You are on page 1of 275

‫ﺯﻳﻊ‬

‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اإلرث المحظور‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫رواية‬

‫اإلرث المحظور‬
‫احلكاية التي �سبقت نبوءات ال�شتاء وال�صيف ب�أربعمائة عا ٍم‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ح�صة احلواي‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫إهداء‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إىل كل قارئٍ مفتون باخليال‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫�إىل َمن يفهمني منهم‪..‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬ ‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل األول‬
‫أمير اليراعات‬

‫كانت النريان م�شتعلة على امتداد ب�صره‪ ..‬انفجاراتٌ و�أ�شالء‬


‫تتطاير يف كل بقعة‪ ..‬الدماء تختلط مع الغبار على الوجوه التي تعلوها‬
‫ﻋﺼ‬
‫عيون جاحظة مت�سعة رع ًبا من املوت‪ ..‬ال�صرخات يف كل مكان‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫والأقدام احلافية تعدو بعك�س اجتاهه‪� ..‬أما هو‪ ..‬فيقف ليت�أمل كل‬
‫هذا يف �صدمة‪ ..‬ف�أكرب املباين املحرتقة هي ق�صره‪ ..‬و�أ�صحاب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�صرخات والوجوه املُغ َّربة هم �سكان مدينته‪..‬‬


‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫كيف حدث هذا؟! يظل يت�ساءل‪ ..‬حتى ترتاءى له يراعة م�ضيئة‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال يدري من �أين �أتت‪ ..‬حتوم حوله‪ ..‬وت�صبح ر�ؤيته �ضبابية فيمد يده‬
‫�سطوعا حتى ال يرى �إال‬
‫ً‬ ‫ليبعدها عن جمال ر�ؤيته‪ ..‬ولكن ر�ؤيته تزداد‬
‫البيا�ض‪ ..‬ثم ي�شعر باحلرارة حتيطه من كل جنب‪ ..‬حرارة ت�ستحيل‬
‫�إىل نار حارقة تبد�أ ب�إحراقه من الداخل! ي�شعر بقلبه ي�شتعل! ثم‬
‫ينفجر! حينها ي�ستيقظ مذعو ًرا‪ ..‬وال يزول ذعره حتى بعد �إدراكه‬
‫ب�أنّ هذا حلم‪ ..‬بل يزداد خو ًفا‪ ..‬لأنه يرى هذا احللم يف كل ليلة‪ ..‬كل‬
‫ليلة‪ ..‬بل يف كل غفوة‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫جال�سا يف �سريره زائغ العينني‪ ..‬ينظر �إىل ما حوله وك�أنه‬
‫ظل ً‬
‫متجاهل ‪-‬دون ق�صد‪ -‬تلك الواقفة على‬ ‫ً‬ ‫يحاول تذكر َمن يكون‪..‬‬
‫الباب تقدحه بنظرات اعتادها؛ نظرات تبدو من عل ٍّو دائ ًما‪ ..‬لأنها‬
‫ال حتني ر�أ�سها حتى َمل ِلكها‪ ..‬ويف كل مرة يرى رقبتها املرفوعة كان‬
‫يت�ساءل‪« :‬هل تفعل هذا لأنها تخ�شى �سقوط التاج الذهبي؟» ولكنه مل‬
‫يتجر�أ بال�س�ؤال قط‪.‬‬
‫خطوات من �سريره‪ ..‬ثم �أيقظته من‬ ‫ٍ‬ ‫اقرتبت‪ ،‬توقفت على بعد‬
‫�سرحانه ب�صوتها البارد القوي‪« :‬عربتك يف انتظارك‪ ..‬لكن حاول �أال‬
‫تت�أخر يف عودتك‪ :‬فاليوم حفل وداع مي�ست»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫نه�ض واق ًفا كاملفزوع‪« :‬هل و�صلت العربة بالفعل؟! ما زال الوقت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫جدا!»‬
‫مبك ًرا ًّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل ترد جوا ًبا‪ ،‬بل ا�ستدارت نحو الباب‪ ،‬جترجر معها ثوبها امللكي‬
‫الطويل‪� ..‬أما هو‪ ،‬ف�سارع بقرع اجلر�س لينادي اخلدم الذين كانوا‬
‫ﺸﺮ‬

‫عند الباب بالفعل‪ ،‬يحملون �آنية املاء والعطور والثياب امللكية املن ّمقة‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ا�ستعدادًا خلروجه‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل مير وقت طويل حتى كان يف عربته‪ ،‬ي�شق طريقه نحو جهة‬
‫اعتاد زيارتها كث ًريا‪ ..‬جهة غري م�أهولة يف غرب مملكته ال�صحراوية‪،‬‬
‫لي�س فيها �سوى كهوف �أزلية لي�س فيها �أي �شيء‪ ،‬وال يفعل فيها �سوى‬
‫اجللو�س وت�أمل هذا الال �شيء‪ ..‬وكان هذا �أحد �أ�سباب اللقب الذي‬

‫‪n‬‬
‫�صار ُيعرف به ‪ -‬لقب يعرفه جميع َمن يف مملكته ما عداه «�إيدن‪..‬‬
‫امللك املعتوه»‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫يف مملكة �أخرى‪ ،‬ال يغطي �أي جزء منها الرمال‪ ،‬بل حتيطها‬
‫غابات وجبال ال تظهر قممها من كرثة احت�شاد الغيوم‪ ..‬وقرب �شرفة‬
‫بتاج ل�ؤل�ؤي‪،‬‬
‫قلعة �شاهقة تطل على �إحدى هذه القمم‪ ،‬توقفت �أمرية ٍ‬
‫تتهام�س مع �شاب �أحنى ر�أ�سه يف احرتام وهو ي�ستمع �إىل مطلبها‪:‬‬
‫‪ -‬كما �أخربتك يا نايت؛ ا َّد ِع ب�أنك قد انتهيت من ختم طلبات‬
‫الب�ضائع و�أنك �أر�سلتها جمي ًعا‪ ،‬ولن يعلم �أحد ب�أنك رف�ضت‬
‫هذا الطلب»‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا �أقول للأمرية بري�شيليا �إنْ ت�ساءلت عن �سبب عدم‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�صول خيوطها الذهبية؟ �ستغ�ضب كث ًريا �إنْ علمت ب�أين مل‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أر�سل طلبها‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫طلب تافه‬
‫‪ -‬ت�صرف‪ ،‬اختلق �أي كذبة‪ ..‬ولكن ال ت�ضع ختمك على ٍ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كهذا �أبدً ا‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫احرتاما‪ ،‬ثم ا�ستدار من�صر ًفا‪ ..‬كان نايت هو امل�س�ؤول املايل‬


‫ً‬ ‫�أوم�أ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫للقلعة‪ ،‬وختمه مطلوب على كل طلبات الب�ضائع ال�صادرة من القلعة‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وكل الواردات‪.‬‬
‫مرت حلظات ت�أملت فيها �أمرية التاج الل�ؤل�ؤي القمم الدخانية قبل‬
‫�أنْ تلتفت نحو اليد التي �أخذت جترها من ثوبها‪.‬‬
‫‪� -‬أوفيليا! �ألن نلعب ال�شطرجن؟‬
‫انحنت نحوه بابت�سامة وا�سعة ‪-‬رغم �أنها ال تفوقه ً‬
‫طول لدرجة‬
‫االنحناء‪« :-‬بالت�أكيد �سنلعب يا عزيزي �آرون»‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫تبعته‪ ،‬كان �آرون الأمري الأ�صغر‪� ..‬صبي يف العا�شرة‪ ،‬تفوقه هي‬
‫�سنوات من العمر‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ب�سبع‬
‫وقبل �أنْ جتل�س قبالة طاولة ال�شطرجن‪� ،‬أ�شارت للخادمة التي تقف‬
‫عند الباب فاقرتبت الأخرية‪� ،‬س�ألتها‪�« :‬أين اخلادمة �آيري�س؟»‬
‫�أجابت اخلادمة‪« :‬مل ت� ِأت اليوم �أيتها الأمرية‪ ..‬هل �أر�سل َمن‬
‫ي�ستدعيها؟»‬
‫«ال ب�أ�س»‪ .‬قالتها ثم تنهدت بعمق �إثر اقرتاب خطوات �سريعة‬
‫الوقع تعرفها جيدً ا‪ ..‬التفتت نحو �شقيقتها الكربى‪ ،‬بري�شيليا‪ ،‬التي‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنك‬‫وقفت متطرها بنظرات الغ�ضب‪« ،‬هل فعل ِتها ثانية؟! �أعلم جيدً ا � ِ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�ضعت‬
‫ُ‬ ‫َمن يعطي الأوامر بالتخل�ص من الطلبات اخلا�صة بي! لقد‬
‫ﻜﺘ‬

‫َمن يراقب طلبي هذه املرة‪ ..‬و�أخربين ب�أنه ما زال يف مكانه يف انتظار‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنْ ُيرمى يف القمامة!»‬


‫ﺸﺮ‬

‫«ال �ش�أن يل بطلباتك»‪ .‬قالتها بهدوء وهي تلتفت نحو رقعة‬


‫ال�شطرجن‪ ،‬وت�شرع برتتيب القطع‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�ست امللكة‬
‫عادت بري�شيليا لتزجمر غا�ضبة‪«َ :‬من تظنني نف�سك؟! ِ‬
‫أنت ال تفعلني هذا �إال بدافع غريتك وحقدك‬
‫وال حتى الأمرية الكربى! � ِ‬
‫الدفني!»‬
‫‪ُ -‬قلت ِ‬
‫لك ب�أنّ ال �ش�أن يل بطلباتك‪.‬‬
‫ل�ست �سوى �أمرية �صغرية �سينتهي بها الأمر باخلروج ِمن هذه‬
‫‪ِ -‬‬
‫القلعة لت�صري زوجة �أحد الأمراء التافهني يف مدينة �أخرى!‬
‫أنت ال �شيء!‬
‫� ِ‬
‫‪10‬‬
‫بالهدوء ذاته �أجابت �أوفيليا‪« :‬ال تخلطي بيني وبينك»‪.‬‬
‫زجمرت بري�شيليا غ�ض ًبا وهي ت�ستدير مبتعدة‪ ،‬مل ت ُكن قادرة على‬
‫احتمال برود �أع�صاب �شقيقتها وردودها اال�ستفزازية‪� .‬صاحت قبل‬
‫علي �أنْ �أت�صرف‬ ‫�أنْ تغادر احلجرة‪َ « :‬مل �أزعج نف�سي باحلديث ِ‬
‫معك؟! َّ‬
‫بنف�سي»‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫مل ترد �أوفيليا جوا ًبا‪ ،‬بل �أمعنت يف الرقعة مت�أملة حركة �آرون‬
‫الأوىل‪ ،‬ثم حركت جنديها الأول بدورها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف ذات العا�صمة املح�صورة بني اجلبال الدخانية‪ ،‬ويف �أحد‬
‫ﻜﺘ‬

‫الأحياء املتهالكة فق ًرا‪� ،‬سار �شاب بني البيوت الطينية‪ ،‬يحمل بني‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يديه كتا ًبا �أحكم القب�ض عليه كي ال يقع على الأر�ضية الرطبة �أو‬
‫ُينت�شل من ِقبل �أحد الأطفال احلفاة الذين ميل�ؤون ال�شارع ويرمقون‬
‫ﺸﺮ‬

‫املارة بعيون م�سلوبة الرباءة‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫دخيل على احلي‪ ،‬ولكنه كان الوحيد الذي‬ ‫مل ي ُكن هذا ال�شاب ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وكتاب‪ .‬توقف �أمام �أحد البيوت‪ ،‬مت� ً‬


‫أمل �صاحبة‬ ‫نظيف ٍ‬ ‫ي�سري بهندام ٍ‬
‫أ�شكال خمتلفة على الأر�ضية‬
‫ال�شعر املبعرث وهي منهمكة بر�سم � ٍ‬
‫الطينية‪.‬‬
‫اقرتب‪ ،‬فنه�ضت ترك�ض نحوه بابت�سامة وا�سعة‪�« ،‬سي�سيل!»‬
‫لك �شي ًئا‬
‫ابت�سم بدوره‪ ،‬وربت على ر�أ�سها يف حنان‪« :‬لقد �أح�ضرتُ ِ‬
‫ً‬
‫لذيذا»‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ات�سعت ابت�سامتها وتلألأت عيناها يف انتظار ما �سيخرجه من‬
‫جيبه‪ .‬رغم �أنها �أكملت عامها الثاين ع�شر‪ ،‬ف�إنّ عقلها ما زال عقل‬
‫عقلي جعلها حبي�سة يف‬
‫طفلة يف الرابعة‪ ،‬فقد ُو ِلدت مع ا�ضطراب ّ‬
‫عقل طفلة ال�سنوات الأربع �إىل الأبد‪.‬‬
‫ناولها قطعة كعك ملفوفة بالورق‪َ ،‬فه َّمت بفتحها والتهامها وهي‬
‫تتمتم‪�« :‬شك ًرا �سي�سيل! لذيذة!» لكن �سعادتها مل تدُم‪ ،‬ف�سرعان‬
‫ما غزا اخلوف نظراتها عند اقرتاب والدتها الغا�ضبة‪« :‬ما الذي‬
‫تفعلينه؟! �أمل تذهبي �إىل القلعة بعد؟!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫التفت �سي�سيل نحو املر�أة املتدثرة بثياب �ضاعت مالحمها و�سط‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ال ُرقع امللونة‪ ،‬امر�أة يف الأربعني‪ ..‬ولكن ال�شيب غزا �شعرها ك�أنها‬
‫ﻜﺘ‬

‫جتاوزت ال�ستني‪ ..‬وكذلك جعلتها التجاعيد‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�ستوقفها �سي�سيل‪ ،‬بينما كانت على و�شك �صفع ال�صغرية‪�« :‬أنا َمن‬
‫ﺸﺮ‬

