You are on page 1of 610

1

2
3
4
‫جروب حلم_هن‬
‫ولنا مع الحرف حلم‬

‫لالنضمام للحلم‬

https://www.facebook.com/groups/7elmhon/?ref=share

5
‫إهداء‬

‫إلى هؤالء األشخاص اللذين تتقاطع طرقهم معنا‪ ،‬فيحدث‬

‫لقاء تكون نهايته… حياة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫البداية‬

‫بعض األشخاص يتحملون قضاء حياتهم شاعرين بظلم‪،‬‬


‫ً‬
‫محاطون بمن يلقون عليهم التهم جز افا‪ ،‬اتهام بالتقصير‪،‬‬

‫وآخرباإلهمال‪ ،‬وجميعها من املمكن التغاض ي عنها لكي تسير‬

‫مركب الحياة‪.‬‬

‫يتحلون بالصبر‪ ،‬ولديهم قدرة فائقة على التحمل‪ ،‬حتى تأتي‬

‫القشة التي تقسم ظهرالبعير‪.‬‬

‫هي تحملت من أجل أبنائها‪ ،‬وها هي قد ُحرمت منهم‪ ،‬تجوب‬

‫الشوارع وتهيم بالطرقات‪ ،‬تتذكرإهانته لها واتهامها بخيانته‪.‬‬


‫حاولت أن تبرر‪ ،‬أن تثبت براءتها‪ ،‬ولكنه َّ‬
‫صم أذنيه‪ ،‬رفض‬

‫‪7‬‬
‫أن يستمع إليها‪ ،‬طردها وأغلق بابه بوجهها‪ ،‬لم يرحم‬

‫توسالت أم ينفطرقلبها من أجل أوالدها‪.‬‬

‫جلست على أريكة خشبية بجانب الطريق‪ ،‬يتخلل الحزن‬

‫فؤادها‪ .‬نبذها شقيقها الوحيد بعد معرفة اتهام زوجها لها‪،‬‬

‫أصبحت بال مأوى‪ ،‬بال عائلة‪ ،‬بال أطفالها‪.‬‬

‫أجهشت بالبكاء‪ ،‬ولم يكن بيدها سوى الدعاء‪ ،‬فتوجهت إلى‬

‫ربها تبث إليه شكواها‪ ،‬وتدعوه أن ينصرها ويجيرها‪.‬‬

‫**********‬

‫الفراق‪..‬‬

‫شعور ما أقساه على املحبين!‬

‫‪8‬‬
‫لن يتحمل عاشق فراق محبوبه‪ ،‬بل يشعرأن ال قيمة‬

‫للحياة بدونه‪ .‬رحلت عنه‪ ،‬تركت دنياه‪ ،‬من حارب ألجل‬

‫الزواج بها‪ ،‬تحدى عائلته‪ ،‬وتعهد لخاصتها أن يرعاها‪.‬‬

‫داهمها املرض‪ ،‬خطفها من بين أحضانه بين ليلة وضحاها‪.‬‬


‫ً‬
‫وحيدا في ظالم الغرفة‪ ،‬يحمل صورتها بين يديه‪ُ ،‬يرثي‬ ‫جلس‬

‫نبض الفؤاد‪ .‬قاطعه دخول طفالن صغيران‪ ،‬جلسا بجانبه‪،‬‬

‫ملح بعينيهما احتياجهما له‪ ،‬احتضنهما يبث الطمأنينة‬

‫بقلبيهما‪ ،‬يتعهد أن يرعاهما كما وعد زوجته وهي على فراش‬

‫املوت‪.‬‬

‫***********‬

‫‪9‬‬
‫حين تضيق بنا الطرق‪ ،‬ويشتد علينا الخناق‪ ،‬ال نجد مفر‬

‫سوى الهرب وعدم النظرإلى الوراء‪ .‬نترك املاض ي بما يحمله‬

‫من أوجاع‪ ،‬نحاول أن نحيا الحاضر‪ ،‬ونمهد طريق ملستقبل‬

‫ال تدنسه شوائب املاض ي‪.‬‬


‫أخذ زوجته و ابنته وترك البالد‪َّ ،‬‬
‫ودع أحبائه؛ فال أمل له في‬

‫لقاء آخر‪ .‬لن ينظرإلى الوراء‪ ،‬سيحارب من أجل املستقبل‪،‬‬


‫ُ‬
‫واأليام كفيلة أن تمحو تهم املاض ي‪.‬‬

‫*********‬

‫ميالد جديد يعني بداية حياة‪ ،‬حياة مليئة بالبهجة‬

‫ألشخاص‪ ،‬وبالتعاسة آلخرين‪ ،‬طفلة جديدة تزيد سعادة‬

‫‪10‬‬
‫عائلتها‪ ،‬وبمرورالوقت أصبحت مصدرضيق شقيقتها‪،‬‬

‫شجارعلى دمية‪ ،‬وآخرعلى ملبس‪ ،‬وآخروآخر‪ .‬تتوالى‬

‫الشجارات وال تتغيرطبيعتها‪ ،‬اعتادت أخذ ما أرادت حتى وإن‬

‫كان ال يخصها‪ ،‬وما أحلى ما كان يخص شقيقتها!‬

‫*********‬

‫‪11‬‬
‫)‪(1‬‬

‫املاض ي‪..‬‬

‫الحاضر‪..‬‬

‫املستقبل‪،‬‬

‫عجلة الزمن التي تدور بنا‪ ،‬بذور املاض ي التي نجنيها‬

‫بمستقبلنا‪ ،‬ونظل حاضرنا ننتظرثمارها‪.‬‬

‫الحياة شجرة جذورها املاض ي الذي يترك أثره على كل ما‬


‫يحيطنا‪ ،‬أفرعها هي الحاضرالذي َّ‬
‫تشرب من املاض ي‪،‬‬

‫وثمارها هي املستقبل‪ ،‬فبدون املاض ي ملا ُوجدت الحياة‪.‬‬

‫**********‬

‫‪12‬‬
‫الحياة ليست وردية‪ ،‬ليست منصفة‪ ،‬لن تأخذ منها كل ما‬

‫تريد؛ فحين تشعرأنك على أعتاب السعادة‪ ،‬ويفصل بينك‬

‫وبين حلمك الوردي خطوة واحدة‪ ،‬تغلق الحياة أبوابها‬


‫بوجهك‪ ،‬تنقلب حياتك ر ً‬
‫أسا على عقب‪.‬‬

‫رتب حياتك‪ ،‬ضع الخطط كما تريد‪ ،‬احلم كما شئت‪ ،‬ولكن‬
‫ضع ً‬
‫دائما في الحسبان أن القدرله ترتيبات أخرى‪.‬‬

‫وهي فتاة وردية‪ ،‬عاشت الحلم‪ ،‬تمنت السعادة وحصلت‬


‫ُ‬
‫عليها‪ ،‬ولكنها نزعت فجأة من بين يديها‪ .‬أعدت عش‬

‫الزوجية‪ ،‬وضعت به ملساتها‪ ،‬تظهرالسعادة جلية بعينيها‪،‬‬

‫يشاركها زوجها املستقبلي والحب يتضح بمقلتيه‪ ،‬وعندما‬

‫كانا على وشك تحقيق الحلم‪ ،‬انهاركل ش يء‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫َّ‬
‫حادث سيارة حطم األحالم؛ فبينما كانت تجلس برفقته‬

‫بسيارته‪ ،‬عائدان من إحدى نزهاتهما‪ ،‬أتت أخرى بالطريق‬

‫املخالف لتصدم سيارتهما‪ ،‬لتتدحرج عدة مرات وينتهي بها‬

‫املطاف على جانب الطريق؛ مدهوسة وغيرواضحة املعالم‪.‬‬

‫انفصال عن العالم‪ ،‬لم يشعرا سوى باأللم‪ ،‬التفتت إلى من‬

‫يجلس بمقعد السائق لتراه مغمض العينين‪ ،‬وجهه مضرج‬

‫بالدماء‪ ،‬وكان هذا آخرما تتذكره قبل أن يسحبها عقلها إلى‬


‫الال وعي‪ ،‬ر ً‬
‫احما إياها من شعورها باأللم‪.‬‬

‫اليوم قد مرعام كامل على هذه الذكرى‪ ،‬تجلس بفراشها‬

‫تحمل كتاب بيدها‪ .‬لم تكن تتصفحه‪ ،‬بل كانت تطالع صورة‬

‫من رحل عن عاملها يوم الحادث‪ ،‬حين استعادت وعيها لتجد‬

‫‪14‬‬
‫نفسها طريحة فراش املشفى‪ ،‬تساءلت عنه‪ ،‬ولم تحصل‬

‫على جواب‪ ،‬فقط نظرات حزن ودموع لم تستطع أن تظل‬

‫حبيسة األعين‪ .‬وصل املشفى بعد أن فارق الحياة‪ ،‬وهي‬

‫كانت إصابة قدمها خطيرة‪ ،‬ولكن األطباء استطاعوا إنقاذ‬

‫حياتها‪ .‬تمنت لو انتهت حياتها معه‪ ،‬لكن الحياة ال تعطينا‬


‫ً‬
‫دائما ما نريد‪.‬‬

‫انتشلها من أشباح ذكرياتها صوت طرقات الباب‪ ،‬دعت‬

‫صاحبها للدخول وأغلقت الكتاب بيدها محتضنة إياه‪.‬‬

‫طالعها وجه شقيقها واالبتسامة تزين محياه فاغتصبت‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫جالسا جوارها مقبال رأسها‪:‬‬ ‫واحدة تبادله إياها‪ ،‬اقترب‬

‫‪ -‬صباح الخيرعلى القمر‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫يعلم حزنها‪ ،‬ما يدور بداخلها‪ ،‬يتمنى لو يمحيه‪ ،‬يقتله‪،‬‬

‫يدحره‪ ،‬بل يتمنى العودة بالزمن عند لحظة كانت فيها‬

‫النهاية‪ ،‬لكن ال يستطيع‪.‬‬


‫ً‬ ‫ُ‬
‫وهي أرادت أن تشعره أنها بخيرحتى لو كذبا‪ ،‬رغم الصمت‪..‬‬

‫السكون‪ ،‬رغم قلبها املنهك بسطور حكاية انكسرت قبل‬

‫البداية‪ .‬هزت رأسها‪ ،‬خصالتها تموج حول مالمحها‪ ،‬تمسك‬

‫أنامله تحتويها قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬مفيش قمربيطلع الصبح‪.‬‬

‫علم ما تريد‪ ،‬فرأى أنه ال مانع من مجاراتها به‪ ،‬يخبرها‬

‫ببساطة‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫‪ -‬أنا قمري بيطلع الصبح‪ ،‬ملكيش فيه‪.‬‬

‫وهي تتمنى أن يختفي القمر‪ ،‬أن يبقى في طور محاق‪ ،‬هي ربما‬

‫تريد املوت‪.‬‬

‫طريقته في الحديث جعلتها تغتصب ابتسامة باهتة على‬

‫شفتيها كحال روحها املغلغلة بالفقد‪ ،‬روحها الثقيلة‬

‫فسقطت‪ ،‬وخفيفة فلم تقاوم حزن يتسرب لها‪ ،‬وجع‬

‫ينهشها‪ ،‬ألم عشق يدميها بال روح‪ .‬تخبره بنبرة جاهدت‬

‫الثبات‪ ،‬جاهدت الفرحة وإن لم تملك منها مثقال ذرة‪:‬‬

‫‪ -‬ماش ي يا متر‪ ،‬عارفة مش هخلص معاك‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫داخله قطرات من األلم عليها‪ ،‬قطرات تنهال على قلبه‬

‫العاجزعن تقديم عون‪ ،‬يود لو ينتشلها من قاع حياة‬

‫ضجت بالتعثر‪ ،‬حياة خطفت فرحتها وتركتها بال روح‪.‬‬

‫مسح وجهه يستحضرابتسامة‪ ،‬يمد يده يمسكها‪ ،‬يحاول‬

‫جذبها من ذراعها يحثها على النهوض بطريقة حنونة‪:‬‬

‫‪ -‬طب كويس إنك عارفة‪ ،‬يال قومي عشان نفطر‪.‬‬

‫حاولت أن ترهف السمع خارج غرفتها‪ ،‬تتساءل بأعين‬

‫غائمة‪:‬‬

‫‪ -‬بابا وكرم صحيو؟‬

‫‪18‬‬
‫يجيبها وهو يرفع كتفه لألعلى‪ ،‬يضع يده في جيبه وهو يبتعد‬
‫ً‬
‫عنها قليال‪:‬‬

‫‪ -‬بابا نزل من شويه وكرم بيجهز‪ ،‬يال قومي بالش كسل‪.‬‬

‫أنهى (أدهم) جملته وتوجه خارج الغرفة بخطوات هادئة‪،‬‬

‫خطوات تحمل في كل مسافة وجع لها‪ .‬خرج وخلفه مالمح‬

‫تالشت منها االبتسامة وبهتت بها الحياة‪ ،‬ترك خلفه أنثى‬

‫تتلعثم في السير‪ ،‬خطوات خارج قوقعة زمن ُسجنت بها‬

‫وسقطت فيها‪.‬‬

‫ذهب هو وحاولت (ريم) مغادرة فراشها‪ ،‬لتخطو خطوتين ثم‬

‫تتوقف‪ ،‬تنظربأعين جامدة إلى قدمها اليمنى‪ ،‬ال حياة فيها‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫فارغة سوى من هذا األلم واالنهاك املحتل لها وكأنه صاحب‬

‫املكان‪ ،‬بل هو عدو مع أسلحته القاسية‪ ،‬وأسلحته كانت‬

‫لحظة موت‪.‬‬

‫تزفروهي تلمس صدرها ووجعه واختناقه‪ ،‬تهبط بيدها عند‬

‫قدمها‪ ،‬تتلمس ذلك العرج الذي بات يالزمها منذ ذلك‬

‫الحادث اللعين الذي تتو افق ذكراه األولى اليوم‪.‬‬

‫ومع كل ذكرى يتجدد األلم‪ ،‬وكأنه كان منذ دقائق‪ ،‬وكأن‬

‫العالم اختزل نفسه داخل روحها‪ ،‬داخل سيارة سقطت‬

‫وسقطت معها‪ ،‬فال مات الجسد‪ ،‬وال بقيت الروح‪.‬‬

‫***********‬

‫‪20‬‬
‫النهاية‪..‬‬

‫ألم‪..‬‬

‫لوم‪..‬‬

‫نسيان‪..‬‬

‫هجر‪..‬‬

‫يأس‪..‬‬

‫تنهيدة‪..‬‬

‫النهاية؛ كلمة حملت داخلها ضجيج‪ ،‬معزوفة لوجع لم يبتر‬

‫بعد‪ ،‬كلمة ذكرتها لنفسها منذ زمن‪ ،‬لحظة ظنت حينها أن‬

‫الحياة ستتوقف‪ ،‬عندما ظنت أنها تموت‪ ..‬تنتهي‪ ..‬تتالش ى‪،‬‬

‫‪21‬‬
‫لكنها لم تكن تدرك أنها ليست سوى البداية‪ ،‬بداية بدون‬

‫أحداث املاض ي‪ ،‬واألصعب أنها بدون أشخاص ملكوا القلب‬


‫ً‬
‫يوما‪.‬‬
‫ُ‬
‫ما أصعب أن تجبرأن تواري بعض الحقائق‪ ،‬تدفنها‪ ..‬تقتلها‬

‫بدم بارد‪ ،‬تخفيها عن من تحب ألنها ستسبب لهم ألم‪،‬‬

‫تتحمل وجعك داخلك دون أن تجرؤ على الصراخ بينما هو‬

‫قاع عفن ‪ ..‬موحل‪..‬‬


‫بقاع ضحل‪ٍ ،‬‬
‫يزأر‪ ،‬ينهشك‪ ..‬يرديك ٍ‬
‫تنتهي به‪ ،‬ترى التساؤل بأعينهم دون أن تمتلك رد‪.‬‬

‫كانت ترى الحيرة بعين ابنتها منذ صغرها‪ ،‬حتى صرحت بما‬

‫تريد معرفته‪ ،‬أضحت تتساءل عن عائلتها‪ ،‬عن والدها الذي‬

‫انفصل عن والدتها منذ صغرها‪ ،‬بل قبل مولدها‪ ،‬ال تعلم‬

‫‪22‬‬
‫عنه ش يء سوى اسمه املالزم السمها بشهادة ميالدها‪،‬‬

‫وعندما لم تجبها بما يروي فضولها‪ ،‬وجدتها تفند الو اقع‬

‫وترسم بمخيلتها سيناريو س يء‪ ،‬وهي ال تمتلك حق الدفاع‪،‬‬

‫ألنها ليس لديها دليل‪ ،‬ليس لديها سوى ذكرى سقوط‬

‫وبعض الخيبات‪ ،‬ال تملك سوى جحيم تخش ى عليها منه‪.‬‬

‫انتبهت لعودة ابنتها من الخارج‪ ،‬تلقي السالم بفتور‪ ،‬ال تهتم‬


‫ً‬
‫مؤخرا‪ ،‬وتتعمد عدم‬ ‫أن تبادلها الرد‪ ،‬تعاملها بجفاء‬

‫الحديث معها وتجاهلها‪ ،‬أوقفتها تسأل عن نهاية للوضع‬

‫الحالي‪:‬‬

‫‪ -‬هتفضلي كده كتيريا بيان؟‬

‫‪23‬‬
‫تنهدت بتعب‪ ،‬ظنت أنها بمقاطعة والدتها ستضعف وتخبرها‬

‫ما تريد‪ ،‬لكنها كانت مخطئة‪ ،‬فحديثها لم يتغير‪ ،‬اقتربت منها‬

‫تتحداها بنظراتها‪:‬‬

‫‪ -‬في ايدك منفضلش كده‪.‬‬

‫تتألم‪ ،‬وأسوارها تتشقق‪ ،‬تحاول أن تتحلى بالهدوء وال‬

‫تصرخ بوجهها‪ ،‬أن ترتدي رداء العزم للنهاية‪ ،‬أن تحتفظ‬

‫بالجحيم تتلظى بناره وحدها‪:‬‬

‫إنت اللي تاعبة نفسك‪.‬‬


‫‪ِ -‬‬

‫‪24‬‬
‫تشنج جسدها‪ ،‬جحظت عيناها‪ ،‬تتأملها ووجعها يزداد‪،‬‬

‫تجاهد أن تتحكم بنفسها‪ ،‬تصارع انشقاق قلبها‪ ،‬تموت هي‬

‫األخرى‪:‬‬

‫‪ -‬تاعبة نفس ي عشان عايزة أعرف مكان أبويا! عشان‬

‫عايزة أعرف مين أهلي!‬

‫ثورتها تخرج بصراخ يؤملها هي قبل ابنتها‪ ،‬يقتل روحها‪ ،‬هي‬

‫تنتهي‪:‬‬

‫أبوك معرفش عنه حاجة من‬


‫‪ -‬قلت لك أنا مليش أهل‪ ،‬و ِ‬
‫وقت ما طلقني‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ضحكت بهستيريا‪ ،‬تدور حول نفسها بالغرفة‪ ،‬تلقي لها نظرة‬

‫تهكم‪ ،‬يتهدل كتفاها ومالمحها منهكة‪ ،‬أردفت بصراخ‪:‬‬

‫‪ -‬ودا كالم يصدقه حد عاقل! أبويا يطلقك ويرمي بنته‬

‫أكترمن عشرين سنة من غيرما يسأل عنها! معقول‬

‫مليش عم‪ ..‬خال‪ ..‬جد‪ ..‬جدة‪ ..‬أي حد!‬

‫ابنتها تؤملها‪ ،‬تجدد جراحها بل وتزيدها‪ ،‬ال تستطيع اخبارها‬


‫ً‬
‫أن والدها ال يعلم شيئا عن وجودها بالحياة‪ ،‬فهي إن علمت‬

‫ذلك تكون قد فتحت دفاتراملاض ي املطوية‪ ،‬وهي ليست‬

‫مستعدة لذلك بعد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫اكتفت بذلك القدرمن النقاش لذلك اليوم‪ ،‬ال يوجد لديها‬

‫املزيد لتخبرها به‪ ،‬قررت االنسحاب إلى غرفتها‪ ،‬ولكن جملة‬

‫ابنتها أوقفتها‪ ،‬جملة غرزت داخلها سكين حاد‪ ،‬يفتح جرح‬

‫تختف ندوبه بعد‪.‬‬


‫ِ‬ ‫لم‬

‫‪ -‬سكوتك دا بيأكدلي شكوكي‪ ،‬كل اللي بييجي في دماغي إني‬

‫جيت للحياة نتيجة غلطة‪.‬‬

‫تصمت ويحتل عينيها جنون‪ ،‬انفعالها يفور بأوردتها‪ ،‬قلبها‬

‫يعاند ما تريد التصريح به‪ ،‬والشيطان يتسلل وينجح‪:‬‬

‫‪ -‬غلطة لبستيها للشخص اللي أنا مكتوبة على اسمه‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫جملة كانت كالسهم املسموم توجهت إلى قلبها‪ ،‬فلم تشعر‬

‫بنفسها وهي ترفع يدها لتدوي الصفعة على وجنة ابنتها‪.‬‬

‫والصفعة كانت لروحها قبلها‪ ،‬الصفعة ربما بداية سعير‬

‫قادم‪.‬‬

‫**********‬
‫ُ‬
‫هناك أشياء ال تمحى من الذاكرة رغم مرورالزمن‪ ،‬نعتقد‬
‫أنها قد حدثت باألمس القريب‪ ،‬تظل ً‬
‫دائما وصمة عار‪ ،‬حتى‬

‫وإن ظهرت البراءة‪.‬‬

‫األستاذ (يحيى كمال منصور) املحاسب النزيه‪ ،‬الرجل‬


‫ُ‬
‫الوقور ورغم ذلك طعن في شرفه املنهي‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫اتهام باختالس مبلغ كبيرمن خزينة الشركة التي يعمل بها‪،‬‬

‫وتحقيقات استمرت لشهور حتى استطاع تبرئة نفسه‪ ،‬ولكن‬

‫كانت الصدمة‪ ..‬كان الوجع‪ ،‬كانت النهاية حين اكتشف أن‬

‫املختلس الحقيقي لم يكن سوى صديق عمره‪ ،‬صديقه‬

‫يبال أن يكون‬
‫الذي رتب كل ش يء لكي يبعد عنه التهمة ولم ِ‬
‫هو كبش الفداء‪.‬‬

‫لم يسلم من نظرات املجتمع‪ ،‬ازدادت الهمسات واللمزات‪،‬‬

‫املجتمع ال ينس ى‪ ..‬ال يغفر‪ ،‬املجتمع بتره أسفل املقصلة‪،‬‬

‫مقصلة فضيلة مبهمة‪ ،‬فضيلة تعج بالزيف والفساد‪،‬‬

‫مجتمع منحه اتهام آخرممن حوله وأولهم أهل صديقه‪ ،‬بأنه‬

‫شريكه في الجريمة و أنه ضحى به لكي ينال هو حريته‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تهزأ روحه‪ ،‬أي حرية هو نالها في وطن رآه بموضع املتهم! وطن‬

‫وضعه على قائمة النهاية‪ ،‬وطن لم يستطع فيه مواجهة كل‬

‫هذا فلجأ للهروب‪ ،‬اصطحب زوجته و ابنته‪ ،‬حمل روحه‬


‫ً‬
‫مسافرا إلى إحدى الدول‬ ‫ً‬
‫واضعا حجرعلى قلبه‪،‬‬ ‫وذكرياته‬

‫العربية حيث بداية جديدة‪ ،‬عالم جديد‪ ،‬روح تولد من‬

‫جديد‪ ،‬مالمح جديدة ال تضعه أسفل املجهر‪.‬‬

‫سافرلوطن ال يحمل املاض ي‪ ،‬املاض ي الذي تقاذف أمام‬

‫وجهه اآلن بطلب زوجته و ابنته التي أتمت عامها الرابع‬

‫والعشرين العودة إلى أرض الوطن؛ فهما قد اكتفيا من‬

‫الغربة‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الغربة‪ ..‬تلك الكلمة التي يشعربها‪ ،‬ولكنه على أرضه يشعر‬

‫بأضعاف معانيها‪.‬‬

‫جلس يزفربضيق‪ ،‬يصارع الهدوء‪ ،‬يتسابق مع الحلم‪ ،‬يرفع‬


‫ُ‬
‫يده‪ ،‬يمسح خصالته و ابنته تحايله لكي يو افق على طلبهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫ابنته تزيد‪ ..‬تلح‪ ،‬ابنته ال ترحمه‪ ،‬تقترب منه تقبل وجنته‪،‬‬

‫تتمسك بيده كطفلة أرادت الحلوى وبشدة‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري يا بابا‪ ،‬أنا بجد زهقت من هنا وعايزة‬

‫أرجع مصر‪.‬‬

‫يختنق‪ ،‬يود لو تفهمه‪ ،‬أن تشعربه‪ ،‬يشعربإنهاك يحتل‬

‫روحه الغاربة‪ ،‬رغم االبنة‪ ..‬رغم الزوجة‪ ..‬رغم السكن‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫يغتصب الهدوء‪ ،‬يربت على رأسها‪ ،‬يتمسك بيدها في حنان‬

‫أبوي‪ ،‬يردف بهدوء‪:‬‬

‫إنت عكس الناس يا بنتي! الناس زهقانة من البلد‬


‫‪ -‬هو ِ‬
‫إنت عايزة ترجعي!‬
‫ونفسها تهج وتسافرو ِ‬
‫ّ‬
‫تدخلت زوجته بالحديث‪ ،‬زوجته ملت الهروب‪ ،‬تنشد‬

‫العودة ويكفي شتات‪:‬‬

‫‪ -‬أنا تعبت من الغربة يا يحيى‪ ،‬كفاية أوي كده ونرجع‬

‫بلدنا‪ ،‬حتى ملا نموت نتدفن وسط أهلنا‪.‬‬


‫َ‬
‫تذكراملوت‪ ،‬وبذكره يطلق به رهبة‪ ،‬رهبة فقد تغتال روحه‬

‫لحظة تعثرفي طريق النهاية فيموت غريب‪ ،‬يتركهم بأرض‬

‫‪32‬‬
‫شاردة عنه‪ُ .‬يدلك صدغه‪ ،‬يفكر ً‬
‫مليا‪ ،‬ثم أدلى باقتراحه بعد‬

‫أن زفربعمق‪:‬‬

‫‪ -‬طب سافروا أجازة وارجعوا تاني‪.‬‬

‫اقتراحه هباء‪ ،‬هتفت زوجته وهي تلقيها بوجهه‪ ،‬تصرخ‬

‫بالنفي‪:‬‬

‫‪ -‬ال يا يحيى‪ ،‬أنا مش هرجع تاني خالص‪ ،‬أنا هسافرأنا‬

‫وبنتي و إنت خد قرارك‪.‬‬

‫تتوقف عن الحديث‪ ،‬تلتقط أنفاسها‪ ،‬صدرها يعلو ويهبط‪،‬‬

‫يشعربها تتعثربالحديث‪ ،‬يراوده سيل فراق قادم‪ ،‬تردف هي‬

‫بحدة باترة ترددها‪ ،‬تنحرعاطفتها له‪:‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ -‬لو حابب تفضل هنا هنجيلك أجازات‪ ،‬بس يا ريت‬

‫قرارك دا ميكونش السبب في فرقتنا بعد العمردا‪.‬‬

‫تعجب من نبرة زوجته‪ ،‬فهي ألول مرة تعارضه بالحديث‪،‬‬


‫دائما ما أرادت العودة‪ً ،‬‬
‫دائما ما صرخت بالرحيل لوطنها‪.‬‬ ‫ً‬

‫تتهكم روحه‪ ،‬هل اشتاقوا لعالم ينبذ الجميع!‬

‫يتأملها‪ ،‬يحاول أن يجد ثغرة لتغييراملسار‪ ،‬ولكنها متشبثة‬

‫برأيها هذه املرة‪ .‬وأمام إصرارها هي و ابنته اضطرللمو افقة‪،‬‬

‫و افق على عودتهما ريثما ُيسوي أمور عمله واللحاق بهما‪،‬‬

‫و افق على العودة ملجتمع لفظه مع سقطة هو بريء منها‪.‬‬

‫**********‬

‫‪34‬‬
‫القلب له أحكام‪..‬‬

‫مقولة قديمة تؤمن بها‪ ،‬وقلبها أحكامه مختلفة‪ ،‬أحكامه‬

‫أغرقتها في يأس لنبض قلب صامت‪ ،‬قلبها يختارأملها من‬

‫بؤرة شتات لم يخطرلها السقوط به‪ ،‬قلبها يجذبها نحو ما‬

‫يزيد لوعته‪ ،‬ويؤجج ضجيجه ويشعل نيرانه‪ .‬أوقعها بحب‬

‫من ال يؤمن بالحب‪ ،‬فقط يكرس حياته لعمله ومستقبله‬

‫املنهي‪ ،‬أما الزواج بالنسبة له واجهة اجتماعية وخطوات‬

‫يجب أن تكتمل الحياة بها‪.‬‬

‫بعكسها هي الفتاة الحاملة‪ ،‬األنثى التي تتوق لسماع كلمات‬

‫العشق وتراتيل الهوى‪ .‬ولكنها رغم الحلم‪ ..‬رغم الصبر‪..‬‬


‫االنتظار‪ ..‬لم تسعد ً‬
‫يوما بسماعها‪ ،‬لم يرهف السمع بها‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫هي فقط أحبته منذ أول نظرة‪ ،‬العائلتان تجمعهم عالقة‪،‬‬

‫فوالده صديق لوالدها‪ ،‬تبادلوا الزيارات العائلية عدة‬

‫مرات‪ ،‬ومع كل مرة كانت تعشق‪ ،‬كل مرة كان يخطف منها‬

‫نبضة‪ ،‬فانتهت املرات والزيارات بقلب صرخ له بالهوى‪،‬‬

‫و انتهى األمربأن تقدم لخطبتها‪ ،‬وكم كانت فرحتها عارمة!‬

‫سعادة تحتل روحها‪ ،‬كطفلة تتقافزمع الرياح‪ ،‬بسعادة عيد‬

‫جاء بعد شهور صمت‪.‬‬

‫ولكن بمرورالوقت اكتشفت أن فرحتها ناقصة‪ ..‬باهتة‪..‬‬

‫مشوشة‪ ،‬فرحتها ربما مشوهة‪ ،‬خاصة حين زاد شعورها‬


‫ً‬
‫بتجاهله إياها‪ ،‬تهربه منها أحيانا‪ ،‬فاضطرت لسؤاله ذات‬

‫يوم وهي تنتظرمنه إجابة ترفعها السماء‪:‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ -‬إنت بتحبني يا أدهم؟‬

‫ال تعلم ملا شعرت بتجمد جسده‪ ،‬سكت لبرهة قبل أن يجيبها‬

‫بعملية اعتاد عليها من مر افاعته باملحاكم‪ ،‬أجابها بمنطق‬

‫ربما ال يؤمن بسواه‪:‬‬

‫إنت زوجة مناسبة ليا يا هند‪ ،‬وأكيد هيكون بينا تفاهم‬


‫‪ِ -‬‬
‫كزوجين‪.‬‬

‫وهنا كانت البداية‪ ،‬هنا علمت أن الحب ليس بحساباته‪،‬‬

‫و أنه يحيا بطريقته كرجل يهوى الروتين والنصربأروقة‬

‫املحاكم‪ ،‬رجل ال يعرف النصرمع القلوب‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫تعجبت حين وجدت هاتفها يرن باسمه‪ ،‬هي ليست معتادة‬

‫على سؤاله الدائم‪ ،‬وأن يتصل بها فهذا يعني أن األمرهام‪،‬‬

‫أجابت اتصاله بهدوء‪ ،‬وكعادته دخل بصلب املوضوع‪:‬‬

‫‪ -‬ازيك يا هند‪ ،‬معلش كنت عايزمنك طلب‪.‬‬

‫تعجبت مرة أخرى‪ ،‬فليس من شيمه أن يطلب منها ش يء‬


‫‪ -‬أكيد ً‬
‫طبعا اتفضل‪.‬‬

‫شعرت بنبرة حزن تتخلل صوته وهو يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬ممكن لو فاضية النهاردة تخرجي مع ريم؟ مش حابب‬

‫إنها تفضل لوحدها النهاردة‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫الحقيقة املؤكدة لديها حبه لشقيقته‪ ،‬ربما هذا ما يوحي أن‬

‫بداخله قلب ينبض‪ ،‬أخبرته بمو افقتها‪ ،‬فهي تأنس‬

‫بصحبتها‪ ،‬كما أنها ال تستطيع أن ترفض طلبه‪:‬‬


‫‪ -‬أكيد ً‬
‫طبعا‪ ،‬هكلمها و اتفق معاها‪.‬‬

‫أنهى املكاملة بطريقة باردة كعادته ً‬


‫مخبرا إياها أن تهاتفه إن‬

‫احتاجت لش يء‪ ،‬أنهاها وترك خلفه أنثى تندثرنبضاتها‬

‫بخزي‪ ،‬نبضات تود الصراخ‪ ،‬نبضات تزأرلالنتفاضة‪،‬‬

‫نبضات داخل قلب ينادي بثورة‪.‬‬

‫**********‬

‫‪39‬‬
‫التفكير لعنة‪ ،‬مؤلم حد اإلجهاد‪ ،‬يتغذى على خاليا املخ‪،‬‬

‫ويصيبك بصداع نصفي أزلي ال يفارقك‪.‬‬

‫التفكيرفي من حولك‪ ،‬في من هم مسؤولون منك‪ ،‬تشعرأن‬

‫حمل يثقل كاهلك‪ ،‬تحاول الهرب منه بالنوم فيجافيك‬

‫ويتآمرضدك هو اآلخر‪ .‬انتصراألرق‪ ،‬فأعلن استسالمه‪،‬‬

‫خرج من غرفته ليقابل شقيقته تمسك قدح قهوته‪ ،‬كأنها‬

‫تشعربه‪ ،‬بادرته بابتسامة تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬حسيت إنك قلقان فقلت أعمل لك فنجان قهوة يظبط‬

‫دماغك‪.‬‬
‫ً‬
‫اقترب يتناوله منها قائال‪:‬‬

‫‪40‬‬
‫‪ -‬هشربه في البلكونة‪.‬‬

‫تبعته دون أن تتحدث‪ ،‬وقفت جواره صامتة بينما يرتشف‬

‫القهوة‪ ،‬تنحنحت تكسرالصمت‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عارفة إيه شاغل تفكيرك الفترة دي‪ ،‬ممكن تكلم‬

‫شريف ونأجل الفرح لحد ما أجهزباقي حاجتي‪.‬‬

‫زفربضيق يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬بطلي هبل يا سارة‪ ،‬الفرح هيتم في ميعاده إن شاء هللا‪،‬‬

‫أنا هتصرف‪.‬‬

‫اقتربت منه تحتضن ذراعه‪ ،‬تتوسد كتفه‪ ،‬تخبره‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ -‬عشان خاطري يا ياسين‪ ،‬أنا حاسة بيك‪ ،‬إنت مش عايز‬

‫تتقل الحمل على بابا‪ ،‬بس إنت كده رميت الحمل كله‬

‫على كتافك‪.‬‬

‫ربت على يدها يطمئنها‪:‬‬

‫‪ -‬كل حاجة هتبقى تمام إن شاء هللا‪ ،‬ولو اتقفلت هكلم‬

‫شريف في موضوع تأجيل الفرح‪.‬‬

‫كان يستمع إلى حديثهم‪ ،‬يريد أن يعرف إلى أين سيهديهم‬

‫تفكيرهم‪ ،‬وقد حان وقت تدخله‪.‬‬

‫‪ -‬الفرح هيتعمل في ميعاده ومفيش حاجة هتتأجل‪،‬‬

‫هتنزلي تجيبي كل حاجة نقصاكي‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫التفتا إلى والدهما‪ ،‬فوجداه يبتسم لهما‪ ،‬يحمل بيده حقيبة‬

‫جلدية يرفعها أمامهما‪ ،‬يخبرهما عن توصله لحل ألزمتهم‪:‬‬

‫‪ -‬أنا بعت األرض اللي في البلد‪.‬‬

‫**********‬

‫تبال ألحد‪ ،‬لم تلتفت‬


‫هل جربت ِنعم الحياة؟ تمتعت بها‪ ،‬لم ِ‬
‫يوما ً‬
‫طلبا للنجاة‪ ،‬استمعت التهام باطل‬ ‫ملن طرق بابك ً‬

‫وصدقته‪ ،‬ولم تكلف نفسك عناء البحث عن الحقيقة‪،‬‬

‫تجبرت و اتخذتها فرصة من أجل الجفاء‪ ،‬استمتعت وظننت‬

‫أن األمور سارت على ما يرام‪ ،‬لكنك لم تضع بالحسبان أنه‬

‫‪43‬‬
‫قد يأتي يوم للحساب‪ ،‬فبدأت البحث في دفاتر املاض ي عن‬

‫أخطاءك‪ ،‬تريد إصالحها بعد أن فات األوان‪.‬‬

‫يرقد بفراشه‪ ،‬يدور كل هذا بذهنه‪ ،‬لم يعد يقو على الحركة‪،‬‬

‫بعد أن كان بعافيته‪ ،‬فهو اآلن يدفع ثمن ما فعله باملاض ي‪،‬‬
‫ُ‬
‫خسارة بعمله لم يتحمل نتائجها‪ ،‬أصيب بجلطة تركت أثرها‬

‫على جانبه األيمن‪.‬‬

‫اقتربت منه زوجته تناوله الطعام‪ ،‬فابتعد بوجهه‪ ،‬تنهدت‬

‫بأس ى على حاله الذي قد تبدل‪ ،‬أخبرته ولم تستطع إخفاء‬

‫نبرة الحزن بصوتها‪:‬‬

‫‪ -‬مينفعش كده يا عصام‪ ،‬الزم تاكل وتاخد عالجك‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫هزرأسه ً‬
‫نفيا‪ ،‬يجاهد أن يخبرها بش يء ما ولكن ثقل لسانه‬
‫ً‬
‫وأخيرا استطاع النطق‪ ،‬خرجت الحروف‬ ‫يجعل األمر ً‬
‫صعبا‪،‬‬

‫متقطعة متباعدة‪ ،‬نطق باسم من لم تفارق تفكيره منذ ما‬

‫حدث له‪:‬‬

‫‪ -‬مروة‪.‬‬

‫***********‬

‫الحياة ال تمنحك كل ما تريد‪ ،‬ربما توهمك أنك امتلكت‬

‫السعادة بين يديك‪ ،‬ولكنها بلحظة تختطفها منك‪ ،‬تستيقظ‬

‫على الحقيقة املؤملة‪ ،‬كل ما كان بين يديك لم يكن سوى‬

‫سراب‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫أحبت‪ ،‬بل عشقت‪ُ ،‬رزقت بأطفال تمنتهم ً‬
‫دوما‪ ،‬ولكنها لم‬

‫تكن تتخيل املوقف الذي تعيشه اآلن‪ ،‬تجلس برفقة أسرتها‬


‫أمام املأذون‪ ،‬تسمع من زوجها ما لم تتوقعه ً‬
‫يوما‪ ،‬ينطقها‬

‫ببرود لم تعهده منه‪:‬‬

‫إنت طالق‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫ُ‬
‫بالرغم أنه طلبها‪ ،‬لكنها شعرت بكلماته كأنها خنجرغرز‬

‫بقلبها‪ ،‬ولم تكن تعلم أن آخرقادم في الطريق‪ ،‬وربما يكون ما‬

‫يقض ي عليها‪.‬‬

‫**********‬

‫‪46‬‬
‫)‪(2‬‬

‫الحب خدعة‪ ..‬وهم‪ ..‬أكذوبة‪ ،‬كالم معسول يلقيه الرجل‬

‫على مسامع األنثى‪ ،‬تصدقه فتفوق على ألم الخيانة‪.‬‬

‫هي صدقت‪ ،‬أحبت‪ ،‬عشقت‪ ،‬منذ أن رأته ألول مرة‬

‫بالجامعة‪ ،‬صديق مشترك ألصدقائها‪ ،‬يكبرها بثالثة أعوام‪،‬‬

‫وقعت بغرامه‪ ،‬وهو أول من دق القلب له‪.‬‬

‫فخر ً‬
‫أسيرا‬ ‫وهي لفتت نظره‪ ،‬داعبت ابتسامتها قلبه‪َّ ،‬‬

‫لعشقها‪ .‬أظهرحبه لها وعبرعن رغبته في االرتباط بها‪ ،‬ولكن‬

‫ظروفه حينها لم تسمح‪ .‬تذكرت حين صارحها بمشاعره ألول‬

‫مرة‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪ -‬أنا بحبك يا سيرين‪.‬‬
‫يومها ُ‬
‫صدمت‪ ،‬صدمتها صراحته‪ ،‬لم تجد ما تجيبه به‪،‬‬

‫وعندما لم يحصل على إجابة منها لم ييأس‪.‬‬

‫‪ -‬أنا مش عايزرد منك دلوقتي‪ ،‬أنا كل اللي طالبه منك لو‬


‫َ‬
‫مو افقة إنك تستني ملا أتخرج وأكون نفس ي و أبقى‬

‫بيك‪.‬‬
‫جدير ِ‬

‫رحل‪ ،‬وقبل رحيله استوقفته بكلمة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬هستناك‪.‬‬

‫عاهدته على االنتظارولم تدع غيره يقتحم أسوارقلبها‪،‬‬

‫اجتهدا حتى حصال على شهادتهما الجامعية‪ ،‬ساعدته‬

‫‪48‬‬
‫األقداربالحصول على وظيفة مرموقة بإحدى الشركات‪،‬‬
‫ولحقت هي به بعد تخرجها‪ ،‬عمال ً‬
‫معا‪ ،‬ساعدته ليرتقي‬

‫بعمله‪ .‬أقنعت والديها حين تقدم لخطبتها‪ ،‬لم ترهقه‬

‫باملطالب لتأسيس مسكنهما‪ ،‬كانت له خيرزوجة وأم بعد أن‬

‫رزقهما هللا بطفليهما‪ ،‬تحملت ظروف املعيشة حتى يستطيع‬

‫وضع األساسيات ملستقبل زاهرلهما‪ ،‬وبالفعل استطاع‬

‫تأسيس أول شركة خاصة به‪ ،‬وفي غضون عامين استطاع‬

‫افتتاح فرع آخرلها خارج البالد‪.‬‬

‫كل هذا وهي تجاوره‪ ،‬سبع سنوات هي مدة زيجتها‪ ،‬تقف‬

‫جواره‪ ،‬تسانده‪ ،‬تدعو له‪ ..‬وتحبه‪ ،‬تعشق كل ذرة به‪ ،‬ولكنها‬


‫أفاقت على الوهم‪ ،‬حقيقة لم تكن ً‬
‫يوما سوى سراب‪،‬‬

‫‪49‬‬
‫صفعة خيانة هدمت كل ش يء فوق رأسها‪ .‬استمعت إليه‬

‫يحادث أخرى‪ ،‬يخبرها أنه سيرتبط بها فور أن يتخلص من‬

‫العقبات التي تواجهه‪ ،‬وأكبرتلك العقبات هي زوجته‪.‬‬

‫اقتصرت عليه الطريق‪ ،‬سألته والصدمة تعتلي مالمحها‪:‬‬

‫‪ -‬بتخوني!‬

‫صمته إجابة بنعم‪ ،‬وسكوته طعنة ُسددت إليها‪ ،‬فأبت‬

‫كرامتها أن تستمربهذا الوضع‪ ،‬انطلقت الكلمة من بين‬

‫شفتيها‪:‬‬

‫‪ -‬طلقني‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ً‬
‫"إذا أردت شيئا بقوة أطلق سراحه‪ ،‬فإن عاد إليك فهو منك‬

‫ولك‪ ،‬وإن لم يعد فهو لم يكن لك من البداية"‬

‫مقولة كانت تؤمن بها‪ ،‬أرادت تطبيقها على و اقعها‪ ،‬طلبت‬


‫ً‬
‫منه الطالق‪ ،‬أعطته سبيل الحرية ظنا منها أنه سيتمسك‬
‫بها‪ ،‬سيندم ويعود ً‬
‫طالبا للصفح‪ ،‬ظنت أنه منها ولها‪ ،‬ولكنها‬

‫أفاقت على الحقيقة؛ حقيقة أنه لم يكن لها من البداية‪ ،‬لم‬

‫يتمسك بها‪ ،‬بل تمسك بطرف الخيط الذي أعطته له‪ ،‬تخلى‬

‫عنها وو افق على الطالق‪.‬‬

‫تجلس اآلن بغرفتها‪ ،‬تلك الغرفة التي كانت تجمعهم كزوجين‬

‫منذ أيام قليلة‪ ،‬واآلن أصبحت موطن أالمها‪ ،‬بعد أن كانت‬

‫جدرانها شاهدة على سعادتها بها أصبح حزنها محفور‬

‫‪51‬‬
‫بأرجائها‪ ،‬بعد أن كانت تشعربالفرح داخلها أصبحت مصدر‬

‫ضيقها وتعاستها‪.‬‬

‫رفعت يديها تلمس عنقها‪ ،‬يكتنفها شعور باالختناق‪ ،‬زفرت‬

‫بقوة‪ ،‬تحاول أن تخرج بعض من أحزانها‪ ،‬خرجت من غرفتها‬

‫متوجهة نحو غرفة طفليها النائمان بفراشهما‪ ،‬اقتربت منهما‬

‫تقبل وجنتهما‪ ،‬تنساب دموعها الحارة على وجنتيها في‬


‫صمت‪ ،‬لم تستطع العودة مرة أخرى لغرفتها‪ ،‬ا تمت أ ضاً‬
‫ر‬ ‫ر‬

‫ترتكن على الحائط‪ ،‬لم تعد تتحمل‪ ،‬ولم تعد قادرة على أن‬

‫تظهرقوتها أكثر‪ ،‬أجهشت بالبكاء‪ ،‬تنعي عمرها الذي‬

‫أضاعته في سراب‪.‬‬

‫**********‬

‫‪52‬‬
‫الحياة فرص‪ ،‬اغتنمها‪ ،‬اقتنص منها ما تريد‪ِ ،‬عشها كما‬

‫شئت‪ ،‬فليحيا مزاجك الرائق ويسقط أي ش يء آخر‪.‬‬

‫هذا هو مبدأه الذي يعيش به‪ ،‬قانونه في الحياة‪ ،‬أن يطلب‬

‫وطلباته ُمجابة في التو واللحظة‪ .‬ال يبالي وال يهتم بما يدور‬

‫حوله‪ ،‬طاملا أن محفظة نقوده عامرة ورصيده البنكي في‬

‫ازدياد‪ .‬وهذا ما يعكرمزاجه في اآلونة األخيرة؛ الكارثة التي‬


‫َّ‬
‫حلت بوالده وخسارته الفادحة‪ ،‬مرضه الذي ال يستطيع‬

‫معه أن يطلب منه أموال‪ ،‬هو ال يمتلك مشاعروما يمنعه‬

‫من طلب األموال ليس حزنه على ما حدث لوالده‪ ،‬ولكن‬


‫ً‬
‫تجنبا لتقريع شقيقه له وعدم رغبته في سماع قائمة‬
‫النصائح عن أن يراعي الظروف‪ .‬ولكنه َّ‬
‫مل األمر‪ ،‬وعليه‬

‫‪53‬‬
‫تلبية دعوة أصدقاءه اليوم وهذا يتطلب نقود‪ ،‬لم يجد ُبداً‬

‫من الذهاب إلى شقيقه‪ ،‬توجه إلى غرفته‪ ،‬طرق الباب ودخل‬

‫دون أن ينتظردعوته للدخول‪ ،‬لم يكلف نفسه جهد تملقه‬

‫بل طلب منه ما يريد مباشرة‪:‬‬

‫‪ -‬أمجد‪ ،‬أنا محتاج فلوس‪.‬‬

‫لم يتعجب (أمجد)‪ ،‬فهو يعلم طبع شقيقه‪ ،‬إن كان ال يهتم‬

‫بإنهاء دراسته وقد أتم عامه الثالث والعشرين فكيف‬

‫يطالبه بأن ينضج ويتحمل بعض املسؤولية‪ .‬تناول محفظة‬

‫نقوده‪ ،‬أخرج منها بعض األموال يناولها لشقيقه الذي نظر‬


‫ً‬
‫متذمرا من قلتهم‪:‬‬ ‫ً‬
‫مشيرا بهم إليه‬ ‫إليها شذ ًرا‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫‪ -‬دول أعمل بهم إيه!‬

‫التزم شقيقه الصمت ولم يجيبه‪ ،‬فاقترب منه يطلب املزيد‪:‬‬

‫‪ -‬دول يادوب أصرفهم في خروجة‪.‬‬

‫وهنا انفجربه الشقيق‪ ،‬لم يتحمل ال مباالته أكثرمن ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬ال ما هو إنت تنس ى أيام السرمحة وتخلي عندك دم‪.‬‬

‫زفر(مازن) بضيق‪ ،‬فها هو شقيقه سيبدأ خطبته العصماء‪،‬‬

‫انسحب قبل أن يسمع املزيد‪:‬‬

‫‪ -‬أنا ماش ي‪.‬‬

‫خرج وترك شقيقه يفكركيف يغيرمن طباع (مازن األلفي)‪،‬‬


‫صغيرعائلته واملدلل الذي لم يتحمل مسؤولية ً‬
‫يوما ما‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫عكسه هو (أمجد األلفي)‪ ،‬الشاب الطموح املجتهد‪ ،‬من‬

‫سعى لبناء نفسه بنفسه‪ ،‬تدرب أثناء دراسته في كلية‬


‫ُ ً‬ ‫ً‬
‫صغيرا ولم يعتمد كلية‬ ‫الهندسة بأكبرالشركات‪ ،‬خرج للعمل‬

‫على أموال والده‪ ،‬حتى أصبح اآلن ما هو عليه‪ ،‬صاحب‬

‫مكتب هندس ي شهيرباملشاركة مع ابن عمته‪ ،‬تمنى أن يشبهه‬

‫شقيقه‪ ،‬ولكن دالل والده له أفسده‪ ،‬فأصبح على النقيض‬

‫منه‪.‬‬

‫**********‬

‫الوطن حياة‪ ..‬روح ُردت إليها بعد غياب‪ ،‬بالرغم من زيارتها‬

‫له على فترات لكن شعورها هذه املرة مختلف‪ ،‬تعلم أنها لن‬

‫تغادره مرة أخرى‪ ،‬بل أنها باقية لألبد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫عادت برفقة والدتها منذ أيام قليلة‪ ،‬أيام انهمكوا فيها‬

‫بترتيب املنزل وتهيئته الستقرارهم‪ ،‬وها هي تستعد لتخرج‬

‫لترسخ أولى خطواتها بالوطن؛ وظيفة ستبذل قصارى‬

‫جهدها لتحصل عليها من أجل استقراردائم‪.‬‬

‫تناولت فطورها برفقة والدتها‪ ،‬أخبرتها أنها ذاهبة للتقديم‬

‫لوظيفة شاهدت إعالنها على موقع إلكتروني‪ ،‬لكنها كاذبة‪.‬‬

‫بالطبع لن تخبروالدتها أنها تقدمت لتلك الوظيفة عن طريق‬

‫صديق؛ شاب تعرفت عليه على أحد مو اقع التواصل‬

‫االجتماعي منذ سنوات‪ ،‬وهو من كان له يد في إقناعها‬

‫بضرورة عودتها إلى وطنها‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫خرجت من باب منزلها‪ ،‬صادفت جارتها بالطابق العلوي‪،‬‬

‫ابتسامة طفيفة انتهت بتعارف سريع‪ ،‬صافحتها الجارة‬

‫تعرف عن نفسها ِب ِود‪:‬‬


‫ً‬
‫ق‬
‫‪ -‬أهال‪ ،‬أنا بيان‪ ،‬جارتك في الدور اللي فو ‪.‬‬

‫شعرت بالسعادة‪ ،‬وارتاحت للفتاة‪ ،‬وقررت أن توطد عالقتها‬

‫بها لتكون لها صديقة‪ ،‬فطوال غربتها لم يكن لها صديقة‬

‫مقربة‪ ،‬بادلتها املصافحة واالبتسامة‪:‬‬

‫‪ -‬أنا روفيدا‪ ،‬جارتكم الجديدة‪.‬‬

‫انتهى التعارف بتبادلهما أرقام هواتفهما‪ ،‬وعرض كل واحدة‬

‫منهما مساعدتها لألخرى وقت الحاجة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫في طريقها شعرت بتأنيب ضميرالخفائها أمرالصديق عن‬

‫والدتها‪ ،‬لكنها لم تكن تضمن رد فعل والدتها‪ ،‬ربما لكانت‬

‫عارضت عودتهما ملصر‪ ،‬لكنها قررت إخبارها بكل ش يء في‬

‫القريب العاجل‪ ،‬تخبرها عن ذلك الشاب الذي تعرفت عليه‬

‫صدفة منذ ثالث سنوات في إحدى مجموعات الفيس بوك‪،‬‬


‫توطدت عالقتها معه تدر ً‬
‫يجيا حتى أصبح صديق مقرب‬

‫يعرف عنها كل ش يء منذ مولدها‪.‬‬

‫ترجلت من سيارة األجرة في العنوان الذي ذكره لها لتجده في‬


‫ً‬
‫سعيدا برؤيتها‪ ،‬صافحها‬ ‫ً‬
‫مبتسما‪،‬‬ ‫انتظارها‪ ،‬اقترب منها‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬

‫‪ -‬مصرنورت‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫هذه هي املرة األولى التي تقابله ً‬
‫وجها لوجه‪ ،‬غمرتها السعادة‬

‫بمقابلته‪:‬‬

‫‪ -‬منورة بأهلها‪.‬‬

‫أشارإلى املبنى خلفه‪:‬‬

‫‪ -‬يال عشان ميعاد االنترفيو‪ ،‬وبعدها نقعد مع بعض‪،‬‬

‫عندي كالم كتيرعايزأقوله‪.‬‬

‫توجهت معه إلجراء املقابلة التي اتضح بها توصيته بها‬

‫للعمل‪ ،‬أنهتها شبه متيقنة من قبولها بالعمل‪.‬‬

‫بعدما أنهت املقابلة جلست معه بمكتبه تشكره على‬

‫مساعدته لها‪:‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ -‬الحقيقة أنا مش عارفة أشكرك ازاي يا زياد على‬

‫مساعدتك‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫مقتربا برأسه منها‪ ،‬قائال بهدوء‪:‬‬ ‫ابتسم‬

‫إنت إيه‬ ‫‪ -‬متقوليش كده يا روفيدا‪ِ ،‬‬


‫إنت متعرفيش ِ‬
‫بالنسبة لي‪.‬‬
‫ً‬
‫توردت وجنتاها خجال‪ ،‬ولم تعرف بما تجيبه‪ ،‬لقائها املباشر‬

‫معه وجلوسها بقربه ُيشعرها بالتوتر‪ .‬أنقذها صوت رجولي‬


‫ً‬
‫مخاطبا اآلخر‪:‬‬ ‫اقتحم جلستهم دون أن يعرف بوجودها‪،‬‬

‫‪ -‬زياد‪ ،‬كنت عايزملف………‪.‬‬

‫وبقيت التتمة معلقة‪ ،‬حيث انتبه لوجودها‪ ،‬تمتم معتذ ًرا‪:‬‬

‫‪61‬‬
‫‪ -‬متأسف‪ ،‬مكنتش أعرف إن معاك حد‪.‬‬

‫ً‬
‫مشيرا إليها‪:‬‬ ‫تولى (زياد) مهمة تعارفهما‪ ،‬قام من مجلسه‬

‫‪ -‬وال يهمك يا بشمهندس‪ ،‬أعرفك بروفيدا‪ ،‬قريبتي وكانت‬

‫جاية انترفيو مع مهندس أمجد عشان الشغل‪.‬‬

‫ثم توجه بحديثه إليها‪ُ ،‬يكمل التعارف‪:‬‬

‫‪ -‬أقدم لك مهندس كرم‪ ،‬شريك مهندس أمجد في املكتب‪.‬‬

‫أومأت برأسها مبتسمة‪ ،‬ثم توجهت بالحديث إلى (زياد)‪:‬‬

‫‪ -‬هسيبك تكمل شغلك ونكمل كالم بعدين‪.‬‬

‫أوقفها بعرض لتوصيلها ملنزلها‪:‬‬

‫‪ -‬استني أوصلك‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫لكنها رفضت عرضه بلباقة‪:‬‬

‫‪ -‬مفيش داعي عن اذنك‪.‬‬

‫تناولت حقيبتها لترحل‪ ،‬رحلت وتركت وراءها زوجين من‬

‫األعين يتابعنها‪.‬‬

‫***********‬

‫من قال أن الوقت قادرأن ينسيك ما مض ى كاذب‪ ،‬فهو‬

‫ببساطة ال يعلم مدى األلم بداخلك‪ ،‬وصمتك الذي يفسره‬

‫نسيان ما هو إال أفضل طريقة للرد على ما يدور من حولك‪.‬‬

‫هي ال تنس ى‪ ،‬حزنها داخلها يزداد‪ ،‬إصابة قدمها ستظل ذكرى‬

‫دائمة للماض ي‪ ،‬املاض ي الذي بترفرحتها و انتزع ابتسامتها‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫والدها يريد منها أن تنس ى ما حدث‪ ..‬تتخطاه‪ ،‬تنس ى أنها قد‬
‫يوما ُ‬
‫وحكم على هذا العشق باالنتهاء قبل بدايته‪.‬‬ ‫عشقت ً‬

‫أما عن (كرم) توأمها و(أدهم) شقيقها األكبرفكل ما يريدانه‬

‫هو رؤيتها سعيدة‪ ،‬أن تزين ابتسامتها التابعة من قلبها‬

‫محياها مرة أخرى‪ .‬وحدها (هند) من تشعربها‪ ،‬الوحيدة‬

‫التي تخبرها بالحزن الذي يعتمل داخلها وتعلم أنها تفهمها‪.‬‬

‫يوم التقتها أخبرتها بما يجيش به صدرها‪ ،‬بكت وأخرجت‬


‫ً‬
‫فيض مشاعرها أمامها‪ ،‬حديثها معها أراحها قليال‪.‬‬

‫تتذكرحديث (هند) لها‪:‬‬

‫‪64‬‬
‫‪ -‬أنا مش بقولك انس ي عشان عارفة إن دي حاجة صعب‬

‫تتنس ى يا ريم‪ ،‬بس الزم تعيش ي وتتقبلي اللي حصل‪،‬‬

‫ارجعي للحاجة اللي بتحبيها واشغلي نفسك‪.‬‬

‫استمعت لنصيحتها‪ ،‬ستحاول الهاء نفسها‪ ،‬وها هي تجلس‬


‫ُ‬
‫أمامها لوح الرسم واأللوان بيدها‪ ،‬ستخرج حزنها من خالل‬

‫رسوماتها‪.‬‬

‫**********‬

‫الشك يؤذي الروح‪ُ ..‬ينهك العقل‪ ،‬الشك مميت‪ ،‬يقتل‬

‫بالبطيء‪ ،‬حين يستحوذ عليك تكون قد وضعت أول مسمار‬

‫بنعشك‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫َّ‬
‫وهي مأل الشك قلبها‪ ،‬سيطرعليها‪ ،‬حرمها النوم‪ ،‬ونغص‬

‫حياتها‪.‬‬

‫أضحت تشك بوالدتها‪ ،‬تشك بنسبها‪ ،‬تلعن حياتها‪ ،‬كل ما‬

‫تريد معرفته هو عائلتها‪ ،‬ووالدتها تخبرها أنها ال تمتلك‬

‫واحدة‪ ،‬ال تمتلك عائلة تخص والدتها وال أخرى تخص‬

‫والدها‪ ،‬كيف تريدها أن تصدق أنها بال جذور‪ ،‬هي‬

‫(بيان……‪.).‬‬

‫عندما وصلت إلى هنا استهزأت بتفكيرها‪ ،‬كيف لها أن تنطق‬

‫اسم عائلة مقترن باسمها دون أن تعرف عنها ش يء‪ ،‬من‬

‫اليوم هي (بيان) وكفى‪ ،‬هي بال جذور‪ ..‬بال هوية‪ ،‬ستتجنب‬

‫والدتها‪ ،‬وإن وصل األمرحد الخصومة‪ ،‬وإن كانت والدتها‬

‫‪66‬‬
‫تريد عكس ذلك فلتكشف املستور‪ ،‬تخبرها بكل ش يء‪،‬‬

‫تخبرها بحقيقة هؤالء األشخاص املوجودين بتلك الصورة‬

‫التي وجدتها بغرفتها‪.‬‬

‫سمحت لنفسها بتفتيش غرفة والدتها بعد ذهابها للعمل‪،‬‬

‫بحثت باألدراج‪ ،‬بخزانة مالبسها‪ ،‬حتى عثرت على ذلك‬

‫الصندوق الذي يحتوي على عدة أوراق لم يلفت انتباهها‬

‫محتواها‪ ،‬ولكن ما لفت انتباهها هي تلك الصورة‪ ،‬صورة ال‬

‫تعلم هوية أشخاصها‪ ،‬ولكنها ربما تكون أول خيط للحقيقة‪.‬‬

‫وإن لم تخبرها والدتها ستبحث بنفسها‪ ،‬وحتى وإن اضطرت‬

‫للبحث في سجالت جميع املحافظات التي تنقلت بينهم برفقة‬

‫والدتها‪ ،‬حيث تنقلهم هذا وحده كفيل بأن يزيد الشك‬

‫‪67‬‬
‫بداخلها‪ ،‬اليوم عليها مواجهة أمها للمرة األخيرة‪ ،‬إما أن‬

‫تخبرها بكل ش يء‪ ،‬أو ستبدأ رحلة بحثها بنفسها‪.‬‬

‫***********‬

‫الحب مؤذي‪ ..‬مؤلم‪ ،‬بل أن جميع املشاعر ُمرهقة‪ .‬لكي تحيا‬


‫ً‬ ‫بسالم‪ ،‬عليك أن ُتنحي مشاعرك ً‬
‫جانبا‪ ،‬ال تلق لها باال‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تدخلها في حساباتك‪ .‬لكي تحيا سعيدا‪ ،‬ال تؤمن بالحب‪ ،‬آمن‬

‫بالفرص‪ ،‬وتعلم كيفية استغاللها‪ ،‬تعلم أن تتكيف‪ ،‬أن‬

‫تستمروتحيا دون أن تبالي بأحد‪.‬‬


‫هذه هي شخصيتها‪ ،‬سر َ‬
‫قوتها‪ ،‬هي (أسيل املهدي)‪ ،‬تحيا‬ ‫ِ‬
‫فقط لنفسها‪ ،‬بعكس شقيقتها التي لم تستطع تخطي‬

‫‪68‬‬
‫انفصالها عن زوجها‪ .‬ترى ضعف شقيقتها وحزنها‪ ،‬انطفاء‬

‫روحها‪ ،‬تحاول اخبارها أن كل هذا ال يستحق وأن عليها أن‬

‫تعيش حياتها وتنس ى ما مض ى‪ ،‬لكن والدتها نهرتها‪ ،‬تؤكد‬

‫عليها بأال تحدثها بش يء‪.‬‬

‫طلبت منها والدتها أن تقض ي اليوم برفقة شقيقتها‪ ،‬تجلس‬

‫برفقتها بملل‪ ،‬ليتها تعللت بظروف عمل! فالجو الحزين‬

‫السائد حولها ال يعجبها‪ ،‬ذلك الحزن املسيطرعلى شقيقتها‬

‫والذي انعكس على طفليها الصغيرين بالرغم من أنهما ال‬


‫يعلمان ً‬
‫شيئا مما يدور حولهما‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫جلست تلهو بهاتفها‪ ،‬تحاول أن تصرف نظرها عن أختها‪،‬‬

‫حين أتاها اتصال‪ ،‬ابتعدت في غرفة أخرى تجيب املتصل‪،‬‬


‫َ‬
‫علت ابتسامتها ثغرها وهي تتحدث بغنج‪:‬‬

‫‪ -‬هو أنا الزم أبعت لك ماسدچ عشان تتصل!‬

‫استمعت لحديثه على الجانب اآلخر‪ ،‬عبوس وجهها يدل أن‬

‫الحديث ال يروقها‪ ،‬زفرت بضيق‪:‬‬

‫‪ -‬قلت لك فترة بس وكل حاجة هتتنس ي‪ ،‬و إنت هتيجي‬

‫تتقدم ونتجوز‪.‬‬

‫صمتت برهة تستمع إليه‪ ،‬ثم ابتسمت بهدوء تخبره‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ -‬متقلقش من حاجة‪ ،‬الحياة مش بتقف‪ ،‬بكره سيرين‬

‫تنس ى وتعيش حياتها‪.‬‬

‫أكسبت صوتها بعض الغنج والدالل‪:‬‬

‫‪ -‬وبعدين إحنا مش هنتكلم عن سيرين ومشكلتها طول‬

‫املكاملة‪ ،‬خلينا في نفسنا‪.‬‬

‫دائما‪ ،‬ال يهمها سوى نفسها‪ ،‬شعارها ً‬


‫دائما "أنا‪،‬‬ ‫هكذا هي ً‬

‫يأت فال يهم‪".‬‬


‫من ثم يأتي أي ش يء آخر‪ ،‬وإن لم ِ‬

‫***********‬

‫ماذا إن كنت تمتلك الكثيرمن األقنعة! يصبح بمقدرتك‬

‫التبديل بينهم حسب األشخاص واأليام واألماكن‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ال تتسرع في الحكم عزيزي القاريء‪ ،‬فهذا ليس خداع‪ ،‬لكنه‬

‫تكيف‪ ،‬قدرة على التعايش مع املتغيرات حولك‪ .‬أظهرلكل‬


‫شخص ما يريد رؤيته من شخصيتك‪ ،‬وال تظهر ً‬
‫أبدا‬

‫الحقيقة بداخلك‪.‬‬

‫عاد لتوه من عمله ليجد والدته بانتظاره‪ ،‬ابتسم بوجهها‬


‫ً‬
‫مقبال يدها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا ميت من الجوع‪.‬‬

‫ربتت على وجنته تبادله االبتسام‪:‬‬

‫‪ -‬على ما تغيرهدومك هكون حضرت األكل‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫والدته هي الش يء الجميل بحياته‪ ،‬هي الوحيدة التي ُيظهر‬

‫أمامها حبه الحقيقي لها‪ ،‬هي الش يء النظيف الذي حصل‬

‫عليه من دنس املاض ي‪ ،‬ماض ي الزمه طوال حياته‪ ،‬ترك أثره‬

‫بنفسه‪ ،‬حتى وإن ابتعدت به والدته لكنه ما زال يالزمه‪،‬‬

‫حاول أن ينس ى لكن كل محاوالته باءت بالفشل‪ ،‬فإن نس ى‬

‫هو فاملجتمع ال ينس ى‪.‬‬

‫ذهب لغرفته ليبدل مالبسه ريثما تجهزله والدته الطعام‪،‬‬

‫جلس على الفراش يقلب بهاتفه‪ ،‬يتصفح محادثة بينه وبين‬

‫شخص ما‪ ،‬و ابتسامة هازئة تتسلل لطرف شفتيه‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫أغلق املحادثة ليبحث بالهاتف عن رقم شخص ما‪ ،‬رفعه إلى‬

‫أذنه يستمع إلى الرنين وينتظرأن يجيبه من بالطرف اآلخر‪،‬‬

‫استمع لصوته يرحب به‪:‬‬

‫‪ -‬ازيك يا زياد‪.‬‬

‫مالمحه جامدة‪ ،‬تتصارع العديد من املشاعرداخله؛ حقد‪..‬‬

‫كراهية‪ ..‬ورغبة في االنتقام‪ ،‬وما يخطط له منذ سنوات‬


‫ً‬
‫أصبح على وشك الحدوث‪ ،‬خرج صوته جامدا كمالمحه‪:‬‬

‫‪ -‬عايزأقابلك‪ ،‬في حاجة مهمة هعملها أعتقد من حقك‬

‫تعرفها‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫أنهى املكاملة واشتعلت نظراته بنيران‪ ،‬نيران تأججت من‬

‫داخله‪ ،‬نيران تحرقه منذ سنوات‪ ،‬وقد آن األوان أن تنطفيء‪.‬‬

‫**********‬

‫‪75‬‬
‫)‪(3‬‬

‫للحب أبجدية‪ ،‬خطوات نسيرها‪ ،‬مرحلة نتخطاها تلو‬


‫َّ‬
‫األخرى‪ ،‬قوانين يت ِبعها القلب‪ ،‬لكن حبها له ضرب تلك‬

‫القوانين عرض الحائط‪ ،‬خرج عن املسارو ابتعد عن‬

‫املألوف‪.‬‬

‫هي ليست حاملة‪ ،‬لم َي ِمل قلبها لصاحب القلب السيبيري‬

‫بإرادتها‪ ،‬هي فجأة عشقته‪ ،‬وجدته يتربع داخل قلبها‪ ،‬وإن لم‬

‫يلحظ أو يشعر‪ ،‬وإن لم يبادلها مشاعرها‪ ،‬فقط تحبه‪ ..‬في‬

‫قسوته‪ ..‬في بروده‪ ..‬في لينه ورقته‪ ،‬وإن لم تلحظ تلك األخيرة‬

‫‪76‬‬
‫سوى مع شقيقته‪ ،‬هي تعشقه بكل حاالته وال تستطيع‬

‫التحكم بقلبها‪.‬‬

‫اليوم هي معه‪ ،‬قبلت دعوته للغداء‪ ،‬وها هو قد انشغل‬


‫ً‬
‫عنها‪ ،‬لم يتوقف هاتفه عن الرنين وكل مرة يجيب متعلال أنها‬
‫ُ‬
‫مكاملة عمل ضرورية‪ .‬انتظرت أن ينتهي وأخذت تشغل‬

‫نفسها‪ ،‬يتابع بصرها ما حولها‪ ،‬رجل وامرأة في طاولة بعيدة‬


‫ً‬
‫بركن هاديء‪ ..‬يمسك يدها‪ ..‬تشع نظراتهما عشقا‪ ،‬تلك‬

‫األسرة التي تتناول طعامها على مقربة منهم‪ ..‬وضع طبيعي‬

‫لزوجين برفقة طفليهما يسود جلستهم سعادة ظاهرة‬

‫للعيان‪ .‬تمنت أن تكون تلك حياتها‪ ،‬عاشقة برفقة حبيبها‬


‫َُ‬
‫يبثها كلمات العشق والهيام‪ ،‬وباملستقبل تكون أسرتها‬

‫‪77‬‬
‫السعيدة معه‪ ،‬يكون هو حياتها‪ ،‬وتكتفي به عن العالم‪ ،‬لكن‬

‫تلك ليست حياتها‪ ،‬ألنها ببساطة مرتبطة ب (أدهم‬


‫الزهيري)‪ ،‬من َّ‬
‫نحى مشاعره ً‬
‫جانبا‪ ،‬أعطى قلبه إجازة طويلة‪،‬‬

‫وجعل عقله هو املسيطرعلى شئون حياته‪.‬‬


‫أنهى مكاملته ً‬
‫عائدا إليها‪ ،‬معتذ ًرا بتمتمة شعرت أنه مجبرعلى‬

‫لفظها‪:‬‬

‫‪ -‬آسف‪ ،‬مكاملة شغل‪.‬‬

‫اغتصبت ابتسامة هادئة على شفتيها‪ ،‬مع هزة رأس طفيفة‪:‬‬

‫‪ -‬وال يهمك‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫وهكذا انتهى الحوار‪ ،‬انتظرت أن يبدأ معها حديث ولكن‬
‫ً‬
‫شخصا ما أجبره على الخروج‬ ‫دون فائدة‪ ،‬شعرت وكأن‬

