Professional Documents
Culture Documents
قصص ناقصة
رشيد بن عدي
الكتاب :بؤس وغضب
الكاتب :رشيد بن عدي
الطبعة 2020 :
االيدلع القانوني 20200588 :
ردمك 9879954638965 :
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
بلغت الثالثين ،ال مال في حسابي البنكي وال امرأة في
حياتي! أعيش دون حلم ،دون رغبة ودون حب! أكتب عن
الفزاعات وبائع السجائر بالتقسيط معتقدا طوال الوقت أنني
بذلك قمت بإنجاز عظيم! كل هرائي ال يكفي لشراء سيجارة
واحدة
أحيانا يضحك بشكل هيستيري وحيدا وسط الحقل الكبير ،كان يتخيل لقاءه مع
جارته سعيدة التي يحبها ،طبعا لم يخبرها بذلك لكنه أخبرها عشرات المرات في
خياله ،وفي كل مرة كانت تضحك ،ما جعله يضحك هو اآلخر ..مرحبا أنا فزاعة
حقول وأحبك
حتى بعد وفاة والده استمر في العمل كفزاعة ،لم يكن يجيد أي مهنة أخرى غيرها!
لكن ذلك لم يدم طويال خصوصا بعد أن أهانته جارته حين اعترف لها بحبه!
الحقيقة أنها لم تقل كالما مؤلما بل خنقته بصمتها الذي نجح في ترجمته! أنت
فزاعة بحق الجحيم!
استيقظ اليوم باكرا كالعادة ،صلى الفجر وأرسل دعوة صامتة لربه ،اللهم أبعد
عني العصافير! تنهد مرتين ثم قام من مكانه وارتدى مالبسه وخرج دون أن يوقظ
كلبه األعرج! بضعة أميال ووصل إلى الحقل ..حشر جثته في األسمال وجلس
يتأمل المنظر أمامه! سكون رباني أدخل إلى قلبه االيمان والسرور متناسيا ما
سيعانيه لبقية اليوم! عصفور يردد أغنيته الحزينة وسط العشب ..ضفدعان ممدان
بكسل تحت الشجرة الوحيدة في الحقل! نملة تحمل حبة قمح! سروال داخلي
متسخ ،حذاء قديم! استفاق من سهوه واستغفر هللا وتوكل عليه ووقف! طرد
العصفور الجميل ووقف كشراع مركب قديم! مد يديه ليشكل صليب عيسى! خمس
دقائق ثم انفجر ضاحكا! ماذا أفعل بحق الجحيم؟ أي عمل حقير هذا الذي أزاوله!
حرفة بوك ليغلبوك! أبناء القحبة يسخرون منا! فليذهب أبي وحرفته للجحيم ..لن
أفعل هذا بعد اآلن
أزرار للبيع
لم يجد زياد شيئا يعرضه للبيع غير أزرار معطفه ،جال المدينة كاملة في محاولة
يائسة ليبيعها دون جدوى ،جلس القرفصاء في الشارع يفكر ،رتبها في األرض
وأخذ ينظر إليها ،ما سرك أيتها األزرار الملعونة! لما ال يرغب أحد في شرائك؟
وبينما هو غارق في تساؤالته التي لن تفيده في شيء ،فاجئه متشرد حين سأله :كم
ثمن تلك األزرار الجميلة؟ استغرب زياد وأعاد النظر لألزرار ووجدها جميلة
حقا ،لما لم يالحظ ذلك من قبل! آسف ليست للبيع ،أنا فقط أستمتع بجمالها..
حشر األزرار في جيبه بعنف وعاد إلى غرفته ،وضعها مجددا فوق الطاولة بعد
أن أزاح كل ما فيها من خبز يابس وبعض الجرائد ،أخذ يتأملها من جديد بعين
الناقد ..البد أن أجد الجمال الذي رآه فيها ذلك الغبي ،ما الذي أثاره في أزرار
معطف بال؟ ماذا رأى فيها بالضبط؟ أسئلة كثيرة أرقته دون أن يجد لها جوابا!
تمنى لو كان يملك سيجارة واحدة ليسكت بها هذا الصخب المزعج الذي أثارته
ثالثة أزرار ملعونة في جمجمته الثقيلة ،غرغرت معدته الفارغة طلبا للطعام ،لم
يجد سوى قطعة خبز يابسة كانت فوق الطاولة ،أين هي! قفز من مكانه يبحث
عنها! إله السماء ،سأقبل كل شيء إال اختفاء قطعة الخبز ،هي كل ما أملك ،وهذه
األزرار القبيحة! قرفص يبحث عنها تحت الطاولة ،سقط أحد األزرار واختفى،
نسي الخبز وأخذ يبحث عنه ،قلب الغرفة رأسا على عقب ولم يجده ،وقف جامدا
في مكانه ،همس لنفسه :لقد سرقت للتو! قطعة الخبز كانت أمامه مباشرة لكنه لم
يلمسها ،نسي أمر الجوع ،لقد تعرضت للسرقة! لن يكون اللص غير ذلك
الصرصار المجرم ،فقد سرق قطعة الحلوى التي كنت أحتفظ بها من قبل لحالة
الطوارئ! الحقير ما الذي أعجبه هو اآلخر في هذه األزرار!
أخذ يلوك قطعة الخبز في صمت ،لعنات وشتائم تنفجر داخله دون أن يسمح لها
بالخروج ،كانت تلك حالته منذ قرر االقالع عن الكحول ،بات كل شيء جحيما
لدرجة أنه يتساءل أحيانا :تبا! ما الجدوى؟ لما ال أستمر في السكر؟
يبدأ عذابه منذ ساعات الصباح األولى ،السادسة صباحا بالتحديد ،يبدأ المنبه
بالصراخ بصوته المزعج ،يستيقظ مرعوبا ،يبحث عن المنبه الملعون ليسكته ،ال
يجده ،يتذكر أنه ال يملك منبها ،وال حتى هاتفا يمكن أن يصدر منه صوت كهذا
الذي أيقظه من موته ،يستغرب ،يفكر ،يتثاءب ،جهاز الراديو يشتغل من تلقاء
نفسه ،يثرثر كثيرا دون أن يفهم كلمة واحدة مما يقول ،يصمت الراديو بعد أن
اكتشف أن ال أحد يصغي ،يعود ليغلق عيناه المتعبتان عله يستفيد من بقايا النعاس،
لكن المنبه المجنون يعود للصراخ مجددا ،يلعنه مرة أخرى ،يقوم للحمام ،يتبول
دون مجهود ،البول يأخذ لون الويسكي ،يلوي عنقه جهة المرآة المعلقة في مكان ال
يليق بها ،ال يدري من وضعها هناك ..مرآة غريبة ،خاطب عقله من خاللها:
أخرج من هنا بسرعة ،إنه ليس ويسكي ،أنه بول ،أهرب..
يخرج بسرعة كما أخبر نفسه ،يتوجه إلى المطبخ ،ال شيء هناك سوى كؤوس
فارغة ،ال ال إنها مليئة بالنبيذ ،أين السجائر ،أين الوالعة ،تبا تبا! الكؤوس فارغة!
شعر بخوف رهيب ال يعرف مصدره ،جسده يرتعش بعنف ،ال يفكر بشيء سوى
الخمر ،لم يجد مكانا يهرب إليه سوى سريره البارد ،قفز فيه ونام..
مر الوقت سريعا وعاد المنبه الحقير للصراخ ،فتح عينيه ببطء كمن استفاق من
غيبوبة طويلة ،لم يرى شيئا فعاد وأغلقهما بنفس البطء ،حاول النظر إلى نفسه من
الداخل هذه المرة ،لكنه صدم! فقد رأى ما لم تكن تراه عيناه الكبيرتان ،رأى الكثير
من القبح في وجهه ،رأى مالمحه على حقيقتها ،مالمح ال لون لها ،تجاعيد متطفلة
غزت وجهه في غفلة منه ومن مرآته الكسولة ،قام بسرعة ووقف قبالتها ،لكمها
بكل ما أوتي من حقد :لما لم تنبهيني أيتها الحقيرة!
ارتدى معطفه األصفر ،وقف ينظر إلى المرآة المحتضرة ،أخرج ما في جسمه من
سوائل مقززة وبصقها على ما تبقى منها! بيت ملعون ال فائدة منه! أخذ يصرخ في
الغرف المسدودة ،سأتخلص منكم جميعا حين أعود ،صمت رهيب عم البيت ،خيل
له أنه سمع الكراسي واألواني ترتعد خوفا منه!
أغلق الباب الخارجي بعنف ،الجارة العجوز تصرخ وتلعن ،أشار إليها باألصبع
الوسط واستمر في السير بسرعته المعهودة ،تذكر أن ال وجهة يقصدها فتباطء!
توقف يبحث عن علبة السجائر في جيب المعطف ،لم يجدها وصرخ بكل ما أوتي
من يأس ،البيت الحقير! ابن العاهرة لم ينبهني ،طفح الكيل..
كثور هائج ركل الباب وكسره ،فتح الغرف بعنف ليبدأ في رمي األثاث من النافذة،
لم يجد شيئا ،كان البيت فارغا إال من المرآة المقتولة ،فتح باب غرفته فوجدها هي
األخرى فارغة ،ال سرير وال وسادة ،وال حتى قطعة كرتون ،صدم مرة أخرى ،لم
يجد شيئا يرميه من النافذة فرمى نفسه
المقبرة
فكرت في زيارة المقبرة هذا الصباح ،كان لي صديق يعيش هناك ،ربما سمح لتلك
األرض بأن تبتلعه أخيرا ،وربما ما يزال يحدث األموات ويغني لهم! كنا نغني لهم
معا ،أغاني أزنافور و هامبيردينغ وعبد الحليم ،لكنهم مالعين ال يصفقون لنا،
نغضب ونتبول عليهم ،يطردنا الحارس ونتجول في شوارع الرباط الباردة!
يحدثني عن زوجته وابنته ،عن حلمه الوحيد ،كان يحلم ببيت صغير وحديقة
صغيرة مليئة بالفراشات ،يحب الفراشات كثيرا لكنه يقتلها ،يقول أنها ال تستحق
العيش في مكان كهذا ،مكانها في الجنة ،لهذا يفقد صوابه كلما لمح فراشة ،يجري
خلفها حتى يقتلها ويعتذر
كان رجال صالحا مؤمنا ،ال يكره البشر ويصلي من أجلهم دائما ،يتلو شعرا كوفيا
ويصرخ :إله السماء ،إنهم أغبياء ،ال يعرفون شيئا ،ارحمهم إله السماء! أقف خلفه
وأشتمهم ،إنهم أبناء قحبة ،ال ترحمهم إله السماء! يسمعني ويصرخ في وجهي،
نتبادل الشتائم واللكمات ونفترق
الجوع
ديوني قد بلغت رقما مخيفا ،لم يكن أمامي حل غير خلع وجهي وحشره في كيس
بالستيكي إلى أن أختفي عن أنظار المتربصين ،استمر هذا ألسابيع حتى اعتدتني
دون وجه ،وتقبلت فكرة أن اإلنسان يستطيع أن يعيش دون وجه
وصلت للحضيض ،جلست القرفصاء أحاول تهدئة معدتي الفارغة ،كانت تصدر
أصواتا مرعبة حتى ظننت أنها سترتدي لحافها وتغادر جسدي الهزيل كما تفعل
األمهات ،حاولت إغراقها بالماء لكنني زدت الطين بلة ليس إال ،ارتديت معطفي
وخرجت للشارع ،المعدة تبكي والفراغ الممد في جيب سروالي يضحك عليها،
فكرت في سرقة بعد الطعام لكن رجالي ستخونانني حتما ،فكرت في التسول ،لكن
هذا مستحيل فكرامتي هي التي أوصلتني لهذه الحالة.
