You are on page 1of 105

‫ُ‬

‫كبرية الورد‬
‫ُ‬
‫كبرية الورد‬
‫(قصة قصيرة)‬

‫سلطان مو�سى املو�سى‬


‫‪almousa_su‬‬
‫‪sultan.almousa‬‬

‫‪1441‬هـ ‪2020 -‬م‬


‫اإلهداء‬
‫إىل أصدقاء العزلة‬

‫عبد اهلل الريس ‪ -‬مقرن املوسى ‪ -‬سطام املالك ‪-‬‬


‫خالد اجلهيامن ‪ -‬فهد السحيم‬
‫نايف ُمالعب ‪ -‬صالح اللحيدان ‪ -‬عبد اهلل العبديل ‪-‬‬
‫سلطان السهيل ‪ -‬راكان الشايع ‪-‬‬
‫بندر الشعالن ‪ -‬حممد الرباهيم ‪ -‬فيصل الرشيد ‪-‬‬
‫لؤي الرشيف ‪ -‬أمحد العصيمي‬
‫أمحد التويم ‪ -‬عبد املجيد اليمني ‪ -‬سعد الناجم ‪-‬‬
‫عبد اهلل الزهراين ‪ -‬يارس الفوزان ‪ -‬سعد وفهد السامري‬

‫ُ‬ ‫َ‬
‫كنتم أقرب عن بعد‬

‫‪5‬‬
‫توطئة‬

‫بُنيت هذه القصة على واق ٍع مري ٍر من تار ِيخ الروم‪،‬‬


‫وكان زماهنا مطلع القرن األول بعد امليالد‬

‫‪7‬‬
‫دع قلبك يسمع قلبي‬

‫‪9‬‬
‫‪1‬‬

‫رأيتهم بأم عيني‪ ،‬ومن اليق ِ‬


‫ني ما هو ٌ‬
‫باعث للشك‪ ،‬مل أعد أعلم‬
‫عشت ألمللم شتات‬
‫ُ‬ ‫عن صدق عيني وال ّأمها‪ ،‬بعثروين وأنا التي‬
‫ٍ‬
‫شتات وبعثرة‪.‬‬ ‫الناس‪ ،‬فكيف يب وأنا ما بني‬

‫يل بينام أنا يف أحضان (جريمانكوس) ُّ‬


‫أغط يف نومي‬ ‫دخلوا ع ّ‬
‫أعلم أنه‬
‫وأزاحم أضالعه عىل قلبه‪ ،‬مل أكن ُ‬
‫ُ‬ ‫وأذوب عىل صدره‬
‫ُ‬
‫ألوقفت الزمن عىل حالنا‬
‫ُ‬ ‫سبايت األخري مع زوجي وحبيبي‪ ،‬وإال‬
‫ُ‬
‫فتكون قباليت األخري ُة خالدة‪.‬‬ ‫فوق الرسير‬

‫مالمح يف‬ ‫ٍ‬


‫جنود من شعبي‪ ،‬ال أرى لوجوههم‬ ‫كانوا ثالثة‬
‫ٌ‬
‫الظلامت وكأهنم أحالم‪ ،‬لبسوا كل ما يرتديه املقدم عىل حرب‪،‬‬
‫وال جيش أمامهم سوى زوجني أعزلني‪ ،‬أحدمها كان قائدهم‬
‫وتشهد‬
‫ُ‬ ‫وبطل حروهبم وجالب نرصهم يف جرمانيا وأنطاكيا‪،‬‬
‫ُ‬
‫اآلهلة كلها عىل حبه هلم وتورعه عن ظلمهم وجنوحه إىل إكرامهم‬
‫كنت أنا‪ ..‬أنا التي ما‬
‫وإعالء شأهنم بني الشعوب‪ ،‬أما اآلخر فقد ُ‬

‫‪11‬‬
‫يشء يل قبل يقني بأن ال أحد من شعبي أحوج إليه‬ ‫ٍ‬ ‫أبقيت عىل‬
‫ُ‬
‫واأليام‬ ‫ولبيت هلا النداء‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫علمت عن رغبة إال ّ‬
‫ُ‬ ‫مني‪ ،‬أنا التي ما أن‬
‫ألود املوت‬
‫خريا ووهبته الناس‪ ،‬وإين ُّ‬ ‫حتكي كم منعت عن نفيس ً‬
‫عطاء عىل ِ‬
‫هيئة خيانة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مت من‬‫قد ُ‬
‫ألف مرة قبل أن يأتيني ما ّ‬

‫شهروا سيوفهم والقمر من ورائهم ييضء نصاهلا عرب نافذيت إىل‬


‫السامء‪ ،‬كانت قبلة السيوف إىل وريد زوجي‪ ،‬وضعوها عىل عنقه‬
‫ففزعت من مرقدي وصويت يمأل الدنيا‪ ،‬وفزع (جريمانكوس)‬
‫ُ‬
‫هم بالنهوض حتى وجدهم وقد أحكموا حصاره‪،‬‬
‫معي وما أن ّ‬
‫وطوقوا عنقه أيام تطويق‪.‬‬

‫حاولوا إسكايت‪ .‬وقد كان اخلوف يتملكني‪.‬‬

‫رميت وشاحي‬
‫ُ‬ ‫هانت احلياة يف عيني وضاقت يب عىل وسعها‪،‬‬
‫اهنلت عليهم كالذئبة‬
‫ُ‬ ‫فانكشف هلم جسدي عاري ًا وتدلت أثدائي‪،‬‬
‫ألخ ّلص زوجي من وطأة املوت حتت سيوفهم‪ ،‬وقد كان زوجي‬
‫ينهرين فور قيامه ف ِز ًعا أمام ما يراه‪.‬‬

‫وعدت مر ًة‬
‫ُ‬ ‫كدت أطري لغلظته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صفعني أشدهم بنية حتى‬

‫‪12‬‬
‫ٍ‬
‫اكرتاث مني ألوامرهم‬ ‫أخرى ألزيد يف عوييل ونحيبي بال‬
‫بالسكوت‪.‬‬

‫نظر إيل (جريمانكوس) أثناء حصارهم له‪ ،‬وطلب مني‬


‫كنت رابض ًة يف مكاين عىل إثر‬
‫هامسا أن ألزم الصمت خو ًفا عيل‪ُ ،‬‬
‫ً‬
‫صفعتهم ودموعي تغسل وجهي‪.‬‬

‫رشع اثنان منهم يف إيثاق يدي (جريمانكوس) باألغالل‪ ،‬بينام‬


‫سيف ثالثهم عىل نحره لئال يقوى عىل التحرك برهة‪.‬‬

‫كان ينظر إيل ليطمئن عىل حايل‪ ،‬وقلبي يأكلني ويقول يل‪:‬‬

‫‪-‬من األحق باالطمئنان عىل اآلخر يا حبيبي؟‬

‫رأيت زوجي شاحب الوجه بينهم‪ ،‬وهو من الزم السكون‬


‫ُ‬
‫وجهه منذ أن حاز عىل روحي‪ ،‬ليست تانك العينان املهزوزتان‬
‫عينيك الوسيعتني اجلميلتني يا قمري‪ ،‬وال ذلك الصوت الراجف‬
‫صوتك الباعث عىل األمان‪.‬‬

‫استجمعت قواي بعد أن‬


‫ُ‬ ‫مل أكن أعرف شي ًئا مما يدور حويل‪،‬‬

‫‪13‬‬
‫طلبا للنجدة‬
‫خارت عىل األرض وانتهضت‪ ،‬حاولت اخلروج ً‬
‫ولكنهم قد أغلقوا األبواب‪ ،‬وما أن أحكموا من الوثاق عىل‬
‫اقرتبت منهم‬
‫ُ‬ ‫اندفعت نحوهم ألخلصه مر ًة أخرى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫زوجي حتى‬
‫ٍ‬
‫مقربة منهم ومل‬ ‫َطمت عىل‬‫ألرميهم بفخارية اختذهتا زين ًة يل فارت َ‬
‫َ‬
‫يط ْلهم ٌ‬
‫يشء من جذاذها‪.‬‬

‫اقرتبت أكثر وكانت تلك آخر ذكرى يل هناك‪ ،‬اختلط ظالم‬


‫ُ‬
‫احلجرة بالظالم الذي بدأ يتسلل إىل جسدي بغتة بعد أن رضبني‬
‫أحدهم عىل رأيس بدرعه‪ ،‬فانتهى عهدي هبم وانطفأ كل يشء إال‬
‫ال‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫صوت خيرتق الصمت ويرصخ قائ ً‬ ‫من‬

‫‪-‬أغريبينا‪!!..‬‬

‫وكان اسمي آخر ما سمعته بصوت (جريمانكوس) وذلك‬


‫قبل أن ُيغشى ع ّ‬
‫يل فأصحو بعدها يف عامل ٍ مل يعد فيه زوجي وال‬
‫صوته‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪2‬‬

‫كنت مع ّلق ًة يف ظال ٍم دامس‪،‬‬


‫يف عامل ٍ غري حمسوس وال حمسوب‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫حفرة ال ُيعرف مداها‪.‬‬ ‫وكأنني أهوي من السامء إىل قاع األرض يف‬
‫ُ‬
‫خيتلط إحسايس‬ ‫أشعر بجسدي وال أشعر به يف ٍ‬
‫آن واحد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أسمع سوى صدى‬ ‫ٍ‬
‫خياالت وأضغاث أحالم‪ ..‬ال‬ ‫بالواقع مع‬
‫ُ‬
‫نفيس وخلجاهتا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بستان فسيحٍ‬ ‫ورأيت نفيس يف‬
‫ُ‬ ‫ينساب إىل عاملي فجأة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بدأ النور‬
‫تكسو الورود ظاهره ومرأى العني فيه‪ ..‬وتغطيه األزهار يف‬
‫شمس‬ ‫ٍ‬
‫بلطف منها ومن فوقها‬ ‫والريح جتري بني أغصانه‬ ‫ربيعها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫ملسات حانية وأنامل ذهبية‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫هلا‬

‫وقفت بينها وحدي وكأنني كبرية الورد كام كان زوجي‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بلطف‬ ‫أمسح عىل رؤوس الورد‬ ‫ظللت أميش وأنا‬
‫ُ‬ ‫يناديني‪،‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫اهلواء نداها‪ ..‬وتنكفئ عىل‬ ‫وتنثر يف‬ ‫مني فتزداد الورود خج ً‬
‫ال‬
‫ُ‬
‫أنفسها‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫ُ‬
‫وتأخذ معها ما تطاير‬ ‫روائح زكية‪،‬‬
‫َ‬ ‫تيس من‬
‫والريح تنقل يل ما ّ‬
‫ُ‬
‫عيني وجبيني‪.‬‬
‫فتداعب به ّ‬
‫ُ‬ ‫من شعري‬

‫فيزيد جنوين‪ ..‬أجري‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أضحك‬ ‫ظللت أميش ُفينار طريقي‪..‬‬
‫ُ‬
‫فيفوح عبريي‪.‬‬
‫ُ‬
‫وكأنني إهلة الورد (فلورا) أو كأنني كل األشياء اجلميلة يف‬
‫حيايت‪.‬‬

‫جليا‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬


‫الح يل من بعيد رساب عىل هيئة رجل من سواد‪ ،‬مل يكن ًّ‬
‫بادئ األمر حتى أرجعت النظر مرتني‪ ،‬ويف كل مرة أرى شي ًئا‬
‫جديدا فيه‪ ،‬كان واق ًفا أمام قرص الشمس وقفة املخذولني‪ ،‬ال‬
‫ً‬
‫أرى منه إال ظهره الذي أداره يل‪ ،‬وشي ًئا من صورته وتقاسيم‬
‫أوصافه تشبه (جريمانكوس)‪.‬‬

‫ورأيت ما كان‬
‫ُ‬ ‫شعرت أنه زوجي وحبيبي‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تفطر قلبي فور أن‬
‫أزرق أهديته إياه يف يوم لقائِنا األول‪ ،‬كان عىل‬
‫َ‬ ‫يرتديه من وشاحٍ‬
‫ِ‬
‫صورته الشابة التي عرفته هبا أول مرة قبل عقدين‪.‬‬

‫عدت‬
‫ُ‬ ‫رصت أركض نحوه وأنا أسابق الريح ومل أبرح مكاين‪،‬‬
‫ُ‬

‫‪16‬‬
‫أجري بني الورود ومل تتقدم يب اخلطا أبد ًا‪ُ ،‬‬
‫كنت ماكث ًة ُ‬
‫حيث أنا‬
‫ركضت إليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مهام‬

‫شعرت أنني ال أريد‬


‫ُ‬ ‫أعلم ماذا يعيقني عن الوصول إليه‪،‬‬
‫ال ُ‬
‫ٍ‬
‫حرمان‬ ‫شي ًئا من الدنيا كلها سوى بلوغ أحضانه وعناقه‪ ،‬وأي‬
‫كنت أشعر به وأنا أراه أمامي وال أبلغ مرامي‪.‬‬
‫ُ‬

‫بدأت أبكي وأنا أرصخ وأردد اسمه من بعيد‪ ،‬مل يكن جييبني‬
‫ُ‬
‫وهو الذي مل يتجاهل ندا ًء يل يف حيايت قط‪.‬‬

‫ٍ‬
‫كطفل صغري عثر عىل أمه بعد ضيا ٍع مريع‪،‬‬ ‫كنت أبكي جاثي ًة‬
‫ُ‬
‫كأم ضاع منها‬ ‫وظل يراها من ٍ‬
‫بعيد وال يقدر عىل إدراكها‪ ،‬أو ٍّ‬
‫بحر من نار‬
‫طفلها فظلت تندب األيام حتى عثرت عليه وبينهام ٌ‬
‫فال يمكنها احتضانه‪.‬‬

‫وكأنه حيوي مشاعر كل‬


‫ُ‬ ‫أشعر به يف قلبي املوجوع‬
‫ُ‬ ‫ضياع‬
‫ٌ‬
‫الضائعني‪.‬‬

‫وأركض جهدي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فأعود للجري جمد ًدا‬
‫ُ‬ ‫خيتنق صويت بدموعي‪،‬‬
‫ُ‬
‫وما أن ُ‬
‫أقف حتى أرى نفيس يف مكاين فأعود وأستغيث‪:‬‬

‫‪17‬‬
‫انظر إ ّيل يا من َ‬
‫كنت يل الدنيا‪ ،‬انظر وراءك يا من جعلتني‬ ‫‪ُ -‬‬
‫أمام الناس‪( ،‬جريمانكوس)‪ ،‬يا من ُوجد قلبي ألجله‪ ،‬ويا‬
‫من ُخ ِلقت روحي ل ُتهدى إليه‪ ،‬أوترتكني وأنا يف أحوج‬
‫األوقات لك؟ لعناقك‪ ،‬للبكاء عليك‪ ،‬لتحسس وجهك؛‬
‫لتجسس نبضك؛ لتقبيلك والسالم عليك؟‬

‫انظر خلفك فهنا حبيبتك (أغريبينا) وحيدة‪( ..‬أغريبينا) يا‬


‫وحبا ومال ًذا‬
‫درعا ًّ‬
‫(جريمانكوس)‪( ..‬أغريبينا) التي كانت لك ً‬
‫يمنحك األمان وال يضاهي أمانك الذي متنحه إياها‪ ،‬انظر إليها‬
‫خلفك وهي كسري ٌة حسري ٌة وأسري ٌة لك‪ ،‬ال يغادرها اخلوف‬
‫ويتملكها اهللع وتبحث عن ٍ‬
‫يشء يس ٍ‬
‫ري منك هيدئ من روعها‪.‬‬

‫هل تسمع منها ما يدعوك لاللتفات هلا؟ إن كنت ال تسمعني‬


‫حب أن تسمع قلبك‪ ،‬أو‬
‫فإين أتقرب إليك بام حيمله قلبك يل من ٍّ‬
‫أعري اهتامم ًا ألذنيك عندما أمهلتا صوت‬
‫دع قلبك يسمع قلبي‪ ،‬ال ُ‬
‫قلبا يسمعني‬
‫بكائي وجتاهلتا صيحايت وندائي‪ ،‬ألن يف داخلك ً‬
‫جسدا بال آذان صاغية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ويصغي إ ّيل وإن ُك َ‬
‫نت‬

‫‪18‬‬
‫عدت أبكي راكع ًة عىل‬
‫ُ‬ ‫مل يصدر عنه ما يوحي بسامعه يل‪،‬‬
‫كنت أرى أمامي‬
‫األرض‪ ،‬أتذكر أيام عمرنا وأعزي نفيس هبا‪ُ ،‬‬
‫رق قلبي إىل (جريمانكوس)‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ذكريات يف أول مرة ّ‬ ‫ما مىض من‬

‫كان يمأل أسامع الناس‪ ،‬يتحدثون عن شجاعته يف روما كلها‪،‬‬


‫ِ‬
‫انتصاراته يف املهام التي أوكلت إليه من اإلمرباطور‬ ‫عن ِ‬
‫قوته وعن‬
‫(طايبريوس)‪.‬‬

‫ال أنسى تلك الليلة الباردة التي كنا نأكل هبا العنب عىل بطوننا‪،‬‬
‫ونتسامر أنا وصديقتي (سابينا) يف قرصنا أواسط روما‪ ،‬ما انفكت‬
‫حتدثني عن مجال (جريمانكوس)‪ ..‬ذلك اجلندي الشجاع الوسيم‬
‫املهيب احلاد املالمح القصري الشعر العريض املنكبني ذي اجلسد‬
‫املفتول والقوا ِم الرشيق‪.‬‬

‫مل أكن ألسمع منها حديثًا طاملا يكثر يف جمالس النساء‪ ،‬ولكنها‬
‫أخربتني عنه كثريا ودعتني حثيثًا للخروج يوم ٍ‬
‫غد لرؤية تكريمه‬ ‫ً‬
‫بشارة النرص من اإلمرباطور يف الساحة الرملية الكربى‪ ،‬هنرهتا‬

‫‪19‬‬
‫ووبختها‪ ،‬كيف حلفيدة (أغسطس) وسليلة األباطرة النبالء مثيل‬
‫ّ‬
‫أن خترج يف ٍ‬
‫طيش ملالقاة ٌ‬
‫رجل خيطف األلباب!‬

‫متكنت (سابينا) من أخذي معها يف الغد‪،‬‬ ‫ٍ‬


‫سكرة مني‪ّ ،‬‬ ‫ويف‬
‫َ‬
‫أزرق عىل‬ ‫وشاحا‬
‫ً‬ ‫كنت أضع‬ ‫يليق بمقامنا‪ُ ،‬‬
‫فذهبنا نرتدي ما ُ‬
‫ً‬
‫جمدول وفق طريقتي التي ُعرفت هبا‪ ،‬وألبس من‬ ‫عنقي‪ ،‬وشعري‬
‫احلرير والقالئد ما يشار إليه بالبنان‪.‬‬

‫ٍ‬
‫عابرة‬ ‫ٍ‬
‫نزهة‬ ‫هنارا يف يو ٍم عليل دافئ الرياح‪ ،‬وكأننا يف‬
‫خرجنا ً‬
‫نجوب هبا األز ّقة واألسواق‪ ،‬واحلق أننا خرجنا لنسرتق النظرات‬
‫ُ‬
‫إىل (جريمانكوس) ما استطعنا‪.‬‬

‫التقدم لألمام‪،‬‬
‫أوشكت عىل ّ‬
‫ُ‬ ‫كان احلياء يدفعني إىل اخللف ك ّلام‬
‫تتسارع أنفايس‬
‫ُ‬ ‫اقرتبنا من الساحة الرملية وقد بدأ القلق يسكنني‪،‬‬
‫من اخلجل وال أدري ماذا دهاين؟ وهل دامهني اخلجل إلقدامي‬
‫ٍ‬
‫كفتاة‬ ‫يليق يب أمام الناس؟ أم أن اخلجل كان جيتاحني‬
‫عىل ما ال ُ‬
‫فارسا يشغل النساء؟‬
‫خرجت لرتى ً‬