‫معها‪ .‬فقدت األمل‪ ،‬زفرت بهدوء‪ ،‬تتناول طعامها بأعين‬

‫شاردة تتابع ما حولها‪.‬‬

‫الحظ نظراتها املختطفة تجاه الطاولة القريبة‪ ،‬حد أنها‬

‫غابت بتركيزها معهم‪ ،‬تتبع عينيها تجاه الطفلين‪ ،‬العبرات‬

‫املحتجزة بمقلتيها دليل سعادة باملشهد أمامها‪ ،‬لم يعجبه‬


‫هذا وأ اد أن يبعد ناظرها ً‬
‫بعيدا عنهم‪ ،‬تنحنح ليلفت‬ ‫ر‬

‫انتباهها إليه‪ ،‬سألها بصوته األجش‪:‬‬

‫‪ -‬سرحانة في إيه؟‬

‫‪79‬‬
‫لم تلتفت إليه‪ ،‬أجابته ونظراتها ما زالت معلقة باملشهد‬

‫أمامها‪:‬‬

‫‪ -‬مش سرحانة‪ ،‬بس شكلهم لطيف‪.‬‬

‫خرجت نبرته باردة الذعة‪:‬‬

‫‪ -‬شكلهم عادي‪ ،‬شكل طبيعي ألي أسرة‪.‬‬

‫اعتدلت بجلستها توليه انتباهها‪ ،‬ترددت بسؤاله ذلك‬

‫السؤال الذي قفزإلى ذهنها فجأة‪ ،‬لكن قلبها أصرعليها‬

‫بمعرفة اإلجابة‪ ،‬فخرجت نبرتها مترددة‪:‬‬

‫‪ -‬إنت ممكن تعامل أوالدك ازاي؟ بجد نفس ي أشوفك…‪.‬‬

‫قطع جملتها بنبرة خرجت زاعقة ر ً‬


‫غما عنه‪:‬‬

‫‪80‬‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬

‫قالها ونظره تجاه طبق الطعام أمامه‪ ،‬ثم ارتفع ببصره ينظر‬

‫إليها‪ ،‬يرى عالمات عدم الفهم جلية بوجهها‪ ،‬عقد ساعديه‬

‫على الطاولة أمامه يوضح لها مقصده‪:‬‬

‫‪ -‬شيلي موضوع األوالد من دماغك ألني مبفكرش فيه‪.‬‬

‫ألقاها بوجهها وتركها تبتلع صدمتها‪ ،‬موضوع أراد اخبارها‬

‫به منذ ارتباطه بها‪ ،‬وها قد سنحت الفرصة أمامه‪.‬‬

‫**********‬

‫حين تتقاذفك تقلبات الحياة‪ ،‬تتمرجح بين أمواجها الثائرة‪،‬‬


‫َّ‬
‫تشعرباإلنهاك‪ ،‬تلهث أنفاسك كعداء أنهى سباقه للتو‪،‬‬

‫‪81‬‬
‫تحاول أن تجعل األمور في نصابها‪ ..‬أن تسيرفي خطواتها‬

‫املرسومة لها‪ ،‬ال تجد من يعينك أو يدفعك لألمام‪ ..‬تجد‬

‫تائها‪ ..‬غيرقادرعلى التحمل أكثر‪.‬‬ ‫ً‬


‫وحيدا‪ً ..‬‬ ‫نفسك‬

‫كانت تحاول جاهدة أن تنهي ترتيبات زفافها‪ ،‬ال تريد أن‬


‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تشعره بأن ش يء ينقصها‪ ،‬كانت تظهرله دائما مساندة‬

‫والدها وشقيقها لها‪ ..‬رغبتهم بجلب قطعة من السماء‬

‫ألجلها‪ ،‬لكنه ال يرى‪ ..‬ال يبالي‪ ..‬ال يهتم‪ ،‬مدى رؤيته ال يتعدى‬

‫خطوتين أسفل قدميه‪ ،‬ال يهتم سوى بنفسه فقط‪ ،‬ال يبالي‬

‫أن ترهقها والدته بطلبات ُعش الزوجية لكي تناسب األسرة‬

‫الكريمة التي ستنتمي إليها‪ ،‬لكنه يعترض حين ُيطلب منه ما‬

‫هو في حدود املعقول‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫أنهت ما تحتاجه بعدما أعطاها والدها املال‪ ،‬اشترت ما‬

‫ينقصها‪ ،‬وحين أخبرته أن كل ش يء أصبح جاهزفاجأها‬

‫بتعثره املالي‪ .‬لم يخبرها برغبة في تأجيل الزفاف أو ش يء من‬

‫هذا القبيل‪ ،‬بل طلب التغاض ي عن بعض األشياء املطلوبة‬

‫منه‪.‬‬

‫جلس مقابلها يرتشف كوب العصير املوضوع أمامه بتلذذ‬

‫يزيد من غضبها‪ ،‬ينظرإليها‪ُ ،‬يخبرها بمدى أهمية أن تسانده‪،‬‬


‫ُيملي عليها الحل الذي َّ‬
‫توصل إليه؛ أال وهو إتمام الزيجة‬

‫وشراء ما ينقصهم في وقت الحق‪.‬‬

‫جحظت عيناها‪ ،‬ال تصدق ما تسمعه‪ ،‬حاولت أن تبدو‬

‫هادئة وإن خرج صوتها يشوبه بعض العصبية‪:‬‬

‫‪83‬‬
‫‪ -‬دا ملا يكون ناقصنا غسالة أو سخان أو حتى أنتريه نبقى‬

‫نجيبهم بعد الفرح‪ ،‬لكن مش أوضة النوم يا شريف!‬


‫أخبرها بسرعة جواب جاهز ُ‬
‫ومعد وفق سيناريو سابق قد‬
‫ً‬
‫رتبه عقله جيدا‪:‬‬

‫‪ -‬ما إحنا مش هنحتاجها‪.‬‬

‫حملقت به‪ ،‬تشعرأن عقله قد أصابه لوثة أو ال يدرك ما‬

‫يتفوه به لسانه‪ ،‬وضعت يدها أسفل ذقنها تستدعي الصبر‪:‬‬

‫‪ -‬دا اللي هو ازاي يعني!‬

‫تناول كوب العصيرأمامها بعدما أنهى خاصته‪ ،‬تجرع ما به‬

‫دفعة واحدة‪ ،‬يخبرها ببقية مخططه‪:‬‬

‫‪84‬‬
‫‪ -‬إحنا هنسافرتاني يوم الفرح‪.‬‬
‫ُ‬
‫صدمت‪ ،‬اعترتها دهشة عارمة‪ ،‬من أين له بتلك الترتيبات‬

‫الجديدة التي ال تعلم عنها ش يء‪ ،‬سألته متعجبة‪:‬‬

‫‪ -‬سفرإيه! هو السفردا طلع كده فجأة!‬

‫عقد ذراعيه على الطاولة أمامه يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬ال مش فجأة‪ ،‬املوضوع من فترة بس كنت مستني‬

‫املو افقة النهائية‪ ،‬وملا جات قلت أعرفك‪.‬‬

‫غضبت‪ ،‬لم تتحكم بنبرة صوتها املرتفعة‪:‬‬

‫‪ -‬و أنا فين من دا كله‪ ،‬أنا في آخرترتيباتك!‬

‫أوقفها عن تكملة حديثها‪:‬‬

‫‪85‬‬
‫‪ -‬سارة‪ ،‬دي فرصة أنا مش هسيبها‪ ،‬مش هضيعها من‬

‫إيدي‪ ،‬بفلوس الفرح وأوضة النوم نخلص أوراق‬

‫السفر‪ ،‬وملا ربنا يكرمنا من الشغل نبقى نجيب اللي‬

‫ناقصنا‪.‬‬

‫تملكتها رغبة بمعاندته‪ ،‬لن تو افقه‪ ،‬لن تسمح له أن‬

‫ُيخضعها لرغباته‪ ..‬أن يتحكم بها كماريونيت خيوطها بيده‪،‬‬

‫نظرت له متحدية‪ ،‬تخبره بجدية وقرارال رجعة فيه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش مو افقة يا شريف‪ ،‬أنا مش هسافروأسيب‬

‫ياسين وبابا‪.‬‬

‫ليخبرها بزعقة‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫أبوك يا سارة‪ ،‬دا يادوب رباكي‪.‬‬
‫‪ -‬مش ِ‬

‫يخبرها بالحقيقة‪ ،‬تلك الحقيقة التي تنكرها وال تعترف بها‪.‬‬

‫**********‬
‫ً‬
‫إذا أردت شيئا تمسك به‪ ،‬ال تدع فرصة للظروف أن تحرمك‬

‫منه‪ ،‬ال تسمح للحياة أن تنتشله منك‪.‬‬

‫هي ً‬
‫دائما تحصل على ما تريد‪ ،‬تدهس بقدمها ما يعترضها‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫تتأثر‪ ..‬ال تهتم‪ ،‬تنحي مشاعرها وقلبها جانبا‪ ،‬وتجعل‬

‫السيطرة الكاملة لعقلها ورغباتها‪.‬‬

‫أثبتت نفسها بعملها‪ ،‬اغتنمت فرص كثيرة كانت لزمالء أقدم‬

‫منها بالعمل‪ ،‬وكل ش يء يهون في سبيل التقدم‪ .‬وعلى الصعيد‬

‫‪87‬‬
‫األسري شخصيتها ال تختلف ً‬
‫كثيرا‪ ،‬ففي سبيل إسعاد ذاتها‬

‫ستدهس أقرب األشخاص إليها‪ ،‬في سبيلها للحصول على ما‬

‫تريد هي على استعداد أن تدهس قلب شقيقتها‪.‬‬


‫ُ‬
‫أعجبت بزوج شقيقتها‪ ،‬عمله ووضعه املالي واالجتماعي‬

‫الذي أصبح عليه سيسهالن عليها الكثيربحياتها‪ ،‬ومن ناحية‬

‫أخرى فهو شخصية جذابة‪ ،‬واجهة اجتماعية مشرفة‬

‫يسعدها اقتران اسمها به‪ ،‬اقتربت منه حد أن شغلت تفكيره‬


‫ً‬
‫مؤخرا حتى مع زوجته‪ ،‬وشقيقتها‬ ‫وأصبحت محور حديثه‬

‫البريئة ظنته مجرد إعجاب بعقليتها ومهارتها بالعمل‪ ،‬لكنها‬

‫من وجهة نظرشقيقتها غبية تستحق ما حدث لها‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫أخبرته أن ينفصل عنها‪ ،‬أن يتخلصا من العقبة التي َت ُحول‬
‫َّ‬ ‫دون تواجدهما ً‬
‫معا‪ ،‬وهو نفذ لها رغبتها‪ ،‬هدم أسرته في‬

‫سبيل تجديد عشق زائف‪.‬‬

‫جلست برفقته بمكتبه‪ ،‬يخططان للخطوة القادمة‪ ،‬تجلس‬


‫ً‬
‫باملقعد أمامه واضعة ساق فوق األخرى‪ ،‬تخبره بثبات ودون‬

‫أدنى شعور بالذنب‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش عارفة إنت مكبراملوضوع ليه!‬

‫يخبرها بنبرة تعكس توتره‪ ،‬وشعور طفيف بالذنب يحاول‬

‫مداراته‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫‪ -‬عشان املوضوع كبيريا أسيل‪ ،‬أنا كنت لسه جوز أختك‬

‫من شهرين وبكره املفروض أروح أقول لباباكي إني عايز‬

‫أتجوزك‪.‬‬

‫تهزكتفيها بال مباالة ليست بجديدة عليها‪:‬‬

‫‪ -‬و إيه املشكلة! الحياة بينكم انتهت‪ ،‬واحنا معجبين‬

‫ببعض‪ ،‬مش شايفة فيها أي مشكلة‪.‬‬

‫جلس مقابلها‪ ،‬يفرك كفيه‪ ،‬يهزقدميه‪:‬‬

‫‪ -‬يعني باباكي هيو افق بسهولة كده؟‬

‫لم تتغيرمالمحها ً‬
‫كثيرا؛ باردة‪ ..‬ال روح فيها‪ ..‬مشاعرها ذابلة‪:‬‬

‫‪ -‬حتى لو مش هيو افق إحنا دورنا نقنعه لحد ما يو افق‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫ُ‬
‫اقتربت منه بوجهها تكمل‪:‬‬

‫‪ -‬حتى لو اضطرينا نجبره‪.‬‬

‫تخبره أنها ستنفذ ما تريد‪ ،‬ستفعل املستحيل لتتم زيجتها‬

‫منه‪ ،‬وكل ما عليه فعله هو أن يتبعها وينفذ ما تطلبه منه‪.‬‬

‫**********‬
‫ً‬
‫شخصا ما عن الحب سيخبرك أنه تلك اللحظة‬ ‫إن سألت‬
‫التي تغيرحياتك‪ ،‬تقلبها ر ً‬
‫أسا على عقب‪ ،‬تلك النظرة التي‬
‫ُ‬
‫تجعل الشرارات تسري بجسدك‪ ،‬تلك الهمسة التي تزيد‬

‫هديرقلبك‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫الحب هو أن تكتفي بنظرة يومية ملن تحب‪ ،‬أن يتخدر‬

‫جسدك بسماع صوته‪ ،‬أن تهيم بابتسامة تعلو وجهه‪.‬‬

‫إن كان هذا هو الحب‪ ،‬فهو قد وقع به‪ ،‬خطا أول درجاته‪،‬‬
‫ُ‬
‫فرؤيته لها تسعده‪ ،‬نظرة واحدة إليها كفيلة أن تجعل‬

‫االبتسامة تر افقه‪.‬‬

‫منذ عملها معه يشعربانجذاب تجاهها‪ ،‬يميل القلب إليها‪،‬‬

‫يريد أن يكسرحاجزالخجل داخله ويعترف لها بما يشعربه‪،‬‬

‫لكنه كلما حاول‪ ،‬تراجع في اللحظة األخيرة‪.‬‬

‫أتته فكرة ربما تكون هي البداية‪ ،‬وعزم على سرعة تنفيذها‪.‬‬

‫توجه إلى غرفة شقيقته يقرعها بهدوء حتى أتاه ردها يدعوه‬

‫‪92‬‬
‫بالدخول‪ .‬شعربالسعادة حين رآها تعود لشغفها‪ ..‬ألوانها‬

‫فرح ملحاولتها الخروج خارج قوقعتها‪ ،‬وما ينتويه‬


‫ولوحاتها‪ِ ،‬‬
‫سيساعدها أكثر‪.‬‬

‫ناوشت ثغره ابتسامة‪ ،‬واكتسب صوته الحماس‪:‬‬

‫‪ -‬دا إيه الجمال دا!‬


‫َُ ً‬
‫اقترب منها مقبال رأسها‪:‬‬

‫‪ -‬طب بزمتك ينفع الجمال دا يفضل محبوس في أوضتك‬

‫من غيرما حد يكتشفه!‬

‫نظرت له بلؤم‪ ،‬تعلم أن وراء اطرائه ش يء آخر‪ ،‬حدثته بنبرة‬

‫عابثة‪:‬‬

‫‪93‬‬
‫‪ -‬عايزإيه يا كرم!‬
‫ً‬
‫واضعا يده بجيب سرواله‪ ،‬تعثرت‬ ‫نظرإليها من وقفته‬

‫كلماته‪:‬‬

‫‪ -‬هكون عايزإيه يعني! مش عايزحاجة‪.‬‬

‫صمتت‪ ،‬تعلم أن بجعبته الكثير‪ ،‬ولم يخب ظنها‪ ،‬فقد‬

‫استرسل حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬بقولك يا ريم‪ ،‬إيه رأيك تيجي تشتغلي معايا أنا وأمجد؟‬

‫ُبهتت من اقتراحه‪ ،‬فهي رغم محاولتها للتعايش لكنها مكتفية‬

‫فقط بأسرتها‪ ،‬ال تريد الخروج وال التعامل مع البشر‪.‬‬

‫انتبهت لباقي حديثه‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫‪ -‬إحنا هنحتاج موهبتك دي في قسم الديكور‪ ،‬واشتغل‬
‫معانا مهندسة جديدة هتحبيها ً‬
‫جدا‪.‬‬
‫ً‬
‫إذا هذا هو السبب‪ ،‬املهندسة الجديدة هي سبب تغيرحال‬

‫شقيقها‪ ،‬نظرت له بخبث تحدثه‪:‬‬

‫‪ -‬قلت لي املهندسة الجديدة! طب على كده بقى شغل‬

‫املهندسة الجديدة حلو؟‬


‫ً‬
‫سريعا دون تفكير‪:‬‬ ‫أجابها‬

‫‪ -‬عظيم‪ ،‬حاجة ممتازة‪.‬‬

‫صدحت ضحكتها ً‬
‫عاليا‪ ،‬تفهم شقيقها من عينيه‪ ،‬تعلم أنه‬

‫يريد مساعدتها‪ ،‬فهو يطلب منها بطريقة غيرمباشرة أن‬

‫‪95‬‬
‫تكون وسيلة تواصل بينهما‪ ،‬وهي أمام العشق ضعيفة‪،‬‬

‫فقررت أن تساعده‪ ،‬اقتربت منه تغمزله بعينها‪:‬‬

‫‪ -‬ماش ي‪ ،‬مو افقة أشتغل مع املهندسة الجديدة‪.‬‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫شعرباالرتباك قليال‪ ،‬خلل يده في خصالته يخبرها سريعا‪:‬‬

‫‪ -‬اعملي حسابك هتنزلي معايا من بكره‪.‬‬

‫غادروتركها تبتسم وتشعربالسعادة ألجله‪.‬‬

‫**********‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الحياة ال ترحم‪ ،‬لكنها تحرم‪ ،‬تسلبك ما تحب‪ ،‬تسقط على‬

‫رأسك الخسارة تلو األخرى‪ ،‬وهي تعددت خساراتها باملاض ي‪،‬‬

‫ولم تعد تحتمل خسارة أخرى‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫ال تريد أن تخسرابنتها‪ ،‬ابنتها التي تلتزم الصمت وتمتنع عن‬

‫محادثتها‪ ،‬تتجنبها وكأنها شخص غريب عنها ال تربطها به‬

‫صلة قرابة‪ ،‬عليها أن تفعل ش يء لتعيد عالقتها معها إلى‬

‫مجراها الطبيعي‪ ،‬ستخبرها ما تريد معرفته‪ ،‬وبعض الكذب‬

‫ال يضر‪.‬‬

‫طرقت باب غرفتها‪ ،‬دخلته دون أن تنتظرإذن لن تحصل‬

‫عليه‪ ،‬اقتربت من تلك الجالسة بفراشها تتصفح حاسوبها‬

‫املوضوع على قدميها‪ .‬جلست بطرف الفراش‪ ،‬تستحضرما‬

‫أرادت اخبارها به‪ ،‬تتحدث بصوت متلعثم‪:‬‬

‫‪ -‬مكنش عايزك وال عايزني‪ ،‬أهلي مكنوش مو افقين على‬

‫جوازي منه‪ ،‬بس أنا قبلت به‪ ،‬كان ر افض فكرة‬

‫‪97‬‬
‫األطفال‪ ،‬وملا عرف اني عايزة طفل طلقني‪ ،‬طلقني حتى‬

‫قبل ما يعرف إني حامل‪ ،‬و مقدرتش أرجع ألهلي‪ .‬دلوقتي‬

‫أبوك معرفش طريقه‪ ،‬مش فاضلي غيرك‬


‫أهلي ماتوا‪ ،‬و ِ‬
‫إنت كمان؟‬
‫يا بيان‪ ،‬عايزة تتخلي عني وتبعدي ِ‬

‫ترقرقت الدموع بعيني ابنتها‪ ،‬اقتربت منها تحتضنها‪ ،‬تدفن‬

‫رأسها بين ذراعيها‪ ،‬اختنقت العبرات بحلقها‪ ،‬تعتذر‪:‬‬

‫‪ -‬أنا أسفة يا ماما‪ ،‬سامحيني‪.‬‬

‫كفكفت دموعها‪ ،‬تربت على رأس ابنتها‪:‬‬

‫إنت ملناش غيربعض يا بيان‪.‬‬


‫‪ -‬أنا و ِ‬

‫‪98‬‬
‫ً‬
‫ارتاح القلب…‪ ..‬قليال‪ ،‬إن كانت تعلم أن تلك الكذبة‬

‫الصغيرة ستريح ابنتها لكانت أخبرتها بها منذ زمن‪ ،‬فها هي قد‬

‫أنهت مشكلتها معها حتى وإن كانت هدنة مؤقتة زائفة‪.‬‬

‫**********‬

‫"الضغط يولد االنفجار"‬

‫ماذا إن كنت حتى ال تمتلك رفاهية االنفجار؟ تشعروكأن‬

‫ثقل الدنيا قد ُوضع فوق أكتافك‪ ،‬وما تفعله ال يكفي‪ ،‬ال‬

‫يوجد من يساندك‪ ،‬فقط أنت وحدك تتحمل املسؤولية‪.‬‬

‫الحمل‪ ،‬أصبح يتحمل مسؤولية تعويض‬


‫وهو قد زاد عليه ِ‬
‫خسارة والده‪ ،‬يحاول أن يضبط أوضاع والده املالية‪ ،‬هذا‬

‫‪99‬‬
‫بجانب مسؤولية عمله‪ ،‬وحين يفكرببعض الراحة‪ ،‬يأتي‬

‫شقيقه لينتزعها منه‪.‬‬

‫كان في طريقه إلى البيت حين أتاه اتصال هاتفي من شقيقه‬


‫َ‬
‫يخبره باحتجازه بأحد أقسام الشرطة‪ ،‬هاتف ابن عمته؛‬

‫محامي العائلة الذي يكره تورط أفراد العائلة باملشاكل‪،‬‬

‫ليلحقه إلنقاذ شقيقه‪ .‬تقابل معه أمام القسم‪ ،‬وهناك علم‬


‫ً‬
‫تورط شقيقه بمشاجرة مع بعض األشخاص مجاملة ألحد‬

‫أصدقائه‪ .‬انتهى األمربدفع غرامة مالية‪ ،‬و أنهى (أدهم)‬

‫القضية دون مشاكل‪ ،‬شكره (أمجد) في طريقهم خارج‬

‫القسم‪:‬‬

‫ً‬
‫شكرا يا أدهم‪ ،‬معلش تعبناك معانا‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪100‬‬
‫حدج (أدهم) املتسبب باإلزعاج بنظرة نارية‪:‬‬

‫‪ -‬متقولش كده يا أمجد‪ ،‬أنا تحت أمرك في أي وقت‪ ،‬بس‬

‫مش في املشاكل‪.‬‬

‫ً‬
‫موجها حديثه له‪:‬‬ ‫ربت على كتفه‬

‫‪ -‬يال أسيبكم أنا وأروح أكمل شغلي‪.‬‬

‫غادرهم وتوجه (أمجد) إلى سيارته يتبعه شقيقه‪ ،‬لم يتبادال‬

‫الحديث طوال الطريق‪ ،‬وبمجرد وصولهم إلى املنزل انسحب‬

‫(مازن) إلى غرفته‪ ،‬لكن شقيقه لم يمنحه وقت لالنفراد‬

‫بنفسه‪ ،‬اقتحم غرفته يمسك بتالبيبه‪:‬‬

‫‪101‬‬
‫‪ -‬إنت مش هتبطل االستهتاربتاعك دا بقى وتفوق‬

‫لنفسك!‬

‫البركان الذي يحاول اخماده منذ مرض والده قد انفجر‬

‫بشقيقه‪ ،‬حتى هذا االنفجارلم يكن رفاهية‪ ،‬بل كان إجبار‬


‫ً‬
‫منخفضا لكي‬ ‫بسبب أفعال شقيقه‪ .‬حاول أن يجعل صوته‬

‫ال يصل ملسامع والديه‪:‬‬

‫ً‬
‫قسما باهلل يا مازن لو ما اتظبطت ليكون ليا تصرف‬ ‫‪-‬‬

‫تاني معاك‪.‬‬
‫نفض (مازن) يد شقيقه التي تمسك بياقة قميصه ً‬
‫بعيدا‬
‫ً‬
‫عنه زاعقا به‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫‪ -‬هتعملي إيه يعني؟ هتضربني؟‬

‫بروده وال مباالته زادا من غضب شقيقه‪ ،‬فأمسكه يلصقه‬

‫بالجدارخلفه‪:‬‬

‫‪ -‬لو حكمت يا مازن هعملها‪ ،‬و ابقى شوف مين بقى‬

‫هيخرجك من مصايبك الجاية‪.‬‬

‫تركه ورحل إلى غرفته‪ ،‬ينشد بعض الراحة بعد عناء يوم‬

‫طويل‪ ،‬لم ينتبه إلى والدته التي استمعت إلى شجارهما‪ ،‬تبكي‬
‫ً‬
‫حزنا على حال صغيرها الذي تظن أن ما يحدث معه هو‬

‫نتيجة ظلم اقترفه زوجها باملاض ي‪ ،‬ليحين موعد حصد ثماره‬

‫اآلن‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫**********‬

‫الحياة لعبة عليك امتالك خيوطها‪ ،‬تحكم في من حولك‪،‬‬

‫اجعل مصائرمن تريد بيدك‪ ،‬ادرس خططك‪ ،‬احسب‬


‫ً‬
‫خطواتك جيدا لتحصل على ما تريد بوقته املناسب‪.‬‬

‫َ‬
‫اقترب منها‪َّ ،‬‬
‫تعرف عليها‪ ،‬أو أظهرذلك‪ ،‬فهو يعرف عن عائلتها‬

‫كل ش يء‪ ،‬وتعارفه بها لم يكن سوى خطوة ضرورية عليه‬

‫أخذها‪.‬‬

‫أصبح لها الصديق الوحيد‪ ،‬شجعها على القدوم واالستقرار‬


‫بمصروكان هذا أول مخططاته‪َّ .‬‬
‫سهل لها فرصة الحصول‬

‫على عمل‪ ،‬أصبحت تحت ناظريه ما يزيد عن الشهرين‪ ،‬وزاد‬

‫‪104‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫تقربه منها‪ ،‬زاد تعلقها به‪ ،‬ملح كثيرا سابقا بإعجابه بها‪،‬‬

‫واليوم حانت لحظة الخطوة التالية‪.‬‬

‫دعاها ملكان ما‪ ،‬أخبرها برغبته بالحديث معها‪ ،‬موضوع هام‬


‫ً‬
‫أراد اخبارها به بعيدا عن العمل‪ .‬توجهت معه إلى مطعم‬

‫قريب‪ ،‬اكتفت بكوب عصيرو انتظرت أن يبدأ هو الحديث‪.‬‬

‫كثيرا‪ ،‬نظرلوجهها ُيظهرجديته بالحديث‪،‬‬


‫لم يجلعها تنتظر ً‬
‫ً‬
‫ودخل باملوضوع مباشرة‪:‬‬

‫‪ -‬روفيدا‪ ،‬تتجوزيني؟‬

‫**********‬

‫‪105‬‬
‫(‪)4‬‬
‫ٌ‬
‫شخص ما ذات يوم عن دليل للحب قل له ال‬ ‫إذا سألك‬

‫أعلم‪ ،‬فالحب ليس له دليل‪ ،‬بل إنه يخترق القلب عنوة‪،‬‬

‫يقتحم حصونه ويهدم قالعه‪ ،‬فيفرض سطوته ويحكم‬

‫قبضته عليه‪ ،‬ال تجوز معه مقاومة وال يعرقله دفاع‪ ،‬هذا هو‬

‫دليل وجوده‪.‬‬

‫جلست هائمة‪ ،‬ابتسامتها تعلو ثغرها‪ ،‬ال تعير لثرثرة الجالسة‬


‫ً‬
‫اهتماما‪ ،‬كل ما يدور بذهنها هو عرضه الزواج عليها‪،‬‬ ‫جوارها‬

‫توترها أمامه‪ ،‬تورد وجنتيها‪ ،‬الحرارة التي اجتاحت جسدها‬

‫‪106‬‬
‫حينها‪ ،‬لم تعلم بما تجيبه‪ ،‬خجلها منعها النطق‪ ،‬ويتردد‬

‫بعقلها جملته األخيرة‪:‬‬

‫‪ -‬أنا هعتبراللي شايفه دا مو افقة مبدئية‪ ،‬لو كالمي صح‬

‫هستنى تحددي ميعاد مع أهلك وتبلغيني به‪.‬‬

‫أفاقت على لكزة من (بيان) تحاول جذب انتباهها‪ ،‬وصوتها‬

‫املحتد يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬ما تردي عليا يا روفيدا هو أنا بكلم نفس ي!‬

‫التفتت إليها تخبرها ببقايا شرود‪:‬‬

‫‪ -‬بتقولي إيه؟‬

‫‪107‬‬
‫اعتدلت األخرى بجسدها توليها كامل انتباهها‪ ،‬تغمز لها‬

‫بعينها تشاكسها‪:‬‬

‫إنت مش معايا خالص‪ ،‬هو إيه املوضوع بالظبط؟‬


‫‪ِ -‬‬

‫شعرت (روفيدا) بالخجل‪ ،‬سعادتها اتضحت بنبرتها وهي‬

‫تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬زياد طلب يتجوزني‪.‬‬

‫وقفت (بيان) مهللة‪ ،‬تشعربالفرح من أجل صديقة‬

‫اكتسبتها خالل شهور قليلة‪ ،‬اقتربت منها تحتضنها‪:‬‬


‫‪ -‬مبروك يا روڤي‪ ،‬فرحتلك ً‬
‫جدا‪.‬‬

‫فيك‪.‬‬
‫‪ -‬هللا يبارك ِ‬

‫‪108‬‬
‫تلجلجت بحديثها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا محروجة أفاتح ماما في املوضوع‪ ،‬مش عارفة أقول‬

‫لها اتعرفت عليه إزاي‪.‬‬

‫جلست (بيان) مقابلها‪ ،‬تمسك بيدها املرتجفة‪ ،‬تبثها بعض‬

‫االطمئنان‪:‬‬

‫‪ -‬عادي قوليلها زميلك في الشغل‪.‬‬

‫وقفت (روفيدا)‪ ،‬تسيرداخل الغرفة بتوترانعكس على نبرة‬

‫صوتها‪:‬‬

‫‪ -‬املشكلة إني معرفش عنه أي حاجة غير شغله وبس‪،‬‬

‫حياته الشخصية صفحة بيضا بالنسبة لي‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫اقتربت األخرى منها تضمها‪:‬‬

‫‪ -‬عادي يا ستي ملا ييجي ابقي اعرفي كل اللي عايزاه‪.‬‬

‫برغم كل محاوالت (بيان) لطمأنتها إال أنها تعلم أن بداخلها‬

‫لن يهدأ إال بعد مقابلته لوالديها‪ ،‬ولكنها ستعمل بنصيحة‬

‫صديقتها وستترك كل ش يء لحينه‪.‬‬

‫**********‬

‫يبحث اإلنسان ً‬
‫دائما عن من يشاركه لحظاته‪ ،‬فرحه وحزنه‪،‬‬

‫ابتسامته ودموعه‪ ،‬ضيقه وهمه‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫لكنه ال يملك تلك الرفاهية‪ ،‬فهو عليه أن ُيلقي ضيقه‬
‫وحزنه ً‬
‫بعيدا‪ ،‬وأن يرتدي ً‬
‫دائما قناع ابتسامته أمام والده‬

‫وشقيقته‪.‬‬

‫مستلقي على فراشه‪ ،‬يفكرفيما على عاتقه من مسؤوليات‪،‬‬

‫زواج شقيقته يشغل باله‪ ،‬ال يريد أن يثقل كاهل والده‪.‬‬

‫يقابله مشاكل بعمله‪ ،‬وعليه أن يتحمل‪ ،‬يحمل كل ذلك‬

‫وحده داخله‪.‬‬

‫عليه أن يكذب أمامهم‪ ،‬يفرح لشقيقته وال ُيشعرها بضائقته‬

‫املالية‪ ،‬يبتسم أمام والده وال ُيشغله بمشاكل عمله‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫عليه أن ُيكثف ساعات عمله ليستطيع سداد أقساط‬

‫شقته املتبقية‪ ،‬وأن يفعل ذلك دون أن يشعروالده أو‬

‫شقيقته بإرهاقه‪.‬‬

‫قاطع تفكيره طرقات على باب غرفته‪ ،‬ثم دلوف شقيقته‬

‫تخبره بوجوم‪:‬‬

‫‪ -‬فاض ي نتكلم شويه يا ياسين؟‬

‫ً‬
‫جالسا على فراشه‪ ،‬يخبرها بابتسامة‪:‬‬ ‫اعتدل‬

‫‪ -‬تعالي يا سارة‪.‬‬
‫يرى حزنها ً‬
‫باديا على وجهها‪ ،‬يخش ى سؤالها عن السبب فال‬
‫ً‬
‫يستطيع مساعدتها إن كان األمر متعلقا برغبتها ببعض املال‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫أخذت تفرك يديها ً‬
‫كثيرا قبل أن تلقي ما تريد قوله أمامه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا فسخت الخطوبة مع شريف‪.‬‬


‫ً‬
‫شعربالصدمة‪ ،‬انتفض و اقفا‪ ،‬خرجت نبرته غاضبة‪:‬‬

‫‪ -‬إيه! منك لنفسك كده؟‬


‫ً‬
‫شعرت بالضيق‪ ،‬خرج صوتها مختنقا بدموع تأبى هطولها‪:‬‬

‫‪ -‬لو سمحت يا ياسين دا قراري‪ ،‬أنا جاية أبلغك عشان‬

‫نشوف طريقة أقول بها لبابا‪.‬‬

‫أخذ يلوح بيده‪ ،‬يزداد غضبه‪ ،‬نبرة صوته ترتفع‪ ،‬تحتد‪:‬‬

‫‪113‬‬
‫‪ -‬عادي روحي ارميها في وشه زي ما عملتي معايا‪ ،‬قوليله‬

‫أنا معملتش اعتبار لك وال ألخويا وفسخت خطوبتي مني‬

‫لنفس ي‪.‬‬

‫هطلت دموعها ولم تستطع إجابته‪ ،‬شعربأن املوضوع أكبر‬

‫مما يظن‪ ،‬جلس جوارها‪ ،‬يحاول تهدئتها‪:‬‬

‫‪ -‬بتعيطي ليه دلوقتي؟‬

‫لم يحصل منها على جواب‪َّ ،‬‬


‫قربها منه يحتضنها‪:‬‬

‫‪ -‬طب احكيلي شريف زعلك في إيه و أنا هحل املوضوع‬

‫معاه‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫َّ‬
‫قصت عليه ما حدث معها بمقابلتها األخيرة لخطيبها‪ ،‬أخبرته‬

‫برغبة (شريف) بالسفرخارج البالد‪ ،‬رغبته في التغاض ي عن‬

‫شراء باقي أثاث املنزل‪ ،‬حديثه معها عن ترك والدها وعدم‬

‫سؤالها عنه ألنه فقط من رّباها وليس والدها الحقيقي‪،‬‬

‫يريدها أن تنكرفضل من رّباها حتى صارت ما هي عليه اآلن‪،‬‬

‫أنهت حديثها تخبرشقيقها‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري يا ياسين انهي معاه املوضوع‪ ،‬أنا عمري‬

‫ما هقدرأبعد عن بابا وأكون ناكرة للجميل‪.‬‬

‫ضمها إليه ُيقبل جبينها‪:‬‬


‫ربت على كتفها‪ّ ،‬‬

‫‪ -‬طب اهدي و أنا هتكلم مع شريف‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫َّ‬
‫هزت رأسها ً‬
‫نفيا‪ ،‬تخبره من وسط دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬حاولت أفهمه مفيش فايدة‪ ،‬مصمم على اللي في دماغه‪،‬‬

‫وفي اآلخرخيرني بينه وبين بابا‪.‬‬

‫علم حينها أن شقيقته اختارت والدها‪ ،‬وأن تربيته لها لم‬


‫تضع ً‬
‫هباء‪ ،‬استمع لها تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬أنا كل اللي يهمني بابا ميعرفش السبب الحقيقي‪ ،‬قوله‬

‫أي سبب تاني عشان ميزعلش‪.‬‬

‫احتضنها يطمئنها‪:‬‬

‫‪ -‬متقلقيش أنا هتصرف‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫لم يعلما أن كذبتهما التي ينويان إخباروالدهما بها لن تكون‬

‫ذات قيمة؛ فهو قد استمع لحديثهما دون علمهما‪.‬‬

‫**********‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ق‬
‫األنانية هي أن تعلم حقوقك جيدا متجاهال حقو اآلخرين‪،‬‬

‫أن تحيا لنفسك حتى وإن كان على حساب حياة أقرب‬
‫ً‬
‫داهسا سعادة غيرك‬ ‫األشخاص إليك‪ ،‬أن تلتفت لسعادتك‬

‫بقدميك‪.‬‬

‫هي ال تراها أنانية بل حق‪ ،‬ترى أن من حقها أن تحصل على‬

‫كل ش يء‪ ،‬أن تتزوج طليق شقيقتها هو حقها طاملا هذا هو ما‬

‫يسعدها‪ ،‬أن تفعل ما تريد وال تبالي ألحد‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫انتهزت فرصة وجود شقيقتها بمنزلهم وجلوسها برفقة‬

‫والديها بغرفة املعيشة‪ ،‬توجهت إليهم تخبرهم باألمر‪ ،‬حاولت‬

‫أن تبدو نبرتها حازمة مما يعني إصرارها على ما تريد‪ ،‬توجهت‬

‫بالحديث لوالدها‪:‬‬

‫‪ -‬لو سمحت يا بابا كنت عايزة حضرتك في موضوع‪.‬‬


‫ً‬
‫جميعا لها ثم أكملت‪:‬‬ ‫توقفت ترى مدى انتباههم‬

‫‪ -‬في شخص حابب يتقدملي‪.‬‬

‫أنهت جملتها وتوجهت نظراتها إلى شقيقتها‪ ،‬ظنوا أنها تبالي ملا‬

‫مرت به شقيقتها‪ ،‬اعتقدوا أن حزن (سيرين) سيمنعها الفرح‬

‫‪118‬‬
‫ألجل (أسيل)‪ ،‬لكنها أثبتت لهم سوء اعتقادهم حينما‬

‫اقتربت من شقيقتها تحتضنها بسعادة‪:‬‬

‫‪ -‬مبروك يا أسيل‪ ،‬ربنا يتمم لك بخير‪.‬‬


‫ً‬
‫أجلى والدها صوته قائال‪:‬‬

‫أنت بتباركيلها يا بنتي قبل ما أعرف مين العريس أو‬


‫‪ِ -‬‬
‫أو افق عليه‪.‬‬

‫َّ‬
‫ضمت شقيقتها بقوة تخبروالدها‪:‬‬

‫‪ -‬يا بابا أسيل مش صغيرة وال ساذجة‪ ،‬وأكيد هتختارحد‬

‫كويس‪.‬‬

‫أقرت (أسيل) كالم شقيقتها‪:‬‬

‫‪119‬‬
‫‪ -‬هو فعال حد كويس يا سيرين‪ ،‬ودا بشهادتك‪.‬‬

‫نظرت إليها (سيرين) بدهشة‪:‬‬

‫‪ -‬شهادتي أنا؟ ليه هو أنا أعرف العريس؟‬

‫ابتسمت تخبرها‪:‬‬
‫ً‬
‫طبعا‪ ،‬عزاملعرفة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ثم ألقتها بوجههم‪:‬‬

‫‪ -‬العريس يبقى عاصم‪.‬‬

‫شعرت (سيرين) برجفة تجتاح جسدها‪ ،‬تهاوى ذراعاها‬

‫جانبها‪ ،‬لم تعد قدماها تستطيعان حملها فتوجهت ألقرب‬

‫مقعد تتهاوى عليه‪ ،‬تستمع لوالدها يصرخ بشقيقتها‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫اتجننت؟ عايزة تتجوزي طليق أختك!‬
‫ِ‬ ‫إنت‬
‫‪ِ -‬‬

‫تجيبه ببرود‪ ،‬وبصوت يخلو من أي ذرة ندم‪:‬‬

‫‪ -‬إيه املشكلة! هو وسيرين انفصلوا وبصراحة مش شايفة‬

‫إنه يترفض‪.‬‬

‫اقتربت منها والدتها تهديها صفعة على وجنتها‪:‬‬

‫‪ -‬شكلك مش في وعيك ومحتاجة قلم يفوقك‪.‬‬

‫نظرت لهم بتحدي‪ ،‬تخبرهم أن ال أحد سيثنيها عن قرارها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا وعاصم هنتجوز‪ ،‬أنا توقعت رد فعلكم دا‪ ،‬أنا مش‬

‫صغيرة على فكرة وعارفة مصلحتي‪ ،‬أنا بس حبيت‬

‫‪121‬‬
‫أبلغكم وكان نفس ي املوضوع يمش ي بشكل رسمي‬

‫ومتحضر‪.‬‬

‫زعق بها والدها‪:‬‬

‫‪ -‬هكسرلك رقبتك قبل ما تعمليها‪ ،‬ولو اتكلمتي في‬

‫لك‬
‫املوضوع دا تاني يبقى تخرجي بره البيت وتنس ي إن ِ‬
‫أهل‪ ،‬هو دا التحضراللي عندي يا أسيل‪.‬‬

‫نظراتها توجهت كسهام حارقة تجاه شقيقتها‪ ،‬تخبرها أنها‬

‫عقبة أمام تحقيق مبتغاها‪ ،‬لكنها ستفعل ما تريد؛ فهي لم‬

‫تعتد االستسالم‪ ،‬توجهت إلى غرفتها تاركة النارالتي أشعلتها‬

‫في األجواء تتآكلهم‪ ،‬األب يعلو صوته يتوعد زوج ابنته‬

‫‪122‬‬
‫السابق‪ ،‬األم تتحسرعلى حال ابنتها‪ ،‬و(سيرين) لم تفق من‬

‫صدمتها بعد‪.‬‬

‫**********‬

‫ن‬ ‫ً‬
‫أحيانا يتصف العاشقو بالغباء‪ ،‬فهم على استعداد أن‬

‫يخسروا كل ش يء من أجل الحب‪.‬‬

‫من قال أن مرآة الحب عمياء لم يكذب‪ ،‬بل هي الحقيقة‬

‫كاملة؛ فمن يقع في الحب ال يرى في من يحب أي عيوب‪ ،‬بل‬

‫يراه الشخص املثالي املناسب له‪.‬‬

‫هل أنت على استعداد لتتمادى في قائمة تنازالتك من أجل‬

‫الحب؟‬

‫‪123‬‬
‫وإلى أي مدى ستستمرهذه التنازالت؟‬

‫متى سيحين الوقت من أجل اإلفاقة من الوهم الذي تحياه؟‬

‫هي لم يحن وقت إفاقتها بعد‪ ،‬حبها له ُيغيب عقلها‪ ،‬يجعل‬

‫قلبها هو املسيطرواملتحكم في مجريات األمور‪ .‬ترى شغفه‬

‫بعمله‪ ،‬معاملته الباردة لها‪ ،‬ومع ذلك تستمربحبه‪ ،‬تأمل أن‬


‫تمتلك قلبه ً‬
‫يوما‪.‬‬

‫واآلن قائمة التنازالت تزداد‪ ،‬يطلب منها ترك أمومتها ً‬


‫جانبا‬

‫ريثما يحدد هو الوقت املناسب‪ ،‬يطلب منها عدم التفكيرفي‬

‫غريزة متأصلة لدى جنس حواء بالكامل‪ ،‬وهي وقتها لم تجد‬

‫‪124‬‬
‫رد مناسب‪ ،‬وهو لم يكلف نفسه عناء مناقشتها‪ ،‬بل قرر وهي‬

‫عليها التنفيذ‪.‬‬

‫منذ آخرلقاء بينهما واملوضوع يشغلها‪ ،‬تجهل سبب قراره‬

‫هذا‪ ،‬ولكن مع (أدهم) ال مجال للتعجب؛ فهي اعتادت منه‬

‫كل ما هو غريب‪.‬‬

‫تتذكركلماته لها‪ ،‬يخبرها أن تفكر في املوضوع بجدية وتخبره‬

‫إن كانت تو افقه أم ال‪ ،‬يريد قراربكلمة واحدة وال سبيل‬

‫لنقاش‪ ،‬وبالطبع هي تعلم نتيجة عدم مو افقتها إن اختارت‬

‫معارضته؛ لن يكون له وجود بحياتها‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ُ‬
‫اليوم اتخذت قرارها وستخبره به‪ ،‬أمسكت هاتفها لالتصال‬

‫به‪ ،‬أتتها نبرته الباردة املعتادة‪ ،‬يسألها بعملية‪:‬‬

‫‪ -‬في حاجة مهمة يا هند؟ معايا ملف مركزفيه‪.‬‬

‫تنهدت بقلة حيلة‪ ،‬تتألأل دموعها بعينيها‪ ،‬حاولت مدارة‬

‫خنقتها بصوتها وهي تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مو افقة‪ ،‬هنأجل موضوع األوالد‪.‬‬

‫لحظة صمت هي ما سمعته في البداية قبل أن يخبرها بنبرة‬

‫شعرت من خاللها بارتياحه‪:‬‬

‫‪ -‬تمام‪ ،‬مضطرأقفل عشان أخلص شغلي‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫أغلق الخط قبل أن يصله ردها‪ ،‬حينها سمحت لدموعها‬

‫بالهطول‪ ،‬تبكي بصمت‪ ،‬والقلب العاشق بغباء أعلن فوزه‬

‫مرة أخرى‪.‬‬

‫*********‬

‫يجعلك العشق بأقص ى درجات السعادة‪ ،‬تشعرأنك تمتلك‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫جناحين تحلق بهما‪ ،‬ال تالمس قدميك األرض‪.‬‬

‫أخبرت والدتها برغبة (زياد) بالتقدم لخطبتها‪ ،‬أرادت والدتها‬

‫تأجيل املوضوع حتى يأتي والدها من سفره‪ ،‬لكنها‬

‫استطاعت إقناعها بمقابلته ووالدته من أجل تعارف بسيط‬

‫وتأجيل اإلجراءات الرسمية حتى عودة والدها‪ .‬غمرتها‬

‫‪127‬‬
‫السعادة حين أيدها والدها بقرا ها‪ ،‬فلم تجد والدتها ُبداً‬
‫ر‬

‫سوى املو افقة‪.‬‬

‫ذهبت لغرفتها تهاتفه لتخبره بتحديد موعد مع والدتها‬


‫ملقابلته بعد يومين‪ ،‬خرج صوتها ً‬
‫فرحا وهي تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬ماما منتظراك إنت ووالدتك الوقت اللي يناسبكم‪.‬‬

‫أخبرها بسعادة‪ ،‬لكنها سعادة من نوع آخربالنسبة له‪:‬‬

‫‪ -‬و أنا منتظرعلى أحرمن الجمر‪ ،‬بس مش ناوية تقوليهالي‬

‫بقى وال إيه؟‬

‫شعرت بالخجل وهي تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬أقول إيه؟‬

‫‪128‬‬
‫أخبرها بإصرارعلى رغبته‪:‬‬

‫‪ -‬اللي نفس ي أسمعها منك من يوم ما قابلتك‪.‬‬


‫ً‬
‫صمتت قليال قبل أن تخبره بخجل‪:‬‬

‫‪ -‬بحبك‪.‬‬
‫ً‬
‫سريعا قبل أن تستمع إلى جوابه‪ ،‬أتتها رسالة‬ ‫أغلقت الخط‬

‫توردت وجنتيها فور قراءة محتواها "حلوة قوي بصوتك"‪.‬‬

‫تمددت على فراشها تستسلم لنوم تقابل به أحالمها‬


‫ُ‬
‫الوردية‪ ،‬التي ربما قد تبترمنها على أرض الو اقع‪.‬‬

‫*********‬

‫‪129‬‬
‫هناك ً‬
‫دائما من يحاول محو دفاتراملاض ي‪ ،‬يسعى لبقائها‬
‫ً‬
‫جاهدا لكي تبقى طي النسيان؛‬ ‫مندثرة تحت األطالل‪ ،‬يعمل‬

‫فبداخلها حق مسلوب ال يريده أن يظهرللنور‪.‬‬


‫ُ‬
‫ودفاتراملاض ي فتحت بوجهه باألمس‪ ،‬أخبره والده بما كان‬
‫يجهله ألكثرمن عشرين ً‬
‫عاما‪ّ ،‬‬
‫حمله أمانة ال يعلم إن كان‬
‫ً‬
‫جاهدا لتنفيذ رغبة والده‪.‬‬ ‫قاد ًرا لها أم ال‪ ،‬لكنه سيسعى‬

‫يقف على رأس سرادق العزاء‪ ،‬يتلقى التعازي في وفاة والده‪.‬‬

‫بعدما انتهى صعد لالطمئنان على والدته‪ ،‬يشغل تفكيره‬

‫طوال اليوم ما أخبره به والده‪ ،‬حقيقة عمه الذي لم يكن‬

‫يعلم بوجوده من قبل‪ ،‬أخبره والده الحقيقة كاملة؛ شقيقه‬

‫‪130‬‬
‫ً‬
‫األصغرالذي توفي في ريعان شبابه تاركا وراءه زوجة ال يعلم‬

‫إن كان قد أنجب منها أم ال‪.‬‬

‫تذكركلمات والده أن عمه قد كان على خالف مع جده‪،‬‬


‫وهذا َّ‬
‫شجع والده وإخوته على عدم إعطاءه حقه بامليراث‪،‬‬
‫حقه الذي أصبح حق زوجته وطفله إن كان يمتلك ً‬
‫واحدا‪.‬‬

‫يتذكراعتراف والده بشعوره بالذنب‪ ،‬إصراره عليه أن‬

‫يبحث عن زوجة عمه وأن يعطيها حقها الشرعي بميراث‬

‫زوجها‪.‬‬

‫سيبحث عنها‪ ،‬سيفعل ما بوسعه ليصل إليها‪ ،‬سيتحدى‬

‫أعمامه فقط لترتاح روح والده‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫طرق باب حجرة والدته‪ ،‬دلف ليجدها تجلس على الفراش‪،‬‬

‫تمسك بيدها املصحف تقرأ ما تيسرمن آيات الذكر‪ ،‬اقترب‬


‫ً‬
‫منها مقبال يدها‪ ،‬أغلقت املصحف ووضعته جوارها‪.‬‬

‫سألها عن حالها‪:‬‬

‫‪ -‬عاملة إيه دلوقتي يا ماما؟‬

‫أجابته بشبح ابتسامة وهي تربت على كف يده‪:‬‬

‫‪ -‬أنا كويسة الحمد هلل يا حبيبي‪.‬‬

‫سكتت برهة ثم سألته‪:‬‬

‫‪ -‬ناوي تعمل إيه يا يوسف؟‬

‫أخبرها بهدوء‪:‬‬

‫‪132‬‬
‫‪ -‬هنفذ وصية بابا هللا يرحمه وهدور على مرات عمي‪.‬‬

‫أخبرته عن مخاوفها‪:‬‬

‫‪ -‬أعمامك مش هيسمحولك‪ ،‬مش هيسكتو وهيعملو‬

‫معاك مشاكل‪.‬‬

‫تنهد بقلة حيلة‪:‬‬

‫‪ -‬عارف يا ماما‪ ،‬أالقيها بس وربنا يحلها من عنده‪.‬‬


‫ً‬
‫صمت قليال ثم أكمل حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا كل اللي يهمني إن روح بابا ترتاح‪.‬‬

‫ربتت أمه على وجنته داعية‪:‬‬

‫‪ -‬ربنا ييسراألمور وميحصلش مشاكل‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ً‬ ‫ترك والدته ً‬
‫ذاهبا لغرفته‪ ،‬عاقدا العزم على البحث عن‬
‫مبتغاه في اليوم التالي‪ً ،‬‬
‫داعيا هللا أال يطول بحثه ً‬
‫كثيرا‪.‬‬

‫**********‬

‫‪134‬‬
‫)‪(5‬‬

‫ُيقال أن العاشقين تفضحهم نظراتهم‪ ،‬مهما حاولوا مداراتها‬

‫تبقى جلية على مالمحهم‪ ،‬تفضحهم نظرة هائمة أو ابتسامة‬

‫خاطفة‪.‬‬

‫فضحتها نظراتها أمام (ريم) التي بدأت العمل معها ً‬


‫بناء على‬

‫اقتراح (كرم)‪ ،‬احتارت كيف تخبرشقيقها بأن من دق قلبه‬

‫لها قلبها ُمعلق بغيره‪ ،‬ترى السعادة بادية على محياها أثناء‬

‫حديثها مع (زياد)‪ ،‬بعد انتهاء حديثها معه توجهت إليها‬

‫تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬شكلك بتحبيه‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫ً‬
‫شعرت (روفيدا) بالخجل قليال وهي تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬جاي يقابل ماما النهارده عشان يتقدم لي‪.‬‬

‫قبلت وجنتها تهنئها‪:‬‬

‫‪ -‬ربنا يتمم لك بخير‪.‬‬

‫دعوتها صادقة‪ ،‬وبقلبها دعوة أخرى لشقيقها أن ينزع هللا‬


‫حب (روفيدا) من قلبه‪ ،‬قررت اخباره باألمر ً‬
‫سريعا حتى ال‬

‫يتعلق قلبه بها أكثر‪.‬‬

‫**********‬

‫‪136‬‬
‫الحب هو ما يدل على أن القلب ما زال ً‬
‫حيا‪ ،‬تنطق نبضاته‬
‫ً‬
‫عشقا‪ ،‬حتى وإن فرقنا املوت‪ ،‬فوجودك بالقلب هو ما‬

‫يعطيه الحياة‪.‬‬

‫كيف للقلب أن ينس ى من سكنه ً‬


‫يوما‪ ،‬استوطن جنباته!‬

‫القلب ال ينس ى‪ ،‬بل يظل يشتاق إلى موعد اللقاء‪.‬‬

‫تمناها ً‬
‫يوما زوجته‪ ،‬دق القلب لها‪ ،‬لكن القدركان له‬

‫ترتيبات أخرى؛ رفض أهلها ارتباطه بها وتمت زيجتها بآخر‪،‬‬

‫آخرأنجبت منه طفليها ثم فارق الحياة‪.‬‬

‫شعرأن الحياة تفتح يديها له من جديد‪ ،‬قرر طلبها للزواج‬

‫مرة أخرى‪ ،‬وهذه املرة كان الرفض من جانب أسرته؛ فكيف‬

‫‪137‬‬
‫له الزواج بمن سبق لها تجربة األمر‪ ،‬بل وتتولى رعاية طفلين‬
‫ً‬
‫أيضا‪ .‬تحدى الجميع واستمع فقط إلى قلبه‪ ،‬تقدم إلى‬
‫والديها ً‬
‫طالبا يدها فو افقا‪ .‬تعجبت من إقدامه على هذه‬

‫الخطوة رغم معارضة أسرته‪ ،‬وعندما سألته أخبرها أن‬

‫وحده قلبه من يمتلك الجواب‪.‬‬

‫تزوجها‪ ،‬عامل طفليها كطفليه‪ ،‬عاش معها أسعد سنوات‬

‫حياته‪ ،‬سنوات قليلة لم تتعد األربع‪ ،‬ثم انقلب الحال‪ .‬تحول‬

‫املنزل الذي يعمه السعادة إلى آخريمأله الحزن؛ داهمها‬

‫املرض‪ ،‬أصبحت طريحة الفراش‪ ،‬والسعادة التي رأتها معه‬

‫أضحت على وشك الزوال‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫اشتد بها املرض ً‬
‫يوما‪ ،‬شعرت باقتراب النهاية‪ ،‬ألقت عليه‬

‫آخر كلماتها‪:‬‬

‫‪ -‬خلي بالك من الوالد‪ ،‬أمانة سيبهالك‪.‬‬

‫طبع قبلة أعلى رأسها‪ ،‬دموعه المست وجنتيها‪ ،‬طمأنها‪:‬‬

‫‪ -‬دول والدي‪.‬‬

‫تعلم صدقه‪ ،‬فهو لم يشعرها ً‬


‫يوما بعكس ذلك‪ ،‬اطمأن‬
‫قلبها‪ ،‬لم يتحمل جسدها العليل ً‬
‫كثيرا‪ ،‬رحلت عن دنياه‬
‫تاركة له من يذكره بها ً‬
‫دائما؛ طفليها‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫تولى رعايتهما‪ ،‬ناداه أبي ولم يشعرهو بعكس ذلك ً‬
‫يوما‪،‬‬

‫رفض البحث عن عائلة والدهما وتسليمهما لها كما نصحه‬

‫أخوته‪ ،‬بل تحمل األمانة التي تركتها له حبيبته‪.‬‬

‫عاد من ذكرياته‪ ،‬يمسك صورتها بيده‪ ،‬يشتاقها‪ ،‬يحدثها كما‬

‫لو كانت أمامه‪:‬‬


‫ً‬
‫‪ -‬أنا اتأكدت إنهم فعال والدي‪ ،‬اختاروني أنا‪.‬‬

‫استمع إلى طرقات على باب غرفته‪ ،‬دعا صاحبها للدخول‪،‬‬

‫طالعه وجه (ياسين) الذي اقترب منه يجلس جواره‪ ،‬شعر‬

‫بتردده في الحديث فبدأ هو اختصا ًرا للطريق‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عارف إنت عايزتقول إيه‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫ً‬
‫نظرله (ياسين) مندهشا‪ ،‬استرسل (حسن) في حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬سمعت سارة وهي بتحكيلك امبارح‪.‬‬

‫لم يجد (ياسين) ما يخبره به‪ ،‬حاول إخباره أنه بالنسبة لهم‬

‫لن يكون بموضع اختيارمع أي شخص آخر‪:‬‬

‫‪ -‬بابا‪ ،‬حضرتك…‬

‫قاطعه (حسن) يوضح له ما بداخله‪:‬‬

‫‪ -‬هتصدقني لو قلت لك إني فرحت إن سارة اختارتني وفي‬

‫نفس الوقت زعالن اني كنت السبب في شقلبة حياتها؟‬

‫مكنتش أحب إنها تتحط في موقف زي دا‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫دخلت (سارة) التي كانت تقف جانب الغرفة تتبين رد فعل‬

‫والدها بعد إخبار(ياسين) له بما حدث‪ ،‬اقتربت منه تمسك‬

‫يده تقبلها‪ ،‬تخبره من بين دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬أي حد هيحاول يبعدني عنك ميلزمنيش‪.‬‬

‫احتضنهما‪ ،‬في صورة مشابهة مر عليها أكثرمن عشرين ً‬


‫عاما‪،‬‬
‫يشعرأنها تراهم‪ ،‬تبتسم لهم‪ ،‬تطمئن بوجودهم ً‬
‫معا‪،‬‬

‫يجمعهم الحب الذي نثرته بقلوبهم‪.‬‬

‫**********‬

‫تقديس الجو األسري ليس من مميزات أسرتها‪ ،‬بالرغم من‬


‫ً‬
‫قربها من شقيقيها لكن أمور العمل تفرض عليهم أحيانا ما‬

‫‪142‬‬
‫ليس بمقدرتهم‪ ،‬أن يجتمعوا ً‬
‫معا من أجل وجبة غداء أو‬

‫حديث عائلي لهو من املرات نادرة الحدوث‪ ،‬واليوم صادف‬

‫أحد هذه املرات‪ ،‬طاولة طعام تجمعها بشقيقيها ووالدها‬


‫ً‬
‫مؤخرا‪.‬‬ ‫الذي باتت تراه ناد ًرا‬

‫جلسة مملة صامتة كعادة أي جلسة يشاركهم والدها بها‪،‬‬

‫فهو يقدس النظام والهدوء فال يستطيعون ممارسة مزاحهم‬


‫ً‬
‫معا أمامه‪ .‬كسرالوالد حاجزالصمت‪ ،‬توجه بحديثه إلى‬

‫(أدهم)‪ ،‬يسأله بطريقة عملية‪:‬‬

‫‪ -‬ياريت تنهي إجراءات جوازك من هند بسرعة‪ ،‬الخطوبة‬

‫طولت‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫لم ينتظرمنه جواب‪ ،‬فهو يعد حديثه ً‬
‫أمرا واجب النفاذ‪،‬‬

‫واآلن حان دور توجيه األمرلالبن اآلخر‪:‬‬

‫‪ -‬و أنت يا كرم‪ ،‬مش ناوي تتجوز؟ أنا ممكن أشوفلك‬

‫واحدة من بنات أصدقائي‪.‬‬


‫ً‬
‫سريعا قبل أن ينتقل بالحديث إلى شقيقته‬ ‫أجابه (كرم)‬

‫ويعتبرعدم رده مو افقة منه على حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬لسه شويه يا بابا‪ ،‬محتاج وقت أظبط أمور الشغل‬

‫األول‪.‬‬

‫أجابه والده بينما يلوك الطعام بفمه‪:‬‬

‫‪144‬‬
‫‪ -‬أتمنى الوقت ميطولش‪ ،‬متعملش زي أختك؛ قالت‬

‫محتاجة وقت وبقالها سنة مفيش جديد‪.‬‬

‫ً‬
‫متوجها بنظره إلى (ريم) التي قاطع رغبتها في الرد‬ ‫قال جملته‬

‫بقوله‪:‬‬

‫إنت لسه صغيرة‪ ،‬حياتك مش هتقف عاملاض ي‪ ،‬في‬


‫‪ِ -‬‬
‫عريس متقدم لك‪.‬‬

‫وقفت تخبره بردها في طفرة شجاعة كان عليها استحضارها‬

‫طاملا أن والدها ال يراعي مشاعرها‪:‬‬

‫‪ -‬مش مو افقة‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫قالتها و انسحبت إلى غرفتها متجاهلة توبيخ والدها لها‪،‬‬

‫نهض (أدهم) ليذهب وراءها لكن شقيقه أوقفه ليتبعها‬

‫هو‪ ،‬بينما توجه (أدهم) بالحديث إلى والده‪:‬‬

‫‪ -‬ياريت يا بابا تستثني ريم من قايمة األوامرالفترة دي‪.‬‬

‫وقف يخبره بنبرة باردة اكتسبها منه‪:‬‬

‫‪ -‬آه صحيح‪ ،‬نورتنا عاألكل النهارده‪.‬‬


‫ً‬
‫توجه قاصدا غرفته‪ ،‬فداخله يفكرفي أمرالزواج الذي‬
‫تحجج ً‬
‫كثيرا من أجل تأجيله‪ ،‬ولم يعد لديه أعذاربعد اآلن‪.‬‬
‫ً‬
‫دخل (كرم) إلى غرفة شقيقته‪ ،‬جلس جوارها قائال‪:‬‬

‫‪ -‬متزعليش‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫أجابته بال مباالة احتلت مالمحها عكس ما بداخلها من‬

‫حزن‪:‬‬

‫‪ -‬خدت على طريقته خالص‪.‬‬

‫قررت انتهازالفرصة واخبارشقيقها بما تريد‪:‬‬

‫‪ -‬كان في حاجة عايزة أقولك عليها‪.‬‬


‫ً‬
‫صمتت قليال ثم أكملت‪:‬‬

‫‪ -‬زياد هيخطب روفيدا النهارده‪.‬‬

‫رأت أن أقصر الطرق هي املواجهة املباشرة‪ُ ،‬بهت لقولها‪ ،‬هي‬

‫ببساطة أخبرته أن ُيوقف القلب عن التمادي بنبضه‪.‬‬

‫**********‬

‫‪147‬‬
‫الحياة ال تمنحك االختيارات‪ ،‬لن تحيا كما تريد‪ ،‬بل ترسم‬
‫ُ‬
‫لك دورك الذي تريدك أن تلعبه بها‪ ،‬تلقي لك بالقليل‪،‬‬

‫وعليك إما االكتفاء به أو السعي لزيادته‪.‬‬

‫الحياة تضعك ببداية الطريق‪ ،‬وعليك إكماله بمفردك أو أن‬

‫تقف مكانك تنتظرمن يدفعك لألمام‪ ،‬لكن عليك الحذر؛‬

‫فأنت ال تعلم ما يضمره لك املجهول خلفك‪.‬‬

‫الحياة وضعته هو بمنتصف الطريق‪ ،‬لم يستطع العودة إلى‬


‫البداية‪ ،‬ولم يقدرعلى املض ي ً‬
‫قدما‪ ،‬وقف ً‬
‫حائرا أي طريق‬

‫يسلك‪ ،‬وعندما ُدهس بين تروسها اختارأن يكون الجالد‪،‬‬

‫يأخذ حقه بيده‪ ،‬حق ضعفه وكسرته‪ ،‬خوف سيطرعلى‬

‫حياته منذ صغره حتى استطاع التغلب عليه‪ ،‬لكنه لم ينس‬

‫‪148‬‬
‫املاض ي‪ ،‬لم ينس من كان السبب في كل ذلك‪ ،‬ظل يبحث عن‬

‫املاض ي حتى عثرعليه وقد حان وقت الثأر‪.‬‬

‫ما ذنب طفل صغير استيقظ ذات صباح ليجد والده خلف‬

‫القضبان متهم بقضية ما؟ وصمة عارستالزمه طوال‬

‫حياته‪ ،‬لم ينس نظرات وأصابع أصدقائه التي أشارت إليه‬

‫تنعته بابن السارق‪ .‬اعتزل الجميع‪ ،‬رفض التواصل مع من‬


‫ً‬
‫انطوائيا واكتسبت شخصيته بعض‬ ‫حوله‪ ،‬أصبح‬

‫العدو انية‪ ،‬فلم تجد والدته ًبدا سوى تغييرمحل السكن‪،‬‬


‫ً‬
‫ظاهريا‬ ‫اعتقدت أن ذلك سيفيده‪ ،‬وإن كان قد أفاده األمر‬

‫فداخله لم يتغير‪ ،‬بل ظل طوال سنوات عمره يحمل‬

‫الضغينة ملن تسبب بسجن والده‪ ،‬لم يفارق اسمه ذاكرته‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫كبرالطفل وأصبح ً‬
‫شابا‪ ،‬أنهى جامعته ولم ينس ثأره‪ ،‬كما‬

‫أنهى والده مدة عقوبته ومأل رأسه بالسموم عمن تسبب‬

‫بسجنه‪ ،‬أزاد الكره بقلبه تجاهه‪.‬‬


‫َّ‬
‫ظل يبحث عن عدوه لينفذ حكمه عليه‪ ،‬فكرأن يتسبب له‬

‫بفضيحة في محل عمله‪ ،‬أو أن يجعله يتذوق مرارة ما عاناه‬

‫والده خلف القضبان‪ ،‬لكن خططه تغيرت عندما علم أن‬

‫لديه ابنة‪ ،‬فقرر أن تكون هي وسيلة عذاب عدوه‪ ،‬ال مانع‬

‫من استغاللها‪ ،‬فبالنهاية هي ستدفع ثمن فعلة والدها كما‬


‫ً‬
‫تلقائيا حتى ال يثير‬ ‫دفع هو من قبل‪ ،‬جعل تعرفه بها‬

‫الشكوك‪ ،‬سارت خطته كما أراد‪ ،‬واليوم هو قاب قوسين أو‬

‫أدنى من تحقيق انتصاره‪ ،‬ال يعلم ما يمكن أن يسفرعنه‬

‫‪150‬‬
‫هذا اللقاء لكنه جازف بالخطوة‪ .‬اصطحب والدته إلى‬

‫التقدم لخطبتها‪ ،‬املاريونيت التي تحكم بخيوطها طوال‬

‫الفترة املاضية؛ (روفيدا)‪.‬‬

‫ً‬
‫ترحيبا‬ ‫جلس (زياد) ووالدته برفقة والدة (روفيدا) وقد القا‬
‫ً‬
‫شديدا بهما‪ ،‬شعرت والدته أن وجه السيدة أمامها مألوف‬

‫لها‪ ،‬تتذكرأنها قد رأتها من قبل لكن ذاكرتها ال تسعفها‬

‫لتذكرمتى بالتحديد‪.‬‬

‫أتت (روفيدا) تلقي عليهما السالم‪ ،‬اقتربت من والدته‬

‫تقبلها‪ ،‬حينها رأت تلك األخيرة الصورة املطبوعة على تلك‬

‫القالدة بعنق (روفيدا)‪ ،‬أمسكتها بيدها تمعن النظربها‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫حينها تذكرت أين رأت السيدة من قبل‪ ،‬نظرت إلى ابنها‬

‫تسأله متعجبة‪:‬‬

‫‪ -‬بنت يحيى!‬

‫شعر(زياد) أن والدته ستفسد له خططه‪ ،‬وقف يمسك‬

‫يدها يخبرها بصوت منخفض‪:‬‬

‫‪ -‬ماما هنتكلم في البيت‪.‬‬

‫سحبت يدها منه بعنف‪ ،‬تصرخ بوجهه‪:‬‬

‫‪ -‬يعني إنت عارف هي بنت مين وجاي لها بالتحديد؟‬

‫حاول إسكاتها‪ ،‬لكن سؤالها التالي املباغت نزل كصاعقة‬

‫عالجميع‪:‬‬

‫‪152‬‬
‫‪ -‬يا ترى حبيتها بجد يا زياد وال جاي تنتقم؟‬

‫أتبعته بآخرأشعل غضبه‪:‬‬

‫‪ -‬دي خطتك لوحدك وال أبوك مشارك فيها؟‬

‫نظرت (روفيدا) حائرة ملا يدور حولها‪ ،‬لم تفهم مقصد‬

‫والدته من سؤالها األخير‪ ،‬ال تعلم عن أي انتقام تتحدث‪،‬‬

‫وقفت والدتها وقد ثاورها الشك‪ ،‬زحف عقلها إلى ٍ‬


‫ماض‬

‫بعيد ال يحتوي سوى على انتقام واحد‪ ،‬سألت بصوت‬

‫مرتجف‪:‬‬

‫‪ -‬اسمك زياد إيه؟‬

‫‪153‬‬
‫نظر إليها يستدعي نظرة نصر لم يكتمل‪ ،‬يخبرها باسمه‬

‫الثالثي‪:‬‬

‫‪ -‬زياد سامي الدمنهوري‪ ،‬أظن فاكرة االسم دا كويس‪.‬‬

‫نظرت إلى ابنتها نظرة خاطفة كانت كفيلة لترى الحيرة‬

‫والتشتت بمالمحها‪ ،‬لم تجد ما تقوله سوى أن رفعت يدها‬

‫تشيرتجاه الباب قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬اطلع بره‪.‬‬

‫اقتربت منها والدة (زياد) معتذرة‪:‬‬

‫‪ -‬أنا آسفة‪ ،‬صدقيني لو أعرف اللي في دماغه مكنتش‬

‫هو افقه‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫انتفض ابنها خلفها يصرخ بها‪:‬‬

‫إنت بتعتذري لها على إن جوزها كان السبب في حبس‬


‫‪ِ -‬‬
‫أبويا؟ على إن أبويا شال تهمة عنه؟‬

‫التفتت له والدته تخبره الحقيقة التي يرفض االقتناع بها‪:‬‬

‫‪ -‬أبوك هو اللي وصل نفسه لكده‪ ،‬هو اللي اختلس‬

‫واتهمها في صاحبه‪ ،‬هو اللي يستاهل العقاب اللي أخده‪.‬‬

‫لم تتحمل (روفيدا) كل ما حدث في تلك الليلة‪ ،‬ال تعلم ش يء‬

‫عن االختالس وال تفهم ما يتحدثون بشأنه‪ ،‬كل ما‬

‫استطاعت استيعابه هو أنها كانت لعبة بيده‪ ،‬مجرد أداة‬

‫يحقق بها انتقام ال تعلم سببه‪ ،‬شعرت باإلنهاك ولم تعد‬

‫‪155‬‬
‫تتحملها قدماها‪ ،‬فسقط جسدها يرتطم باألرض بعنف‬
‫ً‬
‫مصحوبا بصرخة والدتها باسمها‪.‬‬

