You are on page 1of 111

‫زغرودة تليق بجنازة‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫زغرودة تليق بجنازة‬


‫أمحد إبراهيم الرشيف‬ ‫طبعة أولى الهيئة املصرية العامة للكتاب ‪٢٠٢٢‬‬

‫ص‪ .‬ب ‪ ٢٣٥‬رمسيس‬


‫‪ ١١٩٤‬كورنيش النيل رملة بوالق القاهرة‬
‫الرمز البريدي‪١١٧٩٤ :‬‬
‫تليفون‪ )٢٠٢( ٢٥٧٧٧٥١٠٩ :‬داخلي ‪١٤٩‬‬
‫فاكس‪)٢٠٢( ٢٥٧٦٤٢٧٦ :‬‬

‫‪GENERAL EGYPTIAN BOOK ORGANIZATION‬‬


‫‪P.O.Box: 235 Ramses.‬‬
‫‪1194 Cornich El Nil Boulac Cairo‬‬
‫رقم اإليداع بدار الكتب ‪٢٠٢٢/٢٧٦٦٧‬‬ ‫‪P.C.: 11794‬‬
‫‪Tel.: +(202) 25775109 Ext. 149‬‬
‫‪I.S.B.N 978-977-91-4088-4‬‬ ‫‪Fax: +(202) 25764276‬‬
‫‪website: www.egyptianbook.org.eg‬‬
‫‪E-mail: ketabgebo@gmail.com‬‬
‫اآلراء الواردة فى هذا الكتاب ال تعبر بالضرورة عن توجه الهيئة‪،‬‬ ‫‪www.gebo.gov.eg‬‬
‫بل تعبر عن رأى املؤلف وتوجهه فى املقام األول‪.‬‬

‫حقوق الطبع والنشر محفوظة للهيئة املصرية العامة للكتاب‪.‬‬ ‫الطباعة والتنفيذ‬
‫يحظر إعادة النشر أو النسخ أو االقتباس بأية صورة إال بإذن‬ ‫ة ت‬ ‫� ئة ل ة‬
‫كتابى من الهيئة املصرية العامة للكتاب‪ ،‬أو باإلشارة إلى املصدر‪.‬‬ ‫اله��� ا مص ي‬
‫ر�� العام� للك� ب‬
‫ا�‬ ‫مطا ب ع ي‬
‫التصحيح اللغوي‬ ‫اإلخراج الفني‬
‫سيد عبداملنعم‬ ‫أميرة منتصر‬
‫زغرودة تليق بجنازة‬
‫«مائة حكاية»‬

‫قصص‬

‫أمحد إبراهيم الرشيف‬

‫‪2022‬‬
‫إهداء‬
‫إىل‬

‫إبراهيم‪ ،‬حبيبة‪ ،‬سارة‪ ،‬حممد‪ ،‬فاطمة‪ ،‬عبد الرمحن‪ ،‬أمنية‪ ،‬ياسمني‪،‬‬


‫حنني‪ ،‬بسملة‪ ،‬رقية‪ ،‬هنا‪ ،‬رنا‪ ،‬هاجر‪ ،‬آدم‪ ،‬نورهان‪ ،‬زهرة‪ ،‬عيل‪،‬‬
‫مي‪ ،‬حممود‪ ،‬أمحد‪ ،‬عبد اهلل‪ ،‬إسامعيل‪ ،‬عمر‪..‬‬

‫‪4‬‬
‫إهداء خاص‬

‫«هنَا عبده»‬
‫إىل َ‬
‫أم أبيها‬
‫وإىل عيوهنا املندَّ اة باملحبة‬

‫‪5‬‬
‫فضيحة‬

‫وأنا أهوي من الدور العارش يف خط مستقيم إىل الرصيف‪ ،‬قاصدً ا‬


‫السقوط أمام باب العامرة متا ًما‪ ،‬ألُفسد عىل اجلميع صباحهم‪.‬‬
‫حاولت الرتاجع‪ ،‬وآملت لو أعلق يف ٍ‬
‫زينة رمضانية منسية أو متتد يدي‬ ‫ُ‬
‫لفرع شجرة بعيد‪ ،‬مل يكن هناك يش ٌء وال حتى حبل غسيل‪ .‬املبنى أملس‬
‫متاما وبال نتوءات‪ ،‬والصبح مل ِ‬
‫يأت بعد‪.‬‬ ‫ً‬
‫أعرف أن أمي ستغضب جدًّ ا‪ ،‬ستقول أين أحب الفضائح مثل‬ ‫ُ‬ ‫كنت‬
‫عمتي التي أشعلت يف نفسها النار‪ ،‬ثم خرجت جتري يف الشارع‪ ،‬ومل أولد‬
‫كتو ًما مثل أيب الذي تناول كمي ًة كبري ًة من املهدئات ودخل للنوم‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫الزيارة‬

‫بشائر الفجر‪ ،‬لكنها‬


‫َ‬ ‫تتنصت‬
‫ُ‬ ‫للمرة الثالثة‪ ،‬يف هذه الليلة‪َ ،‬ه َّبت فزع ًة‬
‫املرتني السابقتني اعتدلت يف جلستها‪ ،‬ومدت يدها حتت «وسادهتا»‪،‬‬ ‫غري َّ‬
‫ٍ‬
‫خيط حريري قدي ٍم‬ ‫تقبض عىل‬
‫ويسارا‪ ،‬قبل أن َ‬ ‫وعبثت أصابعها يمينًا‬
‫ً‬
‫جيمع مفتاحني م ًعا‪.‬‬
‫نائم أمامها مل يستفق بعد‪،‬‬
‫غادرت املصطبة‪ ،‬وكان صندوقها الطيني ً‬
‫مالبس عسكرية‬ ‫ٍ‬
‫وصورة لشاب يف‬ ‫حمتف ًظا يف داخله ببعض النقود القليلة‪،‬‬
‫َ‬
‫ُّ‬
‫الكث مل يمنع ابتسامته‪.‬‬ ‫وىف يده بندقية تُشعره بالثقة يف نفسه‪ ،‬بينام شاربه‬
‫لت املفتاح بلعاهبا ووضعته يف قلب القفل‪ ،‬مل تكن حتتاج إىل ضوء‬‫ب َّل ْ‬
‫لتعرف مكان الصورة التي التقطها ابنها الشاب منذ ‪20‬عا ًما‪.‬‬
‫واستعدت لزيارة قربه‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ملست مالحمه بيدها‪ ،‬ثم أعادت الصورة‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫احلب مجيل‬

‫مصاب برسطان‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫‪-‬‬
‫االمتقاع الذي ظهر عىل وجهها‪ ،‬ومل أتوقع عنفها يف سحب‬
‫َ‬ ‫توقعت‬
‫يدها من كفي‪.‬‬
‫‪ -‬سأعيد التحاليل ربام هناك خطأ‪.‬‬
‫وفتحت حقيبتها وأغلقتها‪ ،‬وأعلن تليفوهنا وصول‬
‫َ‬ ‫نظرت يف ساعتها‪،‬‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫عدد من إشعارات الفيس بوك الزرقاء‪.‬‬
‫‪ -‬الرسطان ال يعدي‪.‬‬
‫رجفتها بدأت من شفتيها وانتقلت إىل عنقها وواصلت الزحف‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫األرض‬
‫َ‬ ‫جتاه بقية اجلسد‪ ،‬وأظافرها تنقر املائدة‪ ،‬وحذاؤها يدق‬
‫ٍ‬
‫مزعج‪.‬‬
‫‪ -‬ربام أختفي ىف املستشفى فرتة‪.‬‬
‫وضوحا منها‪،‬‬
‫ً‬ ‫حاو َلت أن تقول شي ًئا‪ ،‬لكن الكلامت كانت أكثر‬
‫فهربت من لساهنا وذاكرهتا‪ ،‬وعندما رن تليفوهنا بنغمة «احلب مجيل»‬
‫لليىل مراد‪ ،‬كتمت صوته‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أمومة‬

‫‪ -‬قل أشهد أال إله إال اهلل‪.‬‬


‫* أشهد أال‪ ..‬أشهد أال إله إال اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬قل أشهد أن حممدً ا رسول اهلل‪.‬‬
‫* أشهد أن حممدً ا‪ ..‬أشهد أن حممدً ا رسول اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬قل أموت عىل دين أبوي وجدي واملسلمني‪.‬‬
‫* آآآآآ‪ ..‬أموت عىل دين أبوي‪.‬‬
‫‪ -‬قل وجدي واملسلمني‪.‬‬
‫* وجدي واملسلمني‪.‬‬
‫كانت جديت العجوز تضم إىل صدرها أيب الشاب‪ ،‬الذي مرت تسعة‬
‫حتول إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫أنني وجعه يعلو عىل كل صوت‪ ،‬وجسده َّ‬
‫أشهر عىل مرضه‪ُ .‬‬
‫شبح ناتئ العظام‪.‬‬
‫هي تُل ّقنه الشهادة‪ ،‬وهو يردد خلفها بصوته الواهن وعيناه الزائغتان‪.‬‬
‫ويداه الضعيفتان حتاوالن أن حتيطا كتفيها املهتزتني من البكاء‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫حلم‬

‫كنت عار ًيا‪ ،‬ومع ذلك مل أشعر باخلجل‪ ،‬وقد تل َّف ُت حويل بح ًثا عن‬
‫آخرين فلم أجد‪.‬‬
‫البيوت مهجورة‪ ،‬واألبواب والشبابيك تصفعها الريح‪ ،‬والطريق‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫الذى أسري فيه مستقيم وغري ممهد‪ ،‬وفجأة أبرصت صخرة مرتفعة بعض‬
‫اليشء‪ ،‬فرست إليها‪.‬‬
‫املكان بدائي‪ ،‬ال يشء هنا سوى حجارة ورمال وقطع خشبية قديمة‬
‫مبكرا» وانتظرت‪.‬‬
‫أكلتها الشمس‪« ،‬يبدو أنني وصلت ً‬
‫شعرت بامللل فدرت حول الصخرة‪ ،‬وبالربد فامرست بعض التامرين‪،‬‬
‫وبالوحدة فرسمت قطة عىل األرض‪ ،‬وبرغبتي ىف املغادرة فأعطيت‬
‫ظهري للصخرة الصغرية وعدت يف الشارع الطويل غري املمهد‪ ،‬والريح‬
‫ال تزال تصفع كل يشء‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ثأر‬

‫يرشف شايه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جيلس عىل مقهى سكندري بانتظار قتله عىل يد صديقه‪،‬‬
‫بينام صديقه يبتلع الدخان‪ ،‬وينظران م ًعا إىل البحر الواسع‪ ،‬ونبت بينهام‬
‫حوار أخري‪:‬‬
‫‪ -‬ذات صباح وبعد ‪20‬عا ًما أدركت أال فائدة من الفرار‪.‬‬
‫‪ -‬شعرت يب قري ًبا منك؟‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬بل جاء وقت التوقف‪.‬‬
‫‪ -‬توقفت ألقتلك؟‬
‫‪ -‬ألسرتيح‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا ماذا أفعل بعدك؟!‬
‫‪ -‬عد للبلدة وقل هلم أخذت بالثأر‪.‬‬
‫أيضا أفر بالبحث عنك‪.‬‬
‫‪ -‬مل يتبق أحد ألقول له‪ ..‬فأنا ً‬

‫‪12‬‬
‫رسائل حب‬

‫أيضا‪.‬‬
‫تستطيع أن تشعل العامل وقلبي ً‬ ‫‪ِ -‬‬
‫يدك‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫أتنفسك طوال الوقت‪.‬‬ ‫‪ -‬أمتنى أن‬
‫ِ‬
‫عيناك مرساي الوحيد يف هذه الدنيا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬أنت احلورية الوحيدة اهلاربة من اجلنة‪.‬‬
‫عيل كي هيدأ قلبي ويطمئن‪.‬‬
‫‪ -‬سلمي َّ‬
‫‪ -‬أنت شجرة الظل الوحيدة يف حيايت‪.‬‬
‫غني بحبك‪.‬‬
‫‪ -‬فقري‪ ..‬لكنني ٌّ‬
‫‪ -‬بتسأليني بحبك ليه‪ ..‬سؤال غريب ما أجاوبش عليه‪.‬‬
‫‪ -‬قلبي صار ملكك لألبد‪.‬‬
‫‪ -‬إحنا والقمر جريان‪.‬‬
‫أعطيت ظهري للحائط‪ ،‬أعيدُ قراءة اجلمل العرشة التي سأرسلها‬
‫بشكل يومي إىل جاريت األرملة التي متلك طفلني صغريين وشقة متوسطة‬
‫دائم وطعا ًما يوم ًّيا‪.‬‬ ‫ً‬
‫وعمل ً‬
‫‪13‬‬
‫سفر‬

‫متأخرا‪ ،‬فأصدقاؤه مل يرتكوه يغادر‪ ،‬حتى صاح أحدهم‬


‫ً‬ ‫دخل البيت‬
‫ضاحكًا‪:‬‬
‫‪ -‬دعوه فأهل بيته أوىل به هذه الليلة‪.‬‬
‫كانت أمه ال تزال ترفع يدهيا بالدعاء‪ ،‬بينام استسلم أبوه للنوم‪.‬‬
‫ٍ‬
‫غطاء‬ ‫ىف حجرهتام‪ ،‬رغم اإلضاءة اخلافتة‪ ،‬رآها‪ ،‬كانت ختتبئ حتت‬
‫خفيف مرسلة شعرها الطويل عىل الوسادة‪ ،‬عندما اقرتب وملس كتفها‬
‫قميص من الساتان يغطي جز ًءا منه‪ ،‬مرر يده عىل مالمح وجهها‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫كان‬
‫قالت يف عتاب‪:‬‬
‫كثريا حتى كدت أنام‪.‬‬
‫‪ -‬تأخرت ً‬
‫سأهلا وهو يمد يده ليجذهبا إليه‪:‬‬
‫‪ -‬هل ح ًّقا كنت ستنامني؟‬
‫اقرتبت وملعت عيناها بالدمع‪:‬‬
‫‪ -‬سأنام سنتني يف انتظارك‪.‬‬
‫ألقى نظرة طويلة ناحية جواز سفره واحلقيب َة ومتنى لو اختفيا إىل األبد‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫صدمة أوىل‬

‫ُ‬
‫حاول أن يشغل نفسه‪ ،‬لكن‬ ‫صوت الصخب يصل إليه يف غرفته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫َّ‬
‫كل األشياء مضجرة‪ ،‬فهو هيرب من الفرح املقام يف الساحة أمام البيت‪.‬‬
‫َسأ َلته‪ :‬هل تريدُ أن تتزوجني؟‬
‫وعندما تردد يف اإلجابة تزوجت أول من طرق باب بيتها‪ ،‬كان‬
‫مرص‬
‫جارهم؛ لذا ترك الفرح وجلس يف الغرفة البعيدة لكن الصخب ٌ‬
‫عىل مطاردته‪.‬‬
‫دخلت أخته إىل احلجرة املجاورة وهي تغني «يا ابو اللبايش يا قصب‪،‬‬
‫ْ‬
‫رضب رأسه يف احلائط املجاور‪ ،‬وبكى‪ ،‬بعد ٍ‬
‫قليل‬ ‫َ‬ ‫عندنا فرح واتنصب»‪،‬‬
‫َّ‬
‫وأطل من الشباك عىل الساحة‪ ،‬كانت الراقصة تبدأ وصلتها‬ ‫مسح دمعه‪،‬‬
‫األوىل‪ ،‬فانصدم بعرهيا‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫عفريت‬

‫شعر رأيس عندما مررت بجوار النخلتني املتشابكتني‪ ،‬فعرفت‬ ‫انتصب ُ‬


‫َ‬
‫أن عفريت «سالموين» ال يزال مستيق ًظا‪ ،‬وأنه لن جيعلني أمر يف سال ٍم‪،‬‬
‫وكنت أمام خيارين ال ثالث هلام‪ ،‬أن أقرأ سورة اإلخالص فأحرقه أو‬
‫أعيه بأن يذهب لينتقم ممن قتله‪ ،‬لكن رغم عرقي الذي أحسست به‬ ‫ّ‬
‫ومتنيت أن يظهر بصورته احلقيقية فقلت‬ ‫ُ‬ ‫رغبت يف رؤيته‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أسفل رقبتي‬
‫ٍ‬
‫مرتدد دون أن أدير وجهي ناحيته‪« :‬أرين نفسك»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بصوت‬
‫ندمت أنني قلت ذلك‪ ،‬أردت أن أعدو بعيدً ا‪ ،‬لكنني سمعت موا ًء‬ ‫ُ‬
‫مقطوع الذيل حياول أن هيرب بعيدً ا‪ ،‬وتتبعه‬
‫َ‬ ‫خلف النخلتني‪ ،‬ورأيت ق ًطا‬
‫ثالث قطط صغرية شعرها منتصب من اخلوف‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫غرق‬

‫‪ -‬خذنا لوسط النهر‪.‬‬


‫بلهجة آمرة ال يعرف غريها رصخ ابن األكابر‪ ،‬وهو يلقي بامرأة غريبة‬
‫ٍ‬
‫ومكبلة باحلبال يف قلب قاريب‪.‬‬ ‫مذعورة العينني مكممة الفم‬
‫أه ُّم برفع مقدمة القارب فوق الشط‪ ،‬لكن بندقية‬
‫كنت عائدً ا من الصيد ُ‬
‫ابن األكابر التصقت بصدري وأعادتني مرة أخرى إىل النهر‪ ،‬وقال من‬
‫كثريا‪.‬‬
‫بني غضبه‪ :‬لن نبعد ً‬
‫قدمي‬
‫َّ‬ ‫بدل عنها‪ ،‬إحدى‬‫عينا املرأة املذعورتان تطلبان مني الرصاخ ً‬
‫يف املاء‪ ،‬واألخرى عىل الرمل األبيض اخلشن‪ ،‬وبرودة فوهة البندقية‬
‫بعنف‬‫ٍ‬ ‫ورضبت املاء‬
‫ُ‬ ‫مصوبة لقلبي‪ ،‬فنظرت إىل الشاطئ للمرة األخرية‪،‬‬
‫وأنا أجدف ناحية وسط النهر‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫فرح‬

‫مل أذهب إىل فرح بيت حممد سعد‪ ،‬جديت مريض ٌة‪ ،‬تطلب املاء طوال‬
‫الوقت‪ ،‬وأمي ال ُ‬
‫تفعل غري أن تبلل هلا شفتيها‪ ،‬وأيب يتظاهر بأنه غري‬
‫مهت ٍم‪ ،‬لكنه يرفع رأسه كل حني لينظر إىل وجهها املحتقن‪.‬‬
‫كنت أجلس عىل عتبة البيت‪ ،‬وكل بنات الدرب ذهبن إىل الفرح‪،‬‬
‫يرددن خلف «نفيسة العمدة» وهى تغني «عىل بياعني العنب» أصواهتن‬
‫رفيعة أعرفها جيدً ا‪ ،‬ومن مكاين املظلم أردد معهن‪ ،‬وصوت جديت يقول‬
‫«آآآآآآه» طويلة ممتدة وتكمل «اسقوين»‪.‬‬
‫كوب ماء ممتلئ رشبته‬
‫َ‬ ‫دخلت الغرفة املظلمة‪ ،‬كانت أمي متنح جديت‬
‫ُ‬
‫فرحا‬
‫كله‪ ،‬وصمتت متا ًما‪ ،‬وقال أيب «يوم موت أم حممد سعد سأقيم ً‬
‫وأرقص فيه»‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مالك املوت‬

‫تقسم أمي أهنا رأت‪ ،‬منذ دقائق‪ ،‬مالك املوت يف كامل هيبته يمر يف‬
‫الدرب أمام بيتنا‪ ،‬فهمست «رايح فني بس عىل الصبح؟» وأنه ر َّد عليها‬
‫بصوت ٍ‬
‫عال «خليك يف حالك»‪.‬‬
‫وخرجت إىل املقهى عىل اجلرس‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مستنكرا‬
‫ً‬ ‫نظرت إليها‬
‫ُ‬
‫قلت لصابر السيد الذي استضافني عىل كوب شاي «أعيش يف بيت‬ ‫ُ‬
‫جمانني» وقبل أن أحكي له ما قالته أمي‪ ،‬رصخت ابنة «حممد أبو الغيط»‬
‫معلن ًة موت أبيها الساكن يف دربنا عىل ُب ْعد مخسة بيوت‪.‬‬
‫رأيت أمي جتمع احلىص واحلجارة وأبنا َء‬
‫ُ‬ ‫أترقب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُعدت للبيت خائ ًفا‬
‫أخي الصغار يف انتظار املالك العائد من مهمته كي يطاردوه حتى أول‬
‫فأحرضت عىص غليظة‪ ،‬وجلست بجانبها أنتظره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الطريق‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫قسمة العدل‬

‫البندقية ممدد ًة بينهام‪ ،‬عمرها ثالثون عا ًما بالتامم والكامل‪ ،‬أكرب من‬
‫«شوقي» بثالث سنوات‪ ،‬وأصغر من «حممود» بعام واحد‪ ،‬وكان أبومها‬
‫الذي رحل منذ شهرين وثالثة عرش يو ًما ُيبها أكثر منهام‪ ،‬فيبتسم كلام‬
‫رآها‪.‬‬
‫بعد موت أبيهام بيومني تشاجرا عىل ما تبقى منه‪ ،‬سبعة عرش قرياط‬
‫أرض وبيت من دورين وثالث أخوات‪ ،‬فعاتبهام الناس عىل ترسعهام‪،‬‬
‫وجثة الوالد مل تربد بعد يف قربها‪ ،‬فانتظرا ‪-‬جمربين‪ -‬سبعني يو ًما‪ ،‬ويف‬
‫قسام األرض والبيت واألخوات‪ ،‬وظلت البندقية اهلندي عاجزة‬ ‫املوعد َّ‬
‫عن احلل‪.‬‬
‫ِ‬
‫الليلة الثالثة والسبعني عىل رحيل األب متددت البندقي ُة بينهام‪،‬‬ ‫وىف‬
‫ونزلت عليها الفأس احلا َّدة مرة وثانية وثالثة بح ًثا عن قسمة العدل‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫قطار الفجر‬

‫وارتج‪ ،‬يستيقظ اجلميع يذهبون إىل‬


‫َّ‬ ‫اهتز البيت القديم‬
‫القطار َّ‬
‫ُ‬ ‫مر‬
‫كلام َّ‬
‫أمهم يشكون‪ ،‬وكلام سمع أبوهم كالمهم‪ ،‬من الرشفة القريبة‪ ،‬يقول ىف‬
‫اقتضاب «من شاء أن يغادر فليفعل»‪.‬‬
‫بمرور السنوات خرج اجلميع من البيت القديم‪ ،‬وأقاموا بيوهتم البعيدة‬
‫تضع عىل‬
‫وظل هو وأمهم‪ ،‬التي تقف بجانبه كل فجر ُ‬ ‫عن سكة القطار‪َّ ،‬‬
‫كتفيه شاله الصويف الثقيل‪ ،‬ويتكئ كل منهام عىل اآلخر‪ ،‬بينام ينتظر هو أن‬
‫يمر القطار فريتج البيت‪ ،‬سنوات طويلة مرت‪ ،‬لكنه ال يزال يتذكر نفسه‬
‫طفل يبكي منذ تاه من أمه يف القطار ‪ -‬ذات فجر‪ -‬ومل يعد‪.‬‬‫ً‬

‫‪21‬‬
‫الطريق إىل جنازة‬

‫تضع طرحتها‬
‫ُ‬ ‫مرك حزينة يا زينب» قالت أمي ذلك‪ ،‬وهي‬ ‫«طول ُع ِ‬
‫وخترج‪ ،‬وعندما رأتني خلفها‬
‫ُ‬ ‫السوداء عىل رأسها‪ ،‬وتفتح البوابة القديمة‬
‫هنرتني‪ ،‬وطلبت مني العودة‪ ،‬كانت يف طريقها إىل جنازة أيمن ابن زينب‬
‫الذي غرق ىف البحر‪ ،‬الذي سيعودون بجثامنه هذه الليلة‪.‬‬
‫رست خلفها‪ .‬الكالب تنبح طوال الوقت‪ ،‬يفزعها صوت النساء‬
‫ُ‬
‫جتمع األطفال يشاهدون «زينب» تلطم‬
‫الصارخات أمام البيت حيث َّ‬
‫وجهها وتشد شعرها حتى تقطعه‪.‬‬
‫أمسكت أمي يب وأنا أبكي‪ ،‬لكنني مل أقل هلا‪ ،‬إنني حلمت هبا‪ ،‬أمس‪،‬‬
‫تبكي مثل «زينب» تلطم وجهها وتشد شعرها بينام أنا ممدد ىف كفن أبيض‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫ونس‬

‫‪ -‬ملاذا ال تسري مع أختك؟!‬


‫هذا السؤال اليومي الذي يواجهه‪ ،‬كلام التقاه أحدٌ والبنت السمراء‬
‫تتبعه‪.‬‬
‫‪ -‬ليست أختي‪.‬‬
‫عندما وصل إىل الكوبري يف أول الطريق املؤدي إىل املدرسة كانت‬
‫هناك‪ ،‬تفصلها عنه خطوات عدة‪ ،‬لكنها مل تنتبه عندما أمسك شعرها‬
‫وجذهبا ناحيته ثم صدم رأسها باحلائط احلجري يف عنف‪:‬‬
‫‪ -‬ال تسريي خلفي مرة ثانية‪.‬‬
‫أنَّت بطريقته نفسها ىف البكاء‪ ،‬ومل متسح الدم الذي سال‪.‬‬
‫يتلفت حوله طوال الوقت يبحث عنها‪ ،‬وشعور‬‫ُ‬ ‫وىف اليوم التايل كان‬
‫شخصا يسأله‪ :‬أمل َتر أختي؟‬
‫ً‬ ‫اخلوف يتنامى داخله‪ ،‬وكلام التقى‬

‫‪23‬‬
‫مولد النبي‬

‫تسألني «هنية»‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا تضحكني؟‬
‫كنا نجلس فوق سطح بيتنا أنا والبنات‪ ،‬تنعكس األضواء امللونة عىل‬
‫ُوجوهنا لكنها ال تفضحنا‪ ،‬وىف الوقت نفسه تكشف لنا الساحة احتشاد‬
‫الناس يف مولد النبي‪.‬‬
‫الذكْر و«حممد» يتاميل وسط الرجال‪ ،‬لكنه يرفع‬‫مرت ساعة عىل بداية ِ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫عينيه نحو السطح يبحث عني‪ ،‬ضحكت بصوت ٍ‬
‫عال عندما تذكرته يف‬
‫ً‬
‫حماول ملس يدي‪ ،‬بعدما تقابلنا يف املساحة الضيقة‬ ‫الصباح يقرتب مني‬
‫بني غرفة أيب وغرفة البنات‪ ،‬وأنا أمد له يدي بصينية الشاي ليحملها إىل‬
‫وهربت‪ ،‬لكنني متنيت لو تركت له يدي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ارتبكت‬
‫ُ‬ ‫الضيوف‪،‬‬

‫‪24‬‬
‫ليلة دخلة‬

‫أشعلت سيجاريت الثالثة‪ ،‬ومل خترج من احلامم بعد‪ ،‬قالت إهنا ستستبدل‬
‫ُ‬
‫فستان الزفاف‪ ،‬وطلبت مني انتظارها عىل طرف الرسير فانتظرت‪.‬‬
‫رأيس ممتلئ بالتصورات التي أشعلتها بالسجائر وحكايات األصدقاء‪،‬‬
‫نزعت عني جاكيت البدلة‪ ،‬وألقيت به بعيدً ا‪ ،‬ثم عدت والتقطته من‬
‫فوق الرسير‪ ،‬ووضعته داخل الدوالب‪ ،‬أكملت التخيل عن بقية البدلة‪،‬‬
‫وعندما مهمت بإشعال السيجارة اخلامسة‪ ،‬ناديت عليها‪ ،‬ومل أتأكد هل‬
‫ردت أم ال‪.‬‬
‫ً‬
‫متأمل نفيس أمام املرآه‪ ،‬ثم طرقت‬ ‫بعد السيجارة العارشة‪ ،‬وقفت ً‬
‫قليل‬
‫الباب‪ ،‬كان صوت بكائها يرتفع وهي حتاول أن تكتمه‪ ،‬بعد انتهاء علبة‬
‫اقتحمت الباب متخب ًطا يف دمها ومل تستبدل فستاهنا بعد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫السجائر األوىل‬

‫‪25‬‬
‫جثة تطلب الدفن‬

‫ُ‬
‫األطفال الذين يلعبون الكرة عىل شط النيل عندما رأوا جسدً ا‬ ‫صاح‬
‫أسو َد يطفو عىل املاء جيرفه التيار‪ ،‬ومن بيتها الطيني رصخت «كريمة‬
‫كب السيد أبو حسني ونادى «لو‬ ‫محيد»‪ ،‬تُش َّيع الغريق ً‬
‫بدل من أمه‪ ،‬بينام َّ‬
‫غيت اجلثة اجتاهها ومالت ناحية‬ ‫تطلب الدفنة تعاىل» واندهشنا عندما َّ‬
‫الرب الرشقي‪.‬‬
‫جاهزا‪ ،‬والغريق الغريب الذي اختفت‬
‫ً‬ ‫بعد ساعات قليلة كان الكفن‬
‫مالحمه بسبب املاء والشمس ممد ًدا يف الساحة الواسعة‪ ،‬عندما رصخ عيل‬
‫عوض‪ ،‬مدرس فصل ثانية ابتدائي‪ ،‬يف اجلميع «ما حيدث غري قانوين»‬
‫فوقف السيد أبو حسني عند رأس الغريق وصاح «لو تطلب الدفن قل»‬
‫فاهتزت الدكة اخلشبية التي يستقر عليها اجلسد‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫خروج‬

‫الباب القديم موصدً ا‪ ،‬أ َّذن الظهر‪ ،‬ومل خيرج منه أحد أو يدخل‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ظل‬
‫وبعدما صىل الناس العرص ظلت «سعدية أم حسني» تطرق الباب حتى‬
‫أوجعتها يدها فس َّبت كل من يف البيت وابتعدت‪.‬‬
‫يف أول الليل كان صبية صغار يتساءلون‪ :‬ألن يروا «زينهم» وأمه‬
‫وأخواته مرة أخرى؟‬
‫وبعد ساعات توغل الليل وانترش اخلوف ومل ينم أحدٌ ‪ ،‬كان اجلميع‬
‫حمبطني يشاركون يف ختيل كيف اختفت أرسة مكونة من ثامنية أفراد دون‬
‫أثر؟‬
‫حممد أبو عباس مل يتخيل‪ ،‬بل شعر بغصة‪ ،‬ألنه رآهم مجي ًعا يركبون‬
‫القطار وتوارى منهم خشية أن تطلب منه األم ثمن التذكرة‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫فرحة حزينة‬

‫هتمني يا محيدة صديق طوال اليوم يف الدرب ذاهبة وآتية؟!» ألقت‬ ‫«ملاذا ّ‬
‫جديت التي مل تغادر مكاهنا أمام بوابة البيت منذ الصباح‪ ،‬هذا السؤال عىل‬
‫«محيدة»‪ ،‬فأجابت «أنظف البيت يا أم حسن‪ ،‬الولدان قادمان لزياريت‬
‫غدً ا»‪.‬‬
‫بالطبع ليسا ولدين‪ ،‬فهام كبريان أحدمها متزوج ولديه أطفال‪ ،‬واآلخر‬
‫يصغره بعامني فقط‪.‬‬
‫مرت منذ نزعهام منها‪ ،‬بعد طالقها‪ ،‬وها هي جتري‬ ‫سنوات كثرية َّ‬
‫ويسارا تدخل بيتها‪ ،‬الذي تعيش فيه وحيدة‪ ،‬وخترج‪،‬‬
‫ً‬ ‫يف الشارع يمينًا‬
‫تستعد لزيارهتام هلا‪ ،‬لكنها ىف املرة األخرية دخلت ومل خترج‪.‬‬
‫أرسلت جديت‪ ،‬امرأ ًة مار ًة يف الشارع لتعرف أين اختفت محيدة صديق‪،‬‬
‫فأطلقت املرأة رصخة برائحة املوت‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫شعر مقصوص‬

‫جتمع الصبية ينظرون من شقوق البوابة اخلشبية لبيت حممود عوضني‪،‬‬


‫مقتول منذ سبعة أشهر عىل يد ابن أخيه‪ ،‬ومن يومها مل يعد‬ ‫ً‬ ‫الذي مات‬
‫أحد يرى زوجته «محدية»‪ ،‬فقط كل ليلة تأيت أمها‪ ،‬من بيتها البعيد للمبيت‬
‫معها‪ ،‬وتغادرها يف الصباح‪.‬‬
‫عندما جاء دوري ألنظر من شقوق البوابة‪ ،‬مل أجد «محدية» التي كنَّا‬
‫نعرفها بجسدها املمتلئ وضحكتها العالية‪ ،‬صارت امرأة نحيلة ضامرة‬
‫قديم تزيل به ما طال بعض اليشء من‬ ‫مقصا ً‬
‫اجلسد‪ ،‬متسك يف يدها ً‬
‫شعرها القصري‪ ،‬ثم جتمع شعرها املقصوص‪ ،‬وتضعه يف جلباب حممود‬
‫عوضني‪.‬‬
‫فجأة‪ ،‬التفتت ناحية البوابة القديمة‪ ،‬وحركت املقص ىف طفولة غريبة‬
‫فضحكت‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪29‬‬
‫دعاء‬

‫انتهت سوسن من دعائها «يا رب ال يموت أيب حتى أتزوج» فانطلق‬


‫صوت أمها بالرصاخ‪ ،‬معلنة انتهاء مالك املوت من مهمته‪.‬‬
‫ىف اليوم الثالث للجنازة‪ ،‬فكرت سوسن‪ ،‬ملاذا ال يقبل اهلل دعاءها؟ من‬
‫قبل ظلت تصيل وتدعو أن تتزوج بحسني ابن عمها‪ ،‬بعدها بأيام فوجئت‬
‫بأبيها خيربها أهنا ستتزوج «عامد» قريب أمها‪ ،‬رضيت‪ ،‬ومتنت أن تتزوج‬
‫يف حياة أبيها املريض لكنه مل حيدث‪.‬‬
‫استفاقت عىل صوت حسني ابن عمها خيربها أن «عامد» قريب أمها‬
‫يرفض أن ينتظر سنة‪ ،‬ويريد أن يتزوج هناية الشهر‪ ،‬وأهنا اآلن حرة‬
‫تقبل أو ترفض‪ ،‬مل حتزن كانت تفكر «هل أدعو اهلل مرة أخرى أن أتزوج‬
‫حسني»‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ال قطارات للموتى‬