‫‪20‬‬
‫بدأنا نسمع صوته والناس حيجبونه لشدة الزحام واالكتظاظ‬
‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫وفصيحا ويملك صوتًا كالناقوس‪،‬‬
‫ً‬ ‫خطيبا‬
‫ً‬ ‫عليه‪ ،‬كان‬
‫مت ألراه بني‬
‫وتقد ُ‬
‫ّ‬ ‫ألحجبه قدر إمكاين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وشاحي عىل وجهي‬
‫عال وهي تناديني حتى كاد‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫هتمس‬ ‫اجلموع‪ ،‬و(سابينا)‬
‫ُ‬
‫ُيفتضح أمري فام تو ّق ُ‬
‫فت عن هنرها‪.‬‬

‫وما أن وقعت عيناي عىل وجهه من بعيد حتى عادت يب‬


‫الذكريات وأنا أراه يف طفولته يلعب وجيري يف الطرقات وبني‬
‫أذكر لقائي‬
‫البيوت‪ ،‬وعىل ما بيني وبينه من صلة قربى‪ ،‬إال أنني ال ُ‬
‫ولست أحسبها‪ ،‬فقد باعدت بيننا الدنيا‬
‫ُ‬ ‫به إال مر ًة يف طفولتي‬
‫ونسيني‪.‬‬
‫َ‬ ‫حتى نسيته‬

‫وأذكر كيف شاع بني الناس نبأ اختاذ اإلمرباطور (طايبريوس)‬


‫ُ‬
‫من (جريمانكوس) اب ًنا له فور أن رأى به سامت القادة بعد بلوغه‬
‫سن الرجولة‪ ،‬فكان اإلمرباطور عمه وأباه يف آن واحد‪.‬‬

‫**‬

‫‪21‬‬
‫طلبت من (سابينا) بعد أن ّ‬
‫متكن احلياء مني أن أعود أدراجي‬ ‫ُ‬
‫بعيدا خارج الساحة‪ ،‬ولكنها كانت تعاود إجباري عىل‬
‫وأقف ً‬
‫ٍ‬
‫بشدة ألدنو منها‪.‬‬ ‫فتسحب ذراعي‬
‫ُ‬ ‫غصبا حيث ُكنا‬ ‫البقاء‬
‫ً‬

‫ٍ‬
‫بسالة يف‬ ‫كان الناس حييون (جريمانكوس) عىل ما أبداه من‬
‫دحره للخصوم وإمخاده للثورات يف داملاسيا وبانونيا‪ ,‬واإلمرباطور‬
‫ِ‬
‫مرددين اسمه‪،‬‬ ‫من بينهم يق ِّل ُده شارة النرص‪ ،‬والكل هيتفون له‬
‫فشعرت باخلوف يعرتيني‪ ،‬رغم إخفائي‬
‫ُ‬ ‫وقعت عيناه عىل عيني‬
‫لوجهي خلف وشاحي‪.‬‬

‫وخرجت عىل الفور من الساحة‪ ،‬حاو َلت (سابينا)‬


‫ُ‬ ‫فزعت‬
‫ُ‬
‫رفضت هذه املرة وتركتها وحدها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اإلبقاء ع ّ‬
‫يل بني اجلموع ولكنني‬
‫أنتظر‬
‫ُ‬ ‫بعيدا وما زال وجهي يتوارى خلف الوشاح‪،‬‬ ‫وقفت ً‬ ‫ُ‬
‫(سابينا) لئال أعود وحدي‪ ،‬وبعد انتظا ٍر ُ‬
‫يميل إىل الطول‪ ،‬جاءت‬
‫(سابينا) بوجهها املكور ووجنتيها اململوءتني ً‬
‫حلم‪ ،‬كانت ضاحك ًة‬
‫حتى بانت أنياهبا‪ ،‬وتسحب بيدها األخرى (جريمانكوس)‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫‪-‬هذه (أغريبينا) ابنة (ماركوس فيسبانيوس)!!‬

‫وظللت ألعنها يف أعامقي بكل شتائم‬


‫ُ‬ ‫ذهلت من محاقة (سابينا)‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بصمت وقد وقف‬ ‫وقفت‬
‫ُ‬ ‫الدنيا‪ ،‬كيف هلا أن تزج يب يف ٍ‬
‫لقاء كهذا‪،‬‬
‫ينظر إ ّيل‪ ،‬و(سابينا) اللعينة حتثنا عىل الكالم‪.‬‬
‫يل قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫ألقى السالم ع ّ‬
‫ِ‬
‫مثلك أن‬ ‫كثريا يا (أغريبينا) وكيف ألنبل النساء‬ ‫ِ‬
‫‪-‬تغريت ً‬
‫ِ‬
‫تركت الصفوف األوىل؟‬ ‫بعيدا عن الساحة؟ ملن إ ًذا‬
‫تقف ً‬

‫ٍ‬
‫ووجه يغشاه‬ ‫وقلب خ ّف ٍ‬
‫اق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫معقود‬ ‫ٍ‬
‫لسان‬ ‫رددت عليه بني‬
‫ُ‬
‫احلياء‪:‬‬

‫وخشيت‬
‫ُ‬ ‫‪-‬خرجنا للتنزه قلي ً‬
‫ال فوجدنا أنفسنا هنا يف الساحة‬
‫ٍ‬
‫مكان ال يليق يب‪ ،‬فهممنا بالعودة لـ‪..‬‬ ‫أن يراين الناس يف‬

‫‪23‬‬
‫دامهتني (سابينا) قائل ًة‪:‬‬

‫‪-‬كاذبة‪ ،‬فقد جئنا لنراك هنا‬

‫وأجز به‬
‫ّ‬ ‫وددت أن أستل سيف (جريمانكوس)‬‫ُ‬ ‫وعندها‪،‬‬
‫وترج‬ ‫عنقها‪ ،‬كانت تضحك وكأهنا أسعد الناس بإحراجي‪ُ ،‬‬
‫لساهنا كالقرد لتغيظني‪ ،‬مل أكن حينها أللقي اللوم عىل غريي‬
‫ٍ‬
‫معتوهة مثلها‪.‬‬ ‫خلروجي برفقة‬

‫تصبب جبيني عر ًقا والرعشة تظهر عىل يدي وأنفايس‪ ،‬كان‬


‫وأمسكت بذراع (سابينا)‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بشدة‬ ‫تلعثمت‬
‫ُ‬ ‫أسريا للقلق‪،‬‬ ‫جسدي‬
‫ً‬
‫أوبخها ويف داخيل‬
‫كنت ّ‬ ‫ورحت راكض ًة فسقط مني وشاحي‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫الغيظ ما ُيشعل النريان‪ ،‬ظل (جريمانكوس) خلفنا وهو‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫ٍ‬
‫ابتسامة‬ ‫عال وبيده وشاحي ليعيده يل وعىل وجهه‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ٍ‬ ‫يناديني‬
‫ِ‬
‫كاهلاربة وبرفقتي‬ ‫مضيت يف طريقي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يضحك علينا‪،‬‬ ‫وأظنه‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫طفيفة‬
‫حل يب من‬ ‫ُ‬
‫تضحك عىل ما ّ‬ ‫صديقتي املجنونة‪ ،‬كانت (سابينا)‬
‫جراء فعلتها‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪24‬‬
‫ِ‬
‫صلوات‬ ‫أيام مضت قبل أن أستبدل الشتائم بحق (سابينا) إىل‬
‫ٌ‬
‫شك ٍر وامتنان‪ ،‬لقد كان جنوهنا بداية اشتعال قلبي ً‬
‫ولعا بـ‬
‫وأدركت حينها كيف ينال املجانني ما ال يناله‬
‫ُ‬ ‫(جريمانكوس)‬
‫العقالء‪.‬‬

‫كان يتذرع للوصول إ ّيل من أجل إعطائي وشاحي‪ ،‬واحلق‬


‫طلبت منه أن‬
‫ُ‬ ‫قبلت ذريعته ولكنني مل أقبل الوشاح منه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أنني‬
‫ٍ‬
‫كهدية وقد كانت هذه ذريعتي‪ ،‬ظل وشاحي‬ ‫حيتفظ به فقبله مني‬
‫هذا رفيقه يف كل حروبه وغزواته بعدها‪.‬‬

‫**‬

‫آن‬‫يذوب يف نفسه وينساها يف ٍ‬


‫َ‬ ‫يشعر اإلنسان باحلب‪ ،‬أن‬ ‫أن‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫بنبضاته‬ ‫س‬‫هييم بالتفاصيل الصغرية من حوله‪ ،‬أن ُي َ‬
‫واحد‪ ،‬أن َ‬
‫قديم‪ ،‬وكأهنا تنادي يف كل ٍ‬
‫دقة هلا اسم‬ ‫عىل غري ما كانت عليه ً‬
‫حمبوبه‪.‬‬

‫متبس ًم طوال الوقت كالطفل الربيء‪ ،‬أن تُزهر الدنيا‬


‫أن يميش ّ‬

‫‪25‬‬
‫ِ‬
‫نفسه يف املرآة وعىل الشُّ فات وإىل السامء‬ ‫بعينه‪ ،‬أن يتحدث إىل‬
‫قصصا ويعيش بني ثناياها برفقة من‬
‫ً‬ ‫ينسج من خياله‬
‫َ‬ ‫العليا‪ ،‬أن‬
‫شعور عظيم‬
‫ٌ‬ ‫حيب‪ ،‬فهذا‬

‫تتبدد أمامه القيم وتسمو‬ ‫ِ‬


‫السد املنيع‪ّ ،‬‬ ‫طاقة أقوى من‬ ‫ِ‬
‫للحب ٌ‬
‫الروح وتنكرس التقاليد‪ ،‬يعيص قلب املحب صاحبه‪ ،‬و ُيكثر من‬
‫التمرد عليه فال يطيعه يف أحكام عقله ضد حمبوبه‪.‬‬
‫ّ‬
‫أنا ابنة (ماركوس فيسبانيوس)‪ ..‬الوزير القائد الذي جلب‬
‫النرص لنا ودك أسطول اخلصوم يف معركة أكتيوم‪ ،‬أنا حفيدة‬
‫اإلمرباطور األول (أغسطس) مؤسس عهد الزعامة‪ ،‬أما أمي فقد‬
‫ِ‬
‫عيون الناس‬ ‫ِ‬
‫الرهبة يف‬ ‫ورثتني من‬
‫كانت (جوليا الكربى) والتي ّ‬
‫ما يكفي ألن أبقى صامدة وال أتيه مع ذايت عند أول نبضة حب‪.‬‬

‫ٌ‬
‫سليلة أنا للنبالء واألباطرة حتى وإن رحلوا عن الدنيا فإن هلم‬
‫ومحل ً‬
‫ثقيل عىل عاتقي‪ ،‬كان جيدر يب أن‬ ‫باق ًيا وذكرى خالدة ً‬ ‫صي ًتا ِ‬

‫أحرس‬ ‫ٍ‬
‫حاجة ألن‬ ‫ٍ‬
‫أفعال صبيانية‪ ،‬فأجدين يف‬ ‫أصونه فال أنزلق إىل‬
‫َ‬
‫عقيل قبل أن حيرس اجلنود جسدي‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ظ ّلت الرسائل تصلني إىل حجريت يف القرص من (جريمانكوس)‬
‫عرب (سابينا) التي كانت ختبئها حتت ردائها‪ ،‬كانت (سابينا)‬
‫كنت‬
‫رسي وال أحدَ سواها لكي آمنه عىل حبي اجلديد‪ُ ،‬‬
‫صاحبة ّ‬
‫ويرسله يل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يكتبه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أعرف أخباره وأرساره وأقرأ أشعاره وما كان‬

‫أرد عليه ذلك فأحكي له عن أخباري‪ ،‬عن هيامي‪،‬‬


‫كنت ُّ‬
‫وقد ُ‬
‫وعن غرييت من حديث النساء عنه‪.‬‬

‫طال بنا األمد عىل حالنا‪ ،‬نتشارك األرسار واألخبار عرب‬


‫ٍ‬
‫(سابينا) حتى َط َل َب مني ذات مساء أن يلقاين‪ ،‬كان ً‬
‫هتورا مني‬
‫ذائع والناس‬
‫صيت ٌ‬‫ٌ‬ ‫ولقيته يف الطريق العام‪ ،‬لنا‬
‫ُ‬ ‫يوم قبلت دعواه‬
‫يعرفوننا‪ ،‬فكيف نخرج عىل مرأى الناس ونتسامر أحاديث‬
‫حدثت نفيس قائل ًة‬
‫تفضحه عيوننا وأجسادنا‪ ،‬وكلام ّ‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫الغرام‬
‫وجدت نفيس أقبل دعواه من جديد‬
‫ُ‬ ‫ستكون هذه املرة األخرية‪،‬‬
‫فأخرج كاملجنونة‪.‬‬
‫ُ‬

‫**‬

‫‪27‬‬
‫عىل مرقدي ويف رسيري‪ ،‬لطاملا كان يغزو خيايل‪ ،‬يزورين لي ً‬
‫ال‬
‫ُ‬
‫يطول يب الليل وأنا أميض يف‬ ‫فأعانق األشياء من حويل وكأهنا هو‪،‬‬
‫وأطارحه الغرام ثم أسأل نفيس‪:‬‬
‫ُ‬ ‫أقبله‬
‫خيايل ّ‬
‫‪-‬كيف كنا سنعيش لوال اخليال؟‬

‫أحببت نفيس‬
‫ُ‬ ‫رصت أمجل من بعده؟ وكيف‬
‫ُ‬ ‫أعلم كيف‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫ُ‬
‫أعيش وكأنني‬ ‫أمسيت أطيل النظر يف النجوم والسامء؟‬
‫ُ‬ ‫أكثر؟ و َمل‬
‫ِ‬
‫(كبرية الورد)‪ ..‬كان خيشى‬ ‫رسا يف رسائله بـ‬‫فراشة‪ ،‬كان يل ِّق ُبني ًّ‬
‫أن يضع اسمي رصاح ًة فتقع الرسالة يف ٍ‬
‫يد غريبة‪.‬‬

‫كم كان حيبني ويسألني عن كل خصائصه‪ ،‬مل تكن عيناي‬


‫لتصدقا كيف أن القائد املغوار والشجاع يف عيون الناس‪ ،‬يأيت إيل‬
‫ليسألني عن تفاصيل حياته وكأنه صغريي‪ ،‬يبحث عن العطف‬
‫الفذ القوي‬ ‫ً‬
‫مستسلم فيصبح ذلك القائد ّ‬ ‫واحلب واحلنان فيأيت إ ّيل‬
‫للحب ما أقواه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫أسريا عندي‪ ..‬يا‬
‫ً‬

‫بعيدا يف خيايل‪ ،‬لقد استحال اخليال‬


‫مل يدم يب احلال وأنا أرسح ً‬
‫ٍ‬
‫سقف‬ ‫جيدا تفاصيل تلك الليلة التي مجعتني به حتت‬
‫أذكر ً‬
‫واقعا‪ُ ،‬‬
‫ً‬

‫‪28‬‬
‫منتهزا انشغال الناس يف عيد (ساتورناليا)‪..‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متسلل‬ ‫واحد‪ ،‬جاءين‬
‫كنت أسعد الناس بالعيد‪ ،‬كان العيد عيدي وحدي‪ ،‬ويف‬
‫وقد ُ‬
‫حجريت التي دخلها (جريمانكوس) من الباب اخللفي للقرص‪،‬‬
‫ِ‬
‫الفاكهة والرشاب وشي ًئا يؤكل‪،‬‬ ‫أعددت ما لذ وطاب من‬
‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫صالة أتقرب هبا‬ ‫والشموع من حويل تيضء أرجا َءها وكأنني يف‬
‫ُ‬
‫إىل ِ‬
‫رؤية عينيه‪.‬‬

‫وهناك كانت ُقبلتي األوىل التي طبعها عىل يدي وما ُ‬


‫زلت‬
‫أشعر هبا حتى اآلن‪ ،‬وبقدر ِ‬
‫فرحي الكبري كان حزين البالغ‪،‬‬
‫أوامر من اإلمرباطور (طايبريوس) حت ّثه‬
‫َ‬ ‫عندما أخربين بتلقّيه‬
‫ٍ‬
‫جديد يف الراين‪،‬‬ ‫ومتر ٍد‬ ‫ٍ‬
‫عىل رضورة جتهيز اجليش لقمع عصيان ّ‬
‫أحب احلروب رغم أين من‬ ‫انقبض قلبي واخت َنقت انفايس‪ ،‬ال ُّ‬
‫هم يب ليهدئني عندما ظهر‬
‫ساللة فاحتني‪ ،‬ضاقت يب احلال حتى ّ‬
‫حزين عىل وجهي‪.‬‬
‫كان مجي ً‬
‫ال تلك الليلة رغم مجاله يف كل الليايل واأليام‪ ،‬هدأين‬
‫قائ ً‬
‫ال‪:‬‬

‫‪-‬ال تقلقي‬

‫‪29‬‬
‫وكيف للقلق أن جيد سبي ً‬
‫ال إىل جسدي وأنت أمامي‪ ،‬بقوتك؛‬
‫بشجاعتك؛ بعظيمِ جمدك؟ ولكنني أحبك واخلوف يعرتيني‬
‫خشي َة أن ُيصيبك ما يصيب األبطال يف غزواهتم‪.‬‬

‫واضعا يديه‬
‫ً‬ ‫يلتصق يب ثم ظل ينظر إ ّيل‬
‫ُ‬ ‫اقرتب مني حتى كاد‬
‫فشعرت أنني من أمالكه‪ ،‬وما‬
‫ُ‬ ‫عىل حويض وقد أحكم تطويقي‬
‫ٍ‬
‫مقربة منه إىل احلد الذي‬ ‫أحاله من شعور‪ ،‬مل يسبق أن كنت عىل‬
‫ٍ‬
‫أسباب تدفعنا لعناق‬ ‫ختتلط فيه أنفاسنا‪ ،‬ظللنا ننظر ونبحث عن‬
‫تربيرا يسمح لنا بالرشوع يف قبلة‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫بعضنا ً‬
‫بعضا‪ ،‬وكأننا نريد‬
‫أعلم كيف هلذا الشجاع أن يردعه احلياء أو اخلوف مني فيكون‬
‫عاجزا حتى بعد احتضاين عن تقبييل‪.‬‬
‫ً‬

‫مددت يدي ألضع كفي عىل وجهه‪ ،‬وقد كان حيدثني عن‬ ‫ُ‬
‫أذكر شي ًئا منها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مغامرات له وال ُ‬
‫كان اهليام ُيبحر يب يف عينيه الزرقاوين‪ ،‬ثم أنظر إىل شفتيه وهو‬
‫ٍ‬
‫حديث مل أسمعه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بضحكة عىل‬ ‫خياطبني ويضحك فأرد‬

‫شعرت أن خجيل من عدم اإلنصات له سيفوق‬


‫ُ‬ ‫وما أن‬

‫‪30‬‬
‫ٍ‬
‫بقبلة تعرب عن هلفتي‬ ‫انقضضت عليه وقاطعته‬
‫ُ‬ ‫خجيل من تقبيله‪،‬‬
‫وأخرسته هبا‪ ،‬فطالت بنا القبالت حتى استغرقنا الليل كله‪.‬‬
‫ُ‬
‫أفقنا بعد انقضاء ليلتنا الدافئة وبينام أنا يف أحضانه عىل رسيري‬
‫فتبسم‬
‫أخذت أسأله عن رأيه بشجاعتي عندما بادرته بالقبلة‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ً‬
‫ضاحكا ثم سألني‪:‬‬
‫ِ‬
‫دفعك إىل اإلقدام عليها؟‬ ‫‪-‬ما الذي‬

‫أجبته‪:‬‬

‫تطلبه‬
‫ُ‬ ‫‪-‬وما الذي يمنعنا من اإلقدام عىل أم ٍر نرغب فيه كلنا؟‬
‫عيوننا وإن مل تنطق به أفواهنا؟‬

