You are on page 1of 102

‫بؤس وغضب‬

‫قصص ناقصة‬

‫رشيد بن عدي‬
‫الكتاب ‪ :‬بؤس وغضب‬
‫الكاتب ‪ :‬رشيد بن عدي‬
‫الطبعة ‪2020 :‬‬
‫االيدلع القانوني ‪20200588 :‬‬
‫ردمك ‪9879954638965 :‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة للمؤلف‬
‫بلغت الثالثين‪ ،‬ال مال في حسابي البنكي وال امرأة في‬
‫حياتي! أعيش دون حلم‪ ،‬دون رغبة ودون حب! أكتب عن‬
‫الفزاعات وبائع السجائر بالتقسيط معتقدا طوال الوقت أنني‬
‫بذلك قمت بإنجاز عظيم! كل هرائي ال يكفي لشراء سيجارة‬
‫واحدة‬

‫عقلي خزانة ضحمة مزدحمة بآالف القصص المثيرة للشفقة‪،‬‬


‫قلبي بهو قديم تفوح منه رائحة الموتى! أسكن قبرا خشبيا منذ‬
‫األزل وأرتدي ثياب إمام ضال وأدعي الحكمة! وما أنا إال فاسق‬
‫يسير بأقدام عمياء‪ ،‬ال ينتظرني أحد وال يتبعني أحد‬
‫الفزاعة‬
‫الرابعة صباحا‪ ،‬جلس إلى طاولته‪ ،‬قطعة كرتون مفروشة على األرض‪ ،‬مد يده‬
‫لكأس بها ماء أسود من المفترض أنه شاي‪ ،‬قربه من أنفه ثم أغمض عينه وشرب‪،‬‬
‫أخذ قطعة خشب من المفترض أنها قطعة خبز‪ ،‬حشرها في جيبه وخرج للعمل‬
‫جارا أسماله‪ .‬كان الحقل فارغا إال من فزاعة حقول‪ ،‬حياها بخجل‪ ،‬لكنها ثارت في‬
‫وجهه غضبا‪ ،‬تأخرت يا ابن القحبة‪ ،‬إنها الخامسة‪ ..‬اعتذر بنفس الخجل وأخذ‬
‫مكان الفزاعة العجوز الذي غادر كثور هائج! تلك الفزاعة كانت والده‪ ،‬يعمالن‬
‫كفزاعة بالتناوب‪ ،‬أرغمه على ذلك منذ اكتشف أن الطيور قد اكتشفت أمر الفزاعة‬
‫الخشبية! وقف في مكانه‪ ،‬يحرك يديه من حين آلخر‪ ،‬سيقف هكذا حتى الرابعة‬
‫زواال ثم يأتي دور والده مجددا‪ ،‬كان يبكي بالعين الوحيدة التي يملكها‪ ،‬فقد فقأ طير‬
‫عينه قبل أشهر‪ ،‬كان طيرا جميال‪ ،‬وقف فوق رأسه ذات يوم‪ ،‬لم يشأ أن يخيفه‬
‫فتركه‪ ،‬الطير كان يعتقد أنه مجرد فزاعة خشبية ال تتحرك‪ ،‬بدا له بؤبؤ عينه مثيرا‬
‫ففقأه بمنقاره‪ ،‬ليس هذا فقط بل وكسر والده رجله اليسرى عقابا له على تهاونه مع‬
‫الطيور اللعينة!‬

‫أحيانا يضحك بشكل هيستيري وحيدا وسط الحقل الكبير‪ ،‬كان يتخيل لقاءه مع‬
‫جارته سعيدة التي يحبها‪ ،‬طبعا لم يخبرها بذلك لكنه أخبرها عشرات المرات في‬
‫خياله‪ ،‬وفي كل مرة كانت تضحك‪ ،‬ما جعله يضحك هو اآلخر‪ ..‬مرحبا أنا فزاعة‬
‫حقول وأحبك‬
‫حتى بعد وفاة والده استمر في العمل كفزاعة‪ ،‬لم يكن يجيد أي مهنة أخرى غيرها!‬
‫لكن ذلك لم يدم طويال خصوصا بعد أن أهانته جارته حين اعترف لها بحبه!‬
‫الحقيقة أنها لم تقل كالما مؤلما بل خنقته بصمتها الذي نجح في ترجمته! أنت‬
‫فزاعة بحق الجحيم!‬

‫استيقظ اليوم باكرا كالعادة‪ ،‬صلى الفجر وأرسل دعوة صامتة لربه‪ ،‬اللهم أبعد‬
‫عني العصافير! تنهد مرتين ثم قام من مكانه وارتدى مالبسه وخرج دون أن يوقظ‬
‫كلبه األعرج! بضعة أميال ووصل إلى الحقل‪ ..‬حشر جثته في األسمال وجلس‬
‫يتأمل المنظر أمامه! سكون رباني أدخل إلى قلبه االيمان والسرور متناسيا ما‬
‫سيعانيه لبقية اليوم! عصفور يردد أغنيته الحزينة وسط العشب‪ ..‬ضفدعان ممدان‬
‫بكسل تحت الشجرة الوحيدة في الحقل! نملة تحمل حبة قمح! سروال داخلي‬
‫متسخ‪ ،‬حذاء قديم! استفاق من سهوه واستغفر هللا وتوكل عليه ووقف! طرد‬
‫العصفور الجميل ووقف كشراع مركب قديم! مد يديه ليشكل صليب عيسى! خمس‬
‫دقائق ثم انفجر ضاحكا! ماذا أفعل بحق الجحيم؟ أي عمل حقير هذا الذي أزاوله!‬
‫حرفة بوك ليغلبوك! أبناء القحبة يسخرون منا! فليذهب أبي وحرفته للجحيم‪ ..‬لن‬
‫أفعل هذا بعد اآلن‬
‫أزرار للبيع‬
‫لم يجد زياد شيئا يعرضه للبيع غير أزرار معطفه‪ ،‬جال المدينة كاملة في محاولة‬
‫يائسة ليبيعها دون جدوى‪ ،‬جلس القرفصاء في الشارع يفكر‪ ،‬رتبها في األرض‬
‫وأخذ ينظر إليها‪ ،‬ما سرك أيتها األزرار الملعونة! لما ال يرغب أحد في شرائك؟‬
‫وبينما هو غارق في تساؤالته التي لن تفيده في شيء‪ ،‬فاجئه متشرد حين سأله‪ :‬كم‬
‫ثمن تلك األزرار الجميلة؟ استغرب زياد وأعاد النظر لألزرار ووجدها جميلة‬
‫حقا‪ ،‬لما لم يالحظ ذلك من قبل! آسف ليست للبيع‪ ،‬أنا فقط أستمتع بجمالها‪..‬‬

‫حشر األزرار في جيبه بعنف وعاد إلى غرفته‪ ،‬وضعها مجددا فوق الطاولة بعد‬
‫أن أزاح كل ما فيها من خبز يابس وبعض الجرائد‪ ،‬أخذ يتأملها من جديد بعين‬
‫الناقد‪ ..‬البد أن أجد الجمال الذي رآه فيها ذلك الغبي‪ ،‬ما الذي أثاره في أزرار‬
‫معطف بال؟ ماذا رأى فيها بالضبط؟ أسئلة كثيرة أرقته دون أن يجد لها جوابا!‬

‫تمنى لو كان يملك سيجارة واحدة ليسكت بها هذا الصخب المزعج الذي أثارته‬
‫ثالثة أزرار ملعونة في جمجمته الثقيلة‪ ،‬غرغرت معدته الفارغة طلبا للطعام‪ ،‬لم‬
‫يجد سوى قطعة خبز يابسة كانت فوق الطاولة‪ ،‬أين هي! قفز من مكانه يبحث‬
‫عنها! إله السماء‪ ،‬سأقبل كل شيء إال اختفاء قطعة الخبز‪ ،‬هي كل ما أملك‪ ،‬وهذه‬
‫األزرار القبيحة! قرفص يبحث عنها تحت الطاولة‪ ،‬سقط أحد األزرار واختفى‪،‬‬
‫نسي الخبز وأخذ يبحث عنه‪ ،‬قلب الغرفة رأسا على عقب ولم يجده‪ ،‬وقف جامدا‬
‫في مكانه‪ ،‬همس لنفسه‪ :‬لقد سرقت للتو! قطعة الخبز كانت أمامه مباشرة لكنه لم‬
‫يلمسها‪ ،‬نسي أمر الجوع‪ ،‬لقد تعرضت للسرقة! لن يكون اللص غير ذلك‬
‫الصرصار المجرم‪ ،‬فقد سرق قطعة الحلوى التي كنت أحتفظ بها من قبل لحالة‬
‫الطوارئ! الحقير ما الذي أعجبه هو اآلخر في هذه األزرار!‬

‫أخذ يلوك قطعة الخبز في صمت‪ ،‬لعنات وشتائم تنفجر داخله دون أن يسمح لها‬
‫بالخروج‪ ،‬كانت تلك حالته منذ قرر االقالع عن الكحول‪ ،‬بات كل شيء جحيما‬
‫لدرجة أنه يتساءل أحيانا‪ :‬تبا! ما الجدوى؟ لما ال أستمر في السكر؟‬
‫يبدأ عذابه منذ ساعات الصباح األولى‪ ،‬السادسة صباحا بالتحديد‪ ،‬يبدأ المنبه‬
‫بالصراخ بصوته المزعج‪ ،‬يستيقظ مرعوبا‪ ،‬يبحث عن المنبه الملعون ليسكته‪ ،‬ال‬
‫يجده‪ ،‬يتذكر أنه ال يملك منبها‪ ،‬وال حتى هاتفا يمكن أن يصدر منه صوت كهذا‬
‫الذي أيقظه من موته‪ ،‬يستغرب‪ ،‬يفكر‪ ،‬يتثاءب‪ ،‬جهاز الراديو يشتغل من تلقاء‬
‫نفسه‪ ،‬يثرثر كثيرا دون أن يفهم كلمة واحدة مما يقول‪ ،‬يصمت الراديو بعد أن‬
‫اكتشف أن ال أحد يصغي‪ ،‬يعود ليغلق عيناه المتعبتان عله يستفيد من بقايا النعاس‪،‬‬
‫لكن المنبه المجنون يعود للصراخ مجددا‪ ،‬يلعنه مرة أخرى‪ ،‬يقوم للحمام‪ ،‬يتبول‬
‫دون مجهود‪ ،‬البول يأخذ لون الويسكي‪ ،‬يلوي عنقه جهة المرآة المعلقة في مكان ال‬
‫يليق بها‪ ،‬ال يدري من وضعها هناك‪ ..‬مرآة غريبة‪ ،‬خاطب عقله من خاللها‪:‬‬
‫أخرج من هنا بسرعة‪ ،‬إنه ليس ويسكي‪ ،‬أنه بول‪ ،‬أهرب‪..‬‬

‫يخرج بسرعة كما أخبر نفسه‪ ،‬يتوجه إلى المطبخ‪ ،‬ال شيء هناك سوى كؤوس‬
‫فارغة‪ ،‬ال ال إنها مليئة بالنبيذ‪ ،‬أين السجائر‪ ،‬أين الوالعة‪ ،‬تبا تبا! الكؤوس فارغة!‬

‫شعر بخوف رهيب ال يعرف مصدره‪ ،‬جسده يرتعش بعنف‪ ،‬ال يفكر بشيء سوى‬
‫الخمر‪ ،‬لم يجد مكانا يهرب إليه سوى سريره البارد‪ ،‬قفز فيه ونام‪..‬‬

‫مر الوقت سريعا وعاد المنبه الحقير للصراخ‪ ،‬فتح عينيه ببطء كمن استفاق من‬
‫غيبوبة طويلة‪ ،‬لم يرى شيئا فعاد وأغلقهما بنفس البطء‪ ،‬حاول النظر إلى نفسه من‬
‫الداخل هذه المرة‪ ،‬لكنه صدم! فقد رأى ما لم تكن تراه عيناه الكبيرتان‪ ،‬رأى الكثير‬
‫من القبح في وجهه‪ ،‬رأى مالمحه على حقيقتها‪ ،‬مالمح ال لون لها‪ ،‬تجاعيد متطفلة‬
‫غزت وجهه في غفلة منه ومن مرآته الكسولة‪ ،‬قام بسرعة ووقف قبالتها‪ ،‬لكمها‬
‫بكل ما أوتي من حقد‪ :‬لما لم تنبهيني أيتها الحقيرة!‬

‫ارتدى معطفه األصفر‪ ،‬وقف ينظر إلى المرآة المحتضرة‪ ،‬أخرج ما في جسمه من‬
‫سوائل مقززة وبصقها على ما تبقى منها! بيت ملعون ال فائدة منه! أخذ يصرخ في‬
‫الغرف المسدودة‪ ،‬سأتخلص منكم جميعا حين أعود‪ ،‬صمت رهيب عم البيت‪ ،‬خيل‬
‫له أنه سمع الكراسي واألواني ترتعد خوفا منه!‬
‫أغلق الباب الخارجي بعنف‪ ،‬الجارة العجوز تصرخ وتلعن‪ ،‬أشار إليها باألصبع‬
‫الوسط واستمر في السير بسرعته المعهودة‪ ،‬تذكر أن ال وجهة يقصدها فتباطء!‬
‫توقف يبحث عن علبة السجائر في جيب المعطف‪ ،‬لم يجدها وصرخ بكل ما أوتي‬
‫من يأس‪ ،‬البيت الحقير! ابن العاهرة لم ينبهني‪ ،‬طفح الكيل‪..‬‬

