You are on page 1of 393

‫بئر الأفاعي‬

‫‪M‬‬ ‫رواية‬

‫بئر الأفاعي‬
‫‪M‬‬
‫هالة سامي‬
‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫موقع عصري الكتب‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫�إهداء‬

‫�إىل من ا�ستقبلهم الظالم عندما فتحوا �أعينهم‪� ،‬إىل من حاولوا‬


‫ال�صراخ فدوت �صرختهم مكتومة مل جتد طريقها للخروج‪� ،‬إىل من‬
‫�صباحا وم�سا ًء ومل ي�سمعونا‪� ،‬إىل من �شعروا بالنهاية‪ ،‬بلحظة‬
‫ً‬ ‫ناديناهم‬
‫تو ّقف القلب فا�ست�سلموا وقد اكتفوا مبا ر�أوه‪� ،‬إىل الروح الطاهرة التي‬
‫اغتالها ال�شر ف�أراحها اهلل من البقاء يف احلياة‪� ،‬إىل من واراهم الرثى‬
‫بعد �أن وارتهم الآالم وعا�شوا النهاية وحدهم‪� ،‬إىل �أولئك الذين متنوا‬
‫�أن يتذكرهم �أحد بعد وفاتهم‪� ،‬إىل �أولئك الذين عا�شوا ب�صمت وماتوا‬
‫ب�صمت مد ٍو رمبا مل نلقاكم ولكننا �سنتذكركم‪.‬‬

‫هالة �سامي‬
‫�أحداث الرواية غري حقيقية و�إن تخللتها �إحدى‬
‫الوقائع فهذا من �سوء حظي و�سوء حظ العامل‪.‬‬
‫لن تن�ضج حتى ُيهدم �أمام عينيك كل ما ُكنت ت�ؤمن به‬

‫�أحمد خالد توفيق‬


‫الف�صل الأول‬
‫العودة‬

‫‪ 14‬يناير ‪1998‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رائحة الدخان التي ملأت �أنفه م�صحوبة برائح ٍة عطن ٍة لهواءٍ مكتوم‪ ،‬كان‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫يجاهد لأن يحافظ على رباطة ج�أ�شه‪ ،‬يحاول �أن ي�ستبدل �أذنيه مكان عينيه املُغطاة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بغطاء �أ�سود ال ُيظهر �شي ًئا‪ ،‬و�صلت لأ�سماعه �أنفا�س الرجلني املجاورين له ُم�سكني‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫بذراعيه‪ ،‬جامدين كحائط‪ ،‬ال �شيء ي�شغل تفكريهما يف هذا اللحظة �إال تر ّقب‬
‫و�صول رئي�سهم‪ ،‬ارتع�ش ج�سده للحظات وهو ي�سمع �أحد الأبواب ُتفتح ليت�أهب ج�سد‬
‫الرجلني بجانبه‪ ،‬تت ّبع �صوت حت ّرك كر�سي ليتوقف ال�صوت �أمامه وهو يلمح �أحدهم‬
‫يزيح من على عينيه الغطاء‪ ،‬رم�ش بعينيه للحظات حتى يعتاد على نور الغرفة التي‬
‫مل ي�ستطع ت�أملها لتتج ّمد نظراته على الرجل الذي يقبع على الكر�سي �أمامه على‬
‫بعد م�سافة لي�ست ببعيدة وهو ينظر له بجمود وج�سده القوي العري�ض لرجل يف‬
‫منت�صف الأربعني من عمره‪ ،‬تغطيه بدلة �سوداء �أنيقة من ماركة برادا امل�شهورة‪،‬‬
‫وا�ض ًعا رجله فوق الأخرى ويدخن �سيجاره بهدوء‪ ،‬ابتلع ريقه وقد بد�أ الذعر يت�س ّرب‬
‫جل�سده ب�أكمله‪.‬‬
‫تكلم الرجل �أخ ًريا بعد حلظات من ال�صمت‪ ،‬كادت �أن ت�صيبه ب�أزمة قلبية‪:‬‬
‫«�إذا اختفاء حمولة ت�ساوي الكثري �س ُيثري ال�شكوك يف النهاية»‪.‬‬
‫�سرعا‪�« :‬سيدي �أق�سم لك هي من‪ »...‬حركة ب�سيطة من ر�أ�س الرجل‬ ‫قاطعه ُم ً‬
‫ليقرتب �أحد ُحرا�سه يف حلظة ليلكم وجه الرجل املُقيد بقوة ت�س ّببت يف �سيل خط‬
‫من الدماء بجانب فمه قاط ًعا حديثه‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫نف�سا من �سيجاره وهو ينفثه باجتاهه ويتحدث بربود‪« :‬مل �أ�سمح‬
‫�أخذ الرئي�س ً‬
‫لك باحلديث بعد»‪.‬‬
‫�شعر ب�أنفا�سه تت�سارع و�صدره يعلو ويهبط ب�سرعة‪ ،‬دليال على ذعره الذي غلب‬
‫تلذذا بحالته‪« :‬يف عاملي الذي �أنا �سيده عقوبة‬
‫�أمله من اللكمة‪ ،‬بينما �أكمل الرئي�س ُم ً‬
‫اخليانة هي املوت‪ ،‬ولكن املوت البطيء الذي �أ�ستمتع مب�شاهدته»‬
‫ارجتف ج�سده من الرعب وارتع�شت �شفتاه وهو يجاهد لكي ال ينهار الآن يف هذه‬
‫اللحظة وهو ي�ست�شعر بخربته من �أ�سلوب �سيده �أن هناك �أم ًرا ما‪ ،‬رمبا يكون طوق‬
‫جناة له‪ ،‬ومل يخب ظنه حيث �أكمل �سيده‪« :‬هل تعلم ما الذي مينعني عن ق�ضاء‬

‫ع‬
‫الليلة مب�شاهدتك متوت ببطء؟! �أنت �أ�صبحت مديو ًنا يل الآن‪ ،‬و�أنا ال �أتنازل عن رد‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�أحدهم دينه يل‪� ،‬أعلم �أنك مل تكن معها وحدك ولكنني ال �أهتم مبن رافقك‪ ،‬فهم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الآن يف طريقهم للموت وما زال ح�سابي معها مل ينته‪ ،‬بينما �أرغب يف اال�ستفادة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫بك قبل �أن تلقى حتفك‪ ،‬ومن يعلم �إن حققت يل ما �أريده‪ ،‬رمبا وقتها �أعفو عنك»‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�شعر ب�أمل �ضئيل يف طريقه للظهور‪ ،‬فهتف‪�« :‬أوامرك �سيدي �س�أفعل كل ما‬
‫ت�أمرين به‪ ،‬اطلب �أي �شيء و�س�أقدمه لك»‬
‫�ساد ال�صمت للحظات والرجل ينظر له بقوة‪ ،‬وملحة من الق�سوة املُكللة باالنت�صار‬
‫ُت�ضيء عينيه‪ ،‬ليجيبه ُمت�سل ًيا‪«:‬حان وقت العودة لأر�ضك لرتد دينك»‬

‫‪M‬‬
‫القاهرة‬
‫‪ 22‬يونيو ‪2016‬‬
‫كنت»‬
‫«جاهزة �أم ال �أنا قادم �أينما ِ‬
‫تكاد ت�شعر بنب�ضات قلبها املُ�ضطرب وهي تخرج من مكانها‪ ،‬انزوت يف �أحد‬
‫الأركان و�أخفت ج�سدها ال�ضئيل بغطاء �سميك كريه الرائحة‬
‫أجدك يف النهاية » ‪.‬‬ ‫‪«:‬مهما � ِ‬
‫أجدت االختباء �س� ِ‬

‫‪11‬‬
‫ارجتف ج�سدها ب�أكمله وهي ت�ستمع لل�صوت الأكرث ُب ً‬
‫غ�ضا لأذنيها‪ ،‬بينما دمعات‬
‫يتيمة ت�سللت من عينيها ب�صمت‪.‬‬
‫مكانك وتوقفي عن التنف�س!»‬
‫ِ‬ ‫ابق يف‬
‫أقدامك‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫« ِ‬
‫اخف �آثار �‬
‫�شهقت برعب وهي تلمحه يرفع الغطاء عن وجهها بقوة وينظر لها بنظراته‬
‫الكريهة‪ ،‬انهمرت دموعها بقوة‪ ،‬وخيط من املاء الدافئ ي�سيل من بني قدميها وي�صل‬
‫وجدتك �أخ ًريا»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يف �سكون للأر�ض وهي ت�سمعه يقول‪« :‬‬
‫انتف�ضت من على �سريرها بفزع‪ ،‬وهي تل ّوح ب�س ّكينها التي جذبتها من �أ�سفل‬
‫الو�سادة‪ ،‬وحتارب ذرات الهواء‪ ،‬ك�أنها �شنت احلرب �ضدها‪ ،‬حلظات وهي تلهث‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وعيناها املُت�سعتان برعب تفح�ص الغرفة و�سكونها حتى‪ ،‬ونور الأباجورة بجوارها‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬


‫ي�سرب �ضوءا خفيفا ا�ستجمعت نف�سها لتتذكر �أين هي‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬
‫�أخذت تهدئ من �أنفا�سها وحبات عرق تت�سلل من �أعلى جبينها لت�صل لعنقها‪،‬‬
‫�ألقت ب�س ّكينها على ال�سرير بقوة واعتدلت يف نومتها لتجل�س على طرف ال�سرير‪،‬‬
‫رفعت كفيها املُرتع�شتني تتخلل خ�صل �شعرها الأ�سود الغجري املعقود يف ربطة‬
‫ُمرتاخية وقد هربت منها بع�ض اخل�صل‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي تهم�س ب�صوت‬
‫م�سموع لروحها‪:‬‬
‫إيذائك‬
‫تخطيته كان هذا يف املا�ضي‪ ،‬هو لي�س بقاد ِر على � ِ‬
‫أنت ِ‬ ‫«� ِ‬
‫أنت بعيدة عنه � ِ‬
‫زلت يف‬
‫لك‪ ،‬يجب �أن تتما�سكي‪ ،‬ما ِ‬
‫آالمك التي �سب ّبها ِ‬
‫بجراحك‪ ،‬ب� ِ‬
‫ِ‬ ‫أنت قوية‬
‫بعد الآن � ِ‬
‫يهمك �أمرهم رحمة‪ ،‬ليلى و�سهيلة»‪.‬‬
‫بداية احلرب‪ ،‬تذكري جيدً ا من ِ‬
‫�سكنت للحظات ثم فتحت عينيها التي ظهر بها بريق ناري ك�أ�شجار الزيتون‬
‫املُ�شتعلة‪ ،‬خفت يف الثانية التالية لتتحول عينيها للوح جليدي �شفاف ال يعك�س ما‬
‫�صباحا لتهم�س ب�شرود‪« :‬ها هو‬
‫ً‬ ‫يخفيه‪ ،‬نظرت لل�ساعة بجوارها لتجدها ال�ساد�سة‬
‫يوم املواجهة»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫‪12‬‬
‫�شمال �سيناء‪ ،‬حمافظة العري�ش‪ ،‬منزل ممدوح العزامي‬
‫طرقات ُمرتددة على الباب جذبت انتباهها‪ ،‬لت�أذن للطارق بالدخول‪ ،‬وهي‬
‫تدرك هويته �أو بالأدق هويتها‪.‬‬
‫دخلت فتاة رقيقة املالمح ذات �شعر �أ�شقر ي�شبه خيوط الع�سل‪ ،‬يحمل ق�ص ًة‬
‫�صبيانية‪ ،‬يف بداية عامها الثامن ع�شر‪ ،‬بهدوئها املُعتاد‪ ،‬وحتدثت بجمودها الذي‬
‫ا�ستيقظت‬
‫ِ‬ ‫تت�صف به مع اجلميع‪ ،‬ما عدا ُغفران العزيزة‪ ،‬قالت ليلى‪« :‬جيد � ِ‬
‫أنك‬
‫�أخ ًريا»‪.‬‬
‫نظرت لها رحمة ب�شرود وهي جتيبها‪« :‬لقد �سهرت بالأم�س»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«�أعلم» كلمة وحيدة جعلت رحمة تنتق�ض بداخلها وهي تهم�س لنف�سها‪�« :‬إىل‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أي مدى تعلمني ليلى؟!»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أ�سبلت رحمة �أهدابها‪ ،‬وهي تدير ظهرها‪ ،‬لت ّدعي ترتيب �سريرها‪ ،‬ف�ساد‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ال�صمت للحظات‪ ،‬حتى بادرت باحلديث ‪« ::‬يبدو �أن هناك �شيئا تريدين قوله»‪،‬‬
‫�أجابتها ليلى بجمود‪ُ « :‬غفران قادمة اليوم‪ ..‬ات�صلت �أم�س على هاتف املنزل‬
‫وحتدّثتُ معها»‪.‬‬
‫التفتت رحمة وردت بده�شة‪« :‬اليوم! �أمل تقل �إنها �ست�أتي يف نهاية ال�شهر حتى‬
‫تنهي عملها‪ ..‬هل �س�أ َلت عني؟!»‪ ،‬ملحت ليلى بتدقيق �شحوب مالمح رحمة وهي‬
‫ل�ست باملنزل»‪ ،‬ابتلعت رحمة‬
‫أنك ِ‬ ‫تلقي ب�س�ؤالها الأخري ف�أجابتها‪« :‬نعم‪ ،‬و�أخربتها � ِ‬
‫ريقها وجاهدت لتخفي توترها عن ليلى‪�« :‬س�أت�صل بها بعد قليل»‪.‬‬
‫التفتت رحمة وهي ترجتف داخل ًيا وتدعو اهلل �أن تتوقف ليلى عن التدقيق بها‬
‫كما تفعل‪ ،‬ف�أع�صابها على و�شك االنهيار بعد �أحداث الأيام ال�سابقة‪.‬‬
‫�أغم�ضت رحمة عينيها متنع دمعة هاربة منها‪ ،‬وهي تهم�س داخلها‪�« :‬أيام �أم‬
‫�سنني يا رحمة!»‪ ،‬فاج�أها �صوت ليلى القريب من �أذنها وهي تقف خلفها وتهم�س‪:‬‬
‫عنك مع �أحد رجال عبده‬ ‫�صباحا وهو يتح ّدث ِ‬
‫ً‬ ‫«�إىل �أين �سرتحلني؟ لقد �سمعته‬
‫اجلن»‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫التفتت رحمة برعب‪ ،‬لترتاجع خطوتني للخلف‪ ،‬وقد فقدت ال�سيطرة على‬
‫التحكم يف مالمح وجهها‪ ،‬لي�شوبه الفزع‪ ،‬فهتفت من دون وعي‪« :‬رجال عبده اجلن!‬
‫�سي ّحلني!»‬
‫ُ‬
‫مدت ليلى كفيها وم�سكت ذراع رحمة بقوة وهي تهتف بغ�ضب مكتوم‪« :‬ما الذي‬
‫رحيلك؟! �إىل ماذا ت�سعيان م ًعا؟! هل �سي�سعى‬
‫ِ‬ ‫لك؟! �أخربيني الآن َمل يريد‬
‫يحدث ِ‬
‫بروحك؟!»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫آثام‬
‫بك؟! هل �سيخفي �آثار ما اقرتفه من � ٍ‬ ‫لإ�صالح ما �أف�سده ِ‬
‫مل ي�شفع �شحوب وجهها ب�شيء �أمام غ�ضب ليلى‪ ،‬التي نف�ضت ذراع رحمة بقوة‬
‫من بني يديها‪ ،‬وك�أنها �شيء قذر تخ�شى مل�سه‪ ،‬لكن �ألي�ست كذلك!؟‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تتحرك من‬
‫ِ‬ ‫نظرت لها ليلى با�شمئزاز وا�ضح‪ ،‬وهي تهتف �أمام وجهها ‪« ::‬لن‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫أ�صررت على الرحيل �س�أقف‬
‫ِ‬ ‫هنا حتى ت�أتي ُغفران وتدرك فداحة ما ِ‬
‫و�صلت له‪ ،‬و�إن �‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لقتالك»‪.‬‬

‫شر وال‬
‫ِ‬ ‫بوجهك رحمة‪ ،‬حتى لو ا�ضطررت‬
‫ِ‬ ‫�أنا‬

‫توزيع‬
‫ابتعدت ليلى عنها بقوة وهي تنظر لها بغ�ضب‪ ،‬ثم حتركت لتخرج من الغرفة‬
‫قبل �أن تتهور وت�صفعها بقوة‪ ،‬ثم جتذبها حل�ضنها وتع ّنفها ملا فعلته بنف�سها‪ ،‬بينما‬
‫جل�ست رحمة على طرف �سريرها وهي حتيط بج�سدها الذي ينتف�ض ب�أكمله‬
‫و�أفكارها تع�صف بعقلها‪ ،‬وهي تعي معرفة ليلى باحلقيقة الكاملة التي حاولت‬
‫جاهدة �إخفاءها‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي تت�ساءل‪ :‬هل اليوم هو النهاية؟!‬
‫‪M‬‬
‫القاهرة يف منزل ب�أحد الأحياء الب�سيطة‬
‫اقبلي يا فتاة النار‬
‫دلفت ُغفران للغرفة وهي ت�سمع نداء ال�سيدة العجوز‪ ،‬ابت�سامة �صغرية ز ّينت‬
‫وجهها وهي تنظر للمر�أة التي تنظر لعينيها مبا�شرة‪ ،‬وابت�سامة ر�ضا تزين ثغرها‪،‬‬
‫ت�شري بيديها للكر�سي املجاور لها يف دعوة ل ُغفران للجلو�س‪ ،‬جل�ست ُغفران بهدوء‬
‫غريب عليها ي�صيبها دائ ًما يف ح�ضرة تلك املر�أة‪«:‬كيف تدركني �أنها �أنا قبل �أن‬
‫�آتي؟!» ازدادت ابت�سامة العجوز وهي جتيبها بحب‪«:‬قلب الأم يا ابنتي»‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫جمدت مالمح وجه ُغفران‪ ،‬و�ساد ال�صمت للحظات‪ ،‬قطعه �صوت العجوز‬
‫يحملك رحمي‪ ،‬فال تنزعجي يا فتاة النار»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫احلنون‪ِ �«:‬‬
‫أنت ابنة يل حتى ولو مل‬
‫«�أنا مل �أنزعج‪ ،‬فقط غري ُمعتادة على‪� »...‬صمتت ُغفران لتكمل العجوز‬
‫كالمها‪« :‬غري ُمعتادة على امل�شاعر اجلميلة»‪ ،‬ابت�سمت ُغفران بته ّكم وهي جتيبها‪:‬‬
‫«بل على احلب‪ ،‬دعينا من كل هذا الكالم‪ ..‬كيف هي �صحتك؟ هل حتافظني على‬
‫�أدويتك؟»‬
‫ابت�سمت العجوز لها بتف ّهم وهي تدرك ته ّربها من احلديث‪« :‬وهل هناك مهرب‬
‫منها!؟ �إن مل �أحافظ هاجمتني الآالم يا ابنتي‪ ..‬و�أنا مل �أعد �أقوى على حت ّملها»‪.‬‬

‫ع‬
‫مم ت�شتكني؟ ما الذي ي�ؤملك؟!»‬ ‫التفتت ُغفران لها باهتمام وهي ت�س�ألها‪َ « :‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫علي يا فتاة النار؟!» ت�أففت‬
‫�ضحكت العجوز وهي جتيبها‪«:‬هل متار�سني وظيفتك ّ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ُغفران با�صطناع وهي تنه�ض من مكانها لتقرتب من الكر�سي املتحرك الذي متكث‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫فيه العجوز وتبد�أ يف فح�صها من دون تردد‪.‬‬

‫ع‬
‫مرت دقائق وهي تقي�س نب�ضها وتفح�ص عينيها وج�سدها‪ ،‬وهي تتحدث بهدوء‪:‬‬
‫«�أين �سعاد؟ مل �أجدها حني طرقت الباب‪ ،‬وا�ضطررت ال�ستخدام املفتاح االحتياطي‬
‫�أ�سفل الزرع املجاور للباب»‪.‬‬
‫�أجابتها‪« :‬ت�شرتي بع�ض احتياجات املنزل من ال�سوق‪� ،‬أخربتني �أنها لن تت�أخر»‪.‬‬
‫لنجل�سك على ال�سرير �أوال»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فح�صك‪ ،‬ولكن‬
‫ِ‬ ‫«ح�س ًنا‪ ،‬دعينا ننهي‬
‫�ساعدتها ُغفران حتى جعلتها ت�ستلقي على ال�سرير‪ ،‬وج�سد العجوز ال�ضئيل مل‬
‫ي�شكل عائ ًقا مع قدرة ُغفران‪ ،‬ومرت دقائق حتى �أنهت فح�صها وع ّدلت من و�ضعيتها‬
‫حتى جتعلها مريحة لها‪.‬‬
‫بجوفك ويجعل ك ًما ً‬
‫هائل من‬ ‫ِ‬ ‫«والآن اجل�سي يا فتاة النار و�أخرجي ما تكتمينه‬
‫منك»‪.‬‬
‫الطاقة ال�سلبية يفوح ِ‬
‫«كيف ميكنك معرفة كل هذا و�أنت‪� »...‬صمتت ُغفران لتكمل العجوز وهي ما‬
‫أنك ت�صمتني‬ ‫زالت على ابت�سامتها‪« :‬و�أنا �ضريرة! من معرفتي الوثيقة ِ‬
‫بك �أدرك � ِ‬
‫‪15‬‬
‫أنت ال تعلمني �أن �أول خطوات عالج املر�ض‬‫عن البوح بها مراعاة مل�شاعري‪ ،‬و� ِ‬
‫االعرتاف به»‪.‬‬
‫نظرت ُغفران بجمود ملالمح العجوز الب�شو�ش‪ ،‬ولعينيها اخلاليتني من ملعة‬
‫كالمك هو احلديث عني؟!»‬
‫ِ‬ ‫احلياة بهما‪ ،‬وهي جتيبها‪« :‬ملاذا �أ�شعر ب�أن املغزى من‬
‫«�أخربيني ما تتهربني من قوله و ُي�صيبك بالهم»‪.‬‬
‫�صمتت ُغفران للحظات‪ ،‬ثم �أجابتها‪�« :‬أنا عائدة للبلد‪ ،‬اليوم �س�أواجهه مبا‬
‫�أملك‪� ،‬إما �أجد الإثبات الأخري و�أعود به �أو ال �أعود نهائ ًيا حتى �أنهيه بنف�سي»‪،‬‬
‫خفتت ابت�سامة العجوز‪ ،‬وملحة قلق ظهرت على وجهها‪« :‬هل حان الوقت؟!»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أجابتها بنعم‪ ،‬لتتنهد العجوز وهي جتيبها‪« :‬ال �أعلم ما �أقوله لك يا ابنتي �سوى‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫قرارك‪ ،‬ويبدو‬
‫ِ‬ ‫يثنيك عن‬
‫إخوتك‪ ،‬ف�أي حديث �آخر لن ِ‬ ‫أنت و� ِ‬ ‫الدعاء‪ ،‬فليحفظك اهلل � ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫أمنعك من فعله»‪� ،‬أجابتها ُغفران‪:‬‬
‫أنك جئتي لتخربيني مبا تنويه ال ل ِ‬ ‫�صوتك � ِ‬
‫ِ‬ ‫من‬

‫توزيع‬
‫«ال �شيء �سيمنعني من فعل ما نويته يا �أم عمران»‪.‬‬
‫ات�سعت ابت�سامة العجوز وهي جتيبها‪« :‬جتيدين اللعب يا فتاة النار‪ ،‬ها �أنت‬
‫ت�صيبي قلبي بالقلق يف حلظة لت�سعديه يف اللحظة التالية و�أنت تناديني بالغايل»‪.‬‬
‫مل تعقب ُغفران ب�شيء على كالمها‪ ،‬لتقول بعد حلظات‪�« :‬س�أترك ل�سعاد رقم‬
‫احتجت ل�شيء �ستت�صل بها على الفور لت�أتي‪ ،‬و�س�أكتب‬‫ِ‬ ‫هاتف ممر�ضة �أثق بها‪� ،‬إن‬
‫لك جميع الأدوية التي ت�أخذينها حتى حت�ضرها �سعاد �إن �أنهي ِتها»‪ ،‬لت�س�ألها العجوز‪:‬‬
‫ِ‬
‫«هل �سيطول الأمر؟!»‪ ،‬مل جتبها ُغفران ب�شيء لت�س�ألها العجوز‪�« :‬أتعلمني َمل‬
‫دوما بفتاة النار؟!»‪.‬‬
‫�أناديك ً‬
‫أنت كتلة من النار قادرة على تدفئة‬‫�أكملت العجوز من دون انتظار جوابها‪ِ �« :‬‬
‫غ�ضبك يا ابنتي‬
‫ِ‬ ‫حولك بحنانها املدفون حتت �أل�سنة النريان‪ ،‬نريان‬
‫ِ‬ ‫جميع من‬
‫مينعك من �إدراك مقدار امل�سافة التي تتق ّل�ص حتى‬
‫ِ‬ ‫كربكان كامن‪ ،‬غ�ضبك الذي‬
‫مينعك‬
‫ِ‬ ‫ت�شتعل النريان من حولك فت�ؤذي القريب قبل البعيد‪ ،‬احذري يا ابنتي من �أن‬
‫الغ�ضب من ر�ؤية القريب قبل �أن حترقي البعيد»‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مل تلمح العجوز بب�صرها الآالم التي ارت�سمت على وجه ُغفران‪ ،‬لكن بب�صريتها‬
‫و�صمت ُغفران �أدركت �أنها �أو�صلت لها ر�سالتها كما تريد‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫ع�ص ًرا مبنزل ممدوح العزامي‬
‫وقفت �أمام املنزل ال�ضخم تنظر �إليه مبالمح �ساكنة تخفي الكثري من االنفعاالت‪،‬‬
‫الكثري من اخلوف‪ ،‬الكثري من الغ�ضب �أن�ساها �إجهاد ال�سفر‪� ،‬أخذت تت�أمل واجهة‬
‫املنزل وما يحيطه من �صحراء قاحلة‪ ،‬وارتفاع اجلبال املحيطة به يجعله يبدو كبيت‬
‫�أ�شباح خميف يف منطقة مقفرة من ال�سكان‪ ،‬ولكن �ألي�س هذا الغر�ض منه؟! �أال‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يكون هناك �أي �سكان يف املحيط‪ ،‬لكي ال يت�سنى لهم �سماع ال�صراخ‪� ،‬سماع البكاء!‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أ�سوار املنزل البعيدة تبدو لها ك�أ�سوار حتيط باجلحيم‪ ،‬كان يلحق باملنزل ذي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الثالثة طوابق حظرية �ضخمة ُيرعى فيها الأغنام واملا�شية والعديد من الدواجن‪،‬‬

‫والتوزي‬
‫فكان هذا دخل �أ�سرة املنزل �أو بالأدق الدخل الذي تعرفه العائالت القريبة وباقي‬

‫ع‬
‫ُ�س ّكان البلد‪.‬‬
‫ُ�س ّكان البلد الذين ال يعلمون �شي ًئا عن عائلة العزامي �سوى �أنها عائلة من �ضمن‬
‫العائالت التي لي�س لها جذور عريقة باملنطقة‪ ،‬عائلة انتقلت لل�سكن بالعري�ش منذ‬
‫ثمايةن ع�شر عاما‪ ،‬وح�صل رب الأ�سرة على مكانته بني �شيوخ القبائل و�أعيان‬
‫القرية من دون جهد ُيذكر ويف وقت ق�صري‪ ،‬عائلة ا�شتهرت ب�أنها ُمو ّرد �أ�سا�سي‬
‫للرثوة احليوانية يف القرية‪ ،‬حيث متد ُ�س ّكانها وبع�ض ُ�س ّكان القرى املُجاورة مبا‬
‫ميلأ حظرية منزلها‪ ،‬هذا و�إن كان ما ميلأ احلظرية �أكرث من جمرد �أغنام وما�شية‬
‫ودواجن! عائلة تتكون من �أب و�أم و�أربع �أخوات (غفران‪ ،‬رحمة التي ت�صغرها ب�سنة‪،‬‬
‫والتوءمني ليلى و�سهيلة اللتني ت�صغرانها بع�شر �سنوات) وابنتا العم (خلود و�سمر)‬
‫�أو هكذا �أ�صبحتا و�سنهما الكبرية قليال ال ت�ساعد على �أن تكونا �أخوات لهن‪ ،‬فهذا‬
‫قد يك�شف اخلدعة الكبرية‪.‬‬
‫تنهدت ُغفران بتعب وهي تفكر كيف ملكان واحد �أن يحمل كل تلك الآثام؟! كيف‬
‫بواجهة نظيفة تخدع النا�س وحتوي الكثري من الف�ساد‪ ،‬الكثري من ال�شر دون �أن‬
‫يعرف �أحد عنه‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫لفت انتباهها باب املزرعة وهو ُيفتح لتقابلها �صغريتها‪ ،‬ابت�سمت عيناها وهي‬
‫تنظر لل�صغرية التي كربت‪ ،‬مل ت�ستطع ق�صة ال�شعر ال�صبيانية واملالب�س الرجالية‬
‫�أن تخفي ن�ضجها‪� ،‬أن تبعد عنها عيون ذلك ال‪...‬‬
‫ابتلعت ريقها ونظرات ليلى الفرحة ُتطمئنها �أن الوغد مل ي�ستطع الو�صول �إليها‪،‬‬
‫و�أنه ا�ستجاب لتهديدها‪ ،‬اقرتبت بهدوء للبوابة لتلمح ارتباكا طفيفا يف مالمح ليلى‬
‫وارجتاف ج�سدها للحظة‪� ،‬أدركت �أن �سببه ذلك الذي ظهر خلفها ب�ضخامة ج�سده‬
‫وطوله الفارع وبع�ض ال�شيب قد ت�س ّلل ل�شعرياته‪ ،‬فتخدع من يراه ب�أنها تزيده هيبة‬
‫بينما مل تر هي فيه �سوى النفور واال�شمئزاز‪ ،‬ق�شعريرة �سرت ب�أو�صالها وهي ترى‬
‫ات�ساع عينيه القامتتني وهو يبت�سم لها ابت�سامته الكريهة‪ ،‬كم مر من الوقت عن �آخر‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫مرة ر�أت فيها تلك املالمح وتلك االبت�سامة البغي�ضة! نقلت نظراتها �سري ًعا لليلي‬

‫ب‬
‫لع َّلها جتد اجابة عن خماوفها‪ ،‬فلم متنحها ليلى �شي ًئا وهي ت�سبل �أهدابها وت�ضع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫نف�سها يف تلك القوقعة التي تخفي بها م�شاعرها عمن حولها‪ ،‬تلك القوقعة التي‬

‫توزيع‬
‫تع ّلموها جمي ًعا منذ �صغرهم لكي ال ُيظهروا م�شاعرهم لأي �أحد‪«:.‬ال م�شاعر �إذا‬
‫�ستُنجني من املوت»‪.‬‬
‫و�صل لأ�سماعها نف�س ال�صوت الكريه الذي تبغ�ضه �أكرث من �أي �شيء‪ ،‬نف�س‬
‫�صباحا وهو يفتح �أبواب ذكريات اجلحيم على روحها‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ال�صوت الذي حلمت به‬
‫«ال نرى تل ّهف �صغريتنا ليلى ال�شديد ل�شيء �إال �إذا كان له عالقة ب ُغفران العزيزة‪،‬‬
‫لهفتها ال�صباحية وتر ّقبها حلدوث �شيء وهي تنظر كل فرتة والأخرى لبوابة املزرعة‬
‫جعلني �أتي ّقن بقدوم عزيزتنا ُغفران‪ ،‬عودًا حميدً ا طبيبتنا‪ ،‬مهما طال ِ‬
‫غيابك ومهما‬
‫جلذورك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ابتعدت حت ّنني ً‬
‫دوما‬ ‫ِ‬
‫جتاهلته ُغفران كعادتها وهي تقرتب من ليلى وجتذبها لأح�ضانها حتت نظراته‬
‫املُ�شتعلة‪ ،‬فلم حتد بعينيها عنه وهي تهم�س ب�شيء لليلى‪ ،‬التي رفعت ذراعها تت�ش ّبث‬
‫ب�سرتة ُغفران‪ ،‬ك�أنها تتل ّم�س فيها الأمان‪ ،‬حلظات وهما على نف�س الو�ضع بينما‬
‫نظرات ممدوح تنتقل بحرية على منحنيات ج�سدها‪.‬‬
‫اق�شعر ج�سدها وهي تبعد ليلى عنها بهدوء لتلم�س وجنتيها بحنان‪ ،‬وتهز ر�أ�سها‬
‫لها ب�إ�شارة لتدلف للداخل‪ ،‬فا�ستجابت لها ليلى وهي تدرك جيدً ا �أ�سبابها‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫�أ�سبلت ُغفران �أهدابها وهي ترى ممدوح على وقفته املائلة‪ُ ،‬م�ستندً ا على البوابة‬
‫يتابع بعينيه مرور ليلى بجواره‪ ،‬حتى دخلت للمنزل ليتحدث ب�سخريته املُعتادة‪:‬‬
‫والدك عنا ًقا هو الآخر؟!»‬
‫«�ألن متنحي ِ‬
‫رفعت ُغفران عينيها لتنظر له بربود تام‪ ،‬ال يبدو عليها الت�أثر مبا قاله‪ ،‬لتتحدث‬
‫بهدوء‪« :‬رجال عبده اجلن يف املنطقة!»‪ ،‬اعتدل ممدوح يف مكانه وابت�سامته تت�سع‬
‫بينما يقرتب ليقف �أمامها ويتحدث بطريقته الك�سولة‪« :‬تلميذتي مل ُت ِ‬
‫ن�سها معي�شة‬
‫القاهرة و�أهلها مبا تع ّلمته على يدي»‪.‬‬
‫مل ترم�ش بعينيها وهي تكمل حديثها‪« :‬من الهدوء املُحيط باملزرعة‪ ،‬ال �أتوقع‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�ست ّحل �شيء �أو »‪.‬‬

‫ا‬
‫وجود �ضيوف هنا لذا �أنت �إما ُ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫اختفت ابت�سامته ليحل حملها جمود مالحمه الغليظة التي كانت تخيفها من‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫قبل‪ ،‬وما عادت تفعل وهو يجيبها‪�« :‬أظن �أنه يجب ِ‬
‫عليك الراحة �أوال قبل اخلو�ض يف‬

‫ع‬
‫�أمور لي�ست بالأهمية التي متنحيها لها‪ ،‬خم�س �ساعات �أو �أكرث من القاهرة للعري�ش‬
‫ج�سدك اجلميل هذا يف حاجة لراحة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لي�ست بهينة‪ ،‬حت ًما‬
‫اقرتبت ُغفران اخلطوة التي تف�صلها عنه وهي تهم�س بجمود �أمام وجهه‪:‬‬
‫«احذر من �أن تكون الأمور بالأهمية التي �أظنها‪ ،‬ف�أنا ما زلت على ق�سمي الذي‬
‫هد ّدتك به منذ �سنوات»‪.‬‬
‫حانت منه ابت�سامة جانبية �أظهرت �سنته الذهبية‪ ،‬وهو يجيبها بينما �أنفا�سه‬
‫عائلتك‪ ،‬ف�أنت غائبة منذ‬
‫ِ‬ ‫الكريهة تل ّفح وجهها‪« :‬ادخلي لتطمئني على �أفراد‬
‫�سنتني! �سنتني حتمالن الكثري والكثري من الأحداث»‪.‬‬
‫مل حتد بعينيها عن عينه وهي تنظر �إليه بثبات بينما رجفة �أ�صابت قلبها وهي‬
‫تت�ساءل‪ :‬هل يعي الأحداث التي مرت هنا �أم الأحداث التي مرت هناك بالقاهرة؟!‬
‫‪M‬‬
‫‪19‬‬
‫مركز ق�سم العري�ش‪ ،‬مكتب اللواء فريد الكيالين‬
‫«هل قابلتها؟!» �س�ؤال خرج من اللواء فريد وهو جال�س على مكتبه وهو ينظر‬
‫بهدوء للرجل الذي يقف �أمامه‪ ،‬ورفيقه يف املهام منذ �أن مت نقله من العا�صمة ليكون‬
‫هنا معه ب�أوامر ُعليا‪ ،‬النقيب �سمري �أيوب‪ ،‬ف�أجابه‪« :‬نعم �سيدي جعلنا الأمر يبدو‬
‫بروتينية ونحن نطلب منها �أن تنزل هي وكل الن�ساء بال�سيارة‪ ،‬و�أخذنا بطاقاتهن‬
‫تفتي�شا لأغرا�ضهن‪ ،‬ثم �أخذناها هي وامر�أة �أخرى لنقطة‬ ‫ً‬ ‫ال�شخ�صية و�أجرينا‬
‫التفتي�ش حتى �أ�ستطيع �أن �أنفرد باحلديث معها من دون �أن ي�شك بها من يراقبونها»‬

‫هز اللواء فريد ر�أ�سه وهو ي�س�أل ب�شرود‪�« :‬إذا هل �أخربتك �شي ًئا؟!»�أجابه‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫«نعم‪ ،‬رجال عبده اجلن يف املنطقة‪ ،‬هي ملحت جمموعة من رجاله يف �أماكن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ُمتف ّرقة على الطريق‪ ،‬هي �أبدت قلقها لأنها علمت بات�صالها ال�صباحي باملنزل �أنه‬

‫شر وال‬
‫لي�س هناك �أي �ضيوف هناك لذا‪»..‬‬

‫توزيع‬
‫�سي ّحل �أحد ُ�س ّكان املنزل اليوم» هز �سمري ر�أ�سه‬
‫قاطعه اللواء بقلق‪« :‬هو ُ‬
‫وهو يقول‪«:‬نعم‪ ،‬وهذا ما يقلقها» �س�أله اللواء‪« :‬ح�س ًنا‪ ،‬ماذا عن رجلنا؟!»‬
‫�أجابه‪«:‬و�صل بعدها بقليل‪ ،‬وقد علم �أن عملية البيع �ستتم على حدودنا» �س�أل‬
‫اللواء بتوتر‪« :‬احلدود!» �أجاب عن ت�سا�ؤله‪« :‬حدودنا مع ا�سرائيل �سيدي‪ ،‬رجالنا‬
‫يف ق�سم �شرطة ال�شيخ زويد �أكدوا علينا وجود حركات ع�شوائية لبع�ض رجال عبده‬
‫يف املنطقة هناك‪ ،‬وهم يف و�ضع ت�أهب يف حالة حدوث �شيء»‬
‫نه�ض اللواء فريد من مكانه وهو يتناول هاتفه‪« :‬ح�سنا‪� ،‬أريد ً‬
‫رجال ُمتخفني يف‬
‫�أماكن متفرقة طول الطريق بيننا وبينهم‪ ،‬و�أريد �أن �أقابل رجلنا يف �أقرب وقت‪� ،‬آه‪..‬‬
‫�سمري �أنا �أريد الأمر �أن يتم يف �سرية تامة‪� ،‬أنت تعلم عيونه هنا يف كل مكان‪ ،‬و�أريد‬
‫رجل على مقربة من املنزل يتابعها كظلها �إن خرجت‪� ،‬أنا يجب �أن �أت�صل بالعا�صمة‬ ‫ً‬
‫حت ًما لديهم معلومات لنا»‬

‫‪M‬‬
‫‪20‬‬
‫ً‬
‫ليل مبنزل ممدوح العزامي‬
‫دلفت للمطبخ تبحث عن ماء تروي به عط�شها‪ ،‬وهي حتاول جاهدة مللمة �شتات‬
‫روحها‪ ،‬فهي تعي جيدً ا �أن نظرة واحدة من ُغفران حلالتها و�ستدرك كل ما حدث‪،‬‬
‫لذا يجب �أن ُترتّب �أفكارها جيدً ا‪.‬‬
‫جت ّمدت مكانها وهي ترى ُغفران ت�ستند على �أحد الكرا�سي وتنظر لها برتكيز‪،‬‬
‫وغفران تتابع جيدً ا ردود �أفعال رحمة لر�ؤيتها و�شحوب‬ ‫�ساد ال�صمت للحظات ُ‬
‫وجهها‪ ،‬حت ّدثت بهدوء‪�« :‬أ�صررت على ال�سهر قليال حتى يت�سنى يل الفر�صة لأقابل‬
‫�أختي التي تته ّرب من ر�ؤيتي طوال اليوم بالنوم‪ ،‬ومل ُتك ّلف نف�سها ا�ستقبايل بعد‬

‫ع‬
‫غياب»‪ ،‬تنهدت رحمة بخفوت وهي تهدئ من �ضربات قلبها املُرجتف‪ ،‬هي ب�أمان‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫طاملا ُغفران هنا‪ ،‬هذا هو الأكيد‪ ،‬ثم بهدوء اقرتبت من ُغفران و�ألقت بج�سدها يف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أح�ضانها‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي حتاول �أن تبحث عن دفء ا�شتاقت له فلم ُتخ ّيب‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ُغفران ظنها وهي ترفع ذراعيها وحتاوطها هي الأخرى‪ُ ،‬طرفت عيناها بالدموع‪،‬‬

‫ع‬
‫دوما ُغفران ت�ستطيع مل�س روحها ب�سهولة‪.‬‬
‫ً‬
‫هم�ست بهدوء‪« :‬عودًا حميدً ا حبيبتي»‪.‬‬
‫ربتت ُغفران على ظهرها بحنان ال يظهر �إال لها ولإخوتهان وبعد دقائق كانتا‬
‫يف وقفتهما املُعتادة �أعلى �سطح املنزل‪ ،‬ت�ستندان على �سور ال�سطح‪ ،‬بينما الظالم‬
‫يحيط بهما من كل جانب‪� ،‬أدارت ُغفران ر�أ�سها لرحمة التي تقف بجوارها تتابع‬
‫�شرود عينيها وهي تنظر للقمر الذي يبدد وح�شة هذا الظالم‪ ،‬وبادرت باحلديث‪:‬‬
‫عقلك هكذا؟!»‪.‬‬
‫«�ألن تخربيني ما ي�شغل ِ‬
‫بدت رحمة بعيدة يف هذا الوقت وهي جتيبها ب�شرود‪« :‬لقد � ِ‬
‫أتيت بحقيبة‬
‫�صغرية»‪ ،‬مت ّعنت ُغفران يف النظر �إليها‪ ،‬وهي تعي ما وراء عبارتها‪ ،‬بينما �أكملت‬
‫رحمة‪�« :‬سرتحلني ُمددًا �ألي�س كذلك؟!»‪ ،‬مل تبعد ُغفران عينيها عنها وهي‬
‫جتيبها بخفوت من دون التط ّرق ملا تخفيه عنها‪«:‬يجب �أن �أفعل هناك �أمور عالقة‬
‫بالقاهرة»‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫تنهدت رحمة وهي جتيبها بحزن‪�« :‬سنة �أخرى»‪ ،‬هزت ُغفران ر�أ�سها بالنفي‪،‬‬
‫وهي جتيبها‪« :‬ال فقط ب�ضعة �أ�سابيع �إن مل �أ�صل ملا �أريده‪� ،‬صدقيني رحمة �إن الأمر‬
‫هام»‪.‬‬
‫ملحت ُغفران ا�ضطراب تن ّف�س رحمة وارتعا�ش ج�سدها وهي تقول ب�صوت‬
‫خمنوق‪« :‬لن �أ�ستطيع‪ ،‬وهي لن ت�ستطيع ال�صمود لب�ضعة �أ�شهر �أخرى بدون �أحد‬
‫معها»‪� ،‬شعرت ُغفران بحالة رحمة غري الطبيعية‪ ،‬ف�أدارتها لتكون �أمامها وهي‬
‫تنظر لعينيها برتكيز‪ ،‬وهي تهتف ب�شك‪« :‬ما ال�شيء الذي لن ت�ستطيعي ال�صمود‬
‫معك؟!»‬
‫�أمامه‪ ،‬ومن التي تتحدثني عنها؟! ما الذي يحدث ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ملحت ُغفران دموع رحمة تت�ساقط بوهن‪ ،‬فا�شتعلت عيناها بنريان الغ�ضب‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫والقلق �أ�صاب �أعماق قلبها فهدرت بها ‪«:‬ما كل هذا الوهن الذي � ِ‬
‫أ�صابك؟! �أخربيني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ماذا حدث؟»‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�أبعدت رحمة ذراعيها عنها وهي تبتعد وتعطيها ظهرها‪ ،‬بينما مت�سح دموعها‬
‫بتعب‪ ،‬ثم حلظات وهي ُته ّدئ حالها و�أجابتها‪« :‬مل يعد الأمر ُمه ًما‪ ،‬ال ت�شغلي ِ‬
‫عقلك‬
‫وا�ستمتعي بعطلتك‪ ،‬ثم ارحلي جمددًا و�أنا �س�أت�ص ّرف»‪.‬‬
‫منعتها ُغفران من النزول لأ�سفل‪ ،‬ووقفت �أمامها تهتف بها بغ�ضب ‪« ::‬توقفي‬
‫ل�ست بهذا ال�ضعف ماذا حدث يف غيابي؟!»‬ ‫عن هذا الدور املُقزز‪ِ � ،‬‬
‫أنت ِ‬
‫�شعرت رحمة بالإرهاق وب�أع�صابها قد فلتت من مهجعها‪ ،‬فهتفت بغ�ضب وهي‬
‫تدفع ُغفران بكفيها يف �صدرها‪ ،‬لترتاجع ُغفران خطوة للخلف م�صدومة من ردة‬
‫لك به‪ ،‬فال ت َّدعي‬‫غيابك ال دخل ِ‬‫ِ‬ ‫فعلها‪« :‬بل �أنا �ضعيفة‪� ،‬أنا ُمتعبة‪ ،‬وما حدث يف‬
‫�ستقبلك‪ ،‬مل تعودي تهتمني كال�سابق‪ ،‬فال ت َّدعي‬
‫ِ‬ ‫ي�شغلك �سوى ُم‬
‫ِ‬ ‫أنت ال‬
‫االهتمام و� ِ‬
‫ون�سيت �أمرنا»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جندتك‬
‫ِ‬ ‫وجدت يف القاهرة‬
‫ِ‬ ‫االهتمام الآن‪ ،‬لقد‬
‫بهت وجه ُغفران وهي ترى رحمة يف حالة غريبة لأول مرة‪ ،‬وكلماتها ت�صفع‬
‫وجهها بق�سوة‪ ،‬فتح ّدثت ب�صدمة‪�« :‬أنا يا رحمة ال ي�شغلني �سوى م�ستقبلي‪ ،‬هل هذا‬
‫وحدك تعلمني ملا �أنا بالقاهرة وملا‬
‫ِ‬ ‫أ�صابك‪،‬‬
‫نف�سك حتى ال تخربيني مبا � ِ‬‫ما تقنعني به ِ‬
‫‪22‬‬
‫وحدك تعلمني ملا اخرتت �أنا االبتعاد عن هنا بدال من �أن‬
‫ِ‬ ‫ذهبت هناك منذ البداية‪،‬‬
‫�أكون بجواركم �أحميكم من �أي �شر»‪.‬‬
‫ليتك ما‬
‫بقيت‪ِ ،‬‬
‫ليتك ِ‬ ‫�أغم�ضت رحمة عينيها بوجع وهي تهم�س ب�صوت م�سموع‪ِ « :‬‬
‫و�صلت؟! ال �شيء على الإطالق بينما‬
‫أنت هنا الآن بعد عامني و�إىل ماذا ِ‬ ‫رحلت‪ ،‬ها � ِ‬‫ِ‬
‫لك‬
‫علي �أنا �أن �أبقى هنا بجواره‪ ،‬حتت قدميه و�أ َّدعي �أن الأمور على ما يرام و�أبت�سم ِ‬
‫ّ‬
‫أودعك ملا ال تقتنعني ب�أن ال مهرب ملا نحن فيه‪ ،‬ب�أننا �سنحيا ومنوت هنا يف هذا‬
‫و�أنا � ِ‬
‫اجلحيم وب�أن خروجنا منه �سيكون فقط �إىل جحيم �آخر ال يقل عنه �سو ًءا»‪.‬‬
‫اقرتبت ُغفران منها وهي تتحدث بحما�س‪« :‬لقد و�صلت‪ ،‬لقد و�صلت رحمة‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عودتي اليوم فقط لإنهاء العديد من الأمور‪� ،‬أنا على بعد خطوة من �إنهاء كافة الأمور‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫لك»‬‫لن نظل هنا للأبد‪ ،‬لن ننتقل جلحيم �آخر �أق�سم ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لق�سمك الآن ُغفران‪،‬‬
‫ِ‬ ‫نظرت رحمة ل ُغفران بني دموعها وهي تهم�س لها‪« :‬ال قيمة‬

‫والتوزي‬
‫على الأقل بالن�سبة يل‪ ،‬ف�أنا �أ�صبحت يف اجلحيم بالفعل وال خمرج �آخر يل منه»‬

‫ع‬
‫رم�شت ُغفران بعينيها للحظات وهي ت�شعر بالقلق يع�صف بها فتح ّدثت بارتباك‪:‬‬
‫«ما الذي تق�صدينه؟!» ‪.‬‬
‫«�آه‪� ..‬أنتما هنا ونحن نبحث عنكما يف الأ�سفل»‪.‬‬
‫التفتت ُغفران لل�صوت ذي البحة الذي قاطعهما‪ ،‬بينما �أدارت رحمة وجهها‬
‫مت�سح دموعها حتى ال يلمحها �أحد‪ ،‬يف حماولة منها لإيقاف انهيارها‪.‬‬
‫نظرت ُغفران بجمود لتلك املر�أة التي تقف �أمام باب ال�سطح تنظر لها بعيون‬
‫�شابهت عينيها با�ضطراب حتاول �أن ُتخفيه‪ ،‬بينما ملحت ُغفران �شحوب وجهها‬
‫وج�سدها الذي فقد الكثري من الوزن ف�أ�صبحت بحجم طفلة يف ال�ساد�سة ع�شرة من‬
‫عمرها‪ ،‬لكن خ�صل �شعرها التي حتمل �صبغة تخفي بها �شيبها ك�شفت عن عمرها‬
‫اخلام�س والأربعني‪ .‬قطعت املر�أة ال�صمت وهي تتحدث بخفوت ل ُغفران‪« :‬عو ٌد‬
‫عودتك‪ ،‬ف�أنا كنت نائمة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أرك عند‬
‫حمي ٌد يا ابنتي‪ ،‬مل � ِ‬

‫‪23‬‬
‫ارتعا�شة ج�سدها التي �أخفتها برباعة وهي ت�شعر باال�شمئزاز ل�سماع كلمة ابنتي‬
‫من فمها‪ ،‬بينما نظرت رحمة لها با�ستغراب‪ ،‬فلأول مرة تنادي والدتهما �إحداهن‬
‫بابنتي‪� ،‬أو حتى ُت ّ‬
‫ربر �أين كانت وماذا تفعل‪.‬‬
‫مالمح ُغفران اجلامدة مل ِ‬
‫تعط لها �أي �إجابة‪ ،‬فتنهدت وهي تنظر لرحمة وتقول‬
‫إليك» ‪.‬‬
‫ب�صيغة الأمر املُعتادة‪« :‬انزيل رحمة‪ ،‬ممدوح يريد التح ّدث � ِ‬
‫ملحت ُغفران بطرف عينيها ارتعا�شة ج�سد رحمة وهي جتيبها بنعم‪ ،‬فكادت �أن‬
‫تتحرك‪ ،‬حتى م�سكت ُغفران ذراعها ونظرت لها بقوة وهي تقول ‪« ::‬كالمنا مل‬
‫أتبعك بعد �أن �أنهي حديثي مع ال�سيدة �سمرية» ‪.‬‬
‫ينته‪� ،‬س� ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ملحة �أمل مرت يف عني رحمة‪ ،‬لت�سبل �أهدابها عن ُغفران وهي تهز ر�أ�سها من دون‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫قول �شيء‪ ،‬لترتكها ُغفران وتتبعها بعينيها وهي ت�صل لباب ال�سطح وتنزل للأ�سفل‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫رفعت عينيها تنظر لتلك املر�أة التي ازداد �شحوب وجهها وهي تنظر ل ُغفران‬

‫توزيع‬
‫برت ّقب‪ ،‬فتحدثت ُغفران وابت�سامة ته ّكم تزين ثغرها‪« :‬كيف ِ‬
‫حالك �سيدة �سمرية؟!‬
‫�أمتنى �أال تكوين بخري!» ‪.‬‬
‫رم�شت �سمرية بعينيها وهي تعي جملتها بينما �أجابتها بربود‪« :‬احذري مما‬
‫لك �أحد غريي» �ضحكت ُغفران ب�سخرية وهي تقرتب من‬ ‫تتمنينه يا ُغفران‪ ،‬فلي�س ِ‬
‫غرورك لي�س له حد ح ًقا‪ ،‬هل � ِ‬
‫أنت‬ ‫ِ‬ ‫ال�سيدة التي حظيت بلقب والدة لها ولإخوتها‪« :‬‬
‫�شئت �أم‬
‫والدتك ِ‬
‫ِ‬ ‫غريك؟»‪� ،‬أجابتها �سمرية بغ�ضب مكتوم‪�« :‬أنا‬
‫واثقة ب�أن لي�س يل ِ‬
‫أبيت‪ ،‬ال ت�ستطيعني تغيري ذلك»‪.‬‬‫� ِ‬
‫�أجابتها ُغفران بربود‪« :‬ليتني �أ�ستطيع‪� ،‬أخربيني يا �سيدة �سمرية كيف حال‬
‫أتيك‬
‫أنفك با�ستمرار �أو رمبا ت� ِ‬
‫�صحتك؟! هل ت�شعرين ببع�ض الإرهاق؟!‪ ،‬رمبا ينزف � ِ‬
‫ِ‬
‫إمكانك‬
‫جمهودك مل يعد كال�سابق‪ ،‬فلم يعد ب� ِ‬
‫ِ‬ ‫ُحمى كل فرتة و�أخرى‪ ،‬ومن يعلم رمبا‬
‫ج�سدك دون �سبب» ‪.‬‬‫ِ‬ ‫جلد �أحد بال�سياط‪ ،‬بينما كدمات غريبة تظهر على‬
‫ازداد �شحوب وجه �سمرية وهي ت�ستمع لكلمات ُغفران التي مل تكن جمرد‬
‫عرفت كل‬
‫ِ‬ ‫ت�سا�ؤالت بل كانت حقائق تق ّرها عليها‪ ،‬حت ّدثت بارتباك‪« :‬كيف كيف‬
‫هذا؟! ما الذي فعل ِته يل؟!» ‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫�أنهت �س�ؤالها الأخري وهي تقب�ض على ُمقدمة �سرتة ُغفران وجتذبها مبا‬
‫ا�ستطاعت من قوة لتت�سع ابت�سامة ُغفران وهي تنظر لها وجتيبها بربود‪« :‬لي�س‬
‫�أنا من فعلت بل عدالة ال�سماء‪ ،‬فيبدو �أن القدر يختم ال�شر بال�شر وال ير�ضى �أن‬
‫أنك ُم�صابة بـ‪« :‬لوكيميا» �أو بالأدق مراعاة‬‫أخربك � ِ‬
‫تنعمي مبوت هادئ‪ ،‬ي�س ّرين �أن � ِ‬
‫جلهلك ما ي�سمى �سرطان الدم»‪.‬‬
‫ِ‬
‫انتف�ضت �سمرية ُمبتعدة عن ُغفران وهي تهز ر�أ�سها بال‪ ،‬راف�ضة �أن ُت�ص ّدق ما‬
‫أنت كاذبة‪ ،‬ال �أنا ل�ست ُم�صابة ب�شيء‪� ،‬أنا لن �أموت»‪.‬‬
‫ت�سمعه �أذناها لتهتف‪ِ �« :‬‬
‫احتل اجلمود مالمح ُغفران وهي تنظر لها بخواء ‪�«:‬أنا ال �أكذب يا �سيدة �سمرية‪،‬‬

‫ع‬
‫كان على �أحدهم �أن يعلم احلقيقة‪ ،‬حقيقة ما يحدث يف تلك احلياة التي نحياها‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يف هذا اجلحيم‪ ،‬احلقيقة التي �أعيها وحدي ولكن �صغر �سني مل ي�ؤكدها يل وقتها‪،‬‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫أنت‬
‫دمك و� ِ‬
‫كان يجب �أن �أت�أكد لأطلب من ليلى من �شهرين �أن حت�صل على عينة من ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫كنت والدتهن �أم ال‪ ،‬لأدرك �أن الكذبة الوحيدة‬‫كنت والدتي �أم ال‪� ،‬إن ِ‬
‫نائمة لأت�أكد �إن ِ‬

‫ع‬
‫يوما كانت حقيقة يل‪ ،‬عك�سهم حقيقة بغي�ضة‪� ،‬أدفع عمري كله وال‬ ‫التي مل �أرغب بها ً‬
‫قلت ال �أ�ستطيع تغيريها‪ ،‬لأتفاج�أ بطبيبة التحاليل تخربين‬ ‫�أحياها حلظة‪ ،‬ولكن كما ِ‬
‫ب�أن العينة التي طلبت فح�ص حم�ض نووي لها حتمل �صاحبتها مر�ض �سرطان الدم‪،‬‬
‫دمك‪ ،‬وكانوا ُمتيقنني بن�سبة‬
‫نظ ًرا لزيادة غري طبيعية لعدد خاليا الدم البي�ضاء يف ِ‬
‫مظهرك‬
‫ِ‬ ‫كبرية‪ ،‬لذا يجب �أن تقوم �صاحبتها بالتحاليل الالزمة لتت�أكد‪ ،‬ولكن من‬
‫�أمامي �أ�ستطيع �أن �أ�ؤكد �أن الن�سبة مئة باملئة»‪ ،‬هزت �سمرية ر�أ�سها وهي ت�سمع ما‬
‫�ألقته عليها ُغفران وهي ت�شد �شعرها بقوة وتهم�س بتكرار‪« :‬ال‪ ،‬ال ميكن»‪� ،‬شعرت‬
‫بالدوار للحظة لت�سند ج�سدها على احلائط خلفها‪ ،‬وتنظر ب�شحوب ل ُغفران وهي‬
‫تقول ب�ضعف‪« :‬هل �س�أموت يا ُغفران؟!» ‪.‬‬
‫رم�شت ُغفران بعينيها للحظات وقد ُبوغتت ب�س�ؤالها الذي �ألقته بكل ال�ضعف‬
‫يوما طوال حياتها الثمانية والع�شرين‪ ،‬هي كانت‬ ‫الذي بداخلها ومل تلمحه ُغفران ً‬
‫تع ّد نف�سها بقوة لهذه اللحظة لتلقي عليها اخلرب بكل برود وجمود‪ُ ،‬موكدة لنف�سها‬
‫�أنها لن تت�أثر‪ ،‬لن ي�ؤملها قلبها‪ ،‬ولن تهتم‪ ،‬فتلك التي �أمامها لي�ست والدتها‪ ،‬هي فقط‬
‫املر�أة التي �سكنت يف رحمها لت�سعة �أ�شهر‪ ،‬لكن �أن ت�س�ألها بكل هذا ال�ضعف �إن كانت‬
‫‪25‬‬
‫�ستموت قد زلزل الأر�ض التي �سعت طوال كل تلك ال�سنوات يف تثبيتها حتت قدميها‬
‫بكل م�شاعر الكره والغ�ضب‪.‬‬
‫قاطع �أفكارها نحيب �سمرية وهي تقرتب من ُغفران ومت�سك بكفي يديها‬
‫أنت طبيبة‪،‬‬ ‫بتو�سل‪ِ �« :‬‬
‫أرجوك افعلي �أي �شيء‪� ،‬أنا ال �أريد �أن �أموت‪ِ � ،‬‬ ‫وتتح ّدث ّ‬
‫�أخربيني بالدواء و�س�أح�ضره �أو �س�أطلب من ممدوح �أن يبحث بني الدفعة القادمة‬
‫على �أحد ُمنا�سب ت�ستطيعي �أن حت�صلي منه على النخاع ومتنحينه يل‪� ،‬ألي�س العالج‬
‫نخاعا؟ لقد �سمعت �أحد الذين تعاملنا معهم وكان يبحث عن‬ ‫الأف�ضل �أن تزرعي يل ً‬
‫نخاع البنته‪� ،‬إن الأمر كله يف نخاع يكون منا�س ًبا لف�صيلة دمي �ألي�س كذلك؟!» ‪.‬‬

‫ع‬
‫طارت كل الذرات التي ل�سعت قلبها ب�أمل منذ قليل لتنقلب لرياح غ�ضب هادر‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫وهي ت�سمع كلماتها الأخرية لتنظر لها با�شمئزاز وا�ضح‪ ،‬لتجيبها بربود‪ِ « :‬‬
‫لديك‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫حياتك‪،‬‬ ‫عاما تتو�سليني لأنقذ‬
‫حلول لكل �شيء �ألي�س كذلك؟! بعد ت�سعة وع�شرين ً‬

‫شر وال‬
‫ِ‬

‫توزيع‬
‫بينما مل تفعلي �شيئا �سوى تدمري حياتي وحياتهن؟»‪.‬‬
‫نظرت �سمرية لها ب�صدمة لتبتعد عنها وقد �أ�صابتها ال�صدمة به�ستريية �ضحك‬
‫حتول لغ�ضب بعد حلظات وهي تهدر فيها‪ ،‬بينما ج�سدها ينتف�ض بخوف مما �أدركته‬
‫جعلتك حتيني حياة ما‬
‫ِ‬ ‫عن حالتها‪�« :‬أي حياة التي دمرتها‪ ،‬لقد � ِ‬
‫أنقذتك يا غبية‪ ،‬لقد‬
‫كنت‬
‫كنت لت�صبحي طبيبة وما ِ‬ ‫تركتك منذ ثمانية ع�شر عاما‪ ،‬ما ِ‬
‫ِ‬ ‫كنت لتعي�شينها لو‬
‫ِ‬
‫�صرت جارية لأحدهم �أو م�صدرا‬
‫حتى لتتمكني من ال�صمود يف ذلك الكهف �أو رمبا ِ‬
‫أح�ضرك معي ُمرغمة‪ ،‬وهكذا‬
‫ِ‬ ‫لك خدمة العمر و�أنا �‬
‫جيدا للأع�ضاء‪ ،‬لقد قدمت ِ‬
‫دينك ب�أن ت�أتي بكل برود تخربيني عن مر�ضي وتتل ّفظني بكل تلك الرتهات‪،‬‬
‫تردين ِ‬
‫عليك التنفيذ‪� ،‬س�أحت ّدث مع ممدوح ليعطي هذا‬ ‫�أنا ال �أطلب ُغفران �أنا � ِ‬
‫آمرك ويجب ِ‬
‫أنت لن تخرجي من هذا املنزل حتى تعاجليني‪ ..‬انتهى‬ ‫الأمر الأهمية الق�صوى و� ِ‬
‫الأمر»‪.‬‬
‫دفعتها �سمرية وحتركت لباب ال�سطح ليوقفها �صوت ُغفران الذي و�صل‬
‫بتيه �أول مرة‬
‫لأ�سماعها غريبا �ضعيفا! جعلها تلتفت لها با�ستغراب لرتاها تنظر لها ٍ‬
‫تلمحه عليها لت�سمعها وهي تقول‪�« :‬أخربيني �سيدة �سمرية هل �أح�ضرتني ِ‬
‫معك هنا‬
‫‪26‬‬
‫ابنتك �أم لأنه‬
‫لهذا املنزل ومل ترتكيني �أتعفن يف ذلك الكهف الذي ولدت فيه لأنني ِ‬
‫لك؟!» ‪.‬‬
‫�سيكون يل فائدة يف امل�ستقبل ِ‬
‫طويل ُتاول به ال�سيطرة على �أع�صابها‪ ،‬لتُجيبها بربودها‬ ‫نف�سا ً‬ ‫�أخذت �سمرية ً‬
‫أح�ضرك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أخربتك �أنني كنت ُمرغمة و�أنا �‬
‫ِ‬ ‫دوما مع اجلميع‪�« :‬‬ ‫الذي تعاملت به ً‬
‫لك؟!» لتقرتب �سمرية منها وتقف على بعد خطوة منها وتهتف‬ ‫فماذا يعنيه هذا ِ‬
‫بكر ٍه �أظهر قبح روحها وارتعا�شة ج�سدها اخلائن �أو�ضح �إرهاقها‪« :‬هل تريدين‬
‫يوما ب�أن تكوين معي‪ ،‬ومل �أكن لأ�شعر‬ ‫أخربك بها‪� ..‬أنا مل �أرغب ً‬‫�سماعها؟! ح�س ًنا �س� ِ‬
‫تركتك هناك»‪ ،‬حركت �سمرية ر�أ�سها جانبها وهي تنظر ل ُغفران‬ ‫ِ‬ ‫بذرة ندم واحدة لو‬
‫بنظرات حملت كل م�شاعر البغ�ض‪ ،‬وهي تكمل‪« :‬هل � ِ‬
‫أخربك بالأهم؟! �أنا مل �أرغب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫إجها�ضك لوال ممدوح الذي �أعلم الآن بعد ما قل ِته‬
‫ِ‬ ‫بك ابنة‪ ،‬كنت على خطوة من �‬ ‫ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لكنت الآن ميتة‬
‫أنت وال باقي البنات‪ ،‬لواله ِ‬ ‫بوالدك احلقيقي ال � ِ‬
‫ِ‬ ‫أنك مت�أكدة �أنه لي�س‬
‫� ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫حظك �أنها جنحت‪ ،‬فتح ّملت‬ ‫لك حتى‪ ،‬فهو كان لديه خمططات وحل�سن ِ‬ ‫ال وجود ِ‬

‫والتوزي‬
‫أنك‬‫هدف �أ�سمى جنحنا �أنا وهو يف الو�صول �إليه‪ ،‬رغم � ِ‬‫هذا احلمل البغي�ض من �أجل ِ‬

‫ع‬
‫كنت ال�سبب يف العقاب الذي نلته لأعود مل�صر جمددًا وتعبي و�إرهاقي مل ي�ساعداين‬ ‫ِ‬
‫والدك‬
‫ِ‬ ‫كنت ال�سبب يف جناح خطتنا‪� ،‬أما عن‬ ‫أنك ِ‬ ‫لأهتم بكل تفا�صيل العملية‪� ،‬إال � ِ‬
‫عمرك املُتبقي جاهلة مبن يكون‪� ،‬أتعلمني ملاذا؟! لأنني ال‬ ‫ِ‬ ‫احلقيقي ف�ستبقني طوال‬
‫نت نتاج عالقة دامت ليوم �أو رمبا ل�ساعة ال �أتذكر جيدً ا‪،‬‬ ‫أنت ُك ِ‬‫�أتذكر من يكون؟! ف� ِ‬
‫بذرة من عالقة فا�سدة»‪.‬‬
‫لتتعاىل �ضحكات �سمرية وقد فقدت ال�سيطرة على م�شاعرها وهي تنظر لها‬
‫بجنون‪ ،‬لترتكها وتتحرك جتاه الباب لتلتفت ر�أ�سها وهي تقول‪« :‬ا�ستعدي جيدً ا‬
‫بعنقك اجلميل هذ‪،‬ا واحذري يا‬
‫ِ‬ ‫ردك للدين الذي يحيط‬ ‫والدتك‪ ،‬فهذا ِ‬
‫ِ‬ ‫لتُنقذي‬
‫عيناك التي ُ�سحبت منهما‬
‫ِ‬ ‫منك �ست�شهد‬‫ُغفران من الغدر‪ ،‬ف�إن مل تفعلي ما �أردته ِ‬
‫أنت تدركني جيدً ا ما �أ�ستطيع فعله»‪.‬‬
‫أخواتك الغاليات و� ِ‬
‫احلياة الآن موت � ِ‬
‫وغفران جامدة يف مكانها تنظر للفراغ‬ ‫�ساد ال�صمت للحظات حت ّولت لدقائق‪ُ ،‬‬
‫الذي خ ّلفته �سمرية وراءها‪ ،‬قطرة من املاء �سقطت على كف يديها لتنظر لها‬
‫با�ستغراب‪ ،‬فرفعت يديها مت�سح على وجنتيها لتجد قطرة ت�سقط وراءها الأخرى‪،‬‬
‫‪27‬‬
‫لتدرك �أنها تبكي‪� ،‬أدموعها هذه ب�سبب ذلك الأمل القا�سي الذي يحتل قلبها الآن‬
‫ويقتلها مع كل نف�س تخرجه؟! هل ح ًقا تبكي ق�سوة والدتها؟! �أغم�ضت عينيها ب�أمل‬
‫وهي ترفع قب�ضتها ت�ضرب بها �صدرها بقوة مكان قلبها لع ّل الأمل يخبو‪ ،‬وهي تهم�س‪:‬‬
‫«توقف عن الأمل توقف»‪ ،‬رفعت قب�ضتها الأخرى وهي مت�سح دموعها بق�سوة‪ ،‬وقد‬
‫فقدت قدرتها على التحكم بها لتنهمر دموعها بغزارة‪ ،‬لت�شهق ُغفران وهي ت�شعر‬
‫بقطرات �أخرى تت�ساقط فوق ر�أ�سها لتفتح عينيها وترفع ر�أ�سها للأعلى لرتى مطر‬
‫ال�سماء قد بد�أ يف الت�ساقط بهدوء‪ ،‬مطر جاء يف غري مو�سمه لينهمر بعدها بقوة‬
‫لتغم�ض عينيها جمددًا والقطرات متتزج مع دموعها وهي ت�سمح لروحها �أن تتطهر‬
‫مبطر ال�سماء لع ّله رمبا ميحو كل تلك الآالم‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الك‪M M M‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫يع‬ ‫ز‬

‫‪28‬‬
‫خوفنا هو ما ُيجربنا على جعل من الال�شيء �شي ًئا ً‬
‫بغي�ضا‬
‫الف�صل الثاين‬
‫حياة وموت‬

‫طرقت باب املكتب بارجتاف لت�سمع �صوته ي�أذن لها بالدخول‪ ،‬دلفت للغرفة‬
‫لتلمحه يتحدث يف هاتفه وهو جال�س على الأريكة التي حتتل مكا ًنا كب ًريا بالغرفة‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ملحته وهو ينقل نظراته على انحناءات ج�سدها وابت�سامة ترت�سم على وجهه‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ف�أحاطت ج�سدها بذراعيها‪ ،‬وهي ت�شيح ب�أنظارها عنه لت�سمعه ينهي املكاملة وينظر‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قائل‪« :‬هل‬
‫لها برتكيز‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات قبل �أن يقطعه ً‬

‫شر وال‬
‫بوقتك مع‬
‫ا�ستمتعت ِ‬
‫ِ‬

‫توزيع‬
‫أنك‬ ‫ُغفران العزيزة؟!»‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها ومل جتبه ب�شيء‪ ،‬ليكمل‪�« :‬أرى من ِ‬
‫هيئتك � ِ‬
‫مل ت�ستطيعي البوح مبا حدث‪� ،‬آه رحمة كم �أنت فا�سدة �صغرية» �أجابته بغ�ضب‪�« :‬أنا‬
‫مل �أخربها ب�شيء‪ ،‬لأنها �إن عرفت فلن ترتدد من غرز �سكينها يف عنقك»‪ ،‬نه�ض‬
‫أنك قلقة على منرتي‪� ،‬ستجعليني‬ ‫من مكانه وهو ي�ضحك قائال‪�« :‬آه ال تخربيني � ِ‬
‫لك بد ًءا من اليوم»‪ ،‬رفعت �أنظارها له لتلمحه‬ ‫هكذا �أغري املُخطط الذي ر�سمته ِ‬
‫يقف على مقربة منها يلم�س �شعرها ب�أنامله‪ ،‬لت�س�أله با�ضطراب‪�« :‬أي خمطط؟!»‬
‫علي يثريين يا منرتي»‪ ،‬جذبها‬ ‫قلقك ّ‬‫نفيك ِ‬‫رفع حاجبه الأمين وهو يقول‪« :‬عدم ِ‬
‫له بقوة وهو يحيط بذراعه ج�سدها لتنتف�ض بقوة بني يديه وهي حتاول با�ستماتة‬
‫تعط لنف�سك قيمة قلقي على ُغفران‬ ‫�أن تتح ّرر من �أح�ضانه لتهتف بغ�ضب‪« :‬ال ِ‬
‫وم�ستقبلها الذي �سينتهي �إن قتلتك‪ ..‬ابتعد عني»‪.‬‬
‫�أرجع ر�أ�سه للخلف وهو ي�ضحك بقوة ليعود لينظر �إليها وهو ي�ضمها له �أكرث‪�« :‬آه‬
‫منك‪ ،‬ولكني‬
‫يا منرتي كم �س�أ�شتاق لتلك الأظافر التي تنه�شني بها كل من يقرتب ِ‬
‫عليك �سيتلذذ بها و�ستكوين دُميته املف�ضلة»‪ ،‬توقفت عن‬ ‫مت�أكد �أن من �سيح�صل ِ‬
‫قتاله وهي ت�سمع جملته الأخرية لرتتع�ش �شفتاها وهي تنظر له بعيون دامعة لريفع‬
‫هام�سا‪�« :‬ستكونني له �أكرث من‬
‫�أ�صابعه ومي�سح دموعها التي ت�ساقطت وهو يقول ً‬
‫‪30‬‬
‫بتو�سل‪«:‬ال‬
‫كنت يل و�أكرث»‪ ،‬هزت ر�أ�سها بال وهي تنهار بالبكاء هام�سة ّ‬ ‫دُمية كما ِ‬
‫�أرجوك‪ ،‬ال»‪ ،‬نظر ل�شفتيها ليكمل بجنون وهو يقول ‪« ::‬ال منرتي ال تتو�سل لأحد‪،‬‬
‫عليك يا عزيزتي‪ ،‬فهم يريدون ب�ضاعة ُم�ستعملة �أو امر�أة �صغرية‬
‫لقد وقع االختيار ِ‬
‫مل يلم�سها �أحد بعد»‪.‬‬
‫�شهقت برعب وهي تعي ما يل ّمح له بكالمه عن ليلى‪ ،‬منذ قليل كانت تفكر يف‬
‫قتاله حتى ال ُيرح ّلها ملكان �آخر بعيد عن ليلى‪ ،‬وقد �أدركت من ُغفران �أنها لن تكون‬
‫كاف‪ ،‬والآن �سرتحل‪� ،‬ستوافق �أن ير�سلها لأي مكان حماية لـ ليلى لتقول‪:‬‬‫هنا لوقت ٍ‬
‫«ال‪ ،‬ليلى ال‪� ،‬أرجوك»‪ ،‬ابت�سم لها وهو يقول ب�سخرية‪« :‬مل �أظن �أن تلك امل�شاعر‬
‫يوما ما‪ ،‬كم كنت �أبغ�ض ما تفعله ُغفران من زرع احلب بينكن‪،‬‬

‫ع‬
‫التي بينكن �ستفيدنا ً‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫علي �أن �أ�شكرها»‪ ،‬ابتعد عنها وهو يتجه للمكتب ليخرج بع�ض الأوراق‬

‫ل‬
‫ولكن الآن ّ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لتحيط بج�سدها املُرتع�ش وهي تقول بهم�س �ضائع‪« :‬ال تخرب ُغفران �أرجوك ب�أي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�شيء»‪ ،‬و�ضع الأوراق التي بيديه يف حقيبة �صغرية‪ ،‬وهو يكمل حديثه ُم ً‬

‫والتوزي‬
‫تجاهل‬

‫ع‬
‫طلبها‪ ،‬الغبية ال تعلم �أن ُغفران �ستكون يف نومتها الهادئة بعد تناولها املنوم يف‬
‫طعام الع�شاء‪«:،‬الليلة �سيكون حت ّركنا‪ ،‬ا�ستعدي عزيزتي‪ ،‬ال داعي لأي حقائب‪ ،‬فهم‬
‫يريدونك فقط» ‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪M‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫طرقات على باب مكتبه تبعها دخول �أحد رجاله‪�«:‬سامي الأبنوبي» �أواله اهتمامه‬
‫وهو يلمح على وجهه مالمح �أخبار جديدة عاجلة‪ ،‬بادره باحلديث‪�« :‬أخربين»‪.‬‬
‫�أجابه �سامي‪« :‬الأمر �سيتم الليلة �سيدي»‪ ،‬نه�ض اللواء ح�سني ثروت من مكانه‬
‫وهو يجذب �سرتته لريتديها على عجال‪ ،‬بينما يتح ّدث‪« :‬اجتماع �سري عاجل‬
‫لرجالنا �سامي‪ ،‬و�أريد ات�صاال ُمبا�شرا يف العري�ش و�أريد عي ًنا و�أذ ُنا هناك خطوة‬
‫أجر ات�صاال �آمنا باللواء فريد و�أو�صلني به على الفور‪� ،‬أريد �أن �أعرف‬‫بخطوة‪ِ � ،‬‬
‫خمططه وبلغ �سكرتري مدير الأمن برغبتي يف لقائه يف مو�ضوع ذي �أهمية ق�صوى»‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫بعد منت�صف الليل مبنزل ممدوح عزامي‬
‫و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات مكتومة يف اخلارج‪ ،‬عقدت حاجبيها با�ستغراب وهي‬
‫�صباحا‪ ،‬نه�ضت من على �سريرها وهي‬‫ً‬ ‫تنظر لل�ساعة التي ت�شري عقاربها للثانية‬
‫تقرتب من النافذة بهدوء لتلمح عربة �سوداء رباعية الدفع يقف �أمامها رجالن‬
‫يبدو من هيئتهما الإجرامية �أنهما لي�سا من املنطقة لتت�أكد من ظنونها وهي تراهما‬
‫يلتفتان لباب املنزل الذي ُفتح‪ ،‬لتدقق النظر لتت�سع عيناها يف اللحظة التالية‬
‫ب�صدمة وهي ترى ممدوح يتحدث مع �أحد الرجلني وبجواره رحمة‪ ،‬بينما تقف‬
‫خلفهما �سمرية وهي تهم�س ب�شيء لرحمة وابت�سامتها ال�شيطانية على وجهها‪ ،‬بينما‬
‫ازداد �شحوب وجه رحمة قبل �أن تركب ال�سيارة يف اخللف ويجاورها ممدوح‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ال تعلم كيف حتركت ُم�سرعة من غرفتها حماولة عدم �إيقاظ ليلى يف ال�سرير‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫املجاور لها‪ ،‬حملت بكفها �س ّكينها تخفيها يف �أحد جيوب معطفها الذي ارتدته وهي‬

‫شر وال‬
‫تنزل من على الدرج لتتجمد مكانها‪ ،‬وهي ترى �سمرية واقفة �أمام باب املنزل‬

‫توزيع‬
‫ويجاورها �سمر‪ ،‬ويف يدي كل منهما �سالح‪ .‬حتدثت �سمر ب�سخرية‪« :‬كان يجب �أن‬
‫لك»‪.‬‬
‫أنك لن تتناويل �أي �شيء قدمناه ِ‬
‫�أدرك � ِ‬
‫�أجابتها ُغفران بجمود وعينيها ال تفارق عني �سمرية‪�« :‬أنا لن �أجازف بتناول‬
‫�شيء د�س�ستم فيه �أي �شيء‪ ،‬فحتما وجود رجال عبده اجلن لي�س ب�صدفة‪ ،‬ال تريدونني‬
‫ُم�ستيقظة‪ ،‬خا�صة وقد تفاج�أمت بعودتي اليوم‪� ،‬إىل �أين �أخذ رحمة؟!» ابت�سمت �سمر‬
‫ب�سخرية وهي جتيبها بينما ال تعي حلرب النظرات بني ُغفران و�سمرية‪َ « :‬مل ال‬
‫بالك مبا يحدث الآن مع رحمة؟»‪.‬‬
‫لغرفتك وال ت�شغلي ِ‬
‫ِ‬ ‫ت�صعدي‬
‫ملحت ُغفران �سالح �سمر الذي رفعته و�صوبته باجتاهها لتنظر لها للحظة لتعيد‬
‫�أنظارها جمددًا ل�سمرية‪«:،‬لقد خرقتم االتفاق» �أجابتها �سمرية بهدوء بينما‬
‫تقب�ض على م�سد�سها بقوة بني يديها دون �أن ترفعه‪«:،‬ا�صعدي لغرفتك ُغفران‪،‬‬
‫الأمر يتعدى �أي اتفاق بيننا‪ ،‬رحمة يف طريقها حلياة جديدة‪ ،‬وكما ر�أي ِتها يف النافذة‬
‫لقد رحلت ب�إرادتها ومل يجربها �أحد على �شيء»‪.‬‬
‫كررت ُغفران حديثها وهي تنظر لها بثبات‪« :‬لقد خرقتم االتفاق»‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫لرتفع �سكينها يف اللحظة التالية لتقذفها جتاه �سمر مبهارة في�صيب ذراعها‪،‬‬
‫ما جعلها ت�سقط �سالحها وهي تت�أوه ب�أمل‪ ،‬اقرتبت ُغفران ُم�سرعة ُم�ستغلة ان�شغال‬
‫�سمر ب�أملها وهي جتذب ال�سكني من ذراعها‪ ،‬لتلتقط ُغفران �سالح �سمر يف اللحظة‬
‫التي رفعت �سمر ال�سكني من ذراعها لرتفعها جتاه ُغفران‪ ،‬كانت قد ابتعدت الأخرية‬
‫عنها مبهارة وهي ت�ضرب مب�ؤخرة ال�سالح ر�أ�س �سمر بقوة كبرية‪ ،‬لت�سقط على‬
‫الأر�ض مغ�شية عليها‪ ،‬التفتت ُم�سرعة ل�سمرية وهي ت�صوب ال�سالح جتاهها لتتفاج�أ‬
‫بالأخرية وهي ترفع �سالحها على بعد �إن�شات من جبني ُغفران‪.‬‬
‫حت ّدثت ُغفران بهدوء غري عابئة بال�سالح املُلت�صق بجبينها‪�« :‬ست�صطحبيني‬
‫ملكان رحمة الآن‪ ،‬و�إال �س�أُ ّ‬

‫ع‬
‫عجل من املحتوم الذي قد ي�صيبك يف �أي حلظة»‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لك ب�إلقاء الأوامر ُغفران» �أجابتها‬ ‫�أجابتها �سمرية‪ِ �« :‬‬

‫ك‬
‫ل�ست يف و�ضع ي�سمح ِ‬‫أنت ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫لك مبواجهتي‬ ‫و�صحتك لي�ست يف و�ضع ي�سمح ِ‬
‫ِ‬ ‫ُغفران والغ�ضب بد�أ يتخلل روحها‪« :‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�سمرية»‪ ،‬تنهدت �سمرية وهي تنزل �سالحها بينما تتجاهل تهديد ُغفران‪َ « :‬مل ال‬

‫ع‬
‫ترتكيها ترحل‪ ..‬رمبا جتد حياتها يف املكان الذي �ستذهب �إليه»‪ ،‬اقرتبت ُغفران‬
‫منها وهي تلتقط �سكينها التي �ألقت بها �سمر مبكان قريب منها‪ ،‬ثم مبهارة �شخ�ص‬
‫�أجاد ا�ستعمال ال�سكني �صوبتها جتاه عنق �سمرية وهي تهتف بغ�ضب‪« :‬الآن‪ ،‬الآن‬
‫وجودك يف تلك اللحظة‪ ،‬و�أنا بقادرة‬
‫ِ‬ ‫لك ب�أنني �س�أنهي‬
‫�ست�أخذيني �إليها‪ ،‬و�إال �أق�سم ِ‬
‫حياتك مقابل مكان رحمة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على الو�صول �إليهم بطريقتي والآن اختاري‬
‫ارتع�شت �سمرية ون�صل ال�سكني ينغرز �أكرث يف ج�سدها لتهز ر�أ�سها بهدوء‪ ،‬وهي‬
‫أخربك مكانها‪ ،‬ولكن لقد ت�أخر وقت �إنقاذها»‪ ،‬و�ضعت ُغفران �سكينها‬
‫تقول‪�« :‬س� ِ‬
‫بجيب �سروالها‪ ،‬و�صوبت ال�سالح الآخر جتاه �سمرية‪ ،‬وهي تخربها‪« :‬التقطي مفتاح‬
‫ال�سيارة ولنذهب»‪.‬‬
‫انطلقت ال�سيارة تقودها �سمرية بينما ُغفران بجوارها ت�صوب ال�سالح جتاه‬
‫�سمرية‪ ،‬ويف يدها الأخرى هاتفها حتاول �أن تت�صل بامل�ساعدة‪ ،‬ولكن االت�صاالت ال‬
‫تكتمل يف املنطقة التي بها‪� ،‬شتمت يف �سرها وهي ت�شعر بنفاد الوقت بالفعل‪ ،‬نظرت‬
‫يف مر�آة ال�سيارة اجلانبية وهي تلمح �أنوار �إحدى ال�سيارات خلفها ُتب ّدد القليل‬
‫‪33‬‬
‫من الظلمة‪ ،‬دققت النظر لتلمح وج ًها م�ألو ًفا هتفت ب�سمرية‪« :‬هدئي ال�سرعة»‪،‬‬
‫ا�ستجابت لها �سمرية وهي تنقل عينيها بني ُغفران وال�سالح امل�صوب جتاهها بقلق‪.‬‬
‫اقرتبت ال�سيارة الأخرى لرتى ُغفران �سائقها ينظر لها باطمئنان‪« :‬لقد علم‬
‫اللواء فريد بالأمر‪ ،‬الرجال يف كل مكان‪ ،‬نحن فقط ال نعلم �أي طريق �سي�سلكه»‪،‬‬
‫�أجابته ُغفران بجمود‪�« :‬إىل �أين؟!» �أجابها ال�سائق‪�« :‬إىل احلدود‪ُ ،‬‬
‫�ست ّحل‬
‫لإ�سرائيل»‪� ،‬شحب وجهها وهي تدير ر�أ�سها ل�سمرية التي �شعرت بالتوتر من حديث‬
‫ُغفران مع الرجل ليقع قلبها وهي ترى نظرات ال�شر يف عني ُغفران لتبتلع ريقها‬
‫عال قبل �أن توجه لها احلديث‪�« :‬أ�سرعي‪،‬‬
‫ب�صعوبة وهي ترى ُغفران ت�شتم ب�صوت ٍ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لك �س�أقتلكم جمي ًعا �إن �أمتم �صفقته‪ ،‬الوغد احلقري»‪.‬‬
‫�أق�سم ِ‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب‬
‫بعد مرور ن�صف �ساعة يف الطريق‪� ،‬شعرت ُغفران بالقلق وهي مل تر �أي �سيارات‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫خا�صة مبمدوح ورجال عبده اجلن حتى الآن‪ ،‬خطرت ببالها فكرة لتتناول هاتفها‬

‫توزيع‬
‫وتقوم بات�صالها‪� ،‬سمعتها �سمرية وهي تقول‪« :‬ال�شيخ عزيز‪ ،‬رمبا حان الوقت لرتد‬
‫دين ابنك‪� ،‬أريد خدمة منك عاجلة»‪.‬‬
‫ارجتاج ال�سيارة بها يف الطريق والظالم الذي ي�سود كل ما حولها مل يخفف من‬
‫الرعب الذي �أ�صاب قلبها وهي ترى نهايتها ترت�سم �أمامها‪ ،‬بينما ُت�ساق كاجلارية‬
‫لعاملها اجلديد‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي ت�شعر بالقليل من الراحة لأنه �أخذها ً‬
‫بدل‬
‫من ليلى‪ ،‬الغالية ليلى مل تكن لتتحمل ر�ؤيتها تت�أذى ب�أي طريقة‪ .‬فتحت عينيها على‬
‫تو ّقف ال�سيارة فانتف�ض قلبها برعب وهي ت�شعر بقرب النهاية‪ ،‬ليجذب انتباهها‬
‫حديث �أحد الرجال مع ممدوح اجلال�س بالكر�سي جوارها هو ي�س�أل الرجل‪« :‬ما‬
‫الذي تق�صده؟!» ليجيبه الرجل‪�« :‬سيدي يخربك �أن الأمر يجب �أن يت�أجل ً‬
‫قليل‪،‬‬
‫رمبا ل�ساعة �أو ل�ساعتني‪ ،‬فالطريق ُمل ّغم برجال �أمن ُمتخفني»‪� ،‬أجابه ممدوح‬
‫بع�صبية‪« :‬ال ميكننا الت�أجيل‪ ،‬فهناك موعد للت�سليم ال ميكن الت�أخري عنه»‪ ،‬قال‬
‫الرجل‪« :‬ح�س ًنا �س�أخرب �سيدي‪ ،‬لكن حتى ن�صل حلل يجب �أن نخفي �آثارنا حتى �إذا‬
‫مرت دوريات ال�شرطة هنا ال جتدنا‪ ،‬اتبعني ب�سيارتك»‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫�سمعت ممدوح ي�سب وهو ي�أمر ال�سائق �أن يتبع ال�سيارات التي �أمامه‪ ،‬و�صلوا‬
‫ملنطقة جبلية يبدو �أنها �أحد �أوكارهم‪ ،‬وملحت توقف ال�سيارات لرتى ممدوح يجذب‬
‫هاتف الرثيا من جيبه ليت�صل ب�أحدهم‪� ،‬أخذ ج�سدها يرجتف خو ًفا وهي حتاول‬
‫�أن ترى �أي �شيء من الظالم حولها‪ ،‬لتغم�ض عينيها وهي ت�ستدعي ذكرى‪ ،‬ذكرى‬
‫طمرتها منذ �سنوات‪ ،‬ذكرى مل تتوقف للحظة عن العودة والظهور �أمام عقلها يف‬
‫�أق�سى حلظات حياتها‪� ،‬صوت رمبا تنا�ست وجه �صاحبه لكن مل تن�س الأمان الذي‬
‫كان ميلأ روحها بوجوده فهم�ست داخلها‪« :‬ابق �أرجوك»‪.‬‬
‫حركة �أثارت انتباههم وهم يرون �سيارات رباعية الدفع قادمة من بعيد متر على‬
‫الطريق الرئي�سي بجوار مكان اختبائهم‪ ،‬ركز ممدوح نظراته على ال�سيارات ليدرك‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أنها م�ألوفة له‪� ،‬ساد ال�صمت و�سط الرجال حني ملحوا �إحدى ال�سيارات تتوقف لينزل‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫منها ثالثة رجال يحملون �أ�سلحة‪ُ ،‬يد ّققون النظر حول ُميطهم ك�أنهم يبحثون عن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أحد‪ ،‬حلظات من ال�صمت وممدوح يتابعهم بتدقيق حني ملح �أحدهم يقف مكانه‬

‫والتوزي‬
‫ً‬
‫طويل ينظر باجتاه مكانهم‪ ،‬ف�أخذ نف�سه �أخ ًريا وهو يراهم يعودون لل�سيارة وحلظات‬

‫ع‬
‫وانطلقوا جمددًا يف طريقهم‪.‬‬
‫�س�أله �أحد الرجال‪�« :‬شرطة؟!»‪ ،‬هز ممدوح ر�أ�سه وهو يجيبه‪« :‬ال‪� ،‬إنها‬
‫�سيارات ال�شيخ عزيز‪ ،‬فحتما ه�ؤالء رجاله‪ ،‬يجب �أن نتحرك الآن‪ ،‬ف�إن �صدق حد�سي‬
‫فنحن �سنكون يف انتظار �صحبة غري مرغوبة بها الآن»‪.‬‬
‫انطلقت ال�سيارات ت�شق �صمت الليل الأ�سود وهي ما زالت قابعة مكانها ُمغم�ضة‬
‫العينني تتبع �صوت ذلك الذي ي�سكن عقلها‪ ،‬لع ّله يهبها بع�ض الأمان املفقود‪ .‬مرت‬
‫يرتجل من ال�سيارة ورجاله‬
‫�ساعة �أخرى حتى توقفت ال�سيارات كلها لتلمح ممدوح ّ‬
‫معه‪ ،‬فر�أت �أربع �سيارات �أخرى �أمامها لتُدرك �أن حت ًما هذا مكان االتفاق‪.‬‬
‫ارتع�ش ج�سدها بينما ي�صل لأ�سماعها �أ�صوات �ضحكات ولغة غري مفهومة‬
‫لها‪ ،‬فلمحت �أحد رجال عبده اجلن يقرتب من ال�سيارة ليفتح بابها ويجذبها من‬
‫ذراعها‪� ،‬شهقت بخوف‪ ،‬وكل ج�سدها يرتع�ش‪ ،‬وهي ترى الوجه الكريه لعبده اجلن‬
‫دوما‬
‫وتلك الندبة التي تبد�أ من جانب عينيه لفمه تثري داخلها الرعب‪ ،‬كما تفعل ً‬
‫حني كانت تلمحه وهو ي�أتي للمنزل لي�أخذ الب�ضاعة املعتادة‪ ،‬نظر لها با�ستخفاف‬
‫‪35‬‬
‫لي�ضحك �ضحكته الكريهة وهي تراه ي�ستلم من رجل كان يرتدي ز ًيا ع�سكر ًيا‪ -‬لي�س‬
‫حمل ًيا‪ -‬حقيبتني يبدو �أن بهما املقابل من �صفقة بيعها‪ ،‬ارجتفت حني ملحت الرجل‬
‫كالما ملمدوح جعل الرجلني‬‫يتق ّدم منها ويدور حولها وهو يتل ّم�س ذراعها ليقول بلغته ً‬
‫عال‪.‬‬
‫ي�ضحكان ب�صوت ٍ‬
‫�ضغط الرجل ب�أ�صابعه على ذقنها لريفع وجهها ليت�أملها ب�شهوة‪ ،‬وقبل �أن ينطق‬
‫بحرف �أ�صوات ر�صا�ص عالية ظهرت من �أكرث من �أماكن‪ ،‬جذبها �أحد رجال عبده‬
‫اجلن جتاه �إحدى ال�سيارات لتختبئ خلفها ليبد�أ تبادل �إطالق النار‪� ،‬أغم�ضت‬
‫عينيها وهي ترتع�ش ورفعت كفيها لت�ضغط على �أذنيها لع ّلها متنع جميع الأ�صوات‬

‫ع‬
‫من حولها‪ ،‬و�صراخها ال يتوقف‪� ،‬شهقت بخوف حني ملحت �أحدهم يجذبها من‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ذراعها‪ ،‬فلم يكن �سوى ذلك الرجل الغريب وهو يلقي بها لأحد رجاله‪ ،‬ويبدو �أنه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫م�سرعا لريكب‬
‫ً‬ ‫�أمره ب�أخذها ملكان بعيد عن هنا‪ ،‬جذبها الرجل لل�سيارة بينما التف‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫بجوارها‪ ،‬لت�صيبه ر�صا�صة جعلتها ت�صرخ برعب وهي تراه ي�سقط على الأر�ض‬
‫درجا بدمائه‪ ،‬رفعت ر�أ�سها لرتى رجال الرجل الع�سكري يجذبونه ل�سيارة �أخرى‪،‬‬ ‫ُم ً‬
‫وحلظات وانطلقت ال�سيارة بعيدً ا عن �إطالق النار‪ ،‬تليها �سيارة عبده اجلن وباقي‬
‫رجاله ليفروا هاربني‪ ،‬نظرت حولها وهي تلمح رجاال مدرجني بدمائهم على الأر�ض‪،‬‬
‫�أخذت تبحث بعينيها عن �أحد فلمحت ممدوح وهو خمتبئ خلف �إحدى ال�سيارات‪،‬‬
‫بجانبه رجله ورجالن ب�أ�سلحتهم يقرتبون منه‪ ،‬ات�سعت عيناها وهي تراه ينه�ض من‬
‫مكانه يف حلظة لي�صيب �أحدهم بر�صا�صة يف ر�أ�سه‪ ،‬بينما الرجل الآخر ي�صيب‬
‫الثاين من اخللف‪.‬‬
‫عم ال�سكون فج�أة كما �صدح �صوت الر�صا�ص فج�أة‪ ،‬وعيناها ما زالت على ممدوح‬
‫ّ‬
‫الذي التفت �إليها يف هذه اللحظة وهي ترى ال�شر الكامن يف عينيه الغا�ضبتني‪،‬‬
‫�سالحا يف الكر�سي بجوارها‪ ،‬فحملته لتخفيه خلف‬
‫ً‬ ‫اقرتب منها فلمحت بعينيها‬
‫ظهرها يف اللحظة التي فتح فيها الباب ليجذبها من ذراعها وهو ي�سب ويلعن‪.‬‬
‫كاد �أن يتحرك حني دوى ر�صا�ص حوله‪ ،‬ليلتفت �إىل رجله ليجده ي�صرخ من‬
‫م�سرعا مل�صدر الر�صا�ص‪ ،‬فلمح تلك التي كان على‬
‫ً‬ ‫الأمل وهو على الأر�ض‪ ،‬التفت‬
‫‪36‬‬
‫ثقة ب�أنها �ستف�سد كل خمططاته‪ ،‬جذب رحمة �أمامه ليخفي نف�سه خلفها وهو يهتف‬
‫ب�سالحك ُغفران و�إال‬
‫ِ‬ ‫ب�صوته العايل بينما ي�صوب �سالحه جتاه ر�أ�س رحمة‪�« :‬ألقي‬
‫ماتت»‪.‬‬
‫تن ّف�ست ُغفران بغ�ضب وهي تلمح ارتعا�ش رحمة ودموعها تغرق وجنتيها وهي‬
‫تهم�س ب�إ�سمها‪ُ « :‬غفران»‪.‬‬
‫حتدثت ُغفران بغ�ضب مكتوم‪« :‬لقد انتهى الأمر ممدوح‪ ،‬لقد انتهت ال�صفقة‬
‫عال وهو‬‫التي عقدتها‪ ،‬وانتهى االتفاق الذي كان بيننا»‪� ،‬ضحك ممدوح ب�صوت ِ‬
‫أنت خمطئة عزيزتي‪ ،‬ف�أنا مل �أعره‬ ‫يقول‪« :‬هل ِ‬
‫ظننت ح ًقا �أنني �أهتم باتفاقنا؟! � ِ‬

‫ع‬
‫قدومك مع رجال ال�شيخ‬
‫ِ‬ ‫لك‪ ،‬وال تظني �أن‬
‫يوما اهتمامي‪ ،‬فقط �أوهمتك با�ستكانتي ِ‬ ‫ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫أنت‬
‫علي‪ ،‬ها هم جمي ًعا ُمد ّرجون بدمائهم و� ِ‬ ‫بقدرتك على االنت�صار ّ‬
‫ِ‬ ‫عزيز �سيوهمني‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫إنقاذك‬
‫�ساعدك الوغد العجوز يف النهاية‪ ،‬هل الآن يرد دينه مقابل � ِ‬ ‫ِ‬ ‫وحدك‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬ ‫هنا‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫أنت خمطئة ُغفران‪ ،‬فال�صفقة التي عقدتها مل تنته بعد‪� ،‬أنا‬ ‫حياة ابنه من املوت؟! � ِ‬

‫ع‬
‫ال �أريد �أن �أخ�سر ه�ؤالء الرجال فبيننا عمل مل ينته بعد‪ ،‬وبعد �أن �أخذت مايل فيجب‬
‫ب�سالحك الآن وتعودين للمنزل‬
‫ِ‬ ‫�أن �أُ�سلمهم رحمة‪ ،‬هكذا كان االتفاق‪ ،‬لذا �ستلقني‬
‫حتى �أو�صل رحمة ملالكيها و�أعود»‪.‬‬
‫مل تنزل ُغفران �سالحها وهي تهتف بغ�ضب‪« :‬على جثتي»‪� ،‬سمعت �صوتًا خلفها‬
‫يقول‪« :‬ال �أظن ذلك ُغفران»‪ ،‬ابتعدت قليال عن ال�صوت لتقف بجوارها لتتجمد‬
‫مكانها وهي تلمح �سمرية ت�صوب �سكينها نحو عنقها لتقول بتهكم‪« :‬مل �أجازف‬
‫أمنعك يف الوقت املنا�سب‪،‬‬
‫لتهديدك يل حتت ال�سالح �إال ل ِ‬
‫ِ‬ ‫بالقدوم معك واال�ست�سالم‬
‫عينيك‪ ،‬والآن �ستنزلني‬‫ِ‬ ‫عليك الت�أكد من عدم امتالكي �أي �سالح خمفي عن‬ ‫كان ِ‬
‫�سالحك وتعودين معي للمنزل ك�أي ابنة مطيعة حتى ينهي ممدوح عمله»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ظلت ُغفران رافعة �سالحها جتاه ممدوح بينما عينها على �سمرية وهي‬
‫تقول‪«:‬خرقكم االتفاق الذي كان بيننا حرمكم من تنفيذي �أي �أمر تريدونه‪ ،‬دقائق‬
‫و�سيعج املكان بال�شرطة‪ ،‬وبالأدق الأمن الوطني‪ ،‬وبعدها لن ينفذ �أحد لكم �أي �أوامر‬
‫تريدونها»‪ ،‬نظر ممدوح ل�سمرية التي قالت‪« :‬نعم يبدو �أن ابنتنا الغالية على‬
‫عالقة بال�شرطة‪ ،‬حار�سك الأمني يف النهاية مل يقم مبهامه جيدً ا»‪� ،‬أخذت ُغفران‬
‫‪37‬‬
‫كالمها وخزنته يف جانب من عقلها وهي ال تعي عمن تتحدث‪ ،‬ولكن الآن لي�س وقت‬
‫التفكري‪.‬‬
‫دوى �صوت �صفارات �سيارات ال�شرطة قري ًبا منها لت�شعر بالقليل من االرتياح مل‬
‫يطل‪ ،‬وهي ت�ست�شعر ب�صوت خلفها‪ ،‬التفتت م�سرعة لتجد خلود تقرتب منها ب�سكينها‬
‫التي يبدو �أنها كانت ب�سيارتها على مقربة من ممدوح كعادتها‪� ،‬أ�صابت خلود ذراع‬
‫ُغفران بال�سكني‪ ،‬ما جعل �سالحها ي�سقط منها‪ ،‬فدار �شجار قوي بينهما‪ ،‬فلم تلمح‬
‫اقت ّبت منهما يف حماولة منها للو�صول ل�سالح ناري لأحد الرجال املوتى‬ ‫تلك التي ُ‬
‫على الأر�ض‪� ،‬ضربة قوية من ُغفران خللود جعلت الدماء تنفجر من �أنفها فنه�ضت‬

‫ع‬
‫ُم�سرعة جتاه �سالحها وهي تلمح التقاط �سمرية �أحد الأ�سلحة‪ ،‬التقطته ُم�سرعة‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫وهي ت�صوبه جتاه �سمرية‪ ،‬ليدوي �صوت طلقات ر�صا�ص‪ ،‬جتمدت االثنتان وكال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫منهما تعي �أن الر�صا�صة مل ُتطلق من �سالحها لتلتفتا على �صوت �صراخ من ممدوح‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫الذي كان ي�صوب �سالحه جتاه ُغفران‪ ،‬وكاد �أن يطلقه عليها‪ ،‬بينما دماء غزيرة‬
‫تنفجر من �ساقه وهو يرتنح مكانه من الأمل‪ ،‬اعتدل يف وقفته وهو ينظر ب�صدمة‬
‫لرحمة التي كانت تنظر له بجمود‪ ،‬بينما ال�سالح بيديها م�صوب باجتاهه‪ ،‬طلقة‬
‫�أخرى انطلقت من �سالحها لتقبع يف �صدره‪� ،‬صدمة اعرتت اجلميع لتفيق منها‬
‫ُغفران ُم�سرعة بعد �أن حتركت خلود باجتاه ممدوح ُمتفقدة �إياه‪ ،‬فلمحت �سمرية‬
‫ترفع �سالحها جتاه رحمة وت�صرخ بال يف نف�س حلظة و�صول ال�شرطة‪ ،‬ر�صا�صة دوى‬
‫�صوتها يف ال�سماء لتتبعها �أخرى ثم �أخرى ثم �أخرى‪ ،‬واجلميع جامد مكانه �سوى‬
‫رجال ال�شرطة الذين �أمروا ب�إلقاء ال�سالح يف احلال‪ ،‬اندفعت خلود جتاه �إحدى‬
‫ال�سيارات القريبة منها لرتكبها ُم�سرعة وهي تهرب من املكان ب�أكمله حتت ر�صا�ص‬
‫رجال ال�شرطة‪ ،‬الذي مل ي�صب �سوى زجاج �سيارتها‪.‬‬
‫« ُغفران» �صوت �أجفلها وهي ترم�ش بعينيها لتظهر لها ال�صورة التي ظنت‬
‫�أنها تتخ ّيلها لتجدها حقيقية ل�سمرية وهي ُمدرجة بدمائها على الأر�ض وعينيها‬
‫�شاخ�صة لل�سماء‪ ،‬جذب النقيب �سمري ال�سالح من يديها وهو يقول‪« :‬لقد انتهى‬
‫الأمر ُغفران»‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫مل ت�سمع ما يقول وهو تدير ر�أ�سها بقوة لرحمة‪ ،‬التي تقف جامدة مكانها تنظر‬
‫جل�سد ممدوح بجمود‪ ،‬فاقرتبت منها ُم�سرعة لتجذب ال�سالح منها بقوة وجتذبها‬
‫حل�ضنها‪ ،‬وتخفي عينيها عن ممدوح املُدرج بدمائه‪ ،‬وهي تهم�س بقوة بينما قلبها‬
‫ينتف�ض داخلها‪« :‬رحمة»‪.‬‬

‫‪M‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪39‬‬
‫يزعم بع�ضهم �أن الوجود على هذه الأر�ض ال ميكن ت�صوره خال ًيا من‬
‫الأمل ومن الظلم اللذين ي�ستطيعان وحدهما �أن يهي�أ للإن�سان معرفة‬
‫اخلري وال�شر‪.‬‬
‫�أال بئ�ست تلك املعرفة �إذا كان ثمنها هذا الثمن!‬

‫دو�ستويف�سكي‬
‫الف�صل الثالث‬
‫من �أنا؟!‬

‫بعد �أ�سبوع‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان يقود �سيارته ب�أ�سرع ما ميكن‪� ،‬أمل كاد �أن ميحوه الزمن‪� ،‬شعر ك�أن روحه‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫تكاد �أن تخرج من ج�سده‪ ،‬ارتع�شت يداه املُم�سكتان باملقود فابتلع ريقه ب�صعوبة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وجبينه يتع ّرق بغزارة رغم اعتدال الطق�س من حوله‪.‬‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫وتوجه‬
‫�سرعا ّ‬
‫و�صل للمنزل وهو يلهث ك�أنه كان يجري على قدميه‪ ،‬نزل ُم ً‬
‫لبوابة املنزل فتفاج�أ بزوجته تفتح الباب والدموع تغرق وجهها وهي تهتف با�سمه‪:‬‬
‫«حممد» ‪.‬‬
‫�سرعا‬
‫رفعت يدً ا له والأخرى ت�سند بها ج�سدها على حافة الباب‪ ،‬فاقرتب ُم ً‬
‫ُمتخط ًيا درجات ال�سلم الثالث الأوىل‪ ،‬حتى �أم�سك يديها املمدودة وجذبها حل�ضنه‪،‬‬
‫ال يعلم �إن كانت االرجتافة نابعة من ج�سده �أم ج�سدها‪ ،‬ولكنه �ضم ج�سدها بقوة‬
‫وهو يهم�س‪«: :‬اهدئي حبيبتي‪ ،‬متا�سكي لقد جئت بعد �أن �سمعت اخلرب» ‪.‬‬
‫ظهر ابنه البكر من خلف زوجته وهو يرتدي �سرتة بدلته‪ ،‬وهو يحاول جاهدً ا‬
‫�إخفاء توتره‪ ،‬ولكن �شحوب وجهه �أظهر مدى �صدمته وهو ينظر لوالده فتح ّدث‬
‫بارتباك‪�« :‬أبي‪ ،‬لقد ات�صل �أحدهم من امل�شفى الدويل ي�س�أل عنك باال�سم» تعالت‬
‫�شهقات جميلة وهي يف ح�ضن زوجها لرتدف بني بكائها‪« :‬ابنتي‪� ،‬إنها ابنتي يا‬
‫حممد‪� ،‬أمرية ابنتنا» ‪.‬‬
‫�أغم�ض حممد عينيه وهو ي�شعر ببوادر �أزمة قلبية‪ ،‬فتنف�س بهدوء يعاك�س النريان‬
‫املُ�شتعلة بداخله‪ ،‬و�أردف ب�صوته احلنون‪« :‬اهدئي حبيبتي‪� ،‬س�أذهب الآن مع �آ�سر‪،‬‬
‫‪42‬‬
‫لن نت�أخر» انتف�ضت ُمبتعدة عن ح�ضنه بينما دموعها تر�سم لوحة حزينة على‬
‫وجهها احلبيب له لتهتف بقوة‪« :‬ال‪� ،‬س�آتي معك‪ ،‬لن �أنتظر هنا» ‪.‬‬
‫�أحاط �آ�سر ذراعها بكفيه وهو يربت عليها بحنان‪« :‬ح�س ًنا �أمي اهدئي‪ ،‬نحن‬
‫بحاجة لأن نكون �أقوياء الآن‪ ،‬فنحن ال نعلم ماذا ينتظرنا؟!» ‪.‬‬
‫نظرت جميلة با�ستجداء ملحمد‪ ،‬فلم ي�ستطع فعل �شيء �أمام دموعها �سوى �أن‬
‫ينفذ رغبتها‪ ،‬فهز ر�أ�سه لها وم�سك يديها بعد �أن �أعطى مفتاح ال�سيارة لآ�سر لعدم‬
‫قدرته على القيادة جمددًا‪ ،‬فقادها �آ�سر بينما جل�س والداه يف اخللف‪ ،‬كالهما‬
‫ي�ستمد القوة من الآخر‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫و�صلوا للم�شفى وملحوا جت ّم ًعا كب ًريا �أمام البوابة الأمامية لأعداد كبرية من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ال�صحفيني‪ ،‬وكامريات التليفزيون‪ ،‬يحاولون جاهدين ت�صوير ما يحدث و�إذاعته‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫على جميع القنوات‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫التفت �آ�سر لوالده وحتدث بهدوء‪�« :‬س�أذهب لأري كيف ندخل بعيدً ا عن‬
‫ال�صحافة»‪ ،‬هز والده ر�أ�سه بهدوء بينما ازدادت جميلة يف ال�ضغط على يديه وهي‬
‫تهم�س‪« :‬يا �إلهي كن معنا»‪.‬‬
‫ّ‬
‫تخطي �آ�سر �أحد ال�صحفيني لي�صل لأمن امل�شفى املُرابط �أمام البوابة مانعني �أي‬
‫�صحفي من الدخول‪ ،‬حت ّدث �أحد ال�صحفيني �أمام كامريا �إحدى القنوات امل�شهورة‪.‬‬
‫«نحن الآن �أمام امل�شفى الدويل للعا�صمة يف انتظار خروج �أحد امل�س�ؤولني ليديل‬
‫بت�صريحه املهم بعد احلادثة التي ح ّركت كل اجلهات يف البلد‪ ،‬وقد و�صلتنا معلومات‬
‫�أن ال�ضحية الأوىل هي امر�أة يف العقد الرابع من عمرها وا�سمها �سمرية فتحي‪� ،‬أما‬
‫ال�ضحية الثانية فهو رجل يف منت�صف العقد الرابع من عمره وي�سمى ممدوح جابر‬
‫وقد اكت�شفت ال�سلطات امل�صرية �سجالت خطرية لكال ال�ضحيتني وعالقتهما ب�أكرب‬
‫مافيا لتجارة الأع�ضاء والعديد من الأن�شطة غري القانونية‪ ،‬ولكن مل ت�صلنا معلومات‬
‫بعد عن تلك الأن�شطة‪� ،‬أما عن �أ�سماء الفتيات املقبو�ض عليهن فال نعلم بعد �إن كنَّ‬
‫تو�صلنا لأنهن حامالت هويات مزيفة طوال‬ ‫على �صلة بتلك اجلرائم �أم ال‪ ،‬ولكن قد ّ‬
‫تو�صلنا لأ�سمائهن احلقيقية‬ ‫تلك الفرتة التي ق�ضينها يف كنف تلك العائلة‪ ،‬وقد ّ‬
‫‪43‬‬
‫وهي ح�صرية لقناتنا‪ ،‬فقد و�صلتنا يف التو من �أحد م�صادرنا وهن (زمرد م�صطفى‬
‫عاما‪ ،‬و�أمرية حممد الأ�سيوطي البالغة من‬
‫خريي البالغة من العمر ثمانية وع�شرين ً‬
‫عاما‪� ،‬أما الأخرية فهي ُغفران ممدوح جابر التي يتم التحقيق‬‫العمر ثمانية ع�شر ً‬
‫معها الآن‪ ،‬حيث �إنها االبنة احلقيقية لل�ضحية الأول)‪ ،‬و�صرح م�س�ؤول بهروب فتاتني‬
‫�أخريني بعد ف�شل ال�شرطة يف القب�ض عليهما‪ ،‬وجار البحث عنهما‪� ،‬أما عن الفتاتني‬
‫ال�سابق ذكر ا�سميهما فقد مت الإعالن عن اختفائهما منذ ثمانية ع�شر عاما‪� ،‬أمرية‬
‫حممد الأ�سيوطي مت الإعالن عن اختفائها بعد �أ�سبوع من والدتها يف منت�صف �شهر‬
‫فرباير ‪ ،1998‬من م�شفى حكومي بو�سط البلد‪ ،‬وقد �صادف خطفها من امل�شفى‬
‫مع طفلة �أخرى هناك‪ ،‬ولكن مل نكت�شف �صلة لها مع تلك اجلماعة الإرهابية بعد‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وقد �صادف ذلك اليوم نف�س يوم خطف ال�شابة الأخرى زمرد م�صطفى خريي من‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�أمام �شارع منزلها‪ ،‬وهي طفلة يف العا�شرة من عمرها‪ ،‬نحن يف انتظار املزيد من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫املعلومات من م�صادرنا فتابعونا»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫�سالما‬
‫بعد ع�شر دقائق ركب �آ�سر �سيارته وبجواره �أحد رجال الأمن الذي �ألقى ً‬
‫�سري ًعا لعائلة �آ�سر‪ ،‬وهو ير�شد �آ�سر للبوابة اخللفية للم�شفى حيث هناك رجال يف‬
‫ا�ستقبال عائالت الفتيات‪ ،‬كان قلباهما يرجتفان رع ًبا من اللقاء وعقل كل منهما‬
‫ير�سم حوا ًرا خمتل ًفا‪� ،‬أحداثه لها عالقة بها �أمريتهما ال�ضائعة‪.‬‬
‫يف غرفة بي�ضاء ذات �ستائر �سماوية اللون هادئة كانت جتل�س على ال�سرير‬
‫بهدوء غريب‪ ،‬يف انتظار �أن يفتح �أحدهم الباب‪ ،‬العديد من الطبيبات قد فح�صوها‬
‫للمرة الثانية بعد رف�ضها ال�شديد لأي طبيب‪ ،‬وقد تف ّهم اجلميع حالتها‪ ،‬اطم�أنت‬
‫الطبيبات على حتاليلها و�صحتها خالية من �أي �إ�صابات �أو �أمرا�ض‪ ،‬ال تفهم ملا‬
‫يبقونها � ًإذا كل هذا الوقت يف هذه الغرفة التي تثري �ضيقها‪ ،‬لقد مر �أ�سبوع كامل‬
‫منذ ذلك اليوم الذي ا�ستيقظت فيه على �صوت �سيارات ال�شرطة وهي تط ّوق املكان‬
‫ب�أكمله بينما جاءها �أحد ال�ضباط الذي يبدو على معرفة تامة ب ُغفران ليخربها‬
‫بكل هدوء بالذهاب معه مل�شفى املدينة‪ ،‬ثالثة �أيام ق�ضتها هناك دون �أن تعرف‬
‫ماذا يحدث‪� ،‬س�ؤال وحيد خرج من فمها لذلك ال�شرطي الذي جاء جمددًا لر�ؤيتها‪،‬‬
‫عن ُغفران‪ ،‬ف�أجابها ب�أنها �ستقابلها قري ًبا‪ ،‬مرت بنف�س ما مرت به هنا من حتاليل‬
‫‪44‬‬
‫و�أ�شعة ومل يفتها حديث املمر�ضة التي �أخربتها بعد �أن �أخذت عينة منها ب�أنه حتليل‬
‫‪ DNA‬خا�ص مبعرفة من تكون‪� ،‬أ�سئلة كثرية راودتها حني مت نقلها مل�شفى العا�صمة‬
‫بالقاهرة حتت ت�أمني �شديد بالعديد من �سيارات ال�شرطة لتقبع هنا يف تلك الغرفة‪،‬‬
‫حتى مر �أ�سبوع وهي ال تعلم بعد ماذا حدث‪ ،‬فقط بع�ض الكلمات التي تلتقطها‬
‫من هنا وهناك عن ق�ضية كبرية تخ�ص الأمن الوطني‪ُ ،‬ترى هل اكت�شفوا �أخ ًريا ما‬
‫حدث؟! هل �أظهرت ُغفران �أخ ًريا كل �أوراقها؟! �ألهذا ال ت�ستطيع مقابلتها؟!‬
‫�أغم�ضت عينيها بقوة وهي حتاول تذ ّكر كل ما تع ّلمته من قوانني التح ّكم بالنف�س‪،‬‬
‫ودقائق وفتحت عينيها الع�سليتني لت�شعا بنريان اخلوف التي خمدت يف حلظة وهي‬
‫ت�سمع طرقات على الباب‪ ،‬تبعها دخول �إحدى الطبيبات التي تبت�سم برزانة فابت�سمت‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�سخرية بداخلها وهي تلمح ا�ضطراب عني الطبيبة وهي تتق ّدم منها ك�أنها وح�ش‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�سيفرت�سها يف �أي فر�صة‪ ،‬ولكن �ألي�س هذا حالهن جمي ًعا هم�ست بداخلها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫«الطبيبة املُتذاكية ُمرتبكة وحتمل خ ًربا جديدً ا» و�صلها �صوت الطبيبة وهي‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫عائلتك؟!» ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تقول‪« :‬عزيزتي هل � ِ‬
‫أنت ُم�ستعدة للقاء‬
‫ظلت تنظر لها للحظات بجمود ثم رم�شت مرتني بعينيها وقب�ضة قوية تعت�صر‬
‫قلبها خو ًفا‪ ،‬وهي تعتقد �أنها ت�شري ملمدوح و�سمرية التي ال تعلم عنهما �شي ًئا حتى‬
‫الآن‪ ،‬حت ّدثت بهدوء‪« :‬ماذا؟!» ف�أعادت الطبيبة �س�ؤالها جمددًا فلم جتد ردًا منها‪،‬‬
‫فتنهدت بخفوت وهي ُت ّدثها كطفلة يف اخلام�سة من عمرها مما زاد من �ضيقها‪:‬‬
‫إذنك حتى يدخلوا‬‫عائلتك احلقيقية وهم باخلارج ينتظرون � ِ‬‫ِ‬ ‫«حبيبتي لقد جاءت‬
‫ؤيتك»‪.‬‬
‫لر� ِ‬
‫حائطا‪ ،‬فزفرت بخفوت وابتلعت ريقها بتوتر وا�ضح‪ ،‬ثم‬ ‫ال رد‪ ،‬ك�أنها ُت ّدث ً‬
‫حت ّركت جتاه الباب حتت �أعينها اجلليدية وهي ترفع كفيها ت�سمح لأحدهم بالدخول‬
‫فنه�ضت �أمرية من مكانها على ال�سرير لتقف بجمود �أمام امر�أة ورجلني‪« :‬عائلتها‬
‫احلقيقية‪ ..‬ما الذي؟» هم�ست داخلها بت�سا�ؤلها وهي تنظر لهم‪.‬‬
‫رفعت جميلة كفيها لفمها متنع �شهقاتها حتى ال تخيف الطفلة التي تقف‬
‫�أمامها‪ ،‬نعم هي طفلة ال يتع ّدى طولها مئة وخم�سني �سنتيمرتًا وج�سدها اله�ش‬
‫‪45‬‬
‫ال�صغري ومالمح وجهها الطفولية و�شعرها الناعم الق�صري الأ�شبه بق�صة والدية‬
‫�أمام عينيها‪ ،‬عند هذه اللحظة �شهقت جميلة عال ًيا وهي تت�أملها بعينيها‪ ،‬فاقرتبت‬
‫منها لتجذبها حل�ضنها بقوة وهي تهتف بني بكائها‪« :‬طفلتي‪� ،‬إنها ابنتي‪� ،‬آه يا فلذة‬
‫اختطفوك من بني يدي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫والدتك‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬ ‫أخذوك مني يا حبيبة‬
‫قلبي‪� ،‬آه يا عمري‪ ،‬لقد � ِ‬
‫�أمريتي �أنا‪ ،‬ابنتي �أنا»‪.‬‬
‫كانت جميلة تتح ّدث بني �شهقاتها وهي حتت�ضن �أمرية بقوة‪ ،‬بينما كانت مالمح‬
‫�أمرية جليدية ال توحي ب�أي �شيء كلوح جليدي بني �أح�ضان جميلة‪ ،‬تابعها �آ�سر بعينيه‬
‫وهول املوقف مل مينعه من النظر �إليها مبهنية �أدرك فيها �أنها لي�ست يف حالتها‬
‫الطبيعية‪ ،‬هم�س داخله ب�ضيق‪« :‬يبدو �أنها كانت جاهلة مبا يحدث معها‪ ،‬فالأغبياء‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫مل ُي ّهدوا لها الأمر»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬


‫قاطع تفكريه ا�ستناد والده على ذراعيه‪ ،‬فم�سك به بقوة ورفع عينيه له ليلمح‬

‫شر وال‬
‫فرق قلبه لأبيه احلبيب‪ ،‬فربت �آ�سر على كف والده‬ ‫دموعه التي مل ي�ستطع كتمها‪ّ ،‬‬

‫توزيع‬
‫بحنو وهو يبت�سم له بهدوء‪ ،‬ويف داخله فكرة واحدة ا�شتعلت بعقله وهو يلمح جمودها‪:‬‬
‫«تلك الفتاة لن تتق ّبل �أ ًيا منهم‪ ،‬فهي ما زالت يف حالة �صدمة»‪.‬‬
‫اقرتب حممد من جميلة التي تق ّبل وجه �أمرية بحب‪ ،‬وتتح ّدث بني دموعها‪،‬‬
‫فجذب جميلة من �أمامها بهدوء وهو يحاول جاهدً ا التحكم يف دموعه ويتح ّدث‬
‫ب�صدمة‪« :‬اتركيها قليال يا جميلة‪ ،‬دعيني �أت�أمل �صغريتنا‪ ،‬دعيني �أقر عيني بها‪،‬‬
‫حبيبة والدها �أمرية قلبي»‪.‬‬
‫اقرتب حممد لكي يحت�ضن ابنته‪ ،‬فبد�أت �إ�شعارات الإنذار لدى �أمرية باالنطالق‬
‫فجذبت نف�سها ُمبتعدة عن طريقه وهي تخرج �أخ ًريا من حالة اجلمود لتهتف عال ًيا‬
‫ب�شرا�سة‪�« :‬إياك �أن تقرتب مني»‬
‫�ساد ال�صمت يف الغرفة حتى دموع جميلة قد توقفت وهي ترى مالمح الغ�ضب‬
‫والكره ترت�سم بو�ضوح على وجه ابنتها وهي تنظر لزوجها حممد‪ ،‬فابتلعت ريقها‬
‫ب�صعوبة بينما ا�ضطربت الطبيبة الواقفة خلف �آ�سر‪ ،‬ومل تدر ما تفعله وهي ترى‬
‫�أخ ًريا رد فعل من �أمرية‪ ،‬بينما تابعها �آ�سر مبهنية وهو يلمح مالمح الكر ِه وج�سدها‬
‫‪46‬‬
‫الذي اتخذ و�ضعية الدفاع عن النف�س‪ ،‬فرفعت يديها االثنتني �أمام والده ك�أنها‬
‫�ستقاتله!‬
‫عند هذه اللحظة �أدرك �آ�سر �أن تلك الفتاة تعاين من خطب‪ ،‬وم�شكلتها تبدو‬
‫ح ًقا كبرية‪ ،‬فاقرتب بهدوء وهو يخفي �صدمته ويحاول تذ ّكر كل ما تعلمه يف الطب‬
‫النف�سي وكل ما مر عليه خالل �سنوات حياته الثالثني فناداها بهدوء‪�« :‬أمرية» ‪.‬‬
‫التفتت �أمرية بج�سدها له وهي ما زالت على هيئتها وتنقل نظراتها بني هذا‬
‫ال�شاب والرجل الواقف ب�صدمة �أمامها‪ ،‬لتجده يتح ّدث بهدوء‪�« :‬أمرية نحن‬
‫أخوك الأكرب» ‪.‬‬
‫والدك و�أنا � ِ‬
‫والدتك وهذا ِ‬
‫ِ‬ ‫عائلتك‪ ،‬هذه‬
‫ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ملح �آ�سر اهتزاز حدقتي عينيها للحظة‪ ،‬قبل �أن ترتدي قناع اجلمود جمددًا‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫فا�ستغرب قدرتها على �إخفائها م�شاعرها بهذه ال�سرعة وثباتها االنفعايل‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫اقرتبت جميلة بهدوء وهي مت�سح دموعها‪ ،‬وقد ملحت توتر املوقف حتى وقفت‬

‫والتوزي‬
‫�أمام يد �أمرية ومل�ستها بحنان حتى �أنزلتها‪ ،‬وقد ا�ستطاعت جذب عني �أمرية لها‬

‫ع‬
‫بعيدً ا عن حممد زوجها‪ ،‬وحت ّدثت بحب �صادق مل�س جز ًءا بعيدً ا كان ُمغل ًقا عليه‬
‫ؤذيك �أحد‬
‫أخوك‪ ،‬لن ي� ِ‬ ‫والدك وهذا � ِ‬
‫ِ‬ ‫من زمن يف قلب �أمرية‪«:‬ابنتي الغالية هذا‬
‫عائلتك احلقيقية يا �أمرية»‪� ،‬أجابتها �أمرية بجمود‪«:‬ا�سمي ليلى»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫بعد الآن‪ ،‬نحن‬
‫�شعر �آ�سر بالتفا�ؤل قليال لتجاوبها مع والدتها فتح ّدث بهدوء‪�« :‬أبي َمل ال نرتك‬
‫�أمرية مع �أمي قليال؟!» ‪.‬‬
‫رفع حممد عينيه الدامعة البنه ونقل بنظراته بينه وبني ابنته فلذة قلبه التي‬
‫تخ�شاه‪ ،‬ملحت �أمرية نظرة �أمل يف عني حممد‪ ،‬لكنها واجهتها بكره وا�ضح‪ ،‬ف�أ�سبل‬
‫�أهدابه بحزن حتى �أعاد �آ�سر نداءه لوالده جمددًا فتحرك يف اجتاه الباب معه‪،‬‬
‫وحني التفت قبل خروجه ملح جميلة تنظر له باعتذار وتهز ر�أ�سها بهدوء ك�أنها تخربه‬
‫ب�أال يقلق‪ ،‬يكفيهم عثورهم عليها بعد كل هذه ال�سنوات فابت�سم بتف ّهم حزين وحترك‬
‫ليخرج من الغرفة ويغلق الباب خلفه بعد خروج املمر�ضة‪.‬‬
‫م�سكت جميلة يد �أمرية بدفء ا�ست�شعرته الأخرية فارجتف ج�سدها وجذبتها‬
‫جميلة لتجل�س على الأريكة بجوار النافذة وهي تت�أمل مالحمها‪ ،‬وعادت دموعها‬
‫‪47‬‬
‫والدتك يا �إلهي لو‬
‫ِ‬ ‫يف االنهمار جمددًا‪ ،‬فتح ّدثت جميلة من بني دموعها‪« :‬حبيبة‬
‫لتك كث ًريا يف عقلي ولكن مل �أتخ ّي ِلك بهذا اجلمال»‪.‬‬
‫إليك‪ ،‬تخ ّي ِ‬
‫تعلمني كم ا�شتقت � ِ‬
‫رفعت جميلة يديها تتلم�س مالمح وجه ابنتها و�شعرها الق�صري ف�ضحكت بني‬
‫أخوتك» ‪.‬‬
‫والدك يا �أمرية مثل � ِ‬
‫أخذت عني ِ‬ ‫دموعها وهي تهم�س لها‪« :‬لقد � ِ‬
‫ابتلعت �أمرية ريقها بتوتر مل ت�ستطع �أن تخفيه وهي ت�ست�شعر لأول مرة مل�سات‬
‫حنان مل تعرفها يف حياتها‪ ،‬فهم�ست بهدوء‪« :‬ا�سمي ليلى» ابت�سمت جميلة لها وهي‬
‫أناديك بليلى؟!» ‪.‬‬
‫مت�سح دموعها لتجيبها ‪«:‬هل ُتريدين �أن � ِ‬
‫�صمتت �أمرية وهي تف ّكر �إن كان كل ما يحدث حولها حقيق ًيا هل تريد ح ًقا �أي‬

‫ع‬
‫�شيء يربطها با�سم ليلى؟! ولكن كيف وكل ما يرتبط بليلى كان �أملًا وق�سوة وحز ًنا‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫وجفاء و ُيت ًما‪ ،‬بينما تلك الأمرية يبدو �أنها حتظى بالكثري‪� ،‬أغم�ضت عينيها بقوة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وهي تنف�ض كل تلك الأفكار من ر�أ�سها‪ ،‬وارتدت قناع اجلمود جمددًا لتلمح جميلة‬

‫شر وال‬
‫ت�ش ّنج ج�سدها‪« :‬نعم ا�سمي ليلى»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫هزت جميلة ر�أ�سها بتف ّهم وهي تبت�سم لها بحنان لتقول‪« :‬ح�س ًنا ليكن ليلى‪،‬‬
‫لبيتك اجلديد؟!» ‪.‬‬
‫أنت م�ستعدة لتعودي معي ِ‬ ‫والآن هل � ِ‬
‫لزاما عليها �أن تعيد التفكري يف كل حرف يخرج‬ ‫�صمتت �أمرية جمددًا وك�أنه ً‬
‫منها‪� ،‬أي بيت جديد تتح ّدث عنه تلك ال�سيدة! هل �سيكون لها بيت جديد؟! ماذا عن‬
‫�أخواتها؟! ماذا عما حدث؟! هي ال تفهم الكثري‪� ،‬إن كانت هذه ال�سيدة التي تنظر لها‬
‫بحنان هي والدتها فمن تكون ال�سيدة �سمرية؟!‬
‫خطفوك من بني يدي»‪ ،‬ف�س�ألتها بحذر تريد معرفة ما‬ ‫ِ‬ ‫تذ ّكرت جملة‪« :‬لقد‬
‫حدث �أو على الأقل ترتب �أفكارها حتى ت�أتي ُغفران لتفهم منها كل �شيء‪« :‬لقد ِ‬
‫قلت‬
‫يديك من هم؟!» ‪.‬‬ ‫�أنهم خطفوين من بني ِ‬
‫تلألأت عني جميلة بالدموع جمددًا وهي تلمح ارتباك �أمرية وحريتها ف�أدركت �أن‬
‫امل�سكينة ال تعلم �أي �شيء‪.‬‬
‫ربتت جميلة على كف �أمرية بحنان لتجيبها بابت�سامة حزينة‪«:‬منذ ثمانية ع�شر‬
‫عاما يف ال�ساعة الثانية فج ًرا يف اخلام�س من �شهر فرباير‪ ،‬بد�أت حرب داخلية بني‬
‫‪48‬‬
‫فتاة وولد‪ ،‬كالهما ي�صارع من �أجل �أن يخرج �أوال من بطن والدته‪ ،‬ف�صرخت الأم‬
‫فزعا‪ ،‬وهو يدرك بعينيه املهنية قبل الأبوية �أن حان وقت‬‫عال ًيا حتى ا�ستيقظ زوجها ً‬
‫الوالدة‪ ،‬ف�أ�سرع بزوجته �إىل �أقرب م�شفى حيث التجهيزات الالزمة ف�أجنبت قطعتني‬
‫من اللحم الوردي‪ ،‬كان الولد �سلي ًما ُمعافى ي�صرخ ب�أعلى �صوته‪ ،‬بينما الفتاة كانت‬
‫مري�ضة قليال حتتاج للمكوث يف �أحد املراكز الطبية املخ�ص�صة للأطفال الر�ضع‬
‫لبع�ض الليايل‪ ،‬وعلى الرغم من مر�ضها ف�إن جمالها ي�سر النظر‪ ،‬بعينيها الع�سليتني‬
‫�أ�سرت قلب والدتها منذ اللحظة الأوىل التي ر�أتهما فيها‪.‬‬
‫بعد �أ�سبوع‪ ،‬وقت خروج ال�صغرية‪ ،‬جاء موعد الزيارة اليومي للأم والأب‬
‫ل�صغريتهما‪ ،‬ولكن تلك املرة لكي ي�أخذاها معهما للمنزل‪ ،‬ف�سمعا جلبة كبرية‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أمام املبنى الذي به ابنتها‪ ،‬والعديد من رجال ال�شرطة يف املكان‪ ،‬انقب�ض قلب الأم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫و�شعرت ب�شيء �سيئ فو�صل لأ�سماعها هي وزوجها �أن هناك طفلتني مت اختطافهما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫من املكان عن طريقة امر�أة كانت ترتدي زي ممر�ضة‪ ،‬تفاج�أوا بها يف كامريات‬

‫والتوزي‬
‫الأمن وهي تنقل الأطفال يف عربة املالب�س دون �أن يلمحها �أحد‪ ،‬وانهارت الأم ل�شهر‬

‫ع‬
‫كامل حتت املهدئات بعد �أن �أخربوها �أن ابنتها واحدة من الطفلتني‪ ،‬وكاد الأب‬
‫�أن ُي�صاب ب�أزمة قلبية‪ ،‬ومرت الأيام وال�شهور وال�سنني والأب يعافر مع زوجته من‬
‫�أجل البحث عن ابنتهما من دون تو ّقف‪ ،‬ولكن ال �أثر‪ ،‬تركنا كل املعلومات يف جميع‬
‫امل�شفيات‪ ،‬ذهبنا لكل �أق�سام ال�شرطة لنتوا�صل معهم يف حالة �أي جديد ولكن ال‬
‫�شيء‪ ،‬حتى ا�ستيقظت الأم يف يوم لتتابع الأخبار على التلفاز فر�أت خ ًربا عن العثور‬
‫عاما‪ ،‬وجار البحث عن الأ�سباب‬ ‫على فتيات مت اختطافهن منذ �أكرث من ثمانية ع�شر ً‬
‫والظروف‪.‬‬
‫جاهدت جميلة يف كتم �شهقات بكائها‪ ،‬بينما �أمرية تنظر لها بجمود يعاك�س‬
‫ما بداخلها من ا�ضطرابات هائلة وخوف لأول مرة ت�شعر به‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها حتت‬
‫مل�سة جميلة ليديها بحنان وهي تكمل بني �شهقاتها‪« :‬مل �أ�صدق يا ابنتي‪ ،‬و�أنا التي‬
‫واحت�ضنك بني �ضلوعي‪ ،‬مل �أ�صدق‬
‫ِ‬ ‫ؤياك‬
‫ألقاك وت�ش ّبع عيناي بر� ِ‬
‫تدعو اهلل كل يوم �أن � ِ‬
‫عاما‪ ،‬حتى قبل �أن يخربونا بالأ�سماء‬‫�أن اهلل ا�ستجاب لدعائي بعد ثمانية ع�شر ً‬
‫والدك وقد �شعر هو الآخر مبا �شعرت به‪،‬‬‫أنك هنا‪ ،‬حتى و�صل ِ‬ ‫�شيء بداخلي �أدرك � ِ‬
‫‪49‬‬
‫وت�أكدنا بعد ات�صال امل�شفى لنا ويخربنا �أن حتاليل ال ‪ DNA‬تطابقت مع العينة‬
‫أنت ابنتي»‪.‬‬
‫اختطافك مبدة‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫التي تركناها يف �سجل املفقودين بعد‬
‫جذبت جميلة �أمرية حل�ضنها وهي تبكي بقوة بينما الأخرية عقدت حاجبيها‬
‫ب�صدمة وهي ت�سمع احلقيقة من تلك املر�أة‪ ،‬وحتاول جاهدة جتاهل تلك امل�شاعر‬
‫التي تنب�ض بقلبها‪ ،‬رم�شت بعينيها �أكرث من مرة وهي ت�شعر بحرقة فيها وتهم�س‬
‫بداخلها‪« :‬لن تبكي ليلى»‪.‬‬
‫�شعرت جميلة بجمود �أمرية يف �أح�ضانها‪ ،‬ف�أدركت �أنها ما زالت حتت ت�أثري‬
‫ال�صدمة‪ ،‬فابتعدت بهدوء وهي مت�سح دموعها التي ال جتف وتبت�سم لها بحب‪:‬‬

‫ع‬
‫«دعينا نتفق على �شيء لن �أحتدث بخ�صو�ص �أي �شيء جمددًا حتى ت�س�أليني‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ألك على �شيء حتى ت�سمحي‬ ‫أجيبك عن جميع �أ�سئلتك‪ ،‬و�أنا لن �أ�س� ِ‬
‫أعدك وقتها �أن � ِ‬
‫و� ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أخوتك � ً‬
‫أي�ضا‪،‬‬ ‫لك و� ِ‬ ‫أباك يف حاجة ِ‬
‫أنت باحلديث ولكن الآن دعينا نعود للمنزل � ِ‬ ‫يل � ِ‬

‫شر وال‬
‫توءمك؟!»‬

‫توزيع‬
‫ِ‬ ‫ينتابك الف�ضول للتعرف على‬
‫ِ‬ ‫�أال‬
‫رم�شت �أمرية بعينيها للحظات وابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر بانهيار قوتها‪،‬‬
‫وكل ما يحدث يجذبها جذ ًبا لل�صراخ وللهروب‪ ،‬ولأ�سو�أ �شعور عا�شته وهو اخلوف‪،‬‬
‫وا�ضحا جلميلة‪�« :‬أنا ال ميكنني املكوث مع غرباء‪ ،‬ذلك ال�سيد‬
‫ً‬ ‫فهم�ست بخوف و�صل‬
‫الذي دخل منذ قليل»‪.‬‬
‫غ�صة �أملت قلب جميلة ملر�أى ابنتها بهذا الو�ضع‪ ،‬لت�ستدعي �أفكارها‪ ،‬فتجيبها‬
‫أيك ب�أال متكثي مع غرباء ومتكثي معي �أنا؟! لدينا منزل‬‫بعد حلظات‪« :‬ح�س ًنا ما ر� ِ‬
‫أيك‬
‫ُمكون من ثالثة طوابق ن�شغل طابقني به‪ ،‬والطابق الأخري ال ي�سكنه �أحد‪ ،‬ما ر� ِ‬
‫أنت فقط؟! اتفقنا ليلى!» ‪.‬‬‫ب�أن ن�سكنه م ًعا �أنا و� ِ‬
‫�شعرت جميلة ب�أنها اكت�سبت نقطة يف �صاحلها بعدما نادتها با�سمها الذي ما‬
‫زالت متم�سكة به‪ ،‬فهزت �أمرية ر�أ�سها بهدوء‪ ،‬وهي ت�شعر ب�أنها �ستنهار قري ًبا �أمام‬
‫كل تلك امل�شاعر التي انتابتها فج�أة لأول مرة ت�شعر ب�أنها يف حاجة للبكاء‪.‬‬
‫كان الطريق للبيت طويال‪ ،‬هكذا �شعرت �أمرية بعد �أن خرجت مع والدتها‬
‫لي�ستقبلهما ال�سيد حممد و�آ�سر‪ ،‬الذي مل تفهم حتى الآن نظراته احلنونة لها‪ ،‬التي‬
‫‪50‬‬
‫جتاهلتها من دون تردد‪ ،‬ا�ستلمت والدتها دفة احلديث و�أخربتهم ب�أنهم �سيعودون‬
‫للمنزل الآن‪ ،‬و�أخربتهم ب�أمر مكوثها يف الطابق الثالث باملنزل‪ ،‬وهو �أمر مل يجادلها‬
‫فيه �أحد‪ ،‬فحمدت اهلل ب�سرها لتف ّهمهم الأمر‪ ،‬يا اهلل كم حتتاج ل ُغفران ولكن كيف‬
‫�ست�صل �إليها؟!‪ ،‬ا�ستغربت يف البداية خروجهم من الباب اخللفي للم�شفى‪ ،‬وكان‬
‫�آ�سر يتابع ردات فعلها‪ ،‬فتحدث بهدوء �أن هناك العديد من ال�صحافة باخلارج وهو‬
‫قرر اخلروج من الباب اخللفي حتى ال تتعر�ض لأي �ضغوط من ال�صحافة‪ ،‬لكنها مل‬
‫ً‬
‫�صراخا عال ًيا يتبعه بكاء‬ ‫جتبه ب�شيء‪ ،‬هي ت�شعر ب�أن �أول �صوت �سيخرج منها �سيكون‬
‫مرير‪.‬‬
‫�أغم�ضت عينيها وهي تبتلع غ�صة ت�ؤمل قلبها قبل حلقها‪ ،‬وتهم�س داخلها‪« :‬يا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�إلهي ما الذي يحدث؟! كيف ب�إمكان �شخ�ص �أن يعي�ش عم ًرا كامال و�سط �أهله‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ليكت�شف بعدها �أنهم لي�سوا ب�أهله‪ ،‬لي�سوا بعائلته ال والدتها القا�سية والدتها وال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫دوما ت�شعر ب�أن‬
‫والدها الوغد والدها وال �أخواتها املختلفات �أخواتها‪ ،‬هي كانت ً‬

‫والتوزي‬
‫هناك �شيئا خاط ًئا‪ ،‬خا�صة مع الأ�صوات التي كانت ت�سمعها داخلها ك�أن �أحدهم‬

‫ع‬
‫عاما بهوية‬
‫يحادثها‪ ،‬ولكن كعادتها من ال�صغر تتجاهلها لكن �أن تعي�ش ثمانية ع�شر ً‬
‫وهم‪ ،‬نعم كل هذا وهم»‪.‬‬ ‫غري حقيقية و�سط ٍ‬
‫«ليلى» فتحت عينيها فج�أة وهي تنتف�ض مكانها على ربتة كف جميلة على‬
‫كتفها‪ ،‬فرم�شت بعينيها وهي تعي �أنها ال�سيارة توقفت لتتحدث جميلة بهدوء‪:‬‬
‫أنت بخري؟! لقد و�صلنا»‪.‬‬‫«حبيبتي‪ ..‬هل � ِ‬
‫نقلت �أنظارها بني جميلة واملنزل الذي توقفت �أمامه ال�سيارة‪ ،‬فلمحت ً‬
‫منزل‬
‫اطا بحديقة كبرية ن�سب ًيا‪ ،‬مفرو�شة بالعديد من الورود والأزهار اجلميلة‬ ‫كب ًريا ُم ً‬
‫التي تبعث يف الروح الهدوء والطم�أنينة‪ ،‬ابتلعت ريقها ب�صعوبة ثم نزلت من ال�سيارة‬
‫خلف جميلة‪ ،‬ووقفت قليال دون حراك وهي تلمحهم جمي ًعا ينظرون لها برت ّقب‪،‬‬
‫معك»‪.‬‬
‫فمدت جميلة يديها وحت ّدثت بهدوء‪« :‬هيا عزيزتي ال تخايف من �شيء‪� ،‬أنا ِ‬
‫هي غبية حت ًما‪ ،‬ال يجب �أن تثق يف �أحد‪ ،‬تلك هي القاعدة الأوىل التي اختربت‬
‫�صحتها ب�أول اختبار خا�ضته يف بيتها‪ ،‬القاعدة التي ب�سببها ح�صلت على عقاب‬
‫لثالثة �أيام وحيدة يف قبو املنزل املظلم‪ ،‬والآن هي تتجاهل كل ما تع ّلمته‪ ،‬فهي ال‬
‫‪51‬‬
‫يجب �أن ت�شعر بالأمان يف �صوت تلك املر�أة التي تنظر لها بحنان‪ ،‬ولكن ملا خفت‬
‫�شعور اخلوف داخلها؟! ملا مدت يديها لت�ضعها يف يد تلك املر�أة التي تبت�سم لها‬
‫الآن؟! ما هذا ال�سحر الذي �ألقته عليها لتجعلها تتحرك خلفها وك�أنها بال قوى‪..‬‬
‫بال عقل؟!‬
‫دخلت حلديقة املنزل ثم حلظات وملحت باب املنزل ُيفتح بقوة‪ ،‬و�شاب يف نف�س‬
‫عمرها �أو �أكرب ال تعلم‪ ،‬يقف �أمامهم �شاحب الوجه وينظر ب�صدمة ومل تكن نظراته‬
‫موجهة �سوى لها!‬
‫جت ّمدت مكانها وهي ت�شعر مب�شاعر غريبة داخلها‪ ،‬ق�شعريرة �سرت يف �أو�صالها‬

‫ع‬
‫ب�أكملها وك�أن اجلو ازداد برودة‪ ،‬وغ�صة ا�ستحكمت قلبها ف�أملته بقوة‪ ،‬حتى بان‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫مالمح الأمل على وجهها‪ ،‬ف�سحبت يديها من يد جميلة‪ ،‬وو�ضعتها على قلبها ُت ّ�سد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫عليه‪ ،‬بينما ازدادت نب�ضاته وهي ترى هذا ال�شاب يقرتب منها‪ ،‬وهو ما زال على‬

‫شر وال‬
‫�صدمته‪ ،‬توقف �أمامها و�صدره يعلو ويهبط من انفعاله الوا�ضح‪� ،‬شهقة خرجت من‬

‫توزيع‬
‫أنت على قيد احلياة»‪.‬‬
‫فمه وهو يهم�س ب�صوت خال من احلياة‪ِ �« :‬‬
‫ت�ش ّنجت �أطرافها كلها وهي تلمح يف حديثه لهجة الإقرار ولي�س اال�ستف�سار‪،‬‬
‫وك�أنه يقر حقيقة‪.‬‬
‫رفع كف يديه باجتاهها ك�أنه يلم�س �شي ًئا وهم ًيا فرتاجعت خطوة ليرتاجع هو‬
‫الآخر‪ ،‬وملحت ات�ساع عينيه بقوة �أخافتها‪ ،‬ودمعة خائنة انطلقت من حمب�سها لتنهمر‬
‫على وجنتيه‪ ،‬ثم عقد حاجبيه ومالمح الأمل ارت�سمت على وجهه وهو يهم�س ب�صوت‬
‫أنت هنا»‪.‬‬
‫ُمت�أمل‪ِ �« :‬‬
‫«�أمري» هم�سة �أخرجته من دوامة م�شاعره‪ ،‬فرفع عينيه ل�صاحبها ليجد �أخاه‬
‫ينظر له بقلق‪ ،‬بينما جميلة تقف ُم�ستندة على ذراع حممد ودموعها تنهمر يف‬
‫�صمت‪ ،‬وهي تتابع بعينيها لقاء طفليها �أخ ًريا‪ ،‬فهم�ست بني بكائها‪�« :‬أمري‪ ..‬هذه‬
‫ليلى توءمك حبيبي»‪.‬‬
‫ارجتف ج�سده ب�أكمله وهو ينظر لوالدته بتيه‪ ،‬ودمعة �أخرى هربت من خمدعها‪،‬‬
‫وهو يهز ر�أ�سه بالنفي وال يعلم ما ينفيه‪ ،‬ويهم�س ب�ضياع‪�« :‬أمي ال»‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫�سرعا ويدخل املنزل ومنه �إىل غرفته‪ ،‬وك�أنه‬
‫مل مينح والدته الرد ليعود �أدراجه ُم ً‬
‫مل يعد قاد ًرا على املواجهة‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات‪ ،‬و�آ�سر يتابع بعينيه املوقف ويعيده يف عقله‪ ،‬ف�شعر ب�أن‬
‫هناك �أم ًرا ما �سيحادث فيه �أخاه‪� ،‬أما عن �أخته فرفع عينيه عند هذه النقطة‬
‫ليلمحها واقفة بثبات زائف‪ ،‬فوحده ملح ارجتاف ج�سدها اخلائن بينما تعبريات‬
‫وجهها جامدة ال تخربه ب�شيء‪ ،‬ويف عقله �أمر واحد يراوده يف كل مرة يتم ّعن يف‬
‫النظر �إليها‪« :‬هذه الفتاة تعاين من خطب وخطب كبري»‪ ،‬حتدث بهدوء وهو يخرج‬
‫اجلميع من �صدمته‪�« :‬أمي‪ ،‬مل ال ت�أخذي �أمرية للطابق العلوي لرتتاح قليال‪ ،‬فلقد‬
‫م ّرت بالكثري من الأحداث اليوم‪ ،‬كما �أن ال�صغريين على و�شك العودة من بيت‬

‫ع‬
‫العمة نازيل‪ ،‬و�أمرية لي�ست يف حاجة للقاء �أحد الآن»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هزت جميلة ر�أ�سها بتفاهم وهي مت�سح دموعها‪ ،‬لتقرتب من ابنتها وحت�ضن كتفها‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بذراعها وت�أخذها لطريق جانبي بجوار املنزل‪ ،‬و�أمرية ت�سري بجوارها ُم�ست�سلمة‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫لقيادتها‪ ،‬وهي ت�شكر داخلها هذا الـ‪�« :‬آ�سر» ملا قاله‪ ،‬فهي يف حاجة �شديدة للبقاء‬

‫ع‬
‫وحدها‪ ،‬يف حني �شعرت بالغ�ضب وهو ي�صر على مناداتها بتلك الأمرية‪ ،‬الربودة‬
‫التي احتلت ج�سدها بعد مقابلة ذلك ال�شاب انت�شرت يف جميع �أو�صالها‪ ،‬وكلمة‬
‫أخوك التو�أم»‪� ،‬شعرت بها ت�أخذها لطريق جانبي‬‫ال�سيدة بجواره ترتدد بداخلها‪ِ �« :‬‬
‫م�سبحا �صغ ًريا يجاوره درج خارجي يبدو �أنه ي�ؤدي للطابق‬
‫ً‬ ‫بجوار املنزل‪ ،‬فلمحت‬
‫العلوي الأخري‪� ،‬صعدت الدرج مع والدتها‪ ،‬حتى و�صلت للطابق الثالث ففتحت‬
‫والدتها الباب وهي تتحدث ب�صوتها احلنون‪« :‬حمدً ا هلل �أن �سعدية جاءت بالأم�س‬
‫لك‪ ،‬تف�ضلي عزيزتي»‪.‬‬ ‫قليل حتى �أُنظفه ِ‬
‫انتظرت ً‬
‫ِ‬ ‫كنت‬
‫لتُنظف املنزل و�إال ِ‬
‫مل جتبها �أمرية ب�شيء ودخلت خلفها‪ ،‬فلمحت �صالة وا�سعة بها �أريكة كبرية‬
‫وكر�سيان وتلفاز على احلائط يقبع �أ�سفله من�ضدة كبرية حتوي القليل من الكتب‪،‬‬
‫هل الهواء بداخل املنزل خمتلف؟! هل هناك �سحر يف �أنحاء املنزل؟! رم�شت بعينيها‬
‫وهي تت�أمل املنزل بجمود بينما ت�شعر ك�أنها تعرف كل ركن به‪ ،‬ك�أنها كانت هنا من‬
‫قبل‪.‬‬
‫قاطعت جميلة ت�أملها وهي تتح ّدث بارتباك‪�« :‬إنه قليل الأثاث قليال عن باقي‬
‫املنزل لأن ال �أحد يعي�ش به �سوى ال�ضيوف �إن زارنا �أحد‪ ،‬و�أحيا ًنا يق�ضي فيه �أمري‬
‫‪53‬‬
‫أريك باقي الغرف»‪.‬‬
‫بع�ض الوقت يف فرتة االمتحانات‪ ،‬هذه ال�صالة‪ ،‬تعايل معي ل ِ‬
‫�أخذتها جميلة من يديها وهي تتحرك باجتاه املطبخ الذي يجاور ال�صالة‪ ،‬ويبدو‬
‫�أنه ُمعد بكل �أجهزته‪ ،‬ثم حت ّركت باجتاه ممر طويل �أمام املطبخ يف �أول ميينه غرفة‬
‫فتحتها جميلة لرتيها لها‪ ،‬ثم حتركت باجتاه غرفة �أخرية يف نهاية املمر لتدخلها‬
‫مع �أمرية وهي تريها لها‪ ،‬كانت غرفة ب�سيطة حتوي �شرفة تطل على امل�سبح ال�صغري‬
‫وجزء من احلديقة‪ ،‬وبها �سرير �صغري وخزانة مالب�س منا�سبة حلجم الغرفة‬
‫ومن�ضدة �صغرية وكر�سي �أمامها‪ ،‬بينما هناك باب بجوار اخلزانة يبدو �أنه احلمام‪،‬‬
‫�شعرت �أمرية فيها بالراحة عن الغرفة الأخرى فتح ّدثت بخفوت‪�« :‬س�آخذ هذه‬
‫الغرفة‪� ،‬إنها ُمريحة»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ابت�سمت لها جميلة بحنو و�أجابتها‪« :‬ح�س ًنا حبيبتي كما تريدين‪� ،‬أنا من اخرتت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أعجبتك‪ ،‬ح�س ًنا �س� ِ‬
‫أتركك لرتتاحي‪ ،‬ف�أنا �أعلم‬ ‫ِ‬ ‫�أثاثها عن باقي املنزل‪� ..‬سعيدة �أنها �‬

‫شر وال‬
‫عليك‪� ،‬أنا �س�أكون يف الغرفة الأوىل‪� ،‬س�أعود فقط للأ�سفل لبع�ض‬
‫�أن الأمر كله �صعب ِ‬

‫توزيع‬
‫لك بع�ض املالب�س لتنامي بها وطعام تتناولينه قبل النوم»‪.‬‬‫الوقت‪� ،‬أح�ضر ِ‬
‫�أجابتها �أمرية بجمود‪« :‬ال داعي للطعام‪� ،‬أنا ل�ست جائعة‪� ،‬أريد فقط مالب�س»‪،‬‬
‫عليك»‪.‬‬
‫�أجابتها جميلة بهدوء‪« :‬لن �أت�أخر ِ‬
‫حتركت جميلة جتاه باب الغرفة‪ ،‬ثم توقفت للحظة �أمام �أعني �أمرية‪ ،‬ثم عادت‬
‫لها ُم�سرعة وهي حتت�ضنها بقوة وتت�أوه بخفوت‪�« :‬آه‪ ..‬ال حرمني اهلل من هذا‬
‫احل�ضن �أبدً ا»‪.‬‬
‫ارتع�شت �شفتا �أمرية ف�ضمت فمها بقوة وهي تنازع الرغبة يف البكاء �أمام كل‬
‫يوما‪ ،‬ابتعدت جميلة عنها ف�أخف�ضت �أمرية عينيها‬
‫تلك امل�شاعر التي مل ت�شعر بها ً‬
‫للأر�ض حتى ال ترى انهيارها‪ ،‬فهم�ست لها جميلة ب�أنها لن تت�أخر‪ ،‬وخرجت من‬
‫الغرفة لترتك �أمرية خلفها وهي على حافة االنهيار‪.‬‬

‫‪M‬‬
‫‪54‬‬
‫�أود �أن �أبكي وارجتف و�ألت�صق ب�أحد الكبار‪ ..‬ولكن احلقيقة‬
‫القا�سية هي �أنني �أحد الكبار‬