‫خارجا‪ ،‬ثم اختفى بعدها من حيث أتى‪.‬‬


‫ً‬ ‫جعل يضحك‬

‫كنت أخ َلص إنسان له‪ ،‬وكان أخلص يل من نفيس عليه‪ ،‬متر‬


‫ُ‬
‫ٍ‬
‫حرب جديدة‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬
‫فكرة رحيله إىل‬ ‫األيام واخلوف ُيغرقني من‬
‫أطيق البقاء هنا وحدي يف روما‪ ،‬حيارصين خويف ورجائي‪..‬‬
‫أظنني ُ‬
‫وجيثو الغم عىل صدري‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫مرارا بأن ال يذهب‪ ،‬بأن يسعى للبقاء‪ ..‬بأن خيتلق‬
‫أخربته ً‬
‫ُ‬
‫األعذار‪ ..‬بأن يتامرض‪ ..‬بأن يمكث يف الدار‪ ..‬بأن ال يذهب‪..‬‬
‫ال يذهب‪!..‬‬
‫ولكنه يغضب‪ ،‬فيسخر مني قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫ُ‬
‫‪-‬ماذا عن العار؟‬
‫ٍ‬
‫جسد يرتعش‬ ‫وماذا عن ِ‬
‫قلب من حيبك يا حبيبي؟ ماذا عن‬
‫يشغله التفكري بك‪ ..‬اهليام‬
‫ُ‬ ‫خيف ًة منك وعليك؟ ماذا عن ٍ‬
‫عقل‬
‫بك‪ ..‬الغرام بك‪ ..‬الشوق إليك؟ ماذا عن ٍ‬
‫نفس مل تعد تعرف‬
‫السكون‪ ،‬ينتاهبا اجلنون‪ ..‬تتوق إىل االطمئنان عليك وترجو‬
‫األمان منك‪ ..‬وتلجأ إليك‪ ..‬وتقلق عليك؟‬
‫أليس من العار أال نبقى مع من نحب؟ أليس من العار أن‬
‫ٍ‬
‫مشدوه كوجهي الشاحب البائس الذي يبحث‬ ‫تكون سببا يف ٍ‬
‫وجه‬ ‫ً‬
‫عن ٍ‬
‫أمل يرد الدماء واملاء عليه؟ أليس من العار أن تسيل دموعي‬
‫باختيارك؟ فتنشغل يدي بكفكفة الدموع عليك وهي التي ألِفت‬
‫منك أن ختبئها بني يديك وحترسها وترعاها كام حترسني وترعاين؟‬

‫**‬

‫‪32‬‬
‫فأقلقه تركي وحدي‪ ،‬فعرض ع ّ‬
‫يل أن أذهب‬ ‫ُ‬ ‫نت منه حينها‪،‬‬ ‫ّ‬
‫متك ُ‬
‫ٍ‬
‫بلهفة وهبجة‬ ‫فقبلت ذلك‬
‫ُ‬ ‫حربه حيث سارت جيوشه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫معه يف‬
‫فرحا لدى علمه‬
‫يرقص ً‬
‫ُ‬ ‫وفرحٍ مني‪ ،‬وأظنني أول إنسان يف الدنيا‬
‫كنت أكثر أمانًا من املـعرضني عنها‪.‬‬
‫برحيله إىل حرب‪ُ ،‬‬
‫طلبني للزواج أو ً‬
‫ال فأجبته عىل عجالة‪ ،‬وانكشف أمرنا بعد‬
‫ورصت اليوم امرأته وزوجه‬
‫ُ‬ ‫شهو ٍر طويلة كان وصالنا فيها ًّ‬
‫رسا‪،‬‬
‫عىل مناظر الناس‪ ،‬واإلمرباطور أول العارفني‪.‬‬

‫فانترصت يف حريب‬
‫ُ‬ ‫أراد الزواج مني ليتسنى له أخذي معه‪،‬‬
‫قبل حربنا التي نزحف بجيوشنا إليها‪.‬‬

‫**‬

‫رافقته هبا يف كل أسفاره خضت معه‬


‫ُ‬ ‫سنوات قضيتها معه‪،‬‬
‫ٌ‬
‫أنجبت له من األبناء أقواهم ومن‬
‫ُ‬ ‫حروبه كلها وعشت انتصاراته‪،‬‬
‫ٍ‬
‫برغبة يف أن أمأل الدنيا‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫البنات أمجلهن‪ ،‬يف بضعِ سنني‪،‬‬
‫تباعا‪ ،‬غايوس ونريو ودروسوس‪ ،‬أما‬
‫من نسله‪ ،‬جاؤوا إىل الدنيا ً‬

‫‪33‬‬
‫كبريا عىل أن ُيطلق اسمي عليها‪،‬‬
‫إرصارا ً‬
‫ً‬ ‫ابنتي األوىل فقد أرص‬
‫مازحا بأنه ال اسم غري (أغريبينا) يأرس قلبه عىل أنثى‪،‬‬
‫ً‬ ‫يقول يل‬
‫ورصت أنا (الكربى)‪ ،‬ومل‬
‫ُ‬ ‫فصارت ابنتي (أغريبينا الصغرى)‬
‫تكن هذه ابنتي الوحيدة‪ ،‬فقد جاءت بعدها (جوليا دروسيال) إىل‬
‫الدنيا وكذلك (ليفال)‪.‬‬

‫مرير أبكاين‪ ،‬فقد‬ ‫ِ‬


‫يوم ٌ‬‫برفقة أرسيت‪ ..‬زارين ٌ‬ ‫وبينام أنا يف بالد الغال‬
‫ٍ‬
‫مرض أمل هبا‪ ،‬كان احلزن يقتلني‬ ‫بلغني نبأ موت (سابينا) عىل إثر‬
‫والكرب يعرص قلبي وأنا بعيد ٌة عنها‪ ،‬لقد رحلت صديقة دريب‬
‫ظللت أبكي عرشة أيام‬
‫ُ‬ ‫وصاحبة الفضل األول ملا أنا عليه اآلن‪،‬‬
‫لقطعت الطريق‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حرب ضد القبائل اجلرمانية‬ ‫عليها ولو مل نكن يف‬
‫عائد ًة إىل روما لرؤيتها قبل رشوعها يف رحلتها إىل مثواها األخري‪.‬‬

‫مرارا‪،‬‬
‫مرة يف جمملها‪ ،‬نبكي مرة ونفرح ً‬
‫يف احلرب‪ ،‬كانت أيامنا ّ‬
‫نخرس معركة ونفوز يف معارك أخرى‪ِ ،‬‬
‫أذ َن يل زوجي أن أتقدم‬ ‫ُ‬
‫فأخطب هبم يف كل مرة وأشعل محاستهم‬
‫َ‬ ‫اجليوش قبل نفريهم‪،‬‬
‫للنيل من اخلصوم‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ٍ‬
‫جهاد بيني وبني نفيس ألبقى قوي ًة أمام اجليوش ويف‬ ‫كنت يف‬
‫ُ‬
‫قلبي معارك الدنيا‪.‬‬

‫**‬

‫متر السنون‪ ،‬ويكرب أوالدي فيكرب حبي ألرسيت‪ ،‬ويزيد نرصنا‬


‫أرسلت أبنائي إىل روما ليتلقوا تعليمهم هناك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫عىل البقاع كلها‪،‬‬
‫نجوب املناطق الرشقية فاحتني حتى أرخينا‬
‫ُ‬ ‫وبقيت مع زوجي‬
‫ُ‬
‫الفيالق واجليوش يف أنطاكيا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أمان رغم املعارك‪ ،‬حتى اجتاح عاملنا اسم‬ ‫كنا نعيش يف‬
‫(جينايوس بيسو)‪.‬‬
‫املقرب لدى اإلمرباطور (طايبريوس)‬
‫(بيسو) القائد القنصل ّ‬
‫وحامل لواء احلرب والنرص يف محالته وحروبه التي ش ّنها يف‬
‫واليا عىل تلك البقاع‪.‬‬
‫أفريقيا وهسبانيا حتى صار ً‬
‫كفو أحد‪ ،‬إال (بيسو) هذا‬
‫نظري وال ٌ‬
‫مل يكن لزوجي ٌّند وال ٌ‬
‫صاحب الصيت الرفيع الذي خوله ألن ينتمي إىل جملس الشيوخ‬
‫يف روما بمعية كربائِنا‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ً‬
‫حاكم عىل اجلزء الرشقي‬ ‫وبينام كان زوجي (جريمانكوس)‬
‫ً‬
‫حاكم عىل (هسبانيا وأفريقيا)‬ ‫من اإلمرباطورية‪ ،‬كان (بيسو)‬
‫مجيعا قبل حسباين‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بحسبان الناس ً‬ ‫حتى حدث ما مل يكن‬

‫أمرا يقيض بأن يكون (بيسو)‬


‫أصدر اإلمرباطور (طايبريوس) ً‬
‫مندو ًبا لدى زوجي‪ ،‬فأشغل هذا األمر الناس وأهلب النفوس‬
‫وأوغر الصدور‪ ،‬فكيف سيتلقى (بيسو) نبأ إعفائِه من املناصب‬
‫الرفيعة ليصبح مندوبا لدى ٍ‬
‫قائد آخر يتشارك معه املكانة واملجد‬ ‫ً‬
‫والرتبة ذواهتا؟‬

‫ولكنه امتثل إىل أمر اإلمرباطور‬


‫ُ‬ ‫أحس (بيسو) بسوء تقدي ٍر له‬
‫وجاء إلينا يف أنطاكيا وبرفقته أربعة جحافل‪ ،‬ونار احلسد تأكل‬
‫قلبه‪.‬‬
‫ِ‬
‫معرشه طوال الشهور التي مكثها بيننا‪ ،‬وقد‬ ‫بطي ٍ‬
‫ب يف‬ ‫مل يكن ّ‬
‫كنا نشعر بذلك ونحس بام يك ّنه لنا‪ ،‬مل تسكن الراحة قلبي منذ‬
‫عابس كالشيطان‪ ،‬وابتسامة تبعث عىل‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بوجه‬ ‫أن رأيته مقب ً‬
‫ال علينا‬
‫ٍ‬
‫وأنف عريض‬ ‫ٍ‬
‫طويل ورأس أصلع‬ ‫ٍ‬
‫بذقن‬ ‫ٍ‬
‫حليق‬ ‫ٍ‬
‫ووجه‬ ‫الريبة‪،‬‬
‫ٍّ‬
‫وفك أعرض‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫كان (بيسو) يرتبص بزوجي آناء اليوم كله و ُيضمر له الرش‬
‫حاولت أن أطلب‬
‫ُ‬ ‫والعداء‪ ،‬كان كالرقيب عليه وليس مندو ًبا له‪،‬‬
‫مرارا من زوجي أن ُيبعده‪ ..‬أن ُيقصيه‪ ..‬أن ُيعفيه‪ ..‬فريد ع ّ‬
‫يل بنربة‬ ‫ً‬
‫حادة‪:‬‬
‫‪-‬إن كان (بيسو) قد امتثل ألمر اإلمرباطور وارتىض أن يصبح‬
‫مندو ًبا يل‪ ،‬فكيف ال أمتثل أنا لألمر ذاته؟‬

‫فصدَ قت ظنوين‪ ،‬أراد (بيسو) أن‬


‫أمورا َ‬
‫ً‬ ‫كشفت لنا األيام‬
‫وحسدا‬
‫ً‬ ‫يرضب وحدتنا‪ ،‬أن يؤلب اجليوش عىل قائدهم نكاي ًة به‬
‫وفاق مع زوجي (جريمانكوس) فظل يؤلب الناس‬ ‫له‪ ،‬مل يكن عىل ٍ‬
‫ٍ‬
‫بخطابات إىل مقام اإلمرباطور‬ ‫رسا ويؤججهم عليه‪ ،‬كان يبعث‬
‫ًّ‬
‫يف روما ُليطلعه عىل آخر أخبار اجلزء الرشقي من اإلمرباطورية‪،‬‬
‫فيكتب يف خطاباته ما ييسء إىل زوجي‪ ،‬كان معظم املكتوب فيها‬
‫أمنعه ولكن القضاء يمنعنا من التدخل‬
‫ُ‬ ‫حاولت أن‬
‫ُ‬ ‫كذ ًبا وتدليس ًا‪،‬‬
‫وصالحيات ٌ‬
‫وثقة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫سلطة‬ ‫فيام يكتبه املندوب‪ ،‬كان لدى (بيسو)‬
‫ٌ‬
‫وحصانة منحها إياه اإلمرباطور‪ ،‬فظل كاجلحيم حولنا يأكل فينا‬
‫وال نقوى عىل إمخاده‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫نجح يف إفساد بعض اجلنود علينا‪ ،‬فأشعل فتيل التفرقة بيننا‪،‬‬
‫يبعث إىل‬
‫ُ‬ ‫وشق صفوفنا ورشع يف تفكيك نسيجنا‪ ،‬ثم أخذ‬
‫ٍ‬
‫خاطئة كاذبة؛ يصف فيها ظلم زوجي لرعيته‬ ‫اإلمرباطور بأخبا ٍر‬
‫ٍ‬
‫خطابات‬ ‫ومترده عىل أوامر اإلمرباطور‪ ،‬ثم ظل يرسل إىل روما‬
‫ّ‬
‫ملؤها األكاذيب والزور واجلور‪.‬‬
‫لقد فعلها وجعل اإلمرباطور (طايبريوس) يف ٍّ‬
‫شك من أمره‬
‫حيال زوجي‪ ،‬وأربكه بإخباره أن الشعب واجليش يف صدد‬
‫ٍ‬
‫وانقالب ضد (جريمانكوس)‪.‬‬ ‫إحداث ٍ‬
‫ثورة‬ ‫ٍ‬

‫كان خيتلق القصص ويوهم هبا جملس الشيوخ يف روما ودون‬


‫راد ٍع ملا لديه من حصانة‪ ،‬أراد زوجي تدارك تلك األكاذيب بعد‬
‫ٍ‬
‫برسية إىل روما ملالقاة اإلمرباطور هناك‬ ‫افتضاح أمرها‪ ،‬فبعث‬
‫وتبيان احلقيقة كام هي‪.‬‬

‫فعرف (بيسو) عن ذلك ثم بعث بدوره خطا ًبا إىل اإلمرباطور‬


‫ليخربه فيه أن ما قام به (جريمانكوس) ليس إال حماولة لتلميع‬
‫صورته لديك وامليض يف تضليلك بعد ما ظهر ما ظهر من أمره‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫ُ‬
‫أعرف‬ ‫كنت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫برسية عالية‪،‬‬ ‫كان (بيسو) يكتب خطاباته‬
‫مضموهنا عرب أحد رجاالته األوفياء والذي يدعى (أنطونيوس)‪،‬‬
‫وكارها لتدليس احلقيقة‪ ،‬ربام لضمريه احلي‬
‫ً‬ ‫خملصا لنا‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫ِ‬
‫حاله عند بدء األمر وطلب مني أال‬ ‫والصادق‪ ،‬استأمنني عىل‬
‫أخرب أحد ًا فأعطيته ً‬
‫وعدا بالكتامن‪ ،‬ورصت أعرف خالله ما‬
‫يدور يف اخلفاء‪.‬‬

‫**‬

‫ويف الصيف‪ ،‬انتهز (بيسو) فرصة سانحة عندما خرج زوجي‬


‫ٍ‬
‫بخطاب خيرب‬ ‫برفقة حرسه لتفقد أحوال الرعية يف مرص‪ ،‬فبعث‬
‫فيه اإلمرباطور (طايبريوس) هبذا االنتهاك الصارخ للقوانني‪،‬‬
‫جيرم فيه سفر أصحاب‬
‫واضحا ّ‬
‫ً‬ ‫فقد استحدث اإلمرباطور قانونًا‬
‫املناصب والرتب العالية إىل ِ‬
‫مرص دون إذن منه‪ ،‬وألن (بيسو) مل‬
‫ٍ‬
‫كمندوب له‪ ،‬سافر‬ ‫خيرب (جريمانكوس) بتلك القوانني اجلديدة‬
‫زوجي إىل مرص جه ً‬
‫ال منه بذلك‪ ،‬فسال لعاب (بيسو) وبعث‬
‫ٍ‬
‫بخطاب ظاهره التشنيع وباطنه التهويل‪ ،‬لقد أنزل ألوان‬ ‫فورا‬
‫ً‬

‫‪39‬‬
‫الشتائم والتدليس يف حق زوجي‪ ،‬ووصفه باملتمرد عىل أوامر‬
‫اإلمرباطور ومنهاجه‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بخطاب مل يسعفني حظي العاثر أن أعرف‬ ‫ر ّد عليه اإلمرباطور‬
‫ولكنه ظل صام ًتا هذه املرة‬
‫ُ‬ ‫حاولت أن أسأل (أنطونيوس)‬
‫ُ‬ ‫ما فيه‪،‬‬
‫وكانت عيناه تفيضان بالدمع‪ ،‬امتنع عن الكالم ورحل عني‬
‫ٍ‬
‫بيشء منه‪.‬‬ ‫وتركني خلفه أرجوه أن خيربين‬

‫عاد زوجي من مرص بعد شهرين قضامها هناك‪ ،‬فكان شوقي‬


‫عانقته ساعة وصوله أمام الناس والفرحة‬
‫ُ‬ ‫عظيمني‪،‬‬
‫َ‬ ‫وتوقي إليه‬
‫تغمرين‪ ،‬كانت تطربني أهازيج الناس وترحيبهم وهتافاهتم‪،‬‬
‫أبدا‪.‬‬
‫شعرنا وكأن الشمس يف أنطاكيا لن تغيب بعد هذا اليوم ً‬

‫تاقت نفيس إىل االختالء بزوجي يف حجرتنا مسا ًء‪ ،‬وأن أقيض‬
‫الليل كله معه‪ ..‬نتسامر ونتبادل أطراف احلديث‪ ،‬و ُيطلعني عىل‬
‫أخربته بام استجد من أمر (بيسو) فلم يكن‬
‫ُ‬ ‫رحلة مرص وأحواهلا‪،‬‬
‫ليأبه به‪ ،‬أخربين أن املجد ينتظرنا‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫تسلل احلب إىل حديثنا فامرسناه عىل أشكاله‪ ،‬اختطف النوم‬
‫عيني بينام أنعم بالدفء يف حضن زوجي الذي افتقدته‪.‬‬
‫ّ‬
‫جيوش تداهم حجريت وترضب زوجي‬ ‫ٍ‬ ‫استيقظت عىل‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫غريب‬ ‫فوجدت نفيس بعدها يف حلمٍ‬
‫ُ‬ ‫وترضبني حتى أغمي عيل‪،‬‬
‫أبدا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بستان فسيحٍ ومل يلتفت يل ً‬ ‫عثرت فيه عىل زوجي يف‬
‫ُ‬

‫‪41‬‬
‫‪3‬‬

‫عيني الثقيلتني‬
‫ّ‬ ‫جاهدت‬
‫ُ‬ ‫أفقت من تلك الرؤيا البائسة‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬
‫ويشء يف داخيل يريد أن يرى الواقع مر ًة أخرى‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫عىل فتحهام‪،‬‬
‫ِ‬
‫األسئلة ما جيعلني أسارع ألهني حلمي اللعني‬ ‫لدي من‬

‫كنت أشحذ النظر ألرى‬


‫مل يسعفني برصي بادئ األمر‪ُ ،‬‬
‫أنظر يف رساب‪.‬‬
‫الشواهد حويل بوضوحٍ فتخذلني عيوين وكأنني ُ‬
‫وجدت نفيس عىل رسيري ويغشاين التعب الشديد وعظامي‬
‫ُ‬
‫أوهن األشياء يف حجريت‪ ،‬كانت الدماء اجلافة تغطيني وتكسو‬
‫ست رأيس بادئ األمر‬
‫حتس ُ‬
‫رأيس وجبيني وتلتصق بشعري‪ّ ،‬‬
‫أدركت أن رضبة الدرع‬
‫ُ‬ ‫وأعض عىل شفاهي‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫وأنا أئن من األمل‬
‫يتسن يل مالمسة اجلرح بيدي‪ ،‬فقد وضعوا‬
‫ّ‬ ‫شجت رأيس‪ ،‬مل‬
‫قد ّ‬
‫لفافات وضامدات عىل اجلرح إليقاف النزيف وال أظنهم ُيسنون‬
‫شي ًئا‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫‪-‬لقد استيقظت (أغريبينا) ‪! ..‬‬