‫كثور هائج ركل الباب وكسره‪ ،‬فتح الغرف بعنف ليبدأ في رمي األثاث من النافذة‪،‬‬
‫لم يجد شيئا‪ ،‬كان البيت فارغا إال من المرآة المقتولة‪ ،‬فتح باب غرفته فوجدها هي‬
‫األخرى فارغة‪ ،‬ال سرير وال وسادة‪ ،‬وال حتى قطعة كرتون‪ ،‬صدم مرة أخرى‪ ،‬لم‬
‫يجد شيئا يرميه من النافذة فرمى نفسه‬
‫المقبرة‬
‫فكرت في زيارة المقبرة هذا الصباح‪ ،‬كان لي صديق يعيش هناك‪ ،‬ربما سمح لتلك‬
‫األرض بأن تبتلعه أخيرا‪ ،‬وربما ما يزال يحدث األموات ويغني لهم! كنا نغني لهم‬
‫معا‪ ،‬أغاني أزنافور و هامبيردينغ وعبد الحليم‪ ،‬لكنهم مالعين ال يصفقون لنا‪،‬‬
‫نغضب ونتبول عليهم‪ ،‬يطردنا الحارس ونتجول في شوارع الرباط الباردة!‬
‫يحدثني عن زوجته وابنته‪ ،‬عن حلمه الوحيد‪ ،‬كان يحلم ببيت صغير وحديقة‬
‫صغيرة مليئة بالفراشات‪ ،‬يحب الفراشات كثيرا لكنه يقتلها‪ ،‬يقول أنها ال تستحق‬
‫العيش في مكان كهذا‪ ،‬مكانها في الجنة‪ ،‬لهذا يفقد صوابه كلما لمح فراشة‪ ،‬يجري‬
‫خلفها حتى يقتلها ويعتذر‬
‫كان رجال صالحا مؤمنا‪ ،‬ال يكره البشر ويصلي من أجلهم دائما‪ ،‬يتلو شعرا كوفيا‬
‫ويصرخ‪ :‬إله السماء‪ ،‬إنهم أغبياء‪ ،‬ال يعرفون شيئا‪ ،‬ارحمهم إله السماء! أقف خلفه‬
‫وأشتمهم‪ ،‬إنهم أبناء قحبة‪ ،‬ال ترحمهم إله السماء! يسمعني ويصرخ في وجهي‪،‬‬
‫نتبادل الشتائم واللكمات ونفترق‬
‫الجوع‬
‫ديوني قد بلغت رقما مخيفا‪ ،‬لم يكن أمامي حل غير خلع وجهي وحشره في كيس‬
‫بالستيكي إلى أن أختفي عن أنظار المتربصين‪ ،‬استمر هذا ألسابيع حتى اعتدتني‬
‫دون وجه‪ ،‬وتقبلت فكرة أن اإلنسان يستطيع أن يعيش دون وجه‬
‫وصلت للحضيض‪ ،‬جلست القرفصاء أحاول تهدئة معدتي الفارغة‪ ،‬كانت تصدر‬
‫أصواتا مرعبة حتى ظننت أنها سترتدي لحافها وتغادر جسدي الهزيل كما تفعل‬
‫األمهات‪ ،‬حاولت إغراقها بالماء لكنني زدت الطين بلة ليس إال‪ ،‬ارتديت معطفي‬
‫وخرجت للشارع‪ ،‬المعدة تبكي والفراغ الممد في جيب سروالي يضحك عليها‪،‬‬
‫فكرت في سرقة بعد الطعام لكن رجالي ستخونانني حتما‪ ،‬فكرت في التسول‪ ،‬لكن‬
‫هذا مستحيل فكرامتي هي التي أوصلتني لهذه الحالة‪.‬‬

‫الطبيعة تكون رحيمة أحيانا وال تترك أبناءها وتتدخل دائما في الوقت المناسب‪،‬‬
‫لمحت حافلة للتبرع بالدم‪ ،‬سأتبرع بالدم وأحصل على وجبة فطور مجانية‪ ،‬ليست‬
‫مجانية طبعا فسأشتريها بدمي‪ ،‬وقفت أمام الباب ليراني أحدهم ويبتسم في وجهي‬
‫ويطلب مني أن أتفضل للتبرع بالدم‪ ،‬سأرفض في البداية ومن ثم سأصعد للحافلة‪،‬‬
‫وهذا ما حدث‪ ،‬استقبلتني سيدة ضخمة لكنها لم تبتسم‪ ،‬يبدو أنها كشفت أمري‪ ،‬مع‬
‫ذلك قامت بما قامت به ثم شكرتني‪ ،‬شكرا لك‪ ،‬يمكنك أن تتفضل اآلن‪ .‬فكرت في‬
‫أنها قد نسيت أن تعطيني وجبتي فتظاهرت بالدوخة حتى أعطيها المزيد من الوقت‬
‫لتتذكر‪ ،‬لكنها عادت لتطلب مني المغادرة ألفسح المكان لمتبرع آخر‪ ،‬حسنا‪ ،‬ماذا‬
‫عن وجبة الفطور التي تقدمونها للمتبرعين؟ لم يعد لدينا ما نقدمه يا سيدي‪ .‬ماذا؟ لم‬
‫يعد لديكم؟ حتى تفاحة؟ علكة؟ أي شيء بحق الجحيم‪ ،‬ال شيء؟ هاتي دمي أيها‬
‫الكيس المنفوخ‪ ،‬متأكد أنك التهمت كل شيء‬
‫أخذت دمي وخرجت بعد أن ركلت باب الحافلة‪ ،‬بضع خطوات وسقطت مغشيا‬
‫علي‬
‫حب الفقراء‬
‫األب ال يعمل أو ال يريد أن يعمل‪ ،‬وحتى إن فعل شيئا فهو يلتقط القنينات‬
‫البالستيكية وقطع الكرتون للشركات أو من يدري ألية شياطين يفعل ذلك! األم ال‬
‫تعمل‪ ،‬أوال تريد أن تعمل‪ ،‬تنام نهارا وتشحذ ليال‪ ،‬األطفال يلعبون بالجرذان في‬
‫غرفة صغيرة ليس فيها دائما ما يؤكل‪ ،‬يأكلون فقط حين يقدم لهم الطعام‪ ،‬ال يهمهم‬
‫ان كان ما قدم لهم قطعة خراء يابسة أو قطعة خبز‪ ،‬يأكلون كل شيء! أحيانا‬
‫يخرجون للسرقة‪ ،‬الوضع يكون صعبا من حين آلخر‪ ،‬ينظرون للسماء ويشعرون‬
‫بقذارة الحياة من حولهم وال يستطيعون التفكير في شيء سوى اسكات المعدة‪،‬‬
‫والسرقة هي الحل الوحيد! وانتهى بهم األمر الى أوغاد صغار مخيفين! والحق‬
‫أنهم ليسوا أطفاال بل وحوشا آدمية في أجساد هزيلة‬
‫تجتمع األسرة في الليل‪ ،‬باستثناء األم‪ ،‬كل يتكوم على نفسه في السنتمترات‬
‫الخاصة به‪ ،‬وكثيرا ما نشبت بينهم حروب بشعة كلما حاول أحدهم تخطي حدود‬
‫اآلخر! يسعد األب لتلك المهزلة معتقدا أن في ذلك درسا قيما سيتعلمونه! يتمادى‬
‫الصغار في الصراخ وينسى األب الدرس ويبدأ في ركلهم ولكمهم حتى يغمى‬
‫عليهم وينامون! ينتظر الزوجة حتى تعود في الرابعة صباحا! يأخذ الحصيلة‬
‫ويضاجعها بعنف ثم يدير لها بظهره وينام! ال مانع لديها في ذلك‪ ،‬فهي تحبه‬
‫بالرغم من قسوته واهماله‬
‫الحب في القاع ال يشبه الحب‪ ،‬الخبز الحافي واأليادي المتشققة قد شوهته وحولته‬
‫لخطيئة ال تنفع معها صالة! الحب هناك عبارة عن طفل يبيع السجائر على‬
‫الرصيف‪ ،‬الحب هناك صبية تمشي حافية القدمين‪ ،‬الحب هناك عجوز أرهقه‬
‫التفكير في التي كانت لتكون زوجته لوال الفقر‪ ،‬الحب زوجة تركها زوجها دون‬
‫رسالة وداع‪ ،‬الحب شاب يسرق دراهم أمه ليخرج في موعد غرامي‬
‫تبادلنا األنفاس والقبل يوما! الهمس والغمز! لو كان روميو وجولييت حيين لسجدا‬
‫لحبنا!‬

‫حدث ما حدث وصرنا أعداء‪ ،‬أبصق على كل ركن جمعنا يوما! وتلعن كل رجل‬
‫يذكرها بي! أسخر من صورها وتستهزئ بكتاباتي! جمعتنا الصدفة في شارع‬
‫بارد‪ ،‬توقف الزمن فجأة‪ ،‬جوارحنا أرادت أن تشتبك ولو لمرة أخيرة‪ ،‬لكن غرورنا‬
‫كان أقوى‪ ،‬أشعلت سيجارة مدعيا أنني لم أهتم‪ ،‬وأن رؤيتها أمر عادي! اختبأت‬
‫خلف عامود الكهرباء إلى أن مرت كنعامة مغرورة‪ ،‬تركت خلفها بعض العطر‪،‬‬
‫هزمني العطر وجلست أبكي‪ ،‬الناس أشفقت على حالي ورمت الدراهم في قبعتي‬
‫المبللة‪ ،‬اختفى العطر وعادت روحي‪ ،‬أخذت الدراهم وقصدت أقرب حانة ألشرب‬
‫نخب هزيمتي‬
‫حبيبتي فقيرة‪ ،‬والدها فقير وأمها أفقر منه‪ ،‬تعتذر في كل مرة أطلب لقائها‪ ،‬ال تملك‬
‫ثمن تذكرة الحافلة وال تملك الجرأة لمواجهة المراقبين الكالب إذا ما تم كشفها‬
‫وهي تركب دون تذكرة‪ ،‬تكتفي باالعتذار‪ ،‬وتنهيدة تكاد تسمع‪ ،‬لكنني أسمعها‬
‫وأتنهد معها‬
‫اتصلت تطلب لقائي هذا المساء‪ ،‬فاعتذرت أنا اآلخر‪ ،‬لنفس السبب‪ ..‬أنا كذلك فقير‪،‬‬
‫أفقر من أمها‪ ..‬أفقر من فأر في كنيسة‬
‫التقينا أخيرا‪ ،‬كانت تحاول أن تخفي الثقب في حذائها الرياضي‪ ،‬وأنا بدوري‬
‫حاولت أن أخفي الثقب في سروالي‪ ،‬ولوال السروال الداخلي لظهرت إحدى‬
‫خصيتاي للعيان‪ ،‬أو كالهما‪ ،‬وقد يظهر األستاذ ال قدر هللا في أي لحظة‪ ،‬لكن‬
‫بعون السماء تمكنا من النجاة من فضيحة علنية قد تفتك بكرامتنا كعاشقين‬
‫يحترمان نفسيهما‬
‫كان اللقاء لطيفا كما توقعت‪ ،‬لم ينتهي بقبلة أو عناق كما ينهيه جميع العشاق‪ ،‬لكنه‬
‫انتهى بوعد بلقاء آخر‪ ..‬دفع كل منا ثمن قهوته بكل روح رياضية‪ ،‬لم نترك درهما‬
‫واحدا للنادل الحقير‪ ،‬لم يكن يتوقع منا ذلك على أي حال‪ ،‬منظرنا كان كفيال بأن‬
‫يجعل اآلخرين يشفقون علينا‪ ،‬نظراتهم كانت توحي بذلك‬
‫كانت مالمحنا تتغير مع اقتراب نهاية اللقاء‪ ،‬كنا نفكر في نفس الشيء‪ ،‬كنا نفكر‬
‫في تلك األميال الطويلة التي سنقطعها مشيا على أقدامنا المتعبة‪ ،‬فقد أخطأنا في‬
‫اختيار المقهى الرخيص‪ ،‬أبناء القحبة لم يتركوا لنا ثمن تذكرة الحافلة‬
‫افترقنا دون وداع‪ ،‬دون همس ودون وعد بلقاء آخر‪ ،‬حملت حقيبتها ورحلت دون‬
‫أن تستدير! تركتني كقنفذ بليد خانته أشواكه‪ ،‬كنت أعلم أنني فقدت شيئا في تلك‬
‫اللحظة‪ ،‬أخذت أعد أصابعي يدي وأعضائي‪ ،‬كل شيء في مكانه! ماذا فقدت؟‬
‫حشرت نفسي في معطفي وتركت رجالي تسيران نحو المجهول‪ ،‬ألكم الريح تارة‬
‫وأركل الحصى تارة أخرى! صدى كلماتها يتردد في كل مكان‪ ،‬الشوارع‬
‫واألرصفة تخبرني أنني فقدتها لألبد! وأنني قد وضعت رجال في قبري منذ‬
‫اللحظة التي مدت فيها يدها نحو حقيبتها! لقد فقدت جزءا من روحي‪ ،‬جزءا كبيرا‬
‫تأخر عليها كثيرا هذه المرة‪ ،‬استفسرت‪ :‬لماذا تأخرت كل هذا الوقت؟ لم يجب!‬
‫جلس يلتقط أنفاسه‪ ،‬لم تعد السؤال‪ ،‬عم الصمت‪ ،‬هو ينظر إلى حذائه‪ ،‬وهي تنظر‬
‫إلى السماء‪ ،‬هي تدعو هللا‪ ،‬وهو يلعنه ويشتم في صمت‪ ،‬لكنه يبصق كثيرا‪ ،‬تكلم‬
‫أخيرا‪ :‬سرت لثالثين ميال أبحث عن أعقاب السجائر‪ ،‬تخيلي‪ ،‬لم أجد عقبا واحدا!‬
‫وكأن الجميع توقف عن التدخين فجأة! تبا! حل الصمت مجددا‪ ،‬وضعت يدها في‬
‫جيبها وأخرجت بعض السنتيمات‪ ،‬خذ‪ ،‬اشتري سيجارة! لمعت عيناه‪ ،‬أمسك‬
‫السنتيمات واشترى سيجارة‪ ،‬دخنها بعيدا عنها‪ ،‬عاد إلى مكانه‪ ،‬أمسك بيدها‬
‫وقبلها‪ ،‬لمح عقب سيجارة بالقرب منهم‪ ،‬تظاهر بأنه يفكر‪ ،‬لم أرى تلك المنارة من‬
‫قبل‪ ،‬أكانت هناك دائما! أين؟ هناك! نظرت في االتجاه الذي أشار إليه‪ ،‬أخذ العقب‬
‫بسرعة ووضعه في جيبه! ليست منارة! تبدو كمنارة!‬
‫أخيرا‪ ،‬بعد دردشة طويلة استمرت ليومين كاملين‪ ،‬قررنا أن نلتقي! بعد إصرارها‬
‫طبعا‪ ،‬الساذجة تعتقد أنني شخص مميز وفريد‪ ،‬خدعها الهراء الذي أكتبه وحديثي‬
‫الممل عن الكتب والكتاب والشعراء والمجرمين وبائعي السجائر بالتقسيط‪ ،‬ربما‬
‫تخيلتني رجال وسيما تحيط به هالة من الوقار وبعض الذكاء المزيف‪ .‬وألن الملل‬
‫قد يدفع المرء للقيام بأمور فضيعة فقد وافقت على لقائها‪ ،‬كنت قد نسيت كيف‬
‫أتعامل مع النساء‪ ،‬لكنها بدت لي فكرة لطيفة أن أقوم بشيء مختلف‪ ،‬اشترطت‬
‫عليها أن نلتقي في حانة وليس في مقهى‪ ،‬وافقت بعد تردد واضح‪ ،‬المسكينة‬
‫قفزت في الحافلة النتنة بركابها‪ ،‬لم أدفع ثمن التذكرة‪ ،‬كنت سعيدا بذلك‪ ،‬أربعة‬
‫دراهم ثمن سيجارتين فاخرتين‪ ،‬كنت سأخون نفسي لو أهدرتها في شراء تذكرة‪،‬‬
‫وصلت مبكرا كعادتي السيئة‪ ،‬أخذت لي مكانا في الحانة‪ ،‬أنتظر‪ ،‬النادلة تخترقني‬
‫بنظراتها‪ ،‬أريد بيرة لكن ليس اآلن‪ ،‬أنتظر شخصا ما‪ ،‬الملعونة لم تبتسم لي حتى‪،‬‬
‫انصرفت تجر مؤخرتها المتدلية كطفل يتيم‪ ،‬لعنتها في صمت وبصقت‪ ،‬الحقيرة‬
‫األخرى تأخرت‪ ،‬يا للمغربيات وتوقيتهن‪ ،‬ها هي قادمة‪ ،‬تبتسم ببالهة‪ ،‬كنت سأبدأ‬
‫في التوبيخ حين وضعت قبلتين في وجهي الكئيب! آسفة‪ ،‬لم أجد مكانا أركن فيه‬
‫سيارتي! كان البد أن أستغل الوضع‪ ،‬فتاة تملك سيارة! البد أنها غنية‪ ،‬اعتذارك‬
‫مقبول لكن يجب أن تدفعي ثمن تأخرك‪ ،‬ليس لطيفا أن تتركي رجال محترما ينتظر‬
‫كثيرا‪ ،‬لو كنت شخصا آخر لما انتظرتك طوال هذا الوقت! الساذجة صدقتني‬
‫وطلبت قنينة نبيذ‪ ،‬إله السماء‪ ،‬شكرا لك‪ ،‬كنت أطلب قنينة نبيذ فقط‪ ،‬وها أنت تجود‬
‫علي بسيدة جميلة وقنينة نبيذ‪ ،‬لكنك نسيت السجائر‪ ،‬لكن البأس‪ ،‬سأشتريها بثمن‬
‫التذكرة‬
‫اهتز هاتفها فرحا بقدوم رسالة جديدة‪ ،‬اهتز معها قلبها‪ ،‬كانت تعلم أنه هو‪ ،‬حبيبها‬
‫الفقير‪ ،‬قرأت الرسالة مبتسمة‪ :‬المرجو االتصال بي! لم تتصل‪ ،‬كانت تعرف ماذا‬
‫يريد‪ ،‬توجهت للمطبخ‪ ،‬وضعت بعض الطعام في كيس بالستيكي‪ ،‬وسرقت ثالث‬
‫سجائر من جيب معطف والدها‪ ،‬وصعدت بسرعة لسطح العمارة مدعية أنها‬
‫ستقوم بنشر الغسيل‪ ،‬كان هناك‪ ،‬ينتظرها‪ ،‬الجوع يقطع أمعائه‪ ،‬ضباب في عينيه‪،‬‬
‫تكوم على نفسه في ركن إلى أن أتت‪ ،‬وضعت له الطعام وأخذ يأكله ككلب جريح‪،‬‬
‫استعاد بعض قوته‪ ،‬استلم السجائر‪ ،‬دخنها الواحدة تلو األخرى‪ ،‬كانت تراقبه‪،‬‬
‫تبتسم‪ ،‬بدت سعيدة‪ ،‬انتهى من األكل والتدخين‪ ،‬أخذ يدها وقبلها‪ ،‬ارتمى في حضنها‬
‫وشكر السماء‪ ،‬ماذا فعلت اليوم‪ ،‬همست في أذنه‪ ..‬كتبت قصة حب! كتبت عنك‬
‫وعني‪ ،‬لكن ثمة أشياء لم يستوعبها عقلي الصغير‪ ،‬ماذا تفعل سيدة جميلة مثلك مع‬
‫متشرد مثلي؟ ما الذي أثارك في كتلة العظام هذه؟ ألم تالحظي أنني لم أهديك ولو‬
‫وردة ذابلة طوال ثالث سنوات! غطت فمه بيدها‪ ،‬قبلت رأسه! أنا التي يجب أن‬
‫تطرح هذه األسئلة‪ ،‬لكن كما ترى لم أفعل! لهذا توقف عن الثرثرة في أمر قلت أن‬
‫عقلك الكبير ال يستوعبه! قلت عقلي الصغير وليس الكبير! سمعت جيدا ماذا قلت!‬
‫صمتا لوهلة‪ ،‬أريد أن أسمع شعرا‪ ،‬أكتب لي قصيدة اآلن‪ ،‬اآلن! حسنا‪ ،‬اسمعي‬
‫هذه‪:‬‬

