Professional Documents
Culture Documents
كبرية الورد
ُ
كبرية الورد
(قصة قصيرة)
ُ َ
كنتم أقرب عن بعد
5
توطئة
7
دع قلبك يسمع قلبي
9
1
11
يشء يل قبل يقني بأن ال أحد من شعبي أحوج إليه ٍ أبقيت عىل
ُ
واأليام ولبيت هلا النداء، ٍ
ُ علمت عن رغبة إال ّ
ُ مني ،أنا التي ما أن
ألود املوت
خريا ووهبته الناس ،وإين ُّ حتكي كم منعت عن نفيس ً
عطاء عىل ِ
هيئة خيانة. ٍ مت منقد ُ
ألف مرة قبل أن يأتيني ما ّ
رميت وشاحي
ُ هانت احلياة يف عيني وضاقت يب عىل وسعها،
اهنلت عليهم كالذئبة
ُ فانكشف هلم جسدي عاري ًا وتدلت أثدائي،
ألخ ّلص زوجي من وطأة املوت حتت سيوفهم ،وقد كان زوجي
ينهرين فور قيامه ف ِز ًعا أمام ما يراه.
وعدت مر ًة
ُ كدت أطري لغلظته،
ُ صفعني أشدهم بنية حتى
12
ٍ
اكرتاث مني ألوامرهم أخرى ألزيد يف عوييل ونحيبي بال
بالسكوت.
كان ينظر إيل ليطمئن عىل حايل ،وقلبي يأكلني ويقول يل:
13
طلبا للنجدة
خارت عىل األرض وانتهضت ،حاولت اخلروج ً
ولكنهم قد أغلقوا األبواب ،وما أن أحكموا من الوثاق عىل
اقرتبت منهم
ُ اندفعت نحوهم ألخلصه مر ًة أخرى، ُ زوجي حتى
ٍ
مقربة منهم ومل َطمت عىلألرميهم بفخارية اختذهتا زين ًة يل فارت َ
َ
يط ْلهم ٌ
يشء من جذاذها.
-أغريبينا!!..
14
2
وقفت بينها وحدي وكأنني كبرية الورد كام كان زوجي ُ
ٍ
بلطف أمسح عىل رؤوس الورد ظللت أميش وأنا
ُ يناديني،
ُ
ِ
اهلواء نداها ..وتنكفئ عىل وتنثر يف مني فتزداد الورود خج ً
ال
ُ
أنفسها.
15
ُ
وتأخذ معها ما تطاير روائح زكية،
َ تيس من
والريح تنقل يل ما ّ
ُ
عيني وجبيني.
فتداعب به ّ
ُ من شعري
ورأيت ما كان
ُ شعرت أنه زوجي وحبيبي ُ ّ
تفطر قلبي فور أن
أزرق أهديته إياه يف يوم لقائِنا األول ،كان عىل
َ يرتديه من وشاحٍ
ِ
صورته الشابة التي عرفته هبا أول مرة قبل عقدين.
عدت
ُ رصت أركض نحوه وأنا أسابق الريح ومل أبرح مكاين،
ُ
16
أجري بني الورود ومل تتقدم يب اخلطا أبد ًاُ ،
كنت ماكث ًة ُ
حيث أنا
ركضت إليه.
ُ مهام
بدأت أبكي وأنا أرصخ وأردد اسمه من بعيد ،مل يكن جييبني
ُ
وهو الذي مل يتجاهل ندا ًء يل يف حيايت قط.
ٍ
كطفل صغري عثر عىل أمه بعد ضيا ٍع مريع، كنت أبكي جاثي ًة
ُ
كأم ضاع منها وظل يراها من ٍ
بعيد وال يقدر عىل إدراكها ،أو ٍّ
بحر من نار
طفلها فظلت تندب األيام حتى عثرت عليه وبينهام ٌ
فال يمكنها احتضانه.
وأركض جهدي،
ُ فأعود للجري جمد ًدا
ُ خيتنق صويت بدموعي،
ُ
وما أن ُ
أقف حتى أرى نفيس يف مكاين فأعود وأستغيث:
17
انظر إ ّيل يا من َ
كنت يل الدنيا ،انظر وراءك يا من جعلتني ُ -
أمام الناس( ،جريمانكوس) ،يا من ُوجد قلبي ألجله ،ويا
من ُخ ِلقت روحي ل ُتهدى إليه ،أوترتكني وأنا يف أحوج
األوقات لك؟ لعناقك ،للبكاء عليك ،لتحسس وجهك؛
لتجسس نبضك؛ لتقبيلك والسالم عليك؟
18
عدت أبكي راكع ًة عىل
ُ مل يصدر عنه ما يوحي بسامعه يل،
كنت أرى أمامي
األرض ،أتذكر أيام عمرنا وأعزي نفيس هباُ ،
رق قلبي إىل (جريمانكوس). ٍ
ذكريات يف أول مرة ّ ما مىض من
ال أنسى تلك الليلة الباردة التي كنا نأكل هبا العنب عىل بطوننا،
ونتسامر أنا وصديقتي (سابينا) يف قرصنا أواسط روما ،ما انفكت
حتدثني عن مجال (جريمانكوس) ..ذلك اجلندي الشجاع الوسيم
املهيب احلاد املالمح القصري الشعر العريض املنكبني ذي اجلسد
املفتول والقوا ِم الرشيق.
مل أكن ألسمع منها حديثًا طاملا يكثر يف جمالس النساء ،ولكنها
أخربتني عنه كثريا ودعتني حثيثًا للخروج يوم ٍ
غد لرؤية تكريمه ً
بشارة النرص من اإلمرباطور يف الساحة الرملية الكربى ،هنرهتا
19
ووبختها ،كيف حلفيدة (أغسطس) وسليلة األباطرة النبالء مثيل
ّ
أن خترج يف ٍ
طيش ملالقاة ٌ
رجل خيطف األلباب!
ٍ
عابرة ٍ
نزهة هنارا يف يو ٍم عليل دافئ الرياح ،وكأننا يف
خرجنا ً
نجوب هبا األز ّقة واألسواق ،واحلق أننا خرجنا لنسرتق النظرات
ُ
إىل (جريمانكوس) ما استطعنا.
التقدم لألمام،
أوشكت عىل ّ
ُ كان احلياء يدفعني إىل اخللف ك ّلام
تتسارع أنفايس
ُ اقرتبنا من الساحة الرملية وقد بدأ القلق يسكنني،
من اخلجل وال أدري ماذا دهاين؟ وهل دامهني اخلجل إلقدامي
ٍ
كفتاة يليق يب أمام الناس؟ أم أن اخلجل كان جيتاحني
عىل ما ال ُ
فارسا يشغل النساء؟
خرجت لرتى ً
20
بدأنا نسمع صوته والناس حيجبونه لشدة الزحام واالكتظاظ
وضعت
ُ وفصيحا ويملك صوتًا كالناقوس،
ً خطيبا
ً عليه ،كان
مت ألراه بني
وتقد ُ
ّ ألحجبه قدر إمكاين،
ُ وشاحي عىل وجهي
عال وهي تناديني حتى كاد ٍ
بصوت ٍ هتمس اجلموع ،و(سابينا)
ُ
ُيفتضح أمري فام تو ّق ُ
فت عن هنرها.
**
21
طلبت من (سابينا) بعد أن ّ
متكن احلياء مني أن أعود أدراجي ُ
بعيدا خارج الساحة ،ولكنها كانت تعاود إجباري عىل
وأقف ً
ٍ
بشدة ألدنو منها. فتسحب ذراعي
ُ غصبا حيث ُكنا البقاء
ً
ٍ
بسالة يف كان الناس حييون (جريمانكوس) عىل ما أبداه من
دحره للخصوم وإمخاده للثورات يف داملاسيا وبانونيا ,واإلمرباطور
ِ
مرددين اسمه، من بينهم يق ِّل ُده شارة النرص ،والكل هيتفون له
فشعرت باخلوف يعرتيني ،رغم إخفائي
ُ وقعت عيناه عىل عيني
لوجهي خلف وشاحي.
22
-هذه (أغريبينا) ابنة (ماركوس فيسبانيوس)!!