‫************‬

‫احذرعندما تتحول الغيرة لدى شخص ما إلى هوس‪ ،‬تسيطر‬

‫عليه الرغبة في امتالك كل ش يء‪ ،‬يصبح كل ما حوله حق‬


‫ً‬
‫داهسا في طريقه قلوب ليس‬ ‫مكتسب يسعى للحصول عليه‬

‫لها ذنب‪.‬‬

‫استمرت األجواء املتوترة بمنزلهم‪ ،‬مر شهرمنذ أعلنت‬

‫أمامهم رغبتها وطليق شقيقتها بالزواج‪ ،‬والدها يضيق عليها‬

‫الخناق ويمنع خروجها من املنزل‪ ،‬أصرعلى شقيقتها أن‬

‫‪156‬‬
‫تمكث وأطفالها معهم ربما تشعرهي بالذنب عما تريد فعله‬

‫بشقيقتها وتتراجع عن رغبتها‪ ،‬والدتها تحدثها باللين تارة‬

‫وبالشدة تارة أخرى‪ ،‬وهي على رأيها؛ ال ترى مانع من إتمام‬

‫الزيجة‪ ،‬متعللة أنها ربما تنجح فيما فشلت فيه شقيقتها‪ ،‬لم‬

‫يثنيها أحد عما يدور برأسها‪.‬‬

‫ضاقت ذر ًعا من كثرة تساؤالت والدها عن وجهتها عند‬

‫خروجها‪ ،‬تعنيفه لها عند تأخرها بالخارج‪ ،‬تأنيب والدتها‬

‫لها‪ ،‬شقيقتها التي تتجنبها وال تريد النظرحتى إلى وجهها‪ ،‬ترى‬

‫أنهم يعطون األمرأكبرمما يستحق‪ ،‬فقررت أن تتخلص من‬


‫ً‬
‫سريعا‪.‬‬ ‫كل هذا‬

‫‪157‬‬
‫اليوم ضربت بتعليمات والدها عرض الحائط‪ ،‬تأخرت عن‬

‫موعدها املعتاد‪ ،‬عادت بنظرات باردة ال تبالي ألحد‪ ،‬قابلت‬

‫صراخ والدها عليها ببرود‪ ،‬وبعدما أنهى توبيخه لها وتولت‬

‫والدتها هي األخرى حصتها من النصح‪ ،‬ألقت بوجههم‬

‫أخبارها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا وعاصم كتبنا الكتاب النهارده‪.‬‬

‫والرد كان صفعة على وجهها من والدها‪ ،‬والدتها لم تستطع‬

‫النطق؛ فقد ظنت أنها قادرة على إقناعها على العدول عن‬

‫رغبتها‪ ،‬لم تجد ما تقوله وهي ترى زوجها ينهال بالصفعات‬

‫على وجنة ابنته‪:‬‬

‫‪158‬‬
‫أبوك ميت‪ ،‬عملتي اللي في دماغك‪.‬‬
‫‪ -‬اعتبرتي ِ‬

‫يدفعها أمامه تجاه باب املنزل‪ُ ،‬يلقي بها خارجه‪ ،‬يصرخ بها‬

‫من ور ائه‪:‬‬

‫عليك‪،‬‬
‫‪ -‬أنا مش عايز أشوف وشك تاني‪ ،‬البيت دا متحرم ِ‬
‫أنا النهارده بنتي ماتت‪.‬‬

‫شعرباإلنهاك يجتاح جسده‪ ،‬انزلق جسده على الحائط‪،‬‬

‫رفع يده يتلمس موضع قلبه‪ ،‬زحف بها ألعلى يحل أزرار‬

‫قميصه العلوية يحاول استنشاق هواء يرفض املرورإلى‬

‫رئتيه‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫اقتربت منه زوجته تحاول مساعدته‪ ،‬تشعربالهلع من‬

‫منظره‪ ،‬تنادي ابنتها املاكثة في غرفتها تنشد مساعدتها‪ ،‬لكن‬

‫ال رد‪.‬‬
‫ً‬
‫جميعا تلك القابعة في غرفتها تستمع إلى الحديث من‬ ‫تناسوا‬

‫بدايته‪ ،‬وهي اآلن تشعرباأللم‪ ،‬طعنة غادرة ظنت أنها لن‬


‫ُ‬
‫تنالها‪ ،‬خنجرغرس بقلبها‪ ،‬ال تستطيع نزعه‪ ،‬وال تقدرعلى‬

‫إيقاف نزفه‪.‬‬

‫***********‬

‫‪160‬‬
‫(‪)6‬‬

‫الحياة بحرهائج تتأرجح به سفينتك‪ ،‬تتالعب بك‬

‫العواصف‪ ،‬تأخذك األمواج حيث تشاء‪ ،‬إما أن تبتلعك في‬

‫جوفها أو تلفظك بأقرب ميناء‪.‬‬


‫بحرها لم يكن ً‬
‫هائجا‪ ،‬بل ّ‬
‫عمه الهدوء والسكينة‪ ،‬سفينتها‬
‫ُ‬
‫تطفو فوقه بانسيابية‪ ،‬تعلوها الشمس الدافئة‪ ،‬وتحلق‬

‫فوقها الطيور املغردة‪ .‬فجأة انقلب الحال‪ ،‬تلبدت السحب‬


‫بالغيوم‪ ،‬هجم الظالم بعتمته ً‬
‫ماحيا ضوء النهار‪ ،‬اختفت‬
‫الطيور املغردة ّ‬
‫وحل مكانها أخرى سوداء عال نعيقها الحاد‪،‬‬

‫هاجت األمواج في مواجهة عاصفة عاتية‪ ،‬ووسط كل هذا‬

‫‪161‬‬
‫ظلت سفينتها تقاوم للصمود‪ ،‬تتأرجح يمنة ويسرة‪ ،‬تعلو‬

‫مقدمتها تارة وتهبط أخرى‪ ،‬تقاوم األمواج التي تحاول‬

‫ابتالعها داخلها‪ ،‬وعندما لم تقدراألمواج على مقاومة‬

‫صالبتها لفظتها في أقرب مرساة‪.‬‬

‫ظنت أنها نالت النجاة لكنها كانت مخطئة‪ ،‬فهي لم تشعر‬

‫باألمان‪ ،‬اكتنفها الخوف في ذلك املكان‪ ،‬شعرت بمن يتربص‬


‫بها‪ ،‬يريد نهايتها‪ ،‬لم تنتظر ً‬
‫كثيرا حتى عاجلتها طعنة بالقلب‪،‬‬

‫وبينما كانت تحاول الصمود من أجل البقاء نالت أخرى‬

‫بالظهرأنهت على ما تبقى لها من مقاومة‪ ،‬فببساطة مرساها‬

‫كان جزيرة الغدروالخيانة‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫إن كانت قد سمعت ما حدث معها من إحدى صديقاتها ما‬

‫كانت لتصدقه‪ ،‬فبحياتها الوردية ال وجود للخيانة‪ ،‬وإن‬

‫يوما من شقيقتها‪ .‬حاولت أن تتقبل‬ ‫ُوجدت لن تأتي ً‬


‫َ ُ‬
‫انفصالها عن زوجها‪ ،‬أن تتقبل خيانته لها وتعلق قلبه‬

‫بأخرى‪ ،‬لكن أن تكون األخرى هي شقيقتها فهذا ما لم‬

‫تستطع تحمله‪ .‬شقيقتها التي أتتهم معلنة عن رغبتها الزواج‬

‫بطليقها‪ ،‬ظنت أنها سترى الحزن بداخلها وتتراجع عن‬

‫رغبتها‪ ،‬لكنها اعتادت أخذ ما ليس من حقها مادامت ترغبه‪،‬‬

‫ومنذ أسبوع أتتهم قائلة أنها كعادتها نفذت ما تريد‪.‬‬

‫أسبوع ببدايته سقط األب‪ ،‬لم يتحمل قلبه ما فعلته ابنته‪،‬‬


‫ً‬
‫فظل موصوال بأجهزة تساعده على البقاء‪ ،‬يقاوم ليتحمل‪،‬‬

‫‪163‬‬
‫تجلس جواره والدتها باملشفى ولم يجف دمع عينيها‪ ،‬أما عنها‬

‫فهي تائهة‪ ،‬من شدة األلم فقدت اإلحساس به‪ ،‬ال تعلم إن‬

‫كان عليها مواساة والدتها أم مواساة نفسها؛ فجرحها عظيم‬

‫يحتاج إلى من يضمده‪.‬‬

‫أسبوع بنهايته رحل األب والسند‪ ،‬أصبح ظهرها عارًيا‪،‬‬


‫ً‬
‫مكشوفا لتلقي املزيد من الطعنات‪ .‬تجلس بجواروالدتها‬

‫تتلقى العزاء‪ ،‬شاخص بصرها في نقطة مجهولة‪ ،‬ال ترى‬

‫مالمح من تالمس كفه بكفها‪ ،‬ولكنها رأتها‪ ،‬تقف أمامهم‬


‫ً‬
‫دموعا ال تناسبها‪،‬‬ ‫بتبجح بعد فعلتها‪ ،‬تقترب منهم تذرف‬

‫تبكي‪ ،‬تحاول احتضان والدتها‪ ،‬تخبرها بحزن ال تعلم إن كان‬

‫‪164‬‬
‫ً‬
‫مصطنعا؛ فهي اكتشفت أنها لم تعلم حقيقتها‬ ‫ً‬
‫حقيقيا أم‬
‫ً‬
‫أبدا‪.‬‬

‫‪ -‬ليه مقولتيش يا ماما‪ ،‬كان نفس ي أجي أودعه‪.‬‬

‫والرد كان صفعة‪ ،‬تالها املزيد واملزيد‪ ،‬صفعات توالت عليها‬

‫نالت مثيلتها من قبل‪ ،‬صفعات تحمل غضب أمها املشحون‬

‫بداخلها‪ ،‬ثم صراخها بوجهها‪:‬‬

‫أبوك مات بسببك‪.‬‬


‫لك عين تيجي؟ ِ‬
‫إنت ِ‬
‫‪ِ -‬‬

‫تبال بالنساء املوجودات‬


‫سحبتها من يدها تجاه الباب ولم ِ‬
‫حولها‪ ،‬كل ما جاء ببالها هو وصية زوجها لها قبل وفاته أال‬

‫تحضرابنته العزاء‪ ،‬ألقتها خارج املنزل‪:‬‬

‫‪165‬‬
‫أبوك هنفذها‪.‬‬
‫‪ -‬البيت دا مش هتدخليه تاني‪ ،‬وصية ِ‬

‫أخبرتها ما تريد ثم أغلقت الباب بوجهها‪ ،‬اقتربت (سيرين)‬

‫من والدتها‪ ،‬احتضنتها‪ ،‬خشيت فقدانها هي األخرى‪ ،‬بكت‬

‫داخلها على ما آلت إليه األمور‪ ،‬لكن عليها الصمود‪ ،‬عليها‬

‫املقاومة لتحيا من جديد‪ ،‬لتبني حياة أخرى من أجل طفليها‬

‫ووالدتها‪.‬‬

‫**********‬

‫ماذا ستفعل إن كانت حياتك هادئة‪ ،‬ترسو سفينتك بسالم‬


‫ُ‬ ‫ً ُ‬
‫في ميناء هاديء‪ ،‬تنام هانئا في قمرتها‪ ،‬تبحرفي أحالمك‬

‫الوردية‪ ،‬ثم فجأة تهاجمك الكوابيس‪ ،‬تستيقظ لتجد‬

‫‪166‬‬
‫نفسك في وسط املحيط‪ ،‬تقاوم الغرق فال تستطيع‪ ،‬تلفحك‬

‫األمواج وال تترك لك منفذ للنجاة‪ ،‬فتستسلم رئتيك‬

‫النسحاب األكسچين‪ ،‬ينسحب اللون الوردي من بشرتك‬

‫لتتحول إلى أزرق باهت‪ ،‬تشعرباالختناق‪ ،‬وتنفصل عن كل‬


‫ً‬
‫ش يء حولك مفارقا الحياة‪.‬‬

‫هذا ما كانت تشعربه في األيام املاضية‪ ،‬فتاة حاملة تعيش‬


‫ُ‬
‫قصة حب رومانسية كانت على وشك أن تكلل بالزواج‪ ،‬لكن‬

‫تلك األحالم انهارت فجأة فوق رأسها‪ .‬تصدمها الحياة أن‬

‫الرومانسية ليس لها وجود بها‪ ،‬بل احتلها الغدروسيطرت‬

‫عليها الخديعة‪ .‬من ظنت أنه أحبها لم تكن له سوى وسيلة‬

‫‪167‬‬
‫انتقام‪ ،‬ماريونيت في عرض ال تعلم عنه ش يء‪ ،‬أراد أن ُيذيقها‬

‫من كأس علقم ال تزال مرارته بفمه منذ سنوات‪.‬‬

‫منذ ما حدث وهي طريحة الفراش‪ ،‬تتغذى على محاليل‬

‫موصولة بذراعها‪ ،‬ال تنفك تستيقظ حتى يسحبها عقلها في‬

‫دوامته مرة أخرى‪ ،‬وما يدل على بقائها حية هي ضربات قلبها‬

‫املغدور ودموعها الصامتة التي ال تنضب حتى في نومها‪.‬‬


‫اليوم وصل والدها من الخارج بعدما حدثته والدتها‪ّ ،‬‬
‫قصت‬

‫له ما حدث بعدما فقدت األمل في أن تعود ابنتها لطبيعتها‪،‬‬


‫ً‬
‫ترك كل أعماله ليأتي مهروال لرؤية ابنته واالطمئنان عليها‪.‬‬

‫دخل غرفتها ليجدها مستلقية بفراشها‪ ،‬وجهها شاحب فقد‬

‫‪168‬‬
‫نضارته‪ ،‬غائبة عن وعي مليء بالزيف والخداع‪ .‬اقترب منها‬

‫يضم جسدها إليه‪ ،‬يبكي بشدة ويتوسل إليها السماح‪:‬‬

‫‪ -‬حقك عليا‪ ،‬أنا آسف‪ .‬أنا السبب في اللي وصلتي له‪.‬‬

‫ينظرإلى وجهها‪ ،‬ينتظرمنها أن تفتح عينيها‪ ،‬تشعربه‪،‬‬

‫تجيبه‪ ،‬أو حتى توجه له أصابع االتهام‪ ،‬وعندما لم يحصل‬

‫على جواب استطرد حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬كان الزم أحكيلك اللي حصل زمان‪ ،‬كان الزم أعمل‬

‫حساب يوم هتعرفي فيه كل حاجة‪.‬‬

‫يلوم نفسه أنه أخفى عليها ذنب لم يرتكبه‪َّ ،‬‬


‫قص عليها‬

‫املاض ي‪ ،‬لم يكن يعلم أنها شعرت بوجوده‪ ،‬استيقظت‬

‫‪169‬‬
‫تستمع إليه في صمت‪ ،‬بداخلها متيقنة من براءته‪ ،‬لكن ربما‬

‫في حديثه راحة له‪.‬‬

‫أنهى حديثه‪ ،‬شعربأصابعها تلتف حول راحته‪ ،‬نظرإليها‬

‫ليرى انفراج جفنيها‪ ،‬شدد من احتضانه لها‪ ،‬يعدها أن‬

‫يعوضها عما حدث‪ ،‬وبداخله أقسم على الوصول إلى من‬

‫تسبب إليها بهذه الحالة‪ ،‬ينتقم منه ليعلم أن ابنته خط‬

‫أحمرال يجب املساس بها‪.‬‬

‫**********‬

‫َّ‬
‫الربان الجيد يثبت جدارته في مواجهة العواصف‪ ،‬حين‬

‫يتحكم في دفة سفينته حتى يرسو بها في امليناء املناسب‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫رحلته كانت هادئة ً‬
‫دائما‪ ،‬تطفو سفينته بانسيابية فوق‬

‫املياه‪ ،‬يتحكم في زمام األمور بحنكة بالغة‪ ،‬لكن عليه إثبات‬

‫كفاءته في مواجهة العاصفة القادمة مع عائلته‪ ،‬تلك‬

‫العاصفة العاتية التي ستغرق سفينته إن لم يتحكم بها‬


‫ً‬
‫جيدا‪.‬‬

‫االبن الوحيد لوالده وأكبرأبناء عمومته‪ ،‬وصاحب النصيب‬

‫األكبرفي األسهم‪ ،‬مما جعله يترأس إدارة أعمال العائلة‪ .‬وضع‬

‫والده على كاهله مسؤولية البحث عن زوجة عمه الراحل‬


‫َ‬ ‫ً‬
‫لتستلم حقها في امليراث‪ ،‬وكان أهال لذلك‪ .‬لم يتوان في‬

‫البحث عنها حتى وصل لعنوان والديها‪ ،‬وهناك علم بوفاتهما‬

‫بعد فترة قليلة من زواجها بآخر‪ ،‬آخرتحمل مسؤوليتها‬

‫‪171‬‬
‫وطفليها من زوجها الراحل‪ ،‬حينها تأكد بأن عمه رحمه هللا‬

‫ُرزق بطفلين لهما حق في رقبته‪.‬‬

‫سأل جيران والديها عن اسم زوجها‪ ،‬وبعالقاته استطاع‬

‫الوصول إلى عنوان إقامته‪ ،‬رحلة بحث استغرقته ما يقارب‬


‫الشهر‪ ،‬وها هو يقف أمام منزله‪ ،‬طرق الباب ً‬
‫داعيا أن يكون‬
‫ً‬
‫صحيحا‪.‬‬ ‫العنوان‬

‫فتحت له فتاة ذات مالمح يشعرأنها مألوفة لديه‪ ،‬تشبه‬

‫جدته في صغرها‪ ،‬فاستنتج أنها ابنة عمه التي ال يعلم‬


‫ً‬
‫اسمها‪ ،‬سألها آمال ِصدق حدسه‪:‬‬

‫‪ -‬دا منزل أستاذ حسن مهران؟‬

‫‪172‬‬
‫أومأت تجيبه‪:‬‬

‫‪ -‬أيوه‪ ،‬أقوله مين؟‬

‫‪ -‬يوسف‪ ،‬يوسف الشاذلي‪.‬‬

‫وحان دورها أن تتفاجأ هي األخرى‪ ،‬فمن يقف أمامها يقربها‬

‫بالدم‪ ،‬يحمل كنية تحملها هي األخرى بنهاية اسمها‪.‬‬

‫***********‬

‫الحب هو ليس ما يبهرك في أول لقاء‪ ،‬لكنه ذلك الذي يتسلل‬

‫داخلك‪ ،‬يستحوذ على قلبك‪ ،‬كلما حاولت إخراجه تجده‬

‫يتشبث بك أكثر‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫حاول أن ينتزع حبها من قلبه‪ ،‬أن ينساها ويبعدها عن‬

‫تفكيره‪ ،‬لكن النسيان يتسم باألنانية؛ يأخذ ما يريد فقط‪.‬‬


‫لم تظهربالعمل منذ خطبتها آلخر‪ ،‬آخريراه أمامه ً‬
‫يوميا‬

‫بالعمل وال يجرؤ على سؤاله عنها‪ ،‬وعندما سأل عنها بصفته‬

‫رئيسها علم أنها طلبت أجازة ملرضها‪.‬‬

‫ُجن من التفكير‪ ،‬فأجازتها طالت دون أن يعرف عنها خبر‪.‬‬

‫أغلق األوراق أمامه‪ ،‬فهو لم يكن ينظرإلى محتواها من‬


‫ّ‬
‫األساس‪ ،‬توجه ملكتب شقيقته عله يجد لديها ما يريحه‪.‬‬

‫جلس أمامها بضيق‪ ،‬تطرق أصابعه املكتب بتوتر‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫وشقيقته جلست تنظرإليه بصمت‪ ،‬تنتظرأن يفجرأمامها‬

‫ما بداخله‪ ،‬شجعته قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬هات اللي جواك يا كرم‪.‬‬

‫زفربضيق قبل أن يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬مش معقول كل دي أجازة! كده الشغل هيتعطل‪.‬‬

‫شبكت أصابع يدها أمامها تخبره بهدوء‪:‬‬

‫‪ -‬الشغل مش متعطل وال حاجة‪.‬‬

‫أبعد نظره عنها حتى ال تفضحه عيناه‪ ،‬وحينما وجد إصرارها‬

‫على بوحه بالحقيقة نطق بها‪:‬‬

‫‪ -‬قلقان عليها يا ريم‪ ،‬ارتاحتي كده؟‬

‫‪175‬‬
‫‪ -‬مش من حقك‪.‬‬
‫تخبره بحقيقة يعلمها ً‬
‫جيدا‪ ،‬لكن ال أحد له حكم على‬
‫مشاعره‪َّ ،‬‬
‫هدأ من حدة قلقه وتوتره‪:‬‬

‫‪ -‬عارف إنه مش من حقي‪ ،‬بس غصب عني‪ ،‬مش قادر‬

‫أسأل زياد عنها ومش شايف عليه فرحة إنه ارتبط‬

‫باالنسانة اللي حبها‪.‬‬

‫ترى بعينيها ما يقصده‪ ،‬ف(زياد) ال ُيظهرسعادته التي كانت‬


‫بادية على وجهه يوم رأتهم ً‬
‫معا‪ ،‬كأنه ارتدى قناع آخرلم تعتد‬
‫َّ‬
‫رؤيته به‪ ،‬فكرت في محاولة ربما تفيد شقيقها‪:‬‬

‫‪ -‬هاخد عنوانها من ملفها وأروح أزورها‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ً‬
‫شاكرا تقديرها ملشاعره‪ ،‬فهي توأمه و أقرب من‬ ‫ابتسم لها‬

‫يشعربه‪.‬‬

‫***********‬

‫كلما يحاول اإلنسان العيش بسالم‪ ،‬يأتي له ما يبعثرسالمه‬


‫ويشتت راحته‪ ،‬يحاول نسيان املاض ي لكنه يطارده ً‬
‫دائما‪،‬‬

‫كلما حاول تخطيه يجده يسبقه ليظهرأمامه فيتعثربه‪.‬‬

‫تناست كل ش يء‪ ،‬ألقت خلفها كل شكوكها وتفكيرها الس يء‪،‬‬


‫ََ‬ ‫َّ‬
‫صدقت والدتها فيما أخبرتها به بشأن والدها‪ ،‬بنت أحالمها‬
‫عن حياة هانئة تخصها ووالدتها فقط‪ .‬لكن كل هذا َّ‬
‫تهدم‬

‫فوق رأسها في لحظة‪ ،‬لحظة هلوسة‪ ،‬لحظة غياب عقل‬

‫‪177‬‬
‫لجسد محموم‪ ،‬لحظة هذيان استسلم لها اللسان لينطق‬

‫بمكنون القلب‪.‬‬

‫مرض والدتها‪ ،‬ارتفاع حرارة جسدها‪ ،‬بوحها بجزء من‬

‫املاض ي الذي تخفيه‪ ،‬نطقها ببعض الكلمات التي لم تستطع‬


‫ً‬
‫واضحا لها هو‬ ‫(بيان) فهم مقصد والدتها منها‪ ،‬لكن ما كان‬

‫أسماء بعض األشخاص‪ ،‬أتبعتهم والدتها بجملة ال تحمل‬

‫معنى آخرسوى ما فهمته هي‪:‬‬

‫‪ -‬عايزة والدي‪ ،‬سيبلي والدي‪.‬‬

‫جملة ال تحتمل سوى معنى واحد؛ هي لها أخوة‪.‬‬

‫***********‬

‫‪178‬‬
‫هل جربت شعور إنسان عاش بوصمة عارطوال حياته؟‬
‫َّ‬ ‫يحاول الهرب ً‬
‫دائما من ماض ي لطخ الحاضرواملستقبل‪،‬‬

‫فيصبح كل تفكيره هو محو ذلك املاض ي‪ ،‬وعندما لم يستطع‬

‫يقرر عقاب من كان له يد في تدنيسه‪.‬‬

‫حاول فعل ذلك لكنه فشل‪ ،‬والدته فضحت أمره‪ ،‬منذ ما‬

‫حدث وهو يتجنب الحديث معها وهي بدورها تقاطعه‪ ،‬ال‬

‫يستطيع مواجهة والده‪ ،‬فهو يشعربالخزي ألنه لم يستطع‬


‫تنفيذ اتفاقه معه باالنتقام ممن كان ً‬
‫يوما صديقه‪.‬‬
‫يذهب إلى العمل ً‬
‫يوميا بعقل شارد في التفكيرفي خطة بديلة‪،‬‬
‫واليوم لم يملك ذرة تركيزواحدة بعمله‪ ،‬فقرر الرحيل ً‬
‫باكرا‬

‫ليحاول استعادة صفاء ذهنه‪ .‬توجه إلى منزله‪ ،‬وجد باب‬

‫‪179‬‬
‫املنزل موارًبا‪ ،‬تسلل إليه صوت والدته تحادث شخص ما‪،‬‬

‫تعاتبه على كراهية زرعها بصغيرها‪ ،‬على كذب مأل أذنيه به‪.‬‬

‫ذلك الشخص لم يكن سوى والده‪ ،‬لم ينكرأي ش يء مما‬

‫تقوله والدته‪ .‬استمع إلى والدته تخبره أن كذبه و أفعاله‬

‫املشينة وأمواله الحرام هي سبب ابتعادها عنه‪ ،‬وهو لم‬


‫ُيكذبها‪ ،‬بل ّ‬
‫صدق على كل ما تفوهت به‪ ،‬و أنهى حديثه‬

‫بجملة صاعقة ملن يستمع إلى الحديث خلسة‪:‬‬

‫كنت عايزة زياد يعرف الحقيقة ويبعد عني هو‬


‫إنت ِ‬
‫‪ِ -‬‬
‫كمان؟ كان الزم يفضل شايفني في صورة البريء املظلوم‬

‫عشان يساعدني‪ ،‬لوال كدبي عليه مكنش هيقدريكسر‬

‫يحيى النزيه في عيونكم كلكم‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫كالم والده أثبت له غباءه‪ ،‬فهو من ظن أنه يتحكم بخيوط‬

‫اللعبة‪ ،‬لكن في الحقيقة هو كان لعبة خيوطها في يد والده‪.‬‬

‫***********‬

‫هل في االستسالم راحة؟ سكينة تسحبك إلى عالم بال بشر‪،‬‬

‫هدوء يعم املكان وفقط أنت بمفردك‪ .‬اترك نفسك وال‬

‫تقاوم‪ ،‬دع األمواج تبتلعك داخلها‪ ،‬فربما تجد حياة أخرى‬

‫أكثرراحة‪ ،‬أو موت ُيزيل حزن قلب ال ينمحي‪.‬‬

‫كم ودت أن تكون مثل تلك الفتاة التي ترسمها ريشتها‪،‬‬

‫تستسلم ألمواج تتسلل إلى رئتيها مانعة قدرتها على التنفس‪،‬‬

‫ترخي جسدها تاركة إياه يغرق باألعماق‪ ،‬تفقد السيطرة على‬

‫‪181‬‬
‫أطر افها‪ ،‬ويختفي الضوء حولها‪ ،‬يلفها الظالم وال ش يء‬

‫سواه‪.‬‬

‫أنهت لوحتها‪ ،‬شعرت باالختناق فتوجهت إلى النافذة‬

‫تستدعي بعض الهواء النقي ليتسرب إلى رئتيها‪ ،‬محاوالت‬

‫عدة دون فائدة‪ ،‬فشعورها باالختناق يزداد وكأنها تلك‬

‫الفتاة في لوحتها‪ ،‬مستسلمة للغرق‪ ،‬لضغط املياه‪،‬‬

‫النسحاب األكسجين من رئتيها‪ .‬حاولت شغل ذهنها بأي‬

‫ش يء‪ ،‬تذكرت وعدها لشقيقها بزيارة (روفيدا)‪ّ ،‬بدلت‬

‫مالبسها تنوي الذهاب إليها‪.‬‬

‫قررت السيرعلى قدميها‪ ،‬تحاول تجاهل الضيق الذي‬

‫يكتنفها‪ ،‬لم تعلم بمن كان ينتظرفرصة مماثلة أتته على‬

‫‪182‬‬
‫ً‬
‫طبق من فضة ليقترب منها ببطء مستغال خلو الشارع من‬
‫َ‬
‫قرب َمحرمة من أنفها لتشتم رائحة املخدربها‪،‬‬
‫املارة‪ّ ،‬‬

‫وبعدها لم تشعربش يء‪.‬‬

‫ال تعلم كم مض ى من الوقت وهي غائبة عن الوعي‪ ،‬حاولت‬

‫فتح عينيها‪ ،‬تشعربثقلهما‪ ،‬وصداع شديد يكاد يفتك‬


‫َ‬
‫برأسها‪ ،‬استشعرت قيد يديها وقدميها‪ ،‬ومن بين إفاقتها‬
‫ٌ‬
‫تسلل صوت غليظ إلى أذنيها‪:‬‬

‫‪ -‬املطلوب تم يا باشا‪ ،‬في انتظارأوامرك‪.‬‬

‫وهي جاهلة لهوية املتحدث‪ ،‬وال تعلم دو افعه الختطافها‪.‬‬

‫***********‬

‫‪183‬‬
‫(‪)7‬‬

‫الحياة مثل ِجراب ساحرمخادع‪ ،‬يحوي داخله الكثيرمن‬

‫املفاجآت‪.‬‬

‫الحياة بحرهائج‪ ،‬بين طيات أمواجه غرق وسقوط‪.‬‬

‫تظن أن أمورك مستقرة وكل ش يء يسيرعلى ما يرام‪،‬‬

‫قائما‬ ‫ً‬
‫متوقعا‪ ،‬تقابل ما لم يكن ً‬ ‫لتتفاجأ بما لم يكن‬

‫بخططك بالحياة‪ ،‬تجد املاض ي يطرق بابك‪ ،‬يخبرك أنه قادم‬

‫من مجهول ال تعلم عنه ش يء‪.‬‬

‫عاشا طوال حياتهما ال يعلما لهما عائلة سوى زوج والدتهما‬

‫الذي اعتبراه ًأبا لهما‪ ،‬اكتفيا به عن أخرى لم تبحث عنهما‬

‫‪184‬‬
‫ً‬
‫يوما؛ عائلة والدهما الحقيقي التي ظهرأحد أفرادها أمام‬

‫بابهم فجأة‪.‬‬

‫جلس (يوسف) برفقة (حسن) يحتس ي قهوته التي أعدتها له‬

‫(سارة)‪ ،‬ثم لحقهم (ياسين) الذي هاتفته شقيقته ليأتي على‬

‫وجه السرعة‪.‬‬

‫الصمت يحتل املكان‪ ،‬ونظرات متوترة ومترقبة تتسيد‬


‫ً‬
‫املوقف‪ ،‬قطع (يوسف) الصمت معرفا عن نفسه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا يوسف الشاذلي‪.‬‬

‫بترالحديث بترقب‪ ،‬يتأمل مالمحهم التي لم تكترث للقبه‪،‬‬

‫رغم يقينه أنهم قد ربطوه بلقب يحمالنه بآخرهوياتهم‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫‪ -‬ابن عمكم‪.‬‬

‫تعريف قابلته (سارة) بنظرة سخرية‪ ،‬تلوي فمها‪ ،‬تديررأسها‬


‫ً‬
‫بعيدا عنه‪ .‬بينما (ياسين) يطلق ضحكة خافتة‪ ،‬تصاعدت‬
‫ً‬
‫شيئا فش يء‪ ،‬هدأ بعد لحظات أمام نظرات (يوسف)‬

‫املتعجبة‪ ،‬هدوء قطعه نبرته املتهكمة‪:‬‬

‫‪ -‬دا بجد! وكنت فين يا ابن عمنا طول السنين اللي فاتت؟‬

‫لم يجبه اآلخر‪ ،‬بينما صدره يعلو ويهبط من شدة االنفعال‪،‬‬


‫نبرته احتدت وهو يقف ً‬
‫ملوحا بيده في عصبية وهو يكمل‬

‫حديثه‪:‬‬

‫‪186‬‬
‫‪ -‬طيب بالش إنت‪ ،‬عمنا كان فين مسألش عن والد أخوه‬

‫طول حياتهم!‬

‫هو ال يملك اإلجابة‪ ،‬يمنحهم كل عذر‪.‬‬

‫ربت (حسن) على يده يطلب منه أن يتحلى بالهدوء‪ ،‬يمنحه‬

‫نظرات رجاء في محاولة منه أن يمراألمربسالم‪:‬‬

‫‪ -‬اهدى يا ياسين‪ ،‬خلينا نعرف األستاذ جاي ليه‪.‬‬

‫لم يمنحه فرصة االعتراض بينما يلتفت إلى ضيفه يسأله‬

‫عن سبب مجيئه‪:‬‬

‫‪ -‬خيريا بني؟ يا ترى إيه سبب زيارتك النهاردة؟‬

‫‪187‬‬
‫شعر(يوسف) بالتوتر‪ ،‬بالخزي من املوقف الو اقع به‪ ،‬يفكر‬

‫داخله كيف سيخبرهم بأن والده لم يخبره الحقيقة سوى‬

‫قبل وفاته‪ ،‬بل كيف سيخبرهم أن بقية العائلة يعارضون‬

‫بحثه عنهم‪ ،‬أنهم ما زالوا منبوذين وال أحد يرغب بوجودهم‪.‬‬

‫قرر أن يؤجل إخبارهم ببعض التفاصيل لوقت الحق‪،‬‬

‫خاصة بعد ما القاه من هجوم منهم‪ .‬أخبرهم فقط أنه لم‬

‫يعلم عن وجودهم سوى منذ وقت قليل‪ ،‬وفي الحال بدأ‬

‫رحلة البحث عنهم‪ ،‬أخبرهم عن حقهم بإرث والدهم الذي‬

‫أتى من أجل تسليمهم إياه‪ ،‬و أنهى حديثه معتذ ًرا عن إهمال‬

‫العائلة لهم طوال السنوات املاضية‪:‬‬

‫‪188‬‬
‫‪ -‬أكيد أي اعتذارمش هيكون له معنى‪ ،‬بس أتمنى إن‬

‫زيارتي واستالم ورثكم يكون تعويض كافي‪.‬‬

‫ظن أن حديثه وشرحه لألمور سيحسن األوضاع بينهم‪ ،‬لكنه‬

‫لم يتوقع ذلك الهجوم البادي في حديث (ياسين) له‪:‬‬

‫‪ -‬إحنا مش محتاجين فلوسكم‪ ،‬إنتو رميتو لحمكم‬

‫مسألتوش عننا عشان خفتم نقاسمكم فيها‪ ،‬بس حالل‬

‫عليكم‪ ،‬ال انتو وال فلوسكم تلزمونا‪.‬‬

‫وقف (حسن) قبالته ينهره على حدته بالحديث‪:‬‬

‫‪ -‬ياسين‪ ،‬الكالم ميبقاش كده‪.‬‬

‫وألول مرة يعلو صوته بوجه أبيه وهو يحدثه‪:‬‬

‫‪189‬‬
‫‪ -‬أمال الكالم يبقى ازاي؟ سابو لحمهم للغريب يربيه‬

‫وجاي دلوقتي يقول لكم عيلة وورث‪ ،‬كانوا فين من يوم‬

‫ما أبونا مات‪ ،‬ليه سابونا لراجل غريب يربينا بعد وفاة‬

‫أمنا‪.‬‬

‫آثر(حسن) الصمت‪ ،‬فغضب (ياسين) جعله يتفوه بكلمات‬

‫جارحة لم ينطق بها لسانه من قبل‪.‬‬

‫شعر(يوسف) بالحرج‪ ،‬لكنه ال يلومه على رد فعله‪ ،‬فله كل‬

‫الحق فيما يقول أو يفعل‪ ،‬وقف ينوي الرحيل‪ ،‬توجه‬

‫بالحديث إلى (حسن) يناوله بطاقة تحوي رقم هاتفه‪:‬‬

‫‪190‬‬
‫‪ -‬أنا مقدرغضبكم ودا حقكم‪ ،‬أتمنى تفكروا في املوضوع‬

‫بهدوء‪ ،‬هنتظراتصال منكم عشان نتقابل ونتكلم‪.‬‬

‫ً‬
‫متوجها إلى باب املنزل للخروج‪ ،‬تبعه (حسن)‬ ‫أنهى حديثه‬

‫إليصاله‪:‬‬

‫‪ -‬نورتنا يا بني‪.‬‬
‫ً‬
‫أغلق الباب وتوجه إلى غرفته تاركا (سارة) و(ياسين)‬

‫بمفردهم حتى يهدأوا‪ ،‬وحتى ال يستمع منهم إلى حديث آخر‬


‫ً‬
‫يعلم يقينا أنهم سيندمون عليه في وقت الحق‪.‬‬

‫**********‬

‫‪191‬‬
‫في رحلة البحث عن املاض ي ستواجهك العر اقيل‪ ،‬تجد‬

‫جميع األبواب مغلقة أمامك‪ ،‬ال يوجد دليل واحد تتبعه لكي‬

‫تصل إلى مبتغاك‪ ،‬و أنت مجبرعلى كتمان األمر‪ ،‬تتبع‬

‫الصمت والهدوء لكي ال يشعربك أحد‪ ،‬وهذا ما يزيد األمر‬

‫مشقة‪.‬‬

‫عاد لتوه من عمله‪ ،‬توجه إلى غرفة والده لالطمئنان عليه‬

‫فوجده يغط في نوم عميق‪ .‬داعبت أنفه رائحة الطعام‬

‫الشهية املنبعثة من املطبخ فتوجه ليرى ماذا أعدت والدته‬


‫لهم‪ ،‬وضع يده على بطنه التي تتضور ً‬
‫جوعا‪ُ ،‬يثني على طعام‬

‫والدته‪:‬‬

‫‪192‬‬
‫إنت‪،‬‬
‫‪ -‬هللا على الرو ايح الحلوة يا أم أمجد يا عسل ِ‬
‫جهزيلي الغدا بسرعة يا ماما عشان هموت من الجوع‪.‬‬

‫ابتسمت له والدته‪:‬‬

‫‪ -‬حمدهللا على السالمة يا حبيبي‪ ،‬غيرهدومك أكون‬

‫حضرت األكل‪.‬‬

‫توجه إلى غرفته لتبديل مالبسه‪ ،‬لكن أوقفه سؤال والدته‬

‫له‪:‬‬

‫‪ -‬كلمت مازن؟‬

‫تعجبت نبرته وهو يسألها‪:‬‬

‫‪ -‬هو لسه مرجعش؟‬

‫‪193‬‬
‫هزت والدته رأسها نافية‪ ،‬تناول هاتفه يخاطبه ليعرف سبب‬

‫تأخره‪ ،‬انقطع االتصال ولم يحصل على رد‪ ،‬ولم يكد يحاول‬

‫مرة أخرى حتى أتته رسالة من شقيقه فحواها أثارغضبه‪.‬‬

‫"أنا مع صحابي في السينما‪ ،‬مش هعرف أرد‪".‬‬


‫ً‬
‫غضبا‪:‬‬ ‫نظرإلى والدته يشتعل‬

‫‪ -‬الباشا في السينما‪ ،‬وهللا ابنك دا ما عنده دم‪.‬‬

‫توجه إلى غرفته حتى ال ُيفرغ شحنة غضبه أمام والدته التي‬

‫ال ذنب لها‪ ،‬وفي داخله يلعن استهتارشقيقه؛ فهو يعمل‬


‫ً‬
‫جاهدا من أجل استقراروضعهم بينما شقيقه يلهو وال يبالي‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫نادته والدته بعدما أعدت له طعامه فتوجه إليها‪ ،‬جلست‬

‫جواره تتردد في سؤاله؛ ال تريده أن يحمل فوق طاقته‪.‬‬

‫شعربها تريد أن تخبره بش يء ما‪ ،‬ويعلم بداخله ما يؤرق‬

‫مضجعها‪ ،‬ربت على يدها يخبرها بآخرتطورات بحثه‪:‬‬

‫‪ -‬لسه موصلتش ألي معلومات عنها‪ ،‬أي جديد هبلغك‬

‫به‪ ،‬متقلقيش‪.‬‬

‫أومأت له‪ ،‬تدعو داخلها بتيسيراألمور وتوفيقه في رحلة‬

‫بحثه‪ ،‬ليس من أجل أي ش يء سوى راحة زوجها‪.‬‬

‫*********‬

‫‪195‬‬
‫أنت تحيا بغابة‪ ،‬تتعامل مع الضواري‪ ،‬عليك أن تحذر‬
‫َُ‬
‫الغدر‪ ،‬وأن تؤ ِمن نفسك وأحبتك‪.‬‬

‫جلس بغرفته يراجع أوراق القضية أمامه‪ ،‬قضية شائكة‬

‫يتورط بها أناس ذوي نفوذ وسلطة‪ ،‬وضعوا طعم الصطياد‬

‫فريسة من أجل توريطها و إبعاد أنفسهم عن القضية؛ ففي‬

‫قانون الغاب البقاء لألقوى وال عزاء للضعيف‪ .‬لكنه يمتلك‬

‫دهاء ثعلب‪ ،‬استطاع بخبرته التوصل إلى ما يدينهم‪ ،‬أصبح‬

‫بيده الدليل الذي سيضمن به فوزه بالقضية وبراءة موكله‪.‬‬

‫انتبه إلى صوت رسالة أتته على هاتفه‪ ،‬رقم مجهول بعث بما‬

‫دب الهلع في قلبه‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫"اطمنت على أختك يا مترإذا كانت وصلت البيت وال أل؟"‬
‫ً‬
‫قاصدا غرفة شقيقته فلم يجدها‪ ،‬توجه إلى‬ ‫ً‬
‫مسرعا‬ ‫خرج‬

‫غرفة (كرم) ليسأله عنها‪ ،‬فتح بابها دون استئذان‪:‬‬

‫‪ -‬ريم فين؟‬

‫أجابه شقيقه بتعحب من نبرة الهلع بصوته‪:‬‬

‫‪ -‬نزلت تزورواحدة صاحبتها‪.‬‬

‫حاول (أدهم) االتصال بها مرا ًرا‪ ،‬وبكل مرة يأتيه نفس الرد؛‬
‫ً‬
‫الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقا‪ .‬سأل شقيقه بقلق‬

‫ورعب على شقيقته‪:‬‬

‫‪197‬‬
‫‪ -‬تليفونها مقفول‪ ،‬تعرف رقم صاحبتها دي تتصل‬

‫تشوفها نزلت من عندها وال أل؟‬

‫أومأ له (كرم) بينما يبحث عن رقم (روفيدا) على هاتفه‪،‬‬

‫وضع الهاتف على أذنه ينتظرردها وال مجيب‪ ،‬حاول مرة‬

‫ثانية وثالثة حتى أجابته بصوت واهن ضعيف‪:‬‬

‫‪ -‬ألو‪.‬‬

‫أجابها مباشرة‪ ،‬فال وقت للسؤال عن حالها اآلن‪ ،‬فاألمر‬

‫يخص شقيقته الغائبة‪:‬‬

‫‪ -‬روفيدا أنا كرم‪ ،‬آسف لو أزعجتك‪ ،‬أنا بتصل أسألك‬

‫إذا كانت ريم لسه عندك وال نزلت‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫تعجبت من اتصاله‪ ،‬فهذه أول مرة يحادثها‪ ،‬لكنها‬

‫استشعرت نبرة القلق بصوته‪ ،‬أجابته بما زاد من قلقه‪:‬‬

‫‪ -‬ريم مجاتش عندي أصال‪.‬‬

‫شكرها وأغلق هاتفه‪ ،‬الرعب على وجهه أعلم شقيقه بما‬

‫يريد قوله‪:‬‬

‫‪ -‬مراحتش لها‪.‬‬

‫حاوال االتصال بشقيقتهم مرة أخرى دون فائدة‪ ،‬حاول‬


‫ً‬
‫(أدهم) االتصال بالرقم الذي راسله‪ ،‬لكنه وجده مغلقا كما‬

‫توقع‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫انتظرا ما يقارب النصف ساعة ينهش القلق قلبهما حتى أتى‬
‫ً‬
‫سريعا ليستمع إلى‬ ‫(أدهم) اتصال من رقم مجهول‪ ،‬أجابه‬

‫قهقهة محدثه على الطرف اآلخر‪.‬‬

‫‪ -‬واضح إننا خمنا نقطة ضعفك صح‪.‬‬

‫نطق بكل ما يحمله من غضب تجاه محدثه‪:‬‬

‫‪ -‬لو ملستو شعرة منها هيكون آخريوم في عمركم‪.‬‬

‫ازدادت ضحكات محدثه‪ ،‬مما زاد من غضب (أدهم)؛‬

‫فبسببه تعرضت شقيقته لالختطاف‪ ،‬حاول التحلي بالهدوء‬

‫حتى يستطيع استعادتها ساملة‪:‬‬

‫‪ -‬إنتو مين وعايزين إيه؟‬

‫‪200‬‬
‫استمع إلى اآلخريخبره ببرود شخص يمتلك ورقة رابحة‪:‬‬

‫‪ -‬طلب بسيط‪ ،‬تسيب القضية اللي إنت ماسكها ً‬


‫حاليا‪،‬‬

‫وتجيب امللف اللي وصلك امبارح‪ ،‬تسلمنا امللف تستلم‬

‫أختك‪ ،‬فكرمع نفسك واستنى مننا اتصال تاني‪.‬‬


‫ُ‬
‫أغلق الخط دون أن يستطيع الرد‪ ،‬أغلقوا وتركوه لقلقه‬

‫ينهشه‪ ،‬وخوفه على شقيقته يزداد‪.‬‬

‫نظرتجاه شقيقه ال يعرف كيف يخبره أنه السبب في اختفاء‬

‫شقيقته‪ ،‬شقيقه الذي تحول قلقه إلى غضب تجاهه‪ ،‬يلومه‬

‫ويعاتبه‪:‬‬

‫‪ -‬ريم لو حصل لها حاجة مش هسامحك يا أدهم‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫هو لن يسامح نفسه إذا أصابها سوء بسببه‪ ،‬طمأن شقيقه‬

‫بأنه سيعيدها ساملة‪:‬‬

‫‪ -‬متقلقش‪ ،‬هترجع إن شاء هللا‪ ،‬هنفذ اللي هما عايزينه‪.‬‬

‫وفي سابقة لم تحدث من قبل‪ ،‬ستكون أول معركة خاسرة‬

‫بمهنته‪.‬‬

‫**********‬

‫ماذا إن أتاك ما ُحرمت منه طوال حياتك‪ ،‬بل لم تكن تعلم‬

‫بوجوده‪ ،‬هل ستقبله أم تتنازل عنه؟‬

‫‪202‬‬
‫ً‬
‫طفالن لم يعلما شيئا عن والدهما الذي مات في صغرهما‪،‬‬

‫لم تظهرله عائلة‪ ،‬علما فيما بعد أن والدهما كان على‬

‫خالف مع والده لذلك لم تعيرهما عائلته انتباهها بعد وفاته‪.‬‬

‫تزوجت والدتهما بآخر كان لهما األب والسند‪ ،‬لم يعرفا ًأبا‬

‫غيره ولم يحتاجا لش يء معه‪ ،‬حتى بعد رحيل والدتهما لم‬


‫يشعرهما ً‬
‫يوما أنهما ليسا من صلبه‪ ،‬لم يحتاجا للبحث عن‬

‫عائلة؛ فكان هو كل عائلتهم‪.‬‬

‫واليوم تظهرلهم عائلة نبذتهم في املاض ي‪ ،‬عائلة لم تكلف‬

‫نفسها عناء البحث عنهم‪ ،‬عائلة ظهرت ومعها إرث يخصهم‪،‬‬

‫جاء من شتت حياتهم وزعزع استقرارهم‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫جلست (سارة) برفقة شقيقها بغرفته‪ ،‬تفكرفي حديث‬

‫الزائر املفاجئ‪ ،‬بدأت هي بالحديث‪:‬‬

‫‪ -‬هنعمل إيه يا ياسين؟‬

‫التفت إليها ولم يهدأ غضبه بعد‪:‬‬

‫‪ -‬عن نفس ي ميلزمونيش في حاجة‪.‬‬


‫ً‬
‫صمتت قليال قبل أن تتفوه بما يستحوذ على تفكيرها منذ‬

‫رحيل ابن عمها‪:‬‬

‫‪ -‬طب وورثنا؟‬

‫نظرإليها بتعجب‪ ،‬مصدوم من تفكيرها‪:‬‬

‫‪204‬‬
‫‪ -‬أنا مستغربك الصراحة‪ ،‬هادية ومش متعصبة من البني‬

‫آدم املستفزاللي كان هنا والكالم اللي قاله‪.‬‬

‫حاولت شرح وجهة نظرها‪:‬‬

‫‪ -‬افهمني يا ياسين‪ ،‬الفلوس دي حقنا وحق بابا هللا‬

‫يرحمه‪ ،‬لو مش عشانا يبقى عشان بابا حسن‪ ،‬تعب‬

‫وربانا وباع أرضه ملا احتاجنا فلوس‪.‬‬


‫ً‬
‫صمتت قليال بعدما رأت تفكيرشقيقها في حديثها‪ ،‬ثم تابعت‬

‫تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬إنت دلوقتي مش محتاج تتجوز وتأمن مستقبل‬

‫أوالدك؟ طول عمرك عايزتشيل الحمل من على كتف‬

‫‪205‬‬
‫بابا‪ ،‬دلوقتي جات الفرصة دي‪ ،‬نريحه من اللي شايله‬

‫طول عمره شويه‪.‬‬

‫صمته دليل أن حديثها دخل عقله‪ ،‬سألها بتردد‪:‬‬

‫‪ -‬يعني عايزانا نتصل بيوسف دا؟‬


‫‪ً -‬‬
‫طبعا‪ ،‬نتصل به وناخد ورثنا ومش عايزين منهم حاجة‬

‫تاني‪.‬‬

‫أنهت حديثها تناوله البطاقة التي تحوي رقم هاتفه‪ ،‬تحاول‬

‫إقناعه بشتى الطرق‪.‬‬

‫لفتت انتباهه لحديثه الذي تفوه به بشأن والدهم‪:‬‬

‫‪206‬‬
‫‪ -‬على فكرة يا ياسين‪ً ،‬‬
‫تقريبا بابا زعل من كالمك‪ ،‬إنت‬

‫انفعلت وقلت عليه راجل غريب‪ ،‬وأكيد هو فهم كالمك‬

‫غلط‪.‬‬

‫شعربالغضب من نفسه‪ ،‬فهو لم يقصد ما قاله‪ ،‬توجه على‬

‫الفور لغرفة والده‪ ،‬طرق بابها و انتظرأن يستمع إلى صوت‬

‫والده يدعوه للدخول‪.‬‬

‫دلف الحجرة ليجده يجلس على فراشه‪ ،‬يظهرعليه الحزن‪،‬‬


‫اقترب منه ببطء‪َّ ،‬‬
‫قبل رأسه ويده معتذ ًرا‪:‬‬

‫‪ -‬أنا آسف‪ ،‬حقيقي مكنتش أقصد الكالم اللي قلته‪،‬‬

‫حقك عليا يا بابا‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫ربت والده على كتفه‪ ،‬فهو يعلم أنه لم يقصد أن يتفوه بما‬

‫يحزنه‪:‬‬

‫‪ -‬حصل خيريا ياسين‪.‬‬

‫نبرة صوته أنبأت (ياسين) أنه مازال يحمل بعض الحزن‬

‫بداخله‪ ،‬حاول إشراكه فيما تحدث به مع شقيقته فسأله‬

‫النصيحة‪:‬‬

‫‪ -‬رأيك نعمل إيه يا بابا؟‬

‫لم يفكر(حسن) ً‬
‫كثيرا في جواب‪:‬‬

‫‪ -‬دي حاجة تخصك إنت وأختك‪ ،‬اللي مرتاحين فيه‬

‫اعملوه‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫وبهذه الكلمات البسيطة ازدادت حيرته وتشتته‪.‬‬

‫**********‬

‫"لن يمنحك أحد الحب‪ ،‬أنت فقط من تستطيع منحه‬


‫لنفسك‪ ،‬وعليك ً‬
‫دائما إسعاد نفسك‪ ،‬حتى وإن كانت‬

‫الوسيلة هي سلب سعادة اآلخرين‪".‬‬

‫هذه هي قناعتها التي تؤمن بها‪ ،‬وما تنفذه بحياتها‪ ،‬يتحكم بها‬

‫حب الذات‪ ،‬وال تفكربش يء سوى ألجل نفسها وفقط‪.‬‬

‫يتآكلها الغضب منذ طرد والدتها لها‪ ،‬تظن أن شقيقتها هي‬

‫من حرضتها لفعل ذلك‪ ،‬وعليه فقد قررت االنتقام‪،‬‬

‫ستحرمها راحتها وتنغص حياتها‪ ،‬وقد حان دور ضرباتها‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫انتشلت الهاتف من يد زوجها الذي يبرر غضبها وتصرفاتها‬

‫بسبب ما حدث في عزاء والدها‪ ،‬أخبرته بحدة‪:‬‬

‫‪ -‬عايزة أكلمك في موضوع‪.‬‬

‫انتبه لها يسألها‪:‬‬

‫‪ -‬موضوع إيه؟‬

‫‪ -‬مش عايزتشوف والدك؟‬

‫شعرباالشتياق إليهم‪ ،‬ولحظات سعادة لطاملا قضاها‬

‫بصحبتهم‪:‬‬
‫‪ -‬أكيد‪ ،‬دول وحشوني ً‬
‫جدا‪.‬‬

‫نظرت له بظفر‪ ،‬تشعربقربها من هدفها‪:‬‬

‫‪210‬‬
‫‪ -‬روح هاتهم بكرة يقضو اليوم معانا‪.‬‬

‫شرد في اقتراحها‪ ،‬فهو يؤيده بشدة لكنه يشعربالحرج من‬

‫زوجته السابقة ووالدتها‪ ،‬فهو لم يجرؤ على الذهاب‬

‫لتعزيتهم خاصة بعد معرفته بما فعلوه ب(أسيل)‪ ،‬خرجت‬

‫كلماته مترددة‪:‬‬

‫‪ -‬أيوه يا أسيل بس هروح أجيبهم ازاي؟‬

‫بدأت في بث سمومها‪ ،‬تحرضه على افتعال املشاكل مع‬

‫شقيقتها‪:‬‬

‫‪ -‬دول والدك‪ ،‬تقدرتشوفهم في أي وقت‪ ،‬ولو سيرين‬

‫رفضت هددها إنك ممكن توصل املوضوع للمحاكم‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ً‬
‫أخذ يفكرفي حديثها‪ ،‬هو يشتاقهم حقا‪ ،‬لكنه ال يريد افتعال‬

‫املشاكل مع زوجته السابقة‪ ،‬فكرأن يحاول رؤيتهم ولن‬

‫يخسرش يء‪ ،‬فهذا حقه وحقهم كذلك‪:‬‬

‫‪ -‬خالص هروح أجيبهم بكرة إن شاء هللا‪.‬‬

‫ابتسمت له بانتصار‪ ،‬فهي لن تسعد سوى بتحقيق ما تريد‪.‬‬

‫**********‬

‫‪212‬‬
‫(‪)8‬‬

‫لكي تبقى على قيد الحياة في غابة مليئة بالوحوش عليك أن‬
‫ً‬
‫استعدادا‬ ‫تكون أحدهم‪ ،‬تفكرمثلهم‪ ،‬تظهرمخالبك ً‬
‫دائما‬

‫ألي هجوم غادر‪.‬‬

‫هو لم يتوقع أن ُيحا َرب من خالل نقطة ضعفه؛ أال وهي‬


‫ً‬
‫مخطئا؛ حين ابتعد‬ ‫شقيقته‪ ،‬اعتقد أنها بأمان لكنه كان‬

‫بنظره عنها أصبحت فريسة بيد أعدائه‪ ،‬هي بأيديهم منذ‬

‫يومين‪ ،‬يومين لم يتلق خاللهما أي اتصال من خاطفيها‪،‬‬

‫يتالعبون بأعصابه حتى ينهار‪ ،‬وقد نجحوا في ذلك‪ .‬يومان لم‬

‫يذهب خاللهما إلى عمله‪ ،‬فقط يتجول في الشوارع بسيارته‬

‫‪213‬‬
‫ينتظراتصالهم‪ ،‬يهرب من مواجهة شقيقه ومن هجوم والده‬

‫الحاد عليه بأنه لم يستطع إدارة أمور عمله كما لم يستطع‬


‫الحفاظ على شقيقته‪َّ ،‬‬
‫فضل التجول بالطرقات عن املكوث‬

‫باملنزل‪.‬‬

‫حين أنهكه التعب عاد ملنزله‪ ،‬أراد االستحمام لكي يزيل عنه‬

‫عناء اليوم ويجدد نشاطه‪ .‬كان ال يزال بسيارته أسفل املنزل‬


‫ً‬
‫سريعا ليرى املتصل‪،‬‬ ‫حين أتاه اتصال على هاتفه‪ ،‬التقطه‬

‫لكنه زفربضيق حين وجد اسم (هند) ينيرشاشته‪ ،‬أجابها‬

‫فقط ألنه يعلم قلقها على شقيقته ولكي يريح رأسه من‬
‫ً‬
‫اتصاالتها التي ستتوالى إن لم يجبها‪ ،‬خرج صوته حزينا‬
‫ً‬
‫ضعيفا ر ً‬
‫غما عنه‪:‬‬

‫‪214‬‬
‫‪ -‬نعم يا هند‪.‬‬

‫ليأتيه سؤالها من الجانب اآلخر‪ ،‬بصوت يتضح فيه بكاؤها‪:‬‬

‫‪ -‬مفيش أخبارعن ريم؟‬

‫رفع يده اليسرى يضغط بها على عينيه‪ ،‬يحاول إزالة اإلرهاق‬
‫ً‬
‫عنهما‪ ،‬صمت قليال يحاول استجماع قواه قبل أن يجيبها‪:‬‬

‫‪ -‬مفيش جديد‪.‬‬

‫وقبل أن تجيبه بأي ش يء أخبرها يريد إنهاء الحديث معها‪:‬‬

‫‪ -‬هند أنا تعبان ومش قادرأتكلم‪ ،‬وكمان مش عايز أشغل‬

‫التليفون‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫تشعربه‪ ،‬تشعربقلقه وخوفه الشديد على شقيقته‪ ،‬لم ترد‬

‫الضغط عليه أكثرفآثرت أن تفعل ما يريد‪ ،‬أجابته قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬لو في جديد عرفني‪.‬‬

‫أومأ برأسه دون طاقة أن يجيب‪ ،‬لكنها ليست أمامه وال ترى‬

‫إيماءته‪ ،‬أنهى الحديث بكلمة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬حاضر‪.‬‬

‫ترجل من سيارته ليصعد للمنزل‪ ،‬يستعد ملواجهة شقيقه‬

‫والتقريع الذي سيستمع إليه من والده‪.‬‬


‫ً‬
‫لم يكد يدلف إلى املنزل حتى استقبله شقيقه متلهفا يسأله‪:‬‬

‫‪ -‬حد منهم كلمك؟‬

‫‪216‬‬
‫هزرأسه ً‬
‫نفيا‪ ،‬وللعجب انسحب شقيقه من أمامه دون كلمة‬

‫أخرى كأن طاقته هو اآلخرقد نفذت‪ ،‬لكنه لم يسلم من‬

‫كلمات والده الالذعة له‪:‬‬

‫‪ -‬لو إنت عملت احتياطاتك من البداية مكنش كل دا‬

‫حصل‪ ،‬مكنتش هتوصل إنك تتحط في اختيارما بين‬

‫أختك وشغلك‪.‬‬

‫صرخ بوجه والده‪ ،‬فهو لم يعد يتحمل كلمة أخرى منه‪:‬‬

‫‪ -‬ريم عمرها ما تتحط في اختيارقصاد أي حاجة‪ ،‬كفتها‬


‫ً‬
‫دايما راجحة بالنسبة لي‪.‬‬

‫فأتته نبرة والده الهازئة‪:‬‬

‫‪217‬‬
‫‪ -‬ال ما هو واضح‪ ،‬بأمارة إنك محافظ عليها لدرجة إنها‬

‫تتخطف منك‪.‬‬

‫وهذا كان ما أخرج البركان عن سباته‪ ،‬بداية ثورته‪ ،‬ليلقي‬

‫بحممه وال يميزش يء أمامه‪:‬‬

‫‪ -‬وحضرتك كنت فين يا مراد بيه؟ فين دورك إنك تحافظ‬

‫على بنتك؟ تقدرتقولي إنت تعرف إيه أصال عن حياتها؟‬

‫تعرف هي كانت رايحة فين وقت ما اتخطفت؟ مش من‬

‫حقك تحاسبني على اللي هي فيه قبل ما تحاسب‬

‫نفسك‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫أنهى حديثه‪ ،‬صدره يعلو ويهبط من شدة انفعاله‪ ،‬يلتقط‬

‫أنفاسه بصعوبة‪ ،‬عزف عن فكرة االستحمام‪ ،‬عاد أدراجه‬

‫مرة أخرى ينوي الخروج من املنزل‪ ،‬فالدقائق القليلة‬

‫بصحبة والده قضت على ما تبقى لديه من طاقة‪ ،‬وقبل‬

‫رحيله التفت إليه يخبره بجملة أخيرة‪:‬‬

‫‪ -‬أنا نازل ومش هرجع غيروريم معايا‪ ،‬أتمنى أشوف جهود‬

‫مراد بيه الزهيري في إنه يدور على بنته‪.‬‬

‫رحل دون أن يستمع لرده‪ ،‬فبالنهاية رد والده ال يهمه ولن‬

‫يعجبه بأي حال‪ ،‬عاد لتجواله في الشوارع والطرقات‪ ،‬شار ًدا‬


‫في ذكرياته مع شقيقته‪ ،‬شقيقته التي اعتبرها ً‬
‫دوما ابنته‪ ،‬لم‬

‫ينتشله من شروده سوى صوت رسالة تعلن وصولها إلى‬

‫‪219‬‬
‫هاتفه‪ ،‬تحوي عنوان ليذهب إليه‪ ،‬وبالنهاية جملة من‬

‫خاطفي شقيقته‪.‬‬
‫ً‬
‫"طبعا مش محتاجين ننبه عليك إنك تيجي بامللف لوحدك"‬

‫وهو بالطبع سينفذ ما يريدونه‪ ،‬لن يعرض حياة شقيقته‬

‫للخطر‪.‬‬

‫**********‬

‫حين يكون لديك ش يء تريد إخبارأحد به ال تؤجل األمر؛ فإن‬

‫هذا يثقل كاهلك‪ ،‬فقط ألق ما لديك وما عليك بعدها سوى‬

‫انتظاررد فعله‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫مريومان منذ زيارته ألوالد عمه‪ ،‬قص على والدته يومها ما‬

‫حدث معه‪ ،‬أخبرها عن هجوم (ياسين) الحاد عليه وغضبه‬

‫من عائلته‪( ،‬سارة) التي لم يستمع إلى رأيها أثناء زيارته لكنه‬

‫لم يسلم من نظراتها‪ ،‬أراد نصحيتها في خطوته التالية‪،‬‬

‫ويومها أخبرته أن ما فعلوه هو رد فعل طبيعي تجاه عائلة لم‬

‫تكلف نفسها عناء البحث عنهم طوال سنوات عمرهم‪،‬‬

‫أخبرته بأن عليه إخبارباقي العائلة عن عثوره عليهم‪ ،‬وأن‬

‫يمهد األجواء الستقبالهم‪.‬‬

‫واليوم قد جمع العائلة بأكملها ليلقي عليهم الخبر‪ ،‬ويرى‬

‫مدى استجابتهم لقبولهم بينهم‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫هو ليس بكبيرهم‪ ،‬لكنه يمتلك النصيب األكبرمن أموال‬

‫العائلة بعدما سعى إلى تطويرأعمالهم ووقف بجانب والده‬

‫لكي يصبح اسم العائلة له قيمته بسوق العمل‪.‬‬

‫بعد حضور جميع أفراد العائلة‪ ،‬بادره عمه بالسؤال‪:‬‬

‫‪ -‬خيريا يوسف‪ ،‬إيه سبب إصرارك إنك تجمعنا كلنا‬

‫النهارده؟‬

‫ألقى نظرة خاطفة على والدته ينشد منها دعم ومساندة فيما‬
‫ّ‬
‫هو مقدم عليه‪ ،‬وزع نظراته بين جميع الحضور‪ ،‬أجلى‬

‫صوته يخبرهم‪:‬‬
‫ً‬
‫طبعا فاكرين عمي عالء هللا يرحمه‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪222‬‬
‫انتبهت األعين جميعها له‪ ،‬وقالئل من األلسنة هي من رددت‬

‫الرحمة‪ ،‬لكنه يكاد يجزم أن بداخل عقل أغلبهم ال يتردد‬

‫سوى جملة واحدة؛ "دا إيه اللي فكره به دلوقتي؟"‬

‫لم يتلق من أحدهم سؤال‪ ،‬جميعهم منتظرين أن يكمل ما‬

‫يريد إخبارهم به‪ ،‬أكمل حديثه وقد قرر إخبارهم ما بجعبته‬

‫مرة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬عمي كان متجوز ومخلف من مراته ولد وبنت‪ ،‬وعايزين‬

‫ياخدو ورثهم‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫دقيقة صمت مرت عليهم وكأنه ألقى على رؤوسهم بصاعقة‪،‬‬

‫وكان أول من استعاد قدرته على الحديث هي عمته التي ثارت‬

‫بوجهه قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬إيه التخريف دا؟ إيه عرفك إنهم والده؟ ما جايز‬

‫نصابين‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وقف محاوال الحفاظ على هدوئه ليتلقى هجومهم جميعا‪:‬‬

‫‪ -‬محدش منهم جه طلب فلوس عشان أقول عليه‬

‫نصاب‪ ،‬أنا اللي دورت عليهم لحد ما وصلت لهم عشان‬

‫أسلمهم ورثهم‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫والثورة هذه املرة كانت من نصيب عمه الذي صرخ بوجهه‬
‫ً‬
‫غاضبا‪:‬‬

‫‪ -‬وهو حد طلب منك تدور عليهم! إذا كان هما ميعرفوش‬

‫حاجة عن ورثهم دا‪.‬‬

‫ليجيبه (يوسف) على الفور‪:‬‬

‫‪ -‬أنا نفذت وصية بابا هللا يرحمه‪ ،‬بابا قبل ما يموت طلب‬

‫مني أدور على والد عمي وأعطيهم ورثهم‪ ،‬عايزيرتاح في‬

‫تربته وعايزيريحكم إنتو كمان من ذنب شايلينه طول‬

‫عمركم‪.‬‬

‫ليقاطع حديثه ابن عمه األصغر‪:‬‬

‫‪225‬‬
‫‪ -‬خالص طاملا صعبانين عليك اوي كده وعايزتنفذ‬

‫وصية أبوك اديهم اللي عايزه من فلوسك إنت و أبوك‪.‬‬

‫ً‬
‫مشيرا إليه بإصبعه‪:‬‬ ‫زعق به (يوسف)‬

‫‪ -‬فارس‪ ،‬احترم نفسك‪ .‬أنا محترم عمي وعمتي عشان أكبر‬

‫مني لكن مش مضطر أتحمل كالمك السخيف وقلة‬

‫أدبك‪.‬‬

‫وجملة (يوسف) أشعلت غضبه‪ ،‬كان على وشك مشاجرته‬

‫لكن والده أوقفه‪:‬‬

‫‪ -‬بس يا فارس‪.‬‬
‫ً‬
‫والتفت عائدا بالحديث البن أخيه يسأله‪:‬‬

‫‪226‬‬
‫‪ -‬و إيه املطلوب مننا يا يوسف؟‬
‫ً‬
‫جميعا يخبرهم ما يعزم‬ ‫التقط (يوسف) أنفاسه‪ ،‬ينظرإليهم‬

‫على فعله‪:‬‬

‫‪ -‬ياسين وسارة هييجو ويستلمو ورثهم كامل‪ ،‬بعد كده‬

‫عايزين تتقبلو وجودهم بينكم كأفراد من العيلة أو ال‬

‫دي حاجة ترجع لكم‪ ،‬لكن أنا عن نفس ي هحاول‬

‫أعوضهم عن العيلة اللي اتخلت عنهم من صغرهم‪.‬‬

‫حاولت عمته الحديث مرة أخرى لكن أوقفها عمه بإشارة‬

‫من يده قبل أن ينظرإلى (يوسف) يخبره‪:‬‬

‫‪227‬‬
‫‪ -‬ماش ي يا يوسف‪ ،‬هاتهم نتعرف عليهم ونشوف موضوع‬

‫الورث دا‪.‬‬

‫ثم التفت إلى جميع الحضور يوجه حديثه لهم‪:‬‬

‫‪ -‬أظن كده عرفنا سبب اجتماعنا النهاردة‪ ،‬يال كل واحد‬

‫على بيته لحد ما يوسف يجيب والد عمه‪.‬‬


‫ً‬
‫جميعا وبقي هو ووالدته‪ ،‬يخش ى ما داخل نفوسهم‪،‬‬ ‫رحلوا‬

‫وما يخيفه أكثرهي تلك النظرة التي رآها بعين عمه قبل‬

‫رحيله؛ نظرة تضمرالشربداخلها‪ ،‬دعا بداخله أن يمراألمر‬

‫بسالم‪ ،‬ووصل إلى أذنيه دعوة والدته املستمرة‪:‬‬

‫‪ -‬ربنا يستر‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫***********‬
‫اإلنسان في الحياة ُمخير‪ ،‬يتخذ قرا اته بنفسه‪ ،‬يفكر ً‬
‫جيدا‬ ‫ر‬

‫قبل أن يخطو خطوة واحدة‪ ،‬فال وقت للندم لتكتشف أن‬


‫ً‬
‫اختيارك كان خاطئا من البداية‪.‬‬

‫في الحقيقة هو ال يشعربالندم‪ ،‬يشعرأن زوجته الحالية‬

‫مختلفة عن شقيقتها‪ ،‬تفهمه أكثر‪ ،‬تساعده في اختياراته‪،‬‬


‫عملية وعقالنية أكثر‪ ،‬تنحي قلبها ومشاعرها ً‬
‫جانبا عند‬

‫الالزم‪ .‬منذ أخبرته أن يذهب لرؤية أطفاله وهو مشتت‪ ،‬قلبه‬

‫يخبره بسرعة الذهاب‪ ،‬وعقله يدعوه إلى التمهل والتريث‬

‫قبل اتخاذ هذه الخطوة؛ فوقتها عليه مواجهة طليقته ألول‬

‫مرة منذ زواجه بشقيقتها‪ .‬استغرق تفكيره يومين‪ ،‬وبعدها‬

‫‪229‬‬
‫اتخذ قراره‪ ،‬أنهى عمله وقرر الذهاب لرؤيتهم وربما أخذهم‬

‫لتقضية بعض الوقت معه‪ ،‬يعلم أن الوقت متأخر لكن ال‬

‫ضرر من املحاولة‪ ،‬وها هو يقف أمام منزل والديها‪ ،‬يتردد في‬

‫طرق الباب‪ ،‬وقبل أن يتغلب عليه عقله في دعوته للرحيل‬

‫طرقه‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقف ينتظرمن يجيبه‪ ،‬وحين فتح الباب وجدها هي أمامه‪،‬‬