‫حبيبتي لطيفة‬
‫تحب الكالب‬
‫أطعمت كلبا للتو‬
‫هو يضحك وهي تبكي‪ ،‬كان يعلم أنها تبكي‪ ،‬كان يبكيها كلما التقيا في محاولة‬
‫بائسة منه لتغضب وتهجره‪ ،‬لكن كل محاوالته بائت بالفشل أمام سيدة لطيفة‬
‫وحنونة‬
‫كنا نتحدث طوال سنتين تقريبا عبر الفايسبوك‪ ،‬لم نلتقي من قبل‪ ،‬فهي تعمل‬
‫كمبعوثة لألمم المتحدة وأنا أعمل صحفيا في جريدة التايمز األمريكية‪ ،‬ولكم أن‬
‫تتخيلوا مدى انشغالنا وقلة الوقت الذي نشتكي منه دائما! اليوم شاءت الصدفة أن‬
‫نلتقي في أحد شوارع مدينة تمارة العظيمة‪ ،‬أنا بصندلي البالستيكي وقميصي‬
‫الباهت‪ ،‬وهي بجالبيتها المنكمشة كمؤخرة العجائز! طبعا تجاهلنا بعضنا البعض‪،‬‬
‫فقد أخبرتها قبل خروجي للبحث عن أعقاب السجائر أنني أعمل على كتابة مقال‬
‫جديد‪ ،‬وأخبرتني هي أنها في اجتماع سيطول حتى منتصف الليل! لهذا كان‬
‫مستحيال أن نلتقي! وأين؟ في تمارة؟ مستحيل مستحيل‬
‫بعد خمس سنوات من الصبر‪ ،‬الحب‪ ،‬العتاب‪ ،‬البكاء‪ ،‬الضحك‪ ...‬كان البد أن‬
‫ينتهي األمر بالزواج‪ ،‬وإال لن يعود لتلك العالقة معنى! عينيها الجميلتين تجلبان‬
‫الكثير من الخنافس المستعدة للزواج في أي لحظة‪ ،‬لكن قلبها المخبول متشبث‬
‫بصاحب الحذاء المثقوب‪ ..‬هو اآلخر كان يعلم جيدا أنهم سيسرقونها منه يوما ما‪..‬‬
‫وهللا وحده يعلم كم مرة ارتدى بدلته الوحيدة وقصد بيتها ليخطبها على األقل‪ ،‬لكنه‬
‫يتراجع في منتصف الطريق‬
‫في آخر لقاء‪ ،‬صنع خاتما من سلك أكله الصدأ‪ ،‬ووضعه في أصبعها الرقيق‪..‬‬
‫انتظريني‪ ،‬قال! ثم قبلها ورحل‬

