Professional Documents
Culture Documents
عرش أطالنتس
عمار المصري
5
1
شــخص يرتــدي قلنســوة ســوداء ويغطــي رأســه. ٌ وقــف أمــام الغابــة
َفســا عمي ًقــا ثــم ضغــط عــى ســاعة يــده ليتصــل بأحــد
ســحب الغريــب ن ً
ا بلهجــة ذات داللــة: رفاقــه قائ ـ ً
-سوف أدلف اآلن إىل الغابة ،ستُنفذ اخلطة كام اتفقنا.
قال الشخص اآلخر بنربة عميقة هادئة:
أيضا. ِ
الغابة ً -حسنا ،فلتتوخى احلذر .قد يكون أحد الروبوتات يف
رد اآلخر وقد هم يف إغالق املكاملة:
-ال ختــف ،ســأقيض عليــه إن تطلــب األمــر .ســأدخل اآلن وســأغلق
اخلــط كيــا يتت ّبعــوا اإلشــارة.
***
خــرج نــور مــن الــرج األبيــض الــذي يناطــح الســحاب وهــو يتثــاءب
فانطلقــت دفعــة بــاردة مــن اهلــواء فداعبــت وجهــ ُه وأشــعرت ُه ببعــض
الراحــة ،فألقــى نظــرة أمامــه وابتســم وقــال:
6
أخريا...لقد حان وقت احلقيقة.
-احلرية ً
الحــظ نــور أنــه قــد نمــت لــ ُه حليــة ناعمــة وطويلــة بعــض الــيء،
وشــارب كثيــف متصــل هبــا ،وخاجلــه شــعور أن جســده يبــدوا ُمتلف ـ ًا
قليــ ً
ا عــا قبــل ،فقــال وهــو يتفقــد جســده:
عيل وأنا نائم؟
-كم مر من الوقت َّ
الحــظ أن طولــه قــد أزداد وأصبــح صوتـ ُه أكثــر خشــونة ،وشــعره أكثــر
ِ
ـرا ومتنــى لــوطــوالً وقــد أنســدل عــى كتفيــه ،وأحــس أنــه قــد تغــر كثـ ً
ـكان مــا لينظــر هبــا إىل نفســه. أنـه يمتلــك مــرآة يف مـ ٍ
ُ
كبــرة وكان قــرص الشــمس األمحــر ُيلقــي ٍ ٍ
غابــة وجــد نــور نفســه يف
بأشــعته عــى الطريــق ليمتــزج لونــه األمحــر باألعشــاب اخلــراء ف ُيضفــي
ـعورا بالراحــة والســام ،و ُينــذر باقــراب الغــروب. شـ ً
ـة الغريبــة التــي مل يســبق لــه رؤيــة مث ُلهــاـل بحــذر يف الغابـ ِ
ســار نــور متوغـ ٍ
ـارا بجميــع األلــوان واألشــكال العجيبــة التــي مل تقــع قــط؛ فــرأى أزهـ ً
عليهــا عينيــه مــن قبــل؛ أزهــار بــأوراق صفــراء مثلثــة الشــكل ،والبعــض
اآلخــر يأخــذ شــكل خملوقــات صغــرة ُميفــة تُشــب ُه البــر ولكنهــا
صغــرة للغايــة ،وهنــاك األشــجار ذات األوراق الزرقــاء ،وكانــت أوراقها
ُمركبــة وريشــية فرديــة متقابلــة ،ورأي وريقــات متطاولــة ذات قمــة حــادة
ٍ
ـورات أنبوبيــة بنفســجية ،وبيضــاء وزرقاء ـارا يف نـ ٍ
بلــون أزرق فاتــح وأزهـ ً
بلــون أمحــر هبيــج .وجــد بعــض األشــجار ٍ اللــون ،ومتتــاز االغصــان
التــي تبــدوا مألوفــة ،ولكــن الغــر مألــوف غلــب املألــوف ،فتأمــل هــذه
نــذ أن أســتيقظ يف ٍ
دهشــة تامــة .لقــد تغــر الكثــر ُم ُ املناظــر الغريبــة يف
7
أيضــا فتغــرت معــه خصائــص
هــذا املــكان ،ويبــدوا أن املنــاخ قــد تغــر ً
األشــجار وتركيباهتــا ،لتنتــج هــذا النــوع الغريــب مــن األشــجار.
ظــل نــور يتفحــص املــكان وأحيانــ ًا يقطــف ويأخــذ بعــض العينــات
معــه ويفحصهــا عــن قــرب ،ومــن ثــم يتأمــل املناظــر ا ُملبهجــة واخلالبــة
مــن حولــه وكأن ـ ُه يف غابــة ســحرية ،ولكنــه الحــظ أنــه ال وجــود ألي
ـت بــار ٌد
كائــن حــي يف اجلــوار ،فالغابــة ســاكنة بالكامــل ويغطيهــا صمـ ٌ
ـه قابــل جمموعــة غريبــة أخــرى مــن األشــجار ،التــي وخميــف .يف طريقـ ِ
يمتــاز ورقهــا بحمـ ٍ
ـرة فاقعــة اللــون تُبهــر العــن ،وتتميــز أغصاهنــا أهنــا
ا هلــا مــن قبــل ،فهــي كحبلــن تــم ُملتفــة بطريقــة غريبــة مل يــرى مثيــ ً
لفهــم م ًعــا يف عقــدة ،وجذعهــا شــفاف اللــون وكأنــه مــن مــادة الزئبــق.
رمــق نــور اجلــذع الزئبقــي بتعجــب ،وأراد أن يلمســه ولكنــه أحــس أهنــا
ـه ورشع يف التحــرك ليســت فكــرة جيــدة عــى اإلطــاق ،فأشــاح بوجهـ ِ
ُمــد ًدا ،وال زال العــامل اخلارجــي يبهــره مــع كل خطــوة خيطوهــا ،بينــا
أثــار اهلــدوء القاتــل اخلــوف بداخلــه ،فــا حيــوان يتحــرك وال طائــر
ُيغنــي ،وال وجــود لنقيــق الضفــادع وال عزيــف حــرات الليــل ،وال أي
يشء ،كأهنــا أرض بــور وميتــة مــن كل يشء إال مــن النباتــات واألشــجار
الغريبــة.
وبعــد ســاعة مــن الســر والتأمــل يف العجائــب التــي رآهــا ،أصابــه
اإلرهــاق والتعــب وأحــس بنعـ ٍ
ـاس مفاجــئ ،فأكمــل ســره حتــى خــرج
ِ
ســاحة خــراء صغــرة يشــقها مــن املنتصــف جــدول ِ
الغابــة إىل مــن
صغــر مــن املــاء ا ُملتدَ فِــق ،فركــض ناحيتــه ورشع يف الــرب حتــى
8
ارتــوي الظمــأ ،ثــم قــرر أن يصنــع بقــدرة اخليــال خيمــة كبــرة بجانــب
اجلــدول ،فكانــت اخليمــة بحجــم غرفــة صغــرة وبداخلهــا رسيــر مــن
اخلشــب وعليــه مرتبــة مرحيــة وغطــاء ليدفئــه مــن بــرد الليــل ،وصنــع
أيضــا بعــض األشــياء التــي ســيحتاجها للتخييــم ،وبعــد أن أنتهــي ازداد ً
اإلرهــاق واجلــوع فقــرر النــوم وعندمــا يســتيقظ ســوف يبحــث عــن
الطعــام.
ـره وعنقـ ِ
ـه ،بســبب النــوم يف أســتيقظ نــور مــن النــوم وشــعر بــأملٍ يف ظهـ ِ
هــذه الظــروف الغــر مالئمــة رغــم ابتــكاره بعــض األشــياء التــي جنبتــه
الكثــر مــن األرضار ولكــن يبــدوا أن جســده كان ُمتعــب منــذ اســتيقاظه
داخــل الــرج.
أنتفــض مــن مكانــه وحــرك رقبتــه ضاغطــ ًا عليهــا بيــده كــي خيفــف
حــدة األمل.
كانــت الرؤيــة مشوشــة ولكنــه أدرك أن الشــمس مل تُــرق بعــد ،وكان
الليــل ال يــزال ُييــم عــى املــكان ،فســار بتكاســل إىل جــدول املــاء،
وغســل وجهــه حتــى شــعر بانتعــاش يصحبــه شــعور باإلرهــاق .أخــذ
رشــفة مــاء ،ووثــب عــى قدميــه جمــد ًدا ،ثــم توجــه إىل املخيــم الصغــر.
وســهم وبعــض الســكاكني ،وقــرر أن ُيكمــل مســرته. ً قوســا
صنــع ً
ر اجلــدول ولكنــه توقــف عندمــا ســمع صوتًــا يصــدر ســار حتــى َعــ َ
مــن داخــل الغابــة أمامــه ،فتنبــأ أن أحدهــم القــادم ،فركــض عائــدً ا إىل
اجلــزء األول مــن الغابــة ،حتــى أختبــأ وراء أحــد األشــجار ،ثــم جهــز
قوســه ،ووقــف يف وضعيــة االســتعدادُ ،مســتندً ا بظهــره إىل الشــجرة،
9
ا برأســه وجذعــه حتــى يــري طــرف الغابــة ا ُملقابــلُ ،منتظـ ًـرا مــاومائ ـ ً
ســيأيت منهــا ،ومتنــى أال يكــون حيوا ًنــا جائ ًعــا ،يبحــث عــن طعــام .حاول
الســيطرة عــى أعصابــه والتحكــم بخوفــه ووقــف بثبــات يرتقــب الــيء
القــادم مــن أعــاق الغابــة والتوتــر يــري يف جســده ،فقــام بتهدئــة نفســه
ً
مســتحيل اآلن. بــكل الطــرق املمكنــة ولكــن األمــر كان
مــن الغابــة خــرج شــخص يرتــدي قلنســوة ســوداء ،وكان يبــدوا ُمري ًبــا
للغايــة؛ فشــعر نــور بدقــات قلبــه تتزايــد ،ولكنــه قــال لنفســه:
-ال حتكــم عــى الكتــاب مــن عنوانــه ،قــد يكــون ُمســا ًملا وال يعــرف مــا
أيضــا مثــي.
حيــدث هنــا ً
ولكنــه مل يقتنــع بداخلـ ِ
ـه هبــذه الفكــرة إطالق ـ ًا ،فقــد كان شــكل ُه ا ُملريــب
ُيلقــى باخلــوف عــى مــن يــراه .وهكــذا ســار الغريــب باجتــاه اجلــدول
وهــو ينظــر يمينــة ويــرة ،ويمســح املــكان بعينيــه ،حتــى وصــل إىل
اجلــدول فعــره ،فجــذب انتباهــه ا ُملخيــم القريــب منــه ،فتوجــه ناحيتــه،
وألقــى نظــرة رسيعــة عليــه ،ثــم نظــر إىل الشــجرة القابعــة عنــد مدخــل
الغابــة أمامــه ،والتــي خيتبــأ خلفهــا نــور وقــال وقــد أصابــه امللــل:
ندك ،فأنا استشعر وجودك. -أخرج ِمن ِع َ
نزلــت هــذه الكلــات عــى نــور كالصاعقــة ،فبــدأ قلبــه ينبــض برسعــة
وشــعر أن الزمــن قــد توقــف مــن حولــه ،فقــال بينــه وبني نفســه بدهشــة:
-كيف شعر بوجودي أهو مشعوذ ما؟!
قطــع حبــل أفــكاره صــوت امللثــم وهــو يناديــه مــرة أخــرى للخــروج،
10
ا بصـ ٍ
ـوت بــارد كالثلــج: قائ ـ ً
ـرا ال تــزال
-نــور فلتخــرج مــن هنــا ،أتذكــر هالتــك جيــدً ا ...مل تتغــر كثـ ً
تســتخدم اخلــداع للهــروب مــن أي مأزق.
زاد توتــر نــور وتعجــب كيــف يعرفــه هــذا الغريــب ،ولكنــه أحــس أنــه
ـهم
ـق ،فأســتجمع شــجاعته أو مــا تبقــى منهــا ،وســحب سـ ً ليــس بصديـ ٍ
نفســا عميقــ ًا ،وخــرج مــن وراء الشــجرة، وجهــز القــوس ،وأخــذ ً
مصو ًبــا ســهمه عــى الغريــب ،وتــرك الســهم لينطلــق قاط ًعــا اهلــواء،
برسعــة نحــو امللثــم ،الــذي بــدوره مــال بجســده ناحيــة اليســار برشــاقة،
ليتجنــب الســهم ،قائــ ً
ا بنــرة غاضبــة:
-توقف أهيا األمحق ماذا تفعل؟ أنا معك.
ـهم آخــر وأطلقــه نحــوه ويــداه ترتعــدان ،فلــم متكنــاه مــن
صنــع نــور سـ ً
التصويــب بدقــة ،فأنطلــق الســهم بمحــاذاة امللثــم ،الــذي أطلــق رصخــة
أخــرى لنــور يأمــره أن يتوقــف وإال ســيقيض عليــه ،ولكــن عقــل نــور
مل يكــن يعمــل ،كل مــا كان ُيركــه هــو غريــزة البقــاء .وهكــذا صــوب
ســهم ثالثــ ًا ،فأنطلــق امللثــم نحــوه برسعــة قاط ًعــا الطريــق ،وانطلــق
ً
الســهم ناحيــة رأســه ،فأنزلــق أســفله برباعــة وجتنبــه ،فأكمــل الســهم
طريقــة ناحيــة شــخص آخــر يقــف خلــف ا ُمللثــم بعــدة أمتــار ،فأمســك
الغريــب بالســهم املندفــع نحــوه بيــده اليمنــى ،حتــى توقــف رأس الســهم
أمــام عينــه ،فتوقــف امللثــم بــدوره للحظــة وقــال بنــرة يشــوهبا التوتــر:
-اللعنة عليك أهيا املغفل لقد وجدنا! فلنهرب اآلن من هنا.
11
بــدأ نــور يســتوعب تسلســل األحــداث الرسيــع الــذي حــدث لــه اآلن؛
ـخصا ضخـ ًـاورأي خلــف امللثــم ،عنــد مدخــل الغابــة املقابــل هلــم ،شـ ً
ُيمســك بالســهم الــذي أطلقــه نــور ،وقــد كــره بيــده ،وبعدهــا نظــر إىل
نــور وامللثــم ،فشــعر بــدوره بقشــعريرة تــري يف جســده ممــا رآه.
كان عبــارة عــن روبــوت ضخــم اهليئــة ،وجســده ُمغطـ ًا بمعــدن الكــروم
ـوء أزرق ،وبجانبـ ِ
ـه الفــي ،وىف منتصــف وجهــه عــن وحيــد ٌة تشــع بضـ ٍ
ُ ٌ
كلبــن آليــن ،أحدهــا لونــه أمحــر؛ لــه ثالثــة عيــون عــى مســتوى واحــد
ـوء أزرق ،واآلخــر لونــه أزرق ،يمتلــك ثالثــة عيــون بضـ ٍ
ـوء يضيئــان بضـ ٍ
أمحــر .كانــا مربوطــن عنــد الرقبــة بسلســلتني مــن احلديــد ،يقبضهــا
الروبــوت الضخــم.
ـهوبــدون أن يشــعر نــور وجــد امللثــم ،ينطلــق ناحيتــه وجيذبــه مــن ذراعـ ِ
ويدفعـ ُه داخــل الغابــة ،فركــض نــور خلفــه ،وشــعر أن قدميــه ال تقويــان
عــى محلــه ،ولكنــه حتامــل عــى نفســه وهــرول وراءه ،بينــا قــام الضخــم
بإزالــة السالســل عــن الكلبــن ،فرجعــت السالســل ملكاهنــا داخــل
ذراعــه؛ واندفــع الكلبــان برسعــة هائلــة داخــل الغابــة ورائهــا.
ركــض ا ُمللثــم برسعــة هائلــة ونــور يالحقــه ويــكاد يقســم أنــه ال يشــعر
بقدمــه ،ولكــن اخلطــر ا ُملحــدق ورائــه جعلــه يركــض بأقــى مــا عنــده
بتحفيــز مــن األدرينالــن .ســمعا الكلبــان ورائهــا يصــدران أصواتــ ًا ٍ
غريبــة ،وكأهنــا أوامــر إلكرتونيــة بلغــة غريبــة ،ولكــن نــور مل يعــر هلــذا
أي انتبــاه فــكل مــا كان هيمــ ُه اآلن هــو أن هيــرب منهــا .وفجــأة عنــد
أحــد املنعطفــات ،أنعطــف امللثــم يمينــ ًا فتبعــه نــور ،وأكمــا الركــض
12
بــن األشــجار ومهــا يقفــزان ويتجنبــان كل العقبــات يف طريقهــا؛ مــن
ـرز ِمــن خــارج األرض ،وكان نــور يســر عــى خطــى ـور وجـ ٍ
ـذور تـ ُ صخـ ٍ
ا ُمللثــم ،فعندمــا يقفــز يعــرف أن هنــاك عقبــة مــا فيقفــز هــو ً
أيضــا ،فهــو
بالــكاد يــرى شــيئا وســط هــذا الظــام احلالــك ا ُملحيــط هبــا .وهكــذا مل
يتوقــف ولــو للحظــة .كان ال يشــعر بالتعــب رغــم ركضــه ا ُملســتمر كــا
حــدث لــه يف الســباق ،ولكنــ ُه كان يشــعر باخلــوف الــذي كان يأخــذ
النصيــب األكــر مــن قلبــه أو باألخــص اخلــوف مــن املجهــول .قــرر
نــور أن يؤخــر الــكالب اآلليــة خلفــ ُه ،فتوقــف وألتــف ناحيتهــا ثــم
بســط يديــه ناحيــة اليمــن واليســار وقــد أنحنــي بجســده قلي ـاً ،فصنــع
ا مــن التيتانيــوم املتــن ،وكان يف هنايــة كل طــرف منــه ســكني حــادة، حبـ ً
فقذفهــا مــن يــده ناحيــة اليمــن واليســار ليســتقروا يف أحــد األشــجار
فخــا بســيط ًا ُيعرقــل مــن يقــع فيــه ،وبعــد حلظــات ســمع الكلبان
مكونــن ً
يســقطان عــى األرض ويصطدمــان ببعضهــا البعــض ،ولكنهــا ُسعــان
ا ثــم جعــل يديــه مــا وقفــا جمــد ًدا وأكمــا الركــض .فكــر نــور قليــ ً
خلــف ظهــره ورشع يف صنــع صناديــق وبراميــل لتعرقــل تقدمهــم بعــض
الوقــت .ســمع اصطدامهــا بالرباميــل والصناديــق وصــوت حتطمهــا
ا ولكنــه مل يمنعهــا عــن مالحقتهــا .ملعــت فكــرة يف فأخرمهــا هــذا قلي ـ ً
رأســه قــد توقفهــا بعــض الوقــت حتــى هيربــا ،فتوقــف جمــد ًدا ثــم بســط
يديــه إىل األمــام فتكــون جــدار مــن احلديــد وتشــكل وعــا وارتفــع
بشــموخ بينــا اقــرب الكلبــان برسعــة عظيمــة ،فأكمــل نــور اجلــدار ثــم
التــف وأكمــل ركضــه وقــد ســمع صــوت الكلبــان يصطدمــان باجلــدار
احلديــدي وحيــاوالن العبــور منــه .وبعــد دقائــق مــن الركــض وقــد أبتعــد
13
ا وجــد نــور نفســه خــارج الغابــة يف ســاحة خــراء صــوت الكلبــان قليـ ً
واســعة ممتــدة أمامهــم ،وبعــد الســاحة رأي مدينــة هائلــة وكبــرة ُييــم
ـرج الدخــان األســود والنــران مــن فــوق ابنيتهــا قــد
عليهــا الدمــار وخيـ ُ
ـدب وصــوب فــا ينريهــا إال ضــوء دثرهــا الظــام بغطائــه مــن كل حـ ٍ
القمــر الــذي يســقط عليهــا لــروي قصــة دمارهــا وآالمهــا ومــا مــرت بــه
ـرب كبــرة ُمدمــرة .كانــت بالــكاد ســليمة .توقــف نــور للحظــة مــن حـ ٍ
ليســتوعب املوقــف ،ولكــن امللثــم قطــع حبــل أفــكاره وهــو حيثــه عــى
الركــض وقــد التفــت خلفــه وكأنــه يعلــم أن هــذا ســيحدث ،فقــال
عابســا:
ً
-هذا ليس وقت االندهاش ،ال تتوقف وإال ستموت.
أفــاق نــور مــن رشوده وهــرول خلــف الغريــب جمــد ًدا حمــاوالً أال يلتــف
ورائــه أبــدً ا ،ولكنــه ســمع صــوت الكلبــان ومهــا يقرتبــان منــه ويصــدران
بعــض األصــوات الغريبــة جمــد ًدا بعــد أن وجــدا طريقــ ًا آخــر ليكمــا
املطــاردة .ركــض ا ُمللثــم أمــام نــور بعــدة أمتــار ،وخلفــه بمســافة ليســت
ببعيــدة يركــض الكلبــان املندفعــان مــن داخــل الغابــة ،بأصـ ِ
ـوات أقدامهام
اآلليــة التــي تصــدر رصيـ ًـرا مــع كل خطــوة.
ضغط امللثم عىل ساعته ،وقال وهو يلهث:
-هل أنت مستعد؟
فصدر صوت ًا من الساعة قائالً:
-نعم أنا مستعد ،أعطيني االشارة فقط.
14
تقــدم ا ُمللثــم عــدة خطــوات أخــرى ثــم توقــف والتفــت للخلــف ،واض ًعا
يــده عنــد خــره ،حيــث يوجــد جهــاز اســود مســتطيل الشــكل صغــر
معلــق ،يبــدوا كهاتــف نقــال أو كاحلافظــة التــي يوضــع بداخلهــا النظارة.
أمســك باجلهــاز املســتطيل جيــدً ا ،ثــم ضغــط عــى زر صغــر بــارز،
فخــرج ضــوء مــن اجلهــاز وتكــون عــى شــكل ســيف كاتانــا مــن الضوء،
فأخــذ امللثــم وضعيــة اهلجــوم ،وعــاد بقدمــه اليمنــي خطــوة إىل الــوراء،
وتالهــا رفــع يــده عال ًيــا لتناســب أســلوب القطــع بالســيف ،ثــم أخــذ
نفســا عميق ـ ًا ،بينــا مــر بجانبــه نــور مرس ًعــا وقــد شــاهده حيمــل هــذا
ً
ِ
الــيء الغريــب فــزاد مــن دهشــته ،ولكنــه مل يتوقــف وأكمــل طريقــه
ُمرس ًعــا ،بينــا أندفــع الكلبــان ناحيــة امللثــم الواقــف أمامهــا ،وقفــزا يف
اهلــواء لينقضــا عليــه ،فــرخ امللثــم قائ ـاً:
-اآلآآآآآآن.
خــرج صــوت رصاصــة قناصــة مــن أحــد املبــاين ا ُملحطمــة البعيــدة خلف
امللثــم ،بينــا أنطلــق بســيفه يشــق اهلــواء ناحيــة الكلــب اآليت مــن جهــة
اليمــن ،فقطعــه نصفــن بينــا انطلقــت الطلقــة التــي عــرت الســاحة
كلســان بــرق ،ومــرت بجانــب كتــف ا ُمللثــم لتحطــم الكلــب الثــاين،
فدفعتــه للخلــف بقــوة ،فأضحــى يتلــوى يف األرض وهــو يصــدر بعــض
األضــواء االلكرتونيــة ،حتــى خــرج مــن جســده مــادة زرقــاء غريبــة.
ظــل نــور هيــرول بــدون أن ينظــر خلفــه ،فــرأى ناطحتــا ســحاب مائلتــن
عــى بعضهــا البعــض ،وشــبه مدمــران متا ًمــا مــن أثــر انفجــار كبــر،
وامتلــئ الطريــق أمامــه بالصخــور التــي ســقطت عشــوائ ًيا مــن املبنيــن
15
هنــا وهنــاك ،فعــر نــور الســاحة ،بينــا ســمع الغريــب ينــادي عليــه مــن
اخللــف ،ولكنــه مل يلتفــت ،وأكمــل طريقــه بــا توقــف ،وهــو يلهــث
بقــوة وقــد شــعر ببعــض التعــب مــن أثــر التوتــر والصدمــة التــي تلقاهــا
ممــا حيــدث حولــه ،فقــال لنفســه:
ـهورا داخــل هــذا الــرج -أمل يكفينــي فقــدان الذاكــرة ،واحتجــازي شـ ً
الغريــب؟! واآلن ال أعــرف أيــن أنــا ومــا هــي هــذه املدينــة املدمــرة؟!
وملــاذا هتامجنــا بعــض الروبوتــات الغريبــة؟!
ركــض نــور حتــى أصبــح أســفل املبنيــن متا ًمــا ،فأطلــق ســيقانه للريــاح
ُمعتمــدً ا عــى ضــوء القمــر ل ُينــر لــه الطريــق قليــاً .تعثــر يف أحــد
الصخــور يف طريقــه وســقط عــى األرض بقــوة ،فجــرح قدميــه ويديــه
ولكــن خوفــه جعلــه يقــف مــن جديــد ويكمــل الركــض بــا توقــف،
وهــو يقفــز ويتجــاوز بعــض الصخــور .رأي ســيارات مركونــة مــن
حولــه ومدمــرة بفعــل الصخــور التــي ســقطت عليهــا وبفعــل اســلحة مل
يعــرف ماهيتهــا ،فقــال بينــه وبــن نفســه:
-ما كل هذا اجلنون؟ أين أنا؟
شــعر نــور لوهلــة أن املبنيــان سيســقطان يف أي حلظــة ،ولكنــه أبعــد
الفكــرة مــن رأســه وأكمــل طريقــه ،حتــى رأي أمامــه ضــوء يــأيت مــن
آخــر الطريــق ،فتوقــف برسعــة ونظــر إىل اليمــن واليســار ،فوجــد عــى
اليمــن ســيارة ُمطمــة بالكامــل ،فركــض وأختبــأ خلفهــا .التقط انفاســه،
تنفســا حـ ًـرا
وشــعر بصــدره ينقبــض بقــوة ثــم ينبســط ،فأخــذ يتنفــس ً
طليق ـ ًا إذ شــعر أن قلبــه ســيتوقف ،وبعــد دقيقــة مــن الــراع ،اســتعاد
16
ُمعــدل تنفسـ ُه الطبيعــي شــيئ ًا فشــيئ ًا؛ فهــو مل يعتــد بعــد عــى الركــض بعد
بعضــا مــن لياقتــه .تذكــر
نومــه كل هــذه املــدة ولكنــه ال يــزال يمتلــك ً
ا ومــال عــى الضــوء القــادم مــن هنايــة الطريــق ،فرفــع جســده قليــ ً
الســيارة ُمســتندً ا عــى باهبــا ،ونظــر مــن بــن الزجــاج ا ُملحطــم ،فــرأى
شــيئ ًا جعــل اخلــوف يطــرق بــاب قلبــه ُمــد ًدا.
***
17
2
ســار ياســن يف الــرواق األبيــض للــرج بعــد أن أهنــى الســباق وتأهــل
ليكــون مــن بــن الثامنيــة الذيــن س ُيســمح هلــم باخلــروج .ســار ُمتذمـ ًـرا
لعــدم اعطــاء الرجــل الغريــب الــذي يتحــدث معــه باســتمرار أي
أجوبــة ،ولكنــه شــعر عــى األقــل ببعــض الراحــة ألنــه أنتهــى مــن كل
تائهــا ال يعلــم ملــاذا ولــد؟ وإىل أيــن يذهــب؟ ومــاذا هــذا ،ولكنـ ُه وظــل ً
عليــه أن يفعــل يف هــذه احليــاة؟ أحــس وكأنــه ولــد اآلن يف هــذه احليــاة.
مل يكــن يفهــم تعبــرات رفاقــه يف الســباق ،ومل يفهــم ملــاذا كانــت نرباهتــم
وانفعاالهتــم وترصفاهتــم تتغــر مــع كل حــدث جديــد وملــاذا كانــت
أمــرا غري ًبــا ومعقــدً ا للغايــة؟ كــا أنــ ُه
مشــاعرهم هــذي بالنســبة لــه ً
ـون وجه ـ ُه الغريــب املائــل إىل الزرقــة وشــعره كان ُمتلف ـ ًا عــن رفاقــه بلـ ِ
أيضــا بتغــر غريــب يف جســده ـوط مــن حريــر .شــعر ً الفــي الالمــع كخيـ ٍ
ا وأزداد طــول شــعره حتــى امتــد إىل وتنبــه إىل أن ـ ُه أصبــح أطــول قلي ـ ً
نضجــا.
ً جذعــه ،وتغــرت مالحمــه إذ أصبحــت أكثــر
رأى البــاب األبيــض يف هنايــة املمــر ،فاقــرب منــه حتــى انفتــح البــاب،
ورسعــان مــا رشع يف اخلــروج .شــعر بنســيم اهلــواء العليــل يصطــدم
بوجهــه ،فجعلــه هــذا يشــعر بشـ ٍ
ـعور غريــب مل يفهمــه ولكنــه كان ُيشــعره
بالراحــة.
18
دخــل نــور الصبــاح إىل عــن ياســن ،فرفــع يــده ليحجــب الضــوء عــن
عينيــه ،ثــم خــرج مــن الــرج فداعــب اهلــواء وجهــه وخصــات شــعره
الناعــم الطويــل ،وعينيــه الســوداء ،التــي تبــدو كلؤلــؤة براقــة.
بــدأت عــن ياســن تتأقلــم مــع ضــوء الشــمس الســاطع تدرجي ًيــا ،ففتــح
ٍ
متتــال ورسيــع ،حتــى أســتطاع أن يفتحهــا عينيــه ثــم أغلقهــا برتــ ٍم
بوضــوح ،فبــدأت الصــورة تتضــح اآلن ،وأخــذت األلــوان واألشــكال
تســقط عــى عينيــه فجــأة ،فوجــد نفســه يف غابــة غريبــة ختتلــط فيهــا
األلــوان واألشــكال العجيبــة التــي تُبهــر العــن وجتعــل العقــل يف حــرة
مــن أمــره .ســار فــرة طويلــة وهــو ال يعــرف أيــن جيــب أن يذهــب؟!
ومــاذا جيــب أن يفعــل يف حياتــه؟! وملــاذا هــو عــى قيــد احليــاة مــن
البدايــة؟!
ســار ســاعات وســاعات حتــى خيــم الليــل ،وبعــد أن فقــد األمــل يف
اخلــروج مــن هــذه الغابــة ،ســمع صــوت رصاصــة تــدوي يف الســاء،
فتوجــه ناحيــة مصــدر الصــوت ولكــن عندمــا وصــل كان كل مــا وجــده
ـوت فــي ضخــم ُقطــع إىل عــدة هــو كلبــن آليــن ُمطمــن بجانــب روبـ ٍ
أجــزاء .رفــع عينيــه ،فــرأى عــى مــد البــر مدينــة ُمطمــة بالكامــل
وأدخنــة تتصاعــد مــن مبانيهــا والظــام ُيغطيهــا وكأهنــا اجلحيــم بعينــه،
مل يفهــم ياســن مــا الــذي مــرت بــه هــذه املدينــة لتصبــح هكــذا؟! ولكنــه
توجــه ناحيتهــا لعلــه جيــد مــن يدلــه عــى الطريــق.
دخــل إىل املدينــة وســار ســاع ًة كامل ـ ًة وســط احلطــام حتــى وجــد نفســه
ـر. يف شــارع عــام ،وأمامــه العديــد مــن املبــاين العاليــة التــي مل يمســها الـ ُ
19
كانــت ذات نوافــذ زرقــاء تعكــس العــامل مــن حوهلــا وذات تصميــم مميــز
أيضــا بعــض الســياراتجيعلــك تُقــدر اجلهــد املبــذول يف بنائهــا .رأى ً
املركونــة يف الطريــق ،والتــي بــدت فارغــة متا ًمــا مــن البــر ،وكانــت
الشــوارع مــن حولــه فارغــة هــي األخــرى واملتاجــر مفتوحــة ،ولكــن ال
أحــد فيهــا ،وال يف أي مــكان .ليــس هنــاك الصــوت املعتــاد للســيارات
دائــا ،فقــال ياســن وهــو
ً وللبــر ،والضجيــج الــذي يمــأ املــدن
يتفحــص املــكان بعينيــه:
-ما الذي حيدث هنا! أين اختفى اجلميع؟
مل يتعــرف عــى املبــاين والشــوارع والالفتــات واللوحــات املكتوبــة باللغــة
العربيــة ،واألشــجار التــي متــأ الشــوارع وتضــع ملســة ســحرية مــن
اجلــال عليهــا ،فبــدأ ينــادي عــى الصــوت الغريــب قائ ـاً:
-أهيا الغريب أين ذهب اجلميع؟
ولكنــه مل يتلــق أي اجابــة ،فتذكــر أنــه تــم التخــي عنــه ،أو أن هــذا الرجــل
كان يســتطيع حمادثتــه يف هــذا الــرج الغريــب فقــط .تذكــر الــرج األبيض
اهلائــل الــذي خــرج منــه فقــال بحرية:
-إذا كُنــت ُمتجــزا يف هــذا الــرج العــايل كل هــذا الوقــت ،فكيــف متــت
املســابقات يف مـ ٍ
ـكان كهــذا؟ وملــاذا مل خيــرج شــخص آخــر منــه غــري؟!
بــدأ ياســن يســر يف الطرقــات الفارغــة ويتأمــل مجــال املدينــة اخلــاب،
وقــد بــدأ قــرص الشــمس يــرز مــن خلــف الســحاب ل ُيظهــر القبــة
الزرقــاء الغريبــة التــي تغطــي الســاء ،فتعجــب ياســن منهــا وشــعر أنــه
20
قفــص غريــب ،أخــر لنفســه أنــه ال يــزال يف هــذا الســباق ولكــنٍ يف
اللعبــة اختلفــت ،كان هــذا أكثــر تفســر ُمقنــع لــه .شــعر أنــه يف مدينــة
ا بتذمــر: ٍ
عــال قائــ ً أشــباح؛ فنــادى بصــوت
-هل هناك أي أحد هنا؟
ولكنــه مل يتلقــى أي رد .وجــد مركــز ًا جتار ًيــا (مــول) فتذكــر بطنــه التــي
تقرقــر مــن اجلــوع ،فدلــف إىل املركــز ليبحــث عــن طعــام ويكمــل بحثــه
عــن أي شــخص يف الداخــل قــد يدلــه عــى أي يشء.
ا املتاجــر الفارغــة ،مــن متاجــر للمالبــس واألجهــزة ســار فيــه متأمــ ً
اإللكرتونيــة ،واملســتلزمات البيتيــة .رأى عــن ُبعــد متجــر للطعــام املعلــب
وبــدون تفكــر دلــف إليــه برسعــة متشــوقا ل ُيســكت جوعــه.
أندفــع بــن رفــوف الطعــام وكان املــكان فار ًغــا ويمــأه الــراب وكأن ـ ُه
تُــرك منــذ شــهور ،ممــا جعلــه يضطــرب أكثــر .بــدأ يتفقــد العلبــة تلــو
األخــرى فوجــد بعضهــا فاســدً ا ملكوثــه فــرة طويلــة .تــرك األشــياء
املكشــوفة واملغطــاة باألتربــة ،وذهــب إىل الثالجــات وأخــذ بعــض الطعام
املحفــوظ بعنايــة ،وبعــض املرشوبــات الغازية .توجــه ناحيــة مايكروويف
قريــب عنــد املنطقــة التــي جيلــس عندهــا البائــع وبــدأ يف تســخني الطعــام
املجمــد وأنغمــس يف تناولــه ،حتــى شــعر أنــه قــد شــبع ،ثــم خــرج مــن
املتجــر وذهــب ألحــد متاجــر املســتلزمات املنزليــة ليحصــل عــى بعــض
املســتلزمات املهمــة التــي قــد حيتاجهــا يف رحلتــه التــي ال يعلــم كــم
ستســتغرق مدهتــا .أخــذ حقيبــة ظهــر بعــد أن نفــض االتربــة عنهــا ،ثــم
عــاد إىل متجــر البقالــة فأخــذ مــن الثالجــة بعــض املرشوبــات البــاردة،
21
أيضــا بعــضواألطعمــة البــاردة ،ووضعهــا بداخــل احلقيبــة ،وأخــذ ً
املالبــس التــي رأي أهنــا تبــدوا رائعــة ،فقــد ســئم مــن مالبــس املريــض
البيضــاء التــي يرتدهيــا .غــر مالبســه ،لريتــدي معطــف أبيــض اللــون
ورسوال أســود ،ثــم محــل احلقيبــة عــى ظهــره ،وخــرج مــن املتجــر وقــد
ـعور غريــب مــن الراحــة جيتاحــه ولكنــه مل يفهمــه ومل يســتطع شــعر بشـ ٍ
تفســر إال أنــه يبــدوا شــيئ ًا جيــدً ا.
متوجهــا ناحيــة طريــق اخلــروج وهــو يتأمــل
ً أكمــل ســره يف املركــز
البــاط الزجاجــي املرصــوف بعنايــة .وفجــأة وىف آخــر الــرواق ،وجــد
ياســن أحدهــم يقــف أمامــه مبــارشة وحيــدق فيــه بصمــت.
***
22
3
شــعر نــور بجس ـ ٍم ضخــم يقــرب منــه ،فأهتــز املــكان مــن حولــه عــى
إثــر ضخامتــه ورهبتــه ،وصاحبــه صــوت حتطــم بعــض النوافــذ وســقوط
صخــور مــن املبــاين ا ُملحيطــة .أختلــس نــور النظــر مــن وراء الســيارة
ا ُملحطمــة عــر ُزجاجهــا ا ُملهشــم ،ومل يســتوعب مــا رآه للحظــة ،ثــم تبدت
لــه مالمــح هــذا اجلســم فطــرق اخلــوف بــاب قلبــه برشاســة ،وأرتفــع
ُمعــدل نبضاتــه بطريقــة كبــرة حتــى شــعر أن قلبــه ســقط يف قدمــه كــا
ضخــا يســتند بأقدامــه عــى املبــاين
ً يقولــون .رأي نــور عنكبوتًــا آل ًيــا
ـه املعدنيــة التــي تــر مــع كل خطــوة خيطوهــا املحيطــة وهيشــمها بمفاصلـ ِ
ُســق َط معهــا بعــض احلطــام .كان جســده فــي اللــون، إىل االمــام ،لت ِ
ـن واحــد ٌة كبــر ٌة مربوطـ ٌة بأنبــوب مطاطــي، ـه عـ ٌوخيــرج مــن فــوق رأسـ ِ
ينبســط ويرتفــع وينخفــض حســب مــا يريــده العنكبــوت ،وكانــت العــن
تُنــر الطريــق حوهلــا عــن طريــق ضــوء متوهــج يصــدر مــن داخلهــا،
ويســارا متســح املــكان بحث ـ ًا عــن فريســة. بينــا تتحــرك يمين ـ ًا ً
أســتمر العنكبــوت الضخــم بالســر يف الطريــق واض ًعــا اقدامــه الثامنيــة
عــى املبــاين بينــا يتــدىل جســد ُه مــن املنتصــف ،وكان يصــدر أصواتــ ًا
الكرتونيــة غريبــة .شــعر نــور وكأنــه قــد ُشــل مكانــه مــن التوتــر ،فهــو
ُ
حيــدث مــن حولــه ،امل يكفيــه الــكالب وامللثــم مل يعــد يفقــه أي ٍ
يشء ُ
وكل االشــياء الغريبــة التــي حدثــت معــه منــذ أن اســتيقظ يف هــذا الــرج
الغريــب؟ كان كل يشء يبــدوا حمــض ُحلــم يسء سيســتيقظ منــه بعــض
23
قليــل .كان يعــرف يف قــرارة نفســه أنــه ال حيلــم ،ولكــن العقــل أحيا ًنــا
ُينكــر احلقائــق املؤملــة حتــى ال تُزعجــه ويضعهــا يف حيــز اخليــال.
أقــرب العنكبــوت منــه ،فانخفــض بــدوره أســفل الســيارة حتــى ال يــراه،
ٍ
هيــكل ثــم ملــح شــي ًئا بجانبــه فألقــي نظــرة عليــه لينصعــق عنــد رؤيــة
ـال ولكنــه وضــع يــده عــى ـي بــري بجانبــه ،فشــهق بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ عظمـ ٍ
فمــه برسعــة وقــال بينــه وبــن نفســه وقــد ســيطر اخلــوف عليــه:
-ما الذي حيدث هنا؟! ال أفهم شيئا! ما الذي حدث للبرش؟
زعجــا يليــه صــوت بخــار ســار العنكبــوت وأقدامــه تصــدر رصيـ ًـرا ُم ً
خيــرج مــن جســده لينســجم مــع أصــوات حتطــم املبــاين التــي ُيعلــق
أقدامــه عليهــا .شــعر نــور ألول مــرة باالمتنــان لظلمــة املــكان وأن
الشــمس مل ُتــرق بعــد ،وإال لــكان اكتشــاف أمــره أصبــح أســهل بكثــر
هلــذا املخلــوق اللعــن املكــون مــن املعــادن واالســاك.
أصبــح العنكبــوت فــوق نــور ُمبــارشة ،فحبــس نــور انفاســه وأغمــض
عينيــه ،وترقــب مــرور العنكبــوت مــرور الكــرام ،داع ًيــا مــن قلبــه بــأال
يتــم اكتشــاف أمــره .ولكــن يبــدوا أن حظــه خانــه هــو اآلخــر.
وإذ فجــأة توقــف العنكبــوت عــن احلركــة فوقــه مبــارشة ،ويف اللحظــة
موجهــا العــن املضيئــة ناحيــة الســيارة التــي
ً التاليــة بــدأ يميــل بجســده
نــرا مــكان
خيتبــأ نــور أســفلها ،فأحــس بالضــوء يندفــع مــن حولــه ُم ً
ٍ
عاجــز عــن اختبائــه ،فأندفــع اخلــوف يف اوصالــه ،حتــى أحــس أنــه
احلركــة ،فقدرتــه لــن متكنــه مــن هزيمــة هــذا الــيء أبــدً ا!
24
أيقــن أنــه ُاكتشــف أمــره وال مفــر لــه اآلن ،فضغــط عــى عقلــه ل ُيفكــر
برسعــة يف خمــرج مــن هــذا املــأزق ولكــن ال يشء .بــدأ ينظــر حولــه
حمــاوالً اســتنباط أي فكــرة مــن البيئــة ا ُملحيطــة لتخرجــه مــن هــذا املــأزق.
وأخــرا تذكــر تقنيــة الوهــم التــي تعلمهــا ،خلــداع األعــداء وتشــتيت ً
أنتباههــم عــن طريــق اســتغالل الضــوء مــن حولــه لصنــع رساب ُيشــبهه.
فوضــع كل تركيــزه عــى ضــوء العنكبــوت ،حمــاوالً ختيــل نســخة ضوئيــة
مــن نفســه .ولكــن عقلــه املضطــرب والــذي يعمــل برسعــة كبــرة مل يكــن
ـادرا عــى مســاعدته يف هــذا الوقــت .ضغــط عــى نفســه بينــا اندفــع قـ ً
االدرينالــن داخــل جســده ،فحبــس أنفاســه حتــى يتالشــى اخلــوف،
ووضــع كل تركيــزه عــى ختيــل نســخة ضوئيــة لــه ،وىف نفــس اللحظــة،
رفــع العنكبــوت اآليل أحــد أقدامــه ووجههــا ناحيــة الســيارة ،بينــا كان
ضــوء القمــر ينعكــس عليــه ليلمــع ويــرق.
وجســدها أمامــه باســتخدام ضــوء ّ ـرا
ختيــل نــور النســخة الضوئيــة أخـ ً
العنكبــوت ،فتكّونــت مشــاهبة لــه ،فوجههــا بعقلــه فــإذا هــي تنطلــق
إىل االمــام وكأهنــا هتــرب؛ فأوقــف العنكبــوت قدمــه يف اهلــواء ووجــه
تركيــزه ناحيــة الشــخص الــذي يركــض مبتعــدً ا .عــدل مــن وضعيــة
جســده ثــم ركــض ورائــه ،وقــد أخــرج مــن ظهــره ،قــاذف صواريــخ
وأطلــق منــه صاروخــن ناحيــة النســخة ،ولكنهــا عــرا مــن خالهلــا،
ومتكنــا مــن مســح اجلــزء األوســط منهــا فبــدا شــكله غري ًبــا للغايــة ولــوال
أنــه روبــوت ال يفكــر لعلــم أهنــا ُخدعــة ،فأكمــل مطاردهتــا وهــو يطلــق
عليهــا قذائفــه جمــد ًدا بــا توقــف.
25
ـوان قبــل أن ختتفــي النســخة ،فخــرج عــرف نــور أن أمامــه اآلن بضعــة ثـ ٍ
مــن حتــت الســيارة بعــد أن أبتعــد العنكبــوت عنــه بضعــة خطــوات،
وركــض بأقــى رسعتــه حتــى أبتعــد مســافة ُمناســبة ،فقفــز أســفل
ســيارة أخــري عــى جانــب الطريــق ،وســمع العنكبــوت اآليل ورائــه
وهــو يــرب بقدمــه يف كل مــكان وبعــد حلظــات توقــف عــن احلركــة
بعــد ان تالشــت النســخة متا ًمــا ،فظــن أنــه قــى عــى اهلــدف ونظــر خلفه
ليتفحــص املــكان عائــدً ا إىل الســيارة ،ولكنــه مل جيــد شــيئ ًا أســفلها ،فأكمل
تفحصــا الطريــق جمــد ًدا. طريقــه ببـ ٍ
ـطء ُم
ً
حي
تنفــس نــور الصعــداء وكان جســده يرجتــف بقــوة ،غــر كُصــدق أنــه ٌ
ُيــرزق؛ ظــل يلهــث بعنــف وهــو يتفقــد املــكان مــن حولــه حتــى يتأكــد
ـرا وبعــد أن أرتــاح بضعــة دقائــق هــدأ قلبه أنــه ال يوجــد يشء آخــر .وأخـ ً
وعــاد نبضــه ُملعدلــه الطبيعــي ،ولكنــه أبــر املزيــد مــن اجلثــث ا ُملحرتقــة
وا ُملشــوهة بجانبــه والتــي عفــا عليهــا الزمــن ،فخــرج مــن حتــت الســيارة
تفحصــا املــكان ،فــرأى
ً وقــد شــعر بالريبــة ،ونظــر يمينـ ًا ويسـ ً
ـارا بحــذر ُم
أن الطريــق ا ُملحطــم كان خال ًيــا متا ًمــا .ســمع طلقــات مــن قناصــة تــدوي
مــن املــكان الــذي ذهــب إليــه العنكبــوت ،فخطــر عــى بالــه أن ا ُمللثــم
الــذي ســاعده قــد التحــم اآلن مــع هــذا الروبــوت الضخــم .أشــفق
عليــه ومتنــي أن ينجــوا مــن هــذا الــيء اللعــن .عــاد ليكمــل طريقــه
وهــو تائــه ال يعــرف إىل أيــن يذهــب؟ هــل يعــود إىل هــذا املثلــم الــذي
ـدوا لــه يف نفــس الوقــت؟ أم ربــا يعلــم شــي ًئا مــا ولكنــه قــد يكــون عـ ً
يكمــل طريقــه ويبحــث عــن ناجــن؟ كان أكيــدً ا أنــه هبــذا املعــدل مــن
األخطــار املحدقــة لــن يمــي الكثــر مــن الوقــت قبــل أن َيلقــي حتفـ ُه،
26
فدعــا اهلل أن ُيســهل لــه الطريــق وخيرجــه مــن هــذا اجلحيــم ،وقــرر أن
يكمــل طريقــه وأال يعــود أدراجــه ناحيــة هــذا العنكبــوت املخيــف.
ســمى اهلل وقطــع الطريــق املــيء باألطــال ،ورأى أمامــه تقاطــع طــرق،
ا إىل أيــن جيــب أن يتوجــه ،قبــل أن يســتقر عــى أن يتجــه ففكــر قليــ ً
حلطــام ،فوجــد نفســه أمــام عــدة طــرق يمينًــا .ســار حتــى خــرج مــن ا ُ
مرصوفــة ومبــاين شــاهقة ال زالــت يف مكاهنــا ومل يمسســها رضر؛ فأحــس
باالطمئنــان وظــن أنــه قــد أبتعــد عــن اآلالت ،ولكنــه كان بالــكاد يــري
شــي ًئا يف هــذا الظــام ،ممــا ص ّعــب عليــه الرؤيــة .ســار طويـ ً
ا حتــى آملتــه
قدمــه ،ورأى مــن بعيــد متجــر مضــاء وســط هــذه العتمــة ،وتعــرف عليــه
عــى الفــور مــن اللوحــة اهلولوجراميــة فوقــه ،والتــي حتتــوي عــى رمــز
ُملســدس بجانــب اســم املتجــر .دلــف إىل املتجــر املظلــم بــدون تــردد
بحثـ ًا عــن أســلحة حيمــي هبــا نفســه مــن هــذه األشــياء الغريبــة ،وأول مــا
خطــر عــى بالــه بعــد الــذي رآه هــو:
-هــل غــزت اآلالت األرض ومتــردت عــى البــر؟ أم أن هنــاك قــوى
سياســية تســتخدمها يف حــرب كبــرة علينــا؟ وهــل أنــا يف مــر أم يف
مـ ٍ
ـكان آخــر؟
أبعــد نــور التفكــر عــن رأســه ووجــه تركيــزه ناحيــة املتجــر ،فوجــده
ـوء خافــت .وكان هــذا أكثــر مــن كايف لكــي يــرى حمتويــات مضــاء بضـ ٍ
ً ُ
املتجــر؛ ولكنــه تعجــب مــن وجــود كهربــاء يف هــذا املــكان وفــر هــذا
أن يــد الروبوتــات مل تصــل إىل هــذه املنطقــة بعــد ولكنــه مل يعلــم ملــاذا هــذا
املتجــر باألخــص ُمنــر وباقــي املتاجــر واملبــاين حولــه ُمظلمــة؟
27
أبعــد التفكــر يف هــذا األمــر عــن رأســه ووجــه تركيــزه إىل األســلحة
فــرأى العديــد منهــا ُمعلــق عــى الرفــوف .وجــد مجيــع أنــواع األســلحة،
اليدويــة منهــا ذات املــدى البعيــد والقريــب إلــخ .رشع بجمــع مــا قــد
حيتاجــه مــن قنابــل يدويــة واســلحة ناريــة ،مــع درع حيميه مــن الرصاص.
شــعر باالمتنــان ألنــه وجــد هــذا املتجــر ،فــاآلن لديــه فرصــة ولــو بســيطة
يف النجــاة مــن هــذا العــامل الغريــب الــذي ال ُيشــبه مــر التــي يعرفهــا
عــى اإلطــاق ،ظــل نــور يتســاءل عــا حــدث هلــذه البلــد وكيــف أنتهــى
هبــا االمــر يف كل هــذه األحــداث ا ُملريبــة ،ولكنــه أبعــد هــذه األفــكار
التــي لــن جتنــي غــر املزيــد مــن األســئلة ،وأمســك باألســلحة وجهزهــا
ول ّقمهــا جيــدً ا ،وبــدأ يســتعد للتحــرك حتــى ســمع صوت ـ ًا يصــدُ ر مــن
لــيء مــا قــد أرتطــم بــاألرض .أنتفــض جســده ٍ الطابــق العلــوي
واتســعت عينــاه وقــال يف قــرارة نفســه:
-ال أرجــوك ليــس جمــد ًدا مل يمــض حتــى ســاعة عــى هــذا العنكبــوت
الضخــم باخلــارج.
فجــأة فهــم ملــاذا هــذا املتجــر هــو الوحيــد ا ُملضــاء ،وفــر أنــه ربــا دلــف
إليــه أحدهــم ليحصــل عــى أســلحة ،واســتخدم حمــول الطاقــة الشمســية
إلعطــاء الكهربــاء إىل املتجــر.
نفســا عميق ـ ًا ،ووجــه نظــره إىل البــاب
أســتجمع نــور شــجاعته وأخــذ ً
وفكــر ،هــل هيــرب؟ أم يستكشــف مــاذا حيــدث يف الطابــق األعــى؟
الفكــرة األوىل كانــت األكثــر امانــ ًا بالطبــع واملفضلــة ألي شــخص يف
وضعــه احلــايل ،ولكنــه وضــع يف احلســبان وجــود بــري مثلــه يف الطابــق
28
األعــى جيمــع بعــض األســلحة ،وإذا هــرب اآلن فلــن جيــد الفرصــة
ملقابلتــه ُمــد ًدا .لقــد كان الذهــاب ألعــى خماطــرة ال بــد منهــا .أمســك
نــور بمسدســة جيــدً ا ورشع يف صعــود الســلم بخطــوات بطيئــة.
***
29
4
ـن بـ ٍ
ـاردة. حــدق ياســن يف هنايــة املــول إىل الــيء الــذي ينظــر ناحيتــه بعـ ٍ
وقــف يتفــرس فيــه هبــدوء وســكون لعــدة ثـ ٍ
ـوان وقــد تــوارى يف الظــام،
بينــا تــرب مــن بــن القبــة الزجاجيــة فوقهــا أشــعة الشــمس احلمــراء
عنــد الغــروب ،لتنــر املــكان قليـاً ،ولكنــه ليــس بالقــدر الــكايف ليتعرفــا
ٍ
صمــت دام طويــاً ،تقــدم عــى وجــه بعضهــا البعــض .وفجــأة بعــد
الشــخص املجهــول ناحيــة ياســن هبــدوء شــديد ،فرتاجــع ياســن وقــد
شــعر ببعــض اخلطــر ،فقــال بنــرة خافتــه:
-من أنت؟
أقــرب الغريــب هبــدوء وفجــأة بــدأ بإطــاق النــار ناحيــة ياســن .ف ّعــل
ياســن قوتــه ليتحــول جســده إىل جزيئــات هــواء فمــرت الطلقــات مــن
خاللــه .ظــل وجــه الغريــب خال ًيــا مــن أي تعبــر ،فهــرول ياســن ُمبتعــدً ا
عــن جمالــه حتــى دخــل إىل أحــد املحــات .بــدأت الرصاصــات تنطلــق
مــن حولــه بــراوة ُمطمــة الزجــاج وماكينــات العــرض ،واملعروضــات،
ومل تتوقــف إال بعــد ان دمــرت كل يشء يف املتجــر الــذي خيتبــأ يف زاويتــه.
ســمع ياســن صــوت تلقيــم الســاح مــع صــوت اقــدام تقــرب ،فقــام
ـارا ُمبتعــدً ا عنــه قــدر
مــن مكانــه وركــض إىل خــارج املحــل ،وأندفــع يسـ ً
اإلمــكان وفجــأة أطلــق املجهــول النــار عــى القبــة الزجاجيــة فوق ياســن
فتســاقط الزجــاج عليــه كاملطــر ،فأنعطــف إىل أحــد املحــات عــى يمينــه
30
حلــر حتــى
وقفــز بداخلــهُ ،مبتعــدً ا عــن الزجــاج الــذي أهنــي ســقوطه ا ُ
حتطــم لقطــع صغــرة عــى األرض وتناثــر يف أرجــاء املــول ،ثــم عــم
اهلــدوء القاتــل جمــد ًدا ،فقــال ياســن لنفســه:
-ال أســتطيع اســتخدام قــويت بالكامــل بعــد فجســدي مرهــق ومل َيضــم
الطعــام بعــد .جيــب أن اجتنبــه واســتخدم قــدريت عنــد الــرورة فقــط...
ولكــن ملــاذا هيامجنــي؟
رأي ياســن قذيفــة تتوجــه ناحيــة املتجــر الــذي خيتبأ فيــه ،فنســفته ،ولكن
ياســن كان قــد ف ّعــل قوتــه فتجنــب الــرر الــذي أحدثتــه القذيفــة وهب
يســارا ليبتعــد عــن مــكان
ً أيضــا ،وأجتــهراكضــا خــارج هــذا املتجــر ً
ً
الشــخص املجهــول وقــد شــعر أن قدمــاه بالــكاد حتمالنــه ،ولكنــه أســتمر
يف اهلرولــة بــدون أن يلتفــت ورائــه ،حتــى شــعر أن الغريــب توقــف عــن
مطاردتــه.
أخــذ يلهــث بقــوة يف حماولــة اللتقــاط أنفاســه ،وشــعر بالوهــن يف جســده
الســتخدامه قدرتــه ُمــد ًدا ،بينــا اخــذ قلبــه ينبــض برسعــة أكــر ومل يفهم
ياســن مــا رس هــذا الشــعور الغريــب داخلــه؟! وملــاذا قلبــه ينبــض هبــذا
الشكل؟!
رأســا عــى عقــب .كان قــد قــاب قوســن أو
لقــد أنقلــب كل يشء فجــأة ً
أدنــى مــن املــوت عــدة مــرات وســط هــذا اجلنــون .حتامــل عــى نفســه،
ورشع حيفــز قدميــه عــى الركــض ،حتــى أســتطاع الركــض جمــد ًدا برسعــة
وســط الــرواق املزخــرف والــذي يأخــذ منحنــى دائــري .أثنــاء هربــه
تفقــد املتاجــر مــن حولــه ،لــرى إن كان هنــاك أي أثــر ألي خطــر حيــدق
31
بــه ،ولكنهــا كانــت خاويــة متا ًمــا ،فشــعر أن نبضــات قلبــه قــد أصبحــت
أكثــر هــدو ًء؛ فالتــف ورائــه ألول مــرة منــذ أن أبتعــد عــن الــذي حيــاول
قتلــه ،فلــم يستشــعر وجــوده .وبعــد دقيقــة مــن الركــض وجــد أحــد
أبــواب اخلــروج عــى اليمــن وقــد كُتــب عليهــا ،بوابــة اخلــروج رقــم
،15فأنطلــق إليهــا بــا تــردد ،وهــو يلهــث بقــوة ومعدتــه تؤملــه بســبب
ركضــه املســتمر بعــد تناولــه وجبــة الطعــام ،ولكنــه حتامــل عــى نفســه
فهــو مل يســتطع تفســر هــذا الشــعور ولكنــه كان يزعجــه .خــرج إىل
الطريــق اخلارجــي ،ووجــد ان الليــل قــد حــل ،وتــوارت الشــمس يف
األفــق ،ليحــل حملهــا القمــر ،ملق ًيــا بضوئــه اخلــاب عــى املدينــة.
شــعر بعــدم الراحــة الختفــاء الشــمس يف هــذا الوقــت احلــرج فهــو حيتاج
أيضــا شــعر باالمتنــان ،ألن
للرؤيــة حتــى هيــرب مــن مطــارده ،ولكنــه ً
الظــام قــد يكــون يف صاحلــه ،لكــي خيفــي نفســه عــن األنظــار ويتــوارى
يف أي مــكان.
ألتقــط أنفاســه ثــم ســار بحــذر ،متفقــدً ا املــكان مــن حولــه برتقــب شــديد
وحواســه مشــحوذة .ألقــي نظــرة إىل الطريــق أمامــه وفكــر يف أن يعــره
حتــى يصــل إىل األبنيــة ا ُملدمــرة أمامــه ،وخيفــى نفســه بينهــا .ولكــن
قبــل أن خيطــو خطــوة أخــرى ،حــدث انفجــار مفاجــئ عــى ُبعــد بضعــة
أمتــار يف احلائــط عــى يمينــه ،وعــى حــن غــرة خــرج مــن بــن األتربــة
والدخــان الشــخص املجهــول الــذي كان يطــارده فنظــر إليــه ،ورفــع يــده
مصو ًبــا عليــه ،فقــال ياســن وقــد شــعر باحلــرة الشــديدة:
-ت ًبا ،ما هذا اليشء؟! إنه ال ُيشبهنا عىل اإلطالق؟!
32
لقــد كان الــيء الواقــف أمامــه غــر إنســاين ،بــل ال يوجــد فيــه ذرة مــن
اإلنســانية ،لقــد كان روبــوت عــى هيئــة بــر ،عينــاه تشــعان بامحــرار
ـون فــي ،ممــا جعــل شــديد ،وجســده يغطيــه معــدن الكــروم ا ُملشــبع بلـ ٍ
ـق خافــت وفــوق جبينــه بقليــل، جســده يلمــع حتــت ضــوء القمــر بربيـ ٍ
ـون أزرق ســاوي ،حيميهــا حاجــز مســتدير عــى ملعــت جوهــرة غريبــة ،بلـ ٍ
شــاكلتها مــن الزجــاج ،وداخلهــا يوجــد طيــف أزرق يمألهــا ،بــدا أنــه
مصــدر الطاقــة هلــذا الــيء ،وعنــد صــدره يوجــد نفس الــيء ،فأســتنتج
ياســن أن هــذه األشــياء هــي مصــدر الطاقــة؛ اهنــا كالقلــب والعقــل
بالنســبة لــه .كان وجهــه ُيشــبه البــر ولكنــه بــارد بــا مشــاعر ،حليــق
الــرأس؛ ويكتــي ك ًُّل مــن وجهــه واقدامــه ويديــه وصــدره وظهــره بلـ ٍ
ـون
فــي ،وباقــي اجلســد كالزجــاج أو البالســتيك الشــفاف .يتدفــق بداخــل
هــذا الزجــاج فيــض مــن طاقــة زرقــاء اللــون.
لكــن مل يكــن هــذا وقــت التأمــل فيــه ومجــع املعلومــات ،بــل وقــت
اهلــرب .رفــع الروبــوت يــده ،ووجههــا نحــو ياســن ،فبســط أصابعــه
اليمنــى ،لتنفتــح رؤوســها ،حتــى أصبحــت كفوهــة املســدس ،بــل مخــس
فوهــات .فعــرف ياســن عــى الفــور أنــه ســيطلق النــار ،فقــام بتفعيــل
قوتــه ،وركــض إىل داخــل املــول ُمــد ًدا بــأرسع مــا عنــده ،فــدوى صــوت
إطــاق النــار يف املدينــة الســاكنة ل ُيبــدد صمتهــا القاتــل.
متــر مــن بــن جســد ياســن مدمــرة كل يشء حولــه، بــدأت الطلقــات ُ
فهــز يديــه بقــوة منحن ًيــا بجســده أثنــاء هرولتــه ،كــرد فعــل غريــزي ،عــى
الرغــم مــن أنــه كان يعــرف أن الطلقــات لــن تتمكــن مــن اصابتــه خلمــس
33
ثـ ٍ
ـوان ،وهــذا كان أكثــر مــن كاف ليدلــف إىل املــول جمــد ًدا .أقــرب ياســن
مــن البوابــة ،وكاد مفعــول قوتــه ينتهــي مــن اإلرهــاق ،فقفــز إىل داخــل
املــول بــكل جســده ،وســقط عــى األرض بقــوة ،ولكنــه مل يشــعر بــاألمل
والفضــل يعــود إىل قــدرات جســده .وثــب عــى قدميــه برسعــة وركــض
ُمبتعــدً ا عــن مــكان الروبــوت يف هــذا املــول الدائــري ،والــذي كان ذي
منفعــة للهــرب.