الطبيعة تكون رحيمة أحيانا وال تترك أبناءها وتتدخل دائما في الوقت المناسب،
لمحت حافلة للتبرع بالدم ،سأتبرع بالدم وأحصل على وجبة فطور مجانية ،ليست
مجانية طبعا فسأشتريها بدمي ،وقفت أمام الباب ليراني أحدهم ويبتسم في وجهي
ويطلب مني أن أتفضل للتبرع بالدم ،سأرفض في البداية ومن ثم سأصعد للحافلة،
وهذا ما حدث ،استقبلتني سيدة ضخمة لكنها لم تبتسم ،يبدو أنها كشفت أمري ،مع
ذلك قامت بما قامت به ثم شكرتني ،شكرا لك ،يمكنك أن تتفضل اآلن .فكرت في
أنها قد نسيت أن تعطيني وجبتي فتظاهرت بالدوخة حتى أعطيها المزيد من الوقت
لتتذكر ،لكنها عادت لتطلب مني المغادرة ألفسح المكان لمتبرع آخر ،حسنا ،ماذا
عن وجبة الفطور التي تقدمونها للمتبرعين؟ لم يعد لدينا ما نقدمه يا سيدي .ماذا؟ لم
يعد لديكم؟ حتى تفاحة؟ علكة؟ أي شيء بحق الجحيم ،ال شيء؟ هاتي دمي أيها
الكيس المنفوخ ،متأكد أنك التهمت كل شيء
أخذت دمي وخرجت بعد أن ركلت باب الحافلة ،بضع خطوات وسقطت مغشيا
علي
حب الفقراء
األب ال يعمل أو ال يريد أن يعمل ،وحتى إن فعل شيئا فهو يلتقط القنينات
البالستيكية وقطع الكرتون للشركات أو من يدري ألية شياطين يفعل ذلك! األم ال
تعمل ،أوال تريد أن تعمل ،تنام نهارا وتشحذ ليال ،األطفال يلعبون بالجرذان في
غرفة صغيرة ليس فيها دائما ما يؤكل ،يأكلون فقط حين يقدم لهم الطعام ،ال يهمهم
ان كان ما قدم لهم قطعة خراء يابسة أو قطعة خبز ،يأكلون كل شيء! أحيانا
يخرجون للسرقة ،الوضع يكون صعبا من حين آلخر ،ينظرون للسماء ويشعرون
بقذارة الحياة من حولهم وال يستطيعون التفكير في شيء سوى اسكات المعدة،
والسرقة هي الحل الوحيد! وانتهى بهم األمر الى أوغاد صغار مخيفين! والحق
أنهم ليسوا أطفاال بل وحوشا آدمية في أجساد هزيلة
تجتمع األسرة في الليل ،باستثناء األم ،كل يتكوم على نفسه في السنتمترات
الخاصة به ،وكثيرا ما نشبت بينهم حروب بشعة كلما حاول أحدهم تخطي حدود
اآلخر! يسعد األب لتلك المهزلة معتقدا أن في ذلك درسا قيما سيتعلمونه! يتمادى
الصغار في الصراخ وينسى األب الدرس ويبدأ في ركلهم ولكمهم حتى يغمى
عليهم وينامون! ينتظر الزوجة حتى تعود في الرابعة صباحا! يأخذ الحصيلة
ويضاجعها بعنف ثم يدير لها بظهره وينام! ال مانع لديها في ذلك ،فهي تحبه
بالرغم من قسوته واهماله
الحب في القاع ال يشبه الحب ،الخبز الحافي واأليادي المتشققة قد شوهته وحولته
لخطيئة ال تنفع معها صالة! الحب هناك عبارة عن طفل يبيع السجائر على
الرصيف ،الحب هناك صبية تمشي حافية القدمين ،الحب هناك عجوز أرهقه
التفكير في التي كانت لتكون زوجته لوال الفقر ،الحب زوجة تركها زوجها دون
رسالة وداع ،الحب شاب يسرق دراهم أمه ليخرج في موعد غرامي
تبادلنا األنفاس والقبل يوما! الهمس والغمز! لو كان روميو وجولييت حيين لسجدا
لحبنا!
حدث ما حدث وصرنا أعداء ،أبصق على كل ركن جمعنا يوما! وتلعن كل رجل
يذكرها بي! أسخر من صورها وتستهزئ بكتاباتي! جمعتنا الصدفة في شارع
بارد ،توقف الزمن فجأة ،جوارحنا أرادت أن تشتبك ولو لمرة أخيرة ،لكن غرورنا
كان أقوى ،أشعلت سيجارة مدعيا أنني لم أهتم ،وأن رؤيتها أمر عادي! اختبأت
خلف عامود الكهرباء إلى أن مرت كنعامة مغرورة ،تركت خلفها بعض العطر،
هزمني العطر وجلست أبكي ،الناس أشفقت على حالي ورمت الدراهم في قبعتي
المبللة ،اختفى العطر وعادت روحي ،أخذت الدراهم وقصدت أقرب حانة ألشرب
نخب هزيمتي
حبيبتي فقيرة ،والدها فقير وأمها أفقر منه ،تعتذر في كل مرة أطلب لقائها ،ال تملك
ثمن تذكرة الحافلة وال تملك الجرأة لمواجهة المراقبين الكالب إذا ما تم كشفها
وهي تركب دون تذكرة ،تكتفي باالعتذار ،وتنهيدة تكاد تسمع ،لكنني أسمعها
وأتنهد معها
اتصلت تطلب لقائي هذا المساء ،فاعتذرت أنا اآلخر ،لنفس السبب ..أنا كذلك فقير،
أفقر من أمها ..أفقر من فأر في كنيسة
التقينا أخيرا ،كانت تحاول أن تخفي الثقب في حذائها الرياضي ،وأنا بدوري
حاولت أن أخفي الثقب في سروالي ،ولوال السروال الداخلي لظهرت إحدى
خصيتاي للعيان ،أو كالهما ،وقد يظهر األستاذ ال قدر هللا في أي لحظة ،لكن
بعون السماء تمكنا من النجاة من فضيحة علنية قد تفتك بكرامتنا كعاشقين
يحترمان نفسيهما
كان اللقاء لطيفا كما توقعت ،لم ينتهي بقبلة أو عناق كما ينهيه جميع العشاق ،لكنه
انتهى بوعد بلقاء آخر ..دفع كل منا ثمن قهوته بكل روح رياضية ،لم نترك درهما
واحدا للنادل الحقير ،لم يكن يتوقع منا ذلك على أي حال ،منظرنا كان كفيال بأن
يجعل اآلخرين يشفقون علينا ،نظراتهم كانت توحي بذلك
كانت مالمحنا تتغير مع اقتراب نهاية اللقاء ،كنا نفكر في نفس الشيء ،كنا نفكر
في تلك األميال الطويلة التي سنقطعها مشيا على أقدامنا المتعبة ،فقد أخطأنا في
اختيار المقهى الرخيص ،أبناء القحبة لم يتركوا لنا ثمن تذكرة الحافلة
افترقنا دون وداع ،دون همس ودون وعد بلقاء آخر ،حملت حقيبتها ورحلت دون
أن تستدير! تركتني كقنفذ بليد خانته أشواكه ،كنت أعلم أنني فقدت شيئا في تلك
اللحظة ،أخذت أعد أصابعي يدي وأعضائي ،كل شيء في مكانه! ماذا فقدت؟
حشرت نفسي في معطفي وتركت رجالي تسيران نحو المجهول ،ألكم الريح تارة
وأركل الحصى تارة أخرى! صدى كلماتها يتردد في كل مكان ،الشوارع
واألرصفة تخبرني أنني فقدتها لألبد! وأنني قد وضعت رجال في قبري منذ
اللحظة التي مدت فيها يدها نحو حقيبتها! لقد فقدت جزءا من روحي ،جزءا كبيرا
تأخر عليها كثيرا هذه المرة ،استفسرت :لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟ لم يجب!
جلس يلتقط أنفاسه ،لم تعد السؤال ،عم الصمت ،هو ينظر إلى حذائه ،وهي تنظر
إلى السماء ،هي تدعو هللا ،وهو يلعنه ويشتم في صمت ،لكنه يبصق كثيرا ،تكلم
أخيرا :سرت لثالثين ميال أبحث عن أعقاب السجائر ،تخيلي ،لم أجد عقبا واحدا!
وكأن الجميع توقف عن التدخين فجأة! تبا! حل الصمت مجددا ،وضعت يدها في
جيبها وأخرجت بعض السنتيمات ،خذ ،اشتري سيجارة! لمعت عيناه ،أمسك
السنتيمات واشترى سيجارة ،دخنها بعيدا عنها ،عاد إلى مكانه ،أمسك بيدها
وقبلها ،لمح عقب سيجارة بالقرب منهم ،تظاهر بأنه يفكر ،لم أرى تلك المنارة من
قبل ،أكانت هناك دائما! أين؟ هناك! نظرت في االتجاه الذي أشار إليه ،أخذ العقب
بسرعة ووضعه في جيبه! ليست منارة! تبدو كمنارة!
أخيرا ،بعد دردشة طويلة استمرت ليومين كاملين ،قررنا أن نلتقي! بعد إصرارها
طبعا ،الساذجة تعتقد أنني شخص مميز وفريد ،خدعها الهراء الذي أكتبه وحديثي
الممل عن الكتب والكتاب والشعراء والمجرمين وبائعي السجائر بالتقسيط ،ربما
تخيلتني رجال وسيما تحيط به هالة من الوقار وبعض الذكاء المزيف .وألن الملل
قد يدفع المرء للقيام بأمور فضيعة فقد وافقت على لقائها ،كنت قد نسيت كيف
أتعامل مع النساء ،لكنها بدت لي فكرة لطيفة أن أقوم بشيء مختلف ،اشترطت
عليها أن نلتقي في حانة وليس في مقهى ،وافقت بعد تردد واضح ،المسكينة
قفزت في الحافلة النتنة بركابها ،لم أدفع ثمن التذكرة ،كنت سعيدا بذلك ،أربعة
دراهم ثمن سيجارتين فاخرتين ،كنت سأخون نفسي لو أهدرتها في شراء تذكرة،
وصلت مبكرا كعادتي السيئة ،أخذت لي مكانا في الحانة ،أنتظر ،النادلة تخترقني
بنظراتها ،أريد بيرة لكن ليس اآلن ،أنتظر شخصا ما ،الملعونة لم تبتسم لي حتى،
انصرفت تجر مؤخرتها المتدلية كطفل يتيم ،لعنتها في صمت وبصقت ،الحقيرة
األخرى تأخرت ،يا للمغربيات وتوقيتهن ،ها هي قادمة ،تبتسم ببالهة ،كنت سأبدأ
في التوبيخ حين وضعت قبلتين في وجهي الكئيب! آسفة ،لم أجد مكانا أركن فيه
سيارتي! كان البد أن أستغل الوضع ،فتاة تملك سيارة! البد أنها غنية ،اعتذارك
مقبول لكن يجب أن تدفعي ثمن تأخرك ،ليس لطيفا أن تتركي رجال محترما ينتظر
كثيرا ،لو كنت شخصا آخر لما انتظرتك طوال هذا الوقت! الساذجة صدقتني
وطلبت قنينة نبيذ ،إله السماء ،شكرا لك ،كنت أطلب قنينة نبيذ فقط ،وها أنت تجود
علي بسيدة جميلة وقنينة نبيذ ،لكنك نسيت السجائر ،لكن البأس ،سأشتريها بثمن
التذكرة
اهتز هاتفها فرحا بقدوم رسالة جديدة ،اهتز معها قلبها ،كانت تعلم أنه هو ،حبيبها
الفقير ،قرأت الرسالة مبتسمة :المرجو االتصال بي! لم تتصل ،كانت تعرف ماذا
يريد ،توجهت للمطبخ ،وضعت بعض الطعام في كيس بالستيكي ،وسرقت ثالث
سجائر من جيب معطف والدها ،وصعدت بسرعة لسطح العمارة مدعية أنها
ستقوم بنشر الغسيل ،كان هناك ،ينتظرها ،الجوع يقطع أمعائه ،ضباب في عينيه،
تكوم على نفسه في ركن إلى أن أتت ،وضعت له الطعام وأخذ يأكله ككلب جريح،
استعاد بعض قوته ،استلم السجائر ،دخنها الواحدة تلو األخرى ،كانت تراقبه،
تبتسم ،بدت سعيدة ،انتهى من األكل والتدخين ،أخذ يدها وقبلها ،ارتمى في حضنها
وشكر السماء ،ماذا فعلت اليوم ،همست في أذنه ..كتبت قصة حب! كتبت عنك
وعني ،لكن ثمة أشياء لم يستوعبها عقلي الصغير ،ماذا تفعل سيدة جميلة مثلك مع
متشرد مثلي؟ ما الذي أثارك في كتلة العظام هذه؟ ألم تالحظي أنني لم أهديك ولو
وردة ذابلة طوال ثالث سنوات! غطت فمه بيدها ،قبلت رأسه! أنا التي يجب أن
تطرح هذه األسئلة ،لكن كما ترى لم أفعل! لهذا توقف عن الثرثرة في أمر قلت أن
عقلك الكبير ال يستوعبه! قلت عقلي الصغير وليس الكبير! سمعت جيدا ماذا قلت!