ٍ
ووجه يغشاه وقلب خ ّف ٍ
اق ٍ ٍ
معقود ٍ
لسان رددت عليه بني
ُ
احلياء:
وخشيت
ُ -خرجنا للتنزه قلي ً
ال فوجدنا أنفسنا هنا يف الساحة
ٍ
مكان ال يليق يب ،فهممنا بالعودة لـ.. أن يراين الناس يف
23
دامهتني (سابينا) قائل ًة:
وأجز به
ّ وددت أن أستل سيف (جريمانكوس)ُ وعندها،
وترج عنقها ،كانت تضحك وكأهنا أسعد الناس بإحراجيُ ،
لساهنا كالقرد لتغيظني ،مل أكن حينها أللقي اللوم عىل غريي
ٍ
معتوهة مثلها. خلروجي برفقة
24
ِ
صلوات أيام مضت قبل أن أستبدل الشتائم بحق (سابينا) إىل
ٌ
شك ٍر وامتنان ،لقد كان جنوهنا بداية اشتعال قلبي ً
ولعا بـ
وأدركت حينها كيف ينال املجانني ما ال يناله
ُ (جريمانكوس)
العقالء.
**
25
ِ
نفسه يف املرآة وعىل الشُّ فات وإىل السامء بعينه ،أن يتحدث إىل
قصصا ويعيش بني ثناياها برفقة من
ً ينسج من خياله
َ العليا ،أن
شعور عظيم
ٌ حيب ،فهذا
ٌ
سليلة أنا للنبالء واألباطرة حتى وإن رحلوا عن الدنيا فإن هلم
ومحل ً
ثقيل عىل عاتقي ،كان جيدر يب أن باق ًيا وذكرى خالدة ً صي ًتا ِ
أحرس ٍ
حاجة ألن ٍ
أفعال صبيانية ،فأجدين يف أصونه فال أنزلق إىل
َ
عقيل قبل أن حيرس اجلنود جسدي.
26
ظ ّلت الرسائل تصلني إىل حجريت يف القرص من (جريمانكوس)
عرب (سابينا) التي كانت ختبئها حتت ردائها ،كانت (سابينا)
كنت
رسي وال أحدَ سواها لكي آمنه عىل حبي اجلديدُ ،
صاحبة ّ
ويرسله يل.
ُ يكتبه
ُ ُ
أعرف أخباره وأرساره وأقرأ أشعاره وما كان
**
27
عىل مرقدي ويف رسيري ،لطاملا كان يغزو خيايل ،يزورين لي ً
ال
ُ
يطول يب الليل وأنا أميض يف فأعانق األشياء من حويل وكأهنا هو،
وأطارحه الغرام ثم أسأل نفيس:
ُ أقبله
خيايل ّ
-كيف كنا سنعيش لوال اخليال؟
أحببت نفيس
ُ رصت أمجل من بعده؟ وكيف
ُ أعلم كيف
ُ ال
ُ
أعيش وكأنني أمسيت أطيل النظر يف النجوم والسامء؟
ُ أكثر؟ و َمل
ِ
(كبرية الورد) ..كان خيشى رسا يف رسائله بـفراشة ،كان يل ِّق ُبني ًّ
أن يضع اسمي رصاح ًة فتقع الرسالة يف ٍ
يد غريبة.
28
منتهزا انشغال الناس يف عيد (ساتورناليا)..
ً ً
متسلل واحد ،جاءين
كنت أسعد الناس بالعيد ،كان العيد عيدي وحدي ،ويف
وقد ُ
حجريت التي دخلها (جريمانكوس) من الباب اخللفي للقرص،
ِ
الفاكهة والرشاب وشي ًئا يؤكل، أعددت ما لذ وطاب من
ُ كنت قد
ُ
ٍ
صالة أتقرب هبا والشموع من حويل تيضء أرجا َءها وكأنني يف
ُ
إىل ِ
رؤية عينيه.
-ال تقلقي
29
وكيف للقلق أن جيد سبي ً
ال إىل جسدي وأنت أمامي ،بقوتك؛
بشجاعتك؛ بعظيمِ جمدك؟ ولكنني أحبك واخلوف يعرتيني
خشي َة أن ُيصيبك ما يصيب األبطال يف غزواهتم.
واضعا يديه
ً يلتصق يب ثم ظل ينظر إ ّيل
ُ اقرتب مني حتى كاد
فشعرت أنني من أمالكه ،وما
ُ عىل حويض وقد أحكم تطويقي
ٍ
مقربة منه إىل احلد الذي أحاله من شعور ،مل يسبق أن كنت عىل
ٍ
أسباب تدفعنا لعناق ختتلط فيه أنفاسنا ،ظللنا ننظر ونبحث عن
تربيرا يسمح لنا بالرشوع يف قبلة ،ال
ً بعضنا ً
بعضا ،وكأننا نريد
أعلم كيف هلذا الشجاع أن يردعه احلياء أو اخلوف مني فيكون
عاجزا حتى بعد احتضاين عن تقبييل.
ً
مددت يدي ألضع كفي عىل وجهه ،وقد كان حيدثني عن ُ
أذكر شي ًئا منها. ٍ
مغامرات له وال ُ
كان اهليام ُيبحر يب يف عينيه الزرقاوين ،ثم أنظر إىل شفتيه وهو
ٍ
حديث مل أسمعه. ٍ
بضحكة عىل خياطبني ويضحك فأرد
30
ٍ
بقبلة تعرب عن هلفتي انقضضت عليه وقاطعته
ُ خجيل من تقبيله،
وأخرسته هبا ،فطالت بنا القبالت حتى استغرقنا الليل كله.
ُ
أفقنا بعد انقضاء ليلتنا الدافئة وبينام أنا يف أحضانه عىل رسيري
فتبسم
أخذت أسأله عن رأيه بشجاعتي عندما بادرته بالقبلةّ ،
ُ
ً
ضاحكا ثم سألني:
ِ
دفعك إىل اإلقدام عليها؟ -ما الذي
أجبته:
تطلبه
ُ -وما الذي يمنعنا من اإلقدام عىل أم ٍر نرغب فيه كلنا؟
عيوننا وإن مل تنطق به أفواهنا؟
31
مرارا بأن ال يذهب ،بأن يسعى للبقاء ..بأن خيتلق
أخربته ً
ُ
األعذار ..بأن يتامرض ..بأن يمكث يف الدار ..بأن ال يذهب..
ال يذهب!..
ولكنه يغضب ،فيسخر مني قائ ً
ال: ُ
-ماذا عن العار؟
ٍ
جسد يرتعش وماذا عن ِ
قلب من حيبك يا حبيبي؟ ماذا عن
يشغله التفكري بك ..اهليام
ُ خيف ًة منك وعليك؟ ماذا عن ٍ
عقل
بك ..الغرام بك ..الشوق إليك؟ ماذا عن ٍ
نفس مل تعد تعرف
السكون ،ينتاهبا اجلنون ..تتوق إىل االطمئنان عليك وترجو
األمان منك ..وتلجأ إليك ..وتقلق عليك؟
أليس من العار أال نبقى مع من نحب؟ أليس من العار أن
ٍ
مشدوه كوجهي الشاحب البائس الذي يبحث تكون سببا يف ٍ
وجه ً
عن ٍ
أمل يرد الدماء واملاء عليه؟ أليس من العار أن تسيل دموعي
باختيارك؟ فتنشغل يدي بكفكفة الدموع عليك وهي التي ألِفت
منك أن ختبئها بني يديك وحترسها وترعاها كام حترسني وترعاين؟
**
32
فأقلقه تركي وحدي ،فعرض ع ّ
يل أن أذهب ُ نت منه حينها، ّ
متك ُ
ٍ
بلهفة وهبجة فقبلت ذلك
ُ حربه حيث سارت جيوشه، ِ معه يف
فرحا لدى علمه
يرقص ً
ُ وفرحٍ مني ،وأظنني أول إنسان يف الدنيا
كنت أكثر أمانًا من املـعرضني عنها.
برحيله إىل حربُ ،
طلبني للزواج أو ً
ال فأجبته عىل عجالة ،وانكشف أمرنا بعد
ورصت اليوم امرأته وزوجه
ُ شهو ٍر طويلة كان وصالنا فيها ًّ
رسا،
عىل مناظر الناس ،واإلمرباطور أول العارفني.
فانترصت يف حريب
ُ أراد الزواج مني ليتسنى له أخذي معه،
قبل حربنا التي نزحف بجيوشنا إليها.
**
33
كبريا عىل أن ُيطلق اسمي عليها،
إرصارا ً
ً ابنتي األوىل فقد أرص
مازحا بأنه ال اسم غري (أغريبينا) يأرس قلبه عىل أنثى،
ً يقول يل
ورصت أنا (الكربى) ،ومل
ُ فصارت ابنتي (أغريبينا الصغرى)
تكن هذه ابنتي الوحيدة ،فقد جاءت بعدها (جوليا دروسيال) إىل
الدنيا وكذلك (ليفال).
