شعر به
هو اخلواء ،ال يحدث �أحدً ا وال يجيب عن �أ�سئلة �أحد ،كل ما يرتدد بعقله تلك املكاملة
التي �أتته وهو عائد للمنزل.
«لقد �أجدت �إخفاءها جيدا كل تلك ال�سنوات ،مل �أ�صدق حتى ر�أيت بعيني،
لطاملا �أح ّبتك �أكرث ،كنت طفلها املف�ضل ،حتى وهي تلفظ �أنفا�سها الأخرية نادت
267
ا�سمك ،تلك املرة �أنا مل �أقتلها بل حبيبتك ال�صغرية ،فلقد �أر�شدتنا �إليها ب�سهولة� ،آه
هذا احلب ي�ستطيع �أن يقتل من يريد وقتما يريد».
�أغم�ض عينيه وهو ي�شعر بنريان داخل روحه ،نريان قادرة على �إحراق الأخ�ضر
والياب�س جائه �صوتها وهو يزيد من �إغما�ض عينيه ،ال يريد التوا�صل معها كرف�ضه
للتوا�صل مع اللواء ح�سني الذي �أخربه �أنه لن يهد�أ حتى يجده! هو لن يهد�أ حتى
يقتله� ،سمع �صوتها جمددا ويبدو �أنها عازمة على �أال ترحل لقد بقيت حتى انف�ض
اجلمع ب�أكمله مع ذلك الطبيب ،هو ال يريدها بجواره ويف نف�س الوقت يرغب ب�شدة
يف �أن ُتط ّيب جراحه.
ع
«ارحلي»
الكت ريص
ارتع�شت �شفتاها وهي تقول ب�صوت ُمت�أمل«:عمران �أنا مل »...لينه�ض مكانه
ع
الذي دفعها هي وابنها الأ�صغر بعيدً ا لي�صاب االبن ببع�ض احلروق يف ج�سده بينما
ت�صاب هي بال�شلل وحروق متفرقة بج�سدها ودموعها وقهرها على حالة �أبنائها
تخربك �أنها �أجربت �أن ترتك حياتها وذكرياتها يف منزل ِ جعلها تفقد نظرها� ،أمل
دوما احتواها ب�أمان لتنتقل ملكان �آخر بعيد ،بعيد كل البعد عن ابن لن يتوانى عن
تخربك ب�أن االبن
ِ �إعادة الكرة لو اكت�شف �أن والدته ما زالت على قيد احلياة� ،أمل
الآخر �أراد �أن ينهي عذابها� ،أن ينتهي من ال�سبب الذي مينعها من العودة جمددًا
للأر�ض التي احتوت ج�سد زوجها ،فعاد لأخيه ليخدعه وير�سم خطة متقنة مع �أحد
جا�سو�سا مع �أخيه� ،سنوات و�أنا �أفهمه �أنني فقدت �أمي ب�سبب
ً رجال ال�شرطة بالعمل
خادعا �إياه بجهلي ملعرفته ب�أنها ال�شرطة التي فجرت املنزل الحتوائه على �إرهابيً ،
فعلته ،و�أنا �أقنعه �أنني �أريد قتلهم جمي ًعا واالنتقام منهم ملا فعلوه لأمي وقبلها لأبي،
و�أنا �أقنعه �أنني �أريد �أن �أكون مثله» ،اقرتب منها عمران يف غ�ضبه وهو مي�سك
ذراعيها ويجذبها بقوة وهو يكمل بكر ٍه«:وهل تعلمني ماذا فعله الأخ؟ احت�ضن �أخاه
بخبث وهو يخربه �أن ي�سري خلفه دائما وهو �سينتقم من كل من �آذوه؟! هل تعلمني ما
أنت يف النهاية أنت تعرفني جيدً ا ف� ِالذي حاولت فعله لأمنعه عن معرفة احلقيقةِ � ،
269
لك
ابنته� ،شبيهته ،تعلمني جيدا �أ�ساليبه ،كالكما قتل والدته بدم بارد ،لكن هنيئا ِ
أنت �شاركناه يف قتلها للمرة الثانية».
�أنا و� ِ
�أبعدها عنه بقوة لترت ّنح مكانها وهي تراه ينظر �إليها با�شمئزاز غري ُم�صدقة
ما ت�سمعه ،عمران وممدوح �إخوة ،ممدوح ابنها؟ كيف! لرتاه وهو يجذب �سالحه
ُم�ص ّوبا �إياه جتاهها قائال بغ�ضب«:والآن اخرجي قبل �أن �أفعل ما نندم عليه
جميعا».
�أ�سند �آ�سر ج�سدها وهو ي�شعر بها تتهاوى ،ليجذبها من ذراعيها ويخرجها من
ال�شقة قبل �أن يحدث ما ال حتمد عقباه� ،أنزل عمران �سالحه وهو يجل�س على الأر�ض
ع
لي�ضم �ساقيه جل�سده ،وحلظات و�أجه�ش بالبكاء على �أم كانت له كل �شيء.
الكت ريص
«وحتزن ك�أنه �أول ك�سر لك!
توزيع
وا�سيني الأعرج
طويل وهو يراها حتاول مللمة �شتات نف�سها لكن تف�شل�ساد ال�صمت يف ال�سيارة ً
يف كل مرة� ،سمعها تقول ب�صوت جامد بعد فرتة«:لنذهب ملنزلك» ،رم�ش بعينيه
وهو يقول«:منزيل؟!» هزت ر�أ�سها بنعم ليقود ال�سيارة باجتاه املنزل ُم ً
نفذا طلبها
ً
راف�ضا �أن ي�س�ألها عن ال�سبب وهو يعي حالتها.
MMM
270
«�أيها احلزن القابع يف حنايا قلبها غادر ب�صمت ،و�أنا �س�أتك ّفل
بزرع دروبك العارية ور ًدا»
الرافعي
الف�صل اخلام�س ع�رش
قلبك ي�ؤملني
بعد �ساعتني
ص ع
توقفت ال�سيارة �أمام املنزل وهو يراها تنظر ب�شرود �أمامه لتقول بعد
الكت ري
حلظات�«:أخرب �أمرية �أن ت�ستعد� ،سرنحل بعد قليل� ،س�أكون بانتظارها هنا» �س�ألها
272
نزل �آ�سر من ال�سيارة وهو ي�شعر باالختناق من �أفكارها لتنزل خلفه وهي
تقول�«:سنعي�ش حياة جديدة ،لقد عر�ض ّ
علي الفكرة منذ فرتة و�أنا اقتنعت بها،
�سنكون يف بلد �آخر بهوية �أخرى� ،سنبتعد عن كل هذا القتل والدماء� ،سنكون �آمنني».
كانوا قد دخلوا املنزل حني التفت �إليها ليهدر بغ�ضب من �سلبيتها ً
راف�ضا �أمر
هروبها وهروب �أمرية ،فهي �ستنتك�س مرة �أخرى ليفقدها وتعي�ش عائلته مرارة
الفقد للمرة الثانية�«:أنت تتوهمني غفران ،لن تكونوا �آمنني طاملا هو حي ،يجب �أن
تبقي و�أمرية لن تتحرك من هنا».
�أجابته وهي حتاول بي�أ�س �إثبات وجهة نظرها�«:أنت ال تفهم �آ�سر ،هو رمبا لن
ع
ينفذ خمططه ،واالحتمال الأكرب �أن يقتلنا� ،أال ترى؟ لقد قتل والدته ،لذا ال تظن �أنه
ر ش
والتوزي
اخللفية لت�سمع �آ�سر يقول«:مهما كان خمططه �أمرية �آمنة هنا ،و� ِ
أنت � ً
أي�ضا ميكنك
ع
�أن تكوين �آمنة هنا» ،هتفت به بغ�ضب وكل امل�شاعر ال�سلبية جتمعت داخلها وهي
ترى نف�سها تفقد زمام الأمور�«:أنا ال �أحتاج حلمايتك ،و�سيكون خط�ؤك �إن �أ�صابها
ابتعادك طوال تلك ال�سنتني
ِ أنت غفران، مكروه» ،ليهدر بها دون وعي�«:إنه خط� ِأك � ِ
وطالبت ب�إلقاء
ِ لديك من معلوماتاكتفيت مبا ِ
ِ �أنهى كل ما فعل ِته طوال عمرك ،لو
القب�ض عليه ،ما كان ليحدث ما حدث ،وما تعر�ضت �أمرية لكل هذا ورمبا ما قتلت
�سهيلة وما مت اغت�صاب زمرد».
جتمد مكانه وهو يلمح �شحوب وجهها ليلتفت على �صوت �أمرية وهي تقول
بقلق«:ما الذي يحدث؟ وملاذا تتحدثان عن ممدوح جمددًا؟!»
نقلت غفران �أنظارها بينه وبني �أمرية لتقول ب�صوت مكتوم مت�أثرة مبا قال �آ�سر
بعد ما قاله عمران لها«:جهزي ثيابك �أمرية �سرنحل بعد قليل» ،هتف �آ�سر بغ�ضب
وهو ي�شعر ب�أمل بقلبه ب�سبب جرحها�«:أمرية لن تتحرك من هنا طاملا هذا الوغد
على قيد احلياة ويخطط الختطافكم»� ،شهقت �أمرية برعب وهي تقول�«:أما زال
على خمططه؟!»
273
هتفت غفران متجاهلة �صدمة �أمرية�«:أمرية �سرتحل معي �آ�سر� ،أنا قادرة على
حمايتها جيدً ا ،و�إياك �أن ُت�ش ّكك يف م�شاعري جتاهها� ،إياك �أن ُت�ش ّكك يف حبي لها،
�أنا كنت وما زلت على ا�ستعداد تام بالت�ضحية بروحي لأجلها فال ُت�ش ّكك بهذا الأمر،
تتدخل بيننا».
�إياك و�أن ّ
تنف�ست بقوة وهي ترى ما يحدث بينهما لتناديها ُغفران فالتفتت لها وهي
مالب�سك �سرنحل من هنا» ،قاطعها �آ�سر بغ�ضب�«:أمرية لن ِ ت�أمرها«:ارتدي
تتحرك من هنا لأي مكان هذا بيتها» ،هتفت ُغفران«:هذا مل يكن بيتها لثمانية
عاما ،بيتها معي بجواري و�أنا قادرة على حمايتها ال نحتاج �إليك». ع�شر ً
ص ع
وقف �آ�سر بينها وبني �أمرية التي تنتف�ض خلفه وهو يكمل حديثه ل ُغفران
الكت ري
الثائرة«:اخرجي من املنزل غفران طاملا ال ترغبني بالبقاء فيه».
توزيع
حلظات وهي تهدئ ثورتها«:ح�سنا �س�أرحل ،ولكن �أق�سم لك ب�أنني �س�أعود جمددًا
لأخذها� ،س�أجد مكانا �أوال ينا�سبنا و�س�آخذها بعدها على الفور».
مل يجبها �آ�سر ب�شيء بينما �ش ّيعت ُغفران �أمرية بنظراتها احلزينة وهي تخرج
من بوابة املنزل اخللفية ،تنهد �آ�سر بتعب هو مل يرد لهذا الأمر �أن ينتهي هكذا ومل
يق�صد ما قاله فهتف بني �أ�سنانه«:اللعنة» ،قبل �أن يتبع ُغفران رك�ضا ،ملحها يف
نهاية ال�شارع وهي تبتعد ب�سرعة وهالة الغ�ضب حتيط بها من كل جهة ،فرك�ض
باجتاهها وهو يوقفها من ذراعها لتلتفت �إليه وتدفعه بعيدً ا عنها بغ�ضب لتهدر
فيه بعد �أن �أدركت هويته«:ما الذي تريده الآن؟!» حتدث و�صدره يعلو ويهبط من
الرك�ض�«:إىل �أين �ستذهبني؟!» �صرخت بوجهه�«:إىل اجلحيم فلترتكني و�ش�أين».
قب�ض على ذراعيها بقوة وهو يقرتب منها ليهتف بغ�ضب«:توقفي ،فقط توقفي،
يا �إلهي �أال تتعبني من كل هذا الغ�ضب� ،ست�أتني معي الآن ُغفران ،و�أق�سم ِ
لك ب�أنني
�ضربك �إن مل تتبعيني».
ِ لن �أتوانى عن
M
274
عيادة �آ�سر
�أخذت تنظر للمكان بجمود ،وج�سدها يف ت�أهب لأي حركة ي�صدرها ذلك الذي
دلف لغرفة مكتبه ،ال تدري كيف طاوعته لت�أتي معه ،هي مل تهتم بتهديده ب�ضربها
ولكن هي تعبت فقط ،تعبت وهي ترى نف�سها فاقدة لأولئك الذين غزوا حياتها فج�أة
لتجدهم يرحلون فج�أة ،بعد �أن خرجت من منزله �أو بالأدق بعد طرده لها وهي
ت�شعر مبرارة يف حلقها ،وك�أن هناك جرحا غائرا داخلها ال ُي�شفى وكلماته الغا�ضبة
تن�سكب عليه لتزيدها وج ًعا غري ًبا لأول مرة ت�شعر به يف قلبها ،حديثه وحديث
عمران وخ�سارة الأم التي �أ�شعرتها �أنها ت�ستحق ولو جزءا ب�سيطا من احلب كان
فوق احتمالها ،ملحته يخرج من الغرفة ويف يديه حقيبة مليئة بالعديد من الأوراق،
ريص ع
و�ضع احلقيبة بجوار باب ال�شقة والتفت �إليها لرياها تنظر له بجمود ،تنهد بتعب
بل
قليل ف�أريد احلديث معك
والتوزي ر
ع
�أ�شار لها لكر�سي من الكرا�سي املو�ضوعة يف �صالة اال�ستقبال ،وجل�س على
الكر�سي املقابل له ،ثانية ثانيتان حتى حتركت وجل�ست برتقب وهي تهم�س ب�صوت
و�صل لأ�سماعه بو�ضوح«:ال ت�ستطيع».
ارتفع حاجباه بده�شة وملحته وهو يبت�سم ابت�سامة �صغرية وهو يرفع نظارته من
على عينيه ومي�سح وجهه ب�إرهاق�«:أنا ال �أ�ستطيع اجلدال معك يف �أي �شيء الآن،
ف�أنا ح ًقا متعب من �أحداث هذا اليوم الطويل».
جتبه�شعرت بوخزة �أمل يف قلبها وهي ترى مالمح الإرهاق وا�ضحة عليه ،لكنها مل ِ
ب�شيء� ،أردف يف حديثه«:ال ي�أتي �أحد اليوم للعيادة من بعد ال�ساعة العا�شرة م�ساء،
لذلك ال تقلقي فاملكان �آمن� ،س�أنبه على العم حممود �أال ي�أتي بالغد و�س�آتي �إليك غدً ا
بكل ما حتتاجينه ،فقط �أخربيني به ،وهذا هو مفتاح العيادة لي�س الوحيد فالآخر مع
العم حممود ،لذا كما �أخربتك �س�أنبه عليه عدم جميئه غدا ،وللأمان اتركي املفتاح
يف الباب» ،مدت يديها لتم�سك املفتاح من بني كفيه ثم حلظة وملحته ينه�ض حتت
ده�شتها وهي تراه يدلف لغرفة �أخرى بجوار غرفة مكتبه ،حلظات بعدها وملحته
275
يخرج ويحمل معه ك�شافا كهربائيا وو�ضعه يف ال�صالة ثم حتدث بهدوء«:يف املكان
الذي �ستنامني فيه �ضعيه بجانبك يف حالة انقطاع التيار الكهربائي».
نظرت له بان�شداه بينما فعلته بعرثت نب�ضات قلبها ،لتهرب منها وهي تتفوه
ب�أول ما جاء خلاطرها�«:أهكذا تعتذر عن حماقتك وما تفوهته به؟» مل يجبها
ب�شيء متجاهال نظراتها التي ت�شبه الطفلة ال�صغرية ونظر حوله ك�أنه يت�أكد من
كل �شيء على ما يرام وك�أنه تذكر �شيء فالتفت باجتاه الباب وو�صل للأكيا�س التي
�أح�ضرها معه يف الطريق ثم عاد �إليها وو�ضعها بالكر�سي الذي يجاورها«:هذا
معك
عليك التعب ال�شديد ،والآن �أنا �س�أرحلِ ،
طعام فلتتناويل �شيئا قبل النوم فيبدو ِ
ع
احتجت ل�شيء والآن �أغلقي الباب خلفي».
ِ رقم هاتفي �إن
الكت ريص
قال جملته الأخرية برتدد ك�أنه ال يرغب يل يف تركها ،ظل واق ًفا مكانه للحظات
توزيع
�أنها �ستنفعل جمددًا لرتف�ض املكوث بالعيادة يف نهاية ال�شجار وهو ال يريد ذلك،
توجه نحو الباب فالتقط حقيبته وكاد �أن يخرج حتى �سمع نداءها له با�سمه ،فالتفت
ليلمحها واقفة �أمام طاولة اال�ستقبال وهي تنظر لنقطة بعيدة عنه«:لقد �أردت
�أن »...قاطعها وهو يبت�سم لها بحنو«:ال داعي ل�شكري يا ُغفران فما بيننا قد تعدى
مرحلة ال�شكر واالعتذارات».
�شحب وجهها جلملته التي قالها لتجيبه ُم�سرعة«:لي�س هناك �شيء بيننا»
�صمت للحظات و�شعرت ب�شروده وهو ينظر �إليها ولكن عقله لي�س معها ليقول
بهدوء«:ق�صدت ما مر من �أحداث طوال الفرتة املا�ضية ،ارتاحي ُغفران فما مررت
به اليوم لي�س ً
�سهل� ،أنا �أعلم مما حدث �أن تلك املر�أة كانت حتتل مكانة مهمة داخل
قلبك لذا فقدانها لي�س ب�أمر �سهل ،لقد قابلتها اليوم فقط وقلبي ي�ؤملني لفراقها».
ِ
ملح ارتعا�ش �شفتيها وهي ت�ضمهما وتلف ذراعيها حول ج�سدها تقيه من الرجفة
التي �أ�صابته وهي تنظر للأر�ض ،حلظات و�سمعها تقول ب�أمل«:يف �آخر لقاء بيننا
�أخربتني �أنني ابنتها التي مل يحملها رحمها ،كانت تدرك كل �شيء قبل �أن �أح ّدثها
به ،وعندما �أ�س�ألها كيف لها �أن تعرف ،تخربين ب�أنه قلب الأم� ،أنا ل�ست جبانة �آ�سر
276
دوما تقول يل
فقط جملتها ترتدد داخلي منذ عرفت ب�أنه من قتلها ،لقد كانت ً
إياك �أن ت�ست�سلمي لغ�ضبك فوحده من يلتهمكالغ�ضب كوح�ش �ضا ٍر ال ي�شبع �أبدً ا ،ف� ِ
دون �أن ي�شبع� ،أولئك الذين ي�سعون لالنتقام يحققون هدفهم ولكن ال يعودون كما
كانوا من قبل ..جملتها تتكرر بعقلي با�ستمرار تليها جملة عمران �أنني مثله �شبيهته،
�أنا ال �أ�شبهه ب�شيء �آ�سر».
رفعت عينيها له وملح ترقرق الدموع بها وملحة �أمل �أخفتها برباعة وهي تبلع ريقها
نف�سا قو ًيا ك�أنها متنع نف�سها من االنهيار بالبكاء لتهم�س له ب�صوت و�صله
وت�أخذ ً
جمروحا�«:أ�ستطيع القول �إن �أمي التي مل حتملني يف رحمها ماتت اليوم».
ع
�آمله قلبه وهو يراها تواجه نف�سها باحلقيقة التي جتاهلتها طوال اليوم ،ليتحدث
ع
فقد والدته على يد �أخيه فعليك �أن تعذريه على ما تفوه به».
تغ�ضنت مالحمها ب�أمل مل ت�ستطع �إخفاءه وهي تهز ر�أ�سها ت�أييدً ا ملا قاله ،هي
ارتاحت بالفعل ،ارتاحت من �آالم كانت لتقتلها مئة مرة باليوم لو عا�شت بعد
اختطافها ،ارتاحت من معرفة حقيقة ابنها و�أنه ال�سبب يف كل ما حدث لها� ،سمعته
يقول بحنو �أر�سل الق�شعريرة يف ج�سدهاُ «:غفران ال جتعليني �أقلق ِ
عليك� ،أنا ال �أريد
أتركك منهارة هكذا ،ولكن �أعلم �أنك �سرتف�ضني بقائي ،لذا �أرجوك متا�سكي �أن � ِ
وكوين بخري».
ملحها وهي تتنهد بقوة وهي تبعد ذراعيها عن ج�سدها ،ثم �أجابته ب�صوت يكاد
يكون متما�س ًكا«:ال تقلق �س�أكون بخري� ،أنا فقط �أريد الراحة ً
قليل وغدً ا �س�أكون
بخري».
مل ي�ضف �أحد منهما �شي ًئا بعد حديثها ،ليهز �آ�سر ر�أ�سه باملوافقة ويتحرك ً
حامل
حقيبته ليخرج من ال�شقة وي�سمع �صوت �إغالق الباب خلفه باملفتاح.
277
مبنى جريدة احلرية
كانت جتل�س يف مكتبها ت�شعر بالغ�ضب ال�شديد من كل �شيء ،رئي�سها ت�شاجر
تغط الأخبار اخلا�صة بالق�ضية ،يامن ال يحادثها منذ فرتة وهي ذهبت معها لأن مل ِّ
ملنزله �شعرت به غري ًبا يف تعامله معها ،ال ت�ستطيع ن�سيان تلك اللحظة التي ر�أته
فيها يطيب جراح زمرد مبنزله وقت عزاء والدتها ،تلك اخلبيثة املاكرة جتذبه
�إليها ،نفخت ب�ضيق لتنه�ض من مكانها وهي تعيد االت�صال به للمرة التي ال تعلم
عددها ،تذ ّكرت احلوار الذي �سمعته بني زمرد والفتاة الأخرى التي تدعى ُغفران،
عليها �أن تبحث �أكرث بخ�صو�ص تلك الفتاة ،خرجت من مبنى اجلريدة وهي حتمل
ص ع
حقيبتها وتخرج مفتاح ال�سيارة لت�صطدم ب�أحدهم لتقع حقيبتها� ،شتمت بغ�ضب
الكت ري
وهي تلتقط الأ�شياء التي وقعت منها بينما من ا�صطدمت به يقف مكانه دون �أدنى
278
منزل حممد الأ�سيوطي
ملح �آدم و�أحمد �شرود �آ�سر عنهما وهو مم�سك بكتابه ال يقر�أ فيه �شيئا ،ف�أدركا
�أن ال�سبب هو ذلك ال�شجار الذي حدث مع غفران ،حتى �أمرية مل تكمل التدريب مع
�آدم لت�صعد لغرفتها راف�ضة اخلروج منها.
نظر �آدم لأحمد نظرة ذات معنى ،ليقرتب االثنان من �آ�سر الذي ملح جلو�سهما
بجواره فابت�سم لهما بهدوء ،حت ّدث �آدم�«:إنها ترف�ض النزول� ،أمي حاولت معها
�أكرث من مرة ومل ت�ستطع �إخراجها ،و�أمري يت�صرف ك�أن �أحدهم قام بع�ضه دون �أن
يكت�شف من هو» ،حانت من �آ�سر ابت�سامة وهو يعتدل يف جل�سته م�ست�شع ًرا حديث
يف عني �أحمد لي�س�أله«:و�أنت ماذا لديك من �أخبار؟!» نظر �أحمد له بهدوء ليقول
ع
وي�شبهها بالفيلم يا �إلهي كم �أنت ممل ،فيلم«:موانا» فيلم كرتوين م�شهور».
نظر له �آ�سر با�ستغراب ليقول �أحمد بجدية«:فيلم كرتوين عن ابنة زعيم تذهب
لإنقاذ بلدتها بعد �أن ناداها املحيط لتعيد القلب املفقود ل تي فيتي».
حانت من �آ�سر ابت�سامة وهو يرى �أحمد يع ّدل من عويناته ك�أنه يناق�ش �أمرا مهما
ليقول له«:اذا ُغفران هي ابنة الزعيم» ليقول �آدم«:ال �إنها ال�شرير الثالث بالفيلم
الذي يتوجب على ابنة الزعيم حماربته» ،نظر له �آ�سر ليعقد حاجبيه م�ستغربا
حديثه ليو�ضح �أحمد له قائال«:انظر �آ�سر تي كاي هي تي فيتي ولكن دون القلب،
ما �أق�صده �أن ُغفران تبدو من اخلارج ك تي كاي ،ولكنها يف احلقيقة تي فيتي ،لقد
�أخذوا منها القلب ،ما ي�صدر منها نتيجة الأذية التي تعر�ضت لها ،لو مل يبادروا
ب�إيذائها ما �أ�صبحت بتلك الهيئة الغا�ضبة ال�شريرة� ،إنها تريد قلبها فقط الذي
�سلبوه منها».
بهتت مالمح �آ�سر وهو ينظر �إىل �أحمد الذي اكت�شف ما اكت�شفه هو منذ �أيام،
�أكمل وهو يقول«:يف نهاية الفيلم ا�ستغرق من موانا حلظات بعد �أن اكت�شفت عدم
279
وجود تي فيتي لتعي �أنها حتولت لتي كاي ومل تتحول لذلك ال�شرير الناري �إال لأنهم
�أخذوا منها القلب».
رم�ش �آ�سر بعينيه وهو يرى �آدم يقرتب منه لينظر �إىل عينيه برتكيز«:ال ت�ستغرق
طويل يف اكت�شاف احلقيقة �أخي حتى ال تخ�سر ،فموانا كانت من بداية رحلتها وقتا ً
تتخذ تي كاي كعدو لها مينعها من الو�صول ل تي فيتي».
�ساد ال�صمت للحظات و�آ�سر يعي حديثهما لريى �آدم يقلب بعينيه وهو يقول«:يا
�إلهي ال �أعلم كيف بغبائك هذا اجتزت �سبع �سنوات درا�سة طب وال ت�ستطيع فهم
الأمر بهذه الب�ساطة».
ص ع
كتم �أحمد �ضحكته وهو يرى �آ�سر ينظر له بغ�ضب م�صطنع«:هل تنعتني بالغبي
الكت ري
�أيها الأحمق؟!» مل ي�ستطع �أحمد كتم �ضحكته وهو يرى �آدم يت�أوه بينما مي�سكه �آ�سر
م�ساء
�شعرت ب�صوت غريب حولها يف الغرفة فارتع�ش ج�سدها للحظات ويديها تتحرك
ببطء لتلم�س �سكينها ،فانتف�ضت مكانها وهي تلمح مكان ال�سكني ً
فارغا� ،شهقت
برعب وهي تنه�ض من على ال�سرير ثم حلظات وهد�أت بينما ج�سدها ما زال
ً
مالحظا �آثار يرجتف وهي تلمح �أمري �أمامها ُم�س ًكا بال�سكني ،وينظر له بهدوء
البكاء على وجهها وعينيها املتورمتني ،حاولت ال�سيطرة على ارجتافة ج�سدها وهي
تبتلع ريقها ب�صعوبة وترم�ش بعينيها� ،أخذت تتنف�س بانتظام و�أجلت حلقها وهي
تتحدث بهدوء«:ما الذي تفعله هنا؟!»
�أجابها �أمري بهدوء بينما يقلب ال�سكني يف يديه«:نتيجة االمتحانات �ستظهر
اليوم» ،رم�شت بعينيها وهي جتيبه بغباء«:ماذا؟!» رفع عينيه لها بربود«:ماذا
درا�ستك؟!»
ِ �أمل تكملي
280
اقرتبت ب�ضيق و�سحبت ال�سكني من يديه بقوة وهي جتيبه بفظاظة«:بلى �أكملت
درا�ستي� ،أعطيني هذا حتى ال ت�صيب نف�سك وت�ؤمل كالنا» ،نظر لها �أمري بنظرة
حنان �أخفاها �سريعا وهي تلتفت لتواجهه بعد �أن و�ضعت ال�سكني �أ�سفل الو�سادة
لتقول بجمود وهي ت�شعر بانهيار روحها بعد ما عرفته اليوم من �أن الوغد يخطط
الختطافهم جمددًا«:اخرج� ،أريد �أن �أنام».
أنت تريدين النوم» لتجيبه �أجابها با�ستنكارِ �«:
أخربك �أن النتيجة اليوم و� ِ
ب�صوت مكتوم«:ال �ش�أن لك� ،أنا متي ّقنة من جناحي ،هيا �أريد النوم».
�ضحك �ضحكة ُمته ّكمة وهو ي�شعر بحزنها ليقول«:ال داعي الدعاء التف ّوق ف�أنا
قدومك» لتنظر له �أمرية وجتيبه با�ستفزاز«:كيف
ع
ِ منك منذمل �أملح �أي ذرة ذكاء ِ
ر ش
والتوزي
ق�صفت جبهتي».
ِ
ع
حانت منها ابت�سامة �صغرية وهي تتذ ّكر حواره الأخري معها حني دلف لغرفة
املكتبة وهي تقر�أها ،ليخربها من دون مقدمات �أنه لن يبتعد عنها و�سيطالبها بحبها
وم�شاعرها جتاهه وعندما غ�ضبت من مناداته لها ب�أمرية �س�ألها هل ترغبني بحمل
مينحك
ِ حياتك� ،أم ترغبني بحمل ا�سم يرغب ب�أن
ِ �صاحبك يف �أق�سى �أيام
ِ ا�سم
املميزات التي ت�أتي معه من بيت وعائلة تتمنى �أن متنحيها نظرة حب؟ تنهدت
بخفوت ومل تكد ترفع ر�أ�سها حتى وجدت نف�سها تطري يف الهواء ثم ارتطمت بطنها
بكتفه لت�شهق ب�صدمة بينما هو يجري بها للأ�سفل ويهتف ب�صوته العايل مقيدً ا
قدميها بذراع وحميط ج�سدها بذراعه الآخر�«:آ�سر �أ�شعل �أ�ضواء احلديقة» �أخذت
تتلوى من قب�ضته وتهتف �صارخة«:كيف جتر�ؤ؟! اتركني �أيها الأحمق».
خرج من ال�شقة وو�صل لنهاية الدرج لريى والدته تخرج من املنزل وت�شاهد �أمري
يحمل �أمرية على كتفه لت�شهق ب�صدمة بينما �أمرية تتلوى بني يديه وت�س ّبه ب�أفظع
الألفاظ بينما �آ�سر ينتظرهما ُمبت�سما و�أحمد و�آدم يهلالن ب�سعادة على �أ�سفل الدرج.
281
حترك باجتاه امل�سبح ال�صغري ف�شعرت �أمرية بخطواته جتاهه فهتفت
ب�صراخ«:ال لن جتر�ؤ».
مل تكمل جملتها لتجد نف�سها تطري يف اجلو للحظة ثم ارتطام ج�سدها مبياه
امل�سبح لت�شهق من برودة املياه ،وهي ت�سعل بقوة من دخول املاء يف فمها ،ثم رفعت
�أنظارها وهي تلمح �ضحكات �أمري العالية فنظرت له بغ�ضب لتهتف وهي ترتع�ش من
برودة املاء�«:أنت ميت» مل يكد يجيبها �أمري حتى ملح نف�سه ي�سقط بقوة يف املاء
نتيجة دفع �آدم له وهو ي�ضحك عليهما� ،شهق �أمري بقوة وهو يهتف �ضاح ًكا رغم
برودة املياه«:يا �إلهي �إن املاء بارد».
ص ع
مل يكمل كالمه وهو يتلقى لكمة قوية يف بطنه فت�أوه ب�أمل وهو يرى �أمرية تنق�ض
الكت ري
�سرعا وهو ي�ضحك على هيئتهاعليه بقوة وهي ت�صرخ به� ،أخذ �أمري يبتعد عنها ُم ً
توزيع
ُم�سرعة مبن�شفة كبرية وهي تقول�«:آ�سر �سي�صيبهم الربد هكذا ،فليخرجوا من
امل�سبح».
قليل �أمي حتى ن�صل ملا نريده».
ليجيبها �آ�سر برتّقب«:انتظري ً
تابعته جميلة با�ستغراب وهي ال تعلم �أنه اتفق مع �أمري على �أن يخرجوها من حالة
احلزن التي �أ�صابتها منذ ال�صباح ،نظرت باجتاه �أمرية التي جتاهد ل�ضرب �أمري
الذي يهرب من قب�ضتها ب�سرعة �ساعده عليها ج�سده الريا�ضي ،حلظات و�أخذت
�أمرية تلهث بقوة وغ�ضب وهي تراه يتفادى �ضرباتها وي�ضحك بقوة ،ف�صاحت
بغ�ضب و�ضربت بقب�ضتها املاء فازداد �ضحك �أمري به�سترييا جعلتها تتوقف للحظة
وتتابعه بانبهار لتنتقل يف حلظات عدوى ال�ضحك لها لتجد نف�سها تبت�سم ثم ت�ضحك
ثم تزداد �ضحكاتها �صخ ًبا ،وهي ت�شعر ب�شعور جديد من ال�سعادة لأول مرة ت�شعر به،
توقف كل �شيء حولهم وهم ي�سمعون �ضحكاتها ال�صاخبة النابعة من القلب ،ابت�سم
�آ�سر ب�سعادة بينما رفعت جميلة كفها تغطي فمها ب�أعني دامعة وهي غري ُم�صدقة
�سماع �ضحكات �صغريتها بينما جتمد �أمري مكانه للحظات وهو يتابعها بعينيه.
282
مرت حلظات وهي حتاول وقف �ضحكاتها بعد �أن ملحت نظراتهم ف�أخف�ضت
ب�صرها حرجا من هيئتها ،وال ت�صدق حتى الآن �أنها �ضحكت هكذا بينما �سمعت
�صوتا حترك يف املاء فلم تكد ترفع عينيها حتى قابلها �صدر �أمري القوي و�شهقت
غري ُم�صدقة وهي تكت�شف �أنها بح�ضنه.
�أغم�ض �أمري عينيه وزاد يف احت�ضانها وقد تبع �إح�سا�س داخلي يخربه ب�أنه يف
حاجة لهذا احل�ضن قبل �أن حتتاجه هي ،ات�سعت عني �آ�سر بده�شة وهو يراها بعد
حلظات ترفع ذراعيها لتبادل �أمري االحت�ضان بقوة ،احت�ضنته بقوة ُم�ضاعفة لقوته
وهي ت�شعر ب�أنها عادت لوطنها ،وجدت راحتها و�أمانها التي كانت تفتقده منذ زمن،
ع
مل ت�سمح لعقلها ب�أن يرتب �أفكاره وتبعت قلبها وهو يتل ّهف الحت�ضان توءمها هكذا
ر ش
والتوزي
مل يلمحوا حممد وهو يتابعهم بعينيه خلف باب احلديقة ودموعه تغرق وجهه
ع
وهو يردد هام�سا«:احلمد هلل».