‫خمس سنوات كانت كافية لتفهم أنه لن يعود! والخاتم المزيف الذي مازالت تحتفظ‬
‫به‪ ،‬مجرد وسيلة ليخبرها أنه يرغب حقا في الوفاء بوعد لم يقطعه يوما‪ ..‬لكن‬
‫نظراته وغضبه ومزاحه كانت تقول كل شيء‪ ..‬قال لها مازحا ذات يوم‪:‬‬
‫سأتزوجك ولو بلغنا التسعين سنة‬
‫كان كل شيء ضده بما في ذلك نفسه‪ ،‬يخبرها كلما سمح له الصمت أنه يهرب‬
‫منهم إليها‪ ،‬يهرب منه إليها‪ ..‬كانت هي المرساة وكانت هي السفينة‬
‫كل شيء في حبيبتي بسيط‪ ،‬مالبسها الباهتة وحذائها الرياضي الذي تشقق من‬
‫كثرة االستعمال‪ ،‬قلبها‪ ،‬شعرها األسود‪ ،‬رغباتها‪ ،‬أحالمها‪ ...‬حتى المكان الذي‬
‫نلتقي فيه بسيط جدا‪ ،‬ركن في السطح‪ ،‬نفترش قطعة كرتون ونرتعد بالبرد معا‪،‬‬
‫تلتصق يدانا وشفاهنا‪ ،‬نتبادل األنفاس والحزن‪ ،‬هي حزينة وأنا كئيب! قد نتزوج‬
‫يوما‪ ،‬ليس اآلن‪ ،‬ربما بعد عشرين سنة‪ ،‬حين أبلغ التسعين‪ ،‬سأحتاج لشخص‬
‫أشتمه وأصب عليه غضبي‪ ،‬سأحتاج لشخص يذكرني بأخطائي وذنوبي‪ ،‬سأحتاج‬
‫لشخص أنظر إليه قبل أن ألفظ أنفاسي األخيرة‬
‫قمت بالواجب وأسعدت حبيبتي في هذا اليوم‪ ،‬عيد الحب الذي يتأخر علينا كثيرا‪،‬‬
‫التقينا وقت الظهيرة‪ ،‬بعد أن تأكدت من أنها قد تناولت غذائها في بيت أبيها‪ ،‬تبادلنا‬
‫قبلتين سريعتين في غفلة من الغرباء‪ ،‬اشتبكت يدانا وتركنا أرجلنا تقودنا إلى حيث‬
‫شاءت‪ ،‬تمشينا ألكثر من عشر كيلومترات‪ ،‬ستة شوارع‪ ،‬وخمسة أزقة‪ ،‬من ثم‬
‫سلكنا الطريق من صومعة حسان إلى مالعب القرب القريبة من إقامة الصباح‪،‬‬
‫جهة القامرة! تحدثنا كثيرا‪ ،‬باألحرى تحدث كثيرا‪ ،‬كي ال يفكر دماغها الصغير أن‬
‫هناك اختراعا رهيبا يسمى سيارة أجرة بدل تلك البهدلة! عموما‪ ،‬تداركت األمر‬
‫في األخير‪ ،‬الحظت أنها قد تعبت من المشي‪ ،‬فأخذتها من يدها وجلسنا في كرسي‬
‫اسمنتي يطل على البحر! مكان رومانسي يليق بنا‪ ،‬كانت تنظر إلي بعينين‬
‫جميلتين‪ ،‬أخبرتها وأنا أبتسم ‪ :‬عيد حب سعيد حبيبتي‪ ،‬وانحنيت ألقبل يدها!‬
‫المجنونة أبعدت يدها وانفجرت في وجهي ‪ :‬عيد الخرا هذا‪ ،‬سخفتي ديلمي‪ ،‬تهال‬
‫أخويا‬
‫كنت أعتقد أنها كانت تمزح‪ ،‬لكنها استمرت في السير ولم تستدر‪ ،‬الحيوانة تركتني‬
‫وحيدا كقنفذ حقير‬
‫رهبة وجودها بالقرب مني كانت واضحة في مالمح وجهي‪ ،‬كنت سعيدا‪،‬‬
‫وترجمت سعادتي بابتسامة بلهاء‪ ،‬شعور غريب لم أشعر به منذ مدة‪ ،‬قلبي يخفق‬
‫بشدة‪ ،‬خصيتاي مسترخيتان‪ ،‬يدي تحاول بيأس أن تمسك يدها الصغيرة‪ ،‬حاولت‬
‫أن أظهر بشخصية المثقف المحنك فقلت‪ :‬كنت أنام في هذا الشارع! هذا الشارع‬
‫كان بيتي! استغربت وغرغرت عيناها الجميلتان‪ ،‬أمسكت بيدي وقالت‪ :‬المهم أنك‬
‫لم تعد تنام هنا! ابتسمت‪ :‬معك حق‪ ،‬الشارع اآلخر أحسن من هذا‪ ،‬شارع نظيف‬
‫وال يمر منه كالب المخزن‬
‫اعتدت أن أقول لحبيبتي أن ال أحد سيحبك كما أحبك‪ ،‬كانت تبكي‪،‬‬
‫وصدقتني في مرحلة ما‪ ،‬هذا الصباح مرت أمامي هي وزوجها في سيارة‬
‫فارهة وفي يدها خاتم ذهبي‪ ،‬أي كذاب أنا والمسكينة لم تأخذ مني سوى‬
‫بعض القصائد الرديئة ووردة بالستيكية كنت أسألها عنها في كل مرة‬
‫نلتقي‪ ،‬أين الوردة التي اشتريتها لك؟ هل هي في أمان؟ لونها ما يزال‬
‫أحمرا؟ أي رجل فضيع‪ ،‬الفقير تاعت مي‬
‫رسائل حب‬
‫حبيبتي‬
‫أعلم أنني الطرف الناقص في هذه العالقة التي ستنتهي قريبا كما انتهت عدة‬
‫عالقات قبلك لنفس السبب! الحق أنني حاولت جاهدا أن أنجح هذه المرة لكن يبدو‬
‫أنني فشلت مجددا‬
‫تقولين أنني أعتبرك مجرد شخصية من الشخصيات التي تلعب القمار وتشرب‬
‫النبيذ الرخيص في رأسي طوال الوقت! حسنا‪ ،‬قد يكون ذلك صحيحا لكنك‬
‫شخصية مميزة وقريبة مني‪ ،‬لست النادلة وال موزعة الورق‪ ،‬أنت مالكة الملهى‪،‬‬
‫أنت الملكة وكل الشخصيات األخرى خدم مستعد ليركع تحت قدميك‬
‫ثم بحق الجحيم ماذا تنتظرين من شخص ال يستطيع حتى دفع ثمن هذه القهوة‬
‫الملعونة؟ فلننهي هذه المهزلة اآلن! يمكنك دائما أن تجدي شخصا آخر قد يبلي‬
‫أحسن مني‪ ،‬أما عني أنا فال عليك‪ ،‬يمكنني أن أجعل النادلة ملكة في أي لحظة‬
‫حبيبتي‬
‫أبشرك أن صدري صار أسودا وباردا كمهبل عجوز سبعينية‪ ،‬ولم يبقى عندي ما‬
‫يبتزه الشوق! ها أنا في الحانة‪ ،‬أشرب نخب الرحيل للمرة األلف ولم أعد أراك في‬
‫قعر الكأس‪ ،‬طلبت تغيير الكأس مرات ومرات ولم تكوني هناك‪ ،‬لقد تالشت‬
‫ذكراك حبيبتي‪ ،‬لم يبقى منك غير صورة باهتة في شاشة هاتفي المكسورة‬
‫عزيزتي‬
‫هل تعتقدين أنه بعد أن تفتحي لي ساقيك سأبكي ندما ألنني ضاجعتك؟ البد أنك‬
‫ساذجة‪ ،‬هل تعتقدين حقا أنني أبحث عن رضى المالئكة؟ أنا آخر رجل يريد ذلك‬
‫بحق الجحيم! لدي ميول إجرامية وأمارس الجنس كلما سمحت لي الفرصة‪ ،‬والنبيذ‬
‫كاد يعوض الدماء التي تجري في عروقي‪ ،‬أحمل ذنوبي بفخر وأسير في األرض‬
‫مشية فاسق متعجرف‪ ،‬هل تعتقدين أنني رجل يريد أن يربت هللا على كتفه؟ الشك‬
‫أنك ساذجة‪ ،‬ما كنت ألسمح له بأن يحاسبني‪ ،‬فأنا أحاسب نفسي كل يوم‬
‫عزيزتي‬
‫سيأتي يوم لن تشعري فيه ازاء الشخص الذي اضطهدك سوى بالالمباالة‪ ،‬بالتعب‬
‫من غباءه المثير للشفقة‪ ،‬من عجرفته و لكماته‪ ،‬ثم ستسامحينه وبذلك يكون قد‬
‫اختفى تماما من حياتك حتى لو كان ينام بجانبك في الليل! صبرك سيحوله لشبح‬
‫مسكين‬
‫أمزح‪ ،‬اقتلي ابن اللعينة عزيزتي‪ ،‬ال حل آخر غير هذا‬
‫عزيزتي‬
‫ال تغرانك كلماتي الموزونة‪ ،‬وإنجازاتي الفارغة‪ ،‬فأنا ما زلت نفس الشخص‪ ..‬ما‬
‫زلت أدخن بشراهة وأحمل قارورة الخمر في جيب معطفي أينما ذهبت‪ ،‬السجائر‬
‫جعلتني ضعيفا كعجوز أخذ منه الزمن ما أخذ‪ ،‬والخمر زعزع عقلي كجندي‬
‫أصيب برصاصة طائشة في رأسه‪ ..‬ال تزال أفكاري الغريبة تزداد يوما بعد يوم‪،‬‬
‫ويكبر اقتناعي بها يوما بعد يوم‪ .‬كل محاوالتك لتغييري كانت ستفشل حتما‪،‬‬
‫وحسنا فعلت حين رحلت‬
‫عزيزتي‬
‫لقد ضقت درعا بهذه الحياة! لعلها تشبه برمتها لعبة من لعب القدر التي تخلى عنها‬
‫بعدما مل منها أو ليلة القبر بال ضوء‪ ..‬الكتابة إليك ‪-‬رغم كونك مجرد وهم من‬
‫نسج خيالي‪ -‬تخفف عني آالم الجسد وتفرج عني ضائقات الروح‪ ..‬لقد تغيرت في‬
‫أشياء كثيرة على المستويين الفكري والفيزيولوجي‪ ..‬أكيد أنها أشياء لن تعجبك في‬
‫حبيبك الوهمي‪ ..‬وأكيد أنها لن تروق أية حواء على وجه األرض‪ ..‬أصبحت مدمنا‬
‫على أحالم اليقظة‪ ،‬أقصد أنني أعيش على المخيلة كي أستمر في الحياة‪ ،‬ومن‬
‫كثرة إهمالي لجسدي أضحت أظافري تضاهي أصابعي طوال‪ ،‬وتضاهي المحراث‬
‫القديم صدأ‪ ،‬كما أصبحت لحيتي الكثة السوداء تغطي شساعة صدري‪ ..‬وقد انعكس‬
‫هذا على شعر رأسي الذي اتسع له المجال كي يتمرد أكثر على حدوده السابقة‪..‬‬
‫وال أستطيع أن أنكر كون بعض المخلوقات الغريبة بدأت تتحرك بين أدغاله‬
‫ومراتعه‬
‫إضافة إلى ما قلته سابقا فقد اتخذ إهابي ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬لون الشحوم الزيتية من كثرة‬
‫ما التصق به من أدران وأوساخ‪ ،‬واألمر من هذا هو أنني لم أعد أصلح حبيبا لك‬
‫وال ألي امرأة أخرى‪ ،‬وتلك هي المصيبة الكبرى‬
‫أنا رجل مغلوب على أمره‪ ،‬والمغلوب هو شخص يتألم‪ ،‬ال يمكن توقع سلوكياته‪،‬‬
‫غير قابل للمراقبة‪ ،‬يستطيع أن يفقد عقله أو باألحرى فقده‪ ،‬قد يصبح عنيفا أو حتى‬
‫حقيرا‪ ،‬أو يفعل كما سأفعل‪ ،‬أن يحفر سردابه الخاص ويختفي فيه إلى األبد‬
‫فهل ستقبلين بي بالرغم مما قلته؟ وهذا ما ال أتمناه كرجل أحترم عقلي مثلما أحترم‬
‫اآلخرين‪ ..‬وإن كنت اآلن في عداد األموات‪ ،‬فإن لم يكن فأنا في عداد المفقودين‪،‬‬
‫وإن لم يكن فأنا حتما في عداد المجانين والحمقى‪ ،‬وهذا أضعف اإليمان‬
‫الوداع‬
‫من أنا؟‬
‫لطالما كنت شخصا منغلقا على نفسه‪ ،‬حلزونا حزينا يرفض الخروج من قوقعته‪،‬‬
‫أخرج فقط في الظالم الدامس‪ ،‬أحمل أوراقي وهيكلي العظمي وأسير في‬
‫الشوارع‪ ،‬أكتب عن الثقوب والدموع واألشباح المحطمة‪ ،‬ألمس األرواح المتعبة‬
‫بقلمي وأعيد لها حيويتها وعنفوانها‪ ،‬أشفي الجراح الغائرة في أقدام األطفال الحفاة‪،‬‬
‫أنفض الغبار عن عيون األرامل وأسد رمق الجائعين‬
‫تشرق الشمس وأعود لقوقعتي‪ ،‬ألملم شتاتي وأرمم الثقوب في هيكلي العظمي‬
‫وأعتذر لنفسي‬
‫أنا مسمار صغير أكل الصدأ نصفي‪ ،‬وجدني رجل حزين على قارعة الطريق‪،‬‬
‫أخذني بلطف ووضعني في حقيبته‪ ،‬كنت سعيدا ببيتي الجديد‪ ،‬لكن الرجل رماني‬
‫في األرض مجددا‪ ،‬وجدت نفسي وسط الكثير من القطع الحديدية في سوق‬
‫للخردة‪ ،‬الملعون سيبيعنا! وكما توقعت‪ ،‬اشتراني رجل آخر ويبدو أنه هو اآلخر‬
‫حزين! علقني في حائط غرفته‪ ،‬أسعدني الدفء في بيتي الجديد‪ ،‬لم يكن هناك‬
‫شيء آخر سوى فراش كرتوني وأنا! يا لهذا الهدوء اللطيف! اليوم حين استيقظت‬
‫لم أستطع رؤية الفراش أمامي‪ ،‬ماذا حدث لعيني! فيما بعد فهمت أن الرجل‬
‫الحزين قد علق صورة حبيبته فوق رأسي‪ ،‬لم أفهم ذلك إال حين سمعته يحدثها‪ :‬ها‬
‫أنت أخيرا في غرفتي يا حبيبتي رغما عنك‬
‫أنا جذع شجرة‪ ،‬سقطت من بطن أمي‪ ،‬أم هي التي رمتني! ال أدري! كنت أصرخ‬
‫تحت قدميها لتسمعني لكنها لم تفعل! هبت ريح ورمتني بعيد عنها! كان بكائي‬
‫خافتا كدعوات األمهات! اتخذني النمل مسكنا له‪ ،‬جرفتني مياه األمطار ذات‬
‫عاصفة‪ ،‬ورمتني بعيدا جدا! وجدني طفل صغير وصنع مني نايا! ينفخ في رأسي‬
‫ويخرج صوت جميل من مؤخرتي! أحببت هيأتي الجديدة! كنت سعيدا إلى أن مل‬
‫مني الطفل ورماني مجددا في صندوق خشبي وأغلقه‬
‫أنا قصة ناقصة مكتوبة في ورقة مكمشة بعنف‪ ،‬تركها كاتب فاشل ذات خريف‬
‫بارد في سلة المهمالت‬
‫مرت الفصول ألجد نفسي في سلة مهمالت ضخمة‪ ،‬اتسخ فستاني األبيض بسوائل‬
‫نتنة ومقززة‪ ،‬لكن ذلك لم يمنع متشردا من إنقاذي‪ ،‬طواني ووضعني بلطف في‬
‫جيبه‪ ،‬وأخذني معه إلى غرفته‬
‫طوال الطريق وأنا أتساءل‪ :‬ماذا سيفعل بي؟ استبعدت فكرة أنه سيقرأني‪ ،‬المعدة‬
‫الفارغة لن تستحمل ألما كالذي تسببه الكلمات‪ ،‬أغلب الظن أنه سيمسح بي‬
‫مؤخرته‪ ،‬لكن يبدو أنني لن أعرف أبدا‪ ،‬ألنه نسي أمري‬
‫أنا قصة ناقصة منسية في جيب سروال متشرد حزين‬
‫أنا حقيبة جلد قديمة‪ ،‬ال مشاعر لها وال تصلح لشيء‪ ،‬مرمية في قبو منزل‬
‫مهجور‪ ،‬بداخلها أوراق صفراء ملطخة بحبر أسود‪ ،‬كلمات كاتب حزين مات‬
‫منتحرا بحزام سرواله‪ ،‬أفكاره تثير جنوني‪ ،‬خططه ال بداية وال نهاية لها‪ ،‬أحالمه‬
‫كأحالم طفل صغير‪ ،‬يحلم بركوب التنانين والجري في حقل ال حدود له‪ ...‬أنا‬
‫حقيبة منسية عمرها ثالثون سنة‬
‫أنا تنهيدة رجل حزين في ليلة باردة‪ ،‬صنعت لنفسي هيكال وارتديت جلدا وخرجت‬
‫للصقيع‪ ،‬حياتي كلها تشبه رغيفا محروقا‪ ،‬أحمل األهوال في صدري وأجري‬
‫حافيا‪ ،‬أنا متعب‪ ،‬متعب من نفسي‪ ،‬من إصراري على أن أكون أنا‪ ،‬متعب من أن‬
‫ال أحد يحس بأي شيء اتجاهي‪ ،‬أنا كتلة عظام ساذجة‬
‫هراء منمق‬
‫حاولت الحصول على كلب اليوم‪ ،‬أميل إلى الكالب أكثر‪ ،‬القطط مخلوقات طماعة‬
‫ال تصلح إال للركل‬
‫خرجت في جولة على أمل أن ألتقي بكلب يشبهني! كل الكالب تشبهني على أي‬
‫حال‪ ،‬لكنني أبحث عن كلب مميز‪ ،‬مختلف عن باقي الكالب‪ ،‬أن أجد كلبا أعرجا‬
‫أو أعمى سيكون رائعا‬
‫مررت بجانب سيارة رباعية الدفع‪ ،‬لمحت كلبا بداخلها‪ ،‬كان حزينا‪ ،‬اقتربت منه‪،‬‬
‫لم يخف مني! بل اقترب هو اآلخر! هذا ما كنت أبحث عنه بالضبط‪ ،‬كلب حزين‬
‫وصامت تبا! لم يكن هناك كلب‪ ،‬بل انعكاس وجهي في زجاج السيارة‬
‫أتجول في الشوارع دون سبب‪ ،‬لو كنت أبيع المناديل أو الزريعة لحصلت على‬
‫الكثير من المال‪ ،‬لكن عقلي الملعون يفكر في أمور أخرى‪ ،‬تفكير ينتهي دائما‬
‫بطريقة سيئة‪ ،‬يحدث أن أرسل لكمات في وجه الريح لكنه يتفاداها ويصدها ظهر‬
‫شخص غريب‪ ،‬يستدير غاضبا لكنه يجد نفسه أمام وجه كئيب وباهت فيعتقد أنني‬
‫مجرد شخص مجنون‪ ،‬البارحة بصقت على حذائي واتضح أنني بصقت على‬
‫حذاء الجالس بالقرب مني في المقهى‪ ،‬كان حذائه جميال‪ ،‬صاحبه لم ينتبه فنجوت‪،‬‬
‫كان حذاء جميال حقا‪ ،‬فكرت في سرقته‪ ،‬لكن كيف أفعل ذلك وهو يرتديه! سأنتظر‬
‫موعد اآلذان واتربص به حتى يذهب للصالة في المسجد‪ ،‬يمكنك دائما سرقة‬
‫األحذية في المسجد‪ ،‬األمر بسيط‪ ،‬الكافر لم يذهب للصالة بل سمعته يهاتف صديقه‬
‫واتفقا على اللقاء في حانة الكتبية! ابن القحبة ال يصلي! تبا! فليذهب هو وحذائه‬
‫الى الجحيم‬
‫عرضت سروالي الوحيد للبيع! وقفت في سوق الخردة أنتظر من يشتريه! رجل‬
‫فقير أخذ يتفقده بتركيز شديد‪ ،‬وكان يبتسم في كل مرة يكتشف ثقبا‪ ،‬قام بع ّد الثقوب‬
‫ثم سألني عن الثمن! ‪ ١٠‬دراهم أيها اللعين! أعاد السروال الى مكانه ثم رحل دون‬
‫أن ينطق بكلمة! تباطأ في مشيته حتى يدفعني للتفكير في الثمن المبالغ فيه الذي‬
‫طلبته! لكنني لم أفعل! جلست القرفصاء أنتظر مشتريا آخر‪ ،‬طفل صغير يضحك‬
‫ويشير باتجاهي! والده قام بصفعه‪ ،‬سيدة ضخمة مرت ورمتني بنظرة غريبة‪،‬‬
‫عجوز بغيض اقترب مني وشتمني‪ :‬اجمع خصيتيك أيها الحيوان! نسيت أن‬
‫سروالي الداخلي ممزق وجعلت نفسي أضحوكة لهذه المخلوقات الحقيرة! ارتديت‬
‫سروالي ورحلت! سرت مطأطأ الرأس أفكر في حل آخر غير بيع السروال! البد‬
‫أن أحصل على بعض المال‪ ،‬فكرة جهنمية أوقفتني في منتصف الطريق‬
‫يتبع‬
‫أراقب الصراصير وهي تعبر الشارع أمامي‪ ،‬تسير بثقة ودون خوف‪ ،‬ال تقترب‬
‫من البشر‪ ،‬الصراصير ال تحب البشر وتتقزز منها‪ ..‬نملتان تائهتان تتبادالن القبل‪،‬‬
‫أم تهمسان شيئا ال يردن أن أسمعه أنا والصراصير‪ ،‬ال أدري‪ ،‬لست سليمان!‬
‫سليمان يعرف مثل هذه األمور‪ ،‬ليتني كنت سليمان ألخبر تلك الصراصير الجميلة‬
‫أن هذه المدينة ال تليق بها‪ ،‬ليس هنا سوى الكثير من الهمج واألحذية المغطاة‬
‫بالتراب‪ ،‬حياتهم في خطر‬
‫تذكرت أمرا وقفزت من مكاني‪ ،‬خطوة طائشة قتلت بها تلك الصراصير‬
‫المسكينة! قلت لهم أن هذه المدينة ستقتلهم‪ ،‬لكنني لست سليمان ولم يفهموا لغتي‬
‫حين نتحدث نحن سكان المجاري‪ ،‬نبدو كأننا نعزف سيمفونية حزينة! لكل‬
‫سيمفونيته الخاصة‪ ،‬وما إن يبدأ أحدنا في العزف حتى يصمت اآلخرون ويكتفون‬
‫بابتسامة ال معنى لها‬
‫يحدث أن نتمادى في العزف فيصل صدى بؤسنا الى ابناء القحبة الذين يسكنون‬
‫في األعلى! فتراهم يتذمرون ويتأففون ألن سيمفونيتنا مجرد بكاء ونواح بالنسبة‬
‫لهم! الحياة جميلة يقولون! أبناء العاهرة ال يعلمون ما يعنيه أن يكون الخبز والشاي‬
‫وجبة رئيسية! طبعا ال نلومهم على الرخاء الذي يعيشون فيه‪ ،‬فهم يستحقون ذلك‬
‫في نهاية المطاف‪ ،‬لكن سيمفونيتنا رائعة ولن نقبل أن تهان لمجرد أنهم أساؤوا‬
‫فهمها‬
‫أجدني عاريا‪ ،‬أرقص في خراب كل ما بنيته طوال ثالثين سنة مضت! الطفل‬
‫البريء صار شيخا ضاال! كهال كريها بالكاد يميز بين الخطأ والصواب! لم‬
‫يرهقني جيبي الفارغ بقدر ما أنهكتني نظرات أمي الفارغة وصدرها البارد‬
‫ال شاهد على مأساتي سوى ذلك الوجه الكئيب الذي يظهر في المرآة! أحييه كل‬
‫صباح وال يرد التحية‪ ،‬أرتدي أسمالي وأخرج للشارع أبحث عني! كل الوجوه ال‬
‫تشبهني أنا الذي أعيش دون وجه‬
‫عشت بما فيه الكفاية ألطلب نهاية بسيطة‪ ،‬أن أرحل في ظالم الليل وأن يحملني‬
‫بعض الرفاق ويرمونني في قبري في صمت‬
‫لن أخجل من هللا و سأواجهه بذنوبي وخيباتي وحذائي المثقوب‪ ..‬لن أسمح له بأن‬
‫يربت على كتفي‪ ،‬فأنا أعرف طريق الجحيم جيدا‬
‫أشعر برغبة ملحة في كتابة رسالة حب! في االعتراف بمشاعري! أنظر حولي‬
‫فال أجد سوى أطياف نساء لم يجمعني بهن سوى لقاءات عابرة وقبالت باردة!‬
‫حبيبتي األولى أم لطفلين اآلن وحبيبتي األخيرة كانت مجرد خازوق! وما بينهن‬
‫نساء لم يتركن أي أثر! مجرد دمى شاركتني فنجان قهوة أو قنينة نبيذ! القمر‬
‫يراقبني بعيني إحداهن! من؟ ال أدري‪ ،‬كل الذكريات محيت! وضعت القلم جانبا‬
‫وأخذت أفتش في أرشيف الصور عن ذكرى واحدة أعيد بها االعتبار لروحي‬
‫العفنة! كل الصور تؤكد أنني كنت دائما وحيدا! شخصا مضطربا يحمل السجائر‬
‫دائما بين أصابعه! شخص قبيح تحيط به هالة من السواد! كيف لشخص كهذا أن‬
‫يكتب رسالة حب‬
‫أنهيت قنينة النبيذ‪ ،‬وشرعت في كتابة رسالة غرامية لحبيبتي خولة! لكنني كنت‬
‫أتخيل مروة طوال الوقت‪ ،‬كانت رسالة غرامية لكن بين سطور العشق والحنين‬
‫حدثها عن الثقب الثالث في سروالي! ال أدري ما الذي دفعني لفعل ذلك بحق‬
‫الجحيم لكنني فعلت! أضفت بيتا شعريا لرامبو ال عالقة له بالحب‪ ،‬مقطع صغير‬
‫عن سفينة مهجورة‪ ،‬لكنه بدا مناسبا ثم أنهيت الرسالة بكالم غير مفهوم ومزقتها!‬
‫القنينة الفارغة كانت تسخر مني‪ ،‬رميتها بعنف وارتطمت برأس قط كان ينام في‬
‫الركن! ال أحب القطط على أي حال! تمددت فإذا بمروة تظهر مجددا بمؤخرتها‬
‫المكتنزة! طردتها حتى ال اضطر لالستمناء للمرة العاشرة هذا اليوم‬
‫كل منا لديه فتحة شرج! صحيح؟ هل يوجد أحد في هذا العالم ليس لديه فتحة‬
‫شرج؟ كل منا لديه ردفان أسفل ظهره! وفي األسفل وتحديدا في المنتصف يخرج‬
‫الغائط! صحيح؟ من هناك سيخرج ما بداخلنا من غائط حتى نموت! فكروا في‬
‫كمية الخراء الذي طرحته مؤخراتنا حتى اآلن‪ ،‬ذلك الخراء الذي امتصته األرض‬
‫وامتألت به األودية والبحار! ما أقذرنا! ما أقذرنا‬