‫�أحمد خالد توفيق‬


‫الف�صل الرابع‬
‫زمرد‬

‫مقر الأمن الوطني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫خرج من االجتماع بوجه �شاحب يف طريقه ملكتبه منذ ات�صال �صديقه عليه‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫الأ�سبوع ال�سابق وهو يخربه بق�ضية كبرية �ستقلب الر�أي العام‪ ،‬وهو ي�شعر بقب�ضة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫غريبة يف �صدره‪ ،‬يتذكر جيدً ا كيف و�صل يومها ملقر عمله ليجد املكان ب�أكمله يف‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫أ�شخا�صا مت ترحيلهم من‬
‫ً‬ ‫ت�أهب كبري‪ ،‬فت�ساءل وقتها عن ال�سبب ليخربوه �أن هناك �‬
‫مديرية الأمن ب�شمال �سيناء ويف طريقهم لهنا‪ ،‬حيث �سيتم التحقيق الر�سمي يف‬
‫ق�ضية مهمة حتت �إ�شراف كبار القادة‪ُ ،‬م�ستعينني ب�أمهر الأطباء النف�سيني‪ ،‬وعندما‬
‫ت�ساءل عن ال�سبب ُم�ستغر ًبا فهم القليل من �أ�صدقائه عن فتيات مت اختطافهن‬
‫على يد ع�صابة منذ �سنوات‪ ،‬ويحملن �أدلة لق�ضايا كثرية تخ�ص الأمن الوطني‪،‬‬
‫لكن حاالتهن النف�سية ال ت�ساعد على تق ّبل ثقة �أي �شخ�ص‪ ،‬نغزة �أ�صابت قلبه وهو‬
‫يتذ ّكر مالمح طفلة ُمبت�سمة تهديه ابت�سامتها اخلا�صة له فقط‪ ،‬نف�ض عنه �أفكاره‬
‫ورئي�سه يطلبه يف مكتبه لي�أمره بتويل الق�ضية �ألي�س هو املُق ّدم يامن �سعيد خريي‪،‬‬
‫�أف�ضل و�أمهر رجال الأمن الوطني‪ ،‬تنهد بتعب وهو يتذ ّكر ا�ستالمه امللف اخلا�ص‬
‫بالق�ضية ليقر�أ ويقر�أ ل�ساعات‪ ،‬وبع�ض من مالمح الق�ضية بد�أ يت�ضح له‪ ،‬ليدرك‬
‫�أن هناك فتاتني كانتا يف مكان احلادث‪ ،‬وكلتاهما قامت بجرمية قتل‪ ،‬ا�ستغرب‬
‫وقتها دخول رئي�سه اللواء ح�سني وهو متوتر‪ ،‬ليخربه دون �أي مقدمات عن واحدة‬
‫من الفتيات تطابقت موا�صفاتها مع موا�صفات تركها من زمن يف جميع الأق�سام‪،‬‬
‫كميت يف كربه‪ ،‬يتذ ّكر جيدً ا وقتها‬
‫موا�صفات من فقدها يف �صغره ليحيا من دونها ٍ‬
‫عدم ت�صديقه الأمر‪ ،‬و�أن رمبا يكون جمرد ت�شابه‪� ،‬إذ كيف ب�إمكان �صغريته ال�ساكنة‬
‫‪56‬‬
‫مبنزله يف بلدته �ساب ًقا �أن تكون يف �أبعد منطقة عنه ب�شمال �سيناء‪ ،‬ولكن عقله‬
‫املهني وجميع الأوراق التي كان قد جمعها يف ق�ضيتها‪ -‬التي �صدر بخ�صو�صها‬
‫حم�ضر وقت اختفائها منذ �سنوات‪ -‬ت�شري كلها حلقيقة �أنهما نف�س الفتاة‪«:‬طفلة‬
‫يف العا�شرة بعينني ع�سليتني و�شامة �أعلى كتفها الأي�سر»‪ ،‬عاد بذاكرته مل�شاعره‬
‫وقتها‪ ،‬وهو يعد ال�ساعات ُمنتظ ًرا قدومهما‪ ،‬ليلمحهما و�أحد الرجال يقودهما‬
‫ملكتب رئي�سه‪ ،‬وهو ي�شعر برجفة امتلكت قلبه حني مرت عينيه على �إحداهن‪ ،‬وهي‬
‫م�ستكينة جامدة يف يد الرجل الذي يقودها للداخل‪� ،‬أغم�ض عينيه ب�أمل وهو ينتظر‬
‫حتاليل الـ ‪ DNA‬التي �أثبتت بالت�أكيد �أن فتاته �صغريته هي نف�س الفتاة التي تقبع‬
‫داخل غرفة اال�ستجواب‪ ،‬مل ي�ستطع �أن يو�صف �شعوره وقتها كيف كان وهو يعيد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عاما مع‬
‫برجمة �أفكاره التي جتمدت بعقله‪� ،‬صغريته عا�شت لأكرث من ثمانية ع�شر ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�أ�شخا�ص غري عائلتها‪ ،‬عا�شت يف و�سط عائلة ال تت�سم �سوى بالإجرام‪ ،‬عائلة ال حتمل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ذرة رحمة‪ ،‬عائلة حتمل ً‬

‫ش‬
‫تاريخا كب ًريا يف اجلرائم املختلفة‪� ،‬شعر باملرارة يف حلقه‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫وهو يرى الك�شف الطبي اخلا�ص بها لتجذب انتباهه جملة �أ�صابته يف مقتل‪«:‬لي�ست‬

‫ع‬
‫عذراء»‪ ،‬ليعلم �أنها الوحيدة التي حملت جملة‪«:‬لي�ست عذراء» يف ك�شفها الطبي‪،‬‬
‫�أخذته �أفكاره لبعيد هل تزوجت؟! هل عا�شت حياة طبيعية و�سط ه�ؤالء املجرمني؟!‬
‫هل �أ�صبحت مثلهم؟! كيف كانت حياتها؟! هل تتذكره؟! وال�س�ؤال الأهم الذي يتجنبه‬
‫ويخ�شاه هل تغفر له؟! زفر بتعب وهو ي�صل ملكتبه ليقف قليال وهو يتذكر �إ�صراره‬
‫على تويل الق�ضية رغم رف�ض اللواء الأمر ل�صلة القرابة بينه وبني �إحدى املتهمات‬
‫ولكنه �أقنعه �أن رمبا يكون �سب ًبا للتق ّرب منها واحل�صول على ثقتها في�صلوا جلميع‬
‫املعلومات التي يريدونها منها‪ ،‬يعلم �أنه حتايل لكنه مل ي�ستطع فقط مل ي�ستطع �أال‬
‫يتدخل �أال يقرتب‪ ،‬خا�صة حني عرف من �صديقه امل�س�ؤول عن الق�ضية انهيارها‬ ‫ّ‬
‫بعد و�صولها ب�ساعة وهي تخربه ب�أنها قتلت بدم بارد ب�أنها تعرتف اعرتا ًفا كامال‬
‫بقتلها ال�ضحية دون �أي ذرة ندم ودون �أي تهديد منه لها‪� ،‬أي قتال متعمدا‪ ،‬خم�سة‬
‫�أيام مرت وهي تقبع يف نف�س املكان الذي هو به وال يقوى على الدخول �إليها‪ ،‬ال‬
‫يجر�ؤ على مقابلتها‪ ،‬ي�شعر باملرارة وهو يعي �أنه ت�أخر كث ًريا عن �إنقاذها ومل ميتلك‬
‫ال�شجاعة لإخبار عائلته ب�أنه وجدها‪ ،‬ال يجيب عن ات�صاالتهم وال يعود ملنزله‪ ،‬يعلم‬
‫�أنهم يحملون العديد من الت�سا�ؤالت‪ ،‬خا�صة بعد انت�شار الق�صة يف الأخبار‪ ،‬ولكنه‬
‫‪57‬‬
‫مل ي�ستطع �أن ي�ؤكد لهم �أنها هي بعد كل ما عرفه والآن حان الوقت ملعرفة احلقيقة‪،‬‬
‫ملعرفة كل ما حدث يف تلك ال�سنوات‪ ،‬تلك املرارة التي �سمعها تتحدث بها وهي‬
‫تعرتف‪ ،‬رغم اختالف ما تقوله عن الفتاة الأخرى التي �أخربتهم بو�ضوح ما حدث‬
‫�أو بالأدق للعميد‪ ،‬حيث ظهر له �أنه كان على معرفة تامة بها حيث �إن هناك ً‬
‫خيوطا‬
‫لهذه الق�ضية منذ �سنتني لكن كانوا يعملون عليها يف اخلفاء‪.‬‬
‫جل�ست بهدوء على الكر�سي املوجود �أمام الطاولة العري�ضة وهي حتاول جاهدة‬
‫ال�سيطرة على ارجتافة يديها‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي ال ت�صدق حتى الآن �أنها قتلت‬
‫قتلتها �أخ ًريا! هم�ست من دون وعي‪« :‬يا �إلهي»‪.‬‬

‫ع‬
‫انتف�ضت مكانها وباب املكتب يفتح ليدلف رجل يبدو �أنه يف منت�صف العقد‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫الثالث مم�شوق اجل�سد‪ ،‬مالحمه هادئة حتمل القليل من ال�صرامة بحكم عمله‪،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ملحة من �صدمة تظهر بعينيه مع �شحوب وجهه‪� ،‬أدركت ُغفران بخربتها �أنه قد ّ‬

‫ن‬
‫اطلع‬

‫شر وال‬
‫على بع�ض الأمور التي تخ�ص املزرعة �أو هناك �أمر �آخر!‬

‫توزيع‬
‫جل�س على كر�سي املكتب وقاطع �أفكارها �صوته الرخيم وهو يتح ّدث بهدوء‬
‫وينظر لعينيها بتم ّعن‪ ،‬ف�أدركت �أنه يدر�س �صدقها‪« :‬م�ساء اخلري‪� ،‬أنا املُق ّدم يامن‬
‫بك‪ ،‬قبل �أن نبد�أ التحقيق الر�سمي �أريد‬
‫�سعيد خريي‪ ،‬امل�س�ؤول عن الق�ضية اخلا�صة ِ‬
‫منك ما حدث �آن�سة ُغفران �ألي�س كذلك �أم تف�ضلني �أن � ِ‬
‫أناديك بالطبيبة‬ ‫�أن �أ�سمع ِ‬
‫ُغفران؟!» ‪.‬‬
‫�س�ألها ال�س�ؤال الأخري وهو يبحث يف الأوراق �أمامه‪ ،‬فلم يلمح جمود مالحمها‬
‫عاما با�سم وهوية وعائلة‬ ‫وملحة �أمل ظللتها‪ ،‬وهي تتذكر �أنها عا�شت ملدة ثمانية ع�شر ً‬
‫غري مزورة على عك�س الأخريات‪� .‬أجابته بجمود وهي تفكر جيدً ا �أن التحقيق مل يبد�أ‬
‫بعد معها‪ ،‬مبا �أن اللواء لي�س هنا‪« :‬نعم ما الذي تريد معرفته �أيها املُق ّدم؟! كيف‬
‫قتلت من ربتني؟! �أم ما حدث خالل �أعوامي الت�سعة والع�شرين هناك؟! �أم تريد‬
‫فقط معرفة بع�ض الإجابات لترثثر بها مع �أ�صدقائك»‪.‬‬
‫نظر يامن لها بقوة‪ ،‬وهو ي�شعر ب�أنها تدرك جيدً ا تخ ّبطه‪ ،‬تدرك �صدمته مبا‬
‫�سمعه ور�آه‪ ،‬خالل �سنوات عمله مل ي�صادفه ق�ضية كهذه‪ ،‬بعد اجتماع دام ل�ساعتني‬
‫‪58‬‬
‫تو�صلوا لأن يتم التحقيق حتت �إ�شراف �أطباء نف�سيني نظ ًرا‬
‫مع كبار القادة بال�شرطة ّ‬
‫جلهلهم مبا يواجهونه مع ه�ؤالء الفتيات‪ ،‬هذه الفتاة ذات املالمح اجلميلة الهادئة‬
‫اجلامدة التي جتل�س �أمامه بجمود قد قتلت! لكن جرميتها لي�ست كجرمية زمرد!‬
‫تنهد يامن بخفوت وحت ّدث بهدوء اكت�سبه خالل �سنوات عمله‪�« :‬أخربيني‬
‫برتبيتك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ب�صلتك بال�ضحية �سمرية فتحي غري �أنها املر�أة التي قامت‬
‫نظرت ُغفران �أمامها بجمود وحتدثت بربود �صدمه‪« :‬غري �أنها قامت برتبيتي‪،‬‬
‫ال �شيء يذكر فهي للأ�سف والدتي احلقيقية‪ ،‬و�أنا �أعلم �أنك �أدركت ذلك بنتيجة‬
‫دفاعا عن النف�س‬
‫التحليل ف�أنا االبنة الوحيدة احلقيقية يف تلك العائلة لقد قتلتها ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ولديك ال�شهود‪ ،‬قد �شاهد رجال ال�شرطة ما حدث �أمام �أعينهم‪ ،‬هي �سحبت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�سالحها �أمامهم وهمت بت�صويبه جتاه �أختي‪ ،‬مل ي�سعف رجال ال�شرطة �أن يوقفوها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دفاعا عن �أختي»‬

‫ش‬
‫ف�أوقفتها �أنا ف�إن مل �أفعل كانت �أختي هي القتيلة‪� ،‬أنا من قتلتها ً‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫أفرغت ال�سالح ب�أكمله بج�سدها»‪.‬‬
‫�أكمل يامن عنها‪« :‬نعم بعد �أن � ِ‬

‫ع‬
‫ملح يامن اهتزاز حدقتي عينيها ومل يفته ارتعا�ش ج�سدها ف�أجابته بجمود‬
‫كاذبة‪« :‬مل �أتوقف ب�سبب ال�صدمة‪� ..‬إنها املرة الأوىل يل»‪� ،‬س�ألها بحذر‪ً «:‬‬
‫دفاعا‬
‫عن �أختك رحمة! املُتهمة بقتل ال�ضحية ال�سيد ممدوح»‪ ،‬التفتت بغ�ضب مل ت�ستطع‬
‫التحكم به وهي غا�ضبة من نف�سها قبل �أن تغ�ضب من كل ما حولها وهي تهتف‪:‬‬
‫«�ضحية! لقد ا�ستحق هذا الوغد املوت‪ ،‬لو مل تفعلها رحمة وقتها لفعلتها �أنا دون‬
‫تردد»‪.‬‬
‫ُ�صدم يامن من كم الكره واال�شمئزاز الذي ظهر بعينيها‪ ،‬ولكن حافظ على‬
‫هدوئه وهو ي�س�ألها‪« :‬ملاذا؟!»‬
‫�أزاحت ُغفران نظراتها عنه وهي تنظر لنقطة يف الفراغ ُميبة �إياه بكل م�شاعر‬
‫الكره والغ�ضب بداخلها‪« :‬لأنه قذر ُمتحر�ش و ُمغت�صب‪ ،‬يبيع الفتيات كجوا ٍر ملن‬
‫يدفع �أكرث ومن ي�ستخدمها كجارية ي�ستفيد منها ك�صندوق يحوي كنزا مكونا من‬
‫عني وكبد وقلب وكلي هل هذا يكفي؟!» حاول يامن تخطي املرارة يف �صوتها وهو‬
‫‪59‬‬
‫وكالمك هو الدليل الوحيد‬
‫ِ‬ ‫كالمك؟! �إنها ق�ضية كبرية‬
‫ِ‬ ‫يقول‪« :‬هل تدرين معني‬
‫لنا»‪.‬‬
‫�أجابته ُغفران بثقة‪« :‬ال لي�س الدليل الوحيد �إن كنت على علم بالق�ضية‪ ،‬كما‬
‫تقول �إنك م�س�ؤول عنها �ستدرك جيدً ا �أنه لي�س الدليل الوحيد‪ ،‬هناك �أدلة �أخرى‬
‫�أملكها كما يعرف اللواء ولكن �أريد �أن �أعرف �أوال ماذا �سيحدث لرحمة؟! وهل الأدلة‬
‫التي �أملكها ت�ستطيع م�ساعدتها يف ق�ضيتها؟!»‬
‫اختلجت ع�ضلة يف وجه يامن وهو يحاول ال�سيطرة على غ�ضبه الدفني بعد‬
‫ما �سمعه ف�أجابها بجمود‪�« :‬إن كانت الأدلة تدينه كما تقولني فرمبا ي�ساعدها يف‬

‫ع‬
‫ق�ضيتها‪ ،‬ولكن ما قالته �أُثبت �ضدها»‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫هتفت ُغفران بغ�ضب وبدافع حماية متلكها منذ ال�صغر‪« :‬لقد �أُجربت على‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫الأمر‪ ،‬هي قالت ما قالته لأنها كانت يف حالة �صدمة‪ ،‬لقد �أذاها‪ ،‬لقد قام ب‪.»...‬‬

‫توزيع‬
‫نظر يامن لها بقوة و�س�ألها برت ّقب‪« :‬لقد قام مباذا؟!» ملحة �أمل مرت بعينيها‬
‫قبل �أن تبعدها عنه وهي تهم�س‪�« :‬إنه خطئي‪ ،‬كنت بعيدة عنها‪ ،‬ان�شغلت مبا عرفته‬
‫فلم‪� ...‬صدقني هي لي�ست كما �أخربتكم‪� ،‬أنا �أعرفها جيدً ا‪ ،‬رحمة مل تكن‪.»...‬‬
‫رفعت ُغفران يديها و�أحاطت بها ر�أ�سها وهي تهم�س‪« :‬يا �إلهي» ال ت�صدق حتى‬
‫الآن ما قاله اللواء لها عن الك�شف الطبي اخلا�ص برحمة حني قابلها وقت و�صولها‪،‬‬
‫خا�صة حني قر�أت ن�سخة منه ليجذب انتباهها جملة‪« :‬لي�ست عذراء» انتف�ضت‬
‫مكانها وقتها وهي تهتف بال لتطلب منه مقابلتها‪ ،‬خا�صة �أن منذ احلادث وهم‬
‫يف�صلونهما عن بع�ض‪ ،‬ا�ستجاب لطلبها لتزورها يف غرفة اال�ستجواب ليرتكهما على‬
‫انفراد‪ ،‬تذكرت كم بدت ه�شة وتائهة ك�أنها ال تعلم �أين هي �أو ماذا حدث‪ ،‬لرتفع‬
‫رحمة نظراتها اجلامدة لها‪ ،‬ليظال على و�ضعهما لت�س�ألها ُغفران بقلق وهي ت�ست�شعر‬
‫حالة رحمة الغريبة عليها عما حدث يف غيابها بينها وبني ممدوح‪ ،‬تتذكر ُغفران‬
‫وقتها كيف نظرت لها رحمة بجمود وهي تعي معرفة ُغفران باحلقيقة فهي حتما‬
‫اطلعت على الك�شف الطبي اخلا�ص بها لت�ضحك ب�سخرية وهي تتذكر حديثها معها‬
‫‪60‬‬
‫على ال�سطح لتجيبها وجملتها ما زالت ترن يف �أذنيها حتى الآن‪« :‬ما حدث بيني‬
‫أنت‬
‫كنت حتاولني فعله و� ِ‬‫يخ�صك ب�شيء‪ ،‬هل كل هذا ما ِ‬ ‫ِ‬ ‫وبينه طوال تلك ال�سنوات ال‬
‫بعيدة ُغفران»‪� ،‬س�ألتها ُغفران عن مق�صدها لت�س�ألها رحمة ب�سخرية‪« :‬هل ِ‬
‫كنت‬
‫على عالقة بال�شرطة ُغفران كل تلك ال�سنوات؟!»‪ ،‬ابتلعت ُغفران ريقها ب�صعوبة‬
‫وهي ت�ست�شعر حالة رحمة غري الطبيعية لتدرك �أنها �أ�س�أت فهم ما حدث لتربر لها‪:‬‬
‫«رحمة ا�سمعيني جيدً ا‪ ،‬مل �أ�ستطع �أن �أطالبهم ب�إلقاء القب�ض عليه وقتها‪ِ � ،‬‬
‫أنت ال‬
‫تفهمني كان يجب �أن ننتظر حتى يو�صلنا ملن يعمل لديهم‪ ،‬الأدلة كانت كافية لتدينه‬
‫رجل كب ًريا خلف كل ما يحدث كان يجب �أن ننتظر‬ ‫هو فقط‪ ،‬ولكن علمنا �أن هناك ً‬

‫ع‬
‫حتى ن�صل �إليه»‪ ،‬نه�ضت رحمة من على الكر�سي بقوة وهي ت�ضرب بقب�ضتيها على‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫املن�ضدة �أمامها وهي ت�صرخ بقوة‪« :‬بالطبع كان على ُغفران ال�شجاعة �أن تنتظر‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وتنتظر‪ ..‬فماذا �ستخ�سر وهي بعيدة كل البعد عن اجلحيم؟! ماذا �سي�صيبها وهي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ال حتيا يف الوحل كما ع�شنا نحن؟! ما الذي �ستخ�سرينه فلننتظر �شه ًرا‪� ..‬سنة‪..‬‬

‫ع‬
‫منك‬‫�سنوات‪ ..‬فلن يحدث �شيء‪� ،‬ألي�س كذلك يا طبيبة يا �شجاعة؟ ح�س ًنا �أعتذر ِ‬
‫لهدفك كما تريدين لأنني قتلته بيدي‪ ،‬قتلته من دون ذرة‬ ‫ِ‬ ‫ب�شدة ُغفران مل ت�صلي‬
‫لك مل تخ�سري �شي ًئا مه ًما‪..‬‬
‫ندم‪ ،‬قتلته وهو مل يحاول حتى الدفاع عن نف�سه‪ ،‬هني ًئا ِ‬
‫بيديك �أن تلقي القب�ض عليه منذ‬
‫فقط عذريتي‪ ،‬حيث كنت جمرد ع�شيقة للذي كان ِ‬
‫أهداك لالنتظار قليال‪ ،‬ع�شيقة يلهو بج�سدها كما يريد ومتى‬ ‫غباءك � ِ‬ ‫ِ‬ ‫�سنني‪ ،‬ولكن‬
‫أي�ضا ا�ستمتعت بهذا الدور!» ‪.‬‬
‫يريد‪ ،‬ولكن �أتعلمني �أنا � ً‬
‫عادت من �أفكارها التي جتلدها وهي تنظر ليديها‪ ،‬فغ�شت عينيها الدموع وهي‬
‫تتذكر ال�صفعة التي �أ�صابت وجه رحمة بعد �أن قالت جملتها الأخرية‪ ،‬هي ال ت�صدق‬
‫ما قالته �أو بالأدق �آخر جملتها‪ ،‬جذب انتباهها �صوت تن ّف�س يامن الغا�ضب‪ ،‬فرم�شت‬
‫أنت مل تخربيني باحلقيقة‬ ‫بعينيها لتطرد الدموع وهي ت�سمعه يقول بغ�ضب دفني‪ِ �« :‬‬
‫الكاملة»‪ ،‬هم�ست ُغفران ب�صوت مكتوم‪« :‬وهل احلقيقة �ستغري �شي ًئا؟!» ‪.‬‬
‫نه�ض يامن من مكانه واقرتب من ُغفران وجل�س �أمامها‪ ،‬فانتف�ضت بقوة وهي‬
‫تراه قري ًبا منها‪ ،‬فده�شت للهفته وهو يقول‪�« :‬أخربيني كل �شيء و�أعدك �أنني‬
‫‪61‬‬
‫أنت �أكرث قوة‬
‫أنت كبرية ونا�ضجة‪ ،‬بعد ما ر�أيته � ِ‬ ‫أ�ساعدك‪ ،‬ا�سمعي �آن�سة ُغفران‪ِ � ..‬‬
‫ِ‬ ‫�س�‬
‫ق�ضيتك وق�ضية‬
‫ِ‬ ‫أ�ساعدك يف‬
‫ِ‬ ‫أعدك �إن �ساعد ِتني �س�‬
‫من رحمة والفتاة الأخرى‪ ،‬لذا � ِ‬
‫قتلت بغر�ض الدفاع عن‬ ‫أنك ِ‬‫عليك �أن حت�صلي على براءة ل ِ‬ ‫أختك‪� ،‬أعلم �أنه �سهل ِ‬
‫� ِ‬
‫دفاعا عن النف�س‪ ،‬هي قتلت‬ ‫النف�س‪ ،‬و�سهل �إثبات ذلك‪� ،‬أما رحمة فهي مل تفعل ذلك ً‬
‫بدافع القتل‪ ،‬ولكن ميكن �إثبات �أنها مل تكن يف وعيها �أو يف حالة نف�سية واعية �أو بعد‬
‫االطالع على احلقيقة الكاملة عما حدث يف تلك املزرعة ميكن �إثبات براءتها‪ ،‬لأن‬
‫لديك كل املعلومات التي �ست�ساعدين يف �إثبات‬ ‫أنت ِ‬ ‫يف تلك احلالة هي ال�ضحية‪ِ � ،‬‬
‫ذلك‪ ،‬هناك فتاتان قد هربتا وال �أثر لهما‪ ،‬و�أي�ضا ما وجدناه يف ملفات ال�ضحايا‬

‫ع‬
‫أعدك ب�أن �أبذل كل ما بو�سعي حتى �أثبت‬ ‫لديك و�أنا � ِ‬
‫لي�س به ٍني لذا �أخربيني كل ما ِ‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫احلق‪ .‬هناك �أمور خفية مل تعرفها ال�شرطة بعد‪ ،‬وخالل التحقيق �سيتم عر�ضكم‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫مبهنتك تعرفني جيدً ا معنى وجود الأطباء»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫على �أطباء نف�سيني و� ِ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫كانت ُغفران تنظر له بجمود وهي حتاول ك�شف �صدق كالمه‪ ،‬ولكن هناك‬
‫�أم ًرا يخفيه عنها من اهتزاز عينيه ولهفته غري الطبيعية ملُح ّقق يح ّقق يف ق�ضيتها‪،‬‬
‫فعاجلته ب�س�ؤالها‪« :‬كيف تريد مني الثقة بك و�أنت مل تثق بي؟!»‬
‫�شيئ‪:‬ا‪«:‬ما الذي تقولينه؟!»‪،‬‬
‫ُبهت وجه يامن فتي ّقنت ُغفران ب�أنه يخفي ً‬
‫اقرتبت بج�سدها من كر�سيه وهي تقول بينما تنظر لعينيه بقوة‪« :‬هناك �أمر تخفيه‬
‫عني له عالقة برحمة»‪.‬‬
‫ملحت جمود مالحمه وهو يعود بظهره لي�ستند على الكر�سي‪ ،‬ف�أخف�ض ر�أ�سه‬
‫عليك �أن‬ ‫للحظات قبل �أن يهم�س لها بخفوت‪« :‬ح�س ًنا‪� ،‬س� ِ‬
‫أخربك ب�أمري‪ ،‬ولكن ِ‬
‫أ�سرارك‪ ،‬رحمة تكون زمرد ابنة عمتي املُختفية منذ‬
‫ِ‬ ‫ب�سرك �أو بالأدق �‬
‫ِ‬ ‫تخربيني‬
‫عاما»‪ ،‬كان دور ُغفران يف بهوت مالحمها وهي تهم�س من دون‬ ‫ثمانية ع�شر ً‬
‫ت�صديق ‪�«:‬أنت يامن مان!»‪.‬‬
‫حانت منه ابت�سامة �صغرية وهو يتذ ّكر لقبه الذي مل ي�سمعه منذ �سنوات‪ ،‬وهو‬
‫يجيبها‪« :‬مل ُيل ّقبني �أحد بهذا اللقب منذ زمن‪ ،‬مل يعرفه �أحد �سواها»‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫حتدثت ُغفران ب�شرود وهي جتيبه‪«:‬كانت دائمة احلديث عنك‪ ،‬يف الليايل‬
‫الأوىل كانت تبكي ب�شدة وتقول �إن يامن مان ُمنقذها �سي�أتي ليعيدها لأهلها‪ ،‬مرت‬
‫�سنوات وهي تهم�س لنف�سها بهذا كل ليلة‪ ،‬ولكنك مل ت� ِأت‪ ..‬مل ي�أت �أحد»‪.‬‬
‫قالت ُغفران جملتها الأخرية ب�سخرية‪ ،‬فلمحت ت�ش ّنج ج�سده وهو يقب�ض على‬
‫يديه بقوة‪ ،‬ف�شعرت ب�صدق معاناته‪ ،‬لتنظر له هذه املرة بنظرة خمتلفة‪ ،‬تف ّهمت‬
‫حالته وغ�ضبه املكتوم‪ ،‬خا�صة �أنه رجل �شرطة‪ ،‬ثم �أعادت التفكري يف الأمر‪ ،‬حت ًما‬
‫كم اخلونة‬‫اللواء مل يكن لي�سمح ب�أي �أحد ليحقق معها �إال �إن كان ثقة‪ ،‬فهي تعي جيدً ا ّ‬
‫يف دائرة الأمن‪ .‬تنهدت بعد حلظات وهي تقول ‪�« ::‬س�أخربك بكل �شيء»‪.‬‬

‫ع‬
‫خرج من مكتبه بعد �ساعة بعد �أن �شعر باالختناق‪� ،‬شعر ب�أن �صدره ي�ضيق به‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وال ي�ستطيع التنف�س‪ ،‬و�ضع كف يديه على قلبه وهو ي�شعر ب�آالم متفرقة يف كتفه‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الي�سرى‪� ،‬شعر ك�أنه �سي�صاب ب�أزمة قلبية‪ ،‬ما �سمعه الآن منها ال ي�صدقه عقل‪ ،‬مل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫تكن جمرد عائلة �صغرية‪ ،‬لقد كانت ع�صابة‪ ،‬مافيا‪ ،‬ب�شر غري طبيعيني‪ ،‬يا �إلهي لقد‬

‫ع‬
‫كانوا مر�ضى‪.‬‬
‫توجه للمكتب يف نهاية الدور‪ ،‬وهو يدري جيدً ا جهته‪ ،‬فقط الآن‬‫تن ّف�س بقوة ثم ّ‬
‫ميكنه مواجهتها‪ ،‬هو عرف احلقيقة التي تعرفها ُغفران وال تعيها زمرد‪ ،‬وعليه الآن‬
‫�أن يعرف احلقيقة التي تعرفها زمرد وال تعيها ُغفران‪ ،‬طرق باب الغرفة ودخل‬
‫متعجل‪« :‬فتحي �أريد الدخول»‪.‬‬‫ً‬ ‫مكتب �صديقه فتحي ليبادره‬
‫نه�ض فتحي من مكتبه بده�شة وهو يرى حالة يامن‪ ،‬ثم نظر لباب الغرفة‬
‫أنت بخري؟! وجهك‬‫الداخلية وعاد بنظره له لي�س�أله بقلق‪« :‬يامن ماذا بك؟! هل � َ‬
‫�شاحب!» �أجابه يامن وهو مي�سد على قلبه وعيناه على باب الغرفة‪« :‬يجب �أن‬
‫�أدخل فتحي»‪ ،‬ا�ستغرب فتحي حالة �صديقه‪« :‬ولكننا مل نبد�أ التحقيق بعد‪� ،‬أنت‬
‫تعلم الأطباء مل ي�أتوا بعد»‪� ،‬أجابه يامن وهو ينظر ل�صديق عمره‪�« :‬أعرف ولكني‬
‫بحاجة للدخول‪� ،‬أرجوك»‪.‬‬
‫�صمت فتحي قليال وهو يلمح انهيار �صديقه لأول مرة‪ ،‬لقد عرف من اللواء �صلة‬
‫القرابة بينه وبني املتهمة �أو ال�ضحية‪� ،‬أ ًيا كانت ال�صفة التي تليق بها‪ ،‬ولكن �صديقه‬
‫‪63‬‬
‫الواقف �أمامه الآن يبدو �أنه يعرف ما عرفه‪� ،‬أو بالأدق ما �سمعه قال له‪�«:‬أنت‬
‫تعرف؟!» ازداد �شحوب وجه يامن وهو يقول‪�« :‬أثناء دخويل الغرفة املقابلة لغرفة‬
‫اال�ستجواب‪ ،‬والتي يف�صل بينهما بلوح من الزجاج العازل‪ ،‬بينما كنت �أح�ضر بع�ض‬
‫الأوراق‪ ،‬ف�سمعت ال�شجار الذي دار بينهما»‪.‬‬
‫�شعر جمددًا ب�أن هناك ثق ًبا يت�سع بروحه‪ ،‬مرارة �شعر بها يف حلقه‪ ،‬وهو ينظر‬
‫ل�صديقه ب�شحوب‪ ،‬كان يعرف �أن ُغفران لن تخربه كل �شيء‪ ،‬وحتما مل تخربه عن‬
‫ذلك ال�شيء‪ ،‬فاق من �أفكاره على ربتة �صديقه وهو يقول‪�« :‬س�ألتك لأنني �شعرت‬
‫�أنه كان يجب �أن تعرف هذا الأمر‪ ،‬فرمبا لن يتحدث فيه �أحد‪ ،‬هي منهارة يامن‬

‫ع‬
‫و�أ�شعر ب�أن الأمر له �أبعاد �أخرى‪ ،‬لذا كن ر�ؤو ًفا بها‪ ،‬فنحن ال نعلم مقدار العذاب‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫الذي ع�شنه �سوى ما �سمعناه من اللواء‪ ،‬لديك ع�شر دقائق قبل �أن ي�أتي �أحد وهذا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الأمر بيننا»‪.‬‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�إن كان ما �سمعه فتحي من اللواء هو مقدار من العذاب فماذا عما �سمعه هو من‬
‫ُغفران‪ ،‬ربط النقاط ببع�ضها وهو يفكر‪« :‬هي كانت ع�شيقته»‪ ،‬هذه هي الإجابة عن‬
‫�س�ؤاله الذي راوده حني ر�أى الك�شف الطبي‪ ،‬يعلم �أن واحدة يف موقفها ويف و�ضعها‬
‫ويف تلك العائلة التي ن�ش�أت بينهم ال ي�ستطيع �أن يلومها على �ضياع �شرفها‪ ،‬فمن هو‬
‫ليلومها وهو الذي يحمل الذنب الأكرب‪�« :‬أنت مل ت� ِأت» �أغم�ض عينيه وهو يفكر ملاذا‬
‫�إذا ي�شعر بكل تلك املرارة بداخله‪ ،‬ملاذا ي�شعر ك�أن �أحدهم اقتلع قلبه من مكانه‪.‬‬
‫فتح عينيه وابت�سم ابت�سامة امتنان حزينة ل�صديقه‪ ،‬ثم دلف باجتاه الغرفة‪،‬‬
‫ومد كفه املُرتع�ش مي�سك على مقب�ض الباب ثم حاول تهدئة نب�ضاته و�س�ؤال �سخيف‬
‫يراوده يف وقته غري املنا�سب �إطالقا‪« :‬هل �ستتذ ّكره؟!»‬
‫ابتلع ريقه ب�صعوبة ثم �أدار مقب�ض الباب ودلف بهدوء يخالف ما بداخله‪� ،‬أغلق‬
‫الباب خلفه قبل �أن يرفع عينيه وينظر �أمامه ليتج ّمد مما ر�أته عيناه‪.‬‬
‫عاما‪ ،‬هو مل ير مالحمها بو�ضوح �أثناء‬
‫مل تتغري‪ ،‬يا �إلهي ك�أن مل مير ثمانية ع�شر ً‬
‫�إح�ضارها هنا‪ ،‬ما زالت بهيئتها اله�شة‪ ،‬ن�ضجت قليال وازدادت طوال ولكن مالحمها‬
‫كما هي‪ ،‬باختالف بريق عينيها الذي �أ�صبح رمادًا الآن‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫�شعر بج�سده كله يرجتف وهو يقف وخلفه الباب ي�ستند عليه ويبدو �أنها مل تلمح‬
‫دخوله‪� ،‬شرودها جعل غ�صة كبرية حتكم قلبه كقب�ضة متنعه من اخلفقان‪ ،‬ابتلع‬
‫ريقه ب�صعوبة وتقدم بهدوء فلمحها وهي تنتف�ض وترفع عينيها له ويا ليتها مل تفعل‪.‬‬
‫�أ�سياط من نار تنه�ش بج�سده من نظراتها التائهة احلزينة‪ ،‬يا �إلهي دموعها‬
‫تت�ساقط كجمرات نار على قلبه وهو يتذ ّكر تلك الكلمات التي ال تريد �أن تفارق عقله‪:‬‬
‫«كانت تنتظرك ولكنك مل ت� ِأت»‪.‬‬
‫جل�س على الكر�سي �أمامها وهو يتناهى عن تلك الغ�صة التي قتلته‪ ،‬وهو يراها‬
‫مل تتع ّرف عليه بعد �أن �أخف�ضت نظراتها لكف يديها املُرتع�شتني يف حجرها‪ ،‬كل ما‬
‫فيها من ه�شا�شة يجذبه جذ ًبا لزرع الأمان بروحها‪.‬‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫مل ي�ستطع هو ب�شر‪� ،‬إن�سان عا�ش عمره كله على حلم‪ ،‬حلم ُو ِئد يف مهده قبل �أن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫يكرب‪ ،‬لريمم قلبه ببقاياه ويعالج روحه من فقدانه‪ ،‬ما زال طفال يتذ ّكر مل�سة يد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ونظرة انبهار �سعيدة من حلم حياته قبل �أن تختفي عن �أنظاره لدقيقتني‪ ،‬ذهب‬

‫والتوزي‬
‫فيهما ليح�ضر لها ما تريده من املثلجات‪.‬‬

‫ع‬ ‫هم�س ب�صوته الأج�ش من فرط م�شاعره‪« :‬يا ليتني � ِ‬


‫أخذتك معي و�أنا �أ�شرتي‬
‫املثلجات الكريهة»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن يتوقف كل �شيء‪ ،‬قبل �أن تتوقف دموعها‪ ،‬قبل �أن‬
‫تن�سى ما حدث لرتفع عينيها ب�صدمة وهي تنظر للرجل الذي دلف للغرفة بهدوء‬
‫غريب ليجل�س �أمامها �صامتًا قبل �أن يقول ما قاله‪ ،‬دققت يف مالحمه‪ ،‬يف عينيه‪،‬‬
‫�شهقت بقوة وهي ترفع كف يديها تغطي به فمها ال ت�صدق ما تراه‪ ،‬تلك العينني وتلك‬
‫املالمح لي�ست بغريبة عنها‪ ،‬عادت لها نف�س الذكرى التي كانت تتم�سك بها يف �أ�سو�أ‬
‫حلظات حياتها لتهم�س ب�صوت مبحوح‪« :‬يامن»‪.‬‬
‫�سكني بارد اخرتقت قلبه‪ ،‬يا �إلهي �صوتها كان كفيال بجلب الدموع لعينيه‪ ،‬دموع‬
‫�أبت رجولته �أن ت�سقطها‪ ،‬بينما تراجعت هي بكر�سيها وهي تنتف�ض من مكانها‬
‫وكفها على فمها مينع �شهقات بكائها‪ ،‬ودموعها عادت لتنهمر بغزارة وهي تهز‬
‫ر�أ�سها بالرف�ض‪ ،‬ال تعلم ما ترف�ضه لترتاجع بقوة حتى ا�صطدم ظهرها باحلائط‬
‫وهي ت�شهق بقوة وهي تهتف‪«:‬يا �إلهي»‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫نه�ض يامن وهو يوازن ج�سده حتى ال ينهار �أمامها‪ ،‬واقرتب منها مبالمح هادئة‬
‫ال تعك�س ما يدور بداخله‪ ،‬فقط النريان التي ت�شتعل بعينيه الع�سليتني ال�شبيهة‬
‫بخا�صتها يظهر ما يعانيه‪ ،‬اقرتب حتى وقف �أمامها وهو يحاول جذب ابت�سامة‬
‫لوجهه فبانت مهزوزة وهو يهم�س �أمام وجهها‪« :‬زمردتي الغالية»‪.‬‬
‫انفجرت بالبكاء بعد �سماع لقبها الذي مل ينا ِدها به �أحد �سواه وج�سدها يهتز‬
‫من �شهقات حتى مالت ر�أ�سها للأمام تخفي وجهها بني كفيها‪ ،‬ت�شعر باالحتقار‬
‫ال�شديد لنف�سها‪ ،‬وك�أنها تقف عارية �أمام �آخر �شخ�ص توقعت �أن تراه‪ ،‬هي مل تتوقع‬
‫يا �إلهي هي حتى مل تفكر يف ذلك الأ�سبوع ب�أهلها واحتمال عودتها لهم‪ ،‬ت�شعر ب�أن‬
‫حياتها انتهت يف ذلك اليوم الذي �أطلقت النار فيه على ممدوح‪ ،‬ت�ش ّنج ج�سده‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ب�أكمله وقمة ر�أ�سها تلم�س �صدره فت�أوه ب�أمل وهو يجذبها بقوة حل�ضنه يكتم �شهقات‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫بكائها العالية فيه‪� ،‬أراد �أن ي�ضربها‪ ،‬يقتلها‪ ،‬يك�سر كل ما حولها عليها ثم يقتل نف�سه‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫بعد �أن يع ّذبها‪ ،‬ولكن مل ي�ستطع فعل �شيء �سوى �أن زاد من احت�ضانها وهو يربت على‬

‫توزيع‬
‫عدت»‪.‬‬
‫عدت يا زمرد‪ ،‬لقد ِ‬‫ظهرها بحنو ويهم�س لها ب�صوت ُمع ّذب‪« :‬لقد ِ‬
‫حت ّدثت بني �شهقات بكائها باجلملة التي ُتع ّذبه منذ �أن قالتها الفتاة الأخرى‬
‫ُغفران‪« :‬مل ت� ِأت‪ ،‬مل ت� ِأت انتظرتك ومل ت� ِأت‪� ،‬آه يامن‪ ،‬لقد �آذوين لقد �آذيت نف�سي‪،‬‬
‫مل تعد زمردتك كما كانت‪ ..‬مل تعد غالية»‪.‬‬
‫�أغلق عينيه بقوة وهو ي�شعر ب�أنه يريد قتل �أحدهم يف هذه اللحظة‪ ،‬لوال �أنها مل‬
‫نف�سا ُمت�أملًا‬
‫تقتل ذلك الوغد لقتله بيديه‪� ،‬شعر ب�آالم قلبه تعاوده بقوة وقبل �أن يخرج ً‬
‫تفاج�أ بها تدفعه بعنف وهي ت�صرخ بقوة‪« :‬ال تقرتب مني‪� ،‬أنا ُمل ّوثة‪ ،‬ال تقرتب مل‬
‫�أعد نظيفة كما تركتني‪ ..‬لقد ل ّوثني بقذارته‪ ،‬لقد ل ّوثت نف�سي بنف�سي»‪.‬‬
‫نريان ا�شتعلت بداخله من الغ�ضب وهو يراها مت�سح يديها بعنف على ج�سدها‬
‫نظفه وهي ت�صرخ بقوة‪ ،‬حتى توقفت وهي تلهث‪ ،‬وحلظات و�سقطت �أمام‬ ‫ك�أنها ُت ّ‬
‫عينيه مغ�شيا عليها وات�سعت عيناه ب�صدمة وهو يرى دماء تت�ساقط من بني قدميها‪.‬‬

‫‪M‬‬
‫‪66‬‬
‫وحدهن الالتي تغلنب على �أوجاعهن يعرفن كيف يخفني‬
‫دموعهن وهن يف قمة احلاجة للبكاء‬

‫فهد العودة‬
‫الف�صل اخلام�س‬
‫العائلة‬

‫منزل حممد الأ�سيوطي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وقفت �أمام املر�آة يف احلمام وهي تنظر لهيئتها جامدة املالمح‪ ،‬تنهدت بخفوت‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫وهي ت�شعر ب�أنها �أف�ضل بعد ا�ستحمام كانت يف حاجة �إليه‪ ،‬يعي�ش الإن�سان عمره‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ب�أكمله ليعرف من هو ح ًقا‪ ،‬ماذا يريد �أن يحقق وماذا يريد �أن ي�صبح‪ ،‬يحدد‬

‫توزيع‬
‫�أحالمه وي�سعى خلفها‪ ،‬هي كادت �أن ت�صل لأحالمها وت�سعى خلفها لتجد نف�سها‬
‫تعود لأول نقطة جمددًا وتت�ساءل من هي؟! من تكون ح ًقا! هل هي تلك الفتاة التي‬
‫يوما‬
‫تَر ّبت على الأمل؟! �أم تلك الفتاة التي حتتويها الآن عائلة �أخرى؟! هل �ستعلم ً‬
‫من هي ح ًقا؟!‬
‫�سمعت �صوتًا خارج الغرفة �أخرجها من تفكريها‪ ،‬فخرجت من احلمام وهي‬
‫تظن �أن ال�سيدة جميلة باخلارج‪ ،‬لتتج ّمد �أمام الباب وهي تلمح طفلني �أحدهما‬
‫ينظر لها با�ستغراب والآخر ُيع ّدل من مكان الفازة التي وقعت من على املن�ضدة‬
‫�أثناء دخوله الغرفة‪ ،‬تابعتهما بده�شة وهي ترى من ينظر لها ي�سحب �سرتة �أخيه‬
‫املُن�شغل بالفازة ويهم�س له‪�« :‬آدم‪ ..‬انظر»‪.‬‬
‫و�ضع �آدم الفازة على املن�ضدة وهو يهتف ب�ضيق بينما ي�سحب �سرتته التي‬
‫يجذبها �أخوه‪« :‬اتركني يا �أحمق ماذا تريد؟!» نظر لأخيه فوجده يبتلع ريقه وينظر‬
‫قمي�صا ر�آه من‬
‫�أمامه ب�شحوب‪ ،‬فتت َّبع نظراته ليجد فتاة تنظر لهما بده�شة ترتدي ً‬
‫قبل على �أخيه �أمري وبنطاال رجاليا يبدو �أنه له‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫م�صدوما وي�شري بيديه للبنطال الذي ترتديه‬
‫ً‬ ‫«هذا بنطايل»‪ ،‬هتف بها �آدم‬
‫�أمرية‪� ،‬ضربه �أحمد بذراعه يف خ�صره فت�أوه وهو ينظر له ب�ضيق بينما حت ّدث لها‬
‫بك‪ ..‬نعتذر لدخولنا الغرفة‪ ،‬ولكن �سعدية‬ ‫ب�صوت يحاول �أن يك�سبه الرزانة‪�« :‬أهال ِ‬
‫�أخفت كرة التن�س هنا �أثناء تنظيف املنزل‪ ،‬ونحن �أتينا لن�أخذها قبل �أن ت�أتي �أمي‬
‫ومل نعلم �أن هناك �أحدا»‪.‬‬
‫مل جتبهما �أمرية ب�شيء‪ ،‬بينما ارتفع حاجب �آدم بده�شة وهو يهم�س لأخيه‪:‬‬
‫«�أظن �أنها خر�ساء»‪ ،‬عقدت �أمرية حاجبيها ب�ضيق من فظاظة هذا الطفل �أمامها‬
‫بينما هم�س �أحمد له‪«:‬اخف�ض �صوتك يا غبي �إنها ت�سمعك‪ ،‬يجب �أن نخرج الآن‪،‬‬
‫مبا �أنها هنا فهذا يعني �أن لدينا �ضيو ًفا‪ ..‬وهذا معناه‪»...‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫هم�س �آدم له‪�«:‬أن �أمي هنا اللعنة»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫ارتفع حاجب �أمرية بده�شة وهي ت�سمع تهام�سهما ّ‬

‫ر‬
‫وتغ�ضن مالمح الفظ الذي‬

‫والتوزي‬
‫�أمامها‪ ،‬تتبعتهما بعينيها وهما يتهام�سان يبدوان �أ�صغر منها �س ًنا‪ ،‬رمبا يف الرابعة‬

‫ع‬
‫ع�شر �أو اخلام�سة ع�شر من عمرهما‪ ،‬لديهما نف�س عينيها ومن كالم ال�سيدة جميلة‬
‫يبدو �أنهما �أخواها‪ .‬ت�أوهت بخفوت وهي ترى نف�سها يف دوامة كبرية من الأ�شخا�ص‬
‫الغريبة‪ ،‬ت�شعر ب�أن عقلها �سينفجر من كم الأ�سئلة التي بداخلها‪« :‬يا �إلهي �أنا يف‬
‫حاجة ل ُغفران»‪.‬‬
‫من ُغفران؟! ات�سعت عيناها وهي ترى التوءمني ينظران لها بده�شة ويبدو �أن‬
‫م�سموعا لهما فنظرت لهما للحظات ثم دلفت جمددًا‬ ‫ً‬ ‫هم�سها الأخري قد و�صل‬
‫للحمام حتت �أنظارهما املُنده�شة و�آدم يهم�س لأحمد‪« :‬اخرج م�ضرب التن�س من‬
‫احلقيبة ب�سرعة و�أنا �س�أم�سك بع�صا الكاراتيه»‪.‬‬
‫ف�أجابه �أحمد بارتباك‪« :‬ولكن ملاذا؟!» �أردف �آدم وهو يخرج الع�صا من‬
‫حقيبته‪« :‬تبدو غريبة الهيئة و�أنا بد�أت �أ�شك يف �أنها ل�صة مبا �أنها كانت م�صدومة‬
‫من ر�ؤيتنا وال جتيب عن �أ�سئلتنا‪ ،‬بالإ�ضافة الرتدائها مالب�سي �أنا و�أمري‪ ،‬فهي حتما‬
‫هنا ل�سرقتنا‪ ،‬هيا �أ�سرع قبل �أن تخرج من احلمام ب�سالحها وحينما �أهتف با�سمك‬
‫عال»‪.‬‬‫ناد على �أمي و�أبي ب�صوت ٍ‬
‫‪69‬‬
‫ارتبك �أحمد للحظات ثم �أ�سرع ب�إخراج م�ضرب التن�س اخلا�ص به من احلقيبة‬
‫وم�سكه بقوة وهو يبتلع ريقه ب�صعوبة ويع ّدل من عويناته على وجهه يف حركة ال‬
‫�إرادية منه‪.‬‬
‫خرجت �أمرية من احلمام ويف يديها كرة التن�س لتجدهما �أمامها‪� ،‬أحدهما‬
‫ُم�سك مب�ضرب التن�س بارتعا�ش بينما الآخر ج�سده قد �أخذ وقفة دفاعية ُتدركها‬
‫جيدً ا ويف يديه ع�صا الكاراتيه!‬
‫ارتفع حاجبيها بده�شه وهي تتحدث �أخ ًريا بهدوء‪«:‬ما الذي تفعالنه؟!» هتف‬
‫�آدم بقوة وهو يندفع يف اجتاه �أمرية‪« :‬الآن �أحمد» فلمحت �أمرية �آدم يقرتب منها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عال‪�«:‬أمي �أبي يوجد ل�صة يف‬

‫ري‬
‫ليقاتلها بع�صا الكاراتيه بينما �أحمد يهتف ب�صوت ٍ‬

‫الكت‬
‫املنزل �أبي �أمي»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫اقرتب �آدم ورفع ع�صا الكاراتيه وبد�أ يف الهجوم على �أمرية التي جتنبت �ضربة‬

‫توزيع‬
‫كانت يف طريق وجهها‪ ،‬وبد�أت يف الدفاع عن نف�سها �أمام حركات �آدم غري املُتقنة‪،‬‬
‫ويف حركة واحدة ا�ستطاعت �أن ت�سحب منه ع�صا الكاراتيه‪ ،‬واحلركة التالية كانت‬
‫تثني ذراعه للخلف تدفع بج�سده على الأر�ض وتقبع فوقه بج�سدها متنعه من احلركة‬
‫و�صدرها يعلو ويهبط من حركتها وهي ما زالت على ده�شتها من الأمر كله وتنظر‬
‫أنت جتيدين الكاراتيه»‪.‬‬
‫لآدم الذي يبادلها ال�صدمة ومل ينطق �سوى‪ِ �« :‬‬
‫نظرت له بجمود وهي تتحدث بهدوء بينما �صراخ �أحمد ي�صدح فوقهما‪« :‬هل‬
‫هذا كل ما ا�ستطعت قوله لل�صة ت�سرق بيتك؟!» ‪.‬‬
‫نه�ضت �أمرية من عليه و�أبعدت برجليها ع�صا الكاراتيه عن متناول يد �آدم‬
‫واقرتبت من �أحمد ووقفت �أمامه لتتح ّدث بهدوء‪« :‬توقف»‪ ،‬ابتلع �أحمد �صراخه‬
‫وهو ينظر لها ُمت�سع العينني‪ ،‬وينقل نظراته بينها وبني �أخيه القابع على الأر�ض‬
‫ويحاول النهو�ض ُمت�أوها‪ ،‬وحلظات وملحت والدتها ت�أتي ُم�سرعة من املمر ويف بدايته‬
‫ملحت �آ�سر يقف برت ّقب قل ًقا‪ .‬هتفت جميلة‪« :‬ما الذي‪� ...‬أحمد‪� ،‬آدم ماذا تفعالن‬
‫هنا؟!» ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫نه�ض �آدم من على الأر�ض وهو ينقل نظراته بني والدته وتلك الفتاة لريدف‪:‬‬
‫«�أمي يجب �أن ت�س�أليها هي هذا ال�س�ؤال؟!»‬
‫ارتبك �أحمد وهو ينظر لأمرية التي �أخف�ضت نظراتها للأر�ض وهو ي�شعر �أنه‬
‫و�أخاه الغبي قد ت�س ّرعا‪�« :‬آدم يبدو �أنها �ضيفة ولي�ست ل�صة»‪.‬‬
‫�أغم�ضت جميلة عينيها وتنهدت بهدوء ثم حتركت جتاه �أمرية وابت�سمت لها‬
‫منك عزيزتي‪ ،‬مل �أعلم بعودتهما»‪ ،‬التفتت جميلة لهما وهو حتت�ضن‬
‫بهدوء‪«:‬اعتذر ِ‬
‫�أمرية بذراعها‪�« :‬أحمد و�آدم حممد الأ�سيوطي‪ ..‬هل هناك تف�سري لكل تلك ال�ضجة‬
‫التي قمتما بها؟!» ‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫«�أمي لقد»‪«:..‬ظننتها ل�صة»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫حتدثا بنف�س الوقت فنظرت لهما بحنان وهي تزيد يف احت�ضان �أمرية‪�« :‬أحمد‪..‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�آدم هذه هي ليلى‪� ..‬أختكما التي حدثتكما عنها �أمرية»‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ات�سعت عني �أحمد بده�شة حتت عويناته وهو يهتف‪« :‬ماذا؟!» بينما ارتفع‬
‫حاجب �آدم بانبهار‪« :‬يا اهلل‪� ..‬أخ ًريا لدي �أخت وجتيد الكاراتيه»‪.‬‬
‫�ضحكت جميلة وعيونها متتلئ جمددا بالدموع‪ ،‬وهي ترى ردات فعل طفليها‪،‬‬
‫بينما اقرتب �أحمد بهدوء من والدته حينما ملح دموعه‪�« :‬أمي‪ ..‬ال ِ‬
‫تبك‪� ..‬أنا ال‬
‫لدعائك �أمي»‪ ،‬كتمت‬
‫ِ‬ ‫أنت �سعيدة الآن‪ ،‬اهلل ا�ستجاب‬
‫�أعلم ماذا حدث ولكن حتما � ِ‬
‫جميلة �شهقتها ودموعها تنهمر وهي ت�ست�سلم حل�ضن طفلها ال�صغري الذي احت�ضنها‬
‫بحنان جنح يف �إثارة ارتباك �أمرية للحظات وهي تري تلك امل�شاعر الغريبة �أمامها‪،‬‬
‫مل ت�شعر ب�آدم الذي مر بجوارها وانخف�ض للأر�ض يلتقط ع�صاه ثم عاد جمددًا‬
‫لها وحتدث بفظاظته املُعتادة‪�« :‬س�أقبل ِ‬
‫بك �أختي �إن عل ّم ِتني كل ما تعرفينه عن‬
‫الكاراتيه»‪.‬‬
‫ارتفع حاجب �أمرية بربود وهي تنظر له من دون قول كلمة‪ ،‬بينما ابتعدت جميلة‬
‫عن �أح�ضان ابنها ال�صغري وهي ترفع يديها لت�ضرب بها ر�أ�س توءمه ال�شقي وتهتف‪:‬‬
‫«ت�أدب �آدم‪ ..‬ليلى �أختك الكبرية»‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫ارتبك �أحمد يف مكانه ورفع يديه ل ُيع ّدل عويناته وهو يتح ّدث بهدوء‪�«:‬أعتذر‬
‫منك عما بدر م ّنا‪� ،‬أخي غبي قليال»‪ ،‬وابت�سم لها بحب و�أكمل‪« :‬حمدً ا هلل على‬
‫ِ‬
‫ا�سمك ليلى �أم �أمرية؟!»‪.‬‬
‫عودتك لنا �أختي» بينما �س�ألها �آدم با�ستغراب‪�« :‬إذا هل ِ‬
‫ِ‬
‫�أخف�ضت �أمرية نظراتها عنهما وحتدثت بهدوء‪�« :‬أنا ليلى» فتابع �آدم �س�ؤاله‪:‬‬
‫لك بدال من �أمرية؟!» مل جتبه �أمرية ب�شيء بينما �س�ألها‬ ‫«�أهو ا�سم تدليل ِ‬
‫كنت كل هذه ال�سنوات؟!» ‪.‬‬
‫�أحمد‪«:‬ماذا حدث؟! �أين ِ‬
‫جتمدت مالمح �أمرية ومل ترفع عينيها عن الأر�ض‪ ،‬فو�صل لأ�سماعها �صوت �آ�سر‬
‫احلنون احلازم‪« :‬ح�س ًنا �أيها ال�شباب لنرتك �أمرية ترتاح قليال‪ ،‬فلقد كان ً‬
‫يوما‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫طويل و�أنتما ا�ستعجلتما اللقاء بها‪ ،‬ولكن ما حدث قد حدث‪ ،‬هيا لندعها تنعم‬‫ً‬

‫الكت‬
‫ببع�ض الهدوء قليال بعد هذا الطوفان الذي مرت به»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫رفعت �أمرية عينيها لآ�سر وهي تلمح معنى �آخر خلف كالمه‪ ،‬وبالفعل وجدته‬

‫توزيع‬
‫ينظر لها بتم ّعن يراقب مالمح وجهها وكل ما ي�صدر منها‪ ،‬ف�أبعدت عينيها عنه‬
‫لتلمح والدتها ت�أتي �إليها تق ّبل وجنتيها‪�« :‬س� ِ‬
‫أتركك الآن لرتتاحي ووقت الغداء �س�آتي‬
‫إليك‪ ..‬هل ترغبني يف تناول �شيء ُمدد؟»‪.‬‬ ‫� ِ‬
‫هزت �أمرية ر�أ�سها بال‪ ،‬وهي ت�ستقبل قبالت والدتها احلنونة التي تدغدغ‬
‫م�شاعرها‪ ،‬وحلظات وملحت خروجهم من ال�شقة‪ ،‬فنظرت من ال�شرفة لتجد �أحمد‬
‫يحت�ضن والدته بحنان بينما يتق ّدمهما �آدم الذي يخرب �آ�سر ما حدث ويهتف بانبهار‬
‫عن قدرات �أمرية يف الكاراتيه من خالل حركاتها التي واجهته بها‪.‬‬
‫عادت لل�سرير وارمتت بكامل ج�سدها عليه حتاول �أن ُت ّ‬
‫نظم كل الأفكار بعقلها‬
‫ورغبة قوية داخلها �أن تهرب منها بالنوم‪ ،‬نه�ضت من على ال�سرير و�أغلقت باب‬
‫الغرفة باملفتاح‪ ،‬و�أ�سندت خلفه الكر�سي كما اعتادت منذ �صغرها‪ ،‬ثم عادت لل�سرير‬
‫وا�ست�سلمت لرغبتها و�أغم�ضت عينيها‪ ،‬و�آخر ما جال بخاطرها نظرة الده�شة التي‬
‫ملحتها يف عني والدتها عندما رف�ضت منامتها وطلبت منها قمي�صا و�سرواال رجاليا‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫‪72‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫غرفة اال�ستجواب‬
‫�سرعا و�أخذ يهزها وهو ينادي ا�سمها‪« :‬زمرد �أجيبيني»‪ ،‬وعندما‬
‫اقرتب منها ُم ً‬
‫ملح عدم ا�ستجابتها حملها للخارج‪ ،‬قابله فتحي الذي كان يقف �أمام مكتبه وقد‬
‫ارتعب من ال�صراخ الذي بالداخل وعندما ملحه يخرج حامال رحمة جت ّمد مكانه‬
‫للحظات حتى تبعه وهو ي�س�أله عما حدث فلم يجبه �سوى ب�أنها يف حاجة للذهاب‬
‫للم�شفى حاال‪.‬‬
‫‪M‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫امل�شفى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كان يقف جامدً ا �أمام باب الغرفة يف امل�شفى ال يقوى على الدخول‪� ،‬ساعة مرت‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وقلبه يكاد �أن يتوقف‪ ،‬ارتفع �ضغط دمه ف�سارع فتحي يف طلب الطبيب ليك�شف عليه‬

‫ع‬
‫ويعطيه دواء �سري ًعا ويخربه ب�ضرورة االنتباه ل�صحته‪ ،‬ابت�سم ب�سخرية‪� ،‬أي �صحة‬
‫و�أي اهتمام هو ي�شعر ب�أنه ميوت بالبطء‪ ،‬منذ �أن خرج الطبيب من غرفة العمليات‬
‫ليخربه �أن زوجته فقدت جنينها‪ ،‬زوجته! �شعر ب�أمل يجتاحه وهو يعلم �أن الطبيب ال‬
‫يعلم �أنه لي�ست زوجته و�أن جنينها مل يكن‪...‬‬
‫�ضرب احلائط خلفه بقب�ضته وهو يحاول التنفي�س عن الغ�ضب املُ�شتعل بداخله‪،‬‬
‫رفع ر�أ�سه على �أ�صوات يف نهاية املمر ليتج ّمد مكانه وهو يرى زوجة عمه قادمة مع‬
‫ابنتها رحاب بوجهها ال�شاحب والدموع تغرق وجهها‪ ،‬ملحته زوجة عمه فاقرتبت منه‬
‫ُم�سرعة وهي تكاد ترك�ض رغم ج�سدها املمتلئ وحجابها الذي مل تربطه بحر�ص‬
‫قد ت�ساقطت منها على كتفها‪ ،‬و�صلت �إليه وهي تلهث ومت�سك ذراعيه وتهتف بني‬
‫بكائها‪.‬‬
‫مفيدة (والدة زمرد)‪« :‬يامن �أخربين يا حبيب �أمك‪� ،‬أخربين �أن ما �سمعناه يف‬
‫التلفاز �صحيح‪ ،‬هل عادت ابنتي؟! هل هي ح ًقا؟!»‬

‫‪73‬‬
‫رق قلبه لهيئة زوجة عمه احلنون‪ ،‬الوحيدة التي �ساحمته على ما اقرتفه منذ‬
‫�سنوات‪ ،‬الوحيدة من عائلة زمرد التي مل تبعده عنها‪ ،‬رفع يديه املُرتع�شة وم�سك‬
‫حجابها لي�ضعه على ر�أ�سها بحنان وهو يحاول جاهدً ا جلب ابت�سامة لوجهه‬
‫ليطمئنها‪�«:‬إنها هي يا عمتي‪� ،‬إنها زمرد»‪.‬‬
‫�شهقت رحاب ب�صدمة وارمتت مفيدة يف �أح�ضان يامن وهي تبكي وتهتف بني‬
‫ن�شيج بكائها‪« :‬خذين �إليها يا بني خذين �إليها يا غايل �أريد ر�ؤيتها و�أقر عيني‬
‫بها»‪.‬‬
‫ربت يامن على ظهرها وهو يتحدث ب�صوت يحاول جاهدً ا جعله هاد ًئا‪« :‬اهدئي‬

‫ع‬
‫يا حبيبتي �سوف ترينها‪ ،‬تعايل معي»‪ ،‬م�سك يديها وجذبها بحنان بينما هي ُتع ّدل‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫حجابها وخلفها رحاب ال�شاحبة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫كانت جتل�س على ال�سرير بهدوء وك�أنها فقدت ال�شعور ب�أب�سط الأ�شياء‪ ،‬رفعت‬

‫توزيع‬
‫ك ًفا ُمرجت ًفا تتل ّم�س بطنها وحلظات وارتع�شت �شفتها لتدخل يف نوبة بكاء جديدة‬
‫وهي تهم�س‪«:‬لقد رحلت يا �صغري‪ ،‬لقد ر�أف اهلل بك‪ ،‬لقد رحلت»‪� ،‬أخذ ج�سدها‬
‫يهتز بقوة بكائها‪ ،‬وحلظات وارتفعت يداها تكتم �شهقاتها يف نف�س الوقت الذي‬
‫�سمعت فيه طر ًقا على الباب و�أحدهم يدلف‪.‬‬
‫جتمد كل �شيء حولها وهي تراه �أمامها‪ ،‬يا �إلهي تريد �أن متوت كل حلظة ينظر‬
‫�إليها‪ ،‬ات�سعت عيناها ب�صدمة وهي تراه يدلف وخلفه امر�أة طاملا زارتها يف �أحالمها‬
‫وهي حتت�ضنها‪ ،‬امر�أة مل تتغري مالحمها �سوى التجاعيد التي ر�سمت حز ًنا دفي ًنا‬
‫عليها‪.‬‬
‫كتمت �شهقة خرجت من فمها بيديها بينما �ستار من الدموع قد غ�شي عينيها‬
‫لتهم�س ب�صوت و�صل ل�صاحبته‪�« :‬أمي!»‪.‬‬
‫�أكان نداء عدم ت�صديق �أم نداء ا�ستغاثة ال تعلم‪ ،‬كل ما تعرفه �أن الأمر �أخذ‬
‫منها حلظة �أو حلظتني حتى ا�ستطاعت �أخ ًريا التن ّف�س لتقرتب منها ُم�سرعة وهي‬
‫ت�ضم ج�سد ابنتها‪ ،‬تقب�ض على ذراعيها بقوة وتن�شج بالبكاء وتهتف بني قبالتها التي‬
‫متطر بها وجه زمرد‪�« :‬صغريتي‪ ،‬ابنتي حبيبة قلبي‪ ،‬يا اهلل قلبي يكاد �أن يخرج من‬
‫‪74‬‬
‫أمك‪ ،‬يا غالية القلب‪ ،‬يا عقلي يا روحي‬
‫أنت معي يا زمرد‪ ،‬حبيبة � ِ‬
‫أنت هنا‪ِ � ،‬‬
‫مكانه‪ِ � ،‬‬
‫ؤياك قبل �أن �أموت»‪.‬‬
‫مل يحرمني اهلل من ر� ِ‬
‫حلظات وهي ُمتج ّمدة يف �أح�ضان �أمها تتقبل منها ُقبالتها حتى مل ت�ستطع‬
‫ال�صمود �أمام كلماتها‪ ،‬لت�ضم والدتها لها بقوة وهي تهتف بني دموعها‪�«:‬أمي يا‬
‫إليك‪ ،‬كم حلمت ب�أن �أكون يف �أح�ضانك‪� ،‬آه �أمي لقد ُمت من‬
‫�إلهي �أمي �آه كم ا�شتقت � ِ‬
‫منك يا �أمي»‪.‬‬
‫دونك لقد خطفوين ِ‬ ‫ِ‬
‫مل ي�ستطع النظر �إليها وهي �أمامه يف �أح�ضان والدتها بهذه اله�شا�شة‪ ،‬بينما‬
‫رحاب بجانبه تن�شج يف بكاء �صامت وال ت�صدق �أن �أختها الكبرية التي طاملا ح ّدثتها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عنها والدتها قد عادت ً‬
‫فعل‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫مل تعلم كم مر الوقت عليها وهي يف �أح�ضان والدتها‪ ،‬يا �إلهي اجلملة نف�سها مل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يوما‪� ،‬شعرت مب�شاعر ن�سيت مذاقها طوال‬ ‫تتذ ّوق معناها من قبل ف�سمرية مل تفعلها ً‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫تلك ال�سنوات‪.‬‬
‫ابتعدت مفيدة عن زمرد وهي مت�سح دموعها وتتحدث ب�سعادة وا�ضحة يف نربة‬
‫والدك على قيد احلياة‬
‫أمك‪ ..‬يا ليت ِ‬‫�صوتها‪« :‬اليوم فقط ُردت يل روحي يا حبيبة � ِ‬
‫دوما»‪.‬‬
‫بك كما متنى ً‬‫فيقر عيناه ِ‬
‫�أجه�شت مفيدة بالبكاء جمددًا وهي حتت�ضنها بقوة بينما �شعرت زمرد ب�أمل‬
‫يعت�صر قلبها‪ ،‬لقد حرموا والدها من ر�ؤيتها قبل وفاته‪ ،‬لقد حرموها من التن ّعم‬
‫يف �أح�ضانه‪ ،‬هي مل تره منذ �سنوات ولكن �شعور اليتم الذي اجتاح قلبها و�أمل‬
‫روحها جعلها ت�شعر ك�أن الع�شر �سنوات التي م�ضتها معه كان عمرها كله وك�أنها‬
‫مل تع�ش بعده‪ .‬اقرتب يامن وهو ي�شعر بانهيار زمرد‪ ،‬وربت بيديه على كتف زوجة‬
‫كفاك بكاء‪ ،‬هيا �ألن تع ّريف زمرد على رحاب �أختها؟»‪.‬‬
‫عمه‪«:‬يكفي هذا عمتي‪ِ ،‬‬
‫ابتعدت مفيدة عن �أح�ضان ابنتها التي تنقل نظراتها بني والدتها وتلك الفتاة‬
‫اجلميلة ال�شاحبة الوجه بجوار يامن وتبكي يف �صمت‪ ،‬خرجت من �أفكارها على‬
‫�صوت والدتها ال�ضاحك بني دموعها‪« :‬اعذرين يا بني لقد مرت �سنوات كثرية‪،‬‬
‫‪75‬‬
‫أختك‬
‫مل �أ�شبع منها بعد‪ ،‬ال �أذاقك اهلل �إح�سا�س الفقد �أبدً ا‪ ،‬حبيبتي هذه رحاب � ِ‬
‫ال�صغرية رحاب هذه هي �أختك الكبرية زمرد»‪.‬‬
‫مدت مفيدة يديها لرحاب اجلامدة مكانها ودموعها تنهمر ب�صمت فاقرتبت‬
‫رحاب وهي ترفع عينيها لأختها تت�أملها ب�سكون‪ ،‬ال تعلم ملا ت�شعر ب�أنها بعيدة‪ ،‬بعيدة‬
‫ب�أميال عنها رغم �أنها جال�سة �أمامها‪.‬‬
‫كانت زمرد تت�أملها بحب خال�ص وهي ال ت�صدق �أنها لها �أخت‪� ،‬أخت حقيقية‪،‬‬
‫يا �إلهي لقد حرموها من الكثري لقد حرموها من كل ما هو جميل‪ ،‬كم تبدو �أختها‬
‫جميلة‪ ،‬هادئة‪ ،‬نقية‪ ..‬نقية وطاهرة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عند هذه اللحظة كانت رحاب قد وقفت �أمامها مت�سك بيد والدتها‪ ،‬فتج ّمدت‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫مكانها وهي تلمح �أختها جته�ش بالبكاء بقوة وتبعد وجهها عنها وتدير ظهرها لهم‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫وتتكوم بج�سدها على ال�سرير بينما ات�سعت عيناها يف �صدمة وهي ت�سمع كلماتها‪:‬‬

‫توزيع‬
‫أنت طاهرة ونقية‪ ،‬وجودي �سوف‬ ‫لك � ِ‬ ‫« ِ‬
‫ابق بعيدة عني �أنا ال �أ�ستطيع �أن �أكون �أختًا ِ‬
‫طهارتك‪� ،‬أنا‪»...‬‬
‫ِ‬ ‫ُيل ّوث‬
‫تعالت �شهقات زمرد بقوة بينما والدتها تنظر ب�صدمة لها والبنتها الأخرى‪ ،‬ثم‬
‫نقلت �أنظارها ليامن اجلامد املالمح لتقول بارتباك‪«:‬يامن ما الذي‪ »...‬قاطعها‬
‫أنت تعلمني �أنها ما زالت‬ ‫يامن وهو يتحدث بهدوء‪« :‬لندعها ترتاح عمتي ً‬
‫قليل ف� ِ‬
‫حتت ال�صدمة وحالتها اجل�سدية ال ت�ساعدها على التعايف ب�سرعة»‪.‬‬
‫اقرتب بهدوء من رحاب اجلامدة مكانها تنظر لأختها ب�صدمة وهم�س لها‬
‫بهدوء‪« :‬رحاب دعيها ترتاح قليال‪ ،‬هي مل تق�صد ما قالته‪ ..‬فقط‪ »...‬قاطعته‬
‫رحاب بهدوء بعد �أن ا�ستعادت تركيزها وهي ت�سند والدتها لتنه�ض من على ال�سرير‪:‬‬
‫«هيا �أمي هي يف حاجة للراحة‪� ،‬سننتظر باخلارج»‪.‬‬
‫نظرت مفيدة البنتها نظرات قلق وخوف وحزن على حالتها فنه�ضت مع رحاب‬
‫ب�صمت والقلق ينه�ش قلبها‪ ،‬تبعهما يامن بعد �أن �ألقى نظرة على ج�سد زمرد املُهتز‬
‫من بكائها ال�صامت ل ُيحادث رحاب‪« :‬ال تنزعجي رحاب �إنها يف حالة �صدمة وعدم‬
‫ا�ستيعاب لكل ما مرت به»‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫�أجابته رحاب بهدوء يناق�ض �شحوب وجهها‪�« :‬أنا �أتف ّهم ذلك‪ ،‬ولكن هي يف‬
‫حاجة لطبيب نف�سي فيبدو عليها االنهيار»‪� .‬أجابها ب�شرود‪�« :‬أنا �س�أتك ّفل بهذا‬
‫املو�ضوع» قاطعته مفيدة بلهفة �أم‪« :‬متى �ستخرج يا بني؟! متى �ستعود لبيتها؟!» ‪.‬‬
‫�أخف�ض يامن نظراته عن زوجة عمه‪ ،‬وقد �شعر ب�أنه حان الوقت ليخربها‬
‫حقيقة الو�ضع‪� ،‬أخربها عن اجلرمية التي متت واتهام زمرد بالقتل ولكن مل ي�ستطع‬
‫مواجهتها بحقيقة فقدان ابنتها ل�شرفها و�إجها�ضها جنينها‪ ،‬فهو يعلم �أن �صدمة‬
‫الأمر الأول كبرية عليها‪ ،‬وبالفعل بعد �أن �أنهى كالمه ملح تر ّنح زوجة عمه يف مكانها‬
‫�سرعا وهي تتحدث من دون وعي ‪« ::‬قتل! يا �إلهي �صغريتي قتلت‬ ‫ف�أ�سندها ُم ً‬
‫�شخ�صا» �أجاب يامن بتعب وهو ي�شعر بذلك ال�شعور اجلاثم فوق قلبه‪« :‬عمتي‬ ‫ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أرجوك‪ ،‬لقد كانت‪ ...‬لقد ا�ستحق ما ناله يا عمتي‪ ،‬ال تقلقي �س�أتابع الق�ضية‬
‫اهدئي � ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أح�ضانك للأبد‪ ،‬فور �أن ُنق ّدم الأدلة �ستعود‬

‫بل‬
‫ِ‬ ‫جيدً ا و�ستخرج منها على خري لتبقى يف �‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫للبيت على الفور»‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫مل ي�ستطع �أن يخربها �أنها كانت تدافع عن نف�سها‪ ،‬هي مل تدافع‪ ،‬هي فقط كانت‬
‫تنتقم‪ ،‬كانت تقتل �سبب عارها‪.‬‬
‫حتدثت رحاب بعد �أن فاقت من �صدمتها‪« :‬ما الذي ق�صدته بالداخل بقولها‬
‫�إنها �ستل ّوثني؟!»‬
‫نقل �أنظاره بينها وبني زوجة عمه ال�شاردة وحمد اهلل داخله �أنها مل ت�سمع �س�ؤال‬
‫ابنتها فنظر برجاء لرحاب لع ّلها تتف ّهمه‪« :‬لي�س الآن رحاب � ِ‬
‫أرجوك لي�س الآن‪ ،‬هيا‬
‫أو�صلك مع عمتي للمنزل ثم �س�أعود �إليها‪ ،‬عمتي يجب �أن ترتاح قليال»‪.‬‬
‫�س� ِ‬
‫هزت رحاب ر�أ�سها بتف ّهم وهي ت�شعر �أن يامن يخفي عليها �شيئا ولكنها �ستعلم‬
‫يف النهاية لكن لي�س الآن‪.‬‬
‫�ش ّدد على الع�سكري املُقيم �أمام الباب الذي جاء ب�أمر من النيابة �أال ي�سمح‬
‫لأحد بالدخول �أو باخلروج �إال بعد الت�أكد من هوية الأطباء واملمر�ضني وقت دخولهم‬
‫لغرفتها ثم ذهب ليو�صلهم حتى يعود لزمردته‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫بعد �ساعتني‬
‫�شعرت ب�أن �سيارة كبرية قد اخرتقت ج�سدها‪ ،‬فتحت عينيها ببطء وهي تت�أوه من‬
‫الأمل‪ ،‬رم�شت �أكرث من مرة وهي حتاول �أن تتذ ّكر �أين هي حتى داهمتها �آخر ذكرى‬
‫وهي تغم�ض عينيها وتهرب من واقعها بالنوم‪ .‬و�صل لأ�سماعها �صوت هادئ‪�«:‬أخ ًريا‬
‫ا�ستيقظت»‪.‬‬
‫ِ‬
‫�أدارت ر�أ�سها ُمفلة على �صوت يامن الهادئ‪ ،‬فلمحته يجل�س على الكر�سي‬
‫بجوار �سريرها وربطة عنقه حملولة‪ ،‬يبدو على وجهه الإرهاق‪� ،‬أخذت تت�أمل وجه‬
‫القريب منها لتقارنه بذلك الفتى ال�صغري من �أحالمها‪ ،‬لقد نبتت حليته قليال مما‬

‫ع‬
‫زاد من جاذبيته‪ ،‬وملعة عينيه الع�سليتني كما كانت وهو �شاب �صغري ي�شوبها احلزن‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫انتهيت من‬
‫ِ‬ ‫وملحة �آخر مل تفهم مغزاها‪ .‬خرجت من �شرودها على حديثه‪« :‬هل‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫التم ّعن يف مالحمي؟!»‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫توزيع‬
‫�أخرجها من �شرودها �س�ؤاله ف�أبعدت عينيها وتنحنحت بخفوت وهي ت�شعر ب�أن‬
‫دماء ج�سدها قد ُ�ض ّخت يف وجهها فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تبحث يف الغرفة‬
‫عن �أي �أثر لوالدتها �أو �أختها فلم جتد ليجيب ت�سا�ؤلها‪« :‬لقد رحال‪ ،‬يجب عليهما �أن‬
‫عنك تلك الفرتة»‪.‬‬ ‫يبتعدا ِ‬
‫�أعادت نظراتها املُت�أملة له وهي تهم�س بخفوت‪« :‬يجب �أن يبتعدا عني العمر‬
‫كله»‪.‬‬
‫لعن غباءه الذي جعله يقول جملته التي ال يعلم كيف خرجت من فمه وهو يت�أمل‬
‫خجلها الذي طبع �أثره على وجهها احلبيب فقرر �أن يخرج من م�شاعره ب�أغبى‬
‫دوما‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات بينهما قرر قطعه هو بهدوء‪«:‬لقد ِ‬
‫فقدت‬ ‫طريقة يتبعها ً‬
‫اجلنني»‪.‬‬
‫ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله‪ ،‬و�إن كان يظن �أن جملته �ستجعلها تعطف عليه بنظراتها‬
‫فقد �أخط�أت‪ ،‬هزت ر�أ�سها بهدوء ومل ت�ستطع �أن تنظر لعينيه‪ ،‬لرتى فداحة ذنبها‪،‬‬
‫لرتى �شرفها الذي �أهدرته‪ ،‬لرتى قذارة ممدوح على ج�سدها‪� .‬س�ألها بغمو�ض‪« :‬هل‬
‫أنك حامل؟!» ‪.‬‬‫كنت على علم ب� ِ‬
‫ِ‬
‫‪78‬‬
‫هزت ر�أ�سها بالنفي وهي ت�ضم �شفتيها لتمنع ارتعا�شهما نتيجة ن�شيجها‬
‫ال�صامت‪ ،‬ابتلع ريقه ب�صعوبة وهو يحاول جاهدً ا التما�سك �أمام هيئتها اله�شة‪،‬‬
‫غ�ضبه غري املفهوم منها �أ�ضعاف ر�أفته بها‪ ،‬ولكنه يحاول جاهدً ا ال�سيطرة عليه‪.‬‬
‫عليك‪� ،‬سيتوىل املحامي‬ ‫حت ّدث ب�صوت مكتوم‪ِ « :‬‬
‫عليك �أن تنفي ما قل ِته وقت القب�ض ِ‬
‫أنك قتل ِته من دون‬
‫معك‪ ،‬ولكن يجب �أن تتوقفي عن الهتاف يف كل وقت ب� ِ‬‫كل الأمور ِ‬
‫تردد»‪.‬‬
‫بتيه‪« :‬ولكن �أنا فعلت» �أجابها‪« :‬مل‬
‫رفعت عينيها الدامعتني له وهي تتح ّدث ٍ‬
‫وعيك»‪� ،‬شعرت بغ�ضب غريب داخلها فهتفت‪�« :‬إن كنت بوعيي وقتها‬ ‫تكوين يف ِ‬
‫�س�أفعلها من دون تردد»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫طالت النظرات بينهما‪ ،‬قرر يامن قطعها وهو يتنهد بتعب فلمحته زمرد وهو‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مييل بج�سده للأمام ي�ستند بذراعيه على �ساقيه وي�ضع وجهه بني كفيه ويتح ّدث‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ب�إرهاق‪�« :‬أنا هنا ل‬

‫والتوزي‬
‫أنت تواجهني ق�ضية قتل احلكم فيها �سيكون‬ ‫أ�ساعدك زمرد‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬

‫ع‬
‫�صديقتك و�ضعكما لي�س ُمت�ساو ًيا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أنت ُ‬
‫وغفران‬ ‫م�ؤكدً ا‪ ،‬خا�صة �أمام كل ما تقولينه‪ِ � ،‬‬
‫قتلت من �أجل‪ »...‬قاطعته وهي‬ ‫أنت ِ‬‫دفاعا عن النف�س حتت �شهود‪� ،‬إمنا � ِ‬ ‫هي قتلت ً‬
‫تهتف بغ�ضب‪« :‬من �أجل الدفاع عن �سنني من العذاب‪ ،‬عن ج�سدي الذي انتهكه‪،‬‬
‫يل ك�أنني فرطت فيه برغبتي»‪.‬‬ ‫عن �شريف املهدور الذي يجعلك تنظر �إ ّ‬
‫نه�ض يامن بغ�ضب وهو ي�شعر بفقدان ال�سيطرة �أمام جملتها الأخرية فهتف من‬
‫أنت‬
‫�شرفك مل ُيهدر‪ِ � ،‬‬
‫ِ‬ ‫كنت ع�شيقة له لذا‬ ‫دون وعي‪�« :‬أولي�ست هذه احلقيقة؟! � ِ‬
‫أنت ِ‬
‫وعيك قتل ِته من �أجل االنتقام فقط الذي ال �أفهم �أ�سبابه‪ ..‬يا‬
‫وغبائك وقلة ِ‬
‫ِ‬ ‫بتهورك‬
‫ِ‬
‫أنت نا�ضجة‬‫أنت نا�ضجة مبا يكفي لتعلمي امل�شاعر احلقيقية من اخلادعة‪ِ � ،‬‬ ‫�إلهي � ِ‬
‫نف�سك‪ ،‬لتوقفي كل �شخ�ص يحاول‬ ‫�شرفك‪ ،‬لتحافظي على ِ‬ ‫ِ‬ ‫مبا يكفي لتحافظي على‬
‫أنت الوحيدة منهن من كانت ع�شيقة له‪ ..‬فبماذا يوحي ذلك‬ ‫انتهاكك‪ ،‬اللعنة زمرد � ِ‬
‫ِ‬
‫للجميع؟!» ‪.‬‬
‫تن ّف�س بقوة وهو يحاول التح ّكم ب�أع�صابه حتى ال ينق�ض عليها وي�ضربها بقوة‬
‫ثم يحت�ضنها ليحمي تلك الطفلة التي تنظر له من عينيها املُت�سعتني وت�ضم �شفتيها‬
‫املُرتع�شتني من هول ما قاله‪� ،‬أدار وجهه عنها ونظر لل�شرفة �أمامه وهو يتح ّدث‬
‫‪79‬‬
‫بجمود وقلبه يئن وج ًعا ب�سببها وعليها‪« :‬توقفي عن العي�ش مب�شاعر دور ال�ضحية‪،‬‬
‫ل�ست‬
‫أنانيتك والنظر للق�ضية بجدية‪ِ ،‬‬ ‫وتذكري جيدً ا �أنه حان وقت التخ ّلي عن � ِ‬
‫أهلك و�أحبا� ِؤك لهم حق يف �أن يعي�شوا‬
‫حولك � ِ‬
‫وحدك من تعي�شني يف هذا العامل‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أ�صابك ف�ستموت بحزنها‬
‫والدتك �إن علمت ما � ِ‬
‫ِ‬ ‫معك بعد غياب طال ل�سنوات‪،‬‬‫�أيامهم ِ‬
‫�أنا مل ا�ستطع �إخبارها �سوى بق�ضية القتل املُتهمة بها‪ ،‬توقفي عن �إبعاد كل من يحبك‬
‫بت�صرفاتك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫عنك‬
‫ِ‬
‫حترك يامن ليخرج ُمتجاهال النظر �إليها حتى ال ي�ضعف بعد ما قاله‪ ،‬حتى ال‬
‫ينظر لعينيها ويرى اخلذالن بها‪ ،‬حتى ال ترى �أنه على ا�ستعداد �أن يحارب العامل كله‬

‫ع‬
‫فقط من �أجلها دون �أن ترحل عن عينيه للحظة‪ ،‬هو فقط ال يفهم كل تلك امل�شاعر‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫املتناق�ضة داخله‪ .‬وقف �أمام الباب وقبل �أن يخرج حتدث بجمود‪« :‬تعايف ب�سرعة‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قابلتك و�إخبارنا مبا ُيفيد يف الق�ضية»‪.‬‬

‫ن‬
‫حتى ي�ستطيع املحامي ُم ِ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�شعرت ب�أن قلبها ينفطر لن�صفني‪� ،‬أمل غريب يجتاح روحها يجلدها ب�سياطه‪ ،‬هي‬
‫تعي كل كلمة قالها و ُتدرك معناها‪ ،‬هي مل تظن �أنه �س ُيعاملها بق�سوة هكذا‪� ،‬سيلقي‬
‫باللوم عليها دون �أن ي�سمع ما ا�ضطرت لفعله‪� ،‬أن تخرج هذه الكلمات منه هو‪� ،‬أن‬
‫إيالما لها‪.‬‬
‫يع ّريها �أمام روحها ويلفظها روحه هكذا كان هذا الأكرث � ً‬
‫رفعت كفها وو�ضعته على مكان قلبها لع ّله يهد�أ من �أمله‪ ،‬و�أمل �آخر يع�صف بر�أ�سها‬
‫جعلها تغم�ض عينيها وت�ضم ج�سدها بذراعيها وهي تهم�س بدموع‪« :‬ماذا ِ‬
‫ظننت؟‬
‫خ�سرت كل �شيء الآن زمرد‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬ ‫آالمك؟! لقد‬
‫أوجاعك ويخفف عن � ِ‬‫ِ‬ ‫�أن يربت على �‬
‫خ�سرت كل �شيء»‪.‬‬
‫ِ‬
‫‪M‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫دخل اللواء ح�سني ثروت ليجد ُغفران جتل�س بجمود على �أحد كرا�سي املكتب‪،‬‬
‫حالك ابنتي؟!» رم�شت ُغفران‬
‫اقرتب منها لتجفل على �صوته وهو يقول‪« :‬كيف ِ‬
‫بعينيها و�س�ؤال اللواء �أخرجها من �أفكارها وقلقها ال�شديد على رحمة وليلى‪� ،‬أجابته‬
‫‪80‬‬
‫بهدوء‪« :‬بخري»‪ ،‬جل�س اللواء يف الكر�سي املُقابل لها وهو يتنهد بتعب‪ ،‬نظر ل�شرودها‬
‫و�أعاده لذلك اليوم الذي طالبته مب�ساعدته بعد �أن �أنقذت حياة ابنه‪ ،‬حت ّدث حماوال‬
‫طرد تلك الذكريات من عقله‪« :‬لقد هربت الفتاتان‪� ،‬سنحتاج ِ‬
‫منك تفا�صيل لهما‬
‫من �أجل عملية البحث»‪.‬‬
‫هزت ر�أ�سها بنعم دون قول �شيء لت�س�أله عما ي�شغل عقلها‪«:‬ماذا عن ليلى‬
‫ورحمة؟!»‬
‫�أجابه بهدوء‪�« :‬أمرية وزمرد‪ ،‬من ح�سن حظنا �أننا وجدنا عائلتيهما قبل‬
‫�أن حتدث �أي كوارث �أخرى‪ ،‬عائلة �أمرية كانت تبحث عنها منذ �سنوات‪ ،‬تاركني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫احلم�ض النووي وتفا�صيل يف كل م�شفى وق�سم باملدينة‪ ،‬لقد قابلت عائلتها ولأن ال‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫عالقة لها بق�ضيتكما تركناها ترحل مع عائلتها حتى نعاود التحري معها عن �أحداث‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫املزرعة‪� ،‬أما عن زمرد ف�أحد �أفراد عائلتها وجدها وقابلها‪ ،‬ولكن هي ما زالت معنا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫فق�ضيتها مل تنته»‪.‬‬

‫ع‬
‫حت ّدثت ُغفران بجمود‪«:‬املُق ّدم يامن �ألي�س كذلك؟!» �أكملت وهي تلمح‬
‫ا�ستغرابه ملعرفتها لتجيب ت�سا�ؤله‪« :‬لقد حت ّدث معي‪ ،‬كان يف حاجة ملجموعة من‬
‫التفا�صيل‪ ،‬رمبا مل �أخربه بالكثري ولكن �أخربته مبا يحتاجه على الأقل‪� ،‬أدركت من‬
‫اهتمامه �أنه رجل تثق به»‪.‬‬
‫�أجابها اللواء‪«:‬بالفعل يامن من �أجدر رجالنا هنا‪ ،‬كما �أنه �سيتوىل بنف�سه‬
‫ق�ضية زمرد»‪ ،‬تنهدت ُغفران وهي تقول‪« :‬بعد التحقيق الأويل والأدلة التي �أملكها‬
‫�ست�ستطيع زمرد اخلروج �ألي�س كذلك؟!» ‪.‬‬
‫�أجابه اللواء بغمو�ض‪« :‬نعم بالطبع» زفرت ب�ضيق وهي تقول‪« :‬لقد حدث كل‬
‫�شيء ب�سرعة رهيبة‪ ،‬لقد �أف�سد ُمططه ما خططنا له تلك ال�سنتني»‪� ،‬صمت اللواء‬
‫حمتفظا مبا لديه وهو ي�سمعها تكمل‪« :‬هكذا لن ن�ستطيع �أن ن�صل للزعيم الكبري‪،‬‬
‫ً‬
‫لدي �شعور داخلي �أن الأمر مل ينته بهروب خلود و�سمر‪ ،‬هناك �أمر حدث‪� ،‬أمران يف‬
‫الواقع‪ ،‬الأول هو �أن هناك من �أر�سله ممدوح ملراقبتي ومل يو�صل ملمدوح معلومات‬
‫عن ات�صايل بال�شرطة‪ ،‬ولكن �أنا ربطت الأمر باالحتياطات التي كنت �أتخذها و�أنا‬
‫‪81‬‬
‫�أقابلك بامل�شفى رغم �شكي بالأمر‪ ،‬والأمر الثاين هو كيفية و�صول النقيب �سمري‬
‫ملكان االتفاق مع رجال ال�شرطة‪ ،‬الرجل الذي �أر�سلته ليخربين ب�أمر البيع لأ�شخا�ص‬
‫على احلدود مل يتبعني بعربته‪ ،‬و�أنا علمت باملكان من رجال ال�شيخ عزيز الذين‬
‫راقبوا ممدوح منذ اختفائه يف �إحدى املناطق النائية عن الطريق الرئي�سي»‪.‬‬
‫�أغم�ضت عينيها وهي ت�شعر ك�أنه عقلها �سينفجر من التفكري لت�ضع كفيها على‬
‫قليل ليجيبها اللواء‪ِ �« :‬‬
‫أنت حمقة بالفعل‪ ،‬مل يو�صل‬ ‫ر�أ�سها حتاول �إيقاف الأمل ً‬
‫تعاملك مع ال�شرطة‪ ،‬وذلك لأن هذا‬
‫ِ‬ ‫يراقبك معلومات ملمدوح عن‬
‫ِ‬ ‫الرجل الذي‬
‫الرجل يعمل معنا‪ ،‬وهو �أي�ضا من �أخرب �سمري مبكان االتفاق حتى ي�سرع برجال‬
‫ال�شرطة للمكان»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫فتحت ُغفران عينيها لتنظر ب�صدمة للواء لرتاه يبت�سم لها بهدوء ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وحدك‬
‫ِ‬ ‫أنت هناك‬
‫وحدك غفران‪ ،‬مل �أكن لأ�شعر بالأمان و� ِ‬
‫ِ‬ ‫ل�ست‬
‫أنك ِ‬ ‫أخربتك � ِ‬
‫ِ‬ ‫«�‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�أبدً ا»‪.‬‬
‫نه�ض من مكانه واقرتب من باب داخلي ملكتبه‪ ،‬وفتحه ليخرج منه �آخر �شخ�ص‬
‫توقعت �أن تراه لتنتف�ض من مكانها وهي تنظر �إليه ب�صدمة‪ ،‬بينما قابلها الرجل‬
‫الآخر بهدوء حماوال �إخفاء راحته لر�ؤيتها حية‪.‬‬
‫هم�ست‪« :‬عمران!»‬
‫جذبه اللواء من ذراعه وجل�سا على الأريكة املجاورة للكر�سي الذي كانت جتل�س‬
‫عليه ليبادر اللواء باحلديث‪« :‬نعم غفران‪ ،‬عمران هو رجلنا الذي كان ميدنا ً‬
‫دوما‬
‫باملعلومات‪ ،‬هو عيننا هناك و�سط رجال ممدوح وهو من �أخربنا ب�صفقة زمرد ولو‬
‫مل يحدث ما حدث كان �سي�صله معلومات عن �صفقة �أمرية التي كانت �ستو�صله‬
‫بالزعيم الكبري»‪.‬‬
‫حت ّدث عمران بعد �أن ر�أى �صدمة ُغفران‪« :‬مل ن�ستطع �أن جنازف ببيع رحمة‬
‫مقابل معرفتنا بالزعيم الكبري‪ ،‬يف احلالتني كان يجب �أن ّ‬
‫نتدخل فقط‪�ُ ،‬صدمنا من‬
‫رد فعل رحمة بقتلها ملمدوح»‪.‬‬
‫‪82‬‬
‫هتفت ُغفران بغ�ضب غري ُم�صدقة ما �سمعته‪«:‬هل �أنت حزين على موت‬
‫�سيدك؟! من معرفتي الوثيقة بك �إن مل مينعك �شيء من تنفيذ �أوامره»‪.‬‬
‫�أجابها عمران بهدوء ُمتجاهال غ�ضبها‪«:‬لقد علمت للتو �سبب تنفيذي �أوامره‬
‫ُغفران‪ ،‬وبالطبع �أنا حزين على موته ففي النهاية خ�سرنا الطرف الذي يو�صلنا‬
‫للر�أ�س الكبرية»‪.‬‬
‫يوما ولن �أثق بك �أبد الدهر»‪،‬‬
‫هتفت بغ�ضب‪«:‬اللعنة عليك‪� ،‬أنا مل �أثق بك ً‬
‫وجهت حديثها للواء ح�سني وهي تقول‪«:‬ال ت�ضع ثقتك الكاملة به‪ ،‬فممدوح كان‬ ‫ّ‬
‫ير�سله ليو�صل الب�ضائع ملن دفع املقابل‪� ،‬إن كان رجال من رجالك كما تقول ما �صمت‬

‫ع‬
‫كل تلك ال�سنوات‪ ،‬اللعنة �إنه مع ممدوح منذ �أن كان عمري ‪� 5‬سنوات»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بل‬
‫�ساد ال�صمت يف الغرفة وج�سدها كله ينتف�ض من الغ�ضب وهي ترى عمران‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ينظر �إىل الأر�ض واللواء ينقل �أنظاره بينهما وحني ملح �صمت عمران قرر ترك الأمر‬

‫والتوزي‬
‫له ثم نه�ض من مكانه وهو يقول‪ُ «:‬غفران عمران يريد التح ّدث ِ‬

‫ع‬
‫معك يف �أمر مهم‪،‬‬
‫�أمر �سي�ساعدنا بخ�صو�ص الق�ضية‪� ،‬أمتنى �أن ت�ستمعي �إليه‪� ،‬إن مل تثقي به فثقي بي‬
‫ثقتك �أنا الآخر»‪.‬‬
‫�أما �أنني خ�سرت ِ‬
‫رم�شت ُغفران بعينيها وهي ترى العتاب يف عني اللواء لتزيح عينيها عنه وهي‬
‫تتنف�س بقوة ُماولة ال�سيطرة على غ�ضبها لتجل�س على الكر�سي جمددًا دون التفوه‬
‫ب�شيء‪ ،‬حت ّدث اللواء‪�«:‬س�أترككما قليال فلدي اجتماع مع القادة وجمموعة من‬
‫الأطباء الذين ح�ضروا من �أجل الق�ضية»‪.‬‬
‫طويل حتى قطعه عمران وهو ينه�ض من‬ ‫رحل اللواء و�ساد ال�صمت بالغرفة ً‬
‫مكانه ليجل�س على الكر�سي املُقابل لغفران جاذ ًبا انتباهها له لتنظر له بغ�ضب ازداد‬
‫حالك ُغفران؟!» لتهتف‪«:‬اللعنة عليك‪ ،‬ماذا تظن‬ ‫بعد �أن �سمعت �س�ؤاله‪«:‬كيف ِ‬
‫حايل الآن‪� ،‬أنا غا�ضبة‪ ،‬يف �أ�شد غ�ضبي كيف ب�إمكانك ال�صمت كل تلك ال�سنوات؟!‬
‫كيف مل تقل �شي ًئا و�أنت تعي جيدً ا عالقتي بال�شرطة؟! هل تظن �أنني �أ�شعر باالمتنان‬
‫الآن لأنك يف اجلهة ال�صاحلة؟! �أنت خمطئ �أنا ال �أ�شعر �سوى بالغ�ضب منك؟!»‬

‫‪83‬‬
‫حانت منه ابت�سامة �أجفلتها لت�سمعه يقول بهدوء‪�«:‬أنا مل �أتوقع �أي �أمر‬
‫يوما‪� ،‬س�ؤايل‬ ‫بخ�صو�صك �أبدً ا ُغفران‪ ،‬لطاملا ِ‬
‫كنت لغ ًزا بالن�سبة يل‪ ،‬لغ ًزا مل �أفهمه ً‬ ‫ِ‬
‫لديك‪� ،‬أنا فقط �أردت االطمئنان على‬‫حالتك لي�س لأزيد من م�شاعر الغ�ضب ِ‬ ‫ِ‬ ‫عن‬
‫والدتك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قتلت‬
‫حالك بعد �أن ِ‬‫ِ‬
‫نف�سا ً‬
‫طويل �آمل �صدرها‪،‬‬ ‫جت ّمد الهواء من حولها وهي ت�سمع جملته‪ ،‬لت�أخذ ً‬
‫لرتم�ش بعينيها وت�صمت للحظات وهو يرى بو�ضوح حربها الداخلية‪ ،‬يعلم جيدً ا‬
‫الأمل الذي ت�شعر به‪ ،‬تريد �أن تلهي نف�سها ب�أي م�شاعر �أخرى‪� ،‬أن تغ�ضب وتغ�ضب من‬
‫كل �شيء حولها حتى ال تغ�ضب من نف�سها‪ ،‬وهو ُم�ستعد لأن يتلقى منها �أي م�شاعر‬
‫أي�ضا ُيريدها �أن ُتن ّف�س عما داخلها‪.‬‬
‫�سلبية يف هذه اللحظة‪ ،‬لكنه � ّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫أنت حايل بعد �أن قتلتها؟! هيا �أخربين وا�صدمني‬ ‫�أجابته بجمود‪«:‬ماذا تظن � ِ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مبعرفتك القوية بي التي ت ّدعيها؟!»‬

‫ن‬
‫ِ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫انتقمت من املر�أة التي‬
‫ِ‬ ‫أنك‬ ‫نظر لها بحزن ليقول‪«:‬جزء ِ‬
‫منك ي�شعر بالراحة ل ِ‬
‫بك‪ ،‬المر�أة‬
‫طفولتك وقتلت كل ما هو جميل ِ‬
‫ِ‬ ‫لك‪ ،‬المر�أة �أف�سدت‬
‫يوما ك�أم ِ‬
‫تعاملك ً‬
‫ِ‬ ‫مل‬
‫عنك لوال خمططها»‪ ..‬ملح‬ ‫حولك‪ ،‬المر�أة كادت �أن تتخلى ِ‬‫كانت �سب ًبا لأذية من ِ‬
‫�شحوب وجهها وات�ساع عينيها ليكمل‪«:‬وجزء �آخر حزين لأنك � ِ‬
‫أنت من قتل ِتها ال �أحد‬
‫أردت»‪.‬‬
‫غريك‪ ،‬ت�ستطيعني لومه متى � ِ‬‫�آخر ِ‬
‫ارتع�شت �شفتاها وهي تراه يع ّري روحها لتقول ب�صوت مرتع�ش‪�«:‬أنت ال تعرفني‪،‬‬
‫كالما ال يعني �أي �شيء»‪.‬‬
‫لذا ال ت ُقل ً‬
‫قلت منذ‬ ‫اقرتب عمران منها وهو يقول‪«:‬بلى غفران‪� ،‬أنا � ِ‬
‫أعرفك جيدً ا‪ ،‬فكما ِ‬
‫معك‬
‫طفولتك‪ ،‬ال يفرق بيننا �سوى ثالث ع�شرة �سنة‪ ،‬ع�شت ِ‬
‫ِ‬ ‫أعرفك منذ‬
‫قليل �أنا � ِ‬
‫فرتة حياتي التي جازفت بها من �أجل حماية من �أحب»‪.‬‬
‫رم�شت بعينيها حتاول طرد دموع غبية لي�أتي بعقلها �أمر واحد فقط‪«:‬هل‬
‫تق�صد والدتك؟!» عاد بج�سده للخلف ُم�ستندً ا على كر�سيه ليقول بهدوء‪«:‬حني‬
‫أخربك كل �شيء‪ ،‬والآن دعينا نفكر جيدً ا مبا حدث‪ ،‬ونربط م ًعا‬
‫تكوين ُم�ستعدة �س� ِ‬
‫كل ما جمعناه من معلومات طوال تلك ال�سنوات‪ ،‬دعينا نخرج �أوال زمرد من هنا‬
‫‪84‬‬
‫فهي �ستكون �أكرث �أما ًنا و�سط عائلتها كما هي �أمرية الآن‪ ،‬وبعدها لنحاول الو�صول‬
‫خللود و�سمر‪ ،‬ف�أنا على يقني �أن لديهما خيطا قويا ملا نبحث عنه‪ ،‬خا�صة �سمر‪� ،‬أنا‬
‫بثقتك ُغفران لكن �س�أ�س�ألك امل�ساعدة ُم�ستدع ًيا �أيامنا يف ذلك الكهف‬
‫أطالبك ِ‬
‫لن � ِ‬
‫م�ساعدتك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كو�سيط لنيل‬

‫‪MMM‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪85‬‬
‫و�أنا �أحتاج �أن ُير ّبت كتفي �أي �شيء ولو كان قطرة مطر‬

‫حممد ح�سن علوان‬


‫الف�صل ال�ساد�س‬
‫حربي‬

‫منزل �أمرية‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�شعرت بقرب انهيار طاقتها وهي تلهث من التعب‪ ،‬مل تعد ترى الطريق �أمامها‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫وهي ترك�ض بقوة ثم ازدادت اخلطوات التي ت�سمعها خلفها‪ ،‬ف�أ�صاب قلبها الرعب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫لأول مرة وهي ت�شعر بقرب اخلطوات‪ ،‬ملحت دموعها تت�ساقط بغزارة وهي ما زالت‬

‫توزيع‬
‫على هيئتها ف�سمعت �صوتًا من بعيد يناديها‪�«:‬أمرية‪� ..‬أمرية»‪ ،‬ازداد اختناقها‬
‫وخارت قواها ف�سقطت على الأر�ض وهي ت�صرخ‪«:‬ليلى ا�سمي ليلى»‪.‬‬
‫�شعرت ب�أحدهم مي�سك بذراعها ويجذبها منه فانتف�ضت مكانها‪ ،‬ويف حلظة‬
‫�سحبت �سكينها من جانبها ونه�ضت وهي ت�ضعها على رقبة من مي�سك بها وهي‬
‫ال ت�ستطيع ر�ؤية مالحمه من الظالم‪ ،‬ثم �أخذت تدفعه حتى ارتطم باحلائط‬
‫وال�سكني ما زالت على رقبته‪ ،‬حتى �إنها �أحدثت �ش ًقا مل تلمحه وهي ما زالت على‬
‫�صرختها‪«:‬ا�سمي ليلى‪ ..‬ليلى»‪.‬‬
‫ثم فج�أة �أُ�ضيئت الغرفة ف�أغم�ضت عينيها للحظات وفتحتها جمددًا وهي ت�سمع‬
‫�آ�سر وهو يهتف‪«:‬ماذا يحدث؟»‪ ،‬بينما هي عقدت ما بني حاجبيها وهي تلهث‬
‫ب�صعوبة غري واعية �إن كانت يف حلم �أم واقع‪ ،‬لتدرك �أنها كانت حتلم‪ ،‬فنظرت‬
‫�أمامها للرجل الذي دفعته للحائط و�سكينها على رقبته ومل يكن �سوى ال�سيد حممد‪.‬‬
‫مل تتحرك � ً‬
‫إن�شا‪ ،‬وقد ازداد غ�ضبها‪ ،‬فزادت من �ضغط ال�سكينة على رقبته وهي‬
‫تهتف �أمام وجهه‪«:‬ما الذي تفعله هنا؟!»‬

‫‪88‬‬
‫و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات �أقدام كثرية لت�سمع هتاف �أحدهم‪«:‬ما الذي تفعلينه؟!‬
‫أنت جمنونة؟! اتركي �أبي»‪� ،‬أدارت عينيها لتدرك �أن ال�صوت مل يكن �إال لأمري‪،‬‬
‫هل � ِ‬
‫فازداد غ�ضبها لتهتف‪«:‬لي�س قبل �أن يجيب �س�ؤايل»‪.‬‬
‫ارتع�شت جميلة الواقفة بني �أمري و�آ�سر وخلفها �أحمد و�آدم ي�شاهدان ما يحدث‬
‫ب�صدمة‪ ،‬ازداد غ�ضب �أمري وهو يرى والده ينظر ب�صدمة م�صحوبة ب�أمل لأمرية‪ ،‬ال‬
‫ي�صدق ما تفعله‪ ،‬كاد �أن يقرتب فمنعه �آ�سر وهو يهم�س لوالدته ب�أن تتقدم‪ ،‬حتركت‬
‫جميلة ب�سرعة لتقف بجوار �أمرية التي حتتجز حممد ب�سكني على رقبته‪ ،‬ويدها‬
‫الأخرى تقب�ض على قمي�صه فتح ّدثت بارجتاف‪«:‬ليلى حبيبتي اهدئي ً‬
‫قليل‪� ..‬إنه‬

‫ع‬
‫والدك حممد لن ي�ؤذيك يا �صغريتي فقط اتركي ال�سكني جان ًبا»‪.‬‬

‫ص‬
‫ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫زجمرت �أمرية بغ�ضب وهي ما زالت على و�ضعيتها‪«:‬فليخربين هذا القذر عما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫كان يفعله يف غرفتي»‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�شهقت جميلة وازداد ات�ساع عني حممد غري املُ�صدق ملا يحدث‪ ،‬بينما ارتعب‬
‫ال�صغار من هيئة �أمرية الغا�ضبة‪ ،‬ت�ساقطت دمعة من عني حممد وهو ي�شاهد‬
‫�صغريته بهذه احلالة ف�أجابها وهو ما زال حتت ت�أثري ال�صدمة‪«:‬فقط‪ .‬ا�شتقت‬
‫أ�سبوعا ً‬
‫كامل‬ ‫ؤيتك‪ ،‬لي�س ً‬
‫عدل �أن متكثي هنا � ً‬ ‫ل�صغريتي‪ ،‬جئت لأنني فقط �أردت ر� ِ‬
‫غرفتك‬
‫ِ‬ ‫أراك يا ابنتي‪ ،‬لي�س ً‬
‫عدل بعد كل هذه ال�سنوات‪ ،‬طرقت باب‬ ‫وال جتعليني � ِ‬
‫فلمحتك تعانني‪ ،‬فبدا‬
‫ِ‬ ‫أنك تنازعني فدلفت للغرفة‪،‬‬
‫�صوتك ك� ِ‬
‫ِ‬ ‫ومل جتيبي‪ ،‬ف�سمعت‬
‫ك�أنه كابو�س و�أنا كنت‪»...‬‬
‫ارتع�ش ج�سد �أمرية للحظات وهي تلمح دموعه‪ ،‬فعقدت ما بني حاجبيها بعدم‬
‫ت�صديق فالتفتت جميلة وهي حتاول ال�سيطرة على الو�ضع وهتفت لأمري ب�أن يرحل‬
‫وي�أخذ �إخوته ال�صغار معه‪ ،‬رغم رف�ضه ال�شديد �إال �أنه ا�ستجاب بعد �أن �ألقى نظرة‬
‫غا�ضبة �أخرية على �أمرية‪ ،‬فخرج من الغرفة مع �أخويه و�آ�سر ما زال يف مكانه يحاول‬
‫جاهدً ا درا�سة املوقف وحالة �أخته املُ�ضطربة‪ ،‬حت ّدثت جميلة بهدوء‪«:‬ليلى‪ ..‬اتركي‬
‫ال�سكني حبيبتي هيا �أال تثقني بي؟!» �أجابتها ب�صوت مكتوم‪�«:‬أنا ال �أثق ب�أحد‪..‬‬
‫‪89‬‬
‫زوجك العزيز يدخلها ً‬
‫ليل لي�شاهد‬ ‫�أخرب ِتني �أن هذه ال�شقة ال يدخلها �أحد‪ ،‬وها هو ِ‬
‫الفتاة ال�صغرية يف املنزل وهي نائمة يف غرفتها»‪.‬‬
‫كانت مالمح اال�ستنكار واالحتقار على وجه �أمرية لوالدها مما جعل قلبه يتفتت‬
‫ل�شظايا‪ ،‬ليقول ب�أمل ُمداف ًعا عن نف�سه‪َ «:‬مل ال تقويل �إن زوجها قد جاء لريى �صغريته‬
‫النائمة وي�شبع عينيه بالنظر �إليها لأنها ال ت�سمح له بر�ؤيتها والنزول من م�سكنها‬
‫لتجل�س ولو ل�ساعة بالأ�سفل معه ومع �إخوتها؟! لتتحدث �إليه‪ ،‬لتدعه يتحدث �إليها»‪.‬‬
‫رفع حممد يديه التي ما زالت حتمل قطعة وردية من الثياب‪ ،‬ورفعها �أمام عني‬
‫�أمرية وهي يريها ف�ستا ًنا �صغريا لطفلة‪ ،‬و�أكمل من بني دموعه التي مل ي�ستطع �أن‬

‫ع‬
‫لك منذ ثمانية ع�شر‬ ‫ثيابك الوحيدة التي ا�شرتيتها ِ‬
‫أريك ِ‬ ‫ي�سيطر عليها‪�«:‬أردت �أن � ِ‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫انتظارك كل تلك ال�سنوات‪ ،‬كم حلمت ب�أن �أمل�س‬
‫ِ‬ ‫أخربك كم كنتُ يف‬
‫عاما‪� ،‬أردت �أن � ِ‬
‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بجوارك‬
‫ِ‬ ‫�شعرك بعد �أن ُت�س ّرحها ِ‬
‫لك جميلة‪ ،‬وكم حلمت ب�أن �أنام كل ليلة‬ ‫ِ‬ ‫خ�صالت‬

‫شر وال‬
‫أنت‬
‫عينيك و� ِ‬ ‫لوالدتك‪ ،‬وكم حلمت ب�أن �أرى نظرة احلب يف‬ ‫لك عن ق�صة حبي‬‫�أحكي ِ‬

‫توزيع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫أخربك كم ا�شتقت‬ ‫أناديك ب�أمريتي ال�صغرية‪� ،‬أردت �أن � ِ‬
‫تناديني ب�أبي احلبيب و� ِ‬
‫الحت�ضان ابنتي الوحيدة التي حرمني منها جمرمون قد ح ّولوها لإن�سانة غريبة‬
‫عني‪ ،‬لإن�سانة ال تثق يف عائلتها»‪.‬‬
‫ازداد ن�شيجه وهو يتابع موج ًها حديثه جلميلة‪�«:‬ساحميني جميلة مل �أ�ستطع �أن‬
‫�أ�صرب يا �إلهي �إنها ابنتي‪ ،‬كيف �أمنع نف�سي عن ر�ؤيتها وقد غابت عن عيني كل تلك‬
‫ال�سنوات‪ ،‬مل �أ�ستطع‪� ..‬أق�سم لكم مل �أ�ستطع»‪.‬‬
‫�أخف�ض حممد وجهه واهتز ج�سده ببكائه ال�صامت‪ ،‬بينما �شاركته جميلة البكاء‬
‫وقلبها يت�أمل لر�ؤية حبيبها هكذا‪ ،‬بينما ملعت الدموع يف عني �آ�سر وهو يتف ّهم حالة‬
‫تعر�ضت لأمر مماثل ملا حدث يا‬
‫ِ‬ ‫أي�ضا‪ ،‬وهو يهم�س داخله‪«:‬لقد‬ ‫والده وحالة �أخته � ً‬
‫�أمرية ومل يكن �أم ًرا بري ًئا»‪.‬‬
‫�شعرت �أمرية مب�شاعر غريبة داخل قلبها وهي تلمح بعينيها �صدق كالمه بخربتها‬
‫وعدم ادعائه وهي تهم�س بداخلها‪«:‬هل يعقل؟! هل يوجد مثل هذه امل�شاعر؟! هو مل‬
‫يحمل �أي نوايا �سيئة!»‬
‫‪90‬‬
‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر ب�أن هناك �شيئا غري �صحيح‪ ،‬فانتف�ضت مبتعدة‬
‫عنه ويف يديها �سكينها ما زالت ُم�سكة بها بقوة‪ ،‬فلمحت جميلة وهي تقرتب من‬
‫زوجها وحتت�ضنه بقوة وهي تهم�س له‪�«:‬آ�سفة �ساحمني»‪.‬‬
‫رفعت نظراتها لأ�سر فوجدته ينظر لها بتم ّعن فرم�شت بعينيها وهي تبعدها عن‬
‫عينيه‪ ،‬هي ال ترتاح لنظراته ت�شعر به يفهمها ويفهم ما يدور داخلها‪ ،‬وهي تكره‬
‫هذا‪ ،‬ال تريد �أن يعرفها �أحد �أو يفهمها �أحد‪ ،‬هي ال تريد �أي �شخ�ص بالقرب منها‪.‬‬
‫خرجت من دوامة �أفكارها على �صوت جميلة وهي تقول ملحمد‪«:‬هيا دع �آ�سر‬
‫ُيعالج جرح رقبتك» فنقلت �أمرية نظراتها للدماء التي لونت قمي�صه الأبي�ض‬

‫ع‬
‫وذلك ال�شق الذي يلم�س عظمة الرتقوة فارجتف ج�سدها للحظات ورفعت عينيها له‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫فلمحته ينظر لها بني دموعه ب�أمل ثم نظر للأر�ض وخرج و�أ�سر ي�سنده‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫زفرت جميلة ب�إجهاد وهي ال ت�صدق حتى الآن ما حدث بعد �أن انتف�ضت يف‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫نومتها على �صوت �صراخ �أمرية وهي تهتف ا�سم ليلى‪ ،‬و�شعرت ب�أن الدنيا كلها ت�ضيق‬

‫ع‬
‫بها لتخرج ُم�سرعة لغرفة �أمرية التي جتاور غرفتها لتلمح بعدها �أبناءها ي�صعدون‬
‫الدرج وهم يف حالة �صدمة ل�سماع هذا ال�صراخ الذي ال يتوقف فكان �آ�سر هو الأ�سرع‬
‫يف دخول الغرفة لرتى بعينيها ما حدث‪.‬‬
‫نحت جميع �أفكارها بعيدً ا وهي تتذ ّكر جملة �آ�سر‪�«:‬أمي �أمرية يف حالة‬
‫للم�ساعدة»‪ ،‬نظرت لأمرية التي كانت تراقبها بجمود ومازالت ُم�سكة بال�سكني‬
‫يف يديها فاقرتبت جميلة منها وهي تبت�سم بهدوء وتنقل نظراتها بينها وبني ال�س ّكني‬
‫دوما تعتادين على حملها‬ ‫فرفعت كفيها لتُحيط بوجنتي �أمرية وتتح ّدث بحنان‪«:‬هل ً‬
‫أنت نائمة؟!» مل جتيبها �أمرية للحظات وهي ت�شعر باخلدر من مل�سة كفيها‬ ‫معك و� ِ‬
‫ِ‬
‫لوجنتيها ثم هزت ر�أ�سها بنعم فتبعتها جميلة ب�س�ؤالها‪«:‬هل تخافني من �شيء؟!»‬
‫«�أنا ال �أخاف» �سارعت �أمرية بالرد بقوة فابت�سمت جميلة لها وهي ترى يف‬
‫�أعماق عينيها طفلة �صغرية ترجتف خو ًفا‪� ،‬أبعدت جميلة كفيها عن وجنتي �أمرية‬
‫لت�شعر الأخرية بربودة غريبة ثم �شعرت بكف جميلة مي�سك ذراعها جاذبة �إياها‬
‫ليجل�سا م ًعا على ال�سرير لتقول جميلة ب�شرود‪«:‬هل تعلمني و�أنا يف ِ‬
‫�سنك كنت �أخاف‬
‫‪91‬‬
‫أحتجج ب�أي حجة حتى �أنام مع �أمي‪ ،‬كنت �أ�شعر‬
‫دائ ًما �أن �أنام وحدي بالغرفة‪ ،‬كنت � ّ‬
‫ب�أن �أحدهم �سيدخل غرفتي وي�ؤذيني»‪.‬‬
‫أنت‬ ‫�شعت عني �أمرية حماية لها وهتفت من دون وعي‪«:‬هل � ِ‬
‫أذاك �أحد و� ِ‬
‫�صغرية؟!»‬
‫ابت�سمت جميلة لها وهي ُتر ّبت على وجنتيها‪«:‬ال يا حبيبتي مل ي�ؤذين �أحد �أبدً ا‬
‫على الأقل �أذية ج�سدية ولكن �شهدت �أمام عيني موت والدي ف�أثر بي كث ًريا» حتول‬
‫ج�سد �أمرية للوح جليدي ومل ترم�ش بعينيها ومل تغب حالتها عن جميلة فبادرت‬
‫عينيك؟!»‬
‫ِ‬ ‫�شاهدت موت �أحد �أمام‬
‫ِ‬ ‫ب�س�ؤالها‪«:‬هل‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ت�شجعة‬
‫مل جتبها �أمرية للحظات فقط هزة ر�أ�س خفيفة بنعم ف�أكملت جميلة ُم ّ‬

‫الكت‬
‫أنت �صغرية؟!» �ساد ال�صمت للحظات و�شعرت‬ ‫با�ستجابتها‪«:‬هل � ِ‬

‫ب‬
‫أذاك �أحد و� ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫جميلة ب�أنها لن جتيبها فتفاج�أت بهم�ستها‪«:‬مل ي�ستطع»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫ابتلعت جميلة ريقها بتوتر وهي ت�ست�شعر ب�أن هناك �أم ًرا ما خلف جملتها‪«:‬هل‬
‫أذيتك؟!»‬
‫حاول �أحدهم � ِ‬
‫دوما ب�أال يحاول جمددًا»‪.‬‬
‫ف�أجابتها �أمرية بكر ٍه‪«:‬تركت على ذراعه �أث ًرا ليتذ ّكر ً‬
‫�شعرت جميلة بقلبها يتفتت �أملًا وهي ترى طفلتها تتح ّدث بكر ٍه وا�ضح يف عينيها‬
‫و�أع�صاب يديها ُمنتف�ضة نتيجة �ضغطها على ال�س ّكني بقوة‪ ،‬فلم�ست جميلة كفيها‬
‫ملكك؟!»‬
‫وهي تنظر لل�س ّكني لت�س�ألها‪«:‬هل هذه ِ‬
‫�أبعدت �أمرية نظراتها عن جميلة وهي تنظر لل�س ّكني يف يديها وهم�ست‬
‫�شاردة‪«:‬منذ العام ال�سابع‪� ،‬أعطتني �إياها �أختي‪ ،‬هي �أعطت كل واحدة م ّنا‬
‫�سالحا»‪.‬‬
‫ً‬
‫رتك من التعامل مع‬ ‫كتمت جميلة �شهقتها وهي حتاورها بهدوء‪«:‬هل ح ّذ ِ‬
‫الرجال؟!» �أجابتها ب�صوت مكتوم‪«:‬بل ح ّذرتنا من التعامل مع الأوغاد» ف�س�ألتها‬
‫أمامك جيد ولي�س وغدً ا؟!»‬
‫جميلة‪«:‬وكيف تعرفني �أن الذي � ِ‬

‫‪92‬‬
‫خرجت �أمرية من حالة �شرودها وهي تنظر بقوة جلميلة لتهتف‪«:‬ما الذي‬
‫تريدين �إثباته؟!» �أجابتها جميلة بهدوء‪«:‬حممد لي�س وغدً ا‪ ،‬و� ِ‬
‫إخوتك لي�سوا‬
‫�أوغادًا»‪� ،‬صمتت �أمرية ومل جتبها ب�شيء لتحاول جميلة �إخراجها من حالتها وهي‬
‫تقول ب�ضحكة‪�«:‬أحيا ًنا �أمري ي�صبح م�ستف ًزا ولكننا نحاول معاجلته»‪ ،‬حانت من‬
‫�أمرية ابت�سامة وهي تنظر لها بانبهار ملحته الأخرية لت�س�ألها‪«:‬ملاذا تنظرين يل‬
‫هكذا؟!»‬
‫مثلك �أبدً ا‪،‬‬ ‫فقالت �أمرية ب�شرود‪«:‬رمبا ر�أيت من هن �أجمل ِ‬
‫منك‪ ،‬لكن مل �أر ِ‬
‫�ضحكتك جميلة للغاية والوحيدة التي �أجد نف�سي �أرتاح �إليها رغم حذري ال�شديد‬
‫ِ‬

‫ع‬
‫مع كل من حويل»‪ ،‬ابت�سمت جميلة لها بحنان وهي حتاول طرد دموعها لتقول‪«:‬لقد‬
‫ابت�سامتك من‬
‫ِ‬ ‫جمالك وجمال‬
‫ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تالقت �أرواحنا عند نقطة � ًإذا لأنني مل �أر من يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫قبل»‪ ،‬نظرت �أمرية للأر�ض بحرج وهي تهم�س جلميلة‪«:‬لي�س من املفرت�ض �أن‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫نبت�سم مع الغرباء»‪.‬‬

‫ع‬
‫لك؟!» رفعت �أمرية عينيها لها‬‫�س�ألتها جميلة ب�أمل‪«:‬وهل �أنا غريبة ِ‬
‫أعتربك غريبة ولكن هذا يرف�ض ب�شدة»‪.‬‬
‫و�أردفت‪«:‬يجب �أن � ِ‬
‫و�أتبعت جملتها بالإ�شارة لقلبها فرقت عني جميلة لها ودمعت وهي جتذبها‬
‫لوالدك كما زرع‬
‫ِ‬ ‫حل�ضنها لتهم�س لها بحب‪�«:‬أدعو اهلل �أن يزرع يف ِ‬
‫قلبك احلب‬
‫قلبك يا حبيبتي»‪.‬‬
‫احلب يل يف ِ‬
‫�شعرت جميلة بارجتافة ب�سيطة يف ج�سد �أمرية فهم�ست لها‪ِ �«:‬‬
‫أعطنا فر�صة‬
‫�صغرية يا �صغريتي‪ ،‬فقط فر�صة �صغرية لتتع ّريف علينا و ُت�ص ّدقي م�شاعرنا‪ ،‬و�إن‬
‫منك �شي ًئا �آخر»‪.‬‬
‫خ�سرنا فر�صتنا لن �أطلب ِ‬
‫�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن تهز �أمرية ر�أ�سها ب�إمياءة �صغرية جعلت جميلة‬
‫حتت�ضنها بقوة وهي تهم�س داخلها فرحة‪«:‬احلمد هلل»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫‪93‬‬
‫بعد �أيام مبنزل �أمرية‬
‫«�آ�سر هناك واحدة تريد احلديث مع �أمرية‪ ،‬و�أنا ال �أعرف ماذا �أفعل؟!» رفع‬
‫�آ�سر ر�أ�سه من على الكتاب الذي كان يقر�أ فيه وهو ينظر بده�شة لأحمد‪«:‬ماذا؟!‬
‫من تكون؟!»‬
‫�س�أله �آ�سر وهو ينه�ض من على كر�سيه بغرفته متج ًها مع �أحمد للبوابة و�أحمد‬
‫يجيبه‪«:‬ال �أعرف‪ ،‬ولكن هيئتها توحي باخلطر»‪.‬‬
‫فتح �آ�سر البوابة ليجد �أمامه فتاة تت�شح مالب�سها املُكونة من بلوزة �سروال‬
‫بال�سواد‪ ،‬كانت تدير وجهها عنه فتحدث جاذ ًبا انتباهها‪«:‬مرح ًبا‪ ،‬كيف �أ�ستطيع‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫م�ساعدتك؟!»‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب‬
‫التفتت ُغفران يف هذه اللحظة وهي ت�شعر بال�ضيق داخلها ورجل �أكرب �س ًنا من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫ال�شاب الذي قابلها يحدثها‪ ،‬نظرت له بجمود للحظات وهي تلمح ت�شابه مالحمه‬

‫توزيع‬
‫مع مالمح ال�شاب لتجيبه بهدوء ُماولة ا�ستعادة �أنفا�سها الهاربة وهي تفكر �أن هذا‬
‫الرجل لديه هالة حوله ت�شعرها باالرتباك‪ ،‬با�ستنفار ا�ست�شعارات الإنذار لديها‪�«:‬أنا‬
‫�أريد التحدث مع ليلى‪� ،‬أمرية‪� ،‬أخربها �أن ُغفران تريدها»‪.‬‬
‫أنت ُغفران‪ ،‬ولكن كيف‬ ‫�ساد ال�صمت للحظات وهو ينظر �إليها وهو يقول‪�«:‬إذا � ِ‬
‫أنك ل�ست واحدة من الذين فروا من املزرعة �أو من ال�صحافة»‪.‬‬ ‫ب�إمكاين الت�أكد ب� ِ‬
‫تذ ّكر منذ يومني واللواء ح�سني يطالب بر�ؤيته ليح ّدثه عن الق�ضية الكبرية‬
‫ويطالبه مبقابلة �أمرية لتتح ّدث عما حدث حتت �إ�شراف �أطباء ليطلب منه �أن يتوىل‬
‫هو معاجلتها مبا �أنه طبيب نف�سي‪ ،‬ويف نف�س الوقت �أخوها‪ ،‬ليف ّكر اللواء قليال قبل‬
‫�أن يوافق على طلبه ويخربه باملُ�ستجدات عن هروب فتاتني‪«:‬خلود و�سمر» ما زال‬
‫البحث عنها �سار ًيا ولكن رمبا ت�سببان �أذى للفتيات‪.‬‬
‫قلبت عينيها وهي تخرج بطاقتها ال�شخ�صية من احلقيبة التي ترتديها لتعطيها‬
‫له بنفاد �صرب جعله يرفع حاجبيه م�ستغر ًبا من تغ�ضن مالحمها بالغ�ضب‪ ،‬نقل‬
‫�أنظاره بينها وبني البطاقة ال�شخ�صية بني يديه لي�س�ألها بده�شة‪ِ �«:‬‬
‫أنت طبيبة‪ ،‬ب�أي‬
‫تخ�ص�ص تعملني؟!» مل ت�ستطع كتم غ�ضبها �أكرث وهي ت�شعر بربودة هذا الرجل‬
‫‪94‬‬
‫لتهتف من بني �أ�سنانها‪�«:‬أنا �أريد التح ّدث مع �أمرية‪ ،‬والآن بعد �أن ت�أكدت من هويتي‬
‫هل ب�إمكاين ر�ؤيتها؟!»‬
‫رم�ش بعينيه وهو ي�شعر بطاقة غريبة تفوح منها ليقول بعد �صمت دام‬
‫للحظات‪«:‬اتبعيني»‪.‬‬
‫ملحته يخرج من املنزل ليمر بقربها فابتعدت على الفور وهي تراه ي�أخذ مم ًرا‬
‫بجانب املنزل فتبعته بحذر وهي ترى احلديقة اخللفية للمنزل‪ ،‬ثم ملحته ي�صعد‬
‫الدرج وي�ضغط على جر�س باب فتوقفت مكانها ومل ت�صعد وهي تلمح بعد حلظات‬
‫امر�أة تفتح الباب لتبت�سم له ليهم�س لها ب�شيء جعلها تنقل �أنظارها ل ُغفران لتتململ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الأخرية يف وقفتها وهي تعي �أن احلديث عليها‪ ،‬ال تريد �أن تفقد �سيطرتها حتى ترى‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أمرية هذا كل ما يهم الآن‪ ،‬هي عرفت من اللواء ح�سني �أنه الآن يتم التحقيق يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الق�ضية الكبرية بعد �أن �أدلت ب�شهادتها و�أعطته الأدلة التي جمعتها كل تلك ال�سنوات‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫هي وعمران ليتم الإفراج عنها هي وزمرد ب�ضمان حمل �إقامتهما ومنعهما من‬
‫ال�سفر حتى ينتهي هذا التحقيق باعتبارهما �شهودا يف الق�ضية‪ ،‬لذا �أخربها اللواء‬
‫أي�ضا مبا �أنها ق�ضت �سنوات عمرها هناك‪ ،‬فطلبت منه‬ ‫�أنهم بحاجة ل�شهادة �أمرية � ّ‬
‫عنوانها فهي تريد ر�ؤيتها واالطمئنان عليها‪ ،‬فمن حقها معرفة حقيقة ما حدث‪.‬‬
‫�سمعت ال�سيدة تقول لها‪«:‬تف�ضلي ابنتي»‪� ،‬شعور ق ّل�ص معدتها وهي ت�ست�شعر‬
‫نربة حنان ذ ّكرتها ب�أخرى غالية لقلبها‪� ،‬صعدت الدرج لتلمح �آ�سر يبتعد عن طريقها‬
‫�ساب ًقا �إياها للداخل‪.‬‬
‫ؤيتك»‪،‬‬‫«�أنا والدة �أمرية‪ ،‬هي بغرفتها �س�أناديها الآن حت ًما �ستكون �سعيدة بر� ِ‬
‫هزت ر�أ�سها بتحية ُمقت�ضبة وهي ال تقوى على قول �شيء حماولة مغالبة ذلك ال�شعور‬
‫الغريب الذي اكتنفها وقت دخولها املنزل الذي يبدو �أنه مت ت�أثيثه بحب جعل للمكان‬
‫روحا دافئة‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها وهي حتاول �أن تخرج تلك الأفكار ال�سخيفة من ر�أ�سها‬ ‫ً‬
‫بينما ذلك ال�ساذج يقف مكانه بدون حراك وهو ينظر �إليها بتم ّعن‪ ،‬كادت �أن ت�س ّبه‬
‫اول اكت�شاف �سر خطري ال يعرفه‪.‬‬‫وهي ت�شعر ب�أنه ينظر �إليها ُم ً‬
‫‪95‬‬
‫�أ�صوات �أقدام و�صلتها من املمر لتلمح يف حلظة �أمرية وهي تنظر �إليها ب�شحوب‬
‫ك�أنها ال ت�صدق وجودها كما �أخربتها والدتها‪ ،‬ثم يف حلظات انتف�ضت مكانها‬
‫لتلقي بج�سدها يف �أح�ضان ُغفران وهي ت�شد ذراعيها حول ج�سدها هاتفة ب�صوت‬
‫أتيت»‪.‬‬
‫أتيت لقد � ِ‬
‫انتظرتك كث ًريا‪ ،‬لقد � ِ‬
‫ِ‬ ‫أتيت‪ ،‬لقد‬ ‫عال‪ُ «:‬غفران � ِ‬
‫أنت هنا‪� ،‬أخ ًريا � ِ‬ ‫ٍ‬
‫راحة افتقدتها منذ �أ�سابيع �شعرت بها جتتاحها وهي ت�ضم ج�سد �أمرية لها‬
‫أر�ضا وهي تتنهد بقوة‪ ،‬ربتت على �شعرها‬‫مغم�ضة عينيها‪ ،‬رامية بقناع جمودها � ً‬
‫الق�صري تهم�س لها‪�«:‬أنا هنا عزيزتي»‪.‬‬
‫فتحت عينيها وهي ت�ست�شعر �أنظا ًرا ُموجهة لها‪ ،‬لي�صدق ظنها وهي ترى نظرات‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫خمتلفة من الرجل الذي يقف على مقربة منها‪ ،‬وابت�سامة �صغرية يوجهها لأمرية‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫جعلت ق�شعريرة غريبة ت�سري بج�سدها‪ ،‬لتنقل �أنظارها للمر�أة التي �أخربتها �أنها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫والدة �أمرية‪ ،‬لرتاها تنظر ب�أعني دامعة �ضامة كفيها ل�صدرها ونظراتها مل تكن‬

‫توزيع‬
‫موجهة �سوى لها هي‪ ،‬ف�أبعدت �أمرية عنها وهي تتنحنح بخفوت‪ ،‬مت�سح دموع �أمرية‬
‫بحنان لتقول لها ب�صوت خرج ب�صعوبة‪«:‬هل ب�إمكاننا التحدث قليال على انفراد؟!»‬
‫ملحت ارتباك �أمرية وهي تدير ر�أ�سها لوالدتها لتنظر والدتها لآ�سر ك�أنها ت�س�أله‬
‫امل�ساعدة فقال �آ�سر وهو ينظر ل ُغفران بغمو�ض‪�«:‬أمي ِمل ال حت�ضري كوبني من‬
‫الع�صري حتى جتل�س ليلى قليال مع �ضيفتها»‪.‬‬
‫هزت والدتها ر�أ�سها وهي تخرج من ال�شقة ولكن بعد �أن ق ّبلت �شعر �أمرية التي‬
‫�أ�سبلت �أنظارها للأ�سفل جاذبة انتباه ُغفران لها‪ ،‬رفعت ُغفران عينيها لآ�سر وهي‬
‫تفهم الآن حمائيته يف الدفاع عن �أختها‪ ،‬لتجده واق ًفا مكانه لتقول‪�«:‬أنا مل �أق�صد‬
‫ب�س�ؤايل ال�سيدة فقط»‪.‬‬
‫حانت منه ابت�سامة �صغرية وهو يقول‪�«:‬أنا لن �أترك ليلى وحدها»‪ ،‬رفعت ليلى‬
‫�أنظارها با�ستغراب لآ�سر وهي تقول‪«:‬ال داعي لذلك �إنها ُغفران ال تقلق»‪ ،‬نظر‬
‫لها �آ�سر بحنان وهو يقول‪«:‬ال �أ�ستطيع عدم القلق يا عزيزتي»‪ ،‬نظرت له ُغفران‬
‫بجمود وهي تراه يعيد كلمته‪ ،‬ما الذي يحاول �إي�صاله لها؟!‬

‫‪96‬‬
‫«�أظن �أن ال�سيدة جميلة قالت �إنه غري م�سموح لكم بال�صعود لهنا» �ضحك‬
‫�آ�سر لرتتبك الفتاتان ليقول لها بتفاهم‪�«:‬أوت�ش لقد مت ق�صف اجلبهة بنجاح‪،‬‬
‫بغرفتك ليلى و�أنا �س�أبقي على باب ال�شقة حتى‬
‫ِ‬ ‫�ضيفتك‬
‫ِ‬ ‫ح�س ًنا ميكنك التح ّدث مع‬
‫تعود �أمي»‪.‬‬
‫م�سكت �أمرية كف ُغفران ودلفت بها لغرفتها وهي تف ّكر �أنه منذ حادثة ال�سيد‬
‫دوما بـ»ليلى»‪� ،‬أغلقت الباب خلفها باملفتاح �أثار انتباه‬
‫حممد و�أ�سر �أ�صبح يناديها ً‬
‫ؤذيك �أحد هنا؟!» لتلتفت لها �أمرية وهي ترى قلقها‬ ‫ُغفران لت�س�ألها بقلق‪«:‬هل ي� ِ‬
‫الهتمامك بي ُغفران»‪ ،‬اقرتبت منها ُغفران‬
‫ِ‬ ‫لتبت�سم لها بني دموعها‪«:‬لقد ا�شتقت‬
‫هذه املرة لتبادر باحت�ضانها وهي تقول‪�«:‬ساحميني حبيبتي‬

‫ع‬
‫تركتك لتواجهي كل‬‫ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫إليك على‬
‫وحدك دون �أي تف�سري‪ ،‬لكن مبجرد �أن انتهى التحقيق معي‪ ،‬جئت � ِ‬ ‫ِ‬ ‫هذا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الفور والآن �أجيبيني وال تهربي من �س�ؤايل هل ي�ؤذيك �أحد هنا؟!»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫ابتعدت �أمرية عنها وهي تنظر لها بارتباك‪�«:‬أنا ال �أعرف �أنا‪ .‬ال �أفهم ماذا‬

‫ع‬
‫حدث باملزرعة و�أين رحمة؟! وهل ه�ؤالء �أهلي ح ًقا؟! �أنا ال �أفهمهم هم مينحونني‬
‫م�شاعر مل �أتف ّهمها‪ ،‬مينحوين حبا غريبا ي�شعرين بالقلق �أحيا ًنا‪ ،‬وهي‪ُ .‬غفران هي‬
‫ال ترتكني منذ �أ�سابيع‪� ،‬أتتخيلني لقد طلبت منها �أن �أبقى بعيدً ا عنهم فوافقت على‬
‫علي هذه ال�شقة لأمكث فيها معها‪ ،‬رغم بقائي‬ ‫الفور من دون قول �شيء‪ ،‬عار�ضة ّ‬
‫بالغرفة �إال �أنها تبقى يف ال�شقة‪ ،‬ال تذهب ملنزلها معهم �إال لإح�ضار الطعام‪ ،‬وهم هم‬
‫احرتموا رغبتي‪ ،‬و�آ�سر يحاول كل فرتة و�أخرى احلديث معي ولكنني �أخاف حديثه‬
‫�أنا‪� ..‬أنا فقط ال �أ�ستوعب ما يفعلونه‪� ،‬أ�شعر ب�أنه �سيتم الغدر بي يف �أي حلظة و�أحيا ًنا‬
‫�أ�شعر ب�أن هذه طبيعتهم‪ ،‬هم ال ي ّدعون‪ ،‬وهي ال تتوقف عن احت�ضاين و�إخباري مبدى‬
‫حبها ومدى �سعادتها‪ ،‬يا �إلهي ُغفران �أنا �أ�شعر بها كل ليلة تدخل الغرفة و ُتق ّبل ر�أ�سي‬
‫لتهم�س ب�أنها حتبني ثم تخرج بهدوء كامتة دموعها فخفت لكن �أنا مل �أ�ستطع �إغالق‬
‫الباب يف الليل ك�أنني �أرغب مبا تفعله وال �أرغب به �أنا ال �أفهم �أنا‪.»...‬‬
‫�شعرت ب�أمل بقلبها وهي ت�ست�شعر �ضياع �أمرية �أمامها فجذبتها لأح�ضانها‬
‫ُمطمئنة عليها بني عائلة واثقة ب�أنها ت�ستطيع احتواءها لتقول‪«:‬يا �صغرية هذا ما‬
‫‪97‬‬
‫لك وتف ّهمهم مزروع داخل قلوبهم‬
‫ي�سمى الغريزة �أو الفطرة‪ ،‬هم عائلتك لذا حبهم ِ‬
‫أنك �أختهم �أمرية»‪.‬‬
‫أنك ابنتهم‪ ،‬ل ِ‬
‫حبونك ل ِ‬
‫عاملونك من القلب‪ُ ،‬ي ِ‬
‫ِ‬ ‫و�أرواحهم‪ ،‬هم ُي‬
‫ابتعدت �أمرية وهي تعقد حاجبيها غا�ضبة من كلمتها‪«:‬ال تناديني ب�أمرية �أنا‬
‫ليلي‪ ،‬لقد �أجربتهم ب�أن ينادوين بليلي‪� ،‬أنا ال �أتق ّبل تلك الـ �أمرية»‬
‫ابت�سمت لها ُغفران بحنان وهي جتذبها لتجل�سا على الأريكة املوجودة لتقول‬
‫لك يف غاية الأهمية»‪.‬‬
‫لها‪«:‬ا�سمعيني جيدً ا ليلى لأن ما �س�أقوله ِ‬
‫�أخذت ُغفران تخربها بكل ما حدث تلك الليلة‪ُ ،‬مو�ضحة لها ما حتتاج معرفته‬
‫من تفا�صيل‪ ،‬غافلة عن البع�ض‪ ،‬ثم �أخربتها بتعاونها مع ال�شرطة لت�صمت يف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫النهاية ُمنتظرة رد فعلها‪ُ ،‬متم ّنية �أن تفهم �أمرية �أ�سبابها‪ ،‬ال ت�سيء الظن بها كما‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫فعلت رحمة‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫ملحت �شرود �أمرية ودمعة تر�سم الب�ؤ�س على وجهها لتقول لها‪«:‬لطاملا كنت‬

‫توزيع‬
‫مت�أكدة �أن من امل�ستحيل �أن يكونا �أبا و�أما لنا فمن يفعل هذا ب�أبنائه‪ ،‬ذلك التحليل‬
‫طلبت مني �أن �آخذ عينة من �سمرية كان لإثبات ذلك �ألي�س كذلك؟!»‬ ‫الذي ِ‬
‫هزت ُغفران ر�أ�سها بنعم‪ ،‬وهي تنظر لأمرية برت ّقب لت�س�ألها �أمرية ال�س�ؤال الذي‬
‫لديك لتطلبي من ال�شرطة �أن يلقوا القب�ض‬ ‫تنتظره‪«:‬ملاذا مل ِ‬
‫تكتف بالأدلة التي ِ‬
‫عليهم؟!»‬
‫�أجابتها ُغفران‪«:‬لأنها مل تكن كافية لإدانة ر�ؤ�سائهم‪ ،‬ممدوح ال يعمل وحده‬
‫�أمرية بل يعمل لدى ع�صابة لها �أفرادها الكرث يف كل مكان داخل وخارج م�صر‪� ،‬أنا‬
‫ا�ضطررت لالنتظار من �أجل معرفة حتت �إمرة من يعمل‪� ،‬أق�سم �أنني مل �أفكر �سوى‬
‫بالق�ضاء عليهم جمي ًعا حتى ننتهي من �شرهم للأبد»‪.‬‬
‫�صمتت ُغفران يف انتظار رد فعل �أمرية لرتاها تتنهد بتعب مت�سح دموعها‬
‫باك‪�«:‬أتف ّه ِ‬
‫مك لكن ما فعلوه يا ُغفران كان فوق‬ ‫وهي تنظر للأر�ض قائلة ب�صوت ِ‬
‫املحتمل»‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫لك �أعلم» �أجابتها ُغفران �شاعرة بالندم لرتكهم كل تلك‬ ‫«�أعلم �أق�سم ِ‬
‫الفرتة‪ ،‬لتنظر لها �أمرية وهي تقول‪«:‬هناك الكثري مما ال تعلمينه �أنا لن �أقوى على‬
‫أخربك مبا �أجربونا على فعله‪ ،‬و�أمتنى وقتها �أن‬
‫لك الآن‪ ،‬رمبا فيما بعد � ِ‬ ‫التح ّدث به ِ‬
‫أ�ساحمك الآن‪ ،‬ففي النهاية كلنا ا�ضطررنا لفعل ما ال نرغب به»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ت�ساحميني كما �‬
‫جذبتها ُغفران حل�ضنها وهي تقول‪�«:‬شك ًرا لتف ّهمك‪ ،‬رغم انتفا�ض قلبي رع ًبا‬
‫أعدك �أنني‬
‫أنتظرك يف �أي وقت لتخربيني مبا تريدينه‪ ،‬و� ِ‬
‫ِ‬ ‫ملا قل ِته الآن �إال �أنني �س�‬
‫أنت قبل �أي �شيء ابنتي ال�صغرية»‪.‬‬
‫دوما‪ ،‬ف� ِ‬
‫أ�ساحمك ً‬
‫ِ‬ ‫أ�ساحمك و�س�‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫حنانك هذا يذ ّكرين بال�سيدة جميلة»‪.‬‬
‫ابت�سمت �أمرية لها وهي تقول‪ِ «:‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ابتعدت ُغفران عنها وهي تنظر لها بحب‪«:‬ح ّدثيني عنها‪ ،‬يبدو �أنها جميلة يف‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫م�شاعرها كا�سمها»‪ ،‬نظرت �أمرية للأر�ض وهي تفرك يديها قائلة بارتباك‪«:‬هي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫هي حنونة جدً ا‪ ،‬حتاول بقدر �إمكانها تنفيذ ما �أرغب به من دون �أن ت�س�أل‪ ،‬يبدو �أنها‬

‫ع‬
‫حتاول تعوي�ضي كل تلك ال�سنوات التي �ضاعت‪ ،‬ال تتوقف عن �إخباري مبدى تعا�سة‬
‫حياتها يف الفرتة التي ق�ضوها بني امل�ست�شفيات ومراكز ال�شرطة يف البحث عني‪،‬‬
‫�أتعلمني �أنهم مل يتوقفوا �أبدً ا‪ ،‬كل �شهر كانوا يذهبون للبحث يف كل مكان‪ ،‬يت�صلون‬
‫باجلهات املخت�صة التي تركوا بها �أرقامهم بح ًثا عن �أي جديد‪ ،‬مل يتوقفوا عن‬
‫فقدان الأمل �أبدا»‪ ،‬ابت�سمت ُغفران لها بحب وهي حتت�ضن وجنتيها بكفها لتجد‬
‫أخيك �آ�سر؟!» تنهدت �أمرية وهي تقول‪«:‬ال‬ ‫نف�سها ت�س�ألها دون تفكري‪«:‬وماذا عن � ِ‬
‫مثلك كث ًريا‪ ،‬يقوم بكل ما يجب من �أجل حمايتي‪ ،‬قام بالكثري يف منع‬ ‫�أعلم �أ�شعر به ِ‬
‫ال�صحافة من الو�صول �إيل‪ ،‬واحرتم رغباتي بعدم التح ّدث لأي �شيء حتى الآن رغم‬
‫يل‪ ،‬فكما تعرفني قد عينوا طبي ًبا نف�س ًيا لكل واحدة‬ ‫طلب الأمن الوطني بالتح ّدث �إ ّ‬
‫منا فطالب هو ب�أن يكون طبيبي»‪� ،‬س�ألتها ُغفران با�ستغراب‪«:‬هل هو طبيب؟!»‬
‫�أجابتها �أمرية‪«:‬نعم يف احلقيقة العائلة ب�أكملها �أطباء‪ ،‬يبدو �أنه �أمر متوارث بينهم‬
‫أخربك �أن يل‬ ‫كما �سمعت من ال�سيدة جميلة‪� ،‬إن �أمري يريد � ً‬
‫أي�ضا �أن يكون طبي ًبا مل � ِ‬
‫توءما �ألي�س كذلك؟!»‬

‫‪99‬‬
‫«تو�أم!» �أجابتها �أمرية ب�ضحكة‪«:‬نعم تخيلي �أنا لدي تو�أم غري �سهيلة‪ ،‬تو�أم‬
‫غريب» �س�ألتها ُغفران با�ستغراب‪«:‬ملاذا غريب؟!» قالت �أمرية ب�شرود‪«:‬ال �أعلم‬
‫رمبا مل نتح ّدث بكلمة حتى الآن �سوى يوم عودتي �إال �أنني �أ�شعر �أحيا ًنا �أنه نادم على‬
‫عودتي‪ ،‬و�أحيانا �أ�شعر ك�أن روحي تتع ّري �أمامه �إن �صادف ور�أيته من نافذتي‪ ،‬ك�أن‬
‫نظرته اجلامدة يل تخربين ب�أنه يعرف»‪.‬‬
‫�أجابت ال�س�ؤال بعني ُغفران‪«:‬نعم ُغفران‪� ،‬أ�شعر ب�أنه يعرف عما حدث يل‪� ،‬أنا‬
‫أي�ضا ال �أفهم رمبا �أتخ ّيل ورمبا ال ولكن �أحيا ًنا �أ�شعر به �أ�شعر �أحيا ًنا ك�أنه يناديني‬
‫� ً‬
‫و�أحيا ًنا ك�أنه ي�شكو يل �شي ًئا ال �أعرفه ال �أعلم‪� ،‬أ�شعر �أن ر�أ�سي �سينفجر»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ربتت ُغفران على كفيها وهي تقول بحنان‪«:‬ه ّوين على ِ‬

‫ري‬
‫نف�سك عزيزتي‪ ،‬تق ّبلي‬

‫الكت‬
‫آخذك معي ولكنني بحاجة لأرتب �أموري ً‬

‫ب‬
‫قليل �س�أحاول‬ ‫الأمور برت ٍو‪� ،‬أنا �أردت �أن � ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫أنت ورحمة»‪ ،‬جتاهلت �أمرية امل�شاعر التي �شعرت بها بعد‬ ‫�أن �أجد �شقة تكفينا �أنا و� ِ‬

‫توزيع‬
‫أي�ضا؟!» �أجابتها‬
‫�سماعها خطة ُغفران لت�س�ألها بارتباك‪«:‬هل عادت رحمة لعائلتها � ً‬
‫ُغفران بجمود‪«:‬نعم �إنها و�سط عائلتها الآن‪ ،‬مل �أذهب لر�ؤيتها بعد» �س�ألتها �أمرية‬
‫وهي ت�شعر �أن قلبها يتوقف من اخلوف‪«:‬ملاذا؟! هل هناك �شيء بخ�صو�ص عائلتها؟!‬
‫هل قالوا �شيئا �أو فعلوا �شيئا؟!»‬
‫نظرت لها ُغفران با�ستغراب وهي تقول‪«:‬ملاذا تقولني هذا؟!» �أجابتها �أمرية‬
‫ُم�سرعة‪«:‬ال ال �شيء �أنا فقط �أطمئن عليها»‪ ،‬اخلوف الذي كان داخلهما رغم‬
‫اختالف �أ�سبابه �إال �أنه يف النهاية كان يلتقي ب�شبيهه يف نقطة واحدة‪ ،‬كلتاهما‬
‫خائفة من معرفة الأخرى مبا تعر�ضت له رحمة هناك‪ ،‬ف�ساد ال�صمت بينهما مل‬
‫يقطعه �سوى طرق الباب لتفتحه �أمرية بينما وقفت ُغفران مكانها لتلمح �أخو �أمرية‬
‫يدخل حامال بني يديه �أكوابا من الع�صري قائال بهدوء وهو ينقل �أنظاره بني مالمح‬
‫�أمرية الباكية ووجه ُغفران اجلامد‪«:‬طلبت من �أمي �أن تت�أخر ً‬
‫قليل حتى ال نقاطع‬
‫أنت‬
‫جل�ستكما ولكن ال �أريد ل�ضيفتنا �أن تعتقد �أننا بخالء ف�أتيت بالع�صري‪ ،‬ليلى هل � ِ‬
‫بخري؟!»‬

‫‪100‬‬
‫االرتباك الذي �شعرت به ُغفران من كالمه ذهب مع الريح حني �سمعت �س�ؤاله‬
‫الأخري لتقول ب�صوت مكتوم‪«:‬ال تقلق مل �ألتهمها بعد»‪� ،‬أجابها �آ�سر بهدوء وهو‬
‫ل�ست من �آكلي حلوم‬
‫أنك ِ‬ ‫ي�ضع الأكواب على طاولة موجودة بالقرب منها‪�«:‬أعلم ب� ِ‬
‫وغفران وهما يقفان �أمام بع�ضهما �آ�سر‬ ‫الب�شر» نقلت �أمرية �أنظارها بني �آ�سر ُ‬
‫بوقفته الهادئة الرزينة وهو ينظر ل ُغفران بنظرة الغمو�ض التي ملحتها منه من‬
‫قبل‪ ،‬بينما ُغفران تقف بوقفتها الدفاعية ك�أنها �ستنق�ض على �آ�سر يف �أي حلظات‬
‫لت�سمعها تقول‪«:‬ح�س ًنا �س�أذهب الآن �أمرية و�س�أعود ل ِ‬
‫أراك كل فرتة حتى ُنن ّفذ ما‬
‫بنف�سك جيدً ا»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أخربتك به‪ ،‬اهتمي‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫اقرتبت من �أمرية يف نهاية كلمتها وهي ُتق ّبل جبينها لت�سمع �آ�سر يقول‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لك» �أجابته باقت�ضاب‬ ‫بت�سلية‪�«:‬ألن تتناويل الع�صري لقد �أح�ضرته �أمي خا�صة ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وهي حتمل حقيبتها لت�سري باجتاه الباب‪�«:‬أنا ال �أتناول الع�صري»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫�شعور غريب داخله ُيجربه على جذب الكلمات منها‪ُ ،‬يجربه على �إخراجها‬

‫ع‬
‫عن جمودها الغريب هذا ليقول‪�«:‬ألن ت�شكريني حتى؟!» التفتت وهي �أمام باب‬
‫ال�شقة غافلة عن والدته التي نه�ضت من جمل�سها وعن �أمرية التي تقف خلفه‬
‫لتقول‪�«:‬س�أ�شكر والدتك مبا �أنها من �أح�ضرت الع�صري»‪.‬‬
‫هويتك فلقد ن�سيتها معي‬
‫ِ‬ ‫«�أنا مل �أحت ّدث عن الع�صري‪ ،‬كنت �أريد �أن �أعطيك‬
‫يف غمرة غ�ضبك غري املفهوم �أ�سبابه»‪ ،‬ملحته يرفع البطاقة �أمامها لت�شعر بالغباء‬
‫للحظة لرتفع يدها ت�أخذ البطاقة منه من دون قول �شيء لينظر لها للحظات قبل �أن‬
‫تلتفت لتفتح باب ال�شقة قائلة ب�صوت مكتوم‪�«:‬إىل اللقاء �أمرية»‪.‬‬
‫نظر �آ�سر للباب بغمو�ض لتحني منه ابت�سامة �صغرية ُملتفتًا حلديث والدته‬
‫�صديقتك‬
‫ِ‬ ‫أزعجتك‬
‫ِ‬ ‫أنت بخري؟! َمل يبدو ِ‬
‫عليك البكاء؟! هل �‬ ‫لأمرية‪«:‬حبيبتي هل � ِ‬
‫لك بـ �أمرية؟!»‬‫�ضايقتك من مناداتها ِ‬
‫ِ‬ ‫ب�شيء؟! هل‬
‫نظرت �أمرية لوالدتها ب�صمت وهي تعي كالم ُغفران الآن‪ ،‬تلك املر�أة التي تقف‬
‫�أمامها ُتبها‪ُ ،‬تبها من قلبها حتى لو مل ُتق ّدم لها �شيئا‪ ،‬حتى لو مل تطلب منها �أن‬
‫حتبها‪ ،‬ذلك اخلوف والقلق الذي ملحته يف عينيها �آمل قلبها فجعل دموعها تت�ساقط‬
‫‪101‬‬
‫جمددًا لتقرتب منها والدتها وهي تلم�س وجنتيها قائلة‪«:‬حبيبتي َمل البكاء؟!» تابعها‬
‫�آ�سر بعينيه وهي مت�سح دموعها وتنظر للأر�ض بحرج لتقول ب�صوت ُمنخف�ض‪«:‬ال‬
‫�شيء‪� ،‬أنا ُمتعبة فقط‪� ،‬س�أذهب لأنام قليال»‪.‬‬
‫تركتهما �أمرية لتدخل غرفتها بينما نظرت جميلة لآ�سر بقلق وهي ت�س�أله‪«:‬بني‬
‫ماذا يحدث معها؟!» �أجابها �آ�سر ب�شرود و�أفكار كثرية تدور بعقله‪«:‬هي تكت�شف‬
‫من حولها �أمي‪ ،‬قلبها يتق ّبل تلك امل�شاعر اجلديدة التي �صادفتها والآن احلرب مع‬
‫عقلها غري املُ�صدق كينونة تلك امل�شاعر‪ ،‬دعيها قليال �أمي‪ ،‬هي يف حاجة لكل الوقت‬
‫لتتق ّبلنا بقلبها وعقلها»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫‪MMM‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬

‫‪102‬‬
‫وبعد عام تدرك �أن عا ًما واحدًا يفعل الكثري‬
‫الف�صل ال�سابع‬
‫�أنا هنا �أنا هناك‬