‫تنظرإليه ويعلو وجهها مالمح الصدمة‪.‬‬

‫وقفت أمامه بال حراك‪ ،‬ال تحيد ببصرها عنه‪ ،‬هرب منها‬

‫الكالم فلم تستطع طرده‪ ،‬تيبس جسدها ولم تقو على‬

‫الحراك فلم تستطع غلق الباب بوجهه‪ .‬أفاقت على صوته‬

‫ُيحدثها‪:‬‬

‫‪230‬‬
‫‪ -‬إزيك يا سيرين‪ ،‬عاملة إيه؟‬
‫ً‬
‫هل حقا يسألها عن حالها! كيف يريد حالها أن يكون بعد ما‬

‫فعله وشقيقتها بها‪ ،‬لم تستجمع قواها بعد لتجيبه‪ ،‬فتابع‬

‫يسألها عن طفليه‪:‬‬

‫‪ -‬الوالد عاملين إيه؟‬

‫ً‬
‫وأخيرا تذكرأطفاله‪ ،‬من أين أتته الجرأة ليأتي ويطرق بابهم!‬
‫ً‬
‫وأخيرا طاوعها لسانها واستطاع النطق‪ ،‬وأول ما سألته إياه‬

‫هو عن سبب مجيئه‪:‬‬

‫‪ -‬جاي ليه؟‬

‫‪231‬‬
‫َّ‬
‫وهو لم يعرف بما يجيبها‪ ،‬فضل في البداية تقديم واجب‬

‫عزاء تأخرعنه‪:‬‬

‫‪ -‬البقاء هلل‪.‬‬

‫ابتسامة هازئة ظهرت بجانب شفتيها‪ ،‬توحشت نظرتها وهي‬

‫تجيبه‪:‬‬

‫‪ -‬صحيح تقتل القتيل وتمش ي في جنازته‪.‬‬

‫صرخت به تطرده من أمام بابها‪:‬‬

‫‪ -‬امش ي من هنا‪ ،‬مش عايزة أشوفك تاني‪.‬‬

‫‪232‬‬
‫هل كرهته؟ لم تبدو عدو انية معه هكذا؟ أول مرة يراها بهذا‬

‫الغضب‪ ،‬لكنه اشتاق أطفاله وعليه محايلتها من أجل‬

‫رؤيتهم‪:‬‬

‫‪ -‬الوالد وحشوني يا سيرين‪ ،‬عايزأشوفهم‪.‬‬

‫وكأنه قد أشعل فتيل زاد من االحتراق‪ ،‬بجملته هذه قد زاد‬

‫من غضبها‪ ،‬انفجرت أكثربوجهه‪:‬‬

‫‪ -‬والد! مفكرتش فيهم ليه من البداية؟ بالش تفكرفيا أنا‬

‫وفي سنين عمرنا اللي قضيناها مع بعض‪ ،‬إنت مفكرتش‬

‫في أي حاجة خالص ملا خدت قرارك إنت وهي وجاي‬

‫‪233‬‬
‫دلوقتي تفكرفي الوالد! امش ي اطلع بره‪ ،‬إنت خالص‬

‫خرجت من حياتي أنا ووالدك‪.‬‬

‫أنهت حديثها وأغلقت الباب بوجهه‪ ،‬جليت جواره تبكي‪،‬‬

‫بظهوره أمامها فقد نكأ جروحها‪ ،‬أعاد فتحهم من جديد‪ ،‬هي‬


‫تحاول التناس ي وإكمال حياتها‪ ،‬لكن سيبقى أطفالهما ً‬
‫دائما‬

‫هم الرابط بينهما‪.‬‬

‫اقتربت منها والدتها التي استمعت للحديث من بدايته‪،‬‬

‫جلست جوارها وأخذتها بأحضانها‪ ،‬لم تتفوه بكلمة‪ ،‬فقط‬


‫ُ‬
‫تريدها أن تبكي حتى تخرج كل الحزن بداخلها‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫أما عن (عاصم) فقد عاد بخفي حنين‪ ،‬لم يكن يظن أن األمر‬
‫سيمربسهولة‪ ،‬لكنه ً‬
‫أيضا لم يكن يتوقع هذا الهجوم الحاد‬

‫من (سيرين) عليه‪ .‬قرر العودة ملنزله‪ ،‬إخبار(أسيل) بما‬

‫حدث لتستطيع التفكيرمعه في كيفية رؤيته ألطفاله‪.‬‬

‫**********‬

‫حين يكون مصيرأحدهم ُمعلق بيدك‪ ،‬ستتبع كل وسائل‬

‫الحرص عندما تتخذ قراربشأنه‪.‬‬

‫وهي ليست أي أحد‪ ،‬هي شقيقته‪ ،‬قطعة من قلبه‪ ،‬وما‬

‫تعرضت له هو السبب به‪ .‬جلس بسيارته في املكان الذي‬

‫حددوه له ينتظرقدومهم‪ ،‬الح له ضوء سيارة يقترب من‬

‫‪235‬‬
‫بعيد‪ ،‬اقتربت لتقف مقابل سيارته‪ ،‬ترجل منها رجالن وأشار‬

‫له أحدهما ليفعل املثل‪.‬‬

‫اقترب (أدهم) منهما يحمل امللف بيده‪ ،‬حاول أحد الرجلين‬

‫أخذه منه لكنه أبعد يده عنه‪ُ ،‬يحول بصره تجاه سيارتهم‬

‫يسألهم‪:‬‬

‫‪ -‬أختي فين؟‬

‫عاد أحدهما إلى السيارة‪ ،‬يمسك بيد تلك الجالسة في املقعد‬


‫الخلفي معصوبة العينين‪ ،‬يسحبها خارج السيارة ً‬
‫مقتربا بها‬

‫من شقيقها‪ ،‬وقف أمامه يمد له يده ليناوله امللف وعندما‬

‫حصل عليه دفع بها لتسقط بأحضان شقيقها الذي أزال‬

‫‪236‬‬
‫عصبة عينيها ليطمئنها بوجوده جوارها‪ .‬فتح امللف يتصفح‬

‫ورقاته كما طلب منه رئيسه‪ ،‬رفع بصره تجاه الو اقف أمامه‬

‫بثبات ال ُيظهرخوف أو رهبة‪ ،‬و ابتسم له ابتسامة مقيتة‬

‫قبل أن يخبره‪:‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬طلعت عاقل‪.‬‬


‫ً‬
‫لوح له بيده‪ ،‬ورحل قائال‪:‬‬

‫‪ -‬معلش يا متر‪ ،‬متعوضة في قضية تانية‪.‬‬

‫أما عن (أدهم) فبمجرد رحيلهم‪ ،‬أخذ شقيقته ُيجلسها‬

‫بالسيارة يطمئن عليها‪ ،‬يرى االنهاك البادي على مالمحها‪،‬‬

‫يسألها بخوف شديد عليها‪:‬‬

‫‪237‬‬
‫إنت كويسة؟‬
‫‪ِ -‬‬

‫أومأت له برأسها دون أن تنطق‪ ،‬فقط تنهمردموعها وإن‬

‫قلت رعشة جسدها بعدما اطمئنت بوجود شقيقها وعودتها‬

‫ساملة‪ .‬احتضنها يبثها األمان الذي ُحرمت منه خالل األيام‬

‫املاضية‪ ،‬يعتذرلها عما حدث لها بسببه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا آسف يا ريم‪ ،‬سامحيني‪.‬‬


‫ً‬
‫قاد سيارته عائدا إلى منزله‪ ،‬يسترجع خطته التي وضعها‪.‬‬

‫شقيقته هي األهم بحياته وال يستطيع تعريض حياتها‬

‫للخطر‪ ،‬وموكله يعتمد عليه من أجل إظهاربراءته وال يريد‬

‫أن يخذله هو اآلخرخاصة بعدما وصل للدليل وأصبح بيده‪،‬‬

‫‪238‬‬
‫وعن نفسه فال يستطيع تعريض سمعته للخطركمحامي‬

‫ُيهدرأوراق قضاياه الرابحة‪ .‬اعتمد على أن اليد املحركة‬

‫للخاطفين لن يظهربنفسه في الصورة‪ ،‬بل سيرسل مجموعة‬

‫مأجورين للقيام باملهمة نيابة عنه‪ ،‬ولن تبلغ قوة مالحظتهم‬

‫الدرجة التي تجعلهم يستطيعون التمييزبين نسخة األوراق‬

‫االصلية وتلك الصورة باأللوان‪ ،‬كم أراد رؤية تعابيروجهه‬

‫اآلن عندنا يكتشف أن ما حصل عليه ال قيمة له وأن رقبته‬

‫ال تزال بيده!‬

‫حمد هللا أن مراألمربسالم دون أن يحدث ش يء إلى شقيقته‬

‫التي تنام اآلن بفراشها بعد عودتها ساملة ألحضان أسرتها‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫في قانون الغاب البقاء لألقوى‪ ،‬والقوة الجسدية وحدها ال‬

‫تكفي‪ ،‬بل األقوى هو من يمتلك الدهاء بتفكيره ليقض ي على‬

‫أعدائه دون أن يمسه أذى‪.‬‬

‫***********‬

‫عندما تكون على أعتاب فقدان شخص عزيز‪ ،‬تشعروكأن‬

‫روحك تنسحب‪.‬‬

‫هي توأمه‪ ،‬من تشاركت معه كل ش يء منذ أن كانا نطفة‬


‫برحم واحد‪ ،‬عاشا مراحل حياتهما ً‬
‫معا‪ ،‬لم يفترقا سوى‬

‫باملرحلة الجامعية‪ ،‬هو التحق بكلية الهندسة وهي بالفنون‬

‫‪240‬‬
‫الجميلة‪ ،‬تخبره أن عليه البناء وهي عليها اللمسة األخيرة‬

‫ليظال طوال حياتهما ُيكمالن بعضهما‪.‬‬

‫منذ عودتها منذ يومين لم يفارق جوارها‪ ،‬لم يذهب للعمل‪،‬‬

‫حتى االتصاالت الهاتفية ال يتلقاها‪ ،‬ال يجيب سوى تلك‬

‫الرسائل من (روفيدا) التي أخذت ترسلها باستمرارمنذ‬

‫علمت باختفاء (ريم)‪ ،‬وآخرها تلك التي أرسلتها منذ نصف‬

‫ساعة تطلب منه عنوان املنزل لكي تأتي لالطمئنان عليها‪.‬‬

‫فتحت (ريم) عينيها لتجده يجلس بجوارها‪ ،‬ابتسمت له‬

‫تسأله بمشاكسة‪:‬‬

‫‪241‬‬
‫‪ -‬إنت هتفضل قاعد جنبي على طول؟ ليه محسسني إني‬

‫هتخطف من البيت؟‬

‫اقترب منها يطبع قبلة على جبينها‪:‬‬

‫‪ -‬مش هنسمح بحاجة زي دي تحصل تاني أصال‪ ،‬بعد‬

‫كده مفيش خروج لوحدك‪.‬‬

‫اعتدلت في جلستها تنظرإليه بغضب‪:‬‬

‫‪ -‬يا سالم! هتحبسوني يعني؟‬

‫رفع كتفيه يجيبها‪:‬‬

‫‪ -‬تعليمات أدهم‪ ،‬مليش دعوة‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫تأففت من تلك التعليمات الجديدة‪ ،‬هي حبيسة غرفتها منذ‬

‫عام‪ ،‬لكنها منذ ذهبت للعمل برفقة (كرم) وقد اعتادت األمر‬

‫وأحبته‪ ،‬وتكره أن تعود للجلوس باملنزل مرة أخرى‪.‬‬

‫انتبهت على صوت (كرم) يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬قومي اجهزي عشان جايلك زيارة‪.‬‬

‫نظرت إليه متعجبة‪:‬‬

‫‪ -‬مين؟‬

‫فأجابها بابتسامة تمأل شفتيه‪:‬‬

‫‪ -‬روفيدا‪ ،‬ملا عرفت إنك رجعتي بالسالمة عايزة تيجي‬

‫تطمن عليكي‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫لقد تناست أمرتلك التي كانت ذاهبة لزيارتها‪ ،‬ضحكت‬

‫قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬طب خليها تاخد بالها لتتخطف هي املرة دي‪.‬‬

‫بادلها الضحك‪ ،‬ثم وجد نفسه مطرو ًدا من الغرفة من ِقبل‬

‫شقيقته لكي تستعد الستقبال ضيفتها‪ ،‬وستجدها فرصة‬

‫لتعرف منها ما حدث معها هي و(زياد)‪.‬‬

‫***********‬
‫ُ‬
‫األفعى تقترب بهدوء من فريستها‪ ،‬ال تشعرها بوجودها‪ ،‬فقط‬

‫تتحين اللحظة املناسبة للهجوم وبث سمها بجسد ضحيتها‬

‫لتتأكد أنه سيقض ي عليها‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫منذ علمت بذهاب (عاصم) إلى شقيقتها لرؤية أطفاله‬
‫ً‬
‫غضبا‪ ،‬تفكركيف‬ ‫ورفض تلك األخيرة طلبه وهي تشتاط‬

‫تنتقم منها‪ ،‬هي بنظرها سبب ما حدث كله‪ ،‬هي سبب‬

‫ابتعادها عن والدتها وطردها لها أثناء عزاء والدها‪ ،‬هي تراها‬

‫نالت كل ش يء وحرمتها هي كل ش يء‪.‬‬


‫فكرت ً‬
‫جيدا كيف ستكون ضربتها‪ ،‬وضعت الخطة‪ ،‬ولم يبق‬

‫سوى التنفيذ‪.‬‬

‫**********‬

‫‪245‬‬
‫)‪(9‬‬

‫العائلة‪ ..‬كلمة اقتصرت على أب لم يعرفا سواه طوال‬

‫عمرهما‪ ،‬أب غيربيولوچي لكنه كان عائلة بأكملها لهما بعد‬

‫وفاة والدتهما‪.‬‬

‫ُحرمت "رابونزل" من عائلتها منذ صغرها‪ ،‬كبرت في كنف‬

‫امرأة ظنت أنها والدتها‪ ،‬امرأة اعتقدت أنها تحميها من‬

‫مخاطرالعالم الخارجي‪ ،‬لكنها بالنهاية عرفت الحقيقة؛‬

‫حقيقة أنها تربت بين أحضان شر انتزعها من دفء عائلة‬


‫ظلت ً‬
‫دائما تبحث عنها‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫نحن هنا لسنا بعالم األساطير‪ ،‬في أرض الو اقع تنقلب‬

‫املوازين‪ ،‬العائلة هنا هي من تخلت‪ ،‬لفظت أبناءها ولم تهتم‬


‫ً‬
‫يوما بالبحث عنهم‪ ،‬العائلة هنا هي شريرالحكاية‪ ،‬ولوال أب‬

‫عوضهما عنها لكان مصيرهما مختلف بالتأكيد‪.‬‬

‫عمل بنصيحة شقيقته‪ ،‬هاتف املدعو ابن العم و اتفق معه‬

‫على استالم إرثهم‪ ،‬وها هو يجلس برفقة شقيقته بمنزله في‬

‫دعوة أصر عليها (يوسف) و أقنعته (سارة) بقبولها‪ .‬ال ينكرا‬

‫حفاوة الترحيب الذي القاه من والدة (يوسف)‪ ،‬شعرا بحب‬

‫صادق نابع من قلبها تجاههما‪.‬‬

‫جلسا برفقته بغرفة مكتبه بمنزله يعرض عليهما أوراق‬

‫تحوي ممتلكات العائلة‪ ،‬يخبرهما بنصيب كل فرد منها‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫يخيرهما بين أن يأتيا بمحامي خاص بهما أو أن يستعين هو‬

‫باملحامي الذي يتولى أمور العائلة لكي يحسب لهما نصيبهما‬

‫من أموال العائلة‪.‬‬

‫قطع عليهم حديثهم طرقات لم ينتظرصاحبها أن يحصل على‬

‫إذن بالدخول‪ ،‬ليرى (يوسف) أمامه وجهين غيرمرحب بهما‬

‫في هذه اللحظة؛ عمه و ابنه (فارس) الذي تعمد عدم‬

‫إخبارهم بزيارة (ياسين) و(سارة)‪ ،‬لكن يبدو أن لديهم من‬

‫يتتبعه ليخبرهم ما يحدث أول بأول‪ ،‬تأكدت ظنونه حين نظر‬

‫عمه إلى ضيوفه ويعنيه هو بالحديث‪:‬‬

‫‪ -‬مش تقول لنا يا يوسف عشان نرحب بأفراد العيلة‬

‫الجداد!‬

‫‪248‬‬
‫استشعرهو التهكم املبطن بحديث عمه‪ ،‬ونظراته لم‬

‫تريحه‪ ،‬استدارمن خلف مكتبه يقف أمامه يخبره‪:‬‬

‫‪ -‬األيام جاية كتيريا عمي‪ ،‬أعتقد ياسين وسارة هيكونوا‬


‫موجودين ً‬
‫دايما معانا بعد كده وتقدرترحب بهم في أي‬

‫وقت‪.‬‬

‫تجاهل عمه حديثه‪ ،‬تخطاه يقف أمامهما‪ ،‬يمد يده إلى‬

‫(ياسين) في مصافحة مصحوبة بتعريف عن هويته‪:‬‬

‫‪ -‬رفيق الشاذلي‪ ،‬عمكم‪.‬‬

‫والكلمة األخيرة خرجت بنبرة تحمل عدم رضاه عن صلة‬

‫القرابة بينهم‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫ً‬
‫نظرله (ياسين) قليال يدرس تعبيرات وجهه قبل أن يمد يده‬

‫إليه يصافحه دون أن ينطق كلمة‪ ،‬فعلت (سارة) املثل حين‬

‫مد يده يصافحها هي األخرى‪ .‬أما عن (يوسف) فوقف ينظر‬

‫إلى النظرات املتبادلة بينهما‪ ،‬تلك الكارهة الغاضبة من‬

‫عمه‪ ،‬واألخرى الغيرمبالية بهوية الو اقف أمامهما من‬

‫(ياسين) و(سارة)‪ ،‬ونظرات أخرى متفحصة لم تنل إعجابه‬

‫من (فارس) تجاه (سارة)؛ ابن العم الذي تمنى اختفائه من‬

‫أمامه في هذه اللحظة‪ .‬انتبه إلى صوت (ياسين) يحادثه‪:‬‬

‫‪ -‬إحنا هنمش ي دلوقتي‪ ،‬وملا املحامي بتاعك يكون جاهز‬

‫بلغنا‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫أنهى حديثه ينوي الرحيل‪ ،‬لكن أوقفه صوت (فارس)‬

‫املتهكم‪:‬‬

‫‪ -‬هو إذا حضرت الشياطين وال إيه!‬

‫وكل ما ناله هو نظرة من طرف عين (ياسين) تخبره أن ال‬

‫حديث له معه‪ ،‬ولن ينكر(يوسف) ابتهاجه من هذا التجاهل‬

‫الذي حصل عليه‪ .‬تقدمهم (يوسف) إلى الخارج يخبرهم‪:‬‬

‫‪ -‬خالل أيام إن شاء هللا كل حاجة هتكون جاهزة‪.‬‬

‫بعد رحيلهما عاد مرة أخرى إلى هؤالء الذين اقتحموا‬

‫الجلسة دون دعوة‪ ،‬ليجد كلمات عمه الغاضبة تواجهه‪:‬‬

‫‪251‬‬
‫‪ -‬إنت بتتصرف من ور انا؟ مش قلت هتعرفنا عليهم‬

‫األول؟‬

‫حاول (يوسف) املحافظة على هدوء أعصابه أثناء حديثه‪،‬‬


‫ً‬
‫يفكرقليال قبل أن يجيب‪:‬‬

‫‪ -‬ملا فكرت في املوضوع لقيت إن تأخيرالخطوة دي أفضل‬

‫للجميع‪ ،‬من اللي أنا شايفه إن حضرتك لسه مش‬

‫متقبل وجودهم‪.‬‬

‫تعالى صراخ عمه يستنكرطريقتهم معه‪:‬‬

‫‪ -‬وعاجبك طريقتهم معانا!‬

‫يفرد كفيه أمامه يخبره بحقيقة غائبة عنه‪:‬‬

‫‪252‬‬
‫‪ -‬حقهم‪ ،‬رد فعل طبيعي تجاه ناس ميعرفوش عنهم حاجة‬

‫وال حتى حاولوا يعرفوا‪.‬‬

‫وهذه املرة تولى (فارس) الحديث نيابة عن والده‪ ،‬يخبر‬

‫الو اقف بثبات أمامه‪ ،‬يرفع إصبعه بوجهه في نبرة تحذيرية‪:‬‬

‫‪ -‬ياريت متعملش خطط من ور انا‪.‬‬

‫وفي رد فعل غيرمتوقع له‪ ،‬أمسك (يوسف) بإصبعه‬

‫يعتصره داخل قبضته‪ ،‬يخبره من خلف ابتسامته‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش بتاع خطط‪ ،‬ومش هحتاج أبلغكم بميعاد‬

‫مقابلتي الجاية معاهم؛ عصافيركم هتتولى املهمة‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫ً‬
‫أنهى حديثه لينفض يد اآلخربعيدا‪ ،‬يرى نظراته الغاضبة‬

‫بعينيه قبل أن يرحل برفقة والده دون كلمة أخرى‪.‬‬


‫ً‬
‫متنهدا‪ ،‬يخش ى ما هو قادم‪،‬‬ ‫بعد رحيلهما‪ ،‬جلس (يوسف)‬

‫وعليه أن يحذرفي خطواته القادمة‪ .‬تناول هاتفه يبحث عن‬

‫رقم ما قبل أن يرفعه على أذنيه ينتظرإجابة من الطرف‬

‫اآلخر‪ ،‬عندما نالها أخبره دون أي مقدمات ال يحتملها‬

‫املوقف الحالي‪:‬‬

‫‪ -‬أدهم‪ ،‬عايزأقابلك النهارده ضروري‪.‬‬

‫أغلق الخط بعد أن حدد معه موعد اللقاء‪ ،‬لينتبه إلى‬

‫دخول والدته عليه‪ ،‬يظهرخوفها وتوترها على مالمحها‪،‬‬

‫‪254‬‬
‫يشعربرغبتها في إخباره بش ٍيء ما‪ ،‬حثها على البوح بما في‬

‫جعبتها‪:‬‬

‫‪ -‬مالك يا ماما‪ ،‬عايزة تقولي إيه؟‬

‫ترددت ً‬
‫كثيرا قبل أن تتحدث‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عندي حل يخلي العيلة كلها متقدرش تتكلم‪.‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انتظرها أن تكمل حديثها‪ ،‬صدم مما قالته بعد ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬اتجوز سارة بنت عمك‪.‬‬

‫وهذا الحل الذي اقترحته والدته ما هو إال قنبلة أخرى‬

‫تريدها أن تنفجربوجه كل أفراد العائلة‪.‬‬

‫************‬

‫‪255‬‬
‫ما يؤرق اإلنسان هو ذلك الصراع الدائم بين العقل‬

‫والقلب‪ ،‬تلك املعركة التي ال يربح بها؛ فإن انتصر العقل‬

‫سيخسرسعادته‪ ،‬وإن انتصرالقلب سيخسرحياته‪.‬‬

‫أصبح هذا الصراع مالز ًما لحياتها وخاصة مع اقتراب موعد‬

‫زفافها‪ ،‬موعد حدده (أدهم) بما يتناسب مع ظروف عمله‬

‫وهي كان عليها القبول‪ ،‬ولم يتبق سوى يومين على هذا‬

‫اليوم‪ ،‬ومع ذلك فهي ما زالت مشتتة بين العقل والقلب‪.‬‬

‫عقلها يخبرها أن تهرب‪ ..‬تبتعد؛ فال سعادة لها معه‪ ،‬وقلبها‬

‫يخبرها أن تستمر‪ ،‬أنها قادرة على استمالة مشاعره‪ ،‬وأن‬

‫قربها منه هو الحياة‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫أملت في تأجيل املوعد بعد اختطاف (ريم)‪ ،‬لكن بعد عودتها‬
‫ُ‬
‫ساملة سيتم كل ش يء كما خطط له‪ .‬وقفت أمام فستان‬

‫زفافها املعلق بخزانة مالبسها‪ ،‬تلمسه بيدها‪ ،‬هو حلم كل‬

‫فتاة‪ ،‬لكنها تخش ى أن يصبح مصدرتعاستها‪ ،‬أن يصبح قيد‬

‫يطوق جسدها فيخنقها‪.‬‬

‫زفرت بضيق تطرد تلك الوساوس من رأسها‪ ،‬جلست على‬

‫فراشها تمسك هاتفها بيدها‪ ،‬تهاتف (ريم) تفضفض معها‪،‬‬

‫انتظرت حتى أجابتها‪ ،‬وبعد الكالم املعتاد عن االطمئنان عن‬

‫حالتها أخبرتها عن مخاوفها‪:‬‬

‫‪ -‬ريم‪ ،‬أنا خايفة‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫أتتها ضحكتها من الطرف اآلخرمتبوعة بحديث لم يطمئنها‪:‬‬

‫‪ -‬ما طبيعي تخافي يا هند‪ ،‬دا شعور أي عروسة‪.‬‬

‫لم تفهم مقصدها‪ ،‬ظنته الخوف والتوترالذي يالزم كل فتاة‬

‫كلما اقترب موعد زفافها‪ ،‬لكن كيف تخبرها أن خوفها يكمن‬


‫في شخصية شقيقها‪ ،‬شعورها بأنه ُم َ‬
‫كره على الزواج‪،‬‬

‫شعرت بغصة في حلقها وهي تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا حاسة إن أدهم مش بيحبني‪.‬‬

‫تتوتر‪ ،‬تحاول منع نفسها من البكاء‪ ،‬تكمل‪:‬‬

‫‪ -‬حاسة إنه مغصوب على جوازه مني‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫واألخرى ال تعلم بما تجيبها‪ ،‬ترى طريقته العملية معها لكنها‬
‫تبررها بأنه ُ‬
‫سيظهرلها مشاعره بعد الزواج‪ ،‬حاولت أن تبث‬

‫الطمأنينة بقلبها‪:‬‬

‫‪ -‬إيه العبط دا! شيلي الكالم دا من دماغك‪ ،‬أدهم‬

‫محدش بيجبره على حاجة وطاملا اختارك يبقى أكيد‬

‫بيحبك‪.‬‬

‫حاولت أن تقنع نفسها أن حديثها صحيح‪ ،‬وأن ما تشعربه‬

‫هي ال أساس له من الصحة‪ ،‬انتبهت على صوت (ريم) من‬

‫الطرف اآلخرتخبرها‪:‬‬

‫‪259‬‬
‫‪ -‬كرم زمانه جاي من الشغل‪ ،‬أول ما يوصل هخليه‬

‫يوصلني عندك و أنا هاجي أشيل الكالم الفارغ دا من‬

‫راسك بنفس ي‪.‬‬

‫حاولت االبتسام‪ ،‬تخبرها عن سعادتها بهذه الزيارة‪:‬‬

‫‪ -‬خالص هستناكي‪.‬‬

‫أنهت الحديث معها و اقتربت مرة أخرى من فستان زفافها‪،‬‬

‫مسحت دمعة تناوش جفنها‪ ،‬قررت أن تسعد بقرب اقترانها‬


‫بمن ملك القلب ً‬
‫دوما‪.‬‬

‫القلب أعلن فوزه في املعركة‪ ،‬والعقل تمنى أال يقض ي ذلك‬

‫األبله سنوات عمره املقبلة في ندم على خسارته‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫**********‬

‫هل تجد راحة في البحث بين دفاتراملاض ي؟ أم أنك فقط‬


‫ُ‬
‫تزيد من عذاب نفسك؟‬

‫هي حاولت البحث‪ ،‬اتصلت بأصدقاء لها ولوالدتها من كل‬

‫محافظة انتقال إليها‪ ،‬حاولت استدراجهم بالحديث حول‬

‫معرفتهم أي معلومة تخص والدها أو حتى عائلة والدتها‬

‫لكنها لم تتوصل لش يء‪ ،‬لم تترك والدتها طرف خيط لكي تسير‬

‫خلفه‪.‬‬

‫منذ أن سمعت ما كانت والدتها تتفوه به أثناء مرضها‬

‫والشكوك عاودتها مرة أخرى‪ ،‬هناك سرتخفيه عنها والدتها‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫تذكرت الصندوق الخشبي بخزانة مالبس والدتها حيث‬

‫عثرت على الصورة من قبل‪ ،‬خرجت من غرفتها تقصد غرفة‬

‫والدتها؛ ستبحث داخل الصندوق مرة أخرى قبل عودة‬

‫والدتها من العمل؛ ربما تحصل على ش يء يوصلها إلى ما‬

‫تبحث عنه‪.‬‬

‫بحثت عن الصندوق دون جدوى‪ ،‬بحثت عنه حيث رأته آخر‬

‫مرة لكن ال أثرله‪ ،‬لم تنتبه لعودة والدتها التي وقفت أمام‬

‫باب غرفتها ترى بحث ابنتها عن ش ٍيء ما بأغراضها‪ ،‬سألتها‬

‫والدتها توقفها عن ما تفعله‪:‬‬

‫‪ -‬بتعملي إيه يا بيان؟‬

‫‪262‬‬
‫فاجأتها عودة والدتها‪ ،‬انتفض جسدها تنظرإلى والدتها‬

‫بتوترتبحث داخل رأسها عما تخبرها به‪ ،‬تخبرها بلجلجة‪:‬‬

‫‪ -‬مكنتش القية الخاتم بتاعي‪ ،‬قلت جايزأكون حطيته‬

‫هنا في أوضتك وناسية‪.‬‬

‫رفعت يدها تحتوي خاتمها بباطنها لتبرهن حديثها‪:‬‬

‫‪ -‬لقيته في الدوالب‪ ،‬هروح أسخن األكل‪.‬‬

‫أنهت حديثها هاربة‪ ،‬تاركة والدتها بمفردها‪.‬‬

‫تعلم أن ابنتها كاذبة‪ ،‬هي لم تجد الخاتم بغرفتها بل كذبة‬

‫اصطنعتها لتهرب من املوقف‪ ،‬جلست على فراشها تفكر‪،‬‬

‫البد أن ابنتها كانت تبحث عن ش يء آخر‪ ،‬ربما ذلك‬

‫‪263‬‬
‫الصندوق الخشبي‪ ،‬حمدت ربها أنها غيرت مكان احتفاظها‬

‫به لهاجس داخلها ال تعلم سببه‪ ،‬لكن ما يشغل تفكيرها اآلن‬

‫هي الثغرة التي تركتها خلفها لتثاور ابنتها الشكوك بشأنها‬

‫مرة أخرى‪.‬‬

‫***********‬
‫ً‬
‫احذرالتعلق بفخ املاض ي حتى ال تشعربالندم الحقا!‬
‫هو تشبث باملاض ي‪َّ ،‬‬
‫صدق ما قيل له عن أحداثه‪ ،‬آمن بما‬

‫سمعه من طرف واحد‪ ،‬ولم يتحر الدقة فوقع في الفخ‪ ،‬واآلن‬

‫يغمره شعور بالندم‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫ندم على قلب تالعب به وتفنن في كسره وإن لم يحقق باقي‬

‫مخططه‪ ،‬ندم على أب ظنه يسعى لالنتقام من ظلم أحاط‬

‫به‪ ،‬ندم على تلك اللحظة التي وضع بها خطته من البداية‪.‬‬

‫بعد ما سمع حديث والده مع والدته وهو يتجنبه‪ ،‬ال يجيب‬


‫اتصاالته‪ ،‬وعندما عاد ً‬
‫يوما ليجده أسفل منزله انفجر‬

‫بوجهه‪:‬‬

‫‪ -‬عايزمني إيه؟ مش كفاية لعبك بيا طول السنين اللي‬

‫فاتت؟‬

‫حاول والده يومها أن يبرر له موقفه‪ ،‬يصرعلى أنه املظلوم‬

‫في الحكاية‪ ،‬لكن حديثه لم يؤثرب(زياد)؛ فهو قد عرف‬

‫‪265‬‬
‫الحقيقة ولن ينطلي عليه حديثه بعد اآلن‪ ،‬يومها أنهى‬

‫الحواربجملة لم ينتظررد بعدها‪ ،‬أخبره بها وصعد ملنزله‬


‫ً‬
‫تاركا إياه بالشارع‪:‬‬

‫‪ -‬ياريت تنس ى من النهارده إن لك ابن‪ ،‬زي ما أنا هنس ى إن‬

‫ليا أب‪.‬‬

‫تمنى أن تنحره كلماته‪ ،‬وأن تكون انتقام كافي لقلب نحره هو‬

‫بيده‪.‬‬

‫هو تجنب والده‪ ،‬ووالدته هي من تجنبته‪ ،‬ترفض الحديث‬

‫معه‪ ،‬تزيد من شعوره بالذنب تجاه فتاة دهس قلبها‪ ،‬تخبره‬


‫ً‬
‫انتقاما لها‪.‬‬ ‫أنها لو كانت ابنتها القتلعت قلبه من بين أضلعه‬

‫‪266‬‬
‫أما عن عمله فلم يستطع االستمراربه‪ ،‬يخش ى مواجهة‬

‫الجميع حوله‪ ،‬يخش ى رد فعلهم إن علم أحدهم بما فعله‪،‬‬

‫فكان الحل األفضل بالنسبة له هو ترك العمل‪.‬‬


‫فكر ً‬
‫جيدا‪ ،‬عليه أن يترك املاض ي ويلتفت للحاضر‪ ،‬ويحاول‬
‫ً‬
‫بناء املستقبل‪ ،‬لكن عليه أوال تصحيح أخطائه؛ ربما يزول‬

‫شعور الندم الذي يالزمه‪ .‬وأول خطوة لفعل ذلك هي‬

‫االعتذارممن أخذها بذنب ال يد لها فيه‪ ،‬وقف أمام بابها‬

‫منكس الرأس‪ ،‬يده تتردد في طرقه لكنه حسم أمره وطرقه‬


‫ً ُ‬
‫سريعا‪ ،‬فتح الباب ليظهرأمامه والدها‪ ،‬عرفه من صورة‬

‫قديمة له مع والده‪ ،‬أجلى صوته يخبره‪:‬‬

‫‪267‬‬
‫‪ -‬السالم عليكم‪ ،‬ممكن أخد من وقت حضرتك دقايق يا‬

‫أستاذ يحيى؟‬

‫واآلخرال يعلم هويته‪ ،‬لكنه رأى رغبته في الحديث معه‪ ،‬دعاه‬

‫للدخول وأغلق الباب‪ ،‬وقبل أن يخطو خطوة واحدة‬

‫للداخل قرر إخباره بهويته‪:‬‬

‫‪ -‬أنا زياد الدمنهوري‪.‬‬

‫ولم يكد يذكر اسمه حتى أمسك اآلخربتالبيبه‪ ،‬تشتعل‬


‫ً‬
‫غضبا وهو يخبره‪:‬‬ ‫عيناه‬

‫‪ -‬ولك عين تدخل البيت دا تاني؟‬

‫‪268‬‬
‫أتت زوجته على صوته املرتفع لترى مع من يتشاجر‪ ،‬حاولت‬

‫تخليصه من قبضته تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬سيبه يا يحيى‪ ،‬متوديش نفسك في داهية عشان واحد‬

‫ميستاهلش‪.‬‬

‫ثم التفتت إلى اآلخرتسأله‪:‬‬

‫‪ -‬جاي هنا ليه؟‬

‫لم يستطع رفع نظره بوجهها‪ ،‬يشعربالخجل من فعلته‪ ،‬لكن‬

‫االعتذارالبد منه‪:‬‬

‫‪ -‬جاي أعتذرلكم‪ ،‬أنا مكنتش أعرف الحقيقة‪ ،‬كرهي‬

‫وغضبي اتحكموا فيا ولألسف كل دا كان غلط‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫ً‬
‫رفع عينه لتصطدم بتلك الو اقفة بعيدا أمام غرفتها‪،‬‬

‫تنكمش على نفسها‪ ،‬تهطل دموعها‪ ،‬فرؤيته أدمت جراحها‬

‫من جديد‪ ،‬أعادت لها ذكرى يوم غرس خنجره بقلبها‪.‬‬

‫اختنق صوته بالحديث وهو يطلب منها الغفران‪:‬‬

‫‪ -‬سامحيني يا روفيدا‪.‬‬

‫أجهشت بالبكاء‪ ،‬التفتت عائدة إلى غرفتها ال تريد رؤيته‪،‬‬


‫وكان هذا ً‬
‫كافيا لوالدها ليطرده من منزله‪:‬‬

‫‪ -‬اتفضل اطلع برا ومشوفش وشك هنا تاني‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫لم يستطع النطق بكلمة‪ ،‬خرج دون أن يعلم إن كان قد نال‬

‫الغفران أم ال‪ ،‬فيبدو أنه قد ُحكم عليه بأن يحيا وشعور‬

‫الندم يالزمه طوال حياته‪.‬‬

‫عاد ملنزله‪ ،‬دخل غرفته بعدما ألقى التحية على والدته‪ ،‬ولم‬

‫تمردقيقة حتى خرج يحمل حقيبة سفرقد أعدها في بداية‬

‫اليوم وبيده األخرى جوازسفره وتذكرة طيران‪ .‬اقتربت منه‬

‫والدته بعدما رأت ما بيده‪ ،‬نظرت إليه تسأله عما يخطط‬

‫له‪:‬‬

‫‪ -‬إنت رايح فين؟‬

‫رفع يدها يقبلها‪ ،‬يبكي ويرتمي بأحضانها‪:‬‬

‫‪271‬‬
‫‪ -‬عشان خاطري سامحيني‪.‬‬

‫رفعت رأسه تمسح دموعه‪ ،‬تمسك وجهه بين يديها‪:‬‬

‫‪ -‬مش أنا اللي غلطت فيها‪ ،‬مش أنا اللي املفروض‬

‫تسامحك‪.‬‬

‫أخبرها بزيارته ملنزل (روفيدا) وما حدث معه‪:‬‬

‫‪ -‬رفضت تسامحني‪.‬‬

‫بكت تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬هروبك مش حل‪.‬‬

‫‪ -‬مش هقدرأكمل هنا‪ ،‬هبعد جايزفي بعادي تسامحني‪.‬‬

‫أعادته ألحضانها مرة أخرى‪:‬‬

‫‪272‬‬
‫‪ -‬طب أنا أهون عليك تسيبني لوحدي!‬

‫شدد على عناقها‪:‬‬

‫‪ -‬متصعبيهاش عليا يا ماما‪.‬‬

‫كفكفت دموعها‪ ،‬تحاول أن تتقبل قراره‪:‬‬

‫‪ -‬متغيبش عليا‪ ،‬هفضل ً‬


‫دايما أدعيلك‪.‬‬

‫قبل باطن يدها‪ ،‬وأهداها عناق أخيرقبل رحيله‪ ،‬يذهب إلى‬


‫ً‬
‫بلد أخرى‪ ،‬حيث بداية جديدة بعيدا عن ٍ‬
‫ماض دمره‪.‬‬

‫***********‬
‫ُ‬
‫البدايات تشعرك بالرهبة والتوتر‪ ،‬بداية دراسة‪ ..‬بداية‬

‫عمل‪ ..‬بداية جديدة مع شريك حياة‪ .‬تلك األخيرة ترعبه‪،‬‬

‫‪273‬‬
‫توقظ داخله ذكريات ال يستطيع وأدها‪ ،‬ظن أنه بتأجيل تلك‬

‫الخطوة سينساها لكن دون فائدة‪.‬‬

‫تبقى يومان على موعد زفافه‪ ،‬وما يحاول تناسيه يحيا‬

‫بذاكرته وكأنه حدث باألمس‪.‬‬

‫جلس بمقهى يتناول كوب من الشاي‪ ،‬فرك ما بين عينيه‪،‬‬

‫آالم رأسه تداهمه من كثرة التفكير‪ ،‬انتبه إلى كف يد توضع‬

‫على كتفه بقوة وصوت صاحبها يسأله‪:‬‬

‫‪ -‬مالك يا متر؟‬

‫لم يكن سوى صديقه (يوسف) الذي كان بانتظاره‪ ،‬تنهد‬

‫بتعب يجيبه‪:‬‬

‫‪274‬‬
‫‪ -‬مصدع‪ ،‬هات اللي عندك عشان عايزأروح أنام‪.‬‬
‫ً‬
‫نقراآلخربأصابعه على املنضدة أمامه‪ ،‬صمت قليال قبل أن‬

‫يخبره‪:‬‬

‫‪ -‬اللي عندي هيزود صداعك‪.‬‬

‫أخبره بأمرأوالد عمه ورغبته بإعطائهم نصيبهم من امليراث‪،‬‬

‫معارضة العائلة ملا يفعله‪ ،‬قص عليه كل ش يء من البداية‬

‫حتى اقتراح والدته بالزواج من (سارة)‪.‬‬


‫ً‬
‫صمت (أدهم) قليال قبل أن يسأله‪:‬‬

‫‪ -‬و إنت ناوي على إيه؟‬

‫زفر(يوسف) قبل أن يخبره‪:‬‬

‫‪275‬‬
‫‪ -‬مهما حصل هياخدوا ورثهم‪ ،‬بس قلقان من عمي و ابنه‬

‫وعمتي‪ ،‬مش مرتاح لهم‪.‬‬

‫‪ -‬وبالنسبة القتراح والدتك؟‬

‫فكرفي سؤاله فلم يجد له جواب‪ ،‬هو طلب مقابلته ليطلب‬

‫نصيحته‪ ،‬هو ليس محاميه بشكل رسمي لكنه يقف جواره‬

‫بحكم صداقة بينهما دامت سنوات‪ ،‬يطلب نصيحة صديق‬

‫وليس استشارة محامي‪.‬‬

‫نظر(أدهم) إليه يرى الحيرة بادية على مالمحه‪ ،‬حاول‬

‫مساعدته فأخبره‪:‬‬

‫‪ -‬فكرقبل مرحلة الجواز‪ ،‬معتقدش إن دا الحل الوحيد‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫وقف بعدما أنهى جملته‪ ،‬يضع هاتفه ومفاتيحه في جيب‬

‫بنطاله وهو يكمل حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مضطرأمش ي ألني خالص دماغي فصلت‪ ،‬بالنسبة‬

‫لورق األمالك والورث أنا معاك وقت ما تحتاجني‪.‬‬

‫توقف قبل أن ُيكمل جملته بتهكم‪:‬‬

‫‪ -‬بس بعد الفرح بقى‪.‬‬

‫ً‬
‫مبتسما‪:‬‬ ‫هز(يوسف) رأسه‬

‫‪ -‬أول مرة أشوف عريس متضايق‪ ،‬هو إنت يا بني‬

‫مغصوب عالجوازة؟‬

‫لوح له بيده أثناء رحيله‪ ،‬يتهرب من إجابة سؤاله‪:‬‬

‫‪277‬‬
‫‪ -‬لو مروحتش نمت دلوقتي هيبقى شكلي مغصوب على‬

‫قضية بكرة في املحكمة‪.‬‬


‫ً‬
‫رحل وبداخله سؤال واحد؛ هل هو فعال مجبرعلى زواجه‪،‬‬

‫أم أنها إرادته واختياره كما يعتقد؟‬

‫************‬

‫ما أصعب أن تجد نفسك ً‬


‫مجبرا على التعامل مع من‬

‫طعنوك بظهرك‪ ،‬من تسببوا بجرح قلبك!‬

‫هي وجدت نفسها مضطرة على التعامل مع طليقها؛ يربطها‬


‫ً‬
‫قاصدا رؤيتهم من‬ ‫به أطفال يسألون ً‬
‫دائما عنه‪ .‬عندما أتى‬

‫قبل قامت بطرده‪ ،‬لكن داخلها يعلم أنه لن يتوقف عند‬

‫‪278‬‬
‫ً‬
‫صباحا قد أتى مرة‬ ‫هذه املحاولة‪ ،‬وقد صدق ظنها‪ .‬فاليوم‬

‫أخرى‪ ،‬وهذه املرة صاحبته شقيقتها‪ ،‬تقف أمامها بتبجح‬

‫تخبرها بأحقيته برؤية أطفاله‪ ،‬كادت أن تثور بوجهها لوال أن‬

‫منعتها والدتها؛ فهي رأت بعين ابنتها نيتها في افتعال فضيحة‬

‫إن لم يتم لها ما تريد‪.‬‬

‫أخذت (سيرين) من يدها تحادثها بصوت خفيض‪:‬‬

‫‪ -‬سيبيه يشوفهم‪ ،‬لألسف دا أبوهم ومينفعش تحرميهم‬

‫منه‪.‬‬

‫امتثلت لحديث والدتها وذهبت تحضرطفليها من غرفتهم‪،‬‬

‫وما أن رآ والدهما حتى قفزا يتعلقان بعنقه‪ ،‬يشتاقانه ويبدو‬

‫‪279‬‬
‫أنه هو اآلخريشتاقهم‪ .‬لكنها لم تتوقع املفاجأة التي ألقتها‬

‫شقيقتها عليهم‪ ،‬مفاجأة تعمدت قولها أمام األطفال ألنها‬

‫تعلم أنها لن تستطيع الرفض حينها‪.‬‬

‫‪ -‬إيه رأيكم بابا يفسحكم‪ ،‬نروح املالهي ونتغدى برا‪.‬‬


‫هلال الطفالن ً‬
‫فرحا‪ ،‬نظرت (سيرين) إلى شقيقتها لتجد‬

‫ابتسامة نصرتزين شفتيها؛ هذا هو مخططها من البداية‪،‬‬

‫ومع فرحة طفليها لم تستطع الرفض‪.‬‬

‫بدلت لهما مالبسهما‪ ،‬و أثناء رحيلهم أخبرت زوجها السابق‪:‬‬

‫‪ -‬ياريت متتأخروش‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫ولم ينفذ رغبتها‪ ،‬الوقت اآلن قد تعدى منتصف الليل ولم‬
‫كثيرا لكنه ً‬
‫دائما مغلق‬ ‫يعودوا بعد‪ ،‬حاولت االتصال بهاتفه ً‬

‫وكذلك هاتف شقيقتها‪ ،‬حاولت والدتها تهدئتها لكنها كانت‬

‫تبكي تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬قلبي مش مطمن يا ماما‪.‬‬

‫وفي محاولتها األخيرة لالتصال بطليقها استمعت للرنين‪،‬‬

‫اتصال وثاني وثالث حتى أجاب باملرة الرابعة‪ ،‬لم يكد يجيب‬

‫حتى صرخت به‪:‬‬

‫‪ -‬والدي فين؟‬

‫و أتاها رده البارد من الناحية األخرى‪:‬‬

‫‪281‬‬
‫‪ -‬معايا‪ ،‬مع أبوهم وخالتهم مش حد غريب‪.‬‬
‫حاولت أن ُتظهرصوتها ً‬
‫قويا‪:‬‬

‫‪ -‬الوقت اتأخر‪ ،‬كفاية كده وهات الوالد‪.‬‬

‫ليأتيها جوابه كصاعقة فوق رأسها‪:‬‬

‫‪ -‬لألسف مينفعش‪ ،‬إحنا في دبي‪.‬‬

‫**********‬

‫‪282‬‬
‫)‪(10‬‬
‫عضوا واحداً‬
‫ً‬ ‫تقول أسطورة قديمة أن العقل والقلب كانا‬
‫بجسد واحد‪ ،‬وبفناء هذا الجسد انقسما يسكن ٌ‬
‫كل منهما‬
‫ً‬
‫جسدا آخر‪ ،‬يظل يهيم في الحياة يبحث عن شريكه الذي‬

‫ُيكمله حتى يلقاه‪.‬‬

‫هي الحاملة التي تترك لقلبها الكلمة األولى‪ ،‬وهو الو اقعي الذي‬

‫يسيطرعقله على قراراته‪ ،‬فهل من أمل ُليكمال حياتهما‬


‫ً‬
‫معا؟‬

‫ُعرس كالسيكي هاديء ضم األقارب‪ ،‬وفرحة عارمة تجتاح‬

‫قلبها‪ ،‬تجلس جواره تتأمل مالمحه‪ ،‬ترى سكونه ورزانته‪،‬‬

‫‪283‬‬
‫تحب ذلك وتفعل مثله‪ .‬هي خجلة‪ ،‬أما عنه فربما ما يبدو‬

‫على مالمحه حزن‪ ..‬ضيق‪ ..‬أو رغبة في الفرار‪ ،‬تشعر كأنه‬

‫سيقف في لحظة يخبرها بتراجعه عن قرارزواجه منها‪ .‬لكن‬


‫ً‬
‫حمدا هلل فقد خاب ظنها‪ ،‬و انتهى العرس بسالم‪ ،‬وها هي‬
‫تقف أمامه بمنزل يجمعهما ً‬
‫معا‪ ،‬وكل خلية بجسدها تخش ى‬

‫ما هو قادم‪.‬‬

‫اقترب منها يطبع قبلة على جبهتها هي األولى منذ ارتباطهما‪،‬‬

‫وألول مرة منذ بداية اليوم يوجه حديثه إليها‪:‬‬

‫‪ -‬مبروك‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫أقرن حديثه باحتضان جسدها ليشعربرجفته‪ ،‬أبعدها‬

‫برفق يهديها ابتسامة‪ ،‬يحاول التصرف كزوج طبيعي مع‬


‫زوجته في أول ليلة تجمعهما ً‬
‫معا‪ ،‬يسألها‪:‬‬

‫‪ -‬خايفة ليه؟‬
‫تجاهد ليخرج صوتها‪ ،‬تهزرأسها ً‬
‫نفيا‪:‬‬

‫‪ -‬مش خايفة و أنا معاك‪ ،‬متوترة بس‪.‬‬

‫والكلمة تحمل ثقة‪ ،‬تخبره بأنها مطمئنة ما دامت معه‪ ،‬وألول‬


‫ً‬
‫واضحا بعينيها‪ ،‬يعلم أنها حاولت إظهاره‬ ‫مرة يرى عشقها له‬

‫له مرا ًرا لكنه لم يهتم‪ ،‬لكن اليوم ال يستطيع نكران ما يراه‬

‫أمامه؛ هي تعشقه بكل ذرة في جسدها‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫أشارتجاه الغرفة خلفه‪:‬‬

‫هستناك هنا لحد ما تخلص ي‪.‬‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬غيري هدومك و أنا‬

‫أومأت برأسها‪ ،‬ذهبت إلى الغرفة تختفي خلف بابها‪ ،‬تحتمي‬

‫بجدرانها‪ ،‬تحاول تهدئة هديرقلبها‪ ،‬تشعرأن صوت دقاته‬


‫ً‬
‫مسموعا للجميع‪ .‬ما أسعدها هو محاولته التقرب إليها‪ ،‬ال‬
‫ً‬
‫صحيحا عن إظهارمشاعره لها‬ ‫تعلم إن كان كالم شقيقته‬

‫بعد الزواج‪ ،‬أم أنه يفعل ما يتوجب عليه كزوج تجاه زوجته‬

‫فقط‪ .‬لن تفكرفي احتماالت‪ ،‬هي قررت أن تحيا اللحظة‪،‬‬

‫تستمتع بقربه منها‪ ،‬وتترك ما يخبئه لها املستقبل لحينه‪.‬‬

‫‪286‬‬
‫أما عنه فجلس في غرفة املعيشة بانتظارها‪ ،‬فك ربطة‬

‫عنقه‪ ،‬يجلس على األريكة يهزقدميه بتوتر‪ ،‬يخش ى أن‬

‫يظلمها بقربه‪ ،‬يخش ى أن يتسبب في وأد دقات وليدة عشق‬

‫لم يستطع مبادلته إياها‪ ،‬هي ليست سيئة‪ ،‬ال يوجد عيب‬

‫بها‪ ،‬املشكلة به هو‪ ،‬بذكرى من ٍ‬


‫ماض بعيد ال تترك ذاكرته‪،‬‬

‫ذكرى خيانة‪ ..‬تخلي‪ ..‬هجر‪ ،‬ذكرى لم تفارق عينيه لحظة‬

‫رغم مرورالزمن‪ ،‬ال يريد أن يتكرر األمر‪ .‬يعلم أنه ليس‬

‫الشخص بذكرى املاض ي‪ ،‬و(هند) ليست هي الطرف اآلخر‪،‬‬

‫هما شخصان مختلفان‪ ،‬وعليه فقد قرر املحاولة‪ ،‬سينس ى‪..‬‬


‫ً‬
‫يتعايش‪ ..‬يحاول بناء ذكريات تنسيه ما ظل عالقا بذاكرته‬

‫طوال سنوات‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫***********‬

‫دوما‪،‬‬ ‫ً‬
‫ساذجا‪ ،‬ال تثق بأحد‪ ،‬أبق أحبائك جانبك ً‬ ‫ال تكن‬

‫أخفهم داخلك عن أعين الجميع‪ ،‬احذرأقرب الناس إليك‪،‬‬

‫من هم أمام الناس من دمك وال تأتي منهم خيانة لكنهم‬

‫بالحقيقة من على استعداد بطعنك في ظهرك دون أن‬

‫يغمض لهم جفن‪.‬‬

‫لم يكتفيا بخيانتها‪ ،‬زوجها انفصل عنها من أجل االرتباط‬

‫بشقيقتها‪ ،‬طعناها في القلب ولم يكتفيا بذلك‪ ،‬بل زادا من‬

‫الضغط على جرحها‪ ،‬جعاله يدمي بال توقف‪ ،‬والدها مات‬

‫بسببهما‪ ،‬وآخرطعناتهما أن اختطفا طفليها‪.‬‬

‫‪288‬‬
‫ُ‬
‫أخذاهما بحجة قضاء بعض الوقت معهما لتفاجأ‬

‫بسفرهم‪ ،‬يخبرها بمكاملة هاتفية أصرت هي حتى نالتها أنهم‬

‫سافروا خارج البالد‪.‬‬

‫مرأسبوع منذ رحيلهم‪ ،‬تتذكركلمات طليقها لها في الهاتف‪:‬‬

‫‪ -‬والدي ومن حقي أخدهم أي مكان وقت ما أحب‪.‬‬

‫ضعفت‪ ،‬تتحمل كل ش يء إال ابتعاد طفليها عنها‪ ،‬توسلته‬

‫بضعف أم ينزف قلبها‪:‬‬

‫‪ -‬إال الوالد يا عاصم عشان خاطري‪ ،‬سيب حاجة كويسة‬

‫ما بينا‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫صمت دام دقائق من ناحيته‪ ،‬ال يتفوه بكلمة‪ ،‬فقط يستمع‬
‫ً‬
‫وأخيرا أخبرها بما خفف من‬ ‫لتوسالتها‪ ،‬يسمع صوت بكائها‪،‬‬
‫ً‬
‫قلقها قليال‪:‬‬

‫‪ -‬لو كنت قلت لك مكنتيش هتو افقي‪ ،‬هقض ي معاهم‬

‫كام يوم وأرجعهم‪.‬‬

‫تمسح دموعها‪ ،‬تتأكد من صدق حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬بجد يا عاصم؟ مش هتحرمني منهم؟ طب عايزة أكلمهم‬

‫أطمن عليهم‪.‬‬

‫يخبرها يقطع أملها في أن تنال ما تريد‪:‬‬

‫‪ -‬تعبو من السفرونايمين‪ ،‬تكلميهم بكره‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫أغلق الخط‪ ،‬لم يعطها فرصة لتوسل جديد‪ .‬نظرت إلى‬

‫الهاتف بيدها‪ ،‬تشعرأن من يحدثها هو شخص آخر‪،‬‬


‫شخص لم تحبه ً‬
‫يوما‪ ،‬لم تكن زوجته طوال سبع سنوات‪،‬‬

‫لم يجمعهما سقف منزل واحد‪ ،‬بل هو شخص لم تعرفه من‬

‫األساس‪.‬‬

‫وعلى الجانب اآلخر كان هو ينظرإلى زوجته التي أخذت‬

‫الهاتف من يده تغلقه بوجه شقيقتها‪ ،‬يتعجب من تصرفها‪،‬‬

‫ينظرإليها بتساؤل أجابته قبل أن ينطق به لسانه‪:‬‬

‫‪ -‬كده عمرها ما هتمنعك إنك تشوفهم تاني‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫وكسا وجهها فرحة انتصارحازت عليه من تخطيط شيطاني‬

‫قامت به‪.‬‬

‫مرأسبوع ولم يعد أطفالها بعد‪ ،‬ولم تحادثهم خالله سوى‬

‫مرتين‪ ،‬واملرة الواحدة لم تتعد الخمس دقائق‪.‬‬

‫أسبوع لم تجف دموعها ولم يندمل جرح قلبها‪ ،‬تجلس‬

‫بغرفتها ترفض تناول الطعام والشراب‪ ،‬فقط تريد عودة‬

‫أوالدها إلى أحضانها‪.‬‬

‫والدتها تشعربالحزن على حالها‪ ،‬تفكرفي الخطأ الذي‬

‫ارتكبته في تربية ابنتها األخرى ليمأل الحقد قلبها لهذه‬

‫الدرجة‪ ،‬كيف غفلت عنها حتى أصبحت ما هي عليه! تمكنت‬

‫‪292‬‬
‫الغيرة منها حد انتزاع فرحة شقيقتها وتدميرها‪ .‬شردت في‬
‫زمن بعيد حين كانت طفلة‪ً ،‬‬
‫دائما ما كان يعجبها ألعاب‬

‫شقيقتها‪ ،‬تستولي عليها‪ ،‬وعندما ترفض (سيرين) إعطائها‬

‫إحدى دماها كانت تمزقها‪ ،‬تحرمها منها هي األخرى؛ إن لم‬

‫تحصل على ما تريد فلن يحصل عليه أحد‪ .‬هي وزوجها‬

‫السبب‪ ،‬غفال عن تلك التصرفات وأرجعاها إلى سن‬

‫الطفولة وأن ما يحدث هو أمرطبيعي به‪ ،‬لكنهما أخطآ وها‬

‫هم يجنون حصاد خطأ املاض ي‪.‬‬

‫طرقات الباب العالية انتزعتها من أفكارها‪ ،‬فتحته لتسعد‬


‫ُ‬
‫برؤية أحفادها‪ ،‬احتضنتهم تنادي (سيرين) تعلمها‬

‫بوصولهما‪ ،‬واألخيرة لم تكن بحاجة لنداء والدتها؛ فقد شعر‬

‫‪293‬‬
‫بهما قلبها قبل أن تستمع أذنيها لصوتهما‪ .‬احتضنتهما تتشمم‬

‫رائحتهما‪ ،‬تنهال عليهما بالقبالت‪ ،‬تشتاق إليهما‪ ،‬تستمع إلى‬

‫حديثهما حول سعادتهما بالرحلة‪ ،‬يقصان عليها في عجالة‬

‫أماكن الترفيه التي زاراها‪ .‬هي لم تكن تستمع إلى تفاصيل‪،‬‬

‫كانت تتنفس‪ ،‬روحها املسلوبة منها قد ُردت إليها‪ .‬ومن خلف‬

‫دموع عينيها رأت من أتت بهم‪ ،‬لم يكن والدهم‪ ،‬بل شقيقتها‪،‬‬

‫تقف أمامهم بتبجح تعلو ابتسامتها وجهها‪ ،‬اقتربت منها‬

‫تهمس بأذنيها‪:‬‬

‫‪ -‬دا بس عقاب صغيرعشان رفضتي يشوف والده‪.‬‬

‫الجملة قتلتها‪ ،‬نحرتها‪ ،‬شقيقتها تتلذذ بعذابها‪ ،‬تنتش ي‬

‫بتحطيمها‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫اتسعت عينا والدتها‪ ،‬أمسكت بذراعها تجبرها على النظر‬

‫إليها‪ ،‬تصرخ بوجهها‪:‬‬

‫إنت إزاي بقيتي كده! إيه كل الكره اللي ماليكي دا!‬


‫‪ِ -‬‬

‫ابتسمت بتهكم‪ ،‬تنظرإليهما تخبرهما‪:‬‬

‫‪ -‬انتو السبب‪ ،‬رفضتوا حاجة من حقي‪ ،‬اتخليتوا‬

‫وبعدتوا‪ ،‬خلتوني أنا في الصورة الوحشة‪.‬‬

‫سكتت برهة ترى أثركالمها على مالمحهما‪ ،‬ارتدت نظاراتها‬

‫تخبرهم قبل رحيلها‪:‬‬

‫‪ -‬دي أنا‪ ،‬الصورة الوحشة اللي انتو عايزين تشوفوني بها‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫رحلت وتركت خلفها شقيقة تتعجب من شقيقتها التي‬
‫ُ َ‬
‫انتزعت منها حياتها وتراه حقها وال يجب أن تعاتب على‬

‫فعلتها‪ ،‬ووالدة تلعن رحم حمل نبتة سيئة أتت لتبث سمها‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بوجه من حولها‪ ،‬تح ِمل نفسها ذنب تنشئة خاطئة غفلت‬

‫عنها من البداية‪.‬‬

‫**********‬

‫يتسم اإلنسان بالغباء‪ ،‬ما يريد ويرغب أمام عينيه لكنه ال‬

‫يمد يده ليناله‪ ،‬يتردد حتى تضيع فرصة الحصول عليه من‬

‫بين يديه‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫هو أضاعها من بين يديه مرة ولن يكرر األمر‪ ،‬تأخر‬
‫ً‬
‫بمصارحتها بمشاعره سابقا حتى سبقه من دق باب قلبها‬

‫وتقدم لخطبتها‪ .‬لكنه علم من شقيقته أنها أخبرتها أن‬

‫الخطبة لم تتم‪ ،‬والسبب اختصرته بكلمتين "محصلش‬

‫نصيب"‪ .‬اآلن فقط عرف سرترك (زياد) للعمل‪ ،‬يتساءل‬

‫داخله عن سبب افتر اقهما رغم الحب الذي كان بينهما‪،‬‬

‫لكنه قرر أن يؤجل حصوله على الجواب لوقت الحق‪ ،‬فهو‬

‫لن يتقاعس حتى تضيع من يده مرة أخرى‪.‬‬


‫يجلس برفقة والدها في يا ة ّ‬
‫فضل أن يكون بمفرده بها في‬ ‫زر‬

‫البداية‪ ،‬عرفه عن نفسه بأنه رئيسها بالعمل‪ ،‬وهي حين‬

‫‪297‬‬
‫علمت بوجوده ظنت أن هناك مشكلة تخص عدم ذهابها‬

‫للعمل بالفترة املاضية‪.‬‬

‫توجهت إلى حيث يجلس برفقة والدها‪ ،‬وعلى أعتاب الغرفة‬

‫توقفت قدماها حين سمعت جملته‪.‬‬

‫‪ -‬أنا طالب من حضرتك إيد روفيدا‪.‬‬

‫شعرت بخدريسري بجسدها‪ ،‬لم يتطرق هذا االحتمال‬

‫ملخيلتها حين علمت بزيارته‪ ،‬هي شيدت الحصون حول قلبها‬

‫وترفض تسليم مفاتحه ألي شخص آخربعد تجربتها‬


‫ُ‬
‫السابقة‪ ،‬خدعت مرة ولن تسمح لألمرأن يتكرر‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫لم تستمع لباقي حديثه أو رد والدها‪ ،‬عادت إلى غرفتها شاردة‬
‫ً‬
‫تحاول اتخاذ قرار‪ ،‬إن كانت فكرت سابقا بترك العمل بسبب‬

‫ما فعله (زياد) فعليها اآلن أن تنفذ هذا القرار؛ فلن تستطيع‬

‫البقاء بعد أن ترفض طلب رئيسها باالرتباط بها‪.‬‬

‫انتشلها من أفكارها دخول والدها‪ ،‬رأى شرودها وحالتها‪،‬‬

‫جلس جوارها يمسد شعرها‪ ،‬يسأل ويعتقد أنه يعلم اإلجابة‪:‬‬

‫‪ -‬عرفتي مين كان هنا؟‬


‫ً‬
‫إيجابا‪ ،‬تبلل شفتيها تخبره بما سمعته‪:‬‬ ‫أومأت برأسها‬

‫‪ -‬كنت جاية أعرف سبب زيارته سمعت طلبه‪.‬‬

‫عاد والدها يسألها‪:‬‬

‫‪299‬‬
‫‪ -‬و إيه رأيك؟‬

‫تجمعت الدموع بمقلتيها‪ ،‬تخبره بصوت مختنق‪:‬‬

‫‪ -‬مينفعش‪ ،‬قلبي لسه مجروح‪.‬‬

‫‪ -‬قلبك محتاج حد يداويه‪.‬‬

‫يحتضنها‪ ،‬يريد امتصاص آالمها‪ ،‬يكمل حديثه بحنو‪:‬‬

‫‪ -‬انس ي املاض ي‪ ،‬اعتبريه درس يقويكي مش يضعفك‪.‬‬

‫رفع رأسها ينظرإلى عينيها‪:‬‬

‫‪ -‬مش بجبرك تو افقي على كرم بالتحديد‪ ،‬بس اللي‬

‫حصل مش نهاية العالم‪ ،‬عقبة وقابلتك في حياتك‪،‬‬

‫اتخطيها وكملي‪ ،‬تقويكي مش تكسرضهرك‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫أنهى حديثه وعاود احتضانها مرة أخرى‪ ،‬يعطيها فرصة‬

‫للتفكير‪:‬‬

‫‪ -‬فكري و أنا معاكي في قرارك‪.‬‬

‫مرالليل عليها ولم يغمض لها جفن‪ ،‬وكذلك (كرم)‪ ،‬هي‬

‫حزينة وهو سعيد‪ ،‬هي تفكروتتردد وهو يرسم بمخيلته‬

‫مستقبله معها‪.‬‬

‫**********‬

‫ما أصعب أن تحمل على عاتقك مسؤولية تثقل كاهلك!‬


‫ليس بالش يء الهين‪ ،‬أمانة َّ‬
‫حملها له والده‪ ،‬وثق به لينفذ ما‬

‫يريح جسده في قبره‪.‬‬

‫‪301‬‬
‫يضطرللوقوف بوجه عائلته‪ ،‬يحاربهم ويصرأن ينال كل ذي‬

‫حق حقه‪ ،‬لكنه ال يطمئن لهم‪ ،‬يخش ى لحظة غدرتأتي دون‬


‫ٍ‬
‫أن يحسب حسابها‪ ،‬يفكرفي اقتراح والدته طوال الفترة‬

‫املاضية‪ ،‬يهديه عقله إلى أن ينفذه‪ ،‬ثم يأتي حديث صديقه‬

‫بخاطره بأنه ليس الحل األمثل‪.‬‬

‫باألخيراتخذ قراره وبقي التنفيذ‪ ،‬وها هو بمنزلهم‪ ،‬يجلس‬

‫برفقتهم‪ ،‬ويوجه حديثه إلى والدهم الذي تكفل بتربيتهم‪،‬‬

‫يتردد‪ ..‬يتوتر‪ ..‬ثم تأتيه الشجاعة ليطلب مطلبه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا طالب ايد سارة‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫مفاجأة ألجمت (حسن) فلم يستطع الرد‪ ،‬ذهول النظرات‬

‫من (سارة) وحملقتها بوجهه‪ ،‬أما عن (ياسين) فضحكاته‬

‫عاليا يخبره‪:‬‬ ‫ً‬


‫سريعا‪ ،‬يقهقه ً‬ ‫تعالت بعد أن امتص صدمته‬

‫‪ -‬ال حلوة عجبتني‪ ،‬خطة في منتهى الذكاء‪.‬‬

‫ينظرإليه (يوسف) بتعجب ال يفهم مقصده‪ ،‬ينتظرمنه‬

‫ايضاح لم يبخل به (ياسين)‪:‬‬

‫‪ -‬جاي تعطينا الورث‪ ،‬وبعدين تيجي تتقدم ألختي فالورث‬

‫يرجعلك تاني‪ ،‬ال ملعوبة‪.‬‬

‫نبرته تحمل تهكم وظن سوء لم يخطرببال الجالس أمامهم‪،‬‬

‫فهذا لم يكن مقصده ولم يأت بباله أن يظن به (ياسين) هذا‬

‫‪303‬‬
‫الظن الس يء‪ .‬رأى نظرات (حسن) املتشككة تتجه إليه‪ ،‬يريد‬

‫أن يعلم الحقيقة وراء طلبه‪ ،‬بالطبع لن يخبرهم أن األمرمن‬

‫أجل حماية أموالهم و أنه ال يكن مشاعر ل(سارة)؛ فهذا‬

‫جرح لكرامتها‪ ،‬اضطرلبعض الكذب الذي لن يضر‪:‬‬

‫‪ -‬ملا قابلت سارة شفت فيها مواصفات البنت اللي بحلم‬

‫أرتبط بها‪ ،‬وربنا يعلم إن اللي فهمته يا ياسين مش نيتي‪،‬‬

‫وتقدرتطلب مني كل الضمانات اللي تحفظ حقكم‪.‬‬

‫لم يجبه (ياسين) واكتفى ببسمة ساخرة على طرف شفتيه‪،‬‬

‫(سارة) تركت الجلسة لشعورها بالخجل‪ ،‬وبقيت الكلمة‬

‫النهائية ل(حسن)‪:‬‬

‫‪304‬‬
‫‪ -‬هنفكرفي طلبك يا بني ونرد عليك‪.‬‬

‫و انتهى اللقاء‪ ،‬رحل ولم يملك سوى انتظارردهم الذي على‬

‫أساسه سيتحدد مواجهته مع عائلته‪.‬‬

‫بعد رحيله توجه (ياسين) إلى شقيقته يسألها عن رأيها‪،‬‬

‫جلس على املقعد املقابل لفراشها‪ ،‬صمته سؤال ينتظررده‪،‬‬

‫وهي تائهة مترددة‪ ،‬تفرك أصابع كفيها ثم تخبره بقرارها‪:‬‬

‫‪ -‬مو افقة‪ ،‬مهما كان سببه من الجوازمو افقة‪.‬‬


‫ً‬
‫غضبا‪ ،‬يقف ليصرخ بوجهها‪:‬‬ ‫تشتعل عيناه‬

‫إنت اتجننت؟ هتبيعي نفسك؟‬


‫‪ِ -‬‬

‫‪ -‬لو دي الطريقة الوحيدة عشان ناخد حقنا أنا مو افقة‪.‬‬

‫‪305‬‬
‫يعاند‪ ،‬يخبرها برأيه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش مو افق يا سارة‪.‬‬

‫وهي تصرعلى موقفها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا هروح أبلغ بابا حسن بمو افقتي‪.‬‬

‫رحلت وتركته للغضب يتآكله‪ ،‬فالغبية ال تعلم ما يفكربه‬


‫ً‬
‫طامعا باملال لذلك تقدم لخطبتها‪،‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬هو يظنه‬

‫و(ياسين) كل ما يهمه هو راحة شقيقته وسعادتها التي‬

‫تتنازل عنها بقرارها ذلك‪.‬‬

‫***********‬

‫‪306‬‬
‫آفة الجسد هو نزاعه بين عقله وقلبه‪ ،‬وطاملا القلب يتسيد‬

‫الصورة فالعقل اليستطيع العمل على الوجه األمثل‪.‬‬

‫تهتد لقرار‪ ،‬وباليوم التالي صعدت لجارتها التي أصبحت‬


‫لم ِ‬
‫صديقتها املقربة لتفض ي لها بهمومها‪.‬‬

‫استقبلتها (بيان)‪ ،‬جلسا بغرفتها‪ ،‬قصت عليها ما حدث‬

‫باألمس ورغبة (كرم) االرتباط بها‪ ،‬تفض ي لها ما تحمله من‬

‫ألم‪:‬‬

‫‪ -‬مش قادرة أنس ى اللي زياد عمله فيا‪ ،‬جرحني برغم حبي‬

‫له‪.‬‬

‫تمسح دموعها‪ ،‬تلمس موطن نابضها‪:‬‬

‫‪307‬‬
‫‪ -‬دا مش قادريقبل حد تاني‪ ،‬بقى يخاف من الجرح‪.‬‬

‫واألخرى شاردة‪ ،‬ال يظهرعليها انتباهها‪ ،‬توقيت زيارة‬


‫مناسبا؛ فهي ً‬
‫أيضا لديها ما يؤرقها ويشغل‬ ‫ً‬ ‫(روفيدا) لم يكن‬

‫تفكيرها‪.‬‬

‫ألول مرة تلحظ (روفيدا) صمتها وعدم انتباهها لحديثها‪،‬‬

‫سألتها عما بها‪:‬‬

‫إنت مش معايا خالص‪.‬‬


‫‪ -‬بيان ِ‬

‫أمسكت برأسها‪ ،‬تشعرأنه سينفجرمن كثرة التفكير‪ ،‬نظرت‬

‫إلى الجالسة جوارها بعين منتفخة من قلة النوم‪ ،‬تخبرها‬

‫بصوت مختنق‪:‬‬

‫‪308‬‬
‫‪ -‬أنا عندي أخوات‪.‬‬

‫تصمت تترك لألخرى فرصة الستيعاب صدمة الخبر‪:‬‬

‫‪ -‬أخوات معرفش عنهم حاجة‪.‬‬

‫تعجبت (روفيدا) من حديثها‪:‬‬

‫‪ -‬ازاي دا! يعني إيه اللي بتقوليه دا؟‬

‫أخبرتها عما تفوهت به والدتها أثناء مرضها‪ ،‬شكوكها حول‬

‫عائلتها التي ال تعلمها‪ ،‬بحثها حول طرف خيط يدلها ملبتغاها‬

‫ولم تجد‪ ،‬صندوق األسرارالذي اختفى من غرفة والدتها‪.‬‬

‫‪ -‬مش يمكن كل دي أوهام في راسك يا بيان؟‬


‫تهزرأسها ً‬
‫نفيا تخبرها‪:‬‬

‫‪309‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬أنا و اثقة إنها مخبية عني حاجة‪.‬‬

‫حاولت (روفيدا) إبعاد الظنون عن رأسها‪:‬‬

‫‪ -‬جايزاللي مخبياه عنك هيتعبك لو عرفتيه‪ ،‬بالش‬

‫تدوري ورا حاجة متعرفيش هيقابلك إيه ملا توصلي لها‪،‬‬


‫ً‬
‫الجهل أحيانا بيكون نعمة‪.‬‬

‫الجهل راحة واملعرفة قاتلة‪ ،‬كانت تظن أن ابنتها علمت ش يء‬

‫عن املاض ي‪ ،‬واآلن استمعت إلى حديثها مع صديقتها‪،‬‬

‫معرفتها بشكوك ابنتها أكدت لها أنها أول خطوة لكشف ستر‬
‫ُ‬
‫املاض ي‪ ،‬ماض ي سيؤلم إن فتحت دفاتره‪.‬‬

‫***********‬

‫‪310‬‬
‫(‪)11‬‬

‫الخوف شعور مقيت‪ ،‬يمنعنا االستمتاع بالحياة‪ .‬رغم األلم‪،‬‬

‫رغم الغدر‪ ..‬الخيانة التي نتعرض لها‪ ،‬رغم الطعنات‬

‫والصفعات التي تنهال علينا‪ ،‬نحن بحاجة إلى التنفس‪ ،‬ليأتي‬


‫ً‬
‫الخوف ويقف عائقا‪ ،‬يخبرنا بتسيده للموقف‪ ،‬وأن ال حق‬

‫لنا في حياة هادئة‪.‬‬

‫(سيرين) تحيا بهذا الشعور منذ أربعة أشهر‪ ،‬منذ أن عاد‬


‫طفليها إليها بعدما أخذهما والدهما وشقيقتها ر ً‬
‫غما عنها‪.‬‬

‫أربعة شهور مرت وهي تخش ى فقدانهما مرة أخرى‪ ،‬لم تقدر‬

‫على منع طليقها من رؤيتهما خشية أن يكرر فعلته‪ ،‬يتوقف‬

‫‪311‬‬
‫قلبها عن النبض عندما يطلب رؤيتهما خارج املنزل‪ ،‬وتعود‬
‫نبضاته بعودتهما ألحضانها مرة أخرى‪ُ .‬ت َ‬
‫جبرعلى رؤية‬

‫شقيقتها من حين آلخرعندما تأتي برفقة طليقها‪ ،‬بينما‬

‫تمتنع والدتها عن رؤيتها وتلتزم غرفتها‪ ،‬أما هي فال تملك أن‬

‫تفعل هذا؛ فهي تخش ى على طفليها من وعودهما التي هي‬

‫بدافع دب شعور القلق بقلبها‪ ،‬ترى نظرات الشماتة‬

‫واالنتصاربعين شقيقتها وال تستطيع النطق‪ُ ،‬مكبلة بأغالل‬

‫الخوف‪.‬‬

‫اليوم أتت شقيقتها برفقة طليقها‪ ،‬أدخلتهما وجلست‬

‫مبتعدة عنهم لكنهما ال يغفال عن نظرها‪ ،‬ترى الحنان‬

‫‪312‬‬
‫الزائف الذي تغدقه شقيقتها على طفليها فقط نكاية بها‪،‬‬
‫تخبرها أن بمقد تها سلب طفليها منها ً‬
‫أيضا إن أرادت‪.‬‬ ‫ر‬

‫بعد مرورنصف ساعة رأت وقوفهما ونيتهما للمغادرة‬

‫فتنفست الصعداء؛ انتهت تلك الزيارة الثقيلة على نفسها‪.‬‬


‫هرول طفليها تجاهها يظهرالفرح ً‬
‫جليا على مالمحهما‪،‬‬

‫خشيت أن يكونا قد وعداهما برحلة سفرمرة أخرى‪ ،‬لكن‬

‫بعد ما أخبراها به تمنت لو كان األمروعد بش يء يخص‬

‫أطفالها‪ ،‬خرجت الجملة واضحة من فم ابنها األكبر‪:‬‬

‫‪ -‬بابا وخالتو هيجبولنا نونو نلعب معاه‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫ً‬
‫سريعا تجاه املعنيين بحديث طفلها‪ ،‬فما قاله‬ ‫رفعت نظرها‬

‫ال يحتمل معنى آخرسوى ما جال بخاطرها‪ ،‬رأت ابتسامة‬

‫شقيقتها وهي تدس نفسها بأحضان زوجها أمامها دون‬

‫اعتبارملشاعرها‪:‬‬

‫‪ -‬مش تباركي لينا يا سيرين!‬

‫ثم وضعت يدها أعلى بطنها تلمسها‪ ،‬تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا حامل‪.‬‬

‫التفتت بنظرها تجاه طليقها‪ ،‬رأت بعينيه مشاعرمختلفة‪،‬‬

‫فرح ربما‪ ..‬ربما خزي من املوقف‪ ،‬لكنها لم َتربهما ذرة ندم‬

‫على ما فعاله بها‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫غشيت الدموع عينيها‪ ،‬ال تعلم متى غادرا‪ ،‬وال متى أتت‬

‫والدتها تحتضنها‪ ،‬تبكي هي األخرى بعدما سمعت ابنتها تخبر‬

‫شقيقتها بخبرحملها بكل تبجح‪ ،‬يزداد يقينها كل يوم أنها‬

‫خسرت ابنتها الصغرى‪ ،‬خسرتها لألبد‪.‬‬

‫*********‬

‫الخوف من املجهول يجعلنا نطمس املاض ي‪ ،‬نخش ى ظهوره‬

‫للنور؛ فنحن ال نعلم تأثيره عند كشفه للجميع‪.‬‬

‫منذ أن استمعت إلى حديث ابنتها مع صديقتها وهي تعلم أنها‬

‫أصبحت خاسرة‪ ،‬سواء أخبرتها الحقيقة أم استمرت في‬

‫‪315‬‬
‫إخفائها فالشك قد سيطرعلى ابنتها‪ ،‬وأصبح أن تعترف لها‬

‫بكل ش يء هو أفضل حل‪.‬‬

‫أحضرت صندوق املاض ي بما يحويه من أسرار؛ قسيمة‬

‫زواج وأخرى للطالق‪ ،‬شهادات ميالد‪ ،‬صور ألشخاص‬

‫تربطها بهم عالقة أسرية لكنها ال تعلم عنهم ش يء ولم يسبق‬

‫لها رؤيتهم‪ ،‬سردت عليها ما حدث بليلة كانت لها بمثابة‬

‫كابوس‪ ،‬وحين انتهت رأت الصدمة على مالمح ابنتها‪ ،‬تجهش‬

‫بالبكاء وال ش يء سواه‪ .‬أرادت منها رد فعل آخر‪ ،‬أن تصرخ‬

‫بوجهها تتهمها بالكذب‪ ،‬أو أن تخبرها بأنها تصدقها‪ ،‬أو حتى‬

‫تغضب إلخفائها الحقيقة عنها طوال هذه السنوات‪ ،‬لكنها‬

‫لم تحصل على أي من هذا‪ ،‬فقط اعتزلتها ابنتها ترفض‬

‫‪316‬‬
‫الحديث معها‪ ،‬تلتزم غرفتها طوال الوقت‪ ،‬وهي اعتبرته‬

‫تصديق للحقيقة والتهام باطل كان من نصيبها في املاض ي‪.‬‬

‫استمرالتجاهل درب ابنتها طوال أربعة أشهر‪ ،‬لم يختلف‬

‫يوم عن سابقيه‪ ،‬واليوم رأتها تتجهزلخطبة صديقتها‬

‫فأخذتها فرصة لكسرحاجزالصمت بينهما‪ ،‬اقتربت منها‬

‫تريد ضمة ال أكثروجمود مالمح ابنتها منعتها إياها‪ ،‬سألتها‬

‫بحزن يشوبه بعض التوترخشية الجواب الذي ستحصل‬

‫عليه‪:‬‬

‫‪ -‬هو إحنا مش هنكلم بعض أدام الناس بردو يا بيان؟‬

‫ونبرة ابنتها جامدة تخبرها أنها ال تهتم بحديث الناس‪:‬‬

‫‪317‬‬
‫‪ -‬لو خايفة حد ياخد باله متحضريش‪.‬‬

‫جملة بسيطة بنظرابنتها لكنها كطعنة خنجربقلبها‪ ،‬ابنتها‬

‫التي رحلت بعدما أخبرتها ببساطة أال تطمح بتغييرطريقتها‬

‫معها‪.‬‬

‫***********‬
‫ً‬
‫الخوف من تجارب سابقة يبقى عائقا يمنعنا خوض تجارب‬

‫جديدة‪ ،‬عالقة حب غلفها الخداع تركت ندبة بالقلب ال‬


‫ً‬
‫تنمحي‪ ،‬يبقى أثرها عالقا‪ ،‬تمأل القلب بالخوف من خوض‬

‫غمارحب آخر‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫على مدارأربعة أشهرحاولت (روفيدا) تناس ي خداع (زياد)‬

‫لها لكنها لم تنجح‪ ،‬تجربة تركت أثرال يزول‪ ،‬ترى حزن‬


‫ً‬
‫شاعرا بأنه السبب ملا حدث‬ ‫والدتها‪ ،‬تأنيب والدها لنفسه‬

‫لها‪ ،‬لكنها ال تملك ما تفعله؛ فخداع الحب األول مؤلم‬


‫للغاية‪ .‬في النهاية قررت أن ُتنحي قلبها ً‬
‫جانبا؛ فهو لم يجلب‬

‫لها سوى األلم‪ ،‬هذه املرة ستترك للعقل السيادة‪ ،‬لذلك‬

‫و افقت على خطبتها من (كرم) الذي لم يمل من انتظار‬

‫مو افقتها‪.‬‬

‫تجلس أمام املرآة‪ ،‬تتأمل زينتها وردائها‪ ،‬ملحت نظرة الحزن‬

‫البادية بعينيها‪ ،‬عليها أن تمحوها وتستبدلها بابتسامة زائفة‬

‫تعلو شفتيها‪ ،‬فتجربتها السابقة علمتها كيفية تبديل األقنعة‬

‫‪319‬‬
‫بما يناسب املوقف‪ ،‬وعليها أن تشكر(زياد) ً‬
‫يوما ما؛ فله‬

‫الفضل في تعليمها ذلك من تجربتها معه‪.‬‬

‫خرجت من غرفتها تجاورها (بيان) فتعالت الزغاريد لدى‬

‫ظهورها‪ ،‬اقترب منها والديها يقبالنها ويحتضناها‪ ،‬تقدم بها‬

‫والدها تجاه (كرم) الذي تحتل السعادة مالمحه‪ ،‬بينما هي‬

‫تتظاهربالخجل وتداري الحزن داخلها‪.‬‬

‫**********‬

‫هناك مقولة قديمة أن من يخش ى ش يء يظهرله‪ ،‬هي ً‬


‫دائما‬
‫ما كانت تخش ى املاض ي‪ ،‬لكنها لم تتصور ً‬
‫يوما أن يتجسد‬

‫‪320‬‬
‫أمامها‪ ،‬لم تتخيل أن من ظلت سنوات تبحث عنه حتى‬

‫فقدت األمل سيظهرأمامها صدفة بعد كل هذا الوقت‪.‬‬

‫كانت شاردة بابنتها‪ ،‬ترى ابتسامتها وهي تجاور صديقتها‪،‬‬

‫تفكرفي كيفية إصالح عالقتها بها‪ ،‬عندما شعرت بمن يجذب‬

‫ذراعها يتوجه بها تجاه الشرفة ثم ينفضها من يده‪ ،‬يسألها‬

‫بصوت يحرص على أال يلفت االنتباه إليه وبالرغم من ذلك‬

‫لم يخلو من بعض الغلظة‪:‬‬

‫‪ -‬بتعملي إيه هنا يا مروة؟‬

‫املفاجأة ألجمت لسانها فلم تجد رد‪ ،‬نظرت إليه مصدومة‬

‫من رؤية املاض ي يتجسد أمامها‪:‬‬

‫‪321‬‬
‫‪ -‬مراد!‬

‫زاد غضبه وهو يعاود سؤالها‪:‬‬

‫‪ -‬بتعملي إيه هنا؟ بتظهري في حياتنا تاني بعد السنين دي‬

‫كلها ليه؟‬

‫لم تبال بإجابة أسئلته‪ ،‬بل سألته سؤال آخرتتوسله أن‬

‫يريح قلبها‪:‬‬

‫‪ -‬مراد‪ ،‬والدي فين؟ حد منهم موجود هنا؟ عشان خاطري‬

‫ريحني‪.‬‬

‫اقترب منها يمسك ذراعها بقسوة‪ ،‬تشوب نبرته بعض‬

‫التهديد‪:‬‬

‫‪322‬‬
‫‪ -‬متبوظيش خطوبة ابني وامش ي من هنا‪.‬‬

‫سألته تريد تأكيد‪:‬‬

‫‪ -‬ابنك؟ ابني؟ العريس يبقى كرم ابني؟‬

‫حاولت أن تذهب الحتضانه وتعويض قلبها عن اشتياقه له‪،‬‬

‫لكنه جذب ذراعها يمنعها‪:‬‬

‫‪ -‬تعالي هنا‪ ،‬لو قربتي من والدي متلوميش غيرنفسك‪.‬‬

‫قاطعهما صوت ابنتها التي ظنتها قد رحلت ولكنها ملحتها‬


‫ً‬
‫شخصا ما بالشرفة‪ ،‬و أثناء توجهها إليها اصطدمت‬ ‫تحادث‬
‫ً‬
‫مندفعا ولم يبال باالعتذار‪ ،‬تجاهلته لتعاود‬ ‫بشخص يسير‬

‫‪323‬‬
‫النظرإلى والدتها‪ ،‬تقترب من الشرفة أكثر‪ ،‬ترى بكاء والدتها‪،‬‬

‫شعرت بالقلق فسألتها‪:‬‬

‫‪ -‬في حاجة يا ماما؟‬

‫ابتسم (مراد) بتهكم يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬ماما؟ يعني اتجوزتي وخلفتي وعايشة حياتك وعايزة‬

‫تقنعيني إنك لسه بتفكري فيهم؟ يا ترى اتجوزتي مين؟‬

‫زميلك في الشغل اللي كان بيوصلك بعربيته؟‬

‫رفعت يدها تصم أذنيها عن اتهاماته التي مازال يتمسك بها‪،‬‬

‫تصرخ به‪:‬‬

‫‪ -‬بس بقى‪ ،‬كفاية يا مراد‪ ،‬كفاية‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫و ابنتها التقطت االسم‪( ،‬مراد)‪ ،‬االسم الذي يجاور اسمها‬

‫بأور اقها الرسمية‪ ،‬فتفوهت من بين شفتيها بصوت ال‬

‫يسمعه سواها‪:‬‬

‫‪ -‬بابا!‬

‫استمعت إلى جملته األخيرة لوالدتها قبل رحيله‪:‬‬

‫‪ -‬متنطقيش بحرف أدام حد من الوالد عشان متندميش‪.‬‬

‫رحل وتركها لدموعها‪ ،‬حتى ابنتها تجمدت مكانها ولم تقترب‬

‫منها‪ ،‬انسلت من بين الحضور دون أن يشعربها أحد‪ ،‬وقبل‬

‫رحيلها ألقت نظرة على (كرم)‪ ،‬ابنها الذي حرمت منه ألكثر‬
‫من عشرين ً‬
‫عاما‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫***********‬

‫مهما حاولت نسيان املاض ي لن تستطيع‪ ،‬ومن يعتقد أنه‬

‫استطاع تخطيه فهو مخطيء؛ املاض ي ال ُيمحى‪ ،‬بل يقبع في‬

‫الذاكرة‪ ،‬في جزء بعيد أسفل العديد من الذكريات‪ ،‬ومجرد‬

‫نبضة أو وغزة بسيطة باملخ تصبح كشعاع الضوء له‪،‬‬

‫بصيص نور يتتبعه ليطفو ويظهر‪ ،‬يفرض سيطرته ويحتل‬

‫الصورة من جديد‪.‬‬

‫هو لم ينس‪ ،‬بل حاول التناس ي‪ ،‬حاول بدء حياة جديدة‬


‫بعيدة عن ذكرياته املؤملة‪ ،‬لكن كل محاوالته ضاعت ً‬
‫هباء‬

‫برؤيتها‪ .‬صورة من املاض ي البعيد‪ ،‬مالمح تشبهها‪ ،‬ومشاعر‬

‫دفينة تحركت تجاهها‪ .‬في البداية ظن أن ذاكرته تالعبه‪،‬‬

‫‪326‬‬
‫لكن اقتراب والده منها زاد من شكوكه‪ ،‬هي والدته‪ ،‬من‬

‫تخلت عنه وأشقائه بصغرهم‪.‬‬

‫اقترب منهما يستمع إلى حديثهما‪ ،‬لم ينتبه لتتبع (أمجد) له‪،‬‬

‫يرى دموعها فيظنها نادمة لكن قد فات أوان الندم‪ .‬شعر‬

‫بالضيق‪ ،‬أنفاسه غيرمنتظمة ورئتيه تمرر الهواء بصعوبة‪،‬‬

‫ابتعد عنهما ال يحتمل رؤية مشهد مكرر من املاض ي‪ .‬ذهب‬

‫إلى شقيقه يعتذرمنه ويخبره بضرورة رحيله ألمرهام‪ ،‬اقترب‬

‫من زوجته التي تجلس جوارشقيقته يخبرها أن تتجهز‬

‫للمغادرة‪ ،‬شعرت (ريم) بتغيره فسألته بقلق‪:‬‬

‫‪ -‬أدهم‪ ،‬إنت كويس؟‬

‫‪327‬‬
‫أومأ له برأسه يجيبها‪:‬‬

‫‪ -‬أيوه‪ ،‬مشكلة في الشغل والزم أمش ي‪.‬‬

‫التقط يد زوجته‪ ،‬ساربها مغاد ًرا تجاه سيارته‪ ،‬طوال‬

‫الطريق ال يتحدث‪ ،‬تتقاذف بذاكرته صور من املاض ي‪،‬‬

‫زوجته تشعربالقلق عليه‪ ،‬لكنها ال تجرؤ على مخاطبته‬

‫بحالته هذه‪ ،‬التزمت الصمت حتى وصال أسفل منزلهما‪،‬‬

‫وأول ما نطق به هو أن أخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬انزلي‪.‬‬

‫ومع ازدياد قلقها لم تستطع إال أن تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬مالك يا أدهم؟‬

‫‪328‬‬
‫وليتها ما سألته؛ فقد استدعت كامل غضبه‪ ،‬أطرق بعنف‬

‫على مقود السيارة‪ ،‬يصرخ بها‪:‬‬

‫‪ -‬قلت انزلي‪.‬‬

‫انتفض جسدها ولبت طلبه‪ ،‬ترجلت من السيارة التي انطلق‬

‫بها بأقص ى سرعة بمجرد مغادرتها إياها‪.‬‬

‫توجه إلى مكان لم تطأه قدماه منذ سنوات‪ ،‬منزل باملاض ي‬

‫كان محل سكن أسرة من أب وأم وثالثة أطفال‪ ،‬رغم شجار‬

‫الوالدين الدائم كانت هناك لحظات سعادة مختطفة‪،‬‬

‫ذكريات لعب ثالثة أطفال‪ ،‬وحنان تغدقهم به أمهم حتى يأتي‬

‫األب فيبدأ الشجار‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫اقترب من إحدى الغرف‪ ،‬تلك التي كان يقف خلف بابها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫طفال شاهدا على آخرنزاع بين والديه‪ ،‬يستمع إلى اتهام‬

‫والده لوالدته بأنها خائنة‪ ،‬أنها ال تستحق حبه وال أطفالها‪،‬‬

‫يرى دموعها لكنه ال يستمع إلى حديثها الخافت له‪ ،‬ربما‬

‫كانت تتوسله السماح أو الغفران ويبدو أن والده رفض‬

‫الصفح عنها‪ ،‬فكان نصيبها أن نالت صفعة أعلى وجنتها‪،‬‬


‫ُ‬
‫ل‬
‫بعدها طردت من املنز ‪ .‬كانت تلك هي آخرمرة يرى فيها‬

‫والدته‪ ،‬لم تأت مرة أخرى لرؤيتهم وكأنها كانت تتوق لالبتعاد‬

‫عنهم‪ ،‬يتذكررد والده عندما سأله عنها‪:‬‬

‫‪ -‬ماما سابتنا خالص‪ ،‬مش عايزانا‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫جملة لم تفارق ذهنه‪ ،‬جملة تحمل معنى التخلي‪ ،‬تخلي أم‬

‫عن أطفالها‪.‬‬

‫اقترب من صورة موضوعة على أحد األرفف‪ ،‬صورة تحتوي‬

‫على والده‪ ..‬والدته‪ ..‬شقيقه‪ ..‬شقيقته‪ ..‬وهو‪ ،‬صورة تأكد‬

‫اآلن أن االبتسامة بها كانت زائفة‪ .‬ألقى بها إلى األرض يحطم‬

‫إطارها‪ ،‬تبعها بتحطيم كل ما طالت يداه‪.‬‬

‫ليتها لم تظهرمرة أخرى‪ ،‬فظهورها أعاد جميع جراح‬


‫املاض ي‪ ،‬لقد كان يحاول املض ي ً‬
‫قدما بحياته‪ ،‬تزوج بعد أن‬

‫رفض األمرخشية أن تخونه زوجته‪ ،‬يرفض انجاب أطفال‬

‫منها حتى ال يأتي يوم تتخلى فيه عنهم مثلما فعلت والدته‪ .‬أتى‬

‫‪331‬‬
‫إلى هذا املنزل ُيخرج غضبه‪ ،‬لكنه لم يفلح‪ ،‬فقد أشعل‬

‫فتيله‪.‬‬

‫*********‬

‫اإلنسان ال يعلم إن كانت اختياراته بالحياة صائبة أم ال إال‬

‫بعد أن يحصد نتائجها‪.‬‬

‫هو اختارها‪ ،‬هدم حياته ألجلها‪ ،‬ربما لو لم تكن (أسيل)‬

‫شقيقة زوجته لكان قد جمع بينهما و اتخذ طفليه وسيلة‬

‫ليجبر(سيرين) على ذلك‪ .‬في البداية ظن أنه سعيد بقراره‪،‬‬

‫أحبها واختارها فليس على القلب سلطان‪ ،‬لكنه كل يوم‬


‫ُ‬
‫يراها تتغير‪ ،‬تنقلب للنقيض‪ ،‬أظهرت له وجه املحبة‬

‫‪332‬‬
‫العاشقة التي خانها قلبها بحب زوج شقيقتها‪ ،‬لكنه فيما بعد‬

‫رأى رغبتها في فعل أي ش يء فقط ألجل إثارة ضيق شقيقتها‪.‬‬

‫عندما حاول التحدث معها في ذلك فاجأته بخبرحملها فلم‬

‫يجد ما يقول‪ ،‬شعربالضيق بإخبارشقيقتها باألمرأمامه‪.‬‬

‫بعد عودتهما سألها عن مبررها لفعل ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬ليه قولتي لسيرين إنك حامل؟‬

‫فأجابته ببساطة دون شعور بتأنيب ضمير‪:‬‬

‫‪ -‬عادي‪ ،‬حبيت أثبت لها إني ً‬


‫دايما كسبانة‪.‬‬

‫جوابها أكد له شكوكه‪ ،‬هي تحمل بعض الكراهية لشقيقتها‪،‬‬

‫أو ربما غيرة‪ .‬لم يجبها‪ ،‬هو فقط تأكد أنه أخطأ وقد فات‬

‫‪333‬‬
‫أوان إصالح هذا الخطأ‪ ،‬فزوجته السابقة لن تسامحه مهما‬

‫طلب الغفران‪ ،‬كما أن هناك طفل قادم لن يبتعد عنه هو‬

‫اآلخركما ابتعد عن إخوته‪ ،‬ويهدم حياته مرة أخرى‪ ،‬فهو‬

‫مجبرعلى تحمل نتيجة اختياراته‪.‬‬

‫***********‬

‫من املصادفات العجيبة بالحياة أن تظل طوال حياتك‬

‫تبحث عن ش يء ما دون أن تجده‪ ،‬وفجأة تلقاه صدفة‬

‫أمامك‪ .‬هو كان يبحث عن عمته منذ سنوات دون أن يجد‬

‫لها أثر‪ ،‬ال يعلم لها مكان‪ .‬كلفه والده بالبحث عنها ليطلب‬
‫غفرانها ويرد لها حقها‪ ،‬بحث ً‬
‫كثيرا ولم يعثرعليها‪ ،‬واليوم‬

‫قابلها صدفة بخطبة ابنها الذي لم يعلم بوجودها باملكان‪.‬‬

‫‪334‬‬
‫تتبعه لـ(أدهم) هو ما ساعده بالعثور عليها‪ ،‬أراد محادثتها‪،‬‬

‫لكنه لم يستطع بعد ما سمعه من زوجها السابق واتهامه‬


‫ً‬ ‫لها‪َّ ،‬‬
‫فضل أن يقص األمرعلى والدته أوال‪.‬‬

‫عاد إلى منزله‪ ،‬أخبروالدته أنه علم مكانها‪ ،‬طلبت منه أال‬

‫يخبروالده إال بعد أن يقابلها في البداية ويتحدث معها‪،‬‬

‫وعندما أخبرها بما سمعه من زوج عمته صاحت غاضبة‪:‬‬

‫‪ -‬كداب‪ ،‬طول عمره شكاك‪ ،‬أبوك غلط زمان ملا صدقه‪،‬‬

‫جوز عمتك هو السبب في بعدها عن والدها طول الفترة‬

‫دي‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫ً‬
‫شرد (أمجد) قليال بحديث والدته وأحداث اليوم‪ ،‬عزم أن‬

‫يؤجل حكمه حتى يقابلها ويستمع منها‪ ،‬ربما كان السبب في‬

‫إعادة عالقتها بأبنائها مرة أخرى وأن تسامح والده على‬

‫رفضه مساعدتها باملاض ي‪.‬‬

‫************‬
‫ً‬
‫الخوف يمنعك أحيانا من البوح بما تخفيه‪ ،‬وما تخفيه هي‬

‫يؤرقها‪ ،‬لكن مشاعرها تغلبت عليها فلم يكن بيدها حيلة‪.‬‬

‫رأت عودة (أدهم) للمنزل‪ ،‬صامت والغضب لم يفارق‬

‫مالمحه بعد‪ ،‬خشيت أن يكون سبب غضبه هو معرفته بما‬

‫‪336‬‬
‫تخفيه عنه‪ ،‬فقررت أن تواجهه وتتحمل العو اقب‪ ،‬فهي‬

‫كلما تأخرت بإخباره زاد قلقها وخوفها من رد فعله‪.‬‬

‫جلس جوارها دون أن يحدثها‪ ،‬ترددت ً‬


‫كثيرا قبل أن تبدأ‬

‫بالحديث‪:‬‬

‫‪ -‬أدهم‪ ،‬عايزة أقولك حاجة‪.‬‬

‫زفر(أدهم) يمسح وجهه بكفيه قبل أن يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬مش عايزأتكلم في أي حاجة‪.‬‬

‫فركت كفيها‪ ،‬تصرعلى إخباره قبل أن تخونها شجاعتها‪:‬‬

‫‪ -‬بس دي حاجة مهمة‪.‬‬

‫نظرإليها ينتظرما تبوح به‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫‪ -‬أنا حامل‪.‬‬

‫تنظرإلى عينيه والخوف يزداد داخلها‪ ،‬تكمل حديثها‪:‬‬

‫‪ -‬في شهرين‪.‬‬

‫************‬

‫‪338‬‬
‫)‪(12‬‬

‫هل كلمة واحدة كافية ليتوقف الزمن من حولك؟ يتالش ى‬

‫كل ش يء وكل سنوات عمرك وال يقفزإلى ذهنك سوى ذكرى‬


‫واحدة؛ ذكرى أم تركت أطفالها ولم تعد إليهم ً‬
‫يوما‪.‬‬

‫ومع سيطرة الذكرى عليه لم يتحكم بردة فعله‪ ،‬وقف‬

‫يجذب زوجته من ذراعيها‪ ،‬يحتل الغضب مالمحه وصوته‪،‬‬

‫يزعق بها‪:‬‬

‫‪ -‬يعني إيه؟ و اتفاقنا!‬

‫وهي لم تجد رد‪ ،‬يرتعش جسدها بين ذراعيه‪ ،‬لم تتخيل أن‬

‫يغضبه األمرلهذه الدرجة‪ ،‬عاود صراخه بوجهها مرة أخرى‪:‬‬

‫‪339‬‬
‫إنت و افقتي؟‬
‫‪ -‬انطقي‪ ،‬ردي عليا‪ ،‬مش دا كان اتفاقنا و ِ‬

‫ومع صراخه تساقطت دموعها‪ ،‬أجابته بنشيج يحتل‬

‫صوتها‪ ،‬تهزرأسها تخبره عن ضعفها أمام غريزة األمومة‬

‫داخلها‪:‬‬

‫‪ -‬مقدرتش‪ ،‬غصب عني عايزة أكون أم‪ ،‬حقي يكون لي‬

‫أطفال من اإلنسان اللي حبيته‪.‬‬

‫تركها لتسقط على األريكة خلفها بعنف جعلها تكور يديها‬

‫حول بطنها بغريزة دفاع عن نطفة داخلها‪ ،‬بينما يستمر‬

‫بصراخه بوجهها‪:‬‬

‫‪ -‬و افقتيني ليه؟ بتخدعيني؟‬

‫‪340‬‬
‫والصمت سيطرعليها‪ ،‬اكتفت بهزرأسها تنفي اتهاماته لها‪،‬‬

‫هو لن يفهم الصراع بداخلها‪ ،‬تحبه وتريد البقاء جواره إلى‬

‫نهاية العمر‪ ،‬عارضته وظنت أنه سيتقبل األمرأو يسعد‬


‫ُ‬
‫بغريزة أبوة ويتناس ى اتفاقه معها‪ ،‬لكنها تفاجأت برد فعله‪.‬‬

‫لوح بسبابته بوجهها‪ ،‬يخبرها بنتيجة فعلتها عليها‪:‬‬

‫‪ -‬تمام يا هند‪ ،‬اعملي حسابك إنك حكمتي على نفسك‬

‫إنت واللي في بطنك لغاية‬


‫تفضلي محبوسة هنا في البيت ِ‬
‫ما تولدي وحتى بعد والدتك‪.‬‬

‫يعلو صدره ويهبط من فرط انفعاله‪ ،‬يكمل حديثه لها‪:‬‬

‫‪ -‬اوعي تفكري في يوم إنك هتسيبيه أو تتخلي عنه‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫هي ال تفهم ما يقصد‪ ،‬ال تعرف كيف تتخلى عن طفل تحاربه‬

‫اآلن من أجل وجوده!‬

‫لم تجد الوقت لتجيبه؛ فهو قد رحل من املنزل بمجرد أن‬

‫أنهى حديثه‪ ،‬يخش ى أن يتأثربغضبه ويفعل ما يندم عليه‬


‫ً‬
‫الحقا‪ ،‬زوجته ال تعلم أنها ارتكبت خطأين؛ األول هو أن‬
‫ّ‬
‫عارضته وأخلت باتفاقهما‪ ،‬والثاني هو التوقيت الذي‬

‫اختارته لتخبره باألمر‪.‬‬

‫***********‬

‫"تيك توك‪ ،‬تيك توك"‬

‫‪342‬‬
‫صوت عقارب الساعة املعلقة على الحائط يخبرها أن‬

‫الوقت يمرمما يعني أن الحياة تسيرمن حولها‪ ،‬لكن حياتها‬

‫هي قد توقفت عند لحظة خيانتها؛ ليس خيانة زوجها لها‪،‬‬

‫بل تلك اآلتية من شقيقتها‪ ،‬الطعنة النافذة بالقلب لتنهيه‬

‫بلحظتها‪.‬‬

‫يتردد صدى صوتها بعقلها حين أخبرتها بحملها‪ ،‬و ابتسامتها‬

‫حينها ال تفارق مخيلتها‪ .‬طليقها عاشت معه سبع سنوات‬


‫فقط‪ ،‬بما لم تحكم عليه ً‬
‫جيدا أو أنه خدعها تحت مسمى‬ ‫ر‬

‫الحب‪ ،‬لكن كيف ملن عاشت معها عمرها بأكمله أن تفعل‬

‫بها هذا!‬

‫‪343‬‬
‫هي اآلن جسد بال روح‪ ،‬تتحرك بروتينية من أجل طفليها‬

‫ووالدتها‪ ،‬لكن إلى متى سيستمرضعفها؟ إلى متى ستسمح‬

‫لهم بالتحكم بها؟‬

‫فقدت قدرتها على التفكير‪ ،‬تخش ى أن تتسرع في اتخاذ قرار‪،‬‬

‫أمسكت هاتفها تنش يء حساب وهمي ال يحمل أي من بياناتها‬

‫الحقيقية على أحد تطبيقات التواصل االجتماعي‪ ،‬أرسلت‬

‫من خالله رسالة إلى أحد الصفحات الخاصة بعرض بعض‬


‫قضايا املجتمع‪ ،‬قصت عليهم مشكلتها ً‬
‫طلبا للنصح‪.‬‬

‫لم تكد تنهي ما تفعله حتى اقتحم طفلها األكبرغرفتها‪ ،‬يلهث‬

‫بخوف‪ ،‬يخبرها أن جدته تمددت بأرضية غرفتها فجأة وال‬

‫تجيبه‪ .‬تملك الرعب منها وسارعت إلى والدتها‪ ،‬فشلت جميع‬

‫‪344‬‬
‫محاوالتها إلفاقتها‪ ،‬عادت لغرفتها تتناول هاتفها تطلب‬

‫سيارة إسعاف لنقل والدتها إلى املشفى‪.‬‬

‫في خالل نصف ساعة كانت تجلس بردهة املشفى‪ ،‬تنتظر‬

‫خروج الطبيب ليطمئنها‪ ،‬تدعو ربها أن يحفظها لها؛ فهي لن‬

‫تتحمل فراق آخر‪ ،‬بل هي بأمس الحاجة إليها اآلن‪.‬‬

‫هاتفت جارتها التي تركت طفليها برفقتها لتطمئن عليهما‪،‬‬

‫أوصتها مرة أخرى ال تعلم عددها بأن ال يرحال برفقة والديهما‬

‫أو شقيقتها مهما حدث‪.‬‬

‫أنهت االتصال حين رأت خروج الطبيب من غرفة الفحص‪،‬‬

‫اقتربت منه متلهفة فعاجلها بابتسامة يطمئنها بها‪:‬‬

‫‪345‬‬
‫‪ -‬متقلقيش‪ ،‬الضغط علي بس قدرنا نظبطه الحمد هلل‪.‬‬

‫تنهدت براحة‪ ،‬وضعت كفيها أعلى وجهها تزيل القلق الذي‬

‫اجتاحها خالل الوقت املنصرم‪ ،‬انتبهت إليه يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬هي هتفضل معانا تحت املالحظة لبكرة إن شاء هللا‪.‬‬

‫أومأت له تشكره‪:‬‬

‫ً‬
‫شكرا يا دكتور‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫قاطع حديثهما صوت املمرضة أتت تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬دكتور عامر‪ ،‬محتاجين حضرتك في غرفة ‪.407‬‬

‫اعتذرمنها مغاد ًرا بعدما أخبرها أنه سيأتي مرة أخرى ملتابعة‬

‫حالة والدتها‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫دخلت غرفة والدتها بعد رحيله‪ ،‬اقتربت منها باكية‪ ،‬تمسك‬

‫يدها املوصولة بأنبوب املحلول املغذي تقبلها‪ ،‬غافية ال‬

‫تشعربوجودها‪ ،‬لكنها حدثتها كأنها تسمعها‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري يا ماما متسيبينيش‪ ،‬أنا محتاجاكي‪،‬‬

‫محتاجة أقوى ِ‬
‫بك‪.‬‬

‫ظلت تبكي حتى غفت جوارها بعدما استنزف بكاؤها طاقتها‪.‬‬

‫**********‬

‫الحقيقة‪ ،‬نظل طوال حياتنا نبحث عنها‪ ،‬وحين تضحى‬

‫أمامنا نشعرباأللم‪ ،‬نتمنى لو ظلت مطموسة ولم تظهر‬

‫للنور‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫(بيان) لم تقتنع طوال حياتها أنها بال عائلة وال جذور‪ً ،‬‬
‫دائما‬

‫ما كانت تشعرأن والدتها تخفي عنها ش يء ما‪ ،‬ظلت تبحث‬

‫وتبحث دون أن تصل لش يء‪ ،‬وفي لحظة رأت والدتها أنها على‬

‫وشك الخسارة فأخبرتها بكل ش يء‪.‬‬

‫استمعت إلى أحداث املاض ي‪ ،‬عناء والدتها مع شك والدها‬

‫الدائم‪ ،‬غيرته‪ ،‬رغبته الدائمة أن تترك عملها‪ ،‬حياة لم تخل‬


‫يوما من املشاجرات‪ .‬أخبرتها أنه حرمها أبنائها ً‬
‫عقابا لها‪ ،‬لم‬ ‫ً‬

‫يسمح برؤيتها لهم‪ ،‬وفجأة اختفى بهم ولم تعرف طريقهم‪،‬‬

‫وعندما لجأت لشقيقها وجدت أنه يصدق رو اية الزوج‪،‬‬

‫طردها ورفض مساعدتها هو اآلخر‪ ،‬وجدت نفسها بال مأوى‬

‫وال أحد تلجأ إليه‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫قصت عليها معاناتها حتى وجدت عمل ومسكن‪ ،‬خوفها‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وقلقها حين علمت أنها تحمل جنينا داخل رحمها‪ ،‬تنقلها من‬

‫محافظة ألخرى خشية أن يعلم زوجها أن له ابنة أخرى‬

‫فيحرمها منها‪.‬‬

‫اليوم هي رأت بطل رو اية والدتها‪ ،‬األب الذي ما زال يطلق‬

‫اتهاماته بوجه والدتها‪ ،‬يتذكراملاض ي كأنه حدث باألمس‪ .‬لم‬

‫تجرؤ أن تقترب منه أو تخبره بهويتها؛ لم تكن تضمن عاقبة‬

‫ذلك‪ .‬شاهدت رحيل والدتها ونظرتها إلى ابنها الذي لم تقترب‬


‫ً‬
‫منه خوفا من والده‪ ،‬مأل الكره قلبها تجاه ذلك الرجل الذي‬

‫لطاملا تمنت مقابلته‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫عادت ملنزلها بعد انتهاء حفل الخطبة‪ ،‬وقفت أمام باب غرفة‬

‫والدتها‪ ،‬تسمع شهقاتها تتعالى من وراء الباب املغلق‪ .‬ترددت‬


‫ً‬
‫كثيرا قبل الدخول إليها لكنها في حاجة إلى حوارأخيرمعها‪،‬‬

‫دلفت لتجد الغرفة تعم بالظالم‪ ،‬أضاءتها ثم اقتربت من‬

‫فراش والدتها‪ ،‬تحدثها وتعلم أنها مستيقظة تستمع إليها‪،‬‬

‫تسألها في تردد‪:‬‬

‫‪ -‬خوفتي تقوليله ميصدقكيش؟‬

‫نظرت إليها والدتها بعدما اعتدلت بجلستها‪ ،‬تنتظرمنها أن‬

‫توضح سؤالها‪.‬‬

‫‪ -‬خوفتي ميعترفش إني بنته؟‬

‫‪350‬‬
‫هزت والدتها رأسها تنفي حديث ابنتها‪ ،‬بالرغم من أن هذا‬

‫االحتمال راودها حينها‪ ،‬لكنها تعلم أنه قد يؤلم ابنتها‪ ،‬أخبرتها‬

‫بصوت ضعيف أنهكه كثرة البكاء‪:‬‬

‫‪ -‬ملا عرفت إني حامل كان هو اختفى مع أخواتك‪ ،‬وقتها‬

‫إنت عوض ربنا ليا عن بعاد أخواتك عني‪ ،‬بعدت‬


‫قلت ِ‬
‫وخبيت‪ ،‬خوفت ملا يعرف يحرمني منك‪.‬‬

‫تشعربصدق والدتها‪ ،‬لكن ما علمته ومرت به في األيام‬

‫األخيرة يشوش عقلها‪ ،‬يجعلها تتخبط دون أن تعرف من‬

‫منهما الصادق‪ ،‬لكنها تشعر أن والدتها تستحق منها في هذه‬

‫اللحظة تربيتة حانية بعدما رأت ضعفها أمام والدها‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫اقتربت منها تحتضنها‪ ،‬تدفن رأسها بصدرها‪ ،‬تخبرها ببساطة‬

‫أنها تصدقها‪ ،‬تعدها أنها ستعيد إليها إخوتها‪.‬‬

‫أبعدتها والدتها تسألها بتوجس‪:‬‬

‫‪ -‬ناوية تعملي إيه؟‬

‫ابتسمت لها قبل أن تعود ألحضانها مرة أخرى‪ ،‬تخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬متقلقيش‪ ،‬مش هعمل حاجة‪ ،‬القدرهو اللي بيعمل‪.‬‬

‫هي جملة قالتها فقط لتريح والدتها‪ ،‬لكن داخلها تنوي أن‬

‫تفعل الكثير‪ ،‬وأن تثبت وجودها ضمن العائلة التي ُحرمت‬

‫منها طوال حياتها‪.‬‬

‫*********‬

‫‪352‬‬
‫في ذلك الزمن الغادرال يفلح أنقياء القلوب بالعيش‪،‬‬

‫فمصيرهم إما الهالك أو أن يشوب قلوبهم بعض الغلظة‬

‫التي تنفعهم من أجل الحياة‪ ،‬فبعض الصدمات تقض ي على‬

‫النقاء بداخلنا‪.‬‬

‫جلست (سارة) بشرفة منزلها‪ ،‬تمسك الحلقة الذهبية‬

‫بيدها‪ ،‬تتأملها‪ ،‬تفكرفيما إذا كانت قد اتخذت القرار‬

‫الصائب أم ال‪ ،‬لكن قد فات األوان على ذلك‪ ،‬فهي قد‬


‫ُ‬
‫خطبت لـ(يوسف)‪ ،‬بل قد أصبحت زوجته بعد أن طلب‬

‫عقد القران‪.‬‬

‫تتذكريومها معارضة (ياسين) الشديدة‪ ،‬يخبرها بشكوكه‬

‫وأن األمرال يتعدى طمعه بأموالها ليضمن بقائها معه‪ .‬ال‬

‫‪353‬‬
‫تنكرأنها تثاورها نفس الشكوك‪ ،‬لكنها ستستمر‪ ،‬قررت أن‬

‫تخوض التجربة وتكملها للنهاية‪.‬‬

‫عرضت والدة (يوسف) أن يتم عقد القران بحديقة منزلهم‬

‫وو افقت‪ ،‬وشقيقها يتعجب من مو افقتها على ما يطلبونه‪،‬‬

‫وحين يحادث والده بشكوكه يخبره أن شقيقته ليست‬

‫صغيرة‪ ،‬فهو قام بنصحها لكنها صاحبة القرار‪ ،‬هو ال يملك‬

‫القراربمنعها في مسعاها للحصول على إرثها من عائلتها‪.‬‬

‫يومها أخبرت شقيقها ووالدها بأنها تثق بـ(يوسف)‪ ،‬لكنها‬

‫كاذبة‪ ،‬هي ال تملك ذرة ثقة بأي فرد من تلك العائلة‪ ،‬لكنها‬

‫عزمت على استرداد حقها وشقيقها مهما كلفها األمر‪.‬‬

‫‪354‬‬
‫تتذكريوم عقد القران حين كانت تتجول بحديقة املنزل قبل‬
‫استعدادها‪ ،‬أتى (فارس) إليها ً‬
‫منتهزا فرصة وجودها‬

‫بمفردها‪ ،‬تعلو وجهه ابتسامة خبيثة توش ي أن ما لديه‬


‫ً‬
‫سيعكرمزاجها‪ ،‬آثرت أن ترحل بعيدا عنه‪ ،‬فهو أكثرمن‬

‫تبغض في هذه العائلة‪ ،‬أوقفها ندائه باسمها‪:‬‬

‫‪ -‬استني يا سارة‪.‬‬

‫اقترب منها تزداد ابتسامته‪:‬‬

‫‪ -‬عايزك في موضوع‪.‬‬

‫عقدت ساعديها أمام صدرها‪ ،‬ومالمح وجهها تظهر‬

‫امتعاضها من وقوفها برفقته‪ ،‬تسأله‪:‬‬

‫‪355‬‬
‫‪ -‬خير؟‬

‫اقترب منها يبث سمومه برأسها‪:‬‬

‫إنت عارفة يوسف اتجوزك ليه؟‬


‫‪ِ -‬‬

‫لم تجبه‪ ،‬فهي تعلم اآلتي بعد هذا السؤال‪ ،‬واصل حديثه‬

‫بعدما لم يحصل منها على رد‪:‬‬

‫‪ -‬عشان يضمن إن فلوس العيلة تبقى في جيبه‪ ،‬عشان‬

‫بجوازه منك يفضل متحكم في فلوسك وفلوس أخوكي‪.‬‬

‫نظرت إليه متحدية‪:‬‬

‫‪ -‬عارفة‪ ،‬وفرأساليبك دي لحاجة تانية‪.‬‬

‫قررت أن تلعب بأعصابه فسألته‪:‬‬

‫‪356‬‬
‫‪ -‬مفكرتش إن دا ممكن يكون اتفاق بيني وبين يوسف؟‬

‫عندما رأت تغيرمالمح وجهه أيقنت أنها قد أتقنت دورها‪،‬‬

‫همت بالرحيل‪ ،‬لكنه وقف أمامها يعاود سؤالها‪:‬‬

‫‪ -‬هتتجوزيه بعد اللي قلته؟‬

‫لم تجبه‪ ،‬اكتفت بابتسامة جانبية على ثغرها وتركته لتذهب‬

‫إلى غرفتها املعدة إليها‪ ،‬وقبل أن تغلق بابها تفاجأت بمن‬

‫يعيق الباب بيده‪ ،‬يفتحه مرة أخرى ليدخل ويغلقه وراءه‪.‬‬

‫نظرت إليه تسأله متعجبة‪:‬‬

‫‪ -‬في إيه يا يوسف؟‬

‫‪357‬‬
‫دخل باملوضوع مباشرة‪ ،‬يخبرها بسماعه الحديث الذي دار‬

‫بينها و ابن عمه‪ ،‬يسألها بجدية‪:‬‬

‫‪ -‬مو افقة تتجوزيني بعد اللي قاله؟‬

‫اقتربت منه‪ ،‬تنظرإليه بمالمح جامدة‪ ،‬تجاهد دموعها‬

‫املتألألة بعينيها أال تسقط‪ ،‬تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬هتفرق معاك؟‬

‫ابتعدت عنه‪ ،‬تخفي حزنها الذي احتل مالمحها‪ ،‬تخبره بنبرة‬

‫جاهدت لتخرج قوية ثابتة‪:‬‬

‫‪ -‬مش دا مخططك؟ دا اللي إنت عايزه‪ ،‬و أنا بسهلك‬

‫األمور‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫استدارت إليه تتحداه بنظراتها‪:‬‬

‫‪ -‬مش هنكرإني كمان هستفيد من الوضع‪ ،‬يعني نعتبر‬

‫جوازنا مصالح متبادلة‪.‬‬

‫أومأ لها برأسه‪ ،‬لم يجد ما يجيبها به سوى كلمة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬مبروك‪.‬‬
‫ً‬
‫قالها ورحل من الغرفة‪ ،‬تاركا إياها تجهش بالبكاء‪ ،‬يتمزق‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫قلبها حزنا على دقة ولدت تجاهه‪ ،‬وعدم دفاعه عن نفسه‬

‫أمامها أكد لها أن دقة قلبها قد أصبحت إنذارخطر‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫مرعلى األمرثالثة أشهر‪ ،‬جاهدا فيهما ليرسما السعادة أمام‬

‫الجميع‪ ،‬وداخل كل منهما يعلم أن الزيجة ما هي إال صفقة‬

‫ومنفعة متبادلة بينهما‪.‬‬

‫عادت من شرودها على صوت رنين هاتفها‪ ،‬التقطته‬

‫تستقبل املكاملة‪ ،‬انتفضت من جلستها بعد سماعها ما‬

‫أخبرها به محدثها‪ ،‬أغلقت الخط وال تعرف كيف تتصرف‪.‬‬


‫ّ‬
‫همت بالذهاب إلى والدها تخبره باألمر‪ ،‬لكنها عدلت عن‬

‫رأيها‪ ،‬التقطت هاتفها مرة أخرى‪ ،‬تطلب من بيده مساعدتها‪،‬‬

‫بمجرد سماع صوته أخبرته باكية‪:‬‬

‫‪ -‬الحقني يا يوسف‪ ،‬ياسين اتقبض عليه‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫*************‬
‫ً‬
‫أحيانا يحتاج اإلنسان إلى صفعة ليفيق من صدمته‪ ،‬ليعلم‬

‫أن الحياة ال تنتهي عند أول ضربة يتلقاها‪ ،‬بل عليها أن‬

‫تضاعف قوته ليتحمل القادم‪.‬‬

‫(سيرين) خشيت أن تفقد والدتها‪ ،‬هي لم تتقبل وفاة والدها‬

‫بعد‪ ،‬تشعرأنها بطريقة أو بأخرى سبب فيما حل بعائلتها‪.‬‬

‫والدتها هي من تبقت لها بالحياة‪ ،‬تستمد منها قوتها‪ ،‬لكن‬

‫بعدما سقطت أمام عينيها أيقنت أنها يجب أن تقوى هي‬

‫األخرى من أجلها هي وطفليها‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫قضت ليلتها برفقة والدتها باملشفى‪ ،‬وبعدما طمأنها الطبيب‬

‫على حالتها في الصباح سمح لها بالعودة للمنزل شرط‬

‫االلتزام بالراحة التامة والبعد عن اإلرهاق النفس ي‪ .‬عادتا‬

‫للمنزل‪ ،‬أعطت والدتها أدويتها واطمأنت أنها غطت بالنوم‪.‬‬

‫ذهبت لغرفة طفليها تطمئن عليهما بعدما أتت بهما جارتها‪،‬‬

‫جلست جوارهما تطمئنهما على حال جدتهما حين تكرر‬

‫سؤالهما عنها‪ .‬انهمكا في ألعابهما وجلست هي تتصفح‬

‫هاتفها‪ ،‬ترى التعليقات على املنشور الذي نشرته باألمس‬


‫من حسابها الوهمي‪ ،‬أغلب اآلراء تحثها على املض ي ً‬
‫قدما‬

‫بحياتها‪ ،‬يخبرونها أنها الطرف األقوى وبيدها أن تنغص‬

‫حياة طليقها وشقيقتها‪ .‬أعطاها ما قرأت دافع على تنفيذ ما‬

‫‪362‬‬
‫تفكربه‪ ،‬وعليه فقد قررت البحث عن محامي لرفع قضية‬

‫تضمن بها بقاء طفليها معها؛ هذا هو ما يشغل تفكيرها اآلن‪،‬‬

‫والخطوة التالية ستبحث أمر االنتقام ممن دمرا حياتها‪.‬‬

‫انتبهت على صوت جرس املنزل وطرقات عنيفة متتابعة على‬


‫ً‬
‫سريعا لترى من الطارق قبل أن تستيقظ‬ ‫الباب‪ ،‬هرولت‬

‫والدتها‪ ،‬تفاجأت برؤية شقيقتها وزوجها أمامها‪.‬‬

‫وبثبات وقوة وقفت أمامهما تتصنع البرود‪:‬‬

‫‪ -‬نعم‪.‬‬

‫سألتها شقيقتها التي يظهرعلى مالمحها القلق‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اللي حصل‪ ،‬ماما كويسة؟‬

‫‪363‬‬
‫تعجبت من معرفتها باألمرفسألت متهكمة‪:‬‬

‫‪ -‬هو إحنا متر اقبين وال إيه؟‬

‫حاولت شقيقتها أن تدخل املنزل فرفعت يدها تسد عليها‬

‫الطريق‪ ،‬تمنعها من الدخول‪ ،‬بل تحرمه عليها‪ ،‬مما أشعل‬

‫غضب األخرى التي حاولت إبعادها صارخة بها بتبجح‪:‬‬

‫إنت بتمنعيني أدخل البيت؟ أنا عايزة أشوف ماما‪.‬‬


‫‪ِ -‬‬

‫لم تهتم بصياحها‪ ،‬بل نظرت إليها تستخف بغضبها‪ ،‬ثم‬

‫نظرت إلى (عاصم) ال تبالي بغضب شقيقتها املتزايد‪ ،‬تخصه‬

‫هو بالحواردون زوجته‪ ،‬تخبره بنبرة حازمة‪:‬‬

‫‪ -‬خد مراتك وامش ي من هنا‪.‬‬

‫‪364‬‬
‫تبادلت نظراتها بينهما‪ ،‬تنفث بوجههما غضبها الكامن داخلها‬

‫منذ طالقها‪ ،‬تصرخ وقلبها يتألم‪:‬‬

‫‪ -‬انتو السبب في اللي حصل‪.‬‬

‫ترفع سبابتها في وجه شقيقتها‪ ،‬تكاد يدها تصفعها فترتد إلى‬

‫الخلف بصدمة‪:‬‬

‫إنت السبب في موت بابا وتعب ماما‪.‬‬


‫‪ِ -‬‬

‫تصرخ بوجههما‪ ،‬تود قتلهما إن أتتها الفرصة‪:‬‬

‫‪ -‬مش عايزة أشوفكم تاني‪ ،‬اخرجوا من حياتي‪.‬‬

‫تعاود النظرلطليقها‪ ،‬تخبره بتحدي‪ ،‬متمنية صفعه هو‬

‫اآلخر‪:‬‬

‫‪365‬‬
‫‪ -‬وبالنسبة لوالدك‪ ،‬بيني وبينك املحاكم‪ ،‬حضانة الوالد‬

‫من حقي وهاخدها‪.‬‬

‫تركتهما بصدمتهما من رد فعلها وأغلقت الباب بوجههما‪،‬‬

‫وقفت وراءه تلهث‪ ،‬يعلو صدرها ويهبط من فرط انفعالها‪،‬‬

‫تتساقط دموعها‪ ،‬تشعرببعض الراحة داخلها؛ فقد أفرغت‬

‫بعض من الحمل الثقيل بداخلها‪.‬‬

‫أما على الناحية األخرى‪ ،‬فرحلت (أسيل) برفقة (عاصم)‬

‫مرغمة‪ ،‬يشعرهو بالحزن على ما آلت إليه حياته‪ ،‬الندم‬

‫يتسرب إليه وال أمل في عودة‪ ،‬أما هي فظلت تتوعد شقيقتها‬

‫باالنتقام إلهانتها لها‪ ،‬نظراتها الشيطانية تتملكها‪ ،‬وغضبها‬

‫مدمج بحقد متأصل بها‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫*************‬

‫الحياة عبارة عن أحجية‪ ،‬قطع بازل عليك ترتيبها لتتضح‬

‫الصورة أمامك‪ ،‬مو اقف وذكريات عليك معرفتها لتستطيع‬

‫فهم األمور بالصورة الصحيحة‪.‬‬

‫(أمجد) استمع إلى ما حدث باملاض ي من والدته‪ ،‬ويوم أمس‬

‫استمع إلى اتهامات زوج عمته صدفة‪ ،‬وبقي أن يستمع من‬

‫الطرف اآلخر؛ عمته نفسها‪.‬‬

‫وقف أمام الباب‪ ،‬يتردد‪ ،‬يخش ى‪ ،‬لكن ليس أمامه حل آخر‪.‬‬

‫طرق الباب ففتحت له‪ ،‬تنتظرتعريفه بنفسه‪ ،‬فابتسم لها‬

‫يحييها بما يخبرها عن هويته‪:‬‬

‫‪367‬‬
‫‪ -‬ازيك يا عمتي‪.‬‬

‫************‬

‫‪368‬‬
‫)‪(13‬‬

‫الغضب‪..‬‬

‫شعور يجتاح اإلنسان‪ُ ،‬يفقده السيطرة‪ ،‬يعمي القلب‬

‫والبصر‪ ،‬يصبح هو املتحكم واملسيطر‪ُ ،‬يحرك اإلنسان‬

‫كيفما يشاء‪ُ ،‬يجبره على ردود أفعال ال يريدها‪.‬‬

‫هو لم يجعل غضبه يتحكم به ً‬


‫يوما ما‪ ،‬لكن األحداث األخيرة‬

‫أفقدته تحكمه بنفسه‪ ،‬نفث عن غضبه بوجه (هند)‪ ،‬ربما‬

‫هي الشخص الخطأ لكنها هي من فجرت بركانه الخامد‪.‬‬

‫عندما شعربفقدانه السيطرة رحل وتركها‪ ،‬وكان هذا الحل‬

‫األفضل‪ ،‬يتجول بالشوارع منذ األمس‪ ،‬تعصف األسئلة‬

‫‪369‬‬
‫برأسه‪ ،‬يحاول اتخاذ قراروال يستطيع‪ ،‬يجمع القطع لتتضح‬

‫الصورة كاملة أمامه ولكن هناك ما ُينقص اكتمال تلك‬

‫الصورة‪.‬‬

‫قرر أن يبحث من البداية‪ ،‬من حيث والده الذي أنهى كل‬

‫ش يء باملاض ي عندما أخبره أن والدته رحلت وال تريدهم‬


‫ً‬
‫بحياتها‪ ،‬هو لم يستمع إلى حديثهم باملاض ي كامال‪ ،‬وما رآه‬

‫على وجهها منذ يومين ال يدل على أن تلك املرأة تركت‬

‫أطفالها بكامل إرادتها‪.‬‬

‫توجه إلى منزل والده ينوي معرفة الحقيقة كاملة‪ ،‬ولن يقتنع‬

‫بأي حديث سواها‪ .‬فتح الباب ليقابل شقيقته‪ ،‬تندفع نحوه‬

‫تعانقه‪ ،‬يبدو على وجهها القلق‪ ،‬تخبره بتنهيدة اطمئنان‪:‬‬

‫‪370‬‬
‫‪ -‬الحمد هلل إنك كويس‪ ،‬قلقتنا عليك‪.‬‬

‫أبعدها عنه برفق‪ ،‬يستفسرعن سبب قلقها‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اللي حصل؟ أنا كويس‪.‬‬

‫احتضنته مرة أخرى‪:‬‬

‫‪ -‬قافل تليفونك من امبارح‪ ،‬هند كلمتني ومش عارفين‬

‫نوصلك‪ ،‬طمنها دي هتموت من القلق عليك‪.‬‬

‫ربت على وجنتها يهديها ابتسامة مطمئنة‪:‬‬

‫‪ -‬كلميها طمنيها‪ ،‬تليفوني فصل شحن‪.‬‬

‫جال ببصره في أنحاء املنزل يسألها‪:‬‬

‫‪ -‬بابا فين؟‬

‫‪371‬‬
‫أخبرته بوجوده بغرفته‪ ،‬ومالحظاتها لتغيرحاله هو اآلخر‪.‬‬

‫عمد (أدهم) إلى تجاهل مالحظتها بشأنه‪ ،‬توجه إلى غرفة‬

‫والده دون أن يضيف كلمة أخرى‪ ،‬طرق الباب و انتظردعوة‬

‫والده للدخول‪.‬‬

‫نظرإليه والده ينتظرمنه أن يبدأ بالحديث‪ُ ،‬‬


‫تجهم مالمحه‬

‫أنبأه أن األمرليس بخير‪ ،‬وعندما طال انتظاره أخبره بتهكم‪:‬‬

‫‪ -‬إنت جاي تتأمل فيا‪ ،‬وحشتك يا أدهم وال إيه!‬

‫وتهكمه لم يرسم حتى ابتسامة ساخرة على وجه اآلخر‪ ،‬ذاك‬

‫الذي اقترب منه والغضب يحتل مالمحه‪ ،‬يسأله بنبرة توحي‬

‫بأنه ال يريد سوى الحقيقة‪:‬‬

‫‪372‬‬
‫‪ -‬أمي سابتنا ليه زمان؟‬
‫ُ‬
‫صدم والده‪ ،‬فهو لم يتوقع أن يكون هذا سبب مجيئه‪ ،‬لم‬

‫يتوقع أن ُيذكراسمها بعد كل تلك السنوات‪ ،‬عندما طال‬

‫صمته سأله (أدهم) مرة أخرى‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اللي حصل بينكم زمان؟‬

‫وقبل أن يجيبه رفع سبابته بوجهه يخبره بحزم‪:‬‬

‫‪ -‬قبل ما تجاوبني‪ ،‬أنا عايزالحقيقة كاملة‪.‬‬

‫ووالده لم يعطه الجواب‪ ،‬بل سأله سؤال آخر‪:‬‬

‫‪ -‬إنت شفتها يوم خطوبة كرم؟ سمعت كالمنا؟‬

‫‪373‬‬
‫مالمح ابنه كانت الجواب الكافي لسؤاله‪ ،‬هزرأسه بتفهم‪،‬‬

‫تتشابك يداه خلف ظهره‪ ،‬ثم رفع رأسه يقذف كلماته‬

‫بوجهه‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاينة‪ ،‬عرفت راجل من ور ايا؛ زميلها في املدرسة‬

‫اللي كانت بتشتغل فيها‪.‬‬

‫ارتد للخلف وكلمات والده تنهال عليه كالسهام الحارقة‪:‬‬

‫‪ -‬طلقتها وحرمتها منكم‪ ،‬هي مفكرتش فيكم قبل ما تعمل‬

‫كده يبقى متستاهلش وجودكم معاها‪.‬‬

‫يستمع لحديث والده وعقله ال يستوعبه‪ ،‬يهزرأسه ال‬

‫يصدقه‪ ،‬يرفض أن تكون هذه الحقيقة‪ .‬جلس على أقرب‬

‫‪374‬‬
‫مقعد‪ ،‬يضع رأسه بين كفيه‪ ،‬شعرباقتراب والده منه‪،‬‬

‫استمراره بالحديث‪ ،‬استمراره بإخباره ما يؤمله‪ ،‬لكن التالي‬

‫لم يكن يخصه‪ ،‬بل كان قرار سيؤلم شقيقه‪:‬‬

‫‪ -‬أخوك الزم يسيب البنت اللي ارتبط بها‪.‬‬


‫ً‬
‫إيضاحا‪ ،‬ال يعلم ما عالقة ما‬ ‫رفع رأسه لوالده يطلب‬

‫يتحدثون بشأنه بزيجة شقيقه‪ ،‬لكن والده أوضح له‬

‫الصورة‪:‬‬

‫‪ -‬البنت دي تبقى جارتها‪ ،‬مش بعيد تكون هي اللي حطتها‬

‫في طريق كرم‪ ،‬أنا من البداية مكنتش حابب الجوازة دي‬

‫لوال إصرارأخوك‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫لم يجد ما يجيبه‪ ،‬هو أكبرأشقائه‪ ،‬أكثرمن يتذكروالدته‪،‬‬

‫يتذكرابتسامة تناوش وجهها بصحبتهم‪ ،‬ابتسامة تتالش ى‬


‫ً‬
‫شاهدا على شجاراتهما‬ ‫بمجرد حضور والده‪ ،‬هو من كان‬
‫ً‬
‫حاضرا بآخرها‪ .‬اعتاد منذ صغره على‬ ‫الدائمة‪ ،‬وهو من كان‬

‫التحمل‪ ،‬قرر أن يكون عوض شقيقيه عن غيابها‪ ،‬واآلن‬

‫والده يخبره بضرورة جرح قلب شقيقه من أجل طمس‬

‫املاض ي بعدما حاول الظهور‪ .‬وقف يخبروالده بقراره الذي‬

‫لن يقبل جدال فيه‪:‬‬

‫‪ -‬سعادة كرم مش هتكون التمن‪ ،‬ولو حكمت هقول لهم‬

‫الحقيقة وساعتها هما يقرروا‪.‬‬

‫التفت ينوي املغادرة‪ ،‬لكن والده جذبه من ذراعه يسأله‪:‬‬

‫‪376‬‬
‫‪ -‬إنت بتقول إيه؟ إنت عارف معنى كالمك دا إيه؟‬

‫نظرإلى عين والده بتحدي‪:‬‬

‫‪ -‬معناه إننا مبقيناش صغيرين‪ ،‬وكل واحد حرفي قراره‪،‬‬

‫لو حاولت تبوظ جوازة كرم أنا هحكيله هو وريم على‬

‫كل حاجة‪.‬‬

‫رحل قبل أن يمنعه والده مرة أخرى‪ ،‬رحل بغضبه الذي أتى‬
‫به‪ ،‬رحل ً‬
‫نادما على حديث لم يشعره بالراحة بل زاد من أمله‪.‬‬

‫************‬

‫أنا جزء من املاض ي‪ ،‬جئت أقف ببابك‪ ،‬أحمل على عاتقي‬

‫كل أالمك ولحظات جرحك‪ ،‬ربما بصحبتي بصيص أمل نحو‬

‫‪377‬‬
‫حياة جديدة‪ ،‬برغم ضآلته لكنه من املمكن أن يكون طوق‬

‫نجاتك‪ ،‬ربما يكون ثواب ما تحملته من ظلم طوال حياتك‪،‬‬

‫هل ستقبل بي؟ أم أعود أدراجي خائب الرجا؟‬

‫يناديها بلقب لم تسمعه منذ سنوات؛ "عمتي"‪ ،‬ابن شقيقها‬

‫الوحيد‪ ،‬من تخلى عنها وقت حاجتها إليه‪ .‬تضاربت مشاعرها‬

‫وهي تراه أمامها‪ ،‬ترى به خذالن شقيقها لها‪ ،‬وبداخلها‬

‫عاطفة تجاهه‪ ،‬تريد احتضانه‪ ،‬فطاملا عشقته في صغره‪،‬‬

‫تعلم أنه كان الصديق املقرب البنها (كرم)‪ ،‬وربما زيارته هي‬

‫بصيص األمل لتستعيد ما فقدته بماضيها‪ .‬تحاول عناقه‪،‬‬


‫ً‬
‫لكن فعل شقيقها يقف حائال‪ ،‬يمنعها االنجراف وراء‬

‫عاطفتها‪ ،‬خاصة أنها ال تعلم سبب زيارته لها‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫لن ترده‪ ،‬ستستمع إلى حديثه وبعدها ستتخذ قرارها‪ .‬وقفت‬
‫ً‬
‫جانبا وبيدها أشارت له للدخول‪ ،‬أغلقت الباب وتقدمته إلى‬

‫غرفة املعيشة‪ ،‬دعته للجلوس وجلست قبالته‪ ،‬تحاول‬

‫استحضارقوى واهنة أنهكها طليقها بمواجهتهم األخيرة‪.‬‬

‫لم تتحدث بش يء‪ ،‬فقط الصمت هو ما يسود جلستهم‪،‬‬

‫صمت قطعه (أمجد) الذي أجلى صوته يسألها‪:‬‬

‫‪ -‬أخبارك إيه يا عمتي؟‬

‫ارتسمت ابتسامة هازئة على طرف شفتيها‪ ،‬تسأله متجاهلة‬

‫إجابة سؤاله‪:‬‬

‫‪ -‬جاي ليه يا أمجد؟‬

‫‪379‬‬
‫تسأله بتهكم سؤال آخر‪:‬‬

‫‪ -‬مش أمجد بردو؟ وال عصام خلف حد تاني؟‬

‫فطن إلى سخرية سؤالها وال يلومها‪ ،‬فهو لم يتوقع أن تقابله‬

‫بغيرذلك‪ ،‬ابتسم إليها يهزرأسه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا أمجد يا عمتي‪ ،‬وفعال بابا ربنا رزقه بولد تاني؛ مازن‪،‬‬

‫ماما كانت حامل فيه وقت اللي حصل زمان‪.‬‬

‫نظرت إليه والحزن يمأل صفحة وجهها‪ ،‬يذكرها بما حدث‬

‫باملاض ي‪ُ ،‬يلمح لها أنه يعرفه‪.‬‬

‫قام من جلسته ليجلس بجوارها‪ ،‬يمسك يدها يخبرها بنبرة‬

‫حانية‪:‬‬

‫‪380‬‬
‫‪ -‬أنا كنت صغيروقتها ومش فاكرتفاصيل‪ ،‬بس ماما دايما‬

‫بتحكيلي إنك كنتي بتحبيني‪.‬‬

‫يتردد صوته‪ ،‬تتلجلج الكلمات على طرف لسانه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش عارف أبدأ كالمي منين‪ ،‬بس بابا هو السبب إني‬

‫أجيلك‪.‬‬

‫أظهرت تعجبها و انتظرت أن يكمل لتتضح الصورة لها‪.‬‬

‫‪ -‬بابا حكالي كل حاجة من فترة‪ ،‬وطلب مني أدور عليكي‬

‫عشان عايزيشوفك‪ ،‬عايزك تسامحيه‪ .‬دورت عليكي‬

‫سنين موصلتش لحاجة‪ ،‬لحد ما سمعت الحواربينك‬

‫وبين عمي مراد يوم خطوبة كرم‪.‬‬

‫‪381‬‬
‫اختنق صوتها‪ ،‬تريد البكاء‪ ،‬تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬بيدور عليا؟ لسه فاكرإن له أخت؟ أخت رماها من‬

