You are on page 1of 70

1

‫‪ ..‬إهداء ‪..‬‬
‫إلى ابن آدم الذي‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ َٰ‬
‫﴿ اتخذ ِإلهه هواه ﴾‬
‫و‬
‫إلى أبناء آدم‬
‫ض َّل َس ْع ُي ُه ْم في ْال َح َياة ُّ‬
‫الد ْن َيا َو ُهمْ‬ ‫﴿ َّالذ َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ ُ َن َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ نَ‬
‫يحسبو أنهم يح ِسنو صنعا﴾‬
‫و‬
‫إلى أبناء آدم‬
‫ين َّات َخ ُذوا ِد َين ُه ْم َل ْه ًوا َو َل ِع ًبا َو َغ َّ ْرت ُهمُ‬
‫﴿ َّالذ َ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ ُ ُّ ْ‬
‫الحياة الدنيا ۚ ﴾‬

‫‪2‬‬
‫الباب االول‬
‫‪ ..‬املوت ‪..‬‬

‫‪3‬‬
‫املــوت أكبــر لغــز وتحــدي عانــى منــه اإلنســان منــذ خلقــه فــا اســتطاع‬
‫أن يوقفــه وال اســتطاع أن يكشــف خفايــاه فمــا هــو املــوت وملــاذا يطــارد‬
‫الجميــع دون أي اســتثناء؟ الصغيــر يمــوت والكبيــر كذلــك والفقيــر والغنــي‬
‫والضعيــف والقــوي جميــع هــؤالء يعيشــون تحــت رحمــة هــذا الكيــان‬
‫الخفــي!‬
‫فما حقيقة املوت؟ من املستثنى من املوت؟ من الذي ال يموت؟‬
‫املستثنى من املوت هو أنا‪،‬‬
‫أنا وحدي فقط‪،‬‬
‫أنا غير عن سائر البشر واملخلوقات‪،‬‬
‫أنا الحي الذي ال يموت‪،‬‬
‫باق إلى األبد‪...‬‬
‫الجميع ميت ومختفي إال أنا ٍ‬

‫‪4‬‬
‫هــذا النــوع مــن العبــارات نلقيــه علــى أنفســنا مــن حيــن آلخــر إمــا بأقوالنــا‬
‫أو أفعالنــا أو بطريقــة مــا تجعلنــا متجاهليــن أي حالــة وفــاة نســمع أو نقـرأ‬
‫ً‬
‫عنهــا‪ ،‬كل إنســان منــا يعيــش وكأنــه خالــدا فــي هــذه الدنيــا ال أحــد يعلــو فوقــه‬
‫كل مــن حولــه يراهــم عبيــد وخــدم يعملــون ملصلحتــه‪ ،‬فلــو اطلعنــا علــى‬
‫حيــاة هــذا اإلنســان لوجدنــاه ‪:‬‬
‫يتصرف وكأنه اله!‬
‫ينفق وكأنه اله!‬
‫يعلو ويتكبر على غيره وكأنه اله!‬
‫وكأن هــذا املخلــوق ن�ســي حقيقتــه ون�ســي غايتــه وبــدأ يقتنــع بأنــه هــو مــن‬
‫خلــق ومنــح الحيــاة لنفســه!!‬
‫ً‬
‫من الذي يموت إذا؟‬
‫من الذي يموت إذا كل منا كان يفكر بهذه الطريقة؟‬
‫غريب!!‬

‫‪5‬‬
‫واألغرب من ذلك هو وجود أكثر من ‪ 100‬حالة وفاة ترصد في كل دقيقة‬
‫حــول العالــم! أكثــر مــن ‪ 100‬جســد تحــول اآلن إلــى جثــة هامــدة فقــط‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫خــال هــذه اللحظــات التــي قـرأت فيهــا هــذه الجمــل والســطور‪ ،‬وال يـزال كل‬
‫شــخص منــا يعيــش فــي حالــة نكـران تائــه فــي عالــم ألوهيتــه الخــاص!‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ولــو أننــا ذهبنــا لفحــص هــذه الجثــث التــي تمــوت لوجدناهــا دمــا ولحمــا‬
‫مثلنــا تمامــا ال فــرق بيننــا وبينهــم عــدا أن الحيــاة مــا زالــت تتدفــق فينــا امــا‬
‫ً‬
‫هــم فقــط أصبحــو جثثــا صامتــة غيــر قــادرة علــى الــكالم أو الحركــة!‬
‫من كان يحرك هذه األجساد املستضعفة سابقا؟ أهي الروح؟‬
‫إذا كانت الروح فأين هي اآلن؟‬
‫ً‬
‫ى‬
‫متى سوف ترجع إلى صاحبها لتوقظه وتجعله حيا مرة أخر ؟‬
‫أم أنها حقا النهاية وأن امليت اختفى من هذا العالم ولن يعود؟‬
‫عشــت حياتــي بأكملهــا بعيــدا عــن هــذه األســئلة الغامضــة ألنــي كنــت أعلــم‬
‫ومتيقــن بأنــي خالــدا فــي هــذه الدنيــا وإنــي حالــة اســتثنائية غيــر عــن الجميــع‬
‫حتى ولو شــاهدت آالف الجثث تتســاقط وتقع حولي ســأبقى اردد أنا حر!‬
‫أنــا دائــم! ولــن يصيبنــي مــا اصابهــم وهــذه الحقيقــة لــن تتغيــر مهمــا حــدث‬
‫فــي هــذا الكــون‪.‬‬
‫الحياة هي الحقيقة بالنسبة لي ‪ ..‬واملوت هو الحلم الذي لن يتحقق‬

‫‪6‬‬
‫في يوم ‪ 2022/22/09‬املو افق ‪26/02/1444‬‬
‫اســتيقظت وبــدأت صباحــي فــي ممارســة أنشــطتي املعتــادة واملتكــررة‪ ،‬يــوم‬
‫عــادي جــدا كغيــره مــن األيــام فــي الســاعة الخامســة مســاء أتلقــى اتصــاال‬
‫مــن أخــي األكبــر حتــى االتصــال كان متوقعــا؛ لطاملــا اعتــاد أخــي االتصــال بــي‬
‫فــي هــذه األوقــات بعــد انصرافــه مــن العمــل‪.‬‬

‫ارفع هاتفي للرد على مكاملته قائال «أهال»‬


‫فجأة أسمع أخي يبكي بصوت مرتفع!‬
‫هنا بدأت أشعر بالخوف والقلق حيال ذلك!‬
‫حاولت التحدث معه مجددا «اهال؟» ولكن ال يوجد أي رد سوى البكاء‪،‬‬
‫اســتمر البــكاء ملــدة دقيقــة كاملــة ولكنهــا بــدت أطــول مــن ذلــك بكثير‪...‬‬

‫بــدأت أهــون وأخــدع نف�ســي بقــول بــأن كل �شــيء علــى مــا ي ـرام وأن بكائــه‬
‫عالمــة علــى يــوم ســيئ لــه فــي العمــل أو ماشــابه‪ ،‬بالرغــم أنــي كنــت أعلــم بــأن‬
‫مصيبــة مــا تنتظرنــي ولكــن اســتمريت بقــول ‪:‬‬
‫كل �شيء على مايرام‪..‬‬
‫كل �شيء على مايرام‪..‬‬
‫استمريت في إعادة قول هذه الجملة حتى بدأ أخي بالحديث قائال ‪:‬‬
‫«زاهر‪ ,‬زاهرأبوك توفى»‬

‫‪7‬‬
‫فــي هــذه اللحظــة تســارعت دقــات قلبــي وارتفــع ضغــط الــدم لــدي‪ ،‬بــدأ‬
‫جســمي يتعــرق ويبــرد فجــأة‪ ،‬بــدأت اشــعر بــأن جميــع وظائــف الدمــاغ‬
‫توقفــت وكأن الــذي مــات هــو انــا!‬

‫بدأ الصمت والظالم يحتوي على املكان الذي كنت جالسا فيه‬
‫وفجأة!! تحولت الحياة إلى حلم وأصبح املوت حقيقة!‬

‫‪8‬‬
‫حاولت جاهدا استيعاب ما حدث والبدء في السيطرة على نف�سي واستعادة‬
‫حياتــي الســابقة وتجــاوز هــذه املصيبــة التــي ســمعتها بأســرع وقــت ممكــن‬
‫ولكــن الظــام بــدأ يتزايــد مــن حولــي شــيئا فشــيئا وبــدأ ينتابنــي الخــوف والقلــق‬
‫مجــددا‪ ،‬وبــدأ التفكيــر يقتلنــي واســتمرت هــذه املشــاعر الســوداوية لدقائــق‬
‫وســاعات ثــم أليــام وشــهور وال ت ـزال مســتمرة حتــى هــذه اللحظــة التــي أكتــب‬
‫فيهــا‪..‬‬
‫ها هو املوت الذي اعتدت على مشاهدته في األخبار قد قام بزيارتي!‬
‫طرق باب بيتي ودخل منه دون إذني!‬
‫خطف فرد من أفراد عائلتي دون علمي!‬
‫وجعل كياني فاني وهالك مثل غيري!‬

‫‪9‬‬
‫كيف حدث هذا األمر؟ وملاذا؟‬
‫دماغــي بــدأ ينــزف مــن األســئلة وجثــة أبــي لــم يتبقــى عليهــا إال ســويعات‬
‫معــدودة حتــى تدفــن وأنــا جالســا وحــدي مغتربــا فــي بلــدا آخــر بعيــدا عنهــا‬
‫فلــم أرى الجثــة ولــم أحضــر أي مراســم دفــن ولعــل هــذا األمــر كان كلــه‬
‫إيجابيــا إلــى حــد مــا ألنــي مــا زلــت متأمــا بــأن يكــون األمــر برمتــه حلــم عابــر‬
‫ســوف ينتهــي فــي أي لحظــة‪.‬‬

‫بدأت أشعر بعد ذلك بأن الحياة توقفت وأن الزمن توقف معها ايضا‬
‫ولكن تبين لي الحقا بأن الزمن فقط توقف لدي ولدى عائلتي أما العالم‬
‫الخارجي فلم يتأثر بهذا الخبر إطالقا!!‬

‫فالحيــاة اســتمرت ببهجتهــا وحزنهــا واســتمر العالــم فــي خيــره وشــره‪،‬‬


‫واســتمرت حــاالت القتــل والســرقة وغيرهــا مــن الجرائــم‪ ،‬وكل �شــيء كان‬
‫يتحــرك كاملعتــاد! وكأن النــاس والحيــاة نفســها ال تأبــه ملــوت فــرد مــن‬
‫افرادهــا!!‬

‫‪10‬‬
‫حتــى أنــا أحــد أبنــاء امليــت الــذي ظننــت بــأن الحيــاة انتهــت وتوقفــت عــدت‬
‫إليهــا مجــددا بعــد عــدة شــهور‪ ،‬وعــادت معهــا أفــكار الخلــود والتخديــر وجميــع‬
‫االوهــام التــي كنــت منغمــس إليهــا ســابقا‪ ،‬ولكــن مفعــول هــذه األفــكار بــات‬
‫ضعيفــا جــدا فلــم أكــن منت�شــي ومتعطــش للحيــاة كمــا كنــت فــي الســابق‪ ،‬هــذه‬
‫املــرة شــعرت وكأنــي بــدأت اســتيقظ مــن ســكرتي واواهمــي وأردت أن أعلــم مــا‬
‫ســر ولغــز هــذا الخلــود الــذي فــي داخلنــا ‪ ..‬هــل هــو حقيقــي؟‬
‫هل اإلنسان حقا كيان دائم ال يموت؟‬
‫أم أن أفكارالخلود ليست إال أوهام مستمراإلنسان في تخدير‬
‫نفسه فيها؟‬