‫طلب منها التغ ّيب اليوم‪� ..‬آيري�س غري م�ضطرة �إىل العمل يف القلعة»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ابت�سمت يف �سخرية وهي ت�صيح فيه‪« :‬ح ًقا؟! �ستتزوج ح�ضرتك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫وتنعزل يف �صومعة الق�ضاة قري ًبا ولن نراك بعدها‪ ..‬هل ن�أكل‬
‫احلجارة حينها؟!»‬
‫�شعر بغ�صة يف داخله وهو يدرك مدى �صحة كالمها‪ ،‬فهو ال يعلم‬
‫ما الذي �سيحدث بعد �أنْ يبد�أ تلك العزلة‪.‬‬
‫‪ -‬رمبا لن �أ�ستطيع املجيء �إىل هنا‪ ..‬ولكن زوجتي �ستكون حرة‪..‬‬
‫و�س�أحر�ص على �أنْ ت�أتيكم بالطعام‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫‪ -‬وك�أين �أثق بك حتى �أثق بزوجتك التي ال �أعلم َمن �ستكون‬
‫حتى‪.‬‬
‫وللمرة الثانية‪ ،‬ي�شعر ب�صحة كالمها‪ ..‬فحتى هو ال يعلم هوية هذه‬
‫الزوجة القادمة! فكونه قد �س ّلم نف�سه ل�صومعة الق�ضاة‪ ،‬يتحتم عليه‬
‫التخلي عن كل �شيء‪ ..‬مبا يف ذلك قرار الزواج وهوية َمن يتزوج‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ يردف‪« :‬هل تظنني ب�أين �س�أترك �شقيقتي‬
‫�أخذ ً‬
‫جوعا؟ �ألي�ست ال�سبب وراء انت�سابي ل�صومعة الق�ضاة؟ مل‬ ‫تت�ضور ً‬
‫�أتخذ هذا القرار �إال لإيجاد عالج ملر�ضها»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬إنْ كان هناك عالج كان �سيجده غريك! هذا لي�س �سوى مربر‬
‫ﻜﺘ‬
‫لإ�سكات �ضمريك! انت�سابك ل�صومعة الق�ضاة ال يعك�س �سوى‬
‫طموحك الأعمى الذي لن يو�صلك �إىل �أي �شيء‪ ..‬ال �أدري‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أي عقل خا ٍو متلك! �أنت ُمعدم بالفعل‪ ،‬ورغم ذلك تنت�سب‬


‫ﺸﺮ‬

‫�إىل مكان ي�سلبك كل �شيء لديك مبا يف ذلك قراراتك! تبيع‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نف�سك ِمن �أجل ال �شيء على الإطالق!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬سيكون ذلك ل�سبع �سنوات فقط‪ ..‬وبعدها �سيكون يل عل ٌم ال‬


‫وحكم ي�سري على امللوك‪.‬‬
‫يقف �أمامه �شيء‪ُ ..‬‬
‫�أطلقت �ضحكة هازئة عربت عن �أ ٍمل وحزن دفينني‪« :‬العلم لن‬
‫يجني الذهب‪ ..‬والفقراء ال حكم لهم على �أي �شيء‪ ..‬ال�صومعة َت ّدعي‬
‫ب�أنها ت�ستقبل اجلميع وت�ساوي بينهم‪ ..‬ولكن وحدهم �أبناء الأغنياء‬
‫َمن يخرجون كحكماء‪ ..‬الفقراء يتال�شون مع الوقت فح�سب»‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ -‬هذا ما يحدث للفقراء الأغبياء‪ ..‬وهم وحدهم يتحملون‬
‫م�س�ؤولية فقرهم‪ ..‬فالذكي ‪-‬مهما كانت ظروفه‪ -‬ال يجل�س‬
‫ليتح�سر على حاله‪ ،‬بل ينتهز كل فر�صة ليقهر فقره ويحكم‬
‫العامل‪.‬‬
‫‪ -‬طموحك املخزي بلغ حد ال�ضحك‪ ..‬ال �أدري �أين تظن نف�سك‬
‫تعي�ش‪ ..‬اذهب واحكم العامل‪ ..‬وال ترجع باك ًيا حني ي�سقط �أول‬
‫�ستار ليك�شف لك حقيقة الظلم يف هذا العامل‪.‬‬
‫جتاوزته لتدلف �إىل داخل البيت‪ ،‬ومن فرجة الباب اخل�شبي‬

‫ﻋﺼ‬
‫العتيق‪ ،‬ملح �سي�سيل والده اجلال�س يف الداخل‪ ،‬يتكئ على كر�سيه يف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صمت‪ ،‬بينما يرمق العامل بنظرات خاوية‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫كان يبدو �أ�صغر �س ًنا من والدته‪ ،‬ورغم ذلك‪� ،‬سيطر اللون الأزرق‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫على جفونه لي�ضفي عليه هيئة مرعبة‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫مل يقرتب منه �سي�سيل منذ �أنْ علم �أنه قد ر�سم ذلك الو�شم على‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫دعى بو�شم اجلنة‪ ..‬وهو �شبيه مبا يتعلمه من و�شوم‬ ‫ذراعه‪ ..‬كان ُي َ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�سحرية يف �صومعة الق�ضاة‪ ..‬ولكنه كان الو�شم الوحيد الذي يجيد‬


‫العامة ر�سمه‪ ..‬فعندما ت�ضيق احلياة ب�أحدهم �إىل حد رغبته بالتخلي‬
‫عن حياته‪ ،‬ير�سم و�شم اجلنة على ذراعه ليتيه يف عامل �آخر من‬
‫الهلو�سات اجلميلة‪ ..‬هلو�سات حتيله �إىل جثة مرمية ينتمي عقلها �إىل‬
‫عامل �آخر‪ ،‬وبهذا يرتاح املرء من همومه �إىل حني قدوم �ساعة وفاته‪.‬‬
‫كان �سي�سيل يحتقر كل َمن يختار هذه النهاية لنف�سه‪ ،‬نهاية جتمع‬
‫ال�ضعف ودناءة النف�س والف�شل والغباء‪ .‬ورغم علمه ب�أنّ هناك و�ش ًما‬
‫‪14‬‬
‫عك�س ًيا ميكن �أنْ يزيل �أثر هذا الو�شم‪ ،‬ف�إنه مل يعب�أ حتى بالبحث‬
‫متاما قرار �صومعة الق�ضاة يف االمتناع عن‬
‫وال�س�ؤال عنه‪ ،‬فهو ي�ؤيد ً‬
‫عالج َمن يختار هذا امل�صري لنف�سه‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫�أدار �سي�سيل وجهه �إىل �آيري�س‪ ،‬وابت�سم لها ليعيد لها ابت�سامتها‪:‬‬
‫«�س�أ�ستبدل مالب�سي و�أعود»‪.‬‬

‫يف م�ساء اليوم‪ ،‬ويف ق�صر الرمال‪ ،‬وقف �إيدن متظاه ًرا بال�شموخ‬
‫‪-‬دون جدوى‪ -‬بني املُرائني من عائلته امللكية وكبار الرجال من‬
‫ﻋﺼ‬
‫عا�صمته‪ .‬كان �صامتًا‪ ،‬يجول بناظره بينهم‪ ،‬ويحاول جتاهل كل من‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حماول احلديث معه‪ .‬اجلميع يرتدي �أجمل ما ميلك ويتزين‬ ‫ً‬ ‫ي�أتيه‬
‫ﻜﺘ‬

‫بالذهب‪ ..‬ويف كل بقعة من ال�صالة الكبرية يلمع الذهب‪ ..‬يزين‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اجلدران والرثيات واملوائد والر�ؤو�س واحلناجر والأطراف‪ .‬وحتى‬


‫ﺸﺮ‬

‫ر�أ�سه هو كان مزي ًنا بتاج ذهبي يكره ثقله‪ ،‬ولكنه مرغم على و�ضعه‬
‫ﻭ‬

‫لأنه امللك‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ملح زوجته ليالك بتاجها الذهبي ال�شامخ من بعيد‪ ،‬تقف لتتبادل‬


‫حدي ًثا متوت ًرا مع �شقيقه مي�ست الذي ُع ِقد هذا احلفل لوداعه‪ .‬كيف‬
‫علم ب�أنّ حديثهما متوتر؟ ِمن التجعيدة املرت�سمة بني حاجبيها التي‬
‫تظهر دُون �شعورها حني تتوتر‪ .‬وملاذا قد تتوتر ليالك؟ ال يعلم‪ ..‬وال‬
‫يهتم حتى‪.‬‬
‫تنبهت ليالك �إىل ت�أمالته‪ ،‬ومل تهتم ‪-‬لعلمها �أنه ال يهتم‪ -‬فتابعت‬
‫حديثها مع مي�ست الذي كان ي�صغي لها يف هدوء‪ .‬كان مي�ست هو‬
‫‪15‬‬
‫ال�شقيق الأ�صغر لإيدن‪ .‬كالهما نحا�سي الب�شرة �أ�سود ال�شعر‪ ..‬ولكن‬
‫كل �شيء �آخر كان يختلف‪.‬‬
‫‪ -‬خويف يتعاظم كلما اقرتب موعد رحيلك‪ ..‬ال �أدري كيف �س�أقدر‬
‫على حتمل م�س�ؤولية اململكة وحدي‪.‬‬
‫‪� -‬ستقدرين‪ ..‬و�ست�صربين حتى عودتي‪.‬‬
‫�سنوات كاملة!‬
‫ٍ‬ ‫أنت تتحدث عن �سبع‬
‫�سنوات‪َ � ..‬‬
‫ٍ‬ ‫‪� -‬سبع‬
‫‪� -‬أعلم‪ ..‬ولكن ال ميكن �أنْ يتبدل �أي �شيء الآن‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أح ًقا ال ميكنك �أنْ ت�أتي للزيارة خالل تلك املدة؟ �أنت �أمري‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ينبغي لهم �أنْ يط ّوعوا بع�ض قوانينهم من �أجل �شخ�ص مثلك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬لن �أكون �أم ًريا حني �أدخل �صومعة الق�ضاة‪ ..‬بل �س�أكون فق ًريا‬
‫وعلي احرتام‬‫جمردًا من كل �شيء‪ ..‬لقد اتخذت قراري َّ‬
‫ﺸﺮ‬

‫قوانينهم؛ بل ينبغي يل �أنْ �أ�شكرهم لأنهم �سي�ستقبلون �أم ًريا‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من مملكة �أخرى بينهم‪ ..‬فعلى حد علمي‪� ،‬س�أكون املغرتب‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الوحيد هناك‪.‬‬
‫‪�-‬أ�شعر ب�أين �س�أقف وحدي و�سط عا�صفة هوجاء �سرتديني قتيلة‬
‫قبل عودتك‪.‬‬
‫‪ -‬ال تبالغي يف خوفك يا ليالك‪� ..‬أعلم �أنّ الأمر �صعب‪ ،‬ولكنك‬
‫عليك �أنْ تكوين �أقوى حتى‬
‫تتحملني ن�صف امل�س�ؤوليات بالفعل‪ِ ،‬‬
‫تقفي �إىل جانبي حني �أعود‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫نف�سا عمي ًقا‪ ،‬ثم �سرعان ما ارت�سمت جتعيدة جبينها‬
‫�أخذت ليالك ً‬
‫جمددًا وهي تلمح �إيدن من بعيد‪ ،‬ين�سحب من احلفل مغاد ًرا ال�صالة‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫هم�ست قبل �أنْ ت�سرع نحو البوابة لتلحق به‪« :‬لن يتعلم قواعد‬
‫ال�ضيافة �أبدً ا‪� ..‬س�أذهب لأعيده �إىل القاعة»‪.‬‬

‫يف ال�صباح التايل‪ ،‬ويف قلعة القمم الدخانية‪ ،‬هب نايت واق ًفا‬
‫يف حجرة الأختام اخلا�صة به حني ر�أى بري�شيليا عند الباب‪� .‬أوم�أ‬
‫«�سيختَم هذا الطلب‬‫احرتاما‪ ،‬بينما اقرتبت لتقول بلهجة �آمرة‪ُ :‬‬
‫ً‬
‫ﻋﺼ‬
‫ر�سل اليوم‪� ..‬أهذا مفهوم؟»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫و ُي َ‬
‫ﻜﺘ‬

‫قالتها ومدت يدها مب�ستند جديد لطلب مئة �ألف مرت من خيوط‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫التطريز املطلية بالذهب اخلال�ص‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫تناول املُ�ستند منها‪ ،‬وقبل �أنْ ت�ستدير مبتعدة ا�ستوقفها‪�« :‬س�أ�ضع‬


‫اخلتم ولكن ال ميكن �إر�سال الطلب اليوم»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ملاذا؟!‬
‫‪ -‬لقد حتركت ال�سفينة فج ًرا‪ ..‬ولكني �س�أحتفظ بهذا الطلب‬
‫و�س�أر�سله مع دفعة الطلبات القادمة‪.‬‬
‫‪ -‬ومتى �سيكون هذا؟!‬
‫‪ -‬بعد ثالثة �شهور‪.‬‬
‫�ضيقت عينيها يف غ�ضب وهي تقاطعه‪�« :‬أنت تعاندين وح�سب!»‬
‫‪17‬‬
‫‪ -‬هذا غري �صحيح �أيتها الأمرية‪ ..‬كل ما يف الأمر �أنّ ال�سفينة‬
‫جدا‪.‬‬
‫تتجه �إىل مملكة ال�صحاري‪� ..‬إنها م�سافة طويلة ًّ‬
‫‪� -‬إنْ كان الأمر هكذا‪� ،‬ضع ختمك على الطلب ً‬
‫حال و�أعطني‬
‫املُ�ستند‪ ،‬و�س�أتوىل بنف�سي �أمر �إي�صاله‪.‬‬
‫‪ِ -‬من غري امل�سموح �أنْ ُت َ‬
‫ر�سل طلبات القلعة منفردة �أيتها الأمرية‪.‬‬
‫�أطلقت زفرة عميقة وهي تت�أفف يف �ضيق‪« :‬هل �ستجادلني �إىل الأبد‬
‫�أيها الوقح؟ �ضع اخلتم ً‬
‫حال و�إال �س�أجعل �أبي يرميك يف الزنزانة!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ماذا عن �سعر الب�ضاعة؟ ال ميكن دفعه من ميزانية القلعة �إنْ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أر�سل ِته بنف�سك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أنا �آخذ ما �أريد من الأموال وقتما �أ�شاء!‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫مل يرد جوا ًبا‪ ،‬فقد �أظهر وقاحة كافية حتى اللحظة‪ ..‬ومل ُيرد �أنْ‬
‫يجادل �أكرث فتبلغ امللك و ُيعا َقب لأمر تافه‪ .‬ولهذا‪ ،‬قرر �أنه �سيفعل ما‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تريده وح�سب‪ .‬ومل ترت�سم االبت�سامة على وجهها حتى تناولت امل�ستند‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املختوم‪ ،‬ثم خرجت وهي غري قادرة على حب�س �سعادتها‪.‬‬