‫اخللبة التي ُتز ّين م�سكنها �إال �أن تلك‬ ‫رغم امل�ساحة التي حولها والطبيعة ّ‬

‫ع‬
‫اخلنقة التي تعتلي �صدرها تزداد ب�سرعة قا�سية‪ ،‬خرج نف�سها ببطء ك�أن عذاب‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫روحها يتج ّدد مع كل نف�س يدخل �صدرها‪ ،‬كانت تظن �أن عودتها للبيت �ستجعل كل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�شيء على ما يرام‪� ،‬إال �أن الوحدة التي اختارتها و�سط عائلتها جعلت من الـ(ما‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫يرام) خياال‪ ،‬فال �شيء �سيكون على ما يرام بعد ما خ�سرته‪� ،‬إن نظرت للمعادلة‬
‫�ستجد �أن ما خ�سرته �أكرث مما متلكه الآن‪ ،‬ك�أن اغت�صابها املُهني و�سنوات عمرها‬
‫ال�ضائعة يف ذلك املكان وموتها يتز ّينون �أمامها دائ ًما ل ُيذ ّكروها �أنها ما عادت حية‪،‬‬
‫نعم هي ماتت هناك يف تلك املزرعة واجلزء الباقي الذي حاولت جيدً ا الت�ش ّبث به‬
‫لتحيا مات معها ذلك اليوم الذي �أطلقت فيه النار على ممدوح وعرفت احلقيقة‬
‫التي كانت تخفيها ُغفران‪ ،‬تعلم �أنها ق�ست جيدً ا عليها ولكن هي فقط مل تتح ّمل بعد‬
‫�أن عرفت �أنه كانت هناك فر�صة لإنهاء عذابها وعذاب من حولها بيد ُغفران وهي‬
‫مل ت�ستخدمها‪� ،‬شعرت بالنار ت�شتعل داخلها فتحرق كل ما حولها‪� ،‬أغم�ضت عينيها‬
‫متنع دموع عينيها وهي تعود بذاكرتها لذلك اليوم الذي عادت فيه للمنزل‪ ،‬بعد �أن‬
‫ُ�سمح لها باخلروج بعد �أن مت تقدمي الأدلة الكافية ب�أن ما فعلته كان جمرد دفاع عن‬
‫النف�س‪ ،‬ابت�سمت ب�سخرية وهي تتذ ّكر قدوم يامن لها و�إخبارها بامل�شفى �أنها �ستعود‬
‫للمنزل فهناك �ستكون �آمنة من �أي �شر ُمتمل �أن ي�صيبها‪ ،‬خا�صة لأنهم مل يلقوا‬
‫القب�ض بعد على باقي �أفراد الع�صابة‪ ،‬تذ ّكرت نظرته اجلامدة لها وهو يخربها �أنه‬
‫�سيتوىل الق�ضية و�أمانها بات الآن وظيفته‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫هل عادت للبيت ح ًقا؟! الت�شو�ش الذي ر�أته يف عني والدتها وهي حتت�ضنها‬
‫وترحب بها يف املنزل‪� ،‬شحوب وجه �أختها الذي حاولت ُمداراته بابت�سامتها‪ ،‬مراعاة‬
‫عائلتها عدم ال�س�ؤال عن �أي �شيء وك�أنهم هكذا �سيتجنبون �أبواب اجلحيم التي‬
‫بانتظار �أحدهم �أن يفتحها‪ ،‬كل هذا �أكد لها �أنها مل تعد للبيت �أو �أن هذا البيت كما‬
‫مل يكن بيتها ملدة ثماين ع�شرة �سنة مل يعد بيتها الآن‪ ،‬ول�سخرية القدر هي ا�شتاقت‬
‫لغرفتها باملزرعة‪ ،‬ا�شتاقت للغ�ضب الذي كانت جتده يف عني ليلى‪ ،‬هي ا�شتاقت‬
‫ل ُغفران وب�شدة‪.‬‬
‫دمعت �سقطة من عينيها وهي تتذ ّكر �إمالء يامن الأوامر عليها ك�أنه �أمر ُم�س ّلم‬
‫به �أن ُتن ّفذ كل ما يقوله‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫أردت ُمادثة‬
‫رفيقاتك‪� ،‬إن � ِ‬
‫ِ‬ ‫ال خروج من املنزل‪ ،‬ال حماولة لالت�صال ب�أحد من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أحد �أخربيني و�س�أحاول �أن �أجد طريقة‪ ،‬ولكن الأف�ضل �أن ينتظر هذا الأمر ً‬

‫ل‬
‫قليل‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ف�أي اجتماع بينكم الآن قد ُيهددكن باخلطر‪� ،‬س ُنخ�ص�ص �ساعتني يوميا وفيهما‬

‫ع‬
‫�سوف تقابلني �أحد الأطباء النف�سيني‪ ،‬يجب �أن تخربينا ما حدث هناك بالتف�صيل‬
‫ف�أي تفا�صيل �صغرية �ست�ساعدنا جيدً ا يف الق�ضية‪.‬‬
‫تذ ّكرت وقتها هتافها بعد �صمت دام لفرتة‪�«:‬أنا لن �أقابل �أي طبيب ل�ست بحاجة‬
‫له‪� ،‬أنا ل�ست جمنونة»‪.‬‬
‫فتحت عينيها لتنهمر دموعها بغزارة وهي تتذ ّكر غ�ضبه و�صراخه بوجهها ك�أن‬
‫رد فعلها لي�س ما كان ينتظره منها‪«:‬ال ل�ست جمنونة ِ‬
‫لكنك الأقرب منهم له‪ ،‬ففي‬
‫ق�ضيت معه �أكرث �أوقاته املُريحة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنت من‬
‫النهاية � ِ‬
‫رفعت كفها تكتم �شهقاته وهي ت�ضرب بالكف الآخر على �صدرها وال تعلم �سبب‬
‫ذلك الأمل الذي يقتلها كلما جاء يامن بذكر احلياة املُهينة التي عا�شتها‪.‬‬
‫طرقات على الباب جعلتها تنتف�ض وهي تعي �أخ ًريا �أنها بغرفتها التي عا�شت‬
‫فيها طفولتها وقد احتفظت بها والدتها كما كانت يف انتظار طفلتها لتعود‪ ،‬والدتها‬
‫التي ت�أبى حتى الآن ُمفارقتها يف �أي وقت‪ ،‬حتى �إنها تدخل كل ليلة غرفتها لتت�أكد‬
‫فقط �أن وجودها حقيقة ال حم�ض خيال‪.‬‬
‫‪105‬‬
‫م�سحت دموعها بكفها وحاولت هندمة الثياب التي �أخذتها من رحاب �أختها‬
‫نف�سا حتاول تهدئة نف�سها به واقرتبت من الباب لتُجيب من‬
‫ال�صغرية‪ ،‬ثم �أخذت ً‬
‫خلفه ب�صوت مبحوح‪«:‬من؟!»‬
‫«هل ب�إمكان ابن العم �أن يرى ابنة عمه بعد مرور ثماين ع�شرة �سنة؟!»‬
‫تخلله حنان دافئ وت�أثري ما زال له �أثر على روحها لتفتح الباب وهي‬ ‫�صوت ّ‬
‫ترى ال�شاب الذي كان دائم التحالف معها يف �أي مقلب �صغري كانت تقوم به ويقوم‬
‫بالتغطية على جميع الأ�شياء التي حتطمها من دون ق�صد �أو ق�صد ل ُيخربهم �أنه‬
‫من فعلها‪� ،‬أخذت تنظر ملالحمه احلبيبة لها وهي تراه قد غدا رجال ما زال يحمل‬

‫ع‬
‫الطفولة يف مالحمه وابت�سامته التي �شابها احلزن وهو يت�أملها هو الآخر ليخرج‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫لك يا ابنة العم»‪.‬‬
‫مبحوحا وك�أنه ُيغالب دمعه‪«:‬ا�شتقت ِ‬
‫ً‬ ‫�صوته‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫«�سليم» هم�سة خرجت منها لتقرتب منه ُم�سرعة وهي حتت�ضنه بقوة هام�سة‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫ده�شا من الطفلة‬‫بدموع هذه املرة با�سمه ليغم�ض عينيه وهو ُيبادلها االحت�ضان ُم ُن ً‬
‫التي �أمامه ومن ردود �أفعالها غري املُتوقعة دائما كما كانت‪ ،‬وهي تت�ش ّبث به وك�أنها‬
‫كانت بانتظاره‪� ،‬ضحك �شاع ًرا بالإحراج من احت�ضانها له وهو يقول بينما يخفي‬
‫لك ابن عم �آخر»‪.‬‬
‫ن�سيت �أن ِ‬
‫ظننتك ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت�أثره بانهيارها‪«:‬احلمد هلل لقد‬
‫ابتعدت عنه وهي مت�سح دموعها املُتد ّفقة من دون توقف لتقول بابت�سامة‬
‫حزينة‪�«:‬أنت من امل�ستحيل ن�سيانك �أبدً ا» مد يديه مبنديل لها �أخرجه من جيبه‬
‫عودتك لقد عدت من ال�سفر‬ ‫ِ‬ ‫وهو يقول‪�«:‬ساحميني زمرد لأنني مل �أكن موجودًا عند‬
‫الآن فقط»‪.‬‬
‫�أجابته مب�شاعر �صادقة‪«:‬يكفي �أنك هنا»‪� ،‬ضحك وهو ي�ضع يديه على قلبه‬
‫قائل‪«:‬دائ ًما ما ت�ضعيني يف مكانة عالية يا ابنة العم»‪.‬‬
‫بدرامية ً‬
‫�صمت للحظات وهو يت�أملها لتخفت ابت�سامته وهو يقول بهم�س‪«:‬ما الذي فعلوه‬
‫بك يا زمرد؟!» لرتجتف �شفتاها وهي تقول بعد حلظات‪�«:‬أنت الوحيد الذي �س�ألني‬ ‫ِ‬
‫هذا ال�س�ؤال باهتمام �سليم‪ ،‬لقد فعلوا الكثري �سليم و�أرغموين على فعل الأ�سو�أ‪� ،‬أنا‬
‫ُمتعبة �سليم‪ ،‬هنا يوجد �أمل كبري‪� ،‬أمل ما عدت قادرة على حت ّمله»‪� ،‬أتبعت جملتها‬
‫‪106‬‬
‫وهي ت�شري لقلبها مو�ضع �أملها لريم�ش بعينيه وهو يحاول مغالبة دموعه ليخرج نف�سه‬
‫ً‬
‫مرتع�شا وهو يلمحها ت�ضم ج�سدها ال�ضعيف بذراعيها ك�أنها تقيه من الربد والأمل‬
‫وكل ما يحيط بها‪ ،‬حتى الآن هو ال ُي�صدق عودتها‪ ،‬مل يجل�س مع يامن ليعرف منه‬
‫التفا�صيل‪ ،‬وهو يرى ابن عمه الآخر يف حالة ُمزرية‪ ،‬الغ�ضب يتخ ّلله كقطة دا�س‬
‫�أحدهم على ذيلها ولكن �صدمته بر�ؤيتها بهذه احلالة وانهيارها الذي يبدو �أنه قد‬
‫بد�أ �آمل قلبه بقوة وهو يتذ ّكر تلك الطفلة التي كانت ت�شع ال�سعادة من مالحمها‬
‫لتن�شرها يف قلب كل من يراها‪.‬‬
‫خرج من �أفكاره وهو يقول لها بحنان‪«:‬ما ر�أيك �أن � ِ‬
‫أتركك لع�شر دقائق �أب ّدل‬
‫أنت �أي�ضا باملثل لنخرج ً‬
‫قليل‬ ‫فيها مالب�س ال�سفر مبالب�س �أكرث راحة وتقومني � ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يوما» �ضحكت‬ ‫نتناول بع�ض املثلجات‪ ،‬ما زلت �أتذ ّكر � ِ‬
‫أنك مل ت�ستطيعي مقاومتها ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫من بني دموعها وهي تقول‪«:‬ما زلت تتذ ّكر!» ليجيبها ب�صدق‪�«:‬أنا مل �أن�س ً‬

‫بل‬
‫يوما يا‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ابنة العم» تذ ّكرت �أوامر يامن لتخفت ابت�سامتها وهي تقول‪«:‬لكن يامن �أمر بعدم‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬ ‫خروجي من املنزل‪ ،‬و�أنا ال �أريد �أن‪ ...‬فهو مل‪»....‬‬

‫ع‬
‫�صمتت لينظر لها بتم ّعن وهو يرى �أن ت�أثري يامن عليها ما زال �سار ًيا رغ ًما عنها‬
‫قائل‪«:‬ما زال هادم اللذات �ألي�س كذلك؟!» لي�صدق ظنه‬ ‫وعن ذلك العنيد ليبت�سم ً‬
‫وهو يراها ترد عليها ُمدافعة عنه‪«:‬ال هو فقط يحاول حمايتي»‬
‫زلت ُمدافعة عنه‪ ،‬يا اهلل ك�أن الزمن مل مير‪ ،‬ح�س ًنا دعيني �أح�ضر لنا‬ ‫«وما ِ‬
‫املُثلجات ونتناولها يف احلديقة بالأ�سفل حتى ال ُنك�سر �أوامر �سيادة املُق ّدم ما‬
‫أيك؟!» ابت�سمت له لتهز ر�أ�سها باملوافقة ليبت�سم لها بحنان غافلني عن عيون‬ ‫ر� ِ‬
‫تراقبهما ب�أمل‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل حممد الأ�سيوطي‬
‫ال تعلم كم من الوقت مر عليها وهي جال�سة على �سريرها ال تفعل �شيء �سوى‬
‫النظر لل�سقف‪ ،‬تدير حديث ُغفران لها بعقلها‪ ،‬حتاول �أن تفهم‪� ،‬أن تدرك جيدً ا‬
‫حياتها اجلديدة‪ ،‬حياتها التي ت�شبه الروايات التي داومت على قراءتها‪ ،‬حياة كانت‬
‫‪107‬‬
‫تظنها من �صنع الكاتب فقط‪ ،‬فهي مل تذق حنان �أم �أو حب �أب‪ ،‬حتى �إخوتها مل‬
‫يكن �أحد قريب منها �سوى ُغفران التي غابت عنها يف �أق�سى �أيام حياتها‪ ،‬رمبا هي‬
‫الآن تتف ّهم �أ�سبابها‪ ،‬رمبا هي تعلم الآن ا�ضطرار ُغفران لل�صمت كل تلك الفرتة‪،‬‬
‫ُت�ساحمها‪ ،‬فقلبها ال ي�ستطيع الغ�ضب منها وهي كانت � ًأما لها منذ والدتها‪.‬‬
‫عادت �أفكارها جمددًا لتلك ال�سيدة القابعة باخلارج تنتظر منها �أي كلمة‪� ،‬أي‬
‫فعل‪� ،‬أي �شيء‪ .‬هي لديها �أم لديها �أم حتبها‪ ،‬لديها �أم ال تنظر �إليها با�شمئزاز‪،‬‬
‫لديها �أم ال تبث �سمومها داخل عقلها‪ ،‬لديها �أم تفعل �أق�صى ما ت�ستطيع من �أجلها‪.‬‬
‫يوما � ًأما‪ ،‬تلك التي‬
‫�أغم�ضت عينيها وهي تفكر يف �سمرية‪ ،‬تلك التي مل تعتربها ً‬

‫ع‬
‫مل تتهاون حلظة عن بيع �أبنائها لل�شيطان نف�سه‪� ،‬سمرية التي كانت تنظر لها بكر ٍه‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫وحني تخطئ ت�ستغل املوقف يف جلدها مهما كان خط�ؤها �صغريا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫دمعة �سقطت من عينيها على الو�سادة لتفتح عينيها املتلألئة بالدموع وهي‬

‫توزيع‬
‫يدعمك بكل نظرة و�آخرون مل‬
‫ِ‬ ‫ُت ّدث نف�سها‪«:‬لديك �إخوة يا ليلى‪� ،‬أخ �أكرب ِ‬
‫منك‬
‫مينحك حبه‬
‫ِ‬ ‫منك بعد‪ ،‬لديك �أب‪� ،‬أب كان يبكي من �أجل �أن‬
‫ت�سمح لهم باالقرتاب ِ‬‫ِ‬
‫الذي رف�ض ِته بق�سوة جارحة �إياه يف ج�سده قبل قلبه وروحه»‬
‫�أغم�ضت عينيها جمددًا كامتة �شهقاتها وهي ت�شعر ب�أمل غريب داخلها‪� ،‬أمل تريده‬
‫�أن ي�ؤذيها �أكرث و�أكرث‪� ،‬أمل تريده �أن يتوغل بروحها �أكرث لع ّله يلهيها عن �أفكارها‪،‬‬
‫لتتوه جمددًا يف ذلك العامل الذي يجذبها حني تريد الهروب من �آالمها‪ ،‬مل تكد‬
‫تخطو خطواتها فيه حتى �أتتها �أ�صوات باخلارج‪.‬‬
‫فتحت عينيها وهي تنه�ض من على �سريرها لتم�سح دموعها‪ ،‬اقرتبت من الباب‬
‫أعطها بع�ض الوقت فقط‪� ،‬أعلم‬‫لي�صل لأ�سماعها والدتها ُت ّدث �أحدهم‪«:‬حبيبي � ِ‬
‫�أنك و�إخوتك تريدون التق ّرب منها ولكن من الأف�ضل �أن نن ّفذ رغباتها فهذا حقها»‪.‬‬
‫�أتاها �صوت لطفل جلوج‪�«:‬أمي لكن �أنا لن �أ�س ّبب لها ال�ضيق‪� ،‬أنا �س�أمنحها �شيئا‬
‫يجعلها �سعيدة‪� ،‬صدقيني �ستجدينها ُم�ستمتعة بوقتها معي هيا �أمي‪ ،‬دعيني �أح ّدثها‬
‫وبعدها دعي القرار لها �أرجوك �أرجوك �أرجوك»‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫«ح�س ًنا ح�س ًنا يا �إلهي �آدم» تن ّهدت جميلة لتقول ب�صوت قلق‪�«:‬آ�سر �سوف‬
‫يقتلك»‬
‫و�صل لأ�سماعها �أ�صوات �أقدام لتبتعد عن الباب ُمفلة وهي ت�سمع طر ًقا عليه‪،‬‬
‫م�سحت �آثار بكائها وابتلعت ريقها ت�شعر باالرتباك من مطلب �آدم لتفتح الباب‪،‬‬
‫تنظر ب�صمت لوالدتها التي تفرك كفيها لتقول لها‪«:‬عزيزتي‪� ،‬آدم يريد التحدث‬
‫معك بخ�صو�ص �أمر ما»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ق ّلب �آدم عينيه وهو يبعد والدته من �أمامه قائال ببهجة‪«:‬يا �إلهي �أمي‪ ،‬ال داعي‬
‫لتلك املُق ّدمة‪� ،‬أنا لن �أتناولها كحلوى قبل الغداء»‪� ،‬ضحك على كالمه ك�أنه �ألقى‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نكتة لينظر لوجه �أمرية الباهت‪ ،‬لتخفت �ضحكته وهو ي�شعر بنف�سه �سخيفا ليقول‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أخربك بدون �أي مقدمات كما قلت لأمي‪،‬‬ ‫ب�إحراج‪�«:‬إحم‪� ،‬أنا �أمزح فقط‪ ،‬ح�سنا �س� ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حركاتك املُتقنة ويبدو �أنك تل ّق ِ‬
‫يت‬ ‫أريدك �أن ُتدربيني على الكاراتيه‪ ،‬لقد ر�أيت‬‫�أنا � ِ‬

‫ر‬
‫ِ‬

‫والتوزي‬
‫تدري ًبا عال ًيا‪� ،‬أنا �أريد �أن �أمت ّرن ووالدتي ت�صر على �أنها ريا�ضة عنيفة‪ ،‬وتخربين �أن‬

‫ع‬
‫التن�س �أف�ضل‪ ،‬ولكن التن�س ممل ال �أ�شعر بال�سعادة و�أنا �أمار�سه كما يفعل �أحمد الذي‬
‫يبدو �أنه واقع يف غرام الكرة»‪.‬‬
‫�ضربة على م�ؤخرة ر�أ�سه من والدته جعلته يت�أوه وهو يلتفت �إليها ي�س�ألها‬
‫بتذمر‪«:‬ماذا؟! ماذا فعلت الآن؟!»‬
‫�أجابته والدته وهي ت�ست�شعر رف�ض �أمرية‪«:‬تتح ّدث كث ًريا‪ ،‬وتتح ّدث بكالم غري‬
‫ُمنا�سب ل�سنك‪ ،‬ممن ت�سمع ذلك الكالم؟!» كاد �أن يجيبها حني �سمع �صوت �أمرية‬
‫اخلافت‪«:‬ح�س ًنا»‬
‫التفت االثنان لها ليقول �آدم‪«:‬ماذا؟!» �أجابته �أمرية بحرج‪«:‬ح�س ًنا ميكنني‬
‫تعليمك ولكن ليكن باحلديقة اخللفية‪� ،‬أنا ال �أريد اخلروج من املنزل»‪.‬‬
‫�أخفت جميلة ت�أثرها لرتم�ش بعينيها دافعة بالدموع بعيدً ا‪ ،‬تتذكر كالم �آ�سر وهو‬
‫يخربها �أنه يجب �أن ُنعاملها بطبيعية حتى ال تنفر من �أفعالنا‪ ،‬وجدت �آدم يرفع‬
‫كفيه بت�شجيع وهو يقول ببهجة‪«:‬نعم‪ ،‬ح�س ًنا متى نبد�أ؟!» حانت من �أمرية ابت�سامة‬
‫‪109‬‬
‫وهي ترى حما�سه لتجيبه‪«:‬غدً ا �إن �أردت»‪ ،‬ارتفع حاجبا �آدم لتزداد ابت�سامته وهو‬
‫بانتظارك بالأ�سفل»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يقول‪«:‬ح�س ًنا‪ ،‬غدً ا �س�أكون‬
‫عال‪�«:‬أحمد‪ ..‬ليلى وافقت‪� ،‬أخ ًريا �س�أتعلم‬
‫تركها ورك�ض وهو يهتف ب�صوت ٍ‬
‫الكاراتيه ياااه»‪.‬‬
‫نظرت جميلة لأمرية بحنان وهي تلمح ابت�سامتها ال�صغرية لتقول لها‬
‫ال�ستجابتك لطلبه‪� ،‬إنه �أكرث من حلوح يف �أي �أمر يريده‪ ،‬لذا مل‬
‫ِ‬ ‫بحنان‪ِ �«:‬‬
‫أ�شكرك‬
‫ؤالك»‪.‬‬
‫�أ�ستطع �أن �أرف�ض طلبه ب�س� ِ‬
‫أي�ضا �أرغب‬‫نظرت �أمرية لوالدتها لتقول لها بهدوء‪«:‬ال داعي لل�شكر‪� ،‬أنا � ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫باخلروج من الغرفة قليال و�شغل عقلي ب�أي �شيء غري التفكري‪ ،‬من قبل كنت �أقر�أ‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫الكثري من الروايات التي جتعلني �أتلهى عمن حويل‪ ،‬لذا كانت تبعدين عنهم م�ؤقتًا‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫قليل»‪.‬‬
‫لذا تعليم الكاراتيه �سي�ساعدين ً‬

‫توزيع‬
‫ابت�سمت جميلة لها وهي تتنهد بارتياح ثم ملحت ارتباك �أمرية وهي ت�س�ألها‪«:‬هل‪..‬‬
‫هل �سيكون ال�سيد حممد غدً ا يف نف�س الوقت باملنزل؟!»‬
‫انقب�ض قلب جميلة �أ ًملا لر�ؤية ابنتها تنادي �أبيها بال�سيد لتجيبها و�سط‬
‫دموعها‪«:‬ال �إنه �إنه بامل�شفى لديه غدً ا عمل �إ�ضايف‪ ،‬لن يعود �إال ُمت�أخرا»‬
‫�أ�سبلت �أمرية عينيها عن دموع جميلة هي تعرف �أنها جترحها بتباعدها عن‬
‫زوجها ولكنها ال ت�ستطيع تق ّبل وجوده حتى اللحظة‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل زمرد‬
‫�أر�سل الهواء البارد ق�شعريرة �سرت بني �أو�صالها لت�شد ال�شال الذي يحيط‬
‫بج�سدها رغم �أنهم يف نهاية ال�صيف �إال �أن ال تزال ت�شعر بالربودة‪ ،‬ال تعلم هل‬
‫ال�سبب ُمقابلتها �سليم واحتوا�ؤه مل�شاعرها �أم لتلك الأرجوحة التي وجدتها كما هي‬
‫يف مكانها‪ ،‬كادت �أن تبكي بانهيار جمددًا وهي ت�صل للحديقة وتلمح �أرجوحتها‬
‫كما هي مل تتغري‪ ،‬ليزداد نحيبها وهي تعي �أنها تتحمل وزنها وهي ُت ّربها لت�شعر‬
‫‪110‬‬
‫بتلك الطفلة التي فقدتها منذ زمن‪ ،‬رم�شت بعينيها حتاول منع الدموع من االنهمار‬
‫جمددًا وهي تلمح �سليم يقرتب من البوابة الأمامية للمنزل ويحمل معه املثلجات‬
‫ُمبت�سما لها بحنان ما زالت حتمله روحه‪.‬‬
‫و�صل �إليها وهو يقول‪«:‬بالطبع �ستتح ّمل وزنك ف�أنت كالع�صفورة»‪ ،‬ابت�سمت له‬
‫بحزن وهي تتل ّم�س الأرجوحة بكفها قائلة ب�صوت مبحوح‪«:‬ال �أ�صدق �أنها ما زالت‬
‫أر�ضا �أمامها وهو يجيبها بينما يخرج املثلجات من الكي�س‪«:‬يامن من‬ ‫هنا»‪ ،‬جل�س � ً‬
‫�أ�صر على بقائها» ليعطيها املثلجات وهو يقول بابت�سامة واعيا على ملحة الأمل التي‬
‫ثلجاتك بنكهة الفراولة كما حتبينها �أم تف�ضلني نكهة �أخرى‬
‫ِ‬ ‫مرت بعينيها‪«:‬ها هي ُم‬
‫ذوقك �أم ال»‪.‬‬
‫تغي ِ‬‫ال �أعلم �إن ّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أخذتها منه جتيبه بامتنان‪«:‬مل يتغري �أي �شيء‪� ،‬أنا توقفت عن االختيار منذ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫زمن بعيد �سليم»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫نظر لها وهي تنظر للمثلجات ب�شرود‪ ،‬وهو يعي �أن جملتها حتمل الكثري والكثري‬

‫ع‬
‫لي�س�ألها دون مواربة‪«:‬هل �أجربوك على ما ال ترغبني؟»‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها وهي‬
‫متتنع عن النظر له جميبة‪«:‬ا�س�أل ال�س�ؤال ال�صحيح يا ابن العم‪� ،‬أهناك ما مل‬
‫يجربوين عليه؟!» �أ�صابت مالحمه اجلمود وهو يقول لها‪«:‬زمرد‪� ..‬أنا �أريد �أن‬
‫عليك»‬
‫ؤالك‪ ،‬ال لرف�ضي ما �ستنطقني به ولكن خلويف ِ‬
‫�أعرف و�أخ�شى �س� ِ‬
‫ابت�سمت ب�سخرية وهي ترفع عينيها لتناظره �أخ ًريا‪«:‬الوحيد منذ عدت وهو‬
‫يرغب ح ًقا يف املعرفة وال يخ�شى منها»‪ ،‬مل يبت�سم لها ليقول بغ�ضب مكتوم‪«:‬هل‬
‫مررت به؟»‬
‫�ضايقك �أحدهم بالكالم؟ هل جر�ؤ �أحدهم �أن يح ّم ِلك ذنب ما ِ‬
‫ِ‬
‫«لهم كل احلق يف ذلك �سليم‪ ،‬فما فقدته مل تكن روحي فقط بل ج�سدي �شريف»‬
‫�أجابته ب�أمل‪.‬‬
‫�سجل ما تقوله داخل عقله ُم ً‬
‫اول تف�سريه‬ ‫انتف�ض داخله بعنف وهو يحاول �أن ُي ّ‬
‫مررت به‪ ،‬كيف جر�ؤوا على هذا؟ من؟‬‫ليقول بغ�ضب‪«:‬ال يحق لهم �شيء‪ ،‬يكفي ما ِ‬
‫�أخربيني من لأك�سر له ر�أ�سه؟» ابت�سمت له بحزن وخطان من الدموع ير�سمان‬
‫معاناتها على وجهها لتقول‪«:‬مل يعد �أي �شيء مه ًما �سليم لقد‪»...‬‬
‫‪111‬‬
‫�أ�شاحت ب�أنظارها بعيدً ا عنه حتاول مللمة �شتات نف�سها وهي تنظر لل ُملحقني‬
‫التابعني للمنزل حيث ت�سكن عائلتها ب�أكملها به‪ ،‬لتقول له بهم�س‪«:‬حني دخلت هنا‬
‫�صباحا منذ يومني �شعرت باملرارة‪ ،‬نظرت لذلك املبنى الكبري وتذ ّكرت �أن مت خطفي‬
‫ً‬
‫من بني عائلتي‪ ،‬من �شارعي الذي �أ�سكن فيه‪ ،‬من بني يديه بعد �أن تركها للحظات»‪.‬‬
‫عادت ب�أنظارها للمثلجات التي بد�أت يف الذوبان دون �أن تتذوق منها �شي ًئا‬
‫لتقول‪«:‬لقد تركني للحظة من �أجل �أن يح�ضر يل املثلجات‪ ،‬كانت جمرد حلظة �أدار‬
‫فيها وجهه عني لي�سود العامل من حويل ُم�ستيقظة يف مكان �آخر با�سم �آخر بعائلة‬
‫�أخرى يف مبنى كبري كهذا»‪� ،‬أغم�ضت عينيها وج�سدها يرتع�ش تتذ ّكر ذكريات‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الليلة الأوىل لها‪�«:‬أزاحت املالب�س من على ج�سدي و�أحرقتها‪ ،‬نزعت عني قرطي‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب‬
‫الذي �ألب�سني �إياه والدي‪� ،‬أخذت ت�س�ألني عن ا�سمي ف�أخربها ب�أنني زمرد لت�صفعني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫على وجهي فت�س�ألني جمددًا لأجيبها بزمرد فت�صفعني مرة �أخرى ليتكرر �س�ؤالها‬

‫توزيع‬
‫وتتكرر �إجابتي ويتكرر �صفعها و�أنا ال �أعلم ما اخلط�أ‪ ،‬لي�أتي ليقف �أمامي»‪ ،‬ملح‬
‫�سليم مالمح الكره على وجهها وج�سدها ينتف�ض يحاول عدم مقاطعتها رغم الأمل‬
‫الذي �سكن داخله وهو يراها تنهار هكذا‪� ،‬سمعها تكمل ب�صوت مكتوم‪«:‬لقد وقف‬
‫�أمامي بربود ليهدر �صوته عال ًيا‪«:‬ا�سمك رحمة ممدوح العزامي» مل �أفهم وخويف‬
‫مل ي�ساعدين وقتها على الفهم لأت�ساءل ب�صوت مرجتف ماذا؟ لأجد بدل ال�صفع‬
‫جلدً ا على ج�سدي ُمرددًا جملته ا�سمك رحمة ممدوح العزامي‪ ،‬لتتواىل جلداته و�أنا‬
‫�أ�صرخ من الأمل حتى ح�صل مني على ما يريد‪ ،‬لأردد ب�صراخ �أنا رحمة ممدوح‪،‬‬
‫رحمة ممدوح‪ ،‬وقتها كدت �أفعل �أي �شيء له فقط ليتوقف عن جلدي فتتوقف تلك‬
‫النريان التي ت�صيب ج�سدي»‪ ،‬رفعت كفها تكتم �شهقاتها لتت�ساقط املثلجات � ً‬
‫أر�ضا‬
‫ُم�صطدمة بالع�شب قائلة بني بكائها‪«:‬ليته مل يتوقف عن ا�ستعمال ال�سوط‪ ،‬ليته مل‬
‫ي�ستخدم �أ�ساليبه الأخرى ليح�صل مني على ما يريده‪ ،‬ليتني حت ّملت قليال‪ ،‬ليتني‬
‫مل �أتفوه باال�سم الذي �أراده رمبا رمبا مت �صغرية من قوة الأمل وال �أن �أحيا بذلك‬
‫اال�سم‪ ،‬اللحظة التي تخ ّليت فيها عن زمرد ماتت لتحيا رحمة والآن بعد ثمانية ع�شر‬
‫‪112‬‬
‫عاما يريدون �أن �أكون زمرد مرة �أخرى‪ ،‬كيف �أفعل هذا يا �سليم؟ كيف �أكونها و�أنا‬ ‫ً‬
‫قتلتها بيدي كما قتلته‪ ،‬يا اهلل لقد قتلته يا �سليم لقد قتلته بيدي»‪.‬‬
‫قطر منها‪ ،‬لتنتف�ض مكانها وهي حتاول‬ ‫نظرت به�ستريية لكفها وك�أن الدماء ُت ّ‬
‫م�سح كفها ب�شالها يف انهيار مت�أخر منها‪ ،‬ت�ضغط عليه بقوة لعلها مت�سح تلك الدماء‬
‫ليقف �سليم مراق ًبا انهيارها عاجزا عن فعل �شيء لها ليهتف لها‪«:‬زمرد انظري يل‬
‫زمرد‪ ،‬زمرد»‪ ،‬لت�صرخ ب�صوت �أوقظ جميع �سكان املنزل‪«:‬لقد ماتت‪ ،‬لقد ماتت‪،‬‬
‫�سرعا منها وهو يراها جترح كفيها ب�أظافرها ليحت�ضنها‬ ‫لقد ماتت» اقرتب �سليم ُم ً‬
‫اول احتواء غ�ضبها وتخ ّبطها بني ذراعيه لتتوقف بعد حلظة وهو ي�شعر‬ ‫بقوة ُم ً‬

‫ع‬
‫بثقل ج�سدها عليه‪ُ ،‬مدر ًكا ب�أنها فقدت الوعي‪ ،‬ملح عائلته تخرج من البيت وعائلتها‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫وعائلة يامن لينظر لهم بقهر‪ ،‬وظنه ي�ؤكد له �أن املرارة التي �شعرت بها هنا مل تكن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫�إال ب�سببهم‪ ،‬فهدر بهم بغ�ضب وهو يحمل ج�سدها‪«:‬اللعنة مل مير عليها �سوى ثالث‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ليال وقد �شعرت باليتم جمددًا‪ ،‬اللعنة لقد مت اختطافها �صغرية‪ ،‬مل ترتك املنزل‬

‫ع‬
‫هاربة لتُح ّملكم العار»‪.‬‬
‫«ما الذي يحدث هنا؟!» هتاف خرج ب�صدمة من يامن الذي عاد من عمله يف‬
‫م�صدوما من امل�شهد الذي �أمامه‪ ،‬عائلته ب�أكملها يف احلديقة اخللفية‬
‫ً‬ ‫هذه اللحظة‬
‫و�سليم يحمل زمرد بني ذراعيها ويبدو عليها االنهيار‪ ،‬هتف �سليم به‪«:‬ا�ستد ِع طبي ًبا‬
‫على الفور يا ابن العم‪ ،‬ومن الأف�ضل �أن يكون طبي ًبا نف�س ًيا‪ُ ،‬مبارك جفا�ؤكم جتاهها‬
‫عجل من انهيارها‪ ،‬وا�صلوا فعلتكم ليومني �آخرين و�ستجدونها ميتة بينكم»‪ ،‬نظر‬ ‫ّ‬
‫لهم �سليم بغ�ضب وهو مير من جانب يامن حامال زمرد ُمتج ًها بها �إىل منزلها‪،‬‬
‫ُمتجاهال ال�شهقات من خلفه‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل حممد الأ�سيوطي‬
‫تن ّف�ست بقوة وهي تنظر جل�سد �آدم املُلقى على الأر�ض يت�أوه لت�سمع �ضحكات‬
‫�أحمد التي ال تتوقف‪ ،‬اعتدلت يف وقفتها حتاول تنظيم �أنفا�سها وهي ت�سمع �صوت‬
‫‪113‬‬
‫أخربتك �أنني �أمار�س الكاراتيه؟ ح�س ًنا‬
‫ِ‬ ‫�آدم املُت�أمل‪«:‬يا �إلهي‪ِ � ،‬‬
‫أنت ل�ست عادلة‪ ،‬هل �‬
‫لقد كذبت �أنا ل�ست ُمبتدئا حتى لقد �شاهدت القليل من الفيديوهات فقط عنه»‪.‬‬
‫حانت منها ابت�سامة وهي جتذب احلقيقة من فمه �أخ ًريا ذلك املغرور ال�صغري‪،‬‬
‫التفتت لأحمد الذي وقع من على الكر�سي من كرثة ال�ضحك وهو يتابع �أخاه يحاول‬
‫النهو�ض‪� ،‬أحمد اخلجول ما عرفته عنه من كالم جميلة مل يكن كاف ًيا لو�صفه‪ ،‬هذا‬
‫الطفل يحمل براءة يف قلبه تكافئ مكر �أخيه التوءم‪� ،‬أحمد الذي ا�ست�أذنها بخجل‬
‫�أن يتابعهما من بعيد فلم ت�ستطع الرف�ض �أمام طلبه وهي تراه يجاهد لكيال يزعجها‬
‫بطلبه‪� ،‬أحمد املناق�ض متاما لتوءمه ال�شقي �آدم‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ملحته يناديها وهو يقول بلهفة‪«:‬احذري» لتلتفت يف اللحظة التي جذبها �آدم من‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫رجلها برجله لت�سقط على الأر�ض بجواره لينه�ض يف حلظة وهو يقول من بني �أنفا�سه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫املُت�سارعة‪«:‬ال تن�س‬

‫شر وال‬
‫قوانينك اخلا�صة �أختاه‪ ،‬ال تبعد عينيك عن مناف�سك �أبدً ا‪ ،‬ها‪،‬‬
‫ِ‬

‫توزيع‬
‫أوقعتك �أخريا»‪.‬‬
‫لقد � ِ‬
‫حاولت النهو�ض وهي ُتداري ابت�سامتها لت�شعر بالأمل يف كتفها ويبدو �أنه‬
‫ا�صطدم بحجر �ضخم ُملقى على الأر�ض‪ ،‬اقرتب �أحمد منها وهو ي�سندها لي�س�ألها‬
‫أنت بخري؟! يا �إلهي ماذا فعلت �آدم؟!»‬
‫باهتمام‪«:‬هل � ِ‬
‫ملحت قلق �أحمد وهو يزيح الع�شب من على ر�أ�سها ومي�سد على �شعرها ليقرتب‬
‫�آدم وهو ي�شعر باالرتباك حني ملحها مت�سك كتفها‪«:‬هل حدث �شيء؟! �أنا‪� ..‬أنا مل‬
‫�أق�صد �أن‪»...‬‬
‫التفتت له وهي تراه �شاحب الوجه لتُجيبه بابت�سامة هادئة‪«:‬مل يحدث �شيء‪� ،‬أنا‬
‫مل �آخذ حذري فقط»‬
‫«ماذا يحدث هنا؟!» التفت ثالثتهم �إىل �آ�سر الذي ال ُي�ص ّدق حتى الآن وجود‬
‫�أمرية و�سط �أخويه‪� ،‬أمرية التي ظنها �أحد �أ�صدقاء �آدم ب�شعرها الق�صري وهيئتها‬
‫ال�ضعيفة حني دلف للمنزل و�شاهدهم يلعبون باحلديقة‪ ،‬وحني اقرتب لريى عن‬
‫قرب ماذا يفعلون ملحها لتزداد ده�شته لنزولها من ال�شقة ولعبها مع �آدم و�أحمد‪.‬‬
‫‪114‬‬
‫�سمع �إجابة �آدم املُرتبكة‪�«:‬أنا‪� ..‬أنا طلبت من ليلى �أن ُتعلمني الكاراتيه‪ ،‬واليوم‬
‫كان �أول در�س‪� ،‬أنا مل �أق�صد �أن �أ�ؤذي ذراعها»‪.‬‬
‫«ذراعها» هم�سة خرجت من �آ�سر ليقرتب من �أمرية وهي تلمحه يفح�ص كتفها‬
‫بحر�ص حتى و�صل ملنطقة الأمل فت�أوهت لتبعد ذراعها عنه‪ ،‬وهي تقول بحرج الحمة‬
‫قلقهم الذي �أثار داخلها مب�شاعر ُمتلفة‪«:‬مل يحدث �شيء‪� ،‬صدقني �أنا مل �أكن‬
‫حذرة فقط‪� ،‬آدم مل يفعل �أي �شيء»‬
‫�أجابها �آ�سر بهدوء‪«:‬ح�س ًنا‪ ،‬دعينا نفح�صه �أوال لنطمئن»‪� ،‬أجابته �أمرية وهي‬
‫ُتع ّدل من ثيابها �شاعرة باحلرج و�سطهم‪«:‬ال داعي ح ًقا �أنا بخري‪ ،‬بالكاد �أ�شعر‬
‫بالأمل»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫التفتت لآدم لتقول له بابت�سامة �صغرية حتاول ُمغالبة �أملها‪«:‬ح�س ًنا لقد انتهى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫�صباحا قم بالتمارين التي �أخربتك بها‪ ،‬وبعد غد‬‫ً‬ ‫الدر�س الأول‪ ،‬ارحت قليال وغدً ا‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�سنكمل تدريبنا‪ ،‬الآن اعذروين يجب �أن �أ�صعد فلقد ت�أخر الوقت»‪ ،‬تركت الثالثة‬

‫ع‬
‫�إخوة و�صعدت لل�شقة وهم جامدين مكانهم فاحتني �أفواههم غري ُم�صدقني جتاوبها‬
‫معهم ورغبتها بتكملة التدريب‪.‬‬
‫كان �آ�سر �أول من خرج من ده�شته‪ ،‬ليقب�ض بكفيه على قمي�ص �آدم و�أحمد من‬
‫اخللف وهو يجذبهما لداخل املنزل و�آدم يت�أوه من قب�ضة �آ�سر ليجل�سهما �آ�سر على‬
‫الأريكة وهو ي�س�ألهما من دون ُمقدمات‪«:‬ح�سنا ما الذي حدث الآن؟!» كاد �أحمد �أن‬
‫يجيبه حني نظر �آ�سر لآدم وهو يقول بلهجة ذات معنى‪«:‬بالتفا�صيل»‪.‬‬
‫بعد �ساعة‬
‫غيت ثيابها وهي مت�سك كتفها ب�أمل لتكتم ت�أوهها‪،‬‬ ‫خرجت من احلمام بعد �أن ّ‬
‫لقد انخلع كتفها من مكانه و�أعادته ملو�ضعه �أثناء ا�ستحمامها‪ ،‬يبدو �أن الوقعة كانت‬
‫�أقوى مما تخيلت‪ ،‬ولكن الأمل يفوق قدرتها على التح ّمل‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي‬
‫ت�ست�شعر �سخونة رهيبة مكان الأمل لتفتح عينيها على �صوت طرق على باب الغرفة‪،‬‬
‫جففت وجهها باملن�شفة لتقرتب من الباب ت�س�أل عن الطارق لي�أتيها �صوت �آ�سر‪�«:‬إن‬
‫كتفك مل يبد بخري»‪.‬‬‫أرجوك‪ِ ،‬‬
‫أفح�صك � ِ‬
‫ِ‬ ‫انتهيت من معاينة نف�سك دعيني �‬
‫‪115‬‬
‫�أغم�ضت عينيها وكادت �أن ت�ضحك وهي تظن �أنها �أخفت �أملها عنه هو الطبيب!‬
‫تنهدت بخفوت وهي تفتح الباب ُماولة �أن تبدو طبيعية لتقول بهدوء بعد‬
‫�أن �شعرت ب�إحراجه وهو ينظر ل�شعرها املُبتل من املياه فبدت كطفل �صغري يريد‬
‫االهتمام‪�«:‬أنا ال �أعلم ما الذي تتح ّدث عنه‪� ،‬أنا بخري والأمل بكتفي ب�سيط»‪.‬‬
‫�س�ألها بهدوء‪«:‬ح ًقا! ح�س ًنا يبدو �أنني خمطئ‪ ،‬تف�ضلي هذه الكتب كانت مبكتبتي‬
‫بع�ضا من الكتب التي لدي»‪،‬‬ ‫حبك للقراءة فقلت َمل ال � ِ‬
‫أعطيك ً‬ ‫�أخربتني �أمي عن ِ‬
‫و�أتبع حديثه وهو ي�ضع الكتب بني ذراعيها ُم�ستغال ده�شتها لتت�أوه والكتب تقع منها‬
‫لت�سب يف �سرها املاكر املُخادع‪.‬‬
‫على الأر�ض عاجزة عن حملها ّ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�سيط!؟»‬ ‫«هل ما ِ‬
‫زلت ُم�ص ّرة على �أن الأمل ٌ‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫نظرت له لتقول من بني �أ�سنانها كامتة �أملها‪«:‬لقد انخلع كتفي من مكانه وقمت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ب�إعادته وانتهى الأمر‪ ،‬ال �أحتاج مل�ساعدتك وال ل ُكتبك ال�سخيفة و�أح ّذرك الآن من‬

‫توزيع‬
‫�إخبار والديك مبا حدث ف�آدم مل يفعل �شيئا ال هو وال �أحمد‪� ..‬أنا من وقعت»‪.‬‬
‫�أخذ الأمر منه دقائق لي�ستوعب ما تقوله‪� ،‬شحوب وجهها وحمائيتها‪ ،‬يف البداية‬
‫ُ�صدم من تعاملها مع خلع كتفها بب�ساطة ك�أنه ال �شيء ُيذكر‪ ،‬ثم ازدادت �صدمته‬
‫وهي ُتهدده بعدم �إخبار والديه عما حدث‪ ،‬هي ال تريد العقاب لآدم ظنا منها �أنهم‬
‫وحو�ش �سيعاقبونه �أ�شد العقاب و ُيع ّذبونه ملا فعل!‬
‫ظننت �أن �أبي و�أمي �سيلقيان عليه �أ�شد عقاب ملا فعل �أو‬‫�س�ألها ببهوت‪«:‬هل ِ‬
‫ي�ؤذيانه؟!»‬
‫جاء دورها بالبهوت وهي تتذ ّكر عقاب ممدوح و�سمرية لهم حني يخطئ �أحدهم‪،‬‬
‫لعنتهم يف �سرها وهي ت�شعر باخلجل ملقارنة والدي �آ�سر بهما‪ ،‬بالطبع فمن هي‬
‫ليعاقبوا ابنهم من �أجلها‪ ،‬حتدث �آ�سر وهو ي�شعر بت�ضارب �أفكارها‪«:‬نعم للأوىل‬
‫وال للثانية»‪.‬‬
‫نظرت له با�ستغراب يتبعه ده�شة وهي تراه يجيب عن الأ�سئلة بر�أ�سها‪«:‬نعم‬
‫ع�شت معهما تلك الفرتة‪،‬‬
‫ووالدتك لي�سا كذلك الرجل وتلك املرة اللذين ِ‬
‫ِ‬ ‫والدك‬
‫ِ‬
‫‪116‬‬
‫ل�ست ذات �أهمية‪� ،‬أبي و�أمي‬
‫أنك ِ‬ ‫بك ل ِ‬‫وال تظني �أن �أبي و�أمي لن يعاقبا �آدم ملا فعله ِ‬
‫خارجا عن �إرادتكما ولكن وجب‬ ‫بالفعل �سيعاقبان �آدم ولكن بتفاهم‪ ،‬رمبا الأمر كان ً‬
‫عدت �أخ ًريا حلياتنا وال لأننا ُن ِ‬
‫عاملك‬ ‫أنك ِ‬ ‫أنك �ضعيفة وال ل ِ‬‫معك‪ ،‬ال ل ِ‬
‫احلذر يف تعامله ِ‬
‫وبنيتك تختلف عن بنيته‪ ،‬رمبا‬
‫ِ‬ ‫أنك �أخته‪ ،‬فتاة ال ك�أ�صدقائه ال�صبية‪،‬‬
‫بلطف‪ ،‬بل ل ِ‬
‫معك لأن �أبي و�أمي‬
‫أنت فتاة‪ ،‬فكان يجب �أن ي�أخذ حذره ِ‬ ‫أنت �أقوى‪ ،‬ولكن يف النهاية � ِ‬
‫� ِ‬
‫يعلمان جيدً ا �أن �آدم عنيف ال�شخ�صية على العك�س من �أحمد‪ ،‬لذا كل ما �سيفعله‬
‫قبلت‬
‫لك ولو ِ‬ ‫والداي هو �أن يتحدثا معه يف هذا الأمر ل ُيف ّهماه ما وجب فعله ليعتذر ِ‬
‫اعتذاره �سيكون وقتها الأمر انتهى‪.‬‬
‫�شعر بها تائهة بعد حديثه الطويل ن�سب ًيا‪� ،‬شعر بها ك�أنها تعي�ش يف غمامة من‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الظالم تريد لأحد �أن ينت�شلها منها‪ ،‬وهو �أق�سم داخله �أنه لن يدعها فيها بعد الآن‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يكفيها تخ ّبطا‪ ،‬يكفيها عذا ًبا حتى الآن‪ ،‬هو يحتاج لأن يفهم‪ ،‬يفهم قبل �أن حتكي له‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫عما حدث يف حياتها ال�سابقة‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حني ملح دموعها املُرتقرقة يف عينيها حتدث بهدوء وهو يحمل الكتب من على‬
‫الأر�ض لي�ضعها على الطاولة بغرفتها‪«:‬والآن اجل�سي قليال حتى �أح�ضر �صندوق‬
‫كتفك»‬
‫الإ�سعافات لأعالج ِ‬
‫تركها وخرج من الغرفة لت�سند ج�سدها بذراعيها‪ ،‬وهي ت�ست�شعر دوران كل ما‬
‫حولها‪ ،‬جل�ست على ال�سرير لتدمع عيناها وهي تنظر بجمود باجتاه املمر يف انتظار‬
‫عودة �آ�سر‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫جل�س يف مكتب اللواء ح�سني يفكر يف ذلك اليوم الذي عالج فيه كتف �أمرية‪،‬‬
‫تذ ّكر دموعها املُت�ساقطة التي جت ّنب احلديث عنها وهو يداوي كتفها وي�أتي ب�أدويتها‬
‫بعد �أن كتب لها مواعيد الأدوية التي ت�ساعدها على ال�شفاء‪ ،‬طال ًبا منها عدم �إجهاد‬
‫نف�سها تلك الفرتة‪ ،‬ليتفاج�أ هو وهي بقدوم جميلة ُم�سرعة وهي حتت�ضنها ُمكررة‬
‫اعتذارها لها من بني دموعها وخلفها �آدم املُن ّك�س الر�أ�س وهو يدلف لغرفتها ليت�أ�سف‬
‫‪117‬‬
‫لها وهو ي�شعر باخلجل واحلزن لأذيتها بهذا ال�شكل‪ ،‬لتبتعد �أمرية عن ح�ضن جميلة‬
‫ُمقرتبة منه لرتفع ر�أ�سه بكفها لتحرك ر�أ�سها بالنفي وهي تبت�سم له ك�أنها تخربه �أنه‬
‫مل يحدث �شيء‪ ،‬رمبا كان موق ًفا �صع ًبا �إال �أنه �ساعد يف تقارب �آدم و�أمرية و�أحمد‬
‫من بع�ضهم‪ ،‬تذ ّكر حديث والدته عن �أمري الذي جاء �أثناء ت�أنيب والديه لآدم ف�س�أل‬
‫والدته عما حدث لتجيبه بهدوء مالحظة �ضيق �أمري الذي مل يخفه عنهم وهو يقول‬
‫بغ�ضب‪«:‬هي من �أخط�أت‪ ،‬مل مير عليها فرتة وها هي تن�شر العنف يف ابنكما‪ ،‬رمبا‬
‫من الأف�ضل �أن تبقى بغرفتها بالأعلى»‪ ،‬ا�ستغرب وقتها من رد فعل �أمري املُبالغ فيه‬
‫لتخربه والدته عن دفاع والدها عنها وهو يهدر به‪«:‬احفظ ل�سانك �أمري‪ ،‬ما الذي‬
‫يحدث معك؟! لقد �أخط�أ �آدم بدون ق�صد‪ ،‬و�أختك مل تفعل �سوى ما طلبه �آدم منها‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫وهذا منزلها كما هو منزلكم‪ ،‬لذا لها احلق يف التواجد ب�أي مكان تريده‪� ،‬أنا مل �أتوقع‬

‫ب‬
‫منك هذا �أمري»‪ ،‬لينظر له �أمري بحزن ثم تركهم لي�صعد لغرفته‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫شر وال‬
‫عاد من �أفكاره وهو ينوي �أن يتحدث لأمري بخ�صو�ص هذا الأمر‪ ،‬منذ عودة‬
‫�أمرية وهو مل يحاول �أن يتحدث معها ب�شيء بل يف املرتني اللتني تقابال فيها �صدفة‬
‫وهي ُتد ّرب �آدم بعد تعافيها بقليل بدا ك�أن ما بينهما من غ�ضب يفوق �أي م�شاعر‬
‫�أخرى‪ ،‬الآن فقط هو ير ّكز ب�أفكاره على ليلى قبل �أن تكون �أمرية هو يحتاج ملعرفة‬
‫الكثري من الأمور عن احلياة التي كانت حتياها‪ ،‬جاء ملكتب اللواء ح�سني الذي قابله‬
‫برتحاب‪ ،‬رجل حمرتم خمل�ص لبلده ووطنه مما �سمعه عنه من رجال عملوا معه‪،‬‬
‫ا�ستمع اللواء ملطلبه وهو يخربه ب�أنه �سيح�ضر له كل الأوراق التي يحتاجها وتركه وهو‬
‫يخربه عن اجتماعه الطارئ‪ ،‬وطلب منه االنتظار‪ ،‬فقد �صادف وجوده وجود �شخ�ص‬
‫قادر على م�ساعدته �أف�ضل من �أي ورق ميكنه االطالع عليه‪.‬‬
‫خرج من �أفكاره على دخول اللواء ملكتبه يتبعه �آخر �شخ�ص ظن �أنه �سرياه جمددًا‬
‫لتزداد ابت�سامة �آ�سر وهو يرى جمود ال�شخ�ص �أمامه‪ ،‬ك�أنه مل يتوقع ر�ؤيته هو الآخر‪،‬‬
‫�سمع اللواء يقدمها له‪«:‬دكتور �آ�سر �أقدم لك الطبيبة ُغفران‪ ،‬لقد �ساعدتنا كث ًريا‬
‫يف حتقيقنا‪ ،‬وهي على ا�ستعداد لتقدمي املُ�ساعدة لك بخ�صو�ص �أختك»‪ ،‬وقف �آ�سر‬
‫ؤيتك جمددًا»‪.‬‬
‫وهو يقول برتحيب‪�«:‬أهال دكتورة ُغفران �سعيد بر� ِ‬
‫‪118‬‬
‫جتبه ب�شيء وهي جامدة مكانها‪ ،‬ليتحدث اللواء ح�سني غافال عن حالتها وهو‬ ‫مل ِ‬
‫يح�ضر �أورا ًقا من مكتبه‪«:‬ح�سنا ُغفران‪ ،‬هذا هو الدكتور �آ�سر من يرغب مبعرفة‬
‫بع�ض الأمور اخلا�صة ب�أخته �أمرية‪� ،‬س�أترككما لت�أخذا كل الوقت الذي حتتاجانه‬
‫و�س�أذهب ملعاينة بع�ض الأمور مع رجايل فيبدو �أننا و�صلنا ملكان �إحدى الفتيات‪،‬‬
‫�أ�ست�أذنكما»‬

‫تركهما اللواء لتلمح ُغفران �آ�سر يجل�س بهدوء على الكر�سي‪ ،‬وتلك االبت�سامة‬
‫ال�سخيفة ُتز ّين وجهه‪ ،‬لتتفاج�أ به وهو ي�س�ألها‪«:‬يبدو �أن ر�ؤيتي مل ت�س ّر ِك كما �س ّرتني‬
‫طلبك مل�ساعدتي‪ ،‬ف�أنا �أخربته بحاجتي‬ ‫لك لأن اللواء ِ‬ ‫ؤيتك‪ ،‬ولكن �أنا لن �أعتذر ِ‬‫ر� ِ‬

‫ع‬
‫لأوراق ت�ساعدين يف التعامل مع ليلى وهو �أخربين �أنه �سيح�ضر يل ما هو �أف�ضل من‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫طلبك ال �أنا»‪.‬‬

‫ك‬
‫الأوراق‪ ،‬لذا هو من ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫جتاهلت كل الهذر الذي يهذي به وهي جتل�س على الكر�سي املقابل له لتتح ّدث‬

‫والتوزي‬
‫بدون مقدمات‪«:‬رمبا من الأف�ضل �أن تبد�أ ُمبناداتها �أمرية حتى ُتربها على‬

‫ع‬
‫تق ّبلكم»‪.‬‬
‫ملحها تنظر له بجمود لريفع حاجبيه ُم�ستغر ًبا من احلالة التي بها‪«:‬ملاذا تبدين‬
‫أنك على و�شك قتلي ب�أ�سنانك؟! �أنا �شخ�ص م�سامل»‪ ،‬قالها بابت�سامة لرتفع‬
‫دائ ًما ك� ِ‬
‫حاجبيها هي الأخرى بته ّكم لتكمل حديثها ك�أنه مل يقل �شيئا‪«:‬ما الذي تريد معرفته‬
‫عن �أمرية؟!»‬

‫ملحت مالحمه تت�سم باجلدية �أ�شعرتها باال�ستغراب من احلالة التي تب ّدل فيها‬
‫من الته ّكم لت�سمعه ي�س�ألها‪«:‬كل �شيء‪� ،‬أمرية حتتاط من كل �شيء حولها‪� ،‬أ�ستطيع‬
‫قليل من والدتي‪ ،‬ومن‬ ‫�أن �أخربك �أنها مل تثق ب�أي فرد م ّنا حتى الآن‪ ،‬رمبا تق ّربت ً‬
‫�أخي ً‬
‫قليل بحكم �أنها ُتد ّربه للكاراتيه ولكن ثقة ال‪ ،‬حني تراين تبد�أ برفع دفاعاتها‬
‫مثلك ك�أنني �س�أقوم باغتيالها يف �أي حلظة‪ ،‬بينها وبني توءمها حرب نظرات‬ ‫كلها ِ‬
‫ك�أن كليهما يف �سباق من �سينت�صر �أوال‪� ،‬إن ا�ستمر يف الغ�ضب �أكرث‪ ،‬و�أبي مو�ضوع‬
‫�آخر‪ ،‬هي ح�سنا بدون جتميل للكالم هي ُت ِكن له كرهً ا ال نهاية له»‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫�أن�صتت ُغفران له باهتمام وهي ت�ست�شعر ب�صدق م�شاعره‪ ،‬هذا الرجل �أمامها‬
‫يريد ح ًقا م�ساعدة �أمرية‪ ،‬جذبت انتباهها اجلملة الأخرية لتقول بهدوء وهي‬
‫أر�ضا‪«:‬لي�س والدك هو املن�شود بهذا الكره‪� ،‬أمرية تكره‬
‫الأخرى تلقي بدفاعاتها � ً‬
‫�أي رجل يكربها �س ًنا‪� ،‬أي رجل ت�ست�شعر منه م�شاعر غريبة‪ ،‬يبدو �أن والدك �شخ�ص‬
‫متاما‬
‫حنون لذا هي ت�ستغرب من م�شاعره هذه‪ ،‬يف حياتنا مل جند �سوى النقي�ض ً‬
‫تتم�سك بالكراهية بدال من �أن‬
‫من والدك‪ ،‬لذا من الطبيعي مع عدم ثقتها بكم‪� ،‬أن ّ‬
‫ت�ست�سلم للحب»‪.‬‬
‫مل ال ت�ست�سلم للحب؟!»‬
‫�س�ألها �آ�سر با�ستغراب‪«:‬ملاذا؟! َ‬

‫ع‬
‫ابت�سمت وهي جتيبه ب�شرود‪«:‬لأنه يف اللحظة التي �سوف ت�ست�سلم فيها للحب لن‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫تبقى على قوتها‪� ،‬ست�صبح �ضعيفة‪ ،‬ويف العامل الذي ن�ش�أنا فيه �سيد �آ�سر‪ ،‬ال�ضعيف‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ميوت‪ ،‬ولكنه يعاين قبل موته»‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫توزيع‬
‫نظر �آ�سر لها برتكيز وهو يعني �أنها تق�صد نف�سها بكالمها عن �أمرية �أكرث‪،‬‬
‫لي�س�ألها مبا�شرة‪�«:‬أنا �أعلم �أن ذلك الرجل مل يكن طبيع ًيا‪ ،‬ولكن ال �أ�ستطيع �أن �أمنع‬
‫آذاك ذلك الرجل؟!»‬
‫ؤالك هل � ِ‬ ‫نف�سي من �س� ِ‬
‫ارتبكت مالحمها وهي تعي �أنه ي�س�ألها هي ال عن �أمرية‪ ،‬لت�شعر بالغ�ضب من‬
‫تفاهة �س�ؤاله لتجيبه من بني �أ�سنانها ونار ت�شتعل بعينيها‪«:‬الأذية كلمة خفيفة‬
‫لو�صف ما تع ّر�ضنا له جمي ًعا‪ ،‬كل ما �أ�ستطيع قوله لك و ُيفيدك بتعاملك مع �أمرية‪،‬‬
‫نحن مل نحيا حياة طبيعية �أبدً ا‪ ،‬مل نع�ش طفولة �سعيدة وال حياة بهجة مليئة باحلب‬
‫وال�سعادة‪ ،‬نحن مل نكن نحيا ك�أ�سرة‪ ،‬كل �شيء بقانون‪ ،‬من يجر�ؤ على تخطي احلدود‬
‫املر�سومة ُيعاقب‪ ،‬والعقاب لي�س عقابا نف�سيا بل ج�سدي‪ ،‬ب�أق�صى الطرق التي ميكن‬
‫تخ ّيلها‪� ،‬أنت رمبا تفهم ال�صورة اخلارجية �أننا ت�أملنا كث ًريا لكن ال �سيد �آ�سر‪ ،‬هناك‬
‫فرق بني الأمل واملعاناة‪ ،‬الأمل ي�ستمر لفرتة حمدودة وي�أتي الوقت لينتهي‪ ،‬رمبا يبقى‬
‫�أثره لفرتة ولكن احلياة ُتربك على التغا�ضي عنه‪� ،‬أما املعاناة فال تنتهي �سيد‬
‫�آ�سر‪ ،‬ويبقى �أثرها لباقي العمر‪ ،‬تذ ّكر جيدً ا �أن �أمرية حالتها تختلف عن زمرد‬
‫وعني‪� ،‬أمرية ولدت يف ذلك املكان‪ ،‬م�شيت خطواتها الأوىل على دماء �أ�شخا�ص‪،‬‬
‫و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات �صراخ‪ ،‬ذاقت الكثري من الربد والأمل‪ ،‬تفاج�أت ب�أ�شخا�ص‬
‫‪120‬‬
‫يبقون فرتة من الزمن معها‪ ،‬يوما يومني �أ�سبوعا �شهرا‪ ،‬تتع ّلق بهم ثم فج�أة ت�ستيقظ‬
‫على ال �شيء ك�أنهم مل يكن لوجودهم �أ�سا�س من ال�صحة‪ ،‬وحني ت�س�أل عنهم ُتعاقب‪،‬‬
‫قليل من �أذيتهم ولكن حني ال نكون يف اجلوار وحدها من تنال‬ ‫رمبا كنا نحميها ً‬
‫ما يكفيها و�أكرث‪ ،‬لتت�ضح الأمور �أمامها وتعرف �أين يذهب الأ�شخا�ص الذين ي�أتون‬
‫لفرتة‪ ،‬ماذا يكون م�صريهم ب�ضاعة ُم�ستعملة �أم ب�ضاعة فريدة‪� ،‬شراء وبيع جل�سد‬
‫�أم �شراء وبيع لأع�ضاء ج�سد‪ .‬كرهتنا نعم‪ ،‬ح ّملتني امل�س�ؤولية �أنا وزمرد نعم‪ ،‬لكن‬
‫عاما‬
‫بعدها اكت�شفت �أننا مثلها الفرق الوحيد بيننا �أنها ق�ضت معهم ثمانية ع�شر ً‬
‫فقط‪ ،‬بينما ق�ضينا فرتة �أطول‪ ،‬تكره والدك لها احلق يف البداية‪ ،‬وهي مل تر �أ ًبا‬
‫ب�صفته الطبيعية‪ ،‬بل ر�أت �أ ًبا وغدً ا حق ًريا ي�ستطيع فعل امل�ستحيل من �أجل املال ومن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أجل من يعمل لديهم‪ ،‬ر�أت �أ ًبا ي�ضرب ويقتل ويغت�صب»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫ارجتفت عيون �آ�سر وهو ينظر لها بجمود لتكمل بهدوء‪«:‬نعم رمبا مل تره يفعلها‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لكن �سمعت و�أدركت ممن حولها‪ ،‬حت ًما هذا هو ال�سبب‪� ،‬أنا تركتهما فرتة‪ ،‬تلك‬

‫ع‬
‫الفرتة رمبا �أكملت على �صورة ممدوح القذرة يف عقلها‪ ،‬ذلك الظالم الذي بروحها‬
‫يكاد ينق�شع‪ ،‬لقد ملحت ذلك حني قابلتها‪ ،‬هناك �شيء خمتلف بها ال �أدركه‪ ،‬لكن‬
‫تاما وقلبها يت�ش ّرب كل ما ُتق ّدمونه لها‪ ،‬واحلل‬ ‫�أ�شعر به‪ ،‬عقلها يرف�ضكم ً‬
‫رف�ضا ً‬
‫يا �سيد �آ�سر حتى ننهي هذا احلوار هو �أن ُتعاملوها بطبيعية‪ ،‬امنحوها من حبكم‬
‫الكثري ومن عطفكم ما ميلأ روحها‪ ،‬ال تدعوها لكوابي�سها‪ ،‬ال تبعدوها عنكم يف‬
‫ال�سكن‪ ،‬اجربوها على �أن تق�ضي معكم معظم �أوقاتكم باملنزل‪� ،‬سرتف�ض وتعاند‬
‫بالبداية لكنها �ستملأ روحها بكل حماوالتكم‪ ،‬و�ستفي�ض م�شاعرها مبا متنحونها‬
‫�إياه لكن �إياكم و�إهمالها بعد �أن تعطوها كل �شيء‪ ،‬لأنني وقتها لن �أ�ساحمكم �أبدا‪،‬‬
‫تريد �أن تتق ّرب منها لت�سرد لك �أ�سرارها تق ّرب‪ ،‬ا�ستفد بوظيفتك كما �أخربت اللواء‬
‫وعاجلها لكن ال تعاملها ك�أخت عاملها كمري�ضة وقتها �ست�صل لداخلها‪� ،‬أما بالن�سبة‬
‫للثقة فاتركها للوقت فالثقة ال ُتنح بل ُتكت�سب»‪.‬‬
‫نه�ضت من مكانها وهي حتمل حقيبتها لريم�ش بعينيه مبهوتا بالطاقة التي حتيط‬
‫أنك‬ ‫بها لي�س�ألها دون �أي مقدمات‪«:‬ملاذا مل تبلغي ال�شرطة قبل ذلك؟! � ِ‬
‫أنت تقولني � ِ‬
‫‪121‬‬
‫هناك قبلها فلماذا مل تقيها �شر ما ر�أته من قبل �أن يخطفوها؟!» التفتت بر�أ�سها له‬
‫وهي تقول ب�صوت خال من احلياة‪«:‬ومن قال لك �أنني مل �أفعل؟!»‬
‫إليك؟!» التفتت له لتبت�سم‬
‫�س�ألها با�ستغراب‪�«:‬إذا ماذا حدث؟! �أمل ي�ستمعوا � ِ‬
‫بتهكم‪«:‬بلى‪ ،‬ا�ستمعوا للطفلة ال�صغرية التي �أتتهم‪ ،‬ا�ستمعوا لكل كلمة ُبحت لهم‬
‫بها‪ ،‬ا�ستمعوا وقاموا بواجبهم ف�أعادوين للمنزل جمددًا لي�ستلموا املقابل الذي‬
‫جعلهم ال يتفوهون بكلمة‪ ،‬وكم كان ال�سيد ممدوح كر ًميا مع �أمثالهم‪ ،‬وكن على‬
‫ثقة �سيد �آ�سر �أنه مل يتوان يف جعلي ال �أتفوه بكلمة مع �أحد لفرتة طويلة من الزمن‪،‬‬
‫�أمتنى �أال يكون لديك �أ�سئلة �أخرى»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�شعر باملرارة يف جملتها الأخرية وهو يلمح �إرهاقها الوا�ضح على مالحمها‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫لي�شكرها بخفوت �أتبعه باعتذار‪ ،‬رفعت ر�أ�سها با�ستغراب له لرتاه يجيبها بحنان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أجربتك على احلديث وتذ ّكر ما ال ترغبني به»‬ ‫�أثار ارتباكا مبعدتها‪�«:‬أعتذر لأنني �‬

‫شر وال‬
‫ِ‬

‫توزيع‬
‫لتُجيبه بهم�س قبل �أن ترحل‪�«:‬أنا مل �أن�س لأتذ ّكر �سيد �آ�سر»‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫‪122‬‬
‫ال تقويل �إنك خائفة �أبدا يا �صغريتي‪� ،‬أبدا و�إال ف�إن ما تخافينه‬
‫�سيتعاظم حتى يهزمك‬

‫جوزبه كاتوت�سيال‬
‫الف�صل الثامن‬
‫ابق �أرجوك‬

‫منزل حممد الأ�سيوطي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ال تدري كيف �أقنعتها ال�سيدة جميلة بالنزول‪ ،‬حاولت بقوة ال�سيطرة على قلقها‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫وهي تلمح خلو املنزل من �ساكنيه بالفعل كما �أخربتها‪ ،‬ولكن ال تعلم َمل هذا ال�شعور‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يعرتيها‪ ،‬رمبا مل متكث �سوى ثالثة �أ�سابيع يف غرفتها بالدور الأخري‪� ،‬إال �أنها �شعرت‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫ب�أنها م�سكنها الآمن امل�ؤقت‪ ،‬مل ت�ستطع الثقة بعد ب�أحد‪ ،‬تعلم ب�أن هناك الكثري من‬
‫الأ�سئلة التي يحتاجون �إجاباتها‪ ،‬لكنها ال ت�ستطيع �أن تتحدث‪ ،‬فقط ال تريد‪ ،‬حمدت‬
‫اهلل يف �سرها �أن هذا ال �آ�سر مل يحاول التحدث �إليها بعد مواجهتها معه الأخرية‪،‬‬
‫ولكنها تعلم �أن عينيه حتويان الكثري والكثري من الأ�سئلة‪ ،‬حتى بعد حادثة ال�س ّكني‬
‫مل يحاول �أن ي�ستف�سر عن �شيء‪ ،‬فقط �س�ألها �إن كانت بخري �أم ال‪ ،‬ومل يتفوه ب�أي‬
‫�شيء عما قالته عن عقاب �أهله لآدم حني جاء ليطمئن على ذراعها‪ ،‬هي ت�شعر‬
‫ب�صدق م�شاعره‪ ،‬ي�شبه كث ًريا ال�سيدة جميلة يف حنانها‪ .‬خرجت من �أفكارها على‬
‫�شردت؟!» التفتت لها بهدوء وهي تراها ت�ضع �أطبا ًقا‬‫ِ‬ ‫�صوت ال�سيدة جميلة‪«:‬فيما‬
‫من احللوى �أمامها وتبت�سم لها بحنو‪ ،‬يا �إلهي �أنها كتلة حنان ُمتحركة‪ ،‬تريد ب�شدة‬
‫النهل من ينبوعها وتخاف من �أن تنجرف نحو م�شاعرها‪ ،‬طاملا �أخافوها من نتيجة‬
‫االجنراف خلف امل�شاعر‪ ،‬خلف ما نحتاجه‪.‬‬
‫�أخرجتها جميلة من �شرودها بلم�سة يديها احلنونة على كفها املو�ضوع على‬
‫نزولك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الطاولة‪�«:‬أمتنى �أال تكوين ُمنزعجة من �إ�صراري على‬
‫خف�ضت �أمرية نظراتها وهي ت�سحب كفها بهدوء من حتت يد جميلة وت�ضعه يف‬
‫حجرها وهي تقول‬
‫‪124‬‬
‫«ال �أنا فقط مل �أعتد على داخل املنزل بعد‪ ،‬مل �أنزل �سوى للحديقة اخللفية»‪.‬‬
‫ابت�سمت جميلة لها بحب وجتاهلت �سحبها ليديها وحتدثت‪«:‬اجلو يف الدور‬
‫الأول يكون جميال يف هذا الوقت‪ ،‬كما �أن ال�شرفة على احلديقة اخللفية ت�سمح‬
‫أنت مل تر املنزل جيدا‪ ،‬وكذلك احلديقة الأمامية‬
‫للقليل من �أ�شعة ال�شم�س باملرور‪ِ � ،‬‬
‫الكثري من الورود التي زرعها حممد يل ملعرفته بحبي لها‪.‬‬
‫رفعت �أمرية عينيها تنظر جلميلة بجمود وهي تتحدث عن حممد‪ ،‬وتلمح يف‬
‫مل تنظرين يل هكذا؟!»‬ ‫عينيها بريقا غريبا‪ ،‬ملحت جميلة نظراتها املتابعة لها‪َ «:‬‬
‫أنت تتحدثني عن‪� »...‬صمتت �أمرية‬
‫بعينيك و� ِ‬
‫ِ‬ ‫�أجابتها �أمرية‪ِ «:‬‬
‫لديك ملعة غريبة تربق‬

‫ع‬
‫ومل تكمل كالمها لتبت�سم جميلة لها وهي تكمل كالمها‪«:‬و�أنا �أحتدث عن حممد!‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ح�س ًنا تلك اللمعة التي تريها تبوح مبدى حبي له» �س�ألتها �أمرية ب�شرود‪«:‬حب!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫هزت جميلة ر�أ�سها وهي تقول‪«:‬نعم عزيزتي حلبنا ق�صة �سوف ن�سردها ِ‬

‫ر‬
‫عليك‬

‫والتوزي‬
‫يوما ما»‬
‫ً‬

‫ع‬
‫مل جتبها �أمرية و�أ�شاحت بنظراتها عنها فكادت جميلة �أن تتحدث حني رن‬
‫جر�س الباب ف�أخربت �أمرية �أن تتناول احللوى حتى ترى من باخلارج‪ ،‬و�صلت جميلة‬
‫للباب وهي تت�ساءل من جاء يف هذا الوقت‪ .‬ملحت ً‬
‫رجل عري�ض املنكبني يرتدي‬
‫نظارة �شم�سية تخفي عينيه‪ ،‬بينما اعتدل يف وقفته وهو يخرج كفيه من جيب بدلته‬
‫ليتحدث بهدوء‪«:‬عذ ًرا �سيدتي هل هذا منزل الطبيب حممد الأ�سيوطي؟» �أجابته‬
‫جميلة بتوتر‪«:‬نعم‪ ،‬من تكون؟!» �أجابها‪�«:‬أنا املُق ّدم يامن �سعيد خريي من الأمن‬
‫البنك الطبيب �آ�سر‪ ،‬هل هو باملنزل؟!»‬
‫الوطني و�صديق قدمي ِ‬
‫�أجابته جميلة بارتياح بعد �أن عرفت �أنه ي�س�أل عن �آ�سر‪«:‬ال مل يعد بعد‪ ،‬هل‬
‫هناك ر�سالة ُمعينة ُتريدين �أن �أو�صلها له؟!» �ساد ال�صمت للحظات ثم حتدث‬
‫يامن‪�«:‬أريد التحدث مع الآن�سة �أمرية حممد الأ�سيوطي»‬
‫جت ّمدت جميلة للحظات وهي ُم�سكة بباب املنزل‪ُ ،‬متذ ّكرة حديث �آ�سر معه عن‬
‫هروب باقي �أفراد الع�صابة‪ ،‬فتح ّدثت �أخ ًريا بقلق‪«:‬ملاذا؟! ماذا تريد منها؟! هل‬
‫حدث �شيء؟!»‬
‫‪125‬‬
‫�أ�شفق يامن على هيئة التوتر التي �أ�صابت جميلة واخلوف ي�شع من‬
‫عينيها‪«:‬اهدئي �سيدتي ال يوجد �أي �شيء‪ ،‬فقط بع�ض املعلومات نريد �أن نعرفها‬
‫منها»‪� ،‬أجابته بارتباك‪«:‬ولكن هي ال تتعامل نهائ ًيا مع �أحد‪ ،‬هي بالكاد بد�أت يف‬
‫وقليل مع �إخوتها»‪.‬‬
‫التعامل معي ً‬
‫�س�ألها يامن‪�«:‬إذا هل ت�أذنني يل باالت�صال ب�آ�سر و�إخباره باملجيء؟! �صدقيني‬
‫�سيدتي الأمر هام»‬
‫هزت جميلة ر�أ�سها باملوافقة بعد تردد وهي تنظر خلفها لأمرية التي ت�أكل‬
‫احللوى با�ستمتاع طفلة‪ ،‬وحديثها مع يامن بعيدً ا عن �أ�سماعها‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مرت ربع �ساعة ويامن ُمنتظر باخلارج ُم�ستندا على �سيارته يفكر يف كل ما مر‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫حتى الآن‪ ،‬انهيار زمرد مل ي�ساعده يف جعلها تذهب للطبيبة التي حجز معها موعدً ا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫من �أجل الق�ضية‪ ،‬وهو يحتاج �أن يجمع بع�ض املعلومات‪ُ ،‬غفران التي قابلها �أخربته‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�أنها مل تكن موجودة ل�سنتني‪ ،‬ومما �سمعه �أثناء �شجار زمرد معها �أن هناك الكثري‬
‫مما حدث يف تلك ال�سنتني فجعله يفكر يف الفتاة الأخرى التي بقيت مع زمرد يف‬
‫تلك الفرتة‪.‬‬
‫اعتدل يامن من وقفته وهو يلمح �آ�سر يدلف ب�سيارته ليقف �أمام بوابة املنزل‪ ،‬ثم‬
‫نده�شا من ر�ؤية يامن‪� ،‬صافحه بحرارة وهو يقول‪«:‬يا‬ ‫حلظات ونزل وهو يقرتب ُم ً‬
‫�إلهي لقد مر وقت طويل منذ �آخر مرة ر�أيتك فيها»‪.‬‬
‫ابت�سم يامن له بود مرب ًرا له‪«:‬العمل ال ي�سمح لنا بالتن ّف�س قليال ولقاء �أ�صدقائنا‬
‫القدامى‪ ،‬كيف حالك �آ�سر؟!» �أجابه �آ�سر بابت�سامة‪«:‬بخري يامن �أم �أقول املُق ّدم‬
‫يامن؟!» �ضحك يامن وهو يجيبه‪«:‬ال داعي للألقاب يا دكتور» ابت�سم �آ�سر وهو‬
‫يحاول جاهدا ال�سيطرة على قلقه‪�«:‬إذا ما �سبب هذه الزيارة املفاجئة؟!» حتدث‬
‫يامن بهدوء‪�«:‬آ�سر �أنا امل�س�ؤول عن ق�ضية من الق�ضايا التي حدثت باملزرعة ويف‬
‫حاجة �شديدة للتح ّدث مع �أختك الآن�سة �أمرية»‪.‬‬
‫�صمت �آ�سر بهدوء وهو يفكر يف كالم يامن‪«:‬ولكن �أمرية ال دخل لها مبا حدث‪،‬‬
‫مل تكن هناك �أثناء احلادثة»‪� ،‬أجابه يامن‪«:‬نعم ولكن �أريد �س�ؤالها ب�ضعة �أ�سئلة‬
‫‪126‬‬
‫عن فتاة كانت معها ا�سمها رحمة»‪ ،‬قال له �آ�سر بقلق‪«:‬يامن �أنت تعلم �أنني لن‬
‫�أعرت�ض �أبدً ا عن �أي م�ساعدة يف تلك الق�ضية‪ ،‬ولكن حالة �أمرية»‬
‫قاطعه يامن وهو يجيبه بهدوء‪�«:‬أعرف‪� ،‬أخربتني ال�سيدة والدتك‪ ،‬ولكن �أنت‬
‫هنا معنا لذا ات�صلت بك‪� ،‬ستح�ضر معي التحقيق و�إن �شعرت ب�أنني �س�أمتادى �أو‬
‫�س�أ�س ّبب لها �أي �ضرر امنعني على الفور‪� ،‬أرجوك �آ�سر املو�ضوع �شديد الأهمية»‪،‬‬
‫نظر �آ�سر له با�ستغراب لي�س�أله‪«:‬ما املو�ضوع يامن؟!»‬
‫�أجابه يامن بعد تنهد طويل‪«:‬رحمة تكون زمرد ابنة عمتي»‬
‫ُ�صدم �آ�سر من �سماع ما قاله يامن‪ ،‬ولأول مرة يعرف �أنه كانت له قريبة ُمتطفة‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫هي الأخرى‪ ،‬تف ّهم حالته ليجيبه‪«:‬ح�سنا نظرا لأننا يف نف�س املوقف ف�أنا �أتف ّهم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حالتك‪ ،‬دعني �أرتّب معها احلديث �أوال حتى تتق ّبله وال تتفاج�أ»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫هز يامن ر�أ�سه ُمتفهما وهي ي�شكره بامتنان‪ ،‬دلف �آ�سر للمنزل وهو يحاول‬

‫ع‬
‫جاهدً ا �إخفاء توتره‪ ،‬ملح والدته جتل�س يف ال�شرفة مع �أمرية املُ�ستمعة ب�إن�صات ملا‬
‫تقوله والدته‪ ،‬وفج�أة رفعت عينيها له ليقف مكانه للحظة وهو يلمح ارتباكها قبل �أن‬
‫يتنحنح بخفوت ويقرتب ُمبت�سما بهدوء‪«:‬م�ساءكم �سعيد‪ ،‬ت�ش ّرفت �شقتنا الب�سيطة‬
‫بوجودك ليلى»‬
‫ِ‬
‫ارتبكت �أمرية �أمام نظراته ومتتمت بكلمة �شكر وهي تنه�ض مكانها تخربهم‬
‫ب�أنها �ست�صعد لغرفتها‬
‫قليل؟!»‬ ‫ليوقفها �آ�سر مناد ًيا �إياها‪«:‬ليلى هل ميكنني التحدث � ِ‬
‫إليك ً‬
‫التفتت �أمرية بهدوء لتنظر له بقوة حماولة معرفة ما يريده‪ ،‬فلمحت ارتباكه‬
‫لت�س�أله بجمود‪«:‬عن �أي �شيء تريد التح ّدث؟!» �أجابها �آ�سر‪«:‬ح�سنا ل�ست �أنا من‬
‫مل�ساعدتك»‬
‫ِ‬ ‫يريد يف الواقع‪ ،‬ولكن �أنا يف حاجة‬
‫ميكنك‬
‫ِ‬ ‫نظرت له بده�شة ورددت كالمه‪«:‬م�ساعدتي �أنا؟!» �أجابها‪«:‬هل‬
‫قليل؟!»‬
‫اجللو�س ً‬
‫‪127‬‬
‫جل�ست �أمرية مكانها ليجل�س �أمامها �آ�سر ُمبتعدا ً‬
‫قليل حتى ال يخيفها‪ ،‬و�أخربها‬
‫بقدوم يامن وما يريد معرفته عن رحمة‪ ،‬و�أن م�ساعدتها �ستفيده كث ًريا وتفيد رحمة‬
‫يف ق�ضيتها‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات والتوتر �أ�صاب �آ�سر وهو يلمح جمود مالحمها لتتحدث‬
‫بجفاء‪«:‬ما الذي يريد معرفته عن رحمة؟!» �أجابه �آ�سر بقلق‪«:‬ال �أعلم جيدا‪ ،‬ولكن‬
‫أنت تعلمني �أن التحقيق ما‬
‫كل ما �أعرفه �أن تلك املعلومات �ستفيده كث ًريا يف ق�ضيتها‪ِ � ،‬‬
‫زال �سار ًيا‪ ..‬ما حدث معكم يف املزرعة ومقتل ذلك الرجل ممدوح»‬
‫ارتع�ش ج�سدها للحظة‪ ،‬وملح �آ�سر ا�شمئزاز مالحمها ف�أجابت بجمود‪«:‬ال �أريد»‬

‫ع‬
‫تجاهل حالتها‪ ،‬وهو يتحدث بهدوء‪«:‬ح�س ًنا‪،‬‬ ‫‪.‬مل يجبها �آ�سر للحظات‪ ،‬ثم نه�ض ُم ً‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫برف�ضك م�ساعدتها»‪ ،‬حترك �آ�سر جتاه باب املنزل‬‫ِ‬ ‫كما تريدين‪� ،‬س�أخرب يامن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫فتوقف قبل �أن يفتح الباب على ندائها له‪ ،‬ف�أخفى ابت�سامته بهدوء وهو ي�ستدير لها‪،‬‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�أوجع قلبه مر�آها قلقة وهي تفرك كفيها بقوة وهي حتاول �إبعاد عينيها عن نظراته‬
‫لتتحدث بخفوت‪«:‬هل ميكنك �أن تبقى معي �أثناء املقابلة؟!» ابت�سم لها بحنان وهو‬
‫يجيبها‪«:‬بالطبع يا �صغرية»‪.‬‬
‫رفعت عينيها له ُمتنة ملوافقته وهي تلمح احلنان الذي يطغى على عينيه‪،‬‬
‫ف�أذاب كل خماوفها‪ ،‬بينما ابت�سمت جميلة بحب وهي تتابع حديثهما وتدعو اهلل �أن‬
‫يحفظهما لها‪.‬‬
‫حاولت جاهدة ال�سيطرة على م�شاعرها و�إبعاد كل ما ي�شو�ش تفكريها يف هذه‬
‫اللحظة بينما ت�سمع �أ�صوات �أقدام تقرتب من غرفة املكتب التي قرر �آ�سر �أن يكون‬
‫احلديث بها‪ ،‬ملحت �آ�سر يدلف بابت�سامته الهادئة وخلفه دخل رجل مياثله يف الطول‬
‫عري�ض املنكبني ذو ج�سد مم�شوق‪ ،‬ومل تخف عنها نظراته امل�صدومة‪.‬‬
‫حاول يامن ال�سيطرة على �صدمته‪ ،‬وهو يلمح تلك الفتاة ال�صغرية التي تبدو‬
‫عاما �أكرب منها‪� ،‬ألقى يامن التحية بهدوء لي�سمع‬
‫جيهان �أخته ذات اخلم�سة ع�شر ً‬
‫متتمة ب�سيطة منها‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫جل�ست �أمرية على �أريكة بجوار املكتب‪ ،‬ليجل�س �آ�سر ويامن على كر�سيني مقابلني‬
‫حالك �آن�سة �أمرية؟!» �أجابته بجمود‪«:‬ليلى»‪.‬‬
‫لها‪ ،‬بادر يامن باحلديث‪«:‬كيف ِ‬
‫ارتفع حاجب يامن بده�شة من �صوتها القوي‪� ،‬أو الذي حتاول �أن تخرجه قو ًيا‪،‬‬
‫ليجيبها‪«:‬عذ ًرا»‪.‬‬
‫قالت‪«:‬ا�سمي ليلى»‪ ،‬نظرة من �آ�سر له جعلته يفهم �أنها ما زالت مل تتق ّبل‬
‫واقعها اجلديد‪ ،‬فتح ّدث بهدوء‪«:‬ح�س ًنا �آن�سة ليلى‪� ،‬أنا املُق ّدم يامن‪� ،‬أريد �أن �أ�س�ألك‬
‫�صديقتك رحمة‪� ..‬ست�ساعدنا كث ًريا يف ق�ضيتها»‪.‬‬‫ِ‬ ‫ب�ضعة �أ�سئلة عن‬
‫نطقت �أمرية من دون وعي‪«:‬ق�ضيتها! يجب �أن ُتنح جائزة لقتلها ذلك‬

‫ع‬
‫احلقري»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تابعها يامن و�آ�سر بده�شة‪ ،‬بينما لعنت ت�س ّرعها يف التفوه مبا قالته‪� ،‬أجابها‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يامن‪�«:‬صدقيني �أنا �أكرث �شخ�ص �أريد �أن �أ�ساعدها يف هذه الق�ضية»‪ ،‬ملحت �أمرية‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫�شي ًئا غري ًبا يف لغة ج�سده وما وراء كلماته‪«:‬ملاذا؟!»‪.‬‬

‫ع‬
‫حانت منه ابت�سامة �صغرية وهو يرى حمائيتها ليجيبها‪«:‬رحمة تكون زمرد ابنة‬
‫عمتي»‪ ،‬ات�سعت عني �أمرية بده�شة وهي تهتف من دون ت�صديق‪«:‬يامن مان!»‬
‫خرجت منه �ضحكة �صغرية خافتة‪ ،‬وهو يتحدث ب�صوت بدا حزي ًنا‪«:‬يبدو �أنها‬
‫�أخربت اجلميع عن لقبي»‪.‬‬
‫نظرت �أمرية للأر�ض بحرج‪ ،‬وهي تهز ر�أ�سها بالنفي‪ ،‬لتقول‪«:‬ال مل تخربين به‪،‬‬
‫لقد �سمعتها تهم�س به كث ًريا وهي نائمة‪ ،‬خ�صو�صا يف تلك الليلة‪.»...‬‬
‫قالت �أمرية �آخر كلمة بخفوت ف�شعر يامن ب�أن هذا طرف اخليط‪ ،‬ليلمع الأمل‬
‫دوما كانت تناديه‪ ،‬لي�س�ألها‪�«:‬آن�سة ليلى‪ِ � ..‬‬
‫أنت تعلمني َمل يتم‬ ‫بعينيه وهو يعي �أنها ً‬
‫التحقيق يف الق�ضية التي تخ�ص املزرعة‪ ،‬وق�ضية قتله نحن نحاول �أن جنمع جميع‬
‫مل�ساعدتك‪� ،‬إن‬
‫ِ‬ ‫الأدلة التي ُتدينه وننهي بها حتقيقنا ون�صل ملن هرب‪� ،‬أنا يف حاجة‬
‫لديك �أي معلومات تخ�صها �أو تخ�ص ذلك الـ‪ ...‬تخ�ص ال�ضحية ف�أمتنى �أن‬ ‫كان ِ‬
‫تخربيني بها»‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫�صمتت �أمرية ً‬
‫قليل وهي تتابع حماوالته لكبح غ�ضبه‪ ،‬و�أدركت من مالمح وجهه‬
‫�أن هذا الرجل يعاين‪ ،‬لت�س�أله من دون مقدمات‪«:‬هل حتبها؟!»‬
‫رفعت يامن ر�أ�سه لها بقوة‪ ،‬بينما ات�سعت عني �آ�سر بده�شة من �س�ؤالها‪،‬‬
‫ارتبك يامن وهو ينقل نظراته بينها وبني �آ�سر ليقول بارتباك‪«:‬ما‪ »...‬لتقاطعه‬
‫�أمرية‪«:‬لديك نف�س اللمعة التي متتلكها ال�سيدة جميلة وهي تتحدث عن زوجها‪،‬‬
‫لذا �أ�س�ألك لأعرف‪� ،‬أتريد �أن تعرف احلقيقة؟! والأهم هل �ستتقبل ما ت�سمعه؟!‬
‫ك�شخ�ص يحبها �أم ك�شخ�ص قريب لها يرغب فقط بحل الق�ضية»‪.‬‬
‫جتمدت مالمح يامن وهو يلمح �أ�سئلتها التي تخربه بها بهدوء‪ ،‬ف�شعر بغ�صة ت�ؤمل‬

‫ع‬
‫أخربتك �أنها مهمة بالن�سبة يل‪ ،‬و�أنني‬
‫ِ‬ ‫قلبه‪ ،‬فابتلع ريقه ب�صعوبة وهو يقول‪�«:‬إن �‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫�أريد �أن �أعرف احلقيقة ومهما كانت �س�أتق ّبلها‪ ،‬فهل �ستقولني يل كل ما تعرفينه؟!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫�ساد ال�صمت للحظات و�أمرية تتابع نظراته لرتى �صدق كلماته لتجيب ب�صوت‬

‫توزيع‬
‫جليدي �أثار الق�شعريرة يف ج�سد يامن و�آ�سر‪«:‬ل�سنتني �أقام الأب عالقة مع ابنته‪،‬‬
‫بعد �أن ف�شل من قبل مع ابنته الأخرى»‪.‬‬
‫تخ ّلل ال�صمت الغرفة‪ ،‬ال ي�سمع �سوى �أ�صوات �أنفا�سهم‪ ،‬لتكمل �أمرية بعينني‬
‫م�شمئزتني‪«:‬بعد ف�شله مع ابنته الأخرى‪ ،‬والأخرى‪ ،‬والأخرى‪ ،‬لتقع االبنة ال�ساذجة‬
‫يف فخه‪ ،‬فتُ�س ّلم نف�سها له كل ليلة وتذهب �إليه كلما �أرادها‪ ،‬لتعود يف فجر اليوم‬
‫التايل قبل �أن ي�ستيقظ َمنْ يف البيت»‪.‬‬
‫�شدد يامن على قب�ضته بقوة وهو ي�سمع ما حدث وكلماتها القا�سية جتلده مرة‬
‫وراء الأخرى‪ ،‬من دون توقف‪ ،‬بينما عقد �آ�سر حاجبيه ب�صدمة‪ ،‬وهو يلمح ق�سوة‬
‫كلمات �أمرية وملحات اال�شمئزاز على وجهها‪ ،‬ثم جتمدت نظراته وهو يلمحها تنظر‬
‫مل رفعت ال�سكني يف وجهه؟!»‬
‫له بقوة‪«:‬هل علمت الآن َ‬
‫ارت�سم الأمل على وجه �آ�سر بينما مل ي�سمع يامن جملتها الأخرية‪ ،‬وهو يفكر يف‬
‫ما �سمعه‪ ،‬هو عرف الكثري من املعلومات من ُغفران‪ ،‬ولكن مل يعرف �أن الأمر حدث‬
‫هكذا‪ ،‬وملدة طويلة �سنتني‪ ،‬تلك ال�سنتني‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫لي�س‪»...‬‬ ‫ابتلع يامن ريقه وهو يك�سر ال�صمت الذي �ساد‪ِ �«:‬‬
‫أنت تعلمني �أنه‬
‫قاطعته ب�سخرية‪«:‬ماذا؟! لي�س والدنا! ح�س ًنا �أنا مل �أعرف ذلك �إال بعد �أن مات‪،‬‬
‫رمبا راودتني ال�شكوك قبل موته ب�أ�شهر»‪.‬‬
‫ثم رفعت �أمرية عينيها لآ�سر لتتحدث بنف�س جمودها‪«:‬ل�سنتني و�أنا �أعي�ش يف‬
‫عامل قذر‪ ،‬بني �أب خمتل وابنة ع�شيقة له‪ ،‬و�سنوات و�أنا �أرى �أ ًبا يتلذذ ب�أن يرى نظرة‬
‫دوما‪ ،‬وهو يحاول التعدي عليهن‪ ،‬وقد حاول معي‬ ‫الرعب يف عني فتياته‪ ،‬كما ُيلقبهم ً‬
‫و�أنا ابنة الثالثة ع�شرة‪ ،‬فتخ ّيل بنف�سك كيف كانت طفولتي وكيف �أ�صبحت فرتة‬
‫ن�ضجي»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أدارت ر�أ�سها ليامن ونه�ضت من مكانها وهي تقرتب منه بجمود لتقف �أمامه‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫فنه�ض وهو يبتلع ريقه بقلق من هيئتها ونظرتها ال�صارمة له‪ ،‬على الرغم من فرق‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫الطول الكبري بينهما �إال �أنها حتدثت بقوة ك�أنها ت�شغل حميط الغرفة ب�أكملها‪«:‬رحمة‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫كانت مراهقة‪ ..‬بعد تفكري �أدركت �أنها حت ًما كانت تعلم ب�أنه لي�س والدها‪ ..‬و�إال مل‬
‫تكن لت�سمح ب�أن يلم�سها‪ ..‬ولكن هذا ال يربر خط�أها وينايف كل ما تعلمناه منذ �صغرنا‬
‫يف ذلك املكان‪ ،‬بعد فرتة �أدركت �أن رحمة عا�شت �سنتني كاملتني يف جحيم‪ ،‬وهي‬
‫تعي �أنه يلهو بها وبج�سدها ويبدو �أنها عانت خاللهما من حماوالت اغت�صابه لها‬
‫لأكرث من مرة‪ ،‬من مر�ضها املُ�ستمر والكدمات التي كانت تخفيها كل فرتة و�أخرى‪،‬‬
‫تر�أّف بحالها وكن بجوارها حتى لو رف�ضت‪ ،‬حتى لو �أثبتت لك ولكل من حولها‬
‫يوما تهم�س يف كوابي�سها با�سمك‪ ،‬وهي‬ ‫�أنها ت�ستحق ما هي فيه‪ ،‬لقد ظلت لت�سعني ً‬
‫تناجيك لت�أتي‪ ،‬فال ترتكها بعد �أن �أتيت و�إال �ستموت‪ ،‬ووقتها �س�أقتلك �أنا بيدي‪� ،‬أظن‬
‫�أن هذا كل ما تريد معرفته ويخ�ص الق�ضية‪ ،‬هذا الرجل كان جمرد حثالة‪ ،‬وكان‬
‫ي�ستحق �أال ميوت موتة رحيمة بطلقة ر�صا�ص‪ ،‬كان ي�ستحق �أن يتع ّذب كل حلظة يف‬
‫حياته حتى ميوت ُمتعفنا غارقا يف دمائه القذرة»‪.‬‬
‫لهثت �أمرية بقوة‪ ،‬وك�أنها كانت حتارب �أحدهم‪ ،‬وخرجت من غرفة املكتب وهي‬
‫ت�شعر بانهيارها‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫جل�س يامن وهو ي�شعر بالأر�ض متيد به‪ ،‬بينما ما زال �آ�سر على �صدمته‪ ،‬رفع‬
‫عينيه ل�صديقه وهو ال يعلم كيف يوا�سيه‪ ،‬ال يعلم ما الذي يجب قوله بعد ما �سمعه‪،‬‬
‫ويفكر يف �أن الطريق لأخته طويل جدً ا‪.‬‬
‫بعد �أن و ّدع �آ�سر يامن ب�صمت‪ ،‬وقد �شكره يامن ب�صوت مكتوم‪ ،‬دخل املنزل‬
‫ليعرف من والدته �أن �أمرية �صعدت لل�شقة‪ ،‬ف�صعد خلفها‪.‬‬
‫كانت ت�شعر ب�أن كل ما �أرادت �أن تن�ساه خالل الفرتة ال�سابقة قد هجم على‬
‫ذاكرتها كالوح�ش ال�ضاري‪ ،‬تن ّف�ست ب�صعوبة وهي تغم�ض عينيها بقوة‪ ،‬حتاول‬
‫جاهدة منع ا�سرت�سال كل تلك امل�شاهد التي طاملا غزت �أحالمها لتحولها لكوابي�س‪،‬‬

‫ع‬
‫�شعرت بالغثيان ف�أ�سرعت للحمام بغرفتها لتخرج كل ما بجوفها‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫تن ّف�ست بتعب بعد انتهائها‪ ،‬لتجل�س على �أر�ضية احلمام الباردة حتاول تنظيم‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫تنف�سها‪ ،‬رفعت كفها لفمها متنع ارتعا�شة‪ ،‬بينما ترقرقت الدموع يف عينيها‪ ،‬وحلظات‬

‫توزيع‬
‫و�أجه�شت بالبكاء �أخ ًريا‪ ،‬تبكي روحها‪ ،‬طفولتها‪ ،‬حياتها‪ ،‬تبكي مرارة �أبوة زائفة‪.‬‬
‫�أغم�ضت عينيها وذكرى �أول ليلة بد�أت تعي فيها ما يحدث حولها وهي جمرد‬
‫طفلة تعود لعقلها‪ ،‬تنه�ش من روحها ب�أمل وهي تتذكر دخوله غرفتها‪ ،‬مل�ساته‬
‫جل�سدها‪ ،‬ا�ستيقاظها الفزع وهي ت�شعر به قربها‪ ،‬نفور روحها و�صراخها الذي كتمه‬
‫ب�سرعة قبل �أن ي�سمعه �أحد‪� ،‬أنفا�سه القذرة التي هم�ست لها يف �أذنها �أن تهد�أ‪،‬‬
‫ورف�ض ج�سدها االن�صياع لأوامره‪.‬‬
‫نه�ضت من مكانها جمددًا لتتجه للحو�ض وغثيانها ال يتوقف ودموعها ال تن�ضب‪،‬‬
‫ارتع�ش ج�سدها بقوة بعد �أن انتهت من ا�ستفراغ كل ما مبعدتها‪ ،‬وحلظات ووجدت‬
‫�أحدهم يحاوط ج�سدها مبن�شفة‪ ،‬فا�ستدارت ُمرتعبة و�صورة ممدوح تغ�شي عينيها‪،‬‬
‫ف�صرخت بال وعي‪«:‬ال �أرجوك ال تلم�سني‪ ..‬ابتعد»‪.‬‬
‫«اهدئي �صغريتي‪� ..‬أنا �آ�سر‪� ..‬آ�سر»‪ ،‬جملة و�صلت لأ�سماعها و�سط �صراخها‪،‬‬
‫لتنزاح الغ�شاوة التي �أعمت عينيها‪ ،‬لتظهر �صورة �آ�سر وا�ضحة وهو يقف �أمامها‬
‫ُم�س ًكا بيديه املن�شفة ومالمح وجهه ت�شاركها �أملها‪ ،‬ف�أخف�ضت ر�أ�سها وهي جته�ش‬
‫بالبكاء جمددًا‪ ،‬وتلعن �ضعفها الذي ظهر �أمامه‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫اقرتب �آ�سر من �أمرية بهدوء‪ ،‬وقب�ضة �أمل تع�صر قلبه ملر�آها ه�شة و�ضعيفة‬
‫هكذا‪ ،‬وهو يلمح بكاءها بانهيار لأول مرة‪ ،‬حتى و�صل �إىل ج�سدها املُرجتف‬
‫و�أحاطها مبن�شفة طويلة و�ضمها بهدوء له‪ ،‬لي�شعر بت�ش ّنج ج�سدها يف ح�ضنه‪ ،‬ليعاود‬
‫الربت على ظهرها بهدوء و ُيه ّدئ ج�سدها من االرتعا�ش قليال‪.‬‬
‫مل ت�ستطع �أن توقف دموعها‪ ،‬قدرتها على التحمل بد�أت ت�ضعف �أمام كل احلب‬
‫الذي جتده لأول مرة يف هذا البيت‪ ،‬هي طفلة يف النهاية مل ت�ستطع �أن ت ّدعي القوة‬
‫ً‬
‫طويل‪ ،‬فقط لدقائق تنعم من هذا احلب‪.‬‬
‫�أخذت تقنع نف�سها بتلك الكلمات وهي يف ح�ضن �آ�سر احلنون‪ ،‬حتى مرت دقائق‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫طويلة هد�أت فيها وابتعدت بهدوء عنه‪ ،‬وهي ال تقوى على النظر لعينيه‪ ،‬فهم�ست‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫قليل»‪.‬‬
‫باك‪�«:‬أرجوك‪ ،‬دعني مبفردي ً‬ ‫ب�صوت ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫نظر �آ�سر لها ً‬
‫طويل‪ ،‬ثم تنهد بخفوت‪ ،‬و�أجابها باملوافقة‪ ،‬وهو يعلم �أنها يف‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حاجة لأن تكون مبفردها لت�ستعيد قوتها ً‬
‫قليل‪ ،‬وبعدها �سي�س�ألها بهدوء عن كل ما‬
‫يريد معرفته‪.‬‬
‫خرجت من احلمام بعد �أن �سمعت �صوت باب غرفتها يغلق‪ ،‬لتدرك �أن �آ�سر‬
‫احرتم رغبتها وتركها‪ ،‬فتوجهت ل�سريرها لع ّل النوم يريحها من كل هذه امل�شاعر‬
‫املُ�ضطربة التي ت�شعر بها‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل زمرد‬
‫دلف بهدوء للحديقة الداخلية للمنزل‪ ،‬بعد �أن �شعر ب�أنه غري ُم�ستعد للعودة‬
‫لغرفته الآن‪ ،‬ولأحزانه التي ال تنتهي‪ ،‬رفع ر�أ�سه وهو يتنهد بخفوت‪ ،‬وفتح عينيه‬
‫ليتجمد مكانه على ما وقعت عيناه عليه‪ ،‬يا �إلهي كم م ّر على �آخر لقاء بينهما بعد‬
‫عودتها للمنزل؟! بعد �شجارهما حني �أخربها ب�ضرورة الذهاب لطبيب نف�سي! متى‬
‫حتدث معها و�أ�شبع روحه بر�ؤيتها �أمام عينيه!؟ هي هنا �أمامه يف بيته‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ت�أوه بخفوت ليجذب انتباه تلك التي كانت جتل�س على الأرجوحة وبيديها كتاب‪،‬‬
‫فعادت بذاكرتها لطفولتها الربيئة مع ال�شخ�ص الوحيد الذي كانت تتبعه بقلبها‪ ،‬وها‬
‫هو يقف �أمامها ُمنهك اجل�سد‪ ،‬يبدو عليه التعب ال�شديد‪ ،‬ونظرة �أخرى مل تفهمها‪،‬‬
‫طال ال�صمت بينهما‪ ،‬و�صمت الليل يرتك �أثره على نف�سهما‪ ،‬بينما تتحادث العيون‬
‫يف�سراه‪.‬‬
‫يف حوار طال انتظاره‪ ،‬بني عتاب وندم واعتذار‪ ،‬و�أخ ًريا �شعور �آخر مل ّ‬
‫قطعت زمرد ال�صمت بحديثها بهدوء‪«:‬مل تتغري الأرجوحة‪ ،‬ك�أين تركتها‬
‫بالأم�س فقط»‪.‬‬
‫ارتبكت بعد حديثها وهي تلمح نظرة �أمل يف عينيه‪� ،‬أخفاها �سري ًعا وهو يجيبها‬

‫ع‬
‫بجمود‪«:‬يبدو �أنها الوحيدة التي مل تتغري مع الزمن» �شعرت بطعنة تخرتق قلبها‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ومل تدر �أن �أثرها عاد لقلبه ب�آالمه وهو يلمح الأمل يف عينيها‪� ،‬أخف�ضت �أنظارها‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫تغي»‪ ،‬نه�ضت من مكانها وحملت‬ ‫للأر�ض و�أجابته بخفوت‪«:‬نعم‪ ،‬كل �شيء غريها ّ‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫دوما معها‪ ،‬بعد �أن ر�أته معها‪ ،‬وذ ّكرها‬
‫الكتاب الذي ا�ستعارته من رحاب ال�صامتة ً‬

‫توزيع‬
‫بليلى احلبيبة‪ ،‬ك�أنها حتتمي به‪ ،‬وحتركت لتخرج من احلديقة‪ ،‬وهم�ست له بعد �أن‬
‫مرت بجانبه‪ُ «:‬مبارك عقد قرانك»‬
‫ت�ش ّنج ج�سده ب�أكمله‪ ،‬و�شحب وجهه بعد هم�ستها‪ ،‬وهو يردد داخله جملتها‪«:‬عقد‬
‫قرانك!» التفت ُم ً‬
‫�سرعا وهو ما زال على �صدمته‪ ،‬ولكن مل يجد �شي ًئا‪ ،‬فقط فراغ‪،‬‬
‫ال �أحد غريه ي�سكن فيه‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه وهو يت�أوه داخله بخفوت‪ ،‬وهو يدرك جيدً ا �أن �سايل قد قامت‬
‫بزيارتها امل�ؤجلة لوالدته‪ ،‬ومل جتد �سوى اليوم من �ضمن كل الأيام كلها‪.‬‬
‫جل�ست على �سريرها وم�صباح �صغري بجوارها ي�ضيء ُظلمة الغرفة‪ ،‬بينما تنظر‬
‫ل�سقفها ب�شرود‪ ،‬حلظة وراء الأخرى فت�ساقطت �أول دمعة وهي تتذ ّكر اجتماع العائلة‬
‫اليوم ووالدة يامن تخربها‪«:‬زمرد‪ ..‬هذه �سايل»‪ ،‬لتت�ساقط الدمعة الثانية‪�«:‬سايل‬
‫خطيبة يامن»‪ ،‬لتت�ساقط الدمعة الثالثة‪«:‬هي �صحفية نابغة يف جريدة احلرية»‪،‬‬
‫لتت�ساقط الدمعة الرابعة‪«:‬لقد مت عقد قرانهما منذ ‪� 6‬أ�شهر»‪ ،‬رفعت يديها‬
‫ُم�سرعة لتكتم �شهقة بكاء مل ت�ستطع كتمها‪ ،‬وهي ت�ستغرب ذلك الأمل الذي ت�شعر به‬
‫‪134‬‬
‫لأول مرة‪� ،‬أمل خمتلف‪� ،‬أمل قادر على �سلب روحها ب�سهولة وهي تفكر‪«:‬يامن تزوج‬
‫يا زمرد‪ ،‬تزوج من امر�أة رائعة‪ ،‬تزوج من امر�أة �شريفة لي�ست ملوثة مثلك‪ ،‬لي�ست‬
‫يراك �سوى عاهرة ُمل ّوثة»‪.‬‬
‫لك؟! فهو مل ولن ِ‬ ‫فهمت الآن كرهه ونبذه ِ‬‫بقذارتك‪ ،‬هل ِ‬
‫ِ‬
‫انخرطت يف بكاء مرير مل تعد ت�سيطر عليه‪ ،‬وهي ترفع يديها وت�ضعها على قلبها‬
‫تدلك مكانه‪ ،‬وتهم�س ب�أمل‪«:‬يا �إلهي قلبي ي�ؤملني ب�شدة»‪.‬‬
‫‪M‬‬

‫ع‬
‫منزل يف �أحد الأحياء الب�سيطة‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫«ال تخايف �سوف �أغطي ج�سدك بالغطاء فقط فاجلو بارد هنا»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫ارجتفت مكانها وهي تنظر برهبة حولها لت�س�أله‪«:‬ملاذا انتقلنا من املنزل لذلك‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫املكان؟! هذا املكان خميف»‪ ،‬ربت على كفها بحنان وهو ي�ضم الغطاء جل�سدها‬

‫ع‬
‫أوقظك‬ ‫معك فال تخايف‪ ،‬حاويل �أن تنامي ً‬
‫قليل و�س� ِ‬ ‫مطمئ ًنا �إياها‪«:‬ال تقلقي‪� ،‬أنا هنا ِ‬
‫أنت جائعة»‪.‬‬ ‫حني ينتهوا من �إعداد الطعام‪ ،‬فحتما � ِ‬
‫هزت ر�أ�سها بارتباك وهي تقول‪�«:‬أين �أمي؟!» �سمعته يتنف�س بغ�ضب ليقول‬
‫ب�صوت حاول �أن يبدو هادئا‪«:‬هي تق�ضي �أم ًرا ما و�ستعود‪ ..‬لن تت�أخر ال تقلقي»‬
‫هزت ر�أ�سها وهي ت�ضم الغطاء جل�سدها‪ ،‬تنظر له بقلق لرتاه ينظر لها باطمئنان‪،‬‬
‫وحلظات وبد�أت عيناها باالنغالق وقد ا�ستجاب ج�سدها للنوم �أخريا بعد �أن‬
‫�شعرت بالدفء‪ ،‬لت�س�أله ب�صوت ناع�س‪«:‬ما ا�سمك؟!» ليجيبها وهو يربت على‬
‫�شعرها‪«:‬عمران»‪.‬‬
‫ابت�سمت له وهي تقول‪«:‬و�أنا ُغفران»‪ ،‬لتنام على الفور ويداه ال تتوقف عن‬
‫الربت على �شعرها وهو يقول بهم�س‪�«:‬سعدت بر�ؤيتك ُغفران‪� ،‬أعدك ب�أن �أحميك‬
‫من �شرورهم»‪.‬‬
‫فتح عينيه فج�أة وظالم الغرفة ير�سم مع خياالته تلك الذكرى التي تع ّلقت بقلبه‬
‫وعقله‪ ،‬نه�ض من على �سريره وهو يتنف�س بتعب‪ ،‬حتى الآن ال ي�صدق كل ما حدث‪،‬‬
‫‪135‬‬
‫ال ي�صدق �أن الأمر كاد �أن ينتهي‪ ،‬ال يعلم كيف �سيخرب والدته القابعة يف الغرفة‬
‫متخف هنا‪ ،‬كما �أمره اللواء ح�سني‪ ،‬وهو يثق به‪ ،‬ولكن‬‫املجاورة له؟! منذ �أ�سبوع وهو ٍ‬
‫ي�شعر بالقلق عليها‪ ،‬ال يعلم كيف هي الآن وكيف هي �أيامها وهي وحيدة يف �سكنها‪،‬‬
‫ثالثة �شوارع هي كل ما يف�صله عنها وال يجازف مبحاولته ر�ؤيتها‪.‬‬
‫‪ُ « :‬غفران» هم�سة خرجت من فمه ف�آملت قلبه وهو يتذ ّكر كيف كانت حياته‬
‫معها‪ ،‬لقد ق�ضوا فرتة يف كهف مهجور يف ال�صحراء بعد و�صوله لأخيه‪ ،‬ومعرفته‬
‫للمخطط الذي �سيقوم به مع باقي ع�صابته‪ ،‬بعد �أن عادوا من ليبيا‪ ،‬خمطط �أمره‬
‫به رئي�سه املجهول‪ ،‬تذكر كيف كانت حياتهما مرتابطة م ًعا منذ �أول مرة وقعت‬
‫عيناه عليها‪� ،‬صغرية �شاحبة وخائفة حتى ذلك اليوم‪ ،‬يعلم �أنه خ�سرها فيه‪ ،‬لكنه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫مل ي�ستطع �أن مينع نف�سه‪ ،‬علم �أنه �سيجازف مبكانته لديها ولكن كل �شيء فداء‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫لروحها وحياتها‪ ،‬ذلك اليوم الذي قررت فيه الذهاب لل�شرطة وهي طفلة مل يتع َّد‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫عمرها الثالثة �أو الرابعة ع�شرة‪ ،‬كما يتذ ّكر‪ ،‬بعد �أن �أخربته مبا ر�أته يف القبو‪ ،‬ذلك‬

‫توزيع‬
‫اليوم الذي جاءت فيه مذعورة‪ ،‬وقد �شهدت بعينيها انتزاع روح من ج�سد تاله انتزاع‬
‫�أع�ضائه‪.‬‬
‫لطاملا كانت ذكية‪ ،‬وقد ا�ستطاعت �أن تربط بني كل ما دار يف املنزل رغم �سنها‬
‫ال�صغرية‪ ،‬ا�ستطاعت �أن جتد مربرات لكل تلك االختفاءات التي حدثت‪ ،‬لكل ذلك‬
‫ال�صراخ املكتوم الذي كان يوقظها من نومها فزعة‪ ،‬يعلم �أنه ك ّذب عليها ويعلم‬
‫�أنه خان ثقتها‪ ،‬ذلك اليوم الذي ت�شاجرت فيه معها وهو يحاول منعها من الذهاب‬
‫لل�شرطة حتى ال ي�ؤذيها ممدوح ليتذ ّكر ذهابه بعد هروبها و�إخبار ممدوح بفعلتها‪،‬‬
‫�أدرك �أن �سيكون هناك �أذية لها‪ ،‬ولكن �أذية �أخف من قتل ممدوح لها‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه وهو يتذ ّكر ما فعلوه بها‪ ،‬وهو يتذ ّكر �إخ�ضاعها الذي ا�ستمر لثالثة‬
‫�أيام بني جلد وحب�س وتعذيب‪ ،‬ولكن ُغفران القوية ما زالت �صامدة فالتج�أ ممدوح‬
‫للأ�سلوب الذي جعله يقتل الروح يف ج�سد بناته‪.‬‬
‫النزال‪ ،‬قتال بني اثنني يجب �أن ينتهي مبوت �أحدهما‪ ،‬ليكن الطرف الأول ُغفران‬
‫والطرف الثاين �أعز �أ�صدقائها‪«:‬فريوز» التي كانت معها منذ ال�صغر‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫نه�ض من مكانه وهو ي�شعر بالغرفة ت�ضيق به‪ ،‬وكل الأفكار ال�سوداء تغتاله بال‬
‫رحمة‪ ،‬هو ُمدرك �أن ما و�صلت �إليه ُغفران من تب ّلد مب�شاعرها هو وحده ال�سبب فيه‪،‬‬
‫لو كان منعها بقوة من الذهاب لل�شرطة‪ ،‬لو كان �ضربها وحب�سها قبل �أن تهرب منه‬
‫وي�ضطر لإخبار ممدوح مبا حدث ما تع ّر�ضت لكل تلك الآالم‪.‬‬
‫خرج من غرفته ليتجه لغرفة والدته احلبيبة‪ ،‬فوجدها نائمة يف �سريرها‪ ،‬جل�س‬
‫بجوار ال�سرير على الكر�سي‪ ،‬وهو ينظر �إليها بحب بينما ي�صدح �صوت‪«:‬املن�شاوي»‬
‫بالقر�آن الكرمي يف الغرفة بخفوت‪� ،‬صوت ن�شر الهدوء يف �أنحاء ج�سده وعيناه ال تزال‬
‫على والدته‪ ،‬عائدً ا بذكرياته مع تلك التي احت ّلت قلبه من دون �أي مقدمات‪ ،‬تلك‬
‫التي احت ّلت قلب والدته هي الأخرى‪ ،‬تذ ّكر املرة الأوىل التي ُ�صدم فيها مبعرفتها‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بوالدتها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�سرعا وهو ينادي‪�«:‬سعاد‪� ..‬سعاد»‪.‬‬
‫خرج من الغرفة ُم ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫خرجت من املطبخ فتاة يف �أوائل الع�شرينات‪ ،‬ذات هيئة �ضعيفة‪ ،‬تربط �شعرها‬

‫ع‬
‫بغطاء وردي ذي عقدة خلف ر�أ�سها‪ ،‬وهي مت�سح يديها يف املن�شفة‪ ،‬وجتيبه بقلق وهي‬
‫ترى مالمح الذعر على وجهه‪«:‬ماذا حدث؟!»‬
‫�أجابها بخوف‪�«:‬أمي �إنها ال جتيب‪ ،‬هاتفي الطبيبة التي �أخربتني عنها»‪ ،‬هرعت‬
‫�سعاد للهاتف الأر�ضي و�ضربت بع�ض الأرقام وهي تنتظر الإجابة من الطرف الآخر‪.‬‬
‫مرت �سبع دقائق حتى �سمع رنني الباب‪ ،‬فهرع ليفتح ليتجمد مكانه وهو ينظر‬
‫بعدم ت�صديق ل�صاحبة الطرقات‪ ،‬مرت حلظة ف�أخرى قبل �أن يخرج من �صدمته‬
‫على �صوت �سعاد وهي تهتف خلفه‪�«:‬سيد عمران هل �أتت الطبيبة ُغفران؟!»‬
‫جتاوزته ُغفران وهي تزيحه عن طريقها ب�سرعة لتدلف لغرفة والدته‪ ،‬بينما ظل‬
‫مكانه ينظر لأثرها يف ذهول وهو ال ي�صدق وجودها هنا‪ ،‬رم�ش بعينيه �أكرث من مرة‬
‫وهو يحاول ا�ستعادة تركيزه ليطمئن على والدته � ًأول‪ ،‬وبعدها ي�ستف�سر عن كل �شيء‪،‬‬
‫الأمر الذي يطمئنه ً‬
‫قليل �أنه حت ًما والدته ال تعلم عمن تكون ُغفران‪ ،‬و�إال قد علمت‬
‫احلقيقة منذ فرتة طويلة‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫دلف للغرفة فلمحها وهي تعالج والدته مبهنية‪ ،‬بينما مالمح وجهها اجلامدة ال‬
‫تعرب عن �شيء‪ ،‬هو على يقني ب�صدمتها وقت �أن ر�أته‪ ،‬ولكنها كانت الأ�سرع يف ّ‬
‫تخطي‬
‫ال�صدمة‪ ،‬طاملا كانت الأ�سرع‪.‬‬
‫�أخرجه من �أفكاره �صوتها وهي تقول بهدوء ل�سعاد‪�«:‬إنها نوبة �سكر‪ ،‬يبدو �أنها‬
‫أهملت هذا الأمر �سعاد؟!» �أجابتها �سعاد بحزن‪�«:‬أنا‬
‫مل ت�أخذ عالجها اليوم‪ ،‬كيف � ِ‬
‫لك ُغفران»‪.‬‬‫�س�ألتها عند عودتي من ال�سوق و�أخربتني �أنها �أخذته‪� ،‬أق�سم ِ‬
‫تنهدت ُغفران بخفوت‪ ،‬وهي تلمح بعينيها ذلك الذي يقف على الباب �صامتًا‪،‬‬
‫فتحدثت بهدوء بينما تتجنب النظر �إليه‪«:‬لقد �أعطيتها حقنة الآن‪ ،‬ودقائق وتفيق‪،‬‬

‫ع‬
‫هي بخري ال تقلق»‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ب‬
‫هز ر�أ�سه من دون �أن يقول �شيئا‪ ،‬وبالفعل بعد دقائق ملح والدته وهي تفيق‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫�سرعا من ال�سرير‪ ،‬وهو يحيط بكفها ليقبلها بحنان ا�ستغربته تلك التي‬
‫فاقرتب ُم ً‬

‫توزيع‬
‫تتابعه بعينيها بتدقيق‪ ،‬لت�سمعه يجيب والدته بعد �أن �س�ألت عما حدث‪«:‬ملاذا � ِ‬
‫أهملت‬
‫حفاظك على العالج‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬ ‫دخلت يف غيبوبة �سكر ب�سبب عدم‬
‫عالجك �أمي!؟ لقد ِ‬
‫ِ‬ ‫يف‬
‫ووجدتك فاقدة الوعي‪ ،‬فطلبت من �سعاد االت�صال‬
‫ِ‬ ‫ارتعبت عندما عدت من ال�سفر‬
‫بطبيبتك»‪.‬‬
‫ِ‬
‫ابت�سمت له بحب وهي تقول‪«:‬عمران حبيب والدتك‪� ،‬أنا بخري حبيبي‪ ،‬لقد‬
‫دوما لها‪«:‬و�أنا‬
‫ا�شتقت �إليك»‪ ،‬ق ّبل كفها بحنان وهو يجيبها بابت�سامة يخ�صها ً‬
‫لك يا غالية»‪.‬‬ ‫� ً‬
‫أي�ضا ا�شتقت ِ‬
‫وغفران التي تتابعهما بجمود بينما عقلها ُيرتب كل‬ ‫�أدارت وجهها يف الغرفة‪ُ ،‬‬
‫معلومة جمعتها من هذا احلديث الب�سيط‪ ،‬ومن وجود عمران يف هذا البيت‪ ،‬عمران‬
‫الذي يعمل لدى ممدوح هو ابن �أغلى �سيدة لقلبها‪ ،‬قاطعت �أفكارها الأخرية ب�صوتها‬
‫احلرج وهي تقول بارتباك‪�«:‬أنا‪� ..‬أنا بخري ُغفران»‪ ،‬ف�أجابتها بجمودها‪َ «:‬مل‬
‫أنك تناول ِته؟!» نظرت للأ�سفل من دون قول �شيء‪،‬‬ ‫أخربت �سعاد � ِ‬
‫أهملت العالج و� ِ‬
‫� ِ‬
‫وهي ت�شعر باحلرج لكذبها على �سعاد‪�«:‬أنا‪� ..‬إن مذاقه م ٌّر ُغفران»‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫نظرت لها ُغفران للحظات قبل �أن توجه حديثها ل�سعاد بغ�ضب‪�«:‬إن �أهملت‬
‫عالجها جمددًا ال تت�صلي بي»‪ ،‬مل يعجب عمران لهجتها يف الرد على والدته‬
‫لينه�ض بغ�ضب �ساه ًيا عن ابت�سامة والدته لها ليقول‪«:‬نحن ل�سنا يف حاجة � ِ‬
‫إليك‬
‫با�ستطاعتي االت�صال ب�أف�ضل الأطباء لها» نظرت له �أخ ًريا بجمود قبل �أن جتيبه‬
‫اق�ض بع�ض الوقت معها �أوال قبل �أن ت�أتي ب�أف�ضل الأطباء ليداويها»‪.‬‬
‫بربود‪ِ «:‬‬
‫كاد عمران �أن يجيبها بغ�ضب حتى مل�ست والدته كفه‪ ،‬وهي تقول بابت�سامة‪«:‬اهد�أ‬
‫عمران‪ُ ،‬غفران قلقة فقط على �صحتي لذا قالت ما قالته»‪� ،‬أجابتها ُغفران‬
‫بربود‪�«:‬أنا ال �أقلق على �أحد»‪.‬‬

‫ع‬
‫دوما لها �أثر عليها لتُجيبها وهي متد‬
‫�ضحكت والدته �ضحكتها احلنونة التي ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تعال يا فتاة النار‪ ،‬اقرتبي مني»‪ ،‬تابعهما عمران بده�شة وهو يرى‬ ‫يديها لها‪ِ «:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫تلك العالقة التي بني والدته وبينها‪ ،‬وهو حتى الآن ال ي�صدق وجودها يف منزله‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لتزداد ده�شته وهو يرى ُغفران جتل�س على الكر�سي بجانب �سرير والدته‪ ،‬راف�ضة‬

‫ع‬
‫�أن متد يديها لكف والدته‪ ،‬ف�ضحكت والدته بتعب وهي تقول‪�«:‬ساحميني ابنتي‬
‫واعذري كرب �سني وتخريف العجوز»‪ ،‬نظرت لها ُغفران ب�ضيق وهي تقول‪ِ �«:‬‬
‫أنت‬
‫أ�ساحمك ب�سهولة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لن ت�ستدرجيني هكذا‪� ،‬أنا لن �‬
‫مدت والدته يدها لها وتلم�ست طريقها حتى مل�ست كفها و�ضغطت عليه بحنو‪،‬‬
‫لك»‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات قبل �أن ترفع‬ ‫وهي تقول‪«:‬لن �أفعلها جمددًا �أق�سم ِ‬
‫ُغفران �أنظارها لها لتقول بهدوء وهي تتجاهل كفها الذي حتيطه العجوز‪«:‬ال تهملي‬
‫أرجوك‪ ،‬كان يجب �أن تخربيني ب�أنك ال ت�ستطيعني تناول الدواء ملذاقه‪،‬‬ ‫�صحتك � ِ‬
‫ِ‬
‫لك هذا الأمر ال �أن تهمليه»‪ ،‬ابت�سمت لها بحنان وهي جتيبها‪«:‬ح�سنا‬ ‫كنت عاجلت ِ‬
‫لن �أكررها جمددًا»‪ ،‬هزت ُغفران ر�أ�سها من دون قول �شيء‪ ،‬ثم نه�ضت من على‬
‫أعرفك على عمران‪،‬‬
‫قليل ل ِ‬ ‫الكر�سي لتقول لها العجوز وهي ت�سمع خطواتها‪ِ «:‬‬
‫ابق ً‬
‫ولكنك مل تقابليه من قبل‪ ،‬عمران هذه الطبيبة ُغفران‪ ،‬مالك‬ ‫ِ‬ ‫ثك عنه‬
‫دوما �أح ّد ِ‬
‫ً‬
‫الرحمة يل»‪ ،‬نظرا كالهما لبع�ض للحظات قبل �أن ت�شيح ُغفران �أنظارها عنه وهي‬
‫حتمل حقيبتها لتقول بهدوء‪«:‬يف وقت الحق‪� ،‬أما الآن فيجب �أن �أذهب‪ ،‬لدي العديد‬
‫�صحتك»‪ ،‬من دون انتظار‬
‫ِ‬ ‫�صباحا لأطمئن على‬
‫ً‬ ‫من الأمور غري املُنتهية‪� ،‬س� ِ‬
‫أزورك‬
‫‪139‬‬
‫ردها على حديثها خرجت على الفور‪ ،‬ليتحدث عمران بهدوء ل�سعاد‪�«:‬سعاد ِ‬
‫ابق مع‬
‫قليل حتى �أو�صل الطبيبة فالوقت مت�أخر»‪.‬‬
‫�أمي ً‬
‫خرج بهدوء من الغرفة لي�سرع باجتاه الباب‪ ،‬ولينظر للدرج فلمحها تنزل‬
‫بهدوء‪� ،‬أ�سرع ينزل خلفها الدرج حتى قب�ض على ذراعها‪ ،‬فالتفتت له ُم�سرعة وهي‬
‫تدفعه بقوة للجدار من خلفه وتنظر له بغ�ضب وهي تهم�س‪«:‬ال تلم�سني»‪� ،‬أجابها‬
‫بهدوء‪«:‬يجب �أن نتحدث»‪ ،‬ثم و�صل لأ�سماعهما �صوت �أحدهم ي�صعد الدرج‪،‬‬
‫ف�أم�سك بذراعها جمددًا وهو يجذبها خلفه قا�صدً ا �سطح املنزل‪.‬‬
‫ت�أكد من خلو ال�سطح من �سكان العمارة‪ ،‬ليلتفت �إليها وهو ينظر لها بقوة ليلمح‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�صلت لهنا؟!» �أجابته بربود‪�«:‬أنا‬
‫قائل‪«:‬كيف ِ‬

‫ري‬
‫نظراتها اجلامدة له‪ ،‬ليتنف�س بقوة ً‬

‫الكت‬
‫�أ�سكن على بعد ثالثة �شوارع من منزل والدتك»‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات قبل �أن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ي�س�ألها برت ّقب‪�«:‬أنا �أعلم تلك املعلومة ُغفران‪ ،‬هل �أمي تعرف من‪ »...‬قاطعته‬

‫توزيع‬
‫ب�سخرية قبل �أن يكمل �س�ؤاله‪«:‬هي ال تعرف �سوى القليل»‪� ،‬س�ألها بحذر وهو يقرتب‬
‫بقدومك لعالجها؟!»‬
‫ِ‬ ‫منها‪«:‬ما الذي تق�صدينه بالقليل؟! وهل يعلم �أحد غري �سعاد‬
‫�صمتت للحظات وهي تعيد ترتيب �أفكارها‪ ،‬و�أ�سئلته تفتح العديد من املتاهات‬
‫بعقلها‪ ،‬فاقرتبت منه بهدوء وهي ت�س�أله‪«:‬ال �أحد يعلم عنها �أي �شيء �ألي�س كذلك؟!‪،‬‬
‫ال �أحد يعلم عن حياتك ال�شخ�صية �شي ًئا‪ ،‬ومن انفعالك الوا�ضح وغ�ضبك غري املُربر‬
‫�أنت ال تريد لأحد �أن يعرف عنك �أو بالأخ�ص عنها �شي ًئا»‪.‬‬
‫نظر لها بجمود للحظات‪ ،‬قبل �أن يجيبها وهو يقب�ض على ذراعها بقوة‪«:‬نعم‪،‬‬
‫أنت لن تتفوهي ب�شيء ُغفران‪� ،‬أنا ال �أعلم بعد ما الذي تخططني له‪ ،‬ولكن �أق�سم‬
‫و� ِ‬
‫أقتلك على الفور»‪.‬‬
‫لك �إن �أ�صاب والدتي �شيء �س� ِ‬
‫ِ‬
‫�أبعدت ذراعها بقوة عن قب�ضته وهي ترفع �إ�صبعها لتدفعه يف �صدره‪�«:‬أنا ال‬
‫�أتهدد عمران‪ ،‬واليوم فقط عرفت �أنها والدتك‪ ،‬و�أدركت َمل ال ي�شفيها الدواء‪ ،‬فاملال‬
‫احلرام ال ي�شفي الأمرا�ض‪ ،‬رغم جهلي ب�إخفائك �أمرها عن اجلميع �إال �أنني لن‬
‫�أ�ستفيد �شي ًئا و�أنا �أجته لهم لأخربهم �أنني قابلت والدتك»‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات وملحة �أ ٍمل مرت بعينيه لتلتقطها ب�سهولة وهي ترتاجع‬
‫خطوة عنه لت�سمعه يقول‪�«:‬إن علم ممدوح بوجودها �سيقتلها»‪� ،‬شحب وجهها وهي‬
‫تبتعد عنه خطوتني‪ ،‬لي�سود ال�صمت للحظات قبل �أن ت�س�أله‪«:‬ملاذا؟!»‪ ،‬نظر لها‬
‫قك ُغفران و�أعلم من والدتي‬ ‫طويل قبل �أن يقول‪«:‬ال �أ�ستطيع � ِ‬
‫إخبارك‪� ،‬أنا �أ�ص ّد ِ‬ ‫ً‬
‫أخربت ممدوح ما كانت والدتي حية حتى‬ ‫كنت � ِ‬ ‫�أن هناك طبيبة تتابعها لأ�شهر‪ ،‬فلو ِ‬
‫أنت ُمراقبة من رجال ممدوح‪ ،‬و�إن‬‫لك بهدوء ال ت� ِأت جمددًا لأمي‪ِ � ،‬‬
‫الآن‪ ،‬لذا �س�أقول ِ‬
‫أنت لن ترى �أمي‬
‫جميئك هنا �سي�صل ممدوح لأمي‪ ،‬لذا � ِ‬‫ِ‬ ‫ا�ستعلم �أحدهم عن �سبب‬
‫جمددًا»‪.‬‬
‫خرج من �أفكاره على ربتة على كفيه‪ ،‬لينظر لكف والدته التي حتيط بكفه‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لينظر لها بحب بعد �أن قالت‪«:‬ما الذي يحزنك يا بني؟!»‪� ،‬أجابها بابت�سامة وهو‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يق ّبل كفها‪�«:‬آه من احل ّنونة وهي ت�شعر بي قبل �أن �أخربها ما بي»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ابت�سمت والدته له بحب وهي تقول‪�«:‬آه يا بني مل ينا ِدين �أحد بهذا بعد وفاة‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫والداك»‪ ،‬رم�ش عمران بعينيه حتى يبعد الدموع عنها‪ ،‬ليقرتب منها وهو يق ّبل‬
‫أعو�ضك عن هذا ب�أجمل �إفطار‬
‫ِ‬ ‫جبينها قائال مبزاح‪«:‬يا يل من ُم ّ‬
‫ق�ص ًرا �إذا‪� ،‬س�‬
‫ملالكة القلب»‪� ،‬ضحكت والدته �ضحكتها املُحببة له وهي ت�ستقبل ُقبلته‪ ،‬وبعد‬
‫حلظات من خروجه حانت منها ابت�سامة حزينة وهي تقول‪«:‬لقد لهف قلبي عليك‬
‫يا ابن بطني‪ ،‬ولهف قلبي على ابنة قلبي‪ ،‬يا اهلل كن معهما يا اهلل»‪.‬‬

‫‪M‬‬

‫‪141‬‬
‫�إن الكثريين ال يريدون منا ً‬
‫حل مل�شكالتهم بقدر ما يريدون‬
‫القلب الذي يتوجع ويت�أ�سى‪ ،‬وكما قيل وال بد من �شكوى �إىل ذي‬
‫مروءة يوا�سيك �أو ي�سليك �أو يتوجع‬

‫�سلمان العودة‬
‫الف�صل التا�سع‬
‫عودة من املوت‬

‫منزل يامن‬

‫ع‬
‫جل�ست �سايل بهدوء على كر�سي باملطبخ‪ ،‬وهي ترى حماتها تعد الطعام‪ ،‬لتقول‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫يخربك مبا ي�شغله عني هذه الأيام؟!»‪ ،‬نظرت‬ ‫لها برباءة م�صطنعة‪�«:‬إذا يامن مل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لها (�شادية) والدة يامن بابت�سامة لتقول‪ِ «:‬‬
‫ميكنك خداعي بهذا الوجه يا ابنتي‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫أنت الأدري بيامن‪ ،‬تعلمني �أنه دائم ال�صمت‪ ،‬خا�صة �إن كان �أم ًرا يخ�ص‬
‫ولكن � ِ‬

‫ع‬
‫عمله»‪.‬‬
‫تنهدت �سايل وهي تقول‪«:‬فقط لو ي�سمح يل باحلديث معها؟!»‪ ،‬رفعت �شادية‬
‫مينعك يامن‪ ،‬ال �ضرورة من‬
‫ِ‬ ‫عينيها ل�سايل وهي تقول بقلق‪«:‬ال يا ابنتي‪ ،‬حتى لو مل‬
‫احلديث معها‪� ،‬إن حالتها النف�سية ال ت�سمح لأحد باحلديث‪ ،‬لقد انهارت من فرتة‬
‫وجعلتنا جميعا نتوخى احلذر يف التعامل معها»‪ ،‬قالت �سايل بتذمر‪«:‬هذا لي�س‬
‫عدل‪ ،‬كيف �إذا �س�أكمل ال�سبق ال�صحفي اخلا�ص بي و�أنا زوجة ُمق ّدم قريبته كانت‬‫ً‬
‫فردًا من تلك الع�صابة؟»‪.‬‬
‫انتف�ضت من على كر�سيها على �صوت حماها وهو يقول ب�صوت جامد‪«:‬قريبته‬
‫تلك تكون ابنة عمه‪�ُ ،‬سمعتها من ُ�سمعته‪ ،‬و�أي رجل لديه كرامة لن ي�سمح لأحد‬
‫باخلو�ض يف �شرف عائلته مهما كان َمن‪ ،‬هذا لي�س له عالقة بالعمل بل بالأخالق‬
‫�سبقك ال�صحفي لن جتدي م�ساعدة هنا يف تقدميه‪� ،‬أم يامن لقد‬‫ِ‬ ‫واملبادئ‪ ،‬لذا‬
‫ت�أخر الوقت عن الغداء» �أجابته �شادية بارتباك‪«:‬نعم لقد جهز الطعام‪� ..‬سنعد‬
‫الطاولة الآن �أبا يامن»‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫التفت ليخرج ف�أوقفته �سايل وهي تقول بقلق خو ًفا من معرفة يامن‬
‫بكالمها‪«:‬عمي �أنا مل �أق�صد ما قلته كما و�صل لك‪� ،‬أنا فقط �أريد ن�شر احلقيقة ً‬
‫بدل‬
‫مما يتحدث به النا�س‪� ،‬أنا ال �أعي �أن ما يقولونه حقيقي‪ ،‬فاهلل وحده يعلم ما حدث‬
‫معها يف ذلك املنزل‪ ،‬ولكن ِل َك ِتم �أقاويل النا�س يجب �أن نرد عليهم برد قوي نظهر به‬
‫احلقيقة‪ ..‬هذا ما ق�صدته فقط»‪.‬‬
‫نظر والد يامن لها بهدوء ليقول‪�«:‬إن جاهدنا يف طريقنا بهذه احلياة لإر�ضاء‬
‫النا�س مبا يريدونه لن نتحرك مكاننا يا ابنتي‪ ،‬رمبا نتحرك خطوة للأمام‪ ،‬ولكن‬
‫�أمامها نعود مائة خطوة للخلف‪ ،‬النا�س ال يريدون احلقيقة بل يخ�شونها‪ ،‬النا�س‬
‫يريدون حدي ًثا يلهيهم عن �أحاديث حياتهم‪ ،‬يريدون اخلو�ض يف �أعرا�ض النا�س‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫للرتفيه عن �أنف�سهم‪ ،‬و�أنا لن �أ�سمح البنة �أختي �أن تكون و�سيلة ترفيه لهم‪ ،‬نحن‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫لك نحن‬‫أنت ل�ست ا�ستثناء‪ ،‬وكما قلت ِ‬
‫منعنا ال�صحافة كلها من �أي حوار معها‪ ،‬لذا � ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫رجال لدينا كرامة ونفدي �أهل بيتنا ب�أرواحنا جتاه �أي �شيء قد ي�ؤذيهم مهما كان‬

‫توزيع‬
‫قربه»‪.‬‬
‫ارت�سم اجلمود على مالمح �سايل وهي تعي مق�صده‪ ،‬لتخرجهما والدة يامن من‬
‫دفاعا عن �أهله لتقول‪«:‬ح�س ًنا‪،‬‬
‫هذا احلوار‪ ،‬وهي تعي �أن زوجها لن يتوانى عن التوقف ً‬
‫هيا لقد انتظرنا كث ًريا و�سيربد الطعام‪ ،‬هيا �سايل دعينا نعد املائدة»‪.‬‬
‫جذبت �سايل من ذراعها لتعد معها الطعام‪ ،‬وخرج والد يامن وهو ي�ستغفر ربه‬
‫يوما ما‪،‬‬
‫را�ض عن خطيبة ابنه و�أفكارها التي قد ت�ؤذيها وت�ؤذي ابنه ً‬
‫يف �سره‪ ،‬غري ٍ‬
‫بينما �أخذت �سايل ت�ساعد حماتها وهي ت�ست�شعر كره حميها لها‪ ،‬حميها الذي مل‬
‫يقبلها حتى الآن ِكنة له‪ ،‬ولكن منذ متى وكان يهمها �شيء تافه كهذا‪ ،‬هي لديها‬
‫هدف و�ستح�صل عليه مهما ا�ضطرت لفعل ما ال يرغبون فيه‪.‬‬
‫احلاج �سعيد خريي كبري عائلة خريي‪ ،‬الأخ الأكرب لوالد زمرد ولوالد �سليم‪،‬‬
‫يعمل يف جتارة الأخ�شاب‪ ،‬وراثة يف العائلة �أ ًبا عن جد‪.‬‬
‫جل�س �أمام طاولة الطعام يتذ ّكر ما حدث قبل �أ�سابيع وقلب كيان العائلة ب�أكملها‪،‬‬
‫عودة االبنة املُختطفة‪ ،‬ابنة �أخيه الغالية زمرد‪ ،‬مل يتذ ّكر ً‬
‫يوما ارتباطه ب�أحد �أطفال‬
‫‪146‬‬
‫العائلة كما ارتبط بالفتاة ال�صغرية التي كانت ُتق ّبله على خده يف كل مرة تراه فيها‪،‬‬
‫�آمله قلبه حني ر�آها �شابة �أنهكتها الآالم‪� ،‬شابة مبالمح عجوز قا�ست يف احلياة الكثري‬
‫ور�أت من �أهوالها الأكرث‪ ،‬ما �سمعه من والده يامن ك�سر ظهره‪ ،‬وهو يعي �أن ما‬
‫غال‪ ،‬هو يعي رد‬
‫ا�ستعادوه بعد كل تلك الأيام هو بقايا فتاة �أخذوا منها كل ما هو ِ‬
‫فعل ابنه ويرف�ضه بقوة‪ ،‬ولكن هو يعطيه الوقت ليتف ّهم‪ ،‬لقد ر�أى ابن �أخيه ما مل يره‬
‫ابنه‪ ،‬زمرد ال يحق لأحد �أن يلومها على �أي �شيء فعلته‪ ،‬ال يحق لأحد عتابها على‬
‫�أي خ�سارة خ�سرتها‪� ،‬آه فقط لو ابنه يعي ذلك الأمر و ُيدركه ويعي قرارته اخلط�أ‬
‫الذي داوم على �أخذها يف تلك ال�سنة‪ ،‬ا�ستغفر �سره وهو يدعو له بالهداية وعدم‬
‫االجنذاب خلفه ِعنده‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬
‫منزل زمرد‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫نظرت ب�شرود للطعام الذي �أمامها وهي تفكر �أنها هنا منذ ثالثة �أ�سابيع‪ ،‬مرت‬

‫ع‬
‫عليها ك�سنني‪� ،‬أقل من �أ�سبوعني مرا منذ انهيارها املُخجل �أمام �سليم‪ ،‬لت�ستيقظ‬
‫بعدها لتجدهم حولها يتنف�سون ال�صعداء‪ ،‬وجوههم �شاحبة ووالدتها حتت�ضنها‬
‫بقوة تذرف الكثري من الدموع‪ ،‬لتعي �أنها ظلت فاقدة الوعي ليوم كامل‪ ،‬ا�ستغربت‬
‫بعدها ردود الأفعال من حولها‪� ،‬أعمامها وزوجاتهم يحاولون بقدر امل�ستطاع‬
‫ُمعاملتها بلطف‪ُ ،‬متفادين الكم من الت�سا�ؤالت التي ترتاق�ص داخل �أعينهم‪ ،‬والدتها‬
‫على الرغم من عدم ا�ستطاعتها النظر لعينيها �إال �أن مل�ساتها مل ت�ستطع املقاومة‬
‫لتحت�ضنها كل فرتة و�أخرى ُمق ّبلة ر�أ�سها ُمتمتمة‪«:‬حفظك اهلل يل يا قرة عيني»‪،‬‬
‫ورحاب التي حتاول فتح املوا�ضيع معها لتحدثها يف �أي �شيء ُمتج ّنبة احلديث عنها‬
‫وعن حياتها‪.‬‬
‫وحده من توقف عن احلديث معها‪ ،‬عن النظر �إليها‪ ،‬عن التواجد يف نف�س املكان‬
‫الذي هي به منذ �آخر لقاء بينهما يف احلديقة‪ ،‬بعد �أن باركته على عقد قرانه‪ ،‬حتى‬
‫تغ�ضنت مالمح‬‫�سليم توقف عن املجيء لها‪ ،‬وحني �س�ألت عنه يف اجتماع العائلة ّ‬
‫والده بالغ�ضب‪ ،‬وهو يخربها �أنه يف �سفرية عمل‪ُ ،‬معتذ ًرا منها عما بدر منه جتاهها‪،‬‬
‫‪147‬‬
‫و�أنه لن يكرر فعلته جمددًا‪ ،‬لتت�ساءل غري ُم�ستوعبة حديثه‪ ،‬لتجيبها والدته ب�أنه مل‬
‫يجب �أن ينفرد بها مبكان واحد مبفردهما يف وقت مت�أخر‪ ،‬ومل يجب �أن يحملها‬
‫معدوما يف‬
‫ً‬ ‫لغرفتها كما فعل‪ ،‬لي�صطدم عقلها فج�أة بعامل من املبادئ والأخالق كان‬
‫عاملها‪ ،‬من معا�شرتها لهم تلك الفرتة �أدركت مدى التزام عائلتها القوي‪.‬‬
‫�أخرجتها من �أفكارها ربتة على كفها من والدتها لتقول لها‪َ «:‬مل ال ت�أكلني يا قرة‬
‫طعاما �آخر نع ّده لك؟!» لتهز ر�أ�سها بالنفي‬
‫عيني؟! �أال يعجبك الطعام؟! �أتريدين ً‬
‫حماولة التقاط لقيمات من الطعام دون قول �شيء‪.‬‬
‫طرقات على باب ال�شقة جذبت انتباههم‪ ،‬لتنه�ض رحاب ُمرتدية حجاب ر�أ�سها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تفتح الباب‪ ،‬ليقابلها يامن بابت�سامته احلنونة لها‪ ،‬جاذبة انتباه زمرد التي مل تره‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫يوما ُمبت�س ًما‪� ،‬سمعته ي�س�أل رحاب عن حالها ودرا�ستها‪ ،‬ثم ملحت والدتها تنه�ض‬ ‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫لتقابله بينما هو ما زال على باب ال�شقة ً‬
‫راف�ضا الدخول‪ ،‬ارتع�شت �أو�صالها وهي‬

‫توزيع‬
‫ت�سمعه يخرب والدتها �أن الطبيبة ق ّدمت امليعاد لليوم بدل الغد‪ ،‬الطبيبة التي �أجربها‬
‫على ر�ؤيتها ُمدعيا �أنها �أوامر ُعليا من ر�ؤ�سائه بخ�صو�ص الق�ضية‪ ،‬طبيبة زارتها‬
‫�أربع مرات‪ ،‬راف�ضة فيها احلديث معها ب�أي �شيء‪ ،‬راف�ضة حماوالتها لبدء �أي تقارب‬
‫جتاهها‪ ،‬وقفت من مكانها �شاحبة وهي ت�سمعه يقول �إنه يجب الذهاب �إليها يف‬
‫بدل من جميئها باملنزل‪.‬‬ ‫عيادتها اليوم ً‬
‫التفت ثالثة �أزواج من العيون لها‪ ،‬اثنان بقلق وزوج بربود‪ ،‬لرتتع�ش مكانها وهي‬
‫تقول بارجتاف‪�«:‬أنا لن �أخرج‪� ..‬أنا ال �أ�ستطيع اخلروج»‪.‬‬
‫ملحته يدلف لل�شقة ويتجه ناحيتها‪ ،‬فقب�ضت على كفيها حتاول ادعاء الثبات‬
‫�أمامه لت�سمع نربته الباردة‪«:‬الطبيبة جتد �أن املنزل هنا ال ي�ساعدك على التوا�صل‬
‫أجلك‪ ،‬لع ّل ِك تبدئني باحلديث معها»‪ ،‬ك�أنها مل‬
‫معها‪ ،‬و�أ�صرت على تغيري املكان من � ِ‬
‫ت�ستمع ملا قاله لتكرر كالمها‪�«:‬أنا ال �أ�ستطيع اخلروج»‪.‬‬
‫أنت ال‬ ‫تن ّف�س بغ�ضب وهو يقول‪ِ «:‬‬
‫عليك اخلروج وتنفيذ تعليمات الطبيبة‪ِ � ،‬‬
‫تتقدمني يف العالج وال تتفوهني ب�شيء‪ ،‬والوقت مير دون �أن نعرف ما نريده من‬
‫معلومات ت�ساعد يف التحقيق»‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫هتفت بغ�ضب وهي ترى ت�ش ّنج مالحمه‪«:‬و�أنا ال �أريد �أن �أحتدث‪ ..‬لقد �أخربتكم‬
‫مبا يفيد التحقيق‪ ،‬ال �شيء �إ�ضاف ًيا ميكن �أن �أقوله»‪� ،‬أجابها‪«:‬املعلومات التي‬
‫ح�صلنا عليها من ُغفران والفتاة الأخرى غري كافية‪ ،‬ووحدك من متلكني املعلومات‪،‬‬
‫ق�ضيت تلك ال�سنتني يف املزرعة»‪ ،‬هتفت بغ�ضب‪«:‬مل �أكن هناك وحدي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بحكم �أنك‬
‫أي�ضا‪ ،‬وما قلته ال يزيد �شيئا عما قالته»‪� ،‬ضرب بكفيه على الطاولة‬
‫ليلى كانت معي � ً‬
‫�أمامه‪«:‬اللعنة‪ ،‬ال تدعيني �أقولها حتى ال �أخ�سر احرتام �أهلك يل»‪.‬‬
‫�شحب وجهها وهي تعي مق�صده‪ ،‬لي�شحب وجهه وهو يعي ما تفوه به‪ ،‬زفر بغ�ضب‬
‫أجدك بالأ�سفل»‪� ،‬أغلق‬
‫وهو يتجه ناحية الباب قائال ب�صوت مكتوم‪«:‬ع�شر دقائق و� ِ‬
‫الباب خلفه‪ ،‬لرتفع نظرها لوالدتها و�أختها تراهما ب�صورة ُم�شو�شة من غمامة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الدموع‪� ،‬أ�شاحت بنظرها عنهما جتر رجلها لغرفتها‪ ،‬ت�شعر بتلك ال�س ّكني التي‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ب�صدرها تتحرك من مكانها �آملة �إياها‪ ،‬دلفت رحاب خلفها �إىل غرفتها يف مبادرة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫منها لدعمها‪ ،‬ملحت الغرفة بحالتها الطبيعية ك�أن ال �أحد ي�سكنها‪ ،‬ابتلعت ريقها‬

‫والتوزي‬
‫وهي تنظر باجتاه احلمام لتلمح زمرد تخرج منه ووجهها يبدو عليه البكاء‪ ،‬انتف�ضت‬

‫ع‬
‫زمرد مكانها وهي ترى رحاب �أختها تنظر لها ب�شرود‪ ،‬رحاب �أختها ال�صغرية التي‬
‫�أخذت الكثري من مالمح والدها العزيز‪ ،‬يف الكثري من الأوقات تختل�س النظر �إليها‬
‫من دون علمها لتلمح فيها مالمح ا�شتاقت لتذ ّكرها‪� ،‬أختها ال�صغرية املتف ّوقة بكلية‬
‫دوما‬
‫الإعالم يف �سنتها الأوىل‪� ،‬أختها التي تخ�شى �أن تزعجها بوجودها فتلتزم ً‬
‫ال�صمت وهي مبجل�سها معها‪ ،‬حتاورها كل فرتة و�أخرى يف �أي �شيء ال عالقة له بها‪.‬‬
‫ابتلعت ريقها وهي ت�سمع رحاب تقول لها بهدوء‪�«:‬أردتُ �أن � ِ‬
‫أخربك فقط �أن يامن‬
‫إزعاجك بكالمه هذا‪ ،‬الكالم يخرج من فمه دون الدخول على �أي فلرت‬
‫ِ‬ ‫ال يق�صد �‬
‫ين ّقي الكلمات حني ي�شعر بال�ضغط»‪ ،‬حانت من زمرد ابت�سامة وهي ترى �ضحكة‬
‫لك فا�سمحي‬ ‫رحاب لتقرتب منها رحاب بهدوء وتقول لها‪«:‬مبا �أن هذا �أول خروج ِ‬
‫لك»‪.‬‬‫يل �أن �أعطيك بع�ض مالب�سي ترتدينها حتى نذهب م ًعا ل�شراء مالب�س ِ‬
‫ملعت الدموع يف عني زمرد لتهز ر�أ�سها باملوافقة دون قول �شيء‪ ،‬فرتى حما�س‬
‫عليك» ملحتها تخرج من‬‫رحاب وهي تقول‪«:‬حلظة �س�أح�ضر الثياب‪ ..‬لن �أت�أخر ِ‬
‫الغرفة ُم�سرعة لتغم�ض زمرد عينيها ودمعتان يتيمتان ت�سطران �آالمها على وجهها‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫نزلت من �سيارة الأجرة ونظرت للمقر �أمامها فتذكرت وجودها هنا منذ �أكرث‬
‫من ثالثة �أ�سابيع‪ ،‬منذ �أن قتلت �سمرية‪ ،‬تنف�ست بهدوء حتاول جاهدة احلفاظ على‬
‫هدوئها‪ ،‬هي هنا اليوم من �أجل �أمر مهم‪ ،‬رحمة �أو زمرد‪ ،‬حانت منها ابت�سامة‬
‫�صغرية وهي تهم�س داخلها �أن زمرد يليق بها �أكرث‪ ،‬تريد �أن تقابل املُق ّدم يامن‬
‫لت�س�أله عنها و ُتطالبه بر�ؤيتها‪ ،‬فهي ا�شتاقت لها ب�شدة‪.‬‬
‫عربت الطريق حتى ت�صل ملركز ال�شرطة‪ ،‬وبينما هي ترفع عينيها عن الطريق‬
‫ملحت �سيارة �سوداء تخرج من �شارع يجاور املركز‪ ،‬و�شد انتباهها وجه م�ألوف يظهر‬

‫ع‬
‫من خلف زجاج �أحد الأبواب الأمامية لتجد يف حلظة زجاج الباب اخللفي ينزل‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫و�آخر وجه قد ت�صدق يف يوم �أن تراه جمددًا ينظر �إليها‪ ،‬وابت�سامته الكريهة على‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وجهه‪ ،‬لتت�سع عني ُغفران يف �صدمة وهي تهم�س‪«:‬غري معقول»‪ ،‬جت ّمد ج�سدها‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫ب�أكمله وهي تلمح �صاحب الوجه يرفع فوهة م�سد�س غريب ال�شكل جتاهها‪ ،‬وخالل‬