‫۞۞۞۞۞۞۞‬

‫‪11‬‬
‫الخلــود حقيقــة مطلقــة موجــودة بداخلنــا ال يمكــن إنكارهــا والســبب‬
‫ورائهــا يعــود إلــى أرواحنــا األزليــة التــي منحــت لنــا‪ ،‬فــاهلل ســبحانه وتعالــى‬
‫عندمــا خلقنــا نفــخ فينــا مــن روحــه هــذه الــروح هــي الســر الخفــي وراء‬
‫الحيــاة فهــي التــي جعلــت هــذا الجســد يعمــل بكامــل قوتــه وقدرتــه‬
‫فجعلتــه يصنــع ويختــرع ويفكــر وبدونهــا اإلنســان ال �شــيء‪ ،‬ال �شــيء‬
‫إطالقــا مجــرد خاليــا وأعضــاء ال تعمــل!‬
‫والــروح هــي أحــد النعــم الكثيــرة التــي أنعــم هللا علينــا ولكــن هــي أيضــا‬
‫مــن االبتــاءات التــي ابتالنــا بهــا فالــروح كيــان خالــد أزلــي ال يعــرف املــوت‬
‫ليــس لــه بدايــة أو نهايــة وضــع فــي جســد ضعيــف هــش يمــرض ويمــوت‬
‫كانــت لــه بدايــة وســوف تكــون لــه نهايــة‪ ،‬وكأن هللا وضــع هــذه األرواح‬
‫داخــل أجســادنا الترابيــة حتــى يمتحنهــا‪ ،‬فــإن نجحــت هــذه الــروح ونجــح‬
‫صاحبهــا فــي االمتحــان نــال روحــه وفــاز بالجنــة الخالــدة‪ ،‬وإن فشــل‬
‫فسيخســر روحــه ويحشــر فــي النــار بســبب تعلقــه بالدنيــا الفانيــة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫فمن هنا تبدأ الصراعات الحقيقية ويبدأ اإلنسان بخوض أعظم صراع‬
‫وحرب في حياته ألجل الفوز بروحه الخالدة‪ ،‬فهذه هي الغاية من الدنيا؛‬
‫ولهــذا هبطنــا فيهــا فــكل شــخص لــم يبــدأ فــي خــوض هــذه الحــرب بعــد فهــو‬
‫ليــس بكائــن حــي بــل هــو كائــن ميــت ال حيــاة لــه‪..‬‬
‫هــذه الحــرب انتهــت ألولئــك الذيــن فارقــوا الحيــاة أمــا األحيــاء منهــم فالحــرب‬
‫مســتمرة قائمــة لديهــم وصعوبتهــا تشــتد يومــا بعــد يــوم وال يـزال الجميــع فــي‬
‫غفلة‪.‬‬
‫فمنهم من يعلم بأهمية هذه الحرب ولكنه منشغل عنها‪..‬‬
‫ومنهم من يخوض هذه الحرب مرة ويتركها مرة‪..‬‬
‫ومنهم من أصبح يخوض حروبا مختلفة كليا‪..‬‬
‫فمنهــم مــن أصبــح يحــارب مــن أجــل املــال‪ ،‬ومنهــم مــن يحــارب مــن أجــل‬
‫الشــهرة ومنهــم مــن يحــارب مــن أجــل الجنــس وغيرهــا مــن الرغبــات االخــرى‪،‬‬
‫والغريــب فــي األمــر أن معظــم هــؤالء الذيــن خاضــوا حــروب مختلفــة وكانــو‬
‫قادة فيها تحولت حروبهم فيما بعد إلى نوع من أنواع العبودية! فأصبحوا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫عبيــدا للمــال وعبيــدا للجنــس وعبيــدا لرغباتهــم الدنيويــة!‬

‫‪13‬‬
‫وهذه هي حقيقة اإلنسان االخرى‪..‬‬
‫بأنه عبد في الفطرة وال حول وال قوة له في تغيير ذلك مهما فعل‪ ،‬فإذا لم‬
‫يعبــد هللا عبــد نفســه‪ ،‬وإذا شــعر بامللــل مــن عبــادة نفســه اتجــه إلــى عبــادة‬
‫وتقديــس أمــور أخــرى مثــل املــال وإذا وصــل للمــال ســيحاول عبــادة إلــه‬
‫جديــد فيتوجــه إلــى الجنــس وإذا وصــل للجنــس وظفــر منــه توجــه للشـراب‬
‫واملــواد املخــدرة حتــى تخفــف عنــه جميــع الكــوارث واملصائــب التــي حدثــت‬
‫معــه فــي عباداتــه الســابقة!!‬
‫وإذا وصــل للنشــوة املطلوبــة عــادا إلــى عبــادة نفســه مــرة اخــرى ويســتمر‬
‫فــي الطــواف حــول هــذه الدائــرة حتــى ينتهــي بــه املطــاف منتح ـرا تــاركا هــذه‬
‫الحيــاة!‬

‫‪14‬‬
‫فيجــب علــى اإلنســان أن يعلــم بــأن روحــه وجســده منحــت لــه ملــرة واحــدة‬
‫فقــط ولغايــة وهــدف عظيــم وأنــه مســؤول ومحاســب عليهمــا ‪ ..‬فالنعيــم‬
‫الدنيــوي وامللــذات اللحظيــة التــي أمــام أعيننــا هــي ليســت ســوى وهــم عابــر‬
‫ومتــاع مؤقــت هدفهــا فقــط اختبــار هــذه األرواح واألنفــس التــي فــي داخلنــا‬
‫وان الركــض خلفهــا ليــس إال بعــد عــن الهــدف والغايــة الحقيقيــة‪.‬‬

‫ولهــذا أراد هللا أن يختبرنــا ويمتحننــا أوال حتــى يظهــر الخيــر والشــر الــذي‬
‫يكمــن فــي داخلنــا‪ ،‬ولــو أن هللا خلقنــا وأدخلنــا فســيح جناتــه مباشــرة‬
‫وأبقانــا فيهــا دون أي عمــل مســبق لكــن فــي ذلــك ظلــم ملخلوقاتــه االخــرى‬
‫وظلــم لإلنســان نفســه تحديــدا (تعالــى هللا عــن ذلــك فــاهلل يفعــل مــا يريــد‬
‫وال يســأل عمــا يفعــل وال يظلــم أحــدا)‬

‫وهللا ال يحتــاج إلــى هــذا االمتحــان حتــى يســتطيع التفرقــة بيننــا (تعالــى‬
‫هللا عــن ذلــك) ولكــن أنشــأه حتــى يصبــح كل شــخص منــا مســؤوال عــن‬
‫نفســه وعــن أفعالــه‪.‬‬

‫فــإذا دخــل اإلنســان النــار كانــت أفعالــه شــاهدة وعلــم مــن أيــن أتــى غضــب‬
‫هللا عليــه‪ ،‬وأمــا إذا دخــل الجنــة رأى وعلــم مــاذا فعــل حتــى يســتحق هــذه‬
‫الرحمــة العظيمــة‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫فمجــددا املــوت هــو كلمــة الســر التــي يحتــاج إليهــا اإلنســان حتــى تبقيــه‬
‫علــى طريــق الحــق والهــدف الصحيــح ‪ ،‬الحيــاة هــي الــداء وذكــر املــوت هــو‬
‫دواؤهــا‪.‬‬

‫فبذكر املوت تصل الرحم وتكرم اليتيم وتطعم املسكين وبذكره تق�ضي‬
‫علــى الكبــر والحســد والهــم والغــم وجميــع مشــاكلك الدنيويــة ‪ ..‬حياتــك‬
‫الحقيقيــة لــن تبــدأ إال عندمــا تقتنــع بأنــك ميــت ومفارقــا لهــذه الحيــاة مــع‬
‫ضــرورة استشــعار هــذا االمــر‪.‬‬

‫ذكــر املــوت لــن يجعلنــا مســتائين ومكتئبيــن‪ ،‬إنمــا تعلقنــا بالحيــاة هــو مــن‬
‫يصلنــا لهــذه الحالــة فكــم مــن شــخصا تعلــق بالحيــاة الدنيــا وزينتهــا ثــم‬
‫انتحــر بعــد ذلــك وأعدادهــم تــزداد يومــا بعــد يــوم ‪.‬‬

‫وليــس األمــر محصــورا علــى ذكــره بــل إن املــوت بحــد ذاتــه ليــس بال�شــيء‬
‫املرعــب واملخيــف كمــا يعتقــد البعــض ‪ ..‬مصــدر الرعــب والخــوف هــو‬
‫فقــط ناتجــا بســبب عــدم وضــوح مــا ينتظــر اإلنســان بعــد مماتــه ومــن عــدم‬
‫قدرتــه علــى التنبــؤ بمشــاعره فــي تلــك اللحظــة الغامضــة التــي ســوف ينتقــل‬
‫اليهــا‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫فعلى ســبيل املثال‪ ،‬لو ذهبنا وأتينا بإنســان لم ينم قط ولم يجرب النوم‬
‫أبــدا وال حتــى دقيقــة واحــدة طــوال فتــرة حياتــه ومــن ثــم أخبرنــاه الكلمــات‬
‫التاليــة ‪:‬‬
‫«أنــه عنــد الســاعة التاســعة مسـ ًـاء ســتجتاحك حالــة شــديدة مــن النعــاس‬
‫ً‬
‫للمــرة األولــى فــي حياتــك‪ ،‬ستشــهد حينهــا انغــاق تدريجيــا لعينيــك مصاحبهــا‬
‫فقــدان ســيطرتك علــى جســدك وحواســك ‪ ،‬ثــم بعــد ذلــك ســوف تفقــد‬
‫وعيــك بالكامــل ســيعقبه انفصــال تــام عــن عاملــك الحالــي ودخولــك لعالــم‬
‫مختلــف كليــا يســمى عالــم االحــام فــي هــذا العالــم الجديــد إمــا أن تشــاهد‬
‫فيــه كوابيــس مروعــة تدفعــك لالســتيقاظ منهــا أو أحــام ســعيدة تجعلــك‬
‫تتمنــى أال تعــود إلــى واقعــك الحقيقــي مــرة أخــرى‪».‬‬

‫هــذا الوصــف وهــذه العبــارات البســيطة واملتعــارف عليهــا عنــد الجميــع‬


‫إذا ســمعها اإلنســان الــذي لــم ينــم مــن قبــل والــذي ســتطبق عليــه هــذه‬
‫التجربــة ســوف يصــاب بالذعــر والخــوف الشــديد مــن هــذه الحالــة التــي‬
‫ســيتعرض لهــا فــي ليلتــه فــي حيــن أن كل مــا ســوف يفعلــه هــو «النــوم» الــذي‬
‫يعــد أمــر عاديــا ومصــدرا للراحــة عنــد الجميــع!‬

‫ولكــن ألن هــذا اإلنســان لــم ينــم مــن قبــل فأصيــب بالقلــق والخــوف عنــد‬
‫ســماعه لهــذه التجربــة التــي ســوف يتعــرض لهــا ‪ ..‬وهــذا األمــر ينطبــق أيضــا‬
‫مــع خــوف اإلنســان مــن املــوت‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫إن فــي الحقيقــة ســر وغمــوض هــذا العالــم الخفــي حــول املــوت هــو الــذي‬
‫دفــع االنســان لتجاهلــه والعمــل مــن اجلــه ‪ ..‬حتــى اإلنســان الــذي اســتطاع‬
‫الصعــود إلــى الفضــاء الخارجــي عجــز علــى معرفــة مــا يحــدث تحــت أقدامــه‬
‫كل الجهــود التــي بذلهــا اإلنســان للكشــف عــن حقيقــة املــوت قــد بــاءت‬
‫بالفشــل‪ ،‬وعندهــا تســرع بالحكــم تــاركا خلفــه كل اآليــات الســماوية قائــا‬
‫بأنــه ال حيــاة بعــد املــوت وأن كل إنســان ســوف يرجــع إلــى حالــة الســكون‬
‫والعــدم التــي كان عليهــا قبــل أن يخلــق‪ ،‬وهــذا األمــر غيــر منطقــي إطالقــا!!‬

‫ألن حالــة العــدم والســكون التــي يتحــدث عنهــا كانــت بســبب عــدم اتصــال‬
‫الــروح بالجســد بعــد‪ ،‬ولكــن عندمــا حــدث هــذا االتصــال بــدأت بعدهــا‬
‫رحلــة طويلــة امتــدت لســنوات وســنوات صاحبتهــا ذكريــات ولحظــات مــر‬
‫بهــا اإلنســان وشــعر بهــا بمفــرده!‬
‫مــر بلحظــات فــرح ‪ ..‬وحــب ‪ ..‬وحــزن ‪ ..‬ونــدم ‪ ..‬وظلــم ‪ ..‬وقهــر ‪ ..‬وفقــدان‬
‫وغيرهــا مــن اللحظــات الخالــدة‪.‬‬
‫فمــن االســتحالة هــذا الكيــان الجديــد (اإلنســان) ينفصــل ويذهــب للعــدم‬
‫مــرة اخــرى بعــد كل هــذه اللحظــات التــي عاشــها واال اذا مافائــدة هــذا‬
‫االتصــال املتقــن الــذي حــدث؟ هــل حــدث ليفجــر االنســان ويقتــل ويظلــم‬
‫ثــم يرجــع للعــدم مــرة اخــرى؟ ومافائــدة اتصــال االشــخاص الذيــن قتلــو‬
‫علــى يــده اصــا؟‬

‫‪18‬‬
‫هــذا االتصــال لــم يحــدث إال لبــدأ سلســلة األعمــال التــي ســوف يحاســب‬
‫عليهــا االنســان ويكــون مســؤوال عنهــا ‪ ..‬وهــذه ليســت بأســاطير وال بأكاذيــب‬
‫بل هي حقائق كشفها خالق الكون لنا ومن خاللها يتحدد مصير اإلنسان‬
‫بنــاءا علــى تصديقــه أو تكذيبــه لهــذه الحقائــق‪.‬‬
‫ومع ذلك دائما يكون اتباع الظن أسهل بكثير من معرفة الحق وتصديقه‬
‫فطــرح فرضيــات مثــل «مــاذا لــو لــم يوجــد حيــاة بعــد املــوت» هــو أســهل‬
‫بكثيــر مــن البحــث عــن الحقيقــة واإليمــان بهــا‪.‬‬