‫أرجف‬‫ُ‬ ‫فزعت وأنا‬


‫ُ‬ ‫هكذا رصخ أحد اجلنود يف حجريت‪،‬‬
‫ِ‬
‫بالعرق من اخلوف‪ ،‬سألتهم‪ :‬أين زوجي؟ َمل‬ ‫ٌ‬
‫مدهون‬ ‫وجسدي‬
‫فعلتم بنا هكذا؟ ماذا تريدون منا؟‬
‫ٍ‬
‫جنود مسلحني ال يشبهون اجلنود الذين دامهوين‪،‬‬ ‫كانوا مخسة‬
‫وجدهتم وقد طوقوا حجريت وأحكموا احلراسة عىل باهبا‪،‬‬
‫جيدا‪ ،‬كانوا جنو ًدا‬ ‫تعرفت عىل مالحمهم بادئ األمر وقد ّ‬
‫تذكرهتم ً‬ ‫ّ‬
‫خملصني لنا وال أعلم ّ‬
‫عم دفعهم إىل حصاري؟‬
‫ٍ‬
‫بشدة وأسأهلم عن (جريمانكوس) وكانوا‬ ‫أخذت أبكي‬
‫ُ‬
‫صامتني‪ ،‬طلبوا مني بعد أن تعاىل صويت ورصاخي أن ألزم‬
‫أغص‬
‫ُّ‬ ‫الصمت وأن أبقى يف رسيري‪ ،‬سألتهم مرة أخرى وأنا‬
‫بدموعي‪َ :‬مل فعلتم ما فعلتموه بنا؟ أين زوجي؟ أين أخذمتوه؟‬

‫أي منهم‪.‬‬
‫مل يكن ليجيبني ٌّ‬

‫هنضت من عىل رسيري فأشهر أحدهم سيفه يف وجهي وطلب‬


‫ُ‬

‫‪44‬‬
‫رشعت يف التوسل إليهم أن خيربوين أين‬
‫ُ‬ ‫مني الرجوع إىل الرسير‪،‬‬
‫ِ‬
‫باآلهلة كلها‬ ‫زوجي؟ ماذا تريدون مني؟ أتقرب إليكم وأسالكم‬
‫مقدس أن ختربوين ماذا تريدون؟ ومل فعلتم بزوجي‬
‫ٌ‬ ‫وبكل ما هو‬
‫جتبنا‬
‫فعلتكم؟ هل صدر منا ما يؤذيكم؟ هل جرنا عليكم أو ّ‬
‫أحدا؟‬
‫عليكم أو بغينا عليكم أو ظلمنا منكم ً‬

‫ما كان جواهبم إال أهنا أوامر عليا‪ ،‬وليسوا إال بمأمورين‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بشدة وقد و َّل ْيت وجهي شطر وساديت‪ ،‬لعل الرمحة‬ ‫عدت أبكي‬
‫ُ‬
‫أحد منهم فيخربين عن مصري زوجي‪ ،‬لقد قست‬ ‫قلب ٍ‬
‫تتنزل عىل ِ‬
‫مرارا وال من جميب‪،‬‬
‫عدت ألسأهلم ً‬
‫ُ‬ ‫قلوهبم ومل ُيركهم عوييل‪،‬‬
‫طلبوا مني الصمت واهلدوء حتى يأيت من خيربين عن كل يشء‪.‬‬

‫ٍ‬
‫طوال وأنا أصيل يف رسيريت وعىل رسيري‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لساعات‬ ‫انتظرت‬
‫ُ‬
‫أشعر بالربد رغم دفء حجريت ولكن اخلوف يعرتيني فينزع‬
‫ُ‬
‫احتضنت نفيس وأنا أبكي وأتوسل إليهم‬
‫ُ‬ ‫الدفء عن جسدي‪،‬‬
‫يفيد رجائي‪.‬‬
‫وال ُ‬

‫‪45‬‬
‫كانوا يقفون عن يميني وشاميل وحول بايب‪ ،‬ينظرون أمامهم‪،‬‬
‫ال يطرأ عىل مالحمهم أي تغيري كانوا كالتامثيل بل أشد صالب ًة‬
‫منها‪.‬‬

‫وما أن أوشكت الشمس عىل الزوال حتى ُقرع الباب‪ ،‬فدخل‬


‫كثري ال‬ ‫ِ‬
‫حرس ٌ‬‫ٌ‬ ‫وبرفقته‬ ‫(أوراليوس) الذراع األيمن للقائد (بيسو)‬
‫أحدا سوى (أنطونيوس) ذلك اجلندي الويف الذي‬ ‫ُ‬
‫أعرف منهم ً‬
‫كان خيربين بام يضمر ُه (بيسو)‬

‫شيبا‬ ‫ً‬
‫ممسكا خوذته بيده‪ ،‬وشعره املشتعل ً‬ ‫دخل (أوراليوس)‬
‫يتطاير يف اهلواء كمشلحه األمحر املتصل بردائه‪ ،‬كان أول ما فعله‬
‫كنت بخ ٍ‬
‫ري‪ ،‬فأجبته‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بعيون ُمريبة‪ ،‬ثم سألني إن ُ‬ ‫هو النظر إ ّيل‬
‫‪-‬وهل تراين بخ ٍ‬
‫ري وأنا أبكي أمامك؟ ال أعرف أين زوجي‬
‫وال أعرف ماذا تضمرون يل وماذا تريدون مني؟ ال أحدَ‬
‫ّ‬
‫ويدكني وحدي بال‬ ‫هيدين وهيزين‬
‫من أرسيت حويل واخلوف ّ‬
‫ٍ‬
‫ورأس تغطيه الدماء‬ ‫ٍ‬
‫حرس ُمس ّلحني‬ ‫زوجٍ وال ٍ‬
‫أبناء وبني‬
‫جسدا‬
‫ً‬ ‫كنت بخري؟ كيف للخري أن يسكن‬‫وتسألني إن ُ‬
‫كجسدي؟‬

‫‪46‬‬
‫يشيح‬
‫ُ‬ ‫رأيت الرمحة تطغى عىل وجه (أنطونيوس)‪ ..‬كان‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫بوجهه عني ويطأطئ رأسه رأف ًة بحايل‪ ،‬والدمع ُيغرقني‪.‬‬

‫رفضت أن أسمع شي ًئا منه‬


‫ُ‬ ‫حاول (أوراليوس) أن هيدئني‪،‬‬
‫قبل أن خيربين ً‬
‫أول أين زوجي (جريمانكوس)؟‬
‫أجابني أن زوجي بخ ٍ‬
‫ري‪ ،‬وأن ما حصل كان بأوامر اإلمرباطور‬
‫(طايبريوس)‪ ،‬لقد بعث بأمر إحضار (جريمانكوس) إىل روما‬
‫للبدء يف حماكمته عىل ضوء انتهاكه لقواننيَ كثرية‪.‬‬

‫أخربين بأين سأبقى حتت حراستهم هنا أليا ٍم وسأتلقى العناية‬


‫منهم حتى يغادر (جريمانكوس) إىل روما ويستقر احلال بني‬
‫الناس‪.‬‬

‫يصلح للقربان‬
‫ُ‬ ‫رجوهتم وتوسلت إليهم وتقربت هلم بكل ما‬
‫أن يسمحوا يل برؤية زوجي قبل ترحيله إىل روما‪ ،‬ولو ٍ‬
‫ملرة‬
‫واحدة‪ ..‬ملرة واحدة فقط‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مرهون‬ ‫أطال (أوراليوس) التحديق يب ثم أخربين أن ذلك‬
‫بمدى طاعتي ألوامرهم‪ ،‬سألته ماذا يريد مني؟ أخربين «أن ألزم‬

‫‪47‬‬
‫الصمت وأ ّ‬
‫ال أخرب الناس بام حصل‪ ،‬فقد أمر اإلمرباطور أن يكون‬
‫ٍ‬
‫برسية بالغة إىل احلد الذي ال‬ ‫إحضار (جريمانكوس) إىل روما‬
‫يعرف الناس فيه عن ذلك‪ ،‬أخربناهم أن (جريمانكوس) سيسافر‬
‫كعادته ملالقاة اإلمرباطور يف شؤون احلكم‪ ،‬تبقى أن متدي لنا يد‬
‫العون يف ذلك فال يبلغ الناس ما يثري ريبتهم أو يربك صفوفهم‪،‬‬
‫ِ‬
‫سنحرضك ملالقاة زوجك»‪.‬‬ ‫وعندها‬

‫خلفه واحلزن‬
‫ُ‬ ‫خرج (أوراليوس) من احلجرة وجعلني حسري ًة‬
‫يقتلني‪ ،‬وقبيل خروجهم نظر (أنطونيوس) إ ّيل نظرة ٍ‬
‫حزن وخرج‬
‫برفقتهم‪.‬‬

‫أحدا‬
‫فأحكمت اإلطباق عىل فمي ومل أخرب ً‬
‫ُ‬ ‫امتثلت ألوامرهم‬
‫ُ‬
‫طلبت منهم أن يسمحوا يل باخلروج من رشفتي فرياين‬
‫ُ‬ ‫بذلك‪ ،‬بل‬
‫الناس وألقي عليهم سالمي فال يشوهبم ٌّ‬
‫شك يف أمر حصاري يف‬
‫منزيل‪.‬‬

‫ظللت أليا ٍم حبيسة حجريت‪ُ ،‬يرضون يل الطعام والرشاب‬


‫ُ‬
‫والعالج ويتناوب احلرس عىل حصاري وإجباري عىل اإلقامة‬
‫يف احلجر املنزيل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ُأم ّني نفيس مع كل إرشاقة يو ٍم جديد أن ألقى فيه زوجي قبل‬
‫فتخيب آمايل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫رحيله‬

‫**‬

‫أوشكت شمس اليوم العارش أن ترشق‪ ،‬ومل أكن ألستلذ يف‬


‫يطيب‬
‫َ‬ ‫مزاج وال‬
‫ٌ‬ ‫عاهدت نفيس أال يستقيم يل‬
‫ُ‬ ‫نومي كعاديت‪،‬‬
‫جفن وال هيدأ يل ٌ‬
‫بال قبل رؤية (جريمانكوس) واالطمئنان‬ ‫يل ٌ‬
‫عليه بنفيس‪.‬‬
‫وبينام جيري تدويل احلرس واجلنود واستبداهلم فيام بينهم‪،‬‬
‫حان دور (أنطونيوس) ليحرسني‪ ،‬وقف عىل الباب بعد أن ألقى‬
‫أدركت اآلن َمل مل‬
‫ُ‬ ‫فشق ع ّ‬
‫يل احلديث معه‪،‬‬ ‫سالمه‪ ،‬مل يكن وحده ّ‬
‫خيربين عن مضمون خطاب اإلمرباطور األخري إىل (بيسو)‪ ،‬أراد‬
‫شهم يا (أنطونيوس)‪.‬‬
‫مراعاة شعوري‪ ،‬كم أنت ٌ‬
‫سألته وعىل مرأى اجلنود‪ :‬هل يأذن يل بدقائقَ للتحدث إليه‬
‫ٍ‬
‫بصمت ثم طلب‬ ‫خاص وبالغِ الرضورة‪ ،‬نظر إ ّيل‬
‫ٍّ‬ ‫وحدنا ويف أم ٍر‬
‫من اجلنود اآلخرين أن خيرجوا قلي ً‬
‫ال ليعرف ما ورائي‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ٍ‬
‫بصدق أن خيربين أين زوجي ومتى سألقاه فقد طال‬ ‫سألته‬
‫ُ‬
‫انتظاري واالنتظار يقتلني؟‬

‫كان مرتد ًدا بادئ األمر‪ ،‬وكأن الكالم يقف عىل باب لسانه‬
‫فال ينطق به‪ ،‬حاولت استنطاقه وقد بدا عليه القلق‪ ،‬يشيح بوجهه‬
‫كثريا وعيناه ال هتدئان‪.‬‬
‫ً‬
‫طلب مني أن أعذره وأتفهم امتناعه عن احلديث يف هذا األمر‪،‬‬
‫عهدا‬
‫لت إليه أن خيربين ولو باإلشارة أين زوجي؟ أخذ مني ً‬
‫فتوس ُ‬
‫ّ‬
‫أسمع شي ًئا‬
‫ْ‬ ‫ووعدا بأن ألزم الصمت بعدها وكأنني مل‬
‫ً‬
‫ٍ‬
‫كطبول تُقرع يف حرب‪ ،‬وأخربين بام مل‬ ‫ٍ‬
‫بشدة‬ ‫ينبض‬
‫بدأ قلبي ُ‬
‫أقو بعده عىل الوقوف‪:‬‬
‫َ‬
‫‪-‬لقد غادر (جريمانكوس) إىل روما منذ يومني‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بحنان منه ثم طلب مني أن‬ ‫بدأت أبكي بشدة فبدأ يمسح ع ّ‬
‫يل‬ ‫ُ‬
‫ألكتم بكائي‬
‫َ‬ ‫ألزم الصمت كام وعدته‪ ،‬فوضعت ُكفي عىل فمي‬
‫ٍ‬
‫كسيل جارف‪.‬‬ ‫مندفعا‬
‫ً‬ ‫الذي حياول اخلروج من فمي‬

‫‪50‬‬
‫عاد (أنطونيوس) وطلب مني اهلدوء من جديد‪ ،‬وأخربين‬
‫بأن األمر هيدد حياته يف حال عرف أحد اجلنود أنه أطلعني عىل‬
‫أرسارهم‪.‬‬

‫دخل اجلنود بعد سامع بكائي‪ ،‬فهب (أنطونيوس) واق ًفا‬


‫وتظاهر أنه جيهل ما ّ‬
‫حل يب‪ ،‬أخربهم أنني سألته عن أوالدي‬
‫وأنني اشتقت إليهم‪.‬‬

‫أرصخ باسم زوجي (جريمانكوس)‬


‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بشدة وأنا‬ ‫عدت ألبكي‬
‫ُ‬
‫عاليا باسمه‪ ،‬مل يقدروا عىل‬
‫وحياول اجلنود هتدئتي‪ ،‬فأعود ألرصخ ً‬
‫رشعت يف مخش وجوههم بأظافري‪ ،‬طرحوين‬
‫ُ‬ ‫ضبطي بعد أن‬
‫فش ّلت أطرايف عن‬
‫أرضا ووضعوا األغالل عيل يدي وعىل رجيل ُ‬
‫ً‬
‫بكاء‪.‬‬ ‫ووقعت يف األرض جاثية يف ِ‬
‫نوبة ٍ‬ ‫ُ‬ ‫احلركة‬

‫أكثرت من النياح بعدها وأنا أردد اسم زوجي لعل ندائي‬


‫ُ‬
‫يصله يف طريق سفره فيعود يل‪.‬‬

‫حاولت الوقوف وامليش‬


‫ُ‬ ‫ولكن مل يصله ندائي ومل يسمعني‪،‬‬
‫رأيت زوجي‬
‫فلم أبرح مكاين ومل تتقدم يب اخلطا بفعل قيودي‪ُ ،‬‬

‫‪51‬‬
‫يف خميلتي ِ‬
‫ماض ًيا يف سفره وحيارصه اجلنود‪ ..‬مل َأر إال ظهره من‬
‫عاودت ندا َءه فلم يلتفت يل حتى‬
‫ُ‬ ‫اخللف وهم يقتادونه إىل روما‪..‬‬
‫كأنه حلمي‪!..‬‬
‫يف خيايل‪ُ ..‬‬

‫‪52‬‬
‫‪4‬‬

‫استطاعت األيام أن جتفف جرحي الظاهر عىل جسدي‪،‬‬


‫غائر لن جيف ولو بعد حني‪ ،‬كيف حليايت‬
‫جرح ٌ‬‫ولكن يف القلب ٌ‬
‫ْ‬
‫السعيدة والفاضلة أن تنقلب برسعة الربق؟ كل ِالكم واألمثال‬
‫تبدل احلال مل تكن مزحة‪ ،‬فها أنا‬ ‫ِ‬
‫فجأة ّ‬ ‫التي سمعتها يف حيايت عن‬
‫كنت أمري ًة فيها‪.‬‬
‫أقيض أيامي أسري ًة يف حجريت بعد أن ُ‬
‫عدت آكل ًة مما تيرس‬
‫امتنعت عن الطعام إرضا ًبا عن األكل‪ ،‬ثم ُ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ألجل أبنائي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫احلياة‬ ‫من طعا ٍم ُيبقيني عىل‬

‫وأفرغت كل ما فيهام من دموع‪،‬‬


‫ُ‬ ‫بكيت حتى انتفخت عيناي‬
‫ُ‬
‫فتبعث يف داخيل السكينة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫جتتاح جسدي‬ ‫ٌ‬
‫حالة من اإليامن والصرب ُ‬
‫دخل (أوراليوس) ع ّ‬
‫يل يف اليوم التايل بمعية رفاقه‪ ،‬أخربين‬
‫تظاهرت‬
‫ُ‬ ‫آس ًفا أن زوجي رحل إىل روما ومل يعد بمقدوره مجعنا‪،‬‬
‫أنظر إليهم بخشو ٍع‬
‫ومتالكت نفيس وأنا ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أعرف عن ذلك‬ ‫أنني ال‬
‫مني ومل أمهس بكلمة‪ ،‬تساقط دمعي رغم أنفي ولكني كنت أقوى‬

‫‪53‬‬
‫وأكثرت من اإليامن‬
‫ُ‬ ‫هذه املرة‪ ،‬ربام ألنني ألِ ُ‬
‫فت البكاء عىل زوجي‬
‫واألماين بلقائي به عن قريب‪.‬‬

‫سألته عن مصريي فأجاب‪:‬‬


‫ُ‬
‫‪-‬ستبقني هنا أليا ٍم حتت رعايتنا قبل أن نأذن ِ‬
‫لك باخلروج من‬
‫القرص‪.‬‬

‫ماضيا يف سيطرته عىل أنطاكيا‪ ،‬برجاله ورشائعه‪،‬‬


‫ً‬ ‫كان (بيسو)‬
‫وكنت أنظر‬
‫ُ‬ ‫كانوا ينترشون يف املدينة كأرساب طيو ٍر مهاجرة‪،‬‬
‫إليهم من عىل رشفتي‪ ،‬واجلنود من خلفي يملؤون احلجرة‪.‬‬

‫يعدون ألم ٍر ما‪ ،‬ولكن جتهيزهم ألنفسهم‬


‫أعلم إن كانوا ّ‬
‫ال ُ‬
‫والتدابري التي اختذوها يف إحكام قبضتهم ُمريبة‪.‬‬

‫زلت أراه يف‬


‫ما زال (جريمانكوس) يزورين يف أحالمي‪ ،‬وما ُ‬
‫ٍ‬
‫بأمان‬ ‫مستدبرا يل‪ ،‬فأصيل يف أعامقي أن يصل إىل روما‬ ‫طريق سفره‬
‫ً‬
‫وسالم حتى أحلق به وألقا ُه هناك‪.‬‬

‫أردت‬
‫ُ‬ ‫أفقت يف اليوم التايل عىل صوت أهازيج خارج القرص‪،‬‬
‫ُ‬

‫‪54‬‬
‫النهوض ألرى من رشفتي ماذا يدور يف اخلارج فمنعني اجلنود‪،‬‬
‫ومروعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان األمر مقل ًقا‬
‫ِ‬
‫قافلة سفر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بوصول‬ ‫سمعتهم ينفخون يف مزامري الوفود إيذانًا‬
‫عمن أقبل علينا‪.‬‬
‫أعلم ّ‬
‫وال ُ‬
‫واحلق أنني مل أفهم عندما سمعت أحد اجلنود يرصخ قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫ّ‬

‫‪-‬لقد عادت قافلة روما‪.‬‬

‫وجدت نفيس‬ ‫ٍ‬


‫وأسئلة كثرية‬ ‫ٍ‬
‫وشوق‬ ‫ٍ‬
‫وخوف‬ ‫تعج ٍ‬
‫ب‬
‫ُ‬ ‫وبني ّ‬
‫أعلم‬ ‫ُ‬
‫ختتلط مشاعري فلم أعد ُ‬ ‫أركض نحو الرشفة ً‬
‫رغم عنهم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أي شعو ٍر منها حيركني أو يغالبني عىل نفيس‪.‬‬