مرارا،
مرة يف جمملها ،نبكي مرة ونفرح ً
يف احلرب ،كانت أيامنا ّ
نخرس معركة ونفوز يف معارك أخرىِ ،
أذ َن يل زوجي أن أتقدم ُ
فأخطب هبم يف كل مرة وأشعل محاستهم
َ اجليوش قبل نفريهم،
للنيل من اخلصوم.
34
ٍ
جهاد بيني وبني نفيس ألبقى قوي ًة أمام اجليوش ويف كنت يف
ُ
قلبي معارك الدنيا.
**
35
ً
حاكم عىل اجلزء الرشقي وبينام كان زوجي (جريمانكوس)
ً
حاكم عىل (هسبانيا وأفريقيا) من اإلمرباطورية ،كان (بيسو)
مجيعا قبل حسباين. ِ
بحسبان الناس ً حتى حدث ما مل يكن
36
كان (بيسو) يرتبص بزوجي آناء اليوم كله و ُيضمر له الرش
حاولت أن أطلب
ُ والعداء ،كان كالرقيب عليه وليس مندو ًبا له،
مرارا من زوجي أن ُيبعده ..أن ُيقصيه ..أن ُيعفيه ..فريد ع ّ
يل بنربة ً
حادة:
-إن كان (بيسو) قد امتثل ألمر اإلمرباطور وارتىض أن يصبح
مندو ًبا يل ،فكيف ال أمتثل أنا لألمر ذاته؟
37
نجح يف إفساد بعض اجلنود علينا ،فأشعل فتيل التفرقة بيننا،
يبعث إىل
ُ وشق صفوفنا ورشع يف تفكيك نسيجنا ،ثم أخذ
ٍ
خاطئة كاذبة؛ يصف فيها ظلم زوجي لرعيته اإلمرباطور بأخبا ٍر
ٍ
خطابات ومترده عىل أوامر اإلمرباطور ،ثم ظل يرسل إىل روما
ّ
ملؤها األكاذيب والزور واجلور.
لقد فعلها وجعل اإلمرباطور (طايبريوس) يف ٍّ
شك من أمره
حيال زوجي ،وأربكه بإخباره أن الشعب واجليش يف صدد
ٍ
وانقالب ضد (جريمانكوس). إحداث ٍ
ثورة ٍ
38
ُ
أعرف كنت
ُ ٍ
برسية عالية، كان (بيسو) يكتب خطاباته
مضموهنا عرب أحد رجاالته األوفياء والذي يدعى (أنطونيوس)،
وكارها لتدليس احلقيقة ،ربام لضمريه احلي
ً خملصا لنا
ً كان
ِ
حاله عند بدء األمر وطلب مني أال والصادق ،استأمنني عىل
أخرب أحد ًا فأعطيته ً
وعدا بالكتامن ،ورصت أعرف خالله ما
يدور يف اخلفاء.
**
39
الشتائم والتدليس يف حق زوجي ،ووصفه باملتمرد عىل أوامر
اإلمرباطور ومنهاجه.
ٍ
بخطاب مل يسعفني حظي العاثر أن أعرف ر ّد عليه اإلمرباطور
ولكنه ظل صام ًتا هذه املرة
ُ حاولت أن أسأل (أنطونيوس)
ُ ما فيه،
وكانت عيناه تفيضان بالدمع ،امتنع عن الكالم ورحل عني
ٍ
بيشء منه. وتركني خلفه أرجوه أن خيربين
تاقت نفيس إىل االختالء بزوجي يف حجرتنا مسا ًء ،وأن أقيض
الليل كله معه ..نتسامر ونتبادل أطراف احلديث ،و ُيطلعني عىل
أخربته بام استجد من أمر (بيسو) فلم يكن
ُ رحلة مرص وأحواهلا،
ليأبه به ،أخربين أن املجد ينتظرنا.
40
تسلل احلب إىل حديثنا فامرسناه عىل أشكاله ،اختطف النوم
عيني بينام أنعم بالدفء يف حضن زوجي الذي افتقدته.
ّ
جيوش تداهم حجريت وترضب زوجي ٍ استيقظت عىل
ُ
ٍ
غريب فوجدت نفيس بعدها يف حلمٍ
ُ وترضبني حتى أغمي عيل،
أبدا. ٍ
بستان فسيحٍ ومل يلتفت يل ً عثرت فيه عىل زوجي يف
ُ
41
3
عيني الثقيلتني
ّ جاهدت
ُ أفقت من تلك الرؤيا البائسة ،وقد
ُ
ويشء يف داخيل يريد أن يرى الواقع مر ًة أخرى،
ٌ عىل فتحهام،
ِ
األسئلة ما جيعلني أسارع ألهني حلمي اللعني لدي من
43
-لقد استيقظت (أغريبينا) ! ..
أي منهم.
مل يكن ليجيبني ٌّ
44
رشعت يف التوسل إليهم أن خيربوين أين
ُ مني الرجوع إىل الرسير،
ِ
باآلهلة كلها زوجي؟ ماذا تريدون مني؟ أتقرب إليكم وأسالكم
مقدس أن ختربوين ماذا تريدون؟ ومل فعلتم بزوجي
ٌ وبكل ما هو
جتبنا
فعلتكم؟ هل صدر منا ما يؤذيكم؟ هل جرنا عليكم أو ّ
أحدا؟
عليكم أو بغينا عليكم أو ظلمنا منكم ً
ما كان جواهبم إال أهنا أوامر عليا ،وليسوا إال بمأمورين.
ٍ
بشدة وقد و َّل ْيت وجهي شطر وساديت ،لعل الرمحة عدت أبكي
ُ
أحد منهم فيخربين عن مصري زوجي ،لقد قست قلب ٍ
تتنزل عىل ِ
مرارا وال من جميب،
عدت ألسأهلم ً
ُ قلوهبم ومل ُيركهم عوييل،
طلبوا مني الصمت واهلدوء حتى يأيت من خيربين عن كل يشء.
ٍ
طوال وأنا أصيل يف رسيريت وعىل رسيري، ٍ
لساعات انتظرت
ُ
أشعر بالربد رغم دفء حجريت ولكن اخلوف يعرتيني فينزع
ُ
احتضنت نفيس وأنا أبكي وأتوسل إليهم
ُ الدفء عن جسدي،
يفيد رجائي.
وال ُ
45
كانوا يقفون عن يميني وشاميل وحول بايب ،ينظرون أمامهم،
ال يطرأ عىل مالحمهم أي تغيري كانوا كالتامثيل بل أشد صالب ًة
منها.
شيبا ً
ممسكا خوذته بيده ،وشعره املشتعل ً دخل (أوراليوس)
يتطاير يف اهلواء كمشلحه األمحر املتصل بردائه ،كان أول ما فعله
كنت بخ ٍ
ري ،فأجبته: ٍ
بعيون ُمريبة ،ثم سألني إن ُ هو النظر إ ّيل
-وهل تراين بخ ٍ
ري وأنا أبكي أمامك؟ ال أعرف أين زوجي
وال أعرف ماذا تضمرون يل وماذا تريدون مني؟ ال أحدَ
ّ
ويدكني وحدي بال هيدين وهيزين
من أرسيت حويل واخلوف ّ
ٍ
ورأس تغطيه الدماء ٍ
حرس ُمس ّلحني زوجٍ وال ٍ
أبناء وبني
جسدا
ً كنت بخري؟ كيف للخري أن يسكنوتسألني إن ُ
كجسدي؟
46
يشيح
ُ رأيت الرمحة تطغى عىل وجه (أنطونيوس) ..كان ُ
ِ
بوجهه عني ويطأطئ رأسه رأف ًة بحايل ،والدمع ُيغرقني.
يصلح للقربان
ُ رجوهتم وتوسلت إليهم وتقربت هلم بكل ما
أن يسمحوا يل برؤية زوجي قبل ترحيله إىل روما ،ولو ٍ
ملرة
واحدة ..ملرة واحدة فقط.
ٌ
مرهون أطال (أوراليوس) التحديق يب ثم أخربين أن ذلك
بمدى طاعتي ألوامرهم ،سألته ماذا يريد مني؟ أخربين «أن ألزم
47
الصمت وأ ّ
ال أخرب الناس بام حصل ،فقد أمر اإلمرباطور أن يكون
ٍ
برسية بالغة إىل احلد الذي ال إحضار (جريمانكوس) إىل روما
يعرف الناس فيه عن ذلك ،أخربناهم أن (جريمانكوس) سيسافر
كعادته ملالقاة اإلمرباطور يف شؤون احلكم ،تبقى أن متدي لنا يد
العون يف ذلك فال يبلغ الناس ما يثري ريبتهم أو يربك صفوفهم،
ِ
سنحرضك ملالقاة زوجك». وعندها
خلفه واحلزن
ُ خرج (أوراليوس) من احلجرة وجعلني حسري ًة
يقتلني ،وقبيل خروجهم نظر (أنطونيوس) إ ّيل نظرة ٍ
حزن وخرج
برفقتهم.