‫ولكن ‪« ..‬ماذا لو ايضا»‬


‫مــاذا لــو كان املــوت هــو بدايــة الحيــاة؟ مــاذا لــو كانــت حياتنــا بأكملهــا وهــم‬
‫وحلم سوف نستيقظ منه عند موتنا؟ ماذا لو كان االستيقاظ الحقيقي‬
‫للحيــاة هــو بعــد املــوت؟‬

‫فهــا هــو اإلنســان عندمــا ينــام فــي كل ليلــة يــرى عــدة أحــام‪ ،‬يــرى بأنــه‬
‫يغــزو العالــم ويــرى بأنــه يســبح البحــار ويغــوص فــي اعماقهــا وتـراه فــي بعــض‬
‫األحيــان يصــادف االمــوات ويتحــدث معهــم حــول املا�ضــي واملســتقبل‬
‫وحينمــا يســتيقظ ويفتــح عينيــه يكتشــف بعدهــا بأنــه داخــل غرفتــه وأن‬
‫كل االحــداث التــي شــاهدها كانــت مجــرد حلــم!!‬

‫‪19‬‬
‫ماذا لو كان املوت كذلك ولكن هذه املرة يستيقظ اإلنسان وهو‬
‫داخل حفرة من حفر القبر ويكتشف بعدها أن كل ما دار في الدنيا‬
‫كان وكأنه وهم‪ ،‬وكأنها ساعة من النهار أو بضعة دقائق تعادل حلم‬
‫من األحالم التي اعتاد على رؤيتها عندما كان حيا؟!‬

‫أسئلة تستحق التأمل والتفكير‪..‬‬

‫فكما أتى اإلنسان من عدم وغيب إلى هذه الحياة بشكل غامض‬
‫كذلك سوف يذهب إلى عدم وغيب جديد عند موته وهذا العدم‬
‫والغيب الجديد ال بد من أن يكون حياة جديدة أخرى‪.‬‬

‫‪ ..‬انتهى ‪..‬‬

‫‪20‬‬
‫يكــم ْۖ‬‫ُ ْ َّ ْ َ ْ َ َّ َ ُّ َ ْ ُ َ َّ ُ ُ َ ُ‬
‫﴿ قــل ِإن امْلــوت الـ ِـذي ت ِفــرون ِمنــه ف ِإنــه ماَل ِق‬
‫الشـ َـه َادة َف ُي َن ّب ُئ ُكــم بمــاَ‬
‫ْ َ ْ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ َّ ُ َ ُّ َ َٰ‬
‫ثــم تــردون ِإلــى ع ِالـ ِـم الغيـ ِـب و‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ُ ُ ْ َ َُْ َ‬
‫كنتــم تعملــون﴾‬
‫[ الجمعة‪]8 :‬‬

‫‪21‬‬
‫الل ُه َّم ِا ْغف ْر َأِلبي َوِا ْر َح ْم ُه ُهوَ‬
‫ّٰ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َوسائ ُر َأ ْموات املُ ْسلمينَ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪22‬‬
‫الباب الثاني‬
‫‪ ..‬شبهات ‪..‬‬

‫‪23‬‬
‫جميــع األديــان الســماوية كانــت تؤمــن بــأن حيــاة اإلنســان بــدأت عنــد خلــق‬
‫آدم وحــواء‪ ،‬صحيــح بعــض األديــان واملناهــج املحرفــة كانــت تختلــف مــع‬
‫هــذا املعتقــد وال تؤمــن بــه ولكــن كانــت علــى األقــل تؤمــن بوجــود قــوى إلهيــة‬
‫تقــف وراء وجــود هــذا الكــون بمعنــى معظــم البشــر كانــو يؤمنــون بوجــود‬
‫إلــه وخالــق عظيــم لهــذا العالــم ‪ ..‬حتــى أتــى بعــد ذلــك منهــج وديانــة جديــدة‬
‫(اإللحــاد) أنكــرت كل هــذه املعتقــدات واملفاهيــم وأنكــرت معهــا الخالــق‬
‫أيضــا‪ .‬وهــذا اإلنــكار لــم يــأت بســبب حقائــق مؤكــدة وأدلــة مثبتــة بــل‬
‫ـتنادا لبعــض النظريــات والفرضيــات والتوقعــات واآلراء البشــرية‬ ‫أتــى اسـ ً‬
‫املختلفــة‪.‬‬

‫وذلــك لــم يحــدث إال بعــد أن وصــل اإلنســان إلــى أق�صــى درجــات التقــدم‬
‫العلمــي والتطــور فــي عصــره كمــا بــدأ يدعــي‪ ،‬فبــدأ يؤمــن بــأن العلــم هــو‬
‫وحــده القــادر علــى تقديــم تفســيرات وأدلــة حقيقيــة لهــذا الكــون بإمكانــه‬
‫مــن خاللهــا معرفــة حقيقتــه وســبب وجــوده فــي هــذه الحيــاة‪ ،‬فمــن وجهــة‬
‫ُ‬
‫نظــره بــدأ يــرى بــأن األدلــة املقدمــة مــن خــال األديــان ناقصــة وغيــر كافيــة‬
‫ومعظمهــا تتنــاول أمــور غيبيــة تتعلــق بأحــداث مــن املا�ضــي وأمــور ســوف‬
‫تحــدث فــي املســتقبل‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫فهــو يــرى أن األمــور الغيبيــة ليســت لهــا أي قيمــة علميــة وبنـ ًـاء علــى هــذا‬
‫االعتقاد‪ ،‬إذا لم تكن األدلة املطروحة ملموســة وقابلة للتجربة فإنها لن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تكــون دليــا مقنعــا فــي نظــر اإلنســان امللحــد‪.‬‬

‫ومــن هــذا املفهــوم بــدأت تخــرج حينهــا العديــد مــن الدراســات والنظريــات‬
‫لهــدف الوصــول إلــى الحقيقــة املطلقــة لهــذه الحيــاة ولهــذا الوجــود‪..‬‬

‫بــدأ يظهــر للعالــم نظريــات وفرضيــات مختلفــة وبطريقــة غامضــة كانــت‬


‫تتحول هذه الفرضيات بسرعة إلى حقائق مثبتة في عقل اإلنسان امللحد‬
‫وبــدأ يؤمــن بهــا إيمانــا يقينيــا دون أدنــى شــك أو تــردد!!‬

‫‪25‬‬
‫فمثــا‪ ،‬اكتشــف أنــه يعيــش فــي عالــم عشــوائي وحيــاة ال معنــى لهــا علــى‬
‫االطــاق وأن هــذا العالــم املصنــوع بدقــة قــد خــرج إلــى هــذه الحيــاة عــن‬
‫طريــق الصدفــة‪.‬‬

‫ولو سألته‪:‬‬
‫لو كانت الحياة بالفعل خرجت عن طريق الصدفة فكيف يمكن تفســير‬
‫دقــة تكويــن هذا العالم؟‬

‫سوف يجيب‪:‬‬
‫ال يمكننــي الجــزم حــول دقــة تكويــن عاملنــا فــي الوقــت الحالــي ألنــه مــن‬
‫املحتمــل ومــن املمكــن ايضــا أن يكــون هنالــك اكــوان وعوالــم اكثــر دقــة‬
‫وانضباطــا مــن عاملنــا هــذا او قــد يكــون التطــور الطبيعــي الــذي وقــع منــذ‬
‫مالييــن وماليــن الســنين هــو املســبب الرئي�ســي فــي تقــدم وتطــور دقــة هــذا‬
‫الكــون!‬
‫«رد غيــرعلمــي مبنــي علــى امــال وتوقعــات وبالتالــي اكتشــافه هــذا اليـزال‬
‫امــر غيبــي»‬

‫‪26‬‬
‫اكتشــف بعــد ذلــك بــأن الطبيعــة هــي التــي أوجــدت كل �شــيء وبطريقــة مــا‬
‫أقــر بأنهــا املســبب األول والحقيقــي لهــذه الحيــاة‪.‬‬

‫ولو سألته مجددا‪:‬‬


‫ما هي األدلة التي تثبت أن الطبيعة هي التي خلقت كل �شيء؟‬

‫سوف يجيب‪:‬‬
‫ال يوجــد أي أدلــة قطعيــة ونهائيــة حــول هــذا الســؤال ألن الطبيعــة فــي نهايــة‬
‫األمــر تحتــوي علــى مجموعــة كبيــرة ومعقــدة جــدا مــن العمليــات والظــروف‬
‫التــي يصعــب فهمهــا بالكامــل‪.‬‬
‫«رد غيرعلمي وناقص مبني على امال وتوقعات ايضا وبذلك اكتشافه‬
‫هــذا اليـزال امــر غيبي»‬

‫‪27‬‬
‫اكتشــف بعــد ذلــك بــأن أصلــه الحقيقــي حيــوان وأن هنالــك جــد وســلف‬
‫مشــترك بينــه وبيــن القــردة!‬

‫ولو سألته مرة اخرى‪:‬‬


‫أين هو السلف املشترك الذي يثبت أن للقردة واإلنسان جد واحد؟‬

‫سوف يجيب‪:‬‬
‫ال يمكــن الوصــول لــه ألنــه ببســاطة نحــن نتحــدث عــن كائنــات عاشــت قبــل‬
‫مالييــن ومالييــن الســنين‪ ،‬فمــن الصعــب العثــور عليهــا‪.‬‬
‫«مــا زالــت إجاباتــه مبنيــة علــى آمــال وتوقعــات قــد تحــدث فــي املســتقبل‬
‫وبذلــك حتــى اكتشــافه هــذا ال يـزال غيبــي»‬

‫‪28‬‬
‫اســتمرت هــذه الفرضيــات والنظريــات واالكتشــافات الغيبيــة حتــى اصبــح‬
‫االلحــاد منهــج غيبــي اكثــر مــن االديــان الســماوية!!‬

‫إن اإلنســان بطبيعتــه الغريزيــة دائمــا يبحــث عــن ال�شــيء الــذي يحقــق‬
‫مصالحــه ورغباتــه الدنيويــة أوال قبــل كل �شــي حتــى ولــو اضطــر الكــذب‬
‫علــى نفســه‪ ،‬فبــدال مــن ديــن يأمــره بأفعــال ويضــع حــدودا عليــه ويعاملــه‬
‫معاملــة مخلــوق‪ ،‬يريــد ديــن ال يحــرم لــه اشــياء بــل يحلــل لــه كل االشــياء‬
‫ً‬
‫ويجعله خالقا مســتقال ‪ ..‬دين ال يقيم حدود على غرائزه وشــهواته بل هو‬
‫حــر يفعــل كل مــا يحلــو فــي خاطــره!‬

‫وهذا ليس باألمر الجديد‪ ،‬بل إن كل السابقين الذين كفروا برساالت هللا‬
‫كان ردة فعلهم مماثلة فعلى سبيل املثال‪ ،‬كفار قريش كانوا يعلمون حق‬
‫اليقيــن أن اإلســام حــق وأن محمــد صلــى هللا عليــه وســلم حــق ورســوال مــن‬
‫عنــد هللا ولكــن بســبب رغباتهــم الدنيويــة وبســبب كبريائهــم اســتمروا علــى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫كفرهــم فمنهــم مــن كان خائفــا علــى فقــدان تجارتــه ومنهــم مــن كان خائفــا‬
‫ً‬
‫علــى ســمعته ومنهــم مــن كان خائفــا علــى عالقاتــه مــع اآلخريــن وغيرهــا مــن‬
‫املصالــح والرغبــات الدنيويــة التــي خشــو أن يفقدوهــا عنــد دخولهــم لهــذا‬
‫الديــن‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫فــإذا كان يوجــد أشــخاص اســتطاعو تضليــل أنفســهم والكــذب عليهــا فــي‬
‫زمــن املعج ـزات والرســل‪ ،‬فمــن البديهــي جــدا أن الكافــر فــي هــذا الزمــان‬
‫ً‬
‫ن‬
‫ســيجد تبري ـرا لكفــره دو أدنــى جهــد أو عنــاء!‬

‫بــا ادنــى شــك هــؤالء النــاس الذيــن كفــرو فــي الســابق كان بســبب كلمــة‬
‫واحــدة كانــت تــدور حــول عقلهــم وهــي «دنيــا» فهــذه الدنيــا لــم تكــن بالنســبة‬
‫لهــم دار اختبــار وابتــاء بــل كانــت دار مــاذ واســتقرار ‪ ..‬كانــو فــي ســكرة‬
‫وماتــو وهــم فــي ســكرة والتاريــخ مســتمر فــي إعــادة هــذه األحــداث وإعــادة‬
‫هــؤالء األشــخاص مــرة أخــرى فــي كل زمــن وفــي كل حضــارة ولكــن بكفــر‬
‫جديد!! اإلنسان متطور بكفره ولعل هذا التطور الوحيد الذي استطعنا‬
‫رصــده فــي اإلنســان حتــى اآلن‪.‬‬