‫مل َأر شي ًئا من الرشفة‪ ،‬فالقافلة مل تكن يف مدى الرؤية من‬


‫حاولت مد عنقي للخروج أكثر حتى أسرتق النظر‬
‫ُ‬ ‫إطاللتها‪،‬‬
‫مرارا حتى قاطعني‬ ‫ِ‬
‫حاولت ً‬
‫ُ‬ ‫اجلهة اليمنى فلم يسعني ذلك‪،‬‬ ‫من‬
‫ٍ‬
‫بشدة ليعيدين إىل حجريت والشوق‬ ‫جندي من اخللف وسحبني‬‫ٌّ‬
‫واخلوف يتملكانني‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫نعم‪ ،‬تبني لنا أهنا قافلة (جريمانكوس) عادت من طريقها إىل‬
‫أعلم عنها شي ًئا حتى اآلن‪ ،‬هل أجابت اآلهلة صلوايت‬
‫روما‪ ،‬وال ُ‬
‫وخالص دعائي فأرجعت زوجي؟ هل سمع زوجي ندائي‬
‫وإحلاحي عليه بالعودة يل؟ هل ر ّقت قلوهبم بعد قسوهتا فأذنوا‬
‫حلبيبي بالعودة؟‬
‫جلبت‬
‫ُ‬ ‫ال وما جياوز السامء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اللهفة ما يقارع اجلبال طو ً‬ ‫َّ‬
‫يف من‬
‫كنت أقف وأصيل وأقفز أثناء‬
‫املشقة للحرس من حويل عندما ُ‬
‫أكثرت عليهم من‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الفرحة والرجاء‪،‬‬ ‫جلويس عىل رسيري من‬
‫سؤايل عن زوجي وكيف أراه؟ وكانوا جيربونني عىل الصمت‪.‬‬

‫**‬

‫كنت يف ٍ‬
‫كهف مظلمٍ عاتمٍ وحييطك اليأس داخله‬ ‫هل سبق وأن َ‬
‫نور فييضء لك الطريق؟‬
‫من كل مكان؟ ثم يأتيك من العدم ٌ‬
‫هل عشت إحساس من أوشك عىل مفارقة احلياة عطشً ا يف‬
‫صحرا َء مقفرة فألقى نفسه عىل األرض مستقب ً‬
‫ال حتفه ويف بداية‬
‫احتضاره متطر السامء عليه فتحييه؟‬

‫‪56‬‬
‫كنت أموت يف‬
‫جديد بعد أن ُ‬‫ٍ‬ ‫كنت أنا يوم أحيوين من‬
‫هكذا ُ‬
‫ظالم دامس‬
‫ٌ‬ ‫ٍ‬
‫رجاء وال أمل‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫حبيسة فيه‪ ،‬بال‬ ‫جسدي‪ ،‬وروح األمل‬
‫أنار ُه خرب عودة (جريمانكوس)‬

‫كنت أسمعها وال أراها‪ ،‬وكفى‬


‫عرصا‪ُ ،‬‬
‫ً‬ ‫وصلت قافلة الوفد‬
‫بسمعي ليسعدين‪.‬‬

‫عاودت إرباك اجلنود واحلرس عسى أن يأذنوا يل باخلروج أو‬


‫ُ‬
‫يأتوا برفقتي ألرى زوجي وكانوا يرفضون ويعزون ذلك لعدم‬
‫عدت أبكي أمامهم وأتوسل إليهم وأرجوهم‬
‫تلقيهم أوامر عليا‪ُ ،‬‬
‫نفعا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ومل جيد ذلك هبم ً‬
‫دمي يفور يف رشاييني‪ ،‬ووريدي شارف عىل االنبجاس‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مكان واحد‬ ‫وقلبي يتسارع يف نبضه وال أقوى عىل اجللوس يف‬
‫لدقائق معدود ٌة من اهللع‪.‬‬

‫ويسارا لعل الفرج يأيت بأن يفتح‬


‫ً‬ ‫أجوب أرجاء حجريت يمي ًنا‬
‫ُ‬
‫الباب زوجي فيعود املاء إىل جمراه‪.‬‬

‫سمعتهم يقرعون الطبول واألجراس بعد ساعة من وصول‬

‫‪57‬‬
‫سيلقيه أحد القادة‪ ،‬فكان‬ ‫ٍ‬
‫خطاب ُ‬ ‫القافلة معلنني بذلك عن‬
‫(أوراليوس)‪ ،‬خرج حزي ًنا يف الساحة ِكام أخربوين‪ ،‬كان صدى‬
‫فأخرج من رشفتي ألحاول التقاط صيحاته بني‬
‫ُ‬ ‫صوته يبلغني‪،‬‬
‫األهازيج‪.‬‬

‫خربا تقشعر له األبدان عىل حد وصفه‪،‬‬


‫أعلن (أوراليوس) ً‬
‫أخرب الناس ببالغ احلزن واألسى الذي مل يكن يظهر عليه‪،‬‬
‫بأهنم مل يتمكنوا من إكامل مسريهم إىل روما بعد أن تعرض‬
‫(جريمانكوس) إىل أزمة صحية قضت عليه‪ ،‬جاء (أوراليوس)‬
‫ليخربنا أن (جريمانكوس) مات فجأة بينام هم يف طريق سفرهم‪،‬‬
‫معل ًنا بعدها أن مقاليد األمور ستكون بيد احلاكم اجلديد‬
‫(جينايوس بيسو)‪.‬‬

‫بدأت يف لطمِ وجهي‬


‫ُ‬ ‫خر جسدي عىل األرض ً‬
‫رغم عني‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وتقطيع شعري والندب عىل زوجي وأنا أرصخ باسمه من عىل‬
‫ُشفتي‪ ،‬و(أوراليوس) يتحدث عن خ ِ‬
‫رب موت (جريمانكوس)‬
‫املريع والصادم وعن حالة األمل الشديد التي ح ّلت به وهم يف‬
‫(إبيدافني) قرب أنطاكيا‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫مل أكن ألراه ولكن أسمعه‪ ،‬وكفى بسمعي ليحزنني‪..‬‬

‫أخريا أن أنزل هذه املرة ألرى جثامن زوجي‪،‬‬


‫ً‬ ‫سمحوا يل‬
‫كنت حتت حصار‬
‫وضعوه عىل مدخل القرص حتت احلراسة‪ُ ،‬‬
‫اجلنود حتى يف طقس وداعي األخري‪.‬‬
‫فارغ ِ‬
‫خلفة وزين‬ ‫رأيته ممد ًدا من ٍ‬
‫بعيد وكأن جسدي ٌ‬ ‫نزلت ثم ُ‬
‫ُ‬
‫أعلم كيف ُربط عىل قلبي‬
‫ُ‬ ‫ولشدة خويف‪ ،‬والدموع تنهمر وال‬
‫وكيف غزتني السكينة والطمأنينة‪.‬‬

‫شارفت عىل الوصول إىل جثامنه‪ ،‬وما جرى‬


‫ُ‬ ‫اقرتبت أكثر حتى‬
‫ُ‬
‫يل حينها أصعب من أن ُيروى‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫‪5‬‬

‫«بأمر اإلمرباطور (طايبريوس) تُعاد (أغريبينا) إىل روما»‬

‫هكذا قرأ (أوراليوس) خطاب اإلمرباطور عىل رأيس بعد أن‬


‫كثريا‬
‫أرسح ً‬
‫ُ‬ ‫كنت جالس ًة كعاديت عىل رسيري‪،‬‬
‫دخل إىل حجريت‪ُ ،‬‬
‫أشيح هبام عن النظر أمامي‬
‫ُ‬ ‫يف خيايل‪ ،‬وعيناي شاخصتان وال‬
‫أرمش أو أرى‪ ،‬كان احلزن باد ًيا عىل وجهي الشاحب‬ ‫ُ‬ ‫وبالكاد‬
‫ٍ‬
‫بكلمة واحدة طوال األيام املاضية‬ ‫ِ‬
‫لكثرة ما بكى‪ ،‬مل أنطق‬ ‫اهلالك‬
‫الغم عىل فمي أو ّ‬
‫شل احلزن‬ ‫منذ أن مات زوجي‪ ،‬ربام أطبق ّ‬
‫والصوم منجايت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كنت صائم ًة عن الكالم‬
‫لساين‪ُ ،‬‬
‫تتزاحم األفكار يف رأيس‪:‬‬

‫‪-‬ماذا سيحل يب أو بأوالدي؟ أموايل؟ إرث زوجي؟ كيف‬


‫سأجد فيها ما‬
‫ُ‬ ‫رصت أرملة؟ وهل‬
‫ُ‬ ‫ستكون الدنيا بعد أن‬
‫يدفعني للعيش فيها؟‬

‫‪61‬‬
‫مات زوجي بغت ًة كام ُيقال‪ ،‬وما أن شاع نبأ وفاة‬
‫(جريمانكوس) حتى جال أصقاع العامل ووصل إىل روما‪،‬‬
‫ألكرب‬
‫ُ‬ ‫ألجزم إن احلزن يف قلبي‬
‫ُ‬ ‫فخيم احلـزن عىل الناس‪ ،‬وإين‬
‫ّ‬
‫من كل هؤالء الناس جمتمعني‪.‬‬
‫ِ‬
‫للعودة إىل‬ ‫طلبا يف استدعائي‬
‫وبعد أيام‪ ،‬أرسل اإلمرباطور ً‬
‫روما‪ ،‬واحلق أنني مل أعد أبايل يف أي البقاع رموين‬

‫احلجرة بعد أن أخربين برضورة‬ ‫ِ‬ ‫خرج (أوراليوس) من‬


‫جتهيز أمتعتي و ِرحايل ُقبيل عوديت يف الغد إىل روما‪ ،‬مل أكرتث بام‬
‫ٍ‬
‫ولباس ومؤن‪ ،‬كان جل اهتاممي‬ ‫ٍ‬
‫وأثاث‬ ‫ٍ‬
‫أمتعة‬ ‫سيؤخذ معي من‬
‫أن آخذ معي ُرفات زوجي بعد أن أحرقوا جثامنه ومجعوا يل‬
‫مذ َّهبة األطراف‪ ،‬أخذته معي ُليدفن كام‬ ‫ٍ‬
‫فخارية محراء َ‬ ‫الرماد يف‬
‫يليق به يف رضيح أغسطس يف روما‪ ،‬إىل جانب النبالء واألباطرة‬
‫كام ينبغي‪.‬‬

‫**‬

‫‪62‬‬
‫أط ّلت شمس اليوم اجلديد‪ ،‬ومل ُأع ْد تلك الفتاة التي حتب‬
‫الرشوق‪ ،‬ما زال النوم هيجرين واليأس يتملكني والصمت‬
‫يسكنني والذكرى املرير ُة تقتلني‪ ،‬كل األشياء تكالبت عىل قلبي‪،‬‬
‫رفاته‬
‫ُ‬ ‫ميت أحتضن‬
‫زوج ٌ‬
‫إلنسان مثيل أن حيتمل كل هذا؟ ٌ‬‫ٍ‬ ‫وكيف‬
‫ٍ‬
‫جنود حيارصونني‪،‬‬ ‫أقطعه وحدي برفقة‬
‫ُ‬ ‫وطريق ٌّ‬
‫شاق‬ ‫ٌ‬ ‫بني يدي‪،‬‬
‫ٌ‬
‫وحشة ملا حل بوالدهم ووحشتي‬ ‫وأوالد يسكنون روما وجتتاحهم‬
‫ٌ‬
‫عليهم وعىل زوجي جتتاحني‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وحرس ال أذكر عديدهم‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫جنود‬ ‫نزلت من قرصي برفقة‬
‫ُ‬
‫مشينا يف الطريق املؤدي إىل قافلة السفر‪ ،‬ومن الناس من يلقي‬
‫ٍ‬
‫عجالة وأظنهم يعذرونني‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بنظرة م ّني عىل‬ ‫فأرد عليه‬
‫يل سالمه ُ‬ ‫ع ّ‬
‫فمن أبرص يف وجهي وأدرك حايل البايل ما كان يرجو مني سال ًما‪،‬‬
‫جثة ستظل‬‫وأمحل يف يدي رفات ٍ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كاجلثة أميش بني األحياء‪،‬‬ ‫كنت‬
‫ُ‬
‫سائر عمري‪ٌ ..‬‬
‫جثة حتمل جثة‬ ‫حي ًة يف قلبي َ‬
‫يرحبون بوصويل‪ ،‬أعدوا‬
‫ركبت يف العربة واحلرس من حويل ّ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بشكل ُيقلق‬ ‫زلت صامت ًة‬
‫يل العدة والعتاد ورشعنا يف السفر‪ ،‬ما ُ‬
‫ملحت (أنطونيوس) من بني اجلموع املرافقة‬
‫ُ‬ ‫الصمت مني‪،‬‬
‫َ‬ ‫حتى‬

‫‪63‬‬
‫يل‪ ،‬هلذا الرجل النبيل ٌ‬
‫فضل ال أنساه‪ ،‬وكم أسعدين وجوده معي‪،‬‬
‫ولست أدري إن كانت ستصل يب‬
‫ُ‬ ‫بدأت القافلة رحلة سريها‪،‬‬
‫ِ‬
‫كحال‬ ‫ستعود يب إىل هنا مر ًة أخرى وأنا ٌ‬
‫جثة هامد ٌة‬ ‫ُ‬ ‫إىل روما‪ ،‬أم‬
‫زوجي‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫‪6‬‬
‫ِ‬
‫ببعد‬ ‫«ويف طريق سفري مل أكن ألشعر بطول الوقت وال‬
‫أحتد ُث عرب قلبي إىل رفات زوجي‪ ،‬مل يكن لليل‬
‫كنت َّ‬
‫املسافة‪ُ ،‬‬
‫وحشة وأنا ُ‬
‫أمحل (جريمانكوس) بني يدي‪ ،‬كان حيميني و ُيشعرين‬ ‫ٌ‬
‫ُ‬
‫أغرق يف نفيس ألهرب من‬ ‫كنت‬
‫باألمان حتى وإن كان ُرفاتًا‪ُ ،‬‬
‫كآبة السفر ومن أصوات القافلة وثرثرة اجلنود واهتزام اخليول‬
‫أفر ّممن حويل وأن أجلأ‬
‫أردت أن ّ‬
‫ُ‬ ‫ورصرصة الريح والدواب‪،‬‬
‫اختبأت يف جسدي ونفيس طوال الرحلة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فأسكن فيها‪،‬‬
‫َ‬ ‫لنفيس‬
‫كنت صامت ًة ُمبحر ًة يف خيايل الذي أعادين أليام ُيرسي ورسوري»‪.‬‬
‫ُ‬

‫أغريبينيا الكربى‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫‪7‬‬

‫سائس‬
‫ٌ‬ ‫تعالت أصوات املزامري مطلع الصبح‪ ،‬فرصخ بعدها‬
‫للخيول قائ ً‬
‫ال‪:‬‬

‫‪-‬هنا روما‬

‫وأطللت برأيس من فوق العربة ألرى بعيني‬


‫ُ‬ ‫أفقت من غفويت‬
‫ُ‬
‫صدق وصويل‪ ،‬فالحت يل روما من ٍ‬
‫بعيد كالرساب وكأهنا ُتييني‪،‬‬
‫وقد تاقت نفيس لرؤيتها بعد أن باعدت بيننا السنون‪.‬‬
‫يشء من روحي عىل هيئة ٍ‬
‫أبناء‬ ‫هنا ترعرعت وهنا أنتمي وهنا ٌ‬
‫يل‪.‬‬

‫ما زالت كام تركتها‪ ،‬عظيم ًة منيع ًة مهيب ًة بجدراهنا وحصوهنا‬


‫ومعابدها وقالعها ومالعبها ومتاثيلها وسائر ساكنيها وكل‬
‫الطرق التي تؤدي إليها‪.‬‬
‫طغت الفرحة عىل اجلنود ساعة الوصول‪ِ ،‬‬
‫فطفقوا يرددون‬

‫‪67‬‬
‫أدنيت رأيس‬
‫ُ‬ ‫فبعض الفرح يغزوين‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ولست أكذب‬‫ُ‬ ‫أغني ًة سخيفة‬
‫الفخ ِ‬
‫ارية التي أحتضنها بني يدي منذ بدء الرحلة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫مقربة من ّ‬ ‫عىل‬
‫وأخربته عن وصولنا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫لرفات زوجي فيها‬ ‫حب‬
‫فهمست بكل ٍّ‬
‫ُ‬

‫مل أمتالك نفيس عندما اقرتبنا أكثر فسالت دموعي‪ ،‬بدأ الكشّ افة‬
‫تبعا ملزامرينا وإيذانًا بوصول‬
‫عىل أسوار روما بالنفخِ يف املزامري ً‬
‫قافلة سف ٍر إليهم‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬خرج الناس الستقبالنا يف‬
‫ً‬ ‫أوشكت رحالنا أن حتط‬
‫فتبسمت‬ ‫ٍ‬
‫واحلق أن حفاوهتم لوصويل أسعدتني ّ‬
‫ّ‬ ‫مجاعات كبرية‪،‬‬
‫تبسمي‪ ،‬لقد طال البؤس واحلزن عىل وجهي‬
‫هلم‪ ،‬تأمل وجهي أثناء ّ‬
‫حتى شقّت عليه البسمة‪.‬‬
‫رشعت يف امليش‬
‫ُ‬ ‫أمحل بيدي رفات زوجي‪،‬‬‫زلت ُ‬ ‫أنزلوين وما ُ‬
‫ِ‬
‫الصفوف األوىل‪ ،‬انفجر‬ ‫حتى وقعت عيناي عىل أبنائي وبنايت يف‬
‫أرصخ وأبكي ويعلو‬
‫ُ‬ ‫أركض نحوهم وأنا‬
‫ُ‬ ‫ورحت‬
‫ُ‬ ‫احلزن يف داخيل‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫مجيعا‪،‬‬
‫نياحي‪ ،‬فبادلوين اجلري والبكاء حتى احتضنتهم ً‬
‫كنت أغرق‬
‫وجدت الغذاء والدواء لروحي‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫أثناء عناقهم أنني‬
‫خر جسدي ومل حتملني‬ ‫ٌ‬
‫راكعة عىل األرض بعد أن ّ‬ ‫بدموعي وأنا‬

‫‪68‬‬
‫عظامي‪ ،‬ويقف أبنائي حويل (نريو ودروسوس وغايوس وجوليا‬
‫ِ‬
‫املضيئة‬ ‫ِ‬
‫كاآلهلة‬ ‫ودروسيال وأغريبينا الصغرى) كانوا يف هبائِهم‬
‫يف عليائها ويبكون ع ّ‬
‫يل بمرارة‪ ،‬مل أقف ملواساهتم وأنا التي لطاملا‬
‫َ‬
‫ألخفف عنهم أحزاهنم وأطبطب عليهم آالمهم‬ ‫كنت معهم‬
‫ُ‬
‫األحوج هذه املرة من بني كل‬
‫َ‬ ‫كنت‬
‫وأمسح هلم دموعهم‪ ،‬بل ُ‬
‫ِ‬
‫الطبطبة ومسح الدموع‪.‬‬ ‫هؤالء الستة إىل‬