صمتا لوهلة ،أريد أن أسمع شعرا ،أكتب لي قصيدة اآلن ،اآلن! حسنا ،اسمعي
هذه:
حبيبتي لطيفة
تحب الكالب
أطعمت كلبا للتو
هو يضحك وهي تبكي ،كان يعلم أنها تبكي ،كان يبكيها كلما التقيا في محاولة
بائسة منه لتغضب وتهجره ،لكن كل محاوالته بائت بالفشل أمام سيدة لطيفة
وحنونة
كنا نتحدث طوال سنتين تقريبا عبر الفايسبوك ،لم نلتقي من قبل ،فهي تعمل
كمبعوثة لألمم المتحدة وأنا أعمل صحفيا في جريدة التايمز األمريكية ،ولكم أن
تتخيلوا مدى انشغالنا وقلة الوقت الذي نشتكي منه دائما! اليوم شاءت الصدفة أن
نلتقي في أحد شوارع مدينة تمارة العظيمة ،أنا بصندلي البالستيكي وقميصي
الباهت ،وهي بجالبيتها المنكمشة كمؤخرة العجائز! طبعا تجاهلنا بعضنا البعض،
فقد أخبرتها قبل خروجي للبحث عن أعقاب السجائر أنني أعمل على كتابة مقال
جديد ،وأخبرتني هي أنها في اجتماع سيطول حتى منتصف الليل! لهذا كان
مستحيال أن نلتقي! وأين؟ في تمارة؟ مستحيل مستحيل
بعد خمس سنوات من الصبر ،الحب ،العتاب ،البكاء ،الضحك ...كان البد أن
ينتهي األمر بالزواج ،وإال لن يعود لتلك العالقة معنى! عينيها الجميلتين تجلبان
الكثير من الخنافس المستعدة للزواج في أي لحظة ،لكن قلبها المخبول متشبث
بصاحب الحذاء المثقوب ..هو اآلخر كان يعلم جيدا أنهم سيسرقونها منه يوما ما..
وهللا وحده يعلم كم مرة ارتدى بدلته الوحيدة وقصد بيتها ليخطبها على األقل ،لكنه
يتراجع في منتصف الطريق
في آخر لقاء ،صنع خاتما من سلك أكله الصدأ ،ووضعه في أصبعها الرقيق..
انتظريني ،قال! ثم قبلها ورحل
خمس سنوات كانت كافية لتفهم أنه لن يعود! والخاتم المزيف الذي مازالت تحتفظ
به ،مجرد وسيلة ليخبرها أنه يرغب حقا في الوفاء بوعد لم يقطعه يوما ..لكن
نظراته وغضبه ومزاحه كانت تقول كل شيء ..قال لها مازحا ذات يوم:
سأتزوجك ولو بلغنا التسعين سنة
كان كل شيء ضده بما في ذلك نفسه ،يخبرها كلما سمح له الصمت أنه يهرب
منهم إليها ،يهرب منه إليها ..كانت هي المرساة وكانت هي السفينة
كل شيء في حبيبتي بسيط ،مالبسها الباهتة وحذائها الرياضي الذي تشقق من
كثرة االستعمال ،قلبها ،شعرها األسود ،رغباتها ،أحالمها ...حتى المكان الذي
نلتقي فيه بسيط جدا ،ركن في السطح ،نفترش قطعة كرتون ونرتعد بالبرد معا،
تلتصق يدانا وشفاهنا ،نتبادل األنفاس والحزن ،هي حزينة وأنا كئيب! قد نتزوج
يوما ،ليس اآلن ،ربما بعد عشرين سنة ،حين أبلغ التسعين ،سأحتاج لشخص
أشتمه وأصب عليه غضبي ،سأحتاج لشخص يذكرني بأخطائي وذنوبي ،سأحتاج
لشخص أنظر إليه قبل أن ألفظ أنفاسي األخيرة
قمت بالواجب وأسعدت حبيبتي في هذا اليوم ،عيد الحب الذي يتأخر علينا كثيرا،
التقينا وقت الظهيرة ،بعد أن تأكدت من أنها قد تناولت غذائها في بيت أبيها ،تبادلنا
قبلتين سريعتين في غفلة من الغرباء ،اشتبكت يدانا وتركنا أرجلنا تقودنا إلى حيث
شاءت ،تمشينا ألكثر من عشر كيلومترات ،ستة شوارع ،وخمسة أزقة ،من ثم
سلكنا الطريق من صومعة حسان إلى مالعب القرب القريبة من إقامة الصباح،
جهة القامرة! تحدثنا كثيرا ،باألحرى تحدث كثيرا ،كي ال يفكر دماغها الصغير أن
هناك اختراعا رهيبا يسمى سيارة أجرة بدل تلك البهدلة! عموما ،تداركت األمر
في األخير ،الحظت أنها قد تعبت من المشي ،فأخذتها من يدها وجلسنا في كرسي
اسمنتي يطل على البحر! مكان رومانسي يليق بنا ،كانت تنظر إلي بعينين
جميلتين ،أخبرتها وأنا أبتسم :عيد حب سعيد حبيبتي ،وانحنيت ألقبل يدها!
المجنونة أبعدت يدها وانفجرت في وجهي :عيد الخرا هذا ،سخفتي ديلمي ،تهال
أخويا
كنت أعتقد أنها كانت تمزح ،لكنها استمرت في السير ولم تستدر ،الحيوانة تركتني
وحيدا كقنفذ حقير
رهبة وجودها بالقرب مني كانت واضحة في مالمح وجهي ،كنت سعيدا،
وترجمت سعادتي بابتسامة بلهاء ،شعور غريب لم أشعر به منذ مدة ،قلبي يخفق
بشدة ،خصيتاي مسترخيتان ،يدي تحاول بيأس أن تمسك يدها الصغيرة ،حاولت
أن أظهر بشخصية المثقف المحنك فقلت :كنت أنام في هذا الشارع! هذا الشارع
كان بيتي! استغربت وغرغرت عيناها الجميلتان ،أمسكت بيدي وقالت :المهم أنك
لم تعد تنام هنا! ابتسمت :معك حق ،الشارع اآلخر أحسن من هذا ،شارع نظيف
وال يمر منه كالب المخزن
اعتدت أن أقول لحبيبتي أن ال أحد سيحبك كما أحبك ،كانت تبكي،
وصدقتني في مرحلة ما ،هذا الصباح مرت أمامي هي وزوجها في سيارة
فارهة وفي يدها خاتم ذهبي ،أي كذاب أنا والمسكينة لم تأخذ مني سوى
بعض القصائد الرديئة ووردة بالستيكية كنت أسألها عنها في كل مرة
نلتقي ،أين الوردة التي اشتريتها لك؟ هل هي في أمان؟ لونها ما يزال
أحمرا؟ أي رجل فضيع ،الفقير تاعت مي
رسائل حب
حبيبتي
أعلم أنني الطرف الناقص في هذه العالقة التي ستنتهي قريبا كما انتهت عدة
عالقات قبلك لنفس السبب! الحق أنني حاولت جاهدا أن أنجح هذه المرة لكن يبدو
أنني فشلت مجددا
تقولين أنني أعتبرك مجرد شخصية من الشخصيات التي تلعب القمار وتشرب
النبيذ الرخيص في رأسي طوال الوقت! حسنا ،قد يكون ذلك صحيحا لكنك
شخصية مميزة وقريبة مني ،لست النادلة وال موزعة الورق ،أنت مالكة الملهى،
أنت الملكة وكل الشخصيات األخرى خدم مستعد ليركع تحت قدميك
ثم بحق الجحيم ماذا تنتظرين من شخص ال يستطيع حتى دفع ثمن هذه القهوة
الملعونة؟ فلننهي هذه المهزلة اآلن! يمكنك دائما أن تجدي شخصا آخر قد يبلي
أحسن مني ،أما عني أنا فال عليك ،يمكنني أن أجعل النادلة ملكة في أي لحظة
حبيبتي
أبشرك أن صدري صار أسودا وباردا كمهبل عجوز سبعينية ،ولم يبقى عندي ما
يبتزه الشوق! ها أنا في الحانة ،أشرب نخب الرحيل للمرة األلف ولم أعد أراك في
قعر الكأس ،طلبت تغيير الكأس مرات ومرات ولم تكوني هناك ،لقد تالشت
ذكراك حبيبتي ،لم يبقى منك غير صورة باهتة في شاشة هاتفي المكسورة
عزيزتي
هل تعتقدين أنه بعد أن تفتحي لي ساقيك سأبكي ندما ألنني ضاجعتك؟ البد أنك
ساذجة ،هل تعتقدين حقا أنني أبحث عن رضى المالئكة؟ أنا آخر رجل يريد ذلك
بحق الجحيم! لدي ميول إجرامية وأمارس الجنس كلما سمحت لي الفرصة ،والنبيذ
كاد يعوض الدماء التي تجري في عروقي ،أحمل ذنوبي بفخر وأسير في األرض
مشية فاسق متعجرف ،هل تعتقدين أنني رجل يريد أن يربت هللا على كتفه؟ الشك
أنك ساذجة ،ما كنت ألسمح له بأن يحاسبني ،فأنا أحاسب نفسي كل يوم
عزيزتي
سيأتي يوم لن تشعري فيه ازاء الشخص الذي اضطهدك سوى بالالمباالة ،بالتعب
من غباءه المثير للشفقة ،من عجرفته و لكماته ،ثم ستسامحينه وبذلك يكون قد
اختفى تماما من حياتك حتى لو كان ينام بجانبك في الليل! صبرك سيحوله لشبح
مسكين
أمزح ،اقتلي ابن اللعينة عزيزتي ،ال حل آخر غير هذا
عزيزتي
ال تغرانك كلماتي الموزونة ،وإنجازاتي الفارغة ،فأنا ما زلت نفس الشخص ..ما
زلت أدخن بشراهة وأحمل قارورة الخمر في جيب معطفي أينما ذهبت ،السجائر
جعلتني ضعيفا كعجوز أخذ منه الزمن ما أخذ ،والخمر زعزع عقلي كجندي
أصيب برصاصة طائشة في رأسه ..ال تزال أفكاري الغريبة تزداد يوما بعد يوم،
ويكبر اقتناعي بها يوما بعد يوم .كل محاوالتك لتغييري كانت ستفشل حتما،
وحسنا فعلت حين رحلت
عزيزتي
لقد ضقت درعا بهذه الحياة! لعلها تشبه برمتها لعبة من لعب القدر التي تخلى عنها
بعدما مل منها أو ليلة القبر بال ضوء ..الكتابة إليك -رغم كونك مجرد وهم من
نسج خيالي -تخفف عني آالم الجسد وتفرج عني ضائقات الروح ..لقد تغيرت في
أشياء كثيرة على المستويين الفكري والفيزيولوجي ..أكيد أنها أشياء لن تعجبك في
حبيبك الوهمي ..وأكيد أنها لن تروق أية حواء على وجه األرض ..أصبحت مدمنا
على أحالم اليقظة ،أقصد أنني أعيش على المخيلة كي أستمر في الحياة ،ومن
كثرة إهمالي لجسدي أضحت أظافري تضاهي أصابعي طوال ،وتضاهي المحراث
القديم صدأ ،كما أصبحت لحيتي الكثة السوداء تغطي شساعة صدري ..وقد انعكس
هذا على شعر رأسي الذي اتسع له المجال كي يتمرد أكثر على حدوده السابقة..