‫فاإلنســان في الســابق كفر باهلل وبدأ يعبد األوثان املصنوعة من الحجر‬


‫والخشــب ثــم انتهــى املطــاف بــه عابــدا للكواكــب التــي فوقــه ثــم بعــد ذلــك‬
‫انتقــل إلــى عبــادة طائفــة مــن البشــر‪ ،‬إلــى أن وصــل الحــال فيــه أن عــاد إلــى‬
‫عبــادة االوثــان ولكــن هــذه املــرة عبــد أكبــر أوثــان هــذا العالــم وهــي الطبيعة!‬

‫كمــا ذكــر «الدكتــور هيثــم طلعــت» أن الطبيعــة هــي أكبــر وثــن اتخــذه‬
‫اإلنســان مــن دون هللا!!‬

‫‪30‬‬
‫فوصل امللحد ملرحلة ينسب كل ما يجري في هذا العالم للطبيعية والكون‬
‫فالطبيعــة هــي التــي خلقــت وهــي التــي أنشــأت وهــي التــي بــدأت وامللحــد ال‬
‫يتج ـرأ أبــدا أن يســتبدل كلمــة طبيعــة بخالــق فيقــول الخالــق الــذي خلــق‬
‫وهــو الــذي انشــأ ألنــه يعلــم أن هــذا الخالــق ســوف يكلفــه بتكاليــف يقــوم‬
‫بهــا وامللحــد يــرى أنــه فــي غنــى عــن هــذه التكاليــف وأنــه فــي غنــى عــن اآلخــرة‬
‫أيضــا‪.‬‬

‫فامللحد مشكلته الحقيقية ليست دينية وال كونية وال عالقة لها بأية من‬
‫هــذه االمــور‪ ،‬مشــكلته األساســية هــي التمســك الشــديد لهــذه الدنيــا التــي‬
‫يحيــي فيهــا حتــى ولــو لــم يكــن مــدركا لذلــك ألنــه مــن االســتحالة لإلنســان‬
‫أن ينكــر وجــود هللا الــذي خلقــه واوجــده‪ ،‬هــو بالتأكيــد يســتطيع تجاهــل‬
‫حقيقتــه ولكــن ال يمكنــه إنــكار وجــوده‪.‬‬

‫وهــذا األمــر دائمــا يحــدث مــع غالبيــة الكفــار بأنهــم ال يعترفــوا بوجــود هللا‬
‫إال فــي آخــر لحظــات حياتهــم‪ ،‬مثــل فرعــون أكبــر طاغيــة وكافــر فــي هــذا‬
‫العالــم الــذي أصــر أنــه رب وإلــه هــذا الكــون وأصــر علــى كفــره وعصيانــه‬
‫ولكــن عندمــا أتــاه املــوت عنــد الغــرق وبــدأ يشــاهد حياتــه ودنيــاه تنتهي وبدأ‬
‫ينطفــئ نورهــا حــاول التحــدث وأول جملــة خرجــت مــن فمــه هــي ‪:‬‬
‫َ ََ َ ُْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ َُ‬ ‫َ ْ ُ َ َّ ُ َ َ َ َّ َّ‬
‫« آمنت أنه ال ِإله ِإال ال ِذي آمنت ِب ِه بنو ِإسر ا ِئيل و أنا ِمن امْلس ِل ِمين»‬

‫‪31‬‬
‫فمجــددا لــو أن مشــكلة امللحــد الحقيقيــة دينيــة أو كونيــة لوجــد حــا لهــا‬
‫فــورا ‪ ،‬مهمــا كانــت حجــم املشــاكل التــي يواجههــا امللحــد ســوف يجــد حــا‬
‫لهــا فــي نهايــة املطــاف‪ ،‬فهــو الــذي دائمــا يدعــي بأنــه اإلنســان املفكــر وأنــه‬
‫اإلنســان العلمــي فــي هــذه الحيــاة فــي حيــن أن تفكيــره هــذا لــم يخــرج لنــا إال‬
‫شــبهات متكــررة!‬

‫واألمــر اآلخــر هــو أصبــح يعتقــد أنــه بشــبهاته هــذه انتصــر علــى االســام‬
‫وانتصر على الحق دون أن يعلم أن جميع شبهاته قد أجاب عنها اإلسالم‬
‫قبــل ‪ 1400‬ســنة علــى لســان رســول ونبــي العامليــن محمــد بــن عبــدهللا صلــى‬
‫هللا عليــه وســلم‪.‬‬

‫فما هي اشهر هذه الشبهات؟‬

‫۞۞۞۞۞۞۞‬

‫‪32‬‬
‫ماهي األدلة التي تثبت وجود خالق لهذه الحياة؟‬
‫جميــع االدلــة التــي تثبــت وجــود الخالــق (هللا) لهــذه الحيــاة هــي موجــودة‬
‫امامنا ونراها بإستمرار فاألدلة التي شاهدها امللحد وكفر بها هي نفسها‬
‫التــي جعلــت املؤمــن يســلم وجهــه للخالــق ســبحانه وتعالــى ‪ ..‬فاألدلــة كثيــرة‬
‫جــدا وال يمكــن كتابتهــا كتابــة هــذه األدلــة هــي بمثابــة كتابــة كل �شــيء يــدور‬
‫فــي هــذه الحيــاة مــن صغيــره لكبيــره وهــو أمــر مــن االســتحالة فعلــه!! هللا‬
‫منــح اإلنســان عقــا ليكــون قــاد ًرا علــى فهــم وإدراك هــذه األدلــة مــن خــال‬
‫رؤيتــه لدقــة وجماليــة وتفاصيــل وإبــداع هــذا الكــون وكل مــا يحتويــه‪،‬‬
‫فبمجــرد مــا يتفكــر االنســان ويتدبــر فــي نفســه وفــي هــذا الكــون ســوف يصــل‬
‫إلــى درجــة يقينيــة تجعلــه يؤمــن بوجــود خالــق عظيــم لهــذا العالــم يجــب‬
‫اتبــاع تعاليمــه وأوامــره‪.‬‬

‫فنيــا وشــاهد أمامــه لوحــة‬ ‫ً‬


‫معرضــا ً‬ ‫علــى ســبيل املثــال إذا زار شــخص‬
‫فنيــة جميلــة متقنــة ومليئــة بالتفاصيــل الدقيقــة هــذا الزائــر ســوف يلفــت‬
‫نظــره مباشــرة تلــك اللوحــة وســوف يقــر ويؤمــن مباشــرة أنــه يوجــد صانــع‬
‫ورســام عظيــم رســم هــذه اللوحــة ‪ ..‬هــو أقــر وآمــن بذلــك دون أن يــرى‬
‫صاحب اللوحة ‪ ..‬دون أن يعلم اسمه أو عمره أو حتى مكان ورشة عمله‪.‬‬
‫اكتفــى بمشــاهدة اللوحــة فقــط ومــن خاللهــا اســتطاع أن يــرى تأثيــر هــذا‬
‫الرســام واســتطاع أن يــرى فنــه وملســاته وإبداعــه دون الحاجــة إلــى مقابلتــه‬
‫شــخصيا‪ ،‬وهلل املثــل األعلــى‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫وكذلــك هــذا العالــم هــو لوحــة فنيــة عظيمــة ومتقنــة يعيــش علــى ســطحها‬
‫اإلنســان‪ ،‬واإلنســان ليــس فقــط جـ ً‬
‫ـزءا مــن هــذه اللوحــة‪ ،‬بــل هــو لوحــة‬
‫أخــرى منفصلــة متقنــة مليئــة بالتفاصيــل اإلعجازيــة التــي يصعــب ذكرهــا‬
‫بالكامــل أيضــا‪ .‬فمثــا لــو أردنــا أن نتنــاول لوحــة اإلنســان فمــن عنــد أي‬
‫زاويــة مــن هــذه اللوحــة يجــب أن نبــدأ؟‬

‫هــل نبــدأ الحديــث عــن أجهزتــه املعقــدة واملتقنــة مثــل الجهــاز الهضمــي‬
‫والعصبــي والبولــي؟! وال عــن أحشــائه التــي ولــد بهــا وبطريقــة مــا كانــت مرتبــة‬
‫داخلــه ترتيبــا دقيقــا؟! وال عــن وظائــف جســمه املبرمجــة التــي تشــتغل مــن‬
‫تلقــاء نفســها؟! وال عــن قلبــه الــذي مســتمر فــي ضــخ الــدم لخاليــاه واعضائــه‬
‫بشــكل مســتمر وال يتوقــف؟‬

‫وال عــن الدمــاغ البشــري الــذي ال ي ـزال يــدرس ويختبــر إلــى اآلن وال ي ـزال‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العلمــاء ينبهــرون منــه فــي كل مــرة يكتشــفون شــيئا جديــدا حولــه؟‬

‫كيــف كل هــذه األمــور مــن املمكــن أن تحــدث فجــأة دون وجــود خالــق‬
‫عظيــم لهــا!‬

‫‪34‬‬
‫كيــف مــن املمكــن أن تكــون حيــاة اإلنســان عبيثــة ال يملــك فيهــا أي غايــة أو‬
‫هــدف فــي حيــن أن أعضــاءه لهــا هــدف وهــي عملهــا املســتمر دون توقــف؟‬

‫لهــذا فــي ديــن اإلســام يســقط التكليــف علــى املجنــون أو علــى مــن ذهــب‬
‫عقلــه ألنــه هــؤالء األشــخاص ال يســتطيعون فهــم وإدراك تأثيــر هللا فــي هــذا‬
‫العالــم‪.‬‬

‫ض َومــاَ‬ ‫َّ َ َ َ َّ ُ َّ َ َ َ ْ َ‬
‫اأْل ْر َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َ َّ‬
‫﴿ أولــم َّيتف ْكــروا ِفــي َ أنف ِسـ ِـهم ۗ مــا خلــق هَّللا الســماو ِ‬
‫ات و‬
‫َ ّ َ َ ُّ َ ًّ َ َّ َ ً ّ َ َّ‬
‫النــاس بل َقـ ِـاء َرّبهــمْ‬ ‫َب ْي َن ُه َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ـن‬ ‫ـ‬‫م‬ ‫ا‬
‫ـر‬ ‫ـ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ي‬‫ث‬‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫و‬ ‫ۗ‬ ‫ى‬ ‫ـم‬ ‫ـ‬‫س‬ ‫م‬ ‫ـل‬‫ٍ‬ ‫ـ‬‫ج‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ـق‬ ‫ـ‬‫ح‬
‫َِ ِ ِ‬‫ال‬ ‫ب‬ ‫اَّل‬ ‫إ‬ ‫ـا‬ ‫ـ‬‫م‬
‫ُ‬ ‫ََ‬
‫لكا ِفــرون﴾ [ الــروم‪]8 :‬‬

‫‪35‬‬
‫ملــاذا يوجــد إلــه واحــد فقــط فــي هــذا العالــم؟ ملــاذا ال يوجــد هنــاك‬
‫اكثــر مــن إلــه يحكــم هــذا الكــون؟‬
‫هــذه التســاؤالت واضحــة جــدا أنهــا أتــت مــن أشــخاص لــم يفهمــوا بعــد‬
‫مصطلــح اإللــه ومعنــاه الصحيــح‪ ،‬فكيــف يحكــم عاملنــا إلــه يدعــي بأنــه قوي‬
‫وعزيــز ومهيمــن وجبــار ثــم بعــد ذلــك يتشــارك فيــه حكمــه آلهــة أخــرى؟ هــذا‬
‫دليــل علــى أن هــذا اإللــه مفتقــر لذاتــه وال يســتطيع إدارة شــؤون خلقــه إال‬
‫بمســاعدة آلهــة أخــرى! (تعالــى هللا عــن هــذا الــكالم)‬
‫فكرة تعدد اآللهة بحد ذاتها مخالفة للعقل واملنطق!!‬
‫ما هي الحاجة أصال لوجود أكثر من إله يحكم هذا العالم؟‬
‫اذا كان هنالك الهين لهذا الكون فمن من املفترض اإلنسان أن يعبد؟‬
‫هــل يعبــد االثنيــن ويضاعــف صلواتــه وعبادتــه اليوميــة؟ وال ســوف يختــار‬
‫واحــدا منهمــا؟‬
‫وعلى أي أساس أصال سوف يختار؟!‬
‫هــل واحــد منهمــا اقــوى مــن االخــر؟ كيــف يكــون هنالــك إلــه قــوي وإلــه‬
‫ضعيــف ؟‬
‫هل واحد منهما أغنى من االخر؟ كيف يكون هنالك إله غني وإله فقير؟‬