أحدا
فأحكمت اإلطباق عىل فمي ومل أخرب ً
ُ امتثلت ألوامرهم
ُ
طلبت منهم أن يسمحوا يل باخلروج من رشفتي فرياين
ُ بذلك ،بل
الناس وألقي عليهم سالمي فال يشوهبم ٌّ
شك يف أمر حصاري يف
منزيل.
48
ُأم ّني نفيس مع كل إرشاقة يو ٍم جديد أن ألقى فيه زوجي قبل
فتخيب آمايل.
ُ رحيله
**
49
ٍ
بصدق أن خيربين أين زوجي ومتى سألقاه فقد طال سألته
ُ
انتظاري واالنتظار يقتلني؟
كان مرتد ًدا بادئ األمر ،وكأن الكالم يقف عىل باب لسانه
فال ينطق به ،حاولت استنطاقه وقد بدا عليه القلق ،يشيح بوجهه
كثريا وعيناه ال هتدئان.
ً
طلب مني أن أعذره وأتفهم امتناعه عن احلديث يف هذا األمر،
عهدا
لت إليه أن خيربين ولو باإلشارة أين زوجي؟ أخذ مني ً
فتوس ُ
ّ
أسمع شي ًئا
ْ ووعدا بأن ألزم الصمت بعدها وكأنني مل
ً
ٍ
كطبول تُقرع يف حرب ،وأخربين بام مل ٍ
بشدة ينبض
بدأ قلبي ُ
أقو بعده عىل الوقوف:
َ
-لقد غادر (جريمانكوس) إىل روما منذ يومني.
ٍ
بحنان منه ثم طلب مني أن بدأت أبكي بشدة فبدأ يمسح ع ّ
يل ُ
ألكتم بكائي
َ ألزم الصمت كام وعدته ،فوضعت ُكفي عىل فمي
ٍ
كسيل جارف. مندفعا
ً الذي حياول اخلروج من فمي
50
عاد (أنطونيوس) وطلب مني اهلدوء من جديد ،وأخربين
بأن األمر هيدد حياته يف حال عرف أحد اجلنود أنه أطلعني عىل
أرسارهم.
51
يف خميلتي ِ
ماض ًيا يف سفره وحيارصه اجلنود ..مل َأر إال ظهره من
عاودت ندا َءه فلم يلتفت يل حتى
ُ اخللف وهم يقتادونه إىل روما..
كأنه حلمي!..
يف خيايلُ ..
52
4
53
وأكثرت من اإليامن
ُ هذه املرة ،ربام ألنني ألِ ُ
فت البكاء عىل زوجي
واألماين بلقائي به عن قريب.
أردت
ُ أفقت يف اليوم التايل عىل صوت أهازيج خارج القرص،
ُ
54
النهوض ألرى من رشفتي ماذا يدور يف اخلارج فمنعني اجلنود،
ومروعا.
ً كان األمر مقل ًقا
ِ
قافلة سفر، ِ
بوصول سمعتهم ينفخون يف مزامري الوفود إيذانًا
عمن أقبل علينا.
أعلم ّ
وال ُ
واحلق أنني مل أفهم عندما سمعت أحد اجلنود يرصخ قائ ً
ال: ّ
55
نعم ،تبني لنا أهنا قافلة (جريمانكوس) عادت من طريقها إىل
أعلم عنها شي ًئا حتى اآلن ،هل أجابت اآلهلة صلوايت
روما ،وال ُ
وخالص دعائي فأرجعت زوجي؟ هل سمع زوجي ندائي
وإحلاحي عليه بالعودة يل؟ هل ر ّقت قلوهبم بعد قسوهتا فأذنوا
حلبيبي بالعودة؟
جلبت
ُ ال وما جياوز السامء، ِ
اللهفة ما يقارع اجلبال طو ً َّ
يف من
كنت أقف وأصيل وأقفز أثناء
املشقة للحرس من حويل عندما ُ
أكثرت عليهم من
ُ ِ
الفرحة والرجاء، جلويس عىل رسيري من
سؤايل عن زوجي وكيف أراه؟ وكانوا جيربونني عىل الصمت.
**
كنت يف ٍ
كهف مظلمٍ عاتمٍ وحييطك اليأس داخله هل سبق وأن َ
نور فييضء لك الطريق؟
من كل مكان؟ ثم يأتيك من العدم ٌ
هل عشت إحساس من أوشك عىل مفارقة احلياة عطشً ا يف
صحرا َء مقفرة فألقى نفسه عىل األرض مستقب ً
ال حتفه ويف بداية
احتضاره متطر السامء عليه فتحييه؟
56
كنت أموت يف
جديد بعد أن ٍُ كنت أنا يوم أحيوين من
هكذا ُ
ظالم دامس
ٌ ٍ
رجاء وال أمل، ٌ
حبيسة فيه ،بال جسدي ،وروح األمل
أنار ُه خرب عودة (جريمانكوس)
57
سيلقيه أحد القادة ،فكان ٍ
خطاب ُ القافلة معلنني بذلك عن
(أوراليوس) ،خرج حزي ًنا يف الساحة ِكام أخربوين ،كان صدى
فأخرج من رشفتي ألحاول التقاط صيحاته بني
ُ صوته يبلغني،
األهازيج.
58
مل أكن ألراه ولكن أسمعه ،وكفى بسمعي ليحزنني..
59
5
61
مات زوجي بغت ًة كام ُيقال ،وما أن شاع نبأ وفاة
(جريمانكوس) حتى جال أصقاع العامل ووصل إىل روما،
ألكرب
ُ ألجزم إن احلزن يف قلبي
ُ فخيم احلـزن عىل الناس ،وإين
ّ
من كل هؤالء الناس جمتمعني.
ِ
للعودة إىل طلبا يف استدعائي
وبعد أيام ،أرسل اإلمرباطور ً
روما ،واحلق أنني مل أعد أبايل يف أي البقاع رموين
**
62
أط ّلت شمس اليوم اجلديد ،ومل ُأع ْد تلك الفتاة التي حتب
الرشوق ،ما زال النوم هيجرين واليأس يتملكني والصمت
يسكنني والذكرى املرير ُة تقتلني ،كل األشياء تكالبت عىل قلبي،
رفاته
ُ ميت أحتضن
زوج ٌ
إلنسان مثيل أن حيتمل كل هذا؟ ٌٍ وكيف
ٍ
جنود حيارصونني، أقطعه وحدي برفقة
ُ وطريق ٌّ
شاق ٌ بني يدي،
ٌ
وحشة ملا حل بوالدهم ووحشتي وأوالد يسكنون روما وجتتاحهم
ٌ
عليهم وعىل زوجي جتتاحني.
ٍ
وحرس ال أذكر عديدهم، ٍ
جنود نزلت من قرصي برفقة
ُ
مشينا يف الطريق املؤدي إىل قافلة السفر ،ومن الناس من يلقي
ٍ
عجالة وأظنهم يعذرونني، ٍ
بنظرة م ّني عىل فأرد عليه
يل سالمه ُ ع ّ
فمن أبرص يف وجهي وأدرك حايل البايل ما كان يرجو مني سال ًما،
جثة ستظلوأمحل يف يدي رفات ٍ
ُ ِ
كاجلثة أميش بني األحياء، كنت
ُ
سائر عمريٌ ..
جثة حتمل جثة حي ًة يف قلبي َ
يرحبون بوصويل ،أعدوا
ركبت يف العربة واحلرس من حويل ّ
ُ
ٍ
بشكل ُيقلق زلت صامت ًة
يل العدة والعتاد ورشعنا يف السفر ،ما ُ
ملحت (أنطونيوس) من بني اجلموع املرافقة
ُ الصمت مني،
َ حتى
63
يل ،هلذا الرجل النبيل ٌ
فضل ال أنساه ،وكم أسعدين وجوده معي،
ولست أدري إن كانت ستصل يب
ُ بدأت القافلة رحلة سريها،
ِ
كحال ستعود يب إىل هنا مر ًة أخرى وأنا ٌ
جثة هامد ٌة ُ إىل روما ،أم
زوجي.