وال أستطيع أن أنكر كون بعض المخلوقات الغريبة بدأت تتحرك بين أدغاله
ومراتعه
إضافة إلى ما قلته سابقا فقد اتخذ إهابي -والعياذ باهلل -لون الشحوم الزيتية من كثرة
ما التصق به من أدران وأوساخ ،واألمر من هذا هو أنني لم أعد أصلح حبيبا لك
وال ألي امرأة أخرى ،وتلك هي المصيبة الكبرى
أنا رجل مغلوب على أمره ،والمغلوب هو شخص يتألم ،ال يمكن توقع سلوكياته،
غير قابل للمراقبة ،يستطيع أن يفقد عقله أو باألحرى فقده ،قد يصبح عنيفا أو حتى
حقيرا ،أو يفعل كما سأفعل ،أن يحفر سردابه الخاص ويختفي فيه إلى األبد
فهل ستقبلين بي بالرغم مما قلته؟ وهذا ما ال أتمناه كرجل أحترم عقلي مثلما أحترم
اآلخرين ..وإن كنت اآلن في عداد األموات ،فإن لم يكن فأنا في عداد المفقودين،
وإن لم يكن فأنا حتما في عداد المجانين والحمقى ،وهذا أضعف اإليمان
الوداع
من أنا؟
لطالما كنت شخصا منغلقا على نفسه ،حلزونا حزينا يرفض الخروج من قوقعته،
أخرج فقط في الظالم الدامس ،أحمل أوراقي وهيكلي العظمي وأسير في
الشوارع ،أكتب عن الثقوب والدموع واألشباح المحطمة ،ألمس األرواح المتعبة
بقلمي وأعيد لها حيويتها وعنفوانها ،أشفي الجراح الغائرة في أقدام األطفال الحفاة،
أنفض الغبار عن عيون األرامل وأسد رمق الجائعين
تشرق الشمس وأعود لقوقعتي ،ألملم شتاتي وأرمم الثقوب في هيكلي العظمي
وأعتذر لنفسي
أنا مسمار صغير أكل الصدأ نصفي ،وجدني رجل حزين على قارعة الطريق،
أخذني بلطف ووضعني في حقيبته ،كنت سعيدا ببيتي الجديد ،لكن الرجل رماني
في األرض مجددا ،وجدت نفسي وسط الكثير من القطع الحديدية في سوق
للخردة ،الملعون سيبيعنا! وكما توقعت ،اشتراني رجل آخر ويبدو أنه هو اآلخر
حزين! علقني في حائط غرفته ،أسعدني الدفء في بيتي الجديد ،لم يكن هناك
شيء آخر سوى فراش كرتوني وأنا! يا لهذا الهدوء اللطيف! اليوم حين استيقظت
لم أستطع رؤية الفراش أمامي ،ماذا حدث لعيني! فيما بعد فهمت أن الرجل
الحزين قد علق صورة حبيبته فوق رأسي ،لم أفهم ذلك إال حين سمعته يحدثها :ها
أنت أخيرا في غرفتي يا حبيبتي رغما عنك
أنا جذع شجرة ،سقطت من بطن أمي ،أم هي التي رمتني! ال أدري! كنت أصرخ
تحت قدميها لتسمعني لكنها لم تفعل! هبت ريح ورمتني بعيد عنها! كان بكائي
خافتا كدعوات األمهات! اتخذني النمل مسكنا له ،جرفتني مياه األمطار ذات
عاصفة ،ورمتني بعيدا جدا! وجدني طفل صغير وصنع مني نايا! ينفخ في رأسي
ويخرج صوت جميل من مؤخرتي! أحببت هيأتي الجديدة! كنت سعيدا إلى أن مل
مني الطفل ورماني مجددا في صندوق خشبي وأغلقه
أنا قصة ناقصة مكتوبة في ورقة مكمشة بعنف ،تركها كاتب فاشل ذات خريف
بارد في سلة المهمالت
مرت الفصول ألجد نفسي في سلة مهمالت ضخمة ،اتسخ فستاني األبيض بسوائل
نتنة ومقززة ،لكن ذلك لم يمنع متشردا من إنقاذي ،طواني ووضعني بلطف في
جيبه ،وأخذني معه إلى غرفته
طوال الطريق وأنا أتساءل :ماذا سيفعل بي؟ استبعدت فكرة أنه سيقرأني ،المعدة
الفارغة لن تستحمل ألما كالذي تسببه الكلمات ،أغلب الظن أنه سيمسح بي
مؤخرته ،لكن يبدو أنني لن أعرف أبدا ،ألنه نسي أمري
أنا قصة ناقصة منسية في جيب سروال متشرد حزين
أنا حقيبة جلد قديمة ،ال مشاعر لها وال تصلح لشيء ،مرمية في قبو منزل
مهجور ،بداخلها أوراق صفراء ملطخة بحبر أسود ،كلمات كاتب حزين مات
منتحرا بحزام سرواله ،أفكاره تثير جنوني ،خططه ال بداية وال نهاية لها ،أحالمه
كأحالم طفل صغير ،يحلم بركوب التنانين والجري في حقل ال حدود له ...أنا
حقيبة منسية عمرها ثالثون سنة
أنا تنهيدة رجل حزين في ليلة باردة ،صنعت لنفسي هيكال وارتديت جلدا وخرجت
للصقيع ،حياتي كلها تشبه رغيفا محروقا ،أحمل األهوال في صدري وأجري
حافيا ،أنا متعب ،متعب من نفسي ،من إصراري على أن أكون أنا ،متعب من أن
ال أحد يحس بأي شيء اتجاهي ،أنا كتلة عظام ساذجة
هراء منمق
حاولت الحصول على كلب اليوم ،أميل إلى الكالب أكثر ،القطط مخلوقات طماعة
ال تصلح إال للركل
خرجت في جولة على أمل أن ألتقي بكلب يشبهني! كل الكالب تشبهني على أي
حال ،لكنني أبحث عن كلب مميز ،مختلف عن باقي الكالب ،أن أجد كلبا أعرجا
أو أعمى سيكون رائعا
مررت بجانب سيارة رباعية الدفع ،لمحت كلبا بداخلها ،كان حزينا ،اقتربت منه،
لم يخف مني! بل اقترب هو اآلخر! هذا ما كنت أبحث عنه بالضبط ،كلب حزين
وصامت تبا! لم يكن هناك كلب ،بل انعكاس وجهي في زجاج السيارة
أتجول في الشوارع دون سبب ،لو كنت أبيع المناديل أو الزريعة لحصلت على
الكثير من المال ،لكن عقلي الملعون يفكر في أمور أخرى ،تفكير ينتهي دائما
بطريقة سيئة ،يحدث أن أرسل لكمات في وجه الريح لكنه يتفاداها ويصدها ظهر
شخص غريب ،يستدير غاضبا لكنه يجد نفسه أمام وجه كئيب وباهت فيعتقد أنني
مجرد شخص مجنون ،البارحة بصقت على حذائي واتضح أنني بصقت على
حذاء الجالس بالقرب مني في المقهى ،كان حذائه جميال ،صاحبه لم ينتبه فنجوت،
كان حذاء جميال حقا ،فكرت في سرقته ،لكن كيف أفعل ذلك وهو يرتديه! سأنتظر
موعد اآلذان واتربص به حتى يذهب للصالة في المسجد ،يمكنك دائما سرقة
األحذية في المسجد ،األمر بسيط ،الكافر لم يذهب للصالة بل سمعته يهاتف صديقه
واتفقا على اللقاء في حانة الكتبية! ابن القحبة ال يصلي! تبا! فليذهب هو وحذائه
الى الجحيم
عرضت سروالي الوحيد للبيع! وقفت في سوق الخردة أنتظر من يشتريه! رجل
فقير أخذ يتفقده بتركيز شديد ،وكان يبتسم في كل مرة يكتشف ثقبا ،قام بع ّد الثقوب
ثم سألني عن الثمن! ١٠دراهم أيها اللعين! أعاد السروال الى مكانه ثم رحل دون
أن ينطق بكلمة! تباطأ في مشيته حتى يدفعني للتفكير في الثمن المبالغ فيه الذي
طلبته! لكنني لم أفعل! جلست القرفصاء أنتظر مشتريا آخر ،طفل صغير يضحك
ويشير باتجاهي! والده قام بصفعه ،سيدة ضخمة مرت ورمتني بنظرة غريبة،
عجوز بغيض اقترب مني وشتمني :اجمع خصيتيك أيها الحيوان! نسيت أن
سروالي الداخلي ممزق وجعلت نفسي أضحوكة لهذه المخلوقات الحقيرة! ارتديت
سروالي ورحلت! سرت مطأطأ الرأس أفكر في حل آخر غير بيع السروال! البد
أن أحصل على بعض المال ،فكرة جهنمية أوقفتني في منتصف الطريق
يتبع
أراقب الصراصير وهي تعبر الشارع أمامي ،تسير بثقة ودون خوف ،ال تقترب
من البشر ،الصراصير ال تحب البشر وتتقزز منها ..نملتان تائهتان تتبادالن القبل،
أم تهمسان شيئا ال يردن أن أسمعه أنا والصراصير ،ال أدري ،لست سليمان!