‫�سارت م�سرعة متجهة �إىل جناحها‪ ،‬وحلقت بها و�صيفتها العجوز‬
‫التي كانت تنتظرها‪ .‬وما �إنْ دلفت بري�شيليا �إىل حجرتها حتى �أخذت‬
‫تقفز يف �سعادة‪.‬‬
‫�صاحت وهي تقب�ض على امل�ستند‪« :‬لقد ح�صلت على اخلتم و�س�آتي‬
‫باخليوط الذهبية! �س�أطرز لوحة �أحالمي!»‬
‫‪18‬‬
‫بدت االبت�سامة على وجه العجوز‪ ،‬وقبل �أنْ تفتح فمها بال�س�ؤال‪،‬‬
‫أنت امل�ستند �إىل‬
‫قب�ضت بري�شيليا على يدها وهي تقول‪« :‬و�ست�أخذين � ِ‬
‫مملكة ال�صحاري! �أنا ال �أثق �إال بك!»‬
‫غابت ابت�سامة العجوز وات�سعت عيناها ده�شة‪�« :‬آخذ امل�ستند؟!»‬
‫أنت الأخرى!‬
‫أرجوك يا �إيفي! ال جتادليني � ِ‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪ -‬ولكن هذا الأمر خطري يا �أمريتي‪ ..‬ما �سيحدث هو �أين‬
‫الطرق‪ُ ..‬ي�سرق امل�ستند و ُي�سرق اخلتم‪ ،‬ثم‬ ‫�س�أتعر�ض ل ُق َّطاع ُ‬
‫يك�شف والدك الأمر و ُنعا َقب جمي ًعا‪ ،‬يجب �أنْ نلتزم بقوانني‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫القلعة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫غابت ابت�سامة بري�شيليا‪ ،‬بينما عاد ال�ضيق ليظهر يف عينيها‪« :‬لقد‬


‫تعبت! نفد �صربي! كل �شيء ممنوع وال �أحد ي�ستمع �إ َّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يل!»‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أخف�ضت �إيفي ناظريها وهي تزم �شفتيها يف حرية‪ ،‬تراجعت‬


‫بري�شيليا لتجل�س على طرف �سريرها وقد تبدل �صوتها ك�صوت املو�شك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أل�ست الأمرية الكربى؟ ملاذا ال يح�صل ما �أريد؟! ملاذا‬


‫على البكاء‪ُ �« :‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أعي�ش كال�سجينة؟! لن تكون يل كلمة م�سموعة حتى �أ�صبح امللكة‪ ..‬وال‬


‫�أظن ب�أين �س�أ�صبح امللكة ما دامت �أوفيليا اخلبيثة يف هذه القلعة!»‬
‫ربتت �إيفي على كتف بري�شيليا التي التمعت عيناها بالدموع‪،‬‬
‫هم�ست‪« :‬بل ميكن �أنْ تخرجي من �سجنك هذا ب�سهولة‪ ..‬لقد �أح�ضرت‬
‫لك نب�أً �سعيدً ا‪ ..‬هناك فر�صة ميكن �أنْ ت�ستغليها لت�صريي �أمرية حرة‬
‫ِ‬
‫يف ق�صر �آخر»‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫�صاحت فيها بري�شيليا‪ ،‬وهي غري قادرة على التحكم يف الدموع‬
‫التي بد�أت تن�ساب على وجنتيها‪�« :‬أتزوج �أم ًريا �أبله؟! هذا ما تنتظره‬
‫�أوفيليا لت�شمت بي!»‬
‫جل�ست �إيفي �إىل جوارها‪« :‬كفي عن التفكري بالأمرية �أوفيليا‪..‬‬
‫�إنها ت�سعى لتكون امللكة وال �شك يف �أنها �ستكون‪ ..‬تن�ص قوانني القلعة‬
‫على �أنّ احلكم ينتقل �إىل الأمري الأكرب �س ًنا‪ ..‬ولكن هذه لي�ست قاعدة‬
‫حتمية‪ ،‬فاحلكم ميكن �أنْ ينتقل �إىل الأمري الأ�صغر � ً‬
‫أي�ضا �إنْ كان يظهر‬
‫كفاءة �أكرب‪ ..‬ال ميكننا غ�ض الب�صر عن احلقائق يا عزيزتي فالأمرية‬
‫�أوفيليا هي املر�شحة الأقوى‪ ..‬ولكن هل ال�سلطة هي ما تريدينه ح ًقا؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت‪ ..‬فروحك ال ت�سعى �سوى �إىل‬ ‫ال�سلطة تنا�سب �أوفيليا ج ًّدا‪� ..‬أما � ِ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫احلرية وال�سعادة‪ ..‬ولذلك ال تخجلي من �إظهار هذا الأمر وال ت�سعي‬
‫ﻜﺘ‬

‫وراء �شيء لن يو�صلك �إىل ما تريدين!»‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬وهل الزواج �سيجعلني حرة؟ �أخ�شى �أنْ يحدث العك�س!‬


‫ﺸﺮ‬

‫أنت َمن يحدد هذا! لقد �سمعت من اخلادمات �شائعات‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عن قدوم �شقيق امللك �إيدن �إىل عا�صمتنا‪ ..‬هذا هو الأمري‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مر�شحا لعر�ش‪ِ ،‬ومن َث َّم‬


‫ً‬ ‫املنا�سب الذي �أعنيه‪ ..‬لي�س م ِل ًكا وال‬
‫�ستكونني حرة ال حتملني �أي عبء مل�س�ؤوليات اململكة‪ ..‬ثم �إنه‬
‫�أمري ثري ململكة ال�صحاري املليئة مبناجم الذهب‪� ..‬ستعي�شني‬
‫يف رخاء حقيقي‪.‬‬
‫قبيحا �أو معتوهً ا ك�شقيقه؟‬
‫‪ -‬وماذا �إنْ كان �سيئ اخللق �أو ً‬
‫ارت�سمت ابت�سامة على وجه �إيفي‪« :‬هل تظنني ب�أنّ هذا يهم ح ًقا؟‬
‫�ستكونان من�شغلني عن بع�ضكما طوال الوقت‪ ..‬كما يحدث مع كل‬
‫‪20‬‬
‫الزواجات امللكية التي �شهدتها طوال �سنوات عمري‪ ..‬هو لي�س �إال‬
‫ج�س ًرا �إىل احلرية والرثاء»‪.‬‬
‫�صمتت بري�شيليا هنيهة وهي تت�أمل حديث و�صيفتها‪ ،‬كان ما قالته‬
‫الو�صيفة يالم�س �أعماقها و�أفكارها التي تكره البوح بها‪ ،‬فهي بالفعل‬
‫تكره امل�س�ؤوليات وال تتمنى �إال التخل�ص من �سطوة �شقيقتها لتح�صل‬
‫على كل ما تريد‪ .‬كانت دموعها قد توقفت‪ ،‬التفتت �إىل �إيفي‪« :‬ومتى‬
‫�سي�أتي هذا الأمري؟»‬
‫‪ -‬ال �أدري حتديدً ا‪ ..‬لكن امللك �أمرنا بتجهيز وليمة ال�ستقباله‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�ستبد�أ التجهيزات خالل هذا الأ�سبوع‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ات�سعت عينا بري�شيليا‪�« :‬سيكون هناك حفل ا�ستقبال يف القلعة؟!»‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬هذا ما �سمعته‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫«� ًإذا َّ‬

‫‪n‬‬
‫علي �أنْ �أ�ستعد لذلك! يجب �أنْ �أكون الأجمل دُون نزاع!»‬
‫وتال�شى ال�ضيق من عينيها ليحل حمله احلما�س‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قبيل الظهرية‪ ،‬وحتت ال�سماء املفعمة بالغيوم ‪-‬كعادة الطق�س‬


‫يف مملكة القمم الدخانية‪ -‬توقف �سي�سيل قبالة �سور معدين عتيق‬
‫يط ب�أذرع نباتية امتدت خالله‪ ،‬ثم قرع اجلر�س الكبري على‬ ‫�أُ ِح َ‬
‫البوابة‪ِ .‬ومن حجرة �صغرية منفردة قرب ال�سور‪ ،‬ملح احلار�س العجوز‬
‫قادما بخطواته البطيئة‪� .‬ألقى �سي�سيل نظرة على املبنى الذي يتو�سط‬ ‫ً‬
‫ال�ساحة امل�س ّورة‪ ،‬و�شعر ب�أنفا�سه تهد�أ رويدً ا رويدً ا هو يدرك �أنّ هذا‬
‫‪21‬‬
‫البناء يليق بالفقر الطافح من ه ْي�أته‪ .‬لقد ق�ضى وقتًا ً‬
‫طويل وهو يبحث‬
‫ثياب ت�صلح لأول لقاء مع َمن �ستكون زوجته‪،‬‬
‫يف خزانته املتهالكة عن ٍ‬
‫فثياب �صومعة الق�ضاة ال ُي�س َمح له بارتدائها �إال هناك‪ ،‬ولذا ا�ضطر‬
‫�إىل ارتداء معطفه الأزرق الأف�ضل ً‬
‫حال من �سواه‪ ،‬ولكنه ظل يفكر يف‬
‫كيفية التعامل مع نظرات االزدراء حني ترى الفتاة اللون الأزرق الذي‬
‫ا�ستحال �إىل رمادي من ال ِق َدم‪ .‬ارت�سمت على وجهه ابت�سامة خافتة‬
‫وهو يفكر‪« :‬بالت�أكيد �سيختارون يل فتاة من طبقتي‪ ..‬ال �أدري ماذا‬
‫كنت �أتوقع!»‬
‫هم �سي�سيل با�ستخراج الر�سالة التي حتمل ختم �صومعة الق�ضاة‬ ‫َّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫من جيبه‪ ،‬ثم انتظر حلظات حتى ينتهي �صرير البوابة الأبدي وهي‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪ ،‬فناوله �سي�سيل الر�سالة‪.‬‬ ‫ُتفتَح‪ .‬رفع احلار�س ناظره �إليه‬
‫ﻜﺘ‬

‫حملق احلار�س يف الر�سالة للحظات ثم همهم‪« :‬تف�ضل‪ ..‬تف�ضل‪..‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لوال �صومعة الق�ضاة ملا خرجت �أي فتاة من ملج أ� الأيتام هذا»‪ .‬مل‬
‫ﺸﺮ‬

‫يرد �سي�سيل جوا ًبا‪ ،‬بل َت ِبعه وهو يحاول جتاهل بذرة التوتر التي بد�أت‬
‫ﻭ‬

‫تنب�ض يف داخله جمددًا‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫توقف احلار�س عند باب املبنى الرئي�سي‪ ،‬لتفتح له �سيدة يف‬


‫منت�صف العمر‪ ،‬بدت على وجهها ابت�سامة م�شرقة‪ .‬مل ت�س�أل عن‬
‫�شيء‪ ،‬فهي تعرف معنى الر�سالة التي يف يد احلار�س‪ً �« :‬‬
‫أهل بك! �أنت‬
‫�سي�سيل‪� ،‬صحيح؟»‬
‫�أجاب‪« :‬نعم‪ ..‬و�أنا هنا لر�ؤية الآن�ســ‪.»..‬‬
‫خارجا‪..‬‬
‫ً‬ ‫قاطعته‪�« :‬أعلم بذلك‪ ،‬فيوال تنتظرك يف احلديقة‬
‫اتبعني»‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫َت ِبعها �إىل خلف املبنى‪ ،‬حيث وجد بع�ض الكرا�سي اخل�شبية املطلة‬
‫على حو�ض زهور �صغري‪ .‬وعلى �أحد هذه الكرا�سي‪ ،‬جل�ست الفتاة‬
‫املن�شودة‪.‬‬
‫ات�سعت ابت�سامة مديرة امللج أ� وهي تقول‪�« :‬س�أترككما وحدكما‬
‫لتتعارفا»‪ .‬ثم ا�ستدارت عائدة �إىل داخل املبنى‪.‬‬
‫هبت الفتاة واقفة‪« :‬تف�ضل باجللو�س �أرجوك!»‬
‫رفع طرفه ليلمح فتاة هزيلة البنية‪ ..‬طويلة ال�شعر‪ ..‬لها عيون‬
‫متلألئة ذكرته فو ًرا برباءة �شقيقته �آيري�س‪ .‬تابع �سريه ليجل�س على‬
‫ﻋﺼ‬
‫الكر�سي املجاور لكر�سيها‪ ،‬ثم جل�ست بدورها والتفتت تت�أمله يف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ف�ضول‪ .‬قالت بعد هنيهة من ال�صمت‪« :‬ال �أ�صدق �أنك �أتيت �أخ ًريا!‬
‫ﻜﺘ‬

‫هل ح ًقا �س�أكون زوجتك؟! �أنا �سعيدة ج ًّدا! ال ميكن �أنْ �أ�صف لك‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سعادتي!»‬
‫ﺸﺮ‬

‫ارت�سمت على وجهه ابت�سامة وهو يقول يف هدوء‪« :‬هل احلياة يف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫داخل امللج�أ بهذا ال�سوء؟»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫عتاب‪�« :‬أنا‬
‫ارت�سمت تك�شرية طفولية على جبينها وهي جتيب يف ٍ‬
‫�سعيدة لأين �س�أكون زوجتك ولي�س لأين �س�أخرج من امللج�أ!»‬
‫ات�سعت ابت�سامته‪« :‬ح ًقا؟ ماذا تعرفني عني حتى تكوين �سعيدة �إىل‬
‫هذه الدرجة؟»‬
‫رفعت ناظرها �إىل ال�سماء مت�أملة وهي تهم�س‪« :‬لقد قر�أت‬
‫�سجلك يف املجلد الذي حتتفظ به املديرة وتر�شح على �أ�سا�سه الفتاة‬
‫‪23‬‬
‫املنا�سبة‪� ..‬أتذكر ما ُك ِتب عنك‪� ..‬شاب من الطبقة الفقرية‪ ..‬طالب‬
‫علم مثابر وطيب القلب»‪.‬‬
‫فكر‪�« ،‬أهذا كل �شيء؟ �إنّ هذه الفتاة لي�ست �سوى طفلة �سئمت‬
‫حياتها وتريد التجديد مهما كانت �صورته»‪ ،‬ثم تابع باالبت�سامة‬
‫عنك‪ ..‬عرفيني عن نف�سك»‪.‬‬‫الهادئة ذاتها‪« :‬ولكني ال �أعرف �شي ًئا ِ‬
‫�أخذت �شهي ًقا عمي ًقا ثم قالت‪« :‬ا�سمي فيوال‪ ..‬عمري ع�شرون‬
‫جدا و�أحب تكوين ال�صداقات‪ ..‬جميع الفتيات يف‬ ‫عاما‪ ..‬اجتماعية ًّ‬
‫ً‬
‫امللج أ� هن �صديقاتي‪ ..‬ولكني ال �أطيق الدرا�سة»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪� -‬أال تقرئني؟‬
‫ﻜﺘ‬