‫توزيع‬
‫ثوان ملحت ر�صا�صة تخرج من الفوهة‪ ،‬ف�أغم�ضت عينيها يف انتظارها لتخرتق‬
‫ج�سدها‪ ،‬وهي ت�ست�شعر ب�أنها النهاية حت ًما‪ ،‬ولكن ج�سدً ا قو ًيا �أحاط بج�سدها‪،‬‬
‫و�أدارها بقوة حتى �سقطا م ًعا على الأر�ض‪.‬‬
‫كان يف حاجة للقدوم ملقابلة اللواء ح�سني‪ ،‬لع ّله ي�صل لغفران‪ ،‬ال يعلم ما به‪،‬‬
‫ولكن منذ فرتة وهي ت�أتي لتفكريه كث ًريا‪� ،‬أخذ يف ّكر منذ يومني �أن لكل من �أمرية‬
‫وزمرد عائلة ماذا عن غفران!؟ مما �سمعه من التحقيقات والأخبار �أنها االبنة‬
‫احلقيقية لتلك العائلة‪ ،‬لذا �أين تعي�ش الآن؟! وكيف حتيا حياتها بعد �أن قتلت‬
‫والدتها؟! خرج من �أفكاره على ر�ؤيتها ت�أتي من بعيد يف اجتاهها ملقر الأمن الوطني‪،‬‬
‫حانت منه ابت�سامة وهو يرى الهالة التي حتيط بها نف�سها‪ ،‬بال�سواد الذي تت�شح به‬
‫دوما ك�أنها هكذا تخفي نف�سها وهيئتها‪ ،‬بال ُعقدة املُرتاخية ل�شعرها الغجري �أ�سود‬
‫ً‬
‫اللون ك�أنها قا�صدة �أن تهمل االهتمام به‪ ،‬ازدادت ابت�سامته وهو يف ّكر �أنها املرة‬
‫الأوىل له ليت�أمل فتاة بهذه الدقة‪ ،‬فتاة غري طبيعية يف كل �شيء‪ ،‬جذب انتباهه‬
‫تو ّقفها و�شحوب وجهها‪ ،‬عقد حاجبيه وهو ينظر باجتاه نظراتها فلمح �سيارة �سوداء‬
‫تقف يف احلارة املجاورة للمقر‪ ،‬ال يعلم َمل �شعر بقب�ضة تعت�صر قلبه جعلته يتحرك‬
‫‪150‬‬
‫�سالحا ويبدو ك�أنه‬
‫ً‬ ‫�سرعا وهو يلمح من بال�سيارة ي�صوب لها‬
‫باجتاهها لريك�ض ُم ً‬
‫�سالح تخدير‪ ،‬فلم يفكر للحظة وهو يجذبها باجتاهه بعيدً ا عن الر�صا�ص‪ ،‬لي�سقطا‬
‫كالهما � ً‬
‫أر�ضا بعد �أن �شعر بحرقة يف جانب ج�سده‪.‬‬
‫ت�أوهت ب�أمل وهي ت�ست�شعر ب�أنه من �سقوطها ولي�س من الر�صا�صة‪ ،‬فكرت للحظة‬
‫�أن الر�صا�صة مل تخرتق ج�سدها بل‪...‬‬
‫عند هذه اللحظة �أدركت �أنها ما زالت يف �أح�ضان �أحدهم‪ ،‬وهو يت�أوه‪ ،‬فابتعدت‬
‫بقوة عنه ليزداد ت�أوهه‪ ،‬وهي تلمح جت ّمع بع�ض النا�س حولهم ليتحدث �آ�سر بت�أوه‪«:‬يا‬
‫أنت قوية!»‪.‬‬
‫�إلهي كم � ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�شهقت ب�صدمة وهي ترى �آ�سر على الأر�ض ومي�سك جانبه ب�أمل‪ ،‬فاقرتبت بعملية‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫وهي ما زالت حتت ت�أثري ال�صدمة لتم�سك بج�سده فرتفعه لأعلي ثم تنزله جمددًا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫على الأر�ض وتديره ميي ًنا وي�سارا تبحث برعب عن الر�صا�صة التي اخرتقت ج�سده‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫أنت ت�ؤمليني»‪.‬‬
‫ليقول بت�أمل وهو ي�ضحك‪«:‬توقفي‪ ..‬يا �إلهي � ِ‬

‫ع‬
‫توقفت عن دفعه وهي ت�سمع �صوته‪ ،‬فهتفت ب�صدمة‪�«:‬أنا ال �أرى �أي جرح‬
‫بج�سدك»‪ ،‬ملحت تراخي مالمح �آ�سر وهو يبت�سم بخفوت‪ ،‬بينما يقاوم �إغماءه وهو‬
‫يرفع يديه لتلمح �سه ًما خمد ًرا يف يديه‪.‬‬
‫ليقول ب�صوت خافت‪�«:‬إنها ر�صا�صة خمدرة لي�ست حية‪ ،‬يا �إلهي مل �أ�صدق‬
‫للحظة �أن من املمكن �أن �أتذ ّوق ما �أفعله مبر�ضاي هذا املخدر‪� ،»...‬ضحك �آ�سر‬
‫بخفوت قبل �أن يكمل جملته لي�ست�سلم لإغمائه ويذهب يف النوم �أمام �صدمة ُغفران‬
‫لهيئته‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل حممد الأ�سيوطي‬
‫كانت تبحث يف املكتبة عن كتاب ممتع تقر�أه لع ّلها ت�شغل عقلها به‪ ،‬منذ فرتة‬
‫وهي تلمح �أن �ساعة الظهرية ال يكون �أحد باملنزل �سواها هي وجميلة‪ ،‬التي اعتذرت‬
‫منها اليوم لتذهب لق�ضاء �أمر بامل�شفى‪ ،‬بعد �أن انقطعت عن العمل كل تلك الفرتة‬
‫‪151‬‬
‫لتبقى معها‪� ،‬أخذت تتم�شى باملنزل وهي ترى �صور العائلة على اجلدران‪ ،‬وكم بدوا‬
‫�سعيدين للغاية‪ ،‬ثم ملحت تلك الغرفة التي حني دخلتها جتمدت مكانها وهي ترى‬
‫�أكرب مكتبة قد ر�أتها‪ ،‬مكتبة ت�أخذ جدران الغرفة ب�أكملها‪ ،‬ف�أخذت تبحث بني كتبها‬
‫املختلفة‪ ،‬غارقة فيها بعيدً ا عن العامل كله‪.‬‬
‫قاطعها طرق على باب املنزل‪ ،‬فخرجت من غرفة املكتب بتوج�س وهي تت�ساءل‬
‫من ي�أتي يف هذا الوقت‪ ،‬اقرتبت بهدوء وت�ساءلت عن الطارق فات�سعت عيناها‬
‫بده�شة وهي ت�سمع �صوت ُغفران‪ ،‬ففتحت لها الباب على الفور‪ .‬جتمدت يف مكانها‬
‫وهي تلمح ُغفران ت�سند �أخاها �آ�سر بج�سدها‪ ،‬و�إغماء �آ�سر وا�ضح للعني‪� ،‬أخرجها‬
‫أخيك ثقيل»‪.‬‬
‫من جمودها هتاف ُغفران‪«:‬حتركي �أمرية و�ساعديني‪ ..‬فج�سد � ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫اقرتبت �أمرية بتوتر وا�ضح و�ساعدت ُغفران يف �إ�سناد ج�سد �آ�سر حتى و�ضعتاه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫على �أريكة يف منت�صف ال�صالة‪ .‬تنف�ست ُغفران بقوة وهي تت�أوه من �أمل ظهرها‪،‬‬

‫شر وال‬
‫وحترك ذراعيها لرتفع عنهما الآالم‪ ،‬بينما �أمرية ما زالت يف مكانها تنقل عينيها‬

‫توزيع‬
‫بده�شة بني ُغفران و�آ�سر‪ ،‬الذي يبدو �أنه نائم! لت�س�ألها‪«:‬ما الذي حدث؟!»‬
‫�أخف�ضت ُغفران عينيها عن �أمرية وحتدثت بهدوء ك�أنها مل تتعر�ض ملحاولة‬
‫قتل‪«:‬ال تقلقي‪� ،‬إنه فقط نائم‪� ..‬س�أرحل الآن» وقفت �أمرية �أمامها ُم�سرعة‪ ،‬متنعها‬
‫من الرحيل‪ ،‬وهتفت بقلق‪ُ «:‬غفران‪� ..‬أخربيني ماذا يحدث؟!»‬
‫ابت�سمت لها ُغفران بحب‪ ،‬ورفعت كفيها ُتر ّبت على وجنتيها بحنان �أر�سل رجفة‬
‫يف ج�سد �أمرية‪.‬‬
‫«ال تقلقي �أمرية»‪ ،‬انزعجت ليلى من مناداة ُغفران لها ب�أمرية لتقول‬
‫بارتباك‪«:‬ال تناديني �أمرية‪� ،‬أنا ليلى»‪.‬‬
‫اقرتبت منها ُغفران واحت�ضنتها بحنان وهي تقول‪«:‬ال فرق لدي بني االثنتني‪،‬‬
‫فكالكما غالية لقلبي‪ ،‬ورغ ًما عني بد�أت يف حب �أمرية �أكرث‪ ،‬فهي تبدو �أقوى‬
‫و�أجمل»‪.‬‬
‫ابتعدت ُغفران ُم�سرعة هر ًبا من �أ�سئلة �أمرية التي هي متيقنة من عدم‬
‫ا�ستطاعتها الإجابة عنها يف الوقت احلايل‪ ،‬كادت �أن تفتح باب ال�شقة حتى التفتت‬
‫‪152‬‬
‫لآ�سر النائم على الأريكة‪ ،‬ونظرت له بغمو�ض لتقول ب�صوت ُمرتبك‪�«:‬أو�صلي ل ِ‬
‫أخيك‬
‫�شكري»‪.‬‬
‫خرجت ُغفران من املنزل ُم�سرعة‪ ،‬ومل تلمح ال�ضياع الذي �شعرت به �أمرية من‬
‫كلماتها الب�سيطة‪ ،‬مل ت�ستطع قبول واقعها اجلديد‪ ،‬فهي لي�ست بقوة ُغفران‪ ،‬نظرت‬
‫بوجوم لأخيها النائم وهي تتذ ّكر م�شاعر اخلوف التي ملأت قلبها يف اللحظة التي‬
‫ر�أته مغ�شيا عليه ُ‬
‫وغفران ت�سنده بج�سدها‪.‬‬
‫كيف تخاف على �شخ�ص غريب عليها؟! ولكن هل �آ�سر غريب ح ًقا؟!‬
‫اقرتبت بهدوء وجل�ست على الأر�ض بجوار الأريكة و�أخذت تت�أمل مالمح وجهه‬

‫ع‬
‫الهادئة‪ ،‬حانت منها ابت�سامة �صغرية وهي تهم�س‪«:‬ت�شبه ال�سيدة جميلة كث ًريا يف‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حبها وحنانها‪ ..‬هل ح ًقا حتبني كما تفعل هي؟!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫�أ�سرعت ُغفران يف طريقها للخروج من احلي وهي ت�شعر بقلبها يكاد يتوقف‪،‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫توقفت وهي تلهث ك�أنها يف رك�ض طويل‪ ،‬فلمحت مقعدً ا على جانب الطريق فجل�ست‬

‫ع‬
‫عليه بهدوء وهي تنقل نظراتها بني النا�س الذين يتحركون يف ال�شارع‪� ،‬أخذت تعد يف‬
‫دوما حينما تريد الهرب من التفكري وتهدئ قلبها من‬ ‫ر�أ�سها الأ�شخا�ص كما تفعل ً‬
‫اخلوف‪ ،‬ف�أخذت تهم�س وهي تعد كل ما تراه عيناها‪:‬‬
‫«واحد اثنان ثالثة ممدوح حي‪� ،‬أربعة خم�سة �ستة يا �إلهي مل ميت‪� ،‬سبعة ثمانية‬
‫ت�سعة لقد حاول تخديري‪ ،‬ع�شرة �آ�سر تلقى الر�صا�صة عني»‪.‬‬
‫كم امل�شاعر التي �أ�صابت قلبها يف‬
‫ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله وهي ُمنده�شة من ّ‬
‫هذه اللحظة‪ ،‬رفعت ذراعيها حتيط بهما ج�سدها لتكمل بهم�س‪«:‬مل ميت ممدوح‪،‬‬
‫زمرد مل تقتله! لقد حاول تخديري‪ ..‬هل هذا معناه �أنه ما زال على خمططه؟! �آ�سر‬
‫يا �إلهي»‪.‬‬
‫�أخف�ضت وجهها تنظر للأر�ض وهي تفكر فيما �شعرت به حينما تلقى الر�صا�صة‬
‫عنها‪ ،‬اخلوف‪ ..‬اخلوف من �أن ي�صيبه �أذى ب�سببها‪ ،‬مل يفعل �أي �شخ�ص من قبل ما‬
‫يفدها �أي �شخ�ص من قبل بحياته‪ .‬هي مل تره �سوى مرتني فكيف يفديها‬ ‫فعله‪ ،‬مل ِ‬
‫بحياته هكذا من دون �أي تردد؟! هل هو بحكم عمله كطبيب �أم‪!...‬‬
‫‪153‬‬
‫�ضحكت بته ّكم من اجتاه م�شاعرها‪ ،‬ثم هزت ر�أ�سها ميي ًنا وي�سا ًرا ك�أنها تنف�ض‬
‫جميع �أفكارها وهم�ست داخلها‪:‬‬
‫«يبدو �أن ال�صدمة �أ�صابت عقلك‪ ..‬ركزي ُغفران ممدوح مل ميت‪ ،‬ممدوح مل‬
‫ميت»‪.‬‬
‫�سكتت للحظات تفكر‪ ،‬ثم نه�ضت من مكانها م�سرعة وهي توقف �إحدى �سيارات‬
‫الأجرة‪ ،‬وتخرب ال�سائق �أن يو�صلها ملقر الأمن الوطني‪.‬‬
‫‪M‬‬

‫ع‬
‫منزل زمرد‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫فتحت عينيها بتثاقل على �أ�صوات مكتومة من بعيد‪ ،‬رم�شت بعينيها �أكرث من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫مرة حتاول طرد النوم الذي زارها �أخ ًريا بعد حماوالت فا�شلة ل�ساعات‪ ،‬فاعتدلت‬

‫توزيع‬
‫لتجل�س على �سريرها‪ ،‬وهي ت�شعر بقب�ضة تتو�سط �صدرها‪ ،‬ع�صف ال�صداع بر�أ�سها‬
‫ف�أغم�ضت عينيها حتاول التخفيف عن �آالمها‪ ،‬م�سدت بيديها مو�ضع قلبها وهي‬
‫تت�ساءل‪ :‬هل حقا �أثر �شجارها مع يامن عليها هكذا �أم �أن روحها بد�أت يف رف�ض‬
‫احلياة من حولها؟‬
‫عادت الأ�صوات البعيدة جمددًا لأ�سماعها‪ ،‬فنه�ضت من مكانها تتوجه لل�شرفة‬
‫تنظر من خلف �ستائرها‪ ،‬لتلمح �أربعة رجال يت�شابهون يف البنية القوية والهيئة‬
‫ال�صارمة التي تدل على عملهم يقفون �أمام بوابة املنزل‪ ،‬ملحت يامن بعينيها يوجه‬
‫لهم احلديث ويبدو الغ�ضب على مالحمه‪� ،‬شعرت بالقلق يع�صف بها يف اللحظة التي‬
‫رفع فيها وجهه لي�شحب حني نظر ل�شرفتها‪.‬‬
‫ابتعدت عن ال�شرفة‪ ،‬وحلظات و�أبدلت ثيابها لتخرج على الفور وهي ت�ست�شعر‬
‫بروحها �أن هناك �أم ًرا و�أم ًرا كب ًريا‪ ،‬ملحت والدتها جتل�س على �أحد الكرا�سي حتاول‬
‫االت�صال ب�أحد‪ ،‬وزوجة عمها جتل�س بقربها ُتر ّبت على ظهرها‪ ،‬فرفعت االثنتنت‬
‫�أعينهما لها حينما ملحتا نزولها‪ ،‬لت�س�ألهما على الفور حني ملحت �شحوب وجه‬
‫والدتها‪«:‬ماذا يحدث هنا؟!»‬
‫‪154‬‬
‫�سائل زوجة عمه‪«:‬هل ردت على‬ ‫كادت والدتها جتيب حني دلف يامن للمنزل ً‬
‫ات�صالك عمتي؟!» ُمتجمدا مكانه وهو يلمحها واقفة تبادلهم النظر بقلق‪ ،‬لتعيد‬
‫ِ‬
‫�س�ؤالها جمددًا‪«:‬ما الذي يحدث هنا؟!» جتاهل يامن �س�ؤالها وهو ي�س�أل زوجة‬
‫ات�صاالتك؟!» لتجيبه قلقة‪«:‬ال يا بني‪ ،‬يبدو �أنها يف‬
‫ِ‬ ‫عمه‪«:‬هل �أجابت رحاب على‬
‫حما�ضرة‪ ،‬لقد �أخربتني �أن لديها اليوم ثالث حما�ضرات فقط‪ ،‬لو تخربين ماذا‬
‫ً‬
‫حماول‬ ‫يحدث فلقد ارتعب قلبي عليها»‪ ،‬اقرتب منها ُيربت على كفها وهو يقول‬
‫حماول بقوة عدم �إظهار �أي �شيء �أمام تلك التي تقف خلفه‪«:‬ال �شيء‪،‬‬‫ً‬ ‫طم�أنتها‬
‫فقط �أريد االطمئنان عليها‪ ،‬بع�ض ال�شغب حدث يف �أحد ال�شوارع املُحيطة باجلامعة‬
‫لذا مبا �أنها لديها ثالث حما�ضرات فمعناه �أنها لن تخرج من مبنى اجلامعة‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وهذا وحده ُمطمئن‪ ،‬و�أنا بنف�سي �س�أذهب لأح�ضرها‪ ..‬ال تقلقي»‪ ،‬نظر لوالدتها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫باطمئنان ثم حلظات وا�ست�أذن للخروج‪ ،‬فتبعته زمرد وهي تناديه ليتوقف على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫الدرج مواليا ظهره لها لت�س�أله مبا�شرة وهي تعي جيدً ا متى يقول ال�شخ�ص احلقيقة‬

‫والتوزي‬
‫ومتى يتج ّنبها‪«:‬ما الذي يحدث‪� ..‬أجبني؟!» تنهد بقوة ليجيبها بهدوء‪«:‬ال يوجد‬

‫ع‬
‫�شيء زمرد‪ ..‬فقط �أريد �أن اطمئن على‪ »...‬نزلت درجتني لتقف �أمامه وهي تنظر‬
‫له بجمود‪«:‬ال تخربين بق�صتك التي رويتها لأمي حماولة منك لطم�أنتها‪ ..‬ما الذي‬
‫يحدث مع رحاب ومن ه�ؤالء الرجال باخلارج؟»‪� ،‬صمت يت�أمل مالحمها الغا�ضبة‬
‫غري قادر على الإ�شاحة بعينيه عنها‪ ،‬يت�أمل �شحوب مالحمها والإرهاق البادي على‬
‫وجهها ً‬
‫حامل �آثاره عليها‪ ،‬ال ي�صدق ما �سمعه من رئي�سه منذ �ساعات‪ ،‬ليقع قلبه‬
‫يف رجليه وهو يعي �أن الرجل الذي �شوه روحها ما زال على قيد احلياة طلي ًقا يف‬
‫اخلارج‪ ،‬ال �أحد يعرف مكانه‪ ،‬وقد حاول اختطاف ُغفران‪ ،‬ترى كيف �ستكون ردة‬
‫فعلها حني تعرف بذلك؟!‬
‫«يامن‪� ..‬أنا �أ�س�ألك �أنت ال تبدو على ما يرام‪ ،‬كما �أنك تتجنب النظر لعني‬
‫والدتي‪ ،‬لذا حتما �أنت تخفي �شي ًئا‪ ،‬هل هناك �شيء �أ�صاب رحاب؟ �أنا ال �أفهم»‪.‬‬
‫رق قلبه وهو ي�شاهد قلقها وتر ّقرق الدموع بعينيها‪ ،‬ليجيبها بهدوء ُملقيا‬
‫قنبلته‪«:‬ممدوح العزامي على قيد احلياة‪ ،‬وقد حاول اختطاف ُغفران‪ ،‬ولكنه‬
‫ف�شل»‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫حلظات ت�ستوعب فيها جملته املُكونة من كلمات ب�سيطة‪ ،‬لتتحول لدقائق وهي‬
‫جامدة تنظر له‪ ،‬ك�أنها يف انتظار �أن يخربها �أن هذه مزحة‪ ،‬ممدوح على قيد احلياة‬
‫هو مل ميت‪ ،‬مل ميت‪� ،‬شعرت بالقب�ضة التي بروحها تت�سع �أكرث فت�ضيق على �أنفا�سها‪،‬‬
‫قادما من بعيد ويبدو �أنه يقول �شي ًئا‪� ،‬شعرت بالأمل الذي بر�أ�سها‬
‫لت�سمع �صوت يامن ً‬
‫يكاد ميزقها لتغم�ض عينيها ُم�ست�شعرة كفني مي�سكان بها بقوة بينما تدور الأر�ض‬
‫بها‪.‬‬
‫و�صلت لأ�سماعها ُ�س ّبة �أطلقها يامن وهو ي�سندها بج�سده‪«:‬اللعنة‪ ،‬تعايل‬
‫معي»‪ ،‬جذبها بكفه وهو ينزل الدرج غا�ض ًبا من حاله بعد �أن �شك بردة فعلها جتاه‬
‫اخلرب‪ ،‬فهو ظن �أنها �ستت�أثر فرحة باخلرب‪ ،‬مما ي�ؤكد له ارتباط م�شاعرها ح ًقا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫غي من كل �أفكاره‪ ،‬و�صل للحديقة‬ ‫بذلك الوغد‪� ،‬إال �أن الرعب الذي ر�آه على وجهها ّ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لي�سب‬
‫اخللفية ليجل�سها على �أحد املقاعد‪ ،‬وتركها ليح�ضر ماء �أعطاه لها لت�شربه‪ّ ،‬‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫ته�شم ًة على الأر�ض‪ ،‬جل�س باملقعد‬‫ُمددًا وهو يرى الك�أ�س تقع من بني يديها‪ُ ،‬م ّ‬

‫توزيع‬
‫الذي يجاورها ُم�سكا بكفها يف بادرة لأول مرة منه‪ُ ،‬متجاهال م�شاعره وهو ي�شعر‬
‫يل زمرد»‪ ،‬لتنفذ �أمره‪ ،‬قاتلة �إياه بدموعها التي‬
‫بربودة كفيها ليهتف بها‪«:‬انظري �إ ّ‬
‫اول ت�أكيد كل كلمة تخرج منه‪�«:‬أنا لن �أدعه‬ ‫�أظهرت مدى رعبها ليقول بقوة ُم ً‬
‫منك»‪� ،‬شهقت بقوة وهي تنه�ض‬ ‫إليك مهما كان الثمن‪ ،‬لن �أدعه يلم�س ذرة ِ‬ ‫ي�صل � ِ‬
‫على الكر�سي ُمبتعدة عنه‪ ،‬ت�ضم ج�سدها بذراعيها‪ ،‬تقف ُم�شتتة تنظر يف كل اجتاه‬
‫حولها برعب‪ ،‬ك�أنها ت�شعر بوجود ممدوح بقربها‪ ،‬لتهم�س من دون توقف‪�«:‬سي�أتي‪،‬‬
‫�سي�أتي ليكمل ما مل ينهِ ه‪� ،‬سي�صل �أنت ال تعرفه‪ ،‬هو‪ »...‬و�ضعت يديها على قلبها‬
‫عال‪ «:‬لن يفعل ولو ك ّلفني‬
‫ت�شعر ب�أنه �سيقف فو ًرا لتلمح يامن �أمامها يهدر ب�صوت ٍ‬
‫هذا موتي»‪ ،‬انتف�ضت مكانها وهي ت�سمع جملته لتقول بوجع‪«:‬ال يامن‪ ،‬ال تذكر‬
‫املوت‪� ،‬أرجوك ال تفعل» ليت�ضح �أمامها ما كان يفعله منذ ال�صباح‪«:‬يا �إلهي‪ ،‬رحاب‬
‫�أنت تظن �أنه قد‪ »...‬هز ر�أ�سه بالنفي ي�ؤكد لها‪«:‬ال �أنا فقط �أ�ضع احتماالت‪ ،‬هو لن‬
‫يغامر بالو�صول لأفراد العائلة‪� ،‬أنا فقط ال �أ�ضع ً‬
‫جمال �أمام �شكوكي‪� ،‬أريد �أن �أكون‬
‫ُم�ستعدً ا لأي �شيء‪� ،‬س�أذهب �إىل اجلامعة و�أح�ضرها بنف�سي‪ ،‬ولكن �أريد �أن �أذهب‬
‫أتاك �أي ات�صال‬
‫عليك �أال تخرجي من املنزل لأي �سبب‪ ،‬حتى لو � ِ‬ ‫ُمطمئ ًنا زمرد‪ِ ،‬‬
‫‪156‬‬
‫من �أي �شخ�ص ال تخرجي �أبدً ا من املنزل»‪� ،‬صمتت ك�أنها تفكر يف �شيء‪�«:‬أنت‬
‫قلت �أنه حاول اختطاف ُغفران‪ ،‬هل �أ�صابها‪ »...‬قاطع �س�ؤالها وهو يرى دموعها‬
‫املُنهمرة‪«:‬ال مل ي�صبها �شيء‪ ،‬هي بخري كما هي ب�سحرها الأ�سود ال�شرير»‪ ،‬حانت‬
‫منها ابت�سامة و�سط دموعها لتجيبه‪«:‬هي لي�ست �شريرة‪ ..‬هي فقط تائهة»‪.‬‬
‫يوما ما بقلبها هذا وبابت�سامتها هذه‪ ،‬ابتلع ريقه يحتوي م�شاعره‬ ‫�ستقتله ً‬
‫ليهدئ من وجيب قلبه‪ُ ،‬مبتعدً ا عنها‪ ،‬وهو يقول بعملية ك�أن حلظات قربه منها‬
‫قد ولت‪«:‬ح�س ًنا‪ ،‬والآن هناك �أربعة من رجايل باخلارج لن يتحركوا من مكانهم‪،‬‬
‫دوما هنا بوجودي �أو يف حالة عدم وجودي‪ ،‬ال �أريد �أن تعرف والدتك �شي ًئا‪،‬‬
‫�سيكونون ً‬

‫ع‬
‫حالتها ال�صحية ال ت�سمح لها باالنفعال جمددًا‪ ،‬لذا �أمتنى �أن يبقى الأمر بعيدً ا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫أخربك‬
‫أ�سبابك �إال �أنني �س� ِ‬
‫عنها‪� ،‬أعلم �أنك ال تتحدثني معها ب�شيء‪ ،‬رغم جهلي ب� ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫والدتك يف النهاية زمرد»‪ ،‬رفعت عينيها‬

‫ل‬
‫ِ‬ ‫بك الأفكار والو�ساو�س هي‬
‫ب�أنه مهما دارت ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫‪ M‬والتوزي‬
‫له وهي تنظر له ب�شحوب ال تعي متى انتقل احلديث لعالقتها مع والدتها‪ ،‬نظر لها‬

‫ع‬
‫منك»‪.‬‬ ‫نظرة تف ّهم وهو يقول‪«:‬الأم هي الوحيدة التي يحزن قلبها ِ‬
‫عليك ال ِ‬

‫قبل �أ�سبوع‬
‫دلفت �إىل امل�شفى م�سا ًء‪ ،‬وحولها رجالن يتبعانها كظلها‪ ،‬لتنظر بهدوء حولها‬
‫ُماولة عدم جذب االنتباه لها‪ ،‬قابلها �أحد رجال اال�ستقبال �سائال �إياها عمن تكون‬
‫لتجيبه بلهجة ثابتة‪�«:‬أنا لدي هنا موعد مع الدكتور وليد �صادق»‪ ،‬ا�ستغرب رجل‬
‫اال�ستقبال من حديثها‪ ،‬ليمنع دخولها حتى يت�أكد من حديثها‪ ،‬فات�صل بغرفة الطبيب‬
‫وليد ليجيبه على الفور ويخربه �أنه بانتظار مري�ضة بالفعل قد �أعطاها موعدً ا‪.‬‬
‫تنف�ست بهدوء وهي تدخل امل�صعد مع الرجلني‪ ،‬وحلظات حني �أغلق الباب‬
‫�سالحا كا ًمتا لل�صوت‪ ،‬انفتح باب‬
‫�أخرجوا �أ�سلحتهم من احلقيبة كل منهم يحمل ً‬
‫امل�صعد لتجد �أمامها الدكتور وليد وهو ينظر �إليها ب�شحوب‪ ،‬لتبت�سم له ب�سخرية‬
‫وهي تقول‪«:‬مواعيدك م�ضبوطة دكتور وليد والآن ادخل»‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫دخل الطبيب امل�صعد بارتباك وهو يرى �أ�سلحتهم ليغلق باب امل�صعد‪ ،‬وهو‬
‫أخربتك �أنني‬
‫ِ‬ ‫ي�ضغط على الدور وجهتهم لي�س�ألها بقلق‪«:‬هل هناك �سبب للأ�سلحة‪� ،‬‬
‫اترك عائلتي بحالها»‪.‬‬
‫�س�أنفذ كل ما تريدينه فقط ِ‬
‫مل جتبه ب�شيء ليلمحهم يخفون �أ�سلحتهم خلفهم‪ ،‬حتى فتح امل�صعد وخرجوا‬
‫لي�سريوا يف املمر خلفه بهدوء مارين مبمر�ضتني تتابعان حالة مري�ض يف غرفة‬
‫يف بداية املمر‪ ،‬حتى و�صلوا للغرفة املن�شودة‪ ،‬ملحت �شرط ًيا يوقف الطبيب وي�س�أله‬
‫عن وجهته يف ذلك الوقت‪ ،‬وقبل �أن يجيبه الطبيب ب�شيء ر�صا�صة اخرتقت ر�أ�س‬
‫ال�شرطي لي�سقط على الفور‪ ،‬حامال �إياه �أحد الرجال وهو يدخل به الغرفة ليخلع‬
‫معطفه الذي غطى على بدلة م�شابهة لبدلة ال�شرطي‪ ،‬وحمل �سالحه لي�أخذ مكانه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫خالل الأيام القادمة يف انتظار التعليمات القادمة‪ ،‬ارتعب الطبيب مكانه وهو‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫يلمحهم يلقون بج�سد الرجل على الأر�ض‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫اقرتبت من ال�سرير الوحيد بالغرفة الذي يحمل ج�سده‪ ،‬لتبت�سم وهي تقرب‬

‫توزيع‬
‫فمها من �أذنه‪�«:‬أنا هنا‪ ،‬لقد و�صلت حبيبي»‪� ،‬س�ألها الطبيب بارتباك‪«:‬ح�س ًنا �أنا‬
‫أو�صلتك له فماذا �ستفعلني الآن؟» التفتت �إليه وهي ت�صوب �سالحها جتاه لتقول‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫بهدوء‪«:‬ال �شيء‪ ،‬جمرد ت�صريح خروج منك با�سم مزيف ملري�ض‪ ،‬ف�أنا ال �أريد‬
‫�أن يلمح �أحد خروجه الآن‪ ،‬دعهم يتفاج�أون بعد �أيام بالهدية التي �س�أتركها لهم‪،‬‬
‫بالإ�ضافة �إىل �أنك �ستمنع دخول املمر�ضات للغرفة‪ ،‬وحدك من تدخل وتخرج ك�أنك‬
‫تطمئن على حالته»‪� ،‬أجاب الطبيب‪«:‬ولكن مل نتفق على هذا؟» �أجابته بجمود‬
‫وهي تق ّرب ال�سالح من جبينه‪�«:‬أنا مل �أتفق معك على �شيء‪� ،‬أنت تنفذ ما �أريده‬
‫مقابل حياة عائلتك لذا نفذ»‪.‬‬
‫�أعطاه الرجل ورقة ينق�صها توقيعه وا�سم املري�ض ليقوم مبا يلزم‪ ،‬وبعد �أن انتهى‬
‫�أمرته ب�أن يت�صل باال�ستقبال ليجهزوا له �سيارة �إ�سعاف تو�صل املري�ض لوجهته‪،‬‬
‫فن ّفذ �أمرها ُم�ضط ًرا حتى بد�أت مب�ساعدة الرجل نقل ممدوح ب�سيارة الإ�سعاف مع‬
‫الطبيب املرافق له‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫‪158‬‬
‫بعد �ساعتني‬
‫فتح عينيه وهو ي�شعر ب�أمل يف �صدره و�ساقه‪� ،‬أغم�ض عينيه ُمددًا‪ ،‬و�إ�ضاءة‬
‫الغرفة ت�ؤذيه ليلمح �صوتًا قري ًبا منه جعله ينظر ل�صاحبه �أو بالأدق ل�صاحبته‪«:‬كنت‬
‫على يقني �أن تلك احلقنة التي �أعطتك �إياها خلود يف غفلة عن �أعني غفران �ستقوم‬
‫بواجبها‪ ،‬عودًا حميدً ا رئي�سنا الغايل»‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه ُمددًا وهو يتنهد بارتياح وابت�سامة �صغرية ُتز ّين فمه‪ ،‬ليقول‬
‫ب�صوت مبحوح‪�«:‬سمر غاليتي‪َ ،‬مل كل هذا الت�أخري؟! �آه ما �أحلي العودة للمنزل»‪.‬‬
‫‪M‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫مقر الأمن الوطني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫«اللعنة كيف حدث ذلك �سامي؟!» هتاف خرج من اللواء ح�سني‪ ،‬وهو ي�شعر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫بالغ�ضب ال�شديد ل ُيجيبه النقيب �سامي‪«:‬لقد ب ّلغ �أحدهم عن وقوع حادثة على‬

‫ع‬
‫الطريق ال�سريع يف نف�س الوقت الذي �أبلغونا به يف امل�شفى مبقتل ال�شرطي الذي كان‬
‫تغي‬
‫يحر�س ممدوح‪ ،‬بعد �أن ملحت ممر�ضة خلو املمر من ال�شرطي الذي يبدو �أنه ّ‬
‫من �أيام‪ ،‬دلفت للغرفة لتجد جثة الع�سكري‪ ،‬ووجدنا يف امل�شفى تعليمات من الطبيب‬
‫بعدم دخول �أي ممر�ضات له و�أنه �سيتابع حالته بنف�سه‪.‬‬
‫للطبيب؟!»‬ ‫�س�أله اللواء‪«:‬ح�س ًنا هل ت�أكدوا من �أن اجلثة باحلادثة تعود‬
‫�أجابه‪«:‬نعم‪ ،‬للأ�سف �سيدي كانت هناك عربة �إ�سعاف و�سيارة �أخرى مالكي‪،‬‬
‫وجدنا جثة الطبيب بالإ�سعاف ور�صا�صة تخرتق جبينه و‪»...‬‬
‫�س�أله اللواء بقلق‪«:‬ماذا �سمري؟!» �أجابه �سامي ب�أ�سف‪«:‬بال�سيارة املالكي‬
‫وجدنا ثالث جثث المر�أة وطفلني فارغني �سيدي» �س�أله اللواء ب�صدمة‪«:‬ماذا‬
‫تق�صد بفارغني؟!»‬
‫«فارغني من �أي �أع�ضاء �سيدي» �أجابه �سامي ليهتف اللواء بغ�ضب‪«:‬اللعنة‬
‫على ذلك الوغد اللعني»‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫�أكمل �سامي‪«:‬يبدو �أن من �أنقذ ممدوح مل يقم بعملية انتزاع الأع�ضاء على‬
‫الطريق‪ ،‬فال دماء �سوى دماء الطبيب‪ ،‬لذا حني عادت بع�ض القوات ملنزل الطبيب‬
‫اكت�شفوا الكثري من الدماء فيبدو �أنهم قاموا بنقل الأع�ضاء هناك»‪.‬‬
‫جل�س اللواء على الكر�سي وهو يقول‪«:‬اللعنة عليهم عدميي ال�ضمري‪� ،‬أر�سل قوة‬
‫ُمتخفية ملنزل �آ�سر ويامن‪ ،‬وحاول �أن جتد ُغفران‪� ،‬أحاول الو�صول �إليها من �أيام‬
‫وال �أ�ستطيع‪ ،‬فيبدو �أن ممدوح �سيقوم ب�ضربته يف �أقرب وقت حاملا ي�ستعيد قوته»‪،‬‬
‫�أجابه �سامي‪«:‬ح�س ًنا �سيدي‪ ،‬واللواء �سامح راغب قد توىل ق�ضية مقتل الطبيب‬
‫�سيدي»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نظر له اللواء ح�سني ب�صدمة‪«:‬ملاذا ولوا له الق�ضية؟! �أال يعلمون �أ�ساليبه؟!»‪،‬‬

‫الكت ‪M‬‬ ‫ري‬


‫تنهد ح�سني ب�ضيق وهو يقول ل�سامي‪«:‬احذر �سامي فهذا الرجل غري نظيف»‪.‬‬

‫شر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يع‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫منزل ممدوح‬
‫�أتاه ات�صال طارئ جعله يدلف لغرفة املكتب ُمغلقا الباب خلفه‪ ،‬ليجيب على‬
‫الفور‪�«:‬سيدي»‪.‬‬
‫«�أيها الغبي‪ ،‬هل تدرك بفعلتك كم من الأبواب �ستُفتح علينا جمددًا؟!»‪� ،‬أجابه‬
‫ممدوح بارتباك‪«:‬ال تقلق �سيدي‪ ،‬لقد �أخذنا حذرنا هذه املرة‪� ،‬سننهي الأمر كله‬
‫يف خالل �شهر»‪ ،‬و�صله �صوت رئي�سه بغ�ضب‪«:‬خالل هذا ال�شهر �سننتهي جمي ًعا‬
‫قبل �أن تنهي �أنت الأمر‪ ،‬خط�ؤك هذه املرة كبري ممدوح‪ ،‬و�أمتنى �أن ت�صلحه ب�أ�سرع‬
‫وقت‪ ،‬ال تفرح ب�إنقاذ فتاتك لك‪ ،‬لقد كان ب�إمكاين قتلك بغم�ضة عني‪ ،‬ولكن منحتك‬
‫فر�صة �أخرية لإ�صالح كل ما �أف�سدته حتى الآن‪ ،‬تلك الفتيات �إما املوت لهن �أو تنفيذ‬
‫ما خططته لهن يف �أ�سرع وقت‪ ،‬يجب �أن نتخ ّفى عن الأنظار بعدها‪ ،‬لقد بد�أوا يف‬
‫ت�شكيل جلنة كبرية من �أمهر الرجال والأطباء‪ ،‬لديك �أ�سبوعان لإنهاء تلك املهزلة‪،‬‬
‫حماول تغطية �آثارك فلم يتبق لدي‬ ‫ً‬ ‫وخالل تلك الفرتة �س�أ�سوي �آخر �أوراقي هنا‬
‫�سوى القليل»‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫�أغلق ممدوح الهاتف بعد �أن �أغلق رئي�سه اخلط‪ ،‬وهو يزفر ب�ضيق ُمتوعدً ا‬
‫ل ُغفران بالكثري بعد �أن �أف�سدت عليه اخلطط جمددًا‪.‬‬
‫على الطرف الآخر‬
‫جل�س رجل يف �أوائل ال�ستينات ين ّفث دخان �سيجاره وهو ينظر �أمامه ب�شرود‪ ،‬يفكر‬
‫يف خطوته التالية‪ ،‬ليقطع تفكريه م�ساعده وذراعه الأمين‪�«:‬إذا ما اخلطة �سيدي؟!»‬
‫�أجابه بهدوء‪«:‬داوم على عملك كما تفعل دون جذب انتباه‪ ،‬وغدً ا �س�أقوم مبا يجب‬
‫يف �سبيل �إخفاء �أي �أثر لنا‪� ،‬أخطاء ممدوح كرثت ولكن دعنا نرتكه ينفذ لنا ما‬
‫نريد حتى نق�ضي عليه بعدها قبل �أن يجذبنا معه للهاوية»‪ ،‬حت ّدث م�ساعده‪«:‬اللواء‬
‫ح�سني علم بتو ّليك الق�ضية»‪ ،‬ابت�سم الرجل ب�سخرية وهو يقول‪«:‬دعه يلهو ً‬

‫ع‬
‫قليل‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫والأيام وحدها �ستخربه‪ ،‬الفوز دائ ًما للأ�سياد ولن �أكون �سامح راغب �إن مل �أرِه ذلك‬

‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بنف�سي»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال وت‬
‫‪M‬‬
‫زيع‬ ‫منزل حممد الأ�سيوطي‬
‫لقد مرت �ساعة وهو نائم مكانه ال يتحرك‪� ،‬شعرت بالقلق عليه وهي حتاول‬
‫�أن توقظه ب�شتى الطرق وال ا�ستجابة منه‪ ،‬دمعت عيناها وهي ت�شعر بالعجز لعدم‬
‫قدرتها على الو�صول لأحد من عائلتها‪� ،‬أخرجها من قلقها رنني هاتف‪ ،‬ف�أن�صتت‬
‫ال�سمع لتجده من جيب �سرتة �آ�سر‪ ،‬فاقرتبت ُم�سرعة لتخرج الهاتف‪ ،‬فر�أت ا�سم‬
‫باك‪�«:‬أمري تعال للمنزل‪،‬‬
‫�أمري على الهاتف‪ ،‬مل تنتظر لتفتح املكاملة وتقول ب�صوت ِ‬
‫�آ�سر‪.»...‬‬
‫مل تكمل املكاملة لتجد اخلط قد ُف�صل‪ ،‬نظرت للهاتف ب�صدمة وهي ال ت�صدق‬
‫�أن �أمري �أغلق الهاتف وهو يحدثها‪� ،‬أخذت حتاول فتحه لكن ف�شلت يف معرفة الكود‬
‫اخلا�ص به‪ ،‬جل�ست ُمددًا على الكر�سي وهي تنظر �إليه �ساك ًنا ال يتحرك لتت�ساقط‬
‫دموعها غري قادرة على منعها‪ ،‬وهي جتهل ما يجب فعله لأول مرة‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫ع�شر دقائق مرت لتجد باب املنزل ُيفتح فج�أة ويدخل منه �أمري الذي نظر حوله‬
‫بقلق حتى �سقطت �أنظاره عليها وهي واقفة تبكي بدموع ُم�سكة هاتف �آ�سر‪ ،‬نقل‬
‫ب�أنظاره ليجد �آ�سر على الأريكة ويبدو �ساك ًنا يف مكانه‪ ،‬اقرتب ُم ً‬
‫�سرعا منه وهو‬
‫يهتف بها‪«:‬ما الذي فعل ِته به؟! ماذا �أ�صابه؟!»‪ ،‬ابتعدت عن طريقه وهي تراه‬
‫يفح�ص نب�ض �آ�سر‪«:‬مل �أفعل �شي ًئا‪ ،‬لقد �أح�ضرته ُغفران هكذا‪ ،‬ومل تخربين مبا‬
‫حدث؟!»‬

‫�صديقتك؟! هل �آذيتماه؟!» هتفت بغ�ضب ودموعها‬ ‫ِ‬ ‫«ومن ُغفران هذه؟! �أهي‬
‫ال تتوقف‪«:‬توقف عن هذا وعاجله‪ ،‬ات�صل بالطبيب �أو �أي �أحد»‪ ،‬نه�ض من مكانه‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يتوجه حلقيبته التي �ألقاها حني دخل للمنزل و�أخرج هاتفه ليت�صل بوالده فلم يكد‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫يت�صل حتى ملح والده يدلف للمنزل ويبدو �أنه قد عاد ُمبك ًرا اليوم‪ ،‬نظر لأمري الواقف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫على مقربة منه ليقول بهدوء‪�«:‬آه �أمري هل �أتيت؟! ظننت �أنك �ست�أتي م�سا ًء»‪ ،‬مل‬

‫توزيع‬
‫يكمل حديثه وهو يلمح �أمرية واقفة تنظر له ب�شحوب ودموعها تنهمر منها‪ ،‬نقل‬
‫�أنظاره بينها وبني �أمري القلق لي�س�أله‪«:‬ما الذي يحدث؟!»‪ ،‬حتركت �أمرية من‬
‫مكانها مبتعدة عن �آ�سر ليلمحه حممد الذي نظر بده�شة له بينما يقول �أمري‪�«:‬أبي‪،‬‬
‫ال �أعلم ما حدث له‪� ،‬إنه ال يتحرك ونب�ضه �ضعيف‪� ،‬أخربتكم �أنها لن تهد�أ حتى‬
‫ت�ؤذينا جمي ًعا»‪.‬‬
‫«اخر�س �أمري» هتف حممد وهو يقرتب ب�سرعة من ج�سد �آ�سر ويتعامل بعملية‬
‫ليفح�ص عينيه ونب�ضه‪ ،‬بينما �أمرية تتابعه بجمود‪ ،‬وجملة �أمري ترتدد يف عقلها‪،‬‬
‫�سمعت حممد يقول لأمري‪«:‬هناك حقنة‪ .‬اذهب لل�صيدلية و�أح�ضرها على الفور»‪،‬‬
‫حترك �أمري على الفور وهو يح�ضر لوالده احلقنة بينما وقفت �أمرية ُم�سكة بهاتف‬
‫�آ�سر ك�أنه جندتها وج�سدها كله ينتف�ض رع ًبا‪ ،‬بينما ترى حممد يفح�ص ج�سده‬
‫جرحا �صغ ًريا بجانب �ساقه‪ ،‬رمبا يحتاج لقطبة �أو قطبتني‪ ،‬فتحرك‬
‫ب�أكمله ليلمح ً‬
‫باجتاه احلمام وهو يح�ضر علبة الإ�سعافات ليوجه حديثه �إليها وهو يراها �شاحبة‬
‫إمكانك م�ساعدتي؟!»‬
‫الوجه‪«:‬هل ب� ِ‬
‫‪162‬‬
‫حتركت دون وعي باجتاهه وهي ت�س�أله عما تفعله‪ ،‬ليخربها �أن تفتح علبة‬
‫الإ�سعافات بعد �أن �شق �سروال �آ�سر وبد�أ يداوي جرحه‪ ،‬ويطلب منها بعملي ٍة الأدوات‬
‫الالزمة‪.‬‬
‫ا�ستمر عمله لدقائق حتى عاد �أمري ليجد �أمرية بجوار والده ُم�سكة ب�إحدى‬
‫الأدوات‪ ،‬فاقرتب منها و�أعطى والده احلقنة‪ ،‬ثم �أخذ من يديها الأدوات وهم�س‬
‫لغرفتك نحن ال‬
‫ِ‬ ‫بجانب �أذنيها بعيدً ا عن �سمع والده‪«:‬ابتعدي عن هنا‪ ،‬ا�صعدي‬
‫نحتاجك»‪� ،‬شعرت ب�آالم تغزو قلبها وهي ترى مالمح الكره على وجهه‪ ،‬ليلتفت �إىل‬
‫ِ‬
‫�آ�سر وير ّكز �أنظاره عليه‪� ،‬شعرت ب�أنها �ستبكي جمددًا فرك�ضت على الفور باجتاه‬
‫غرفتها خارج املنزل‪ ،‬و�أغلقت بابها بعد �أن و�صلت لتجل�س على ال�سرير وت�شهق‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بالبكاء‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫توزيع‬ ‫وال‬
‫م�سا ًء‬
‫طرقات على الباب للمرة التي ال تعلم عددها‪ ،‬ولكن هذه املرة لي�س �صوت والدتها‬
‫بل �صوت �آ�سر‪ ،‬مل ت�شعر بنف�سها �إال وهي تقفز من على ال�سرير وتفتح الباب ب�سرعة‬
‫لتجده واق ًفا �أمامه ُم�ستندً ا على الباب‪ ،‬ليقول بابت�سامته املعتادة‪�«:‬إذا هذا �صحيح‬
‫يخرجك �أحد من الغرفة �إال �أنا»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كما قالت �أمي‪ ،‬لن‬
‫مل ي�ستطع �أن يكمل جملته ليلمحها ترمتي بح�ضنه وهي تقول بهم�س‪�«:‬أنا مل‬
‫�أفعل �شي ًئا �أق�سم لك‪ ،‬مل �أفعل �شي ًئا‪� ،‬أنت بخري‪� ،‬أنت حي»‪� ،‬ضمها �آ�سر لها وهو‬
‫م�صدوم من �أول رد فعل لها جتاهه‪ُ ،‬لي ّبت على �شعرها بحنان وهو يقول‪«:‬اهدئي‬
‫يا �صغرية‪� ،‬أنا بخري‪ ،‬ما زلت ح ًيا �أرزق»‪.‬‬
‫ابتعدت عنه وهي ت�شعر با�ضطراب يف م�شاعرها لتنظر للأر�ض غري واعية‬
‫لنظراته احلنونة لها لي�صل لأ�سماعها �صوت والدتها‪«:‬هل فتحت الباب؟! �آه يا �إلهي‬
‫عليك حبيبتي»‪.‬‬
‫ليلى‪ ،‬لقد �أقلق ِتني ِ‬

‫‪163‬‬
‫احت�ضنتها والدتها بقوة وهي ت�ضم جل�سدها‪ ،‬بينما ملحت �آ�سر ينظر لها بحنان‬
‫ويجل�س على �أحد الكرا�سي املوجودة باملمر‪ ،‬يريح �ساقه قليال‪ ،‬لتبتعد والدتها‬
‫لك ليلى؟! هل حدث مني �شيء‬ ‫عنه تقول بعتاب‪«:‬كيف ال جتيبي على نداءاتي ِ‬
‫أزعجك؟!»‬
‫� ِ‬
‫مل ترفع نظراتها لوالدتها وهي تهز ر�أ�سها بال‪ ،‬لت�سمع والدتها تتنهد لتقول‬
‫طعاما»‪� ،‬أجابتها ليلى على الفور‪�«:‬أنا‬
‫لك ً‬ ‫قليل حتى اح�ضر ِ‬ ‫بهدوء‪«:‬ح�س ًنا اجل�سي ً‬
‫ال �أريد ل�ست جائعة»‪� ،‬أجابتها والدتها بتعب‪«:‬ال‪ ،‬ال جمال للرف�ض‪ِ � ،‬‬
‫أنت مل تتناويل‬
‫�شي ًئا من ال�صباح»‪ ،‬قاطعهما �آ�سر وهو يرى رف�ض �أمرية‪�«:‬أمي َمل ال حت�ضرين لنا‬
‫الطعام لنتناوله م ًعا �أنا وليلى بينما �أح ّدثها يف �أمر مهم؟»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫«ح�س ًنا عزيزي فكرة جيدة»‪ ،‬حتركت والدتها على الفور دون �أن تف ّكر يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أخذ ر�أيها حتى لت�شعر بال�ضيق من ذلك الأمر‪ ،‬فوجهت �أنظارها لآ�سر الذي كان‬

‫شر وال‬
‫أيك من‬‫ينظر �إليها بتف ّك ٍه وهو ي�ضحك‪«:‬الأمر مزعج �ألي�س كذلك؟! �أن ي�أخذوا ر� ِ‬

‫توزيع‬
‫بك يف عائلة الأ�سيوطي �أختاه»‪.‬‬ ‫أهل ِ‬ ‫املُ�س ّلمات! �إذا � ً‬
‫حانت منها ابت�سامة وهي ترى �ضحكته‪ ،‬و�شعر مب�شاعر غريبة مل ت�ستطع �أن‬
‫�ساعدت يف �إنقاذي اليوم مع �أبي‪� ،‬إنه‬
‫ِ‬ ‫تف�سرها حتى لنف�سها‪ ،‬حت ّدث �آ�سر‪�«:‬إذا لقد‬ ‫ّ‬
‫أحالمك �أن ت�صبحي طبيبة ف�ستكونني طبيبة ماهرة»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بك يقول �أنه لو من �‬
‫فخور ِ‬
‫�أجابته ب�ضيق‪�«:‬أنا مل �أفعل �شي ًئا‪ ،‬كما �أنه ال ي�ستطيع �أن يقرر �شي ًئا عني‪ ،‬ال �أحد‬
‫ي�ستطيع �أن يفعل»‪.‬‬
‫بهتت ابت�سامة �آ�سر لت�شعر بقلبها يغو�ص وهي ترى احلزن بعينيه‪ ،‬لتتن ّهد ب�ضيق‬
‫قائلة‪�«:‬أنا ال �أريد تناول الطعام‪ ،‬لذا �إن كان هناك ما تريد �س�ؤايل عنه فتف�ضل»‪.‬‬
‫نظر لها بهدوء لينه�ض ُم�ستندً ا على احلائط وهو يقرتب منها ببطء‪ ،‬لرتفع‬
‫�أنظارها من على �ساقه مكان �أمله‪ ،‬لتنظر لعينيه بدموع غريبة عليها‪ ،‬لت�ضم �شفتيها‬
‫يخ�صك‬
‫ِ‬ ‫مانعة نف�سها من البكاء ليقول‪«:‬ح�س ًنا‪ ،‬هناك �أمران لي�س �أم ًرا واحدً ا‪� ،‬أمر‬
‫و�أمر يخ�ص غفران»‪ ،‬ا�ستطاع �أن يجذب انتباهها ليجدها ت�س�أل‪«:‬ماذا عن‬
‫�صباحا هكذا؟! ما الذي حدث معكما؟!»‪.‬‬ ‫غفران؟! وملاذا �أح�ضرتك ً‬
‫‪164‬‬
‫«ح�س ًنا‪ ،‬ح�س ًنا �س�ؤال وراء الآخر‪ ،‬ولكن قبل �أن نتط ّرق لهذا املو�ضوع‪� ،‬أخربيني‬
‫وجعلك حتب�سني نف�سك يف الغرفة طوال اليوم؟!»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لك �أمري‬
‫مبا قاله ِ‬
‫�شحب وجهها لتنظر له بارتباك وهي تقول‪«:‬مل يحدث �شيء‪ ،‬وملاذا تقول �إن‬
‫�أمري من �ضايقني بكالمه؟ من املمكن �أن يكون والدك و�أنت ال تعرف؟»‪.‬‬
‫ندرك جيدً ا احرتام �أبي‬
‫أنت ِ‬ ‫�أجابها �آ�سر‪«:‬هذه لي�ست احلقيقة ليلى‪ ،‬ف�أنا و� ِ‬
‫جرحك»‪.‬‬‫ِ‬ ‫منك لأي �سبب‪ ،‬فما زال يحمل‬
‫لرغبتك يف عدم احلديث �أو االقرتاب ِ‬ ‫ِ‬
‫�أجفلت من نربة العتاب ب�صوته‪ ،‬لتنظر �إليه وهي تهتف بغ�ضب‪«:‬ح�س ًنا �أنا‬
‫هكذا‪ ،‬ال �أريد �أحدً ا وال �أريد �أن �أتعامل مع �أي �أ�شخا�ص ال �أرغب يف معرفتهم‪ ،‬و�أنتم‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لن جتربوين على حب من �أكرههم»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫�أجابها �آ�سر بهدوء‪ِ �«:‬‬

‫ن‬
‫دموعك‬
‫ِ‬ ‫أنت ال تكرهني �أبي ليلى‪ ،‬كما ال تكرهينني بدليل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫التي قابل ِتني بها»‪.‬‬

‫ع‬
‫أنك ذكي وهكذا �ستحاول التع ّمق لدواخلي‬‫كنت تظن � ِ‬ ‫«اللعنة عليك �آ�سر‪� ،‬إن ِ‬
‫ف�أنت خمطئ �أتفهم؟! �أنا ال �أحب �أحدً ا وال �أهتم ب�أحد‪ ،‬و�إن مت الآن يف هذه اللحظة‬
‫لن �أهتم»‪.‬‬
‫�شهقة جاءت من �آخر املمر تالها �سقوط لأطباق لتلمح �أمرية والدتها تنظر‬
‫لهما بدموع‪ ،‬لرتم�ش بعينيها وهي متنع ارتعا�ش يديها عما �سمعته لتهبط بج�سدها‬
‫حماولة مللمة الأطباق املك�سورة‪ ،‬فاقرتب �آ�سر منها ببطء وحني ر�أى �شهقتها وقد‬
‫�أ�صابتها قطع الزجاج املك�سورة‪ ،‬فلمح من متر بجانبه ُم�سرعة وهي تقرتب من‬
‫جميلة مت�سك كفها بارتعا�ش‪ ،‬لرتفع جميلة عينيها الدامعة لها لتجدها تنظر �إليها‬
‫بحزن‪�«:‬أنا‪� ..‬أنا مل �أق�صد‪ ،‬فقط مل �أنا مل �أ�س ّبب لكما �سوى الأذية‪ ،‬هو حمق فيما‬
‫لك»‪.‬‬
‫قاله‪� ،‬أنا مل �أق�صد �أق�سم ِ‬
‫�أغم�ضت جميلة عينيها وهي جتل�س على الأر�ض جاذبة �إياها حل�ضنها‪ ،‬وهي‬
‫تربت على �شعرها بكفها ال�سليم حماولة ال�سيطرة على دموعها املنهمرة وهي حتاول‬
‫تهدئة �أمرية املنهارة من البكاء‪.‬‬
‫‪165‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫دلفت بهالتها الغا�ضبة ملكتب اللواء ح�سني دون طرق الباب‪ ،‬وخلفه يهتف �سامي‬
‫بها‪ُ «:‬غفران انتظري حتى ينتهي االجتماع»‪.‬‬
‫التف جميع من بالغرفة لتلك التي دخلت عليهم وخلفها النقيب �سامي وهو ي�شعر‬
‫باحلرج من املوقف‪ ،‬نه�ض اللواء ح�سني من مكانه وهو يقرتب من ُغفران‪ ،‬وقد‬
‫ملح الغ�ضب الذي يعرتيها‪ ،‬ليبادر باحلديث‪�«:‬سنتحدث‪ ،‬لكن �أعط ِني ن�صف �ساعة‬
‫فقط �أنهي بها اجتماعي»‪.‬‬
‫هتفت من بني �أ�سنانها‪«:‬ال �أ�صدق ذلك‪ ،‬كنت على علم بالطبع‪ ،‬كنت على علم‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�أن ذلك احلقري على قيد احلياة ومل تقل �شي ًئا‪ ،‬هل تعلم �إذا ب�أمر هروبه؟!»‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�أجابه بهدوء‪ُ «:‬غفران‪ »...‬لتقطع حديثه وهي تنظر �إليه و�إىل عمران الذي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫نه�ض هو الآخر واقرتب من وقفتهما‪ ،‬بينما باقي الرجال ينظرون با�ستغراب‬

‫توزيع‬
‫لبع�ضهم مت�سائلني عن تلك التي تتحدث بغ�ضب للواء‬
‫«بالطبع تعلم‪� ،‬أخربين �إذا هل تعلم ب�أمر حماولته اختطايف؟!»‬
‫اختطافك!»‬
‫ِ‬ ‫�شحب وجه عمران بعد �أن �سمع جملتها‪ ،‬ليقول اللواء بارتباك‪«:‬‬
‫آذاك؟!» نظرت له‬‫لي�س�ألها عمران على الفور‪«:‬ماذا فعل؟! هل ر�أي ِته؟! هل � ِ‬
‫ب�سخرية وهي تقول باتهام وا�ضح‪�«:‬إنك تتقن دورك بامتياز عمران‪� ،‬أراهن �أنك‬
‫كنت على علم بكل �شيء‪ ،‬وال �أ�شك ب�أنك من �س ّربت عنوانه لباقي �أفراد الع�صابة‬
‫حتى يه ّربوه»‪.‬‬
‫التفت اللواء ح�سني لرجاله وهو يقول ب�صوت هادئ‪«:‬ح�سنا لنكتفي بهذا القدر‪،‬‬
‫ولينفذ كل �شخ�ص ما ُطلب منه‪ ،‬و�أنا يف انتظار النتائج‪� ،‬أعطوا للأمر الأهمية‬
‫الق�صوى‪ ،‬ميكنكم االن�صراف الآن»‪.‬‬
‫جذب عمران ذراع ُغفران بقوة وهو يبتعد بها عن طريق الرجال‪ ،‬ليهدر ب�صوت‬
‫مكتوم بها‪«:‬كفي عن تلك التفاهات التي تتفوهني بها‪ ،‬و�أخربيني ماذا حدث؟! هل‬
‫اختطافك؟! �أنا ال �أفهم»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ر�أي ِته؟! كيف حاول‬

‫‪166‬‬
‫جذبت ذراعها من قب�ضته بقوة وهي تقول‪«:‬حاول تخديري‪ ،‬يبدو �أن خمططه‬
‫ما زال �سار ًيا‪ ،‬ونعم ر�أيته ويبدو �أنه يف �أح�سن حال»‪.‬‬
‫جل�سوا جمي ًعا بعد �أن حاول اللواء تهدئتها‪ ،‬وقد �سردت عليهم ما حدث‪ ،‬ف�شعرت‬
‫ب�صمت عمران‪ ،‬خا�صة بعد �أن عرف ب�أمر �إنقاذ �آ�سر لها‪� ،‬أخرجه من �صمته �س�ؤال‬
‫اللواء له‪«:‬ماذا تظن عمران!؟ هل �سيتحرك على الفور؟! حتما لديه خطة»‪ ،‬هز‬
‫عمران ر�أ�سه وهو يجيبه‪«:‬بالطبع لديه خطة‪ ،‬ممدوح ال يقوم ب�أي خطوة �إال وقد‬
‫دوما لديه خطة بديلة»‪.‬‬ ‫ر�سم طريقه جيدً ا‪ً ،‬‬

‫ع‬
‫التفت اللواء ح�سني ليقول ب�صدق‪ُ «:‬غفران‪ ،‬ا�ستمعي يل جيدً ا‪ ،‬نحن مل‬

‫ص‬
‫نخربك‬
‫ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ب�أمر ممدوح لأننا مل نرد له املوت‪ ،‬ونحن نعلم �أنه بعد كل ما عرف ِته عن رحمة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فلم تكوين لتفكري مرتني قبل قتله‪� ،‬أحيا ًنا الغ�ضب يعمي �أب�صارنا يا ابنتي وال‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫عنك‪ ،‬نحن ك ًنا فقط يف انتظار‬ ‫يجعل الر�ؤية وا�ضحة‪ ،‬نحن مل نق�صد �إخفاء الأمر ِ‬
‫ا�ستيقاظه حتى نح�صل منه على ما نريد‪ ،‬عمران نف�سه مل يعرف بهذا الأمر �إال قبل‬
‫�ساعتني فقط»‪.‬‬
‫مل جتبه ب�شيء بينما عال اجلمود مالمح وجهها‪ ،‬لتنظر لعمران الذي كان ينظر‬
‫فيم تفكر؟!» انتبه لها ليجيبها‬
‫لها ب�شرود ويبدو �أن عقله لي�س معهما لت�س�أله‪َ «:‬‬
‫اختطافك فهذا معناه‬
‫ِ‬ ‫ب�صراحة‪«:‬ال يجب ِ‬
‫عليك البقاء وحيدة بعد الآن‪� ،‬إن حاول‬
‫�أنه ما زال على خمططه‪ ،‬لذا رمبا من الأف�ضل �أن ت�أتي لت�سكني مع والدتي»‪.‬‬
‫والدتك كما‬
‫ِ‬ ‫ارتع�ش قلبها ل�صراحته لتقول ب�ضيق‪ِ «:‬‬
‫ظننتك ال تريد قربي من‬
‫وامتنعت عن‬
‫ِ‬ ‫ا�ستمعت حلديثي‬
‫ِ‬ ‫قلت �آخر مرة؟» نظر �إليها ليقول بته ّكم‪«:‬وك� ِ‬
‫أنك‬
‫ر�ؤيتها!»‪ ،‬رفعت ر�أ�سها لتجيبه بغرور‪«:‬ال �أحد با�ستطاعته منعي عن ر�ؤيتها»‪.‬‬
‫حانت منه ابت�سامة حنان �أر�سلت ق�شعريرة داخلها ليقول‪�«:‬إنها ال تتوقف عن‬
‫لك»‪ ،‬ابتلعت ريقها ب�صعوبة لتقول ب�صدق‪«:‬وحدها‬ ‫عنك وال عن الدعاء ِ‬‫ال�س�ؤال ِ‬
‫‪167‬‬
‫دعواتها من ُت ِ‬
‫نجيني‪� ،‬أنا لن �أخاطر بالقدوم وال�سكن معها‪ ،‬حت ًما ما زلت ُمراقبة‪،‬‬
‫لذا �س�أجد مكا ًنا �آخر �أمكث فيه‪ ،‬املكان لي�س مب�شكلة»‪ ،‬كاد ي�س�ألها �إن كانت‬
‫�ستذهب لذلك الـ»�آ�سر»‪ ،‬لكن حديث اللواء معها منعه من التفوه ب�س�ؤاله‪ ،‬فكتمه‬
‫داخله و�شعور مرير قد �أ�صاب حلقه ال يدري �سببه‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬

‫‪168‬‬
‫�أنت العليم مبا يف القلب من وجع‪ ..‬و�أنت الرحيم ب�ضعف ل�ست �أقواه‬
‫الف�صل العا�رش‬
‫حلظة فا�صلة‬

‫منزل يامن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كانت تقف يف ردهة املنزل وهي تفرك يديها بقوة‪ ،‬كانت ت�شعر بالتوتر ولكن هذا‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫نف�سا ً‬
‫طويل ثم زفرته بارجتاف‬ ‫الأمر مهم لها‪ ،‬يجب �أن تطلب م�ساعدته‪� ،‬أخذت ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وهي تلمحه يخرج من غرفة مكتبه‪ ،‬يحاول �أن يخفي تعبري الده�شة املُ�صاحب‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫للف�ضول‪ ،‬بعد �أن علم من والدته مبجيئها و�أنها تريده يف �أمر مهم‪.‬‬
‫�أ�سبلت �أهدابها وهي حتاول �أن ت�سيطر على ا�ضطراب قلبها‪� ،‬ساد ال�صمت‬
‫للحظات بعد �أن رحلت والدته وهي تخربهما ب�أنها �ستح�ضر لهما الع�صري‪.‬‬
‫«هل �ستظلني �صامتة ملدة طويلة هكذا؟!» ت�أثرت بلمحة ال�سخرية يف كالمه‬
‫فجعلت كل ا�ستعداداتها تذهب مع الريح‪ ،‬تنحنح بخفوت وهو يراها ترتاجع عما‬
‫قليل»‪.‬‬
‫جاءت �إليه ليقول بهدوء‪«:‬اجل�سي ً‬
‫جل�سا كالهما يف الردهة وهي حتاول �أن تهدئ من توترها‪ ،‬فتحدثت‬
‫بهدوء‪«:‬عذ ًرا على تعطيلك عن عملك‪ ،‬ولكن �أريد �أن �أطلب منك خدمة»‪� ،‬س�ألها‬
‫فت�شجعت وهي ترفع عينيها له قائلة‪«:‬كانت‬‫بنف�س هدوئها عما ب�إمكانه فعله لها‪ّ ،‬‬
‫لدي �أخت ثالثة �صديقة‪ ،‬كانت معي يف‪ ..‬كانت هناك يف املزرعة‪� ،‬سافرت لإحدى‬
‫مدار�س زويل لتدر�س يف املرحلة الثانوية‪ ،‬منذ ما حدث وقد انقطعت الأخبار بيننا‬
‫ومل �أعد �أ�ستطيع التوا�صل معها‪ ،‬هل ب�إمكانك م�ساعدتي يف الو�صول �إليها؟!»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات بعد انتهائها‪ ،‬وهو ما زال على و�ضعيته ينظر �إىل عينيها‬
‫بقوة‪ ،‬ال يعلم ما ي�ش ّده �أكرث �إليها عيناها املُت�شحتان باحلزن �أم تلك الرباءة التي‬
‫‪170‬‬
‫تخدع من ينظر �إليها‪ ،‬نه�ض ب�صمت ثم حترك لغرفة مكتبه ودخلها من دون �أن‬
‫يتحدث بكلمة‪ ،‬بينما هي تتابعه بده�شة‪ ،‬تنهدت بخفوت وهي ت�شعر باملهانة للقدوم‬
‫وطلب م�ساعدته‪ ،‬فنه�ضت وحتركت باجتاه باب املنزل‪ ،‬لتوقفها والدته وهي تت�ساءل‬
‫با�ستغراب عن �سبب رحيلها ب�سرعة‪ ،‬ف�أجابتها بحرج‪«:‬لقد ت�أخرت على �أمي كما �أن‬
‫املُق ّدم لديه الكثري من العمل»‪ ،‬كادت والدته �أن تعرت�ض حتى جاءها �صوته‪�«:‬إىل‬
‫�أين �أنت ذاهبة؟!»‬
‫التفتت له لتلمحه ينظر لها بده�شة ويف يديه دفرت وقلم‪� ،‬أكمل حديثه‪«:‬ملا‬
‫ذهبت قبل �أن تعطيني البيانات التي �س�أحتاجها!؟»‪ ،‬نقلت �أنظارها بينه وبني والدته‬
‫ِ‬
‫و�شعرت باحلرج من ت�س ّرعها‪ ،‬ملحت والدته ارتباكها ّ‬
‫فرق قلبها لها وهي ُتر ّبت على‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كفيها ت�سحبها معها للردهة ويتبعهما يامن وهو يحمل الع�صري من والدته‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫و�ضع الع�صري على الطاولة والتفت لها ومد يديه بالدفرت وهو يقول‪�«:‬سجلي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫كل ما تعرفينه عنها‪ ،‬ا�سمها بالكامل‪ ،‬عمرها‪� ،‬شكلها وهيئتها‪ ،‬لو لديك معلومات‬

‫والتوزي‬
‫�سجليها �أي�ضا �ست�ساعدنا كث ًريا»‪ ،‬هزت ر�أ�سها‬

‫ع‬
‫عن املحافظة التي بها مدر�سة زويل ّ‬
‫باملوافقة وجل�ست ت�ستند بالدفرت على ركبتيها وت�سجل كل ما يريده من معلومات‪،‬‬
‫تركتهما والدته وهي جتيب على هاتف املنزل بينما جل�س هو بارتباك على الكر�سي‬
‫املقابل لها وهو يراها بو�ضعيتها هذه وما تكتبه ي�شغل كل تفكريها‪ ،‬ليعيد به الزمن‬
‫ل�سنوات م�ضت وهما يجل�سان نف�س اجلل�سة بينما هو ي�شرح لها م�سائل الريا�ضيات‬
‫التي تكرهها وي�صعب عليها فهمها‪ ،‬نب�ضة طرقت قلبه وجعلت روحه تهيم يف م�شاعر‬
‫طفل كانت حياته كلها ُمت�ش ّكلة يف الطفلة التي �أمامه‪.‬‬
‫رفعت ر�أ�سها بعد �أن انتهت فتزلزل قلبها من النظرة التي كانت يرمقها بها‬
‫فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تقول‪«:‬هذه هي كل املعلومات عنها هي يف حمافظة‬
‫البحر الأحمر‪� ،‬أعلم �أنها بعيدة ولكن �إن ا�ستطعت �أن‪»...‬‬
‫«اعتربي الأمر ُمنته ًيا‪ ،‬حينما �أ�صل لها �س�أخربك على الفور»‪ ،‬قاطعها بجملته‬
‫فتنهدت بارتياح هذه املرة وهي تنه�ض من مكانها وتهم�س بكلمات امتنان و�شكر له‪.‬‬
‫طلب منها �أن تبقى لت�شرب الع�صري وجتل�س ً‬
‫قليل مع والدته‪ ،‬لكنها رف�ضت‬
‫�سري ًعا وتعل ّلت ب�أ�سباب يعلم جيدً ا عدم �صحتها‪ ،‬فقط لتهرب من �أمامه مب�شاعرها‬
‫‪171‬‬
‫التي تكاد �أن تظهر على وجهها‪ ،‬قبل �أن تخرج �أوقفها وهو يقول‪«:‬ال ِ‬
‫تن�س الليلة‬
‫لدينا موعد مع الطبيبة على ال�سابعة»‪ ،‬هزت ر�أ�سها من دون قول �شيء‪ ،‬وخرجت‬
‫على الفور‪.‬‬
‫م�سا ًء‬
‫ملحها بطرف عينيه ويبدو �أنها غفت مكانها‪ ،‬يبدو �أن ما فعلته اليوم �أفقدها‬
‫قوتها‪ ،‬تذ ّكر حديث الطبيبة بعد �أن نادته يف �آخر اجلل�سة لتخربه �أن هناك بداية‬
‫جديدة اليوم بينما كانت زمرد يف احلمام املُلحق بغرفة الطبيبة تغ�سل وجهها مكان‬
‫تو�صل مع الطبيبة �إىل ات�صالها به بعد كل زيارة لتخربه التفا�صيل وهو يف‬
‫دموعها‪ّ ،‬‬

‫ع‬
‫انتظار �إي�صال زمرد للمنزل حتى يح ّدثها‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫تذكر غ�ضبه عليها �أول يوم �أجربها فيه للذهاب للطبيبة‪ ،‬و�شحوب وجهها بعد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫جرحه لها �أمام والدتها ورحاب‪ ،‬لكنه كان م�ضط ًرا‪ ،‬هي يف حاجة لتخرج خارج‬

‫توزيع‬
‫تلك القوقعة ال�صامتة التي ت�ضع نف�سها فيها بعيدً ا عن �أي �أحد‪ ،‬اليوم كان موعدها‬
‫فانتظرها بعد �أن ات�صل بوالدتها و�أخربها �أنه بالأ�سفل‪ ،‬منذ معرفته ب�أن ذلك‬
‫الوغد ما زال على قيد احلياة وهو ي�سعى بكل قوته ليجده‪ ،‬يريد �أن يقتله بيديه‪،‬‬
‫من وقتها وهو يبتعد عن املنزل كث ًريا‪ ،‬حتى �سايل‪ ،‬ات�صاالتها ال تتوقف‪ ،‬هي ال تفهم‬
‫�أنه يف حاجة لأن يف�صل نف�سه عن �أي حاجة ت�شعره ب�أنه حي‪ ،‬حتى ي�ستطيع �أن ُير ّكز‬
‫يف �أمر ذلك الوغد‪ ،‬ويتبع اخلطوط التي حوله حتى يجده‪ ،‬وجدها اليوم تخرج من‬
‫املنزل بعد خم�س دقائق من انتظاره وقد ارتدت �أحد ف�ساتني رحاب التي تبدو فيها‬
‫�شبيهة للطفلة التي ترك يديها يف حلظة لتنقلب حياته ب�أكملها يف اللحظة التالية‪،‬‬
‫يدرك �أنه يحمل الذنب الأكرب يف اختطافها‪ ،‬رمبا مل ي�ساحمه عمه قبل موته‪ ،‬رمبا‬
‫مل يتح ّدث �أحد من عائلته عن الأمر بعد ذلك‪ ،‬رمبا �ساحمته زوجة عمه وهي تقول‬
‫له ب�أنه يكفيه الآالم التي بقلبه فلن تزيد عليه بغ�ضبها منه‪ ،‬لكنه يعلم �أنه لو مل‬
‫يرتكها ملا اختطفوها‪ ،‬ملحها عاقدة �شعرها بربطة ُمرتاخية‪� ،‬أ�صابت هيئتها اله�شة‬
‫ووجهها ال�شاحب قلبه ب�شعور بغي�ض ومرارة يف حلقه‪ ،‬ليكمال طريقهما للطبيبة‬
‫يف �صمت‪ ،‬حماولة جتاهل انتفا�ض ج�سدها ويبدو �أن خروجها اليوم قد �أ�صابها‬
‫بالرعب‪ ،‬خا�صة بعد معرفتها ب�أن ممدوح حي‪ ،‬يدرك �أنه ال يحاول �أن يفهم رف�ضها‬
‫‪172‬‬
‫وتع ّنتها‪ ،‬هو حتى ال ي�سمح لعقله مبحاولة فهمها‪ ،‬ما ي ّنفك يراها حتى يبث نريان‬
‫غ�ضبه بوجهها على الفور‪.‬‬
‫زفر ب�صوت ليلمحها تنتف�ض يف نومتها ثم ت�سكن جمددًا‪ ،‬ف�أبط�أ من �سرعة‬
‫ال�سيارة وهو ينظر �إليها تارة و�إىل الطريق تارة �أخرى‪ ،‬ي�شعر خلف هيئتها اله�شة‬
‫عال ترف�ض �أن ت�سمح لأحد باجتيازه‪� ،‬سور يعلم جيدً ا يف اللحظة التي‬
‫هذه ب�سور ٍ‬
‫�سيجتازه فيه �ستنفتح �أبواب اجلحيم �أمامه‪.‬‬
‫و�صل للبيت �أخ ًريا ليوقف ال�سيارة بهدوء‪ ،‬ليلتفت �إليها يراقب مالحمها‬
‫احلزينة‪ ،‬وجزء داخل قلبه �سمح له بالتنف�س ً‬
‫قليل للحظات‪ ،‬لي�سمح له ينب�ض بقوة‬

‫ع‬
‫كطفل ح�صل على �أمنيته الوحيدة‪ ،‬تذ ّكر �أحالمه وحياته التي ر�سمها من �صغره‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ون�سيها‪� ،‬أو بالأدق طمرها مع ذكرياته التي كانت تخ�صها فقط‪ ،‬ليدفنها بنف�سه بعد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫القرار الذي �أخذه قبل عودتها ب�أ�شهر بارتباطه ب�سايل ليزيد من الردم فوقها‪ ،‬بعد‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ما اكت�شفه عنها و�سمعه ب�إذنه يوم �أن وجدها‪.‬‬

‫ع‬
‫قا�س ليحا�سبها على �أمر عا�شت حياتها به‪ ،‬ولكن هو فقط ال يفهم‪ ،‬لو‬ ‫يعلم �أنه ٍ‬
‫ت�سمح للطبيبة باقتحام �أ�سرارها رمبا وقتها فقط يفهم‪ ،‬ملح تلك اخل�صلة ت�سقط‬
‫اول �إبعادها لينتف�ض قلبه بقوة مللم�س وجنتيها‪ ،‬ي�شعر‬‫على وجهها ليمد يديه ُم ً‬
‫قاب�ضا عليه بغ�ضب‪ ،‬وهو يتذ ّكر احت�ضان �سليم لها وحمل‬ ‫بدفئهما ليبعد كفيه ً‬
‫ج�سدها لغرفتها وقت فقدانها الوعي‪ ،‬ال يعلم ملاذا �شعر وقتها بالغ�ضب ليت�شاجر مع‬
‫�سليم �أمام والده وعمه‪ُ ،‬مربرا غ�ضبه �أمامه ب�أنه ال يجوز له ما فعله‪ ،‬بينما نظر له‬
‫�سليم بته ّكم دون �أن يقول �شيء‪.‬‬
‫رفع كفيه ي�ضغط بهما على ر�أ�سه‪ ،‬هو ال يفهم نف�سه‪ ،‬ال يفهم ا�ضطراب م�شاعره‪،‬‬
‫ال يفهم ما ي�صيبه بقربها‪ ،‬ين�شد قربها ويبغ�ضه‪ ،‬ين�شد �صوتها ويبغ�ض حديثها‪،‬‬
‫ين�شد‪...‬‬
‫�أخرجه من �أفكاره �صوتها الذي يجلده‪«:‬يامن هل و�صلنا؟ هل �أنت بخري؟!»‬
‫�أجابها بجمود وهو ي�شعر ب�أنه ع ّرى روحه �أمامها وهي ترى تخ ّبطه‪«:‬انزيل»‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫لهجة الأمر التي ح ّدثها به جعلتها تنظر له بجمود وهو ينظر �أمامه‪� ،‬أ�شعرته‬
‫ب�أنه يبذل جهدً ا يف البقاء بقربها‪ ،‬ك�أنه ال يطيق املكوث �أكرث‪ ،‬فتحت باب ال�سيارة‬
‫جتاهد �آالم روحها لتقول ب�صوت م�سموع قبل �أن تغلق الباب وتدخل املنزل‪«:‬ال تك ّلف‬
‫نف�سك �أمر �أخذي للطبيبة وتو�صيلي للمنزل‪ ،‬ف�أنا �س�أطلب من رحاب �أن ت�أتي معي‬
‫بعد ذلك»‪.‬‬
‫نزل خلفها بغ�ضب ليجذب ذراعها قبل �أن ت�صل للبوابة هات ًفا‪«:‬ال تخالفي‬
‫وحدك‪ ،‬فال تفكري يف الهروب من الذهاب‬ ‫ِ‬ ‫�أوامري‪� ،‬أخربتك ب�أال خروج من املنزل‬
‫للطبيبة»‪� .‬أجابته بغ�ضب هي الأخرى ُمتجاهله �أمل ذراعها‪�«:‬أخربتك ب�أنني‬
‫�س�أذهب مع رحاب ال وحدي‪ ،‬كما �أنني ال �أتهرب من �شيء‪ ،‬فقط �أحاول جتنيبك‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫البقاء معي لفرتات طويلة‪ ،‬فيبدو �أنك تبغ�ضه»‪� ،‬أجابها والغ�ضب من كل �شيء‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫مينعه من التفكري‪�«:‬إن ِ‬

‫ل‬
‫ويهمك م�ساعدتي فلتقومي‬‫ِ‬ ‫لوجودك معي‬
‫ِ‬ ‫ملحت بغ�ضي‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫عليك والذهاب للطبيبة ك�أي عاقلة حتاول‬ ‫بواجبك حماولة نف�ض هذا العناد من ِ‬ ‫ِ‬

‫توزيع‬
‫تقدمي امل�ساعدة لع ّلنا ننتهي من هذا الكابو�س الذي وعينا عليه يف يوم وليلة‪ ،‬لأرتاح‬
‫على الأقل من كل هذا اجلهد الذي �أبذله لأبقى بقربك»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت فج�أة‪ ،‬ليلمح الأمل الذي ارت�سم على وجهها‪ ،‬وارتعا�ش �شفتيها‪،‬‬
‫ك�أنها على و�شك البكاء‪ ،‬لي�شعر بها جتذب ذراعها من كفه‪ ،‬فرتكها لتجيبه ب�صوت‬
‫جمروح‪�«:‬أعدك ب�أن هذا الكابو�س �سينتهي لتنتهي معه معاناتك للأبد‪ ،‬فال حتمل‬
‫هم قربي الذي يقهرك»‪.‬‬‫ّ‬
‫‪M‬‬
‫منزل يامن‬
‫بهم‪ ،‬وهو يتذ ّكر ما قالته له‬
‫جل�س على �سريره والهاتف بيديه‪ ،‬ينظر �أمامه ٍّ‬
‫الطبيبة منذ قليل‬
‫«هي لي�ست مري�ضة طبيعية �سيد يامن‪ ،‬عليك �أن تدرك هذا‪� ،‬أنا لي�س معي‬
‫ع�صا �سحرية‪� ،‬أقول بع�ض التعويذات فت�صبح زمرد على ما يرام يف يوم وليلة‪ ،‬زمرد‬
‫تعي�ش حالة من الرف�ض‪ ،‬رف�ض كل �شيء حولها‪ ،‬تظن ب�صمتها �أنها تعفي نف�سها من‬
‫‪174‬‬
‫الدخول يف �أماكن لن تخرج منها �سليمة‪ ،‬جدران غرفتها �أ�شبه بدرع حماية ممن‬
‫حولها‪� .‬س�ألها با�ستغراب‪«:‬من �أهلها؟!»‬
‫�أجابته بتو�ضيح‪«:‬من �أ�شخا�ص غابوا عنها لثماين ع�شرة �سنة‪ ،‬ثم عادت فج�أة‬
‫�إليهم‪ ،‬هي تعي�ش ما ن�سميه با�ضطراب ما بعد ال�صدمة املُعقد‪ ،‬هذا اال�ضطراب‬
‫ميكن �أن يبد�أ بعد �أ�سابيع �أو �شهور بعد احلادث الأليم الذي يتعر�ض له ال�شخ�ص‪،‬‬
‫فيجد نف�سه غري قادر على اال�ستمتاع ب�أي �شيء‪ ،‬ي�صبح لديه انعدام م�شاعر يف‬
‫ج�سده‪ ،‬والأ�سو�أ هو �سيطرته على عواطفه �إن وجدت با�ستخدام �إما املخدرات �أو‬
‫�إحلاق ال�ضرر بالنف�س كالتفكري باالنتحار»‪.‬‬
‫�شحب وجه يامن لتكمل الطبيبة بعملية‪�«:‬سيد يامن ما �أحاول تو�ضيحه لك‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫زمرد ال ترف�ض التحدث مببد�أ الرف�ض‪ ،‬لكنها جتد فقط ال�صعوبة يف التعبري عن‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫م�شاعرها‪ ،‬ما �أريده منك ومن �أفراد عائلتها �أن ترتكوا لها املجال ً‬

‫ل‬
‫قليل ولكن ال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ترتكوا احلبل نهائ ًيا‪.‬‬

‫ع‬
‫�إن كان لديها �أعرا�ض كعدم القدرة على الرتكيز‪ ،‬االكتئاب والغ�ضب يف بع�ض‬
‫الأحيان اتركوها تن ّف�س عن نف�سها قليال‪� ،‬إن �أرادت �أن ت�أخذ وقتًا يف غرفتها‪ ،‬دعوها‬
‫ولكن بعد فرتة من الزمن ال تطلبوا منها ب�صيغة الأمر �أن تخرج من الغرفة بل‬
‫ا�شغلوها ب�أي �شيء‪ ،‬اقرتحوا عليها هواية معينة تنف�س بها عما بداخلها‪ ،‬ا�س�ألوا‬
‫ر�أيها يف �أمور احلياة الطبيعية وهكذا‪ .‬والأكرث �أهمية ابتعد كل البعد عن �أن تخربها‬
‫�أنك تعلم بال�ضبط كيف ت�شعر‪ ،‬وما بداخلها‪.‬‬
‫مما واجهته زمرد‪ -‬من الأوراق التي �أمامي‪ -‬يبدو �أن معاناتها كانت الأ�صعب‬
‫و�سط باقي الفتيات‪ ،‬مبا �أنه كان هناك انتهاك ج�سدي‪� ،‬أن تق ّلل بحديثك عن �صعوبة‬
‫ما مرت به يجعلها تظن �أن معانتها ال�سابقة مل تكن �شي ًئا فتزيد من حدة اكتئابها‬
‫و�أملها ونحن بالطبع ال نريد للحالة �أن ت�سوء»‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه وهو يت�أوه ب�صمت‪ ،‬ي�شعر ب�أن عقله �سينفجر من التفكري‪ ،‬والده‬
‫حت ّدث معه كث ًريا وهو يرى غ�ضبه واندفاعه يف �أي �شيء يخ�ص زمرد‪� ،‬أخربه �أن‬
‫هناك حدودًا لل�شخ�ص الطبيعي‪� ،‬إن تعداها �سيكرهه هذا ال�شخ�ص‪ ،‬فما بال‬
‫‪175‬‬
‫�شخ�ص بحالة زمرد‪ ،‬هو مل يفكر بر�أيها‪ ،‬بنظرتها‪ ،‬ب�أي �شيء ت�شعر به‪ ،‬هو فقط‬
‫ين ّف�س عما ي�شعر هو به‪ ،‬واجه نف�س كث ًريا َمل ي�شعر بهذا ال�شعور‪َ ،‬مل هذا التناق�ض‬
‫دوما ي�شعر به جتاهها‪ ،‬تذ ّكر جملة ابن عمه وهو يراه يعاين‪«:‬دع ال�سيطرة‬ ‫الذي ً‬
‫قليل يا ابن العم»‪ ،‬ت�ساءل بداخله �أي قلب وكيف مينحه ال�سيطرة‪.‬‬ ‫لقلبك ً‬

‫‪MMM‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬

‫‪176‬‬
‫عندما تقرر االنتحار تكون وقتها قد ُمتّ بالفعل‪ ،‬ما ينقذونه‬
‫بعد ذلك ال يكون �أنت لكن جثتك‪.‬‬

‫بهاء طاهر‬
‫بعد منت�صف الليل‬
‫الرياح‬
‫ِ‬ ‫اجلبل‪ ،‬ارجتف ج�سدي من الربودة التي ِاجتاحته بفعل‬
‫وقفتُ على حافة ِ‬
‫عيني �أ�ست�شعر اخلوف للحظات‪ ،‬فقط للحظات فلم �أعد �أخ�شى‬ ‫ّ‬ ‫القوي ِة‪� ،‬أغم�ضتُ‬
‫�شي ًئا بل مل �أعد �أ�شعر ب�شيءِ‪ ،‬فتحتُ عيني �أت�أمل هذا ال�سكون الذي ُيحيط بي من كل‬
‫أر�ض البعيد َة عني‪ ،‬لكن َمل تبدو قريب َة هكذا؟! هل هي‬
‫جه ِة‪ ،‬اقرتبت خطو َة لأرى ال َ‬
‫تدعوين لها؟ رفعتُ ر�أ�سي جمددًا ونظرتُ لل�سماءِ‪ ،‬هل �سينجلي هذا ال�شعور؟! هل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سرتحل تلك ال ُغ�صة؟! هل نهاية لهذا ال�ضيق الذي يحيط بقلبي؟!‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫ارجتف ج�سدي جمددًا‪� ،‬شعرتُ بربود ِة �شديد ِة يف �أو�صايل‪ ،‬هل ت�شعر يدي‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫قدمة عليه؟! هل هذا اجلمود الذي ُيث ِّبت قدماي على الأر�ض هو ر�صا�صة‬ ‫مبا �أنا ُم ِ‬

‫توزيع‬
‫االنطالق؟! هل �أ�سقط الآن؟! ملا ُي�سمونه بال�سقوط؟! َمل ال ُيل ِّقبونه بالتح ّرر؟! فها �أنا‬
‫آثام التي �أثقلت كاهلي‪ ،‬ها هي تلك الغ�صة التي �أحكمت قب�ضتها‬ ‫�أحت ّرر من كل ال ِ‬
‫على قلبي تنزاح ببطء‪ ،‬ها هي الدموع تتحرر من القيود وتنهمر ب�شجاعة‪ ،‬بب�ساطة‪،‬‬
‫بانهزام‪ ،‬وها هي روحي تتح ّرر‪ ،‬ها �أنا‬ ‫ِ‬ ‫ها هو ال�ضيق الذي ِالتحف بقلبي يتقهقر‬
‫اقرتب من الأر�ض‪ ،‬مل �أ ِع متى خطوتُ اخلطوة الأخرية وحت ّررت ولكن ها هو كل‬
‫ما �أثقل روحي قد ِانزاح‪ ،‬ها �أنا �أرى طفولتي‪� ،‬سعادتي‪� ،‬شبابي‪ِ ،‬انك�ساري‪ ،‬جروحي‬
‫غري املُلت ِئمة‪� ،‬أحالمي التعي�سة‪ ،‬ذكريات ظننتُ للحظة �أنها رحلت مع من رحلوا‪ ،‬هل‬
‫يجب �أن �أغم�ض عيني الآن؟! ها هي الأر�ض تقرتب‪ ،‬متى حتت�ضن الأر�ض ج�سدي؟!‬
‫�أعلم �أنني لن �أت�أمل‪ ،‬ال لأنني ما عدتُ �أ�شعر ب�شيء بل لأن ِاحت�ضان الأر�ض جل�سدي‬
‫لن يكون ب�أمل ما عانيته و�أنا �أ�سري عليها‪.‬‬
‫ها هي اللحظة‪ ،‬ها هي الروح تتحرر وها هي الأر�ض تتل َّقف ج�سدي‪.‬‬
‫�شهقت بقوة وهي تنه�ض من نومتها لتجد الظالم من حولها‪� ،‬أ�سرعت تتلم�س‬
‫جانبها حتى و�صل كفها للم�صباح الذي يجاور �سريرها‪ ،‬لتت�سع عيناها وهي ترى‬
‫‪178‬‬
‫انق�شاع الظالم من حولها‪ ،‬ارتع�شت �شفتاها وهي تعي �أن هذا جمرد كابو�س‪ ،‬منذ‬
‫عودتها مع يامن من عند الطبيبة وكالمه الذي قاله لها وهي ت�شعر برغبة �شديدة‬
‫يف اخلال�ص‪ ،‬ال تعلم متى نامت مبالب�سها‪ ،‬ولكن يبدو �أن ن�سيت �أن ت�شعل امل�صباح‬
‫بجوارها حتى ال تنام يف الظالم‪.‬‬
‫و�صل لأ�سماعها �أ�صوات دندنات غريبة‪ ،‬نظرت لل�ساعة على احلائط �أمامها‬
‫فوجدتها الثانية فج ًرا‪ ،‬نه�ضت من على �سريرها وهي ت�شعر بالوهن يف ج�سدها‪،‬‬
‫قليل‪ ،‬خرجت من الغرفة واقرتبت‬ ‫فتحت الباب ببطء لت�صلها الأ�صوات وا�ضحة ً‬
‫من ال�صالة ليق�شعر ج�سدها ب�أكمله وهي ترى والدتها تقر�أ القر�آن يف خ�شوع ورحاب‬
‫خا�شعة يف �صالتها‪ ،‬ارتع�شت روحها وهي ت�شعر ك�أنها انتقلت لعامل �آخر‪ ،‬حالتها‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫النف�سية الوهنة بعد ما عاي�شته يف كابو�سها و�صوت والدتها يتخ ّلل خالياها تار ًكا‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أثره داخلها‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي تكتم �شهقاتها‪ ،‬بينما دموعها تنهمر بغزارة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫لت�سمع �أن�شدوة ت�أتي من الراديو الذي ما زالت والدتها حمتفظة به‪:‬‬

‫زيع‬ ‫والتو‬
‫وحدتى‬
‫يا م�ؤ ِن�سي يف َ‬
‫نقذى يف ِ�شدتى‬
‫يا ُم ِ‬
‫يا َ�سام ًعا ل ِندائي‬
‫ف�إذا َد َجى ليلي وطال ظال ُم ُه‬
‫رب ف ُك َ‬
‫نت ِ�ضيا ِئي‬ ‫نادَيتُ يا ّ‬
‫�أنهت رحاب �صالتها لت�صل �إليها �أ�صوات �شهقات بكاء ا�ستدارت با�ستغراب‬
‫لتلمح �أختها تنظر �إليها بده�شة‪ ،‬نه�ضت رحاب وهي ت�ضم �سجادة ال�صالة ل�صدرها‬
‫ثم اقرتبت منها بهدوء وهي تلمح بعينيها والدتها من�شغلة بقراءة القر�آن‪ ،‬م�سكت‬
‫رحاب كف زمرد وهي تنظر لها بحنان لتجذبها لغرفتها‪.‬‬
‫منذ اللحظة التي دخلت فيها زمرد الغرفة حتى خرجت �شهقات بكائها عالية‪،‬‬
‫فلمحتها رحاب منهارة من البكاء‪ ،‬تركتها هذه املرة تبكي وتبكي‪ ،‬وهي تعي �أن‬
‫آثام‪ ،‬مرت ن�صف �ساعة حتى توقفت زمرد‬ ‫بكاءها هذا تطهري ملا يف الروح من � ِ‬
‫‪179‬‬
‫قليل؟!»‪ ،‬نظر لها‬
‫ارحتت ً‬
‫ِ‬ ‫عن البكاء‪� ،‬أعطتها رحاب مناديل ثم قالت بهدوء‪«:‬هل‬
‫علي وال �أ�ستطيع التن ّف�س ب�سببه»‪،‬‬
‫بتيه‪�«:‬أنا �أ�شعر ب�أن هناك �شي ًئا هنا‪ ،‬يجثم ّ‬
‫زمرد ٍ‬
‫و�أتبعت حديثها وهي ت�شري لقلبها‪�«:،‬صوت �أمي و�صوت الت�سجيل ذلك ال�صوت‪»...‬‬
‫�أجابتها رحاب �إنها �أنا�شيد ما قبل الفجر‪ ،‬نظرت لها زمرد وهي تقول‬
‫لديك ت�سجيالت �أو‪ »...‬ابت�سمت لها رحاب‬
‫بتو�سل‪�«:‬أريد �أن �أ�سمع منها �أكرث‪ ،‬هل ِ‬
‫ّ‬
‫لك؟!» هزت زمرد‬‫بحب وهي تقول‪�«:‬أنا �أحفظ القليل منها‪ ،‬هل تريديني �أن �أقولها ِ‬
‫ر�أ�سها وهي تقول‪«:‬نعم نعم‪� ،‬إنها‪� ..‬إنها ُتريحني»‪.‬‬
‫ابت�سمت لها رحاب وقالت ب�صوت هادئ وهي مت�سد على ظهر زمرد بحنان‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫و�سرتُ على الطريق �إىل ِح َ‬
‫ماك‬ ‫يب ال�سائلني َح َملتُ ذنبي ِ‬
‫ُم َ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬


‫أدق َ‬
‫بابك م�ستجريا‪ ،‬و ُمعتذرا‪ ،‬و ُمنتظرا ر�ضاك‬ ‫ورُحتُ � ّ‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫توزيع‬
‫دع َ‬
‫اك‬ ‫ول�ست تر ّد مكرو ًبا َ‬
‫كرب َ‬ ‫دعو ُتك يا مف ّرج كل ٍ‬
‫و ُتبتُ �إليك توب َة من ترا ُه غري ًقا يف الدموع‪ ..‬غري ًقا يف الدموع‪ ..‬غري ًقا يف الدموع‬
‫وال َ‬
‫يراك‬
‫رباه ها �أنا ذا خل�صت من الهوى وا�ستقبل القلب اخلايل هواك‬
‫وتركت �أن�سي باحلياة ولهوها ولقيت كل الأن�س يف جنواك‬
‫ون�سيت حبي واعتزلت �أحبتي ون�سيت نف�سي خوف �أن �أن�ساك‬
‫رب حلوا قبل �أن �أهواك‬
‫دقت الهوى مرا ومل �أذق الهوى يا ِ‬
‫يا غافر الذنب العظيم وقابل التوب‬
‫قلب تاب ناجاك قلب تاب ناداك‬
‫�صمتت رحاب وهي ترى اللوحة ال�سرييالية التي �أمامها‪ ،‬ودموع زمرد وهي‬
‫تغم�ض عينيها من�صتة لها توحي لها مبدى ات�صالها الروحي‪ ،‬فتحت عينيها وهي‬
‫ت�س�أل رحاب‪«:‬هل انتهت؟!» هزت رحاب ر�أ�سها بت�أ ّثر‪ ،‬لتجيبها زمرد‪«:‬قويل‬
‫أرجوك»‪ ،‬لتجيبها رحاب بابت�سامة‪«:‬ما ر� ِ‬
‫أيك لو نقول م ًعا ما هو �أف�ضل‬ ‫املزيد‪ِ � ..‬‬
‫‪180‬‬
‫من تلك الأنا�شيد؟!» �أجابتها زمرد وهي ت�ست�شعر هذا العامل الذي ين�شر الراحة‬
‫بقلبها‪«:‬نعم»‪.‬‬
‫م�سكت رحاب كفها ونه�ضتا لتتجه بها �إىل احلمام و�أخذت تع ّلمها الو�ضوء وهي‬
‫تتذ ّكر والدها حني كان يع ّلمها لتزداد دموعها‪� ،‬أخذتها لغرفتها حتت �أنظار والدتها‬
‫املنده�شة من حالة زمرد املنهارة‪ ،‬لكنها مل تقل �شي ًئا بعد �أن نظرت �إليها رحاب‬
‫بنظرة تف ّهم‪.‬‬
‫�ساعدتها يف ارتداء رداء ال�صالة و�أخذت تع ّلمها كيفية ال�صالة والإر�شادات‬
‫الب�سيطة‪ ،‬لتبد�أ �صالتها بعد �أن �ص ّلت بها رحاب ركعتني‪ ،‬لترتكها ت�صلي وحدها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لتبوح مبكنوناته �صدرها للوحيد الذي يعلم عنها‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫�ص ّلت و�ص ّلت وبكت الكثري‪� ،‬أخربتها رحاب �أن تقول كل ما لديها يف ال�سجود‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فهذا هو املو�ضع الأقرب لها يف الدعاء هلل‪ ،‬ف�صمتت وهي ال تعلم ماذا تقول‪ ،‬لتهم�س‬

‫والتوزي‬
‫داخلها‪�«:‬أنت تعلم �ألي�س كذلك؟! وحدك تعلم ما بي‪� ،‬أدعوك يا اهلل‪� ،‬أدعوك‬

‫ع‬
‫و�أرجوك �أن تتق ّبلني و�أن ت�ساحمني‪ ،‬يا اهلل �أنا يف �أق�صى احتياجي لك‪ ،‬يا اهلل �أنا‪..‬‬
‫�أنا متعبة‪ ،‬ذلك الأمل وحدك القادر على حموه‪ ،‬يا اهلل �أنا �أريد �أن �أتط ّهر من كل تلك‬
‫الآثام‪ ،‬يا اهلل �أنت العليم مبا يف القلب من وجع و�أنت الرحيم ب�ضعف ل�ست �أقواه»‪.‬‬
‫تابعتها رحاب بدموع باكية وهي تطيل يف �سجدتها وتدعو ببكاء يقطع نياط‬
‫القلب‪ ،‬بينما والدتها خلفها تكتم �شهقاتها وهي ترى ابنتها تلج�أ للوحيد الذي لن‬
‫يخذلها‪.‬‬
‫مرت �ساعة وزمرد تنهي �صالتها لت�صلي جمددًا حتى �أذن الفجر ف�شعرت‬
‫برجفة قوية بج�سدها وهي تنظر لرحاب لتقول لها بحنان وهي تلمح دموعها التي ال‬
‫تن�ضب‪«:‬هيا لن�صلي م ًعا وبعدها نقر�أ القر�آن»‪.‬‬
‫بالتطهر من جميع الآثام فبقراءة القر�آن‬ ‫�إن ظنت �أنها بال�صالة قد �شعرت ّ‬
‫�شعرت ك�أنها عادت طفلة �صغرية متت والدتها حدي ًثا‪� ،‬أعطتها رحاب القر�آن وهي‬
‫تفتحه على �صفحات معينة لتقر�أ زمرد وتنهي ال�سورة لتفتح لها رحاب �سورة �أخرى‪،‬‬
‫وهي تراها ر�سائل من اهلل لها ُتع ّري روحها ومت�سد على جروحها بحن ٍو لتقر�أ‪﴿:‬و َه ُو‬
‫‪181‬‬
‫ات و َيَعْلَم ُ م َا تَفْع َلُونَ﴾‪.‬‬ ‫ن ال َ ّ‬
‫سي ِّئ َ ِ‬ ‫عِبَادِه ِ و َيَعْف ُو ع َ ِ‬ ‫ل َ‬
‫الت ّو ْبَة َ ع َنْ‬ ‫ال َ ّذ ِي يَقْب َ ُ‬

‫الل ّه َغَف ُور ٌ رَحِيم ٌ﴾‪﴿:،‬و َال َ ّذ ِي َ‬


‫ن‬ ‫ن َ‬ ‫الل ّه َيَت ُوبُ عَلَيْه ِ ِإ َ ّ‬
‫ح فإن َ‬
‫﴿فَم َنْ ت َابَ م ِنْ بَعْدِ ظُل ْمِه ِ و َأَ صْ ل َ َ‬

‫بَعْدِه َا لَغَف ُور ٌ رَحِيم ٌ﴾‪.‬‬ ‫ن ر ََب ّ َ‬


‫ك م ِنْ‬ ‫ات ث َُم ّ ت َابُوا م ِنْ بَعْدِه َا و َآم َن ُوا ِإ َ ّ‬ ‫عَم ِلُوا ال َ ّ‬
‫سي ِّئ َ ِ‬

‫و�آيات كثرية قر�أتها وكررتها ورحاب بجانبها مت�سد على ظهرها بحنان ت�شاركها‬
‫الدمع‪ ،‬بينما والدتهما جال�سة على مقربة منهما تت�ساقط دموعها ب�صمت تدعي‬
‫لهما بالهداية و�أن يحفظهما لها‪.‬‬
‫‪M‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫منزل �أمرية‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫جذب كر�سي من �أمام املكتب وو�ضعه �أمامها يف ال�شرفة ليجل�س عليه ً‬
‫مقابل‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫لها‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات وهي ال تنظر �إليه‪ ،‬فقط تتابع بعينيها لعب �آدم و�أحمد‬
‫يف احلديقة ب�شرود‪ ،‬فتابعها �آ�سر بعينيه وهو يفكر �أنها �صامتة‪ ،‬ويف هذه احلالة‬
‫قليل خا�صة بعد �أن ك�شفت عن القليل‬ ‫منذ انهيارها الأخري‪ ،‬يعلم �أنه �ضغط عليها ً‬
‫من م�شاعرها وهي حتت�ضنه قلقة على حاله‪ ،‬بعد بكائها يف ح�ضن والدته‪ ،‬نه�ضت‬
‫لتدخل الغرفة مغلقة على نف�سها بابها‪ ،‬وقد �أقامت �أ�سوا ًرا جعلتها متكث ليومني من‬
‫دون اخلروج منها‪ ،‬لتخرج بعدها وت�س�أل عنه‪ ،‬عندما قابلها ظن �أنها �ستحدثه عن‬
‫انفعالها وقتها‪ ،‬لكنه مل يتخيل طلبها ب�أن يعاجلها‪�«:،‬أنا‪� ..‬أنا �أريد �أن �أ�شفى»‪ ،‬جملة‬
‫لطاملا �سمعها من مر�ضاه‪ ،‬لكن �آمل قلبه �سماعها من �صغريته‪ ،‬قاطع �آ�سر نظراتها‬
‫لطفولتك؟!» رفعت عينيها با�ستغراب لآ�سر وملح نظرة �أمل‬‫ِ‬ ‫وهو يقول‪«:‬هل ت�شتاقني‬
‫يف عينيها �أخفتها ب�سرعة وهزت ر�أ�سها بالنفي ليجيبها‪«:‬ال يوجد �أحد ال ي�شتاق‬
‫لطفولته �إال �إذا‪� »..‬أكملت بته ّكم‪«:‬كانت طفولة �سيئة! ال تقلق لن جترح م�شاعري‬
‫م�شاعرك ونحن نتحدث؟! �أنا‬
‫ِ‬ ‫�إن قلتها»‪� ،‬س�ألها �آ�سر بغمو�ض‪«:‬هل يجب �أن �أراعي‬
‫هنا الطبيب �آ�سر ولي�س �آ�سر �أخو �أمرية»‪ ،‬هتفت بقوة‪«:‬ليلى»‪� ،‬أجابها �آ�سر بنف�س‬
‫غمو�ضه‪�«:‬أمرية ليلى ال فرق‪ ،‬فهما نف�س ال�شخ�ص بالن�سبة يل»‪� ،‬أزعجتها �إجابته‬
‫التي ذ ّكرتها بجملة ُغفران لتجيبه بقوة‪�«:‬شتان بني االثنني»‪.‬‬
‫‪182‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات وعني �آ�سر تتوغل يف �أعماق عينيها يحاول جاهدً ا ك�سر‬
‫حاجز اجلمود الذي تت�شبث به‪ ،‬ليقول‪«:‬ح�سنا لنبد�أ من جديد �أمرية �أعتذر ليلى»‪،‬‬
‫�ضغط �آ�سر على حروف ا�سمها كت�أكيد واحرتام لرغبتها‪ ،‬فابت�سمت ابت�سامة �صغرية‬
‫و�أردفت‪�«:‬أنت ذكي �آ�سر»‪ ،‬ابت�سم ليقول بغرور م�صطنع‪«:‬هل هذا �إطراء؟!»‬
‫�أ�شاحت �أنظارها بربود ورفعت �شفتها العلوية با�ستنكار‪ ،‬ف�ضحك على هيئتها‪،‬‬
‫مالحمها وردود �أفعالها تثبت �أنها جمرد طفلة‪ ،‬تنهد �آ�سر وهو يقول‪«:‬ح�س ًنا لنبد�أ‬
‫وحينما ت�شعرين بالتعب �أو الرغبة يف عدم اال�ستمرار �أخربيني»‪.‬‬
‫هزت �أمرية ر�أ�سها برت ّقب ليكمل �آ�سر‪«:‬لنبد�أ بلعبة �س� ِ‬
‫أخربك ببع�ض الأ�سماء‬
‫لك (�أ�شخا�ص‪� -‬أماكن هكذا) اختبار‬

‫ع‬
‫لك �أو من �أو ما ميثلها ِ‬
‫لتخربيني داللتها ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بداخلك‪ ،‬كل‬
‫ِ‬ ‫ب�سيط يف البداية وبعدها �س�أعطيك دفرتًا لت�سجلي به �شي ًئا يبوح عما‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫يوم ت�سجلني ما ترغبني به وما تريدين م�شاركتي به �سترتكينه على املكتب هنا لأقر�أه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫اتفقنا؟!» �شعرت �أمرية باحلما�س ً‬

‫والتوزي‬
‫قليل وهي تراه يتحدث بجدية حمببة لها‪ ،‬فهزت‬

‫ع‬
‫ر�أ�سها باملوافقة‪ ،‬بد�أ �آ�سر‪«:‬الراحة» لتُجيبه‪«:‬غرفتي اجلديدة»‪.‬‬
‫�آ�سر‪ :‬احلنان‬
‫�أمرية‪ :‬ال�سيدة جميلة‪.‬‬
‫ابت�سم �آ�سر لها و�أكمل‪«:‬ال�سعادة»‬
‫قليل لتجيبه‪«:‬ال �أتذكر �سوى �آخر مرة‬
‫�ساد ال�صمت للحظات و�شردت �أمرية ً‬
‫�شعرت بها بال�سعادة وكانت بعودة ُغفران للمزرعة بعد انتهائها من اجلامعة»‪.‬‬
‫التقطت �آ�سر ا�سم ُغفران‪ ،‬فوجد نف�سه ي�س�ألها عنها‪ُ «:‬غفران» ابت�سمت بحزن‬
‫لتقول‪�«:‬أختي الكبرية‪ ..‬كانت �أكرثهن حنا ًنا‪ ،‬كانت ترتك املزرعة كل بداية درا�سة‬
‫وال ت�أتي �إال بانتهاء ال�سنة‪ ،‬لأنها كانت تدر�س يف مدينة �أخرى‪ ،‬هي طبيبة مثلك‪،‬‬
‫نق�صا يف‬
‫لكنها طبيبة جراحة‪ ،‬عندما كانت تغيب عن املزرعة كنت �أ�شعر ب�أن هناك ً‬
‫كل �شيء‪ ،‬يف �سعادتي‪ ،‬يف راحتي‪ ،‬يف اطمئناين‪ ،‬وعند عودتها �أن�سى كل ما هو �سيئ‬
‫و�أت�ش ّبث بها ك�أين طفلتها املُدللة‪ ،‬ولكن لي�س �أمام البقية‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫�أتعلم؟ كنت �أحيا ًنا �أح�سدها على وحدتها‪ ،‬فمن يرف�ض �أن يعي�ش ببلدة �أخرى‬
‫وحيدا ح ًرا على الرغم من معرفتي �أن هذا كان �إجبار ًيا لها‪ ،‬لكن الفكرة نف�سها‬
‫كانت ت�ستهويني‪ ،‬ثم بعد مرور بع�ض الوقت فكرت بها من جهة �أخرى‪� ،‬أولئك الذين‬
‫اختاروا الوحدة دفعوا دموعهم و�آالمهم قربا ًنا لها حتى يح�صلوا عليها‪ ،‬كانت‬
‫الفكرة يف حد ذاتها ُم�ؤملة‪ ،‬و�أنا �أفكر يف الأمر �أنها تعود كل يوم لتبقى وحيدة‪� ،‬أال‬
‫تخ�شي ظلمة الليل وهي تعي �أن ال �أحد هناك ي�شاركها غرفتها؟ �أال ت�شتاق ل�صحبة‬
‫ت�شعر معهم بالأمان‪ ،‬باحلب‪ ،‬باملودة؟ ثم وم�ض يف عقلي ذلك الأمر؛ من مي ّر�ضها‬
‫يوما‬
‫حني ي�صيبها التعب‪ ،‬من ي�سهر بجانبها ليطمئن على �صحتها‪ ،‬ماذا �إن مر�ضت ً‬
‫ومل ت�ستطع طلب امل�ساعدة من �أحد‪ ،‬و�صلت لفكرة �أن ُغفران ممكن �أن متوت يف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ذلك ال�سكن وال يعلم بها �أحد‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب‬
‫التفكري يف الأمر م�ؤمل ولكن كعادة ُغفران منذ �سنني ذلك اجلزء اخلا�ص‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫بامل�شاعر قد طمرته للأبد‪ ،‬حتى �أحيا ًنا �أ�شعر �أنها ت�شرتي ح�صتها من امل�شاعر يف‬

‫توزيع‬
‫كل مرة تزورنا فيها حتى متنحنا �إياها‪� ،‬إن �ألقيت نظرة داخل قلبها �ستجد خوا ًء‪،‬‬
‫ولكنه خواء خادع يخفي حتته العديد والعديد من الآالم»‪.‬‬
‫�صمت �آ�سر يفكر يف كلماتها‪� ،‬إنها بالفعل ت�صفها رغم ر�ؤيته لها ملرات تعد‬
‫على الإ�صبع‪� ،‬إال �أن تلك الفتاة ح ًقا حتمل الكثري داخل قلبها‪ ،‬مل ي�ستطع �أن ين�سى‬
‫تلك النظرة اخلاوية التي كان يراها يف عينيها وهي حت ّدثه عن القليل مما حدث‪،‬‬
‫ُغفران �سر كبري‪ ،‬يرغب ب�شدة ّ‬
‫التوغل فيه‪ ،‬خرج من �أفكاره حني ملح �صمتها لي�س�ألها‬
‫معاقبتك من قبل؟!» ابت�سمت بحزن وهي تقول‪«:‬كث ًريا‪ ،‬خا�صة‬ ‫ِ‬ ‫برتقب‪«:‬هل متت‬
‫و�أنا �صغرية‪ ،‬يف احلقيقة جميعنا نحمل �آثار جلد على �أج�سادنا‪ ،‬لكن كان هذا هو‬
‫العقاب ونحن �صغار‪� ،‬أما حني كربنا فالعقاب كان �أ�سو�أ»‪ ،‬ملح �آ�سر �شرودها فلم‬
‫يرغب بقطع �سري ذكرياتها يف عقلها‪ ،‬فرتكها تكمل وهي تنظر للنافذة‪«:‬ذات يوم‬
‫كنت قد اكت�شفت ما يحدث ح ًقا بقبو املزرعة‪� ،‬أنت لن ت�صدق ما بالقبو‪ ،‬ت�ستطيع �أن‬
‫تقول �إن املكان ُم ّهز بكل ما يحتاجونه �سواء يف التعذيب �أو العمليات التي يقومون‬
‫بها‪ ،‬حني �صرخت بهم و�أخربتهم �أنني �س�أب ّلغ ال�شرطة وقتها رحمة �صفعتني على‬
‫وجهي وجذبتني للغرفة‪ ،‬كرهتها يف هذه اللحظة لأعي �أن تلك ال�صفعة كانت حماية‬
‫‪184‬‬
‫يل من عذاب تل ّقيته بعدما �أخربت �سمر ال�سيد ممدوح مبا قلته‪ ،‬وقتها ق�ضيت ثالث‬
‫ليال يف غرفة حتت الأر�ض من دون �إ�ضاءة ودون طعام �سوى لقيمات �صغرية‪ ،‬ثالثة‬
‫�أيام �شعرت بها بالرعب من الأ�صوات التي كانت ت�صل مل�سامعي‪ ،‬ثالثة �أيام �أجربين‬
‫فيها على �أن �أعرتف بخويف بعد �أن واجهته قبلها ب�أنني ال �أخ�شى �شي ًئا‪ ،‬ففعل كل ما‬
‫قد يخيف فتاة بالرابعة ع�شرة من عمرها»‪.‬‬
‫قاطعها �آ�سر وهو ي�س ّبه بخفوت‪ ،‬لتنظر لعينيه لتجد غ�ض ًبا �شبي ًها بغ�ضبها الذي‬
‫كان لتكمل بحزن‪�«:‬أتدري ما الفرق بيننا وبني الآخرين؟! �أن يف الوقت الذي كانوا‬
‫أف�ضل كنا نحن ُن�صارع من �أجل البقاء على قيد احليا ِة‪ ،‬من‬
‫مب�ستقبل � ِ‬
‫ِ‬ ‫يحلمون فيه‬
‫أمان نتل َّم�سها يف غرفة‬ ‫رعب َّ‬
‫توغل يف �أعماقنا‪ ،‬من �أجل نفحة � ٍ‬ ‫�أجل الق�ضاء على ٍ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫إحكام لأن باخلارج‬
‫�ضيقة ي�ستند �سقفها على جدران باردة‪ ،‬والأهم �أن بابها ُمغلق ب� ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يقبع موتنا»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫�أ�شاحت ب�أنظارها وهي ت�شعر ب�أنها باحت بالكثري‪ ،‬لتتنحنح بخفوت راف�ضة قول‬

‫ع‬
‫ليغي من جمرى احلديث‪ ،‬وهو يحاول مدارة �صدمته‪،‬‬ ‫املزيد‪ ،‬وتف ّهم �آ�سر حالتها ّ‬
‫ليقول بهدوء‪«:‬لنكمل اللعبة‪� ،‬آه الغرور»‪ ،‬لتجيبه‪�«:‬أمري»‪.‬‬
‫�ضحك �آ�سر عال ًيا بعدما ملح ا�شمئزاز مالحمها‪ ،‬فنظرت �أمرية له بانبهار وهي‬
‫تفكر كم ي�شبه والدته كث ًريا‪.‬‬
‫معك حق يف هذا‪� ،‬أو على الأقل �أحيا ًنا‪ ،‬لن �أعرت�ض»‪ ،‬ابت�سم‬ ‫ليجيبها‪«:‬ح�س ًنا ِ‬
‫�آ�سر لها بعد �أن ملح ابت�سامتها وهو يكمل بغمو�ض‪«:‬حممد الأ�سيوطي»‬
‫ارتع�ش ج�سد �أمرية للحظات‪ ،‬ومل ترفع نظراتها لآ�سر‪ ،‬و�ساد ال�صمت للحظات‬
‫يتابع فيها بعينيه حالتها ال�صامدة واال�ضطرابات التي حتدث بداخلها‪ ،‬حممد‬
‫الأ�سيوطي لغز لأمرية‪ ،‬لغز ال ت�ستطيع فكه‪ ،‬منذ �آخر مواجهة بينه وبينها ومل تره‬
‫�سوى وقت تعب �آ�سر‪ ،‬تذ ّكرت هتافه على �أمري وقتما تفوه بكلماته القا�سية‪ ،‬وتذ ّكرت‬
‫دفاعه عنها بعد �أن �أخربتها ال�سيدة جميلة مبا حدث �أثناء ت�أنيب �آدم‪ ،‬وتذ ّكرت ذلك‬
‫خارجا ب�سيارته ويبدو �أنه‬
‫اليوم الذي ا�ستيقظت فيه فج ًرا لتنظر من النافذة لتلمحه ً‬
‫كان ذاه ًبا لعمله‪ ،‬ور�أت ال�سيدة جميلة تو ّدعه ليلفت انتباهها خروجه من ال�سيارة‬
‫‪185‬‬
‫واحت�ضانه لها بحنان‪ ،‬وهي تنظر ملالمح وجهه التي �ش ّعت ح ًبا و�سعادة لزوجته‪،‬‬
‫وقتها مل ت�ستطع النوم وهي تف ّكر �أنه بالفعل كما �أخربتها ال�سيدة جميلة‪«:‬هو كتلة‬
‫من احلنان ت�سري على الأر�ض»‪ ،‬خرجت من �أفكارها وهي تنظر لآ�سر لتجيبه‬
‫بهدوء‪«:‬قلق‪ ،‬تر ّقب‪ ،‬القليل من اخلوف»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت بعد كلماتها‪ ،‬لي�سجل �آ�سر بهدوء بع�ض املالحظات يف دفرته الذي‬
‫يحمله معه‪ ،‬رفعت �أمرية عينيها برتقب لآ�سر فلمحته ينظر لها بابت�سامة هادئة‬
‫حمافظا على ابت�سامته‪«:‬فقط‬
‫ً‬ ‫رزينة لت�س�أله با�ستغراب‪«:‬ماذا؟!» �أجابها بهدوء‬
‫قلت القليل من اخلوف ولي�س اخلوف»‪ ،‬لرتم�ش بعينيها وهي‬ ‫كلماتك‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫�أفكر يف‬

‫ع‬
‫جتيبه بحرج‪«:‬هذه احلقيقة»‪� ،‬أكمل �آ�سر بهدوء‪«:‬ح�س ًنا لنكمل‪ ،‬ماذا لدينا؟ �آه‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫�أحمد!» ‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أمرية‪« :‬رجل �صغري»‪ ،‬ليتبع �س�ؤاله‪«:‬و�آدم؟»‪ ،‬رفعت �شفتيها بامتعا�ض وهي‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫تقول‪«:‬فظ‪ ،‬جلوج وبالطبع مدلل والدته»‪.‬‬
‫�ضحك �آ�سر على مالمح وجهها وهو يقول بت�أكيد‪ِ �«:‬‬
‫أوافقك‪ ،‬ح�سنا لنكمل‪:‬‬
‫ال�صداقة»‪� ،‬صمتت �أمرية لتقول بعد حلظات‪«:‬ال وجود لها»‪� ،‬صمت �آ�سر ً‬
‫قليل‬
‫لي�س�ألها‬
‫�آ�سر‪ :‬االطئمنان؟‬
‫�أمرية‪� :‬آ�سر‬
‫�آ�سر‪ :‬نعم‬
‫ابت�سمت �أمرية بحرج ملحه �آ�سر لأول مرة على وجنتيها‪ ،‬فت�ساءل بهدوء‪«:‬ماذا؟!»‬
‫�أجابته بحرج‪«:‬كنت �أجيبك فقط»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات لي�ستوعب �آ�سر جملتها‪ ،‬ثم ارت�سمت الده�شة على‬
‫مالحمه حتولت ل�سعادة وا�ضحة وابت�سامة حنونة على وجهه‪ ،‬ليقول بحب‪�«:‬شك ًرا‬
‫لك االطمئنان»‪.‬‬‫لك‪ ،‬ي�سعدين �أن �أُم ّثل ِ‬
‫ِ‬

‫‪186‬‬
‫ارتبكت �أمرية �أمام نظراته احلنونة‪ ،‬ونه�ضت من مكانها وهي تقول‪�«:‬س�أذهب‬
‫لأح�ضر مياها»‪ ،‬منعها �آ�سر وهو ينه�ض من مكانه ويجيبها‪�«:‬س�أح�ضرها �أنا‪،‬‬
‫أتركك لت�سجلي ما تريدينه يف الدفرت»‪.‬‬
‫وخالل تلك الفرتة �س� ِ‬
‫وتركها وخرج من غرفة املكتب وهو ي�شعر ب�سعادة ب�سبب التق ّدم الكبري يف‬
‫طريقه معها‪.‬‬
‫اقرتبت من الطاولة التي و�ضع عليها دفرته اخلا�ص بجوار دفرتها‪ ،‬وفتحته‬
‫فلمحت ا�سمها يف بداية ال�صفحة �أمرية وبجواره ا�سم ليلى و�أمامه عالمة �صواب‪،‬‬
‫ثم ملحوظة �صغرية با�سم ُغفران وملحوظة �أخرى‪«:‬حممد الأ�سيوطي يف بداية‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الطريق»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫تركت �أمرية الدفرت وهي ت�شعر ب�صدق امل�ساعدة التي يقدمها لها �آ�سر‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫واحرتامه لرغباتها‪ ،‬ومل تندم لأنها اطم�أنت له فعل ًيا‪ ،‬تذ ّكرت منذ �أيام وهي جال�سة‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫على ال�سرير وحيدة ف�شعرت ب�شعور مرير بحلقها وهي متنع نف�سها عن اخلروج‬
‫لر�ؤية ال�سيدة جميلة والتح ّدث معها‪ ،‬وهي متنع نف�سها من تدريب �آدم والتعر�ض‬
‫مل�شاك�سته وال�ضحك مع �أحمد‪ ،‬تتذ ّكر تلك الليلة حني قر�أت جملة يف رواية وقعت يف‬
‫يوما ما‬
‫حبها‪ ،‬حفظت تلك ال�سطور يف عقلها ك�أنها �ستحتاجها ً‬
‫«كنت �أرقد يف �سريري �أرمق الظالم حويل يف جميع االجتاهات‪� ،‬شاعرا �أن‬
‫العامل مل يعد م�شكلتي بعد الآن‪ ،‬لي�س هناك �شيء بحاجة للقلق من �أجله‪ ،‬لي�س هناك‬
‫�شيء �أنتظر وقوعه‪ ،‬مل �أ�شعر من قبل ب�سالم نف�سي كالذي �شعرت به يف هذه الفرتة‪.‬‬
‫هل يكمن ال�سر يف الت�سليم؟ عدم انتظار �أي �شيء؟ الو�صول �إىل قمة املعاناة بحيث‬
‫ال ي�صبح هناك �أمل �أكرث؟ حينما �أفكر يف تلك اللحظات �أجد �أن ما فعلته ح ًقا وقتها‬
‫تق ُّبل ما �أنا فيه‪.‬‬
‫«التوقف عن الرغبة‪ ،‬التوقف عن املقاومة‪ ،‬اال�ستكانة لتيار احلياة‪ ،‬ا�ست�سلمت‬
‫وعلي فقط التعاي�ش معه»‪.‬‬
‫لفكرة �أنني م�س�ؤول عما �أ�صابني‪� ،‬أن ما حدث قد حدث ّ‬
‫�أحمد عبد املجيد‬
‫‪187‬‬
‫ولكن هي بالفعل ا�ستكانت لتيار احلياة وتق ّبلت ما هي فيه‪ ،‬فقررت يف تلك‬
‫الليلة �أن ُت�شفى‪� ،‬أن ت�صبح طبيعية‪ ،‬لذا قررت حمادثة �آ�سر‪ ،‬فهو �أكرثهم تف ّه ًما‬
‫لها‪ ،‬نظرت للدفرت الذي يجاور دفرت �آ�سر‪ ،‬ثم �أخذته وجل�ست يف زاوية الغرفة‬
‫لتكتب �أول ما خطر ببالها‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬

‫‪188‬‬
‫قد تبلغ املحبة بني �شخ�صني حتى يت�أمل �أحدهما بت�أمل الآخر‬
‫وي�سقم ب�سقمه وهو ال ي�شعر‪.‬‬

‫ابن القيم‬
‫الف�صل احلادي ع�رش‬
‫تو�أم الروح‬

‫منزل حممد الأ�سيوطي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سرعا حتى ُيب ّدل ثيابه ليلحق ب�أ�صدقائه يف النادي‪� ،‬صعد الدرج‬‫دخل املنزل ُم ً‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫حتى و�صل لغرفته ولكن �أوقفه �أمل غريب يف كف يديه‪ ،‬فرفعه لنظره لكنه مل يجد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�شي ًئا فا�ستغرب للحظة‪ ،‬فهذه هي املرة التي ال يعرف عددها التي ي�شعر فيها ب�آالم‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫خمتلفة فج�أة هكذا‪ ،‬منذ �أ�سبوع �أو �أكرث �أ�صابه �أمل يف �أعلى كتفه وا�ستمر لليلة‬
‫كاملة وال يعرف �سببه‪ ،‬ولكنه مل يرد �أن يخرب �أحدً ا حتى ال ي�صيبهم القلق‪ ،‬تنهد‬
‫بخفوت وهو يقول لنف�سه ولأنهم م�شغولون معها‪ ،‬كاد �أن يدلف لغرفته حني �سمع‬
‫همهمة بالأ�سفل فعقد حاجبيه با�ستغراب وهو يعلم �أن ال �أحد يف املنزل �سواه وارتفع‬
‫حاجباه بده�شة وهو ينزل الدرج بهدوء ويحاول �إرهاف ال�سمع ليجد �أن الهمهمات‬
‫من املطبخ‪ ،‬فاقرتب بهدوء فلمحها واقفة �أمام املطبخ ترتدي �أحد قم�صانه التي‬
‫�أخذتها والدته منه وبنطاال �أ�سود والد ًيا يبدو �أنه لأخيه �أحمد‪ ،‬تابعها بعينيه وهو‬
‫ت�سب �أحدهم ثم ملحها وهي تلتفت لت�أخذ قطعة قما�ش ت�ضغط بها على‬ ‫ي�سمعها ّ‬
‫كفها‪ .‬ارجتف ج�سده للحظة وهو يرفع كفه الأمين لينظر مكان الأمل الذي �شعر به‬
‫منذ قليل وك ّذب ذلك الإح�سا�س الذي راوده منذ فرتة طويلة‪ ،‬رفع عينيه لها لي�شهق‬
‫برعب وهو يجدها تقف �أمامه وتنظر له بقوة‪ ،‬فانتف�ض مكانه وعاد خطوتني وهو‬
‫أوقفت قلبي»‪ ،‬رفعت �أمرية حاجبها الأي�سر بربود وهي تهتف‬ ‫يهتف‪«:‬اللعنة لقد � ِ‬
‫بالمباالة‪«:‬من �أوقف قلب الآخر؟! من دخل املنزل دون �أن ي�صدر �صوتا؟!» �أجابها‬
‫بنف�س برودها‪«:‬وملاذا يجب �أن �أ�صدر �صوتًا و�أنا �أدخل منزيل؟!» �أجابته‪«:‬رمبا‬
‫‪190‬‬
‫لتن ّبه الذين ي�شاركونك ال�سكن يف نف�س املنزل �أنك موجود‪ ،‬رمبا �أحدهم ال يريد‬
‫ر�ؤيتك»‪.‬‬
‫رفع �أمري حاجبه الأي�سر يف حركة �شبيهة بحركتها وقال وهو يبت�سم بربود‪«:‬هذه‬
‫م�شكلتك لي�ست م�شكلتي»‪ ،‬رم�شت بعينيها وهي ترى ابت�سامته لتقول بدون‬ ‫ِ‬
‫تفكري‪َ «:‬مل هي م�شكلتي؟! �أنت ل�ست ذا �أهمية يل لهذه الدرجة» ارت�سم اجلمود على‬
‫مالمح وجهها بعدما �أدركت ما تف ّوهت به ونظر لها �أمري ب�ضيق ثم حلظات وتركها‬
‫لي�صعد الدرج‪ ،‬ف�أوقفه �أمل كفه املتزايد فالتفت بهدوء حتت �أعينها املُرتقبة واقرتب‬
‫منها حتى وقف �أمامها فلمح اهتزاز عينيها للحظة‪ ،‬فم�سك يدها اليمنى دون �أي‬

‫ع‬
‫جرحا كب ًريا يف كفها ينزف بغزارة‪ ،‬ابتلع‬
‫مقدمات ونزع قطعة القما�ش منها فلمح ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ريقه ب�صعوبة وهو يجاهد يف تكذيب ما ي�شعر به‪ ،‬وهم�س ب�صوت غريب عليها‪�«:‬إنها‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ؤملك»‪.‬‬

‫ن‬
‫ت� ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ا�ستغربت حديثه وهي تراه يقر بجملته ال يت�ساءل كما فعل �أول مرة ر�آها فيها‪،‬‬

‫ع‬
‫فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�ست�شعر �شعو ًرا غري ًبا داخلها‪ ،‬ذلك ال�شعور الذي‬
‫كان يراودها وهي يف �أق�سى �أيام حياتها‪ ،‬فقالت بارجتاف‪«:‬اترك يدي»‪ ،‬قال‬
‫بهدوء‪«:‬يجب �أن نعاجلها �إنها تنزف بغزارة»‪ ،‬ارتع�شت لنربة احلنان يف �صوته‬
‫لتقول بتوتر‪«:‬اترك يدي �س�أتكفل �أنا بها»‪ ،‬حاولت جذب يديها فت�أوه كالهما وهتف‬
‫بها بقوة‪«:‬توقفي �إنها ت�ؤمل»‪.‬‬
‫التقت عيناهما ب�صدمة للحظات‪ ،‬وهي حتاول �إبعاد ما ت�شعر به داخلها‪ ،‬ولكن‬
‫ف�ضولها مل مينعها من �أن ت�ضغط جمددًا على جرح كفها‪ ،‬فلمحت تغ�ضن مالحمه‬
‫من الأمل ف�شهقت برعب وابتعدت عنه بقوة‪ ،‬فرتاجع هو خطوتني للخلف بنف�س‬
‫�صدمتها‪.‬‬
‫ارتفع �صدره وهو يتن ّف�س ب�صعوبة ك�أنه يلهث مما اكت�شفه بينما ات�سعت عيناها‬
‫ب�صدمة وهي تهم�س داخلها‪«:‬هل يعقل �أنه ي�شعر مبا �أ�شعر؟! هل هو توءمي لهذه‬
‫الدرجة؟! هل معنى هذا �أنه‪ ..‬ال»‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫ملحها وهي تهز ر�أ�سها ميي ًنا وي�سا ًرا ك�أنها ترف�ض �أم ًرا ما‪ ،‬فابتلع ريقه ب�صعوبة‬
‫م�سرعا لي�صعد الدرج ويدلف لغرفته مغل ًقا الباب خلفه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والتفت‬
‫‪M‬‬
‫م�سا ًء‬
‫دلف من البوابة اخلارجية للمنزل يحمل �سرتته على كتفه‪ ،‬ويدلك عينيه بتعب‬
‫بعد يوم طويل من العمل‪ ،‬وهو ي�شعر ب�أنه يف حاجة �شديدة للنوم‪ ،‬ملح بعينيه تلك‬
‫ال�سيارة التي تقبع منذ �أيام على بعد �أمتار من بوابة املنزل‪ ،‬رجال من الأمن �أر�سلهم‬

‫ع‬
‫اللواء ح�سني للت�أكد من �أمان �أمرية‪ ،‬بعد الت�أكد من هروب ممدوح‪ ،‬بالطبع هو مل‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ي�ستطع �أن يخربها احلقيقة‪ ،‬خا�صة وهو يرى تطو ًرا يف حالتها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫«�آ�سر»‬

‫توزيع‬
‫التفت منده�شا على نداء �أمرية ا�سمه‪ ،‬فلمحها تقف �أمام باب احلديقة اخللفية‬
‫بارتباك و�شحوب وجهها جعله يقرتب منها بقلق‪«:‬ليلى! ماذا حدث؟! هل � ِ‬
‫أنت‬
‫بخري؟!» �أجابته بنف�س ارتباكها‪«:‬نعم‪ ،‬ال تقلق �أنا‪»...‬‬

‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر مبدى غبائها وت�س ّرعها لأول مرة‪ ،‬قطع �آ�سر‬
‫بك؟!» تراجعت عن نيتها لتقول له ب�سرعة‪�«:‬أعتذر‬‫�أفكارها وهو ي�س�ألها‪«:‬ليلى ماذا ِ‬
‫منك ال �شيء‪ ،‬ت�صبح على خري»‪.‬‬
‫التفتت لتدلف للحديقة اخللفية حتى ت�صل للدرج اخللفي للدور الذي ت�سكن‬
‫فيه‪ ،‬ف�أوقفها نداء �آ�سر‪«:‬انتظري‪ ،‬هناك �أمر حدث معك اليوم �ألي�س كذلك؟!»‪،‬‬
‫توقفت مكانها وهي تفرك كفها لتقول‪�«:‬أنت �أخربتني �إن واجهتني �أي �أ�سئلة �أو �أي‬
‫�شيء غري منطقي �أن �أخربك به‪ ..‬ولكن»‪.‬‬
‫ملح قلقها وتوترها فابت�سم لها بحنو‪«:‬ما ر� ِ‬
‫أيك يف كوب لذيذ من الع�صري الطازج‬
‫يف هذا اجلو اجلميل؟!»‬

‫‪192‬‬
‫رفعت �أمرية عينيها له وحلظات وهزت ر�أ�سها بهدوء باملوافقة‪ .‬كانت تنقل‬
‫نظراتها له وهو يعد امل�شروب وبني باب املطبخ‪ ،‬فجل�س �آ�سر �أمامها بكوبني من‬
‫ع�صري الربتقال وهو يهم�س بهدوء‪«:‬ال تقلقي اجلميع نيام يف هذا الوقت»‪.‬‬
‫�أخذت الكوب من يديه وارت�شفته بهدوء وهو يتابعها بعينيه الناع�ستني‪ ،‬لت�س�أله‬
‫بعد حلظات‪«:‬هل كان يعاين �أمري من كوابي�س يف �صغره؟!» رم�ش �آ�سر بعينيه �أكرث‬
‫قلت؟!»‬
‫يتوهم ب�سماع �س�ؤالها‪«:‬عذرا ماذا ِ‬
‫من مرة وهو ي�شعر ب�أن �إرهاقه جعله ّ‬
‫�أعادت �س�ؤالها بحرج‪ ،‬ف�صمت �آ�سر للحظات يحاول �إخفاء ده�شته من اهتمامها‬
‫ب�شيء من ما�ضي �أمري‪ ،‬ليقول بعد تفكري‪«:‬احم‪ ..‬ح�س ًنا على ما �أتذكر هو عانى‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫فرتة من الكوابي�س‪ ،‬كان يف العا�شرة من عمره �أو رمبا يف احلادية ع�شرة‪ ،‬ال �أتذكر‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫جيدً ا‪ ،‬والأمر ا�ستمر معه ل�سنوات حتى اختفت الكوابي�س وهو يف‪»....‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫�أكملت �أمرية عنه وهي تقول بخفوت‪«:‬ال�ساد�سة ع�شر من عمره!»‪ ،‬نظر �آ�سر‬

‫والتوزي‬
‫لها بده�شة وهو يلمح �شحوب وجهها ليقول‪«:‬نعم»‬

‫ع‬
‫ارتع�ش الكوب يف يديها فرتكته على الطاولة وهي حتاول تهدئة نف�سها‪ ،‬لت�س�أله‬
‫�س�ؤالها التايل الذي جعله ي�شعر ب�أن هناك �شي ًئا غري ًبا يحدث‪«:‬هل من املمكن �أن‬
‫يت�صل التوءم ات�صاال مبا�شرا يف م�شاعرهما �أو تكون م�شاعرهما واحدة يف بع�ض‬
‫الأوقات؟!» �أجابها �آ�سر با�ستغراب‪«:‬تق�صدين التخاطر الروحي �أو النف�سي؟!»‬
‫هزت �أمرية ر�أ�سها ففكر �آ�سر بهدوء ثم �أجابها بعملية‪«:‬نعم �أحيا ًنا يكون‬
‫هناك تخاطر روحي بني التوءم‪ ،‬وهناك العديد من الق�ص�ص التي تثبت حقيقة‬
‫هذا التخاطر‪ ،‬بالرغم من �أنه ال يوجد دليل علمي يدعم فكرة وجود قدرات ح�سية‬
‫فائقة لدى التوائم‪ ،‬وهذا جعل العلم يقف عاجزا يف تف�سري تلك الظاهرة بنظرية‬
‫علمية حمددة ووا�ضحة‪ ،‬ولذا مل ي�ستطع نفي حقيقتها و�أحيانا النا�س ي�سمونها توءمة‬
‫الروح» �س�ألته بف�ضول‪«:‬ما هي تلك الق�ص�ص؟!»‬
‫�أكمل �آ�سر ُمتذكرا ما قر�أه من قبل‪«:‬ما �أتذكره هو ق�صة ا�ستغربت حني قر�أتها‬
‫عن فتاة ت�سمى جيما‪ ،‬وقد �سمعت فج�أة �صوتًا غري ًبا بداخلها يقول لها‪«:‬اذهبي �إىل‬
‫‪193‬‬
‫احل ّمام �أنا يف خطر»‪ ،‬رك�ضت دون وعي �أو تفكري �إىل احل ّمام لتجد �شقيقتها ممددة‬
‫يف البانيو مغمورة باملياه ولونها �أزرق‪.‬‬
‫كانت (ليليان) ال�شقيقة التوءم لـ(جيما) تعاين من (ال�صرع)‪ ،‬و�صادف �أن‬
‫وقعت يف نوبة ال�صرع وهي يف احلمام‪ .‬قالت جيما وقتها‪ :‬لو �أنني ت�أخرت دقائق‬
‫قليلة كنا فقدناها‪ ،‬لكن �أحمد اهلل �أنها بخري الآن‪ ،‬ال �أعرف ما حدث يل لكنني‬
‫فج�أة �سمعت ذاك ال�صوت بداخلي يطلب مني الذهاب فورا �إىل احلمام لأن ليليان‬
‫حتتاجني»‪.‬‬
‫ا�ستغرب �آ�سر ازدياد �شحوب وجه �أمرية وجمود مالحمها لي�س�ألها بقلق‪«:‬ليلى‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫بك؟!»‬
‫ماذا ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بتيه وهي تقول‪«:‬لقد كان ي�شعر بي‪ ،‬رمبا‬ ‫مل جتبه �أمرية للحظات‪ ،‬ثم نظرت له ٍ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫أي�ضا كنت �أ�شعر �أحيا ًنا ب�أحدهم يناديني‪ ،‬يخربين �أن‬
‫أي�ضا �شعر مبا مررت به‪� ،‬أنا � ً‬
‫� ً‬
‫ً‬
‫�صراخا بداخلي‬ ‫�أعود وال �أعلم �إىل �أين �أعود �أو ما هذا ال�صوت‪ ،‬ويف ليلة ما �سمعت‬
‫أحتاجك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و�أحدهم يناجيني ويقول �‬
‫جتاهلت النداء»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫« ِ‬
‫ولكنك‬
‫انتف�ض كالهما على �صوت �أمري الواقف بربود �أمام باب املطبخ‪ ،‬وينظر لها بال‬
‫مباالة‪ ،‬ثم �أبعد نظراته عنها وهو يقرتب من �آ�سر ويخربه �أنه يريد ُم�سك ًنا‪.‬‬
‫ن ّقل �آ�سر نظراته بينهما وهو يحاول �أن يجمع ما قالته �أمرية وما �سمعه من �أمري‪،‬‬
‫ولكن �س�ؤال �أمري �أخرجه من دوامة تفكريه لي�س�أله‪«:‬هل �أنت مري�ض؟!» �أجابه‬
‫بربود‪«:‬لقد جرحت يداها اليوم‪ ،‬والغبية ال تريد �أن تذهب للم�شفى‪ ،‬وتقاوم الأمل‪،‬‬
‫و�أنا �أ�شعر بنغزات بكفي ال جتعلني �أنام‪ ،‬فعلى ما يبدو �أنها جتربين على م�شاركتها‬
‫الآالم»‪.‬‬
‫ات�سعت عينا �آ�سر بده�شة وهو ي�سمع ما يقوله �أمري بهدوء‪ ،‬ك�أنه يقول �أم ًرا طبيع ًيا‪،‬‬
‫ثم نظر لأمرية ال�شاحبة و�أنزل نظراته لكف يديها‪ ،‬فلمحه ملفو ًفا ِ‬
‫ب�شا�ش حتول لونه‬
‫‪194‬‬
‫�سرعا ليم�سك يديها فت�أوهت بخفوت‬
‫للأحمر القاين‪ ،‬عقد ما بني حاجبيه واقرتب ُم ً‬
‫ؤملك؟!» ليجيب كالهما يف نف�س الوقت‪.‬‬
‫فرفع عينيه بقلق لي�س�ألها‪«:‬هل ت� ِ‬
‫�أمرية‪ :‬ال‬
‫�أمري‪ :‬نعم‬
‫لتهتف �أمرية من بني �أ�سنانها‪�«:‬إنها يدي �أنا»‪ ،‬ليجيبها �أمري‪«:‬و� ِ‬
‫أنت ُت�سببني‬
‫الأمل يل»‪ .‬لتقول �أمرية بعند‪«:‬هذا �سبب �إ�ضايف يجعلني ال �أعالج يدي‪ ،‬فلتت�أمل‬
‫ولتذهب للجحيم»‪ ،‬ابت�سم �أمري لها ب�سخرية‪�«:‬ستكونني يف انتظاري هناك»‪،‬‬
‫ليهتف �آ�سر فج�أة‪«:‬ح�س ًنا هذا يكفي»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫التزم كالهما ال�صمت‪ ،‬بينما �آ�سر منده�ش من تلك ال�شرارات التي بينهم‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لي�أمرهما‪«:‬اجل�سا �أمامي»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫هتف �أمري ب�ضيق‪«:‬فقط �أعطني م�سكنا»‪ ،‬ليجيبه �آ�سر وهو يجل�س على كر�سي‬

‫ع‬
‫�أمامهما‪�«:‬س�أعطيك �إياه‪ ،‬ولكن لتجل�س �أوال»‪ ،‬جل�س كالهما على م�ض�ض‪ ،‬بينما‬
‫ينظر �آ�سر لهما بده�شة‪ ،‬فمد يده وم�سك كف �أمرية و�ضغط على جرحها بقوة فت�أوهت‬
‫�أمرية بينما قب�ض �أمري على قب�ضته دون قول �شيء‪ ،‬ليهتف �آ�سر غري ُم�ص ّدق‪«:‬يا‬
‫�إلهي»‪ ،‬كاد �أن ي�ضغط جمددا ليهتف �أمري به بنفاد �صرب‪«:‬ال تعيدها جمددًا �إن‬
‫كنت �صدقت كالمنا»‪ ،‬ليرتاجع �آ�سر على كر�سيه وهو يقول بعدم ت�صديق‪«:‬توءمة‬
‫الروح»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت جمددًا قطعه �آ�سر وهو يخرج من �شروده ليذهب ويح�ضر علبة‬
‫الإ�سعافات الأولية‪ ،‬وجل�س �أمام �أمرية ينظف لها اجلرح ويعاجله‪.‬‬
‫�أح�ضر �شريط دواء و�أعطى حبة لكل منهما‪ ،‬وبعد �أن ابتلع �أمري الدواء نه�ض‬
‫لي�صعد لغرفته‪ ،‬وهو يتذ ّكر نزوله بعد �أن كاد الأمل �أن يفتك بر�أ�سه وبكفه فقرر‬
‫الذهاب لغرفة �آ�سر ليلمح نور املطبخ ُم�ضا ًء‪ ،‬و�صوت همهمات تخرج منه‪ ،‬فاقرتب‬
‫بهدوء لي�سمع حديث �آ�سر عن التخاطر الذهني فابت�سم ب�سخرية وهو يعلم جيدً ا‬
‫دوما يف �صغره؟!‬
‫�أن هناك تخاط ًرا ذهن ًيا بينه وبني تلك الغبية‪� ،‬أمل يتحدث معها ً‬
‫‪195‬‬
‫و�أوقات �أخرى كانت ُتدثه فهو الوحيد الذي كان واث ًقا من �أنها على قيد احلياة‪،‬‬
‫واث ًقا وخائ ًفا يف نف�س اللحظة‪.‬‬
‫قاطع تفكريه �آ�سر وهو ي�أمره ب�أن يجل�س‪ ،‬ف�ساد ال�صمت للحظات جمددًا‪،‬‬
‫اجلمود يحتل مالحمهم فتنهد �آ�سر ب�ضيق ليقول‪«:‬ح�سنا �أنتما مت�صالن وبينكما‬
‫تخاطر ذهني‪ ،‬كالكما ي�شعر ب�آالم الآخر‪ ،‬يا �إلهي �أنتما توءم‪ ،‬فلماذا تت�صرفان‬
‫هكذا؟! �أمري ما �سبب هجومك الدائم على ليلى؟»‪.‬‬
‫رفع �أمري عينيه بجمود وملحة �أمل مرت ليخفيها �سريعا‪ ،‬وهو ي�شيح ب�أنظاره عن‬
‫عاما لتحيا‬ ‫�آ�سر ليقول بدفاع‪«:‬من يهاجم من؟! عادت بعد غياب ثمانية ع�شر ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫معنا لأكرث من �شهر وما زالت حتمل بني مالب�سها �سكينها‪ ،‬هددت والدنا بها‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫و�آملت قلبه بكلماتها‪ ،‬و�أمي تت�أمل كل يوم ل�صعوبة احلياة بطبيعية جمددًا‪ ،‬ت�شاركنا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ثيابنا وجتل�س مع �أمي وتد ّرب �أخي ثم تتجنب اجلميع‪ ،‬ولكن يبدو �أن �سحرك جذبها‬

‫توزيع‬
‫ف�أ�صبحت تتحدث معك �أنت فقط‪� ،‬إن كان عدم تق ّبلي لوجودها هو هجوم ح�س ًنا �أنا‬
‫�أهاجمها»‪.‬‬
‫مل تهتز �شعرة يف مالمح �أمرية بينما داخلها يتلوى �أملًا مما �سمعته‪ ،‬ال تعلم َمل‬
‫ت�شعر به؟!‬
‫�ساد ال�صمت للحظات ليقول �آ�سر بابت�سامة وهو يع ّدل من جل�سته‪«:‬هل تغار؟!»‬
‫رفع �أمري ر�أ�سه له وهو يرم�ش بعينيه ليقول با�ستنكار‪«:‬ماذا؟!» حاول �آ�سر كبت‬
‫�ضحكة تكاد تخرج منه ومالمح الغرية تظهر وا�ضحة يف كالم �أمري ليكمل �آ�سر‬
‫يل �أنا» قال �أمري بربود‪�«:‬أمل‬
‫مبكر‪�«:‬أت�ساءل فقط‪ ..‬مبا �أنك غا�ضب لأنها تتحدث �إ ّ‬
‫ت�ستمع لكلمة مما قلته؟!»‬
‫هجومك الدائم ليلى‬
‫ِ‬ ‫ابت�سم �آ�سر له والتفت لي�س�أل �أمرية بهدوء‪«:‬ح�سنا ما �سبب‬
‫مل ال �أهاجمه؟!»‬ ‫على �أمري؟!» لتجيبه بربود هي الأخرى‪�«:‬إن�سان مغرور ُم ّ‬
‫تكب‪َ ،‬‬
‫جمعت هذه الأفكار التي‬
‫ِ‬ ‫خفتت ابت�سامة �آ�سر وهو يلمح �أمري يقول بغ�ضب‪«:‬هل‬
‫�أخذتها عني خالل �شهر ونحن مل نتحدث ثالث كلمات مع بع�ض لتخرج يف هذه‬
‫‪196‬‬
‫ال�صورة مغرور‪ ،‬متكرب؟» �أجابته �أمرية ُمت�س ّلحة بربودها‪«:‬ال �أحتاج لوقت كبري يف‬
‫احلكم على الأ�شخا�ص»‪.‬‬
‫نه�ض �أمري بربود م�صطنع ثم انحنى ليقول �أمام وجهها‪�«:‬أو رمبا ما ت�شعرين به‬
‫داخلك ما هو �إال مر�آة ملا هو داخلي‪� ،‬ألي�س بيننا تخاطر ذهني؟!»‬
‫ِ‬
‫ارجتفت �أمرية للحظة بينما التفت �أمري لريحل من املطبخ وهو ي�شعر بغ�صة‬
‫كبرية تقتات على قلبه ب�أمل‪ ،‬بينما �آ�سر يتابعهما ب�صمت‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات‬
‫أنت بخري؟!»‬
‫و�آ�سر يلمح ارتعا�ش �أمرية للحظة لي�س�ألها‪«:‬هل � ِ‬
‫�صمتت حتى ظن �آ�سر �أنها لن جتيبه لتفاج�أه ب�س�ؤاله‪«:‬ما الذي حدث لأمري‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫عندما كان يف الثانية ع�شرة من عمره؟!» �ضيق �آ�سر ما بني حاجبيه يتذ ّكر ما‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫حدث‪ ،‬وملحت �أمرية نظرة �أمل يف عينيه وهو يتحدث‪«:‬لقد تاه عن �أبي يف املركز‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫التجاري‪ ،‬وبحثنا عنه لليلتني‪ ،‬ثم ات�صل بنا �أحدهم يف امل�شفى ليخربنا �أن رجل �أمن‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫هناك وجده يف حمام مبنى مهجور يف املركز التجاري ي�صرخ ب�أعلى �صوته �أن ينقذه‬
‫�أحدهم‪ ،‬وبدا ك�أنه تاه هناك ورجال الأمن وجدوه �أثناء ت�أمينهم على املركز يف‬
‫دوريتهم بال�صدفة‪ ،‬فاملكان كان مهجو ًرا وال يدخله �أحد»‪� ،‬أغم�ضت �أمرية عينيها‬
‫بقوة وهي ترفع يدها لقلبها وتتنف�س ب�صعوبة وذكرى جاءتها وا�ضحة‪.‬‬
‫أرجوك‪� ..‬أنا خائف»‪ ،‬ثالث جمل مل ت�ستطع كتم �صداها‬
‫أحتاجك‪ ..‬تعايل � ِ‬
‫ِ‬ ‫«�أنا �‬
‫يف ر�أ�سها‪ ،‬والآن فقط �أدركت معناهم‪.‬‬
‫نه�ض �آ�سر واقرتب منها بهدوء وهو يلمح مالحمها املُت�أملة و�ضمها ل�صدرها‬
‫بيديها فناداها‪ ،‬وكاد يلم�س كتفها حتى جتمد مكانه وهو يلمحها تبكي!‬
‫نظر �آ�سر لها بده�شة وهو يرى انهيارها دون �سبب مفهوم له‪ ،‬وهي حتاول‬
‫جاهدة منع دموعها من ال�سقوط‪ ،‬فاقرتب منها و�ضمها ل�صدره بحنان �أخوي وهو‬
‫يناديها‪«:‬ليلى» لتقول من بني دموعها‪«:‬لهذا هو يكرهني‪ ،‬يا �إلهي‪� ،‬أنا مل �أخذل‬
‫�أحدً ا من قبل‪� ،‬أق�سم �أنني مل �أكن �أعرف �أن هناك �أحدً ا وراء تلك الأ�صوات‪ ،‬مل �أكن‬
‫�أعرف �أنه ي�ستغيث بي و�أنا جتاهلت نداءه يا �إلهي‪� ،‬أنا �آ�سفة»‪.‬‬
‫‪197‬‬
‫ازداد �آ�سر يف �ضمها له وهو يحاول فهم ما تقوله‪ ،‬ومل يلمح ذلك الذي كان‬
‫يقف خارج املطبخ ُم�ستندً ا على احلائط بعيدً ا عن �أعينهما‪ ،‬لتخونه دموعه وت�سقط‬
‫نداءك‬
‫ِ‬ ‫أنقذك‪� ،‬أنا � ً‬
‫أي�ضا جتاهلت‬ ‫ب�صمت هام�سا‪«:‬و�أنا � ً‬
‫أي�ضا �آ�سف ب�شدة لأنني مل � ِ‬
‫ومل �أ�ستطع فعل �شيء»‪.‬‬
‫بعد يومني‬
‫نه�ض من مكانه وهو يلمح والدته تنزل الدرج‪ ،‬ف�س�ألها بلهفة‪«:‬هل �ستنزل؟!»‬
‫هزت جميلة ر�أ�سها بال‪ ،‬وهي جتل�س بجواره ويبدو �أن احلزن زاد من �سنوات‬
‫بهم‪«:‬ال �أعلم ما الذي حدث لها يا بني؟! َمل انتك�س حالها جمددًا؟!‬
‫عمرها لتقول ٍّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫َمل عادت لقوقعتها؟! لقد ارتاح قلبي عندما بد�أت يف النزول هنا واجللو�س معنا ولو‬

‫الكت‬
‫لوقت ق�صري»‪ ،‬اقرتب �آ�سر و�ضم ذراع والدته بحنان وهو يهم�س‪«:‬ال تقلقي يا �أمي‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫فرتة و�ستمر‪� ،‬ستمر حت ًما»‪� ،‬س�ألته با�ستغراب‪«:‬ال �أعلم ما الذي حدث هي كانت‬

‫توزيع‬
‫بخري؟!»‬
‫تنهد �آ�سر وهو يعتدل يف جل�سته وي�ضم كفيه ليقول‪«:‬لقد حدث �شيء �أمي»‪.‬‬
‫رفعت جميلة عينيها الدامعتني وهي تنظر له با�ستغراب حتول ل�صدمة‪ ،‬بعد‬
‫ا�ستماعها ملا حدث بني �أمرية و�أمري‪ ،‬رفعت كف يديها لفمها وهي تهم�س‪«:‬يا �إلهي»‪.‬‬
‫تنهد �آ�سر بتعب وهو يكمل �شاردًا‪�«:‬أمرية تلوم نف�سها لأنها مل تكن موجودة‬
‫أي�ضا يلوم نف�سه»‪ ،‬ات�سعت عينا جميلة بده�شة وهي‬ ‫وقتما تاه �أمري‪ ،‬و�أظن �أن �أمري � ً‬
‫ت�س�أله عن ال�سبب ليجيبها‪�«:‬إن كانت �أمرية قد �شعرت به وبندائه �أثناء تلك احلادثة‬
‫ف�أمري قد �شعر بها يف فرتة طفولتها‪� ،‬أو رمبا ر�أة ما مرت به‪ ،‬ال �أعرف»‪.‬‬
‫�أخذت جميلة تفكر يف كالم �آ�سر للحظات‪ ،‬حتى قالت‪«:‬يا �إلهي‪ ..‬كوابي�سه!»‬
‫أي�ضا فكر يف ذلك ليقول‪«:‬ال �أظن �أن الأمر اقت�صر‬
‫فكر �آ�سر يف جملة والدته هو � ً‬
‫على الكوابي�س �أمي‪ ،‬يجب �أن �أحتدث معه»‪.‬‬
‫م�سكت جميلة كف �آ�سر وهي تهم�س بدموع‪�«:‬آ�سر �أنقذ �إخوتك‪� ،‬أعدهما يل»‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫التمعت الدموع يف عيني �آ�سر‪ ،‬واحت�ضن �أمه بقوة وهو يق ّبل جبينها‪«:‬ال تقلقي‬
‫�أماه‪ ،‬كل �شيء �سيكون بخري‪� ،‬أال تثقني يف ابنك الطبيب‪� ،‬أمل ت�سمعي كالم النا�س‬
‫ابنك طبيب ماهر»‪.‬‬‫عني باخلارج؟ ِ‬
‫ابت�سمت جميلة بني دموعها وهي ت�ضم نف�سها حل�ضنه الآمن لتقول بحب‪«:‬بارك‬
‫اهلل فيك يا بني‪ ،‬وحماك �أنت و�إخوتك من كل �شر»‪� ،‬أغم�ض �آ�سر عينيه وهو ي�ؤمن‬
‫خلف والدته‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل زمرد‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫«هل ب�إمكاين قتل نف�سي لأرتاح من كل الرثثرة التي ملأت املكان»‪ ،‬ابت�سمت‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬


‫ل‬
‫زمرد على حديث رحاب وهما باملطبخ م ًعا‪ ،‬منذ انهيارها الأخري‪ ،‬االنهيار الذي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫تبعه حياة �أخرى حتياها الآن‪ ،‬حياة ملأت كل جوانبها بحبها للذي �شهد على‬

‫ع‬
‫�ضعفها ومنحها القوة لتكمل لتعود من جديد طفلة ترى كل ما حولها جميال‪ ،‬رحاب‬
‫�أختها ال�صغرية الكبرية القلب‪ ،‬رحاب التي بد�أت يف التوا�صل معها ومعاملتها ك�أخت‬
‫مقربة لها وهي تنهل من هذا احلب‪ ،‬رحاب التي تف ّهمت حديثها وقت انهيارها عما‬
‫حدث بينها وبني ممدوح دون �أن تع ّلق ب�شيء‪ ،‬وهي ت�س�ألها �إن كان اهلل �سيغفر لها‬
‫ذنبها‪ ،‬رحاب التي قابلت �أ�سئلتها برحابة �صدر ومل تبتعد عنها وتبعد عينيها عنها‬
‫ك�أنها تنفر من فعلتها‪ ،‬فلم تتوقف عن التح ّدث معها بل اقرتبت �أكرث و�أكرث ك�أنها‬
‫تعو�ضها عن �صدمة والدتها بها و�صمتها عن احلديث معها بعد ما �سمعته‪ ،‬فلقد‬
‫كانت موجودة حلظة انهيارها‪ ،‬والدتها مل تتق ّبل �أن تفقد ابنتها �شرفها حتى �إن‬
‫كانت خمطوفة!‬
‫�شردت؟!» ابت�سمت زمرد وهي تقول‪«:‬ال �شيء‪ ،‬هيا فال يجب‬
‫ِ‬ ‫«هاااي �إىل �أين‬
‫�أن نرتكها كل هذا الوقت»‪ ،‬قالت رحاب وهي حتمل �أكواب الع�صري‪�«:‬أنا �أجل�س‬
‫معها فقط من �أجلك‪ ،‬فهي ذات ل�سان �سليط‪ ،‬ولن �أ�سمح لها بالتق ّرب منك ففي‬
‫النهاية هي �صحفية»‪ ،‬ابت�سمت زمرد بحنان لها وهي تعي عمن تتحدث‪ ،‬فاليوم‬
‫زارتها خطيبة يامن‪ ،‬وق�ضت معها وقتًا ً‬
‫طويل وهي تع ّرف عن نف�سها وعن عملها‬
‫‪199‬‬
‫وعن ارتباطها بيامن وق�صة حبهما التي حاربا من �أجلها‪ ،‬يامن! يامن الذي توقفت‬
‫عن ر�ؤيته منذ �أ�سبوع‪ ،‬بعد انهيارها مل تقو على اخلروج من املنزل‪ ،‬فطلبت من‬
‫رحاب �أن تت�صل بالطبيبة وت�سرد لها ما حدث‪ ،‬وتطلب منها القدوم للمنزل هذه‬
‫الأيام‪ ،‬الطبيبة التي بد�أت يف التعاون معها‪ ،‬وقد بد�أت يف التق ّرب منها يف حماولة‬
‫للو�صول لأعماقها‪ ،‬تنهدت وهي تفكر �أن ال و�سيلة لأحد للو�صول لأعماق �آخر ما مل‬
‫ي�سمح له بذلك‪.‬‬
‫خرجا من املطبخ لرتى زمرد �سايل وهي جتل�س على مقربة من والدتها ويبدو‬
‫�أنهما كانتا تتهام�سان على �شيء‪ ،‬ف�صمتتا فور خروجهما‪ ،‬نه�ضت �سايل لت�أخذ كوب‬
‫الع�صري اخلا�ص بها من رحاب دون كلمة �شكر‪ ،‬وهي توجه حديثها لزمرد‪«:‬ما‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ر�أيك يا زمرد يف الأثاث احلديث‪� ،‬أرى �أنه يجعل املكان �أجمل؟!» نظرت لها زمرد‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫بابت�سامة وهي ت�سمعها تناديها بزمرد كما يفعل يامن و�سليم لتجيبها‪«:‬ال علم كاف ًيا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫أ�ساعدك به‪ ،‬ولكن �أظن �أن اجلديد يف �أي �شيء يحمل‬ ‫ِ‬ ‫لدي بهذا املو�ضوع �سايل ل‬

‫توزيع‬
‫طابعه احل�سن»‪.‬‬
‫ظننتك على علم‬
‫ِ‬ ‫نظرت لها �سايل بهدوء وهي حتاول �أن تدر�سها لت�س�ألها‪�«:‬آه‬
‫بذلك ولكن بالطبع بحكم معي�شتك يف العري�ش ال تعرفني الكثري‪ »...‬نظرت لها‬
‫زمرد غافلة عن مق�صدها لتجيبها رحاب‪«:‬وما عالقة العري�ش بق�صة �أثاثك‬
‫�سايل؟ و َمل تتحدثني ك�أن العري�ش بلد من الع�صر القدمي؟ �أو �أن التكنولوجيا مل‬
‫ت�صلها‪ ،‬التط ّور يف كل مكان موجود»‬
‫نظرت �سايل لرحاب بت�سلية وهي تقول‪«:‬بالطبع‪ ،‬ولكن مما �أعرفه عن م�سكن‬
‫أمتمت‬
‫زمرد ال�سابق هو �أنه كان يف ال�صحراء يف منطقة بعيدة عن الإ�سكان‪� ،‬آه هل � ِ‬
‫لك؟!»‬
‫تعليمك زمرد �أم مل ي�سمحوا ِ‬
‫ِ‬
‫طويل لتقول ب�صراحة‪«:‬بلى �أمتمته‪� ،‬أنا �أنهيت حقوق بامتياز‪،‬‬‫نظرت زمرد لها ً‬
‫فلقد كان لزاما علينا �أن نكمل درا�ستنا يف جمال معني يختارونه لنا لكي ننفعهم‬
‫بوجودنا»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت يف املكان لتلمح زمرد والدتها وهي ت�ست�أذنهم لت�سرتيح ً‬
‫قليل‪،‬‬
‫والدتها التي تهرب من �أي حديث يعيدها لنقطة خطف ابنتها واغتيال �شرفها‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫�شعرت بلم�سة رحاب ليديها فنظرت لها لتجدها تنظر لها بحب‪ ،‬لت�سمع �سايل‬
‫وهي تقول‪«:‬ما ر�أيك لو خرجنا م ًعا زمرد؟!»‪«:،‬ال»‪ ،‬خرجت من رحاب قوية وهي‬
‫تقول‪«:‬زمرد ال تخرج ب�سبب �أوامر الأمن‪ ،‬يامن �أ�صر على ذلك و�أكد عليه»‪ ،‬مل‬
‫تنظر �سايل لرحاب وهي تدر�س �صمت زمرد لتقول لها‪«:‬اهدئي حبيبتي �أنا لن �آكل‬
‫�أختك‪� ،‬أنا �أعر�ض عليها فقط اخلروج معي لن�شرتي بع�ض املالب�س‪ ،‬و�سيكون هناك‬
‫رجل �أمن معنا و�سيو�صلنا ليامن‪ ،‬ف�أنا �أريد مفاج�أته اليوم يف العمل‪ ،‬هو يحب كث ًريا‬
‫�أن �أزوره بالعمل»‪.‬‬
‫�سمعت رحاب نداء والدتها لها فنظرت لزمرد بارتباك ال تريد �أن ترتكها مع‬
‫تريدك يف �شيء‬
‫ِ‬ ‫تلك احلية‪ ،‬لتقول لها زمرد باطمئنان‪«:‬اذهبي لأمي رحاب‪ ،‬فحت ًما‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫مهم»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫بعد دقائق حتركت رحاب على م�ض�ض خائفة من ترك زمرد وحدها‪� ،‬ساد‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ال�صمت للحظات لت�سمع زمرد �سايل وهي تقول‪ِ �«:‬‬
‫أنت ال ت�سمعني الأخبار �ألي�س‬

‫ع‬
‫حتميك هكذا‬
‫ِ‬ ‫عائلتك تظن �أنها‬
‫ِ‬ ‫كذلك؟!»‪ ،‬ف�أجابتها زمرد بالنفي لتقول بخبث‪«:‬‬
‫تبعدك فقط عن امل�شاكل وال تعاجلها»‪� ،‬س�ألتها زمرد با�ستغراب‪«:‬ملاذا‬
‫ِ‬ ‫وال تعلم �أنها‬
‫تقولني هذا؟!»‪.‬‬
‫اقرتبت �سايل لتجل�س يف الكر�سي املجاور لزمرد لتقول‪«:‬ال�صحافة تتحدث‬
‫عن الق�ضية التي قلبت الر�أي العام ولرف�ض الأمن الوطني البوح ب�أي �أمر يتعلق‬
‫بالق�ضية‪ ،‬ومنع ال�صحافة من التح ّدث مع ال�ضحايا‪ ،‬بد�أت اجلرائد يف ن�سج ق�ص�ص‬
‫عالقتك مع ذلك‬
‫ِ‬ ‫غري حقيقية فقط من �أجل جذب النا�س �إليهم‪ ،‬ومن حديثهم‬
‫معك بحوار �صحفي نو�ضح فيه للنا�س‬ ‫الرجل ممدوح‪� ،‬أنا �أخربت يامن ب�أن �أقوم ِ‬
‫احلقيقة لكنه كالعادة يرف�ض و‪ ،»...‬مل ت�سمع زمرد �أي �شيء مما قالته �سايل بعد‬
‫عالقتك مع ممدوح»‪ ،‬هي تعرف والنا�س كلها تعرف‪� ،‬شعرت باملهانة وهي‬ ‫ِ‬ ‫جملته‪«:‬‬
‫تعي �أن �أذية ممدوح لها ما زالت �سارية‪ ،‬ا�ستغفرت يف �سرها فلم متنع دموعها من‬
‫إزعاجك‪� ،‬ساحميني‬
‫ِ‬ ‫ال�سقوط‪ ،‬لتقرتب �سايل منها وهي تقول‪«:‬عزيزتي �أنا مل ق�صد �‬
‫أرجوك �أنا فقط �أردت �أن �أخربك‪� ،‬أنا مل �أرد �إال امل�ساعدة‪� ،‬ساحميني»‪.‬‬
‫� ِ‬
‫‪201‬‬
‫م�سحت زمرد دموعها وهي تقول بهدوء‪«:‬ال مل يحدث �شيء‪� ،‬أنا فقط متعبة‬
‫أ�صدقك‪ ،‬ح�س ًنا حتى �أت�أكد � ِ‬
‫أنك �ساحم ِتني �ست�أتني‬ ‫ِ‬ ‫قليل»‪ ،‬قالت �سايل‪�«:‬آه �أنا ال �‬
‫ً‬
‫معي لن�شرتي بع�ض الثياب‪ ،‬هيا �سوف ن�ستمتع كث ًريا‪ ،‬و�أعدك �أننا لن نت�أخر و�سن�أخذ‬
‫رجل �أمن معنا و�سنذهب يف النهاية ليامن �سي�سعد كث ًريا بر�ؤيتنا»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫النادي‬
‫مرت مدة على و�ضعه وهو �شارد يف كل ما حدث‪� ،‬صباحا بعد �أن �أنهى رك�ضه‬
‫تفاج�أ ب�آ�سر الذي جاء ليطمئن عليه‪ ،‬ويف عينيه الكثري من الت�سا�ؤالت‪ ،‬جل�سا و�سرد‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫له �أمري كل ما �شعر به من م�شاعر توا�صل بينه وبني �أمرية طوال تلك ال�سنوات‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫من �أمل وخوف �أو الكثري من اخلوف‪� ،‬شاع ًرا بالندم لأنه مل يبح مبا �شعر به من‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫قبل‪ ،‬فرمبا كان لينقذها ليخربه �آ�سر �أنه لي�س ذنبه فمن كان يتخيل هذا‪ ،‬تذ ّكر‬

‫توزيع‬
‫ذلك اليوم الذي دار فيه بينه وبينها حديث‪ ،‬كانت املرة الأوىل التي تتناول فيها‬
‫الغداء معهم‪ ،‬تذ ّكر انطواءها على نف�سها وقت ح�ضور والده ليزداد مع ح�ضوره‪ ،‬عاد‬
‫بذاكرته لذلك اليوم وهو يتذكر فخر �أخيه مبا تع ّلمه منها وهو يخربهم ليبوح والده‬
‫عن فخره هو الآخر‪ ،‬فلمح خجلها املرافق الرتباكها من كالمهم‪ ،‬لينتف�ض بعدها‬
‫من مكانه وهو ي�شعر باختناق روحه‪ ،‬تذ ّكر تتبعها ملكانه وهو ي�سدد �ضرباته لكي�س‬
‫املالكمة يحاول جاهدً ا �إخراج كل تلك ال�شحنات ال�سالبة منه لي�سمعها تخربه ب�أنه‬
‫�سي�ؤذي نف�سه هكذا لت�سديده اخلط�أ‪� ،‬سخر منها وقتها وهي تخربه ب�أن �ضرباته غري‬
‫ُمنتظمة و�سي�شعر ب�آالم يف يديه‪ ،‬ال يعلم ملاذا انتف�ض وقتها لي�صرخ بوجهها‪«:‬يبدو‬
‫بونك على القتال يف حالة ا�ضطررت‬ ‫�أنك على خربة جيدة باملو�ضوع‪ ،‬هل كانوا ُيد ّر ِ‬
‫أجيال تكمل عملهم»‪.‬‬
‫ملقابلة �أي خطر �أم كان هذا هو �أ�سا�س اختطافهم لك ُلي ّبوا � ً‬
‫تن ّف�سه الغا�ضب وهذره الذي يبدو �أنه �أ�صابها يف مقتل جعل رد فعلها غري متوقع‬
‫له وهي ترفع كفها لت�صفعه على وجنتيه‪ ،‬لينظر لها ب�صدمة غري ُم�صدق ما قامت‬
‫به ليتجمد مكانه‪ ،‬وهو ي�سمعها تقول ب�صوت ميت‪«:‬مل يجعلونا نتدرب بل و�ضعونا يف‬
‫‪202‬‬
‫قتال‪� ،‬آمرين �إيانا ب�أن نفوز و�إال املوت‪� ،‬ضرباتنا مل نكن نوجهها لكي�س من املالكمة‬
‫بل كي�س من عظام وحلم �أو بالأدق �إن�سان»‪.‬‬
‫كما بد�أ الهذر فج�أة انتهى فج�أة‪ ،‬وهي تلتفت باجتاه الدرج لت�صعد يف هدوء‬
‫ُمغلقة باب ال�شقة خلفها‪ ،‬ك�أنها مل ت�صفعه منذ قليل بكالم �آذاه �أكرث من �صفعة‬
‫الوجه‪.‬‬
‫قب�ض على �صدره وهو ي�شعر بارتعا�ش ج�سده و�أمل بغي�ض �سكن �صدره‪ ،‬ليعود من‬
‫ذكرياته وهو يزفر ب�ضيق ليلمح �آ�سر وهو يقرتب منه ويف يديه علبتان من الع�صري‪،‬‬
‫ف�أعطاه واحدة وجل�س بجواره وهو يتناول خا�صته‪ ،‬ليبادر �أمري ب�س�ؤاله‪«:‬هل تثق‬
‫ب�أننا ميكننا �إنقاذها؟!» قال �آ�سر بغرور م�صطنع‪�«:‬أنت تهني قدراتي كطبيب‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫نف�سي»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ابت�سم �أمري بخفوت بينما �أكمل �آ�سر حديثه ب�صدق‪�«:‬إن كان احتمال م�ساعدتي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫لها و�إنقاذها بن�سبة �سبعني يف املائة فالآن و�أنت معي الن�سبة تعدت املائة باملائة»‪،‬‬

‫ع‬
‫التفت �أمري له وحتدث بجدية‪�«:‬أنا م�ستعد لفعل �أي �شيء من �أجلها»‪.‬‬
‫ابت�سم �آ�سر له بحب وتفا�ؤل �أن القادم حتما �سيكون �أف�ضل مما فات‪ ،‬ليقول له‬
‫بجدية‪«:‬عليك �أن تتق ّرب منها �أمري‪� ،‬أدخل نف�سك يف حميطها الآمن‪ ،‬يف اللحظة‬
‫الأوىل التي �ستنعم فيها بوجودك الفعلي ال�صادق بجوارها �ستنهار كل ح�صونها‪،‬‬
‫�ستدرك معنى امل�شاعر احلقيقية‪ ،‬معنى العطاء‪ ،‬مع الأمان واالطمئنان‪ ،‬دعها ترى‬
‫حب والدينا لك وحنان والدتنا لك‪ ،‬دعها ترى �أبوتك املبكرة لأحمد و�آدم‪ ،‬دعها ترى‬
‫م�شاعرك احلقيقية حتى ت�أمن مل�شاعرها احلقيقية»‪ ،‬هز �أمري ر�أ�سه بتفهم وهو‬
‫يجيب �آ�سر ب�صدق‪�«:‬س�أفعل �أعدك»‪.‬‬
‫تنهد �آ�سر وهو ي�ست�شعر الأمل‪ ،‬لغز �أمرية حله بيد �أمري وحده القادر على فك‬
‫�آخر لغز يف احللقة‪ ،‬لتكتمل الأحجية ويتم فك اللعنة‪ ،‬تذ ّكر كلمات التي حفرت �أث ًرا‬
‫كب ًريا داخله بعد �أن تركت دفرتها ذلك اليوم ليقر�أه‪.‬‬
‫«كلنا �أ�سری ل�شيء‪ ..‬كنا ُمق َّيدات بقيو ِد وهمي ِة متنعنا من العديد من الأ�شياء‬
‫من �ضمنهم العي�ش‪ ،‬و�أهمها ال�شعور بالأمان‪.‬‬
‫‪203‬‬
‫مغم�ض العينني � ِآم ًنا يف بيتك كان حل ًما لنا‪ ،‬رغم �سننا ال�صغرية �إال �أن‬
‫َ‬ ‫�أن تنام‬
‫ل�صفعات احليا ِة‬
‫ِ‬ ‫الرياح بال خوف‪ ،‬ب�إمكاننا الت�صدي‬
‫ِ‬ ‫كان ب�إمكاننا �أن نقف يف مهب‬
‫بال كلل‪� ،‬أتعلم ملاذا؟! لأننا ِاعتدنا الأمل والأ�سو�أ ِاعتدنا اخلوف‪ ،‬ر�أيناه يف �أب�شع‬
‫�صوره‪ ،‬يف املكوث ليلة كاملة يف غرفة ُمظلمة ت�ضيق من حولك وعينيك ال تتحرك‬
‫َ‬
‫متنحك �إياه‬ ‫من على ج�سد �صغرية ُتاورك‪ ،‬تتل َّم�س فيها دفء من امل�ستحيل �أن‬
‫وملاذا؟! لأنها فاقدة الروح‪ .‬ر�أيناه يف انتهاك �أحالمنا ف�صارت الكوابي�س حل ًما لنا‪،‬‬
‫العقوبات حتى ال نفكر حني نكرب‬
‫ِ‬ ‫ر�أيناه يف زلة ب�سيطة نقع فيها فنت ّلقى عليها �أب�شع‬
‫�أن نخطئ‪� ،‬سياطهم مل ترتك �أث ًرا على �أج�سادنا بل ُحفرت يف �أرواحنا‪ ،‬م�شوهات!‬
‫يوما على �أن ني�أ�س رغم كل �شيء‪ ،‬غري ودودات! حمتمل‪ ،‬فماذا‬ ‫رمبا‪ ،‬ولكن مل نعتد ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫تتوقع من �شخ�ص فقد كل معاين الود يف �صغره ومل يكرب �إال على الق�سوة واجلفاء‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫لكن برغم كل هذا ما زال لدينا قلب‪ ،‬بذرة و�ضعها اهلل يف قلوبنا ال تت�أثر بكل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫عفن منا يف روحنا‪ ،‬كان قلبنا ينتف�ض‬ ‫امل�ساوئ التي مت َّرغت فيها روحنا‪ .‬برغم كل ِ‬

‫توزيع‬
‫عند ر�ؤية فرا�شة نقية تطري ب�أجنحتها ال َّرباقة‪ ،‬كان قلبنا يئن وج ًعا كلما ملحنا � ًأما‬
‫ُتر ّبت على كف ِابنتها و�أ ًبا يحمل ابنه على كتفه‪ ،‬كان قلبنا يرفرف ب�سعادة حني نرى‬
‫طيارة ورقية ت�ستطيع �أن تعلو وتعلو يف ال�سماء الوا�سعة رغ ًما عن اجلميع‪ ،‬ورغ ًما عما‬
‫�صنعته منه‪ ،‬العطب كان بروحنا ال بقلبنا‪ ،‬ولهذا ما زلنا على قيد احلياة حتى الآن‬
‫يوما ما ت�صفو روحنا»‪.‬‬
‫نداويه لع ّل ً‬
‫�أمرية لديها تلك البذرة وهو لن يرتكها‪ ،‬حتى يرويها مب�ساعدة عائلتهما‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫‪204‬‬
‫�شخ�صا‬ ‫كيف مي�شي واحد م ّنا �إذا فقد ً‬
‫�شخ�صا؟! �أنا حني فقدت ً‬
‫توقفت كان هو املا�شي و�أنا �أتابعه‪ ،‬كنت املا�شي فيه وحني توقف‬
‫مل تعد يل قدمان‬

‫وديع �سعادة‬
‫الف�صل الثاين ع�رش‬
‫�سهيلة‬

‫مقر الأمن الوطني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نه�ض يامن من على كر�سيه عندما ملحها تدلف ملكتبه مع �سايل‪ ،‬فنظر لهما‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب�صدمة وهتف‪«:‬ما الذي تفعالنه هنا؟!»‪ ،‬اقرتبت �سايل بابت�سامتها وق ّبلت وجنتيه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وحتدثت ب�سعادة‪«:‬ما ر�أيك بهذه املفاج�أة؟!»‪� ،‬أبعد يامن �سايل عن طريقه وعيناه‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫ما زالت على تلك التي تتململ يف وقفتها وتنظر يف كل مكان بعيدً ا عن مر�أى عينيه‪،‬‬
‫تلك التي ع ّذبته يف �صحوته ونومه ومل ترتكه حلظة لت�أتي الآن �إليه بعد �أكرث من‬
‫�أ�سبوع غياب‪ ،‬خرجت من املنزل وخالفت �أمره‪ ،‬عند هذه اللحظة اقرتب منها‬
‫أخربك �أال ترتكي املنزل لأي �سبب كان؟!»‪ ،‬لعنت زمرد‬ ‫وحتدث بجمود‪�«:‬أمل � ِ‬
‫غباءها وموافقتها للخروج مع �سايل بعد �إحلاح الأخرية وقد �أخذتها حجة لرتاه‬
‫فهي كانت يف حالة غريبة جتربها على القدوم �إليه ك�أنه نداء غريب لها ب�أن ت�أتي‬
‫لهنا‪ ،‬لتكون مبكتبه فابتلعت ريقها ب�صعوبة ومل تقل �شيئا بينما اقرتبت �سايل ووقفت‬
‫بجوارها وحت ّدثت بتذ ّمر ُم�صطنع‪«:‬ال متار�س �سلطتك على الفتاة هيا لقد �أحلحت‬
‫عليها كث ًريا لتخرج معي‪ ،‬الفتاة تقبع باملنزل لأكرث من �شهر ون�صف‪ ،‬ومل تر خارجه‬
‫�أبدً ا»‪ ،‬مل يكن يامن ُمنتبها ملا تتح ّدث به �سايل وعيناه ما زالت تلتهم تفا�صيل زمرد‬
‫التي فاج�أته بخروجها من البيت وهي ترتدي احلجاب!‬
‫هتف بال وعي‪�«:‬أنت ترتدين احلجاب؟»‪ ،‬ارتبكت زمرد ولعنت نف�سها للمرة‬
‫الثانية لت�ضرج وجنتيها بهذا ال�شكل ال�سخيف‪ ،‬مل يعجب �سايل نظرات يامن لها‪،‬‬
‫فتحدثت ب�ضيق‪�«:‬أنت مل ُتيينا حتى!» ارتبك يامن هذه املرة ونظر ل�سايل فتنهد‬
‫ب�ضيق و�أ�شار ب�إ�صبعه على زمرد‪«:‬يوجد ق�ضية مهمة عالقة بها‪ ،‬والبيت هو املكان‬
‫‪206‬‬
‫الوحيد الآمن لها‪ ،‬لذا غري م�سموح لها باخلروج‪ ،‬ولهذا و�ضعوها حتت م�س�ؤوليتي‪،‬‬
‫والآن �ستجربينني �أن �أوقف عملي حتى �أو�صلها للمنزل ب�أمان‪ ،‬لذا اعذريني عن‬
‫عدم ترحيبي الالئق بكما و�أنا م�شغول بالتفكري يف كل امل�صائب التي كانت لتحدث لو‬
‫معك يف �شوارع العا�صمة»‪ ،‬هتف يامن‬‫�أن �شاهدها �أحد �أفراد الع�صابة وهي تتجول ِ‬
‫عال �أربكهما‪ ،‬وانده�شت �سايل لغ�ضب يامن املبالغ فيه من‬ ‫ب�آخر كلماته ب�صوت ٍ‬
‫ر�أيها ف�أجابت بهدوء‪«:‬ح�س ًنا �أنت َمل تخربين التفا�صيل بق�ضيتها؟ اهد�أ �سرنحل‬
‫الآن»‪ ،‬قاطع يامن كالمها وهو يعود ملكتبه ُم ً‬
‫تجاهل تلك التي �أ�سرت عقله بدخولها‬
‫أخربتك �أن عملنا خط �أحمر �سايل‪ ،‬كالنا يعلم م�صري‬
‫ِ‬ ‫املُباغت وهيئتها املالئكية‪�«:‬‬
‫أنت �سرتحلني �أما‬
‫املعلومات التي �س�أخربك بها عن �أي ق�ضية فما بالك بق�ضيتها! و� ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قليل معي حتى �أنهي عملي و�أت�أكد من خروجنا من املركز‬ ‫عن زمرد ف�ستنتظر ً‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ب�أمان»‪ ،‬ارتفع حاجب �سايل �سخرية على كالمه‪ ،‬وحتدثت بته ّكم‪«:‬مل �أعهدك وغدا‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يامن»‪� ،‬شهقت زمرد من حديث �سايل بينما نظر يامن ل�سايل بجمود وحتدث‪«:‬و�أنا‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫أعهدك عدمية امل�س�ؤولية �سايل»‪ ،‬طالت النظرات بينهما للحظات‪ ،‬ف�أخف�ضت‬ ‫مل � ِ‬

‫ع‬
‫بغل مكتوم‪ ،‬وا�ستدارت لزمرد وابت�سمت‬ ‫�سايل نظرها للأر�ض وم�سكت حقيبتها ٍّ‬
‫اهتماما حلديثي مع حبيبي‪،‬‬
‫ً‬ ‫ابت�سامة تكاد تكون قبيحة‪ ،‬وقالت بربود‪«:‬ال تعريي‬
‫فنحن معتادان على هذا‪ ،‬عذرا لن نكمل جولتنا اليوم ب�سبب الإجراءات الأمنية‪ ،‬لذا‬
‫�إىل اللقاء للوقت الذي ي�سمح لنا عزيزنا يامن فيه باخلروج»‪.‬‬
‫خرجت �سايل من الغرفة بغ�ضبها وهالتها ال�سوداء‪ ،‬بينما كانت زمرد تنظر‬
‫يف الفراغ الذي خ ّلفته �سايل بفم مفتوح وهي م�صدومة مما حدث‪� ،‬شيء بداخلها‬
‫�أخربها �أن مكنون �سايل لي�س كظاهرها‪ ،‬وهذا �أفزعها للحظات‪ ،‬رفعت عينيها‬
‫ليامن فوجدته عاد لكر�سيه وهو ينظر للأوراق التي �أمامه برتكيز وك�أن ما حدث‬
‫�صدمتك فاجل�سي على احد‬
‫ِ‬ ‫انتهيت من‬
‫ِ‬ ‫مل يحدث معه‪ ،‬قاطع تفكريها �صوته‪�«:‬إن‬
‫الكرا�سي حتى �أنهي ما بيدي»‪ ،‬ابتلعت زمرد ريقها ب�صعوبة وحتركت بارتباك لأبعد‬
‫كر�سي يف الغرفة‪ ،‬وجل�ست وهي تع ّدل من حجابها بطريقة ال �إرادية منها‪.‬‬
‫مرت ن�صف �ساعة وال�صمت ي�سود املكان‪ ،‬ف�شعرت زمرد بكرب غبائها وما‬
‫�أو�صلها ملا هي فيه الآن‪ ،‬فتحدثت ب�صوت خافت‪�«:‬أنا �آ�سفة خلروجي دون �أن‬
‫‪207‬‬
‫�أخربك»‪� ،‬أجابها يامن بجمود وهو ما زال ينظر للورق �أمامه‪«:‬ا�صنعي معرو ًفا‬
‫�صوتك‪ ،‬ف�أنا �أكاد �أ�سيطر على غ�ضبي»‪� ،‬شعرت زمرد برغبة ُملحة‬
‫ِ‬ ‫يل وال ُت�سمعيني‬
‫يف البكاء فهتفت ب�أول �شيء جاء يف بالها‪�«:‬أنا �أريد �أن �أ�صلي»‪ ،‬جتمدت يده على‬
‫الورقة املُم�سك بها ورفع ر�أ�سه لها‪ ،‬فنظر لها للحظات وهو يراها قد اختلفت عن‬
‫�آخر مرة ر�آها فيها‪ ،‬لقد �أ�صابتها حالة من الوهن‪ ،‬ولكن وهن جميل‪ ،‬نظر �إىل‬
‫ن�ضوجا م�ؤملًا‪ ،‬اجتاحته رغبة قوية ب�أن ي�ضمها‬
‫ً‬ ‫هالتها املالئكية بحجابها وهو يرى‬
‫ل�صدره يزيل �أملها ويحميها من �أي �شر قد ي�صيبها‪ ،‬كاد �أن يبت�سم‪ ،‬ت�أثرياتها عليه‬
‫�أ�صبحت خطرة‪� ،‬أخف�ض ر�أ�سه للورق �أمامه وتنهد بخفوت و�أجابها ب�صوت هادئ‪،‬‬
‫ُم�شريا بيديه لباب يقبع بجوار مكتبه‪«:‬هذه غرفة �أجل�س فيها وقت راحتي بالداخل‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ت�ستطيعني ال�صالة»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫الكت‬


‫هزت ر�أ�سها دون �أن جتيبه ب�شيء‪ ،‬ونه�ضت بارتباك ودخلت ُم�سرعة للغرفة‬

‫شر وال‬
‫ُمغلقة الباب خلفها‪� ،‬أرجع يامن ر�أ�سه على حافة الكر�سي ُم ً‬
‫غم�ضا عينيه يهم�س‬

‫توزيع‬
‫لنف�سه‪ِ �«:‬أع ّني يا اهلل»‪ ،‬جملة �شاركته فيها وهي ت�ضع يديها على قلبها الذي‬
‫ينتف�ض مكانه بينما ت�ستند بج�سدها على الباب‪ ،‬مل تكن تظن �أن ر�ؤيته �ستبعرث‬
‫دواخلها بهذه الطريقة‪ ،‬فتحت عينيها تت�أمل الغرفة‪� ،‬أريكة �صغرية وبجوارها مكتبة‬
‫حتوي على العديد من الكتب وامللفات‪ ،‬ويف اجلهة الأخرى مكتب �صغري مو�ضوع‬
‫عليه العديد من الأوراق‪ ،‬و�ضعت حقيبتها على املكتب واجتهت لآخر الغرفة وو�ضعت‬
‫�سجادة ال�صالة و�صلت لربها‪.‬‬
‫بعد مرور بع�ض الوقت من الدعاء نه�ضت وهي ت�شعر ب�أنها �أف�ضل ً‬
‫حال‪ ،‬ال�صالة‬
‫كال�سحر قادرة على فعل العديد من املعجزات‪ ،‬طوت ال�سجادة وو�ضعتها مكانها ثم‬
‫حتركت جتاه املكتب و�سحبت حقيبتها فوقع بع�ض الأوراق من على املكتب‪ ،‬و�ضعت‬
‫حقيبتها ُم�سرعة على الأر�ض و�أخذت جتمع يف الأوراق لت�ضعها على املكتب و�أثناء‬
‫نهو�ضها ملحت جز ًءا من وجه يظهر من ورق مو�ضوعة داخل ملف‪� ،‬شعرت ب�أن ذلك‬
‫الوجه م�ألوف لها ف�سحبت الورق حتى ظهرت مالمح الوجه �أمامها‪ ،‬ف�شحب وجهها‬
‫و�شهقت ب�صدمة‪ ،‬وقعت الورقة من يديها وتراجعت خطوتني للخلف يف نف�س اللحظة‬
‫أخرت!»‬
‫أنت بخري زمرد؟! لقد ت� ِ‬ ‫التي طرق فيها يامن الباب وهو يهتف‪«:‬هل � ِ‬
‫‪208‬‬
‫بتيه للورقة املُلقاة على الأر�ض ودموعها تنهمر من عينيها غري‬ ‫كانت تنظر ٍ‬
‫ُم�صدقة‪� ،‬أعاد يامن الطرق مرة واثنتني حتى �أ�صابه القلق‪ ،‬فدلف للغرفة ور�آها‬
‫بهذه احلالة‪ ،‬ارتعب يامن للحظة واقرتب م�سرعا وهو يتحدث بقلق‪«:‬زمرد ماذا‬
‫بك؟! َمل تبكني هكذا؟!» مل جتبه وعيناها ما زالت على الورقة وهي تهز ر�أ�سها‬ ‫ِ‬
‫بالرف�ض‪ ،‬فتتبع بعينيه نظراتها حتى ملح �صورة �ضحية يف جرمية يبدو �أنها وقعت‬
‫م�سرعا و�أخذ الورق وطواها داخل امللف‪ ،‬وهو يعتذر لها لر�ؤيتها‬
‫ً‬ ‫من ملف‪ ،‬فاقرتب‬
‫لهذا املنظر ظنا منه �أنها ت�أثرت ب�صورة الفتاة امليتة‪ ،‬اقرتبت منه و�أبعدت يديه عن‬
‫امللف وهي تعيد فتحه جمددًا وترى ال�صورة جمددًا وهم�ست بوجع‪«:‬لقد ماتت‪..‬‬
‫لقد قتلها»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كان دور يامن هذه املرة يف ال�صدمة فتحدث بحذر‪«:‬هل تعرفينها؟!»‪ ،‬ابت�سمت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫زمرد ب�سخرية ودموعها ما زالت تنهمر‪«:‬هل �أعرفها؟! �آه يا يامن هذا ال�س�ؤال لي�س‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫يف حمله‪ ،‬هل �أعرفها؟! لقد انتهى كل �شيء‪ ،‬لقد �ضاع كل �شيء هبا ًء‪� ،‬آه يا يامن الآن‬

‫والتوزي‬
‫فقط �أنا مت‪ ،‬الآن فقط فقدت نف�سي‪ ،‬هل �أعرفها! لأجلها فعلت كل ما فعلته‪ ،‬لأجلها‬

‫ع‬
‫فقط �ضحيت بكل �شيء»‪.‬‬
‫�أنهت زمرد جملتها وهي ت�شعر ب�أن الأر�ض متيد بها لت�ست�سلم للظالم الذي‬
‫جذبها لأعماقه فلم ت�سمع نداءات يامن با�سمها‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫‪209‬‬
‫‪ -‬ذكرى ‪-‬‬

‫مل تعلم كم مر الوقت عليها وهي نائمة‪ ،‬نه�ضت من �سريرها وهي تنظر حولها‬
‫فلم جتد �سهيلة‪ ،‬نادتها �أكرث من مرة ولكن ال �شيء فقط الظالم يحيط بالغرفة‪،‬‬
‫�أ�شعلت النور ونظرت لل�ساعة على احلائط لتجدها احلادية ع�شرة م�سا ًء‪«:‬لقد منت‬

‫ع‬
‫كث ًريا‪ ،‬يا �إلهي لقد كان دور �إنفلونزا قو ًيا هذه املرة‪ ،‬ولكن �أين ذهبت �سهيلة يف هذا‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫الوقت؟!» وقع قلبها يف رجلها وعقلها يذهب بها لأمر واحد‪«:‬ممدوح»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫خرجت من الغرفة ُم�سرعة وعظام ج�سدها تئن من الوجع‪ ،‬وهي تبحث عنها‬

‫توزيع‬
‫يف الأروقة‪ ،‬وتنادي ا�سمها ب�صوت خافت‪ ،‬ثم نزلت للدور ال�سفلي وهي ت�سعل بقوة‬
‫ف�أخذت تبحث عنها يف الغرف واملطبخ ولكن ال �شيء‪ ،‬رفعت ر�أ�سها للأعلى ثم‬
‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة وكادت �أن ت�صعد جمددًا للغرفة التي تخ�شاها‪ ،‬ولكن �أ�صوات‬
‫مكتومة و�صلت لأ�سماعها‪ ،‬التفتت لتتبع تلك الأ�صوات ب�أذنيها حتى وجدتها ت�أتي من‬
‫اخلارج‪ ،‬فتحت باب املنزل فلفحتها برودة اجلو يف هذا الوقت ويف طق�س ال�شتاء‬
‫القار�س الربودة‪ ،‬بينما �صوت الرعد يدوي يف ال�سماء واملطر ينهمر بقوة‪ ،‬ارتدت‬
‫معط ًفا �شتو ًيا كان على الأريكة وخرجت وهي تتبع تلك الأ�صوات وت�سعل ب�إعياء‪،‬‬
‫فوجدت الأ�صوات ت�أتي من احلظرية الكبرية‪ ،‬توجهت لها بخطى ثابتة وهي ت�شعر‬
‫باخلوف يت�س ّلل لقلبها‪ ،‬و�صلت فلمحت �سمر وخلود تتهام�سان ب�ضحك وهما تقفان‬
‫�أمام الباب‪ ،‬فتتبعت بعينيها ملا تنظران �إليه‪ ،‬فوجدت �سهيلة تتقاتل مع خديجة‬
‫وممدوح يجل�س على بعد منهما‪ ،‬وهو يتابعهما بعينيه القذرتني‪.‬‬
‫هتفت ب�إعياء‪«:‬ما الذي يحدث هنا؟!» التفتت �سمر وخلود لها ونظرت خلود‬
‫عليك �أن تكوين هنا الآن»‪ ،‬كادت زمرد �أن تدلف للحظرية حني‬
‫لها ب�ضيق‪«:‬ال يجب ِ‬
‫لك بالدخول»‪ ،‬هتفت زمرد بها بغ�ضب‪«:‬ابتعدي‬ ‫منعتها �سمر بقوة‪«:‬غري م�سموح ِ‬
‫عن طريقي �سمر»‪ ،‬نظرت خلود ل�سمر نظرة ذات معنى وهي تبت�سم بخبث‪«:‬ح�سنا‬
‫‪210‬‬
‫كما تريدين»‪ ،‬ابتعدت االثنتان عن طريقها ف�شعرت زمرد بالريبة‪ ،‬ولكنها مل ترتدد‬
‫للحظة وهي تلمح �سهيلة تتلقى العديد من ال�ضربات من خديجة‪ ،‬تلك الفتاة التي‬
‫زارتهم من �أ�سبوعني ومل ُترحل بعد‪.‬‬
‫�أوقفهما ممدوح وهو يرى زمرد تدلف بغ�ضب �شديد ومالمح الإعياء تبدو على‬
‫معك يا منرة»‪ ،‬هتفت زمرد‬ ‫وجهها‪ ،‬هم�س بداخله‪«:‬يبدو �أن املخدر مل يكن قو ًيا ِ‬
‫بغ�ضب‪«:‬ما الذي يحدث هنا؟!»‪� ،‬أجابها ممدوح بربود وهو ينظر لها بنظراته‬
‫الكريهة لها‪«:‬اختبار الكفاءة»‪� ،‬أجابته زمرد ب�صدمة‪«:‬لقد انتهى هذا االختبار‬
‫منذ زمن‪ ،‬و�أنت تعلم �أن ُغفران قد هددتك بعدم القيام به جمددًا‪ ،‬ومن وقتها ومل‬
‫يعد لهذا االختبار معنى»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫ابت�سم ممدوح ب�سخرية‪ُ «:‬غفران قد هددتني! مباذا ب�أن تخرب ال�شرطة �أن قد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫حدث باملنزل جرائم قتل»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ارتع�ش ج�سد زمرد للحظة ثم ا�ستعادت قوتها جمددًا‪«:‬ح�س ًنا �أنا �س�أت�صل بها‬

‫ع‬
‫و�أخربها وليحدث ما يحدث‪ ،‬لن �أ�سمح ب�أن تف�سد طفولتهما كما فعلت معنا»‪.‬‬
‫�ضحك ممدوح �ضحكته التي �أر�سلت ق�شعريرة بج�سد زمرد‪«:‬رحمة ال�صغرية‬
‫ظهرت لها �أنياب‪ ،‬هذه هي منرتي ال�شر�سة»‪ ،‬نظر ممدوح ل�سمر وخلود اللتني‬
‫تتابعان املوقف بانتباه‪ ،‬و�أ�شار لهما بر�أ�سه �أن ترحال فنفذتا �أمره على الفور‪.‬‬
‫ابتلعت زمرد ريقها ب�صعوبة وهي تلمح خروج خلود و�سمر‪ ،‬ثم اقرتبت ُم�سرعة‬
‫من �سهيلة حتاول م�ساعدتها للنهو�ض‪ ،‬ف�سقطت �سهيلة � ً‬
‫أر�ضا بينما ارتفع ج�سد زمرد‬
‫للأعلى‪ ،‬وممدوح يحملها بني ذراعيه‪ ،‬ف�أخذت تتلوى بج�سدها وهي ت�صرخ‪«:‬ابتعد‬
‫�أيها الوغد»‪ ،‬حتى ق ّيد ممدوح ج�سدها بج�سده وهو يل�صقها للحائط‪ ،‬فهم�س �أمام‬
‫بعينيك ما �سيحدث»‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�أذنها و�أنفا�سه تلفح وجهها‪«:‬اهدئي �أيتها النمرة‪ ،‬وتابعي‬
‫وقف ممدوح وجذب ج�سدها لتقف �أمامه بينما احدى يديه تقيد ذراعيها‪ ،‬واليد‬
‫الآخر جتد طريقها جل�سدها‪ ،‬ف�أخذت تتلوى بقوة وهي ت�شعر بالرعب يقتلع قلبها‪،‬‬
‫ولكن �شعرت �أنها تبعد حائط ب�شري عنها لقوة ممدوح و�ضخامة بنيته‪«:،‬تابعي‬
‫با�ستمتاع»‪.‬‬
‫‪211‬‬
‫�أ�شار بر�أ�سه خلديجة لتكمل ما كانت تفعله ف�أخذت تقاتل �سهيلة التي مل يعد‬
‫يف ج�سدها مكان �سلي ًما من الكدمات‪ ،‬فكانت �سهيلة تقاتلها ب�ضعف بينما تتل ّقى‬
‫العديد والعديد من ال�ضربات‪ ،‬دمعت عني زمرد وهي جتاهد ب�أن تبعد يد ممدوح‬
‫عنها‪ ،‬وهي ترى قرب نهاية �سهيلة‪�«:‬أرجوك توقف‪� ،‬أتو�سل � ِ‬
‫إليك دعني �أنا �أكمل‬
‫بدل منها‪� ،‬أرجوك �ستقتلها‪� ،‬سهيلة لي�ست ُم�ستعدة بعد‪ ،‬خديجة لها خربة مثلنا‬ ‫ً‬
‫دعني �أقاتلها»‪.‬‬
‫«توقفي»‪� ،‬صدح �صوت ممدوح يف احلظرية فتوقفت قب�ضة خديجة وهي على‬
‫بعد �إن�شات من وجه �سهيلة‪ ،‬ف�ألقت بها على الأر�ض وهي تلهث‪ ،‬بينما كان ج�سد‬
‫�سهيلة �ساكنا بال حراك‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫هم�س ممدوح لأذن زمرد‪�«:‬س�أ�ستمتع مب�شاهدة منرتي وهي تغرز �أنيابها»‪،‬‬

‫الكت‬
‫ترك ذراعيها و�أبعدها عنه‪ ،‬وهو يقرتب من خديجة وينظر جل�سدها‪«:‬التقطي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫فغرميتك قد تغريت»‪ ،‬نظرت خديجة بكر ٍه لزمرد‪ ،‬ثم اقرتبت من ج�سد‬ ‫ِ‬ ‫أنفا�سك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�‬

‫توزيع‬
‫�سهيلة و�ضربتها بقدمها يف معدتها ثم ب�صقت عليها‪ ،‬وابتعدت لتم�سح �آثار دماء‬
‫�سهيلة من على يدها‪ ،‬هرعت زمرد ل�سهيلة وهي حتت�ضن ج�سدها اله�ش وتهم�س لها‬
‫أعدك»‪.‬‬
‫بحنان‪«:‬اهدئي يا �صغرية كل �شيء �سيكون على ما يرام � ِ‬
‫رفعت زمرد ج�سدها ال�ضئيل و�أ�سندتها حتى و�ضعتها على �أكوام من التنب التي‬
‫كانت موجودة يف جانب من احلظرية‪ ،‬وعادت لتقف جمددًا �أمام خديجة‪ ،‬فنظرت‬
‫لها ثم نظرت ملمدوح الذي يتابعهما بنظراته القذرة‪ ،‬ف�أعادت �أنظارها جمددًا لها‬
‫وهي تهم�س لها‪�«:‬أرجوك خديجة دعينا ال نفعل هذا‪ِ � ،‬‬
‫أنت تعلمني ماذا تكون النهاية‬
‫�أرجوك لنمتنع كالنا» �ضحكت خديجة ب�سخرية وهي جتيبها‪«:‬هل تخ�شني املوت؟!‬
‫�صغريتك بعد موتك؟!»‬
‫ِ‬ ‫�أم تخ�شني على‬
‫«هل �سنق�ضي ال�سهرة يف الرثثرة؟!» قاطع حديثهما ممدوح مع �إ�شارته لهما‬
‫بالبدء‪ ،‬ولكنه �أجرب زمرد على �أن تخلع معطفها‪ ،‬فنظرت له بكر ٍه وهي تخلعه لتغطي‬
‫به ج�سد �سهيلة وحتميها من الربد‪.‬‬
‫كان القتال عني ًفا بينهما‪ ،‬خديجة بج�سدها ال�ضخم �ضد ج�سد زمرد النحيف‬
‫الذي �أ�صابته الإنفلونزا بالقليل من الإجهاد‪ ،‬ولكنها مل تخ�سر كل قوتها وما تد ّربته‬
‫‪212‬‬
‫على يد ُغفران‪ ،‬كان ممدوح يتابعهما بتلذذ حتى و�صل النزال لنهايته وزمرد تدفع‬
‫بج�سد خديجة على الأر�ض وتكيل لوجهها املكدوم لكمة قوية خارت بها قواها‪،‬‬
‫فوقعت بج�سدها فوق ج�سد خديجة ال�ساكن على الأر�ض‪.‬‬
‫�أخذت زمرد تلهث بقوة وازداد �سعالها بينما نزيف عينيها ال يتوقف‪ ،‬نه�ضت‬
‫ب�ضعف وهي تنظر جل�سد خديجة ب�أمل‪ ،‬رفعت ُك ّم منامتها وم�سحت به دماء �أنفها‬
‫ومل�ست على عينيها لتوقف نزيفها‪� ،‬شهقت برعب وهي ت�شعر بج�سد ممدوح يلت�صق‬
‫بج�سدها بعنف من اخللف‪ ،‬وهو ي�ضع بكفها ال�سالح ويهم�س ب�أنفا�سه الالهثة‪«:‬هيا‬
‫�أن ِه عملك»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫هزت زمرد ر�أ�سها بالرف�ض وهي تبعد وجهها عن �أنفا�سه‪�«:‬أنا لن �أقتل جمددًا»‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ابتعد ممدوح عنها وقد �ضاع انت�شا�ؤه ونظر لها بربود وحتدث بهدوء خميف‪«:‬ح�سنا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ال تفعلي»‪ ،‬ليقرتب يف نف�س اللحظة من ج�سد �سهيلة ورفع ال�سالح‪ ،‬م�شريا به �إىل‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ج�سدها‪ ،‬ف�صرخت زمرد‪«:‬ال‪� ..‬أرجوك ال»‪.‬‬

‫ع‬
‫خيارك»‪ ،‬ارتع�ش‬
‫ِ‬ ‫ابت�سم ممدوح وهو ينظر ملنحنيات ج�سدها ب�شهوة‪«:‬هذا‬
‫ذقن زمرد و�ضمت �شفتيها لتمنع بكاءها وهي ت�س�أله بكر ٍه‪«:‬ما الذي �ست�ستفيده؟!»‬
‫اقرتب ممدوح منها وهو يهم�س �أمام وجهها‪«:‬لذة القتل بني الإخوة ال مثيل لها‪ ،‬كما‬
‫�أن ال �أحد يرغب يف ب�ضاعة فا�سدة»‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيها عن كم الكره واحلقد الذي ي�شع من عينيه فهدر ب�صوته‪«:‬الوقت‬
‫ينفذ يا منرتي»‪.‬‬
‫حملت زمرد ال�سالح بيديها ونظرت له للحظات كانت كفيلة ليتحرك ممدوح‬
‫بعيدً ا عنها فرفعت �سالحها له وهي تنظر له بغ�ضب‪«:‬لن �أقتلها‪ ،‬و�إن كانت هناك‬
‫ب�ضاعة فا�سدة فهي �أنت �أيها الوغد»‪� ،‬ضحك ممدوح بقوة و�صدى �ضحكاته يتخ ّلل‬
‫هواء احلظرية‪ ،‬وبعد �أن هد�أت �ضحكاته‪ ،‬نظر لها ب�إعجاب وا�ضح‪�«:‬أعلم �أن هناك‬
‫بداخلك‪ ،‬فقط يف انتظار �أحدهم �أن يخرجه‪ ،‬و�أنا على ا�ستعداد تام‬
‫ِ‬ ‫�ش ًرا رائ ًعا‬
‫لإخراجه»‪.‬‬
‫‪213‬‬
‫ارتع�ش ال�سالح بيد زمرد وهي تلمحه يرفع ج�سد �سهيلة �أمامه و�سكينته املو�ضوعة‬
‫جرحا كب ًريا‪.‬‬
‫على رقبتها قد �أحدثت ً‬
‫انهمرت دموع زمرد وهي ترى نف�سها عاجزة �أمامه‪ ،‬فتحدث ب�سخرية‪«:‬ال‪ ،‬ال‬
‫لك‪� ،‬أنا �أفهم جيدا كيف تفكرين‪� ،‬أال ترى كيف‬ ‫جمال للدموع منرتي‪� ،‬أال ترين ال مفر ِ‬
‫�أ�ستطيع قراءتك ب�سهولة‪ ،‬والآن �س�أعد لثالثة‪ ،‬و�أريد �أن �أرى جثة �أمامي‪� ،‬إما خديجة‬
‫�أو �سهيلة فاختاري»‪.‬‬
‫«واحد اثنان ثالثة» وكان �صدى �صوت الر�صا�صة يدوي يف احلظرية يخفيه‬
‫�أ�صوات الرعد بال�سماء و�أنوار الربق ال�ساطعة‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سقط ال�سالح من يد زمرد وهي تنظر جل�سد خديجة ال�ساكن وهي تعلم �أن‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�سكونه لي�س �إال �سكون املوتى‪ ،‬مرت دقيقة فاثنتان فثالث‪ ،‬وملحت �سمر وخلود‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫حتمالن ج�سد خديجة لإحدى الغرف املُغلقة‪ ،‬فرفعت �أنظارها لتلمح ذلك الطبيب‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫الذي تعرفه جيدا وتعرف غر�ضه‪ ،‬ف�أغم�ضت عينيها وهي ترى باب الغرفة ُيغلق على‬
‫ج�سد خديجة مع الطبيب‪.‬‬
‫«والآن االختبار الثاين» التفتت زمرد ب�صدمة ل�صوت ممدوح وهي تراه يرفع‬
‫ج�سد �سهيلة جمددًا بينما هذه املرة �سالحه بيديه و ُموجها لر�أ�سها فهتفت غري‬
‫ُم�صدقة‪«:‬عن �أي اختبار تتحدث! لقد انتهى الأمر»‪ ،‬حتدث ممدوح بعينني زائغتني‬
‫وهو ينظر جل�سدها‪«:‬ينتهي الأمر حينما �أقول �أنا»‪ ،‬هم�ست زمرد‪«:‬ما الذي!»‬
‫أريدك مقابل حياتها»‪.‬‬
‫قاطعها قبل �أن تكمل‪ِ �«:‬‬
‫‪M‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫تذ ّكرت تلك اجلملة التي كانت تقولها ليلى دائما‪�«:‬أنت ال ت�ستطيع ك�سر �شيء قد‬
‫مت ك�سره من قبل» ملاذا �إذا ت�شعر بكل تلك الآالم؟!‬
‫يتابعها بعينيه وهي حتاول جاهدة ادعاء الثبات‪ ،‬عيناها على باب املكتب منذ‬
‫�أن فاقت من �إغماءتها‪ ،‬و�أخذت تتحدث به�ستريية عن هذا امللف الذي يخ�ص ق�ضية‬
‫‪214‬‬
‫قدمية يتابعها �أحد زمالئه‪ ،‬وعندما �أخربها ب�أن الق�ضية على و�شك �أن ُتقيد �ضد‬
‫جمهول بعد �إعادة فتح التحقيق فيها للمرة الثانية لعدم وجود �أدلة‪ ،‬وقد �أ�صرت على‬
‫الذهاب فو ًرا للمحقق امل�س�ؤول عن الق�ضية‪ ،‬ها هي تت�شبث بحقيبتها وهي جال�سة‬
‫على الكر�سي ك�أنها طوق جناة لها‪ ،‬اهتزاز حدقيتي عينيها يف�ضح توترها ال�شديد �أو‬
‫بالأدق خوفها! ال ي�ستطيع �أن ين�سى ما قالته قبل �إغمائها‪ ،‬لكنه ال يفهم معنى جملتها‬
‫ويخ�شى �أن يفهم‪ ،‬قاطع تفكريه طرق الباب ثم دخول �صديقه املحقق بالق�ضية‪.‬‬
‫بادر حممد املُنده�ش بال�سالم على يامن‪ ،‬وهو ينقل نظراته بينه وبني تلك التي‬
‫انتف�ضت من مكانها وقت دخوله املكتب‪«:‬م�ساء اخلري يامن‪ ،‬عذرا كان لدي حتقيق‬
‫لذا ت�أخرت عليك‪� ،‬أخربين الع�سكري �أنك تريديني يف �أمر مهم»‪� ،‬أجابه يامن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بهدوء‪«:‬عذ ًرا على تعطيلك‪ ،‬ولكن بالفعل الأمر مهم»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�أخرج يامن امللف الذي بيديه و�أعطاه ملحمد وهو يكمل‪«:‬لقد تركت هذا امللف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يف مكتبي وقت م�أموريتنا الأخرية حينما كنت تدر�سه يف مكتبي»‪ ،‬نظر حممد‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫با�ستغراب للملف وهو يجل�س على كر�سيه‪ ،‬ثم حلظات و�أعطى يامن كل انتباهه وهو‬
‫ي�شعر �أن هناك �أم ًرا ما يخ�ص ق�ضيته‪ ،‬فلم يخيب يامن ظنه وهو يكمل‪�«:‬أظن �أن‬
‫ابنة عمي تعرف ال�ضحية»‪.‬‬
‫نقل حممد نظره �سريعا لتلك املر�أة التي مل تهتف ب�شيء منذ دخوله بينما �شحوب‬
‫وجهها يوحي له مبدى خوفها فبادر ب�س�ؤالها‪«:‬هل تعرفني من تكون؟!» �أجبته زمرد‬
‫وهي ت�شعر ب�أن روحها ُمع ّلقة ب�إجابة �س�ؤالها‪«:‬كيف ماتت؟!»‬
‫�ساد ال�صمت للحظات وكل من يامن وحممد يتابع �شحوب وجهها‪ ،‬فقطع‬
‫حممد ال�صمت يتحدث بهدوء‪«:‬لقد ماتت �إثر �أزمة قلبية من �شدة الهلع بعد �أن‬
‫مت اغت�صابها»‪.‬‬
‫ات�سعت عيناها ب�صدمة‪ ،‬و�شعرت ك�أن الهواء املحيط بها غري �صالح للتنف�س‪،‬‬
‫�شعرت ك�أنها تختنق فرفعت كفها لتحيط به عنقها وهي حتاول �أخذ �شهيق يتبعه‬
‫زفري‪ ،‬ولكن ال �شيء‪ ،‬ال �شيء‪� ،‬شعرت مبلم�س كف يامن وهو يربت على ظهرها‬
‫بحنان ويجل�س على الكر�سي بجوارها‪ ،‬فرفعت عينيها تنظر �إليه با�ستغراب‪ ،‬وهي‬
‫‪215‬‬
‫تلمح �شفتيه تتحركان‪ ،‬يبدو �أنه يقول �شيء ولكن �صوته ال ي�صل �إليها‪ ،‬ال ت�سمع‬
‫�سوى �صفري حاد يتخلله �صوت �ضحكات رقيقة تعلم جيدً ا �صاحبتها �سهيلة‪� ،‬أختها‬
‫و�صديقتها وابنتها‪.‬‬
‫«تنف�سي زمرد‪ ..‬تنف�سي»‬
‫�صوت يامن تخ ّلل لكل تلك الأ�صوات‪ ،‬يطلب منها التن ّف�س‪� ،‬شهقت بعنف والهواء‬
‫ي�ضرب رئتيها بقوة‪ ،‬فتم�سكت بكف يده الآخر بقوة ودموعها تت�ساقط دون وعي‬
‫منها‪.‬‬
‫أنت بخري الآن»‪.‬‬
‫أح�سنت‪ ،‬نعم هكذا تنف�سي � ِ‬ ‫«� ِ‬
‫أح�سنت‪ِ � ،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أخذ يامن يتحدث بقلق وهو ي�أخذ كوب املاء من حممد ويعطيه لها‪«:‬ا�شربي‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫قليل عزيزتي»‪.‬‬
‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫مل تنتبه مبا ناداها بينما قرب الكوب من فمها لع ّلها متلأ حلقها ببع�ض القطرات‬

‫توزيع‬
‫وهو ي�شعر بتيهها و�صدرها يعلو ويهبط من قوة تن ّف�سها‪ ،‬ابتلعت القليل ثم �أبعدت‬
‫ر�أ�سها عن الكوب وهي تنظر جمددًا ملحمد‪ ،‬و�ساد ال�صمت للحظات وهي تقول‪�«:‬أنا‬
‫�أعرف قاتلها‪� ،‬أعرف َمن اغت�صبها‪� ،‬س�أخربك كل �شيء‪ ،‬هذه الق�ضية مل تعد �ضد‬
‫جمهول»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت جمددًا وحممد يحاول �أن يدر�س حالتها‪ ،‬وهو ال ي�صدق حتى الآن‬
‫ال�صدفة التي جعلته يرتك امللف بغرفة يامن الآمنة ليجد �أخ ًريا حل الق�ضية التي مت‬
‫فتحها مرتني ومل ي�صل �أحد ل�شيء بها‪.‬‬
‫ميكنك �أن ترتاحي ً‬
‫قليل‪ ،‬و�سنبد�أ التحقيق‬ ‫تنحنح حممد وحتدث بهدوء‪ِ «:‬‬
‫وكتابة املح�ضر بعد ع�شر دقائق‪ ،‬اعذروين لدقيقة»‪ ،‬نه�ض حممد وكاد يخرج من‬
‫الغرفة حتى ا�ستوقفته ب�صوتها املُهتز‪«:‬من ف�ضلك �أريد �أن يتم التحقيق دون ح�ضور‬
‫املُق ّدم يامن»‪.‬‬
‫نظرا لها بده�شة وهي تتابع بينما �أ�سبلت �أهدابها عن عني الذي يجل�س‬
‫بجوارها‪«:‬هذا هو �شرطي لإبالغك بهوية القاتل»‪ ،‬هز حممد ر�أ�سه من دون قول‬
‫‪216‬‬
‫�شيء‪ ،‬ثم حترك للخارج‪ ،‬نه�ض يامن من جوارها وهو ينظر لها بقوة يتابعها بعينيه‪،‬‬
‫كيف تلملم �شتات نف�سها ومت�سح دموعها وحتاول ال�سيطرة على م�شاعرها‪ ،‬مانع ًة‬
‫نف�سها بقوة من االنهيار فتحدث بغ�صب مكتوم‪«:‬هل تظنني بعدم وجودي لن �أعلم‬
‫ما حدث‪� ،‬أنني لن �أعلم ماذا ُكتب يف املح�ضر؟!»‬
‫�أجابته بهدوئها وهي تدخل جمددًا لتلك القوقعة ال�سخيفة التي ت�سجن نف�سها‬
‫فيها فال تظهر �أي من م�شاعرها مما يزيد من غ�ضبه‪«:‬ميكنك �أن تعرف من �أي‬
‫�شخ�ص عما حدث‪ ،‬ولكن لن �أكون �أنا هذا ال�شخ�ص»‪ ،‬قاطع حديثها وهو يهتف‬
‫بغ�ضب‪«:‬وما الفرق؟!»‪ ،‬رفعت عينيها له وملحة �أمل مرت بعينيها التقطها هو‬
‫بو�ضوح قبل �أن متحيها فه ّد�أت من غ�ضبه وهي جتيبه‪«:‬لأنني ال �أريد �أي نظرات‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�شفقة منك‪ ،‬لن �أحت ّملها �أق�سم لك»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫مل يجبها يامن ب�شيء وهو يلمحها ت�سبل �أهدابها‪ ،‬ودمعتان ت�سطران �آالمها على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫وجنتيها‪ ،‬لت�صل لقلبه �آالمها ُم�ضاعفة‪ ،‬كيف تكون بهذا اخلليط املُذهل‪ ،‬كيف تكون‬

‫ع‬
‫بهذه القوة وهي �أكرث من ه�شة بداخلها؟! كيف لها بكل هذه الكربياء وهي؟! ا�ستغفر‬
‫يف �سره وتوجه لباب املكتب وهو يجيبها‪«:‬كما ت�شائني‪ ،‬ولكنني لن �أرحل من هنا‬
‫إغمائك»‪.‬‬
‫عالقتك بال�ضحية وما معنى ما قل ِته قبل � ِ‬
‫ِ‬ ‫اليوم دون �أن �أعرف‬

‫‪M‬‬

‫‪217‬‬
‫و�شعرت ب�أن يف روحي ثق ًبا‪ ،‬ثق ًبا يت�سع وميت�ص كل ذكرياتي‬
‫وحياتي و�أحالمي‪ ،‬وددت لو كان �شخ�ص �أعرفه بقربي �أحكي له‬
‫كل �شيء �أق�ص عليه حكاية الثقب‬

‫�أحمد خالد توفيق‬


‫مرت �ساعة وهي حتاول �أن ت�ستوعب ما قاله املحقق‪«:‬لقد وجدناها مدفونة‬
‫حتت �أر�ض �صحراوية‪ ،‬كان هناك العديد من الكدمات والغرز بج�سدها‪ ،‬ت�شريح‬
‫جثتها �أثبت �أن وريدً ا بالأنف انفجر‪� ،‬أي �أن قلبها كان يتحرك حني �أخرجوا عينيها‪،‬‬
‫والطب ال�شرعي �أظهر انتها ًكا يف �أجهزتها التنا�سلية ك�شف عملية االغت�صاب‪ ،‬دفنها‬
‫وعثورنا عليها بعد �أيام مل ي�ساعدانا يف �إيجاد املجرم احلقيقي‪� ،‬أفراد الع�صابة‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫التي �ألقينا القب�ض عليهم كانوا يحفرون بالقرب من مكانها‪ ،‬ك�أنهم على علم‬

‫الكت‬
‫بوجودها‪ ،‬فدورهم يقت�صر على �إلقاء جثتها بالبحر‪ ،‬ولكن يبدو �أن ُمططهم قد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ف�سد بقدومنا»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫ماذا ميكن �أن يحدث �أ�سو�أ من هذا؟! هل هناك نهاية لهذا الأمل؟! هل تلك‬
‫الغ�صة التي تخنقها الآن �سرتحل يوما؟! �أم �أ�صبح وجودها من امل�س ّلمات‪ ،‬ك�أن من‬
‫الطبيعي �أن تختنق‪ ،‬من الطبيعي �أن تت�أمل!‬
‫�أغم�ضت عينيها وهي تتذ ّكر كم من املعلومات قد �سردتها للمحقق‪� ،‬أخربته كل‬
‫�شيء‪ ،‬بالإ�ضافة ملا يعرفه عن ممدوح‪� ،‬أخربته عن االتفاق الذي و�ضعته معه من‬
‫�أجل احلفاظ على �سهيلة‪� ،‬أخربته �أنها �ضحت بالكثري من �أجل بقائها على قيد‬
‫احلياة‪ ،‬ب�أنها كانت على علم برحيلها عن املزرعة‪ ،‬وكانت تعي �أنها تكمل درا�ستها‬
‫يف بلد �آخر‪� ،‬أخربته عن ات�صالها بها واطمئنانها عليها‪� ،‬إذا كانت �سهيلة قد ماتت‬
‫منذ �سنتني‪� ،‬إذا من تلك التي حتدثت معها! ليجيبها ب�أن هناك الكثري من الربامج‬
‫التي ت�سجل الأ�صوات‪ ،‬ويبدو �أن ممدوح قد �سجل لها من قبل و�أخذ حذره‪ ،‬فت�أكدت‬
‫من هذه وهي تتذكر �إ�صراره الدائم على التواجد يف كل مكاملة‪.‬‬
‫�أخرجها من �أفكارها طرق على الباب‪ ،‬لتفتح عينيها وهي تعي �أنها ما زالت‬
‫مبكتب املُحقق الذي خرج من املكتب منذ مدة‪ ،‬ملحت يامن يقف �أمام الباب يد ّقق‬
‫‪220‬‬
‫يف تعبريات وجهها‪ ،‬نظرت للأر�ض وهي حتاول �أن تتما�سك حتى تعود للمنزل‪ ،‬يا‬
‫�إلهي كم حتتاج للعودة ل�سريرها الآن والبكاء فقط البكاء‪.‬‬
‫«�س�أعيدك للمنزل �أوال ثم �س�أعود ليجيبني النقيب حممد عن �أ�سئلتي»‪.‬‬
‫هل عاد هذا مهما لها؟! ال مل يعد مه ًما �إن عرف يامن احلقيقة �أو ال‪ ،‬مل يعد �أي‬
‫�شيء مه ًما بعد �أن ماتت �سهيلة‪ ،‬ارجتف ج�سدها فنه�ضت ببطء من على الكر�سي‬
‫ثقل كب ًريا يقيد حركتها‪ ،‬ت�شعر بنف�سها تختنق‪ ،‬تريد �أن تخرج من‬ ‫وهي ت�شعر ب�أن ً‬
‫هنا‪ ،‬تريد �أن ترحل‪.‬‬
‫‪M‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫منزل زمرد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أخذت تنظر للظالم من حولها‪ ،‬ظالم ي�شبه الذي اعرتى روحها‪ ،‬خواء بالقلب‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫والروح‪� ،‬صورة ت�أبى �أن تفارق خيالها‪� ،‬صورة �أخذت تدعو �أن ي�ستبدل بها اهلل �صورة‬

‫ع‬
‫�أخرى �أف�ضل‪ ،‬هي تريد �صورة �سهيلة ال�ضاحكة‪ ،‬ال �سهيلة التي ملأ وجهها وج�سدها‬
‫طويل زفرته بخفوت وهي تغم�ض عينيها‪ ،‬ال ت�شعر ب�أي‬ ‫الغرز ال�سوداء‪� ،‬أخذت نف�سا ً‬
‫�شيء حولها‪ ،‬ع�شرة �أيام مكثتها يف غرفتها‪ ،‬ال تريد ر�ؤية �أحد‪ ،‬والدتها قلقة عليها‬
‫وهي تدلف لغرفتها كل م�ساء جتل�س بجوارها على ال�سرير وتقر�أ لها القر�آن‪ ،‬تعلم‬
‫�أن ادعاءها النوم هو الذي ي�سمح لوالدتها باجللو�س بجوارها واالطمئنان عليها‪،‬‬
‫فتتل ّم�س منها دف ًئا حتتاجه و�أما ًنا ُتفت�ش عنه‪ ،‬ما زالت والدتها ت�شعر بالأمل بعد ما‬
‫عرفته عن ابنتها التي ف ّرطت يف �شرفها‪ ،‬ترى ماذا �ستفعل �إن علمت �أ�سباب ابنتها‬
‫لذلك‪ ،‬ولكن ما عاد هذا مهما‪.‬‬
‫غ�صة �أمل تقب�ض على قلبها كل فرتة و�أخرى �سببها غياب يامن املُ�ستمر عن‬
‫املنزل‪ ،‬منذ �أن �أو�صلها للمنزل ذلك اليوم دون قول �شيء ليعود لل ُمحقق وهي مل‬
‫تره‪ ،‬وت�سا�ؤلها الدائم ترى هل عرف احلقيقة؟! هل لهذا مل يعد للمنزل؟! �أيخ�شى‬
‫مواجهتها؟!‬
‫‪221‬‬
‫تنهدت بخفوت وهي ت�شعر بال�صداع يداهم ر�أ�سها بقوة‪ ،‬ا�ستدارت لتبحث عن‬
‫�أي ُم�سكن فوجدته على طاولة املكتب‪ ،‬ولكن ل�سوء حظها ال توجد مياه‪ ،‬اجتهت لباب‬
‫الغرفة وخرجت لتتجه للمطبخ‪ ،‬ملحت نور احلديقة ُم�ضاء وو�صل لأ�سماعها �صوت‬
‫مكتوم يف اخلارج‪ ،‬ا�ستغربت وجود �أحدهم ُم�ستيقظا حتى الآن وقد انت�صف الليل‬
‫منذ �ساعة‪.‬‬
‫اقرتبت من الباب لرتى من باخلارج‪ ،‬لتتفاج�أ بيامن وهو يجل�س على �أحد‬
‫الكرا�سي يخفي وجهه بني كفيه‪.‬‬
‫خفق قلبها بقوة ملر�آه هكذا‪ ،‬مرت دقيقة لتتبعها الأخرى وهو ال يتحرك‪ ،‬فانتابها‬

‫ع‬
‫القلق‪ ،‬غطت �شعرها بحجابها و�أحاطت ج�سدها ب�شالها اخلفيف‪ ،‬ثم خرجت من‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫املنزل‪ ،‬اقرتبت من مكانه وهي تراه على نف�س و�ضعه‪ ،‬حتى و�صلت قريبة منه‪ ،‬ملحت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ثيابه غري املرتبة‪ ،‬ف�أدركت �أنه باخلارج منذ فرتة‪� ،‬أخذت تتل ّفت حولها لرتى �إن‬

‫شر وال‬
‫كان هناك �أحد ُم�ستيقظ من �أهل البيت فلم تلمح �أحدً ا‪ ،‬تنهدت بخفوت وهي تعيد‬

‫توزيع‬
‫�أنظارها �إليه ف�شهقت وهي ترتاجع خطوة للخلف وهي ترى عيون يامن ُم�سلطة عليها‬
‫بقوة‪� ،‬أخذت تهدئ من تن ّف�سها ال�سريع‪ ،‬ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تلمحه يقف‬
‫بطوله الفارع �أمامها ويبدو من هيئة مالب�سه غري املُهندمة وحليته النابتة واحمرار‬
‫كاف من الراحة‪� ،‬شعرت بت�ش ّنج ج�سده ب�أكمله‬
‫عينيه �أنه ُمتعب‪� ،‬أنه مل يحظ بق�سط ٍ‬
‫وهو ي�ضم قب�ضته بجواره ك�أنه مينع غ�ضبه من الظهور!‬
‫«هل �أنت بخري!؟» هم�ست ب�س�ؤالها وهي ت�شعر مبدى غبائها ب�أنه لي�س بوقته‬
‫ال�صحيح وهو ينظر لها بجمود‪ ،‬رم�شت بعينيها وهي ت�ست�شعر برودة غريبة باجلو‪،‬‬
‫ف�أكملت بهدوء‪«:‬لقد ملحتك و�أنا يف املطبخ فظننت �أنك تريد �شيئا‪ ،‬ما الذي �أتى بك‬
‫يف هذا الوقت املت�أخر؟! هل كل �شيء على ما يرام؟!»‬
‫�صمت فقط‪� ،‬صمت يحيط بهيئته فتنهدت بتعب وهي ت�ست�شعر حالته غري‬ ‫ٌ‬
‫الطبيعية فهم�ست بتعب‪�«:‬أين كنت طوال تلك املدة؟!»‬
‫ملحة �أمل مرت يف عينيه �سري ًعا لي�سبل �أهدابه وينظر للأر�ض‪ ،‬قتله �س�ؤالها بهذا‬
‫ال�ضعف‪ ،‬كان يجاهد بقوة لكي ال يحفرها يف �صدره‪ ،‬يجاهد بقوة لكي ال ي�ؤذيها‬
‫‪222‬‬
‫بغ�ضبه‪ ،‬لكي ال يخطفها الآن ويبتعد بها بعيدً ا عن كل �شيء‪ ،‬ال يعلم َمل جاء الآن لها‪،‬‬
‫بدل من املرور باحلديقة اخللفية ملنزلهم‪ ،‬ال يعلم َمل كان ُمتيقنا‬ ‫َمل مل يدلف ملنزله ً‬
‫من وجودها يف انتظاره‪ ،‬ك�أنها كانت تعلم بقدومه �أو بالأدق ك�أنها كانت تنتظره!‬
‫�ألي�س هذا معنى �س�ؤالها الأخري؟!‬
‫ملحها وهي تبتعد خطوة وتهم�س بـ»ت�صبح على خري»‪ ،‬خطوة خطوتني باجتاه‬
‫ميكنك حت�ضري كوب من القهوة يل؟!»‬ ‫ِ‬ ‫الباب اخللفي للمطبخ حتى ناداها‪«:‬هل‬
‫توقفت مكانها وهي ُمتفاجئة بطلبه‪ ،‬فهم�ست دون �أن تلتف له‪«:‬ال �أحد ُم�ستيقظا‬
‫يف املنزل‪� ،‬أمي ورحاب نائمتان و‪ »...‬قاطعها ُم�سرعا‪«:‬فقط خلم�س دقائق �أتناول‬
‫فيها كوب القهوة‪� ،‬أنا يف حاجة �شديدة له»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أ�سبلت �أهدابها ثم حلظات وملحها وهي تهز ر�أ�سها باملوافقة وتتقدمه لباب‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫املطبخ‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫كان يتابعها بعينيه الناع�ستني وهي تعد القهوة بهدوء يح�سدها عليه‪ ،‬هذا‬

‫ع‬
‫الن�صل الذي بقلبه يتلوى بداخله؛ ي�ؤمله بقوة‪ ،‬يجعله يتمنى �أن ي�صرخ ب�أعلى �صوته‪،‬‬
‫ما عرفه من �أ�سبوع و�أكرث كان فوق احتماله‪ ،‬كان فوق قدرته على اال�ستمرار‪ ،‬ما‬
‫زال يتذ ّكر كيف تلقت �أذانه حديث حممد لتظلم الدنيا من حوله و�أمل ب�أعلى �صدره‬
‫انتابه جمددًا ولكن هذه املرة �أقوى‪ ،‬لي�ستيقظ بعدها يف امل�شفى والطبيب يخربه ب�أنه‬
‫تعر�ض لذبحة �صدرية‪ ،‬لكن مل ي�ستمع ملا كان الطبيب يتح ّدث به وال لتنبيهاته‪ ،‬مل‬
‫يخرب عائلته مبا حدث ليخربهم ُمربرا غيابه ب�أنه ُم�ضطر للبقاء يف العمل من �أجل‬
‫الق�ضية‪ ،‬كان ما زال حتت �صدمة ما �سمعه وما عرفه‪ ،‬تلك التي �أمامه الآن قد مت‬
‫اغت�صاب براءتها من �أجل �أن تنقذ �صديقتها‪ ،‬عانت ل�سنوات العتداءات ج�سدية من‬
‫�سبب وا ٍه‪ ،‬ظنا منها �أنها حتافظ على حياة �صديقتها التي اغتالها نف�س الرجل‬ ‫�أجل ٍ‬
‫الذي اغتال براءتها‪� ،‬أخذ يفكر كم عانت وهي مبفردها �أمام هذا الوغد‪ ،‬كم حت ّملت‬
‫وكم �صمدت �أمام الآخرين‪ ،‬كم ا�ستقبلت كلماته هو و�إهاناته لها منذ �أن وجدها‪ ،‬يا‬
‫�إلهي كم كان قا�سيا معها‪.‬‬
‫ارتع�شت بقوة وهي تراه ينظر لها ب�أمل ودموع ترتقرق بو�ضوح يف عينيه‪� ،‬أ�شاحت‬
‫بنظرها وهي ت�ضع كوب القهوة �أمامه بارجتاف فانتف�ضت وهي تراه مي�سك يديها‬

‫‪223‬‬
‫بقوة‪ ،‬يخفي وجهه بني كفيها وهو يتنهد بتعب‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها للم�سته و�أنفا�سه التي‬
‫ت�ضرب كفيها تثري بداخلها كل م�شاعر ال�ضعف ف�شعرت ب�أن �صمودها كل تلك الأيام‬
‫قد �أو�شك على النفاد‪ ،‬مل ت�ستطع �أن تبكي‪ ،‬حاولت بقوة بعد �أن عادت ذلك اليوم‬
‫وهي تظن �أنها �ستنفجر بالبكاء‪ ،‬لكنها مل ت�ستطع‪� ،‬شعرت ب�أن روحها ماتت يف تلك‬
‫اللحظة وهي ال تقوى على ذرف دمعة واحدة‪.‬‬
‫ارتع�شت �شفتاها وهي ت�ضمهما بقوة‪ ،‬متنع نف�سها عن البكاء‪ ،‬عن االنهيار الآن‬
‫وهي تراه يتل ّم�س بوجهه كفيها كطفل �صغري ي�شتاق حلنان �أمه‪� ،‬شهقة مل ت�ستطع‬
‫كتمها لتنفجر بعدها بالبكاء‪� ،‬أغم�ضت عينيها بقوة ودموعها تنهمر تغرق وجنتيها‪،‬‬
‫تبكي �آالمها‪� ،‬أوجاعها‪ ،‬تبكي براءة ُمغت�صبة‪ ،‬تبكي روحها املُنك�سرة‪ ،‬تبكي فقد‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫�صديقة وابنة‪ ،‬تبكي اغتيال براءتها هي الأخرى‪ ،‬كلما تتذكر كيف عانت �صغريتها‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫كيف �شعرت وهي حتت �أيديهم‪ ،‬كيف ماتت من الهلع وهي تعي ما يفعلونه بها‪ ،‬كيف‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫�شعرت وهي حتت يد الطبيب الذي �أخذ عينيها قبل �أن ي�أخذ كبدها وكليتها وقلبها‬

‫توزيع‬
‫فتتوجع �أ�ضعاف وجعها‪ ،‬حاولت جذب كفيها من بني يديه ولكنه مل ي�سمح لها وهو‬ ‫ّ‬
‫يتابعها ب�أمل‪ ،‬لينه�ض ببطء ويجذبها لأح�ضانه من دون �أي مقدمات‪� ،‬شعر بت�ش ّنج‬
‫ج�سدها فربت بكفيه على ظهرها بحنان وهو يهم�س بوجع بالقرب من �أذنيها‪ِ «:‬‬
‫ابك‬
‫ابك‬
‫�شجاعتك‪ِ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ابك‬ ‫آالمك و�آالمي‪ ،‬ابكي ُط ِ‬
‫هرك‪ِ ،‬‬ ‫ابك � ِ‬
‫فقدك‪ِ ،‬‬
‫ابك ِ‬ ‫وجعك ووجعي‪ِ ،‬‬
‫ِ‬
‫يا حبيبتي»‪.‬‬
‫لتتعاىل �شهقات بكائها ويرتع�ش ج�سدها من قوة انهيارها بني ذراعيه‪ ،‬دقائق‬
‫وقد حت ّولت �شهقاتها لن�شيج مكتوم حتى ملح ج�سدها يرتخي بني ذراعيه‪ ،‬ليعلم �أنها‬
‫هربت جمددًا من عاملها القا�سي مغ�شيا عليها‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫يف انتظار النقيب �سامي‪ ،‬جل�ست ُغفران تف ّكر بهدوء فيما حدث‪ ،‬لقد ات�صل‬
‫بها �آ�سر وهي باجتماع مع اللواء‪ ،‬هو ات�صل باللواء نظ ًرا لأنه ال يعرف رقمها‪،‬‬
‫تذ ّكرت حديثه عن �أمرية وتطور حالتها وقبولها �إياه‪� ،‬أراد �أن ي�س�ألها عن �أ�سئلة‬
‫‪224‬‬
‫معينة بخ�صو�ص املا�ضي‪ ،‬ف�أخربته وهي م�ستغربة تلك الأ�سئلة‪ ،‬خا�صة لتفهم فيما‬
‫بعد �أنها وتوءمها �أكرث من جمرد توءم‪ ،‬فلديهما ذلك التوا�صل الذي يربطهما م ًعا‪،‬‬
‫حانت منها ابت�سامة وهي تفكر �أنه لطاملا كانت الغرابة مت�صلة ب�أمرية وحياتها‪،‬‬
‫ولكن �ألي�ست مت�صلة بحياتهم جمي ًعا‪� ،‬آ�سر دائما ما ي�شعرها بالتوتر‪ ،‬تذ ّكرت نهاية‬
‫احلديث وهي حتاول �أن متنحه الإجابات التي يحتاجها لكي تنهي االت�صال بعدها‬
‫بنف�سك ُغفران»‬
‫ِ‬ ‫لت�شعر بتلك الآالم املتفرقة يف معدتها وهي ت�سمعه يقول‪«:‬اهتمي‬
‫جملة من ثالث كلمات �أثارت زوبعة داخلها‪ ،‬ليكمل عليها وهو يقول‪�«:‬أمتنى ر� ِ‬
‫ؤيتك‬
‫قري ًبا»‪.‬‬
‫تنف�ست ب�ضيق وهي تتذكر �آخر لقاء كان بينهما و�إنقاذه حياتها‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫للحظة وهي تتذكر الفيديو الذي �أخذوه من كامريات املراقبة حول املركز‪ ،‬لقد‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫حاول احلقري تخديرها‪ ،‬وقد ار�سل باجتاهها �سمر وخلود لتحمالنها بعد التخدير‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫يوما الو�صول‬
‫وفور �أن ملحتا �آ�سر ابتعدتا عنها على الفور‪� ،‬سمر وخلود مل ت�ستطع ً‬

‫والتوزي‬
‫لدواخلهما‪ ،‬حاولت مع خلود‪ ،‬لكن �سمر كانت تت�ش ّرب كل �شيء من ممدوح وبعدها‬

‫ع‬
‫تف�سد كل ما حتاوله مع خلود‪ ،‬لقد كانتا معها منذ �أيام الكهف‪� ،‬أول الفتيات التي‬
‫التحقن بالع�صابة‪ ،‬تن ّف�ست بهدوء حتاول �أن تبعد ذكريات ذلك املكان عنه‪ ،‬وهي‬
‫تفكر يف فعلة ممدوح‪ ،‬تكره �أن تعرتف �أنه لوال وجود �آ�سر لأ�صبحت الآن بني يديه‪،‬‬
‫هي مل تخف من اختطافه لها بل خافت من عجزها �أثناء اختطافه لها‪ ،‬الوغد مل‬
‫يوما عادال يف �أمور القتال‪ ،‬يجيد اخلداع ب�سهولة‪.‬‬
‫يكن ً‬
‫عادت القوات برئا�سة النقيب �سامي الذي دخل ُمكفهر الوجه ليخلع �سرتته وهو‬
‫يبعد عينيه عنها ويجل�س على كر�سيه لت�س�أله دون مقدمات‪�«:‬إذا؟!»‬
‫حت ّدث ب�ضيق وهو يعلم �أنها لن تتوانى عن معرفة احلقيقة‪«:‬لقد ذهبنا للمكان‬
‫ُغفران‪ ،‬لقد وجدنا خلود غارقة بدمائها بعد �أن قطعت �شرايينها تاركة ِ‬
‫لك هذه‬
‫الر�سالة»‪.‬‬
‫�أتبع كالمه وهو ميد يديه بالر�سالة املحفوظة يف كي�س الأدلة‪ ،‬لتنقل عينيها بينه‬
‫وبني الر�سالة بجمود‪ ،‬ثم حلظات والتقطت الر�سالة لتقر�أ ما �سطر بها‪�«:‬أعلم ب� ِ‬
‫أنك‬
‫أي�ضا لن �أفعل‪ ،‬لقد �سمعته يخربين باحلقيقة وهو ثمل‪،‬‬‫لن تقبلي مب�ساحمتي‪ ،‬ف�أنا � ً‬
‫‪225‬‬
‫لقد عرف والدي طوال تلك الفرتة ُغفران‪ ،‬عرفه جيدً ا لأنه من قتله‪ ،‬مل �أ�ستطع‬
‫ُغفران‪ ،‬تلك الأ�صوات تقتلني‪� ،‬أنا مل �أ�ستطع لقد �س ّلمت نف�سي ملن قتل والدي‪،‬‬
‫�أتظنينه �سي�ساحمني ُغفران‪� ،‬أتظنينه يقبل ر�ؤيتي ومقابلتي؟!»‪.‬‬
‫�أخرجها من جمودها �صوت �سامي وهو يقول لقد وجدنا �آثار خمدرات ومواد‬
‫ُمهدئة بغرفتها‪ ،‬حني �س�ألنا عنها اجلريان �أخربونا �أنها ت�أتي لل�شقة مرة �أو مرتني‬
‫كل �أ�سبوع‪ ،‬و�آخر فرتة ا�ستمرت على املداومة على ال�شقة لفرتة طويلة‪ ،‬والآن تلك‬
‫أي�ضا خرجت من يدي‪� ،‬س�ألته ُغفران با�ستغراب‪«:‬ما الذي تق�صده؟!»‬ ‫الق�ضية � ً‬
‫�أجابها ب�ضيق‪«:‬اللواء �سامح راغب لقد مت �إر�ساله �إلينا منذ فرتة‪ ،‬ا�ستلم ق�ضية‬
‫مقتل الطبيب وعائلته والآن تلك الق�ضية‪ ،‬اللواء ح�سني يتح ّرى خلفه الآن‪ ،‬فهذا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫الرجل �سمعته لي�ست نظيفة‪ ،‬ومما �أراه هو مياطل يف التحقيقات حتى ي�صل ملا يريد‪،‬‬

‫ب‬
‫�أ�ساليبه قذرة»‪� ،‬س�ألته ُغفران‪«:‬هل تظن �أن له عالقة مبمدوح؟!» �أجابه‪�«:‬أنا ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫�أظن ذلك‪ ،‬الرجل كان يف ال�صعيد مبكان �آخر بعيد عن ممدوح منذ �سنوات‪ ،‬ولكن‬

‫توزيع‬
‫هذا لي�س ر�أي اللواء ح�سني»‪� ،‬صمتت ُغفران تفكر يف الكالم ثم عادت بتفكريها‬
‫خللود لتقول‪�«:‬إنها من كانت تراقبني بعد احلادثة‪ ،‬هي من كان تو�صل له املعلومات‬
‫ال ه�ؤالء الرجال الذي �أوهمني بوجودهم‪ ،‬لكن يبدو �أن ممدوح كان على علم‬
‫بتوا�صلي مع ال�شرطة طوال كل تلك الفرتة‪ ،‬يبدو �أنه مل يثق كفاية بعمران‪ ،‬ال�س�ؤال‬
‫الآن ملاذا مل يت�صرف جتاه هذا الأمر؟» �صمت �سامي ليجيبها بتوتر‪«:‬لقد فعل وما‬
‫زال يفعل حتى وقتنا هذا»‪.‬‬
‫أرادك‬
‫طريقك الفتات الذي � ِ‬‫ِ‬ ‫نظرت له ُغفران با�ستغراب ليقول‪«:‬لقد �ألقى يف‬
‫يو�صلك لطريق يريدك هو فيه بعيدً ا عن الطريق الذي ر�سمه‬ ‫ِ‬ ‫�أن تتبعيه‪ ،‬فتات‬
‫لنف�سه»‪.‬‬
‫�أتبع حديثه مبلف �أخرجه من مكتبه وو�ضعه �أمام عينيها‪ ،‬لتفتح ُغفران امللف‬
‫برتقب لتت�سع عيناها �صدمة وهي ترى �صو ًرا خمتلفة جلثة �سهيلة‪.‬‬
‫انتف�ضت من مكانها وهي مت�سك ال�صور بني يديها‪ ،‬بينما ت�سمع �سامي‬
‫يخربها‪«:‬لقد وجدها رجالنا منذ �سنة مدفونة يف مكان بالقرب من ال�صحراء‪،‬‬
‫والق�ضية مت ت�سجيلها مرتني �ضد جمهول قبل �أن ي�ستلمها النقيب حممد‪ ،‬لقد مت‬
‫‪226‬‬
‫دفنها بعد �أن مت ا�ستخراج جميع �أع�ضائها‪ ،‬وطبيب الت�شريح وجد انتها ًكا وا�ضحا‬
‫دليال على اغت�صابها‪ .‬الأوغاد �أخرجوا عينيها وهي على قيد احلياة‪.‬‬
‫قريبة يامن من اكت�شفت من تكون وهي مبكتبه �صدفة‪ ،‬ويامن حالته ال�صحية‬
‫غري جيدة‪ ،‬بالأم�س فقط خرج من امل�شفى‪ ،‬ويبدو �أنه عرف احلقيقة‪ ،‬فزمرد قررت‬
‫التح ّدث �أخريا بكل �شيء حدث يف تلك ال�سنتني‪ُ ،‬غفران �أنت يف حاجة لتهدئي حتى‬
‫�أ�ستطيع �إخبارك مبا عرفناه»‪ ،‬تن ّف�ست ُغفران ب�صعوبة ودموعها ترقرقت يف عينيها‬
‫حتاول ال�سيطرة على م�شاعرها‪ ،‬ومن هيئة �سامي يبدو �أن ال�صدمة احلقيقية مل‬
‫ت�سمعها بعد‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫منزل زمرد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�أخرجتها من �سباتها �أ�صوات عالية ُمتداخلة باخلارج‪ ،‬لتفتح عينيها ببطء‪ ،‬ملحت‬

‫ع‬
‫�أ�شعة ال�شم�س تتخ ّلل �شرفة غرفتها‪ ،‬ا�ستغربت ما حدث‪ ،‬و�أخذت تتذ ّكر كيف عادت‬
‫لغرفتها ونامت هكذا‪ ،‬فعادت لها ذكرى عودة يامن وانهيارها بني يديه‪ ،‬ارتع�شت‬
‫جمددًا وهي حتاول �أن تنه�ض من على �سريرها‪ ،‬لتفزع من �صراخ رحاب العايل‬
‫وهي تنادي �أمها‪ ،‬نه�ضت ُم�سرعة وخرجت للردهة لتلمح رحاب ت�صرخ ببكاء ويامن‬
‫و�سليم يحمالن والدتها ويتوجهان للخارج ويامن يهتف برحاب‪ِ «:‬‬
‫ابق مع زمرد‪،‬‬
‫�س�آخذ عمتي للم�شفى»‪.‬‬
‫جتمدت مكانها للحظة ثم اقرتبت ُم�سرعة من رحاب‪ ،‬التي انتف�ضت للحظة‪ ،‬ثم‬
‫م�سكت ذراعها بقوة‪�«:‬أمي زمرد‪� ،‬إنها متوت»‪.‬‬
‫ال تعلم كيف جاءت هي ورحاب للم�شفى مع �سليم ابن عمها الذي انتظر باملنزل‬
‫ب�أوامر من يامن‪ ،‬فبعد �أن هد�أت من روع رحاب خرجتا لرتى �سليم باخلارج الذي‬
‫رف�ض يف البداية‪ ،‬ليوافق م�صدوما من ردة فعل رحاب وهو يراها ت�صرخ يف وجهه‬
‫لأول مرة‪«:‬لتقم ب�أمر واحد �صائب يف حياتك»‪ ،‬ال تعلم كم مر الوقت وهي تنتظر‬
‫مع رحاب وولدي عمها �أمام غرفة العناية املُركزة يف انتظار الطبيب الذي �أخرب‬
‫‪227‬‬
‫يامن فور و�صوله �أن والدتها تعر�ضت لأزمة قلبية‪ ،‬بينما ع�ضلة قلبها �ضعيفة جدا يف‬
‫تدخل جراحي‪.‬‬ ‫حاجة للمتابعة الدقيقة‪ ،‬وال حتتمل �أي ّ‬
‫ب�صوت‬
‫ِ‬ ‫رفعت عينيها تنظر لرحاب فوجدتها مت�سك مب�صحفها وهي تقر�أ‬
‫نخف�ض‪ ،‬بينما دموعها ال تتوقف عن االنهمار وج�سدها ال يتوقف عن االنتفا�ض‪،‬‬ ‫ُم ٍ‬
‫كانت تظن �أن قلبها لن يتع ّر�ض لأي �آالم جمددًا‪ ،‬ظنت �أنها و�صلت لأق�صى حد من‬
‫الوجع ولكن ما ت�شعر به الآن فاق كل حدود الوجع‪ ،‬والدتها احلنون‪ ،‬والدتها التي‬
‫مل تتن ّعم بح�ضنها مبا يكفي‪ ،‬لن حتتمل �أن ي�صيبها مكروه‪ ،‬لن حتتمل �أن تفارقها!‬
‫«يا �إلهي احفظها» هم�سة رجاء خرجت من فمها وهي تزيح عينيها عن �أختها‬

‫ع‬
‫لتلتقي بعيون حاميها‪� ،‬سندها القريب البعيد‪� ،‬شعرت به يحاول �أن يطمئنها بعينيه‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ولكن هي تعلم‪ -‬كما هو يعلم‪� -‬أن الو�ضع غري ُمب�شر‪ ،‬انتقلت �أنظارهم جميعا‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫للطبيب الذي خرج من العناية وهو يقول بهدوء‪«:‬تريد �أن ترى ابنتيها»‪.‬‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫توزيع‬
‫دلفت للغرفة هي ورحاب فا�ست�شعرت برودة غريبة حولها‪� ،‬أو�صلتهما املمر�ضة‬
‫ل�سرير والدتها وهي تخربهما �أال تزيدا على خم�س دقائق حلالتها ال�صحية‪� ،‬إذا‬
‫هل اخلم�س دقائق كافية لوداع �أحدهم؟! هل كافية لإخبارهم مدى حبنا لهم؟!‬
‫هل كافية لنتم�سك بطرف �سرتتهم ونتو�سل لهم �أن يغفروا لنا‪� ،‬أن ي�ساحمونا‪� ،‬أن‬
‫نخربهم مبدى ندمنا عن ان�شغالنا حلظة من الزمن عنهم‪.‬‬
‫قاطع تفكريها �صوت �شهقة �صدرت من �أختها وهي تندفع لكف والدتها وتقبلها‬
‫بقوة بينما دموعها ما زالت تنهمر وهي تتحدث ببكاء‪�«:‬أمي هل � ِ‬
‫أنت بخري؟! �أمي‬
‫مل مل تخربيني ب�أنك مري�ضة؟!»‬
‫ماذا حدث؟! َ‬
‫رفعت زمرد عينيها لوالدتها التي ُتر ّبت بكفها بوهن على ر�أ�س رحاب بينما تنظر‬
‫عيناها لها!‬
‫�شعرت بل�سعة يف عينيها وهي ترى والدتها تنظر لها ب�أمل ك�أنها تطلب منها‬
‫ال�سماح! هم�ست داخلها‪«:‬يا �إلهي»‪ ،‬وهي ت�شعر �أنه قد و�صلت احلقيقة �أخريا‬
‫لوالدتها‪� ،‬سمعت �صوت والدتها ال�ضعيف‪�«:‬ساحميني يا ابنتي‪� ،‬ساحميني لقلة‬
‫ظلموك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ظلمتك مع من‬
‫ِ‬ ‫حيلتي‪� ،‬ساحميني لأنني‬
‫‪228‬‬
‫ارتع�شت جمددًا وهي ترى والدتها جتاهد لتخربها بكل ما بداخلها‪ ،‬ك�أنها‬
‫تخ�شى الرحيل قبل �أن تخربها‪ ،‬اقرتبت زمرد ُم�سرعة من والدتها عند هذه الفكرة‪،‬‬
‫و�أحاطت كفها الآخر بني يديها وهي ُتر ّبت عليه بحنان‪ ،‬وحتدثت مب�شاعر ظنت �أنها‬
‫فقدتها للأبد‪«:‬فقط ارتاحي حبيبتي‪ ،‬ارتاحي وال ت�شغلي ِ‬
‫بالك ب�شيء‪ ،‬كل �شيء‬
‫�سيكون على ما يرام‪ ،‬كل �شيء �سيكون بخري»‪.‬‬
‫ال تعلم هل ُتر ّددها لتُطمئن والدتها �أم ُتطمئن نف�سها‪ ،‬حتدثت والدتها بتعب‬
‫�شقيقتك بريئة من �آثام غريها‬
‫ِ‬ ‫كنت ُمقة رحاب‪،‬‬ ‫وهي توجه �أنظارها لرحاب‪ِ «:‬‬
‫�شقيقتك �شجاعة‪� ،‬ضحت ب�أغلى ما متلك من �أجل‬ ‫ِ‬ ‫براءة الذئب من دم يو�سف‪،‬‬
‫ووالدتك من �أخط�أت‪� ،‬أنت التي‬
‫ِ‬ ‫كنت ُمقة‬‫روحا يا ابنتي‪ِ ،‬‬
‫غريها‪ ،‬من �أجل �أن تنقذ ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ووثقت بروحها بينما مل �أفعل �أنا والدتها يا ابنتي»‪.‬‬
‫�شقيقتك من قبل ِ‬‫ِ‬ ‫مل ِتر‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ل‬
‫ملعت عيناها بالدموع وهي ترى انهيار والدتها‪� ،‬أخف�ضت ر�أ�سها وق ّبلت كفيها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫بحنان وهي تردف بهدوء‪«:‬هوين ِ‬

‫والتوزي‬
‫أرجوك ال تهتم ل�شيء الآن �سوى‬
‫عليك �أمي‪ِ � ،‬‬

‫ع‬
‫�صحتك»‪.‬‬
‫ِ‬
‫�صاف‪ ،‬ال يكدره �أي �شيء �أخريا‪ ،‬التفتت لرحاب‬ ‫ابت�سمت لها والدتها بحب ٍ‬
‫أ�سرارك معها‬
‫ِ‬ ‫�شقيقتك دائ ًما باحلب يا رحاب‪� ،‬آمني على �‬
‫ِ‬ ‫وحتدثت بتعب‪«:‬حاوطي‬
‫�صدرك يا ابنتي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫مب�ستقبلك‪ ،‬واف�صحي عن مكنونات‬
‫ِ‬ ‫حزنك‪ ،‬اهتمي‬
‫تخف عنها ِ‬ ‫وال ِ‬
‫ومببادئك وال جتعلي �شيئا ي�ؤثر �سلبيا عليها»‪ ،‬بكت رحاب بقوة وهي‬
‫ِ‬ ‫بدينك‬
‫ِ‬ ‫مت�سكي‬
‫عليك»‪.‬‬ ‫تق ّبل كفها‪�«:‬أمي � ِ‬
‫أرجوك ال تقلقيني ِ‬
‫ابت�سمت لها والدتها ابت�سامة اق�شعر لها بدن زمرد‪ ،‬و�شعرت بغ�صة حتكم حلقها‬
‫وهي تعي �أن والدتها تو ّدعهما الآن‪� ،‬سمعت طلب والدتها لرحاب ب�أن ترتكهما ً‬
‫قليل‬
‫مبفردهما فنفذت لها رحاب طلبها وهي تو ّدعها بعينيها بعد �أن ق ّبلت جبينها‪.‬‬

‫‪M MM‬‬

‫‪229‬‬
‫كانت لديها تلك النظرة بعينيها‬
‫�أي نظرة‬
‫نظرة من ذاق مرارة الفقد وهو على قيد احلياة‬
‫الف�صل الثالث ع�رش‬
‫االعرتاف‬

‫منزل �أمرية‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كانت جال�سة تقر�أ ب�صمت بينما �أذناها تلتقطان احلديث الدائر بني �أمري‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ووالدته عن الرحلة التي يرغب �أمري يف الذهاب �إليها‪ ،‬حتدث �أمري بحما�سه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫املعتاد‪�«:‬أمي‪� ،‬إنها تابعة للمدر�سة قررتها يف الإجازة ال�صيفية �سيكون هناك‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫م�شرفون والكثري من الطلبة‪ ،‬يا �إلهي لقد تبقى �أ�شهر على دخويل اجلامعة‪ ،‬ال‬
‫قلقك حتى الآن»‪ ،‬ته ّربت جميلة من النظر لعني ابنها واجتهت لزوجها‬ ‫�أ�صدق ِ‬
‫ونظرت له نظرة‪�«:‬ساعدين» ففهمها على الفور فبادر حممد باحلديث‪«:‬ح�سنا‬
‫هيا اجتماع طارئ‪ ،‬ناد على �إخوتك»‪ ،‬تنهد �أمري ب�ضيق‪«:‬يا �إلهي ال �أ�صدق اجتماع‬
‫طارئ لرحلة مدر�سية» تركهم �أمري ووقف �أمام الدرج وناد ب�أعلى �صوته على �إخوته‬
‫فارتبكت �أمرية للحظة من املوقف فم�سكت الكتاب بيديها ونه�ضت لت�صعد غرفتها‬
‫أي�ضا ليلى �إنه اجتماع طارئ خا�ص بالعائلة»‪ ،‬رفعت‬ ‫ف�أوقفها �صوت حممد‪ِ �«:‬‬
‫أنت � ً‬
‫�أمرية عينيها بقوة لوالدها الذي كعادته م�ؤخ ًرا يتجاهل النظر لعينيها ُمن�شغال‬
‫بالنظر ملفر�ش الطاولة‪ ،‬ابتلعت �أمرية ريقها ببطء وحتدثت بهدوء‪«:‬ال �أظن �أن‪»...‬‬
‫قاطعتها جميلة قبل �أن تكمل وهي تقرتب منها لتحت�ضن ذراعها بحنان وجتذبها‬
‫ابق معي �ست�ستمعني بالأمر‪� ،‬سانديني بقراري‪ ،‬ال رحالت من‬ ‫للطاولة‪«:‬هيا فقط ِ‬
‫دون العائلة»‪.‬‬
‫مل جتبها �أمرية �سوى بهزة ر�أ�س وتوجهت معها للطاولة فلم تلمح ابت�سامة حممد‬
‫التي �أخفاها ب�سرعة‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫دقائق وملحت �أمرية اجلال�سة بجوار جميلة قدوم �آ�سر ويبدو �أنه كان نائ ًما لأنه‬
‫يجفف وجهه مبن�شفته ويجل�س بتعب على الطاولة بينما �أحمد و�آدم املن�شغل كالعادة‬
‫بهاتفه يجل�سان �إىل الطاولة‪ ،‬و�أمري �أخذ الكر�سي بجوار والده و�أمام والدته‪ ،‬بادر‬
‫�آ�سر باحلديث‪«:‬ح�س ًنا ما الأمر الطارئ لعقد االجتماع؟ و�أمتنى �أن يكون �سب ًبا‬
‫كاف ًيا ال�ستيقاظي من نومي»‪.‬‬
‫بد�أ حممد حديثه بجدية‪«:‬املو�ضوع يخ�ص �أخاك �أمري ورحلته املدر�سية للعني‬
‫ال�سخنة‪ ،‬الرحلة لأربعة �أيام‪ ،‬ووالدتك ترف�ض الأمر كله كالعادة»‪ ،‬نظرت جميلة‬
‫له بت�أنيب وهي تهتف‪«:‬حممد»‪ ،‬رفع حممد حاجبيه بده�شة م�صطنعة وهو‬
‫يجيبها‪«:‬ماذا؟! �أنا �أو�ضح لهم �سبب االجتماع مل �أقل �شيئا»‪ ،‬ابت�سمت �أمرية داخلها‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وهي ترى بو�ضوح �شديد موافقة حممد على �سفر �أمري‪� .‬أكمل حممد حديثه‪«:‬والآن‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�سن�ستمع �أوال لأ�سباب رف�ض والدتكم قبل �أن يخربنا كل فرد بر�أيه»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫يوما‬
‫ا�ستغربت �أمرية لهذا االجتماع وجدية اجلميع يف احلديث‪ ،‬هي مل جتتمع ً‬

‫ع‬
‫مع �أحد من عائلتها الأوىل‪ ،‬بل مل يهتم �أحد منهم ب�أي �أمر يخ�صها‪� ،‬إن كان ال ي�ؤثر‬
‫ب�شيء على القوانني الأ�سا�سية للمنزل‪.‬‬
‫فلم حتاولون تغيريه‪ ،‬ال‬‫بادرت جميلة حديثها‪«:‬الأمر مل يتغري منذ �سنوات َ‬
‫رحالت من دون العائلة‪ ،‬املو�ضوع ال عالقة له ب�أنك كربت �أو �أين ال �أثق فيك‪ ،‬املو�ضوع‬
‫بب�ساطة هو قلقي وخويف من �سفر لأربعة �أيام»‪ ،‬هم�س �أمري ب�صوت م�سموع‪«:‬و�إن‬
‫أي�ضا»‪� ،‬أجابته جميلة بعتاب‪«:‬ارفع �صوتك يا ولدي‬ ‫كان ن�صف يوم لن توافقي � ً‬
‫العزيز و�أنت تتحدث‪ ،‬نعم و�إن كان لن�صف يوم لن �أوافق‪ ،‬يا �إلهي �أال يحق يل اخلوف‬
‫عليكم‪� ،‬أنا بكل ب�ساطة ال �أ�ستطيع �أن يبتعد عني �أوالدي‪ ،‬كفانا ما ذاقه قلبي يف بعاد‬
‫ليلى»‪ ،‬و�أتبعت كالمها بال�ضغط على كف يد ليلى املو�ضوع على الطاولة‪.‬‬
‫ابتلعت �أمرية ريقها ب�صعوبة وهي ال ترفع عينيها عن يد جميلة التي حتيط‬
‫بكفها‪ ،‬حلظات ورفعت ر�أ�سها لها بعد �أن �سمعت �آ�سر يقول‪�«:‬أمي من دون دموع‬
‫أرجوك» فلمحت عني والدتها ترتقرق بالدموع‪ ،‬م�سحتها جميلة م�سرعة بكفها‬ ‫� ِ‬
‫الآخر احلر و�أكملت‪«:‬ح�سنا من دون دموع �آ�سفة �أنا �أرف�ض �سفر �أمري»‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫تنهد حممد بهدوء و�أكمل‪«:‬ح�سنا لن�أخذ القرار �آ�سر»‪ ،‬رفع �آ�سر عينيه لوالدته‬
‫تتو�سل �إليه �أن يرف�ض‪ ،‬فرفع كفه يتخلل �شعره وهو ي�ضحك ويقول‪«:‬ال‬ ‫فوجدها ّ‬
‫تنظري يل هذه النظرة �أمي‪� ،‬أمري كبري الآن مبا يكفي لندعه ي�سافر وحده‪� ،‬أنا‬
‫ميكنك �أن‬
‫ِ‬ ‫موافق على �سفره‪ ،‬قلقك ُيحرتم بالت�أكيد‪ ،‬لكن هناك هاتف و�إنرتنت‬
‫ولك احلق يف االت�صال به كل �ساعة»‪.‬‬
‫تعريف �أخباره منهما‪ِ ،‬‬
‫رفع �أمري يديه وو�ضعها على ذراع �آ�سر مبت�سما وهو يقول‪�«:‬شكرا �أخي»‪ ،‬بينما‬
‫نظرت له والدته ب�ضيق م�صطنع‪ ،‬هي تدرك مدى �صحة كالم �آ�سر‪ ،‬ولكنه قلب الأم‪،‬‬
‫ابت�سم حممد وهو فخور بابنه الكبري وتفكريه العقالين‪«:‬ح�سنا الآن ليلى»‪.‬‬

‫ع‬
‫رفعت ر�أ�سها ُمفلة بينما كانت �شاردة يف كالم �آ�سر وتف ّهمه ال�شديد لوالدته‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫وحماوالته عدم �إيذاء م�شاعرها‪ ،‬فنظرت ملحمد الذي ينظر لكف يديه املجموع على‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الطاولة ثم رفعت عينيها لأمري ونقلت �أنظارها لآ�سر املبت�سم بحنان و�أحمد املنتبه‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫للحديث بجدية و�آدم الذي يبدو �أنه يفكر يف �أمر ما‪ ،‬ثم والدتها التي تنظر لها‬
‫أنت مع قراري �ألي�س كذلك؟!» فابتلعت ريقها ب�صعوبة و�أ�شاحت ب�أنظارها‬ ‫نظرة‪ِ �«:‬‬
‫عن والدتها ونظرت جمددًا لأمري الذي يبادلها النظر بهدوء‪ ،‬ثم �أخف�ضت �أنظارها‬
‫ملفر�ش الطاولة وحتدثت بهدوء‪�«:‬أنا موافقة على �سفر �أمري هو على و�شك �أن يتم‬
‫�سنواته الثامنة ع�شرة‪� ،‬أي �أنه كبري مبا يكفي ليخو�ض جتربة ال�سفر لأول مرة‪ ،‬وال‬
‫�أظن �أن الو�ضع �سيكون خط ًرا مبا �أن الرحلة حتت �إ�شراف املدر�سة»‪.‬‬
‫�أنهت �أمرية كالمها حني ملحتهم ينظرون �إليها باهتمام‪ ،‬و�أمري يبت�سم لها‬
‫بامتنان‪ ،‬ف�أزاحت عينيها ُم�ستغربة من رد فعله‪ ،‬تنحنح حممد بهدوء و�أكمل‪«:‬ح�سنا‬
‫�أحمد!»‪ ،‬نظر �أحمد لوالده ثم نظر لأخيه و�أجاب‪�«:‬أنا �أ�سف �أخي �أنا مع ر�أي �أمي‪،‬‬
‫�أنا غري موافق»‪.‬‬
‫تنهد �أمري بحزن ثم �أكمل حممد كالمه‪�«:‬آدم»‪ ،‬نظر �آدم لأخيه ب�شقاوة‬
‫وقال‪«:‬الكاب الأ�سود!» رفع �أمري ر�أ�سه ب�ضيق م�صطنع‪«:‬يا �إلهي ال �أ�صدق هذا»‪،‬‬
‫هز �آدم كتفيه وهو ي�ضحك ب�شقاوة حمببة فتنهد �أمري وهو يجيبه‪«:‬ح�س ًنا» ف�أكمل‬
‫�آدم‪«:‬وحقيبتك ال�سوداء اجلديدة»‪ ،‬نه�ض �أمري من على الكر�سي وهو ينظر له‬
‫‪234‬‬
‫بحنق‪«:‬ال �أ�صدق‪ ،‬احلقيبة مل �أ�ستخدمها بعد �س�أ�سافر بها» ف�أجابه �آدم‪«:‬بعد‬
‫ال�سفر �إذا هي يل»‪.‬‬
‫جل�س �أمري جمددًا وهو يجيبه بتنهد‪«:‬ح�س ًنا» ف�أكمل �آدم‪�«:‬إذا اتفقنا‪� ،‬أنا‬
‫موافق على �سفر �أمري»‪ ،‬كان حممد يتابعهما مبت�سما‪ ،‬بينما جميلة تنظر لطفلها‬
‫ال�صغري ب�صدمة‪.‬‬
‫ف�أكمل حممد حديثه‪«:‬ح�س ًنا بعد �أن انتهت ال�صفقة التي �أمتمها �آدم بنجاح‪»...‬‬
‫قاطعته جميلة بقوة‪«:‬حممد» رفع حممد كفيه وهو ينظر لها برباءة‪«:‬ماذا؟!‬
‫ماذا قلت الآن؟!» ف�أجابته جميلة‪«:‬ال ت�شجعه‪ ،‬و�أنت هل هذا كل ما يهمك؟! كاب‬

‫ع‬
‫وحقيبة!» ف�أجابها �آدم برباءة م�صطنعة‪«:‬بالطبع ال يا �أمي‪ ،‬كيف تقولني هذا؟!»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مل ت�ستطع �أمرية �أن تخفي �ضحكتها هذه املرة وهي تنظر لآدم الذي حتول يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حلظة لن�سخة �أكرث براءة من �أحمد توءمه‪� ،‬أكمل حممد حديثه وهو ينظر لآدم‬

‫والتوزي‬
‫�ضاحكا‪«:‬ح�سنا الآن لدينا ثالثة موافقة ورف�ضان �أما �أنا ف‪ »...‬قاطعته جميلة‬

‫ع‬
‫ب�صوت هام�س‪«:‬حبيبي �أرجوك»‪.‬‬
‫رفعت �أمرية عينيها لوالدتها حني �سمعت هم�ستها‪ ،‬فلمحتها تنظر ملحمد بنظرة‬
‫التو�سل‪ ،‬ثم ملحت ت�أوهات من اجلميع فنظرت با�ستغراب لهم‬ ‫حب خال�صة ي�شوبها ّ‬
‫و�آ�سر ي�ضحك م�ستمتعا‪«:‬الآن �أ�صبح لدينا ثالثة موافقة وثالثة رف�ض»‪ ،‬بينما �أ�سند‬
‫�أمري ر�أ�سه على الطاولة وهو يت�أوه با�صطناع‪�«:‬ضاعت الرحلة بكلمة حبيبي»‪ ،‬بينما‬
‫ارتفعت قهقهات �آدم واحمر وجه �أحمد كعادته‪ ،‬فهتف حممد بجدية م�صطنعة وهو‬
‫ال يرفع عينيه عن وجه حبيبته‪«:‬ماذا؟! توفقوا عن هذا الآن لقد قمنا باالجتماع‬
‫الطارئ»‪.‬‬
‫وتغي قرارك عن البداية بكلمة حبيبي»‪ ،‬و�أنهى‬ ‫ف�أجابه �آدم مازحا‪«:‬نعم �أبي ّ‬
‫�آدم كالمه وهو يق ّلد والدته وهي تقولها بخجل ف�ألقت جميلة املفر�ش ال�صغري‬
‫املو�ضوع �أمامها على وجه �آدم ال�ضاحك‪�«:‬أنا ال �أقولها هكذا»‪ ،‬كانت �أمرية تتابع‬
‫امل�شهد �أمامها بانبهار ك�أنها ت�شاهد موق ًفا مكتو ًبا يف احدى الروايات اخليالية‪ ،‬كانوا‬
‫يبدون �أمامها كعائلة حقيقية‪� ،‬شعرت بالدموع حترق عينيها فرم�شت �أكرث من مرة‬
‫‪235‬‬
‫وهي ت�شعر باالمتنان لأول مرة ملحمد الذي طلب منها �أن حت�ضر اجتماعهم‪ ،‬رفعت‬
‫عينيها فلمحت �آ�سر ينظر لها بتم ّعن كعادته‪ ،‬ف�شعرت ب�أنها يف حاجة لنظراته‪ ،‬تريد‬
‫�أن تنظر له وتتو�سل �إليه �أن يخرتقها‪� ،‬أن يك�شف خبايا روحها‪.‬‬
‫قاطع نظراتهما �صوت حممد ال�ضاحك‪«:‬ح�سنا رف�ضي للأمر الآن ب�سبب �أنني‬
‫حجزت منذ فرتة لرحلة �إىل مطروح و�سنذهب جميعا بها‪ ،‬وخمنوا املدة!»‬
‫جنح حممد يف جذب انتباههم جمي ًعا فهتف �آدم‪«:‬كم �أبي �أرجوك قل �أ�سبوع»‬
‫ابت�سم حممد له و�أجاب‪«:‬بل لأ�سبوعني كاملني هذا ما ا�ستطعت فعله ال �إجازات‬
‫كثرية لنا للأ�سف»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ته ّلل وجه �أمري فرحا بينما نه�ض �آدم و�أحمد و�أخذا يهلالن ب�سعادة‪ ،‬وملحت‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�أمرية نظرات جميلة املمتنة لزوجها‪ ،‬ف�شعرت مب�شاعر غريبة داخلها ال تعرف كيف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ت�صفها‪.‬‬

‫توزيع‬
‫تابعها �آ�سر بعينيه وهو يرى تخ ّبط م�شاعرها‪ ،‬تذكر كلماتها التي ت�سطرها كل‬
‫فرتة و�أخرى يف دفرتها‪ ،‬كلماتها التي بد�أت توحي مبدى احلزن والغ�ضب الذي‬
‫يعرتيها خا�صة بعد معرفتها ب�أمر هروب ممدوح و�أنه على قيد احلياة‪ ،‬يتذ ّكر يومها‬
‫رف�ضها التام للحديث وعدم ح�ضورها اجلل�سة التي اتفقت عليها معه‪ ،‬ليجد الدفرت‬
‫يف نف�س الليلة وكلمات ُكتبت ب�أمل يف �صفحاته تبوح ب�أملها و�أنهتها بتوقيعها الذي حمل‬
‫يف نهايته �أثر دمعة قد �سقطت عليه‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫م�شفى املدينة‬
‫ملحت يامن و�سليم عائدين ب�أكواب قهوة وب�ضعة �ساندويت�شات‪ ،‬تناولت مع رحاب‬
‫القليل بعد �إ�صرار يامن وتهديد �سليم ب�أنه �سيعيدهم للمنزل �إن مل ي�ستجيبا لهما‪،‬‬
‫مر النهار عليهم بزيارات عائلتها و�إ�صرار كبري منها على �أال يبقى �أحد يف انتظار‬
‫والدتها �سواها هي و�أختها‪ ،‬ولكن ال يامن وال �سليم وافقا على تركهما وحدهما‪،‬‬
‫كانت ت�شعر بوجع غريب داخلها‪ ،‬تلمح يامن وهو يتابعها بعينيه وك�أنه ي�س�ألها عما‬
‫‪236‬‬
‫�أ�صابها بعد خروجها �شاردة جامدة من غرفة العناية منذ �ساعات‪ ،‬تنهدت بتعب‬
‫وهي ت�شعر �أنها ما عاد با�ستطاعتها التح ّمل جمددًا‪ ،‬انتف�ضت واقفة على �صوت‬
‫خروج �أحدهم من الغرفة لتبوح مالمح وجه الطبيب مبا �أدركته ُمبك ًرا‪ ،‬مبا �أدركته‬
‫وك ّذبت �صحته‬
‫«البقاء هلل»‪.‬‬
‫�صراخ رحاب العايل وارمتا�ؤها يف ح�ضنها تبكي على �صدرها وهي تنادي والدتها‬
‫جعلها ُت�ص ّدق �صحة ظنونها‪ ،‬عيناها ما زالت على باب الغرفة حيث تقبع جنتها‬
‫على الأر�ض‪ ،‬حيث كانت ومل تعد‪ ،‬حيث احتاجت ومل ت�شبع حاجاتها يف تلك الأ�شهر‬
‫تن�شقت لن�سمات حنان وكان القدر بخيال عليها‪ ،‬ماتت والدتها‬ ‫الق�صرية‪ ،‬حيث ّ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫قبل �أن تبكي ب�أح�ضانها وجعها الأخري‪ ،‬ولكن هل هناك وجع كوجع فقدها‪ ،‬رحلت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫والدتها‪ ،‬رحلت لأن والدها ا�شتاق لها‪� ،‬أمل تقل لها هذا! ولكن ماذا عني �أمي؟!‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫والتوزي‬
‫رفعت ذراعيها وهي تهم�س داخلها ب�آخر جملة لتحيط ج�سد رحاب الذي يهتز‬

‫ع‬
‫من بكائها ون�شيجها با�سم والدتها كن�صل حاد ينغرز بقوة يف قلبها‪� ،‬أ�سندت ذقنها‬
‫على ر�أ�س رحاب و�أغم�ضت عينيها ودمعة يتيمة فرت من �سجنها لتختفي �سريعا يف‬
‫حجاب �شقيقتها‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل زمرد‬
‫دخلت بهيئتها اجلاذبة النتباه اجلميع‪ ،‬كنزة �سوداء على �سروال جينز �أ�سود‬
‫بغ�ضب‬
‫ِ‬ ‫يعلوه �سرتة �سوداء‪ ،‬من يراها ي�شعر باخلطر املُحيط بها‪ ،‬عيناها املُ�شتعلتان‬
‫قاد ٍر على �إحراق بلدة كاملة‪ ،‬بينما �أفلتت بع�ض اخل�صل املُتمردة من عقدة �شعرها‬
‫الغجري لي�ضيف جاذبية خطرة على مالمح وجهها‪� ،‬أخذت تبحث بعينيها عنها‪،‬‬
‫ت�شعر ب�أن ر�أ�سها �سينفجر مما عرفته عما حدث يف غيابها عن املزرعة‪ ،‬حلظات‬
‫وملحتها تقف و�سط ال�سيدات ويبدو �أن هم�ساتهن و�صلتها‪ ،‬ا�ستمر حوار النظرات‬
‫بينهما للحظات‪ ،‬حاولت ال�سيطرة على غ�ضبها ف�أ�شارت لها بر�أ�سها بجمود لتقابلها‬
‫باخلارج‪.‬‬
‫‪237‬‬
‫خرجت للحديقة اخللفية بغ�ضب وحلظات وملحت زمرد تدلف من الباب اخللفي‪،‬‬
‫مل متهلها ُغفران لت�صل �إليها فاندفعت باجتاهها‪ ،‬خطوة خطوتني‪ ،‬لتتوقف زمرد‬
‫وهي تعي حالة ُغفران الغا�ضبة وتدرك �أ�سبابها‪ ،‬لكمة لفكها ثم تبعتها �أخرى لفمها‬
‫لت�سقط زمرد على �أثرها على الأر�ض وقلة الطعام طوال الأيام ال�سابقة ت�ضعف من‬
‫حالتها‪� ،‬أغم�ضت عينيها حتاول �أن توقف ذلك الدوار بينما ت�ستمع لكلمات ُغفران‬
‫الغا�ضبة‪«:‬كيف ب� ِ‬
‫إمكانك فعل هذا؟! َمل مل تخربيني؟! �أخرب ِتني � ِ‬
‫أنك ُت ّدثينها‬
‫عليك زمرد‪ ،‬واللعنة على �أ�سلوب الكتمان‬‫كذبت؟!‪ ،‬اللعنة ِ‬‫كل فرتة والأخرى‪َ ،‬مل ِ‬
‫بداعي احلماية الذي تتبعينه‪ ،‬لقد قتلها‪ ،‬لقد اغت�صبوها �أيتها احلمقاء قبل �أن‬
‫يدفنوها‪ ،‬لقد تركها حية وهم يقتلعون عينيها‪ ،‬زمرة دمها النادرة كانت ال�سبب يف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫معك؟! َمل مل تخربيني �أن ذلك الوغد قد‬‫املتاجرة بها‪َ ،‬مل مل تقويل �شيئا عما يحدث ِ‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�سذاجتك جعلتك‬
‫ِ‬ ‫وافقت �أيتها احلمقاء‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أنت‬‫�شرفك و� ِ‬
‫ِ‬ ‫�ساومك على‬
‫ِ‬ ‫اغت�صبك‪ ،‬قد‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫تثق�سن بوغد �سافل ُمغت�صب»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫�أخذت تلهث من �شدة انفعالها و�صدرها يعلو ويهبط من الغ�ضب‪ ،‬بينما تلمح‬
‫زمرد تقف على قدميها ومالمح الأمل مرت�سمة على وجهها‪.‬‬
‫أ�سماعك ل�شيء �آخر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫�أن تعي احلقيقة وتعي�شها �شيء‪ ،‬و�أن ي�سردها �أحدهم على �‬
‫ل�شيء �أكرث �إيالما‪.‬‬
‫مرت حلظات حتى حتدثت زمرد ب�ضياع‪�«:‬أمي ماتت ُغفران»‪ ،‬جتمدت ُغفران‬
‫مكانها وهي تنظر بجمود ملالمح زمرد املُت�أملة‪ ،‬وجرح عميق مل ُي�شف بعد بقلب‬
‫ُغفران ولن ُي�شفى �أبد الدهر‪ ،‬ي�سحب روحها من ج�سدها‪ ،‬هل ت�ستجديها؟! الغبية‬
‫�أال تعلم �أنها ت�شعر بوجعها‪� ،‬أنها تت�أمل لأملها‪.‬‬
‫حلظة واحدة لتقرتب ُغفران منها وجتذب زمرد لأح�ضانها لتت�شبث الأخرية‬
‫بها بقوة وهي ت�شهق بعنف وتتحدث من بني دموعها‪�«:‬أمي ماتت ُغفران مل � ِ‬
‫أكتف‬
‫منها‪ ،‬مل تكفني تلك الأ�شهر املعدودة‪ ،‬تركتني �أمي ورحلت‪ ،‬قالت يل �أن �أبي ا�شتاق‬
‫لها‪ ،‬ترى من ا�شتاق ل�سهيلة؟! مل يكن لها �أحد‪ ،‬ومل ن�صل لأهلها‪ ،‬لقد حاولت كل ما‬
‫لك �أنني مل �أعرف �أنه ما زال يقيم النزال كما فعل‬
‫بو�سعي لأجعلها بعيدة عنه‪� ،‬أق�سم ِ‬
‫معنا‪� ،‬أنا قتلت خديجة من �أجلها وفديت بروحي م�ستقبلها‪ ،‬مل �أكن �أعلم‪ ،‬لقد كان‬
‫‪238‬‬
‫يجعلني �أح ّدثها كل فرتة‪ ،‬يا �إلهي ُغفران لقد كانت تت�صل بي على الهاتف وتخربين‬
‫ب�أنها بخري‪ ،‬ب�أنها �سعيدة ومل �أكن �أعرف ب�أنها ماتت‪� ،‬آه ُغفران من هذا الوجع‪ ،‬لقد‬
‫فارقتني كما فعلت �أمي‪� ،‬أنا فقدت الأم واالبنة‪ ،‬فقدت �أمي وابنتي‪ ،‬لقد كانت ابنتي‪،‬‬
‫لقد كنت �أرعاها‪ ،‬لقد كانت تناديني ب�أمي ال�صغرية»‪.‬‬
‫ت�شبثت ب�سرتة ُغفران وهي تبكي بقوة‪ ،‬لقد خارت قواها‪ ،‬مل تعد �صامدة كما‬
‫عاهدت نف�سها‪ ،‬فقط مل ت�ستطع‪.‬‬
‫�سمعت �صوت ُغفران ذا البحة وكم بدا �ضعي ًفا ُمهتزا‪�«:‬أنا �آ�سفة‪� ،‬آ�سفة لأنني‬
‫مل �أكن موجودة‪� ،‬آ�سفة لأنني مل �أتابع الأمر و�أت�أكد بنف�سي من �صحته‪� ،‬آ�سفة لأنني‬

‫ع‬
‫خذلتكم ومل �أ�ستطع حمايتكم مبا يكفي‪ ،‬يبدو �أنه ا�ستخدم �أحد الربامج ليقلد‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لك �إن ابتعادي ما كان �إال للبحث خلفهم‪،‬‬ ‫ثك ك�سهيلة‪� ،‬أق�سم ِ‬
‫�أحدهم �صوتها و ُيح ّد ِ‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حلمايتكم من خططهم امل�ستقبلية لكم‪ ،‬ملعرفة حقيقتهم ومن وراءهم‪ ،‬كنت �أجاهد‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫من �أجل �أن �أحافظ عليكم من ال�شر اخلارجي ون�سيت �أن منبعه يتجول بينكم‬

‫ع‬
‫بقذارة‪� ،‬آ�سفة زمرد وليت لأ�سفي قيمة»‪.‬‬
‫ابتعدت ُغفران عنها ُم�سرعة وحتركت باجتاه البوابة اخلارجية دون �أن تلتفت‬
‫لها‪ ،‬فهمت زمرد ردة فعلها‪ ،‬و�أدركت مدى احتياجها للبقاء مبفردها‪ ،‬هم�ست بوجع‬
‫أ�سف قيمة‪ ،‬ليته يا عزيزتي»‪.‬‬ ‫ودموعها ما زالت تنهمر‪«:‬ليت لأي � ِ‬
‫مل ت�ستطع �أن تدخل لتكمل ا�ستقبال من جاء ليقدم واجب العزاء‪ ،‬فجل�ست على‬
‫�أر�ضية احلديقة بني احل�شائ�ش اخل�ضراء‪ ،‬الظالم يحيط بها من كل جانب‪ ،‬ووحده‬
‫نور القمر يك�سر ظلمتها‪ ،‬فلم تلمح تلك التي ا�ستمعت حلديثها مع ُغفران و�سجلت‬
‫كل كلمة �سمعتها بعقلها‪.‬‬
‫هد وهو ّ‬
‫يدخن بعيدً ا عن‬ ‫التفتت على �صوت �أقدام لتلمح يامن من بعيد بوجه ُم ٍ‬
‫جمل�س الرجال‪ ،‬ا�ستدار على �صوت حركة خلفه ليلمح ج�سدً ا يغطيه الظلمة و�سط‬
‫احلديقة‪ ،‬ليدقق النظر للحظات ليتعرف عليها من وهج عينيها احلزينتني‪.‬‬
‫تخ ّللت �أ�صوات نب�ضات قلبيهما ال�صمت وهما ينظران لبع�ضهما حتى ك�سرت‬
‫الهالة التي �أحاطتهما للحظات‪ ،‬وهي تخف�ض ب�صرها لتتجه للباب اخللفي‪ ،‬ف�أ�سرع‬
‫‪239‬‬
‫ليعرت�ض طريقها وكاد ي�س�ألها عما تفعله هنا‪ ،‬ليتجمد مكانه وهو يلمح الكدمات‬
‫التي زينت وجهها و�أظهرها انعكا�س �ضوء القمر على وجهها‪ ،‬بينما خط من الدماء‬
‫ينهمر من �أنفها‪.‬‬
‫اقرتب خطوتني منها ورفع وجهها بكفيه فت�أوهت بخفوت فهتف بغ�ضب‪«:‬من‬
‫بك؟! ماذا حدث؟!»‪� ،‬أبعدت وجهها عن طريق كفه وحتدثت‬ ‫الذي فعل هذا ِ‬
‫قليل»‪.‬‬
‫بهدوء‪«:‬مل يحدث �شيء �س�أ�صعد لأرتاح ً‬
‫اعرت�ض طريقها ثانية ثم م�سك مع�صمها وج ّرها خلفه ملنزله ً‬
‫بدل من منزلها‪،‬‬
‫�أدخلها لردهة املنزل وهو ي�أمرها باجللو�س حتى ي�أتي‪ ،‬مل ت�ستطع املجادلة فهي‬

‫ع‬
‫ُمتعبة ب�شدة‪ ،‬جل�ست على �أحد الكرا�سي و�أ�سندت ر�أ�سها على ظهر الكر�سي تغم�ض‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫عينيها لع َّل ذلك الأمل يخبو‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫انتف�ضت على �صوت الكر�سي الذي ق ّربه يامن منها وجل�س عليه‪ ،‬وملحت‬

‫توزيع‬
‫بيديه علبة �إ�سعافات‪ ،‬فتحدثت بهدوء‪«:‬ال داعي لذلك �أنا بخري»‪ ،‬هدر بغ�ضب‬
‫�صديقتك ُغفران كانت‬
‫ِ‬ ‫مكتوم‪«:‬ا�صمتي زمرد‪� ،‬إنها تلك ال�ساحرة �ألي�س كذلك؟!‬
‫إليك»‪.‬‬
‫هيئتها تنم عن ال�شر ولكن مل �أ�صدق �أن �شرها ي�صل � ِ‬
‫«نحن كنا نتحدث فقط»‪ ،‬قالتها ب�صوت خافت وهي مبهوتة من غ�ضبه‪ ،‬فنظر‬
‫غافل عن عيونها الباكية وهو يردد كالمها‪«:‬تتحدثان فقط! �أهذا هو‬
‫لها بده�شة ً‬
‫مفهوم احلديث لكما‪� ،‬إذا كيف تت�شاجران؟!»‬
‫رغم الوجع الذي ميلأ روحها قبل ج�سدها‪� ،‬إال �أن ابت�سامة �صغرية �شقت‬
‫وجنتيها‪ ،‬مل ت�ستطع كتمها لتخفت ببطء بعدها وتقول‪«:‬مل تق�صد فعلها‪ ،‬هي فقط‬
‫غا�ضبة»‪.‬‬
‫كان يح ّدثها وهو يعالج كدماتها وي�ستمع �إليها ب�إن�صات‪ ،‬حتى توقفت يده عن‬
‫املتابعة وهو يلمح مق�صد كالمها‪ ،‬فتحدث بنف�س هدوئها‪«:‬غا�ضبة لأنها مل تعلم‬
‫ما حدث ل�سهيلة؟»‪� ،‬أبعدت عينيها عنه وهي تكمل بخفوت‪«:‬نعم ومل تعلم ما حدث‬
‫يل»‪ .‬جت ّمدت مالحمه ب�أكملها وهو يتذ ّكر ما حدث فتحدث بخفوت‪َ «:‬مل مل تخربي‬
‫هددك؟!»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�أحدا؟! هل‬
‫‪240‬‬
‫�صمت لإدراكه مدى غباء �س�ؤاله وعندم ملح جمودها‪� ،‬أخذ يلملم يف علبة‬
‫الإ�سعافات وهو يقول‪«:‬ال يوجد ك�سر‪ ،‬جمرد كدمة فقط»‪.‬‬
‫نظر كالهما للآخر ً‬
‫طويل وقد باحت النظرات مبا �أخفاه القلب‪ ،‬حتى ارتع�شت‬
‫زمرد ف�أ�سبلت �أهدابها و�أحاطت ج�سدها بذراعيها لع ّلها تبعث بع�ض الدفء فيه‪،‬‬
‫حقيقتك‪ ،‬ما �أدى‬
‫ِ‬ ‫�ساد ال�صمت جمددًا ليقول‪�«:‬أنا ل�ست نادما لأنني �أخربت عمتي‬
‫لتعبها ال�شديد»‪.‬‬
‫مل تقل �شيئا‪ ،‬يكره �صمتها وكيف حتيط نف�سها بتلك الفقاعة الباردة‪ ،‬حتدثت‬
‫بهدوء بعد حلظات‪�«:‬أنا �أ�ؤمن بق�ضاء اهلل وقدره‪� ،‬أنا فقط �أردتها �أن حتبني دون �أي‬
‫حقيقة‪ ،‬دون �أي �أ�سباب»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫هتف بغ�ضب‪�«:‬أت�شكني بحب � ِ‬

‫ت‬
‫لك‪ ،‬احلب ال يحتاج حلقائق يا زمرد‪ ،‬ال‬ ‫أمك ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لك لي�س ك�أي حب‪،‬‬‫والدتك ِ‬
‫ِ‬ ‫يحتاج لتربيرات‪ ،‬من يحب يثق‪ ،‬من يحب يخاف‪ ،‬وحب‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫والدتك‪ ،‬مل تخرج‬
‫ِ‬ ‫أنت تدركني �صعوبة املوقف على اجلميع فتخيلي الو�ضع على‬
‫لكن � ِ‬

‫ع‬
‫و�ضعك‪ ،‬هي مل حتتج‬
‫ِ‬ ‫وجودك �أخريا بعد كل هذا العمر لتجد �صدمة‬
‫ِ‬ ‫من �صدمة‬
‫لك �ضعفها‪ ،‬لتربر لنف�سها عدم قدرتها‬
‫لتحبك‪ ،‬هي احتاجت حلقائق لتربر ِ‬
‫ِ‬ ‫حلقائق‬
‫عليك»‪.‬‬
‫حمايتك‪ ،‬على احلفاظ ِ‬
‫ِ‬ ‫على‬
‫�شحب وجهها وهي تنظر �إليه وهو يتحدث بهذه الطريقة معها‪ ،‬وتن�صت ملعنى‬
‫كلماته‪ ،‬هل هو حمق؟! �إذا كان احلب ثقة فلماذا مل‪...‬؟!‬
‫ابتلعت ت�سا�ؤلها وهي تبعد نظراتها امل�صدومة عنه‪ ،‬لتنه�ض من مكانها بهدوء‪،‬‬
‫فوقف وقد فهم ارتباكها وتخ ّبطها فهم�س لها ب�صوت حنون‪«:‬هناك فرق �شا�سع بني‬
‫بجانبك»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الغ�ضب النعدام الثقة وبني ال�شعور بالغ�ضب للعجز لأننا مل نكن‬
‫رفعت عينيها جمددًا له لترتقرق بالدموع وهي تردف بوجع‪«:‬الغ�ضب ي�أتي ملن‬
‫يهتم يامن‪ ،‬ولي�س ملن �أكمل حياته ك�أن �شي ًئا مل يكن»‪.‬‬
‫لك �أن حتكمي على الكتاب من‬ ‫�ساد ال�صمت للحظة ليجيبها بجمود‪«:‬ال يحق ِ‬
‫أمامك ك�أنه �أكمل حياته رمبا �أكملها ُم�ضطرا‪� ،‬أكملها لأن ال‬
‫�صورة غالفه‪ ،‬من بان � ِ‬
‫خيار �آخر‪� ،‬أكملها لأن من غابوا مل يعودوا ومن معه لهم حق عليه ب�أن يكمل حياته‬
‫‪241‬‬
‫من �أجلهم وال يدركون �أنه غاب مع من غابوا‪ ،‬لكنه �أكملها وهو ي�ستمد قوته من‬
‫ذكرى‪ ،‬ذكرى لأيام كان فيها ح ًيا ومل يعد»‪.‬‬
‫�أ�سبلت �أهدابها عنه لتتحول �صفحة وجهها للوح جليدي وهي جتيبه ب�صوت‬
‫واهن‪�«:‬أنت خمطئ‪� ،‬أنا ال يحق يل �أن �أحكم من الأ�سا�س»‪ ،‬ا�ستدارت لتتجه لباب‬
‫املنزل ثم توقفت للحظة وهي تكمل‪«:‬ال تقلق لن �أح ّملك ذنب وفاتها‪ ،‬فهي ارتاحت‬
‫وذهبت ملن ا�شتاق لها‪ ،‬على الأقل كان لديها �أحد»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل �أمرية‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫نزلت من �سيارة الأجرة بعد �أن �أعطت لل�سائق �أجرته‪ ،‬الذي كان يتابع هيئتها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫با�ستغراب‪ ،‬نظرت لبوابة املنزل وهي تتنف�س ب�صعوبة‪ ،‬تعلم �أن الليل انت�صف منذ‬

‫شر وال‬
‫�ساعة‪ ،‬ولكنها مل ت�ستطع �أن ت�أتي لهنا بعد حديثها مع زمرد‪ ،‬كان عليها �أن تفرغ كم‬

‫توزيع‬
‫الغ�ضب الذي يعرتيها‪ ،‬وبعد ال�سري يف �شوارع املدينة ل�ساعات‪ ،‬ا�ستطاعت �أن ت�صفي‬
‫ذهنها ولكن وجدت نف�سها �أمام املاليني من الأ�سئلة ومل ت�ستطع االنتظار للغد من‬
‫�أجل احل�صول على �إجابتها‪ ،‬رفعت هاتفها وات�صلت على الرقم لي�ستمر الرنني‬
‫حتى ينقطع اخلط‪ ،‬فزفرت ب�ضيق وهي تتحرك للبوابة وت�ضغط على اجلر�س‪ ،‬مرة‬
‫مرتني‪ ،‬حتى ملحت نور املنزل ُي�ضاء ل ُيفتح الباب ويخرج �آخر �شخ�ص �أرادت �أن تراه‬
‫هم�ست بداخلها‪«:‬يا اهلل �أعني»‪.‬‬
‫�أخرج نظارته الطبية من جيب �سرتته وارتداها بينما ارت�سمت مالمح الده�شة‬
‫على وجهه وهو يتحدث ب�صدمة‪ُ «:‬غفران!»‪ ،‬ليقرتب يف اللحظة التالية ليفتح‬
‫البوابة اخلارجية‪.‬‬
‫ارجتف ج�سدها على ندائه با�سمها فابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تتحدث‬
‫بجمود‪�«:‬أعتذر عن جميئي يف هذا الوقت املُت�أخر‪ ،‬لكن �أنا �أريد التحدث مع �أمرية‬
‫يف �أمر مهم‪ ،‬ال يحتمل الت�أجيل»‪.‬‬
‫ارتفع حاجباه بده�شة وهو ما زال على وقفته يتمعن يف النظر �إليها‪ ،‬وك�أنه ال‬
‫‪242‬‬
‫ي�صدق �أنها �أمامه‪ ،‬تنحنح بخفوت وهو يقول‪«:‬ولكن هي نائمة الآن فالوقت‪»...‬‬
‫قاطعته بقوة‪�«:‬أيقظها �أرجوك‪ ،‬الأمر لن ي�ستغرق �سوى دقائق»‪� ،‬شعر �آ�سر ب�أن‬
‫الأمر بالغ الأهمية و�إال مل تكن لتت�صرف هكذا‪ ،‬هز ر�أ�سه بتف ّهم ليقودها لل�شقة‪.‬‬
‫وطرق الباب بهدوء‪ ،‬حلظة حلظتان لتفتح �أمرية الباب و�آثار النوم على وجهها‪،‬‬
‫وهي تنظر له بده�شة حتولت ل�صدمة وهي تلمح ُغفران خلفه ووجهها �شاحب اللون‪.‬‬
‫�آ�سر‪ُ ،‬غفران‬
‫تريدك يف �أمر مهم»‪ ،‬مل‬
‫ِ‬ ‫حتدث �آ�سر بهدوء‪«:‬م�ساء اخلري عزيزتي‪ُ ،‬غفران‬
‫يكد يكمل كالمه حتى ملح تلك ال�شعلة تزيحه من طريقها ومت�سك ر�سغ �أمرية وتدلف‬

‫ع‬
‫بها ال�شقة وهي تقول لها‪«:‬يجب �أن نتحدث»‪.‬‬
‫أنت خمطئة‪،‬‬ ‫أنت يف تلك احلالة ف� ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أنك �ستنفردين بها و� ِ‬
‫ري‬‫ص‬
‫ظننت � ِ‬
‫ح�سنا يا �شعلة �إن ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫دلف خلفهما ب�إ�صرار لتلمحه ُغفران وهو يدخل غرفة �أمرية معهما‪ ،‬فوقفت �أمامه‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫وهي تتحدث بوقاحة‪�«:‬أريدها مبفردها‪ ،‬ال ميكنك البقاء»‪ ،‬حتدث بهدوء وهو‬

‫ع‬
‫أردت احلديث معها فتف�ضلي‪ ،‬لأنني لن‬ ‫يتجه لأحد الكرا�سي ليجل�س عليها‪�«:‬إن � ِ‬
‫تدخله‪ ،‬ولكن �صوت �أمرية القلق منعها وهي‬‫�أحترك من هنا»‪ ،‬كادت �أن ت�سبه وتلعن ّ‬
‫بك ُغفران؟! ما الذي حدث؟!»‪.‬‬ ‫ت�س�ألها‪«:‬ماذا ِ‬
‫تنهدت ُغفران بتعب وهي ت�ست�شعر جدية �آ�سر يف حديثه لتجل�س على الأريكة‬
‫املوجودة وتطلب من �أمرية اجللو�س هي الأخرى بجوارها‪ ،‬بادرتها دون �أي‬
‫مقدمات‪�«:‬س�ؤال و�أريد �إجابته ب�صدق‪ ،‬هل � ِ‬
‫أجربك ممدوح على النزال �أو بالأدق‬
‫اختبار الكفاءة؟!»‪.‬‬
‫�شحب وجه �أمرية وهي تنظر ل ُغفران ب�صدمة‪ ،‬كيف جلملة واحدة �أن تعيدك‬
‫لأ�سو�أ �أيام حياتك‪ ،‬جتعلك ت�شعر بطعم الأمل املر يف حلقك‪ ،‬نف�س الأمل‪ ،‬نف�س‬
‫اخلوف‪ ،‬نف�س ال‪ ،...‬ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تبعد بعينيها عنها وتتحدث بهدوء‬
‫يخفي الكثري من امل�صائب‪�«:‬أي اختبار تتحدثني عنه؟!»‪.‬‬
‫رفعت ُغفران كفها لتطرق على الطاولة �أمامها بقوة وهي تتحدث بغ�ضب‬
‫مكتوم‪«:‬جاوبي على �س�ؤايل اللعنة»‪ ،‬ازداد �شحوب �أمرية وهي تلمح غ�ضب عفران‬
‫‪243‬‬
‫عليها لأول مرة فرتقرقت الدموع يف عينيها وهي جتيبها بوجع‪«:‬ما الذي تريدين‬
‫معرفته؟!‪ ،‬هل اقتحم غرفتي يف منت�صف الليل بعد يومني من اختفاء زمرد؟! هل‬
‫�أدخلني احلظرية لأجد نف�سي �أمام فتاة لأول مرة �أراها‪ ،‬لأجد �سمر جتردين من‬
‫ثيابي‪ ،‬ال �شيء ي�سرتين �سوى مالب�سي الداخلية و�أنا �أرجتف من الربد‪ ،‬لأجده جال�سا‬
‫�أمامنا ويقر علينا القوانني‪ ،‬اختبار يجب �أن جنتازه و�إال املوت يكون من ن�صيبنا‪،‬‬
‫قتال بيني وبني فتاة لأول مرة �أراها‪ ،‬قتال ال ينتهي �سوى باملوت‪ ،‬وعندما اعرت�ضت‬
‫هاجمتني الفتاة لتبد�أ قتالها فهي تريد الفوز‪ ،‬تريد اجتياز االختبار‪ ،‬فهي ال تريد‬
‫املوت ومن يريده!» هتفت �أمرية ب�س�ؤالها الأخري بارجتاف لتنه�ض من مكانها وتدير‬
‫وغفران‬ ‫ظهرها لهما تخفي �أملها وخوفها وارجتافة ج�سدها عن �آ�سر امل�صدوم ُ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ال�شاحبة‪ ،‬نظرت �أمامها وك�أن املوقف يتكرر‪ ،‬بنف�س الأحداث ك�أنها تعي�شه جمددًا‬

‫ب‬
‫�أكملت ب�أمل وهي تغم�ض عينيها بقوة ومل ت ِع لدموعها التي انهمرت ب�ضعف‪«:‬دقيقة‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫مزاحا‬
‫دقيقتان و�أنا �أجد الأمل ينت�شر يف وجهي و�صدري لأ�ست�شعر جدية الأمر‪ ،‬لي�س ً‬

‫توزيع‬
‫ولكنه قانون من قوانينه‪� ،‬سمعته ي�صرخ با�سمي وهو يقول‪�«:‬أفيقي ليلى �أنت على‬
‫أخربتك �أنني �شعرت بالتقزز من ا�سمي ومن الهواء الذي‬ ‫ِ‬ ‫�أعتاب املوت» هل �‬
‫قليل لرتيح قب�ضتها لأجد‬ ‫�أت�شاركه معه‪ ،‬والفتاة التي ال �أعرف حتى ا�سمها تتوقف ً‬
‫نف�سي �أدفعها بعيدً ا عني لأ�شعر بالغثيان وحلظة �أخرى لأخرج كل ما بجويف‪ ،‬نه�ضت‬
‫ببطء بعدها‪ ،‬وكل ج�سدي ي�ؤملني لأتفاج�أ بها جت ّدد قتالها ويف حلظة وجدت �أن ما‬
‫تدربنا عليه طوال تلك ال�سنوات يدي حتفظه فتنفذه وك�أن عقلي مل يعد م�سيط ًرا‬
‫عليها‪� ،‬شعرت �أن عقلي منف�صل عن ج�سدي وروحي واقفة من بعيد ت�شاهد‪ ،‬وقلبي‬
‫ّ‬
‫ته�شم ل�شظايا و�أنا �أ�سمع ت�أوهات الفتاة‪ ،‬الأمر مل ي�ستغرق دقائق لأملحها �ساكنة على‬
‫ه�شم ودماء ت�سيل من �أنفها وعينيها‪� ،‬أدركت �أن خويف غلب غ�ضبي‬ ‫الأر�ض‪ ،‬فكها ُم َّ‬
‫فرتاجعت بقوة و�أنا ال �أ�صدق �أين ا�ستعملت قوتي لقتال �أحد»‪.‬‬
‫التفتت بقوة وهي تنظر ل ُغفران بنظرات غريبة وك�أنها انف�صلت بنف�سها عنهما‬
‫لذلك املكان جمددًا‪«:‬ولكن الأمر مل ينته بعد‪ ،‬هو مل يكتف‪� ،‬أراد املوت ُغفران و�أنا‬
‫�أعطيته ما �أراد‪� ،‬أرادها جثة فكانت‪� ،‬أرادها مقتولة فكانت‪ ،‬لقد قتلتها ُغفران‪،‬‬
‫بدل من‬‫قتلتها لي�س لأنه هددين باغت�صابي‪ ،‬ف�أنا حتى وافقت على �أن يغت�صبني ً‬
‫‪244‬‬
‫�أن اقتلها ليتحول تهديده لإيذاء زمرد التي ال �أعرف عنها �شيئا‪ ،‬التي ا�ستيقظت‬
‫من يومني لأجدها لي�ست باملنزل‪ ،‬ف�أدركت �أنه �أخفاها‪ ،‬لأنه يعلم �أنه �سي�ستخدم‬
‫كطعم لنحقق له مطالبه وكان الأمر ثم ماذا؟! �أنا قتلت من‬ ‫م�شاعرنا جتاه بع�ضنا ُ‬
‫�أجلها وهي كانت تلهو معه وهي كانت‪.»...‬‬
‫رفعت كفها امل�ضموم �أمام فمها وهي ت�شهق بعنف‪«:‬لقد قتلت يا ُغفران‪ ،‬لقد‬
‫قتلت فتاة ال �أعرف حتى ا�سمها‪ ،‬لقد حب�سني معها يف غرفة واحدة بعد �أن انتهى‬
‫منها‪ ،‬بعد �أن تركها خاوية من �أع�ضائها!‪ ،‬هل تدركني معنى �أن تقبعي يف غرفة‬
‫لك �أنه �سينه�ض‬‫ذنبك‪ ،‬تنظرين له ب�أعني ميتة‪ ،‬ت�ست�شعر برودته‪ ،‬يهي�أ ِ‬‫واحدة مع ِ‬
‫أنت ال تعلمني‬
‫ألك ملاذا؟! لت�صمتي و� ِ‬
‫ويفرت�سك‪ ،‬يغذي خماوفك‪ ،‬وي�س� ِ‬
‫ِ‬ ‫أمامك‬
‫ليقف � ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫حتى الإجابة يا �إلهي لقد �أردتُ االنتحار ولكنني مل �أقو على �أن �أنه�ض‪ ،‬مل �أقو على‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫�سالحا �أقتل به نف�سي»‪.‬‬
‫�أن �أجد �شي ًئا �أو ً‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أخذت �أمرية ت�ضرب �صدرها بقب�ضتها وهي تت�أوه‪«:‬هذا الأمل ال ينتهي‪ ،‬وجهها‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫البارد ال يفارقني‪ ،‬دمها الذي �سال على �أر�ضية الغرفة ال يفارق خميلتي»‪.‬‬
‫اقرتبت ُغفران ُم�سرعة متنعها من �ضرب �صدرها بقوة‪ ،‬وهي جتذبها لأح�ضانها‬
‫لك مل �أُرد‪ ،‬حتى عندما هددين‬ ‫لتت�شبث فيها �أمرية بقوة‪«:‬لقد جعلني �أقتلها‪� ،‬أق�سم ِ‬
‫ب�أنه �سيغت�صبني مل �أرد قتلها ا�ست�سلمت له ولكنه مل يفعل‪ ،‬لقد قتلتها من �أجل ال‬
‫�سيجربك كما �أجربين‪� ،‬آه ُغفران متنيت‬
‫ِ‬ ‫إليك‪،‬‬
‫أخربتك �سي�صل � ِ‬
‫ِ‬ ‫�شيء‪ ،‬هددين �إن �‬
‫املوت ومل �أجده‪ ،‬كيف �أك ّفر عن هذا الذنب‪ ،‬كيف �أعي�ش به‪ ،‬كيف!» �أغم�ضت ُغفران‬
‫عينيها ب�أمل ودمعة يتيمة تهرب من حمب�سها وهي ت�شدد من احت�ضانها‪ ،‬بينما �آ�سر‬
‫ينظر لهما بعدم ت�صديق‪ ،‬ال ي�صدق عقله ما �سمعه‪ ،‬ال ي�صدق �إىل �أي مدى �ستنتهي‬
‫تلك ال�صدمات‪� ،‬أخته ال�صغرية �صغريته �آذاها هذا القذر كث ًريا‪� ،‬آذاها بقوة‪ ،‬هذه‬
‫هي احللقة املفقودة‪ ،‬احللقة التي كانت تلتف حولها �أمرية دون �أن جتر�ؤ على دخولها‬
‫�أو ال�سماح لأحد بدخولها‪ ،‬هم�س بعدم ت�صديق‪«:‬يا �إلهي»‪� ،‬أخرجه من �صدمته‬
‫هتاف ُغفران با�سمه ليجدها تنظر له برعب وت�سند ج�سد �أمرية املُرتخي‪ ،‬حلظة‬
‫�سرعا �إليها ويحملها لي�ضعها على ال�سرير‪ ،‬ويطمئن عليها‬‫وهو ينظر �إليها ليتجه ُم ً‬
‫‪245‬‬
‫وغفران تتابعه بعينيها وهو يقي�س نب�ضها ليخرج لدقائق ويعود‬ ‫واع‪ ،‬دقائق ُ‬
‫بعقل ال ٍ‬
‫ليحقنها بحقنة ُمهدئة‪ ،‬وي�سود ال�صمت الغرفة‪ ،‬ظلت واقفة جامدة يف مكانها‪ ،‬تتابع‬
‫�أنفا�س �أمرية املُنتظمة و�شحوب وجهها يوحي بانهيارها هي الأخرى‪ ،‬بينما يجل�س‬
‫�آ�سر على ال�سرير بجوار �أمرية ينظر لها ب�ضياع‪.‬‬
‫ال تعلم كم مر الوقت وهي على حالتها‪ ،‬و�آ�سر ال يتحرك من مكانه‪ ،‬لتتجه لباب‬
‫ابق»‪� ،‬أغم�ضت عينيها وهي تقاوم‬ ‫الغرفة تنوي اخلروج عندما �سمعت هم�سه‪ِ «:‬‬
‫االنهيار‪ ،‬متنعه من ر�ؤية دموعها‪ ،‬هم�ست بخفوت‪«:‬ال �أ�ستطيع» ليجيبها بنف�س‬
‫إليك عند ا�ستيقاظها‪� ،‬إنه انهيار ع�صبي»‪.‬‬
‫هم�سها‪�«:‬ستكون يف حاجة � ِ‬