‫‪69‬‬
‫‪8‬‬
‫ماذا سيفعل لو ِ‬
‫علم بعلمي للحقيقة؟ وكيف سيواري سوءته‬
‫أسع خلفه‪،‬‬‫جهدا يف كشفه ومل َ‬
‫عني؟ انكشف يل املستور ومل أبذل ً‬
‫ُ‬
‫أحاول هتيئة نفيس ملالقاة اإلمرباطور ومواجهته بام نام‬ ‫زلت‬
‫وما ُ‬
‫إىل علمي‪ ،‬وبيننا األيام يا (طايبريوس)‪.‬‬
‫أقف عىل قرب زوجي بعد شهو ٍر‬ ‫كنت ُ‬‫اشتعل فتيل احلقيقة بينام ُ‬
‫عم‬ ‫دفنه يف رضيح (أغسطس)‪ ،‬أزور ُه بانتظا ٍم مني ألخرب ُه ّ‬ ‫من ِ‬
‫استجد من أمري وأحوال أوالدي‪.‬‬
‫كنت أسمع سعاله فور‬ ‫ٍ‬
‫برجل يدخل خلفي إىل الرضيح‪ُ ،‬‬ ‫فإذا‬
‫فأسمع صوت‬
‫ُ‬ ‫يتقد ُم إ ّيل‬ ‫ً‬
‫مريضا‪ ،‬مل ألتفت له‪ ،‬ظل ّ‬ ‫دخوله ويبدو‬
‫فأدرت‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫مشيته‬ ‫أنه يقصدين يف‬ ‫أيقنت ُ‬
‫ُ‬ ‫تقرتب مني حتى‬
‫ُ‬ ‫خطواته‬
‫رأيس فكان (أنطونيوس)‬
‫لتحيته فطلب مني أال‬ ‫ٍ‬
‫بلهفة‬ ‫فاقرتبت منه‬
‫ُ‬ ‫سعدت برؤيته‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫تعبا‬
‫وم ً‬‫شاحبا ُ‬
‫ً‬ ‫أقرتب منه خشية أن ينقل يل العدوى‪ ،‬لقد بدا‬
‫ُ‬
‫وتسيل الدماء مع ُكحته وسعاله‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫وأنه عىل علمٍ بأوقات زياريت‬
‫بأنه كان يرصدين‪ُ ،‬‬ ‫أخربين ُ‬
‫ٍ‬
‫مصادفة عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫للرضيح وأن جميئه إ ّيل مل يكن بمحض‬

‫نسمع فيه سوى تغريد‬


‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫هادئ ال‬ ‫أراد االختالء يب هنا يف يو ٍم‬
‫الطيور فوق األشجار التي ُي ّرك النسيم العليل أغصاهنا‪.‬‬

‫ألهون ع ّ‬
‫يل‬ ‫ُ‬ ‫ويرشق د ًما مع سعايل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫‪-‬إن صدري الذي يؤملني‬
‫سيظل ُ‬
‫ينزف لألبد‬ ‫ُّ‬ ‫من جرحٍ يف جويف‬

‫هكذا بدأ (أنطونيوس) يف حديثه معي‪ ،‬فشحذ سمعي وبرصي‬


‫وتقدمت نحوه ألسمعه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫إليه‬

‫سيبقي عىل عمري يف احلياة أكثر‬


‫أمحله ُ‬
‫ُ‬ ‫أظن الداء الذي‬
‫‪-‬ال ُّ‬
‫وأعلم يقي ًنا أن املوت يف انتظا ِر سقوطي‪ ،‬وأن‬
‫ُ‬ ‫مما مىض‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫قريبا‪ ،‬يا (أغريبينا)‪ ..‬ماذا تقولني يف‬
‫سقوطي بات ً‬
‫ِ‬
‫اهلجرة من أثينا‬ ‫امرأته فدفعه سوء احلال إىل‬
‫ُ‬ ‫ماتت عنه‬
‫ٍ‬
‫قبل مخسني عام ًا برفقة أربعة من أطفاله‪ ،‬كان هلم أ ًبا ًّ‬
‫وأما‬
‫ظل الفقر‬ ‫ويعجز عن تقديم ٍ‬
‫يشء هلم يف ِ‬ ‫الغم حياهلم‬
‫ُ‬ ‫ويقتله ّ‬
‫مجيعا‬
‫حيلم بأن حيظوا ً‬
‫والعوز والفاقة واحلاجة الشديدة‪ ،‬كان ُ‬

‫‪72‬‬
‫أحوج‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بحياة كريمة هانئة يف املهجر‪ ،‬وصل إىل روما فكان َ‬
‫مال يبتاع ِ‬
‫به قوتًا ومؤونة‪ ،‬عاش بادئ‬ ‫مسكن له أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫إىل‬
‫ليمنحه‬
‫ُ‬ ‫عمل أو عن ٍ‬
‫أحد‬ ‫ٍ‬ ‫جيوب الطرقات بحثًا عن‬
‫ُ‬ ‫األمر‬
‫يبحث‬
‫ُ‬ ‫ليسد به جوع أطفاله‪ ،‬كان‬
‫ّ‬ ‫فتات خب ٍز أو بقايا طعام‬
‫مأوى له وألطفاله يف الربد القارس‪،‬‬
‫يف الطريق العام عن ً‬
‫ٍ‬
‫غطاء ُيعينهم عىل‬ ‫ٍ‬
‫كسوة هلم أو‬ ‫ليبحث يف ِ‬
‫الغد عن‬ ‫ُ‬ ‫ويعود‬
‫ُ‬
‫جلب الدفء هلم‪ ،‬ساءت حالة أحد أوالده ذات مساء وكاد‬
‫جوعا فأغمي عليه لشدة التعب والضمور ِ‬
‫ولا‬ ‫يموت الولد ً‬
‫ُ‬
‫محله‬ ‫ٍ‬
‫خانق يف رئتيه‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫شديد‬ ‫ٍ‬
‫مرض‬ ‫يعانيه الطفل املسكني من‬
‫ٍ‬
‫بصوت‬ ‫صارخا‬
‫ً‬ ‫أبوه بني ذراعيه وجال به ساحات روما‬
‫ابنه معه والدموع تتناثر كالآللئ‬‫ال ُ‬ ‫ٍ‬
‫عال يف األز ّقة وحام ً‬
‫ٍ‬
‫نجدة أو ُم ٍ‬
‫غيث البنه‪ ،‬فلم جيد‬ ‫يبحث عن‬
‫ُ‬ ‫عىل وجنتيه‪ ،‬كان‬
‫ُله ُمسع ًفا ومل يستطع توفري طعا ٍم أو عالجٍ له لعدم امتالكه‬
‫رجل ٍ‬
‫نبيل كان‬ ‫ٍ‬ ‫للامل‪ ،‬ب َلغت صيحات األب إىل مسامعِ‬
‫ووبخ من كان‬‫مندفعا إليه‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫فهب‬
‫يميش يف الساحة ذاهتا‪ّ ،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قسوة قلوهبم‪ ،‬ثم أمر بتوفري‬ ‫الناس عىل‬ ‫واق ًفا ُم ّ‬
‫تفر ًجا من‬

‫‪73‬‬
‫دبت فيه احليا ُة من جديد‪،‬‬
‫اإلنعاش الالزم للطفل حتى ّ‬
‫يمنح الرجل ا ُملهاجر ما يكفيه من املال وأن‬
‫فعاد وأمر بأن ُ‬
‫ِ‬
‫نفقته وأن يتلقّى أبناؤُ ه التعليم يف املدارس‪،‬‬ ‫ُيعطى منز ً‬
‫ال عىل‬
‫قاوم بعض الناس تلك القرارات مع األيام عىل اعتبا ِر ما‬
‫ٍ‬
‫لرجل أجنبي وتفضيله عىل أبناء‬ ‫ٍ‬
‫امتيازات‬ ‫فيها من تقديمِ‬
‫روما‪ ،‬فأمر هذا الرجل النبيل بمنح ا ُملهاجر وأطفاله حق‬
‫املواطنة وأن يكونوا أبنا ًء لإلمرباطورية مثل اآلخرين‪ ،‬بكى‬
‫الرجل ا ُملهاجر ً‬
‫كثريا آنذاك‪ ،‬وأقسم لآلهلة أن هيب روحه‬
‫وأرواح أوالده فدا ًء يف سبيل أرضهم اجلديدة‪ ،‬وكان ذلك‬
‫منه ووفا ًء ملا حصل عليه يف تلك األيام العصيبة‪ ،‬يا‬
‫إخالصا ُ‬
‫ً‬
‫(أغريبينا)‪ ..‬هل تعرفني من هو الرجل الفقري ا ُملعدم الذي‬
‫إنه والدي‬
‫مهاجرا من أثينا إىل روما قبل مخسني عا ًما؟ ُ‬
‫ً‬ ‫جاء‬
‫(سولون)‪ ..‬وهل تعرفني من هو الطفل الصغري الذي‬
‫إنه أنا‪ ..‬أنا (أنطونيوس)‬
‫ومرضا؟ ُ‬
‫ً‬ ‫جوعا‬ ‫ِ‬
‫اهلالك ً‬ ‫أوشك عىل‬
‫نذرت حيايت كلها خلدمة اإلمرباطورية‬
‫ُ‬ ‫وألجل ذلك‬
‫فكنت منذ بلوغي‬
‫ُ‬ ‫ووهبت روحي فدا ًء لوطني الذي آواين‬
‫ُ‬

‫‪74‬‬
‫يف خدمة اجليش‪ ،‬تبقّى أن تعريف يا (أغريبينا) من هو الرجل‬
‫النبيل الذي أنقذ حيايت وأحسن وفادة والدي وإخويت‪ ،‬لقد‬
‫ِ‬
‫ألخربك عن‬ ‫ِ‬
‫والدك (ماركوس فسبانيوس)‪ ،‬مل أكن‬ ‫كان‬
‫َ‬
‫خيتلط األمر‬ ‫هذه احلكاية إال ألمنع سوء الظن ِ‬
‫عنك‪ ،‬فال‬
‫أرسارا لإلمرباطور (طايبريوس)‬ ‫عليك عندما أفيش ِ‬
‫لك‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫فتطنني اخليانة من صفايت رغم وفائي‪ ،‬ولكن وفائي أكرب‬
‫كنت‬ ‫ِ‬
‫لوالدك الذي لواله ملا ُ‬ ‫وإخاليص ووالئي أكرب وأكرب‬
‫حيا هنا‪ ،‬مل يكن لريضيني أن أرى ابنة الرجل الذي‬
‫أنا اليوم ًّ‬
‫دت مالزمتك طوال األيام‬
‫فتعم ُ‬
‫تواجه املوت ّ‬
‫ُ‬ ‫أحيانا وهي‬
‫املاضية‪ ،‬مات والدي ومات والدك منذ عقود طويلة‪ ،‬ولكن‬
‫مزروع فينا ولن‬
‫ٌ‬ ‫اخلري الكبري الذي حلق بنا بفضل والدك‬
‫ِ‬
‫بأبيك وحتى‬ ‫أسميت ابني البكر (ماركوس) تيم ًنا‬
‫ُ‬ ‫ننساه‪،‬‬
‫نتوارث ذكراه فتكون خالد ًة فينا‪ ،‬طالت احلرية يب وأنا أرى‬
‫واجبا‬
‫ً‬ ‫فوجدت‬
‫ُ‬ ‫األمرين‬
‫ّ‬ ‫ابنة (ماركوس فيسبانيوس) تعاين‬
‫ِ‬
‫باحلقيقة كلها‪ ،‬ال سيام وأن مويت قد الح‬ ‫عيل أن آيت ألخربها‬
‫سيخطئني هذه املرة كام كان يف صغري‪.‬‬
‫يل‪ ،‬وال أظن حتفي ُ‬

‫‪75‬‬
‫امتنعت عندما ك ّنا يف أنطاكيا عن إخبارك‬
‫ُ‬ ‫يا (أغريبينا)‬
‫بمضمون خطاب اإلمرباطور (طايبريوس) إىل (بيسو)‪ ،‬ومل‬
‫فخشيت أن يصدر ِ‬
‫عنك‬ ‫ُ‬ ‫يكن سكويت إال ِ‬
‫هلول ما رأيته بعيني‬
‫ِ‬
‫علمك باحلقيقة‪ ،‬كان أمر اإلمرباطور يقيض‬ ‫ِ‬
‫يؤذيك بعد‬ ‫ما قد‬
‫بالتخ ّلص من (جريمانكوس) عرب قتله دون أن يشعر أحدٌ‬
‫صدقها معظم الناس‪،‬‬
‫بذلك‪ ،‬فحدثت مرسحية املوت التي ّ‬
‫قاموا بأخذ (جريمانكوس) يف طريق سفرهم الزائف‪ ،‬ثم‬
‫السم غشّ ًا فعاد جث ًة هامدةً‪ ،‬لقد انطلت أكاذيب (بيسو)‬
‫ّ‬ ‫أسقوه‬
‫ٍ‬
‫بعجالة منه‬ ‫فظنه صاد ًقا فأمر‬
‫ُ‬ ‫يف خطاباته عىل اإلمرباطور‬
‫يشعر أحدٌ من‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة ُمثىل ال‬ ‫بالتخ ّلص من (جريمانكوس)‬
‫ُ‬
‫الناس هبا‪ ،‬وكان شديد احلرص عىل أن ال تعريف بذلك‪ ،‬وها‬
‫ِ‬
‫ألخربك باحلقيقة التي يقتلني كتامهنا‪ ،‬وبني عهدي الذي‬ ‫أنا آيت‬
‫وأقسمت عليه أمام اإلمرباطور للحفاظ عىل أرسار‬
‫ُ‬ ‫قطعته‬
‫اخرتت والدك‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫لوالدك ولنسله‪،‬‬ ‫الدولة وبني عهدي بالوفاء‬
‫فإن اخلري يف نفيس أبقى‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫دك حصوين‪،‬‬ ‫خرج (أنطونيوس) من الرضيح بعد أن ّ‬
‫أعرف إىل أين وجهتي‪ ،‬مل ِ‬
‫تأت‬ ‫ُ‬ ‫وتركني يف ضيا ٍع بني القبور‪ ،‬ال‬
‫ٍ‬
‫بجديد عندما بدأتا يف ذرف الدموع‪ ،‬فقد كانتا تدمعان‬ ‫عيناي‬
‫عاهدت‬
‫ُ‬ ‫قبل جميء (أنطونيوس) وعادتا لتدمعا بعد رحيله‪،‬‬
‫ظلم وأن يعرف الناس احلقيقة‬‫زوجي يف قربه أن أنال ممن قتلوه ً‬
‫وف‬ ‫ِ‬
‫لصيته النقي بينهم‪ ،‬وسأسعى للوفاء بعهدي له كام ّ‬ ‫انتصارا‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫بعهده أليب‪.‬‬ ‫(أنطونيوس)‬

‫‪77‬‬
‫‪9‬‬

‫يصدر عني غري‬


‫ُ‬ ‫ِ‬
‫لشهرين بعدها‪ ،‬وال يشء‬ ‫مكثت يف منزيل‬
‫ُ‬
‫أعاود ترتيب أفكاري‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وبعض التحديق عىل اجلدران‪،‬‬ ‫السكوت‬
‫ولست أدري إن كان ما‬
‫ُ‬ ‫والكلامت التي سأواجه هبا اإلمرباطور‪،‬‬
‫سيجر الويالت ع ّ‬
‫يل وعىل أوالدي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سأفعله صوا ًبا أم ِخ ْط ًئا‬
‫ُ‬

‫وقطعت عهد ًا ال‬


‫ُ‬ ‫واستقبلت أقداري‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حسمت أمري‬
‫ُ‬ ‫وما أن‬
‫ولدي (نريو) و(دروسوس)‪..‬‬
‫ّ‬ ‫أرسلت يف ِ‬
‫طلب‬ ‫ُ‬ ‫عود َة فيه‪ ،‬حتى‬
‫اصطفيتهام من بني سائر أبنائي ألن اإلمرباطور قد اختصهام‬
‫ِ‬
‫بالرعاية وقرهبام إليه أثناء غيابنا حتى صارا يف مقا ِم أوالده‪ ،‬وكان‬
‫ٍ‬
‫وحنكة رآمها فيهام‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حلكمة‬ ‫ذلك‬

‫سببا ُمعي ًنا يل يف‬


‫رأيت أن يف قرهبام من البالط اإلمرباطوري ً‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫احلقيقة‬ ‫أردت أن أبدأ هبام للتيقن من‬
‫ُ‬ ‫رحلة بحثي‪ ،‬وعىل ذلك‬
‫التي أعرفها‪ ،‬لعل أحدمها قد سمع ما يقود إليها أو ما يثري الريبة‬
‫حوهلا؟‬

‫‪79‬‬
‫فأحسنت الرتحيب هبام‪ ،‬ال‬
‫ُ‬ ‫جاءين الولدان يف اليوم التايل‪،‬‬
‫أعلم َمل ما ُ‬
‫زلت أرامها كاألطفال الصغار عىل هيئتهام القديمة مهام‬ ‫ُ‬
‫كانا أكرب من ذلك يف عيون الناس‪ ،‬دخال عيل وعانقاين‪ ،‬فطال‬
‫كنت‬
‫عناقنا‪ ،‬فيهام من دم وروح ونبض (جريمانكوس)‪ ..‬هذا ما ُ‬
‫أشعر به أثناء عناقي‪.‬‬
‫ُ‬
‫التدرب وترتيب الكالم‬ ‫ّ‬ ‫أطلت فيها‬
‫ُ‬ ‫ورغم كل األيام التي‬
‫تبعثرت أمام اب َن ّي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫واألفكار ملواجهة الناس باحلقيقة‪ ،‬إال أنني‬
‫فكيف بيوم لقاء اإلمرباطور‪.‬‬
‫ِ‬
‫باجلرأة نفسها التي كانت‬ ‫ِ‬
‫احلديث معهام‬ ‫أقو بادئ األمر عىل‬
‫مل َ‬
‫يف خيايل‪ ،‬كان األمر ثقي ً‬
‫ال عىل نفيس ولساين‪.‬‬

‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫ب‪،‬‬‫وتعج ٍ‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫برتقب‬ ‫استجمعت قواي ومها ينظران إ ّيل‬
‫ُ‬
‫أشد‬ ‫ورشعت يف قول كل ٍ‬
‫يشء هلام‪ ،‬كان (نريو) َّ‬ ‫ُ‬ ‫ك ّف ّي عىل وجهي‬
‫غضبا من (دروسوس) وكالمها يرفضان التصديق‪ ،‬هاجت هبام‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫ويقذف‬ ‫أجسادمها فور علمهام‪ ،‬فطفقا يرضبان األرض واحلائط‪،‬‬
‫بحت هلام‬
‫حاولت هتدئتهام فلم أقدر‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫أحدمها بالكأس عىل مرآيت‪،‬‬
‫وأنا أبكي عىل حايل الذي ال ُّ‬
‫يقل شأنًا عنهام‬

‫‪80‬‬
‫عهدا‬
‫وطلبت ً‬
‫ُ‬ ‫سألتهام العون والكتامن حتى ال يقع عليهام األذى‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ألحد بام أخربهتام به‪ ،‬فخرج (دروسوس)‬ ‫ووعدا منهام بأن ال يبوحا‬
‫ً‬
‫حاولت احتواء األمر فانفلت األمر من‬
‫ُ‬ ‫غاضبا ومل ير ّد عيل بكلمة‪،‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫ارتكاب‬ ‫ووقفت عاجز ًة وخائف ًة عليهام من‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كالعقد املنثور‪،‬‬ ‫يدي‬
‫بني ّ‬
‫محاقة‪.‬‬

‫**‬

‫ِ‬
‫رشده وأن يمنعه‬ ‫ورجوته أن يعيد أخاه إىل‬
‫ُ‬ ‫توس ْل ُت إىل (نريو)‬
‫َّ‬
‫عن الذهاب إىل قرص اإلمرباطور‪ ،‬حاولنا ردع (دروسوس)‬
‫ِ‬
‫برضب أخيه ليفسح له الطريق‪ ،‬كان يقصد يف مشيته‬ ‫هم‬
‫ولكنه ّ‬
‫ُ‬
‫القرص‪.‬‬

‫هيأت نفيس أثناء سريي يف‬


‫ُ‬ ‫وكنت قد‬
‫ُ‬ ‫فاضطرين ملرافقته‪،‬‬
‫الطريق عىل تفجري احلقيقة أمام اإلمرباطور‪.‬‬

‫صارخا وأنا أبكي خلفه والناس‬


‫ً‬ ‫كان ابني (دروسوس) يبكي‬
‫التعجب تطغى عىل وجوههم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ينظرون إلينا وأمارات‬

‫‪81‬‬
‫كثريا ولكني‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫نمش ً‬ ‫ببعيد عن مسكني‪ ،‬فلم‬ ‫مل يكن القرص‬
‫قدمي من مرص إىل هنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫بتعب يوازي مسريي عىل‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫بارتياب فور رؤيتهم ملظهرنا‪،‬‬ ‫شعر احلرس واجلنود‬
‫ٌ‬
‫ثالثة منهم أمامنا فدفع هبم ابني‬ ‫فشهروا سيوفهم ملنعنا‪ ،‬توقف‬
‫(دروسوس) وفسح الطريق إىل القرص فدخلنا ً‬
‫رغم عنهم‪.‬‬