‫‪36‬‬
‫ولــو كان بالفعــل يوجــد أكثــر مــن إلــه لهــذا العالــم فكيــف يمكــن لهــم أن‬
‫يتفقــو علــى إدارة هــذا الكــون دون أي خالفــات أو مشــاكل والتــي قــد تشــكل‬
‫تهديــدا لحياتنــا وعاملنــا الــذي نعيــش فيــه؟‬
‫ً‬
‫إله هذا الكون يجب أن يكون واحدا أحد متعاليا عن هذه األمور بأكملها‬
‫يملك جميع األسماء الحسنى والصفات العظمى وينفرد بها لذاته‪..‬‬

‫وهــذا الوصــف ينطبــق تمامــا علــى الخالــق الوحيــد لهــذه الحيــاة وهــو هللا‬
‫ســبحانه وتعالــى ويكفــي معرفــة أســماءه وصفاتــه إلثبــات ربوبيتــه والهويتــه‬
‫فهــو األول الــذي ليــس قبلــه �شــيء واآلخــر الــذي ليــس بعــده �شــيء والظاهــر‬
‫الــذي ليــس فوقــه �شــيء والباطــن الــذي ليــس دونــه �شــيء‪.‬‬
‫ان َم َعـ ُـه مـ ْـن إ َٰلـ ٍـه ۚ إ ًذا َّل َذ َهـ َـب ُك ُّل إ َٰلـ ٍـه بمــاَ‬
‫ََ ََ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫﴿ مــا اتخــذ هَّللا ِمــن ولـ ٍـد ومــا ك‬
‫ُ َ ِ ِ‬ ‫ِ َ ِ َّ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ََ ََ َ ْ ُ ُ ْ ََ‬
‫َ‬
‫هَّللا عمــا ي ِصفــون﴾‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٰ‬
‫ـض ۚ ســبحان ِ‬ ‫خلــق ولعــا بعضهــم علــى بعـ ٍ‬
‫[ املؤمنون‪]91 :‬‬

‫‪37‬‬
‫إذا كان الخالق هو هللا فلماذا خلقنا؟ هل هو بحاجة لنا؟‬
‫هذا اكثر سؤال يتكرر في ذهن امللحد وغير امللحد ايضا‪..‬‬
‫واإلنســان بأســئلته هــذه مجــددا ال ي ـزال يجهــل معنــى مصطلــح االلــه ‪..‬‬
‫فلو أن اإلنســان بحث فقط عن أســماء هللا الحســنى وصفاته وبدأ يفهم‬
‫معانيهــا ملــا ســأل هــذا الســؤال فهــو ال ي ـزال يعامــل هللا معاملــة مخلــوق ال‬
‫خالــق بأســئلته‪ ،‬فيســأله ملــاذا خلقتنــا ثــم ينتظــر بعــد ذلــك إجابــة تجعلــه‬
‫يعلــم مــا هــي حاجــة هللا لنــا؟!‬
‫أوال كيــف يحتــاج إلينــا هللا وهــو الــذي خلقنــا؟ مــا هــي الصفــة التــي مــن‬
‫املمكــن أن تكــون موجــودة عنــد املخلــوق وال توجــد عنــد الخالــق حتــى‬
‫يحتاجهــا مننــا؟ كيــف يكــون للخالــق حاجــة مــن مخلــوق ضعيــف هــو‬
‫صنعــه وأوجــده؟‬
‫هللا خلــق اإلنســان رحمــة فيــه ال حاجــة إليــه ثــم أعطــاه بعــد ذلــك فرصــة‬
‫ليكــون أحــد مخلوقاتــه وفرصــة أخــرى ليكــون أعظــم مخلوقاتــه‪.‬‬
‫هذه الفرصة أتت ملخلوق كان في العدم‪..‬‬
‫أتت ملخلوق كان ال وجود له‪..‬‬
‫أتت ملخلوق كان ال �شيء إطالقا‪..‬‬

‫‪38‬‬
‫الوجــود هــو مــن أعظــم النعــم التــي أتــت علــى اإلنســان وهــذه النعمــة تكفــي‬
‫وحدهــا لجعلــه ً‬
‫ممتنــا وشـ ً‬
‫ـاكرا لربــه‪.‬‬
‫بــل إن مــن شــدة حــب اإلنســان للوجــود الــذي هــو عليــه أصبــح يخ�شــى‬
‫ً‬
‫املــوت ويخ�شــى انتهــاء فتــرة وجــوده وأصبــح يريــد العيــش فــي أفضــل طريقــة‬
‫ممكنــة فــي هــذه الحيــاة!!‬
‫حتى املنتحر الذي ق�ضى على وجوده هو في الحقيقة لم ينتحر إال بسبب‬
‫خوفــه مــن فقــدان الوجــود الــذي هــو عليــه أو بســبب ســوء الوجــود الــذي‬
‫كان يعيش فيه‪.‬‬
‫َ ۤ ُ ُ ُۡ ّ ّ ۡ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ ۡ ُ ۡ َّ َ ۡ َ َّ‬
‫ٱإۡلنــس ِإاَّل ِلیعبــدو ِن ‪٥٦‬‬
‫۝ مــا أ ِریــد ِمنهــم ِمــن ِرزقࣲ‬ ‫خل َقــت ۡٱل ِجــن و ِ‬ ‫﴿ومـ ُـا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََۤ‬
‫۝﴾ [الذاريــات ‪]٥٧-٥٦‬‬ ‫ومــا أ ِریــد أن یط ِعمــون ‪٥٧‬‬
‫اإلنســان بحاجــة شــديدة لهــذه العبــادة حتــى يتعــرف علــى خالقــه ويتقــرب‬
‫منــه ويبــدأ يرجــو منــه رحمتــه ورضــاه مــن أجــل أن تتحقــق رغبتــه وهــي‬
‫الوجــود فــي أفضــل مــكان وفــي أفضــل صــورة وذلــك لــن يحــدث إال فــي مــكان‬
‫واحــد فقــط وهــو النعيم األبدي (الجنــة)‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ً‬
‫كيــف يمكــن أن يكــون يــوم البعــث أمـ ًـرا منطقيــا؟ كيــف يبعــث كل‬
‫مــن عــاش علــى هــذه األرض مليــارات ومليــارات مــن الناس جميعهم‬
‫فــي يــوم واحــد؟‬
‫فــي الحقيقــة يــوم البعــث بالفعــل أمــر صعــب ومــن االســتحالة حدوثــه إذا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫كان مــوكال لفعلــه إنســانا عاديــا‪ ،‬أمــا إذا الــذي ســوف يحدثــه خالــق والــه‬
‫ً‬
‫هــذا الكــون فاألمــر ســوف يصبــح يســيرا ومحســوما بالتأكيــد‪..‬‬

‫فمجــددا إذا اإللــه اســتحال عليــه فعــل أي �شــيء أو صعــب عليــه أي امــر‬
‫فلــن يعــد إلهــا أو خالقــا! والغريــب فــي األمــر أن اإلنســان يتســاءل ويشــك‬
‫حــول بعثــه مــرة أخــرى بعــد املــوت‪ ،‬ولــم يتســاءل أو يفكــر للحظــة حــول‬
‫نشــأته وخروجــه لهــذه الحيــاة!!‬

‫فخــروج اإلنســان لهــذه الحيــاة وخــروج هــذا العالــم بحــد ذاتــه أمــر خــارق‬
‫للطبيعــة ومــن االســتحالة كان حدوثــه اصــا‪ ،‬ولكــن مــن أحــدث هــذه‬
‫الظاهــرة الخارقــة هــو أيضــا قــادر علــى فعــل ظواهــر خارقــة اخــرى ‪ ..‬فكيف‬
‫يبــدأ هللا هــذا الخلــق العظيــم بدقتــه وجمالــه ثــم يعجــز علــى إعادتــه؟!‬

‫‪40‬‬
‫بــل إن مــن صــور إبــداع هللا ودقتــه فــي الخلــق والتــي تســتطيع الــرد علــى هــذه‬
‫الشــبهة هي بصمة اإلنســان (البنان)‬
‫فاإلنســان يملــك بصمــة مــن االســتحالة أن تتطابــق تطابــق تــام مــع أي‬
‫إنســان آخــر فــي هــذا العالــم حتــى ولــو كان والــده‪ ،‬والــذي اســتطاع خلــق‬
‫هــذا األمــر هــو أيضــا قــادر علــى جمــع هــذه البصمــات املميــزة واملحفوظــة‬
‫وإعــادة إحيائهــا مــرة أخــرى‪.‬‬
‫بــل إن خلــق هــذه البصمــات املميــزة واالســتثنائية لــكل إنســان فــي هــذه‬
‫الحيــاة يبــدو لوهلــة أمـرا أصعــب بكثيــر حتــى مــن إحيائهــا!! ولكــن هــذا هــو‬
‫صعبا ومســتحيال في نظر البشــر يكون ســهال‬ ‫هللا خالق كل �شــيء‪ ،‬ما يبدو ً‬
‫ويســيرا عليــه فهــو ليــس كمثلــه �شــيء‪.‬‬
‫ین َع َل ٰۤى َأن ُّن َس ّویَ‬
‫۝ َب َل ٰى َقٰـد َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ۡ َ ُ ۡ َ ٰ ُ َ َّ َّ ۡ َ َ َ‬
‫ٱإۡلنسـن ألن نجمع ِعظامهۥ ‪٣‬‬
‫ِ‬ ‫ِ ِر‬ ‫َ﴿أ َی ُحسب ِ‬
‫۝﴾ [القيامة ‪]٤-٣‬‬ ‫َبنانهۥ ‪٤‬‬

‫‪41‬‬
‫وغيرها من الشبهات التي مستمر امللحد في البحث عنها‬
‫ولــو أن بعــض امللحديــن كانــو يبحثــون عــن حقيقــة هــذه الحيــاة بالفعــل‬
‫كبحثهــم عــن الشــبهات لوصلــوا لهــا منــذ زمــن بعيــد‪.‬‬
‫وكذلــك املؤمــن أيضــا الــذي يعانــي مــن هــذه الشــبهات فلــو أنــه بحــث عــن‬
‫إجابــات لهــا وبــدأ بعــد ذلــك بتفســير فقــط الســور التــي مســتمر فــي ترديدهــا‬
‫فــي كل صــاة وبــدأ يبحــث عــن ســبب نزولهــا لذهبــت منــه جميــع الشــكوك‬
‫والشــبهات‪.‬‬
‫اإلنســان بحاجــة شــديدة للرجــوع إلــى ديــن الحــق وهــو اإلســام والبــدء‬
‫فــي دراســته وتعلمــه واتباعــه حتــى يفهــم ســبب الوجــود ويفهــم الغايــة مــن‬
‫الوجــود ويتعــرف علــى مــن أوجــد الوجــود ويعلــم مــا هــي أوامــره ورســالته‬
‫لإلنســان‪.‬‬
‫والديــن اإلســامي وحــده فقــط مــن يســتطيع تقديــم إجابــات صحيحــة‬
‫لهــذه األســئلة‪.‬‬

‫‪ ..‬انتهى ‪..‬‬

‫‪42‬‬
‫وب ُهـ ْـم لذ ْكــرهَّللاَّ‬‫﴿۞أ َلـ ْـم َيـ ْـأن ل َّلذيـ َـن َآم ُنــوا َأن َت ْخ َشـ َـع ُق ُل ُ‬
‫َ‬
‫ُ ِ ِْ ِ ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َمــا َنـ َـز َل مـ َـن ال َحـ ّـق َواَل َيكونــوا كالذيـ َـن أوتــوا الكتــابَ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ـال َع َل ْيهـ ُـم ْاأْل َمـ ُـد َف َق َسـ ْـت ُق ُل ُ‬
‫وب ُهـ ْـم ۖ َوك ِثيــرٌ‬ ‫مــن َق ْبـ ُـل َف َطـ َ‬
‫ّ ُْ ْ َ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اســقون﴾‬ ‫ِمنهــم ف ِ‬
‫[ سورة الحديد‪]16 :‬‬

‫‪43‬‬
‫الباب الثالث‬
‫‪ ..‬آدم و حواء ‪..‬‬

‫‪44‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فــي هــذا الزمــان أكثــر أم ـرا متــداوال ومروجــا لــه هــو الحــب‪ ،‬الــكل أصبــح‬
‫يتحــدث عــن الحــب والــكل أصبــح يتباهــى بــه والــكل يتغنــى ويكتــب عنــه‪،‬‬
‫ً‬
‫فأصبــح الجميــع محاص ـرا بقصصــه وأغانيــه وطقوســه املتجــددة حتــى‬
‫ً‬
‫أصبــح كل شــخص منــا وكأنــه مجب ـرا علــى ممارســة هــذا الحــب أو تجربتــه‬
‫علــى األقــل! فمــا هــو الحــب ومــا هــي حقيقتــه؟‬