سليمان يعرف مثل هذه األمور ،ليتني كنت سليمان ألخبر تلك الصراصير الجميلة
أن هذه المدينة ال تليق بها ،ليس هنا سوى الكثير من الهمج واألحذية المغطاة
بالتراب ،حياتهم في خطر
تذكرت أمرا وقفزت من مكاني ،خطوة طائشة قتلت بها تلك الصراصير
المسكينة! قلت لهم أن هذه المدينة ستقتلهم ،لكنني لست سليمان ولم يفهموا لغتي
حين نتحدث نحن سكان المجاري ،نبدو كأننا نعزف سيمفونية حزينة! لكل
سيمفونيته الخاصة ،وما إن يبدأ أحدنا في العزف حتى يصمت اآلخرون ويكتفون
بابتسامة ال معنى لها
يحدث أن نتمادى في العزف فيصل صدى بؤسنا الى ابناء القحبة الذين يسكنون
في األعلى! فتراهم يتذمرون ويتأففون ألن سيمفونيتنا مجرد بكاء ونواح بالنسبة
لهم! الحياة جميلة يقولون! أبناء العاهرة ال يعلمون ما يعنيه أن يكون الخبز والشاي
وجبة رئيسية! طبعا ال نلومهم على الرخاء الذي يعيشون فيه ،فهم يستحقون ذلك
في نهاية المطاف ،لكن سيمفونيتنا رائعة ولن نقبل أن تهان لمجرد أنهم أساؤوا
فهمها
أجدني عاريا ،أرقص في خراب كل ما بنيته طوال ثالثين سنة مضت! الطفل
البريء صار شيخا ضاال! كهال كريها بالكاد يميز بين الخطأ والصواب! لم
يرهقني جيبي الفارغ بقدر ما أنهكتني نظرات أمي الفارغة وصدرها البارد
ال شاهد على مأساتي سوى ذلك الوجه الكئيب الذي يظهر في المرآة! أحييه كل
صباح وال يرد التحية ،أرتدي أسمالي وأخرج للشارع أبحث عني! كل الوجوه ال
تشبهني أنا الذي أعيش دون وجه
عشت بما فيه الكفاية ألطلب نهاية بسيطة ،أن أرحل في ظالم الليل وأن يحملني
بعض الرفاق ويرمونني في قبري في صمت
لن أخجل من هللا و سأواجهه بذنوبي وخيباتي وحذائي المثقوب ..لن أسمح له بأن
يربت على كتفي ،فأنا أعرف طريق الجحيم جيدا
أشعر برغبة ملحة في كتابة رسالة حب! في االعتراف بمشاعري! أنظر حولي
فال أجد سوى أطياف نساء لم يجمعني بهن سوى لقاءات عابرة وقبالت باردة!
حبيبتي األولى أم لطفلين اآلن وحبيبتي األخيرة كانت مجرد خازوق! وما بينهن
نساء لم يتركن أي أثر! مجرد دمى شاركتني فنجان قهوة أو قنينة نبيذ! القمر
يراقبني بعيني إحداهن! من؟ ال أدري ،كل الذكريات محيت! وضعت القلم جانبا
وأخذت أفتش في أرشيف الصور عن ذكرى واحدة أعيد بها االعتبار لروحي
العفنة! كل الصور تؤكد أنني كنت دائما وحيدا! شخصا مضطربا يحمل السجائر
دائما بين أصابعه! شخص قبيح تحيط به هالة من السواد! كيف لشخص كهذا أن
يكتب رسالة حب
أنهيت قنينة النبيذ ،وشرعت في كتابة رسالة غرامية لحبيبتي خولة! لكنني كنت
أتخيل مروة طوال الوقت ،كانت رسالة غرامية لكن بين سطور العشق والحنين
حدثها عن الثقب الثالث في سروالي! ال أدري ما الذي دفعني لفعل ذلك بحق
الجحيم لكنني فعلت! أضفت بيتا شعريا لرامبو ال عالقة له بالحب ،مقطع صغير
عن سفينة مهجورة ،لكنه بدا مناسبا ثم أنهيت الرسالة بكالم غير مفهوم ومزقتها!
القنينة الفارغة كانت تسخر مني ،رميتها بعنف وارتطمت برأس قط كان ينام في
الركن! ال أحب القطط على أي حال! تمددت فإذا بمروة تظهر مجددا بمؤخرتها
المكتنزة! طردتها حتى ال اضطر لالستمناء للمرة العاشرة هذا اليوم
كل منا لديه فتحة شرج! صحيح؟ هل يوجد أحد في هذا العالم ليس لديه فتحة
شرج؟ كل منا لديه ردفان أسفل ظهره! وفي األسفل وتحديدا في المنتصف يخرج
الغائط! صحيح؟ من هناك سيخرج ما بداخلنا من غائط حتى نموت! فكروا في
كمية الخراء الذي طرحته مؤخراتنا حتى اآلن ،ذلك الخراء الذي امتصته األرض
وامتألت به األودية والبحار! ما أقذرنا! ما أقذرنا
أكره البشرية جمعاء في كل مرة أمسح فيها مؤخرتي! نحن الذين مألنا األرض
بكل الجراثيم والفيروسات ونشتكي اآلن! فلنذهب إلى الجحيم جميعا
أيقظني صديقي الصرصار اليوم! كان يلهث ككلب ،بالكاد فهمت ما يقول ،سألني
باستغراب :أمك لم تذهب للمسجد اليوم! هل ألحدت؟ أم أنها توقفت عن محاربة
األمية؟ أضحكني ابن المعفونة ،لماذا تسأل؟ وقف فوق مرمدة السجائر وصرخ في
وجهي :كنت سأموت قبل قليل يا ابن القحبة! كادت أمك تقتلني بصندلك
البالستيكي! اعتدت أن أجلس في البلكونة التي في غرفتها بعد الظهيرة! وقت
الظهيرة تكون هي في المسجد! صفعته :أال تعرف ماذا يحدث في العالم؟ ألم تعد
تقرأ منشوراتي؟ البد أن تلك الصرصارة البشعة التي تخرج معها قد أخذت كل
وقتك
حسنا أغرب عن وجهي ،ال مزيد من معطر الجو بعد اليوم ،وال أريد أن أراك
مجددا مع تلك الحقيرة البشعة التي تخرج معها ،تعتقد أنني لم أالحظ ذلك؟
النساء كن يعاملن كالدواب! وهذا أمر لن يغفرنه لنا نحن الرجال ،سيسيطرن على
العالم عما قريب! المسألة مسألة وقت ليس إال
لألسف كان هذا ليحدث لوال أنهن يكرهن بعضهن البعض ،لوال أنهن أمهات
فاشالت يلدن نفس الرجل الذي يحاربنه
ليس عدال أن أبناء القحبة قبل ألف سنة كانوا يشربون النبيذ من البراميل
ويضاجعون النساء والغلمان على حد سواء حتى تجف عروقهم ،يقهقهون حتى
الدموع ويجولون العالم دون جواز سفر! ونحن اآلن عاجزون كليا على دفع ثمن
بيرة واحدة! ونخجل من دعوة النساء لفنجان قهوة! نبتسم بحسرة ،ونعجز عن
تجاوز حدود المدن التي نموت فيها! ونحلم بجحيم أقل قسوة من الذي نعيش فيه
فراغ مدروس بعناية فائقة ،هكذا حياتي ،سنوات من الزحف دون نتيجة ،سنوات
من ضبط النفس من الصباح إلى المساء ،سنوات من الوهم
خسرت القضية! لم أستطع أن أكون من تمنيت أن أكون! ونسيت من كنت أكون!
أحمل في صدري إحساسا بالالا انتماء ،أجهد نفسي من أجل أشياء ال تهمني بتاتا،
أفعل ذلك بدافع الشفقة فقط! أيامي مصابة بعقم واضح! كسل مصطنع حولني لكهل
عنيد يزحف بحثا عن الحسرة وسوء المزاج
البؤس الذي أعيشه كان موجودا قبل والدتي! وما حدث هو أنني كنت محظوظا
وعثرت عليه! لم يكن ذلك صعبا على أي حال ،كان واضحا في كل شيء رأته
عيني! في حذائي المثقوب ،في قلب حبيبتي ،في أنين األرامل ،في نظرات بائع
السجائر ،في بكاء أمي وصمت أبي ،في طغيان الملك...
أحيانا أخرى أرغب في االعتذار لكل شخص كتبت عنه يوما أو فكرت في الكتابة
عنه! مع ذلك أجد دائما العذر الذي يسمح لي باإلساءة إليهم بضمير مرتاح! حتى
ولو كانت عالقتي بهم جيدة ،فأنا أبحث دائما عن سبب بسيط كي أسب وأشتم!
يكفي أن يسألني أحدهم كيف حالك ليستيقظ الشيطان بداخلي! ابن القحبة يسخر
مني! أنا في حالة مزرية ،بماذا سيفيدك هذا؟ كيف حالك! وما شأنك أنت؟ ال أدري
ما سبب ردة فعلي هذه ،ربما ألنني أعي جيدا أنني لست بخير ،لم أكن يوما بخير
ولن أكون مستقبال! مثير للشفقة أعلم
جيل الديجا فو ،نستيقظ ،نغسل أجسادنا بكسل ،وأحيانا ال نفعل ،نأكل دون شهية،
نغلق أعيننا لثانية فنجد أنفسنا في المقهى ،نحيي الرفاق ،سجائر ،قهوة ،حوارات
ناقصة ،ابتسامات بلهاء ،ضحكات صاخبة نخفي فيها توترتا ،تلك طريقتنا للنجاة
من يوم آخر! ال يهمنا الغد ،نحن جيل يعلم الغيب! نعرف جيدا ماذا سيحدث غدا!