‫أكره البشرية جمعاء في كل مرة أمسح فيها مؤخرتي! نحن الذين مألنا األرض‬
‫بكل الجراثيم والفيروسات ونشتكي اآلن! فلنذهب إلى الجحيم جميعا‬
‫أيقظني صديقي الصرصار اليوم! كان يلهث ككلب‪ ،‬بالكاد فهمت ما يقول‪ ،‬سألني‬
‫باستغراب‪ :‬أمك لم تذهب للمسجد اليوم! هل ألحدت؟ أم أنها توقفت عن محاربة‬
‫األمية؟ أضحكني ابن المعفونة‪ ،‬لماذا تسأل؟ وقف فوق مرمدة السجائر وصرخ في‬
‫وجهي‪ :‬كنت سأموت قبل قليل يا ابن القحبة! كادت أمك تقتلني بصندلك‬
‫البالستيكي! اعتدت أن أجلس في البلكونة التي في غرفتها بعد الظهيرة! وقت‬
‫الظهيرة تكون هي في المسجد! صفعته‪ :‬أال تعرف ماذا يحدث في العالم؟ ألم تعد‬
‫تقرأ منشوراتي؟ البد أن تلك الصرصارة البشعة التي تخرج معها قد أخذت كل‬
‫وقتك‬
‫حسنا أغرب عن وجهي‪ ،‬ال مزيد من معطر الجو بعد اليوم‪ ،‬وال أريد أن أراك‬
‫مجددا مع تلك الحقيرة البشعة التي تخرج معها‪ ،‬تعتقد أنني لم أالحظ ذلك؟‬
‫النساء كن يعاملن كالدواب! وهذا أمر لن يغفرنه لنا نحن الرجال‪ ،‬سيسيطرن على‬
‫العالم عما قريب! المسألة مسألة وقت ليس إال‬

‫لألسف كان هذا ليحدث لوال أنهن يكرهن بعضهن البعض‪ ،‬لوال أنهن أمهات‬
‫فاشالت يلدن نفس الرجل الذي يحاربنه‬
‫ليس عدال أن أبناء القحبة قبل ألف سنة كانوا يشربون النبيذ من البراميل‬
‫ويضاجعون النساء والغلمان على حد سواء حتى تجف عروقهم‪ ،‬يقهقهون حتى‬
‫الدموع ويجولون العالم دون جواز سفر! ونحن اآلن عاجزون كليا على دفع ثمن‬
‫بيرة واحدة! ونخجل من دعوة النساء لفنجان قهوة! نبتسم بحسرة‪ ،‬ونعجز عن‬
‫تجاوز حدود المدن التي نموت فيها! ونحلم بجحيم أقل قسوة من الذي نعيش فيه‬
‫فراغ مدروس بعناية فائقة‪ ،‬هكذا حياتي‪ ،‬سنوات من الزحف دون نتيجة‪ ،‬سنوات‬
‫من ضبط النفس من الصباح إلى المساء‪ ،‬سنوات من الوهم‬
‫خسرت القضية! لم أستطع أن أكون من تمنيت أن أكون! ونسيت من كنت أكون!‬
‫أحمل في صدري إحساسا بالالا انتماء‪ ،‬أجهد نفسي من أجل أشياء ال تهمني بتاتا‪،‬‬
‫أفعل ذلك بدافع الشفقة فقط! أيامي مصابة بعقم واضح! كسل مصطنع حولني لكهل‬
‫عنيد يزحف بحثا عن الحسرة وسوء المزاج‬
‫البؤس الذي أعيشه كان موجودا قبل والدتي! وما حدث هو أنني كنت محظوظا‬
‫وعثرت عليه! لم يكن ذلك صعبا على أي حال‪ ،‬كان واضحا في كل شيء رأته‬
‫عيني! في حذائي المثقوب‪ ،‬في قلب حبيبتي‪ ،‬في أنين األرامل‪ ،‬في نظرات بائع‬
‫السجائر‪ ،‬في بكاء أمي وصمت أبي‪ ،‬في طغيان الملك‪...‬‬

‫هذا البؤس هو أملي الوحيد في الحياة! به أتنفس وبه سأختنق‬


‫أحيانا يبدو لي أن الكتابة عن الناس بطريقة سيئة أمر مريح‪ ،‬يهدئ أعصابي! نوع‬
‫من أنواع الترفيه‪ ،‬أسلوب جديد أواجه به كمية الخراء التي أراها في الشارع!‬

‫أحيانا أخرى أرغب في االعتذار لكل شخص كتبت عنه يوما أو فكرت في الكتابة‬
‫عنه! مع ذلك أجد دائما العذر الذي يسمح لي باإلساءة إليهم بضمير مرتاح! حتى‬
‫ولو كانت عالقتي بهم جيدة‪ ،‬فأنا أبحث دائما عن سبب بسيط كي أسب وأشتم!‬
‫يكفي أن يسألني أحدهم كيف حالك ليستيقظ الشيطان بداخلي! ابن القحبة يسخر‬
‫مني! أنا في حالة مزرية‪ ،‬بماذا سيفيدك هذا؟ كيف حالك! وما شأنك أنت؟ ال أدري‬
‫ما سبب ردة فعلي هذه‪ ،‬ربما ألنني أعي جيدا أنني لست بخير ‪ ،‬لم أكن يوما بخير‬
‫ولن أكون مستقبال! مثير للشفقة أعلم‬
‫جيل الديجا فو‪ ،‬نستيقظ‪ ،‬نغسل أجسادنا بكسل‪ ،‬وأحيانا ال نفعل‪ ،‬نأكل دون شهية‪،‬‬
‫نغلق أعيننا لثانية فنجد أنفسنا في المقهى‪ ،‬نحيي الرفاق‪ ،‬سجائر‪ ،‬قهوة‪ ،‬حوارات‬
‫ناقصة‪ ،‬ابتسامات بلهاء‪ ،‬ضحكات صاخبة نخفي فيها توترتا‪ ،‬تلك طريقتنا للنجاة‬
‫من يوم آخر! ال يهمنا الغد‪ ،‬نحن جيل يعلم الغيب! نعرف جيدا ماذا سيحدث غدا!‬
‫ألننا نبلغ من العمر يوما واحدا‪ ،‬يوما واحدا يتكرر‬
‫مات كوبي بريانت‪ ،‬فليذهب إلى الجحيم‪ ،‬ال أعرفه على أي حال‪ ،‬يقولون أنه كان‬
‫طويال ويستطيع رمي الكرات في سلة‪ ،‬كان عظيما يقولون‪ ،‬أبناء القحبة ينسبون‬
‫العظمة ألي كان‪ ،‬كلبي أعظم منه‪ ،‬مات المسكين هذا الصباح بعد صراع طويل‬
‫مع الجوع‪ ،‬لم يكن لدي غير السجائر وشاركتها معه‪ ،‬كان يدخن بهدوء‪ ،‬لم يشتكي‬
‫قط‪ ،‬لم ينبح في وجهي قط‪ ،‬لم يوقظني من النوم قط‪ ،‬ولم يتركني لساعة قط‪ ،‬كان‬
‫يعلم أنني ال أملك أحدا غيره‪ ،‬كان يفهمني حين أتحدث معه في الليالي الباردة‪،‬‬
‫يستحمل رأسي الثقيل حين أغفو على ظهره‪ ،‬وحتى حين تكون حبيبتي برفقتي‬
‫يبتعد لبعض الوقت حتى ال أخجل منه حين أقبلها! يعلم جيدا أنني رجل خجول‪،‬‬
‫من العظيم اآلن؟ شخص طويل يرمي الكرات في سلة؟ أم حيوان جميل يفهم‬
‫النفس البشرية؟‬
‫أستحم‪ ،‬أمشط شعري وأرتدي بدلتي وأقصد الحانة‪ ،‬أدخلها معلنا للجميع أن‬
‫كازانوفا قد أتى‪ ،‬أشرب نخب الحب مع هذا ونخب السعادة مع ذاك‪ ،‬أقبل النادالت‬
‫وأضاجع المومسات في المراحيض‪ ،‬أضحك بصوت عال وأقهقه! أنا كازانوفا‬

‫بعد ساعتين أو أقل‪ ،‬أضع يدي في جيبي ألعلن وفاة كازانوفا ووالدة القديس‬
‫يوحنا‪ ،‬أشرب آخر كأس مدعيا أنه نبيذ مقدس‪ ،‬أودع الجميع متمنيا لهم ليلة سعيدة‪،‬‬
‫وداعيا لهم بالتوبة! أخرج من الباب الذي دخلت منه بمشيتي الرزينة وهالة من‬
‫الوقار تسبقني! أنا القديس يوحنا‬