حلظات و�سمعوا بكاء �أمرية بقوة ،بكت يف �أح�ضان �أخيها وهي ت�ست�شعر نف�سها
�ضعيفة لأول مرة ،بكت وهي ترمي كل �أفكارها خلف ظهرها وتتع ّلق بكتف �أخيها،
ال تريد �أن تفكر ،ال تريد �أن تظهر قوية ،ال تريد �أن ترف�ض امل�شاعر ،هي تريد هذا
احلب ،هذا احلنان ،تريد �أن تنهل منه حتى املوت ،هي تريد �أن تكون �أمرية ال ليلى.
�شاركها �أمري البكاء وهو ي�ضمها بقوة ويهم�س«:فقط لو تعريف ،لو تعريف كم اكتملت
لك».بوجودك ،لو تعريف مدى ا�شتياقي ِ
ِ الآن
قليل وهو مي�سح دموعه وميد يديه مرت حلظات على بكائهما ثم ابتعد �أمري ً
ليم�سح دموعها بحنان بينما هي تنظر له بده�شة من كلماته ،نظر �إىل عينيها بحب
دوما م ًعا،
لك باالبتعاد� ،سنكون ً وهو يقول بقوة«:لن نفرتق جمددًا ،لن �أ�سمح ِ
لك ب�أن تبقي بعيدة عني� ،سن�سامح بع�ضنا البع�ض �سنفعل كل �شيء فاتنا لن �أ�سمح ِ
و�سنتخطى �آالمنا ،اتفقنا»!
283
�ساد ال�صمت للحظات و�أمرية تتابعه غري ُم�صدقة ملا يقوله فهتف بها وهو
يرتع�ش«:يا �إلهي �أجيبي �أمرية �إننا نتج ّمد»� ،ضحكت �أمرية بني دموعها وهي تهز
ر�أ�سها باملوافقة ف�ضمها �أمري له وهو ي�شاركها ال�ضحك �سعيدً ا من قلبه ملا و�صله �إليه
معها.
M
بعد �أ�سبوع
منزل زمرد
ع
زيارة �أرادت �أن تقوم بها لكنها ت�أخرت ،لكنها �أ�صبحت م�ستعدة ،بعد تلك
الكت ريص
املواجهة التي كانت بينها وبني �أمري �أ�صبحت متتلك القوة لفعل ما ترغب به،
توزيع
حتبها �أكرث ،زمرد التي جاءت لزيارتها منذ يومني لتعزّيها يف والدتها ،كانت ت�شعر
�شجعها على الذهاب واحلديث معها باحلرج منها ملعاملتها ال�سابقة لها ،ولكن �أمري ّ
وقد �سردت له ما حدث ،زمرد التي احت�ضنتها فور ر�ؤيتها دون �أن تقول �شيئا ،ق�ضت
معها اليوم ب�أكمله لتعرفا يف نهاية اليوم ب�أمر ز ّلزلهما م ًعا ،لقد وجد املُق ّدم يامن
عنوان عائلة �سهيلة ،رغم �شحوب وجه زمرد و�صمتها دون �أن تع ّلق ب�شيء� ،إال �أنها
ات�صلت بها يف اليوم التايل تطلب منها �أن ت�أتي معها لتلك الزيارة وها هي الآن
تنظر �إليها لتجد انهيارا بعينيها حتاول جاهدة مقاومته.
نظرت للمنزل الب�سيط �أمامها وهي تنتف�ض بداخلها ،ال ت�ستطيع �أن ت�صف
�شعورها الآن ،خوف ،هلع ،حزن ،حزن �شديد� ،شعرت بلم�سة يد �أمرية بجوارها
فنظرت لها لت�س�ألها الأخرية و�شحوب وجهها �أظهر ما حتاول تخفيه داخل
قلبها«:هل �أنت جاهزة؟»
�أعادت �أنظارها جمددًا للمنزل لت�أخذ نف�سا ً
طويل قبل �أن تزفره بارجتاف لتهز
ر�أ�سها بنعم ،التفتت لذلك الذي يقف �أمام �سيارته وجهه جامد وملحت من مكانها
ت�ش ّنج ج�سده ،ملحت قلقه الذي �أخافه �سري ًعا وهو يحاول �أن يطمئنها بعينيه ،لقد
284
تو�سلته مل ي�ستطع �أن يرف�ض �أبدى ً
رف�ضا قاط ًعا لزيارتها عائلة �سهيلة لكن عندما ّ
وهو يرى رجاء بعينيها و�ضعف يريد �أن ميحيه.
حتركت هي و�أمرية لتطرق باب املنزل ،دقائق و�سمعت �صوتا لعجوز� ،صوتا
واهنا مبا يكفي ليدل على �سنوات من الهم ،فتحت �سيدة ذات مالمح هادئة الباب
لتنقل �أنظارها بني �أمرية ورحمة قبل �أن تبت�سم ابت�سامة حنونة وهي تقول«:كيف
�أ�ساعدكم؟!»
جت ّمدت زمرد مكانها وهي تت�أمل مالمح العجوز حتى �شعرت بالطعنة التي
�سببها ن�صل قدمي كان وما زال ي�سكن �صدرها ،وهي تكت�شف �أن عني العجوز �أكرب
ع
دليل على �أنها والدة �سهيلة ابنتها و�صغريتها و�صديقتها.
ر ش
والتوزي
حاملة �أكوابا من الع�صري حملتها منها �أمرية وهي ت�ضعها على الطاولة ال�صغرية
ع
�أمامها لتبت�سم لها العجوز بحب وهي جتل�س �أمامهما لتقول بهدوء�«:أ�شعر ب�أنني
وجهك م�ألوف يل».
ِ أنت
�أعرفكم منذ مدة خا�صة � ِ
وجهت لها احلديث ف�أجابتها وهي حتاول احلديث ب�صوت
ارجتفت زمرد عندما ّ
ثابت«:عذ ًرا لأننا جئنا دون موعد ،لكن نحن هنا لأننا لدينا معلومات عن ابنتك
وجب �أن نخربك بها».
نظرت لها العجوز بتلك النظرة التي جتعل كل الأ�سوار التي �أحاطت بها قلبها
تنهار وك�أنها تعلم �أنها تت�أمل وك�أنها ترى ذلك الن�صل وهو �ساكن بقلبها وهي
تقول«:عندما �أخربمتوين �أنكما �صديقات ابنتي ات�صلت بها على الفور ،هي قادمة
�إذ �إنه يف�صل بيني وبينها �شارع فقط ،ولكن �أنا مل �أراكما يف زفافها».
�شحب وجه �أمرية بينما نظرت زمرد لها بجمود لتقول ب�صوت ميت�«:أنا مل
ابنتك زينب».
�أق�صد ِ
نظرت لها العجوز با�ستغراب دام للحظات قبل �أن تت�سع عيناها وهي ترفع
كف يديها ل�صدرها وقد فهمت ما تعنيه زمرد لتهم�س ب�صوت خافت يحمل كل
285
�آالمها«:عائ�شة» ،حانت من زمرد ابت�سامة حزينة وهي تقول«:هل كان هذا
ا�سمها؟».
مل جتبها العجوز وهي حتاول ال�سيطرة على م�شاعرها� ،أحدهم يعرف �شي ًئا
عن �صغريتها ،يا اهلل كم انتظرت هذه اللحظة ،لأكرث من ثمانية ع�شر عاما كانت
تنتظر ،كانت تتل ّهف لأي �شيء ،لأي �شيء.
�سمعت �صوت زمرد ُمرجتفا وهي تقول«:لديها نف�س عينيك ،لوهلة عندما
ظننتك هي».
ِ قابلتك
ارتع�ش كف يديها الذي ت�ضمه ل�صدرها لتقول بارجتاف«:هل تتحدثني عن
ريص ع
الكت
عائ�شة �صغريتي؟».
ريص ع
م�سحت العجوز دموعها وهي تنظر لأمرية بابت�سامة حزينة حملت كل معاين
والتوزي
يجب �أن �أدعوه ب�أن يرحمها وهي عنده وقد ا�سرتد �أمانته».
ليرت ّنح مكانه وهو ي�ستند على باب املنزل والإدراك �أ�صابه على الفور لريفع
عينيه الدامعة و�شحوب وجهه الذي ملحته زوجته �أعلمها ب�أن زوجها قد �أدرك من
ص ع
مات لتقرتب منه وهي جتيب ابنتها«:عائ�شة يا زينب� ،صغريتنا عائ�شة» ،لتتغ�ضن
الكت ري
ب
مالمح زوجها وهو ي�شعر ب�أن روحه تفارقه لتحت�ضنه زوجته بحنان �أم وهي ُتر ّبت
توزيع
عاما �سعيدة حنونة جميلة كما متنيت ،وماتت دون �أن نراها».
ً
لتكتم �شهقاتها يف �صدر زوجها الذي ما زال ي�ستوعب ما قيل له ،لي�شهق بقوة
وك�أنه ن�سي �أن يتنف�س لي�ضم زوجته له وهو يغم�ض عينيه بقوة ومالحمه تعرب عما
ال ي�ستطيع قوله لي�شارك زوجته دموعه وهو يردد�«:إنا هلل و�إنا �إليه راجعون� ،إنا هلل
و�إنا �إليه راجعون ،عائ�شة �صغريتنا».
الكم الهائل من الأمل الذي اجتاحهم والدموع التي �سطرت وجوههم كانت كفيلة
بانهيار �أمرية التي خرجت على الفور من املنزل لتنظر حولها وهي ت�شعر بالتيه،
بالغربة ،بالوجع بالكثري من الوجع ،رفعت كفها مت�سد على قلبها وهي تغم�ض عينيها
ب�أمل لتخف�ض وجهها وهي جتاهد بقوة لئال تبكي ،ال تريد �أن تبكي ال تريد.
«�آن�سة ليلى»
التفتت على �صوت يامن القلق لتلمح �شحوب وجهه وهو ينقل �أنظاره بينها وبني
باب املنزل ،لتقول ب�صوت ُمرجتف«:لقد عرفا ..لقد انتهى الأمر»
288
مرت دقائق وهو يلمح زمرد تخرج من باب املنزل ليتجه �إليها ،وهو يلمح
انهيارها و�آثار البكاء على وجهها احلبيب ،ليقرتب منها وهو ي�س�ألها بقلق«:زمرد
أنت بخري؟» هل � ِ
نظرت له بتيه وك�أنها ال تراه ف�أخذت تت�أمل مالحمه وهي تعي معنى �أن ميوت
الإن�سان من الأمل ،فقدان �أي عزيز هو موت بعد موته.
هم�ست ب�صوت ُم�شبع بالبكاء«:يريدون الذهاب ملكان دفنها� ،أنا لن �أ�ستطيع
يامن� ،أنا ل�ست بتلك القوة �أنا»...
ارجتفت �شفتاها وهي متنع نف�سها من االنهيار جمددا ويا اهلل كم هي يف حاجة
ص ع
لأن تنهار ،ا�شتدت قب�ضتاه بجواره وهو مينع نف�سه من جذبها حل�ضنه ،من جعلها
ر ش
والتوزي
�أعود».
ع
تركها وهو يتجه للمنزل بينما هي �أحاطت ذراعيها بج�سدها وهي تلمح �أمرية
التي تتجنب النظر لها هي الأخرى فهي تعلم �أن نقطة تالقي نظراتهما �سيكون
انهيارهما.
M
289
وقد كان للقا�سي جتربة قا�سية م ّر بها لكنها مل تكن ُمرب ًرا
لق�سوته ،فقط كانت دفعة جلانبه ال�سيئ القوي ليغلب الآخر
الطيب ال�ضعيف ،وما �أكرث �أولئك الذين ينتظر اجلانب ال�سيئ
فيهم الفوز بينما جنا من كان جانبه الطيب �أقوى.
الف�صل ال�ساد�س ع�رش
اخلديعة
ريص ع
الكت
ا�ستطعت جعلها مقابلتي �س�أخربك بكل ما لدي ِ ك ّنا �أكرث من �إخوة ،ح�س ًنا �إن
توزيع
لك بالكثري� ،أ�ستطيع �أن �أقنعها فهي ت�صدق كل ما �أقوله لها».ِ
كلمات تتذ ّكرها با�ستمرار يف �آخر حوار معها مع تلك الفتاة� ،إن �صدقت تلك
الفتاة ف�ستكون هي ال�صحفية الأوىل التي �سيتذكرها النا�س ب�أكملها و�ستتهافت
اجلرائد لطلبها يف العمل و�سيكون ذلك ال�سبق ال�صحفي لها يف النهاية ،م�سكت
الورقة التي حتتوي على رقم هاتف لتت�صل على الفور ،رنة ف�أخرى �أتبعها �صوت
إليك».
لتجيبه«:ح�س ًنا �أنا موافقة ،غدً ا �س�آتي بزمرد � ِ
ع والتوزي
�ساد ال�صمت للحظات وكالهما ينظر للآخر بهدوء ،فحانت من زمرد ابت�سامة
�صغرية ،ابت�سم على �أثرها �سليم وهو يتنهد بخفوت«:ما الذي تريدين الو�صول �إليه
يا ابنة العم؟!»� ،أجابته واالبت�سامة ما زالت تزين ثغرها«:م�شاعرك ،رمبا»
تنهد بتعب وهو ي�شعر بثقل على �صدره«:م�شاعري لي�ست كافية زمرد� ،أنا
�سبق يل جتربة الزواج وكانت فا�شلة متاما� ،أنا يف الثالثني من عمري ،ال يجب
�أن �أنحاز مل�شاعري الآن ،كما يجب �أن �أح ّكم عقلي فيما يراه قلبي» �س�ألته من دون
مقدمات«:هل حتبها؟!» فرفع عينيه لها وهو ي�شرد يف مالحمها التي ت�شبه مالمح
زوجة عمه رحمها اهلل وتختلف كث ًريا عن حمبوبته التي ت�شبه والدها رحمه اهلل،
�أجابها بهدوء«:و�إن كنت �أفعل ،فما الفائدة؟!»
�ضحكت زمرد بخفوت وهي جتيبه�«:أمي كانت حمقة» ،نظر لها ُمت�سائال
لرتدف بلمحة حزن يف عينيها�«:أخربتني عن م�شاعركما ،قالت يل �إنها قد متوت
قبل �أن يعرتف �أحدكما بحبه للآخر ،ورمبا متوتان قبل �أن تفعال ،كالكما خائف من
�أمر ما يعيق عليه التق ّدم جتاه الآخر».
293
نظر لها ُمنده�شا من كالمها ومن معرفة زوجة عمه مب�شاعرهما لي�س�ألها«:هل
قلت يعرتف �أحدنا بحبه للآخر؟! هل
م�شاعرنا وا�ضحة لهذه الدرجة؟! انتظري هل ِ
تق�صدين �أنها!»
ات�سعت ابت�سامة زمرد وهي جتيبه«:نعم حتبك يا ابن العم ،حتبك وتخ�شى
حبك»� ،شبح ابت�سامة ز ّين ثغره وهو ينظر �إليها غري ُم�صدق لي�ستغرب بقية
فلم تخ�شى حبي؟!»
�صحيحا َ
ً حديثها�«:إن كان ما تقولينه
«لأنك ال تناديها �سوى ب�صغرية وال تعاملها �إال ك�صغرية»� ،أجابته بغيظ لينظر
لها م�صدوما�«:أنا �أناديها هكذا لأنها ..يا �إلهي زمرد الفرق بيننا اثنا ع�شر ً
عاما،
ع
�إنه عمر �آخر ،بالطبع هي �صغرية ،ن�ش�أت على حب مراهقة ،ماذا �إن مر بنا الزمن؟!
الكت ريص
ماذا �إن اكت�شفت �أن م�شاعرها يل زائفة ولي�ست بحقيقية؟!»
ع والتوزي
ركز عقله وتفكريه معها لي�سمع اقرتاحها«:رحاب» لديها منحة لتكمل درا�ستها
باخلارج ،نظرا لأنها من املتفوقات ،كانت ترغب بها ولكن تنازلت عن الفكرة منذ
فرتة ق�صرية و�أنا �س�أحاول بجهدي لأفهم �أ�سبابها و�أقنعها بال�سفر� ،إن �سافرت
رحاب و�أكملت درا�ستها فهي لن تعود �إال بعد � 4سنوات على الأقل ،خذ وقتك كله
لتفكر خالل هذه الأ�سابيع� ،إن �أردتها لك فتقدم خلطبتها و�أنا �س�أوافق بكل �سرور،
لكنها �ستكون جمرد خطبة حتى تعود جمددًا بعد �سنوات املنحة ،و�إن ما زلت
مرتددا ،فال داعي للحديث يف الأمر مرة �أخرى»
�صمت �سليم للحظات وهو ينظر لنقطة يف الفراغ�«:أربع �سنوات! كم تبقى يف
العمر لبعاد �أكرث يا ابنة العم» �أجابته بت�أكيد�«:إنه م�ستقبلها �سليم� ،أنا �أعلم �أنك
لن تتنازل على �إكمال تعليمها بالطبع».
�أجابها �سليم م�ؤكدا كالمها«:بالطبع يجب �أن تكمل تعليمها وتبني م�ستقبلها
بدل من اخلطبة» ،نظرت له زمرد للحظات الذي تريده ،ولكن ليكن عقد قران ً
لتتعاىل �ضحكاتها بعدها ،وهي تنظر له غري ُم�صدقة �سرعة قراره«:ح�س ًنا يا ابن
العم ،لن تكن �سوى خطبة فقط»«:هيا زمرد اجعليه عقد قران حتى �أ�ستطيع
295
�أن �أحتدث معها بحريتي وهي بعيدة عني» ،ابت�سمت له ب�سعادة وهي تنه�ض
من على الأريكة لتقول«:ح�سنا بقي �أمر واحد» ت�ساءل با�ستف�سار لتجيبه بعبث
الطفولة«:بقي �أن تعرتف مب�شاعرك لتلك التي حتبك يف �صمت وجتهل حبك ،فلكي
تعقد قرانك يجب �أن تخربها �أوال ب�أن ال�صغرية ما عادت �صغرية يف نظرك».
ابت�سم �سليم ب�سعادة وهو يلمحها تخرج من غرفة املكتب وال ي�صدق �أنه على
بعد خطوة من حلم حياته وما �أ�صعبها من خطوة ولكن �سيفعل امل�ستحيل من �أجلها،
خرجت من غرفة املكتب لتتجه للحديقة اخلارجية وما زالت �آثار ابت�سامتها على
ثغرها وهي تتذكر حديث والدتها وتو�صيتها على رحاب وما تعانيه امل�سكينة يف
ع
�صمت.
الكت ريص
«زمرد ،اع ِنت ب�أختك فهي ما زالت �صغرية ،لديها منحة للدرا�سة باخلارج
توزيع
لك ،و�إن لزم الأمر ف�سافري معها من يعلم رمبا تكون لها ما مل �أ�ستطع �أن �أكونه ِ
فر�صة جديدة لكما»
«ال تقلقي �أمي� ،س�أفعل كل ما تريدينه فقط ارتاحي»
«بقي �أمر واحد� ،أمر قلبها املُعذب يا بنيتي ،فيبدو �أنه ق ّدر لكما �أن تع�شقا
وتكتما ع�شقكما بداخلكما� ،أختك حتب �سليم يا ابنتي ،و�أنا ب�إح�سا�س الأم �أ�شعر
مب�شاعره جتاهها ،كالهما خائف من �أن يتق ّدم خطوة فيخ�سر كل �شيء� ،ساعديهم
م�ساعدتك ،اغفري يل جهلي»
ِ يا بنيتي ،و�ساحميني لأنني مل �أ�ستطع
إليك»
�صحتك ف�أنا يف حاجة � ِ
ِ «�أرجوك �أمي ال تهتمي ب�شيء الآن �سوى
والدك يل وا�شتقت له ،جاء
ِ «يا ليتني �أفديك بعمري حبيبتي ،ولكن ا�شتاق
الوقت لأذهب له»
�شردت يف كالم والدتها لتدمع عيناها وابت�سامة حزينة تك ّلل ثغرها ،كانت
�أمها دوما من ت�شعر بكل �شيء ،كانت تعرف �أدق الأ�سرار من دون حاجة للبوح لها،
تذ ّكرت �أم�س وهي توقع رحاب يف حديثها لتت�أكد من م�شاعرها ،رحاب التي فور �أن
296
�أخربتها ب�أن �سليم ينوي خطبة �إحداهن حتى ملحت جمود مالحمها وتو ّقفها عن
ترتيب الغرفة لتكمل بعد حلظات ك�أن زمرد مل تقل �شيئا ثم حلظات وملحت دموعها
التي حتاول �أن تخفيها لت�صارحها زمرد مب�شاعرها لتنهار رحاب يف بكاء مرير
وهي تخربها �أنها لن ت�ستطيع الكتمان بعد الآن خا�صة بعد وفاة والدتها لتبوح لها
مبكنونات �صدرها ،لتنوي العزم على �أن تدخل ال�سعادة لقلب �أختها كما حاولت �أن
تفعل وقت عودتها منهارة من زيارة �أهل �سهيلة ،تلك الزيارة التي بقدر ما �أملت قلبها
بقدر ما �شعرت بالراحة وهي مت�أكدة �أن �سهيلة بخري الآن ،تذ ّكرت حماوالت رحاب
لإخراجها من حزنها بعد �أن �صنعت لها حلوى حتبها ،توقفت مكانها وهي تلمح ذلك
القريب البعيد ،تاهت يف مالحمه للحظات ،عينان ع�سليتان تعك�سان �أ�شعه ال�شم�س
ريص ع
الذهبية ،مالحمه اجلدية التي ال تعرف طريق االبت�سام ،بع�ض �شعريات بي�ضاء
ع والتوزي
ارتفع حاجباها بده�شة وهي تلمح ت�ش ّنج ج�سده ،وقب�ضتيه امل�ضمومتني ،كان
ككتلة غ�ضب على و�شك االنفجار ،قاطع �أفكارها �صوته الهادئ الذي يتخ ّلله �شرارات
�ضحكاتك ت�صل ل�سكان
ِ فيم كنتما تتحدثان لن�صف �ساعة كاملة و�أ�صواتغ�ضبَ «:
البيت ب�أكمله؟»
نظرت له ُمنده�شة من كالمه وهي جتيبه بال وعي«:ماذا؟!» ،اقرتب حتى وقف
�أمامها وهي تلمح الغ�ضب على �شفري االنفجار فيها وحدها�«:إن � ِ
أردت احلديث معه
فعلي الأقل حت ّدثوا يف مكان عام و�سط �أ�شخا�ص ،ال مبفردكما يف غرفة املكتب»
نظرت لعينيه بجمود وهي حتاول �أن جتده فيها خيط اتهام ،ولكن فاج�أها �أنها
مل جتد �سوى غ�ضب ال ينبع �إال من غرية!
�أ�سبلت �أهدابها وهي تك ّذب ما ر�أته لتقول بهدوء«:كنت �أريد احلديث معه يف
�أمر يخ�صه ومل �أرغب يف �أن ت�سمعنا رحاب ،فطلبت منه اجللو�س يف غرفة املكتب
والباب كان مفتوحا كما �أن �سليم جمرد �أخ يل»
297
أنت ل�سليم جمرد �أجابها بغ�ضب مل ي�ستطع كتمه وهدو�ؤها يزيده غ�ضبا«:وهل � ِ
والدتك»
ِ �ضحكاتك فلم مير �سوى �أ�سابيع على وفاة
ِ �أخت؟! على الأقل اخف�ضي �صوت
رفعت عينيها له ولعن نف�سه لر�ؤية هذا الأمل بداخلها ولكنه مل يق�صد �إيالمها
هو فقط �شعر بنار غريبة تكوي �صدره وهو يراها تتحدث ب�سعادة مع �سليم ،يا �إلهي
كم كانا متالئمني معا!
�شعر ب�أنها تريد �أن تقول �شيئا لترتاجع يف الثانية التالية وتت�س ّلح بهدوئها جمددًا
وهي جتيبه�«:أعتذر للفكرة اخلاطئة التي و�صلت �إليك ولكن ل�ست يف حاجة لأب ّرر
لك �شيئا والآن اعذرين فال يجب �أن نقف لنتحدث مبفردنا حتى ال ت�صل �أي فكرة
ص ع
خاطئة لأحدهم كما و�صلت �إليك»
M
الكت ري
شر ن ل ل ب
و ت ل ا و
منزل زمرد
يع ز
�أجابت رنني الهاتف لتجد على الطرف الآخر �صوت �سايل تقول«:كيف ِ
حالك
زمرد؟! �أمتنى �أن تكوين بخري» �أجابتها بارتباك م�ستغربة ات�صالها بها«:بخري،
ؤالك»
�شك ًرا ل�س� ِ
«ا�سمعيني زمرد �أنا �أردت �أن �أعتذر عن �آخر لقاء بيننا يف مكتب يامن ،هل
أنك ممنوعة من اخلروج �إال بحماية ولكن �أنا يف حاجة
مقابلتك؟! �أعلم � ِ
ِ ب�إمكاين
أخربك بتفا�صيله
معك� ،أنا ويامن على خالف كبري هذه املرة ،و�أريد �أن � ِللتح ّدث ِ
فوحدك من ي�ستمع �إليها»
ِ
ارتبكت زمرد وهي ت�ضغط بكفيها على الهاتف لتقول�«:أنا ال �أ�ستطيع اخلروج
قلت �أنا ال �أخرج �إال بحماية و�أحيانا �آ�سر من يو�صلني� ،أريد �أن �أ�ساعدكم
�سايل كما ِ
ح ًقا ولكن �أنا فقط ال»...
قاطعتها �سايل وهي تقول�«:أعرف حبيبتي ،ح�س ًنا �إن رغبتي ب�أن ت�أتي باحلرا�سة
منك
أنك �ستقابلينني لأنه �سيعرف �أنني من طلبت ِ ال م�شكلة ،فقط ال تخربي يامن � ِ
298
أرجوك زمرد �أنا� ..أنا
القدوم و�سيزيد من غ�ضبه فهو مل يخرب �أحدا ب�شجاره معيِ � ،
أنك �ستزورين �إحدى �صديقاتك �أمرية تلك الفتاة التيإليكَ ،مل ال تخربيه � ِ
يف حاجة � ِ
معك»
كانت ِ
ا�ستغربت زمرد للحظات معرفة �سايل ب�أمرية ،ولكن ظ ّنت �أن يامن من حت ّدث
قليل وهي تربط غ�ضب يامن وحزنه هذه الأيام بخالفه مع عنها معها� ،صمتت ً
�سايل ف�شعرت �أنه رمبا �إن قدمت له امل�ساعدة يخف ذلك الأمل الذي بقلبها ،بالرغم
من �أنها تق ّربهما من بع�ضهما �إال �أنها ت�شعر ب�أن ذلك �أف�ضل ،تنهدت لتجيبها يف
إليك ،ما هو العنوان؟!»
النهاية«:ح�س ًنا �سايل� ،س�أطلب احلرا�سة و�آتي � ِ
ع
علي اجلهة الأخرى تنهدت �سايل بخوف وهي ترى تلك الفتاة التي ح ّدثتها
ت
أح�سنت �سايل ..رمبا من الأف�ضل �أن
ر ش
والتوزي
ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تقول«:ها �أنا �ساعدتك ،فكيف �ست�ساعدينني؟!»
ع
أ�ساعدك،
ِ نظر لها ممدوح برباءة م�صطنعة وهو يقول«:هذا ما �أفعله عزيزتي �أنا �
�صك للأبد من زمرد»�سبقك ال�صحفي و�س�أخ ّل ِ
أجعلك تكتبني عن ِ
�س� ِ
�س�ألته بتوتر«:ماذا �ستفعل بها؟!» ابت�سم ممدوح ب�شر وهو يقول�«:آه هذا الأمر
دورك باالتفاق حتى حت�صلي على ما تريدين»
يخ�صني وحدي ،ن ّفذي ِ
ارتع�ش ج�سدها من ابت�سامته ،وهي تتذ ّكر زيارة يامن لبيت �أهلها يخربها ب�أنه
لن ي�ستطيع التكملة يف ارتباطهما� ،شعرت بالإهانة وهو ال يريد ذكر �أ�سبابه لكنها
عرفت ،عرفت �أن تلك املخادعة زمرد هي ال�سبب ،لقد �أتقنت حيلتها حتى �أخذته
منها ،تذ ّكرت بعدها ات�صال تلك الفتاة �سهيلة بها لتجيبها بغ�ضب �أنها لن ت�ساعدها
وال تريد �شي ًئا منها لتجد نربة خمتلفة بحديث خمتلف باتفاق خمتلف ،وكله يف
�صاحلها هي فقط ،تلك الفتاة والرجل الذي يجاورها يريدان زمرد ب�أي طريقة
ممكنة ،هي لن تت�ساءل عن �أ�سبابهما ال يهمها طاملا �أنهما �سيزيحانها من طريقها
وهي �ستعيد يامن لها بطريقتها.
299
بك وال تت�صلحت ّدثت �إليها رحاب بقلق�«:أنا ال �أ�شعر باالرتياحَ ،مل تت�صل ِ
بحماتها ،والدة يامن دائما من ت�صلح بينهما ،ال تذهبي زمرد ،كما �أن تلك الغبية
ال تنا�سب يامن» ،ابت�سمت لها زمرد بهدوء وهي ت�شعر بقلقها احلبيب لتجيبها«:ال
�أعلم �أ�سبابها رحاب ولكن �إن كان هناك فر�صة لت ّدخلي ف�أنا لن �أتركها لأ�ساعدهما».
زفرت رحاب بخفوت لتقول«:ح�س ًنا على الأقل �أخربي يامن» �أجابتها�«:أنا
بالفعل �أخربته بخروجي ولكن لزيارة �أمرية» حت ّدثت رحاب�«:سيغ�ضب زمرد،
أنت تعرفني هذا» �شعرت زمرد بالقلق لتقول بعد تفكري«:ح�س ًنا �س�أخربه ولكن � ِ
�إن منعني �س�أذهب» ،حاولت االت�صال به لتجد هاتفه مغلقا ،فقررت �إر�سال ر�سالة
تخربه فيها بزيارتها ل�سايل ال لأمرية.
ريص ع
الكت
M
ن ل ل ب
شر وال
منزل حممد الأ�سيوطي
توزيع
وته�شم زجاج �أخرجها من دوامة �أفكارها ،عقدت حاجبيها�صوت ارتطام قوي ّ
با�ستغراب ونه�ضت من على ال�سرير لتخرج من غرفتها ،تنظر حولها حتى جت ّمدت
مكانها وهي تنظر ب�صدمة جل�سد جميلة املغ�شى عليها على الأر�ض و�أكواب الع�صري
ُم�شهمة بجوارها.
دقيقة اثنتان ثالث وهي جامدة مكانها حتى �سمعت �أ�صوات �أقدام على الدرج
وباب ال�شقة يفتح و�آ�سر ينظر لها بده�شة حت ّولت لرعب يف اللحظة التالية ،وعيناه
تلتقط ج�سد والدته على الأر�ض فهتف بقوة�«:أمي» ،اقرتب من ج�سدها ُم ً
�سرعا
ورفع وجهها له و�أخذ يفح�ص نب�ضها وهو يت�ساءل بقلق«:ماذا حدث؟!»
مل جتبه �أمرية اجلامدة يف مكانها ب�شيء وحلظات ووجدت حممد يدلف من باب
ال�شقة ويهتف برعب:
«جميلة» قبل �أن يهرع باجتاهها وي�سحبها من بني يد �آ�سر الذي فاق من
�صدمته مبهنية وهو يحدث والده:
معها ،نب�ضها �ضعيف �س�أح�ضر علبة الإ�سعافات» «�أبي ابقَ
300
تركه �آ�سر دون �أن ي�سمع رده ،ورك�ض للخارج بينما �أحاط حممد ج�سدها بقوة
بك يا عمري؟!»
وهو يتحدث بقلق«:حبيبتي ماذا حدث؟! هيا انه�ضي جميلة ،ماذا ِ
نف�سا قو ًيا من �صدرها وك�أنها ن�سيت �أن تتنف�س يف �صدمتها وارجتف
�أخذت �أمرية ً
ج�سدها بقوة وهي تلمح جميلة �ساكنة يف ح�ضن حممد ال�شاحب الوجه.
و�صل �آ�سر بعد حلظات حاول �أن يوقظ والدته من �إغماءتها ولكنها مل تفق
ففح�ص نب�ضها وجده منخف�ضا جدً ا�«:أبي يجب �أن ننقلها للم�شفى»
�شهق حممد برعب حني �شعر مبلم�س لزج وهو يرفع يده لآ�سر فات�سعت عني �آ�سر
بقلق وهو يلمح كف والده ُتغطيها الدماء وهو يقول�«:إنها تنزف!»
ص ع
كان �آ�سر الأ�سرع من الإفاقة من �صدمته وهو ينه�ض ً
ري
حامل والدته بقوة و�أخذت
والتوزي
M
ع م�شفى املدينة
كانت ال ت�سمع �أي �شيء حولها ك�أن عاملها �أ�صبح خاو ًيا ،ال تعلم ما هذا الأمل
الفظيع الذي ينه�ش يف قلبها ،منذ مدة وهي ُت ّ�سد بيديها على قلبها لع ّل الأمل
يخفف ولكن دون جدوى ،رفعت عينيها بجوارها حينما ملحت �آ�سر يجل�س جانبها
ي�س�ألها بهدوء«:ماذا حدث ليلى؟!»
نظرت له ب�ضياع وهي ما زالت ُت ّ�سد على قلبها فنقل نظراته ملو�ضع يديها ثم
قلبك؟!»
ؤملك ِ�أعاد نظره لها جمددًا لي�س�ألها بهدوء خالف �شحوب وجهه«:هل ي� ِ
فرق قلبه لها ،مد يديه مي�سك بيديها املو�ضوعة هزت �أمرية ر�أ�سها كطفلة �صغرية ّ
على �ساقها وهو يحت�ضنها بحنان بني كفيه«:ال تقلقي �ستكون بخري يبدو �أنها غيبوبة
�سكر» �أجابته بتيه�«:أنا مل ..لقد »..تن ّهد �آ�سر وهو يقول«:اهدئي حبيبتي»
جتمعت الدموع يف عني �أمرية لتقول ب�صوت ُمت�أمل«:لقد �سمعت �أ�صوات ارتطام
وته�شم زجاج ،خرجت من الغرفة لأجدها ..يا �إلهي قلبي ي�ؤملني بقوة»
ّ
301
تغ�ضنت مالمح �أمرية بالأمل فاقرتب �آ�سر بج�سده منها وجذبها حل�ضنه وهو
ُير ّبت على ظهرها بحنو قائال«:ال تقلقي ..هي �ستكون بخري هي �ستكون بخري».