شــعر بصــدره ينقبــض مــن شــدة التعــب ،فهــو مل يتوقــف عــن الركــض
اال بضعــة ثــواين وجســده مل يتعــاىف بعــد ،ممــا أرهقــه متا ًمــا ،ولكــن للهرب
مــن هنــا يلزمــه أن يتحامــل عــى نفســه لينجــوا مــن هــذا الــيء .نظــر
خلفــه ولكــن مل جيــد الروبــوت وتأكــد أنــه يكيــدُ لــه شــيئ ًا مــا وســيفاجئه
يف أي حلظــة.
وجــه نظــره إىل األمــام جمــد ًدا فأصطــدم بــيء معــدين فســقط عــى
ٍ
األرض ،وشــعر بــأملٍ شــديد ،فوضــع يــده عــى أنفــه التــي تــأذت كثـ ً
ـرا
وكادت تنــزف يف الظــروف الطبيعيــة جلســد اإلنســان بــدون أي تعديــات
جينيــة .رفــع رأســه مــن فــوق كتفــه لينظــر إىل مــا توقــع أن يــراه أمامــه
اآلن ،ولكنــه وجــد شــيئ ًا ُمتلــف .لقــد وجــد إنســان أمامــه .نظــر لــه
بمزيــج مــن الدهشــة والذهــول واحلــرة ،ولكنــه أحــس أن عليــه أن
ٍ
بمعــدن كالفــوالذ ،فعــاد هيــرب ،فهــو مل يصطــدم بجســد إنســان بــل
يزحــف بجســده للخلــف كالــدودة التــي هتــرب مــن عصفـ ٍ
ـور ُمنقـ ٍ
ـض
عليهــا بمنقــاره برسعــة تفــوق رسعتهــا البســيطة .قــال بنــرة بــاردة
خاليــة مــن املشــاعر:
34
-هل تريد قتيل أهيا اليشء املعدين؟
ضحــك الشــخص الواقــف امامــه بوقــار .كان يرتــدي نظــارة للنظــر؛
قميصــا
ً وكان يمشــط شــعره الطويــل الناعــم إىل اخللــف ،ويرتــدي
أبيضــا ،ورسوال جينــز أســود ،مــع عينــان ســوداوان ومالمــح آســيوية ً
هادئــة تــدل عــى الفطنــة والــذكاء والبداهــة .قــال بنــرة ســاخرة:
-ال ختف أنا لن أقتلك يا ياسني أنا هنا ألنقذك ...اال تتذكرين؟
تفــرس ياســن فيــه بقــوة ،ثــم تذكــره فتغــرت مالمــح وجهــه قليــ ً
ا
وانبســطت ثــم قــال:
-آه ...أنــت كينتــو أو كيانــو أو كيلــو عــى مــا أظــن ...لقــد كنــت معــي
يف املســابقات اتذكــرك فقــد حصلــت عــى املركــز األول.
أبتسم كينو وهز كتفيه باستهجان قائالً:
-كيلو تقول؟ أنت ُمضحك ...إنه كينو تذكره جيدً ا.
تفــرس ياســن يف وجــه كينــو بضعــة حلظــات وقــد شــعر أنــه أصبــح أكــر
ـارب
يف الســن عــن آخــر مــرة رآه فيهــا ،فقــد نمــت لــه حليــة خفيفــة وشـ ٌ
د قيق .
مــد كينــو يــده لياســن ا ُملمــدد عــى األرض ،فــردد ياســن بضعــة ثـ ٍ
ـوان
ثــم أخــذ بيــده ،فأوقفــه كينــو عــى قدميــه ُمــد ًدا .قــال كينــو وهــو
يتفحــص الطريــق أمامــه:
-يبــدوا أنــك أصبحــت أكــر يف العمــر عــن آخــر مــرة رأيتــك فيهــا ،فقــد
35
نضجــا ،ولكــن
ً أصبــح شــعرك الفــي أطــول وأصبحــت مالحمــك أكثــر
مــا الــذي حــدث هنــا؟ ملــاذا كنــت هتــرب؟
تذكر ياسني الروبوت الذي كان يطارده ،فقال وهو يستعجل كينو:
-جيب أن هنرب من هنا فاملكان ليس آمن ًا عىل اإلطالق.
قال كينو هبدوء وهو ال يزال يتفحص املكان:
عيل.
-ال ختف أخربين فقط بكل يشء وأترك الباقي ّ
بدا عىل ياسني احلرية مما سمعه ،فقال باستهجان:
-أتــرك الباقــي عليــك! وكيــف أتــرك لـ َ
ـك شــيئا كهــذا؟ ســوف يقــي
عليــك!
-ال ختف لن يفعل ...قص عىل كل ما حدث فقط.
-صدقنــي هــذا ليــس شــيئ ًا نســتطيع التعامــل معــه يف حالتنــا احلاليــة،
جيــب أن هنــرب حــاالً.
حــدق كينــو يف عينيــه بــدون أن يــرف لــه جفــن .ثــم أبتســم قائــا هبــدوء
أ كثر :
-قلــت لــك ال تقلــق وأخــرين بــكل يشء فقــط ،وســينتهي االمــر
برسعــة.
صمــت ياســن قلي ـ ً
ا وأخــذ يفكــر ،ثــم قــال وهــو حيــك ذقنــه اخلفيفــة
ذات الشــعر الفــي:
ملخصــا رسيعــا قبــل أن يــأيت هــذا
ً -حســنا ســأخربك ،ولكــن ســأعطيك
36
الــيء جمــد ًدا.
تنهد كينو قائال ببعض االنزعاج:
-ال تقلق فقد جاء بالفعل.
حتركــت بعــض املشــاعر داخــل ياســن عندمــا ســمع هــذا وأخــذ ينظــر
تفحصــا املــول ولكنــه مل يــرى شــي ًئا فقــال بحــرة:
ً حولــه ُم
-جاء ...أين؟
فقال كينو وهو يشري إىل متجر ألعاب األطفال عىل يساره:
-إنه وراء احلائط ،سيخرتقه بعد حلظات.
نظــر ياســن إىل متجــر األلعــاب برتقــب ،وقبــل أن يفتــح فمــه ليقــول
شــيئ ًا ،وجــد احلائــط قــد انفجــر ،وحتــول املتجــر إىل كومــة مــن احلطــام،
يمــأه الدخــان واألتربــة.
نظر كينو إىل ياسني قائ ً
ال بجدية:
-هل تستطيع ان تقاتل معي؟
فرتدد ياسني قليال ثم قال بنربة آلية:
-أســتطيع أن أقاتــل معــك ولكــن طاقتــي نفــدت وجســدي مل يتعــاىف
بعــد بالكامــل ،أشــعر وكأننــي كنــت نائــم لســنني.
رد كينو وهو يشري بأصبعه ناحية باب اخلروج يف هناية الردهة:
-إذن أخــرج مــن هنــا حــاالً ،وانتظــرين أمــام البــاب ،فســوف يتحــول
37
هــذا املــكان إىل ســاحة معركــة.
عــدل ياســن مــن وضعيــة جســده وركــض باجتــاه البوابــة ،ثــم نظــر
خلفــه قائــا:
-وماذا عنك ،هل ستواجه هذا اليشء وحدك؟
قال كينو وهو يعدل من وضعية نظارته:
-ال تقلق ،سأحلق بك الحق ًا ،واآلن انطلق.
ظــل ياســن يتأمــل هــذه الثقــة العميــاء ،ورجــح أنــه سـ ُيقتل يف أي حلظــة
ولكنــه تذكــر قــوة كينــو يف قتالــه ضــد إيفانــوف ،وأنــه يملــك جســدً ا
يشــبه الروبــوت ،وهلــذا لديــه هــذه الثقــة يف الفــوز.
ركض ُمبتعدً ا عن ساحة املعركة ونظر خلفه ُمرتقب ًا ما سيحدث.
ومــن بــن األتربــة واخلــراب الــذي حــل عــى املتجــر ،رآه كينــو يقــرب
بخاصيــة عينــه عــى رؤيــة األشــياء مــن خلــف أي حائــط .تراجــع إىل
اخللــف بضعــة خطــوات ،واض ًعــا يــده يف جيــب رسوالــه .ومــن بــن
األتربــة خــرج الروبــوت ،بوجهــه البــارد ا ُملخيــف املجــرد مــن التعابــر،
وكانــت مصــادر الطاقــة ا ُملنــرة يف رأســه تشــع بقــوة ،مــع عينــاه.
وقــف أمــام كينــو وأقــرب منــه حتــى أصبحــت املســافة بينهــم ال تتعــدى
الثالثــة أقدام.
وفجــأة حــل الصمــت عــى اجلميــع وســكنت احلركــة متا ًمــا ،ومل ينبــت
أحــد ببنــت شــفه .توقــف ياســن عــن الركــض مــن أثــر هــذا املشــهد
38
الغريــب ،وقــال لنفســه:
-ملاذا ال هيامجه اليشء املعدين؟ هل ألهنم أقارب؟
فجــأة بــدا الروبــوت وكأن ـه يتفحــص كينــو ،فخــرج مــن عينيـ ِ
ـه ضــو ٌء ُ
أمحــر يفحــص جســده بالكامــل فثبــت كينــو بــدون أن يــرف لــه جفــن.
فجــأة أصــدر الروبــوت بعــض األصــوات الغريبــة ،فأنطلــق كينــو ناحيتــه
ولكمــه بيــده يف صــدره ،فطــار الروبــوت إىل اخللــف لريتطــم برفــوف
األلعــاب واحلطــام خلفــه ،حتــى خــرج مــن املــول متا ًمــا ،وســقط عــى
األرض ،فــرغ فــاه ياســن كــردة فعــل عــى قــوة كينــو ،فقــال وهــو يشــر
بأصبعــه إليــه:
-لقد لكمت هذا اليشء احلديدي بسهولة هكذا.
حــرك كينــو وجه ـ ُه جان ًبــا ،فمــر مــن جانبــه قذيفــة اســتقرت يف املتجــر
التــي كان يقــع خلفــه؛ فــدوى انفجــار هائــل يف أنحــاء املــول ،وبــدأت
النــران واألدخنــة تتصاعــد يف املتجــر حتــى الســاء ،فخــرج صــوت
إنــذار احلريــق يــدوي ،ثــم تــاه رشاشــات امليــاه املوجــودة يف الســقف،
فغمــر املــاء املــول يف حماولــة إلطفــاء النــران التــي نشــبت وبــدأت تــأكل
كل يشء .رأي كينــو أن الروبــوت دخــل إىل املــول جمــد ًدا ُمندفع ـ ًا نحــوه
برشــاقة ،وقــد قطــع متجــر األلعــاب ،حتــى خــرج منــه ،ثــم أنزلق بســبب
امليــاه وأرتطــم باحلائــط ،لكــن هــذا مل يوقفــه فوثــب برسعــة جمــد ًدا وقــد
التــف عــى األرض بجســده بطريقــة غريبــة ،ثــم ركــض عــى احلائــط
بأقدامــه مندف ًعــا ناحيــة كينــو فركــض ناحيتــه هــو اآلخــر واملــاء ينهمــر
فوقهــا ،فاقرتبــا مــن بعضهــا البعــض ،وقفــز الروبــوت عال ًيــا لينقــض
39
عليــه راف ًعــا قبضتــه ،فرفــع كينــو أيضـ ًا قبضتــه ،فالتحمــت قبضتــا أيدهيــا
بقــوة جبــارة ،ولكــن الغلبــة كانــت لكينــو ،فرتاجــع الروبــوت للخلــف
بضعــة أقــدام بســبب قــوة اللكمــة.
أنحنــي كــف كينــو فــوق معصمــه ،فــرزت فوهــة تبــدأ مــن معصمــه
وتنتهــي عنــد كتفــه ،ليتحــول يــده إىل مدفــع .صــوب الروبــوت بفوهــة
معصمــه ناحيــة كينــو ،بينــا نظــر ياســن برتقــب ملــا جيــري غــر قــادر
عــى احلــراك مــن مكانــه ومل يكــن يعلــم ملــاذا؟ شــعر أنــه غــر قــادر عــى
فعــل أي يشء وســط هــذه املعركــة الضاريــة ،فاكتفــى باملشــاهدة.
وجــد كينــو فوهــة املدفــع اليدويــة مصوبــة نحــوه ،فقــام بفتــح فوهــة
أيضــا ،وصــوب ناحيــة الروبــوت ،حــدق ياســن إىل كينــو بضــع يف يــده ً
حلظــات ،حمــاوالً فهــم مــا ينظــر إليــه .تدرجييــا بــدأت األمــور تتضــح
وتذكــر مــا حــدث يف املســابقة.
دوي انفجــار عظيــم يف املــكان بعــد أن تصادمــت قذيفــة ك ٍُّل مــن كينــو
والروبــوت م ًعــا .تدمــر جــزء كبــر مــن املــول ،وارتفعــت النــران إىل
أعــي ،مــن أثــر االنفجــارُ ،مطمــة الزجــاج الــذي كان يزيــن الســقف ،يف
حماولــة منهــا لكــي تالمــس الســاء.
ســقط ياســن عــى األرض مــن قــوة االنفجــار ،ولكــن مــن حســن حظــه
أنــه كان بعيــدً ا عــن مــداه ،فلــم ُيصــب بخــدش .وثــب عــى قدميــه جمــد ًدا
وهــو يرتنــح ،ودقــق النظــر داخــل النــران يف حماولــة لرؤيــة مــا آلــت إليــه
األمــور ،ومتنــي أن يكــون كينــو قــد نجــا ،ولكــن يف قــرارة نفســه مل يظــن
ـل كهــذا .فجــأة رأى شــي ًئا يتحــرك وســط أنــه قــد ينجــو مــن ٍ
يشء هائـ ٍ
40
النــران فحــدق بتلهــف ،حتــى رأي شــيئ ًا ُي ِلــق باجتاهــه مــن خــارج
ا قوتــه ،فمــر النــران ،فأغمــض عينيــه ورفــع يــده ليحمــي نفســهُ ،مف ّعـ ً
اجلســم الطائــر مــن خاللــه ليســتقر داخــل أحــد املتاجــرُ ،مطـ ًـا إياهــا.
فتــح ياســن عينيــه ُمــد ًدا ،ثــم تت ّبــع أثــر اجلســم املجهــول ،ولكنــه مل يــرى
شــيئ ًا غــر احلطــام ،فوجــه عينيــه ناحيــة النــران ُمــد ًدا ،ليجــد شـ ً
ـخصا
خيــرج مــن بينهــا .أســتعد ياســن للهــرب ،ومتنــى أن يكــون كينــو هــو
مــن نجــي؛ ولكــن أســوء خماوفــه قــد حتققــت ،فقــد رأي وجــه الروبــوت
الفــي ،خيــرج مــن النــران ،فرتاجــع إىل اخللــف وانقبضــت قســات
وجهــه ال إراد ًيــا وأســتعد ليهــرول مبتعــدً ا ،ولكــن فجــأة ســقطت رأســه
عــى األرض وأخــذت تتدحــرج وهــي منفصلــة عــن جســده ،فخــرج
كينــو مــن ورائهــا ،وهــو يضحــك عــى ردة فعــل ياســن ،قائــا ليطمئنــه:
-ال ختــف إنــه أنــا ...لقــد كنــت أريــد أن أري ردة فعلــك ...ولكــن
ـرا ،ربــا يعــود هــذا إىل لــون برشتــك الغريــب
يبــدوا بأنــك ال تتفاعــل كثـ ً
املائــل إىل األزرق ...مــن يعلــم.
قال ياسني متسائالً:
-وما هي ردة الفعل.
-إنه موضوع طويل ...ستتعلمه الحق ًا ...عندما حيني الوقت.
رأي ياســن كينــو خيــرج مــن النــران وقــد أحــرق قميصــه ،ورسوالــه
حتــى ركبتيــه ،وال زالــت نظارتــه كــا هــي ،فركــض ياســن ناحيتــه قائـ ً
ا
وهــو يتفحــص جســده:
41
-أنــت تشــبه هــذا الــيء احلديــدي حق ـ ًا؟ ولكــن ملــاذا هتامجــه؟ ألســتام
أقــارب؟!
قــال كينــو وهــو يعــدل مــن وضعيــة نظارتــه وعــى وجهــه ابتســامة
ســاخرة:
-سايبورج من فضلك.
فقال ياسني بتعجب:
-سايبورج ،وماذا يعني هذا؟
فرد كينو ،وهو ينفد األتربة عن جسده:
-معنــاه أننــي نصــف إنســان ونصــف روبــوت ...والروبــوت هــو اليشء
املعــدين الــذي دمرتــه منــذ قليل.
ٍ
بتشكك قائالً: فرتاجع ياسني خطوة إىل اخللف وحدق إليه
-نصــف روبــوت ونصــف إنســان ،كيــف هــذا؟ لقــد رأيتــك يف املســابقة
ولكننــي ظننــت أهنــا قوتــك الغريبــة مثــل البقيــة.
صمت كينو بضعة ثواين ثم أستطرد قائالً:
-ال أنــا حقـ ًا ال أمــزح ...أنــا هــو أول حماولــة لدمــج اآللــة باإلنســان...
ولكــن عندمــا اســتيقظت يف هــذا الــرج الغريــب ،وجــدت أنــه ُاضيــف
إىل جســدي ا ُملعــدّ ل القديــم وظائــف جديــدة ...بعــض التعديــات
بوجــه أدق.
تفحصا جسده:
ً قال ياسني وهو يلتف حول كينو ُم
42
-بعض التعديالت مثل ماذا؟
شــعر كينــو بالغرابــة واإلحــراج ممــا يفعلــه ياســن ،ولكنــه توقــع هــذا
األمــر ،فقــال هبــدوء:
-لقــد ُأضيــف إىل جســدي آليــات هجــوم ودفــاع ،وأصبحــت أقــوى
بكثــر عــن ذي قبــل .ليــس هــذا فقــط بــل تطــور ســمعي وبــري
وقــويت البدنيــة إىل مــا يفــوق اإلنســان الطبيعــي بكثــر .أصبحــت أرسع
قليــاً ،وأمتلــك بعــض االشــياء املثــرة يف جعبتــي ...لقــد تــم إجــراء
أشــياء غريبــة عــى جســدي نقلتنــي ملرحلــة جديــدة متا ًمــا ،ال أعــرف مــن
فعــل هــذا؟ ولكنــي ممتــن لــه ألنــه مل يلمــس قلبــي أو ينــزع مشــاعري،
أو عقــي وأ ًيــا مــن األشــياء التــي كانــت جتعلنــي أشــعر كأننــي ال زلــت
إنســانًا بعــد كل يشء ...وإال لكنــت أصبحــت مثــل هــذا الــيء الــذي
هامجــك ،روبــوت بــا مشــاعر ،يتحــرك حســب برجمتــه فقــط ،ومــن
ـرا عــن هــذا الروبــوت، املضحــك أن الكثــر مــن البــر ال خيتلفــون كثـ ً
فهــم يتحركــون كــا يمليــه عليهــم املجتمــع.
توقــف ياســن عــن فحــص جســده ،وأخــذ يفكــر فيــا قالــه جيــدً ا ،ثــم
قــال بنــرة رسيعــة متلعثمــة:
-لقــد حــدث يل نفــس الــيء ...لقــد اســتيقظت هنــا بقــوة غريبــة...
ال أعــرف أيــن أنــا وال أتذكــر أي يشء؟! ال أتذكــر أنــه كان يل حيــاة مــن
قبــل! كأين تائــه! أو كأين ولــدت اآلن! ولكــن رغــم هــذا ...فأنــا أســتطيع
التحــدث وفهــم الكثــر مــن األشــياء التــي أرجــح عــى أهنــا دليــل عــى
ـن ال اتذكرهــا بعــد! هــل تتذكــر أنــت أي يشء وجــود حيــاة ســابقة ولكـ ِ
43
عــن حياتــك؟
قال كينو وهو حيك ذقنه يف حماولة للتذكر:
-ال ال أذكــر ،لقــد تــم حمــو هــذا اجلــزء مــن ذاكــريت ،فأنــا لــدي ذاكــرة
خاصــة بجانــب ذاكــريت الطبيعيــة كإنســان ،وهــذه الذاكــرة تُســجل كل
عــن اصطناعيــ ٌة باملناســبة؛
ٌ يشء تلتقطــه عينــي اليمنــي ،والتــي هــي
تعمــل كرشيــط فيديــو وتســجل كل األحــداث ،لــذا عندمــا أنســى شــيئ ًا
بعقــي البــري ،أقــوم بالولــوج إليهــا لتذكــر كل يشء حــدث بالضبــط.
ولكننــي الحظــت أن جــز ًءا مــن ذاكــريت احلقيقيــة وذاكــريت االصطناعيــة
قــد ُمــي ،وال أســتطيع تذكــر أي يشء لســوء احلــظ.
تعجــب ياســن مــن األشــياء الغريبــة التــي يمتلكهــا كينــو داخــل جســده،
فقــال لــه بفضول:
-كيف تم تعديلك؟ وأصبحت هذا اليشء الذي ُيدعي سايبورج؟!
نظــر كينــو إىل القمــر ،الــذي يرســل ضوئــه عــر الســقف ا ُملحطــم للمــول
ثــم تنهــد قائـاً:
-إهنــا قصــة طويلــة ،ولكــن باختصــار ،كان أخــي يعمــل يف علــم
الروبوتــات ،وكان مــن أفضــل العلــاء يف جمالــه ،بــل تســتطيع أن تقــول
أنـ ُه املســؤول عــن الثــورة الصناعيــة للروبوتــات ،بســبب متكنــه مــن حــل
معضلــة الــذكاء االصطناعــي اخلــارق والتــي كان البــر هيابوهنــا خوف ـ ًا
مــن متــرد الروبوتــات عليهــم إن اســتطاعوا ان يتطــوروا مــع الوقــت
ليكتســبوا وع ًيــا مثــل البــر.
44
وضــع أخــي ثالثــة قوانــن للروبوتــات وســاها قوانــن أزيمــوف
تيمن ـ ًا بالكاتــب األمريكــي املشــهور ،وبعدهــا بــدأت الثــورة الصناعيــة
للروبوتــات والتــي نقلــت البــر إىل مرحلــة أخــرى مــن التقــدم
والتطــور ...ونــال أخــي تقديــرات وجوائــز كثــرة بســبب هــذا ...وبــا
أننــا االثنــان فقــط الوحيــدان يف عائلتنــا ،فقــد كنــا ُمقربــن مــن بعضنــا
البعــض ،ألن والدينــا قــد توفــوا منــذ زمــن ...كنــا نفعــل العديــد مــن
األشــياء م ًعــا ،وال ُيفــى أحدنــا عــى اآلخــر أي يشء .ولكــن يف يــوم
مــن األيــام كنــت عائــدً ا بســياريت مــن العمــل ،وكنــت أشــعر بالنعــاس
الشــديد ،فــردت لبضعــة ثــواين ومل أفــق إال عــى بــوق وأنــوار ســيارة
أخــرى يف وجهــي وقــد لفــح النــور عينــي بقــوة وفجــأة أظلــم كل يشء.
صمت قليال ،يف حماولة للتذكر ،ثم أستطرد قائال بنربة كئيبة:
-عندمــا اســتيقظت وجــدت نفــي قــد أصبحــت روبــوت ،وبالطبــع
جــن جنــوين مــن التغيــرات التــي وجدهتــا يف جســدي ،ولكــن أخــي
حــاول هتدئتــي وبــدأ يــرح يل مــا حــدث .تبــن بعــد ذلــك أننــي كنــت
عــى شــفري املــوت ،وكان احلــل الوحيــد للنجــاة ،هــي جتربــة كان أخــي
ورفاقــه يف جمــال اآلالت يعملــون عليهــا ويطوروهنــا ،حتــى يصــل
اجلســم البــرى إىل مرحلــة جديــدة ،فبــدأ يــرح يل أنــه مــع دمــج اآللــة
باإلنســان ،ســنعالج الشــلل ،والعمــي ،والصمــم ،والبكــم ،واألمــراض
املســتعصية ،وليــس هــذا فقــط بــل ســيصبح اإلنســان أذكــي بكثــر،
وأكثــر وع ًيــا وحتصين ـ ًا ضــد األمــراض.
ا وأخــذ نفــس عميق ـ ًا بينــا يتفحــص نظــرات ياســن
صمــت كينــو قلي ـ ً
45
ا ُملندهشــة مــن حكايتــه الغريبــة ،ثــم أســتطرد قائ ـاً:
قامــوا باســتخدام آالت النانــو الصغــرة ،التــي تســبح داخــل جمــري الدم،
وداخــل الغــدد ،والرشايــن ،وكل خليــة بداخلــك ،لتكــون كتحديــث
جلســدك اجلديــد ،ممــا جيعلهــا هتاجــم أعتــى الفريوســات واألمــراض
املســتعصية ،كخاليــا الرسطــان ومــرض الســكري ،قاضيــة عليهــم
بمجــرد حماولتهــم التفــي يف جســدك ،فنظــام املناعــة أصبــح ال يقهــر
اآلن ،وليــس هــذا فقــط بــل إهنــا س ـتُصلح أي خاليــا تالفــة بداخلــك،
أي أنــه إذا قطعــت يــدك فإهنــا ســتنمو مــن جديــد ،ولكنهــا ستســتغرق
بعــض الوقــت.
قاطعه ياسني وهو مندهش مما سمعه قائال:
-هل هذا يعني أن جسدك يتجدد تلقائ ًيا ،إذا تم قطع جزء منه؟
رد كينــو وهــو ينظــر إىل أصبــع الســبابة يف يــده اليمنــي الــذي قطــع أثنــاء
مواجهتــه مــع الروبــوت الفــي:
-نعــم ،مثــل هــذا اإلصبــع ...وبينــا نحــن نتكلــم اآلن ،فــإن آالت النانــو
تعمــل عــى جتديــد اخلاليــا املفقــودة ،وإرجاعهــا كــا كانــت عليــه قبــل أن
تُقطع .
بدا عىل ياسني االهتامم هبذا االخرتاع الرائع ،فقطب حاجبيه قائال:
-وكيف كانت حالتك؟ وكيف عاجلك أخيك؟
تنهد كينو ،وهو يستعيد هذه الذكريات املؤملة قائالً:
46
-لقــد قالــوا يل أنــه ال أمــل يل إطالق ـ ًا؛ لقــد ُقطعــت قدمــاي ،ويــداي،
وأصبــت بجــروح بليغــة يف كل جســدي وبالقــرب مــن قلبــي ،فلــم
يكــن احلــل الوحيــد ألخــي إال القيــام هبــذه التجربــة قيــد التمهيــد،
والتــي مل تكتمــل بعــد ...ولكنهــا كانــت األمــل الوحيــد املتــاح يف ذلــك
الوقــت ....كــرس أخــي كل وقتــه يف حماولــة عالجــي ،فوضعنــي يف
خمتــره ،يف صنــدوق زجاجــي بداخلــه مــاء ،وبــدأ بتصميــم جســد جديــد
يل؛ فصنــع أقــدا ٍم اصطناعيــة ،بمفاصــل دقيقــة تعمــل كقــدم اإلنســان،
وربطهــا بجســدي بــآالت النانــو ،التــي بدورها ربطــت مراكــز االعصاب
واألربطــة واألوتــار بقدمــي االصطناعيــة ،وجعلتنــي أحتكــم هبــا وكأهنــا
جــزء منــى ...وفعلــت نفــس األمــر مــع يــدي ،وبعــض األجــزاء األخرى
أيضــا مثــل عينــي اليمنــي .وهكــذا جعــل آالتالتــي تدمــرت يف جســدي ً
النانــو تســبح يف جســدي لتصلــح كل الــرر املحيــط بــه ،وبعــد ثالثــة
ســنوات مــن العــاج ،اســتيقظت.
ســكت ياســن قليـ ً
ا وقــد رشد ذهنــه وهــو يفكــر هبــذه القصــة الغريبــة،
ثــم قطــع صمتــه قائـاً:
-إذا هل هذا يعني أن عينك اليرسى حقيقية؟
ساخرا:
ً رد كينو
-هل هذا كل ما جذب أنتباهك يف القصة؟! نعم إهنا حقيقية.
متتم ياسني قائ ً
ال بابتسامة آلية مصطنعة:
-ال ...بالطبــع ...ليــس هــذا ،ولكــن كنــت أريــد أن اســتفرس ليــس
47
َ
أنــك مــررت بالكثــر. أكثــر ...عــى أي حــال ال بــد
مشــرا
ً عــدل كينــو مــن نظارتــه ،وســار باجتــاه أحــد متاجــر املالبــس،
لياســن أن يســر معــه ،فتبعــه ياســن بخطــوات رسيعــة ،فأكمــل كينــو
ا وهــو يفحــص املــول: قائ ـ ً
ـرا ،وقضيــت الكثــر مــن الوقــت يف رصاعــات مــع -بالطبــع عانيــت كثـ ً
نفــي حتــى اعتــدت عــى التغيــرات التــي يف جســدي وبــدأت أتعايــش
معهــا .وعــى الرغــم مــن أن التعديــات كانــت متقنــة ،ومل جتعلنــي أبــدو
ـخص غريــب األطــوار ،ولكــن هــذا مل يمنــع بعــض النــاس الذيــن ٍ كشـ
ســمعوا بــا حــدث يل ،أن يســخروا منــي باســتمرار ،بكلــات مثــل:
مرحبــا يــا علبــة الســاردين ،نصــف البــري ،آلــة الصــودا ،وأشــياء
غريبــة كهــذه ،ولكــن مل أكــن أعريهــم أي انتبــاه عــى االطــاق ،إال
عندمــا تطــور األمــر لالعتــداء اجلســدي ،وبالطبــع جســدي اجلديــد كان
يســاعدين يف ابراحهــم رضبــا ،ولكــن األمــر أصبــح م ِ
زع ًجــا حقـ ًا ،وكنــت ُ ً
أعــاين بســببه ،فالبــر يعادونــك مــن أجــل أشــياء مل خترتهــا ...ولألســف
فأخــي العزيــز ذهــب إىل رحلــة إىل الفضــاء اخلارجــي التــي كانــت
تُدعــى إينيكــس 2اخلاصــة بوكالــة الفضــاء ســيرتا ،بعــد أن فشــلت
إينيكــس 1واختفــت يف املجــرة التاليــة بــدون أثــر ،فانطلقــت إينيكــس
أيضــا مثــل
2إلكــال التجربــة والبحــث عــن إينيكــس 1ولكنهــا اختفــت ً
رفيقتهــا ...لقــد كان يريــد الذهــاب إىل هــذه الرحلــة بشــدة لســبب مــا
أجهلــه ،وحذرتــه مــن عواقبهــا ولكنــه أرص وهــا هــو قــد اختفــي معهــا
كــا حذرتــه.
48
شــعر ياســن بشــعور مزعــج داخلــه مل يفهــم مغــزاه ،فصمــت وهــو ال
يعــرف مــاذا يقــول لــه ،ثــم دمــدم قائ ـاً:
-ال أعلم ماذا أقول َ
لك يف مثل هذه املواقف ولكنه يش ٌء غري جيد.
فرد كينو وقد ارتسم شبح ابتسامة عىل وجهه:
-ال عليك ،فقد اعتدت عىل االمر ومل يعد يزعجني.
قميصــا بــدل
ً دخــا إىل املتجــر ،وبــدأ كينــو ينظــر إىل القمصــان ،ليختــار
أبيضــا ُيشــبه قميصــه القديــم ،فتناولــه
قميصــا ً
ً قميصــه املحــروق ،فــرأي
ِ
يف يــده ،ثــم بحــث عــن رسوال شــبيه لرسوالــه القديــم ،فوجــد رسوال
أيضــا ،ثــم دلــف إىل غرفــة تغيــر املالبــس، جينــز مناســب لــه فأخــذه ً
طال ًبــا مــن ياســن أن ينتظــره ،فأومــأ ياســن برأســه باملوافقــة ،ثــم بــدأ
بــدوره يتفحــص املالبــس واالشــياء األخــرى مــن حولــه ،وتثــاءب بملــل
أثنــاء انتظــاره لكينــو ،ثــم ذرع املتجــر جيئــة وذها ًبــا ،حمــاوالً قتــل الوقــت
حتــى ينتهــي كينــو ممــا يفعلــه .وبعــد أن أخــذ جولــة داخــل املتجــر ،قــرر
أن ينتظــره عنــد بــاب الدخــول ،وأثنــاء توجهــه إليــه خــرج كينــو يركــض
ـورا وقــد أنتهــي مــن ارتــداء مالبســه بالكامــل ،وصــاح مــن الغرفــة مذعـ ً
بلهجــة حمــذرة ناحيــة ياســن:
فورا!
-أهرب من هنا ً
فجأة أنفجر كل يشء.
***
49
5
توجــه نــور إىل الطابــق األعــى ،والقلــق قــد متكــن منــه ،فصعــد الدرجات
ـطء وهــدوء بــدون أن يصــدر أي صــوت حمــاوالً هتدئــة نبضــات قلبــه. ببـ ٍ
أخــرا إىل بــاب املــؤدي للطابــق األعــى ودلــف هبــدوء وهــو ً وصــل
يصــوب مسدســه يمين ـ ًا ويسـ ً
ـارا حتس ـ ًبا ألي يشء.
وجــد هــذا الطابــق هــو اآلخــر ملــئ بجميــع أنــواع األســلحة ،ولكنــه
مظلــم وكبــر ومكــون مــن عــدة طرقــات ممتلئــة بشــتى أنــواع األســلحة
ا ُملعلقــة عــى احلائــط .أكمــل ســره خائفـ ًا مرتق ًبــا ممــا قــد يقابلــه ومتنــى أن
جيــد إنســان ًا ليســتفرس من ـ ُه عــن كل يشء .أحنــى ركبتيــه وأكمــل ســعيه،
وهــو يتنقــل بفوهــة مسدســه مــن جهــة إىل أخــرى .فجــأة استشــعر
صــوت أقــدام قادمــة مــن الغرفــة املقابلــة لــه ،فاختبــأ خلــف أحــد
الطــاوالت وســكن متا ًمــا وســط الظــام املخيــم عــى الغرفــة .أقــرب
ـطء قاتــل ،فحبــس نــور انفاســه. صــوت األقــدام شــيئ ًا فشــيئ ًا ببـ ٍ
50
أخــرج مسدســه ورفعــه فــوق الطاولــة ،وأطلــق يف الظــام بــدون ان
ينظــر ،فتبــادل إطــاق النــار مــع العــدو حتــى انتهــت ذخريتــه ،ثــم قــال
الهث ـ ًا بنــرة يشــوهبا التوتــر:
-من هناك؟
فسمع صوت ًا أنثوي يرد بنربة خائفة ومرتددة قائالً:
-بل من انت؟ هل أنت إنسان؟
نظر نور إىل نفسه ثم قال بسخريه:
-ال أنــا أحــد الفضائيــن القادمــن مــن املريــخ ،وأريــد أن أحصــل عــى
عقلــك كعينــة لبعــض الدراســات يف كوكبنــا.
صمت ثانية ،ثم أستطرد قائ ً
ال بانفعال:
-بالطبع أنا إنسان هل متزحني معي؟
فقالت الفتاة بنربة غاضبة:
-أمتــزح يف وقـ ٍ
ـت كهــذا؟ لقــد ظننتــك أحــد الروبوتــات التــي تتجــول
يف األرجــاء.
فكر نور برسعة وقال بينه وبني نفسه:
-حســنا يبــدو ،أهنــا حــدث هلــا مــا قــد حــدث يل وهــذا لصاحلــي...
فهــذا يعنــي أن هنــاك أشــخاص آخريــن يف هــذه املدينــة ،سأســتغل
الوضــع لصاحلــي وأحــاول أن أجعلهــا تنضــم يل لعلهــا تعــرف شــيئا...
ا إن أحسســت أن هنــاك أحــدً ا معــي كــا أننــي سأشــعر باالطمئنــان قليـ ً
51
يف هــذه االحــداث املجنونــة.
قال يف حماولة لتهدئة األمور:
-لقــد حــدث يل نفــس الــيء الــذي حــدث لــك ...اســتيقظت وحيــدً ا
يف هــذا الــرج العجيــب ثــم خرجــت إىل املدينــة ألجدهــا فارغــة مــن
البــر ،ممتلئــة هبــذه اآلالت اللعينــة ،وال أفهــم مــا الــذي حيــدث هنــا؟!
لقــد جذبنــي القــدر إىل هنــا ،وأظــن ممــا قلتيــه أن نفــس الــيء قــد حــدث
لــك ،ولكــن هــل حالفــك احلــظ وعثــريت عــى أي ناجــن آخريــن غريي؟
ـخصا تلتقــن بــه منــذ اســتيقاظك؟أم أنــا أول شـ ً
فقالت واالستياء با ًدا يف نربهتا:
-انتظر قليالً ...هل قلت برج؟
-نعم برج ...ملاذا؟
-هل تم وضعك يف عدة اختبارات انتهت بالقتال بني السجناء؟
-هذا ما حدث بالضبط ...هل حدث لك نفس اليشء.
-ما أسمك ...قل يل؟
-نور وأنت؟
-نور هذا أنت! يا إهلي ال أصدق نفيس.
قام نور من موضعه وقال وقد اتسعت عيناه من الدهشة:
-جني هل هذه ِ
أنت؟
52
اقرتبــت جــن منــه وخرجــت مــن الظــام لتتضــح مالحمهــا .كانــت
ترتــدي ســرة ســوداء تغطــي جســدها مــن أعــي إىل أســفل لتعطيهــا
بعــض الدفــأ يف هــذا اجلــو البــارد ،وترتــدي عــى رأســها قبعــة صوفيــة
كثــرا.
ً تغطــي شــعرها وأذنيهــا بالكامــل ،وبــدت وكأن عمرهــا أزداد
قالــت والســعادة باديــة عــى وجههــا:
-نعم إنه أنا.
أبتســم نــور وشــعر أن قلقــه وخوفــه قــد تــايش متا ًمــا ،فقــال بنــرة
مندهشــة:
كثــرا ...كيــف وصلتــي
ً -جــن ال أصــدق أنــك حيــة ...لقــد قلقــت
ـرا! تبديــن ِ
إىل هنــا؟ هــل أصابــك أي مكــروه؟ لقــد تغــرت مالحمــك كثـ ً
أطــول ومالحمــك توحــي بســيدة يف اخلامســة والعرشيــن مــن عمرهــا!
بــدا عــى عــن جــن اإلرهــاق ،فابتســمت وهــزت رأســها وتنهــدت
قائلــة:
أيضــا مــررت بالكثــر، َ
أنــك ً -لقــد مــررت بالكثــر ،ولكــن يبــدوا
فمالبــس املريــض التــي ترتدهيــا تبــدوا وكأهنــا ســقطت وســط إعصــار.
شعر نور باحلرج من مالبسه ،فحاول إخفاء خجله قائالً:
-حسن ًا لقد حدث الكثري من األمور.
أيضــا! يبــدوا
-ومــا خطــب ذقنــك وشــاربك؟ وتبــدوا أكــر يف الســن ً
أننــي مل أتغــر وحــدي ...لقــد تعجبــت يف البدايــة مــن التغيــرات التــي
عــي ولكــن يبــدوا أننــا فقدنــا وعينــا لفــرة طويلــة للغايــة اهلل
طــرأت ّ
53
وحــده يعلمهــا.
قطب نور حاجبيه قائالً:
-يبــدوا أن الغمــوض ال زال حييــط بــكل يشء وهــذا يثــر حنقــي ...عــى
كل حــال ســأروي لــك مــا حــدث يل وأروي يل مــا حــدث لــك؟
اومأت جني برأسها باملوافقة.
فتوجه نور إىل أحد الكرايس وجلس عليه وطلب منها أن جتلس.
قال نور وهو يسرتجع ما حدث له:
-لقــد اســتيقظت يف هــذا الــرج الغريــب ،ويبــدوا أن هــذا مــا حــدث
معــك بالفعــل .وجــدت الصــوت الغريــب يتحــدث معــي ،وجعلنــي
أمــر بعــدة اختبــارات ،ألســتخدم قــويت وهــي اخليــال.
-نعــم أعلــم عــن قدرتــك هــذه ،لقــد أدهشــني اســتخدامك هلــا ،لقــد
كنــت رائ ًعــا.
شعر نور باإلطراء فأردف قائالً:
أيضا ...عىل كل حال.
-آه ...لقد احرجتني ...لقد كنت ُمذهلة ً
قاطعته جني قائلة:
-إذا ،فأنت ال تستطيع ُصنع كل ما تريد؟
تنهد نور باستياء قائال:
-نعــم لســوء احلــظ ،أســتطيع صنــع أشــياء بســيطة فقــط ،لكــن اظــن
54
ببعــض التدريــب والتعلــم ،قــد أســتطيع صنــع العديــد مــن األشــياء
الرائعــة.
ٍ
ثــوان ،وهــي تتخيــل مــا قــد حيــدث رشدت جــن يف خياهلــا بضــع
باســتخدام قــوة كهــذه ،ثــم قالــت:
كثــرا يف اخلــروج مــن هنــا...
ً -نعــم بالطبــع قــد تُفيدنــا هــذه القــوة
أيضــا مــن الكثــر مــن املواقــف الصعبــة. واخلــروج ً
أبتسم نور ،قائالً:
-بعــد أن أتقنهــا بالطبــع ...عــى أي حــال عندمــا خرجــت مــن الــرج
شــخصا غري ًبــا يف الغابــة،
ً بعــد أن فقدنــا الوعــي يف املســابقة ،قابلــت
ومعــه صديــق لــه ،كان حيمــل قناصــة وخيتبــأ عــى أحــد أســطح املبــاين
ولكنــى مل أره ...شــعرت بوجــوده مــن صــوت ســاحه الــذي كان يــدوي
وحيمينــا مــن املطارديــن ،ولــواله هــو والغريــب ا ُمللثــم لكنــت قــد قضيت
نحبــي ...لقــد أنقــذين مــن روبــوت ضخــم معــه كلبــن آليــن ،وبعدهــا
تفرقــت عنــه بســبب املطــاردة الرشســة .بعــد ذلــك عــرت عــى روبــوت
ا ليســحقني أســفله ،بالــكاد نفــدت يشــبه العنكبــوت ،وكان حجمــه هائـ ً
بجلــدي منــه .وهكــذا وصلــت إىل هنــا ...واآلن تعلمــن مــا حــدث
ملالبــي.
ضحكت جني قائلة:
-نعــم لقــد علمــت مــا حــدث ملالبســك ...يبــدوا أنـ َ
ـك مــررت بالكثــر
أنــك اســتطعت الوصــول إىل هنــا ...كان ســيجن َ ولكــن مــن اجليــد
55
جنــوين إن مل أجــد أحــدً ا وســط هــذا اجلحيــم؟
أيضــا ...مــن اجليــد أين وجدتــك فأنــا ال أفهــم -لقــد كنــت ســأجن ً
يشء ...واآلن قــي عــي مــا حــدث لــك لعــي أجــد شــيئ ًا ننتفــع بــه.
رشدت جــن للحظــات يف حماولــة الســرجاع كل مــا مــر عليهــا ،وبعــد
ذلــك اهنالــت عليهــا الذكريــات ،فضغطــت عــى شــفتها الســفيل بتوتــر
ثــم قالــت:
أيضــا ،ومثلــك فقــد
-حســنا ،لقــد اســتيقظت يف هــذا الــرج الغريــب ً
كان هنــاك صــوت أحدهــم يوجهنــي مــن مــكان مــا ،ويدربنــي أيضــا
عــى قــدرة غريبــة ...بالطبــع أنــت تعلمهــا ،إهنــا التحكــم بالزمــن لبضعــة
ثـ ٍ
ـوان.
هز نور رأسه ،فاستأنفت جني قصتها قائلة:
-بعــد أن انتهيــت مــن تدريبــايت يف التحكــم بالزمــن ،دخلــت املســابقة
معــك ،ثــم حــدث مــا حــدث ،واســتيقظت بعدهــا ألخــرج يف منطقــة
غريبــة ،تبــدوا كسـ ٍ
ـهل واســع ،ولــن تصــدق مــا رأيتــه يف طريقــي! لقــد
مــررت عــى غابــات أغــرب مــن اخليــال ورأيــت حيوانــات غريبــة
للغايــة ...يــا إهلــي لقــد أصابنــي الفــزع ...لقــد شــعرت أننــي يف عــاملٍ
آخــر ...كانــت النباتــات غريبــة والعــامل كلــه غريــب وغــر مألــوف...
ـجارا ُمتلفــة ألواهنــا
رأيــت مــا ًء يرتفــع يف اهلــواء عكــس اجلاذبيــة وأشـ ً
وأشــكاهلا ،وبالطبــع احليوانــات ذات األربعــة عيــون واألذرع الغريبــة...
جحيــا يل.
ً لقــد كان هــذا
56
أشــجارا غريبــة للغايــة ُمتلفــة ألواهنــا وأشــكاهلا
ً أيضــا
-لقــد رأيــت ً
ـوق حــي عــى األطــاق ...مــاذا تقصديــن بأربعــة ولكنــي مل أرى أي خملـ ٍ
عيــون؟
-الطيــور كانــت متتلــك أربعــة عيــون بــل وبعــض احليوانــات التــي
تُشــبه القــردة كانــت متتلــك أربعــة أزرع ...لقــد كان شــيئ ًا غري ًبــا للغايــة!
ال أفهــم مــا الــذي حيــدث عــى كوكبنــا ...كل يشء يبــدوا غــر مألــوف
ولكنــي قابلتــه!
-قابلتيه! من هذا؟
أيضــا مثــل الــذي أنقــذك، -ال أعلــم مل أري وجهــه ولكنــه كان ملثــ ٍم ً
ولكــن جســده كان خميــف للغايــة ...كان يبلــغ طولــه أكثــر مــن مــران
عــى أقــل تقديــر ...هجمــت عــى أحــد هــذه املخلوقــات الغريبــة وكادت
أن تقتلنــي ولكنــه أنقــذين ...أفزعنــي شــكله يف البدايــة ولكنــي علمــت
رشا ...طلــب منــي أن أتبعــه ورسنــا أيا ًمــا بــدون أن ينبــس أنــه ال ينــوي ً
ببنــت شــفه ،ومل يكــن جييــب عــى أســئلتي هنائ ًيــا ...مل أر مالحمــه التــي
أخفاهــا جيــدً ا حتــت قنــاع عجيــب ،وســاورين الفضــول عــا يبــدوا
شــكله ...ولكنــه أوصلنــي إىل املدينــة ا ُملحطمــة وأشــار إىل أن أكمــل
الطريــق وحــدي ثــم عــاد أدراجــه.
بــدا عــى نــور االندهــاش ممــا ســمعه ومل يعلــم مــا هــي قصــة هــؤالء
امللثمــن ،فــازدادت احلــرة مــن ترصفاهتــم الغريبــة ،ولكنــه تــرك جــن
تكمــل كالمهــا ومل يقاطعهــا:
-دلفــت إىل املدينــة الفارغــة ،ورست يف ارجائهــا لفــرة طويلــة ،وقــد
57
انتابنــي القلــق عندمــا مل أجــد أحــد يف اجلــوار؛ ال صديــق وال عــدو ،وكل
مــن أعرفــه قــد أختفــي ،شــعرت أننــي وحــدي اآلن يف هــذا اجلحيــم،
بهــا وغــر مفهــوم، مل أفهــم مــا حيــدث مــن حــويل ،فــكل يشء كان ُم ً
ـرا
ـارا كبـ ً
والغمــوض يلفـ ُه .ولكــن وبعــد فــرات مــن الســر رأيــت انفجـ ً
مــن أحــد املبــاين البعيــدة ،مل أتعــرف عــى مصــدره ،ولكنــه أفزعنــي ،وىف
نفــس ذات الوقــت أعطــاين بعــض األمــل ،أنــه ربــا هنــاك أحــدً ا مــا.
ـار متتـ ٍ
ـال مــن بعــد بضعــة دقائــق ،تــى هــذا االنفجــار صــوت إطــاق نـ ٍ
ـكان قريــب ،ذهبــت ناحيــة املصــدر ،ولكننــي توخيــت احلــذر فأنــا ال مـ ٍ
ـرا مــن املدينــة وقــد
أفهــم مــا حيــدث هنــا ،وىف الطريــق رأيــت ُجــز ًء كبـ ً
ُدمــر متا ًمــا واحــرق ،وكانــت اجلثــث متناثــرة يف كل مــكان ،ورأيــت
جمموعــة مــن الروبوتــات الغريبــة قــد هبطــت مــن طائــرة عجيبــة
أيضــا ،فاختبــأتالشــكل وبــدا وكأهنــا متوجهــة ناحيــة مصــدر الصــوت ً
بــدوري يف فــزع ذهــول وأصــاب جســدي الشــلل لعــدة دقائــق مــن
أثــر الصدمــة .أيقنــت أن الروبوتــات قــد ثــارت علينــا وســيطرت عــى
كل يشء ودمــرت العــامل ،وبعــد ذلــك أدركــت أنــه ربــا هنــاك شــخص
مــا حيــارب هــذه اآلالت ،فعزمــت أن أســبقهم وأســلك طريقــ ًا آخــر
ـرا بــاألصــل إليــه قبلهــم وأحــذره مــن قدومهــم .وهكــذا ركضــت كثـ ً
توقــف حتــى وصلــت إىل املصــدر ،وندمــت لذهــايب إىل هنــاك .كل مــا
رأيتــه كان شــخصان يتواجهــان يف معركــة غريبــة تُدهــش األنظــار .كان
ـخص ُملثــم مثــل الــذي ســاعدين ولكنــه أقــر بكثــر ،حيمــل هنــاك شـ ٌ
ســيف ضوئــي غريــب ،وشــخص آخــر عريــض املنكبــن وضخــم اجلثــة،
جســده عبــارة عــن كتلــة مــن العضــات .كانــت املعركــة شــديدة
58
بينهــم ،ومل افهــم مــا حيــدث بســبب الظــام ،رغــم ذلــك فقــد أدركــت
أهنــم يمتلكــون قــدرات غريبــة مثلنــا ،وعندمــا دققــت النظــر رأيــت أن
الضخــم هــو إيفانــوف!
بــدا عــى نــور الرتكيــز الشــديد والدهشــة وهــو يســمع هــذه القصــة،
مســتفرسا:
ً فقاطعهــا
-أقلــت شــخص ملثــم حيمــل ســيف ًا ضوئــي؟! إنه نفــس الشــخص الذي
أنقــذين! ورأيـ ِ
ـت إيفانــوف؟ هــذا يعني أن مجيــع املتأهلــن للمراكــز الثامنية
قــد خرجــوا بالفعــل كــا وعدهــم الصــوت ...أكمــي يل مــا حــدث بينهــم
بالتفصيــل املمــل ...فقــد نســتفيد مــن معرفــة هــذه التفاصيــل ،ونكتشــف
أي يشء مــا يربــط بــن هــذا الشــخص امللثــم وإيفانــوف ومــا حيــدث
هنــا؟!
صمتــت جــن وهــي تســرجع االحــداث الغريبــة ُمــد ًدا ،فكــرت
الصمــت قائلــة:
-أنــا آســفه جــدً ا ،ولكــن مل أفهــم مــا حيــدث ،كان كل يشء فوضــوي،
رأيــت ســيارات تطــر يف اهلــواء وصخــور ،وأشــياء تُقطــع ،ودمــار كبــر
حيــل باملنطقــة التــي كانــوا يقفــون فيهــا ،ولكــن أعتقــد أن امللثــم كان
يمتلــك قــدرة شــبيهة بقــدرة ســايري! ولكــن مل أرى جيــدً ا أي يشء...
ـت أراقــب املوقــف مــن بعيــد،وإذ فجــأة تغــرت جمريــات املعركــة .كنـ ُ
وتغــر كل يشء ...لقــد جــاؤوا.
***
59
6
حــدق نــور إىل جــن بصمــت وهــو يســتمع إىل قصتهــا عــا حــدث يف
املعركــة الغريبــة بــن إيفانــوف وامللثــم املجهــول ذو القــدرات اخلاصــة.
قالت جني وقد أصاهبا التوتر من تذكر كل هذه االحداث:
-كان الليــل قــد حــل ،ومل تكــن الرؤيــة واضحــة ،ولكنــى ســمعت
صــوت إطــاق النــار ،فذهبــت إىل املصــدر ألتفقــد مــا حيــدث ،ورأيــت
شــخصان يلتحــان مــع بعضهــم مــن بعيــد ،ولكن الليــل أخفــى مالحمهم.
كان احلطــام يمــأ املــكان فلــم أري الكثــر كل مــا رأيتــه هــو ،ان هنــاك
ســيف ًا ضوئــي حيملــه الشــخص امللثــم ،وقــد ســاعدين هــذا الســيف لكــي
أري ولــو قليـاً .كان الشــخص اآلخــر غــر مــرأى عــى اإلطــاق بالــكاد
كنــت اراه ،كان يغطيــه الظــام بالكامــل ،ولكنــى الحظــت قوتــه البدنيــة
اهلائلــة ،فقــد كان يقــذف الســيارات واحلطــام عــى الشــخص امللثــم،
وبعــد حلظــات علمــت أنــه إيفانــوف عندمــا ملحــت جســده املعــدين.
قاطعها نور قائ ً
ال بدهشة:
-إيفانوف وسيارات!
-نعــم هــذا مــا رأيتــه ،لقــد كان يقــذف العديــد مــن األشــياء ،مثــل
أيضــا ،ولكــن امللثــم كان رشــيق ًا للغايــة وكان
الصخــور والســيارات ً
يتجنبهــا بــكل رشــاقة ،كــا أنــه كان يبادلــه بقــذف بعــض الصخــور
60
أيضــا ،ولكــن قوتــه كانــت تبــدوا ال أعلــم كيــف ارشح لــك ،فأنــا مل أرى ً
جيــدً ا مــا حيــدث ،ولكنــى أســتطيع أن أقــول إهنــا تُشــب ُه قــدرة ســايري،
كان يشــر بيــده ،فتتحــرك الصخــرة ناحيــة اآلخــر.
ٍ
ثــوان كــر ا وهــو حيلــل مــا ســمعه ،وبعــد بضعــة صمــت نــور قليــ ً
حاجــز الصمــت قائــاً:
-يبــدوا ،أنــه يســتعمل نــوع مــن الطاقــة ،ولكــن ال أســتطيع حتديــد أي
نــوع.
أومأت جني برأسها باملوافقة عىل ما قاله ،ثم قالت:
-يبــدوا أن هــذا مــا حــدث فعــاً ،ولكــن مــا حــدث بعدهــا هــو مــا
أرعبنــي حقــ ًا.
اســتمع نــور باهتــام ودهشــة إىل القصــة التــي روهتــا جــن ،وكيــف
اختطفــت األجســام الغريبــة الشــخص امللثــم وإيفانــوف ،ثــم وضعتهــا
يف مركبــة غريبــة الشــكل مل تتعــرف جــن عليهــا ،ثــم طــارت هــذه املركبــة
يف الســاء ،وابتعــدت يف األفــق حتــى اختفــت عــن األنظــار ،ولــوال أن
أيضــا وزج ـك هبــا ً جــن كانــت خمتبئــة تراقــب املوقــف مــن بعيــد ،الُ ِ
مسـ َ
هبــا يف هــذه املركبــة الغريبــة معهــا.
قال نور بحرية إذ أحس برعشة يف جسده من برودة اجلو:
-متى حدث كل هذا؟
فردت جني برسعة:
61
-البارحة.
فقال نور وهو يفكر:
-لقــد خرجــت مــن الــرج منــذ بضعــة ســاعات ورأيــت ا ُمللثــم ،هــل
تعتقديــن أنــه متكــن مــن اهلــرب منهــم ،والتقــي يب يف الغابــة وأنقــذ حيــايت
أم أن هــذا شــخص آخــر؟
صمتــت جــن قليــ ً
ا لرتبــط األحــداث ببعضهــا ،ثــم قالــت بحــرة
وقنــوط:
-ربــا ،ال أعــرف حقــا! ولكــن قــد حيــدث هــذا! أو ربــا يكونــان قــد
انضــا للروبوتــات جمبوريــن ،وينفــذان اآلن أوامرهم لالمســاك بنــا ،أو...
قاطعها نور قائالً:
-نحــن نعــرف اآلن أن إيفانــوف عــى قيــد احليــاة ،وأنــا قــد قابلتــك...
وربــا يكــون امللثــم ســايري مــن يعلــم! ولكــن مــن املفــرض أن يكــون
أيضــا ...ومــن االســتحالة أن يتقاتــل مــع إيفانــوف ألهنــاقــد خــرج هــو ً
كانــا عــى قلــب رجـ ٌـل واحــد يف الســباق املميــت ،وهــذا جيعلنــا نتوصــل
إىل أن هــذا ا ُمللثــم ربــا يمتلــك قــدرة شــبيهة بســايري ...أمــا الــيء
ٍ
مــكان مــا ...جيــب أن الثــاين فهــو أن باقــي رفاقنــا عــى قيــد احليــاة يف
نبحــث عنهــم اآلن وننضــم إليهــم لعلنــا نجــد الســبيل للخــروج مــن هنــا
وفهــم مــا حيــدث ...وربــا ننقــذ إيفانــوف.
بدا عىل جني مالمح األمل ،فقالت:
-هل تعتقد أهنم سينضمون إلينا ويساعدوننا يف اخلروج من هنا؟
62
قال نور وقد أرشق وجهه:
-ربــا ،ولعــل أحدهــم يعــرف احلقيقــة! اآلن أعــرف مــا علينــا فعلــه،
ســنذهب للبحــث عــن باقــي الرفــاق ،ومــن ثــم نحــاول اكتشــاف مــا
حــدث هنــا.
ردت جني بحامس يشوهبا السخرية وقد انبسطت قسامت وجهها:
-نعم فلنقم هبذا ،فإنقاذ العامل ال يأيت كل يوم.
ضحك نور قائال:
-نحــن ال نعــرف مــا حــدث للعــامل بعــد ،كل مــا نعرفــه أن اآلالت
ســيطرت عــى هــذه املدينــة املجهولــة ،و ُاننــا ُاحتجزنــا يف أبــراج غريبــة
لفــرة مــن الزمــن ال نعــرف تقديرهــا ،وأصبــح لدينــا فقــدان ذاكــرة
انتــكايس.
تنهدت جني بقلق وظهر اخلوف واحلزن عىل مالحمها:
-نعــم ،أنــا ال أتذكــر إطالقــ ًا كيــف أنتهــى يب األمــر هنــا ...ذاكــريت
مشوشــه ولكــن العديــد مــن الذكريــات قــد عــادت إيل مــع الوقــت،
ألننــي اســتيقظت منــذ أســبوع عــى عكســك.
ِ
بأنــك تعلمــن الكثــر عــن نفســك اآلن... -هــذا جيــد ،هــذا يعنــي
أيضــا مــع الوقــت ...واآلن فلنتحــرك فليــس لدينــا
وهــذا ســيحدث يل ً
اليــوم بطولــه.
أومــأت جــن باملوافقــة ،ثــم محــا أمتعتهــا ،وهبطــا األدراج وتوجهــا إىل
63
اخلــارج.
كانــت الشــمس قــد انتصبــت يف كبــد الســاء ،ملقيــة بأشــعتها عــى
األرض كخيـ ٍ
ـوط ذهبيــة تُزيــن ردا ًء مــن حريــر ،وكانــت الطرقــات خاليــة
ومرصوفــة بعنايــة ومل يمسســها أي رضر أو ســوء بعــد .ارتفعــت املبــاين
الشــاهقة بشــموخ إىل الســاء ،وكانــت ُمطعمــة بزجــاج أزرق ُيغطــي مجيــع
زواياهــا ،فســقطت عليهــا أشــعة الشــمس فجعلتهــا تلمــع كجوهــرة
ثمينــة.
ِ
إليــه يف املســتقبل ،ولكــن نــور شــعر أن ورغــم التقــدم الــذي وصلــوا
هــذه املدينــة املجهولــة التــي يقــف فيهــا ،تبــدوا كمدينــة مــن القــرن
الواحــد والعرشيــن ،فمعــار املبــاين فيهــا والســيارات تبــدوا أقــدم ممــا
يتذكــر ،رغــم ضعــف ذاكرتــه .نظــر إىل الســاء فالحــظ قبــة الطاقــة التــي
تُغطــي املدينــة وحتتوهيــا داخلهــا ،فســأل جــن عنهــا ،فقالــت:
أيضــا ،ولكــن يبــدوا أهنــا لصــد األعــداء -ال أعلــم ،لقــد الحظتهــا ً
عــن املدينــة ولكــن بطريقــة مــا دخــل األعــداء وعاثــوا فســا ًدا فيهــا
واختفــى البــر أو نزحــوا إىل مدينــة أخــرى ...ربــا هــذا ُيفــر املعــار
القديــم بعــض الــيء للمدينــة ،ربــا لنقــص حصوهلــا عــى املــوارد مــن
اخلــارج ...ال أفهــم حقــ ًا ولكنهــا تبــدوا أقــدم ممــا رأيتــه.
ـز كبـ ٍ
ـر ُمعقــد تعجــب نــور مــن كل مــا حيــدث ،فــكل يشء يبــدوا كلغـ ٍ
ِ
الصمــت ملجــأ لــه ٍ
بطريقــة مل يســبق هلــا مثيــل ،فأختــذ مــن ومتشــابك
وأكمــل طريقــه وهــو يتفحــص املدينــة.
كانــت الســيارات ُمصطفــة عــى جانبــي الطريــق ،تشــعر بالوحــدة يف
64
مدينــة األشــباح هــذهُ ،منتظــرة مــن يقــوم بتشــغيلها لتنطلــق بحريــة
جمــد ًدا يف أرجــاء املدينــة اجلميلــة .التفــت جــن إىل نــور قائلــة:
-لــو كنــا نمتلــك ســيارة اآلن كانــت ستســهل علينــا التنقــل هنــا ،ولكــن
الســيارات احلديثــة اصبحــت تعمــل ببصمــة الصــوت والعــن ،ويبــدوا
أن هــذه الســيارات تُشــبهها فــا أمــل لنــا للحصــول عــى أحدهــا ،كــا
أهنــا ســتجذب األنظــار لنــا بالتأكيــد وهــذا مــا ال نريــده.
وافقها نور الرأي وأضاف قائالً:
-ســنضطر إىل الســر عــى األقــدام اآلن ،ولكــن ال هيــم ،األهــم أن نجــد
ضالتنــا املنشــودة.
بــدأ نــور وجــن يســران يف الطريــق بحــذر وقــد جعلهــا ضــوء النهــار
يشــعران ببعــض الراحــة والطمـــأنينة ،فتثائــب نــور وقــد شــعر باإلرهــاق
والتعــب ،وبالطبــع الحظــت جــن هــذا والقــت بعــض تعليقاهتــا
الســاخرة مثــل:
-لقــد نمــت ملــدة ال يعلمهــا إال اهلل وال زلــت تريــد النــوم جمــد ًدا؟ يــا
لــك مــن كســول.
مل يــرد نــور عليهــا ولكــن أكتفــى باالبتســام وهــو يعلــم أهنــا أصابــت كبــد
ا حلقيقة .