ألننا نبلغ من العمر يوما واحدا ،يوما واحدا يتكرر
مات كوبي بريانت ،فليذهب إلى الجحيم ،ال أعرفه على أي حال ،يقولون أنه كان
طويال ويستطيع رمي الكرات في سلة ،كان عظيما يقولون ،أبناء القحبة ينسبون
العظمة ألي كان ،كلبي أعظم منه ،مات المسكين هذا الصباح بعد صراع طويل
مع الجوع ،لم يكن لدي غير السجائر وشاركتها معه ،كان يدخن بهدوء ،لم يشتكي
قط ،لم ينبح في وجهي قط ،لم يوقظني من النوم قط ،ولم يتركني لساعة قط ،كان
يعلم أنني ال أملك أحدا غيره ،كان يفهمني حين أتحدث معه في الليالي الباردة،
يستحمل رأسي الثقيل حين أغفو على ظهره ،وحتى حين تكون حبيبتي برفقتي
يبتعد لبعض الوقت حتى ال أخجل منه حين أقبلها! يعلم جيدا أنني رجل خجول،
من العظيم اآلن؟ شخص طويل يرمي الكرات في سلة؟ أم حيوان جميل يفهم
النفس البشرية؟
أستحم ،أمشط شعري وأرتدي بدلتي وأقصد الحانة ،أدخلها معلنا للجميع أن
كازانوفا قد أتى ،أشرب نخب الحب مع هذا ونخب السعادة مع ذاك ،أقبل النادالت
وأضاجع المومسات في المراحيض ،أضحك بصوت عال وأقهقه! أنا كازانوفا
بعد ساعتين أو أقل ،أضع يدي في جيبي ألعلن وفاة كازانوفا ووالدة القديس
يوحنا ،أشرب آخر كأس مدعيا أنه نبيذ مقدس ،أودع الجميع متمنيا لهم ليلة سعيدة،
وداعيا لهم بالتوبة! أخرج من الباب الذي دخلت منه بمشيتي الرزينة وهالة من
الوقار تسبقني! أنا القديس يوحنا
أستيقظ ،ألعلن بذلك وفاة القديس يوحنا ووالدة المتشرد رشيد ،أبحث في مرمدة
السجائر عن بقايا سيجارة قد أكون تركتها سهوا ليلة أمس! ألعن كازانوفا والقديس
معا ،ألعن األحالم التي تنتهي دائما بخيبة أمل ،أسب الشمس التي أيقظتني ،أتنهد
استعداد ليوم آخر طويل
نتخبط في الحياة كالمجانين ،يصعب علينا أن نفهم لماذا ولدنا أول األمر ،نعجز
عن الوقوف أمام المرايا ونصرخ في وجهها :ماذا نفعل هنا بحق الجحيم! الوالدة
كانت دائما نعمة تستوجب الشكر واالمتنان ،رحم هللا سيوران ،جزء من الماضي
ال يجب أن نمسه بسوء ،لكنها في مرحلة ما تصبح جريمة ،الشر الحقيقي! هذا أمر
لم يشر له األنبياء ،ربما أغفلوه أو نسوه ،ال يهم اآلن فقد فات األوان! البشر
اقترف جميع الجرائم ،وأكثرها جريمة األبوة
أعود الى الرباط ،حزينا كطفل يرفض الذهاب للمدرسة بعد عطلة لطيفة ..سأعود
ألضحي بوحدتي الداخلية مجددا وأسلم نفسي لمحادثات بال فائدة ،احساس مثير
لالشمئزاز بأن تكون مدفونا حيا ،مدفون في صمت أمي وحي في قهقهات الرفاق،
األمر محزن حقا ،ففي سن العشرين كنت مؤمنا بقدري التعيس ،مع ذلك كنت
حالما وطامعا في الحياة ،اليوم تغير كل شيء ،نهاية هادئة لحياتي سترضيني دون
تفاصيل أو أسئلة ،وال حرج لدي في أن أرحل بصفتي بائع سجائر بالتقسيط
يحدث أن أحلم بالحياة ،أعترف بذلك ،وأخجل من نفسي كوني أفعل ذلك ،لكنني
أفعل وأصنع بخيالي نفس ما يصنعه اآلخرون ،سهرات وسيارات وأموال ونساء،
صحيح أن ذلك ال يطول وأستفيق من تلك المهزلة ،فأضحك بصوت عال من
رؤيتي إياي هناك ،األمر كما لو أني أمي رأتني عاريا ،يا لها من كآبة
وأنا هنا ،في هذه المدينة الصغيرة والجميلة ،اكتشفت للمرة األلف أن الفارق بيني
وبين اآلخرين أكبر من أي وقت مضى ،أحسست بداخلي بمسافة رهيبة بيني وبين
العالم ،اكتسح القرف من هذه الحياة روحي وأحدث فيها ثقبا كبيرا ،لطالما كنت
معاديا ألفكار اآلخرين ومنتقدا شرسا لطريقة عيشهم بالرغم من أنني كنت دائما
وما زلت محبا لإلنسانية ،الفراغ الرهيب الذي أعيش فيه بات واضحا اآلن ،ولو
كنت ملما بالفضاء لقلت أنه بحجم كوكب المشتري ،عالقتي باآلخرين وخصوصا
عائلتي اتخذت مظهرا باردا ومؤلما ،احساس خبيث يزداد يوما بعد يوم ،والشك
أن نهايتي لن تكون شيئا غير الجنون
الملل التهم رأسي ،وقفت كشراع مركب قديم ،ثم بدأت أتجول ببطء في غرف
المنزل كأنني في جنازة ،اليدان في الخلف و الرأس مطأطأ والقدمان تركالن أي
شيء ،ركلت كتابا للمرحوم محمد شحرور واختفى تحت السرير ،آمل أن أتذكره
فيما بعد ،رن الهاتف ،لم تكن هي فلم أرد ،رسمت مخلوقا مخيفا في حائط الغرفة،
كان يشبهني ،خفت عليه من الوحدة فرسمت له رفيقة ،كانت هي األخرى مخيفة،
كنت أعلم أنها ستتركه يوما ما فمسحتها ورسمت مكانها كلبا أعرجا ،بدا الحزن
على المخلوق المخيف ،بالكاد تعرف عليها وحرمته منها ،لكنني فعلت ذلك
لمصلحته فقط ،لن يفهم ذلك اآلن لكنه سيفعل فيما بعد ،أنا كذلك لم أكن أفهم لماذا
كانت أمي تغني في المطبخ في الوقت الذي كنت أحاول فيه قطع شرايين يدي،
لطالما كرهتها على ذلك ،لكنني فهمت أخيرا لماذا
ما حدث أن جيل السبعينيات والثمانينيات من الذكور كان منشغال بالعمل ،ما جعل
عالقتهم بالنساء مضطربة وبارة إلى حد كبير ،بالرغم من أن أغلبهم متزوج،
واآلن بعد أن صار حسابهم البنكي ممتأل ،ما أيقظ أعضاءهم التناسلية ،جيلهم من
النساء لم يشفي غليلهم ،لهذا كان الحل هو االستمتاع بجيل التسعينيات من النساء،
أقصد هنا الصبيات ،عالقة عادلة إلى حد بعيد ،الشيوخ يستعيدون شبابهم في
أحضان الصبيات ،والصبيات ينتفعن من جيوب الشيوخ ،الوضع حتى اآلن
واضح ،لكن ماذا عن نساء السبعينيات وشباب اليوم؟ نساء فعلن المستحيل مع
أزواجهن ليجدن أنفسهن اآلن في منافسة مع األرداف المنحوتة ،وشباب اليوم تائه
ال يستطيع تقديم ما يقدمه الشيوخ
بات جليا اآلن ،أن ما يحدث معي ليس مجرد أرق أو اكتئاب قد يختفي مع الوقت،
لكنه حرب ضارية بين الطفل الذي كنته ،الطفل الذي كان يحلم أن يصير معلما
ويخبر تالمذته عن جمال الحياة ،وبين العجوز الذي تحولت إليه والذي يكتفي
بالمشاهدة وتحذير األطفال في الشارع من الحياة ،ال تكبروا يا أبناء القحبة ،إنه
فخ ،ال تتزوجوا كما فعل آبائكم وال تتكاثروا ،التاريخ يثبت دائما أن اآلباء
مخطئون
يبدو أنني تماديت في التفكير ،في لعب دور الحكيم الذي كشف لغز الحياة
أجلس كفيل متعب ،أصارع فكرة شيطانية ال أدري من أي جحيم أتت ،فكرة أنني
قد أكون أحمقا في أية لحظة ،اآلن ،بعد ساعة ،يوما ما ...أفضل أن أكون قملة
على أن أكون أبلها ،األمر مخيف حقا..
أعلم أن كل الناس يحملون فيروسا ينخر جماجمهم ،أو نوعا معينا من االنحالل
اليومي ،نوعا غريبا من الشر ،استياء غير مبرر ،حياة معقدة بشكل ال متناهي...
كلهم يدركون ذلك بشكل أو بآخر ،مع ذلك يستطيعون تجاهل األمر ،عكسي أنا،
وال شيء أكثر رعبا من عدم القدرة على التجاهل
أريد أن أقوم بما يقوم به الجميع دون وخز للضمير ،أمور تبدو بسيطة كقتل ذبابة
لكنها تؤلمني ،وأعتقد أن جزاء هذا النوع من المعاناة التي أعيشها هو الموت
ككلب ،أفضل أن أموت ككلب على أن أصير أبلها
تحدثت مع هللا اليوم ،لم أفعل ذلك منذ مدة ألنه غاضب مني ،البيرة وحلمات خولة
كانت السبب في القطيعة ،أهملته وأهملني ،لكننا فعلنا اليوم ،حوار ناقص ال بداية
وال نهاية له ،طلبت منه خمسة دراهم ،وعدته أن أذهب لمكان خال من البشر
ليعطيها لي هناك ،سيكون ذلك سرنا الخاص ،انتظرت لنصف ساعة ،ساعة ،لم
أحصل على الدراهم ،طلبت نصفها ،لم يحدث شيء ،انزعجت وجلست أشتم ،مر
بعض الفتية وضربوني ،سرقوا حذائي وهاتفا حقيرا كنت أحتفظ فيه بصورة
حبيبتي ،عدت لغرفتي خائبا ،خاب ظني في هللا ووعدت نفسي أال أطلب منه شيئا
بعد اليوم
يوم ممطر ،أمر لطيف طال انتظاره ،مع ذلك وككل شيء جميل يحدث معي البد
أن أجعله جماال باهتا بأفكاري المثيرة للغثيان ،فبالقدر الذي سأستمتع بمنظر
المطر وهو يغسلني من الداخل بالقدر الذي سيزداد فيه السواد بداخلي وأنا أفكر
لحال الذين سيؤلمهم هذا المطر ،الفقراء الذين لن يقئهم من البرد سوى دعوات
أمهاتهم الصامتة ،الفقراء الذين سيتنهدون كل صباح قبل الخروج بأحذيتهم
المثقوبة لمواجهة الصقيع والشياطين اآلدمية في معركة واحدة بالكاد سيخرجون
منها دون أن يفقدوا جزءا منهم ،الحزانى الذين سيبتسمون ألن الوضع يزداد سوءا
ليس إال ..لكن ما قيمة الحزن إن كان حزن الفقراء؟ أما حزن األسياد فترف يحلم
به الضعفاء كل ليلة ،ما المطر بالنسبة لهم؟ شيء جميل ينظرون إليه من داخل
سياراتهم الفارهة وفرو معاطفهم الغالية! وقد تجود عليهم الطبيعة بمنظر غريب
لرجل حزين يجري ببطء ليختبئ في مكان ال يصله المطر ،لكنه يسقط في