‫ْعلــى الرغــم مــن أن إنســان هــذا العصــر ال يشــغل بالــه اال قصــص الحــب‬
‫والعاطفــة وكل اهتماماتــه وتركيــزه متمحــورة حــول الســعي وراء هــذا الحــب‬
‫إال أن مشــاكل اإلنســان العاطفيــة مازالــت تتفاقــم يومــا بعــد يــوم حتــى‬
‫وصلــت إلــى مراحــل حرجــة!!‬
‫فبدأنا نسمع عن اشخاص وصلو إلى مرحلة االدمان على هذا الحب!‬
‫بدأنا نسمع عن أشخاص يعانون من التعلق العاطفي!‬
‫وأشخاص مدمنين على العالقات املتعددة!‬
‫وأشخاص آخرون مدمنين على الجنس!‬
‫وكل واحد منهم حالته أسوأ من اآلخر!‬
‫ولكن السؤال هنا‪ ،‬هل هؤالء األشخاص هم ضحايا الحب؟‬
‫أم أن هذه ليســت إال مراحل ومســتويات طبيعية يجب على كل محب أن‬
‫يمــر بهــا؟‬

‫‪45‬‬
‫وملــاذا بــدأت تنتشــر عــداوة شــديدة بيــن الرجــل وامل ـرأة فــي االونــة االخيــرة؟‬
‫شيئا اخر؟‬‫ماقصة هذه العداوة وكيف بدأت؟ هل سببها الحب ايضا ام ً‬

‫لطاملــا ســمعنا أن الحــب أقــوى مــن أي �شــيء فــي هــذه الدنيــا‪ ،‬وأن الحــب‬
‫قــادر علــى معالجــة أمراضنــا ومشــاكلنا النفســية والروحيــة والجســدية‬
‫وغيرهــا مــن الكلمــات الورديــة التــي مســتمر العالــم فــي إلقائهــا علينــا‬
‫فهل عالم الحب هو حقا ما يحتاج إليه اإلنسان؟‬

‫۞۞۞۞۞۞۞‬

‫‪46‬‬
‫عالم الحب أصبح فوضويا بشكال غريب هذه االيام‪..‬‬
‫فكلمة الحب نفسها باتت مشوهة لم تعد تحتوي على أية صفات جميلة‬
‫بــل أصبحــت مجــرد كلمــة ووســيلة تســتخدم لتضيعــة الوقــت والوصــول‬
‫للمصالــح الشــخصية‪.‬‬
‫لم نعد نســمع قصص حب حقيقية كما كنا نســمع على األقل في الســابق‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كل مــا نســمع عنــه اآلن هــو قصــص خياليــة تجســد إمــا بألحــان غنائيــة أو‬
‫مشــاهد تلفزيونيــة وكأن الحــب فــي هــذا الزمــان أصبــح فقــط مــادة للكتابــة‬
‫والتمثيــل ولــم يعــد قابــا للتطبيــق مــرة أخــرى!‬

‫فبالرغــم مــن االنتشــار الواســع لثقافــة الحــب والترويــج لــه فــي املوســيقى‬
‫والســينما الحديثــة وغيرهــا مــن الوســائل الفنيــة إال أن مشــاكل اإلنســان‬
‫مــع الحــب مازالــت مســتمرة بــل إنهــا تــزداد ســوءا يومــا بعــد يــوم حتــى بدأنــا‬
‫فــي الفتــرة االخيــرة نشــاهد أرقــام مرعبــة فــي معــدالت الطــاق واالنفصــاالت‬
‫والتفــكك األســري وغيرهــا مــن املشــاكل االجتماعيــة‪.‬‬

‫وكأن كل هــذه املشــاهد واأللحــان التــي مســتمر اإلنســان فــي ســماعها‬


‫ومشــاهدتها لــم تــزده إال ســوءا فــي حياتــه العاطفيــة‪ ،‬فــا هــو تعلــم دروس‬
‫الحــب مــن خاللهــا او حتــى أخــذ العبــر مــن قصصهــا!!‬

‫‪47‬‬
‫ومــن هنــا يمكننــا القــول بــأن معظــم العالقــات فــي هــذا الزمــان هــي ليســت‬
‫بعالقــات حــب وليــس لهــا أي صلــة بالحــب اساســا‪ ،‬بــل هــي عالقــات عابــرة‬
‫بشــكل أو آخــر هدفهــا فقــط التســلية وتضيعــة الوقــت والجنــس فــي أكثــر‬
‫االحيــان‪ .‬فالــذي يحــب هــذه األيــام ال يريــد أن ينهــي عالقتــه وقصتــه‬
‫الغراميــة بالــزواج‪ ،‬بــل أصبــح يريــد أن ينهيهــا بأكملهــا حتــى تتــاح لــه فرصــة‬
‫أخــرى للدخــول فــي عالقــة جديــدة غيرهــا‪.‬‬
‫وهؤالء الذين يعيشون بهذه الطريقة ليسو باألشخاص املحظوظين كما‬
‫يعتقد البعض‪ ،‬بل هم ضحايا ملرض جديد يسمى «الحب الحديث» هذا‬
‫املــرض الــذي يمتــص مشــاعرهم وعواطفهــم بشــكال مســتمر حتــى يتحــول‬
‫بعدهــا اإلنســان إلــى مخلــوق مســتهلك فارغــا مــن املشــاعر واالحاســيس ولــم‬
‫يعــد قــادرا علــى أي عطــاء لحياتــه أو حيــاة غيــره‪.‬‬
‫بــل إن معظــم عالقــات الحــب لهــؤالء األشــخاص فــي الحقيقــة لــم يكونهــا‬
‫القدر كما يعتقدون‪ ،‬بل كونتها ظروفهم الحياتية القاسية التي يعيشونها‬
‫ممــا أدى بهــم إلــى البحــث عــن أي طريقــة أو وســيلة تخلصهــم مــن معاناتهــم‬
‫وتخــدر مشــاكلهم اليوميــة حتــى ولــو علــى حســاب تزييــف مشــاعرهم!‬

‫فهــذه العالقــات الوهميــة والعابــرة التــي يطلــق فيهــا البصــر وتهــدر فيهــا‬
‫املشــاعر تتســبب فــي تداعيــات ســلبية علــى وقــت اإلنســان أوال ثــم علــى‬
‫صحتــه النفســية وأخي ـرا علــى عالقتــه املســتقبلية (الــزواج)‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ولكــن برأيــي توجــد قضيــة أكبــر مــن قضيــة الحــب نفســها االن وهــي عــداوة‬
‫ً‬
‫بــدأت تنتشــر بيــن الرجــل وامل ـرأة‪ ،‬فبدأنــا نالحــظ عــداء متناميــا بينهمــا‬
‫حيث أصبح كل فرد ينظر إلى اآلخر بعين الكراهية! فبدأ االثنين يرفض‬
‫االرتبــاط بــل بــدأو يرفضــوا العيــش مــع بعضهــم البعــض فــي هــذه الحيــاة‬
‫وكأن عداوة آدم وحواء مع إبليس تحولت إلى عداوة بين آدم وحواء فقط‬
‫كالهمــا بــدأ يســتعيذ مــن االخــر ‪ ..‬وكالهمــا بــدأ يحقــد علــى اآلخــر ×‬
‫عــداوة تتحــرر مــن خاللهــا املـرأة ويصبــح الرجــل غيــر مهتــم أو مكتــرث لهــا‬
‫إطالقــا!‬
‫وهــذه العــداوة فــي الحقيقــة نشــأت منــذ زمــن قديــم ‪ ..‬ففــي ســابق الزمــان‬
‫قبل مجيء دين الحق (اإلسالم) كانت املرأة في بعض املجتمعات القديمة‬
‫مضطهدة تعذب تباع تقتل وكانت في كثير من األحيان تدفن بعد والدتها‬
‫مباشرة!‬
‫والســبب وراء ذلــك يعــود لبعــض العقــول البشــرية التــي كانــت متحكمــة‬
‫باملرأة والتي كانت تعاملها بطريقتها الخاصة دون اي منهج صريح وواضح‬
‫يــردع هــذه العقــول او يوجههــا عاألقــل‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫فبســبب هــذه األحــداث كلهــا خرجــت امل ـرأة عــن صمتهــا وانفجــرت بســبب‬
‫هذه األمور السابقة التي حدثت معها‪ ،‬ولكن الغريب في األمر أن انفجارها‬
‫وخروجهــا عــن صمتهــا أتــى متأخ ـرا جــدا بعــد آالف الســنين! واألغــرب مــن‬
‫ذلــك كلــه أنــه أتــى بعــد وصــول املنهــج الســماوي واألخيــر لهــذا العالــم الــذي‬
‫أعطــى كل النــاس حقوقهــا بــكل عــدل‪.‬‬
‫ولكــن بعــض النســاء لــم تعجــب بهــذه الحقــوق فبــدأت ترفضهــا بأكملهــا‬
‫ومــن ثــم بــدأت تطلــب حقوقهــا مــن العالــم غيــر الحقــوق الــذي أعطاهــا‬
‫إياهــا خالقهــا! وفــي هــذه اللحظــة خرجــت لهــا تلــك العقــول البشــرية مجــددا‬
‫واســتجابو لهــا بــكل رحــب‪ ،‬ومــن هنــا بــدأت قصــة العــداوة‪..‬‬
‫فالعقــول البشــرية نفســها التــي كانــت مضطهــدة امل ـرأة فــي الســابق وكانــت‬
‫تبيعهــا وتعذبهــا وتقتلهــا وتدفنهــا بالتـراب فــي مهدهــا عــادت مجــددا لتصحــح‬
‫جميع اخطاءها‪ ،‬عادت لتعطي املرأة قيمتها الحقيقية وتساهم في جعلها‬
‫حــرة مســتقلة وتعطيهــا حقوقهــا الكاملــة التــي هــي نفســها مــن ســلبها منهــا فــي‬
‫ســابق الزمــان!!‬
‫فمــاذا فعلــت تلــك العقــول البشــرية هــذه املــرة؟ ومــا هــي الحقــوق التــي‬
‫أعطتهــا للم ـرأة؟‬

‫‪50‬‬
‫بــدأت بعــض العقــول البشــرية املشــرعة الجديــدة للم ـرأة فــي زرع الفتنــة‬
‫داخــل بيتهــا‪ ،‬بــدأت فــي تضليــل أفكارهــا تجــاه نفســها أوال ثــم تجــاه زوجهــا‬
‫وعائلتهــا‪ ،‬بــدأت تقنعهــا بــأن غريزتهــا لألمومــة وتربيــة األبنــاء وصناعــة‬
‫اإلنســان ليســت بالهــدف الســمي الــذي يجــب أن تحلــم بــه فالزمــان تغيــر‬
‫االن وعلــى املـرأة أن تتغيــر حتــى ولــو اضطــرت بتزييــف رغباتهــا الحقيقيــة!‬
‫شــرعت العقــول البشــرية الحــوار مــع امل ـرأة حــول ســبب تدهــور قيمتهــا‬
‫وعــدم حصولهــا علــى االســتحقاق الــازم وعــن القصــص التــي حدثــت معهــا‬
‫فــي الســابق وأن الحــل األمثــل الــذي تســتطيع القيــام بــه هــو ثــورة وحركــة‬
‫تمرديــة علــى الجميــع دون أي اســتثناء‪.‬‬
‫نجحــت تلــك العقــول بإقناعهــا ومــن ثــم قالــوا لهــا بأنــه حــان الوقــت لتظهــر‬
‫للعالــم مــن هــي املـرأة مــع مالحظــة صغيــرة مهمــة جــدا وهــي أن هــذا الظهــور‬
‫يجــب أن يكــون الفتــا لألنظــار! ســمعت امل ـرأة االوامــر وطبقــت املالحظــة‬
‫جيــدا وبــدأت بعدهــا تظهــر للعالــم بلباســا يقصــر طولــه وينقــص ســتره‬
‫يومــا بعــد يــوم!!‬
‫فجــأة بــدأ العالــم بالفعــل يهتــم ويتعاطــف مــع امل ـرأة ويهتــف الســمها وكأن‬
‫ظهورهــا األخيــر غيــر كل �شــيء!!‬

‫ولكــن فــي الحقيقــة هــي أن بظهورهــا األخيــر لــم يــرى العالــم امل ـرأة كإنســانة‬
‫ومخلــوق طبيعــي لديــه قلــب وعقــل ومشــاعر مثــل االخريــن‪ ،‬بــل رأوا شــيئا‬
‫آخــر كليــا‪ ،‬شــيئا ال عالقــة لــه باإلنســانية وال حتــى بامل ـرأة نفســها!‬

‫‪51‬‬
‫عادت العقول البشــرية املشــرعة للمرأة مرة اخرى بأوامر ومهام جديدة‬
‫وهــي إرغــام امل ـرأة باالســتمرار فــي الظهــور للعالــم وإلفــات أنظارهــم أكثــر‬
‫فاكثــر حتــى ال تنطفــئ شــعلة التعاطــف واالهتمــام التــي بــدرت منهــم!‬

‫بــدأت تلــك العقــول بإقناعهــا بــأن قيمتهــا الحقيقيــة اآلن تكمــن فــي جســدها‬
‫وشــكلها الخارجــي وحينهــا بــدأت امل ـرأة فــي االهتمــام بجســدها وشــكلها‬
‫الخارجــي بشــكل جنونــي وبــدأت تجــري بعــض التصحيحــات والعمليــات‬
‫التجميليــة الالزمــة وغيــر الالزمــة خوفــا علــى فقــدان قيمتهــا!‬