‫«ال �أطيق الكتب‪ ..‬وال �أعرف كيف �أكتب ا�سمي»‪ .‬ثم �أطلقت �ضحكة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عالية وك�أنها فخورة ب�إجنازها‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�أزاح �سي�سيل ناظره عنها هنيهة مفك ًرا‪ً �« ،‬إذا‪� ..‬س�أتزوج فتاة‬
‫�ساذجة‪ ..‬ولكنها على الأقل متلك روح طفلة بريئة ومرحة»‪ .‬ومل يعلم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كم كان خمط ًئا؛ ففيوال مل ت ُكن بريئة‪ ..‬مل متلك روح طفلة‪ ..‬مل ت ُكن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مرحة‪ ..‬مل متلك �صديقة واحدة يف امللج�أ‪ ..‬وكان لها قلب م�ضطرب‬
‫وعقل ميتلئ جنو ًنا‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫‪24‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫الحصان والملك‬

‫يف ق�صر الرمال‪ ،‬وحول من�ضدة م�ستديرة تزينها الزخرفات‬


‫الذهبية‪ ،‬جل�س جمموعة من الرجال نبتت يف وجوه �أغلبهم التجاعيد‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وبرفقتهم‪ ،‬جل�ست ليالك‪ ،‬تنوب عن �إيدن الذي ته َّرب من االجتماع‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كعادته‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫كانت الأنظار من�صبة على �صاحب العينني الذابلتني واحلواجب‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الكثة وهو يقول بلهجة ك�شفت توتره‪« :‬يجب �أنْ نتخذ القرار ب�سرعة‬
‫ﺸﺮ‬

‫يا موالتي‪ ..‬فقد ارتفعت �أ�سعار املياه وبد�أ الأهايل بالتذمر‪� ..‬إنْ مل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نت�صرف‪ ..‬ف�سينفد خمزوننا قري ًبا!»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تدخل �آخر‪« :‬لقد اجتمعنا عدة مرات حتى الآن من �أجل هذه‬
‫الق�ضية‪ ..‬ويف كل مرة يكون احلل هو حفر املزيد من الآبار! لقد حفرنا‬
‫يف كل مكان بال فائدة‪ ..‬مل يبقَ �سوى اجلزء الغربي من اململكة»‪.‬‬
‫�س�أله اجلال�س قبالته‪« :‬هل تعني ال�صحاري الغربية؟»‬
‫التقت عيونهما بينما �أجابه‪�« :‬أنت تعرف ما �أعنيه‪� ..‬أعني الكهوف‬
‫التي تخبئ يف داخلها عيو ًنا غزيرة»‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ يجيب‪« :‬لقد‬
‫�أ�شاح �سائله عينيه عنه وهو ي�أخذ ً‬
‫�سبق �أنْ رف�ض امللك االقرتاب من هذه الكهوف‪ ..‬ال فائدة من طرح‬
‫حلول ال ميكن تطبيقها»‪.‬‬
‫�أجابت ليالك‪« :‬كان هذا عندما مل ت ُكن الق�ضية بهذه الأهمية‪..‬‬
‫�س�أتكفل �أنا ب�إقناعه»‪.‬‬
‫مل يعجبه ردها‪ ،‬قال باقت�ضاب‪« :‬ال �أظن �أنك �ستنجحني يف �إقناعه‬
‫يا موالتي»‪.‬‬
‫‪� -‬س�أبذل جهدي‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حاولت �إقناعه بالأمر وف�شلت‪ ..‬ولهذا �أرى �أنّ ال‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬لقد �سبق �أنْ‬
‫ﻜﺘ‬

‫فائدة ترجى من �إعادة املحاولة‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رمقته بنظرة طويلة �أدرك ‪-‬كالهما‪ -‬معناها‪ ،‬فقد �أراد �إهانتها‬


‫ﺸﺮ‬

‫مبا قال‪ ،‬كونها ال ميكن لها �أنْ تنجح فيما ف�شل هو به‪ ..‬هو م�ست�شار‬
‫امللك الذي له عند امللك مكانة تعلوها �أهمية‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نه�ضت من مقعدها‪« :‬كما قلت لكم‪� ..‬س�أبذل جهدي يف �إقناعه‬


‫و�أخربكم بالقرار غدً ا»‪.‬‬
‫ان�صرفت من قاعة االجتماع متجهة نحو جناح امللك‪ ..‬بدت‬
‫جتعيدة جبينها �أعمق من املعتاد‪ ،‬فكلما جتاهلت ذلك امل�ست�شار عاد‬
‫لي�ستفزها‪ ..‬ولكن ال وقت للتفاهات‪ ..‬ولذا اندفعت �إىل حجرة امللك‬
‫الذي كان يقف مبهو ًتا جوار فرا�شه‪� .‬أغلقت الباب وراءها ثم �سارت‬
‫نحوه لتقول بهدوء‪�« :‬إيدن‪ ..‬يجب �أنْ نتحدث عـ‪.»..‬‬
‫‪26‬‬
‫وبرتت عبارتها حينما التفت لها بعيون مت�سعة ليقاطعها‪« :‬اقرتبي‬
‫و�ألقي نظرة يا ليالك‪ ..‬اقرتبي»‪.‬‬
‫رمقته بنظرة م�ستنكرة‪ ..‬ثم اقرتبت‪« :‬ماذا هناك؟»‬
‫�أ�شار ب�سبابته لو�سادته‪« :‬الأجنحة امل�ضيئة‪� ..‬إنها �أ�سفل الو�سادة‪..‬‬
‫�أزيحي الو�سادة لت�صدقيني»‪.‬‬
‫‪� -‬أي �أجنحة؟!‬
‫‪� -‬أجنحة الرياعة امل�ضيئة التي تزورين يف الأحالم دائ ًما!‬

‫ﻋﺼ‬
‫رفعت الو�سادة ومل ي ُكن �أ�سفلها �أي �شيء‪ ..‬رفعت ناظرها �إليه يف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ا�ستنكار‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫دفعها ثم َه َّم ببعرثة الأغطية‪�« :‬أين اختفت؟! لقد ر�أيتها ومل�ستها‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بيدي! رمبا تكون قد �سقطت بني الأغطية! ابحثي معي!»‬


‫ﺸﺮ‬

‫زفرت بعمق وهي تقب�ض على ذراعه لتوقفه‪�« :‬إيدن‪ ..‬كف عن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هذا»‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ولكن‪ ..‬الأجنحة! �أق�سم لك �أنها كانت هنا!‬


‫‪ -‬فلتذهب الأجنحة �إىل اجلحيم! هناك ما هو �أهم لنتحدث‬
‫عنه‪.‬‬
‫أنت ال‬
‫ارت�سمت على وجهه تك�شرية وهو يقول يف انك�سار‪ِ �« :‬‬
‫لكنك تن�سينه فو ًرا وال‬
‫لك ِ‬ ‫ت�صدقينني! كم مرة ق�ص�صت ذلك احللم ِ‬
‫تعريينني �أي اهتمام»‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫انتظرت حتى يكمل عبارته ثم قالت بحدة‪�« :‬سكان العا�صمة على‬
‫و�شك املوت ظم أً�‪ ..‬يجب �أنْ ت�سمح بالتنقيب عن املياه يف الكهوف‬
‫الغربية‪ ..‬هذا �آخر ما تبقى لنا من حلول»‪.‬‬
‫انتف�ض وك�أنّ ثعبا ًنا لدغه‪� ،‬صاح فيها‪« :‬ال �أحد يلم�س الكهوف!»‬
‫‪� -‬أمل ت�سمع اجلزء الأول من عبارتي؟ �سكان عا�صمتك �سيموتون‬
‫ظم�أً!‬
‫قليل‪« ،‬ال ميكن �أنْ ميوتوا ظم�أً‬
‫ازدرد ريقه وهو ي�سرتد هدوءه ً‬
‫بينما منلك مناجم تفي�ض بالذهب»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬وما الذي �سنفعله بالذهب؟‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬ن�شرتي به ماء من مملكة القمم الدخانية! لديهم فائ�ض من‬


‫املياه ولدينا فائ�ض من الذهب‪ ..‬ملاذا ال نتقاي�ض؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صمتت هنيهة‪ ،‬ثم �أجابت با�ستنكار‪« :‬ن�شرتي‪ ..‬املاء؟! �أنت متزح‪..‬‬


‫�صحيح؟»‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كان يعلم مبدى غباء اقرتاحه‪ ،‬ولكنه كان يريد �أنْ يتخل�ص من‬
‫هذا اجلدال وح�سب‪.‬‬
‫�أجاب‪�« :‬سنجعلهم يبنون قنوات بني اململكتني‪ ..‬وميدوننا خاللها‬
‫باملياه العذبة من �شالالتهم الغزيرة»‪.‬‬
‫‪ -‬ونبعرث الرثوة الوحيدة التي منلكها من �أجل ذلك؟ الذهب‬
‫يبقى ويزداد قيمة! ولكن املياه ُت�ستهلك وتنتهي!‬
‫‪ -‬وهل نرتك ال�سكان ميوتون ً‬
‫عط�شا لنحافظ على الذهب؟‬
‫‪28‬‬
‫ت�أففت يف �ضجر‪« :‬توقف عن اجلدال امللتوي وحدثني باملنطق! ال‬
‫ينبغي �أنْ نحل امل�شكلة بخلق �أخرى»‪.‬‬
‫عاد لريفع نربته‪« :‬مهما ي ُكن‪ ..‬لن ُ َت َّ�س الكهوف! � ِ‬
‫أنت ال تفهمني‬
‫�أهميتها وال ميكن �أنْ تفهمي!»‬
‫أفهمني � ًإذا! �أخربين َمل تقد�س هذه الكهوف!‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫أنت لن تفهمي‬
‫‪ -‬هناك �إح�سا�س يراودين بقوة عن �أهميتها‪ ..‬و� ِ‬
‫ما �أ�شعر به �أبدً ا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ً � -‬إذا فالكهوف ُمهمة لأنك ت�شعر ب�أنها ُمهمة؟ ال فائدة من‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫النقا�ش معك ح ًقا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫أنك لن تفهمي!‬
‫أخربتك ب� ِ‬
‫ِ‬ ‫‪�-‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ولكنها ا�ستدارت لتخرج متجاهلة �إياه‪ ..‬مدركة �أنّ �إنهاء احلوار‬


‫ﺸﺮ‬

‫جتريحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫هنا �أف�ضل من االنخراط يف جدال يتجه �إىل منحى �أكرث‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كان تنف�سها �سري ًعا‪ ،‬وقلبها ينب�ض بقوة �إثر انفعالها الداخلي الذي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تخفيه بامتياز وال ي�شي به �شيء �سوى جتعيدة جبينها‪.‬‬


‫خرجت من جناح امللك ونزلت درجات كثرية‪ ..‬كانت وجهتها‬
‫قبو الق�صر‪ ..‬مل ت ُكن قد زارت هذا املكان من قبل‪ ،‬ولكن مي�ست قد‬
‫رحل‪ ..‬ويجب �أنْ تتابع الق�ضية التي وكلها بها قبل رحيله‪ ،‬ففي هذا‬

‫‪n‬‬
‫القبو يقطن �سجني �أكد مي�ست �شدة �أهميته و�ضرورة متابعة نتائج‬
‫التحقيق معه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫يف �أحد ممرات قلعة القمم الدخانية‪ ،‬توقف نايت يتابع جدال‬
‫ال�شقيقتني‪ .‬كان املوكل بتوزيع تكاليف حفل اال�ستقبال القادم‪ ،‬ومل‬
‫يعرف ما يفعل حني جاءته بري�شيليا لتطالبه بتخ�صي�ص ن�صف تلك‬
‫امليزانية من �أجل جتهيزاتها اخلا�صة‪ ،‬ولذا �أخرب �أوفيليا لتتوىل الأمر‪.‬‬
‫كانت �أوفيليا تنوي �إخبار امللك دُون �أنْ ت�صطدم مع بري�شيليا‪،‬‬
‫ولكن الأخرية كانت تتوقع الأمر‪ ،‬ولذا �أوقفت �أوفيليا وهي يف طريقها‬
‫�إىل جناح والدها‪.‬‬
‫كانت بري�شيليا تهم�س يف غ�ضب‪« :‬تنتظرين �أي �شيء لتفتعلي‬

‫ﻋﺼ‬
‫امل�شاكل من وراء ظهري! �أخربيني! ما الذي تريدينه؟!»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أنت‬
‫ُمت تخ�شني �أنْ يعلم والدنا بالأمر ف� ِ‬
‫�أجابت الأخرى‪« :‬ما د ِ‬
‫ﻜﺘ‬

‫أنك خمطئة»‪.‬‬
‫تعرتفني ب� ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كنت تخ�شني‬‫‪�-‬أنا �أمرية! وال خط أ� يف �أنْ �أتزين و�أبدو جميلة! �إنْ ِ‬