‫أستيقظ‪ ،‬ألعلن بذلك وفاة القديس يوحنا ووالدة المتشرد رشيد‪ ،‬أبحث في مرمدة‬
‫السجائر عن بقايا سيجارة قد أكون تركتها سهوا ليلة أمس! ألعن كازانوفا والقديس‬
‫معا‪ ،‬ألعن األحالم التي تنتهي دائما بخيبة أمل‪ ،‬أسب الشمس التي أيقظتني‪ ،‬أتنهد‬
‫استعداد ليوم آخر طويل‬
‫نتخبط في الحياة كالمجانين‪ ،‬يصعب علينا أن نفهم لماذا ولدنا أول األمر‪ ،‬نعجز‬
‫عن الوقوف أمام المرايا ونصرخ في وجهها‪ :‬ماذا نفعل هنا بحق الجحيم! الوالدة‬
‫كانت دائما نعمة تستوجب الشكر واالمتنان‪ ،‬رحم هللا سيوران‪ ،‬جزء من الماضي‬
‫ال يجب أن نمسه بسوء‪ ،‬لكنها في مرحلة ما تصبح جريمة‪ ،‬الشر الحقيقي! هذا أمر‬
‫لم يشر له األنبياء‪ ،‬ربما أغفلوه أو نسوه‪ ،‬ال يهم اآلن فقد فات األوان! البشر‬
‫اقترف جميع الجرائم‪ ،‬وأكثرها جريمة األبوة‬
‫أعود الى الرباط‪ ،‬حزينا كطفل يرفض الذهاب للمدرسة بعد عطلة لطيفة‪ ..‬سأعود‬
‫ألضحي بوحدتي الداخلية مجددا وأسلم نفسي لمحادثات بال فائدة‪ ،‬احساس مثير‬
‫لالشمئزاز بأن تكون مدفونا حيا‪ ،‬مدفون في صمت أمي وحي في قهقهات الرفاق‪،‬‬
‫األمر محزن حقا‪ ،‬ففي سن العشرين كنت مؤمنا بقدري التعيس‪ ،‬مع ذلك كنت‬
‫حالما وطامعا في الحياة‪ ،‬اليوم تغير كل شيء‪ ،‬نهاية هادئة لحياتي سترضيني دون‬
‫تفاصيل أو أسئلة‪ ،‬وال حرج لدي في أن أرحل بصفتي بائع سجائر بالتقسيط‬
‫يحدث أن أحلم بالحياة‪ ،‬أعترف بذلك‪ ،‬وأخجل من نفسي كوني أفعل ذلك‪ ،‬لكنني‬
‫أفعل وأصنع بخيالي نفس ما يصنعه اآلخرون‪ ،‬سهرات وسيارات وأموال ونساء‪،‬‬
‫صحيح أن ذلك ال يطول وأستفيق من تلك المهزلة‪ ،‬فأضحك بصوت عال من‬
‫رؤيتي إياي هناك‪ ،‬األمر كما لو أني أمي رأتني عاريا‪ ،‬يا لها من كآبة‬
‫وأنا هنا‪ ،‬في هذه المدينة الصغيرة والجميلة‪ ،‬اكتشفت للمرة األلف أن الفارق بيني‬
‫وبين اآلخرين أكبر من أي وقت مضى‪ ،‬أحسست بداخلي بمسافة رهيبة بيني وبين‬
‫العالم‪ ،‬اكتسح القرف من هذه الحياة روحي وأحدث فيها ثقبا كبيرا‪ ،‬لطالما كنت‬
‫معاديا ألفكار اآلخرين ومنتقدا شرسا لطريقة عيشهم بالرغم من أنني كنت دائما‬
‫وما زلت محبا لإلنسانية‪ ،‬الفراغ الرهيب الذي أعيش فيه بات واضحا اآلن‪ ،‬ولو‬
‫كنت ملما بالفضاء لقلت أنه بحجم كوكب المشتري‪ ،‬عالقتي باآلخرين وخصوصا‬
‫عائلتي اتخذت مظهرا باردا ومؤلما‪ ،‬احساس خبيث يزداد يوما بعد يوم‪ ،‬والشك‬
‫أن نهايتي لن تكون شيئا غير الجنون‬
‫الملل التهم رأسي‪ ،‬وقفت كشراع مركب قديم‪ ،‬ثم بدأت أتجول ببطء في غرف‬
‫المنزل كأنني في جنازة‪ ،‬اليدان في الخلف و الرأس مطأطأ والقدمان تركالن أي‬
‫شيء‪ ،‬ركلت كتابا للمرحوم محمد شحرور واختفى تحت السرير‪ ،‬آمل أن أتذكره‬
‫فيما بعد‪ ،‬رن الهاتف‪ ،‬لم تكن هي فلم أرد‪ ،‬رسمت مخلوقا مخيفا في حائط الغرفة‪،‬‬
‫كان يشبهني‪ ،‬خفت عليه من الوحدة فرسمت له رفيقة‪ ،‬كانت هي األخرى مخيفة‪،‬‬
‫كنت أعلم أنها ستتركه يوما ما فمسحتها ورسمت مكانها كلبا أعرجا‪ ،‬بدا الحزن‬
‫على المخلوق المخيف‪ ،‬بالكاد تعرف عليها وحرمته منها‪ ،‬لكنني فعلت ذلك‬
‫لمصلحته فقط‪ ،‬لن يفهم ذلك اآلن لكنه سيفعل فيما بعد‪ ،‬أنا كذلك لم أكن أفهم لماذا‬
‫كانت أمي تغني في المطبخ في الوقت الذي كنت أحاول فيه قطع شرايين يدي‪،‬‬
‫لطالما كرهتها على ذلك‪ ،‬لكنني فهمت أخيرا لماذا‬
‫ما حدث أن جيل السبعينيات والثمانينيات من الذكور كان منشغال بالعمل‪ ،‬ما جعل‬
‫عالقتهم بالنساء مضطربة وبارة إلى حد كبير‪ ،‬بالرغم من أن أغلبهم متزوج‪،‬‬
‫واآلن بعد أن صار حسابهم البنكي ممتأل‪ ،‬ما أيقظ أعضاءهم التناسلية‪ ،‬جيلهم من‬
‫النساء لم يشفي غليلهم‪ ،‬لهذا كان الحل هو االستمتاع بجيل التسعينيات من النساء‪،‬‬
‫أقصد هنا الصبيات‪ ،‬عالقة عادلة إلى حد بعيد‪ ،‬الشيوخ يستعيدون شبابهم في‬
‫أحضان الصبيات‪ ،‬والصبيات ينتفعن من جيوب الشيوخ‪ ،‬الوضع حتى اآلن‬
‫واضح‪ ،‬لكن ماذا عن نساء السبعينيات وشباب اليوم؟ نساء فعلن المستحيل مع‬
‫أزواجهن ليجدن أنفسهن اآلن في منافسة مع األرداف المنحوتة‪ ،‬وشباب اليوم تائه‬
‫ال يستطيع تقديم ما يقدمه الشيوخ‬
‫بات جليا اآلن‪ ،‬أن ما يحدث معي ليس مجرد أرق أو اكتئاب قد يختفي مع الوقت‪،‬‬
‫لكنه حرب ضارية بين الطفل الذي كنته‪ ،‬الطفل الذي كان يحلم أن يصير معلما‬
‫ويخبر تالمذته عن جمال الحياة‪ ،‬وبين العجوز الذي تحولت إليه والذي يكتفي‬
‫بالمشاهدة وتحذير األطفال في الشارع من الحياة‪ ،‬ال تكبروا يا أبناء القحبة‪ ،‬إنه‬
‫فخ‪ ،‬ال تتزوجوا كما فعل آبائكم وال تتكاثروا‪ ،‬التاريخ يثبت دائما أن اآلباء‬
‫مخطئون‬
‫يبدو أنني تماديت في التفكير‪ ،‬في لعب دور الحكيم الذي كشف لغز الحياة‬
‫أجلس كفيل متعب‪ ،‬أصارع فكرة شيطانية ال أدري من أي جحيم أتت‪ ،‬فكرة أنني‬
‫قد أكون أحمقا في أية لحظة‪ ،‬اآلن‪ ،‬بعد ساعة‪ ،‬يوما ما‪ ...‬أفضل أن أكون قملة‬
‫على أن أكون أبلها‪ ،‬األمر مخيف حقا‪..‬‬

‫أعلم أن كل الناس يحملون فيروسا ينخر جماجمهم‪ ،‬أو نوعا معينا من االنحالل‬
‫اليومي‪ ،‬نوعا غريبا من الشر‪ ،‬استياء غير مبرر‪ ،‬حياة معقدة بشكل ال متناهي‪...‬‬
‫كلهم يدركون ذلك بشكل أو بآخر‪ ،‬مع ذلك يستطيعون تجاهل األمر‪ ،‬عكسي أنا‪،‬‬
‫وال شيء أكثر رعبا من عدم القدرة على التجاهل‬
‫أريد أن أقوم بما يقوم به الجميع دون وخز للضمير‪ ،‬أمور تبدو بسيطة كقتل ذبابة‬
‫لكنها تؤلمني‪ ،‬وأعتقد أن جزاء هذا النوع من المعاناة التي أعيشها هو الموت‬
‫ككلب‪ ،‬أفضل أن أموت ككلب على أن أصير أبلها‬
‫تحدثت مع هللا اليوم‪ ،‬لم أفعل ذلك منذ مدة ألنه غاضب مني‪ ،‬البيرة وحلمات خولة‬
‫كانت السبب في القطيعة‪ ،‬أهملته وأهملني‪ ،‬لكننا فعلنا اليوم‪ ،‬حوار ناقص ال بداية‬
‫وال نهاية له‪ ،‬طلبت منه خمسة دراهم‪ ،‬وعدته أن أذهب لمكان خال من البشر‬
‫ليعطيها لي هناك‪ ،‬سيكون ذلك سرنا الخاص‪ ،‬انتظرت لنصف ساعة‪ ،‬ساعة‪ ،‬لم‬
‫أحصل على الدراهم‪ ،‬طلبت نصفها‪ ،‬لم يحدث شيء‪ ،‬انزعجت وجلست أشتم‪ ،‬مر‬
‫بعض الفتية وضربوني‪ ،‬سرقوا حذائي وهاتفا حقيرا كنت أحتفظ فيه بصورة‬
‫حبيبتي‪ ،‬عدت لغرفتي خائبا‪ ،‬خاب ظني في هللا ووعدت نفسي أال أطلب منه شيئا‬
‫بعد اليوم‬
‫يوم ممطر‪ ،‬أمر لطيف طال انتظاره‪ ،‬مع ذلك وككل شيء جميل يحدث معي البد‬
‫أن أجعله جماال باهتا بأفكاري المثيرة للغثيان‪ ،‬فبالقدر الذي سأستمتع بمنظر‬
‫المطر وهو يغسلني من الداخل بالقدر الذي سيزداد فيه السواد بداخلي وأنا أفكر‬
‫لحال الذين سيؤلمهم هذا المطر‪ ،‬الفقراء الذين لن يقئهم من البرد سوى دعوات‬
‫أمهاتهم الصامتة‪ ،‬الفقراء الذين سيتنهدون كل صباح قبل الخروج بأحذيتهم‬
‫المثقوبة لمواجهة الصقيع والشياطين اآلدمية في معركة واحدة بالكاد سيخرجون‬
‫منها دون أن يفقدوا جزءا منهم‪ ،‬الحزانى الذين سيبتسمون ألن الوضع يزداد سوءا‬
‫ليس إال‪ ..‬لكن ما قيمة الحزن إن كان حزن الفقراء؟ أما حزن األسياد فترف يحلم‬
‫به الضعفاء كل ليلة‪ ،‬ما المطر بالنسبة لهم؟ شيء جميل ينظرون إليه من داخل‬
‫سياراتهم الفارهة وفرو معاطفهم الغالية! وقد تجود عليهم الطبيعة بمنظر غريب‬
‫لرجل حزين يجري ببطء ليختبئ في مكان ال يصله المطر‪ ،‬لكنه يسقط في‬
‫منتصف الطريق وترتطم عظامه الهشة بالرصيف! منظر مخيف كهذا قد يكون‬
‫موضوع سخرية لألسياد في األمسيات الباردة وكؤوس النبيذ تجلس بفخر في‬
‫أياديهم اللينة‬
‫أكتب هذا وصوت الرعد يزداد رعبا‪ ،‬وكأن الطبيعة تؤكد بصوت مسموع ما أكتبه‬
‫اآلن‪ ،‬بعد الرعد تسقط قطرات باردة غير مفهومة‪ ،‬هل تبكي السماء حزنا على‬
‫الذين تحدثت عنهم أم أنها هي األخرى ترغب بشدة في رؤية الرجل الذي قسى‬
‫عليه الرصيف وكسر بعض عظامه؟‬
‫أشرب سائال أسودا‪ ،‬قرأت عليه بعض اآليات القرآنية في البداية عله يتحول إلى‬
‫ويسكي‪ ،‬لم يفعل‪ ،‬خاب ظني وتركته جانبا‪ ،‬ألعب بأصابعي وأفكر في طلب قرض‬
‫بسيط من حبيبتي‪ ،‬كيف أفعل ذلك بحق الجحيم‪ ،‬الحب شيء وطلب المال شيء‬
‫آخر‪ ،‬يكفي أنها تدفع ثمن القهوة والسجائر‪ ،‬ال يجب أن أكون طماعا‪ ،‬تركت‬
‫الفكرة وعدت ألصابعي‪ ،‬عشرة أصابع‪ ،‬تأكدت من ذلك ثالث مرات‪ ،‬ماذا لو‬
‫فقدت أصبعا أو اثنين؟ ال أعتقد أن ذلك سيحدث يوما‪ ،‬وحتى لو حدث فال بأس‪ ،‬هاا‬
‫ماذا لو بعت أصبعا‪ ،‬األصبع الوسط قد يباع بثمن جيد‪ ،‬فهو ليس مجرد أصبع‪،‬‬
‫يمكن استخدامه كسالح أيضا‪ ،‬أو لمداعبة مهبل إحداهن‪ ،‬يجب أن أبيع شيئا‪ ،‬أي‬
‫شيء‬
‫ولدنا على حافة القبر‪ ،‬كان علينا أن نبقى هناك‪ ،‬حيث ننتمي‪ ،‬لكن بريقا خافتا في‬
‫األفق أدهشنا‪ ،‬كان مغريا فاتبعناه‪ ،‬فتهنا في الطريق‪ ،‬رفضتنا القبور بعدها وقست‬
‫علينا الطرق‪ ..‬صنعنا ألنفسنا قبورا جديدة سميناها غرفا‪ ،‬وعلقنا في جدرانها‬
‫صور هتلر ومارلين مونرو! مع مرور الوقت‪ ،‬ضاقت علينا واستبدلناها بمنازل‬
‫كبيرة‪ ،‬غرف كثيرة وكبيرة وكل وسائل الترفيه‪ ،‬كنا نعتقد أنها لن تخنقنا كما فعلت‬
‫الغرف‪ ،‬لكنها فعلت‪ ،‬وخرجنا نبحث عن البديل‪ ،‬الطبيعة أحسن بديل‪ ،‬الجبال‬
‫والسهول‪ ،‬حملنا متاعنا وارتجلنا نبحث عن مكان آمن‪ ،‬الشمس تلفحنا تارة والمطر‬
‫يبللنا تارة أخرى‪ ،‬إلى أن وصلنا لمبتغانا‪ ،‬قبرنا الذي غادرناه أول مرة‪ ،‬جلسنا‬
‫على حافته نطلب الغفران‪ ،‬لقد أرهقتنا الحياة بما يكفي ولن نقبل الرفض بعدا اآلن‪،‬‬
‫القبور عنيدة بطبعها‪ ،‬باردة كمهبل العجائز‪ ،‬ورفضتنا‪ ،‬وبقينا هناك‪ ،‬على حافة‬
‫القبر ننتظر‬
‫صديقي الصرصار‪ ،‬شريكي في الغرفة‪ ،‬بالرغم من أنه عاطل وال يدفع ثمن‬
‫الكراء إال أنه صديقي الوحيد وأحبه‪ ،‬لكن مزاحه مزعج أحيانا‪ ،‬البارحة حاول‬
‫دغدغتي في أذني لكنه انزلق للداخل‪ ،‬تطلب األمر لترين من الماء ألخرجه‪ ،‬انسل‬
‫بعد ذلك تحت السرير خوفا من العقاب‪ ،‬تركته حتى نسي األمر ورششت عليه‬
‫معطر الجو‪ ،‬راقبته وهو يتعثر في مشيته كسكير حقير‪ ،‬بالكاد استطاع أن يخطو‬
‫خطوتين وسقط مغشيا عليه! كنت أعلم أنه لم يمت‪ ،‬الصراصير ال تموت‪ ..‬هذا‬
‫الصباح لمحته يجلس كملك سعيد وحوله ستة صرصارات! ابتسم لي وقال‪ :‬شكرا‬
‫على معطر الجو يا صديقي‬
‫يوم آخر في الرباط‪ ،‬أعرف جيدا ما يعنيه أن تعيش في مدينة كهذه‪ ،‬رائحة البول‬
‫والخيانة تفوح من سورها الطويل‪ ،‬رائحة نتنة ال تليق بمدينة سميت غصبا الرباط‬
‫العاصمة! الخونة المخنثون يعثون فيها فسادا‪ ،‬يجلسون فالمكاتب والحانات‬
‫ويشربون دم بعضهم البعض ويتبادلون االبتسامات البلهاء والتهديدات‬
‫الخنافس تسير في شوارعها دون وجهة‪ ،‬ال أحد يهتم ألمرهم سوى تلك البراغيث‬
‫العالقة في مؤخرة سراويلهم‬
‫المنكر هنا صبية ترتدي فستان أحالمها‪ ،‬تمشي بفرح طفولي كي يرى العالم‬
‫فستانها الجميل‪ ..‬والخير هنا هو مجموعة من الرجال دوي الموسطاش‪ ،‬يجلسون‬
‫في المقهى وينظرون لذلك الجزء الصغير الذي يظهر من ثدي الصبية صاحبة‬
‫الفستان ويتأففون ويشتمون والدها في سرهم‬
‫كثيرون يعتقدون أنها مدينة األحالم‪ ،‬مدينة الرخاء والغنى‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬لكن في‬
‫جزء صغير منها فقط‪ ،‬الجزء الذي ينام فيه السلطان ورعيته‪ ،‬أما البقية ورعيتها‬
‫ففي المجاري‬
‫في هذه المدينة اآلثمة‪ ،‬لم يعد هناك مشروب في حانة يروي العطش‪ ،‬أشرب‬
‫لمجرد أنني مدمن‪ ،‬أخرج إلى الشارع وأمشي دون أن أتمايل‪ ،‬جمع من‬
‫المتسوالت يغني أمام محطة القطار‪ ،‬أقف كشيطان ألتفرج‪ ،‬ثم جلست أصغي في‬
‫يأس تام‪ ،‬أفكر في طريقة لسرقة النقود الصفراء التي جمعتها هاته المخلوقات‪،‬‬
‫شعرت بالغثيان لمجرد أنني قد فكرت في سرقة هاته الدمى‪ ،‬يجب أن أعود إلى‬
‫الحانة‪ ،‬دقيقة واحدة مع هاته األحجار المترهلة ألغت ساعات من الضحك في‬
‫الحانة‪ ،‬كنت أضحك بدون سبب‪ ،‬هل تريد بيرة أخرى؟ هاهاهاه نعم‪ ،‬كنت أحاول‬
‫أن أخدع عقلي وأتظاهر بأنني ثمل‪ ،‬لكن ها أنا‪ ،‬صاح كديك فرنسي‪ ،‬ودعت‬
‫المتسوالت ورحلت‪ ،‬عشرات الدمى ترتطم بكتفي وأنا أسير كسلحفاة بلغت‬
‫الخمسين سنة‪ ،‬لم أنزعج‪ ،‬كنت أشعر كما لو أنني أعرف كل شخص كان في‬
‫الشارع‪ ،‬فجأة بدأت أحلم حلما جميال وأنا بعينين مفتوحتين‪ ،‬التقيت بها في نفس‬
‫الشارع‪ ،‬تمكنت من شمها‪ ،‬من معانقتها‪ ،‬لكنها رحلت عني بسرعة وعادت الشفقة‬
‫الذاتية مجددا‬
‫أجلس هنا‪ ،‬كمنفضة سجائر قذرة‪ ،‬أنتظر‪ ..‬ألعب بأصابعي‪ ،‬أغمض عيناي وأفتحها‬
‫بشكل متكرر‪ ،‬أفتح كتابا‪ ،‬ال أقرأ منه‪ ،‬أغلقه وأعيده إلى مكانه‪ ،‬الجدران صماء‪ ،‬ال‬
‫شيء يوحي لك بفكرة في هذه الغرفة‪ ،‬حذائي ينام في الركن كجرذ يحتظر‪ ،‬فكرت‬
‫في ايقاظه لنواجه معا الشوارع المخيفة في الخارج‪ ..‬أيقظته‪ ،‬بدأ يسب ويشتم‪،‬‬
‫كنت مصرا على ارتدائه فقام بتمزيق جلده‪ ،‬المجنون هددني باالنتحار! تراجعت‬
‫وجلست أنظر إليه! كيف سأخرج بهذا الحذاء الممزق! ال لن أفعل‪ ،‬كرامتي لن‬
‫تسمح بذلك! لكنه حذائي الوحيد! ماذا أفعل بحق الجحيم! سأرتديه وأخرج وليكن‬
‫ما يكن! فعلت‪ ..‬كل شي بخير حتى اآلن‪ ،‬الناس لم تكتشف حذائي! سأستمر في‬
‫السير إذن إلى أن ألمح خولة وأعود‬
‫طفل حزين‪ ،‬يداعب قطا ميتا‪ ،‬اقتربت منه‪ ،‬ماذا تفعل؟ فقال‪ :‬يجب أن أدفن هذا‬
‫القط‪ ،‬لكنني ال أستطيع أن أحفر قبرا له! قلت سأساعدك‪ ،‬بدأت الحفر‪ ،‬أخذ يراقبني‬
‫ثم سألني‪ :‬أين نذهب حين نموت؟ لم أفكر كثيرا وقلت‪ :‬نعود للمكان الذي أتينا منه!‬
‫صمت قليال وقال‪ :‬الشك أنني أتيت من الجحيم! ضحكت لوهلة ثم سألته‪ :‬ولماذا؟‬
‫ابتسم ‪ :‬ألنني أنا من قتلت ذلك القط‬
‫خولة‬
‫طلبت قرضا من حبيبتي‪ ،‬لم يكن األمر صعبا كما كنت أعتقد‪ ،‬بهدوء مدت يديها‬
‫في حقيبتها وأعطتني عشرة دراهم كاملة‪ ،‬حاولت أن أخفي فرحتي‪ ،‬المشاريع‬
‫بدأت تخرج من بصلتي السسائية دون توقف‪ ،‬توسع بؤبؤ عيناي‪ ،‬قبلت رأسها‬
‫وودعتها‬
‫أتمشى ببطء‪ ،‬أفكر في العشرة دراهم‪ ،‬مرجح أن أذهب للمقهى‪ ،‬فنجان وسيجارة‪،‬‬
‫ال ال‪ ،‬سأشتري أربع سجائر فاخرة وأبقى في غرفتي‪ ،‬قد أقرأ كتابا‪ ،‬أو أشاهد‬
‫فيلما‪ ،‬هذا ما سأفعله‪ ..‬عشر خطوات‪ ،‬بائع السجائر أمامي‪ ،‬وضعت يدي في‬
‫جيبي‪ ،‬العشر دراهم كانت قد اختفت‪ ،‬نسيت أن جيب سروالي مثقوب‪ ،‬ابن القحبة‬
‫فعلها بي مرة أخرى‪ ،‬نزعته وعدت للبيت عاريا‬
‫السادسة بتوقيت المالعين‪ ،‬ال شيء حتى اآلن يوحي بأن اليوم سيكون مختلفا عن‬
‫غيره‪ ،‬الشمس سترمي اللحاف جانبا وستطل علينا قريبا‪ ،‬وخولة سترمي بيجامتها‬
‫جانبا وسترتدي السروال األصفر الضيق الذي يحبه رواد المقهى‪ ،‬والقميص‬
‫األبيض الذي تطل منه حلمتين رهيبتين يسيل معهما لعاب الرواد‪ ،‬العيد بعد أسبوع‬
‫ويجب اللجوء ألي وسيلة لكسب جيوبهم‪ ،‬مشية الطاووس تارة‪ ،‬وضحكة فيفي‬
‫عبدو تارة أخرى‪ ،‬غمز وهمس وتحايل‪...‬‬