‫سنين ومفكرش يقف جنبها في أكتروقت كانت‬

‫محتاجاه؟‬

‫هي محقة‪ ،‬بالرغم من ندم والده لكنه تأخر ً‬


‫كثيرا‪ ،‬لم يجد‬

‫أمامه سوى أن يخبرها بما حدث لوالده ربما تسامحه‪،‬‬

‫أخبرها بخسارته أمواله ومرضه‪ ،‬رغبته الدائمة برؤيتها والتي‬

‫ال يتمنى سواها طوال السنوات املاضية‪.‬‬

‫شعرت بالشفقة تجاهه‪ ،‬ش يء ما داخلها يخبرها أن ما حدث‬

‫له هو عقابه‪ ،‬ويكفي أن ناله بالحياة‪ .‬كفكفت دموعها‬

‫‪382‬‬
‫املنسابة على وجنتيها بعدما استمعت إلى حديث (أمجد)‪،‬‬

‫أخبرته بوهن ورغبة في طي صفحة املاض ي‪:‬‬

‫‪ -‬مسمحاه‪ ،‬قول له إني مسمحاه‪.‬‬

‫اقترب أكثريتوسلها‪:‬‬

‫‪ -‬بس هو عايزيشوفك‪.‬‬

‫هزت رأسها ترفض طلبه‪:‬‬

‫‪ -‬مش هقدر‪ ،‬لو شفته مش هقدرأسامح‪ ،‬هفتكرتخليه‬

‫عني ومش هقدرأغفرله‪.‬‬


‫وقفت في رغبة بإنهاء تلك الزيارة التي أثقلت قلبها ً‬
‫وجعا‪:‬‬

‫‪383‬‬
‫‪ -‬السبب اللي جيت عشانه خدته‪ ،‬زمان أبوك اتخلى عني‪،‬‬

‫دلوقتي أنا اللي مش عايزة أي حاجة تفكرني به‪ ،‬إنت‬

‫جيت تسمع مني كلمة سماح وخدتها‪ ،‬اسمع مني بقى‬

‫اللي جاي؛ انس ى إن لك عمة و اقفل صفحة املاض ي‬

‫على كده‪.‬‬

‫قطعت عليه كل السبل بحديث آخرفلم يجد أمامه بد سوى‬

‫ل‬ ‫ً‬
‫الرحيل‪ ،‬خرج مغلقا باب املنز خلفه ليتفاجأ بمن تقف‬

‫أمامه باكية‪ ،‬تناوله ورقة وتخبره في عجالة‪:‬‬

‫‪ -‬أنا سمعت كالمك مع ماما‪ ،‬مفيش وقت أشرحلك أنا‬

‫مين‪ ،‬الورقة دي فيها رقمي‪ ،‬كلمني و أنا هفهمك كل‬

‫حاجة‪.‬‬

‫‪384‬‬
‫أنهت جملتها ودخلت املنزل بهدوء حتى ال تشعربها والدتها‪،‬‬

‫وتركته هو لحيرته عن هويتها‪ ،‬لكن رن بأذنه كلمة "ماما" التي‬

‫تفوهت بها‪ ،‬فخمن أن له ابنة عمة ال يعلم أحد عن وجودها‪.‬‬

‫**********‬

‫الشرف‪..‬‬

‫األمانة‪..‬‬

‫األخالق‪..‬‬
‫ُ‬
‫فضائل نزعت منه‪ ،‬وجد نفسه عارًيا دونها‪ ،‬فجأة وجد‬

‫نفسه بال ضميروال أخالق‪ ،‬يتاجر بما هو ممنوع‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫حدث األمربلمح البصر‪ ،‬لحظة اقتحام الشرطة للصيدلية‬

‫التي يعمل بها‪ ،‬تفتيش املكان للبحث عن أشرطة أدوية‬

‫مخدرة ُيمنع تداولها‪ ،‬وبعد الكثيرمن البحث لم يعثروا على‬

‫ش يء‪ .‬اقترب مالك الصيدلية من الشرطي يسأله عن األمر‪،‬‬

‫يخبره أن شرف املهنة يمنعه مثل هذه األفعال‪ ،‬لكن هذا‬

‫األخير لم يعطه بال‪ ،‬بل اقترب من حقيبة صغيرة موضوعة‬

‫على أحد املقاعد يسأل عن هوية صاحبها‪:‬‬

‫‪ -‬بتاع مين الشنطة دي؟‬

‫أخبره (ياسين) أنها تخصه‪ ،‬تحوي أور اقه الخاصة وجهازه‬

‫اللوحي‪ .‬لم يكمل حديثه ليجد الشرطي يفتحها‪ ،‬يفتشها‪،‬‬

‫‪386‬‬
‫تلمع عيناه بظفر؛ لقد وجد مبتغاه‪ ،‬لتعلو ابتسامته وجهه‬
‫ً‬
‫قائال‪:‬‬

‫‪ -‬هللا هللا‪.‬‬

‫ً‬
‫متهكما‪:‬‬ ‫ينظرإلى مالك املكان يسأله‬

‫‪ -‬إيه أخبارشرف املهنة يا… يا دكتور‪.‬‬

‫ً‬
‫متعجبا‪،‬‬ ‫ً‬
‫مصدوما‪،‬‬ ‫لينظراألخيرإلى (ياسين) الذي وقف‬

‫يقترب بحذرمن الشرطي ليرى ما تحويه يداه‪ ،‬فيتفاجأ‬

‫بأشرطة "‪ "tramajack‬املمنوع تداولها‪ ،‬واألدهى أن الكمية‬

‫كبيرة‪.‬‬

‫‪387‬‬
‫نظرإليه بذهول‪ ،‬تحتل الصدمة مالمحه‪ ،‬يهزرأسه ينفي‬

‫معرفته بها أو كيف أتت إلى حقيبته‪:‬‬

‫‪ -‬أنا معرفش حاجة عن الشرايط دي‪ ،‬مش بتاعتي‪.‬‬

‫ينظرإلى الوجوه حوله‪ ،‬يطلب عون ال يجده‪ ،‬ال يجد سوى‬

‫نظرات اإلتهام من الشرطي ورب عمله الذي وثق به‪ .‬فاق من‬

‫صدمته على صوت الشرطي يلقي أوامره‪:‬‬

‫‪ -‬اقبضوا عليهم وشمعوا الصيدلية‪.‬‬

‫لم يمروقت كثيرحتى وجد نفسه داخل قسم الشرطة‪،‬‬

‫متهم‪ ،‬مكبل باألصفاد‪ ،‬يلقى معاملة املجرمين‪ .‬لم يجد أمامه‬

‫‪388‬‬
‫سوى مهاتفة شقيقته‪ ،‬يخبرها باملوضوع‪ ،‬يطلب منها أن‬

‫تنقذه مما هو فيه‪.‬‬

‫نصف ساعة أخرى مرت بعد أن هاتفها‪ ،‬ثقيلة على قلبه‪،‬‬

‫حتى رأى إقبال ابن عمه عليه وصديقه املحامي ووالده الذي‬

‫هرول يحتضنه ويسأله عما حدث‪ .‬قص عليهم األمرفي‬

‫عجالة‪ ،‬فدخل (أدهم) إلى مكتب الشرطي بصفته املحامي‬

‫الخاص به ليفهم منه أبعاد القضية‪ ،‬وبعد قليل خرج‬

‫يخبرهم بأسف‪:‬‬

‫‪ -‬هيتعرض على النيابة بكره‪ ،‬لألسف هيبات في الحجز‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫زفر(يوسف) بضيق‪ ،‬وربت (أدهم) على كتف (ياسين)‬

‫يطمئنه‪:‬‬

‫‪ -‬متقلقش‪ ،‬بس صارحني‪ ،‬الحاجة دي بتاعتك؟‬

‫واألخيرينفي التهمة عنه‪ ،‬يقسم على ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬وهللا مش حاجتي‪ ،‬معرفش وصلت الشنطة ازاي أصال‪.‬‬

‫حاول (يوسف) تهدئته‪ ،‬يخبره أنه لن يتخلى عنه‪:‬‬

‫‪ -‬متقلقش يا ياسين‪ ،‬مش هسيبك‪ ،‬كل حاجة هتبقى‬

‫تمام إن شاء هللا‪.‬‬

‫وفي الحقيقة القلق ازداد بقلبه‪ ،‬فهو مجبرعلى أن يبيت‬

‫ليلته بالحجزوسط القتلة واملجرمين‪ ،‬ورب عمله يقذفه‬

‫‪390‬‬
‫بنظرات اإلتهام بكل لحظة‪ ،‬ال يصدقه برغم قسمه املستمر‬

‫أنه ال يعلم ش يء عما حدث‪ ،‬فلم يملك سوى االنتظار‪.‬‬

‫أما (يوسف) فلم يبارح سيارته أمام قسم الشرطة‪ ،‬يجلس‬

‫برفقته (أدهم) والسيد (حسن) الذي أخذ يدعو هللا أن‬

‫ينقذ ابنه من هذا املأزق‪ .‬شعر(يوسف) باهتزازهاتفه بجيب‬

‫سترته‪ ،‬التقطه ليرى أن (سارة) هي املتصلة‪ ،‬ترجل من‬

‫السيارة يجيبها‪ ،‬يستمع إلى بكائها‪ ،‬تأتيه شهقاتها‪ ،‬يستشعر‬

‫خوفها على شقيقها‪ ،‬حاول طمأنتها‪:‬‬

‫‪ -‬اهدي يا سارة‪ ،‬هيتعرض بكره على النيابة وإن شاء هللا‬

‫ييجي معانا عالبيت‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫يستمع إلى توسالتها أن يفعل املستحيل إلخراجه‪ ،‬تطلب منه‬

‫أن يأتي ويأخذها لرؤيته‪ ،‬فيخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬مش هينفع دلوقتي‪ ،‬خليكي مع ماما ومتقلقيش أنا معاه‬

‫ومش هسيبه‪.‬‬

‫وفي الصباح خابت أماله‪ ،‬فقد أمروكيل النيابة بحبسه على‬

‫ذمة القضية حتى انتهاء التحقيق‪ .‬انزوى (يوسف) بصديقه‬


‫ً‬
‫بعيدا عن السيد (حسن) يسأله عن تطورات الوضع‪،‬‬

‫فأوضح له (أدهم) الصورة كاملة‪:‬‬

‫‪392‬‬
‫‪ -‬الحقيقة الكمية مش قليلة‪ ،‬دي قضية اتجار‪ ،‬يعني‬

‫جناية‪ .‬الشنطة بتاعته‪ ،‬وهو قال إن صاحب الصيدلية‬

‫ملوش عالقة باملوضوع‪ ،‬يعني هو البس التهمة لوحده‪.‬‬

‫الحظ (أدهم) الضيق الذي احتل مالمح وجه صديقه‪ ،‬ربت‬

‫على كتفه يكمل حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬إنت مش و اثق في صاحبك وال إيه! إن شاء هللا هطلعه‬

‫منها‪ ،‬بس إنت متأكد إنه ملوش في السكة دي؟‬

‫أجابه (يوسف) بحيرة‪:‬‬

‫‪ -‬مش عارف‪ ،‬إنت عارف إنهم بعيد عن العيلة من زمان‪،‬‬

‫بس معتقدش إنه له في السكة دي‪.‬‬

‫‪393‬‬
‫ً‬
‫فكرقليال قبل أن يكمل‪:‬‬

‫‪ -‬ملا دخلت بيتهم وشفت أستاذ حسن وتربيته لهم اتأكدت‬

‫إنه كان محافظ عليهم‪ ،‬مستحيل ياسين يعمل كده‪.‬‬

‫ضجت رأسه باألفكار‪ ،‬داهمه صداع بسبب اإلرهاق وقلة‬


‫النوم‪ ،‬وهو ً‬
‫حاليا ال يملك ما يفعله‪ ،‬فآثرالعودة إلى املنزل‬

‫لطمئنة (سارة) ونيل قسط من الراحة‪.‬‬

‫***********‬
‫ً‬
‫مرحبا بك على أعتاب حياتك الجديدة‪ ،‬هنا عليك بتراملاض ي‬

‫بآالمه‪ ،‬أن تتولد داخلك الرغبة في الشفاء من طعناته‪ ،‬وأن‬

‫تقتنع بما أنت مقدم عليه‪.‬‬

‫‪394‬‬
‫(سيرين) أيقنت أن عليها البدء من جديد‪ ،‬تخطي آالمها‬

‫وأوجاعها‪ ،‬وكان أول طريقها هو الصراخ بوجه من أذوها‬


‫ً‬
‫يوما‪ ،‬أخرجت الغضب الكامن داخلها‪ ،‬بات عليها االلتفات‬

‫لطفليها ووالدتها‪ ،‬أن تقوى من أجلهم‪ .‬خطوتها القادمة هي‬

‫البحث عن عمل‪ ،‬ليس من أجل إثبات شعارال " ‪strong‬‬

‫‪ ،"independent woman‬لكن ألجل أن تثبت لنفسها أنها‬

‫ما زالت تحيا‪ ..‬تتنفس‪ ،‬ولم تتوقف حياتها ملجرد عقبة‬

‫داهمت طريقها‪ .‬تعلم أن األمرلن يكون باليسيرمع قلة‬

‫الخبرات التي تمتلكها‪ ،‬لكنها لن تيأس‪.‬‬

‫‪395‬‬
‫تجلس بفراشها تتصفح حاسوبها‪ ،‬تمربنظرها على إعالنات‬

‫الوظائف‪ ،‬تدون أرقام هواتف تلك التي تناسبها‪ ،‬حين‬

‫استمعت إلى سقطة قوية تالها صراخ طفلها‪.‬‬

‫هرولت لترى ما به‪ ،‬وجدته يجلس على األرض يمسك بكاحله‬


‫ً‬
‫ويتلوى أملا‪ ،‬تجلس والدتها بجواره تتفحصه‪ ،‬وضعت يدها‬

‫عليه فازداد صراخه‪ .‬عادت إلى غرفتها تبدل مالبسها تنوي‬

‫اصطحابه إلى املشفى‪ ،‬توجهت بالحديث لوالدتها والقلق‬

‫ينهشها على صغيرها‪:‬‬

‫‪ -‬هاخده أوديه املستشفى‪.‬‬

‫ووالدتها تقلق هي األخرى‪:‬‬

‫‪396‬‬
‫‪ -‬أجي معاكي؟‬

‫تجيبها وهي تغادراملنزل‪:‬‬

‫‪ -‬ال خليكي مع كارما‪ ،‬هطمنك في التليفون‪.‬‬

‫أمام املنزل عرض عليها أحد جيرانها الذي يمتلك سيارة أجرة‬

‫إيصالها فلم تمانع‪ ،‬وفي غضون دقائق كانت تدلف إلى‬

‫املشفى األقرب ملنزلها‪ ،‬تقابل إحدى املمرضات تخبرها بحالة‬

‫طفلها‪ ،‬وتلك األخيرة سارعت بطلب طبيب عظام ليراه‪.‬‬

‫جلست بغرفة الفحص تكفكف دموع طفلها‪ ،‬تنتظر‬

‫الطبيب‪ ،‬والذي تفاجأت برؤيته‪ ،‬شخص مرعلى رؤيتها إياه‬

‫‪397‬‬
‫ما يقارب العشرسنوات‪ ،‬بلقاء جمعهما ظنت أنه األخير‪،‬‬

‫ولكن يبدو أن القدرله شأن آخر‪.‬‬


‫ُ‬
‫صدم هو اآلخربرؤيتها‪ ،‬ينطق كل منهما اسم اآلخربدهشة‪.‬‬

‫‪ -‬سيرين!‬

‫‪ -‬سليم!‬

‫وكانت هي أول من استفاقت من دهشتها‪ ،‬تشيرإلى طفلها‬

‫الباكي‪ ،‬تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬معاذ تقريبا رجله اتكسرت‪.‬‬

‫تذكرسبب قدومه‪ ،‬وبعملية اقترب من الولد يفحصه‪،‬‬

‫ويدور بعقله ذكرى آخرلقاء بينهما‪.‬‬

‫‪398‬‬
‫*************‬

‫بعد يوم شاق ال يحتاج اإلنسان سوى الراحة‪ ،‬أن يريح عقله‬

‫من إرهاقه وكثرة تفكيره طوال اليوم‪.‬‬

‫كان أقص ى طموح (يوسف) أن يحتضن جسده الفراش‪،‬‬

‫لكنه كان يخش ى العودة‪ ،‬يخش ى إبالغ (سارة) بوضع‬

‫شقيقها‪ ،‬وما هون عليه األمرهو تواجد السيد (حسن) معه‬

‫والذي سيخفف وقع الخبرعليها‪ .‬عاد بصحبته إلى منزله‬

‫الصطحابها حيث كانت تنتظره برفقة والدته‪ ،‬تغضن جبينه‬

‫حين وجد عمه و(فارس) بانتظاره‪ ،‬يخبرانه بعلمهم باألمر‬

‫ورغبتهم باالطمئنان على فرد العائلة املتورط بفعلة من‬

‫شأنها تدميرسمعتهم‪.‬‬

‫‪399‬‬
‫لم يكن لديه القوة الكافية لجدالهم‪ ،‬تحجج برغبته بإجراء‬

‫مكاملة عاجلة‪.‬‬

‫بعد مغادرته وقف عمه ينوي الرحيل‪ ،‬تتبعه (فارس) الذي‬

‫بمجرد أن وصل إلى باب املنزل طلب من والده أن يسبقه‪،‬‬


‫فلديه ما يريد إخبار(يوسف) بشأنه‪ّ ،‬‬
‫غيروجهته يقصد‬

‫غرفة مكتب ابن العم الذي أنهى مكاملته للتو‪ ،‬اقترب منه‬
‫يخبره بصوت بدا ً‬
‫همسا‪ ،‬لكنه بالعلو الذي يرغب به هو‪،‬‬

‫يهنئه بنجاح مخططه‪ ،‬يبتسم له تحية النتصاره‪:‬‬

‫‪ -‬ال بر افو عليك يا يوسف لعبتها صح‪.‬‬

‫و ابن العم ال يفهم مقصده‪ ،‬زفربتعب‪:‬‬

‫‪400‬‬
‫‪ -‬هات اللي عندك يا فارس‪.‬‬

‫‪ -‬تتجوز سارة وتدخل ياسين السجن‪ ،‬خطة في منتهى الذكاء‪.‬‬

‫لم يفهم ما يتفوه به ذلك األحمق‪ ،‬وال يعلم من أين أتى‬

‫بحديثه هذا‪ ،‬كان على وشك ردعه عن تفوهاته حين استمع‬

‫إلى صوت ارتطام أمام الباب الذي كان يوليه ظهره‪ ،‬استدار‬
‫ً‬
‫سريعا ليرى (سارة) تفترش األرض فاقدة للوعي‪.‬‬

‫**********‬

‫‪401‬‬
‫)‪(14‬‬
‫ً‬
‫مرحبا بك يا عزيزي بمسرح الحياة املليء باملفاجآت‪ ،‬كجراب‬

‫حاوي تحصل منه على ش يء جديد كلما مددت يدك داخله‪.‬‬

‫كان يبحث عن عمته ليجدها صدفة‪ ،‬ذهب وتحدث إليها‬

‫وتفاجأ أن لها ابنة‪ .‬أخبروالدته بما حدث أثناء الزيارة‬


‫ُ‬
‫لتصدم هي األخرى‪ ،‬فلم تظن أنها قد تكون تزوجت مرة‬

‫أخرى‪.‬‬

‫قرر أن ال يسلك طريق الشك‪ ،‬خاصة أن ما يفصله عن‬

‫الحقيقة هي مكاملة هاتفية واحدة‪ .‬تناول هاتفه يطلب الرقم‬

‫املدون بالورقة‪ ،‬أخبرها عن هويته فوجدها ترد عليه كما لو‬

‫‪402‬‬
‫أنها تخاطب صديقة لها‪ ،‬فطن أن والدتها بجوارها فأنهى‬

‫املكاملة‪ .‬لم تمردقيقة حتى أتته رسالة على هاتفه على أحد‬

‫التطبيقات‪ ،‬رسالة تتضمن صورة لبطاقة هويتها التي تحمل‬


‫ً‬
‫ى‬
‫اسمها كامال؛ (بيان مراد الزهير )‪ ،‬تبعتها رسالة أخرى‬

‫نصية‪.‬‬

‫"مش هينفع نتكلم فون‪ ،‬أنا بعتلك صورة البطاقة قبل أي‬

‫كالم‪ ،‬لو معندكش مانع نتقابل بكره ونتكلم‪".‬‬

‫اآلن ال مكان لشكوك والدته؛ فعمته لم تتزوج مرة أخرى‪.‬‬

‫ازدادت رغبته ملالقاتها والتحدث معها‪ ،‬أجاب رسالتها‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫"أنا مضطرأسافرعندي شغل يومين‪ ،‬ملا أرجع هكلمك‬

‫ونظبط ميعاد"‬

‫و افقته و انتهى الحديث بينهما على ذلك‪.‬‬

‫أخذ هاتفه ُيري والدته صورة البطاقة‪ ،‬يخبرها أنها شقيقة‬

‫(أدهم) وأخوته‪ ،‬وأن عمته لم تتزوج بآخر‪.‬‬


‫ً‬
‫استحوذ املوضوع على تفكيره‪ ،‬ذهب لغرفته متجاهال‬

‫الورقة املدون بها رقم هاتف (بيان) على املنضدة‪ ،‬ليحصل‬

‫عليها من استمع إلى حواره مع والدته منذ البداية‪.‬‬

‫************‬

‫الصمت‪ ..‬التجاهل‪..‬‬

‫‪404‬‬
‫دروب نسلكها حين ال نجد ملجأ سواها‪ ،‬نتخذهم حين يكون‬

‫الحديث ال طائل منه ودون فائدة‪.‬‬

‫هل يفيد حديث ينفي ما سمعته أذنك أو ما رأته عينك! تلك‬

‫الحقائق التي رتبها عقلك لتصل لنتيجة واحدة؛ أنت مغفل‬

‫يا عزيزي‪ ،‬أحمق‪ ،‬تظن أنك قادر على خوض املخاطرلتنال‬


‫ً‬
‫حقك غافال عن أنك تحيا بغابة يحاوطك ضواري ال أمان‬

‫لهم‪ ،‬ضواري تبغي فرض سيطرتها الدائمة حتى وإن اضطرت‬

‫أن تنهشك‪.‬‬
‫خطأك األول هو أنك آمنت لهم‪ ،‬ملن كنت ً‬
‫بعيدا عنهم طوال‬

‫حياتك‪ ،‬و أنت بنظرهم لست سوى دخيل أراد االستيالء على‬

‫ما يظنونه حق مكتسب لهم‪.‬‬

‫‪405‬‬
‫مريومان‪ ،‬يعمل عقلها‪ ،‬يفند الحقائق‪ ،‬والنتيجة التي تصل‬
‫إليها بالنهاية أن تضحيتها كانت ً‬
‫هباء‪ .‬ظنت أن ارتباطها‬

‫بـ(يوسف) هو ضمان لحقها وشقيقها‪ ،‬لكنها على ما يبدو‬

‫كانت مخطئة؛ علمت أن زواجه منها لم يكون سوى خطوة‬

‫لضمان بقاء حقها بحوزته‪ ،‬لكنها غضت الطرف‪ ،‬تنازلت‬

‫طاملا أن شقيقها سيحصل على حقه‪ ،‬لكنه اآلن بخطر‪ ،‬لم‬

‫يأت ببالها أن تكون الخطوة الثانية هي التخلص منه‬

‫و إبعاده عن طريقهم‪.‬‬

‫التضحية كانت دون ٍ‬


‫داع‪ ،‬وأضحت هي الخاسرة الوحيدة‪،‬‬

‫وأول ما خسرته هو قلبها الذي شذ دون علمها‪ ،‬خدعها‬

‫لينبض ملن ظنته مصدرأمان لها‪ ،‬لتفيق على حقيقة أنه ال‬

‫‪406‬‬
‫يختلف عن من نشأ بينهم‪ ،‬وأن مصلحته الشخصية تأتي‬

‫باملرتبة األولى‪.‬‬

‫منذ سماعها للحديث الذي داربين (يوسف) و(فارس) وهي‬

‫تتجاهله‪ ،‬أفاقت يومها ليكون وجهه أول ما تطالعه‪،‬‬

‫فأبعدت نظرها تنأى عنه‪ ،‬تسمح لدموعها أن تسيل دون أن‬

‫ترفع يدها لتزيلها‪ ،‬والجميع فسرذلك أنه حزن على ما أصاب‬

‫شقيقها‪ ،‬لكن وحده يعلم سبب ذلك‪ ،‬فخطة (فارس) قد‬

‫أتت ثمارها‪.‬‬

‫***********‬

‫‪407‬‬
‫الصمت في بعض األحيان هو أبلغ سالح للدفاع عن النفس‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫لكن أحيانا يظنه البعض اعتراف بالجرم املتهم بارتكابه‪.‬‬

‫نظرة عينيها حملت له كل االتهامات‪ ،‬أصبح هو الجاني‬

‫الوحيد بنظرها‪ ،‬هو من دمرها وشقيقها‪ ،‬وإن أقسم فلن‬

‫تصدقه‪ .‬سلك درب الصمت‪ ،‬يعلم أن الكالم لن يؤتي ثماره‬

‫فترك األمرلألفعال لتثبت نواياه‪.‬‬

‫بعد أن رآها فاقدة للوعي علم أنها قد استمعت لحديث‬

‫(فارس) ولم تتحمل الصدمة فقرر عقلها الهرب بها عن‬

‫و اقع أليم تحياه‪ .‬يومها حملها يهرول بها إلى غرفته‪ ،‬تجاهل‬

‫نظرة (فارس) و ابتسامة االنتصارالتي علت شفتيه‪ ،‬تركه‬

‫يرحل دون أن يفعل له ش يء؛ فال يقلقه سوى (سارة)‪ .‬لحقت‬

‫‪408‬‬
‫به والدته ووالدها‪ ،‬يتساءالن عما حدث لها وال يجد ما‬
‫ً‬
‫وأخيرا استجابت له‪ ،‬فتحت‬ ‫يجيبهما به‪ ،‬حاول أن يفيقها‪،‬‬

‫عينيها لتبعدهما فور أن أبصرت وجهه‪ ،‬يسألها إن كانت‬

‫بخيروال تجيبه‪ ،‬فقط تبكي وهو عاجزعن محو دموعها؛ فهو‬

‫السبب بها‪ .‬يعلم أنها لن تصدق أي حديث يخبرها به‪ ،‬كما‬

‫أنه ال يريد التحدث أمام والدها حتى ال يخسرثقته‪.‬‬

‫أصرت على الرحيل مع والدها ولم يمنعها‪ ،‬يتصل عليها مرا ًرا‬

‫وال تجيبه‪ ،‬يراسلها وال رد‪ ،‬فعزم على أن يظهربراءته بالفعل‬

‫ال بالقول‪.‬‬

‫‪409‬‬
‫هاتف (أدهم) يومها يخبره بشكوكه أن عمه و(فارس) لهما‬

‫يد فيما حدث لـ(ياسين)‪ ،‬وأخبره صديقه أن ال يقلق ويترك‬

‫األمرله‪.‬‬
‫ً‬
‫محتجزا‪،‬‬ ‫مريومان ولم يصل (أدهم) لش يء‪( ،‬ياسين) مازال‬

‫و(سارة) ما زالت تتجاهله‪ ،‬ومازال هو الخاسرفي تلك‬

‫املعركة حتى وإن ظهرعكس ذلك‪.‬‬

‫*********‬

‫متى يشعر اإلنسان بالسعادة؟‬

‫حين يسيطر القلب؟‬

‫أم حين يتسيد العقل؟‬

‫‪410‬‬
‫أم أن السعادة صارت رفاهية ال يحصل عليها كل من يريد؟‬

‫تحكم القلب ً‬
‫يوما و انتصر‪ ،‬فلم يحصل سوى على طعنة‬

‫أخبرته أنه ال يحق له السيطرة‪ .‬تمسك العقل بزمام األمور‪،‬‬

‫فلم يحصل على السعادة أو الراحة باملقابل‪.‬‬

‫بقيت (روفيدا) مشتتة بين العقل والقلب‪ ،‬أبعدت القلب‬

‫عن الساحة وتركت للعقل إدارة األمور‪ ،‬فلم تشعرسوى أنها‬

‫خائنة‪ ،‬تخدع (كرم)‪ ،‬تتألم كلما رأت حبه لها‪ ،‬تود مصارحته‬

‫بحقيقة مشاعرها‪ ،‬لكنها جبانة‪ ،‬في كل مرة تتراجع عن‬

‫قرارها‪.‬‬

‫‪411‬‬
‫هي ليست بحاجة لذلك‪ ،‬فهو يشعر ً‬
‫دائما أن هناك حاجز‬

‫يفصلها عنه‪ ،‬منذ خطبتها له وهو يشعربتغيرها‪ ،‬يرى انطفاء‬

‫ملعة عينيها‪ ،‬ابتسامتها الباهتة‪ ،‬شرودها‪ ،‬صمتها برفقته‪.‬‬

‫تتعلل بخجل‪ ،‬لكنه ال يرى سوى أنها مجبرة على خطبتها له‪.‬‬
‫ً‬
‫دعاها للخارج رغبة منه في وضع حد لشكوكه‪ ،‬وها هي تلتزم‬

‫الصمت‪ ،‬تشرد في كل ما حولها عاداه‪ ،‬تتجنب النظرله‪.‬‬

‫يجلس مقابلها على طاولة بأحد الكافيهات املطلة على النيل‪،‬‬

‫يرى شرودها باملياه‪ ،‬يحاول أن يسترعي انتباهها فيسألها‪:‬‬

‫‪ -‬عجبك املكان؟‬

‫التفتت إليه بجسدها والعقل غائب كما القلب‪:‬‬

‫‪412‬‬
‫‪ -‬أيوه‪ ،‬جميل‪.‬‬

‫اقترب النادل يضع أمامها كوب العصيرالخاص بها وقدح‬

‫القهوة الذي طلبه لنفسه‪ ،‬انتظر(كرم) رحيله ليعاود النظر‬

‫إليها‪ ،‬يراها شاردة مرة أخرى‪ ،‬تداعب أناملها حافة الكوب‬

‫دون أن تلمسه شفتيها‪ ،‬يفكركيف يخبرها بما يريد فلم يجد‬

‫سوى املواجهة املباشرة‪ ،‬ليلقي عليها سؤاله املباغت‪:‬‬

‫إنت وزياد مكملتوش مع بعض ليه؟‬


‫‪ِ -‬‬

‫نظرت إليه بصدمة‪ ،‬لم تتوقع سؤاله‪ ،‬وعجزلسانها عن‬

‫الرد‪ ،‬لكنها سرعان ما استدركت نفسها لتجيب بالرد الشائع‬

‫في الظروف املماثلة‪:‬‬

‫‪413‬‬
‫‪ -‬مفيش نصيب‪.‬‬

‫استشعرالحزن بنبرة صوتها‪ ،‬يعلم أن داخلها أكثرمن مجرد‬

‫كلمتين‪ ،‬فاستطرد بحديث يعلم أنه يؤمله لكن ال سبيل غيره‬

‫ليصل للحقيقة‪:‬‬

‫كنت بتحبيه!‬
‫إنت ِ‬
‫‪ -‬بس ِ‬

‫‪ -‬مش كل حاجة بنحبها بتكون من نصيبنا‪.‬‬

‫قالتها وسط شرودها‪ ،‬اعتراف ضمني أمام خطيبها بحبها‬

‫آلخر‪ ،‬تفوهت بها ببالهة دون وعي وحين انتبهت كان قد سبق‬

‫السيف العزل‪ .‬نظرت إليه لترى الصدمة تحتل مالمحه‪ ،‬ال‬

‫‪414‬‬
‫ليست صدمة‪ ،‬ربما حزن‪ ،‬أو رد صادم أتاه‪ ،‬توقعه ولم يكن‬

‫يتمنى سماعه‪.‬‬

‫حاولت االعتذار‪ ،‬إصالح املوقف‪ ،‬اهتزصوتها‪:‬‬

‫‪ -‬كرم‪ ،‬أنا…‬

‫‪ -‬و افقتي على الخطوبة ليه؟‬

‫قاطعها ُيعلمها أن أي حديث آخرليس ذو أهمية بعد ما‬

‫تفوهت به‪ ،‬يرى تلجلجها‪ ،‬تشتتها‪ ،‬ال تجد إجابة لسؤاله‪.‬‬

‫ً‬
‫مشيرا للنادل‪ ،‬ينوي الرحيل وال يريد‬ ‫أخرج محفظة نقوده‬

‫سماع ش يء آخرمنها‪ ،‬يخبرها بأمرال يقبل النقاش‪:‬‬

‫‪ -‬يال عشان متتأخريش‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫امتثلت له‪ ،‬بلهاء ال تعرف كيف تصلح خطأها‪ ،‬تسيد‬

‫الصمت طريقهما‪ ،‬يقود هو السيارة دون أن يلتفت إليها‪،‬‬

‫وهي تختطف نظرة تجاهه كل لحظة‪ ،‬تشعربالذنب وال تعلم‬

‫ما يجب أن تفعل‪.‬‬

‫وصال أسفل منزلها‪ ،‬لم ينظرإليها ولم يتحدث‪ ،‬صمته يخبرها‬


‫أن تترجل من السيارة فقط‪ ،‬وهي ً‬
‫اتباعا لقواعد الذوق‬

‫واألدب سألته‪:‬‬

‫‪ -‬مش هتطلع؟‬

‫فأجابها دون أن ينظرإليها‪:‬‬

‫‪ -‬عندي شغل‪ ،‬مرة تانية‪.‬‬

‫‪416‬‬
‫هي تستحق ذلك‪ ،‬ورد الفعل الذي يتخذه طبيعي مقابل‬

‫حماقتها‪.‬‬

‫فتحت باب السيارة‪ ،‬أخرجت قدمها اليمنى ثم أعادتها مرة‬

‫أخرى مغلقة الباب ثانية‪ ،‬التفت إليها بتعجب‪ ،‬يريد منها‬


‫ً‬
‫تفسيرا‪ .‬يراها تفرك يديها‪ ،‬تنكس رأسها‪ ،‬ال تقوى على النظر‬

‫بوجهه‪ ،‬وبنبرة مختنقة أخبرته‪:‬‬

‫‪ -‬أنا أسفة‪.‬‬

‫رفعت وجهها تنظرإليه فرأى دموعها تتجمع بمقلتيها‪،‬‬

‫تحاول أن تبرر‪ ،‬أن تعبرعما بداخلها‪:‬‬

‫‪417‬‬
‫‪ -‬أنا حاسة إني بخدعك‪ ،‬عارفة إني مخبية عنك حاجة‬

‫بس مش هينفع أحكيها‪.‬‬

‫مدت يدها تضعها فوق خاصته‪ ،‬تريده أن ينظرإليها‪ ،‬تكمل‬

‫حديثها‪:‬‬

‫‪ -‬كرم‪ ،‬أنا مش عايزة أخسرك‪ ،‬إدي عالقتنا فرصة‪.‬‬

‫سحبت يدها تمسح دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش بجبرك‪ ،‬حقك إنك متكملش بعد اللي قلته‪ ،‬بس‬

‫صدقني زياد صفحة و اتقفلت‪ ،‬ال أنا قطعتها خالص من‬

‫حياتي‪.‬‬

‫امتدت يدها تفتح باب السيارة لكنه أوقفها‪:‬‬

‫‪418‬‬
‫‪ -‬استني‪.‬‬

‫نظرت إليه تستمع إلى رده‪:‬‬

‫‪ -‬متطلعيش كده‪ ،‬مفيش داعي باباكي أو مامتك ياخدو‬

‫بالهم إنك بتعيطي‪.‬‬

‫تعجبت‪ ،‬هل معنى حديثه أنه لن يتركها‪ ،‬و أنه أعطاها تلك‬

‫الفرصة التي طلبتها‪.‬‬

‫رأى حيرتها فأوضح مقصده‪:‬‬

‫‪ -‬صعب على أي راجل يقبل بعالقة الطرف التاني فيها مش‬

‫شايفه‪.‬‬

‫‪ -‬بس أنا مش شايفة غيرك دلوقتي‪.‬‬

‫‪419‬‬
‫قاطعته تخبره بحقيقة‪ ،‬هي وإن كانت أحبت (زياد) فال‬

‫مقارنة بينه وبين (كرم)‪.‬‬

‫تنهد (كرم) قبل أن يسألها آخرسؤال والتي ستحدد إجابتها‬

‫عليه شكل العالقة بينهما‪:‬‬

‫‪ -‬لسه بتحبي زياد؟‬

‫أومأت له نافية ولسانها ينطق بها‪:‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬مقدرش أخونك حتى لو…‪..‬‬

‫أخفضت رأسها دون أن تكمل جملتها‪ ،‬لكنه فهم كلماتها التي‬

‫ابتلعتها ولم تتفوه بها؛ تكملة جملتها التي بترتها "حتى لو كانت‬

‫ال تحبه"‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫نظر لعينيها يخبرها بإصرار‪:‬‬

‫‪ -‬طول ما ِ‬
‫إنت مخبية عني ليه سبتو بعض هيفضل في‬

‫حاجزما بينا‪.‬‬

‫هو محق خاصة بعد اعتر افها أنها بادلت اآلخرالحب في فترة‬
‫ُ‬
‫ما‪ ،‬ولوال اعتر افها هذا ملا أجبرت على إخبار(كرم) بش يء‪.‬‬

‫أومأت له برأسها‪ ،‬وبدأت في سرد الحكاية‪ ،‬حكاية املاريونيت‬

‫التي أوقعها قلبها فريسة لشبح االنتقام‪.‬‬

‫***********‬

‫من الرابح في الحياة؟ القلب أم العقل؟‬

‫من خسربالصراع القائم بينهما منذ األزل؟‬

‫‪421‬‬
‫في معركتها هي خسرالقلب‪ ،‬يخبرها بأنها كانت حمقاء‬

‫باختياراتها‪ ،‬أبعدت من أحبها ألجل من تحبه‪ ،‬تتذكرجملة‬

‫أخبرتها بها والدتها منذ سنوات‪:‬‬

‫‪ -‬يا سيرين‪ ،‬خدي اللي يحبك وبالش اللي تحبيه‪.‬‬

‫وببالهة أجابتها يومها‪:‬‬

‫‪ -‬عاصم بيحبني وبحبه‪ ،‬يعني اتنين في واحد‪.‬‬

‫إجابة أيقنت اآلن فقط أنها كانت خاطئة‪ ،‬هو لم يحبها ً‬


‫يوما؛‬

‫فلو كان بقلبه ذرة حب واحدة لها ملا كان هذا وضعهم اآلن‪.‬‬

‫‪422‬‬
‫أما عن من أحبها فاستسلم لهزيمته و انسحب‪ ،‬لم يظهر‬

‫بحياتها مرة أخرى سوى منذ يومين‪ ،‬حين تفاجأت أنه‬

‫الطبيب املعالج البنها‪.‬‬

‫(سليم شهدي) طبيب عظام‪ ،‬جارها ً‬


‫قديما‪ ،‬أول من تقدم‬

‫لخطبتها وصارحها بحبه‪ ،‬لتقابله بالرفض‪ ،‬تخبره بحبها‬

‫آلخر‪ ،‬ابتلع حزنه داخله ورحل‪ ،‬رحل من العقارالسكني‬

‫بأكمله‪ ،‬ولم تعلم عنه ش يء منذ ذلك الحين‪.‬‬

‫اآلن عاود الظهور بحياتها‪ ،‬رأته منذ يومين ولم تتبادل معه‬

‫أي حديث سوى ما يخص حالة ابنها‪ ،‬واليوم تفاجأت به‬

‫يهاتفها‪ ،‬يخبرها أنه حصل على رقم هاتفها من بيانات طفلها‬

‫‪423‬‬
‫باملشفى‪ ،‬يطلب مقابلتها‪ ،‬لم تعلم بما تجيبه فو افقت بدافع‬

‫الفضول‪.‬‬
‫ً‬
‫مرحبا بها‪:‬‬ ‫تجلس برفقته في أحد املطاعم‪ ،‬يبتسم بوجهها‬

‫‪ -‬ازيك يا سيرين‪.‬‬

‫وهي تشعربالخجل‪ ،‬تلعن نفسها على قبول دعوته‪:‬‬

‫‪ -‬ازيك يا سليم‪ ،‬فينك طول الفترة اللي فاتت؟‬

‫‪ -‬كنت مسافر‪ ،‬رجعت من سنة‪ ،‬بعد وفاة مراتي‪.‬‬


‫ً‬
‫ضمنيا أن حياته لم تتوقف بعد رفضها‬ ‫قالها بحزن‪ ،‬يخبرها‬

‫له‪.‬‬

‫‪ -‬البقاء هلل‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫ابتعد بالحديث عما يخصه‪ ،‬ليسألها عن أحوالها‪:‬‬

‫إنت عاملة إيه‪.‬‬


‫‪ -‬قوليلي ِ‬

‫‪ -‬تمام الحمد هلل‪.‬‬

‫تجيبه باختصار‪ ،‬وهو يريد املزيد‪ ،‬يطمح أن يخبرها بالسبب‬

‫من وراء زيارته‪:‬‬

‫‪ -‬عرفت إنك انفصلتي عن جوزك‪.‬‬


‫ً‬
‫ناظرته بصدمة؛ إذا فهو تقص ى أخبارها‪ ،‬تأكدت حين أكمل‬

‫جملته‪:‬‬

‫‪ -‬وإن طليقك اتجوز أسيل‪.‬‬

‫‪425‬‬
‫يذكرها بجرحها الذي لم يندمل بعد‪ ،‬أومأت برأسها دون‬

‫جواب‪ ،‬فالحزن البادي على وجهها هو أبلغ جواب عما تشعر‬

‫به من ألم‪.‬‬

‫لحظة صمت استحوذت عليهما‪ ،‬قطعتها (سيرين) تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬طلبت تقابلني ليه؟‬

‫ليجيبها مباشرة‪:‬‬

‫‪ -‬بجدد عرض ي القديم‪.‬‬


‫ً‬
‫تمهل قليال قبل أن يسألها‪:‬‬

‫‪ -‬تتجوزيني يا سيرين؟‬

‫‪426‬‬
‫شلت الصدمة جسدها لدقيقة‪ ،‬وحين استعادت السيطرة‬

‫عليه أطلقت لساقيها العنان‪ ،‬تعتذرمنه وتغادردون أن‬

‫تجيبه‪:‬‬

‫‪ -‬عن اذنك‪ ،‬أنا الزم أمش ي عشان سايبة الوالد مع ماما‪.‬‬

‫لم يكن هذا الجواب الذي أراده‪ ،‬فهي ببساطة هربت دون أن‬

‫تترك فرصة لحديث آخر‪.‬‬

‫وفي خضم ارتباكها لم تلحظ من رأتها‪ ،‬وتعلم من كانت‬


‫تجلس برفقته ً‬
‫جيدا‪.‬‬

‫*************‬

‫‪427‬‬
‫هل تقبل بالهزيمة؟ أم تحتسبها هزيمة بأحد الجوالت‬

‫وليست في الحرب بأكملها؟‬

‫تخسرجولة وتعد العدة لتربح أخرى‪ ،‬تخطط لتكون الجولة‬

‫النهائية؛ فتصبح الرابح للحرب كاملة‪.‬‬

‫منذ متى وقد أصبحت العالقة بين شقيقتين مجرد حرب!‬

‫هي عالقة بالدم باألساس‪ ،‬لكن الدماء الوحيدة التي تعترف‬


‫ً‬ ‫ُ‬
‫بها بحربها هي تلك التي تسال دليال على انتصارها‪ .‬بالطبع ال‬

‫تقصد الدماء باملعنى الحرفي‪ ،‬هي تقصد اإلذالل واالنكسار‬

‫واالستيالء على كل ما يخص شقيقتها‪ ،‬هذا كفيل أن يجعل‬

‫قلب شقيقتها يدمي‪ ،‬وهذا هو ما تسعى إليه‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫منذ أن ثارت (سيرين) بوجهها بلقائهما األخيرومنعتها من‬
‫ً‬
‫رؤية والدتها وقد ازدادت حنقا عليها‪ ،‬ربحت شقيقتها تلك‬

‫الجولة وهي لن تسمح لها بتكرارالنصر‪.‬‬

‫كانت تخطط للضربة القادمة ولم تكن قد توصلت لش يء‪،‬‬

‫ليرتب لها القدرمرادها اليوم‪.‬‬

‫عادت إلى منزلها والسعادة ترتسم على وجهها‪ ،‬جلست على‬

‫األريكة ملقية التحية على (عاصم) الذي بادرها بالسؤال‪:‬‬

‫‪ -‬اتأخرتي كده ليه؟‬

‫‪ -‬الدكتورة كانت زحمة‪.‬‬

‫‪429‬‬
‫كانت تنوي افتعال شجارمعه لرفضه الذهاب برفقتها إلى‬
‫ً‬
‫متحججا بعمله‪ ،‬لكنها لن تسمح لش يء أن يعكر‬ ‫الطبيبة‬

‫صفوها‪ .‬وهو لم يكن لديه رغبة في جدالها‪ ،‬تجاهلها يعاود‬

‫متابعة التلفازكما كان يفعل قبل عودتها‪ ،‬لكنها استرعت‬

‫انتباهه حين أخبرته بنبرة قصدت أن تبدو عفوية‪:‬‬

‫‪ -‬مش هتصدق قابلت مين النهارده!‬

‫لم يجبها‪ ،‬انتظرأن تكمل هي‪ ،‬وبالطبع ستكمل دون أن‬

‫تنتظرإجابته أو أن تتهمه بتجاهلها؛ فهو يرى ملعة عينيها‬

‫ورغبتها في الحديث‪ ،‬فأكملت تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬سيرين‪.‬‬

‫‪430‬‬
‫ً‬
‫واالسم كان كفيال ليستديربكامل جسده إليها‪ .‬احترقت‬

‫داخلها حين رأت اهتمامه بشقيقتها؛ فقررت أن تزيد من‬

‫جرعة سمها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عرفت إيه قواها علينا كده املرة اللي فاتت‪.‬‬

‫لم تنتظرإجابته‪ ،‬بل لم تمنحه الوقت ليجيب‪ ،‬أكملت‬

‫حديثها بخبث‪:‬‬

‫‪ -‬أصلها رجعت لحبيب القلب‪.‬‬


‫ً‬
‫انتفض و اقفا يجذبها من ذراعها مما زاد من غضبها‪ ،‬يسألها‬

‫وغضبه يشتعل داخله هو اآلخر‪:‬‬

‫‪ -‬قصدك مين؟‬

‫‪431‬‬
‫‪ -‬سليم شهدي‪.‬‬
‫ألقت االسم بوجهه‪ ،‬تعلم أنه يعلم هوية صاحبه ً‬
‫جيدا‪،‬‬

‫يعلم أنه جارهم؛ فقد صادفه مرة أو مرتين باملاض ي لكنه لم‬

‫يره بعد زواجه من (سيرين)‪ .‬تعلم أن شقيقتها لم تخبره عن‬

‫رغبة (سليم) الزواج منها قبل زواجها من (عاصم)‪ ،‬تركته‬

‫لصراعات عقله‪ ،‬فهي قد قامت بدورها‪ ،‬وهي تعلم أن‬

‫التتمة عليه‪.‬‬

‫************‬

‫‪432‬‬
‫)‪(15‬‬
‫ّ‬
‫ر‬
‫لكل منا ماضيه‪ ،‬البعض يتخفى منه و اء قناع زائف‪،‬‬

‫والبعض اآلخر ُيجبرعلى التستربرداء الخطيئة‪ ،‬وما بينهما‬

‫حكايات مطموسة‪ .‬يدور الزمن‪ ،‬تتساقط األقنعة‪ُ ،‬يكشف‬

‫سترالحكايا؛ فيظهرالوجه الحقيقي للمذنب والضحية‪.‬‬

‫***********‬

‫الحب يؤلم‪ ..‬يجرح‪ ،‬يسحب الروح من الجسد؛ فال تستسلم‬

‫له‪ ،‬ابتعد عن دربه قدرما شئت؛ فأنت كلما اقتربت ازداد‬

‫حجم الجرح‪.‬‬

‫‪433‬‬
‫نتاج تجربتها بعالقة حب فاشلة‪ ،‬خرجت منها خاسرة‬

‫لروحها‪ ،‬خرجت منها بطعنة نافذة بالقلب‪ ،‬تحاول التعافي‬

‫والنسيان وال تستطيع؛ فالنسيان أناني يأخذ ما يريده فقط‪.‬‬

‫تظل تفاصيل ما فعله (زياد) بها محفورة بذاكرتها‪ ،‬تقف‬


‫ً‬
‫عائقا أمامها تمنع تقدمها بالحياة‪ ،‬تبني سياج حول قلبها‬
‫يصعب تخطيه‪ ،‬وكادت بسببه أن تخسر ً‬
‫قلبا عشقها‬

‫بصدق‪.‬‬

‫باألمس قصت على (كرم) ما حدث‪ ،‬أخبرته أنها كانت بيدق‬

‫برقعة شطرنج‪ ،‬وسيلة لالنتقام من أبيها‪ ،‬ماريونيت بلعبة ال‬


‫ُ‬
‫تمتلك خيوطها‪ .‬أخبرته عن تفاصيل القضية التي اتهم بها‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫والدها ظلما‪ ،‬ظهور براءته ومعرفة املتهم الحقيقي‪ ،‬البداية‬

‫‪434‬‬
‫َّ‬
‫التي أودت بها إلى أن تصبح وسيلة انتقام‪ .‬فضلت أن يعلم‬

‫منها املاض ي‪ ،‬فهي تثق بوالدها‪ ،‬وإن كان لن يصدق براءته‬

‫فاألفضل أن يبتعد من البداية قبل أن تعتاد وجوده هو‬

‫اآلخربحياتها‪.‬‬

‫انتهت ولم يقاطعها‪ ،‬أوالها جل اهتمامه‪ ،‬و بعدما انتهت‬

‫ناولها محرمة ورقية‪ ،‬يخبرها أن اآلخرال يستحق أن تذرف‬

‫الدموع ألجله‪ ،‬وإن كان هناك ما يستحق البكاء فهو دقات‬

‫قلبها التي نبضت للشخص الخطأ‪ .‬استمع إليها حتى أفرغت‬

‫ما بداخلها وهدأت‪ ،‬طلب منها أن تصعد ملنزلها ويكمال‬

‫حديثهما مرة أخرى‪ ،‬فعلت ما طلب وظلت جاهلة برد فعله‪،‬‬

‫‪435‬‬
‫تفكرفيما سيفعل ويشغل عقلها إن كان سيستمربعالقته‬

‫معها أم سينهيها‪.‬‬

‫شعرت أن التفكيرسيفجررأسها‪ ،‬هي ال تريده أن يبتعد‪،‬‬

‫تريده أن ينتشلها مما هي فيه‪ ،‬أن يساعدها بنسيان ما‬


‫حدث معها ويأخذ بيدها للمض ي ً‬
‫قدما‪ ،‬وألول مرة تريد أن‬

‫تتسم باألنانية‪ ،‬تتمسك بش يء وتريده بشدة‪ .‬تناولت هاتفها‪،‬‬

‫تكتب رسالة نصية تتضمن احتياجها له وترسلها إليه‪،‬‬

‫تنتظررد لم يصلها‪ ،‬ساعة و اثنتان وثالثة دون إجابة‪ ،‬حتى‬

‫ملت االنتظارواستسلمت لنوم يسحبها من إنهاك التفكير‪.‬‬

‫**********‬

‫‪436‬‬
‫الحب قادرعلى أن يعيد الحياة للجسد‪ ،‬ينفخ في الروح‬

‫لتشرق من جديد‪ ،‬يرسم الضحكة والبسمة‪ ،‬ويزيد من‬

‫الرغبة في الحياة‪.‬‬

‫هذا هو وصف حبه لها‪ ،‬هي له الحياة‪ ،‬منذ رآها وهو ال يشعر‬

‫بالحياة سوى بوجودها‪ ،‬وعندما تمت خطبتهما كان في‬

‫أقص ى درجات السعادة‪.‬‬

‫أراد أن يشعرها بحبه‪ ،‬يجسده لها‪ ،‬يسحبها معه لدنياه‪،‬‬


‫لكنها آملته حين أخبرته بأنها عشقت آخر ً‬
‫يوما‪ ،‬حتى وإن كانت‬

‫ال تبادل ذلك اآلخرتلك املشاعراآلن لكنه يتألم‪ ،‬يتألم‬

‫لحزنها الذي سببه لها‪.‬‬

‫‪437‬‬
‫يشعربالتشتت؛ يريد االبتعاد خشية أن تصدمه ً‬
‫يوما ما‬

‫بأنها ال تتقبله‪ ،‬ويريد االستمرارليأخذ بيدها ويساعدها على‬

‫نسيان ما مرت به‪.‬‬


‫ُ‬
‫ترك لها الفرصة لتخرج ما بداخلها‪ ،‬وهو استمع إليها ومع‬

‫كل كلمة تخبره بها يتألم لحزنها‪ .‬تركها بعد أن أفضت ما‬

‫بداخلها واطمئن على صعودها ملنزلها‪ ،‬ظل يفكرفي مصير‬

‫عالقتهما دون أن يصل لحل‪ ،‬ووسط تشتته وصلته رسالتها‪،‬‬

‫فتحها ليتفاجأ بمضمونها‪.‬‬

‫ً‬
‫"شكرا إنك موجود في حياتي‪".‬‬

‫‪438‬‬
‫رسالة فهم املعنى وراءها؛ هي تنشد منه البقاء‪ ،‬تريد‬

‫لعالقتهما االستمرار‪ .‬لم يعلم بما يجيبها؛ فهو لم يتخذ قراره‬

‫بعد‪ ،‬آثرعدم إجابتها وقتها‪ ،‬ليترك لنفسه الفرصة للتفكير‪.‬‬

‫في اليوم التالي كان قد توصل لقراره‪ ،‬فور استيقاظه أمسك‬

‫هاتفه يراسلها‪.‬‬

‫"حياتي مش هيكون لها معنى من غيروجودك‪".‬‬

‫يعلم أنه يعشقها ولن يستطيع االبتعاد عنها‪ ،‬سيساعدها‬

‫لتسيرمعه بطريق عشقه‪ ،‬فهو قرر أن يكون الوسيلة لرأب‬

‫صدع قلب محطم‪ ،‬وسيفعل ذلك عن طيب خاطر‪.‬‬

‫‪439‬‬
‫الحب ال يجرح‪ ..‬ال يؤلم‪ ،‬بل إن البشرهم من يسيئون‬

‫استخدامه‪.‬‬

‫*************‬
‫ً‬
‫اإلنسان من حقه أن يعيش حياته كما يريد‪ ،‬وفقا الختياراته‬

‫ورغباته‪ ،‬طاملا أنه يلتزم بحقوقه ويؤدي واجباته‪ ،‬من حقه‬

‫اختيارملبسه‪ ،‬مأكله‪ ،‬مشربه‪ ،‬وحتى شريك حياته‪.‬‬

‫وهي اختارت مرة وكان اختيارها خاطيء‪ ،‬تحيا بندم على‬

‫سنوات عمرضاعت برفقته‪ ،‬لكنها أيقنت أن عليها تخطيه‬


‫واملض ي ً‬
‫قدما‪ ،‬وحين اتخذت هذا القرارظهرأمامها آخر‪.‬‬

‫‪440‬‬
‫ُ‬
‫آخرعرض قرب‪ ،‬طلبه من قبل ونال الرفض‪ ،‬مللم شتاته وفر‬

‫هارًبا‪ ،‬وها هو يعود ليكرر طلبه‪ ،‬وقد اختاروقت حيرتها‬


‫ُ‬
‫وتشتتها‪ ،‬وقت هي بحاجة لكتف تلقي عليه أثقالها ويد حانية‬

‫تربت وتداوي جرح قلبها‪.‬‬

‫تريد أن تفرغ ما بداخلها ألحد‪ ،‬ووالدتها تحملت معها‬

‫الكثير‪ ،‬ومع مرضها أصبحت َّتدعي القوة أمامها‪ ،‬تتذكرأن‬

‫األخرى ابنتها مثلها وأي حديث عنها يؤلم والدتها‪ ،‬فباتت‬

‫تكتم أحزانها داخلها‪ ،‬تحتفظ بها لنفسها‪.‬‬

‫منذ أن قابلت (سليم) وهي حائرة‪ ،‬تفكرفي طلبه‪ ،‬تتذكررد‬

‫فعلها فتلعن غباءها‪ ،‬كانت أضعف من أن تحاوره‪ ،‬تسأله‬

‫عن سبب رغبته بالزواج منها‪ ،‬لكنها قررت االنسحاب‪ ،‬واآلن‬

‫‪441‬‬
‫ينهشها التفكيرمما يجب فعله؛ هل تنتظرأن يتخذ خطوة‬

‫أخرى أم تبادرهي بها؟‬

‫تفكرفيما يليها‪ ،‬في رغبتها‪ ،‬ال تعلم إن كان عليها أن تقبل أم‬

‫ترفض‪ ،‬تكتفي بتجربة مريرة عاشتها وتحيا القادم من أجل‬

‫طفليها‪ ،‬أم تخوض غمارتجربة أخرى ال تعلم مدى نجاحها‪.‬‬


‫انتشلها من حيرتها طرقات الباب العنيفة ً‬
‫نوعا ما‪ ،‬خرجت‬

‫من غرفتها حين كانت طفلتها تركض لفتحه‪ ،‬وتغضن جبينها‬

‫حين علمت هوية الزائر‪.‬‬

‫عادت خطواتها لغرفتها مرة أخرى‪ ،‬ال تريد رؤيته‪ ،‬واكتفت‬

‫بجلوس والدتها معه حتى ينهي زيارته لطفليه‪ ،‬أوقفها‬

‫‪442‬‬
‫صياحه حين شاهد جبيرة قدم ابنه‪ ،‬يصرخ بها وغضب‬

‫العالم يحتله‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اللي حصل؟ وازاي متكلمنيش تقوليلي؟‬

‫آثرت عدم إجابته‪ ،‬وأهدته نظرة باردة تخبره بها أنها أسقطته‬

‫من حساباتها ولم تعد بحاجة إليه‪ .‬لكن برودها زاد من‬

‫مراجل غضبه‪ ،‬فاقترب بحد لم يعد مسموح له‪ ،‬يمسك‬

‫بذراعها يهزها بعنف‪ ،‬يعلو صوته أكثر‪:‬‬

‫‪ -‬وال الهانم مش فاضية لوالدها خالص وبتدور على راجل‬

‫تاني تدخله حياتها!‬

‫‪443‬‬
‫والغضب انتقل إليها‪ ،‬سحبت ذراعها من يده بقوة‪ ،‬تبادله‬

‫الصراخ‪ ،‬تدفع اتهام باطل يلقيها به‪:‬‬

‫‪ -‬إنت اتجننت؟ إيه اللي بتقوله دا؟‬


‫ً‬
‫ووالدتها وقفت حائال بينهما‪ ،‬تنظرلكالهما‪ ،‬تخبرهما‬

‫بصرامة‪:‬‬

‫‪ -‬وطوا صوتكم بالش فضايح‪.‬‬

‫تتوجه بالحديث للزائرالغيرمرحب به‪:‬‬

‫‪ -‬احترم نفسك يا عاصم والزم حدودك‪.‬‬

‫وهو تخطى كل حدود االحترام‪ ،‬تناس ى جميع قواعد األدب‪،‬‬

‫واستمربإطالق سهامه التي شحنتها أخرى قبل مجيئه‪:‬‬

‫‪444‬‬
‫‪ -‬قولي للهانم تحترم نفسها هي‪ ،‬الهانم اللي سايبة والدها‬

‫وبتقابل رجالة‪ ،‬وال سليم شهدي مش راجل في نظرك يا‬

‫سيرين هانم!‬

‫واملطعونة بشرفها فاض كيلها‪ ،‬اقتربت منه تنوي أن تهديه‬

‫لطمة على وجهه‪ ،‬لكنها راعت وجود طفليها الذي لم يراعه‬

‫هو‪ ،‬اكتفت برفع سبابتها بوجهه‪ ،‬تضغط أسنانها بغضب‬

‫تحاول التحكم به‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عاملة اعتبارملنظرك أدام والدك‪ ،‬لوال كده كنت‬

‫عرفت أخليك تحفظ لسانك كويس‪.‬‬

‫أكملت تشيرتجاه الباب‪:‬‬

‫‪445‬‬
‫‪ -‬امش ي اطلع بره‪ ،‬ملكش دعوة بحياتي‪ ،‬اللي بيني وبينك‬

‫والدك وبس‪.‬‬

‫لم يتوقع أن تواجهه بتلك القوة‪ ،‬بل ظن أنه سيرى ضعفها‬

‫وستنكمش أمام غضبه‪ ،‬هزرأسه عدة مرات قبل أن يخبرها‬

‫بوعيد‪:‬‬

‫إنت اللي اختارتي‪ ،‬اعملي حسابك إني‬


‫‪ -‬تمام يا سيرين‪ِ ،‬‬
‫هاخد والدي منك‪ ،‬مش هسيبهم لواحدة زيك تربيهم‪.‬‬
‫ً‬
‫صافعا الباب بقوة خلفه‪ ،‬وهي استدارت ترى انكماش‬ ‫خرج‬
‫ً‬
‫طفليها بأحضان بعضهما خوفا مما رأوه من والديهما‪،‬‬

‫اقتربت منهما تبثهما األمان‪ ،‬تحتضنهما معتذرة عما اضطرا‬

‫‪446‬‬
‫ملشاهدته‪ ،‬ونظرات والدتها إليها ال تحيد عنها‪ ،‬تطلب منها‬

‫تفسيرما سمعته‪ ،‬فرفعت رأسها إليها بخجل تخبرها بالنهاية‪:‬‬

‫‪ -‬سليم رجع من السفر‪ ،‬وطلبني للجواز‪.‬‬

‫وتلتها بالبداية‪ ،‬منذ أن قابلته صدفة باملشفى‪.‬‬

‫***********‬

‫حين تختارأن ُيسيرك قلبك‪ ،‬تتحكم بك مشاعرك‪ ،‬فعليك‬

‫أن تتحمل عو اقب اختيارك‪.‬‬

‫القلب هش‪ ،‬لين‪ ،‬ال يتحمل صراعات الحياة‪ ،‬وعلى العقل‬

‫مساندته‪ ،‬أن ينبهه عند الصدمة‪ ،‬وأن يتخذ رد الفعل‬

‫املناسب لحمايته‪ ،‬ويؤهله الستقبال ما هو قادم‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫هي تركت للقلب التحكم بقراراتها‪ ،‬ترى من البداية الحاجز‬

‫الذي يضعه بعالقتهما ومع ذلك اختارت أن تكمل حياتها‬

‫برفقته‪ ،‬تجاهد للوصول ألقص ى درجات عشقه‪ ،‬و افقت‬

‫على طلبه لكن مشاعراألمومة سيطرت عليها فتناست‬

‫اتفاقهما‪.‬‬

‫ظنت أن عاطفته ستغلبه‪ ،‬أنه سيسعد حين يعلم أنه‬


‫سيصيرأب‪ ،‬لكن كل توقعاتها ضاعت ً‬
‫هباء‪ .‬ثاربوجهها حين‬

‫أخبرته‪ ،‬تملكه الغضب‪ ،‬أخبرها بهذيان أنها حبيسة املنزل‬

‫منذ أن اتخذت القراربمفردها‪ ،‬أنه لن يسمح لها بالتخلي‬

‫عن طفلها وال تعلم كيف تؤتيها الجرأة لتفعل‪ ،‬وفي النهاية‬

‫أتم عقابه بهجروخصام‪.‬‬

‫‪448‬‬
‫منذ شجارهما وهو يتجنبها‪ ،‬ال يحادثها‪ ،‬يرهق نفسه بالعمل‬
‫طوال اليوم‪ ،‬يستيقظ ً‬
‫مبكرا قبلها‪ ،‬ويعود بعد أن يغلبها‬

‫النعاس بانتظاره‪ ،‬حتى بعد عودته ال يجاورها بالفراش‪ ،‬بل‬

‫يترك لها الغرفة كاملة ويحتل أخرى‪.‬‬

‫واليوم قررت أن تضع حد لهذا الوضع الذي لم تعد‬

‫تحتمله‪ ،‬استيقظت قبله تنتظره بردهة املنزل‪ ،‬وأمام الباب‬

‫وقفت تمنع رحيله‪ ،‬تخبره برجاء بأعين تحتبس بها دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬إحنا الزم نتكلم‪ ،‬أنا مش قادرة أتحمل وضعنا كده‪.‬‬

‫وقطع عليها كل السبل للحديث‪ ،‬تتوسع حدقتاه‪ ،‬يخبرها برد‬

‫قاطع‪:‬‬

‫‪449‬‬
‫‪ -‬الكالم انتهى يوم ما رجعتي في االتفاق‪.‬‬
‫ً‬
‫واضحا‬ ‫اتخذ خطوة لألمام اعترضتها‪ ،‬تخبره بما داخلها ويراه‬

‫أمامه‪:‬‬

‫‪ -‬أدهم‪ ،‬أنا بحبك‪ ،‬عملت كده عشان بحبك‪.‬‬

‫إنت عايزة كده‪.‬‬


‫إنت بتحبي نفسك‪ ،‬عملتي كده عشان ِ‬
‫‪ِ -‬‬

‫يصرخ بها‪ ،‬حديثها يزيد غضبه فال يستطيع التحكم به‪:‬‬

‫‪ -‬الحب مش مبرر عشان تاخدي قراريخصنا لوحدك‪.‬‬

‫تخبره من وسط شهقاتها‪ ،‬تحاول استدرارعاطفته‪:‬‬

‫‪ -‬إنت قررت لوحدك إن يكون مفيش أطفال‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫صرخ بها ينفي عن نفسه تهمة توجهها إليه‪:‬‬

‫إنت‬
‫إنت اختارتي‪ ،‬مخدعتكيش وال غصبتك‪ِ ،‬‬
‫‪ -‬أنا خيرتك و ِ‬
‫و افقتي بإرادتك يا هند‪.‬‬

‫‪ -‬عشان بحبك‪ ،‬مش عايزة حاجة تفرق بينا‪.‬‬

‫ضحكة ساخرة المست شفتيه‪ ،‬ونبرة استهزاء الزمت رده‪:‬‬

‫‪ -‬اللي عملتيه ّ‬
‫فرق يا هند‪ِ ،‬‬
‫إنت اختارتي‪ ،‬اتحملي نتيجة‬

‫اختيارك‪.‬‬

‫تمسك بذراعه تخبره من وسط دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬اختارتك إنت‪.‬‬
‫يهزرأسه ً‬
‫نافيا بينما يجيبها‪:‬‬

‫‪451‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬اختارتي إن اللي يربط بينا طفل‪.‬‬
‫ً‬
‫يصمت قليال قبل أن يخبرها بنهاية قصتهما‪:‬‬

‫‪ -‬فخالص مش هيكون في حاجة تربطنا ببعض غيره‪.‬‬


‫ً‬
‫رحل معلنا انتهاء الحديث معها‪ ،‬وتركها لدموعها تدرك‬

‫اتساع الهوة التي صارت بينهما‪.‬‬

‫************‬

‫االنتظارمرهق‪ ،‬تشعرمعه وكأنك على وشك االنهيار‪ ،‬يمر‬

‫الوقت ببطء مميت‪ ،‬تحسب الساعات حتى تحين تلك‬

‫اللحظة املنتظرة فتجدها تبتعد رغم اقتراب الوقت‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫ظلت تنتظراتصاله ملدة يومين حتى تقابله‪ ،‬واليوم فقط‬

‫وصلتها رسالة منه بموعد ومكان اللقاء‪.‬‬

‫تجهزت بعد ذهاب والدتها للعمل‪ ،‬حادثتها تخبرها بذهابها‬

‫لشراء بعض األشياء التي تلزمها‪ ،‬وبالوقت واملكان املحدد‬

‫كانت تجلس أمامه‪ ،‬تشعرأنها على بعد خطوة واحدة من‬

‫االقتراب من هدفها‪.‬‬

‫كل منهما‪،‬‬
‫حيرة وارتباك ومفاجأة‪ ،‬مشاعرمختلفة بداخل ٍ‬
‫وكان هو أول من استدرك تشتته فبادرها بسؤال يشغله‪:‬‬

‫‪ -‬ازاي محدش يعرف بوجودك طول السنين دي؟‬

‫فكانت إجابتها هازئة‪ ،‬تبتسم لسخرية القدرمما تحياه‪:‬‬

‫‪453‬‬
‫‪ -‬أنا نفس ي مكنتش أعرف أي حاجة غيرمن شهور‪.‬‬

‫وكانت تلك بداية الحكاية التي قصتها عليه‪ ،‬أخبرته بإخفاء‬

‫والدتها للحقيقة عنها منذ مولدها‪ ،‬الحقيقة التي ألقتها‬

‫بوجهها منذ أشهرقليلة‪ .‬تخبره والحزن يحتل مالمحها‬

‫ونبرتها‪:‬‬

‫‪ -‬بعد اللي سمعته من بابا وكالمه لها عذرتها‪ ،‬بس مش‬


‫قادرة أسامح نفس ي إني كنت ً‬
‫دايما بتهمها إنها…‬

‫وتركت التتمة معلقة‪ ،‬لم يستطع لسانها النطق بها‪ ،‬تهطل‬

‫دموعها وال تستطيع إيقافها‪.‬‬

‫‪454‬‬
‫ُ‬
‫جلس يفرك كفيه‪ ،‬يريد أن يخبرها بش يء ويخش ى أن تس يء‬
‫ً‬
‫فهمه‪ ،‬فكان صوته مرتبكا‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اإلثبات إنك بنته؟‬

‫رأى الصدمة بوجهها فرفع يده أمامها يوضح لها مقصده‪:‬‬

‫‪ -‬أنا آسف‪ ،‬بس دا أول ش يء هييجي في دماغ والدك لو‬

‫عرف بوجودك‪.‬‬

‫احتل الحزن نبرتها‪ ،‬يؤملها أن يساور والدها الشك بنسبها‪:‬‬

‫‪ -‬تحليل بسيط يقدريعرف منه الحقيقة‪.‬‬

‫حاول (أمجد) مواساتها‪ ،‬ناولها محرمة ورقية لتجفف‬

‫دموعها التي تساقطت على وجنتيها‪:‬‬

‫‪455‬‬
‫‪ -‬اهدي يا بيان‪ ،‬أنا أكيد مش هسيبكم بعد ما وصلت لكم‪،‬‬

‫وهعمل كل اللي تطلبوه عشان دا حقكم‪.‬‬

‫‪ -‬أنا عايزة طلب واحد منك‪.‬‬

‫نظرإليها ينتظرأن تخبره بما تريد‪ ،‬وهو على أتم االستعداد‬

‫لتلبيته لها‪ ،‬ولكنها فاجأته تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬عايزة أقابل أخواتي‪ ،‬ساعدني أوصل لهم‪.‬‬


‫ً‬
‫شرد ببصره بعيدا عنها‪ ،‬يعلم داخله صعوبة تنفيذ ما تطلبه‬
‫في الوقت الراهن‪ّ ،‬‬
‫شبك كفيه على الطاولة أمامه‪ ،‬يعاود‬

‫النظرإليها‪ ،‬يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬هنأجل الخطوة دي شويه‪.‬‬