‫ﺸﺮ‬

‫عنك الأنظار افعلي مثلي وارتدي �شي ًئا برا ًقا غري‬ ‫�أنْ �أ�سرق ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أثواب الراهبات!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تبذيرك لأين ال �أريد �أنْ ت�سرقي‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬هل تظنني ح ًقا �أين �أعار�ض‬
‫عني الأنظار؟‬
‫أنت ت�شعرين بالغرية من كل �شيء �أفعله! ت�شعرين‬‫‪ -‬بالطبع‪ِ � ،‬‬
‫بالغرية لأين �أعي�ش ك�أمرية حقيقية‪.‬‬
‫كانت �أوفيليا تنظر �إىل الأر�ضية الرخامية بينما ت�سرت�سل بري�شيليا‬
‫يف حديثها‪..‬‬
‫‪30‬‬
‫‪� -‬س�أختار ما �أحب من املجوهرات واحلرير و�أتزين و�أتزوج‬
‫�أم ًريا يعطيني ق�ص ًرا ويغرقني بالذهب‪� ..‬أما � ِ‬
‫أنت‪ ..‬تابعي‬
‫احلفر وراء الآخرين وا�سهري الليايل �أر ًقا وتظاهري ب� ِ‬
‫أنك‬
‫امللكة املثقلة بالهموم‪.‬‬
‫كنت‬‫‪ -‬ح�س ًنا‪� ،‬س�أفعل‪ ..‬باملنا�سبة‪� ،‬أهنئك على قرار الزواج‪ِ ..‬‬
‫تريدين �أنْ �أتزوج �أنا و�أهاجر من هذه القلعة‪ ..‬ولكن ما �إنْ‬
‫أنك تريدين الزواج!‬‫قررت � ِ‬
‫�سمعت بقدوم الأمري مي�ست حتى ِ‬ ‫ِ‬
‫قرار �سليم‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫تظاهرت بالالمباالة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أنك حترتقني يف داخلك و�إنْ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪� -‬أعلم � ِ‬
‫‪� -‬صحيح‪� ..‬أكاد �أنفجر ً‬
‫غيظا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫تدخل نايت ليقاطعهما يف هدوء‪�« :‬أرجوكما‪ ..‬يجب �أنْ جند ً‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حل‬
‫ً‬
‫و�سطا»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫التفتت �إليه بري�شيليا لتقول يف غل‪« :‬اخر�س �أنت! �س�أحر�ص �أ�شد‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احلر�ص على �أال �أخرج من هذه القلعة قبل �إلقائك يف الزنزانة!»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫جتاوزتهما لتقف على باب اجلناح‪�« :‬س�أذهب بنف�سي و�أطلب من‬


‫�أبي �أنْ يخ�ص�ص يل من خزينته اخلا�صة‪ ..‬ميكنكما االن�صراف‬
‫لتق�سيم ميزانية احلفل كما تريدان!»‬
‫كانت تعلم �أنّ ال حل �سوى �أنْ ت�سبق اجلميع يف �إعالم والدها‬
‫مبطالبها‪ ،‬ولذلك‪ ،‬قررت �أنْ توقف �أوفيليا هذه املرة وت�سلبها هذه‬
‫الفر�صة الذهبية يف حتري�ض والدها �ضدها‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫دلفت بري�شيليا �إىل الداخل‪ ،‬ويف احلجرة امللكية‪ ،‬وجدت والدها‬
‫يجل�س يف �شرفته‪ ،‬يت�صفح كتا ًبا �ضخ ًما بني يديه‪ ،‬بينما ير�شف من‬
‫امل�شروب ال�ساخن جواره‪.‬‬
‫رفع حدقتيه الزرقاوين �إليها بينما �أ�شرقت ابت�سامة وا�سعة على‬
‫وجهه الذي تغطيه حلية �سوداء كبرية‪.‬‬
‫أهل بك»‪.‬‬‫هم�س‪« :‬بري�شيليا عزيزتي‪ً � ..‬‬
‫كان وجهها متجه ًما‪ ،‬اقرتبت لتجل�س على الكر�سي املقابل له‪،‬‬
‫هم�ست‪�« :‬أبي‪� ..‬أنا ال �أعرف كيف �أ�شرح لك الأمر»‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كانت تعرف كيف تك�سب عاطفته‪ ،‬مل تذكر �أنها حزينة لأنها مل‬
‫ﻜﺘ‬

‫ت�ستطع احل�صول على ن�صف ميزانية احلفل‪ ،‬بل �أخربته ب�أنها مل ت ُكن‬
‫ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تعلم ب�أمر احلفل فا�ستهلكت ما كان معها من مال‪ ،‬ولذا فهي بحاجة‬
‫�إىل مال من خزينته اخلا�صة‪ .‬وحني الحظت ا�ستجابته‪ ،‬جتر�أت‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�ستخراج م�ستند اخليوط الذهبية من طية ُك ِّمها‪ ..‬وطلبت منه �أنْ‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ُير�سله مع �أحد اخلدم �إىل مملكة ال�صحاري‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪n‬‬
‫ولأنها االبنة املدللة‪ ،‬فقد وافق والدها على �إر�سال امل�ستند وعلى‬
‫�إعطائها ما يعادل ميزانية احلفل ً‬
‫كامل‪.‬‬

‫يف قبو ق�صر الرمال‪ ،‬نزلت ليالك الدرجات ثم اجتهت �إىل‬


‫احلجرة الأوىل التي يقطنها رئي�س الزنزانات‪ .‬هب واق ًفا حني ر�آها‬
‫على بابه‪..‬‬
‫‪32‬‬
‫‪ً �-‬‬
‫أهل بك يا موالتي‪.‬‬
‫�أوم�أت ردًا على حتيته‪ ،‬ثم بادرت بال�س�ؤال‪« :‬ما الذي حدث مع‬
‫�سجني مي�ست؟ هل �أف�صح عما لديه؟»‬
‫�أ�شاح الرئي�س ناظريه بعيدً ا‪ ..‬مفك ًرا يف كيفية �صياغة جواب‬
‫منا�سب‪..‬‬
‫قالت يف حرية‪« :‬لقد تعر�ض لتعذيب �شديد ورغم ذلك ما زال‬
‫يرف�ض االعرتاف؟! �أي والء ميلك هذا اجلا�سو�س!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫هم�س الرئي�س‪« :‬لقد فقد عي ًنا‪ ..‬كان م�ستعدً ا للموت وما كان‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�سيتكلم �أبدً ا»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬لكنكم متلكون طر ًقا �أخرى‪ ..‬التعذيب اجل�سدي هو املرحلة‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأوىل وح�سب‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مل يرد جوا ًبا‪ ،‬فعادت لت�س�أل‪« :‬ما بك؟ هل مات؟!»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫رفع الرئي�س ناظره ً‬


‫قليل وهو يهم�س‪« :‬ال يا موالتي‪ ..‬ولكن مت‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الإفراج عنه»‪.‬‬
‫ات�سعت عيناها يف ده�شة بينما تب ّدى اخلوف يف لهجتها‪�« ،‬أفرجتم‬
‫عن �سجني كهذا؟! كـ‪ ..‬كيف؟! ومتى حدث هذا؟!»‬
‫خجل �أردف‪�« :‬أمرين امللك بنف�سه بالإفراج عن هذا ال�سجني‬ ‫يف ٍ‬
‫فور رحيل الأمري مي�ست‪ ..‬تعلمني �أنّ امللك �أمر بالإفراج عنه منذ زمن‬
‫ولكن الأمري كان عنيدً ا‪ ..‬ولهذا قرر امللك �أنْ ي�ستغل غيابه»‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫ازدردت ليالك ريقها وهي تهم�س يف خوف‪« :‬هل تعلم ما ميكن �أنْ‬
‫ي�سببه هذا ال�سجني؟! �إنه جا�سو�س خطري! لقد قب�ض عليه مي�ست وهو‬
‫ين�سخ م�ستندات �سرية تخ�ص ُع ّدتنا الع�سكرية!»‬
‫‪� -‬أعلم �أيتها امللكة‪ ..‬ولكني ال �أ�ستطيع رف�ض �أمر امللك‪ ..‬كاد‬
‫يجن جنونه حني ر�أى حالة ال�سجني‪ ..‬لقد �أ�شفَقَ عليه ب�شدة‪.‬‬
‫�أخذت �شهي ًقا عمي ًقا حماولة �إخفاء رجفة �أطرافها‪ ..‬هم�ست قبل‬
‫�أنْ تن�صرف‪« :‬فهمت»‪� .‬صعدت الدرجات يف هدوء بينما ع�صفت يف‬
‫عقلها زوابع من املخاوف‪�« ،‬إيدن �سيق�ضي علينا بقراراته الغبية‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫يجب �أنْ يعود مي�ست‪ ..‬لو ظل يف �صومعة الق�ضاة لعاد ليجد مملكته‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬

‫‪n‬‬
‫قد حتولت � ً‬
‫أنقا�ضا‪ ..‬يجب �أنْ يعود ليوقف هذا املعتوه املختل»‪ .‬و�إىل‬
‫ﻜﺘ‬

‫حجرتها اخلا�صة اجتهت‪ ،‬ثم �شرعت بكتابة ر�سالة‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫قرب امل�ساء‪ ،‬ويف حجرة الأمري ال�صغري‪ ..‬جل�ست �أوفيليا قبالة‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫رقعة ال�شطرجن بينما تعلو وجهها ابت�سامة وا�سعة‪ ..‬لقد حا�صرت امللك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫متاما‪� ..‬ألقت نظرة خاطفة على وجه �آرون املتجهم‪..‬‬


‫اخلا�ص ب�آرون ً‬
‫ثم حركت ح�صانها لتطيح بامللك‪.‬‬
‫مل يكونا وحدهما‪ ،‬فخلف �أوفيليا‪ ،‬وقفت �آيري�س حتملق يف رقعة‬
‫ال�شطرجن‪ ..‬تتابع بعينيها كل حتركاتهما‪ ..‬ورغم معرفة �أوفيليا‬
‫با�ضطراب النمو الذي تعانيه �آيري�س‪ ،‬ف�إنها قد فوجئت َمب َل َكة احلفظ‬
‫لديها بعد فرتة ب�سيطة من البدء يف خدمتها‪ ..‬كان فهم �آيري�س‬
‫بطي ًئا‪ ..‬ولكنها كانت قادرة على تذكر كل التحركات على رقعة‬
‫‪34‬‬
‫ال�شطرجن من جمرد متابعة املباراة بعينيها‪ ..‬ولهذا‪ ،‬قررت �أوفيليا‬
‫ا�ستغالل هذه املوهبة لتطوير �إ�سرتاتيجياتها‪ ..‬ف�أمرت �آيري�س مبتابعة‬
‫أوراق حتتفظ بها يف مكتبتها‪..‬‬
‫�أ�شواط اللعب ثم تدوين كل ذلك يف � ٍ‬
‫بالطبع‪ ،‬مل ت ُكن �آيري�س تدون �شي ًئا كونها ال جتيد الكتابة �أو القراءة‪،‬‬
‫ولكنها كانت تر�سم باحرتافية‪.‬‬
‫قال �آرون بينما ال تزال عينيه معلقتني َمب ِل ِكه املهزوم‪« :‬لقد قر�أتُ‬
‫أنت تفوزين‬
‫مرة �إنّ احل�صان هو ال�ضربة القا�ضية للمحرتفني‪ِ � ..‬‬
‫باحل�صان دائ ًما‪� ..‬أما �أنا‪ ..‬ف�أول ما �أفقده هو احل�صان!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫�ضحكت‪« :‬كل حمرتف له �أ�ساليبه اخلا�صة‪ ..‬هناك ِمن املحرتفني‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ِ‬
‫َمن يفوز بامللك دائ ًما‪ ..‬تخيل‪ ..‬بامللك وحده»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫حتد‪�« ،‬أريد �أنْ يكون لدي هذا الأ�سلوب من‬


‫التمعت يف عينيه نظرة ٍّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫االحرتاف! الفوز بامللك فقط!»‬


‫ﺸﺮ‬

‫�س�ألته‪« :‬هل تريد اللعب من جديد؟»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫علي �أنْ �أرى طيوري‪� ..‬سنلعب غدً ا‪.‬‬


‫‪� -‬أود ذلك‪ ..‬لكن َّ‬
‫بدت نظرة ا�ستغراب على وجهها‪ ،‬قالت‪ً �« :‬إذا فما �سمعته �صحيح‪..‬‬
‫�أنت تر ّبي طيور البوم!»‬
‫أريك �إياهم! �إنهم‬
‫�أجاب وقد ات�سعت ابت�سامته‪« :‬نعم! تعايل معي ل ِ‬
‫رائعني!»‬
‫ابت�سمت‪« ،‬فيما بعد يا عزيزي فيما بعد! هناك ما ي�شغلني»‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أنت من�شغلة دائ ًما‪ ..‬ورغم ذلك تلعبني ال�شطرجن معي كل يوم‪.‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫«ال ُب َّد من تخ�صي�ص بع�ض الوقت ل�شقيقي الغايل»‪ ،‬قالتها وهي‬
‫تباغته بقر�صة يف وجنته مل ينجح بتفاديها‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم‪ ،‬ق�ضى �آرون امل�ساء برفقة طيوره‪� ،‬أما �أوفيليا‪،‬‬

‫‪n‬‬
‫فق�ضته يف حجرة مظلمة حتتل عل ّية القلعة‪ ..‬بني �شموع �سوداء وكتب‬
‫�ضخمة م�صف َّرة ال�صفحات‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪36‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫أمير الطين‬

‫يف بهو الق�صر الوا�سع‪ ،‬وحتت القبة املنحوتة بالذهب‪� ..‬سارت‬


‫ليالك جيئة وذها ًبا‪ ..‬غري قادرة على منع ارجتاف �أو�صالها‪ ..‬لقد‬

‫ﻋﺼ‬
‫مرت �سبعة �أيام منذ �أنْ �أر�سلت ر�سالتها ال�سرية برفقة �إحدى خادمات‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الق�صر‪ ..‬كان من املفرت�ض �أنْ ي�صلها الرد �سري ًعا‪ ،‬فاخلادمة اجتهت‬
‫ﻜﺘ‬

‫�إىل الطريق الذي خرجت �إليه عربة مي�ست‪ ..‬ومل ي ُكن مي�ست يبعد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أكرث عن م�سرية يوم واحد من العا�صمة‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫قررت �أنها �ست�صرب‪ ،‬ولكنها �أدركت �أنّ ر�سالتها مل ت�صل حني‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫فوجئت بقرار زوجها امللك هذا ال�صباح‪ ..‬فقد قرر منع �أي ر�سالة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تخرج من الق�صر دُون �أنْ َّ‬


‫يط ِلع عليها بنف�سه‪ ..‬وقرر �أنّ كل خادمة‬
‫متاما �أنّ هذه القرارات‬
‫وحار�س �سيتم تفتي�شهم عند البوابة‪ ..‬تعلم ً‬
‫لي�ست قراراته ال�شخ�صية؛ بل هي قرارات ُم�ست�شاره ريجان‪ ..‬ولذلك‬
‫كانت تنتف�ض غ�ض ًبا‪.‬‬
‫�سمعت �أ�صوات اخلطوات القادمة‪ ،‬ف�أدركت �أنّ �إيدن قد عاد من‬
‫رحلته �إىل الكهوف‪ ..‬مل ت ُكن تنتظره‪ ،‬بل كانت تنتظر ريجان الذي‬
‫يرافقه �إىل كل مكان‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫اجته �إيدن �إىل جناحه مبا�شرة‪ ،‬وكان ريجان وراءه‪ ،‬ف�أوقفته‬
‫بحزم‪« :‬ريجان‪ ..‬اتبعني �إىل جمل�س االجتماعات ال�صغري»‪.‬‬
‫توقف‪ ،‬ثم هم�س َمل ِل ِكه‪« :‬اعذرين يا موالي‪� ..‬س�أعود الح ًقا»‪.‬‬
‫حلق بليالك التي �سرعان ما كانت جتل�س حول من�ضدة‬
‫االجتماعات‪ ..‬تعلو وجهها نظرة غ�ضب وا�ضحة رغم هدوئها‬
‫الظاهري‪.‬‬
‫قال‪« :‬موالتي‪ ..‬ماذا هناك؟»‬
‫�أجابت ب�صوتها البارد‪« :‬اجل�س � ًأول»‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سحب له مقعدً ا‪ ،‬وجل�س‪ ،‬ثم رفع ناظره �إليها يف ت�سا�ؤل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫رمقته بنظراتها احلادة بينما هم�ست‪«َ :‬من تظن نف�سك؟ �أخربين»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ُ -‬م�ست�شار امللك‪ ..‬وهذه حقيقة ولي�ست ِب َظن‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫كانت حتفظ �أ�سلوب حديثه عن ظهر قلب‪ ،‬فتابعت دُون �أنْ تنتف�ض‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لوقاحته‪�« :‬أين اخلادمة ريتا؟»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�ست امل�س�ؤول عن معرفة مواعيد‬


‫‪ -‬املعذرة يا موالتي‪ ..‬ولكني ُ‬
‫عمل اخلادمات‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا‪ ،‬تابعت‪�« :‬س�ألتك عن خادمة واحدة‪ ..‬و�أنت‬
‫�أخذت ً‬
‫تعرف مكانها لأنك اختطفتها بينما كانت يف طريقها لإي�صال‬
‫ر�سالتي»‪.‬‬
‫�أخف�ض ناظره لريمق انعكا�س وجهه على املن�ضدة الزجاجية‪،‬‬
‫هم�س‪« :‬اممم‪� ..‬أنا اختطفت خادمة ا�سمها ريتا؟»‬
‫‪38‬‬
‫‪� -‬صحيح‪ ..‬و�س�أكون ممتنة �إنْ توقفت عن اال�ستغباء حتى ال‬
‫ن�ضيع وقتنا‪ ..‬كالنا يعلم ب�أننا نفهم بع�ضنا جيدً ا‪.‬‬
‫رفع ناظره �إليها لريمقها بذات نظرتها‪« ،‬تعلمني �أنّ ا�ستغبائي‬
‫ل�صاحلك يا موالتي ورغم ذلك حتا�سبينني! لو مل �أتظاهر بالغباء‬
‫لكان امللك �إيدن يعرف كل �شيء»‪.‬‬
‫با�ستنكا ٍر �أجابت‪« :‬كل �شيء؟ ماذا تق�صد بكل �شيء؟»‬
‫رك مع الأمري مي�ست ل�سرقة العر�ش‪.‬‬
‫‪� -‬أعني ت�آ ُم ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ارت�سمت على وجهها ابت�سامة �ساخرة‪�« :‬أهذا ما ف�سرت به‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ر�سالتي؟ هل تريد مني اجللو�س ور�ؤية اململكة تنهار؟ الأمري مي�ست‬
‫ﻜﺘ‬

‫عقل قاد ًرا على �إدارة اململكة‪ ..‬عودته �ضرورية‪ ..‬ولي�س يف هذا‬ ‫ميلك ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�ستيالء على عر�ش �إيدن‪ ..‬فليجل�س على العر�ش كما ي�شاء‪ ..‬ولكنه لن‬
‫يتخذ القرارات لأنه غري م�ؤهل لذلك!»‬
‫ﺸﺮ‬

‫أنت �ست�سمحني له بو�ضع التاج فقط‪� ..‬أما‬ ‫ابت�سم بدوره‪ً �« :‬إذا‪ِ � ..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احلكم ف�سيكون بيد الأمري مي�ست‪ ..‬وبهذا لن تكوين خائنة!»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وماذا عما تفعله �أنت؟ �أنت حتكم ً‬


‫بدل عن �إيدن‪َ ..‬مل ال تعترب‬
‫نف�سك خائ ًنا � ً‬
‫أي�ضا؟‬
‫بدل من امللك! حتى‬ ‫اعرتا�ض‪�« :‬أنا ال �أحكم ً‬
‫ٍ‬ ‫قال‪ ،‬بينما ك�شر يف‬
‫و�إنْ تدخلت يف بع�ض الأمور من وراء ظهره‪ ،‬فهديف هو حمايته وحماية‬
‫اململكة‪ ..‬لكن من املُحال �أنْ �أتخذ قرا ًرا �ضده �أو �أقنعه باتخاذ قرار‬
‫خاطئ»‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫كنت حني �أفرج عن اجلا�سو�س � ًإذا؟ �أين َ‬
‫كنت حني‬ ‫‪ -‬ح ًقا؟ �أين َ‬
‫�أر�سل �إىل امللك مريلني طل ًبا ببناء قناة مائية متتد �ألفي ميل‬
‫وبتكلفة مقدارها ثالثمئة طن من الذهب؟!‬
‫‪ -‬مل يقدم لنا الأمري مي�ست �أي دليل على تورط ذلك ال�سجني‪..‬‬
‫و�أما القناة املائية‪ ،‬فهي احلل الأمثل رغم تكلفتها‪ ..‬ال ميكننا‬
‫�أنْ نعتمد على ب�ضعة ينابيع يف ال�صحراء الغربية‪ ..‬هذا �إنْ‬
‫كانت موجودة‪.‬‬
‫زفرت ليالك بعمق‪« :‬بناء مثل هذه القناة قد ي�ستغرق �أكرث من‬

‫ﻋﺼ‬
‫ع�شرين �سنة‪ ..‬هل قمتم ب�أي درا�سة قبل �إر�سال الر�سائل والعرو�ض‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إىل امللك مريلني؟! هل تعلم ما هي الآثار املرتتبة على م�شروع كهذا؟!»‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬لقد اقرتحت على امللك �أنْ يبد�أ البناء من اجلهتني‪ ..‬يبني‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫امللك �إيدن من جهتنا‪ ..‬ويبني امللك مريلني من جهته‪ ..‬وبهذا‬


‫ﺸﺮ‬

‫نقل�ص مدة البناء �إىل الن�صف‪ ..‬وحتى ذلك احلني �سنفر�ض‬


‫ﻭ‬

‫قوانني حتد من ا�ستهالك املياه و�سن�شرتي املياه عند احلاجة‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬حتى �أنت تتحدث عن �شراء املياه؟! خلتك متلك ً‬


‫عقل! لكن‬
‫يبدو �أنّ �إيدن قد نقل �إليك عدوى اجلنون‪.‬‬
‫بدا االنزعاج على وجه ريجان بينما اقرتن حاجباه‪« :‬موالتي‪ ..‬من‬
‫غري امل�سموح لأي كان �أنْ ينعت امللك �إيدن باجلنون! �صحيح �أنّ امللك‬
‫يتخذ قرارات غري مدرو�سة يف غالب الأحيان‪ ،‬ولكني �أُومن به ج ًّدا!‬
‫قد ال نفهمه‪ ..‬ولكنه لي�س جمنو ًنا!»‬
‫‪ً � -‬إذا‪ ..‬ف�أنت ترى ب�أنّ �إيدن م�ؤهل وقادر على اتخاذ القرارات!‬
‫‪40‬‬
‫‪ -‬بالطبع! ولكنه يحتاج بع�ض امل�شورة كجميع امللوك‪ ..‬يجب �أنْ‬
‫تقفي �إىل جانبه ً‬
‫عو�ضا عن الت�آمر عليه يا موالتي‪� ..‬أنا لن‬
‫دمت ح ًّيا‪.‬‬
‫�أ�سمح ب�أي م�ؤامرة على امللك ما ُ‬
‫ارت�سمت ابت�سامة �ساخرة على وجهها وهي تهب واقفة‪« :‬وملاذا ال‬
‫ت�سرع ب�إخباره ب�أين �أت�آمر عليه لتتخل�صا مني؟ ما الذي تنتظره؟»‬
‫‪ -‬امللك رقيق امل�شاعر‪� ..‬سوف يحزن ب�شدة �إنْ �أخربته‪� ..‬أعلم‬
‫دمت‬
‫أنك عاجزة عن فعل �أي �شيء دُون الأمري مي�ست‪ ..‬وما ُ‬ ‫� ِ‬
‫قطعت طريق التوا�صل بينكما فلن يكون هناك م�صدر‬ ‫ُ‬ ‫قد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫للخطر‪.‬‬
‫ي�ستطع منع ابت�سامته الهازئة التي جعلت ابت�سامة ليالك‬ ‫مل‬
‫ﻜﺘ‬
‫ِ‬
‫تتال�شى‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رمقته بنظراتها احلارقة قبل �أنْ ت�شيح بعينيها بعيدً ا لتهم�س‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫«ميكنك االن�صراف»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هم�س‪« :‬باملنا�سبة‪ ..‬ريتا �أتلفت الر�سالة قبل �أنْ �أقر�أها‪ ..‬لكن‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صحيحا بعد كل �شيء»‪.‬‬


‫ً‬ ‫تخميني كان‬
‫�أوم�أ‪ ،‬ثم ان�صرف‪ ..‬تار ًكا ليالك و�سط غ�ضبها‪.‬‬
‫‪ -‬يا لك من لعني!‬
‫�سارت عدة خطوات نحو ال�شرفة‪ ..‬فتحت امل�صراعني لتهب عليها‬
‫ن�سمات امل�ساء الباردة‪ ..‬ورغم هذه الن�سمات‪ ،‬ف�إنها كانت ت�شعر‬
‫باختناق و�ضيق جعالها تتخذ قرا ًرا َح ّذرها مي�ست كث ًريا من جمرد‬
‫‪41‬‬
‫‪n‬‬
‫التفكري فيه‪�« :‬ستندم على اعرتا�ض طريقي يا ريجان‪ ..‬و�ستتمنى لو‬
‫�أنك ت�سببت بقتلي حني واتتك الفر�صة»‪.‬‬

‫يوما �آخرين‪ ..‬ويف حجرة خ�شبية ترتفع ثالثة‬


‫بعد مرور ع�شرين ً‬
‫طوابق‪ ،‬جل�س �سي�سيل برفقة عدد ممن يرتدون ذات زيه وي�ستمعون‬
‫�إىل ال�شيخ الأ�شيب الذي وقف يف ال�صدارة‪ ،‬يتحدث ب�صوته العميق‬
‫البطيء‪:‬‬
‫‪� -‬ست�أتون برفقتي الليلة لنمثل �صومعة الق�ضاة يف قلعة القمم‬

‫ﻋﺼ‬
‫الدخانية‪� ..‬سرنحب برفيقنا اجلديد‪ ..‬الأمري مي�ست‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ارتفع �صوت مت�سائلك «وكيف ينبغي لنا �أنْ نرحب به؟»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أجابه ال�شيخ‪�« :‬سرتحبون به ترحي ًبا يليق ب�أمري‪ ..‬ولكنكم لن‬


‫تنادوه بهذا اللقب غدً ا‪ ..‬الليلة هو الأمري مي�ست‪ ..‬وغدً ا هو الزميل‬
‫ﺸﺮ‬

‫مي�ست‪ ..‬الذي ي�أكل اخلبز الياب�س وينام على الق�ش»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مرت هنيهة من ال�صمت قبل �أنْ ُيردف‪« :‬وككل الزيارات الر�سمية‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫لن ت�أكلوا �شي ًئا‪ ..‬لن ت�شربوا �شي ًئا‪ ..‬لن جتل�سوا‪ ..‬و�سرتف�ضون �أي دعوة‬
‫من �أي كان ولأي �شيء كان‪ ..‬لن تفعلوا �سوى الوقوف و�إلقاء التحية‬
‫على النبالء ومبادلتهم احلديث �إنْ بادروا هم!»‬
‫ر�أى �إمياءات التف ّهم قبل �أنْ ُينهي در�سه‪ ،‬ثم نه�ض الزمالء ك ٌل‬
‫يحمل كتبه وين�صرف يف اجتا ٍه‪.‬‬
‫نزل �سي�سيل الدرجات اخل�شبية بينما ارت�سم على وجهه تعبري‬
‫من التجهم‪� ..‬سار يف ال�ساحة الوا�سعة متج ًها �إىل البوابة الكبرية‪..‬‬
‫‪42‬‬
‫كان ت�صميم �صومعة الق�ضاة يوحي ب�أنها مكان �صغري وفقري‪ ..‬ولكنها‬
‫كانت يف احلقيقة �أ�شبه مبدينة متكاملة‪ ..‬فكان فيها بيوت وقاعات‬
‫تدار�س وخمتربات و�أقبية‪ ..‬وكان كل بيت خ�شبي فيها يرتفع عدة‬
‫طوابق وينزل عن الأر�ض بطابق �أو اثنني‪.‬‬
‫وتلك البوابة مل ت ُكن البوابة امل�ؤدية �إىل خارج ال�صومعة‪ ،‬بل كانت‬
‫ت�ؤدي �إىل م�ساكن الطلبة‪ ..‬وكانت البوابة الوحيدة التي ُي�سمح للطالب‬
‫بتجاوزها دُون �إذن‪.‬‬
‫توقف �سي�سيل قبل جتاوز البوابة عند مبنى خ�شبي �شبيه ببقية‬