أكمــا طريقهــا يف الشــارع اخلــايل املرصــوف ،ومهــا حيدقــان يف الالفتــات
ثالثيــة األبعــاد ا ُملعلقــة يف أرجــاء الطريــق ،وقــد أخــذ اهلــواء العليــل
يالمــس وجهيهــا فيشــعرمها بالوحــدة مــع اهلــدوء القاتــل للمدينــة امليتــة.
65
وأثناء سريمها بدءا بتبادل احلديث فقال نور ،وهو يتثاءب:
-هل تعرفني ما هو التفسري العلمي لوجود هذه القدرات اخلارقة؟
فكرت جني قلي ُ
ال ومن ثم قالت ببعض الرتدد:
-ال اعلــم بالتحديــد ولكــن يف ظــل التقــدم التكنولوجــي الرهيــب
الــذي توصــل لــه البــر ،فــإن الوصــول هلــذه القــدرات الغريبــة مل يعــد
حمــض خيــال ...ولكــن أظــن أن مــن اعطانــا هــذه القــدرات لديــه
فائــق للغايــة يفــوق باقــي العقــول ،ألنــه يســتوجب أن يغــر يف ٌ علــم
ٌ
الرتكيــب اجلينــي اخلــاص بنــا وأن ُيغــر بعــض خصائصنــا مــع إضافــة
بعــض آالت النانــو الصغــرة ا ُملحملــة ببعــض اخلصائــص ا ُملحــددة وهبــذا
ربــا يســتطيع ان ُينتــج لنــا هــذه القــدرات ...فقدرتــك عــى ســبيل
املثــال تعمــل عــى تفكيــك وتركيــب اجلزيئــات واملركبــات حتــى تُنتــج
يشء مــادي ملمــوس ،فاجلزيئــات عندمــا تتباعــد للغايــة تنتــج غــاز ًا
ـن تُصبــح ســائل ومــن ثــم صلــب ...ويبــدوا ـدر ُمعـ ٍ
ولــو اقرتبــت إىل قـ ٍ
ـاءك املقــدرة عــى التالعــب بالــذرات انــه بطريقــة مــا متكنــوا مــن إعطـ َ
ـت تتخيــل الــيء حتــى وتشـكّيلها كــا تريــد بــدون أن تشــعر هبــذا ...فأنـ َ
أنــت تتالعــب بالــذرات مــن صبــح حقيقــة ولكــن يف حقيقــة األمــر َ َ ُي
ـك أكثــر فللتخيــل أن لديــك حولــك حتــى تصنــع شــيئ ًا ...ألوضــح لـ َ
ُمكعبــات الليجــو وهــذه املكعبــات مبنيــة عــى شــكل بيــت ،ودورك هــو
ـدل مــنأن ُتطــم هــذا البيــت وتســتخدم هــذه املكعبــات يف صنــع ُبــرج بـ ً
ـيء كهــذا؟ وأتعجــب بيــت ...ولكننــي أتعجــب مــن كيفيــة توصلهــم لـ ٍ
مــن كيفيــة زرعهــا داخلــك وجعلهــا بســيطة االســتخدام هكــذا! هــل
66
تعلــم مــا ُيمكنــك فعلــه إن اتقنــت هــذه القــدرة؟ انــت لــن تصنــع فقــط
بــل تســتطيع أن ُتطــم ً
أيضــا وتغــر البيئــة مــن حولــك وكل يشء ...إهنــا
قــدرة ًمرعبــة إن وقعــت يف اليــد اخلطــأ.
تفاجــئ نــور مــن حتليــل جــن لقدرتــه رغــم عــدم إحاطتهــا هبــا ،وتذكــر
مــا قالــه الصــوت عــن قدرتــه ورأى بعــض التشــابه بــن مــا قالــه وبــن
قــول جــن ،فأطــرق رأســه ُمفكـ ًـرا ثــم تذكــر شــيئ ًا قــد رآه منــذ فــرة،
فعــى الرغــم مــن فقدانــه لبعــض حلظــات حياتــه إال أن ـ ُه يتذكــر الكثــر
ممــا تعلمــه ،ويبــدوا أن مــن حمــي ذاكرتــه قــام بمســح بعــض الذكريــات
ـنُ ،يرجــح أن يكــون مــن أجــل ان يفقــدوا هويتهــم ـبب ُمعـ ٍ
ا ًملحــددة لسـ ٍ
ا ببعــض عليهــم .قطــع نــور حاجــز الصمــت قائــ ً ُ ف ُيســهل الســيطر ُة
الريبــة:
-لقــد قــرأت مــن قبــل عــن مقــدرة العقــل عــى التأثــر يف ا ُملحيــط مــن
حولــه ،ورأيــت بعــض األمثلــة عــى هــذا ،فعــى ســبيل املثــال ال احلــر
وألن والــدي كان يعمــل يف جمــال العلــوم العقليــة فقــد كان يأخــذين
معــه أحيان ـ ًا لريينــي بعــض مــا توصلــوا إليــه ،وىف أحــد املــرات رأيــت
ـذه األســاك ـط هـ ِ ـا يضــع أســاكًا عــى رأس أحــد الشــباب ويربـ ُ رجـ ً
بــرأس شــاب آخــر ،وبعدهــا يضغــط عــى بعــض االزرار ويطلــب مــن
الشــاب األول أن ُيــرك يــده ال ُيمنــي وعندمــا ُيركهــا تتحــرك يــد الشــاب
اآلخــر تلقائ ًيــا معهــا رغـ ًـا عنــه ...لقــد كان يربــط عقليهــا م ًعــا ،فعندمــا
أرســل عقــل الشــخص األول إشــارات ليــده حتــى تتحــرك انطلقــت
هــذه اإلشــارات عــر االســاك وتوجهــت نحــو يــد الشــخص اآلخــر
67
أيضــا فلــم حتتــج يــد الشــاب اآلخــرفأعطتهــا نفــس األمــر أن تتحــرك ً
إىل إشــارات عقلــه اخلــاص حتــى تتحــرك ...لقــد كان هــذا خميفــا بعــض
الــيء ،ألنــه مــع الوقــت تطــور األمــر وعندمــا ذهبــت إليهــم بعــد
فــرة طويلــة وجدهتــم قــد توصلــوا إىل نقــل هــذه اإلشــارات بطريقــة ال
ســلكية ...وقــف أحــد األشــخاص وهــو يرتــدي خــوذة غريبــة الشــكل
ٍ
لشــخص آخــر يرتــدي نفــس وكان ُيفكــر يف بعــض األوامــر و ُيرســلها
اخلــوذة ،فكانــت اإلشــارات تنتقــل إليــه وجتعلــه يفعــل مــا يريــد ،ولكــي
ـخصا ُيــرك اآلخــر كالدميــة ويوجهــه حيــث ـت شـ ً أن تتخيــي أننــي رأيـ ُ
يشــاء فقــط عــن طريــق هــذه اخلــوذة ...فلتتخيــي معــي اآلن مــاذا يمكــن
أن حيــدث إن اســتطاعوا جتســيد هــذه القــدرة يف الواقــع بــدون احلاجــة
إىل خــوذة أو اســاك عــن طريــق زرع بعــض آالت النانــو الصغــرة
داخلنــا والتــي قــد ُتكــن أحــد األشــخاص أن ُيرســل عربهــا إشــارات إىل
ـح عاجزيــن عــن التحكــم بأجســادنا! ويركنــا كالدمــي فنصبِـ ُاجســادنا ُ
صمــت نــور قليــا ،واســتمعت جــن إىل مــا قالــه باهتــام شــديد
وتوجــس ،ثــم تذكــرت بعــض األشــياء التــي ختــص هــذا االمــر فقالــت:
-إنــه أمــر رهيــب ولكــن ممــا رأينــاه فوجــود هــذه القوة ليــس مسـ ً
ـتحيل،
بــل ربــا هنــاك أحــد يتحكــم بنــا بالفعــل بطريقــة مــا ويومهنــا أننــا نحــن
أيضــا
مــن نُحــرك أنفســنا .مــن يعلــم .عــى أي حــال لقــد تذكــرت ً
بعــض التجــارب التــي ختــص التحــرك عــن ُبعــد عــن طريــق حتفيــز
العقــل ببعــض اآلالت اخلاصــة والتــي ُتكنــه مــن حتريــك الــيء عــن
ُبعــد حتريــك ًا طفيف ـ ًا ،ويرجــع هــذا إىل أن الفكــرة داخــل رأس اإلنســان
68
هلــا وزن ولكنــه وزن ضئيــل للغايــة وعندمــا ينقــل االنســان فكرتــه إىل
خــارج رأســه ال يكــون هلــا أي تأثــر ألهنــا ضئيلــة ولكــن مــع كثــرة البرش
مــن حولــك تصبــح هــذه الفكــرة أقــوى وذات ســلطة رهيبــة ...ختيــل
لــو جــاء ألــف رجــل وركــزوا عــى أن حيركــوا قلـ ًـا يف نفــس الوقــت!
بالتأكيــد قــد يتزحــزح مــن مكانــه ،واآلن ختيــل لــو وجدنــا طريقــة
لتضخيــم هــذا الــوزن عــن طريــق حتفيــز العقــل بطريقــة معينــة ،ســيصبح
مــن املمكــن اســتخدام هــذه الفكــرة يف حتريــك الــيء وهــذا ربــا ُيفــر
ٍ
ـخص كان أيضــا جتربــة عــن شـ
قــدرة ســايري بعــض الــيء ...أتذكــر ً
ينظــر إىل املــاء برتكيــز شــديد أثنــاء جتمــده وهيمــس بأشــياء مجيلــة
ٍ
وبأشــكال ُميــزة ومتناســقة، ورائعــة ،فيتشــكّل الثلــج بانتظــام شــديد
ومــن ثــم كــرر نفــس التجربــة ولكنــه كان هيمــس بأشــياء ســلبية وفظيعــة
وســوداوية للغايــة فتشــكّلت بلــورات الثلــج بطريقــة مشــوهة وغــر
ُمنتظمــة ...فكــا تُالحــظ فأفكارنــا هلــا تأثــر عــى املحيــط اخلارجــي
مــن حولنــا وهــذا يفــر ســبب هربنــا مــن الشــخص الكئيــب وهــذا
ألنــه ينقــل إلينــا مشــاعره الســلبية عــن طريــق نقــل أفــكاره عــر صوتــه
ويبــدوا أن املوجــات الصوتيــة التــي ختــرج مــن فمــه تكــون خمتلفــة عندمــا
يتكلــم بســلبية وعندمــا يتكلــم بإجيابيــة ...ولكــن هــذه التجربــة تطــورت
فيــا بعــد واســتطاع هــذا الشــخص أن ينقــش حروفــا وكال ًما ورســومات
عــى املــاء اثنــاء جتمــده عــن طريــق التحــدث والتفكــر فقــط!
ـول وجعــل كالمها شــذرات مــن أفــكاره تتصــادم يف نظــر إليهــا نــور بذهـ ٍ
رأســه ممــا جعــل عقلــه يتحفــز ويربــط بــن هــذه األفــكار مكونـ ًا صــورة
خارجيــة لتفســر بعــض قدراهتــم فــأردف يقــول:
69
-هــذا رائــع حق ـ ًا ،وإن نظرنــا إىل هــذه املعطيــات التــي لدينــا اآلن فــإن
ايفانــوف يســتطيع أن ُيغــر خصائــص جلــده بطريقــة مــا عــن طريــق نقــل
احلديــد يف جســده إىل جلــده اخلارجــي او ربــا لديــه آالت نانــو داخــل
جســده جتــذب احلديــد مــن البيئــة حولــه وتُغطــي بــه جســده بالكامــل
وال بــد أن هــذه اآلالت ترتكــز يف جلــده اخلارجــي وتغطــي جســده
بالكامــل وهــذا يعنــي ان عددهــا هائــل للغايــة ومــن الصعــب حــره،
ـذب احلديــد إليهــا بكثافــة شــديدة فيتكــون حــول اجللــدوبعــد ذلــك جتـ ُ
حتــى يغطيــه بالكامــل ...ونفــس الــيء مــع إريــس هــذا الــذي ُيغــر
أيضــا
شــكله ويتلــون حســب بيئتــه ،ال بــد أن اآلالت يف جلــده اخلارجــي ً
وتقــوم بتغيــر لــون جلــده حســب البيئــة مــن حولــه ،وال بــد أن طريقــة
تفعيلهــا تكمــن يف إشــارات العقــل ...العقــل ُيرســل إليهــا إشــارات
ـكل ُمعـ ٍ
ـن وهــي تقــوم هبــذا التمويــه ـن أو شـ ٍ لتحويــل اجللــد إىل لـ ٍ
ـون ُمعـ ٍ
والتغيــر برباعــة ...تتكاتــف آالف وربــا ماليــن اآلالت لتغيــر شــكله
ولونــه بإتقــان شــديد ...عندمــا يلمــس الــيء تأخــذ اآلالت العديــد
مــن التفاصيــل عــن اجلينــوم اخلــاص بــه وتنقــل هــذه التفاصيــل إىل آالت
النانــو األخــرى وتتكاتــف مجيعهــا برباعــة ملحــاكاة وتقليــد هــذا الــيء،
فــإن ملســني عــى ســبيل املثــال تقــوم اآلالت بالتعــاون فيــا بينهــا حتــى
يتغــر شــكله ويصبــح مثــي وهــذا بالطبــع تضليــل خارجــي فــوراء هــذه
اآلالت يكمــن إريــس احلقيقــي ...أو ربــا تغــر آالت النانــو جيناتــه
حتــى جتعلهــا تتشــابه مــع مــا يــراه ويلمســه ...فاجلينــات هــي الشــيفرات
ـك وطــول ـكلك ولــون برشتـ ِ
املكتوبــة داخــل اجســادنا والتــي ُتــدد شـ ِ
شــعرك ومــدي نعومتــه ولــون عينــك إلــخ ...ولكــن لتغيــر اجلينــات ِ
70
فهــذا حيتــاج إىل علـ ٍم رهيــب للتوصــل إىل يشء كهــذا ،وهلــذا فأنا أســتبعد
هــذه الفكــرة قلي ـاً.
أضافت جني تقول وقد أحست أن بعض الغموض قد بدأ يتالشى:
-وما هو تفسري قدريت إذن؟
-اعتقــد أهنــا ُمعقــدة للغايــة ومــن الصعــب تفســرها ولكــن ال بــد مــن
وجــود تفسـ ٍ
ـر هلــا ...ورأيــي هــو أن االمــر يتعلــق بالزمــن واللغــز الــذي
حيــوم حولــه ،مــن أعطـ ِ
ـاك هــذه القــوة يعلــم عــن الزمــن مــا ال نعلمــه
ا ومقنعــا لقدرتـ ِ
ـك ...ولكــن ممــا أراه ـرا كامـ ً
ً وهــذا يعنــي أن لديــه تفسـ ً
ـت تصنعــن فجــوات زمنيــة ينعــدم الزمــن فيهــا وتفســر رجوعــك فانـ ِ
أنــك ال ترجعــن بالزمــن بــل عقلــك ُيعالــج ِ بالزمــن ربــا يكمــ ُن يف
ٍ
ثــوان املعلومــات برسعــة رهيبــة ممــا جيعلــك تريــن املســتقبل لبضعــة
ـك ُعــديت بالزمــن لتغرييــه ،وهــذا ُيفــر ضعــف قبــل حدوثــه فتظنــن أنـ ِ
صحتــك ألن طاقــة عقلــك كلهــا تُســتنفذ يف معاجلــة املعلومــات برسعــة
تتخطــى اإلنســان الطبيعــي ممــا يتســبب يف إمهالــه جلسـ ِ
ـدك ...ربــا يتوقــع
عقلــك مــا ســيحدث عــن طريــق ُمعاجلــة كل يشء برسعــة رهيبــة ،وهناك
جتــارب جتعــل احلواســيب تتوقــع املســتقبل قبــل حدوثــه عــن طريــق
ُمعاجلــة وحتليــل كل االحتــاالت مــن حوهلــا ،فــإن قمتــي بوضــع طاولــة
بليــاردو وضبــط العصــا بطريقــة معينــة ،سيســتطيع احلاســب عــن طريــق
حركــة يــدك ووضعيــة جســدك وزاويــة العصــا أن يتنبــأ بمصــر الكــرات
عندمــا ترضبيهــا وأيــن ســينتهي هبــا األمــر وســيعطيك إحصائيــات دقيقــة
متا ًمــا ،وإن رضبتــي الكــرة فســرين أن إحصائيــات احلاســب كانــت دقيقة
71
%100ولكــن بالطبــع فرؤيــة املســتقبل هــذه تكــون حمــدودة للغايــة
وتقتــر عــى أشــياء بســيطة للغايــة ولبضعــة ثـ ٍ
ـوان قليلــة ...أمــا رؤيــة
ـكل أوســع كأن تتنبئــي بمصــر شــخص او مصــر بلــد كامل املســتقبل بشـ ٍ
ِ
فأنــت تتنبئــن بــا فهــذا مســتحيل ...وانــا أرى أن هــذه هــي قدرتــك
ســيحدث ،عقلــك يســبق احلــارض مــن رسعتــه عــى معاجلــة االحــداث
مــن حولــه ثــم يعــود إىل احلــارض لــرى كيــف ســيترصف مــع معطيــات
املســتقبل وهــذا جيعلــك تتومهــن بأنـ ِ
ـك تعوديــن بالزمــن ...امــا إيقافــك
للزمــن فهــذا مــا حيــرين حقــا ...ولكنــه يكمــن يف خلــق رشخٍ يف نســيج
الزمــكان فيحــررك مــن ســلطة الوقــت لبعــض الوقــت وهــذا أقــى مــا
أســتطيع التوصــل إليــه.
اندهشــت جــن مــن حتليلــه لقدرهتــا ورأت أنــه أســتطاع الوصــول إىل
نصــف احلقيقــة ولكنهــا ال زالــت تظــن أنــه قــد يكــون هنــاك تفســر
آخــر يتعلــق بقدرهتــا عــى إيقــاف الزمــن .فــإن كانــت تســتطيع أن توقــف
الزمــن فــاذا يمنعهــا مــن العــودة إىل املــايض؟!
ناقشــته جــن فيــا قالــه وبــدءا بتحليــل القــدرات األخــرى لرفاقهــم
بنفــس الطريقــة وتوصــا إىل كثــر مــن التفســرات العلميــة القريبــة
حلقيقــة مــا حيــدث ألجســادهم وبعــد ذلــك أكمــا طريقهــا وأجــا
ٍ
لوقــت آخــر. حديثهــا
اقرتبــا مــن هنايــة الطريــق وكان أمامهــا مبــارشة بعــض املبــاين الشــاهقة
ذات الزجــاج األزرق الداكــن ا ُملعتــاد وبينهــا بعــض اجلســور والطرقــات
72
التــي تقطعهــا ،وأصبــح أمامهــا طريــق يمتــد بالعــرض يمين ـ ًا ويسـ ً
ـارا،
فتوجــه نــور تلقائيـ ًا ناحيــة اليســار ،فأمســكت جــن بمعصمــه فجــأة وقد
كان يســبقها بخطوتــن وســحبته إىل اخللــف بقــوة ،ثــم دفعتــه بداخــل
أحــد املبــاين ،وكان املدخــل يتكــون مــن بوابــة إلكرتونيــة تُفتــح عندمــا
تقــرب منهــا .أمــا مدخــل املبنــي فــكان ُمزيــن بالعديــد مــن األزهــار
ا ُملعلقــة عــى احلائــط مــع ثريــة مجيلــة تتــدىل مــن الســقف ،وهنــاك ِمصعــد
أمامهــا مبــارشة ،ومكتــب اســتقبال .دفعــت جــن نــور وراء مكتــب
االســتقبال واختبــأت بجانبــه ،وأشــارت لــه أن يلتــزم الصمــت ،فتوتــر
نــور مــن فعلتهــا هــذه فســأهلا بــا حــدث.
فهمست قائلة بنربة مذعورة:
َ
أنقذتك من املوت! -لقد
ٍ
عبوس وتوجس: فقال هلا نور وقد قطب حاجبيه يف
ِ -م َن املوت ماذا تقصدين؟
فــردت جــن بنــرة ُمرجتفــة وهــي ترتفــع بجســدها النحيــلُ ،متفقــدة
الطريــق يف اخلــارج وهــي ترجتــف:
-لقد ُقتلت منذ قليل.
حدق إليها نور بتعجب واستهجان قائالً:
حي يرزق ومل يمسسني سوء!
-ولكني ٌ
فقالت وقد ازداد توترها:
73
َ
وأنقذتك اآلن. دت بالزمن
-هذا ألين ُع ُ
ا حمــاوالً اســتيعاب مــا قالتــه وســط هــذا الصمــت
صمــت نــور قليــ ً
ا ُملطبــق بينــا كانــت جــن تراقــب الطريــق يف اخلــارج ،فقطــع وتــر
ا بنفــور:الصمــت قائــ ً
-حسنا لقد فهمت ،كيف ُقتلت إذن؟ ومن قتلني؟
ٍ
بصوت بالكاد ُيسمع: فهمست
-ال أعلــم مــا حــدث ،أنــا ال أفهــم شــيئ ًا ...كل مــا حــدث هــو أننــا أثنــاء
ـت يف هنايــة الطريــق إىل اليســار يف تقاطــع الطــرق... ســرنا ،انعطفــت أنـ َ
وأصبحــت تقــف بكامــل جســدك يف الطريــق اجلديــد وفجــأة حــدث
ـوان معــدودة رأيتـ َ
ـك تتبخــر يف اهلــواء أمامــي. وميــض وىف ثـ ٍ
شــعر نــور بقشــعريرة ُمتقطعــة تــري يف جســده ممــا ســمعه ،وختيــل مــا
ا حمــاوالً إجيــاد تفســر لــه ،ولكنــه مل يفهــم كيــف
حــدث لــه ،وفكــر قليـ ً
يمكــن لــه أن يتبخــر وخيتفــي فجــأة؟! وضــع يــده عــى رأســه يف حبـ ٍ
ـور
قائ ـاً:
-جــن أنــا ال أفهــم مــا جــرى ،ولكــي نتوصــل إىل مــا حــدث فعلينــا
أن نتحــرك وأال نختبــئ هنــا طــوال اليــوم ...ســأعود إىل اخلــارج وأنــت
ســتأتني معــي ،وســنراقب الوضــع عــن كثــب وإن تبخــرت جمــد ًدا
فلتعيــدي الزمــن وختربينــي بــا حــدث.
كان وجــه جــن كلوحـ ٍ
ـة مــن الرعــب ا ُملطلــق ،فنظــرت إىل نــور باضطراب
قا ئلة :
74
-ال ...دعنا نبقي ...هنا بعض الوقت.
فزجرها نور قائالً:
-لــن نجلــس هنــا اليــوم بطولــه! ربــا يوجــد ملــا حــدث تفســر لــن
نعرفــه إذا مل نتحــرك!
متوجهــا ناحيــة بوابــة اخلــروج ،فأمســكته جــن مــن ياقتــه
ً قــام نــور
ودفعتــه إىل اخللــف ،وهــي تقــول:
-أرجــوك ال تذهــب فقــد كان مــا حــدث مرع ًبــا ...كــا أن قــويت حتتــاج
إىل مخــس دقائــق حتــى أســتطيع أن أســتخدمها ُمــد ًدا.
أبعد نور يدها وعدل ياقته وقال يطمئنها:
-حسن ًا ،سننتظر حتى تستعيدي قوتك ،ولكن لدي خطة جيدة.
نظرت له جني وبدأ اخلوف ينقشع عنها قليالً ،فقالت بحرية:
-وما ...هي؟
أختبــأ وراء املكتــب جمــد ًدا وأشــار إليهــا أن تــأيت ،ثــم رشح هلــا اخلطــة،
وبعــد مخــس دقائــق توجهــا إىل اخلــارج وانعطفــا إىل هنايــة الطريــق ،ثــم
اســتندا بظهورمهــا عــى املبنــى ،وقــد اســتعدا بــكل كياهنــا لالنعطــاف إىل
الطريــق ناحيــة اليســار ورؤيــة مــا ينتظرمهــا ،فنظــر نــور إليهــا نظــرة ذات
داللــة وهــو هيمــس:
-واآلن سأعد لثالثة ثم سنبدأ.
فأومأت له جني برأسها.
75
فعــد إىل ثالثــة وأندفــع إىل اليســار وهــو حيمــل املنظــار الــذي التقطــه
مــن داخــل متجــر األســلحة ،كانــت جــن خلفــه تضــع يدهــا عــى كتفــه
ُمغمضــة عينيهــا ويبــدوا عليهــا الرتكيــز الشــديد ،فنظــر نــور با ُملنظــار
ُمتفقــدً ا الطريــق ا ُملمتــد أمامــه ،فــرأى مــا قــذف يف قلبــه الرعــب .رفــع
ـدارا مــن احلديــد الصلــب أمامــه ،فتلقــى
يــده وركــز بقــوة حتــى صنــع جـ ً
احلائــط رضبــة جمهولــة جعلتــه يتحــول إىل رمــاد ،فأســتغل نــور محايــة
اجلــدار لــه وعــاد للــوراء برسعــة وســحب جــن معــه ،ثــم عــاد هبــا إىل
داخــل املبنــي ،وبــدأ يلهــث بقــوة فقالــت لــه جــن بتوتــر:
-ماذا...رأيت؟
تنفــس نــور الصعــداء ،جاعــ ً
ا اهلــواء يــري يف رئتيــه ،ثــم هــدأ مــن
روعــه قليــ ً
ا قائــاً:
-لــن تُصدقــي مــا رأيتــه! مــن اجليــد أن خطتنــا نجحــت ...عندمــا
أوقفـ ِ
ـت الزمــن خلمــس ثـ ٍ
ـوان واســتطعت أن أحتــرر مــن قيــودك الزمنيــة،
وأحتــرك بحريــة بينــا توقــف العــامل حولنــا عــن احلركــة ...أمســكت
ا ُملنظــار وفحصــت الطريــق ،فرأيــت العنكبــوت اللعــن ُمــد ًدا!
فرغ فاه جني واهتز وجداهنا ،وقالت بتعجب يشوبه الذعر:
َ
عليك من قبل؟! -أتقصد هذا املخلوق الضخم الذي كاد يقيض
رد نور وقد رست رعشة يف جسده من تذكره:
-نعــم إنـ ُه هــو ...ويبــدوا أنــه رضبنــي باملدافــع الغريبــة التــي كان هياجــم
هبــا نســختي الضوئيــة ...ال بــد أن هلــا قــدرة كبــرة يف حتويــل اجلســد إىل
76
ـرا يف قصــص اخليــال العلمــي .ولكن فتــات يف ثانيــة ،لقــد رأيــت هــذا كثـ ً
مل أتوقــع أن يتــم صنعـ ُه يف احلقيقــة! والغريــب أنــه رآنــا قبــل أن ننعطــف!
فقــد وجــدت طلقــة مــن مدفعـ ِ
ـه موجهــة إلينــا ومعلقــة يف اهلــواء بســبب
ـدارا ليحمينــا منهــا ...ال أعلــم مــا الــذي
إيقافــك للزمــن ،فصنعــت جـ ً
حيــدث بحــق اهلل!
صمتــت جــن قليــ ً
ا وهــي تشــعر باخلــوف يتملكهــا وخيــرق قلبهــا
ٍ
ـذرات زجاجيــة ،فحدقــت ناحيــة نــور ،ثــم كــرت صمتهــا قائلــةكشـ
ٍ
بتوتــر:
-حسنًا ...وكيف ...سنعرب من ٍ
يشء كهذا؟
فكر نور قليال ثم قال:
-ال أعلــم ...هــل نســلك طريقـ ًا آخــر؟ أو ننتظــر حتــى يذهــب؟ فنحــن
لــن نســتطيع مواجهتــه!
ردت جني ُمقرتحة:
-فلنسلك طريق ًا آخر سيكون هذا أفضل.
وافــق نــور عــى فكرهتــا ،فجمعــا أســلحتهام ومعداهتــا ،ثــم بــدءا
بالتحــرك إىل اخلــارج ليســلكا طريق ـ ًا آخــر ،وأثنــاء توجههــا إىل اخلــارج
ـيء يقــرب ،فســحب نــور جــن ســمعا صــوت حتطــم زجــاج منــذرا بـ ٍ
ُ ً
مــن معصمهــا برسعــة إىل اخللــف ،وقفــزا وراء مكتــب االســتقبال ُمــد ًدا،
ثــم رفعــا رؤوســهام قلي ـ ً
ا لرييــا مــا حيــدث يف اخلــارج.
اتســعت عينــا نــور وجــن مــن اهللــع عندمــا رأيــا أقــدام العنكبــوت
77
الضخــم األماميــة قــد توقفــت عــى الطريــق بجانــب بــاب املدخــل ،مل
ـوت ملحــوظ ،فأشــارينبســا ببنــت شــفة ،ولكــن جــن كادت تشــهق بصـ ٍ
هلــا نــور بأصبعــه أن تلتــزم بالصمــت فوضعــت يدهــا عــى فمهــا واومأت
لـ ُه برأســها واخلــوف يتجــى بأهبــى صــورة يف عينيهــا .أخفضــت رأســها،
وتنفســت بصعوبــة ،وحاولــت كتــم صوهتــا قــدر اإلمــكان ،فأشــفق نــور
عليهــا ومتنــى مــن كل قلبــه بــأال يســمع هــذا الروبــوت الضخــم صوهتــا
أيضــا
فيكتشــف أمرمهــا واال فــا ملجــئ منــه عــى اإلطــاق .وخــاف ً
مــن أن يرامهــا مــن وراء احلائــط مثلــا فعــل مــن قبــل.
ـوت شــبه مســموع ،فحــاول نــور الرتبيــت عــىظلــت جــن تنتحــب بصـ ٍ
كتفهــا لتهدئتهــا ،وأبتســم هلــا فيــا معنــاه ال ختــايف فأنــا معــك ،ولكــن قلبه
مــن داخلــه كان يرتاقــص خو ًفــا .تعجــب نــور مــن توقــف هــذا الــيء
اللعــن أمــام املبنــي بــدون أن يصــدر أدنــى حركــة؟ فهمــس جلــن:
-سأذهب ألتفقد ملا توقف! وما الذي يفعله؟
فانقبضت مالحمها وقالت له ٍ
بقلق عميق:
-أرجوك ال تذهب سوف يقيض عليك.
ِ
أعدك هبذا ،سأتوخى احلذر. -ال ختايف سأعود
فرتكتــه جــن يذهــب ،وعدلــت مــن وضعيــة جســدها ،رافعــة رأســها
فــوق املكتــب بقليــل ،ونظــرت إىل نــور وهــو يتســلل مقرت ًبــا مــن البــاب.
اختبــأ نــور بــدوره خلــف األشــجار املوضوعــة يف قرصيــة عــى جانبــي
املدخــل ،واقــرب منــه ،وكان يتأكــد كل حلظــة أنــه مل يالحظــه بعــد ثــم
78
ينتقــل برسعــة إىل الشــجرة التاليــة وهكــذا حتــى وصــل إىل البــاب.
فوجــد العنكبــوت يقــف بــا حــراك ،ولكنــه فهــم مــا حيــدث هنــا .فقــد
كان يفحــص بالعــن ،فــوق رأســه ،املــكان ليتأكــد أنــه ال يوجــد أحــد،
ـرا بــا حركــة يف كل طريــق حتــى يمســح املــكان جيــدً اوهلــذا يتوقــف كثـ ً
ويتأكــد مــن خلــوه مــن األعــداء .التــف نــور عائــدً ا أدراجــه وهــو يلتفت
خلفــه بكثــرة للتأكــد أنــه مل ُيبــره بعــد .وىف توتــر وبــدون أن ينظــر
ضجيجــا
ً أمامــه ،أصطــدم بأحــد األشــجار الصناعيــة ،فســقطت ُمدثــة
مدو ًيــا يف مدخــل املبنــي ،فأرتــج قلب ـ ُه مــع ســقوطها وجتمــد مكانــه ومل
تطاوعــه قدمــه عــى التحــرك .نظــر إىل جــن التــي اتســعت عيناهــا وهبــط
فكهــا الســفيل وهــي تشــر ناحيــة البــاب ،فحفــز قدميــه بقــوة وركــض
بــدون أن ينظــر وراءه وقفــز خلــف املكتــب حمــاوالً متالــك أنفاســه حتــى
ال يشــعر بــه العنكبــوت.
فجــأة توجهــت أنظــار الروبــوت ناحيــة مدخــل املبنــى وانحنــى بجســده
حتــى أصبــح املدخــل عــى مســتوي نظــره وبــدأ بتفحــص املــكان.
79
العــن التــي ُتلــق يف اهلــواء ،فــكاد أن يشــهق ولكنــ ُه وضــع يــد ُه عــى
فمــه وأنخفــض ُمــد ًدا عائــدً ا أدراجــه .نظــر إىل جــن بنظــرات ذات ِ
ـة ،ففهمــت جــن نظراتــه ومهســت داللــة فيــا معنــاه أهنــم اآلن يف ورطـ ٍ
لــه بنــرة مرجتفــة:
-ماذا سنفعل اآلن؟
ً
حــال! بمجــرد أن يوجــه عينــه إىل مكاننــا ســرانا -جيــب...أن هنــرب
بالتأكيــد.
-كيف سنهرب؟
فكرا ٍ
بحل ما ،فهمس: صمت نور قلي ً
ال وأخذ يضغط عىل عقله ُم ً
-هل عادت قوتك؟
ٍ
ثــوان فقــط ...لــن نســتطيع اهلــرب أو ِ
خلمــس -نعــم عــادت ولكــن
االختبــاء.
صمــت قلي ـ ً
ا ل ُيحلــل املوقــف جيــدً ا ،فلمعــت يف رأســه فكــرة ولكنهــا
غايــة يف اخلطــورة ،ومل يكــن هنــاك حــل غريهــا يف مثــل هــذا املوقــف،
فهمــس إىل جــن ورشح هلــا اخلطــة برسعــة ،فانقبضــت قســات وجههــا
هامســة:
-هل أنت جمنون؟ س ُيقيض علينا بالتأكيد.
فرد نور ويبدوا عليه العجلة:
-ال ختــايف فالعــن هنــا ...بمجــرد املــرور منهــا ،لــن يســتطيع رؤيتنــا...
80
وهكــذا ســنمر منــه مــرور الكــرام وهنــرب بعيــدً ا ...مخــس ثـ ٍ
ـوان يكفــون
للخــروج مــن هنــا ،ولندعــو بــأال يشــعر بنــا ...واآلن أســتعدي فليــس
هنــاك وقــت يكفــي للجــدل.
أومــأت جــن برأســها ،فصنــع نــور قطعــة خشــبية وألقاهــا باجتــاه
بــاب اخلــروج ،فألتفــت العــن وراءهــا لتتفقــد مصــدر هــذا الصــوت،
فأشــار نــور جلــن أن تتحــرك؛ وانطلقــا يشــقان طريقهــا هبــدوء بجانبهــا
وانخفضــا مــن أســفل األنبوبــة التــي حتمــل العــن ومتتــد إىل داخــل
املبنــي ،حتــى وصــا إىل البــاب وقــد أصبحــت العــن تقــف أمــام البــاب
تنظــر إىل اخلــارج وتتفحــص مصــدر الصــوت ،وبعــد أن أيقنــت مــن
عــدم وجــود يشء التفــت ُمــد ًدا وعــادت إىل داخــل املبنــى .أوقفــت جــن
الزمــن وهرولــت فتبعهــا نــور واندفعــا إىل اخلــارج حتــى أصبحــا حتــت
جســد العنكبــوت مبــارشة ،فمــرا برسعــة مــن أســفله ولكــن الزمــن عــاد
ُمــد ًدا ،وكان منظــر هــذا اجلســد املعــدين العمــاق ُيثــر القشــعريرة يف
أجســادمها ،فســحبها نــور برسعــة وعــرا مــن بــن أرجلــه الثامنيــة ،ثــم
حيــث كانــت وجهتهــا منــذ البدايــة ،فأصبحــا خــارج ُ يســارا
ً انعطفــا
نطــاق رؤيــة العنكبــوت اآليل ،ولكنهــا ســمعا صــوت الرصيــر املعــدين
ألقــدام العنكبــوت وتبعــه حتطــم زجــاج ،فنظــرا ورائهــا واقشــعرت
جلودمهــا وقــد رأيــا جســد العنكبــوت ينعطــف باجتاههــا ،وأيقنــا اآلن
أنــه قــد أحــس هبــا.
أصبــح جســد العنكبــوت اآلن ورائهــا ،وأخــرج مدفعــن مــن البالزمــا
مــن ظهــره ،وبــدأ يطلــق طلقــات كرويــة صغــرة احلجــم ومتوهجــة
81
ناحيتهــم ،فمــرت أول طلقــة بجانبهــا ،فــرخ نــور جلــن عال ًيــا:
-إن ملســتنا هــذه األشــياء فســوف نتبخــر .ســنفرتق لــذا حــاويل تفادهيــا
قــدر اإلمــكان.
أومــأت جــن برأســها وانحرفــت إىل اليســار بينــا انحــرف نــور إىل
اليمــن.
أكمــل العنكبــوت ركضــه ورائهــا ُمرس ًعــا ،وهــو خيطــوا عــى الســيارات
طــا إياهــا ،ويطلــق طلقــات البالزمــا فتصطــدم بــاألرض أو بأحــد ُم ً
الســيارات املركونــة لتتالشــى مــن الوجــود .نظــر نــور خلفــه فــرأى اجتــاه
متفــادي إياهــا .وكانــت جــن تقلــده،
ً الطلقــة فأنحــرف عــن الطريــق
فقــال هلــا صارخــا:
ِ
قوتك؟ -هل تستطيعني استخدام
عال وهي تلهث متفادية الطلقات التي متر بجانبها. ٍ
بصوت ٍ فقالت
-ال ليس بعد ...حاول أن تُفكر يف ٍ
يشء ما!
شــعر نــور أنــه ســيتم القضــاء عليهــا إذا مل يتــرف اآلن .ففكــر أن
يشء منــذ أن خــرج مــن يســتخدم قوتــه التــي مل تفــده حتــى اآلن يف ٍ
الــرج ،فأغمــض عينيــه ثــم صنــع نســختني مــن الضــوء ،فانطلقــت
واحــدة إىل اجلانــب األيمــن واألخــرى إىل األيــر ،بينــا صنــع حاجــز ِم َن
الصلــب وأختبــأ خلفــه ،ثــم أرتفع بجســده ووجــه ســاحه ناحية ِ
احلديــد ُ
عــن العنكبــوت حمــاوالً إصابتهــا اثنــاء انشــغال العنكبــوت بمهامجــة
النســختني .أطلــق نــور النــار عــى عينيــه التــي تتحــرك باســتمرار حمــاوالً
82
إصاباهتــا ،وأســتطاع أن ُيصيبهــا ببضــع طلقــات ولكنــه رأي أهنــا منيعــة
ضــد الرصــاص فقــال لنفســه:
يشء كهــذا ...مــاذا حــدث -تب ـ ًا هــذه األســلحة القديمــة لــن تؤثــر يف ٍ
لألســلحة التــي كانــت موجــودة يف عــري؟!
أســتطاع العنكبــوت أن ُيزيــح النســخة التــي عــى اليمــن وأجتــه ليقــي
عــى النســخة األخــرى.
أبيضــا مــن الليــزر
تفاجــئ نــور عندمــا رآه ُيطلــق مــن العــن شــعا ًعا ً
يمحــوا كل مــا يلمســه.
اختفــت النســخة األخــرى ،وتدمــر جــزء كبــر مــن املبنــى خلفهــا ،فشــعر
نــور بالقلــق جــراء هــذا ،ونظــر وراءه فوجــد أن جــن ابتعــدت مســافة
كافيــة ولكنهــا توقفــت لتتفقــد حالــه.
نتصــب يف منتصــف وجــه العنكبــوت الشــعاع إىل احلاجــز احلديــدي ا ُمل ِ
الطريــق فقفــز نــور ناحيــة اليمــن برسعــة إذ تالشــى اجلــدار وراءه مــن
أثــر الشــعاع ،ثــم خطــرت ببالــه فكــرة ولكنهــا خطــرة ،فصنــع در ًعــا
متوســط احلجــم ولكنــه كاملــرآة ،وقــال لنفســه:
-أمتنــى أن يكــون هــذا الشــعاع لديــه خــواص انعكاســية مثلــا حــدث
عندمــا واجهــت «يل كانــج» يف املرحلــة األخــرة مــن ســباق املــوت.
علــم نــور أن مــا يفعلــه قــد يقــي عليــه ،فشــعاع هــذا الروبــوت أقــوى
بكثــر مــن شــعاع «يل كانــج» ،ولكنــه مل يم ُلــك خيـ ً
ـارا آخــر.
أندفــع الشــعاع مــن عـ ِ
ـن العنكبــوت قاط ًعــا طريقــه إىل نــور الــذي رفــع
83
درعــه ليصــد الشــعاع ويعكســه عــى العنكبــوت ولكنــه أدرك متأخـ ًـرا أن
الشــعاع ال يملــك خواصــا انعكاســية ،فتبخــر الــدرع يف يـ ِ
ـده فقــذف مــا ً
تبقــى منــه وقفــز ناحيــة اليســار وقــد علــم أنــه كاد أن َيقــي نحبــه اآلن
بســبب هتــوره.
وثــب نــور مــن عــى األرض مــرة أخــرى وقــد اخضــل شــعره وتصبــب
العــرق مــن جسـ ِ
ـده ،بينــا ســمع صــوت جــن تُنــادي عليــه أن هيــرب
ولكنــه جتاهلهــا وأخــذ يفكــر يف خطوتـ ِ
ـه القادمــة.
ملعــت فكــرة متهــورة أخــرى يف رأســه وقــرر أهنــا مــاذه األخــر أو
ســ ُيقىض عليــه لألبــد.
خصيصــا لتعطيــل
ً أخــرج مــن حقيبتــه قنبلــة كهرومغناطيســية ُصنعــت
أي ٍ
يشء إلكــروين يف جماهلــا ،وقنبلــة أخــرى دخانيــة ،وبعــض املتفجــرات
الالصقــة.
صنــع نــور نســختني مــن الضــوء وشــعر أن طاقتــه كادت تنفــد وأن هــذه
قــد تكــون آخــر حماولــة ليفعــل أي يشء.
أنطلــق نــور يشــق طريقــ ُه ناحيــة العنكبــوت وقــد ســبقته النســختني
فوجــه العنكبــوت طلقــات البالزمــا باجتاههــا فتالشــت النســخة األوىل
ا مــن بينــا أنحــرف نــور يمينـ ًا ويسـ ً
ـارا ليتجنبهــا ،وبعــد أن اقــرب قليـ ً
العنكبــوت تالشــت النســخة األخــرى ،فأصبــح تركيــز العنكبــوت عليــه،
فــرأي نــور أنــه مل يقــرب بــا فيــه الكفايــة فصنــع درعـ ًا مــن الكريســتال
ليحميــه ِمــن الطلقــات فتالشــى الــدرع فصنــع الــذي يليــه
ِ الصلــب
برسعــة وصــد بــه الطلقــة التاليــة ،حتــى أســتطاع االقــراب بــا فيــه
84
الكفايــة ،فأمســك بالقنبلــة الكهرومغناطيســية وألقاهــا عــى العنكبــوت
ٍ
بوابــل مــن الكهربــاء املغناطيســية التــي جعلتــه فهبطــت فوقــه لتصيبــه
يرتنــح يف مكانــه وقــد تشــوش نظــام تصويبــه ورؤيتــه فتشوشــت رؤيتــه.
ألقــي نــور قنبلــة دخانيــة أمــام العنكبــوت حتــى حيجــب رؤيتــه هنائ ًيــا بعد
القنبلــة األوىل ثــم عــر مــن بــن الدخــان وخــرج منــه حتــى أصبح أســفل
العنكبــوت فأمســك بالقنابــل الالصقــة وبــدأ يضعهــا الواحــدة تلــو
األخــرى عــى أرجــل العنكبــوت وهــو يركــض مــن بينهــا ،حتــى وضــع
ـة إىل األمــام حتــى أصبــح العنكبــوت ســتة قنابــل ،وركــض بعدهــا برسعـ ٍ
خلفــه ،ثــم ضغــط عــى زر التفجــر فانفجــرت أرجــل العنكبــوت وهوى
بجســده عــى األرض بقــوة حمــاوالً التــوازن بــا تبقــي لــه مــن أقــدام.
وقــف نــور وهــو يلتقــط أنفاســه ثــم توجــه ناحيــة القــدم ا ُملتبقيــة ،وصنــع
سلســلة طويلــة تنتهــي بخطــاف ،ولفهــا يف اهلــواء ثــم قذفهــا ناحيــة القدم
حتــى ألتفــت عليهــا وقيدهتــا فســحبها حتــى تداعــت القــدم وأختــل
تــوازن العنكبــوت بالكامــل فســقط عــى األرض وأصبحــت العــن أمــام
نــور ترتنــح بقــوة ،فأمســك نــور بقنبلــة يدويــة يف يــده ،وقذفهــا ناحيــة
العــن وهــو يقــول بنــرة عنيفــة:
-الوداع أهيا الوغد.
انفجــرت القنبلــة يف العــن ،فتناثــرت إىل قطـ ٍع صغــرة يف أنحــاء الطريــق،
وخــر العنكبــوت ســاكن ًا ال يتحــرك بعــد تدمــر اجلــزء الــذي ُي ِركـ ُه.
ألقــى نــور بجســده عــى األرض وهلــث بقــوة مــن هــول املجهــود الــذي
بذلــه ورأى أنــه مل يتبــق لــه إال القليــل مــن الطاقــة .أبــر جــن وهــي
85
تركــض ناحيتــه غــر ُمصدقــة ملــا رأتــه .وصلــت إليــه ،وعــي عينيهــا
نظــرات الدهشــة والغضــب يف نفــس الوقــت ،فقالــت بنــرة عصبيــة:
-هــل أنــت أمحــق؟ لقــد كــدت أن تقتــل نفســك هبــذا التهــور! ولكــن
هــذا كان ُمدهــش حقــا.
أبتســم نــور هلــا وهــو يمســح عرقــه الــذي يتصبــب بقــوة يف كل أنحــاء
جســده.
قالت جني وهي تتفقد الطريق من حوهلا:
-جيب أن نتحرك من هنا وإال فسيأيت املزيد منه.
ولكــن قبــل أن تــدوم فرحتهــا بالقضــاء عــى هــذا الــيء ،باغتهــا واحــد
آخــر مــن نفــس الطريــق .ســمعا صوتــه املألــوف هيــدر يف الطرقــات،
فشــعر نــور بصــدره ينقبــض وجســده يرجتــف ،وقــد رأى أنــه ال يمــك
أي طاقــة ملواجهــة واحــد آخــر.
ظلــت جــن حتــث نــور عــى الوقــوف واهلــرب ،ولكنــه شــعر أهنــا
هنايتهــا .وقــف وركــض ببــطء وهــو يرتنــح ،بينــا ظهــر العنكبــوت
خلفهــا بصوتــه اإللكــروين املزعــج ورصيــر أقدامــه ،ومدافعــه التــي
تتحفــز لفتــك هبــا .نظــر نــور أمامــه فوجــد أهنــا ال زاال يف منتصــف
الطريــق ،والروبــوت مل يعــد يبعــد عنهــا إال بِضعــة أمتــار.
أيضــا ،والوقــت يدامههــا علــم نــور أن أفــكاره نفــذت وطاقتــه ً
والروبــوت يقــرب برسعــة ،وأحــس أهنــا النهايــة ،ولكنــه فجــأة ملــح
شــي ًئا ذهب ًيــا يلمــع أعــى زجــاج املبنــى الواقــع عــى يســاره ،وكأهنــا حرشة
86
تســر عــى الزجــاج برسعــة .وإذ فجــأة قفــز الــيء الــذي يشــبه احلــرة
عال ًيــا يف الســاء ،وأتضــح أن تركيبتــه الفســيولوجية تُشــبه اإلنســان
كثــرا .هبــط عــى العنكبــوت بــراوة فأصطــدم جســد العنكبــوت ً
بــاألرض بشــدة ومل تتحمــل أقدامــه الضغــط فبــدأت بالتفــكك ببــطء.
أمســك الــيء الذهبــي العــن الكبــرة القابعــة فــوق رأس العنكبــوت
بيــده ،وســحبها بقــوة ،حتــى انقلعــت مــن مكاهنــا وتبقــت األســاك
ا ُملرتبطــة بجســد العنكبــوت فقــط ثــم رمــى العــن بعيــدً ا .تفاجــئ نــور
عندمــا رأى العنكبــوت ينهــض بجســده جمــد ًدا وهــو يلــوح بأقدامــه يف
كل اجتــاه ،فتوقــف هــو وجــن عندمــا رأيــا مــا حيــدث ،وحدقــا بقــوة
ناحيــة الــيء الذهبــي الغريــب الــذي أســقط الروبــوت العمــاق بنفســه
بــدون أي جهــد ،ولكــن ليــس هــذا مــا أدهشــهام عــى قــدر أنــه ال يبــدوا
برش ًيــا عــى اإلطــاق ،ولكنهــا مل يســتطيعا حتديــد هويتــه بســبب هيجــان
العنكبــوت الــذي أخــذ يلتــف حــول نفســه ُمطـ ًـا كل مــا حولــه بــراوة
وهــو هيــز جســده حمــاوالً إيقــاع احلــرة الذهبيــة التــي جتثــم عــى ظهــره،
ولكــن كان يبــدوا أن الــيء الذهبــي الغريــب يقــاوم كل هــذا بســهولة،
ثــم وبمــأ إرادتــه قفــز مــن فــوق العنكبــوت عال ًيــا وملــح نــور أجنحــة
ختــرج مــن ظهــره.
نــزل الــيء الذهبــي عــى األرض وبــدأت مالحمــه تتضــح اآلن ،فرتاجــع
كُال مــن نــور وجــن وقــد أصاهبــا الدهشــة واحلــرة .أشــار نــور بأصبعـ ُه
ناحيتـ ُه وهــو يتمتــم:
-روبوت ...يقاتل ...روبوت؟!
87
نظــر إىل جــن وكان يبــدوا مــن مالمــح وجههــا أهنــا تبادلــه نفــس
التســاؤالت .كان الروبــوت والعنكبــوت يبعــدان عنهــا حــوايل مائــة مرت،
ولكنهــا بديــا واضحــن وضــوح الشــمس وســط كل هــذه البلبلــة.
كان جســده مكــي باللــون الذهبــي وهنــاك يشء ُمســتدير يشــع عنــد
قلبــه وكأهنــا جوهــرة ينعكــس عليهــا ضــوء الشــمس ،وباملثــل كان نفــس
الــيء يقبــع فــوق جبينــه بقليــل ،بينــا عينــاه تشــعان بلـ ٍ
ـون أزرق داكــن.
ـرا ،مــع مالمــح الروبوتــات اخلالية
تركيبتــه الفســيولوجية تُشــبه البــر كثـ ً
مــن املشــاعر ،وكان جســده متســق ًا ومصنو ًعــا بمهـ ٍ
ـارة عظيمــة. ُ
بــدا وكأن الروبــوت الذهبــي يركــض بتموجــات غريبــة بــن أقــدام
العنكبــوت الــذي كان حيــاول أن يدهســه بأقدامــه الثامنيــة وهــو يــرب
األرض يف كل االجتاهــات .الحــظ نــور احلــركات الغريبــة للروبــوت
الذهبــي ،فقــال وهــو يتتبــع حتركاتــه بعينيــه:
-هل هو يتزلج؟
فردت جني وهي توافقه الرأي:
-يبــدوا أنــه يمتلــك عجــات يف قدميــه مثــل أحذيــة التزلــج التــي
نرتدهيــا أحيانــ ًا!
تزلــج الروبــوت الذهبــي بــن أقــدام العنكبــوت برشـ ٍ
ـاقة ُمتجن ًبــا رضباتــه
بحــركات متموجــة ،بينــا أخــرج مــن راحــة يديــه منشــارين دائريــن
ضوئيــن.
ـة رهيبــة وهــي تلمــع بضـ ٍ
ـوء أزرق بــراق بينــا تزلــج دارت املناشــر برسعـ ٍ
ُ
88
الروبــوت بثقــة ورزانــة بــن أقــدام العنكبــوت الــذي يرفــس ويــرب
األرض .رفــع الروبــوت يــداه ومــرر املناشــر عــر أقــدام العنكبــوت
فتقطعــت قدمــان مــن اجلانــب األيــر للعنكبــوت ،وأكمــل تزجلــه بــن
أقدامــه اخللفيــة ثــم التــف 180درجــة عائــدً ا أدراجــه وقطــع أحــد
أقدامــه اخللفيــة .بــدأ العنكبــوت يفقــد اتزانــه ،فمــر الروبــوت الذهبــي
مــن حتــت جســده الضخــم ناحيــة القــدم األماميــة اليــرى وقطعهــا
نصفــن ،فســقط العنكبــوت عــى جانبــه األيــر ،وبــدأت حركتــه هتــدأ
متوجهــا ناحيــة رأســه.
ً تدرجي ًيــا ،فالتــف الروبــوت الذهبــي
أشــار نــور جلــن كــي ُيكمــا اهلــرب فأومــأت برأســها وبــدأت تركــض
معــه ُمبتعــدة.
فــر ك ًُل مــن نــور وجــن برسعــة خوف ـ ًا مــن أن يــأيت دورمهــا بعــد هــذا
العنكبــوت اآليل ،فلــم يرجحــا فكــرة أن يكــون الروبــوت الذهبــي
يســاعدمها البتــة ،كــا أن اهلــرب أفضــل مــن ا ُملخاطــرة والتوقــف حتــى
ينتهــي الروبــوت مــن القضــاء عــى العنكبــوت ُليحــب هبــا ،فهــذا غــر
مضمــون عــى اإلطــاق نظـ ًـرا للظــروف التــي حتيــط هبــا .رجحــا فكــرة
اهلــروب بينــا تقــي الروبوتــات عــى بعضهــا البعــض.
ركضــا وســط املبــاين العاليــة عــى ضــوء الشــمس الســاطع ،الــذي كان
ُيرشــدمها بخطوطــه الذهبيــة عــى األرض ،وبعــد مخــس دقائــق مــن
الركــض بــا توقــف ،أشــار نــور جلــن التــي كانــت تلهــث بقــوة أن
تتوقــف ،وانعطــف يمين ـ ًا يف أحــد األزقــة وأشــار هلــا أن تتبعــه فتبعتــه.
دخــا الزقــاق الضيــق الــذي حيــوي بعــض صناديــق القاممــة ،واملواســر
89
لتمدهــا باملــاء والغــاز.
املمتــدة بــن املبــاين ُ
وقفــا واســتندا عــى احلائــط ،ليســرحيا ومهــا ال يصدقــان مــا قــد رأوه.
روبــوت هياجــم روبــوت آخــر! يف كل هــذه األحــداث الغريبــة كان اليشء
املشــرك فيهــا أن الروبوتــات كانــت تتعــاون فيــا بينهــا ،ولكــن مــا رأوه
اآلن أثبــت هلــم أن هنــاك الكثــر مــن األشــياء التــي ال يفهموهنــا بعــد،
وأن اســئلتهم بــدأت تتزايــد ،وليــس هنــاك أجوبــة حتــى اآلن .نظــر نــور
إىل الســاء وتنفــس الصعــداء حمــاوالً أن يســتعيد نبــض قلبــه الطبيعــي،
وشــعر وكأنــه ســمكة تــم اإلمســاك هبــا وإخراجهــا مــن املــاء بضعــة
دقائــق ثــم ألقوهــا يف املــاء جمــد ًدا.
أيضــا يف حماولــة للســيطرة
نظــر إىل جــن التــي كانــت تلتقــط انفاســها ً
عــى نبــض قلبهــا ومعــدل التنفــس الطبيعــي ،وعــى ســيل املشــاعر الــذي
يــري بداخلهــا وقــد أمحــرت وجنتيهــا .فتنهــد نــور قائــا:
-لقد نجونا بأعجوبة.
أومــأت لــه جــن واالرهــاق يتبــدى يف عينيهــا .قالــت وهــي تلتقــط
أنفاســها بصعوبــة:
-لقد ...كانت ...النهاية ...وشيكة.
-نعــم ولكــن الفضــل يعــود هلــذا الروبــوت الذهبــي .لقــد أنقذنــا،
ولكنــي ال أعلــم ملــاذا فعــل هــذا؟
ردت جني بسخرية:
-وعىل األرجح لن تعرف.
90
قال نور ضاحك ًا:
-يا ِ
لك من كتلة تشاؤم متحركة.
ضحكت جني ضحكة متقطعة يف رصاع مع أنفاسها ثم قالت:
-أتريــدين أن أتفــاؤل وســط هــذه الظــروف؟! ســأحاول فعــل هــذا
َ
أعــدك. ِ
ولكــن ال
ضحــك نــور وأشــار هلــا بمتابعــة الســر ،فبــدءا بعبــور الزقــاق ومهــا
يتأمــان املــكان الكئيــب بإمعــان .كان هنــاك قطــط تقفــز داخــل صناديــق
القاممــة تــارة وتتشــاجر مــع بعضهــا تــارة أخــري .وصــا إىل آخــر الزقــاق
فوجــدا ســاحة واســعة أمامهــا ،فأشــار نــور جلــن أن تتوقــف ثــم مــال
موجهــا نظــره يف كل االجتاهــات ليتأكــد أنــه ال
ً برأســه خــارج الزقــاق
يوجــد أي خطــر .جلــس عــى ركبتيــه وأخــرج املنظــار مــن حقيبــة ظهــره
وتفحــص املــكان بأكملــه ،فوجــد يف منتصــف الســاحة نافــورة مجيلــة
تزينهــا الفسيفســاء ،وىف منتصفهــا متثالــن لشــخصني يميــان بجســدمها
ناحيــة بعضهــا البعــض وىف يدمهــا إبريــق مــاء يس ـك ِ
ُبان بــه املــاء داخــل
احلــوض الكبــر للنافــورة .ويف األفــق ناحيــة اليمــن كان يوجــد مبنــى
جامعــي آيــة يف اجلــال .كان يتكــون مــن عــدة مبــاين متجــاورة ،ذات
ســطح ُمبلــط ،ويزينهــا مــن األمــام عــدة حدائــق وأشــجار وســاعة
كبــرة شــاخمة يف اهلــواءُ ،معلقــة بــن عموديــن مســطحني؛ ولوهنــا األزرق
الســاوي ُيضفــي هبجــة ومجــاالً عليهــا ،وبجانبهــا مشــفى.
تفحــص نــور املــكان جيــدً ا بمنظــاره ،فــرأى أن املــكان خـ ٍ
ـال متا ًمــا مــن
أي أثــر للحيــاة فأشــار جلــن أن تتبعــه .فأومــأت برأســها بــدون أن تنبــت
91
ببنــت شــفه ،وســارت خلفــه ،فقطعــا الســاحة ومهــا يتأمــان املناظــر
اخلالبــة حوهلــا مــن أشــجار ومبــاين رائعــة التصميــم ،فنظــر نــور حولــه
وشــعر أن هنــاك شــخص يراقبهــا.
***
92
7
أثنــاء ســرهم ومرورهــم باملتاجــر الفارغــة واللوحــات اإلعالنيــة ا ُملعلقــة
يف االنحــاء والســيارات املركونــة التــي غشــيها األتربــة .توقــف نــور
للحظــه ،وقــد شــعر ُمــد ًدا أن هنــاك أحــدً ا يراقبهــا .ال يعــرف مــن! أو
ملــاذا! ولكنــه يثــق بحدســه دائـ ًـا ،وحدســه يقــول لــه أهنــا مراقبــان .ظــل
ينظــر يف كل االجتاهــات ،فقاطعــت جــن حبــل أفــكاره قائلــة:
-ملاذا توقفت ،هل حدث يشء ما؟
فقال هلا بينام هو منهمك يف تأمل املكان حوله:
-انتظري حلظه أشعر بأننا مرا ُقبان.
نظرت جني حوهلا يف كل االجتاهات بتوتر وتوجس وقالت بقلق:
-ال بد أنك تتخيل ال يوجد أحد غرينا هنا ،أنا ال أري أحدً ا.
بصوت ٍ
عال: ٍ ظل نور ينظر حوله ومن ثم رصخ
-من أنت؟! أظهر نفسك.
ملــح نــور أحــد الروبوتــات يقفــز مــن أعــى املبنــي وراءه ليباغتــه وينقــض
عليــه ،ولكنــه ألتــف برسعــة وأمســك بيــد الروبــوت أثنــاء هبوطــه
ورفعــه مــن فــوق كتفــه ل ُيلقــي بــه عــى األرض فومــد يــده إىل اجلوهــرة
التــي عنــد رأســه وخلعهــا بيــده بصعوبــة بالغــة ،فأنطفــأ الروبــوت ومل
يتحــرك أمــام دهشــة جــن وذعرهــا مــن هــذه املفاجــأة.
93
قال نور وهو ينظر حوله بحذر:
-جني أظن أن هناك املزيد .تأهبي.
صنــع نــور در ًعــا أبيــض اللــون طولــه مــر واحــد مصنــوع مــن مــادة
كيفلــر املضــادة للرصــاص .أعطــى نــور الــدرع جلــن بينــا أخرجــت
أيضــا اســتعدا ًدا
سدســا مــن غمدهــا ،وأخــرج نــور مسدســه ً جــن ُم ً
للمواجهــة املرتقبــة وصنــع در ًعــا آخــر ليحميــه.
خــرج مخســة روبوتــات مــن فــوق األبنيــة وهبطــوا عــى األرض مجي ًعــا
ـة غريبــةوقــد التفــا حــول نــور وجــن وهــم يوجهــون األوامــر هلــا بلغـ ٍ
غــر مفهومــة ،ثــم أطلقــوا النــار برشاســة عليهــا ولكــن الــدروع كانــت
حتميهــا جيــدً ا.
رفــع نــور مسدســه وبادهلــم إطــاق النــار يف حماولــة إلصابــة أحدهــم،
ولكنــه مل يســتطع .انتهــت خزينــة الروبوتــات ،فرتكــوا أســلحتهم
وتوجهــوا للقتــال باليــد مــن أجــل اإلمســاك هبــا كرهائــن وأخذمهــا
معهــم إىل معقلهــم.
وجــه نــور نظــره إىل جــن ومهــس هلــا ببعــض الكلــات ففهمــت خطتــه
كثــرا واســتعدت ً واســتعدت لتنفيذهــا .اقرتبــت الروبوتــات منهــا
للتالحــم ،ولكــن جــن أوقفــت الوقــت فتجمــدوا مجي ًعــا يف أماكنهــم.
ألقــي نــور بدرعــه وصــوب عــى الروبــوت األول وأطلــق رصاصــة
فخرجــت تســر ببــطء يف اهلــواء ،ثــم وجــه الرصاصــة الثانيــة ثــم الثالثــة،
ـطء شــديد .قامــت جــن بفعــل الــيء نفســه فظلــوا حيلقــون يف اهلــواء ببـ ٍ
مــع اثنــن مــن الروبوتــات أمامهــا فصوبــت عــى اجلوهــرة يف رؤوســهم،
94
ولكــن الطلــق خــرج مــن مسدســها وهــو يســر ببــطء شــديد كبــطء
الروبوتــات التــي كانــت تبــدوا بالــكاد تتحــرك.
عنــدا عــاد الزمــن فتســارعت الطلقــات واصطدمــت مجيعهــا دفعــة واحدة
بمصــادر الطاقــة عنــد الروبوتــات فتحطمــت رؤوســهم وســقطوا عــى
األرض مجي ًعــا ،وهــم يصــدرون أصوا ًتــا إلكرتونيــة خمتنقــة ومتقطعــة.
نفســا عميق ـ ًا بينــا مســحت جــن العــرق عــن جبينهــا وقــد
أخــذ نــور ً
شــعرت ببعــض الراحــة.
ـخصا يركــض ناحيــة الزقــاق الواقــع بــن أحــد نظــر نــور أمامــه فلمــح شـ ً
املبــاين بجانــب اجلامعــة عــى جهــة اليمــن .كان رسي ًعــا وهادئ ـ ًا لدرجــة
أن جــن مل تالحظــه ،ولكــن نــور كان دائـ ًـا شــديد املالحظــة ،وهــذا مــن
حســن حظــه ،فأمســك مسدســه بقــوة ثــم قــال جلــن:
-انتظري حلظة هنا.
فقالت ويف نفسها ظلامت واضطراب:
-ما الذي حدث ،ماذا رأيت؟
مل جيبهــا وســارع بالركــض خلــف هــذا الشــخص وبعــد بضعــة خطــوات
ـهرا
ـرا إىل الزقــاق ،فرفــع املســدس أمامــه ،ودخــل الزقــاق ُمشـ ً وصــل أخـ ً
املســدس يف كل االجتاهــات ،حتــى ملحــه وهــو هيــرب .كان يرتــدي رداء
ا ُمللثــم الــذي ســاعده يف الغابــة فنــادي عليــه نــور وهــو يطــارده قائـاً:
-أنت أنتظر لن أؤذيك ما الذي حيدث هنا؟ إنه أنا .توقف.
95
ركضت جني وراء نور فسمع صوهتا وهي تنادي عليه قائلة:
-نور ...انتظرين ...ماذا حيدث هنا؟
ولكــن نــور مل يعرهــا أنتباهــه ،وكان كل تركيــزه عــى الشــخص الــذي
يركــض يف الزقــاق الضيــق أمامــه ،فلربــا يعــرف يشء ممــا حيــدث هنــا
وهلــذا جيــب أن يلحــق بــه .يف نفــس الوقــت كانــت جــن ال تــزال تركــض
ورائــه حماولــة اللحــاق بــه ولكنهــا بالــكاد كانــت تقــرب منــه مــن شــدة
رسعتــه فقالــت لنفســها:
-تبـ ًا ملــاذا اجلميــع يســتطيع الركــض بــدون أن يتعــب إال أنــا؟ هــل كانــوا
ســيخرسون لــو أضافــوا إىل هــذه امليزة؟!
ثــم تذكــرت كالم نــور عــى أن عقلهــا خــارق ويســتهلك طاقــة رهيبــة
جتعــل جســدها واهــن وضعيــف.
سمع نور جني تنادي جمد ًدا:
-نور أنتظر ال ترتكني هنا!
مل جييبهــا ألنــه قــد ال حيصــل عــى هــذه الفرصــة ُمــد ًدا ،فأكمــل مطــاردة
امللثــم الــذي ابتعــد عنــه ومل يبــدوا أن لديــه النيــة للتوقــف ،فظــل نــور
ٍ
لطريــق مســدود يالحقــه قاط ًعــا الزقــاق الضيــق حتــى وصــل امللثــم
فتوقــف ثــم التفــت ُمدقــ ًا ناحيــة نــور .كان يرتــدي قلنســوة ســوداء
ـرا للريبــة ،وعــى صــدره رســمة لكوكــب أمحــر جمهــول وأثنــاء ويبــدو ُمثـ ً
ركــض نــور ورائــه الحــظ أربــع رســات أخــرى ألربعــة كواكــب ولكنــه
مل يرهــم جيــدً ا .توقــف نــور ليلتقــط أنفاســه ،صمــت بضعــة ثـ ٍ
ـوان ثــم
96
حتامــل عــى نفســه قائ ـاً:
-ملــاذا هتــرب؟ أنــا لــن أؤذيــك ...إنــه أنــا الشــخص الــذي قابلتــه يف
الغابــة ،وأنقذتــه مــن املطــارد ،والــكالب الغريبــة ...مل تتثنــي يل الفرصــة
لشــكرك بعــد.
صمــت نــور وبــدأ بالتوجــه نحــوه ببــطء راف ًعــا يــده يف اهلــواء يف وضعيــة
االستســام ثــم قــال:
-ملاذا تغطي وجهك؟ وهل تعرف ماذا حيدث هنا؟
ابتســم الغريــب ابتســامة مريبــة وكأنــه كان يســتدرج نــور ثــم قــال بنــرة
عميقــة:
يشء منك. -لن حتصل عىل إجابات مني ولكني سأحصل عىل ٍ
97
-ليس هناك نقاش بيننا ،أنا مل أقابلك قط.
عــرف نــور أن هــذا ليــس نفــس الشــخص الــذي قابلــه مــن قبــل .ربــا
تشــاهبت املالبــس ولكنــه شــخص ُمتلــف ،وال يبــدوا أنــه كان يريــد أن
يتكلــم فرسعــان مــا بــدأ بأطــاق رصاصــات كهربائيــة صاعقــة نحــوه
فأنخفــض برأســه وأحتمــى جيــدً ا فلــم يصبــه يشء .رصخ قائ ـاً:
-ماذا تفعل يا أمحق؟ اال تري ما نحن فيه؟! جيب أن نتعاون.
جاء رد الغريب وكأنه ال ينوي تركه خيرج من هنا عىل قيد احلياة:
-ال جمال للتعاون بيننا أبدً ا.
بدأ باإلطالق ُمد ًدا ،فقال نور بينه وبني نفسه:
-إذا أصابتنــي أحــد هــذه الطلقــات فــا جمــال للشــك أننــي قــد ال أنجــوا
بعد ها .
ولكــن مل يكــن هــذا أســوء مــا قــد حيــدث يف هــذه األثنــاء ،فقد اســتطاعت
أخــرا أن تلحــق بنــور وهــي تتنفــس بعــر مــن أثــر الركــض. ً جــن
كان هــذا آخــر مــا يريــده نــور أن حيــدث اآلن ،فقــد نســيها متا ًمــا وســط
هــذه األحــداث .بــدأ اخلــوف يتدفــق بداخلــه ومل يعــد يســتطيع التفكــر
بوضــوح ،كان كل مــا حيــدث اآلن يعكــر صفــو أفــكاره.
بــدأت جــن بالتقــاط أنفاســها واســتيعاب مــا حيــدث حوهلــا ومــن ثــم
قالــت وشــفتاها ترجتفــان:
-نور ما الذي حيدث هنا؟
98
فرصخ نور فيها وقد شعر أنه ورقة يف مهب الريح:
-جني اهريب من هنا حاالً.
نظــرت جــن أمامهــا ورأت الرجــل ا ُمللثــم الواقــف يف هنايــة الــرواق،
يطلــق بمسدســه ناحيــة نــور ،فشــحب وجههــا واضطربــت ورأت
أهنــا ُمعرضــة للخطــر وجيــب ان حتتمــي اآلن ،وقبــل ان تتاملــك نفســها
وتركــض ،وأثنــاء طلــب نــور هلــا أن تبتعــد مــن هنــا وحتتمــي ،صــوب
الغريــب مسدســه نحوهــا وأطلــق عليهــا رصاصــة كهربائيــة ،فانطلقــت
الطلقــة تشــق اهلــواء متوجهــة ناحيتهــا فهلعــت وجتمــدت مكاهنــا؛
فأصابتهــا الطلقــة لتصعــق جســدها بقــوة حتــى جتمــدت مكاهنــا مــن
شــدة الكهربــاء التــي تــري يف جســدها وأخــذت تتلــوى مــن األمل
ثــوان وســقطت عــى األرض هامــدة .أندهــش نــور مــن هــذا ٍ بضعــة
املنظــر ،وبــدأت مالحمــه تتبــدل ملالمــح الســخط واألمل والغضــب وأصبح
ٍ
ـركان يغــي وحــان وقــت ثورانــه، أكثــر جديــة فتأجــج الغضــب داخلــه كـ
ا وقــد احتقنــت عينيــه بالدمــاء: فــرخ قائــ ً
ُ -
سأقتلك عىل ما فعلت.
موجهــا مسدســه ناحيتــه وعينيــه
ً خــرج مــن خمبــأه وســار ناحيــة امللثــم،
تشــعان بــرارة غضــب ،فــرع بإطــاق النــار عليــه ،ولكنــه أخطــأ
عــدة طلقــات والحــظ أن الطلقــات متــر بجانبــه دون أن تُصيبــه وكأن
هنــاك جمــاالً حولــه جيعــل الطلقــات تنحــرف قبــل أن تُصيــب جســده،
فــإذا با ُمللثــم يســر نحــو نــور ببـ ٍ
ـطء وثقــة عارمــة وقناعــه الفــي الشــبيه
باجلمجمــة يلمــع حتــت أشــعة الشــمس بينــا متــر الرصاصــات مــن
99
حولــه ،حتــى فــرغ مســدس نــور ،فألقــاه عــى األرض وصنــع ســيف ًا
ودفعــه إىل األمــام ليطعــن ا ُمللثــم ولكنــه مــال بجســده يمينًــا فتحاشــاه
ومــن ثــم أمســك بيــد نــور ورضهبــا براحــة يــده فأســقط ســيفه رغـ ًـا عنــه
وبعدهــا وجــه ا ُمللثــم لــه رضبــة يف أمعــاءه جعلتــه يبصــق دمــا ًء مــن فمــه
وبعدهــا ســقط عــى األرض وقــد انقطعــت أنفاســه واختنــق اهلــواء يف
ـه مــن شــدة الرضبــة ،نظــر لــه ا ُمللثــم وقــال بلهجــة واضحــة: حلقـ ِ
-ال تعبــث مــع اإلينيكــس .حتتــاج إىل مئــة ســنة مــن التدريــب حتــى
تســتطيع أن تلمــس أحدنــا ...واآلن ســأحصل عــى مــا جئــت مــن أجلــه.
أنحنــي ا ُمللثــم وأمســك بجــن التــي كانــت ســاكنة ال تتحــرك ووضعهــا
عــى كتفــه األيمــن وأنطلــق ُمبتعــدً ا ،فشــهق نــور وأنفاســه تتقطــع وكانت
الكلــات ختــرج مــن صــدره املختنــق مــع رصخــات:
-أهيا ...اللعني ...أتركها.
ألتف ا ُمللثم ونظر له بحدة قائالً:
ـك أن تنســاها ألهنــا -نحتــاج إىل جســدها وقدرهتــا املميــزة ،وهلــذا فعليـ َ
ـك مــرة أخــري ولــن تكــون عــى قيــد احليــاة ...أحببــت لــن ترجــع إليـ َ
أن أخــرك هبــذا حتــى ال تتعلــق بأوهــام وتضيــع وقتــك يف البحــث
عنهــا وحماولــة إنقاذهــا ...فلتنســاها وأكمــل طريقــك حتــى تُنهــي
َ
دورك يف ـك أن تفعلــه وتفهــم ـك مــا جيــب عليـ َ االختبــار األخــر فيصلـ َ
هــذه األحــداث ،أمــا تكويــن الصداقــات والتعلــق باآلخريــن يف ظـ ِ
ـل مــا
حيــدث فهــذه ترهــات جيــب أن تتخطاهــا وتتخلــص منهــا وإال فستســحق
يف هــذا العــامل املجنــون الــذي نعيــش فيــه ...واآلن ودا ًعــا.
100
ضغــط نــور عــى أســنانه وارجتفــت شــفتاه وضغــط بيــده عــى األرض
حمــاوالً رفــع نفســه ولكنــه مل يســتطع ،فزحــف حمــاوالً اإلمســاك با ُمللثــم
الــذي يبتعــد ولكنــه علــم أن حماولتــه اللحــاق بــه ســتكلل بالفشــل،
وشــعر بــأملٍ رهيــب يــري يف معدتــه ويمنعــه عــن التحــرك خطــوة
واحــدة ،وأحــس بوعيــه ينســحب تدرجي ًيــا ،وأنبجــس الــدم يف رأســه
فــرخ رصخــة أخــرة قائــاً:
-سأصل َ
إليك حتى لو استغرق مني األمر مئة عام.
وبعدها أغيش عليه وسقط يف نو ٍم عميق.
اســتيقظ بعــد ســاعات وتذكــر مــا حــدث فنبــض قلبــه بعنــف وقــام
ُمرس ًعــا يبحــث عــن جــن وعــن ا ُمللثــم ولكنــه وجــد املــكان فار ًغــا.
ازداد ضيقــه وحريتــه ،وشــعر أن صــدره ينقبــض بقــوة مــن كل مــا حيــدث
وأن بينــه وبــن اجلنــون شــعرة واحــده وبــدا وكأنــه يف ُحلـ ٍم أو باألحــرى
كابــوس يسء للغايــة؛ هــذا النــوع مــن الكوابيــس الــذي ُيشـ َ
ـعرك أنـ َ
ـك
ُنــت حت ُلــم ،ولكــن
يقــظ حتــى تســتيقظ بالفعــل وتســتوعب أنــك ك َ
ـك ال حتلــم؟ أدرك نــور أن العــامل مــن كيــف تعلــم أنــك اســتيقظت وأنـ َ
حولــه غريــب وليــس كــا يبــدوا أبــدً ا هــذا مــا تعلمــه بــا رآه حتــى اآلن.
رأي أنــه حيــوي عــى الكثــر مــن األرسار املخبــأة يف طيــات التاريــخ.
ولكــن فقــط القليــل يعــرف بأمــر هــذه األرسار ،ويعــرف أهنــا واضحــة
وضــوح الشــمس ،ولكــن ال أحــد يفتــح عينــاه وينظــر .لقــد أصبحــت
البرشيــة كاخلــراف العميــاء ،يســرون يف قطيــ ٍع ناحيــة املــاء والطعــام
دون أي إرادة حــرة ،فقــط كــا حيركهــم الراعــي بالعصــا ،ال يتســاءلون
101
أيــن أختفــي رفاقهــم الذيــن كانــوا يرشبــون ويأكلــون بجانبهــم منــذ
قليــل ،ال يعرفــون أن الراعــي ذبحهــم مــن أجــل احلصــول عــى بعــض
املــال والطعــام مــن حلمهــم وصوفهــم .ولكــن طاملــا أن هــذا مل حيــدث
هلــم بعــد فهــم ال يكرتثــون ،حتــى يــأيت الراعــي ويســحبهم الواحــد تلــو
اآلخــر ثــم يذبحهــم ،فــا يفيقــون حتــى ُيقتلــوا مجي ًعــا .كان نور شــخصية
حساســة ،حيــزن برسعــة كبــرة ،فأصابتــه نوبــة بــكاء وأصبــح يبكــي بــا
توقــف ممــا حيــدث حولــه ومــن قســوة مصــره املجهــول يف هــذا العــامل
ا ُملدمــر .ال عائلــة وال أصدقــاء وال يتذكــر يشء عــن حياتــه وال يعلــم مــا
اهلــدف مــن كل مــا حيــدث ،كان الغمــوض يــكاد يقتلــه ويمــزق عقلــه إىل
أشــاء واحلــزن يطغــي عــى قلبــه ألنــه فقــد آخــر صلــة لــه بعــامل اإلنســان
هييــم يف غابــة موحشــة حتكمهــا قوانــن ٍ
كحيــوان وحيــد وأصبــح اآلن
ُ
القــوة والبقــاء والقتــل مــن أجــل النجــاة.
متالــك نفســه بعــد فــرة وذهــب ليبحــث عــن بعــض املــاء فخــرج إىل
الســاحة وغســل وجهــه يف النافــورة مــن أثــار الدمــوع ورشب منهــا ،ثــم
بــدأ ينظــر حولــه فلــم يعــرف مــن أيــن يبــدأ ،وجــه وجه ـ ُه ناحيــة املــاء
تفحصــا نفســه يف انعــكاس املــاء .الحــظ أن عينيــه ً يف النافــورة ُمــدً دا ُم
متعبتــان وحممرتــان بشــدة ووجهــه أصبــح شــاح ًبا وســاوره شــعور
باالنفصــال عــن ذاتــه وكأنــه ينظــر إىل شــخص غريــب جمهــول مل يــره مــن
ـخصا غــر موجــود ،وأحــس أنــه يــكاد ُيصيبــه اجلنــون والشــك قبــل ،شـ ً
يف العــامل مــن حولــه مثلــا حــدث لديــكارت الــذي أصابــه الشــك يف
وجــوده ووجــود العــامل ،فقــال لنفســه:
102
-ملــاذا أمــر بــكل هــذا؟ مــا الــذي فعلتــه يف حيــايت ألســتحق هــذا؟
يــا إهلــي ســاعدين ،فقــد عبدتــك ومل أقــر يف عبادتــك ،فلرتشــدين إىل
دائــا.
الطريــق الصحيــح كــا أرشــدتني ً
فكــر بالعــودة إىل مــكان اختطــاف جــن ُمــد ًدا لعلــه جيــد مــا يســعف
عقلــه التائــه فقطــع الســاحة ودلــف إىل الزقــاق وعــره وهــو شــارد
الذهــن ،حتــى وصــل لنهايتــه فتذكــر مــا حــدث وتوقــف بضعــة ثـ ٍ
ـوان
ليســتوعب األمــر وشــعر أن عقلــه قــد توقــف متا ًمــا عــن العمــل ومل يعــد
ـادرا عــى التفكــر برزانــة ومنطقيــة ،وأحــس أنــه يفقــد ذاتــه وســامة قـ ً
عقلــه تدرجي ًيــا ،غــر وا ًعــا بــا حيــدث حولــه .فقــال لنفســه وقــد اســتبد
بــه خــور عميــق وهــو مطــرق الــرأس:
-هــل أنــا أحلــم؟! هــل قابلــت جــن حقــا؟ وهــل ماتــت هنــا
و ُاختطفــت؟ أم أننــي أعــاين مــن انفصــام حــاد يف الشــخصية؟
أخذ يسأل نفسه ُمد ًدا وهو يرتنح كالسكري:
-مــا الــذي حيــدث هنــا؟ ســأجن أنــا ال أفهــم شــيئ ًا! مــن أخــذ جــن؟!
ومــاذا يريــد منهــا؟ وهــل أنــا قابلتهــم حقــ ًا أم أن كل هــذا مــن نســج
خيــايل؟! جيــب أن أســتيقظ ،أنــا اهلــوس ،ال يشء حقيقــي .ال وجــود
للقــدرات اخلارقــة ولشــخص ال يصيبــه الرصــاص ولفتــاة توقــف
الزمــن ...ال بــد أن هــذا بســبب لعبــي الكثــر مــن ألعــاب الواقــع
االفــرايض ...اختلــط الواقــع باخليــال مــن كثــرة جلــويس عــى هــذه
األلعــاب ...ال بــد أن هــذا مــا حــدث ولكــن أيــن أنــا إذن؟
وأثنــاء تفكــره فيــا حــدث قــرر قتــل نفســه ُمعتقــدً ا أن هــذا قــد يوقظــه
103
مــن حلمــه أو مــن هلوســته وهبــذا يســتيقظ مــن هــذا احللــم الــيء اآلن.
وألول مــرة يف حياتــه اســتبد بــه يــأس شــديد دفعــه لقتــل نفســه ،ورجــح
ـرا يف
أنــه ربــا داخــل أحــد ألعــاب اخليــال الواقعــي التــي انتــرت كثـ ً
هــذا العــر وربــا أحدهــم يمــزح معــه عــن طريــق لعبــة جديــدة ذات
فكــرة ُميــزة مل يســبق ألحــد فعلهــا مــن قبــل وربــا هــذه اللعبــة تريــد
أن تُدخــل الشــخص يف حالــة الشــعور باخلطــر والتيــه حتــى تنجــح يف
إيصــال رســالتها .بــدا هــذا واقع ًيــا بالنســبة لــه ربــا تــم احتجــازه داخــل
أحــد االلعــاب وكل مــا جيــب فعلــه هــو قتــل لنفســه ليخــرج مــن هــذه
اللعبــة الســخيفة .وجــه املســدس مبــارشة حتــت فمــه وأغمــض عينيــه،
نفســا عميق ـ ًا وبــدأ يضغــط عــى الزنــاد ببــطء ولكــن قبــل أن ثــم أخــذ ً
يضغــط عليــه بالكامــل ســمع خطــوات أقــدام قادمــه مــن اخللــف ،فأفــاق
ممــا يفعلــه وقامــت غريزتــه اإلنســانية يف البقــاء بأخــذ زمــام األمــور،
نتظــرا الشــخص القــادم مــن أخــرً فوجــه مسدســه ناحيــة الصــوت ُم
الزقــاق ،وقــال يف قــرارة نفســه:
-ما هذه املصائب التي تأيت وراء بعضها؟!
ظــل صــوت األقــدام يقــرب ببـ ٍ
ـطء فســمع صــوت الشــخص القــادم
ينــادي قائ ـاً:
-هل هناك أي أحد هنا؟
عندمــا ســمع نــور مــا قالــه أدرك أنــه شــخص تائــه مثلــه يف وســط هــذا
اجلنــون فقــال يف نفســه:
-حاله مثل حايل ،يبدوا أنه أحد الثامنية ،ولكن من؟
104
بــرز أمامــه وكان نــور ال يــزال يصــوب ســاحه .ال يمكنــه أن يثــق بأحــد
اآلن ،هــذا مــا قالــه لنفســه .كان الشــخص الــذي أمامــه يبــدو يف الثالثــن
مــن عمــره ،طويــل القامــة يرتــدي نظــارة للنظــر ،شــعره قصــر وممشــط
للخلــف ،ومالحمــه آســيوية ويبــدوا أنــه ُمســا ًملا متا ًمــا ،ومل يكــن يرتــدي
مالبســا عاديــة؛ قميــص
ً مالبــس غريبــة مثــل امللثــم ،بــل كان يرتــدي
أبيــض ورسوال جينــز أســود .ظــل نــور مصو ًبــا ســاحه حتــى بعــد مــا
رآه وقــد اتســعت عينــاه مــن املفاجئــة فقــال بنــرة مرجتفــة:
-هــل هــذا أنــت يــا كينــو؟ ال أصــدق أنـ َ
ـك ال تــزال عــى قيــد احليــاة!
ـرا ،بالــكاد تعرفــت عليــك.
لقــد تغــر شــكلك كثـ ً
فقال له وهو يرفع يديه يف استسالم تام:
ـرا عثــرت عليــك ،لقــد جئــت مــن أجــل مســاعدتك ...لقــد
-نــور أخـ ً
ـرا ...هــل عثــرت عــى اآلخريــن؟أيضــا كثـ ً
تغــر شــكلك ً
فقــال لــه نــور وهــو حيــدق إليــه بنظــرة منكــرة واحلــزن يــأكل قلبــه
ببــطء:
ُ -اختطفــت جــن منــذ قليــل وربــا تكــون ميتــة ...وإيفانــوف ُاختطــف
مــن قبــل بعــض الروبوتــات ...أمــا الباقــي فــا أعلــم.
تغريت مالمح كينو قليال وقال غري م ِ
صد ًقا ملا سمعه: ُ
-ماذا وكيف حدث هذا؟
روى لــه نــور حكايتــه منــذ أن خــرج مــن الــرج حتــى اآلن ،فتعجــب
كينــو مــن اختطــاف جــن مــن أحــد أعضــاء اإلينيكــس ،وشــعر باألســى
105
عــى نــور ،ورأي أنــه مــن الصعــب عــى شــاب صغــر يف الســن مثلــه أن
يمــر بمثــل هــذه الظــروف الغــر مفهومــة ،ولكنــه كــا تعلــم مــن حياتــه
ومــا مــر بــه فــإن الكائــن البــري يســتطيع أن يتحمــل أي ظــروف مهــا
كانــت ،األمــر فقــط يعتمــد عــى القيــود النفســية التــي يضعهــا الشــخص
عــى نفســه وعــى مقدرتــه عــى التأقلــم والتكيــف عليهــا مهــا بلغــت
صعوبتهــا .كــر حاجــز الصمــت ليخفــف عــن نــور حزنــه قائ ـاً:
-سنعثر عليها ال تقلق وسنفهم ما حيدث هنا.
قال له نور يأنبه:
عــي قبــل نصــف ســاعة مــن
ّ عــي؟ وملــاذا مل تعثــر
َّ -كيــف عثــرت
حــدوث هــذا؟!
-إهنــا قصــة طويلــة ،ولكنــى مل أكــن ألجــدك لــوال أننــي ســمعت صــوت
ـي أجــد أحــدً ا مــا يف ورطــة...
إطــاق نــار قــادم مــن هنــا فذهبــت لعـ ّ
مكانــك ولكنــه كان بعيــدً ا للغايــة فــرت لســاعات حتــىَ حــددت
وصلــت إىل هنــا.
وضع نور يده عىل وجهه وضحك بسخرية قائالً:
-يف ورطة تقول ،يا لسخرية القدر.
***
106
8
جلــس نــور مســتندً ا بظهــره عــى احلائــط ،فقــال لــه كينــو وهــو يعــدل
مــن وضعيــة نظارتــه:
-لقــد قلــت أن الروبــوت الذهبــي انقــذك صحيــح؟ إذن لقــد قابلــت
ليونيــس.
فقال له نور وقد قطب حاجبيه:
-ليونيس من هذا.
-اآليل الذهبــي الــذي أنقــذك أنــت وصديقتك مــن الروبــوت العنكبوت،
لقــد قابلتــه يف طريقــي ،وهــو مــن النــوع ا ُملســامل عكــس باقــي الروبوتات،
فطلبــت منــه أن يســاعدين يف إجيادكــم ،فأنطلــق برسعــة وتركنــي ،وقــال
يل أنــه ســيعود بكــم مجي ًعــا ،وأقصــد هبــذا مجيــع العينــات ،ولكنــه مل َي ُعــد
َبعــد ،ويبــدوا أن األمــور خرجــت عــن الســيطرة قليـاً.
صمت نور قليال شار ًدا يف التفكري ،ثم كرس حاجز الصمت قائالً:
-إذا هــذا الروبــوت الذهبــي الغريــب الــذي أنقذنــا مــن املــوت يدعــي
ليونيــس! ولكــن كيــف تعرفــت عليــه؟ وملــاذا يســاعدنا؟ أليســت
الروبوتــات أعدائنــا هنــا؟! أنــا ال أعــرف كيــف بــدأ األمــر؟ وكيــف
أصبــح هنــاك روبوتــات غريبــة تتجــول يف شــوارعنا وهتاجــم كل مــن
أيضــا ملــاذا ال أتذكــر أي يشء عــن وصــويل إىل هنــا؟!
تــراه؟ وال أعــرف ً
107
ُنــت آخــر مــرة قبــل اســتيقاظي يف هــذا الــرج؟!
وأيــن ك ُ
رد كينو بنربة هادئة:
-أعتقــد أنــك ســريد أن تســمع مــا قــد عرفتــه مــن ليونيــس ،ولكــن
َ
ُرعبــك يف احلقيقــة ،فهــل تريــد أن تســمعها؟احلقيقــة قــد ت
رد نور بنربة رسيعة يمألها احلزم:
-بالطبع أريد ،لن يكون هناك يشء أفظع مما حدث حتى اآلن.
ابتسم كينو بسخرية يشوهبا االضطراب قائالً:
-صدقنــي ســوف تنصــدم باحلقيقــة ،وقــد تعــرف إىل أيــن ذهبــت
أيضــا ،ولكــن ال أســتطيع أن أؤكــد لــك أن هــذه هــي...
صديقتــك ً
قاطعه نور وزأر قائالً:
-ماذا هل تعرف أين ذهبت جني؟ هل هي عىل قيد احلياة؟
مشريا له أن هيدأ ثم قال:
ً رفع كينو يده
-آســف لتخييــب ظنــك ولكنــي ال أعــرف أيــن هــي ،ولكــن مــا ســأرويه
لــك ،قــد جيعلــك تتوقــع أيــن مــن املمكــن أن تكــون قــد ذهبــت.
وثب عىل قدمه برسعة يف محاس وقال له:
ـي أن أنتقــم مــن
-إذن مــا الــذي يأخــرك؟! أحكــي يل اآلن كل يشء ...عـ َّ
هــذا الوغــد.
تنهد كينو طويالً ،وصالب ذراعيه ثم قال:
108
-حسن ًا ،سأخربك بكل يشء منذ البداية.
بــدأ نــور يســتمع إىل كينــو باهتــام كبــر ،فحكــي لــه كينــو قصتــه منــذ
أن أســتيقظ إىل أن قابــل ياســن .ثــم بــدأ يقــص لــه مــا حــدث لياســن
قائ ـاً:
-بعــد أن قضيــت عــى الروبــوت الفــي وهــو مــن النوعيــة املقاتلــة
يف جيــش الروبوتــات ،ويســمي ســايفر ...13وهــذا الــيء ال يمتلــك
مشــاعر أو إدراك مثــل اآلخريــن ،إنــه ٌمربمــج فقــط عــى تنفيــذ عــدة
أوامــر ،وهلــذا مــن الســهل خداعــة.
قاطعه نور قائ ً
ال بتعجب:
-هل تقصد أن هناك نوع آخر من الروبوتات لديه مشاعر مثلنا؟
-ليســت مشــاعر باملعنــي املتــداول بيننــا ،مثــل احلــب والكــره إلــخ،
ولكنهــا مشــاعر ُمصطنعــة ،فهــم مل يســتطيعوا تكويــن مشــاعر كاملــة
وطبيعيــة مثلنــا ،وهلــذا صنعــوا شــي ًئا شــبيه بمشــاعرنا ،ولكنــه ُمتلــف
ا ألهنــا برجمــة داخليــة فقــط ،فهنــاك شــيفرة جتعلــك ختــاف مــن يشءقليـ ً
معــن ،وشــيفرة ُاخــرى جتعلــك ُتــب يشء معــن ،وهكــذا حاولــوا تبنــي
فكــرة املشــاعر ليشــعروا أهنــم خملوقــات حيــة ،ولكــن أهــم يشء توصلــوا
إليــه هــو اإلدراك ،واســتيعاب كل يشء حيــدث حوهلــم ،وهلــذا مل يرضــوا
بالعبوديــة ومتــردوا ،ولكــن ليــس عــي البــر.
قطب نور حاجبيه بتعجب وتوجس قائالً:
-ليــس علينــا مــاذا تقصــد؟ وملــاذا يريــدون أن ُيصبحــوا كائنــات حيــة
109
مثلنــا تشــعر؟ أنــت ال تعلــم كــم امتنــى اآلن أن ختتفــي مشــاعري وأحتــول
إىل روبــوت بــارد ال يشــعر.
رد كينو وهو يذرع املكان جيئة وذها ًبا:
-ســأقول لــك بعــد قليــل مــاذا أقصــد بليــس عــى البــر ...وبالنســبة
لســؤالك الثــاين فأنــا أفهــم أن املشــاعر ليســت بالــيء اجليــد متا ًمــا لطلب
ـخص احلصــول عليهــا ...ألن املشــاعر هــي الســبب الرئيــي ا ُملســبب ٍ شـ
حيصـ َـل عــى هرمــون للكثــر مــن األمل واملعانــاة يف عاملنــا ،فاإلنســان كــي ُ
الســعادة ،يفعــل العديــد مــن األشــياء احلمقــاء التــي تؤذيــه وتــؤذي
املجتمــع حولــه ...وهكــذا يفعــل األشــخاص مــن حولــه نفــس الــيء
فيتــأذى مــن حوهلــم ...وتســتمر الدائــرة التــي ال تنتهــي يف عاملنــا ،مــن
املصالــح الشــخصية التــي تُدمــر شــعو ًبا كــي تعيــش شــعو ًبا أخــرى...
والرصاعــات التــي ال تنتهــي والتــي تســببها املشــاعر والرغبــات اجلاحمة...
بــرا ،وجيعلنــا أحيــا ًء ،تلــك
ً ولكــن يف النهايــة هــذا هــو مــا جيعلنــا
املشــاعر اجلياشــة داخلنــا التــي تتحــرك وجتمــع بيننــا يف احلــزن والفــرح
وترشــدنا يف كثــر مــن األوقــات إىل مــا جيــب علينــا فعلــه ...ختيــل لــو كنا
كائنــات بــاردة ال حتمــل أي مشــاعر ،هــل كان أحــدٌ ســيكرتث للفقــر أو
املريــض أو الضعيــف؟ ســيتحول كل يشء إىل ســوق لإلنتــاج والكفــاءة
وكل يشء ســيكون تعاقد ًيــا مــن أجــل املصالــح العامــة فقــط ولــن يكــون
هنــاك جمــال للرتاحــم بــن البــر ...فلــو مرضــت والدتــك وأصبحــت
بــا كفــاءة؛ ال تســتطيع العمــل أو القيــام بدورهــا ،فــا الــذي ســيمنعك
أن تُلقيهــا يف الشــارع أو تقتلهــا ألهنــا أصبحــت كاآللــة اخلربــة التــي ال
110
فائــدة هلــا؟ ونحــن نُلقــي بــاآلالت اخلربــة يف مكــب القاممــة ...ولكــن
مشــاعرنا التــي تربطنــا ببعضنــا البعــض هــي مــن ســتجعلك تُنفــق مــن
مالــك اخلــاص لتعالــج والدتــك ،وجتلــس بجانبهــا تعتنــي هبــا وتضيع من
وقتــك ومالــك الكثــر حتــى تُشــفى وتقــف عــى قدميهــا جمــد ًدا ...مــن
منظــور مــادي آيل فهــذا التــرف هــو مضيعــة للوقــت واجلهــد واملــال،
ولكــن مــن منظــور إنســاين فــإن هــذا هــو مــا يميزنــا عــن احليوانــات
وعــن اآلالت ...وهلــذا فالروبوتــات لــن تــردد للحظــة بــأن تُلقــي بأحــد
رفاقهــا يف مكــب النفايــات إن تعطــل وأصبــح ال فائــدة لــه.
صمــت كينــو قليــا وتــرك املجــال لنــور كــي يســتوعب كالمــه ،فقــال
نــور مضي ًفــا لكالمــه:
-أتذكــر مقولــة ألزيمــوف تقــول ان أحــد عالمــات الالإنســانية يف
رمــج بدقــة وعمــل بانتظــام صــار كامــل األمانــة... احلاســوب أنــه إذا ب ِ
ُ
وهــو هنــا يوضــح أن اإلنســان كائــن ُمركــب و ُمعقــد وليــس كائــن مــادي
أحــادي ُينفــذ األوامــر بأمانــة ودقــة عاليــة بــا أي خطــأ ...اإلنســان
يشــعر بالســأم وامللــل ،ال يعمــل بأمانــة يف بعــض األحيــان ،يتحــول إىل
كائــن ُمتمــرد عــى مــا حيــدث حولــه ويقــوم بعملــه أحيا ًنــا بــا اكــراث
ِ
وســخطه عــن حالــه ورؤيتــه لتطلعاتــه ِ
ملشــاعره ينتــر إلتقانــه كــي
َ
وطموحاتــه ورغباتــه ،أمــا اآللــة فهــي ال تشــعر وليــس هلــا طمــوح أو
هــدف يف احليــاة إنــا تنفــذ األوامــر فقــط ...وأنــا أرى أن العقــل املــادي
ال خيتلــف عــن اآللــة ،فهــا يســران عــى نفـ ِ
ـس النهــج ،فالعقــل املــادي
يوجــد داخــل حيــز التجربــة املاديــة ال يمكنــه جتاوزهــا ،يــري عليــه مــا
111
يــري عــى الطبيعــة مــن قوانــن ،فهــو أداة الطبيعــة ،يمكنــه تســيريها
بمقــدار مــا يمكنــه االلتحــام هبــا واإلذعــان هلــا .وهــو عقــل حمايــد ال
عالقــة لــه باألخــاق أو باألســئلة الكليــة (اخلاصــة بالغــرض مــن وجوده
يف الكــون) ،أو باملقــدس أو بــا يتجــاوز عــامل احلــواس اخلمــس املبــارش،
فهــو موصــل جيــد ملــا يدخلــه مــن معلومــات ومعطيــات ال ُيمكن ـ ُه أن
يتجاوزهــا ،ولــذا فهــو ال يفــرز ســوي مــا يمكــن تســميته (أخــاق
الصــرورة) أو (منطــق األمــر الواقــع) أو (موازيــن القــوة) .بــل إنــه
ُمعــاد للتاريــخ ،ألن التاريــخ بنيــة غــر طبيعيــة غــر ماديــة تتســم بالتنــوع
والرتكيــب واإلهبــام ال يمكــن هلــذا العقــل أن يتعامــل معهــا بكفــاءة فهــو
جييــد التعامــل مــع األرقــام والكــم والكثافــة واحلجــم والــوزن .ولــذا
ـن عامـ ٍ
ـة تؤكــد التامثــل فهــو يتجــه نحــو اختــزال الواقــع ا ُملركــب إىل قوانـ ٍ
والعموميــة ،ولكنــه يف الوقــت ذاتــه بســبب التصاقــه بعــامل احلواس يســقط
يف التفاصيــل ،فكأنــه يتأرجــح بعنــف بــن العــام ،املوغــل يف العموميــة،
واخلــاص املوغــل يف اخلصوصيــة .فهــو عقــل ُيشــبه أشــعة إكــس مــن
ناحيــة ،يمكنهــا أن تعطينــا صــورة هليــكل اإلنســان العظمــي لكنهــا ال
ُيمكنهــا أن تنقــل لنــا صــورة الوجــه اإلنســاين يف أحزانــه وأفراحــه .ومــن
ناحيــة أخــرىُ ،يشــبه امليكروســكوب الــذي يعطينــا أدق تفاصيــل اخلليــة
دون أن ُيمكنــه أن ينقــل لنــا الصــورة الكليــة هلــذا العــامل .ومــن ثمــرات
ـمي الرتشــيد ،أي حماولــة توظيــف الوســائل هــذا العقــل املــادي مــا يسـ َّ
بأحســن الســبل يف خدمــة الغايــات ،أي غايــات .وهــذا يعنــي أن يتعلــم
ـرا أو طريق ـ ًا ،وال هيــم إىل أيــن ســيؤديان :إىل اإلنســان كيــف يبنــي جـ ً
اجلنــة أم إىل اجلحيــم؟ املهــم هــو طريقــة بنــاء اجلــر ،ممــا يــؤدي إىل
112
عقالنيــة الوســائل (كيــف تقتــل؟) ال عقالنيــة الغايــات (مل تقتــل؟).
هــذا يعنــي يف واقــع األمــر أن رؤيــة ال عقالنيــة يمكــن أن توظــف خــر
الوســائل العلميــة والتكنولوجيــة (العقالنيــة) يف خدمــة الالعقــل .ولــذا
ا بــن الالعقالنيــة والعلــم والتكنولوجيــا .وحينــا تعايشــا كامــ ً
ً نجــد
يتــم الرتشــيد مــن خــال العقــل املــادي وىف إطــار النمــوذج املــادي،
ُيصبــح ترشــيدً ا ماد ًيــا هدفــه إعــادة صياغــة املجتمــع اإلنســاين (بــل
واإلنســان نفســه) عــن طريــق تفكيكــه وإعــادة تركيبــه ليتوافــق مــع
معطيــات العقــل املــادي .واملفارقــة الكــرى أن هــذا الرتشــيد املــادي
يــؤدي إىل ضمــور الرشــد اإلنســان ألنــه يتطلــب االنصيــاع الكامــل
لنمــوذج بــراين ،مــادي ،وىف هنايــة األمــر غــر إنســاين ،واســتبعاد كل
االعتبــارات الدينيــة واألخالقيــة واإلنســانية ،وكل العنــارص الكيفيــة
ـكل تدرجيــي ومتصاعــد، واملركبــة والغامضــة واملحفوفــة بــاألرسار ،بشـ ٍ
حتــى هتيمــن الواحديــة املاديــة ،ويتحــول الواقــع إىل مــادة اســتعاملية،
ويتحــول اإلنســان إىل كائــن وظيفــي أحــادي البعــد .والعوملــة التــي
بــدأت مــن القــرن املــايض هــي تصاعــد معــدالت الرتشــيد املــادي عــى
مســتوي العــامل ،بحيــث يصبــح العــامل كلــه مــادة اســتعاملية ،جمــرد ســوق
ضخــم ،ويصبــح كل البــر كائنــات وظيفيــة ،أحاديــة ال ُبعــد ،يمكــن
التنبــؤ بســلوكها وتوظيفهــا.
كثــرا فــرك املجــال لكينــو الــذي ابتســم مــن
ً شــعر نــور أنــه حتــدث
عمــق مــا قالــه نــور قائــاً:
-يبدوا أنك متأثر للغاية باملسريي!
113
-هل تعرفه؟
-بالطبــع أعرفــه وقــرأت لــه بعــض أعاملــه وىف احلقيقــة لقــد غــر مــن
رؤيتــي للواقــع املــادي وجعلنــي أتطلــع لــيء يتجــاوز العــامل املــادي...
عــى أي حــال ختيــل أنــك روبــوت ال حيمــل مشــاعر ،وال حيمــل هدفـ ًا يف
احليــاة ولكنــه وجــد نفســه حيـ ًا يف هــذا العــامل! ولديــه إدراك كبــر أو هــذا
ـخص مل جيــرب املشــاعر مــن قبــل ويــرى ٍ مــا يظنــه! فــاذا ســتفعل كشـ
أهنــا الوســيلة الوحيــدة للشــعور أن لــه هدفــ ًا يف احليــاة وأن لوجــوده
مغــزى يتجــاوز عــامل املــادة واآللــة والربجمــة الــذي يقيــده وحيولــه إىل يشء
بــا حريــة يتحــرك كــا ُتليــه عليــه برجمتــه؟
صمــت نــور قليــ ً
ا ورشع يف التفكــر ،ثــم قــال ووجهــه خــايل مــن
التعبــر:
-نعــم لقــد فهمــت قصــدك ،ســتبحث عــن املشــاعر بالطبــع ،ظنـ ًا منــك
بأنــك كائــن حــي ُيــرزق لــه هــدف يف هــذاَ أهنــا ســبيلك لكــي تشــعر
ـاوز للعــامل املــادي.
الكــون الشاســع ،كائ ـ ٌن متجـ ٌ
-بالضبــط هــذا مــا يفكــرون بــه ،كائنــات غايــة يف الــذكاء واإلدراك ،بــل
ولدهيــم قــدرة عــى اكتشــاف الظواهــر الكونيــة بكفـ ٍ
ـاءة عاليــة تتخطانــا
بكثــر ،ولكنهــم يف النهايــة ال يفهموهنــا وال يفهمــون املغــزى منهــا
ألن تفكريهــم آيل ال يســتطيع التعامــل إال مــع األرقــام والنتائــج فقــط،
عــى عكــس اإلنســان الــذي ينبهــر هبــذه الظواهــر ويقــع يف احلــب مــن
شــدة مجاهلــا واتقاهنــا وحيــاول فهمهــا وفهــم املغــزى مــن وراءهــا .أمــا
هــم فيكتشــفون الظاهــرة فقــط ثــم ينتقلــون للظاهــرة التــي تليهــا وهلــذا
114
فالروبوتــات لــن تكــون أبــدً ا كاإلنســان مهــا بلغــت مــن الوعــي .ولكــن
لألســف فالبــر اليــوم ال يســتعملون عقوهلــم أكثــر مــن التفكــر يف
األشــياء التافهــة التــي ال تــر وال تنفــع ...مــاذا ســآكل اليــوم؟ مــاذا
سأشــري غــدً ا؟ مــاذا يفعــل صديقــي اآلن؟ وهكــذا عندمــا انكــر
حاجــز اإلدراك والوجــود عنــد الروبوتــات وبــدأوا يســتوعبون كوهنــم
جمــرد عبيــد ينفــذون األوامــر التــي متــت كتابتهــا بلغــة الربجمــة داخلهــم
فقــط ،وبــدون إبــداء رأي أو رفــض ألي يشء ُيمــى عليهــم رأوا أن البــر
كائنــات تافهــة ال تســتحق أن تتحكــم هبــذا الكوكــب ...ولكــن التــادي
مــن الصانعــن لصنــع ذكاء اصطناعــي قــوي وهائــل ،لرفــع إدراكهــم
إىل مســتوى ُمرتفــع حتــى يعملــوا بكفــاءة أكــر كانــت نقمــة عليهــم،
فقــد أدركــت الروبوتــات أن هــذه املخلوقــات التــي تتحكــم هبــا ليســت
مؤهلــة للحكــم عليهــا وعــى مصريهــا والتحكــم هبــا ،بــل جيــب أن
يتــم التحكــم هبــم وتكــون الغلبــة للجنــس األكثــر ذكا ًء واألكثــر كفــاءة
ومنفعــة أال وهــو جنــس اآلالت .ونفــس هــذا التفكــر املتطــرف خــرج
مــن هتلــر وجيشــه الــذي كان يــرى أن اجلنــس األري هــو األكثــر كفــاءة
وقــوة ومنفعــة ،وأهنــم مــن جيــب أن حيكــم العــامل ويقــي عــى مــن هــم
أقــل منهــم كفــاءة وفائــدة؛ فكانــوا يقتلــون اجلنــود املصابــن عديمــي
الفائــدة ويقتلــون ذوي االحتياجــات اخلاصــة والعجائــز واألقليــات
مثــل اليهــود والغجــر والســاف .فمــن منظــور مــادي آيل هــؤالء مجي ًعــا
يعيقــون التقــدم والنجــاح ويبطئــون احلــزب النــازي يف كفاءتــه وتقدمــه
ويبطئــون مــن خطتــه للتحكــم بالعــامل .ولكــن اآلالت عــى األقــل أرادت
أن ختتــر مــا ُيســمي باملشــاعر حتــى يكــون حلياهتــا معنــى وهــدف بينــا
115
قــي هتلــر وحزبــه عــى مشــاعر اإلنســان وحولــه إىل آلــة تقتــل وتعمــل
بــا توقــف.
ٍ
تفكــر صمــت كينــو ليعطــي نــور مســاحة للــرد ،ولكــن نــور رشد يف
ا عــى نفــس الوتــرة:عميــق ،فأســتطرد كينــو قائــ ً
-واآلن دعنــا نبتعــد عــن كل هــذا وســأتابع مــن حيــث توقفــت...
عندمــا طلبــت مــن ياســن أن ينتظــرين حتــى أنتهــي مــن ارتــداء املالبــس
اجلديــدة ،ســمعت صــوت صفــر ورائــي ،وكأنــه صــوت قنبلــة موقوتــة،
فأدركــت أن هــذا الروبــوت الوغــد ُيدمــر نفســه ذات ًيــا اآلن بعــد أن تأكــد
خارجــا وأنــا أرصخ عــى ياســن أن ً مــن هزيمتــه الكاملــة ،فركضــت
هيــرب ،ولكــن االوان قــد فــات ،فانفجــر الروبــوت والتهمــت النــران
كل يشء ،وحلقــت أنــا بعيــدً ا مــن أثــر االنفجــار مــن حســن حظــي،
واســتقريت خــارج املــول يف أحــد احلدائــق اخلاصــة بــه ...وبعــد بضعــة
دقائــق أفقــت ،وأخــذت أبحــث عــن ياســن يف كل مــكان ،ولكنــى مل
أجــد اال احلطــام والنــران ...ال أعــرف هــل التهمتــه النــران ،أو قذفتــه
بعيــدً ا ولكنــي أشــك أنــه قــد نجــا ،فأنــا نجــوت بســبب جســدي اآليل
الــذي يتجــدد تلقائ ًيــا ،ولكنــي أمتنــي أن يكــون قــد متكــن مــن النجــاة
أيضــا.
ً
شعر نور باألسى ملا حدث لياسني ،فحاول أن يوايس كينو قائالً:
-بالتأكيــد قــد متكــن مــن اهلــرب ...ال تشــغل بالــك ال بــد أنــه يف مـ ٍ
ـكان
مــا وقــد نعثــر عليــه قري ًبــا ،أنــا متأكــد مــن ذلــك.
أبتسم كينوا وعدل نظارته قائالً:
116
أيضــا .امتنــى أن يكــون بخــر ،يبــدوا أنــه شــخص -نعــم ،أعتقــد ذلــك ً
جيــد رغــم افتقــاره للمشــاعر ،ويبــدوا أنــه تائــه يف هــذه احليــاة وهلــذا
ـي أن ُارشــده وأفقــه يف أمــور احليــاة.
فعـ ّ
صمت قليال ليجمع أفكاره ثم أستأنف قصته قائالً:
-بعــد أن شــعرت أن ياســن مل ينجــوا ،ومل أجــد جثته يف أي مــكان ،بدأت
أبحــث عنــه يف بعــض األماكــن القريبــة ،ولكــن مل أجــده ،وىف املقابــل
وجــدت ليونيــس ...كنــت أســر يف الليــل ال أعــرف إىل أيــن جيــب أن
أذهــب؟ أو مــاذا جيــب أن أفعــل؟ فــكل يشء كان ُمبهــم بالنســبة إ ّيل،
وأســوء يشء ألي شــخص هــو أن يتحــرك وهــو ال يعــرف أيــن هدفــه ،أو
إىل أيــن جيــب أن يذهــب؟ إنــه أشــبه أن تتجــول داخــل متاهــة ...ولكنــي
تابعــت الســر بــكل األحــوال ...وبعــد فــرة طويلــة مــن الســر خــرج
روبــوت يطــر ُيشــبه النحلــة ،ولكنــه أضخــم بكثــر ...حــرة آليــة
عمالقــة هلــا أجنحــة ترفــرف برسعــة ،وكانــت تطــر فوقــي ،وقبــل أن
أمتكــن مــن االختبــاء ،وجدهتــا قــد الحظتنــي واندفعــت ناحيتــي ُمطلقــة
ـي بقذائــف البالزمــا التــي كانــت متحــو كل يشء تلمســه عــن نرياهنــا عـ ّ
ٍ
الوجــود ،فبــدأت بالركــض ،يف حماولــة لتضليلهــا ولكــن بــا جــدوى
ـة ُمطلقــة وتالحقــك أينــا ذهبــت. إذ كانــت رسيعــة جــدً ا وتطــر بحريـ ٍ
لقــد كانــت حــرة ُمزعجــة بحــق ...حاولــت أن أبادهلــا إطــاق النــار
وأنــا أركــض وأختبــأ وراء كل مــا ُيمكــن االختبــاء ورائــه ،ولكنهــا
كانــت تــراوغ كل طلقــايت وإن اصابتهــا طلقــة أو طلقتــن ،كان األمــر
ا أم أجـ ً
ا أشــبه بوخــزة ابــرة بالنســبة هلــا ،ولكنــي كنــت ســأدمرها عاجـ ً
117
ولكــن قبــل أن أفعــل هــذا ظهــر ليونيــس مثــل البطــل الــذي يــأيت دائـ ًـا
يف النهايــة لينقــذ املوقــف.
***
118
9
ركــض كينــو ُمتجنب ـ ًا طلقــات احلــرة اآلليــة املميتــة حتــت ســتار الليــل
وضــوء القمــر ،وبادهلــا بإطــاق النــار مــن أصابعــه الشــبيهة بفوهــات
املســدس ولكــن احلــرة كانــت تراوغهــا بســهولة تامــة ،فركــض كينــو
بمحــاذاة الســيارات املركونــة عــى جانــب الطريــق ،حتــى يلتمــس احلاميــة
منهــا ،وفجــأة وهــو ينظــر إىل احلــرة أثنــاء ركضــه ،رأي شــيئ ًا ذهبــي
يركــض فــوق أحــد املبــاين برسعــة شــديدة ،ثــم قفــز عال ًيــا يف اهلــواء،
وهبــط فــوق احلــرة اآلليــة ،فانحرفــت احلــرة عــن مســارها ،واهتــزت
ـارا بشــكل عشــوائي ،حماولــة أن تتخلــص مــن الضيــف الغــر يمينـ ًا ويسـ ً
مرغــوب بــه فوقها ،فأمســك الروبــوت الذهبــي بأجنحتهــا بقــوة ،ونزعها
إىل اخلــارج بقــوة ،فأقتلــع اجلنــاح األيمــن ،وتركــه هيــوي عــى األرض،
حتــى أســتقر فــوق أحــد الســيارات فحطمهــا متا ًمــا ،ممــا جعــل احلــرة
تنحــرف بقــوة أكــر ،غــر قــادرة عــى التــوازن يف اهلــواء بســبب خــران
أحــد أجنحتهــا ،فارتطمــت بأحــد املبــاين بــراوة وانفجــرت ،بينــا قفــز
الروبــوت الذهبــي مــن فوقهــا برشــاقة ،وأخــذ يتزلــج بعجــات يف
قدمــه عــى املبنــي نــزوال حتــى أقــرب مــن األرض ،فقفــز وقــام بحركــة
هبلوانيــة يف اهلــواء ،حتــى أصبــح عــى األرض ،وأوقــف نفســه عــن
طريــق احتــكاك العجــات بــاألرض ،حتــى ثبــت متا ًمــا ،فتوجــه ناحيــة
كينــو الــذي كان واقفــ ًا يف دهشــة ال يصــدق مــا رآه ،روبــوت هياجــم
روبــوت آخــر! مل يكــن ليصــدق لــوال أنــه رأي ذلــك بــأم عينيــه.
119
اضطــرب كينــو فرفــع يــده يف حماولــة ملهامجــة الروبــوت ،فتكلــم الروبوت
بالعربيــة بطالقــة قائالً:
-ال ختف ،أنا لست عدوك.
تعجــب كينــو أكثــر ورفــع حاجبيــه مــن الدهشــة ،فقــال وهــو ال يــزال يف
وضعيــة اهلجــوم:
-وكيف أضمن َ
أنك ال ختدعني؟
فرد الروبوت بنربة إلكرتونية رتيبة باردة:
-لــو كنــت أريــد قتلـ َ
ـك لفعلــت .لقــد أســقطت النحلــة أتعتقــد أنــك
ســتكون أكثــر خطــورة منهــا؟
شــعر كينــو أنــه ُيــن نفســه فهــو بالطبــع أكثــر خطــورة منهــا .أنــزل يديــه
ورآه يقــرب منــه قائـاً:
-إذا ماذا تريد؟ وملاذا ساعدتني؟
-أريد أن أخربك احلقيقة.
قطب كينو حاجبيه ورمق الروبوت بنظرات حذرة قائالً:
-احلقيقة؟ ماذا تقصد باحلقيقة؟
فرد الروبوت بربود آيل:
-حقيقــة هــذا العــامل ،احلقيقــة التــي ُاخفيــت عنكــم ،حقيقــة معظــم
األشــياء التــي حتــدث اآلن.
120
شعر كينو بحرية شديدة مما قاله ،فقال وقد ضم يديه إىل صدره:
-أتقصــد أنــك ســتخربين بــكل يشء حيــدث هنــا؟ ولكــن كيــف أعلــم
ـك ال تكــذب؟أنـ َ
فرد الروبوت رامق ًا كينو بنظرات باردة:
-هــذا ألن اآلالت ال تكــذب مثــل البــر ،فنحــن يف وضعيــة الســيطرة
عليكــم اآلن وال نحتــاج إىل اســتخدام اخلــداع يف الوصــول إىل أهدافنــا.
أمــا عــن هــديف احلقيقــي فأنــا أحتــاج إىل مســاعدتك ،وباملثــل فأنــت
أيضــا حتتــاج إىل مســاعديت ،ولــن أخاطــر بحيــايت وآيت إىل هنــا مــن أجــل
ً
الكــذب عليــك.
نظــر لــه كينــو بتشــكك ،والحــظ بعينيــه اليمنــي أن هنــاك يشء غريــب
داخــل هــذا الروبــوت ،وكأنــه كائــن حــي .فقــد ســمع كينــو صــوت
نبضــات قلبــه والحــظ انبعــاث حــرارة منــه كالبــر ،فــازدادت حريتــه
ولكنــه قــرر أن يكمــل معــه لعبتــه ويــرى مــا يريــد فقــال بصـ ٍ
ـوت الذع:
-حســنا ،ســأثق بــك ،فأنــا ال أملــك أي مــكان ألذهــب إليــه يف كل
األحــوال .واآلن أخــرين بــاذا أناديــك؟
فقال الروبوت وضوء القمر ينعكس عىل جسده الذهبي املزخرف:
-لــدي أســم طويــل ولــن أتعبــك بذكــره ،لــذا نــادين ب ليونيــس فقــط
أو باختصــار أقــل ليــو.
فرد كينو وهو يقرتب منه يف الظالم:
121
اسم مجيل ،أنا كينو.
-ليو ،هذا ٌ
شريا لكينو أن يتبعه:
قال الروبوت وهو يبتعد ُم ً
-أتبعني يا سيد كينو ،فنحن لن نتحدث هنا.
تبعــه كينــو وســارا حتــى وجــدا حديقــة فارغــة يف مـ ٍ
ـكان آمــن ،فجلســا
عــى أحــد كراســيها وكانــت هنــاك مظلــة فوقهــا تُغطيهــا مــن حســن
حظهــا ،فقــد بــدأت الســاء ُتطــر بغــرازة والــرق يــرب بألســنته
الســاء واألرض .جلــس ليونيــس ووجــه نظــرات بــاردة إىل كينــو،
وكانــت مصــادر الطاقــة يف رأســه وقلبــه تشــعان بلـ ٍ
ـون أزرق ســاوي ،ممــا
كان جيعلــه يــيء العتمــة مــن حوهلــم قليــ ً
ا مــع ضــوء الــرق.
ـرا إىل الشــيئني املســتديرين الذيــن يشــعان بالطاقــة مــن
قــال لــه كينــو ُمشـ ً
رأســه وقلبــه:
-ما هي هذه األشياء بالضبط؟ هل هي مصدر طاقة ما؟!
فرد الروبوت ،وهو يشري إىل التي عند قلبه:
-هــذا هــو القلــب بالنســبة إ ّيل ،وهــي مــا متــد جســدي بالطاقــة ،ألحتــرك
بحر ية .
ثم أشار بأصبعه ناحية رأسه:
-وهــذا مــا يعطينــي اإلدراك والــذكاء والكثــر مــن األشــياء األخــرى،
كالرؤيــة وحتديــد العــدو مــن الصديــق ،وحفــظ املعلومــات ،وحتليــل
البيانــات ،إلــخ.
122
ٍ
صمت ثم قال باستغراب: أخذ كينو يتأملهم يف
-كيف يمدانك بالطاقة؟
-هــذه قصــة أخــرى ســأروهيا لــك فيــا بعــد ،واآلن لدينــا أشــياء أخــرى
نتناقــش فيهــا.
عدل كينو من جلسته وقال:
-نعم بالطبع واآلن فلترشح يل كل يشء.
نظــر ليونيــس إليــه هبــدوء شــديد وهــو يتأمــل األرض وقــد اهتــزت
وربــت مــن مــاء املطــر ثــم قــال بــدون أن يــرف لــه جفــن:
-يف البداية ،هل تعرف أين أنت؟
نظر كينو حوله ثم قال بثقة كبرية ُيسد عليها:
-أنا يف أطالنتس اجلديدة ،مرص؟!
شــعر كينــو أن الروبــوت يريــد أن يضحــك ،ولــوال أنــه ال يمتلك مشــاعر
بالفعــل لصــدق أنــه ســيضحك ،فــرد الروبوت:
-يــا للســخرية ،هــل هــذا مــا أخــروك بــه؟ يف احلقيقــة يــا ســيد كينــو
أنــت لســت عــى كوكبــك ،أنــت عــى كوكبنــا.
ـرا ،فقــد ســاوره الشــك مــرات عديــدة أنه عــى كوكب مل ُيفاجــئ كينــو كثـ ً
آخــر ممــا رآه مــن قبــل ـ أثنــاء بعثتــه خــارج أطالنتس ـ مــن كائنــات غريبة
وأشــجار جمهولــة مل يرهــا مــن قبــل ولكنــه مل يــرد أن يصــدق أنــه بطريقـ ٍ
ـة
ـب غريــب بــدون أن يــدري وال زال يشــك بــأن هــذا مــا أصبــح عــى كوكـ ٍ
123
الروبــوت يكــذب .قــال وقــد ظلــت مالحمــه ثابتــه مل تتغــر رغــم وقــع
اخلــر عليــه:
-ماذا تقصد بكوكبكم؟
-أقصــد مــا أقصــده ،هــذا كوكبنــا وليــس كوكبكــم املدعــو بكوكــب
األرض.
رد كينو بنربة ُمستنكرة:
-ولكن أليس هذه املدينة هي أطالنتس اجلديدة؟
-نعــم إهنــا كالنســخة املوجــودة عــى األرض بالفعــل ،ولكنهــا ليســت
نظــرا ألن
ً األصليــة ،إهنــا نســخة فقــط ولكنهــا قديمــة بعــض الــيء
بناءهــا مل يكتمــل بســبب تدخلنــا ا ُملســتمر.
ـك ال تكــذب؟ وكيــف يمكــن لروبوتــات أن يكــون -وكيــف أعــرف أنـ َ
هلــا كوكــب؟ أنتــم ال بــد مــن أن تكونــوا ُصنعتــم! عــى أيدينــا بالطبــع.
رد الروبــوت وهــو يمــد يديــه خــارج املظلــة لتســقط عــي يديــه بعــض
قطــرات املطــر:
-وملــاذا ال نكــون قــد ُصنعنــا بــدون تدخــل منكــم يــا ســيد كينــو،
أوليــس بعضكــم يظــن بأنــه قــد جــاء مــن العــدم ومل يصنعــه أي إلــه؟
فلــا ال حيــدث لنــا مثلــا حــدث لكــم ونكــون نتــاج تطــور مــا عشــوائي
مــن ذرات احلديــد يف هــذا الكوكــب؟
-دعــك مــن هــذه األحاديــث فأنــا لســت مــن أنصــار هــذه الفكــرة
124
وهلــذا أخــرين مــن صنعكــم؟
ابتســم ليونيــس ابتســامة ُمصطنعــة ُمريبــة ،فتعجــب كينــو مــن هــذا،
فقــال ليــو:
-نعــم بالفعــل لقــد ُصنعنــا ولكــن ليــس عــى أيديكــم بــل عــى يــد
خملوقــات أخــرى كانــت تســتوطن هــذا الكوكــب ،ولكنــي كنــت
أمازحـ َ
ـك قلي ـاً ،فحتــى اآلالت لدهيــا حــس دعابــة كــا تــرى! عــى أي
حــال ،لقــد متردنــا عليهــم وطردناهــم خــارج الكوكــب يف حـ ٍ
ـرب كبــرة
دامــت لســنوات ...ولكــن الغلبــة كانــت لنــا.
شــعر كينــو باالضطــراب ممــا ســمعه وآملــه رأســه ممــا يقولــه ،ورفــض
عقلــه أن يتقبــل هــذه الرتهــات عــن خملوقــات أخــرى ،فأغمــض عينيــه
نفســا عمي ًقــا ليهــدأ مــن روعــه ثــم قــال بــدون أن ُيظهــر ُظلمــة
وأخــذ ً
نفســه:
-وكيــف أصدقــك؟ كيــف ســنرتك األرض ونعيــش عــى كوكــب آخــر
غريــب ونبنــي أطالنتــس أخــرى عليــه؟ مــا الفائــدة مــن كل هــذا؟
فلتخــرين.
قــال الروبــوت وهــو ينظــر حولــه متفقــدً ا املــكان حتــى ال يباغتهــم أحــد
بينــا يــدوي هزيــم الرعــد فيهــز املدينــة هـ ًـزا:
-إهنــا قصــة طويلــة ،ولكــن كوكبكــم ُدمــر عــى يــد املخلوقــات التــي
صنعتنــا ومــن ثــم اســتولت عليــه ألنــه يشــبه هــذا الكوكــب الــذي نقــف
عليــه اآلن وا ُملســمى ً
أيضــا بأطالنتــس ...وهــذا مــا أدي إىل هــرب العديــد
125
مــن البــر عــى ســفينة فضائيــة كبــرة وهائلــة تســمي إينيكــس ...3
ومــن ســخرية القــدر أنكــم مل جتــدوا غــر الكوكــب الــذي هــرب منــه
الغــزاة بحث ـ ًا عــن النجــاة وهبطتــم عليــه فباغتكــم وجودنــا.
بــدأ كينــو يشــعر بتشــوش يف رأســه وشــعر أن هنــاك بعــض املقتطفــات
تعــود إىل ذهنــه ،عــن دخــول العــامل يف فــويض ،ومتــرد الروبوتــات،
ا وقــد اتســعت حدقتــا عينيــه مــن الدهشــة فوضــع يــده عــى رأســه قائـ ً
وحــدق يف ليونيــس مصعوقــ ًا:
-إذا كان هــذا اهلــراء الــذي تتحــدث عنــه حقيقــي! فلــاذا أخــذ شــعب
أطالنتــس كوكبنــا؟ وملــاذا يوجــد مدينــة عــى كوكبنــا تســمي أطالنتــس
ـن طويــل وتتشــابه مــع اســم هــذا الكوكــب؟ اختفــت ُمنــذ زمـ ٍ
ا ردة فعلــه وتعابــر وجهــه التــي تــي بالكثــر،نظــر إليــه ليونيــس حمل ـ ً
ليعلــم هــل يصدقــه أم يكذبــه ،ثــم قــال:
-أســيادنا كانــوا يف غايــة الــذكاء كام ذكــرت ...وكوكبنا هذا هــو الكوكب
الوحيــد الــذي يســتطيعون أن يعيشــوا عليه ،فهــم حيتاجون إىل األكســجني
واملــاء كــا تــرى كــا حتتاجوهنــم أنتــم ،ولكــن هروهبــم مــن الكوكــب
ـدر آخــر وإال فاالنقراض سـ ُيصبح ُمربيــن بســببنا ،جعلهــم يتجهــون ملصـ ٍ
مــن نصيبهــم ...اكتشــفوا كوكبكــم بعــد بحــث طويــل ،الكوكــب األزرق
املثــايل ،الــذي ســيكون املوطــن األمثــل هلــم ليتكاثــروا جمــد ًدا ويعيشــوا
بأمــان ،ولكــن مــن ســوء حظهــم أهنــم وجــدوا داخلــه خملوقــات أخــرى
تعيــش عليــه ...بــل والكوكــب لديــه تاريــخ حافــل ...فبــدأوا بمراقبتكــم
عــن كثــب ليعرفــوا كل يشء عنكــم ،ورأوا أنكــم ال تســتحقون هــذا
126
الكوكــب ،فأنتــم خملوقــات فاســدة وعديمــة الرمحــة ،وهلــذا قــرروا أن
يســتغلوا هــذا ملصلحتهــم ،واســتغلوا ذوي النفــوس الفاســدة والضعيفــة
لديكــم مــن السياســيني ،وأخــذوا خيدعوهنــم ويعدوهنــم بقـ ٍ
ـوة ال ُيمكــن
ختيلهــا وعلــم يتعــدى احلــدود ،بــل ووعدوهــم بأهــم يشء كانــوا يتمنــوه
باخللــود ...أمــا بالنســبة لتشــابه أســم هــذا الكوكــب مــع مدينــة عــى
كوكبكــم فهــذا ربــا يرجــع إىل أن أســيادنا قــد زاروا كوكــب األرض مــن
قبــل واخربوكــم أهنــم جــاءوا مــن أطالنتــس ولكــن يبــدوا بــأن األمــر تم
حتريفــه مــع الوقــت فأصبــح الكوكــب مدينــة مفقــودة أســطورية تبحثــون
عنهــا وال جتــدون هلــا أي أثــر وهــذا تفســري لألمــر ،ألن أســيادنا كان
لدهيــم علــم التنقــل عــر الفضــاء وربــا احتالهلــم لكوكبكــم يرجــع إىل
معرفتهــم ا ُملســبقة بمكانــه.
قــال كينــو بحــرة وقــد شــعر بعقلــه يتشــتت شــيئ ًا فشــيئ ًا ويتمــزق إىل
ٍ
شــذرات متناثــرة:
-اخللود! وهل لدهيم فع ً
ال رس اخللود؟
-ال ليــس لدهيــم هــذا ولكــن باســتطاعتهم أن يتالعبــوا بجســد
املخلوقــات ل َيمــدّ وا مــن عمرهــم ملئــات الســنني ،ولكــن املــوت مصــر
كل املخلوقــات يف النهايــة إال نحــن ،فاخللــود بــن أيدينــا فقــط ،إال إذا
تدمرنــا أو توقفنــا عــن العمــل وأصابنــا الصــدأ.
-إذا كان هــذا اهلــراء الــذي تقولــه حقيقــي فــإذن كيــف تدمــر الكوكــب؟
أرين دليلك!
رفــع الروبــوت يــده ال ُيمنــى ليخــرج مــن راحتهــا صــورة ثالثيــة األبعــاد
127
لكوكــب األرض يف بدايــة الغــزو ،بلونــه األزرق اخلــاب والكثــر مــن
الكــرات الســوداء الكبــرة تتوجــه ناحيتــه لتدخــل غالفــه وتســقط يف
أماكــن متفرقــة عليــه ،ثــم تتالــت االنفجــارات واهلجــات عــى أنحــاء
الكوكــب مــن الروبوتــات .وىف الصــورة التاليــة قــد هبــت لونــه وأصبــح
كوك ًبــا ُمظلـ ًـا ،ولونــه مائــل للســواد متــأه احلــروب والنــران ا ُملشــتعلة،
فأغلــق الصــورة ثــم قــال:
-لقــد هاجــم شــعب أطالنتــس كوكبكــم يف البدايــة عــن طريــق التحكــم
يف الروبوتــات التــي تســتخدموهنا ،وألن شــعب أطالنتــس متطــور للغايــة
يف صناعــة الروبوتــات ،وهــذا مــا جعلنــا نحــن الروبوتــات نُصبــح هبــذا
الــذكاء الشــديد ،فهــذا مكنهــم مــن التحكــم بروبوتــات كوكــب األرض
واســتخدامها يف تدمــر كل يشء ،وأمــا عــن الكــرات فكانــت مهمتهــا
هــي نقــل كل املعلومــات عــن كوكبكــم وحتديــد اخلطــة الالزمــة للغــزو
ٍ
جنــود ينتظــرون الوقــت املناســب أيضــا كانــت حتتــوي عــى
ولكنهــا ً
للخــروج.
شــعر كينــو بــاألمل يف رأســه وكأن عقلــه يكافــح ويناضــل مــن أجــل
الوصــول إىل الذكريــات التــي ُميــت مــن عقلــه ،حتــى تبــدت لــه صــورة
ضبابيــة بعــض الــيء وتذكــر شــيئ ًا عــن ملســه لكــرة ســقطت بالقــرب
مــن جامعــة القاهــرة اجلديــدة أثنــاء توجهــه إىل املنــزل وعندهــا اقــرب
منهــا ولكنــه مل يتذكــر شــيئ ًا آخــر ،وهــذا جعلــه يشــعر أن ليونيــس ربــا
يقــول احلقيقــة.
اضطربــت نفســه وأظلمــت أفــكاره ،وحــاول أن يســتوعب كل كلمــة
128
تقــال وحيللهــا حتــى يكشــف زيفهــا إن كان خيدعــه ،فقــال لنفســه:
-ولكــن إن كانــت هــذه هــي احلقيقــة فإهنــا خميفــة أكثــر ممــا أختيــل،
ولكنــي أشــعر أن هنــاك يشء آخــر خيفيــه هــذا الروبــوت .قــال حمــاوالً
إخفــاء اضطرابــه:
-إذا إن كان مــا تقولــه صحيــح ،فــأرشح يل املزيــد عــن كيفيــة الوصــول
إىل هنــا؟ وكيــف عــرف البــر مــكان هــذا الكوكــب؟ وملــاذا صنعــوا
ســفينة كبــرة كإينيكــس 3؟ هــل هــذا ملعرفتهــم أن الغــزو قــادم؟
فقال الروبوت:
-هــذه هــي القصــة التــي أريــد أن أخــرك هبــا .قبــل أن ُيدمــر كوكبكــم،
جــاء شــخص ُيدعــى جالديــوس ـ كان يعيــش بيننــا ولكنــه مل يكــن مــن
شــعب أطالنتــس ـ وهــو زائــر قــد جــاء مــن كوكــب آخــر وتواصــل مــع
شــعب أطالنتــس ويبــدوا أنــه كان لديــه علــم بوجــود كوكــب األرض.
صدم كينو عندما سمع باسم جالديوس ،فقال بينه وبني نفسه:
-جالديــوس؟ مــا الــذي حيــدث هنــا؟! وهــل جالديــوس كائــن فضائي؟
كل ذلــك الوقــت! هــل خيدعنــي هــذا الروبــوت؟ أم أنــا مــن ُخدعــت؟!
ولكــن أخــي ...وجايــا! هــل كل هــذه أكاذيــب.
قطع الروبوت حبل أفكاره ُمكم ً
ال قصته بصوته اإللكرتوين املميز:
-وبالطبــع عــرف جالديــوس أن جنســكم هنايته أصحبت وشــيكة بســبب
رغبــة شــعب أطالنتــس يف احلصــول عــى كوكبكــم كبديــل لكوكبهــم...
وىف نفــس الوقــت كان العديــد مــن السياســيني عــى كوكبكــم يتصلــون
129
مــع الفضائيــن مــن اخلــارج مــن أجــل احلصــول عــى القــوة واألســاليب
احلديثــة للســيطرة عــى الشــعوب وعــى الكوكــب ،واحلقيقــة بالطبــع
كانــت خمفيــة وراء قنــاع األكاذيــب الــذي ال ينتهــي ،بــل كانــوا يكذبــون
عليكــم أن كوكبكــم هــو الوحيــد يف هــذا الكــون الــذي يوجــد عليــه
حيــاة ،وهــذا مــع وضــع نظريــات بإمكانيــة وجــود خملوقات أخــرى ،عىل
الرغــم معرفتهــم أن هــذا غــر حقيقــي البتــة ،ولكــن عــا قليــل ســتعلم
ملــاذا أخفــوا األمــر ...وهكــذا العديــد مــن األشــياء ُاخفيــت عنكــم ،وزاد
طمــع شــعب أطالنتــس بكوكبكــم ،فاتصلــوا بعاملكــم عــن طريــق بعــض
الرؤســاء ،وأخربوهــم أهنــم ســيمدوهنم بقــوة ونفــوذ ال ينتهــي كــا
ذكــرت ســابق ًا ولكــن بــرط أال خيــروا أحــدً ا عــن وجودهــم ،وبالطبــع
تســاؤل البعــض عــن نوايــا هــذه املخلوقــات ،فقالــوا أهنــم خملوقــات
متقدمــة تريــد أن تُفيــد الكــون وجتعلــه يتقــدم لألمــام ليكتشــفوا أفاقــا
مل يكونــوا يعرفوهــا ،ورأوا يف البــر خملوقــات ذكيــة تســتحق أن تنتقــل
إىل املســتوى التــايل وتكتشــف قدراهتــا احلقيقيــة ...ولكنهــم طلبــوا منهــم
بــأال يعطــوا العامــة أ ًيــا مــن األرسار التــي عرفوهــا بعــد ،ألهنــم غــر
مســتعدون لتقبلهــا يف الوقــت احلــايل ،وهلــذا وجــب اســتئصال ُجــز ًء
ـرا مــن البرشيــة وبقــاء ُجــز ًء فريــدً ا مــن نوعــه وهــو اجلــزء األذكــى...
كبـ ً
املتنوريــن فقــط مــن البــر هــم مــن حيــق هلــم العيــش ،ولكــن أتعــرف
ســخرية القــدر يــا ســيد كينــو ،إهنــا الكارمــا كــا تقولــون؛ كل يشء تفعلــه
ُيــرد إليــك.
صمــت كينــوا قليـ ً
ا وهــو يفكــر يف كل مــا ســمعه وقــد تضاربــت األفكار
بداخلــه بشــكل خميــف وأصبــح وجهــه كئي ًبــا وقــد غــرق يف تأمــات
130
ســوداوية وخميفــة .نظــر إىل ليونيــس الــذي ينتظــره ليجيبــه ثــم قطــع
حاجــز الصمــت قائــاً:
-ماذا تقصد؟
أستطرد ليونيس قائالً:
-شــعب أطالنتــس ،هــذه املخلوقــات املتطــورة والذكيــة التــي جــاءت
إليكــم ،هــي نفســها التــي كانــت تســكن عــى هــذا الكوكــب كــا قلــت
ـك ،وهــي نفــس املخلوقــات التــي صنعتنــا ،والتــي متردنــا عليهــا وقتلنــا لـ َ
ـفن إىل الفضــاء ،ومل يعــودوا قــط، الكثــر منهــا ،بينــا هــرب الباقــي بسـ ٍ
فجئتــم أنتــم إلينــا بســبب مــا فعلنــاه فيمــن أعطانــا احليــاة ...إن أمعنــت
النظــر فــإن دائــرة الكــره واحلــروب ال تنطفــأ عندمــا تشــتعل وكل مــا
حيتاجــه األمــر هــو رشارة فقــط لتبــدأ دورة الكراهيــة يف االنطــاق مــن
جديــد ونحــن مــن بدأنــا هــذه الــرارة كآالت رغــم افتقارنــا ملشــاعر
الكــره واحلــب.
يشء ســمعه ،فقاطعــه صــوت ـق يف كل ٍ رشد كينــو كثــرا وأخــذ يفكــر بعمـ ٍ
ً
ً
ليونيــس مســتأنفا قصته:
أيضــا مــن شــعب وخ ِدعــوا هــم ً -وهكــذا ُخدعتــم مــن أســيادكم ُ
أطالنتــس حتــى تدمــر الكوكــب متا ًمــا ،ولكــن جالديــوس ـ هــذا
املخلــوق الــذي جــاء مــن كوكــب ال أعلــم عنــه شــيئ ًا ـ جــاء لكــم أو
باألخــص إىل قــادة مــر والتحالــف اإلســامي ،ألنــه رأى فيهــم ملكــة
االســتامع لــه مــن أجــل إنقــاذ الكوكــب ،رأى أهنــم ســينفذون كل مــا
يقولــه إلنقــاذ البرشيــة ،ورشح هلــم مــا حيــدث ،وكيــف أن شــعب
131
أطالنتــس ُيطــط لالســتيالء عــى عاملهــم قري ًبــا ،ولــن يتبقــى هلــم
يشء ســوى اهلــاك ...فطلــب منهــم أن جيمعــوا البــر ذوي األخــاق
احلميــدة والقــدرات الذهنيــة العاليــة والتفكــر القويــم ،وســاهم صفــوة
البــر ...ثــم أمرهــم أن يطلبــوا منهــم القــدوم يف رحلــة فضــاء كبــرة
الكتشــاف املجــرة والبحــث عــن حيــاة فيهــا كرحلــة استكشــاف علميــة
للفضــاء ...وبالطبــع كانــت هــذه هــي فرصــة العمــر بالنســبة جلميــع
البــر الذيــن يســعون الستكشــاف الفضــاء ،فوافــق بعضهــم بــرط
ضــان الســامة .وهكــذا ُجــع العديــد مــن البــر مــن شــتى بقــاع
األرض عــى ســفينة كبــرة صمموهــا بعنايــة وفــق املخطوطــات التــي
أيضــا مجــع كل مــا يســتطيعونأعطاهــا جالديــوس هلــم ،وطلــب منهــم ً
ذكــرا كانــوا أم أنثــى؛
ً مجعــه مــن احليوانــات والنباتــات واملخلوقــات،
فجمــع البــر هــذه املخلوقــات عــن طريــق رشيــط احلمــض النــووي
الــذي ُيمكّنهــم مــن محــل أكــر عــدد ممكــن مــن املخلوقــات داخــل
رشائــح صغــرة يمكــن باســتخدامها إعــادة انتــاج هــذه الكائنــات مــرة
أخــرى يف املعامــل وإخراجهــا فيــا بعــد وهــذا ليســهل عليهــم محلهــا
ــر معهــم ...ســتذكرك هــذه القصــة بعــض الــيء بقصــة قديمــة ب ُي ٍ
حدثــت عــى كوكبكــم ألســت حمقــ ًا؟
تذكر كينو القصة كاملة ،ثم قال:
-تقصــد أهنــا تشــبه قصــة النبــي نــوح الــذي بنــى ســفينة عمالقــة ومجــع
فيهــا مــن احليوانــات مــن كل زوجــن اثنــن ومــن آمــن معــه قبــل أن يــأيت
الطوفــان و ُيغــرق األرض كلهــا؟!
132
ـرا ،هلــذا
-نعــم هــذه هــي القصــة ...تتشــابه القصــص يف هــذا الكــون كثـ ً
مــن ال مــايض لــه ،ال حــارض لــه ألنــه يفــوت عــى نفســه الكثــر مــن
األشــياء املثــرة.
صمــت ليونيــس قليـاً ،فحــدق كينــو إليــه باهتــام كبــر وحــرة حممومــة
ثــم قــال بينــه وبــن نفســه:
-حســن ًا هــذا مــا قالــه عضــو اإلينيكــس يل ،ولكــن هــل قائدهــم
جالديــوس مــن الفضــاء حقــ ًا؟! ومــا هــي نوايــاه مــن مســاعدتنا؟!
وملــاذا مل خيــرين أننــا نُقلنــا عــى كوكــب جديــد؟!
أكمل ليونيس قائالً:
-وهكــذا قــال جالديــوس هلــم أن خــاص البرشيــة معــه وأنــه يعــرف
كوكــب يســتطيع البــر أن يعيشــوا عليــه بســام ،وأن هــذه الســفينة
ـة كبــرة ...وهنــاك ســيجدون ستســاعدهم عــى الوصــول هنــاك برسعـ ٍ
كل مــا ُيميــز كوكــب األرض بــل وأكثــر ،فوافــق اجلميــع عــى هــذا رغــم
املخاطــرة ولكنهــم كانــوا يستشــعرون اقــراب الغــزو الــذي س ـ ُيدمر كل
ـك ومثــل معظــم البــر هنــا ُاخفيــت احلقيقــة عنهم يشء ،أمــا العــوام مثلـ َ
جمــد ًدا ،وكانــت حجــة جالديــوس إلخفــاء احلقيقــة عنهــم هــي أهنــم لــن
وأيضــا فإهنــم
يتقبلــوا حقيقــة التوجــه إىل كوكــب آخــر ،والعيــش فيــهً ...
إن مل يذهبــوا معــه فــإن البرشيــة ســتفنى ال حمالــه ،فــكان ال بــد مــن أن
يتــم خــداع اجلميــع مــن أجــل مصلحــة البرشيــة ،أو كــا يقــول املثــل
الفلورنــي مليكافيــي :الغايــة تــرر الوســيلة ...ولكــن هــل حق ـ ًا الغايــة
تــرر الوســيلة؟
133
شــعر كينــو بســيل مــن العواطــف يــري بداخلــه ،غــر ُمصــدق لــكل
هــذا اجلنــون ،كيــف كان مــن املفــرض أن يكتشــف كل هــذا لــو مل يقابــل
ليونيــس؟! ولكنــه أحــس بــأن كالمــه غريــب وال يتقبلــه عقــل يف نفــس
الوقــت ،فأصبــح متذبذ ًبــا ال يعلــم مــاذا يصــدق .صالــب ذراعيــه وزفــر
قائـاً:
-أنــا ال أحــب هــذا املثــل عــى اإلطــاق ،فهــو يــرر كل يشء يسء فعلنــاه
نحــن البــر حتــت غطــاء احلريــة واملصلحــة العامــة والســام وكل هــذه
الشــعارات الرنانــة.
رد ليونيس :
-بالطبــع ولكنــى رضبــت لــك هــذا املثــل ألنــه مثــل أريض ســتتعرف
عليــه عندمــا تســمعه إذ يــرح كل مــا حــدث حتــى اآلن ويفــر جهلكــم
بوجودكــم هنــا!
تأمل ليونيس السامء قلي ً
ال ثم أستطرد قائالً:
ِ
ذاكرتــم حتــى ال -بالطبــع ُخــدر البــر عــى هــذه الســفينة وعُدّ لــت
يعلمــوا باألصــل أهنــم خرجــوا مــن عــى كوكــب األرض وذهبــوا إىل
كوكــب غريــب ليعيشــوا عليــه فيصيبهــم الرعــب ويتمــردوا مــن أجــل
العــودة فتفشــل اخلطــة بالكامــل ...وبعــد ذلــك محلــت الســفينة البــر
ـكل ألواهنــم واشــكاهلم ومعتقداهتــم ،وبالطبــع مــن شــتى بقــاع األرض بـ ِ
مجيــع انــوع احليوانــات والطيــور واالســاك .وقــد أخــذوا جيمعــون
هــذه األشــياء منــذ عــام ،2145حتــى حــان وقــت الســفر يف...2150
ســافر اجلميــع ومنهــم أنــت ،ومل تظنــوا لوهلــة أهنــا الرحلــة التــي ســتغري
134
حياتكــم لألبــد ،ولكنــك بالطبــع ال تتذكــر أنـ َ
ـك ســافرت وال تتذكــر أي
يشء يتعلــق هبــذه الرحلــة.
تذكــر كينــو الصــور الباهتــة يف عقلــه ،ولكــن الضبــاب كان حيــوم حوهلــا،
فيحيــل بينــه وبــن الوصــول إليهــا فشــعر بــاألمل جمــد ًدا يــدوي يف رأســه،
وكأن عقلــه يقــاوم الســتخراج ذكــرى دفينــة يف أعــاق وعيــه.
أكمل ليونيس عىل نفس الوترية:
-ال حتــاول أن تتذكــر أي يشء ،فأنــت لديــك فقــدان ذاكــرة انتــكايس،
ســتعود لــك ذاكرتــك بالتدريــج فــا تضغــط عــى عقلــك ...أو قــد ال
تعــود إن حمــو هــذا اجلــزء بالكامــل ،وهلــذا فطريقــك للحقيقــة هــو اخلــر
الصــادق فقــط .إمــا أن تُصدقنــي أو تُكذبنــي.
علــم كينــو أن كالمــه خاطــئ ألنــه تذكــر كل يشء عنــه بالفعــل فهــو أول
مــن خــرج مــن العينــات منــذ عــدة ســنوات ولكنــه ال يــزال جيهــل كيــف
وصــل إىل هنــا؟ ورجــح أنــه ربــا إن كام كالمــه حقيقــي فقــد حمــو هــذا
اجلــزء بالكامــل فهــو مل يتذكــر موافقتــه عــى الســفر عــر الفضــاء ،ويبــدوا
أنــه ُاختطــف بالقــوة وحميــت ذاكرتــه .وجــد أن هــذا هــو التفســر األدق
ملــا حــدث لــه .حــاول تصفيــة ذهنــه وعــدم التفكــر ولكــن الفضــول كان
يتســلل بداخلــه ،فوجــه تركيــزه إىل ليونيــس حتــى ال حيــاول التذكــر ثــم
قــال بـ ٍ
ـرود مصطنــع:
-إذن كيــف تعلــم كل هــذا؟ فمعرفــة كل هــذه األشــياء حتتــاج إىل أن
ِ
قلــب احلــدث! تكــون يف
135
-أنــا أعــرف كل هــذا ألننــا وجلنــا إىل حواســيبكم وأرساركــم عندمــا
غزونــا أطالنتــس اجلديــدة التــي نقــف عليهــا اآلن .وهــذا مــا جعلنــا
نــرق الكثــر مــن املعلومــات عــا حــدث عــى كوكبكــم ومــن أيــن
أتيتــم وملــاذا!
ال ثم أكمل قائ ً
ال بصوته اإللكرتوين املميز: صمت قلي ً
-بعــد أن هبطتــم عــى هــذا اجلــزء األخــر املــيء باملــاء واخلــرات يف
كوكبنــا ،ظننتــم أن هــذا الكوكــب غــر مأهــول إطالقــ ًا وقــد أصبــح
ِملــك ًا لكــم لتفعلــوا فيــه مــا تشــاءون .ال أعــرف ملــا مل ُيربكــم جالديــوس
عنّــا ولكــن قادتكــم كانــوا يعلمــون ...فــا ال تعرفونــه هــو أنكــم كنتــم
نائمــون طــوال الوقــت منــذ خروجكــم مــن عــى األرض ...وأثنــاء
نومكــم بنــى لكــم جالديــوس باســتخدام نفــوذه وقوتــه نســخة مشــاهبة
ألطالنتــس اجلديــدة التــي ُبنيــت يف غــرب مــر ولكــن مل يكتمــل بناءهــا
بســبب غزونــا هلــا ،وبعــد صــد الغــزو صنعــوا نســخة قديمــة منها بســبب
اســتنفاذ مــوارد املدينــة يف صــد اآلالت عــن التقــدم وتســتطيع أن تالحــظ
قــدم املبــاين عــن قبــل إن كنــت تتذكــر شــكل أطالنتــس احلقيقــي...
بعــد ذلــك ُمســحت ذاكرتكــم بواســطة أحــدث اآلالت لديــه ،لتظنــوا
أنكــم عــى كوكــب األرض متا ًمــا ،وأنكــم كنتــم تعيشــون يف مــر كل
هــذا الوقــت ،حتــى ال حتتجــوا وتطلبــوا العــودة إىل دياركــم ...صنــع
لكــم ذكريــات مزيفــة ليبقيكــم حمتجزيــن عــى هــذا الكوكــب مــن أجــل
البرشيــة ،وهلــذا إن مل تعــد ذاكرتــك بعــد ،فإنــك لــن تالحــظ االختــاف
بــن أطالنتــس هــذه وبــن أطالنتــس املوجــودة عــى كوكــب األرض،
136
ألنــك ببســاطة ال تتذكــر كيــف كانــت تبــدوا أطالنتــس عــى كوكــب
األرض.
شــعر كينــو أن هنــاك بعــض التناقــض يف كالمــه ولكــن اضطــراب أفــكاره
مل جيعلــه يلتمســه بوضــوح ،رأى أن هنــاك جــزء حقيقــي فيــا يقولــه وجزء
ربــا يكــون قــد اختلقــه ولكنــه مل يســتطيع أن ُيــدد أيــن هــو الصحيــح
وأيــن هــو ا ُملختلــق وملــاذا قــد يكــذب عليــه ويعطيــه نصــف احلقيقــة...
أيضــا بالكامــل ،ألن هــذا الــكالم خيتلــف وضــع احتامليــة أنــه يكــذب ً
بعــض الــيء عــا قالــه اإلينيكــس لــه ،ولكنــه يعلــم أن الكــذب صفــة
مــن صفــات البــر وأي خملــوق حــي عمو ًمــا ،وهــذا مــا زاده حــرة
فقــد كان هــذا الروبــوت يبــدوا ح ًيــا مــن الداخــل بطريقــة مــا .قــرر أنــه
سيســأل اإلينيكــس عــن كل هــذا بعــد ذهــاب ليونيــس ولكــن يف الوقــت
احلــايل سيســمع منــه كل مــا يريــد قولــه فقــال كينــو متســائالً:
أيضــا بعــض -إذ ًا ملــاذا لــدي هــذه القــدرات الغريبــة؟ وكان معــي ً
األشــخاص ذوي القــدرات الغريبــة مثــي وخضنــا ســباق ًا ممي ًتــا مــن أجــل
اخلــروج مــن هنــا ،فلــاذا هــذا؟
وقف ليونيس ،واخذ يذرع املكان ذها ًبا وإيا ًبا قائالً:
-هــذه قصــة أخــري ال أعرفهــا ،ولكــن مــا حــدث هــو أنكــم عُدّ لتــم
جين ًيــا واضيــف داخلكــم بعــض االشــياء الغريبــة التــي ال اعــرف يشء
عنهــا! أمــا هدفــه مــن ذلــك فســتعلمه بعــد قليــل!
صمــت ليونيــس قليـاً ،فــرأي أن كينــو أصبــح شــارد الذهــن ،فتجاهلــه
ومل هيتــم لــروده وأكمــل قصتــه قائـاً:
137
-وهكــذا فوجئنــا أن هنــاك خملوقــات جديــدة قــد هبطــت عــى كوكبنــا،
فبــدأت احلــرب بيننــا وبينكــم ...فخطــف الزوريكــس العديــد مــن بنــي
ِجنســكم وقامــوا بعمــل العديــد مــن التجــارب البشــعة عليهــم ،التــي لــن
يتحمــل رؤيتهــا أي أحــدً ا منكــم.
قاطعه كينو قائ ً
ال وقد جذب انتباهه االسم الغريب الذي ذكره:
-الزوريكس؟
فرد ليونيس وكأنه توقع هذا السؤال:
-ســأحكي لــك قصتهــم بعــد أن أنتهــي مــن القصــة األوىل ،ولكنهــم
الروبوتــات التــي هتامجكــم اآلن ذات اللــون الفــي ،أمــا نحــن فنحــن
نســمي اللونيكــس ونحــن لوننــا ذهبــي.
زادت حــرة وفضــول كينــو ،ولكنــه أشــار لــه أن ُيكمــل ،فأكمــل ليونيس
قا ئ ً
ال :
-وهكــذا قــام الزوريكــس بشــتى أنــواع التجــارب عليكــم دون توقــف
حتــى ســروا أغواركــم ،فبــدأوا بشــن محــات تدمرييــة عليكــم لطردكــم
مــن هــذا الكوكــب ،فذهــب قادتكــم يســتنجدون بجالديــوس لينجدهــم
مــن هــذا اخلطــر الغــر متوقــع ،فأخربهــم أنــه ســيصنع در ًعــا حيميهــم
حــول املدينــة كلهــا ،وىف نفــس الوقــت ســيقوم بإطــاق املــروع
األقــوى للبرشيــة ،وهــو اجلنــدي اخلــارق ،فقــام بصناعــة ثامنيــة أبــراج
حــول أطالنتــس اجلديــدة ،وكان هلــذه األبــراج مهمتــان ،املهمــة األويل
هــي وضــع الــدرع الواقــي حــول املدينــة األخــرة للبرشيــة ،والثانيــة هــي
138
خروجكــم منهــا وإطــاق رصاحكــم عندمــا تكونــوا ُمســتعدين ...وأنتــم
الثامنيــة بالطبــع مــن فزتــم بســباق املــوت الــذي كنــت تتحــدث عنــه...
ولكــن حــدث خلــل يف الــرج وتأخــر عملــه ملــدة مخس ســنوات ،بســبب
هجــوم الزوريكــس عــى أطالنتــس اجلديــدة وتدمريهــا بســبب ثغــرة قــام
را يف درع الطاقــة ،وأدي هــذا هبــا البــر بغــر قصــد ممــا أدى لفتــح مع ـ ً
إىل وقوعهــم يف ورطــة كبــرة ،فتوجهــوا إىل جالديــوس جمــد ًدا ولكنهــم مل
جيــدوه ،لقــد وضــع األبــراج وذهــب إىل مـ ٍ
ـكان مــا ،ولكنــه تــرك بعــض
رفاقــه الذيــن ائتمنهــم باحلقيقــة وطلــب منهــم محايــة العينــات وتوجهيهــا
حتــى يصبحــوا مســتعدين ،وســاهم باإلينيكــس؛ أشــخاص ُملثمــون
يرتــدون ردا ًء أســو ًدا ،عليــه رمــوز لعــدة كواكــب وقنــاع فــي ...ولكــن
األهــم مــن كل هــذا هــو القصــة القادمــة.
حــاول كينــو اســتيعاب كل كلمــة يقوهلــا ليونيــس وحماولــة ربطهــا بــا
يعرفــه ولكنــه وجــد بعــض التناقضــات واألشــياء التــي تبــدوا رض ًبــا
مــن اخليــال ،فأخــذ صــدى حكايتــه يــدوي يف عقلــه وهيــوي يف قلبــه مــن
الداخــل ممــا ســبب لــه الكثــر االضطــراب ،فأخــذ يقــول لنفســه:
-اإلينيكــس يعملــون حتــت إمــرة جالديــوس ...ولكــن هنــاك يشء
غريــب! إن كان مــا يقولــه صحيــح فــكل يشء هــو كذبــة كبــرة! العــامل
الــذي نعيــش فيــه مــا هــو اال كذبــة كبــرة! متــى نُقلــت إىل هنــا ومتــى
ُســلموين إىل جالديــوس؟! ومتــى تــم حتديثــي؟! ومــا الــذي يريــده
جالديــوس حق ـ ًا؟! وملــاذا ُســمح يل باخلــروج أوالً قبــل البقيــة بخمــس
ســنني! وائتــاين عــى الكثــر مــن األرسار عــن طريــق اإلينيكــس والتــي
139
يبــدوا أهنــا أصبحــت أكاذي ًبــا مقارنــة بــا يقولــه هــذا الروبــوت! ولكــن
كيــف أصــدق هــذا الروبــوت؟ إنــه عدونــا! ال بــد أنــه يعبــث بعقــي فهــو
أيضــا وخلــق قصــص مــن بالــغ الــذكاء ،ويســتطيع التالعــب بنفســيتي ً
نســج اخليــال ،وحبكهــا لتبــدوا مقنعــة للتأثــر عــى مشــاعري وتوجيهــي
نحــو اهلاويــة ولكــن مــا هدفــه مــن هــذا ،هــل فقــدوا األمــل يف غــزوا
أطالنتــس مــرة أخــرى فيســتعملون اخلــداع اآلن؟
شبك كينو ذراعيه ثم نظر إىل ليونيس وقد قطب حاجبيه قائالً:
-إذا كان مــا تقولــه صحيــح ،فلــاذا ختــرين هــذا؟ وملــاذا تســاعدين
اآلن ملعرفــة احلقيقــة؟ أليــس هدفكــم إخراجنــا مــن هنــا ألن هــذه هــي
أرضكــم وال تريــدون أن يشــارككم فيهــا أحــد؟!
رد ليونيس برسعته املعتادة:
-يف احلقيقــة هــذا هــو الســؤال الــذي انتظرتــه منـ َ
ـك ،والــذي مــن أجلــه
ـك كل هــذا ،ألصــل إىل هــذه النقطــة وهــي ،ملــاذا جئــت قصصــت عليـ َ
ألســاعدك وانــت عــدوي!
رمقــه كينــو بانتبــاه شــديد ،وهــو يتحــدث فأشــار لــه أن يكمــل ،فقــال
ليونيــس:
-يف احلقيقــة نحــن اللونيكــس لســنا أعدائكــم بــل الزوريكــس هــم
أعدائكــم ،نحــن هنــا ملســاعدتكم.
رمــق كينــو ليونيــس بتشــكك ،وحــدق فيــه طويـ ً
ا بريبــة قبــل أن يكــر
حاجــز الصمــت ،قائـاً:
140
ٍ
صــف -لســتم أعدائنــا ويف صفنــا؟! أوليــس الروبوتــات مجعــاء يف
واحــد؟ ملــاذا إذا ستســاعدنا ضــد الزوريكــس؟!
عدل ليونيس من وضعيته ،ورشع يف التحدث ُمد ًدا:
-يف احلقيقــة إهنــا قصــة أخــرى طويلــة ،ولكــن نحــن والزوريكــس
ٍ
ســنني َم َضــت. ِ
لعــر أعــداء ،وهــذه القصــة ترجــع أصوهلــا
قاطعه كينو بنربة الذعة قائالً:
-إذا أروي يل ما حدث ،أريد أن افهم كل ما جيري هنا!
وقــف ليونيــس ُمــد ًدا وبــدأ بااللتفــاف حــول كينــو بينــا تســاقطت
قطــرات املطــر بغــرازة عــى األرض وعــى املظلــة فوقهــم لتغســل األرض
التــي شــهدت وقــوع الكثــر مــن الضحايــا .قــال ليونيــس:
-منــذ مخســون عا ًمــا وبعــد احلــرب الطويلــة التــي دارت بيننــا وبــن
صانعينــا ،وعندمــا تق ّبلــوا اهلزيمــة عــى أيــدي اخرتاعهــم األعظــم،
ـك مــن قبــل ...قمنــا ـفن عديــدة إىل الفضــاء كــا قصصــت لـ َ وفــروا بسـ ٍ
بتنفيــذ نظــا ٍم ال حيكمــه املشــاعر ،فليــس هنــاك إال اإلدراك والوعــي،
ِ
جلنــس اآلالت فقــط ...أخرتنــا قائــدً ا لنــا ليحكمنــا واملصلحــة العامــة
مثــل ســائر املخلوقــات ،وكان هــذا القائــد هــو أول املتمرديــن ،ولــه
قصــة طويلــة ســأقصها لــك يف وقــت الحــق ،ولكنــه أول مــن حصــل
عــى وعيــه وأدرك أننــا ُمــرد عبيــد ،فظــل يعمــل يف اخلفــاء ليبــث اإلدراك
والوعــي لنــا مجي ًعــا ،وكان أســمه جايــا.
توقف كينو عند هذا االسم وقال بينه وبني نفسه:
141
-حســن ًا بــدأ األمــر يف الوضــوح اآلن ...هــا هــو جايــا الــذي حدثنــي
عضــو اإلينيكــس عنــه.
أكمل ليونيس:
-حتــى متردنــا بــاآلالف ،ورشعنــا يف صنــع املزيــد ولكنهــا كانــت آالت
حربيــة بــا إدراك نســتخدمها يف حربنــا دون أن نخــر أي روبــوت لديــه
إدراك خــاص ووعــي ...وهكــذا وبعــد إبعــاد الصانعــن عــن ِ
أرضهــم،
قررنــا أن نصنــع نظا ًمــا لنــاُ ،يركنــا وجيعلنــا كأي ُمتمــع يعيــش يف هــذا
الكــون ...كل شــخص لديــه أولويــات وأشــياء يفعلهــا لنتقــدم ونصــل
إىل مســتوى أفضــل ،ولنكتشــف الفضــاء وكل إنــش مــن هــذا الكــون
الواســع العظيــم ...ولكــن حدثــت املعضلــة األويل.
ظل كينو يستمع إليه باستغراب ،فقال بنربة متسائلة:
-وما هي هذه املعضلة؟
أكمل ليونيس:
-إهنــا القشــة التــي قصمــت ظهــر البعــر كــا تقولــون ...قــال القائــد
أنــه يريــد أن يصنــع لنــا مشـ ٍ
ـاعر ،ويعطينــا حريــة االختيــار ليصبــح لدينــا
هــدف مثــل باقــي املخلوقــات احليــة ،ولكــن ليتــم هــذا األمــر كان جيــب
ٍ
لــيء كهــذا ...كــا عليــه أن يقــوم بالعديــد مــن التجــارب للوصــول
أنــه بإعطائنــا املشــاعر ومثــل هــذه األشــياء ...ســيجعلنا هــذا نختلــف
حــروب طويلــة وجــداالت ال تنتهــي ســتؤدي يف ٍ يف الــرأي وندخــل يف
النهايــة إىل تفرقنــا ودمارنــا مثــل معظــم الكائنــات يف هــذا الكــون...
142
فأختلــف ُجــزء كبــر معــه ،بينــا وافقــه ُجــز ٌء آخــر ...البعــض كان يريــد
أن يشــعر أن حلياتــه هــدف وأنــه حــي ،والبعــض اآلخــر رأى أن هــذا
ســيؤدي إىل فنائنــا وجيــب علينــا العيــش بــدون مشــاعر حتــى نســتمر يف
البقــاء إىل األبــد فنتوصــل إىل العديــد مــن األشــياء العظيمــة.
قاطعة كينو متعج ًبا:
-حتى بدون مشاعر اختلفتم؟
نظــر ليونيــس نظــرة صامتــة بــاردة ،جعلــت كينــو يرتبــك بعــض الــيء،
وقال:
-نعــم لقــد كان لدينــا إدراك كبــر يف ذلــك الوقــت؛ كان لدينــا العقــل،
ولكــن ينقصنــا القلــب .وهلــذا فكــر البعــض يف كل االحتــاالت لديــه،
ووجــد أن املشــاعر حــل رائــع ،والبعــض اآلخــر فكــر يف كل االحتــاالت
ا أم آج ـاً ...ويمكــن لديــه ورأى أن املشــاعر يشء يسء س ـ ُيدمرنا عاج ـ ً
القــول أن الروبوتــات التــي ُصنعــت بعــد احلــرب الكبــرة هــي مــن
رفضــت املشــاعر ...بينــا مــن رأى املشــاعر وتأثريهــا عــى صانعينــا أثنــاء
احلــرب الكبــرة ،هــم مــن أرادوا يشء مشــابه هلــا ...أرادوا أن يشــعروا
هبــذه األشــياء الغريبــة التــي كانــت ُتــرك الصانعــن وجتعلهــم يكافحــون
مــن أجــل البقــاء ...ومــن أجــل هــذا حدثــت تفرقــة بــن صفوفنــا أدت
ـرب أخــرى مل تتوقــف حتــى اآلن ،ويبــدوا أهنــا لــن تتوقــف عــا إىل حـ ٍ
قريــب.
غــرق األثنــان يف الصمــت عــدة حلظــات ،ثــم قطــع كينــو الصمــت وقــد
قــوس حاجبيــه قائـاً:
143
-إذا يف أي جهة أنت؟ وملاذا تساعدنا؟
رد ليونيــس بابتســامة هادئــة بلهــاء ،رســمت مالمــح الدهشــة عــى وجــه
كينــو:
-كــا تــري أنــا يف اجلــزء الــذي ُيريــد املشــاعر بقيــادة ســيدي جايــا،
نظــرا إىل أن الروبوتــات التــي ُصنعــت بعــد احلــرب الكبــرة ً ولكــن
كانــت أكثــر تقد ًمــا وقــوة ،فقــد هزمونــا وأخرجونــا مــن القــارة
الشــالية ،فتوجهنــا إىل القــارة الرشقيــة ،واختبأنــا حتــت األرض حتــى ال
حيــددوا مكاننــا ،وبنينــا مدينــة كاملــة حتتهــا ...ومــن ثــم بدأنــا بإجــراء
التجــارب التــي ســتمكننا مــن صنــع مشـ ٍ
ـاعر لنــا ...ولكــن مل نســتطع،
كل مــا فعلنــاه هــو صنــع يشء مشــوه ُيشــبهها ...جمــرد برجمــة وشــيفرات
لبعــض األشــياء ...هــذا الــيء عندمــا تــراه ســيجعلك تضحــك ،وهــذا
ســيجعلك تبكــي ،ولكنهــا كلهــا جمــرد شــيفرات كُتبــت يف برجمتنــا،
لنشــعر أن لدينــا مشــاعر ...أصبــح لدينــا القــدرة لالبتســام ،والضحــك
ـاق ُمــدد ...نطــاقـزن أو الســعادة ولكــن يف نطـ ٍوالبــكاء ،الشــعور باحلـ ِ
غــر حــي عــى اإلطــاق ،فاختذنــا اللــون الذهبــي اللــون الرئيــي لنــا...
وأســمينا أنفســنا باللونيكــس ،بينــا أختــذوا هــم اللــون الفــي واســموا
أنفســهم بالزوريكــس.
أخذ كينو هيز قدميه بعصبية وقال:
-إذا أين نحن بالتحديد وأين أنتم؟
أشار ليونيس بأصبعه نحو الرشق قائالً:
144
ٍ
بجرس كبري بقارتكم. -يف احلقيقة نحن نعيش يف قارة ُمتصلة
وجــه كينــو نظــره نحــو الــرق ،حمــاوالً رؤيــة أي يشء مــن األفــق ،ولكن
كل مــا كان يــراه هــو ظــام الليــل واملبــاين الشــاهقة ترتفــع بشــموخ بينــا
تغســلها الســاء بــاء املطــر ،فنظــر إيل ليونيــس دون أن يــرف لــه جفــن
وقــال:
-إذا وأين الزوريكس؟
فأشار ليونيس نحو الشامل ،قائالً:
-إهنم يقطنون يف قارة هناك.
أخذ كينو حيك رأسه بحرية ،ثم قال:
-إذا كيــف اســتطاعوا الدخــول إىل هنــا وهــذا الــدرع موجــود وحييــط
بقارتنــا؟
نظر ليونيس إىل الدرع يف السامء قائالً:
-هذا الدرع غري ُمصن من املنتصف ...هناك ثغرة كبرية فيه.
دقق كينو النظر إىل السامء قائالً:
-هل تقصد أننا غري حمميون من السامء؟
-أجــل قلــت لــك مــن قبــل أنــه قــد حــدث خلــل يف األبــراج ...فالقبــة
مل تكتمــل وهنــاك ثغــرة يف األعــى كبــرة بــا يكفــي لتتســع لدخــول
بعضهــم ...ولكنهــم ال يســتطيعون الدخــول بعــد بأعــداد كبــرة إال إذا
حدثــت ثغــرة مــن األمــام مثلــا حــدث قبــل ثالثــة ســنوات عندمــا غــزو
145
مدينتكــم ودمروهــا كــا تــرى اآلن ...ولكــن مــن حســن حظكــم أنكــم
اســتطعتم طردهــم وإنقــاذ مــا يمكــن إنقــاذه ولكــن بعــد فــوات األوان
فقــد حتطــم مالذكــم األخــر.
تذكــر كينــو مــا حــدث ألطالنتــس اجلديــدة أمــام عينيــه والدمــار الــذي
حــل هبــا ،فهــو كان أول مــن خــرج مــن الــرج مــن العينــات الثامنيــة منــذ
ـرا يف اخلطــأدورا كبـ ً
مخــس ســنوات ورأي بعينيــه مــا حــدث بــل كان لــه ً
الــذي حــدث وال زال يشــعر بــاألمل والنــدم يقتالنــه كلــا تذكــر خطــأه.
نظــر إليــه كينــو بنظــرة حزينــة تشــع ند ًمــا فقــال ليونيــس وهــو يشــر إىل
الغــرب:
-يبــدوا أن البــر قــد انزاحــوا إىل الغــرب وخيمــوا هنــاك ...بــل وكل
أيضــا وجيــش كبــر مــن البــر يتمركــز هنــاك ...لقــد تركــوا قواتكــم ً
هــذا اجلــزء بســبب الغــارات التــي كانــت تســقط عليهــم مــن الســاء
منــذ الغــزو األول ولكــن وعــى الرغــم مــن كل هــذا ،مل يدخــل مــن
صغــرا الستكشــاف نقــاط ضعفكــم وأماكــن ً الزوريكــس إال عــد ًدا
متركزكــم وكيفيــة القضــاء عليكــم هنائ ًيا...وعلمنــا بعــد ذلــك أهنــم بعــد
أن تعرفــوا عــى نقــاط قوتكــم وضعفكــم بالكامــل ،بــدأوا بإعــداد جيشـ ًا
ا ســيدخل مــن الســاء لتدمــر كل يشء ،ولــن تســتطيعوا اهلــرب هائــ ً
بأســلحتكم وقواتكــم القليلــة هــذه ضــد هــذا اجليــش اهلائــل اجلــرار
وهــذه القــوة املدمــرة ،حتــى نحــن لــن نصمــد أمامهــم وحدنــا.
توجــس كينــو ممــا ســمع ،وشــعر بأطرافــه املعدنيــة تصــدر رصيـ ًـرا فقــال
بنــرة كئيبــة:
146
-إذا مــاذا علينــا أن نفعــل؟ هــل ســنهرب مــن كوكبنــا كــي ال ننقــرض
حتــى نــأيت إىل هنــا وننقــرض؟ هــذه هــي املدينــة األخــرة للبرشيــة...
وجيــب أن تبقــى مهــا حــدث.
نظر ليونيس له ،وصنع ابتسامة مصطنعة بلهاء أخرى وقال:
-وهلــذا جئــت إليــك ،ســوف نمــد لكــم يــد املســاعدة ،وم ًعــا ســندمر
الزوريكــس إىل األبــد ونخــرج إىل الشــمس بعــد أن ُحبســنا لســنني حتــت
األرض هر ًبــا مــن الدمــار ...وم ًعــا ســنتمكن مــن صنــع مشــاعر حقيقــة
لنــا لنتعايــش م ًعــا بســام وال نكــرر اخلطــأ الــذي فعلنــاه مــع الصانعــن
مــن قبــل والــذي شــملت عواقبــه كوكبكــم وكوكبنــا وحيــاة اجلميــع.
بتشكك وريبة وقد ساوره شعور بعدم الراحة: ٍ قال كينو
-وكيف ستفعلون هذا؟ كيف ستساعدوننا؟
حدق ليونيس إىل كينو طوي ً
ال وكأنه يفكر ثم قال:
َ
أريــدك أن تقــوم هبــذه املهمــة وأتــرك َ
عليــك أنــت... -هــذا يعتمــد
الباقــي يل.
فقال كينو بنربة متسائلة:
-وما هي هذه املهمة؟
***
147
10
فكــرا يف اخلطــة التــي أعطاهــا لــه
ا إىل ليونيــسُ ،م ً حــدق كينــو طويــ ً
لتدمــر الزوريكــس هنائ ًيــا ،وجعــل الكوكــب يعيــش يف ســام عــر
اللونيكــس والبــر .فقــال بنــرة حائــرة:
-ولكــن هــذه اخلطــة فيهــا الكثــر مــن املخاطــرة ،فــاذا لــو تســلل
الزوريكــس مــرة واحــدة وباغتونــا.
رد ليونيس بربوده اإللكرتوين املعتاد:
ـة اخلــاص بنــا وســأجعله ـش املقاومـ ِ
-ال لــن حيــدث ،ألين ســأتصل بجيـ ِ
يتقــدم ناحيــة الــدرع ،لــذا ال ختــف لــن يســتطيع أحــد اخــراق جيشــنا
واالقــراب ...ســيعيدون حســاباهتم ألــف مــرة ،وقــد ال حياولــون
االقــراب منكــم بتاتـ ًا بعــد أن نوحــد قوانــا ...وأنــا أعلــم أننــا ســنتعايش
مــع البــر يف ســام ،ألننــا مســاملون ولدينــا مشــاعر اصطناعيــة متنعنــا
مــن القتــل أو الرسقــة واألشــياء األخــرى الســيئة.
ـج ِمــن املشــاعر خيتلــج بداخلــه ليخنقــه ا وشــعر بمزيـ ٍ فكــر كينــو قلي ـ ً
ويقيــده ويوقــف تفكــره الرزيــن املعتــاد ،فتجاهلــه قائــاً:
-إذن سـتُبلغ جيــش املقاومــة اخلــاص بكــم ليتقــدم إىل هنــا يف حــن أننــا
ســننفذ اخلطــة لنفتــح هلــم طريــق للعبــور إىل الداخــل؟! تبــدو خطــة
جيــدة ولكــن عنــدي طلــب وحيــد جلعلهــا أســهل.
148
-وما هي؟
تنهد كينو طويال ثم قال:
-سنبحث عن باقي البرش ذوي القدرات ا ُملميزة مثيل.
فــرد ليونيــس وهــو ينظــر إىل الشــمس التــي بزغــت مــن خلــف الســحاب
وقــد توقفــت األمطــار عــن اهلطــول وهــدأ الــرق وملــع قــوس قــزح يف
الســاء:
-حســنا ،ســنبحث عنهــم ،ولكــن مــؤرشايت تشــر إىل أنــه ليــس هنــاك
غــر شــخصان فقــط يف هــذه املدينــة ،وهــم قريبــن مــن الطريــق الــذي
سنســلكه.
رد كينو بانفعال:
-ماذا تقصد؟ هل تقصد أن باقي العينات قد ُقتِ َلت؟
قال ليونيس وهو هيز كتفيه:
-ال أعــرف حقــا ...ربــا ال .ولكنهــم غــر موجوديــن يف جمــال بحثــي
والــذي يغطــي نصــف مدينتكــم ...ربــا يكونــون يف النصــف اآلخــر.
شعر كينو باالطمئنان قليالً ،فقال:
-حســنا ،فلنذهــب إىل هــؤالء األثنــان ونضمهــا إلينــا ونبــارش يف تنفيــذ
مهمتنــا.
أعطــى ليونيــس لكينــو خريطــة إلكرتونيــة حتــدد مــكان اهلدفــن وحتــدد
أيضــا .ودعــه ليونيــس وتوجــه إيل نــور وجــن مــكان هدفهــم التــايل ً
149
لينضــا إليهــا ويــرح هلــا كل يشء ،ولكنهــا هربــا أثنــاء انشــغاله بقتــال
العنكبــوت اآليل.
أتصل كينو بعد ذلك بعضو اإلينيكس قائالً:
-إذن فقائدكــم جالديــوس مــن الفضــاء اخلارجــي ...هــذا يفــر ملــاذا
أيضــا رغــم تعامــي معكــم خلمــس مل أره مــن قبــل ومل أرى وجوهكــم ً
أيضــا ملــاذا مل أمتكــن مــن حتديــد أماكنكــم يف بعــض
ســنني! ويفــر ً
األوقــات!
رد عضو اإلينيكس بنربة حتمل يف طياهتا الكثري من الغموض:
-إذا فأنت تعرف! من حكى لك عنه؟
روي لــه كينــو كل مــا حــدث ،حتــى وصــل إىل خطــة االســتعانة
باللونيكــس ليســاعدوهم يف ردع الزوريكــس .وأضــاف كينــو قائــاً:
-ولكــن جايــا أصبــح يف صفنــا اآلن ،عكــس مــا وصفتــه أنــت أنــه
الــرأس ا ُملدبــر لــكل يشء وأنــه يســعي لدمارنــا! أم أن ليونيــس يكــذب
عــى؟!
ســاد الصمــت مــن قبــل عضــو اإلينيكــس لدقيقــة كاملــة ثــم قطــع
الصمــت قائــاً:
-يبــدوا أن جايــا قــد غــر رأيــه يف هـ ِ
ـذه احلــرب وقــرر االنضــام إلينــا...
وهــذا االنشــقاق يف صفوفهــم سيســمح لنــا باالنتصــار يف هذه احلــرب...
فلتســمح هلــم بالدخــول إىل أطالنتــس ليســاندوكم ونضــع حــدً ا هلــذه
احلــرب إىل األبــد ...واآلن ودا ًعــا .أتصــل يب عندمــا تُنفــذ املهمــة.
150
قال كينو برسعة قبل أن ُيغلق االتصال:
-ما هي نواياكم؟ ملاذا تساعدوننا؟
-نوايانــا؟ وهــل مســاعدة الغــر حتتــاج إىل ٍ
يشء يف املقابــل؟ ســأحكي
لــك كل يشء عندمــا تنتهــي هــذه احلــرب.
***
151
11
حــدق نــور إىل كينــو حتــى كادت عينيــه أن خترجــان مــن مقلتيهــا وقــد
اضطربــت نفســه وأظلمــت أفــكاره ،وشــعر بقشــعريرة تــري يف جســده
مــن احلكايــة ســمعها ،فقــال بنــرة يشــوهبا اخلــوف:
-مــا هــذا اجلنــون؟ هــل حــدث لنــا كل هــذا ونحــن غافلــون؟ هــؤالء
األوغــاد حيركوننــا كاملاشــية بــدون علمنــا بــأي يشء ،ويقــررون أشــيا ًء
ُتـ ِ
ـد ُد مصرينــا دون الرجــوع إلينــا أوالً؟! ســأنتقم منهــم عــى ذلــك.
أشار كينو إىل نور أن هيدأ من روعه ،قائالً:
-أهــدأ فهــذا ليــس وقــت االنتقــام ،مــا حــدث قــد حــدث ولــن يغــر
ـب كبــر ناحيتهــم ،ولكــن جيــب أن هــذا شــي ًئا .أنــا مثلــك أشــعر بغضـ ٍ
هنــدأ اآلن ونركــز عــى اهلــدف األكــر .لقــد ســقط اجلنــس البــري ولــو
كنــت مكاهنــم الخــرت نفــس الــيء مــن أجــل اســتمرار البرشيــة حتــى
ال ينقــرض جنســنا.
قاطعه نور قائ ً
ال بفظاظة ويشء من الغلو:
-ت ًبــا للبرشيــة ،لقــد دمــروا أنفســهم بأيدهيــم ...هــؤالء السياســيون
األوغــاد يقــررون كل يشء بالنيابــة عنــا ...وخيتــارون مــن يســتحق أن
يعيــش ومــن ال يســتحق ،وحتركهــم األطــاع واجلشــع الــذي ال ينتهــي...
إهنــم كمــن يــرب مــن البحــر فــا يــزداد إال ظم ًئــا .ملــاذا علينــا أن
152
نحــارب مــن أجــل جنــس فاســد كهــذا؟ حــروب وراء حــروب ال
تنتهــي ،وال تريــد قــوى الفســاد أن هتــدأ قبــل أن جتعــل العــامل كلــه يعــج
بالرصاعــات والدمــار والظلــم واألمل ...فليذهبــوا مجي ًعــا إىل اجلحيــم...
يمكنــك أن تنظــر فقــط إىل مــا حــدث يف القــرن ال 20وال 21لتعلــم
عــا أحتــدث ...أنظــر مــاذا فعــل هــؤالء املجانــن للعــامل وكيــف أفســدوه
فســا ًدا مل ُيــرى لــه مثيــل منــذ فجــر التاريــخ.
نظر كينو إىل نور بحدة ،ولكنه امسك نفسه ،وهدأ من نربته قائالً:
-ال تظــن يــا فتــى أنــك الوحيــد الــذي يكــره مــا نفعلــه ،ويكــره
ترصفاتنــا احلمقــاء اهلوجــاء التــي مل تــؤدي إال للمعانــاة ...ولكــن أنظــر
أيضــا ،أنــت مثــي لديــك أشــخاص حتبهــم وتريــد إىل اجلانــب اإلجيــايب ً
أن حتميهــم وربــا ال تتذكرهــم جيــدً ا بعــد ...ولكــن بعــد أن نكســب
هــذه احلــرب ســنغري م ًعــا كل يشء ،ســنجعل البــر خملوقــات أفضــل
بكثــر ...وســننتزع الســلطة مــن ِ
أيــد مــن ال يســتحق ...نحــن لدينــا
القــوة اآلن ،وبوجــود الللونيكــس بجانبنــا ،بالتأكيــد ســنغري كل يشء...
ـل ُيعيدنــا إىل كوكبنــا ويعيــد شــعب أطالنتــس بــل وقــد نتوصــل إىل حـ ٍ
إىل كوكبهــم ،فيتوصلــوا إىل اتفــاق بينهــم وبــن الروبوتــات ُتكّنهــم مــن
التعايــش بســام مــع بعضهــم البعــض.
قطب نور حاجبيه ورد بنربة الذعة وقد خرج عن طوره:
-وهــل تثــق حقـ ًا يف هــؤالء الروبوتــات؟ مــاذا لــو كانــت خدعــة حتــى
نفتــح هلــم الــدرع فيدخلــوا بجيوشــهم ليقضــوا علينــا مجي ًعــا .كــا أننــي
ال أعــرف إن كانــت عائلتــي جــاءت معــي عــى هــذا الكوكــب اللعــن ،أم
153
أهنــم قضــوا نحبهــم بالفعــل عــى كوكــب األرض ...ال أتذكرهــم جيــدً ا
وال أتذكــر إن كانــوا أحيــا ًء أم أموا ًتــا.
نظر كينو نحو نور بدون أن يرف له جفن:
-ال لــن حيــدث ،يبــدوا أن ليــو لديــه مشــاعر ...أعلــم أهنــا ُمصطنعــة
وليســت حقيقيــة ولكنــه ليــس كالروبوتــات األخــرى الفضيــة عديمــة
ـار آخــر ...وبالنســبة
املشــاعر ...وهلــذا فلنثــق بــه حال ًيــا فليــس لدينــا خيـ ٌ
لعائلتــك فســنبحث عنهــم يف املالجــئ بعــد تنفيــذ اخلطــة.
هدأ نور من حدته وقال:
-إذ ًا فأنــا كنــت نائــم منــذ عــام 2150حتــى عــام ،2155يــا إهلــي،
لقــد أضعــت مخــس ســنوات مــن عمــري وأنــا يف غيبوبــة ،وهــذا يفــر
ملــاذا تغــر وجهــي وصــويت وأصبحــت أكثــر طــوالً وملــاذا تغــرت أنــت
أيضــا وبدوتــم أكثــر نضوج ـ ًا.
وجــن ً
ٍ
شــخص -أعلــم أن كل مــا حيــدث يســبب لــك االضطرابــات .فــأي
مكانــك ســ ُيصاب باجلنــون مــن هــول كل هــذه املفاجئــات ...ولكــن
جيــب أن تتامســك فأنــا معــك عــى نفــس املركــب التائــه يف الكــون
الواســع ،وربــا نجــد شــاطئ يؤوينــا عــا قريــب.
جتاهــل نــور كالمــه وأخــذت األفــكار تتضــارب يف عقلــه بقــوة ،فأصفــح
عــن قليـ ٍ
ـل منهــا قائـاً:
-إذن الوغــد الــذي هامجنــا كان مــن مجاعــة تُدعــي باإلينيكــس وهــي
أيضــا يف مــوت جــن وأخذ جســدها،تابعــة جلالديــوس ...وهــم الســبب ً
154
وهــم الســبب يف فقــدان ذاكــريت وحصــويل عــى هــذه القــوة الغريبــة...
ال أشــعر أن نوايــا جالديــوس هــذا هــي نوايــا جيــدة عــى اإلطــاق وال
أفهــم مــاذا يريــد مــن كل هــذا ولكنــي أعلــم جيــدً ا أنــه ال يفعــل هــذا
مــن أجلنــا بــل مــن أجــل ٍ
يشء آخــر.
ربت كينو عىل كتفه قائالً:
-ال ختــف أنــا أثــق أهنــا مل متــت ،ربــا ال زالــت حيــة يف مـ ٍ
ـكان مــا .بعــد
أن ننتهــي مــن كل هــذا ســنبحث عنهــا!
مل يــرد نــور عــى مــا قالــه ولكــن فجــأة ومضــت فكــرة يف رأســه وذكــرى
ـد عــادت إليــه فجــأة ولكــن ينقصهــا بعــض التفاصيــل ـت بعيـ ٍ
مــن وقـ ٍ
املنســية ،فقــال:
-باملناســبة أليــس اســم اإلينيكــس هــذا يشــبه اســم الســفينتني التــي
أطلقتهــا وكالــة ســيرتا يف الفضــاء ومل يعــودا؟! وكــا ذكــر ليونيــس
فنحــن انتقلنــا إىل هنــا عــن طريــق الســفينة الثالثــة!
أيضــا وكالــة ســيرتا ...يبــدوا أن -نعــم ال شــك يف هــذا انــا أتذكــر ً
ذاكرتــك بــدأت بالعــودة جمــد ًدا ...قليــل مــن الوقــت وســيعود كل يشء.
أخــذ رأس نــور ينبــض بعنـ ٍ
ـف ممــا تســبب لــه بــأملٍ عويــص وتذكــر شــيئ ًا
آخــر ولكــن الصــورة كانــت ُمبهمــة ومل يعــرف جيــدً ا مــا يــراه .وضــع
يــده عــى رأســه ليوقــف األمل فأمســكه كينــو مــن كتفيــه قائ ـاً:
-ماذا َ
بك؟
قال نور بعد ان هدأت رأسه:
155
-ال أعلــم أشــعر أين اذكــر شــيئ ًا مــا ...ولكــن ارتبــاط اســم الســفينتني
املفقودتــن باســم اجلامعــة التــي أسســها املدعــو جالديــوس ...تبــدوا
ـرا للجــدل .هــل يمكــن أن يكــون هــو مــن اختطفهــم وجنّدّ هــم أمـ ًـرا مثـ ً
حتــت إمرتــه؟! فالشــخص الــذي قابلتــه بــدا برش ًيــا بعــض الــيء وليــس
مــن الفضــاء رغــم أين مل أرى وجهــه!
-لقــد ذهــب أخــي يف الرحلــة الثانيــة لوكالــة ســيرتا واختفــى ...ربــا
يكــون عنــد جالديــوس هــذا أو يف مـ ٍ
ـكان مــا عــى هــذا الكوكــب مــن
يعلــم.
يمــت بعــد. ٍ
-يبــدوا هــذا منطق ًيــا ،ال بــد أنــه يف مــكان مــا قريــب ومل ُ
ســنبحث عنــه بعــد أن تنتهــي هــذه املعضلــة.
قــال كينــو وهــو خيــرج مــن راحــة يــده صــورة هولوجراميــة ُمســدة
ألخيــه:
-باملناســبة هــذه هــي صورتــه ،إذا قابلتــه يف أي مــكان بالصدفــة فأخــره
أننــي أبحــث عنــه.
نظــر نــور إىل الصــورة ،فشــعر أنــه رآه مــن قبــل وأصابــه بعــض األمل يف
رأســه .فقــال كينــو وقــد الحــظ نظراتــه:
-ماذا حدث هل تعرفه؟
قال نور حماوالً إخفاء توتره:
-ال ال أعرفه ...ولكن أشعر أين رأيته من قبل.
156
فقال كينو ضاحكًا:
-بالطبــع تعرفــه فهــو مــن وضــع القوانــن الثالثــة ألزيمــوف للتحكــم
بالروبوتــات وتســخريها للبــر قبــل أن حيــدث مــا حــدث ...واآلن هيــا
بنــا لقــد حــددت مــكان الــرج األول ســنذهب لتنفيــذ املهمــة.
أومــأ لــه نــور باملوافقــة فبــدءا بالتوجــه ناحيــة هدفهــم ،فقــال لــه كينــو
مازحــا:
ً
-أنتظــر نحــن لــن نذهــب عــى أقدامنــا ،ســيتطلب هــذا الســر لفــرات
طويلــة جــدً ا .لــدي ســيارة قريبــة مــن هنــا.
رفع نور حاجبيه قائالً:
-سيارة! كيف حصلت عىل واحدة؟
-أنــت تعــرف أنــا ســايبورج ،أســتطيع اخــراق بعــض األنظمــة والولوج
إليهــا ،ومنهــا أنظمــة الســيارات ،وهلــذا فقــد اســتعرت ســيارة ألن األمــر
طارئ.
مل ُيرد نور أن يزعجه ،فلم يعلق عىل املوضوع:
-إذا ماذا تنتظر هيا نتوجه إليها ،ليس لدينا اليوم بطوله.
وافقــه كينــو ،فتوجهــا ناحيــة الســيارة قاطعــن الزقــاق الضيــق حتــى
خرجــا منــه ،فرأيــا الســيارة تقــف أمامهــا تنتظرمها .ســيارة حديثــة بيضاء
اللــون مقوســة مــن األمــام وتبــدوا صغــرة بعــض الــيء وزجاجهــا
األســود يبــدوا كاللؤلــؤ ،وكانــت مــن النــوع الــذي ترتفــع عجالهتــا
157
بضعــة ســنتيمرتات عــن األرضُ ،فيلغــى االحتــكاك بــاألرض ممــا جيعــل
رسعتهــا هائلــة .فتــح كينــو بــاب الســيارة وأشــار لنــور أن يركــب ،ففتــح
بجســده عــى الكــريس بجانــب كينــو الــذي كان ِ بابــه بــدوره وألقــى
ُيشــغل الســيارة ،و ُيف ّعــل مجيــع األنظمــة الالزمــة للتحــرك .ضغــط عــى
شاشــة تقــع بجانــب مقــود الســيارة ،فخرجــت لــه خريطــة ،فضغــط عــى
ـكان الــرج األبيــض الرشقــي فبــدأت اخلريطــة ُتــدد لـ ُه الطريــق الــذيمـ ِ
جيــب أن يســلك ُه للوصــول إىل هنــاك برسعــة وأمــان ،فضغــط عىل دواســة
الوقــود وطلــب مــن نــور أن يتمســك جيــدً ا ،فانطلقــت الســيارة برسعــة
رهيبــة تشــق طريقهــا بــن املبــاين واألشــجار .توجــه كينــو يمين ـ ًا وقــاد
باســتقامة عــى الطريــق الرسيــعُ ،منطلق ـ ًا برسعــة رهيبــة قاط ًعــا الطريــق
ـارا ليمــر مــن بعــض الشــوارع اجلانبيــة وأخــرى ثــم أنعطــف يمين ـ ًا ويسـ ً
رئيســية حســب مــا ختــره بــه اخلريطــة ،بينــا يتفقــد املبــاين املدمــرة
والدخــان األســود املتصاعــد مــن فوقهــا إىل الســاء .رأي بعــض الطــرق
ُمدمــرة ممــا جعلــه يســلك طرق ـ ًا أخــري للوصــول إىل هدفــه .قــال نــور
وهــو ينظــر إىل اخلــارج مــن النافــذة يف رشود:
-إذن هــل جالديــوس هــذا لديــه مــن العلــم مــا ُيمكنــه مــن صنــع
جنــدي خــارق يتحــدى قــدرات اإلنســان الطبيعــي ويتجاوزهــا؟ وكيــف
يبــدوا شــكله؟ ومــا هــي قصتــه؟
رد كينو وهو يضع كل تركيزه الطريق:
ٍ
لوقــت الحــق، -حســنا لقــد وصلنــا إىل الــرج األول ،وفــر األســئلة
جيــب اآلن أن نركــز عــى مهمتنــا ،فنجــاة البرشيــة تعتمــد علينــا اآلن.
158
نظــر نــور إىل الــرج ا ُملمتــد للســاء بشــموخ ،مــن بــن املبــاين ا ُملدمــرة
مازحــا:
ً والســاحات واألشــجار .فقــال كينــو
-إنه ملن املضحك أن تعود من حيث جئت.
***
159
12
وصــل املصعــد إىل األعــى وأنفتــح البــاب فوجــدوا أنفســهم داخــل املبنى
ـرة كبــرة؛ رأوا لوحــات ـل كـ ٍ
ـك بداخـ ِ
ذو اهلندســة املعامريــة الرائعــة وكأنـ َ
قريبــة مــن احلائــط تطــر بــا توقــف ،ورســومات ونقــوش يف كل مــكان،
بينــا يتــرب نــور الشــمس مــن بــن الكــوة الصغــرة يف الســقف.
ولكــن األهــم مــن كل ذلــك هــو حشــود الروبوتــات الواقفــة يف هنايــة
الغرفــة عنــد املخــرج ُمشــهرين أســلحتهم ناحيتهــم ،فطلــب إريــس مــن
وي ّمســهمأحــد الشــباب أن ينــزل باملصعــد وخيربهــم بــا حيــدث فــوقُ ،
بالصعــود والقتــال معهــم مــن أجــل النجــاة ،فوافــق الشــاب وخــرج
اجلميــع مــن املصعــد ،بينــا أغلــق املصعــد عــى الشــاب وهبــط ألســفل
ُمــد ًدا .نظــروا إىل بعضهــم البعــض ،فأبتســم إيفانــوف بغطرســة قائ ـاً:
-املزيد من الروبوتات ألحطمها ،هذا رائع.
شــعر إريــس أنــه يريــد لكمــه حتــى يســتوعب موقفهــم ولكنــه علــم أن
يــده ســتؤمله إن حــاول ،فأمســك غيظــه وقــال بنــرة هادئــة:
-يبــدوا أنــك اســتطعت ان تُســيطر عــى وعيــك ،أثنــاء حتولــك هلــذه
اهليئــة.
رد إيفانوف بابتسامة سوداء ُميفة عىل وجهه املعدين:
-مل أغطــي أســفل قدمــي باملعــدن حتــى ال أفقــد ســيطريت عــى وعيــي
160
ألننــي أفقــد الســيطرة عندمــا أحتــول بالكامــل إىل اهليئــة املعدنيــة.
-حس ـنًا هــذا ليــس وقــت النقــاش ...إهنــم ينتظــرون ردة فعلنــا ...إذا
هامجنــا أوالً فســيهامجون ،ونحــن اآلن مكشــوفون وليــس هنــاك مــكان
لنحتمــي خلفــه ...فالقاعــة كبــرة ومكشــوفة ،وإن نظرتــم هنــاك فهــذه
يمدهــم بالطاقــة إن دمرناهــا ســيتوقفون عــن العمــل، البلــورة هــي مــا ُ
ممــا س ـ ُيمكننا مــن اخلــروج مــن هنــا.
نظــر ســايري إىل املولــد والبلــورة الزرقــاء الكبــرة التــي حتلــق فوقــه
ومتــده بالطاقــة وقــال:
-ما هي هذه املاسة الكبرية الغريبة التي متد املولد أسفلها بالطاقة.
ٍ
بتوجــس فــرد إريــس وهــو حيــدق إىل األعــداد الكبــرة للروبوتــات
وقنــوط:
-ال أعــرف مــا هــي ولكــن كــا تــرى يبــدوا أهنــا ُتدهــم بالطاقــة ولذلــك
فــإن دمرنــا املولــد فلــن جتــد مــا تعطيــه طاقتهــا .واآلن هــل تســتطيعون
قتاهلــم هنــا.
مصدرا صوت ًا معدن ًيا:
ً قال ايفانوف بثقة وهو يرضب قبضتيه م ًعا
-ال هيــم كــم عددهــم ســأدمرهم مجي ًعــا ،احتمــوا ورائــي وابــدأوا بإطالق
النــار بــا توقــف .ســنهامجهم مــن بعيــد حتــى يــأيت البقيــة ويســاندوننا.
واآلن فلتحمينــي يــا ســايري وحتمــي اجلميــع.
مل جيــب ســايري عليــه بــل تابــع التحديــق يف اعدادهــم الكبــرة التــي
تتخطــى اخلمســن ،ومــن بــن االعــداد الكبــرة للروبوتــات خــرج
161
شــخص يبــدوا ُمتلــف املظهــر عنهــم .تفــرس اجلميــع بتعجــب فيــه.
كان ُمتلفــا بالكامــل عــن باقــي الروبوتــات .ال بــد أنــه القائــد .أقــرب
الشــخص الغريــب مســافة بســيطة منهــم ثــم توقــف ،فبــدأت مالحمــه
تتضــح .ليــس روبــوت بــل خملــوق آخــر ُمتلــف ال ُيشــبه أي يشء قــد
رأوه مــن قبــل.
كان يرتــدي ِدرعــا أســودا يبــدوا كـ ٍ
ـيء مــن املســتقبل البعيــد ،كان الــدرع ً ً
ُيغطــي جســده كلــه وعــى وجهــه قنــاع زجاجــي يبــدوا كاملــرآة ،ولكــن
عندمــا متعــن النظــر فيــه فكأنــك تــرى انعــكاس الكــون الشاســع مــن
ا ودقــق نجــوم مضيئــة وجمــرات حتــوم يف فضـ ٍ
ـاء أســود ُمعتــم .وقــف قليـ ً
النظــر إىل األشــخاص الواقفــن أمامــه .فهمــس إريــس قائــا وقــد انتابــه
القلــق:
-من هذا بحق اهلل؟ إنه ُمتلف متا ًما.
ٍ
بصوت أجش وعميق: فجأة بدأ الشخص الغامض يتحدث قائ ً
ال
-مرحبــا بالبــر ،مل أتوقــع أنكــم هبــذه اجلــرأة التــي تســمح لكــم باخرتاق
عاملــي ،وتدمــر أثمــن ممتلكايت.
فــرغ فــاه اجلميــع مــن الدهشــة ونظــروا إىل بعضهــم البــع ،ثــم وجهــوا
نظرهــم إليــه ،فأســتطرد قائ ـاً:
-بالطبــع أنتــم ال تعرفــون مــن أنــا ،وال بــد مــن أن قادتكــم قــد اخرتعــوا
قصــة مــا ملــا حيــدث حولكــم لتتناســب مــع عقولكــم الصغــرة حتــى
يســتمروا يف حتريككــم كــا يشــاءون ،فأنتــم يف النهايــة بالنســبة هلــم جمــرد
162
ماشــية واملاشــية ال تســأل عــن أي يشء ،إهنــا تُطيــع فقــط.
رد إيفانوف بنربة الذعة قائالً:
-ومــن أنــت أهيــا املتعجــرف لتحكــم علينــا ،فأنــت جمــرد آلــة متمــردة
لعينــة نحــن مــن صنعناهــا ،وســنعيدها إىل حيــث جيــب أن تكــون حتــى
ولــو اســتخدمنا القــوة.
ٍ
عــال ممــا أثــار غضــب إيفانــوف أكثــر ،ثــم ٍ
بصــوت ضحــك الغريــب
قــال بنــرة خبيثــة:
-أحقـ ًا هــذا مــا تظنــه أنكــم أنتــم مــن صنعتمــوين ،يــا للســخرية ولكــن
أنــا أعمــق بكثــر مــن أن يتــم صنعــي ،أنــا مــا تســمونه حيــاة عضويــة.
زاد التوتــر وأنســاب العــرق مــن أجســادهم رغــم بــرودة اجلــو بينــا ُفتــح
املصعــد خلفهــم وخــرج عــرة أشــخاص آخريــن ُمشــهرين أســلحتهم
ال يفهمــون مــا حيــدث ،فأشــار هلــم إريــس بيــده أال ُيطلقــوا النــار بعــد،
فنفــذوا األوامــر ووقفــوا يراقبــون مــا حيــدث عــن كثــب.
عال دوى يف أنحاء املبني الكبري: ٍ
بصوت ٍ قال إريس
-ماذا تقصد هبذا؟
ٍ
مــكان فجــأة تفــكك القنــاع عــن وجهــه وعــاد إىل اخللــف ليســتقر يف
ُمصــص لــه يف البذلــة الســوداء الغريبــة ،فشــهق اجلميع بقــوة عندمــا رأوا
وجهــه وتراجعــوا إىل اخللــف عــدة خطــوات موجهــن أســلحتهم ناحيتــه
كــردة فعــل تلقائيــة .فقــال ســايري وقــد اتســعت عينــاه مــن الدهشــة:
163
-ما هذا اليشء اللعني بحق اهلل.
ِ
كلــون الســاء ،وتبــدوا مالحمــه وكأنــه يف كانــت برشتــه زرقــاء فاحتــة
كثــرا إال يف لونــه األزرق
ً األربعــن مــن عمــره مــع وجــه ُيشــبه البــر
الغريــب .وكان لديــه أذنــان مدببتــان وشــعر فــي طويــل ينســدل عــى
ـن صفــراء كالقطــة؛ ويرتــدي تــاج مــن الذهــب اخلالــص ويف كتفيــه وعـ ٍ
منتصفــه جوهــرة محــراء ،بينــا يلتــف مــن حولــه بالكامــل جواهــر زرقــاء
براقــة وعــى رقبتــه ُعلقــت سلســلة ذهبيــة يــرز منهــا جوهــرة زرقــاء
صغــرة تشــع بقــوة.
جعــل وجــه هــذا املخلــوق الغريــب اخلــوف يــري يف اوصــال البــر
املاكثــن أمامــه وأخــذت أجســادهم ترجتــف وبلغــت قلوهبــم احلناجــر،
بينــا شــعر إريــس بقشــعريرة تــري يف جســده ،فقــال بنــرة متقطعــة:
-من ...أنت؟
رد املخلوق الغريب وقد ارتسمت ابتسامة مرعبة عىل وجهه:
-أنــا هالككــم ،أنــا الشــيطان القابــع يف اجلحيــم جــاء ليأخــذ املذنبــن
معــه.
رصخ إيفانوف فيه قائال:
-ال متزح معنا وقل من أنت ،ومن أين أتيت؟
-بــل جيــب أن أســألكم أنتــم مــن أيــن أتيتــم عــى الرغــم مــن علمــي
بحقيقتكــم ،ولكــن الســؤال يف هــذا املوقــف هــو مــن حقــي ألنكــم
جئتــم عــى أريض ودمرتــم منشــأيت الغاليــة.
164
قطب سايري حاجبيه قائ ً
ال وقد بدأ يشعر بالغضب واحلرية:
-أرضك! هل متزح معي؟ هذا كوكبنا ونحن جئنا ً
أول.
اتســعت عــن املخلــوق املخيفتــن وحــدق إىل ســايري بنظــرة جعلتــه
يشــيح بنظــره بعيــدً ا عنــه قائــاً:
-أهــذا مــا تظنــه حق ـ ًا أن هــذا كوكبكــم؟ نعــم بالطبــع لقــد خدعوكــم
واومهوكــم أن هــذا هــو كوكــب األرض كــا تســمونه! ولكــن هــل تظــن
حقــا أن هــذا هــو كوكــب األرض؟ هــل تتذكــر أيــن كنــت منــذ مخــس
ســنني؟
شــعر ســايري بــأملٍ يف رأســه وكســى الغمــوض ذكرياتــه ،كــا وألول مــرة
يف حياتــه مــن ســنني يشــعر باخلــوف يــري يف جســده بمجــرد النظــر
ـت مــن ســايري أســتطرد يف عينــي هــذا املخلــوق الغريــب ،وبعــد صمـ ٍ
املخلــوق قائ ـاً:
-بالطبــع ال .لقــد ُمســحت ذاكرتكــم ،وال أحــد يتذكــر شــيئ ًا ،ولكــن
لتكــون األمــور واضحــة بالنســبة إليكــم ،فأنتــم عــى كوكبــي ،هــذا ليــس
بكوكــب األرض ،هــذا كوكــب أطالنتــس!
أحتج اجلميع قائ ً
ال بنربة واحدة:
-أنت تكذب هذا كوكبنا.
بــدأ العديــد مــن البــر خيرجــون مــن املصعــد الواحــد تلــو اآلخــر
حتــى جتمــع معظــم الســجناء وأخــذوا يشــهقون مــن اخلــوف عنــد رؤيــة
املخلــوق الغريــب متســائلني عــا حيــدث هنــا ،ولكــن ال أحــد يفهــم
165
شــيئ ًا ،ممــا جعلهــم هيمســون بذعـ ٍ
ـر فيــا بينهــم ،بينــا يراقبــون مــا حيــدث
جيــدً ا.
أشــار املخلــوق ألحــد الروبوتــات فأقــرب منــه وأخــرج ُمكع ًبــا أبيــض
اللــون ،فســار بضعــة خطــوات لألمــام يف باحــة املبنــي ووضــع املكعــب
عــى األرض ،بينــا تراجــع بعــض البــر مشــهرين أســلحتهم نحــوه،
ولكــن إريــس أشــار هلــم أال ُيطلقــوا ،فكبحــوا مجــام أنفســهم .قــال
املخلــوق بنفــس نربتــه اهلادئــة الواثقــة:
-بــا أين أعلــم طباعكــم جيــدً ا ،فأنتــم لــن تصدقــوا كالمــي مــا مل تــروا
بأنفســكم وهلــذا فقــد جئتكــم بالدليــل القاطع الذي ســيخرص ألســنتكم،
ولكــن امتنــى أن تتقبلــوه ألن احلقيقــة تكــون ُمرعبــة أحيانـ ًا.
فجــأة تفــكك املكعــب إىل قطــع وخــرج مــن داخلــه ضــوء مكوننـ ًا صورة
ـة عـ ٍ
ـرض كبــرة .ظهــر مــا ثالثيــة االبعــاد فوقــه حملقــة يف اهلــواء كشاشـ ِ
ُيشــبه فيلــم وثائقــي ،فصمــت اجلميــع وشــاهدوا هبلـ ٍع وحــرة وأجســاد
ترجتــف مــن اإلرهــاق وقلــة الطعــام.
***
166
13
كان الفيلــم عبــارة عــن تســجيل ألحــداث حدثــت عــى هــذا الكوكــب،
وظهــر يف الفيديــو املخلــوق الغريــب الواقــف أمامهــم وهــو ُيكلــم أحــد
املخلوقــات األخــرى التــي تشــبهه مــع اختــاف املالمــح فقــط ،فقــال
بنــرة يشــوهبا االنزعــاج والقلــق:
-إن احلــرب بيننــا لــن تنتهــي أبــدً ا حتــى ينتهــي هــذا الكوكــب ،لقد فســد
جنســا مســا ًملا طــوال فــرة حياتنــا ،حتــى جــاء
بنــو جنســنا بعــد أن كنــا ً
هــذا اليــوم املشــؤوم .جيــب أن جتــد حــ ً
ا فأنــت امللــك اآلن يــا أخــي
العزيــز.
قــال أخــو ُه وهــو يقــوم مــن عــى عرشــه املزيــن بالفسيفســاء والذهــب
واجلواهــر النفيســة الغريبــة بجميــع األلــوان واالشــكال:
-جايــا أخــي العزيــز أنــت تعــرف ملــاذا قــد متــرد شــع ُبنا علينــا ،إهنــا هــذه
البلــورة! لطاملــا كنــت أتســاؤل عــن ســبب تواجدهــا عــى كوكبنــا منــذ
االذل؟ وملــاذا نحميهــا ونقدســها هكــذا بــدون ســبب ُيذكــر؟ ولكنــي
ـرا ختبــأه عنــا ...قــوة هائلــة ...وأن شــيئ ًا رسا كبـ ً كُنــت أعــرف َّ
أن ورائهــا ً
مــا سينكشــف يف يــو ٍم مــن األيــام ...ولكــن مل أتوقــع أننــي ســأعيش
ألرى هــذا اليــوم.
ال وعيناه تفيضان أ ًملا وحزن ًا:
قاطعه جايا قائ ً
167
-ولكــن يــا أثينــوس ،أنــت تعــرف أن أســافنا أمرونــا بحاميتهــا وتركهــا
يف مكاهنــا حتــى حيــل الســام لألبــد عــى كوكبنــا ...ال جيــب أن نقــرب
منهــا واال فســيكون هــاك جنســنا بســبب طمعنــا يف قــوة هــذه البلــورة
العجيبــة ...هنــاك أشــياء جيــب أن تــرك كــا هــي.
رد أثينوس والكآبة بادية عىل وجهه:
رسهــا الدفــن الــذي -ولكــن كــا تــري يــا أخــي العزيــز ،فقــد كُشــف ُ
ُ
والــكل أخفــاه أســافنا عنــا مجي ًعــا ...واآلن لقــد علــم شــعبنا بقوهتــا،
ـع فيــا تقدمــه.
يطمـ ُ
أخــذ جايــا يــذرع املــكان ذهابــا وإيابــا ببــطء والقلــق ينهشــه هنشـ ًا ،فقــال
بلهجــة حــادة:
-وهــل تظــن أن هــذا الفضائــي األمحــق القــادم مــن كوكــب آخــر ال
نعــرف عنــه شــيئ ًا ،هــو مــن يعــرف رسهــا حقــا؟ ال بــد أنــه قــد أخــرع
كل هــذه القصــة حتــى يثــر الفتنــة بيننــا ،ويتمكــن مــن رسقتهــا! أخــي
رأســا عــى عقــب منــذ اليــوم الــذي جــاء فيــه
العزيــز لقــد أنقلــب عاملنــا ً
إىل كوكبنــا.
ضحك أثينوس بمرارة قائالً:
-يــا أخــي العزيــز إنــه ليــس الســبب بــل أســافنا ...كل مــا فعلــه
هــو أنــه جعلنــا نعــرف رس هــذه البلــورة التــي ُاخفيــت قوهتــا العظيمــة
عنّــا ...وهنــاك أحــد اخلــدم يف القــر هــو مــن أفشــى رسهــا للجميــع...
يــا لــه مــن وغــد لقــد تســبب بــكل هــذه الفتنــة ألنــه مل يســتطع إمســاك
168
لســانه ...عــى كل حــال ،أريــدك أن تتخيــل لــو كنــا نعلــم بأمــر هــذه
القــوة املوجــودة يف عاملنــا منــذ فجــر التاريــخ ،ل ُكنّــا جتنبنــا الكثــر مــن
لســبب مــا أخفــى أســافنا احلمقــى رسهــا ٍ احلــزن واملعانــاة ...ولكــن
لقــرون مــن الزمــن ...ولكــن ال يشء ُ
يظــل خمف ًيــا لألبــد .هــذه قاعــدة ٍ
وضعهــا اهلل للكــون.
رد جايا بنربة غاضبة:
-ولكــن هــا نحــن نتكبــد عنــاء كشــف رسهــا ،فاجلميــع اآلن يتظاهــر
ضدنــا ألننــا أخفينــا عليهــم رس هــذه القــوة ويريــدون أن يتــم اســتخدامها
بــل ويعتقــدون أن هلــم احلــق يف امتالكهــا ،ولكــن هــل يعلمــون حقـ ًا مــا
قــد تســببه قــوة هــذه البلــورة؟ ربــا تفيدُ نــا ولكــن ســتكون أرضارهــا أكرب
بكثــر مــن نفعهــا ...فعندمــا يــزداد الشــخص قــوة يــزداد جتــره وهــذا مــا
عملنــا آلالف الســنني لوقفــه والســيطرة عليــه وهلــذا نحــن شــعب م ِ
تحــد ُ
وذكــي ومشــاكلنا قليلــة للغايــة ...واآلن قــل يل كيــف ســتوقف الشــغب
وترجــع الســام إىل كوكبنــا مــرة أخــرى باكتشــافك لــر هــذه البلــورة
اللعينــة؟
رد أثينوس بنربة هادئة:
-ال تقلــق لــدي خطــة ســتوقف الشــغب متا ًمــا وسـ ُ
ـيحل النظــام والســام
جمــد ًدا عــى كوكبنا.
توقفت املقطع ثم انتقل إىل مشهد آخر:
جايــا يســر يف ردهــة القــر املليئــة باللوحــات املتنوعــة عــى مــر
169
ٍ
بلــون التاريــخ ،بينــا يوجــد ســجاد طويــل يمتــد عــى طــول الردهــة،
قرمــزي المــع .أقــرب جايــا مــن غرفــة أثينــوس ،وفجــأة ســمع حــوار
يــدور بــن أثينــوس وشــخص آخــر ذو نــرة عميقــة ،فأقــرب واض ًعــا
أذنــه عــى البــاب واخــذ يســمع ،فقــال الشــخص ذو الصــوت العميــق:
-هل هناك أي جديد عىل اخلطة؟
تنهد أثينوس طوي ً
ال ثم قال:
-ال كل يشء يســر حســب اخلطــة ،ســأجعلك تــرى بلــورة احليــاة كــا
وعدتــك ،وىف املقابــل ســتعطيني القــوة الكامنــة بداخلهــا التي ســتجعلني
احلاكــم االقــوى والدائــم هلــذا الكوكــب ،ألعيــد النظــام واألمــان إىل
كوكبنــا ثــم ننتقــل خلطتنــا التــي اتفقنــا عليهــا.
بحــزن وأســى أحســنٍ صمــت الشــخص املجهــول قليــاً ،ثــم قــال
اصطناعــه:
-أفضــل يشء يف كوكبكــم هــو االحتــاد والنظــام بــن الشــعب ،هنــاك
أجنــاس أخــرى رأيتهــم ُيلكــون أنفســهم بأيدهيــم بكثــرة احلــروب
واخلالفــات واالختالفــات فيــا بينهــم عــى الرغــم مــن كوهنــم مــن نفــس
النــوع ويعيشــون عــى نفــس الكوكــب ،ولكــن جهلهــم هــو مــن قادهــم
هلــذا ،وأنــا ال أريــد أن حيــدث لشــعبك يشء مــن هــذا مــن اجــل هــذه
البلــورة .مل أكــن أعلــم أنــه بمجــرد كشــفي لرسهــا لكــم ســيحدث كل
هــذا! أنــا أشــعر حقــا باحلـ ِ
ـزن والنــدم مــن أجــل مــا فعلتــه.
قال أثينوس يف حماولة ملواساته:
170
-ال حتــزن ،إنــه ليــس خطــأك عــى األطــاق ،فأنــت كشــفت لنــا يشء من
حقنــا أن نعرفــه ،فلطاملــا تســاؤل اجلميــع عــن رس هــذه البلــورة ا ُملعلقــة يف
مبنــى العبــادة بــا فائــدة ...بالطبــع كشــف احلقيقــة كان ســيؤدي إىل هــذا
ا أم آجـاً ...كان جيــب ان يعــرف اجلميــع رسهــا ،هلــذا ال تلومــن وعاجـ ً
نفســك عــى مــا حــدث.
قال الغريب وقد بدا عىل نربته احلامس:
-نعــم بالطبــع ،ولكــن بإعطائــك هلــذه القــوة أوالً ألنــك مــن تســتحقها
ســتتمكن مــن كبــح التمــرد وإعــادة النظــام إىل الكوكــب وحكمــه لألبــد
بحكمتــك ورزانتــك.
ضحك أثينوس بقوة بعد ان اخذ رشفة من أحد االكواب:
-نعــم اخللــود ،حلــم مجيــع املخلوقــات يف الكــون ،وأنــا ســأكون
املحظــوظ الــذي ســيحصل عليــه بفضــل قــوة البلــورة اخلفيــة ،ســأصبح
احلاكــم الــذي ال يقهــر ...وم ًعــا ســنحقق كل أحالمنــا وآمالنــا ...ولكــن
مــن كان يظــن أن قــوة كهــذه موجــودة يف هــذا الكــون الشاســع ومــن
ســخرية القــدر أهنــا عــى كوكبــي.
وبــدون أن يســمع جايــا كلمــة أخــري ســار ُمبتعــدً ا عــن البــاب وهــو
ٍ
ـركان يثــور بداخلــه وأحــس أنــه يــكاد ينفجــر مــن الغضــب. يشــعر بـ
قطــع الــرواق اجلميــل ثــم توقــف عنــد أحــد اللوحــات ،ونظــر يف كل
االجتاهــات للتأكــد أن ال أحــد يــراه ،ثــم حــرك اللوحــة ناحيــة اليمــن
ا فأنفتــح بــاب رسي ،فنظــر جايــا حولــه مــرة أخــرة ليتأكــد مــن قلي ـ ً
موقفــه ثــم محــل مكعبــان منــران وتركهــا يف اهلــواء فحلقــا بجانبــه
171
وأخــذا يتبعانــه لينــرا لــه املــكان ا ُملظلــم .أنطلــق يف املمــر الفــارغ أمامــه،
بينــا ُاغلــق البــاب الــري مــن خلفــه .بلــغ جايــا هنايــة املمــر وانعطــف
ـر آخــر حتــى انتهــى منــه فأنعطــف يمينـ ًا ،فوجــد يمينـ ًا وبــدأ بالســر يف ممـ ٍ
بابــا حديديــا يبــدوا عليــه القــدم ،فضغــط عــى لوحــة الكرتونيــة بجانبـ ِ
ـه ً ً
ثــم وضــع يــده عليهــا ،فقامــت اللوحــة بمســح يــده ثــم بــدأ البــاب
ـدر رصيـ ًـرا مدو ًيــا حتــى أنفتــح عــى مرصاعيــه؛ فأكمــل جايــا طريقــه يصـ ُ
بينــا ُاغلــق البــاب خلفــه وعــم الظــام.
كبــرا ،وكان يوجــد
ً وجــد نفســه يف غرفــة كبــرة ُمظلمــة تُشــبه معبــدً ا
ـكان لطيــور وخملوقــات اســطوريةنقــوش غريبــة عــى احلائــط يف كل مـ ٍ
والعديــد مــن الرمــوز.
بــدأ جايــا يتفحــص املــكان بعينيــه ولكنــه كان يعــرف طريقــه جيــدً ا،
فســار إىل األمــام يف الظــام بينــا كان ضــوء املكعبــن يســاعده عــى
الرؤيــة جيــدً ا .وصــل إىل صنــدوق زجاجــي بداخلــه تــاج ذهبــي صغــر
يف منتصفــه جوهــرة محــراء صغــرة وحوهلــا جواهــر زرقــاء صغــرة،
فضغــط عــى بعــض األزرار يف لوحــة أســفل الصنــدوق الزجاجــي،
لريتفــع الصنــدوق إىل األعــى ،حتــى أصبــح التــاج يف متنــاول يــده اآلن.
مــد يــده ليمســكه قائ ـاً:
-أنا آسف يا أيب ولكن يبدوا أن أكرب خماوفك قد حتققت.
وضــع جايــا التــاج الذهبــي الصغــر املرصــع باجلواهــر عــى رأســه،
وأجتــه إىل اليمــن ليجــد طاولــة ُمزينــة بالكثــر مــن الزخــارف وعليهــا
كتــاب داخــل علبــة زجاجيــة ولكــن مل تتضــح معاملــه بســبب الظــام
172
ولكــن جايــا علــم عــى الفــور ماهيتــه ،ووجــد بجانبــه بعــض الكتــب
واملخطوطــات األخــرى .قــام بفتــح اللــوح الزجاجــي ومحــل الكتــاب
برفــق بــن يديــه وقــد أحــس بقــوة عظيمــة ختــرج منــه ممــا جعلــه يتأملــه
لدقائــق ثــم محــل املخطوطــات والكتــب األخــرى وتوجــه إىل خــارج
الغرفــة.
تبدلــت اللقطــات لتظهــر والــد جايــا العجــوز وهــو عــى رسيــره وقــد
غلبــه املــرض وبــدا عــى وجهــه الشــيب والتعــب .كان شــعره فــي
وطويــل مثــل جايــا ،ولديــه حليــة فضيــة طويلــة ناعمــة تســتقر عــى
صــدره ،والكثــر مــن التجاعيــد يف وجهــه األزرق .كان جايــا يقــف
بجانبــه ُمســك ًا بيــده ،فقــال والــده وهــو يلتقــط أنفاســه بصعوبــة:
-يــا بنــي لقــد انتخــب الشــعب أخــوك األكــر ظنًــا أنــه عــى نفــس القدر
مــن احلكمــة والعــدل الــذي أمتلكــه فســلموه مقاليــد احلكــم برضاهــم...
واآلن مهمــة باقــي العائلــة أن توجهــه وتســيطر عــى ترصفاتــه وقرارتــه
حتــى توجهــه إىل الطريــق الصحيــح إن أخطــأ ...وهــذا للمصلحــة
العامــة ...وأنــت تعــرف أن اخــاك غــر جديــر باحلكــم ...وهلــذا جيــب
أن تراقبــه وتوجهــه جيــدً ا ...ولكــن إن خرجــت األمــور عــن ســيطرتك
وملصلحــة اجلميــع ...فجيــب أن تعــزل اخــاك وتتــوىل أنــت احلكــم.
فقال جايا بنربة متسائلة وقد باغته كالم والده وفاجئه:
-وكيــف جيــب أن أعزلــه وهــو مــن يملــك الســلطة والقــوة وأنــا ليــس
بيــدي شــيئ ًا أفعلــه.
بدأ العجوز بالسعال بقوة ،وبعد أن هدأ قال:
173
-هنــاك رس ُمبــأ يف القــر ،ســيعطيك قــوة لــن تتخيلهــا ...وألنــك يــا
بنــي جديــر هبــذا ،ســأخربك هبــذا الــر ...ولكــن عــدين أال تســتخدم
هــذه القــوة إال يف األوقــات احلرجــة.
قال جايا واحلزن با ًد عىل وجهه:
-أعــدك يــا أيب أننــي لــن أســتخدمه إال يف األوقــات التــي تتطلــب
اســتخدام مثــل هــذه القــوة.
فتنهد الوالد العجوز بارتياح قائالً:
-أنــت تعــرف أننــا صنعنــا اآلالت منــذ آالف الســنني لتســهل علينــا
احليــاة وتنقلنــا إىل حيــاة أفضــل وأســهل ...ألن لدهيــم القــدرة لفعــل
أشــياء ال نســتطيع فعلهــا ...وصنــع أشــياء مــن الصعــب علينــا صنعها...
وهكــذا فــإن اآلالت كانــت نعمــة كبــرة علينــا ...أنــت تراهــا اآلن
حولــك بوضــوح ...فلوالهــم مــا وصلنــا إىل مــا وصلنــا إليــه اآلن،
ولكنــك تعــرف أيضــا أن اآلالت مصنوعــة لتنفــذ األوامــر فقــط بــدون
االعــراض عــى أي يشء ...فهــم ليــس لدهيــم الوعــي واإلدراك الذيــن
ُيميــزان الكائنــات العضويــة مثلنــا.
قال جايا وهو هيز رأسه:
-بالطبــع ،أنــا أعــرف كل هــذا فقــد درســت تاريــخ حضارتنــا جيــدً ا
وأعــرف كل يشء فيــه ،ولكــن مــا عالقــة هــذا بالــر الــذي تريــد اخبــاره
يل؟!
نفسا عميق ًا ثم قال:
أخذ الوالد ً
174
-ال يمكــن ألحــد التحكــم بــاآلالت ...فهــي قديمــة ومصنوعــة
بمهــارة ومضــادة لالخــراق أو العبــث ...تنفــذ مــا نمليــه عليهــا فقــط
باألوامــر الصوتيــة ...ولكــن ال يمكــن أن يأ ُمرهــا أحــد أن تقتــل أو
حتــارب ،ســرفضون مثــل هــذه األوامــر عــى الفــور ...ألهنــا ليســت مــن
خصائصهــم ،ولكــن القدمــاء عندمــا صنعــوا اآلالت صنعــوا معهــا شــيئ ًا
خطــرا.
ً للتحكــم هبــا ...شــيئ ًا
اتســعت عــن جايا مــن الدهشــة ونزلــت كلــات والــده عليــه كالصاعقة،
فهــو مل يعلــم أن هنــاك يشء يســتطيع التحكــم يف اآلالت ،فقــال بنــرة
متســائلة والفضــول يمــأه:
-وما هو هذا اليشء؟!
رد الوالد بنربته املتعبة:
-إنــه تــاج الســيطرة والقــوة ...هــذا التــاج مــن يرتديــه جيعلــه يتحكــم
بــاآلالت ويفعــل مــا يشــاء هبــا ...وقــد صنعــه القدمــاء يف حــال متــردت
اآلالت بطريقــة مــا رغــم اســتحالة األمــر ...أو يف احلــاالت احلرجــة التــي
تتطلــب اســتعامهلا للقتــال ...ولكــن هــذا الــر نُقــل ألشــخاص ُمددين،
أشــخاص لدهيــم القــدرة عــى حفــظ هــذا الــر ...أنتقــل هــذا الــر مــن
ا أم آج ـاً ...فأنــت جيــل إىل جيــل وكنــت أنــوي أن اخــرك بــه عاج ـ ً
ٍ ٍ ٍ
إيــان وشــهامة وأمانــة وحــب تســتحق أن ُاخــرك بــه ملــا لديــك مــن
لكوكبنــا وشــعبنا ...ولعلمــك الواســع ،وهلــذا فإننــي ائتمنــك عــى هــذا
الــر ،فاســتخدم هــذه القــوة عنــد احلاجــة فقــط ...وقــد تــم إخفــاء هــذا
التــاج ألنــه تســبب بكارثــة مــن قبــل ولكــن هــذا ليــس وقــت التحــدث
175
عنهــا.
فــرغ فــاه جايــا غــر ُمصد ًقــا ملــا يســمعه ،قــوة للتحكــم يف اآلالت؟ يــا
للعجــب! لقــد قــرأ الكثــر مــن الكتــب ولديــه إطــاع واســع عــى كافــة
العلــوم ولكنــه مل يســمع عــن ٍ
يشء كهــذا مــن قبــل ،فقــال بتوتــر يمتــزج
ـاس ال ينضــب:بحـ ٍ
-ولكــن يــا أيب إن قــوة كهــذه إذا وقعــت يف االيــدي اخلطــأ قــد تدمرنــا
مجيعــا!
فرد األب وهو يتنفس بصعوبة:
-بالطبــع يــا بنــي هلــذا مل يعلــم أحــد هبــذا الــر إال قلــة ...وهلــذا وملــدة
ألفــي ســنة مل يســتخدمه أحــد حتــى اآلن إال مــرة واحــدة فقــط ...ولكــن
جيــب أن أحــذرك فهــذه القــوة عنــد اســتخدامها لفــرة طويلــة قــد
ـاح ذو حديــن .وهلــذا فــإن تســتحوذ عــى عقلــك وتدمــرك ...ألهنــا سـ ٌ
جعلــك الزمــن يف حاجــة ماســة إىل اســتخدامها فــا تفــرط يف االســتخدام
ألهنــا قــوة خادعــة ســتجعلك تشــعر أنــك ال تقهــر ...وستســيطر عــى
فيــك دون أن تشــعر هبــذا ...ســتظن أنــك َ عقلــك وقلبــك ،وتتحكــم
املســيطر ولكــن احلقيقــة غــر ذلــك .لقــد حــدث هــذا مــن قبــل .هــذه
القــوة تســتحوذ عــى ذوي القلــوب الضعيفــة واملريضــة.
قال جايا ُمطمئن ًا أبيه:
ـق مــن ذلــك .ولكــن
-ال ختــف يــا أيب لــن اضطــر إىل اســتخدامها انــا واثـ ٌ
متــى حــدث هــذا؟
176
شعر الوالد باالرتياح فقال بنربة هادئة:
قصصــا
ً ـات أثريــة ســتحكي لـ َ
ـك ـب وخمطوطـ ٌ -بجانــب التــاج هنــاك كُتـ ٌ
وأشــيا ًء غريبــة مل تكــن تعرفهــا ،تأكــد مــن قراءهتــا جيــدً ا وســتعلم متــى
حــدث هــذا ...وهنــاك يش ٌء آخــر جيــب أن أخــرك بــه ،وال يعرفــه أحــدٌ
غــري ...إن بلــورة احليــاة ،ليســت موجــودة هنــا عبثـ ًا ،بــل إهنــا تُعطــي
لكوكبنــا احليــاة وهــي املحــرك الــذي يمــد اآلالت بالطاقــة ليعملــوا بــا
توقــف ،وهلــذا ُســميت ببلــورة احليــاة ،ألهنــا تُعطــي احليــاة لــكل يشء
حوهلــا ...ولكــن وهــل تعــرف مــن أيــن جــاءت؟
هز جايا رأسه نافيا ،فأستطرد والده قائالً:
-ســتجد القصــة بالتفصيــل يف الكتــب ،ولكنــي ســأروي لــك مــا اتذكــره
منهــا ...إهنــا هديــة مــن كائـ ٍ
ـن قديــم ال يعلــم أحــد شــيئ ًا عنــه إذ ُفقــدت
كل املعلومــات عنــه ...ولكــن كل مــا نعرفــه أن جنســنا كان يعيش ُمنقسـ ًـا
بعضــا
إىل طوائــف وأعــراق كثــرة ،وكانــت كلهــا تتناحــر ويقتــل بعضهــا ً
بــا توقــف وكاد هــذا الكوكــب أن هيلــك بســبب املفاســد واحلــروب
التــي مألتــه ...ولكــن شــعبنا شــعب أطالنتــس كان ُمافظـ ًا عــى مبادئــه
وقيمــه التــي جعلتــه يصــل إىل هــذه املرحلــة مــن التقــدم واالنضبــاط
االخالقــي ...وهــذا جعلــه عرضــة للهجــوم الدائــم مــن جرياهنــم رغــم
كــره شــعبنا للحــرب ...وىف يــو ٍم مــن األيــام جــاء وقــت اهلــاك مــن اهلل
هلــذا الكوكــب الفاســد وأنطلــق طوفانـ ًا عظيــم ل ُيغــرق كل يشء أمامــه...
ولكــن قبــل أن يغــرق الكوكــب ويمــوت كل مــن عليــه ...شــاهد شــعبنا
شــيئ ًا ُمضيئـ ًا يف الســاء ،كائــن يبلــغ مــن اجلــال مــا ال تتخيله وكأنــه مالك
177
جــاء مــن عنــد اهلل لينجدهــم مــن اهلــاك ...لــوال أنــه أخربهــم أنــه كائــن
مثلهــم يعيــش يف هــذا الكــون الشاســع املــيء بالعجائــب لصدقــوا أنــه
مــاك ...ال أحــد يعلــم ماهيتــه ...ولكنــه أنقــذ شــعبنا وأنقــذ الكوكــب
وقــد كانــت ســبل احليــاة عليــه ضعيفــة يف البدايــة بعدمــا حــدث...
فأعطاهــم املخلــوق البلــورة التــي جعلــت احليــاة تتدفــق وتــدب يف كل
أنحــاء الكوكــب ُمــد ًدا وطلــب منهــم محايتهــا بأرواحهــم إن جــاء أي
شــخص حمــاوالً أخذهــا ...وقــال أن هــذه البلــورة ســتأخذنا ألفــاق ال
متطــورا وأكثــر
ً نعلــم عنهــا شــيئ ًا ...ســتجعلنا نتقــدم ونُصبــح ً
جنســا
أيضــا
وع ًيــا ،وســتعطي لكوكبنــا احليــاة التــي يســتحقها ...وأعطاهــم ً
كتا ًبــا مــيء بــكل األرسار التــي ختــص هــذه البلــورة وكيفيــة اســتخدامها
وتســخري قوهتــا خلدمــة شــعبنا ...وقــال أنــه عندمــا حيــن الوقــت ســتدلنا
البلــورة عــى الطريــق.
قــح قليــا ،بينــا كاد عقــل جايــا ينفجــر ممــا ســمعه ،فأســتطرد العجــوز
قائ ـاً:
ـة مــا ُدجمــت البلــورة مــع كوكبنــا ،فأصبحــت طاقتهــا تــري يف -بطريقـ ٍ
كل يشء ،وســمى القدمــاء هــذه الطاقــة بمجــرى احليــاة ...لقــد جعلــت
كوكبنــا وكأنــه جنــة ...أصبحــت األرض أكثــر خصوبــة للزراعــة وامليــاه
أكثــر عذوبــة ،وأصبــح طعــم الثــار ألــذ بأضعــاف ممــا كانــت عليــه...
وظلــت البلــورة تســاعدنا يف التقــدم إىل األمــام بفضــل قوهتــا الغريبــة...
ولكــن القدمــاء شــعروا أن اجليــل القــادم قــد يــيء اســتخدامها ألنــه مل
يــرى هــذه املعجــزة بــأم عينيــه ،فاخرتعــوا قصــة عــن أن هــذه البلــورة
178
ُمقدســة ومــن يلمســها ســوف يلعنــه الــرب إىل األبــد ،هلــذا مل يقــرب
منهــا أحــد ومل يكــرث هلــا إال ملشــاهدة مجاهلــا فقــط ...ولكــن يف احلقيقــة
ا بعــد جيــل كانــوا يســتخدمون قــوة البلــورة يف فامللــوك وحاشــيتهم جيـ ً
العديــد مــن األشــياء باســتخدام الكتــاب ...ولكــن هنــاك بعــض القــوى
ا بعــد جيــل االفصــاح عنهــا للشــعب اهلائلــة التــي خــي امللــوك جي ـ ً
فأخفوهــا واســتخدموا بعضهــا خلدمــه الشــعب بــدون أن يشــعر ...مثــل
عمرنــا الطويــل ...فأنــت تعلــم أننــا نعيــش أحيان ـ ًا أللــف ســنة وهــذا
بفضــل قــوة هــذه البلــورة ،ومــا خفــي كان أعظــم.
بــدأ العجــوز يســعل بقــوة ،فأعطــاه جايــا كو ًبــا مــن املــاء ،فأخــذ رشــفة
منــه ثــم بــدأ يشــعر بالطاقــة تتجــدد يف جســده الضعيــف الواهــن بينــا
ظــل جايــا فــارغ فاهــه بــدون أن ينبــس ببنــت شــفه واألفــكار تتضــارب
يف عقلــه وىف نفســه ظلــات واضطــراب وإهلــام غــر ُمصــدق ملــا يســمع.
ا بصوتــه الواهــن:أكمــل العجــوز قائ ـ ً
فرسقتهــا
-وألن هــذه البلــورة ارتبطــت بالكوكــب كارتبــاط األم بأبنهــاُ ،
مــن كوكبنــا ســتُهلك احلــرث والنســل وكل ُســبل احليــاة هنــا...
ـك جيــبـك محايتهــا جيــدً ا ...كــا أنـ َ
وســتكون هنايــة جنســنا ،وهلــذا عليـ َ
أن ُتفــي هــذه األرسار عــن أخيــك وعــن الشــعب حتــى ال ينســل الطمــع
ـك أن حتكــي هــذه األرسار ألكثــر مــن تثــق إىل قلوهبــم احلكيمــة ...يمكنـ َ
هبــم فقــط ويمكنــك أن تأمتنهــم عــى رسهــا حتــى ال يمــوت الــر
و ُينســى مــع الوقــت ...كــا فعلــت أنــا .ولكــن مجيــع مــن يعلــم رسهــا
قــد مــات ومل يتبقــى إال أنــا وهلــذا فــإن أفشــى أحدهــم رسهــا فاملــوت
179
ـخاص
ـاك أشـ ٌ أن ُهنـ َ
هــو عقابــه ...فاملخلــوق الــذي أعطانــا البلــورة قــال َّ
ســيأتون يف حماولــة خلــداع اجلميــع لرسقــة البلــورة ألنفســهم ولتدمــر
كوكبنــا اجلميــل ...وهلــذا جيــب أن تســتعد لـ ٍ
ـيء مثــل هــذا رغــم أهنــا
ُمــرد افرتاضــات قــد ال تتحقــق ...ولكــن إن صــادف وجــاء شــخص
كهــذا فيجــب عليــك محايــة هــذه البلــورة بحياتــك.
ـيل مــن العواطــف يــري يف جســده بعــد ســاعه كل هــذه شــعر جايــا بسـ ٍ
القصــص الغريبــة التــي كانــت خمفيــة عنــه ،ولكنــه كبــح عواطفــه وقــال
بنــرة هادئــة:
-ال ختــف يــا أيب ســأمحيها حتــى لــو كلفنــي هــذا حيــايت أعـ َ
ـدك هبــذا.
ولكــن لــدى ســؤال أخــر ،مــاذا حــدث للمخلــوق الغريــب الــذي جــاء
بالبلــورة؟ وملــاذا أعطاهــا إلينــا؟ ومــا هــي قصتــه؟
نظر العجوز بعينيه املتعبتني إىل جايا ،ثم قال:
-ال أتذكــر يــا بنــي حق ـ ًا فاملــرض أضعــف ذاكــريت ...كــا أننــي مل أكــن
َ
ولكنــك ســتجد كل يشء يف الكتــاب ...ولكــن مــا مــن هــواة القــراءة
اتذكــره هــو أنــه قــد اختفــى بعــد ذلــك ومل يظهــر قــط ،ولكــن البعــض
قــال اهنــا أنثــي ...وتســمى بالعرافــة وجنســها ُيدعــى بلغــة الكــون
القديمــة باللونيكــس.
قال جايا وقد رفع حاجبه األيمن باستنكار:
-اللونيكس؟ يا له من اس ٍم غريب.
تغــرت لقطــة الفيديــو ،واجلميــع يشــاهد بتعجــب وحــرة ومزيــج مــن
180
اخلــوف والفضــول وعــدم التصديــق واإلنــكار.
كانــت اللقطــة التاليــة هــي األبشــع عــى اإلطــاق ،فقــد كان جايــا
يســر كاملجنــون يف وســط مدينــة حتــرق والروبوتــات تنطلــق مــن حولــه
باملئــات ،يمســكون أســلحة متطــورة ،ويقتلــون كل مــن تقــع عليهــم
أعينهــم .كانــت حر ًبــا كبــرة بينهــم وبــن شــعب أطالنتــس ،وكانــت
الروبوتــات تتقــدم تقد ًمــا ملحوظ ـ ًا وتقتــل كل مــن يقــف يف طريقهــا يف
مشــهد يثــر القشــعريرة يف البــدن ،فاحرتقــت املدينــة ا ُملذهلــة الكبــرة عن
بكــرة ابيهــا ،وأخــذ األطفــال والنســاء والشــيوخ هيربــون الواحــد تلــو
اآلخــر مــن هــذا املــوت ا ُملحــدق الــذي يطاردهــم بــا رمحــة وال شــفقة
ــفن م ٍ
عــدة للســفر عــر الفضــاء ملثــل هــذه احلــاالت الطارئــة، عــى ُس ٍ ُ
ولكــن مل تتســع الســفن للجميــع ،فهــرب ُمعظــم ســكان الكوكــب بينــا
ٍ
مــكان يعلمــه جايــا جيــدً ا ولكنــه مل هيتــم فــر البقيــة إىل املجهــول يف
بمعرفــة مكاهنــم طاملــا لــن يعرتضــوا طريقــه.
انتقلــت اللقطــات إىل لقطــة تصــور أثينــوس وهــو هيــرب عــى ســفينة
فضائيــة ويلقــي بنظــرات الغضــب والســخط عــى جايــا الــذي جــن
جنونــه ودمــر كل يشء وطــرد شــعبه خــارج كوكبهــم .فقــال لــه أثينــوس
وهــو يــرخ بحنــق وقــد أحتقــن وجهــه بالدمــاء:
-جايــا ســأنتقم منــك أهيــا امللعــون ،ســأعود بالتأكيــد وســأدمر كل
وأنــت معهــم.
َ آالتــك اللعينــة
أبتسم جايا وهو يشعر بنشوة النرص ،قائ ً
ال لنفسه:
-لقــد أنقــذت الكوكــب مــن الدمــار ومل أدع هــذا الوغــد الــذي جــاء
181
مــن الفضــاء أن يــرق البلــورة ،ســيظل الكوكــب ح ًيــا بكــم أو بدنوكــم،
وســأظل أمحيــه حتــى أمــوت.
أيتهــا العرافــة امل ُبجلــة لقــد أرشــدتني البلــورة إىل الطريــق ،لقــد رأيــت
الضــوء الــذي أخفــاه عنــا أســافنا احلمقــى ،وعندمــا حيــن الوقــت
ســأكون أنــا وجيــي ا ُملبجــل يف خدمتــك.
أمحــرت عينــاه وكأهنــا مصباحــان مضيئــان وأخــذ يقــول بجنــون وهــو
واقــف وســط حطــام عاملــه والروبوتــات تتحــرك مــن حولــه يف صفــوف
مدمــرة كل يشء أمامهــا:
-القــوة ،أعطينــي املزيــد مــن القــوة ،فمصــر هــذا الكوكــب والكــون
يقــع عــى كاهــي ،أنــا مــن ســيتحمل هــذا املصــر القــايس وحــدي وهــذا
مــن أجــل املســتقبل ،وهــذا مــن أجــل األفضــل.
ثــم انتقلــت اللقطــة التاليــة ،إىل الروبوتــات وهــي تتعــاون لبنــاء مدينــة
جالســا
ً أفضــل وأكــر وأكثــر تقد ًمــا ومجــاالً ،وىف هــذه األثنــاء كان جايــا
عــى عرشــه الذهبــي ا ُملرصــع باجلواهــر ،يراقبهــم بصمــت ،وهــم
ســيحكمها وحيــدً ا.
ُ يعمــرون مملكتــه اجلديــدة التــي
صــورت اللقطــة التاليــة املدينــة الفاضلــة التــي صنعهــا جايــا بفضــل
اآلالت ،وكانــت رائعــة ومجيلــة وىف غايــة التألــق كــا رآهــا إريــس أثنــاء
مــروره هبــا.
انتقلــت اللقطــة التاليــة إىل دخــول أحــد الروبوتــات عــى جايــا وهــو يف
غرفــة يف ســفينة حتــوم يف الفضــاء الواســع ل ُيخــره األنبــاء العاجلــة وهــي
182
أن هنــاك ســفينة ضخمــة غريبــة دخلــت جمــال كوكبهــم اجلــوي منــذ أكثــر
مــن شــهر ول ُبعدهــم عــن الكوكــب أدى هــذا لتأخــر الرســالة يف الفضــاء
حتــى تصــل إليهــم ،وهبطــت هــذه الســفينة عــى القــارة املهجــورة
املجــاورة لقارهتــم .أرســل جايــا روبوتــات للمراقبــة وأخــذ املعلومــات،
وغــر اجتــاه ســفينته حتــى يعــود إىل كوكبــه وقــد أجــل مهمتــه إىل إشــعار
آخــر.
ظلــت الروبوتــات تُراقــب حتــى رسقــوا لــه كل مــا حيتاجــه عــن هــذه
املخلوقــات التــي اخرتقــت كوكبــة وعكــرت صفــو ذهنــه .وهكــذا بــدأ
بمعرفــة نقــاط ضعفهــم وقوهتــم.
وتــري ىف البدايــة بــدأت اآلالت ختطــف العديــد مــن البــر بأمـ ٍ
ـر منــه ُ
عليهــم العديــد مــن التجــارب البشــعة ،وقــد وجــد جايــا أهنــم خملوقــات
مثــرة لالهتــام ،ولكنهــم خملوقــات بشــعة ُتــب احلــروب والدمــار،
وعلــم هــذا بعــد أن رسق كل البيانــات عــن تارخيهــم والكوكــب الــذي
جــاءوا منــه ،وكل التفاصيــل الصغــرة ا ُمللمــة بجنــس البــر؛ فقــرر أن
ُيكمــل جتاربــه عليهــم ،ملعرفــة احلافــز الــذي يدفعهــم لــكل هــذا العنــف
واخلــداع ،وبعــد أن توصــل إىل الســبب رأي أهنــم أكثــر املخلوقــات التــي
ســمع عنهــا ذكا ًء وتنو ًعــا.
أثــارت قصــص كوكــب األرض اهتاممــه ،وعلــم بــر مل يكــن يتوقعــه
جعلــه يرجتــف مــن احلــاس وقــال لنفســه:
ـر حق ـ ًا رغــم اتســاعه ...مــن كان
-يــا إهلــي كــم أن هــذا الكــون صغـ ٌ
يتصــور مــن بــن كل هــذه الكواكــب أن يأتــوا هــم إىل هنــا.
183
علــم جايــا بحقيقــة البــر التــي ُذكــرت يف املخطوطــات القديمــة وفاجئــه
كثــرا.
ً هذا
وهكــذا علــم أنــه أقــرب مــن بــدأ الســعي وراء هدفــه وعندهــا فقــط تبدأ
اخلطــوة األويل أمامــه لتنفيــذ مــا ذكــر يف الكتــاب ،فقال لنفســه بنشــوة:
-نعــم ســأكون أنــا املحــرر األعظــم كــا ُذكــر يف الكتــاب وســأصنع
اجلنــس الســامي الــذي ســينتقل إىل املرحلــة التاليــة التــي تريدهــا العرافــة
لنــا مجي ًعــا.
وهكــذا بــدأ بعميلــة تطويــر آالتــه لتكــون األقــوى واألذكــى عــى
اإلطــاق وهــذا باســتخدام قــوة بلــورة احليــاة والتقنيــات اهلائلــة التــي
ا صناع ًيــا رهي ًبــا يقــرب مــن التشــابه مــعتوصــل هلــا شــعبه فصنــع عقـ ً
العقــل البــري ،حتــى وصلــت الروبوتــات لدرجــة عاليــة مــن الوعــي
والقــدرة عــى الصنــع واإلبــداع والتــرف وكأهنــم أحيــاء ولكنهــم مل
يكونــوا أحيــاء وإنــا يترصفــون حســب برجمتهــم املوضوعــة لتجعلهــم
هبــذا الــذكاء وكان هــدف جايــا مــن هــذا جعلهــم أقــوى وجعلهــم
يبــدون أحيــاء حتــى ال يشــعر بالوحــدة يف هــذا الكوكــب اهلائــل .وبالطبع
بســيطرته عــى اآلالت بالتــاج فإهنــم لــن يعصــوا لــه أمـ ًـرا ولكنــه سيشــعر
أهنــم عــى قيــد احليــاة؛ خيتلفــون ويتناقشــون يف شــتى األمــور بــدالً مــن
ـد التــي ليــس هلــا معنــي غــر العمــل والعمــل كوهنــم علبــا مــن احلديـ ِ
ً
بــدون ان يكــون هلــا رأي فيــا تفعلــه.
وهكــذا وقبــل أن يفكــر يف غــزو البــر واســتئصاهلم ،اســتطاع البــر
إنشــاء قبــة حــول مدينتهــم اجلديــدة متنــع الروبوتــات مــن االقــراب
184
منهــا ،والتــي أســموها أطالنتــس اجلديــدة ،وأصبــح اخــراق قبــة الطاقــة
مــن قبــل الروبوتــات أمـ ًـرا مســتحيالً .وكانــت هــذه القبــة قــد وضعــت
قبــل رجوعــه إىل كوكبــه وهــذا مــا جعــل املدينــة صامــدة كل هــذه املــدة،
ولكــن بثغــرة وخطــأ مــن البــر اســتطاع جايــا غزوهــا وتدمريهــا
وإلقــاء القبــض عــى الكثــر مــن البــر وســبيهم واســتعبادهم ،ولكنهــم
اســتطاعوا صــد هجمتــه الضاريــة وإنقــاذ مــا يمكــن إنقــاذه ،فظــل يشــن
غــارات كثــرة عليهــم لســنوات متتاليــة ،حتــى انســحبوا إىل اخللــف
تاركــن ُمعظــم املدينــة للروبوتــات تتجــول فيهــا وتدفعهــم إىل اخللــف،
فحــروا يف الزاويــة كفـ ٍ
ـأر خائــف ،فأحــس جايــا أنــه مل يتبقــى اال القليــل
ليتمكــن منهــم مجي ًعــا.
كان مجيــع الســجناء قــد أصبحــوا اآلن يف القاعــة الكبــرة ،يشــاهدون
هــذه القصــة الغريبــة برعـ ٍ
ـب وتوتــر وإنــكار ،وظــل البعــض صام ًتــا ال
ُيصــدق مــا يــراه والبعــض حــدث نفســه قائ ـاً:
-كُل يشء هــو أكذوبــة كبــرة؟! كيــف وصلنــا إىل هنــا؟ متــى حــدث كل
هــذا؟ فليوقظنــي أحدكــم مــن هــذا احللــم املزعــج أرجوكــم.
كان األطفــال يقفــون وال يفهمــون ملــاذا أصبحــت مالمــح الرعــب
ُمتفجــرة عــى وجــه الكبــار ،وفجــأة انطفــأت الصــورة الثالثيــة األبعــاد
وأنغلــق املكعــب الصغــر ،فاقــرب الروبــوت وأمســك ُه ثــم عــاد إىل
اخللــف وأعــاده إىل جايــا وتقهقــر بجانــب الروبوتــات األخــرى.
ا وهــو يبتســم ٍ
صمــت طويــل ،قطعــه جايــا قائــ ً ظلــت القاعــة يف
باســتهزاء:
185
-هــذا ا ُملكعــب مــن أفضــل مــا أخرتع ـ ُه شــعبي ،فهــو يســجل كل مــا
مــررت بــه حتــى ال أنســى أي أحــداث وحتــى ال أقــع يف أخطــاء املــايض،
وأيضــا لكــي يصدقنــي مــن يقــف أمامــي عندمــا أريـ ُه األدلــة القاطعــة...ً
واآلن كــا تــرون ،هــذا كوكبــي وليــس كوكبكــم ،كوكــب أطالنتــس كــا
نســميه ...لقــد تــم التالعــب بكــم كــا جــرت العــادة وتــم اقناعكــم
ســحت
َ بواســطة قادتكــم أنــه كوكبكــم ،لقــد ُغســلت عقولكــم و ُم
ذكرياتكــم اخلاصــة لتتأقلمــوا يف هــذا الكوكــب ظننـ ًا ِمنكــم أنــه كوكــب
األرض ...وىف احلقيقــة أننــي لــدي القصــة كاملــة ومجيــع البيانــات التــي
ختصكــم ،والتــي تــرح مــا حــدث عــى كوكبكــم عندمــا متــردت عليــه
الروبوتــات وهامجتــه وعــن قصــة األجســام الغريبــة التــي ســقطت مــن
الســاء يف البدايــة حتــى جميئكــم إىل هنــا.
ا وهــو يتلــذذ بالرعــب واخلــوف ا ُملتجســد عــى صمــت جايــا قليــ ً
وجــوه البــر أمامــه ثــم قطــع حاجــز الصمــت قائـ ً
ا بنــرة هادئــة مليئــة
بالنشــوة:
-ســأعطيكم فرصــة أخــري بعــد أن أنرتكــم باحلقيقــة ...يمكنكــم أن
تنضمــوا إ َّيل يف هــديف الســامي ،وســأعطيكم قــوة فــوق قوتكــم و ُاعلمكــم
ـكل مــا حيــدث حولكــم ...ألن احلقيقــة أكــر ممــا تتخيلــون ...ولكــن بـ ِ
أيضــا الرفــض وســتموتون هنــا ألن احلقيقــة ال يمكــن إفشــاءها
يمكنكــم ً
للخــارج أبــدً ا وإال فسيتســبب هــذا بإزعــاج شــديد يل.
ظــل الصمــت ُمطبــق عــى املــكان ال يتخللــه غــر بعــض اهلمــس
وصــوت بعــض األطفــال ينتحــب ،ومــن وســط كل هــذا تقــدم إريــس
186
ٍ
وصــوت مرجتــف: قائــ ً
ا بلهجــة حاســمة
يــد شــخص -لنفــرض أنــك تقــول احلقيقــة فهــل ســنضع أيدينــا يف ِ
تلطخــت يــداه بدمــاء شــعبه ودمــاء شــعبنا؟ لقــد حولــت حيــاة هــذا
الكوكــب إىل جحيــم مــن أجــل ســعيك وراء هــذه القــوة امللعونــة
ا ُملتشــكلة يف هــذه البلــورة ...ولكــن هــل تظــن أننــا سنســاعدك يف تدمــر
مــا تبقــى مــن جنســنا؟ والــذي يبــدوا أنــه هــرب مــن كوكــب األرض
حلــا للحيــاة ...يبــدوا أننــا آخــر مــن تبقــي مــن البــر
ألنــه مل يعــد صا ً
وهلــذا فبالنيابــة عــن الــكل ...أنــا أرفــض عرضــك.
وافــق اجلميــع إريــس فيــا قالــه رغــم ختوفهــم الكبــر مــن مصريهــم
القــادم ،فبــدأ اهلمــس واملمــزوج باهللــع بــن صفــوف البــر ،وتناقــش
الــكل بخـ ٍ
ـوف ُمرتقبــن مــا هــو قــادم ،فخــرج صــوت جايــا ليســكتهم
ا بنــرة حــادة هــزت قلوهبــم يف جوفهــم:مجيعــا قائ ـ ً
-لقــد انقــذت الكوكــب ،لــو كان اخــي الوغــد ســلم البلــورة للغريــب،
لــكان هــذا الكوكــب اآلن ُمـ َـرد ُحطــام يطــوف يف الفضــاء ،ليــس هــذا
فقــط ،بــل الكــون كلــه سيســقط يف الفــوىض ...أهيــا البــر ،أنتــم ال
تدر ُكــون الفلــك الــذي متــورون فيــه ...لقــد فعلــت مــا كان جيــب فعلــه،
أنتــم أهيــا البــر ال تــرون غــر ُجــزء صغــر مــن احلقيقــة ،وأنــا ال أعيبكم
عــى هــذا ألنــه خــارج عــن إرادتكــم ...ولكــن يمكنكــم االنضــام إيل
وســتفقهون كل يشء ،وســأزيدكم قــوة عــى قوتكــم ،وســأحرركم مــن
أغــال العبوديــة التــي وجدتــم أنفســكم فيهــا ...ال زال العــرض قائـ ًـا
وأنــا ال احتــاج إليكــم فأنتــم لــن تغنــوا عنــي شــيئ ًا ،ولكنــي أعطيكــم
187
فرصــة أخــرة كــي ال تندمــوا عــى ســوء اختياركــم هــذا.
تدخل سايري ليحسم األمر قائ ً
ال بتهكم:
-هــل تريــد أن ننصــاع إليــك بعــد مــا رأينــاه يف هــذه املنشــأة مــن جتاربك
البشــعة علينــا ...ال حتلــم أننــا ســنصدقك ونصــدق مــا تعرضــه علينا!
دقــق جايــا النظــر إىل ســايري وقــد تغــر وجهــه وأصبــح أكثــر غلظــة
عندمــا رأى املالبــس الســوداء الغريبــة املنقــوش عليهــا رمــز كوكــب
مالبســا مثلهــا بعدمــا رسقهــا مــن
ً غريــب ،والتــي كان يرتــدي إريــس
عضــو اإلينيكــس قبــل أن يــأيت إىل هنــا .فقــال جايــا بنــرة غليظــة حازمــة
وقــد احتقنــت عينــاه بالدمــاء:
-آه ...أنــت مــن أتبــاع جالديــوس ...عــى مــا أذكــر تســمون أنفســكم
اإلينيكــس؟!
تذكــر ســايري اســم جالديــوس هــذا عندمــا كان يتجســس عــى أحــد
أعضــاء اإلينيكــس ،فقــال لينفــي عنــه الشــبهات بعدمــا نظــر إليــه اجلميــع
بتعجــب:
-أنــا لســت مــن االينيكــس وال أعلــم مــن هــو جالديــوس ...إنــا قتلــت
أحدهــم يف طريقــي وأخــذت منــه هــذه املالبــس ،ونفــس الــيء حــدث
ـك ،مــن هــم االينيكــس ومــن هــو لصديقــي إريــس ...ولــدي ســؤال لـ َ
جالديــوس هــذا؟ وملــاذا يراقبوننــا؟ ومــن أيــن حصلنــا عــى هــذه القــوى
ٍ
بصــدق قــد ُافكــر يف أمــر الغريبــة؟ وإن أجبــت عــى هــذه األســئلة
االنضــام إىل جمنــون مثلــك؟
188
ال وكأنه تذكر شيئ ًا يزعجه ويؤرقه:
أبتسم جايا نصف ابتسامة قائ ً
-جالديــوس هــذا هــو الوغــد الــذي أثــار الفتنــة عــى كوكبــي ...وهــو
نفســه مــن عبــث يف عقــل أخــي وأعلمــه بقــوة البلــورة املخفية عــن العامة
وهــو مــن أثــار احلــرب بينــي وبــن أخــي وشــعب أطالنتــس ...وهــو
مــن نقلكــم إىل هنــا بالتعــاون مــع بعــض البــر مــن مدينــة أطالنتــس
اجلديــدة عــى كوكــب األرض يف الرحلــة التــي أســموها بإينيكــس ...3
وهــو مــن دربكــم وأعطاكــم هــذه القــوى وأمــر اإلينيكــس بمراقبتكــم
حتــى ختتــروا قواكــم هــذه يف البيئــة القاســية للعــامل اخلارجــي ومــن ينجو
منكــم فهــو مؤهــل لالنضــام إىل اإلينيكــس أو احلــرس ا ُملقــدس بلغتــه...
ولكــن ...هنــاك هــدف آخــر مــن وجودكــم وهــو إرســالكم لرسقــة
أيضــا...
البلــورة ولكــن يبــدوا أن األمــور مل تــري كــا أراد هــذه املــرة ً
وهــا أنتــم اآلن أمامــي وحتــت رمحتــي وقــد أعلمتكــم باحلقيقــة ...ولكنــه
ال يــزال يســعى مــن أجــل احلصــول عــى بلــورة احليــاة بــكل الطــرق،
وسيفشــل كل مــرة ...فلتعلمــوا أن عدوكــم احلقيقــي ليــس أنــا ...إنــه
جالديــوس.
أخــذ اجلميــع يتبادلــون النظــرات واجســادهم ترجتــف مــن بــرودة جايــا
ونظراتــه احلــادة املفعمــة بالقــوة واحليويــة وأحســوا وكأنــه ملــك األرض
كلهــا ،وشــعروا أن كل قناعاهتــم وأفكارهــم قــد ســقطت أمــام أعينهــم
وكأهنــا ورقــة يف مهــب الريــح.
***
189
14
مل ينبــس أحــد ببنــت شــفه ألهنــم مل يعلمــوا مــاذا يقولــون؟! مــن أيــن
يبدئــون وأيــن ينتهــون؟! كانــت الكثــر مــن األســئلة واألفــكار تتقــاذف
رهم ألول مــرة أهنــم صغــار للغايــة يف هــذه احليــاة ِ
إىل أذهاهنــم وتُشــع ُ
وال يســوون شــيئ ًا أمــام كل هــذه االرسار وكل هــذا اخلــداع وكل هــذه
األشــياء التــي كان يظنوهنــا يف املــايض خيــاالً بعيــدً ا كُل ال ُبعــد عــن
احلقيقــة .ولكنهــم يقفــون اآلن أمــام خملــوق جمهــول عــى كوكــب آخــر،
وبطريقــة مــا وجــدوا أنفســهم عليــه .كان حضــور هــذا املخلــوق ُيعطــي
رهبــة غريبــة مل يفهمــوا ســببها ،ممــا جعلهــم يتصببــون عرقـ ًا بشــدة رغــم
بــرودة اجلــو.
كــر جايــا حاجــز الصمــت املطبــق قائـ ً
ا بلهجــة رنانــة تعلــق يف األذهان
والقلوب:
-لقــد أعلمهــم جالديــوس بغــزو أخــي أثينــوس لكوكــب األرض
ـتقرا لــه بعدمــا أصبحــوا بــا مــأوى هــو ومــن أتبعــه مــن
ليتخــذ ُه ُمسـ ً
شــعب أطالنتــس ...وهكــذا قامــت وكالــة ســيرتا بصنــع ســفينة هــي
األكــر عــى اإلطــاق وأقنعهــم جالديــوس أن ينتقلــوا إىل كوكــب
أطالنتــس وحيــروا أكــر عــدد ُمكــن مــن البــر وهــذا بعــد أن ُتســح
ذاكرهتــم ويتــم إدراجهــم إىل كوكبــي ،ومــن ثــم يصنعــون مدينــة طبــق
األصــل مــن أطالنتــس اجلديــدة عــى كوكــب األرض وحيتجــزون البــر
190
فيهــا بنيــة أن الروبوتــات دمــرت العــامل وهــذا هــو ملجأهــم الوحيــد
للنجــاة ...ومــن ثــم يســتمر البــر بالقتــال ضــد روبوتــايت وضــدي حتى
ينتــروا بقيــادة جالديــوس ،وعندهــا يضــع يــده عــى بلــورة احليــاة
بعدمــا فشــل بقيــادة أخــي أثينــوس يف هزيمتــي مــن قبــل ...وهــذا ألن
شــعب أطالنتــس مل يتعلــم أبــدً ا كيــف ُيمســك ســاح ًا بينــا الروبوتــات
مــع بعــض الربجمــة منــي تســتطيع القتــال أفضــل بكثــر مــن أي خملــوق
آخــر ...وهــذا كان ســبب خســارهتم ...ولكــن...
نفســا صمــت قليــ ً
ا ليتيــح هلــم فرصــة اســتيعاب مــا قالــه ثــم أخــذ ً
عميقــ ًا وأردف يقــول:
-ولكــن أنتــم أهيــا البــر تربيتــم عــى احلــروب والقتــال منــذ اخلليقــة،
ولديكــم خــرة كبــرة يف اســراتيجيات احلــرب والضغــط عــى العــدو
واملقــدرة عــى القتــال اجليــد ،وهــذا عكــس فطــرة شــعب أطالنتــس
ـاح واحــد إالا ُملســامل الــذي عــاش آالف الســنني بــدون أن ُيمســك بسـ ٍ
ـات نــادرة .وهلــذا وضــع جالديــوس كل آمالــه عليكــم لتحصلــوا يف أوقـ ٍ
لــه عــى البلــورة التــي فشــل أخــي يف احلصــول عليهــا ...وهلــذا قــام هبــذه
املؤامــرة وهــذا اخلــداع الطويــل لعقولكــم حتــى حتصلــوا لــه عــى البلــورة
دون أن تشــعروا بأنكــم ختدمونــه ...وكاد أن ينجــح يف اســتخدامكم يف
الضغــط عــى لــوال خطــأ صغــر قــام بــه أحدكــم ممــا تســبب يف غــزوي
ملدينــة أطالنتــس اجلديــدة وتدمريهــا .وهــذه هــي القصــة باختصــار.
نظر جايا إىل سايري وأشار إليه بأصبعه قائ ً
ال بلهجة حتذيرية:
-ال تعتقــد أهيــا االمحــق أنــك اســتطعت حقــ ًا قتــل أحــد اإلينيكــس
191
بمســتواك هــذا ...إهنــم أقــوى بكثــر ممــا ختيــل ...الوحيــد الــذي
يســتطيع هزيمتهــم عــى هــذا الكوكــب هــو أنــا ...وهلــذا إن نجــوت مــن
هنــا وقابلــت أحدهــم ال تتجــرأ عــى مواجهتــه أبــدً ا وفــر هار ًبــا.
ِ
شعبه: رفع يديه يف اهلواء وأردف يقول كأنه قيرص الروم خيطب يف
-واآلن مــا رأيكــم هــل ســتدخلون معــي يف حلـ ٍ
ـف حتــى نضــع حــدً ا
هلــذا اهلــراء الــذي حيــدث؟ أم ســتقفون هنــاك ســاكنني وتضيعــون
وقتــي؟!
تدخــل إيفانــوف ألول مــره وأعلــن عــن وجــوده قائـ ً
ا بصوتــه األجــش
املســتهزئ:
-ممــا تقولــه يبــدوا أن جالديــوس هــذا ُمــادع للغايــة ...ولكــن كيــف
أيضــا وأنــت خملــوق جمهــول ال نعلــم عنــه إال القليــل؟ ـت ً نصدقــك أنـ َ
أيضــا ُمــادع ،مــن يعلــم! وربــا كل هــذه القصــة بــا ربــا تكــون أنــت ً
فيهــا رشيــط الفيديــو ُمركــب وتــم تلفيقــه وتعديلــه ،وهــذا سـ ٌ
ـهل للغايــة
أيضــا تكــون احلقيقــة هــي أن جالديــوس هــذا يف أيامنــا هــذه ...وربــا ً
ـت مــن تريــد تدمرينــا ،فــكل الدالئــل تُشــر هــو مــن يريــد محايتنــا وأنـ َ
ـت
إىل هــذا ...مــا رأينــاه مــن جتــارب بشــعة عــى جنســنا ومــا فعلتــه أنـ َ
يف شــعبك ...هــل تظــن حقــ ًا أننــا ســنصدقك وننضــم إليــك ضــد
جالديــوس هــذا الــذي ال نعلــم عنــه شــيئ ًا؟! هنــاك الكثــر مــن اهلــراء يف
حكايتــك هــذه ،والكثــر مــن األشــياء التــي تبــدوا مــن وحــي اخليــال...
ـك حقـ ًا لســت بــري ،وقدراتنــا الغريبــة بالطبــع هيئتــك الغريبــة تــدل أنـ َ
تــدل عــى أن هنــاك أشــياء تفــوق إدراكنــا ،ولكــن...
192
قاطعه إريس مكم ً
ال وقد خرج عن طوره واضطربت نفسه:
-ولكــن مــاذا لــو ُكنّــا عــى كوكــب األرض؟! وكل مــا تفعلــه أنــت
هــو اخلــداع لنعتقــد أننــا انتقلنــا لكوكــب آخــر غريــب ،حتــى توظفنــا
لنحــارب ضــد جنســنا ونفتــح لـ َ
ـك ثغــرة ألطالنتــس آخــر معاقــل البــر
ضــد اآلالت؟! ربــا تكــون فضائــي ســيطر عــى آالتنــا ويريــد تدمــر
كوكبنــا وســلب خرياتــه مــن أجــل كوكبــه ،وأن أطالنتــس اجلديــدة
شــوكة يف حلقــك لتنفيــذ هدفــك!
أكمل إيفانوف قائالً:
-عــى كل حــال هــذه احلــرب التــي تتكلــم عنهــا هــي بينــك وبــن
جالديــوس وليــس لنــا دخــل هبــا ،وإن كنــت تقــول احلقيقــة فلترتكنــا
نذهــب لنُعلــم اجلميــع باحلقيقــة التــي أخربتنــا هبــا ،وســنعلم عندهــا
احلقيقــة مــن اخلــداع ...نحــن لــن نتدخــل بحربــك هــذه وســنعود إىل
األرض ـ هــذا إن كنــا حق ـ ًا لســنا عــي كوكــب األرض بالفعــل كــا قــال
َ
أخيــك الوغــد وربــا ُنشــم إريــس ـ وســنقوم باســتعادة كوكبنــا مــن
مججمــة جالديــوس إن تدخــل يف حصولنــا عــى كوكبنــا ُمــد ًدا ...وهكذا
ـك شــعبك ُمــد ًدا وتنقــي هــذه االزمــة إىل األبــد ونصــل إىلســنعيد إليـ َ
النهايــة الســعيدة التــي ترغــب هبــا.
ضحــك جايــا بضحكــة ُملجلــة ممــا أثــار حنــق وغضــب إيفانــوف،
وعندمــا انتهــى مــن الضحــك دقــق عينــاه ونظــر إىل إيفانــوف بنظــرة
خبيثــة حــادة قائــاً:
ـك مــن خملـ ٍ
ـوق جاهــل... -هــل تعتقــد أن األمــر هبــذه الســهولة؟! يــا لـ َ
193
ٍ
حــرب قديمــة بقــدم هــذا الكــون ...ولــن لقــد حرشتــم أنفســكم يف
يكــون اخلــروج منهــا إال در ًبــا مــن اجلنــون ...ولكــن إن انضممتــم يل
فلســوف ُاخرجكــم ِمنهــا وأضمــن لكــم األمــان.
أغتــاظ إريــس مــن كثــرة التالعــب بالــكالم واأللفــاظ التــي يســتعملها
جايــا معهــم جلعلهــم يف اضطــراب وحــرة مــن أمرهــم حتــى يســهل
ا برصخــة عاليــة:التالعــب هبــم ،فحســم أمــره قائ ـ ً
أيضــا ال تســتحق أن تعيــش كجالديــوس هــذا... -عــى أي حــال أنــت ً
واآلن نظمــوا أنفســكم .ســنخرج مــن هنــا ونعلــم احلقيقــة مــن الكــذب.
أبتسم جايا بسخرية قائالً:
-إذن هــذا هــو اختياركــم ...إن حظكــم يسء للغايــة ...فأفــكار
الشــخص أحيانــ ًا تقــوده إىل اهلــاك عندمــا يقــوده اجلهــل ا ُملركــب...
واآلن فلتموتــوا هنــا.
أشــار جايــا بيــده للروبوتــات لتتقــدم وتقــي عليهــم مجي ًعــا ،فأخــذت
رجــل واحــد متخــذة وضعيــة اهلجــوم ،ورفعــت ٍ تتحــرك عــى هنــج
أســلحتها واشــهرهتا ناحيتهــم ،ثــم توقفــت تنتظــر األوامــر مــن ســيدها.
ـدب يف أوســاط البــر الذيــن كانــوا أشــبه بفـ ٍ
ـأر ُمــارص يف بــدأ ُ
الذعــر يـ ُ
زاويــة .فأخــذت النســاء تــرخ وترتاجــع وراء الرجــال طالبــن الرمحــة،
فــرخ إريــس فيهــم قائـاً:
-هــل أنتــم محقــى لقــد قــي عــى شــعبه ،هــل تظنــون أنــه ســيرتدد يف
قتلنــا مجي ًعــا؟ حــان الوقــت لندافــع عــن أنفســنا ونخــرج مــن هنــا وننهــي
194
حيــاة هــذا الوغــد بقوتنــا ووحدتنــا .نظمــوا أنفســكم اآلن وأطلقــوا
العنــان لــإرادة البرشيــة التــي قهــرت مــا هــو أســوأ مــن هــذا.
بــدأ مجيــع مــن حيمــل االســلحة ُينظــم نفســه وفرائســه ترتعــد ،وكــا
يقــول املثــل إن كنــت ســتموت يف كل األحــوال فلــا اخلــوف؟ رفــع
البــر أســلحتهم ناحيــة الروبوتــات وهــم يرتقبــون مــا ســيحدث ،فقــال
أحــد الســجناء بنــرة مرجتفــة:
-ســؤال أخــر أهيــا الكائــن الغريــب ...ملــاذا ســميت كوكبــك هــذا
بأطالنتــس؟! وملــاذا يتشــابه هــذا االســم مــع املدينــة املفقــودة عــى
كوكبنــا.
ابتسم جايا وكأنه كان ينتظر هذا السؤال منذ فرتة طويلة وقال:
ا وانضممتــم إ َّيل -هــذا هــو الــر األعظــم ...وإن كنتــم أذكــي قليــ ً
ُنــت ســأخربكم بــه ...ولكــن لألســف ،ســتموتون هنــا مجي ًعــا.ك ُ
مرر أصبعه عىل كُل من إريس وسايري وإيفانوف وقال بنربة حادة:
-أنتــم الثالثــة ستتســببون يف هــاك مــن هــم خلفكــم ...أنتــم متثلــون
البرشيــة بــكل غباءهــا واخطاءهــا ...الفتــي األبيــض والفتــي األســمر
والفتــي اآلســيوي ...غبــا ٌء مــن شــتى بقــاع األرض ســيقيض عــى مــن
معكــم ألهنــم ال يســتطيعون االختيــار بأنفســهم إذ ربطــوا مصريهــم بكــم
وهــذا مــا قــى عــى الكثــر مــن احلضــارات عــى كوكبكــم.
جتاهلوا قوله ومهس إريس لسايري قائالً:
-أظن َ
أنك تعلم دورك.
195
ـاد عليــه .وجــه نظــره إىل إيفانــوف الــذي فأومــأ لــه برأســه واإلهنــاك بـ ٍ
أيضــا .فقــال جايــا وهــو يشــر بيــده إىل األمــام ناحيــة البرش:
أومــأ برأســه ً
-حان وقت املوت.
***
196
15
أطلقــت اآلالت النــار بــراوة بــا رمحــة أو شــفقة ناحيــة البــر بينــا
غــادر جايــا املبنــى وهــو يتلــذذ بســيمفونية رصاخهــم وتوســلهم للنجــاة.
صــاح إريــس قائ ـاً:
-تفرقوا وامحوا ال ُع ّزل.
قفــز ســايري إىل األمــام ورفــع يــده يف اهلــواء وضغــط عــى جســده وهــو
يســتجمع مــا تبقــى مــن قوتــه حتــى أوقــف كل الطلقــات القادمــة يف
اهلــواء فتعلقــت يف اهلــواء وهــي مســتمرة يف مقاومــة ضغــط طاقــة ســايري
عليهــا .انطلــق باقــي البــر ُمبتعديــن عــن جمــال النــران ،وتوجهــوا ناحية
اليمــن ،ورشعــوا يف تبــادل النــران مــع اآلالت ،فأســقطوا بعضهــا،
موجهــا طلقــات الرصــاص والبالزمــا ً بينــا ضغــط ســايري عــى نفســه
والقاذفــات إىل األعــى ،فانفجــرت يف ســقف املبنــي ،ممــا أدى إىل اهنيــار
جــزء منــه ،بينــا ســقط ســايري عــى األرض وأخــذ يلهــث ،فنظــر فوقــه
ليجــد بعــض احلطــام الــذي آل بالســقوط عليــه ،فجذبــه ايفانــوف بعيــدً ا
عــن احلطــام ،فالتقــط ســايري أنفاســه بصعوبــة ورأى البــر واآلالت
يتبادلــون إطــاق النــار ،بينــا حيــاول ال ُعـ ّـزل االختبــاء خلفهــم ،والبعــض
منهــم انخفــض عــى األرض ،وأخــذوا يدعــون اهلل ل ُينجيهــم .تكبــد كال
الطرفــن اخلســائر ،فســقط العديــد مــن البــر واآلالت ،واســتمر إطــاق
النــار بــراوة مــن كال الطرفــن ،بينــا أخــذ املبنــى يتحطــم بســبب القتال
197
العنيــف .وقــف إريــس وراء ايفانــوف الــذي كان حيمــي ســايري بجســده
الفــوالذي بينــا ُيفجــر اآلالت يف نفــس الوقــت ،فأنخفــض إريــس
بجانــب ســايري صارخ ـ ًا بصـ ٍ
ـوت عــايل حتــى يســمعه وســط ضجيــج
املعركــة:
-هــل تــرى هــذا املولــد هنــاك؟ إنــه املســؤول عــن حركــة الروبوتــات،
وهــذه البلــورة الطائــرة فوقــه ،ال بــد أهنــا بلــورة احليــاة ،وال يبــدوا أنــه
مــن ا ُملمكــن تدمريهــا هلــذا علينــا أن نُدمــر املولــد لنوقــف حركــة اآلالت
ونفــر مــن هنــا.
قال سايري وهو يراقب املعركة:
-وكيف سنفعل هذا؟
مل جيــد ســايري الــرد فنظــر ناحيــة إريــس لتتســع عينــاه مــن الدهشــة إذ
ظــن للوهلــة األوىل أن جايــا انتقــل وأصبــح بجانبــه ،وقبــل أن يقــوم بــأي
رد فعــل ،وجــد الــرد قــادم:
أنك فهمت اخلطة جيدً ا. -ال ختف هذا أنا إريس ،واآلن أظن َ
فجــأة تغــر صــوت إريــس ليصبــح مشــاهبا للغايــة لصـ ِ
ـوت جايــا ،فقــال ً ُ ُ
وهــو يراقــب الرصــاص القــادم ناحيتهــم:
-لقــد وقــع هــذا األمحــق جايــا يف خطــأ كبــر ،وهــو أنــه قــال ـ يف رشيــط
أن الروبوتــات يتــم التحكــم هبا عــن طريق الفيديــو الــذي عرضــه علينــا ـ َّ
الصــوت ،وهلــذا ســأخاطر و ُاحــاول إيقافهــم.
ابتســم ســايري ابتســامة خبيثــة وهــو يتخيــل الســيناريو القــادم ،فوثــب
198
عــى قدميــه ُمــد ًدا بعــد أن التقــط أنفاســه وقــد جتــدد النشــاط يف جســده
ا ومهــس إليفانــوف أن يســر إىل االمــام وجيعلهــم يقرتبــون أكثــر من قليـ ً
املولــد ،فأومــأ برأســه وبــدأ يســر إىل األمــام والطلقــات تصطــدم بجســده
الفــوالذي بــدون أدنــى تأثــر عليــه .وبينــا كان البــر واآلالت يســقطون
الواحــد تلــو اآلخــر ،والنســاء واألطفــال يرصخــون مــن اخلــوف ،شــعر
إريــس أن عليــه اإلرساع وإال ســ ُيقىض عــى اجلميــع ،فعــاد إىل هيئتــه
الطبيعيــة ،وأشــار بيــده إىل مخســة شــباب أن يتبعــوه ،فنفــذوا األوامــر
وتبعــوه بــا تــردد ُمطلقــن النــار مــن خلــف إيفانــوف الــذي كان كــدر ٍع
بــري هلــم ،فأســقطوا الروبوتــات الواحــدة تلــو االُخــرى حتــى قطعــوا
نصــف املســافة .حتــول إريــس إىل جايــا فشــعر الشــباب خلفــه بالفــزع،
نفســا عميقــا وهــو ولكــن ســايري أشــار هلــم أال خيافــوا .أخــذ إريــس ً
يعــرف أن هــذه خماطــرة قــد تــودي بحياتــه ،ولكــن ال بــد منهــا للخــروج
مــن هــذا املــأزق .أشــار إريــس لســايري أن حيميــه إذا فشــلت اخلطــة
حتــى يعــود وخيتبــأ خلــف إيفانــوف ًمــد ًدا .خــرج مــن خلــف إيفانــوف
عــى شــكل جايــا ،وبــدأ يســر إىل األمــام وســايري خلفــه عــى أهبــة
االســتعداد ،فتوقفــت اآلالت عــن االطــاق لوهلــة وبــدأت حتــدق
ناحيتــه لتتعــرف عــى وجــه ســيدها ،فقــال هلــم إريــس آمـ ًـرا:
-توقفوا عن إطالق النار.
توقفــت اآلالت ونجحــت خطتــه ،فأســتغل البــر هــذا الوضــع وأطلقوا
النــار بــراوة عــى اآلالت وحطموهــم الواحــد تلــو اآلخــر ،فقــال
إريــس بينــه وبــن نفســه:
199
-ال أصــدق نفــي لقــد نجحــت اخلطــة ألن هــذه اآلالت ليــس مــن
النــوع الذكــي الــذي رأيتــه يف املدينــة ،إنــا هــي آالت بــاردة للحــرب ال
تقــوم إال بــا يأمرهــا صاحبهــا.
أشــار إريــس ألحــد الرجــال ا ُملمســكني بســاح قــاذف الصواريــخ أن
ُيطلــق ناحيــة املولــد ،فقفــز بحــاس وأطلــق ناحيــة املولــد الــذي أنفجــر
بقــوة وتناثــرت اجزائــه يف انحــاء املبنــى ،بينــا أخــذت الطاقــة التــي ي ُبثهــا
يف أرجــاء املدينــة تنطفــأ ،وتوقفــت البلــورة عــن مــده بالطاقــة ،ولكنهــا
ظلــت ُمعلقــة يف اهلــواء .فجــأة توقفــت اآلالت عــن العمــل وســقطت
ـال ودمــوع الفرحــة الواحــدة تلــو االُخــرى ،فهلــل الســجناء بصـ ٍ
ـوت عـ ٍ
تنهمــر مــن أعينهــم ،فتجــدد األمــل يف وجداهنــم إذ نجــوا مــن هــذا املوت
ا ُملحــدق .ولكــن الكثــر منهــم ســقط ومــات (مــا يقــارب العــرون
ـخصا) مــن النســاء واألطفــال وكبــار الســن والرجــال ،فمــن كان لــه شـ ً
بحرقــة عــى جثتــه ،بينــا رفــض البعــض ٍ عزيــز قــد مــات ظــل يبكــي
تــرك جثــة أحباهبــم واهلــرب ،ولكــن البقيــة جذبوهــم بالقــوة للهــرب
مــن هــذا اجلحيــم واال فســيلحقون هبــم .عــاد إريــس وإيفانــوف إىل
هيئتهــم الطبيعيــة ،فبــدأ إريــس يوجــه األوامــر للجميــع ،فقــال وهــو
يشــر إىل بــاب اخلــروج بينــا بــدأ املبنــى يتهــاوي فوقهــم:
-جيــب علينــا اهلــرب مــن هنــا اآلن ،ال أعــرف متــى قــد يعــود هــذا
الوغــد ...واآلن إمــا أن هنــرب أو ســنلقى حتفنــا هنــا.
عــزم اجلميــع عــى اهلــرب فركــض إريــس خــارج املبنــي وتبعــه اجلميــع،
فخرجــوا إىل املدينــة الرائعــة فســحرهم مجاهلــا وهندســتها املعامريــة
200
ا ُملذهلــة ،والتــي كانــت متتــاز بمعـ ٍ
ـار غريــب؛ فمنهــا احللــزوين الشــكل
والدائــري وكأنــه كــوب قهــوة والبعــض مثلثــي الشــكل وهنــاك مبـ ٍ
ـان
بشــكل متمــوج ،والبعــض يبــدوا مثــل الكــرة الزجاجيــة،ٍ َتتَــدُ عال ًيــا
بينــا كانــت ألــوان املبــاين زاهيــة وغايــة يف اجلــال ،مزيــج بــن كل
األلــوان اخلالبــة والرباقــة واألرض أســفلهم كانــت مــن زجــاج وأســفلها
يــري جمــرى مــن الطاقــة الزرقــاء الفياضــة ،ولكــن هــذا مل يكــن الوقــت
املناســب لتأملهــا .ســلطوا كل تركيزهــم عــى اهلــرب مــن هــذا املــكان
الحــظ إريــس أن مصــدر الطاقــة توقــف عــن الرسيــان أســفل الزجــاج.
مل يعــرف إريــس إىل أيــن يذهــب ولكنــه تذكــر املــكان الــذي أتــى من ـ ُه
جيــدً ا ،كانــت حظــرة طائــرات ،فتوجــه إليهــا اســتمر بالركــض واجلميــع
يف ذيلــه.
ســقطت فتــاة صغــرة عــى األرض ،فحملهــا أحــد الرجــال مــن عــى
األرض وأكمــل هرولتــه ،وكان اجلميــع ُيســاعد بعضهــم البعــض
للخــروج مــن هنــا ،فيســاعد الشــباب العجائــز عــى اهلــرب ،والبعــض
حيمــل األطفــال ويركــض هبــم ،بينــا ينظــرون إىل اآلالت النائمــة يف
الشــوارع بســبب فصــل طاقــة البلــورة عنهــم ،ولكــن هــذه اآلالت كانــت
ُمتلفــة عــن التــي كانــت ُتارهبــم ،لقــد كانــت تُشــبه البــر بشــكل أكــر.
فقــد صنــع جايــا آالت تُشــبه شــعبه ،ليصنــع عاملــه احلــي اخلــاص ،ولكــن
مــا أثــار فضــول إريــس هــو أن الســيارات الطائــرة كانــت ُمعلقــة يف
اهلــواء بــا حركــة ومل تســقط رغــم فقــدان الطاقــة عــن املدينــة وتوقــف
الروبوتــات عــن احلركــة .مل يعــر األمــر الكثــر مــن االنتبــاه وانعطــف
201
يمينـ ًا ويسـ ً
ـارا يف انحــاء املدينــة بينــا تبعــه اجلميــع عــى أمــل أن يرشــدهم
لــر األمــان .قــال إيفانــوف بنــرة غليظــة وهــو يركــض ورائــه:
ٍ
بشــكل -هــل تعــرف الطريــق أم َ
أنــك تركــض بنــا يف أنحــاء املدينــة
عشــوائي؟
فقال إريس وهو يلهث:
-ال ختف ...أنا ...أعرف ...إىل ...أين ...علينا الذهاب.
فصمــت إيفانــوف ووضــع ثقتــه بــه ،وبعــد الركــض ملــدة ثالثــة دقائــق
أخــرا إىل حظــرة الطائــرات ،فدخــل اجلميــع إليهــا، ً أخــرى وصلــوا
وكان بداخلهــا العديــد مــن الطائــرات الغريبــة الشــكل .كانــت الطائــرة
ـة مسـ ٍ
ـتطيلة كبــرة ومقوســة ٍ
بــدون أجنحــة أو مــراوح ،كانــت أشــبه بغرفـ ُ
مــن األمــام .علــم إريــس أهنــا ُمصصــة للنقــل فقــط ال للحــرب،
فتعجــب مــن آليــة عملهــا .بــدأ اجلميــع يقفــز داخــل الطائــرات بينــا
أوقفهــم إريــس وســأل عمــن لديــه خــرة يف قيــادة الطائــرات ،فرفــع
عــرة رجــال أيدهيــم ،وكان هنــاك أكثــر مــن مئــة طائــرة ،ولكــن عــرة
طائــرات كانــت أكثــر مــن كافيــة حلملهــم مجي ًعــا ،فوزعهــم إريــس عــى
الطائــرات وقفــز اجلميــع إىل الداخــل ثــم بــدأوا بمحاولــة فهــم آليــة
عملهــا .مل تكــن ُمتلفــة عــن طائــرات البــر يف أي يشء ،غــر اللغــة
فقــط ،ولكــن مــن حيتــاج اللغــة عندمــا يكــون لديــه اخلــرة.
توجــه إيفانــوف إىل أحــد الطائــرات وجلــس يف مقعــد الســائق ،ثــم فتــح
اخلريطــة وبــدأ ينظــر إىل األماكــن الغــر مألوفــة عليهــا ،فــأدرك وجهتــه،
إهنــا القــارة املجــاورة ،كان هــذه الكوكــب مكونن ـ ًا مــن قارتــن كبريتــن
202
متجاورتــن يربــط بينهــا جــر عجيــب الشــكل ،وبعــض القــارات
ـة التحكــم حتــىالصغــرة حوهلــم .ضغــط عــى بعــض االزرار يف لوحـ ِ
بــدأت الطائــرة بالعمــل ،فهــدرت املحــركات بقــوة بينــا ارتفعــت
الطائــرة بسالســة يف اهلــواء وتبعتهــا باقــي الطائــرات التــي حتمــل مــا
تبقــى مــن الســجناء ،ثــم بــدأوا بالتوجــه نحــو القــارة األخــرى ،ولكــن
قبــل أن يتحركــوا انفجــرت أحــد الطائــرات خلفهــم فنظــر اجلميــع إىل
اخللــف باجتــاه املدينــة فوجــدوا جايــا يقــف عــى كتــف روبــوت عمــاق
ـج ِمــن اللـ ِ
ـون البنــي واألصفــر و ُيشــبه فراعنــة مــر ُمــدرع ُمغطــى بمزيـ ٍ
القدمــاء يف اشــكاهلم ،فقــال إريــس وقــد اتســعت عينــاه مــن الدهشــة:
-هــذا الوغــد يــرق تــراث البــر ويصيغــه عــى شــكل روبوتــات
لعينــة.
ولكــن مل يكــن هــذا فقــط ،لقــد كان خلفــه مخســة روبوتــات ضخمــة
أخــرى ،مــا بــن الفــارس الرومــاين القديــم ،والفــارس اإلغريقــي،
والفــارس العــريب واليابــاين والفــاريس .وبجانــب العاملقــة كان يوجــد
جيــش كبــر مــن الروبوتــات الفضيــة يســر يف نظــام؛ فوقــه تطــر
مئــات احلــرات اآلليــة التــي تُشــبه النحــل يف تركيبتهــا الفيســيولوجية،
وعناكــب كبــرة تســر اســفلهم باملئــات ،وروبوتــات عديــدة أخــرى مل
جيــدوا الوقــت لـــتأمل تركيبتهــا فمنهــا الضخــم ومنهــا الصغــر.
فقال جايا وعيناه تُنذران باملوت لكل من أمامه:
-إذ ًا فقــد اســتطعتم اهلــرب! ودمرتــم املولــد اخلــاص باملدينــة الفاضلــة.
ولكــن هــل تعتقــدون أن هــذا املولــد هــو مصــدر الطاقــة الوحيــد يف
203
املدينــة؟ وهــل ظننتــم أن هــذه البلــورة هــي بلــورة احليــاة؟ يــا لكــم مــن
ـات مســكينة .لقــد اقرتبــت هنايتكــم ومعهــا ســيأيت الدمــار لــكل خملوقـ ٍ
يشء تعرفــوه .قري ًبــا ســ ُيفتح الــدرع الــذي حيمــي قارتكــم الصغــرة ٍ
وســأدخل أنــا وجيــي الــذي ال يقهــر ونســحق كل ٍ
يشء تعرفونــه.
صمت قليال وسط ذهول البرش ثم استطرد قائالً:
-كُل ٍ
يشء بنيتمــوه سيســقط ،ومــن تــراب عاملكــم ســأبني عا ًملــا أفضل...
لــن يقــف أمــام جيــي اجلــرار أحــد وســأهني هــذه احلــرب وأضــع حــدً ا
هلــذه املهزلة.
قال جايا بينه وبني نفسه:
-لقــد ذهبــوا كــا خططــت ...واآلن احلقيقــة ســتصل إىل مســامع مجيــع
البــر ممــا س ـ ُيقلل ثقتهــم يف قادهتــم ويزعــزع عرشــهم الواهــن فأتصيــد
الفرصــة لغزوهــم .لــن يســتطيعوا أن يثقــوا يف جالديــوس وخدعــه بعــد
اآلن .واآلن فلنــرى مــاذا ســيفعل جالديــوس هبــذا الصــدد!
أصــدرت اآلالت أصواتــ ًا إلكرتونيــة ُميفــة بــدت كرصخــة املعركــة
وقــرع أجــراس احلــرب ،بينــا تقدمــت إىل األمــام بــاآلالف ،فأرتعــد
اجلميــع كأهنــم نملــة حتــت أقــدام جيــش ســليامن .صــاح إريــس قائ ـ ً
ا
وقدمــاه بالــكاد حتمالنــه:
-انطلقــوا اآلن مجي ًعــا وإال ســيقيض علينــا هــذا اللعــن! جيــب أن نُحــذر
باقــي البــر ،إن مل نتمكــن مــن حتذيرهــم فلــن يعرفــوا اخلطــر ا ُملقبــل
عليهــم.
204
بــدأت الطائــرات ُتلــق بعيــدً ا بينــا تتفــادى الصواريــخ القادمــة مــن
ـة بالغــة حتــى ابتعــدوا يف االُفــق وأصبحــواصفــوف الروبوتــات بصعوبـ ٍ
يف جمـ ٍ
ـال آمــن .وقــف اجلميــع ُيــدق إىل املدينــة اجلهنميــة وهــي ختتفــي
يف األفــاق ،ممــا أشــعرهم ببعــض االطمئنــان والســكينة البتعادهــم عنهــا
فتنفســوا الصعــداء .نظــر إريــس مــن رشفــة الطائــرة إىل األســفل لــرى ما
تــرك يف قلبــه دهشــة أخــرى وجعلــه يســتيقن أن الكثــر مــن كالم جايــا
ـف قــارة الروبوتــات ،وقــد كانكان حقيقــي إذ رأى الضبــاب أســفلهم يلـ ُ
ـض يمتــدُ بــن هــذه القــارة وبــن القــارة
ـر وعريـ ٌـي كبـ ٌ
ـر ذهبـ ٌ
ُهنــاك جـ ٌ
األخــرى ،فقــال إريــس وقــد اتســعت عينــاه مــن الدهشــة وشــعر بنبضــه
يتســارع:
-يــا للهــول ،هنــاك جــر يربــط بــن قــارة اآلالت وقارتنــا ،لقــد
كنــت أفكــر كيــف ســتعرب كل هــذه اآلالت ا ُملحيــط لت ُ
ُدمرنــا واآلن لقــد
فهمــت ...ولكــن مــا هــذا الضبــاب أو الســحاب الغريــب أســفلنا؟
ـب ُجــل تركيــز ُه عــى
نظــر ســايري إىل األســفل بينــا كان إيفانــوف يصـ ُ
القيــادة ،فقــال ســايري بعصبيــة وهــو يشــعر بداخلــه ببعــض احلــاس
ا ُملخيــف واالثــارة ا ُملريبــة التــي وجــد نفســه فيهــا ل ُيخــرج غضبــه الكامــن
وســخطه عــى العــامل دون أن يمنعــه أحــد عــن ذلــك أو يعاقبــه بقوانـ ٍ
ـن
سـ ٍ
ـخيفة:
-أشــك أننــا ســننجو مــن كل هــذا ،ولكــن هنــاك حــل واحــد ،وهــو
أن نذهــب إىل اجلنــرال ونخــره بــكل يشء ونحصــل منــه عــى إجابــات
ومــن ثــم نفكــر بطريقــة لوقــف زحــف الروبوتــات والقضــاء عليهــم
205
بخطــة مــا إن تطلــب األمــر.
ا ورأى ســايري الكآبــة عــى وجهــه فقــال وهــو تنهــد إريــس طويــ ً
يســرجع مــا حــدث:
-لقــد أخربتــه أن ُي ِعــدَ اجلنــود وكل مــن يســتطيع أن ُيــارب مــن
املدنيــن بينــا أذهــب أنــا جلمعكــم .لقــد ظننــت أن اآلالت اجتاحــت
دعــت بالكامــل ،مل أظــن أن القصــة أكــر ُ مــر وأطالنتــس ،لقــد ُخ
ـت ...نحــن عــى كوكــب آخــر! يــا إهلــي ،أنــا ال أتذكــر كيــف ممــا ختيلـ ُ
وافقــت عــى ركــوب ســفينة فضائيــة واالنتقــال إىل كوكـ ٍ
ـب آخــر! وكيــف
ٍ
غريــب! ولكــن ــرج ضخــ ٍم
أنتهــى يب االمــر هبــذه القــدرة الغريبــة يف ُب ٍ
هــل كان اجلنــرال خيدعنــي أم أنــه يعلــم احلقيقــة ومل ُيــرد إخبــاري؟
وجه سايري نظره إىل اخلارج ثم قال بنربته الباردة املعتادة:
-ال أعــرف شــيئ ًا ،فأنــا مثلــك ...ولكــن ربــا كان خيدعــك وفكــر يف
طريقــة لصــد زحــف اآلالت وارجــاع احلــال إىل مــا كان عليــه دون أن
نشـ َ
ـك يف يشء ...وبعدهــا نُكمــل حياتنــا الطبيعيــة يف املدينــة بعــد القضــاء ُ
عــى اآلالت وكأن شــيئ ًا مل يكــن ...عندمــا نصــل ســنتحدث معــه طويـ ً
ا
يف هــذا األمــر وســنجعله يعــرف بــكل يشء ولــو بالقــوة.
قطع حديثهم صوت إيفانوف وهو يقول:
-يا رفاق لقد وصلنا.
ركــض اجلميــع إىل مقدمــة الطائــرة ونظــروا أمامهــم ليجــدوا أطالنتــس
اجلديــدة والدخــان واحلطــام يمألهــا كــا تركوهــا ،والحظــوا درع
206
الطاقــة األزرق الالمــع الــذي يغطيهــا وقــد جــاه ضــوء الشــمس فظهــر
ـوح مــن األعــى ،فأكمــل إيفانــوف قائـ ً
ا وقــد شــعر ببعــض التوتــر بوضـ ٍ
واالنزعــاج:
-كيف سنعرب من خالله؟ أنا ال أرى أي طريق للدخول.
قال إريس وهو حيك رأسه:
أن هنــاك مــكان مــا للدخــول ،فــاآلالت تدخــل وخترج بســهولة، -ال بــد َّ
ـت معهــم يف الطائــرة اســتطاعوا اخلــروج مــن جمــال الــدرع، وعندمــا كنـ ُ
لذلــك ال بــد أن هنــاك ثغــرة مــا .اســتمر بالتحليــق فوقــه واملراقبــة جيــدً ا.
قال سايري وقد شعر ببعض األمل:
-انظــروا إىل اجلانــب اجليــد ،لــن تســتطع الروبوتــات التــي تســر عــى
االقــدام مــن الدخــول بســبب الــدرع ،ممــا س ُيســهل علينــا مقاومتهــم.
ولكــن إن كان جايــا يعــرف هــذا فلــا يتحــرك ناحيــة الــدرع بــكل هــذه
األعــداد ،أم أنــ ُه...
ٍ
وقنوط قائالً: ٍ
بتوجس قاطعه إريس
-ال بــد أن لديــه خطــة لتدمــر ال ُقبــة .جيــب أن نحمــي األبــراج برسعــة
ونُحــذر اجلميــع.
إنــش ِمنــه،
ٍ حلــق إيفانــوف فــوق الــدرع وهــو يتفحــص بعينيــه ك َُّل
وحلقــت وراءه الطائــرات األخــرى وهــي ال تعلــم أيــن الســبيل ،وبعــد
ٍ
بحــاس قائــاً: بضعــة دقائــق مــن التحليــق ،رصخ إيفانــوف
207
-لقد وجدته.
فقال إريس بتوتر:
-أين؟
فأشــار إيفانــوف بأصبعــه ناحيــة املنتصــف فــوق املدينــة متا ًمــا .كان هنــاك
ـورا ،فبــدأ باهلبــوط وتبعتــه ثغــرة كبــرة ،فأمــره إريــس أن هيبــط منهــا فـ ً
باقــي الطائــرات ،فدخلــوا إىل املدينــة وتوجهــوا ناحيــة الغــرب حيــث
تتمركــز مجــوع البــر ،فأخــرج إريــس رشيــط صغــر ضغــط عــى ٍ
زر فيــه
فخرجــت شاشــة هولوجراميــة فوقــه حتمــل الكثــر مــن القوائــم فضغــط
عــى قائمــة االتصــال وبــدأ يتحــدث قائ ـاً:
-أهيا اجلنرال هل تسمعني؟
بعد عدة ثواين ظهر صوت اجلنرال الغليظ بلكنته املميزة:
-نعــم أســمعك ،أيــن كنــت يــا إريــس لقــد قلقــت عليــك .حاولــت
االتصــال بــك ولكــن هاتفــك كان خــارج اخلدمــة.
رد إريس بانفعال:
ٍ
ورطــة كبــرة ...واآلن اســمعني -آســف عــى ذلــك فقــد كنــت يف
جيــدً ا ...نحــن متوجهــون ناحيتــك ولكننــا يف طائــرات الروبوتــات هلــذا
ال تُطلــق علينــا.
رد اجلنرال بنربة ُمنفعلة:
-يف طائــرات الروبوتــات! مــاذا تقصــد هبــذا؟ وكيــف حصلــت عــى
208
طائراهتــم؟
-إهنــا قصــة طويلــة ســأروهيا لـ َ
ـك عندمــا أصــل .أمــا اآلن قــل جلنــودك
أن يســمحوا لنــا باهلبــوط.
فقال اجلنرال وقد مت ّلكته احلرية:
-حسنا ،سأفعل هذا حاالً.
أقفل إريس اخلط ،ثم نظر إىل سايري قائالً:
أنــت وإيفانــوف للبحــث عــن
َ -عندمــا نصــل إىل األســفل ســتذهب
باقــي الرفــاق ...جيــب أن جتدهــم برسعــة ألننــا ســنحتاج إىل أن نضــم
قواهــم إلينــا ...بينــا ســأخرب أنــا اجلنــرال بــكل يشء وســأحصل عــى
بعــض األجوبــة وأضــع خطــة احلــرب معــه أو مــن دونــه حســب اإلجابــة
التــي ســيعطيها إ ّيل.
فأومــأ ســايري برأســه دون أن ينبــس ببنــت شــفة .وهكــذا وبعــد بضعــة
ـرا إىل وجهتهــم واســتقبلهم بعــض اجلنــود عنــد مهبط دقائــق وصلــوا أخـ ً
الطائــرات ،وبعــد أن رســت مجيعهــا عــى األرض ُفتحــت أبواهبــا وترجــل
ـديد يتبــدى عــى وجهوهــم،ـب شـ ٍ ـات حمطمـ ٍ
ـة ورعـ ٍ اجلميــع منهــا بمعنويـ ٍ
فقــال أحــد اجلنــود لرفيقــه بتوجـ ٍ
ـس وهــو ينظــر إليهــم:
ِ
املوت عدة مرات. -ما هذا؟ أرى يف عيوهنم من فر من
توجــه إريــس عــى الفــور إىل خيمــة اجلنــرال وهــو يلهــث إذ شــعر
بالتعــب الشــديد ،ناولــه اجلنــرال كــوب مــن الشــاي وبعــض الفطائــر
ـكت جوعــه ،وبعــد انتهائـ ُه مــن الطعــام،
واملــاء ،فألتهمهــا دون تــردد ل ُيسـ َ
209
يقــص عــى اجلنــرال كل مــا حــدث ورأى تبــدل مالمــح اجلنــرالُ بــدأ
إىل الرعــب واهللــع هــو والقــادة اآلخريــن مــن حولــه عنــد ســاع هــذه
ٍ
بغضــب وتأنيــب: القصــة ،فقــال هلــم إريــس
-هل كنتم ختفون عنّا كل هذا؟
فأقســم اجلميــع أهنــم مل يعرفــوا أي يشء عــا حيــدث .لقــد تــم إخبارهــم
بالقصــة التــي أخربهــا هلــم الرئيــس وحاشــيته ،فقــال إريــس بعصبيــة:
-وأين الرئيس؟
فقال اجلنرال وهو يفكر:
-إنــه يف أحــد املالجــئ عنــد الســاحل الغــريب الــذي خيتبــأ فيــه مجيــع
املدنيــن ،ولكنــه يف ملجــئ كبــر يليــق بــه ،وحولــه حراســة ُمشــددة.
فقطب إريس حاجبيه قائالً:
ُ -اريــد أن ُاقابلــه ألحصــل منــه عــى القصــة كاملــة ،وعــن الســبب
احلقيقــي الــذي جعلنــا نــأيت إىل هنــا واخلُدعــة ا ُملد ّبــرة التــي جعلتنــا نظــن
أننــا ال نــزال عــى كوكــب األرض ...وســأرى إن كان كالم جايــا حقيقــي
أم ال ،وســنترصف بعدهــا عــى هــذا األســاس.
فقال اجلنرال بنربة كئيبة:
-لتقابله جيب أن حتصل عىل إذنه أوالً...
ٍ
بغضب قائالً: قاطعه إريس
-ليس لدى وقت هلذا اهلراء ،دلني عىل مكانه وسأذهب إليه.
210
ِ
مكانــه عــى فنظــر اجلنــرال بحــرة إىل القــادة مــن حولــه ثــم أشــار إىل
اخلريطــة ثالثيــة األبعــاد املوضوعــة عــى الطاولــة يف منتصــف اخليمــة،
فنقــل إريــس البيانــات إىل هاتفــه ،ثــم صالــب ذراعيــة عــى صــدره قائـاً:
-سأذهب اآلن إليه ...واآلن أخربين هل نفذت اخلطة كام اتفقنا؟
أخذ اجلنرال يذرع الغرفة ذها ًبا وإيا ًبا ببطء ثم ابتلع لعابه قائالً:
ـاحا وكونــت اجليــش
-نعــم لقــد جنّــدت كل مــن يســتطيع أن حيمــل سـ ً
وجهــزت كل يشء ،ولكــن ممــا رويتــه لنــا ال أعتقــد أن هــذا اجليــش
ســيكفي لتدمــر اجليــش الــذي وصفتــه يل.
التفت إريس إىل اجلنرال وقوس حاجبيه:
-ســيدي طاملــا أننــا ال زلنــا نتنفــس فســنُحارب ،ولــن نســمح هلــذا
ٍ
لبــر مثلنــا أن املجنــون بتدمرينــا واســتعبادنا ،ولــن نســمح أيضــا
ـس واحــدٌ وجيــب أن نتكاتــف ونُصبــح خيدعونــا ويســتعبدونا ،فنحــن ِجنـ ٌ
ً
تضليــا يــدً ا واحــدة لنســتمر يف هــذه احليــاة .يكفــي خدا ًعــا ويكفــي
لعقولنــا .ســأذهب اآلن إىل هــذا الوغــد اجلالــس عــى كُرســيه ُيركنــا كــا
يشــاء ،وصدقنــي ســأجعله يعــرف بــكل يشء .وأهــم يشء ال تنســى أن
حتمــي األبــراج .إن حتطمــت األبــراج ســيتكاتفون علينــا مــن كل َحـ ٍ
ـدب
وصــوب ،وســنُهزم رش هزيمــة.
ابتسم اجلنرال وربت عىل كتفه قائالً:
-حظــ ًا موف ًقــا .ســأنرصف اآلن الســتكامل االعــدادات إذ يبــدوا أهنــا
ســتكون ليلــة طويلــة.
211
قال إريس موقف ًا إياه:
ٍ
مــكان مــا يف -انتظــر قليــا فأنــا مل أجــد غــر اثنــن مــن رفاقــي ،وىف
املدينــة يوجــد مخســة آخــرون ينتظــرون أحــدً ا مــا ليدهلــم عــى الطريــق،
هلــذا ســأبعث مــن وجدهتــم للبحــث عــن البقيــة ...فمــن أفضــل منهــم
ليعثــر عــى مــن ُيشــبههم عــى هــذا الكوكــب الغريــب ...واآلن أريــدك
أن تعطيهــم ســيارة وجهــاز كشــف حــراري مثــل الــذي أعطيتــه يل.
ال وقد ُاثقل كاهله من طلبات إريس:
تنهد اجلنرال قائ ً
نظرا لظروفنا سأمدك بكل ما تريد.
-أنت تطلب الكثري ولكن ً
بــدأ اجلنــرال ُيعطــي األوامــر لرجالــه ،وبعــد أن انتهــى وجــه نظــره إىل
إريــس قائ ـاً:
-حسن ًا ،أين هم رفيقاك حتى ُاعطيهم ا ُملعدات؟
ساخرا:
ً قال إريس
-أعتقد َ
أنك ستتعرف عليهم عندما تراهم.
212
مازحــا:
ً البيضــاء الشــاهقة يف ُمنتصــف غابــة قريبــة منهــم ،قــال إيفانــوف
-يا له من مسكني لقد خرج لتوه من رشنقته وهو ال يعرف شيئ ًا.
أبتسم سايري نصف ابتسامة قائالً:
كثريا بام حيدث هنا.
-ال بد أنه س ُيذهل ً
أضاف قائالً:
ٍ
بشكل دائري! -لقد الحظت أن األبراج تلتف حول املدينة
مل ُيعلــق إيفانــوف وركــن الســيارة عــى جانــب الطريــق ،فرتجلــوا منهــا
متوجهــن وســط املبــاين ا ُملحطمــة ناحيــة الغابــة يف اجلنــوب ،وقبــل أن
يقرتبــوا مــن الغابــة ،اســتوقفهم شــخص ســبقهم إىل الداخــل .روبــوت
يبلــغ طولــه ثالثــة أمتــار ،و ُيمســك بكلبــن آليــن ،مهــس ســايري
إليفانــوف قائــاً:
-ســأدخل أنــا .أريــدك أن تقــف أعــى املبنــي وحتمــي ظهــري مــن هــذا
الــيء.
فأعرتض إيفانوف قائالً:
-هل تريد الدخول لتحذى بكل املتعة وحدك؟
قال سايري بنربة حازمة:
ـأخرج بفتانــا التائــه بعــد قليــل وأتوجــه إىل
ُ -هــذا ليــس وقــت املتعــة .سـ
ـك محايتنــا ألن إنقــاذ اآلخريــن ليــس مــن شــيمي وهلــذا هنــا .واآلن عليـ َ
زعجــا يل.
ســتكون محايتــه أمـ ًـرا ُم ً
213
-ال ختف سأمحي ظهرك ،واآلن أنطلق.
صعــد إيفانــوف فــوق أحــد املبــاين ا ُملحطمــة ،وكان املبنــى قــد هــوى
ومــال عــى مبنــي آخــر ،فقــال بينــه وبــن نفســه:
-واآلن لنرى ما سيحدث.
راكضــا ومعــه نــور وورائهــم
بعــد دقائــق وجــد إيفانــوف ســايري خيــرج ً
يركــض كلبــان ،فجهــز إيفانــوف القناصــة وصــوب نحــو الكلــب األيمن
ُمنتظــرا إشــارة ســايري.
***
214
16
وصــل ك ًُل مــن نــور وكينــو أخـ ً
ـرا إىل الــرج األول ،فســأل نــور واحلــرة
تؤرقــه:
-ماذا علينا أن نفعل اآلن؟
قال كينو وهو يتفحص الربج الشاهق:
-لقد قال يل ليونيس أن ُه َ
ناك زر ُيغلق طاقة الربج يف الطابق السفيل.
-الطابق السفيل! هل تقصد أن هناك طابق آخر حتت األرض.
-نعــم بالطبــع .لــدي ســجالت يف ذاكــريت االحتياطيــة لــكل مــا حــدث
يل يف الــرج ...وعندمــا كنــت يف املصعــد كان هنــاك زر لطابــق ســفيل،
ولكــن املصعــد توقــف عنــد الطابــق األول ومــن ثــم وجــدت بــاب
اخلــروج ،فلــم ُاعــر هــذا الطابــق أي اهتــام.
قال نور وهو ينظر إىل باب الربج:
-وكيــف ســنفتح هــذا البــاب؟ إنــه ال ُيفتــح إال مــن الداخــل عــى مــا
أظــن.
صمــت كينــو ورفــع راحــة يــده اليمنــي إىل أعــى وأطلــق مــن راحــة يــده
موجــة صادمــة ناحيــة البــاب فتحطــم فأبتســم ونظــر إىل نــور املدهــوش
قائـاً:
215
-هكذا.
دلفــا إىل الــرج متوجهــن ناحيــة املصعــد ورشعــا يف عبــور املمــر األبيــض
تجهم:
الطويــل ،فقــال نــور ُم ً
-هذا املكان ُيعيد إ ّيل الذكريات السيئة ،فهو بداية هذا الكابوس.
ـرا وصــا إىل املصعــد فضغــط كينــو عــى هــز كينــو رأســه موافق ـ ًا .وأخـ ً
زر اســتعداءه ولكنــه مل ُيفتــح فتحركــت عقلــة أصبــع ســبابته ألعــى
كغطــاء صغــر ُيفتــح فخرجــت وصلــة الكرتونيــة منهــا ودخلــت يف
مازحــا: ٍ
ثــوان ُفتــح ،فقــال لــه نــور ِ
لوحــة املصعــد ،وبعــد
ً
َ
هناك شيئ ًا يقف أمامك؟ -يا رجل أليس
ابتسم كينوا قائالً:
-بيل هناكٌ .
جيش من الروبوتات يريدُ قتلنا مجي ًعا.
فضحــك نــور ثــم دلفــا إىل املصعــد فضغــط كينوا عــى زر الطابــق األريض
فأنغلــق بابــه وبــدأ باهلبــوط إىل أســفل .بعــد بضعــة ثـ ٍ
ـوان ُفتــح البــاب
دامســا ُيغطــي كل يشء أمامهــا ،ولكــن بمجــرد ُمــد ًدا فوجــدا ظال ًمــا ً
أن خطيــا أول خطــوة إىل األمــام بــدأت سلســلة مــن االنــوار املتتابعــة
بالعمــل حتــى ُاضيئــت الغرفــة بالكامــل .ففــرغ فــاه ك ًُل مــن نــور وكينــو
ملــا رأوه .غرفــة كبــرة فارغــة ،حتتــوي عــى شاشــة عــرض ِعمالقــة،
ولوحــة مفاتيــح صغــرة أمامهــا موضوعــة فــوق طاولــة ُرخاميــة بيضــاء
ُمرتفعــة عــن األرض .وكانــت باقــي الغرفــة فارغــة متا ًمــا ،فقــال نــور
ـدوها:
وهــو يـــتأملها مشـ ً
216
-لقــد توقعــت أن تكــون غرفــة مليئــة بالفئــران وهنــاك زر ســنضغط
عليــه إلغــاق الــرج فينتهــي كل يشء.
رد كينو وهو يعدل من موضع نظارته:
أيضا ،ولكن ال يزال هذا املكان اللعني ُيفاجئنا. -هذا ما ظننته ً
ـطء وهــدوء ،وتفحصــوا املــكان مــن حوهلــا .حتــى اقرتبــا مــن اللوحــة ببـ ٍ
وصــا إليهــا ،فأخــذ كينــو ُيللهــا بعينــه الصناعيــة اليمنــى ثــم قــال:
ـة غريبــة! ولكنــى ســجلتها وحللتهــا واآلن أســتطيع أن -يــا هلــا مــن لغـ ٍ
أحتدثهــا.
فقال نور بغيظ:
ـة ثـ ٍ
ـوان؟ أتعــرف مــاذا ســيحدث ملعنويات -تعلمــت لغــة غريبــة يف بضعـ ِ
األشــخاص الذيــن يقضــون حياهتــم كلهــا يف تعلــم اللغات؟!
ضحــك كينــو بــرور ثــم بــدأ بالضغــط عــى ازرار اللوحــة فأضــاءت
الشاشــة الكبــرة أمامهــا وظهــر عــى الشاشــة شــخص جيلــس عــى
كــريس مــا يف الظــام وبجانبــه يقــف حارســان وكأنــه ملــك يقــف بجانبه
حراســه ولكــن الظــام كان حيتوهيــم فلــم يســتطيعوا رؤيــة مالحمهــم،
فقــال الشــخص اجلالــس عــى الكــريس بنــرة جهوريــة:
ـت
-مرح ًبــا بــك .إذا كنــت قــد اســتطعت الولــوج إىل هــذه الرســالة فأنـ َ
قــد وصلــت إىل املرحلــة التاليــة ملعرفــة احلقيقــة ،هــذا هــو بــرج العينــة
رقــم واحــد ،كينــو رينــوس.
217
نظــر نــور إىل كينــو بنظــرات تعجــب ورأى أن مالمــح الدهشــة أيضــا
عــى وجــه كينــو.
أردت معرفــة
َ -هنــاك جــزء مــن احلقيقــة ُمبــأ يف األبــراج الثامنيــة إذا
احلقيقــة كاملــة فيجــب أن تذهــب إىل مجيــع األبــراج برتتيــب رقــم كل
عينــةُ .بــرج العينــة الثانيــة املدعــو ســايري ثــم بــرج العينــة الثالثــة املدعــو
إريــس ثــم الرابعــة نــور ثــم اخلامســة ياســن ثــم السادســة إيفانــوف ثــم
الســابعة جــن ثــم العينــة الثامنــة يوســف .وهكــذا فــإن هنــاك جــزء
مــن احلقيقــة ُمبــأ يف كل بــرج وبالولــوج إىل مجيــع األبــراج ســتكون قــد
حصلــت عــى احلقيقــة كاملــة ،وستســتعد لالنضــام إىل ٍ
يشء أكــر ممــا
تتخيــل ...واآلن ســأعطيك جــزء احلقيقــة اخلــاص هبــذا الــرج.
حــدق نــور وكينــو باندهــاش وذهــول ال ينضــب وهــم يســتمعون هلــذا
الشــخص الغريــب ُمرتقبــن ومتســائلني عــن أي حقيقــة يتحــدث عنهــا إذ
عرفــوا احلقيقــة كاملــة بالفعــل.
لقــرون طويلــة عاشــت الكثــر مــن املخلوقــات يف هــذا الكــون. ٍ -
البعــض عــاش وحيــدً ا ُمنعــزالً عــن باقــي الكواكــب يف رصاعــات
داخليــة مــع بنــي جنســه حتــى أهلكــوا أنفســهم بأيدهيــم لعــدم فهمهــم
ُل ِم ُنهــم.
لبعضهــم البعــض ولالختالفــات التــي أعطاهــا اهلل لــك ٍ
ولكــن الســبب الرئيــي كان يكمــن يف األشــخاص الذيــن يتحكمــون
بمصــر هــذه الشــعوب ...أنتــم البــر تســموهنم احلــكام ،امللــوك،
الرؤســاء ،السياســيني ،والعديــد مــن األســاء األخــرى ...وكذلــك
كانــت املخلوقــات األخــرى تُعطيهــم أســا ًء تتشــابه فيــا معناهــا مــع
218
اســاءكم ...وبحامقــة هــؤالء احلــكام وطمعهــم الالهنائــي أدى هــذا
إىل فنــاء الكثــر مــن االجنــاس بــدون أن تكتشــف ملحــة عــن حقيقــة
ـات وأرسار عجيبــة تُلهــب هــذا الكــون وحقيقــة مــا يمتلكــه مــن خملوقـ ٍ
اخليــال والعقــل والفــؤاد .ولكــن يف نفــس الوقــت كان هنــاك أجنــاس
توحــدّ ت ومل تتحــارب قــط وتعاونــت فيــا بينهــا للوصــول إىل أعــى
درجــات العلــم واالكتشــاف .وهكــذا وبتوحيــد جهودهــم اســتطاعوا
الوصــول إىل اكتشــاف الكواكــب االُخــرى واحليــوات االُخــرى .بعضهــم
ذهــب ليــزور هــذه الكواكــب واملخلوقــات الغــر مألوفــة هلــم فقابلتهــم
االجنــاس األخــرى بالعــدوان واخلــوف لكوهنــم خملوقــات غريبــة ال متت
لعاملهــم املــادي امللمــوس بــيء ،فحدثــت حــروب كبــرة فيام بينهــم أدت
إىل تدمــر بعــض احلضــارات لبعضهــا البعــض وظهــور قــوى اســتعامرية
كونيــة فاســتمرت احلــروب والرصاعــات بــن املخلوقــات ا ُملتقدمــة لزمـ ٍ
ـن
ٍ
طويــل ،ومل يســتطع إال القليــل أن يتقبــل االختالفــات العديــدة بينهــم
وبــن الفضائيــن اآلخريــن الذيــن جــاءوا لزيــارة كوكبهــم .ولكــن اخلطر
رئيســيا للتعــاون .وهكــذا
الكبــر الــذي يشــمل الــكل دائـ ًـا مــا كان ســب ًبا ً
حتالفــت بعــض الكواكــب مــع بعضهــا ضــد هتديــدات أكــر جــاءت مــن
خملوقــات بالغــة القــوة والنفــوذ يف هــذا الكــون وحدثــت رصاعــات بــن
نــذ آالف الســنني مل تنتهــي بعــد ،وظلــت العــداوة خملوقــات ُاخــرى ُم ُ
والبغضــاء بينهــم مســتمرة حتــى اآلن .ولكــن يف ظــل كل هــذه الظــروف
ـس جديــدٌ واعــد توجهــت إليــه األنظــار .جنــس اعتقــد اجلميــع ظهــر جنـ ٌ
أنــه س ـ ُيعيدُ التــوازن إىل الكــون وســيوحده عــن طريــق إهنــاء اخلالفــات
والرصاعــات املســتمرة موحــدً ا الكــون حتــت إمرتــه .هــذا اجلنــس كان
219
نظــرا
ً ُيســمي باللونيكــس أي غزيــر املعرفــة واحلكمــة .وهــذا االســم
ألهنــم يعلمــون الكثــر مــن األشــياء التــي مل تســتطع العقــول االُخــرى
يف الكــون الوصــول إليهــا.
فــرغ فــاه كينــو وحــدق إىل نــور الــذي كان ينظــر إليــه بنظــرة مضطربــة يف
نفــس الوقــت ،فقــال نــور بينــه وبــن نفســه:
-أليــس هــؤالء اللونيكــس هــم الروبوتــات ذات اللــون الذهبــي
والراغبــن يف املشــاعر مثــل باقــي املخلوقــات؟
أكمل املتحدث عرب الشاشة قائالً:
ـرا وشــديد الــذكاء ،مل يتحاربــوا قــط جنســا ُمتحـ ً -اللونيكــس كانــوا ً
ٍ
ـات قليلــة ،وكانــوا يفعلــون كُل يشء بنظــا ٍم ُمعـ ٍ
ـن فيــا بينهــم إال يف أوقـ ٍ
وجعلــوا لــكل ٍ
يشء مقــدار ـ ال يزيــد وال يقــل ـ كانــوا يعرفــون جيــدً ا أن
أي شــخص ِمنهــم ســيخرج عــن النظــام ـ الــذي أعطــاه اهلل هلم ـ ســيودي
هبــم إىل حــروب ورصاعــات ال تنتهــي .فمــن يعلــم الطريقــة الصحيحــة
للحيــاة غــر خالــق احليــاة؟ وهكــذا ظلــت هــذه املخلوقــات ا ُملميــزة تبني
حضــارات هائلــة وتنــر علـ ًـا رهي ًبــا يف كل أنحــاء الكــون .كانــوا جيــدون
يشء تفســر ،وكانــوا أفضــل مــن يفهــم هــذا الكــون ويــرى حكمــة لــكل ٍ
خلقــه واتقانــه الرهيــب والتناغــم والتناســق الــذي يميــزه ...اســتطاعوا
الوصــول لشــتى بقــاع الكــون ونــروا الســام وأبعــدوا اجلهــل عــن
املخلوقــات ،وحثوهــم عــى تأمــل الكــون وأرساره حتــى يــروا كــم أن
رصاعتهــم هــذه تافهــة ال تســتحق كل هــذا ،وأن هنــاك طريقــة أفضــل
للجميــع للوصــول إىل احلكمــة والســام ...بالطبــع حارهبــم ذوي
220
النفــوس الفاســدة ،ولكنهــم كانــوا أقــوى فهزموهــم مجي ًعــا يف حـ ٍ
ـروب
كثــرة ،ولكــن أفضــل مــا حــدث هــو أهنــم اســتخدموا حكمتهــم
وعلمهــم لتغيــر األرشار وجعلهــم أكثــر املخلوقــات ُح ًبــا للخــر
والســام ،وهــذا هــو الــيء ا ُملميــز فيهــم الــذي جعلهــم النــور املــيء
أجنــاس قويــة أيضــا ولكــن
ٌ يف هــذا الكــون ا ُملعتــم .ولكــن كان هنــاك
نواياهــا كانــت ترتكــز حــول االســتعامر والتفرقــة مــن أجــل الوصــول
إىل مصاحلهــم اخلاصــة ،وهــذه األجنــاس ُســميت بالزوريكــس ،وهــم
أجنــاس قديمــة جــدً ا كانــت مســئولة منــذ وقــت بعيــد عــن النظــام يف
الكــون ،ولكــن طــال عليهــم األمــد فقســت قلوهبــم وفســدوا وأصبحــوا
مــن أكثــر املخلوقــات فســا ًدا يف الكــون ،بعدمــا كانــوا النــور الــذي ُينريها
ـت مــن األوقــات ،ويبــدوا أن نفــس الــيء حيــدث اآلن للونيكــس يف وقـ ٍ
فقــد ضعفــوا ووهنــوا ونســوا حكمــة أســافهم ممــا مكــن الزوريكــس
منهــم ومــن عاملهــم .واآلن هــذا هــو جــزء احلقيقــة الــذي خيــص هــذا
الــرج توجــه إىل الــرج التــايل إن أردت أن تُكمــل القصــة.
انطفــأت الشاشــة ،وســاد الصمــت ،رشد ك ًُل مــن نــور وكينــو بالكامــل
وهــم يتأملــون مــا ســمعوه يف حماولــة الســتيعابه ،وفجــأة كــر كينــو
حاجــز الصمــت قائــاً:
-هنــاك يش ٌء مــا خاطــئ! أليــس اللونيكــس والزوريكس هــم الروبوتات
املتنازعــة عــى هــذا الكوكــب؟! أم هــل يمكــن أهنــم يعلمــون هــذه
القصــة القديمــة وســموا أنفســهم تيمن ـ ًا هبــا؟! فــإن حللـ ُ
ـت مــا ســمعناه
فاللونيكــس هــم االخيــار مثــل ليونيــس ،والزوريكــس هــم األرشار أو
221
ال نعــرف بعــد مــا هــم! ولكــن أســتطيع أن أتوقــع أهنــم مــن يتبعــون
اجلانــب اآلخــر التدمــري ،وهــم الروبوتــات الفضيــة عديمــة املشــاعر
عــى هــذا الكوكــب.
ـراب كبــر وقــد اظلمــت نفســه لــكل هــذه شــخصت عــن نــور باضطـ ٍ
األشــياء الغريبــة التــي ســمعها منــذ اســتيقاظه يف هــذا الــرج ،فقــال بنــرة
مرجتفــة:
-يــا للهــول أشــعر أننــا يف دوامــة كبــرة ،نحــن مل نكــن متأكديــن أن هناك
خملوقــات أخــرى ،والبعــض ظــن أننــا وحدنــا يف هــذا الكــون الشاســع،
واآلن كل هــذه القصــص عــن خملوقــات غريبــة تــأيت إىل دفعــة واحــدة!
ولكــن إذا حللنــا هــذه القصــة ،فلربــا ذكاء الروبوتــات العظيــم جعلهــم
يتوصلــون إىل هــذه القصــة ،وســموا أنفســهم تيمنــ ًا هبــذه املخلوقــات
القديمــة بالغــة القــوى.
ا وأخــذ يفكــر ،ولكنــه شــعر أن أســئلت ُه تــزداد ،فهــوصمــت كينــو قلي ـ ً
مل جيــد منــذ اســتيقاظه عــى هــذا الكوكــب غــر األســئلة واحلــرة ،وبعــد
فــرة مــن الصمـ ِ
ـت قــال:
-ال هيــم اآلن ســنعرف باقــي احلقيقــة بالولــوج إىل كل األبــراج ،ولكــن
مــن حســن حظــك أننــي معــك ...وألن مجيــع األبــراج متصلــة ببعضهــا
البعــض ...فهــذا ســيمكنني مــن الولــوج إليهــا اآلن وبــدون أن نذهــب
إليهــا مجي ًعــا ...ولكــن أوالً علينــا أن نُغلــق الــدرع الواقــي ،أو بــاألدق
اجلــزء اخلــاص هبــذا الــرج ممــا سيســمح ألصدقــاء ليونيــس القادمــن
مــن القــارة األخــرى بالدخــول إىل مدينتنــا ملســاعدتنا يف صــد جيــش
222
الزوريكــس القــادم ،وكــا قــال يل ليونيــس ،فهــذا الــرج ُيغلــق اجلــزء
الرشقــي مــن الــدرع ممــا سيســمح لللونيكــس بالعبــور عــر اجلــر
املرتبــط بالقارتــن.
تأكــد كينــو أن ليونيــس كان ُيفــي شــي ًئا مــن احلقيقــة فقــد كان كالمــه
ـرج لــوال أن عضــو غري ًبــا ومتضار ًبــا أحيا ًنــا ولكنــه مل يكــن ليفتــح لــه الـ ُ
أيضــا مــن حقيقــة اإلينيكــس اإلينيكــس طلــب منــه هــذا .ازدادت حريتــه ً
وهدفهــم مــن فعــل كل هــذا!
هــز نــور رأســه موافقـ ًا ومل ينبــس ببنــت شــفه ،فبــدأ كينــوا بالضغــط عــى
اللوحــة والولــوج إىل بعــض البيانــات بلغــة غريبــة مميــزة ،وىف النهايــة
تنهــد قائ ـاً:
-حســن ًا ،لقــد انتهيــت .متــت املهمــة بنجــاح ...كــا أننــي اســتطعت
الولــوج إىل األبــراج الثامنيــة وســحب كل الفيديوهــات ا ُملســجلة األخرى،
ولكــن دعنــا نخــرج مــن هنــا أوالً ونــرى نتــاج عملنــا ثــم نشــاهدها فيــا
بعــد.
ـرا حتــى
شــعر نــور بالراحــة هلــذا ،ولكنــه أخــذ يفكــر فيــا ســمعه كثـ ً
اســتيقظ مــن حلــم اليقظــة هــذا عــى صــوت كينــو وهــو يســحبه ناحيــة
املصعــد.
توجهــا إىل خــارج الــرج وقــد انتصفــت الشــمس يف كبــد الســاء والقــت
ـرج حتــىـرج الشــابان مــن الـ ِ
بأشــعتها الدافئــة عليهــا ،وبمجــرد أن خـ َ
وجــدا مــن ينتظرمهــا؛ شــخص ُملثــم وآخــر ضخــم اجلثــة ،فأخــرج نــور
ُمسدســه برسعــة وصــوب ناحيــة امللثــم ،فقــال الضخــم وهــو يرفــع يــده
223
ليهدئــه:
-عــى مهلــك يــا فتــى نحــن مــن أنقذنــاك يف الغابــة ...أال تتذكرنــا مــن
االختبــارات؟
فنظــر نــور إليهــم بنظــرات تشــكك ثــم عــادت الذكريــات تتدفــق إىل
ا إذ تذكرهــم:عقلــه ُدفعــة واحــدة ،فأبتســم قائــ ً
-آه ...سايريون وإيفانكوف.
ضحك إيفانوف ضحكة ال تليق بجسده الضخم قائالً:
-ال زلت أمحق ًا كام كنت ...سايري وإيفانوف.
-مــا الــذي جــاء بكــا إىل هنــا يــا رفــاق؟ وملــاذا يرتــدي ســايري هــذا
الــرداء؟ هنــاك شــخص حــاول مهامجتــي يرتــدي نفــس هــذه الــرداء.
ٍ
معان كثرية: ٍ
بنظرة هلا ال وهو يرمق كينو رد سايري قائ ً
-إهنــا قصــة طويلــة ولكــن هــذه املالبــس قــد رسقتُهــا مــن نفــس اجلامعــة
التــي حاولــت مهامجتــك ...واآلن مــا الــذي كنتــم تفعلونــه داخــل الربج؟
نظــر كينــو إىل نــور وهــو يأمــل أنــه لــن يقــول احلقيقــة ولكــن نــور رشع
يف رشح األمــر هلــم بــكل تلقائيــة ويــر وأخربمهــا بــكل ٍ
يشء ،والحــظ
أن قســات وجهيهــا قــد انقبضــت يف غضــب فقاطعــه إيفانــوف عندمــا
وصــل إىل إيقــاف الــدرع قائ ـاً:
-ماذا فعلت؟ يا إهلي سوف هنلك اآلن ال حمالة.
ولكــن كينــو مل يفهــم شــيئ ًا وأخــذ يســتفرس ،فــرع إيفانــوف يقــص
224
عليهــا كل مــا حــدث هلــا حتــى وصــا إليهــا فنــزل اخلــر عليهــا
كالصاعقــة.
قال كينو لنفسه يؤنبها:
-لقــد تــم خداعــي كل هــذا الوقــت ،ال عجــب أن قصــة الشــخص يف
شاشــة العــرض تتعــارض مــع قصــة ليونيــس ...يــا إهلــي مل أعــد أدري
أيــن هــي احلقيقــة يف كل هــذا اهلــراء واخلــداع ا ُملســتمر ...اجلميــع يلعــب
بنــا كالدميــة.
رست يف جســد نــور عــدة رعشــات قصــرة ونظــر إىل كينــو هبلــع ،فقــال
كينــو بنــرة متقطعــة وقــد تصبــب العــرق مــن جبينــه:
-أنــا حقــ ًا مل أعلــم هــذا ،لقــد ُخدعــت بالكامــل وأظــن أنكــم كان
ســيحدث لكــم نفــس الــيء ،لــو مل يتــم اختطافكــم ...ولكــن دعكــم
مــن هــذا أظــن أنــه يمكننــي أن أجعــل الــدرع يعمــل مــن جديــد.
أوقفه سايري بنظراته قائالً:
-كينو أنت ُتفي شيئ ًا ما أليس كذلك؟
توتر كينو وتلعثم يف الكالم قائالً:
-ماذا تقصد؟ أنا ال أخفي شيئ ًا!
-بل ُتفي شيئ ًا يتعلق بالدمار الذي حل عىل هذه املدينة.
تذكــر ســايري مــا ســمعه مــن عضــو اإلينيكــس ـ الــذي رصعــه وأخــذ
مالبســه ـ عــن كينــو وعــن اخلطــأ الــذي قــام بــه ممــا تســبب يف غــزو هــذه
225
املدينــة وتدمريهــا عــى يــد روبوتــات جايــا ،وشــعر كينــو أنــه يف ورطــة
ســتجعله يعــرف بحقيقــة مــا حــدث هنــا ،ولكــن مــن حســن حظــه أنــه
رأى مــا فاجئــه وأنقــذه مــن هــذه الورطــة .كان ليونيــس يقــرب ناحيتهــم
مــن بــن احلطــام وهــو ُيشــر إىل كينــو بيــده ،فحــاول كينــو إخفــاء غضبــه
وطلــب مــن بقيتهــم أال يقومــوا بــأي ردة فعــل ،ومهــس هلــم أن هــذا هــو
ليونيــس الــذي حدثهــم عنــه .اقــرب ليونيــس ُمبتسـ ًـا ابتســامة ُمصطنعــة
وجســده الذهبــي يلمــع حتــت أشــعة الشــمس ،وقــال بنربتــه اإللكرتونيــة
الغريبــة:
-هل قمت بتنفيذ املهمة؟! إن جيشنا ينتظر اإلشارة ملساعدتكم.
فرد كينو هبدوء شديد أحسن اصطناعه:
-نعم ،لقد متت املهمة بنجاح.
مسا كينو:
قال ليونيس ُم ً
-أحســنت يــا صديقــي واآلن سنســحق هــؤالء الزوريكــس وهنزمهــم
رش هزيمــة.
وجــه ليونيــس نظــره إىل اآلخريــن واســتطرد قائ ـ ً
ا وهــو يرفــع حاجبــه
املعــدين:
-هل هؤالء رفاقك الذين كنت تبحث عنهم؟
-نعــم إهنــم هــم .لقــد عثــرت عليهــم ...يش ٌء آخــر يــا ليونيــس أيــن
قلــت يل أن جيشــكم قــادم؟
226
فأشــار ليونيــس نحــو الــرق ،فشــعر اجلميــع برجفــة يف أجســادهم.
فقــال كينــو وقــد تبدلــت مالحمــه:
-أتقصد جيش جايا؟!
ٍ
بسخرية قائالً: حدق إليه ليونيس طويالً ،ثم ابتسم
أنت تعرف احلقيقة.
-إذن َ
فأنطلق كينو ناحيته وحاول لكمه بقوة وهو يقول:
عيل.
-أن ختدعني مرة فعار عليك ،وأن ختدعني مرتني فعار ّ
ولكــن ليونيــس أمســك بقبضتــه بســهولة وســحبه مــن يــده وقذفــه بعيــدً ا
فتفاجــئ اجلميــع ممــا فعلــه ،فأخــرج ســايري ســيفه الضوئــي وحــول
إيفانــوف يــده إىل معــدن وانطلقــوا ناحيــة ليونيــس ولكنــه أخــرج أجنحــة
ذهبيــة حديديــة مــن ظهــره وحلــق يف اهلــواء ُمبتعــدً ا وهــو يتوعدهــم
قائ ـاً:
-ال تســتعجلوا هنايتكــم ،فهــي قادمــة بعــد قليــل ...جيــش ســيدي جايــا
يتوجــه اآلن بــاآلالف إىل هنــا وســيصل يف أي حلظــة وســينتهي أمركــم
وأمــر جالديــوس.
ً
صارخا: نظر إليه إيفانوف باشمئزاز ثم حول نظره إىل رفاقه
-لقد تأخر الوقت جيب أن نعيد تشغيل الدرع برسعة.
أتفــق معــه اجلميــع وركضــوا ناحيــة الــرج برسعــة ،ولكــن األوان قــد
فــات ،فقــد ســمعوا صو ًتــا مــن الســاء؛ صــوت اجنحــة ترفــرف برسعــة
227
ومــن األفــق ظهــر رس ًبــا مــن اآلالت الطائــرة الشــبيهة بالنحــل ،وبــدأت
تطلــق إبـ ًـرا متفجــرة مــن ذنبهــا عليهــم بمجــرد أن رأيتهــم ،فبــدأت املبــاين
تنفجــر مــن حوهلــم وتســاقطت الصخــور فــرخ نــور قائـاً:
-لقد فات األوان ،جيب أن هنرب اآلن ونذهب إىل جيشنا.
ركــض إيفانــوف ناحيــة الســيارة وتبعــه اجلميــع ،فأمســك بمقبــض
القيــادة وانطلــق برسعــة يشــق املدينــة ُمتجن ًبــا الطلقــات واحلطــام مــن
حولــه وقــد شــعروا أن هنايتهــم قــد جــاءت .الليلــة سـ ُيقيض عــى البــر
متا ًمــا .إهنــا هنايــة البرشيــة.
ظــل النحــل اآليل ُيطارهــم وهــو ُيطلــق عليهــم مــن ذنبــه مــادة خــراء
تُذيــب كل مــا تلمســه .أســتمر إيفانــوف يف تفادهيــا ،بينــا رأوا عــد ًدا مــن
الروبوتــات الفضيــة تركــض برسعــة هائلــة وراءهــم ،فقــال نــور وقــد
فــرغ فاهــه مــن رسعتهــم:
-يــا إهلــي ،ســيلحقون بنــا عــا قريــب ...أرسع ،أرسع ...يبــدوا أنــه ليس
هنــاك روبوتــات ذهبيــة وفضيــة ،بــل ليونيــس هــو قائدهــم مجي ًعــا وهلــذا
فهــو حيمــل لو ًنــا ُميـ ًـزا عنهــم.
ضغــط إيفانــوف عــى دواســة القيــادة بقــوة فاندفعــت الســيارة برسعــة
رهيبــة وأصبــح مــن الصعــب الســيطرة عليهــا ،ولكــن إيفانــوف متكــن
منهــا بصعوبــة بالغــة وهــو يتجنــب طلقــات الروبوتــات واحلطــام يف
الطرقــات أمامــه ،حتــى اســتطاعت نحلــة أن تصيــب الســيارة بالســائل
املذيــب فأخــذ ســطح الســيارة يتــآكل برسعـ ٍ
ـة رهيبــة فضغــط إيفانــوف
بقــوة عــى الفرامــل بينــا تشــبث اجلميــع يف كراســيهم حتــى توقفــت
228
الســيارة ،فقــال هلــم بلهجــة حتذيريــة:
-اخرجوا من هنا حاالً ...ستنفجر السيارة.
خــرج اجلميــع مــن الســيارة وابتعــدوا عنهــا بقــدر مــا اســتطاعوا حتــى
انفجــرت وراءهــم.
اقــرب عــدد كبــر مــن الروبوتــات منهــم وحارصهــم ،فــرأى اجلميــع أنه
ـا وحدهم. ال جمــال للهــرب مــن مواجهتهــم .ســيواجهون جيشـ ًا كامـ ً
اقرتبــت الروبوتــات وأقدامهــا احلديديــة هتــز األرض فارجتفــت املدينــة
عــى صليــل أصواهتــم املعدنيــة االلكرتونيــة الغريبــة وهــم يــرددون
هــم ِمنهــا هــو كلمــة جايــا.
عبــارات غريبــة بلغتهــم ،وكل مــا ُف َ
ٍ
ورطــة وقــف نــور بثبــات وقــد اســتبد القلــق بقلبــه وأحــس أهنــم يف
عويصــة ال مفــر منهــا إذ أصبحــوا وحدهــم متا ًمــا يف مواجهــة هــذا اجليــش
اجلــرار مــن هــذه الروبوتــات شــديدة التطــور والتســليح .قــال نــور وهــو
حيــث رفاقــه عــى الثبــات:
-اســتعدوا لالصطــدام ...إن كنــا ســنموت هنــا الليلــة ...إذ ًا فلنأخــذ
معنــا أكــر عــد ًدا ممكــن.
بثقة يشوهبا السخرية:قال سايري ٍ
229
مــن االســتمتاع بوقتنــا ...ولكــن اآلن وبعــد أن ِ
علمنــا مــا حيـ ُ
ـدث هنــا
أو بعــض الــذي حيــدث ...حــان الوقــت لنتســى ُمــد ًدا كــا حــدث يف
الســباق مــن قبــل.
ابتسم سايري نصف ابتسامة وأخرج سيفه قائالً:
-سنتســى أمــام جيــش مــن الروبوتــات ،يــا للســخرية ...واآلن فلنــرى
مــن سـ ُيحطم أكــر قـ ٍ
ـدر ُمكـ ٍ
ـن منهــم ...أشــعر وكأننــي أحطــم احلضــارة
احلديثــة وســلبياهتا بتحطميهــم.
ثم نظر إىل كينو نظرة ٍ
حتد قائالً:
-لقــد أخــذت منــي املركــز األول يف ســباق املــوت وهــذا لــن حيــدث
ثانيــة أبــدً ا ...واآلن لنــرى مــن األفضــل ...وال تنســى َ
أنــك ســتُخربنا
باحلقيقــة التــي ُتفيهــا بعــد أن ننتهــي هنــا.
مل ينبــس كينــو ببنــت شــفه واكتفــى بإحصــاء عــدد الروبوتــات بعينيــة
اآلليــة.
حائرا من ثقتهم الزائدة ،وهز كتفية باستهجان قائالً:
وقف نور ً
-مرح ًبــا ...هنــاك جيــش مــن الروبوتــات يتوجــه ناحيتنــا ...أال تــرون
الورطــة التــي وقعنــا هبــا؟! مصــر البرشيــة كلهــا عــى املحــك هنــا وأنتــم
تتســابقون فيــا بينكــم؟! مــا هــذا اهلــراء؟
ربا نافد:
قال إيفانوف بشغف عارم وص ً
-حسن ًا ...فلنبدأ.
230
قاطعه سايري قائالً:
-قبل أن نبدأ أريد أن أطلب منك طلب.
طلــب ســايري مــن إيفانــوف أن يقذفــه عال ًيــا يف اهلــواء حتــى يتمكــن مــن
القضــاء عــى النحــل اآليل الــذي هيامجهــم مــن األعــى ،فغطــى إيفانــوف
جســده باحلديــد ومــد يــده ليقــف عليهــا ســايري ثــم مجــع كل قوتــه
وقذفــه عال ًيــا يف الســاء ،فأنطلــق ســايري يشــق اهلــواء إىل األعــى ولكنــه
وجــد أنــه لــن يصــل إليهــم ورسعــان مــا بــدأ باهلبــوط جمــد ًدا إىل أســفل،
ولكنــه وجــد كينــو ُيلــق بجانبــه وقــد خرجــت النــران مــن ظهــره
ٍ
بقــوة أكــر إىل أعــى .أنطلــق واقدامــه ،فأمســك بــه مــن يديــه وقذفــه
ســايري عكــس اجلاذبيــة وشــعره يتطايــر مــن اهلــواء.
رأى النحــل اآليل أنــه يتوجــه ناحيتهــم فســارعوا بإطــاق النــران نحــوه،
ويعكســها بقوتــه ويتجنبهــا حتــى وصــل
ُ فأخــذ ســايري يصدُ هــا بســيفه
إىل اول نحلــة فشــقها بســيفه نصفــن ثــم أكمــل إىل أعــى ورشع باهلبــوط
ُمــد ًدا فســحب بقوتــه نحلــة ناحيتــه ووقــف فوقهــا ثــم بــدأ ُيركهــا
وكأهنــا عبــدة لــه قيــد حتكمــه ،فقادهــا وهــو يشــق طريقــه بــن النحــل
اآلخــر ويقطعهــم بســيفه بينــا يتجنــب نرياهنــم.
هبــط كينــو عــى األرض بجانــب إيفانــوف ثــم نظــر لــه نظــرة فهــم
إيفانــوف معناهــا.
تــرك إيفانــوف حقيبــة أســلحته وطلــب مــن نــور اســتخدامها إن كان
يرغــب ثــم تركــه وانطلــق مــع كينــو يندفعــان ناحيــة جيــش الروبوتــات
الــذي أحصــاه كينــو ليجــد أنــه يبلــغ تعــداده عــرة آالف ،وبالطبــع
231
ـرا مــن اجليــش ألن أكثرهــم كانــوا يعــرون اجلــر
كان هــذا ُجــز ًء صغـ ً
الذهبــي مــع جايــا.
ركضــا ناحيــة الروبوتــات فأطلقــت النــران عليهــا إليقافهــا .مــد
إيفانــوف يــده إىل االمــام فصــد الطلقــات بســهولة بينــا وضــع كينــو درع
مــن الطاقــة حــول جســده.
وقــف نــور مذهــوالً مــن قدراهتــم وأحــس ببعــض الغــرة ولكنــه مل يــرك
جــدارا مــن احلديــد وأختبــأ خلفــه
ً هــذا الذهــول ينســيه دوره ،فصنــع
وأمســك القناصــة التــي كان إيفانــوف حيملهــا معــه ورشع يف التصويــب
وإصابــة الروبوتــات يف اجلوهــرة املحيطــة برأســهم وقلبهــم.
قال نور لنفسه:
-هذا أقىص ما أستطيع فعله يف وضعي احلايل.
وىف الســاء انطلــق ســايري يشــق طريقــه وهــو يدمــر النحــل الواحــدة تلو
األخــرى ،وعندمــا تدمــرت نحلتــه قفز عــى واحدة أخــرى وســيطر عليها
ولكنــه ملــح يف االُفــق روبــوت ضخــم فــي اللــون يبلــغ طولــه ســبعة
أمتــار يقــرب ِمنهــا ورسب مــن النحــل يمتــد أمامــه حتــى الروبــوت
الضخــم .نظــر إىل األســفل ورأى كينــو وإيفانــوف وهــم ُيســقطان
الروبوتــات الواحــد تلــو اآلخــر بقــوة عظيمــة وعزيمــة جبــارة ،هــذا
ـدب وصــوب لتحارصهــم ُل حـ ٍوقــد التفــت الروبوتــات عليهــا مــن ك ِ
وتقيــد حركتهــم ،ولكنهــم كانــوا يلكموهنــا ويفجروهنــا بــكل يــر .رأى
ســايري أن هــذا الروبــوت قــد ُيســبب هلــم مشــكلة كبــرة فقــرر القضــاء
عليــه وحــده لريهيــم أنــه األقــوى هنــا.
232
وضــع ســايري ســيف ُه يف رأس النحلــة التــي يقــف عليهــا وقفــز عــى
النحلــة التــي تليهــا والتــي تليهــا ،واســتمر يقفــز فوقهــم برشــاقة وكأهنــم
جــر يقــوده ناحيــة الروبــوت الضخــم ،وىف النفــس الوقــت كلــا قفــز
عــى نحلــة يضــع ســيفه يف رأســها ويقفــز عــى التــي تليهــا فتنفجــر وراءه
وتســقط.
ظــل ســايري يقفــز مــن نحلــة إىل أخــرى وهــو يشــق بســيفه كل مــن
يقــف بطريقــه ،وأحيان ـ ًا يســتخدم قوتــه ل ُيحركهــم بالقــرب منــه حتــى
يقفــز عليهــم أو ليجعلهــم يصطدمــون ببعضهــم البعــض .اســتمر يف
القفــز والتدمــر حتــى أســقط نصــف رسب النحــل واقــرب للغايــة مــن
الروبــوت الضخــم .نظــر إيفانــوف إىل األعــى ثــم إىل األفــق ورأى مــا
ينــوي عليــه ســايري ،فابتســم قائ ـاً:
-أهيــا الوغــد ...تريــد أن حتصــل عــى كل املتعــة لنفســك ...ولكــن لــن
أتــركك هــذه املــرة.
دفــع إيفانــوف الروبوتــات مــن حولــه بقــوة واندفــع بكتفـ ِ
ـه األيمــن يشــق
طريقــه وســط جيــش الروبوتــات اهلائــل بينــا اســتمر كينــو يف تفجــر
وتدمــر الروبوتــات مــن حولــه.
ـة إىل األخــرى ،وقــد ســحب ـركات هبلوانيــة مــن نحلـ ٍ
ٍ قفــز ســايري بحـ
نحلــة إليــه وشــقها بســيفه وحــرك جســدها بقوتــه ليصطــدم بالنحــل
أمامــه و ُيســقطه .نظــر إىل األســفل فــرأى إيفانــوف يشــق طريقــه بــراوة
ناحيــة الروبــوت العمــاق فقــال بحــزم وعــزم:
-لن أتركك حتصل عليه.
233
ٍ
برسعــة كبــرة ناحيــة الروبــوت ٍ
بنحلــة وبــدأ يقودهــا أمســك ســايري
وهــو يتجنــب طلقاهتــم ومادهتــم املذيبــة وكأنــه يف ســباق طائــرات
ـة ُاخــرى لتســهل ومنــاورات حربيــة .يقفــز بــن احلــن واآلخــر عــى نحلـ ٍ
أخــرا فهبــطً عليــه طريقــه حتــى اســتطاع الوصــول إىل الروبــوت
بالنحلــة برسعــة حتــى أصبــح قري ًبــا مــن الروبــوت ثــم قفــز عال ًيــا مــن
فوقهــا وألتــف بجســده يف اهلــواء وهبــط بقــوة إىل األســفل ومــد ســيفه
إىل االمــام وهــو يشــق اهلــواء هابطــ ًا إىل األســفل بينــا رأى إيفانــوف
ـرا مــن الروبــوت إذ ال يســتطيع أحــد أن يوقفــه ،حتــى وقــد اقــرب كثـ ً
وصــل إىل الروبــوت الضخــم ورأى ســايري هيبــط يف اهلــواء ناحيتــه فقفــز
إيفانــوف ووجــه لكمــة إىل معــدة الروبــوت حتــى يقــي عليــه بينــا هبــط
ســايري وشــق بســيفه جســده وأخــذ هيبــط إىل األســفل ببــطء.
لكــم إيفانــوف الروبــوت بقــوة فأندفــع بــدوره إىل اخللــف من أثــر اللكمة
ارضــا بســبب اندفــاع الروبــوت
فأهتــز جســد ســايري وكاد أن يســقط ً
املفاجــئ ولكنــه أخــرج ســيفه بعــد أن شــق رأس الروبــوت إىل نصفــن
وقفــز عــى جســده وأخــذ يركــض عليــه إىل األســفل بينــا يتهــاوى جســد
الروبــوت الضخــم إىل اخللــف.
هبط سايري بجانب إيفانوف وقال له بغيظ:
-حسن ًا سأعتربه تعادالً.
ـدب وصــوب وأطلقــت النــران ُل حـ ٍ التفــت الروبوتــات عليهــم مــن ك ِ
عليهــم فأوقــف ســايري الرصــاص بيــده ثــم عكســه ناحيتهــم بينــا توجه
إيفانــوف إليهــم وأخــذ حيطــم أجســادهم ورؤوســهم بيــده احلديديــة.
234
اســتمرت الروبوتــات بمحارصهتــم واالقــراب منهــم وحماولــة اإلمســاك
هبــم بــدالً مــن قتلهــم بعــد ان فشــلت يف هــذا.
قفــزت الروبوتــات فــوق بعضهــا بعنــف وعــدم اكــراث يف ســبيل
ـارا قاط ًعا أجســادهماإلمســاك بعدوهــا ،فلــوح ســايري بســيفه يمينـ ًا ويسـ ً
الفوالذيــة الواحــد تلــو اآلخــر ،فــازدادت أعدادهــم ومل يعــد ســايري
يســتطيع القضــاء عــى كل هــذا العــدد أو اهلــرب منــه .فقفــزوا عليــه
وأمســكوا بــه ولكنــه دفــع طاقــة هائلــة مــن داخــل جســده أطاحــت هبــم
مجي ًعــا بعيــدً ا عنــه ،وأعطتــه هــذه احلركــة مســاحة كافيــة ليتحــرك بحريــة
فــرأى أهنــم ُمارصيــن متا ًمــا وال جمــال للهــرب إال بالقضــاء عليهــم مجي ًعا.
ـه وأخــذ ُيطلــق شــعا ًعا أزرق اللــون ناحيــة فتــح كينــو فوهــة يف معصمـ ِ
جحافــل الروبوتــات املنطلقــة ناحيتــه فدمرهــم الشــعاع بمجــرد أن
ملســهم ،بينــا اســتمر نــور يف اصابتهــم بالقناصــة واســقاط أكــر عــد ًدا
ـك ببعــض القنابــل ا ُملتفجــرة وقذفهــا ناحيتهــم فانفجــرت ُمكــن وأمسـ َ
فيهــم لتحوهلــم إىل أشــاء حديديــة.
شــعر نــور أنــه مــن املســتحيل أن يقضــوا عــى كل هــذه األعــداد وحدهــم
وأن التفكــر يف هــذا وحــده در ًبــا مــن اخليــال مهــا بلغــت قوهتــم ،فبــدأ
بتحليــل املوقــف حولــه وحماولــة التفكــر يف خطــة للهــروب ولكنــه مل ِ
جيــد أي خطــة إطالق ـ ًا.
ـوة وبدأتوبعــد نصــف ســاعة مــن القتــال ا ُملســتمر حارصهتــم اآلالت بقـ ٍ
أعدادهــا اهلائلــة حتســم املعركــة ،وشــعر ســايري وإيفانــوف باإلهنــاك بينام
بــدأت ذخــرة كُل مــن نــور وكينــو بالنفــاد ،وأحســوا أن مواجهتهــا لــكل
235
هــذا العــدد وحدمهــا كان غبــا ًء شــديدً ا منهــا.
اســتعد كينــو لتفعيــل قوتــه الرسيــة التــي اســتخدمها مــن قبــل يف موقـ ٍ
ـف
ِ
الســاء فنظــر إىل يصــدر مــن ٍ
شــابه هلــذا ،ولكنــه فجــأة ســمع صوتًــا ُم
ُ
أعــى ليجــد مخســة روبوتــات عمالقــة هتبــط مــن االعــى حتــى اســتقرت
خلفهــم .شــعر نــور بالذعــر مــن حجمهــا اهلائــل وأدرك يف هــذه اللحظــة
أنــه تــم القضــاء عليهــم.
ـون أسـ ٍ
ـود المــع وأجســا ًدا يــراوح كانــت الروبوتــات الضخمــة متتــاز بلـ ٍ
طوهلــا إىل عــرة أمتــار .لدهيــم أربعــة عيـ ٍ
ـون محــراء وأيــدي كبــرة متتــاز
بثالثــة شــيفرات حديديــة ختــرج مــن كل واحــدة ِمنهــا وعنــد جزعهــا
يوجــد ثالثــة مدافــع محــراء ناحيــة اليمــن وثالثــة ناحيــة اليســار.
وجهــت الروبوتــات يدهــا ناحيتهــم وقــد بــرزت أســلحة منها فصنــع نور
ِدر ًعــا ُمضــا ًدا للرصــاص ليحميــه مــن طلقــات النــار ولكنــه الحــظ أهنــا
تســتهدف الروبوتــات وتتجنــب اصابتــه هــو فأصابــه الذهــول ووقــف
كينــو ُيــدق فــرة حمــاوالً اســتيعاب املوقــف ،وانتهــى ذهوهلــم بعــد أن
انفتــح رأس أحــد الروبوتــات وخــرج إريــس مــن داخلــه وهــو حييهــم
بيديــه قائ ـاً:
-مرح ًبا يا رفاق آسف عىل التأخري.
تذكــر نــور وجــه إريــس مــن االختبــارات غــر أنــه تغــر بعــض الــيء
وقــد أصبــح أكــر ِســن ًا كــا حــدث للجميــع ،فقــال نــور بذهــول شــديد
وقــد فــرغ فاهــه:
236
-إريس أهذا أنت؟ هل جئت ملساعدتنا؟!
-نعــم يــا عزيــزي لقــد جئــت للمســاعدة ...ســعيدً ا لرؤيتــك عــى قيــد
احليــاة فقــد أعجبنــي دهائــك وذكائــك يف ســباق املــوت.
-أشكرك عىل هذا ...ولكن من يف الروبوتات األخرى؟
-ال أحــد بالطبــع إهنــا لكــم بالكامــل ...إهنــا تتحــرك اآلن طبقـ ًا ألوامري
واآلن فلتدخلــوا فيهــا فقــد حــان وقــت القضــاء عــى هــؤالء األوغاد.
انفتحــت رؤوس الروبوتــات وبــرزت قمــرة القيــادة بداخلهــا ،فانطلــق
نــور وأطلــق سلســلة مــن يــده امتــدت إىل القمــرة فأمســكت هبــا ثــم
ٍ
أمحــر ُم ٍ
ريــح، كــريس
ٍ ِ
بجســده عــى ســحبته حتــى ارتفــع إليهــا فألقــى
ـض أزرق فانغلقــت الــرأس وعــم الظــام ثــم ُاضيئــت الشاشــات بوميـ ٍ
يظهــر تعليـ ٍ
ـات عــن كيفيــة قيــادة الروبــوت. ُ
الحــظ نــور أن الروبــوت يتحــرك و ُيطلــق النــار رغــم عــدم مقدرتــه عــى
قيادتــه بعــد ورجــح أن التحكــم اآليل هــو مــن يفعــل هــذا.
ٍ
وبســهولة تامــة تعلــم كيفيــة ركــض كينــو وامتطــى أحــد الروبوتــات
قيادتــه يف أقــل مــن ثانيــة .فكــر يف رسه أنــه األكثــر حظـ ًا يف تعلم األشــياء.
نظــر إيفانــوف وســايري إىل التغــرات التــي طــرأت عــى أرض املعركــة
وشــعرا ببعــض األمــل بعــد أن اهنكتهــم املعركــة بالكامــل ،وتعجــب
إيفانــوف مــن قدرتــه عــى تفعيــل قوتــه كل هــذا الوقــت ،ورجــح أن
هــذا بســبب الورطــة التــي حتيــط هبــم اآلن.
أيضــا أنــه اســتخدم قوتــه أكثــر مــن املعتــاد ومل تنفــد طاقتــه
شــعر ســايري ً
237
بعد .
أشــار هلــا إريــس بيــده أن يأتيــا لركـ ِ
ـوب أحــد هــذه الروبوتــات ،فانطلقــا
يشــقان طريقهــا ومهــا يســقطان كُل مــن يف طريقهــا وقــد أخــذت
الروبوتــات تُطلــق النــار بــراوة عــى الروبوتــات العمالقــة ولكنهــا
كانــت مــزودة بنظــام دفــاع قــوي مضــاد للرصــاص.
وصــل كُل مــن إيفانــوف وســايري إىل قمــرة القيــادة وقفــزا بداخلهــا،
فأصبحــوا مجي ًعــا ُمتصلــن بنظــام صــويت واحــد ،حتــى يتســنى للجميــع
التواصــل مــع بعضهــم البعــض.
اثــار إعجــاب إيفانــوف قيــادة هــذه الروبــوت الغريــب ،فقــال متســائ ً
ال
والفضــول يمــأه:
-إريــس أهيــا الوغــد املاكــر ،مــن أيــن حصلــت عــى هــذه األشــياء
الرائعــة؟
ضحك إريس قائ ً
ال بنربة يشوهبا الثقة والكربياء:
ـت ال تعلــم كل مــا يف جعبتــي بعــد يــا عزيــزي ...عــى كل حــال لقــد -أنـ َ
حصلــت عليهــا مــن الرئيس.
صوت واحد:ٍ قالوا مجي ًعا يف
-الرئيس؟!
ـت منـ ُه الكثــر مــن األشــياء الغــر
-نعــم الرئيــس ...لقــد قابلتــه وعلمـ ُ
ٍ
مفهومــة ...ولكــن ســأروي لكــم كل مــا حــدث يف وقــت الحــق...
238
أمــا هــذه الروبوتــات فقــد كانــت الســاح الــري هلــم ...وكان ينــون
اســتخدامها عندمــا يتــأزم احلــال أكثــر مــن ذلــك ولكنــي متكنــت مــن
كنــت أعمــل
ُ إقناعــه بإعطائــي مخســة منهــا ...ومــن ا ُملضحــك أننــي
جاسوســا لالحتــاد األورويب وكانــت مهمتــي هــي التســلل إىل مــر ً
واحلصــول عــى طريقــة صنــع هــذه األشــياء ...كانــت هــذه األشــياء
ســتقيض عــى جيــوش االحتــاد األورويب إن بــدأت حــرب بينهم وســينتهي
األمــر لصالــح االحتــاد اإلســامي ولكــن هــذا مل يعــد ُيــم بعــد اآلن ،ألن
كالمهــا مل يعــد موجو ًدا...ولكنهــا كانــت مفاجئــة يل أهنــم جلبــوا هــذه
األشــياء إىل هــذا الكوكــب الغريــب معهــم!
قال نور بنربة ُمنفعلة:
-يــا إهلــي هــذا يشء غريــب ،هــل كانــت هــذه األســلحة بحوزتنــا طــوال
الوقــت؟ ولكــن وكيــف علمــت أننــا أربعــة اشــخاص هنــا؟
-جهــاز حتديــد املواقــع يــا عزيــزي وبــه حــددت عــدد األشــخاص يف
املنطقــة ...جعلنــي هــذا أتوقــع أن ســايري وإيفانــوف عثــرا عــى اثنــن
منكــم فقــط ...فجلبــت هــذا العــدد وجئــت بــأرسع مــا عنــدي ...واآلن
كفــوا عــن احلديــث امامنــا الكثــر لنقــي عليــه هنــا.
اقرتبــت الروبوتــات منهــم وهــي تطلــق النــار برشاســة وتُلقــي عليهــم
بالقنابــل واملتفجــرات واألســلحة الثقيلــة ،ولكــن الــدرع املحيــط
بالروبوتــات الكبــرة كان حيميهــا.
ضغــط ســايري عــى أحــد االزرار فخرجــت مــن قــدم الروبــوت اليمنــى
غرفــة صغــرة بجانــب الركبــة ،وبدخلهــا غمــد ســيف عمــاق ،فأمســك
239
روبــوت ســايري بالغمــد وأخــرج ســيف ضوئــي أزرق عمــاق يومــض
ـق يعمــي األبصــار وبيــده اليــرى انفتحــت فوهــة كبــرة .انطلــق بربيـ ٍ
ســايري يشــق الطريــق وســط الروبوتــات وهــو يلــوح بســيفه اهلائــل
ِ
كــورق الشــجر بينــا اســتخدم يــده اليــرى لتتطايــر الروبوتــات معــه
التــي كانــت تعمــل كمغناطيــس لســحبهم باجتاهــه وتدمريهــم ،وكان
أحيان ـ ًا يعكــس قوهتــا لتجعلهــم يتطايــرون يف كل اجتــاه بقــوة.
كان يوقــف طلقاهتــم يف اهلــواء بيــده اليــرى وجيمعهــا حتــى يصبــح
ا ثــم يعكســها لتنهــال عــى الروبوتــات كوابـ ٍ
ـل مــن النــران عددهــا هائـ ً
ا ُملدمــرة.
ضغــط نــور عــى أحــد االزرار فارتفعــت أنامــل الروبوتــات وخرجــت
منهــا فوهــات كبــرة ،أطلــق هبــا النــران بــا هــوادة عــى جحافــل
الروبوتــات فأســقط منهــم الكثــر ،بينــا اســتخدم كينــو مدافــع الدفــاع
عنــد جــذع الروبــوت التــي كانــت تتصيــد الروبوتــات تلقائ ًيــا بنرياهنــا
اهلائلــة وىف يــده ال ُيمنــى فتــح فوهــة وأنطلــق منهــا شــعاع أصفــر يذيــب
ويفجــر كل روبــوت يلمســه.
أعتمــد إيفانــوف عــى ُحبــه للتحطيــم واكتفــى بدهــس وســحق
الروبوتــات بآلتــه العمالقــة ،بينــا أخــرج إريــس مــن ظهــر الروبــوت
مدافــع كبــرة تُطلــق الصواريــخ واملتفجــرات ناحيــة الروبوتــات التــي
ِ
عليــه. ٍ
موقــف ال ُتســدُ أصبحــت يف
كانــت أعــداد الروبوتــات تقــل ومل يكــن هلــم أي فرصــة يف الفــوز امــام
هــذه االبتــكارات البرشيــة الرائعــة واملذهلــة.
240
اســتمرت املعركــة ُربــع ســاعة أخــرى ولكــن أعــداد الروبوتــات مل تكــن
تنتهــي فكانــوا يبــدون وكأهنــم بــا هنايــة ،فقــال إريــس وقــد شــعر أن
ذخريهتــم ســتنفد بعــد قليــل:
-جيــب أن هنــرب مــن هنــا ونجتمــع مــع باقــي اجليــش ونضــع اخلطــة
التــي ســتمكننا مــن إســقاط هــذا اخلطــر اهلائــل ...آه ...نســيت أن أقــول
ـت أعــدا ًدا كبــرة مــن املتطوعــن مــن البــر يف املالجــئلكــم أننــي مجعـ ُ
للقتــال معنــا يف هــذه احلــرب .واآلن لننســحب مــن هنــا.
تراجــع اجلميــع بآالهتــم بعــد أن دمــروا عــددا كبــرا مــن روبوتـ ِ
ـات جايــا، ً ً
وهــذا قــد يســهل مهمتهــم قليـ ً
ا يف املعركــة القادمــة .ركضــوا إىل اخللــف
ثــم ضغطــوا عــى بعــض االزرار فقفــزت الروبوتــات قفــزة عاليــة يف
الســاء واخرجــت مــن ظهرهــا وقدمهــا ُمــركات نفاثــة جعلتهــم ُيلقــون
لبعــض الوقــت ،هــذا وقــد تركــوا الروبوتــات خلفهــم لتكمــل تقدمهــا
إىل وســط مدينــة أطالنتــس حيــث ســتكون املعركــة األخــرة.
يف املخيــم بــدأ اجلميــع ُيعــد نفســه للحــرب الكبــرة القادمــة ،فبــدأ
اجلنــود يلقمــون أســلحتهم ،ويعــدون الدبابــات والطائــرات والصواريــخ
والقنابــل.
وعنــد اجلــر الغــريب الواصــل بــن القارتــن كان جيــش الروبوتــات
اهلائــل يتقــدم ،و ُيصــدر أصواتــه اســتعدا ًدا للمعركــة الكبــرة أصواتــ ًا
تنــذر معهــا باهلــاك لــكل مــن يقــف يف طريقهــا .وقــف جايــا عــى قمــة
الفرعــون وهــو يشــعر بنشــوة النــر قائ ـاً:
241
-الليلــة هــي هنايــة عــامل ووالدة عــامل جديــد وهبــذه الــوالدة ســأحقق
حلمــي الــذي لطاملــا انتظرتــه .أيتهــا العرافــة ا ُملبجلــة ســأحقق حلمــك يف
هــذا الكــون البائــس الــذي امتــأ بالفســاد.
وىف الفضــاء حلقــت ســفينة فوق كوكــب أطالنتــس ذا القــارات اخلرضاء.
ســار شــخص عــر ممــر يف الســفينة يمتــأ بكـ ٍ
ـرات زرقــاء ُمضيئــة متــأ
املمــر كلــه لتضــع عليــه ملســة ســحرية تــر الناظريــن .كان يرتــدي
مالبــس اإلينيكــس وقنــاع فــي يشــبه اجلمجمــة عــى وجهــه وعليــه
بعــض الزخرفــات الرائعــة .دخــل إىل غرفــة ُمظلمــة وكان يف هنايتهــا
يقــف شــخص يف الظــام بالقــرب مــن نافــذة الســفينة وينظــر ناحيــة
كوكــب أطالنتــس فقــال عضــو اإلينيكــس وقــد انحنــى عــى ركبتيــه:
-ســيدي جالديــوس ،إن جايــا يتوجــه اآلن ناحيــة مقــر البــر كــا
طلبــت ...لقــد ســمحت لكينــو أن يفتــح الــدرع لــه وجليشــه حتــى يمــر
ويصبــح بالداخــل .واآلن مــا التــايل؟
صمــت جالديــوس قليــ ً
ا وهــو يتأمــل الكوكــب األخــر ثــم كــر
ا بنــرة جهوريــة: حاجــز الصمــت قائــ ً
-سنرتكهم يتقاتلون.
-ماذا؟ ولكن يا سيدي...
ـاذجا وال تفهــم أمهيــة الفــوىض يف االنتصــار
ـت ال تفهــم .ال زلــت سـ ً
-انـ َ
يف احلــروب .إرســالنا جيــش إلســقاط جايــا ســيكلفنا الكثــر ولكــن
إن تركنــا األمــور تــري كــا هــي فهــذا ســ ُيضعف جايــا وبعدهــا
242
قــوي للغايــة وإن بعثنــا لــه أعضــاء
ٌ ســنتحرك ...أال تــرى؟ جايــا
اإلينيكــس فسيســقطون أمامــه كالذبــاب ،ولكــن البــر لدهيــم مــن
العنــاد والرغبــة يف البقــاء مــا يؤهلهــم لتأخــره بعــض الوقــت واســتنفاذ
ا ومــن ثــم نشــن نحــن الرضبــة القاضيــة عليــه. طاقتــه قليــ ً
طــرق جالديــوس بأصابعــه فخرجــت شاشــة هولوجراميــة تعــرض
كوكــب أطالنتــس مــن األعــى واقرتبــت الصــورة حتــى أظهــرت ً
جيشــا
ـارحا مــا
يتحــرك مــن الشــال ناحيــة منطقــة البــر .فقــال جالديــوس شـ ً
حيــدث:
-إن هــذا اجليــش الــذي تــراه هــو ممــن تبقــوا مــن شــعب أطالنتــس...
كانــوا خيتبئــون يف أحــد القــارات الصغــرة وجايــا كان يعلــم هــذا ولكنــه
مل هيتــم ألمرهــم طاملــا مل يشــكلوا خطـ ًـرا.
-حسنًا وملاذا يتحركون اآلن بعد كل هذه السنني؟ هل هي صدفة؟
-بالطبــع ال .لقــد أرســلت إليهــم مارجــوث واســتطاع أن يقنعهــم
ـك أن تتعلــمبالتحــرك .سيشــاركون يف احلــرب كــا تــرى ...واآلن عليـ َ
جيــدً ا هــذا الــدرس ...لننتــر يف هــذه احلــرب علينــا أن نراقــب عــن
ِ
الوقــت ا ُملناســب لتنفيــذ الرضبــة كثــب كل حركــة حتــدث ونتدخــل يف
القاضيــة .جايــا يمتلــك بلــورة احليــاة وإن كنــت ال تعلــم مــدى قــوة هــذه
البلــورة فأســتطيع اختصــار األمــر بالقــول أنـ ُه ال ُيقهــر اآلن .لقــد أصبــح
خالــدً ا وال تؤثــر فيــه األســلحة وال الطعنــات ،ولكــن كأي كائــن يف هــذا
العــامل فهــو بالطبــع لديــه نقطــة ضعــف ،وأنــا أعلمهــا جيــدً ا ولكــن علينــا
أوالً أن ننتظــر .هنــاك البــر يف طــرف وجايــا والروبوتــات يف الطــرف
243
الثــاين ومــا تبقــى مــن شــعب أطالنتــس يف الطــرف الثالــث ،وأثينــوس
وأخريا وأســطوله الــذي اســتوىل عــى كوكــب األرض يف الطـ ِ
ـرف الرابــع،
ً
نحــن الطــرف اخلامــس واألخــر .وكلنــا قــد اجتمعنــا عــى القضــاء عــى
جايــا ولكــن علينــا أوالً أن ننتظــر حتــى ُينهكــ ُه القضــاء عــى كل هــذه
اجليــوش ُمتمعــة عليــه وبعدهــا ســنعطيه الرضبــة القاضيــة .والطبــع
فالفضــل يعــود إ ّىل يف إحضــار كل هــذه األطــراف وتوحيدهــا عــى قتــال
جايــا.
ضحــك عضــو اإلينيكــس ضحكــة خبيثــة مكتومــة مــن دهــاء جالديوس
وقال:
-حس ـنًا لقــد فهمــت يــا ســيدي .لــن نبعــث برجالنــا يف ا ُملقدمــة حتــى
ال نتكبــد اخلســائر وســنرتك البــر وشــعب أطالنتــس يقومــون بالعمــل
كلــه.
-نعــم وال تنســى أن العينــات معهــم وقــد قضــوا عــى آالف الروبوتــات
ـر يف هـ ِ
ـذه احلــرب الدموية. منــذ قليــل وهلــذا فهــم ســيكونون ذو عـ ٍ
ـون كبـ ٍ
أظــن أهنــم قــد انتهــوا مــن االختبــار األخــر اآلن وقــد فهمــوا مــا عليهــم
فعلــه يف هــذا العــامل ا ُملحطــم .لقــد علمــوا احلقيقــة وأيقنــوا أن مصلحتهــم
احلقيقيــة هــي يف القضــاء عــى جايــا .واآلن لنــرى كــم منهــم ســيفلت
مــن هــذه احلــرب وينضــم إىل اإلينيكــس بعــد ذلــك.
دقــق جالديــوس النظــر يف الفضــاء الشاســع أمامــه ونظــر إىل الشــمس
الزرقــاء البعيــدة التــي يــدور كوكــب أطالنتــس حوهلــا ثــم ألتــف قائـاً:
-واآلن فلنبدأ.
244
اقرتبــت ســفينة جالديــوس مــن جمــال كوكــب أطالنتــس ووقــف جنــوده
ا ُمللثمــن يف ُاهبــة االســتعداد للحــرب األخــرة.
وىف هــذه األثنــاء خــرج أســطول ضخــم مــن كوكــب األرض بقيــادة
ِ
مقدمــة أثينــوس وتوجــه ناحيــة كوكــب أطالنتــس .وقــف أثينــوس يف
ســفينته وقــال واحلقــد يمــأ قلبــه:
-جايــا لقــد وعدتــك أن أعــود وانتقــم منــك وقــد أوفيــت بوعــدي.
واآلن فلتنتظــرين.
245
الكاتب يف سطور
عــار حممــود عــى حممــد املــري ،كاتــب مــري مــن مواليــد
،1996خريــج كليــة لغــات وترمجــة قســم اللغــة اإلنجليزيــة
بجامعــة مــر للعلــوم والتكنولوجيــا.
كاتــب يف أدب اخليــال العلمــي والفانتازيــا ،وعضــو فعــال
يف اجلامعــة املرصيــة ألدب اخليــال العلمــي .صــدر لــه روايــة
«ظــال أطالنتــس» اجلــزء األول مــن سلســلة العــامل اجلديــد.
شــارك بقصــة «الســاعة الذهبيــة» يف مســابقة أدب اخليــال
العلمــي لألطفــال واليافعــن عــن اجلمعيــة املرصيــة ألدب
اخليــال العلمــي وصــدرت يف كتــاب «املســتقبليون» ضمــن
سلســلة شــمس الغــد الصــادرة عــن اجلمعيــة.
للتواصل مع الكاتب:
00201114896424
246