‫ع‬
‫لتهز ر�أ�سها بالنفي وهي جتيبه‪«:‬ال مل تعد يف حاجة �إ َّ‬
‫يل‪ ،‬لقد خذلتهما‪ ،‬لقد‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ف�شلت يف حمايتهما‪ ،‬لقد خ�سرتهما» نه�ض �آ�سر ليقف �أمامها وهي يراها لأول مرة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫حمنية الر�أ�س‪ ،‬هو يفهم‪ ،‬هو يعي جيدً ا ما بها‪.‬‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫يوما مع واقعهم من‬
‫كانت تعلم �أنها ال يجب �أن تتهاون يف دورها لأنهم مل يحيوا ً‬
‫دون حمايتها‪ ،‬كانت هي لفظ‪«:‬الأمان» لهم‪ ،‬هي التي مل حتظ ً‬
‫يوما ب�أمان لها‪.‬‬
‫م�سموحا به و�إن‬
‫ً‬ ‫مل يكن من اختيارات حياتها �أن تكون رهينة ملخاوفها‪ ،‬هذا لي�س‬
‫حدث وخافت‪ ،‬انهار كل �شيء حولها‪ ،‬تلك الأ�سوار التي �شيدتها طوال عمرها لتحمي‬
‫نف�سها من امل�شاعر �ستنهار لتنهار روحها معها وتنتهي‪.‬‬
‫هم�س با�سمها لكنها مل ترفع عينيها له ليلمح اهتزاز كتفيها ليعي انهيارها‪ ،‬م�سك‬
‫يديها بقوة وجذبها خلفه ليخرج من الغرفة و�شعور غريب يعرتيها باال�ست�سالم له‪،‬‬
‫�أدخلها الغرفة الأخرى و�أجل�سها على ال�سرير ليدلف للخارج لدقيقة ويعود حامال‬
‫كو ًبا من الع�صري‪«:‬تناويل هذا» وهو م�صدوم من انهيارها‪.‬‬
‫ال�ستغرابه ملحها تنفذ كالمه من دون اعرتا�ض‪ ،‬مل يعرفها خا�ضعة هكذا‪ ،‬جل�س‬
‫على الأر�ض �أمامها وملحها وهي مت�سح دموعها ب�سرعة فلم يع ّلق ب�شيء وهو يتنف�س‬
‫يل»‪.‬‬
‫بقوة ليتحدث بجدية‪«:‬انظري �إ ّ‬
‫حلظة‪ ،‬حلظتان لي�ضيع يف لون عينيها الباهت‪ ،‬ال يرى النريان التي اعتاد‬
‫ر�ؤيتها ليتحدث بخفوت و�آثار ال�صدمة ما زالت مرت�سمة على مالحمه‪«:‬ا�ستمعي‬
‫‪246‬‬
‫لك الآن‪ ،‬وال تفكري مبقاطعتي‪ُ ،‬غفران � ِ‬
‫أنت ال�ضوء لأخ�ضر يف حياتهما‪،‬‬ ‫ملا �س�أقوله ِ‬
‫عندك لتجدا القوة على اال�ستمرار‪،‬‬‫ِ‬ ‫أنت هي �أر�ض اال�ستعداد لهما‪ ،‬ترتاحان‬‫� ِ‬
‫�ستحتاجانك دوما‪ ،‬مل ولن تخذليهما‪ ،‬هل ت�سمعيني ُغفران؟! �إنهما يف عز �ضعفهما‬
‫ِ‬
‫كنت‬
‫بخ�سارتك‪ ،‬هل لو ِ‬
‫ِ‬ ‫حتتاجانك ب�شدة‪ ،‬مل تخ�سريهما بعد فال ت�سمحي لهما‬
‫ِ‬ ‫الآن‪،‬‬
‫كنت لت�سمحي له بامل�ضي قدما يف خمططاته؟!»‬ ‫على علم مبا يخطط له هذا الوغد ِ‬
‫هزت ر�أ�سها بالنفي ليكمل بقوة وهي ي�شعر بالراحة ال�ستجابتها‪«:‬هل ِ‬
‫كنت‬
‫كنت لت�سمحي له بت�شويه روح �أمرية؟!»‬
‫لت�سمحي له باغت�صاب زمرد؟! هل ِ‬
‫لتهز ر�أ�سها بالنفي جمددًا لي�س�ألها ال�س�ؤال الأهم‪«:‬ملاذا؟!» �صمتت للحظات‬

‫ع‬
‫لتجيبه بعدها بوهن مدفون خلف �أحزانها‪«:‬لأنهما قطعة مني‪ ،‬لأنهما من‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫م�س�ؤوليتي‪ ،‬لأنني �أحبهما ب�شدة و�أنا ال �أتهاون يف حماية من �أحب»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ش‬
‫م�سك يديها ونظر لها بحب وهو يبت�سم ابت�سامة �صغرية‪«:‬بال�ضبط ل ِ‬

‫ر‬
‫أنك ال‬

‫والتوزي‬
‫لك فقط الليلة‬
‫تتهاونني يف حماية من حتبني لذا ال تفعلي‪ ،‬ال تتهاوين الآن‪� ،‬س�أ�سمح ِ‬

‫ع‬
‫باالنهيار‪ ،‬لنعتربها ا�سرتاحة ُمارب‪ ،‬لكن غدا‪� ،‬أريد ُغفران التي �أعرفها‪ ،‬تلك‬
‫ال�شعلة املُتقدة التي ال تخفت �أبدا‪ ،‬تلك التي حتمي �أحباءها وتفديهم بروحها‪ ،‬تلك‬
‫التي تهاجم ب�شرا�سة كل من يفكر باالعتداء على ما متلكه وعلى كل عزيز لديها»‪.‬‬
‫نظرت له عفران ب�ضياع لتهم�س ودمعة تفر من حمب�سها‪«:‬لكنني ُمتعبة ب�شدة»‪،‬‬
‫�أجابها بحنان ك�أنه يهاود طفلة �صغرية‪�«:‬أعرف يجب �أن تكوين ُمتعبة»‪ ،‬ف�س�ألته‬
‫برباءة ودموعها قد �أفلت جلامها فانهمرت على وجنتيها بقوة‪«:‬هل �س�أرتاح؟!‬
‫هل ب�إمكاين �أن �أعود قوية جمددًا �آ�سر؟!» �أجابها بقوة وهو يحيط يديها بني‬
‫عليك يف هذا»‪.‬‬
‫كفيه‪«:‬بالطبع �أنا �أعتمد ِ‬
‫ت�أوهت بتعب وهي متيل بج�سدها للأمام وت�ضع جبينها على كتفه ليرتكها هو‬
‫للحظات وهو يعي �أنها لي�ست بوعيها‪ ،‬ولكن كم �أ�سعده �أنها ت�شعر بالأمان يف وجوده‪،‬‬
‫�سمع هم�سها‪«:‬مل �أرد منذ �صغري �سوى �أن �أعي�ش يف بيت هادئ‪ ،‬بني �أب و�أم حمبني‪،‬‬
‫مل �أرد �أن يكون يل �إخوة ف�أنا �أنانية �أريد حبهما يل فقط‪ ،‬ولكن الآن �أريد � ً‬
‫أي�ضا �إخوة‬
‫يل �آ�سر‪� ،‬أريد من يرعاين ف�أنا تعبت من املراعاة‪� ،‬أريد �أن �أعود �صغرية لأعي�ش‬
‫‪247‬‬
‫طفولة �أخرى غري طفولتي‪� ،‬أريد من يربت على وجهي بحنان ويحت�ضنني ب�أمان‪،‬‬
‫�أريد �أن يكون يل �أب‪ ،‬و�أن يكون يل �أم‪ ،‬و�أن يكون يل �أخ يناديني ب�صغريتي كما تفعل‬
‫مع �أمرية �أنا �أريد � ًأخا مثلك �آ�سر‪� ،‬أريد حبك هذا الذي متنحه ب�سخاء لأمرية»‪.‬‬
‫تركها تخرج كل ما بداخلها يف انهيارها وكم �أوجع قلبه كلماتها لتت�أمل روحه وهو‬
‫ي�سمع نحيبها وي�ست�شعر دموعها على كتفه‪ ،‬مر الوقت وهي تبكي بقوة لتهد�أ �شهقاتها‬
‫وهي تدير ج�سدها عنه وتلتفت جلهة ال�سرير الأخرى لتقول بخفوت‪«:‬اتركني وحدي‬
‫غدً ا �س�أكون ما تريده‪� ،‬س�أقبل با�سرتاحة املحارب هذه»‪.‬‬
‫نه�ض مكانه وابت�سامة �صغرية حزينة زينت ثغره لتخفت بعد حلظات وهو يخرج‬

‫ع‬
‫من الغرفة متنهدا بقوة‪ ،‬نظر لباب غرفة �أمرية و�آمله قلبه حلالة �أخته‪ ،‬فالو�ضع‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫يزداد �صعوبة مع كل تلك ال�صدمات‪ ،‬دخل للغرفة وو�ضع كر�س ًيا بجانب �سريرها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وجل�س عليه يتابعها بعينيه‪ ،‬والكثري من الأفكار يطرق عقله بقوة‪ ،‬خلع نظارته‬

‫شر وال‬
‫وو�ضعها على الطاولة ليعدل من و�ضعيته على الكر�سي وهو يهم�س لنف�سه‪�«:‬ساعة‬

‫توزيع‬
‫واحدة �آ�سر لتنه�ض جمددًا»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل �أمرية‬
‫�شعر مبلم�س يد تربت على كتفه بحنو‪ ،‬رم�ش بعينيه �أكرث من مرة و�شعر ب�آالم‬
‫ُمتفرقة يف ج�سده �س ّببتها نومته اخلاطئة‪ ،‬فتح عينيه بده�شة وهو يرى ُغفران �أمام‬
‫عينيه‪ ،‬ظل ينظر �إليها للحظات ُم ً‬
‫نده�شا وهو غري م�ستوعب ملكانه وكيف هي �أمامه‪،‬‬
‫ابت�سم لها بحنان وهو يرفع يديه ليحاول مل�س وجهها فتحدث ب�صوت ناع�س‪«:‬ما‬
‫�أجمل الأحالم التي ت�أتيني فيها»‪.‬‬
‫رم�ش بعينيه جمددًا وهو يلمح با�ستغراب جمود مالحمها ويديها التي م�سكت‬
‫كف يديه املمدود بحنان ليت�أوه ب�أمل يف اللحظة التالية وهو ينتف�ض من مكانه على‬
‫وغفران تلوي كفه بقوة وهي تهم�س بجمود‪«:‬هل ا�ستيقظت الآن؟!»‬ ‫الكر�سي ُ‬
‫«نعم‪ ،‬نعم اتركي يدي»‪.‬‬
‫‪248‬‬
‫فلتت كف يديه ليدلك مو�ضع �أمله بقوة وهو ينظر لها �شزرا ويتحدث ب�صوت‬
‫حانق‪�«:‬أهذه طريقتك لتوقظي �أحدهم؟!» �أجابته بربود وهي ت�ستدير لتقرتب من‬
‫�سرير �أمرية لتجل�س بالقرب منها‪«:‬لقد ناديتك كث ًريا ولكنك مل ت�ستيقظ‪ ،‬وعندما‬
‫فتحت عينيك بدا ك�أنك ما زالت يف �أحالمك‪ ،‬فكان يجب على �أحدهم �أن يوقظك»‪.‬‬
‫نظر لها ب�ضيق م�صطنع‪ ،‬وهو يتابعها بعينيه ليعي �أن ُغفران �أم�س قد رحلت‬
‫وعادت ال�شعلة املُتقدة‪ ،‬نظر باجتاه ال�شرفة ليجد �أنه ما زال الوقت مبكرا على‬
‫كاف للراحة‪،‬‬
‫�شروق ال�شم�س‪ ،‬فالتفت لها ُمنده�شا وهو يدرك �أنها مل حتظ بوقت ٍ‬
‫فلمح �شحوب وجهها والإرهاق الوا�ضح عليه‪ ،‬بينما احمرار عينيها ي�شي ببكائها‬

‫ع‬
‫الذي حتما ا�ستمر ل�ساعات‪ ،‬رق قلبه لهيئتها اله�شة التي تخفيها بجمودها‪ ،‬تلك‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫التي جتل�س �أمامه الآن قد انهارت بني ذراعيه �أم�س‪ ،‬ناجته وناجت حاجتها للحب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫والرعاية‪ ،‬تلك املر�أة التي تنظر لأمرية باهتمام بالغ ما هي �إال طفلة تبغي احلنان‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫من �أهلها‪� ،‬شعور قوي بداخله يدفعه دف ًعا لأن يكون هو �أهلها‪ ،‬لأن يكون والدها‬

‫ع‬
‫و�أخاها و�صديقها‪ ،‬و�أخافته م�شاعره �أم�س وهي تبكي بني يديه‪ ،‬وهو يكاد يتو�سل لها‬
‫�أن يكون � ً‬
‫أي�ضا حبيبها!‬
‫�أ�شاح بعينيه عنها وهو ي�شعر بارتباك م�شاعره �أمامها‪ ،‬وبغباء �أفكاره‪ ،‬فتحدث‬
‫بخفوت‪�«:‬أنا �س�أذهب لإح�ضار بع�ض القهوة لنا‪ ،‬فالوقت ما زال مبكرا على ا�ستيقاظ‬
‫�أمرية»‪ .‬قاطعته قبل خروجه وهي تنه�ض من مكانها‪«:‬ال داعي لذلك‪� ،‬أنا راحلة»‪.‬‬
‫التفت لها وهو ي�س�ألها �سريعا‪«:‬ملاذا؟!» ارتبكت للحظات وهي ت�شعر ب�سخافة‬
‫املوقف الذي و�ضعت نف�سها فيه مبكوثها ل�ساعات تبكي يف الغرفة املجاورة لل�شخ�ص‬
‫الوحيد الذي مل ترغب يوما يف االنهيار �أمامه‪.‬‬
‫�أجابته بهدوء‪�«:‬أنا ما كان يجب �أن �أبقى بعد نوم �أمرية‪ ،‬لذا يجب �أن �أرحل‬
‫الآن و�س�أعود لها اليوم للتحدث معها يف مو�ضوع مهم»‪ ،‬اقرتب �آ�سر منها بهدوء‬
‫وهو يلمح ارتباكها‪ ،‬بينما تبعد عينيها عنه وقال بهدوء‪«:‬ال داعي لكل هذا االرتباك‬
‫ُغفران‪ ،‬ما حدث بالأم�س قد حدث وانتهى الأمر»‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫رفعت عينيها له بقوة وهي جتيبه بربود‪�«:‬أنا ل�ست ُمرتبكة‪ ،‬فتوقف عن �إل�صاق‬
‫تلك ال�صفات التافهة بي»‪.‬‬
‫اقرتب خطوة �أخرى وهو ينظر له بتمعن ليجيبها‪ِ «:‬‬
‫كونك مرتبكة �أو ال لي�س‬
‫بالأهمية‪ ،‬ما حدث بالأم�س هو ما يجب �أن يحظى بالأهمية»‪ ،‬ردت عليه بقوة‪«:‬ما‬
‫حدث بالأم�س ال يحمل �أي �أهمية‪ ،‬كانت حلظة �ضعف ولن تتكرر �أبدا‪ ،‬خط�أ ما كان‬
‫يجب �أن �أقرتفه»‪.‬‬
‫�ضيق عينيه وهو يتابع ردات فعلها واحتقان وجهها بغ�ضب‪ ،‬ف�أجابها بهدوء‪«:‬البوح‬
‫مبا نحمل داخل قلبنا لي�س ب�ضعف ُغفران وحتما لي�س بخط�أ»‪.‬‬

‫ع‬
‫ابت�سمت له ب�سخرية لتجيبه بتهكم‪«:‬ها هو الطبيب ميار�س عمله‪َ ،‬مل ال تهتم‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ب�أختك وتدعني و�ش�أين؟!»‪� ،‬أجابها بنف�س تهكمها‪«:‬بالأم�س ِ‬
‫كنت ترغبني بي � ًأخا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لك»‪� ،‬أ�سرعت يف الرد عليه غا�ضبة من �سخريته‪�«:‬أنت ل�ست �أخي»‪.‬‬ ‫ِ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫ابت�سم ابت�سامة حقيقية جعلتها ترم�ش بعينيها للحظات وهي تراه ينظر لها‬
‫نظرات �أر�سلت ق�شعريرة لذيذة لقلبها ليجيبها‪«:‬هذه حقيقة �أنا ل�ست � ًأخا ِ‬
‫لك‪،‬‬
‫و�أظن �أنني لن �أ�ستطيع �أن �أكون فيما بعد»‪ ،‬قاطعته‪«:‬و�أنا مل �أطلب منك �أن‪»...‬‬
‫قاطعها هو بقوة وقد قطع اخلطوة الباقية بينهما لتلفحها �أنفا�سه وهو يقول‪«:‬لن‬
‫�أ�ستطيع �أكون لك � ًأخا لأن ما �أحمله داخلي لك ال ي�شبه الأخوة ب�شيء»‪.‬‬
‫اهتزت حدقتا عينيها وهي تنظر له ب�صدمة ليتحدث بهدوء وهو يبتعد يف اجتاه‬
‫قليل يا �شعلة‪ ،‬فالأف�ضل �أن ت�ستيقظ �أمرية لتجدك بجوارها‪،‬‬ ‫ابق ً‬ ‫باب الغرفة‪ِ «:‬‬
‫فيبدو �أن كالم �أم�س مل ينته بينكما‪� ،‬س�أح�ضر القهوة ولن �أت�أخر»‪ ،‬تركها وخرج‬
‫لتنظر هي للمكان الذي �شغله منذ حلظة وتهم�س من دون ت�صديق‪«:‬لقد نادين‬
‫ب�شعلة»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫بعد فرتة‬
‫تنهدت بخفوت وهي ت�شعر با�ضطراب داخلها‪� ،‬أخذت تنظر لأمرية بحنان وهي‬
‫تعيد يف ر�أ�سها كلماتها التي �ألقتها بالأم�س عليها‪� ،‬صغريتها عانت يف �صغرها‪ ،‬عانت‬
‫‪250‬‬
‫مثل ما عانت �أو رمبا �أقل مما عانت‪ ،‬ولكن هي تعي جيدً ا معنى اختبار الكفاءة‪ ،‬تعي‬
‫كيف كانت قبله وكيف �أ�صبحت بعده‪ ،‬لذا �أن تتخيل �صغريتها وهي تعاين ما عانته‬
‫كان م�ؤملًا بقوة لها‪ ،‬تنهدت بخفوت وهي تنظر لكوب القهوة الذي بجوارها على‬
‫الطاولة وهي حتمد اهلل �أن �آ�سر تركها بعد �أن �أح�ضر القهوة واحرتم �أخ ًريا رغبتها‬
‫يف املكوث مبفردها بعد ما حدث بالأم�س‪ ،‬هم�ست داخلها وهي تخفي وجهها بني‬
‫كفيها‪«:‬يا �إلهي حتما يظن �أنني حمقاء تتو�سل احلب واحلنان الآن»‪.‬‬
‫« ُغفران» هم�سة رقيقة �ضعيفة و�صلت لأ�سماعها لرتفع ر�أ�سها بقوة لأمرية وهي‬
‫ا�ستيقظت»‪ ،‬رم�شت �أمرية بعينيها وهي ت�شيح بوجهها عن‬
‫ِ‬ ‫تهم�س لها بارتياح‪«:‬لقد‬
‫ُغفران فعندما فتحت عينيها �أخذت بعد الوقت لتفكر �أين هي وماذا حدث‪ ،‬وبعد �أن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ملحت ُغفران تتنهد بتعب بجوارها‪ ،‬عادت �سيل الذكريات كلها لها لت�شعر باحلنق‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫من نف�سها ملا باحت به‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫أنت بخري الآن؟!» �س�ألتها ُغفران بحنان ا�شتاقت له �أمرية لرتفع عينيها‬ ‫«هل � ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫لها وترقرقت بالدموع وهي تنظر ل ُغفران التي تنظر لها بحب خمتلف عن �أي حب‬
‫�شهدته يف هذا املنزل‪ ،‬حب ُغفران لها هو طوق النجاة يف حياتها‪ ،‬من دونه متوت‬
‫غر ًقا يف بحور احلزن والأمل‪ ،‬ف�شهقت ببكاء وهي ت�ضع قب�ضتها على فمها وتهم�س‬
‫أرجوك ال تغ�ضبي مني»‪.‬‬
‫ل ُغفران‪�«:‬أنا �آ�سفة � ِ‬
‫لتنه�ض ُغفران ُم�سرعة من مكانها لتن�ضم ل�سرير �أمرية وهي ترفعها من كتفيها‬
‫إياك �أن تعتذري عن‬‫لتحيطها بذراعيها وت�ضمها جل�سدها بقوة وهي تهم�س بقوة‪ِ �«:‬‬
‫لك دخل به‪ ،‬من يجب �أن يعتذر هو �أنا‪ ،‬لأنني مل �أكن �أعلم‪ ،‬مل �أكن‬ ‫�شيء لي�س ِ‬
‫أنت ابنتي‬
‫منك يا �صغرية‪ ،‬ف� ِ‬
‫أحميك‪ ،‬ال �شيء يجعلني �أغ�ضب ِ‬ ‫بجوارك وقتها ومل � ِ‬‫ِ‬
‫قبل �أن تكوين �أختي و�صديقتي»‪.‬‬
‫ت�ش ّبثت �أمرية بح�ضن ُغفران بقوة وهي تف�ضي بكل دموع احلزن والأمل وال�ضعف‬
‫والقهر داخلها وتتحدث بني �شهقاتها‪�«:‬أنا ال �أ�ستطيع العي�ش من دون ِ‬
‫حبك هذا‬
‫أنت �سبب حياتي حتى الآن‪� ،‬أنا ال �أح ّم ِلك ذنب ما حدث فكالنا مل يكن يف‬ ‫ُغفران‪ِ � ،‬‬
‫و�ضع اختيار �سليم‪ ،‬وكالنا مل يكن على دراية مبدى جربوتهم وظلمهم و�ساديتهم‪،‬‬
‫زلت طوق جناتي من اجلحيم الذي ع�شت به»‪.‬‬ ‫كنت وما ِ‬‫أنت ِ‬‫� ِ‬
‫‪251‬‬
‫�أغم�ضت ُغفران عينيها بقوة وكلمات �أمرية تنزل بردا و�سالما على قلبها‪ ،‬ت�شفي‬
‫�آالم وجراح روحها لتزيد من �ضم �أمرية لها وهي ُتر ّبت على ظهرها بدفء و�صل‬
‫ب�صمت تام‪ ،‬وعدة م�شاعر‬
‫ِ‬ ‫بو�ضوح لذلك الذي وقف على باب الغرفة يتابعهما بعينيه‬
‫جتي�ش بقلبه وروحها وهو ينظر لأغلى امر�أتني لقلبه بعد والدته‪.‬‬
‫تنحنح بعد حلظات بخفوت وهو يطرق الباب ويدلف وهو يتحدث مبرح‪«:‬وها‬
‫هي �أمريتنا قد ا�ستيقظت من نومتها يف �أح�ضان ال�شعلة»‪.‬‬
‫غمز �آ�سر لأمرية مبرح وهي ي�شري لها بر�أ�سه ل ُغفران لتهتف الأخرية بغ�ضب‬
‫مكتوم‪«:‬توقف عن مناداتي ب�شعلة»‪ ،‬لتنظر �أمرية لهما با�ستغراب وهي مت�سح‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫دموعها ثم عادت ب�أنظارها لآ�سر وهي ترتقب مالمح وجهه لتتبني مدى ت�أثره مبا‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�سمعه �أم�س‪ ،‬لينظر لها �آ�سر بحنانه املميز وهو يرفع بني يديه مائدة �صغرية حتوي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫فطورا لذيذا‪ ،‬وهو يقول واعيا لنظراتها املت�سائلة املرتقبة له‪«:‬والآن فطور ملوكي‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫لأمريتنا بعد غفوتها ونرجو �أن ت�سمح خلادمها ول�شعلتها �أن ن�شاركها الفطور»‪.‬‬
‫لتنه�ض ُغفران بغ�ضب وهي تبتعد عن طريقه بينما تنظر له �أمرية بدموع وهي‬
‫تهز ر�أ�سها باملوافقة حامدة اهلل بداخلها على وجود �آ�سر يف حياتها‪ ،‬وتف ّهمه ال�شديد‬
‫ملا متر به‪.‬‬
‫كان الفطار لذيذا ال يخلو من �إثارة �آ�سر لغ�ضب ُغفران الذي ا�ستغربته �أمرية‬
‫وهي تعي مدى قدرة ُغفران على ال�سيطرة على م�شاعرها‪ ،‬لتبت�سم بداخلها وهي‬
‫تدرك جيدا �أن ت�أثري �آ�سر قادر على تغيري العديد من الأ�شياء وامل�شاعر داخل �أي‬
‫�شخ�ص‪ ،‬تدرك �أن هذا فطرة فيه و�ضعها اهلل به بعيدً ا عن علمه ووظيفته‪.‬‬
‫دلف �آ�سر ب�أكواب الع�صري وهي ي�ضعها �أمام ُغفران التي نظرت له ب�ضيق تبعه‬
‫قليل!»‬
‫�س�ؤالها‪«:‬ملا �أح�ضرت ثالثة �أكواب؟! �أخربتك �أنني �أريد التحدث لأمرية ً‬
‫لينظر لها �آ�سر بهدوء وهو يعطيها كوب الع�صري لت�أخذه منه بغلظة بينما‬
‫التفت ليمنح �أمرية كوبها بابت�سامة حنونة حركت �شيئا داخل قلب ُغفران‪ ،‬لرتم�ش‬
‫للحظات وهي تبعد عينيها عنه لرتاه يحمل كوبه ويجل�س على الكر�سي الآخر املواجه‬
‫‪252‬‬
‫لها من اجلهة الأخرى من ال�سرير وهي يتحدث بجدية تناق�ض ملعة امل�شاك�سة يف‬
‫حديثك الذي مل ينته بعد»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫عينيه‪«:‬تف�ضلي �أكملي‬
‫�ضمت ُغفران �شفتيها وهي متنع نف�سها بقوة من �س ّبه و�ضربه قبل �أن ت�أخذ‬
‫طويل حماولة منها جلذب الهدوء لروحها‪ ،‬الذي تفقده ب�سهولة يف وجود هذا‬ ‫نف�سا ً‬
‫الغليظ احلنون‪ ،‬لتلتفت بعدها لأمرية التي تتابعهما بابت�سامة لتبد�أ حديثها املهم‬
‫وتدعو داخلها �أن تتح ّمله �أمرية‪�«:‬أمرية هناك �أمور مل تدركيها‪� ،‬أمور رمبا ُتغري‬
‫توقفت‬
‫ِ‬ ‫معك فيما قل ِته بالأم�س‪ ،‬ولكن هناك ً‬
‫نقاطا‬ ‫بداخلك الكثري‪� ،‬أنا لن �أحتدث ِ‬
‫ِ‬
‫ل�ست على دراية بكافة الأحداث‪ ،‬و�أن هناك الكثري من الأمور‬ ‫أنك ِ‬ ‫عندها لأتيقن � ِ‬
‫لك‬ ‫حتليلك للأحداث‪� ،‬أو رمبا �أو�صلها ِ‬
‫ِ‬ ‫إليك باخلط�أ من خالل‬‫التي رمبا و�صلت � ِ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أحدهم عن ق�صد»‪.‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫نظرت لها �أمرية باهتمام وهي تركز على كل كلمة تخرج من فم ُغفران‪ ،‬وت�شعر‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�أن القادم �سيع�صف بدواخلها‪ ،‬لت�سمع ُغفران وهي تكمل مف�سرة لها حقيقة ما حدث‬

‫ع‬
‫مع زمرد وممدوح و�سهيلة‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت بالغرفة تخ ّللته �شهقات �أمرية وهي تنقل �أنظارها لآ�سر الواقف‬
‫وغفران اجلامدة يف جمل�سها‪ ،‬نظرت ل ُغفران بعدم ت�صديق وارتعا�ش‬ ‫بجوارها ُ‬
‫ت�سب ممدوح‪.‬‬
‫�شفتيها ينذر ببكاء مل يت�أخر لتبكي �أمرية يف اللحظة التالية وهي ّ‬
‫زفرت ُغفران بتعب وهي تقف لتجل�س بجوار �أمرية على ال�سرير وتتحدث بقوتها‬
‫املعتادة وهي مت�سك ذراعيها‪«:‬ا�ستمعي يل جيدا �أمرية‪ ،‬ممدوح وغد قذر ٍ‬
‫�ساد‬
‫نف�سك ذن ًبا مل يكن لنا يد به‪،‬‬
‫ُمغت�صب وكل ال�صفات ال�سيئة يف العامل‪ ،‬ال حت ّملي ِ‬
‫ً‬
‫وحو�شا ت�شبهه‪� ،‬أراد �أن‬ ‫كل هذا كان ُمططا منه يا عزيزتي �أراد �أن يخلق م ّنا‬
‫نكرب على البغ�ض والكره واحلقارة والقذارة‪� ،‬أرغمنا على دخول جامعات معينة‬
‫حتى ي�ستفيد م ّنا يف عملياته وجتارته‪� ،‬أراد ومل ي�صل لغايته‪ ،‬وال�سبب هو �أننا معا‬
‫حتى هذه اللحظة‪ ،‬نعم و�صل مع كل واحدة م ّنا ملرحلة �صعبة فكان على خطوة من‬
‫هدفه الأخري املن�شود لكنه مل يفعل‪ ،‬مل ي�سعفه الوقت يف املا�ضي ولن ت�سمح له قوتنا‬
‫الآن ويف امل�ستقبل‪ ،‬نحن ما عدنا ُ�ضعا ًفا وكل �شيء قد و�ضح �أمامنا الآن‪� ،‬أمرية زمرد‬
‫بك كما‬ ‫ظننت‪ ،‬هي كانت ُمربة فقط يا عزيزتي لقد هددها ِ‬ ‫مل تكن ُمذنبة كما ِ‬
‫‪253‬‬
‫هددها �سابقا ب�سهيلة‪ ،‬علم �أن نقطة �ضعفنا هي عالقتنا ببع�ض فا�ستغلها ل�صاحله‬
‫�أ�سو�أ ا�ستغالل وكتمان كل واحدة م ّنا على م�صابها �أبعدنا عن بع�ض وجعلنا نفقد‬
‫لك‬
‫أريدك بهذا ال�ضعف �س�أ�سمح ِ‬
‫تركيزنا وت�ضيع احلقيقة من �أمامنا ب�سهولة‪� ،‬أنا ال � ِ‬
‫مل�ساعدتك‬
‫ِ‬ ‫الآن باالنهيار هكذا لأنني �أعرف �أن احلقيقة �صعبة‪ ،‬ولكن �أنا يف حاجة‬
‫معك‪،‬‬‫إليك‪ ،‬وال التحدث ِ‬
‫حتتاجك زمرد فهي ال تقوى على النظر � ِ‬ ‫ِ‬ ‫فيما بعد كما‬
‫لتربر ما فعلته ونحن ال نريدها �أن تبعد ع ّنا‪ ،‬نحن يجب �أن نكون م ًعا يف كل خطوة‬
‫�سنخطوها م�ستقبل ًيا‪ ،‬ما زال هناك الكثري لنفعله‪ ،‬ما زال �أمامنا العديد من ذيول‬
‫ممدوح يف كل مكان يجب �أن منحوها»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫رم�شت �أمرية بعينيها لكلمات ُغفران وروحها تت�ش ّرب كلماتها حماولة بث روح‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫املقاتلة بداخلها ولكن هذه املرة يف الطريق ال�سليم‪ ،‬رفعت ُغفران عينيها لآ�سر لرتاه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫م�س �شغاف قلبها لتهرب نب�ضة منها له مبا�شرة‪.‬‬
‫ينظر لها بانبهار ّ‬

‫توزيع‬
‫كادت �أن تخرج من البيت بعد �أن اطم�أنت على �أمرية‪ ،‬لت�سمعه يناديها‪ ،‬فالتفتت‬
‫معك»‪� ،‬س�ألته‬
‫لتجده يرتدي �سرتته ويقرتب منها بهدوء قائال‪�«:‬أريد �أن �أحت ّدث ِ‬
‫با�ستغراب‪«:‬بخ�صو�ص ماذا؟!»‪ ،‬كاد �أن يجيبها حني قاطعه رنني هاتفها‪ ،‬فتحت‬
‫الهاتف لتجد رق ًما غري ًبا فقامت بالرد لي�صلها �آخر �شخ�ص كانت تتوقع �أن ت�سمعه‪.‬‬
‫«�إذا فلقد قتلت عزيزتنا خلود نف�سها يف النهاية‪ ،‬خ�سارة ولكن مل �أتوقعها ً‬
‫يوما‬
‫�شجاعة لي�ست مثلك عزيزتي غفران»‪ ،‬هتفت بغ�ضب غافلة عن ذلك الذي يقف‬
‫بالقرب منها ويراقب مالحمها‪�«:‬أيها الوغد احلقري‪ ،‬لقد ماتت بعد �أن عرفت ب�أنك‬
‫من قتلت والدها»‪� ،‬ساد ال�صمت من الطرف الآخر ليقول بعد حلظات‪�«:‬إذا �إنه‬
‫جمرد انتقام ولكن انتظري هذا انتقام من نف�سها»‪.‬‬
‫�سمعته ُغفران وهو ي�ضحك ب�سخرية لتقول ب�صوت مكتوم‪�«:‬أين �أنت؟! �إن كان‬
‫لديك اجلراءة �أخربين مبكانك»‪ ،‬ت�أكد �آ�سر من هوية املتحدث بعد �أن ملح الغ�ضب‬
‫الكامن بكلماتها‪.‬‬
‫‪254‬‬
‫قال ممدوح وهو ميدد �ساقه امل�صابة على الأريكة �أمامه‪�«:‬آه يا ُغفران لقد‬
‫ا�شتقت �إليك ح ًقا‪ ،‬كيف هو اللواء ح�سني‪� ،‬أما زال يبحث عن خطوط لإيجادي‪،‬‬
‫�أخربيه �أال يجهد نف�سه فمن امل�ستحيل �أن جتدوين»‪.‬‬
‫جعلك‬
‫ِ‬ ‫«�س�أجدك ممدوح‪� ،‬أق�سم لك �س�أجدك وحني �أفعل لن �أتوانى عن‬
‫تذوق طعم الأمل مبرارة مل تكن تتخ ّيلها‪ ،‬تذكر هذا جيدً ا»‪ ،‬قاطعها ممدوح وهو‬
‫يقول‪«:‬دعينا من تلك الرثثرة و�أخربيني �أين عمران‪ ،‬ف�أنا لدي معه ح�ساب مل‬
‫ينته»‪.‬‬
‫ارتع�ش ج�سدها وهي ت�سمعه يذكر عمران لتجيبه بحذر‪�«:‬أنا ال �أعرف �أي �شيء‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫عن رجالك ممدوح‪ ،‬وال تظن �أن‪ »...‬قاطعها قبل �أن تكمل‪ُ «:‬غفران هيا‪ ،‬توقفي عن‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لك منذ �سنوات‪ ،‬و�أنه ليفعل امل�ستحيل من �أجل‬

‫ن‬
‫اخلداع‪� ،‬أنا �أعلم بحب ذلك الأحمق ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫عميل للأمن الوطني»‪.‬‬‫حمايتك‪ ،‬فقط مل �أتخيل �أن يكون ً‬
‫ِ‬

‫ع‬
‫جمدت ُغفران مكانها وهي ت�سمع كلماته حب! ما الذي يهذي به‪ ،‬لت�س�أله ب�صوت‬
‫حاولت �أن يبدو طبيعيا‪�«:‬أنا ال �أعرف عنه �شيئا» ليجيبها بعد تن ّهد‪«:‬خ�سارة ف�أنا‬
‫أنك تعرفني مكانه‪ ،‬ف�أنا لدي عنوانان الآن‪ ،‬وال �أريد �أن �أجازف بالذهاب‬ ‫ظننت � ِ‬
‫لواحد فقط فيهرب من الآخر»‪.‬‬
‫�شعرت بالرعب وهي ت�سمعه لي�أتي يف عقلها هنية (والدة عمران) لتقول‬
‫يل جيدً ا يا ممدوح‪� ،‬أنا ال �أعلم �أي �شيء يخ�ص عمران �أو غريه‬ ‫بغ�ضب‪«:‬ا�ستمع �إ ّ‬
‫و‪ »...‬قاطعها قبل �أن ينهي املكاملة‪«:‬ح�س ًنا‪� ،‬شك ًرا لعدم امل�ساعدة»‪.‬‬
‫نظرت ُغفران للهاتف بيديها وهي ت�شعر بربودة يف �أو�صالها‪ ،‬وكل ما يدور بعقلها‬
‫هو قدرة ممدوح للو�صول لوالدة عمران‪� ،‬سمعت �آ�سر يناديها‪ُ «:‬غفران �أجيبيني‪..‬‬
‫ماذا بك؟! وهل كان ذلك ممدوح؟!»‬

‫بتيه للحظات وهي تقول‪�«:‬سيقتلها �إن عرف مبكانها �سيقتلها»‪� ،‬شعر‬


‫نظرت له ٍ‬
‫�آ�سر بالتوتر وهو يقول‪«:‬من؟ �سيقتل من؟!»‬
‫‪255‬‬
‫علي الذهاب»‪ ،‬كادت �أن ترحل حتى‬ ‫�أدخلت الهاتف بحقيبتها وهي تقول‪ّ «:‬‬
‫�شعرت بقب�ضة قوية مت�سك بذراعها‪ ،‬فرفعت عينيها لتجد �آ�سر ينظر لها بجمود‬
‫معك‪ ،‬وبعدها �سنقرر �إىل �أين نذهب‪،‬‬ ‫قائل‪«:‬عليك الهدوء و�إخباري ما يحدث ِ‬ ‫ً‬
‫لك بالذهاب وحدك‬ ‫بحالتك هذه �أنا لن �أ�سمح ِ‬
‫ِ‬ ‫أنت‪ ،‬لأن‬
‫ونذهب �أق�صد بها �أنا و� ِ‬
‫فان�س الأمر»‪ ،‬رم�شت بعينيها وهي ترى �آ�سر بهالة الغ�ضب التي حتيط به لأول مرة‬
‫ِ‬
‫لتبلع ريقها ب�صعوبة وهي تقول‪«:‬ال �ش�أن لك بي‪ ،‬اترك ذراعي»‪ ،‬زاد من ال�ضغط‬
‫لك بالذهاب حتى‬ ‫على ذراعها ليقول‪«:‬ال داعي للجدال ُغفران ف�أنا لن �أ�سمح ِ‬
‫�أفهم»‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال ‪M M M‬‬ ‫ع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫يع‬ ‫ز‬

‫‪256‬‬
‫الفقدان فجوة ي�صعب رتقها‬

‫وا�سيني الأعرج‬
‫الف�صل الرابع ع�رش‬
‫�أخوة‬

‫منزل عمران‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫طرقت الباب وانتظرت بتوتر وهي تنظر بعينيها لذلك الذي يقف بجوارها‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�صامتًا‪ ،‬تذ ّكرت اخت�صارها ملا حدث له لي�صمت للحظات وهو يعر�ض عليها تو�صيلة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ب�سيارتها‪ ،‬لع ّلهما يوفران بع�ض الوقت وها هو الآن بعد �أن و�صلت �أ�صر على القدوم‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫معها قائال بجمود �أنه لن يطمئن عليها وهي وحدها‪.‬‬
‫ُفتح الباب لتتنهد ُغفران بارتياح وهي ترى �سعاد ترحب بها وتنظر با�ستغراب‬
‫للرجل الذي معها‪ ،‬دلفت ُغفران لت�س�أل على �أم عمران ف�أخربتها �سعاد �أنها بغرفتها‪،‬‬
‫�س�ألتها بخفوت عن عمران ف�أجابتها �أنه مل يعد من اخلارج بعد‪.‬‬
‫دلفت ُغفران �أوال للغرفة ثم دقائق بعد �أن ع ّدلت من جل�سة �أم عمران �سمحت‬
‫لآ�سر بالدخول‪ ،‬تنحنح �آ�سر وهو يدلف للغرفة لريق قلبه لتلك العجوز ال�صغري التي‬
‫جتل�س يف هدوء ورزانة على �سريرها وتنظر باجتاه الباب بابت�سامة قائلة‪�«:‬أهال‬
‫ب�صديق ُغفران مرحبا بك يا بني»‪ ،‬اقرتب �آ�سر وم�سك كفيها ليق ّبله يف حركة‬
‫حالك»‬
‫بك يا �أم عمران‪ ،‬كيف ِ‬ ‫عفوية منه جذبت �أنظار ُغفران وهو يقول‪�«:‬أهال ِ‬
‫�أجابته‪«:‬يف ر�ضا يا بني‪� ،‬إذا �أخ ًريا ِ‬
‫جئت ُغفران‪� ،‬س�أ�شكوها لك يا بني‪ ،‬هل ي�صح‬
‫�أن تغيب ل�شهر و�أكرث وال ت�أتي لرتاين؟!» �أجابها �آ�سر بابت�سامة‪«:‬هي هكذا دائما‬
‫يا �أم عمران‪ ،‬تغيب لفرتات طويلة لتخترب غالوتها بقلوبنا»‪� ،‬ضحكت �أم عمران‬
‫جلملته بينما نظرت له ُغفران بغري ت�صديق لتقول مغرية املو�ضوع‪ِ �«:‬‬
‫أنت تعلمني يا‬
‫عنك وعن �صحتك وكيف هو عمران؟!»‬ ‫�أم عمران عن �أ�سباب ان�شغايل‪� ،‬أخربيني ِ‬
‫‪258‬‬
‫تنهدت بتعب وهي تقول‪«:‬حاله ال يعجبني يا ابنتي‪ ،‬منذ فرتة وهو يبقى باملنزل‬
‫لفرتات طويلة و�أحيانا كثرية �أجده بغرفتي و�أنا نائمة فقط جال�س بجواري مم�س ًكا‬
‫بيدي‪ ،‬قلبي يح ّدثني �أن هناك �أم ًرا جلال معه ولكنه مثلك ال يخربين ب�شيء �إال ما‬
‫يريد قوله فقط»‪.‬‬
‫�شعر �آ�سر بتلك النغزة جمددا التي �أ�صابته وقتما حتدثت ُغفران عن عمران‪،‬‬
‫وقلقها الحتمال �أذية ممدوح له ولوالدته‪� ،‬سمع غفران تقول‪«:‬ال تقلقي‪ ،‬حت ًما �أمور‬
‫نف�سك بالتفكري كثريا»‪.‬‬
‫أنت فقط ال ترهقي ِ‬ ‫ال�شغل هي ما ت�شغله ال �أكرث وال �أقل‪ِ � ،‬‬
‫دخلت �سعاد يف تلك اللحظة بكوبني من الع�صري‪ ،‬فنه�ضت ُغفران قائلة‪«:‬ال داعي‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫يا �سعاد فنحن راحالن»‪ ،‬نظر �آ�سر لها با�ستغراب وهو يقول‪«:‬هل لديك م�شكلة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫مع الع�صائر؟!» رم�شت بعينيها وهي تنظر له غري م�ستوعبة �س�ؤاله ليكمل‪«:‬يف �أي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لك �أي ع�صري تهربني على الفور! هل لديك م�شكلة معه؟!»‪،‬‬ ‫مكان ُيقدم �أحدهم ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫نظرت له بربود دون �أن جتيبه ب�شيء‪ ،‬لتقرتب من �أم عمران ال�ضاحكة لتق ّبل كفيها‬
‫حفظك اهلل‬
‫ِ‬ ‫حفظك اهلل يا ابنتي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫يف بادرة جعلت الدموع ترتقرق يف عينيها لتقول‪«:‬‬
‫يل»‪ ،‬اقرتب �آ�سر وقام باملثل لتزيد �أم عمران من ال�ضغط على كفيه وهي تطلب منه‬
‫�أن يقرتب لتهم�س يف �أذنه‪«:‬اهتم بها جيدً ا فلقد عانت الكثري‪ ،‬ال ترتكها يا بني ح ًبا‬
‫يف اهلل»‪.‬‬
‫ابت�سم �آ�سر وهو يهم�س لها‪«:‬ال �أ�ستطيع تركها يا �أم عمران‪ ،‬ال تقلقي هي بقلبي‬
‫قبل عيني»‪� ،‬شعر بارتعا�شة وهو يرى كف �أم عمران مي�سد على ر�أ�سه لتجيبه‬
‫ب�سعادة‪�«:‬أ�سعدكما اهلل يا بني»‪ ،‬ليعتدل يف وقفته ُم�ستغر ًبا من جملته التي خرجت‬
‫من فمه دون �أن يفكر فيها‪ ،‬رفع �أنظاره لها لرياها م�شغولة مع �سعاد يف ر�ؤية الأدوية‬
‫التي تتناولها �أم عمران‪ ،‬فنظر �إليها برتكيز هذه املرة‪ ،‬هو لي�س غب ًيا لينكر �شعورا‬
‫غريبا اجتاحه‪ ،‬هو فقط م�ستغرب من ا�ضطراب م�شاعره وجد نف�سه ي�ؤ ّمن على‬
‫دعاء �أم عمران وجزء كبري داخله قد ظهر فج�أة وهو يتمنى ح ًقا �أن ي�سعدهما اهلل‬
‫معا‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫بعد �ساعة‬
‫ات�صل به �أحد رجاله ف�أجابهم على الفور‪�«:‬أخربين» �أجابه رجله‪«:‬لقد‬
‫وقعت يف الفخ ب�سهولة‪ ،‬لقد تبعناها كما قلت لنا بعد ات�صالك بها‪ ،‬لقد خرجت‬
‫منذ �ساعة مع ذلك الطبيب من �إحدى ال�شقق يف نف�س احلي الذي ت�سكن فيه لكن‬
‫لي�ست �شقتها»‪� ،‬ساد ال�صمت للحظات ليجيبه ممدوح‪«:‬حاول �أن تعرف �أي ال�شقق‬
‫دخلتها‪ ،‬هناك حتما تخفي �شي ًئا عن عمران‪ ،‬وحاول �أال ترتك �آثا ًرا خلفك‪� ،‬س�أنتظر‬
‫ات�صالك»‪.‬‬
‫�أنهى ممدوح ات�صاله وهو يفكر بابت�سامة �أنه كاد �أن ي�صل ملا يريد دون �أن يتم‬

‫ع‬
‫اكت�شافه‪� ،‬أم�سك جهاز الرثيا اخلا�ص به و�أجرى ات�صاال لي�أتيه �صوت يتكلم بلهجة‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫عربية لي�س�أله ممدوح‪«:‬هل انتهى حت�ضري املخدر؟!» لت�أتيه الإجابة من الطرف‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الآخر ليقول بابت�سامة �أ�سد تناول فري�سته‪«:‬جيد جدا �س�أ�ستلمه منك غدا يف املكان‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫املعتاد»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫�أنهى املكاملة ليلتفت على �صوت خلفه‪«:‬هل بد�أ الأمر؟!» ليجيبها بابت�سامة‬
‫تعك�س خبثه وهو يقرتب منها‪«:‬نعم عمليات البيع التي مل تتم حان وقتها‪ ،‬الزعيم‬
‫لن يعفو عنا �إال �إذا نفذنا له ما �أراده‪ ،‬املعلومات التي �أح�ضر ِتها يل‪� ،‬ساعدتنا‬
‫كنت املميزة عندي» رفعت ذراعيها وهي حتت�ضنه لتقول بهم�س يف‬ ‫كثريا‪ ،‬دوما ِ‬
‫�أذنه‪«:‬ح�س ًنا دعنا الآن من العمل فلقد مللت و�أثبت يل كم �أنا مميزة لديك»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫م�ساء‬
‫رن هاتف ممدوح ليجيب بهدوء‪«:‬ح�سنا» �أجاب رجله‪«:‬لقد دخلنا ال�شقة‬
‫ومل يكن بها �سوى امر�أة �شابة و�أخرى عجوز عمياء جتل�س على كر�سي متحرك»‬
‫�س�أله ممدوح‪«:‬هل �أنت مت�أكد من �أنها نف�س ال�شقة التي دخلتها؟» �أجابه‪«:‬مل �أكن‬
‫مت�أكدا حتى �سمعت العجوز تنادي ابنها وقد ظنته نحن وقالت‪«:‬بني عمران هل‬
‫عدت؟!»‬

‫‪260‬‬
‫جت ّمد ممدوح مكانه وهو ين�صت لرجله ليقول ب�صوت جامد‪«:‬او�صفها يل»‪،‬‬
‫ا�ستغرب الرجل �س�ؤال �سيده ليجيبه بعد حلظات‪«:‬امر�أة عجوز يبدو �أن عمرها‬
‫تعدى ال�سبعني‪ ،‬ج�سدها �ضئيل بالإ�ضافة �إىل �أنها عاجزة وعمياء»‪ ،‬حت ّدث ممدوح‬
‫وهو ي�شعر بان�سحاب الدماء من ج�سده‪«:‬اقرتب منها واك�شف عن ج�سدها هل‬
‫هناك �أي �أثر حلروق؟!»‬
‫�ساد ال�صمت للحظات على الطرف الآخر ليجيبه الرجل‪«:‬نعم �سيدي» ليغم�ض‬
‫ممدوح عينيه بقوة وهو يقول ب�صوت ال حياة فيه‪�«:‬إنه البيت‪ ،‬ال تتحركا �أنا قادم»‪،‬‬
‫�أغلق ممدوح الهاتف ليفتح عينيه التي ت�شع غ�ضبا ليقذف بالك�أ�س التي بيديه على‬
‫احلائط فت�سقط مته�شمة‪ ،‬وهو يهتف بغ�ضب‪�«:‬أيها الوغد احلقري»‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫«ح�سنا لقد و�صلنا‪� ،‬أر�أيت املنزل قريب كما �أخربتك»‪� ،‬أجابته غفران ب�ضيق‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫وهي ت�شعر به يك�سر جميع احلواجز التي و�ضعتها لتعاملها مع من حولها‪ ،‬نظر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�آ�سر حوله بهدوء وهو يتفح�ص العمارة التي بها واملنازل من حولها‪ ،‬ملحت نظراته‬

‫ع‬
‫ف�أ�ساءت فهمها وهي تقول ب�سخرية‪«:‬عذرا فاملكان ال ينا�سب الأمري»‪� ،‬أعاد �آ�سر‬
‫نظراته �إليها ليقول بهدوء وعيناه يف عينيها‪ِ �«:‬‬
‫أنت تعلمني جيدً ا �أنني ل�ست مثل‬
‫�أولئك الذين يولون انتباههم للأماكن والنا�س وهيئتهم»‪ ،‬وهي ت�صدقه فهو مل‬
‫يرف�ض الذهاب من منزل �أم عمران حتى �شرب الع�صري‪ ،‬يا اهلل �إنه حتى مازح‬
‫�سعاد ومل يرحل حتى جعلها ت�ضحك وهي التي كانت �صامتة منذ ح�ضوره‪.‬‬
‫خرجت من �أفكارها الغبية على �س�ؤاله‪«:‬يف �أي دور ت�سكنني؟» �س�ألته‬
‫با�ستنكار‪«:‬ملاذا ت�س�أل؟!» �أجابها بتنهد‪«:‬فقط �أجيبي على �س�ؤايل»‪� ،‬صمتت‬
‫للحظات وهي تقول‪«:‬يف الدور الأخري»‪ ،‬ملحته ي�سبقها ليدخل املبنى وهو‬
‫يقول‪«:‬ح�سنا هيا»‪ ،‬حلقته م�سرعة وهي ت�س�أله با�ستنكار تام‪�«:‬إىل �أين تظن‬
‫نف�سك ذاهبا؟!» التفت �إليها لينظر لها للحظات طويلة جعلتها تتململ يف وقفتها‬
‫لت�سمعه يقول بهدوء‪�«:‬أعلم �أنك تظنيني غريب الأطوار ولكن �أنا �أرى �أن هناك �سببا‬
‫معك‬
‫يت االت�صال من ذلك احلقري وهناك �سبب لقدومي ِ‬ ‫لوجودي معك‪ ،‬وقتما تل ّق ِ‬
‫ملنزلك‪� ،‬صدقي �أو ال ت�صدقي غفران‬‫ِ‬ ‫معك‬
‫ملنزل �أم عمران‪ ،‬وهناك �سبب لقدومي ِ‬
‫ولكن �أنا لدي �إح�سا�س قوي ي�ش ّدين لل�صعود ل�شقتك‪ ،‬ك�أن هناك �شيئا يجذبني‪،‬‬
‫‪261‬‬
‫أ�سئت الظن بنظراتي �أنا مل �أكن �أرى ما حويل من �أنا�س معدومي‬‫باخلارج حني � ِ‬
‫حيطك‪ ،‬كنت �أريد �أن‬
‫احلال �أو ذوي حال متو�سط‪� ،‬أنا كنت �أكت�شف العامل الذي ُي ِ‬
‫ل�شقتك وحيدة وتق�ضي‬
‫ِ‬ ‫أنت تعودين �إليه وحيدة لت�صعدي‬ ‫بنظرتك كل يوم و� ِ‬
‫ِ‬ ‫�أراه‬
‫ل�شقتك هناك خطب ما وال �أعلم‬
‫ِ‬ ‫جئت معي �أو ال �أنا �س�أ�صعد‬
‫ليلتك وحيدة‪ ،‬لذا �سواء ِ‬
‫ِ‬
‫ما هو»‪.‬‬
‫نظرت له بجمود وهي ت�ص ّدق كل كلمة يقولها‪� ،‬آ�سر من الأ�شخا�ص ال�صريحني‬
‫الذين ال يخفون احلقيقة لأي �سبب‪ ،‬جزء من روحها ت�أثر باهتمامه حتى لو كان‬
‫جمرد ف�ضول منه‪ ،‬تخطته لت�صعد الدرج ليتبعها بهدوء و�شعور غري مريح ينتابه‪.‬‬

‫ع‬
‫و�صال للدور املن�شود فتوقفت غفران مكانها منده�شة من باب �شقتها املفتوح‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫دلفت م�سرعة ليدلف خلفه �آ�سر وهو يرى حمتويات ال�شقة الب�سيطة ُملقاة على‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الأر�ض كل �شيء فوق بع�ضه‪ ،‬دليل وا�ضح على اقتحام �أحدهم لل�شقة‪ ،‬كادت �أن‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫تدلف لغرفتها فم�سك �آ�سر ذراعها مانعا �إياها ليدلف هو بدال منها ليطمئن �أن ال‬
‫�أحد موجود‪� ،‬أوال ملح مقتنياتها على الأر�ض وكتبها مرمية ب�إهمال‪ ،‬دلفت خلفه لرتى‬
‫منظر الغرفة ف�شعرت بالغ�ضب يتخللها ف�س�ألها �آ�سر‪«:‬هل هناك �شيء مهم �أخفيته‬
‫بتيه‪«:‬ال لقد قدمت كل الأوراق التي معي للواء‪� ،‬أنا ال �أفهم‬
‫هنا قد يجدونه؟» �أجابته ٍ‬
‫وعم كان يبحث»‪� ،‬شعرت بالتيه‬ ‫َمل حت ّدث عن منزل عمران �إن كان يق�صد منزيل‪َّ ،‬‬
‫لت�شهق فج�أة وهي تقرتب من خزانتها لتفتحها وتنظر �أ�سفل �أحد الأدراج فمدت‬
‫يديها لتغم�ض عينيها بارتياح وهي جتد ما تبحث عنه‪ ،‬ملحها �آ�سر تعتدل وبيديها‬
‫�سل�سلة قدمية يبدو �أنها غالية لها‪ ،‬مل ي�ستطع منع نف�سه من �س�ؤالها‪«:‬هل هي ملك‬
‫غال لك؟!» فتحت عينيها فج�أة وك�أنها ن�سيت وجوده لت�ضع ال�سل�سلة بجيبها‬ ‫لأحد ٍ‬
‫وهي تعيد انتظام �أنفا�سها قائلة‪«:‬من الأف�ضل �أن ترحل الآن ما عاد لوجودك معنى‪،‬‬
‫ها قد اتبعت حا�ستك ال�ساد�سة ور�أيت ما ر�أيته وكما ترى ال �أحد باملنزل لذا ارحل»‪.‬‬
‫«نرحل» نظرت له بعدم فهم ليقول‪«:‬ال تظني �أنني �س�أ�سمح لك ب�أن متكثي‬
‫�ساعة هنا»‪ .‬قالت من بني �أ�سنانها‪«:‬ومن �أنت لت�سمح يل وال ت�سمح‪ ،‬تلك الأوامر‬
‫تلقيها على �إخوتك �أهلك زوجتك �أ�صدقائك ال �أنا»‪.‬‬
‫‪262‬‬
‫حت ّدث �آ�سر بهدوء‪«:‬ح�سنا �إن لن تذهبي معي ف�سنبقى هنا م ًعا»‪ ،‬ملحته يخلع‬
‫�سرتته ليجل�س على �أحد الكرا�سي باخلارج‪ ،‬نظرت له بعدم ت�صديق وهي تقول‪�«:‬أنت‬
‫متزح �ألي�س كذلك‪� ،‬أنا لن �أ�سمح لك بالبقاء �أتفهم هذا؟ والآن ارحل»‪.‬‬
‫�س�ألها فج�أة‪«:‬هل ت�سكنني هنا وحدك منذ �سنتني �أم هذه ال�شقة منذ �أيام‬
‫عال‪«:‬ارحل‪� ،‬أال تفهم‬
‫اجلامعة؟» نظرت له غري م�ستوعبة ملا يقول لتهتف ب�صوت ٍ‬
‫ما �أقوله‪� ،‬أنا ال �أريدك هنا‪ ،‬ال �أريدك باجلوار»‪.‬‬
‫�صراخها به �أعاده فج�أة لذكرى طمرها عقله ومل تظهر �إال يف تلك اللحظة‬
‫ليربق يف عقله فج�أة منذ ثالث �سنوات يف احد الأيام حني وجد ج�سد �إحداهن‬

‫ع‬
‫على الطريق لي�سرع بها �إىل �أقرب م�شفى ليقابله طاقم الطوارئ الذين �أ�سرعوا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ب�إ�سعافها ليتبعهم لغرفة الك�شف فعادت ذاكرته لتلك التي كانت تعتلي ج�سد املر�أة‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫لتنع�ش قلبها بعد توقفه‪ ،‬وتذكر ذلك ال�صراخ العايل وهي تهتف‪«:‬ا�صمدي‪ِ ،‬‬

‫ل‬
‫ابق‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ابق �أرجوك»‪ ،‬ليتوقف الزمن ب�أكمله‬ ‫معي»‪ ،‬ليتحول �صراخها لتو�سل‪�«:‬أرجوك ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫فج�أة بتوقف الطبيبة على نداء احدى املمر�ضات‪«:‬ال فائدة لقد فقدناها»‪.‬‬
‫تذكر ابتعاد الطبيبة عن جثة املر�أة وتذكر ارجتاف ج�سدها‪ ،‬تذكر خروجها‬
‫ال�سريع من الغرفة لت�صطدم به فيحيل بني وقوعها لتنظر له ب�ضياع ودموعها تنهمر‬
‫بغزارة على وجهها لتهم�س ببكاء‪«:‬لقد ماتت‪ ..‬لقد ماتت»‪ ،‬لتبعده بقوة عنها‬
‫وترك�ض خارجة من املبنى‪.‬‬
‫عاد بذكرياته ليلمحها واقفة �أمامه غا�ضبة‪ ،‬ويبدو �أنها وجهت له حديثا ولكن‬
‫بحكم ذكرياته مل يكن معها‪ ،‬الآن فقط تذ ّكر وجهها امل�ألوف‪«:‬هل �سمعت �إن مل‬
‫ترحل �س�أرحل �أنا»‪ ،‬اعتدل يف وقفته وهو ينظر لها ب�شرود ليقول فج�أة‪«:‬لقد كان‬
‫�شعرك ق�صريا»‪.‬‬
‫ِ‬
‫رم�شت غفران بعينيها للحظات‪ ،‬وك�أنها قد بوغتت بحديثه‪«:‬ماذا؟»‪ ،‬ليكمل‬
‫�شاردًا‪«:‬لقد ق�ص�صت �شعرك من قبل �ألي�س كذلك؟ �أنا �أتذكر ر�ؤيتك وقتها ب�شعر‬
‫ق�صري»‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫�ساد ال�صمت يف ال�شقة‪ ،‬ليلمح ارتباكا طفيفا يف مالحمها‪ ،‬ليقول بت�أكيد‪ِ �«:‬‬
‫أنت‬
‫أنت‬
‫تخنك يف هذا الأمر � ِ‬
‫عرفتني من قبل �ألي�س كذلك؟ ذاكرتك الت�صويرية مل ِ‬
‫رك»‪.‬‬‫تذ ّكرتني قبل �أن �أتذ ّك ِ‬
‫�أ�شاحت بوجهها عنه وهي تدير ج�سدها لتلتقط �أ�شياءها امللقاة �أر�ضا‪ ،‬وهي‬
‫تقول‪«:‬مل يكن من ال�صعب تذ ّكرك» �س�ألها‪«:‬لطاملا �أردت �س�ؤالك منذ ذلك الوقت‬
‫لك �شيئا»‪.‬‬
‫�إن كانت تلك املر�أة تعني ِ‬
‫ملح ت�ش ّنج ج�سدها لرياها تلتفت �إليه لتزجره بغ�ضب وج�سدها يرجتف‪�«:‬أنت ال‬
‫تطاق هل تعلم ذلك؟!»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫رتك ب�شخ�ص‬ ‫قريبتك‪ ،‬رمبا هي ذ ّك ِ‬
‫ِ‬ ‫ليقول دون االنتباه ملا تقوله‪«:‬هي مل تكن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫عرف ِته» �أجابته بارجتاف‪«:‬ح�سنا حان وقت رحيلك فلتذهب» ليكمل‪�«:‬أو رمبا هي‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫رتك ب�شخ�ص مل ت�ستطيعي �إنقاذه»‪.‬‬
‫ذ ّك ِ‬
‫�ضاغطا على �أع�صابها‪�«:‬أو‬
‫ً‬ ‫�صرخت ب�أعلى �صوتها‪«:‬اخرج من ال�شقة»‪ ،‬ليكمل‬
‫�شخ�ص مات دون ا�ستطاعتك م�ساعدته»‪ ،‬لتهتف من دون وعي وقد �أ�صابها انهيار‬
‫من �ضغطه عليها‪«:‬بل �شخ�ص قتلته اللعنة عليك �آ�سر»‪ ،‬جمد يف مكانه ليلمحها‬
‫تنظر له بغ�ضب و�صدرها يعلو ويهبط من انفعالها‪ ،‬لتهم�س ب�أمل‪«:‬لأخرج �أنا من هنا‬
‫مبا �أنك لن تفعل»‪.‬‬
‫كادت �أن متر بجواره حتى �أم�سك بذراعها لتلتفت �إليه بقوة حماولة جذب‬
‫ذراعها‪ ،‬وبعد حماوالتها بد�أت يف �ضربه على �صدره بقب�ضتها وهي ت�صرخ‪«:‬اتركني‬
‫اترك ذراعي»‪.‬‬
‫ حتدثي غفران‬
‫ ابتعد عني‬
‫ بوحي مبا يكتم �أنفا�سك‬
‫ ابتعد قلت لك ابتعد‬
‫‪264‬‬
‫تذ ّكر اختبار الكفاءة‪ ،‬غفران مل تكن لت�س�أل �أمرية عليه لو مل تخ�ضه بنف�سها‪«:‬هل‬
‫واجهتك حقيقة موتها‪،‬‬
‫ِ‬ ‫أملت بعد �أن‬
‫ندمت على قتلها؟! هل قتل ِتها بدم بارد؟! هل ت� ِ‬
‫أمامك؟!»‬
‫جت�سمت روحها � ِ‬ ‫طاردك �شبحها؟! هل ّ‬
‫ِ‬ ‫هل ُي‬
‫جتمدت غفران يف مكانها وهي تلهث من قوة انفعالها لرتفع عينيها ب�صدمة‬
‫وهي تنظر �إليه مت�سعة العينني ليق ّربها منه بهدوء وهو يقول‪�«:‬أهذا �سبب �شرودك‬
‫�أحيا ًنا ثم �شحوب وجهك بعدها‪� ،‬أهذا �سبب نومك امل�ستمر يف النور كما قالت‬
‫�أمرية‪ ،‬هل تظهر لك يف �شكل ب�شع؟! هل ُتخيفك؟! هل هناك �أخريا �شيء ُيخيف‬
‫خماوفك؟!»‬
‫ِ‬ ‫غفران القوية؟! �أخربيني غفران ما هي �أكرب‬
‫لتجيبه غري م�صدقة معرفته ب�سرها‪�«:‬أن يتحرك ظلها ال�ساكن يف الظالم‪� ،‬أن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫تواجهني وجها لوجه لتب�صق يف وجهي ما تهم�س به وهي مبكانها‪� ،‬أن ت�س�ألني ال�س�ؤال‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الوحيد الذي �أخ�شى �إجابته ملاذا؟»‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�آمل قلبه �شحوبها لي�س�ألها هو‪«:‬ملاذا غفران؟!»‬

‫ع‬
‫لتقول والدموع ترتقرق يف عينيها‪«:‬لأنني كنت خائفة‪� ،‬أنا كنت خائفة �آ�سر‬
‫وفعلتها حملت �سكينها وغرزته يف قلبها‪� ،‬أنا كنت خائفة من املوت لتموت هي و�أعي�ش‬
‫يل من ذلك‬ ‫�أيامي ميتة �أرغب يف موتة تريحني من احلياة‪ ،‬ما زالت هنا تنظر �إ ّ‬
‫الركن املظلم تبت�سم يل ب�سخرية ك�أنها تعلم ك�أنها تعرف �أنها مبوتها كانت �أكرث‬
‫�شجاعة من حياتي»‪.‬‬
‫قليل لتهم�س له‪�«:‬أنا �أ�ستحق هذا اخلوف الب�شع‪� ،‬أنا �أ�ستحق هذا الأمل‪،‬‬
‫�صمتت ً‬
‫علي �أن �أقول ال‪ ،‬كان على �أن �أتركها تقتلني‪ ،‬هذا الأمل ال �أريده �أن ينتهي‪ ،‬ولكن‬
‫كان ّ‬
‫�أريد لظهورها �أمامي �أن يتوقف‪� ،‬أريد التوقف عن ال�شعور بوجودها حويل‪� ،‬أريد‬
‫التوقف عن ر�ؤيتها بذلك املظهر الب�شع كما ر�أيته �آخر مرة وقت �شجارنا وبعد طعنها‬
‫بال�سكني»‪.‬‬
‫قربها �آ�سر منه وهو يلمح ارجتافها ال�شديد وهو يبعد يده عن ذراعها املم�سك بها‬
‫عليك التوقف عن لوم نف�سك يا غفران‬‫ليحيط بظهرها وهو يهم�س �أمام وجهها‪ِ «:‬‬
‫�ساحمت نف�سك فلن تريها فلن ت�شعري بوجودها‪ ،‬ذنبك‬
‫ِ‬ ‫حتى تتوقفي عن ر�ؤيتها‪� ،‬إن‬
‫‪265‬‬
‫نف�سك يا غفران»‪،‬‬
‫الذي تتم�سكني به يداوم الظهور �أمامك يف �أب�شع �صورة‪� ،‬ساحمي ِ‬
‫�س�ألته بهم�س‪«:‬كيف �أ�ساحمها و�أنا قتلتها من �أجل �أن �أعي�ش بينما هي متوت؟!»‪.‬‬
‫كنت‬
‫قرارك‪ ،‬لقد ِ‬
‫ِ‬ ‫�أجابها بت�أكيد‪«:‬هذا كان وقتها يا غفران ومل يكن هذا‬
‫أجربك‪ ،‬لقد كان ال�سبب الوحيد ملوتهم‪ ،‬وهو ال�سبب لوحيد‬
‫ُمربة‪ ،‬هذا اللعني � ِ‬
‫أنت وزمرد و�أمرية»‪.‬‬
‫لأ�سركم � ِ‬
‫«ال �أحد غفران‪ ،‬ال �أحد على وجه الأر�ض ي�ستحق الأذية‪ ،‬فال تظني � ِ‬
‫أنك‬
‫ا�ستثناء»‪.‬‬

‫ع‬
‫نظرت له ب�صدمة وهي غري ُم�ص ّدقة ما جعلها تبوح به ب�سهولة‪� ،‬أدركت قربها‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫منه دون �أن ت�شمئز‪ ،‬فابتعدت عنه بقوة وهي تقول‪«:‬من الأف�ضل �أن ترحل»‪ ،‬نظر‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لل�سل�سلة التي تقب�ض عليها يف كفها لي�س�ألها بهدوء‪�«:‬أهذه لها؟!» �أغم�ضت عينيها‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫توزيع‬
‫وكادت �أن تقول �شيئا حتى رن هاتفها‪ ،‬التفتت لتخرجه من حقيبتها لتجد رقم العم‬
‫جالل �صاحب البقال يف احلي‪� ،‬أجابته بهدوء يناق�ض ما كانت ت�شعر به من قبل‬
‫لت�سمعه يقول بارتباك‪«:‬دكتورة غفران‪� ،‬إنها �أم عمران»‬
‫جملتان ا�ستطاعتا �أن ت�شعال نريان اخلوف داخلها‪ ،‬مل ت�ستطع �أن تكت�شف �إن كان‬
‫الطريق ً‬
‫طويل بينها وبني املنزل �أم ال‪ ،‬كل ما هي مت�أكدة منه �أنها رك�ضت فور �أن‬
‫�سمعت العم جالل يهتف يف الهاتف ب�صوت غريب با�سم �أم عمران‪.‬‬
‫ملحت جتمعا كبريا لل�شرطة وعربة �إ�سعاف لتخرتق اجلموع وخلفها �آ�سر ينظر‬
‫حوله بجمود حتى �صعدا لل�شقة ف�أوقفهما �أحد رجال ال�شرطة مانعني �إياها من‬
‫الدخول لتهتف ب�أحدهم �أنها طبيبتها‪� ،‬سمع �أحد ال�ضباط حديثها ليقرتب �سائال‬
‫�إياها‪�«:‬أنت غفران ممدوح؟» �أجابته بقلق‪«:‬نعم»‪.‬‬
‫�سمح لها بالدخول وهو يعلم عنها من النقيب �سامي الذي �أخربه ب�أنه يف الطريق‬
‫�إليه‪ ،‬قال بر�سمية‪«:‬لقد �أتانا ات�صال من امر�أة ا�سمها �سعاد‪ ،‬تخربنا بارتكابها‬
‫جرمية قتل يف هذا العنوان وحني و�صولنا كانت قد اختفت»‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫عال بر�أ�سها‪ ،‬وهي ت�شعر ب�أن‬
‫هي مل ت�سمع �أي كلمة بعد جرمية قتل‪� ،‬صفري ٍ‬
‫الأر�ض متيد بها‪ ،‬كف م�سكت بذراعها لتنظر ل�صاحبها فوجدته يناظره ب�شحوب‬
‫فتح ّدث �آ�سر ب�صوت بدا ت�أثره‪«:‬رمبا ما عليك الدخول»‪.‬‬
‫هزت ر�أ�سها بال لتدلف للغرفة التي تركتها منذ فرتة ق�صرية وال تدري �أنها‬
‫�ستعود �إليها جمددا‪ ،‬كل �شيء كان مبكانه‪ ،‬كل �شيء حتى ال�ضحية! �شهقت وهي‬
‫تنتف�ض مكانها وهي تنظر جل�سد �أم عمران امل�سجى بالدماء‪� ،‬شعرت ب�أن كل �شيء‬
‫توقف حولها‪ ،‬ك�أن كل تلك الأ�صوات بالغرفة من �أ�صوات �ضباط للطبيب اجلنائي‪،‬‬
‫للهم�سات اختفت فج�أة ومل ت�سمع �سوى �صمت‪� ،‬صمت مل تتخلله الأنفا�س الغالية‬
‫لقلبها‪.‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�صوت جاء من بعيد انت�شلها من الهاوية التي �سقطت فيها وهي ت�سمعه يقول‪«:‬لقد‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مت كتم �أنفا�سها بالو�سادة قبل نحر عنقها»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫كادت �أن ت�صرخ ب�أعلى �صوت‪ ،‬وذلك الأمل يتف�شى يف جميع خاليا ج�سدها‪ ،‬حتى‬

‫ع‬
‫�أتاها �صراخ �آخر جريح‪ ،‬عويل رجل فقد �أمه‪.‬‬
‫خرجت من الغرفة م�سرعة لتجده واق ًفا يت�شاجر مع رجلني من ال�شرطة وهو‬
‫يهتف‪�«:‬إنها �أمي عليكم اللعنة»‪ ،‬جت ّمدت مكانها وهي ترى رئي�س املباحث يتخطاها‬
‫ليتحدث �إليه‪ ،‬ويف حلظة التقت عيناهما ليهتف بها‪«:‬لقد قتلها‪ ،‬لقد قتلها للمرة‬
‫الثانية لقد فعلها»‪.‬‬
‫ازداد �شحوب وجهها وهذه املرة تهتز الأر�ض من حتتها لي�سندها �آ�سر وهو يراها‬
‫فاقدة اتزانها‪.‬‬
‫ال يعلم كم من الوقت مر حتى �أنهوا الإجراءات ورحل اجلميع‪ ،‬كل ما ي�شعر به‬
‫هو اخلواء‪ ،‬ال يحدث �أحدً ا وال يجيب عن �أ�سئلة �أحد‪ ،‬كل ما يرتدد بعقله تلك املكاملة‬
‫التي �أتته وهو عائد للمنزل‪.‬‬
‫«لقد �أجدت �إخفاءها جيدا كل تلك ال�سنوات‪ ،‬مل �أ�صدق حتى ر�أيت بعيني‪،‬‬
‫لطاملا �أح ّبتك �أكرث‪ ،‬كنت طفلها املف�ضل‪ ،‬حتى وهي تلفظ �أنفا�سها الأخرية نادت‬
‫‪267‬‬
‫ا�سمك‪ ،‬تلك املرة �أنا مل �أقتلها بل حبيبتك ال�صغرية‪ ،‬فلقد �أر�شدتنا �إليها ب�سهولة‪� ،‬آه‬
‫هذا احلب ي�ستطيع �أن يقتل من يريد وقتما يريد»‪.‬‬
‫�أغم�ض عينيه وهو ي�شعر بنريان داخل روحه‪ ،‬نريان قادرة على �إحراق الأخ�ضر‬
‫والياب�س جائه �صوتها وهو يزيد من �إغما�ض عينيه‪ ،‬ال يريد التوا�صل معها كرف�ضه‬
‫للتوا�صل مع اللواء ح�سني الذي �أخربه �أنه لن يهد�أ حتى يجده! هو لن يهد�أ حتى‬
‫يقتله‪� ،‬سمع �صوتها جمددا ويبدو �أنها عازمة على �أال ترحل لقد بقيت حتى انف�ض‬
‫اجلمع ب�أكمله مع ذلك الطبيب‪ ،‬هو ال يريدها بجواره ويف نف�س الوقت يرغب ب�شدة‬
‫يف �أن ُتط ّيب جراحه‪.‬‬

‫ع‬
‫«ارحلي»‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ارتع�شت �شفتاها وهي تقول ب�صوت ُمت�أمل‪«:‬عمران �أنا مل‪ »...‬لينه�ض مكانه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أقتلك ُغفران»‪.‬‬
‫وهو يلقي بكر�سي بجواره عر�ض احلائط ليهدر بها‪«:‬ارحلي قبل �أن � ِ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫لتقف �أمامه وهي تقول بدموع‪«:‬اغ�ضب‪ ..‬افعل كل ما ترغب به‪ ..‬اقتلني‪ ..‬لع ّل‬
‫ذلك الأمل يختفي»‪.‬‬
‫ناداها �آ�سر بخفوت وهي يعي حالة عمران غري املتزنة‪ُ «:‬غفران» فلم جتبه‬
‫وهي تنظر لعمران يف عينيه لتقول بجمود وعيناها حتكي �آالمه‪�«:‬أق�سم لك ب�أنني مل‬
‫�أعرف �أنهم يتبعوين‪ ،‬دائما ما �أت�أكد قبل قدومي لهنا‪ ،‬ولكن مل �أر رجاله املعتادين‪ ،‬مل‬
‫�أعلم �أنه ي�ستطيع فعل هذا»‪ ،‬وك�أنها قالت كلمة ال�سر ليقب�ض على مقدمة قمي�صها‬
‫فلم ال يفعلها جمددا؟» تراجعت‬ ‫ويلكمها يف وجهها وهو ي�صرخ‪«:‬لقد فعلها من قبل َ‬
‫ُغفران خطوات للخلف من قوة �ضربته و�آ�سر ي�سندها من اخللف لتبعد ذراعها‬
‫بتيه‪«:‬ما الذي‬ ‫وهي تريد �أن تفهم منه ال�سر وراء تلك اجلملة التي كررها لت�س�أله ٍ‬
‫تق�صده؟ هل ما حدث لها ب�سببه؟‪ ،‬تلك احلادثة!» �أدار عمران ج�سده وهو ي�شعر‬
‫بالنار ت�سري يف �أوردته ليقب�ض على كفيه بقوة وهو يقول من بني �أ�سنانه‪«:‬ارحلي‪..‬‬
‫أنت ال تعلمني �شيئا»‪.‬‬
‫ارحلي � ِ‬
‫اقرتبت ُغفران وهي تقول غري واعية حلالة عمران‪«:‬لقد �أخربتني �أن ما حدث‬
‫كان انفجارا باملنزل ولكنها مل تكن داخله‪� ،‬أخربتني �أن قوة االنفجار دفعتها بقوة‬
‫‪268‬‬
‫وهي عائدة باجتاه املنزل لت�ضرب �سيارة ج�سدها ف�أثر عليها وجعلها كما كانت فما‬
‫عالقته بها»‪.‬‬
‫تخربك �أن‬
‫ِ‬ ‫التفت عمران وهو يقول ب�أمل و�صوته اجلريح �آملها بقوة‪«:‬ولكنها مل‬
‫فجر املنزل هو ابنها‪ ،‬ابنها الذي عاد بعد �سنتني من غربة مل نعرف عنها بهيئة‬ ‫من ّ‬
‫�إرهابية‪ ،‬ويبدو �أن جماعته قد �أمرته بتنفيذ عملية ليكت�شف �أخوه الأ�صغر �أدواته‬
‫التي �سي�ستخدمها ويب ّلغ عنه ال�شرطة ولكنه اكت�شف الأمر‪ ،‬وعندما واجه �أخاه‬
‫�أمام والدته مبا فعل‪ ،‬دافعت الوالدة عن ابنها الأ�صغر وهي تقول �أنها من ب ّلغت‬
‫أخربتك �أنه �أخذ‬
‫ِ‬ ‫عنه ال�شرطة فمنزل عبد الواحد الطيب ال يحوي �إرهابيني‪ ،‬هل �‬
‫أخربتك �أن قبلها ترك جزءا من متفجراته لي�شعل بها املنزل‬ ‫ِ‬ ‫�أدواته وهرب‪ ،‬هل �‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫أخربتك‬
‫ِ‬ ‫حني ت�أتي ال�شرطة ليوهمهم مبوته غري �آبه ب�أنه ترك خلفه �أمه و�أخاه؟! هل �‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أنها خرجت خلفه حتاول �أن تعيده لعقله م�ستخدمة قلب الأم وال تعلم �أنها فقدت‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫أخربتك �أنها مل تكد تخرج من املنزل حتى وقع االنفجار‬ ‫ِ‬ ‫قلب االبن منذ زمن؟! هل �‬

‫ع‬
‫الذي دفعها هي وابنها الأ�صغر بعيدً ا لي�صاب االبن ببع�ض احلروق يف ج�سده بينما‬
‫ت�صاب هي بال�شلل وحروق متفرقة بج�سدها ودموعها وقهرها على حالة �أبنائها‬
‫تخربك �أنها �أجربت �أن ترتك حياتها وذكرياتها يف منزل‬ ‫ِ‬ ‫جعلها تفقد نظرها‪� ،‬أمل‬
‫دوما احتواها ب�أمان لتنتقل ملكان �آخر بعيد‪ ،‬بعيد كل البعد عن ابن لن يتوانى عن‬
‫تخربك ب�أن االبن‬
‫ِ‬ ‫�إعادة الكرة لو اكت�شف �أن والدته ما زالت على قيد احلياة‪� ،‬أمل‬
‫الآخر �أراد �أن ينهي عذابها‪� ،‬أن ينتهي من ال�سبب الذي مينعها من العودة جمددًا‬
‫للأر�ض التي احتوت ج�سد زوجها‪ ،‬فعاد لأخيه ليخدعه وير�سم خطة متقنة مع �أحد‬
‫جا�سو�سا مع �أخيه‪� ،‬سنوات و�أنا �أفهمه �أنني فقدت �أمي ب�سبب‬
‫ً‬ ‫رجال ال�شرطة بالعمل‬
‫خادعا �إياه بجهلي ملعرفته ب�أنها‬ ‫ال�شرطة التي فجرت املنزل الحتوائه على �إرهابي‪ً ،‬‬
‫فعلته‪ ،‬و�أنا �أقنعه �أنني �أريد قتلهم جمي ًعا واالنتقام منهم ملا فعلوه لأمي وقبلها لأبي‪،‬‬
‫و�أنا �أقنعه �أنني �أريد �أن �أكون مثله»‪ ،‬اقرتب منها عمران يف غ�ضبه وهو مي�سك‬
‫ذراعيها ويجذبها بقوة وهو يكمل بكر ٍه‪«:‬وهل تعلمني ماذا فعله الأخ؟ احت�ضن �أخاه‬
‫بخبث وهو يخربه �أن ي�سري خلفه دائما وهو �سينتقم من كل من �آذوه؟! هل تعلمني ما‬
‫أنت يف النهاية‬ ‫أنت تعرفني جيدً ا ف� ِ‬‫الذي حاولت فعله لأمنعه عن معرفة احلقيقة‪ِ � ،‬‬
‫‪269‬‬
‫لك‬
‫ابنته‪� ،‬شبيهته‪ ،‬تعلمني جيدا �أ�ساليبه‪ ،‬كالكما قتل والدته بدم بارد‪ ،‬لكن هنيئا ِ‬
‫أنت �شاركناه يف قتلها للمرة الثانية»‪.‬‬
‫�أنا و� ِ‬
‫�أبعدها عنه بقوة لترت ّنح مكانها وهي تراه ينظر �إليها با�شمئزاز غري ُم�صدقة‬
‫ما ت�سمعه‪ ،‬عمران وممدوح �إخوة‪ ،‬ممدوح ابنها؟ كيف! لرتاه وهو يجذب �سالحه‬
‫ُم�ص ّوبا �إياه جتاهها قائال بغ�ضب‪«:‬والآن اخرجي قبل �أن �أفعل ما نندم عليه‬
‫جميعا»‪.‬‬
‫�أ�سند �آ�سر ج�سدها وهو ي�شعر بها تتهاوى‪ ،‬ليجذبها من ذراعيها ويخرجها من‬
‫ال�شقة قبل �أن يحدث ما ال حتمد عقباه‪� ،‬أنزل عمران �سالحه وهو يجل�س على الأر�ض‬

‫ع‬
‫لي�ضم �ساقيه جل�سده‪ ،‬وحلظات و�أجه�ش بالبكاء على �أم كانت له كل �شيء‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫«وحتزن ك�أنه �أول ك�سر لك!‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫و�أنت الذي مل يعد فيك �شيء ُملتئم»‬

‫توزيع‬
‫وا�سيني الأعرج‬
‫طويل وهو يراها حتاول مللمة �شتات نف�سها لكن تف�شل‬‫�ساد ال�صمت يف ال�سيارة ً‬
‫يف كل مرة‪� ،‬سمعها تقول ب�صوت جامد بعد فرتة‪«:‬لنذهب ملنزلك»‪ ،‬رم�ش بعينيه‬
‫وهو يقول‪«:‬منزيل؟!» هزت ر�أ�سها بنعم ليقود ال�سيارة باجتاه املنزل ُم ً‬
‫نفذا طلبها‬
‫ً‬
‫راف�ضا �أن ي�س�ألها عن ال�سبب وهو يعي حالتها‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫‪270‬‬
‫«�أيها احلزن القابع يف حنايا قلبها غادر ب�صمت‪ ،‬و�أنا �س�أتك ّفل‬
‫بزرع دروبك العارية ور ًدا»‬

‫الرافعي‬
‫الف�صل اخلام�س ع�رش‬
‫قلبك ي�ؤملني‬

‫بعد �ساعتني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫توقفت ال�سيارة �أمام املنزل وهو يراها تنظر ب�شرود �أمامه لتقول بعد‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫حلظات‪�«:‬أخرب �أمرية �أن ت�ستعد‪� ،‬سرنحل بعد قليل‪� ،‬س�أكون بانتظارها هنا» �س�ألها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�آ�سر با�ستغراب‪«:‬ترحالن لأين؟!»‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�أجابته‪�«:‬س�أطلب من اللواء ح�سني �أن ي�ؤمن لنا مكا ًنا نعي�ش فيه بهويات جديدة‬
‫بعيدً ا عن هنا‪ ،‬لقد بد�أ ممدوح خمططه ولن يتوانى عن تنفيذه‪� ،‬سرنحل عنه لأبعد‬
‫مكان ميكن �أن يجدنا فيه»‪.‬‬
‫�س�ألها �آ�سر ب�ضيق‪«:‬وهل هذا هو احلل؟ الهروب و�أنتم مل تفعلوا �شيئا؟» �أجابته‬
‫بتوتر‪�«:‬إن مل �أفعل خ�سرتهم مثلما خ�سرتها»‪ ،‬هز �آ�سر ر�أ�سه بنفي وهو ي�شعر‬
‫بالإحباط من رد فعلها �أهكذا تفكر الهرب‪«:‬ال غفران‪ ،‬هم من يجب عليهم الهرب‬
‫ال �أنتم»‪.‬‬
‫�أجابته بارتباك‪�«:‬أنت ال تفهم �آ�سر‪� ،‬إن بقينا �أنا لن �أتوانى عن قتله ب�أب�شع‬
‫الطرق‪ ،‬و�إن فعلت ذلك �س�أجازف بتعري�ض حياة زمرد و�أمرية للخطر‪ ،‬يكفي ما‬
‫أنك هكذا ت�سمحني له باالنت�صار‬ ‫حدث ل�سهيلة»‪ ،‬ليجيبها بغ�ضب‪«:‬و� ِ‬
‫أنت ال تفهمني � ِ‬
‫أنت �ستبقني هنا معنا حتى يجد اللواء طريقا للو�صول �إىل‬ ‫عليك‪ِ � ،‬‬
‫بتذ ّوق طعم الفوز ِ‬
‫ذلك الوغد والقب�ض عليه»‪ ،‬التفتت له وهي تقول من بني �أ�سنانها‪�«:‬إن و�صلنا �إليه‬
‫�سنقتله ال نقب�ض عليه»‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫نزل �آ�سر من ال�سيارة وهو ي�شعر باالختناق من �أفكارها لتنزل خلفه وهي‬
‫تقول‪�«:‬سنعي�ش حياة جديدة‪ ،‬لقد عر�ض ّ‬
‫علي الفكرة منذ فرتة و�أنا اقتنعت بها‪،‬‬
‫�سنكون يف بلد �آخر بهوية �أخرى‪� ،‬سنبتعد عن كل هذا القتل والدماء‪� ،‬سنكون �آمنني»‪.‬‬
‫كانوا قد دخلوا املنزل حني التفت �إليها ليهدر بغ�ضب من �سلبيتها ً‬
‫راف�ضا �أمر‬
‫هروبها وهروب �أمرية‪ ،‬فهي �ستنتك�س مرة �أخرى ليفقدها وتعي�ش عائلته مرارة‬
‫الفقد للمرة الثانية‪�«:‬أنت تتوهمني غفران‪ ،‬لن تكونوا �آمنني طاملا هو حي‪ ،‬يجب �أن‬
‫تبقي و�أمرية لن تتحرك من هنا»‪.‬‬
‫�أجابته وهي حتاول بي�أ�س �إثبات وجهة نظرها‪�«:‬أنت ال تفهم �آ�سر‪ ،‬هو رمبا لن‬

‫ع‬
‫ينفذ خمططه‪ ،‬واالحتمال الأكرب �أن يقتلنا‪� ،‬أال ترى؟ لقد قتل والدته‪ ،‬لذا ال تظن �أنه‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�سيفكر مرتني قبل �أن يفعل»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫جاءت �أمرية و�أحمد و�آدم على �صوتهما العايل‪ ،‬وقد كانا يتدربان باحلديقة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫اخللفية لت�سمع �آ�سر يقول‪«:‬مهما كان خمططه �أمرية �آمنة هنا‪ ،‬و� ِ‬
‫أنت � ً‬
‫أي�ضا ميكنك‬

‫ع‬
‫�أن تكوين �آمنة هنا»‪ ،‬هتفت به بغ�ضب وكل امل�شاعر ال�سلبية جتمعت داخلها وهي‬
‫ترى نف�سها تفقد زمام الأمور‪�«:‬أنا ال �أحتاج حلمايتك‪ ،‬و�سيكون خط�ؤك �إن �أ�صابها‬
‫ابتعادك طوال تلك ال�سنتني‬
‫ِ‬ ‫أنت غفران‪،‬‬ ‫مكروه»‪ ،‬ليهدر بها دون وعي‪�«:‬إنه خط� ِأك � ِ‬
‫وطالبت ب�إلقاء‬
‫ِ‬ ‫لديك من معلومات‬‫اكتفيت مبا ِ‬
‫ِ‬ ‫�أنهى كل ما فعل ِته طوال عمرك‪ ،‬لو‬
‫القب�ض عليه‪ ،‬ما كان ليحدث ما حدث‪ ،‬وما تعر�ضت �أمرية لكل هذا ورمبا ما قتلت‬
‫�سهيلة وما مت اغت�صاب زمرد»‪.‬‬
‫جتمد مكانه وهو يلمح �شحوب وجهها ليلتفت على �صوت �أمرية وهي تقول‬
‫بقلق‪«:‬ما الذي يحدث؟ وملاذا تتحدثان عن ممدوح جمددًا؟!»‬
‫نقلت غفران �أنظارها بينه وبني �أمرية لتقول ب�صوت مكتوم مت�أثرة مبا قال �آ�سر‬
‫بعد ما قاله عمران لها‪«:‬جهزي ثيابك �أمرية �سرنحل بعد قليل»‪ ،‬هتف �آ�سر بغ�ضب‬
‫وهو ي�شعر ب�أمل بقلبه ب�سبب جرحها‪�«:‬أمرية لن تتحرك من هنا طاملا هذا الوغد‬
‫على قيد احلياة ويخطط الختطافكم»‪� ،‬شهقت �أمرية برعب وهي تقول‪�«:‬أما زال‬
‫على خمططه؟!»‬

‫‪273‬‬
‫هتفت غفران متجاهلة �صدمة �أمرية‪�«:‬أمرية �سرتحل معي �آ�سر‪� ،‬أنا قادرة على‬
‫حمايتها جيدً ا‪ ،‬و�إياك �أن ُت�ش ّكك يف م�شاعري جتاهها‪� ،‬إياك �أن ُت�ش ّكك يف حبي لها‪،‬‬
‫�أنا كنت وما زلت على ا�ستعداد تام بالت�ضحية بروحي لأجلها فال ُت�ش ّكك بهذا الأمر‪،‬‬
‫تتدخل بيننا»‪.‬‬
‫�إياك و�أن ّ‬
‫تنف�ست بقوة وهي ترى ما يحدث بينهما لتناديها ُغفران فالتفتت لها وهي‬
‫مالب�سك �سرنحل من هنا»‪ ،‬قاطعها �آ�سر بغ�ضب‪�«:‬أمرية لن‬ ‫ِ‬ ‫ت�أمرها‪«:‬ارتدي‬
‫تتحرك من هنا لأي مكان هذا بيتها»‪ ،‬هتفت ُغفران‪«:‬هذا مل يكن بيتها لثمانية‬
‫عاما‪ ،‬بيتها معي بجواري و�أنا قادرة على حمايتها ال نحتاج �إليك»‪.‬‬ ‫ع�شر ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وقف �آ�سر بينها وبني �أمرية التي تنتف�ض خلفه وهو يكمل حديثه ل ُغفران‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫الثائرة‪«:‬اخرجي من املنزل غفران طاملا ال ترغبني بالبقاء فيه»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫نظرت ُغفران له بجمود وقد جرحها بطرده لها‪ ،‬كتمت غ�ضبها لتقول بعد‬

‫توزيع‬
‫حلظات وهي تهدئ ثورتها‪«:‬ح�سنا �س�أرحل‪ ،‬ولكن �أق�سم لك ب�أنني �س�أعود جمددًا‬
‫لأخذها‪� ،‬س�أجد مكانا �أوال ينا�سبنا و�س�آخذها بعدها على الفور»‪.‬‬
‫مل يجبها �آ�سر ب�شيء بينما �ش ّيعت ُغفران �أمرية بنظراتها احلزينة وهي تخرج‬
‫من بوابة املنزل اخللفية‪ ،‬تنهد �آ�سر بتعب هو مل يرد لهذا الأمر �أن ينتهي هكذا ومل‬
‫يق�صد ما قاله فهتف بني �أ�سنانه‪«:‬اللعنة»‪ ،‬قبل �أن يتبع ُغفران رك�ضا‪ ،‬ملحها يف‬
‫نهاية ال�شارع وهي تبتعد ب�سرعة وهالة الغ�ضب حتيط بها من كل جهة‪ ،‬فرك�ض‬
‫باجتاهها وهو يوقفها من ذراعها لتلتفت �إليه وتدفعه بعيدً ا عنها بغ�ضب لتهدر‬
‫فيه بعد �أن �أدركت هويته‪«:‬ما الذي تريده الآن؟!» حتدث و�صدره يعلو ويهبط من‬
‫الرك�ض‪�«:‬إىل �أين �ستذهبني؟!» �صرخت بوجهه‪�«:‬إىل اجلحيم فلترتكني و�ش�أين»‪.‬‬
‫قب�ض على ذراعيها بقوة وهو يقرتب منها ليهتف بغ�ضب‪«:‬توقفي‪ ،‬فقط توقفي‪،‬‬
‫يا �إلهي �أال تتعبني من كل هذا الغ�ضب‪� ،‬ست�أتني معي الآن ُغفران‪ ،‬و�أق�سم ِ‬
‫لك ب�أنني‬
‫�ضربك �إن مل تتبعيني»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لن �أتوانى عن‬
‫‪M‬‬
‫‪274‬‬
‫عيادة �آ�سر‬
‫�أخذت تنظر للمكان بجمود‪ ،‬وج�سدها يف ت�أهب لأي حركة ي�صدرها ذلك الذي‬
‫دلف لغرفة مكتبه‪ ،‬ال تدري كيف طاوعته لت�أتي معه‪ ،‬هي مل تهتم بتهديده ب�ضربها‬
‫ولكن هي تعبت فقط‪ ،‬تعبت وهي ترى نف�سها فاقدة لأولئك الذين غزوا حياتها فج�أة‬
‫لتجدهم يرحلون فج�أة‪ ،‬بعد �أن خرجت من منزله �أو بالأدق بعد طرده لها وهي‬
‫ت�شعر مبرارة يف حلقها‪ ،‬وك�أن هناك جرحا غائرا داخلها ال ُي�شفى وكلماته الغا�ضبة‬
‫تن�سكب عليه لتزيدها وج ًعا غري ًبا لأول مرة ت�شعر به يف قلبها‪ ،‬حديثه وحديث‬
‫عمران وخ�سارة الأم التي �أ�شعرتها �أنها ت�ستحق ولو جزءا ب�سيطا من احلب كان‬
‫فوق احتمالها‪ ،‬ملحته يخرج من الغرفة ويف يديه حقيبة مليئة بالعديد من الأوراق‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫و�ضع احلقيبة بجوار باب ال�شقة والتفت �إليها لرياها تنظر له بجمود‪ ،‬تنهد بتعب‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وهو يقول‪«:‬اهدئي ُغفران‪� ،‬أنا لن �آكلك الآن‪ ،‬اجل�سي ً‬

‫بل‬
‫قليل ف�أريد احلديث معك‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫قبل رحيلي»‪.‬‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ع‬
‫�أ�شار لها لكر�سي من الكرا�سي املو�ضوعة يف �صالة اال�ستقبال‪ ،‬وجل�س على‬
‫الكر�سي املقابل له‪ ،‬ثانية ثانيتان حتى حتركت وجل�ست برتقب وهي تهم�س ب�صوت‬
‫و�صل لأ�سماعه بو�ضوح‪«:‬ال ت�ستطيع»‪.‬‬
‫ارتفع حاجباه بده�شة وملحته وهو يبت�سم ابت�سامة �صغرية وهو يرفع نظارته من‬
‫على عينيه ومي�سح وجهه ب�إرهاق‪�«:‬أنا ال �أ�ستطيع اجلدال معك يف �أي �شيء الآن‪،‬‬
‫ف�أنا ح ًقا متعب من �أحداث هذا اليوم الطويل»‪.‬‬
‫جتبه‬‫�شعرت بوخزة �أمل يف قلبها وهي ترى مالمح الإرهاق وا�ضحة عليه‪ ،‬لكنها مل ِ‬
‫ب�شيء‪� ،‬أردف يف حديثه‪«:‬ال ي�أتي �أحد اليوم للعيادة من بعد ال�ساعة العا�شرة م�ساء‪،‬‬
‫لذلك ال تقلقي فاملكان �آمن‪� ،‬س�أنبه على العم حممود �أال ي�أتي بالغد و�س�آتي �إليك غدً ا‬
‫بكل ما حتتاجينه‪ ،‬فقط �أخربيني به‪ ،‬وهذا هو مفتاح العيادة لي�س الوحيد فالآخر مع‬
‫العم حممود‪ ،‬لذا كما �أخربتك �س�أنبه عليه عدم جميئه غدا‪ ،‬وللأمان اتركي املفتاح‬
‫يف الباب»‪ ،‬مدت يديها لتم�سك املفتاح من بني كفيه ثم حلظة وملحته ينه�ض حتت‬
‫ده�شتها وهي تراه يدلف لغرفة �أخرى بجوار غرفة مكتبه‪ ،‬حلظات بعدها وملحته‬
‫‪275‬‬
‫يخرج ويحمل معه ك�شافا كهربائيا وو�ضعه يف ال�صالة ثم حتدث بهدوء‪«:‬يف املكان‬
‫الذي �ستنامني فيه �ضعيه بجانبك يف حالة انقطاع التيار الكهربائي»‪.‬‬
‫نظرت له بان�شداه بينما فعلته بعرثت نب�ضات قلبها‪ ،‬لتهرب منها وهي تتفوه‬
‫ب�أول ما جاء خلاطرها‪�«:‬أهكذا تعتذر عن حماقتك وما تفوهته به؟» مل يجبها‬
‫ب�شيء متجاهال نظراتها التي ت�شبه الطفلة ال�صغرية ونظر حوله ك�أنه يت�أكد من‬
‫كل �شيء على ما يرام وك�أنه تذكر �شيء فالتفت باجتاه الباب وو�صل للأكيا�س التي‬
‫�أح�ضرها معه يف الطريق ثم عاد �إليها وو�ضعها بالكر�سي الذي يجاورها‪«:‬هذا‬
‫معك‬
‫عليك التعب ال�شديد‪ ،‬والآن �أنا �س�أرحل‪ِ ،‬‬
‫طعام فلتتناويل �شيئا قبل النوم فيبدو ِ‬

‫ع‬
‫احتجت ل�شيء والآن �أغلقي الباب خلفي»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫رقم هاتفي �إن‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫قال جملته الأخرية برتدد ك�أنه ال يرغب يل يف تركها‪ ،‬ظل واق ًفا مكانه للحظات‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫يرغب يف االعتذار عما قاله‪ ،‬ولكن هو ال يريد التحدث يف الأمر جمددًا‪ ،‬لأنه يعلم‬

‫توزيع‬
‫�أنها �ستنفعل جمددًا لرتف�ض املكوث بالعيادة يف نهاية ال�شجار وهو ال يريد ذلك‪،‬‬
‫توجه نحو الباب فالتقط حقيبته وكاد �أن يخرج حتى �سمع نداءها له با�سمه‪ ،‬فالتفت‬
‫ليلمحها واقفة �أمام طاولة اال�ستقبال وهي تنظر لنقطة بعيدة عنه‪«:‬لقد �أردت‬
‫�أن‪ »...‬قاطعها وهو يبت�سم لها بحنو‪«:‬ال داعي ل�شكري يا ُغفران فما بيننا قد تعدى‬
‫مرحلة ال�شكر واالعتذارات»‪.‬‬
‫�شحب وجهها جلملته التي قالها لتجيبه ُم�سرعة‪«:‬لي�س هناك �شيء بيننا»‬
‫�صمت للحظات و�شعرت ب�شروده وهو ينظر �إليها ولكن عقله لي�س معها ليقول‬
‫بهدوء‪«:‬ق�صدت ما مر من �أحداث طوال الفرتة املا�ضية‪ ،‬ارتاحي ُغفران فما مررت‬
‫به اليوم لي�س ً‬
‫�سهل‪� ،‬أنا �أعلم مما حدث �أن تلك املر�أة كانت حتتل مكانة مهمة داخل‬
‫قلبك لذا فقدانها لي�س ب�أمر �سهل‪ ،‬لقد قابلتها اليوم فقط وقلبي ي�ؤملني لفراقها»‪.‬‬
‫ِ‬
‫ملح ارتعا�ش �شفتيها وهي ت�ضمهما وتلف ذراعيها حول ج�سدها تقيه من الرجفة‬
‫التي �أ�صابته وهي تنظر للأر�ض‪ ،‬حلظات و�سمعها تقول ب�أمل‪«:‬يف �آخر لقاء بيننا‬
‫�أخربتني �أنني ابنتها التي مل يحملها رحمها‪ ،‬كانت تدرك كل �شيء قبل �أن �أح ّدثها‬
‫به‪ ،‬وعندما �أ�س�ألها كيف لها �أن تعرف‪ ،‬تخربين ب�أنه قلب الأم‪� ،‬أنا ل�ست جبانة �آ�سر‬
‫‪276‬‬
‫دوما تقول يل‬
‫فقط جملتها ترتدد داخلي منذ عرفت ب�أنه من قتلها‪ ،‬لقد كانت ً‬
‫إياك �أن ت�ست�سلمي لغ�ضبك فوحده من يلتهمك‬‫الغ�ضب كوح�ش �ضا ٍر ال ي�شبع �أبدً ا‪ ،‬ف� ِ‬
‫دون �أن ي�شبع‪� ،‬أولئك الذين ي�سعون لالنتقام يحققون هدفهم ولكن ال يعودون كما‬
‫كانوا من قبل‪ ..‬جملتها تتكرر بعقلي با�ستمرار تليها جملة عمران �أنني مثله �شبيهته‪،‬‬
‫�أنا ال �أ�شبهه ب�شيء �آ�سر»‪.‬‬
‫رفعت عينيها له وملح ترقرق الدموع بها وملحة �أمل �أخفتها برباعة وهي تبلع ريقها‬
‫نف�سا قو ًيا ك�أنها متنع نف�سها من االنهيار بالبكاء لتهم�س له ب�صوت و�صله‬
‫وت�أخذ ً‬
‫جمروحا‪�«:‬أ�ستطيع القول �إن �أمي التي مل حتملني يف رحمها ماتت اليوم»‪.‬‬

‫ع‬
‫�آمله قلبه وهو يراها تواجه نف�سها باحلقيقة التي جتاهلتها طوال اليوم‪ ،‬ليتحدث‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بهدوئه وهو يراها تلملم من �شتات روحها‪«:‬بل ت�ستطيعني القول �إن والدتك التي‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫مل حتملك يف رحمها ارتاحت اليوم‪ ،‬ارتاحي غفران وحاويل النوم قليال‪� ،‬أنت ال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ت�شبهينه ب�شيء غفران‪ ،‬و�أنا وعمران وكل من يعرفك يعرف هذا‪ ،‬عمران فقط رجل‬

‫ع‬
‫فقد والدته على يد �أخيه فعليك �أن تعذريه على ما تفوه به»‪.‬‬
‫تغ�ضنت مالحمها ب�أمل مل ت�ستطع �إخفاءه وهي تهز ر�أ�سها ت�أييدً ا ملا قاله‪ ،‬هي‬
‫ارتاحت بالفعل‪ ،‬ارتاحت من �آالم كانت لتقتلها مئة مرة باليوم لو عا�شت بعد‬
‫اختطافها‪ ،‬ارتاحت من معرفة حقيقة ابنها و�أنه ال�سبب يف كل ما حدث لها‪� ،‬سمعته‬
‫يقول بحنو �أر�سل الق�شعريرة يف ج�سدها‪ُ «:‬غفران ال جتعليني �أقلق ِ‬
‫عليك‪� ،‬أنا ال �أريد‬
‫أتركك منهارة هكذا‪ ،‬ولكن �أعلم �أنك �سرتف�ضني بقائي‪ ،‬لذا �أرجوك متا�سكي‬ ‫�أن � ِ‬
‫وكوين بخري»‪.‬‬
‫ملحها وهي تتنهد بقوة وهي تبعد ذراعيها عن ج�سدها‪ ،‬ثم �أجابته ب�صوت يكاد‬
‫يكون متما�س ًكا‪«:‬ال تقلق �س�أكون بخري‪� ،‬أنا فقط �أريد الراحة ً‬
‫قليل وغدً ا �س�أكون‬
‫بخري»‪.‬‬
‫مل ي�ضف �أحد منهما �شي ًئا بعد حديثها‪ ،‬ليهز �آ�سر ر�أ�سه باملوافقة ويتحرك ً‬
‫حامل‬
‫حقيبته ليخرج من ال�شقة وي�سمع �صوت �إغالق الباب خلفه باملفتاح‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫مبنى جريدة احلرية‬
‫كانت جتل�س يف مكتبها ت�شعر بالغ�ضب ال�شديد من كل �شيء‪ ،‬رئي�سها ت�شاجر‬
‫تغط الأخبار اخلا�صة بالق�ضية‪ ،‬يامن ال يحادثها منذ فرتة وهي ذهبت‬ ‫معها لأن مل ِّ‬
‫ملنزله �شعرت به غري ًبا يف تعامله معها‪ ،‬ال ت�ستطيع ن�سيان تلك اللحظة التي ر�أته‬
‫فيها يطيب جراح زمرد مبنزله وقت عزاء والدتها‪ ،‬تلك اخلبيثة املاكرة جتذبه‬
‫�إليها‪ ،‬نفخت ب�ضيق لتنه�ض من مكانها وهي تعيد االت�صال به للمرة التي ال تعلم‬
‫عددها‪ ،‬تذ ّكرت احلوار الذي �سمعته بني زمرد والفتاة الأخرى التي تدعى ُغفران‪،‬‬
‫عليها �أن تبحث �أكرث بخ�صو�ص تلك الفتاة‪ ،‬خرجت من مبنى اجلريدة وهي حتمل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حقيبتها وتخرج مفتاح ال�سيارة لت�صطدم ب�أحدهم لتقع حقيبتها‪� ،‬شتمت بغ�ضب‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫وهي تلتقط الأ�شياء التي وقعت منها بينما من ا�صطدمت به يقف مكانه دون �أدنى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫م�ساعدة‪ ،‬وقفت وهي تقرر �أن تت�شاجر معه �أو بالأدق معها‪ ،‬لتلمحها تعتذر بهدوء‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫أنت �سايل من�صور؟!» �أجابتها �سايل با�ستغراب بنعم‪ ،‬لتجدها‬ ‫�سائلة �إياها‪«:‬هل � ِ‬
‫متد يديها لت�صافحها قائلة‪�«:‬أنا �سهيلة ممدوح‪ ،‬ولدي �أخبار بخ�صو�ص ق�ضية‬
‫الفتيات التي قلبت الر�أي العام»‪ ،‬نظرت �سايل بحذر ليديها ثم حلظات و�صافحتها‬
‫وهي تقول‪«:‬ومن تكونني؟ وكيف و�صلتك الأخبار عن تلك الق�ضية؟» لتجيبها‪�«:‬أنا‬
‫الفتاة الرابعة التي هربت من املزرعة و�أريد م�ساعدتك يف �إلقاء القب�ض عليهم كي‬
‫�أ�ستطيع �أن �أعي�ش حياتي �آمنة» لتجيبها �سايل ب�شك‪«:‬وملاذا مل تذهبي لل�شرطة؟»‬
‫�أجابتها بهم�س وهي تتلفت حولها‪«:‬لأنهم يبحثون عني‪ ،‬وهناك رجال لهم يراقبون‬
‫�أق�سام ال�شرطة يف حالة و�صويل �إليهم‪� ،‬أنا �أعرف �أنك �صحفية و�أعرف �أنك زوجة‬
‫عنك»‪ ،‬رفعت �سايل ذقنها وهي‬ ‫ملقدم بالأمن الوطني‪� ،‬سمعت زمالء لك يتحدثون ِ‬
‫ت�شعر بالغرور كل مرة ت�سمع فيها عن �أنها كانت حديث من حولها وتفكر يف كالمها‬
‫�إنها فر�صتها الذهبية‪ ،‬ت�ستطيع كتابة تقريرها ثم �إخبار يامن مبا لديها‪ ،‬نظرت‬
‫لها بابت�سامة لتقول بهدوء‪«:‬ح�سنا دعينا نرحل ملكان �آمن ن�ستطيع احلديث فيه»‪،‬‬
‫فتحت �سيارتها وركبت غافلة عن ابت�سامة ن�صر خبيثة من رفيقتها‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫منزل حممد الأ�سيوطي‬
‫ملح �آدم و�أحمد �شرود �آ�سر عنهما وهو مم�سك بكتابه ال يقر�أ فيه �شيئا‪ ،‬ف�أدركا‬
‫�أن ال�سبب هو ذلك ال�شجار الذي حدث مع غفران‪ ،‬حتى �أمرية مل تكمل التدريب مع‬
‫�آدم لت�صعد لغرفتها راف�ضة اخلروج منها‪.‬‬
‫نظر �آدم لأحمد نظرة ذات معنى‪ ،‬ليقرتب االثنان من �آ�سر الذي ملح جلو�سهما‬
‫بجواره فابت�سم لهما بهدوء‪ ،‬حت ّدث �آدم‪�«:‬إنها ترف�ض النزول‪� ،‬أمي حاولت معها‬
‫�أكرث من مرة ومل ت�ستطع �إخراجها‪ ،‬و�أمري يت�صرف ك�أن �أحدهم قام بع�ضه دون �أن‬
‫يكت�شف من هو»‪ ،‬حانت من �آ�سر ابت�سامة وهو يعتدل يف جل�سته م�ست�شع ًرا حديث‬
‫يف عني �أحمد لي�س�أله‪«:‬و�أنت ماذا لديك من �أخبار؟!» نظر �أحمد له بهدوء ليقول‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بحرج‪«:‬ال �شيء فقط �أردت �أن �أخربك �أمرا» لي�س�أله �آ�سر‪«:‬وما هو؟!»‪�«:‬إنها تي‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫كاي»‪ ،‬قالها �أحمد برتكيز لريفع �آ�سر حاجبيه وهو يقول‪«:‬تي ماذا؟!»‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫قلب �آدم عينيه وهو يقول مبلل‪�«:‬إنه يتحدث عن تلك التي ت�سمى غفران‪،‬‬

‫ع‬
‫وي�شبهها بالفيلم يا �إلهي كم �أنت ممل‪ ،‬فيلم‪«:‬موانا» فيلم كرتوين م�شهور»‪.‬‬
‫نظر له �آ�سر با�ستغراب ليقول �أحمد بجدية‪«:‬فيلم كرتوين عن ابنة زعيم تذهب‬
‫لإنقاذ بلدتها بعد �أن ناداها املحيط لتعيد القلب املفقود ل تي فيتي»‪.‬‬
‫حانت من �آ�سر ابت�سامة وهو يرى �أحمد يع ّدل من عويناته ك�أنه يناق�ش �أمرا مهما‬
‫ليقول له‪«:‬اذا ُغفران هي ابنة الزعيم» ليقول �آدم‪«:‬ال �إنها ال�شرير الثالث بالفيلم‬
‫الذي يتوجب على ابنة الزعيم حماربته»‪ ،‬نظر له �آ�سر ليعقد حاجبيه م�ستغربا‬
‫حديثه ليو�ضح �أحمد له قائال‪«:‬انظر �آ�سر تي كاي هي تي فيتي ولكن دون القلب‪،‬‬
‫ما �أق�صده �أن ُغفران تبدو من اخلارج ك تي كاي‪ ،‬ولكنها يف احلقيقة تي فيتي‪ ،‬لقد‬
‫�أخذوا منها القلب‪ ،‬ما ي�صدر منها نتيجة الأذية التي تعر�ضت لها‪ ،‬لو مل يبادروا‬
‫ب�إيذائها ما �أ�صبحت بتلك الهيئة الغا�ضبة ال�شريرة‪� ،‬إنها تريد قلبها فقط الذي‬
‫�سلبوه منها»‪.‬‬
‫بهتت مالمح �آ�سر وهو ينظر �إىل �أحمد الذي اكت�شف ما اكت�شفه هو منذ �أيام‪،‬‬
‫�أكمل وهو يقول‪«:‬يف نهاية الفيلم ا�ستغرق من موانا حلظات بعد �أن اكت�شفت عدم‬
‫‪279‬‬
‫وجود تي فيتي لتعي �أنها حتولت لتي كاي ومل تتحول لذلك ال�شرير الناري �إال لأنهم‬
‫�أخذوا منها القلب»‪.‬‬
‫رم�ش �آ�سر بعينيه وهو يرى �آدم يقرتب منه لينظر �إىل عينيه برتكيز‪«:‬ال ت�ستغرق‬
‫طويل يف اكت�شاف احلقيقة �أخي حتى ال تخ�سر‪ ،‬فموانا كانت من بداية رحلتها‬ ‫وقتا ً‬
‫تتخذ تي كاي كعدو لها مينعها من الو�صول ل تي فيتي»‪.‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات و�آ�سر يعي حديثهما لريى �آدم يقلب بعينيه وهو يقول‪«:‬يا‬
‫�إلهي ال �أعلم كيف بغبائك هذا اجتزت �سبع �سنوات درا�سة طب وال ت�ستطيع فهم‬
‫الأمر بهذه الب�ساطة»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كتم �أحمد �ضحكته وهو يرى �آ�سر ينظر له بغ�ضب م�صطنع‪«:‬هل تنعتني بالغبي‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�أيها الأحمق؟!» مل ي�ستطع �أحمد كتم �ضحكته وهو يرى �آدم يت�أوه بينما مي�سكه �آ�سر‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫من �أذنيه بقوة ليقول �آدم بهتاف‪�«:‬أهكذا تعاملني بعد �أن حللت لك اللغز الذي‬

‫توزيع‬ ‫‪ M‬شر وال‬


‫جعلك جتل�س كمن مات له ميت؟! و�أنا من كان ينتظر املكاف�أة!‪� ،‬أمي �آ�سر ي�ضربني»‪.‬‬

‫م�ساء‬
‫�شعرت ب�صوت غريب حولها يف الغرفة فارتع�ش ج�سدها للحظات ويديها تتحرك‬
‫ببطء لتلم�س �سكينها‪ ،‬فانتف�ضت مكانها وهي تلمح مكان ال�سكني ً‬
‫فارغا‪� ،‬شهقت‬
‫برعب وهي تنه�ض من على ال�سرير ثم حلظات وهد�أت بينما ج�سدها ما زال‬
‫ً‬
‫مالحظا �آثار‬ ‫يرجتف وهي تلمح �أمري �أمامها ُم�س ًكا بال�سكني‪ ،‬وينظر له بهدوء‬
‫البكاء على وجهها وعينيها املتورمتني‪ ،‬حاولت ال�سيطرة على ارجتافة ج�سدها وهي‬
‫تبتلع ريقها ب�صعوبة وترم�ش بعينيها‪� ،‬أخذت تتنف�س بانتظام و�أجلت حلقها وهي‬
‫تتحدث بهدوء‪«:‬ما الذي تفعله هنا؟!»‬
‫�أجابها �أمري بهدوء بينما يقلب ال�سكني يف يديه‪«:‬نتيجة االمتحانات �ستظهر‬
‫اليوم»‪ ،‬رم�شت بعينيها وهي جتيبه بغباء‪«:‬ماذا؟!» رفع عينيه لها بربود‪«:‬ماذا‬
‫درا�ستك؟!»‬
‫ِ‬ ‫�أمل تكملي‬
‫‪280‬‬
‫اقرتبت ب�ضيق و�سحبت ال�سكني من يديه بقوة وهي جتيبه بفظاظة‪«:‬بلى �أكملت‬
‫درا�ستي‪� ،‬أعطيني هذا حتى ال ت�صيب نف�سك وت�ؤمل كالنا»‪ ،‬نظر لها �أمري بنظرة‬
‫حنان �أخفاها �سريعا وهي تلتفت لتواجهه بعد �أن و�ضعت ال�سكني �أ�سفل الو�سادة‬
‫لتقول بجمود وهي ت�شعر بانهيار روحها بعد ما عرفته اليوم من �أن الوغد يخطط‬
‫الختطافهم جمددًا‪«:‬اخرج‪� ،‬أريد �أن �أنام»‪.‬‬
‫أنت تريدين النوم» لتجيبه‬ ‫�أجابها با�ستنكار‪ِ �«:‬‬
‫أخربك �أن النتيجة اليوم و� ِ‬
‫ب�صوت مكتوم‪«:‬ال �ش�أن لك‪� ،‬أنا متي ّقنة من جناحي‪ ،‬هيا �أريد النوم»‪.‬‬
‫�ضحك �ضحكة ُمته ّكمة وهو ي�شعر بحزنها ليقول‪«:‬ال داعي الدعاء التف ّوق ف�أنا‬
‫قدومك» لتنظر له �أمرية وجتيبه با�ستفزاز‪«:‬كيف‬

‫ع‬
‫ِ‬ ‫منك منذ‬‫مل �أملح �أي ذرة ذكاء ِ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تلمح �شيئا مل تره يوما؟!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫نظر �أمري لها للحظات ومل ي�ستطع كبت �ضحكته وهو يجيبها‪«:‬يا �إلهي لقد‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ق�صفت جبهتي»‪.‬‬
‫ِ‬

‫ع‬
‫حانت منها ابت�سامة �صغرية وهي تتذ ّكر حواره الأخري معها حني دلف لغرفة‬
‫املكتبة وهي تقر�أها‪ ،‬ليخربها من دون مقدمات �أنه لن يبتعد عنها و�سيطالبها بحبها‬
‫وم�شاعرها جتاهه وعندما غ�ضبت من مناداته لها ب�أمرية �س�ألها هل ترغبني بحمل‬
‫مينحك‬
‫ِ‬ ‫حياتك‪� ،‬أم ترغبني بحمل ا�سم يرغب ب�أن‬
‫ِ‬ ‫�صاحبك يف �أق�سى �أيام‬
‫ِ‬ ‫ا�سم‬
‫املميزات التي ت�أتي معه من بيت وعائلة تتمنى �أن متنحيها نظرة حب؟ تنهدت‬
‫بخفوت ومل تكد ترفع ر�أ�سها حتى وجدت نف�سها تطري يف الهواء ثم ارتطمت بطنها‬
‫بكتفه لت�شهق ب�صدمة بينما هو يجري بها للأ�سفل ويهتف ب�صوته العايل مقيدً ا‬
‫قدميها بذراع وحميط ج�سدها بذراعه الآخر‪�«:‬آ�سر �أ�شعل �أ�ضواء احلديقة» �أخذت‬
‫تتلوى من قب�ضته وتهتف �صارخة‪«:‬كيف جتر�ؤ؟! اتركني �أيها الأحمق»‪.‬‬
‫خرج من ال�شقة وو�صل لنهاية الدرج لريى والدته تخرج من املنزل وت�شاهد �أمري‬
‫يحمل �أمرية على كتفه لت�شهق ب�صدمة بينما �أمرية تتلوى بني يديه وت�س ّبه ب�أفظع‬
‫الألفاظ بينما �آ�سر ينتظرهما ُمبت�سما و�أحمد و�آدم يهلالن ب�سعادة على �أ�سفل الدرج‪.‬‬
‫‪281‬‬
‫حترك باجتاه امل�سبح ال�صغري ف�شعرت �أمرية بخطواته جتاهه فهتفت‬
‫ب�صراخ‪«:‬ال لن جتر�ؤ»‪.‬‬
‫مل تكمل جملتها لتجد نف�سها تطري يف اجلو للحظة ثم ارتطام ج�سدها مبياه‬
‫امل�سبح لت�شهق من برودة املياه‪ ،‬وهي ت�سعل بقوة من دخول املاء يف فمها‪ ،‬ثم رفعت‬
‫�أنظارها وهي تلمح �ضحكات �أمري العالية فنظرت له بغ�ضب لتهتف وهي ترتع�ش من‬
‫برودة املاء‪�«:‬أنت ميت» مل يكد يجيبها �أمري حتى ملح نف�سه ي�سقط بقوة يف املاء‬
‫نتيجة دفع �آدم له وهو ي�ضحك عليهما‪� ،‬شهق �أمري بقوة وهو يهتف �ضاح ًكا رغم‬
‫برودة املياه‪«:‬يا �إلهي �إن املاء بارد»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مل يكمل كالمه وهو يتلقى لكمة قوية يف بطنه فت�أوه ب�أمل وهو يرى �أمرية تنق�ض‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�سرعا وهو ي�ضحك على هيئتها‬‫عليه بقوة وهي ت�صرخ به‪� ،‬أخذ �أمري يبتعد عنها ُم ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ويت�أوه من �ضرباتها التي ال تتوقف‪ ،‬بينما �آ�سر يتابعهما با�ستمتاع‪ ،‬وجميلة ت�أتي‬

‫توزيع‬
‫ُم�سرعة مبن�شفة كبرية وهي تقول‪�«:‬آ�سر �سي�صيبهم الربد هكذا‪ ،‬فليخرجوا من‬
‫امل�سبح»‪.‬‬
‫قليل �أمي حتى ن�صل ملا نريده»‪.‬‬
‫ليجيبها �آ�سر برتّقب‪«:‬انتظري ً‬
‫تابعته جميلة با�ستغراب وهي ال تعلم �أنه اتفق مع �أمري على �أن يخرجوها من حالة‬
‫احلزن التي �أ�صابتها منذ ال�صباح‪ ،‬نظرت باجتاه �أمرية التي جتاهد ل�ضرب �أمري‬
‫الذي يهرب من قب�ضتها ب�سرعة �ساعده عليها ج�سده الريا�ضي‪ ،‬حلظات و�أخذت‬
‫�أمرية تلهث بقوة وغ�ضب وهي تراه يتفادى �ضرباتها وي�ضحك بقوة‪ ،‬ف�صاحت‬
‫بغ�ضب و�ضربت بقب�ضتها املاء فازداد �ضحك �أمري به�سترييا جعلتها تتوقف للحظة‬
‫وتتابعه بانبهار لتنتقل يف حلظات عدوى ال�ضحك لها لتجد نف�سها تبت�سم ثم ت�ضحك‬
‫ثم تزداد �ضحكاتها �صخ ًبا‪ ،‬وهي ت�شعر ب�شعور جديد من ال�سعادة لأول مرة ت�شعر به‪،‬‬
‫توقف كل �شيء حولهم وهم ي�سمعون �ضحكاتها ال�صاخبة النابعة من القلب‪ ،‬ابت�سم‬
‫�آ�سر ب�سعادة بينما رفعت جميلة كفها تغطي فمها ب�أعني دامعة وهي غري ُم�صدقة‬
‫�سماع �ضحكات �صغريتها بينما جتمد �أمري مكانه للحظات وهو يتابعها بعينيه‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫مرت حلظات وهي حتاول وقف �ضحكاتها بعد �أن ملحت نظراتهم ف�أخف�ضت‬
‫ب�صرها حرجا من هيئتها‪ ،‬وال ت�صدق حتى الآن �أنها �ضحكت هكذا بينما �سمعت‬
‫�صوتا حترك يف املاء فلم تكد ترفع عينيها حتى قابلها �صدر �أمري القوي و�شهقت‬
‫غري ُم�صدقة وهي تكت�شف �أنها بح�ضنه‪.‬‬
‫�أغم�ض �أمري عينيه وزاد يف احت�ضانها وقد تبع �إح�سا�س داخلي يخربه ب�أنه يف‬
‫حاجة لهذا احل�ضن قبل �أن حتتاجه هي‪ ،‬ات�سعت عني �آ�سر بده�شة وهو يراها بعد‬
‫حلظات ترفع ذراعيها لتبادل �أمري االحت�ضان بقوة‪ ،‬احت�ضنته بقوة ُم�ضاعفة لقوته‬
‫وهي ت�شعر ب�أنها عادت لوطنها‪ ،‬وجدت راحتها و�أمانها التي كانت تفتقده منذ زمن‪،‬‬

‫ع‬
‫مل ت�سمح لعقلها ب�أن يرتب �أفكاره وتبعت قلبها وهو يتل ّهف الحت�ضان توءمها هكذا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫لع ّلها جتد راحة بعد كل هذا الرتحال الذي كانت فيه‪ ،‬لع ّلها جتد �أمانا تبحث عنه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫ليطرد اخلوف الذي ا�ستوىل عليها منذ ال�صباح‪ ،‬عاد الطري املُهاجر لع�شه �أخريا‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫مل يلمحوا حممد وهو يتابعهم بعينيه خلف باب احلديقة ودموعه تغرق وجهه‬

‫ع‬
‫وهو يردد هام�سا‪«:‬احلمد هلل»‪.‬‬
‫حلظات و�سمعوا بكاء �أمرية بقوة‪ ،‬بكت يف �أح�ضان �أخيها وهي ت�ست�شعر نف�سها‬
‫�ضعيفة لأول مرة‪ ،‬بكت وهي ترمي كل �أفكارها خلف ظهرها وتتع ّلق بكتف �أخيها‪،‬‬
‫ال تريد �أن تفكر‪ ،‬ال تريد �أن تظهر قوية‪ ،‬ال تريد �أن ترف�ض امل�شاعر‪ ،‬هي تريد هذا‬
‫احلب‪ ،‬هذا احلنان‪ ،‬تريد �أن تنهل منه حتى املوت‪ ،‬هي تريد �أن تكون �أمرية ال ليلى‪.‬‬
‫�شاركها �أمري البكاء وهو ي�ضمها بقوة ويهم�س‪«:‬فقط لو تعريف‪ ،‬لو تعريف كم اكتملت‬
‫لك»‪.‬‬‫بوجودك‪ ،‬لو تعريف مدى ا�شتياقي ِ‬
‫ِ‬ ‫الآن‬
‫قليل وهو مي�سح دموعه وميد يديه‬ ‫مرت حلظات على بكائهما ثم ابتعد �أمري ً‬
‫ليم�سح دموعها بحنان بينما هي تنظر له بده�شة من كلماته‪ ،‬نظر �إىل عينيها بحب‬
‫دوما م ًعا‪،‬‬
‫لك باالبتعاد‪� ،‬سنكون ً‬ ‫وهو يقول بقوة‪«:‬لن نفرتق جمددًا‪ ،‬لن �أ�سمح ِ‬
‫لك ب�أن تبقي بعيدة عني‪� ،‬سن�سامح بع�ضنا البع�ض‬ ‫�سنفعل كل �شيء فاتنا لن �أ�سمح ِ‬
‫و�سنتخطى �آالمنا‪ ،‬اتفقنا»!‬

‫‪283‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات و�أمرية تتابعه غري ُم�صدقة ملا يقوله فهتف بها وهو‬
‫يرتع�ش‪«:‬يا �إلهي �أجيبي �أمرية �إننا نتج ّمد»‪� ،‬ضحكت �أمرية بني دموعها وهي تهز‬
‫ر�أ�سها باملوافقة ف�ضمها �أمري له وهو ي�شاركها ال�ضحك �سعيدً ا من قلبه ملا و�صله �إليه‬
‫معها‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫بعد �أ�سبوع‬
‫منزل زمرد‬

‫ع‬
‫زيارة �أرادت �أن تقوم بها لكنها ت�أخرت‪ ،‬لكنها �أ�صبحت م�ستعدة‪ ،‬بعد تلك‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫املواجهة التي كانت بينها وبني �أمري �أ�صبحت متتلك القوة لفعل ما ترغب به‪،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ابت�سمت وهي تتذ ّكر حديثه الدائم معها ورغبته يف م�شاركتها ذكرياته واحلديث عن‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫كل ما فاتها‪ ،‬ملحت زمرد تنزل الدرج وهي بهالتها املالئكية اجلديدة التي جعلتها‬

‫توزيع‬
‫حتبها �أكرث‪ ،‬زمرد التي جاءت لزيارتها منذ يومني لتعزّيها يف والدتها‪ ،‬كانت ت�شعر‬
‫�شجعها على الذهاب واحلديث معها‬ ‫باحلرج منها ملعاملتها ال�سابقة لها‪ ،‬ولكن �أمري ّ‬
‫وقد �سردت له ما حدث‪ ،‬زمرد التي احت�ضنتها فور ر�ؤيتها دون �أن تقول �شيئا‪ ،‬ق�ضت‬
‫معها اليوم ب�أكمله لتعرفا يف نهاية اليوم ب�أمر ز ّلزلهما م ًعا‪ ،‬لقد وجد املُق ّدم يامن‬
‫عنوان عائلة �سهيلة‪ ،‬رغم �شحوب وجه زمرد و�صمتها دون �أن تع ّلق ب�شيء‪� ،‬إال �أنها‬
‫ات�صلت بها يف اليوم التايل تطلب منها �أن ت�أتي معها لتلك الزيارة وها هي الآن‬
‫تنظر �إليها لتجد انهيارا بعينيها حتاول جاهدة مقاومته‪.‬‬
‫نظرت للمنزل الب�سيط �أمامها وهي تنتف�ض بداخلها‪ ،‬ال ت�ستطيع �أن ت�صف‬
‫�شعورها الآن‪ ،‬خوف‪ ،‬هلع‪ ،‬حزن‪ ،‬حزن �شديد‪� ،‬شعرت بلم�سة يد �أمرية بجوارها‬
‫فنظرت لها لت�س�ألها الأخرية و�شحوب وجهها �أظهر ما حتاول تخفيه داخل‬
‫قلبها‪«:‬هل �أنت جاهزة؟»‬
‫�أعادت �أنظارها جمددًا للمنزل لت�أخذ نف�سا ً‬
‫طويل قبل �أن تزفره بارجتاف لتهز‬
‫ر�أ�سها بنعم‪ ،‬التفتت لذلك الذي يقف �أمام �سيارته وجهه جامد وملحت من مكانها‬
‫ت�ش ّنج ج�سده‪ ،‬ملحت قلقه الذي �أخافه �سري ًعا وهو يحاول �أن يطمئنها بعينيه‪ ،‬لقد‬
‫‪284‬‬
‫تو�سلته مل ي�ستطع �أن يرف�ض‬ ‫�أبدى ً‬
‫رف�ضا قاط ًعا لزيارتها عائلة �سهيلة لكن عندما ّ‬
‫وهو يرى رجاء بعينيها و�ضعف يريد �أن ميحيه‪.‬‬
‫حتركت هي و�أمرية لتطرق باب املنزل‪ ،‬دقائق و�سمعت �صوتا لعجوز‪� ،‬صوتا‬
‫واهنا مبا يكفي ليدل على �سنوات من الهم‪ ،‬فتحت �سيدة ذات مالمح هادئة الباب‬
‫لتنقل �أنظارها بني �أمرية ورحمة قبل �أن تبت�سم ابت�سامة حنونة وهي تقول‪«:‬كيف‬
‫�أ�ساعدكم؟!»‬
‫جت ّمدت زمرد مكانها وهي تت�أمل مالمح العجوز حتى �شعرت بالطعنة التي‬
‫�سببها ن�صل قدمي كان وما زال ي�سكن �صدرها‪ ،‬وهي تكت�شف �أن عني العجوز �أكرب‬

‫ع‬
‫دليل على �أنها والدة �سهيلة ابنتها و�صغريتها و�صديقتها‪.‬‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫كان املنزل داف ًئا حمي ًما هد�أ من وط�أة ال�شعور بالأمل الذي ملأ قلبها ولكن كان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫ال�سبب يف جلب الدموع لعينيها‪ ،‬رم�شت �أكرث من مرة وهي تلمح ال�سيدة تقرتب منها‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫حاملة �أكوابا من الع�صري حملتها منها �أمرية وهي ت�ضعها على الطاولة ال�صغرية‬

‫ع‬
‫�أمامها لتبت�سم لها العجوز بحب وهي جتل�س �أمامهما لتقول بهدوء‪�«:‬أ�شعر ب�أنني‬
‫وجهك م�ألوف يل»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنت‬
‫�أعرفكم منذ مدة خا�صة � ِ‬
‫وجهت لها احلديث ف�أجابتها وهي حتاول احلديث ب�صوت‬
‫ارجتفت زمرد عندما ّ‬
‫ثابت‪«:‬عذ ًرا لأننا جئنا دون موعد‪ ،‬لكن نحن هنا لأننا لدينا معلومات عن ابنتك‬
‫وجب �أن نخربك بها»‪.‬‬
‫نظرت لها العجوز بتلك النظرة التي جتعل كل الأ�سوار التي �أحاطت بها قلبها‬
‫تنهار وك�أنها تعلم �أنها تت�أمل وك�أنها ترى ذلك الن�صل وهو �ساكن بقلبها وهي‬
‫تقول‪«:‬عندما �أخربمتوين �أنكما �صديقات ابنتي ات�صلت بها على الفور‪ ،‬هي قادمة‬
‫�إذ �إنه يف�صل بيني وبينها �شارع فقط‪ ،‬ولكن �أنا مل �أراكما يف زفافها»‪.‬‬
‫�شحب وجه �أمرية بينما نظرت زمرد لها بجمود لتقول ب�صوت ميت‪�«:‬أنا مل‬
‫ابنتك زينب»‪.‬‬
‫�أق�صد ِ‬
‫نظرت لها العجوز با�ستغراب دام للحظات قبل �أن تت�سع عيناها وهي ترفع‬
‫كف يديها ل�صدرها وقد فهمت ما تعنيه زمرد لتهم�س ب�صوت خافت يحمل كل‬
‫‪285‬‬
‫�آالمها‪«:‬عائ�شة»‪ ،‬حانت من زمرد ابت�سامة حزينة وهي تقول‪«:‬هل كان هذا‬
‫ا�سمها؟»‪.‬‬
‫مل جتبها العجوز وهي حتاول ال�سيطرة على م�شاعرها‪� ،‬أحدهم يعرف �شي ًئا‬
‫عن �صغريتها‪ ،‬يا اهلل كم انتظرت هذه اللحظة‪ ،‬لأكرث من ثمانية ع�شر عاما كانت‬
‫تنتظر‪ ،‬كانت تتل ّهف لأي �شيء‪ ،‬لأي �شيء‪.‬‬
‫�سمعت �صوت زمرد ُمرجتفا وهي تقول‪«:‬لديها نف�س عينيك‪ ،‬لوهلة عندما‬
‫ظننتك هي»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫قابلتك‬
‫ارتع�ش كف يديها الذي ت�ضمه ل�صدرها لتقول بارجتاف‪«:‬هل تتحدثني عن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫عائ�شة �صغريتي؟»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ارجتفت �شفتا رحمة وهي حتاول كبت دموعها لتقول لها بخفوت‪�«:‬سهيلة‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫عاما لقد كانت ابنتي و�صديقتي‬
‫عرفناها ب�سهيلة لقد عا�شت معنا ملدة ثمانية ع�شر ً‬
‫وكل �شيء جميل»‬
‫ات�سعت عني العجوز وهي تتلقى كل هذا الكم من املعلومات لتعقد حاجبيها‬
‫با�ستغراب وهي ت�س�ألها بخوف‪«:‬كانت!» مل ت�ستطع زمرد منع دمعة قد فلتت من‬
‫عقالها لت�سقط ب�أمل على وجنتيها يعادل الأمل الذي ينه�ش بقلبها لتغم�ض عينيها‬
‫وهي تهم�س داخلها‪«:‬يا اهلل لن �أ�ستطيع»‪.‬‬
‫لت�سمع �صوت �أمرية خاويا وهي تقول‪�«:‬أم زينب �سهيلة �أق�صد عائ�شة ِ‬
‫ابنتك‬
‫ؤيتك»‪.‬‬
‫توفيت منذ �سنة قبل �أن ت�ستطيع ر� ِ‬
‫�سكون عم املكان ب�أكمله‪ ،‬تتخ ّلله �شهقات بكاء زمرد املكتومة و�أنفا�س العجوز‬
‫امل�ضطربة وهي تنظر ب�صدمة لأمرية‪ ،‬هي كانت تعرف �أن يف النهاية �سي�صلها‬
‫�أخبار عنها‪ ،‬ولكن مل تتخيل �أن تكون الأخبار عن وفاتها‪ ،‬هي مل ترها‪ ،‬مل تلم�سها‪،‬‬
‫مل حتت�ضنها‪ ،‬هي مل تنظر لعينيها التي ت�شبهها كما يقولون‪ ،‬لقد دعت طوال حياتها‬
‫�أن تعرف عنها �أي �شيء‪ ،‬و�أن يحفظها اهلل �أينما كانت‪ ،‬ترى هل كانت �سعيدة‪ ،‬هل‬
‫عا�شت طفولتها‪ ،‬هل كانت ت�شتاق لأمها كما كانت �أمها متوت �شو ًقا لها �س�ألتهم‬
‫‪286‬‬
‫ب�صوت واهن جمروح‪«:‬هل كانت �سعيدة؟ هل كانت بخري؟! هل ا�شتاقت يل كما‬
‫يوما عن �أمها �أم مل تكن تعرف؟»‬
‫ا�شتقت لها كل حلظة؟ هل ت�ساءلت ً‬
‫�ضمت �أمرية �شفتيها متنع نف�سها بقوة من االنهيار بينما اهتز ج�سد زمرد وهي‬
‫تكتم بكاءها لتجيبها بني �شهقاتها‪«:‬لقد كانت �سعيدة‪ ،‬جميلة‪ ،‬حنونة‪ ،‬كما �أنها‬
‫كانت ُمتفوقة بتم ّيز يف درا�ستها لقد كانت بخري هي الآن بخري»‪.‬‬
‫�أغم�ضت العجوز عينيها لتت�ساقط دموعها ب�صمت بهدوء لتنه�ض من مكانها‬
‫وهي تتجه ل�سجادة �صالتها لتفر�شها على الأر�ض‪ ،‬ف�س�ألتها �أمرية التي كانت تتابعها‬
‫بان�شداه‪«:‬ماذا تفعلني؟»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫م�سحت العجوز دموعها وهي تنظر لأمرية بابت�سامة حزينة حملت كل معاين‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫الأمل‪«:‬رمبا كنت �أدعو بطريقة �صحيحة كل تلك ال�سنوات‪� ،‬إال �أنني مل �أد ُع لها دعاء‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�سليما منذ �سنة يا ابنتي‪ ،‬كنت �أدعو ب�أن يحميها اهلل ويحفظها �أينما كانت‪ ،‬والآن‬

‫والتوزي‬
‫يجب �أن �أدعوه ب�أن يرحمها وهي عنده وقد ا�سرتد �أمانته»‪.‬‬

‫ع‬ ‫«اهلل �أكرب»‬


‫رفعت �أمرية قب�ضتها لت�ضعها على فمها وهي ت�شاهد والدة �سهيلة وهي ت�صلي‬
‫ودموعها تنهمر ب�صمت‪ ،‬لت�شعر �أمرية باالنهيار واالنبهار وهي ترى مدى قوة �إميانها‬
‫بينما �سمحت زمرد لنحيبها بالعلو بعد �أن فقدت ال�سيطرة عليه لتتعاىل �شهقاتها‪.‬‬
‫فتح باب املنزل لتدلف منه امر�أة تبدو يف منت�صف الثالثينات فرفعت ر�أ�سها‬
‫لهما وهي جتفل من �صوت �شهقات بكاء زمرد لتنظر لها با�ستغراب‪ ،‬بينما �سمعوا‬
‫�صوت رجل خلفها وهو يقول‪�«:‬آه زينب هل جئت يا ابنتي‪ ،‬جيد ادخلي ف�أنا � ً‬
‫أي�ضا‬
‫عدت باك ًرا من امل�سجد»‪.‬‬
‫دخلت املر�أة وخلفها رجل عجوز يت�شابهان يف املالمح ليجفل هو الآخر بوجود‬
‫زمرد الباكية و�أمرية اجلامدة مكانها‪ ،‬فنقل �أنظاره بينهما با�ستغراب بينما لفت‬
‫انتباهه زوجته وهي تنهي �صالتها يف اجلانب الآخر من ال�صالة‪ ،‬وجت ّمد مكانه وهو‬
‫يلمحها تلتفت له ودموعها الغالية تنهمر على وجنتيها لتم�سحها وهي تنظر له بحنان‬
‫‪287‬‬
‫ليخفق قلبه بعنف وهو ينقل �أنظاره بينها وبني ال�ضيوف‪ ،‬لي�سمع ابنته تقرتب من‬
‫تبك هكذا؟» بينما مل‬
‫والدتها ت�س�ألها بقلق‪�«:‬أمي هل �أنت بخري؟ ماذا حدث؟ َمل ِ‬
‫جتبها والدتها وهي ما زالت تنظر لزوجها بحنان لتقول له ب�صوت هادئ به �سالم‬
‫�أده�ش زمرد التي نظرت لها برهبه‪«:‬لقد ا�سرتد اهلل �أمانته يا �أبا زينب»‪ ،‬رم�ش‬
‫الرجل بعينيه �أكرث من مرة‪ ،‬وك�أنه ال يفهم ما تقوله زوجته لينظر جمددًا لل�ضيوف‬
‫وي�سمع ابنته تقول بجزع‪�«:‬أمي من مات؟»‬

‫ليرت ّنح مكانه وهو ي�ستند على باب املنزل والإدراك �أ�صابه على الفور لريفع‬
‫عينيه الدامعة و�شحوب وجهه الذي ملحته زوجته �أعلمها ب�أن زوجها قد �أدرك من‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مات لتقرتب منه وهي جتيب ابنتها‪«:‬عائ�شة يا زينب‪� ،‬صغريتنا عائ�شة»‪ ،‬لتتغ�ضن‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب‬
‫مالمح زوجها وهو ي�شعر ب�أن روحه تفارقه لتحت�ضنه زوجته بحنان �أم وهي ُتر ّبت‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫على ظهره لتقول بخفوت‪«:‬لقد ا�سرتدها يا �أبا زينب‪� ،‬صغريتنا عا�شت لثمانية ع�شر‬

‫توزيع‬
‫عاما �سعيدة حنونة جميلة كما متنيت‪ ،‬وماتت دون �أن نراها»‪.‬‬
‫ً‬
‫لتكتم �شهقاتها يف �صدر زوجها الذي ما زال ي�ستوعب ما قيل له‪ ،‬لي�شهق بقوة‬
‫وك�أنه ن�سي �أن يتنف�س لي�ضم زوجته له وهو يغم�ض عينيه بقوة ومالحمه تعرب عما‬
‫ال ي�ستطيع قوله لي�شارك زوجته دموعه وهو يردد‪�«:‬إنا هلل و�إنا �إليه راجعون‪� ،‬إنا هلل‬
‫و�إنا �إليه راجعون‪ ،‬عائ�شة �صغريتنا»‪.‬‬
‫الكم الهائل من الأمل الذي اجتاحهم والدموع التي �سطرت وجوههم كانت كفيلة‬
‫بانهيار �أمرية التي خرجت على الفور من املنزل لتنظر حولها وهي ت�شعر بالتيه‪،‬‬
‫بالغربة‪ ،‬بالوجع بالكثري من الوجع‪ ،‬رفعت كفها مت�سد على قلبها وهي تغم�ض عينيها‬
‫ب�أمل لتخف�ض وجهها وهي جتاهد بقوة لئال تبكي‪ ،‬ال تريد �أن تبكي ال تريد‪.‬‬
‫«�آن�سة ليلى»‬

‫التفتت على �صوت يامن القلق لتلمح �شحوب وجهه وهو ينقل �أنظاره بينها وبني‬
‫باب املنزل‪ ،‬لتقول ب�صوت ُمرجتف‪«:‬لقد عرفا‪ ..‬لقد انتهى الأمر»‬
‫‪288‬‬
‫مرت دقائق وهو يلمح زمرد تخرج من باب املنزل ليتجه �إليها‪ ،‬وهو يلمح‬
‫انهيارها و�آثار البكاء على وجهها احلبيب‪ ،‬ليقرتب منها وهو ي�س�ألها بقلق‪«:‬زمرد‬
‫أنت بخري؟»‬ ‫هل � ِ‬
‫نظرت له بتيه وك�أنها ال تراه ف�أخذت تت�أمل مالحمه وهي تعي معنى �أن ميوت‬
‫الإن�سان من الأمل‪ ،‬فقدان �أي عزيز هو موت بعد موته‪.‬‬
‫هم�ست ب�صوت ُم�شبع بالبكاء‪«:‬يريدون الذهاب ملكان دفنها‪� ،‬أنا لن �أ�ستطيع‬
‫يامن‪� ،‬أنا ل�ست بتلك القوة �أنا‪»...‬‬
‫ارجتفت �شفتاها وهي متنع نف�سها من االنهيار جمددا ويا اهلل كم هي يف حاجة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لأن تنهار‪ ،‬ا�شتدت قب�ضتاه بجواره وهو مينع نف�سه من جذبها حل�ضنه‪ ،‬من جعلها‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫تخرتق روحه فيمت�ص منها كل �أحزانها كل �آالمها‪� ،‬أجابها ب�صوت �أج�ش ُممل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بعواطفه‪�«:‬س�آخذهم �أنا‪� ،‬س�أعيدكم للمنزل �أوال ثم �أعود لأخذهم انتظري هنا حتى‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫�أعود»‪.‬‬

‫ع‬
‫تركها وهو يتجه للمنزل بينما هي �أحاطت ذراعيها بج�سدها وهي تلمح �أمرية‬
‫التي تتجنب النظر لها هي الأخرى فهي تعلم �أن نقطة تالقي نظراتهما �سيكون‬
‫انهيارهما‪.‬‬

‫‪M‬‬

‫‪289‬‬
‫وقد كان للقا�سي جتربة قا�سية م ّر بها لكنها مل تكن ُمرب ًرا‬
‫لق�سوته‪ ،‬فقط كانت دفعة جلانبه ال�سيئ القوي ليغلب الآخر‬
‫الطيب ال�ضعيف‪ ،‬وما �أكرث �أولئك الذين ينتظر اجلانب ال�سيئ‬
‫فيهم الفوز بينما جنا من كان جانبه الطيب �أقوى‪.‬‬
‫الف�صل ال�ساد�س ع�رش‬
‫اخلديعة‬

‫مقر جريدة احلرية‬


‫«�أنا ال �أريد �أن �أحتدث حتى �أرى رحمة‪� ،‬أق�صد زمرد‪ ،‬لقد ا�شتقت لها ب�شدة‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ا�ستطعت جعلها مقابلتي �س�أخربك بكل ما لدي‬ ‫ِ‬ ‫ك ّنا �أكرث من �إخوة‪ ،‬ح�س ًنا �إن‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫عليك‪ ،‬اجعلي‬
‫و�س�أعطيك الأدلة التي معي‪ ،‬حتى تك�شفي خططهم جمي ًعا‪� ،‬أنا �أعتمد ِ‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫زمرد تقابلني يف ذلك العنوان‪ ،‬و�أنا �س�أنتظركما بالأدلة‪ ،‬هي � ً‬
‫أي�ضا ت�ستطيع �أن تبوح‬

‫توزيع‬
‫لك بالكثري‪� ،‬أ�ستطيع �أن �أقنعها فهي ت�صدق كل ما �أقوله لها»‪.‬‬‫ِ‬
‫كلمات تتذ ّكرها با�ستمرار يف �آخر حوار معها مع تلك الفتاة‪� ،‬إن �صدقت تلك‬
‫الفتاة ف�ستكون هي ال�صحفية الأوىل التي �سيتذكرها النا�س ب�أكملها و�ستتهافت‬
‫اجلرائد لطلبها يف العمل و�سيكون ذلك ال�سبق ال�صحفي لها يف النهاية‪ ،‬م�سكت‬
‫الورقة التي حتتوي على رقم هاتف لتت�صل على الفور‪ ،‬رنة ف�أخرى �أتبعها �صوت‬
‫إليك»‪.‬‬
‫لتجيبه‪«:‬ح�س ًنا �أنا موافقة‪ ،‬غدً ا �س�آتي بزمرد � ِ‬

‫وعلى اجلهة الأخرى‬


‫ابت�سمت بن�صر وهي جال�سة على ال�سرير‪ ،‬لتلمحه يدلف للغرفة وهو ي�س�ألها‪«:‬ما‬
‫ابت�سامتك؟!»‬
‫ِ‬ ‫�سر‬
‫لتجيبه بدلع‪«:‬غدً ا �ستلتقي بها»‪ ،‬جمد مكانه وهو ي�س�ألها‪«:‬غفران؟!» لتنه�ض‬
‫من على ال�سرير وتقرتب منه مبكر وهي تقول‪«:‬ال خطوة خطوة عزيزي‪ ،‬منرتك �أوال‬
‫يليها غفران يليها �صغريتك»‪.‬‬
‫‪292‬‬
‫منزل زمرد‬
‫«اجل�س �سليم» قالت هذه اجلملة وهي جتل�س على الأريكة بغرفة املكتب بينما‬
‫جل�س �سليم على الكر�سي �أمامها وهو متفاجئ بات�صالها ال�صباحي وطلبها ر�ؤيته‬
‫من �أجل �أمر مهم‪ ،‬ف�س�ألها بف�ضول وهو يرى �سكينة غريبة على وجهها‪«:‬ما الأمر يا‬
‫ابنة العم؟!» ابت�سمت له وهي جتيبه‪«:‬ابنة العم تريد احلديث معك ب�صراحة فهل‬
‫ت�سمح لها؟!»‪«:‬بالطبع زمرد» �أجابها ب�صدق متوج�سا ً‬
‫قليل من حديثها‪� ،‬أ�سبلت‬
‫�أهدابها ثم �صمتت للحظات لت�س�أله بهدوء‪«:‬ماذا متثل رحاب لك؟!»‬
‫ارتبكت مالحمه للحظات ثم �أخفى توتره ب�إتقان اكت�سبه من �سنوات عمره‬
‫الثالثني و�أجابها برزانة‪�«:‬س�ؤالك يحمل معانى كثرية يا ابنة العم‪ ،‬رحاب هي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ابنة عمي الأخرى و�صغرية العائلة»‪ ،‬متعنت زمرد يف مالحمه وهي جتيبه بنف�س‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫هدوئها‪«:‬مل تعد �صغرية‪� ،‬إنها يف الثامنة ع�شرة»‪� ،‬أجابها بنف�س هدوئها‪«:‬هي‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�صغرية بالن�سبة يل»‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�ساد ال�صمت للحظات وكالهما ينظر للآخر بهدوء‪ ،‬فحانت من زمرد ابت�سامة‬
‫�صغرية‪ ،‬ابت�سم على �أثرها �سليم وهو يتنهد بخفوت‪«:‬ما الذي تريدين الو�صول �إليه‬
‫يا ابنة العم؟!»‪� ،‬أجابته واالبت�سامة ما زالت تزين ثغرها‪«:‬م�شاعرك‪ ،‬رمبا»‬
‫تنهد بتعب وهو ي�شعر بثقل على �صدره‪«:‬م�شاعري لي�ست كافية زمرد‪� ،‬أنا‬
‫�سبق يل جتربة الزواج وكانت فا�شلة متاما‪� ،‬أنا يف الثالثني من عمري‪ ،‬ال يجب‬
‫�أن �أنحاز مل�شاعري الآن‪ ،‬كما يجب �أن �أح ّكم عقلي فيما يراه قلبي» �س�ألته من دون‬
‫مقدمات‪«:‬هل حتبها؟!» فرفع عينيه لها وهو ي�شرد يف مالحمها التي ت�شبه مالمح‬
‫زوجة عمه رحمها اهلل وتختلف كث ًريا عن حمبوبته التي ت�شبه والدها رحمه اهلل‪،‬‬
‫�أجابها بهدوء‪«:‬و�إن كنت �أفعل‪ ،‬فما الفائدة؟!»‬
‫�ضحكت زمرد بخفوت وهي جتيبه‪�«:‬أمي كانت حمقة»‪ ،‬نظر لها ُمت�سائال‬
‫لرتدف بلمحة حزن يف عينيها‪�«:‬أخربتني عن م�شاعركما‪ ،‬قالت يل �إنها قد متوت‬
‫قبل �أن يعرتف �أحدكما بحبه للآخر‪ ،‬ورمبا متوتان قبل �أن تفعال‪ ،‬كالكما خائف من‬
‫�أمر ما يعيق عليه التق ّدم جتاه الآخر»‪.‬‬
‫‪293‬‬
‫نظر لها ُمنده�شا من كالمها ومن معرفة زوجة عمه مب�شاعرهما لي�س�ألها‪«:‬هل‬
‫قلت يعرتف �أحدنا بحبه للآخر؟! هل‬
‫م�شاعرنا وا�ضحة لهذه الدرجة؟! انتظري هل ِ‬
‫تق�صدين �أنها!»‬
‫ات�سعت ابت�سامة زمرد وهي جتيبه‪«:‬نعم حتبك يا ابن العم‪ ،‬حتبك وتخ�شى‬
‫حبك»‪� ،‬شبح ابت�سامة ز ّين ثغره وهو ينظر �إليها غري ُم�صدق لي�ستغرب بقية‬
‫فلم تخ�شى حبي؟!»‬
‫�صحيحا َ‬
‫ً‬ ‫حديثها‪�«:‬إن كان ما تقولينه‬
‫«لأنك ال تناديها �سوى ب�صغرية وال تعاملها �إال ك�صغرية»‪� ،‬أجابته بغيظ لينظر‬
‫لها م�صدوما‪�«:‬أنا �أناديها هكذا لأنها‪ ..‬يا �إلهي زمرد الفرق بيننا اثنا ع�شر ً‬
‫عاما‪،‬‬