منتصف الطريق وترتطم عظامه الهشة بالرصيف! منظر مخيف كهذا قد يكون
موضوع سخرية لألسياد في األمسيات الباردة وكؤوس النبيذ تجلس بفخر في
أياديهم اللينة
أكتب هذا وصوت الرعد يزداد رعبا ،وكأن الطبيعة تؤكد بصوت مسموع ما أكتبه
اآلن ،بعد الرعد تسقط قطرات باردة غير مفهومة ،هل تبكي السماء حزنا على
الذين تحدثت عنهم أم أنها هي األخرى ترغب بشدة في رؤية الرجل الذي قسى
عليه الرصيف وكسر بعض عظامه؟
أشرب سائال أسودا ،قرأت عليه بعض اآليات القرآنية في البداية عله يتحول إلى
ويسكي ،لم يفعل ،خاب ظني وتركته جانبا ،ألعب بأصابعي وأفكر في طلب قرض
بسيط من حبيبتي ،كيف أفعل ذلك بحق الجحيم ،الحب شيء وطلب المال شيء
آخر ،يكفي أنها تدفع ثمن القهوة والسجائر ،ال يجب أن أكون طماعا ،تركت
الفكرة وعدت ألصابعي ،عشرة أصابع ،تأكدت من ذلك ثالث مرات ،ماذا لو
فقدت أصبعا أو اثنين؟ ال أعتقد أن ذلك سيحدث يوما ،وحتى لو حدث فال بأس ،هاا
ماذا لو بعت أصبعا ،األصبع الوسط قد يباع بثمن جيد ،فهو ليس مجرد أصبع،
يمكن استخدامه كسالح أيضا ،أو لمداعبة مهبل إحداهن ،يجب أن أبيع شيئا ،أي
شيء
ولدنا على حافة القبر ،كان علينا أن نبقى هناك ،حيث ننتمي ،لكن بريقا خافتا في
األفق أدهشنا ،كان مغريا فاتبعناه ،فتهنا في الطريق ،رفضتنا القبور بعدها وقست
علينا الطرق ..صنعنا ألنفسنا قبورا جديدة سميناها غرفا ،وعلقنا في جدرانها
صور هتلر ومارلين مونرو! مع مرور الوقت ،ضاقت علينا واستبدلناها بمنازل
كبيرة ،غرف كثيرة وكبيرة وكل وسائل الترفيه ،كنا نعتقد أنها لن تخنقنا كما فعلت
الغرف ،لكنها فعلت ،وخرجنا نبحث عن البديل ،الطبيعة أحسن بديل ،الجبال
والسهول ،حملنا متاعنا وارتجلنا نبحث عن مكان آمن ،الشمس تلفحنا تارة والمطر
يبللنا تارة أخرى ،إلى أن وصلنا لمبتغانا ،قبرنا الذي غادرناه أول مرة ،جلسنا
على حافته نطلب الغفران ،لقد أرهقتنا الحياة بما يكفي ولن نقبل الرفض بعدا اآلن،
القبور عنيدة بطبعها ،باردة كمهبل العجائز ،ورفضتنا ،وبقينا هناك ،على حافة
القبر ننتظر
صديقي الصرصار ،شريكي في الغرفة ،بالرغم من أنه عاطل وال يدفع ثمن
الكراء إال أنه صديقي الوحيد وأحبه ،لكن مزاحه مزعج أحيانا ،البارحة حاول
دغدغتي في أذني لكنه انزلق للداخل ،تطلب األمر لترين من الماء ألخرجه ،انسل
بعد ذلك تحت السرير خوفا من العقاب ،تركته حتى نسي األمر ورششت عليه
معطر الجو ،راقبته وهو يتعثر في مشيته كسكير حقير ،بالكاد استطاع أن يخطو
خطوتين وسقط مغشيا عليه! كنت أعلم أنه لم يمت ،الصراصير ال تموت ..هذا
الصباح لمحته يجلس كملك سعيد وحوله ستة صرصارات! ابتسم لي وقال :شكرا
على معطر الجو يا صديقي
يوم آخر في الرباط ،أعرف جيدا ما يعنيه أن تعيش في مدينة كهذه ،رائحة البول
والخيانة تفوح من سورها الطويل ،رائحة نتنة ال تليق بمدينة سميت غصبا الرباط
العاصمة! الخونة المخنثون يعثون فيها فسادا ،يجلسون فالمكاتب والحانات
ويشربون دم بعضهم البعض ويتبادلون االبتسامات البلهاء والتهديدات
الخنافس تسير في شوارعها دون وجهة ،ال أحد يهتم ألمرهم سوى تلك البراغيث
العالقة في مؤخرة سراويلهم
المنكر هنا صبية ترتدي فستان أحالمها ،تمشي بفرح طفولي كي يرى العالم
فستانها الجميل ..والخير هنا هو مجموعة من الرجال دوي الموسطاش ،يجلسون
في المقهى وينظرون لذلك الجزء الصغير الذي يظهر من ثدي الصبية صاحبة
الفستان ويتأففون ويشتمون والدها في سرهم
كثيرون يعتقدون أنها مدينة األحالم ،مدينة الرخاء والغنى ،هذا صحيح ،لكن في
جزء صغير منها فقط ،الجزء الذي ينام فيه السلطان ورعيته ،أما البقية ورعيتها
ففي المجاري
في هذه المدينة اآلثمة ،لم يعد هناك مشروب في حانة يروي العطش ،أشرب
لمجرد أنني مدمن ،أخرج إلى الشارع وأمشي دون أن أتمايل ،جمع من
المتسوالت يغني أمام محطة القطار ،أقف كشيطان ألتفرج ،ثم جلست أصغي في
يأس تام ،أفكر في طريقة لسرقة النقود الصفراء التي جمعتها هاته المخلوقات،
شعرت بالغثيان لمجرد أنني قد فكرت في سرقة هاته الدمى ،يجب أن أعود إلى
الحانة ،دقيقة واحدة مع هاته األحجار المترهلة ألغت ساعات من الضحك في
الحانة ،كنت أضحك بدون سبب ،هل تريد بيرة أخرى؟ هاهاهاه نعم ،كنت أحاول
أن أخدع عقلي وأتظاهر بأنني ثمل ،لكن ها أنا ،صاح كديك فرنسي ،ودعت
المتسوالت ورحلت ،عشرات الدمى ترتطم بكتفي وأنا أسير كسلحفاة بلغت
الخمسين سنة ،لم أنزعج ،كنت أشعر كما لو أنني أعرف كل شخص كان في
الشارع ،فجأة بدأت أحلم حلما جميال وأنا بعينين مفتوحتين ،التقيت بها في نفس
الشارع ،تمكنت من شمها ،من معانقتها ،لكنها رحلت عني بسرعة وعادت الشفقة
الذاتية مجددا
أجلس هنا ،كمنفضة سجائر قذرة ،أنتظر ..ألعب بأصابعي ،أغمض عيناي وأفتحها
بشكل متكرر ،أفتح كتابا ،ال أقرأ منه ،أغلقه وأعيده إلى مكانه ،الجدران صماء ،ال
شيء يوحي لك بفكرة في هذه الغرفة ،حذائي ينام في الركن كجرذ يحتظر ،فكرت
في ايقاظه لنواجه معا الشوارع المخيفة في الخارج ..أيقظته ،بدأ يسب ويشتم،
كنت مصرا على ارتدائه فقام بتمزيق جلده ،المجنون هددني باالنتحار! تراجعت
وجلست أنظر إليه! كيف سأخرج بهذا الحذاء الممزق! ال لن أفعل ،كرامتي لن
تسمح بذلك! لكنه حذائي الوحيد! ماذا أفعل بحق الجحيم! سأرتديه وأخرج وليكن
ما يكن! فعلت ..كل شي بخير حتى اآلن ،الناس لم تكتشف حذائي! سأستمر في
السير إذن إلى أن ألمح خولة وأعود
طفل حزين ،يداعب قطا ميتا ،اقتربت منه ،ماذا تفعل؟ فقال :يجب أن أدفن هذا
القط ،لكنني ال أستطيع أن أحفر قبرا له! قلت سأساعدك ،بدأت الحفر ،أخذ يراقبني
ثم سألني :أين نذهب حين نموت؟ لم أفكر كثيرا وقلت :نعود للمكان الذي أتينا منه!
صمت قليال وقال :الشك أنني أتيت من الجحيم! ضحكت لوهلة ثم سألته :ولماذا؟
ابتسم :ألنني أنا من قتلت ذلك القط
خولة
طلبت قرضا من حبيبتي ،لم يكن األمر صعبا كما كنت أعتقد ،بهدوء مدت يديها
في حقيبتها وأعطتني عشرة دراهم كاملة ،حاولت أن أخفي فرحتي ،المشاريع
بدأت تخرج من بصلتي السسائية دون توقف ،توسع بؤبؤ عيناي ،قبلت رأسها
وودعتها
أتمشى ببطء ،أفكر في العشرة دراهم ،مرجح أن أذهب للمقهى ،فنجان وسيجارة،
ال ال ،سأشتري أربع سجائر فاخرة وأبقى في غرفتي ،قد أقرأ كتابا ،أو أشاهد
فيلما ،هذا ما سأفعله ..عشر خطوات ،بائع السجائر أمامي ،وضعت يدي في
جيبي ،العشر دراهم كانت قد اختفت ،نسيت أن جيب سروالي مثقوب ،ابن القحبة
فعلها بي مرة أخرى ،نزعته وعدت للبيت عاريا
السادسة بتوقيت المالعين ،ال شيء حتى اآلن يوحي بأن اليوم سيكون مختلفا عن
غيره ،الشمس سترمي اللحاف جانبا وستطل علينا قريبا ،وخولة سترمي بيجامتها
جانبا وسترتدي السروال األصفر الضيق الذي يحبه رواد المقهى ،والقميص
األبيض الذي تطل منه حلمتين رهيبتين يسيل معهما لعاب الرواد ،العيد بعد أسبوع
ويجب اللجوء ألي وسيلة لكسب جيوبهم ،مشية الطاووس تارة ،وضحكة فيفي
عبدو تارة أخرى ،غمز وهمس وتحايل...
حسنا فلنترك خولة جانبا ولنوقظ زياد ،لم يكن نائما على أي حال لكن عقله متلبد،
ال يستطيع التفكير في أي شيء اآلن سوى سيجارة الصباح ،حتى وإن كان يدخن
طوال الليل فإن سيجارة السابعة صباحا البد منها ،فبها سيستطيع مواجهة ما تبقى
من اليوم ،وقبلها يشم سطرا من النفحة الفاسية كي يفاجئ الخاليا النائمة بكسل
داخل جمجمته الكبيرة ،قطعة رغيف حافية وكأس شاي بدون سكر ثم يهرول
للمقهى كي يكون أول من تغازله خولة ،حينها فقط يستطيع أن يدخن سيجارته
الغالية ،مزاج خولة سيء اليوم ألن سروال الحظ قد تمزق في مكان ال يمكن
اصالحه ،فاكتفت فالسروال االسود الباهت الذي يجعل مؤخرتها تبدوا كخمس
ليترات من الحريرة في كيس بالستيكي ،لمحت زياد من بعيد واستغفرت هللا
وبصقت :صبحنا على هللا تفو ..مر بجانبها دون تحية ،فعادة ال يتحدث إال بعد
السيجارة المباركة ،أخذ مكانه في الركن الذي يسمح له بمراقبة الجميع،
وخصوصا مؤخرة خولة ،كانت قد أعدت قهوته دون أن يطلبها ،بصقت فيها
وقدمتها له دون ابتسامة ،كان يعلم أنها تبصق في قهوته كل يوم لكنه يشربها عمدا
أمامها كي يثير اشمئزازها...