‫حسنا فلنترك خولة جانبا ولنوقظ زياد‪ ،‬لم يكن نائما على أي حال لكن عقله متلبد‪،‬‬
‫ال يستطيع التفكير في أي شيء اآلن سوى سيجارة الصباح‪ ،‬حتى وإن كان يدخن‬
‫طوال الليل فإن سيجارة السابعة صباحا البد منها‪ ،‬فبها سيستطيع مواجهة ما تبقى‬
‫من اليوم‪ ،‬وقبلها يشم سطرا من النفحة الفاسية كي يفاجئ الخاليا النائمة بكسل‬
‫داخل جمجمته الكبيرة‪ ،‬قطعة رغيف حافية وكأس شاي بدون سكر ثم يهرول‬
‫للمقهى كي يكون أول من تغازله خولة‪ ،‬حينها فقط يستطيع أن يدخن سيجارته‬
‫الغالية‪ ،‬مزاج خولة سيء اليوم ألن سروال الحظ قد تمزق في مكان ال يمكن‬
‫اصالحه‪ ،‬فاكتفت فالسروال االسود الباهت الذي يجعل مؤخرتها تبدوا كخمس‬
‫ليترات من الحريرة في كيس بالستيكي‪ ،‬لمحت زياد من بعيد واستغفرت هللا‬
‫وبصقت‪ :‬صبحنا على هللا تفو‪ ..‬مر بجانبها دون تحية‪ ،‬فعادة ال يتحدث إال بعد‬
‫السيجارة المباركة‪ ،‬أخذ مكانه في الركن الذي يسمح له بمراقبة الجميع‪،‬‬
‫وخصوصا مؤخرة خولة‪ ،‬كانت قد أعدت قهوته دون أن يطلبها‪ ،‬بصقت فيها‬
‫وقدمتها له دون ابتسامة‪ ،‬كان يعلم أنها تبصق في قهوته كل يوم لكنه يشربها عمدا‬
‫أمامها كي يثير اشمئزازها‪...‬‬