ال يعلم هل يردد كالمه ليطمئنها �أم يطمئن نف�سه ،ا�ست�سلمت حل�ضن �آ�سر لع ّل
هذا الأمل يخف ،مل ت�صدق للحظة �أن ت�شعر بالرعب على �شخ�ص كما ت�شعر الآن.
جتمد كالهما �أمام الطبيب بعد �أن خرج وهو يخربهما �أنها غيبوبة �سكر ولكن
نتيجة ال�سقوط قد �سبب لها نزيف اكت�شفوه بعد �إجراء بع�ض الأ�شعة ،وا�ضطروا
�أنها ي�ضعوها يف العناية املُ�ش ّددة ،ليهرع �آ�سر بعد �سقوط والده منها ًرا و�أمرية ال
ت�صدق ما ت�سمعه وال ما ر�أته من �شحوب وجه ال�سيد حممد وانهياره بعد �أن �أغ�شي
ع
ممازحا �إياه �أنهما �أطباء ويعلمون جيدً ا �أن الأمر لي�س
ً عليه ،و�آ�سر يحاول طم�أنته
الكت ريص
خط ًريا ليجيبه والده وقتها�«:أنا �أن�سى كل �شيء يف م�صابها» ارتع�ش ج�سد �أمرية
شر وال
لن ت�ساحمها �إن �أ�صابه �شيء هو الآخر ،لت�شعر بال�صدمة وهي ترى دموعه وهو يخرب
توزيع
�آ�سر �أنه �سيموت �إن �أ�صابها �شيء ،زفرت بتعب وك�أنها يف �سباق �أجهدها بقوة ،تريد
الراحة من كل هذه احلروب التي جتعل نريان قلبها ال تخمد �أبدا.
M
مبنى اجلريدة
�أو�صلتها ال�سيارة �إىل وجهتها وهي تنظر للمكان الذي �أر�سلته لها �سايل ،ويبدو
�أنه مكان عملها ،انتظرت للحظات بال�سيارة واحلار�س الذي يرافقها يف �أي وقت
خارج املنزل ينظر حوله بهدوء يحاول اكت�شاف �أي خطر قد ي�صيبهما.
حلظات وو�صل لأ�سماعها �صوت �شجار على مقربة منها ،فتلقائيا �أغلق احلار�س
قفل ال�سيارة الآيل و�أخذ ينظر بحذر حوله ،ملحت اقرتاب الرجلني من ال�سيارة ليدفع
�أحدهم بالآخر ُم�صطدما بال�سيارة ،هتف ال�سائق بهما ب�أن يبتعدا عن هنا ولكن مل
ي�ستمع �إليه �أحد ،فتح قفل ال�سيارة ونزل ليجد �أحدهم يدفعه بقوة جتاه الأر�ض،
�شهقت زمرد لتجد حار�سها يلتفت �إليها حماوال طم�أنتها فلمحت فوهة �سالح تظهر
من الزجاج اخلا�ص بال�سائق وفج�أة انطلقت ر�صا�صة �صامتة لتقبع بر�أ�س احلار�س
302
فتناثرت الدماء على وجهها� ،صرخت ب�أعلى �صوتها وهي تراه فاقد احلياة لينك�سر
الزجاج بجانبها ف�أخف�ضت ر�أ�سها و�صراخها ال يتوقف ،وفج�أة حرقة خفيفة �أ�صابت
ذراعها لت�شعر بثقل يف كل مكان بج�سدها ،حاولت �أن ترفع ج�سدها لتميل جتاه باب
ال�سيارة الذي ُفتح �أخريا وتل ّقفتها ذراعان قويتان لي�سود الظالم فج�أة من حولها.
M
م�شفى املدينة
كان كل �شيء ي�سري بروتني ُمل ،مر يوم كامل وهي ترف�ض االبتعاد عن باب
العناية اخلارجي ،مل ي�سمحوا لأحد بر�ؤيتها� ،شعرت بغ�صة م�ؤملة وهي تتخيل �أ�سو�أ
ريص ع
الأحداث رفعت ر�أ�سها عندما ملحت ال�سيد حممد قادما من �أول املمر مع �آ�سر بعد
ع والتوزي
أي�ضا».
فهو قلق � ً
نظرت له �أمرية ب�شرود وك�أنها تراه لأول مرة ،تذ ّكرت مواقفه معها ،كم مرة
�ساندها ،كم حت ّمل برودها ونفورها منه ،كم عانى معها يف حمنتها وما زال ،كم
دوما خلف ظهرها يحميها يوما على �شيء ،كان ً احرتم خ�صو�صيتها ومل يجربها ً
من املجهول ،اطمئنان ي�سري يف �أوردتها مبجرد ر�ؤيته ،هو التعريف املنا�سب لل�سند.
هم�ست له ب�صوت ُمرجتف�«:أمرية» ،نظر لها �آ�سر دون فهم ،و�س�ألها ماذا
تق�صد لتقول�«:أنت مل تنادين �أمرية �أبدً ا ،لقد احرتمت رغبتي حتى هذه اللحظة».
ازداد ا�ستغراب �آ�سر من حالة �أمرية ،ف�أكملت كالمها وهي تبت�سم له
بحزن�«:س�أكون �سعيدة �إن ناديتني ب�أمرية»
ات�سعت عني �آ�سر بده�شة وهو ال ي�ص ّدق ما �سمعه منها ،بينما التفتت تنظر ملحمد
اجلال�س على املقعد �أمام باب غرفة العناية وعيناه متعلقة به ،ك�أن جميلة �ستخرج
منه يف �أي حلظة ،فرق قلبها مب�شاعر لأول مرة تعرفها.
303
اقرتبت من حممد ال�شارد ،الذي زاده احلزن �س ًنا ،وجل�ست بجواره حتت �أعني
�آ�سر امل�صدومة فخرج حممد من �شروده على �صوتها الهادئ ،جعله ينظر بجواره
بده�شة هو الآخر«:هي �شجاعة �ستكون بخري ،مل �أعتد ر�ؤيتها �ضعيفة �أبدا لذا �أنا
على يقني ب�أنها �ستكون بخري� ،ست�صمد �أمام �آالمها وت�ستيقظ لتكون معك ومعنا»
ترقرقت عني حممد بالدموع وهو ينظر ل�صغريته التي حت ّدثه لأول مرة بحنان
نابع من قلبها ،ف�ضم �شفتيه بقوة مينع ارتعا�شها ومل ي�ستطع �أن يقل �شيئا �سوى �أن
هز ر�أ�سه باملوافقة على كالمها ،ات�سعت عيناه ب�صدمة وهو ي�سمع �س�ؤالها�«:أخربين
عن ق�صة حبكما».
ع
بعد حلظات بد�أ ي�سرد لها ق�صتهما وكل ال�صعاب التي واجهتهما ليكونا م ًعا يف
الكت ريص
النهاية� ،أخربها عن ت�ضحياتها وت�ضحياته �أخربها عن حبه وعن حبها.
توزيع
يتح ّدث عن جميلة� ،شعرت ب�أنهم يف عامل �آخر غري العامل الذي تعي�ش فيه� ،شعرت
ب�صدق م�شاعره فلم ت�شعر �سوى بنف�سها وهي ت�ضع ر�أ�سها على كتف حممد و ُتر ّبت
على ذراعيه بكفها وتهم�س له�«:ستكون بخري �أبي»
�ضم �آ�سر قب�ضته �أمام فمه يكتم �شهقته وهو ينظر ب�أعني ُمت�سعة لأمرية التي
ت�شارك والدها البكاء وتناديه لأول مرة ب�أبي ،بينما جت ّمد حممد مكانه وهو ي�شعر
مبلم�س الورود على ذراعه من كف ابنته� ،صغريته التي نادته ب�أبي يا اهلل ،كم ت�ضخم
قلبه من هول امل�شاعر التي �أ�صابته يف تلك اللحظة فلم ي�شعر بنف�سه �إال وهو يتلفت
جتاهها ويجذبها لأح�ضانه بقوة ويهم�س بني �شهقات بكائه.
«يا قلب � ِ
أبيك ،يا روحه ،يا عقله ،يا فلذة كبدي ،يا �صغريتي ،يا �أمريتي ،يا
أبيك»
أبيك ،يا حبيبة � ِ
عاملي كله ،يا حبيبة � ِ
�أخذ يردد �آخر جملة با�ستمرار وهو ي�شدد على احت�ضانها و�أنهار من الدموع
تنهمر على وجهه بينما مل ت�ستطع �أمرية ال�صمود �أمام كم امل�شاعر التي �شعرت بها
يف �أح�ضان والدها لأول مرة ف�أجه�شت بالبكاء وهي تهم�س له�«:آ�سفة �أبي �ساحمني
�أرجوك �أنا مل �أق�صد �أذيتك �أنا مل �أ�ستطع كرهك �أنا �أحبك �أبي»
304
انهمرت دموع �آ�سر وهو يرى �أجمل م�شهد �أمام عينيه وتنهدت بخفوت وهو
يهم�س داخله«:احلمد هلل».
دلفت لغرفة العناية يف اليوم الثاين بعد �أن �سمح لها الطبيب حتت �إ�صرار �آ�سر
وهو ي�شعر داخله �أن وجودها بجوار جميلة �سيكون له �أثر �إيجابي كبري لها ،فوالدته
�صباحا وقد مت �إيقاف النزيف.
مل ت�ستيقظ بعد خروجها من العمليات ً
ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تلمح ج�سد جميلة الهزيل �ساك ًنا على ال�سرير والعديد
من الأ�سالك ُمت�صلة بج�سدها و�صوت نب�ضات قلبها املُنتظمة يخرتق �صمت املكان
على اجلهاز املوجود بجوار �سريرها ،اقرتبت بهدوء وهي ت�شعر بربودة ت�سري يف
ريص ع
ج�سدها من الغ�صة التي اعت�صرت قلبها �أملًا ،وقفت بجوار ال�سرير و�أخذت تت�أملها
ل
طويل حتى مدت يديها لتلم�س كف يد جميلة البارد وحتت�ضنه بحنان ،جل�ست على
ع
أمريتك
ابنتك � ِدموع يف عينيها لتقول«:هيا انه�ضي ف�أنا خائفة �أمي نعم �أنا �أمرية ِ
يا �أمي»
�ضحكة خافتة خرجت منها مع دمعة يتيمة على خدها وهي تكمل هم�سها
أحبك� ،أخربوين منذ �صغري «كنت خائفة من قولها ،خائفة من � ِ
إخبارك بكم � ِ
�أن احلب �ضعف و�إن تع ّلقت ب�شيء ف�سي�صبح نقطة �ضعف يل ،خفت �أن �أتع ّلق ِ
بك
منك ،كنت خائفة يا �أمي ولكن �أدركت
أحبك فت�صريين نقطة �ضعفي فيحرموين ِ ف� ِ
دونك. �شي ًئا مه ًما �أن ت�صريي نقطة �ضعفي و� ِ
أنت معي �أف�ضل من �أن �أكون قوية من ِ
لك �سوى
مناداتك ب�أمي �أبدً ا ولن �أ�سمح ِ
ِ أعدك ب�أين لن �أتوقف عن
انه�ضي �أمي و� ِ
أمريتك ،انه�ضي و�سوف �أكون ابنة ُمطيعة �أنا خائفة �أمي و�أنا ال �أحب �أن
مبناداتي � ِ
�أخاف».
M
305
ع�ص ًرا
لتغي ثيابها
كانت يف طريقها للعودة للمنزل بعد �إ�صرار �آ�سر على عودتها ّ
قليل فن ّفذت طلبه وهي عائدة مع �أحمد الذي قرر �أن يرافقها ً
بدل من �آ�سر، وترتاح ً
ر�سالة و�صلت على هاتفها لتفتحها لتجدها ر�سالة من غفران�«:أمرية �أنا يف حاجة
ؤيتك ،قابليني يف بعد ن�صف �ساعة ،الأمر مهم جدً ا»
لر� ِ
�شعرت �أمرية بالقلق لتطلب من �أحمد �أن يرافقها للعنوان املوجود بالر�سالة،
فوافقها ليوقفا �سيارة �أجرة نظ ًرا لبعد املكان عنهم.
«�أنا ال �أ�شعر باالرتياح ،ما كان يجب �أن نخرج قبل عودة �أمي» ،تن ّهد �أحمد
ص ع
يوجه حديثه لأمرية بينما هي م�شغولة بهاتفها وترفعه لأذنها تعاود ب�ضيق وهو ّ
الكت ري
االت�صال ب ُغفران ف�أجابته �شاردة وجزء �صغري يف قلبها يوافق �أحمد ر�أيه فهي � ً
أي�ضا
ع
يهم�س ب�أنفا�سه الكريهة بالقرب من �أذنها«:كل �شيء ي�سري على ما يرام� ،أف�ضل
والتوزي ر
ج�سدك يتلذذ مبلم�س ج�سدي قبل �أن
ِ هم�سة من فمي ،كل مل�سة من يدي� ،س�أجعل
ع
بك ملن ي�ستحق �أن ي�ستمتع».
�ألقي ِ
�شعرت �أمرية بالغثيان من �أنفا�سه القريبة من وجهها وج�سدها اخلائن ال
ينا�ضل وال يقاتل حتت رحمة هذا املخدر� ،شعرت بالعجز عن حتريك �أطرافها،
دارت بعينيها لأحمد لتجد وجهه املكدوم ُمغطى بالدماء وج�سده مرتخيا بني ذراع
�أحد الرجال بينما الآخر يكيل له اللكمات فدمعت عيناها ب�أمل وهي تهم�س ب�صوت
ثقيل�«:أتو�سل �إليك �أن اتركه»
نادى ممدوح على �أحد الرجال لي�ستلم منه �أمرية ف�أمره بو�ضعها يف ال�سيارة،
بينما اجته هو لأحمد وجذب �شعر ر�أ�سه بيديه للخلف لريفع وجهه ومتعن يف النظر
قليل ويف ثيابه فلمح نظارة طبية يف جيبه الأي�سر من �سرواله فابت�سم ب�سخرية فيه ً
وهو ي�أمر الرجل الذي مي�سك �أحمد �أن يرتكه قائال�«:إنه الأخ امل�سامل ،لي�س تلميذها
يف الكاراتيه خ�سارة».
�ضحك ممدوح بته ّكم وهو يتحرك باجتاه ال�سيارة بينما �ألقى الرجل بج�سد
�أحمد على الأر�ض وقد امتزجت دما�ؤه برتاب الأر�ض� ،ساك ًنا بال حراك.
307
ا�سرتخ فتاتي ،هذا املخدر
ِ «كل �شيء ي�سري على ما يرام� ،أف�ضل مما خططت له،
بعينيك كل ما
ِ أنت ت�شاهدين
كلفني الكثري لأجعل ج�سدك ي�ست�سلم يل هكذا بينما � ِ
أجعلك ت�شعرين بكل هم�سة من فمي ،كل مل�سة من يدي� ،س�أجعل حولك� ،س� ِ يحدث ِ
بك ملن ي�ستحق �أن ي�ستمتع».ج�سدك يتلذذ مبلم�س ج�سدي قبل �أن �ألقي ِ
ِ
�ضرب بقب�ضته على ال�سيارة بغ�ضب وهو ي�ستمع لتلك الكلمات ،بينما غ�صة
�أملت قلبه وهو ي�شعر بالعجز ،ال ي�ستطيع �أن ي�صرخ وال ي�ستطيع �أن ينهي املكاملة،
�أوقف �سيارته ب�سرعة �أمام مبنى الأمن الوطني ورك�ض ملكتب يامن بينما هاتفه على
�أذنيه ُم�س ًكا به بقوة ،دخل مكتب يامن الذي كان يقف هو الآخر بحالة من الفزع
ع
لليوم الثاين هو وفتحي متفاجئني من اندفاع �آ�سر ال�شاحب الوجه ،جتمد �آ�سر مكانه
الكت ريص
وهو يتنف�س ب�صعوبة ين�صت ملا ي�سمعه على الهاتف وهو ينظر بقوة ليامن ليهتف
توزيع
قبل �ساعة
خرجت من اجتماعها مع اللواء ح�سني ُم�سرعة وهي تنظر كل فرتة و�أخرى
�صباحا من �أجل اجتماع طارئ معها ومع الأقلية الذينللهاتف ،اللواء ح�سني طلبها ً
يثق بهم ،لقد �أثبت هو ورجاله �صلة اللواء �سامح راغب بجرائم ممدوح وقدرته على
�إخفاء الأدلة و�شراء �أمناء ال�شرطة وغريهم من العاملني بالطب ال�شرعي باملال،
�أخذوا يفكرون يف الإيقاع به دون �أن ي�شعر حتى يثبتوا التهمة عليه بالأدلة هذه املرة،
هي ا�ست�أذنت اللواء بعد �أن �أخربته ب�إر�سال عمران ر�سالة لها من رقم جمهول ،هي
ال ت�صدق حتى الآن رغبة عمران باحلديث معها ،لقد �أر�سل لها ر�سالة ي�س�ألها �أن
تقابله فهو يريد �أن يتح ّدث معها.
نظم من �أنفا�سها وهي حتاول �أن جتد �سيارة �أجرة لتتوقف واحدة حاولت �أن ُت ّ
�أمامها ،تركبها على الفور غافلة عن املر�أة التي كان تركب بجواره ُمرتدية ما يخفي
مالحمها� ،أخربت ال�سائق بالعنوان لتحيد بعينيها للحظة بجوارها وهي تنظر للمر�أة،
لتلتفت يف اللحظة التالية م�صدومة من ر�ؤية �سمر لرتفع ُغفران كفها �ضاغطة على
308
عنق �سمر وقبل �أن تقول �شيئا ،حقنة �أ�صابت �ساقها منعتها من ا�ستمرار ال�ضغط
على عنق �سمر لت�شهق الأخرية وهي ت�شعر ب�أ�صابع غفران ت�سقط من على عنقها.
لتبت�سم بن�صر وهي تقول بني �أنفا�سها«:لن ي�ص ّدق ممدوح ال�سرعة التي ح�صلت
عليك» ،لتكمل وهي تلتقط هاتف ُغفران وهي حت ّدث ال�سائق�«:أ�سرع قبل �أن
فيها ِ
يالحظ �أحد اختفاءها»
M
309
والفرق بني ال�سقوط وال�صمود حلظة ،ممر �ضيق ،وهذا ما
ين�ساه �أو يتنا�ساه الكثريون!
عبدالرحمن منيف
الف�صل ال�سابع ع�رش
املزرعة
املزرعة
ع
�أ�صوات �أقدام و�صلت لأ�سماعهم جعلت ثالثتهن يرت ّقنب ب�آذانهن عن �أ�صحابها،
الكت ريص
ويف حلظة مت �إزالة الغمامة من على �أعينهن لريم�شن حلظات لتت�سع �أعينهن من
ص ع
ال ب�أ�س بها ف�أبدو يف غيبوبة م�ؤقتة ،ذكي �ألي�س كذلك؟!»
والتوزي
عينيك يا �صغريتي العزيزة ،لوال �أن هناك من دفع
ِ
ع
�أكرث لكانت الآن يف ج�سد �أحدهم».
ارتع�شت عيناها لي�ضحك با�ستمتاع �شاعرا بن�شوة وهو يلمح خوفهن ال�شهي وهو
إخوتك ،احلياة كانت
ألفك ال�سريع مع � ِ يقول«:لقد ا�ستمتعت مبعرفة � ِ
أخبارك وت� ِ
وردية �ألي�س كذلك؟! ح�س ّنا �س�أكون ُم�ستمت ًعا بت�أدية دور ال�شرير يف هذه الق�صة،
قليل».
�س�أدعكن تق�ضني القليل من الوقت لتُو ّدعن بع�ضكن ً
التفت على دخول �سمر حاملة حقيبة بيديها لتهز ر�أ�سها له يف �إ�شارة ب�أن كل
�شيء جاهز ،لي�صفق بيديه وهو ي�أخذ منها احلقيبة ثم حلظات وفتحها ليخرج
ثالث حقن و�ضع واحدة يف حقيبة و�أخرى يف حقيبة ،ناول رجاله احلقيبتني وهو
يقول لهم«:واحدة للميناء وواحدة للمطار».
التفت �إليهن وهو يقول«:ح�سنا حان الوقت ،هل انتهينت �أم ال؟! ح�سنا ُغفران
�صغريتك ملكان خا�ص بها»،
ِ ميكن ق�ضاء القليل من الوقت مع رحمة حتى �أنقل
انتف�ضت زمرد مكانها حتاول التحرر من قيدها وهي تراه يقرتب من �أمرية يفك
الكمامة على فمها ليوجه حديثه ل�سمر�«:أريدها جاهزة بعد ع�شر دقائق»� ،أ�شارت
313
وغفران حتاول ال�صراخ بقوة �سمر ب�أ�صابعها لرجلني تبعاها ليحمال ج�سد �أمريةُ ،
عاجزة عن احلركة بينما تنتف�ض زمرد مبكانها بقوة وهي تراهم ي�أخذونها حماولة
ال�صراخ هي الآخر ليخرج �صوتها مكتوما غري م�سموع.
�أغم�ضت ُغفران عينيها ت�شعر بالآالم يف روحها عاجزة عن فعل �أي �شيء يحمي
�صغريتها ،بينما �شعرت زمرد بنريان ت�سري بج�سدها وهي تتحرك مكانها حتى
وقعت بالكر�سي �أر�ضا ليقرتب منها ممدوح جال�سا على الأر�ض جانبها وهو ينظر
جل�سدها ليفك الكمامة عن فمها لي�سمعها ت�صرخ ب�أعلى �صوتها�«:أيها الوغد� ،أيها
احلقري ،اتركها ،اتركها �أيها القذر»
ع
لي�ضع كفه على فمها وهو يقرب �أنفا�سه منها لت�شمئز منه باعدة وجهها عنه وهي
الكت ريص
تتنف�س بقوة �صدرها يعلو ويهبط من الغ�ضب ،قائال بجنون«:يا �إلهي حافظي على
شر وال
�سمحت له بالعبور �ست�شعرين بلذة ال التي تعرتيك الآن ،هل ترين هذا الغ�ضب �إن
توزيع
ِ
مثيل لها ،اغ�ضبي وا�شعلي كل ما حولك ،هل ت�شعرين بتلك القوة؟! �أمم ال مثيل لها،
نعم نعم» �أغم�ض عينيه وهو يقرب �أذنه من فمها املُكمم بيديه لي�شعر ب�أنفا�سها
قائل بهم�س«:كنت الغا�ضبة تزيده �شهوة ليفتح عينيه وهو ينظر �إليه با�ستمتاع ً
بك ب�أ�سرع وقت ،فلن يريدك يرغب ِِ �أمتنى �أن �أحظى بالقليل من كل هذا ،لكن من
بوجهتك ،هل تتذكرين ذلك الرجلِ أخربك
�أ�ستطيع الت�أخر عليه �أكرث ،هذه املرة �س� ِ
�شهدك قبل �أن تف�سد ُغفران الأمر؟! توقفت عن احلركة وك�أنها
ِ الذي كاد �أن يتذوق
حقنت مبخدر هي الأخرى لتت�سع عيناها رعبا وهو ينظر لها بقوة وابت�سامته تت�سع
عال«:نعم يا منرتي هو نف�س ال�شخ�ص ف�أنا رمبا لن �آخذ مقابال بعد ليقول ب�صوت ٍ
�أن �أخذت احلكومة ح�صتي يوم �أن �أف�سدوا الأمر ،وهذا بالطبع لي�س خطئه ليعاود
أطلقت النار علي دون ذرة
أنك � ِ الدفع ولكن ت�ستطيعي القول �أن الأمر �شخ�صي مبا � ِ
ندم».
�أنهى جملته وهو ينظر �إليها بجمود وقد اختفى جنونه فج�أة لينه�ض من مكانه
وهو يعيد تكميم فمها ينادي على رجاله�«:أخربوا عبده �أنها جاهزة ،لن حتتاج
ل�شيء فهم يريدونها هكذا» هز الرجل ر�أ�سه له وهو يقرتب مع �صديقه لينبهه
314
ممدوح«:حاذر فهي غري ُمدرة ولكن �أنا على ثقة ب�أنها لن جتهدكم بعد �أن علمت
وجهتها» لينظر �إليها ممدوح ب�سخرية وهو يرى �ضياعها بو�ضوح.
التفت ل ُغفران وهو ينظر �إليها يرى الغ�ضب الكامن بعينيها� ،أح�ضر كر�سيا وجل�س
عليه �أمامها وهو ينظر ل�ساعته ليقول«:مل يتبق يل الكثري مبا �أن موعد طائرة ليلى
راودتك كث ًريا رمبا مل جتدي
ِ بعد �ساعة ،لكن لدينا حديثا مل ينته� ،أ�شك �أن �أ�سئلة
لك ففي اللحظة التي تنتهي فيها �إجابة وافية لها ،لكن �س�أحاول تف�سري القليل ِ
�صفقاتي لن �أبقى بهذا البلد ،لقد نفدت فر�صي هنا ،ورئي�سي ما عاد بحاجتي هنا،
ت�ستطيعني القول �إنني وفيت ديوين له» �أكمل وهو يبت�سم ب�سخرية«:ديون ك ّلفتني
ع
عمرا كامال يف �أكرث مكان كرهت الوجود فيه ،فكما تعلمني �أو رمبا ال تعلمني ،ال �أدري
ا ريص
أخربتك به» ،ارتع�شت عيناها وهي تعي مق�صده
ل
ِ أخربك به عمران �أو عما �
عما � ِ
ع
يحالفنا احلظ وقتها لأعود جمددًا لهنا لأرد ديني لهم و�إال املوت».
�أنا مل �أ�ستطع اال�ستمرار كما فعل عمران ،كانت لدي نزعة قاتلة جتاه �أي �شرطي
يحمل �شارة ،حتى لو كان �شرطي مرور هل تتخيلني؟! يف النهاية هم ال�سبب يف وفاة
�أبي ،و�أبي كان على النقي�ض منها� ،أبي كان �صارما قو ًيا ال يخ�شى �شيئا ،ويف نف�س
الوقت لديه حب غريب لوطنه وبلده ،حب جعلني �أكرهه بعد �أن اكت�شفت �أنه مل يقتل
�أبي �سوى هذا الوطن الذي �أحبه بقوة ،قتلوا �أبي وهو بينهم� ،أخذوه �أثناء حملة
تفتي�ش ل�سيارة يبدو �أنه كان بها �أحد املُهربني ،فقب�ضوا على من بال�سيارة جميعا،
�أ�سبوع واحد فقط لري�سلوا �أبي لنا جثة� ،أخربونا �أنه مات فج�أة ،يظنون �أننا جهلة
مبا يحدث داخل مراكز ال�شرطة ،مل �أ�ستطع البكاء ،رغم حبي ال�شديد له �إال �أنني
�شعرت بالغ�ضب منه ،مل �أكد �أمت عامي ال�ساد�س ع�شر لأفقد �أبي و�أجدين م�س�ؤوال
عن �أم و�أخ وذلك لأن �أبي �أحب وط ًنا قتله ،ح�سنا لن �أكذب ِ
عليك �أنا مل �أحتج لذريعة
لكي �أنت�سب لإحدى اجلماعات بليبيا ف�أنا وجدتها فر�صة منا�سبة بعد �أن خرج �أحد
الرجال الذين قب�ضوا عليهم بال�سيارة التي كان بها والدي ،خرج لي�أتي ملنزيل
ويبدو �أنه �س�أل عن �أهل الرجل الذي مات بال�سجن وعندما قابلني وجدين فر�صة
315
له وجلماعته ،جملتني منه على الغ�ضب املكتوم داخلي فلم �أحتج الكثري لأهرب من
لك ،رمبا
املنزل و�أرحل معه لبلدة �أخرى ،ح�سنا وقتي ال مي�سح يل ب�سرد تاريخي ِ
فعلت ما فعلته ُمرغ ًما ،ولكن لي�س معناه �أنني مل �أ�ستمتع ،خ�سارتي الوحيدة �أنني
بك ،ج�سدا وانتماء يل� ،صدقي �أو ال والدتك عليك كما رغبت ِ
مل �أ�ستطع احل�صول ِ
عنك و�سمحت يل لك فقط فهي منعتني ِ جتاهك ،ولكن كانت ِ
ِ كانت لديها ذرة �أمومة
بالتق ّرب من �أخواتك».
�ضحك ب�سخرية وهو يلمح مالحمها اجلامدة لينه�ض مكانه ويقرتب منها لينظر
ملالحمها�«:أنا �أعرف جيدا �أنك تعلمني احلقيقة� ،أنني ل�ست ِ
والدك� ،أخربيني ُغفران
والدك احلقيقي فماذا متنحني يل يف املقابل؟! ذلك أخربتك �أنني �أعرف من هو ِ
ِ �إن �
ريص ع
الكت
الكهف الذي مكثنا فيه ل�سنوات نخفي فيه �آثارنا �شهد على الكثري والكثري ،و�أنا كنت
ب
جمرد �شاهد وقتها وم�ستمع لذا ماذا متنحني يل مقابل تلك املعلومة؟!»
توزيع
كربياءك اللعينة لن تفاو�ضني �أبدا على �شيء ،ح�س ًنا �س�أكون
ِ يقول بتهكم�«:أعلم �أن
فطريقك �سيكون
ِ أنت الأخرى،
بوجهتك � ِ
ِ أخربك
معك يف �آخر لقاء لنا م ًعا و� ِ
كر ًميا ِ
الأطول ،من هنا للميناء ثم لقرب�ص ثم يتم نقلك يف يخت خا�ص �صاحبه يرغب
عنك الكثري والكثري ،لذا دفع مبل ًغا كب ًريا من � ِ
أجلك� ،إذا يف ب�ضاعة نادرة ،يعلم ِ
ا�ستمتعي بالرحلة»
التفت لريحل ثم توقف للحظات وهو يقول ب�سخرية«:رجلنا الذي �أوهمكم
مب�ساعدته �أخربين �أنك تنتظرين الفر�صة املنا�سبة للقب�ض على الزعيم� ،آه ُغفران
ثقتك يف الرجال اخلط�أ» ،ابت�سم لها بتهكم لريحل بعيدً ا
أنت �ساذجة لت�ضعي ِ كم � ِ
عن �أنظارها وهي تراه يلوح لها بيديها ،م�صدومة من كل ما �سمعته منه.
M
مقر الأمن الوطني
نزل اخلرب عليهم جميعا كال�صاعقة ،وعيد مت تهديدهم به ومت تنفيذه يف وقت
ق�صري.
316
خواء هذا كل ما �شعر به داخل قلبه يف جمل�سه ،خواء رهيب احتله وي�شعر ب�أنه
ميت منذ اللحظة التي قر�أ فيها ر�سالة زمرد الأخرية وهي تخربه �أنها ذاهبة ل�سايل
ال لأمرية� ،شعر بالقلق وقتها ليت�صل على رجل الأمن الذي يرافقها ليجد �شخ�صا
غريبا يخربه ب�ضرورة تواجده يف �أحد مراكز ال�شرطة ف�صاحب الهاتف قد مت �إطالق
دوما �أخافت قلبه ،لقدالنار عليه ،ال يدري كيف و�صل وقتها ليعلم باحلقيقة التي ً
و�صلوا �إليها ،لقد �أخذوها� ،أخذ دقائق وهو يحاول تخطي ال�صدمة والتفكري برتكيز
حتى و�صل لأول اخليط� -سايل -تلك احلقرية التي كذبت يف البداية بخ�صو�ص
توا�صلها مع زمرد ليك�شف �سجل املكاملات ك ّذبها ،بعد تهديد ووعيد ا�ستطاع �أن
ي�صل للحقيقة منها ،لقد �ساومت ممدوح يف زمرد ،اتفقت معه على �أن يح�صل
ص ع
على زمرد يف مقابل �إخالء الطريق �أمامها ،عرفت حقيقة �أن تلك الفتاة لي�ست
والتوزي ر
الذي تريده ويف النهاية حت�صل على يامن ،ابت�سم ب�سخرية وهو يقطع كل طموحها
ع
و�أحالمها وهو يلقي القب�ض عليها بتهمة امل�شاركة يف اختطاف امر�أة والتوا�صل مع
رجل ع�صابات كبري ،فلم ين�س نظرة ال�صدمة التي اعتلت وجهها و�صراخها املجنون
وهي غري ُم�صدقة فعلة يامن ،خا�صة بعد �أن �ألقى عليها ميني الطالق� ،أغم�ض
عينيه وهو يتذ ّكر كيف هرع يف كل اجتاه من �أجل الو�صول ملكان رقم التليفون الذي
كان يتوا�صل مع �سايل حتى ي�صل لنقطة ي�ستطيع االنطالق منها ،منظر الدماء
التي ملأت ال�سيارة التي كانت بها زمرد ال يفارق عقله ف�أخذ يبحث وهو يدعو اهلل
�أال ي�صيبها �أي �أذى ليفاجئه دخول �آ�سر عليه يخربه باختطاف �أخته هي الأخرى.
تنف�س بغ�ضب وهو يف ّكر �أن يفقدها مرتني �أمر يفوق حت ّمله ،ي�شعر هذه املرة ب�أن قلبه
توقف وانتهى الأمر.
�أخرجه من �أوجاعه �صوت �آ�سر القلق«:مل ي�أت �أحد حتى الآن� ،أنا ال �أ�ستطيع
فلم ال نذهب �إليه الآن؟»
االنتظار �أكرث من هذا ،جميعا نعلم من الفاعل َ
كاد �أن ميوت قل ًقا على �أخته وهو ال يعرف مبا تخطط له ال�شرطة ،خا�صة بعد
معرفته باختطاف ُغفران هي الأخرى بعد �أن �أتتها ر�سالة من عمران يطالبها
317
بر�ؤيته فانقب�ض قلبه ،وتلك الغ�صة التي ت�ؤمل قلبه ال تذهب وهو يتذ ّكر �آخر مرة
قابلها فيها ليلة وفاة والدة عمران ،ليذهب للعيادة يف اليوم التايل فيجدها فارغة
مع ر�سالة حتتوي على كلمة واحدة فقط�«:شك ًرا» ،راف�ضة بعدها �أي توا�صل بينه
وبينها وال يعرف �أين ت�سكن ،كاد �أن يجيب يامن عن ت�سا�ؤله حني ملح اللواء ح�سني
يدخل املكتبة وخلفه �سمري وعمران!