ماذا دهاني بحق الجحيم ،أي حياة بائسة اختارها دائما لشخصياتي المسكينة ،أي
ظلم هذا وأي أدب حقير ،أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم
في الطابور ،تقف خولة بشموخ كنعامة خرجت للحياة اثر عالقة غير شرعية بين
طاووس متكبر ونعامة تائهة ،سروالها األسود وقميصها األبيض األنيق يوحيان
بأنها مضيفة طيران ،لكنها في الحقيقة مجرد نادلة في مقهى فاخر في حي
الرياض ،طال انتظار التاكسي الحقير ،بدأت تفكر في اللجوء لتاكسي صغير ،لكن
الفاتورة ستكون مرتفعة ،لهذا قررت االنتظار ،البأس ،بما أنها على عالقة
بصاحب المقهى فلن يوبخها على التأخر ،خلفها يقف رجل غريب ،يداه الخشنتان
و موسطاشه يوحيان بأنه عامل بناء ،رجل بسيط استغل الزحام ليقترب أكثر منها
ويشم الرائحة الرهيبة المنبعثة من عنقها ،و من حين آلخر يمد يده ويلمسها في
خصرها معتذرا طوال الوقت ،انزعجت في البداية لكنها وفي غفلة من عقلها
الصغير سرحت في خيال جامح ،تخيلت صاحب الموسطاش عاريا أمامها،
ويقبلها بشراهة ،أنفاسه المختلطة بسجائر ماركيز زادتها إثارة ،مدت يدها اللينة
وأمسكت بعضوه المشتعل ،لم تكن تعلم أن فتاة برقتها يمكن أن يكون لها خيال شاذ
كهذا فهمست :أعوذوا باهلل من الشيطان الرجيم ،أتى التاكسي الحقير أخيرا ،لسوء
حظها ولحسن حظه جلسا جنبا إلى جنب في المقدمة ،الحرارة المنبعثة من فخدها
أشعل النيران في عروق المسكين ،لكنه سيطر على نفسه وحاول التفكير في
زوجته البدينة ،طردها من خياله بسرعة وهمس :ال حول وال قوة إال باهلل ،أما هي
فقد تحول تركيزها للسائق الذي يخلط عمدا بين فخدها ومحول السرعة ،كانت
الرغبة قد سيطرت عليها فتركته يفعل ما يشاء ،تلوت رغما عنها ويدها فوق
عضو صاحب الموسطاش الذي كاد يختنق فرحا بذلك ،استفاقت أخير حين أحست
ببرودة خفيفة بين فخديها ،طلبت من السائق أن يتوقف ونزلت بخجل ،الموسطاش
والسائق لم يفهما شيئا وترجما ما حدث بابتسامة بلهاء
سأقلع عن التدخين ،سأتوقف عن الكتابة وسأعتزل كل الحياة من أجل حبيبتي
خولة ،سأتحول إلى جرذ قذر يخرج من جحره على حين غرة ليسرق المجوهرات
مخلفا ورائه مئات اللعنات من أجل ابتسامة رضى من حبيبتي ،سأسلخ قردا آدميا
وأصنع من جلده حذاء يليق بجمال حبيبتي ،سأرقص لها كما يرقص زوربا حين
ينتشي ،سألقي على مسامعها آالف األشعار ،تماما كما يلقيها رامبو على السفن
المهجورة ،سأقبلها وكأنني أقبل آالف النساء ،سأجعلها تهدل كحمامة في البارد
القارس ،وسأخونها طبعا عشرات المرات
اعتادت خولة أن تسبقني بخطوات ونحن نتمشى في الشارع ،فهي بذلك تقول
للخنافيس التي تمر بجانبنا أنها ليست معي ،ال تعرفني ،هو مجرد كلب ضال
يتبعها طوال الوقت والطريق ،تتقزز من حذائي كلما وقفت ألدخن سيجارة
رخيصة أحملها في جيب معطفي الرخيص كذلك ،تنتظرني وتنظر إلي باشمئزاز،
أبتسم في وجهها فتلوي عنقها ،أكاد أسمع همسها :إلهي لماذا ابتليتني بهذا النوع
أستيقظ في المساء ،أتأكد أن الشمس قد اختفت ،أجلس القرفصاء لدقائق ،أفكر
لبضع ثواني ثم ابدأ البحث عن كلماتي المسكينة ،وجدت واحدة تحت السرير،
جملة في السقف ،كلمتان تتبادالن القبل خلف الحذاء ،رأيتهما من خالل الثقب،
فقرة كاملة تتسلق الجدار كي تقفز من النافذة ،سطر ناقص عالق في شعر رأسي،
حرف يتدلى في لحيتي ..أجمعها بهدوء وأضعها في صندوق صغير وأحكم
إغالقه ،يأتي دور الجوارب ،أجد واحدة واألخرى تجيد لعبة الغميضة ،أتركها
وشأنها ،أخرج ألغسل وجهي المزغب ،ألتقي بوالدتي في المطبخ ،تنظر إلي،
تستغفر هللا وتتأفف ،أكتشف أنني قد خرجت من الغرفة دون سروال ،ابن القحبة
كنت قد رميته حين سرق مني العشرة دراهم التي أقرضتني إياها حبيبتي خولة،
تابعت طريقي نحو المرحاض ،أقسمت أنني لن أرتدي سرواال ما حييت ،كل
السراويل أبناء قحبة ،وجهي الشاحب في المرآة ذكرني أنه لدي مقابلة عمل،
سخرت منه ،مقابلة عمل في الليل يا ابن الفقيرة ،تشققت المرآة ،ضحكت عليها،
والدتي تقف خلفي كعامود شراع مركب قديم ،ترسل دعوات مبهمة ويردها
السقف ،لم أغسل وجهي ،سأعود للنوم على أي حال
المزيد من الهراء
أجلس في الظالم كخفاش أعمى ،أقبل القنينة وأطلب منها أن تصمت شششش،
الجيران نائمون ،أو يتضاجعون ،ال ندري ..المهم أننا وحدنا وال حرج علي إن
قبلتك ألف مرة ،القبلة لن تحسبها السماء كنوع من السيئات ،القبلة والعناق من
الحسنات الرفيعة ..قط جائع خرج من العدم وجلس بالقرب مني دون تحية ،ركلته
بلذة ،أال تقولون شالوم في قبيلتكم؟ نقول شالوم يا ابن القطة قبل الجلوس! خيل لي
أنه قال شالوم وجلس مرة أخرى ،قبلت القنينة ولم تمانع ،لعابها وصل إلى قنة
رأسي فصار ثقيال كمؤخرة شيماء! غلبني النوم خخخخ
الفلسفة تكره العرب ،فقد أجبروها على ترك أريكتها المريحة والخروج للشارع،
في الركن أمسكها بائع السجائر بالتقسيط ،أطبق يده على فمها وتحسس شعر
عانتها ،دفعته وهربت كقطة مرعوبة ،وجدت نفسها في زقاق مظلم وسط ثالثة
شبان يدخنون الحشيش ،اغتصبوها شر اغتصاب وفروا كضباع مجنونة ،تنهدت
وبكت ،أخذها إمام المسجد الذي كان في طريقه لصالة الفجر من يدها وعاد بها
إلى غرفته ،وهناك فعل بها ما فعل ورماها للشارع ،حاولت العودة ألريكتها،
كانت تمشي كعاهرة مخمورة ،مرت بالقرب من عجوز غاضبه فتلقت وابال من
اللعنات ..ارتمت في أريكتها أخيرا ،وأقسمت بأن تحرم العرب من حضنها مدى
الحياة
سيؤلمني حقا أن أموت وأحيا في مكان آخر بشخصية أخرى ،بذاكرة جديدة ،ال
أريد أن أنسى نادلة حانة بوطربوش ،ال أريد أن أنسى بائع السجائر بالتقسيط الذي
يبيع لي سيجارة مارلبورو بدرهمين فقط ،أريد أن أحتفظ باإلحساس الذي شعرت
به وأن أمص نهدي حبيبتي خولة كقط جائع ،أريد أن أحتفظ بتلك اللحظة التي
واجهت فيها أبي ،بتلك اللحظة التي بكيت فيها كأرملة فقدت ثالثة ابناء في حرب
ال دخل لها فيها ...ال أريد أن أنسى أنني كنت جائعا ،فقيرا ،حزينا ،تائها
في غرفة صغيرة ،ووسط األغراض والكتب المبعثرة في كل ركن منها ،يظهر
رأسه الصغير الذي التهمه الشعر والشعر ،واضح أنه استيقظ للتو ،وأخذ ينظر في
األوراق ويقرأ ما كتبه ليلة أمس ،مزق الورقة األولى والثانية ورمى البقية ،هراء
هراء ..أخذ يبحث عن علبة السجائر في تلك الفوضى ،لم يجدها ،رمى كل
أغراضه من النافذة الصغيرة ،كتب قديمة ،جرائد ،مالبس باهتة ،علب السردين،
قطع خبز يابس ،أوراق ...لم يجد السجائر ،كاد يجن ،فجلس يحدث الجدران ،من
منكم أخذها! لدي فأس ،اعترفوا أيها المالعين ،من؟ الجدران الصماء لم تجب!
خرج كثور للسطح ليأتي بالفأس ،وضع علبة السجائر التي كانت في يده طوال
الوقت أرضا وأمسك الفأس من رأسه وعاد للغرفة ،ألن تعترفوا! خيل له أن أحدهم
أجابه :لقد تركتها في السطح! توقف لوهلة ينبش في ذاكرته الضعيفة! رمى الفأس
وعاد للسطح ،ووجدها هناك ..أبناء العاهرة ،البد أن تهددهم حتى يعترفوا ،العلبة
كانت فارغة فأصيب بشلل نصفي ،فقضى ما تبقى من عمره يحاول أن يعود
للغرفة ،وقيل أنه مات قبل أن يصل ،وكان آخر ما قام به هو أنه بصق في وجه
السماء لكن الريح أعاد البصقة والتصقت في أنفه
أكتب عن الفزاعات حتى صرت أنا بنفسي فزاعة ،أرتدي أسماال قديمة تكاد تغادر
غرفتي في غفلة مني من كثرة استخدامها ،حذاء قديم ولعين يعرف كل أزقة
وشوارع الرباط ،ومهما مسحته يعود ابن القحبة ليأخذ لون الخراء ،متأكد أن
حبيبتي ستهجرني بسببه! البارحة كنت ضيفا عند صديق عزيز في بيته ،وما إن
لمحت ابنته الصغيرة حذائي حتى قالت ببراءة مزعجة :بابا من يرتدي تلك
الجرذان؟ طبعا لم أنزعج ،يسعدني أن يتحدث اآلخرون عن حذائي بسوء! الفاسق
يستحق ذلك
اليوم ارتطم كتفي بكتف أحد المالعين وتمزق قميصي من مكان ال يمكن
اصالحه ،قميص باهت انتحر وأنا أرتديه! وسروالي الداخلي فاهلل وحده يعلم حال
المسكين! أما الجوارب فقصتها تدمي القلب ال داعي إلزعاجكم بها
حبيبتي تقول أنني حين أكتب هنا أكون عاريا أمامكم ،وأحيانا أكثر من الالزم،
لكنني شخص معتوه ،وال يزعجني أن يعرف أحدكم أن هناك ثقبا في سروالي
الداخلي
إن آخر شيء قد يفكر فيه شخص جائع ،بائس ،حزين ...هو الحب ..ولهذا األخير
عالماته كما هو الشأن بالنسبة للموت ،لكل عالماته الخاصة وتوقيته الخاص
حين استيقظ زياد هذا الصباح ،كان يعلم أن شيئا ما سيحدث معه ،لكنه لم يكن
متأكدا إن كان ذلك سيكون شيئا جميال كالحب أم شيئا أجمل كالموت ،أم اإلثنين
معا
قام بسرعة من سريره الكرتوني ،فتح عيناه على اتساعهما بحثا عن قطعة خبز أو
شيء مما تبقى من عشاء أمس ،لم يجد شيئا ،لم يغسل وجهه وسارع في الخروج
قبل أن تستيقظ صاحبة الدار وتعكر صباحه الجميل
وجد نفسه في مكانه المفضل في الحديقة العمومية القريبة من مقر سكناه ،كرسي
خشبي طويل ،كان ينام فيه قبل أن يحصل على تلك الغرفة الحقيرة ،جلس ينظر
إلى المارة ،كان ذهنه صافيا كالمرآة ،صاف كحمام سباحة األغنياء ،لسبب ال
يعلمه إال هللا تم تطهير جسده وروحه ،غضبه وبكاءه ...كل شيء اختفى مثل
ضباب الصباح ،كل ما تبقى هو التركيز على القصة التي سيكتبها ،استل قلمه من
جيب المعطف وبدأ الكتابة ،على غير العادة كان في شهوة من تلك الشهوات
الذهنية العليا التي تنتاب الكاتب ،أحس بلذة في كل فصل من فصول القصة ،بدا
وكأنه يبصق في وجه الجميع ،ابتسامة الجوكر تعلو وجهه الكئيب ،لكن أمرا ما قد
أزعجه ،كان في كل مرة يرفع رأسه ليفكر ،يجد سيدة تجلس أمامه تتأمله ،ودخل
في ذهنه أنها تتأمل بصفة خاصة ذلك الثقب في حذائه ،أزعجته تلك الوقاحة
وأفقدته تركيزه ،عاد إليه غضبه ،أتظن هذه العاهرة أنني فقير لمجرد أن هناك ثقبا
في حذائي؟ لقد كتبت للتو قصة تقدر قيمتها بمئات الدراهم ،ما بال هذه الفاسقة
تستهزأ بي ،أحس برغبة ملحة في تأنيبها وتوبيخها على تلك النظرات المستفزة،
فقام وخاطبها:
ال بأس ،اعتدت األمر على أي حال ،البارحة طلبت مني سيدة أن أتوقف عن
النظر لقضيب زوجها
انفجر ضاحكا ،يبدوا أنني لست المضطرب الوحيد في هذا العالم ،ابتسمت وشلت
بابتسامتها حركة زياد ،غضبه كان قد منعه من النظر في وجهها ،لكنه اآلن يفعل،
ويبدو أنه سيبقى يتفرس مالمح وجهها الجميل طوال اليوم ،عاد وسألها: