Professional Documents
Culture Documents
جبل السعادة
كّلما يحّر ك يديه ،تتناثر الندف البيضاء في كّل االّتجاهات حوله ،وتنثال على وجهه وشعره
وكتفيه ،وبرغم كّل الوقت المهدور في التجديف ،ال يتغّير المشهد من حوله ،البياض البارد
يلتّف به ويمتّد من كّل جانب ،مهما غّير من موقعه وزاوية النظر لديه ،هو اآلن في مكان
شاهق االرتفاع ،قد يصيب شخصا غيره بالرهاب والدوار ،أّم ا هو ،فمتمّرس وذو بأس.
تماما عندما اشتّد شعوره بالتعب والبرد ،هاجمته فكرة ،سرعان ما أشعلت فتيل الشوق في
صدره ،فتوّقف عّم ا كان فيه ،وحّرر قبضة يديه ،ثّم نزع القّفاز عن يمناه ،وسحب من جيب
سرواله الخشن ،هاتفه الذي لم يسلم هو اآلخر من الحبيبات البيضاء...
جرى إصبعه نحو صورتها ،ونقر عليها نقرتين ،فعّبأ وجهها شاشة الهاتف.
أمعن النظر في تفاصيلها ،نظرة العيون الناعسة ،والبسمة الذابحة ،والبشرة القطن المترفة،
والجيد المرمّي القاتل ،وشاّل الت الشعر الفاحم ،تنّهد وساءل قلبه" :أكّل هذا الحسن لي؟" ،ثّم
فتح نافذة وكتب إلْيها بقلب خافق:
" الِثلْج ْيَس ّلْم ْع ليْك ،وِيْتَم ّنى ْيبوْس ْيديْك "
في تلك األثناء كانت هي في مكان آخر من العالم ،تجّد د العهد مع نوبة التغّنج أمام قطع المرايا
التي تؤّثث جدران الغرفة ،تتمّيس وتتثّنى بكعب عال ،تتأّم ل قوامها وتتعّش قه ،وتجّرب عليه
ألوانا من المجوهرات والفساتين وحقائب اليد ،تسحبها بنهم وبال توّقف من دوالب المالبس
الضخم الذي يمتّد عرض الحائط خلفها.
قفز قلبها بين ضلوعها وهو يلتقط الرّنة الخافتة للرسالة .استدارت نحو اليمين عنوة وهي
تقتفي مصدر الصوت ،ونظرت بارتياب إلى أكوام المالبس التي غّطت الفراش ،ثّم اندفعت
بسرعة تبعثر ما تكدس عليه ،حّتى أحدثت الفوضى في الغرفة ،ولّم ا عثرت عليه ،أمسكته في
لهف ،وجلست على طرف الحشّية ،تطالع نّص الرسالة.
قرأتها مّرة ثّم مّرتين ،وخالل ذلك تبّد د القلق تماما عن مالمحها ،وحّل محّله إشراق وعذوبة
وتعابير توشك أن تنكتب حروفها على صفحة وجهها.
تنّهدت عميقا ،وكتبت بلوعة:
"يا ِليْتني كنت ْم عاْك "
فجاءها الرّد سريعا ":الثلْج ما ِيْتحَّم ْلش ِد فا ْيديْك "
سألت ":وقْلِبْك ؟"
رّد ":قلبي مِّيْت فاني عليْك ،ليْل وْنهاْر يخّم م فيكِ ،يْتَم َّنى يطير ليْك ،باْش ْيُح ّْط عالْتراْب إِّلي
ِتْم شي ْع ِليهْ َس ّقيْك "
-باهي ...وعينيْك ؟
-عِينّي كانْت عْم ياء ،حّتى شافْت الوْر د على ُخ ّد يْك ،وْسباْتها النْظرة العْس َلةْ ،لتْذ بيِلْة
ِع يِنيْك ،وْقَتْلها ْش َع ِر اْلُخ ّطيَفة ِلْم سَّيْب على ْك تاِفْك وْيديْك "
-باهي و ...وِو ْذ نيْك ؟
-وْذ نَّي تْص نْع من صوت ْح روِفْك نغْم ةَ ،تْع ِز ْف ِلينا ،وْتطيْر بَّي وبيْك "
ورقص قلبها لّلحن الشجّي ،واحتضت الهاتف بكلتا راحتيها ،وضّم ته إلى صدرها ،وفاضت
منها المشاعر وجاشت حّتى أرهقتها ،فأرخت جسدها ،واستلقت على الفراش ،غير مبالية
باألثواب التي دهستها بجسدها.
عّم صمت بينهما ،إمعانا في استطعام اللحظة ،وانخطافة الوصال ،والدفء الذي سرت أنفاسه
بينهما.
نقرت على صورته ،فمأل جماله الفاخر شاشة الهاتف .وراحت تتمّلى مالمحه الدقيقة،
والمألوفة لديها على نحو غريب ،إّنها لم تسمع بعد صوته ،وال تعرف له غير صورة واحدة،
وليس بينهما غير حديث عذب شّيدت منه جباال من السعادة.
تأّم لته وسألت قلبها" :أ كّل هذه الوسامة لي؟" ،ثّم أرسلت أصابعها نحو الشعر األشقر،
وصّففت سنابله المتمّو جة خصله خصلة ،ثّم نحو العينين السماوّيتين وبادلتهما النجوى ولوعة
الشوق ،واستأنفت األصابع الزحف نحو اللحية الذهبّية الخفيفة ،والشفتين الشهّيتين اللتين ما أن
لمستهما حّتى ارتفع جرس رسالة جديدة ،فهّز ت أصابعها في فزع ،كأّنما كشف صاحب
الرسالة ما كانت تقترفه يداها.
قرأتْ" :تَو َّح ْش ِتك يا ُدّر ْة قلبي" ،فابتسمت ،وأطالت االبتسام ،وانتثر الورد على وجنتيها ،ولّم ا
لم يتلّق رّد ا سألها:
" آْش تعِم ْل ؟"
استوت جالسة ،وأجالت نظرها حولها في قلق ،ولّم ا حّطت عيناها على حقيبة السفر المركونة
بزاوية من الغرفة ،رّد تْ ":نَر ّتْب فيي دْبشي وْخ زاْنتي"
-ترّتْب وحدك؟ الُم عينة ِو ين؟
-ما جاِتْش اْليوم ...وزادت " :في بالك أنا ْنَح ِّضْر في في فاليْج تي؟ ْم ساْفرة لْتركيا ْنَع ِّدي
راْس اْلعاْم ُ ،م وْش كاْن انِت تساِفْر وِتْتمّتْع .
-نْلحْق بيْك ؟"
-الَ ،أْع ِم ْل عْقِلْك ،موْش وْح دي ْم ساْفرة ،أنا ماِشَية مع عاِيْلتي ِكْلعادة.
سكت قليال ،ثّم كتب" :دّرة"
-نعْم .
ْ -ح ياتي باْر دة ِثْلْج ْبَال بيْك ،وأنا ما عاْد ْنِح ّْب ْم ِن الِد ْنيا ،كاْن ْع ليْك .
وانسكب نهر الحّب بينهما رقراقا ،وارتفع على حاّفته جبل السعادة ،الذي كانا يتسّلقانه درجة
درجة ،مع كّل رّد ورسالة بينهما ،حّتى بلغا منه القّم ة.
كتبت وقد ذّو ب كالمه قلبها:
-رسالن!
-نعْم يا روحي.
ْ -نِح ِّبْك ...
وكأّنما كلمة "ْنِح ِّبْك " حّر كت بركان المشاعر في صدره ،فاهتاج وارتّج ،وراح يلقي من جوفه
حمما راحت تسيح وتدّفق حّتى بلغت الجليد الذي حوله ،فذّو به ،ولم يدر تماما ما الذي ألّم به
وهو في مكانه الشاهق ،إذ لم يشعر إاّل وهو يفقد توازنه ،ويسقط في مهواة سحيقة ،ويرتطم
باألرض ،ويرى فيما يرى وهو منبطح خياالت حوله ،لعّم ال يتصايحون ويروحون ويجيئون،
ثّم بياض آخر جديد يمتّد ويسيح ،وحبيبات بيضاء كثيرة تتقاطر من سقف البناية الشاهق ،ثّم
سواد كثيف ،فغيبوبة عميقة...
كانت هي مازالت مستلقية على الفراش ،تدّو ر عينيها المضيئتين في الفراغ ،وتبتسم بال كلل،
حين ُفِتح باب الغرفة عنوة ،وأطّلت منه لّلة "دّرة" ،وتوّقفت عند الباب مفزوعة ،تقّلب النظر
في غرفتها المقلوبة رأسا على عقب ،وعلى معينتها التي استباحت غرفة نومها ،وفراشها،
وأثوابها الرفيعة ،وأحذيتها الفاخرة ،وحقائبها الباذخة بجميع أنواعها ،وتقّد مت مسعورة نحو
منضدة الزينة ،فرأت مساحيق التجميل المبعثرة ،وصندوق المصوغ المفتوح ،فهرولت نحوه
فزعة ،وراحت تعّد قطع الحلّي قطعة قطعة ،ثّم استدارت بعنف ،وقبضت على جيد المعينة،
تسلبه عقد الذهب الذي طّو قه ،ثّم زعقت في فريستها بعيون ضارية ":يا بنت الكلب ،يا ساْقطة
يا واْطَيةْ ،تِم ْد يِّدْك على ْد َبْش ِلَاّلِتْك ،يا ْسخة يا الِّلي ما ْيباِنْش فيْك الِخ يْر ِ ،كيفاْش ِتْتجَّرأْ ْتُح ّْط
َم
ْح واْيجي على لْح ِم ْك العاِفْن ،وُتْر ُقد على َفْر ِش أْسياِد ْك ،وْتِم ْد ِيّدْك على ذهْبي ،يا ساْر قة يا
فاْج رة ،حّتى فاليْج تي ما سْلمتِش ِم ّنك يا سافلة يا ُم ْنحّطة"
وأمسكتها من شعرها ،وجّر تها بعيدا عن السرير ،وانقّض ت عليها تنزع عنها الثوب والحذاء
والحلية ،واألقراط ومشابك الشعر ،وتستبيح جسدها العاري ،تتشّم مه كفريسة ،وتجّسه وتبحث
بين فخذيها وثدييها عن قطعة ذهب أو ورقة نقدّية مدسوسة فيها ،ولم تتوّقف عن هجمتها ،إاّل
وقد تركت "فّطوم" ترتعد كفرخ حمام مفزوع ،مقصوفا ومنتوف الريش.
وزعقت في وجه المعينة من جديد ":في ِيِّدْك َخ ْم سة ْد قاِيْق ،تْلِّم شالقاِتْك وماّل قاِتْك ،وِتْقِلْب
ْخ ليْقِتْك ِم ْن داري ،واْح ِم ْد رَّبْك كي ما ْش كيِتْش بيْك للحاِكْم وَد ِّخ ْلِتْك لْلحْبْس ،حْسبَي هللا ونعم
الوكيْل فيْك "
جبل السعادة الشاهق دافئ ،دافئ جّد ا ،ولكّنه هّش كالجليد ،بال أمان إذ سرعان ما يذوب
ويتداعى .ألم تكد فّطوم تبلغ منه القّم ة ،حّتى انهار كّل شيء؟
سارت في طريق محّطة الركوبات العاّم ة ،تستقطر حزنها وكآبتها ،وتجّر أذيال الخزي
والخيبة ،وتداري دموعها عن الماّرة والفضوليين ،ولّم ا أقبلت سّيارة األجرة الجماعّية،
اختارت أن تندّس في المقعد الخلفّي ،إمعانا في العزلة والتخّفي.
مضت ثالثة أرباع الساعة وهي ال تنفّك تسترجع ما كان في بيت مشّغ لتها لّلة "دّرة"،
تستعرض كّل تفاصيله المؤلمة ،كشريط مصّو ر مرعب ،ال يكاد ينتهي ،حّتى ُيعاد تشغيله من
جديد.
لحظة هدأت نفسها قليال ،شعرت بالحاجة إلى أن تنظر في هاتفها ،ولكّن خيبتها تضاعفت حين
لم تجد رّد ا على رسالتها األخيرة ،لكم كانت في حاجة إلى كلمة تشّد أزرها ،تنتشل بؤسها،
تستدّر منها عاطفة تمنحها طاقة ولو موهومة لتقف على رجليها من جديد ،وتمنحها قّو ة ألن
تطوي هذا الفصل المظلم والمخزي من فصول حياتها التعسة ،كيف له أن يبلع لسانه وقد قالت
له وألّو ل مّر ة منذ أن تعارفا كلمة "ْنِح ّبْك " ،كيف يقابل اعترافها العظيم بالتجاهل؟ كيف يبخل
عليها بالرّد والكالم؟ وهل كانت تنتظر أو تطلب أكثر من الكالم؟
تنّهدت وقالت لتبعث في نفسها الُسلوة" :لعّل مكروها حدث له في بالد الثلج والجليد".
توّقفت سّيارة األجرة عند المحّطة األخيرة ،ونزل كّل الراكبين ،ونزلت هي على إثرهم ،ثّم
وقفت على ناصية الطريق ،تلتفت يمنة ويسرة ،ترقب الحركة المجنونة للعربات ،بمختلف
أنواعها وأحجامها ،وتنتظر فرصة سانحة للعبور إلى الضفة المقابلة ،حيث يمتّد خلفها حّيها
البائس.
الحركة حولها نشيطة ودائبة ،والمترّج لون مثان وجماعات ،متوّر دة وجوههم برغم القّر
الشديد ،ضاّج ين بالحديث ،وأياديهم محّم لة بأكياس األكل والهدايا ،أّم ا هي ،فقد كان برد
ديسمبر ينخر قلبها وعظامها على نحو ال يحتمل ،وال وعد بدفء قادم ،فليس في بيتها غير
وحشة ووحدة وسرير بارد ،فزوجها ال يكاد يظهر يومين حّتى يغّيبه العمل أشهرا ،متنّقال من
حظيرة إلى أخرى ،وكالهما يجاهد من أجل لقمة العيش ،ومن أجل غد أفضل.
كان على مقربة منها الفتة عريضة منغرسة على حافة الطريق ،رغبت في أن تحتمي بها من
لفح الصقيع ،لكّن شيئا ما جعلها تتراجع خطوتين إلى الخلف ،وتْش رئُّب بنظرها نحو الصورة
التي مألت المعّلقة اإلشهارّية لالفتة ،وتنصدم لصورة الوجه السمح المعروض عليها ،ووجه
صاحبها المألوف لديها ،بشعره المتمّو ج ،ونظرته السماوّية ،ولحيته الخفيفة ،وشعره الذهبّي ،
وشفاهه الشهّية.
وقرأت ما كتب تحت الصورة بالخّط العريض:
"الممّثل التركي "مهّند" يفوز بجائزة أحسن ممّثل في مهرجان ،"..ولم يسعفها الرنين
المتواصل لهاتفها ألن تنهي قراءة اإلعالن...
ظّلت فّطوم شاخصة بعينيها وفي حالة ذهول وهي تتلّقى عبر الهاتف ،صوتا غريبا يخبرها
بأّن زوجها قد تعّر ض لحادث سقوط فظيع ،فيما كان يطلي الجدران من علّو ،وأّنه قد حمل
على إثر ذلك إلى مستشفى العظام بالعاصمة...
******
جبل السعادة قوّي ،قوّي جّد ا ،إذ سرعان ما ينبني من جديد.
مّر ت أسابيع أربعة ،تقّطعت أوصال فّطوم خاللها ،في التنّقل بين بيتها ومستشفى العظام
بالعاصمة ،وبين مطعم الفطائر الذي صارت تشتغل فيه ،وكانت خالل كّل تلك الفترة الصعبة،
قد يئست تماما من ظهور حبيبها السرّي ،كانت تقول في نفسها ،إّن كّل الرجال سواسية ،فقيرا
كان أو ثرّيا ،يقتلون أنفسهم من أجل كلمة "أحّبك" ،ولّم ا يسمعونها ،يصيبهم البرود والخرس،
أو يتالشون كفّص الملح حين يذوب.
تحّسنت حال زوجها ،وانكتب له عمر جديد ،وتماثلت عظامه لبعض الشفاء ،أّم ا وجهه
وجسده فمازالت الضمائد تلّفهما ،ولكّنه مع ذلك كان قد أصبح قادرا على تبادل الحديث مع
الزّو ار ،أو إجراء بعض المكالمات الهاتفّية يرّد من خاللها على سؤال األهل واألصحاب.
في إحدى زيارات فّطوم لزوجها بالمستشفى ،وبينما كانت جالسة على كرسّي غير بعيد عن
سريره ،انبعثت رّنة ضعيفة من هاتفها ،أيقظت في صدرها برغم خيبتها ،بقايا إيقاعات
منسّية ،رّف قلبها الجائع ،وهّز ه وهم الشوق والترّج ي ،سحبت الهاتف من حقيبتها دون أن
تحدث ضّج ة ،وعالجت شاشته على عجل ،وإذا بها رسالة من المزعوم رسالن ،وتعّجبْت أّيما
عجب مّم ا قرأته ،لقد كتب لها " :ما ْتخاِفْش من َتْص ويْر تي إّلي باْش نْبعْثهاِلْك ..حادث بسيْط،
والمِهّْم إّنو القْلْب الباْس ُ ،يْنُبْض وباقي ْيِح ّبْك ْ ...تَو َّح ْش ِتْك يا ُدّر ْة قْلبي"
وهالها أّنها سمعت صوتا قريبا لكامرا وهي تلتقط الصورة ...تحّرك رأسها بخّفة في محاولة
لرصد مصدر الصوت ،ثّم انشّلت حركته بينما ظّلت العينان جاحظتين في منظر التيجاني وهو
يتحايل على ذراعه الملفوفة في الجبس ،من أجل أن يثبت الهاتف بين أصابعه وينجح في أن
يسترق له صورة "سيلفي" ،صورة كانت للحقيقة ،أّو ل صورة غير مستعارة ،يرسلها
المزعوم رسالن إلى "دّرة" قلبه...فّطوم.
لمياء نويرة بوكيل