‫ع‬
‫�إنه عمر �آخر‪ ،‬بالطبع هي �صغرية‪ ،‬ن�ش�أت على حب مراهقة‪ ،‬ماذا �إن مر بنا الزمن؟!‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ماذا �إن اكت�شفت �أن م�شاعرها يل زائفة ولي�ست بحقيقية؟!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أجابته بهدوء‪�«:‬إذا كالمك هو ت�أكيد مل�شاعرك؟!»‪ ،‬نظر لها ُمنده�شا وهو يرى‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫كيف جعلته يعرتف بكل م�شاعره وكل خماوفه التي �أخفاها عن �أقرب الأقربني له‪،‬‬
‫عادت ابت�سامته لوجهه وهو يجيبها‪�«:‬أنا مل �أعرف الع�شق �إال معها‪ ،‬رمبا عرفته‬
‫لك بكل هذا يا ُم�شاك�سة؟!»‬
‫ُمت�أخ ًرا‪� ،‬إال �أنني فعلت يف النهاية‪ ،‬كيف جعلتني �أعرتف ِ‬
‫ابت�سمت له بحنان ولقبها القدمي يعيد لها حنني الطفولة وذكرياتها معه ومع‬
‫يامن منذ �أن كانوا �صغارا‪«:‬مل �أ�سمع هذا اللقب منذ �سنوات عديدة» بادلها‬
‫عينيك الربيئتني»‬
‫ِ‬ ‫الب�سمة وهو يقول‪«:‬ما زلت �أرى العبث يف‬
‫�ضحكت من قلبها وهي جتيبه‪«:‬دوما كنت �أجنح يف الو�صول �إىل دواخلك رغم‬
‫�أنك �أكرب مني‪ ،‬ورغم قرب ال�سن بينك وبني يامن �إال �إنك مل ت�ستطع يوما الو�صول‬
‫لدواخله» �أجابها بابت�سامة‪«:‬يامن دوما كتوم»‪.‬‬
‫هزت ر�أ�سها من دون �أن تقول �شيئا ليقول هو برتدد‪«:‬لقد ِ‬
‫قلت يا زمرد حتى �أنا‬
‫منك فكيف �س�أكون لها»‪.‬‬‫�أكرب ِ‬
‫�أجابته ب�صدق‪�«:‬أنت �س�ألتني عن خماوفها ومل �أخربك بكلها‪ ،‬هي مل تعتقد �أنك‬
‫ملحتها يوما ك�أنثى ك�شريكة حلياتك‪� ،‬أعلم �أنه حتى لو كانت كبرية فهذا ال ي�صح لأننا‬
‫‪294‬‬
‫من العائلة وديننا ال ي�سمح بذلك التقارب‪ ،‬لكن هي اكتفت بحبها لك من الطرف‬
‫الواحد ومن دون �أي مقابل منك‪ ،‬مل تخرب �أحدا مب�شاعرها حتى �أمي اكت�شفت ذلك‬
‫وقت زواجك الأول‪ ،‬و�أخربتني كم ت�أملت بعد زواجك»‪.‬‬
‫�شرد للحظات وملحات �أمل تك ّلل عينيه‪«:‬لقد �آذيتها ب�أكرث قرار خط�أ اتخذته يف‬
‫حياتي‪ ،‬و�أدركت �أنني فقدتها كما فقدت الكثري»‪� ،‬س�ألته با�ستغراب لتخمينه مل�شاعر‬
‫أدركت �أنها توقفت عن ُحبك؟!»‪«:‬عندما توقفت عن االنبهار ب�أ�صغر‬ ‫�أختها‪«:‬ومتى � َ‬
‫الأ�شياء التي �أقوم بها علمت �أنني فقدتها للأبد»‪� ،‬أجابها ب�شرود وهو ينظر لنقطة‬
‫يف الفراغ‪ ،‬ليكمل وهو يقول‪«:‬لقد ظننت �أن دعوة والدتي ب�أن يح ّبب اهلل خلقه يف‬
‫حتققت مع اجلميع �إال هي يبدو �أنني كنت خمط ًئا»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫نظرت له زمرد بحنان وهي تلمح حزنه لتقول‪«:‬ال جتعل �أخطاء املا�ضي تر�سم‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫حا�ضرك‪ ،‬ما حدث قد حدث‪ ،‬وبخ�صو�ص ال�سن �إن كنت تظن �أنها ما زالت �صغرية‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫ف�أنا لدي اقرتاح �أرجو �أن ينال �إعجابك»‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ركز عقله وتفكريه معها لي�سمع اقرتاحها‪«:‬رحاب» لديها منحة لتكمل درا�ستها‬
‫باخلارج‪ ،‬نظرا لأنها من املتفوقات‪ ،‬كانت ترغب بها ولكن تنازلت عن الفكرة منذ‬
‫فرتة ق�صرية و�أنا �س�أحاول بجهدي لأفهم �أ�سبابها و�أقنعها بال�سفر‪� ،‬إن �سافرت‬
‫رحاب و�أكملت درا�ستها فهي لن تعود �إال بعد ‪� 4‬سنوات على الأقل‪ ،‬خذ وقتك كله‬
‫لتفكر خالل هذه الأ�سابيع‪� ،‬إن �أردتها لك فتقدم خلطبتها و�أنا �س�أوافق بكل �سرور‪،‬‬
‫لكنها �ستكون جمرد خطبة حتى تعود جمددًا بعد �سنوات املنحة‪ ،‬و�إن ما زلت‬
‫مرتددا‪ ،‬فال داعي للحديث يف الأمر مرة �أخرى»‬
‫�صمت �سليم للحظات وهو ينظر لنقطة يف الفراغ‪�«:‬أربع �سنوات! كم تبقى يف‬
‫العمر لبعاد �أكرث يا ابنة العم» �أجابته بت�أكيد‪�«:‬إنه م�ستقبلها �سليم‪� ،‬أنا �أعلم �أنك‬
‫لن تتنازل على �إكمال تعليمها بالطبع»‪.‬‬
‫�أجابها �سليم م�ؤكدا كالمها‪«:‬بالطبع يجب �أن تكمل تعليمها وتبني م�ستقبلها‬
‫بدل من اخلطبة»‪ ،‬نظرت له زمرد للحظات‬ ‫الذي تريده‪ ،‬ولكن ليكن عقد قران ً‬
‫لتتعاىل �ضحكاتها بعدها‪ ،‬وهي تنظر له غري ُم�صدقة �سرعة قراره‪«:‬ح�س ًنا يا ابن‬
‫العم‪ ،‬لن تكن �سوى خطبة فقط»‪«:‬هيا زمرد اجعليه عقد قران حتى �أ�ستطيع‬
‫‪295‬‬
‫�أن �أحتدث معها بحريتي وهي بعيدة عني»‪ ،‬ابت�سمت له ب�سعادة وهي تنه�ض‬
‫من على الأريكة لتقول‪«:‬ح�سنا بقي �أمر واحد» ت�ساءل با�ستف�سار لتجيبه بعبث‬
‫الطفولة‪«:‬بقي �أن تعرتف مب�شاعرك لتلك التي حتبك يف �صمت وجتهل حبك‪ ،‬فلكي‬
‫تعقد قرانك يجب �أن تخربها �أوال ب�أن ال�صغرية ما عادت �صغرية يف نظرك»‪.‬‬
‫ابت�سم �سليم ب�سعادة وهو يلمحها تخرج من غرفة املكتب وال ي�صدق �أنه على‬
‫بعد خطوة من حلم حياته وما �أ�صعبها من خطوة ولكن �سيفعل امل�ستحيل من �أجلها‪،‬‬
‫خرجت من غرفة املكتب لتتجه للحديقة اخلارجية وما زالت �آثار ابت�سامتها على‬
‫ثغرها وهي تتذكر حديث والدتها وتو�صيتها على رحاب وما تعانيه امل�سكينة يف‬

‫ع‬
‫�صمت‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫«زمرد‪ ،‬اع ِنت ب�أختك فهي ما زالت �صغرية‪ ،‬لديها منحة للدرا�سة باخلارج‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ولكنها ترف�ض من �أجلي‪ ،‬اجعليها توافق‪ ،‬اجعليها تهتم مب�ستقبلها يا بنيتي‪ ،‬كوين‬

‫توزيع‬
‫لك‪ ،‬و�إن لزم الأمر ف�سافري معها من يعلم رمبا تكون‬ ‫لها ما مل �أ�ستطع �أن �أكونه ِ‬
‫فر�صة جديدة لكما»‬
‫«ال تقلقي �أمي‪� ،‬س�أفعل كل ما تريدينه فقط ارتاحي»‬
‫«بقي �أمر واحد‪� ،‬أمر قلبها املُعذب يا بنيتي‪ ،‬فيبدو �أنه ق ّدر لكما �أن تع�شقا‬
‫وتكتما ع�شقكما بداخلكما‪� ،‬أختك حتب �سليم يا ابنتي‪ ،‬و�أنا ب�إح�سا�س الأم �أ�شعر‬
‫مب�شاعره جتاهها‪ ،‬كالهما خائف من �أن يتق ّدم خطوة فيخ�سر كل �شيء‪� ،‬ساعديهم‬
‫م�ساعدتك‪ ،‬اغفري يل جهلي»‬
‫ِ‬ ‫يا بنيتي‪ ،‬و�ساحميني لأنني مل �أ�ستطع‬
‫إليك»‬
‫�صحتك ف�أنا يف حاجة � ِ‬
‫ِ‬ ‫«�أرجوك �أمي ال تهتمي ب�شيء الآن �سوى‬
‫والدك يل وا�شتقت له‪ ،‬جاء‬
‫ِ‬ ‫«يا ليتني �أفديك بعمري حبيبتي‪ ،‬ولكن ا�شتاق‬
‫الوقت لأذهب له»‬
‫�شردت يف كالم والدتها لتدمع عيناها وابت�سامة حزينة تك ّلل ثغرها‪ ،‬كانت‬
‫�أمها دوما من ت�شعر بكل �شيء‪ ،‬كانت تعرف �أدق الأ�سرار من دون حاجة للبوح لها‪،‬‬
‫تذ ّكرت �أم�س وهي توقع رحاب يف حديثها لتت�أكد من م�شاعرها‪ ،‬رحاب التي فور �أن‬
‫‪296‬‬
‫�أخربتها ب�أن �سليم ينوي خطبة �إحداهن حتى ملحت جمود مالحمها وتو ّقفها عن‬
‫ترتيب الغرفة لتكمل بعد حلظات ك�أن زمرد مل تقل �شيئا ثم حلظات وملحت دموعها‬
‫التي حتاول �أن تخفيها لت�صارحها زمرد مب�شاعرها لتنهار رحاب يف بكاء مرير‬
‫وهي تخربها �أنها لن ت�ستطيع الكتمان بعد الآن خا�صة بعد وفاة والدتها لتبوح لها‬
‫مبكنونات �صدرها‪ ،‬لتنوي العزم على �أن تدخل ال�سعادة لقلب �أختها كما حاولت �أن‬
‫تفعل وقت عودتها منهارة من زيارة �أهل �سهيلة‪ ،‬تلك الزيارة التي بقدر ما �أملت قلبها‬
‫بقدر ما �شعرت بالراحة وهي مت�أكدة �أن �سهيلة بخري الآن‪ ،‬تذ ّكرت حماوالت رحاب‬
‫لإخراجها من حزنها بعد �أن �صنعت لها حلوى حتبها‪ ،‬توقفت مكانها وهي تلمح ذلك‬
‫القريب البعيد‪ ،‬تاهت يف مالحمه للحظات‪ ،‬عينان ع�سليتان تعك�سان �أ�شعه ال�شم�س‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الذهبية‪ ،‬مالحمه اجلدية التي ال تعرف طريق االبت�سام‪ ،‬بع�ض �شعريات بي�ضاء‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫تتخ ّلل �شعره الأ�سود‪ ،‬ذلك القريب البعيد الذي مل يتوقف عن ال�س�ؤال عنها كما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أخربتها رحاب قل ًقا على حالتها خا�صة بعد �أن ر�أى انهيارها‪.‬‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫ارتفع حاجباها بده�شة وهي تلمح ت�ش ّنج ج�سده‪ ،‬وقب�ضتيه امل�ضمومتني‪ ،‬كان‬
‫ككتلة غ�ضب على و�شك االنفجار‪ ،‬قاطع �أفكارها �صوته الهادئ الذي يتخ ّلله �شرارات‬
‫�ضحكاتك ت�صل ل�سكان‬
‫ِ‬ ‫فيم كنتما تتحدثان لن�صف �ساعة كاملة و�أ�صوات‬‫غ�ضب‪َ «:‬‬
‫البيت ب�أكمله؟»‬
‫نظرت له ُمنده�شة من كالمه وهي جتيبه بال وعي‪«:‬ماذا؟!»‪ ،‬اقرتب حتى وقف‬
‫�أمامها وهي تلمح الغ�ضب على �شفري االنفجار فيها وحدها‪�«:‬إن � ِ‬
‫أردت احلديث معه‬
‫فعلي الأقل حت ّدثوا يف مكان عام و�سط �أ�شخا�ص‪ ،‬ال مبفردكما يف غرفة املكتب»‬
‫نظرت لعينيه بجمود وهي حتاول �أن جتده فيها خيط اتهام‪ ،‬ولكن فاج�أها �أنها‬
‫مل جتد �سوى غ�ضب ال ينبع �إال من غرية!‬
‫�أ�سبلت �أهدابها وهي تك ّذب ما ر�أته لتقول بهدوء‪«:‬كنت �أريد احلديث معه يف‬
‫�أمر يخ�صه ومل �أرغب يف �أن ت�سمعنا رحاب‪ ،‬فطلبت منه اجللو�س يف غرفة املكتب‬
‫والباب كان مفتوحا كما �أن �سليم جمرد �أخ يل»‬

‫‪297‬‬
‫أنت ل�سليم جمرد‬ ‫�أجابها بغ�ضب مل ي�ستطع كتمه وهدو�ؤها يزيده غ�ضبا‪«:‬وهل � ِ‬
‫والدتك»‬
‫ِ‬ ‫�ضحكاتك فلم مير �سوى �أ�سابيع على وفاة‬
‫ِ‬ ‫�أخت؟! على الأقل اخف�ضي �صوت‬
‫رفعت عينيها له ولعن نف�سه لر�ؤية هذا الأمل بداخلها ولكنه مل يق�صد �إيالمها‬
‫هو فقط �شعر بنار غريبة تكوي �صدره وهو يراها تتحدث ب�سعادة مع �سليم‪ ،‬يا �إلهي‬
‫كم كانا متالئمني معا!‬
‫�شعر ب�أنها تريد �أن تقول �شيئا لترتاجع يف الثانية التالية وتت�س ّلح بهدوئها جمددًا‬
‫وهي جتيبه‪�«:‬أعتذر للفكرة اخلاطئة التي و�صلت �إليك ولكن ل�ست يف حاجة لأب ّرر‬
‫لك �شيئا والآن اعذرين فال يجب �أن نقف لنتحدث مبفردنا حتى ال ت�صل �أي فكرة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫خاطئة لأحدهم كما و�صلت �إليك»‬

‫‪M‬‬
‫الكت‬ ‫ري‬
‫شر‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫منزل زمرد‬

‫يع‬ ‫ز‬
‫�أجابت رنني الهاتف لتجد على الطرف الآخر �صوت �سايل تقول‪«:‬كيف ِ‬
‫حالك‬
‫زمرد؟! �أمتنى �أن تكوين بخري» �أجابتها بارتباك م�ستغربة ات�صالها بها‪«:‬بخري‪،‬‬
‫ؤالك»‬
‫�شك ًرا ل�س� ِ‬
‫«ا�سمعيني زمرد �أنا �أردت �أن �أعتذر عن �آخر لقاء بيننا يف مكتب يامن‪ ،‬هل‬
‫أنك ممنوعة من اخلروج �إال بحماية ولكن �أنا يف حاجة‬
‫مقابلتك؟! �أعلم � ِ‬
‫ِ‬ ‫ب�إمكاين‬
‫أخربك بتفا�صيله‬
‫معك‪� ،‬أنا ويامن على خالف كبري هذه املرة‪ ،‬و�أريد �أن � ِ‬‫للتح ّدث ِ‬
‫فوحدك من ي�ستمع �إليها»‬
‫ِ‬
‫ارتبكت زمرد وهي ت�ضغط بكفيها على الهاتف لتقول‪�«:‬أنا ال �أ�ستطيع اخلروج‬
‫قلت �أنا ال �أخرج �إال بحماية و�أحيانا �آ�سر من يو�صلني‪� ،‬أريد �أن �أ�ساعدكم‬
‫�سايل كما ِ‬
‫ح ًقا ولكن �أنا فقط ال‪»...‬‬
‫قاطعتها �سايل وهي تقول‪�«:‬أعرف حبيبتي‪ ،‬ح�س ًنا �إن رغبتي ب�أن ت�أتي باحلرا�سة‬
‫منك‬
‫أنك �ستقابلينني لأنه �سيعرف �أنني من طلبت ِ‬ ‫ال م�شكلة‪ ،‬فقط ال تخربي يامن � ِ‬
‫‪298‬‬
‫أرجوك زمرد �أنا‪� ..‬أنا‬
‫القدوم و�سيزيد من غ�ضبه فهو مل يخرب �أحدا ب�شجاره معي‪ِ � ،‬‬
‫أنك �ستزورين �إحدى �صديقاتك �أمرية تلك الفتاة التي‬‫إليك‪َ ،‬مل ال تخربيه � ِ‬
‫يف حاجة � ِ‬
‫معك»‬
‫كانت ِ‬
‫ا�ستغربت زمرد للحظات معرفة �سايل ب�أمرية‪ ،‬ولكن ظ ّنت �أن يامن من حت ّدث‬
‫قليل وهي تربط غ�ضب يامن وحزنه هذه الأيام بخالفه مع‬ ‫عنها معها‪� ،‬صمتت ً‬
‫�سايل ف�شعرت �أنه رمبا �إن قدمت له امل�ساعدة يخف ذلك الأمل الذي بقلبها‪ ،‬بالرغم‬
‫من �أنها تق ّربهما من بع�ضهما �إال �أنها ت�شعر ب�أن ذلك �أف�ضل‪ ،‬تنهدت لتجيبها يف‬
‫إليك‪ ،‬ما هو العنوان؟!»‬
‫النهاية‪«:‬ح�س ًنا �سايل‪� ،‬س�أطلب احلرا�سة و�آتي � ِ‬

‫ع‬
‫علي اجلهة الأخرى تنهدت �سايل بخوف وهي ترى تلك الفتاة التي ح ّدثتها‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫تبت�سم بن�صر للرجل الذي معها وهو يقول‪ِ �«:‬‬

‫ت‬
‫أح�سنت �سايل‪ ..‬رمبا من الأف�ضل �أن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أنت بارعة»‬
‫ترتكي ال�صحافة لتتجهي للتمثيل ف� ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تقول‪«:‬ها �أنا �ساعدتك‪ ،‬فكيف �ست�ساعدينني؟!»‬

‫ع‬
‫أ�ساعدك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫نظر لها ممدوح برباءة م�صطنعة وهو يقول‪«:‬هذا ما �أفعله عزيزتي �أنا �‬
‫�صك للأبد من زمرد»‬‫�سبقك ال�صحفي و�س�أخ ّل ِ‬
‫أجعلك تكتبني عن ِ‬
‫�س� ِ‬
‫�س�ألته بتوتر‪«:‬ماذا �ستفعل بها؟!» ابت�سم ممدوح ب�شر وهو يقول‪�«:‬آه هذا الأمر‬
‫دورك باالتفاق حتى حت�صلي على ما تريدين»‬
‫يخ�صني وحدي‪ ،‬ن ّفذي ِ‬
‫ارتع�ش ج�سدها من ابت�سامته‪ ،‬وهي تتذ ّكر زيارة يامن لبيت �أهلها يخربها ب�أنه‬
‫لن ي�ستطيع التكملة يف ارتباطهما‪� ،‬شعرت بالإهانة وهو ال يريد ذكر �أ�سبابه لكنها‬
‫عرفت‪ ،‬عرفت �أن تلك املخادعة زمرد هي ال�سبب‪ ،‬لقد �أتقنت حيلتها حتى �أخذته‬
‫منها‪ ،‬تذ ّكرت بعدها ات�صال تلك الفتاة �سهيلة بها لتجيبها بغ�ضب �أنها لن ت�ساعدها‬
‫وال تريد �شي ًئا منها لتجد نربة خمتلفة بحديث خمتلف باتفاق خمتلف‪ ،‬وكله يف‬
‫�صاحلها هي فقط‪ ،‬تلك الفتاة والرجل الذي يجاورها يريدان زمرد ب�أي طريقة‬
‫ممكنة‪ ،‬هي لن تت�ساءل عن �أ�سبابهما ال يهمها طاملا �أنهما �سيزيحانها من طريقها‬
‫وهي �ستعيد يامن لها بطريقتها‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫بك وال تت�صل‬‫حت ّدثت �إليها رحاب بقلق‪�«:‬أنا ال �أ�شعر باالرتياح‪َ ،‬مل تت�صل ِ‬
‫بحماتها‪ ،‬والدة يامن دائما من ت�صلح بينهما‪ ،‬ال تذهبي زمرد‪ ،‬كما �أن تلك الغبية‬
‫ال تنا�سب يامن»‪ ،‬ابت�سمت لها زمرد بهدوء وهي ت�شعر بقلقها احلبيب لتجيبها‪«:‬ال‬
‫�أعلم �أ�سبابها رحاب ولكن �إن كان هناك فر�صة لت ّدخلي ف�أنا لن �أتركها لأ�ساعدهما»‪.‬‬
‫زفرت رحاب بخفوت لتقول‪«:‬ح�س ًنا على الأقل �أخربي يامن» �أجابتها‪�«:‬أنا‬
‫بالفعل �أخربته بخروجي ولكن لزيارة �أمرية» حت ّدثت رحاب‪�«:‬سيغ�ضب زمرد‪،‬‬
‫أنت تعرفني هذا» �شعرت زمرد بالقلق لتقول بعد تفكري‪«:‬ح�س ًنا �س�أخربه ولكن‬ ‫� ِ‬
‫�إن منعني �س�أذهب»‪ ،‬حاولت االت�صال به لتجد هاتفه مغلقا‪ ،‬فقررت �إر�سال ر�سالة‬
‫تخربه فيها بزيارتها ل�سايل ال لأمرية‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫‪M‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫شر وال‬
‫منزل حممد الأ�سيوطي‬

‫توزيع‬
‫وته�شم زجاج �أخرجها من دوامة �أفكارها‪ ،‬عقدت حاجبيها‬‫�صوت ارتطام قوي ّ‬
‫با�ستغراب ونه�ضت من على ال�سرير لتخرج من غرفتها‪ ،‬تنظر حولها حتى جت ّمدت‬
‫مكانها وهي تنظر ب�صدمة جل�سد جميلة املغ�شى عليها على الأر�ض و�أكواب الع�صري‬
‫ُم�شهمة بجوارها‪.‬‬
‫دقيقة اثنتان ثالث وهي جامدة مكانها حتى �سمعت �أ�صوات �أقدام على الدرج‬
‫وباب ال�شقة يفتح و�آ�سر ينظر لها بده�شة حت ّولت لرعب يف اللحظة التالية‪ ،‬وعيناه‬
‫تلتقط ج�سد والدته على الأر�ض فهتف بقوة‪�«:‬أمي»‪ ،‬اقرتب من ج�سدها ُم ً‬
‫�سرعا‬
‫ورفع وجهها له و�أخذ يفح�ص نب�ضها وهو يت�ساءل بقلق‪«:‬ماذا حدث؟!»‬
‫مل جتبه �أمرية اجلامدة يف مكانها ب�شيء وحلظات ووجدت حممد يدلف من باب‬
‫ال�شقة ويهتف برعب‪:‬‬
‫«جميلة» قبل �أن يهرع باجتاهها وي�سحبها من بني يد �آ�سر الذي فاق من‬
‫�صدمته مبهنية وهو يحدث والده‪:‬‬
‫معها‪ ،‬نب�ضها �ضعيف �س�أح�ضر علبة الإ�سعافات»‬ ‫«�أبي ابقَ‬
‫‪300‬‬
‫تركه �آ�سر دون �أن ي�سمع رده‪ ،‬ورك�ض للخارج بينما �أحاط حممد ج�سدها بقوة‬
‫بك يا عمري؟!»‬
‫وهو يتحدث بقلق‪«:‬حبيبتي ماذا حدث؟! هيا انه�ضي جميلة‪ ،‬ماذا ِ‬
‫نف�سا قو ًيا من �صدرها وك�أنها ن�سيت �أن تتنف�س يف �صدمتها وارجتف‬
‫�أخذت �أمرية ً‬
‫ج�سدها بقوة وهي تلمح جميلة �ساكنة يف ح�ضن حممد ال�شاحب الوجه‪.‬‬
‫و�صل �آ�سر بعد حلظات حاول �أن يوقظ والدته من �إغماءتها ولكنها مل تفق‬
‫ففح�ص نب�ضها وجده منخف�ضا جدً ا‪�«:‬أبي يجب �أن ننقلها للم�شفى»‬
‫�شهق حممد برعب حني �شعر مبلم�س لزج وهو يرفع يده لآ�سر فات�سعت عني �آ�سر‬
‫بقلق وهو يلمح كف والده ُتغطيها الدماء وهو يقول‪�«:‬إنها تنزف!»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان �آ�سر الأ�سرع من الإفاقة من �صدمته وهو ينه�ض ً‬

‫ري‬
‫حامل والدته بقوة و�أخذت‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫م�سرعا خلف �آ�سر وهو يهتف به �أن ينتظره‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال�صدمة من حممد دقيقتني حتى نه�ض‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫فلم ت�شعر �أمرية �سوى بقدميها وهي تتبعهما رك�ضا‪.‬‬

‫والتوزي‬
‫‪M‬‬
‫ع‬ ‫م�شفى املدينة‬
‫كانت ال ت�سمع �أي �شيء حولها ك�أن عاملها �أ�صبح خاو ًيا‪ ،‬ال تعلم ما هذا الأمل‬
‫الفظيع الذي ينه�ش يف قلبها‪ ،‬منذ مدة وهي ُت ّ�سد بيديها على قلبها لع ّل الأمل‬
‫يخفف ولكن دون جدوى‪ ،‬رفعت عينيها بجوارها حينما ملحت �آ�سر يجل�س جانبها‬
‫ي�س�ألها بهدوء‪«:‬ماذا حدث ليلى؟!»‬
‫نظرت له ب�ضياع وهي ما زالت ُت ّ�سد على قلبها فنقل نظراته ملو�ضع يديها ثم‬
‫قلبك؟!»‬
‫ؤملك ِ‬‫�أعاد نظره لها جمددًا لي�س�ألها بهدوء خالف �شحوب وجهه‪«:‬هل ي� ِ‬
‫فرق قلبه لها‪ ،‬مد يديه مي�سك بيديها املو�ضوعة‬ ‫هزت �أمرية ر�أ�سها كطفلة �صغرية ّ‬
‫على �ساقها وهو يحت�ضنها بحنان بني كفيه‪«:‬ال تقلقي �ستكون بخري يبدو �أنها غيبوبة‬
‫�سكر» �أجابته بتيه‪�«:‬أنا مل‪ ..‬لقد‪ »..‬تن ّهد �آ�سر وهو يقول‪«:‬اهدئي حبيبتي»‬
‫جتمعت الدموع يف عني �أمرية لتقول ب�صوت ُمت�أمل‪«:‬لقد �سمعت �أ�صوات ارتطام‬
‫وته�شم زجاج‪ ،‬خرجت من الغرفة لأجدها‪ ..‬يا �إلهي قلبي ي�ؤملني بقوة»‬
‫ّ‬
‫‪301‬‬
‫تغ�ضنت مالمح �أمرية بالأمل فاقرتب �آ�سر بج�سده منها وجذبها حل�ضنه وهو‬
‫ُير ّبت على ظهرها بحنو قائال‪«:‬ال تقلقي‪ ..‬هي �ستكون بخري هي �ستكون بخري»‪.‬‬
‫ال يعلم هل يردد كالمه ليطمئنها �أم يطمئن نف�سه‪ ،‬ا�ست�سلمت حل�ضن �آ�سر لع ّل‬
‫هذا الأمل يخف‪ ،‬مل ت�صدق للحظة �أن ت�شعر بالرعب على �شخ�ص كما ت�شعر الآن‪.‬‬
‫جتمد كالهما �أمام الطبيب بعد �أن خرج وهو يخربهما �أنها غيبوبة �سكر ولكن‬
‫نتيجة ال�سقوط قد �سبب لها نزيف اكت�شفوه بعد �إجراء بع�ض الأ�شعة‪ ،‬وا�ضطروا‬
‫�أنها ي�ضعوها يف العناية املُ�ش ّددة‪ ،‬ليهرع �آ�سر بعد �سقوط والده منها ًرا و�أمرية ال‬
‫ت�صدق ما ت�سمعه وال ما ر�أته من �شحوب وجه ال�سيد حممد وانهياره بعد �أن �أغ�شي‬

‫ع‬
‫ممازحا �إياه �أنهما �أطباء ويعلمون جيدً ا �أن الأمر لي�س‬
‫ً‬ ‫عليه‪ ،‬و�آ�سر يحاول طم�أنته‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫خط ًريا ليجيبه والده وقتها‪�«:‬أنا �أن�سى كل �شيء يف م�صابها» ارتع�ش ج�سد �أمرية‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وهي ال ت�صدق منظر انهيار والدها وذلك ال�صوت داخلها الذي �أخربها �أن روحها‬

‫شر وال‬
‫لن ت�ساحمها �إن �أ�صابه �شيء هو الآخر‪ ،‬لت�شعر بال�صدمة وهي ترى دموعه وهو يخرب‬

‫توزيع‬
‫�آ�سر �أنه �سيموت �إن �أ�صابها �شيء‪ ،‬زفرت بتعب وك�أنها يف �سباق �أجهدها بقوة‪ ،‬تريد‬
‫الراحة من كل هذه احلروب التي جتعل نريان قلبها ال تخمد �أبدا‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫مبنى اجلريدة‬
‫�أو�صلتها ال�سيارة �إىل وجهتها وهي تنظر للمكان الذي �أر�سلته لها �سايل‪ ،‬ويبدو‬
‫�أنه مكان عملها‪ ،‬انتظرت للحظات بال�سيارة واحلار�س الذي يرافقها يف �أي وقت‬
‫خارج املنزل ينظر حوله بهدوء يحاول اكت�شاف �أي خطر قد ي�صيبهما‪.‬‬
‫حلظات وو�صل لأ�سماعها �صوت �شجار على مقربة منها‪ ،‬فتلقائيا �أغلق احلار�س‬
‫قفل ال�سيارة الآيل و�أخذ ينظر بحذر حوله‪ ،‬ملحت اقرتاب الرجلني من ال�سيارة ليدفع‬
‫�أحدهم بالآخر ُم�صطدما بال�سيارة‪ ،‬هتف ال�سائق بهما ب�أن يبتعدا عن هنا ولكن مل‬
‫ي�ستمع �إليه �أحد‪ ،‬فتح قفل ال�سيارة ونزل ليجد �أحدهم يدفعه بقوة جتاه الأر�ض‪،‬‬
‫�شهقت زمرد لتجد حار�سها يلتفت �إليها حماوال طم�أنتها فلمحت فوهة �سالح تظهر‬
‫من الزجاج اخلا�ص بال�سائق وفج�أة انطلقت ر�صا�صة �صامتة لتقبع بر�أ�س احلار�س‬
‫‪302‬‬
‫فتناثرت الدماء على وجهها‪� ،‬صرخت ب�أعلى �صوتها وهي تراه فاقد احلياة لينك�سر‬
‫الزجاج بجانبها ف�أخف�ضت ر�أ�سها و�صراخها ال يتوقف‪ ،‬وفج�أة حرقة خفيفة �أ�صابت‬
‫ذراعها لت�شعر بثقل يف كل مكان بج�سدها‪ ،‬حاولت �أن ترفع ج�سدها لتميل جتاه باب‬
‫ال�سيارة الذي ُفتح �أخريا وتل ّقفتها ذراعان قويتان لي�سود الظالم فج�أة من حولها‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫م�شفى املدينة‬
‫كان كل �شيء ي�سري بروتني ُمل‪ ،‬مر يوم كامل وهي ترف�ض االبتعاد عن باب‬
‫العناية اخلارجي‪ ،‬مل ي�سمحوا لأحد بر�ؤيتها‪� ،‬شعرت بغ�صة م�ؤملة وهي تتخيل �أ�سو�أ‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الأحداث رفعت ر�أ�سها عندما ملحت ال�سيد حممد قادما من �أول املمر مع �آ�سر بعد‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أنت مل تنامي حتى‬‫�أن تركوها لي�صليا الفجر اقرتب �آ�سر ينظر لها بحنان‪«:‬ليلى‪ِ � ..‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫أو�صلك للمنزل‪ ،‬على الأقل تبقني ً‬
‫قليل مع ال�صغار و�أمري ي�أتي بدوره‪،‬‬ ‫الآن‪ ،‬دعيني � ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫أي�ضا»‪.‬‬
‫فهو قلق � ً‬
‫نظرت له �أمرية ب�شرود وك�أنها تراه لأول مرة‪ ،‬تذ ّكرت مواقفه معها‪ ،‬كم مرة‬
‫�ساندها‪ ،‬كم حت ّمل برودها ونفورها منه‪ ،‬كم عانى معها يف حمنتها وما زال‪ ،‬كم‬
‫دوما خلف ظهرها يحميها‬ ‫يوما على �شيء‪ ،‬كان ً‬ ‫احرتم خ�صو�صيتها ومل يجربها ً‬
‫من املجهول‪ ،‬اطمئنان ي�سري يف �أوردتها مبجرد ر�ؤيته‪ ،‬هو التعريف املنا�سب لل�سند‪.‬‬
‫هم�ست له ب�صوت ُمرجتف‪�«:‬أمرية»‪ ،‬نظر لها �آ�سر دون فهم‪ ،‬و�س�ألها ماذا‬
‫تق�صد لتقول‪�«:‬أنت مل تنادين �أمرية �أبدً ا‪ ،‬لقد احرتمت رغبتي حتى هذه اللحظة»‪.‬‬
‫ازداد ا�ستغراب �آ�سر من حالة �أمرية‪ ،‬ف�أكملت كالمها وهي تبت�سم له‬
‫بحزن‪�«:‬س�أكون �سعيدة �إن ناديتني ب�أمرية»‬
‫ات�سعت عني �آ�سر بده�شة وهو ال ي�ص ّدق ما �سمعه منها‪ ،‬بينما التفتت تنظر ملحمد‬
‫اجلال�س على املقعد �أمام باب غرفة العناية وعيناه متعلقة به‪ ،‬ك�أن جميلة �ستخرج‬
‫منه يف �أي حلظة‪ ،‬فرق قلبها مب�شاعر لأول مرة تعرفها‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫اقرتبت من حممد ال�شارد‪ ،‬الذي زاده احلزن �س ًنا‪ ،‬وجل�ست بجواره حتت �أعني‬
‫�آ�سر امل�صدومة فخرج حممد من �شروده على �صوتها الهادئ‪ ،‬جعله ينظر بجواره‬
‫بده�شة هو الآخر‪«:‬هي �شجاعة �ستكون بخري‪ ،‬مل �أعتد ر�ؤيتها �ضعيفة �أبدا لذا �أنا‬
‫على يقني ب�أنها �ستكون بخري‪� ،‬ست�صمد �أمام �آالمها وت�ستيقظ لتكون معك ومعنا»‬
‫ترقرقت عني حممد بالدموع وهو ينظر ل�صغريته التي حت ّدثه لأول مرة بحنان‬
‫نابع من قلبها‪ ،‬ف�ضم �شفتيه بقوة مينع ارتعا�شها ومل ي�ستطع �أن يقل �شيئا �سوى �أن‬
‫هز ر�أ�سه باملوافقة على كالمها‪ ،‬ات�سعت عيناه ب�صدمة وهو ي�سمع �س�ؤالها‪�«:‬أخربين‬
‫عن ق�صة حبكما»‪.‬‬

‫ع‬
‫بعد حلظات بد�أ ي�سرد لها ق�صتهما وكل ال�صعاب التي واجهتهما ليكونا م ًعا يف‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫النهاية‪� ،‬أخربها عن ت�ضحياتها وت�ضحياته �أخربها عن حبه وعن حبها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫مل ُت�ص ّدق ما �سمعته‪ ،‬مل ُت�ص ّدق تلك اللمعة التي �أ�سرت قلبها يف عني حممد وهو‬

‫توزيع‬
‫يتح ّدث عن جميلة‪� ،‬شعرت ب�أنهم يف عامل �آخر غري العامل الذي تعي�ش فيه‪� ،‬شعرت‬
‫ب�صدق م�شاعره فلم ت�شعر �سوى بنف�سها وهي ت�ضع ر�أ�سها على كتف حممد و ُتر ّبت‬
‫على ذراعيه بكفها وتهم�س له‪�«:‬ستكون بخري �أبي»‬
‫�ضم �آ�سر قب�ضته �أمام فمه يكتم �شهقته وهو ينظر ب�أعني ُمت�سعة لأمرية التي‬
‫ت�شارك والدها البكاء وتناديه لأول مرة ب�أبي‪ ،‬بينما جت ّمد حممد مكانه وهو ي�شعر‬
‫مبلم�س الورود على ذراعه من كف ابنته‪� ،‬صغريته التي نادته ب�أبي يا اهلل‪ ،‬كم ت�ضخم‬
‫قلبه من هول امل�شاعر التي �أ�صابته يف تلك اللحظة فلم ي�شعر بنف�سه �إال وهو يتلفت‬
‫جتاهها ويجذبها لأح�ضانه بقوة ويهم�س بني �شهقات بكائه‪.‬‬
‫«يا قلب � ِ‬
‫أبيك‪ ،‬يا روحه‪ ،‬يا عقله‪ ،‬يا فلذة كبدي‪ ،‬يا �صغريتي‪ ،‬يا �أمريتي‪ ،‬يا‬
‫أبيك»‬
‫أبيك‪ ،‬يا حبيبة � ِ‬
‫عاملي كله‪ ،‬يا حبيبة � ِ‬
‫�أخذ يردد �آخر جملة با�ستمرار وهو ي�شدد على احت�ضانها و�أنهار من الدموع‬
‫تنهمر على وجهه بينما مل ت�ستطع �أمرية ال�صمود �أمام كم امل�شاعر التي �شعرت بها‬
‫يف �أح�ضان والدها لأول مرة ف�أجه�شت بالبكاء وهي تهم�س له‪�«:‬آ�سفة �أبي �ساحمني‬
‫�أرجوك �أنا مل �أق�صد �أذيتك �أنا مل �أ�ستطع كرهك �أنا �أحبك �أبي»‬
‫‪304‬‬
‫انهمرت دموع �آ�سر وهو يرى �أجمل م�شهد �أمام عينيه وتنهدت بخفوت وهو‬
‫يهم�س داخله‪«:‬احلمد هلل»‪.‬‬
‫دلفت لغرفة العناية يف اليوم الثاين بعد �أن �سمح لها الطبيب حتت �إ�صرار �آ�سر‬
‫وهو ي�شعر داخله �أن وجودها بجوار جميلة �سيكون له �أثر �إيجابي كبري لها‪ ،‬فوالدته‬
‫�صباحا وقد مت �إيقاف النزيف‪.‬‬
‫مل ت�ستيقظ بعد خروجها من العمليات ً‬
‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي تلمح ج�سد جميلة الهزيل �ساك ًنا على ال�سرير والعديد‬
‫من الأ�سالك ُمت�صلة بج�سدها و�صوت نب�ضات قلبها املُنتظمة يخرتق �صمت املكان‬
‫على اجلهاز املوجود بجوار �سريرها‪ ،‬اقرتبت بهدوء وهي ت�شعر بربودة ت�سري يف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ج�سدها من الغ�صة التي اعت�صرت قلبها �أملًا‪ ،‬وقفت بجوار ال�سرير و�أخذت تت�أملها‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ً‬

‫ل‬
‫طويل حتى مدت يديها لتلم�س كف يد جميلة البارد وحتت�ضنه بحنان‪ ،‬جل�ست على‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫�أر�ضية الغرفة تقرتب بوجهها من جميلة وهي تهم�س لها يف �أذنها بينما جتمعت‬

‫ع‬
‫أمريتك‬
‫ابنتك � ِ‬‫دموع يف عينيها لتقول‪«:‬هيا انه�ضي ف�أنا خائفة �أمي نعم �أنا �أمرية ِ‬
‫يا �أمي»‬

‫�ضحكة خافتة خرجت منها مع دمعة يتيمة على خدها وهي تكمل هم�سها‬
‫أحبك‪� ،‬أخربوين منذ �صغري‬ ‫«كنت خائفة من قولها‪ ،‬خائفة من � ِ‬
‫إخبارك بكم � ِ‬
‫�أن احلب �ضعف و�إن تع ّلقت ب�شيء ف�سي�صبح نقطة �ضعف يل‪ ،‬خفت �أن �أتع ّلق ِ‬
‫بك‬
‫منك‪ ،‬كنت خائفة يا �أمي ولكن �أدركت‬
‫أحبك فت�صريين نقطة �ضعفي فيحرموين ِ‬ ‫ف� ِ‬
‫دونك‪.‬‬ ‫�شي ًئا مه ًما �أن ت�صريي نقطة �ضعفي و� ِ‬
‫أنت معي �أف�ضل من �أن �أكون قوية من ِ‬
‫لك �سوى‬
‫مناداتك ب�أمي �أبدً ا ولن �أ�سمح ِ‬
‫ِ‬ ‫أعدك ب�أين لن �أتوقف عن‬
‫انه�ضي �أمي و� ِ‬
‫أمريتك‪ ،‬انه�ضي و�سوف �أكون ابنة ُمطيعة �أنا خائفة �أمي و�أنا ال �أحب �أن‬
‫مبناداتي � ِ‬
‫�أخاف»‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫‪305‬‬
‫ع�ص ًرا‬
‫لتغي ثيابها‬
‫كانت يف طريقها للعودة للمنزل بعد �إ�صرار �آ�سر على عودتها ّ‬
‫قليل فن ّفذت طلبه وهي عائدة مع �أحمد الذي قرر �أن يرافقها ً‬
‫بدل من �آ�سر‪،‬‬ ‫وترتاح ً‬
‫ر�سالة و�صلت على هاتفها لتفتحها لتجدها ر�سالة من غفران‪�«:‬أمرية �أنا يف حاجة‬
‫ؤيتك‪ ،‬قابليني يف بعد ن�صف �ساعة‪ ،‬الأمر مهم جدً ا»‬
‫لر� ِ‬
‫�شعرت �أمرية بالقلق لتطلب من �أحمد �أن يرافقها للعنوان املوجود بالر�سالة‪،‬‬
‫فوافقها ليوقفا �سيارة �أجرة نظ ًرا لبعد املكان عنهم‪.‬‬
‫«�أنا ال �أ�شعر باالرتياح‪ ،‬ما كان يجب �أن نخرج قبل عودة �أمي»‪ ،‬تن ّهد �أحمد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يوجه حديثه لأمرية بينما هي م�شغولة بهاتفها وترفعه لأذنها تعاود‬ ‫ب�ضيق وهو ّ‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫االت�صال ب ُغفران ف�أجابته �شاردة وجزء �صغري يف قلبها يوافق �أحمد ر�أيه فهي � ً‬
‫أي�ضا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ال ت�شعر باالرتياح منذ �أن تل ّقت الر�سالة من ُغفران لتقابلها هنا يف هذا املكان‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫النائي‪ُ ،‬ماولة االت�صال بعدها بهاتفها لتجده ُمغل ًقا‪«:‬ال تقلق �أحمد لن نت�أخر‪،‬‬
‫�سرنى فقط ما الأمر املهم الذي طلبتني ُغفران ب�سببه ثم �سنعود‪ ،‬نحن لن نت�أخر»‬
‫«�أمرية هناك �شيء خاطئ‪ ،‬انظري»‬
‫�أنزلت �أمرية الهاتف من على �أذنها وهي تتبع بعينيها �إىل ما ي�شري �إليه �أحمد‬
‫بيديه فلمحت �سيارتني �سوداوين رباعيتي الدفع على بعد لي�س بكثري عنهما‪ ،‬نزل‬
‫من �إحداهما رجالن قويا البنية‪� ،‬ضخما الهيئة يرتدي كل منهما حلة �سوداء‪،‬‬
‫دققت �أمرية النظر فيهما لتت�سع عيناها بده�شة وهي تلمح �أ�سلحة حتت �سرتتيهما‬
‫وي�سريان يف اجتاهها‪ ،‬نقلت �أنظارها بينهما وبني ال�سيارة الأخرى ال�ساكنة وزجاجها‬
‫الأ�سود ال يظهر من بداخلها‪ ،‬حلظة فارقة وهي مت�سك ذراع �أحمد بقوة و�أخرى‬
‫وهي ت�ضرب �أحد �أزار الهاتف لتت�صل ب�أحدهم وهي ترى باب ال�سيارة ُيفتح لتتجمد‬
‫مكانها للحظات وهي تزيد بال�ضغط على ذراع �أحمد لتهم�س حتت ال�صدمة‪�«:‬أحمد‬
‫ارك�ض»‪.‬‬
‫وقبل �أن ي�ستوعب �أحمد كالمها جذبته بقوة و�أخذا يرك�ضان ب�أق�صى �سرعة‬
‫وهو يحاول �أن يواكب رك�ضها فتوقفا فج�أة وال�سيارة ال�سوداء تعرت�ض طريقهما‬
‫‪306‬‬
‫بقوة‪ ،‬فلم تكد �أمرية �أن تغري طريقها حتى ملحت �أحد الرجال خلفها يقب�ض على‬
‫�سرتة �أحمد ويرفعه عاليا يف حلظة ليقذفه على م�ساقة قريبة حتى ارتطم بجذع‬
‫�شجرة على جانب الطريق‪ ،‬حتت �صدمتها كادت �أن تلتفت للرجل الآخر وتلكمه‬
‫بقب�ضتها حتى �شعرت بحرقة يف �ساقها �أر�سلت برودة جل�سدها ب�أكمله‪ ،‬نظرت‬
‫ب�صدمة ل�ساقها فلمحت حقنة تنغرز يف �ساقها بقوة‪ ،‬رفعت عينيها لتجد ممدوح‬
‫يقف �أمامها وي�سحب احلقنة من �ساقها وهو يبت�سم ابت�سامته الكريهة لها‪� ،‬شعرت‬
‫بارتخاء غريب يف كل �أو�صالها فدب الرعب لقلبها‪ ،‬التفتت بر�أ�سها لأحمد لتجد‬
‫الرجالن يكيالن له اللكمات‪ ،‬حتدثت بل�سان ثقيل وهي ت�شعر �أن الكلمات تخرج‬
‫ب�صعوبة من فمها‪«:‬توقفا»‪ ،‬ارتخى ج�سدها ب�أكمله فتلقفه ذراع ممدوح وهو‬

‫ع‬
‫يهم�س ب�أنفا�سه الكريهة بالقرب من �أذنها‪«:‬كل �شيء ي�سري على ما يرام‪� ،‬أف�ضل‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫مما خططت له‪ ،‬ا�سرتخي فتاتي‪ ،‬هذا املُخدر كلفني الكثري لأجعل ج�سدك ي�ست�سلم‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫أجعلك ت�شعرين بكل‬
‫حولك‪� ،‬س� ِ‬
‫بعينيك كل ما يحدث ِ‬ ‫ِ‬ ‫أنت ت�شاهدين‬
‫يل هكذا بينما � ِ‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫ج�سدك يتلذذ مبلم�س ج�سدي قبل �أن‬
‫ِ‬ ‫هم�سة من فمي‪ ،‬كل مل�سة من يدي‪� ،‬س�أجعل‬

‫ع‬
‫بك ملن ي�ستحق �أن ي�ستمتع»‪.‬‬
‫�ألقي ِ‬
‫�شعرت �أمرية بالغثيان من �أنفا�سه القريبة من وجهها وج�سدها اخلائن ال‬
‫ينا�ضل وال يقاتل حتت رحمة هذا املخدر‪� ،‬شعرت بالعجز عن حتريك �أطرافها‪،‬‬
‫دارت بعينيها لأحمد لتجد وجهه املكدوم ُمغطى بالدماء وج�سده مرتخيا بني ذراع‬
‫�أحد الرجال بينما الآخر يكيل له اللكمات فدمعت عيناها ب�أمل وهي تهم�س ب�صوت‬
‫ثقيل‪�«:‬أتو�سل �إليك �أن اتركه»‬
‫نادى ممدوح على �أحد الرجال لي�ستلم منه �أمرية ف�أمره بو�ضعها يف ال�سيارة‪،‬‬
‫بينما اجته هو لأحمد وجذب �شعر ر�أ�سه بيديه للخلف لريفع وجهه ومتعن يف النظر‬
‫قليل ويف ثيابه فلمح نظارة طبية يف جيبه الأي�سر من �سرواله فابت�سم ب�سخرية‬ ‫فيه ً‬
‫وهو ي�أمر الرجل الذي مي�سك �أحمد �أن يرتكه قائال‪�«:‬إنه الأخ امل�سامل‪ ،‬لي�س تلميذها‬
‫يف الكاراتيه خ�سارة»‪.‬‬
‫�ضحك ممدوح بته ّكم وهو يتحرك باجتاه ال�سيارة بينما �ألقى الرجل بج�سد‬
‫�أحمد على الأر�ض وقد امتزجت دما�ؤه برتاب الأر�ض‪� ،‬ساك ًنا بال حراك‪.‬‬
‫‪307‬‬
‫ا�سرتخ فتاتي‪ ،‬هذا املخدر‬
‫ِ‬ ‫«كل �شيء ي�سري على ما يرام‪� ،‬أف�ضل مما خططت له‪،‬‬
‫بعينيك كل ما‬
‫ِ‬ ‫أنت ت�شاهدين‬
‫كلفني الكثري لأجعل ج�سدك ي�ست�سلم يل هكذا بينما � ِ‬
‫أجعلك ت�شعرين بكل هم�سة من فمي‪ ،‬كل مل�سة من يدي‪� ،‬س�أجعل‬ ‫حولك‪� ،‬س� ِ‬ ‫يحدث ِ‬
‫بك ملن ي�ستحق �أن ي�ستمتع»‪.‬‬‫ج�سدك يتلذذ مبلم�س ج�سدي قبل �أن �ألقي ِ‬
‫ِ‬
‫�ضرب بقب�ضته على ال�سيارة بغ�ضب وهو ي�ستمع لتلك الكلمات‪ ،‬بينما غ�صة‬
‫�أملت قلبه وهو ي�شعر بالعجز‪ ،‬ال ي�ستطيع �أن ي�صرخ وال ي�ستطيع �أن ينهي املكاملة‪،‬‬
‫�أوقف �سيارته ب�سرعة �أمام مبنى الأمن الوطني ورك�ض ملكتب يامن بينما هاتفه على‬
‫�أذنيه ُم�س ًكا به بقوة‪ ،‬دخل مكتب يامن الذي كان يقف هو الآخر بحالة من الفزع‬

‫ع‬
‫لليوم الثاين هو وفتحي متفاجئني من اندفاع �آ�سر ال�شاحب الوجه‪ ،‬جتمد �آ�سر مكانه‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫وهو يتنف�س ب�صعوبة ين�صت ملا ي�سمعه على الهاتف وهو ينظر بقوة ليامن ليهتف‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بجمود‪«:‬يامن لقد اختطفت �أمرية ويبدو �أن معها �أحمد �أخي‪� ،‬أرجوك افعل �شيئا‪،‬‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫تع ّقب املكاملة �أو افعل �شيئا �أرجوك»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫قبل �ساعة‬
‫خرجت من اجتماعها مع اللواء ح�سني ُم�سرعة وهي تنظر كل فرتة و�أخرى‬
‫�صباحا من �أجل اجتماع طارئ معها ومع الأقلية الذين‬‫للهاتف‪ ،‬اللواء ح�سني طلبها ً‬
‫يثق بهم‪ ،‬لقد �أثبت هو ورجاله �صلة اللواء �سامح راغب بجرائم ممدوح وقدرته على‬
‫�إخفاء الأدلة و�شراء �أمناء ال�شرطة وغريهم من العاملني بالطب ال�شرعي باملال‪،‬‬
‫�أخذوا يفكرون يف الإيقاع به دون �أن ي�شعر حتى يثبتوا التهمة عليه بالأدلة هذه املرة‪،‬‬
‫هي ا�ست�أذنت اللواء بعد �أن �أخربته ب�إر�سال عمران ر�سالة لها من رقم جمهول‪ ،‬هي‬
‫ال ت�صدق حتى الآن رغبة عمران باحلديث معها‪ ،‬لقد �أر�سل لها ر�سالة ي�س�ألها �أن‬
‫تقابله فهو يريد �أن يتح ّدث معها‪.‬‬
‫نظم من �أنفا�سها وهي حتاول �أن جتد �سيارة �أجرة لتتوقف واحدة‬ ‫حاولت �أن ُت ّ‬
‫�أمامها‪ ،‬تركبها على الفور غافلة عن املر�أة التي كان تركب بجواره ُمرتدية ما يخفي‬
‫مالحمها‪� ،‬أخربت ال�سائق بالعنوان لتحيد بعينيها للحظة بجوارها وهي تنظر للمر�أة‪،‬‬
‫لتلتفت يف اللحظة التالية م�صدومة من ر�ؤية �سمر لرتفع ُغفران كفها �ضاغطة على‬
‫‪308‬‬
‫عنق �سمر وقبل �أن تقول �شيئا‪ ،‬حقنة �أ�صابت �ساقها منعتها من ا�ستمرار ال�ضغط‬
‫على عنق �سمر لت�شهق الأخرية وهي ت�شعر ب�أ�صابع غفران ت�سقط من على عنقها‪.‬‬
‫لتبت�سم بن�صر وهي تقول بني �أنفا�سها‪«:‬لن ي�ص ّدق ممدوح ال�سرعة التي ح�صلت‬
‫عليك»‪ ،‬لتكمل وهي تلتقط هاتف ُغفران وهي حت ّدث ال�سائق‪�«:‬أ�سرع قبل �أن‬
‫فيها ِ‬
‫يالحظ �أحد اختفاءها»‬

‫‪M‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫ع‬ ‫والتوزي‬

‫‪309‬‬
‫والفرق بني ال�سقوط وال�صمود حلظة‪ ،‬ممر �ضيق‪ ،‬وهذا ما‬
‫ين�ساه �أو يتنا�ساه الكثريون!‬

‫عبدالرحمن منيف‬
‫الف�صل ال�سابع ع�رش‬
‫املزرعة‬

‫املزرعة‬

‫ع‬
‫�أ�صوات �أقدام و�صلت لأ�سماعهم جعلت ثالثتهن يرت ّقنب ب�آذانهن عن �أ�صحابها‪،‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ويف حلظة مت �إزالة الغمامة من على �أعينهن لريم�شن حلظات لتت�سع �أعينهن من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ال�صدمة ُمدركات �أنهن وقعن يف الفخ‪ ،‬وقد جاء يوم املواجهة‪.‬‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫حاولت ُغفران التح ّدث والكمامة التي تغطي فمها متنع خروج �صوتها‪ ،‬لي�ضحك‬
‫ممدوح ب�صوت عال قائال‪�«:‬آه ما �أحلى ر�ؤيتكن معا جمددًا يف بيتنا احلبيب بناتي‬
‫الغاليات» دمعت عني زمرد وهي ت�شعر بالنهاية القادمة ال حمال‪.‬‬
‫اقرتب ممدوح من جل�ستهن وهو يقول ُموج ًها كالمه لزمرد‪�«:‬آه يا منرتي‬
‫لك خا�صة‪� »...‬أتبع كالمه بلم�س وجنتيها لتغم�ض عينيها وهي تهز‬ ‫لكم ا�شتقت ِ‬
‫قائل ب�صوت‬‫ر�أ�سها بعيدة عنه ليجذب حجابها يف حلظة وهو مي�سك �شعرها بكفه ً‬
‫�شيطاين‪«:‬ماذا؟ �أمل ت�شتاق يل �أم �أن حبيبك اجلديد � ِ‬
‫أن�ساك ما م�ضى؟! اعذريني‬
‫معك كهدية تعوي�ض»‪.‬‬‫�شرا�ستك ِ‬
‫ِ‬ ‫يريدك يريد‬
‫ِ‬ ‫إخوتك فمن‬
‫تخديرك ك� ِ‬
‫ِ‬ ‫مل �أ�ستطع‬
‫ت�ساقطت دموعها وهي تعي مق�صده‪ ،‬و�صوت ُغفران املكتوم ي�صل �إليه ليعتدل‬
‫يف وقفته‪ ،‬وهو ينظر جتاهها ثم اقرتب لي�س�ألها باهتمام‪«:‬ماذا؟! ماذا تقولني؟!‬
‫ل�سانك؟! دعيني‬
‫ِ‬ ‫�أنا ال �أ�سمعك» لي�ضحك وهو يهم�س �أمام وجهها‪«:‬هل �أكل القط‬
‫أخربك �أنه مل يكن قط بل جمرد حقنة‪ ،‬حقنة بحجم عقلة الإ�صبع قادرة على فعل‬
‫� ِ‬
‫علي حتجيم الغ�ضب الذي ينب�ض منكن‪ ،‬و�أنا على‬
‫ميكنك تخ ّيله‪ ،‬اعذريني كان ّ‬
‫ِ‬ ‫ما ال‬
‫أنت و�أمرية فزمرد‬
‫يقني ب�أن غ�ضبكن الآن ي�ستطيع تدمري بلد كامل‪ ،‬على الأقل � ِ‬
‫‪312‬‬
‫حبيبتي مل تعد منرة كما كانت بل �أ�صبحت جمرد قطة الآن» اقرتب من ُغفران‬
‫ظننت �أنه لي�س لدي خطة‬‫ِ‬ ‫ليم�سك �شعرها بكفيه وهو يهتف بغ�ضب‪«:‬ماذا؟ هل‬
‫بديلة؟! �أتدرين ما اخلط�أ الذي وقع فيه �أ�صدقا�ؤه يف الأمن الوطني!؟ �أنهم �أبقوا‬
‫على حياة جمرم مثلي‪ ،‬بل وو�ضعوين يف غرفة فاخرة يحر�سني �شرطي ُمكافح و ّيف‬
‫لبلده وداوموا على عالجي جاهلني بحالة النوم التي �أ�صابت مري�ضهم‪ ،‬فهم كانوا‬
‫بانتظار ا�ستيقاظي الذي مل يحدث على الأقل يف وجودهم‪ُ ،‬منتظرين �إجابات لأ�سئلة‬
‫لن تفيدهم ب�أي �شيء‪� ،‬آه هل غفلت عن �إخبارك مبا حدث‪ ،‬تلك اللحظة التي �أتت‬
‫فيها خلود ليلة بيع رحمة مل تلمحي تلك احلقنة التي حقنتني بها خفية وقد علمت �أن‬
‫ال�شرطة على و�شك الو�صول‪ ،‬حقنة �صغرية قادرة على تخدير ج�سدي ب�أكمله لفرتة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ال ب�أ�س بها ف�أبدو يف غيبوبة م�ؤقتة‪ ،‬ذكي �ألي�س كذلك؟!»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫�ضحك بقوة ليلتفت لأمرية وهو ينظر �إليها برتكيز وهو يراها تنظر له ب�أعني‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫غا�ضبة ليقول بت�سلية‪�«:‬آه من‬

‫والتوزي‬
‫عينيك يا �صغريتي العزيزة‪ ،‬لوال �أن هناك من دفع‬
‫ِ‬

‫ع‬
‫�أكرث لكانت الآن يف ج�سد �أحدهم»‪.‬‬
‫ارتع�شت عيناها لي�ضحك با�ستمتاع �شاعرا بن�شوة وهو يلمح خوفهن ال�شهي وهو‬
‫إخوتك‪ ،‬احلياة كانت‬
‫ألفك ال�سريع مع � ِ‬ ‫يقول‪«:‬لقد ا�ستمتعت مبعرفة � ِ‬
‫أخبارك وت� ِ‬
‫وردية �ألي�س كذلك؟! ح�س ّنا �س�أكون ُم�ستمت ًعا بت�أدية دور ال�شرير يف هذه الق�صة‪،‬‬
‫قليل»‪.‬‬
‫�س�أدعكن تق�ضني القليل من الوقت لتُو ّدعن بع�ضكن ً‬
‫التفت على دخول �سمر حاملة حقيبة بيديها لتهز ر�أ�سها له يف �إ�شارة ب�أن كل‬
‫�شيء جاهز‪ ،‬لي�صفق بيديه وهو ي�أخذ منها احلقيبة ثم حلظات وفتحها ليخرج‬
‫ثالث حقن و�ضع واحدة يف حقيبة و�أخرى يف حقيبة‪ ،‬ناول رجاله احلقيبتني وهو‬
‫يقول لهم‪«:‬واحدة للميناء وواحدة للمطار»‪.‬‬
‫التفت �إليهن وهو يقول‪«:‬ح�سنا حان الوقت‪ ،‬هل انتهينت �أم ال؟! ح�سنا ُغفران‬
‫�صغريتك ملكان خا�ص بها»‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ميكن ق�ضاء القليل من الوقت مع رحمة حتى �أنقل‬
‫انتف�ضت زمرد مكانها حتاول التحرر من قيدها وهي تراه يقرتب من �أمرية يفك‬
‫الكمامة على فمها ليوجه حديثه ل�سمر‪�«:‬أريدها جاهزة بعد ع�شر دقائق»‪� ،‬أ�شارت‬
‫‪313‬‬
‫وغفران حتاول ال�صراخ بقوة‬ ‫�سمر ب�أ�صابعها لرجلني تبعاها ليحمال ج�سد �أمرية‪ُ ،‬‬
‫عاجزة عن احلركة بينما تنتف�ض زمرد مبكانها بقوة وهي تراهم ي�أخذونها حماولة‬
‫ال�صراخ هي الآخر ليخرج �صوتها مكتوما غري م�سموع‪.‬‬
‫�أغم�ضت ُغفران عينيها ت�شعر بالآالم يف روحها عاجزة عن فعل �أي �شيء يحمي‬
‫�صغريتها‪ ،‬بينما �شعرت زمرد بنريان ت�سري بج�سدها وهي تتحرك مكانها حتى‬
‫وقعت بالكر�سي �أر�ضا ليقرتب منها ممدوح جال�سا على الأر�ض جانبها وهو ينظر‬
‫جل�سدها ليفك الكمامة عن فمها لي�سمعها ت�صرخ ب�أعلى �صوتها‪�«:‬أيها الوغد‪� ،‬أيها‬
‫احلقري‪ ،‬اتركها‪ ،‬اتركها �أيها القذر»‬

‫ع‬
‫لي�ضع كفه على فمها وهو يقرب �أنفا�سه منها لت�شمئز منه باعدة وجهها عنه وهي‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫تتنف�س بقوة �صدرها يعلو ويهبط من الغ�ضب‪ ،‬قائال بجنون‪«:‬يا �إلهي حافظي على‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫و�صراخك للقادم فمن يريدك �سيعطيني عالوة على كل تلك الطاقة‬ ‫ِ‬ ‫غ�ضبك هذا‬
‫ِ‬

‫شر وال‬
‫�سمحت له بالعبور �ست�شعرين بلذة ال‬ ‫التي تعرتيك الآن‪ ،‬هل ترين هذا الغ�ضب �إن‬

‫توزيع‬
‫ِ‬
‫مثيل لها‪ ،‬اغ�ضبي وا�شعلي كل ما حولك‪ ،‬هل ت�شعرين بتلك القوة؟! �أمم ال مثيل لها‪،‬‬
‫نعم نعم» �أغم�ض عينيه وهو يقرب �أذنه من فمها املُكمم بيديه لي�شعر ب�أنفا�سها‬
‫قائل بهم�س‪«:‬كنت‬ ‫الغا�ضبة تزيده �شهوة ليفتح عينيه وهو ينظر �إليه با�ستمتاع ً‬
‫بك ب�أ�سرع وقت‪ ،‬فلن‬ ‫يريدك يرغب ِ‬‫ِ‬ ‫�أمتنى �أن �أحظى بالقليل من كل هذا‪ ،‬لكن من‬
‫بوجهتك‪ ،‬هل تتذكرين ذلك الرجل‬‫ِ‬ ‫أخربك‬
‫�أ�ستطيع الت�أخر عليه �أكرث‪ ،‬هذه املرة �س� ِ‬
‫�شهدك قبل �أن تف�سد ُغفران الأمر؟! توقفت عن احلركة وك�أنها‬
‫ِ‬ ‫الذي كاد �أن يتذوق‬
‫حقنت مبخدر هي الأخرى لتت�سع عيناها رعبا وهو ينظر لها بقوة وابت�سامته تت�سع‬
‫عال‪«:‬نعم يا منرتي هو نف�س ال�شخ�ص ف�أنا رمبا لن �آخذ مقابال بعد‬ ‫ليقول ب�صوت ٍ‬
‫�أن �أخذت احلكومة ح�صتي يوم �أن �أف�سدوا الأمر‪ ،‬وهذا بالطبع لي�س خطئه ليعاود‬
‫أطلقت النار علي دون ذرة‬
‫أنك � ِ‬ ‫الدفع ولكن ت�ستطيعي القول �أن الأمر �شخ�صي مبا � ِ‬
‫ندم»‪.‬‬
‫�أنهى جملته وهو ينظر �إليها بجمود وقد اختفى جنونه فج�أة لينه�ض من مكانه‬
‫وهو يعيد تكميم فمها ينادي على رجاله‪�«:‬أخربوا عبده �أنها جاهزة‪ ،‬لن حتتاج‬
‫ل�شيء فهم يريدونها هكذا» هز الرجل ر�أ�سه له وهو يقرتب مع �صديقه لينبهه‬
‫‪314‬‬
‫ممدوح‪«:‬حاذر فهي غري ُمدرة ولكن �أنا على ثقة ب�أنها لن جتهدكم بعد �أن علمت‬
‫وجهتها» لينظر �إليها ممدوح ب�سخرية وهو يرى �ضياعها بو�ضوح‪.‬‬
‫التفت ل ُغفران وهو ينظر �إليها يرى الغ�ضب الكامن بعينيها‪� ،‬أح�ضر كر�سيا وجل�س‬
‫عليه �أمامها وهو ينظر ل�ساعته ليقول‪«:‬مل يتبق يل الكثري مبا �أن موعد طائرة ليلى‬
‫راودتك كث ًريا رمبا مل جتدي‬
‫ِ‬ ‫بعد �ساعة‪ ،‬لكن لدينا حديثا مل ينته‪� ،‬أ�شك �أن �أ�سئلة‬
‫لك ففي اللحظة التي تنتهي فيها‬ ‫�إجابة وافية لها‪ ،‬لكن �س�أحاول تف�سري القليل ِ‬
‫�صفقاتي لن �أبقى بهذا البلد‪ ،‬لقد نفدت فر�صي هنا‪ ،‬ورئي�سي ما عاد بحاجتي هنا‪،‬‬
‫ت�ستطيعني القول �إنني وفيت ديوين له» �أكمل وهو يبت�سم ب�سخرية‪«:‬ديون ك ّلفتني‬

‫ع‬
‫عمرا كامال يف �أكرث مكان كرهت الوجود فيه‪ ،‬فكما تعلمني �أو رمبا ال تعلمني‪ ،‬ال �أدري‬

‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬
‫أخربتك به»‪ ،‬ارتع�شت عيناها وهي تعي مق�صده‬

‫ل‬
‫ِ‬ ‫أخربك به عمران �أو عما �‬
‫عما � ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫والدته ووالدة عمران‪� ،‬سمعته يكمل ب�شرود‪«:‬خط�أ قمت به مع والدتك لننف�صل عن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫اجلماعة التي كنا بها بعد �أن �سرقنا منهم ثروة من �آخر �صفقة قاموا بها‪ ،‬لكن مل‬

‫ع‬
‫يحالفنا احلظ وقتها لأعود جمددًا لهنا لأرد ديني لهم و�إال املوت»‪.‬‬
‫�أنا مل �أ�ستطع اال�ستمرار كما فعل عمران‪ ،‬كانت لدي نزعة قاتلة جتاه �أي �شرطي‬
‫يحمل �شارة‪ ،‬حتى لو كان �شرطي مرور هل تتخيلني؟! يف النهاية هم ال�سبب يف وفاة‬
‫�أبي‪ ،‬و�أبي كان على النقي�ض منها‪� ،‬أبي كان �صارما قو ًيا ال يخ�شى �شيئا‪ ،‬ويف نف�س‬
‫الوقت لديه حب غريب لوطنه وبلده‪ ،‬حب جعلني �أكرهه بعد �أن اكت�شفت �أنه مل يقتل‬
‫�أبي �سوى هذا الوطن الذي �أحبه بقوة‪ ،‬قتلوا �أبي وهو بينهم‪� ،‬أخذوه �أثناء حملة‬
‫تفتي�ش ل�سيارة يبدو �أنه كان بها �أحد املُهربني‪ ،‬فقب�ضوا على من بال�سيارة جميعا‪،‬‬
‫�أ�سبوع واحد فقط لري�سلوا �أبي لنا جثة‪� ،‬أخربونا �أنه مات فج�أة‪ ،‬يظنون �أننا جهلة‬
‫مبا يحدث داخل مراكز ال�شرطة‪ ،‬مل �أ�ستطع البكاء‪ ،‬رغم حبي ال�شديد له �إال �أنني‬
‫�شعرت بالغ�ضب منه‪ ،‬مل �أكد �أمت عامي ال�ساد�س ع�شر لأفقد �أبي و�أجدين م�س�ؤوال‬
‫عن �أم و�أخ وذلك لأن �أبي �أحب وط ًنا قتله‪ ،‬ح�سنا لن �أكذب ِ‬
‫عليك �أنا مل �أحتج لذريعة‬
‫لكي �أنت�سب لإحدى اجلماعات بليبيا ف�أنا وجدتها فر�صة منا�سبة بعد �أن خرج �أحد‬
‫الرجال الذين قب�ضوا عليهم بال�سيارة التي كان بها والدي‪ ،‬خرج لي�أتي ملنزيل‬
‫ويبدو �أنه �س�أل عن �أهل الرجل الذي مات بال�سجن وعندما قابلني وجدين فر�صة‬
‫‪315‬‬
‫له وجلماعته‪ ،‬جملتني منه على الغ�ضب املكتوم داخلي فلم �أحتج الكثري لأهرب من‬
‫لك‪ ،‬رمبا‬
‫املنزل و�أرحل معه لبلدة �أخرى‪ ،‬ح�سنا وقتي ال مي�سح يل ب�سرد تاريخي ِ‬
‫فعلت ما فعلته ُمرغ ًما‪ ،‬ولكن لي�س معناه �أنني مل �أ�ستمتع‪ ،‬خ�سارتي الوحيدة �أنني‬
‫بك‪ ،‬ج�سدا وانتماء يل‪� ،‬صدقي �أو ال والدتك‬ ‫عليك كما رغبت ِ‬
‫مل �أ�ستطع احل�صول ِ‬
‫عنك و�سمحت يل‬ ‫لك فقط فهي منعتني ِ‬ ‫جتاهك‪ ،‬ولكن كانت ِ‬
‫ِ‬ ‫كانت لديها ذرة �أمومة‬
‫بالتق ّرب من �أخواتك»‪.‬‬
‫�ضحك ب�سخرية وهو يلمح مالحمها اجلامدة لينه�ض مكانه ويقرتب منها لينظر‬
‫ملالحمها‪�«:‬أنا �أعرف جيدا �أنك تعلمني احلقيقة‪� ،‬أنني ل�ست ِ‬
‫والدك‪� ،‬أخربيني ُغفران‬
‫والدك احلقيقي فماذا متنحني يل يف املقابل؟! ذلك‬ ‫أخربتك �أنني �أعرف من هو ِ‬
‫ِ‬ ‫�إن �‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫الكهف الذي مكثنا فيه ل�سنوات نخفي فيه �آثارنا �شهد على الكثري والكثري‪ ،‬و�أنا كنت‬

‫ب‬
‫جمرد �شاهد وقتها وم�ستمع لذا ماذا متنحني يل مقابل تلك املعلومة؟!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫اهتزت عيناها وهي ت�ست�شعر الدموع يف عينيها لتغم�ض عينيها بقوة لت�سمعه‬

‫توزيع‬
‫كربياءك اللعينة لن تفاو�ضني �أبدا على �شيء‪ ،‬ح�س ًنا �س�أكون‬
‫ِ‬ ‫يقول بتهكم‪�«:‬أعلم �أن‬
‫فطريقك �سيكون‬
‫ِ‬ ‫أنت الأخرى‪،‬‬
‫بوجهتك � ِ‬
‫ِ‬ ‫أخربك‬
‫معك يف �آخر لقاء لنا م ًعا و� ِ‬
‫كر ًميا ِ‬
‫الأطول‪ ،‬من هنا للميناء ثم لقرب�ص ثم يتم نقلك يف يخت خا�ص �صاحبه يرغب‬
‫عنك الكثري والكثري‪ ،‬لذا دفع مبل ًغا كب ًريا من � ِ‬
‫أجلك‪� ،‬إذا‬ ‫يف ب�ضاعة نادرة‪ ،‬يعلم ِ‬
‫ا�ستمتعي بالرحلة»‬
‫التفت لريحل ثم توقف للحظات وهو يقول ب�سخرية‪«:‬رجلنا الذي �أوهمكم‬
‫مب�ساعدته �أخربين �أنك تنتظرين الفر�صة املنا�سبة للقب�ض على الزعيم‪� ،‬آه ُغفران‬
‫ثقتك يف الرجال اخلط�أ»‪ ،‬ابت�سم لها بتهكم لريحل بعيدً ا‬
‫أنت �ساذجة لت�ضعي ِ‬ ‫كم � ِ‬
‫عن �أنظارها وهي تراه يلوح لها بيديها‪ ،‬م�صدومة من كل ما �سمعته منه‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫نزل اخلرب عليهم جميعا كال�صاعقة‪ ،‬وعيد مت تهديدهم به ومت تنفيذه يف وقت‬
‫ق�صري‪.‬‬
‫‪316‬‬
‫خواء هذا كل ما �شعر به داخل قلبه يف جمل�سه‪ ،‬خواء رهيب احتله وي�شعر ب�أنه‬
‫ميت منذ اللحظة التي قر�أ فيها ر�سالة زمرد الأخرية وهي تخربه �أنها ذاهبة ل�سايل‬
‫ال لأمرية‪� ،‬شعر بالقلق وقتها ليت�صل على رجل الأمن الذي يرافقها ليجد �شخ�صا‬
‫غريبا يخربه ب�ضرورة تواجده يف �أحد مراكز ال�شرطة ف�صاحب الهاتف قد مت �إطالق‬
‫دوما �أخافت قلبه‪ ،‬لقد‬‫النار عليه‪ ،‬ال يدري كيف و�صل وقتها ليعلم باحلقيقة التي ً‬
‫و�صلوا �إليها‪ ،‬لقد �أخذوها‪� ،‬أخذ دقائق وهو يحاول تخطي ال�صدمة والتفكري برتكيز‬
‫حتى و�صل لأول اخليط‪� -‬سايل‪ -‬تلك احلقرية التي كذبت يف البداية بخ�صو�ص‬
‫توا�صلها مع زمرد ليك�شف �سجل املكاملات ك ّذبها‪ ،‬بعد تهديد ووعيد ا�ستطاع �أن‬
‫ي�صل للحقيقة منها‪ ،‬لقد �ساومت ممدوح يف زمرد‪ ،‬اتفقت معه على �أن يح�صل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫على زمرد يف مقابل �إخالء الطريق �أمامها‪ ،‬عرفت حقيقة �أن تلك الفتاة لي�ست‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ب�سهيلة بل هي الفتاة الأخرية الهاربة وذراع ممدوح اليمني‪ ،‬ولكن هذا مل ميثل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫لها �شيئا فقد ظنت �أن بالأوراق التي معها �ستمكنها من القيام بال�سبق ال�صحفي‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫الذي تريده ويف النهاية حت�صل على يامن‪ ،‬ابت�سم ب�سخرية وهو يقطع كل طموحها‬

‫ع‬
‫و�أحالمها وهو يلقي القب�ض عليها بتهمة امل�شاركة يف اختطاف امر�أة والتوا�صل مع‬
‫رجل ع�صابات كبري‪ ،‬فلم ين�س نظرة ال�صدمة التي اعتلت وجهها و�صراخها املجنون‬
‫وهي غري ُم�صدقة فعلة يامن‪ ،‬خا�صة بعد �أن �ألقى عليها ميني الطالق‪� ،‬أغم�ض‬
‫عينيه وهو يتذ ّكر كيف هرع يف كل اجتاه من �أجل الو�صول ملكان رقم التليفون الذي‬
‫كان يتوا�صل مع �سايل حتى ي�صل لنقطة ي�ستطيع االنطالق منها‪ ،‬منظر الدماء‬
‫التي ملأت ال�سيارة التي كانت بها زمرد ال يفارق عقله ف�أخذ يبحث وهو يدعو اهلل‬
‫�أال ي�صيبها �أي �أذى ليفاجئه دخول �آ�سر عليه يخربه باختطاف �أخته هي الأخرى‪.‬‬
‫تنف�س بغ�ضب وهو يف ّكر �أن يفقدها مرتني �أمر يفوق حت ّمله‪ ،‬ي�شعر هذه املرة ب�أن قلبه‬
‫توقف وانتهى الأمر‪.‬‬
‫�أخرجه من �أوجاعه �صوت �آ�سر القلق‪«:‬مل ي�أت �أحد حتى الآن‪� ،‬أنا ال �أ�ستطيع‬
‫فلم ال نذهب �إليه الآن؟»‬
‫االنتظار �أكرث من هذا‪ ،‬جميعا نعلم من الفاعل َ‬
‫كاد �أن ميوت قل ًقا على �أخته وهو ال يعرف مبا تخطط له ال�شرطة‪ ،‬خا�صة بعد‬
‫معرفته باختطاف ُغفران هي الأخرى بعد �أن �أتتها ر�سالة من عمران يطالبها‬
‫‪317‬‬
‫بر�ؤيته فانقب�ض قلبه‪ ،‬وتلك الغ�صة التي ت�ؤمل قلبه ال تذهب وهو يتذ ّكر �آخر مرة‬
‫قابلها فيها ليلة وفاة والدة عمران‪ ،‬ليذهب للعيادة يف اليوم التايل فيجدها فارغة‬
‫مع ر�سالة حتتوي على كلمة واحدة فقط‪�«:‬شك ًرا»‪ ،‬راف�ضة بعدها �أي توا�صل بينه‬
‫وبينها وال يعرف �أين ت�سكن‪ ،‬كاد �أن يجيب يامن عن ت�سا�ؤله حني ملح اللواء ح�سني‬
‫يدخل املكتبة وخلفه �سمري وعمران!‬
‫انتف�ض �آ�سر مكانه وهو يلمح عمران ليذهب �إليه يف حلظة ويقب�ض على مقدمة‬
‫قمي�صه ليهدر به بغ�ضب‪�«:‬أين هن؟! �أخربين الآن لقد وثقت بك‪� ،‬أيها الوغد هل‬
‫كنت على علم باختطافهن؟» بعد كل ما عرفه عن �أبعاد الق�ضية من يامن والنقيب‬
‫أي�ضا ف ّكر �أن عمران هو حلقة‬
‫�سامي و�أدرك ثقة ُغفران به رغم �شكها الدائم‪ ،‬هو � ً‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫الو�صل بينهن وبني ممدوح‪.‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫م�سرعا وهو يهتف به‪«:‬دكتور �آ�سر اهد�أ‪ ،‬عمران �أحد رجالنا هو‬

‫ن‬
‫ً‬ ‫�أبعده �سامي‬

‫شر وال‬
‫هنا لي�ساعدنا يف و�ضع اخلطة لإيجادهن يف نف�س الوقت حتى ال نخ�سر �إحداهن‪،‬‬

‫توزيع‬
‫�أرجوك اهد�أ»‬
‫«�إن كان �أحد رجالكم فكيف مت خطف ُغفران دون �أن يفعل �شيئا‪ ،‬بعد �أن �أر�سل‬
‫لها تلك الر�سالة‪ ،‬هو يخدعكم»‬
‫حتدث اللواء ح�سني‪«:‬هو مل ير�سل تلك الر�سالة �آ�سر‪ ،‬عمران كان يف مكان �آخر‬
‫وقتها‪� ،‬أنت بنف�سك قلت ُغفران تثق به»‬
‫تنف�س �آ�سر بغ�ضب وهو ينظر �إليه يحاول اكت�شاف �صدق كالمه بينما ع ّدل‬
‫عمران من هندامه يحارب �أمله من جملة �آ�سر ليوجه حديثه �إىل يامن‪«:‬هل كان‬
‫هناك �أي �شهود عن احلادثة �أو هل علمت �أي موا�صفات لرجال �أو حتى لل�سيارة التي‬
‫نقلت ابنة عمك؟!»‬
‫�أجابه يامن بعد حلظات‪«:‬لقد ر�أى �أحد ال�شهود �صادف وجوده وقت امل�شاجرة‬
‫التي حدثت رجلني يحمالن امر�أة يبدو �أنها مغ�شية عليها ولكن بعد ما �سمعته من‬
‫�آ�سر يبدو �أنها كانت خمدرة وركبوا جمي ًعا �سيارة جيب �سوداء وكانت مغطاة بزجاج‬
‫معتم ال يظهر ما بداخله»‬
‫‪318‬‬
‫جل�س عمران على �أحد الكرا�سي يلقي قنبلته‪�«:‬إذا ابنة عمك �سيتم بيعها على‬
‫وغفران �سيتم ترحيلها يف احدى احلاويات من ميناء العري�ش‪ ،‬و�أختك �سيد‬ ‫احلدود ُ‬
‫�آ�سر �سيتم ترحيلها جوا عن طريق مطار العري�ش‪ ،‬ولكن رمبا يبد�أ برتحيلها �أوال‬
‫قبلهما بب�ضع �ساعات لأنه جهز �أوراقها املزورة»‪.‬‬
‫�صمت قاتل �ساد يف الغرفة ليجل�س �آ�سر على �أقرب كر�سي و�شحوب وجهه �أكرب‬
‫دليل على حالته‪ ،‬بينما ت�ساءل �آ�سر برعب‪«:‬احلدود! حدودنا مع من؟!» لي�صدق‬
‫ظنونه وعمران يجيبه‪«:‬حدودنا مع �إ�سرائيل‪ ،‬عملية البيع التي �سارت من قبل‬
‫مل تتم بعد»‪� ،‬س�أله �سامي‪«:‬كيف عرفت كل هذا عمران؟! ومن املحتمل �أن يغري‬
‫خمططه بعد ما عرفه عنك؟»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫نظر �إليه عمران بجمود وهو يقول‪«:‬ما �أخربتك به هو التغيري الذي قام به بعد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫معرفته بخيانتي له‪ ،‬املعلومات و�صلتني من م�صدر قريب‪ ،‬ت�ستطيع القول �أن �أحدهم‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫رد دينه يل بهذه املعلومات و�أخرى يف غاية الأهمية‪� ،‬س�أقابله من �أجل احل�صول‬

‫ع‬
‫عليها»‬
‫متالك اللواء ح�سني نف�سه ليفكر ُم�سرعا‪«:‬عمران على حق‪ ،‬فهذه هي اخلطة‬
‫البديلة التي ت�أكدنا منها من اجلا�سو�س الذي كان يعمل بيننا ل�صالح ممدوح‪،‬‬
‫جا�سو�س زرعه اللواء �سامح ملعرفة خطواتنا‪ ،‬وهو من �أخربهم بكل ما نعرفه وبوجود‬
‫ُغفران باملقر وقت �إر�سالهم الر�سالة لها‪ ،‬فكانت العربة بانتظارها يف اخلارج‪،‬‬
‫تتبعنا �أرقامها بعد �أن ر�أينها يف كامريات املراقبة املحيطة باملقر ولكننا وجدناها‬
‫فارغة على قارعة الطريق‪ ،‬وهذا اجلا�سو�س مل يكن �سوى �سكرتري مكتبي الذي كنت‬
‫�أوكل له كل �أمور الق�ضية‪ ،‬والآن بعد �أن اكت�شفناه وا�ستعملنا معه بع�ض طرقنا فقد‬
‫منح الكثري من الأخبار التي ت�أكدنا منها بكالم عمران‪ ،‬فلدينا الآن خط بداية وهو‬
‫املزرعة بالعري�ش‪ ،‬فهي حتما �ستكون نقطة انطالقه فما قلته الآن يا عمران قريب‬
‫من العري�ش احلدود وامليناء وحده املطار هو البعيد ولكن ممدوح لن يغامر بتغيري‬
‫طريقه املعتاد و�أخذ طريق خمتلف قد يواجهه فيه �صعوبات وخمططه القدمي الذي‬
‫�أخربتني به مل ي�شمل املزرعة»‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫ت�ساءل عمران با�ستغراب‪«:‬ولكن هل �سيجازف بالعودة للمزرعة وهو يعلم �أنها‬
‫مغلقة ب�سبب التحقيقات‪ ،‬كما �أن هناك عنا�صر من ال�شرطة حتر�س املزرعة؟! وهو‬
‫طويل على حد علمي بتفكريه»‬
‫لن يبقى بها ً‬
‫�أجابه اللواء بت�أكيد‪«:‬نعم �سيفعل‪� ،‬إنه ماكر يختبئ يف املكان الوحيد الذي‬
‫لن نبحث عنه فيه‪ ،‬كما �أن من يحر�س املكان هناك جمرد حار�سني �سهل الق�ضاء‬
‫عليهما‪ ،‬ومب�ساعدة �سامح راغب فكل �شيء �سيكون مي�سرا له‪� ،‬سامي �أريد توفري‬
‫ات�صال �آمن بالهيئة العامة ملوانئ بور�سعيد لدينا رجل هناك‪ ،‬ال �أريد �أي ات�صال‬
‫مبيناء العري�ش الآن حتى ال ي�شك ممدوح ب�شيء‪ ،‬اطلب من رجلنا ح�صر ال�سفن‬

‫ع‬
‫التي �ستتحرك اليوم �أو غدا من امليناء لقرب�ص‪ ،‬و�أو�صلني باللواء فريد‪� ،‬أريد جتهيز‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫الرجال ليقوموا بعملهم �أ�سرع من ال�سابق على احلدود‪ ،‬ولكن بهدوء تام‪ ،‬وبالن�سبة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫للمطار يجب �أن ينطلق رجالنا هنا �إليه‪ ،‬من كالم عمران �سيويل ممدوح اهتمامه‬

‫شر وال‬
‫الكامل به لأنها �ستكون جمازفة �أن ير�سلها لطائرة و�سط العديد من الأ�شخا�ص‪،‬‬

‫توزيع‬
‫لكن حتما هناك خطة بعقله»‪.‬‬
‫قاطعه يامن يف هذه اللحظة‪�«:‬إال �إذا كانت هناك طائرات خا�صة �ستقلع‬
‫من املطار»‪ ،‬نظر له اللواء بتفكري‪«:‬تق�صد‪ »...‬قاطعه يامن‪«:‬نعم عملية البيع‬
‫وال�شراء �ستتم هنا يف م�صر‪ ،‬والرتحيل �سيكون يف طائرة امل�شرتي اخلا�صة»‪ ،‬هتف‬
‫عمران بتفكري‪«:‬يا �إلهي! �إحدى دول اخلليج‪ ،‬كان هناك ورق مبكتب ممدوح يخ�ص‬
‫�أحد الأغنياء القائم بالإمارات»‪.‬‬
‫حتدث اللواء ح�سني وهو يقول‪«:‬ح�س ًنا‪ ،‬يف هذه احلالة يجب علينا االنطالق‬
‫جميعا‪ ،‬ولكن ما اتفقنا عليه هنا وما قررناه لن يخرج خارج هذه الغرفة‪ ،‬حتى‬
‫�أوامرنا �ستكون لرجالنا الذين نثق بهم لذلك طلبت منكم االجتماع مبكتب يامن ال‬
‫مكتبي»‪.‬‬
‫نغز قلب �آ�سر رعب ٌ وهو يقول‪�«:‬س�أذهب معكم تلك الأحداث رمبا ت�سبب‬
‫نك�سة �أخرى لأمرية‪ ،‬يجب �أن �أكون موجودًا» �أجابه �سامي‪«:‬ال ن�ستطيع �أن ُنع ّر�ض‬
‫العملية للخطر بوجودك»‪ ،‬هتف �آ�سر بغ�ضب‪�«:‬إنها �أختي‪ ،‬اللعنة» هتف اللواء‬
‫‪320‬‬
‫ح�سني‪«:‬ح�س ًنا لنهد�أ جميعا‪ ،‬وجهة انطالقنا �ستكون املزرعة � ًأول‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫�سنقرر �إىل �أين يتجه كل فريق‪� ،‬أنا �س�أحتدث مع اللواء فريد حتى ير�سل دورية �سرية‬
‫لهناك ي�ستطلع بها ما يحدث وبعدها نقرر‪ ،‬فقط لن�أمل جمي ًعا �أال يكون هناك حت ّرك‬
‫بعد لأي من بناتنا جلهتهن»‪.‬‬
‫حتدث يامن بجمود‪�«:‬إن مل جند زمرد هناك �س�أرحل للحدود»‪ ،‬نظر له اللواء‬
‫بتف ّهم ليتحدث عمران بعدها‪«:‬و�أنا �س�أ�سعى خلف ُغفران»‪ ،‬ارتع�شت �شفتا �آ�سر‬
‫وهو ينظر لعمران الذي فهم نظراته و�أدرك معناها جيدً ا‪ ،‬ليخربه بهدوء‪�«:‬أعدك‬
‫ب�أال ُي�صيبها �أي �أذى حتى لو كان الثمن حياتي»‪ ،‬قال �آ�سر ب�أمل‪�«:‬أنا ال �أ�ستطيع �أن‪،‬‬
‫�أختي �ستكون يف مكان �آخر وهي»‪� ،‬أجابه عمران‪�«:‬أتف ّهم جيدا وهي � ً‬

‫ع‬
‫أي�ضا �ستتف ّهم‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫جيدا بعد �أن ينتهي كل هذا‪ ،‬يف النهاية �أختك حتمل مكانة كبرية داخل قلب ُغفران‪،‬‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وحتما �ستق ّدر ما فعلته»‪ ،‬ولكن هذا مل يكن �شعور �آ�سر وهو يعي �أن بفعلته هذه‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫�سيتخلى عن البحث عن ُغفران‪ ،‬دعا اهلل يف �سره �أال يكون هناك حت ّرك من املزرعة‬

‫ع‬
‫بعد‪ ،‬كما قال اللواء‪.‬‬
‫�ساعتان هي كل ما م�ضت‪ ،‬وهم يعون �أن �أمنيتهم مل تتحقق‪ ،‬و�صلت القوات‬
‫للمزرعة ليكت�شف خل ّوها من �أي �شخ�ص‪ ،‬وات�صل اللواء فريد باللواء ح�سني ليخربه‬
‫بعدم وجود �أثر للفتيات وال ملمدوح‪ ،‬لينقب�ض قلوبهم جمي ًعا وهم يعون �أن هذا معناه‬
‫�أن بالفعل بد�أت عمليات البيع‪ ،‬بد�أوا يف توزيع املهام على بع�ضهم كما اتفقوا فتحرك‬
‫�آ�سر مع النقيب �سمري وبع�ض القوات ملطار العري�ش‪ ،‬وتوا�صل اللواء فريد مع بع�ض‬
‫الأ�شخا�ص الذين لهم عالقة باحلدود‪ ،‬خا�صة من فل�سطني‪ ،‬حتى ي�ستطيعوا الو�صول‬
‫لزمرد مب�ساعدتهم ليامن بعد �أن �أخربه اللواء ح�سني �أن الأمر �سيتم بطريقة غري‬
‫قانونية‪ ،‬لأنه حتى ي�سمح لهم بدخول احلدود ف�ست�ستغرق الأمور املكتبية والأوراق‬
‫الكثري من الوقت حتى ي�صلوا �إىل زمرد‪ ،‬لذا �أوكل املهمة له وحده دون �أي قوات‬
‫م�ساعدة بينما انطلق عمران مع الرجل الذي �ساعده باملعلومات يف طريقهم للميناء‬
‫بعد �أن و�صلت املعلومات من رجل اللواء ح�سني هناك ب�أنه بالفعل توجد ثالث �سفن‬
‫حتمل حاويات يف طريقها لقرب�ص‪ ،‬وميعاد انطالقها بعد منت�صف الليل‪ ،‬فو�صلوا‬
‫لرقم احلاوية بعد جهد كبري‪ ،‬ويف �سرية تامة‪ ،‬ليخربهم اللواء ح�سني ب�أن رجال‬
‫ال�شرطة �سي�صلون على الفور بعد و�صوله‪.‬‬
‫‪321‬‬
‫احلدود‬
‫قابل يامن ال�شيخ عابد وابنه الذي توىل احلديث على الفور بلهجته‬
‫الفل�سطينية‪«:‬على مقربة من هنا كريم �شالوم‪ ،‬وفيها �ستجد الرجل الذي تبحث‬
‫عنه دانييل �أوري‪ ،‬وهو �ضابط باجلي�ش الإ�سرائيلي‪ ،‬هناك منطقة عمله على احلدود‬
‫وثكنته‪ ،‬مما �سمعناه عنه دائما ما يح�ضر ن�ساءه هناك‪ ،‬وبعد �أن ينتهي منهن‬
‫مينحهن لرجاله»‪� ،‬أتبع حديثه ب�صورة لل�ضابط حتى ي�ستطيع يامن التعرف عليه‪.‬‬
‫�شحب وجه يامن وجهد ال�سفر والطريق تركوا �آثارهما على وجهه لريبت ال�شيخ‬
‫على كتفه وهو يقول‪«:‬ال تقلق يا بني‪ ،‬لندعو �أال مي�سها هذا الوغد حتى ن�صل �إليها‪،‬‬

‫ع‬
‫هيا يا عامر �أو�صل املُق ّدم للمكان مع رجالك فالوقت مي�ضي م ّنا واحذر من الأفخاخ‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫يا بني»‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫حاول �أن يهدئ من انفعاله وهو حتى الآن ال ي�صدق ما يحدث‪ ،‬لكن ال وقت‬

‫توزيع‬
‫لالنهيار‪ ،‬تذكر منذ يومني فقط قد �أجربه ابنه عمه على االعرتاف بحبه لها‪ ،‬بعد �أن‬
‫خدعه وهو يخربه بخطبتها‪ ،‬ليت�أكد بعد �أن لكمه وت�شاجر معه �أنه بالفعل �سيخطب‬
‫لكن رحاب ال زمرد‪ ،‬لينتزع منه اعرتا ًفا بحبه لها بعد �أن لكمه جمددًا‪ ،‬وبعد يومني‬
‫فقط تن�سل من بني يديه‪ ،‬قب�ض على كفيه بقوة مينع غ�ضبه وهو ي�سري مع عامر‬
‫و�صلوا بعد م�سافة لي�ست ببعيدة كالتي ق�ضاها يامن يف طريقه من املزرعة للحدود‪،‬‬
‫حت ّدث �إليه عامر بهم�س وهم يختبئون خلف �أحد ال�صناديق الكبرية‪«:‬ن�ستطيع �أنا‬
‫ورجايل �أن ن�شتت انتباههم من اجلهة ال�شرقية‪ ،‬ولكن لي�س لوقت طويل‪ ،‬هناك يف‬
‫ذلك املبنى الأزرق اللون يق�ضي دانييل وقته‪ ،‬املبنى لي�س عليه حرا�سة قم بفتح ممر‬
‫لك بني الأ�سالك املحيطة بالثكنة و�ستجد املبنى على بعد �أمتار منك‪ ،‬ابقَ دائما‬
‫منحني اجل�سد حتى ال يلمحك �أحد من الك�شافة‪ ،‬عندما ت�سمع �أ�صوات �إطالق النار‬
‫حترك على الفور‪ ،‬ولكن حني تنتهي الأ�صوات اعلم جيدً ا �أنه تبقى لك القليل فقط»‬
‫هز يامن ر�أ�سه وهو يت�أمل حميطه بجمود ويكت�شف طريقه الذي و�صفه له عامر‪،‬‬
‫بينما قلبه ينتف�ض برعب وهو يعي �أنه على بعد خطوات منها‪ ،‬ووحده اهلل يعلم‬
‫كيف حالها الآن‪� ،‬أخرجه من �أفكاره ربتة على كتف عامر وهو يقول له بينما ي�ستعد‬
‫‪322‬‬
‫لالنطالق مع رجاله‪«:‬على بركة اهلل‪� ،‬أدعو من اهلل �أن يو�صلك �ساملًا لها ويبقيها‬
‫�ساملة لك»‪.‬‬
‫حتركوا جمي ًعا من �أماكنهم بهدوء �شديد وعندما �سمع يامن �أ�صوات �إطالق النار‬
‫وتبادل اجلنود الإ�سرائيليون النار معهم قام بقطع ال�سلك ال�شائك ُم�سرعا لريك�ض‬
‫ُمنحنيا كما �أخربه عامر‪ ،‬حتى و�صل �إىل املبنى املن�شود‪ ،‬كاد �أن يدخل من باب‬
‫املبنى حني ملح �أحدهم ينزل الدرج فاختفى خلف �إحدى ال�شجريات املوجود بجانب‬
‫املبنى‪ ،‬ملح بع�ض الرجال يرك�ضون ُم�سرعني باجتاه �إطالق النار مع �أ�سلحتهم‪،‬‬
‫فانتهز الفر�صة ودخل املبنى‪ ،‬ملح بابا يفتح على ممر‪ ،‬فدخله بحذر‪ ،‬ليجد �أكرث‬
‫من غرفة على ميينه وي�ساره‪� ،‬أن�صت ب�سمعه لع ّله يلتقط ب�أذنيه �أي �شيء حتى �سمع‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�صراخا م�ألوفا له من �آخر غرفة‪� ،‬أتبعه �صوت جهوري لأحد الأ�شخا�ص‪ ،‬اقرتب من‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫الباب و�سالحه بيديه يف نف�س اللحظة التي ُفتح بها الباب فج�أة ليلمح يامن دانييل‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫يقف بج�سده ال�ضخم �أمامه غا�ض ًبا بقمي�صه املفتوح وهو يغلق �أزراره‪ ،‬ويبدو �أنه‬

‫ع‬
‫كان ها ًّما بالرحيل حني �سمع �أ�صوات النار‪ ،‬عقد دانييل حاجبيه با�ستغراب ليتحول‬
‫لغ�ضب وهو يدرك هيئة يامن الغريبة عن رجاله‪ ،‬وقبل �أن يقوم يامن ب�أي حركة‬
‫قب�ض دانييل على عنق يامن بقوة بينما كان يهدر بغ�ضب بكالم غري مفهوم ليامن‪،‬‬
‫حاول يامن �أن يحرر رقبته من قب�ضة دانييل بقوة بينما فرق القوة والطول بينه‬
‫وبني دانييل وا�ضحة للعيان‪� ،‬شعر يامن باالختناق بينما يف حلظة �شعر بج�سده يطري‬
‫لي�صطدم بقوة يف احلائط خلفه‪ ،‬حاول يامن التن ّف�س بينما ج�سده يئن من ال�ضربة‬
‫ليجد يف اللحظة التالية قدم دانييل يف جانبه ويف بطنه ويف وجهه‪� ،‬شعر ك�أنه �أمام‬
‫مطرقة ال تتوقف عن ال�ضرب‪.‬‬
‫«يامن» �صرخة انت�شلته من دوامة �آالمه ليلمحها �أخريا واقفة ب�ضعف ت�ستند‬
‫على باب الغرفة بينما وجهها ممتلئ بالكدمات و�شعرها مبعرث حول ر�أ�سها‪ ،‬ليتوقف‬
‫قلبه يف اللحظة التي ملحها ت�ضم طرف بلوزتها من الأمام بيديها‪.‬‬
‫ابتعد دانييل عنه وهو يلمح �صراخا خلفه‪ ،‬ليقرتب يف حلظة من زمرد وي�صفعها‬
‫بقوة جعلتها ت�سقط على الأر�ض دون �أي جمهود‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫�شعر يامن بالغ�ضب ينت�شر يف ج�سده‪ ،‬فقاوم �آالمه ونه�ض ببطء ُم�س ًكا ب�أحد‬
‫الكرا�سي احلديدية التي ملحها يف املمر بجانبه‪ ،‬م�ست ًغال ان�شغال دانييل لينق�ض يف‬
‫الثانية التالية على ظهره �ضار ًبا �إياه بالكر�سي‪.‬‬
‫�سقط دانييل على الأر�ض ُمت�أوهً ا وهو ي�ضع كفه على خلف ر�أ�سه لي�شعر بالدماء‪،‬‬
‫هز ر�أ�سه ي�ستعيد تركيزه‪ ،‬ولكن يامن مل يتمهل لينق�ض ُم�سرعا عليه‪ ،‬رادا ال�ضربات‬
‫له بقوة وزمرد تراجعت زاحفة للخلف بقوة تراقب املعركة الطاحنة �أمامها برعب‬
‫حتى الآن ال ت�صدق �أن يامن هنا‪.‬‬
‫ملحت دانييل وهو يدفع يامن بقوة بج�سده‪ ،‬فرتاجع يامن عنه للحظات كامتا �أمله‬

‫ع‬
‫ليجد دانييل يف اللحظة التالية ُم�س ًكا ب�شعر زمرد‪ ،‬وي�سحبها على الأر�ض ليجعلها‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫تقف لريفع �سالحه يف اللحظة التالية جتاه يامن‪ ،‬وهو يقرب زمرد منه ُمقبال عنقها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بتقزز و�صدره يعلو ويهبط من املجهود يتحدث بكالم مل يفهمه يامن الذي وجد‬

‫شر وال‬
‫فعلته هذه جمرد تف�سري ملا يقوله احلقري‪ ،‬مل ي�ستطع يامن ال�صمود وهو يرى دانييل‬

‫توزيع‬
‫يتل ّم�سها بتلك الطريقة ليقرتب منه يف اللحظة التي ع�ضت فيها زمرد كفه املُم�سك‬
‫بال�سالح بقوة لي�صرخ دانييل من فعلتها‪ ،‬وهي ال تتنازل عن االبتعاد عنه‪ ،‬ت�شعر ب�أنها‬
‫�إن تركت �أ�سنانها كفه �سيموت يامن ف�أغم�ضت عينيها وهي ت�ست�شعر دماءه بفمها‬
‫لت�سمع �صوت ر�صا�صة‪� ،‬أوقفت ال�صراخ لتجد ج�سد دانييل يقع للخلف وهي تقع‬
‫معه‪ ،‬اعتدلت بعيدة عنه وهي تنظر له برعب لتجد حفرة يف �أعلي ر�أ�سه‪ ،‬فرتاجعت‬
‫حتى الت�صقت باحلائط تنظر برعب له ثم �صرخت بقوة وهي تلمح �أحدهم مي�سك‬
‫بذراعها‪ ،‬فلم يكن �سوى يامن الذي جذبها بقوة حل�ضنه يتمتم بهم�س‪«:‬لقد انتهى‬
‫وجدتك‪ ،‬اهدئي»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الأمر‪ ،‬لقد‬
‫حلظات وهي ت�ستوعب هم�سه لرتفع ذراعيها يف اللحظة التالية لتحت�ضن يامن‬
‫بقوة وهي تهتف به�ستريية‪«:‬مل ي�ستطع‪ ،‬مل �أ�سمح له ب�أن يح�صل على ما يريده‪ ،‬لقد‬
‫�أتيت‪ ،‬لقد �أتيت»‪ ،‬لت�شهق بعدها ببكاء مرير‪ ،‬وهو يغم�ض عينيه ُمغال ًبا دمعه ليبتعد‬
‫قائل‪«:‬هيا يجب �أن نرحل الآن» انطلق بها باجتاه‬ ‫عنها وهو ينه�ض ليجذبها خلفه ً‬
‫املمر ليجدها جتذب ذراعها من كفه وهي تتلم�س ر�أ�سها‪«:‬غطاء ر�أ�سي‪ ،‬حجابي‪،‬‬
‫لقد انتزعه مني‪ ،‬ال �أريد �أن �أرحل دون غطاء»‪.‬‬
‫‪324‬‬
‫دمعت عني يامن وهو ينظر لها ب�أمل يف اللحظة التي ملحت يديه تفك �أزرار‬
‫قمي�صه بارتعا�ش لتجده يف اللحظة التالية يغطي ر�أ�سها بقمي�صه‪ ،‬لتتمهل يداه على‬
‫جانب ر�أ�سها وهو ينظر لها هام�سا‪«:‬لرنحل زمردتي الغالية»‪ ،‬قب�ض على كفها‬
‫بقوة وهو ي�سحبها خلف ي�شعر بقلبه ينتف�ض خوفا وهو يلمح توقف �أ�صوات النار‬
‫بينما �صوت �صفارات الإنذار يف الثكنة تدوي بعنف‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫امليناء‬
‫�أ�صوات مكتومة ت�صلها من كل جانب‪� ،‬ساكنة مكانها ال تقوى على احلراك‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫دموعها تهطل منها بغزارة وهي ال ترى �شي ًئا حولها‪ ،‬فقط ظالم من كل جانب‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫�أغم�ضت عينيها تخ�شى �أن ترى ذلك الظل يتحرك فتواجهه �أخ ًريا‪ ،‬حاولت �إ�شغال‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫تفكريها يف �أي �شيء فازداد انهمار دموعها وهي تفكر يف �أمرية وزمرد‪ ،‬لقد ف�شلت‬

‫والتوزي‬
‫يف حمايتهما‪ ،‬بعد كل ما فعلته وبعد كل تلك ال�سنوات احلقري ممدوح نفذ خمططه‬

‫ع‬
‫لهن‪ ،‬ذلك العجز الذي يحيطها تكرهه‪� ،‬أن تعي ب�أنها غري قادرة حتى على الدفاع‬
‫نف�سا ً‬
‫طويل حتاول تهدئة نف�سها‪ ،‬كان دائما لديها‬ ‫عن نف�سها �أمل قلبها �أكرث‪� ،‬أخذت ً‬
‫خطة بديلة �إال �أنها مل تفكر �أن ممدوح قد �أخذ احتياطاته يف كل �شيء‪ ،‬ك�أنه يعي‬
‫تفكريها جيدً ا‪ ،‬ازداد تنف�سها من الغ�ضب الذي يعرتيها‪ ،‬وك�أن العتمة التي بها‬
‫كاف للت�سبب يف اختناقها‪ ،‬حاولت تهدئة �أنفا�سها ووجه‬
‫والهواء املكتوم حولها غري ٍ‬
‫طاملا زار �أحالمها م�ؤخ ًرا يبت�سم لها ك�أنه يخربها �أن كل �شيء على ما يرام‪ ،‬هم�ست‬
‫داخلها والغمامة التي تغطي فمها تكتم هم�ستها‪�«:‬آه �آ�سر كل �شيء لن يكون على ما‬
‫يرام‪ ،‬لقد ف�شلت‪ ،‬لقد انتهى كل �شيء»‪.‬‬
‫و�صل لأ�سماعها �صوت ت�أوهات وحركة خارج احلاوية التي حتتويها على �إحدى‬
‫ال�سفن‪� ،‬أن�صتت ال�سمع لي�أتي �صوت �ضربات على باب احلاوية ك�أن �أحدهم يحاول‬
‫فتح القفل!‬
‫�أخذت ت�صدر �أ�صواتًا مكتومة عاجزة عن احلركة ب�سبب املخدر الذي �أعطاه‬
‫لها ممدوح جمددًا‪ ،‬حلظات وملحت الأ�صوات تتوقف فج�أة لتجد الباب يفتح‬
‫‪325‬‬
‫ببطء و�أحدهم يدخل مب�صباح يدوي ي�ضيء النور من حولها‪ ،‬حاولت التحرك‪،‬‬
‫ال�صراخ ولكن ال �شيء م�سموعا حتى �سمعت �صوتا مل تظن للحظة �أنها �ست�سمعه‬
‫أنت هنا»‪.‬‬
‫جمددًا‪ُ «:‬غفران � ِ‬
‫بكت ب�صمت ودموعها تنهمر من عينيها لت�سقط بجانب ر�أ�سها وهي نائمة على‬
‫الأر�ض خلف �أحد ال�صناديق الكبرية‪ ،‬ت�شعر بالعجز لعدم قدرتها حتى على الرد‬
‫على عمران وال�صراخ ب�أنها هنا‪.‬‬
‫ملحت �أ�صوات �أقدام تقرتب منها تزيح ال�صناديق من مكانها‪� ،‬صندوق وراء �آخر‬
‫وهو يطلب امل�ساعدة من �آخر معه حتى وجدها!‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫يف �أق�سى خياالته مل يكن يظن �أنه �سرياها يف حالتها هذا‪ ،‬رقدتها على الأر�ض‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ُمكممة وج�سدها ب�أكمله ملفوف بحبال عري�ضة وغطاء �أ�سود يغطيها‪ ،‬يبدو �أنه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫قليل ف�أظهر وجهها له‪ ،‬وجهها احلبيب‪.‬‬‫حترك ً‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�صدمة �شلت ج�سده للحظات ومل يخرجه منها �إال عندما ملح دموعها‪ ،‬دموع‬
‫ُغفران الغالية‪.‬‬
‫اقرتب ُم�سرعا منها و�أخرج ال�سكني من جيبه و�أخذ يقطع من احلبال التي‬
‫تربطها بعد �أن �أزاح الغطاء الأ�سود‪� ،‬صدره يعلو ويهبط من الغ�ضب وهو ينظر‬
‫لعينيها تارة وينظر ملكان عمله تارة �أخرة حتى فك احلبال من على جزئها العلوي‬
‫هام�سا‬
‫و�أزاح الكمامة من على فمها ليجذبها يف اللحظة التالية ويحت�ضنها بقوة ً‬
‫ب�صوت م�سموع‪«:‬لقد وجدتك‪ ،‬احلمد هلل لقد وجدتك»‪.‬‬
‫مرت دقائق و�شهقاتها ت�صل �إليه مكتومة وهو ال يقوى على تركها‪� ،‬صوت الرجل‬
‫الواقف على مقربة منه ينبهه ب�أن ي�سرع حتى ال يجدهم �أحد �أو يلمح �أحدهم‬
‫احلار�سني املقتولني باخلارج‪.‬‬
‫�أخرج من جيبه حقنة وحملول بعد �أن ملح ارتخاء ج�سدها‪ ،‬حامدً ا ربه و�شاك ًرا‬
‫�آ�سر على �إعطائه تريا ًقا يخرجها من حالة اخلدر التي بها‪ ،‬بعد �أن عرف منه �أن‬
‫�أخته قد مت حقنها مبخدر ي�شل �أو�صالها ل�ساعات‪ ،‬ويف حلظات جهز احلقنة وحقن‬
‫ذراعها بها وهو ينظر �إليه ُمطمئنا �إياها‪�«:‬سيبد�أ الرتياق بعمله‪ ،‬دقائق و�ستكونني‬
‫على ما يرام»‪.‬‬
‫‪326‬‬
‫�أكمل فك وثاق ج�سدها ب�أكمله ثم نه�ض و�أ�سند ج�سدها بج�سده وهو ي�ساعدها‬
‫على ال�سري‪ ،‬وحني ملح ب�أنها ال ت�ستطيع حتى ال�سري حملها والرجل الذي معه ي�ؤمن‬
‫الطريق �أمامهم‪ ،‬خاف ًيا �أج�ساد الرجال الذين قتلوهم داخل احلاوية‪.‬‬
‫نف�سا‬
‫ل�سعات برد �أ�صابت ج�سدها من الهواء حلظة خروجها من احلاوية لت�أخذ ً‬
‫ً‬
‫طويل ُمتلقفة هواء البحر النقي‪ ،‬وك�أن عمران �شعر بها ف�ضمها له بقوة ع ّل دفء‬
‫ج�سده يدفئها‪ ،‬نظر بعينيه لها لتقتله نظراتها له‪ ،‬نظرات امتنان و�شكر ك�أنها حتى‬
‫الآن ال ت�صدق �أنه جاء من �أجلها‪ ،‬رمبا مل تكن النظرات التي كان يرغب يف �أن‬
‫يح�صل عليها منها لكن وحدها تلك النظرات تكفيه‪ ،‬تابعوا ال�سري ُمتخفني عن‬
‫العاملني يف املكان حولهم‪ ،‬ويف حلظة و�صلت لأ�سماعه �أ�صوات �أقدام باجتاههم‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ليلتفت هو و�صديقه ليلمح رجلني �أمامه يعرفهما جيدً ا‪ ،‬وقف الأربعة مت�أهبني‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫وعمران ينظر لهم بجمود يف حني هتف �أحدهم‪«:‬ما الذي تفعله هنا عمران؟!»‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫حتدث عمران بهدوء ُيح�سد عليه وهو يزيد من �ضم ج�سد ُغفران له‪«:‬ح�صل تغيري‬

‫والتوزي‬ ‫ر‬
‫يف اخلطة �أمل يخربكم ممدوح؟! لقد �أمرين بالقدوم لإح�ضارها‪ ،‬عملية ال�شراء‬

‫ع‬
‫�ستتم على اليخت اخلا�ص باملُ�شرتي»‪.‬‬
‫دعت ُغفران داخله �أن ي�صدقوا كالمه‪ ،‬ومياطل باحلديث معهم وهي ت�شعر‬
‫ب�آثار الرتياق الذي �أعطاه لها عمران ي�أتي مبفعوله‪.‬‬
‫�ضحك الرجل ب�سخرية وهو يقول‪«:‬غريب عمران! فالرئي�س مل يبلغنا ب�شيء‬
‫ونحن امل�س�ؤوالن عن تو�صيلها‪ ،‬وقد ح ّذرنا جيدً ا من �أي حماوالت لإف�شال املهمة‬
‫ومنك خا�صة»‪.‬‬
‫�صمت �ساد للحظات لينادي عمران على �صديقه يف حلظة ليبد�أ �إطالق النار يف‬
‫اللحظات التالية‪ ،‬رك�ض عمران ً‬
‫حامل ُغفران �إىل ممر جانبي ليجل�سها على الأر�ض‬
‫م�سد�سا‪«:‬هذا م�سد�س بجانبك‪ ،‬يف حالة عدم‬ ‫ً‬ ‫وينظر لها باطمئنان وهو يعطيها‬
‫منك‪ ،‬لن �أت�أخر»‪.‬‬
‫عودتي �أطلقي النار على الفور على �أي �شخ�ص يقرتب ِ‬
‫«عمران» هم�سة خرجت منها ليبت�سم لها وا�ضعا كفيه على وجنتيها ودون �أي‬
‫كالم حترك على الفور ب�سالحه الإ�ضايف‪ ،‬و�صلت لأ�سماعها طلقات نريان و�أ�صوات‬
‫‪327‬‬
‫�إنذار قد انطلقت على ال�سفينة‪ ،‬نظرت للم�سد�س بجانبها وهي حتاول جاهدة‬
‫حتريك يديها ت�شعر ب�أن دماءها التي ت�سري يف عروقها ثقل جاثم يف ج�سدها‪،‬‬
‫بعد حلظات و�صلت بيديها للم�سد�س وحاولت ال�ضغط ب�أ�صابعها عليه ع ّلها ت�ستطيع‬
‫حمله لت�شعر ببدء حركة ج�سدها‪ ،‬حتاملت على نف�سها لتجل�س ُم�ستندة على كفيها‬
‫و�ساقيها لتتنف�س ب�صعوبة وهي ت�شعر ب�أنها قامت مبجهود كبري‪ ،‬رفعت ذراعها ت�ستند‬
‫على احلاوية بجوارها وهي تنظر حولها يف انتظار �أي �شخ�ص وهي ت�شعر بالرعب‬
‫بعد �أن �ساد ال�صمت حولها‪� ،‬أخ ًريا ا�ستندت بج�سدها على احلاوية تتنف�س بقوة‬
‫وبد�أت ال�سري باجتاه نهاية املمر‪ ،‬رفعت امل�سد�س يف اللحظة التي دخل فيها رجل من‬
‫بدل من �صدره ُم�سقطة �سالحه‪� ،‬س ّبت‬‫الرجال املمر و�أطلقت النار لت�صيب ذراعيه ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�شر وهو يقرتب‬
‫وهي ت�ست�شعر عدم قدرتها على الت�صويب جيدً ا‪� ،‬ضحك الرجل لها ٍ‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫قائل‪«:‬مل ي�شرت رئي�سي املخدر ب�آالف الدوالرات هبا ًء»‪ ،‬رفعت �سالحها‬ ‫منها ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫طويل بينما كاد الرجل �أن مي�سك بها يف حلظة �أطلقت‬ ‫نف�سا ً‬
‫جمددًا وهي ت�أخذ ً‬

‫توزيع‬
‫درجا بدمائه‪ ،‬ت�أوهت‬
‫النار ُم�صيبة ر�أ�سه هذه املرة لي�سقط بعد حلظة على الأر�ض ُم ً‬
‫ب�أمل وال�سالح ي�سقط منها‪ ،‬ت�شعر بنار يف كفها ك�أنها ا�ستعادت القدرة بالتحكم يف‬
‫�أع�صابها ب�سرعة عن املفرت�ض به‪� ،‬شهقت بقوة لتكمل �سريها �إىل نهاية املمر داعية‬
‫اهلل �أن يكون عمران ورجله قد قتال الرجل الآخر‪.‬‬
‫جتمدت مكانها وهي ترى �أمامها ثالثة �أج�ساد على الأر�ض ُمدرجني بدمائهم‪،‬‬
‫ارتع�شت �شفتاها وات�سعت عيناها رع ًبا وهي تنظر جل�سد واحد فقط منهم‪ ،‬انتف�ضت‬
‫مكانها و�أ�سرعت باجتاه ج�سد عمران لتجل�س بجانبه وهي تقرب كفيها منه لتبعدهما‬
‫فج�أة وهي ت�شهق بقوة تلمح الدماء التي غطت �صدره و�آثار طلقتني ينهمر منهما‬
‫الدماء بغزارة‪ ،‬قربت �أ�صبعها من وريد عنقه وحني ملحت نب�ض �ضعيف‪ ،‬زفرت بقوة‬
‫وهي ترفع ر�أ�سه من على الأر�ض‪ ،‬ت�ضرب بكفها على وجنتيه منادية �إياه‪«:‬عمران‬
‫�أرجوك افتح عينيك‪ ،‬عمران عمران ال ترتكني �أرجوك‪� ،‬أتو�سل �إليك �أتو�سل �إليك»‪.‬‬
‫حلظات وملحته يرم�ش بعينيه ليفتحهما ينظر �إليها وهو ي�شعر بالأمل يف ج�سده‬
‫ب�أكمله‪ ،‬احت�ضنت ر�أ�سه جل�سدها وهي تهم�س باحلمد هلل‪ ،‬ثم �أبعدته عنها وهي تنظر‬
‫له حماولة طم�أنته‪�«:‬ستكون بخري‪ ،‬هل معك هاتف �أت�صل ب‪ »...‬وقبل �أن تكمل‬
‫‪328‬‬
‫جملتها و�صلت لأ�سماعها �أ�صوات �أقدام تقرتب منها بقوة‪ ،‬ف�أ�سندت ج�سده بذراعها‬
‫لتحمل امل�سد�س بالذراع الآخر ُم�صوبة �إياه جتاه الأ�صوات وهي ملحت عنا�صر ال�شرطة‬
‫حولها ورئي�سهم يطمئنها �أن كل �شيء على ما يرام‪ ،‬فهتفت بقوة‪«:‬اطلبوا �إ�سعاف‬
‫أر�ضا والتفتت لعمران‬ ‫ب�سرعة» لينفذ ال�شرطي طلبها على الفور‪� ،‬ألقت ال�سالح � ً‬
‫فوجدته ينظر �إليه ودمعة من عينيه تفر من مرقدها‪ ،‬فهم�ست له جمددًا‪«:‬كل �شيء‬
‫على ما يرام‪� ،‬ست�صل الإ�سعاف فو ًرا و�سيتم نقلك للم�شفى»‬
‫تقطع‪«:‬ال تكذبي �أبدا على املري�ض �أيتها‬ ‫ابت�سم لها ب�ضعف وهو يقول ب�صوت ُم ّ‬
‫الطبيبة»‬

‫ع‬
‫هتفت ب�ضعف بعد �أن ر�أته ي�سعل بقوة‪«:‬عمران»‪ ،‬هد�أ �سعاله وهو ينظر �إليها‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫هام�سا‪«:‬كنت قادما � ِ‬

‫ك‬
‫إليك و�أنا �أعي جيدً ا �أنني لن �أتوقف‬ ‫رافعا كفيه يلم�س وجنتيها ً‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫أجدك حتى لو كلفني هذا حياتي»‬

‫ن‬
‫حتى � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫ت�ساقطت دموعها ُمتزجة بدمائه وهي ت�سمعه ي�س�ألها‪«:‬هل تظني ب�أن من‬

‫ع‬
‫معك لو مل ُي�صبني الر�صا�ص؟!» �أجابته‬ ‫جتاهك فر�صة ِ‬
‫ِ‬ ‫املمكن �أن يكون مل�شاعري‬
‫ب�صدق‪�«:‬أمتنى لو كان يل قلب نظيف يحوي حبك هذا‪� ،‬أمتنى لو �أنني التقيت ِ‬
‫بك‬
‫يف حياة �أخرى رمبا وقتها كنت ح�صلت على قلبي من �أول جملة‪ -‬مرحبا‪ -‬تلقيها‬
‫على م�سامعي»‪.‬‬
‫أمنيتك»‪� ،‬سعل بقوة وهي تهتف‬ ‫ابت�سم لها بحب وهو يجيبها هام�سا‪«:‬تكفيني � ِ‬
‫ا�سمه برعب الحمة دماء تخرج من فمه ف�صرخت حولها تطلب الإ�سعاف جمددًا‪،‬‬
‫نظر �إليها ونظره بد�أ يف الت�شو�ش وهو يرى وجهها اجلميل قلقا جاذبا انتباهها‬
‫وهو يقول ب�ضعف‪«:‬ا�سمعيني ُغفران جيدً ا‪ ،‬يف غرفة مكتب ممدوح باملزرعة‬
‫هناك �صندوق ُمل�صق ب�أ�سفل مكتبه �ستجدين فال�شة بها معلومات عن كل �شيء‪،‬‬
‫�سي�ساعدك لقد �أخربته‬
‫ِ‬ ‫هناك طرف �آخر بالوزارة بوزارة اخلارجية اللواء ح�سني‬
‫مب�ساعدة �أحد الرجال يل»‪.‬‬
‫هزت ر�أ�سها وهي تقول‪«:‬ح�سنا توقف عن الكالم الآن‪ ،‬اللعنة �أين هي الإ�سعاف»‬
‫كنت ال�شيء‬
‫�شخ�صا غال ًيا بقلبها ولطاملا ِ‬
‫ً‬ ‫ابت�سم لها وهو يقول بحب‪«:‬لطاملا ِ‬
‫كنت‬
‫الوحيد اجلميل بحياتي»‪.‬‬
‫‪329‬‬
‫بكت وهي تعي مق�صده فهو دائما ما كان هناك بجانبها منذ �أن ُولدت يف ذلك‬
‫الكهف البغي�ض‪ ،‬طاملا كان يعاملها بلطف ويحميها من كل �سوء‪ ،‬حتى انتقلوا جميعا‬
‫لذلك البيت فتغري كل �شيء‪ ،‬بغ�ضها له كان من بغ�ضها ملمدوح‪ ،‬ولكن وقتها هي‬
‫مل تفهم �أفعاله ومل ُت�ص ّدق املغزى منها‪ ،‬حتى قابلت والدته احلبيبة و�أحبتها من‬
‫قلبها قبل حتى �أن تعرف �أنه ابنها‪ ،‬هي تعي كالمه جيدا‪� ،‬سمعته يقول ب�صوت‬
‫�ضعيف‪�«:‬إنها تنتظرين ُغفران‪ ،‬متد يدها يل و�أنا ال �أقوى على رف�ض ندائها‪ ،‬ال‬
‫أنت كنتما‪.»...‬‬
‫�أقوى على احلياة بدونها ُغفران هي و� ِ‬
‫وقبل �أن يكمل جملته ملحت عينيه ترجتفان ليتوقف كل �شيء حولها وهي ترى‬
‫روحه تخرج من ج�سده ك�أنه كان يف انتظار ندائها لريحل‪� ،‬شهقت بقوة وهي جتذب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ر�أ�سه حل�ضنها‪ ،‬ارتع�شت �شفتاها ودموعها تنهمر بغزارة لت�صرخ ب�صوت جريح‬

‫ب‬
‫با�سمه وهي تعي �أن كل �شيء‪ ،‬كل �شيء ح ًقا انتهى‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫توزيع‬ ‫‪M M M‬شر وال‬

‫‪330‬‬
‫�أنا �أقاتل لذا �أبدو �ضعي ًفا والنا�س ال ُيريدون النظر يل‪ ،‬النا�س‬
‫ال ُيريدون النظر لل�ضعيف لأنه ُيذ ّكرهم ب�ضعفهم هم ولكن‬
‫ال�شيء الذي ال يفهمونه �أنه عندما يقاتل �شخ�ص ما فهذا يعني‬
‫�أنه قوي لأن ال�ضعيف ال يقاتل فقط ميوت‪ ،‬لذلك �أ ًيا كان ما‬
‫تظنينه عني �أنا حي‪� ..‬أنا حي‪.‬‬

‫‪#Horace_and_pete‬‬
‫الف�صل الثامن ع�رش‬
‫النزال الأخري‬

‫«لقد كان ُمتبئا يف قبو باملزرعة‪ ،‬مل تره قواتنا يف البحث الأويل باملنطقة‪،‬‬

‫ع‬
‫عندما عدنا للبحث جمددًا ملحه رجلنا يجهز حقائبه يف �سيارته‪ ،‬يبدو �أنه كان‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ُم�ستعدا للهرب مع امر�أة �أخرى‪ ،‬نحن مل نخرج به من املنزل كما �أمرنا اللواء ح�سني‪،‬‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وطلبنا دع ًما من �سيادته‪ ،‬فكما تعلم رجال احلقري كثريون يف املنطقة‪ ،‬حاولت املر�أة‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫�إطالق النار ف�أرداها رجالنا على الفور‪ ،‬ونحن يف انتظار �أوامر اللواء ح�سني»‬

‫توزيع‬
‫كلمات و�صلت لأ�سماعها من هاتف ال�ضابط الذي �أر�سله اللواء لنجدتها‪ ،‬كلمات‬
‫خزّنتها داخلها جيدا وهي واقفة ت�ستند بكفها على عربة الإ�سعاف التي حتمل ج�سد‬
‫عمران‪ ،‬الغ�ضب بداخلها قادر على �إحراق ما حولها‪ ،‬ذلك الأمل طغى على كل ما‬
‫�شعرت به من قبله‪ ،‬اطمئنانها على زمرد و�أمرية مل يقم �إال ب�إ�شعال نريان الغ�ضب‬
‫الكامنة بداخلها �أكرث لت�أخذ تلك ال�سيارة التي تركها ال�شرطي وترحل بكل �أ�شباحها‬
‫لوجهتها الأخرية‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫مطار العري�ش‬
‫هي مل تفكر �أنها �شجاعة كما �أخربها �آ�سر‪ ،‬كل ما تفكر فيه الآن ُغفران‪ ،‬هي‬
‫تفهمها جيدً ا وتعي �أنها لن تهد�أ حتى ت�شوه الباقي من روحها بقتلها للحقري ممدوح‪،‬‬
‫كان يجب �أن ُتغامر وتعود جمددًا للمزرعة‪ ،‬لكنها غري ُمرغمة الآن بل ب�إرادتها‬
‫احلرة‪� ،‬إ�صابة النقيب �سمري هي ما منعت �آ�سر من القدوم معها مما زاد من غ�ضبه‪،‬‬
‫تعلم �أنه قام بالكثري من �أجلها ويكفيها �أنه كاد يخ�سر حياته ليفديه النقيب �سمري‬
‫‪332‬‬
‫بدل منه‪ ،‬لذا ا�ضطر للذهاب معه لأقرب م�شفى مبا �أنه الطبيب‬ ‫بتلقي الر�صا�صتني ً‬
‫الوحيد املوجود وقتها للقيام بالإ�سعافات الالزمة حتى ي�صلوا للم�شفى‪ ،‬ال�صراع‬
‫الذي ر�أته يف عني �أخيها �آمل قلبها وهو يخربها �أنه للمرة الثانية تخاذل عن م�ساعدة‬
‫ُغفران باختياره لإنقاذها هي �أوال ثم �إنقاذ النقيب �سمري ثان ًيا‪ ،‬هي تعلم ولرمبا هذا‬
‫ال�سبب الذي �أجربه على تنفيذ رجائها وتو�سالتها بالعودة للمزرعة من �أجل ُغفران‪.‬‬
‫�آ�سر �أخوها احلنون الذي ال ت�ص ّدق حتى الآن �أنه ح ًقا �أنقذها‪ ،‬بعد �أن انتهى‬
‫ممدوح من �صفقته اخل�سيئة مع هذا العجوز الوغد املُت�صابي‪ ،‬تركها ورحل‪ ،‬تركها‬
‫تعاين من مل�سات الوغد طوال الطريق لطائرته اخلا�صة‪ ،‬تركها عاجزة واملخدر‬
‫الذي �أعطاه لها ممدوح مينعها من املقاومة‪ ،‬من خد�ش وته�شيم وجهه لتبكي بعجز‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وهي تلمح رجاله يحملونها للطائرة‪� ،‬شعرت ب�أنها ماتت يف تلك اللحظة وهي تعي �أنه‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫لن ينجدها �أحد ولن يجدها �أحد‪ ،‬دمعت عينيها وهي تتذ ّكر �أنها فكرت يف عائلتها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وحالة �أحمد بعد �أن تركته ُمدرجا بدمائه وكيف �سيكون �أمري بدونها‪ ،‬ارتع�شت‬

‫والتوزي‬
‫بج�سدها وهي يف املقعد بالطائرة الهليكوبرت التي تو�صلها للمزرعة مع بع�ض رجال‬

‫ع‬
‫ال�شرطة بعد �أن �أخذت الرتياق املُ�ضاد للمخدر بعد �أن وجدوه يف حقيبة مع �أفراد‬
‫الع�صابة وقد �أ�صرت على العودة يف حماولة منها ملنع ُغفران من تنفيذ تهديدها بعد‬
‫�أن �أخربهم اللواء ح�سني بهروبها من رجاله بامليناء‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫املزرعة‬
‫و�صلت ال�سيارة �أمام املزرعة لي�ستقبلهم بع�ض رجال ال�شرطة التي حتيط باملكان‪،‬‬
‫نزل يامن من ال�سيارة بعد �أن �أبلغ الرجال بهويته‪ ،‬التفت لزمرد وهو ي�ساعدها للنزول‬
‫ليجذب انتباهه حديث �أحد الرجال الذي كان معه بال�سيارة مع عامر‪ ،‬ليلتفت لهما‬
‫قائل‪�«:‬أح�سنت �أيها البطل‪ ،‬لقد انت�شر‬
‫فقابله عامر برتحاب وهو ي�ضم جل�سده ً‬
‫خرب موت ذلك احلقري» انتبه يامن لذراع عامر املُ�صاب لي�س�أله بقلق عن حالته‬
‫ليجيبه ب�شجاعة‪«:‬ال تقلق جمرد جرح ب�سيط بجوار �إخوته‪� ،‬أج�سادنا حتمل �آثارا‬
‫نفتخر بوجودها‪ ،‬رمبا اهلل مل يكتب يل ال�شهادة ك�إخوتي ولكنني يف انتظارها»‬

‫‪333‬‬
‫ربت يامن على كتفه ال�سليم وهو يقول‪«:‬كما قلتها لك �ساب ًقا لقد كان ال�شرف‬
‫يل بالقتال بجانبك» ابت�سم له عامر وهو يقول‪�«:‬س�أرحل �أنا ورجايل الآن‪ ،‬فالأمور‬
‫يف قمة الت�أهب ببلدنا‪ ،‬فما حدث الليلة بالثكنة لن مير مرور الكرام‪ ،‬ا�ستودعك‬
‫اهلل»‪ ،‬ودعه يامن بعد �أن �شكره للمرة الثانية ليلتفت بعينيه بح ًثا عن زمرد ليجدها‬
‫ت�ستند على ال�سيارة واقفة مكانها‪ ،‬تنظر للمكان حولها ب�شحوب‪ ،‬اقرتب منها وهو‬
‫يف�سر �شحوبها باخلط�أ‪«:‬ال تقلقي لن منكث كث ًريا هنا‪� ،‬س�أطلب من اللواء فريد �أن‬
‫ّ‬
‫ير�سل لنا �سيارة تقلنا على الفور»‪.‬‬
‫ابتلعت ريقها وهي تهم�س بخوف له‪«:‬يامن �إنه هنا‪ ،‬لقد �ألقوا القب�ض عليه‬

‫ع‬
‫واحتجزوه بالداخل‪� ،‬سمعت �أحد اجلنود يقول ذلك»‪.‬‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫نظر لها يحاول �أن ي�ستوعب حديثها لينقل �أنظاره للمزرعة وهو يحاول �أن يحتوي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫م�شاعر الغ�ضب داخله‪ ،‬يف املرة الأوىل التي جاء فيها هنا مل ينظر للمكان جيدً ا‬

‫توزيع‬
‫وكل تفكريه كان ُم ّن�ص ًبا على �إنقاذها فقط‪ ،‬ذلك املكان القامت الذي ينظر �إليه‬
‫عاما‪ ،‬ذلك املكان الذي يحيطه �سواد مبا يحويه‬ ‫الآن كان م�سك ًنا لها لثمانية ع�شر ً‬
‫من �أرواح قد مت �أخذها غ�ص ًبا من �أج�ساد �أ�صحابها‪ ،‬ذلك املكان الآن يقبع داخله‬
‫الرجل الذي كان ال�سبب يف كل ما �أ�صاب زمردته‪ ،‬التفت �إليها وهو يجذبها لتدخل‬
‫ال�سيارة وهو يخربها �أن تبقى حتى يعود‪ ،‬نه�ض من مكانه فجذبت كفه بكفها وهي‬
‫تقب�ض عليه بقوة لتقول ب�أمل‪«:‬ال تذهب �إليه‪ ،‬دعنا نرحل‪ ،‬دعنا نذهب �أرجوك»‪،‬‬
‫حماول عدم النظر لدموع عينيها‬ ‫ً‬ ‫جل�س جمددًا �أمامها وهو مي�سك كفيها بحنان‬
‫ليقول بهدوء‪ِ «:‬‬
‫عليك �أن تفهميني زمرد‪� ،‬أنا لن �أ�ستطيع اال�ستمرار �إن مل �أواجهه‪ ،‬ال‬
‫لعينيك دون ال�شعور بالذنب‪ ،‬دعيني �أواجهه ولو ملرة لع ّل ذلك الأمل‬
‫ِ‬ ‫�أ�ستطيع �أن �أنظر‬
‫يخبو قليال» هم�ست له ببكاء‪�«:‬أنا مل �أطالبك ب�شيء ولن �أطالبك �أبدً ا ب�أي �شيء‪،‬‬
‫ما حدث مل يكن ذنبك يامن‪� ،‬أنا مل �أفكر ولو للحظة �أنه ذنبك» ملحته ي�أخذ ً‬
‫نف�سا‬
‫طويل ليقول لها ب�أمل‪«:‬و�أنا مل �أتوقف للحظة يف حياتي عن اعتباره ذنبي الوحيد‬ ‫ً‬
‫أرجوك ال‬
‫لك و� ِ‬ ‫يف احلياة زمرد فدعيني �أك ّفر عنه �أتو�سل � ِ‬
‫إليك‪� ،‬س�أطلب امل�ساعدة ِ‬
‫تخرجي من ال�سيارة»‪.‬‬
‫‪334‬‬
‫ترك كفها لينه�ض مبتعدً ا عنها بينما مل يتوقف بكا�ؤها وهي تلمحه يخطو‬
‫بخطواته بعيدً ا عنها‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫بعد ن�صف �ساعة‬
‫�أوقفت ال�سيارة التي �أخذتها �أمام املزرعة وهي تنزل منها وهالة الغ�ضب حتيط‬
‫بها من كل جانب‪ ،‬منعها رجالن من ال�شرطة من الدخول لتخربهم كاذبة �أنها هنا‬
‫ب�أوامر من اللواء ح�سني‪ ،‬ف�سمحا لها بالدخول‪� ،‬أوقفها نداء زمرد‪ ،‬فالتفتت غري‬

‫ع‬
‫ُم�صدقة وجودها هنا‪ ،‬اقرتبت منها لتحت�ضنها بقوة وهي تهتف‪«:‬زمرد � ِ‬

‫ص‬
‫أنت بخري‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫أنت ح ًقا بخري»‬
‫يا اهلل � ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫بكت زمرد بقوة وهي تقول بني �أح�ضانها‪«:‬لقد �أنقذين يامن‪ِ � ،‬‬
‫أنت بخري � ً‬

‫والتوزي‬
‫أي�ضا‪،‬‬

‫ع‬
‫أنت و�أمرية»‪ ،‬ابتعدت ُغفران‬ ‫ينقذك � ِ‬
‫ِ‬ ‫احلمد هلل احلمد هلل لقد دعوت اهلل كث ًريا �أن‬
‫عنها وهي حتيط كفيها بوجنتيها لتقول لها بحب‪«:‬لقد �أنقذ ِتنا �إذا عزيزتي‪� ،‬أمرية‬
‫أي�ضا بخري لقد �أنقذها �أخوها �آ�سر» ملحت زمرد حزنا بعني ُغفران لت�سمعها‬ ‫� ً‬
‫تقول‪�«:‬آ�سفة لأنني مل �أ�ستطع م�ساعدتكما‪� ،‬آ�سفة ب�شدة»‪ ،‬م�سحت زمرد دموعها‬
‫وهي تقول بحنان‪«:‬لقد انتهى الأمر حبيبتي‪ ،‬ال داعي لالعتذار فلقد نال م ّنا ذلك‬
‫الوغد ب�أ�سو�أ الطرق»‪ ،‬تنف�ست ُغفران بغ�ضب وهي تقول‪«:‬لن متر الليلة عليه‬
‫ب�سهولة جزا ًء ملا فعله بنا‪ ،‬فاليوم �سيكون ح�سابه النهائي معنا»‪.‬‬
‫كادت زمرد �أن جتيبها ب�شيء حني ملحوا طائرة هليكوبرت تابعة لقوات الأمن‬
‫تهبط يف مكان قريب من املزرعة‪ ،‬حلظات وملحتا �أمرية ترك�ض باجتاههما لتتل ّقفها‬
‫قليل عن ُغفران لتلتفت‬ ‫ُغفران بني �أح�ضانها‪ ،‬وهي تزيد من �ضمها لها‪ ،‬ابتعدت ً‬
‫لزمرد حمت�ضنة �إياها هي الأخرى‪ ،‬فجلبت الدموع لأعينهن وهي تقول‪«:‬لقد كنت‬
‫خائفة من �أال �أراكما جمددًا‪� ،‬أنتما بخري»‪.‬‬
‫‪335‬‬
‫ابت�سمت زمرد لها بحنان وهي تقول‪«:‬نحن بخري يا �صغريتنا»‪ ،‬ربتت ُغفران‬
‫على ر�أ�سها بحنان وهي تقول‪َ «:‬مل جئت لهنا �أمرية؟! َمل مل تعودي ملديرية الأمن‬
‫فهناك �أكرث �أما ًنا من هنا»‬
‫بدل من �آ�سر‪ ،‬فلقد ذهب م�ضط ًرا‬ ‫ابت�سمت �أمرية لها وهي تقول‪«:‬لقد جئت ً‬
‫بدل منه»‪ ،‬ارتع�ش قلب ُغفران‬ ‫مع النقيب �سمري للم�شفى‪ ،‬فلقد تلقي ر�صا�صتني ً‬
‫وهي تعي �أن اخلطر كان يحيط ب�آ�سر وحزنت ملا �أ�صاب النقيب �سمري‪ ،‬لتكمل‬
‫�أمرية‪«:‬اللواء فريد يف طريقه لهنا هو واللواء ح�سني‪ ،‬لقد كان �آ�سر قل ًقا ِ‬
‫عليك‬
‫أنك بخري ُغفران»‪.‬‬ ‫كث ًريا‪ ،‬ف�أخربته �أنني �س�آتي لأطمئن � ِ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أبعدت ُغفران �أنظارها عنها وهي تتجاهل مغزى كلماتها لتقول بجمود‪�«:‬أنا‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫لن �أكون بخري حتى �أنتهي من هذا الأمر»‪ ،‬قاطعتها �أمرية وهي تقول‪«:‬لن يفيدنا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫هذا ب�شيء ُغفران دعي القانون يتوىل الق�ضية من البداية هذه املرة»‪ ،‬ارتع�شت‬

‫توزيع‬
‫�شفتا ُغفران وهي تقول‪«:‬لقد حاول تخديركما وبيعكما دون �أي تردد منه‪ ،‬الوغد‬
‫قتل عمران» �شهقت زمرد بينما التمعت الدموع بعني �أمرية‪ ،‬وكالهما قد علم ب�أمر‬
‫م�ساعدة عمران لل�شرطة طوال تلك املدة‪.‬‬
‫حاولت �أمرية ثنيها عن قرارها لتقول‪ُ «:‬غفران‪ ،‬دعينا ال نخ�سر ما تبقى من‬
‫روحنا‪ ،‬دعينا ال نخ�سر من يحاولون م�ساعدتنا ح ًقا»‪ ،‬حاولت �أن تو�ضح لها �أن‬
‫قرارها هذا �سيخالف ما يريده �آ�سر واللواء ح�سني وكل من حولها‪ ،‬لتكمل زمرد‪�«:‬أنا‬
‫لن �أ�ستطيع معاقبته واالنتقام منه‪ ،‬حتى لو �أردت �أنا‪� ..‬أنا لن �أفعلها»‪.‬‬
‫أتفهمك»‬
‫نظرت ُغفران بجمود لزمرد ال�شاحبة ف�أجابتها‪ِ �«:‬‬
‫حاولت �أمرية معها جمددًا‪ُ «:‬غفران ال داعي لذلك‪� ،‬أنت تعلمني يجب �أال نخالف‬
‫القانون لنرتك الأمر لهم �أنا واثقة �أن يامن ورجال اللواء ح�سني �سيتولون الأمر‬
‫باهتمام كبري»‬
‫نظرت لها بجمود و�ساد ال�صمت للحظات قبل �أن جتيبها ُغفران ب�صوت �أر�سل‬
‫ق�شعريرة يف ج�سدهما‪�«:‬أنا �س�أترك القانون ي�أخذ جمراه‪ ،‬لكن بعد �أن �أنفذ عليه‬
‫�أحكامي‪� ،‬أنا �أريد ر�ؤيته ُمت�أملا‪ ،‬ولن �أتوقف حتى �أفعل‪ ،‬اعتربيني �سادية �أو بال قلب‪،‬‬
‫‪336‬‬
‫�أو حتى قد حظيت ببع�ض من �صفاته‪ ،‬ف�أنا ما عدت �أبايل ب�شيء‪ ،‬دماء عمران ما‬
‫زالت بكفي‪ ،‬ما زلت �أ�شعر بها �ساخنة‪ ،‬عجزي و�أنا بال حول وال قوة يف تلك احلاوية‪،‬‬
‫اختطافه لكن كل هذا ال يجب �أن مير ب�سهولة‪ ،‬عليه �أن ُيعاقب والقانون لن يوفيه‬
‫حقه يف العقاب»‬
‫�أغم�ضت زمرد عينيها ودموعها تنهمر ب�صمت وهي تتو�سل ُغفران‪�«:‬أرجوك ال‬
‫تفعلي‪� ،‬ستندمني فيما بعد‪� ،‬سيملأ ال�سواد روحك ولن جتدي منفذا للنور‪ ،‬االنتقام‬
‫إن�سانيتك»‬
‫ِ‬ ‫عمرك من �‬
‫ِ‬ ‫حافظت عليه طوال‬
‫ِ‬ ‫�سيدمر ما تبقى من روحك وما‬
‫مرت ملحة �أمل يف عني ُغفران قبل �أن تخفيها مبهارة‪ ،‬وهي تتذ ّكر كلمات م�شابهة‬
‫�سمعتها من والدة عمران لتقرتب من زمرد بهدوء و�أ�سندت جبينها على جبني زمرد‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫وهي تهم�س ب�أمل ُمغم�ضة العينني‪«:‬هل تظنني �أن هناك ما تبقى من �إن�سانيتي بعد‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫قتلي �أمي زمرد؟! مل يكن هناك �إن�سانية بداخلي من الأ�سا�س‪ ،‬ف�أنا ابنة �أمها يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫النهاية‪ ،‬وكما قتل والدته بدم بارد ف�س�أجعله يعاين‪� ،‬أق�سم �أنني لن �أرتاح حتى �أجعله‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫يعاين»‬
‫ابتعدت ُغفران عنها بعنف وهي تدلف لباب احلظرية خملفة وراءها ً‬
‫روحا تيتمت‬
‫وقلبا مات ُمت�أثرا بجراحه‪� ،‬أجه�شت زمرد يف البكاء حتى �أحاطت بها �أمرية الباكية‬
‫وهي تهم�س لها بخفوت‪«:‬لقد كانت الأكرث تعر�ضا للأذية ِم ّنا جمي ًعا‪ ،‬لقد قتل كل‬
‫من تع ّلقت بهم‪� ،‬س�أدلف معها لعلني �أكون ا�ستجابة لذلك الربيق الذي ناجاين يف‬
‫عينيها وقد �أجلمت مناجاته بق�سوتها»‪.‬‬
‫هزت زمرد ر�أ�سها وهي ما زالت جته�ش بالبكاء متفهمة كالم �أمرية التي قبلت‬
‫ر�أ�سها بحنان ثم تركتها ودلفت خلف ُغفران‪.‬‬
‫ملحها يامن وهي تدلف ب�إع�صارها املُرافق ل�شخ�صيتها فتوجه ناحيتها وهو يلمح‬
‫بو�ضوح ما تو�صلن �إليه يف اخلارج من قرار‪ ،‬حمد اهلل يف �سره �أن زمردته مل ت�ستجب‬
‫لهذا القرار‪ ،‬رمبا يبدو تفكريه ُمتناق�ضا مع م�شاعره‪ ،‬فاهلل وحده يعلم كم يرغب يف‬
‫تعذيب هذا الوغد حتى تزهق روحه‪ ،‬ولكن روح به�شا�شة روح زمرد وما مرت به لن‬
‫ت�صمد‪ ،‬حبيبته ال�صغرية لن يدفعها قلبها لأخذ قرار بهذه الق�سوة‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫�أخرجه من تفكريه �صوت ُغفران اجلامد‪�«:‬أحتاج لأن �أكون مبفردي معه»‬
‫هز ر�أ�سه وهو يجيبها‪�«:‬سي�صل اللواء ح�سني خالل ن�صف �ساعة‪ ،‬الرجال‬
‫باخلارج ال تقل رغبتهم عن رغبتنا بتعذيب الوغد جلرائمه التي طالت زمالءهم‬
‫لديك‬
‫أنت تعلمني �أنه مل يكن لريغب بذلك‪ِ ،‬‬ ‫� ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬لكن القرار يف النهاية للواء‪ ،‬و� ِ‬
‫ن�صف �ساعة هذا كل ما �أ�ستطيع توفريه لك»‬
‫�ألقت نظرة خلفه ووجهها قد ا�ستحال جلليد قا�س‪ ،‬ونظرات �شر خال�صة تنبع‬
‫من عينيها لتقول ب�صوت ميت‪«:‬يبدو �أنك قد نفذت جزءا من انتقامك»‪ ،‬جمد‬
‫للحظات قبل �أن يجيبها‪«:‬مل �أ�ستطع منع نف�سي»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ابت�سمت ب�سخرية �أخافته للحظة وهو ي�شعر ب�أنها لي�ست يف حالتها الطبيعية وهي‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫تقول‪«:‬على الأقل قد حللت مكان ابنة عمك ولو لب�ضع دقائق»‪ ،‬كادت �أن تتحرك‬

‫شر وال‬ ‫ن‬ ‫عند �أوقفها بكالمه بعد �أن ملح تيهها‪«:‬رمبا �آ�سر لن‬

‫توزيع‬
‫رغبتك‬
‫ِ‬ ‫يوافقك �إن علم بتنفيذ‬
‫ِ‬
‫باالنتقام»‬
‫التفتت له بقوة وهي تنظر ب�ضياع للحظة وك�أن ذكر ا�سمه كفيل ب�إظهار ُغفران‬
‫الطفلة ال�صغرية قبل �أن تتحكم يف م�شاعرها وتعيد لها جمودها وهي جتيبه‬
‫بق�سوة‪�«:‬أنا ال �أبايل برد فعل �صديقك فليذهب للجحيم بتفكريه املثايل»‪.‬‬
‫�شعر بالأمل يجتاح وجهه بق�سوة‪ ،‬ففكر �ساخرا �أن ال�ضابط اجليد لي�س بجيد يف‬
‫النهاية‪ ،‬تذ ّكر دخوله العا�صف ليبادر ب�ضربه دون �أن يقول كلمة واحدة‪ ،‬حتى فهم‬
‫من بني �آالمه �أنه ذلك ال�شرطي قريب منرته ف�أدرك ف�شله يف �صفقتها‪.‬‬
‫حاول �أن يفتح عينيه وهو يلمح �أحدهم على بعد خطوات ب�سيطة منه �أو الأ�صح‬
‫�إحداهن‪� ،‬ضحك ب�سماجة وهو يت�أوه من كدمات وجهه والأمل الذي يع�صف بر�أ�سه‬
‫و�سيل الدماء على وجهه مينعه من النظر دون ت�شوي�ش‪«:‬ها هي االبنة البارة تعود‬
‫أنت الأخرى‪ ،‬وهذا يفاجئني‬‫�صفقتك � ِ‬
‫ِ‬ ‫لبيتها‪ ،‬وقوفك هنا يخربين ب�أنني ف�شلت يف‬
‫و�ضعتك بنف�سي يف تلك احلاوية»‬
‫ِ‬ ‫بقوة لأنني‬

‫‪338‬‬
‫جتبه ب�شيء بينما يدقق هو النظر يف مالحمها‪ُ ،‬مكمال حديثه التهكمي يف‬ ‫مل ِ‬
‫وم ً‬
‫اول‬ ‫حماولة ل�شغل نف�سه عن ال�صداع الذي انتابه نتيجة للكمات ذلك الوغد ُ‬
‫فهم حالتها‪«:‬هيا فاجئيني‪ ،‬و�أريح ت�سا�ؤالت والدك»‬

‫«عمران»‬

‫كلمة واحدة قالتها بربود وهي تخلع �سرتتها وتلقيها بال مباالة على الأر�ض‪،‬‬
‫بينما �أخذ يفكر يف كلمتها قبل �أن يظلم وجهه بق�سوة وهو يهتف بحقد‪«:‬الوغد‬
‫احلقري»‪� ،‬أ�صدرت �صوت اعرتا�ض على �شتائمه وهي جتيبه بربود‪«:‬ال‪ ،‬ال كيف‬
‫تنعت �أخاك بهذا؟!»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫ك‬
‫�شحب وجهه فج�أة وهو ينظر لها وهي تكمل حديثها بنف�س الربود‪ ،‬وقد اعرتى‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫حديثها ملحة �سخرية‪«:‬تظل �سنوات عمرك كلها تزرع بداخلنا بذرة الكره بني الإخوة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫وتدفعنا دف ًعا لقتل بع�ضنا لتُغطي على ف�شلك ملحاولة قتلك �أخاك الأ�صغر‪ ،‬لتف�شل‬

‫ع‬
‫معنا وتنجح يف قتله يف النهاية‪ ،‬يا ل�سخرية القدر!»‬

‫رم�ش للحظات قبل �أن ي�ستوعب كالمها‪ ،‬لينفجر يف ال�ضحك به�ستريية بينما هي‬
‫تتابعه بجمود وهو يتحدث بني �ضحكاته‪«:‬ال تخربيني �أنه �ضحى بروحه فداء ِ‬
‫لك‪،‬‬
‫هذا هو الأحمق الذي مات ب�سبب احلب»‬

‫ارتع�ش ج�سدها وهي تتذ ّكر جمددًا ملم�س دماء عمران بني يديها وقبل �أن‬
‫تتحدث �سمعت �صوتًا ُمرتددا يناديها‪ ،‬التفتت لتلمح �أمرية واقفة ب�شحوب تنقل‬
‫نظراتها بينها وبني ممدوح املُقيد بالكر�سي‪ ،‬الذي توقف عن ال�ضحك وهو ينظر‬
‫لأمرية بده�شة للحظة قبل �أن يكمل �ضحكه وهو يقول‪«:‬ف�شل ثالث �صفقات يجرح‬
‫قررت»‬
‫كربيائي كث ًريا‪ ،‬هيا ُغفران احملي �سالحك واقتليني كما ِ‬
‫نظرت ُغفران لأمرية نظرة واحدة �أدركت �أن الأخرية جاءت مل�سانداتها حتى‬
‫توقفها وقت �أن تفقد �سيطرتها‪ ،‬فالتفتت بربود وهي جتيبه‪«:‬ومن قال �أي �شيء عن‬
‫القتل!؟»‬
‫‪339‬‬
‫اختفى ته ّكم ممدوح وهو ينقل نظراته بني ُغفران و�أمرية ال�شاحبة وابت�سم‬
‫قائل‪«:‬ماذا هل �ست�سلمانني لل�شرطة حتى تتحقق العدالة!؟ هذا يبدو‬‫ب�سخرية ً‬
‫�أف�ضل يل على �أي حال»‬

‫قليل وهي تتحدث بابت�سامة‬ ‫اقرتبت ُغفران حتى وقفت �أمامه لتنحني ً‬
‫ته ّكم‪ُ «:‬ن�سلمك للعدالة حتى ي�ساعدك �أ�صدقا�ؤك الأعزاء بالوزارة يف اخلروج من‬
‫البالد ب�أكملها بعد �أن ُيهربوك من ال�سجن! ال ال هل ظننتني غبية لهذا احلد‪ ،‬ف�أنا‬
‫يف الآخر كما تقول تربيتك وابنة �أمي»‪.‬‬
‫ارتع�شت عيناه للحظة وهو ينظر للخواء الذي ملحه يف عينيها اجلامدتني‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫فتح ّدث بحذر وهو يحاول �أن ي�ستوعب ما تقوله له‪ ،‬خا�صة ذكرها للوزارة‪«:‬اذا فقد‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أفرغت الر�صا�ص يف ج�سدها!؟»‬

‫ن‬
‫اقتنعت �أخ ًريا‪ ،‬هل جاء االقتناع قبل �أم بعد �أن � ِ‬
‫ِ‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�إن ظن �أن �سخريته قد �سب ّبت �ضررا بداخلها فهو خمطئ لي�شعر باال�ضطراب‬
‫وهو يراها تبت�سم ب�سخرية وجتيبه‪«:‬ماذا �إن قلت لك ب�أنني �شعرت بالن�شوة و�أنا‬
‫�أفرغ الر�صا�ص يف ج�سد �أمي التي مل ت�شعر بذرة ندم وهي ت�سبب الأذية البنتها‬
‫الوحيدة!؟ هل �س ُيخيفك هذا؟!»‬

‫بريق �إعجاب ملحته يف عينيه التي ظللتها الدماء وهو يجيبها بدون تردد‪«:‬مل‬
‫أمك‪ ،‬ولكن مل ت�صبحي بتلك‬
‫أنت �ساقطة بالفطرة مثل � ِ‬ ‫يوما �أقل من هذا‪ِ � ،‬‬
‫أح�سبك ً‬
‫� ِ‬
‫أنك تربيتي يا �صغريتي»‬
‫الهالة من ال�شر �سوى على يدي‪ ،‬ف�أثبتي � ِ‬
‫انطلقت �شرارات الغ�ضب لتنفجر بقوة فلم يلمح ما �أخرجته من جيب �سروالها‬
‫وهي تعتدل يف حلظة لتنحني يف اللحظة التالية وهي تغرز �سكينا يف فخذيه االثنني‬
‫و�صوت �صراخها يغطي على �صراخه وهي تقول‪�«:‬أنت خمطئ‪ ،‬ف�أنا �أ�سو�أ منك‪،‬‬
‫و�سي�سعدين �أن �أريك هذا»‬

‫ودون تردد لفت بيديها ال�سكينتني املغروزتني يف فخذيه بقوة وهي ت�شعر بتحرك‬
‫اللحم فيهما قبل �أن ت�سحبهما يف اللحظة التالية‪.‬‬
‫‪340‬‬
‫ابتعدت بهدوء وهي تراه يتلوى �أملًا الع ًنا �إياها ب�أ�سو�أ الألفاظ‪ ،‬فتحدثت ب�صوتها‬
‫البارد و�صدرها يعلو ويهبط من انفعالها‪«:‬ال ال‪ ،‬نحن ما زلنا يف بداية الطريق‪،‬‬
‫قليل يا رجل»‬
‫حت ّمل ً‬
‫�أخذ يلهث بقوة وهو ينظر �إليها بغ�ضب ي�شوبه الأمل‪ ،‬ثم حتدث بني لهاثه ك�أنه‬
‫خطتك �إذا!؟ التل ّذذ بتعذيبي قبل �أن ُت�سلميني‬
‫ِ‬ ‫يب�صق الكالم من فمه‪�«:‬أهذه هي‬
‫لل�شرطة �أيتها ال�ساقطة»‬
‫«ال �أعلم َمل ت�صر على ذكر ال�شرطة كثريا‪ ،‬ال ت�شغل بالك بهم‪ ،‬ف�أنت لن حتيا‬
‫حتى تراهم‪� ،‬أمرية فكي قيده»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫�أجفلت �أمرية مكانها من نربة ُغفران امليتة‪ ،‬فتحدثت دون وعي وهي ما‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫زالت حتت ت�أثري �صدمة ما ر�أته من حالتها‪«:‬ماذا؟!» �أجابتها وهي تتحرك يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مكانها‪«:‬لقد �سمعت ما قلته» ارتبكت �أمرية وهي تقول‪«:‬ولكن ُغفران»‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫هدرت فيها بغ�ضب وهي تقطع حديثها‪«:‬اللعنة عليك �أمرية‪ِ � ،‬‬
‫أنت مل ت� ِأت من‬
‫�أجل املُ�شاهدة‪� ،‬إما �أن تنفذي ما �أقوله �أو تبقي باخلارج»‪ ،‬ابتلعت �أمرية �صراخ‬
‫ُغفران وهي تعي �أنها جمرد ُماولة منها لإبعادها‪ُ ،‬غفران ال تريد لروحها �أن‬
‫ُي�صيبها الأذى مما تراه من ُغفران‪ ،‬ما زالت حتميها حتى يف �أق�سى حلظات حياتها‪.‬‬
‫اقرتبت بهدوء وفكت قيد ممدوح الذي كان يلهث من الأمل وهو ينظر بغ�ضب‬
‫لعني ُغفران التي ابت�سمت له بته ّكم وهي ُت ّدثه بربود‪«:‬والآن لدينا نزال �أخري مل‬
‫ينته‪ ،‬انه�ض»‬
‫تن ّف�س ممدوح بغ�ضب وهو ي�ضغط بكفيه على فخذيه مكان النزيف وهو يجيبها‬
‫نزالك اخلا�ص يا عزيزتي‪ ،‬تت�س ّببني يف العجز‬
‫ِ‬ ‫ل�ست عادلة يف‬
‫أنت ِ‬ ‫با�ستفزاز‪ِ �«:‬‬
‫بقتالك ودون �سالح كم �أنت جبانة؟»‬
‫ِ‬ ‫لقدمي و ُتطالبيني‬
‫دنت ُغفران منه يف حلظة وم�سكت ذراعيه بقوة لتجعله ينه�ض من على الكر�سي‬
‫ليكتم ت�أوهه وهو يلمحها تزيح الكر�سي بقدميها بقوة وت�ضع �سكينا يف كف يده!‬