64
6
ِ
ببعد «ويف طريق سفري مل أكن ألشعر بطول الوقت وال
أحتد ُث عرب قلبي إىل رفات زوجي ،مل يكن لليل
كنت َّ
املسافةُ ،
وحشة وأنا ُ
أمحل (جريمانكوس) بني يدي ،كان حيميني و ُيشعرين ٌ
ُ
أغرق يف نفيس ألهرب من كنت
باألمان حتى وإن كان ُرفاتًاُ ،
كآبة السفر ومن أصوات القافلة وثرثرة اجلنود واهتزام اخليول
أفر ّممن حويل وأن أجلأ
أردت أن ّ
ُ ورصرصة الريح والدواب،
اختبأت يف جسدي ونفيس طوال الرحلة،
ُ فأسكن فيها،
َ لنفيس
كنت صامت ًة ُمبحر ًة يف خيايل الذي أعادين أليام ُيرسي ورسوري».
ُ
أغريبينيا الكربى.
65
7
سائس
ٌ تعالت أصوات املزامري مطلع الصبح ،فرصخ بعدها
للخيول قائ ً
ال:
-هنا روما
67
أدنيت رأيس
ُ فبعض الفرح يغزوين،
ُ ولست أكذبُ أغني ًة سخيفة
الفخ ِ
ارية التي أحتضنها بني يدي منذ بدء الرحلة، ٍ
مقربة من ّ عىل
وأخربته عن وصولنا.
ُ ِ
لرفات زوجي فيها حب
فهمست بكل ٍّ
ُ
مل أمتالك نفيس عندما اقرتبنا أكثر فسالت دموعي ،بدأ الكشّ افة
تبعا ملزامرينا وإيذانًا بوصول
عىل أسوار روما بالنفخِ يف املزامري ً
قافلة سف ٍر إليهم.
أخريا ،خرج الناس الستقبالنا يف
ً أوشكت رحالنا أن حتط
فتبسمت ٍ
واحلق أن حفاوهتم لوصويل أسعدتني ّ
ّ مجاعات كبرية،
تبسمي ،لقد طال البؤس واحلزن عىل وجهي
هلم ،تأمل وجهي أثناء ّ
حتى شقّت عليه البسمة.
رشعت يف امليش
ُ أمحل بيدي رفات زوجي،زلت ُ أنزلوين وما ُ
ِ
الصفوف األوىل ،انفجر حتى وقعت عيناي عىل أبنائي وبنايت يف
أرصخ وأبكي ويعلو
ُ أركض نحوهم وأنا
ُ ورحت
ُ احلزن يف داخيل
شعرت
ُ مجيعا،
نياحي ،فبادلوين اجلري والبكاء حتى احتضنتهم ً
كنت أغرق
وجدت الغذاء والدواء لروحيُ ،
ُ أثناء عناقهم أنني
خر جسدي ومل حتملني ٌ
راكعة عىل األرض بعد أن ّ بدموعي وأنا
68
عظامي ،ويقف أبنائي حويل (نريو ودروسوس وغايوس وجوليا
ِ
املضيئة ِ
كاآلهلة ودروسيال وأغريبينا الصغرى) كانوا يف هبائِهم
يف عليائها ويبكون ع ّ
يل بمرارة ،مل أقف ملواساهتم وأنا التي لطاملا
َ
ألخفف عنهم أحزاهنم وأطبطب عليهم آالمهم كنت معهم
ُ
األحوج هذه املرة من بني كل
َ كنت
وأمسح هلم دموعهم ،بل ُ
ِ
الطبطبة ومسح الدموع. هؤالء الستة إىل
69
8
ماذا سيفعل لو ِ
علم بعلمي للحقيقة؟ وكيف سيواري سوءته
أسع خلفه،جهدا يف كشفه ومل َ
عني؟ انكشف يل املستور ومل أبذل ً
ُ
أحاول هتيئة نفيس ملالقاة اإلمرباطور ومواجهته بام نام زلت
وما ُ
إىل علمي ،وبيننا األيام يا (طايبريوس).
أقف عىل قرب زوجي بعد شهو ٍر كنت ُاشتعل فتيل احلقيقة بينام ُ
عم دفنه يف رضيح (أغسطس) ،أزور ُه بانتظا ٍم مني ألخرب ُه ّ من ِ
استجد من أمري وأحوال أوالدي.
كنت أسمع سعاله فور ٍ
برجل يدخل خلفي إىل الرضيحُ ، فإذا
فأسمع صوت
ُ يتقد ُم إ ّيل ً
مريضا ،مل ألتفت له ،ظل ّ دخوله ويبدو
فأدرت
ُ ِ
مشيته أنه يقصدين يف أيقنت ُ
ُ تقرتب مني حتى
ُ خطواته
رأيس فكان (أنطونيوس)
لتحيته فطلب مني أال ٍ
بلهفة فاقرتبت منه
ُ سعدت برؤيته
ُ
ّ
تعبا
وم ًشاحبا ُ
ً أقرتب منه خشية أن ينقل يل العدوى ،لقد بدا
ُ
وتسيل الدماء مع ُكحته وسعاله.
71
وأنه عىل علمٍ بأوقات زياريت
بأنه كان يرصدينُ ، أخربين ُ
ٍ
مصادفة عىل اإلطالق. للرضيح وأن جميئه إ ّيل مل يكن بمحض
ألهون ع ّ
يل ُ ويرشق د ًما مع سعايل،
ُ -إن صدري الذي يؤملني
سيظل ُ
ينزف لألبد ُّ من جرحٍ يف جويف
72
أحوج ٍ ٍ
بحياة كريمة هانئة يف املهجر ،وصل إىل روما فكان َ
مال يبتاع ِ
به قوتًا ومؤونة ،عاش بادئ مسكن له أو ٍ
ٍ إىل
ليمنحه
ُ عمل أو عن ٍ
أحد ٍ جيوب الطرقات بحثًا عن
ُ األمر
يبحث
ُ ليسد به جوع أطفاله ،كان
ّ فتات خب ٍز أو بقايا طعام
مأوى له وألطفاله يف الربد القارس،
يف الطريق العام عن ً
ٍ
غطاء ُيعينهم عىل ٍ
كسوة هلم أو ليبحث يف ِ
الغد عن ُ ويعود
ُ
جلب الدفء هلم ،ساءت حالة أحد أوالده ذات مساء وكاد
جوعا فأغمي عليه لشدة التعب والضمور ِ
ولا يموت الولد ً
ُ
محله ٍ
خانق يف رئتيهُ ، ٍ
شديد ٍ
مرض يعانيه الطفل املسكني من
ٍ
بصوت صارخا
ً أبوه بني ذراعيه وجال به ساحات روما
ابنه معه والدموع تتناثر كالآللئال ُ ٍ
عال يف األز ّقة وحام ً
ٍ
نجدة أو ُم ٍ
غيث البنه ،فلم جيد يبحث عن
ُ عىل وجنتيه ،كان
ُله ُمسع ًفا ومل يستطع توفري طعا ٍم أو عالجٍ له لعدم امتالكه
رجل ٍ
نبيل كان ٍ للامل ،ب َلغت صيحات األب إىل مسامعِ
ووبخ من كانمندفعا إليهّ ،
ً فهب
يميش يف الساحة ذاهتاّ ،
ِ ِ
قسوة قلوهبم ،ثم أمر بتوفري الناس عىل واق ًفا ُم ّ
تفر ًجا من
73
دبت فيه احليا ُة من جديد،
اإلنعاش الالزم للطفل حتى ّ
يمنح الرجل ا ُملهاجر ما يكفيه من املال وأن
فعاد وأمر بأن ُ
ِ
نفقته وأن يتلقّى أبناؤُ ه التعليم يف املدارس، ُيعطى منز ً
ال عىل
قاوم بعض الناس تلك القرارات مع األيام عىل اعتبا ِر ما
ٍ
لرجل أجنبي وتفضيله عىل أبناء ٍ
امتيازات فيها من تقديمِ
روما ،فأمر هذا الرجل النبيل بمنح ا ُملهاجر وأطفاله حق
املواطنة وأن يكونوا أبنا ًء لإلمرباطورية مثل اآلخرين ،بكى
الرجل ا ُملهاجر ً
كثريا آنذاك ،وأقسم لآلهلة أن هيب روحه
وأرواح أوالده فدا ًء يف سبيل أرضهم اجلديدة ،وكان ذلك
منه ووفا ًء ملا حصل عليه يف تلك األيام العصيبة ،يا
إخالصا ُ
ً
(أغريبينا) ..هل تعرفني من هو الرجل الفقري ا ُملعدم الذي
إنه والدي
مهاجرا من أثينا إىل روما قبل مخسني عا ًما؟ ُ
ً جاء
(سولون) ..وهل تعرفني من هو الطفل الصغري الذي
إنه أنا ..أنا (أنطونيوس)
ومرضا؟ ُ
ً جوعا ِ
اهلالك ً أوشك عىل
نذرت حيايت كلها خلدمة اإلمرباطورية
ُ وألجل ذلك
فكنت منذ بلوغي
ُ ووهبت روحي فدا ًء لوطني الذي آواين
ُ
74
يف خدمة اجليش ،تبقّى أن تعريف يا (أغريبينا) من هو الرجل
النبيل الذي أنقذ حيايت وأحسن وفادة والدي وإخويت ،لقد
ِ
ألخربك عن ِ
والدك (ماركوس فسبانيوس) ،مل أكن كان
َ
خيتلط األمر هذه احلكاية إال ألمنع سوء الظن ِ
عنك ،فال
أرسارا لإلمرباطور (طايبريوس) عليك عندما أفيش ِ
لك ِ
ً
فتطنني اخليانة من صفايت رغم وفائي ،ولكن وفائي أكرب
كنت ِ
لوالدك الذي لواله ملا ُ وإخاليص ووالئي أكرب وأكرب
حيا هنا ،مل يكن لريضيني أن أرى ابنة الرجل الذي
أنا اليوم ًّ
دت مالزمتك طوال األيام
فتعم ُ
تواجه املوت ّ
ُ أحيانا وهي
املاضية ،مات والدي ومات والدك منذ عقود طويلة ،ولكن
مزروع فينا ولن
ٌ اخلري الكبري الذي حلق بنا بفضل والدك
ِ
بأبيك وحتى أسميت ابني البكر (ماركوس) تيم ًنا
ُ ننساه،
نتوارث ذكراه فتكون خالد ًة فينا ،طالت احلرية يب وأنا أرى
واجبا
ً فوجدت
ُ األمرين
ّ ابنة (ماركوس فيسبانيوس) تعاين
ِ
باحلقيقة كلها ،ال سيام وأن مويت قد الح عيل أن آيت ألخربها
سيخطئني هذه املرة كام كان يف صغري.