‫‪456‬‬
‫عاجلت بسؤاله متعجبة‪:‬‬

‫‪ -‬ليه؟ نأجلها ليه؟ خايف من بابا؟‬


‫هزرأسه ً‬
‫نافيا‪:‬‬

‫‪ -‬املشكلة مش في عمي مراد بس‪ ،‬املشكلة في أدهم‪.‬‬

‫لم تفهم مقصده‪ ،‬انتظرت منه أن يوضح حديثه أكثر‪:‬‬

‫إنت لوحدنا اللي شفنا اللي حصل بين باباكي‬


‫‪ -‬مش أنا و ِ‬
‫وعمتي‪.‬‬

‫سألته بفضول‪:‬‬

‫‪ -‬قصدك إيه؟‬

‫‪457‬‬
‫‪ -‬أدهم كمان كان موجود‪ ،‬أدهم مش هيسمح إن كرم وريم‬

‫يعرفوا الحقيقة‪ ،‬خاصة ريم‪.‬‬

‫حديثه يزيد تشتتها‪ ،‬ال تعلم هوية من يتحدث عنهم ولكنها‬

‫خمنت أنهم أشقائها‪ ،‬سألته تتأكد من صحة تخمينها‪:‬‬

‫‪ -‬أخواتي؟‬

‫وكان جوابه إيماءة من رأسه‪ ،‬فعاودت سؤاله‪:‬‬

‫‪ -‬ليه هيرفضوا؟‬

‫‪ -‬بعد اللي حصل زمان باباكي قال لهم إن مامتك اتخلت‬

‫عنهم بإرادتها‪ ،‬طلبت الطالق وقالت إنها مش عايزاهم‪ .‬كرم‬

‫وريم كانوا وقتها صغيرين‪ ،‬حالتهم النفسية بقت وحشة‪،‬‬

‫‪458‬‬
‫وريم فقدت النطق فترة‪ .‬أدهم الوحيد اللي كان قوي‪ ،‬كان‬

‫ألخواته األب وعوضهم عن غياب األم‪ .‬أنا فاكريومها كالمه‬

‫معايا‪ ،‬قالي إنه اعتبرإن أمه ماتت‪ ،‬وإن دا اللي هيأقلم حياته‬

‫عليه‪.‬‬

‫دفنت وجهها بكفيها تبكي‪ ،‬تبكي ألجل والدتها وما عانته‬

‫بحياتها‪ ،‬انتبهت على ملسة (أمجد) لكفيها يبعدهما عن‬

‫وجهها‪ ،‬يجبرها على النظرإليه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا بس طالب منك نستنى شوية‪ ،‬الزم أتكلم مع أدهم‬

‫لوحدنا األول‪.‬‬

‫يكمل حديثه‪ ،‬يخبرها بتصميم‪:‬‬

‫‪459‬‬
‫‪ -‬وعد مني إني أرجع لعمتي حقها وأعوضها عن الظلم‬

‫اللي اتعرضت له‪.‬‬

‫و انتهى اللقاء على وعد صمم هو على تنفيذه‪ ،‬وتمنت هي أن‬

‫يفي به‪.‬‬

‫**************‬

‫ال يشعربقيمة الحرية سوى من ُحرم منها‪.‬‬

‫ُمكبل األيدي وإن كانت ال تحاوطها األصفاد‪ ،‬أسيرأربعة‬

‫جدران يمنعونه عن العالم الخارجي‪ ،‬وكل ما يراه هو ضوء‬

‫خافت يتسلل من خالل فتحة تعلوها القضبان‪ ،‬ضوء‬

‫ضئيل ال ينيرعتمته‪.‬‬

‫‪460‬‬
‫مرأسبوع بثقله على قلبه‪ ،‬وكل ساعة خالله يزداد يأسه من‬

‫إظهاربراءته‪ ،‬لكن زيارة محاميه اليوم أتته ببشرى‪ ،‬ليتسرب‬

‫اليأس ويحتل مكانه األمل‪.‬‬

‫بعد التحقيقات ومشاهدة تسجيالت الكاميرات بمحل عمله‬

‫ظهرخيط جديد بالقضية‪ ،‬زميله بالعمل ظهربأحد‬

‫التسجيالت وهو يدس له شرائط املخدربحقيبته‪ ،‬وعليه‬

‫فقد أمرت النيابة باستدعائه والتحقيق معه‪ ،‬ولم يضع‬

‫(أدهم) الفرصة؛ فقد طلب اإلفراج عن موكله بضمان محل‬

‫إقامته حتى االنتهاء من التحقيق‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫الحرية‪ ،‬هواء نقي يتغلغل داخل صدرك‪ ،‬تتنفس بعد أن‬

‫ُسلبت منك الحياة‪ ،‬تعود الروح لجسدك بعد أن فارقتها‪،‬‬

‫فتشعرأنك تحيا من جديد‪.‬‬

‫أنهى (أدهم) اإلجراءات لخروجه ليجد (يوسف) بانتظاره‪،‬‬


‫ً‬
‫اقترب منه محتضنا إياه‪:‬‬

‫‪ -‬حمد هللا على السالمة‪.‬‬

‫ناوشت ابتسامة مرهقة شفتيه‪ ،‬يجيبه‪:‬‬

‫‪ -‬هللا يسلمك‪.‬‬

‫ربت (أدهم) على كتفه يجذب انتباهه‪ ،‬يناوله بطاقة بيده‪:‬‬

‫‪462‬‬
‫‪ -‬دا رقمي وعنوان املكتب يا ياسين‪ ،‬هستناك تيجي عشان‬

‫نتابع القضية ونشوف التحقيقات هتوصل لفين‪.‬‬

‫تناول البطاقة منه يدسها بجيب بنطاله‪ ،‬ثم غادربرفقة‬

‫(يوسف) إلى منزله حيث ينتظره والده وشقيقته‪ ،‬يجلس‬

‫بجواره بالسيارة مغمض العينين ألول مرة منذ احتجازه‪،‬‬

‫اآلن فقط يشعرأنه يستطيع النوم باطمئنان؛ فهو قاب‬

‫قوسين أو أدني من حريته الكاملة‪.‬‬

‫وصل ملنزله يرتمي بأحضان والده وشقيقته‪ ،‬يستدعي أمان‬


‫تسربل ً‬
‫بعيدا عنه‪ .‬التفت إلى (يوسف) يعانقه‪:‬‬

‫‪ -‬شكرا يا يوسف على وقفتك معايا‪.‬‬

‫‪463‬‬
‫ً‬
‫مبتسما‪:‬‬ ‫واآلخرربت على ظهره‬

‫‪ -‬مفيش بينا شكريا ياسين‪ ،‬إحنا أخوات‪.‬‬

‫ً‬
‫استحماما ينفض عنه عناء األسبوع‬ ‫تركه (ياسين) ينشد‬
‫ً‬
‫املاض ي حتى يهنأ بنومته‪ ،‬واعتذر(يوسف) راحال ليتركه ينال‬
‫ً‬
‫قسطا من الراحة‪ ،‬ومن خلفه نادته (سارة) بصوت خفيض‬

‫خجل‪:‬‬

‫‪ -‬يوسف‪.‬‬

‫التفت إليها ولم يمهلها الفرصة للحديث‪ ،‬ينظرإليها بنظرات‬

‫جامدة يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬حمد هللا على سالمة ياسين‪.‬‬

‫‪464‬‬
‫نظرت إلى األرض يغمرها شعور باإلحراج‪ ،‬لكنها سرعان ما‬

‫نظرت إليه بصدمة عندما تفوه بجملته التالية‪:‬‬

‫‪ -‬ثقتك فيا اتهزت يا سارة‪ ،‬أو هي مكنتش موجودة من‬

‫األساس‪ ،‬ودا ش يء مش هيخليكي تقدري تكملي معايا‪،‬‬

‫أنا بس كنت منتظربراءة ياسين تظهرعشان أقولك‬

‫إنك لو عايزة تطلقي أنا مش هقف في طريقك‪.‬‬

‫رحل بعدما أخبرها بذلك‪ ،‬دون أن يمنحها حق الجواب‪،‬‬

‫رحل يعلن لها أنها خسرته‪ ،‬وربما إلى األبد‪.‬‬

‫*************‬

‫‪465‬‬
‫)‪(16‬‬

‫االعتياد يجعلك تغفل عن بعض األشياء الناقصة بحياتك‪،‬‬

‫يومك عبارة عن شريط مكرر تنفذه ببديهية‪ ،‬انغماس بعمل‬

‫ثم عمل ثم عمل وال ش يء دونه‪ ،‬تعتاد وتألف دون شكوى‪،‬‬

‫ثم يصادفك يوم تكتشف أن هناك ش يء ناقص‪ ،‬ش يء‬

‫تفتقده وال تعلم كنهه‪ ،‬تكتنفك الحيرة حتى تعلم أن ما‬

‫تفتقده هو الحياة‪.‬‬

‫كاف له‪ ،‬وأصبح العقل كفة رابحة‪،‬‬


‫ظن أن انغماسه بعمله ٍ‬
‫وتلك العاطفة القليلة بداخله تخص شقيقته وتوأمها وال‬

‫‪466‬‬
‫أحد سواهما‪ ،‬ظن أنه قادرأن يكتفي بهما‪ ،‬أن يعوضهما عن‬
‫ً‬
‫جميعا منه باملاض ي‪ ،‬لكنه اكتشف خطأه‪.‬‬ ‫ألم وفقد عانوا‬

‫يكتف‪ ،‬أو‬
‫ِ‬ ‫ربما هما اكتفيا به وكان لهما خيرسند‪ ،‬لكنه لم‬
‫ً‬
‫مؤخرا‪ ،‬اكتشف أنه يفتقد الكثير‪ ،‬يفتقد‬ ‫هكذا اكتشف‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حضن أم حرم منه بعد تعلق‪ ،‬ودفء بيت قد ألفه بعد‬

‫خوف‪.‬‬

‫حرم نفسه السعادة بزوجة تحمل نطفة منه داخلها‪َّ ،‬‬


‫وحرم‬
‫ُ‬
‫على نفسه عناق أم ال يعلم أنها عاشت حياتها تتمنى لحظة‬

‫الحصول عليه‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫ً‬
‫انغماسه بالعمل كان كفيال أن ينسيه كل ش يء‪ ،‬لكن في‬

‫الفترة األخيرة اختلف الوضع‪ ،‬تكتنفه الحيرة ويؤرقه‬

‫اشتياق‪ ،‬بداخله رغبة في البوح ورغبة أخرى تتخذ الصمت‬


‫ً‬
‫سبيال‪ ،‬يظل يفكرليل نهارفي قراريريد اتخاذه وال يستطيع‬

‫التركيزبعمله‪.‬‬

‫واليوم ساقته قدماه إلى منزل والدته‪ ،‬يقف أسفل البناية‬

‫يتردد بالصعود‪ ،‬وحسم قراره بأن توجه إلى الحارس يسأله‬

‫عن رقم شقتها‪ ،‬وأمام الباب تردد‪ ،‬يرفع يده ليطرقه ولكنه‬

‫يعيدها جانبه مرة أخرى‪ ،‬تفصله خطوة واحدة عن حضن‬

‫يشتاقه لكن قلبه ال يغفر سنوات هجرونبذ‪ ،‬قلبه يحثه على‬

‫‪468‬‬
‫املض ي فيما جاء ألجله وعقله يصفه باألحمق على قراراته‬
‫العاطفية‪ً ،‬‬
‫حائرا بين قلب يريد وعقل ال يريد‪.‬‬

‫وبعد تردد دام لعشردقائق انتصر العقل‪ ،‬واتهمه القلب‬

‫بالجبن‪ ،‬هو َج ُبن عن مواجهة والدته‪ ،‬يغفل عن أنه يظلمها‪،‬‬

‫يخش ى االنجراف وراء عاطفته‪ ،‬يعلن لنفسه أن قلبه مستمر‬


‫ً‬
‫في ُسباته‪ ،‬يرحل موقنا أنه ما زال خاسرا للحياة‪.‬‬
‫ً‬

‫**********‬

‫الحياة لحظات‪ ،‬اسرق منها ما يسعدك‪ِ ،‬عشها و افعل ما‬

‫شئت‪ ،‬ال تشغل بالك بالنتائج‪ ،‬بل اتركها لوقتها‪.‬‬

‫‪469‬‬
‫وهو اختارأن يعيش حياته كما يريد‪ ،‬ال يبالي بما يحدث‬
‫حوله‪ ،‬لم يهتم بضائقة والده املادية‪ ،‬ولم يفكر ً‬
‫يوما‬

‫بالوقوف بجانب شقيقه‪ .‬كان يوهم شقيقه أنه أصبح‬

‫أفضل‪ ،‬لكنه يفعل ما يريد‪ ،‬فقط يتجنب أن تصل أخبار‬

‫كوارثه إليه‪.‬‬

‫لم يهتم ً‬
‫يوما بأخبارعائلته أو ما يحدث بها‪ ،‬لكن أن يعلم أن‬

‫لوالده شقيقة أثارانتباهه‪ ،‬تلك العمة التي لم ُيذكراسمها‬


‫ً‬
‫يوما أمامه‪ .‬حرص على أن يتنصت على كل حواربين شقيقه‬

‫ووالدته ُليلم بكل ش يء‪ ،‬وحينها علم أن للعمة ابنة‪ ،‬ر اقب‬

‫الشقيق حين ذهب ملالقاتها وأعجبه مظهرها‪ .‬استمع إلى‬

‫ملخص اللقاء حين سرده شقيقه على والدته‪ ،‬علم برغبتها‬

‫‪470‬‬
‫برؤية أشقائها ورغبة شقيقه بتأجيل األمر؛ فأيقن أن هذه‬

‫فرصته ليظهربالصورة‪.‬‬

‫أمسك الورقة التي احتفظ بها من قبل‪ ،‬يطلب بهاتفه الرقم‬

‫املدون بها‪ ،‬ينتظررد تأخرحتى أتاه من الطرف اآلخر‪ ،‬صوت‬

‫ناعم هاديء‪:‬‬

‫‪ -‬ألو‪.‬‬

‫وصوته لم يخل من مشاكسة تتأصل بأوردته‪:‬‬

‫‪ -‬ازيك يا بيان‪.‬‬

‫وعنها فقد انتبهت إلى الصوت الذي لم تسمعه من قبل‪ ،‬لكن‬

‫يبدو أنه على معرفة بها‪ ،‬فسألته متعجبة‪:‬‬

‫‪471‬‬
‫‪ -‬مين معايا؟‬

‫أتاها صوته ماز ًحا‪:‬‬

‫‪ -‬حد كان نفسه يقابلك من زمان‪.‬‬

‫أثاررده حنقها‪ ،‬زعقت به تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬لو مقلتش إنت مين هقفل‪.‬‬

‫تعالت صوت ضحكاته قبل أن يخبرها بهويته‪:‬‬

‫‪ -‬طب متتعصبيش‪ ،‬أنا مازن أخو أمجد‪ ،‬ابن خالك‪.‬‬

‫لم يخبرها (أمجد) أن له شقيق‪ ،‬لم يخبرها بش يء عن‬

‫عائلتهما من األساس‪ ،‬لكن بعض الشك تسرب لقلبها‪،‬‬

‫فسألت محدثها‪:‬‬

‫‪472‬‬
‫‪ -‬إيه يخليني أصدق كالمك؟‬

‫وإجابته كانت بأن سرد عليها كل ما يعرفه‪ ،‬ملخص حديثها‬

‫مع شقيقه منذ أن تعرفت عليه‪ ،‬وحديثه يؤكد لها أنه‬

‫شخص يعرف (أمجد) تمام املعرفة‪ ،‬وختم كالمه بما يثير‬

‫انتباهها ليضمن تكراراملكاملات بينهما‪:‬‬

‫‪ -‬أنا بكلمك عشان أقولك إني هساعدك تشوفي‬

‫أخواتك‪ ،‬بس يا ريت أمجد ميعرفش حاجة عن كالمنا‬

‫دا‪.‬‬

‫ولم يخب ظنه‪ ،‬فاملكاملات أصبحت يومية‪ ،‬أسبوع كامل لم‬

‫يمريوم دونها‪ ،‬وتطور األمرحد اللقاء‪ ،‬تالعب برغبتها ولم‬

‫‪473‬‬
‫يخسر‪ ،‬وبكل مكاملة ولقاء يخبرها برغبته بمساعدتها ويؤكد‬

‫عليها عدم اخبارشقيقه بمعرفتها به من األساس‪ ،‬لكنها كل‬

‫مرة تقابله بترددها ورغبتها باالنتظاركما يرغب شقيقه‪.‬‬

‫هو قرر دخول اللعبة‪ ،‬ولن يسمح لها بالرفض‪ ،‬سيستمر‬

‫بتأثيره عليها حتى تذعن له‪ ،‬وحينها سيفعل ما بوسعه‬

‫ليكتمل مخططه‪ ،‬ويصيرالرابح بها‪.‬‬

‫***********‬
‫ُ‬
‫للحب قواعد ال تحص ى‪ ،‬أولها أن تعترف به‪ ،‬والقاعدة األهم‬

‫هي أال تيأس أو تمل‪.‬‬

‫‪474‬‬
‫ً‬
‫مفصحا عن مشاعره ونال الرفض‪ ،‬تزوجت‬ ‫هو تقدم مرة‬

‫بآخرفابتعد‪ ،‬و أتته الفرصة مرة ثانية فلم يتردد‪ ،‬عاود قربه‬

‫مرة أخرى فكان جوابها الهرب‪ ،‬هروب فسره أنه تردد أو ربما‬

‫خوف‪ ،‬وما يطمئنه أنها لم ترفض‪ ،‬فاتخذه باب أمل لتكرار‬

‫محاولته‪ .‬وهذه املرة كان طلبه بشكل آخر‪ ،‬حيث باقة زهور‬

‫وزيارة ملنزلها‪ ،‬ينوي أن يطلب يدها من والدتها‪.‬‬

‫أما عنها فحالها ال يختلف ً‬


‫كثيرا‪ ،‬تفكربعرضه‪ ،‬وحديث‬

‫والدتها حين أخبرتها باألمرال يفارق ذهنها‪ ،‬تطلب منها أن‬

‫تو افق على الزواج منه‪ ،‬تريد أن تطمئن عليها‪ .‬تريد لوالدتها‬

‫كاف لطمئنتها‪،‬‬
‫أن تعلم أن العيش بكنف رجل ليس سبب ٍ‬
‫فهي كانت تحيا برفقة رجل خدعها وغدربها‪.‬‬

‫‪475‬‬
‫انتبهت إلى طرق الباب وسط شرودها‪ ،‬ابتهلت داخلها أن ال‬

‫يكون الطارق أحد يعكرمزاجها‪ ،‬ولكنها تفاجأت بمن لم‬


‫ً‬
‫تتوقع زيارته‪ ،‬يقف أمام بابها حامال الورود بيده وبرفقته‬

‫ضيفة ال يتعدى طولها ركبته‪.‬‬

‫نطقت اسمه مشدوهة‪ ،‬متعجبة من قدومه‪:‬‬

‫‪ -‬سليم!‬

‫ومن خلفها نطقت والدتها اسمه هي األخرى‪ ،‬دعته للدخول‬

‫ترحب به‪ ،‬فابنتها تناست ذلك من فرط دهشتها‪.‬‬

‫‪476‬‬
‫نظرت إلى الطفلة برفقته‪ ،‬عمرها يقارب عمرابنتها‪ ،‬تنظر‬

‫إليها واالبتسامة تعلو وجهها‪ ،‬تقترب منها تمد يدها إليها‬

‫والنية مصافحة‪ ،‬ثم تالها سؤال بريء من طفلة بعمرها‪:‬‬

‫إنت العروسة؟‬
‫‪ِ -‬‬
‫ً‬
‫توردت وجنتاها خجال‪ ،‬تنظرإلى (سليم) بدهشة ثم تحيد‬
‫ً‬
‫سريعا عنه حين ترى ابتسامته‪ ،‬وتولى هو مهمة‬ ‫بنظرها‬

‫تعريفها بابنته‪:‬‬

‫‪ -‬تالين‪ ،‬بنتي‪.‬‬

‫وبعد حديث بينه وبين والدتها عن أحواله وأخباره بالسنوات‬

‫املاضية‪ ،‬صرح بما جاء ألجله‪:‬‬

‫‪477‬‬
‫‪ -‬أنا جاي أطلب من حضرتك ايد سيرين‪.‬‬

‫والعروس وقفت تنوي هروب آخر‪ ،‬لكنها تفاجأت بيد‬

‫والدتها تمسك بها تمنعها الرحيل‪ ،‬تنظرإليها بعينيها تخبرها‬

‫أنها أدرى بالصائب لها‪ ،‬ثم النظرة التالية للجالس أمامها‪،‬‬

‫تخبره بابتسامة‪:‬‬

‫‪ -‬و أنا مش هالقي لسيرين زوج أفضل منك يا سليم‪.‬‬

‫شعربالسعادة تغمره‪ ،‬أما عنها فكانت نظرة بلهاء تعلو وجهها‬

‫بعدما استمعت إلى ما قالته والدتها‪.‬‬

‫**********‬

‫ال يشعر اإلنسان بقيمة ما يملك إال حين يفقده‪.‬‬

‫‪478‬‬
‫ألول مرة في الصراع األزلي القائم بينهما يصف العقل القلب‬

‫بالغباء‪ ،‬يتهمه بأنه أضاع الحب من بين يديه‪ ،‬ينهره على‬


‫تسرعه بالحكم على اآلخرين‪ ،‬يخبره بأنه َّ‬
‫قدم له الدالئل‬

‫ولكنه هو من تغافل عنها‪ ،‬وكانت النتيجة غيرمرضية؛ تألم‬

‫القلب وتشتت العقل‪.‬‬

‫مرأسبوع منذ آخرمرة رأته‪ ،‬تلك املرة التي أخبرها‬

‫بمو افقته على ما تريد حتى وإن كانت رغبتها بالطالق‪،‬‬


‫ً‬
‫وبعدها رحل‪ .‬رحل تاركا ألم يغزو قلبها‪ ،‬لم تعلم حينها ملا‬

‫تتألم‪ ،‬لكن بعدما أفاقت من الصدمة أخبرها العقل أنها‬

‫غبية؛ فهي تتألم لفقده‪ ،‬هي أحبته‪ ،‬شعرت معه بأمان عائلة‬

‫ُحرمت منها‪ ،‬شعرت بحضن دافيء أراد قربها‪.‬‬

‫‪479‬‬
‫ال تنكرأن رغبتها بالبداية كانت تسهيل أمور التقرب من إرثها‬

‫وشقيقها‪ ،‬لكن قلبها حاد عن املسار‪ ،‬انتهج درب العشق‪،‬‬

‫وهي لم تستطع منعه‪ ،‬تركت مشاعرها تنجرف نحوه‪ ،‬وما‬

‫القته منه طمأنها‪ ،‬نظراته تخبرها أنها بأمان‪ ،‬أال تقلق ما‬

‫دامت برفقته‪ ،‬لكنها بغبائها أضاعت كل هذا من يدها‪.‬‬

‫هي من أخطأت‪ ،‬وعليها أن تصحح ذلك‪ ،‬ذهبت ملنزله تسأل‬

‫والدته عنه فأخبرتها أنه يلزم حجرته من األمس‪ ،‬يرقد‬


‫ً‬
‫متأثرا بدور برد أصابه؛ فقد كانت تلك حجته‬ ‫بالفراش‬

‫للتهرب من الحديث مع والدته‪ .‬استأذنت والدته أن تطمئن‬

‫عليه فلم تمانع؛ فهي بداخلها تشعربتوتراألجواء بينهما‬

‫وتريد إصالحها هي األخرى‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫َُ‬
‫وقفت أمام باب غرفته‪ ،‬تذكرنفسها أنها من أفسدت الوضع‬

‫وال سبيل للتراجع اآلن‪ ،‬طرقت الباب و انتظرت أن يأذن لها‬


‫ل ً‬
‫بالدخو ‪ ،‬ظنا منه أنها والدته‪.‬‬

‫وجدته يقف بالشرفة ً‬


‫موليا ظهره إياها‪ ،‬اقتربت منه ببطء‪،‬‬

‫رفعت أناملها تلمس بها كتفه‪ ،‬وصوتها يجاهد ليخرج من‬


‫ً‬
‫متأثرا بحزن ووصلة بكاء‪:‬‬ ‫ً‬
‫متحشرجا‬ ‫حنجرتها‪،‬‬

‫‪ -‬أنا أسفة‪.‬‬

‫التفت ينظرإليها ولم ينطق بكلمة‪ ،‬دخل غرفته دون أن‬

‫يجيبها‪ ،‬جلس على األريكة املقابلة لفراشه دون أن ينظرإليها‪.‬‬

‫وهي تعذره‪ ،‬له كل الحق بأي رد فعل يتخذه‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫اقتربت منه تجاوره بجلسته‪ ،‬تجرأت لتمسك يده تستجدي‬

‫عاطفته‪ ،‬تخبره بصوت مختننق وأعين دامعة‪:‬‬

‫‪ -‬لك حق تعمل أكترمن كده‪ ،‬مش هزعل منك على أي‬

‫تصرف تاخده‪ ،‬بس حبيت أقولك حاجة قبل ما تاخد‬

‫أي خطوة في إجراءات الطالق‪.‬‬

‫أمسكت ذقنه بيدها تديروجهه إليها‪ ،‬تنظربعينيه وال تخجل‬

‫من إخباره بمشاعرها‪ ،‬فهو ال يزال زوجها ويحق لها أن تخبره‬

‫بذلك‪:‬‬

‫‪ -‬أنا بحبك يا يوسف‪.‬‬

‫مسحت دموعها املتساقطة على وجنتيها ثم أكملت‪:‬‬

‫‪482‬‬
‫‪ -‬أنا قلت اللي جاية عشانه‪ ،‬ومش بضغط عليك عشان‬

‫تغيرقرارك‪ ،‬أنا بس قلت لك مشاعري اللي إنت حركتها‬

‫ناحيتك‪.‬‬
‫ً‬
‫قالت جملتها األخيرة وهي تنظرأرضا‪ ،‬تتهرب من عينيه‪،‬‬

‫تخش ى أن ترى بهما نبذ‪ ،‬لكنها عاودت النظرإليه مرة أخرى‬

‫تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬إنت تتحب يا يوسف‪.‬‬

‫وقفت تنوي الرحيل؛ فقد أنهت ما أتت بشأنه‪ ،‬خطوة‬

‫والثانية ووجدته يتمسك برسغها‪ ،‬يوقفها ويديرجسدها‬

‫لتواجهه‪.‬‬

‫‪483‬‬
‫ُ‬
‫لم يتحدث‪ ،‬هو له طريقة أخرى لالعتراف بعشقه‪ ،‬قبلة‬

‫لشفتيها كانت هي جوابه‪ ،‬وهي لم تمنعه بل استسلمت له‪.‬‬


‫ُ‬
‫قبلة أنهاها لينظرإلى عينيها املغمضتين‪ ،‬تفتحهما ببطء‬

‫لتالقي خاصته‪ ،‬تشعربالخجل فتتهرب بنظراتها منه‪ ،‬تسأله‬

‫بصوت خافت‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اللي عملته دا؟‬

‫يعيد نظراتها إليه مرة أخرى‪ ،‬يخبرها بكلمة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬مراتي‪.‬‬

‫واملسمى طمأنها‪ ،‬شعرت بسعادة من وقعه على أذنيها‪.‬‬

‫احتضنها يخبرها بمشاكسة‪:‬‬

‫‪484‬‬
‫‪ -‬أنا بقول نحدد ميعاد الفرح عشان أنا مش مسؤول عن‬

‫اللي هيحصل بعد كده‪.‬‬

‫ابتسمت بخجل تبتعد عنه‪ ،‬خطوة اتخذتها للخلف ثم‬

‫عادت مرة أخرى ملوضعها األول؛ فهي أيقنت أن ال مهرب منه‬

‫إال إليه‪.‬‬

‫**********‬

‫أنت وحدك هنا‪ ،‬ال أحد يمد لك يد العون‪ ،‬غرفة شاسعة‬

‫تدور بها‪ ،‬ال تجد جدران‪ ،‬ال باب وال نافذة‪ ،‬فقط الفراغ هو‬
‫ً‬
‫ما يحيط بك‪ .‬تدور حول نفسك بحثا عن سبيل تسلكه فال‬

‫تجد‪ ،‬يلوح لك من بعيد ش يء يقترب‪ ،‬تتبين مالمحه فال‬

‫‪485‬‬
‫تستطيع‪ ،‬تدور حولك فتجده يحاوطك‪ ،‬الغرفة تضيق‪ ،‬وما‬

‫يقترب منك ما هو إال قضبانها التي تحاوطك من جميع‬

‫الجهات‪ ،‬تتمسك بها تبحث عن مخرج فال تجد‪ ،‬تظل تضيق‬

‫بك‪ ،‬تقترب منك أكثرحتى تمنعك الحراك‪ ،‬تضيق حد‬

‫االختناق‪.‬‬

‫استيقظ من غفوته يشهق بعنف‪ ،‬كابوس يراوده منذ عودته‬


‫ً‬
‫حبيسا بزنزانة تحيطها‬ ‫للمنزل‪ ،‬يخش ى العودة مرة أخرى‬
‫ً‬
‫القضبان‪ ،‬فتظل تراود أحالمه تؤرق نومه‪ .‬انتفض و اقفا‬

‫من الفراش‪ ،‬يكره النوم الذي أصبح يمنع عنه راحته‪ ،‬يعلم‬

‫أن حريته لن تكتمل إال بانتهاء التحقيق في القضية وإعالن‬

‫براءته كاملة‪ ،‬حينها ستتركه كوابيسه يهنأ بنومه‪.‬‬

‫‪486‬‬
‫ارتدى مالبسه ينوي الذهاب إلى (أدهم) بمكتبه حسب‬

‫موعد مسبق بينهما‪ ،‬نصف ساعة وكان يجلس أمامه‪،‬‬

‫يستمع إلى آخرما وصلت إليه قضيته؛ زميله اعترف بفعلته‪،‬‬

‫بل وأخبرهم بمن حرضه لفعل ذلك‪.‬‬

‫‪ -‬فارس!‬

‫ً‬
‫مصدوما بعد ما أخبره (أدهم)‪ ،‬يعلم كرهه‬ ‫نطقها (ياسين)‬

‫له‪ ،‬وال ينكرأن الشعور متبادل‪ ،‬لكنه لم يتوقع أن يصل‬

‫أذاه ووالده لهذا الحد‪ ،‬شعربالقلق على شقيقته وعلى‬

‫حياته‪ ،‬يخش ى أن يتكرر أذاهم‪ ،‬سأل الجالس أمامه يريد‬

‫اطمئنان‪:‬‬

‫‪487‬‬
‫‪ -‬اتقبض عليه؟‬

‫هز(أدهم) رأسه ً‬
‫نفيا يخبره ببقية التفاصيل‪:‬‬

‫‪ -‬لألسف ال‪ ،‬فارس مختفي من وقت القبض على زميلك‪،‬‬

‫وعمك طبعا مش هيقول مكانه‪.‬‬


‫رأى القلق ً‬
‫باديا عليه‪ ،‬ربت على قدمه يطمئنه‪:‬‬

‫‪ -‬متقلقش يا ياسين‪ ،‬فارس هيتقبض عليه‪ ،‬و إنت كده‬

‫خالص طلعت من القضية الحمد هلل‪.‬‬

‫أومأ له برأسه‪ ،‬يحمد ربه داخله‪ ،‬ويدعوه أن يبعد أذاهم‬

‫عنه وشقيقته‪ ،‬وقف يصافح (أدهم)‪:‬‬

‫‪ -‬شكرا على اللي عملته معايا يا أدهم‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫واآلخروقف قبالته‪ ،‬يربت على كتفه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا معملتش غيرواجبي‪.‬‬

‫خرج من مكتبه شار ًدا‪ ،‬يفكركيف يصل بهم األمرحد‬

‫توريطه بقضية تنهي مستقبله‪ ،‬وبمدخل البناية لم ينتبه‬

‫إليها؛ تلك التي اصطدم بها لترتد للخلف‪ ،‬ولوال يده التي‬

‫حاوطت خصرها لكانت سقطت على ظهرها‪.‬‬

‫شهقتها عند اصطدامها به انتشلته من شروده‪ ،‬ساعدها‬


‫لتقف معتدلة‪ ،‬لم يفارق نظره عينيها‪ ،‬تجذبه إليها ر ً‬
‫غما‬

‫عنه‪ ،‬انتبه إليها تشكره‪ ،‬واألمر كله خطأه‪ ،‬فبادرباعتذار‪:‬‬

‫‪ -‬أنا آسف مكنتش مركز‪.‬‬

‫‪489‬‬
‫أهدته ابتسامة تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬وال يهمك حصل خير‪.‬‬

‫ابتعدت عنه تتوجه إلى املصعد‪ ،‬فالحظ عرج قدمها‬

‫الطفيف‪ ،‬ظن أنه التواء نتيجة اصطدامه بها‪ ،‬اقترب منها‬

‫يسألها‪:‬‬

‫إنت كويسة؟‬
‫‪ِ -‬‬

‫تتبعت نظراته إلى قدمها فعلمت أنه الحظ طريقة سيرها‪،‬‬

‫فطنت إلى ما جال بخاطره‪ ،‬ونظراتها هذه املرة جاءت مرتبكة‬

‫وتحاول إخفاء ضيق بداخلها بينما تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬دي حادثة قديمة‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫كرر اعتذاره‪ ،‬انتظرها حتى دخلت املصعد‪ ،‬وتوجه هو إلى‬

‫منزله‪ ،‬وطيفها لم يترك عقله‪.‬‬

‫أما عنها فحاولت إخفاء شعورها‪ ،‬فهي هنا اليوم من أجل‬

‫شقيقها‪ ،‬تشعربتوترالعالقة بينه وبين زوجته وال تعلم‬

‫السبب‪ ،‬قررت مفاجأته بمكتبه والذهاب معه ملنزله‪ ،‬تدعو‬

‫نفسها على العشاء برفقتهما‪.‬‬

‫************‬

‫الزن له مفعول السحر‪ ،‬عندما تريد إقناع شخص بش يء‬


‫استمربالحديث عنه أمامه‪َ ،‬ظل تردد رغبتك‪ ،‬اقنعه دائماً‬

‫‪491‬‬
‫أنه األفضل‪ ،‬إياك أن تمل! فإصرارك يجعل بينك وبين‬

‫مبتغاك خطوة واحدة‪ ،‬اتخذها أنت واحصل على ما تريد‪.‬‬

‫منذ أن َّ‬
‫عرفها بنفسه وهو يحاول إقناعها بالذهاب معه‪،‬‬

‫يخبرها أنه قادرعلى أن يعيد لم شمل أسرتها‪ ،‬ويعلم رغبتها‬

‫الشديدة بذلك وأنها ستو افقه بالنهاية‪ ،‬وقد كان؛ فاليوم‬

‫و افقت بعد محادثة بينهما باألمس دامت لساعتين‪ ،‬يصر‬


‫عليها باتخاذ الخطوة وأال تفكر ً‬
‫كثيرا‪ ،‬وها هو ينتظرها أسفل‬

‫منزلها باملوعد الذي اتفقا عليه‪.‬‬

‫نزلت هي إلى األسفل لتجده بانتظارها‪ً ،‬‬


‫أخيرا اقتنعت بما‬
‫يريد بعدما ألح عليها ً‬
‫كثيرا‪ ،‬قابلها بابتسامة مشاكسة‬

‫يخبرها‪:‬‬

‫‪492‬‬
‫‪ -‬إقناعك صعب‪.‬‬

‫ال تعرف ملا تخش ى ما هي مقدمة عليه‪ ،‬تريد أن تتراجع عن‬

‫قرارها‪ ،‬لكن بركن خفي داخلها هناك ما يصرعليها أن‬


‫ً‬
‫سريعا قبل أن يتغلب عليها‬ ‫تستمر‪ ،‬نظرت إليه تخبره‬

‫ترددها‪:‬‬

‫‪ -‬يال عشان مش عايزة أتأخر‪.‬‬


‫أوقف سيارة أجرة استقالها ً‬
‫معا‪ ،‬ولم يمرالكثيرحتى وصال‬
‫ً‬
‫إلى وجهتهما‪ ،‬وأسفل البناية وقفت قليال لكنه لم يسمح لها‬

‫بلحظة تردد‪ ،‬أشاربيده لتتقدمه‪:‬‬

‫‪ -‬يال بينا‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫صعد البناية وهي تتبعه‪ ،‬وقف أمام شقة بالدور الثالث‬

‫يفتح باباها ثم دعاها للدخول‪ ،‬وقفت ولم تخطو خطوة‬

‫داخلها‪ ،‬ألقت بنظرها تبحث عن أحد في استقبالها‪ ،‬دعاها‬


‫ً‬
‫للدخول قائال‪:‬‬

‫إنت خايفة كده ليه؟‬


‫‪ -‬ادخلي‪ِ ،‬‬

‫خطوة والثانية ولم يقابلها أحد بعد‪ ،‬التفتت إليه تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬هما فين؟‬

‫فأشارإلى إحدى الغرف يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬في األوضة دي‪ ،‬ادخلي‪.‬‬

‫‪494‬‬
‫ولم تكد تخطو خطوتان حتى استمعت إليه يغلق الباب وما‬

‫أثارريبتها هو إغالقه له باملفتاح‪ .‬التفتت إليه لتجده يضع‬

‫املفتاح في جيب بنطاله‪ ،‬نظراته لها أرعبتها‪ ،‬نظرات‬

‫تتفحص كامل جسدها‪ ،‬خطت تجاه الباب تنوي الخروج‬

‫وكأنها لم تلحظ فعلته ونظراته‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عايزة أمش ي‪ ،‬مش عايزة أقابل حد‪.‬‬


‫ً‬
‫أمسك بذراعيها يدفعها للخلف قائال‪:‬‬

‫‪ -‬دخول الحمام مش زي خروجه‪.‬‬

‫‪495‬‬
‫اآلن فقط علمت سرشعورها الس يء الذي كان يراودها‪،‬‬

‫اآلن فقط اكتشفت نواياه الحقيقة وعلمت أنها أخطأت‬

‫باملجيء معه‪ ،‬لكن بعد فوات األوان‪.‬‬

‫نظراته ال تطمئنها‪ ،‬تخبرها أن نواياه دنيئة‪ ،‬وحديثه يؤكد‬

‫ذلك‪:‬‬

‫‪ -‬مفيش مانع نتسلى لحد ما نتأكد من حواربنت عمتي دا‪.‬‬

‫عيناها معلقة بالباب‪ ،‬تنتظرالفرصة لتهرب إليه‪ ،‬وتفكر‬

‫كيف تحصل على املفتاح منه‪ ،‬باغتها بقرب فانفلتت من بين‬

‫يديه‪ ،‬اعترض طريقها مرة أخرى‪ُ ،‬يحكم قبضته عليها هذه‬

‫‪496‬‬
‫املرة‪ ،‬ونظراته إليها تخبرها أنه راغب بها‪ .‬ظلت تقاومه‪،‬‬

‫تحاول إبعاده‪:‬‬

‫‪ -‬سيبني يا مازن‪.‬‬

‫وهو ال يهتم‪ ،‬هو باألخيرحصل عليها بين يديه‪ .‬وبالنهاية‬

‫خرجت صرخة من حنجرتها‪ ،‬صرخة وازت صوت تمزق‬

‫مالبسها بين يديه‪.‬‬

‫************‬

‫‪497‬‬
‫)‪(17‬‬

‫هناك لحظات لم يأت ببالنا أن تمربحياتنا‪ ،‬وإن حدث‬

‫وصادفناها نتمنى املوت على أن نحياها؛ حينها ربما يكون هو‬

‫السبيل الوحيد للنجاة‪.‬‬

‫ما تحياه اآلن هو موت‪ ،‬لكنها تتعذب بكل لحظة به‪ ،‬ترى قتل‬

‫روحها‪ ،‬انتهاك براءتها‪ ،‬فقط هي وذئب مفترس‪ ،‬وال منقذ‪.‬‬

‫تصمد‪ ،‬تقاوم‪ ،‬تبحث عن مهرب من براثنه وال تجد‪ .‬دفعها‬

‫ق‬ ‫ً‬
‫أرضا يجثم فوقها‪ ،‬تسمع صوت تمز مالبسها فتصرخ قبل‬
‫أن تخور قواها‪ ،‬ومع صرخاتها وجدت من يدفعه ً‬
‫بعيدا عنها‪،‬‬

‫يكيل لوجهه اللكمات واآلخرال يقاوم‪ .‬وعندما انتهى منقذها‬

‫‪498‬‬
‫مما يفعل ترك جسد اآلخريسقط على األريكة‪ ،‬يقاوم دوار‬

‫يفتك به‪ ،‬يمسح بيده خطوط الدماء التي سالت من أنفه‬

‫وفمه‪.‬‬

‫رأته يقترب منها بلهفة‪ ،‬وجه تألفه‪ ،‬اطمأنت لوجوده‪،‬‬

‫فسمحت لعقلها أن يسحبها لهوة تقاومها من البداية‪،‬‬

‫لتسقط بين يديه فاقدة للوعي‪.‬‬

‫َمن كان بطريقه إليها لالطمئنان عليها ووالدتها‪ ،‬وأسفل‬

‫منزلها رآها تذهب برفقة شقيقه‪ ،‬تعجب من معرفتها به‪،‬‬

‫شعربالقلق فتتبعهما‪ ،‬رأى ترددها أسفل العقارالذي‬

‫أخذها إليه‪ ،‬ودفع شقيقه لها لتصعد برفقته‪.‬‬

‫‪499‬‬
‫انتظرلحظات ثم ترجل من سيارته يتبعهما‪ ،‬صعد الطوابق‬
‫ً‬
‫واحدا تلو اآلخرولم يعرف وجهتهما بالتحديد‪ ،‬وقف ً‬
‫حائرا‪،‬‬

‫ال يعلم ما يفعل‪ .‬قرر انتظارهما بسيارته‪ ،‬و أثناء هبوطه‬

‫صادف أحد أصدقاء شقيقه‪ ،‬وقبل أن يحادثه استمع إلى‬

‫صوت صراخها‪ .‬جذب الو اقف أمامه من قميصه‪ ،‬يصرخ‬

‫به‪:‬‬

‫‪ -‬مازن في أي شقة؟‬

‫ارتعش جسد اآلخربيده‪ ،‬أشارإلى الشقة بأصابع مهزوزة‪،‬‬

‫فما كان من (أمجد) إال أن دفعه أمامه يسأله‪:‬‬

‫‪ -‬معاك مفتاح؟‬

‫‪500‬‬
‫ً‬
‫مخرجا املفتاح من جيب بنطاله‪ ،‬انتشله منه‬ ‫أماء برأسه‬

‫(أمجد) ليفتح هو‪ ،‬وتفاجأ بفعل شقيقه املشين‪ ،‬اقترب منه‬

‫يبعده عنها‪ ،‬يكيل إليه اللكمات حتى ترنح بين يديه‪ ،‬تورم‬

‫وجهه ونزف فمه و أنفه فتركه‪ ،‬وعاد إلى (بيان) التي سقطت‬

‫بين يديه فاقدة الوعي‪.‬‬

‫بحث حوله عن ش يء ما يستربه تمزق مالبسها فلم يجد‪،‬‬


‫ً‬
‫سريعا إلى سيارته‪ ،‬وأمام‬ ‫خلع سترته يلبسها إياها وحملها‬

‫عجلة القيادة تملكته الحيرة؛ ال يعلم ما يفعل‪ ،‬يخش ى‬

‫الذهاب بها إلى منزلها بهيئتها تلك‪ ،‬وال يعلم كيف يبدل لها‬

‫مالبسها‪.‬‬
‫ً‬
‫سريعا‪:‬‬ ‫استل هاتفه يحادث والدته‪ ،‬وفور أن أجابته أخبرها‬

‫‪501‬‬
‫‪ -‬ماما‪ ،‬معلش قابليني تحت البيت‪ ،‬ربع ساعة وأكون‬

‫عندك‪.‬‬

‫لم يجد من يساعده سوى والدته‪ ،‬سيأخذها ملنزله‪ ،‬يطمئن‬

‫عليها حتى تفيق‪ ،‬وحينها سيوصلها ملنزلها‪.‬‬

‫**********‬

‫العمرلحظات‪ ،‬تمردون أن نشعر‪ ،‬نعيشها بأحداثها‬

‫السعيدة والحزينة‪ ،‬و أفضلها هي تلك التي ير افقنا من‬

‫نحب‪ ،‬من نشعرأننا نحيا فقط ألجلهم‪.‬‬

‫‪502‬‬
‫نستيقظ ذات صباح‪ ،‬نشعرأن تلك اللحظات قد شارفت‬

‫على االنتهاء‪ ،‬وغصة بالقلب تخبرنا أن القادم هو لحظة‬

‫فراق‪.‬‬

‫أنهت إعداد وجبة الغداء‪ ،‬طلبت من طفلها أن يذهب‬

‫لينادي جدته من غرفتها‪ ،‬فعاد إليها يخبرها أنها تؤدي‬

‫فرضها‪ .‬مربعض الوقت ونادتها هي فلم تجبها‪ ،‬توجهت إلى‬

‫غرفتها وأمام الباب انقبض قلبها‪ ،‬فتحته ببطء لترى والدتها‬

‫بوضع السجود‪ ،‬تعجبت من تأخرها بالصالة‪ ،‬انتظرت‬

‫دقيقة ولم ترفع والدتها رأسها بعد‪ ،‬نادتها مرة أخرى‪ ،‬دقيقة‬

‫أخرى مرت‪.‬‬

‫‪503‬‬
‫اقتربت منها تلمس جسدها‪ ،‬ولم تكد تفعل حتى سقطت‬

‫والدتها على جانبها‪ .‬صرخت (سيرين)‪ ،‬أخذت تهزها بعنف‪،‬‬

‫تناديها‪:‬‬

‫‪ -‬ماما!‬

‫ترجوها أن تفتح عينيها‪ ،‬لكن دون فائدة‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري ردي عليا‪ ،‬قومي يا ماما‪.‬‬

‫وبأصابع مرتعشة أمسكت يدها‪ ،‬استشعرت برودتها‪ ،‬أخذت‬

‫تتوسلها‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري يا ماما أنا مليش غيرك‪.‬‬

‫‪504‬‬
‫وضعت رأسها أعلى خافقها‪ ،‬فافتقدت دفء صدرها‪ ،‬ولم‬

‫تسمع تلك الدقات التي تنبض بالحياة‪ ،‬لتتيقن أن املوت قد‬


‫ً‬
‫ودافعا لتواجه‬ ‫سلب منها والدتها‪ ،‬من كانت ً‬
‫سندا لها‬

‫الحياة‪.‬‬

‫**********‬

‫وهناك لحظة يمرببالنا هاجس أن مكرو ًها سيحدث وال‬

‫نعيرها اهتمام‪ ،‬نعتقد أنه مجرد ضيق مربالقلب بعد ما‬


‫القاه؛ فنترك شعورنا ً‬
‫جانبا ونستمروكأن ش يء لم يحدث‪.‬‬

‫‪505‬‬
‫ً‬
‫مؤخرا تأخذه قدماه إلى منزل والدته‪ ،‬وبآخر‬ ‫ككل يوم بحياته‬

‫لحظة يعود أدراجه دون أن تواتيه الجرأة ليقابلها‪ ،‬يخش ى‬

‫من أمرس يء سيحدث‪ ،‬فينفض الفكرة من رأسه ويرحل‪.‬‬

‫عاد ملنزله بعد يوم عمل ليس بشاق‪ ،‬لكنه مع ذلك يشعر‬

‫باإلنهاك؛ فتفكيره بأمروالدته ُيرهقه أكثرمن عمله‪ .‬التفت‬

‫حوله يبحث عن زوجته لكنه لم يلمحها‪ ،‬اعتاد استقابلها له‬

‫برغم بعده عنها‪ ،‬يفتقد بسمة تقابله بها عند عودته وتعلم‬

‫أنه لن يبادلها إياها‪ .‬شعربأن خصامه لها قد طال‪ ،‬وحديث‬

‫شقيقته منذ آخرزيارة لهما لم يفارقه‪ .‬أخبرته شقيقته أن‬

‫زوجته تعشقه‪ ،‬وبغض النظرعن سبب شجارهما الذي ال‬

‫‪506‬‬
‫تعلمه فهو مخطيء‪ ،‬ألنه بذلك يسمح بحبها له أن يتسرب‬

‫من بين يديه‪ .‬شعربالقلق حين لم تظهرزوجته بعد فناداها‪:‬‬

‫‪ -‬هند‪.‬‬

‫نداء ثاني وثالث وال تجيبه‪ ،‬توجه إلى الغرفة يطرق باباها‪،‬‬
‫وعندما لم يحصل على د فتحه ليتفاجأ بزوجته ممدة أ ً‬
‫ضا‬ ‫ر‬ ‫ر‬

‫بوجه شاحب‪.‬‬

‫حاول إفاقتها فلم تستجب‪ ،‬فحملها يذهب بها إلى أقرب‬

‫مشفى‪ ،‬يتملكه الرعب عليها‪ ،‬وكل ما يفكربه هو أن يكون‬

‫الوقت قد تأخرليخبرها أنه يشتاق لرؤية طفله مثلها وأكثر‪.‬‬

‫**********‬

‫‪507‬‬
‫بلحظة تظن أنك قد فقدت نفسك‪ ،‬وبلحظة تليها تجد‬

‫أمامك طوق النجاة‪ ،‬ينقذك من طوفان يبتلعك‪.‬‬

‫فتحت عينيها ببطء‪ ،‬استشعرت غرابة املكان حولها‪،‬‬

‫تذكرت ما حدث معها قبل فقدانها لوعيها فانتفضت من‬


‫ً‬
‫الفراش الر اقدة به بهلع تزامنا مع دخول امرأة ال تعرفها إلى‬

‫الغرفة‪ .‬انكشمت على نفسها تسألها بخوف‪:‬‬

‫إنت مين؟‬
‫‪ -‬أنا فين؟ و ِ‬

‫اقتربت منها املرأة تحاول تهدئتها‪:‬‬

‫إنت هنا في أمان‪.‬‬


‫‪ -‬متقلقيش‪ِ ،‬‬

‫‪508‬‬
‫نظرت إلى مالبسها لترى أنها ترتدي سترة تداري تمزقها‪،‬‬

‫انتعشت ذاكرتها بآخروجه رأته؛ َمن أنقذها من أيدي‬

‫اآلخر‪ ،‬فسألت الو اقفة أمامها عنه‪:‬‬

‫‪ -‬أمجد فين؟‬

‫وتمثل جواب سؤالها أمامها حين طرق باب الغرفة‪ ،‬دخل‬


‫ً‬
‫خافضا بصره يسألها عن حالها‪:‬‬

‫إنت كويسة؟‬
‫‪ِ -‬‬

‫وكان جوابها هي دموعها التي انهمرت على وجنتيها‪ ،‬فاقتربت‬


‫ً‬
‫واضعا الحقيبة‬ ‫منها والدته تحتضنها‪ ،‬وولدها يكمل حديثه‬

‫التي كان يحملها فوق الفراش‪:‬‬

‫‪509‬‬
‫‪ -‬أنا جبت لك هدوم‪ ،‬يا رب تكون مقاسك‪ .‬ماما معاكي لو‬

‫احتاجتي مساعدة‪ ،‬و أنا هنتظرك بره‪.‬‬

‫أنهى حديثه مغاد ًرا الغرفة‪ ،‬بينما هي تناولت الحقيبة لتبدل‬

‫مالبسها‪ ،‬وبعد وقت قليل كانت تجلس أمامه بغرفة‬

‫املعيشة‪ ،‬منكسة الرأس‪.‬‬

‫حاول (أمجد) التحلي بالهدوء والسيطرة على أعصابه حين‬

‫طلب منها أن تقص عليه األمر من بدايته‪:‬‬

‫‪ -‬احكيلي عرفتي مازن ازاي‪ ،‬وليه رحتي معاه الشقة دي؟‬

‫‪510‬‬
‫قصت عليه األمرمن بدايته‪ ،‬أخبرته كيف تواصل معها‬

‫وكيف أقنعها أنه سيساعدها برؤية أشقائها‪ ،‬وطلبه أال تخبر‬

‫شقيقه أي ش يء حتى ال يمانع‪.‬‬

‫مسح (أمجد) وجهه يزفربضيق‪ ،‬ينظرإلى والدته التي تجلس‬

‫برفقتهما‪ ،‬يشكو لها بعينه تصرفات ابنها اآلخر‪ ،‬ثم يعود‬

‫بنظره إلى (بيان) الباكية‪ ،‬يعلم أن شقيقه خدعها وال ذنب‬

‫لها‪ ،‬ويحمد ربه أنه وصل بالوقت املناسب إلنقاذها‪.‬‬

‫َّ‬
‫عرفها على والدته‪ ،‬أخبرها أن خالها يرقد بإحدى الغرف‬
‫َّ‬
‫ففضل أن يتم‬ ‫ولكنه ال يعلم عن وجودها ش يء بعد‪،‬‬

‫التعارف بينهما بوقت آخر‪ ،‬ثم سألها‪:‬‬

‫‪511‬‬
‫‪ -‬بقيتي كويسة؟ تقدري تروحي من غيرعمتي ما تحس‬

‫بحاجة؟‬

‫أومأت له برأسها‪ ،‬فوقف يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬يال عشان أوصلك قبل ما تحس بتأخيرك وتقلق‪.‬‬


‫ّ‬
‫ودعت والدته ور افقته‪ ،‬وأسفل منزلها قبل أن تترجل من‬

‫سيارته التفتت تنظرإليه ألول مرة منذ ما حدث‪ ،‬وشعور‬

‫بالخجل يغمرها‪:‬‬

‫‪ -‬مش عارفة أشكرك ازاي‪.‬‬

‫ً‬
‫مجيبا إياها‪:‬‬ ‫أهداها ابتسامة‬

‫‪512‬‬
‫‪ -‬خدي بالك بس من نفسك وحاولي متحسسيش مامتك‬

‫إنت عايزاه بخصوص أخواتك‬


‫بحاجة‪ ،‬واللي ِ‬
‫هنفذهولك‪ ،‬بس متلجأيش لحد تاني‪.‬‬

‫هزت رأسها تؤكد له أنها ستنفذ كالمه‪ ،‬ثم تركته لتصعد إلى‬

‫منزلها‪ ،‬ورحل هو بسيارته يشغل تفكيره ما سيفعل مع‬


‫شقيقه ً‬
‫عقابا له على فعلته‪.‬‬

‫**********‬

‫نتألم حين يفارقنا من نحب فجأة‪ ،‬تستمرالغصة بالقلب ال‬

‫تفارقه‪ ،‬تزداد حين ال نجد بجانبنا من يداوي ألم الفراق‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫عليك أن تعتاد الفقد‪ ،‬أن تؤهل قلبك ليتحمل وحدته ذات‬

‫يوم؛ فهذا سيخفف من وطأة األلم‪.‬‬

‫هي ليست وحيدة‪( ،‬سليم) لم يتركها منذ هاتفته تخبره بوفاة‬

‫والدتها‪ ،‬لم تجد أحد آخرليساندها‪ ،‬ومع ذلك تشعرأنها‬

‫أصبحت وحيدة‪ ،‬والدتها هي من كانت تبثها القوة بعد كل ما‬

‫حدث لها‪ ،‬هي من شجعتها لتستمربالحياة وتترك املاض ي‬

‫خلفها‪ ،‬كانت لها الداعم والسند خاصة بعد وفاة والدها‪،‬‬

‫وبلحظة رحلت هي األخرى وتركتها وحيدة‪.‬‬

‫لم تتوقف عن البكاء‪ ،‬ولم يتوقف لسانها عن الدعاء‪ ،‬الفقد‬

‫مؤلم‪ ،‬وفي حالتها أمله مضاعف‪ .‬لم تصدق بعد أنها فارقتها‪،‬‬

‫‪514‬‬
‫لم تستطع أن تفعل ش يء وتركت لـ(سليم) مهمة إنهاء‬

‫إجراءات الدفن‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقبل أن تبدأ إجراءات الغسل‪ ،‬وجدت شقيقتها تقتحم‬

‫الغرفة‪ ،‬تبكي وتصرخ‪ ،‬تحتضن والدتها‪ ،‬ثم تلتفت إليها تلكز‬

‫كتفها بعنف‪ ،‬تصرخ بوجهها بصوت مرتفع‪:‬‬

‫إنت فيه دا؟ عايزة تغسليها وتدفنيها‬


‫‪ -‬إيه الجبروت اللي ِ‬
‫من غيرما أشوفها؟ عايزة تحرميني من حضنها آلخر‬

‫مرة؟‬

‫‪515‬‬
‫شقيقتها تنهال عليها باالتهامات‪ ،‬وهي ال طاقة لديها لتجيبها‪،‬‬

‫تركتها تقول ما تشاء بينما ظل نظرها هي معلق بجسد‬

‫والدتها‪.‬‬

‫لم تتوقف شقيقتها عما تفعل إال بعد أن وقفت أمامها‬


‫ً‬ ‫ُ‬
‫السيدة املسؤولة عن الغسل‪ ،‬تسحبها من يدها بعيدا عنها‪،‬‬

‫تخبرها بهدوء‪:‬‬

‫‪ -‬مينفعش اللي بتعمليه دا‪ ،‬مش وقته‪.‬‬

‫هدأت املشاحنات بينهما حتى انتهى الدفن‪ ،‬وباملنزل جلست‬

‫(سيرين) تتلقى العزاء بآلية وذهن شارد‪ ،‬حزنها يغمرها‪،‬‬

‫تفكركيف ستحيا دون والدتها‪.‬‬

‫‪516‬‬
‫أما عن (أسيل) فلم تخفض بصرها عن شقيقتها‪ ،‬وبداخلها‬

‫تتوعدها بعقاب عن عدم إخبارها بوفاة والدتها‪ ،‬والذي‬


‫ُ‬
‫عرفته عن طريق جارة لها تطلب منها أن تبلغها بأخبارهما‬
‫ً‬
‫دائما‪.‬‬

‫بعد انتهاء العزاء جلست (سيرين) تنتظررحيل شقيقتها‬

‫بنفاذ صبر‪ ،‬تريد أن تستريح بعد عناء يوم طويل‪.‬‬

‫استمعت إلى شقيقتها تهاتف (عاصم) وتطلب منه الصعود‬

‫إلى املنزل‪ ،‬ولم تمردقيقة حتى وجدته أمامها‪ ،‬يتوجه إليها‬


‫بالحديث‪ ،‬يمد يده ليصافحها ً‬
‫معزيا إياها‪ ،‬فكان جوابها‬

‫التجاهل وكأنه غيرموجود‪ ،‬األمر الذي زاد من حنق‬

‫شقيقتها‪ ،‬فقررت مضاعفة العقاب‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫الشقيقة التي اقتربت من زوجها َّتدعي التعب واإلرهاق‪،‬‬
‫ً‬
‫دموعا لم ترها (سيرين) على وجهها‬ ‫ترتمي بأحضانه تذرف‬

‫منذ بداية العزاء‪ ،‬تخبره بنبرة حزن ال تعلم شقيقتها إن كانت‬

‫مصطنعة أم حقيقية‪:‬‬

‫‪ -‬ماما ماتت يا عاصم‪ ،‬خالص مبقاش ليا حد‪.‬‬

‫فما كان من زوجها إال أن ربت على كتفها يواسيها‪:‬‬

‫‪ -‬متقوليش كده أنا جنبك‪ ،‬وكمان أختك موجودة ربنا‬

‫يخليكم لبعض‪.‬‬

‫نظرت إليه (سيرين) شذ ًرا‪ ،‬كيف له أن يقول هذا بعد كل ما‬

‫فعاله بها‪ ،‬هما أول من اعتبرتهما بعداد األموات وال تريد رؤية‬

‫‪518‬‬
‫وجههما مرة أخرى‪ ،‬لكن ليس كل ما يتمناه املرء يدركه‪.‬‬

‫وجدت شقيقتها تنظرإليها‪ ،‬توجه الحديث إلى زوجها‪ ،‬تخبره‬

‫عن مخططها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا هبات هنا النهارده‪ ،‬عايزة أنام في أوضة ماما وأحس‬

‫كأن روحها لسه موجودة‪.‬‬

‫لم تقو (سيرين) على الرفض‪ ،‬فلشقيقتها حق باملنزل مثلها‬


‫ً‬
‫تماما‪ ،‬لكنها أيقنت أن هذا ليس سوى البداية من سلسلة‬

‫مضايقات شقيقتها لها‪ ،‬ولم يخب ظنها‪.‬‬

‫و افق (عاصم) على طلب زوجته‪ ،‬والذي لم يكن سوى‬

‫البداية‪ ،‬حيث سرعان ما أخبرته بقرارها التالي‪:‬‬

‫‪519‬‬
‫‪ -‬و إنت كمان هتبات معايا هنا‪.‬‬

‫تناظرشقيقتها بحقد‪ ،‬وتميل على زوجها تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬أخاف أتعب و أنا لوحدي‪.‬‬

‫‪ -‬أل‪.‬‬

‫رفض صارم خرج من (سيرين)‪ ،‬فهي وإن كانت مجبرة على‬

‫تحمل وجودها معها تحت سقف واحد فلن تتحمل اآلخر‪.‬‬

‫وقفت أمامها تؤكد رفضها‪ ،‬تشيربيدها إلى زوجها السابق‪:‬‬

‫إنت مش هقدرأطردك من بيت‬


‫‪ -‬دا مستحيل يحصل‪ِ ،‬‬
‫أبوك وأمك‪ ،‬لكن البني آدم دا مش هيقعد هنا لحظة‬
‫ِ‬
‫واحدة‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫أهانته ولم تهتم‪ ،‬فهو يستحق‪ ،‬لكنها تفاجأت بمعاندة‬

‫شقيقتها التي وقفت أمامها تخبرها بتحدي‪:‬‬

‫‪ -‬عاصم هيبات معايا هنا‪ ،‬ولو مش عاجبك تقدري‬

‫تشوفي مكان تاني تقعدي فيه‪.‬‬

‫عجزلسانها عن الرد‪ ،‬فهي لم تتوقع تصرفات شقيقتها تلك‪.‬‬

‫وقفت حائرة‪ ،‬عاجزة عن فعل أي ش يء‪ ،‬حتى أنقذها اقتراب‬

‫(سليم) الذي استمع إلى كل ش يء من البداية ولم يرد‬


‫ً‬
‫هامسا‪:‬‬ ‫التدخل بينها وشقيقتها‪ ،‬وقف جوارها يخبرها‬

‫‪ -‬ادخلي ملي هدومك وهدوم الوالد‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫نظرت إليه بتيه‪ ،‬دموعها تمأل عينيها‪ ،‬فأهداها نظرة‬

‫مطمئنة ر افقت حديثه‪:‬‬

‫معاك‪ ،‬يال جهزي هدومك‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬متحمليش هم حاجة و أنا‬

‫وهاتي الوالد‪.‬‬

‫أومأت له باستسالم‪ ،‬فليس أمامها حل آخر‪ ،‬انسحبت تعد‬

‫نفسها‪ ،‬وبقي هو بانتظارها‪ ،‬ينظرإلى طليقها وشقيقتها‪،‬‬


‫يخبرهما بنظراته أنه بجانبها ً‬
‫دائما‪.‬‬

‫أنهت (سيرين) إعداد حقائبها‪ ،‬خرجت من غرفتها برفقة‬

‫طفليها‪ ،‬فاقترب منها (سليم) يحمل الحقائب عنها‪ ،‬لكنه‬

‫توقف عند اقتراب (عاصم) الذي جذب ذراعها يصرخ بها‪:‬‬

‫‪522‬‬
‫‪ -‬واخدة والدي ور ايحة فين؟‬

‫فأمسك (سليم) يده يضغط عليها‪ ،‬يحاول التحكم بغضبه‪:‬‬

‫‪ -‬رايحة بيت جوزها‪ ،‬و ايدك متتمدش على مراتي تاني‪.‬‬


‫ً‬
‫اشتعل (عاصم) غيظا‪ ،‬يسأله بغضب‪:‬‬

‫‪ -‬مراتك من امتى إن شاء هللا!‬

‫ظل يتوعدها بحديثه‪:‬‬

‫‪ -‬والدي هاخدهم منك‪.‬‬

‫فتولى (سليم) مهمة الرد‪ ،‬يخبره ببرود ليزيد استفزازه‪:‬‬

‫‪ -‬أعلى ما في خيلك اركبه‪.‬‬

‫‪523‬‬
‫ً‬
‫فتركهم راحال‪ ،‬يتآكله الغضب‪ ،‬يندم على فعلة هدم بها‬

‫حياته بيده‪ .‬أما عن (أسيل) فقد غمرتها السعادة‪ ،‬تنظرإلى‬

‫شقيقتها بغل‪ ،‬سعيدة برحيل شقيقتها من منزل والديها‪،‬‬


‫َ‬
‫ف ِرحة بتحقيق انتصارعليها‪.‬‬

‫وأسفل املنزل‪ ،‬وقفت (سيرين) برفقة (سليم) تبكي‪ ،‬تسأله‬

‫من وسط دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬هروح فين؟‬
‫ً‬
‫سريعا‪ ،‬ولم يجد غيره أمامه لحمايتها‪:‬‬ ‫وكان رده‬
‫ً‬
‫‪ -‬هنكتب الكتاب حاال‪ ،‬وهتيجي تقعدي معززة مكرمة في‬

‫بيتك‪.‬‬

‫‪524‬‬
‫نظرت إلى طفليها‪ ،‬تخش ى أن ينفذ (عاصم) تهديده‪ ،‬ففطن‬

‫(سليم) إلى ما تفكربه فطمأنها‪:‬‬

‫‪ -‬متخافيش‪ ،‬مش هسمح له ياخدهم منك‪.‬‬

‫فكرت في االعتراض‪ ،‬لكن ال سبيل آخرأمامها‪ ،‬وكأن والدتها‬

‫كانت تشعرباقتراب األجل فو افقت على زواجها منه ليكون‬

‫الحماية والسند لها‪.‬‬

‫**********‬

‫قد يحتاج اإلنسان إلى صفعة إفاقة تجبره على رؤية األمور‬

‫من منظور آخر‪ ،‬ليدرك خطأه ويعيد كل ش يء إلى مكانه‬

‫الصحيح‪.‬‬

‫‪525‬‬
‫شعربالخوف حين رأى زوجته غائبة عن الوعي ولم يستطع‬

‫إفاقتها‪ ،‬نهش القلق قلبه عليها وعلى طفله الذي بأحشائها‪،‬‬

‫ولم يطمئن سوى مع كلمات الطبيب له‪:‬‬

‫‪ -‬املدام ضغطها واطي‪ ،‬وواضح إنها مش مهتمة بتغذيتها‬

‫كويس‪ ،‬تفضل النهارده معانا نطمن عليها وبكره إن شاء‬

‫هللا تقدرتخرج‪.‬‬

‫اطمأن قلبه‪ ،‬لم يرد ش يء آخربعد هذا‪ ،‬ولكن بقي أمامه أمر‬

‫واحد عليه فعله لكي يزيل حواجزاملاض ي ويستطيع املض ي‬


‫ً‬
‫قدما بحياته بنفس راضية‪.‬‬

‫‪526‬‬
‫دخل إلى غرفة زوجته‪ ،‬كانت برفقة شقيقته التي هاتفها لكي‬

‫تأتي إليه باملشفى‪ ،‬اقترب منها يطبع قبلة أعلى رأسها‪ ،‬ينظر‬
‫ً‬
‫مبتسما‪ ،‬يخبرها بينما يضع يده فوق بطنها‪:‬‬ ‫إليها‬

‫‪ -‬قلقتيني عليكم‪ ،‬حمدهللا على سالمتكم‪.‬‬

‫نظرت إلى شقيقته متعجبة من رد فعله‪ ،‬لكن بداخلها‬

‫تغمرها السعادة لشعوره بالقلق عليها وجنينها‪ ،‬فابتسمت‬

‫له‪:‬‬

‫‪ -‬هللا يسلمك‪.‬‬

‫نظرإلى شقيقته يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬متسيبيش هند لحد ما أجي‪.‬‬

‫‪527‬‬
‫فعاجلته زوجته بالسؤال‪:‬‬

‫‪ -‬رايح فين؟‬

‫أمسك يدها يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬مشوارأجلته كتيرومينفعش يتأجل أكترمن كده‪.‬‬

‫ابتسم لها يخبرها قبل رحيله‪:‬‬

‫‪ -‬مش هتأخرإن شاء هللا‪.‬‬

‫وكأن القدريعانده؛ فسيارته رفضت أن تدور‪ ،‬لكنه بداخله‬

‫صمم على تصفية حسابات املاض ي الليلة‪ ،‬أغلق السيارة‬

‫وعبرالطريق ينوي اتخاذ سيارة أجرة‪.‬‬

‫‪528‬‬
‫ولم ينتبه إلى من كان يترصده ووجدها فرصة مناسبة‬

‫لتنفيذ مخططه‪ ،‬حيث أدارالسيارة وبأقص ى سرعته‬

‫اصطدم بـ(أدهم) ليطيح بجسده في الهواء ويعود لالصطدام‬

‫باألرض بعنف‪ ،‬وفرالجاني هارًبا بسيارته املنزوع لوحاتها‬

‫دون أن يلمحه أحد‪.‬‬

‫**********‬

‫‪529‬‬
‫)‪(18‬‬

‫هل تؤمن بالصدف؟‬


‫ُ‬
‫تلك التي تلقي بطريقك أشخاص يعيدون إليك نظرة سعادة‬
‫ً‬
‫مؤخرا‪ ،‬وتلك الصدفة التالية حين‬ ‫سلبتها الحياة منك‬

‫يتجدد اللقاء فينتقل تأثيرها من ابتسامة تعلو الوجه إلى‬

‫نبضة تناوش القلب‪ ،‬تدق بابه تذكره أن بداخله حياة‪ ،‬تلك‬

‫الصدفة التي تلقي داخل قلبك بحب من أول نظرة لم يخطر‬


‫ببالك أن تصدقه ً‬
‫يوما‪.‬‬

‫لم يخطربباله أن تبتسم له الحياة بعد كل ما صادفه من‬

‫عر اقيل‪ ،‬صالحته بعد أن أنهكته ونالت منه‪.‬‬

‫‪530‬‬
‫أول لقاء كان اصطدام‪ ..‬اصطدام سعيد بوجه حسن شغل‬

‫تفكيره ليومين‪ ،‬ال يفارق مخيلته‪ ،‬الزم أحالمه‪ ،‬انتشله من‬

‫كوابيس أرقت نومه؛ وهذا ما زاد من سعادته‪.‬‬

‫واللقاء الثاني كان صدفة رتبها القدرباألمس حين كان ُيوصل‬

‫شقيقته للقاء املهندسة املسؤولة عن ديكورات منزلها‪،‬‬

‫تفاجأ بوجودها‪ ،‬وقرر البقاء برفقة شقيقته بعد أن كان‬

‫ينوي الرحيل‪.‬‬

‫رنين هاتف شقيقته و ابتعادها ملحادثة (يوسف) أتاح له‬

‫الفرصة لحديث سريع معها‪ ،‬حديث بدأه بمصافحة يد‬

‫وتعريف عن نفسه‪:‬‬

‫‪531‬‬
‫‪ -‬ياسين‪ ،‬أخو سارة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وبادلته املصافحة بخجل‪ ،‬تعرفه عن نفسها هي األخرى‪:‬‬

‫‪ -‬ريم الزهيري‪.‬‬
‫ََ‬
‫لفت اللقب انتباهه‪ ،‬يسألها يتأكد من معرفته بها‪:‬‬

‫‪ -‬قريبة أدهم؟‬

‫أومأت له برأسها مبتسمة‪:‬‬

‫‪ -‬أيوه‪ ،‬أخته‪.‬‬
‫ً‬
‫مجددا عن اصطدامه بها باملرة السابقة‪،‬‬ ‫اعتذرلها‬
‫ً‬
‫وللحقيقة هو ليس آسفا‪ ،‬بل هو سعيد به‪ ،‬وسعيد بتلك‬