‫جيلس «رايض» عىل حمطة القطار يف أسيوط‪ ،‬ينتظر عودة أخيه‪ ،‬مر‬
‫القطار األول والثاين والثالث ومل يصل‪ ،‬مر القطار العارش ومل ِ‬
‫يأت‪ ،‬بات‬
‫«رايض» ليلتني عىل رصيف املحطة‪.‬‬
‫كان يفكر كيف سيعود إىل أمه التي رصخت وشدت شعرها األشيب‪،‬‬
‫وقالت «هات يل سعيد»‪.‬‬
‫يف اليوم الثالث بدأ يسأل الناس «جايني من مرص؟ سمعتوا عن سعيد‬
‫أثرا‪،‬‬‫أخوى؟»‪ ،‬الدموع التي جفت منذ زمن تركت عىل وجهه الضامر ً‬
‫دفعت البعض للتعاطف معه‪ ،‬سألوه «قال لك هريكب من حمطة إيه»‪ ،‬ر َّد‬
‫ىف انكسار‪« :‬ال‪ ..‬هو مات ىف حادثة ىف مرص‪ ،‬واحلكومة قالت هنرجعه‬
‫لكم‪ ،‬بس الكالم ده من أكرت من أسبوع»‪ ،‬اتسعت حوله حلقة الناس‪،‬‬
‫وقال أحدهم‪« :‬امليتني مش بيجيوا يف القطارات»‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫حلم مبتور‬

‫انطلقت الزغرودة األوىل معلنة أن «حليمة» الزوجة الثالثة ملحمد‬


‫شنواين أنجبت الولد الذي كان ينتظره‪ ،‬بعد سبع بنات مألن أركان‬
‫البيت وجوانبه من زوجتيه السابقتني‪.‬‬
‫محل حممد شنواين الرضيع ورقص به أمام البيت‪ ،‬ودعا َّ‬
‫كل املارين‬
‫للدعاء له بطول العمر‪ ،‬قالت زوجته األوىل «أم نوال» «ربنا خيليه محاية‬
‫للبنات» بينام ز َّمت «رسمية» زوجته الثانية شفتيها‪ ،‬وارتفع مهسها «ما‬
‫الذي ستورثه للولد يا شنواين ِقربة السقاء أم تسولك من خلق اهلل؟»‬
‫حاولت «حليمة» أن ترقص‪ ،‬لكن األمل كان ال يزال يرسي يف جوفها‬
‫مؤخرا‪ ،‬فرصخت‪ ،‬واستيقظت فزعة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بسبب اإلجهاض الذي عانت منه‬
‫ربتت أمها عليها وضمتها «سيكون من نصيبك يف املرة املقبلة»‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫اختفاء‬

‫َّ‬
‫أطل «سامل» من بوابتهم اخلشبية‪ ،‬وصاح «أمل تروا زيكو؟» رددنا يف‬
‫صوت واحد‪« :‬ال»‪ ،‬أكمل وهو يغلق البوابة‪« :‬أمي تبكي عليه»‪.‬‬
‫تشاركنا يف ضحكة طويلة‪ ،‬لكننا يف النهاية خرجنا مجي ًعا للبحث عن‬
‫الكلب املختفي‪ ،‬بينام كانت أم سامل من أعىل البيت تراقبنا وترشدنا إىل‬
‫غيطان الذرة والقصب‪.‬‬
‫بعد ساعات من البحث مل حتتمل القرية كلها بكاء أم سامل فخرجت‬
‫وراءنا‪ ،‬قبل املغرب عاد مجاعة منا يربطون «زيكو» بحبل يف رقبته‬
‫وهيتفون «وجدناه»‪.‬‬
‫كان املشهد أكثر إضحاكًا عندما أقبلت أم سامل عىل الكلب تعض أذنه‬
‫مستسلم‪.‬‬
‫ً‬ ‫وتعاتبه عىل اهلروب وهو يطأطئ رأسه‬

‫‪33‬‬
‫سني ميم راء‬

‫خرج الصبح‪ ،‬وظلت «سمر» خمتبئة ىف البيت‪ ،‬مررت أمام دارها أكثر‬
‫من مرة أتنصت‪ ،‬ال يشء هناك‪ ،‬ال بكاء ال ضحك‪ ،‬هتفت بحروف‬
‫اسمها «سني ميم راء» مرة ومرتني‪ ،‬وقبل أن أكمل الثالثة أطلت أمها‪،‬‬
‫بعيون متورمة من البكاء‪ ،‬وبصوت مرشوخ‪ ،‬من شباك قديم مكسور‬
‫وأنَّت يف اقتضاب «سمر ماتت»‪.‬‬
‫تقول أمي‪« :‬إهنا سمعت رصخة يف الليل» ويضيف أيب‪« :‬كنت أعرف‬
‫أن الرصاصة التي انطلقت بعد العشاء أصابت أحدً ا»‪ ،‬وهيمس الناس‪:‬‬
‫«قتلها أخوها بطلقة خاطئة» وأردد أنا‪« ،‬سني ميم راء»‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫منترص‬

‫وقفنا مبهوتني أمام خطة «منترص» للتخلص من الكالب الضالة‪ ،‬كنَّا‬


‫عصا من جريد النخل وفروع‬ ‫ستة صبية‪ ،‬مخسة منا حيملون يف أيدهيم ً‬
‫شجرة صفصاف‪« ،‬منترص» الوحيد الذي يضع يده يف جيب جلبابه‪،‬‬
‫ويده األخرى حرة‪ ،‬نطارد الكالب الغريبة التي هجمت عىل بيوتنا‬
‫وعضت فاطمة ابنة عمتي‪ ،‬كان يف جيبه ربع رغيف به إبرة خياطة‪.‬‬
‫راح «منترص» يرشح لنا يف ثقة وفرح‪« :‬عليكم أن ختتبئوا وأنا ألقي‬
‫اللقمة للكلب وبعدما يأكلها ستقوم اإلبرة بثقب جسده حتى املوت»‪،‬‬
‫انزعجنا عندما ختيلنا املنظر الدامي‪ ،‬ورصنا نجري خلف الكالب‬
‫ونصيح‪« :‬اهربوا من منترص»‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫جنيه ورقي‬

‫يف اللحظة التي جذبتها أمها لتعربا الشارع املزدحم طار اجلنيه الورقي‬
‫من يدها‪ ،‬السيارات ال تتوقف‪ ،‬وعسكري املرور فقد السيطرة وراح‬
‫تشف‪ ،‬وإشارات املرور غاب وضوح ألواهنا‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫يشاهد ما حيدث يف‬
‫أمها غاضبة جدًّ ا‪ ،‬وصاحب الدراجة النارية مل ينتظر أن متر السيارة‬
‫التي أمامه فاصطدم هبا‪ ،‬وألقى الناس بأنفسهم يف بحر الطريق‪ ،‬واجلنيه‬
‫الورقي‪ ،‬ترضية أبيها كي تعود إىل البيت وتتوقف عن إزعاجه‪ ،‬ابتعد‪،‬‬
‫لكنها لو أفلتت من يد أمها تستطيع أن تستعيده‪.‬‬
‫وسب‬
‫َّ‬ ‫أخرج سائق التاكيس رأسه بعد ما جتاوز أتوبيس النقل العام‬
‫الركاب مجي ًعا‪ ،‬بينام اكتفى سائق األتوبيس باملرور فوق اجلنيه الورقي‬
‫فالتصق بعجلته الكبرية واختفى‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫والدة متعرسة‬

‫بكت «هبية» وهي جتلس يف أول الدرب‪ ،‬قال أيب‪« :‬ما هلذه البومة ال‬
‫تكف عن النواح»‪ ،‬انزعجت أمي من هجومه‪« :‬غلبانة‪ ..‬ابنتها تلد منذ‬
‫يومني» هتف أخي العائد من مدرسته الثانوية‪« :‬اذهبوا هبا إىل املستشفى»‬
‫ر َّدت هبية‪« :‬أنجبت سبعة مل َير أحد ما بني ساقي»‪ ،‬متتم أبى بصوت‬
‫خافت‪« :‬ولو رأوا»‪ ،‬زجرته أمي بعينها‪.‬‬
‫كشفت «هبية» عن شعرها األشيب وع َّلقت عيوهنا بالسامء ورصخت‪:‬‬
‫«يا رب»‪ ،‬ألقى أيب عقب سيجارته‪ ،‬وخرج من البيت‪ ،‬وأضاف أخي‬
‫الذي جلس يذاكر دروسه «ستموت الليلة» نظرت أمي إىل أقامع السكر‬
‫التي كانت ستهدهيا إىل رئيسة بنت هبية ورأت رس ًبا من النمل خيرج منها‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ذرة للبيع‬

‫محل يوسف زيد جوال الذرة الشامية‪ ،‬ثم تركه عىل الكوبري‪ ،‬ورجع‬
‫إىل بيته ليحرض اجلوال الثاين‪ ،‬لكن عند عودته مل جيد األول‪.‬‬
‫مل يضع يوسف زيد الوقت ألقى بنفسه يف أول سيارة متجهة إىل سوق‬
‫الرياينة‪ ،‬وهناك صدق توقعه‪ ،‬كان عالم حسن أحد التجار يساوم ىف‬
‫ثمن اجلوال‪.‬‬
‫والغضب يقفز أمام يوسف زيد يف هيئة شتائم ولعنات‪ ،‬سارع عالم‬
‫حسن بالقول للتاجر «ها هو صاحب الذرة جاء‪ ،‬ولن تستطيع أن تبخسه‬
‫هامسا يف أذنه «بعته لك بسعر لن‬
‫ً‬ ‫حقه»‪ ،‬ثم سارع باحتضان «يوسف»‬
‫حتلم به يا أبو عمه»‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫بصرية‬

‫قال املهندس غاض ًبا وهو يدوس عىل الرخام امللقى عىل األرض «أنا أو‬
‫خليل يف املوقع»‪ ،‬وصمت اجلميع ثواين‪ ،‬لكنها كانت كافية للريس حممد‬
‫شميعة ‪-‬ضعيف البرص جدًّ ا‪ -‬كي يظن أن املهندس غادر املكان‪ ،‬فقال‬
‫بجرأة غري معهودة «خليل»‪.‬‬
‫الضحكات املكتومة كشفت كل يشء‪ ،‬ارتبك حممد شميعة وتراجع‬
‫خطوات إىل الوراء‪ ،‬بينام َّلوح املهندس بذراعيه ىف اهلواء‪ ،‬ون َّقل برصه بني‬
‫اجلميع‪ ،‬وصاح «سوف ترون»‪ ،‬وانفلت من املكان مرس ًعا‪.‬‬
‫تفرق صنايعية و ُع َّمل تركيب الرخام ىف املوقع الكبري‪ ،‬وظل حممد‬
‫شميعة حيرك اللوح اخلشبي يف برميل سقاية الرخام‪ ،‬ثم قال كأنه هيمس‬
‫لنفسه‪« :‬ولو‪ ..‬خليل يعني خليل»‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫أخذ وديعته‬

‫«كيف مات يا أبو حممد؟» سألت زوجة «املهدي» عامل البناء الذي‬
‫سقط من عىل السقالة اخلشبية منذ أسبوع‪ ،‬ومنعوها من رؤية جثته يف‬
‫املستشفى‪ ،‬ويف اجلبانة أطلقت رصخة كي تشعر بالونس‪.‬‬
‫فكر املعلم «أبو حممد» الذي يؤدي واجب العزاء‪ ،‬فيام جيب عليه قوله‪،‬‬
‫تذكر عندما صاح املهدي فيهم‪ ،‬يف صباح اليوم املشئوم‪َّ ،‬‬
‫بأن السقالة‬
‫غري مثبتة وأهنا هتتز‪ ،‬وكيف ضحك اجلميع عىل خوفه‪ ،‬فألقى سيجارته‬
‫وصعد‪ ،‬وعندما مالت السقالة فر اجلميع هاربني ومل يتذكروا املهدي إال‬
‫ٍ‬
‫واحد عىل نفسه‪.‬‬ ‫بعد أن اطمأن كل‬
‫حاول «أبو حممد» أن يشعل سيجارته‪ ،‬وقطب جبينه‪ ،‬وقال‪« :‬أخذ اهلل‬
‫وديعته‪ ..‬هل نعرتض؟»‬

‫‪40‬‬
‫حب من طرف واحد‬

‫عرصا‪ ،‬ساعتان بالتامم والكامل منذ‬


‫ً‬ ‫مل يتصل والساعة قاربت اخلامسة‬
‫قطع اتصاهلا فجأة «سوف أحدثك أنا»‪.‬‬
‫أخذت «منى» تراجع يومها بح ًثا عن اخلطأ الذي وقعت فيه‪ ،‬كتبت له‬
‫ىف الصباح «صباح اخلري يا حبيبي»‪ ،‬بعدها بساعة ال يا ريب نصف ساعة‬
‫سألته عىل الواتس «هل أفطرت‪ ..‬تفضل معي»‪ ،‬وىف الظهر‪ ،‬وألهنا‬
‫تعرف أنه ذهب إىل املحكمة كتبت «أخبار يومك إيه»‪ ،‬بعد قليل طلبت‬
‫منه لو بإمكانه أن يمر عليها هناية اليوم‪ ،‬يف العرص سألته «ملاذا مل ِ‬
‫تأت»‬
‫لكنه صاح فيها‪.‬‬
‫عىل ُب ْعد مخسة شوارع كان «حممد» ال يزال جيلس مع املرأة التي جاءت‬
‫املكتب يف متام الثانية ومل تغادره بعد‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫مركب بطة‬

‫مرت املركب الكبرية التي عىل هيئة بطة منسابة يف النيل ناحية الشامل‪،‬‬
‫وعندما عربت منطقة «رأس القطوط» اتضحت تفاصيلها اخلشبية‬
‫اجلميلة‪ ،‬وكان عىل متنها رجالن يقتتالن‪.‬‬
‫تقول جديت يف حكاياهتا «يدخل الناس اجلنة وهم يركبون مركب بطة»‬
‫وكان أحد الرجلني يكيل الرضب إىل وجه اآلخر الضعيف‪ ،‬تضيف‬
‫جديت «املركب تسري يف بحر من اللبن‪ ،‬وآخر من العسل»‪ ،‬وكان الرجل‬
‫ال يزال يواصل رضب اآلخر الذى استسلم متا ًما‪.‬‬
‫حتكي جديت «بعد ما يغادر أهل اجلنة املركب تصبح بطة حقيقية»‪،‬‬
‫وتلفت الرجل الرشير حوله ومل جيد سوى بعض األطفال عىل الرب‬
‫الرشقي يراقبونه‪ ،‬فألقى باآلخر املغمى عليه يف النيل‪ ،‬وواصلت املركب‬
‫طريقها‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫غداء‬

‫كان الغداء بسي ًطا به قليل من البامية وقطعتا حلم صغريتان‪ ،‬يقول‬
‫حسني‪« :‬ال رغبة يل يف طعام أو رشاب»‪.‬‬
‫يبحث منذ الصباح عن أخيه «منصور» الذي غاب منذ يوم وليلة‪ ،‬وقد‬
‫طرق «حسني» كل بيوت أقاربه وأصحابه ومل جيده‪.‬‬
‫مر «حسني» عىل بيت عمه «مساعد» أرص عليه أن يأكل شي ًئا‪،‬‬ ‫وعندما َّ‬
‫جذبه من يده ليجلسه ورصخ فيه‪« :‬اهلموم ثقيلة وعليك أن تعتادها»‪،‬‬
‫كان الطعام ينقصه امللح لكنه مل هيتم‪.‬‬
‫دخلت زوجة عمه الشابة‪ ،‬مرتبكة متا ًما‪ ،‬مدَّ ت يدها من بعيد باملاء‬
‫إليهام‪ ،‬ومل تدس بقدميها الصغريتني عىل احلصرية التي جيلس عليها‬
‫«حسني» يتناول طعامه ىف صمت‪ ،‬والتي يرقد حتت تراهبا جسد أخيه‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫إغفاءة‬

‫كأن أحدهم جذبه من شعر رأسه بقوة‪ ،‬هذا ما شعر به «التهامي»‬ ‫َّ‬
‫عندما نزلت العصا عىل رأسه من اخللف‪ ،‬حاول االستدارة‪ ،‬وفكر يف‬
‫سبب وجوده يف الساحة لكنه مل يتذكر‪ ،‬فجلس عىل األرض‪.‬‬
‫بسقوطه توقفت املعركة التي استمرت قرابة ساعة‪ ،‬وابتعد اجلميع غري‬
‫مصدقني‪ ،‬وهامجه النوم فجأة لكنه مل يشأ االستسالم‪ ،‬يعرف أنه ال يزال‬
‫يف الشارع‪ ،‬لكنه سرييح رأسه بعض اليشء قبل أن يعود إىل البيت‪.‬‬
‫وبينام يواصل اجلميع تراجعهم عائدين بظهورهم إىل بيوهتم‪ ،‬رفعت‬
‫قليل عن األرض فاضطرب‪ ،‬وشعر بالغضب عندما‬ ‫امرأة باكية رأسه ً‬
‫أبرص ً‬
‫طفل حياول أن جيذب «الشومة» من يده‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫عيون بيضاء‬

‫تنتظر أمي قطعة الصابون وعلبة الرابسو‪ ،‬وأنا تأخرت‪ ،‬ألن فهيمة‬
‫حسنني جتلس أمام بيتها تردد عديدها وتنظر ناحيتي فأتراجع‪.‬‬
‫مات «عادل» ابن محيدة حسنني منذ شهور‪ ،‬ومع كل طلعة شمس‬
‫تبدأ البكاء والعديد‪ ،‬وكل مجعة تزور قربه‪ ،‬أسمع أمي تقول‪« :‬مات قبل‬
‫ميعاده‪ ،‬قتله أبناء عمومته بسبب مزاح يف مقهى»‪.‬‬
‫تقرتب طيور البيت من فهيمة‪ ،‬لكنها ال هتتم‪ ،‬هتش الذباب عن وجهها‬
‫وتنظر ناحيتي بقسوة فأختبئ خلف عامود اإلنارة يف انتظار يشء ما‪.‬‬
‫أمسكت يب أمي‪ ،‬التي خرجت تبحث عني‪ ،‬وبعدما أفرغت غضبها‪،‬‬
‫مل تفلتني من يدها وهي تسلم عىل فهيمة حسنني‪ ،‬التي مل ترنا لبياض‬
‫عينيها‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫باكو دخان‬

‫سعلت من النفس األول‬


‫ُ‬ ‫كثريا‪ ،‬بعدما‬
‫يف اليوم األول‪ ،‬ضحك جدي ً‬
‫صغريا عمرك ست سنوات فقط ال تتعجل‬
‫ً‬ ‫لـ «اجلوزة»‪ ،‬وقال‪« :‬ال تزال‬
‫األيام أمامك»‪.‬‬
‫يف اليوم الثاين قبل أن يستعدَّ ملجلسه الصباحي كنت موجو ًدا فابتسم‬
‫نفسا عمي ًقا دمعت عيناي منه‪ ،‬يف اليوم‬
‫وقدم إ ّيل اجلوزة كي أسحب ً‬
‫الثالث تناقصت هبجته‪ ،‬وطلب مني أن أذهب للعب مع العيال‪ ،‬لكنني‬
‫أخرجت الدخان من أنفي بحرفنة‪.‬‬
‫يف اليوم الرابع أحرق حجر املعسل كله مرة واحدة وهو يرمقني‬
‫بضجر‪ ،‬فجذبت «اجلوزة» من يده‪.‬‬
‫يف اليوم اخلامس صاح يب‪« :‬هل ستظل ترشب جمانًا؟ اطلب من أمك‬
‫أن تشرتي لك باكو دخان»‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ساملة يا سالمة‬

‫حتركت السيارات اخلمسة حمتشدة بالرجال واألطفال والنساء يف‬


‫طريقها إلحضار العروسة من عىل ُب ْعد ثالث قرى‪ ،‬وعند وصولنا إىل‬
‫فرحا‪ ،‬بل العريس الذي كانت سيارته تتقدمنا‪ ،‬حياول‬
‫بيت أهلها مل نجد ً‬
‫أن خيلع جلبابه األبيض وهو يسب ويلعن والناس متسك به‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫«العروسة ترفض اخلروج»‪.‬‬
‫حجرا‪ ،‬وهتيئنا ملعركة طويلة خارج أرضنا‪،‬‬
‫غضبنا جدًّ ا‪ ،‬وأمسك كل منا ً‬
‫صائحا يف العريس‪« :‬تزوج‬
‫ً‬ ‫عم العروسة‪ ،‬تدخل يف اللحظة األخرية‬ ‫لكن َّ‬
‫أختها األصغر منها»‪.‬‬
‫حتركت السيارات اخلمسة املحتشدة بالرجال واألطفال والنساء‬
‫والعروسة الطفلة يف فستاهنا الكبري وألواهنا الفاقعة مثل بلياتشو‪،‬‬
‫واجلميع يغنون‪« :‬ساملة يا سالمة‪ ،‬رحنا وجينا بالسالمة»‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫هناية‬

‫يف الطريق إىل قربها‪ ،‬يقول أهل زوجها‪« :‬أشعلت النار يف نفسها»‪،‬‬
‫ويرصخ أهلها‪« :‬أحرقوها بعد ما أوثقوها يف رسيرها»‪ ،‬وتسجل األوراق‬
‫الرسمية‪« :‬سقطت ملبة جاز فأهنت كل يشء» وهيمس الناس‪« :‬هناية‬
‫متوقعة» ويصدح حلاد املوتى‪« :‬أشهد أال إله إال اهلل وأشهد أن حممدً ا‬
‫رسول اهلل»‪.‬‬
‫فوق قربها‪ ،‬وقف زوجها حتمل مالحمه عالمات اجلريمة والضحية‪،‬‬
‫يقول أهله‪« :‬قليل احلظ تزوج جمنونة»‪ ،‬ويرصخ أهلها‪« :‬فعلها أبوه من‬
‫قبل وطعن أمه بسكني»‪ .‬وتسجل األوراق الرسمية‪« :‬دخل السجن أكثر‬
‫من مرة أثناء جتنيده بسبب عنفه‪ ،‬وكان يتوه يف شوارع املدينة وال يعرف‬
‫العودة»‪ .‬وهيمس الناس‪« :‬هناية متوقعة»‪ ،‬ويصدح حلاد املوتى‪« :‬اللهم‬
‫صىل عليك يا نبي»‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫عفريتان‬

‫دارت الساقية نائحة كطفل يبكي‪ ،‬ومل ُترج سوى ماء قليل‪ ،‬بينام الليل‬
‫يمد رداءه ً‬
‫كامل عىل كل يشء‪ ،‬والبقرة املغامة العينني تدور بال توقف‪،‬‬
‫و«عالم» الطفل يدور خلفها‪ ،‬ال يؤنسه سوى صوت أبيه كل حني ينادي‬
‫عليه‪ ،‬وساقية أخرى تدور عىل ال ُق ْرب منه‪.‬‬
‫من الساقية األخرى حترك شبحان صغريان لطفلني‪ ،‬لكنهام أكرب سنًّا‬
‫من «عالم»‪ ،‬اقرتبا منه ليسلام عليه لكنهام وجدا «دور ًقا» حتت شجرة‬
‫الصفصاف ظنَّا أنه ماء‪ ،‬فلام رشبا منه‪ ،‬عرفا أنه عصري ليمون‪ ،‬فظال‬
‫يتبادالنه بينهام حتى انتهيا منه‪ ،‬و«عالم» الطفل ظنهام أبناء خالته‪ ،‬لكنهام‬
‫عندما رشبا الليمون كله أدرك أهنام عفريتان‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫اركب معنا‬

‫توقف امليكروباص أمامه فجأة‪ ،‬تراجع «سليم» بفزع فكاد يصطدم‬


‫بالشجرة التي نبتت خلفه‪ ،‬ورصخ يف السائق الذي مل يره‪ ،‬فانفتح الباب‬
‫َّ‬
‫وأطل منه وجه أبيه ونادى عليه‪« :‬اركب معنا»‪.‬‬ ‫اجلانبي‪،‬‬
‫قبل أن يستوعب األمر جاءه صوت أخيه املرشوخ من الدخان‪ ،‬يطلب‬
‫كثريا‪.‬‬
‫منه صعود السيارة برسعة؛ ألنه تأخر ً‬
‫يشء غامض يدفع «سليم» لريكب‪ ،‬وأبوه يمد يده إليه‪ ،‬ويد أخيه تلوح‬
‫له‪ ،‬وذهنه ييضء بفكرة أهنام ميتان وعليه أن يعرتض وأال يذهب معهام‪،‬‬
‫وفجأة رصخ فيهام‪« :‬مش ها اركب معاكم يا والد الكلب»‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫غواية املاء‬

‫أخرج من بيتي مرس ًعا ناحية النيل‪ ،‬أعرف أن «سامح» منذ ساعة تروح‬
‫وجتيء عىل ضفة النهر‪ ،‬فأقف غري بعيد وأراها تضع قدميها الصغريتني‬
‫يف املاء ترفع ثِياهبا بعض اليشء حتى ال تبتل‪ ،‬جتلس لتسرتيح فوق نصف‬
‫نخلة مل حتتمل غواية املاء‪ ،‬فسقطت عىل وجهها مستسلمة‪ ،‬تفعل ذلك‬
‫كل صباح منذ غادرها زوجها للعمل يف اخلليج ومل يعد‪.‬‬
‫مترر يدها ىف املاء‪ ،‬وأحيانًا ترفعها يف وجه الشمس ملنع أشعتها احلا َّدة‬
‫اجلارحة‪ ،‬ال تنتبه إن س َّلم عليها أحد أو حتى استنكر فعلها‪ ،‬وعندما‬
‫ٍ‬
‫برجفة‬ ‫اقرتبت منها‪ ،‬كانت عيناها مشتعلتني بالرغبة‪ ،‬ويداها هتتزان‬
‫ناعمة‪ ،‬وملا أبرصتني أحدق فيها تركت ثِياهبا تبتل يف املاء‪.‬‬
‫ٍ‬

‫‪51‬‬
‫حماولة يائسة للنجاة‬

‫شهر واحد قضته «األبلة إهلام» يف القرية‪ ،‬قبل أن تُع ِّلق نفسها يف نافذة‬
‫البيت‪ ،‬وهتدد بالقفز وهي ترصخ‪« :‬أريد العودة للقاهرة»‪ ،‬وجتمع الناس‬
‫يتأملوهنا‪.‬‬
‫زوجها سكنته احلرية يقلب نظراته يف الناس ثم يسبهم ويلعنها‪ ،‬يدخن‬
‫ويرصخ‪« :‬جئت بك من أرصفة املحطات»‪.‬‬
‫أنا العائد من املدرسة الثانوية أمتنى أن تفلت ساقها من الثوب فينكشف‬
‫نورها‪ ،‬األطفال أرادوا أن تلقى إليهم قطع احللوى من النافذة مثلام فعلت‬
‫مرة من قبل‪ ،‬أمي وأخريات قلن «بنات آخر زمن»‪« ،‬سعيدة عبد النبي»‬
‫أبدت إعجا ًبا بفستاهنا األمحر «نصف الكم»‪ ،‬بينام فتح «إسامعيل صدقي»‬
‫حجر جلبابه ىف انتظار سقوطها‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ُغسل‬

‫و َق َف ْت ذاهلة أمام اجلسد املمدد يف استسالم عىل الدكة اخلشبية‪ ،‬هذه‬


‫مرهتا األوىل التي تدخل فيها غرفة ال ُغسل‪ ،‬وتشارك يف هتيئة فتاة صغرية‬
‫لدخول قربها‪ ،‬يدها هتتز وعيناها ال تستقران‪ ،‬وىف أذهنا يشء حيجب‬
‫سمعها‪ ،‬وليس يف نفسها قدرة عىل الكالم‪.‬‬
‫الطفلة التي مل تبلغ احللم ماتت فجأة‪ ،‬واضطرت هي أن تساعد ىف‬
‫تكفينها‪ ،‬لكنها ندمت عىل ذلك‪ ،‬وفكرت يف اخلروج‪ ،‬لكن اخلجل‬
‫يمنعها‪ ،‬مدَّ ت يدها لتلمس اجلسد امليت‪ ،‬لكنها مل تشعر بأي ملمس‪،‬‬
‫فانتفضت من اخلوف‪.‬‬
‫كان دورها سكب املاء الدافئ‪ ،‬بينام امرأة عجوز مترر يدها املدربة عىل‬
‫اجلسد املستكني‪ ،‬مع ذلك تقسم «صباح» أن البنت ابتسمت هلا‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫العائد‬

‫جيلس «سعد»‪ ،‬كل صباح عىل كرسيه اخليزران يف الساحة الواسعة‬


‫اشف سعد»‪.‬‬‫يطلب من األطفال املارين أن يدعوا له‪« :‬يا رب ِ‬

‫متداخلة‪ِ ،‬عربة للجالسني‬


‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وحروف‬ ‫كانت عودته بساق جيرها وف ٍم ٍ‬
‫ملتو‬
‫عىل املقاهي «ال أمان يف احلياة‪ ..‬ها هو سعد يعود بعد عرش سنوات غربة‬
‫مثل طفل أبله»‪ ،‬أما األمهات الاليت كن شابات يف زمن سعد‪ ،‬فيقلبن‬
‫مالحمهن «ياه عىل الدنيا‪ ..‬تكرس القلب»‪ ،‬إال «سميحة» ابنة عمه التي‬
‫خطبها‪ ،‬وقبل فرحه هبا بأيام سافر دون أن يودعها‪ ،‬تقول «ذنبي»‪.‬‬
‫يف طريقهم إىل املدرسة ودون أن يطلب منهم التف األطفال حوله‬
‫ورفعوا أيدهيم‪« :‬يا رب ِ‬
‫اشف سعد» فابتلت عيناه بالدمع‪ ،‬ومات‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫خري يا غراب‬

‫استيقظت «لطيفة» فزعة‪ ،‬جلست يف فراشها متكومة وعرق خفيف‬


‫حتس به أسفل ذقنها‪ ،‬كان صوت الغراب يصلها من عىل النخلة القريبة‬
‫ومثريا للحزن «كاك كاك‪ ..‬كاك كاك»‪ ،‬مررت يدها عىل‬ ‫ً‬ ‫ممتل ًئا باخلوف‬
‫وجهها بتوتر ورددت أكثر من مرة‪« :‬خري يا غراب»‪.‬‬
‫حتسست أطفاهلا النائمني إىل جوارها‪ ،‬وأعادت فك أجسادهم‬
‫املتشابكة‪ ،‬حاولت أن تنهض‪ ،‬لكن نواح الغراب جعلها ضعيفة خائفة‬
‫ومرتقبة‪ ،‬فاقرتبت من «عيد» النائم عىل الدكة القديمة خلف البوابة‪،‬‬
‫كانا قد تشاجرا أمس‪ ،‬وقررت أال تكلمه ثانية‪ ،‬لكنها اقرتبت منه حتى‬
‫سمعت صوت أنفاسه املحرشجة فاطمأنت‪ ،‬وعادت جتلس عىل العتبة‬
‫احلجرية للبوابة يف االنتظار‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫الذاهبون إىل اجلنة‬

‫التفت «عبد العليم» سائق امليكروباص إىل الكريس الشاغر خلفه‪،‬‬


‫وظن أنه استعجل يف مغادرته موقف السيارات (أسيوط ‪ -‬القاهرة)‪،‬‬
‫لكن عىل أول الطريق الصحراوي اعرتضه رجل طويل يف يده حقيبة‬
‫صغرية‪ ،‬وطلب أن يأخذه معه إىل القاهرة‪.‬‬
‫حكى رجل نحيف يركب بجانب النافذة عن زوجته التي تشاجرت‬
‫مع جرياهنا «قلت هلا دعيهم نحن فقراء ولنا اجلنة»‪ ،‬ر َّد عليه الرجل‬
‫الطويل صاحب احلقيبة الصغرية‪« :‬ال جنة للفقراء من حيمل طينًا يف‬
‫الدنيا حيمله يف اآلخرة»‪.‬‬
‫أوقف «عبد العليم» سيارته يف قلب الصحراء‪ ،‬وأقسم عىل الرجل‬
‫صائحا فيه‪« :‬غص ًبا عنك سنذهب إىل اجلنة»‪ ،‬وانطلق‬
‫ً‬ ‫الطويل أن ينزل‬
‫غري مهت ٍم بالكريس الشاغر‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫رجل احلملة‬

‫كل بيوت الدرب حتتفظ لعبد اهلل الشحات بنصيبه‪ ،‬يمر َّ‬
‫كل يوم أربعاء‬
‫ليأخذه‪ ،‬عجوز لدرجة أن الزمن توقف عىل حماسبته‪ُ ،‬يطوق وسطه بـ‬
‫«محلة» كبرية من «إيشاربات» النساء‪ ،‬ال تعرف من أين حصل عليها‪.‬‬
‫ال يفعل عبد اهلل سوى أن جيلس أمام أي بيت خيتاره‪ ،‬ويأيت إليه الناس‬
‫جبن أو أرغفة أو حبوب قمح‪ ،‬فيشري إليهم؛ ليضعوا كل يشء يف‬ ‫بقطع ٍ‬
‫«اخلُرج» الذى عىل ظهر احلامر‪.‬‬
‫منكسا رأسه‪ ،‬وفتاة شابة‬
‫ً‬ ‫مر يف الدرب راك ًبا محاره‬
‫يوم األربعاء املايض َّ‬
‫عنف تطلب حق عبد اهلل‬‫تقطر أنوثة تسحبه وراءها‪ ،‬وتطرق األبواب يف ٍ‬
‫الشحات‪ ،‬وعندما يغضب الناس يرفع رأسه يف حزن ويقول‪« :‬زوجتي»‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫صالة‬

‫انتظم اجلميع يف صالة الظهر‪ ،‬سبعة أشخاص‪ ،‬أربعة رجال وثالثة‬


‫أطفال‪ ،‬والشيخ حممد صالح يؤمهم‪ ،‬بدأ الركعة األوىل ومل ينته حتى‬
‫اآلن‪ ،‬ظل واق ًفا ال يركع‪.‬‬
‫متلمل «عيل عارف» وفكر «رجالي لن حتتمال»‪ ،‬وقال محدي عطية‬
‫«ميتني أهلك يا شيخ حممد مايل أنا ومال الصالة»‪ ،‬ورفع احلاج حممود‬
‫عينيه‪ ،‬ثم أخفضها ومتنى أن اهلل مل يره‪ ،‬والعجوز راشد صبحي جلس‪.‬‬
‫أما األطفال فأحدمها ال أذكر اسمه غادر املسجد‪ ،‬وانشغل «عوض»‬
‫يف إضاءة اللمبات‪ ،‬أما «عيل» فتحرك ناحية الشيخ حممد‪ ،‬ونظر يف وجهه‬
‫رآه يبكي فعرف أن «عفاف» زوجته طردته من البيت للمرة العرشين‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫يبكي ويضحك‬

‫شقت الرصخة الليل نصفني‪ ،‬ختيلها «عاطف» طلقة بندقية خرجت‬


‫من فم عمته فأضاءت السامء‪ ،‬فقد نام أبوه بعد ثالثة أيام متواصلة من‬
‫األنني‪ ،‬لكنه مل يستيقظ رغم توايل رصخات األقارب واملجاملني‪.‬‬
‫بدأ قرآن الفجر وصمت الباكون‪ ،‬وجلس عاطف أمام املوقد ينتظر‬
‫أن يدفأ املاء ليتوضأ‪ ،‬يلقي احلطب يف النار ويبكي‪ ،‬يعبث برتاب املوقد‬
‫ويئن‪ ،‬يلمس املاء بإصبع يده وينظر ناحية غرفة أبيه امليت‪ ،‬يعيد ترديد‬
‫اآليات مع راديو املسجد القريب‪ ،‬يتنصت للحديث اخلافت واملتقطع‬
‫أشباحا يف البيت‪.‬‬
‫ً‬ ‫ألمه‪ ،‬يرى إخوته هييمون‬
‫تذكر والده ذات صباح قريب كان يسابقه يف اجلري باحلقل‪ ،‬فضحك‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫شال أسود‬

‫بعد انتهاء طابور الصباح‪ ،‬وقف األستاذ حسنني‪ ،‬بوجه متجهم‪،‬‬


‫وطلب من «صالح» أن خيرج من الفصل‪ .‬بعدها بدقائق انترش اخلرب‪،‬‬
‫فرائحة الدم التي نتنفسها اآلن تقول بأن املعركة التي نشبت يف الصباح‬
‫يتيم‪.‬‬
‫جعلت «صالح» ً‬
‫يأت مرة ثانية‪ ،‬رصت‬ ‫تركت مكان «صالح» جانبي شاغرا‪ ،‬لكنه مل ِ‬
‫ً‬
‫أقابله صباح كل يوم‪ ،‬وعيناه متورمتان من السهر مرتد ًيا جلبا ًبا َ‬
‫أزرق‬
‫ً‬
‫وشال أسو َد ومعل ًقا يف كتفه بندقية أطول منه‪ ،‬فمنذ مقتل والده صار‬
‫مطال ًبا باملبيت أمام بيت سعد سليط يف انتظار خروجه ليثأر منه‪.‬‬
‫عندما وقف األستاذ حسنني‪ ،‬بوجه متجهم‪ ،‬وطلب مني أن أغادر‬
‫الفصل‪ ،‬فكرت‪ :‬هل أملك ً‬
‫شال أسو َد؟‬

‫‪60‬‬
‫حريق‬

‫كان عفريت «سلامن شحاتة» حيرض كل ليلة أمام بيته‪ ،‬جيلس عىل الدكة‬
‫اخلشبية مهمو ًما بسبب شجار أوالده طوال اليوم عىل تقسيم تركته‪،‬‬
‫يرشب سجائره‪ ،‬ويرتك رمادها وأعقاهبا خلفه‪.‬‬
‫يسمع العفريت أوالده يسبونه وال يفكرون يف الثأر له‪ ،‬يريدون أن‬
‫حيرموا بناته حتى من دخول البيت‪ ،‬ويريد ابنه األكرب «شحاتة» أن يرسق‬
‫كل يشء فيخفي حجج األرض والنقود‪.‬‬
‫سمع عفريت «سلامن شحاتة» من جملسه عىل الدكة اخلشبية «عصمت»‬
‫ابنه األوسط يقول إنه سيذهب ليبول عىل قربه يف الصباح‪ ،‬كانت‬
‫غي‬
‫وهم بالثاين‪ ،‬لكنه ّ‬
‫َّ‬ ‫نفسا‬
‫السيجارة يف أوهلا سحب العفريت منها ً‬
‫هب واق ًفا نفض حجر جلبابه‪ ،‬وألقى سيجارته املشتعلة يف قلب‬
‫رأيه‪َّ ،‬‬
‫البيت وغادر‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫السقف‬

‫«يا شبابك يا مجال»‪ ،‬اندفعت اجلملة اجلارحة ناحية «خرضة بنت‬


‫عالم»‪ ،‬قادمة من أول الدرب لتصيبها باإلغامء‪ ،‬وقبل أن يقوهلا أحد‬
‫رصاحة ىف وجهها عرفت أن ابنها الوحيد «مجال» مات‪.‬‬
‫بعد أسبوع من الدفن‪ ،‬خرجت «خرضة» مستندة إىل امرأتني‪ ،‬ومعها‬
‫بنَّاء ومحاران حيمالن «الطوب واملاء»‪ ،‬وجلست أمام القرب تضع ترابه عىل‬
‫رأسها وتبكي‪.‬‬
‫ارتبك البنَّاء‪ ،‬الذي قرر أن يكون عمله لوجه اهلل‪ ،‬لكنه يريد أن ينتهي‬
‫دوارا‪ ،‬واجعل له سق ًفا»‪،‬‬ ‫من احلر الذي يأكل رأسه‪ ،‬قالت له‪ِ :‬‬
‫«ابن له ً‬
‫قال «يا عمة‪ ،‬السقف يمنع رمحة اهلل عنه»‪ ،‬رصخت‪« :‬ولدي ال حترقه‬
‫الشمس كل صباح»‪ ،‬ثم ألقت طرحتها السوداء عىل القرب حتميه‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫انتحار‬

‫«بقرتك الصغرية ألقت نفسها من الدور الثاين وماتت؟»‬


‫عندما أخرب الطفل الذى جاء يعدو «فاطمة» بذلك‪ ،‬وكانت تعزق‬
‫األرض‪ ،‬ظلت الفأس معلقة يف الفراغ حلظات‪ ،‬ثم هوت دون أن تقطع‬
‫شي ًئا‪.‬‬
‫دخلت فاطمة الدرب حافية‪ ،‬كان الناس يلتفون حول البقرة الصغرية‬
‫امليتة‪ ،‬املولودة منذ أربعة أيام فقط‪ ،‬ستة وتسعون ساعة ال غري‪ ،‬وخيط‬
‫رفيع من الدم يسيل بني أقدامهم‪.‬‬
‫فكرت فاطمة كيف للحيوان الصغري أن يصعد الدور الثاين عىل‬
‫السلم‪ ،‬ويطل من البلكونة ويلقي بنفسه‪ .‬وتلفتت حوهلا بح ًثا عن يشء‬
‫بكف‪ ،‬فقد جاء‬
‫ٍّ‬ ‫أيضا يرضب ك ًّفا‬
‫ما مل جتده‪ ،‬كان «عزرائيل احليوانات» ً‬
‫همة ً‬
‫بدل منه‪.‬‬ ‫متأخرا‪ ،‬ومل يعرف من قام با ُمل َّ‬
‫ً‬

‫‪63‬‬
‫شباك بحري‬

‫ترضب رأسها بالدائر اخلشبي للشباك البحري وترصخ‪ ،‬تشد شعرها‬


‫الذي غزاه الشيب وتنهنه‪ ،‬متد يدها ملسامر ناتئ وتدمي نفسها‪.‬‬
‫تتذكر قبل مخسة وعرشين عا ًما‪ ،‬عندما تزوجت كانت الغرفة بال هتوية‪،‬‬
‫قالت لزوجها يف دالل‪« :‬افتح يل شباكًا يف احلائط هنا»‪ ،‬وأشارت بيدها‬
‫إىل مساحة فارغة بحانب الدوالب‪ ،‬وبينام دخان سيجارته يزيد من ضيق‬
‫الغرفة‪ ،‬قال بصوت خشن‪« :‬يا فقرية تريدين شباكًا يطل عىل املقابر؟»‪،‬‬
‫قالت‪« :‬بحري وهواه يطري عىل القلب»‪.‬‬
‫صارت بعد مخسة وعرشين عا ًما‪ ،‬وبعدما دفنوا ابنها البكري عىل ُب ْعد‬
‫مائة مرت من البيت‪ ،‬ال تغادر مكاهنا وراء الشباك املفتوح ليل هنار‪ ،‬لكن‬
‫هواءه راكد ومثقل برائحة الفقد‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫عاصفة‬

‫العاصفة الرتابية التي ه َّبت‪ ،‬عرص أمس‪ ،‬أخذت يف طريقها احلاج‬


‫حممد حسنني‪ ،‬ومل يعثر عليه أحد‪.‬‬
‫تقول ابنته‪« :‬سمعت صوت الريح وظننتها ضي ًفا يطرق البوابة»‪،‬‬
‫«بكيت عندما اقتحم الرتاب الدرب بينام وقف جدي‬
‫ُ‬ ‫ويقول حفيده‪:‬‬
‫فا ًحتا ذراعيه»‪ ،‬ويضيف ابن عمه‪« .‬كان ينادي بأسامء الراحلني» ويقول‬
‫شيخ اجلامع‪« :‬نصيل صالة الغائب»‪.‬‬
‫امتأل البيت بالناس لكنهم بعد ساعات ترسبوا من الباب اخللفي‬
‫وعادوا لزوجاهتم ومل جيلسوا أمام بيوهتم مرة أخرى‪ ،‬تأكد كل واحد‬
‫منهم أن الباب مغلق جيدً ا‪ ،‬وال ضيوف تطرق الباب‪.‬‬
‫وبينام الناس يصطفون يف صالة جنازته دخل احلاج حممد حسنني‬
‫وبالكاد وجد مكانًا يف الصف الثالث فاستقام‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫أبوة‬

‫«أغميض عينيك»‪ ،‬متنيت أن تفعل ذلك‪ ،‬يف الوقت نفسه مل أستطع أن‬
‫أمنع دمعتي‪ ،‬فسقطت عىل احلدِّ الالمع للسكني القابض عليها بيدي‬
‫املهتزة‪ ،‬كنت أقرتب منها وأفكر «هل أطعنها من ظهرها‪ ،‬هل أنادهيا‪،‬‬
‫ثم أضع السكني يف قلبها عندما هتم باحتضاين‪ ،‬أم أنتظر نومها فأذبحها‬
‫ثم أقتل نفيس‪ ،‬ال‪ ..‬لن أقتل نفيس فأنا مل أرتكب أي خطأ‪ ،‬بل هي ابنة‬
‫اخلطيئة»‪.‬‬
‫التفتت إ َّيل وعيناها اتسعتا بشكل مجيل‪ ،‬وتطاير شعرها فلمس يدي‪،‬‬
‫فارجتفت‪ ،‬وقلت لنفيس‪« :‬أغمض عينيك وافعلها»‪ ،‬لكنها سألتني فجأة‪:‬‬
‫أين ماما؟‬
‫كانت أمها قد أغلقت باب اخلروج بعنف منذ قليل‪ ،‬وهي تقول‪« :‬نعم‬
‫ليست ابنتك»‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫بانو بانو‬

‫انتهى الربنامج اإلذاعي‪ ،‬وظلت أغنية «بانو بانو» معلقة يف فراغ‬


‫االستديو‪ ،‬كان املذيع قد اختتم هبا حواره مع السيايس املعروف‪.‬‬
‫وجه رضبة قاضية لوجه‬
‫ابتسم املذيع وعدل ياقة القميص معتقدً ا أنه َّ‬
‫السيايس الذى زعم أنه خيدم الناس‪.‬‬
‫منسق األغنيات باإلذاعة شعر بالرضا وكتب عىل «الواتس» خلطيبته‪:‬‬
‫«أخريا عرفت حقيقتك‪ ..‬مع السالمة»‪.‬‬
‫ً‬
‫عامل األسانسري يف اإلذاعة خبأ‪ ،‬وهو يفتح الباب للسيايس‪« ،‬الطلب»‬
‫الذى كان ينتوي أن يقدمه له‪ ،‬وأخفى الورقة يف سقف األسانسري‪.‬‬
‫مدير املحطة‪ ،‬أصابته ربكة وفكر‪ ،‬هل انتبه املسئولون ملا حدث؟‬
‫السيايس بجسده القصري املثقل بالشحم‪ ،‬نظر يف املرآة املعتمة‬
‫لألسانسري‪ ،‬وقال‪« :‬نعم أنا يف وسامة أمحد مظهر»‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫مهمة حتتمل اخلطأ‬

‫تقاطر صف طويل من السيارات‪ ،‬يف وجوم‪ ،‬عىل الطريق القديم‬


‫املتجهة ناحية مستشفى املركز‪ ،‬كانت «رئيسة» قد وضعت طفلتها صباح‬
‫اليوم‪ ،‬وعندما رصخت الطفلة صمتت األم‪.‬‬
‫املطلوب من الرجال الذاهبني إلعادة «رئيسة» قبل البهدلة يف املستشفى‪،‬‬
‫أن يكتمن رصخات النساء‪ ،‬وأن حتمل إحداهن الطفلة املولودة يف رفق‬
‫وال حتملها ذنب موت أمها‪.‬‬
‫املطلوب من الرجال الذاهبني إلعادة «رئيسة» أن يقنعوا مدير‬
‫املستشفى‪ ،‬باملحايلة أو بالقوة‪ ،‬بخروج جثامهنا قبل ظالم الليل‪.‬‬
‫مل يفكر أحد من الرجال العائدين بـ«رئيسة» إىل اجلبانة‪ ،‬أهنا ربام تكون‬
‫«وحدوه»‪،‬‬
‫يف غيبوبة طويلة‪ ،‬وحده «اللحاد» وهو يوسدها الرتاب قال ِّ‬
‫فردوا خلفه يف صوت يليق باملقابر املحيطة‪« :‬ال إله إال اهلل»‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫جنني‬

‫سبع سنوات كاملة و«عزت الرميل» ينتظر ً‬


‫طفل‪ ،‬يقول إنه «جيلس» يف‬ ‫ُ‬
‫بطن أمه يسبح اهلل‪ ،‬ويراقب الدنيا‪.‬‬
‫يقول له الناس‪ :‬متى ستضع امرأتك يا عزت؟ يقلب عينيه يف السامء‪:‬‬
‫كل يشء بميعاد‪ ،‬يشحب وجهه ويضيف‪ :‬صارت أمه «ناحلة» ابن‬
‫الكلب يأكل طعامها ويرشب ماءها وجيلس يف ظلها‪.‬‬
‫ويف كل ليلة يلمس «عزت» بطن امرأته الضامرة‪ ،‬وهيمس إىل ابنه‪:‬‬
‫عجوزا‪ ،‬أكلني الزمن‪ ،‬اخرج‪ ،‬أريد أن أتوكأ عليك‪،‬‬
‫ً‬ ‫كربت‪ ،‬رصت ً‬
‫رجل‬
‫هنب الناس عمري وتركوين ً‬
‫طلل عىل طريق املوت‪.‬‬
‫تربت امرأة عزت بيدها املرتعشة عىل يده النافرة العروق‪ ،‬وتقسم وهي‬
‫بني الصحو والنوم‪ :‬بأهنا شعرت بالطفل يتحرك يف أحشائها‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫سيارة مرسعة‬

‫حترك «إسامعيل أبو سنة» شار ًدا يفكر يف رد اإلهانة التي تلقاها عىل‬
‫يد «ممدوح شكل» الذي أمسك فروة رأسه وهدده أنه لو رآه مرة أخرى‬
‫يقلب عينيه يف شبابيك بيتهم سيحلق له شعره زيرو‪.‬‬
‫كلبة حديدية‪ ،‬وسار‬‫ختلص «إسامعيل» من قبضة «ممدوح» اجلافة مثل َّ‬
‫غاض ًبا‪ ،‬غاب قرابة ساعة يف امليدان‪ ،‬لكن ذلك مل خيفف غضبه‪ ،‬فعاد‬
‫بوجه مكفهر‪ ،‬ودخل الشارع غري ٍ‬
‫آبه للزحام الذى كان عىل أوله‪.‬‬ ‫ٍّ‬
‫يفكر «إسامعيل» يف وسيلة لرد اإلهانة‪ ،‬ليس أمامه سوى الليل‪ ،‬خيتبئ‪،‬‬
‫ثم يشعل النار يف بيت «ممدوح»‪.‬‬
‫تابع سريه ُيدبر‪ ،‬ومل ينتبه إىل أن الزحام كان عىل جثة «ممدوح» الذى‬
‫أطاحت به سيارة مرسعة‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫أخوة‬

‫مل يبدأ احتفال املولد النبوي إال منذ دقائق قليلة‪ ،‬استقر كلٌّ يف مكانه‪،‬‬
‫وبدأ «احلاج كامل» يف مديح النبي‪ ،‬لكن خرج علينا «بخيت فهيم»‬
‫صارخا وكاش ًفا عن مطواة قرن غزال مزروعة يف بطنه‪.‬‬‫ً‬
‫أرضا‪ ،‬وحتلق الناس حوله‪ ،‬وواصل «احلاج كامل»‬ ‫سقط «بخيت» ً‬
‫املديح دقائق لكنه توقف‪ ،‬ثم وجدناه بوجهه املمتلئ بيننا يتطلع‬
‫لتقلصات وجه «بخيت»‪ ،‬وانعكست أضواء املولد متعددة األلوان عىل‬
‫خشب املطواة البني وعىل رسمتها احلديدية التي تشبه ثعبانًا يتلوى‪.‬‬
‫كان «بخيت» يرصخ وهو عىل األرض «اشهدي يا بلد أخوي حامد‬
‫ابن أمي وأبوي عايز يموتني»‪ ،‬بينام كان «حامد» واق ًفا بيننا يقول‪« :‬ال‬
‫خترجوا املطواة من بطنه سيموت»‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫جرو‬

‫ال يعرف أحدٌ ‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬كيف عاد «جالل» من «سفريته» بعد ستة‬
‫صغريا»‪ ،‬أمل يعرتض سائق‬
‫ً‬ ‫أشهر من الغياب يف الغردقة‪ ،‬حيمل «كل ًبا‬
‫امليكروباص عندما رأى شا ًّبا يعلق عىل كتفه حقيبة صغرية ويضم إىل‬
‫جروا؟‬
‫حضنه ً‬
‫فتحت أم جالل الباب‪ ،‬واندهشت‪ ،‬ثم محدت اهلل أن أباه قد مات منذ‬
‫سنوات‪ ،‬وأن إخوته قد خرجوا مبكرين إىل أشغاهلم‪.‬‬
‫كان الكلب الصغري األبيض يف أسود بعينيه الالمعتني يتشمم اهلواء‪،‬‬
‫ويرج لسانه الصغري‪ ،‬فمنحه «جالل» لقمته األوىل املرشبة بالبطاطس‪،‬‬ ‫ُ‬
‫فأكلها «اجلرو» برسعة‪.‬‬
‫تبسمت زوجة أخيه وسخرت‪« :‬اليل جاب لك خييل لك»‪.‬‬
‫نباحا خافتًا‪.‬‬
‫أدار اجلرو عينيه إليها‪ ،‬ثم أطلق ً‬