‫كنت أجري خلف (دروسوس) وجيري (نريو) خلفي‪،‬‬


‫ُ‬
‫واحلرس من خلفنا جيرون‪ ،‬ما منعهم من اهلجوم علينا إال‬
‫معرفتهم بنا رغم ما ك ّنا نثري ُه من ريبة‪.‬‬

‫رشعت يف لو ِم‬
‫ُ‬ ‫كنا نميش يف املمر املؤدي إىل جملس اإلمرباطور‪،‬‬
‫وأخفقت يف الكشف‬
‫ُ‬ ‫صنعا يف وزن األمر‬
‫أحسن ً‬
‫ْ‬ ‫نفيس ألنني مل‬
‫البني‪ ،‬ويف قلبي أماين بأن ال يتعرض أحدٌ منهام لألذى بعد‬
‫ّ‬ ‫عنه‬
‫هذا التهور‪.‬‬

‫جالسا‬
‫ً‬ ‫وصلنا إىل املجلس‪ ،‬وكان اإلمرباطور (طايبريوس)‬
‫ٌ‬
‫لفيف من رجاالته‪ ،‬وما أن وقعت‬ ‫مجع‬
‫عىل كرسيه وحييط به ٌ‬
‫هب احلرس من‬
‫وتعجب‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عيناه اجلاحظتان علينا حتى فزع‬

‫‪82‬‬
‫حوله حلاميته فشهروا سيوفهم علينا وطالبونا بالتوقف مكاننا‪،‬‬
‫وظللت أجري معه‪ ،‬أحكم احلرس من تطويقنا‬
‫ُ‬ ‫فلم يقف ابني‬
‫ُ‬
‫والدهشة تطغى‬ ‫فأجربونا عىل الوقوف‪ ،‬كان اإلمرباطور أمامنا‬
‫ٍ‬
‫بتحديق منه‪ ،‬كان‬ ‫عىل حمياه‪ ،‬وقف من عىل كرسيه وهو ينظر إلينا‬
‫بسبابته وهو‬
‫مشريا له ّ‬
‫ً‬ ‫يرصخ عىل اإلمرباطور‬
‫ُ‬ ‫ابني (دروسوس)‬
‫يسأله قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫‪-‬هل أنت من أمر بقتل والدي؟‬
‫متسم ًرا وينظر‬ ‫بكلمة واحدة‪ ،‬كان‬‫ٍ‬ ‫مل ينطق (طايبريوس)‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ذهول منه‪،‬‬ ‫نحونا‪ ،‬عاود ابني سؤاله فلم جيب‪ ،‬كان ساك ًتا ينظر يف‬
‫ٍ‬
‫ابتسامة طفيفة‪ ،‬ثم نظر إيل وقال بعد‬ ‫ِ‬
‫وجهه مالمح‬ ‫تشك َلت عىل‬
‫َّ‬
‫صمت قصري‪:‬‬‫ٍ‬
‫ِ‬
‫امتهنت تأليب أبنائك عىل اإلمرباطور يا (أغريبينا)؟‬ ‫‪-‬هل‬
‫تثريين الفتنة بيننا وحتثينهم عىل التمرد والعصيان واالنقالب‬
‫ورباهم مذ كانوا صغار ًا فأحسن نشأهتم‬
‫عىل من رعاهم ّ‬
‫ومدهم باملال والعتاد ومنع احلاجة عنهم حتى بلغ الفرد‬
‫أشده؟ هل تسريين عىل خطا (جريمانكوس) يف‬
‫منهم ّ‬
‫النكران واجلحود؟‬

‫‪83‬‬
‫مت نحوه‬
‫فتقد ُ‬
‫استفزين إىل احلد الذي جعلني أنسى نفيس‪ّ ،‬‬
‫كنت أقول‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫غاضبة ُ‬ ‫ٍ‬
‫وبنربة‬
‫ٍ‬
‫بجاحد وال ناك ٍر قط‪ ،‬كان أوىف الناس‬ ‫‪-‬مل يكن (جريمانكوس)‬
‫لك ويل وألبنائه ولإلمرباطورية كلها‪ ،‬كيف إلمرباطو ٍر‬
‫ال باحلكمة والدهاء أن يستند يف إصدا ِر‬
‫يدعي وص ً‬ ‫مثلك ّ‬
‫ٍ‬
‫خطابات مليئة بالكذب والتدليس؟ ما‬ ‫حكمٍ بالقتل عىل‬
‫رأيته بنفسك من (جريمانكوس) القائد الذي محل‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬
‫رايتك وراية الروم وجال هبا أصقاع األرض فا ًحتا هلا؟ ماذا‬
‫صدر عنه غري طاعة أمرك واالنقياد إليك واالمتثال لك‬
‫ِ‬
‫باآلهلة‬ ‫وإعالء شأنك بني الشعوب؟ وإين ألستحلفك هنا‬
‫ٍ‬
‫واحد لك‬ ‫ٍ‬
‫عصيان‬ ‫ِ‬
‫سمعت عن‬ ‫ٍ‬
‫بصدق منك‪ ،‬هل‬ ‫أن جتيبني‬
‫أو ٍ‬
‫مترد عليك من (جريمانكوس) يف غري اخلطابات التي‬
‫كان يبعث هبا (بيسو)؟ ما فائدة علمك بحقيقة زوجي‬
‫ِ‬
‫تصديق‬ ‫وصفاء رسيرته ووفائه ووالئه لك حتى جتنح إىل‬
‫وطمعا‬
‫ً‬ ‫حسدا‬
‫ً‬ ‫يبعث هبا (بيسو) إليك‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫خطابات زائفة كان‬
‫مدفوعا يف تدليسه‬
‫ً‬ ‫منه بمكانة زوجي؟ لقد كان (بيسو)‬
‫ُ‬

‫‪84‬‬
‫ِ‬
‫الغبن وسوء التقدير له بعد أن‬ ‫بمشاعر من‬
‫َ‬ ‫وتضليله لك‬
‫ُق َ‬
‫مت بجعله مندو ًبا لدى (جريمانكوس) يف اجلزء الرشقي‬
‫من اإلمرباطورية‪ ،‬أي هتو ٍر منك يف أن حتكم بقتل أكثر‬
‫قادتك طاع ًة لك غيل ًة‪.‬‬

‫ِ‬
‫عرفت بذلك يا‬ ‫أرى سؤا ً‬
‫ال يف عينيك يقول يل‪( :‬وكيف‬
‫أغريبينا)؟ وها أنا أجيبك قبل أن خيرج السؤال من فمك وينطق‬
‫به لسانك‪ ،‬ال يمكن أن تقطع دابر األخيار فلهم يف األرض مزارع‬
‫برشية‪ ،‬إن اآلالف املؤلفة التي أحسن زوجي إليها منذ أن تق ّلد‬
‫أول ٍ‬
‫رتبة له يف اجليش لقادر ٌة عىل أن تذود عنه وعن ذكره وأن‬
‫تذب عنه ظلمه حتى بعد مماته‪ ،‬ال يمكن للعصبة الذين بلغهم‬
‫ّ‬
‫أمرك بقتل (جريمانكوس) أن تبقى صامت ًة أبد الدهر‪ ،‬ففيهم من‬
‫كان زوجي ُيسن إليه وال يقدر أن يكتم غيظ جنايتك‪ ،‬ومنهم‬
‫مضطرا إىل االمتثال له‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫يرفض أمرك يف باطنه وإن كان‬
‫ُ‬ ‫من كان‬
‫وعليك أن تعرف أن احلقيقة التي أوشكت عىل الظهور من شأهنا‬
‫أن هتدد مقامك أمام جملس الشيوخ وأمام الناس وأن تُدنّس‬

‫‪85‬‬
‫ِ‬
‫األلسن واألفواه‪ ،‬وعندها أخربين كيف سيذكر‬ ‫سريتك عىل‬
‫أنكر عليك ما فعلته بحق أبنائي‬
‫التاريخ اسم (طايبريوس)‪ ..‬ال ُ‬
‫ٍ‬
‫ومحاية وإعاشة هلم‪ ،‬ولكن إياك أن تُنكر أنك السبب‬ ‫ٍ‬
‫رعاية‬ ‫من‬
‫قدمت هلم الدنيا كلها بعد قتلك ألبيهم‬
‫وراء جعلهم أيتا ًما‪ ،‬ولو ّ‬
‫ملا أعطيتهم ربع ما سلبتهم‪.‬‬

‫ٌ‬
‫حماطة‬ ‫وظننته سيصفعني وأنا‬
‫ُ‬ ‫تقدم (طايبريوس) نحوي‬
‫ّ‬
‫ولدي‪ ،‬سألني قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫صمت‬ ‫بجنوده وبني‬

‫معا مجيع اخلالفات‬ ‫نسوي ً‬


‫‪-‬عزيزيت (أغريبينا)‪ ..‬بإمكاننا أن ّ‬
‫ِ‬
‫أظنك س ُتقدمني عىل أم ٍر‬ ‫أنت سليلة أباطرة وال‬ ‫بيننا‪ِ ،‬‬

‫من شأنه أن َيذهب بأجماد أجدادك وأجدادي‪ ،‬يف البدء‬


‫لك أرسار‬‫أخربيني‪ ،‬أي اجلنود قد خان األمانة وأفشى ِ‬
‫ِ‬
‫التامسك‬ ‫ِ‬
‫فضلك عىل‬ ‫لك وافر‬‫اإلمرباطورية؟ وإين ألشكر ِ‬

‫ويقينك أنّ أحكامي مل تكن من أهواء نفيس‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عذرا يل‬


‫ً‬
‫كنت‬‫يبعثه املندوب يل‪ ،‬فإن ِ‬
‫ُ‬ ‫استندت فيها إىل ما كان‬
‫ُ‬ ‫وإنام‬
‫ِ‬
‫أعدك وأعاهد‬ ‫يبعثه (بيسو) إىل مقامي‪ ،‬فإين‬
‫تقدحني بام كان ُ‬

‫‪86‬‬
‫ِ‬
‫طلب (بيسو) وأن‬ ‫نفيس أمام كل الشهود هنا بأن أرسل يف‬
‫تبي لنا‬
‫مجيعا‪ ،‬فإن ّ‬ ‫ٍ‬
‫أخضعه ملحاكمة عادلة عىل مرأى الناس ً‬ ‫ُ‬
‫زور ادعاءاته يف حق (جريمانكوس) وختوي ُن ُه له هبتانًا‪ً ،‬‬
‫فحتم‬
‫زوجك ممن ظلمه وغشنا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫سنقتص منه وسنأخذ بثأر‬

‫قاطعته‪:‬‬

‫‪-‬وهل سرتد املحاكمة زوجي للحياة؟‬

‫أجابني‪:‬‬

‫‪(-‬أغريبينا) (أغريبينا)‪ ..‬نحن ال نرد األموات إىل احلياة‬


‫ولو كنا نقدر لبعثنا من القبور أحبابنا‪ ،‬ولكن األموات‬
‫يشعرون بالراحة األبدية إذا علموا أن دماءهم مل تذهب‬
‫ٍ‬
‫براحة وتكون هلم حيا ٌة أخرى‪،‬‬ ‫سدى‪ ،‬فينعمون بعدها‬
‫َ‬
‫ولننصف‬ ‫سأبذل جهدي لتحقيق العدالة وإظهار احلقيقة‬
‫ٍ‬
‫برشط واحد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫زوجك‪ ،‬ولكن‬ ‫هبا‬

‫‪87‬‬
‫وكنت أنظر إليه ليكمل حديثه فقال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫مل أتفوه بكلمة‬

‫برتبص اخلصوم يب ورغبة بعض رجاالت‬


‫جيدا ّ‬
‫‪-‬تعلمون ً‬
‫جملس الشيوخ بإسقاطي عرب البحث عن زاليت وعثرايت‪،‬‬
‫ٍ‬
‫عادلة رشيطة أن تكتموا‬ ‫ٍ‬
‫حماكمة‬ ‫وإين ألعدكم بإجراء‬
‫تظهر عىل املأل‬
‫ُ‬ ‫أريد إثار ًة‬
‫يف أنفسكم ما تعرفونه‪ ،‬فإين ال ُ‬
‫ُ‬
‫فتحول دون إجراء املحاكمة‪.‬‬ ‫ويتداوهلا ُ‬
‫عامة الناس‬

‫وأشعر بالقلق الذي ينتابه‪ ،‬خياف اإلمرباطور‬


‫ُ‬ ‫كنت أنظر إليه‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ويدرك أن حمبة (جريمانكوس) تشيع بني‬ ‫عىل صيته بني الناس‪،‬‬
‫شعبه‪ ،‬فكيف هبم إذا عرفوا أنه القاتل احلقيقي جلريمانكوس‪،‬‬
‫حكم ِ‬
‫بقتل‬ ‫وكيف إذا عرف أعضاء جملس الشيوخ أنه قد أصدر ً‬
‫إحساس ُه بالورطة‪ ،‬كان‬ ‫كنت أرى يف عينيه‬ ‫قائد قبل حماكمته‪ُ ،‬‬‫ٍ‬
‫َ‬
‫يشعر بالتهديد مني ويريدين أن ُأ ْبقي عىل األمر ًّ‬
‫رسا بيننا‪.‬‬ ‫ُ‬
‫أحسنت من‬
‫ُ‬ ‫ال لديه قبل أن نخرج بعد أن‬ ‫نمكث طوي ً‬
‫ْ‬ ‫مل‬
‫ٍ‬
‫بحرقة عىل معرفة احلقيقة التي أقرها‬ ‫ولدي‪ ،‬كانا يبكيان‬
‫ّ‬ ‫هتدئة‬
‫عهدا أمامه بالتزام الصمت إىل حني إجراء‬
‫اإلمرباطور‪ ،‬قطعنا ً‬
‫املحاكمة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ومضت األيام‪ ،‬وقد وصل (بيسو) بالفعل إىل روما‪ ،‬كان قد‬
‫ِ‬
‫بالطريقة ذاهتا التي اقتادوا هبا زوجي يوم أخربوه كذ ًبا‬ ‫ُجلب‬
‫برضورة ترحيله ألجل حماكمته فكان مثواه األخري‪.‬‬
‫أمر اإلمرباطور بالبدء واملسارعة يف حماكمة (بيسو) وكان‬
‫داخله أال يكون موت (جريمانكوس) ً‬
‫ظلم حتى ال‬ ‫ِ‬ ‫يرجو يف‬
‫تطاله التهمة‪ ،‬كانت التهم املوجهة إىل (بيسو) كثري ًة أمهها التآمر‬
‫ُ‬
‫عىل القائد (جريمانكوس) وتدليس احلقيقة والتسبب يف ِ‬
‫قتله‪،‬‬
‫طالت أيام املحاكمة ونفى (بيسو) عن نفسه هتمة الكذب عىل‬
‫إرصارا عىل موته ميتة مفاجئة أثناء‬
‫ً‬ ‫(جريمانكوس) أو قتله وأرص‬
‫ٌ‬
‫ماكثة يف منزيل‪،‬‬ ‫كنت أسمع بأخبار املحاكمة وجمرياهتا وأنا‬
‫سفره‪ُ ،‬‬
‫يتناقل الناس أخبارها يل‪ ،‬وال أرجو منها نزاهة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شهود من (أنطاكيا)‬ ‫أخربوين أهنم أرسلوا يف طلب عرشة‬
‫ٍ‬
‫شهود منهم‬ ‫ليشهدوا يف الدعوى املقامة‪ ،‬وما أن رشع ثالثة‬
‫باإلدالء بام يربئ زوجي من التهم التي ألصقها (بيسو) به كاخليانة‬
‫والتخطيط لالنقالب عىل اإلمرباطور‪ ،‬حتى عرف اإلمرباطور‬
‫يف نفسه أن قراره يف قتل (جريمانكوس) جاء من وحي تدليس‬
‫ٍ‬
‫بحقيقة عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫(بيسو) ومل يكن‬

‫‪89‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل مفاجئ‪ ،‬لقد خيش أن‬ ‫أوقف اإلمرباطور املحاكمة‬
‫ُ‬
‫تكشف ّ‬
‫عم قد يدينه‪ ،‬كان‬ ‫خطرا عليه‪ ،‬وأهنا قد‬
‫ً‬ ‫يف استمرارها‬
‫يظن قبل إجراء املحاكمة أن (بيسو) عىل حقٍّ فيام كان خيربه به يف‬
‫أحس باخلوف‪،‬‬
‫ّ‬ ‫اخلطابات‪ ،‬وفور أن ظهر له ما ينفي ذلك حتى‬
‫ورأى أن استمرار الضغط عىل (بيسو) سيدفعه لكشف احلقيقة‬
‫ظلم والذي صدر عن اإلمرباطور‬ ‫كلها‪ ،‬بام يف ذلك أمر القتل ً‬
‫يشغله‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كالصاعقة عليه يوم أدرك املستور‪ ،‬وصار ما‬ ‫نفسه‪ ،‬كانت‬
‫ٍ‬
‫فضيحة حمتملة‪ ،‬كان أمره بإيقاف‬ ‫زها عن‬ ‫ِ‬
‫اسمه ُم ّن ً‬ ‫هو احلفاظ عىل‬
‫أنه أراد‬
‫ينصب ملصلحته‪ ،‬أوقفها بذريعة تأجيلها واحلق ُ‬
‫ُّ‬ ‫املحاكمة‬
‫أن يستدرك ما يمكنه استدراكه‪.‬‬

‫ٌ‬
‫خادمة يف القرص‬ ‫وبينام أنا يف حجريت ذات مساء‪ ،‬دخلت ع ّ‬
‫يل‬
‫أعرفها‪ ،‬اسمها (ترتايا) كانت عجوزً ا حدباء وقد أفنت عمرها‬
‫كثريا‬
‫وحتن ً‬
‫ّ‬ ‫يف خدمة البالط اإلمرباطوري‪ ،‬كانت يف مقام أمي‬
‫علينا‪ ،‬جاءت لتخربين أن (بيسو) قتل نفسه فجأة يف زنزانته‪،‬‬
‫وجدوه مي ًتا صباح اليوم‪ ،‬يقولون إنه قتل نفسه بعد أن عرف أن‬
‫حماكمته يف طريقها إلدانته‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫وبدأت ألعن روحه كلام َّ‬
‫تذك ْرت‬ ‫ُ‬ ‫أبدا‪،‬‬
‫مل أحزن عىل (بيسو) ً‬
‫أبدا وكذلك لعني لـ (بيسو)‪.‬‬
‫يغيب عن بايل ً‬
‫زوجي‪ ،‬وزوجي ال ُ‬
‫يبعث عىل‬
‫أمر ُ‬‫ولكن أن يقتل (بيسو) نفسه فجأ ًة أثناء حماكمته ٌ‬
‫الريبة وحيمل يف طياته أسئل ًة كثري ًة بال إجابة‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫‪10‬‬

‫أشعر باخلط ِر يدنو‬


‫ُ‬ ‫كنت‬ ‫ليل هبيم‪ ،‬وبينام ُّ‬
‫أغط يف نومي‪ُ ،‬‬ ‫ويف ٍ‬
‫فاستيقظت من الروع واهللع الذي‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بشدة‬ ‫مني‪ُ ،‬خلع باب حجريت‬
‫املنظر مألو ًفا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جنود اإلمرباطور‪ ،‬وقد بدا يل‬
‫ُ‬ ‫أصابني‪ ،‬دخل عيل‬
‫أعادوا يل الذكرى املريرة يف اقتحامهم القديم ملنزيل يوم أخذوا‬
‫زوجي مني وأبرحوين رض ًبا‪ ،‬ولكني هذه املرة أقوى واأليام‬
‫تع ّلمني‪.‬‬

‫كنت أسأهلم ماذا يريدون فقط‪ ،‬فطلبوا‬ ‫ٍ‬


‫مقاومة هلم‪ُ ،‬‬ ‫مل ِ‬
‫أبد أي‬
‫وقدمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يدي‬
‫مني الصمت وبدؤوا يف وضع األغالل عىل ّ‬
‫زهدت يف الدنيا كلها ومل‬
‫ُ‬ ‫واستجبت هلم‪ ،‬فلقد‬
‫ُ‬ ‫استسلمت هلم‬
‫ُ‬
‫أعد أبايل‪.‬‬
‫ْ‬