‫انتقلــت هــذه العقــول البشــرية بعــد ذلــك فــي إدخــال املـرأة الــى عالــم املوضــة‬
‫والهائهــا بالصيحــات املتجــددة واصبــح تركيــز املـرأة بعــد ذلــك كلــه يذهــب‬
‫للشــهرة واالســتعراض وكســب اكبــر قــدر ممكــن مــن االهتمــام والتعاطــف‬
‫ومــن ضمــن هــذه املجــاالت التــي أدخلــت بهــا هــي مجــال «اإلباحيــة» وحينهــا‬
‫بــدأ تصويــر امل ـرأة بشــكل عــاري تمامــا كنــوع مــن أنــواع االســتعراض‬
‫الحديــث‪ ،‬فاللبــاس الــذي كان يقصــر طولــه وينقــص ســتره يومــا بعــد يــوم‬
‫قــد وصــل ملرحلتــه االخيــرة وهــي خلــع هــذه املالبــس بأكملهــا!‬

‫بــدأ بعــد ذلــك تصويــر امل ـرأة مــع الرجــل بعــض املشــاهد الجنســية تحــت‬
‫مســمى تعليــم ونشــر الوعــي بيــن الشــباب والشــابات وأن هــذا العمــل يعتبــر‬
‫عمــا خيريــا وســوف يســاعد العديــد مــن النــاس خصوصــا ملــن هــم مقبليــن‬
‫ُ‬
‫علــى الــزواج وســوف تشــكر علــى هــذا الفعــل‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫انطلقــت املـرأة بعدهــا لتصــور ممارســات جنســية عنيفــة جــدا تدنــس مــن‬
‫خاللها كرامتها وتقتل أنوثتها وحياءها وتمحي صورة اإلنســانية منها وهذه‬
‫املشــاهد تــم عملهــا تحــت مســمى «تمثيــل» فأقنعتهــا تلــك العقــول البشــرية‬
‫مجــددا بــأن هــذه املشــاهد لــن تؤثــر علــى نفســيتها وحياتهــا اطالقــا فعملهــا‬
‫هــذا ليــس إال عمــل ســينمائي شــريف!‬

‫بــدأت املـرأة تشــعر بــاألذى وعــدم رضــا الــذات بمــا تفعلــه وبمــا يجــري معهــا‬
‫وبــدأت العديــد مــن النســاء تســتيقظ مــن غفلتهــا واســتيعاب األفعــال‬
‫التــي أجبرتهــا بعــض العقــول البشــرية علــى فعلهــا طــوال ســنوات حياتهــا‬
‫وهــذا االســتيقاظ حــدث معــه مشــاكل نفســية مزمنــة! اســتمرت معانــاة‬
‫النســاء حتــى قــرر بعضهــم فــي نهايــة املطــاف بقتــل أنفســهم والســبب يعــود‬
‫إلــى اكتشــافهم املتأخــر بأنهــم لــم يســتعيدوا قيمتهــم بــل فقدوهــا وفقــدوا‬
‫حياتهــم بأكملهــا لصالــح تلــك العقــول البشــرية التــي اصبحــت تتاجــر بهــم!‬

‫ولألســف أرقــام هــؤالء الضحايــا فــي تزايــد مســتمر نظـ ًـرا للحاجــة الفطريــة‬
‫لــدى اإلنســان إلــى اتبــاع منهــج أو نظــام فــي حياتــه فبالتالــي املـرأة مجبــرة علــى‬
‫اتخــاذ ق ـرار ملســار حياتهــا وفــي الحقيقــة ال يوجــد امامهــا اال خياريــن‬
‫امــا اتبــاع منهــج ربهــا او اتبــاع تلــك املناهــج البشــرية االخــرى ومــع االســف‬
‫مجــددا ال ت ـزال امل ـرأة تعتقــد إلــى اآلن بــأن رفضهــا ملنهــج ربهــا واتبــاع تلــك‬
‫املناهــج البشــرية املختلفــة ســوف يجعلهــا تكســب حريتهــا‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ولكــن مــاذا عــن املنهــج الســماوي الــذي رفضتــه بعــض النســاء؟ املنهــج‬
‫الــذي أتــى مــن صانــع امل ـرأة وخالقهــا وخالــق العالــم بأكملــه‪ ،‬مــاذا اختــار‬
‫لهــا خالقهــا؟‬
‫حفــظ قيمتهــا كإنســانة أوال ثــم كمســلمة ثانيــا‪ ،‬جعــل قيمتهــا تكمــن فــي‬
‫إيمانهــا وعلمهــا وحيائهــا وتربيــة أوالدهــا‪ ،‬ســهل عليهــا أمــور دينهــا بالكامــل‬
‫ً‬
‫أكثــر مــن الرجــل ومــع ذلــك جعــل أجرهــا متســاويا مــع أجــر الرجــل‪ ،‬ســقط‬
‫عنها تكاليف كثيرة ووضع حقوق لها ال عليها‪ ،‬أمرها بالتستر واالحتشام‬
‫وعــدم إبــداء زينتهــا وذلــك أز ـكـى لهــا‪.‬‬
‫أعطاهــا مهمــة أساســية واحــدة بعيــدا عــن مهــام الرجــل الشــاقة الــذي‬
‫وكلــه هللا فيهــا‪ ،‬وهــذه املهمــة هــي فقــط تلبيــة رغبتهــا وغريزتهــا الحقيقيــة‬
‫وهــي االمومــة ولكــن تلبيتهــا بالشــكل الصحيــح مــن خــال تربيــة أبنائهــا‬
‫علــى أفضــل وجــه وصناعــة أجيــاال عظيمــة تعمــر هــذه االرض وتكــون هــي‬
‫الســبب فــي بنــاء هــذه األرض وازدهارهــا‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وكمــا أن للم ـرأة حقــوق فــي اإلســام كذلــك للرجــل حقــوق ايضــا فكالهمــا‬
‫أخــذ حقــه ونصيبــه فــي هــذه الدنيــا‪.‬‬
‫فهــذا املنهــج الســماوي لــم ينــزل إال بحكمــة خالــق حكيــم وخبيــر ال بحكمــة‬
‫مخلــوق يســعى لتحقيــق مصالحــه!!‬
‫وأي تقصيــر يبــدر مــن الرجــل أو امل ـرأة فــي أداء هــذه الحقــوق واألمانــات‬
‫واملهــام فهــم محاســبون أمــام ربهــم ســواء ‪ ..‬فالرجــل وامل ـرأة صحيــح أنهــم‬
‫مختلفــون فــي مهامهــم فــي الدنيــا ولكنهــم متســاوون باألجــر فــي اآلخــرة‪.‬‬

‫‪ ..‬انتهى ‪..‬‬

‫‪55‬‬
‫الصال َحــات مــن َذ َكــر َأ ْو ُأ َنثـ ٰـى َو ُهــوَ‬
‫﴿ َو َمــن َي ْع َمـ ْـل مـ َـن َّ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ ْ ٌ َ ُ َٰ َ َ ْ ُ ُ َن ْ َ َّ َ َ َ ُ ْ َ ُ َن َ‬
‫مؤ ِمــن فأول ِئــك يدخلــو الجنــة واَل يظلمــو ن ِقيــرا﴾‬
‫[ النساء‪]124 :‬‬

‫‪56‬‬
‫الباب الرابع‬
‫واألخير‬
‫‪ ..‬من أنا؟ ‪..‬‬

‫‪57‬‬
‫ســؤال كنت أطرحه على نف�ســي ســابقا في كل مرة أرتكب فيها خطأ‪ ،‬في كل‬
‫مــرة أرتكــب فيهــا معصيــة أو ذنــب تبــت منــه فــي الســابق وفــي كل مــرة كنــت‬
‫أعــود فيهــا إلــى العــادات والســلوكيات الســيئة التــي ســبق وتخلصــت منهــا!‬
‫كثيــرة املـرات التــي ســألت فيهــا نف�ســي هــذا الســؤال‪ ،‬وكلمــا حاولــت اإلجابــة‬
‫عليــه أجــد نف�ســي غارقــا باألخطــاء والذنــوب مجــددا!!‬
‫فــي أحــد األيــام قــررت اإلقــاع عــن بعــض العــادات الســيئة التــي نشــأت لــدي‬
‫منــذ الصغــر والســبب الــذي جعلنــي أتخــذ هــذا القـرار هــو تقدمــي الســريع‬
‫في العمر إذ بدأت أالحظ أن السنة في توقيتي أصبحت كالشهر‪ ،‬والشهر‬
‫أصبــح كاألســبوع واألســبوع أصبــح كاليــوم وأدركــت ذلــك بعدمــا شــاهدت‬
‫زيــادة كبيــرة فــي املســؤوليات امللقــاة علــى عاتقــي والتغي ـرات العديــدة‬
‫التــي تحــدث فــي هــذا العالــم‪ ،‬فــكان يجــب علــي أن أبــدأ بصنــع شــخصية‬
‫منضبطــة تتناســب مــع هــذه املســؤوليات وتســتطيع أيضــا العيــش مــع هــذا‬
‫العالــم املتجــدد‪ ،‬فبــدأت حينهــا القيــام ببعــض اإلصالحــات والتحســينات‬
‫علــى شــخصيتي وحياتــي باألكمــل‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫ً‬
‫كنــت أتخيــل فــي البدايــة أن التغييــر ســيكون أمـ ًـرا ســهال يمكــن تحقيقــه‬
‫فــي ليلــة واحــدة أو ربمــا ليلتيــن‪ ،‬ولكــن ســرعان مــا تحولــت هــذه اآلمــال إلــى‬
‫ص ـراع وحــرب اســتمرت لســنوات وســنوات!!‬
‫ففي كل مرة كنت أصلح فيها أمرا أخطأ بعدها مباشرة‪...‬‬
‫وفي كل مرة كنت أتوب فيها أع�صي بعدها فورا دون أي تردد‪...‬‬
‫كل إصالح كان يتبعه خطأ! ‪ ..‬وكل توبة كانت تلحقها معصية!‬
‫الوقت بدأ يم�ضي وينفذ بشــكال أســرع من الســابق وأنا ال زلت مســتمرا في‬
‫التقــدم خطــوة واحــدة إلــى االمــام ومــن ثــم التراجــع بعدهــا خطــوات للــوراء!‬
‫فــا �شــيء كان يتغيــر وال �شــيء كان يحــدث إطالقــا‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫فبــدأت اتســاءل حينهــا ‪ :‬هــل يعيــش اإلنســان طــوال فت ـرات حياتــه فقــط‬
‫ويحســن مــن نفســه؟ أم أن هنالــك هــدف وغايــة حقيقيــة‬ ‫ّ‬ ‫حتــى يتغيــر‬
‫يســعى لتحقيقهــا؟ وماهــي تلــك الغايــة التــي يطمــح اإلنســان أن يصــل لهــا‬
‫طــوال فتــرة عمــره؟‬
‫واذا كان اليوجــد إال غايــة واحــدة فــي هــذه الحيــاة فاإلشــكالية التــي‬
‫تطــرح نفســها هــي‪ :‬ملــاذا هنــاك تفــاوت واختــاف كبيــر فــي أعمارنــا إذا كان‬
‫ً‬
‫الجميــع حقــا يســعى لنفــس الغايــة؟‬
‫من أنا؟ وماهي غايتي؟‬

‫۞۞۞۞۞۞۞‬

‫‪60‬‬
‫الكثيــر منــا لديــه شــكوك حــول ســبب خلقــه وحــول هدفــه وغايتــه مــن‬
‫الحيــاة فــي حيــن أن اآليــات الســماوية أكــدت لنــا بــأن ســبب خلــق اإلنســان‬
‫والغايــة الحقيقيــة منــه هــي العبــادة املطلقــة هلل الواحــد األحــد‪ ،‬ولكــن ال‬
‫ً‬
‫يزال اإلنســان تائها في طريقه في هذه الحياة فال يعلم ملاذا يعيش ســنوات‬
‫محــددة فــي حياتــه‪.‬‬
‫ملــاذا يعيــش ‪ 40‬ســنة أو ‪ 50‬ســنة أو أي مــدة كانــت ثــم يمــوت!! ملــاذا هــذه‬
‫املــدة تحديــدا؟ وملــاذا لــم يكــن عمــر اإلنســان واحـ ًـدا بحيــث كل البشــرية‬
‫تمــوت فــي ســن معيــن وتنتهــي قصــة هــذا املخلــوق!‬
‫فمثــا نــرى أطفــاال يفارقــون الحيــاة بعــد والدتهــم مباشــرة‪ ،‬ونــرى أيضــا‬
‫أشــخاصا تمــوت بعــد مــرور ســنة واحــدة فقــط مــن حياتهــم ومنهــم مــن‬
‫يمــوت فــي ســن شــبابه وآخريــن اســتطاعوا الوصــول إلــى أرذل العمــر!‬