‫ﻋﺼ‬
‫املباين‪ ،‬يعلو بابه النحت الذي ينت�شر يف كل �أنحاء ال�صومعة‪ ..‬نحت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يرمز �إىل �شعار �صومعة الق�ضاة ‪ -‬البومة الغافية‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫دلف �سي�سيل �إىل الداخل متج ًها �إىل اللوح الأ�سود لي�ضيف ا�سمه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫على قائمة الأ�سماء التي كتبها �أ�صحابها بذات الطب�شور الأبي�ض‪..‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫وقبل �أنْ ين�صرف‪ ،‬انحنى ليحمل الطبق املعدين املُغطى ُببدة‬


‫ﻭ‬

‫بي�ضاء‪ ..‬كانت تلك وجبة ع�شائه‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اقرتب من البيت اخل�شبي ال�صغري على طرف ال�سور ثم طرق‬


‫الباب لتفتح له فيوال التي �صارت زوجته منذ زمن ق�صري‪ ..‬تناولت‬
‫من يده الطبق املعدين و�سبقته بالنزول‪ ..‬كان قبو ذلك البيت هو‬
‫م�سكنهما‪.‬‬
‫و�ضع حقيبته التي كانت تثقل كتفه � ً‬
‫أر�ضا‪ ..‬ومل يكد يلتفت لها حتى‬
‫وجدها قد ك�شفت الطبق املعدين وه ّمت بغط�س قطعة اخلبز يف وعاء‬
‫احل�ساء‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫ً‬
‫«مهل يا فيوال»‪ .‬قالها وهو يقرتب لي�أخذ قطعة اخلبز الأخرى‬
‫وقطعة اجلنب‪ ،‬ويلفهما باملالءة‪..‬‬
‫«�أال تريدين �أنْ �آكل؟» قالتها بفم ممتلئ‪..‬‬
‫‪� -‬أنا �أخذت ن�صيبي وح�سب‪ ..‬لن �أ�شاركك ن�صيبك‪.‬‬
‫جوعا!‬ ‫‪ -‬لكني �أريد قطعة اجلنب � ً‬
‫أي�ضا‪� ..‬أنا �أت�ضور ً‬
‫َق َ�سم قطعة اجلنب �إىل ن�صفني‪ ،‬وناولها ن�ص ًفا‪ ،‬ثم عاد ليلف‬
‫املالءة حول ما تبقى من الطعام‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫انتظرها حتى تنتهي من طعامها‪ ،‬ثم ناولها ال�صرة التي �صنعها‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫باملالءة ورمقها بالنظرة التي تعرفها جيدً ا‪ ..‬وتظاهرت هي باجلهل‬
‫ﻜﺘ‬

‫كما تفعل يف كل يوم‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬خذي هذا الطعام �إىل �آيري�س‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ولكنك مل ت�أكل!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ال تقلقي‪� ..‬أنا بخري‪.‬‬


‫تناولت ال�صرة ثم اجتهت �إىل اخلارج‪ ،‬نحو البوابة الأخرى التي‬
‫ت�ؤدي �إىل خارج �صومعة الق�ضاة‪.‬‬
‫ت�أملها �سي�سيل هنيهة وهي مبتعدة‪ ،‬ليزداد وجهه جته ًما‪« ..‬كانت‬
‫تظاه َرت بالقلق لأين مل �آكل!»‬
‫تريد قطعة اجلنب خا�صتي‪ ..‬ثم َ‬
‫كان تناق�ضها يزعجه ج ًّدا‪ ..‬ولكنه كان ي�شعر ب�شفقة كبرية‬
‫جتاهها‪ ..‬ال ُب َّد �أنها عا�شت حياة ع�صيبة يف ذلك امللج�أ‪ ..‬لقد ن�ش�أت‬
‫‪44‬‬
‫دُون �أب و�أم‪ ..‬ورمبا كانت تنام الليايل جائعة‪ ..‬رمبا كانت تتعر�ض‬
‫لل�ضرب والإهانات‪ ..‬والآن‪ ،‬تقع على عاتقه مهمة جعلها ت�شعر بالأمان‬
‫واحلب‪ ..‬ولكن غباءها كان يقف عائ ًقا! كلما �أراد �أنْ يحدثها بكلمة‬
‫رقيقة‪� ..‬صمت �إثر تفوهها ب�أمر غبي‪ ..‬كلما جتاهل �أم ًرا غب ًيا فوجئ‬
‫ب�آخر‪ ..‬ولهذا‪ ..‬بات حديثه معها �أق�صر‪ ..‬و�صار يت�أخر يف عودته‬
‫ويرحل مبك ًرا ج ًّدا‪ ..‬لقد بد�أ بو�ضع احلواجز بينهما رغم اعرتا�ض‬
‫�ضمريه‪� ..‬أما هي‪ ،‬فالحظت كل هذا لت�صري �أكرث عدائية وتظهر غبا ًء‬
‫�أكرث‪ ..‬وبهذا تزداد احلواجز �أكرث و�أكرث!‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل تت�أخر كث ًريا‪ ،‬وفور عودتها‪ ،‬وجدته ينام على فرا�ش الق�ش يف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زاوية القبو ال�صغري‪ ..‬مل ي ُكن نومه عمي ًقا‪ ،‬و�سمع نهنهتها وبكاءها يف‬
‫ﻜﺘ‬

‫الزاوية الأخرى من القبو‪ ..‬ولكنه مل يحرك �ساك ًنا‪ ..‬بل وا�صل غفوته‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لقد اعتاد عادتها هذه‪ ..‬ففي كل يوم‪ ،‬تق�ضي الليل يف البكاء ل�سبب‬
‫ﺸﺮ‬

‫علم بطبيعة هذه‬‫تافه‪ ..‬لقد �س�ألها �ساب ًقا عن �سبب بكائها و�صار على ٍ‬
‫الأ�سباب‪ ..‬وا�ستنادًا على �أ�سبابها ال�سابقة‪� ،‬صار قاد ًرا على تكهن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�سبب البكاء لهذه الليلة‪ ..‬يعلم جيدً ا �أنه لو ا�ستيقظ لي�س�ألها عما بها‪،‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�صاحت و�سط دموعها‪« :‬لقد ت�أخرتَ يف عودتك اليوم حتى جتعلني‬


‫جوعا �أكرث!» �أو «لقد �أخذتَ قطعة اجلنب لعلمك ب�أين �أحب‬ ‫�أت�ضور ً‬
‫هذا النوع من اجلنب!» وبالطبع‪� ،‬سيكون االتهام بالكراهية مرفق بهذه‬
‫الأ�سباب دائ ًما‪ ..‬مل ميلك املزاج وال�صرب ليربر اتهامات كهذه‪ ..‬ولذا‬

‫‪n‬‬
‫اختار جتاهلها رغم �صوت بكائها الذي يعلو لتتق�صد به �إيقاظه!‬

‫‪45‬‬
‫كانت الفو�ضى تعم حجرة بري�شيليا حتى بدت وك�أنها قد تعر�ضت‬
‫لزلزال‪ ..‬ولذا اندفعت بع�ض اخلادمات للرتتيب فور خروج بري�شيليا‬
‫بكامل زينتها متجهة �إىل قاعة الكري�ستال التي ُع ِقد فيها حفل‬
‫اال�ستقبال‪.‬‬
‫�سارت مزهوة بف�ستانها املزرك�ش وجموهراتها الالمعة حتى بدت‬
‫وك�أنها قادمة �إىل حفل زفافها‪ ..‬كانت قد تع ّمدت الت�أخر حتى ي�شهد‬
‫اجلميع و�صولها لتلفت الأنظار �أكرث‪ ..‬وكان هذا ما ح�صل بالفعل‪،‬‬
‫تخف عليها العيون‬‫فحني خطت �أوىل خطواتها �إىل القاعة‪ ،‬مل َ‬
‫املت�سلطة عليها فات�سعت ابت�سامتها وهي غري قادرة على �إخفاء‬

‫ﻋﺼ‬
‫�سعادتها‪ ..‬كانت تدور بعينيها باحثة عن الأمري املن�شود‪ ،‬حني الحظت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شقيقتها �أوفيليا ترمقها يف ثبات‪ ..‬فكرت وهي تزيح ناظرها بعيدً ا‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫«حتى يف حفل مثل هذا ترتدي �أثواب الراهبات»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تابعت �سريها بينما حلقتها و�صيفتها العجوز بخطوتني‪ ..‬هم�ست‬


‫ﺸﺮ‬

‫لها‪�« :‬أمريتي‪� ..‬أترين ال�شاب �صاحب الب�شرة النحا�سية والدبو�س‬


‫ﻭ‬

‫الذهبي؟ �إنه الأمري مي�ست»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أوم�أت بري�شيليا وهي تدير ناظرها �إىل تلك الزاوية‪ ..‬وهناك‪،‬‬


‫وجدته برفقة بع�ض ممن بدوا لها كح ّرا�س‪ ..‬ف�سارت متجهة �إليه‬
‫مبا�شرة‪.‬‬
‫قالت ب�صوت هادئ ق َّلما ت�ستخدمه‪ً �« :‬‬
‫أهل بك يف مملكتنا �أيها‬
‫الأمري»‪.‬‬
‫أنك الأمرية‬
‫لك‪ ..‬ال ُب َّد � ِ‬
‫�أوم�أ‪ ،‬ثم �أجاب بالهدوء ذاته‪�« :‬شك ًرا ِ‬
‫بري�شيليا»‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫علمت بذلك؟‬
‫‪� -‬صحيح‪ ..‬وكيف َ‬
‫أنت معروفة بجمالك ال ّأخاذ‪.‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫�ضحكت‪ً �« :‬إذا‪ ..‬فقد َ‬
‫خمنت هويتي لأين الأجمل يف هذه القاعة؟»‬
‫ابت�سم‪�« :‬صحيح»‪.‬‬
‫ابت�سمت بدورها‪ُ « :‬ترى ما الذي �أتى َ‬
‫بك �إىل مملكتنا؟»‬
‫‪ -‬لقد انت�سبت �إىل �صومعة الق�ضاة يا �أمريتي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ت�ساءلت بحرية‪�« :‬صومعة‪ ..‬ماذا؟»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بدت على وجهه احلرية من جهلها‪ ،‬ومل يد ِر َمب يرد‪ ..‬وقبل �أنْ‬
‫ﻜﺘ‬

‫ينطق ب�أي جواب‪ ،‬تدخلت �أوفيليا التي اقرتبت دُون �أنْ ي�شعرا بها‪،‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«�أت�ساءل عن �سبب اتخاذك لقرار كهذا»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫التفت مي�ست �إليها‪« :‬منذ طفولتي و�أنا �أختار اخليارات ال�صعبة‬


‫ﻭ‬

‫دائ ًما‪ ..‬جتذبني الطرق املفرو�شة بالأ�شواك»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كادت بري�شيليا تنطق لتت�ساءل عن ال�سبب‪ ،‬ولكن �أوفيليا �سبقتها‪:‬‬


‫«�أتفهمك‪� ..‬أنت ت�شبهني من هذه الناحية»‪.‬‬
‫�شعرت بري�شيليا بالغ�ضب �إزاء تق�صد �شقيقتها �سرقة انتباه‬
‫ن�سي وجودها‪ ..‬تراجعت‬
‫ثوان‪ ،‬بدا وك�أنه َ‬
‫مي�ست بالكامل‪ ..‬فبعد ع�شر ٍ‬
‫عدة خطوات وا�ستلت ك� ًأ�سا من الع�صري من خادمة عابرة‪ ،‬ثم وقفت‬
‫لتمطرهما بنظراتها منتظرة ابتعاد �أوفيليا‪ ..‬ولكن انتظارها مل‬
‫يدُم‪ ..‬و�أما غ�ضبها‪ ،‬ف�سرعان ما تال�شى حني �سرق انتباهها �شيء‬
‫‪47‬‬
‫�آخر‪� ..‬شيء �أفقدها كل اهتمامها بالأمري الذي ارتدت الكثري من‬
‫املجوهرات لأجله‪.‬‬
‫ابتعدت خطوات قليلة لتتوقف عند �شاب يرتدي ز ًيا �شبي ًها بزي‬
‫احل ّرا�س‪ ..‬يقف بينما ي�شبك يديه وراء ظهره‪.‬‬
‫�س�ألته لتنت�شله من �سرحانه‪«َ :‬من �أنت؟»‬
‫واكتفى بنظرة خاطفة قبل �أنْ يعيد ب�صره �إىل الأر�ض جمي ًبا‪�« :‬أنا‬
‫من �صومعة الق�ضاة يا �سيدتي»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬سيدتك؟ �أنا �أمرية �أيها احلار�س‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬عذ ًرا �أيتها الأمرية‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫بدا ك َمن يريد الهرب من هذا احلديث‪ ..‬وكان ما زاد ف�ضولها‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نحوه هو عدم تعلق ب�صره بها‪ ..‬كان يبدو وك�أن عقله من�شغل مبا هو‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أكرب و�أهم من حفل كهذا‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عادت لت�س�أل‪�« :‬أيعقل �أنك حتر�س قلعتنا وال تعرف �أمريات هذه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫القلعة؟»‬
‫حار�سا �أيتها الأمرية‪� ..‬أنا من �صومعة الق�ضاة‪.‬‬
‫ل�ست ً‬
‫‪ُ -‬‬
‫انزعجت �إثر ذكر �صومعة الق�ضاة التي ال تعرف ماهيتها‪ ..‬ولكنها‬
‫مل ت�س�أل عنها فقد فطنت للتو �أنّ جهلها بها �سيدل على غبائها‬
‫وح�سب‪ ..‬ولذا �س�ألته عن �أمر �آخر‪�« :‬أال متلك ا�س ًما؟»‬
‫‪ -‬ا�سمي هو �سي�سيل �أيتها الأمرية‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫تنبهت �إىل نظرات و�صيفتها وفهمتها‪ ..‬ولكنها جتاهلتها‪ ..‬ولذا‬
‫جاءت تلك الو�صيفة لتهم�س لها بعد حماوالتها الفا�شلة يف �صرفها‬
‫عن حمادثة �سي�سيل‪�« :‬أمريتي‪ ..‬يكفي هذا‪� ..‬أطباق ع�شائك جاهزة‪..‬‬
‫هلمي �إىل تناول الع�شاء»‪.‬‬
‫وكادت الو�صيفة ت�صفع نف�سها حني عادت بري�شيليا لتقول‪:‬‬
‫«�سي�سيل‪ ..‬هلم لتناول الع�شاء على من�ضدتي»‪.‬‬
‫‪ -‬هذا �شرف ال �أ�ستحقه �أيتها الأمرية‪� ،‬شك ًرا للطفك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنا �أتناول �إفطاري مع و�صيفتي �إيفي كل �صباح‪ ..‬لي�س يف هذا‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأمر ت�شريف �أو ا�ستحقاق‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أقدر دعوتك ح ًقا‪ ..‬ولكني ال �أ�ستطيع‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ملاذا؟!‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬قوانني �صومعة الق�ضاة �أيتها الأمرية‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫انزعجت جمددًا �إثر ذكر هذا اال�سم الذي �أجربها على ال�صمت‪..‬‬
‫ارت�سمت ابت�سامة على وجهها قبل �أنْ تن�صرف �إىل من�ضدتها‪« :‬ال‬
‫ب�أ�س‪ ..‬لنلتقي جمددًا يا �سي�سيل»‪.‬‬
‫وما �إنْ جل�ست حول تلك املن�ضدة حتى زفرت بعمق �إثر هم�سات‬
‫عليك �أنْ تعطيه �أكرب من حجمه يا‬
‫و�صيفتها املتوترة‪« :‬ما كان ِ‬
‫�أمريتي‪ ..‬كيف دعو ِته �إىل طاولة ع�شائك؟! هذه الدعوة كان من‬
‫املفرت�ض �أنْ ُت َو ّجه �إىل الأمري مي�ست!»‬
‫‪49‬‬
‫زفرت بري�شيليا جمددًا‪« :‬فليذهب الأمري مي�ست �إىل اجلحيم»‪.‬‬
‫�صوتك يا‬
‫ِ‬ ‫هم�ست الو�صيفة ب�صوت بادي اخلوف‪�« :‬أخف�ضي‬
‫�أمريتي!»‬
‫تناولت بري�شيليا �شوكتها و�سكينها لت�شرع بتقطيع قطعة اللحم يف‬
‫طبقها‪ ..‬كان عقلها غائ ًبا‪ ..‬تفكر بعمق حتت ت�أثري �صدمة تعي�شها‬
‫لأول مرة يف حياتها‪ ..‬ما معنى م�شاعر احلزن هذه التي اجتاحت‬
‫قلبها فج�أة؟ ما معنى �أنْ تتجاهل الأمري الذي كانت تنتظره بال �أي‬
‫�سبب؟! وكيف ميكن �أنْ ت�سطو على عقلها عينان مل تلتقيا بعينيها �إال‬