انتف�ض �آ�سر مكانه وهو يلمح عمران ليذهب �إليه يف حلظة ويقب�ض على مقدمة
قمي�صه ليهدر به بغ�ضب�«:أين هن؟! �أخربين الآن لقد وثقت بك� ،أيها الوغد هل
كنت على علم باختطافهن؟» بعد كل ما عرفه عن �أبعاد الق�ضية من يامن والنقيب
أي�ضا ف ّكر �أن عمران هو حلقة
�سامي و�أدرك ثقة ُغفران به رغم �شكها الدائم ،هو � ً
ريص ع
الكت
الو�صل بينهن وبني ممدوح.
ن
ً �أبعده �سامي
شر وال
هنا لي�ساعدنا يف و�ضع اخلطة لإيجادهن يف نف�س الوقت حتى ال نخ�سر �إحداهن،
توزيع
�أرجوك اهد�أ»
«�إن كان �أحد رجالكم فكيف مت خطف ُغفران دون �أن يفعل �شيئا ،بعد �أن �أر�سل
لها تلك الر�سالة ،هو يخدعكم»
حتدث اللواء ح�سني«:هو مل ير�سل تلك الر�سالة �آ�سر ،عمران كان يف مكان �آخر
وقتها� ،أنت بنف�سك قلت ُغفران تثق به»
تنف�س �آ�سر بغ�ضب وهو ينظر �إليه يحاول اكت�شاف �صدق كالمه بينما ع ّدل
عمران من هندامه يحارب �أمله من جملة �آ�سر ليوجه حديثه �إىل يامن«:هل كان
هناك �أي �شهود عن احلادثة �أو هل علمت �أي موا�صفات لرجال �أو حتى لل�سيارة التي
نقلت ابنة عمك؟!»
�أجابه يامن بعد حلظات«:لقد ر�أى �أحد ال�شهود �صادف وجوده وقت امل�شاجرة
التي حدثت رجلني يحمالن امر�أة يبدو �أنها مغ�شية عليها ولكن بعد ما �سمعته من
�آ�سر يبدو �أنها كانت خمدرة وركبوا جمي ًعا �سيارة جيب �سوداء وكانت مغطاة بزجاج
معتم ال يظهر ما بداخله»
318
جل�س عمران على �أحد الكرا�سي يلقي قنبلته�«:إذا ابنة عمك �سيتم بيعها على
وغفران �سيتم ترحيلها يف احدى احلاويات من ميناء العري�ش ،و�أختك �سيد احلدود ُ
�آ�سر �سيتم ترحيلها جوا عن طريق مطار العري�ش ،ولكن رمبا يبد�أ برتحيلها �أوال
قبلهما بب�ضع �ساعات لأنه جهز �أوراقها املزورة».
�صمت قاتل �ساد يف الغرفة ليجل�س �آ�سر على �أقرب كر�سي و�شحوب وجهه �أكرب
دليل على حالته ،بينما ت�ساءل �آ�سر برعب«:احلدود! حدودنا مع من؟!» لي�صدق
ظنونه وعمران يجيبه«:حدودنا مع �إ�سرائيل ،عملية البيع التي �سارت من قبل
مل تتم بعد»� ،س�أله �سامي«:كيف عرفت كل هذا عمران؟! ومن املحتمل �أن يغري
خمططه بعد ما عرفه عنك؟»
ر ش
والتوزي
رد دينه يل بهذه املعلومات و�أخرى يف غاية الأهمية� ،س�أقابله من �أجل احل�صول
ع
عليها»
متالك اللواء ح�سني نف�سه ليفكر ُم�سرعا«:عمران على حق ،فهذه هي اخلطة
البديلة التي ت�أكدنا منها من اجلا�سو�س الذي كان يعمل بيننا ل�صالح ممدوح،
جا�سو�س زرعه اللواء �سامح ملعرفة خطواتنا ،وهو من �أخربهم بكل ما نعرفه وبوجود
ُغفران باملقر وقت �إر�سالهم الر�سالة لها ،فكانت العربة بانتظارها يف اخلارج،
تتبعنا �أرقامها بعد �أن ر�أينها يف كامريات املراقبة املحيطة باملقر ولكننا وجدناها
فارغة على قارعة الطريق ،وهذا اجلا�سو�س مل يكن �سوى �سكرتري مكتبي الذي كنت
�أوكل له كل �أمور الق�ضية ،والآن بعد �أن اكت�شفناه وا�ستعملنا معه بع�ض طرقنا فقد
منح الكثري من الأخبار التي ت�أكدنا منها بكالم عمران ،فلدينا الآن خط بداية وهو
املزرعة بالعري�ش ،فهي حتما �ستكون نقطة انطالقه فما قلته الآن يا عمران قريب
من العري�ش احلدود وامليناء وحده املطار هو البعيد ولكن ممدوح لن يغامر بتغيري
طريقه املعتاد و�أخذ طريق خمتلف قد يواجهه فيه �صعوبات وخمططه القدمي الذي
�أخربتني به مل ي�شمل املزرعة».
319
ت�ساءل عمران با�ستغراب«:ولكن هل �سيجازف بالعودة للمزرعة وهو يعلم �أنها
مغلقة ب�سبب التحقيقات ،كما �أن هناك عنا�صر من ال�شرطة حتر�س املزرعة؟! وهو
طويل على حد علمي بتفكريه»
لن يبقى بها ً
�أجابه اللواء بت�أكيد«:نعم �سيفعل� ،إنه ماكر يختبئ يف املكان الوحيد الذي
لن نبحث عنه فيه ،كما �أن من يحر�س املكان هناك جمرد حار�سني �سهل الق�ضاء
عليهما ،ومب�ساعدة �سامح راغب فكل �شيء �سيكون مي�سرا له� ،سامي �أريد توفري
ات�صال �آمن بالهيئة العامة ملوانئ بور�سعيد لدينا رجل هناك ،ال �أريد �أي ات�صال
مبيناء العري�ش الآن حتى ال ي�شك ممدوح ب�شيء ،اطلب من رجلنا ح�صر ال�سفن
ع
التي �ستتحرك اليوم �أو غدا من امليناء لقرب�ص ،و�أو�صلني باللواء فريد� ،أريد جتهيز
الكت ريص
الرجال ليقوموا بعملهم �أ�سرع من ال�سابق على احلدود ،ولكن بهدوء تام ،وبالن�سبة
شر وال
الكامل به لأنها �ستكون جمازفة �أن ير�سلها لطائرة و�سط العديد من الأ�شخا�ص،
توزيع
لكن حتما هناك خطة بعقله».
قاطعه يامن يف هذه اللحظة�«:إال �إذا كانت هناك طائرات خا�صة �ستقلع
من املطار» ،نظر له اللواء بتفكري«:تق�صد »...قاطعه يامن«:نعم عملية البيع
وال�شراء �ستتم هنا يف م�صر ،والرتحيل �سيكون يف طائرة امل�شرتي اخلا�صة» ،هتف
عمران بتفكري«:يا �إلهي! �إحدى دول اخلليج ،كان هناك ورق مبكتب ممدوح يخ�ص
�أحد الأغنياء القائم بالإمارات».
حتدث اللواء ح�سني وهو يقول«:ح�س ًنا ،يف هذه احلالة يجب علينا االنطالق
جميعا ،ولكن ما اتفقنا عليه هنا وما قررناه لن يخرج خارج هذه الغرفة ،حتى
�أوامرنا �ستكون لرجالنا الذين نثق بهم لذلك طلبت منكم االجتماع مبكتب يامن ال
مكتبي».
نغز قلب �آ�سر رعب ٌ وهو يقول�«:س�أذهب معكم تلك الأحداث رمبا ت�سبب
نك�سة �أخرى لأمرية ،يجب �أن �أكون موجودًا» �أجابه �سامي«:ال ن�ستطيع �أن ُنع ّر�ض
العملية للخطر بوجودك» ،هتف �آ�سر بغ�ضب�«:إنها �أختي ،اللعنة» هتف اللواء
320
ح�سني«:ح�س ًنا لنهد�أ جميعا ،وجهة انطالقنا �ستكون املزرعة � ًأول ،وبعد ذلك
�سنقرر �إىل �أين يتجه كل فريق� ،أنا �س�أحتدث مع اللواء فريد حتى ير�سل دورية �سرية
لهناك ي�ستطلع بها ما يحدث وبعدها نقرر ،فقط لن�أمل جمي ًعا �أال يكون هناك حت ّرك
بعد لأي من بناتنا جلهتهن».
حتدث يامن بجمود�«:إن مل جند زمرد هناك �س�أرحل للحدود» ،نظر له اللواء
بتف ّهم ليتحدث عمران بعدها«:و�أنا �س�أ�سعى خلف ُغفران» ،ارتع�شت �شفتا �آ�سر
وهو ينظر لعمران الذي فهم نظراته و�أدرك معناها جيدً ا ،ليخربه بهدوء�«:أعدك
ب�أال ُي�صيبها �أي �أذى حتى لو كان الثمن حياتي» ،قال �آ�سر ب�أمل�«:أنا ال �أ�ستطيع �أن،
�أختي �ستكون يف مكان �آخر وهي»� ،أجابه عمران�«:أتف ّهم جيدا وهي � ً
ع
أي�ضا �ستتف ّهم
ع
بعد ،كما قال اللواء.
�ساعتان هي كل ما م�ضت ،وهم يعون �أن �أمنيتهم مل تتحقق ،و�صلت القوات
للمزرعة ليكت�شف خل ّوها من �أي �شخ�ص ،وات�صل اللواء فريد باللواء ح�سني ليخربه
بعدم وجود �أثر للفتيات وال ملمدوح ،لينقب�ض قلوبهم جمي ًعا وهم يعون �أن هذا معناه
�أن بالفعل بد�أت عمليات البيع ،بد�أوا يف توزيع املهام على بع�ضهم كما اتفقوا فتحرك
�آ�سر مع النقيب �سمري وبع�ض القوات ملطار العري�ش ،وتوا�صل اللواء فريد مع بع�ض
الأ�شخا�ص الذين لهم عالقة باحلدود ،خا�صة من فل�سطني ،حتى ي�ستطيعوا الو�صول
لزمرد مب�ساعدتهم ليامن بعد �أن �أخربه اللواء ح�سني �أن الأمر �سيتم بطريقة غري
قانونية ،لأنه حتى ي�سمح لهم بدخول احلدود ف�ست�ستغرق الأمور املكتبية والأوراق
الكثري من الوقت حتى ي�صلوا �إىل زمرد ،لذا �أوكل املهمة له وحده دون �أي قوات
م�ساعدة بينما انطلق عمران مع الرجل الذي �ساعده باملعلومات يف طريقهم للميناء
بعد �أن و�صلت املعلومات من رجل اللواء ح�سني هناك ب�أنه بالفعل توجد ثالث �سفن
حتمل حاويات يف طريقها لقرب�ص ،وميعاد انطالقها بعد منت�صف الليل ،فو�صلوا
لرقم احلاوية بعد جهد كبري ،ويف �سرية تامة ،ليخربهم اللواء ح�سني ب�أن رجال
ال�شرطة �سي�صلون على الفور بعد و�صوله.
321
احلدود
قابل يامن ال�شيخ عابد وابنه الذي توىل احلديث على الفور بلهجته
الفل�سطينية«:على مقربة من هنا كريم �شالوم ،وفيها �ستجد الرجل الذي تبحث
عنه دانييل �أوري ،وهو �ضابط باجلي�ش الإ�سرائيلي ،هناك منطقة عمله على احلدود
وثكنته ،مما �سمعناه عنه دائما ما يح�ضر ن�ساءه هناك ،وبعد �أن ينتهي منهن
مينحهن لرجاله»� ،أتبع حديثه ب�صورة لل�ضابط حتى ي�ستطيع يامن التعرف عليه.
�شحب وجه يامن وجهد ال�سفر والطريق تركوا �آثارهما على وجهه لريبت ال�شيخ
على كتفه وهو يقول«:ال تقلق يا بني ،لندعو �أال مي�سها هذا الوغد حتى ن�صل �إليها،
ع
هيا يا عامر �أو�صل املُق ّدم للمكان مع رجالك فالوقت مي�ضي م ّنا واحذر من الأفخاخ
الكت ريص
يا بني».
توزيع
لالنهيار ،تذكر منذ يومني فقط قد �أجربه ابنه عمه على االعرتاف بحبه لها ،بعد �أن
خدعه وهو يخربه بخطبتها ،ليت�أكد بعد �أن لكمه وت�شاجر معه �أنه بالفعل �سيخطب
لكن رحاب ال زمرد ،لينتزع منه اعرتا ًفا بحبه لها بعد �أن لكمه جمددًا ،وبعد يومني
فقط تن�سل من بني يديه ،قب�ض على كفيه بقوة مينع غ�ضبه وهو ي�سري مع عامر
و�صلوا بعد م�سافة لي�ست ببعيدة كالتي ق�ضاها يامن يف طريقه من املزرعة للحدود،
حت ّدث �إليه عامر بهم�س وهم يختبئون خلف �أحد ال�صناديق الكبرية«:ن�ستطيع �أنا
ورجايل �أن ن�شتت انتباههم من اجلهة ال�شرقية ،ولكن لي�س لوقت طويل ،هناك يف
ذلك املبنى الأزرق اللون يق�ضي دانييل وقته ،املبنى لي�س عليه حرا�سة قم بفتح ممر
لك بني الأ�سالك املحيطة بالثكنة و�ستجد املبنى على بعد �أمتار منك ،ابقَ دائما
منحني اجل�سد حتى ال يلمحك �أحد من الك�شافة ،عندما ت�سمع �أ�صوات �إطالق النار
حترك على الفور ،ولكن حني تنتهي الأ�صوات اعلم جيدً ا �أنه تبقى لك القليل فقط»
هز يامن ر�أ�سه وهو يت�أمل حميطه بجمود ويكت�شف طريقه الذي و�صفه له عامر،
بينما قلبه ينتف�ض برعب وهو يعي �أنه على بعد خطوات منها ،ووحده اهلل يعلم
كيف حالها الآن� ،أخرجه من �أفكاره ربتة على كتف عامر وهو يقول له بينما ي�ستعد
322
لالنطالق مع رجاله«:على بركة اهلل� ،أدعو من اهلل �أن يو�صلك �ساملًا لها ويبقيها
�ساملة لك».
حتركوا جمي ًعا من �أماكنهم بهدوء �شديد وعندما �سمع يامن �أ�صوات �إطالق النار
وتبادل اجلنود الإ�سرائيليون النار معهم قام بقطع ال�سلك ال�شائك ُم�سرعا لريك�ض
ُمنحنيا كما �أخربه عامر ،حتى و�صل �إىل املبنى املن�شود ،كاد �أن يدخل من باب
املبنى حني ملح �أحدهم ينزل الدرج فاختفى خلف �إحدى ال�شجريات املوجود بجانب
املبنى ،ملح بع�ض الرجال يرك�ضون ُم�سرعني باجتاه �إطالق النار مع �أ�سلحتهم،
فانتهز الفر�صة ودخل املبنى ،ملح بابا يفتح على ممر ،فدخله بحذر ،ليجد �أكرث
من غرفة على ميينه وي�ساره� ،أن�صت ب�سمعه لع ّله يلتقط ب�أذنيه �أي �شيء حتى �سمع
ع
كان ها ًّما بالرحيل حني �سمع �أ�صوات النار ،عقد دانييل حاجبيه با�ستغراب ليتحول
لغ�ضب وهو يدرك هيئة يامن الغريبة عن رجاله ،وقبل �أن يقوم يامن ب�أي حركة
قب�ض دانييل على عنق يامن بقوة بينما كان يهدر بغ�ضب بكالم غري مفهوم ليامن،
حاول يامن �أن يحرر رقبته من قب�ضة دانييل بقوة بينما فرق القوة والطول بينه
وبني دانييل وا�ضحة للعيان� ،شعر يامن باالختناق بينما يف حلظة �شعر بج�سده يطري
لي�صطدم بقوة يف احلائط خلفه ،حاول يامن التن ّف�س بينما ج�سده يئن من ال�ضربة
ليجد يف اللحظة التالية قدم دانييل يف جانبه ويف بطنه ويف وجهه� ،شعر ك�أنه �أمام
مطرقة ال تتوقف عن ال�ضرب.
«يامن» �صرخة انت�شلته من دوامة �آالمه ليلمحها �أخريا واقفة ب�ضعف ت�ستند
على باب الغرفة بينما وجهها ممتلئ بالكدمات و�شعرها مبعرث حول ر�أ�سها ،ليتوقف
قلبه يف اللحظة التي ملحها ت�ضم طرف بلوزتها من الأمام بيديها.
ابتعد دانييل عنه وهو يلمح �صراخا خلفه ،ليقرتب يف حلظة من زمرد وي�صفعها
بقوة جعلتها ت�سقط على الأر�ض دون �أي جمهود.
323
�شعر يامن بالغ�ضب ينت�شر يف ج�سده ،فقاوم �آالمه ونه�ض ببطء ُم�س ًكا ب�أحد
الكرا�سي احلديدية التي ملحها يف املمر بجانبه ،م�ست ًغال ان�شغال دانييل لينق�ض يف
الثانية التالية على ظهره �ضار ًبا �إياه بالكر�سي.
�سقط دانييل على الأر�ض ُمت�أوهً ا وهو ي�ضع كفه على خلف ر�أ�سه لي�شعر بالدماء،
هز ر�أ�سه ي�ستعيد تركيزه ،ولكن يامن مل يتمهل لينق�ض ُم�سرعا عليه ،رادا ال�ضربات
له بقوة وزمرد تراجعت زاحفة للخلف بقوة تراقب املعركة الطاحنة �أمامها برعب
حتى الآن ال ت�صدق �أن يامن هنا.
ملحت دانييل وهو يدفع يامن بقوة بج�سده ،فرتاجع يامن عنه للحظات كامتا �أمله
ع
ليجد دانييل يف اللحظة التالية ُم�س ًكا ب�شعر زمرد ،وي�سحبها على الأر�ض ليجعلها
الكت ريص
تقف لريفع �سالحه يف اللحظة التالية جتاه يامن ،وهو يقرب زمرد منه ُمقبال عنقها
شر وال
فعلته هذه جمرد تف�سري ملا يقوله احلقري ،مل ي�ستطع يامن ال�صمود وهو يرى دانييل
توزيع
يتل ّم�سها بتلك الطريقة ليقرتب منه يف اللحظة التي ع�ضت فيها زمرد كفه املُم�سك
بال�سالح بقوة لي�صرخ دانييل من فعلتها ،وهي ال تتنازل عن االبتعاد عنه ،ت�شعر ب�أنها
�إن تركت �أ�سنانها كفه �سيموت يامن ف�أغم�ضت عينيها وهي ت�ست�شعر دماءه بفمها
لت�سمع �صوت ر�صا�صة� ،أوقفت ال�صراخ لتجد ج�سد دانييل يقع للخلف وهي تقع
معه ،اعتدلت بعيدة عنه وهي تنظر له برعب لتجد حفرة يف �أعلي ر�أ�سه ،فرتاجعت
حتى الت�صقت باحلائط تنظر برعب له ثم �صرخت بقوة وهي تلمح �أحدهم مي�سك
بذراعها ،فلم يكن �سوى يامن الذي جذبها بقوة حل�ضنه يتمتم بهم�س«:لقد انتهى
وجدتك ،اهدئي».
ِ الأمر ،لقد
حلظات وهي ت�ستوعب هم�سه لرتفع ذراعيها يف اللحظة التالية لتحت�ضن يامن
بقوة وهي تهتف به�ستريية«:مل ي�ستطع ،مل �أ�سمح له ب�أن يح�صل على ما يريده ،لقد
�أتيت ،لقد �أتيت» ،لت�شهق بعدها ببكاء مرير ،وهو يغم�ض عينيه ُمغال ًبا دمعه ليبتعد
قائل«:هيا يجب �أن نرحل الآن» انطلق بها باجتاه عنها وهو ينه�ض ليجذبها خلفه ً
املمر ليجدها جتذب ذراعها من كفه وهي تتلم�س ر�أ�سها«:غطاء ر�أ�سي ،حجابي،
لقد انتزعه مني ،ال �أريد �أن �أرحل دون غطاء».
324
دمعت عني يامن وهو ينظر لها ب�أمل يف اللحظة التي ملحت يديه تفك �أزرار
قمي�صه بارتعا�ش لتجده يف اللحظة التالية يغطي ر�أ�سها بقمي�صه ،لتتمهل يداه على
جانب ر�أ�سها وهو ينظر لها هام�سا«:لرنحل زمردتي الغالية» ،قب�ض على كفها
بقوة وهو ي�سحبها خلف ي�شعر بقلبه ينتف�ض خوفا وهو يلمح توقف �أ�صوات النار
بينما �صوت �صفارات الإنذار يف الثكنة تدوي بعنف.
M
امليناء
�أ�صوات مكتومة ت�صلها من كل جانب� ،ساكنة مكانها ال تقوى على احلراك،
ص ع
دموعها تهطل منها بغزارة وهي ال ترى �شي ًئا حولها ،فقط ظالم من كل جانب،
والتوزي
يف حمايتهما ،بعد كل ما فعلته وبعد كل تلك ال�سنوات احلقري ممدوح نفذ خمططه
ع
لهن ،ذلك العجز الذي يحيطها تكرهه� ،أن تعي ب�أنها غري قادرة حتى على الدفاع
نف�سا ً
طويل حتاول تهدئة نف�سها ،كان دائما لديها عن نف�سها �أمل قلبها �أكرث� ،أخذت ً
خطة بديلة �إال �أنها مل تفكر �أن ممدوح قد �أخذ احتياطاته يف كل �شيء ،ك�أنه يعي
تفكريها جيدً ا ،ازداد تنف�سها من الغ�ضب الذي يعرتيها ،وك�أن العتمة التي بها
كاف للت�سبب يف اختناقها ،حاولت تهدئة �أنفا�سها ووجه
والهواء املكتوم حولها غري ٍ
طاملا زار �أحالمها م�ؤخ ًرا يبت�سم لها ك�أنه يخربها �أن كل �شيء على ما يرام ،هم�ست
داخلها والغمامة التي تغطي فمها تكتم هم�ستها�«:آه �آ�سر كل �شيء لن يكون على ما
يرام ،لقد ف�شلت ،لقد انتهى كل �شيء».
و�صل لأ�سماعها �صوت ت�أوهات وحركة خارج احلاوية التي حتتويها على �إحدى
ال�سفن� ،أن�صتت ال�سمع لي�أتي �صوت �ضربات على باب احلاوية ك�أن �أحدهم يحاول
فتح القفل!
�أخذت ت�صدر �أ�صواتًا مكتومة عاجزة عن احلركة ب�سبب املخدر الذي �أعطاه
لها ممدوح جمددًا ،حلظات وملحت الأ�صوات تتوقف فج�أة لتجد الباب يفتح
325
ببطء و�أحدهم يدخل مب�صباح يدوي ي�ضيء النور من حولها ،حاولت التحرك،
ال�صراخ ولكن ال �شيء م�سموعا حتى �سمعت �صوتا مل تظن للحظة �أنها �ست�سمعه
أنت هنا».
جمددًاُ «:غفران � ِ
بكت ب�صمت ودموعها تنهمر من عينيها لت�سقط بجانب ر�أ�سها وهي نائمة على
الأر�ض خلف �أحد ال�صناديق الكبرية ،ت�شعر بالعجز لعدم قدرتها حتى على الرد
على عمران وال�صراخ ب�أنها هنا.
ملحت �أ�صوات �أقدام تقرتب منها تزيح ال�صناديق من مكانها� ،صندوق وراء �آخر
وهو يطلب امل�ساعدة من �آخر معه حتى وجدها!
ص ع
يف �أق�سى خياالته مل يكن يظن �أنه �سرياها يف حالتها هذا ،رقدتها على الأر�ض
الكت ري
ُمكممة وج�سدها ب�أكمله ملفوف بحبال عري�ضة وغطاء �أ�سود يغطيها ،يبدو �أنه
ريص ع
ليلتفت هو و�صديقه ليلمح رجلني �أمامه يعرفهما جيدً ا ،وقف الأربعة مت�أهبني
والتوزي ر
يف اخلطة �أمل يخربكم ممدوح؟! لقد �أمرين بالقدوم لإح�ضارها ،عملية ال�شراء
ع
�ستتم على اليخت اخلا�ص باملُ�شرتي».
دعت ُغفران داخله �أن ي�صدقوا كالمه ،ومياطل باحلديث معهم وهي ت�شعر
ب�آثار الرتياق الذي �أعطاه لها عمران ي�أتي مبفعوله.
�ضحك الرجل ب�سخرية وهو يقول«:غريب عمران! فالرئي�س مل يبلغنا ب�شيء
ونحن امل�س�ؤوالن عن تو�صيلها ،وقد ح ّذرنا جيدً ا من �أي حماوالت لإف�شال املهمة
ومنك خا�صة».
�صمت �ساد للحظات لينادي عمران على �صديقه يف حلظة ليبد�أ �إطالق النار يف
اللحظات التالية ،رك�ض عمران ً
حامل ُغفران �إىل ممر جانبي ليجل�سها على الأر�ض
م�سد�سا«:هذا م�سد�س بجانبك ،يف حالة عدم ً وينظر لها باطمئنان وهو يعطيها
منك ،لن �أت�أخر».
عودتي �أطلقي النار على الفور على �أي �شخ�ص يقرتب ِ
«عمران» هم�سة خرجت منها ليبت�سم لها وا�ضعا كفيه على وجنتيها ودون �أي
كالم حترك على الفور ب�سالحه الإ�ضايف ،و�صلت لأ�سماعها طلقات نريان و�أ�صوات
327
�إنذار قد انطلقت على ال�سفينة ،نظرت للم�سد�س بجانبها وهي حتاول جاهدة
حتريك يديها ت�شعر ب�أن دماءها التي ت�سري يف عروقها ثقل جاثم يف ج�سدها،
بعد حلظات و�صلت بيديها للم�سد�س وحاولت ال�ضغط ب�أ�صابعها عليه ع ّلها ت�ستطيع
حمله لت�شعر ببدء حركة ج�سدها ،حتاملت على نف�سها لتجل�س ُم�ستندة على كفيها
و�ساقيها لتتنف�س ب�صعوبة وهي ت�شعر ب�أنها قامت مبجهود كبري ،رفعت ذراعها ت�ستند
على احلاوية بجوارها وهي تنظر حولها يف انتظار �أي �شخ�ص وهي ت�شعر بالرعب
بعد �أن �ساد ال�صمت حولها� ،أخ ًريا ا�ستندت بج�سدها على احلاوية تتنف�س بقوة
وبد�أت ال�سري باجتاه نهاية املمر ،رفعت امل�سد�س يف اللحظة التي دخل فيها رجل من
بدل من �صدره ُم�سقطة �سالحه� ،س ّبتالرجال املمر و�أطلقت النار لت�صيب ذراعيه ً
ص ع
ب�شر وهو يقرتب
وهي ت�ست�شعر عدم قدرتها على الت�صويب جيدً ا� ،ضحك الرجل لها ٍ
الكت ري
قائل«:مل ي�شرت رئي�سي املخدر ب�آالف الدوالرات هبا ًء» ،رفعت �سالحها منها ً
توزيع
درجا بدمائه ،ت�أوهت
النار ُم�صيبة ر�أ�سه هذه املرة لي�سقط بعد حلظة على الأر�ض ُم ً
ب�أمل وال�سالح ي�سقط منها ،ت�شعر بنار يف كفها ك�أنها ا�ستعادت القدرة بالتحكم يف
�أع�صابها ب�سرعة عن املفرت�ض به� ،شهقت بقوة لتكمل �سريها �إىل نهاية املمر داعية
اهلل �أن يكون عمران ورجله قد قتال الرجل الآخر.
جتمدت مكانها وهي ترى �أمامها ثالثة �أج�ساد على الأر�ض ُمدرجني بدمائهم،
ارتع�شت �شفتاها وات�سعت عيناها رع ًبا وهي تنظر جل�سد واحد فقط منهم ،انتف�ضت
مكانها و�أ�سرعت باجتاه ج�سد عمران لتجل�س بجانبه وهي تقرب كفيها منه لتبعدهما
فج�أة وهي ت�شهق بقوة تلمح الدماء التي غطت �صدره و�آثار طلقتني ينهمر منهما
الدماء بغزارة ،قربت �أ�صبعها من وريد عنقه وحني ملحت نب�ض �ضعيف ،زفرت بقوة
وهي ترفع ر�أ�سه من على الأر�ض ،ت�ضرب بكفها على وجنتيه منادية �إياه«:عمران
�أرجوك افتح عينيك ،عمران عمران ال ترتكني �أرجوك� ،أتو�سل �إليك �أتو�سل �إليك».
حلظات وملحته يرم�ش بعينيه ليفتحهما ينظر �إليها وهو ي�شعر بالأمل يف ج�سده
ب�أكمله ،احت�ضنت ر�أ�سه جل�سدها وهي تهم�س باحلمد هلل ،ثم �أبعدته عنها وهي تنظر
له حماولة طم�أنته�«:ستكون بخري ،هل معك هاتف �أت�صل ب »...وقبل �أن تكمل
328
جملتها و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات �أقدام تقرتب منها بقوة ،ف�أ�سندت ج�سده بذراعها
لتحمل امل�سد�س بالذراع الآخر ُم�صوبة �إياه جتاه الأ�صوات وهي ملحت عنا�صر ال�شرطة
حولها ورئي�سهم يطمئنها �أن كل �شيء على ما يرام ،فهتفت بقوة«:اطلبوا �إ�سعاف
أر�ضا والتفتت لعمران ب�سرعة» لينفذ ال�شرطي طلبها على الفور� ،ألقت ال�سالح � ً
فوجدته ينظر �إليه ودمعة من عينيه تفر من مرقدها ،فهم�ست له جمددًا«:كل �شيء
على ما يرام� ،ست�صل الإ�سعاف فو ًرا و�سيتم نقلك للم�شفى»
تقطع«:ال تكذبي �أبدا على املري�ض �أيتها ابت�سم لها ب�ضعف وهو يقول ب�صوت ُم ّ
الطبيبة»
ع
هتفت ب�ضعف بعد �أن ر�أته ي�سعل بقوة«:عمران» ،هد�أ �سعاله وهو ينظر �إليها
ك
إليك و�أنا �أعي جيدً ا �أنني لن �أتوقف رافعا كفيه يلم�س وجنتيها ً
ن
حتى � ِ
ر ش
والتوزي
ت�ساقطت دموعها ُمتزجة بدمائه وهي ت�سمعه ي�س�ألها«:هل تظني ب�أن من
ع
معك لو مل ُي�صبني الر�صا�ص؟!» �أجابته جتاهك فر�صة ِ
ِ املمكن �أن يكون مل�شاعري
ب�صدق�«:أمتنى لو كان يل قلب نظيف يحوي حبك هذا� ،أمتنى لو �أنني التقيت ِ
بك
يف حياة �أخرى رمبا وقتها كنت ح�صلت على قلبي من �أول جملة -مرحبا -تلقيها
على م�سامعي».
أمنيتك»� ،سعل بقوة وهي تهتف ابت�سم لها بحب وهو يجيبها هام�سا«:تكفيني � ِ
ا�سمه برعب الحمة دماء تخرج من فمه ف�صرخت حولها تطلب الإ�سعاف جمددًا،
نظر �إليها ونظره بد�أ يف الت�شو�ش وهو يرى وجهها اجلميل قلقا جاذبا انتباهها
وهو يقول ب�ضعف«:ا�سمعيني ُغفران جيدً ا ،يف غرفة مكتب ممدوح باملزرعة
هناك �صندوق ُمل�صق ب�أ�سفل مكتبه �ستجدين فال�شة بها معلومات عن كل �شيء،
�سي�ساعدك لقد �أخربته
ِ هناك طرف �آخر بالوزارة بوزارة اخلارجية اللواء ح�سني
مب�ساعدة �أحد الرجال يل».
هزت ر�أ�سها وهي تقول«:ح�سنا توقف عن الكالم الآن ،اللعنة �أين هي الإ�سعاف»
كنت ال�شيء
�شخ�صا غال ًيا بقلبها ولطاملا ِ
ً ابت�سم لها وهو يقول بحب«:لطاملا ِ
كنت
الوحيد اجلميل بحياتي».
329
بكت وهي تعي مق�صده فهو دائما ما كان هناك بجانبها منذ �أن ُولدت يف ذلك
الكهف البغي�ض ،طاملا كان يعاملها بلطف ويحميها من كل �سوء ،حتى انتقلوا جميعا
لذلك البيت فتغري كل �شيء ،بغ�ضها له كان من بغ�ضها ملمدوح ،ولكن وقتها هي
مل تفهم �أفعاله ومل ُت�ص ّدق املغزى منها ،حتى قابلت والدته احلبيبة و�أحبتها من
قلبها قبل حتى �أن تعرف �أنه ابنها ،هي تعي كالمه جيدا� ،سمعته يقول ب�صوت
�ضعيف�«:إنها تنتظرين ُغفران ،متد يدها يل و�أنا ال �أقوى على رف�ض ندائها ،ال
أنت كنتما.»...
�أقوى على احلياة بدونها ُغفران هي و� ِ
وقبل �أن يكمل جملته ملحت عينيه ترجتفان ليتوقف كل �شيء حولها وهي ترى
روحه تخرج من ج�سده ك�أنه كان يف انتظار ندائها لريحل� ،شهقت بقوة وهي جتذب
ريص ع
الكت
ر�أ�سه حل�ضنها ،ارتع�شت �شفتاها ودموعها تنهمر بغزارة لت�صرخ ب�صوت جريح
ب
با�سمه وهي تعي �أن كل �شيء ،كل �شيء ح ًقا انتهى.
330
�أنا �أقاتل لذا �أبدو �ضعي ًفا والنا�س ال ُيريدون النظر يل ،النا�س
ال ُيريدون النظر لل�ضعيف لأنه ُيذ ّكرهم ب�ضعفهم هم ولكن
ال�شيء الذي ال يفهمونه �أنه عندما يقاتل �شخ�ص ما فهذا يعني
�أنه قوي لأن ال�ضعيف ال يقاتل فقط ميوت ،لذلك �أ ًيا كان ما
تظنينه عني �أنا حي� ..أنا حي.