‫ماذا دهاني بحق الجحيم‪ ،‬أي حياة بائسة اختارها دائما لشخصياتي المسكينة‪ ،‬أي‬
‫ظلم هذا وأي أدب حقير‪ ،‬أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم‬
‫في الطابور‪ ،‬تقف خولة بشموخ كنعامة خرجت للحياة اثر عالقة غير شرعية بين‬
‫طاووس متكبر ونعامة تائهة‪ ،‬سروالها األسود وقميصها األبيض األنيق يوحيان‬
‫بأنها مضيفة طيران‪ ،‬لكنها في الحقيقة مجرد نادلة في مقهى فاخر في حي‬
‫الرياض‪ ،‬طال انتظار التاكسي الحقير‪ ،‬بدأت تفكر في اللجوء لتاكسي صغير‪ ،‬لكن‬
‫الفاتورة ستكون مرتفعة‪ ،‬لهذا قررت االنتظار‪ ،‬البأس‪ ،‬بما أنها على عالقة‬
‫بصاحب المقهى فلن يوبخها على التأخر‪ ،‬خلفها يقف رجل غريب‪ ،‬يداه الخشنتان‬
‫و موسطاشه يوحيان بأنه عامل بناء‪ ،‬رجل بسيط استغل الزحام ليقترب أكثر منها‬
‫ويشم الرائحة الرهيبة المنبعثة من عنقها‪ ،‬و من حين آلخر يمد يده ويلمسها في‬
‫خصرها معتذرا طوال الوقت‪ ،‬انزعجت في البداية لكنها وفي غفلة من عقلها‬
‫الصغير سرحت في خيال جامح‪ ،‬تخيلت صاحب الموسطاش عاريا أمامها‪،‬‬
‫ويقبلها بشراهة‪ ،‬أنفاسه المختلطة بسجائر ماركيز زادتها إثارة‪ ،‬مدت يدها اللينة‬
‫وأمسكت بعضوه المشتعل‪ ،‬لم تكن تعلم أن فتاة برقتها يمكن أن يكون لها خيال شاذ‬
‫كهذا فهمست‪ :‬أعوذوا باهلل من الشيطان الرجيم‪ ،‬أتى التاكسي الحقير أخيرا‪ ،‬لسوء‬
‫حظها ولحسن حظه جلسا جنبا إلى جنب في المقدمة‪ ،‬الحرارة المنبعثة من فخدها‬
‫أشعل النيران في عروق المسكين‪ ،‬لكنه سيطر على نفسه وحاول التفكير في‬
‫زوجته البدينة‪ ،‬طردها من خياله بسرعة وهمس‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬أما هي‬
‫فقد تحول تركيزها للسائق الذي يخلط عمدا بين فخدها ومحول السرعة‪ ،‬كانت‬
‫الرغبة قد سيطرت عليها فتركته يفعل ما يشاء‪ ،‬تلوت رغما عنها ويدها فوق‬
‫عضو صاحب الموسطاش الذي كاد يختنق فرحا بذلك‪ ،‬استفاقت أخير حين أحست‬
‫ببرودة خفيفة بين فخديها‪ ،‬طلبت من السائق أن يتوقف ونزلت بخجل‪ ،‬الموسطاش‬
‫والسائق لم يفهما شيئا وترجما ما حدث بابتسامة بلهاء‬
‫سأقلع عن التدخين‪ ،‬سأتوقف عن الكتابة وسأعتزل كل الحياة من أجل حبيبتي‬
‫خولة‪ ،‬سأتحول إلى جرذ قذر يخرج من جحره على حين غرة ليسرق المجوهرات‬
‫مخلفا ورائه مئات اللعنات من أجل ابتسامة رضى من حبيبتي‪ ،‬سأسلخ قردا آدميا‬
‫وأصنع من جلده حذاء يليق بجمال حبيبتي‪ ،‬سأرقص لها كما يرقص زوربا حين‬
‫ينتشي‪ ،‬سألقي على مسامعها آالف األشعار‪ ،‬تماما كما يلقيها رامبو على السفن‬
‫المهجورة‪ ،‬سأقبلها وكأنني أقبل آالف النساء‪ ،‬سأجعلها تهدل كحمامة في البارد‬
‫القارس‪ ،‬وسأخونها طبعا عشرات المرات‬
‫اعتادت خولة أن تسبقني بخطوات ونحن نتمشى في الشارع‪ ،‬فهي بذلك تقول‬
‫للخنافيس التي تمر بجانبنا أنها ليست معي‪ ،‬ال تعرفني‪ ،‬هو مجرد كلب ضال‬
‫يتبعها طوال الوقت والطريق‪ ،‬تتقزز من حذائي كلما وقفت ألدخن سيجارة‬
‫رخيصة أحملها في جيب معطفي الرخيص كذلك‪ ،‬تنتظرني وتنظر إلي باشمئزاز‪،‬‬
‫أبتسم في وجهها فتلوي عنقها‪ ،‬أكاد أسمع همسها‪ :‬إلهي لماذا ابتليتني بهذا النوع‬
‫أستيقظ في المساء‪ ،‬أتأكد أن الشمس قد اختفت‪ ،‬أجلس القرفصاء لدقائق‪ ،‬أفكر‬
‫لبضع ثواني ثم ابدأ البحث عن كلماتي المسكينة‪ ،‬وجدت واحدة تحت السرير‪،‬‬
‫جملة في السقف‪ ،‬كلمتان تتبادالن القبل خلف الحذاء‪ ،‬رأيتهما من خالل الثقب‪،‬‬
‫فقرة كاملة تتسلق الجدار كي تقفز من النافذة‪ ،‬سطر ناقص عالق في شعر رأسي‪،‬‬
‫حرف يتدلى في لحيتي‪ ..‬أجمعها بهدوء وأضعها في صندوق صغير وأحكم‬
‫إغالقه‪ ،‬يأتي دور الجوارب‪ ،‬أجد واحدة واألخرى تجيد لعبة الغميضة‪ ،‬أتركها‬
‫وشأنها‪ ،‬أخرج ألغسل وجهي المزغب‪ ،‬ألتقي بوالدتي في المطبخ‪ ،‬تنظر إلي‪،‬‬
‫تستغفر هللا وتتأفف‪ ،‬أكتشف أنني قد خرجت من الغرفة دون سروال‪ ،‬ابن القحبة‬
‫كنت قد رميته حين سرق مني العشرة دراهم التي أقرضتني إياها حبيبتي خولة‪،‬‬
‫تابعت طريقي نحو المرحاض‪ ،‬أقسمت أنني لن أرتدي سرواال ما حييت‪ ،‬كل‬
‫السراويل أبناء قحبة‪ ،‬وجهي الشاحب في المرآة ذكرني أنه لدي مقابلة عمل‪،‬‬
‫سخرت منه‪ ،‬مقابلة عمل في الليل يا ابن الفقيرة‪ ،‬تشققت المرآة‪ ،‬ضحكت عليها‪،‬‬
‫والدتي تقف خلفي كعامود شراع مركب قديم‪ ،‬ترسل دعوات مبهمة ويردها‬
‫السقف‪ ،‬لم أغسل وجهي‪ ،‬سأعود للنوم على أي حال‬
‫المزيد من الهراء‬
‫أجلس في الظالم كخفاش أعمى‪ ،‬أقبل القنينة وأطلب منها أن تصمت شششش‪،‬‬
‫الجيران نائمون‪ ،‬أو يتضاجعون‪ ،‬ال ندري‪ ..‬المهم أننا وحدنا وال حرج علي إن‬
‫قبلتك ألف مرة‪ ،‬القبلة لن تحسبها السماء كنوع من السيئات‪ ،‬القبلة والعناق من‬
‫الحسنات الرفيعة‪ ..‬قط جائع خرج من العدم وجلس بالقرب مني دون تحية‪ ،‬ركلته‬
‫بلذة‪ ،‬أال تقولون شالوم في قبيلتكم؟ نقول شالوم يا ابن القطة قبل الجلوس! خيل لي‬
‫أنه قال شالوم وجلس مرة أخرى‪ ،‬قبلت القنينة ولم تمانع‪ ،‬لعابها وصل إلى قنة‬
‫رأسي فصار ثقيال كمؤخرة شيماء! غلبني النوم خخخخ‬
‫الفلسفة تكره العرب‪ ،‬فقد أجبروها على ترك أريكتها المريحة والخروج للشارع‪،‬‬
‫في الركن أمسكها بائع السجائر بالتقسيط‪ ،‬أطبق يده على فمها وتحسس شعر‬
‫عانتها‪ ،‬دفعته وهربت كقطة مرعوبة‪ ،‬وجدت نفسها في زقاق مظلم وسط ثالثة‬
‫شبان يدخنون الحشيش‪ ،‬اغتصبوها شر اغتصاب وفروا كضباع مجنونة‪ ،‬تنهدت‬
‫وبكت‪ ،‬أخذها إمام المسجد الذي كان في طريقه لصالة الفجر من يدها وعاد بها‬
‫إلى غرفته‪ ،‬وهناك فعل بها ما فعل ورماها للشارع‪ ،‬حاولت العودة ألريكتها‪،‬‬
‫كانت تمشي كعاهرة مخمورة‪ ،‬مرت بالقرب من عجوز غاضبه فتلقت وابال من‬
‫اللعنات‪ ..‬ارتمت في أريكتها أخيرا‪ ،‬وأقسمت بأن تحرم العرب من حضنها مدى‬
‫الحياة‬
‫سيؤلمني حقا أن أموت وأحيا في مكان آخر بشخصية أخرى‪ ،‬بذاكرة جديدة‪ ،‬ال‬
‫أريد أن أنسى نادلة حانة بوطربوش‪ ،‬ال أريد أن أنسى بائع السجائر بالتقسيط الذي‬
‫يبيع لي سيجارة مارلبورو بدرهمين فقط‪ ،‬أريد أن أحتفظ باإلحساس الذي شعرت‬
‫به وأن أمص نهدي حبيبتي خولة كقط جائع‪ ،‬أريد أن أحتفظ بتلك اللحظة التي‬
‫واجهت فيها أبي‪ ،‬بتلك اللحظة التي بكيت فيها كأرملة فقدت ثالثة ابناء في حرب‬
‫ال دخل لها فيها‪ ...‬ال أريد أن أنسى أنني كنت جائعا‪ ،‬فقيرا‪ ،‬حزينا‪ ،‬تائها‬
‫في غرفة صغيرة‪ ،‬ووسط األغراض والكتب المبعثرة في كل ركن منها‪ ،‬يظهر‬
‫رأسه الصغير الذي التهمه الشعر والشعر‪ ،‬واضح أنه استيقظ للتو‪ ،‬وأخذ ينظر في‬
‫األوراق ويقرأ ما كتبه ليلة أمس‪ ،‬مزق الورقة األولى والثانية ورمى البقية‪ ،‬هراء‬
‫هراء‪ ..‬أخذ يبحث عن علبة السجائر في تلك الفوضى‪ ،‬لم يجدها‪ ،‬رمى كل‬
‫أغراضه من النافذة الصغيرة‪ ،‬كتب قديمة‪ ،‬جرائد‪ ،‬مالبس باهتة‪ ،‬علب السردين‪،‬‬
‫قطع خبز يابس‪ ،‬أوراق‪ ...‬لم يجد السجائر‪ ،‬كاد يجن‪ ،‬فجلس يحدث الجدران‪ ،‬من‬
‫منكم أخذها! لدي فأس‪ ،‬اعترفوا أيها المالعين‪ ،‬من؟ الجدران الصماء لم تجب!‬
‫خرج كثور للسطح ليأتي بالفأس‪ ،‬وضع علبة السجائر التي كانت في يده طوال‬
‫الوقت أرضا وأمسك الفأس من رأسه وعاد للغرفة‪ ،‬ألن تعترفوا! خيل له أن أحدهم‬
‫أجابه‪ :‬لقد تركتها في السطح! توقف لوهلة ينبش في ذاكرته الضعيفة! رمى الفأس‬
‫وعاد للسطح‪ ،‬ووجدها هناك‪ ..‬أبناء العاهرة‪ ،‬البد أن تهددهم حتى يعترفوا‪ ،‬العلبة‬
‫كانت فارغة فأصيب بشلل نصفي‪ ،‬فقضى ما تبقى من عمره يحاول أن يعود‬
‫للغرفة‪ ،‬وقيل أنه مات قبل أن يصل‪ ،‬وكان آخر ما قام به هو أنه بصق في وجه‬
‫السماء لكن الريح أعاد البصقة والتصقت في أنفه‬
‫أكتب عن الفزاعات حتى صرت أنا بنفسي فزاعة‪ ،‬أرتدي أسماال قديمة تكاد تغادر‬
‫غرفتي في غفلة مني من كثرة استخدامها‪ ،‬حذاء قديم ولعين يعرف كل أزقة‬
‫وشوارع الرباط‪ ،‬ومهما مسحته يعود ابن القحبة ليأخذ لون الخراء‪ ،‬متأكد أن‬
‫حبيبتي ستهجرني بسببه! البارحة كنت ضيفا عند صديق عزيز في بيته‪ ،‬وما إن‬
‫لمحت ابنته الصغيرة حذائي حتى قالت ببراءة مزعجة‪ :‬بابا من يرتدي تلك‬
‫الجرذان؟ طبعا لم أنزعج‪ ،‬يسعدني أن يتحدث اآلخرون عن حذائي بسوء! الفاسق‬
‫يستحق ذلك‬
‫اليوم ارتطم كتفي بكتف أحد المالعين وتمزق قميصي من مكان ال يمكن‬
‫اصالحه‪ ،‬قميص باهت انتحر وأنا أرتديه! وسروالي الداخلي فاهلل وحده يعلم حال‬
‫المسكين! أما الجوارب فقصتها تدمي القلب ال داعي إلزعاجكم بها‬

‫حبيبتي تقول أنني حين أكتب هنا أكون عاريا أمامكم‪ ،‬وأحيانا أكثر من الالزم‪،‬‬
‫لكنني شخص معتوه‪ ،‬وال يزعجني أن يعرف أحدكم أن هناك ثقبا في سروالي‬
‫الداخلي‬
‫إن آخر شيء قد يفكر فيه شخص جائع‪ ،‬بائس‪ ،‬حزين‪ ...‬هو الحب‪ ..‬ولهذا األخير‬
‫عالماته كما هو الشأن بالنسبة للموت‪ ،‬لكل عالماته الخاصة وتوقيته الخاص‬
‫حين استيقظ زياد هذا الصباح‪ ،‬كان يعلم أن شيئا ما سيحدث معه‪ ،‬لكنه لم يكن‬
‫متأكدا إن كان ذلك سيكون شيئا جميال كالحب أم شيئا أجمل كالموت‪ ،‬أم اإلثنين‬
‫معا‬
‫قام بسرعة من سريره الكرتوني‪ ،‬فتح عيناه على اتساعهما بحثا عن قطعة خبز أو‬
‫شيء مما تبقى من عشاء أمس‪ ،‬لم يجد شيئا‪ ،‬لم يغسل وجهه وسارع في الخروج‬
‫قبل أن تستيقظ صاحبة الدار وتعكر صباحه الجميل‬
‫وجد نفسه في مكانه المفضل في الحديقة العمومية القريبة من مقر سكناه‪ ،‬كرسي‬
‫خشبي طويل‪ ،‬كان ينام فيه قبل أن يحصل على تلك الغرفة الحقيرة‪ ،‬جلس ينظر‬
‫إلى المارة‪ ،‬كان ذهنه صافيا كالمرآة‪ ،‬صاف كحمام سباحة األغنياء‪ ،‬لسبب ال‬
‫يعلمه إال هللا تم تطهير جسده وروحه‪ ،‬غضبه وبكاءه‪ ...‬كل شيء اختفى مثل‬
‫ضباب الصباح‪ ،‬كل ما تبقى هو التركيز على القصة التي سيكتبها‪ ،‬استل قلمه من‬
‫جيب المعطف وبدأ الكتابة‪ ،‬على غير العادة كان في شهوة من تلك الشهوات‬
‫الذهنية العليا التي تنتاب الكاتب‪ ،‬أحس بلذة في كل فصل من فصول القصة‪ ،‬بدا‬
‫وكأنه يبصق في وجه الجميع‪ ،‬ابتسامة الجوكر تعلو وجهه الكئيب‪ ،‬لكن أمرا ما قد‬
‫أزعجه‪ ،‬كان في كل مرة يرفع رأسه ليفكر‪ ،‬يجد سيدة تجلس أمامه تتأمله‪ ،‬ودخل‬
‫في ذهنه أنها تتأمل بصفة خاصة ذلك الثقب في حذائه‪ ،‬أزعجته تلك الوقاحة‬
‫وأفقدته تركيزه‪ ،‬عاد إليه غضبه‪ ،‬أتظن هذه العاهرة أنني فقير لمجرد أن هناك ثقبا‬
‫في حذائي؟ لقد كتبت للتو قصة تقدر قيمتها بمئات الدراهم‪ ،‬ما بال هذه الفاسقة‬
‫تستهزأ بي‪ ،‬أحس برغبة ملحة في تأنيبها وتوبيخها على تلك النظرات المستفزة‪،‬‬
‫فقام وخاطبها‪:‬‬

‫أيها الوقحة‪ ،‬إنه من العيب أن تحدقي في حذاء شخص غريب‬


‫أوووه‪ ،‬معتوه آخر‬
‫معتوه‪ ،‬أتريدين أن أصفعك أيتها المجنونة؟‬
‫أال تالحظ أنني عمياء أيها الحقير‬
‫آسف‪ ،‬أنا آسف جدا عزيزتي‪ ،‬أعذري وقاحتي‪ ،‬لم أكن ‪...‬‬

‫ال بأس‪ ،‬اعتدت األمر على أي حال‪ ،‬البارحة طلبت مني سيدة أن أتوقف عن‬
‫النظر لقضيب زوجها‬
‫انفجر ضاحكا‪ ،‬يبدوا أنني لست المضطرب الوحيد في هذا العالم‪ ،‬ابتسمت وشلت‬
‫بابتسامتها حركة زياد‪ ،‬غضبه كان قد منعه من النظر في وجهها‪ ،‬لكنه اآلن يفعل‪،‬‬
‫ويبدو أنه سيبقى يتفرس مالمح وجهها الجميل طوال اليوم‪ ،‬عاد وسألها‪:‬‬

‫ماذا تفعلين هنا وحيدة؟‬


‫أنظر إلى حذائك‬
‫هاهاها‪ ،‬إنه قبيح على أي حال‬
‫صفه لي‬
‫ممم‪ ،‬حذاء قديم وعنيد مثلي‪ ،‬بني اللون‪ ،‬مجعد كوجهي‪ ،‬مثقوب كقلبي‬
‫أهو غاضب مني كذلك‬
‫سأرميه في أقرب مزبلة لو غضب منك‬
‫تالشى غضبه مرة أخرى‪ ،‬بل تحول إلى سعادة غريبة‪ ،‬جلس بالقرب منها‬
‫وأخبرها عن القصة التي كتبها‪ ،‬قرأها عليها‪ ،‬وحين انتهى ارتمت في حضنه‬
‫باكية‪ ،‬بكى هو اآلخر‪ ،‬غريبان يبكيان في حديقة عمومية‪ ،‬فرجة مجانية‬
‫بخطى متثاقلة عاد إلى غرفته‪ ،‬هذه المرة لم يكن خائفا من أن يصادف صاحبة‬
‫الدار‪ ،‬لم يكن يفكر في أي شيء‪ ،‬وال حتى فيما حدث قبل قليل مع تلك الفتاة‪ ،‬كان‬
‫فارغا من كل شيء‬
‫صمت رهيب عم الغرفة على غير العادة‪ ،‬لم يعد يسمع صراخ الصراصير‪ ،‬وال‬
‫همسات النمل‪ ،‬وال حتى أزيز الفراشات‪ ،‬كان كل شيء بالنسبة إليه غامضا‪ ،‬وكأنه‬
‫استفاق للتو من غيبوبة طويلة‪ ،‬لكم الحائط بقوة‪ ،‬تأخرت أيها الملعون‪ ،‬تأخرت‬
‫كثيرا‪ ،‬لن أتراجع مهما حدث‪ ،‬أعلم أنك من وضعها في طريقي‪ ،‬لكنك تأخرت‪ ،‬ال‬
‫أصدق أنك ساذج لدرجة أن تخيرني بين الحب والموت‪ ،‬أؤكد لك أنك تأخرت‪ ،‬فها‬
‫أنا أضع وصيتي فوق هذه الطاولة‪ ،‬أرسل من يقرأها على العالم‪ ،‬أما أنا فقد‬
‫اكتفيت‬
‫نهاية الطريق‬
‫لم أكمل والدتي بعد‪ ،‬مازلت شخصا ناقصا يطارد نفسه برباطة جأش‪ ،‬أطاردها‬
‫مرارا وتكرار حتى حافة القبر‪ ،‬أضع قدما هناك وأشجعها‪ :‬أنت في أمان اآلن!‬
‫وكل ما علي فعله هو أن أنزلق وتكتمل والدتي‪ ،‬أنزلق فرحا‪ ،‬الحافة تختفي‪ ،‬لم‬
‫تعد في نفس المكان‪ ،‬أقف بجانب نفسي وأتساءل‪ :‬من التهم قبري؟ البؤس يقف‬
‫خلفي بخجل ويجرني من ثيابي! إلى أين؟ إلى أين وأنا لم أكمل والدتي بعد؟‬
‫السعادة خطيئة في عالم ينام فيه الناس في الشارع‬

You might also like