يل ،وال أظن حتفي ُ
75
امتنعت عندما ك ّنا يف أنطاكيا عن إخبارك
ُ يا (أغريبينا)
بمضمون خطاب اإلمرباطور (طايبريوس) إىل (بيسو) ،ومل
فخشيت أن يصدر ِ
عنك ُ يكن سكويت إال ِ
هلول ما رأيته بعيني
ِ
علمك باحلقيقة ،كان أمر اإلمرباطور يقيض ِ
يؤذيك بعد ما قد
بالتخ ّلص من (جريمانكوس) عرب قتله دون أن يشعر أحدٌ
صدقها معظم الناس،
بذلك ،فحدثت مرسحية املوت التي ّ
قاموا بأخذ (جريمانكوس) يف طريق سفرهم الزائف ،ثم
السم غشّ ًا فعاد جث ًة هامدةً ،لقد انطلت أكاذيب (بيسو)
ّ أسقوه
ٍ
بعجالة منه فظنه صاد ًقا فأمر
ُ يف خطاباته عىل اإلمرباطور
يشعر أحدٌ من ٍ
بطريقة ُمثىل ال بالتخ ّلص من (جريمانكوس)
ُ
الناس هبا ،وكان شديد احلرص عىل أن ال تعريف بذلك ،وها
ِ
ألخربك باحلقيقة التي يقتلني كتامهنا ،وبني عهدي الذي أنا آيت
وأقسمت عليه أمام اإلمرباطور للحفاظ عىل أرسار
ُ قطعته
اخرتت والدك..
ُ ِ
لوالدك ولنسله، الدولة وبني عهدي بالوفاء
فإن اخلري يف نفيس أبقى.
76
دك حصوين، خرج (أنطونيوس) من الرضيح بعد أن ّ
أعرف إىل أين وجهتي ،مل ِ
تأت ُ وتركني يف ضيا ٍع بني القبور ،ال
ٍ
بجديد عندما بدأتا يف ذرف الدموع ،فقد كانتا تدمعان عيناي
عاهدت
ُ قبل جميء (أنطونيوس) وعادتا لتدمعا بعد رحيله،
ظلم وأن يعرف الناس احلقيقةزوجي يف قربه أن أنال ممن قتلوه ً
وف ِ
لصيته النقي بينهم ،وسأسعى للوفاء بعهدي له كام ّ انتصارا
ً
ِ
بعهده أليب. (أنطونيوس)
77
9
79
فأحسنت الرتحيب هبام ،ال
ُ جاءين الولدان يف اليوم التايل،
أعلم َمل ما ُ
زلت أرامها كاألطفال الصغار عىل هيئتهام القديمة مهام ُ
كانا أكرب من ذلك يف عيون الناس ،دخال عيل وعانقاين ،فطال
كنت
عناقنا ،فيهام من دم وروح ونبض (جريمانكوس) ..هذا ما ُ
أشعر به أثناء عناقي.
ُ
التدرب وترتيب الكالم ّ أطلت فيها
ُ ورغم كل األيام التي
تبعثرت أمام اب َن ّي،
ُ واألفكار ملواجهة الناس باحلقيقة ،إال أنني
فكيف بيوم لقاء اإلمرباطور.
ِ
باجلرأة نفسها التي كانت ِ
احلديث معهام أقو بادئ األمر عىل
مل َ
يف خيايل ،كان األمر ثقي ً
ال عىل نفيس ولساين.
وضعت
ُ ب،وتعج ٍ
ّ ٍ
برتقب استجمعت قواي ومها ينظران إ ّيل
ُ
أشد ورشعت يف قول كل ٍ
يشء هلام ،كان (نريو) َّ ُ ك ّف ّي عىل وجهي
غضبا من (دروسوس) وكالمها يرفضان التصديق ،هاجت هبام ً
ُ
ويقذف أجسادمها فور علمهام ،فطفقا يرضبان األرض واحلائط،
بحت هلام
حاولت هتدئتهام فلم أقدرُ ،
ُ أحدمها بالكأس عىل مرآيت،
وأنا أبكي عىل حايل الذي ال ُّ
يقل شأنًا عنهام
80
عهدا
وطلبت ً
ُ سألتهام العون والكتامن حتى ال يقع عليهام األذى،
ٍ
ألحد بام أخربهتام به ،فخرج (دروسوس) ووعدا منهام بأن ال يبوحا
ً
حاولت احتواء األمر فانفلت األمر من
ُ غاضبا ومل ير ّد عيل بكلمة،
ً
ِ
ارتكاب ووقفت عاجز ًة وخائف ًة عليهام من
ُ ِ
كالعقد املنثور، يدي
بني ّ
محاقة.
**
ِ
رشده وأن يمنعه ورجوته أن يعيد أخاه إىل
ُ توس ْل ُت إىل (نريو)
َّ
عن الذهاب إىل قرص اإلمرباطور ،حاولنا ردع (دروسوس)
ِ
برضب أخيه ليفسح له الطريق ،كان يقصد يف مشيته هم
ولكنه ّ
ُ
القرص.
81
كثريا ولكني ِ ٍ
نمش ً ببعيد عن مسكني ،فلم مل يكن القرص
قدمي من مرص إىل هنا.
ّ ٍ
بتعب يوازي مسريي عىل شعرت
ُ
ٍ
بارتياب فور رؤيتهم ملظهرنا، شعر احلرس واجلنود
ٌ
ثالثة منهم أمامنا فدفع هبم ابني فشهروا سيوفهم ملنعنا ،توقف
(دروسوس) وفسح الطريق إىل القرص فدخلنا ً
رغم عنهم.
رشعت يف لو ِم
ُ كنا نميش يف املمر املؤدي إىل جملس اإلمرباطور،
وأخفقت يف الكشف
ُ صنعا يف وزن األمر
أحسن ً
ْ نفيس ألنني مل
البني ،ويف قلبي أماين بأن ال يتعرض أحدٌ منهام لألذى بعد
ّ عنه
هذا التهور.