#Horace_and_pete
الف�صل الثامن ع�رش
النزال الأخري
«لقد كان ُمتبئا يف قبو باملزرعة ،مل تره قواتنا يف البحث الأويل باملنطقة،
ع
عندما عدنا للبحث جمددًا ملحه رجلنا يجهز حقائبه يف �سيارته ،يبدو �أنه كان
الكت ريص
ُم�ستعدا للهرب مع امر�أة �أخرى ،نحن مل نخرج به من املنزل كما �أمرنا اللواء ح�سني،
توزيع
كلمات و�صلت لأ�سماعها من هاتف ال�ضابط الذي �أر�سله اللواء لنجدتها ،كلمات
خزّنتها داخلها جيدا وهي واقفة ت�ستند بكفها على عربة الإ�سعاف التي حتمل ج�سد
عمران ،الغ�ضب بداخلها قادر على �إحراق ما حولها ،ذلك الأمل طغى على كل ما
�شعرت به من قبله ،اطمئنانها على زمرد و�أمرية مل يقم �إال ب�إ�شعال نريان الغ�ضب
الكامنة بداخلها �أكرث لت�أخذ تلك ال�سيارة التي تركها ال�شرطي وترحل بكل �أ�شباحها
لوجهتها الأخرية.
M
مطار العري�ش
هي مل تفكر �أنها �شجاعة كما �أخربها �آ�سر ،كل ما تفكر فيه الآن ُغفران ،هي
تفهمها جيدً ا وتعي �أنها لن تهد�أ حتى ت�شوه الباقي من روحها بقتلها للحقري ممدوح،
كان يجب �أن ُتغامر وتعود جمددًا للمزرعة ،لكنها غري ُمرغمة الآن بل ب�إرادتها
احلرة� ،إ�صابة النقيب �سمري هي ما منعت �آ�سر من القدوم معها مما زاد من غ�ضبه،
تعلم �أنه قام بالكثري من �أجلها ويكفيها �أنه كاد يخ�سر حياته ليفديه النقيب �سمري
332
بدل منه ،لذا ا�ضطر للذهاب معه لأقرب م�شفى مبا �أنه الطبيب بتلقي الر�صا�صتني ً
الوحيد املوجود وقتها للقيام بالإ�سعافات الالزمة حتى ي�صلوا للم�شفى ،ال�صراع
الذي ر�أته يف عني �أخيها �آمل قلبها وهو يخربها �أنه للمرة الثانية تخاذل عن م�ساعدة
ُغفران باختياره لإنقاذها هي �أوال ثم �إنقاذ النقيب �سمري ثان ًيا ،هي تعلم ولرمبا هذا
ال�سبب الذي �أجربه على تنفيذ رجائها وتو�سالتها بالعودة للمزرعة من �أجل ُغفران.
�آ�سر �أخوها احلنون الذي ال ت�ص ّدق حتى الآن �أنه ح ًقا �أنقذها ،بعد �أن انتهى
ممدوح من �صفقته اخل�سيئة مع هذا العجوز الوغد املُت�صابي ،تركها ورحل ،تركها
تعاين من مل�سات الوغد طوال الطريق لطائرته اخلا�صة ،تركها عاجزة واملخدر
الذي �أعطاه لها ممدوح مينعها من املقاومة ،من خد�ش وته�شيم وجهه لتبكي بعجز
ريص ع
وهي تلمح رجاله يحملونها للطائرة� ،شعرت ب�أنها ماتت يف تلك اللحظة وهي تعي �أنه
والتوزي
بج�سدها وهي يف املقعد بالطائرة الهليكوبرت التي تو�صلها للمزرعة مع بع�ض رجال
ع
ال�شرطة بعد �أن �أخذت الرتياق املُ�ضاد للمخدر بعد �أن وجدوه يف حقيبة مع �أفراد
الع�صابة وقد �أ�صرت على العودة يف حماولة منها ملنع ُغفران من تنفيذ تهديدها بعد
�أن �أخربهم اللواء ح�سني بهروبها من رجاله بامليناء.
M
املزرعة
و�صلت ال�سيارة �أمام املزرعة لي�ستقبلهم بع�ض رجال ال�شرطة التي حتيط باملكان،
نزل يامن من ال�سيارة بعد �أن �أبلغ الرجال بهويته ،التفت لزمرد وهو ي�ساعدها للنزول
ليجذب انتباهه حديث �أحد الرجال الذي كان معه بال�سيارة مع عامر ،ليلتفت لهما
قائل�«:أح�سنت �أيها البطل ،لقد انت�شر
فقابله عامر برتحاب وهو ي�ضم جل�سده ً
خرب موت ذلك احلقري» انتبه يامن لذراع عامر املُ�صاب لي�س�أله بقلق عن حالته
ليجيبه ب�شجاعة«:ال تقلق جمرد جرح ب�سيط بجوار �إخوته� ،أج�سادنا حتمل �آثارا
نفتخر بوجودها ،رمبا اهلل مل يكتب يل ال�شهادة ك�إخوتي ولكنني يف انتظارها»
333
ربت يامن على كتفه ال�سليم وهو يقول«:كما قلتها لك �ساب ًقا لقد كان ال�شرف
يل بالقتال بجانبك» ابت�سم له عامر وهو يقول�«:س�أرحل �أنا ورجايل الآن ،فالأمور
يف قمة الت�أهب ببلدنا ،فما حدث الليلة بالثكنة لن مير مرور الكرام ،ا�ستودعك
اهلل» ،ودعه يامن بعد �أن �شكره للمرة الثانية ليلتفت بعينيه بح ًثا عن زمرد ليجدها
ت�ستند على ال�سيارة واقفة مكانها ،تنظر للمكان حولها ب�شحوب ،اقرتب منها وهو
يف�سر �شحوبها باخلط�أ«:ال تقلقي لن منكث كث ًريا هنا� ،س�أطلب من اللواء فريد �أن
ّ
ير�سل لنا �سيارة تقلنا على الفور».
ابتلعت ريقها وهي تهم�س بخوف له«:يامن �إنه هنا ،لقد �ألقوا القب�ض عليه
ع
واحتجزوه بالداخل� ،سمعت �أحد اجلنود يقول ذلك».
الكت ريص
نظر لها يحاول �أن ي�ستوعب حديثها لينقل �أنظاره للمزرعة وهو يحاول �أن يحتوي
توزيع
وكل تفكريه كان ُم ّن�ص ًبا على �إنقاذها فقط ،ذلك املكان القامت الذي ينظر �إليه
عاما ،ذلك املكان الذي يحيطه �سواد مبا يحويه الآن كان م�سك ًنا لها لثمانية ع�شر ً
من �أرواح قد مت �أخذها غ�ص ًبا من �أج�ساد �أ�صحابها ،ذلك املكان الآن يقبع داخله
الرجل الذي كان ال�سبب يف كل ما �أ�صاب زمردته ،التفت �إليها وهو يجذبها لتدخل
ال�سيارة وهو يخربها �أن تبقى حتى يعود ،نه�ض من مكانه فجذبت كفه بكفها وهي
تقب�ض عليه بقوة لتقول ب�أمل«:ال تذهب �إليه ،دعنا نرحل ،دعنا نذهب �أرجوك»،
حماول عدم النظر لدموع عينيها ً جل�س جمددًا �أمامها وهو مي�سك كفيها بحنان
ليقول بهدوءِ «:
عليك �أن تفهميني زمرد� ،أنا لن �أ�ستطيع اال�ستمرار �إن مل �أواجهه ،ال
لعينيك دون ال�شعور بالذنب ،دعيني �أواجهه ولو ملرة لع ّل ذلك الأمل
ِ �أ�ستطيع �أن �أنظر
يخبو قليال» هم�ست له ببكاء�«:أنا مل �أطالبك ب�شيء ولن �أطالبك �أبدً ا ب�أي �شيء،
ما حدث مل يكن ذنبك يامن� ،أنا مل �أفكر ولو للحظة �أنه ذنبك» ملحته ي�أخذ ً
نف�سا
طويل ليقول لها ب�أمل«:و�أنا مل �أتوقف للحظة يف حياتي عن اعتباره ذنبي الوحيد ً
أرجوك ال
لك و� ِ يف احلياة زمرد فدعيني �أك ّفر عنه �أتو�سل � ِ
إليك� ،س�أطلب امل�ساعدة ِ
تخرجي من ال�سيارة».
334
ترك كفها لينه�ض مبتعدً ا عنها بينما مل يتوقف بكا�ؤها وهي تلمحه يخطو
بخطواته بعيدً ا عنها.
M
بعد ن�صف �ساعة
�أوقفت ال�سيارة التي �أخذتها �أمام املزرعة وهي تنزل منها وهالة الغ�ضب حتيط
بها من كل جانب ،منعها رجالن من ال�شرطة من الدخول لتخربهم كاذبة �أنها هنا
ب�أوامر من اللواء ح�سني ،ف�سمحا لها بالدخول� ،أوقفها نداء زمرد ،فالتفتت غري
ع
ُم�صدقة وجودها هنا ،اقرتبت منها لتحت�ضنها بقوة وهي تهتف«:زمرد � ِ
ص
أنت بخري،
والتوزي
أي�ضا،
ع
أنت و�أمرية» ،ابتعدت ُغفران ينقذك � ِ
ِ احلمد هلل احلمد هلل لقد دعوت اهلل كث ًريا �أن
عنها وهي حتيط كفيها بوجنتيها لتقول لها بحب«:لقد �أنقذ ِتنا �إذا عزيزتي� ،أمرية
أي�ضا بخري لقد �أنقذها �أخوها �آ�سر» ملحت زمرد حزنا بعني ُغفران لت�سمعها � ً
تقول�«:آ�سفة لأنني مل �أ�ستطع م�ساعدتكما� ،آ�سفة ب�شدة» ،م�سحت زمرد دموعها
وهي تقول بحنان«:لقد انتهى الأمر حبيبتي ،ال داعي لالعتذار فلقد نال م ّنا ذلك
الوغد ب�أ�سو�أ الطرق» ،تنف�ست ُغفران بغ�ضب وهي تقول«:لن متر الليلة عليه
ب�سهولة جزا ًء ملا فعله بنا ،فاليوم �سيكون ح�سابه النهائي معنا».
كادت زمرد �أن جتيبها ب�شيء حني ملحوا طائرة هليكوبرت تابعة لقوات الأمن
تهبط يف مكان قريب من املزرعة ،حلظات وملحتا �أمرية ترك�ض باجتاههما لتتل ّقفها
قليل عن ُغفران لتلتفت ُغفران بني �أح�ضانها ،وهي تزيد من �ضمها لها ،ابتعدت ً
لزمرد حمت�ضنة �إياها هي الأخرى ،فجلبت الدموع لأعينهن وهي تقول«:لقد كنت
خائفة من �أال �أراكما جمددًا� ،أنتما بخري».
335
ابت�سمت زمرد لها بحنان وهي تقول«:نحن بخري يا �صغريتنا» ،ربتت ُغفران
على ر�أ�سها بحنان وهي تقولَ «:مل جئت لهنا �أمرية؟! َمل مل تعودي ملديرية الأمن
فهناك �أكرث �أما ًنا من هنا»
بدل من �آ�سر ،فلقد ذهب م�ضط ًرا ابت�سمت �أمرية لها وهي تقول«:لقد جئت ً
بدل منه» ،ارتع�ش قلب ُغفران مع النقيب �سمري للم�شفى ،فلقد تلقي ر�صا�صتني ً
وهي تعي �أن اخلطر كان يحيط ب�آ�سر وحزنت ملا �أ�صاب النقيب �سمري ،لتكمل
�أمرية«:اللواء فريد يف طريقه لهنا هو واللواء ح�سني ،لقد كان �آ�سر قل ًقا ِ
عليك
أنك بخري ُغفران». كث ًريا ،ف�أخربته �أنني �س�آتي لأطمئن � ِ
ص ع
�أبعدت ُغفران �أنظارها عنها وهي تتجاهل مغزى كلماتها لتقول بجمود�«:أنا
الكت ري
لن �أكون بخري حتى �أنتهي من هذا الأمر» ،قاطعتها �أمرية وهي تقول«:لن يفيدنا
توزيع
�شفتا ُغفران وهي تقول«:لقد حاول تخديركما وبيعكما دون �أي تردد منه ،الوغد
قتل عمران» �شهقت زمرد بينما التمعت الدموع بعني �أمرية ،وكالهما قد علم ب�أمر
م�ساعدة عمران لل�شرطة طوال تلك املدة.
حاولت �أمرية ثنيها عن قرارها لتقولُ «:غفران ،دعينا ال نخ�سر ما تبقى من
روحنا ،دعينا ال نخ�سر من يحاولون م�ساعدتنا ح ًقا» ،حاولت �أن تو�ضح لها �أن
قرارها هذا �سيخالف ما يريده �آ�سر واللواء ح�سني وكل من حولها ،لتكمل زمرد�«:أنا
لن �أ�ستطيع معاقبته واالنتقام منه ،حتى لو �أردت �أنا� ..أنا لن �أفعلها».
أتفهمك»
نظرت ُغفران بجمود لزمرد ال�شاحبة ف�أجابتهاِ �«:
حاولت �أمرية معها جمددًاُ «:غفران ال داعي لذلك� ،أنت تعلمني يجب �أال نخالف
القانون لنرتك الأمر لهم �أنا واثقة �أن يامن ورجال اللواء ح�سني �سيتولون الأمر
باهتمام كبري»
نظرت لها بجمود و�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن جتيبها ُغفران ب�صوت �أر�سل
ق�شعريرة يف ج�سدهما�«:أنا �س�أترك القانون ي�أخذ جمراه ،لكن بعد �أن �أنفذ عليه
�أحكامي� ،أنا �أريد ر�ؤيته ُمت�أملا ،ولن �أتوقف حتى �أفعل ،اعتربيني �سادية �أو بال قلب،
336
�أو حتى قد حظيت ببع�ض من �صفاته ،ف�أنا ما عدت �أبايل ب�شيء ،دماء عمران ما
زالت بكفي ،ما زلت �أ�شعر بها �ساخنة ،عجزي و�أنا بال حول وال قوة يف تلك احلاوية،
اختطافه لكن كل هذا ال يجب �أن مير ب�سهولة ،عليه �أن ُيعاقب والقانون لن يوفيه
حقه يف العقاب»
�أغم�ضت زمرد عينيها ودموعها تنهمر ب�صمت وهي تتو�سل ُغفران�«:أرجوك ال
تفعلي� ،ستندمني فيما بعد� ،سيملأ ال�سواد روحك ولن جتدي منفذا للنور ،االنتقام
إن�سانيتك»
ِ عمرك من �
ِ حافظت عليه طوال
ِ �سيدمر ما تبقى من روحك وما
مرت ملحة �أمل يف عني ُغفران قبل �أن تخفيها مبهارة ،وهي تتذ ّكر كلمات م�شابهة
�سمعتها من والدة عمران لتقرتب من زمرد بهدوء و�أ�سندت جبينها على جبني زمرد
ريص ع
وهي تهم�س ب�أمل ُمغم�ضة العينني«:هل تظنني �أن هناك ما تبقى من �إن�سانيتي بعد
ع والتوزي
يعاين»
ابتعدت ُغفران عنها بعنف وهي تدلف لباب احلظرية خملفة وراءها ً
روحا تيتمت
وقلبا مات ُمت�أثرا بجراحه� ،أجه�شت زمرد يف البكاء حتى �أحاطت بها �أمرية الباكية
وهي تهم�س لها بخفوت«:لقد كانت الأكرث تعر�ضا للأذية ِم ّنا جمي ًعا ،لقد قتل كل
من تع ّلقت بهم� ،س�أدلف معها لعلني �أكون ا�ستجابة لذلك الربيق الذي ناجاين يف
عينيها وقد �أجلمت مناجاته بق�سوتها».
هزت زمرد ر�أ�سها وهي ما زالت جته�ش بالبكاء متفهمة كالم �أمرية التي قبلت
ر�أ�سها بحنان ثم تركتها ودلفت خلف ُغفران.
ملحها يامن وهي تدلف ب�إع�صارها املُرافق ل�شخ�صيتها فتوجه ناحيتها وهو يلمح
بو�ضوح ما تو�صلن �إليه يف اخلارج من قرار ،حمد اهلل يف �سره �أن زمردته مل ت�ستجب
لهذا القرار ،رمبا يبدو تفكريه ُمتناق�ضا مع م�شاعره ،فاهلل وحده يعلم كم يرغب يف
تعذيب هذا الوغد حتى تزهق روحه ،ولكن روح به�شا�شة روح زمرد وما مرت به لن
ت�صمد ،حبيبته ال�صغرية لن يدفعها قلبها لأخذ قرار بهذه الق�سوة.
337
�أخرجه من تفكريه �صوت ُغفران اجلامد�«:أحتاج لأن �أكون مبفردي معه»
هز ر�أ�سه وهو يجيبها�«:سي�صل اللواء ح�سني خالل ن�صف �ساعة ،الرجال
باخلارج ال تقل رغبتهم عن رغبتنا بتعذيب الوغد جلرائمه التي طالت زمالءهم
لديك
أنت تعلمني �أنه مل يكن لريغب بذلكِ ، � ً
أي�ضا ،لكن القرار يف النهاية للواء ،و� ِ
ن�صف �ساعة هذا كل ما �أ�ستطيع توفريه لك»
�ألقت نظرة خلفه ووجهها قد ا�ستحال جلليد قا�س ،ونظرات �شر خال�صة تنبع
من عينيها لتقول ب�صوت ميت«:يبدو �أنك قد نفذت جزءا من انتقامك» ،جمد
للحظات قبل �أن يجيبها«:مل �أ�ستطع منع نف�سي»
ريص ع
الكت
ابت�سمت ب�سخرية �أخافته للحظة وهو ي�شعر ب�أنها لي�ست يف حالتها الطبيعية وهي
شر وال ن عند �أوقفها بكالمه بعد �أن ملح تيهها«:رمبا �آ�سر لن
توزيع
رغبتك
ِ يوافقك �إن علم بتنفيذ
ِ
باالنتقام»
التفتت له بقوة وهي تنظر ب�ضياع للحظة وك�أن ذكر ا�سمه كفيل ب�إظهار ُغفران
الطفلة ال�صغرية قبل �أن تتحكم يف م�شاعرها وتعيد لها جمودها وهي جتيبه
بق�سوة�«:أنا ال �أبايل برد فعل �صديقك فليذهب للجحيم بتفكريه املثايل».
�شعر بالأمل يجتاح وجهه بق�سوة ،ففكر �ساخرا �أن ال�ضابط اجليد لي�س بجيد يف
النهاية ،تذ ّكر دخوله العا�صف ليبادر ب�ضربه دون �أن يقول كلمة واحدة ،حتى فهم
من بني �آالمه �أنه ذلك ال�شرطي قريب منرته ف�أدرك ف�شله يف �صفقتها.
حاول �أن يفتح عينيه وهو يلمح �أحدهم على بعد خطوات ب�سيطة منه �أو الأ�صح
�إحداهن� ،ضحك ب�سماجة وهو يت�أوه من كدمات وجهه والأمل الذي يع�صف بر�أ�سه
و�سيل الدماء على وجهه مينعه من النظر دون ت�شوي�ش«:ها هي االبنة البارة تعود
أنت الأخرى ،وهذا يفاجئني�صفقتك � ِ
ِ لبيتها ،وقوفك هنا يخربين ب�أنني ف�شلت يف
و�ضعتك بنف�سي يف تلك احلاوية»
ِ بقوة لأنني
338
جتبه ب�شيء بينما يدقق هو النظر يف مالحمهاُ ،مكمال حديثه التهكمي يف مل ِ
وم ً
اول حماولة ل�شغل نف�سه عن ال�صداع الذي انتابه نتيجة للكمات ذلك الوغد ُ
فهم حالتها«:هيا فاجئيني ،و�أريح ت�سا�ؤالت والدك»
«عمران»
كلمة واحدة قالتها بربود وهي تخلع �سرتتها وتلقيها بال مباالة على الأر�ض،
بينما �أخذ يفكر يف كلمتها قبل �أن يظلم وجهه بق�سوة وهو يهتف بحقد«:الوغد
احلقري»� ،أ�صدرت �صوت اعرتا�ض على �شتائمه وهي جتيبه بربود«:ال ،ال كيف
تنعت �أخاك بهذا؟!»
ر ش
والتوزي
وتدفعنا دف ًعا لقتل بع�ضنا لتُغطي على ف�شلك ملحاولة قتلك �أخاك الأ�صغر ،لتف�شل
ع
معنا وتنجح يف قتله يف النهاية ،يا ل�سخرية القدر!»
رم�ش للحظات قبل �أن ي�ستوعب كالمها ،لينفجر يف ال�ضحك به�ستريية بينما هي
تتابعه بجمود وهو يتحدث بني �ضحكاته«:ال تخربيني �أنه �ضحى بروحه فداء ِ
لك،
هذا هو الأحمق الذي مات ب�سبب احلب»
ارتع�ش ج�سدها وهي تتذ ّكر جمددًا ملم�س دماء عمران بني يديها وقبل �أن
تتحدث �سمعت �صوتًا ُمرتددا يناديها ،التفتت لتلمح �أمرية واقفة ب�شحوب تنقل
نظراتها بينها وبني ممدوح املُقيد بالكر�سي ،الذي توقف عن ال�ضحك وهو ينظر
لأمرية بده�شة للحظة قبل �أن يكمل �ضحكه وهو يقول«:ف�شل ثالث �صفقات يجرح
قررت»
كربيائي كث ًريا ،هيا ُغفران احملي �سالحك واقتليني كما ِ
نظرت ُغفران لأمرية نظرة واحدة �أدركت �أن الأخرية جاءت مل�سانداتها حتى
توقفها وقت �أن تفقد �سيطرتها ،فالتفتت بربود وهي جتيبه«:ومن قال �أي �شيء عن
القتل!؟»
339
اختفى ته ّكم ممدوح وهو ينقل نظراته بني ُغفران و�أمرية ال�شاحبة وابت�سم
قائل«:ماذا هل �ست�سلمانني لل�شرطة حتى تتحقق العدالة!؟ هذا يبدوب�سخرية ً
�أف�ضل يل على �أي حال»
قليل وهي تتحدث بابت�سامة اقرتبت ُغفران حتى وقفت �أمامه لتنحني ً
ته ّكمُ «:ن�سلمك للعدالة حتى ي�ساعدك �أ�صدقا�ؤك الأعزاء بالوزارة يف اخلروج من
البالد ب�أكملها بعد �أن ُيهربوك من ال�سجن! ال ال هل ظننتني غبية لهذا احلد ،ف�أنا
يف الآخر كما تقول تربيتك وابنة �أمي».
ارتع�شت عيناه للحظة وهو ينظر للخواء الذي ملحه يف عينيها اجلامدتني،
ريص ع
الكت
فتح ّدث بحذر وهو يحاول �أن ي�ستوعب ما تقوله له ،خا�صة ذكرها للوزارة«:اذا فقد
ن
اقتنعت �أخ ًريا ،هل جاء االقتناع قبل �أم بعد �أن � ِ
ِ
بريق �إعجاب ملحته يف عينيه التي ظللتها الدماء وهو يجيبها بدون تردد«:مل
أمك ،ولكن مل ت�صبحي بتلك
أنت �ساقطة بالفطرة مثل � ِ يوما �أقل من هذاِ � ،
أح�سبك ً
� ِ
أنك تربيتي يا �صغريتي»
الهالة من ال�شر �سوى على يدي ،ف�أثبتي � ِ
انطلقت �شرارات الغ�ضب لتنفجر بقوة فلم يلمح ما �أخرجته من جيب �سروالها
وهي تعتدل يف حلظة لتنحني يف اللحظة التالية وهي تغرز �سكينا يف فخذيه االثنني
و�صوت �صراخها يغطي على �صراخه وهي تقول�«:أنت خمطئ ،ف�أنا �أ�سو�أ منك،
و�سي�سعدين �أن �أريك هذا»
ودون تردد لفت بيديها ال�سكينتني املغروزتني يف فخذيه بقوة وهي ت�شعر بتحرك
اللحم فيهما قبل �أن ت�سحبهما يف اللحظة التالية.
340
ابتعدت بهدوء وهي تراه يتلوى �أملًا الع ًنا �إياها ب�أ�سو�أ الألفاظ ،فتحدثت ب�صوتها
البارد و�صدرها يعلو ويهبط من انفعالها«:ال ال ،نحن ما زلنا يف بداية الطريق،
قليل يا رجل»
حت ّمل ً
�أخذ يلهث بقوة وهو ينظر �إليها بغ�ضب ي�شوبه الأمل ،ثم حتدث بني لهاثه ك�أنه
خطتك �إذا!؟ التل ّذذ بتعذيبي قبل �أن ُت�سلميني
ِ يب�صق الكالم من فمه�«:أهذه هي
لل�شرطة �أيتها ال�ساقطة»
«ال �أعلم َمل ت�صر على ذكر ال�شرطة كثريا ،ال ت�شغل بالك بهم ،ف�أنت لن حتيا
حتى تراهم� ،أمرية فكي قيده»
ريص ع
�أجفلت �أمرية مكانها من نربة ُغفران امليتة ،فتحدثت دون وعي وهي ما
ع والتوزي
هدرت فيها بغ�ضب وهي تقطع حديثها«:اللعنة عليك �أمريةِ � ،
أنت مل ت� ِأت من
�أجل املُ�شاهدة� ،إما �أن تنفذي ما �أقوله �أو تبقي باخلارج» ،ابتلعت �أمرية �صراخ
ُغفران وهي تعي �أنها جمرد ُماولة منها لإبعادهاُ ،غفران ال تريد لروحها �أن
ُي�صيبها الأذى مما تراه من ُغفران ،ما زالت حتميها حتى يف �أق�سى حلظات حياتها.
اقرتبت بهدوء وفكت قيد ممدوح الذي كان يلهث من الأمل وهو ينظر بغ�ضب
لعني ُغفران التي ابت�سمت له بته ّكم وهي ُت ّدثه بربود«:والآن لدينا نزال �أخري مل
ينته ،انه�ض»
تن ّف�س ممدوح بغ�ضب وهو ي�ضغط بكفيه على فخذيه مكان النزيف وهو يجيبها
نزالك اخلا�ص يا عزيزتي ،تت�س ّببني يف العجز
ِ ل�ست عادلة يف
أنت ِ با�ستفزازِ �«:
بقتالك ودون �سالح كم �أنت جبانة؟»
ِ لقدمي و ُتطالبيني
دنت ُغفران منه يف حلظة وم�سكت ذراعيه بقوة لتجعله ينه�ض من على الكر�سي
ليكتم ت�أوهه وهو يلمحها تزيح الكر�سي بقدميها بقوة وت�ضع �سكينا يف كف يده!
341
ابتعدت وهي ت�سحب �أمرية خلفها لتقف على بعد منا�سب منه وهي تقول بربود
ال يتنا�سب مع كم الطاقة العنيفة ال�صادرة منها«:والآن ما عاد هناك حجج� ،ساعد
نف�سك بنف�سك فلقد �أرغمتنا على القتل ونحن مل نكمل الرابعة ع�شرة بينما �أج�سادنا
مل تكن يف ربع حجمك هيا �أيها العجوز»
حتامل على �أمله ال�شديد وا�ستطاع التحرك ببطء يف البداية ليقرتب منها
و�سكينها يف يده ،اندفع فج�أة ُمتحامال على �آالمه ليوجه ال�سكني ل�صدرها لتفاجئه
بابتعادها يف �آخر حلظة ،وقد بوغتت بهجومه فج�أة لتلتف خلفه يف اللحظة التالية
وتغزر ال�سكني يف �أعلى كتفه من اخللف لتمررها بقوة يف ظهره لت�سحبها بقوة ،زئريه
العايل بالأمل مل مينعه من االلتفات و�إ�صابة ذراعها بجرح طويل ب�سكينه ،منعت
ريص ع
الكت
ت�أوهها بقوة وهي تبتعد عن مر�أى ت�صويبه ،مل تعر انتباها ل�صراخ �أمرية با�سمها،
ب
بينما تلمح بعينيها تر ّنح ج�سد ممدوح ُ
ل
وماولته الفا�شلة يف االتزان ،ا�ستند بج�سده
ن ل
شر وال
ب�سرعة على احلائط خلفه حتى ال يقع وهو يلمح اقرتاب �أمرية ال�سريع من ُغفران،
توزيع
�إن كان �سيخ�سر فليك�سب �شيئا قبل خ�سارته النهائية� ،سيتل ّذذ با�ستمتاع وهو يرى
نظرة الأمل يف عينيها ،رفع �سكينه يف نف�س اللحظة وقذفها مبهارة باجتاه �أمرية،
عني ُغفران التي كانت تتابعه مل تغفل عن حركته لتعرت�ض بج�سدها طريق ال�سكني
وهي تبعد �أمرية عن مرماها بعد �أن دفعتها بقوة ،وقعت �أمرية � ً
أر�ضا لت�شعر بالدوار
للحظات وهي حتاول �أن تركز ب�أنظارها عما حدث لت�شهق برعب وهي ترى ُغفران
تنزع �سكينا من كتفها الأمين ،لتُظلم عيناها يف اللحظة التالية وهي تهتف ب�صوت
جمد الدماء يف ج�سد ممدوح«:وكان هذا خط�أك الأخري ف�أنا ال �أتهاون يف حماية
�أحبتي»
رفعت �سكينها يف حلظة لتقذفها مبهارة �أتقنتها بالتدريب حتى انغرز يف كف يد
ممدوح وثبته يف اجلدار خلفه ليز�أر جمددًا من الأمل بينما هي تقرتب بهدوء غري
عائبة بنزيف كتفها ،حتى وقفت �أمامه وهي ت�سحب �سكينها الأخرى من كفه لي�س ّبها
ُمت�أوها ليزداد �صراخه وهو يراها تدفع ال�سكني بقوة جمددًا لتثبت بها كفه الأخرى
يف احلائط ،مد كفه املُ�صابة احلرة ليم�سك بعنقها ف�أوقفته يديها وهي تتحدث
ب�شرود غريب بينما تت�أمل مالحمه وهو م�صدوم من قوتها الغريبة«:لثمانية ع�شر
342
عاما �شر مل ينته� ،أ�صبت �أرواحنا بعطب ال ميكن �أن ُيعالج ،تلذ ّذت بلم�س �أج�سادنا
و�شهوتك احليوانية تدفعك لتُدمر املُزهر يف قلبنا� ،أردت �أن ُي�صيبنا العطب فن�صبح
�أ�شباحا �شبيهة بك ،ولكن هل تعلم �أنت مل تنجح ،رمبا �أرواحنا معطوبة لكنك مل
ت�ستطع الو�صول لتلك البذرة التي و�ضعها اهلل فينا ،رمبا نحتاج الكثري لن�صل لتلك
البذرة ،رمبا �سنزيل الكثري من الع�شب الفا�سد حول قلوبنا لكننا �سنحيا بقلب
نظيف ،بقلب غري ُملوث مثلك� ،أتعلم ملاذا؟! لأنه رغم كل ما مررنا بنا مل تقتل
�إن�سانيتنا و�أنت لن حتيا لرتى تلك اللحظة التي �سنكمل فيها حياتنا دون النظر
للما�ضي ودون حتى �أن نتذ ّكرك� ،أنت ف�شلت يف �أهم �صفقة يف حياتك ،وهي حتويلنا
لأ�شباح ت�شبهك ،ي�سعدين �أن �أخربك �أن ظالم روحك �سي�شملك وحدك و�ستغرق فيه
ص ع
للنهاية دون �أي طوق جناة لإنقاذك».
ع
مالحمه«:وهل �أنت مت�أكدة يا عزيزتي ب�أنكن ت�ستطعن ن�سياين والأهم هل �أنت
مت�أكدة من �أنني مل �أقتل �إن�سانيتكن ،انظري لنف�سك عزيزتي وتذ ّكري يف كل مرة
لك فكالنا يحمل نف�س الروح املُظلمة ُتعري ِ
روحك �أمام املر�آة �ستجدينني وج ًها �آخر ِ
يعرتيك،
ِ فها �أنت واقفة �أمامي على بعد خطوة من قتلي بروح باردة و�شعور بالن�شوة
�أ�ؤكد لك يا عزيزتي �أنه نف�س �شعوري يف كل مرة كنت �أقتل فيها روحا �أو �أتلذذ
بر�ؤيتكن تقتلن ُمرغمات من �أجلي �أنا و�أنت نف�س ال�شخ�ص»
ابت�سمت بته ّكم وهي ت�سحب ال�سكني من كفه املُقيدة بها وبيديها الأخرى التي
حتتجز كفه الأخرى ت�ضغط بقوة على مكان اجلرح وهي تقول بربود«:غريب �أمرك
ففي اللحظة التي قررت فيها ت�سليمك لل�شرطة ترغب يف املوت»
ابت�سم وهو ي�شعر بالقليل من االرتياح لتحقيقها يف النهاية هدفه قبل �أن يتجمد
مكانه وهو يراها ترفع �سكينها ومتررها على �صدره وهي تقول بهدوء«:ولكن
�أخربين بخربتك كيف هو احلال يف ال�سجن عندما يدخل �سجني جديد يحمل يف
تاريخ �سجله الكثري والكثري ولكن التهمة الأخطر هي اخليانة ،فقد اعرتف بكل
ما يعرفه عن �أ�سرار ع�صابة كبرية كان يعمل لديها بعد تعذيب ال�شرطة له �أثناء
343
التحقيق معه ،اعرتف على لواء كبري بالأمن الوطني واعرتف على �آخرين يعملون
بالوزارة فا�ضحا �أ�سرارهم»
توقف عن التنف�س وهو يراها تكمل�«:آه �أمل �أخربك؟!عذرا هو خطئي يا يل من
غبية ،ن�سيت �إخبارك ب�أن عمران منحني فال�شة حتمل الكثري والكثري من املعلومات
التي كان �أخوه الأحمق يجمعها من �أجل وقت احلاجة �إليها لي�ضمن بها حياته»
�شحب وجه ممدوح وهي يعي معنى كالمها ،بينما �أكملت هي ب�شر رغم كذبتها،
فهي رمبا مل تر الفال�شة بعد ،لكنها مت�سكت مبا قاله لها عمران«:جمرد ر�سالة
�صغرية حتوي �إحدى املعلومات املهمة للرجل الكبري ليفهم منها خيانتك ،ترى ماذا
ع
�سيحدث لك يف ال�سجن ،ال ال يا لك من غبية يا ُغفران بالطبع لن ي�صل ممدوح
الكت ريص
لل�سجن ،فمن يعمل لديهم �س ُيهربونه �أم لن يفعلوا؟!»
توزيع
للحائط وقد غلب خوفه على غ�ضبه ف�أوقع ال�سكني من يديها وهو يدفع ج�سدها
للحائط ليبعدها عنه ثم يدفع ج�سدها جمددا لريتطم باحلائط ل ُيكرر الأمر مرا ًرا
وقد �أعماه غ�ضبه ،لت�شعر بالأر�ض متيد بها و�سيل دافئ من الدماء ي�سري من ر�أ�سها
لظهرها فلم ت�شعر �سوى بابتعاد ممدوح عنها لتجده يتلوى على الأر�ض من الأمل يف
اللحظة التالية و�أمرية واقفة جامدة بجواره بينما �سكني ُمنغرزة يف ظهر ممدوح،
وقد غرزتها �أمرية �أكرث من مرة ل ُي�صيب يف مرة من املرات كليته لت�سمع ُغفران
�صوتها املُرجتف وهي تهتف بغ�ضب�«:أبعد يديك عنها �أيها احليوان ،لتتعفن يف
�آالمك فلتمت فلتمت عليك اللعنة»
ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله وهي تلهث بغ�ضب و�شعور بالراحة يعرتيها وهي تلتفت
ل ُغفران لرتاها �صامدة مكانها رغم الدماء التي غطت ج�سدها من كل جانب
لتقرتب منها ُم�سرعة وت�سندها قبل �أن تخور قواها ،لتلمح يف اللحظة التالية دخول
اللواء ح�سني وهو مكفهر الوجه مع رجاله ،ومن خلفهم �آ�سر الذي �صرخ با�سمها بعد
حلظة من الذهول التي اعرتت جميع من دخل ور�أوا منظر ممدوح املُدرج بالدماء
وعوا�ؤه يرتدد يف جوانب احلظرية كحيوان ننت.
344
كانت جال�سة يف �سيارة الإ�سعاف بهدوء غريب عليها وهي تتل ّقى العناية جلروحها
قبل �أن تنتقل للم�شفى ،نظرت للمكان حولها وم�شاعر م�ضطربة �أ�صابت روحها ،لقد
مات ممدوح فور قبل و�صوله للم�شفى ،مات ُمت�أث ًرا بجراحه ،مات وانتهى �شره يف
هذه الدنيا ،تق ّبلت اخلرب من اللواء بهدوء لت�س�أله دون مقدمات«:هل مات ح ًقا هذه
املرة؟!» ليجيبها ب�صدق«:نعم ُغفران لقد مات»
هي لن ترتاح حتى ترى جثته �أمام عينيها ،طلب امل�سعف �أن يعالج جروحها
ولتنتقل بعدها للم�شفى لتقطيب اجلروح التي يف حاجة للغرز.
�أفاقت من �شرودها على �صوت امل�سعف وهو يخربها �أن العربة �ستتحرك بها الآن
ع
للم�شفى ،رفعت �أنظارها لأمرية وزمرد الواقفتني على مقربة منها تتابعانها بقلق،
ع
جت ّنب النظر لعينيها حتى ال ترى منه نظرة عتاب عما قامت به ،وما �أجربت �أخته
على القيام به ،لن تن�سى احت�ضانه �أمرية و�إخراجها من املكان دون �أن يلقي نظرة
واحدة عليها ،وك�أنها نادته
أنت بخري؟!»
«هل � ِ
ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله وهي ترفع عينيها لتلتقي �أخ ًريا بعينيه ،حاولت ادعاء
اجلمود �أمامه وهي تخفي م�شاعرها بقوة فرم�شت بعينيها وهي جتيبه«:نعم»
�ساد ال�صمت بينهما للحظات ليقرتب �آ�سر ويجل�س بجوارها داخل العربة
قليل من مكانها وهي حتيط كفها بذراعها امل�صاب لتلمحه يتنهد بقوة فتحركت ً
معك فيما حدث لكن �أنا كنت على �أمل �أن تختاري وهو يقول�«:أنا لن �أحت ّدث ِ
ووحدك من كان لديه االختيار ُغفران ،لكن لي�س كل ما ن�أمله
ِ االختيار ال�صحيح
جنده �أمام �أعيننا»
حتدثت بجمود«:ما �أختاره �أو ما ال �أختاره ال �ش�أن لك به� ،أنت تتحدث عن الأمر
من خارجه� ،أنت مل تع�ش ما ع�شته ،مل تخ�سر ما خ�سرته وبالطبع مل تخ�سر �أحبتك
345
ب�سببه� ،أنا كان لدي كل احلق يف ما فعلته ،و�إن عاد بي الزمن جمددًا لن �أتردد
للحظة يف فعله جمددًا».
�أدار �آ�سر نظره لها وهو يراها جتاهد لئال تنهار لينظر لها بحزن وهو
أنك ل�ست مثله» �أدارت عينيها له وقد امتلأت بدموع يقولِ «:
ظننتك حتاولني �إثبات � ِ
احلزن لرتتع�ش �شفتاها وهي تقول�«:أنا ل�ست مثله»
حانت من �آ�سر ابت�سامة حزينة وهو يقول«:لقد خذل ِتني مبا فعل ِته ُغفران،
وخذل ِتها هي الأخرى»
م�ستخدما جملة
ً �شحب وجهها وهي حتاول فهم مق�صده ليف�سر لها
ص ع
�صاحبتها�«:أولئك الذين ي�سعون لالنتقام يحققون هدفهم ولكن ال يعودون كما كانوا
الكت ري
من قبل» ،ارجتفت مكانها وهي ت�سمع جملة والدة عمران لتهم�س ب�ضعف«:لي�س
MMM
346
كطفل هرول �إىل �أمه باكيا لتحت�ضنه ،فتل ّقى �صفعة ليكف عن
البكاء هكذا اخلذالن
ريص ع
الكت
كان هناك دائما ،كان يف كل �شيء� ،أنا ال �أفهم»
ع
�شيء ،فكان من ال�سهل �شراء �شرطي بب�ضعة �أوراق نقدية من �أجل �ضياع �أدلة �أو
ر ش
والتوزي
يف الكثري من الأمور وال تعلمني �أنه �ساعدنا يف �إف�ساد الكثري من املخططات ،حتى
ع
ممدوح مل يعلم عنها �أي �شيء ،كنا نتحرى الدقة يف ت�صرفاتنا حتى �أخربين �أن
هناك رجال كبريا ذا �سلطة يف ال�شرطة يعمل مع ممدوح ،رجل يف �أمن الدولة،
بحثنا كثري ورجال ذوو ثقة عملوا على هذا الأمر ،ولكن وقتها مل جنده ونحن نحتاط
�أكرث يف مقابلة عمران حتى ال يتم اكت�شافه ،حتى اكت�شفنا �أنه �سامح� ،أعلم �أنه
كانت حوله الكثري من ال�شكوك �أثناء عمله ب�أمن الدولة ،و�إنه بالفعل كان �سيحظى
تع�سفيا ،توقعتمبكانة يف الوزارة ،ولكن بعد �أحداث الثورة نقلوه ل�شمال �سيناء نقال ّ
غ�ضبه وثورته ولكن مل �أتوقع خمود ثورته بعدها ب�أيام ك�أنه ر�ضى بالأمر وهكذا ،مل
يخطر بعقلي �أنه من امل�ؤ�س�سني لتلك املنظمة و�أنه من يدير الفرع الرئي�سي يف م�صر،
بقائك مب�صر دون �أي قلق
كالكما قد �ساعدنا بالكثري ،الآن �أ�ستطيع االطمئنان على ِ
�أو �أذى وقد انتهى �أمرهم للأبد».
�صمتت ُغفران دون قول �شيء تتمنى لو �أن با�ستطاعتها ت�أكيد ما يقوله ب�أن
�أمرهم انتهى للأبد لتقول بعدها«:رمبا من الأف�ضل �أال �أبقى هنا تلك الفرتة ،ما
�أعرفه �أن هناك حركة يف الوزارات وتغيريات كثرية ،ا�سمعني �سيدي ،هناك �أمر مل
349
�أخربك به� ،أمر تركه معي عمران و�أنا �أريد ا�ستخدامه بحذر من �أجل االنتهاء من
جذور تلك الع�صابة مب�صر».
نظر لها اللواء با�ستغراب وهو يقول«:ولكن بعد قب�ضنا على �سامح بالأدلة التي
معنا ظننت �أن هكذا انتهينا من جذور تلك الع�صابة للأبد ،عمران �أخربين عن �أن
هناك �أدلة �أخرى لكن مل ي�سعفه الوقت ليحكي يل التفا�صيل» نظرت ُغفران له
بهدوء لتقول«:ما زال هناك جذر �ضخم مل نقتلعه بعد وهذا اجلذر يحتاج من كل
وقتنا وقوتنا وتركيزنا القتالعه بحذر دون ترك �أي �آثار له»
M
ريص ع
الكت
منزل �أمرية
شر وال
حت ّدث �آ�سر ب�سعادة«:عودًا حميدً ا يا �آل البيت و�أخ ًريا اجتمع �شملنا من جديد»،
توزيع
ابت�سمت جميلة له وهي تنظر لعائلتها بحب ،لأمرية التي تقف بجوار �أمري الذي
يرف�ض �أن يرتك كفها ك�أنه حتى الآن ال ُي�صدق �أنه هنا معهم بعد كل ما حدث
لها ،ارتع�ش قلبها وهي تتذ ّكر تلك الفرتة التي ا�ستيقظت فيها يف امل�شفى لتعرف
ما حدث من حممد� ،ساعات ق�ضوها يف رعب حتى ات�صل بها �آ�سر ُيطمئنهم ب�أن
�أمرية بخري وهما يف طريق عودتهما مل�صر ليحمدوا اهلل على عودة �أبنائهم �ساملني
لهما� ،آ�سر تلك الهالة احلزينة التي حتيط بابنها ال تعرف �سببها حتى الآن ،يحاول
جاهدً ا �إخفاءها عنهم بابت�سامته ومزاحه مع �إخوته لكنها ت�شعر به ،ابنه يحمل
�آالما داخل قلبه� ،آالما جتعل الدموع ترتقرق يف عينيه �أثناء �شروده عنهم ،تنهدت
قليل مبفردهما� ،آ�سر يف حاجة هذه املرةوهي تفكر ب�أنها يف حاجة لأن جتل�س معه ً
للتح ّدث ،وهو الذي ظل طوال عمره ي�ستمع فقط� ،أدارت ر�أ�سها لولديها العزيزين
وهي ترى �آدم ُيع ّدل من و�ضع الو�سادة خلف ظهر �أخيه� ،أحمد الغايل الذي عانى
من ك�سور كثرية يف ج�سده �س ّببها �أولئك الأ�شرار الذين اختطفوا �أمرية ،تذ ّكرت
حالة �آدم وهو يبكي منها ًرا لأول مرة وهم بانتظار خروج �أحمد من غرفة العمليات،
وتذ ّكرت انهياره الثاين بعد �أن خرج �أحمد وفاق يف غرفته ليجل�س �آدم بجواره على
350
ال�سرير ويحت�ضنه بقوة ودموعه ال تتوقف عن االنهمار� ،آدم الفط اللجوج يحمل
بقلبه م�شاعر متاثل م�شاعر توءمه الذي ال ي�ستطيع �إخفاءها كما يفعل �آدم ب�شقاوته
وقد �أثبتا �أن كليهما ال ي�ستطيع العي�ش دون الآخر.
دخلت لغرفته بعد �أن طرقت الباب و�سمعت �سماحه لها بالدخول ،رفع �آ�سر
مقبل جبينها قائال«:تعايل
�أنظاره لوالدته لينه�ض من مكانه وهو يقرتب منها ً
حبيبتي ،هل تريدين �شي ًئا؟!»
م�سكت جميلة كفه وجذبته ليجل�س بجوارها على الأريكة لتنظر له بحب وهي
ترى �آثار �سهاده على وجهه لتقول بهدوء«:ما الذي ي�شغل قلب بكري ومينعه عن
ع
النوم هكذا؟! يف البداية ظننته قل ًقا على �أمرية ولكن بعدها �شعرت ب�أنه رمبا �أمر
ر ش
والتوزي
تعبك و�إ�صابة �أحمد واختطاف �أمرية ،الأمر فقط مل يكن
من كل الأحداث ال�سابقةِ ،
ع
هي ًنا»
دوما حملت على كتفكابت�سمت له والدته وهي حتت�ضن وجهه لتقول بحبً «:
�أحمالنا جمي ًعا دون �أن ت�شتكي ،لذا ا�سمح يل بحمل القليل من ِحملك هذه املرة»
رم�ش بعينيه وهو ينظر لوالدته احلنونة لي�سرد لها خماوفه و�أوجاعه ليخربها
بكل �شيء عن ا�ضطراب م�شاعره جتاه ُغفران بداية من اجنذابه لها لت�أكده من حبه
لها بعد �أن ا�شتاق لها كل تلك املدة و�أخ ًريا خوفه من تلك امل�شاعر.
تن ّف�ست والدته بقوة وهي تقول له بحكمة�«:إذا ما الذي تفعله هنا الآن؟!» رفع
�أنظاره لها لتكمل�«:أي �أم يا بني ترغب بالأف�ضل ً
دوما لأبنائها ،لطاملا متنيت �أن
حتظى ب�أف�ضل فتاة بالعامل� ،أن حتظى مبن حتتويك ومتنحك ما مل �أ�ستطع منحه
لك يف �أق�سى �أيام حياتي ،ب�أن حتبك لأنك ت�ستحق احلب ،ب�أن ت�سعدك لأن ت�ستحق
ال�سعادة ،رمبا لدي القليل من املخاوف جتاه ُغفران ،نظ ًرا لن�ش�أتها وحلالتها ،ال
�أقول �إنه ذنبها ،ال يا بني حا�شاه �أنا �أقول ذلك وقد كانت �أختك يف نف�س املكان الذي
ن�ش�أت به لكن خماويف يف �أال تكون بالقدر الكايف لك ،ب�أال متنحك ما حتتاجه ،ب�أن
351
تتعب يف طريقك �إليها فتخ�سر نف�سك لكن كل تلك املخاوف تذهب �أدراج الرياح
و�أنا �أراك بهذه احلالة التع�سة و�أنا �أرى فيها �سبيل �سعادتك ،ف ّكر جيدً ا �آ�سر ،ف ّكر
يف حياتك القادمة� ،أنت �ستحارب �أ�شباحها وخماوفها� ،ستعاين معها من �أجل �أن
يوما بها� ،أنت �ستثبت متنحها هوية هي ترف�ضها و�أن تثبت لها حقائق مل ت�ؤمن هي ً
كاف منلها �أن هناك حياة خلف كل املوت الذي يحيط بها ،لذا �إن كنت على قدر ِ
دوما خلفك� ،أنا ووالدك و�إخوتك� ،إن ت�أكدت القوة لتقاتل فافعل يا بني وت�أكد �أنني ً
من م�شاعرك وم�شاعرها فقاتل من �أجلكما حتى لو مل يكن حبها بالقدر الكايف،
كامل».
امنحها من حبك حتى ت�ستعيد حبها ً
ص ع
دمعت عني �آ�سر وهو ينظر لوالدته بحب ليق ّبل كفيها بقوة وهو يقول«:ال حرمني
لك� ،شك ًرا لك»
الكت ري
ب
دعمك يل يا �أمي� ،شك ًرا ِ
اهلل من ِ
توزيع
تقر�أ ال�سطور ب�شرود وهي تفكر يف كل ما حدث معها حتى الآن ،ذلك اليوم باملزرعة
ت�شعر ب�أنها خ�سرت جزءا من روحها لكن ك�سبت الباقي كله ،رمبا هي �ساعدت
ُغفران يف انتقامها ،رمبا هي غرزت �سكينها يف ج�سد ذلك احلقري دون توقف ولكنها
تخطت بها خوفها ،ما زالت حتى الآن ترجتف كلما تذ ّكرت طريقة غزرها لل�سكني ّ
وكلما تذ ّكرت دماءه ال�ساخنة على كفيها ،لكن هي الآن �أقوى� ،أقوى بدعم عائلتها،
بحب توءمها الذي يرف�ض تركها ولو للحظة منذ ذلك احلادث ،رفعت عينيها يف هذه
اللحظة لتلمحه ينظر �إليها بحنان لترتك الكتاب من كفها وهي تعتدل يف جل�سته
يل هكذا؟!» ملحت ترقرق الدموع يف عينيه لت�سمعه يكمل�«:أنا لت�س�أله«:ملاذا تنظر �إ ّ
أنك هنا �أمرية» تفهمه ،تفهمه جيدً ا وهي تعي مق�صده بوجودها ال �أ�صدق حتى الآن � ِ
هنا بعد اختطافها الثاين ،عرفت من �آ�سر انهياره وهو يت�صل به بينما كان يف مكتب
اللواء ح�سني بعد اختطافها وهو يهتف ببكاء يف الهاتف�«:أمرية �آ�سر ،لقد �أ�صابها
�أذى �أنا �أموت �آ�سر» ،ليعي �آ�سر �أنه �شعر مبا حدث لها من خالل ذلك الرابط
بينهما ،لقد نادته �أمرية هذه املرة ول ّبى �أمري النداء.
352
ابتلعت ريقها وهي حتاول طرد دموعها لتقول له�«:أنا هنا �أمري ،لقد ناديتك
ول ّبيت ندائي»
طرفت عيناه بالدموع ليم�سحها وهو ينه�ض من مكانه مدي ًرا ظهره لها لتقرتب
منه وهي تقول حماولة �إخراجه من حزنه«:ال حتاول الهروب من �أمر ال�صور فلدينا
�صور مل نلتقطها بعد ،هل �أ�صبحت تخاف الآن؟!» التفت �إليها وهو ي�ضحك بينما
مي�سح دموعه وهو يقول جمار ًيا مزاحها�«:إنه دورك يف ال�صور ،هذه املرة �سن�ضع
و�سن�صورك باحللوى �إذا من اخلائف الآن؟!»
ِ أ�سك
ربطات ال�شعر بر� ِ
ابتعدت عنه وهي تقول بخوف م�صطنع«:ال لن ت�ضعوا �أي ربطات �شعر بر�أ�سي
ع
ان�سي الأمر» ،اقرتب �أمري وهو ي�ضحك على هيئتها ليكمل بني �ضحكاته«:ي�سعدين
ت
أنك �سرتتدين ف�ستانا � ً
لك � ِ
�أن �أقول ِ
والتوزي
وهربت منه وهي ت�ضحك بني �صرخاتها وهما يتذ ّكران وعدهما �أن يلتقطا م ًعا �صور
ع
طفولة لهما مثل �صور �آدم و�أحمد ،وقد تعاهدا �أن يعي�ش كل حلظة طفولة م ًعا ليملآ
�ألبوم ال�صور اخلا�صة بهما.
M
منزل زمرد
جل�ست على الكر�سي بال�صالة وهي تنظر �أمامها با�ستمتاع لرحاب و�سليم وهو
يحاول احلديث معها بينما هي تتجاهله وهي مم�سكة بهاتفها حانت منها ابت�سامة
وهي تتذ ّكر ذلك اليوم حني عادت للمنزل وا�ستقبلتها عائلتها بالدموع بينما
احت�ضنتها رحاب بقوة وهي تبكي مرددة احلمد هلل وهي ال ت�صدق عودتها �إليها
جمددًا.
تلك املرة �شعرت ح ًقا �أنها عادت ملنزلها ،جل�ست تلك الليلة وهي تنظر لأنحاء
غرفتها ُم�ستعيدة ذكرياتها كلها �شاعرة بروح والدتها ووالدها باملكان ،تذ ّكرت
مكوث العائلة ب�أكملها يف منزلها هي ورحاب وحماولتهم لإ�سعادها بكل الطرق،
فقط �أحدهم كان غائ ًبا ،بعيدً ا ،لطاملا كان بعيدً ا رغم قربه من قلبها.
353
ارتع�شت وهي تتذ ّكر حلظات و�صولها لتلك الثكنة الع�سكرية وانتظارها املميت
لأي �شخ�ص يدلف للغرفة التي و�ضعوها بها ،تذ ّكرت وقتها م�شاعرها وهي تدعو اهلل
�أن ينجدها مما هي فيه ،دعت اهلل وقتها �أن ينجدها فقط لتعود ولو للحظة ملنزلها
فتخرب رحاب مبدى حبها لها وتخربها ب�أنها لطاملا �أحبته دون �أن تعرف ،لطاملا
غفلت عن م�شاعرها بوجوده ومل تع معناها �إال بعد �أن افرتقت عنه للمرة الثانية رمبا
�أول مرة كانت �صغرية ،لكن لطاملا كانت م�شاعرها ُمتعلقة به.
�أخرجها من �أفكارها حديث �سليم لها«:زمرد اقنعي هذه احلمقاء ب�ضرورة
قدومها معي ل�شراء اخلوامت� ،أنا �أريدها �أن تختار لكنها كعادتها تعاند فقط ،هي
حتيا يف هذه احلياة لكي تعاندين فقط»
ريص ع
الكت
�ضحكت زمرد على هيئته وهي تنظر خلف رحاب التي تركتهما ودخلت لتُعد
شر وال
العائلة كلها لت�صمت رحاب دون �أن تعطيه �إجابه لتنظر لوالده وتخربه برغبتها يف
توزيع
مهلة �أ�سبوع لتفكر� ،ضحكت وهي تتذكر رد فعل �سليم غري املُ�صدق وانهيار رحاب
يف تلك الليلة غري ُم�صدقة طلبه� ،أخربته زمرد ب�أنها �ستحدثها ،نه�ض �سليم وهو
حتدثت مع يامن؟!»
ِ يقول�«:أنا �أعتمد ِ
عليك يف هذا� ،آه هل
ابتلعت زمرد ريقها وهي تقول بارتباك«:ال مل ي�أت الوقت املنا�سب لذلك»
�صمت �سليم ليقول لها بعد حلظات�«:إذا �س�ألني لن �أ�ستطيع �أن �أخفي الأمر عنه
�سفرك مع رحاب ،ال تدعيه يعرف من �أحد �آخر غريك» ِ زمرد ،يجب �أن يعرف ب�أمر
هزت ر�أ�سها دون قول �شيء ،ليرتكها �سليم على وعد بزيارة �أخرى الليلة من �أجل
�شراء اخلوامت مع رحاب.
التفتت زمرد لتدلف للمطبخ وهي تفكر يف �أمر يامن ،لقد حت ّدثت مع رحاب ب�أمر
ال�سفر بعد عودتها ب�أيام يف ليلة وجدت رحاب نائمة بجواره تبكي يف �صمت فنه�ضت
قلقة عليها ،لتبوح لها رحاب مبا يحمله قلبها وهي تخربها �صراحة ب�شعور الغرية
الذي �أ�صابها وهي تراه تلك الليلة التي عاد فيها من �سفر ليقابل زمرد �أمام غرفتها،
وكم بدوا منا�سبني �ضحكت زمرد وقتها لت�شاركها الدموع وحتت�ضنها بقوة حماولة
354
طم�أنتها �أن �سليم مل يحظ �سوى مبكانة الأخ لها ،لتبوح لها مبكنونات �صدرها وما
حتمله جتاه يامن وتخربها زمرد بو�صية والدتها لهما ،نامتا تلك الليلة ويداهما بيد
بع�ض على وعد بالتفكري يف �أمر ال�سفر من رحاب ،خ�صو�صا بعد �أن طم�أنتها زمرد
ب�سفرها معها ،تذ ّكرت تلك اجلملة التي قر�أتها يف كتاب كانت تقر�أه رحاب
�إين ر�أيت يف معا�شرة احلزين للحزين �شي ًئا من الفرح يتن ّف�س به احلزن على
احلزن
الرافعي
M
ر ش
والتوزي
طرقت الباب لتدخل مكتب اللواء بعد �أن �سمح لها ،جت ّمدت مكانها و�شحب
ع
وجهها وهي تراه �أمامها ،كم مر من الوقت� ،أ�سبوعان ثالثة منذ �آخر لقاء لهما،
رم�شت بعينيها وهي حتيد ب�أنظارها عنه وهي تلمح ملعة غريبة يف عينيه� ،سمعت
�صوت اللواء وهو يقول«:تعال ُغفران ،لقد ات�صل بي الدكتور �آ�سر طال ًبا ر� ِ
ؤيتك
رف�ضك ،والآن �س�أترككما معا،
ِ إخبارك حتت طلبه ،يبدو �أنه خمن
و�أنا مل �أ�ستطع � ِ
فلقد حظيت بوقتي معه لن�صف �ساعة اطم�أننت منه على حالة �أمرية امل�ستقرة والآن
اعذروين»
ملحت بطرف عينيها خروج اللواء من مكتبه لتنظر للباب للحظات وهي تفكر
هربت» رفعتخلفك �إن ِ�أنها لو هربت الآن لن يحدث �شيء �سمعته يقول�«:س�أرك�ض ِ
عينيها له لتلمح ابت�سامته وهو يقول«:بد�أت �أ�شعر بالإحراج من اللواء ح�سني و�أنا
ؤيتك فيها»
�أخرجه من مكتبه كل مرة �أريد ر� ِ
لك ب�شدة»،
مل تقل �شيئا ليتنهد بخفوت وهو يقول دون �أي مقدمات«:ا�شتقت ِ
�شحب وجهها لتت�سع عيناها ب�صدمة ليكمل متجاهال �صدمتها وهو يقول«:ا�شتقت
عينيك الباهت الذي ي�شتعل كلما �شعرت بالغ�ضب ،ا�شتقت
ِ بك ،للونلكل �شيء ِ
355
ل�صمتك هذا
ِ �شعرك املرتاخية ولل�سواد الذي حتبني االت�شاح به ،ا�شتقت حتى
ِ لربطة
أنك لن جتيبيني ب�شيء» و�أنا �أعلم � ِ
ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر بنار تخرج من وجهها لتبتعد ب�أنظارها عنه
وتتخطاه لتجل�س على �أحد الكرا�سي بتوتر وا�ضح ،ليجل�س �أمامها وهو ينظر لها بعني
خمتلفة ،ينظر لها بنظرة رجل اختار امر�أة لت�سكن قلبه.
�س�ألته بعد �صمت دام للحظات«:ملاذا طلبت ر�ؤيتي؟!» �أجابها�«:أظنني
أخربتك ب�إجابتي للتو» مل ترفع نظراتها له ك�أنها غري مقتنعة ب�أن هذا �سببه الوحيد
ِ �
لر�ؤيتها ليجيبها«:رمبا مل يكن ال�سبب الوحيد ،لكن �أنا رغبت ب�شدة يف ر� ِ
ؤيتك،
ع
لك
ؤيتك واالعتذار ِ
الأيام ال�سابقة كانت من �أق�سى �أيام حياتي ،رغبت ب�شدة بر� ِ
الكت ريص
لك»
منك واالعرتاف ِوطلب ال�سماح ِ
توزيع
لذيذة لقلبها وهي تراه ينظر لها بحنان لطاملا ملحته يف عينيه لأمرية«:رغبت
خذلتك ،لقد
ِ منك لأنني �أنا من
باالعتذار عما قلته يف �آخر لقاء لنا وطلب ال�سماح ِ
لك ،ر�سم يل طريق لأول مرة �أم�شي فيه و�سعيد ب�أنهجئت بعد �أن وجهني قلبي ِ
أخربك به»
لك وهذا يو�صلني لالعرتاف الذي �أريد �أن � ِ�أو�صلني ِ
نه�ضت من مكانها وهي ت�شعر لأول مرة باخلوف من قلبها ومما يريد قوله
لتقول«:ل�ست يف حاجة لقول �شيء ،و�أنا غري ُمرغمة للبقاء واال�ستماع ملا لديك ،مبا
�أن �أمرية بخري كما قلت للواء فهذا يكفيني»
كادت �أن تلتفت حني �شعرت بكف �آ�سر يقب�ض على ذراعها بقوة ليجربها على
االلتفات والنظر �إليه ليقول بقوة«:توقفي»
رفعت عينيها له وهي تنظر له بده�شة ُم�ستغربة غ�ضبه لت�سمعه يكمل من بني
�أ�سنانها�«:ستجل�سني الآن و�ست�ستمعني العرتايف اللعني و�س� ِ
أجربك على اال�ستماع
ي�سرك ُغفران والآن اجل�سي»،
ِ لكل كلمة فيها و�إال �سرتين مني وج ًها �آخر لن
ازداد �شحوب وجهها وهي ال ت�صدق حديثه لتجل�س على الفور بعد هتافه الثاين
بها لتجل�س ،ملحته يتنف�س بقوة وهو يتحرك �أمامها يف الغرفة ليقف �أمام الكر�سي
356
املقابل لها ليجل�س عليه وهو يتنهد راف ًعا كفيه مي�سح بهما وجهه بقوة لينظر لها
بغ�ضب ثم حلظات والنت مالحمه وهو يرى الطفلة التي بداخلها ت�سرتق النظر له
بخوف من عينيها ،ا�ستغفر يف �سره وهو ينظر لها جمددا ليقول بتعب�«:أنا متعب
للغاية ُغفران ،لأول مرة �أ�شعر بكل هذا التعب ك�أنني كنت على �سفر مل�سافة طويلة
جدً ا� ،أ�شعر بالغربة جمددًا داخل منزيل ،غربة جتاوزتها يف بداية عملي بان�شغايل
رحيلك عني»
ِ به ،وعادت يل بعد
ارتع�شت حلديثه ليكمل �آ�سر �ساردًا كل خماوفه �أمامها من �أن يكون �أم ًرا ُم�س ّل ًما
لها كما كان لكل �شخ�ص يف حياته ليعيد جمددًا اعرتافه لها بحبه وته ّربه من
م�شاعره بعد �أن ظن �أنها جمرد حالة دفعته حلمايتها رغم االختالفات التي بني
ريص ع
لك تكمن يف اختالفنا� ،شخ�صية ُم ّلة مثلي �شخ�صيهما �إال �أنه �أخربها«:قوة حبي ِ
بل
أنت الألوان اخلالبة يف حياتي مزيجا ال مثيل لهِ � ،
مثلك �سيخلق ً
ر
الباهتة يا ُغفران ،منح ِتني ما كنت ً
ع والتوزي
�شعرت بال�صدمة من الكم الهائل من امل�شاعر التي ملعت بعينيه ،ليكمل مف�س ًرا
حديثه«:نعم احلياة يا ُغفران ،طوال �سنوات عمري كنت ً
دوما �أحيا من �أجل ما
يريده مني الآخرون ،كربت يف �أ�سرة ُمبة اهتزت رابطتها بفقدان االبنة لأجد
نف�سي �أمام �أمر مل �أفهم جيدً ا مقدار الأمل امل�صاحب له ل�صغر �سني ،ولكن وجدت
�أبي يريد مني البقاء بجانبه ويف ظهره حتى ال يقع وهو ي�سند �أمي ،ويف نف�س الوقت
�أبث احلب وكل م�شاعر احلنان لأمي حتى �أعو�ضها عما فقدته ،ثم �أخي الر�ضيع
الذي مل مير على والدته �أيام ويجب على �أحدهم �أن يراعيه لتيه �أمي طوال الوقت
يف مو�ضوع البحث عن توءمته.
كان يجب �أن �أكون ما يريدونه لأنه لي�س هناك خيار �آخر حتى �أ�صبحت ما �أنا
عليه الآن ،لكن جرحا �صغريا ال يندمل بداخلي طوال تلك ال�سنوات ،لأن ال �أحد �س�أل
عن الطفل الكبري وعن م�شاعره وقتها ،مل ي�س�ألني �أحد عن �آالمي التي �شعرت بها
بعد �أن بد�أت �أعي ما حدث ،لأدفن تلك الآالم داخل هذا اجلرح الغائر و�أكمل حياتي
جتاهك �أحيا هذا الطفل من جديد لأجد ِ بها كما يريدون ،ما �شعرت به داخل قلبي
�أن اختالفنا يف الرجل الذي �أ�صبحت عليه ولكن الت�شابه مع هذا الطفل بداخلي
357
أنت دوائي من الداء الذي الزم حياتي ،ال �أعلم �أنا � ً
أي�ضا الذي يلعق �آالمه ل ُيط ّيبهاِ � ،
لك به» ،طال أخربتك بهذا ال�سر الذي ال يعلم به �أحد ولكن �أردت ح ًقا �أن �أبوح ِ ِ مل �
ال�صمت بينهما لتخربه غري ُم�ص ّدقة قدرته على �إخراج ما بداخلها عن م�شاعرها
تلك الليلة التي انهارت فيها يف منزله ،وبقي بجانبها يقويها بكلماته لتعود خلوفها
وهي تقول�«:أنا مل �أعتد �أن �أكون �ضعيفة يا �آ�سر ،وهذا الأمر هذا الأمر يخيفني،
دوما كنت �أفكر يف اخلطوة وتبعاتها قبل �أن �أخطوها و�أتبع كل الآثار املُرتتبة عليها ً
لأرى �إن كان هناك �ضرر �أم ال� ،إال معك �أنا �أخطو يف طريق جمهول ال �أعلم مالحمه
فقط �أتت ّبع �أثرك وك�أنه ال�صواب� ،أنت تقول �أنك خائف من �أن تكون من املُ�س ّلمات يل
يوما من املُ�س ّلمات ،كل مرة �أ�ست�سلم فيها ملخاويف ،ل ُعقدي والعطب و�أنا مل �أعتربك ً
ص ع
الذي بروحي �أجدك واق ًفا كال�صخر جتذبني �إليك جذ ًبا ،تنجدين من ظلماتي التي
الكت ري
ال نهاية لها ،فكيف �أعتربك من املُ�س ّلمات و�أنا ال �أ�شعر باالطمئنان �إال بوجودك وهذا
توزيع
�أغم�ضت عينيها بقوة وهي ترفع قب�ضة يديها وت�ضعها على قلبها وهي جتيبه«:يا
�إلهي كم �أردت االبتعاد ،كما رغبت ب�شدة يف دفعك بعيدً ا عني ولكن هذا القلب ال
�أ�ستطيع ،كل من يبقون حويل يرحلون و�أنا� ..أنا �أحببت ماما هنية �أم عمران وعندما
ماتت �آملني قلبي بقوة �آ�سر �شعرت �أنني �أموت ،وبعد موت عمران �أنا� ..أنا لن �أحت ّمل
�إن»...
نه�ضت من مكانها ت�شعر ب�أنها باحت بالكثري� ،شعرت باالختناق لتلتفت �إليه
لتقول �أول كلمة خطرت على بالها�«:أنا �س�أ�سافر ،لقد جهزت �أوراقي� ،أنا لن �أعود
قري ًبا ،لن �أ�ستطيع �أن �أمكث هنا بعد الآن».
ارجتف قلب �آ�سر وهو ينه�ض من مكانه ليقف �أمامه لي�س�ألها بتوتر«:ت�سافرين»!
هزت ر�أ�سها وهي تبتلع ريقها ب�صعوبة لتقول بجمود«:نعم لقد �أخربت اللواء
ح�سني وجهزت الأوراق معه� ،أنا يجب �أن �أرحل ،ال مكان يل هنا وال �أحد يل هنا،
لقد تقرر موعد �سفري ،ومل �أقرر بعد �إن كنت �س�أعود �أم ال ،هل ترى �آ�سر رمبا �أنت
تركت �أثرك بداخلي ولكن هذا القلب ال يحمل �أي �شيء بني جنباته يف الوقت الذي
كنت ت�شتاق �أنت يل� ،أنا كنت �أكمل حياتي و�أفكر يف م�ستقبلي� ،أنا يجب �أال �أبقى هنا،
358
ال �أمل لنا م ًعا ،يف احلقيقة ال �أمل يل مع �أحد� ،أنا مل �أتخط بعد فقدان عمران وهو
ح�س ًنا لقد حملت يف قلبي م�شاعر له بحكم عي�شنا م ًعا ل�سنوات عمري كلها ،لذا تلك
امل�شاعر التي تتح ّدث عنها رمبا �شعرت ببع�ضها ولكنها مل تكن قوية كفاية لأجتاز
أنك رغبت بال�صراحة فها �أنا �أخربك بها ،رمبا من
بها �آالمي �أعتذر منك ولكن مبا � ِ
الأف�ضل �أن تفكر يف �أخرى ،ال حتمل عقدا بحياتها ،لها هوية تفتخر بها ،ففي النهاية
هي من �ست�شاركك حياتك وحتمل لك �أطفالك».
كان عليها �أن تقول كل هذا حتى لو كان بع�ضه كذ ًبا ،هي ال ت�ستطيع �أن تتق ّبل
�أي م�شاعر مهما كانت ،روحها املُعتمة وقلبها الأ�سود ال �شيء قادر على �إزالة ما به
ومل�ؤه بامل�شاعر اجليدة ،هي تعي �أن بعد كل ما �أجرمته يداها ال ت�ستحق ال�سعادة ،ال
ريص ع
ت�ستحقها بعد موت فريوز وعمران ووالدته ،ال ت�ستحقها بعد �أن قتلت كال من والديها
ع
يجرحه بداية برف�ضها م�شاعره واعرتافها بحمل م�شاعر لعمران الذي مل ت�ستطع
جتاوز موته حتى الآن ،جعلته يظن �أنه خ�سر �أمامها وهو �ص ّدقها.
M MM
359
عِ دّي مني باقي يل و�أنتِ م�ش هنا
هالقي مني يف بعدكِ مينع ال ُبكا!
حممد �سعيد
الف�صل التا�سع ع�رش
الرحيل
دلف لغرفته وهو ي�شعر ب�آالم متفرقة يف كل �أنحاء ج�سده� ،أخرج الظرف الذي
�أعطته والدته له عند عودته بعد �صدمته مبعرفته ب�سفرها ،هو مل ي�س�أل ،مل يك ّلف
ريص ع
الكت
نف�سه ال�س�ؤال عنها ،كان يحتاج لبع�ض الوقت يف �إنهاء عمله املكتبي والتقارير
توزيع
عينيه وهو يقب�ض على الظرف بقوة وهو يهم�س بغ�ضب«:جبان وكاذب �أنت مل حتتج
لأي وقت �سوى لهروبك من م�شاعرك� ،أنت خفت ،خفت و�أنت تكت�شف كل حلظة �أنك
تهيم بها ع�ش ًقا ،خفت حتى خ�سرتها ،لقد رحلت هذه املرة ب�إرادتها».
فتح عينيه وهو ينظر للظرف �أمامه الذي �أعطته له والدته وهي تخربه �أن زمرد
تركته ،قربه من �أنفه يحاول �أن يلتقط �أي رائحة لها� ،أي �شيء تركته ليبكي عليه
فراقها ،فتح الظرف وبد�أ يقر�أ ر�سالتها
«يامن ،يامن مان
�ساحمني لأنني مل �أخربك ب�أمر �سفري مع رحاب ،لكن �ص ّدقني هذا الأف�ضل لنا.
�أحيانا يجب علينا فقط الرحيل ال ل�شي ِء �سوى �أ َّننا تعبنا ،و�أنا تعبتُ ،طريق
يوما ُمهدً ا ،لي�س يل ذكريات ُتعينني على امل�ضي ً
قدما، حياتي حتى الآن مل يكن ً
وجراح قلبي قد تق ّيحت� ،سيداويها الزمن نعم ،ولكن حتى يفعل يجب �أن �أرحل ال
منك دون عطاء و�أنت الوحيد معك� ،أن �أقتات من ُق َّو ِت َك� ،أن �آخذ َ
ا�ستطيع �أن �أبقى َ
معك ولكن ُكرهً ا يف �أن
يوما ب�شيءِ ،رحيلي لي�س ُكرهً ا يف �أن �أبقى َعلي ً
الذي مل يبخل ّ
362
معك ،ي�صر القد ُر على �أن ي�ضعنا يف مفرتق الطريق ،ولأول �أخ�سر نف�سي �أكرث و�أنا َ
مرة �أرف�ض �أنا هذا املفرتق لأختار طريقا �آخر بعيدً ا عنك ،فقط كن على يقني �أ َّنني
يوما �إليك و�س�أعود حينما �أجد نف�سي التي تهواها ال نف�سي التي لن �أن�سى طريقي ً
ال �أنا وال �أنت نعرفها ،ما فعلوه معنا جعلنا نخ�سر الكثري� ،أنا ال �أريد خ�سارة نف�سي
�أكرث ،ال �أريد خ�سارة روحي والأهم ال �أريد خ�سارة �إن�سانيتي ،ما فعلوه كان ب�ش ًعا،
قاد ًرا على �أن يطم�س كل جميل فينا لذا دعني �أجذب حبال �إن�سانيتي ببقايا قوتي
حتى ال تنقطع احلبال وتخور قوتي و ُيغ ّلف روحي ظالم الق�سو ِة ،لأول مرة �س�أط ُلبها
منك ُاترك يدي حتى �أجدين.َ
زمردتك الغالية»
ع
M
يف منزل بكندا
نظرت من النافذة وهي ترى العائالت جمتمعة يف املنتزه الكبري الذي تطل عليه
ال�شقة التي ت�سكن فيها مع رحاب ،اليوم عطلة لذا جميع العائالت يف احلي الذي
ت�سكن فيه يجتمعون يف املنتزه الكبري لق�ضاء يوم العطلة باخلارج ،ملحت بعينيها
دوما و�أغدق عليهارجال يحمل ابنته فوق كتفه لتبت�سم بحنني لذلك الذي حملها ً
ترحمت عليه هو ووالدتها لتعود بذاكرتها لرجل �آخر ي�شبهه يف احلنان. بحنانهّ ،
«ال ترحلي» �أغم�ضت عينيها وكلمته التي خرجت بنربة تو�سل حزين جتلدها
لتتذكر تلك املكاملة الأخرية بينهما مكاملة �أمرها فيها ب�أال تذهب لتتواىل اعتذاراته
لتخربه �أنه وجب �أن تبتعد تذكرت غ�ضبه وهو يظن �أنها مل تغفر له لتخربه مبا
فكرت به طوال تلك الفرتة ب�أنها يف حاجة لأن تعيد الروح التي فقدتها من زمن
لنف�سها لتكون املر�أة التي ي�ستحقها ،غ�ضبه الكبري منها وهذره مبا قاله باكتفائه به
واحتياجه لها لقد ذكر كل الأ�سباب �إال ال�سبب الوحيد الذي كانت تتمناه ،تو�سلته �أن
363
يرتكها ترحل لكي تكون ما ترغب وحتاول بناء نف�سها جمددًا ولت�ساعد رحاب التي
يف حاجة �إليها ،عنادها معه ورف�ضها لأن تبقى رغم احتياجه جعله يهدر بها يف
إياك �أن تعودي».
نهاية املكاملة وهو يقول�«:إذا ارحلي زمرد وال تعودي � ِ
�س�أتخيل �ألف �ألف مرة �إىل �أي درجة ت�ستطيع �أنت �أن تق�سو ،و�إىل �أي درجة
ت�ستطيع �أنت �أن ترفق لأعرف �إىل �أي درجة ت�ستطيع �أنت �أن حتب ويف �أعماق نف�سي
يل ما عجز دونه الآخرونيت�صاعد ال�شكر لك بحو ًرا لأنك �أوحيت �إ ّ
�أتعلم ذلك� ،أنت الذي ال تعلم؟
�أتعلم ذلك� ،أنت الذي ال �أريد �أن تعلم؟
ريص ع
الكت
مي زيادة لـ الرافعي
توزيع
امل�سافات بينهما �إال �أنهما ما زاال يت�شاجران لتنه�ض من �أمام حا�سوبها دون �إغالق
املكاملة لت�أتي زمرد وته ّدئ من الو�ضع بينهم فتعود رحاب لتتح ّدث معه ك�أنهما مل
يت�شاجرا منذ دقائق ر�أت احلا�سوب بالفعل مفتوحا ورحاب باملطبخ ويبدو �أنها تفرغ
غ�ضبها على الأطباق بالداخل ،جل�ست زمرد على الكر�سي �أمام احلا�سوب بعد �أن
ارتدت حجابها لتقول بهدوء«:ح�س ًنا ماذا حدث هذه املرة؟!»
364
انتف�ض قلبه �شو ًقا لها ليقول بهدوء«:مرح ًبا» �أجابته بهدوء مماثل وهي حتاول
حالك؟!» �أجابته«:ب�أف�ضلِ ال�سيطرة على م�شاعرها«:مرح ًبا» �س�ألها«:كيف
ؤيتك» مل ت�ستطعحال ال�شكر هلل و�أنت كيف حالك؟!» �أجابها«:بخري الآن بعد ر� ِ
التفوه ب�شيء وهي ت�شعر ب�شخ�ص خمتلف �أمامها� ،سمعته يقول�«:سمعت من رحاب
�أنك ُتد ّر�سني يف مدر�سة لريا�ض الأطفال» حانت منها ابت�سامة وهي تقول«:نعم،
�أجد نف�سي يف هذا العمل مع الأطفال� ،إنهم طاقة ال تن�ضب �أبدً ا» �أجابها
مبتابعتك مع الطبيبة» حتدثت بعدِ بابت�سامة«:جيد� ،سعيد من � ِ
أجلك كما �سعيد
لك»حلظات بهدوءُ «:مبارك لك ترقيتك» �أجابها�«:شك ًرا ِ
�ساد ال�صمت لدقائق �شعرت بها �ساعات وهي جال�سة �أمامه ت�شعر باالرتباك رغم
ريص ع
كل تلك امل�سافات التي بينهم ليقطع �أخ ًريا ال�صمت«:زمرد �أنا مل �أ�ستطع القدوم
والتوزي
منعتك بالقوة» ابتلعت ريقها لتقول بهدوء �أمل قلبه�«:أعلم».
ِ للمطار لكنت
أحببتك،
ع
�ساد ال�صمت جمددًا وهي ت�شعر بقرب انهيارها لتقول بارتباك�«:أنا يجب �أن».
أحبك ولطاملا � ِقليل�«:أنا � ِ �سرعا وهو يقول ب�صوت مرتفع ً قاطعها ُم ً
أحببتك و�أنا طفل يف العا�شرة من عمري و�شاب يف الع�شرين منه ا�شتاق ملحبوبته � ِ
الغائبة عن عينيه ورجل يف الثالثني عرث عليها �أخ ًريا ولنهاية العمر الذي يكتبه اهلل
أحبك» �شهقت بخفوت وهي تهم�س با�سم«:يامن» ليكمل دون �أن دوما � ِ
يل �س�أظل ً
متنعه«:زواجنا �سيكون مع رحاب و�سليم ،واتفقت معه على �أن يكون بعد عودتكما يف
الزيارة الأوىل على الفور» ال ت�ص ّدق ما يتف ّوه به لتهم�س جمددًا با�سمه«:يامن».
ليكمل وك�أنه كان يف انتظار �أن يتفوه ب�أول كلمة لت�أتي الكلمات وراء بع�ضها�«:أنا
قراءتك
ِ عليك ف�أنا �أ�ستطيع
ال �أوافق على فرتة اخلطوبة ف�أنا ال �أحتاجها لأتع ّرف ِ
كخطوط كفي لذا �سنتزوج على الفور».
هتفت به«:يامن توقف» ليهتف هو الآخر«:ال لن �أتوقف وال � ِ
أوافقك على �أي
اعرتا�ض».
365
�ساد ال�صمت بينهما بينما يعلو �صدرها ويهبط من ال�صدمة لرتاه يتنف�س
ب�صعوبة وهو يقرب احلا�سوب منه ليقول بهم�س�«:أنا � ِ
أحبك وال �أطيق �ص ًربا على
عفوك ،قويل
إليك و�أطلب ِ لتو�س ِلك املوافقة �س�أفعل� ،س�أتو�سل � ِ
ؤيتك و�إن ا�ضطررت ّ ر� ِ
إليك كفانا بعادا� ،أنا
أنك موافقة� ،أو حتى ال تقويل ،لقد اتفقنا وانتهى الأمر �أتو�سل � ِ� ِ
جراحك،
ِ ُ
تركتك ترحلني دون �أن �أطيب
ِ �أموت �شو ًقا �إليك ،و�ألعن نف�سي كل يوم لأنني
إليك دعينا نق�ضي ما تبقى من عمرنا م ًعا ،دعينا منك املغفرة� ،أتو�سل � ِ
دون �أن �أطلب ِ
نفعل».
كادت �أن جتيبه لتقاطعها رحاب ب�صراخها ليتدخل �سليم هو الآخر ي�صرخ
ع
بوجهها ملقاطعتها االعرتاف الذي كانت �ستبوح به زمرد فتنظر للأخرية بندم
الكت ريص
معتذرة لي�ضحكا على موقفها و�سليم يعنفها وهي حمل وديع �أمامه.
توزيع
لر�ؤيتكما م ًعا يف بيت واحد ،يا اهلل لن مير يوم دون �إ�شعال املنزل» �ضمت رحاب
رحيلك وهو
ِ ل�صدرها وهي تقول«:ف ًكري � ِ
أرجوك� ،إنه يتع ّذب زمرد ،من بعد
يتع ّذب».
جل�ست تلك الليلة تفكر يف ما �أخربته به رحاب عن عذابه الذي كان طوال فرتة
غيابها وا�ستمر بعد �سفرها
تذكرت ما كتبه لها
«لقد كان فرا ًقا ل�سنني يا ف�ؤادي ،ما �أوجعنا فيه �أنه مل يكن ُم ً
ططا له ،مل نفكر
إيالما �أنه
فيه للحظة� ،أتظنني �أن الأمر ُم�ؤمل ،بل الأمر فاق حدو َد الأ ِمل ،ولكن الأكرث � ً
يوما كما كانت ،منذ اللحظة
منذ اللحظة التي ِافرتقنا فيها و�أنا �أعلم �أن حياتنا لن تكن ً
اخلوف� ،أت�ساءل كيف
ِ الندم ،ب�سياط أخذوك فيها مني و�أنا �أجلد نف�سي ب�سياط ِ التي � ِ
ت�شعر الآن؟ ومن يهتم بها؟ هل ت�شعر بالأمان؟ هل ت�شتاق؟ ولكن كل تلك الأ�سئلة
مل ٌت�ؤمل قلبي� ،س�ؤال واحد فقط جعلني كل تلك ال�سنوات �ألهث خلف ِ
دليل ُيو�صلني
�إليك ،هل تظن �أنني تركتها؟! هل تعتقد �أنني ما عدتُ �أبحث عنها؟! ما عدت �أريدها!
366
كنت خائ ًفا ب�شدة من �أن ت�س�أيل هذا ال�س�ؤال وتكوين على يقني بالإجابة اخلاطئة،
إيجادك �سواي.
ِ أنك ال تريدين لأحد �
ف�أنا �أدرك � ِ
كنت تناديني
أنك ِوجدتك فيها و�أول ما �أخربوين به �أ�صدقا� ِؤك � ِ
ِ حتى اللحظة التي
أجدك فيه.
أحالمك با�سمي ،حتلمني باليوم الذي � ِ ِ كل ليلةُ ،ك ِ
نت تهم�سني يف �
هل تظنني �أن هذا �أراحني؟! ال لقد زاد من �آالمي كن�صل ُم�سمم ِانغرز يف قلبي
أجدك لقد ت�أخرتُ وكمومل ُيخرجه �أحد� ،آملني ب�شدة �أنني �أخذت كل تلك ال�سنوات ل ِ
�أنا نادم لت�أخري ،لأنني الآن �أدرك �أن ما كان بيننا لن يكون �شفي ًعا لت�أخري ال�شديد
عليك ،هناك �شيء ُفقد بيننا كانت �سببه كل تلك ال�سنوات ،رمبا هي مل ُت ّغي ما كان ِ
غيتنا ،جزء بداخلي ّ
ع
إيجادك وانا �أعلم
ِ لفقدانك ولعجزي على �
ِ حتطم بيننا ولكنها ّ
ل
يل. ِ وقتما
ع
خ�سارتك جمددًا ،قلبي على ا�ستعداد
ِ ا�ستطاعة الوقت يهزين ب�شدة فقلبي ال يريد
أنت هنا بجواري ،لن ي�ستطيع �أن يطلب ال�سماح تام ب�أن يدفع ثمن �أخطائه ولكن و� ِ
منك و�أنت بعيدة عنه»ِ
خرجت من �أفكارها على ر�سالة بهاتفها ففتحتها«:وافقي يا ف�ؤادي»� ،أر�سلت
له ر�سالة«:ما ق�صتك مع الف�ؤاد؟!» انتظرت حلظات حني ر�أت �أن ر�سالتها قد قر�أه
لتجده يكتب«:من لطائف اللغة العربية �أنه ال ُيقال عن القلب (ف�ؤاد) �إال �إذا كان
احلب ُم�ستق ًرا فيه» ،ارتع�ش ج�سدها ومل تق َو على قول �شيء لتجد ر�سالة �أخرى
�صمتك موافقة يا ف�ؤادي؟!»
ِ منه�«:إذا هل �أعترب
M
بعد يومني
كانت ترك�ض على ال�شاطئ ب�سرعة حتى و�صلت ملكان اللقاء لت�سمع �صوت طبيبتها
مواعيدك»
ِ دوما حتافظني على تتحدث باللغة الإجنليزية«:يف الوقت املنا�سبً ،
367
حاولت تنظيم �أنفا�سها وهي تخرج زجاجة مياه من حقيبتها لت�شرب القليل منها
معك» ،ابت�سمت لها وهي تقول«:ال �أ�ستطيع الت�أخري و�أنا �أعلم �أن وقتي حمدود ِ
لك ُغفران» ،ابت�سمت ُغفران الطبيبة وهي تقولِ �«:
أنت تعلمني �أن وقتي ُمتاح دائما ِ
لها بامتنان وهي تقول«:اذا هل نبد�أ؟!» �أجابتها الطبيبة وهي تع ّدل من حقيبتها
يف ا�ستعداد منها مل�شاركتها الرك�ضَ «:مل ال؟ �أخربيني �أوال ما �سر تلك الب�سمة على
وجهك �أهي ر�سالة جديدة من ذلك الـ �آ�سر؟!»
ِ
معك عنه»ات�سعت ابت�سامة ُغفران وهي تقول«:اليوم �أ�ستطيع احلديث ِ
وغفران ت�سرد لها �أحداث يومها ولأول مرة �ستُح ّدثها عن �آ�سر،بد�أتا يف الرك�ض ُ
ع
الطبيبة جاكلني ،طبيبة نف�سية قابلتها زمرد بعد رحيلها لكندا ب�شهرين ،قررت بعد
الكت ريص
و�صولها لكندا وا�ستالمها العمل الذي �ساعدها يف اللواء ح�سني يف احد امل�ست�شفيات
شر وال
يف حياتها ويف التعامل مع الغرباء من حولها ،رمبا مل تقم ب�أي �صداقات هنا ولكنها
توزيع
ازدادت قر ًبا من زمرد و�أختها رحاب ،ت�ضحك معهما على طرائف �سليم مع رحاب
وت�ستمع باهتمام لأ�سرار زمرد و�شوقها الكبري ليامن ،لكنها حتى الآن مل ت�ستطع
البوح مل�شاعرها مع �أحد �سوى الطبيبة جاكلني التي تف ّهمت كل ما حدث بحياتها
يف م�صر ومل ترف�ض م�ساعدتها ،بل على العك�س ازدادت الروابط بينهما ف�أ�صبحتا
ك�صديقتني ُمقربتني.
بد�أت حديثها عنه وهي ت�سرد لها ما ح�صل قبل �سبعة �أ�شهر يوم �سفرها حني
بدل من الرجل الذي �أخربها اللواء ب�إر�ساله تفاج�أت بانتظارها �أ�سفل �سكنها ً
لإي�صالها ،تذكرت �صدمتها بر�ؤيته هاد ًئا على غري عادته يداري بابت�سامته احلنونة
حزنه كان كما و�صفته �أمرية لها يف �آخر مكاملة بينهما� ،أخربها ب�أنه جاء ليودعها
يوما ور�أته
لتظن وقتها �أنه فقد الأمل بها لت�سمعه يخربها مبا مل ت�صدق وجوده ً
ب�صدق يف ملعان عينيه ،مل ت�ستطع التفوه بكلمة وهي تنهل من كلماته التي �أودع فيها
�صدق م�شاعره بينما يقود �سيارته للمطار يف هدوء.
«لفد ف ّكرت يف حديثنا الأخري م ًعا ،ف ّكرت يف كل كلمة قل ِتها ،وتو�صلت لعدة
�شخ�صا �آخر غريي،
ً معكُ ،غفران �أنا ال �أمانع �أن حتبي
حقائق �أريد م�شاركتها ِ
368
م�شاعرك جتاهه
ِ ي�ؤملني قلبي لذلك نعم ،و�أ�شعر باملرارة داخل حلقي و�أنا �أتذ ّكر
م�شاعرك
ِ نعم ،رمبا هو ما عاد بيننا وهذا جعلني �أفكر يف �أول حقيقة� ،أنا ال �أمانع
أحبك حتى ولو مل حتبيني ثم جئت حبك� ،أنا ما زلت � ِ
جتاهه لأنها ال متنعني من ِ
أجعلك حتبيني ،ذلك احلب الذي ميلأ للحقيقة الثانية وهي �أنني با�ستطاعتي �أن � ِ
ويجعلك يف النهاية معي، ِ قلبك
منحك ما تريدينه منه طاملا �سينع�ش ِ ِ قلبي �أ�ستطيع
رحيلك
ِ وحدك ح�س ًنا �أنا لن �أمانع ِ جراحك
ِ تريدين الرحيل عني ُمبتعدة حتى تلعقي
م�شاعرك جتاهي،
ِ بك تهربني مني ومن بوجهك �إن �شعرت ِ
ِ ولكنني �س�أقف دائما
وهذا يو�صلني للحقيقة التالية� ،أنا ال �أريد �أي امر�أة �أخرى بهوية �أفتخر بها �أو تكون
� ًأما لأوالدي �أو �أي كان الهذر الذي �أخرب ِتني به� ،أنا ال �أهتم ب�أي �أوالد �إن مل تكوين
ريص ع
أنت
أريدك � ِ
أنت والدتهم وهذا يو�صلني حلقيقة �أنني ال �أريد �أي امر�أة �أخرى� ،أنا � ِ � ِ
ع والتوزي
حتى لو مل تكوين معي»
�ضحكت بخفوت وهي ت�سرد على طبيبتها حالتها وقتها واخلر�س الذي �أ�صاب
ل�سانها� ،أخربتها على اتفاقه معها �أو بالأدق �أوامره لأنها مل جتبه ب�شيء وهو ي�أخذ
منها هاتفها لي�سجل رقمه وبريده الإلكرتوين ويفعل املثل معها ،ثم �أخربها بو�ضوح
�أنه �سري�سل لها ر�سالة كل يوم� ،سيبوح لها بكل ما يحمله �سي�سرد لها ذكريات طفولته
لتعي�ش معه املا�ضي واحلا�ضر � ً
آمل يف �أن ت�شاركه امل�ستقبل.
�س�ألتها الطبيبة وقتها عن رد فعلها ف�أخربتها �أنها تركت ال�سيارة مبجرد
و�صولهما للمطار بدون التفوه بكلمة لتنهار دواخلها كلها بعد �سماعها حلديث زمرد
مع يامن على الهاتف وهو يتو�سل عودتها وهي تخربه برغبتها يف ال�شفاء من �أجله
فقط ،انهارت بعد �أن �سمعت من زمرد النقي�ض مما هي تفعله زمرد هربت لأنها
�شخ�صا �أف�ضل من �أجل نف�سها �أوال ثم لتكون جديرة باحل�صول على
ً تريد �أن تكون
قلب يامن� ،إمنا هي هربت من كل ما هو جميل حتى ال حت�صل فقط عليه ،هي فقط
جبانة خائفة.
369
�س�ألتها الطبيبة بابت�سامة عما فعلته لتخربها بانهيارها وهي تت�صل به على
الرقم الذي �سجله على هاتفها وتخربه بكل و�ضوح �أن الأمر لن يكون ً
�سهل عليها
و�أنها �ستنتظر ر�سائلها كل يوم� ،أخربته �أنها �ست�شتاق وتو�سلته �أن ينتظرها و�أال
دوما» ليختم
ين�سى ،تذكرت اللهفة يف حديثه وهو يخربها بكلمته امل�شهورة لهاً «:
أحبك ُغفران».
حديثه معها بـ»� ِ
M
م�سا ًء يف بيتها
فتحت عينيها ترمق ال�سقف بوجوم وهي تتذكرها انهيارها الثاين اليوم وجاكلني
ريص ع
أنت ُتبني �آ�سرتعريها �أمام نف�سها لتو�صل لها احلقيقة التي لطاملا خافت منهاِ �«:
ب الكت
بك
يحبك �أو بالأدق يهيم ِ �شكلتك �أن �آ�سر ِ
م�شكلتكُ ،م ِ ُغفران ،ولكن هذه لي�ست
ل
ِ
ن ل
شر وال
قدما
أردت �أن مت�ضي ً أنت خائفة من م�شاعره والتطور الذي يحدث بها� ،إن � ِ ع�ش ًقاِ � ،
توزيع
عليك �أن تتق ّبلي
عليك �أن تقبلي م�شاعر �آ�سر وتعي�شينهاِ ، حياتك يا ُغفران ِ ِ يف
بروحك ،يرغب
ِ بج�سدك كرغبة ج�سدية لكن
ِ بك ،الفكرة �أن هناك رجال يرغب ِ
بك كامر�أة ُتك ّمله».
مب�شاركتك م�شاعره ،يرغب ِ
ِ مب�شاركتك �أيامه ،يرغب
ِ
بالفعل هذه كانت احلقيقة الأخرية التي خافت منها� ،آ�سر بالفعل يرغب بها
كامر�أة ت�شاركه حياته لكنها خائفة بل ُمرتعبة! تنهدت بخفوت وهي متنع دموعها
من االنهيار ال تريد العودة هي تريد التقدم يف حالتها فيكفي ما عانته خالل �أول
�شهرين منذ �سفرها� ،شهرين عانت فيهما من �أ�شباحها ،مل يكن يخرجها �شيء
يوما عن مرا�سلتها ،مل يتوقف من ظلماتها �سوى ر�سائل �آ�سر� ،آ�سر الذي مل يتوقف ً
يوما عن �إخبارها مبدى ا�شتياقه لها ،مبدى حبه لها طوال ال�سبعة �أ�شهر مل يتوقف ً
ين�س.
للحظة ،مل ميل ،مل يي�أ�س ومل َ
جتبه ولو بر�سالة واحدة ،رغم �أنها كانت يف �أق�سى حلظات حياتها رغم �أنها مل ِ
مت�سك هاتفها وتكاد تت�صل به فتغلق الهاتف على الفور لترتاجع عن رغبتها ،حتى
تلك املرة التي ات�صلت فيها ومل تغلق اخلط بفرتة كافية فو�صل �إليه ات�صالها لتتفاج�أ
ويتو�سل �إليها �أن ي�سمع
بعدها بات�صاالته التي ال تتوقف ور�سائله وهو يطالبها بالرد ّ
370
�صوتها ،مل يتوقف بعدها عن االت�صال و�إر�سال الر�سائل وهو يخربها ب�إرهاقه بعد
يوم طويل من العمل ،وهو يخربها بالتطورات يف حياة �أمرية ودخولها كلية الطب
مع �أمري ،حتى يف مر�ضه مل يتوقف عن �إر�سال الر�سائل لها يف منت�صف الليل وهو
ير�سل �إليها �صوره ،مرة وهو مري�ض و�أخري وهو يف العمل و�أخرى وهو حزين م�شتاق
و�أخرى وهو جمنون� ،آ�سر هو من ل ّون حياتها الباهتة ال العك�س.
ما زالت على خطتها مع اللواء ح�سني ويف �آخر الأ�سبوع �ستبد�أ مب�شاركة زمرد
ورحاب معها يف اخلطة فهي يف حاجة مل�ساعدة رحاب و�أ�صدقائها يف اجلامعة.
لك «هل اجلو بارد ِ
عندك؟! ارتدي مالب�س ثقيلة فاجلو هنا بارد للغاية ،ا�شتقت ِ
�صوتك حتى؟!»قر�أت الر�سالة مرا ًرا وهي تتنهد للمرة التي
ع
ِ ُغفران� ،ألن ت�سمعيني
والتوزي
ر�سائلك� ،أنا � ً
ع
لتُغلق الهاتف بعدها وهي تكتم �شهقاتها يف و�سادتها هي بالفعل ا�شتاقت �إليه ولكن
مل توا ِتها ال�شجاعة للبوح بها.
وعلى الطرف الآخر و�صلته ر�سالة برنني مميز و�ضعه منذ �أ�شهر ومل ي�سمعه
على هاتفه �سوى مرة واحدة فنه�ض من على كر�سيه ب�سرعة ليلتقط هاتفه ثم
�أ�سرع بت�شغيل الر�سالة ال�صوتية بعد �أن رفع م�ستوى ال�صوت لي�سمع بحة �صوتها
التي ا�شتاق �إليها ،ت�أوه ب�أمل وهو يجل�س على �سريره يجذب الهاتف لأذنه وهو يعيد
لك و�أعلم الآن يف ر�سالتها لي�ضحك وهو يقول بحب �أيتها اجلبانة� ،أنا � ً
أي�ضا ا�شتقت ِ
أنك ت�شتاقني �إ ّ
يل. � ِ
MM M
371
كلما عمق احلزن حفرة يف كينونتك ،ازدادت قدرتك على
احتواء فرح �أكرث
ص ع
�شقة زمرد ورحاب
الكت ري
�ساد ال�صمت يف ال�شقة للحظات لتقول رحاب بعد فرتة«:ح�س ًنا �أنا ِ
معك� ،أ�ستطيع
توزيع
ي�ساعدين بذلك» ،تن ّهدت ًغفران بخفوت وهي تقول«:ح�س ًنا والآن الن�صف الآخر
من املهمة �سيكون ليامن».
حت ّدث يامن على اجلهة الأخرى من االت�صال بينما ين�صت اجلميع �إليهِ «:
خطتك
تنق�صها الكثري ،اليوم حت ّدث معي اللواء ح�سني و�أخربين بخطتكما فاقرتحت عليه
بع�ض الأفكار» �أجابته ُغفران«:ح�س ًنا ما هي؟!»
�أجابها يامن«:نحتاج حلجة قوية تبعدكما عن ذلك الأمر� ،إن عرف الطرف
الآخر ب�صلتكما بالو�ضع لن يتوانى عن �إر�سال رجاله لت�صفيتكما�«:شهقت رحاب
حماول طم�أنتهما«:لكن �إن و�صل له �أن ال عالقة
ً لتنظر لزمرد ب�صدمة ليكمل يامن
لكما مبا يحدث �سيبد�أ باالن�شغال ملعرفة من وراء كل تلك الأ�سرار وكم من الأ�سرار
يعرف» �س�ألته ُغفران«:اذا ما هو اقرتاحك؟!»
�أجابها يامن وهو يبت�سم«:حفل زفاف» رم�شت ُغفران بعينيها وهي ترى
ابت�سامته وهيئته الغريبة عليها لتقول«:حفل زفاف من؟!» ليجيبها برباءة«:حفل
زفايف على زمرد مع عقد قران رحاب و�سليم»
374
�ساد ال�صمت على الطرفني ليهتف �سليم بعدها وهو ي�ضرب بكفه كتف
يامن«:هذه هي االقرتاحات� ،سلم فاهك يا ابن العم».
ارتفع حاجب ُغفران بده�شة وهي تنظر لزمرد ال�شاحبة ورحاب امل�صدومة لتقول
كا�سرة فرحة �سليم ويامن«:وكيف �سيتم الزفاف بدون العرو�س؟!» لي�صمت �سليم
وهو يعي املوقف لتزداد ابت�سامة يامن وهو يرفع حاجبه ليواجه �أخ ًريا ال�ساحرة
ال�شريرة وهو يقول«:لقد ح�صلنا على �إذن لرحاب بالعودة بعد �أ�سبوعني لق�ضاء
�أ�سبوع �إجازة بعد تو�صية كبرية من الوزارة حتى تعقد قرانها ثم ت�سافر جمددًا
وبالطبع لن تعود رحاب مبفردها بل ومع زمرد»� ،ساد ال�صمت جمددًا ليه ّلل �سليم
ريا بعد �أ�سبوعني» قائل«:لهذا ُخلقت التو�صيات� ،س�أتزوج �أخ ً
وهو ينه�ض من مكانه ً
ل
إمكانك �أخذ �إجازة تلك
ع Mوالتوزي
ف�ؤاده».
ريص ع
اتفقنا» ،ليتحدثوا جمي ًعا«:ح�س ًنا اتفقنا»
ص ع
هم�ست بارتباك�«:أنا ال �أريد ،لدي �أمر طارئ يجب �أن �أقوم به»� ،أجابها من
والتوزي
غري مفهوم ويبدو ك�أنها �شتائم خا�صة لها.
ع
�ساد ال�صمت للحظات وهما جال�سان يف ذلك املطعم لينظر �آ�سر �إليها ب�شرود
بعد �أن �سردت له �أ�سباب قدومها وخطتها قبل �أن يقول ب�سخرية«:مل يكن الأمر
ططا له �ألي�س كذلك؟!»
ُم ً
�أ�سبلت �أهدابها وهي حتارب م�شاعرها ومتنع نف�سها من النظر �إليه والت�أمل
يف مالحمه احلبيبة لتلعن �شوقها الذي جرفها �إليه لي�ضعها يف ذلك املوقف همت
باحلديث�«:آ�سر ا�ستمع �إيل» ليقاطعها وهو يقول�«:صديقة العرو�سة لن تكن حجة
لك» كنت � ً
أي�ضا العرو�س �ستكون حجة قوية ِ لك ،هل تعلمني ذلك؟! لكن �إن ِ
كافية ِ
نظرت له غري ُم�ستوعبة حديثه ليكمل بابت�سامة ن�صر�«:إذا فليكن عقد قراننا
مننحك حجة قوية» هتفت به بقوة«:ماذا؟! ما الذي ِ مع زمرد ويامن � ً
أي�ضا فهكذا
تهذي به؟! �أنا لن �أوافق على هذا ،لن �أوافق �أبدً ا �أبدً ا»
M
377
بعد �أ�سبوع
فندق كبري مبنت�صف القاهرة
ملحا �سيدة تنزل الدرج ُم�سرعة وهي تقول لهما«:العرو�س ترف�ض اخلروج من
الغرفة»
نظرا لها ب�صدمة لي�صعدا الدرج ُم�سرعني لأعلى ،جت ّمد يامن مكانه وهو يرى
زمردته تطرق على الباب وتتحدث بهم�س ملن بالداخل فتن ّهد بارتياح وهو يعي �أن
العرو�س التي تق�صدها املر�أة هي ُغفران بالطبع ،خا�صة لأن زمرد واقفة �أمامه
ترتدي ثوب زفافها.
ريص ع
الكت
«�سبحان اخلالق» هم�س بها وهي تلتفت له حني �سمعت �صوت �أمرية وهي
توزيع
«�أمرية ماذا يحدث؟!»
اقرتبت �أمرية التي ترتدي ثوب �سهرة رقيقا باللون ال�سماوي وهي تهتف
بغيظ«:املجنونة ال تريد اخلروج� ،صرخت يف امل�ساعدات وطردتهن من الغرفة
ملجرد �أن �إحداهن قالت لها �أنها تبدو خالبة وحتما عري�سها لن يكتفي بعقد القران،
يا �إلهي �إنها جمنونة �آ�سر ،ال تريد حتى اال�ستماع يل»
ابت�سم �آ�سر بحنان لأخته وهو يرى �ضيقها الوا�ضح على مالحمها ليق ّبل جبينها
وهو يقول«:ال تقلقي �س�أح ّدثها� ،ساعدي زمرد لأنه يبدو �أن يامن ال ينوي تركها يف
احلال و�أنا �س�أتك ّفل بال�شعلة �آه عزيزتي تبدين جميلة للغاية»
ابت�سمت �أمرية له بخجل فابت�سم على احمرار وجنتيها الذي يجعلها تبدو �أكرث
جمال وهو يحمد اهلل يف �سره على عودتها لتمار�س حياتها الطبيعية رغم تلك ً
الليايل التي ت�شوبها ذكريات كريهة جتعل �أمري ال يتحرك من غرفتها �أبدً ا حتى
يعيدها جمددًا لهم.
378
توجه لباب الغرفة وطرقه بهدوء لي�سمع �صراخها بالداخل«:ابتعدوا �أنا ال �أريد
�أن �أرى �أحدا ،لن �أتزوج انتهى الأمر»ُ «:غفران �إنه �أنا �آ�سر» ،حتدث بهدوء وهو
دوما ولكن هذه املرة يف ثوب �سهرة خا�ص اول تخ ّيلها خالبة كما هي ً يبت�سم ُم ً
لعقد قرانها التي ا�شرتته والدته نظرا للظروف وخلططهم حتى الآن ال ُي�ص ّدق �أنه
خدعها بالكالم حتى توافق ُم�ستعي ًنا مب�ساعدة اللواء وزمرد يف �إقناعها� ،أخرجه
من �أفكاره �صوت حت ّرك طاولة لي�صل لأ�سماعه بعدها ا�صطدامها بالباب لريتفع
حاجباه بده�شة وهو يكت�شف �أنها و�ضعت الطاولة خلف الباب حتى ال يدلف �أحد
للداخل فازدادت ابت�سامته وهو ينتظر �صراخها الذي مل يت�أخر وهي تقول«:ابتعد
�آ�سر� ،س�أقتلك �إن حاولت الدخول� ،إياك �أن تدخل» ناداها با�سمها وهو يقرتب
ريص ع
من الباب لي�ضع �أذنه حماوال الإن�صات ملا يحدث بالداخل لي�سود ال�صمت جمددًا
ر
قليل �أنا ل�ست
والتوزي
م�ستعدة ال ميكن �أن� ..أنا لن �أ�ستطيع �أن ..اللعنة»
ع
�صراخها ب�آخر كلمة الذي �أتبعه �ضربة على الطاولة بقب�ضتها لي�شعر بغ�ضبها
الوا�ضح ليجيبها بعد حلظات بهدوء«:ح�س ًنا ُغفرانِ ،
لك ما تريدينه ولكن لتزيلي
قليل»
الطاولة �أوال من خلف الباب فيجب �أن نتح ّدث ً
�صرخت بال ليتنهد �آ�سر وهو يحاول ا�ستدعاء كامل �صربه حتى ي�ستطيع الدخول
قليل عن طريقها فنظر لها ولكل حادث حديثه ،ملح �أمرية ت�أتي من خلفه لتبعده ً
لها با�ستغراب لتت�سع عيناه وهو يراها ترفع طرف ثوبها وجتل�س على الأر�ض ويف
يديها �سلك رفيع حتاول فتح الباب به ليقول بعدم ت�صديق«:ما الذي؟!» ليتوقف
�س�ؤاله يف حلقه وهو يراها تفتح الباب ب�سهولة لتنه�ض وهي ُتع ّدل من ثوبها لتقول
له بغ�ضب مكتوم«:هل �ست�ستطيع �أن تتك ّفل بالأمر الآن �أم �أدخل �أنا لها لأك�سر لها
ر�أ�سها حتى ت�ستطيع اخلروج والنزول للأ�سفل ال�ستكمال هذا الزفاف ال�سخيف؟!»
م�صدوما من انفعالها وما فعلته مع الباب ليقول بهدوء بعد �أن ا�ستعاد
ً نظر �آ�سر لها
عقله�«:س�أدخل لها يكفيني �شعلة واحدة يف املكان� ،إن تواجدت �شعلتان يف نف�س
379
قليل ليهم�س بجانب �أذنها وهو املكان �سيتم حرقه على �أكمل وجه» ابتعد �آ�سر ً
إمكانك فتح الأبواب املُغلقة ب�سلك رفيع و�إال �س�أقتلكما يقولِ �«:
إياك و�إخبار �آدم �أن ب� ِ
معا»
تغي مالحمها لالرتباك بعد الغ�ضب ابتعد عنها وهو يحاول كتم �ضحكته على ّ
حماول �إبعاد الطاولة عن الباب ليدلف للغرفة ويغلق البابً ليزيح الباب بقوة
خلفه ليقف م�صدوما من هيئة الغرفة والفو�ضى التي تعم املكان والزجاج املك�سور
بجانب �أدوات التجميل التي حتما تخ�ص امل�ساعدات الالتي طردتهن ال�شعلة،
ليبحث بعينيها عنها وهو يرى خلو الغرفة منها� ،شعر بالقلق للحظات قبل �أن يقف
ريص ع
الكت
مكانه وهو ُيد ّقق النظر لطرف ف�ستان �أخ�ضر بجوار ال�سرير ليقرتب بهدوء ليقف
380
ارتع�ش ج�سدها ليت�أوه ب�أمل داخله وهو يفهم مق�صدها ،يفهم خوفها ،يفهم
عدم ثقتها الكاملة مب�شاعره ،يفهم جيدا وغري غا�ضب منها لت�شبيهها له بذلك
احلقري ،وحده يفهمها ،يفهم �أنها عا�شت لت�سعة وع�شرين عاما يف جحيم ،عا�شت
وحيدة ،يتيمة رغم وجود الأم ،يفهم �أنها مل ُت ّرب يوما �أيا من امل�شاعر اجليدة
�سوى م�شاعر احلماية والدفاع عن �أخواتها ،يفهم جيدً ا �أنها فقط جمرد فتاة مل
يوما امل�شاعر النبيلة كاحلب ومل ت�ؤمن بها من قبل ،جمرد طفلة ت�شتاق لكل
جترب ً
ما هو جميل ولكنها خائفة من احل�صول عليه لقلة خربتها عن كيفية التعامل معه.
ابتلع ريقه ب�صعوبة وهو ي�شعر مب�شاعر جيا�شة لها ،م�شاعر احتواء ،م�شاعر
ع
حب �صاف ،م�شاعر بالفطرة داخله جتاهها ك�أنها ابنته قبل �أن تكون حبيبته ،تنهد
ر ش
والتوزي
إليك».
� ِ
ع
ارتع�ش ج�سدها و�شعر بالأمل وهو يراها جتاهد لرتفع ر�أ�سها ببطء لتُديرها له
ثم حلظات وهو يتابعها بهدوء ويلمح ارتعا�ش �شفتيها لتلتقي �أخ ًريا عيناه بعينيها،
رق قلبه ملر�أى دموعها ،رق قلبه وهو يرى بو�ضوح تلك الطفلة اليتيمة التي وجدت
نف�سها يف يوم وليلة بثوب �سهرة من �أجل عقد قرانها ،رق قلبه لها وهو يراها تنظر
له بانبهار بينما كانت هي يف عامل �آخر من امل�شاعر ،بعد كل اخلوف الذي ملأ
قلبها ،بنظرة واحدة فقط منه �شعرت بالأمان جمددًا وهي تراه ينظر لها بتلك
امل�شاعر التي ت�ؤ�سر قلبها ،م�شاعر �صادقة تخلو من ال�شهوة ،م�شاعر تدل على حب
�صادق نقي ولده�شتها �أن هذا احلب كله لها ،ات�سعت عيناها وهي تراه يجل�س على
مقربة منها ويرتدي بدلته الر�سمية� ،شعرت باالنبهار وهي ترى ذلك املزيج من
احلنان والأمان واحلب مع مزيج من القوة والو�سامة واملالمح الب�شو�شة.
ات�سعت ابت�سامته وهو يرى تدقيقها يف مالحمه ليقول بهم�س«:هل �أبدو جذا ًبا
لتلك الدرجة؟!» رم�شت بعينيها �أكرث من مرة وهي حتاول ا�ستيعاب جملته بينما
حتاول ال�سيطرة على م�شاعرها لت�شيح ب�أنظارها عنه وهي تنه�ض بقوة من مكانها
381
لتقف بعيدً ا عنه ليزداد تنف�سه وتلمع عيناه بانبهار تام ملر�آها �أمامه بهذا اجلمال
اخلالب وقد �أح�سنت والدته اختيار الثوب املنا�سب ل�شعلته.
القمر �أجمل يف ح�ضرتها ،الكون كله ي�صغى لإيقاع �أنفا�سها و�أنا مفتون بها
جدا
�أمين العتوم
ارتع�شت مكانها وهي تفرك يديها بقوة بعد �أن ملحت مكوثه على الأر�ض بدون
حراك بينما ينظر �إليها بانبهار لتلمحه ينه�ض ببطء وهو يحاول �أن يحافظ على
ريص ع
أنك تبدين خالبة اليوم يا
أخربك � ِ
عنك و� ِ انتظام �أنفا�سه ليقول�«:س�أكون كرميا ِ
الكت
�شعلة ،رغم لون الثوب الهادئ �إال �أنه مل يطفئ الوهج الذي يحيط ب�شعلتي»
توزيع
على مالحمه وهو يقول�«:شعلتي اخلالبة اجلميلة ال�شجاعة القوية ،والأهم احلنونة
التي لن تت�أخر حلظة عن حماية من حتبهم والوقوف بجانب من يحتاجها منهم»،
وقف �أمامها وهو ينقل بنظراته على هيئتها ليبت�سم بحنان وهو يكمل«:مالكة قلبي
من �ستكون زوجتي التي �س�أكتفي بعقد قراين عليها حتى ترغب هي يف �إمتام زواجنا
التي �س�أحميها من نف�سي التي �س�أدافع عنها لآخر نف�س بعمري».
ت�ساقطت دموعها جمددًا وهي تنظر للأر�ض بحرج ليبت�سم لها بحب وهو ميد
يديه ليلم�س ذقنها فريفع وجهها جمددًا لي�سمعها تقول بحزن�«:آ�سفة مل �أق�صد �أن
مق�صدك ُغفران ،و�أعلم
ِ �أ�ش ّبهك ب »...قاطع حديثها بابت�سامة وهو يقول�«:أعي
وروحك ،منذ متى ُك ّنا نربر لبع�ض ما بداخلنا؟!»
ِ وعقلك
ِ بقلبك
كل ما يجول ِ
ابت�سامة �صغرية ز ّينت ثغرها ليبت�سم لها بحب وهو يقول«:والآن على العرو�س
�أن ت�ستعد من �أجل �إمتام عقد القران فال�شعب ب�أكمله يف انتظارنا بالأ�سفل» ازدادت
ابت�سامتها لي�ضحك وهو ي�سمعها تقول«:نعم يف انتظار العرو�س احلمقاء التي
�أغلقت الباب على نف�سها وطردت كل من بالغرفة» ليقول لها«:بل يف انتظار �شعلتي
التي �ستكمل ما بد�أناه م ًعا» نظرت له وقد �أدركت مغزى كالمه لتعتذر جمددًا وهي
382
تنظر حولها للفو�ضى التي باملكان لتعقد حاجبيها ب�ضيق وهي تقول�«:أنا لن �أ�ضع
تلك الألوان احلمقاء»
قائل«:ح�س ًنا
نظر ملا ت�شاور عليه ليعي مق�صدها عن �أدوات التجميل لي�ضحك ً
دعينا نحل هذه امل�شكلة»
نقل �أنظاره للأدوات التي ت�شغل الطاولة �أو بالأدق ما تبقى منها ليقرتب منها
بعد �أن ملح طوق من الورود لي�أخذه هو فر�شاة ال�شعر ثم عاد جمددًا ل ُغفران التي
نظرت له با�ستغراب ليقول بابت�سامة«:لتذهب �أدوات التجميل للجحيم ،دعيني
�أعتني ب�شعرك فقط» ا�ستدار خلفها ليبد�أ برتتيب �شعرها لتقول بخجل«:ال داعي
ع
لذلك �س�أفعل �أنا» ليجيبها بابت�سامة حنونة«:توقفي عن احلركة»
والتوزي
ت�شعر به ك�أب لها بالفعل ،ملحته وهو ي�ضع طوق الورد �أعلى ر�أ�سها لتنبهر بهيئتها
ع
اجلديدة وكم بدت خمتلفة بطريقة جميلة و�شعرها جمموع على كتف واحدة والورود
تزينه.
«الآن العرو�س جاهزة» التقت عيناهما بعد �أن قال جملته لينظر لها بكل حب
جعلها تبت�سم له باطمئنان.
اغرق بعينيها �إن �سنحت لك الفر�صة ،ماذا ك�سب الناجون؟!
«�سبحان اخلالق»
جت ّمدت مكانها بعد �سماع هم�سه لرتم�ش بعينيها للحظات وهي تراه �أمامها
ُمرتديا بدلته الأنيقة وهو حليق الذقن فبدا �أكرث جاذبية بينما ينظر لها بانبهار،
نظرت للأ�سفل بحرج وهي ت�شيح بعينيها عن نظراته ليهم�س لها«:خفت ب�أن تكوين
عودتك ولكن وحدها
ِ رف�ضك ر�ؤيتي منذ
ِ العرو�سة الراف�ضة للزواج خا�صة بعد
ال�ساحرة ال�شريرة من تثري امل�شاكل» ،ابت�سمت وهي ت�سمع منه كالمه عن ُغفران
أنت؟!»،
لتجيبه بهدوء�«:إنها فقط خائفة» �س�ألها وهو يرى ابت�سامتها ال�صغرية«:و� ِ
383
�ساد ال�صمت للحظات لتجيبه«:كيف �أخاف و�أنت هنا؟!» ت�أوه با�صطناع وهو
يقرتب منها خطوة ليحيط كفها بني يديه وهو ي�ضحك«:جتيدين ا�ستخدام الكلمات
يا �أ�ستاذة» ات�سعت ابت�سامتها وهي تنظر لكفها الذي اختفى بني يديه ليق�شعر
ج�سدها من مل�سته احلنونة وهم�سه وهو يقولِ �«:
أنت عرو�سي ،يا اهلل كم حلمت بهذه
اللحظة».
ارتع�ش ج�سدها مل�شاعره التي ظهرت يف كلماته لتقول بحرج«:يامن يجب �أن
تنزل للأ�سفل فال ي�صح وقوفنا هنا هكذا» حانت منه ابت�سامة وهو يرى ت�ضرج
وجنتيها ليجيبها«:ح�س ًنا يا �أ�ستاذة لن �أ�سبب املزيد من الإحراج كما �أن �صغريتك
ع
قادمة باجتاهنا الآن»
الكت ريص
ب
رفعت عينيها لرتى �أمرية تقرتب منهما بابت�سامة لتعيد �أنظارها له وهي حتاول
توزيع
يدي؟!» ابت�سم لها وهو تائه يف زمرد عينيها ليقول«:ذات يوم وعدت حبيبة يل
ب�أنني لن �أترك يديها �أبدا ففي كل مرة �أترك يديها �أخ�سرها للأبد ،و�أنا ل�ست
م�ستعدً ا �أبدً ا خل�سارتك».
ابت�سمت له بحنان وهي تقول«:مل �أكن لأهرب �أبدا اليوم يامن ،ال من �أجل ما
خططنا له فقط بل مل �أكن لأهرب منك لأنني ال �أريد ،و�أنت لن ت�سمح يل �أي�ضا،
�أنت �سترتك يدي الآن لدقائق فقط ثم �ستح�صل عليها لتبقي معك للأبد» �س�ألها
باهتمام«:للأبد؟» �أجابته بابت�سامة �صافية«:للأبد يامن»
مر عقد القران على ما يرام بداية برحاب و�سليم الذي مل يتوقف عن االعرتاف
لها بحبه بينما هي خجلة غري ُم�ص ّدقة �أنها الآن زوجته ثم زمرد ويامن الذي ق ّبل
وغفران ال�شاحبة الوجه أحبك ف�ؤادي» ثم يف النهاية �آ�سر ُ
جبينها بحب وهو يقولِ �«:
التي التزمت مكانها ومل تقم منه بعد �أن ملح �آ�سر جمود مالحمها ،تل ّقى التهنئة من
اللواء ح�سني الذي كان وكيلها ثم اقرتب منها وهو مي�سك كفيها الباردة لريفعهما
لفمه وهو يكتف بتقبيلهما قائال بهم�س و�صلهاُ «:مبارك يل يا عرو�سي»
384
مر بع�ض الوقت وهم يتق ًبلون التهنئة من عائلتهم حتى جذب �آ�سر ُغفران
لل�شرفة خارج ال�صالة ،خرجت معه ب�صمت ليقف �أمامها وي�س�ألها بقلق«:ح�س ًنا
�أخربيني ما الأمر؟» رفعت ر�أ�سها لت�س�أله ب�شرود«:ماذا؟!»
�سجلت توقيعك على الورقة
ِ حتدث بهدوء وهو مي�سك كفها بحنان«:منذ �أن
و�أنت �صامتة� ،شاحبة» هزت ر�أ�سها وهي حتاول جذب كفها من بني كفيه لكن
دون جدوى لتجيبه بهدوء«:لي�س هناك �شيء» �صمت �آ�سر ليق ّربها منه وهو يحيط
حالتك حني يكون هناك �شيء
ِ ظهرها بذراعه ليقول بهم�س«:غفران �أنا �أعي جيدً ا
�أو ال �شيء ،و�أنا على يقني �إن حدث �شيء �أعادك لأحزانك ما هو؟»
ارتع�شت مكانها وهي جتيبه بعد �صمت دام للحظات«:حينما وقعت ا�سمي
غفران ممدوح �أدركت �أن وجوده �سيظل مرتبطا بي طوال العمر ،لكن ما �آمل قلبي
لي�س هذا الأمر بقدر معرفتي �أن يف هذه اللحظة هناك �أب يحيا حياته بطبيعية ال
يعلم �أنه ترك بذرة يف رحم �إحداهن وال يعلم �أن تلك البذرة �ستموت يف �سبيل نظرة
حب منه ،ت�ضحي بحياتها من �أجل نظرة حنان ير�سلها الآباء لأطفالهم ،ترى �إن كان
يعرفني هل كان ليتق ّبلني عك�س ال�سيدة �سمرية ،هل كان ليحبني �آ�سر؟!» انتف�ض
قلبه وهو يرى الدموع بعينيها ليق ّربها �أكرث منه حتى �أ�سند جبينه بجبينها ليقول
بحب«:ال �أعلم ُغفران ،لكن ما �أنا ُمتي ّقن منه �أنني �إن كان لدي ابنة ُت�شبهك وحتمل
وم�شاعرك لكان �شرف وفخر يل ب�أن �أكون �أباك ف�أكرمني اهلل ب�شرف �أنِ حنانك
ِ
�أكون زوجك يا زوجتي امل�صون«:دمعت عينيها وهي ترفع ر�أ�سها لتنظر �إليه لت�س�أله
كطفلة �صغرية تت�أكد من حب من حولها«:ح ًقا!»
ابت�سم لها بحب وهو يقول ح ًقا ح ًقا»
ابتلعت ريقها وهي تتنهد لتكمل ب�شرود«:هل تعلم �شي ًئا رمبا ال يعرفه �أحد وال
�أعلم َمل �أخربك ولكني �أ�شعر باحلاجة للبوح به ،ذلك اليوم عندما �س�ألتني ال�سيدة
�سمرية هل �س�أموت يا ُغفران ،ت�أمل قلبي للحظات و�أق�سمت بداخلي �إن طلبت مني
امل�ساعدة ف�س�أتربع بنخاعي وج�سدي كله لها ولكن �شعرت بالغ�ضب عندما ذكرت
�أمر الأ�شخا�ص الذين يختطفونهم من �أجل بيع و�شراء الأع�ضاء وهي تفكر بهم
كعالج ملر�ضها� ،آملني �أنها ذكرت هذا الأمر لي�ضيع كل ذرة �أمل تخ�صها بداخلي،
ربع �أنا دون
وعندما �أردت �إعطاءها فر�صة لتتذكر �أنني ابنتها فرمبا تطلب مني �أن �أت ّ
احلاجة لأحد �أخربتني بق�سوة عن ندمها حلملي يف رحمها لت�سعة �أ�شهر و�أنها كانت
على خطوة لتجه�ضني لوال ممدوح تخيل! �أنا مدينة له ب�أنني حية الآن مما يزيد من
كرهي له فلوال خمططه ما كان يل وجود»
ص ع
رفعت ر�أ�سها ونظرت له با�ستغراب ليجاوب ت�سا�ؤلها«:فلوالها ملا ِ
ري
رغبت بالذهاب
الكت
حتدثت معي ب�أريحية عما تكتمينه بداخلك» �أجابته�«:أنت تعرف لتلك الطبيبة وما
ب
ِ
توزيع
بعد ن�صف �ساعة
تبادلوا التهنئة من ال�ضيوف بينما حركة ُم�ضطربة عند طرف القاعة جذبت
انتباههم لتلمح غفران �إقبال مدير الأمن ورئي�س الأمن الوطني ومعاونه باجتاهها،
التفت �آ�سر ملا تنظر �إليه لي�صل لأ�سماعه هم�ستها«:ها نحن نبد�أ»
«�سيدة غفران يجب �أن ت�أتي معنا الآن ،فهناك �أمر مهم نحتاج للحديث به
معك»
كادت �أن جتيبه حني و�صل لأ�سماعهم هم�سات احل�ضور وهم ُم�سكون بهواتفهم
ال�شخ�صية يتابعون �أم ًرا ما عليه ،التفتت با�ستغراب وهي ت�س�أله«:ماذا هناك؟!»
قدومك معنا
ِ حتدث ُمعاون مدير الأمن الوطني وهو يقول�«:ستعرفني كل �شيء حال
�أنت وال�سيدة زمرد والآن�سة �أمرية»
نظرت له بده�شة حني ملحت قدوم زمرد �شاحبة الوجه وبجانبها يامن القلق
بينما كانت �أمرية بجوار �آ�سر تتابع الأمر ب�صدمة ،حتدث يامن بقلق وهو ينقل
مل طلبتم ح�ضورنا الآن؟!»
�أنظاره بينهم�«:سيدي ما الأمر َ
386
�أجابه بهدوء«:من ف�ضلكم ال املكان وال الوقت ي�ساعدنا فمن الأف�ضل قدومكم
معنا بهدوء وكالمي بالطبع لغفران وزمرد و�أمرية» حت ّدث �آ�سر وهو يقب�ض على
كف �أمرية يف يد بينما يده الآخر يف يد غفران«:كما قلت �سيدي ال املكان وال الزمان
ي�سمح مبا تريدونه فكما ترون هذا حفل زفاف و�أنتم تطالبون برحيل كال العرو�ستني
معكما فعلى الأقل نريد تو�ضيحا للأمر» تن ّهد مدير الأمن و�صمت ً
قليل قبل �أن
يقول�«:سيد يامن رمبا من الأف�ضل �أن تنهوا احلفل بهدوء ونحن يف انتظاركم،
وهذا مل�صلحتكم ال�شخ�صية �أوال و�سالمتكم».
هز يامن ر�أ�سه باملوافقة وهو يعي �أن هناك �أمرا طارئا بل هو خطر.
ص ع
بعد �ساعة
والتوزي
ت�شعر بقلق غريب عليها منذ عقد قرانها �س�ألتها بهدوء«:غفران هل �أنت بخري؟!»
ع
�أجفلها �س�ؤال زمرد فنظرت لها للحظات ك�أنها ال تعي �أين هي �أو ماذا تقوله زمرد
لها ،فرم�شت بعينيها وهي تنظر لها ثم لأمرية التي ا�ستدارت توليها اهتمامها
وكادت �أن تبوح مبخاوفها حني فتح الباب ودلف رجالن �أحدهما كان ينظر لهن
ببهجة مل ي�ستطع �إخفاءها ببنما الآخر كان ينظر لهن بارتياح وفخر لتلك التي
وقفت �أمامه ،حتدث النقيب �سامي�«:أننت �أحرار الآن» بينما اقرتب اللواء ح�سني
منها وهو يقول«:لقد فعلناها يا ُغفران ،الآن العامل كله يعرف ،لقد مت القب�ض على
الوغد ،كان يف طريقه لطائرته اخلا�صة ،لكن قواتنا كانت بانتظاره ،هو حتى مل يبق
ليفكر يف من ك�شف �أ�سراره� ،أننت بخري الآن».
�شعرت ك�أن هناك غمة قد انزاحت من على �صدرها لتتنهد بارتياح وهي
كامل؟!» فتح النقيب �سامي هاتفه ليعطيها لها
تقول«:هل ميكنني ر�ؤية الفيديو ً
لت�شغل الفيديو.
ر�سالة م�صورة ابتدت بكلمات مت كتابتها بو�ضوح لتف�صح عن حقائق مل يعرفها
�أحد ،ملحقة مبلفات مفقودة من �أمن الدولة �أو ظن �أ�صحابها �أنه مت حرقها مع ما
387
احرتقت ك�شفت �أ�سرارا ت�ضم رجال احتل من�صبا عاليا يف القوات امل�سلحة وخدع
الكثريين بهيئته وتاريخه الذي يبدو �أنه مل يكن �إال غطاء لأعماله الفا�سدة ،ملفات
�أخفاها بنف�سه حوت �أدلة تدينه وتدين من عمل معهم �سواء داخل م�صر �أو خارجها
مع اليهود بفل�سطني ومع جماعات �إرهابية بليبيا و�أخرى ب�إثيوبيا.
منظمة كان هو ع�ضوا مهما بها وطرفا ُمقربا لزعيمها ،منظمة من �أعمالها
جتارة الأع�ضاء بال�سوق ال�سوداء واملخدرات وتهريب ال�سالح و�أخريا ولي�س �آخرا
جتارة الب�شر خا�صة الن�ساء والأطفال ،منظمة ا�ستمرت لأكرث من ثالثني عاما ليمتد
دوما تقاتل
فرع جديد لها يف م�صر خا�صة مبدينة العري�ش ،قواتنا كانت هناك ً
ص ع
�أ�شباحا جمهويل الهوية ،يقاتلون عد ًوا ال يعرفون الكثري عنه ،خ�سروا العديد من
الكت ري
دفاعا عن وطن لطاملا مت ّنوا �أن ي�صري من �أف�ضل الأوطان.
�إخوتهم ً
توزيع
منذ �سنة لتتواىل بعدها ال�صدمات فيما يحدث ببلدنا.
لكن مب�ساعدة رجالنا ال�شرفاء ا�ستطاعوا الق�ضاء على تلك الع�صابة نهائ ًيا
ليتتبعوا الطرف الذي �أو�صلهم لنقطة تكاد توحي بنهاية الأمر ب�أكمله لي�صلهم
الأدلة الأخرية بهذا الفيديو امل�صور الذي يحتوي على العديد من امللفات املُ�صورة
�سواء وثائق �أو ت�سجيالت �صوتيه وم�صورة لعمليات بيع و�شراء وجتارة �أع�ضاء
وعمليات جراحية م�صورة ال�ستخراج �أع�ضاء من �أج�ساد خمتلفة لرجال ون�ساء
و�أطفال ،و�أخ ًريا ت�سجيالت م�صورة لالتفاقات التي دار بني رجل كبري بوزارة
الداخلية مع �آخر بوزارة اخلارجية وهما يتفقان على تدمري البلد واال�ستفادة من
وراء من�صبيهما.
ت�سجيالت �أثبتت ب�سهولة التهم على املُتهم احلقيقي والرئي�سي بالق�ضية وهو
اللواء �سامح راغب الذي مت القب�ض عليه منذ �سنة ،ليموت قبل حماكمته يف �سجنه
ُمنتح ًرا قبل معرفة احلقيقة منه ومعرفة الأطراف الأخرى بالق�ضية ،ليتم اكت�شاف
احلقيقة بعد �أ�شهر وقد و�صلتنا الأدلة من م�صدر جمهول �أثبت تورط رجالن ذوا
388
من�صب كبري بالوزارة و�أحدهما كاد �أن يرت�شح ليكون رئي�س وزراء بعد �أ�شهر ،لقد
خططا لكل �شيء باعثني الف�ساد يف جميع �أنحاء وطننا العزيز ،والأدلة الأخرية
�أثبتت توا�صله مع رجل انت�شرت �أخباره م�ؤخ ًرا يف ق�ضية هزت العامل ب�أكمله بعد �أن
اختطف �أكرث من ع�شر فتيات ب�أقدار ُمتلفة ،فمنهم من ا�ستغل �أع�ضاءهن ومنهن
من ا�ستغل �أج�سادهن ومنهن من كن كنوزا كما قال لعمليات جتارة الب�شر ،اليوم
نك�شف لكم اجلانب املظلم من رجال باعوا وطنهم وخ�سروا ف�أن�صتوا جيدً ا»
لقد انتهى الأمر ُغفران ،نظرت ُغفران حولها وهي تلمح حركة �سري ال�سيارات
برتابة بينما كل �شخ�ص ي�سري يف طريقه الذي يو�صله لهدفه غري عابئ مبا يدور
ص ع
مع غريه ،كم تخفي الأج�ساد ما يف الأرواح وما يف القلوب ،كل �شخ�ص يعي�ش حياته
ع والتوزي
هل هناك �أخريات مثلنا؟! هل هناك من مل يقع حتت �سيطرة اال�ست�سالم؟! هل
هناك من واجه خوفه ومل يخ�ضع له فتمرد فنه�ض بقوة ليقاتل فرف�ض الواقع؟! هل
هناك من اكتفى بالأذية التي نالها يف حياته فقرر �أن يحيا �أخريا؟!
الأمر خميف �أن تعي ب�أن هناك من يعاين ،هناك من مل يكت�شف نقطة قوته
بعد ،هناك من يتمنى املوت! هل �سيح�صلون على حريتهم كما ح�صلنا عليها؟! هل
�سينقذون �أنف�سهم قبل فوات الأوان قبل �أن يت�ش ّعب الأمل يف �أرواحهم! هل انتهى
الأمر حقا؟! ال �أظن ذلك زمرد طاملا هناك �أ�شباه ممدوح و�سامح وغريهم فالأمر
لن ينتهي �أبدً ا.
ربتت زمرد على كتفها بحنان وهي تقول بابت�سامةِ �«:
أنت خمطئة عزيزتي طاملا
هناك �أ�شباه ُغفران ويامن واللواء ح�سني وعمران و�آ�سر وغريهم ممن يقدمون
امل�ساعدة دون مقابل وي�سعون دائما لطرد ال�شر فالأمر �سينتهي حبيبتي لندعو فقط
�أال يطيل الوقت قبل انتهائه» التفتا على �صوت خلفهما لتجد غفران اللواء ح�سني
ينظر لآ�سر بنظرة وهو يقول�«:أخربها �أنت»
389
حت ّدث �آ�سر بارتياح«:لقد �أ�صدر رئي�س اجلمهورية قرا ًرا ب�أن يتم التحقيق يف
ما حدث وقرر �أن تبد�أ حملة يف العري�ش وما يحيطها من بالد بالت ّيقن من ن�سب
العائالت هناك بالوثائق القانونية ،وانت�شرت القوات هناك من �أجل الت�أمني على
ذلك ،لن يبقى هناك منزل جمهول ن�سب من فيه يا ُغفران ،لقد فعلت �شي ًئا عظي ًما،
غريك»
فعلتك هذه �أنقذت الكثريين ِ �ساعدت الكثري من الأ�شخا�ص ولرمبا ِ
ِ لقد
نظرت ًغفران لزمرد غري ُم�صدقة لتبت�سم لها بحنان وهي تقول«:هل ترين؟!
دوما طاملا هناك خري ،رحمة اهلل بنا كبرية يا حبيبتي»
أخربتك هناك �أمل ً
ِ لقد �
دمعت عني ًغفران غري ُم�صدقة ما يحدث لتبت�سم بني دموعها وهي تلتفت
ص ع
لت�شكر اللواء ح�سني ب�شدة قبل �أن ي�س ّلم عليها ويرتكها ثم التفتت لآ�سر لتقول له
الكت ري
دون ُمقدمات�«:أظن �أنني م�ستعدة الآن لأبد�أ معك حياة جديدة دون �أي خماوف»
انتهت
390