‫‪61‬‬
‫وهــذا األمــر يؤكــد لنــا بــأن بجانــب غايتنــا الكبــرى واألساســية وهــي عبادة هللا‬
‫وحــده‪ ،‬هنــاك بعــض الرســائل واملهــام التــي ُخلـ َـق اإلنســان ً‬
‫أيضــا مــن أجــل‬ ‫ِ‬
‫تحقيقهــا وبحكمــة مــن ربــه تــم اختيــار فتــرة زمنيــة محــددة يمكــن لإلنســان‬
‫مــن خاللهــا أن ينجزهــا‪ ،‬فمنــا مــن مهمتــه طلــب العلــم مــن أوســع أبوابــه‬
‫واملســاهمة فــي نشــره وتعليمــه ومنــا مــن مهمتــه تربيــة أوالد صالحيــن ســوف‬
‫ينفعــو العالــم فــي املســتقبل‪ ،‬وآخريــن مهمتهــم تقديــم اختراعــات وتقنيــات‬
‫جديــدة ســتفيد البشــرية وتســهل حياتهــم وغيرهــا مــن املهــام التــي إذا نجــح‬
‫اإلنســان فــي تحقيقهــا بطريقــة تر�ضــي خالقــه فإنهــا ترفعــه درجــة فــي الدنيــا‬
‫ودرجــات فــي اآلخــرة‪.‬‬
‫وال يوجــد أي شــخص يمــوت فــي هــذه الدنيــا دون أن يوصــل رســالته أو‬
‫يحقــق أهدافــه بجانــب غايتــه وإن حــدث ذلــك فهــذا إمــا بســبب تقصيــره‬
‫وانشــغاله عــن مهامــه وأهدافــه أو أنــه اختــار املهــام واألهــداف الخطــأ ولــم‬
‫تكــن أهدافــه الحقيقيــة مــن األســاس‪ .‬فــاهلل ســبحانه وتعالــى لــم يخلــق‬
‫الحيــاة بعبثيــة كمــا يدعــي البعــض بــل خلقهــا بحكمــة ودقــة ولغايــة واضحــة‬
‫تجعــل لــكل إنســان هــدف واضــح يجــري خلفــه‪ ،‬حتــى الطفــل الصغيــر او‬
‫املولــود الــذي توفــاه هللا قبــل أن يــرى الحيــاة أعطــاه هللا هدفــا واضحــا‬
‫ومهمــة محــددة وهــو بــأن يمــوت بيــن يــدي والديــه حتــى يكــون رحمــة وأجـرا‬
‫لهمــا وأن يكــون شــفيعا لهمــا بــإذن هللا يــوم القيامــة‪...‬‬
‫فــإذا هــذا املولــود الصغيــر أكمــل مهمتــه فــي الحيــاة قبــل أن يــرى ضــوء‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الشــمس فمــاذا عــن اإلنســان العاقــل الــذي ال ي ـزال حيــا ومســتمرا فــي‬
‫االســتيقاظ كل يــوم؟‬

‫‪62‬‬
‫ً‬
‫ـات وأهدافــا حقيقيــة يرغــب فــي تحقيقهــا‬
‫كل إنســان يحمــل فــي داخلــه رغبـ ٍ‬
‫ولكــن دائمــا مــا تعيقــه رغباتــه املزيفــة ونتيجــة لذلــك أصبــح اإلنســان فــي‬
‫هــذه الحيــاة ال يعلــم فقــط مــا هــي رغبتــه وأهدافــه الحقيقيــة بــل أصبــح ال‬
‫يعلــم مــن هــو أصــا؟‬

‫وأحــد األســباب التــي جعلــت اإلنســان يفقــد االتصــال بذاتــه ويســعى‬


‫الكتشــاف أهدافــه ورغباتــه الحقيقيــة هــي انشــغاله املســتمر والالوعــي‬
‫عنهــا‪ ,‬ففــي ظــل هــذه الحيــاة املزدحمــة واملليئــة بامللهيــات واملشــتتات‬
‫املتجــددة أصبــح إنســان هــذا العصــر مدمــن علــى إضاعــة الوقــت ومدمــن‬
‫علــى تجاهــل مســؤولياته ومهامــه اليوميــة فكيــف مــن املمكــن أن يتفــرغ‬
‫أصــا الكتشــاف نفســه وأهدافــه وســط هــذا االزدحــام كلــه!‬

‫فالوقــت أصبــح أحــد أعــداء اإلنســان فــي هــذا العصــر إذ يســعى اإلنســان‬
‫جاهـ ًـدا بشــكل مســتمر لجعــل أيامــه تمــر بســرعة بــأي طريقــة ممكنــة حتــى‬
‫يصــل إلــى أيامــه الجديــدة دون أن يــدرك أن أيامــه الجديــدة هــي ليســت إال‬
‫تكـرارا أليــام مضــت فــي الســابق!‬
‫وتســتمر هــذه الحلقــة مــع االنســان حتــى يصــل إلــى أواخــر عمــره دون أن‬
‫يشــعر كيــف وصــل إلــى هنــا ومــاذا حقــق ومــاذا أنجــز؟‬

‫‪63‬‬
‫فالقضيــة ليســت طيلــة عمــر‪ ،‬القضيــة هــي معرفــة الغايــة الوجوديــة قبــل‬
‫انقضــاء هــذا العمــر‪.‬‬
‫وطيلة العمر بالتأكيد نعمة كبيرة إذا تم استثمارها في طاعة هللا والعمل‬
‫الصالــح‪ ،‬فهــذا يمنــح اإلنســان الفرصــة لتحقيــق النجــاح والســعادة فــي‬
‫الدنيــا واآلخــرة‪ ،‬أمــا إذا أســرف اإلنســان واســتهان بوقتــه وأضــاع عمــره كلــه‬
‫بعيــدا عــن ربــه فبذلــك تتحــول هــذه النعمــة إلــى نقمــة فــي دنيــاه وتصبــح‬
‫حجــة عليــه يــوم القيامــة‪.‬‬
‫وهللا ســبحانه وتعالــى بحكمتــه يزيــد فــي عمــر عبــاده ليبتلــي ويختبــر إيمانهــم‬
‫وصبرهــم وبرحمتــه الواســعة أيضــا يمــد بعمــر الكافريــن الذيــن كفــروا‬
‫وأشــركوا بــه ويمنحهــم أكثــر مــن فرصــة ملراجعــة أنفســهم والبحــث عــن‬
‫الســبب الحقيقــي لغايــة خلقهــم ووجودهــم فــي هــذه الحيــاة‪.‬‬
‫وكثيــر منــا مــن رأى نــاس حاربــوا هللا وعصــوه ومــع ذلــك أعطاهــم الرحمــن‬
‫طيلــة العمــر فمنهــم مــن عــاش ‪ ٧٠‬عامــا ومنهــم مــن وصــل ل ‪ ٨٠‬مــن عمــره‬
‫ومنهــم مــن اســتطاعه برحمــة ربــه أن يصــل إلــى أبعــد مــن تلــك األرقــام ومــع‬
‫ذلــك ال أحــد منهــم عــادا النظــر إلــى حياتــه وإلــى نفســه‪ ،‬اســتمروا فــي كفرهــم‬
‫حتــى قبــض هللا أرواحهــم‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫إن حياة اإلنسان في الحقيقة ليست إال سلسلة مستمرة من االمتحانات‬
‫التــي يمتحــن بهــا ولــكل إنســان ورقــة امتحــان تختلــف أســئلتها عــن اإلنســان‬
‫اآلخــر‪ ،‬فمنــا مــن يمتحــن باملــرض ومنــا مــن يمتحــن بالعافيــة ومنــا مــن‬
‫يمتحــن بالغنــى ومنــا مــن يمتحــن بالفقــر وغيرهــا مــن االمتحانــات التــي لــن‬
‫تظهــر نتائجهــا إال بعــد املــوت‪.‬‬
‫فــاهلل ســبحانه وتعالــى يمتحــن عبــاده بامتحانــات مختلفــة لحكمــة هــو‬
‫يعلمهــا وبحســب الزمــان واملــكان الــذي يعيــش فيــه االنســان‪ ،‬فمثــا فــي‬
‫العصــور الســابقة امتحــن هللا عبــاده املؤمنيــن فــي الخــروج إلــى ســاحات‬
‫املعــارك واملشــاركة فــي الجهــاد بأرواحهــم وأجســادهم لنصــرة اإلســام‬
‫واملســلمين‪.‬‬
‫أما إنسان هذا العصر فامتحنه هللا بجهاد أكبر وهو جهاد النفس والذي‬
‫يعد الخطوة األولى واألساسية نحو تحقيق النصر لإلسالم واملسلمين‪.‬‬
‫فجهــاد النفــس هــو الجهــاد الــذي فرضــه هللا علينــا جميعــا‪ ،‬جهــاد أداء‬
‫الصلــوات فــي املســاجد فــي زمــن كثــرت فيــه امللهيــات‪ ،‬جهــاد ق ـراءة الق ـرآن‬
‫وســماعه فــي زمــن كثــرت فيــه األغانــي‪ ،‬جهــاد غــض البصــر فــي زمــن التعــري‬
‫جهــاد فهــم علــوم الديــن والتعمــق فيهــا فــي زمــن كثــرت فيــه املشــتات وغيرهــا‬
‫مــن الجهــادات والحــروب الكثيــرة التــي تــدار فــي ســاحة معركــة واحــدة فقــط‬
‫وهــي رأس اإلنســان‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫واإلنســان إذا غفــل عــن هــذه املعــارك والحــروب املصيريــة وتخلــى عــن أداء‬
‫واجباتهــا فحتمــا ســوف يضيــع فــي هــذه الدنيــا ويصبــح مهزومــا تائهــا فيهــا‬
‫لعــدم امتالكــه عقيــدة حقيقيــة يحتمــي بهــا!‬
‫فاملجهــادة املســتمرة أمــر ضــروري وعلــى املؤمــن تجديــد إيمانــه وتوبتــه‬
‫ً‬
‫يوميــا نظـ ًـرا ألن اإليمــان بطبيعتــه متقلــب حيــث مــن املمكــن أن يــزداد أو‬
‫ينقــص أو حتــى يتال�شــى ويختفــي فــي أي لحظــة وكأنــه لــم يكــن حاض ـرا فــي‬
‫القلــب مــن قبــل‪.‬‬
‫ومــن األمــور التــي تســاعد املؤمــن فــي الحفــاظ علــى إيمانــه وزيادتــه هــي أذكار‬
‫الصبــاح واملســاء‪ ،‬الق ـراءة اليوميــة للق ـرآن‪ ،‬أداء الصــاة فــي أوقاتهــا ‪،‬‬
‫التدبــر والتفكــر‪ ،‬ذكــر هللا وغيرهــا مــن العبــادات ‪ ..‬واألمــر اآلخــر هــو أن‬
‫هــذه العبــادات ال تســهم فقــط فــي الحفــاظ علــى إيمــان املؤمــن‪ ،‬بــل إنهــا‬
‫ســوف تحفــظ وقتــه وحياتــه أيضــا‪.‬‬
‫فمثــا ق ـراءة أذكار الصبــاح واملســاء واملداومــة عليهــا والعمــل بهــا يمنــح‬
‫اإلنســان شــعورا بأنــه مســتعدا تمامــا لهــذا اليــوم الــذي ســوف يحيــي فيــه‬
‫وكأن قدوة البشرية محمد صلى هللا عليه وسلم يعلمنا أن هنالك فترتين‬
‫ً‬
‫فــي اليــوم الواحــد‪ ،‬اليــوم ليــس مكونــا فقــط مــن ســاعات قصيــرة ســوف‬
‫ينتهي منها اإلنسان على نحو عشوائي ثم يذهب لليوم الذي يليه ‪ ..‬اليوم‬
‫الواحــد مكــون مــن فترتيــن كاملتيــن (فتــرة صبــاح وفتــرة مســاء) بإســتطاع‬
‫اإلنســان اإلنجــاز العديــد والكثيــر مــن خاللهــا إذا اســتعد لهــا‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫وبمثــل هــذه األعمــال الصغيــرة إذا داوم عليهــا املؤمــن فإنــه ينجــو خــال‬
‫يومــه بعــد توكلــه علــى هللا ويــزداد قربــه منــه يومــا بعــد يــوم وبذلــك يصبــح‬
‫املؤمــن مؤمنــا ويم�ســي مؤمنــا بــإذن هلل‪.‬‬

‫‪ ..‬انتهى ‪..‬‬

‫‪67‬‬
‫﴿ َأ ْم َحسـ ْـب ُت ْم َأن َت ْد ُخ ُلــوا ْال َج َّنـ َـة َو َمَلَّــا َي ْع َلــم َّ ُ‬
‫هَّللا َّالذيــنَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْ ََ َْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫جاهــدوا ِمنكــم ويعلــم الص ِاب ِريــن﴾‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫[ سورة آل عمران‪]142 :‬‬

‫‪68‬‬

You might also like