جالسا
ً وصلنا إىل املجلس ،وكان اإلمرباطور (طايبريوس)
ٌ
لفيف من رجاالته ،وما أن وقعت مجع
عىل كرسيه وحييط به ٌ
هب احلرس من
وتعجبّ ،
ّ عيناه اجلاحظتان علينا حتى فزع
82
حوله حلاميته فشهروا سيوفهم علينا وطالبونا بالتوقف مكاننا،
وظللت أجري معه ،أحكم احلرس من تطويقنا
ُ فلم يقف ابني
ُ
والدهشة تطغى فأجربونا عىل الوقوف ،كان اإلمرباطور أمامنا
ٍ
بتحديق منه ،كان عىل حمياه ،وقف من عىل كرسيه وهو ينظر إلينا
بسبابته وهو
مشريا له ّ
ً يرصخ عىل اإلمرباطور
ُ ابني (دروسوس)
يسأله قائ ً
ال:
-هل أنت من أمر بقتل والدي؟
متسم ًرا وينظر بكلمة واحدة ،كانٍ مل ينطق (طايبريوس)
ّ
ٍ
ذهول منه، نحونا ،عاود ابني سؤاله فلم جيب ،كان ساك ًتا ينظر يف
ٍ
ابتسامة طفيفة ،ثم نظر إيل وقال بعد ِ
وجهه مالمح تشك َلت عىل
َّ
صمت قصري:ٍ
ِ
امتهنت تأليب أبنائك عىل اإلمرباطور يا (أغريبينا)؟ -هل
تثريين الفتنة بيننا وحتثينهم عىل التمرد والعصيان واالنقالب
ورباهم مذ كانوا صغار ًا فأحسن نشأهتم
عىل من رعاهم ّ
ومدهم باملال والعتاد ومنع احلاجة عنهم حتى بلغ الفرد
أشده؟ هل تسريين عىل خطا (جريمانكوس) يف
منهم ّ
النكران واجلحود؟
83
مت نحوه
فتقد ُ
استفزين إىل احلد الذي جعلني أنسى نفيسّ ،
كنت أقول: ٍ
غاضبة ُ ٍ
وبنربة
ٍ
بجاحد وال ناك ٍر قط ،كان أوىف الناس -مل يكن (جريمانكوس)
لك ويل وألبنائه ولإلمرباطورية كلها ،كيف إلمرباطو ٍر
ال باحلكمة والدهاء أن يستند يف إصدا ِر
يدعي وص ً مثلك ّ
ٍ
خطابات مليئة بالكذب والتدليس؟ ما حكمٍ بالقتل عىل
رأيته بنفسك من (جريمانكوس) القائد الذي محل ُ الذي
رايتك وراية الروم وجال هبا أصقاع األرض فا ًحتا هلا؟ ماذا
صدر عنه غري طاعة أمرك واالنقياد إليك واالمتثال لك
ِ
باآلهلة وإعالء شأنك بني الشعوب؟ وإين ألستحلفك هنا
ٍ
واحد لك ٍ
عصيان ِ
سمعت عن ٍ
بصدق منك ،هل أن جتيبني
أو ٍ
مترد عليك من (جريمانكوس) يف غري اخلطابات التي
كان يبعث هبا (بيسو)؟ ما فائدة علمك بحقيقة زوجي
ِ
تصديق وصفاء رسيرته ووفائه ووالئه لك حتى جتنح إىل
وطمعا
ً حسدا
ً يبعث هبا (بيسو) إليك
ُ ٍ
خطابات زائفة كان
مدفوعا يف تدليسه
ً منه بمكانة زوجي؟ لقد كان (بيسو)
ُ
84
ِ
الغبن وسوء التقدير له بعد أن بمشاعر من
َ وتضليله لك
ُق َ
مت بجعله مندو ًبا لدى (جريمانكوس) يف اجلزء الرشقي
من اإلمرباطورية ،أي هتو ٍر منك يف أن حتكم بقتل أكثر
قادتك طاع ًة لك غيل ًة.
ِ
عرفت بذلك يا أرى سؤا ً
ال يف عينيك يقول يل( :وكيف
أغريبينا)؟ وها أنا أجيبك قبل أن خيرج السؤال من فمك وينطق
به لسانك ،ال يمكن أن تقطع دابر األخيار فلهم يف األرض مزارع
برشية ،إن اآلالف املؤلفة التي أحسن زوجي إليها منذ أن تق ّلد
أول ٍ
رتبة له يف اجليش لقادر ٌة عىل أن تذود عنه وعن ذكره وأن
تذب عنه ظلمه حتى بعد مماته ،ال يمكن للعصبة الذين بلغهم
ّ
أمرك بقتل (جريمانكوس) أن تبقى صامت ًة أبد الدهر ،ففيهم من
كان زوجي ُيسن إليه وال يقدر أن يكتم غيظ جنايتك ،ومنهم
مضطرا إىل االمتثال له،
ًّ يرفض أمرك يف باطنه وإن كان
ُ من كان
وعليك أن تعرف أن احلقيقة التي أوشكت عىل الظهور من شأهنا
أن هتدد مقامك أمام جملس الشيوخ وأمام الناس وأن تُدنّس
85
ِ
األلسن واألفواه ،وعندها أخربين كيف سيذكر سريتك عىل
أنكر عليك ما فعلته بحق أبنائي
التاريخ اسم (طايبريوس) ..ال ُ
ٍ
ومحاية وإعاشة هلم ،ولكن إياك أن تُنكر أنك السبب ٍ
رعاية من
قدمت هلم الدنيا كلها بعد قتلك ألبيهم
وراء جعلهم أيتا ًما ،ولو ّ
ملا أعطيتهم ربع ما سلبتهم.
ٌ
حماطة وظننته سيصفعني وأنا
ُ تقدم (طايبريوس) نحوي
ّ
ولدي ،سألني قائ ً
ال: ّ ِ
صمت بجنوده وبني
86
ِ
طلب (بيسو) وأن نفيس أمام كل الشهود هنا بأن أرسل يف
تبي لنا
مجيعا ،فإن ّ ٍ
أخضعه ملحاكمة عادلة عىل مرأى الناس ً ُ
زور ادعاءاته يف حق (جريمانكوس) وختوي ُن ُه له هبتانًاً ،
فحتم
زوجك ممن ظلمه وغشنا. ِ سنقتص منه وسنأخذ بثأر
قاطعته:
أجابني:
87
وكنت أنظر إليه ليكمل حديثه فقال:
ُ مل أتفوه بكلمة
88
ومضت األيام ،وقد وصل (بيسو) بالفعل إىل روما ،كان قد
ِ
بالطريقة ذاهتا التي اقتادوا هبا زوجي يوم أخربوه كذ ًبا ُجلب
برضورة ترحيله ألجل حماكمته فكان مثواه األخري.
أمر اإلمرباطور بالبدء واملسارعة يف حماكمة (بيسو) وكان
داخله أال يكون موت (جريمانكوس) ً
ظلم حتى ال ِ يرجو يف
تطاله التهمة ،كانت التهم املوجهة إىل (بيسو) كثري ًة أمهها التآمر
ُ
عىل القائد (جريمانكوس) وتدليس احلقيقة والتسبب يف ِ
قتله،
طالت أيام املحاكمة ونفى (بيسو) عن نفسه هتمة الكذب عىل
إرصارا عىل موته ميتة مفاجئة أثناء
ً (جريمانكوس) أو قتله وأرص
ٌ
ماكثة يف منزيل، كنت أسمع بأخبار املحاكمة وجمرياهتا وأنا
سفرهُ ،
يتناقل الناس أخبارها يل ،وال أرجو منها نزاهة.
ٍ
شهود من (أنطاكيا) أخربوين أهنم أرسلوا يف طلب عرشة
ٍ
شهود منهم ليشهدوا يف الدعوى املقامة ،وما أن رشع ثالثة
باإلدالء بام يربئ زوجي من التهم التي ألصقها (بيسو) به كاخليانة
والتخطيط لالنقالب عىل اإلمرباطور ،حتى عرف اإلمرباطور
يف نفسه أن قراره يف قتل (جريمانكوس) جاء من وحي تدليس
ٍ
بحقيقة عىل اإلطالق. (بيسو) ومل يكن
89
ٍ
بشكل مفاجئ ،لقد خيش أن أوقف اإلمرباطور املحاكمة
ُ
تكشف ّ
عم قد يدينه ،كان خطرا عليه ،وأهنا قد
ً يف استمرارها
يظن قبل إجراء املحاكمة أن (بيسو) عىل حقٍّ فيام كان خيربه به يف
أحس باخلوف،
ّ اخلطابات ،وفور أن ظهر له ما ينفي ذلك حتى
ورأى أن استمرار الضغط عىل (بيسو) سيدفعه لكشف احلقيقة
ظلم والذي صدر عن اإلمرباطور كلها ،بام يف ذلك أمر القتل ً
يشغله
ُ ِ
كالصاعقة عليه يوم أدرك املستور ،وصار ما نفسه ،كانت
ٍ
فضيحة حمتملة ،كان أمره بإيقاف زها عن ِ
اسمه ُم ّن ً هو احلفاظ عىل
أنه أراد
ينصب ملصلحته ،أوقفها بذريعة تأجيلها واحلق ُ
ُّ املحاكمة
أن يستدرك ما يمكنه استدراكه.