‫ربطوا خرق ًة عىل ّ‬


‫عيني وفمي وأحكموا إيثاقها ليمنعوين عن‬
‫ولست‬
‫ُ‬ ‫فغطوين‬ ‫ِ‬
‫الرؤية والكالم‪ ،‬ثم وضعوا خيش ًة عىل رأيس ّ‬
‫ظللت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حافية القدمني‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫طويل وأنا‬ ‫أرى بعدها‪ ،‬اقتادوين إىل ٍ‬
‫درب‬

‫‪93‬‬
‫ٍ‬
‫خطوة‬ ‫ُ‬
‫حاول يف كل‬ ‫ٍ‬
‫لساعات معهم واجلفاف يقتلني ُفأ‬ ‫أميش فيه‬
‫أتعرف عىل الطريق بإحسايس فلم أقدر‪ ،‬كان اخلوف يطغى‬
‫أن ّ‬
‫أحسست‬
‫ُ‬ ‫أسمع يف جويف نبضات قلبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وأكاد‬
‫ُ‬ ‫عىل شعوري‬
‫يصحبه‬
‫ُ‬ ‫باهلواء القوي خيرتق فتحات اخليشة وكأنه اهلواء الذي‬
‫وأشم رائحته‬
‫ُّ‬ ‫أشعر بعدها بالبحر‬
‫ُ‬ ‫وبدأت‬
‫ُ‬ ‫موج البحر معه‪،‬‬
‫ُ‬
‫أعرف إىل أين‬ ‫وأسمع صوت تالطم أمواجه عىل الشاطئ‪ ،‬ال‬
‫ُ‬
‫كنت أحاول صارخ ًة أن أسأهلم عن أوالدي‬
‫يأخذونني‪ ،‬ولكني ُ‬
‫وعن مصريي‪ ،‬فلم أستطع نط ًقا بلساين املعقود‪.‬‬
‫أسمعهم يتحدثون بعضهم إىل ٍ‬
‫بعض حول تقريب الزوارق‬
‫كنت‬
‫فعرفت أين يف طريقي لركوب البحر الترياين‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫إىل الشاطئ‪،‬‬
‫شدها باحلبال‪ ،‬بدؤوا‬
‫وصوت ّ‬
‫َ‬ ‫أسمع صوت الزوارق تقرتب م ّنا‬
‫ُ‬
‫وكنت معهم أنتظر حلظة ركويب‪ ،‬محلوين معهم دون أن‬
‫ُ‬ ‫يف ركوهبا‬
‫أشعر أنني فوق الزورق حلركة املياه حتتي وصوت‬
‫ُ‬ ‫وبدأت‬
‫ُ‬ ‫أرى‬
‫التجديف الذي أسمعه‪ ،‬مل خيربين أحدٌ إىل أين يأخذونني؟ وما‬
‫هو مصريي؟ وماذا سيحدث ألبنائي؟‬

‫**‬

‫‪94‬‬
‫كنت أخاف وأخشى ركوب‬
‫مريع‪ ،‬لطاملا ُ‬ ‫ٌ‬
‫رحلة قطعتها يف جو ٍ‬
‫البحر حتى يف أكثر أيامي سعادة‪ ،‬فكيف يب وأنا أركبه واخلوف‬
‫أشعر بأناميل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يملؤين وال‬

‫ُ‬
‫تسيل عىل وجهي‬ ‫أشعر سوى بالدموع‬
‫ْ‬ ‫يتحدث أحدٌ إ ّيل ومل‬
‫ْ‬ ‫مل‬
‫لفح أمالح البحر بام يسكن‬ ‫ُ‬
‫خيتلط ُ‬ ‫وتكتم أنفايس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وتبلل خيشتي‬
‫حس يف رأيس بالدوار والغثيان‬ ‫ُ‬
‫عىل شفاهي من أمالحِ دموعي‪ ،‬وأ ُّ‬
‫ال يفارقني‪.‬‬

‫مل يقدموا يل الطعام وال املاء رغم عطيش وجوعي‪ ،‬طوال‬


‫كنت جالس ًة بخشو ٍع مني وكأنني يف صاليت‪،‬‬
‫رحلة الظالم املريعة ُ‬
‫والصمت‬
‫ُ‬ ‫وضعوين يف آخر الزورق واجلنود عن يميني ويساري‪،‬‬
‫يسود رحلتنا‪.‬‬
‫ُ‬

‫وأرشت هلم بجسدي أن‬


‫ُ‬ ‫فأردت التقيؤ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫غالبني الدوار‬
‫ينزعوا عن وجهي غطائي‪ ،‬فأعانوين ٍ‬
‫بقوة عىل ذلك‪ ،‬نزعوه عني‬
‫وأرسعت نحو حافة الزورق ُألخرج‬
‫ُ‬ ‫وشعرت باهلواء جيتاحني‪،‬‬
‫ُ‬
‫زلت معصوبة العينني‪.‬‬
‫ما يف بطني‪ ،‬وما ُ‬

‫‪95‬‬
‫بدأت أبكي وأتأمل عىل حايل وأرجو منهم أن جييبوين فلم‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫ممسكا بذراعي فأعادين إىل مكان‬ ‫يتحدثوا إ ّيل‪ ،‬كان أحدهم‬
‫ِ‬
‫مستم َّر ًة أتأمل حايل‪ ،‬وال يشء يشغلني‬ ‫جلويس وأبقاين هناك‬
‫سوى أبنائي وبنايت‪.‬‬

‫**‬

‫انشغلت بنفيس‪ ،‬حتى‬


‫ُ‬ ‫أحسبه فقد‬
‫ُ‬ ‫ولست‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫طويل قطعناه‬ ‫وقت‬
‫ٌ‬
‫ظهرا أحد اجلنود يف الزورق الذي يتقدمنا يرصخ قائ ً‬
‫ال‪:‬‬ ‫سمعت ً‬
‫ُ‬
‫‪-‬وصلنا إىل (بانداتاريا)‪.‬‬
‫فبدأت أسأل نفيس‪َ :‬مل جلبوين إىل جزيرة (بانداتاريا)؟ َمل‬
‫ُ‬
‫منفى‬
‫أرسلوين إىل اجلزيرة ذاهتا التي اختذها األباطرة عرب الزمن ً‬
‫ذنب فعلته ُألمحل يف البحر إليها؟‬
‫للمجرمني‪ ،‬وأي ٍ‬
‫جيرون زورقنا‬
‫شعرت هبم ّ‬
‫ُ‬ ‫أوقفوا الزوارق عند حافة اجلزيرة‪،‬‬
‫باحلبال ليستوي عىل الشاطئ‪ ،‬وهناك عرضوا ع ّ‬
‫يل إعانتهم يل عىل‬
‫حتركي‬
‫تعيق ّ‬
‫النهوض وامليش معهم بسالسة‪ ،‬ما زالت أغاليل ُ‬
‫فيحملونني من فوق الزورق إىل أرض اجلزيرة املوحشة‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫بدأ بعض اجلنود بركوب زوارقهم فور وصولنا ورشعوا‬
‫زلت ال أرى شي ًئا‬
‫للعودة إىل روما بعد أن و ّدعوا رفاقهم‪ ،‬وما ُ‬
‫خلف عصبتي‪ ،‬ويداي وقدماي مو َثقة بالسالسل واألغالل‪.‬‬

‫مل يبقَ معي يف اجلزيرة سوى ستة جنود‪ ،‬أزاحوا عن عيني‬


‫ٍ‬
‫بشدة ومل أكن أرى شي ًئا‪ ،‬حاولت أن‬ ‫ِ‬
‫اخلرقة فدامهتني الشمس‬
‫ٍ‬
‫استحياء ألمهد هلام استقبال نور الشمس بعد‬ ‫عيني عىل‬ ‫أفتح‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫طويل من الظالم احلالك الذي كان يسكنها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وقت‬
‫وقف أعىل اجلنود رتب ًة بينهم‪ ،‬وصدح فيهم قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫ٍ‬
‫وبتأييد من جملس الشيوخ‬ ‫‪-‬بأم ِر اإلمرباطور (طايبريوس)‬
‫عىل ما رفعه اإلمرباطور هلم‪ ،‬وبعد ما توافدت وتوافرت‬
‫حتيكه (أغريبينا) ٌّ‬
‫وكل من‬ ‫ُ‬ ‫والشهود عىل ما كانت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الدالئل‬
‫ٍ‬
‫وإثارة للفتنة‬ ‫ٍ‬
‫تأليب للناس‬ ‫أبنائها (دروسوس) و(نريو) من‬
‫يشق‬ ‫ٍ‬
‫وحماوالت لإلطاحة برجاالت الدولة والتخطيط ملا ّ‬
‫ّ‬
‫وخيل بأمنها‪ ،‬فقد‬ ‫الصفوف وهيدم استقرار اإلمرباطورية‬
‫عقوبات ما بني نفيٍ وإيدا ٍع يف السجن‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫صدرت بحقهم‬

‫‪97‬‬
‫بابني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وعرفت أن األذى قد حلق‬
‫ُ‬ ‫قتلني ما بلغ مسامعي‪،‬‬
‫أحدا‬
‫جثوت عىل األرض أبكي أمامهم وأسأهلم أال يؤذوا ً‬
‫ُ‬
‫منهام‪.‬‬

‫سحبني اثنان من اجلنود وجراين ومل أستطع امليش فقد أرهقتني‬


‫أغاليل‪ ،‬بدأت قدماي بالنزيف ورمل الشاطئ املبلل يلتصق هبام‬
‫وأنا ُأ ْسحل بني اجلنديني حتى رمياين يف منتصف اجلزيرة‬

‫أدركت‬
‫ُ‬ ‫ولدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫عدت أرجوهم وأطلب منهم أال يطال األذى‬
‫ُ‬
‫يف جويف أن اإلمرباطور (طايبريوس) قد فعل كل هذا ليحمي‬
‫ٍ‬
‫فضيحة قد شارفت عىل الظهور‪ ،‬فضيحة‬ ‫نفسه‪ ،‬ويغسل عاره من‬
‫قتله ً‬
‫ظلم لـ (جريمانكوس)‬

‫ٍ‬
‫بعجالة منه حتى ال‬ ‫أراد أن يقيض عىل كافة أطراف القضية‬
‫وعرفت حينها أن (بيسو) مل يقتل نفسه وإنام‬
‫ُ‬ ‫تنكشف خباياها‪،‬‬
‫عمدا‪ ،‬وأنني ٌ‬
‫بريئة مما حاكه اإلمرباطور ضدي من اإلفك‬ ‫ُقتل ً‬
‫والبهتان‪ ،‬واستطاع بنفوذه أن يعتمد قراره الظامل اجلائر من جملس‬

‫‪98‬‬
‫الشيوخ‪ ،‬أراد أن ُيبادر بالتخلص ممن يعرفون احلقيقة قبل أن‬
‫تترسب احلقيقة إىل الناس‪.‬‬

‫**‬

‫هل بلغك اليأس ومتلكك القهر والغبن والذل إىل احلد الذي‬
‫كنت تظن فيه أنك لن تصمد؟ هل باغتك اجلوع والعطش‬
‫آمنت فيه بدنو أجلك؟‬
‫والوحدة واخلوف إىل احلد الذي َ‬
‫أشعر به اآلن‪ ،‬أقيض يومي اخلامس يف منفاي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هذا ما‬
‫واألغالل تلتف حول جسدي يف هذا املكان املوحش وحدي‪،‬‬
‫رحل نصف اجلنود ومل يبقَ برفقتي سوى ثال َث ٍة منهم كالوحوش‪،‬‬
‫كانوا يسخرون مني و ُيكثرون من اإلهانات ع ّ‬
‫يل‪ ،‬ورغم ما أبديته‬
‫أمتص املاء من الرمل‬
‫كنت ُ‬ ‫ٍ‬
‫وعطش مل يكونوا ليطعموين‪ُ ،‬‬ ‫من جو ٍع‬
‫املبلل ُّ‬
‫فيبتل ريقي‪.‬‬

‫يسكنني اخلوف والذعر يف هذه اجلزيرة لي ً‬


‫ال‪ ،‬تقتلني الوحشة‬
‫واألفكار أثقل مني وال طاقة يل بحملها‪ ،‬كانوا يأكلون أمامي‬

‫‪99‬‬
‫أبدا‪ ،‬تر ّدت صحتي وساء‬
‫ويشوون السمك ومل يقدموا يل األكل ً‬
‫وضعف بدين حتى جت ّلت عظامي وبدأ وجهي اهلزيل‬
‫ُ‬ ‫حايل‬
‫بالضمور‪.‬‬

‫أشعر بالتيه فال‬


‫ُ‬ ‫وامحرت عيناي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫بكيت حتى نضبت دموعي‬
‫ُ‬
‫أعرف عن مصريي وال مصري أوالدي وال أعرف ماذا ينتظرين‪،‬‬
‫ٍ‬
‫جزيرة ختلو من الناس‪ ،‬وليس حويل ليحرسني سوى‬ ‫رموين يف‬
‫ٍ‬
‫جنود مل َأر أقسى من قلوهبم يف حيايت‪.‬‬

‫وضعوين بعد ارتفاع بكائي فيام يشبه احلجرة الصغرية وسط‬


‫اجلزيرة‪ ،‬كانت مبني ًة من األخشاب‪ ،‬وأظنها سج ًنا للمنفيني وال‬
‫برمتها‪ ،‬مل‬ ‫ُ‬
‫أعرف الفرق بينها وبني اجلزيرة التي كانت سج ًنا ّ‬
‫يزحيوا عني أغاليل حتى عند ذهايب لقضاء حاجتي‪ ،‬مل يكن النوم‬
‫أبدا يف هذه احلجرة‪ ،‬بلغ يب العطش إىل ٍ‬
‫حال مؤمل ٍ عندما‬ ‫يزورين ً‬
‫ِ‬
‫رشب دموعي‪ ،‬كل األشياء تكالبت حويل حتى بدأ‬ ‫رشعت يف‬
‫ُ‬
‫الوهم يغزوين‪ ،‬وأرى الدنيا من حويل كالرساب‪ ،‬مل يسبق يل أن‬
‫باليا هزي ً‬
‫ال‬ ‫ٍ‬
‫وعطش إىل هذا احلد‪ ،‬كان جسدي ً‬ ‫تعرضت جلو ٍع‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫انعكاس أغاليل‪.‬‬ ‫رأيته يف‬
‫شاحبا كام ُ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫أزرق‬ ‫ونحي ً‬
‫ال ووجهي‬

‫‪100‬‬
‫أرصخ وأئن من اجلوع واألمل يف أسبوعي الثاين طالبة‬‫ُ‬ ‫بدأت‬
‫ُ‬
‫أي منهم‪ ،‬تركوين وسط هذه احلجرة‬ ‫من اجلنود نجديت‪ ،‬ومل يأتِني ٌّ‬
‫مو َثقة اليدين والرجلني وال أقوى عىل التحرك أو اخلروج منها‬
‫زلت‬
‫بالغم فوق صدري كاجلبال‪ ،‬وما ُ‬
‫ّ‬ ‫أشعر‬
‫ُ‬ ‫لضعف جسدي‪،‬‬
‫معلق بأوالدي يف روما‪ ،‬أخشى أن يكون‬
‫ٌ‬ ‫أجهل مصريي وقلبي‬
‫ٍ‬
‫حاجة يل‪.‬‬ ‫أحدهم يف‬

‫وأفيق وأنا عىل‬


‫ُ‬ ‫أخذت نوبات التعب جتتاحني‪ ،‬فيغمى ع ّ‬
‫يل‬
‫حايل‪ ،‬أمست ثيايب رث ًة متسخ ًة فاملرض أعياين ومل أعد أقدر عىل‬
‫فرصت أقضيها يف ثيايب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الذهاب إىل اخلالء لقضاء حاجتي‬
‫ٍ‬
‫غفوة طويلة وأفيق منها وأجد التعب قد‬ ‫ٍ‬
‫جديد يف‬ ‫ُ‬
‫أدخل من‬
‫زلت‬
‫أحكم من القضاء عىل جسدي‪ ،‬مل أبرح مكاين منذ أيام‪ ،‬ما ُ‬
‫كام تركوين يف جلسة القرفصاء‪.‬‬

‫الغم قاتل‪ ،‬الظلم قاتل‪ ،‬الوحدة‬


‫اجلوع قاتل‪ ،‬العطش قاتل‪ّ ،‬‬
‫قاتلة‪ ،‬فراق األبناء قاتل‪ ،‬كل األشياء القاتلة تكالبت ع ّ‬
‫يل مر ًة‬
‫واحدة‪ ،‬وأظنها ستقتلني‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫عيني‪،‬‬
‫أشعر بجسدي يف اليوم التايل‪ ،‬ومل أستطع أن أفتح ّ‬
‫ُ‬ ‫مل أعد‬
‫ٍ‬
‫مشدوه وفمٍ مفتوحٍ‬ ‫ٍ‬
‫بوجه‬ ‫ِ‬
‫كاجلثة‬ ‫رصت‬
‫ُ‬ ‫تفاقمت حالتي حتى‬
‫مهسا يف اجلزيرة كلها‪ ،‬وبينام أوشكت‬
‫يكسوه اجلفاف‪ ،‬ال أسمع ً‬
‫جاهدت عيني ألرى من‬
‫ُ‬ ‫عيني حتى ُفتح الباب ً‬
‫أخريا‪،‬‬ ‫أن أغمض ّ‬
‫فز له قلبي‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت ّ‬ ‫ٍ‬
‫برجل يقول يل‬ ‫الذي دخل ع ّ‬
‫يل‪ ،‬فإذا‬

‫‪-‬يا كبري َة الورد‬


‫ِ‬
‫بابتسامته التي أعرفها‬ ‫لقد كان (جريمانكوس)‪ ..‬دخل عيل‬
‫وبلباس احلرب‪ ،‬ويرتدي فوقه الوشاح األزرق الذي أهديته‬
‫عيني ألحاول رؤيته من بني‬ ‫إياه يف أول ٍ‬
‫فتحت إحدى َّ‬
‫ُ‬ ‫لقاء لنا‪،‬‬
‫الدموع فلم أستطع ذلك‪ ،‬كان جسدي مشلو ً‬
‫ال بالكامل وال أقدر‬
‫حتى عىل حتريك لساين ألنطق اسمه رغم حماولتي‪.‬‬

‫وبدأت أشعر به‬


‫ُ‬ ‫تقدم (جريمانكوس) نحوي‪ ،‬ثم دنا إ ّيل‬
‫وهو ينزع قيودي عني‪ ،‬ثم خلع وشاحه األزرق ولفني به‬
‫كنت متعب ًة إىل احلد الذي أهنكني ومنعني‬
‫ومحلني بني ذراعيه‪ُ ،‬‬
‫أخريا باحلب من جديد‪ ،‬خرج‬
‫ً‬ ‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫عن احلركة أو الكالم‪،‬‬
‫(جريمانكوس) وأنا بني ذراعيه من احلجرة‪ ،‬ومل تكن اجلزيرة‬

‫‪102‬‬
‫تغيت بالكامل‪ ،‬كان النور يسكن‬
‫كام كانت عند محيل إليها‪ ،‬لقد ّ‬
‫أرجاء املكان‪ ،‬وصارت اجلزيرة كالبستان الفسيح امليلء بالورود‬
‫واألزهار الذي رأيته يف حلمي القديم‪ ،‬حلمي الذي مل يلتفت يل‬
‫وتبسم‬ ‫ِ‬
‫النقيض متا ًما‪ ،‬جاء إ ّيل ّ‬ ‫فيه (جريمانكوس) ولكنه اآلن عىل‬
‫ٍ‬
‫حياة أفضل‪،‬‬ ‫يل وحررين من قيودي وأغاليل‪ ،‬ومحلني معه إىل‬
‫وتركت لكم الدنيا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فرحلت معه‪..‬‬
‫ُ‬

‫‪103‬‬

You might also like