‫‪72‬‬
‫البيت القديم‬

‫جاهزا‬
‫ً‬ ‫أخربها ولدها‪ ،‬الواقف عىل الباب‪ ،‬أن بيتهم اجلديد صار‬
‫مبهجا يف البيت‬
‫ً‬ ‫لالنتقال إليه‪ ،‬فلم تفرح‪ ،‬وىف الوقت نفسه مل تتذكر شي ًئا‬
‫القديم‪.‬‬
‫مرعب‪ ،‬منذ دخلته مل تعرف فيه سوى قلة القيمة‪ ،‬دخلته ومل‬ ‫ٌ‬ ‫بيت‬
‫ٌ‬
‫تتجاوز طفولتها بعد‪ ،‬وتعرضت للرضب عىل يد زوجها كأهنا ممسوسة‬
‫من الشيطان‪ ،‬مات طفلها األول فرتكوها وحيدة تصارع احلمى‪ ،‬وعندما‬
‫أجربوا ابنتها عىل الزواج أشعلت االبنة يف نفسها النار يف إحدى ال ُغرف‬
‫اجلانبية‪ ،‬ويوم موت أخيها الوحيد أغلقوا عليها البوابة اخلشبية حتى ال‬
‫تذهب إىل جنازته‪.‬‬
‫وحدها احليطان القديمة حنَّت عليها‪ ،‬فكلام بكت نبتت من ساس‬
‫البيت شجرة؛ لذا عندما مهت باخلروج سقطت عىل عتبة البيت‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫زغرودة تليق بجنازة‬

‫أطلقت فاطمة بنت احلاج عيل زغرودة عالية‪ ،‬حلظة مرور نعش حسني‬
‫حممدين أمام بيتها‪ ،‬وأضافت «فرحانة لك اليوم يا حسني»‪.‬‬
‫ما حدث كان غري ًبا‪ ،‬مل يفهمه سوى الذين رأوا حسني حممدين يف أيامه‬
‫ومؤخرا عرف‬
‫ً‬ ‫مرتبصا بكل تفاصيل حياته‪،‬‬
‫ً‬ ‫األخرية‪ ،‬فقد صار املرض‬
‫ألزهايمر الطريق إليه‪ ،‬فراح كلام شاهد أحدً ا يسأله‪ :‬من أنت؟ وصار‬
‫الصبية يضحكون عىل سؤاله‪.‬‬
‫عندما علمت «فاطمة» باحلال التي وصل إليها «حسني» صارت كلام‬
‫طلعت شمس تقول هلا «كونى آخر شمس يراها‪ ،‬خذيه معك يف آخر‬
‫اليوم»‪ ،‬وبالفعل أخذته الشمس قبل أذان املغرب‪ ،‬فأطلقت «فاطمة»‬
‫زغرودة عالية عندما زارها نعشه‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫شبح‬

‫فتحت «ابتهال» شباك البيت املطل عىل الساحة الواسعة‪ ،‬فدخل منه‬
‫شبح‪ ،‬مل تره لكنها شعرت به عندما ملس يدها برفق‪ ،‬وتساءلت‪ :‬ما الذي‬
‫يريده؟‬
‫أحست بالشبح تتسع عيناه يف‬
‫مهت بنزع مالبسها تراجعت‪َّ ،‬‬ ‫بعدما َّ‬
‫تسبه‪ ،‬هي ابتسمت نصف ابتسامة‪.‬‬
‫انتظار ما تتكشف عنه الثياب‪ ،‬لكنها َّ‬
‫بعد قليل وقفت عىل السلم نصف متزنة‪ ،‬حتى طفلها الذى لوح هلا‬
‫من بعيد مل ترد عليه‪ ،‬وعندما رأته يلعب الكرة مع الشبح الذى كان يشبه‬
‫زوجها امليت مل هتتم‪ ،‬لكنها رصخت عندما أمسك الطفل وصحبه خارج‬
‫الدرب‪ ،‬فقيدوها يف رسيرها‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫عني سحرية‬

‫مل ختربين زوجتي أهنا ستغادر‪ ،‬أغلقت الباب خلفها وخرجت‪ ،‬لكن‬
‫فعرفت أهنا تركتني‪ ،‬ظلت عيناي‬
‫ُ‬ ‫صوت الباب وهو يغلق كان حزينًا‪،‬‬
‫معلقتني بالعني السحرية يف انتظار أن تعتم‪ ،‬بام يعني أهنا عادت‪ ،‬لكن‬
‫ذلك مل حيدث‪.‬‬
‫ً‬
‫كامل‪ ،‬وأظلمت العني السحرية‬ ‫كربت الدقائق حتى صارت يو ًما‬
‫مرات‪ ،‬وأنارها الضوء مرات‪ ،‬والظالل تروح وجتيء‪ ،‬لكن زوجتي مل‬
‫تكن إحداها‪.‬‬
‫كرب اليوم وصار عا ًما‪ ،‬قلت لنفيس‪« :‬زوجتي لدهيا حق يف مغادريت‪،‬‬
‫كامل خلف عني سحرية لباب‬‫كيف تعيش امرأة مع رجل ينتظرها عا ًما ً‬
‫خشبي»‪.‬‬
‫كرب العام وأنجب يو ًما جديدً ا‪ ،‬يف صباحه فتحت زوجتي الباب‪،‬‬
‫ودخلت فأصابتني الدهشة‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫البوكس‬

‫استيقظ فز ًعا‪ ،‬ظن أن الوقت رسقه‪ ،‬لكن نظرة رسيعة من النافذة‬


‫املفتوحة أكدت له أن الفجر مل يغادر إال منذ قليل‪.‬‬
‫دقائق وكان عىل الطريق يقف بال ُقرب من «هبة» التي ال ترفع عينيها‬
‫عن األوراق يف يدها تستعد المتحان اللغة العربية يف الثانوية العامة‪،‬‬
‫تنتظر سيارة‪ ،‬وكان يعرف أن هذه فرصته لرياها هبذا ال ُقرب طوال‬
‫الطريق الذي يتجاوز نصف الساعة‪.‬‬
‫جلس أمام املدرسة التي متتحن فيها‪ ،‬يقسم لنفسه أهنا رفعت عينيها‬
‫إليه‪ ،‬وابتسمت مرة‪ ،‬وأهنا التفتت عندما دخلت باب املدرسة‪ ،‬وبينام‬
‫يمني نفسه بالعودة معها‪ ،‬اقرتب منه أمني رشطة وأمسك به يف غلظة‬
‫وجره إىل «البوكس»‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫قرب ملون‬

‫ذهبت مع أمي صباح اجلمعة لزيارة املوتى‪ ،‬دخلنا اجلبانة‪ُ ،‬أمسك يدها‬
‫ُ‬
‫وأسري‪ ،‬وهي ترتحم عىل الراحلني وأنا أقلب عيني يف القبور وأشكاهلا‪،‬‬
‫كانت مجيعها طينية سوداء‪ ،‬قرب «عزيزة» الوحيد املختلف‪ ،‬كان مطل ًّيا‬
‫بألوان زاهية‪.‬‬
‫تقول أمي «عاشت عزيزة كام أرادت‪ ،‬يتهمها الناس فال هتتم‪ ،‬ويوم‬
‫موهتا مل خيرج خلفها سوى املضطر‪ ،‬دفنوها رسي ًعا‪ ،‬وعادوا»‪.‬‬
‫تفاجأ الناس بعد يومني‪ ،‬بأن قربها تم بناؤه بالليل‪ ،‬انعكست أشعة‬
‫الشمس يف الصباح عىل القرب بألوانه الزاهية فأنارته‪ ،‬ثالثة ألوان برتقايل‬
‫وساموي‪ ،‬وبينهام اللون األبيض‪.‬‬
‫يقول الطيبون‪« :‬بنته املالئكة ىف الليل دليل براءهتا»‪ ،‬ويرصخ شيخ‬
‫اجلامع‪« :‬ألوان حرام» تتحرس أمي عىل نفسها‪« :‬عايقة يف حياهتا وموهتا»‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫سنوات ِعجاف‬

‫صار عىل األسفلت‪ ،‬بعد أيام كثرية قضاها داخل منطقة صحراوية مل‬
‫يغادرها‪ ،‬كان يف الليل يسمع صوت أمه ختربه أهنا ليست بخري ثم تبكي‪.‬‬
‫كثريا‪ ،‬قبل أن يتوقف ميكروباص ينقصه راكب‬ ‫عىل الطريق انتظر ً‬
‫شبحا‪ ،‬عندما مدَّ يده‬
‫ً‬ ‫واحد‪ ،‬نظر إليه الناس باستغراب‪ ،‬كأهنم يرون‬
‫باألجرة للسائق‪ ،‬قال له السائق مجلة واحدة «األجرة وصلت»‪.‬‬
‫بحث عن تليفونه القديم ليخرب أمه أنه عائد يف الطريق‪ ،‬لكن اجلرس‬
‫ظل يرن بال جميب‪ ،‬قبل أن يستسلم لنعاس خفيف رأى السيارة تطري‬
‫دون جناحني‪ ،‬فأغمض عينيه‪.‬‬
‫عجوزا جدًّ ا‪ ،‬وأدرك أهنا تنتظره‬
‫ً‬ ‫عندما وصل البيت‪ ،‬رأى أمه صارت‬
‫منذ سبع سنوات‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫فالتينو‬

‫كان أصحايب ينادونني «فالنتينو» بينام جديت تقوهلا «فالتينو»‪ ،‬أزجمر‪:‬‬


‫«يا جديت إن فالتينو تعني فاليت ولص»‪ ،‬تقول يل‪« :‬أنت كذلك‪ ،‬لقد‬
‫كنت ترسق مني أقامع السكر»‪.‬‬
‫يوم موهتا‪ ،‬كان أيب يبكيها مثل طفل تائه‪ ،‬بينام أمي ترصخ بأعىل صوهتا‬
‫لصا أرسق‬
‫وترفع عيوهنا كي يرى الناس دموعها‪ ،‬وأنا متنيت أن أكون ً‬
‫من قلبها املوت وأرميه عىل أي من اجلالسني املنتظرين لدفنها‪.‬‬
‫يف املساء كان مفتاح غرفتها يف يدي‪ ،‬ال أتذكر كيف حصلت عليه‪،‬‬
‫لكن وسط انشغال اجلميع باملأتم دخلت‪ ،‬وجدت ثِياهبا ودوالهبا وعلبة‬
‫كرتونية هبا الكثري من أقامع السكر‪ ،‬وصورة صغرية يل من أيام املدرسة‬
‫مكتوب عليها «فالتينو»‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫الغدار‬

‫يبكى «محيد» ويده تروح وجتيء عىل جثامن مجله امليت‪ ،‬يقول «مل أقصد‬
‫إهانته‪ ،‬لكنه أسقط ِحل القمح»‪.‬‬
‫انترشت احلكاية مثل جرح يتسع‪ ،‬وعرف الناس أن مجل «محيد»‬
‫قهرا‪.‬‬
‫الغاضب أراد قتله‪ ،‬وعندما فشل مات ً‬
‫رصنا مجي ًعا نحفظ ما حدث‪:‬‬
‫يف الصباح‪ ،‬كان «محيد» جير مجله بني احلقول‪.‬‬
‫يف الظهر انزلقت قدم اجلمل‪ ،‬فأسقط احلمل كله يف النهر‪ ،‬فرضبه‬
‫«محيد» عىل رأسه ولعنه‪.‬‬
‫يف العرص‪ ،‬كانت عينا اجلمل مثل مجرتني‪ ،‬وفمه ٍ‬
‫ملتو يف غضب‪.‬‬
‫يف قلب الليل‪ ،‬دخل اجلمل عىل «محيد» مكان نومه وهنشه‪ ،‬كان «محيد»‬
‫يعلم أن اجلمل لن يغفر له؛ لذا نام يف مكان بعيد‪ ،‬وعندما صاح فيه «يا‬
‫غدَّ ار» رفع اجلمل عينيه املشتعلتني وسقط ميتًا‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫مل يلتفت‬

‫دخل األستاذ «نارص» الفصل‪ ،‬هدأنا بعد ضجة‪ ،‬وجلس بعدما كان‬
‫واق ًفا‪ ،‬وقال «سأحكي لكم قصة تؤكد أنكم أغبياء»‪.‬‬
‫طويل واحتوانا بنظرته وقال‪ :‬ذات يوم‪ ،‬غار احلكيم لقامن‬‫ً‬ ‫نفسا‬
‫أخذ ً‬
‫من غالمه فوضع له السم يف الطعام‪ ،‬وعندما شعر الغالم باملرض الشديد‬
‫قال ألمه‪« :‬اذهبي إىل لقامن وقويل له لقد مات الغالم»‪.‬‬
‫أرسعت األم احلزينة إىل لقامن وأخربته‪ ،‬شعر لقامن بالندم‪ ،‬وردد‪:‬‬
‫«مات الغالم ومل يلتفت»‪.‬‬
‫ملعت عينا األستاذ «نارص» وقال‪« :‬هل تعرفون معنى يلتفت؟»‬
‫مل ننطق‪ ،‬فقال بصوت ٍ‬
‫عال‪« :‬فهمها الغالم وصاح يف أمه‪ :‬أحرضي كل‬
‫خملل اللفت الذي يف البيت»‪ ،‬ثم أكله وشفى من السم‪.‬‬
‫كنَّا نكتم الضحك‪ ،‬إهنا املرة العرشون التي نسمع فيها القصة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫حلم ٍ‬
‫مؤذ‬

‫أ َّذن املغرب فدخلت بيتي‪ ،‬كان عشائي ينتظرين‪ ،‬مل تصل لقمتي األوىل‬
‫إىل فمي عندما انطلقت رصخة حا َّدة كأن شوكة نخيل غرست يف قدم‬
‫حافية‪ ،‬ورصخت امرأيت‪« :‬أوالد كامل صبحي جاءوا ليقتلوك»‪.‬‬
‫ً‬
‫جيوشا قادمة من‬ ‫أصابني الفزع‪ ،‬نظرت من ثقب الباب رأيت‬
‫ٍ‬
‫الدرب الضيق‪ ،‬واهنالت احلجارة عىل البيت‪ ،‬ترددت لثوان قليلة‪ ،‬قبل‬
‫أن أستجمع شجاعتي وأفتح الباب‪ ،‬أخرجت نصف وجهي وسمعت‬
‫أصواتًا هتدئ كامل صبحي وأوالده‪ ،‬يقولون‪« :‬عيب يا كامل»‪ ،‬فيصيح‬
‫يف حقد كأنه يبكي‪« :‬ال بد من تأديبه»‪.‬‬
‫عرصا‪ ،‬فقد رأيتني يف نومة‬
‫لعنت احللم الذى حكيته للناس يف املقهى ً‬
‫الظهر أرضب كامل صبحي عىل أم رأسه بيدي‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫سعاد والسيارة البيجو‬

‫مل يكن الصباح عاد ًّيا يبدأ بجمع البلح املتساقط من النخل‪ ،‬أو مطاردة‬
‫غراب استقر عىل شجرة سنط‪ ،‬فقد رست بالليل معلومة َّ‬
‫بأن «سعاد»‬
‫عادت من القاهرة‪ ،‬جاءت هبا سيارة «بيحو»‪.‬‬
‫نام األصدقاء األربعة حاملني بأن تصبح إجازة آخر األسبوع مشهودة‪،‬‬
‫كانوا يدرسون يف اجلامعة‪ ،‬بينام سعاد بالكاد جتاوزت اإلعدادية منذ‬
‫سنوات واكتفت هبا‪.‬‬
‫كل قد اغتسل ومشط شعره‪ ،‬وتفتحت‬ ‫تصادف األربعة يف الساحة‪ٌ ،‬‬
‫عيوهنم مثل زهور برية‪ ،‬وأمام بيت أم سعاد كانت تقف السيارة البيجو‬
‫السبعة راكب‪ ،‬وبجانبها جيلس سائقها يرشب شا ًيا تقدمه سعاد وبني‬
‫ساقيه تستقر «شيشة» عليها فحم متقد‪ ،‬و«سعاد» تشري إليهم بدبلة يف‬
‫يدها‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫امرأة بروح غراب‬

‫ُعصب» رأسها بطرحة‬ ‫جلست «فوزية» منذ الصباح الباكر أمام بيتها «ت َّ‬
‫كاحلة اللون‪ ،‬فعرف الناس أن اليوم سيكون أسو َد‪ ،‬وأنه قد تلبستها روح‬
‫الغراب‪ ،‬فلن يمر أحدٌ من أمام البوابة اخلشبية القديمة إال أصابته لعنة أو‬
‫حطت عىل رأسه كلمة نابية‪.‬‬
‫هكذا هي ‪ -‬منذ هجرها زوجها وتزوج امرأة أخرى بح ًثا عن ولد‪ -‬ال‬
‫أحد يعرف ر َّد فعلها‪ ،‬إما راضية تدعو باخلري وترسل الرمحات إىل املوتى‪،‬‬
‫وإما غاضبة تسب وتلعن وتقطع الكرة بالسكني إن دخلت باخلطأ بيتها‪.‬‬
‫لكنها ‪-‬اليوم‪ -‬صامتة منكسة الرأس‪ ،‬فعرف الناس َّ‬
‫أن زوجها املفارق‬
‫قد أنجب ً‬
‫طفل‪ ،‬فراحوا يدعون هلا بالصرب‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫رصاصة جمهولة‬