ٌ
خادمة يف القرص وبينام أنا يف حجريت ذات مساء ،دخلت ع ّ
يل
أعرفها ،اسمها (ترتايا) كانت عجوزً ا حدباء وقد أفنت عمرها
كثريا
وحتن ً
ّ يف خدمة البالط اإلمرباطوري ،كانت يف مقام أمي
علينا ،جاءت لتخربين أن (بيسو) قتل نفسه فجأة يف زنزانته،
وجدوه مي ًتا صباح اليوم ،يقولون إنه قتل نفسه بعد أن عرف أن
حماكمته يف طريقها إلدانته.
90
وبدأت ألعن روحه كلام َّ
تذك ْرت ُ أبدا،
مل أحزن عىل (بيسو) ً
أبدا وكذلك لعني لـ (بيسو).
يغيب عن بايل ً
زوجي ،وزوجي ال ُ
يبعث عىل
أمر ُولكن أن يقتل (بيسو) نفسه فجأ ًة أثناء حماكمته ٌ
الريبة وحيمل يف طياته أسئل ًة كثري ًة بال إجابة.
91
10
93
ٍ
خطوة ُ
حاول يف كل ٍ
لساعات معهم واجلفاف يقتلني ُفأ أميش فيه
أتعرف عىل الطريق بإحسايس فلم أقدر ،كان اخلوف يطغى
أن ّ
أحسست
ُ أسمع يف جويف نبضات قلبي، ُ وأكاد
ُ عىل شعوري
يصحبه
ُ باهلواء القوي خيرتق فتحات اخليشة وكأنه اهلواء الذي
وأشم رائحته
ُّ أشعر بعدها بالبحر
ُ وبدأت
ُ موج البحر معه،
ُ
أعرف إىل أين وأسمع صوت تالطم أمواجه عىل الشاطئ ،ال
ُ
كنت أحاول صارخ ًة أن أسأهلم عن أوالدي
يأخذونني ،ولكني ُ
وعن مصريي ،فلم أستطع نط ًقا بلساين املعقود.
أسمعهم يتحدثون بعضهم إىل ٍ
بعض حول تقريب الزوارق
كنت
فعرفت أين يف طريقي لركوب البحر الترياينُ ،
ُ إىل الشاطئ،
شدها باحلبال ،بدؤوا
وصوت ّ
َ أسمع صوت الزوارق تقرتب م ّنا
ُ
وكنت معهم أنتظر حلظة ركويب ،محلوين معهم دون أن
ُ يف ركوهبا
أشعر أنني فوق الزورق حلركة املياه حتتي وصوت
ُ وبدأت
ُ أرى
التجديف الذي أسمعه ،مل خيربين أحدٌ إىل أين يأخذونني؟ وما
هو مصريي؟ وماذا سيحدث ألبنائي؟
**
94
كنت أخاف وأخشى ركوب
مريع ،لطاملا ُ ٌ
رحلة قطعتها يف جو ٍ
البحر حتى يف أكثر أيامي سعادة ،فكيف يب وأنا أركبه واخلوف
أشعر بأناميل.
ُ يملؤين وال
ُ
تسيل عىل وجهي أشعر سوى بالدموع
ْ يتحدث أحدٌ إ ّيل ومل
ْ مل
لفح أمالح البحر بام يسكن ُ
خيتلط ُ وتكتم أنفايس،
ُ وتبلل خيشتي
حس يف رأيس بالدوار والغثيان ُ
عىل شفاهي من أمالحِ دموعي ،وأ ُّ
ال يفارقني.
95
بدأت أبكي وأتأمل عىل حايل وأرجو منهم أن جييبوين فلم ُ
ً
ممسكا بذراعي فأعادين إىل مكان يتحدثوا إ ّيل ،كان أحدهم
ِ
مستم َّر ًة أتأمل حايل ،وال يشء يشغلني جلويس وأبقاين هناك
سوى أبنائي وبنايت.
**
96
بدأ بعض اجلنود بركوب زوارقهم فور وصولنا ورشعوا
زلت ال أرى شي ًئا
للعودة إىل روما بعد أن و ّدعوا رفاقهم ،وما ُ
خلف عصبتي ،ويداي وقدماي مو َثقة بالسالسل واألغالل.
97
بابني،
ّ وعرفت أن األذى قد حلق
ُ قتلني ما بلغ مسامعي،
أحدا
جثوت عىل األرض أبكي أمامهم وأسأهلم أال يؤذوا ً
ُ
منهام.
أدركت
ُ ولدي،
ّ عدت أرجوهم وأطلب منهم أال يطال األذى
ُ
يف جويف أن اإلمرباطور (طايبريوس) قد فعل كل هذا ليحمي
ٍ
فضيحة قد شارفت عىل الظهور ،فضيحة نفسه ،ويغسل عاره من
قتله ً
ظلم لـ (جريمانكوس)
ٍ
بعجالة منه حتى ال أراد أن يقيض عىل كافة أطراف القضية
وعرفت حينها أن (بيسو) مل يقتل نفسه وإنام
ُ تنكشف خباياها،
عمدا ،وأنني ٌ
بريئة مما حاكه اإلمرباطور ضدي من اإلفك ُقتل ً
والبهتان ،واستطاع بنفوذه أن يعتمد قراره الظامل اجلائر من جملس
98
الشيوخ ،أراد أن ُيبادر بالتخلص ممن يعرفون احلقيقة قبل أن
تترسب احلقيقة إىل الناس.
**
هل بلغك اليأس ومتلكك القهر والغبن والذل إىل احلد الذي
كنت تظن فيه أنك لن تصمد؟ هل باغتك اجلوع والعطش
آمنت فيه بدنو أجلك؟
والوحدة واخلوف إىل احلد الذي َ
أشعر به اآلن ،أقيض يومي اخلامس يف منفاي، ُ هذا ما
واألغالل تلتف حول جسدي يف هذا املكان املوحش وحدي،
رحل نصف اجلنود ومل يبقَ برفقتي سوى ثال َث ٍة منهم كالوحوش،
كانوا يسخرون مني و ُيكثرون من اإلهانات ع ّ
يل ،ورغم ما أبديته
أمتص املاء من الرمل
كنت ُ ٍ
وعطش مل يكونوا ليطعموينُ ، من جو ٍع
املبلل ُّ
فيبتل ريقي.
99
أبدا ،تر ّدت صحتي وساء
ويشوون السمك ومل يقدموا يل األكل ً
وضعف بدين حتى جت ّلت عظامي وبدأ وجهي اهلزيل
ُ حايل
بالضمور.
100
أرصخ وأئن من اجلوع واألمل يف أسبوعي الثاين طالبةُ بدأت
ُ
أي منهم ،تركوين وسط هذه احلجرة من اجلنود نجديت ،ومل يأتِني ٌّ
مو َثقة اليدين والرجلني وال أقوى عىل التحرك أو اخلروج منها
زلت
بالغم فوق صدري كاجلبال ،وما ُ
ّ أشعر
ُ لضعف جسدي،
معلق بأوالدي يف روما ،أخشى أن يكون
ٌ أجهل مصريي وقلبي
ٍ
حاجة يل. أحدهم يف
101
عيني،
أشعر بجسدي يف اليوم التايل ،ومل أستطع أن أفتح ّ
ُ مل أعد
ٍ
مشدوه وفمٍ مفتوحٍ ٍ
بوجه ِ
كاجلثة رصت
ُ تفاقمت حالتي حتى
مهسا يف اجلزيرة كلها ،وبينام أوشكت
يكسوه اجلفاف ،ال أسمع ً
جاهدت عيني ألرى من
ُ عيني حتى ُفتح الباب ً
أخريا، أن أغمض ّ
فز له قلبي: ٍ
بصوت ّ ٍ
برجل يقول يل الذي دخل ع ّ
يل ،فإذا
102
تغيت بالكامل ،كان النور يسكن
كام كانت عند محيل إليها ،لقد ّ
أرجاء املكان ،وصارت اجلزيرة كالبستان الفسيح امليلء بالورود
واألزهار الذي رأيته يف حلمي القديم ،حلمي الذي مل يلتفت يل
وتبسم ِ
النقيض متا ًما ،جاء إ ّيل ّ فيه (جريمانكوس) ولكنه اآلن عىل
ٍ
حياة أفضل، يل وحررين من قيودي وأغاليل ،ومحلني معه إىل
وتركت لكم الدنيا.
ُ فرحلت معه..
ُ
103