‫الصدفة التي جمعته بها مرة أخرى‪.‬‬

‫‪532‬‬
‫انتهى الحديث بينهما بقدوم شقيقته ومعاودة دفة الحوار‬
‫بينهما عما يخص منزلها‪ .‬ولم يطل اللقاء ً‬
‫كثيرا؛ حيث جاءها‬

‫اتصال هاتفي واعتذرت راحلة بعده‪.‬‬

‫لكن هذا اللقاء يشغل تفكيره منذ األمس‪ ،‬قرر أنه لن يترك‬

‫اللقاء القادم للصدفة‪ ،‬فهو سيصطحب شقيقته بكل‬

‫مقابلة بينهما بعد اآلن‪.‬‬

‫***********‬

‫هناك خط فاصل بين الحياة واملوت‪ ،‬خط رفيع حيث تقف‬

‫الروح عالقة‪ ،‬تنتظرأن تميل تجاه أحدهما‪ ،‬إما أن تستسلم‬

‫‪533‬‬
‫للموت وتريح الجسد من عذابه‪ ،‬أو أن تعود للحياة وتحارب‬

‫إلنقاذ هذا الجسد‪.‬‬

‫الحادث لم يكن بالهين‪ ،‬ومن رحمة ربه به هو أنه قريب من‬

‫املشفى؛ فسارع املسعفين باصطحابه إلى غرفة العمليات‪.‬‬

‫اجتمع الجميع أمام الغرفة حين عرفوا الخبر؛ زوجته التي‬

‫انتفضت تنزع من يدها إبرة املحلول‪ ،‬تعدو لالطمئنان عليه‬


‫ً‬
‫وخلفها شقيقته ينتفض قلبها خوفا‪ ،‬وقفا يحتضنان‬
‫ً‬
‫بعضهما‪ ،‬يدعوان أن يخرج إليهما ساملا‪ ،‬أن يمد هللا بعمره‬

‫ليرى طفله‪ .‬شقيقه الذي أخذ يجيء ويذهب‪ ،‬و(أمجد) يربت‬

‫على كتفه يواسيه‪ ،‬يطمئنه أنه سيكون بخير‪ .‬والده الذي‬

‫جلس على املقعد يدفن وجهه بين يديه‪ ،‬يبتهل أن يخرج إليه‬

‫‪534‬‬
‫ابنه بخير‪ ،‬برغم الخالف املستمربينهما لكنه يبقى سنده‬

‫بالحياة وقطعة من القلب‪.‬‬

‫يمر الوقت‪ ،‬وبكل دقيقة ينهش القلق قلوبهم‪ ،‬والساعات تمر‬

‫كأنها سنوات تنتقص من أعمارهم‪ ،‬ومع خروج الطبيب‬

‫اندفعوا تجاهه لالطمئنان‪ ،‬لكن حديث الطبيب أبعد‬

‫الطمأنينة عن قلوبهم؛ حيث أخبرهم أن الحادث ترك أثره؛‬

‫إصابة بالعمود الفقري ستؤثرعلى حركته‪ ،‬أخبرهم أن األهم‬

‫هو أن يفيق من غيبوبته وبعدها يبدأ رحلة عالج إصابته‪.‬‬

‫وتباينت ردود األفعال‪ ،‬الزوجة سقطت باكية بحضن‬

‫الشقيقة‪ ،‬تضع يدها أعلى بطنها‪ ،‬تخش ى أن يأتي طفلها‬

‫للحياة دون والده‪ ،‬والشقيقة تساقطت دموعها بصمت‬

‫‪535‬‬
‫وبداخلها تخش ى فقد من كان بمثابة أب قبل أن يكون‬

‫شقيق‪.‬‬

‫سقط والده بتهالك على املقعد‪ ،‬يندم على كل لحظة لم يكن‬


‫بها ً‬
‫قريبا منه وعلى كل شجارافتعله معه فقط من أجل أن‬

‫ُيفرض رأيه‪.‬‬

‫أما عن (كرم) فأغمض عينيه يحبس حزنه داخلهما‪،‬‬

‫يستدعي قوة واهية من أجل مساندة الجميع من حوله‪.‬‬

‫وهناك من كان يشغل باله أمرآخر؛ (أمجد) الذي قرر أن‬

‫يفعل ش يء‪ ،‬ويخش ى أن يتآكله الندم إن تأخربه‪.‬‬

‫**********‬

‫‪536‬‬
‫املواجهة من أصعب اللحظات التي تمربحياة اإلنسان‪،‬‬
‫ُ‬
‫تفتح جميع الدفاتر‪ ،‬يطل منها املاض ي‪ .‬واألصعب هو أنك ال‬

‫تضمن تقبل األشخاص لذكريات املاض ي الدفينة‪ ،‬وال تعلم‬

‫ردود أفعالهم عند كشف أسراره‪.‬‬

‫أحضر(أمجد) عمته التي أتت تهرول لالطمئنان على ابنها‪،‬‬


‫تر افقها ابنتها التي ال يعلم أشقائها أو والدها ً‬
‫شيئا عنها‪،‬‬

‫توجهت إلى زوجها السابق تتوسله أن يدعها ترى ابنها‪ ،‬فأومأ‬


‫َّ‬
‫لها بضعف تملك منه بعدما أصاب ابنه‪.‬‬

‫انتظرت أمرالطبيب حتى سمح لها بالدخول لرؤيته لدقائق‬


‫ً‬
‫معدودة‪ ،‬وبداخل الغرفة انخلع قلبها لرؤيته محاطا باألجهزة‬
‫التي تساعده على البقاء ً‬
‫حيا‪ ،‬فانهمرت دموعها ورفعت كف‬

‫‪537‬‬
‫ً‬
‫يدها تكتم شهقاتها‪ ،‬تبكي سنوات قضتها بعيدة عنه‪ ،‬وحين‬

‫أتت لها الفرصة لرؤيته كان بهذا الوضع‪ ،‬حتى ضمه ال تقدر‬

‫عليه بحالته تلك‪ .‬اقتربت من الفراش تجلس على ركبتيها‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تتناول يده بين كفيها تحتضنها‪ ،‬تقبلها‪ ،‬تسقط دموعها‬

‫عليها‪ ،‬تدعو أن ينجيه هللا حتى تستطيع تعويض تلك‬

‫السنوات التي قضتها دونه‪.‬‬

‫طلبت منها املمرضة الخروج‪ ،‬أغشت دموعها عينيها‬

‫فتعثرت‪ ،‬اتكأت على ذراع املمرضة لتساعدها‪ ،‬وخارج‬

‫الغرفة احتضنتها (بيان)‪ ،‬تسألها من وسط دموعها عن‬

‫حاله‪ ،‬فأجابتها بكلمة واحدة‪:‬‬

‫‪ -‬ادعيله‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫لم ينتبها إلى النظرات املتعجبة حولهما‪ ،‬وأول ما لفت‬

‫انتباههما هو سؤال (كرم) لوالده‪:‬‬

‫‪ -‬مين دي؟‬

‫(كرم) الذي انتبه على لفظها كلمة "ابني" حين كانت تحادث‬

‫والده‪ ،‬تقصد بها ذلك الر اقد بالغرفة بين الحياة واملوت‪.‬‬

‫نكس والده رأسه يخبره بخزي عما فعله باملاض ي‪ً ،‬‬
‫نادما على‬

‫تفرقة أم عن أطفالها‪:‬‬

‫‪ -‬مامتكم‪.‬‬

‫وتلك الكلمة كانت كصاعقة سقطت فوق رؤوسهم‪ ،‬وقفت‬

‫(ريم) مصدومة برؤية تلك التي تركتهم باملاض ي‪ ،‬و اقترب منها‬

‫‪539‬‬
‫(كرم) يحاول التحكم بغضبه ومراعاة املكان واألشخاص‬

‫حوله‪:‬‬

‫‪ -‬أمي اللي سابتنا و اتخلت عننا وإحنا صغيرين!‬

‫زعق به والده يوقف استرسال اتهاماته‪:‬‬

‫‪ -‬بس يا كرم‪ ،‬إنت مش فاهم حاجة‪.‬‬

‫حادث (أدهم) كسركبريائه‪ ،‬جعله يرغب بإصالح خطأ‬

‫املاض ي الذي دفع ثمنه أوالده حين مأل قلوبهم كره تجاه‬

‫والدتهم‪.‬‬

‫رأى السؤال بعين ابنه‪ ،‬وقبل أن ينطق به كان يجاوبه‪ ،‬يخبره‬

‫عن منعه والدتهم من رؤيتهم‪ ،‬يخبره أنه أخبرهم بتركها لهم‬

‫‪540‬‬
‫بينما هو من حرمها منهم‪ ،‬انفصلت عنه ألنه كان دائم الشك‬
‫وهي لم تتحمل الحياة معه‪ ،‬فكان عقابه لها أن ّ‬
‫فرق بينها‬

‫وأطفالها‪.‬‬

‫لم تحتج (ريم) لسماع املزيد‪ ،‬اندفعت تجاه والدتها‬

‫تحتضنها‪ ،‬تعوض ما ُحرمت منه لسنوات‪.‬‬

‫وبلحظة كشف الحقائق حان دورها‪ ،‬أمسكت يد (بيان)‪،‬‬

‫تنظرإلى زوجها السابق‪ ،‬تخبره من وسط دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬بيان… بنتك‪.‬‬

‫‪541‬‬
‫اتسعت عيناه بصدمة‪ ،‬رآها برفقتها يوم خطبة (كرم) ولم‬
‫يأت بباله أن تكون ابنته‪ ،‬نظرإليها يطلب توض ً‬
‫يحا‪،‬‬

‫فاسترسلت باعتر افاتها‪:‬‬

‫‪ -‬بعد ما طلقتني عرفت إني حامل‪ ،‬ملا فقدت األمل إني‬

‫أشوف والدي تاني خفت أقولك إني حامل‪ ،‬خفت‬

‫تاخدها مني وتحرمني منها هي كمان‪.‬‬


‫َّ‬
‫واملفاجآت الكثيرة ولدت لديه ضغط كبير‪ ،‬انفجربوجه‬

‫والديه حين صرخ بهما‪:‬‬

‫‪ -‬إنتو بتاخدوا قرارات بالنيابة عننا؟‬

‫يخص والده بالحديث‪:‬‬

‫‪542‬‬
‫‪ -‬إنت قررت تعاقبها وتحرمها مننا‪ ،‬ووهمتنا إنها اللي‬

‫سابتنا ومش عايزانا‪.‬‬

‫يتوجه بنظراته إلى والدته يوجه حديثه إليها‪:‬‬

‫إنت قررتي تستسلمي وتكتفي ببنتك‪ ،‬وجاية بعد‬


‫‪-‬و ِ‬
‫السنين دي كلها تفاجئينا إن لنا أخت!‬

‫يوزع نظراته بينهما‪ ،‬غضبه يزداد داخله‪ ،‬يخش ى أن يتفوه‬

‫بش يء أحمق فآثرالصمت واالكتفاء بنظرات الغضب‬

‫والعتاب‪ ،‬ثم فرهارًبا قبل أن يحدث ما يزيد من غضبه‪،‬‬


‫ً‬
‫تبعه (أمجد) الذي تفاجأ برد فعله‪ ،‬لم يتوقع منه هو خاصة‬

‫كل هذا الغضب‪ ،‬لكنه أرجع األمرإلى خوفه وقلقه على‬

‫‪543‬‬
‫شقيقه‪ .‬رحل (أمجد) خلف (كرم)‪ ،‬وترك البقية خلفه‬

‫يعيدون لم شمل بعثرة املاض ي‪.‬‬

‫*************‬

‫عندما تفقد كل أحبائك ويسيطرعليك شعور الوحدة‪ ،‬تجد‬

‫يد حانية تربت على كتفك‪ ،‬تمد لك كل العون‪ ،‬تخبرك أنها‬

‫بجانبك متى احتاجتها‪.‬‬

‫ظنت أنها أصبحت وحيدة بموت والدتها‪ ،‬لكن (سليم) لم‬

‫يتخل عنها‪ ،‬وقف بجانبها‪ ،‬ساندها بوجه شقيقتها وزوجها‪.‬‬

‫‪544‬‬
‫أصرعلى أن يتحمل مسؤوليتها وطفليها‪ ،‬يعلم أن الوقت لم‬

‫يكن مناسب لكنه أصرعلى عقد القران؛ فهو السبيل‬

‫الوحيد ليكون بالقرب الذي يؤهله لحمايتها‪.‬‬

‫وأمام إصراره والظروف املحيطة‪ ،‬لم يسعها سوى‬

‫املو افقة‪ ،‬أضحت زوجته‪ ،‬يجمعهما منزل واحد‪.‬‬

‫ً‬
‫مراعيا لحزنها على والدتها‪ ،‬يعلم أن حالتها النفسية‬ ‫وهو كان‬

‫سيئة جراء األحداث التي مرت بها‪ ،‬فلم يطلب منها ما هو‬

‫أكثر‪ .‬بعد وصولهم ملنزله شعربتوترها‪ ،‬اقترب منها يمسك‬

‫كتفيها برفق‪ ،‬يجذب نظرها إليه‪ ،‬وبابتسامة مطمئنة‬

‫أخبرها‪:‬‬

‫‪545‬‬
‫‪ -‬أنا عارف إن الظرف مكنش يسمح بدا بس مكنش‬

‫أدامي حل تاني‪ ،‬مكنتش أقدرأسيبك‪ ،‬مش هينفع‬

‫تقعدي معاهم وال كان ينفع أسيبك في أي مكان تاني‬

‫لوحدك‪.‬‬

‫رفعت يدها تمحو دموعها التي انسالت على وجنتيها‪ ،‬تخبره‬

‫بنبرة حزن طغت عليها‪:‬‬

‫ً‬
‫شكرا على وقفتك جنبي يا سليم‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ً‬
‫أمسك يدها‪ ،‬ونظراته إليها تنبض بالحب‪ ،‬نبرته تهيم عشقا‬

‫بها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا عملت كده عشان بحبك يا سيرين‪.‬‬

‫‪546‬‬
‫ً‬
‫صمت قليال بعد أن أربكها بكلماته‪ ،‬ثم أكمل حديثه‪:‬‬

‫عليك في حاجة‪ ،‬اعتبرينا لسه مخطوبين‪،‬‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬أنا مش هضغط‬

‫ولو تحبي أسيب لك البيت و أقعد أنا عند أي حد من‬

‫أصحابي مفيش مشكلة‪ ،‬بس أنا كده مش هكون مطمن‬

‫عليكم‪.‬‬

‫‪ -‬و أنا مش هكون مطمنة غيربوجودك‪.‬‬

‫أخبرته بها بخجل‪ ،‬وحين رأت ابتسامته غيرت دفة الحديث‬

‫تسأله عن ابنته (تالين) التي لم ترها منذ مجيئهم‪ ،‬فأخبرها‬

‫أنه يتركها برفقة جارة له حين يضطرللخروج أو أثناء عمله‪،‬‬

‫فأخبرته بابتسامتها الشاكرة له‪:‬‬

‫‪547‬‬
‫‪ -‬بعد كده هتفضل معايا‪ ،‬مفيش جيران تاني خالص‪.‬‬

‫طبع قبلة أعلى جبهتها‪ ،‬ثم أخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬هروح أجيب تالين‪ ،‬وأجيب أكل نتعش ى سوا على ما‬

‫إنت والوالد‪.‬‬
‫ترتبي حاجتك ِ‬

‫رحل وتركها تستكشف املنزل‪ ،‬تخطو أولى خطواتها على‬

‫أعتاب حياتها الجديدة املقبلة عليها‪.‬‬

‫**********‬

‫الحاضر ٌ‬
‫وهم نبنيه فوق سراب املاض ي‪.‬‬

‫الحياة أكذوبة ضعيفة البناء‪ ،‬ينهش املاض ي أساسها‪،‬‬

‫فيتهدم حاضرها فوق رؤوسنا‪.‬‬

‫‪548‬‬
‫بلحظة اكتشف أنه عاش ضحية خدعة من والده‪،‬‬

‫واستسالم والدته لحرمانها من أطفالها‪ ،‬يلوم كالهما على‬

‫حان يحتوي وقت‬ ‫حضن‬ ‫عن‬ ‫ا‬ ‫بعيدا عنها‪ً ،‬‬


‫بعيد‬ ‫نشأته ً‬
‫ٍ ٍ‬
‫احتياج‪.‬‬

‫لم يلتفت لنداءات (أمجد) املتكررة‪ ،‬لقد كان يحتاج أن‬

‫يبقى بمفرده‪ ،‬يحاول السيطرة على غضبه ليفكربهدوء‪.‬‬

‫تذكرأنه رأى تلك الفتاة التي أخبروه أنها شقيقته من قبل‪،‬‬

‫أجهد ذاكرته حتى وصل ملبتغاه‪ ،‬وحينها انطلق إلى وجهته‪.‬‬

‫ً‬
‫مرحبا به‪ ،‬يعتذرعن قدومه‬ ‫بمنزل (روفيدا) استقبله والدها‬
‫ً‬
‫فجأة دون إبالغهم مسبقا‪ ،‬يخبره أنه يريد التحدث مع‬

‫‪549‬‬
‫خطيبته بأمرهام‪ ،‬تلك التي شعرت بالقلق فور رؤيته؛ يبدو‬

‫عليه التعب واإلرهاق‪.‬‬

‫جلست جواره تسأله بقلق واهتمام‪:‬‬

‫‪ -‬مالك يا كرم؟ في حاجة حصلت؟‬

‫نظرإليها والحزن يطل من عينيه‪:‬‬

‫‪ -‬أدهم عمل حادثة‪.‬‬

‫شقيقه الذي لم يستطع أن يكون بجواره اآلن‪.‬‬

‫شهقت بعنف‪ ،‬هيئة (كرم) توضح أن الحادث خطير‪ ،‬دعت‬

‫له أن يكون بخير‪ ،‬حاولت التخفيف عن الجالس برفقتها‪:‬‬

‫‪ -‬إن شاء هللا هيكون كويس‪.‬‬

‫‪550‬‬
‫هزرأسه دون أن يجيب‪ ،‬مسح وجهه بكفيه قبل أن يفاجئها‬

‫بسؤاله‪:‬‬

‫‪ -‬تعرفي بيان من امتى؟‬

‫تعجبت من تحول مسارحديثه‪ ،‬لكنها أجابته‪:‬‬


‫ً‬
‫وتقريبا مليش صاحبة غيرها‪.‬‬ ‫‪ -‬من وقت رجوعي مصر‬

‫سألها بلهفة يرغب بمعرفة املزيد ليروي فضوله‪:‬‬

‫‪ -‬تعرفي إيه عنها‪ ..‬عن والدتها‪ ..‬عيلتها؟‬

‫‪ -‬في إيه يا كرم؟ ليه األسئلة دي؟‬

‫توسلها بإنهاك أن تجيب أسئلته فقط‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري يا روفيدا جاوبي من غيرما تسألي‪.‬‬

‫‪551‬‬
‫تلك أسرارصديقتها‪ ،‬لكن بداخلها فضول لتعلم سراهتمام‬

‫خطيبها بها‪ ،‬أخبرته ما تعلمه دون الدخول في تفاصيل‪:‬‬

‫‪ -‬اللي أعرفه إنها عايشة مع طنط مروة لوحدهم ومفيش‬

‫لهم قرايب‪.‬‬
‫ً‬
‫توقفت قليال مترددة قبل أن تخبره بالبقية‪:‬‬

‫‪ -‬بيان كانت بتدور على عيلتها‪ ،‬ومن كام شهربس مامتها‬

‫اعترفت لها إن باباها موجود ولها أخوات بس متعرفش‬

‫عنهم أي حاجة‪.‬‬

‫أسند (كرم) رأسه على ظهراألريكة‪ ،‬يمسد جبهته بأصابع‬

‫يده‪ ،‬هناك قطع باألحجية مازالت ناقصة له‪ ،‬والستكمالها‬

‫‪552‬‬
‫عليه أن يعود لوالده‪ ،‬أو ربما يجد جواب أسئلته لدى‬

‫(أمجد) الذي أتى بوالدته وشقيقته إلى املشفى‪.‬‬

‫ازداد قلق (روفيدا) عليه‪ ،‬وضعت يدها أعلى ذراعه تربت‬

‫عليه‪:‬‬

‫‪ -‬في إيه يا كرم؟ إنت بتسأل عن بيان ليه؟‬

‫اعتدل بجلسته‪ُ ،‬يلقي مفاجأته بوجهها‪:‬‬

‫‪ -‬بيان تبقى أختي‪.‬‬

‫انتقلت صدمته إليها‪ ،‬وليريحها قص عليها ما عرفه منذ‬

‫قدومهما لرؤية شقيقه باملشفى‪.‬‬

‫************‬

‫‪553‬‬
‫الندم يأتي بعد فوات األوان‪ ،‬بعد أن تتسرب الحياة من بين‬

‫يديك‪.‬‬

‫تحيا بسعادة‪ ..‬منزل دافيء وأسرة هانئة‪ ،‬ال يعكرصفوها‬

‫ش يء‪ .‬ثم تستمع لوساوس الشيطان‪ ،‬تنقاد وراء رغباتك‪،‬‬

‫تهدم حياتك بيدك‪ ،‬وتدمرما تبقى منها تحت األنقاض‪ .‬ثم‬

‫يأكلك الندم‪ ،‬لتكتشف أن الوقت قد تأخرعلى شعورك‬

‫هذا‪.‬‬

‫هو السبب بكل ما يحياه اآلن‪ ،‬انجرف وراء شعور زائف‬

‫بالحب‪ ،‬أقنعته شقيقة زوجته أنه يحبها وأنها تبادله‬

‫مشاعره‪ ،‬وضعت الخطة ليبعد زوجته وتحتل هي الصورة‪،‬‬


‫ُ‬
‫وهو استمع لحديثها كاملغيب‪ .‬والنتيجة كانت دمارللعائلة‪،‬‬

‫‪554‬‬
‫ابتعد عن أبنائه‪ ،‬ويحيا بمشاكل وشجارات من وقتها‪،‬‬

‫واألدهى أن شعور الغيرة يتملك منه لزواج (سيرين)؛ كان‬

‫يعتقد أنها ملكه فقط‪ ،‬ولن تكون لغيره بعد انفصالهما‪،‬‬

‫أنانيته صورت له أنها ستحيا من أجل أطفالها ولن تتزوج‬

‫بعده‪.‬‬

‫انتشله من أفكاره صوت (أسيل)‪ ،‬نظرإليها ليراها ترتدي‬

‫مالبسها تستعد للخروج‪ ،‬تتعجله بعصبية‪:‬‬

‫‪ -‬إنت لسه مجهزتش؟ يال هنتأخرعلى ميعاد الدكتورة‪.‬‬

‫ال يطيق رؤية وجهها اآلن‪ ،‬هو شريك معها بكل ما فعاله‪،‬‬

‫لكنه ُيحملها هي الذنب األكبر‪ ،‬يبرر لنفسه أنها من أغوته‪.‬‬

‫‪555‬‬
‫نظرإليها يخبرها دون اكتراث لطلبها‪:‬‬

‫معاك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬تعبان‪ ،‬مش هقدرأجي‬

‫‪ -‬كل مرة حجة شكل‪.‬‬

‫ستبدأ وصلة شجارال يريدها اآلن‪.‬‬

‫وقفت أمامه بتصميم تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬هتيجي معايا يا عاصم‪ ،‬مش كل مرة تتحجج‪.‬‬

‫وليريح رأسه استسلم لها‪ ،‬هذا هو ما يفعله من البداية؛‬

‫يخضع لرغباتها‪.‬‬
‫بالسيا ة لم يتفوه بكلمة‪ ،‬شا د بتفكيره ً‬
‫بعيدا عنها‪ ،‬األمر‬ ‫ر‬ ‫ر‬

‫الذي أغضبها‪:‬‬

‫‪556‬‬
‫‪ -‬ابتسم حتى‪ ،‬متحسسنيش إن وخداك غصب‪ ،‬اللي في‬

‫بطني دا ابنك زي ما هو ابني‪.‬‬

‫وكأنها بجملتها أشعلت فتيل غضبه‪ ،‬لم ينتبه إلى املنعطف‬

‫الخاطيء الذي اتخذه‪ ،‬فقط التفت إليها يصب عليها جام‬

‫غضبه‪ ،‬يمسك عجلة القيادة بيسراه‪ ،‬ويمناه تتمسك‬

‫بذراعها يهزها بعنف‪ ،‬يصرخ بها‪:‬‬

‫إنت دمرتيلي حياتي‪،‬‬


‫إنت السبب في كل دا‪ِ ،‬‬
‫‪ -‬كفاية بقى‪ِ ،‬‬
‫بعدتيني عن مراتي وأوالدي وخربتي بيتي‪ ،‬بيت أختك‬

‫وكنت بتتبسطي بعذابها‪.‬‬


‫اللي قتلتيها بالحياة ِ‬

‫انتشلت ذراعها من يده‪ ،‬تصرخ به هي األخرى‪:‬‬

‫‪557‬‬
‫‪ -‬إنت مش طفل وال أنا ضربتك على ايدك تعمل كده‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬فعال أنا مش طفل‪ ،‬وعشان كده الوضع دا الزم يتصلح‪.‬‬
‫ً‬
‫صحيحا فسألته‪:‬‬ ‫نظرت إليه‪ ،‬تخش ى أن يكون ما فهمته‬

‫‪ -‬تقصد إيه؟‬

‫والجواب لم يأتها منه‪ ،‬بل أتاها من صوت زمور سيارة‬

‫متتالي‪ ،‬وأضواء كشفاتها تصدح بعينيها‪ ،‬لم تملك الوقت‬

‫لتخبرزوجها أن ينتبه؛ فبلحظة واحدة حدث االصطدام‪،‬‬

‫اصطدام كان اللحظة الفارقة بين الحياة واملوت‪.‬‬

‫***********‬

‫‪558‬‬
‫)‪(19‬‬
‫ً‬
‫مرحبا بك في نهاية الرحلة‪ ،‬حيث كتب الراوي آخرسطر‬

‫كل بمكانه املناسب‪ ،‬وسطر‬


‫بحكايته‪ ،‬وضع شخصياته ٍ‬
‫بأحرفه النهاية املناسبة‪ .‬بحث تحت األنقاض‪ ،‬وأعاد‬

‫لألطالل الحياة‪ ،‬بث فيها الروح لتنبض من جديد‪.‬‬

‫**********‬
‫ُ‬
‫املوت ليس نهاية املطاف‪ ،‬بل هو الحياة‪ ،‬فرصة جديدة تمنح‬

‫لنا لنعيد ترتيب أولوياتنا‪ ،‬صفحة جديدة نسطربها رحلتنا‬

‫القادمة‪ ،‬وعلينا الحذرأال نسلك درب الخطأ مرة أخرى‪.‬‬

‫*********‬

‫‪559‬‬
‫َّ‬
‫نحن نأتي الحياة صغا ًرا‪ ،‬نكبرونتعلم‪ ،‬نسيربدرب خطه‬

‫القدرلنا‪ ،‬نقابل أشخاص يؤثرون بنا ونتأثربهم‪ ،‬قد يؤذوننا‬


‫ُ‬
‫أو نؤذيهم‪ ،‬نفعل ما يحلو لنا‪ ،‬نصيب ونخطيء‪ ،‬ولكننا نغفل‬
‫ً‬
‫دائما أننا قد ال نملك الوقت لتصحيح ما نرتكبه من أخطاء‪.‬‬

‫أخطأ وغفل‪ ،‬أخذته السكرة ليتجبرويظلم‪ ،‬وحين أدرك‬

‫فداحة الخطأ لم يجد الوقت ليعتذرأو يعيد األشياء‬

‫لنصابها‪ ،‬داهمه املوت بلحظة لينتشل منه أي فرصة أخرى‬

‫بالحياة‪.‬‬

‫لم يستطع تفادي االصطدام الحتمي‪ ،‬والذي كان أكثرقوة‬


‫ً‬
‫مدهوسا بين‬ ‫من الجهة التي يجلس بها؛ حيث وجد نفسه‬

‫‪560‬‬
‫املقعد وعجلة القيادة التي تضغط على أضلعه‪ ،‬قدمه‬

‫عالقة‪ ،‬وألم شديد يداهمه‪.‬‬

‫الجالسة جواره لم تستطع الحركة هي األخرى‪ ،‬األلم‬

‫يداهمها بكل شبربجسدها‪ ،‬تشعربالروح التي ُسلبت من‬

‫داخلها؛ وكان هذا أملها األكبر‪ .‬آخرما تذكراه قبل فقدانهما‬

‫الوعي هو صوت بوق سيارة اإلسعاف‪ ،‬وما تالها من أحداث‬

‫لم يعلما عنها ش يء‪.‬‬

‫وصال إلى املشفى التي يعمل بها (سليم)‪ ،‬ليتعرف على‬

‫شقيقة زوجته برغم إصابة وجهها‪ ،‬وتأكد من االستعالمات‬

‫من أوراق ثبوتهما التي وجدوها برفقتهما‪ .‬تابع حالتهما‪ ،‬دخل‬

‫غرفة العمليات برفقة (عاصم) الذي عاد إليه وعيه‬

‫‪561‬‬
‫للحظات حاول فيها أن يتفوه بش يء ما‪ ،‬ولم يستطع (سليم)‬

‫سماع سوى حرف "س" مكسور‪ ،‬ظنه يريد االطمئنان على‬

‫زوجته‪ ،‬فاقترب منه يخبره أنها بغرفة عمليات أخرى‪ ،‬يحاول‬

‫طمأنته على وضع ال يعرف شدة خطورته بعد‪:‬‬

‫‪ -‬إن شاء هللا هتبقى كويسة‪.‬‬

‫لكن هذا ما لم يكن يعنيه اآلخر‪ ،‬فهو يقصد تلك األخرى‬


‫ً‬
‫مؤخرا‪ ،‬فجاهد لتخرج كلماته أكثر‬ ‫التي كسرها بحياته‬
‫ً‬
‫وضوحا للو اقف جواره‪:‬‬

‫‪ -‬سيرين… تسامحني‪.‬‬

‫‪562‬‬
‫والقدرلم يمنحه الوقت لينال سماح‪ ،‬حيث علت صافرات‬

‫األجهزة تعلن مفارقة الروح للجسد‪ ،‬وفشلت كل محاوالت‬

‫استعادتها‪.‬‬

‫وبالغرفة املجاورة كانت (أسيل) بين أيدي األطباء‪ ،‬يخرجون‬

‫من رحمها جنين فارق الحياة إثرالحادث وخرج معه موطنه‬

‫الذي كان يحيا به الشهور املنصرمة؛ حيث النزيف لم‬

‫يتوقف سوى بإزالته‪ ،‬وأضحت خسارتها مالزمة لها طوال‬

‫الحياة‪ ،‬خسرت أمومتها‪.‬‬

‫***********‬

‫‪563‬‬
‫للموت رهبة‪ ،‬تنس ى معها أي أذى مربحياتك‪ ،‬وكل ما تتذكره‬

‫أن من يحيا لحظاته هو من دمك‪ ،‬يريد عونك ومساندتك‪.‬‬

‫سارعت إلى املشفى بعد أن هاتفها زوجها يطلب منها أن تترك‬

‫األوالد برفقة جارتها‪ ،‬يخبرها أن شقيقتها وزوجها تعرضا‬

‫لحادث‪ ،‬لم يذكر لها التفاصيل إال بعد قدومها‪ ،‬أخبرها أن‬

‫الزوج توفى فور قدومه وآخرما طلبه هو العفو منها‪ ،‬أما عن‬

‫شقيقتها فقد فقدت جنينها وأمومتها‪ .‬انهارت باكية‪ ،‬تشعر‬

‫داخلها بما تشعربه شقيقتها؛ فأكثرفقد مؤلم لألنثى هو ما‬

‫تعرضت له‪ ،‬فاألنثى تحيا فقط ألجل اليوم الذي تمارس فيه‬

‫أمومتها التي تطغي عليها منذ صغرها بلعب العرائس‪.‬‬

‫‪564‬‬
‫ذهبت لغرفة شقيقتها بعد أن علمت بإفاقتها‪ ،‬محت دموعها‬

‫وحاولت أن تتحلى بالشجاعة لتستطيع مساندتها‪ ،‬لكن رد‬

‫فعل شقيقتها أخبرها أنها مخطئة؛ حيث ظنت بها السوء‪،‬‬

‫صرخت بها فور رؤيتها‪:‬‬

‫‪ -‬جاية ليه؟ جاية تشمتي فيا؟‬

‫اقتربت منها تنفي عنها اتهاماتها‪:‬‬

‫إنت بتقوليه دا يا أسيل! أنا جاية عشان أكون‬


‫‪ -‬إيه اللي ِ‬
‫جنبك في ظروفك‪.‬‬

‫واألخرى ترفض سماع كلماتها‪ ،‬تواصل قذف سهامها‪:‬‬

‫‪565‬‬
‫‪ -‬أنا بكرهك‪ ،‬آخرحاجة قالهالي قبل الحادثة إنه ندمان‬

‫إنت‬
‫على جوازنا‪ ،‬دايما بتاخدي مني كل حاجة بحبها‪ِ ،‬‬
‫السبب؛ كنا بنتخانق بسببك ومخدش باله من الطريق‪،‬‬

‫أنا بكرهك يا سيرين‪.‬‬

‫ومع انهيارشقيقتها طلبت منها املمرضة الخروج‪ ،‬ركضت‬


‫َ‬ ‫ُ‬
‫للخارج ال تتحمل سماع املزيد‪ ،‬فشقيقتها تحملها هي الذنب‬

‫بعد كل ما فعلته بها‪.‬‬

‫اقترب منها زوجها يحتضنها‪ ،‬دفنت رأسها بصدره تبكي‬

‫بحرقة‪:‬‬

‫‪566‬‬
‫‪ -‬أنا عملت إيه؟ بعد كل اللي عملوه فيا بتحملني ذنب‬

‫اللي حصل لهم؟‬

‫ربت على كتفها يصطحبها إلى خارج املشفى‪ ،‬يود العودة بها‬

‫إلى منزلهما‪:‬‬

‫‪ -‬اهدي يا سيرين‪ ،‬هي من الصدمة أكيد قالت كالم‬

‫متقصدوش‪.‬‬

‫رفعت رأسها إليه تسأله‪:‬‬

‫‪ -‬هي هتبقى كويسة؟‬

‫أهداها ابتسامة يطمئنها على حال شقيقتها‪:‬‬

‫‪567‬‬
‫ً‬
‫صحيا كويسة الحمد هلل‪ ،‬غيرموضوع الجنين‬ ‫‪ -‬هي‬

‫والرحم عندها كسرفي ايدها وتمزق في رجلها‪،‬‬

‫واملستشفى هتوفرلها دكتورة نفسية عشان حالتها‪.‬‬

‫مسحت دموعها تطلب منه‪:‬‬

‫‪ -‬يال عشان منتأخرش على الوالد‪.‬‬

‫تقرر داخلها أن تطوي صفحة املاض ي املؤلم‪ ،‬وشقيقتها‬

‫ستطمئن على حالتها عن طريق زوجها‪ ،‬حياتها القادمة‬

‫ستحياها فقط من أجل زوجها وأطفالهما‪.‬‬

‫**********‬

‫‪568‬‬
‫هناك لحظات ال يمكنك التهرب منها‪ ،‬يتحتم عليك أن‬

‫تواجهها مهما مرالزمن‪.‬‬

‫لم يخطربباله أن يقف اآلن يواجه أبنائه‪ ،‬يرى نظرات اتهام‬


‫ً‬
‫بادية عليهم‪ُ ،‬ي َحملونه ذنب حياة عاشوها بعيدا عن‬

‫والدتهم‪.‬‬
‫ً‬
‫عاد من املشفى إلى منزله ليسترح قليال قبل أن يعود‬

‫لالطمئنان على (أدهم) مرة أخرى‪ ،‬ير افقه (كرم) و(ريم)‬

‫اللذان أوقفاه قبل دخوله غرفته‪ .‬بدأ (كرم) الحديث‬

‫يسأله‪:‬‬

‫‪569‬‬
‫‪ -‬ليه عملت كده؟ عملت إيه عشان عقابها يكون إنك‬

‫تحرمها مننا وتحرمنا منها؟‬


‫نكس أسه أ ً‬
‫ضا‪ ،‬ال طاقة لديه ملواجهتهما‪ ،‬ربما يكون‬ ‫ر ر‬

‫ظلمها لكن شكه وغيرته وقتها هما من تحكما به‪.‬‬

‫اقتربت منه (ريم) تخبره عن حزنها الكامن داخلها‪:‬‬

‫‪ -‬عارف كام مرة احتاجت حضنها؟ عارف كام لحظة‬

‫احتاجتها جنبي تطبطب عليا وتحس بوجعي؟‬

‫يزيدون من عذابه وشعوره بالذنب‪ ،‬يعاود (كرم) الحديث‪:‬‬

‫‪ -‬عمرك حطيت نفسك مكانها؟ لو كنت اتحرمت مننا كل‬

‫الفترة دي كان هيكون إيه شعورك؟‬

‫‪570‬‬
‫لم يتحمل املزيد‪ ،‬نظرإليهما يستجدي عاطفتهما‪:‬‬

‫‪ -‬كفاية‪ ،‬انتو متعرفوش كالمكم دا بيعذبني ازاي!‬

‫ليعلو صوت (كرم) ً‬


‫معبرا عن غضبه‪:‬‬

‫‪ -‬وإحنا مكناش بنتعذب؟ مكناش بنصعب عليك و إنت‬

‫شايفنا محتاجين لها؟ مكنتش هي بتصعب عليك وإحنا‬

‫ظاملينها ومعتقدين إنها اتخلت عننا؟‬

‫جلس على أقرب مقعد له يجيبهما بإنهاك‪:‬‬

‫‪ -‬غلطت ودلوقتي جه الوقت اللي أدفع فيه تمن غلطتي‪،‬‬

‫ومستعد ألي عقاب منكم‪.‬‬

‫‪ -‬وعقابك هيعوضها سنين عمرها اللي قضتها بعيد عننا؟‬

‫‪571‬‬
‫زفربضيق يمسح على وجهه‪ ،‬ثم يعاود النظرإلى والده يكمل‬

‫حديثه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مش هعمل زيك و أتسرع وأخد قراروقت غضبي‪،‬‬

‫أهم حاجة دلوقتي نطمن على أدهم وبعدين نفكرفي أي‬

‫حاجة تانية‪.‬‬

‫توجه إلى غرفته تبعته شقيقته‪ ،‬تركاه بمفرده لشعور الندم‬

‫يتغذى عليه‪.‬‬

‫***********‬

‫تمنح الحياة الفرص الثانية ملن يستحقون كمكافأة لهم بعد‬

‫ما عانوه طوال حياتهم‪ ،‬كبداية لتجديد رو ابط املاض ي‪.‬‬

‫‪572‬‬
‫ُمنح فرصة ثانية‪ ،‬عاد إلى الحياة بعد موت وشيك‪ ،‬عادت‬
‫ُ‬
‫أجهزته إلى العمل بشكل منتظم فنقل إلى غرفة عادية الزمته‬

‫بها والدته‪.‬‬

‫مرأسبوع منذ الحادث ال يعلم ما حدث به‪ ،‬هو ُولد من‬

‫جديد‪ ،‬فتح عينيه ببطء ليصدمه ضوء الغرفة فأعاد‬

‫إغالقهما‪ ،‬انتظرلحظات حتى اعتاد الضوء وأعاد فتحهما‬

‫من جديد‪ ،‬وصل ألذنيه صوت همهمات أنثوية تأتي من‬


‫جانبه‪ّ ،‬‬
‫حرك أصابع يده مع صدور نحنحة خافتة منه‬

‫ليلفت انتباه الجالسة جواره‪.‬‬

‫‪573‬‬
‫فور أن الحظت إفاقته حتى اقتربت منه مسرعة‪ ،‬تحتضن‬
‫يده‪ ،‬تقبل جبينه‪ ،‬تنهال دموعها ً‬
‫فرحا باستيقاظه‪ ،‬ظهرهذا‬
‫ً‬
‫جليا بصوتها‪:‬‬

‫‪ -‬حمدهللا على السالمة يا حبيبي‪.‬‬


‫مالمح يعلم صاحبتها ً‬
‫جيدا‪ ،‬فقد كانت هي وجهته حين‬

‫تعرض للحادث‪.‬‬

‫تركت يده مجبرة‪ ،‬ذاهبة لتخبرالطبيب عن استيقاظه‪ ،‬أتى‬

‫ليفحصه وطمأنها على حالته‪ ،‬أمسكت هاتفها تبعث رسالة‬

‫إلى ابنتها تخبرها األمر‪ ،‬تطلب منها أن تخبروالدها وزوجة‬

‫ابنها ليأتوا لرؤيته‪.‬‬

‫‪574‬‬
‫أخبره الطبيب عن حالته حين قال له أنه ال يستطيع‬

‫الحركة‪ ،‬طمأنه أنه سيتماثل للشفاء بمواظبته على جلسات‬

‫العالج الطبيعي‪.‬‬

‫بعد ذهاب الطبيب جلست والدته جواره‪ ،‬تنهال عليه‬

‫بالقبالت‪ ،‬تتمسك به وكأنها تخش ى فقدانه مرة أخرى‪ ،‬ال‬

‫تستطيع إيقاف دموعها‪ ،‬سعيدة بقربه منها‪.‬‬


‫ً‬
‫خرج صوته واهنا يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬كنت جايلك‪ ،‬كنت جاي أسألك ليه سبتينا و اتخليتي‬

‫عننا‪.‬‬

‫‪575‬‬
‫صمت يلتقط أنفاسه‪ ،‬ثم يعود يكمل حديثه‪ ،‬ينظرإليها‬

‫بشوق‪:‬‬

‫‪ -‬بس اللي أنا شايفه وحاسه دلوقتي مشاعرأم مستحيل‬

‫تتخلى عن أوالدها بإرادتها‪.‬‬

‫رفعت يده تقبلها‪ ،‬تخبره من وسط دموعها‪:‬‬

‫‪ -‬قوم بالسالمة ونتكلم في كل اللي عايزتعرفه‪.‬‬

‫حرك رأسه ً‬
‫نفيا‪:‬‬

‫إنت وصلتيلي كل اللي‬


‫‪ -‬مش عايزأعرف حاجة خالص‪ِ ،‬‬
‫كنت عايزأعرفه‪.‬‬

‫‪576‬‬
‫أتى والده وأشقائه لالطمئنان عليه‪ ،‬تعرف إلى (بيان)‪ ،‬علم‬

‫رد فعل شقيقه تجاه والدته حين علم الحقيقة فكانت‬


‫ً‬
‫نظراته له كافية ليقترب (كرم) من والدته محتضنا إياها‬

‫ومعتذ ًرا عما بدرمنه‪.‬‬


‫ً‬
‫واضحا بمالمحها‪ ،‬دموعها متحجرة‬ ‫رأى قلق شقيقته (ريم)‬

‫بعينيها‪ ،‬شاكسها ليعلمها أنه بخير‪:‬‬

‫‪ -‬زعالنة ليه‪ ،‬هنمش ي نسند على بعض بعد كده وال‬

‫هنحتاج حد يسندنا إحنا االتنين؟‬

‫تساقطت دموعها‪ ،‬اقتربت منه ترتكن برأسها على كتفه‪:‬‬

‫‪577‬‬
‫‪ -‬متقولش كده‪ ،‬إن شاء هتبقى كويس وترجع تتحرك‬

‫تاني‪.‬‬

‫ارتكزبنظراته على زوجته الصامتة منذ مجيئها‪ ،‬تركه‬

‫الجميع برفقتها‪ ،‬يهدونها فرصة لتكون معه بمفردها‪ ،‬اقتربت‬

‫تجلس بجواره‪ ،‬فرفع يده يلمس بطنها‪ ،‬يسألها عن حالها‬

‫وطفله بأحشائها‪:‬‬

‫‪ -‬عاملين إيه؟‬

‫أهدته ابتسامة تطمئنه‪:‬‬

‫‪ -‬بخير‪ ،‬مش ناقصنا غير إنك تقوم لنا بالسالمة‪.‬‬

‫أمسك كفها يطبع قبلة بباطنه‪:‬‬

‫‪578‬‬
‫‪ -‬حقك عليا‪ ،‬أنا آسف على كل لحظة زعلتك فيها‪.‬‬
‫ً‬
‫واملتيمة به عشقا لم تجد ما تجيبه به فاكتفت بدموعها‪.‬‬

‫رفع يده يمسح عبراتها‪:‬‬

‫‪ -‬مفيش دموع تاني‪ ،‬في حياة جديدة نعيشها‪ ،‬تعلميني فيها‬

‫ازاي أحبك وبس‪.‬‬

‫سطربكلماته مولد عشقه لها‪ ،‬بداية جديدة ينشدها معها‪.‬‬

‫خرج من املشفى بعد مرورأسبوع آخر‪ ،‬ليبدأ رحلة عالجه‬


‫بمنزله‪ ،‬بين أحضان أسرته التي كان ً‬
‫سببا بإعادة لم شملها‬

‫من جديد‪.‬‬

‫***********‬

‫‪579‬‬
‫وهناك من طمع بفرصة ثانية له‪ ،‬يطلب بداية جديدة تشمل‬

‫غفران عن أخطاء املاض ي‪.‬‬

‫طلب رؤية شقيقته مرة أخرى‪ ،‬وبعد إصرارو افقت؛ فهي‬

‫أرادت أن تمزق املاض ي بأكمله وتنهي مواضيعه العالقة‪.‬‬

‫تجلس أمام شقيقها‪ ،‬ترى ندمه عما فعله بها‪ ،‬يحاول أن‬

‫يبرر لها سبب تخليه عنها‪:‬‬

‫‪ -‬كان ليا شغل مع مراد وقتها‪ ،‬خفت لو ساعدتك يتخلى‬

‫عني وساعتها كنت هخسركل فلوس ي‪.‬‬

‫ينظرإلى حاله وما وصل إليه‪ ،‬يتهكم صوته‪:‬‬

‫‪580‬‬
‫‪ -‬بس ربنا انتقم لك‪ ،‬وبردو خسرت كل حاجة‪ ،‬واللي‬

‫خفت منه يومها حصل بعد سنين بعد ما سبت شغلي‬

‫مع مراد‪.‬‬

‫بداخلها غصة ترفض الغفران‪ ،‬تحمله ذنب ما عايشته من‬

‫شقاء‪ ،‬لكنها ترى ما ناله من عقاب فيرق قلبها لحاله‪،‬‬

‫ونظرات زوجته تستجديها أن تسامحه‪ ،‬ابتسمت له تربت‬

‫على ذراعه‪ ،‬ستفعلها فقط من أجل أسرتها التي اجتمعت‬

‫بها‪:‬‬

‫‪ -‬اللي فات مات يا عصام‪ ،‬احنا والد النهارده‪.‬‬

‫‪581‬‬
‫وبخارج الغرفة جلست (بيان) برفقة (أمجد)‪ ،‬لم تكن تريد‬

‫املجيء خشية مالقاة (مازن)‪ ،‬لكنها لم تجد حجة تخبربها‬

‫والدتها‪ .‬شعر(أمجد) بتوترها‪ ،‬التفاتها الدائم وكأنه سيظهر‬

‫أمامها من العدم‪ ،‬شعربالحزن ألجلها وتمنى لو كان شقيقه‬

‫أمامه ليعيد ضربه مرة أخرى‪.‬‬

‫‪ -‬سافر‪.‬‬

‫نطق بها فنظرت إليه مستفهمة‪ ،‬أوضح لها مقصده‪:‬‬

‫‪ -‬مازن مجاش البيت من ساعة اللي حصل‪ ،‬سألت‬

‫أصحابه عليه قالوا سافر‪ ،‬ومن وقتها منعرفش عنه‬

‫حاجة‪.‬‬

‫‪582‬‬
‫ً‬
‫أومأت له برأسها دون جواب‪ ،‬اطمأنت بداخلها ولو قليال؛‬

‫فعلى األقل لن يظهرأمامها اليوم‪.‬‬

‫أما الجالس جوارها فقد آلم األمرقلبه‪ ،‬فحالتها أنبأته أن‬

‫هناك مسافات بعيدة بينها وبين ما يريده قلبه‪.‬‬

‫*************‬

‫كل شخص ينال نصيبه من السعادة‪ ،‬حين يحين دورك‬

‫تجدها تطرق بابك‪.‬‬

‫مرشهرمنذ خروج شقيقها من املشفى‪ ،‬عادت خالله إلى‬

‫ممارسة عملها‪ ،‬أنهت إعداد منزل (سارة) التي لم يتبق على‬

‫‪583‬‬
‫موعد زفافها سوى أيام قليلة‪ ،‬واليوم كانت على موعد أخير‬

‫معها بمنزلها لتتمم على كل ش يء‪.‬‬

‫وأسفل املنزل لم تجد (سارة)‪ ،‬لكنها وجدت شقيقها هو من‬

‫ينتظرها‪ ،‬وقفت أمامه تبحث بنظرها عنها‪ ،‬لكنه أخبرها‬

‫بعدم مجيئها‪:‬‬

‫‪ -‬سارة بتعتذرمنك‪ ،‬اضطرت تنزل مع يوسف يشتروا‬

‫إنت عارفة مفيش وقت كتيرعالفرح‪.‬‬


‫حاجات للبيت‪ِ ،‬‬

‫‪ -‬حصل خير‪ ،‬عالعموم لو هي احتاجتني في حاجة ممكن‬

‫تكلمني ونحدد ميعاد تاني‪ ،‬عن اذنك‪.‬‬

‫‪584‬‬
‫تنوي الرحيل‪ ،‬وستضيع فرصة أخيرة من بين يده‪ ،‬لكنه أصر‬

‫على استغالل تلك الفرصة اليوم‪.‬‬

‫وقف أمامها يمنع رحيلها‪ ،‬نظرت إليه متعجبة‪ ،‬فبادرها قبل‬

‫أن تخذله شجاعته‪:‬‬

‫‪ -‬ريم‪ ،‬أنا بحبك‪.‬‬

‫اعترف األميرالوسيم‪ ،‬و انتظررد أميرته التي فرت هاربة دون‬

‫أن تجيبه‪.‬‬

‫***********‬

‫‪585‬‬
‫التوترداء يصيب كل فتاة عند اقتراب زفافها‪ ،‬تشعرأن‬

‫هناك الكثيرمن األشياء الناقصة‪ ،‬وأن كارثة كونية ستخرب‬

‫عليها سعادتها بليلة زفافها‪.‬‬

‫هذا بشأن جميع الفتيات‪ ،‬أما عن فتاتنا فكان الهدوء‬

‫يصاحبها‪ ،‬تجلس برفقة والدها تحتس ي كوب الشاي‪،‬‬


‫تضحك برفقته أمام فيلم كوميدي يشاهدانه ً‬
‫معا‪ ،‬فتلك هي‬
‫اللحظات األخيرة لها بمنزل من ّ‬
‫تحمل رعايتها منذ صغرها‪،‬‬
‫تر افقه منذ األمس‪ ،‬تخبره أن زواجها لن يأخذها ً‬
‫بعيدا عنه‪.‬‬

‫قاطع جلستهما السعيدة طرقات الباب‪ ،‬لم تكد تتوجه‬

‫لفتحه حتى فتحه شقيقها من الخارج بمفتاحه؛ فقط كان‬

‫ينبهها أن (يوسف) برفقته‪.‬‬

‫‪586‬‬
‫دخال ليجدا املنضدة أمامهما عامرة بما لذ وطاب من‬

‫الفاكهة ووسائل التسلية الكثيرة‪ .‬اقترب (يوسف) منها‬


‫ً‬
‫متعجبا‪ ،‬يسألها بينما يشيرإلى املنضدة‪:‬‬

‫‪ -‬إيه دا يا سارة؟‬

‫أجابته تبتسم ببالهة‪:‬‬

‫‪ -‬كنت قاعدة بتسلى أنا وبابا‪.‬‬

‫مسح وجهه بكفيه‪ ،‬يستدعي ً‬


‫صبرا على أفعال تلك الو اقفة‬

‫أمامه‪ ،‬نظرإليها يحاول أن يتحلى بالهدوء‪:‬‬

‫‪ -‬سارة‪ ،‬النهارده فرحنا يعني لو مش واخدة بالك‪.‬‬

‫يشيرإلى ساعة يده بينما يكمل حديثه‪:‬‬

‫‪587‬‬
‫‪ -‬عندك ميعاد في البيوتي سنترمن ساعة فاتت وبكلمك‬

‫على الفون مش بتردي‪.‬‬

‫خبطت جبهتها بيدها‪ ،‬سارعت تجاه غرفتها بينما تحدثه‪:‬‬

‫‪ -‬مسمعتش الفون‪ ،‬بص خمس دقايق وهتالقيني جاهزة‪،‬‬

‫اوعى تمش ي‪.‬‬

‫لم يتمالكوا أنفسهم من الضحك على حالها‪ ،‬تخبره أال‬

‫يتركها! لن يستطيع بالتأكيد؛ فهي قد ملكت قلبه ولن يتركها‬

‫مهما غابت عنه‪.‬‬

‫‪588‬‬
‫أسرته طلتها‬
‫وباملساء تناس ى كل ما فعلته طوال اليوم‪ِ ،‬‬
‫بفستان الزفاف‪ ،‬اقترب منها يطبع قبلة على وجنتها‪ ،‬يبتسم‬

‫بينما يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬مبروك عليا‪.‬‬

‫وسطرالراوي بداية جديدة‪ ،‬ولم ينس أن تخلو من السعادة‪.‬‬

‫************‬

‫‪589‬‬
‫الخاتمة‬
‫ُ‬
‫النفوس املريضة بالحقد ال تشفى مهما مرالزمن‪ ،‬بل يظل‬

‫يتزايد داخلها‪ ،‬يتغذى على صاحبها‪ ،‬يحرمه سالمه النفس ي‪.‬‬

‫منذ تماثلها للشفاء وهي تر اقب شقيقتها‪ ،‬تكره حياتها‬


‫ً‬
‫مؤخرا‪ ،‬يتزايد الغضب داخلها‪،‬‬ ‫املستقرة التي حصلت عليها‬

‫ترى أن شقيقتها قد ربحت بينما خسرت هي كل ش يء‪.‬‬

‫لن تتغير‪ ،‬ستظل (أسيل) حاقدة إلى األبد‪ ،‬فهي لم تجد ً‬


‫يوما‬
‫َُ‬
‫من يقوم سلوكها‪.‬‬

‫منذ خروجها من املشفى بعد الحادث الذي تعرضت له ولم‬


‫ً‬
‫صباحا ترتدي مالبسها‪،‬‬ ‫يتغيرروتينها اليومي‪ ،‬تستيقظ‬

‫‪590‬‬
‫تخرج لتربض أسفل منزل شقيقتها‪ ،‬تتبع تحركاتهم من بعيد‪،‬‬

‫تتمنى لو تعكرصفو حياتها‪ ..‬تنتزع منها سعادتها التي حصلت‬

‫عليها‪ .‬وبنهاية اليوم تعود إلى منزلها‪ُ ،‬محملة بشحنات كثيرة‬

‫من الغضب والكره‪ ،‬تنظرإلى وجهها باملرآة‪ ،‬تحادث نفسها‪:‬‬

‫‪ -‬ليه هي توصل لكده و أنا أخسر كل حاجة؟ ليه كل اللي‬

‫رتبت له ميمشيش مظبوط؟‬

‫يتزايد غضبها‪ ،‬ينهش داخلها‪ ،‬تنظرحولها تبعثركل ش يء‪،‬‬


‫ُ‬
‫ُتهشم كل ما تطاله يدها‪ ،‬تغرق املكان حولها في فوض ى كتلك‬

‫التي بداخلها‪.‬‬

‫‪591‬‬
‫هي خططت لكل ش يء‪ ،‬بنت طموحاتها لتكون الرابحة‪،‬‬

‫لكنها خسرت كل ش يء‪ ،‬حتى أموال زوجها بعد وفاته لم تنل‬

‫منها سوى القليل؛ فالنصيب األكبرمن ثروته ذهب ألطفاله‪.‬‬

‫غفلت عن أن الحياة ما هي إلى رهان نحياه‪ ،‬قطعة شطرنج‬

‫نتحرك عليها‪ ،‬وبيدق واحد يمكن أن ُينهي حياة امللك‪.‬‬

‫***********‬

‫تعوضك الحياة عن كل لحظة حزن مرت بك‪ ،‬لتهديك‬


‫ً‬
‫تعويضا عن صبرك وتحملك‪ ،‬وكافأتها الحياة بزوج‬ ‫السعادة‬

‫يحبها‪ ،‬أسرة صغيرة تضمه هو وهي‪ ..‬طفليها وطفلته‪.‬‬

‫‪592‬‬
‫ً‬
‫كان لها يد العون في أشد لحظاتها حزنا‪ ،‬فكانت له مصدر‬

‫السعادة بحياته‪ ،‬وأهدته سعادة زائدة حين أخبرته أن‬


‫أسرتهما الصغيرة ستزداد ً‬
‫فردا ً‬
‫قريبا‪.‬‬

‫***********‬

‫العاشق ال ييأس‪ ،‬يستمربالسعي حتى يجتمع بمن يحب‪.‬‬

‫(ريم) تهربت منه ً‬


‫كثيرا‪ ،‬قابلت طلبه بالرفض مرة فأعاده‬

‫ثانية‪ ،‬يخبرها أنه لن يمل‪ ،‬ولن يتوقف حتى تقبل به‪ ،‬وبنهاية‬

‫املطاف و افقت‪ ،‬أهدته صك امللكية لقلبها‪ ،‬فدمغه بعقد‬

‫قران يجمعهما آلخر العمر‪.‬‬

‫لقاء‪..‬‬

‫‪593‬‬
‫نظرة‪..‬‬

‫نبضة‪..‬‬

‫عشق‪..‬‬

‫معادلة حب كانا هما طرفيها‪ ،‬نبض قلب فبادله اآلخر‬

‫نبضاته‪ ،‬ألقى كيوبيد سهامه‪ ،‬لعب دوره ليجمع عاشقين‬

‫بميثاق حب مدى الحياة‪.‬‬

‫اآلن هما بمفردهما بمنزلهما‪ ،‬هو وهي فقط‪ ،‬وشرارات حب‬

‫تولدت بينهما وقد آن أوان اتحادها‪.‬‬

‫‪594‬‬
‫رغم الخجل‪ ..‬التوتر‪ ..‬اقتربت منه‪ ،‬ترفع عينيها تنظر‬

‫لخاصته‪ ،‬تتقدم بعرض أخبرته من قبل أنه يخصهما‬

‫وحدهما‪:‬‬

‫‪ -‬ترقص؟‬
‫ً‬
‫التقط كفيها‪ ،‬يقرب جسدها إليه‪ ،‬تهيم نظراته عشقا بها‪،‬‬

‫و ابتسامته تعلو وجهه‪:‬‬

‫‪ -‬نرقص‪.‬‬

‫تناولت هاتفها‪ ،‬تبحث عن أغنية محددة تريد أن تر اقصه‬

‫على نغماتها‪ ،‬ومع بدايتها كانت هي تقف قبالته‪ ،‬ذراعه‬

‫‪595‬‬
‫األيمن يحيط خصرها واأليسريضم يدها اليسرى‪ ،‬ويمناها‬

‫تعلو خافقه‪ ،‬تترك له حرية التحكم بجسدها‪.‬‬


‫"حين التقيتك عاد قلبي ً‬
‫نابضا‪ ،‬وجرى هواك بداخلي مجرى‬

‫دمي"‬

‫تتحرك بانسيابية تجاري حركته‪ ،‬تقترب أكثرمنه‪ ،‬تدفن‬

‫نفسها بصدره‪ ،‬تستشعردفء حضنه‪.‬‬


‫ً‬
‫"وشعرت حضنك دافئا‪ ،‬ور أيتني رغم الحياء أذوب فيه‬

‫وأرتمي"‬

‫ترفع رأسها‪ ،‬تعاود النظربهيام لعينيه‪.‬‬

‫‪596‬‬
‫ً‬
‫لجنس تنتمي؟ وملن‬
‫ٍ‬ ‫عصرأو‬
‫ٍ‬ ‫قبيلة وألي‬
‫ٍ‬ ‫"قل لي أيا رجال ألي‬

‫تعود أصول عينيك التي أضحت قناديل الضياء بعاملي؟"‬

‫تتوقف عن الحركة‪ ،‬تتمسك بيده اليسرى‪ ،‬تطبع شفاهها‬

‫قبلتها بباطن كفه‪ ،‬تهمس له‪:‬‬


‫‪َ -‬‬
‫بحبك يا ياسين‪.‬‬

‫يمسك وجهها بين كفيه‪ ،‬يبادلها الهمس‪:‬‬

‫بحبك‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬

‫يميل بوجهه يلثم ثغرها‪ ،‬قبلة تلتها ثانية وثالثة‪ ،‬يترك نفسه‬

‫لبحرالعشق يغرق به‪ ،‬يهيم بها‪ ،‬يتوه بين شفتيها‪ ،‬ومعها‪.‬‬

‫***********‬

‫‪597‬‬
‫ً‬
‫قد يكون حظك من السعادة مضاعفا بليلة واحدة‪ ،‬اليوم‬

‫كان حفل زفاف شقيقته‪ ،‬دق قلبها أخي ًرا بعدما سكن منذ‬

‫الحادث الذي تعرضت له‪.‬‬


‫شعربتململ زوجته جواره‪ ،‬نظرإليها ليرى التعب ً‬
‫باديا‬
‫ً‬
‫عليها‪ ،‬تضغط على شفاهها تكتم أملا داخلها‪ ،‬أمسك يدها‬

‫يسألها بقلق‪:‬‬

‫‪ -‬مالك يا هند؟‬

‫انفجرت باكية ولم تستطع السيطرة على نفسها‪:‬‬

‫‪ -‬أنا شكلي بولد‪.‬‬

‫‪598‬‬
‫ً‬
‫مؤخرا‪،‬‬ ‫وقف يستند على عصاه التي يستخدمها في الحركة‬

‫يبدل مالبسه‪ ،‬يساعدها هي األخرى لتبدل مالبسها‪ ،‬هاتف‬

‫شقيقه ليأتي ليقلهما إلى املشفى‪.‬‬

‫ومع نسمات الفجرأتت طفلته‪ ،‬جلس بجوارزوجته التي‬

‫تحملها بين ذراعيها‪ ،‬يداعب أصابع يدها املنمنمة‪ ،‬يحادث‬

‫زوجته ولم يحد بنظره عن الطفلة‪:‬‬

‫‪ -‬هنسميها إيه؟‬

‫أجابته زوجته دون تفكير‪:‬‬

‫‪ -‬شمس‪.‬‬
‫ً‬
‫حددت االسم مسبقا‪ ،‬وأهدته السبب‪:‬‬

‫‪599‬‬
‫‪ -‬دي الشمس اللي شقشقت في حياتنا‪ ،‬دي اللي حركت‬

‫خوفك وحبك جواك‪.‬‬

‫أشرقت شمسه‪ ،‬وأهدته الحياة التي كان يبحث عنها‪.‬‬

‫*************‬

‫اجتمعت األسرة بمنزل (أدهم)‪ ،‬يحتفلون بقدوم فرد العائلة‬

‫الجديد‪ ،‬تحملها الجدة بين ذراعيها‪ ،‬ترى بها طفولة أبنائها‪.‬‬

‫(مراد) سعيد برؤية السعادة على وجه أبنائه‪ ،‬اعترف بخطأه‬

‫و أنانيته باملاض ي‪ ،‬تحمل عقاب أبنائه له بتجنبه‬

‫ومخاصمته لبعض الوقت‪ ،‬لكنهم سرعان ما سامحوه‬

‫‪600‬‬
‫خاصة بعد أن اعتذرمن والدتهم وسمح بعودتها إلى حياتهم‬

‫مرة أخرى‪.‬‬

‫اقترب (أمجد) من (بيان)‪ ،‬ينوي االعتراف بحبه إليها‪ ،‬فهو لم‬

‫يعد يتحمل أن يخفي األمرداخله‪ ،‬يعتقد أن ما مرمن وقت‬

‫كفيل أن ينسيها فعلة شقيقه‪ ،‬وإن لم تنس فهو قادرعلى أن‬

‫ينسيها كل ش يء بنفسه‪.‬‬
‫ً‬
‫همس بأذنها معترفا‪:‬‬

‫‪ -‬بحبك على فكرة وعايزأتجوزك‪.‬‬

‫التفتت بنظرها إليه متفاجئة وشعور الخجل يغمرها‪ ،‬هي‬

‫تبادله مشاعره‪ ،‬لكن ما فعله شقيقه أبعدها عنه‪ ،‬جعلها‬

‫‪601‬‬
‫تزيد املسافات بينهما‪ ،‬ليأتي هو ويزيل كل تلك املسافات‬

‫باعتر افه‪.‬‬

‫لم يستمع إلى ردها‪ ،‬فأخبرها مرة أخرى‪:‬‬

‫‪ -‬هكلم عمتي وعمي مراد‪.‬‬

‫وفي تلك املو اقف ُيقال أن "السكوت عالمة الرضا"‪،‬‬


‫ب َ‬
‫صمتها وخجلها أعلنت مو افقتها على الزواج منه‪.‬‬ ‫ِ‬

‫************‬

‫ملاذا تجد صعوبة في االعتراف بالحب؟ هل ألنك جربته من‬

‫قبل وما القيته لم يكن سوى الغدر؟ أم ألن الطرف اآلخر‬

‫يستحق ما هو أكثرمن الحب؟‬

‫‪602‬‬
‫كانت تجلس معه بسيارته‪ ،‬أوصلها ملنزلها بعد أن كانت‬

‫برفقته بمنزل شقيقه‪ .‬لم تترجل من السيارة فور وصولهما‪،‬‬

‫بل جلست فترة تفرك بيدها‪.‬‬

‫علم أن هناك ما تود إخباره به‪ ،‬فترك لها الفرصة لتستجمع‬

‫شجاعتها وتخبره ما تود قوله‪.‬‬

‫بدأت الحديث متوترة‪:‬‬

‫‪ -‬إحنا كنا اتفقنا إننا هناخد وقتنا‪ ،‬هتساعدني أنس ى‬

‫املاض ي وتسيبني أنا أحدد وقت جوازنا وقت ما أحب‪.‬‬

‫لم يجب‪ ،‬يعلم أنها ال تنتظرجوابه‪ ،‬ما قالته فقط هو‬

‫مقدمة ملا تريد قوله‪ ،‬وكان على صواب حين أكملت‪:‬‬

‫‪603‬‬
‫‪ -‬ممكن تتفق مع بابا على ميعاد الفرح‪.‬‬

‫نظر إليها يسألها بخبث‪:‬‬

‫‪ -‬معنى كالمك دا إيه؟‬

‫فهم معناه لكنه يريد أن يسمعها منها‪.‬‬

‫‪ -‬معناه إني…‪ .‬إني حبيتك ومفيش غيرك دلوقتي في قلبي‪.‬‬

‫ال تعلم كيف و اتتها الشجاعة لتعترف بها‪ ،‬وفور أن أدركت ما‬

‫تفوهت به حتى تركته لتصعد مسرعة إلى منزلها‪ ،‬تركته‬

‫والضحكة ترتسم على وجهه والسعادة تمأل قلبه‪.‬‬

‫************‬

‫‪604‬‬
‫من أهداك السعادة يستحق ش يء مميز‪ ،‬يستحق أن تهديه‬
‫ُ‬
‫السعادة هو اآلخر‪ ،‬والبد أن يكون لك َبصمتك التي ال تنس ى‪.‬‬

‫ظلت طوال الليل تفكركيف تخبره باألمرحتى اهتدت إلى‬

‫الطريقة‪ ،‬ومع نسمات الصباح كانت تجلس على الفراش‬

‫جواره تنتظراستيقاظه‪.‬‬

‫فتح (يوسف) عينيه ليتفاجأ من جلسة زوجته‪ ،‬اعتدل‬


‫ً‬
‫جالسا يشعربالقلق‪:‬‬

‫‪ -‬في إيه يا سارة؟ قاعدة كده ليه؟‬

‫ناولته بعض البطاقات الورقية تخبره‪:‬‬

‫‪ -‬مستنياك عشان نلعب‪.‬‬

‫‪605‬‬
‫لم يستوعب ما تفوهت به‪ ،‬أي لعب تقصد في هذا الوقت!‬

‫ربت على كتفها يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬ربنا يكملك بعقلك يا سارة‪ ،‬مكنش يومك يا حبيبتي‪.‬‬

‫أمسكت بيده تمنع مغادرته للفراش‪:‬‬

‫‪ -‬يا يوسف أنا مش بهزر‪ ،‬بجد هنلعب‪.‬‬

‫‪ -‬أنا عندي شغل وبالشكل دا هتأخريا سارة‪.‬‬

‫اقتربت منه تطبع قبلة سريعة على شفتيه‪:‬‬

‫‪ -‬عشان خاطري نلعب وبعدين هسيبك تروح الشغل‪.‬‬

‫تحولت نظراته إلى عابثة‪:‬‬

‫‪ -‬بعد اللي عملتيه دا لو اللعبة معجبتنيش هعاقبك‪.‬‬

‫‪606‬‬
‫هزت رأسها عدة مرات بينما تناوله البطاقات مرة أخرى‪:‬‬

‫‪ -‬متأكدة إنها هتعجبك‪ ،‬كل اللي عليك إنك ترتب‬

‫البطاقات دي وتكون منها جملة‪.‬‬


‫ُ‬
‫أمسك البطاقات ينظرإلى ما كتب بداخلها‪ ،‬بعض األحرف‬

‫االنجليزية التي عليه ترتيبها‪ ،‬استغرق األمرمنه بعض الوقت‬

‫حتى رتب الجملة املكونة من ثالث كلمات‪ ،‬وضعها أمامه‬

‫ليقرأها بصوت مرتفع بعض الش يء‪:‬‬

‫‪.Good morning dad -‬‬

‫لم يفهم في البداية‪ ،‬ثم سرعان ما أدرك مقصدها‪ ،‬هي تخبره‬


‫بطريقتها أنها تحمل طفلهما داخلها‪ ،‬هلل ً‬
‫فرحا‪ ،‬اقترب‬

‫‪607‬‬
‫يحتضنها‪ ،‬يمسك وجهها بين كفيه‪ ،‬يسألها بعينيه أن تؤكد‬

‫له ما فهمه‪ ،‬فأمسكت يده تضعها أعلى بطنها‪:‬‬

‫‪ -‬ابنك بيقولك صباح الخير‪.‬‬

‫أمسك برأسها يضمها لصدره‪ ،‬يخبرها‪:‬‬

‫‪ -‬اللعبة دي تستحق أجازة من الشغل النهارده عشان‬

‫نحتفل‪.‬‬

‫***********‬
‫ً‬
‫أغلق الراوي دفاتراملاض ي‪ ،‬تاركا للمستقبل تولي زمام‬

‫األمور‪.‬‬

‫************‬

‫‪608‬‬
‫تمت بحمد هللا‬

‫الجمعة ‪2021/10/1‬‬

‫‪a.m 2:50‬‬

‫‪609‬‬
‫كل من‪:‬‬
‫جزيل الشكرإلى ٍ‬

‫أ‪ /‬أمل يسري‬

‫د‪ /‬نسمة طه‬

‫على ما قدماه لي من مساعدة في القضية الخاصة بحبكة‬

‫(ياسين)‪.‬‬

‫‪610‬‬

You might also like