‫‪341‬‬
‫ابتعدت وهي ت�سحب �أمرية خلفها لتقف على بعد منا�سب منه وهي تقول بربود‬
‫ال يتنا�سب مع كم الطاقة العنيفة ال�صادرة منها‪«:‬والآن ما عاد هناك حجج‪� ،‬ساعد‬
‫نف�سك بنف�سك فلقد �أرغمتنا على القتل ونحن مل نكمل الرابعة ع�شرة بينما �أج�سادنا‬
‫مل تكن يف ربع حجمك هيا �أيها العجوز»‬
‫حتامل على �أمله ال�شديد وا�ستطاع التحرك ببطء يف البداية ليقرتب منها‬
‫و�سكينها يف يده‪ ،‬اندفع فج�أة ُمتحامال على �آالمه ليوجه ال�سكني ل�صدرها لتفاجئه‬
‫بابتعادها يف �آخر حلظة‪ ،‬وقد بوغتت بهجومه فج�أة لتلتف خلفه يف اللحظة التالية‬
‫وتغزر ال�سكني يف �أعلى كتفه من اخللف لتمررها بقوة يف ظهره لت�سحبها بقوة‪ ،‬زئريه‬
‫العايل بالأمل مل مينعه من االلتفات و�إ�صابة ذراعها بجرح طويل ب�سكينه‪ ،‬منعت‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫ت�أوهها بقوة وهي تبتعد عن مر�أى ت�صويبه‪ ،‬مل تعر انتباها ل�صراخ �أمرية با�سمها‪،‬‬

‫ب‬
‫بينما تلمح بعينيها تر ّنح ج�سد ممدوح ُ‬

‫ل‬
‫وماولته الفا�شلة يف االتزان‪ ،‬ا�ستند بج�سده‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫ب�سرعة على احلائط خلفه حتى ال يقع وهو يلمح اقرتاب �أمرية ال�سريع من ُغفران‪،‬‬

‫توزيع‬
‫�إن كان �سيخ�سر فليك�سب �شيئا قبل خ�سارته النهائية‪� ،‬سيتل ّذذ با�ستمتاع وهو يرى‬
‫نظرة الأمل يف عينيها‪ ،‬رفع �سكينه يف نف�س اللحظة وقذفها مبهارة باجتاه �أمرية‪،‬‬
‫عني ُغفران التي كانت تتابعه مل تغفل عن حركته لتعرت�ض بج�سدها طريق ال�سكني‬
‫وهي تبعد �أمرية عن مرماها بعد �أن دفعتها بقوة‪ ،‬وقعت �أمرية � ً‬
‫أر�ضا لت�شعر بالدوار‬
‫للحظات وهي حتاول �أن تركز ب�أنظارها عما حدث لت�شهق برعب وهي ترى ُغفران‬
‫تنزع �سكينا من كتفها الأمين‪ ،‬لتُظلم عيناها يف اللحظة التالية وهي تهتف ب�صوت‬
‫جمد الدماء يف ج�سد ممدوح‪«:‬وكان هذا خط�أك الأخري ف�أنا ال �أتهاون يف حماية‬
‫�أحبتي»‬
‫رفعت �سكينها يف حلظة لتقذفها مبهارة �أتقنتها بالتدريب حتى انغرز يف كف يد‬
‫ممدوح وثبته يف اجلدار خلفه ليز�أر جمددًا من الأمل بينما هي تقرتب بهدوء غري‬
‫عائبة بنزيف كتفها‪ ،‬حتى وقفت �أمامه وهي ت�سحب �سكينها الأخرى من كفه لي�س ّبها‬
‫ُمت�أوها ليزداد �صراخه وهو يراها تدفع ال�سكني بقوة جمددًا لتثبت بها كفه الأخرى‬
‫يف احلائط‪ ،‬مد كفه املُ�صابة احلرة ليم�سك بعنقها ف�أوقفته يديها وهي تتحدث‬
‫ب�شرود غريب بينما تت�أمل مالحمه وهو م�صدوم من قوتها الغريبة‪«:‬لثمانية ع�شر‬
‫‪342‬‬
‫عاما �شر مل ينته‪� ،‬أ�صبت �أرواحنا بعطب ال ميكن �أن ُيعالج‪ ،‬تلذ ّذت بلم�س �أج�سادنا‬
‫و�شهوتك احليوانية تدفعك لتُدمر املُزهر يف قلبنا‪� ،‬أردت �أن ُي�صيبنا العطب فن�صبح‬
‫�أ�شباحا �شبيهة بك‪ ،‬ولكن هل تعلم �أنت مل تنجح‪ ،‬رمبا �أرواحنا معطوبة لكنك مل‬
‫ت�ستطع الو�صول لتلك البذرة التي و�ضعها اهلل فينا‪ ،‬رمبا نحتاج الكثري لن�صل لتلك‬
‫البذرة‪ ،‬رمبا �سنزيل الكثري من الع�شب الفا�سد حول قلوبنا لكننا �سنحيا بقلب‬
‫نظيف‪ ،‬بقلب غري ُملوث مثلك‪� ،‬أتعلم ملاذا؟! لأنه رغم كل ما مررنا بنا مل تقتل‬
‫�إن�سانيتنا و�أنت لن حتيا لرتى تلك اللحظة التي �سنكمل فيها حياتنا دون النظر‬
‫للما�ضي ودون حتى �أن نتذ ّكرك‪� ،‬أنت ف�شلت يف �أهم �صفقة يف حياتك‪ ،‬وهي حتويلنا‬
‫لأ�شباح ت�شبهك‪ ،‬ي�سعدين �أن �أخربك �أن ظالم روحك �سي�شملك وحدك و�ستغرق فيه‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫للنهاية دون �أي طوق جناة لإنقاذك»‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫ل‬ ‫بل‬
‫ارتفعت �ضحكات ممدوح البغي�ضة وا�ستمرت للحظات قبل �أن يقول من بني‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫�أ�سنانه ب�شر وا�ضح و�آالمه �أظهرت مدى قبح روحه وظالمه الذي ارت�سم على‬

‫ع‬
‫مالحمه‪«:‬وهل �أنت مت�أكدة يا عزيزتي ب�أنكن ت�ستطعن ن�سياين والأهم هل �أنت‬
‫مت�أكدة من �أنني مل �أقتل �إن�سانيتكن‪ ،‬انظري لنف�سك عزيزتي وتذ ّكري يف كل مرة‬
‫لك فكالنا يحمل نف�س الروح املُظلمة‬ ‫ُتعري ِ‬
‫روحك �أمام املر�آة �ستجدينني وج ًها �آخر ِ‬
‫يعرتيك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫فها �أنت واقفة �أمامي على بعد خطوة من قتلي بروح باردة و�شعور بالن�شوة‬
‫�أ�ؤكد لك يا عزيزتي �أنه نف�س �شعوري يف كل مرة كنت �أقتل فيها روحا �أو �أتلذذ‬
‫بر�ؤيتكن تقتلن ُمرغمات من �أجلي �أنا و�أنت نف�س ال�شخ�ص»‬
‫ابت�سمت بته ّكم وهي ت�سحب ال�سكني من كفه املُقيدة بها وبيديها الأخرى التي‬
‫حتتجز كفه الأخرى ت�ضغط بقوة على مكان اجلرح وهي تقول بربود‪«:‬غريب �أمرك‬
‫ففي اللحظة التي قررت فيها ت�سليمك لل�شرطة ترغب يف املوت»‬
‫ابت�سم وهو ي�شعر بالقليل من االرتياح لتحقيقها يف النهاية هدفه قبل �أن يتجمد‬
‫مكانه وهو يراها ترفع �سكينها ومتررها على �صدره وهي تقول بهدوء‪«:‬ولكن‬
‫�أخربين بخربتك كيف هو احلال يف ال�سجن عندما يدخل �سجني جديد يحمل يف‬
‫تاريخ �سجله الكثري والكثري ولكن التهمة الأخطر هي اخليانة‪ ،‬فقد اعرتف بكل‬
‫ما يعرفه عن �أ�سرار ع�صابة كبرية كان يعمل لديها بعد تعذيب ال�شرطة له �أثناء‬
‫‪343‬‬
‫التحقيق معه‪ ،‬اعرتف على لواء كبري بالأمن الوطني واعرتف على �آخرين يعملون‬
‫بالوزارة فا�ضحا �أ�سرارهم»‬
‫توقف عن التنف�س وهو يراها تكمل‪�«:‬آه �أمل �أخربك؟!عذرا هو خطئي يا يل من‬
‫غبية‪ ،‬ن�سيت �إخبارك ب�أن عمران منحني فال�شة حتمل الكثري والكثري من املعلومات‬
‫التي كان �أخوه الأحمق يجمعها من �أجل وقت احلاجة �إليها لي�ضمن بها حياته»‬
‫�شحب وجه ممدوح وهي يعي معنى كالمها‪ ،‬بينما �أكملت هي ب�شر رغم كذبتها‪،‬‬
‫فهي رمبا مل تر الفال�شة بعد‪ ،‬لكنها مت�سكت مبا قاله لها عمران‪«:‬جمرد ر�سالة‬
‫�صغرية حتوي �إحدى املعلومات املهمة للرجل الكبري ليفهم منها خيانتك‪ ،‬ترى ماذا‬

‫ع‬
‫�سيحدث لك يف ال�سجن‪ ،‬ال ال يا لك من غبية يا ُغفران بالطبع لن ي�صل ممدوح‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫لل�سجن‪ ،‬فمن يعمل لديهم �س ُيهربونه �أم لن يفعلوا؟!»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫هتف بغ�ضب وهو ي�شعر بها تغلق كل منافذ احلياة �أمامه‪ ،‬م�سك ذراعيها ودفعها‬

‫توزيع‬
‫للحائط وقد غلب خوفه على غ�ضبه ف�أوقع ال�سكني من يديها وهو يدفع ج�سدها‬
‫للحائط ليبعدها عنه ثم يدفع ج�سدها جمددا لريتطم باحلائط ل ُيكرر الأمر مرا ًرا‬
‫وقد �أعماه غ�ضبه‪ ،‬لت�شعر بالأر�ض متيد بها و�سيل دافئ من الدماء ي�سري من ر�أ�سها‬
‫لظهرها فلم ت�شعر �سوى بابتعاد ممدوح عنها لتجده يتلوى على الأر�ض من الأمل يف‬
‫اللحظة التالية و�أمرية واقفة جامدة بجواره بينما �سكني ُمنغرزة يف ظهر ممدوح‪،‬‬
‫وقد غرزتها �أمرية �أكرث من مرة ل ُي�صيب يف مرة من املرات كليته لت�سمع ُغفران‬
‫�صوتها املُرجتف وهي تهتف بغ�ضب‪�«:‬أبعد يديك عنها �أيها احليوان‪ ،‬لتتعفن يف‬
‫�آالمك فلتمت فلتمت عليك اللعنة»‬
‫ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله وهي تلهث بغ�ضب و�شعور بالراحة يعرتيها وهي تلتفت‬
‫ل ُغفران لرتاها �صامدة مكانها رغم الدماء التي غطت ج�سدها من كل جانب‬
‫لتقرتب منها ُم�سرعة وت�سندها قبل �أن تخور قواها‪ ،‬لتلمح يف اللحظة التالية دخول‬
‫اللواء ح�سني وهو مكفهر الوجه مع رجاله‪ ،‬ومن خلفهم �آ�سر الذي �صرخ با�سمها بعد‬
‫حلظة من الذهول التي اعرتت جميع من دخل ور�أوا منظر ممدوح املُدرج بالدماء‬
‫وعوا�ؤه يرتدد يف جوانب احلظرية كحيوان ننت‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫كانت جال�سة يف �سيارة الإ�سعاف بهدوء غريب عليها وهي تتل ّقى العناية جلروحها‬
‫قبل �أن تنتقل للم�شفى‪ ،‬نظرت للمكان حولها وم�شاعر م�ضطربة �أ�صابت روحها‪ ،‬لقد‬
‫مات ممدوح فور قبل و�صوله للم�شفى‪ ،‬مات ُمت�أث ًرا بجراحه‪ ،‬مات وانتهى �شره يف‬
‫هذه الدنيا‪ ،‬تق ّبلت اخلرب من اللواء بهدوء لت�س�أله دون مقدمات‪«:‬هل مات ح ًقا هذه‬
‫املرة؟!» ليجيبها ب�صدق‪«:‬نعم ُغفران لقد مات»‬
‫هي لن ترتاح حتى ترى جثته �أمام عينيها‪ ،‬طلب امل�سعف �أن يعالج جروحها‬
‫ولتنتقل بعدها للم�شفى لتقطيب اجلروح التي يف حاجة للغرز‪.‬‬
‫�أفاقت من �شرودها على �صوت امل�سعف وهو يخربها �أن العربة �ستتحرك بها الآن‬

‫ع‬
‫للم�شفى‪ ،‬رفعت �أنظارها لأمرية وزمرد الواقفتني على مقربة منها تتابعانها بقلق‪،‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫حانت منها ابت�سامة لهما ُتطمئنهما �أنها بخري وحتى لو كان كذ ًبا‪� ،‬أخف�ضت �أنظارها‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وهي حتاول جاهدة �إخفاء م�شاعرها‪ ،‬هي لأول مرة ترغب يف االنهيار ولأول مرة‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫ترغب فيه مع �شخ�ص واحد فقط‪� ،‬شخ�ص جت ّنب النظر �إليها بعد �أن ر�أى ما حدث‪،‬‬

‫ع‬
‫جت ّنب النظر لعينيها حتى ال ترى منه نظرة عتاب عما قامت به‪ ،‬وما �أجربت �أخته‬
‫على القيام به‪ ،‬لن تن�سى احت�ضانه �أمرية و�إخراجها من املكان دون �أن يلقي نظرة‬
‫واحدة عليها‪ ،‬وك�أنها نادته‬
‫أنت بخري؟!»‬
‫«هل � ِ‬
‫ارتع�ش ج�سدها ب�أكمله وهي ترفع عينيها لتلتقي �أخ ًريا بعينيه‪ ،‬حاولت ادعاء‬
‫اجلمود �أمامه وهي تخفي م�شاعرها بقوة فرم�شت بعينيها وهي جتيبه‪«:‬نعم»‬
‫�ساد ال�صمت بينهما للحظات ليقرتب �آ�سر ويجل�س بجوارها داخل العربة‬
‫قليل من مكانها وهي حتيط كفها بذراعها امل�صاب لتلمحه يتنهد بقوة‬ ‫فتحركت ً‬
‫معك فيما حدث لكن �أنا كنت على �أمل �أن تختاري‬ ‫وهو يقول‪�«:‬أنا لن �أحت ّدث ِ‬
‫ووحدك من كان لديه االختيار ُغفران‪ ،‬لكن لي�س كل ما ن�أمله‬
‫ِ‬ ‫االختيار ال�صحيح‬
‫جنده �أمام �أعيننا»‬
‫حتدثت بجمود‪«:‬ما �أختاره �أو ما ال �أختاره ال �ش�أن لك به‪� ،‬أنت تتحدث عن الأمر‬
‫من خارجه‪� ،‬أنت مل تع�ش ما ع�شته‪ ،‬مل تخ�سر ما خ�سرته وبالطبع مل تخ�سر �أحبتك‬
‫‪345‬‬
‫ب�سببه‪� ،‬أنا كان لدي كل احلق يف ما فعلته‪ ،‬و�إن عاد بي الزمن جمددًا لن �أتردد‬
‫للحظة يف فعله جمددًا»‪.‬‬
‫�أدار �آ�سر نظره لها وهو يراها جتاهد لئال تنهار لينظر لها بحزن وهو‬
‫أنك ل�ست مثله» �أدارت عينيها له وقد امتلأت بدموع‬ ‫يقول‪ِ «:‬‬
‫ظننتك حتاولني �إثبات � ِ‬
‫احلزن لرتتع�ش �شفتاها وهي تقول‪�«:‬أنا ل�ست مثله»‬
‫حانت من �آ�سر ابت�سامة حزينة وهو يقول‪«:‬لقد خذل ِتني مبا فعل ِته ُغفران‪،‬‬
‫وخذل ِتها هي الأخرى»‬
‫م�ستخدما جملة‬
‫ً‬ ‫�شحب وجهها وهي حتاول فهم مق�صده ليف�سر لها‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�صاحبتها‪�«:‬أولئك الذين ي�سعون لالنتقام يحققون هدفهم ولكن ال يعودون كما كانوا‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫من قبل»‪ ،‬ارجتفت مكانها وهي ت�سمع جملة والدة عمران لتهم�س ب�ضعف‪«:‬لي�س‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫عدل �أن تقول هذا الآن»‬
‫ً‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫التمعت الدموع بعينيه وهو يقول بنف�س هم�سها‪�«:‬أخ�شى �أن �أكون ت�أخرت كث ًريا‬
‫خ�سرتك ُغفران» �أدارت وجهها وهي حتاول منع دموعها‬ ‫ِ‬ ‫عليك ف�أكت�شف �أنني‬
‫ِ‬
‫من الت�ساقط لتقول بجمود يف حماولة منها لإبعاده عنها‪�«:‬أنت مل حت�صل ّ‬
‫علي‬
‫لتخ�سرين �آ�سر»‬
‫هز ر�أ�سه دون قول �شيء لينه�ض من مكانه وهو يع ّدل من ثيابه ليقول بهدوء‪�«:‬إذا‬
‫بنف�سك ُغفران و�س�أدعو اهلل ِ‬
‫لك كث ًريا‬ ‫ِ‬ ‫عليك‪ ،‬اع ِنت‬
‫خ�سرتك قبل �أن �أح�صل ِ‬
‫ِ‬ ‫ف�أنا‬
‫عودتك»‪� ،‬أنهى‬
‫ِ‬ ‫عيدك لأولئك الذين ينتظرون‬ ‫نف�سك و�أن ُي ِ‬
‫ينت�شلك من ظلمات ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب�أن‬
‫حديثه ورحل تار ًكا �إياها م�شتتة من كلماتها خا�صة جملته الأخرية قبل �أن يغلق‬
‫املُ�سعف باب ال�سيارة وترحل للم�شفى‪.‬‬

‫‪MMM‬‬

‫‪346‬‬
‫كطفل هرول �إىل �أمه باكيا لتحت�ضنه‪ ،‬فتل ّقى �صفعة ليكف عن‬
‫البكاء هكذا اخلذالن‬

‫�أحمد خالد توفيق‬


‫بعد �أ�سبوعني‬
‫مقر الأمن الوطني‬
‫«كان لدي ا�ستف�سار»‪ ،‬نظر لها اللواء ح�سني برتكيز وهو يراها جال�سة �أمامه‬
‫يختف حتى بعد مرور �أ�سبوعني عن احلادث‪ ،‬ليفهم ارتباكها‬
‫هزيلة و�آثار �إ�صاباتها مل ِ‬
‫قائال‪«:‬عمران!»‪ ،‬ارتع�شت �شفتا ُغفران وهي ت�سمع ا�سمه لتقول بتيه‪«:‬كيف؟! لقد‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫كان هناك دائما‪ ،‬كان يف كل �شيء‪� ،‬أنا ال �أفهم»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫تنهد اللواء وهو ينظر �إليها للحظات قبل �أن يقول‪«:‬لقد جاءين كما ِ‬
‫جئت‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�إىل تلك الليلة ُغفران‪ ،‬كنت وقتها يف مديرية �شمال �سيناء‪ ،‬كان جمرد �شاب يف‬
‫فعلت‪ ،‬ال �أدري ما‬
‫بداية الع�شرينات على ما �أعتقد‪� ،‬أجربين على �سماع ق�صته كما ِ‬
‫رفعت فيها م�شرط‬
‫ق�صتكما بالتهديد حتت ال�سالح‪ ،‬ما زلت �أتذكر اللحظة التي ِ‬
‫وم�ساعدتك»‬
‫ِ‬ ‫إليك‬
‫جيبك لتجربيني على اال�ستماع � ِ‬
‫عمليات الذي كنت حتملينه يف ِ‬
‫حانت منها ابت�سامة بحزن وهي تتذكر �ضياعها تلك الفرتة لتجد حلها يف رجل‬
‫جاء يبحث يف امل�شفى التي تعمل فيه على ابنه الذي ُجرح يف �أحد الأكمنة‪ ،‬وجدت‬
‫احلل يف عميد بال�شرطة ي�س�ألها بقلق عن ابنه النقيب‪ ،‬كان يقف �أمامها بهيبته التي‬
‫تخ ّللتها حلظات من الرعب لأب يحاول االطمئنان على حياة ابنه‪ ،‬تذ ّكرت وقتها‬
‫حديث املُمر�ضات عن النقيب الذي جاء يف احلادثة و�إنه ابن لعميد م�شهور بقوته‬
‫واحرتام اجلميع له والتزامه يف �أداء عمله ب�إتقان وجدتها فر�صة لتجيبه ُمطمئنة‬
‫�إياه لتخربه بعده دون مقدمات �أن يتبعها يف غرفتها للحديث عن حالته لتجربه على‬
‫اال�ستماع �إليها وما لديها من معلومات مهددة �إياه مب�شرط لين�صت �إىل كل كلمة‬
‫تقولها وتركيزه وهدوئه يخربانها �أنه ُي�ص ّدقها و�أنه تع ّر�ض لذلك املوقف من قبل‪،‬‬
‫لتتواىل مقابالتهم بامل�شفى ُم�ستغلني ظرف ابنه الذي بالعناية املُ�شددة بحجة �أنه‬
‫‪348‬‬
‫ما زال حتت الرعاية رغم �إفاقته‪ ،‬راف�ضا نقله مل�شفى ال�شرطة حتى ي�ستطيع االتفاق‬
‫على خطة مع ُغفران تبعدها عن �أي �شكوك من الرجال الذين يراقبونها‪.‬‬
‫�أخرجها من ذكرياتها وهو يقول‪«:‬كان يبدو عليه ال�ضياع وهو يقول �أنه لديه‬
‫�أقوال للق�ضاء على منظمة كبرية‪ ،‬يقول �أنه عمل مع رجل يعترب اليد اليمنى لزعيم‬
‫تلك املنظمة‪� ،‬أخربين �أنهم عادوا منذ �أيام من ليببا ويبدو �أنهم يع ّدون العدة خلطة‬
‫جديدة ت�ضم الكثري من جتارة �أع�ضاء‪ ،‬تهريب خمدرات وقتها كان هذا ما ا�شتهرت‬
‫به تلك املنظمة قبل �أن يبادروا بتجارة الب�شر خا�صة الن�ساء والأطفال‪ ،‬وقتها مل‬
‫ميلك الأدلة لزجهم داخل ال�سجون وكنا وقتها يف ع�صر ا�شتهر بالر�شاوى يف كل‬

‫ع‬
‫�شيء‪ ،‬فكان من ال�سهل �شراء �شرطي بب�ضعة �أوراق نقدية من �أجل �ضياع �أدلة �أو‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�شراء من هو �أعلى منه مل�ساعدة املجرم للإفالت من العقاب‪� ،‬ساعدته ومل ي�أخذ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬


‫أنت تظنني �أنه �ساعد �أخاه‬
‫مثلك ليكون عينا و�أذنا لنا هناك‪ِ � ،‬‬
‫طويل بالتدريب ِ‬ ‫وقتا ً‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫يف الكثري من الأمور وال تعلمني �أنه �ساعدنا يف �إف�ساد الكثري من املخططات‪ ،‬حتى‬

‫ع‬
‫ممدوح مل يعلم عنها �أي �شيء‪ ،‬كنا نتحرى الدقة يف ت�صرفاتنا حتى �أخربين �أن‬
‫هناك رجال كبريا ذا �سلطة يف ال�شرطة يعمل مع ممدوح‪ ،‬رجل يف �أمن الدولة‪،‬‬
‫بحثنا كثري ورجال ذوو ثقة عملوا على هذا الأمر‪ ،‬ولكن وقتها مل جنده ونحن نحتاط‬
‫�أكرث يف مقابلة عمران حتى ال يتم اكت�شافه‪ ،‬حتى اكت�شفنا �أنه �سامح‪� ،‬أعلم �أنه‬
‫كانت حوله الكثري من ال�شكوك �أثناء عمله ب�أمن الدولة‪ ،‬و�إنه بالفعل كان �سيحظى‬
‫تع�سفيا‪ ،‬توقعت‬‫مبكانة يف الوزارة‪ ،‬ولكن بعد �أحداث الثورة نقلوه ل�شمال �سيناء نقال ّ‬
‫غ�ضبه وثورته ولكن مل �أتوقع خمود ثورته بعدها ب�أيام ك�أنه ر�ضى بالأمر وهكذا‪ ،‬مل‬
‫يخطر بعقلي �أنه من امل�ؤ�س�سني لتلك املنظمة و�أنه من يدير الفرع الرئي�سي يف م�صر‪،‬‬
‫بقائك مب�صر دون �أي قلق‬
‫كالكما قد �ساعدنا بالكثري‪ ،‬الآن �أ�ستطيع االطمئنان على ِ‬
‫�أو �أذى وقد انتهى �أمرهم للأبد»‪.‬‬
‫�صمتت ُغفران دون قول �شيء تتمنى لو �أن با�ستطاعتها ت�أكيد ما يقوله ب�أن‬
‫�أمرهم انتهى للأبد لتقول بعدها‪«:‬رمبا من الأف�ضل �أال �أبقى هنا تلك الفرتة‪ ،‬ما‬
‫�أعرفه �أن هناك حركة يف الوزارات وتغيريات كثرية‪ ،‬ا�سمعني �سيدي‪ ،‬هناك �أمر مل‬
‫‪349‬‬
‫�أخربك به‪� ،‬أمر تركه معي عمران و�أنا �أريد ا�ستخدامه بحذر من �أجل االنتهاء من‬
‫جذور تلك الع�صابة مب�صر»‪.‬‬
‫نظر لها اللواء با�ستغراب وهو يقول‪«:‬ولكن بعد قب�ضنا على �سامح بالأدلة التي‬
‫معنا ظننت �أن هكذا انتهينا من جذور تلك الع�صابة للأبد‪ ،‬عمران �أخربين عن �أن‬
‫هناك �أدلة �أخرى لكن مل ي�سعفه الوقت ليحكي يل التفا�صيل» نظرت ُغفران له‬
‫بهدوء لتقول‪«:‬ما زال هناك جذر �ضخم مل نقتلعه بعد وهذا اجلذر يحتاج من كل‬
‫وقتنا وقوتنا وتركيزنا القتالعه بحذر دون ترك �أي �آثار له»‬

‫‪M‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫منزل �أمرية‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫دخلوا املنزل جمي ًعا وحممد ي�سند جميلة بينما خلفه �آدم وهو ي�سند �أحمد �أخاه‪،‬‬

‫شر وال‬
‫حت ّدث �آ�سر ب�سعادة‪«:‬عودًا حميدً ا يا �آل البيت و�أخ ًريا اجتمع �شملنا من جديد»‪،‬‬

‫توزيع‬
‫ابت�سمت جميلة له وهي تنظر لعائلتها بحب‪ ،‬لأمرية التي تقف بجوار �أمري الذي‬
‫يرف�ض �أن يرتك كفها ك�أنه حتى الآن ال ُي�صدق �أنه هنا معهم بعد كل ما حدث‬
‫لها‪ ،‬ارتع�ش قلبها وهي تتذ ّكر تلك الفرتة التي ا�ستيقظت فيها يف امل�شفى لتعرف‬
‫ما حدث من حممد‪� ،‬ساعات ق�ضوها يف رعب حتى ات�صل بها �آ�سر ُيطمئنهم ب�أن‬
‫�أمرية بخري وهما يف طريق عودتهما مل�صر ليحمدوا اهلل على عودة �أبنائهم �ساملني‬
‫لهما‪� ،‬آ�سر تلك الهالة احلزينة التي حتيط بابنها ال تعرف �سببها حتى الآن‪ ،‬يحاول‬
‫جاهدً ا �إخفاءها عنهم بابت�سامته ومزاحه مع �إخوته لكنها ت�شعر به‪ ،‬ابنه يحمل‬
‫�آالما داخل قلبه‪� ،‬آالما جتعل الدموع ترتقرق يف عينيه �أثناء �شروده عنهم‪ ،‬تنهدت‬
‫قليل مبفردهما‪� ،‬آ�سر يف حاجة هذه املرة‬‫وهي تفكر ب�أنها يف حاجة لأن جتل�س معه ً‬
‫للتح ّدث‪ ،‬وهو الذي ظل طوال عمره ي�ستمع فقط‪� ،‬أدارت ر�أ�سها لولديها العزيزين‬
‫وهي ترى �آدم ُيع ّدل من و�ضع الو�سادة خلف ظهر �أخيه‪� ،‬أحمد الغايل الذي عانى‬
‫من ك�سور كثرية يف ج�سده �س ّببها �أولئك الأ�شرار الذين اختطفوا �أمرية‪ ،‬تذ ّكرت‬
‫حالة �آدم وهو يبكي منها ًرا لأول مرة وهم بانتظار خروج �أحمد من غرفة العمليات‪،‬‬
‫وتذ ّكرت انهياره الثاين بعد �أن خرج �أحمد وفاق يف غرفته ليجل�س �آدم بجواره على‬
‫‪350‬‬
‫ال�سرير ويحت�ضنه بقوة ودموعه ال تتوقف عن االنهمار‪� ،‬آدم الفط اللجوج يحمل‬
‫بقلبه م�شاعر متاثل م�شاعر توءمه الذي ال ي�ستطيع �إخفاءها كما يفعل �آدم ب�شقاوته‬
‫وقد �أثبتا �أن كليهما ال ي�ستطيع العي�ش دون الآخر‪.‬‬
‫دخلت لغرفته بعد �أن طرقت الباب و�سمعت �سماحه لها بالدخول‪ ،‬رفع �آ�سر‬
‫مقبل جبينها قائال‪«:‬تعايل‬
‫�أنظاره لوالدته لينه�ض من مكانه وهو يقرتب منها ً‬
‫حبيبتي‪ ،‬هل تريدين �شي ًئا؟!»‬
‫م�سكت جميلة كفه وجذبته ليجل�س بجوارها على الأريكة لتنظر له بحب وهي‬
‫ترى �آثار �سهاده على وجهه لتقول بهدوء‪«:‬ما الذي ي�شغل قلب بكري ومينعه عن‬

‫ع‬
‫النوم هكذا؟! يف البداية ظننته قل ًقا على �أمرية ولكن بعدها �شعرت ب�أنه رمبا �أمر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�آخر»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫�أ�سبل �آ�سر �أنظاره عن والدته وهو يقول بهدوء‪«:‬ال �شيء حبيبتي جمرد �إرهاق‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫تعبك و�إ�صابة �أحمد واختطاف �أمرية‪ ،‬الأمر فقط مل يكن‬
‫من كل الأحداث ال�سابقة‪ِ ،‬‬

‫ع‬
‫هي ًنا»‬
‫دوما حملت على كتفك‬‫ابت�سمت له والدته وهي حتت�ضن وجهه لتقول بحب‪ً «:‬‬
‫�أحمالنا جمي ًعا دون �أن ت�شتكي‪ ،‬لذا ا�سمح يل بحمل القليل من ِحملك هذه املرة»‬
‫رم�ش بعينيه وهو ينظر لوالدته احلنونة لي�سرد لها خماوفه و�أوجاعه ليخربها‬
‫بكل �شيء عن ا�ضطراب م�شاعره جتاه ُغفران بداية من اجنذابه لها لت�أكده من حبه‬
‫لها بعد �أن ا�شتاق لها كل تلك املدة و�أخ ًريا خوفه من تلك امل�شاعر‪.‬‬
‫تن ّف�ست والدته بقوة وهي تقول له بحكمة‪�«:‬إذا ما الذي تفعله هنا الآن؟!» رفع‬
‫�أنظاره لها لتكمل‪�«:‬أي �أم يا بني ترغب بالأف�ضل ً‬
‫دوما لأبنائها‪ ،‬لطاملا متنيت �أن‬
‫حتظى ب�أف�ضل فتاة بالعامل‪� ،‬أن حتظى مبن حتتويك ومتنحك ما مل �أ�ستطع منحه‬
‫لك يف �أق�سى �أيام حياتي‪ ،‬ب�أن حتبك لأنك ت�ستحق احلب‪ ،‬ب�أن ت�سعدك لأن ت�ستحق‬
‫ال�سعادة‪ ،‬رمبا لدي القليل من املخاوف جتاه ُغفران‪ ،‬نظ ًرا لن�ش�أتها وحلالتها‪ ،‬ال‬
‫�أقول �إنه ذنبها‪ ،‬ال يا بني حا�شاه �أنا �أقول ذلك وقد كانت �أختك يف نف�س املكان الذي‬
‫ن�ش�أت به لكن خماويف يف �أال تكون بالقدر الكايف لك‪ ،‬ب�أال متنحك ما حتتاجه‪ ،‬ب�أن‬
‫‪351‬‬
‫تتعب يف طريقك �إليها فتخ�سر نف�سك لكن كل تلك املخاوف تذهب �أدراج الرياح‬
‫و�أنا �أراك بهذه احلالة التع�سة و�أنا �أرى فيها �سبيل �سعادتك‪ ،‬ف ّكر جيدً ا �آ�سر‪ ،‬ف ّكر‬
‫يف حياتك القادمة‪� ،‬أنت �ستحارب �أ�شباحها وخماوفها‪� ،‬ستعاين معها من �أجل �أن‬
‫يوما بها‪� ،‬أنت �ستثبت‬ ‫متنحها هوية هي ترف�ضها و�أن تثبت لها حقائق مل ت�ؤمن هي ً‬
‫كاف من‬‫لها �أن هناك حياة خلف كل املوت الذي يحيط بها‪ ،‬لذا �إن كنت على قدر ِ‬
‫دوما خلفك‪� ،‬أنا ووالدك و�إخوتك‪� ،‬إن ت�أكدت‬ ‫القوة لتقاتل فافعل يا بني وت�أكد �أنني ً‬
‫من م�شاعرك وم�شاعرها فقاتل من �أجلكما حتى لو مل يكن حبها بالقدر الكايف‪،‬‬
‫كامل»‪.‬‬
‫امنحها من حبك حتى ت�ستعيد حبها ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫دمعت عني �آ�سر وهو ينظر لوالدته بحب ليق ّبل كفيها بقوة وهو يقول‪«:‬ال حرمني‬
‫لك‪� ،‬شك ًرا لك»‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ب‬
‫دعمك يل يا �أمي‪� ،‬شك ًرا ِ‬
‫اهلل من ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫يف غرفة �أخرى جماورة‪ ،‬كانت جتل�س بهدوء مم�سكة ب�إحدى رواياتها املف�ضلة‪،‬‬

‫توزيع‬
‫تقر�أ ال�سطور ب�شرود وهي تفكر يف كل ما حدث معها حتى الآن‪ ،‬ذلك اليوم باملزرعة‬
‫ت�شعر ب�أنها خ�سرت جزءا من روحها لكن ك�سبت الباقي كله‪ ،‬رمبا هي �ساعدت‬
‫ُغفران يف انتقامها‪ ،‬رمبا هي غرزت �سكينها يف ج�سد ذلك احلقري دون توقف ولكنها‬
‫تخطت بها خوفها‪ ،‬ما زالت حتى الآن ترجتف كلما تذ ّكرت طريقة غزرها لل�سكني‬ ‫ّ‬
‫وكلما تذ ّكرت دماءه ال�ساخنة على كفيها‪ ،‬لكن هي الآن �أقوى‪� ،‬أقوى بدعم عائلتها‪،‬‬
‫بحب توءمها الذي يرف�ض تركها ولو للحظة منذ ذلك احلادث‪ ،‬رفعت عينيها يف هذه‬
‫اللحظة لتلمحه ينظر �إليها بحنان لترتك الكتاب من كفها وهي تعتدل يف جل�سته‬
‫يل هكذا؟!» ملحت ترقرق الدموع يف عينيه لت�سمعه يكمل‪�«:‬أنا‬ ‫لت�س�أله‪«:‬ملاذا تنظر �إ ّ‬
‫أنك هنا �أمرية» تفهمه‪ ،‬تفهمه جيدً ا وهي تعي مق�صده بوجودها‬ ‫ال �أ�صدق حتى الآن � ِ‬
‫هنا بعد اختطافها الثاين‪ ،‬عرفت من �آ�سر انهياره وهو يت�صل به بينما كان يف مكتب‬
‫اللواء ح�سني بعد اختطافها وهو يهتف ببكاء يف الهاتف‪�«:‬أمرية �آ�سر‪ ،‬لقد �أ�صابها‬
‫�أذى �أنا �أموت �آ�سر»‪ ،‬ليعي �آ�سر �أنه �شعر مبا حدث لها من خالل ذلك الرابط‬
‫بينهما‪ ،‬لقد نادته �أمرية هذه املرة ول ّبى �أمري النداء‪.‬‬
‫‪352‬‬
‫ابتلعت ريقها وهي حتاول طرد دموعها لتقول له‪�«:‬أنا هنا �أمري‪ ،‬لقد ناديتك‬
‫ول ّبيت ندائي»‬
‫طرفت عيناه بالدموع ليم�سحها وهو ينه�ض من مكانه مدي ًرا ظهره لها لتقرتب‬
‫منه وهي تقول حماولة �إخراجه من حزنه‪«:‬ال حتاول الهروب من �أمر ال�صور فلدينا‬
‫�صور مل نلتقطها بعد‪ ،‬هل �أ�صبحت تخاف الآن؟!» التفت �إليها وهو ي�ضحك بينما‬
‫مي�سح دموعه وهو يقول جمار ًيا مزاحها‪�«:‬إنه دورك يف ال�صور‪ ،‬هذه املرة �سن�ضع‬
‫و�سن�صورك باحللوى �إذا من اخلائف الآن؟!»‬
‫ِ‬ ‫أ�سك‬
‫ربطات ال�شعر بر� ِ‬
‫ابتعدت عنه وهي تقول بخوف م�صطنع‪«:‬ال لن ت�ضعوا �أي ربطات �شعر بر�أ�سي‬

‫ع‬
‫ان�سي الأمر»‪ ،‬اقرتب �أمري وهو ي�ضحك على هيئتها ليكمل بني �ضحكاته‪«:‬ي�سعدين‬

‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫أي�ضا»‬

‫ت‬
‫أنك �سرتتدين ف�ستانا � ً‬
‫لك � ِ‬
‫�أن �أقول ِ‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�صرخت �أمرية بال وهي تهرب منه بينما يرك�ض خلفها بعد �أن فتحت الباب‬

‫والتوزي‬
‫وهربت منه وهي ت�ضحك بني �صرخاتها وهما يتذ ّكران وعدهما �أن يلتقطا م ًعا �صور‬

‫ع‬
‫طفولة لهما مثل �صور �آدم و�أحمد‪ ،‬وقد تعاهدا �أن يعي�ش كل حلظة طفولة م ًعا ليملآ‬
‫�ألبوم ال�صور اخلا�صة بهما‪.‬‬
‫‪M‬‬
‫منزل زمرد‬
‫جل�ست على الكر�سي بال�صالة وهي تنظر �أمامها با�ستمتاع لرحاب و�سليم وهو‬
‫يحاول احلديث معها بينما هي تتجاهله وهي مم�سكة بهاتفها حانت منها ابت�سامة‬
‫وهي تتذ ّكر ذلك اليوم حني عادت للمنزل وا�ستقبلتها عائلتها بالدموع بينما‬
‫احت�ضنتها رحاب بقوة وهي تبكي مرددة احلمد هلل وهي ال ت�صدق عودتها �إليها‬
‫جمددًا‪.‬‬
‫تلك املرة �شعرت ح ًقا �أنها عادت ملنزلها‪ ،‬جل�ست تلك الليلة وهي تنظر لأنحاء‬
‫غرفتها ُم�ستعيدة ذكرياتها كلها �شاعرة بروح والدتها ووالدها باملكان‪ ،‬تذ ّكرت‬
‫مكوث العائلة ب�أكملها يف منزلها هي ورحاب وحماولتهم لإ�سعادها بكل الطرق‪،‬‬
‫فقط �أحدهم كان غائ ًبا‪ ،‬بعيدً ا‪ ،‬لطاملا كان بعيدً ا رغم قربه من قلبها‪.‬‬
‫‪353‬‬
‫ارتع�شت وهي تتذ ّكر حلظات و�صولها لتلك الثكنة الع�سكرية وانتظارها املميت‬
‫لأي �شخ�ص يدلف للغرفة التي و�ضعوها بها‪ ،‬تذ ّكرت وقتها م�شاعرها وهي تدعو اهلل‬
‫�أن ينجدها مما هي فيه‪ ،‬دعت اهلل وقتها �أن ينجدها فقط لتعود ولو للحظة ملنزلها‬
‫فتخرب رحاب مبدى حبها لها وتخربها ب�أنها لطاملا �أحبته دون �أن تعرف‪ ،‬لطاملا‬
‫غفلت عن م�شاعرها بوجوده ومل تع معناها �إال بعد �أن افرتقت عنه للمرة الثانية رمبا‬
‫�أول مرة كانت �صغرية‪ ،‬لكن لطاملا كانت م�شاعرها ُمتعلقة به‪.‬‬
‫�أخرجها من �أفكارها حديث �سليم لها‪«:‬زمرد اقنعي هذه احلمقاء ب�ضرورة‬
‫قدومها معي ل�شراء اخلوامت‪� ،‬أنا �أريدها �أن تختار لكنها كعادتها تعاند فقط‪ ،‬هي‬
‫حتيا يف هذه احلياة لكي تعاندين فقط»‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫�ضحكت زمرد على هيئته وهي تنظر خلف رحاب التي تركتهما ودخلت لتُعد‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الغداء‪ ،‬رحاب التي ُ�صدمت بطلب �سليم يديها يف ليلة عودتها للمنزل واجتماع‬

‫شر وال‬
‫العائلة كلها لت�صمت رحاب دون �أن تعطيه �إجابه لتنظر لوالده وتخربه برغبتها يف‬

‫توزيع‬
‫مهلة �أ�سبوع لتفكر‪� ،‬ضحكت وهي تتذكر رد فعل �سليم غري املُ�صدق وانهيار رحاب‬
‫يف تلك الليلة غري ُم�صدقة طلبه‪� ،‬أخربته زمرد ب�أنها �ستحدثها‪ ،‬نه�ض �سليم وهو‬
‫حتدثت مع يامن؟!»‬
‫ِ‬ ‫يقول‪�«:‬أنا �أعتمد ِ‬
‫عليك يف هذا‪� ،‬آه هل‬
‫ابتلعت زمرد ريقها وهي تقول بارتباك‪«:‬ال مل ي�أت الوقت املنا�سب لذلك»‬
‫�صمت �سليم ليقول لها بعد حلظات‪�«:‬إذا �س�ألني لن �أ�ستطيع �أن �أخفي الأمر عنه‬
‫�سفرك مع رحاب‪ ،‬ال تدعيه يعرف من �أحد �آخر غريك»‬ ‫ِ‬ ‫زمرد‪ ،‬يجب �أن يعرف ب�أمر‬
‫هزت ر�أ�سها دون قول �شيء‪ ،‬ليرتكها �سليم على وعد بزيارة �أخرى الليلة من �أجل‬
‫�شراء اخلوامت مع رحاب‪.‬‬
‫التفتت زمرد لتدلف للمطبخ وهي تفكر يف �أمر يامن‪ ،‬لقد حت ّدثت مع رحاب ب�أمر‬
‫ال�سفر بعد عودتها ب�أيام يف ليلة وجدت رحاب نائمة بجواره تبكي يف �صمت فنه�ضت‬
‫قلقة عليها‪ ،‬لتبوح لها رحاب مبا يحمله قلبها وهي تخربها �صراحة ب�شعور الغرية‬
‫الذي �أ�صابها وهي تراه تلك الليلة التي عاد فيها من �سفر ليقابل زمرد �أمام غرفتها‪،‬‬
‫وكم بدوا منا�سبني �ضحكت زمرد وقتها لت�شاركها الدموع وحتت�ضنها بقوة حماولة‬
‫‪354‬‬
‫طم�أنتها �أن �سليم مل يحظ �سوى مبكانة الأخ لها‪ ،‬لتبوح لها مبكنونات �صدرها وما‬
‫حتمله جتاه يامن وتخربها زمرد بو�صية والدتها لهما‪ ،‬نامتا تلك الليلة ويداهما بيد‬
‫بع�ض على وعد بالتفكري يف �أمر ال�سفر من رحاب‪ ،‬خ�صو�صا بعد �أن طم�أنتها زمرد‬
‫ب�سفرها معها‪ ،‬تذ ّكرت تلك اجلملة التي قر�أتها يف كتاب كانت تقر�أه رحاب‬
‫�إين ر�أيت يف معا�شرة احلزين للحزين �شي ًئا من الفرح يتن ّف�س به احلزن على‬
‫احلزن‬
‫الرافعي‬
‫‪M‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫بعد �أ�سبوع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫مقر الأمن الوطني‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫طرقت الباب لتدخل مكتب اللواء بعد �أن �سمح لها‪ ،‬جت ّمدت مكانها و�شحب‬

‫ع‬
‫وجهها وهي تراه �أمامها‪ ،‬كم مر من الوقت‪� ،‬أ�سبوعان ثالثة منذ �آخر لقاء لهما‪،‬‬
‫رم�شت بعينيها وهي حتيد ب�أنظارها عنه وهي تلمح ملعة غريبة يف عينيه‪� ،‬سمعت‬
‫�صوت اللواء وهو يقول‪«:‬تعال ُغفران‪ ،‬لقد ات�صل بي الدكتور �آ�سر طال ًبا ر� ِ‬
‫ؤيتك‬
‫رف�ضك‪ ،‬والآن �س�أترككما معا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫إخبارك حتت طلبه‪ ،‬يبدو �أنه خمن‬
‫و�أنا مل �أ�ستطع � ِ‬
‫فلقد حظيت بوقتي معه لن�صف �ساعة اطم�أننت منه على حالة �أمرية امل�ستقرة والآن‬
‫اعذروين»‬
‫ملحت بطرف عينيها خروج اللواء من مكتبه لتنظر للباب للحظات وهي تفكر‬
‫هربت» رفعت‬‫خلفك �إن ِ‬‫�أنها لو هربت الآن لن يحدث �شيء �سمعته يقول‪�«:‬س�أرك�ض ِ‬
‫عينيها له لتلمح ابت�سامته وهو يقول‪«:‬بد�أت �أ�شعر بالإحراج من اللواء ح�سني و�أنا‬
‫ؤيتك فيها»‬
‫�أخرجه من مكتبه كل مرة �أريد ر� ِ‬
‫لك ب�شدة»‪،‬‬
‫مل تقل �شيئا ليتنهد بخفوت وهو يقول دون �أي مقدمات‪«:‬ا�شتقت ِ‬
‫�شحب وجهها لتت�سع عيناها ب�صدمة ليكمل متجاهال �صدمتها وهو يقول‪«:‬ا�شتقت‬
‫عينيك الباهت الذي ي�شتعل كلما �شعرت بالغ�ضب‪ ،‬ا�شتقت‬
‫ِ‬ ‫بك‪ ،‬للون‬‫لكل �شيء ِ‬
‫‪355‬‬
‫ل�صمتك هذا‬
‫ِ‬ ‫�شعرك املرتاخية ولل�سواد الذي حتبني االت�شاح به‪ ،‬ا�شتقت حتى‬
‫ِ‬ ‫لربطة‬
‫أنك لن جتيبيني ب�شيء»‬ ‫و�أنا �أعلم � ِ‬
‫ابتلعت ريقها ب�صعوبة وهي ت�شعر بنار تخرج من وجهها لتبتعد ب�أنظارها عنه‬
‫وتتخطاه لتجل�س على �أحد الكرا�سي بتوتر وا�ضح‪ ،‬ليجل�س �أمامها وهو ينظر لها بعني‬
‫خمتلفة‪ ،‬ينظر لها بنظرة رجل اختار امر�أة لت�سكن قلبه‪.‬‬
‫�س�ألته بعد �صمت دام للحظات‪«:‬ملاذا طلبت ر�ؤيتي؟!» �أجابها‪�«:‬أظنني‬
‫أخربتك ب�إجابتي للتو» مل ترفع نظراتها له ك�أنها غري مقتنعة ب�أن هذا �سببه الوحيد‬
‫ِ‬ ‫�‬
‫لر�ؤيتها ليجيبها‪«:‬رمبا مل يكن ال�سبب الوحيد‪ ،‬لكن �أنا رغبت ب�شدة يف ر� ِ‬
‫ؤيتك‪،‬‬

‫ع‬
‫لك‬
‫ؤيتك واالعتذار ِ‬
‫الأيام ال�سابقة كانت من �أق�سى �أيام حياتي‪ ،‬رغبت ب�شدة بر� ِ‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫لك»‬
‫منك واالعرتاف ِ‬‫وطلب ال�سماح ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫رفعت �أنظارها له با�ستفهام ليجيبها وهو ينظر لها بنظرات �أر�سلت ق�شعريرة‬

‫توزيع‬
‫لذيذة لقلبها وهي تراه ينظر لها بحنان لطاملا ملحته يف عينيه لأمرية‪«:‬رغبت‬
‫خذلتك‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬ ‫منك لأنني �أنا من‬
‫باالعتذار عما قلته يف �آخر لقاء لنا وطلب ال�سماح ِ‬
‫لك‪ ،‬ر�سم يل طريق لأول مرة �أم�شي فيه و�سعيد ب�أنه‬‫جئت بعد �أن وجهني قلبي ِ‬
‫أخربك به»‬
‫لك وهذا يو�صلني لالعرتاف الذي �أريد �أن � ِ‬‫�أو�صلني ِ‬
‫نه�ضت من مكانها وهي ت�شعر لأول مرة باخلوف من قلبها ومما يريد قوله‬
‫لتقول‪«:‬ل�ست يف حاجة لقول �شيء‪ ،‬و�أنا غري ُمرغمة للبقاء واال�ستماع ملا لديك‪ ،‬مبا‬
‫�أن �أمرية بخري كما قلت للواء فهذا يكفيني»‬
‫كادت �أن تلتفت حني �شعرت بكف �آ�سر يقب�ض على ذراعها بقوة ليجربها على‬
‫االلتفات والنظر �إليه ليقول بقوة‪«:‬توقفي»‬
‫رفعت عينيها له وهي تنظر له بده�شة ُم�ستغربة غ�ضبه لت�سمعه يكمل من بني‬
‫�أ�سنانها‪�«:‬ستجل�سني الآن و�ست�ستمعني العرتايف اللعني و�س� ِ‬
‫أجربك على اال�ستماع‬
‫ي�سرك ُغفران والآن اجل�سي»‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لكل كلمة فيها و�إال �سرتين مني وج ًها �آخر لن‬
‫ازداد �شحوب وجهها وهي ال ت�صدق حديثه لتجل�س على الفور بعد هتافه الثاين‬
‫بها لتجل�س‪ ،‬ملحته يتنف�س بقوة وهو يتحرك �أمامها يف الغرفة ليقف �أمام الكر�سي‬
‫‪356‬‬
‫املقابل لها ليجل�س عليه وهو يتنهد راف ًعا كفيه مي�سح بهما وجهه بقوة لينظر لها‬
‫بغ�ضب ثم حلظات والنت مالحمه وهو يرى الطفلة التي بداخلها ت�سرتق النظر له‬
‫بخوف من عينيها‪ ،‬ا�ستغفر يف �سره وهو ينظر لها جمددا ليقول بتعب‪�«:‬أنا متعب‬
‫للغاية ُغفران‪ ،‬لأول مرة �أ�شعر بكل هذا التعب ك�أنني كنت على �سفر مل�سافة طويلة‬
‫جدً ا‪� ،‬أ�شعر بالغربة جمددًا داخل منزيل‪ ،‬غربة جتاوزتها يف بداية عملي بان�شغايل‬
‫رحيلك عني»‬
‫ِ‬ ‫به‪ ،‬وعادت يل بعد‬
‫ارتع�شت حلديثه ليكمل �آ�سر �ساردًا كل خماوفه �أمامها من �أن يكون �أم ًرا ُم�س ّل ًما‬
‫لها كما كان لكل �شخ�ص يف حياته ليعيد جمددًا اعرتافه لها بحبه وته ّربه من‬
‫م�شاعره بعد �أن ظن �أنها جمرد حالة دفعته حلمايتها رغم االختالفات التي بني‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫لك تكمن يف اختالفنا‪� ،‬شخ�صية ُم ّلة مثلي‬ ‫�شخ�صيهما �إال �أنه �أخربها‪«:‬قوة حبي ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫مع ُ�شعلة ُمتقدة ِ‬

‫بل‬
‫أنت الألوان اخلالبة يف حياتي‬ ‫مزيجا ال مثيل له‪ِ � ،‬‬
‫مثلك �سيخلق ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫دوما �أبحث عنه‪ ..‬احلياة»‬

‫ر‬
‫الباهتة يا ُغفران‪ ،‬منح ِتني ما كنت ً‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫�شعرت بال�صدمة من الكم الهائل من امل�شاعر التي ملعت بعينيه‪ ،‬ليكمل مف�س ًرا‬
‫حديثه‪«:‬نعم احلياة يا ُغفران‪ ،‬طوال �سنوات عمري كنت ً‬
‫دوما �أحيا من �أجل ما‬
‫يريده مني الآخرون‪ ،‬كربت يف �أ�سرة ُمبة اهتزت رابطتها بفقدان االبنة لأجد‬
‫نف�سي �أمام �أمر مل �أفهم جيدً ا مقدار الأمل امل�صاحب له ل�صغر �سني‪ ،‬ولكن وجدت‬
‫�أبي يريد مني البقاء بجانبه ويف ظهره حتى ال يقع وهو ي�سند �أمي‪ ،‬ويف نف�س الوقت‬
‫�أبث احلب وكل م�شاعر احلنان لأمي حتى �أعو�ضها عما فقدته‪ ،‬ثم �أخي الر�ضيع‬
‫الذي مل مير على والدته �أيام ويجب على �أحدهم �أن يراعيه لتيه �أمي طوال الوقت‬
‫يف مو�ضوع البحث عن توءمته‪.‬‬
‫كان يجب �أن �أكون ما يريدونه لأنه لي�س هناك خيار �آخر حتى �أ�صبحت ما �أنا‬
‫عليه الآن‪ ،‬لكن جرحا �صغريا ال يندمل بداخلي طوال تلك ال�سنوات‪ ،‬لأن ال �أحد �س�أل‬
‫عن الطفل الكبري وعن م�شاعره وقتها‪ ،‬مل ي�س�ألني �أحد عن �آالمي التي �شعرت بها‬
‫بعد �أن بد�أت �أعي ما حدث‪ ،‬لأدفن تلك الآالم داخل هذا اجلرح الغائر و�أكمل حياتي‬
‫جتاهك �أحيا هذا الطفل من جديد لأجد‬ ‫ِ‬ ‫بها كما يريدون‪ ،‬ما �شعرت به داخل قلبي‬
‫�أن اختالفنا يف الرجل الذي �أ�صبحت عليه ولكن الت�شابه مع هذا الطفل بداخلي‬
‫‪357‬‬
‫أنت دوائي من الداء الذي الزم حياتي‪ ،‬ال �أعلم �أنا � ً‬
‫أي�ضا‬ ‫الذي يلعق �آالمه ل ُيط ّيبها‪ِ � ،‬‬
‫لك به»‪ ،‬طال‬ ‫أخربتك بهذا ال�سر الذي ال يعلم به �أحد ولكن �أردت ح ًقا �أن �أبوح ِ‬ ‫ِ‬ ‫مل �‬
‫ال�صمت بينهما لتخربه غري ُم�ص ّدقة قدرته على �إخراج ما بداخلها عن م�شاعرها‬
‫تلك الليلة التي انهارت فيها يف منزله‪ ،‬وبقي بجانبها يقويها بكلماته لتعود خلوفها‬
‫وهي تقول‪�«:‬أنا مل �أعتد �أن �أكون �ضعيفة يا �آ�سر‪ ،‬وهذا الأمر هذا الأمر يخيفني‪،‬‬
‫دوما كنت �أفكر يف اخلطوة وتبعاتها قبل �أن �أخطوها و�أتبع كل الآثار املُرتتبة عليها‬ ‫ً‬
‫لأرى �إن كان هناك �ضرر �أم ال‪� ،‬إال معك �أنا �أخطو يف طريق جمهول ال �أعلم مالحمه‬
‫فقط �أتت ّبع �أثرك وك�أنه ال�صواب‪� ،‬أنت تقول �أنك خائف من �أن تكون من املُ�س ّلمات يل‬
‫يوما من املُ�س ّلمات‪ ،‬كل مرة �أ�ست�سلم فيها ملخاويف‪ ،‬ل ُعقدي والعطب‬ ‫و�أنا مل �أعتربك ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الذي بروحي �أجدك واق ًفا كال�صخر جتذبني �إليك جذ ًبا‪ ،‬تنجدين من ظلماتي التي‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫ال نهاية لها‪ ،‬فكيف �أعتربك من املُ�س ّلمات و�أنا ال �أ�شعر باالطمئنان �إال بوجودك وهذا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫يبعدك عني‪ ،‬ما مينعك من ال�شعور مبا �أ�شعر به؟!»‬ ‫ِ‬ ‫يخيفني» �س�ألها‪�«:‬أهذا ما‬

‫توزيع‬
‫�أغم�ضت عينيها بقوة وهي ترفع قب�ضة يديها وت�ضعها على قلبها وهي جتيبه‪«:‬يا‬
‫�إلهي كم �أردت االبتعاد‪ ،‬كما رغبت ب�شدة يف دفعك بعيدً ا عني ولكن هذا القلب ال‬
‫�أ�ستطيع‪ ،‬كل من يبقون حويل يرحلون و�أنا‪� ..‬أنا �أحببت ماما هنية �أم عمران وعندما‬
‫ماتت �آملني قلبي بقوة �آ�سر �شعرت �أنني �أموت‪ ،‬وبعد موت عمران �أنا‪� ..‬أنا لن �أحت ّمل‬
‫�إن‪»...‬‬
‫نه�ضت من مكانها ت�شعر ب�أنها باحت بالكثري‪� ،‬شعرت باالختناق لتلتفت �إليه‬
‫لتقول �أول كلمة خطرت على بالها‪�«:‬أنا �س�أ�سافر‪ ،‬لقد جهزت �أوراقي‪� ،‬أنا لن �أعود‬
‫قري ًبا‪ ،‬لن �أ�ستطيع �أن �أمكث هنا بعد الآن»‪.‬‬
‫ارجتف قلب �آ�سر وهو ينه�ض من مكانه ليقف �أمامه لي�س�ألها بتوتر‪«:‬ت�سافرين»!‬
‫هزت ر�أ�سها وهي تبتلع ريقها ب�صعوبة لتقول بجمود‪«:‬نعم لقد �أخربت اللواء‬
‫ح�سني وجهزت الأوراق معه‪� ،‬أنا يجب �أن �أرحل‪ ،‬ال مكان يل هنا وال �أحد يل هنا‪،‬‬
‫لقد تقرر موعد �سفري‪ ،‬ومل �أقرر بعد �إن كنت �س�أعود �أم ال‪ ،‬هل ترى �آ�سر رمبا �أنت‬
‫تركت �أثرك بداخلي ولكن هذا القلب ال يحمل �أي �شيء بني جنباته يف الوقت الذي‬
‫كنت ت�شتاق �أنت يل‪� ،‬أنا كنت �أكمل حياتي و�أفكر يف م�ستقبلي‪� ،‬أنا يجب �أال �أبقى هنا‪،‬‬
‫‪358‬‬
‫ال �أمل لنا م ًعا‪ ،‬يف احلقيقة ال �أمل يل مع �أحد‪� ،‬أنا مل �أتخط بعد فقدان عمران وهو‬
‫ح�س ًنا لقد حملت يف قلبي م�شاعر له بحكم عي�شنا م ًعا ل�سنوات عمري كلها‪ ،‬لذا تلك‬
‫امل�شاعر التي تتح ّدث عنها رمبا �شعرت ببع�ضها ولكنها مل تكن قوية كفاية لأجتاز‬
‫أنك رغبت بال�صراحة فها �أنا �أخربك بها‪ ،‬رمبا من‬
‫بها �آالمي �أعتذر منك ولكن مبا � ِ‬
‫الأف�ضل �أن تفكر يف �أخرى‪ ،‬ال حتمل عقدا بحياتها‪ ،‬لها هوية تفتخر بها‪ ،‬ففي النهاية‬
‫هي من �ست�شاركك حياتك وحتمل لك �أطفالك»‪.‬‬
‫كان عليها �أن تقول كل هذا حتى لو كان بع�ضه كذ ًبا‪ ،‬هي ال ت�ستطيع �أن تتق ّبل‬
‫�أي م�شاعر مهما كانت‪ ،‬روحها املُعتمة وقلبها الأ�سود ال �شيء قادر على �إزالة ما به‬
‫ومل�ؤه بامل�شاعر اجليدة‪ ،‬هي تعي �أن بعد كل ما �أجرمته يداها ال ت�ستحق ال�سعادة‪ ،‬ال‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ت�ستحقها بعد موت فريوز وعمران ووالدته‪ ،‬ال ت�ستحقها بعد �أن قتلت كال من والديها‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫مهما كان ما فعلوه بها‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫والتوزي‬
‫حملت حقيبتها ورحلت وهي تعي �أنه لن مينعها هذه املرة فلقد قالت كل ما قد‬

‫ع‬
‫يجرحه بداية برف�ضها م�شاعره واعرتافها بحمل م�شاعر لعمران الذي مل ت�ستطع‬
‫جتاوز موته حتى الآن‪ ،‬جعلته يظن �أنه خ�سر �أمامها وهو �ص ّدقها‪.‬‬

‫‪M MM‬‬

‫‪359‬‬
‫عِ دّي مني باقي يل و�أنتِ م�ش هنا‬
‫هالقي مني يف بعدكِ مينع ال ُبكا!‬

‫حممد �سعيد‬
‫الف�صل التا�سع ع�رش‬
‫الرحيل‬

‫دلف لغرفته وهو ي�شعر ب�آالم متفرقة يف كل �أنحاء ج�سده‪� ،‬أخرج الظرف الذي‬
‫�أعطته والدته له عند عودته بعد �صدمته مبعرفته ب�سفرها‪ ،‬هو مل ي�س�أل‪ ،‬مل يك ّلف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫نف�سه ال�س�ؤال عنها‪ ،‬كان يحتاج لبع�ض الوقت يف �إنهاء عمله املكتبي والتقارير‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الكثرية وكان يحتاج لبع�ض الوقت من �أجل �إنهاء �أمره مع �سايل بعد �أن مت احلكم‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫عليها‪ ،‬كان يحتاج لبع�ض الوقت حتى ين�سى كل ما حدث وقت اختطافها‪� ،‬أغم�ض‬

‫توزيع‬
‫عينيه وهو يقب�ض على الظرف بقوة وهو يهم�س بغ�ضب‪«:‬جبان وكاذب �أنت مل حتتج‬
‫لأي وقت �سوى لهروبك من م�شاعرك‪� ،‬أنت خفت‪ ،‬خفت و�أنت تكت�شف كل حلظة �أنك‬
‫تهيم بها ع�ش ًقا‪ ،‬خفت حتى خ�سرتها‪ ،‬لقد رحلت هذه املرة ب�إرادتها»‪.‬‬
‫فتح عينيه وهو ينظر للظرف �أمامه الذي �أعطته له والدته وهي تخربه �أن زمرد‬
‫تركته‪ ،‬قربه من �أنفه يحاول �أن يلتقط �أي رائحة لها‪� ،‬أي �شيء تركته ليبكي عليه‬
‫فراقها‪ ،‬فتح الظرف وبد�أ يقر�أ ر�سالتها‬
‫«يامن‪ ،‬يامن مان‬
‫�ساحمني لأنني مل �أخربك ب�أمر �سفري مع رحاب‪ ،‬لكن �ص ّدقني هذا الأف�ضل لنا‪.‬‬
‫�أحيانا يجب علينا فقط الرحيل ال ل�شي ِء �سوى �أ َّننا تعبنا‪ ،‬و�أنا تعبتُ ‪ ،‬طريق‬
‫يوما ُمهدً ا‪ ،‬لي�س يل ذكريات ُتعينني على امل�ضي ً‬
‫قدما‪،‬‬ ‫حياتي حتى الآن مل يكن ً‬
‫وجراح قلبي قد تق ّيحت‪� ،‬سيداويها الزمن نعم‪ ،‬ولكن حتى يفعل يجب �أن �أرحل ال‬
‫منك دون عطاء و�أنت الوحيد‬ ‫معك‪� ،‬أن �أقتات من ُق َّو ِت َك‪� ،‬أن �آخذ َ‬
‫ا�ستطيع �أن �أبقى َ‬
‫معك ولكن ُكرهً ا يف �أن‬
‫يوما ب�شيءِ‪ ،‬رحيلي لي�س ُكرهً ا يف �أن �أبقى َ‬‫علي ً‬
‫الذي مل يبخل ّ‬
‫‪362‬‬
‫معك‪ ،‬ي�صر القد ُر على �أن ي�ضعنا يف مفرتق الطريق‪ ،‬ولأول‬ ‫�أخ�سر نف�سي �أكرث و�أنا َ‬
‫مرة �أرف�ض �أنا هذا املفرتق لأختار طريقا �آخر بعيدً ا عنك‪ ،‬فقط كن على يقني �أ َّنني‬
‫يوما �إليك و�س�أعود حينما �أجد نف�سي التي تهواها ال نف�سي التي‬ ‫لن �أن�سى طريقي ً‬
‫ال �أنا وال �أنت نعرفها‪ ،‬ما فعلوه معنا جعلنا نخ�سر الكثري‪� ،‬أنا ال �أريد خ�سارة نف�سي‬
‫�أكرث‪ ،‬ال �أريد خ�سارة روحي والأهم ال �أريد خ�سارة �إن�سانيتي‪ ،‬ما فعلوه كان ب�ش ًعا‪،‬‬
‫قاد ًرا على �أن يطم�س كل جميل فينا لذا دعني �أجذب حبال �إن�سانيتي ببقايا قوتي‬
‫حتى ال تنقطع احلبال وتخور قوتي و ُيغ ّلف روحي ظالم الق�سو ِة‪ ،‬لأول مرة �س�أط ُلبها‬
‫منك ُاترك يدي حتى �أجدين‪.‬‬‫َ‬
‫زمردتك الغالية»‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫�أغم�ض عينيه وهو يقب�ض على الظرف بكفيه بقوة ودمعة يتيمة خرجت من‬

‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫عقالها ليتنف�س بقوة وهو يفتح عينيه يبحث عن هاتفه‪ ،‬فتحه و�ضغط على بع�ض‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫الأرقام‪.‬‬

‫ع‬
‫‪M‬‬
‫يف منزل بكندا‬
‫نظرت من النافذة وهي ترى العائالت جمتمعة يف املنتزه الكبري الذي تطل عليه‬
‫ال�شقة التي ت�سكن فيها مع رحاب‪ ،‬اليوم عطلة لذا جميع العائالت يف احلي الذي‬
‫ت�سكن فيه يجتمعون يف املنتزه الكبري لق�ضاء يوم العطلة باخلارج‪ ،‬ملحت بعينيها‬
‫دوما و�أغدق عليها‬‫رجال يحمل ابنته فوق كتفه لتبت�سم بحنني لذلك الذي حملها ً‬
‫ترحمت عليه هو ووالدتها لتعود بذاكرتها لرجل �آخر ي�شبهه يف احلنان‪.‬‬ ‫بحنانه‪ّ ،‬‬
‫«ال ترحلي» �أغم�ضت عينيها وكلمته التي خرجت بنربة تو�سل حزين جتلدها‬
‫لتتذكر تلك املكاملة الأخرية بينهما مكاملة �أمرها فيها ب�أال تذهب لتتواىل اعتذاراته‬
‫لتخربه �أنه وجب �أن تبتعد تذكرت غ�ضبه وهو يظن �أنها مل تغفر له لتخربه مبا‬
‫فكرت به طوال تلك الفرتة ب�أنها يف حاجة لأن تعيد الروح التي فقدتها من زمن‬
‫لنف�سها لتكون املر�أة التي ي�ستحقها‪ ،‬غ�ضبه الكبري منها وهذره مبا قاله باكتفائه به‬
‫واحتياجه لها لقد ذكر كل الأ�سباب �إال ال�سبب الوحيد الذي كانت تتمناه‪ ،‬تو�سلته �أن‬
‫‪363‬‬
‫يرتكها ترحل لكي تكون ما ترغب وحتاول بناء نف�سها جمددًا ولت�ساعد رحاب التي‬
‫يف حاجة �إليها‪ ،‬عنادها معه ورف�ضها لأن تبقى رغم احتياجه جعله يهدر بها يف‬
‫إياك �أن تعودي»‪.‬‬
‫نهاية املكاملة وهو يقول‪�«:‬إذا ارحلي زمرد وال تعودي � ِ‬
‫�س�أتخيل �ألف �ألف مرة �إىل �أي درجة ت�ستطيع �أنت �أن تق�سو‪ ،‬و�إىل �أي درجة‬
‫ت�ستطيع �أنت �أن ترفق لأعرف �إىل �أي درجة ت�ستطيع �أنت �أن حتب ويف �أعماق نف�سي‬
‫يل ما عجز دونه الآخرون‬‫يت�صاعد ال�شكر لك بحو ًرا لأنك �أوحيت �إ ّ‬
‫�أتعلم ذلك‪� ،‬أنت الذي ال تعلم؟‬
‫�أتعلم ذلك‪� ،‬أنت الذي ال �أريد �أن تعلم؟‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫مي زيادة لـ الرافعي‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫دلفت لل�صالة لي�صل لأ�سماعها �صوت �شجار بالداخل لتبت�سم وهي تعي �أنه �شجار‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫�آخر �أحمق بني رحاب و�سليم‪ ،‬حتى بعد مرور �سبعة �أ�شهر على �سفرهما وكل تلك‬

‫توزيع‬
‫امل�سافات بينهما �إال �أنهما ما زاال يت�شاجران لتنه�ض من �أمام حا�سوبها دون �إغالق‬
‫املكاملة لت�أتي زمرد وته ّدئ من الو�ضع بينهم فتعود رحاب لتتح ّدث معه ك�أنهما مل‬
‫يت�شاجرا منذ دقائق ر�أت احلا�سوب بالفعل مفتوحا ورحاب باملطبخ ويبدو �أنها تفرغ‬
‫غ�ضبها على الأطباق بالداخل‪ ،‬جل�ست زمرد على الكر�سي �أمام احلا�سوب بعد �أن‬
‫ارتدت حجابها لتقول بهدوء‪«:‬ح�س ًنا ماذا حدث هذه املرة؟!»‬

‫تعال نخون الغياب ونلتقي‬


‫حممود دروي�ش‬
‫ارتع�ش ج�سدها وانتف�ض قلبها مكانه ليدوي �صوته يف �أذنها وهي تراه �أمامها‪ ،‬مل‬
‫تتحرك من مكانها وهي ت�شبع عينيها بالنظر �إليه‪ ،‬كم مر منذ �أن ر�أته �آخر مرة �أو‬
‫حتدثت معه؟! �سبعة �أ�شهر! ابتلعت ريقها وهي تراه ينظر �إليها بحزن وهو يت�أملها هو‬
‫زادتك امل�سافات جماال يا ابنة العم» ارتع�ش‬
‫الآخر ليقطع ال�صمت وهو يقول‪«:‬لقد ِ‬
‫ج�سدها ل�سماع �صوته بينما مل ت�ستطع �أن تبعد عينيها عنه وهي تهم�س‪«:‬يامن»‬

‫‪364‬‬
‫انتف�ض قلبه �شو ًقا لها ليقول بهدوء‪«:‬مرح ًبا» �أجابته بهدوء مماثل وهي حتاول‬
‫حالك؟!» �أجابته‪«:‬ب�أف�ضل‬‫ِ‬ ‫ال�سيطرة على م�شاعرها‪«:‬مرح ًبا» �س�ألها‪«:‬كيف‬
‫ؤيتك» مل ت�ستطع‬‫حال ال�شكر هلل و�أنت كيف حالك؟!» �أجابها‪«:‬بخري الآن بعد ر� ِ‬
‫التفوه ب�شيء وهي ت�شعر ب�شخ�ص خمتلف �أمامها‪� ،‬سمعته يقول‪�«:‬سمعت من رحاب‬
‫�أنك ُتد ّر�سني يف مدر�سة لريا�ض الأطفال» حانت منها ابت�سامة وهي تقول‪«:‬نعم‪،‬‬
‫�أجد نف�سي يف هذا العمل مع الأطفال‪� ،‬إنهم طاقة ال تن�ضب �أبدً ا» �أجابها‬
‫مبتابعتك مع الطبيبة» حتدثت بعد‬‫ِ‬ ‫بابت�سامة‪«:‬جيد‪� ،‬سعيد من � ِ‬
‫أجلك كما �سعيد‬
‫لك»‬‫حلظات بهدوء‪ُ «:‬مبارك لك ترقيتك» �أجابها‪�«:‬شك ًرا ِ‬
‫�ساد ال�صمت لدقائق �شعرت بها �ساعات وهي جال�سة �أمامه ت�شعر باالرتباك رغم‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫كل تلك امل�سافات التي بينهم ليقطع �أخ ًريا ال�صمت‪«:‬زمرد �أنا مل �أ�ستطع القدوم‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يف املطار» مل ت�ستطع قول �شيء �سوى‪�«:‬أعلم» ليكمل‪�«:‬أعلم �أنني كنت قا�س ًيا يف‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫مكاملتنا الأخري ولكن �أق�سم لك ب�أنني مل �أكن لأحتمل ابتعادك عني جمددًا ولو جئت‬

‫والتوزي‬
‫منعتك بالقوة» ابتلعت ريقها لتقول بهدوء �أمل قلبه‪�«:‬أعلم»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫للمطار لكنت‬

‫أحببتك‪،‬‬
‫ع‬
‫�ساد ال�صمت جمددًا وهي ت�شعر بقرب انهيارها لتقول بارتباك‪�«:‬أنا يجب �أن»‪.‬‬
‫أحبك ولطاملا � ِ‬‫قليل‪�«:‬أنا � ِ‬ ‫�سرعا وهو يقول ب�صوت مرتفع ً‬ ‫قاطعها ُم ً‬
‫أحببتك و�أنا طفل يف العا�شرة من عمري و�شاب يف الع�شرين منه ا�شتاق ملحبوبته‬ ‫� ِ‬
‫الغائبة عن عينيه ورجل يف الثالثني عرث عليها �أخ ًريا ولنهاية العمر الذي يكتبه اهلل‬
‫أحبك» �شهقت بخفوت وهي تهم�س با�سم‪«:‬يامن» ليكمل دون �أن‬ ‫دوما � ِ‬
‫يل �س�أظل ً‬
‫متنعه‪«:‬زواجنا �سيكون مع رحاب و�سليم‪ ،‬واتفقت معه على �أن يكون بعد عودتكما يف‬
‫الزيارة الأوىل على الفور» ال ت�ص ّدق ما يتف ّوه به لتهم�س جمددًا با�سمه‪«:‬يامن»‪.‬‬
‫ليكمل وك�أنه كان يف انتظار �أن يتفوه ب�أول كلمة لت�أتي الكلمات وراء بع�ضها‪�«:‬أنا‬
‫قراءتك‬
‫ِ‬ ‫عليك ف�أنا �أ�ستطيع‬
‫ال �أوافق على فرتة اخلطوبة ف�أنا ال �أحتاجها لأتع ّرف ِ‬
‫كخطوط كفي لذا �سنتزوج على الفور»‪.‬‬
‫هتفت به‪«:‬يامن توقف» ليهتف هو الآخر‪«:‬ال لن �أتوقف وال � ِ‬
‫أوافقك على �أي‬
‫اعرتا�ض»‪.‬‬
‫‪365‬‬
‫�ساد ال�صمت بينهما بينما يعلو �صدرها ويهبط من ال�صدمة لرتاه يتنف�س‬
‫ب�صعوبة وهو يقرب احلا�سوب منه ليقول بهم�س‪�«:‬أنا � ِ‬
‫أحبك وال �أطيق �ص ًربا على‬
‫عفوك‪ ،‬قويل‬
‫إليك و�أطلب ِ‬ ‫لتو�س ِلك املوافقة �س�أفعل‪� ،‬س�أتو�سل � ِ‬
‫ؤيتك و�إن ا�ضطررت ّ‬ ‫ر� ِ‬
‫إليك كفانا بعادا‪� ،‬أنا‬
‫أنك موافقة‪� ،‬أو حتى ال تقويل‪ ،‬لقد اتفقنا وانتهى الأمر �أتو�سل � ِ‬‫� ِ‬
‫جراحك‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تركتك ترحلني دون �أن �أطيب‬
‫ِ‬ ‫�أموت �شو ًقا �إليك‪ ،‬و�ألعن نف�سي كل يوم لأنني‬
‫إليك دعينا نق�ضي ما تبقى من عمرنا م ًعا‪ ،‬دعينا‬ ‫منك املغفرة‪� ،‬أتو�سل � ِ‬
‫دون �أن �أطلب ِ‬
‫نفعل»‪.‬‬
‫كادت �أن جتيبه لتقاطعها رحاب ب�صراخها ليتدخل �سليم هو الآخر ي�صرخ‬

‫ع‬
‫بوجهها ملقاطعتها االعرتاف الذي كانت �ستبوح به زمرد فتنظر للأخرية بندم‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫معتذرة لي�ضحكا على موقفها و�سليم يعنفها وهي حمل وديع �أمامه‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫�شاركت رحاب زمرد ال�ضحك بعد �أن �أغلقت احلا�سوب والأخرية تقول‪�«:‬أتوق‬

‫توزيع‬
‫لر�ؤيتكما م ًعا يف بيت واحد‪ ،‬يا اهلل لن مير يوم دون �إ�شعال املنزل» �ضمت رحاب‬
‫رحيلك وهو‬
‫ِ‬ ‫ل�صدرها وهي تقول‪«:‬ف ًكري � ِ‬
‫أرجوك‪� ،‬إنه يتع ّذب زمرد‪ ،‬من بعد‬
‫يتع ّذب»‪.‬‬
‫جل�ست تلك الليلة تفكر يف ما �أخربته به رحاب عن عذابه الذي كان طوال فرتة‬
‫غيابها وا�ستمر بعد �سفرها‬
‫تذكرت ما كتبه لها‬
‫«لقد كان فرا ًقا ل�سنني يا ف�ؤادي‪ ،‬ما �أوجعنا فيه �أنه مل يكن ُم ً‬
‫ططا له‪ ،‬مل نفكر‬
‫إيالما �أنه‬
‫فيه للحظة‪� ،‬أتظنني �أن الأمر ُم�ؤمل‪ ،‬بل الأمر فاق حدو َد الأ ِمل‪ ،‬ولكن الأكرث � ً‬
‫يوما كما كانت‪ ،‬منذ اللحظة‬
‫منذ اللحظة التي ِافرتقنا فيها و�أنا �أعلم �أن حياتنا لن تكن ً‬
‫اخلوف‪� ،‬أت�ساءل كيف‬
‫ِ‬ ‫الندم‪ ،‬ب�سياط‬ ‫أخذوك فيها مني و�أنا �أجلد نف�سي ب�سياط ِ‬ ‫التي � ِ‬
‫ت�شعر الآن؟ ومن يهتم بها؟ هل ت�شعر بالأمان؟ هل ت�شتاق؟ ولكن كل تلك الأ�سئلة‬
‫مل ٌت�ؤمل قلبي‪� ،‬س�ؤال واحد فقط جعلني كل تلك ال�سنوات �ألهث خلف ِ‬
‫دليل ُيو�صلني‬
‫�إليك‪ ،‬هل تظن �أنني تركتها؟! هل تعتقد �أنني ما عدتُ �أبحث عنها؟! ما عدت �أريدها!‬
‫‪366‬‬
‫كنت خائ ًفا ب�شدة من �أن ت�س�أيل هذا ال�س�ؤال وتكوين على يقني بالإجابة اخلاطئة‪،‬‬
‫إيجادك �سواي‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنك ال تريدين لأحد �‬
‫ف�أنا �أدرك � ِ‬
‫كنت تناديني‬
‫أنك ِ‬‫وجدتك فيها و�أول ما �أخربوين به �أ�صدقا� ِؤك � ِ‬
‫ِ‬ ‫حتى اللحظة التي‬
‫أجدك فيه‪.‬‬
‫أحالمك با�سمي‪ ،‬حتلمني باليوم الذي � ِ‬ ‫ِ‬ ‫كل ليلة‪ُ ،‬ك ِ‬
‫نت تهم�سني يف �‬
‫هل تظنني �أن هذا �أراحني؟! ال لقد زاد من �آالمي كن�صل ُم�سمم ِانغرز يف قلبي‬
‫أجدك لقد ت�أخرتُ وكم‬‫ومل ُيخرجه �أحد‪� ،‬آملني ب�شدة �أنني �أخذت كل تلك ال�سنوات ل ِ‬
‫�أنا نادم لت�أخري‪ ،‬لأنني الآن �أدرك �أن ما كان بيننا لن يكون �شفي ًعا لت�أخري ال�شديد‬
‫عليك‪ ،‬هناك �شيء ُفقد بيننا كانت �سببه كل تلك ال�سنوات‪ ،‬رمبا هي مل ُت ّغي ما كان‬ ‫ِ‬
‫غيتنا‪ ،‬جزء بداخلي ّ‬

‫ع‬
‫إيجادك وانا �أعلم‬
‫ِ‬ ‫لفقدانك ولعجزي على �‬
‫ِ‬ ‫حتطم‬ ‫بيننا ولكنها ّ‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫بداخلك ال ت�ستطيعني �إنكاره �أنني مل �أكن موجودًا‬
‫ِ‬ ‫أنك تنتظريني‪ ،‬وجزء حتطم‬ ‫� ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫احتجت �إ َّ‬

‫ل‬
‫يل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وقتما‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫والتوزي‬
‫حطام ُقلوبنا ورمبا ال ي�ستطيع ولكن خويف من عدم‬ ‫َ‬ ‫رمبا ي�ستطيع الوقت جرب‬

‫ع‬
‫خ�سارتك جمددًا‪ ،‬قلبي على ا�ستعداد‬
‫ِ‬ ‫ا�ستطاعة الوقت يهزين ب�شدة فقلبي ال يريد‬
‫أنت هنا بجواري‪ ،‬لن ي�ستطيع �أن يطلب ال�سماح‬ ‫تام ب�أن يدفع ثمن �أخطائه ولكن و� ِ‬
‫منك و�أنت بعيدة عنه»‬‫ِ‬
‫خرجت من �أفكارها على ر�سالة بهاتفها ففتحتها‪«:‬وافقي يا ف�ؤادي»‪� ،‬أر�سلت‬
‫له ر�سالة‪«:‬ما ق�صتك مع الف�ؤاد؟!» انتظرت حلظات حني ر�أت �أن ر�سالتها قد قر�أه‬
‫لتجده يكتب‪«:‬من لطائف اللغة العربية �أنه ال ُيقال عن القلب (ف�ؤاد) �إال �إذا كان‬
‫احلب ُم�ستق ًرا فيه»‪ ،‬ارتع�ش ج�سدها ومل تق َو على قول �شيء لتجد ر�سالة �أخرى‬
‫�صمتك موافقة يا ف�ؤادي؟!»‬
‫ِ‬ ‫منه‪�«:‬إذا هل �أعترب‬
‫‪M‬‬
‫بعد يومني‬
‫كانت ترك�ض على ال�شاطئ ب�سرعة حتى و�صلت ملكان اللقاء لت�سمع �صوت طبيبتها‬
‫مواعيدك»‬
‫ِ‬ ‫دوما حتافظني على‬ ‫تتحدث باللغة الإجنليزية‪«:‬يف الوقت املنا�سب‪ً ،‬‬
‫‪367‬‬
‫حاولت تنظيم �أنفا�سها وهي تخرج زجاجة مياه من حقيبتها لت�شرب القليل منها‬
‫معك»‪ ،‬ابت�سمت لها‬ ‫وهي تقول‪«:‬ال �أ�ستطيع الت�أخري و�أنا �أعلم �أن وقتي حمدود ِ‬
‫لك ُغفران»‪ ،‬ابت�سمت ُغفران‬ ‫الطبيبة وهي تقول‪ِ �«:‬‬
‫أنت تعلمني �أن وقتي ُمتاح دائما ِ‬
‫لها بامتنان وهي تقول‪«:‬اذا هل نبد�أ؟!» �أجابتها الطبيبة وهي تع ّدل من حقيبتها‬
‫يف ا�ستعداد منها مل�شاركتها الرك�ض‪َ «:‬مل ال؟ �أخربيني �أوال ما �سر تلك الب�سمة على‬
‫وجهك �أهي ر�سالة جديدة من ذلك الـ �آ�سر؟!»‬
‫ِ‬
‫معك عنه»‬‫ات�سعت ابت�سامة ُغفران وهي تقول‪«:‬اليوم �أ�ستطيع احلديث ِ‬
‫وغفران ت�سرد لها �أحداث يومها ولأول مرة �ستُح ّدثها عن �آ�سر‪،‬‬‫بد�أتا يف الرك�ض ُ‬

‫ع‬
‫الطبيبة جاكلني‪ ،‬طبيبة نف�سية قابلتها زمرد بعد رحيلها لكندا ب�شهرين‪ ،‬قررت بعد‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫و�صولها لكندا وا�ستالمها العمل الذي �ساعدها يف اللواء ح�سني يف احد امل�ست�شفيات‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫اخلا�صة �أن ُت�شفى مما هي فيه‪ ،‬لذا بد�أت يف رحلة العالج ووجدت الكثري من التطور‬

‫شر وال‬
‫يف حياتها ويف التعامل مع الغرباء من حولها‪ ،‬رمبا مل تقم ب�أي �صداقات هنا ولكنها‬

‫توزيع‬
‫ازدادت قر ًبا من زمرد و�أختها رحاب‪ ،‬ت�ضحك معهما على طرائف �سليم مع رحاب‬
‫وت�ستمع باهتمام لأ�سرار زمرد و�شوقها الكبري ليامن‪ ،‬لكنها حتى الآن مل ت�ستطع‬
‫البوح مل�شاعرها مع �أحد �سوى الطبيبة جاكلني التي تف ّهمت كل ما حدث بحياتها‬
‫يف م�صر ومل ترف�ض م�ساعدتها‪ ،‬بل على العك�س ازدادت الروابط بينهما ف�أ�صبحتا‬
‫ك�صديقتني ُمقربتني‪.‬‬
‫بد�أت حديثها عنه وهي ت�سرد لها ما ح�صل قبل �سبعة �أ�شهر يوم �سفرها حني‬
‫بدل من الرجل الذي �أخربها اللواء ب�إر�ساله‬ ‫تفاج�أت بانتظارها �أ�سفل �سكنها ً‬
‫لإي�صالها‪ ،‬تذكرت �صدمتها بر�ؤيته هاد ًئا على غري عادته يداري بابت�سامته احلنونة‬
‫حزنه كان كما و�صفته �أمرية لها يف �آخر مكاملة بينهما‪� ،‬أخربها ب�أنه جاء ليودعها‬
‫يوما ور�أته‬
‫لتظن وقتها �أنه فقد الأمل بها لت�سمعه يخربها مبا مل ت�صدق وجوده ً‬
‫ب�صدق يف ملعان عينيه‪ ،‬مل ت�ستطع التفوه بكلمة وهي تنهل من كلماته التي �أودع فيها‬
‫�صدق م�شاعره بينما يقود �سيارته للمطار يف هدوء‪.‬‬
‫«لفد ف ّكرت يف حديثنا الأخري م ًعا‪ ،‬ف ّكرت يف كل كلمة قل ِتها‪ ،‬وتو�صلت لعدة‬
‫�شخ�صا �آخر غريي‪،‬‬
‫ً‬ ‫معك‪ُ ،‬غفران �أنا ال �أمانع �أن حتبي‬
‫حقائق �أريد م�شاركتها ِ‬
‫‪368‬‬
‫م�شاعرك جتاهه‬
‫ِ‬ ‫ي�ؤملني قلبي لذلك نعم‪ ،‬و�أ�شعر باملرارة داخل حلقي و�أنا �أتذ ّكر‬
‫م�شاعرك‬
‫ِ‬ ‫نعم‪ ،‬رمبا هو ما عاد بيننا وهذا جعلني �أفكر يف �أول حقيقة‪� ،‬أنا ال �أمانع‬
‫أحبك حتى ولو مل حتبيني ثم جئت‬ ‫حبك‪� ،‬أنا ما زلت � ِ‬
‫جتاهه لأنها ال متنعني من ِ‬
‫أجعلك حتبيني‪ ،‬ذلك احلب الذي ميلأ‬ ‫للحقيقة الثانية وهي �أنني با�ستطاعتي �أن � ِ‬
‫ويجعلك يف النهاية معي‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫قلبك‬
‫منحك ما تريدينه منه طاملا �سينع�ش ِ‬ ‫ِ‬ ‫قلبي �أ�ستطيع‬
‫رحيلك‬
‫ِ‬ ‫وحدك ح�س ًنا �أنا لن �أمانع‬ ‫ِ‬ ‫جراحك‬
‫ِ‬ ‫تريدين الرحيل عني ُمبتعدة حتى تلعقي‬
‫م�شاعرك جتاهي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بك تهربني مني ومن‬ ‫بوجهك �إن �شعرت ِ‬
‫ِ‬ ‫ولكنني �س�أقف دائما‬
‫وهذا يو�صلني للحقيقة التالية‪� ،‬أنا ال �أريد �أي امر�أة �أخرى بهوية �أفتخر بها �أو تكون‬
‫� ًأما لأوالدي �أو �أي كان الهذر الذي �أخرب ِتني به‪� ،‬أنا ال �أهتم ب�أي �أوالد �إن مل تكوين‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أنت‬
‫أريدك � ِ‬
‫أنت والدتهم وهذا يو�صلني حلقيقة �أنني ال �أريد �أي امر�أة �أخرى‪� ،‬أنا � ِ‬ ‫� ِ‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أحزانك بكل ما �أخرب ِتني به‪ ،‬حتى لو ا�ستمر بي احلال‬ ‫ِ‬ ‫أ�شباحك ب�‬
‫ِ‬ ‫بعقدك‪ ،‬ب�‬
‫ِ‬ ‫فقط‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫معك‬ ‫إليك ال يهم‪ ،‬يكفيني �أنني ِ‬ ‫أتعبك بقلبي وروحي وعقلي العمر كله دون �أن �أ�صل � ِ‬‫� ِ‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫حتى لو مل تكوين معي»‬
‫�ضحكت بخفوت وهي ت�سرد على طبيبتها حالتها وقتها واخلر�س الذي �أ�صاب‬
‫ل�سانها‪� ،‬أخربتها على اتفاقه معها �أو بالأدق �أوامره لأنها مل جتبه ب�شيء وهو ي�أخذ‬
‫منها هاتفها لي�سجل رقمه وبريده الإلكرتوين ويفعل املثل معها‪ ،‬ثم �أخربها بو�ضوح‬
‫�أنه �سري�سل لها ر�سالة كل يوم‪� ،‬سيبوح لها بكل ما يحمله �سي�سرد لها ذكريات طفولته‬
‫لتعي�ش معه املا�ضي واحلا�ضر � ً‬
‫آمل يف �أن ت�شاركه امل�ستقبل‪.‬‬
‫�س�ألتها الطبيبة وقتها عن رد فعلها ف�أخربتها �أنها تركت ال�سيارة مبجرد‬
‫و�صولهما للمطار بدون التفوه بكلمة لتنهار دواخلها كلها بعد �سماعها حلديث زمرد‬
‫مع يامن على الهاتف وهو يتو�سل عودتها وهي تخربه برغبتها يف ال�شفاء من �أجله‬
‫فقط‪ ،‬انهارت بعد �أن �سمعت من زمرد النقي�ض مما هي تفعله زمرد هربت لأنها‬
‫�شخ�صا �أف�ضل من �أجل نف�سها �أوال ثم لتكون جديرة باحل�صول على‬
‫ً‬ ‫تريد �أن تكون‬
‫قلب يامن‪� ،‬إمنا هي هربت من كل ما هو جميل حتى ال حت�صل فقط عليه‪ ،‬هي فقط‬
‫جبانة خائفة‪.‬‬
‫‪369‬‬
‫�س�ألتها الطبيبة بابت�سامة عما فعلته لتخربها بانهيارها وهي تت�صل به على‬
‫الرقم الذي �سجله على هاتفها وتخربه بكل و�ضوح �أن الأمر لن يكون ً‬
‫�سهل عليها‬
‫و�أنها �ستنتظر ر�سائلها كل يوم‪� ،‬أخربته �أنها �ست�شتاق وتو�سلته �أن ينتظرها و�أال‬
‫دوما» ليختم‬
‫ين�سى‪ ،‬تذكرت اللهفة يف حديثه وهو يخربها بكلمته امل�شهورة لها‪ً «:‬‬
‫أحبك ُغفران»‪.‬‬
‫حديثه معها بـ»� ِ‬
‫‪M‬‬
‫م�سا ًء يف بيتها‬
‫فتحت عينيها ترمق ال�سقف بوجوم وهي تتذكرها انهيارها الثاين اليوم وجاكلني‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أنت ُتبني �آ�سر‬‫تعريها �أمام نف�سها لتو�صل لها احلقيقة التي لطاملا خافت منها‪ِ �«:‬‬

‫ب‬ ‫الكت‬
‫بك‬
‫يحبك �أو بالأدق يهيم ِ‬ ‫�شكلتك �أن �آ�سر ِ‬
‫م�شكلتك‪ُ ،‬م ِ‬ ‫ُغفران‪ ،‬ولكن هذه لي�ست‬

‫ل‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬
‫شر وال‬
‫قدما‬
‫أردت �أن مت�ضي ً‬ ‫أنت خائفة من م�شاعره والتطور الذي يحدث بها‪� ،‬إن � ِ‬ ‫ع�ش ًقا‪ِ � ،‬‬

‫توزيع‬
‫عليك �أن تتق ّبلي‬
‫عليك �أن تقبلي م�شاعر �آ�سر وتعي�شينها‪ِ ،‬‬ ‫حياتك يا ُغفران ِ‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫بروحك‪ ،‬يرغب‬
‫ِ‬ ‫بج�سدك كرغبة ج�سدية لكن‬
‫ِ‬ ‫بك‪ ،‬ال‬‫فكرة �أن هناك رجال يرغب ِ‬
‫بك كامر�أة ُتك ّمله»‪.‬‬
‫مب�شاركتك م�شاعره‪ ،‬يرغب ِ‬
‫ِ‬ ‫مب�شاركتك �أيامه‪ ،‬يرغب‬
‫ِ‬
‫بالفعل هذه كانت احلقيقة الأخرية التي خافت منها‪� ،‬آ�سر بالفعل يرغب بها‬
‫كامر�أة ت�شاركه حياته لكنها خائفة بل ُمرتعبة! تنهدت بخفوت وهي متنع دموعها‬
‫من االنهيار ال تريد العودة هي تريد التقدم يف حالتها فيكفي ما عانته خالل �أول‬
‫�شهرين منذ �سفرها‪� ،‬شهرين عانت فيهما من �أ�شباحها‪ ،‬مل يكن يخرجها �شيء‬
‫يوما عن مرا�سلتها‪ ،‬مل يتوقف‬ ‫من ظلماتها �سوى ر�سائل �آ�سر‪� ،‬آ�سر الذي مل يتوقف ً‬
‫يوما عن �إخبارها مبدى ا�شتياقه لها‪ ،‬مبدى حبه لها طوال ال�سبعة �أ�شهر مل يتوقف‬ ‫ً‬
‫ين�س‪.‬‬
‫للحظة‪ ،‬مل ميل‪ ،‬مل يي�أ�س ومل َ‬
‫جتبه ولو بر�سالة واحدة‪ ،‬رغم �أنها كانت يف �أق�سى حلظات حياتها‬ ‫رغم �أنها مل ِ‬
‫مت�سك هاتفها وتكاد تت�صل به فتغلق الهاتف على الفور لترتاجع عن رغبتها‪ ،‬حتى‬
‫تلك املرة التي ات�صلت فيها ومل تغلق اخلط بفرتة كافية فو�صل �إليه ات�صالها لتتفاج�أ‬
‫ويتو�سل �إليها �أن ي�سمع‬
‫بعدها بات�صاالته التي ال تتوقف ور�سائله وهو يطالبها بالرد ّ‬
‫‪370‬‬
‫�صوتها‪ ،‬مل يتوقف بعدها عن االت�صال و�إر�سال الر�سائل وهو يخربها ب�إرهاقه بعد‬
‫يوم طويل من العمل‪ ،‬وهو يخربها بالتطورات يف حياة �أمرية ودخولها كلية الطب‬
‫مع �أمري‪ ،‬حتى يف مر�ضه مل يتوقف عن �إر�سال الر�سائل لها يف منت�صف الليل وهو‬
‫ير�سل �إليها �صوره‪ ،‬مرة وهو مري�ض و�أخري وهو يف العمل و�أخرى وهو حزين م�شتاق‬
‫و�أخرى وهو جمنون‪� ،‬آ�سر هو من ل ّون حياتها الباهتة ال العك�س‪.‬‬
‫ما زالت على خطتها مع اللواء ح�سني ويف �آخر الأ�سبوع �ستبد�أ مب�شاركة زمرد‬
‫ورحاب معها يف اخلطة فهي يف حاجة مل�ساعدة رحاب و�أ�صدقائها يف اجلامعة‪.‬‬
‫لك‬ ‫«هل اجلو بارد ِ‬
‫عندك؟! ارتدي مالب�س ثقيلة فاجلو هنا بارد للغاية‪ ،‬ا�شتقت ِ‬
‫�صوتك حتى؟!»قر�أت الر�سالة مرا ًرا وهي تتنهد للمرة التي‬

‫ع‬
‫ِ‬ ‫ُغفران‪� ،‬ألن ت�سمعيني‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫ال تعلم عددها لتت�ساقط دموعها وهي مت�سك هاتفها وقد �أر�سلت له ر�سالة �صوتيه‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫بان فيها بحة �صوتها‪�«:‬آ�سر �أنا بخري‪ ،‬اجلو هنا بارد قليال لكنه لطيف‪ ،‬لقد و�صلتني‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫أي�ضا ا�شتقت» �أنهت الر�سالة ال�صوتية قبل �أن تكمل جملتها الأخرية‬

‫والتوزي‬
‫ر�سائلك‪� ،‬أنا � ً‬

‫ع‬
‫لتُغلق الهاتف بعدها وهي تكتم �شهقاتها يف و�سادتها هي بالفعل ا�شتاقت �إليه ولكن‬
‫مل توا ِتها ال�شجاعة للبوح بها‪.‬‬
‫وعلى الطرف الآخر و�صلته ر�سالة برنني مميز و�ضعه منذ �أ�شهر ومل ي�سمعه‬
‫على هاتفه �سوى مرة واحدة فنه�ض من على كر�سيه ب�سرعة ليلتقط هاتفه ثم‬
‫�أ�سرع بت�شغيل الر�سالة ال�صوتية بعد �أن رفع م�ستوى ال�صوت لي�سمع بحة �صوتها‬
‫التي ا�شتاق �إليها‪ ،‬ت�أوه ب�أمل وهو يجل�س على �سريره يجذب الهاتف لأذنه وهو يعيد‬
‫لك و�أعلم الآن‬ ‫يف ر�سالتها لي�ضحك وهو يقول بحب �أيتها اجلبانة‪� ،‬أنا � ً‬
‫أي�ضا ا�شتقت ِ‬
‫أنك ت�شتاقني �إ ّ‬
‫يل‪.‬‬ ‫� ِ‬

‫‪MM M‬‬

‫‪371‬‬
‫كلما عمق احلزن حفرة يف كينونتك‪ ،‬ازدادت قدرتك على‬
‫احتواء فرح �أكرث‬

‫جربان خليل جربان‬


‫الف�صل الع�رشون‬
‫العودة‬

‫يف نهاية الأ�سبوع‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�شقة زمرد ورحاب‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫�ساد ال�صمت يف ال�شقة للحظات لتقول رحاب بعد فرتة‪«:‬ح�س ًنا �أنا ِ‬
‫معك‪� ،‬أ�ستطيع‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫توفري كل ما تريدينه‪ ،‬البث املبا�شر‪ ،‬الت�سجيل‪� ،‬أي �شيء‪ ،‬ولدي من الأ�صدقاء من‬

‫توزيع‬
‫ي�ساعدين بذلك»‪ ،‬تن ّهدت ًغفران بخفوت وهي تقول‪«:‬ح�س ًنا والآن الن�صف الآخر‬
‫من املهمة �سيكون ليامن»‪.‬‬
‫حت ّدث يامن على اجلهة الأخرى من االت�صال بينما ين�صت اجلميع �إليه‪ِ «:‬‬
‫خطتك‬
‫تنق�صها الكثري‪ ،‬اليوم حت ّدث معي اللواء ح�سني و�أخربين بخطتكما فاقرتحت عليه‬
‫بع�ض الأفكار» �أجابته ُغفران‪«:‬ح�س ًنا ما هي؟!»‬
‫�أجابها يامن‪«:‬نحتاج حلجة قوية تبعدكما عن ذلك الأمر‪� ،‬إن عرف الطرف‬
‫الآخر ب�صلتكما بالو�ضع لن يتوانى عن �إر�سال رجاله لت�صفيتكما‪�«:‬شهقت رحاب‬
‫حماول طم�أنتهما‪«:‬لكن �إن و�صل له �أن ال عالقة‬
‫ً‬ ‫لتنظر لزمرد ب�صدمة ليكمل يامن‬
‫لكما مبا يحدث �سيبد�أ باالن�شغال ملعرفة من وراء كل تلك الأ�سرار وكم من الأ�سرار‬
‫يعرف» �س�ألته ُغفران‪«:‬اذا ما هو اقرتاحك؟!»‬
‫�أجابها يامن وهو يبت�سم‪«:‬حفل زفاف» رم�شت ُغفران بعينيها وهي ترى‬
‫ابت�سامته وهيئته الغريبة عليها لتقول‪«:‬حفل زفاف من؟!» ليجيبها برباءة‪«:‬حفل‬
‫زفايف على زمرد مع عقد قران رحاب و�سليم»‬

‫‪374‬‬
‫�ساد ال�صمت على الطرفني ليهتف �سليم بعدها وهو ي�ضرب بكفه كتف‬
‫يامن‪«:‬هذه هي االقرتاحات‪� ،‬سلم فاهك يا ابن العم»‪.‬‬
‫ارتفع حاجب ُغفران بده�شة وهي تنظر لزمرد ال�شاحبة ورحاب امل�صدومة لتقول‬
‫كا�سرة فرحة �سليم ويامن‪«:‬وكيف �سيتم الزفاف بدون العرو�س؟!» لي�صمت �سليم‬
‫وهو يعي املوقف لتزداد ابت�سامة يامن وهو يرفع حاجبه ليواجه �أخ ًريا ال�ساحرة‬
‫ال�شريرة وهو يقول‪«:‬لقد ح�صلنا على �إذن لرحاب بالعودة بعد �أ�سبوعني لق�ضاء‬
‫�أ�سبوع �إجازة بعد تو�صية كبرية من الوزارة حتى تعقد قرانها ثم ت�سافر جمددًا‬
‫وبالطبع لن تعود رحاب مبفردها بل ومع زمرد»‪� ،‬ساد ال�صمت جمددًا ليه ّلل �سليم‬
‫ريا بعد �أ�سبوعني»‬ ‫قائل‪«:‬لهذا ُخلقت التو�صيات‪� ،‬س�أتزوج �أخ ً‬
‫وهو ينه�ض من مكانه ً‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬


‫أيك يا ف�ؤادي؟!» لرتتبك مكانها‬ ‫قائل‪«:‬ما ر� ِ‬
‫�ضحك يامن وهو ينظر لزمردته ً‬

‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وهي تقول ل ُغفران ُمدعية عدم �سماعها نداء يامن‪«:‬هل ب� ِ‬

‫ل‬
‫إمكانك �أخذ �إجازة تلك‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬


‫الفرتة؟!» هزت ُغفران ر�أ�سها وهي تقول بابت�سامة جديدة عليها‪«:‬بالطبع يا‬

‫ع‬ ‫‪ M‬والتوزي‬
‫ف�ؤاده»‪.‬‬

‫بعد يومني م�سا ًء‬


‫يف منزل زمرد ورحاب‬
‫قالت ٌغفران‪«:‬ح�س ًنا لن�سرتجع اخلطة» حتدث يامن‪ُ «:‬غفران �ستعود مل�صر‬
‫قبلنا ب�أيام ووقتها �ستقابل �أ�صدقاء رحاب»‪ ،‬قاطعه �سليم‪«:‬زمالء زمالء»‪،‬‬
‫قاطعته رحاب‪«:‬ح�س ًنا �سليم هذا لي�س وقتك الآن دعنا نكمل» ليكمل يامن �ضاح ًكا‬
‫على غ�ضب �سليم‪�«:‬سوف يبد�أون بتجهيز الفيديوهات التي �ستعطيها ُغفران لهم‬
‫بعد �أن يعاينوا �أماكن البث كما اتفقنا‪ ،‬من املهم جدا �أن يبد�أ البث من �أكرث من‬
‫مكان ُمتلف‪� ،‬إن كانوا ميلكون ال�سرعة الكافية �سيكون لنا الأ�سبقية بربع �ساعة‬
‫فا�صلة‪� ،‬س�أتوىل �أمر �إح�ضار الأرقام لنا‪ ،‬نحتاج �أن نر�سله جلميع من يف احلفل مبا‬
‫فيهم نحن حتى ال ي�شكوا ب�أمرنا و�س�أقوم بدعوة كل من نريد و�صول الفيديو �إليه ويف‬
‫نف�س الوقت ي�شاهده ال�شعب امل�صري ب�أكمله والعامل �أجمع‪ ،‬بعد بث الفيديو �سنرتك‬
‫‪375‬‬
‫ن�سخة من على ح�ساب جديد على الإنرتنت �سيتم �إن�شا�ؤه يف نف�س حلظة البث يف‬
‫�أبعد مكان عن الفندق الذي �سيقام به احلفل‪ ،‬زمالاااء رحاب �س»‬
‫«�شك ًرا يامن» قاطعه �سليم ليقاطعه‪«:‬اخر�س �سليم‪ «:‬ويكمل‪«:‬زمالء‬
‫قليل بت�شوي�ش الإ�شارة عن مكانهم وزرع فري�س م�ؤقت‬ ‫رحاب �سي�ؤخرون ال�شرطة ً‬
‫يف احلا�سوب الأ�سا�سي اخلا�ص بهم‪ ،‬ما �سيجعل مكان البث غري وا�ضح لهم مبا‬
‫فيه الكفاية �أي �سيكونون يف حميط مكان البث دون معرفتهم للمكان‪ ،‬وهذا مينح‬
‫الأف�ضلية لهم بالهروب قبل و�صول ال�شرطة‪ ،‬بعد البث �سيتم التح ّفظ علينا حتى‬
‫يجدوا البطل بالفيديو حلمايتنا من �أي �أذى رمبا ُمطط لنا‪ ،‬وقتها �ستكون هناك‬
‫القوة الكافية بانتظاره قبل هروبه من البلد وفور القب�ض عليه �سيتم الإفراج عنا‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫اتفقنا»‪ ،‬ليتحدثوا جمي ًعا‪«:‬ح�س ًنا اتفقنا»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫‪M‬‬
‫الكت‬
‫توزيع‬ ‫شر وال‬
‫القاهرة‬
‫ُيق�سم �أنه ر�آها‪ ،‬ح�س ًنا هو مل ي�صل بعد ملرحلة اجلنون لكنه مت�أكد �أنه ر�آها‪،‬‬
‫وقف مكانه خارج امل�شفى وهو ينظر حوله يف كل اجتاه حتى ملحها وهي تدلف ل�شارع‬
‫بجوار امل�شفى‪ ،‬رك�ض ب�أ�سرع ما ميكن حتى و�صل لل�شارع فلمحها تتوقف يف مكانها‬
‫�سرعا ليجذب ذراعها جال ًبا �شهقة لفمها ليتجمد كالهما‬
‫وتخرج هاتفها‪ ،‬اقرتب ُم ً‬
‫�أمام بع�ضهما‪.‬‬
‫ال ت�ستطيع و�صف م�شاعرها يف هذه اللحظة‪ ،‬هي غبية لقدومها ملكان عمله‬
‫ولكنها مل ت�ستطع‪ ،‬لقد جاءت م�صر منذ �أربعة �أيام والأمور التي �شغلتها منعتها‬
‫�صباحا ا�ستيقظت على ا�شتياقها‬
‫ً‬ ‫من �أن تفكر به وب�أنها على مقربة منه لكن اليوم‬
‫له فقررت القدوم ملكان عمله لع ّلها تراه من بعيد وبالفعل فعلت ثم قررت بعدها‬
‫الرحيل قبل �أن يكت�شف وجودها‪ ،‬ولكن يبدو �أنها ف�شلت‪ ،‬خرجت من �أفكارها على‬
‫أنت بالفعل هنا �أنا ال �أتوهم»‪ ،‬وقبل �أن تقول �شي ًئا‬ ‫هم�سته غري املُ�ص ّدقة‪ِ �«:‬‬
‫أنت هنا! � ِ‬
‫وجدته يجذبها بقوة لأح�ضانه لتتجمد مكانها ويزداد �شحوب وجهها لتبعد نف�سها‬
‫بقوة عنه حتى تركها وهو ال ي�ستوعب حتى الآن �أنها هنا وال فعلته لي�س�ألها‪«:‬متى‬
‫‪376‬‬
‫بعودتك؟!» ارتبكت مكانها وهي ت�ست�شعر مدى غبائها‬ ‫ِ‬ ‫عدت؟! و َمل مل تخربيني‬
‫ِ‬
‫لتجيبه ب�صوت خافت‪«:‬لقد عدت منذ �أربعة �أيام والأمر مل يكن ُم ً‬
‫ططا له‪ ،‬لقد‬
‫ح�صل فج�أة»‪ ،‬نظر لها غري ُم�صدق حديثها‪ِ �«:‬‬
‫أنت هنا منذ �أربعة �أيام ومل حتاويل‬
‫عدت من ال�سفر»‬
‫�سيادتك ِ‬
‫ِ‬ ‫حتى االت�صال بي و�إخباري �أن‬
‫تغ�ضنت مالحمها وهي تلمح ال�سخرية املُبطنة بالغ�ضب يف نربته لتقول مربرة‬
‫ططا له»‪� ،‬صمت للحظات وهو ينظر �إليها‬ ‫له‪«:‬لقد �أخربتك �أن الأمر مل يكن ُم ً‬
‫أنت فا�شلة يف‬ ‫حماول جتاهل �أمله ليقول‪«:‬بلى لقد كان الأمر ُم ً‬
‫ططا له � ِ‬ ‫ً‬ ‫بتم ّعن‬
‫الكذب‪ ،‬ح�س ًنا تعايل معي لأغري ثيابي وجنل�س لنتح ّدث»‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫هم�ست بارتباك‪�«:‬أنا ال �أريد‪ ،‬لدي �أمر طارئ يجب �أن �أقوم به»‪� ،‬أجابها من‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بني �أ�سنانه بغ�ضب‪«:‬حتركي معي ُغفران وال تدعيني �أقوم بفعل نندم كالنا عليه»‪،‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أطاعته بخفوت وهي تراه يقب�ض على كفها جاذ ًبا �إياها خلفه وهو يتحدث بكالم‬

‫والتوزي‬
‫غري مفهوم ويبدو ك�أنها �شتائم خا�صة لها‪.‬‬

‫ع‬
‫�ساد ال�صمت للحظات وهما جال�سان يف ذلك املطعم لينظر �آ�سر �إليها ب�شرود‬
‫بعد �أن �سردت له �أ�سباب قدومها وخطتها قبل �أن يقول ب�سخرية‪«:‬مل يكن الأمر‬
‫ططا له �ألي�س كذلك؟!»‬
‫ُم ً‬
‫�أ�سبلت �أهدابها وهي حتارب م�شاعرها ومتنع نف�سها من النظر �إليه والت�أمل‬
‫يف مالحمه احلبيبة لتلعن �شوقها الذي جرفها �إليه لي�ضعها يف ذلك املوقف همت‬
‫باحلديث‪�«:‬آ�سر ا�ستمع �إيل» ليقاطعها وهو يقول‪�«:‬صديقة العرو�سة لن تكن حجة‬
‫لك»‬ ‫كنت � ً‬
‫أي�ضا العرو�س �ستكون حجة قوية ِ‬ ‫لك‪ ،‬هل تعلمني ذلك؟! لكن �إن ِ‬
‫كافية ِ‬
‫نظرت له غري ُم�ستوعبة حديثه ليكمل بابت�سامة ن�صر‪�«:‬إذا فليكن عقد قراننا‬
‫مننحك حجة قوية» هتفت به بقوة‪«:‬ماذا؟! ما الذي‬ ‫ِ‬ ‫مع زمرد ويامن � ً‬
‫أي�ضا فهكذا‬
‫تهذي به؟! �أنا لن �أوافق على هذا‪ ،‬لن �أوافق �أبدً ا �أبدً ا»‬

‫‪M‬‬
‫‪377‬‬
‫بعد �أ�سبوع‬
‫فندق كبري مبنت�صف القاهرة‬
‫ملحا �سيدة تنزل الدرج ُم�سرعة وهي تقول لهما‪«:‬العرو�س ترف�ض اخلروج من‬
‫الغرفة»‬
‫نظرا لها ب�صدمة لي�صعدا الدرج ُم�سرعني لأعلى‪ ،‬جت ّمد يامن مكانه وهو يرى‬
‫زمردته تطرق على الباب وتتحدث بهم�س ملن بالداخل فتن ّهد بارتياح وهو يعي �أن‬
‫العرو�س التي تق�صدها املر�أة هي ُغفران بالطبع‪ ،‬خا�صة لأن زمرد واقفة �أمامه‬
‫ترتدي ثوب زفافها‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫«�سبحان اخلالق» هم�س بها وهي تلتفت له حني �سمعت �صوت �أمرية وهي‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ُت ّدث �آ�سر لتتج ّمد هي الأخرى مكانها وهي ترى نظراته وهم�سته و�صلت لها‬

‫شر وال‬ ‫ن‬


‫وا�ضحة‪.‬‬

‫توزيع‬
‫«�أمرية ماذا يحدث؟!»‬
‫اقرتبت �أمرية التي ترتدي ثوب �سهرة رقيقا باللون ال�سماوي وهي تهتف‬
‫بغيظ‪«:‬املجنونة ال تريد اخلروج‪� ،‬صرخت يف امل�ساعدات وطردتهن من الغرفة‬
‫ملجرد �أن �إحداهن قالت لها �أنها تبدو خالبة وحتما عري�سها لن يكتفي بعقد القران‪،‬‬
‫يا �إلهي �إنها جمنونة �آ�سر‪ ،‬ال تريد حتى اال�ستماع يل»‬
‫ابت�سم �آ�سر بحنان لأخته وهو يرى �ضيقها الوا�ضح على مالحمها ليق ّبل جبينها‬
‫وهو يقول‪«:‬ال تقلقي �س�أح ّدثها‪� ،‬ساعدي زمرد لأنه يبدو �أن يامن ال ينوي تركها يف‬
‫احلال و�أنا �س�أتك ّفل بال�شعلة �آه عزيزتي تبدين جميلة للغاية»‬
‫ابت�سمت �أمرية له بخجل فابت�سم على احمرار وجنتيها الذي يجعلها تبدو �أكرث‬
‫جمال وهو يحمد اهلل يف �سره على عودتها لتمار�س حياتها الطبيعية رغم تلك‬ ‫ً‬
‫الليايل التي ت�شوبها ذكريات كريهة جتعل �أمري ال يتحرك من غرفتها �أبدً ا حتى‬
‫يعيدها جمددًا لهم‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫توجه لباب الغرفة وطرقه بهدوء لي�سمع �صراخها بالداخل‪«:‬ابتعدوا �أنا ال �أريد‬
‫�أن �أرى �أحدا‪ ،‬لن �أتزوج انتهى الأمر»‪ُ «:‬غفران �إنه �أنا �آ�سر»‪ ،‬حتدث بهدوء وهو‬
‫دوما ولكن هذه املرة يف ثوب �سهرة خا�ص‬ ‫اول تخ ّيلها خالبة كما هي ً‬ ‫يبت�سم ُم ً‬
‫لعقد قرانها التي ا�شرتته والدته نظرا للظروف وخلططهم حتى الآن ال ُي�ص ّدق �أنه‬
‫خدعها بالكالم حتى توافق ُم�ستعي ًنا مب�ساعدة اللواء وزمرد يف �إقناعها‪� ،‬أخرجه‬
‫من �أفكاره �صوت حت ّرك طاولة لي�صل لأ�سماعه بعدها ا�صطدامها بالباب لريتفع‬
‫حاجباه بده�شة وهو يكت�شف �أنها و�ضعت الطاولة خلف الباب حتى ال يدلف �أحد‬
‫للداخل فازدادت ابت�سامته وهو ينتظر �صراخها الذي مل يت�أخر وهي تقول‪«:‬ابتعد‬
‫�آ�سر‪� ،‬س�أقتلك �إن حاولت الدخول‪� ،‬إياك �أن تدخل» ناداها با�سمها وهو يقرتب‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫من الباب لي�ضع �أذنه حماوال الإن�صات ملا يحدث بالداخل لي�سود ال�صمت جمددًا‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫يتبعه �صوتها وقد بدا غري ًبا حزي ًنا خائ ًفا له مما جعله ي�شعر بالقلق عليها وهي‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫تقول‪�«:‬أرجوك �آ�سر ال تدخل ال جتعلنا نعقد القران اليوم‪ ،‬لن�ؤجله ً‬

‫ر‬
‫قليل �أنا ل�ست‬

‫والتوزي‬
‫م�ستعدة ال ميكن �أن‪� ..‬أنا لن �أ�ستطيع �أن‪ ..‬اللعنة»‬

‫ع‬
‫�صراخها ب�آخر كلمة الذي �أتبعه �ضربة على الطاولة بقب�ضتها لي�شعر بغ�ضبها‬
‫الوا�ضح ليجيبها بعد حلظات بهدوء‪«:‬ح�س ًنا ُغفران‪ِ ،‬‬
‫لك ما تريدينه ولكن لتزيلي‬
‫قليل»‬
‫الطاولة �أوال من خلف الباب فيجب �أن نتح ّدث ً‬
‫�صرخت بال ليتنهد �آ�سر وهو يحاول ا�ستدعاء كامل �صربه حتى ي�ستطيع الدخول‬
‫قليل عن طريقها فنظر‬ ‫لها ولكل حادث حديثه‪ ،‬ملح �أمرية ت�أتي من خلفه لتبعده ً‬
‫لها با�ستغراب لتت�سع عيناه وهو يراها ترفع طرف ثوبها وجتل�س على الأر�ض ويف‬
‫يديها �سلك رفيع حتاول فتح الباب به ليقول بعدم ت�صديق‪«:‬ما الذي؟!» ليتوقف‬
‫�س�ؤاله يف حلقه وهو يراها تفتح الباب ب�سهولة لتنه�ض وهي ُتع ّدل من ثوبها لتقول‬
‫له بغ�ضب مكتوم‪«:‬هل �ست�ستطيع �أن تتك ّفل بالأمر الآن �أم �أدخل �أنا لها لأك�سر لها‬
‫ر�أ�سها حتى ت�ستطيع اخلروج والنزول للأ�سفل ال�ستكمال هذا الزفاف ال�سخيف؟!»‬
‫م�صدوما من انفعالها وما فعلته مع الباب ليقول بهدوء بعد �أن ا�ستعاد‬
‫ً‬ ‫نظر �آ�سر لها‬
‫عقله‪�«:‬س�أدخل لها يكفيني �شعلة واحدة يف املكان‪� ،‬إن تواجدت �شعلتان يف نف�س‬
‫‪379‬‬
‫قليل ليهم�س بجانب �أذنها وهو‬ ‫املكان �سيتم حرقه على �أكمل وجه» ابتعد �آ�سر ً‬
‫إمكانك فتح الأبواب املُغلقة ب�سلك رفيع و�إال �س�أقتلكما‬ ‫يقول‪ِ �«:‬‬
‫إياك و�إخبار �آدم �أن ب� ِ‬
‫معا»‬

‫تغي مالحمها لالرتباك بعد الغ�ضب‬ ‫ابتعد عنها وهو يحاول كتم �ضحكته على ّ‬
‫حماول �إبعاد الطاولة عن الباب ليدلف للغرفة ويغلق الباب‬‫ً‬ ‫ليزيح الباب بقوة‬
‫خلفه ليقف م�صدوما من هيئة الغرفة والفو�ضى التي تعم املكان والزجاج املك�سور‬
‫بجانب �أدوات التجميل التي حتما تخ�ص امل�ساعدات الالتي طردتهن ال�شعلة‪،‬‬
‫ليبحث بعينيها عنها وهو يرى خلو الغرفة منها‪� ،‬شعر بالقلق للحظات قبل �أن يقف‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫الكت‬
‫مكانه وهو ُيد ّقق النظر لطرف ف�ستان �أخ�ضر بجوار ال�سرير ليقرتب بهدوء ليقف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫م�شدوها مكانه وهو يرى كومة من قما�ش �أخ�ضر ال يظهر منه �سوى �شعرها ليدرك‬

‫توزيع‬ ‫شر وال‬


‫�إحاطة ذراعها ب�ساقيها ودفن ر�أ�سها فيها وخ�صالت �شعرها الثائرة تغطي ر�أ�سها‬
‫ب�أكمله لتنتهي عند خ�صرها وهو يراه لأول مرة غري معقود‪ ،‬هم�سة خرجت منها‬
‫�أخرجته من �أفكاره ليبتلع ريقه وهو يقرتب بهدوء لي�سمع نف�س الهم�س ولكن ب�صوت‬
‫�أو�ضح‪«:‬ال تقرتب �أرجوك»‪.‬‬
‫ابت�سم لها بحنان وهو يقرتب بهدوء ليجل�س على الأر�ض بجوارها وهو يرتك‬
‫م�سافة بينهما بعد �أن ملح ارتعا�ش ج�سدها ب�أكمله‪ .‬ناداها لت�شدد من احت�ضان �ساقها‬
‫ودفن وجهها وهي تقول ب�صوت مكتوم‪«:‬ارحل �أرجوك‪� ،‬أنا لن �أ�ستطيع» �س�ألها‬
‫بهدوء‪«:‬لن ت�ستطيعي ماذا؟!» �صمتت لتقول ب�صوت ُمرجتف‪«:‬لن ا�ستطيع �أن �أرى‬
‫تلك النظرات يف عينيك» �س�ألها با�ستغراب‪�«:‬أي نظرات؟!» طال �صمتها هذه املرة‬
‫لتقول ب�صوت هام�س‪«:‬نظرات الرغبة التي قالت عنها تلك ال�سيدة بعد �أن �أخربتني‬
‫ب�أنني �أبدو فاتنة يف هذا الثوب و�أنك لن تكتفي بعقد قران فقط و�ستحوله لزفاف‪،‬‬
‫و�أنا لن �أحتمل �أن �أرى يف عينيك نظرات رغبة �شبيهة لنظرات �شبيهة جلاكلني‬
‫�أخربتني �أنه �آخر اختبار يل لأكون بخري لكنني ل�ست م�ستعدة خلو�ضه الآن»‬

‫‪380‬‬
‫ارتع�ش ج�سدها ليت�أوه ب�أمل داخله وهو يفهم مق�صدها‪ ،‬يفهم خوفها‪ ،‬يفهم‬
‫عدم ثقتها الكاملة مب�شاعره‪ ،‬يفهم جيدا وغري غا�ضب منها لت�شبيهها له بذلك‬
‫احلقري‪ ،‬وحده يفهمها‪ ،‬يفهم �أنها عا�شت لت�سعة وع�شرين عاما يف جحيم‪ ،‬عا�شت‬
‫وحيدة‪ ،‬يتيمة رغم وجود الأم‪ ،‬يفهم �أنها مل ُت ّرب يوما �أيا من امل�شاعر اجليدة‬
‫�سوى م�شاعر احلماية والدفاع عن �أخواتها‪ ،‬يفهم جيدً ا �أنها فقط جمرد فتاة مل‬
‫يوما امل�شاعر النبيلة كاحلب ومل ت�ؤمن بها من قبل‪ ،‬جمرد طفلة ت�شتاق لكل‬
‫جترب ً‬
‫ما هو جميل ولكنها خائفة من احل�صول عليه لقلة خربتها عن كيفية التعامل معه‪.‬‬
‫ابتلع ريقه ب�صعوبة وهو ي�شعر مب�شاعر جيا�شة لها‪ ،‬م�شاعر احتواء‪ ،‬م�شاعر‬

‫ع‬
‫حب �صاف‪ ،‬م�شاعر بالفطرة داخله جتاهها ك�أنها ابنته قبل �أن تكون حبيبته‪ ،‬تنهد‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫طويل قبل �أن يتحدث بهدوء‪ُ «:‬غفران انظري يل»‪ ،‬هزت ر�أ�سها بالنفي ليكرر طلبه‬
‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬ ‫ت‬ ‫ك‬


‫وهو يقول لها‪«:‬كوين �شجاعة وانظري لعيني لتت�أكدي من النظرات التي �أنظر بها‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫والتوزي‬
‫إليك»‪.‬‬
‫� ِ‬

‫ع‬
‫ارتع�ش ج�سدها و�شعر بالأمل وهو يراها جتاهد لرتفع ر�أ�سها ببطء لتُديرها له‬
‫ثم حلظات وهو يتابعها بهدوء ويلمح ارتعا�ش �شفتيها لتلتقي �أخ ًريا عيناه بعينيها‪،‬‬
‫رق قلبه ملر�أى دموعها‪ ،‬رق قلبه وهو يرى بو�ضوح تلك الطفلة اليتيمة التي وجدت‬
‫نف�سها يف يوم وليلة بثوب �سهرة من �أجل عقد قرانها‪ ،‬رق قلبه لها وهو يراها تنظر‬
‫له بانبهار بينما كانت هي يف عامل �آخر من امل�شاعر‪ ،‬بعد كل اخلوف الذي ملأ‬
‫قلبها‪ ،‬بنظرة واحدة فقط منه �شعرت بالأمان جمددًا وهي تراه ينظر لها بتلك‬
‫امل�شاعر التي ت�ؤ�سر قلبها‪ ،‬م�شاعر �صادقة تخلو من ال�شهوة‪ ،‬م�شاعر تدل على حب‬
‫�صادق نقي ولده�شتها �أن هذا احلب كله لها‪ ،‬ات�سعت عيناها وهي تراه يجل�س على‬
‫مقربة منها ويرتدي بدلته الر�سمية‪� ،‬شعرت باالنبهار وهي ترى ذلك املزيج من‬
‫احلنان والأمان واحلب مع مزيج من القوة والو�سامة واملالمح الب�شو�شة‪.‬‬
‫ات�سعت ابت�سامته وهو يرى تدقيقها يف مالحمه ليقول بهم�س‪«:‬هل �أبدو جذا ًبا‬
‫لتلك الدرجة؟!» رم�شت بعينيها �أكرث من مرة وهي حتاول ا�ستيعاب جملته بينما‬
‫حتاول ال�سيطرة على م�شاعرها لت�شيح ب�أنظارها عنه وهي تنه�ض بقوة من مكانها‬
‫‪381‬‬
‫لتقف بعيدً ا عنه ليزداد تنف�سه وتلمع عيناه بانبهار تام ملر�آها �أمامه بهذا اجلمال‬
‫اخلالب وقد �أح�سنت والدته اختيار الثوب املنا�سب ل�شعلته‪.‬‬

‫القمر �أجمل يف ح�ضرتها‪ ،‬الكون كله ي�صغى لإيقاع �أنفا�سها و�أنا مفتون بها‬
‫جدا‬
‫�أمين العتوم‬
‫ارتع�شت مكانها وهي تفرك يديها بقوة بعد �أن ملحت مكوثه على الأر�ض بدون‬
‫حراك بينما ينظر �إليها بانبهار لتلمحه ينه�ض ببطء وهو يحاول �أن يحافظ على‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ع‬
‫أنك تبدين خالبة اليوم يا‬
‫أخربك � ِ‬
‫عنك و� ِ‬ ‫انتظام �أنفا�سه ليقول‪�«:‬س�أكون كرميا ِ‬

‫الكت‬
‫�شعلة‪ ،‬رغم لون الثوب الهادئ �إال �أنه مل يطفئ الوهج الذي يحيط ب�شعلتي»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫احتقن وجهها بالغ�ضب وكادت �أن جتيبه لتلمحه يقرتب منها وهدوء غريب يرت�سم‬

‫توزيع‬
‫على مالحمه وهو يقول‪�«:‬شعلتي اخلالبة اجلميلة ال�شجاعة القوية‪ ،‬والأهم احلنونة‬
‫التي لن تت�أخر حلظة عن حماية من حتبهم والوقوف بجانب من يحتاجها منهم»‪،‬‬
‫وقف �أمامها وهو ينقل بنظراته على هيئتها ليبت�سم بحنان وهو يكمل‪«:‬مالكة قلبي‬
‫من �ستكون زوجتي التي �س�أكتفي بعقد قراين عليها حتى ترغب هي يف �إمتام زواجنا‬
‫التي �س�أحميها من نف�سي التي �س�أدافع عنها لآخر نف�س بعمري»‪.‬‬
‫ت�ساقطت دموعها جمددًا وهي تنظر للأر�ض بحرج ليبت�سم لها بحب وهو ميد‬
‫يديه ليلم�س ذقنها فريفع وجهها جمددًا لي�سمعها تقول بحزن‪�«:‬آ�سفة مل �أق�صد �أن‬
‫مق�صدك ُغفران‪ ،‬و�أعلم‬
‫ِ‬ ‫�أ�ش ّبهك ب‪ »...‬قاطع حديثها بابت�سامة وهو يقول‪�«:‬أعي‬
‫وروحك‪ ،‬منذ متى ُك ّنا نربر لبع�ض ما بداخلنا؟!»‬
‫ِ‬ ‫وعقلك‬
‫ِ‬ ‫بقلبك‬
‫كل ما يجول ِ‬
‫ابت�سامة �صغرية ز ّينت ثغرها ليبت�سم لها بحب وهو يقول‪«:‬والآن على العرو�س‬
‫�أن ت�ستعد من �أجل �إمتام عقد القران فال�شعب ب�أكمله يف انتظارنا بالأ�سفل» ازدادت‬
‫ابت�سامتها لي�ضحك وهو ي�سمعها تقول‪«:‬نعم يف انتظار العرو�س احلمقاء التي‬
‫�أغلقت الباب على نف�سها وطردت كل من بالغرفة» ليقول لها‪«:‬بل يف انتظار �شعلتي‬
‫التي �ستكمل ما بد�أناه م ًعا» نظرت له وقد �أدركت مغزى كالمه لتعتذر جمددًا وهي‬
‫‪382‬‬
‫تنظر حولها للفو�ضى التي باملكان لتعقد حاجبيها ب�ضيق وهي تقول‪�«:‬أنا لن �أ�ضع‬
‫تلك الألوان احلمقاء»‬
‫قائل‪«:‬ح�س ًنا‬
‫نظر ملا ت�شاور عليه ليعي مق�صدها عن �أدوات التجميل لي�ضحك ً‬
‫دعينا نحل هذه امل�شكلة»‬
‫نقل �أنظاره للأدوات التي ت�شغل الطاولة �أو بالأدق ما تبقى منها ليقرتب منها‬
‫بعد �أن ملح طوق من الورود لي�أخذه هو فر�شاة ال�شعر ثم عاد جمددًا ل ُغفران التي‬
‫نظرت له با�ستغراب ليقول بابت�سامة‪«:‬لتذهب �أدوات التجميل للجحيم‪ ،‬دعيني‬
‫�أعتني ب�شعرك فقط» ا�ستدار خلفها ليبد�أ برتتيب �شعرها لتقول بخجل‪«:‬ال داعي‬

‫ع‬
‫لذلك �س�أفعل �أنا» ليجيبها بابت�سامة حنونة‪«:‬توقفي عن احلركة»‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬‫ص‬


‫�سكنت مكانها وهي ت�شعر مبلم�س يده لر�أ�سها بحنان بينما تابعته يف املر�أة �أمامها‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫وهي تراه ي�سرتعي انتباهه الكامل �أثناء ترتيب �شعرها فدمعت عيناها لفعلته وهي‬

‫والتوزي‬
‫ت�شعر به ك�أب لها بالفعل‪ ،‬ملحته وهو ي�ضع طوق الورد �أعلى ر�أ�سها لتنبهر بهيئتها‬

‫ع‬
‫اجلديدة وكم بدت خمتلفة بطريقة جميلة و�شعرها جمموع على كتف واحدة والورود‬
‫تزينه‪.‬‬
‫«الآن العرو�س جاهزة» التقت عيناهما بعد �أن قال جملته لينظر لها بكل حب‬
‫جعلها تبت�سم له باطمئنان‪.‬‬
‫اغرق بعينيها �إن �سنحت لك الفر�صة‪ ،‬ماذا ك�سب الناجون؟!‬
‫«�سبحان اخلالق»‬
‫جت ّمدت مكانها بعد �سماع هم�سه لرتم�ش بعينيها للحظات وهي تراه �أمامها‬
‫ُمرتديا بدلته الأنيقة وهو حليق الذقن فبدا �أكرث جاذبية بينما ينظر لها بانبهار‪،‬‬
‫نظرت للأ�سفل بحرج وهي ت�شيح بعينيها عن نظراته ليهم�س لها‪«:‬خفت ب�أن تكوين‬
‫عودتك ولكن وحدها‬
‫ِ‬ ‫رف�ضك ر�ؤيتي منذ‬
‫ِ‬ ‫العرو�سة الراف�ضة للزواج خا�صة بعد‬
‫ال�ساحرة ال�شريرة من تثري امل�شاكل»‪ ،‬ابت�سمت وهي ت�سمع منه كالمه عن ُغفران‬
‫أنت؟!»‪،‬‬
‫لتجيبه بهدوء‪�«:‬إنها فقط خائفة» �س�ألها وهو يرى ابت�سامتها ال�صغرية‪«:‬و� ِ‬
‫‪383‬‬
‫�ساد ال�صمت للحظات لتجيبه‪«:‬كيف �أخاف و�أنت هنا؟!» ت�أوه با�صطناع وهو‬
‫يقرتب منها خطوة ليحيط كفها بني يديه وهو ي�ضحك‪«:‬جتيدين ا�ستخدام الكلمات‬
‫يا �أ�ستاذة» ات�سعت ابت�سامتها وهي تنظر لكفها الذي اختفى بني يديه ليق�شعر‬
‫ج�سدها من مل�سته احلنونة وهم�سه وهو يقول‪ِ �«:‬‬
‫أنت عرو�سي‪ ،‬يا اهلل كم حلمت بهذه‬
‫اللحظة»‪.‬‬
‫ارتع�ش ج�سدها مل�شاعره التي ظهرت يف كلماته لتقول بحرج‪«:‬يامن يجب �أن‬
‫تنزل للأ�سفل فال ي�صح وقوفنا هنا هكذا» حانت منه ابت�سامة وهو يرى ت�ضرج‬
‫وجنتيها ليجيبها‪«:‬ح�س ًنا يا �أ�ستاذة لن �أ�سبب املزيد من الإحراج كما �أن �صغريتك‬

‫ع‬
‫قادمة باجتاهنا الآن»‬

‫الكت‬ ‫ري‬‫ص‬
‫ب‬
‫رفعت عينيها لرتى �أمرية تقرتب منهما بابت�سامة لتعيد �أنظارها له وهي حتاول‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫جذب كفها من بني يديه ولكن بال جدوى لتقول‪«:‬ح�س ًنا والآن هل ب�إمكاين ا�ستعادة‬

‫توزيع‬
‫يدي؟!» ابت�سم لها وهو تائه يف زمرد عينيها ليقول‪«:‬ذات يوم وعدت حبيبة يل‬
‫ب�أنني لن �أترك يديها �أبدا ففي كل مرة �أترك يديها �أخ�سرها للأبد‪ ،‬و�أنا ل�ست‬
‫م�ستعدً ا �أبدً ا خل�سارتك»‪.‬‬
‫ابت�سمت له بحنان وهي تقول‪«:‬مل �أكن لأهرب �أبدا اليوم يامن‪ ،‬ال من �أجل ما‬
‫خططنا له فقط بل مل �أكن لأهرب منك لأنني ال �أريد‪ ،‬و�أنت لن ت�سمح يل �أي�ضا‪،‬‬
‫�أنت �سترتك يدي الآن لدقائق فقط ثم �ستح�صل عليها لتبقي معك للأبد» �س�ألها‬
‫باهتمام‪«:‬للأبد؟» �أجابته بابت�سامة �صافية‪«:‬للأبد يامن»‬
‫مر عقد القران على ما يرام بداية برحاب و�سليم الذي مل يتوقف عن االعرتاف‬
‫لها بحبه بينما هي خجلة غري ُم�ص ّدقة �أنها الآن زوجته ثم زمرد ويامن الذي ق ّبل‬
‫وغفران ال�شاحبة الوجه‬ ‫أحبك ف�ؤادي» ثم يف النهاية �آ�سر ُ‬
‫جبينها بحب وهو يقول‪ِ �«:‬‬
‫التي التزمت مكانها ومل تقم منه بعد �أن ملح �آ�سر جمود مالحمها‪ ،‬تل ّقى التهنئة من‬
‫اللواء ح�سني الذي كان وكيلها ثم اقرتب منها وهو مي�سك كفيها الباردة لريفعهما‬
‫لفمه وهو يكتف بتقبيلهما قائال بهم�س و�صلها‪ُ «:‬مبارك يل يا عرو�سي»‬

‫‪384‬‬
‫مر بع�ض الوقت وهم يتق ًبلون التهنئة من عائلتهم حتى جذب �آ�سر ُغفران‬
‫لل�شرفة خارج ال�صالة‪ ،‬خرجت معه ب�صمت ليقف �أمامها وي�س�ألها بقلق‪«:‬ح�س ًنا‬
‫�أخربيني ما الأمر؟» رفعت ر�أ�سها لت�س�أله ب�شرود‪«:‬ماذا؟!»‬
‫�سجلت توقيعك على الورقة‬
‫ِ‬ ‫حتدث بهدوء وهو مي�سك كفها بحنان‪«:‬منذ �أن‬
‫و�أنت �صامتة‪� ،‬شاحبة» هزت ر�أ�سها وهي حتاول جذب كفها من بني كفيه لكن‬
‫دون جدوى لتجيبه بهدوء‪«:‬لي�س هناك �شيء» �صمت �آ�سر ليق ّربها منه وهو يحيط‬
‫حالتك حني يكون هناك �شيء‬
‫ِ‬ ‫ظهرها بذراعه ليقول بهم�س‪«:‬غفران �أنا �أعي جيدً ا‬
‫�أو ال �شيء‪ ،‬و�أنا على يقني �إن حدث �شيء �أعادك لأحزانك ما هو؟»‬
‫ارتع�شت مكانها وهي جتيبه بعد �صمت دام للحظات‪«:‬حينما وقعت ا�سمي‬
‫غفران ممدوح �أدركت �أن وجوده �سيظل مرتبطا بي طوال العمر‪ ،‬لكن ما �آمل قلبي‬
‫لي�س هذا الأمر بقدر معرفتي �أن يف هذه اللحظة هناك �أب يحيا حياته بطبيعية ال‬
‫يعلم �أنه ترك بذرة يف رحم �إحداهن وال يعلم �أن تلك البذرة �ستموت يف �سبيل نظرة‬
‫حب منه‪ ،‬ت�ضحي بحياتها من �أجل نظرة حنان ير�سلها الآباء لأطفالهم‪ ،‬ترى �إن كان‬
‫يعرفني هل كان ليتق ّبلني عك�س ال�سيدة �سمرية‪ ،‬هل كان ليحبني �آ�سر؟!» انتف�ض‬
‫قلبه وهو يرى الدموع بعينيها ليق ّربها �أكرث منه حتى �أ�سند جبينه بجبينها ليقول‬
‫بحب‪«:‬ال �أعلم ُغفران‪ ،‬لكن ما �أنا ُمتي ّقن منه �أنني �إن كان لدي ابنة ُت�شبهك وحتمل‬
‫وم�شاعرك لكان �شرف وفخر يل ب�أن �أكون �أباك ف�أكرمني اهلل ب�شرف �أن‬‫ِ‬ ‫حنانك‬
‫ِ‬
‫�أكون زوجك يا زوجتي امل�صون‪«:‬دمعت عينيها وهي ترفع ر�أ�سها لتنظر �إليه لت�س�أله‬
‫كطفلة �صغرية تت�أكد من حب من حولها‪«:‬ح ًقا!»‬
‫ابت�سم لها بحب وهو يقول ح ًقا ح ًقا»‬
‫ابتلعت ريقها وهي تتنهد لتكمل ب�شرود‪«:‬هل تعلم �شي ًئا رمبا ال يعرفه �أحد وال‬
‫�أعلم َمل �أخربك ولكني �أ�شعر باحلاجة للبوح به‪ ،‬ذلك اليوم عندما �س�ألتني ال�سيدة‬
‫�سمرية هل �س�أموت يا ُغفران‪ ،‬ت�أمل قلبي للحظات و�أق�سمت بداخلي �إن طلبت مني‬
‫امل�ساعدة ف�س�أتربع بنخاعي وج�سدي كله لها ولكن �شعرت بالغ�ضب عندما ذكرت‬
‫�أمر الأ�شخا�ص الذين يختطفونهم من �أجل بيع و�شراء الأع�ضاء وهي تفكر بهم‬
‫كعالج ملر�ضها‪� ،‬آملني �أنها ذكرت هذا الأمر لي�ضيع كل ذرة �أمل تخ�صها بداخلي‪،‬‬
‫ربع �أنا دون‬
‫وعندما �أردت �إعطاءها فر�صة لتتذكر �أنني ابنتها فرمبا تطلب مني �أن �أت ّ‬
‫احلاجة لأحد �أخربتني بق�سوة عن ندمها حلملي يف رحمها لت�سعة �أ�شهر و�أنها كانت‬
‫على خطوة لتجه�ضني لوال ممدوح تخيل! �أنا مدينة له ب�أنني حية الآن مما يزيد من‬
‫كرهي له فلوال خمططه ما كان يل وجود»‬

‫قالت جملتها الأخرية بتهكم ف�أجابها ب�صدق‪«:‬مل �أظن ً‬


‫يوما �أنني �س�أقولها‬
‫بدونك وكما‬
‫ِ‬ ‫ولكنني ُمنت ب�شدة له لأنه منعها من الإجها�ض فال �أتخيل حياة �أمرية‬
‫�أنني ممنت ب�شدة لكل تلك الأحداث ال�سيئة التي متر بنا»‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رفعت ر�أ�سها ونظرت له با�ستغراب ليجاوب ت�سا�ؤلها‪«:‬فلوالها ملا ِ‬

‫ري‬
‫رغبت بالذهاب‬

‫الكت‬
‫حتدثت معي ب�أريحية عما تكتمينه بداخلك» �أجابته‪�«:‬أنت تعرف‬ ‫لتلك الطبيبة وما‬

‫ب‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫شر وال‬
‫�أنني �أبوح لك مبا بداخلي قبل حتى �أن تطلبه مني‪ ،‬حتى جاكلني ال تعرف ذلك»‪.‬‬

‫توزيع‬
‫بعد ن�صف �ساعة‬
‫تبادلوا التهنئة من ال�ضيوف بينما حركة ُم�ضطربة عند طرف القاعة جذبت‬
‫انتباههم لتلمح غفران �إقبال مدير الأمن ورئي�س الأمن الوطني ومعاونه باجتاهها‪،‬‬
‫التفت �آ�سر ملا تنظر �إليه لي�صل لأ�سماعه هم�ستها‪«:‬ها نحن نبد�أ»‬
‫«�سيدة غفران يجب �أن ت�أتي معنا الآن‪ ،‬فهناك �أمر مهم نحتاج للحديث به‬
‫معك»‬
‫كادت �أن جتيبه حني و�صل لأ�سماعهم هم�سات احل�ضور وهم ُم�سكون بهواتفهم‬
‫ال�شخ�صية يتابعون �أم ًرا ما عليه‪ ،‬التفتت با�ستغراب وهي ت�س�أله‪«:‬ماذا هناك؟!»‬
‫قدومك معنا‬
‫ِ‬ ‫حتدث ُمعاون مدير الأمن الوطني وهو يقول‪�«:‬ستعرفني كل �شيء حال‬
‫�أنت وال�سيدة زمرد والآن�سة �أمرية»‬
‫نظرت له بده�شة حني ملحت قدوم زمرد �شاحبة الوجه وبجانبها يامن القلق‬
‫بينما كانت �أمرية بجوار �آ�سر تتابع الأمر ب�صدمة‪ ،‬حتدث يامن بقلق وهو ينقل‬
‫مل طلبتم ح�ضورنا الآن؟!»‬
‫�أنظاره بينهم‪�«:‬سيدي ما الأمر َ‬
‫‪386‬‬
‫�أجابه بهدوء‪«:‬من ف�ضلكم ال املكان وال الوقت ي�ساعدنا فمن الأف�ضل قدومكم‬
‫معنا بهدوء وكالمي بالطبع لغفران وزمرد و�أمرية» حت ّدث �آ�سر وهو يقب�ض على‬
‫كف �أمرية يف يد بينما يده الآخر يف يد غفران‪«:‬كما قلت �سيدي ال املكان وال الزمان‬
‫ي�سمح مبا تريدونه فكما ترون هذا حفل زفاف و�أنتم تطالبون برحيل كال العرو�ستني‬
‫معكما فعلى الأقل نريد تو�ضيحا للأمر» تن ّهد مدير الأمن و�صمت ً‬
‫قليل قبل �أن‬
‫يقول‪�«:‬سيد يامن رمبا من الأف�ضل �أن تنهوا احلفل بهدوء ونحن يف انتظاركم‪،‬‬
‫وهذا مل�صلحتكم ال�شخ�صية �أوال و�سالمتكم»‪.‬‬
‫هز يامن ر�أ�سه باملوافقة وهو يعي �أن هناك �أمرا طارئا بل هو خطر‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫بعد �ساعة‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫بل‬
‫نظرت �أمرية للزجاج الذي يخفي ما خلفه يف غرفة اال�ستجواب التي تركوهن‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫فيها وهي تتنهد مبلل‪«:‬هل �سنبقي هنا كث ًريا؟» نظرت زمرد لغفران ال�شاردة وهي‬

‫والتوزي‬
‫ت�شعر بقلق غريب عليها منذ عقد قرانها �س�ألتها بهدوء‪«:‬غفران هل �أنت بخري؟!»‬

‫ع‬
‫�أجفلها �س�ؤال زمرد فنظرت لها للحظات ك�أنها ال تعي �أين هي �أو ماذا تقوله زمرد‬
‫لها‪ ،‬فرم�شت بعينيها وهي تنظر لها ثم لأمرية التي ا�ستدارت توليها اهتمامها‬
‫وكادت �أن تبوح مبخاوفها حني فتح الباب ودلف رجالن �أحدهما كان ينظر لهن‬
‫ببهجة مل ي�ستطع �إخفاءها ببنما الآخر كان ينظر لهن بارتياح وفخر لتلك التي‬
‫وقفت �أمامه‪ ،‬حتدث النقيب �سامي‪�«:‬أننت �أحرار الآن» بينما اقرتب اللواء ح�سني‬
‫منها وهو يقول‪«:‬لقد فعلناها يا ُغفران‪ ،‬الآن العامل كله يعرف‪ ،‬لقد مت القب�ض على‬
‫الوغد‪ ،‬كان يف طريقه لطائرته اخلا�صة‪ ،‬لكن قواتنا كانت بانتظاره‪ ،‬هو حتى مل يبق‬
‫ليفكر يف من ك�شف �أ�سراره‪� ،‬أننت بخري الآن»‪.‬‬
‫�شعرت ك�أن هناك غمة قد انزاحت من على �صدرها لتتنهد بارتياح وهي‬
‫كامل؟!» فتح النقيب �سامي هاتفه ليعطيها لها‬
‫تقول‪«:‬هل ميكنني ر�ؤية الفيديو ً‬
‫لت�شغل الفيديو‪.‬‬
‫ر�سالة م�صورة ابتدت بكلمات مت كتابتها بو�ضوح لتف�صح عن حقائق مل يعرفها‬
‫�أحد‪ ،‬ملحقة مبلفات مفقودة من �أمن الدولة �أو ظن �أ�صحابها �أنه مت حرقها مع ما‬
‫‪387‬‬
‫احرتقت ك�شفت �أ�سرارا ت�ضم رجال احتل من�صبا عاليا يف القوات امل�سلحة وخدع‬
‫الكثريين بهيئته وتاريخه الذي يبدو �أنه مل يكن �إال غطاء لأعماله الفا�سدة‪ ،‬ملفات‬
‫�أخفاها بنف�سه حوت �أدلة تدينه وتدين من عمل معهم �سواء داخل م�صر �أو خارجها‬
‫مع اليهود بفل�سطني ومع جماعات �إرهابية بليبيا و�أخرى ب�إثيوبيا‪.‬‬
‫منظمة كان هو ع�ضوا مهما بها وطرفا ُمقربا لزعيمها‪ ،‬منظمة من �أعمالها‬
‫جتارة الأع�ضاء بال�سوق ال�سوداء واملخدرات وتهريب ال�سالح و�أخريا ولي�س �آخرا‬
‫جتارة الب�شر خا�صة الن�ساء والأطفال‪ ،‬منظمة ا�ستمرت لأكرث من ثالثني عاما ليمتد‬
‫دوما تقاتل‬
‫فرع جديد لها يف م�صر خا�صة مبدينة العري�ش‪ ،‬قواتنا كانت هناك ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أ�شباحا جمهويل الهوية‪ ،‬يقاتلون عد ًوا ال يعرفون الكثري عنه‪ ،‬خ�سروا العديد من‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫دفاعا عن وطن لطاملا مت ّنوا �أن ي�صري من �أف�ضل الأوطان‪.‬‬
‫�إخوتهم ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫شر وال‬
‫ما ترونه هي خطوط �أو�صلت يف النهاية للق�ضية التي قلبت الر�أي العام مب�صر‬

‫توزيع‬
‫منذ �سنة لتتواىل بعدها ال�صدمات فيما يحدث ببلدنا‪.‬‬
‫لكن مب�ساعدة رجالنا ال�شرفاء ا�ستطاعوا الق�ضاء على تلك الع�صابة نهائ ًيا‬
‫ليتتبعوا الطرف الذي �أو�صلهم لنقطة تكاد توحي بنهاية الأمر ب�أكمله لي�صلهم‬
‫الأدلة الأخرية بهذا الفيديو امل�صور الذي يحتوي على العديد من امللفات املُ�صورة‬
‫�سواء وثائق �أو ت�سجيالت �صوتيه وم�صورة لعمليات بيع و�شراء وجتارة �أع�ضاء‬
‫وعمليات جراحية م�صورة ال�ستخراج �أع�ضاء من �أج�ساد خمتلفة لرجال ون�ساء‬
‫و�أطفال‪ ،‬و�أخ ًريا ت�سجيالت م�صورة لالتفاقات التي دار بني رجل كبري بوزارة‬
‫الداخلية مع �آخر بوزارة اخلارجية وهما يتفقان على تدمري البلد واال�ستفادة من‬
‫وراء من�صبيهما‪.‬‬
‫ت�سجيالت �أثبتت ب�سهولة التهم على املُتهم احلقيقي والرئي�سي بالق�ضية وهو‬
‫اللواء �سامح راغب الذي مت القب�ض عليه منذ �سنة‪ ،‬ليموت قبل حماكمته يف �سجنه‬
‫ُمنتح ًرا قبل معرفة احلقيقة منه ومعرفة الأطراف الأخرى بالق�ضية‪ ،‬ليتم اكت�شاف‬
‫احلقيقة بعد �أ�شهر وقد و�صلتنا الأدلة من م�صدر جمهول �أثبت تورط رجالن ذوا‬

‫‪388‬‬
‫من�صب كبري بالوزارة و�أحدهما كاد �أن يرت�شح ليكون رئي�س وزراء بعد �أ�شهر‪ ،‬لقد‬
‫خططا لكل �شيء باعثني الف�ساد يف جميع �أنحاء وطننا العزيز‪ ،‬والأدلة الأخرية‬
‫�أثبتت توا�صله مع رجل انت�شرت �أخباره م�ؤخ ًرا يف ق�ضية هزت العامل ب�أكمله بعد �أن‬
‫اختطف �أكرث من ع�شر فتيات ب�أقدار ُمتلفة‪ ،‬فمنهم من ا�ستغل �أع�ضاءهن ومنهن‬
‫من ا�ستغل �أج�سادهن ومنهن من كن كنوزا كما قال لعمليات جتارة الب�شر‪ ،‬اليوم‬
‫نك�شف لكم اجلانب املظلم من رجال باعوا وطنهم وخ�سروا ف�أن�صتوا جيدً ا»‬

‫لقد انتهى الأمر ُغفران‪ ،‬نظرت ُغفران حولها وهي تلمح حركة �سري ال�سيارات‬
‫برتابة بينما كل �شخ�ص ي�سري يف طريقه الذي يو�صله لهدفه غري عابئ مبا يدور‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مع غريه‪ ،‬كم تخفي الأج�ساد ما يف الأرواح وما يف القلوب‪ ،‬كل �شخ�ص يعي�ش حياته‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬


‫اخلا�صة جاهال مبا ي�صري يف حياة غريه ومل يره‪.‬‬

‫ر‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫�أجابتها ب�شرود‪«:‬هل انتهى حقا؟! رمبا انتهى معنا زمرد ولكن هل انتهى فعال!‬

‫ع‬ ‫والتوزي‬
‫هل هناك �أخريات مثلنا؟! هل هناك من مل يقع حتت �سيطرة اال�ست�سالم؟! هل‬
‫هناك من واجه خوفه ومل يخ�ضع له فتمرد فنه�ض بقوة ليقاتل فرف�ض الواقع؟! هل‬
‫هناك من اكتفى بالأذية التي نالها يف حياته فقرر �أن يحيا �أخريا؟!‬
‫الأمر خميف �أن تعي ب�أن هناك من يعاين‪ ،‬هناك من مل يكت�شف نقطة قوته‬
‫بعد‪ ،‬هناك من يتمنى املوت! هل �سيح�صلون على حريتهم كما ح�صلنا عليها؟! هل‬
‫�سينقذون �أنف�سهم قبل فوات الأوان قبل �أن يت�ش ّعب الأمل يف �أرواحهم! هل انتهى‬
‫الأمر حقا؟! ال �أظن ذلك زمرد طاملا هناك �أ�شباه ممدوح و�سامح وغريهم فالأمر‬
‫لن ينتهي �أبدً ا‪.‬‬
‫ربتت زمرد على كتفها بحنان وهي تقول بابت�سامة‪ِ �«:‬‬
‫أنت خمطئة عزيزتي طاملا‬
‫هناك �أ�شباه ُغفران ويامن واللواء ح�سني وعمران و�آ�سر وغريهم ممن يقدمون‬
‫امل�ساعدة دون مقابل وي�سعون دائما لطرد ال�شر فالأمر �سينتهي حبيبتي لندعو فقط‬
‫�أال يطيل الوقت قبل انتهائه» التفتا على �صوت خلفهما لتجد غفران اللواء ح�سني‬
‫ينظر لآ�سر بنظرة وهو يقول‪�«:‬أخربها �أنت»‬
‫‪389‬‬
‫حت ّدث �آ�سر بارتياح‪«:‬لقد �أ�صدر رئي�س اجلمهورية قرا ًرا ب�أن يتم التحقيق يف‬
‫ما حدث وقرر �أن تبد�أ حملة يف العري�ش وما يحيطها من بالد بالت ّيقن من ن�سب‬
‫العائالت هناك بالوثائق القانونية‪ ،‬وانت�شرت القوات هناك من �أجل الت�أمني على‬
‫ذلك‪ ،‬لن يبقى هناك منزل جمهول ن�سب من فيه يا ُغفران‪ ،‬لقد فعلت �شي ًئا عظي ًما‪،‬‬
‫غريك»‬
‫فعلتك هذه �أنقذت الكثريين ِ‬ ‫�ساعدت الكثري من الأ�شخا�ص ولرمبا ِ‬
‫ِ‬ ‫لقد‬
‫نظرت ًغفران لزمرد غري ُم�صدقة لتبت�سم لها بحنان وهي تقول‪«:‬هل ترين؟!‬
‫دوما طاملا هناك خري‪ ،‬رحمة اهلل بنا كبرية يا حبيبتي»‬
‫أخربتك هناك �أمل ً‬
‫ِ‬ ‫لقد �‬
‫دمعت عني ًغفران غري ُم�صدقة ما يحدث لتبت�سم بني دموعها وهي تلتفت‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫لت�شكر اللواء ح�سني ب�شدة قبل �أن ي�س ّلم عليها ويرتكها ثم التفتت لآ�سر لتقول له‬

‫الكت‬ ‫ري‬
‫دون ُمقدمات‪�«:‬أظن �أنني م�ستعدة الآن لأبد�أ معك حياة جديدة دون �أي خماوف»‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫توزيع‬
‫�أن�سي احلاج‬ ‫شر وال‬ ‫كما للآخرين �سماء وبيت‪ ،‬يل امر�أة‬

‫انتهت‬

‫‪390‬‬

You might also like