‫يف الصباح‪ ،‬خرج «مرعي» من البيت يضحك ويمزح‪ ،‬وعاد بعد صالة‬
‫العشاء جثة مثقوبة الصدر‪ ،‬وال يعرف أحد من أطلق الرصاصة وحفر‬
‫الثقب‪.‬‬
‫من البوابة‪ ،‬طلع النعش املصبوغ باحلزن‪ ،‬فلطمت النساء‪ ،‬وراحت أمه‬
‫تلوح بيدهيا صامتة بعدما أعجزها الكالم‪ ،‬والسائرون خلفه انطفأوا من‬
‫الغم‪.‬‬
‫امحرت عيناه من الرمد والغضب‪-‬‬
‫خالل اجلنازة‪ ،‬قال أبوه ‪ -‬وقد َّ‬
‫ال عزاء حتى نعرف القاتل‪ ،‬فغادر الناس وعيوهنم مغروسة يف األرض‬
‫يشعرون باخلزي‪.‬‬
‫يف الليل‪ ،‬تسلل «حسن» شقيق «مرعي» إىل سطح البيت‪ ،‬وراح يقلب‬
‫يف البندقية اجلديدة التي اشرتاها من لطفي أبو عوض‪ ،‬وجرهبا يف غيط‬
‫الذرة بأن أطلق رصاصة ناحية النيل‪ ،‬وتساءل‪« :‬هل قتلت أخي؟»‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫اختفاء بندقية‬

‫كاد سعد خليل يبكى عندما أخربته ابنته ‪-‬وهى تلهث من اجلري‪-‬‬
‫«البندقية ُسقت»‪.‬‬
‫عاد جر ًيا من الغيط‪ ،‬وكلام استوقفه أحد ر َّد عليه «أبدً ا» وأكمل اجلري‪،‬‬
‫وترك أخوه سعيد املدرسة دون أن حيصل عىل إذن مغادرة‪ ،‬وظل يردد‪:‬‬
‫«اسرتها يا رب»‪ ،‬بينام جلس أبومها «خليل» ملتص ًقا باحلائط يريد أن‬
‫خيتفي فيه‪.‬‬
‫قال سعد‪« :‬كيف دخل أوالد سليط البيت ورسقونا؟»‪ ،‬ومهس سعيد‪:‬‬
‫«ىف البيت خائن»‪ ،‬وارجتف أبومها خليل‪« :‬لن أغادر البيت أبدً ا»‪.‬‬
‫فزع سعد‪« :‬سيصنعون هبا مصيبة ويتهموننا»‪ ،‬ولطم سعيد‪« :‬ما لنا‬
‫نحن والبنادق» واختفى خليل يف اجلدار‪.‬‬
‫بكى «سعد» عندما رأى ابنه الصبي ينزل السلم معل ًقا يف كتفه البندقية‪،‬‬
‫ورصخ فيه‪« :‬يا ابن الكلب»‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫جنازة مشهور‬

‫جنازة هادئة‪ ،‬فقد كان الناس يتوقعون موت «مشهور» بسبب مرضه‬
‫عجوزا ليس له سوى ابنة أكلها‬
‫ً‬ ‫الطويل‪ ،‬وألنه عاش آخر عرشين عا ًما‬
‫الزمن وابن أتلفته جلسات املقاهي‪.‬‬
‫سار املشيعون خلفه صامتني يعدّ ون اخلطوات للمقابر‪ ،‬وفجأة توقفت‬
‫سيارة غريبة‪ ،‬ونزل منها أشخاص غرباء‪ ،‬راح أحدهم حيضن النعش‬
‫ويبكي‪ ،‬تعجب الناس‪ ،‬وزاغت عينا ابن مشهور‪ ،‬لكنه أكمل السري‪ ،‬بينام‬
‫اثنان من ِرفاق املقهى يساعدانه عىل اخلطو‪.‬‬
‫مرت دقائق‪ ،‬قبل أن يرصخ احلاضن للنعش‪« :‬مع السالمة يا خال‬
‫صالح»‪ ،‬حينها توقف كل يشء‪ ،‬وأصابت الدهشة حاميل جثامن مشهور‬
‫والسائرين خلفه‪ ،‬وحتى الطيور التي كانت تودعه‪ ،‬ومل يبق سوى أن يطل‬
‫«مشهور» من نومته األبدية‪ ،‬ويقول‪« :‬اجلنازة غلط»‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫رشاكة كلب‬

‫يقسم محادة الزغبي‪ ،‬أنه كان يأيت بالكرة من خلف الشجرة العجوز‬
‫عندما سمع صوت اجلرو‪ ،‬ذلك قبل أن هيجم عليه «عيل إسامعيل»‬
‫ويأخذه منه‪ ،‬ويرص «عيل» أنه أول من ملسه‪.‬‬
‫وقع شجار كبري‪ ،‬وراحا يمسكان اجلرو الذي يئن بينهام‪ ،‬وجتمع‬
‫أيضا‪ ،‬يف حماولة للبحث عن ٍّ‬
‫حل‪.‬‬ ‫الصبية‪ ،‬ثم جاء الكبار ً‬
‫رفضا‪ ،‬لعلمهام‬
‫فهزا رأسيهام ً‬
‫قال صبحي عياد‪« :‬اتركاه يذهب حلاله» َّ‬
‫أن «صبحي» ينتظر ذلك كي يستويل عليه‪ ،‬وصاح سامل حممدين «أغرقاه‬
‫ىف النيل» فاتسعت عينامها فز ًعا‪.‬‬
‫وال يعرفان من قال هلام اقتسامه‪ ،‬فيبيت عند كل واحد منكام يو ًما‪،‬‬
‫فتصبحان رشيكني يف الكلب‪ ،‬فأنارت الفكرة وجهيهام‪ ،‬ورشعا يف‬
‫تنفيذها‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫الطفل التاسع‬

‫ق َّلب فتحي عويس نظراته يف أحفاده الثامنية اجلالسني بال ُقرب من‬
‫فراش مرضه‪ ،‬باح ًثا عمن يشبهه منهم‪ ،‬يقول‪« :‬جاءت هبم أمهاهتم‬
‫ليشهدوا مويت»‪.‬‬
‫ثالث بنات أنجبهم فتحي عويس‪ ،‬ومتنى ولدً ا مل ِ‬
‫يأت‪ ،‬كان األحفاد‬
‫مستديري الوجه مثل مالئكة صغار‪ ،‬وممتلئي اجلسد ال يشبه أي منهم‬
‫نحافة اجلد التي يرضب هبا املثل‪ ،‬فشعر باخلذالن‪ ،‬وقرر أن يعيد جليبه‬
‫اجلنيهات القليلة التي كان سيمنحها هلم‪.‬‬
‫قديم كان‬
‫وفجأة دخل طفل يشبهه متا ًما‪ ،‬نحيف اجلسد ويرتدى جلبا ًبا ً‬
‫يملكه فتحي عويس عندما كان يف مثل أعامرهم‪ ،‬واقرتب منه ومهس يف‬
‫أذنه‪ ،‬فتململ اجلد‪ ،‬قبل أن يمنح اجلنيهات القليلة ألحفاده‪ ،‬ثم راح يتبع‬
‫الطفل التاسع‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫املهاجر‬

‫توقفت سيارة غريبة عىل الكوبري اجلديد‪ ،‬ونزل منها رجل قارب‬
‫الستني‪ ،‬تقبض يده املرتعشة عىل حقيبة خفيفة‪ ،‬دار بعينيه يف املكان‪ ،‬لكن‬
‫مل ينتبه أحد إليه‪.‬‬
‫وقف عىل أول الدرب القديم‪ ،‬فتطلعت إليه العيون‪ ،‬لكن مل يقرتب منه‬
‫أحد‪ ،‬فحار ماذا يفعل‪ ،‬وكيف يقدم نفسه للناس؟‬
‫وجد دكَّة خشبية فجلس‪ ،‬وترك حقيبته هامدة عىل األرض‪ ،‬مرت‬
‫ساعات‪ ،‬وكلام عرب أحدهم من أمامه نظر إليه نظرة خاوية ومىض‪.‬‬
‫كاد جين‪ ،‬ال أحد يسأل الغريب من أنت‪ ،‬وتذكر منذ أربعني سنة‪ ،‬حني‬
‫خرجت القرية مجيعها تودعه‪ ،‬وتسأله العودة‪ ،‬كان يقبض ىف يده القوية‬
‫عىل حقيبة خفيفة‪ ،‬ويكتم هجرته‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫خطوبة طويلة‬

‫جتاوز «ماهر» اخلمسني من عمره‪ ،‬وقد تركت الغربة أثرها يف جسده‬


‫وشعره‪ ،‬بينام «نوال» يف منتصف األربعينيات‪ ،‬ترتدى فستاهنا‪ ،‬وجتلس ىف‬
‫العرس بعينني دامعتني جعلت الكحل يسيل عىل اخلد الشاحب‪.‬‬
‫ظل هناك مخسة وعرشين عا ًما‪ ،‬وهي‬ ‫خطبها‪ ،‬وسافر إىل العراق‪َّ ،‬‬
‫تنتظره‪ ،‬كلام جاءها خطيب تقول‪« :‬خمطوبة يا ناس»‪ ،‬يتحرسون‪« :‬لعله‬
‫مات» ترد‪« :‬أخذت نصيبي»‪ ،‬يسخرون‪« :‬لعله تزوج» فتهمس‪« :‬حقه»‪،‬‬
‫يلعنها أبوها‪« :‬تفضحيننا» فترصخ‪« :‬اعتربوين ميتة»‪.‬‬
‫حلظة عودته‪ ،‬ظلت مكاهنا أمام الفرن مل تتحرك‪ ،‬احرتق اخلبز كله‪،‬‬
‫وخرج الدخان من النافذة الضيقة‪ ،‬وابتل الرماد بالدمع‪.‬‬
‫جلس أمامها صامتًا‪ ،‬ينظر إىل يدهيا املرتعشتني‪ ،‬أخربته بحزم أن‬
‫اخلطوبة طالت‪ ،‬وعليهام اإلرساع بالزواج‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫رحلة هنرية‬

‫كانت أيا ًما سوداء‪ ،‬قاد فيها أيب معركة رشسة ضد بيت الزغبي‪ ،‬ومل‬
‫يتوقف الرصاص بني بيتنا وبيتهم حتى رصخ حسن الزغبي معلنًا موته‪،‬‬
‫حي يف‬
‫ففر أيب وهجر البيت‪ ،‬وأقسم أخوة القتيل بأهنم سيقتلون كل ٍّ‬ ‫َّ‬
‫بيتنا‪.‬‬
‫ولدتني أمي يوم القتل‪ ،‬حاولت َّأل تنزلني‪ ،‬لكنها يف النهاية مل تستطع‬
‫فكتمت رصختها‪ ،‬ونزلت باك ًيا خائ ًفا‪.‬‬
‫ال أعرف من أين جاءهتا فكرة أن تضعني يف إناء من األملونيوم‪ ،‬وتلقي‬
‫يب يف النهر‪ ،‬وكان بيت الزغبي يقع شامل بيتنا فحملني التيار إليه‪ ،‬مرت‬
‫وأطل عاطف الزغبي بوجه مسود‬ ‫َّ‬ ‫دقائق قبل أن تطرق الباب يد غليظة‬
‫من احلزن‪ .‬أعادين إىل أمي وهو يقول‪« :‬أرضعيه حتى يأيت دوره»‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫النعش‬

‫وصلنا اجلبانة يف الصباح الباكر‪ ،‬لكن نعش خضريي عطية وصل‬


‫ومؤذن جامع الشيخ سلامن ينادي لصالة املغرب‪.‬‬
‫انترش خرب موت خضريي يف العراق قبل عرشين يو ًما‪ ،‬كنا نلعب الكرة‬
‫عندما رصخت أخته «بخيتة»‪ ،‬فعدنا إىل بيوتنا منكيس الرؤوس‪ ،‬نخرج‬
‫كل صباح عىل الطريق ننتظر‪ ،‬بينام تذهب أمه إىل اجلبانة‪ ،‬وهتيل الرتاب‬
‫عىل رأسها‪.‬‬
‫وأطل علينا صندوق حديدي به اجلثامن‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اقرتبت السيارة احلزينة‪،‬‬
‫مفتوحا ينتظره‪ ،‬فرصخت النساء يودعن امليت يف غربته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وكان القرب‬
‫وقال الناس‪« :‬مع السالمة يا خضريي»‪ ،‬لكن قبل أن ينزلوه القرب‪ ،‬اقرتب‬
‫إخوته وبعض أقارهبم وفتحوا الصندوق وأخرجوا الدوالرات املهربة‬
‫داخل اجلثة‪ ،‬بينام واصلت النساء الرصاخ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫روح معلقة‬

‫كم ليلة جلس «سليم الغضبان» يف املقهى حيكي‪ ،‬واحلكاية ال تنتهي‪،‬‬


‫فالنهاية مفتوحة‪ ،‬وفتحة احلكاية وقفلتها ابنه أمحد يف أوروبا‪ ،‬وأوروبا‬
‫بعيدة‪ ،‬وال ُب ْعد مر وصعب‪ ،‬وأصعب يشء أن حتكي وأنت ال تصدق ما‬
‫مريضا ينتظر خروج الروح‪.‬‬
‫تقوله‪ ،‬والقول األخري إن «سليم» سقط ً‬
‫والروح معلقة ترفض أن تغادر‪ ،‬فاملغادرة هلا رشوط منها جميء «أمحد»‬
‫لزيارته‪ ،‬والزيارة صعبة؛ ألنه وقع يف غرام بالد اخلواجات‪ ،‬خواجات‬
‫بناهتم مجيلة‪ ،‬واجلامل جعله يتزوج فتاة شقراء‪ ،‬ومع شقرها ربطته‬
‫بالعيال‪ ،‬وعياهلام أسامؤهم غريبة‪ ،‬والغربة أخذته‪ ،‬ومن يؤخذ ال يعود‪،‬‬
‫والعودة اليوم رضورة‪ ،‬والرضر أن تظل روح «سليم الغضبان» معلقة‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫غريب الدار‬

‫خرجت القرية برجاهلا ونسائها وعياهلا ملشاهدة الغريب الذي وجدوه‬


‫ميتًا عىل الطريق الرسيع‪ ،‬كان ملقى عىل جانب اجلرس ووجهه معجونًا‬
‫بالدم والرمل‪ ،‬بعدما صدمته سيارة وهربت بعيدً ا‪ ،‬وظل ينزف عىل‬
‫األسفلت للنهاية‪.‬‬
‫ومر نصف هنار قبل أن تأيت سيارة‬
‫جاء خفريان نظرا إليه وغادرا‪َّ ،‬‬
‫لتأخذه إىل املركز‪.‬‬
‫عدنا مثقلني باهلم‪ ،‬وجلس كل منَّا يف أي مكان‪ ،‬وصاح فينا محودة‬
‫القهوجي‪« :‬ما اجلديد يا ناس‪ ..‬كل يوم ميت عىل هذا الطريق احلزين»‪.‬‬
‫دق جرس التليفون يف دكان «بخيت» وسمعناه يرصخ‪« :‬ماذا تقول؟‬
‫امليت عىل الطريق من بلدنا ً‬
‫أصل؟ ما اسمه؟» فانتصبنا واقفني‪ ،‬ورصخت‬
‫النساء‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫صاحب الكرة‬

‫فجأة‪ ،‬وسط اللعبة‪ ،‬وبال مقدمات‪ ،‬أمسك «سامح» الكرة‪ ،‬وأقسم‬


‫بكل أيامنات املسلمني بأهنا لن تنزل إىل أرض امللعب مرة أخرى‪.‬‬
‫ال عالقة بني «سامح» واللعبة غري أنَّه صاحب الكرة‪ ،‬وعىل قدر جهله‬
‫دائم عىل رأس فريق‪ ،‬يقول إبراهيم‬
‫وعدم حرفنته وغشوميته إال أنه يأيت ً‬
‫سيد‪« :‬أقسم باهلل هذه الكرة مرسوقة من مكان ما»‪ ،‬ويرد عليه زاهي‬
‫سامل‪« :‬املهم نلعب»‪.‬‬
‫ال يزال «سامح» يمسك الكرة‪ ،‬وثامنية أطفال يتحايلون عليه كي‬
‫يسمح باستكامل اللعبة وهو يرفض‪.‬‬
‫«مسعود» الوحيد الذي مل يتحايل‪ ،‬كانت له وجهة نظر أخرى‪ ،‬فاندفع‬
‫ً‬
‫حامل «سامح» وألقى به ىف النهر‪ ،‬ورحنا مجي ًعا نرميه باحلجارة‪،‬‬ ‫فجأة‬
‫ونضحك‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫مس من العفريت‬
‫ٌ‬

‫أخربتني أمي أننا بعد صالة املغرب سنزور خايل مجال‪ ،‬فقد التقاه‬
‫عفريت عىل الطريق‪ ،‬وهو عائد من مشوار ليلة أمس‪ ،‬وقال له‪« :‬سلم يل‬
‫عىل أمك»‪ ،‬فظل خايل يرصخ حتى فقد عقله‪ ،‬وذهبوا به ألحد الشيوخ‪،‬‬
‫فأخربهم بأن العفريت تلبسه وأن له طلبات‪.‬‬
‫محا‪ ،‬وجديت غاضبة جدًّ ا‪ ،‬تسب العفريت الذي‬ ‫ذهبنا‪ ،‬كان البيت مزد ً‬
‫ذكرها وهو يسلب عقل ابنها‪ ،‬بينام جيلس خايل بني الناس الذين يواسونه‪،‬‬
‫يعيد ويزيد يف حكايات متداخلة‪.‬‬
‫كدت أشك يف موضوع العفريت‪ ،‬حتى استوقفني خايل وأنا أمحل‬
‫صينية الشاي وقال يل «تكتب جوابات لزينب يا عبيط‪ ،‬دي كل عيال‬
‫الفصل ماشية معاها»‪ ،‬فهتف احلارضون‪« :‬ال إله إال اهلل»‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫كوب شاي‬

‫حتركت السيارات مثقلة باحلزن ناحية مستشفى البداري‪ ،‬إلحضار‬


‫جثامن حممود غراب‪ ،‬ساعة واحدة وعاد الناس‪ ،‬وما إن دخلوا الدرب‬
‫الضيق حتى انطلقت زغرودة‪.‬‬
‫كان حشد من الرجال واقفني‪ ،‬وحممود غراب مل يمت‪ ،‬يرشب الشاي‬
‫واهن «سمعت املمرضة تقول عني مات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عال‪ ،‬وحيكي بصوت‬ ‫بصوت ٍ‬
‫رتا يف يده ويكتب «االسم حممود غراب‪،‬‬ ‫ورأيت ً‬
‫رجل مهي ًبا يمسك دف ً‬
‫السن أربعة ومخسني عا ًما»‪ ،‬ثم توقف عن الكتابة ونظر إ َّيل وأضاف «ال‬
‫يزال من حقه رشب كوب من الشاي»‪.‬‬
‫تطلعت العيون كلها إىل كوب الشاي يف يد حممود غراب‪ ،‬تبقى نصفه‪،‬‬
‫فاستعد خفاجي العطيفي ليلقنه الشهادة‪ ،‬واستعجلت ابنته فأطلقت‬
‫رصخة حا َّدة‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫وسادة مهرتئة‬

‫«ال يشء يستحق» يقوهلا أيب العائد بعد تسع سنوات من هجره لنا‪ ،‬وها‬
‫ٍ‬
‫مستلق عىل فراش قديم ينتظر موته‪ ،‬أصابتني عودته بكآبة شديدة‪،‬‬ ‫هو‬
‫بالكاد أذكره يركلني بقدمه خارج البيت‪.‬‬

‫ال حديث بيننا‪ ،‬أقف ُق ْرب الباب وال أدخل‪ ،‬ينادي َّ‬
‫عيل فأجتاهله‪ ،‬وىف‬
‫ليلة موته قادتني أمي إليه فاستجبت لدمعها‪ ،‬مالحمي ال تشبهه‪ ،‬وأناته مل‬
‫تؤثر َّيف‪ ،‬مل يبدو يل ناد ًما‪ ،‬رأيت قدمه التي كان يركلني هبا «مبتورة» إثر‬
‫حادثة قطار‪ ،‬كانت السبب يف عودته‪.‬‬
‫خرجت أمي لتحرض شي ًئا بعدما ربتت عىل كتفي‪ ،‬مد يده يريد وسادة‪،‬‬
‫فأمسكت بواحدة مهرتئة‪ ،‬واقرتبت من وجهه‪ ،‬فقال يل‪« :‬ال يشء‬
‫يستحق»‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫حماولة للموت بمزاج‬

‫انتصف الليل‪ ،‬والساقية تواصل النواح‪ ،‬وأنا يف احلوض القبيل أروي‬


‫غيط الذرة‪ ،‬أحاط يب‪ ،‬فجأة‪ ،‬ثالثة عفاريت‪ ،‬لكزين أصغرهم ببندقيته‬
‫ورصخ‪« :‬ال تروي أرضك مرة أخرى يف الظالم‪ ،‬يف املرة املقبلة سندفنك‬
‫جالسا مكاين حتى أرشقت الشمس‪.‬‬
‫ً‬ ‫ح ًّيا»‪ ،‬ظللت‬
‫عندما عدت إىل البيت‪ ،‬رصخ أيب‪« :‬انتبه حتت كل نبتة رجل مقتول»‬
‫وبكت امرأيت‪« :‬أنا صغرية عىل احلداد واحلزن»‪.‬‬
‫مل أنتبه‪ ،‬ويف ليلة حالكة أحاط يب العفاريت الثالثة‪ ،‬وقال أوسطهم‪:‬‬
‫«هل أغضبتك امرأتك هلذه الدرجة؟»‪.‬‬
‫عيل الرتاب‪ ،‬راغ ًبا ىف دفني‬
‫كنت قد أعددت قربي وانتظرت أن هييلوا َّ‬
‫ح ًّيا بمزاجي‪ ،‬نظر أكربهم إىل احلفرة وقال‪« :‬ليست كافية» سنمنحك‬
‫فرصة أخرى‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫خروج مؤثر‬

‫ألقى «بدير» سيجارته املشتعلة من يده‪ ،‬وذهب إىل أسيوط‪ ،‬ومنها إىل‬
‫القاهرة‪ ،‬ومل يعرف أبدً ا أن سيجارته اشتعلت يف احلطب‪ ،‬وأن النريان‬
‫رست حتى أحرقت القرية كلها‪.‬‬
‫عندما تشاجر مع شقيقه ً‬
‫ليل‪ ،‬مل هيتم أحد‪ ،‬وعندما هدد بأنه سيغادر‪،‬‬
‫ظنوه كال ًما يف حلظة غضب‪ ،‬ونام اجلميع عىل قولته األخرية‪« :‬غدً ا‬
‫تعرفون ما سأفعله»‪.‬‬
‫وجاء الصباح بلون الدخان ورائحة اللحم املحرتق‪ ،‬ركب «بدير»‬
‫القطار ومل يعرف أن ما تبقى من القرية يلعنه اآلن‪ ،‬وبينام كان ينزل يف‬
‫حمطة مرص‪ ،‬ويستقبل أول نفس ملوث بدخان املدينة‪ ،‬كان األطفال‬
‫يكتبون عىل احليطان برماد احلريق «بدير حرق البلد»‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫دمع دافئ‬

‫عاش عبد احلميد ومل يعرف يف حياته سوى عمته‪ ،‬ظنَّها أمه‪ ،‬وعندما‬
‫أوقفته امرأة غريبة‪ ،‬وهو خارج من املدرسة‪ ،‬وضمته وأخربته بأهنا‬
‫«عبلة» أمه‪ ،‬وأهنم أخذوه منها عنوة‪ ،‬وبكت‪ ،‬مسح دمعها الدافئ وشعر‬
‫باخلجل‪.‬‬
‫مات عبد احلميد بعد سبع سنوات من رحيل أمه‪ ،‬الذين شهدوا حلظات‬
‫احتضاره‪ ،‬خيربوننا بأنه كان يمسح دم ًعا ومه ًّيا عن وجهه‪ ،‬وينادى‪« :‬ال‬
‫تبكي يا عبلة»‪.‬‬
‫أما الذين ذهبوا ليودعوه إىل قربه‪ ،‬سمعوا زغرودة ال يعرفون مصدرها‬
‫بالتحديد‪ ،‬لكنهم واثقون بأهنا خرجت من املقابر‪.‬‬
‫ً‬
‫وطفل يلعبان‬ ‫ويقسم من زاروا اجلبانة بعد أسبوع‪ ،‬بأهنم شاهدوا امرأة‬
‫بني منامات املوتى‪ ،‬يتظاهر هو باالختباء وهي تبكي عليه‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الوصية‬

‫منحت عمتي عمرها أليب‪ ،‬تركت أوالدها وعاشت معنا يف مرضه‬


‫ذكرا‬
‫فض املحامي وصيته بعد املوت‪ ،‬مل جيد ً‬
‫األخري‪ ،‬ومع ذلك عندما َّ‬
‫هلا يف يشء‪ ،‬بينام حصلت أمي التي هجرتنا سنوات طويلة عىل نصيبها‬
‫ً‬
‫كامل‪.‬‬
‫كانت يد عمتي ترجتف‪ ،‬وهي تقول‪« :‬مل أخدمه من أجل يشء»‪ ،‬بينام‬
‫كانت ابتسامة أمي تتسع وهي متسح أثر الكحل بمنديلها األبيض‪.‬‬
‫ِ‬
‫يوص بيشء ألخته‪ ،‬أعطيت‬ ‫ً‬
‫مشغول بفعلة أيب الشائنة‪ ،‬ملاذا مل‬ ‫رصت‬
‫أمي حقها ومل أودعها‪ ،‬ورست مع عمتي يف الشارع‪ ،‬رددت‪« :‬يريد أن‬
‫خيترب حمبتي»‪.‬‬
‫أنا مل أغفر له‪ ،‬بينام عاشت عمتي يف بيتها ُق ْرب املقابر‪ ،‬وكل صباح‬
‫تسقي صبار ًة زرعتها عىل قرب أيب‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫رضيح بجانب القنطرة‬

‫أقسم اجلميع‪ ،‬بأهنم سمعوا يدً ا تطرق بواباهتم بعد منتصف الليل‪،‬‬
‫مهسا يقول‪« :‬ابحثوا عني عند القنطرة‬
‫وأضاف «حممود جامع» سمعت ً‬
‫القديمة»‪.‬‬
‫أنا مل أخربهم أنني رأيت أثر دم عىل باب بيتي‪ ،‬لكن قبل أن يصل‬
‫الشعاع األول للشمس كنت معهم نمشط الغيطان‪ ،‬حتى عثرنا عىل جثة‬
‫«رزق عبد الرايض» ملقاة بجانب القنطرة وعليها قش قمح‪.‬‬
‫رفض أخوه «عامر» أن يقيم جنازة‪ ،‬ورصخ‪« :‬يل ثأر أبحث عنه»‪،‬‬
‫وعدنا إىل بيوتنا نفكر «رزق مل يفعل شي ًئا طي ًبا يف حياته‪ ،‬لكنه بإخبارنا‬
‫حيا»‪.‬‬
‫عن موته يستحق رض ً‬
‫دفع «عامر» النصيب األكرب لبناء الرضيح‪ ،‬ومل خيربنا أنه من طرق‬
‫البوابات حتى نعثر عىل جثة شقيقه املقتول‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫يف انتظار العتاب‬

‫يسأل «حسن خليل» ابنه حممد «كيف حال أمك؟» فريد الطفل‪« :‬متشط‬
‫جف حلقه واتسعت‬ ‫شعرها»‪ ،‬فيحزن‪ ،‬كان قد طلقها‪ ،‬لكنه كلام رآها َّ‬
‫عيناه‪.‬‬
‫يتذكر بعد عام من غربته يف ليبيا‪ ،‬قالت له أمه‪« :‬طلقها إهنا تقف ىف‬
‫الرشفة بجلباب نصف كم»‪ ،‬فطلقها غياب ًّيا‪.‬‬
‫عاد للبلدة وانتظر عاصفة من العتاب‪ ،‬لكن مل يعاتبه أحد‪ ،‬توقع أن‬
‫يرسل إليه أبوها يسأله عن فعلته‪ ،‬ومل حيدث‪ ،‬ظن أهنا ستتصل به وتسبه‪،‬‬
‫ومل تفعل‪ ،‬حتى أمه مل تفتح املوضوع ال باخلري وال بالرش‪ ،‬كأنه مل يكن‪.‬‬
‫يف ظهر كل يوم جيلس عىل املقهى‪ ،‬يتحدث عنها‪ ،‬فال ينتبه الناس‪،‬‬
‫فيرشب شايه وينتظر عودهتا من العمل لرياها‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫الكاتب يف سطور‬

‫أمحد إبراهيم الرشيف‬


‫‪ -‬روائى وكاتب صحفي‪ ،‬رئيس قسم الثقافة ىف اليوم السابع‪.‬‬
‫‪ -‬حاصل عىل درجة الدكتوراه ىف النقد األديب‪.2020‬‬
‫صدر له‪:‬‬
‫‪-‬موسم الكبك‪ ،‬رواية‪ ،‬اهليئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة كتابة‪،‬‬
‫‪( 2013‬حاصلة عىل جائزة ساويرس ىف الثقافة والفنون ‪،)2016‬‬
‫صدرت الطبعة الثانية عن مؤسسة أروقة للدراسات والرتمجة‪.‬‬
‫‪ -‬طريق احللفا‪ ،‬رواية‪ ،‬منشورات الربيع‪.2019 ،‬‬
‫‪-‬اخلطاب الشعري عند نجيب رسور‪ ،‬كتاب نقدى‪ ،‬اهليئة املرصية العامة‬
‫للكتاب‪.2016 ،‬‬

‫‪107‬‬
‫الفهرس‬

‫قسمة العدل�������������� ‪20‬‬ ‫إهداء‪4.......................‬‬


‫قطار الفجر��������������� ‪21‬‬ ‫إهداء خاص ��������������� ‪5‬‬
‫الطريق إىل جنازة ��������� ‪22‬‬ ‫فضيحة��������������������� ‪7‬‬
‫ونس��������������������� ‪23‬‬ ‫الزيارة ��������������������� ‪8‬‬
‫مولد النبي ��������������� ‪24‬‬ ‫احلب مجيل ����������������� ‪9‬‬
‫ليلة دخلة ���������������� ‪25‬‬ ‫أمومة �������������������� ‪10‬‬
‫جثة تطلب الدفن��������� ‪26‬‬ ‫حلم ��������������������� ‪11‬‬
‫خروج ������������������� ‪27‬‬ ‫ثأر ����������������������� ‪12‬‬
‫فرحة حزينة �������������� ‪28‬‬ ‫رسائل حب �������������� ‪13‬‬
‫شعر مقصوص ����������� ‪29‬‬ ‫سفر���������������������� ‪14‬‬
‫دعاء ��������������������� ‪30‬‬ ‫صدمة أوىل ��������������� ‪15‬‬
‫ال قطارات للموتى ������� ‪31‬‬ ‫عفريت������������������� ‪16‬‬
‫حلم مبتور ��������������� ‪32‬‬ ‫غرق ��������������������� ‪17‬‬
‫اختفاء�������������������� ‪33‬‬ ‫فرح���������������������� ‪18‬‬
‫سني ميم راء�������������� ‪34‬‬ ‫مالك املوت �������������� ‪19‬‬
‫‪109‬‬
‫العائد �������������������� ‪54‬‬ ‫منترص�������������������� ‪35‬‬
‫خري يا غراب ������������� ‪55‬‬ ‫جنيه ورقي ��������������� ‪36‬‬
‫الذاهبون إىل اجلنة �������� ‪56‬‬ ‫والدة متعرسة ������������ ‪37‬‬
‫رجل احلملة�������������� ‪57‬‬ ‫ذرة للبيع ���������������� ‪38‬‬
‫صالة �������������������� ‪58‬‬ ‫بصرية�������������������� ‪39‬‬
‫يبكي ويضحك����������� ‪59‬‬ ‫أخذ وديعته��������������� ‪40‬‬
‫شال أسود���������������� ‪60‬‬ ‫حب من طرف واحد ����� ‪41‬‬
‫حريق �������������������� ‪61‬‬ ‫مركب بطة ��������������� ‪42‬‬
‫السقف������������������� ‪62‬‬ ‫غداء ��������������������� ‪43‬‬
‫انتحار�������������������� ‪63‬‬ ‫إغفاءة�������������������� ‪44‬‬
‫شباك بحري�������������� ‪64‬‬ ‫عيون بيضاء �������������� ‪45‬‬
‫عاصفة������������������� ‪65‬‬ ‫باكو دخان ��������������� ‪46‬‬
‫أبوة ���������������������� ‪66‬‬ ‫ساملة يا سالمة ������������ ‪47‬‬
‫بانو بانو ������������������ ‪67‬‬ ‫هناية���������������������� ‪48‬‬
‫مهمة حتتمل اخلطأ �������� ‪68‬‬ ‫عفريتان ������������������ ‪49‬‬
‫جنني �������������������� ‪69‬‬ ‫اركب معنا ��������������� ‪50‬‬
‫سيارة مرسعة������������� ‪70‬‬ ‫غواية املاء ���������������� ‪51‬‬
‫أخوة��������������������� ‪71‬‬ ‫حماولة يائسة للنجاة ������� ‪52‬‬
‫جرو ��������������������� ‪72‬‬ ‫ُغسل��������������������� ‪53‬‬
‫‪110‬‬
‫خطوبة طويلة ������������ ‪92‬‬ ‫البيت القديم ������������� ‪73‬‬
‫رحلة هنرية ��������������� ‪93‬‬ ‫زغرودة تليق بجنازة ������ ‪74‬‬
‫النعش ������������������� ‪94‬‬ ‫شبح ��������������������� ‪75‬‬
‫روح معلقة��������������� ‪95‬‬ ‫عني سحرية �������������� ‪76‬‬
‫غريب الدار �������������� ‪96‬‬ ‫البوكس ������������������ ‪77‬‬
‫صاحب الكرة ������������ ‪97‬‬ ‫قرب ملون ����������������� ‪78‬‬
‫مس من العفريت��������� ‪98‬‬
‫ٌ‬ ‫سنوات ِعجاف����������� ‪79‬‬
‫كوب شاي ��������������� ‪99‬‬ ‫فالتينو ������������������� ‪80‬‬
‫وسادة مهرتئة‪100 �...........‬‬ ‫الغدار�������������������� ‪81‬‬
‫‪101‬‬ ‫حماولة للموت بمزاج‬ ‫مل يلتفت������������������ ‪82‬‬
‫خروج مؤثر‪102 ............‬‬ ‫حلم ٍ‬
‫مؤذ ����������������� ‪83‬‬
‫‪103‬‬ ‫دمع دافئ‪.............‬‬ ‫سعاد والسيارة البيجو ���� ‪84‬‬
‫الوصية‪104 .................‬‬ ‫امرأة بروح غراب �������� ‪85‬‬
‫‪105‬‬ ‫رضيح بجانب القنطرة‬ ‫رصاصة جمهولة����������� ‪86‬‬
‫يف انتظار العتاب‪106 ........‬‬ ‫اختفاء بندقية ������������� ‪87‬‬
‫الكاتب يف سطور‪107 ......‬‬ ‫جنازة مشهور ������������ ‪88‬‬
‫رشاكة كلب �������������� ‪89‬‬
‫الطفل التاسع������������� ‪90‬‬
‫املهاجر ������������������� ‪91‬‬
‫‪111‬‬

You might also like