‫ﻋﺼ‬
‫للحظات؟ يف تلك اللحظات‪�ُ ..‬ص ِدمت ب�شيء مل تره من قبل‪ ..‬نظرة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عمق مل تدرك �أنّ له وجودًا من قبل‪ ..‬عمق ال متنا ٍه يف‬ ‫خاطفة �إىل ٍ‬
‫ﻜﺘ‬

‫تلك العينني ال�شفافتني اللتني ال تلتفتان لأي بريق حولهما مهما بلغ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سطوعه‪ ..‬ولأن وجهها كان من الوجوه �سهلة القراءة‪ ،‬فقد �أدركت‬


‫�أوفيليا م�شاعر �شقيقتها با�سرتاق النظرات وح�سب‪ ..‬فكرت بينما‬
‫ﺸﺮ‬

‫تر�شف ر�شفات من ك�أ�س الليمون يف يدها‪ً �« :‬إذا‪ ..‬هذا هو الأمري الذي‬

‫‪n‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جئت تبحثني عنه يا بري�شيليا»‪.‬‬


‫ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف تلك الليلة‪ ،‬ولأول مرة يف حياتها‪ ،‬باتت بري�شيليا ليلتها بينما‬
‫تختنق مب�شاعر احلزن التي ف�شلت يف التعبري عنها بالبكاء �أو‬
‫الكالم‪ ..‬ولكن الأمر كان جل ًيا لو�صيفتها‪ ..‬وكانت ترتعد خو ًفا لأن‬
‫بري�شيليا وقعت يف حب فتى ال�صومعة‪ ..‬ولأنها تعلم ب�أنّ بري�شيليا‬
‫حمقاء وغبية‪ ..‬ولأنها الحظت نظرات �أوفيليا املتفح�صة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫ومل ت ُكن بري�شيليا الوحيدة التي باتت ليلتها خمتنقة باحلزن‪..‬‬
‫ففي البيت الطيني املتهالك‪ ،‬نامت �آيري�س خاوية املعدة‪ ..‬يتقطع‬
‫قلبها حز ًنا لأن �سي�سيل وعدها ب�إر�سال طعام الع�شاء لها كل ليلة ومل‬
‫حت�ضر زوجته �أي طعام منذ رحيله‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪51‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫البومة الغافية‬

‫ظهرية اليوم التايل‪ ،‬وفور انتهاء الدر�س‪ ،‬اندفع طالب ال�صومعة‬


‫�إىل ال�ساحة ال�صغرى لر�ؤية حدث مل يره �أغلبهم من قبل‪� ،‬سيتم‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إحقاق العقاب لأحد ال�سجناء القدامى بعد �أنْ �صدر احلكم بحقه‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هم �سي�سيل باللحاق بهم‪ ،‬ا�ستوقفه معلمه الذي انتظر‬
‫�أخ ًريا‪ ..‬وحني َّ‬
‫ﻜﺘ‬

‫حلظة كهذه لالنفراد به‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بدت عالمات الده�شة على وجه �سي�سيل بينما يهم�س معلمه‪:‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫«قد يكون ما �أطلبه غري ًبا‪ ..‬ولكن عليك �أنْ تذهب �إىل قلعة القمم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الدخانية لبع�ض الأيام»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أذهب �إىل القلعة؟ ب�أي �صفة؟‬


‫‪ -‬ب�صفتك احلار�س ال�شخ�صي للأمرية �أوفيليا‪.‬‬
‫رفع �سي�سيل حاجبه يف ا�ستنكار‪« :‬وملاذا �أتغيب عن درو�سي لأحر�س‬
‫الأمرية؟»‬
‫‪ -‬لأنها � َأم َرت بذلك‪.‬‬
‫ظننت �أنّ �أوامر قلعة ا ُ‬
‫حلكام ال ت�سري يف �صومعة الق�ضاة‪.‬‬ ‫‪ُ -‬‬
‫‪53‬‬
‫‪� -‬صحيح‪ ..‬ومنلك حق الرف�ض‪ ..‬ولكني � َ‬
‫آمرك بالذهاب‪.‬‬
‫‪ -‬غدً ا نبد�أ التطبيق العملي لو�شوم ال�شفاء‪ ..‬و�أنت تعلم �أنّ و�شوم‬
‫ال�شفاء هي �سبب انت�سابي لل�صومعة!‬
‫تنهد ال�شيخ بعمق قبل �أنْ يجيب‪�« :‬س�أحر�ص على �أنْ �أع ّو�ض �أي‬
‫در�س يفوتك»‪.‬‬
‫تختف نظرات الده�شة واال�ستنكار من عيني �سي�سيل‪ ،‬فاقرتب‬
‫مل ِ‬
‫ال�شيخ منه خطوة ليهم�س‪« :‬ما �ستتعلمه هناك ال يقل �أهمية عن درو�س‬
‫و�شوم ال�شفاء‪� ..‬أنت لن تذهب كحار�س‪ ..‬بل �ستكون بومتنا الغافية»‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ازدرد �سي�سيل ريقه وهو يدرك �أنه �سيذهب يف ُمهمة من �أجل‬
‫ﻜﺘ‬

‫ال�صومعة‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تابع �شيخه‪�« :‬ستطري �إىل قعر القلعة دُون �أنْ ت�صدر �أجنحتك �أي‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صوت‪� ..‬ستجل�س �صامتًا‪� ..‬ستتظاهر بالغفوة بينما ت�سرتق ال�سمع‪..‬‬


‫وحني يحل الظالم‪� ،‬ستفتح عينيك لتب�صر كل �شيء و�ستدير ر�أ�سك يف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كل االجتاهات حتى ال تف ّوت �أي زاوية‪ ..‬ولن تنطق‪ ..‬فالبوم ال ينعق �إال‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بعد الظفر بفري�سته»‪ .‬ثم هم�س له ببع�ض الكلمات التي ات�سعت عيون‬
‫�سي�سيل ده�شة �إثرها؛ ولكنها �أقنعته ب�ضرورة قبول هذه املهمة‪.‬‬
‫وقبل �أنْ ين�صرف‪� ،‬س�أل �شيخه‪�« :‬أتفهم ُمهمتي‪ ..‬ولكن ملاذا قد‬
‫ت�ستدعيني الأمرية �أوفيليا؟»‬
‫‪ -‬ال علم يل ب�أ�سبابها‪ ..‬وال تهمنا هذه الأ�سباب‪ ..‬فقط علينا �أنْ‬
‫ن�ستغل فر�صة الدخول �إىل القلعة‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫‪ -‬هل �أوفيليا هي الأمرية التي كانت ترتدي �أطنا ًنا من املجوهرات‬
‫ليلة البارحة؟‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬بل هي الأمرية التي كانت ترتدي ثو ًبا يغطي ذراعيها‬
‫ورقبتها وتخفي كفوفها بالقفازات ال�سوداء‪.‬‬
‫حلت هنيهة من ال�صمت قبل �أنْ يردف ال�شيخ‪�« :‬إياك �أنْ ت�صرف‬
‫انتباهك �إىل �أمر خارج مهمتك‪ ..‬ال تهمك �أ�سبابها وال تهمك هويتها‪..‬‬
‫فقط نفذ ما هو مطلوب منك»‪.‬‬
‫�أوم�أ �سي�سيل مواف ًقا‪ ،‬ثم نزل الدرجات اخل�شبية‪ ..‬وما �إنْ خرج‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إىل ال�ساحة حتى ر�أى جم ًعا عند من�صة كبرية كانت مع ّدة لتطبيق‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫و�شوم العقاب‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫كانت املرة الأوىل التي ي�شهد فيها تنفيذ حكم ق�ضائي من‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�صومعة‪ ..‬وكان ال�سجني فتاة‪ ..‬بالأ�صح‪� ،‬شابة تبدو يف منت�صف‬


‫ﺸﺮ‬

‫الع�شرينيات‪ ..‬جثت على ركبتيها بينما غطت خ�صالت �شعرها‬


‫الفاحم وجهها‪ ،‬وخلفها‪ ،‬وقف �أحد ق�ضاة ال�صومعة‪ ،‬يهم بر�سم و�شم‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫العقاب على ظهرها املك�شوف‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ت�ساءل �سي�سيل عن ُك ْنه الذنب الذي ارتكبته تلك ال�شابة‪ ،‬وعن‬


‫ُك ْنه العقاب الذي يتم و�شمه على ظهرها‪ ،‬ولكنه مل ميلك الوقت لهذه‬

‫‪n‬‬
‫الأمور‪ ..‬فاكتفى بنظرته العابرة ثم تابع �سريه متج ًها �إىل قبوه‪.‬‬

‫وقفت فيوال لرتمق �سي�سيل وهو يجثو لريتب كتبه ويفرغ حقيبته من‬
‫�أغلب حمتوياتها‪ ..‬ت�ساءلت‪�« :‬إىل �أين �أنت ذاهب؟»‬
‫‪55‬‬
‫رفع ناظره �إليها لريى نظرات التوتر واخلوف بادية يف عينيها‪..‬‬
‫�أجاب‪�« :‬س�أق�ضي بع�ض الأيام يف قلعة القمم الدخانية»‪.‬‬
‫‪ -‬لكن‪ ..‬ملاذا؟!‬
‫‪� -‬س�أعمل كحار�س م�ؤقت‪.‬‬
‫ملح نظرات اخلوف تتبدل �إىل نظرات الغ�ضب يف �أقل من ثانية‪..‬‬
‫قالت ب�صوت ع�صبي‪�« :‬أنت َمن طلب هذا! �صحيح؟»‬
‫‪ -‬تعلمني �أين ال �أملك احلق يف طلب �شيء كهذا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كنت حتتفل مع الأمريات ليلة البارحة‪ ..‬ال ُب َّد �أنك �أعجبت‬
‫ﻜﺘ‬

‫ب�إحداهن فقررت العمل هناك‪ ..‬بالطبع! كيف �ستنظر �إىل‬


‫وجهي بعد ر�ؤية الأمريات اجلميالت؟!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أطلق زفرة عميقة وهو ي�شيح بب�صره عنها ليتابع لف بع�ض الأوراق‬
‫يف حزمة‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫«ال �شيء ترد به! �أي �أين حمقة يف ظني! وكيف يل �أنْ �أخطئ‬
‫جلي كهذا؟!»‪� ،‬أطلقت �ضحكة �ساخرة بينما التمعت عيونها‬
‫حيال �أمر ّ‬
‫بالدموع‪�« ،‬أنت تعاملني بهذه الطريقة لأين فتاة م�سكينة ولي�س عندي‬
‫من �أ�شتكي �إليه!»‬
‫وقف �سي�سيل لريفع ب�صره نحوها‪« :‬ال تبكي ل�سبب ال وجود له يا‬
‫أنك خمطئة يف ظنونك هذه»‪.‬‬‫فيوال‪ ..‬تعلمني � ِ‬
‫ل�ست خمطئة! �أنت تكرهني!‬
‫‪ُ -‬‬
‫‪56‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ يجيب بهدوء‪« :‬ال �أكرهك‪ُ ..‬‬
‫ول�ست هناك‬ ‫�أخذ ً‬
‫من �أجل الأمريات‪ ..‬وال �أريد �أنْ �أكرر حديثي مئة مرة»‪.‬‬
‫�صمتت للحظة وهي ترمقه يف غل‪ ..‬عاد لريدف‪« :‬يجب �أنْ �أذهب‬
‫أرجوك‪ ..‬انتبهي لنف�سك وال تن�سي �إي�صال الطعام �إىل �آيري�س‬
‫الآن‪ِ � ..‬‬
‫كل م�ساء»‪.‬‬
‫مل ترد جوا ًبا‪ ..‬فعاد ليكرر‪« :‬ال تن�سي �إي�صال الطعام �إىل �آيري�س‪..‬‬
‫تعلمني �أنها مري�ضة ولي�س يف حوزتها �أي طعام»‪.‬‬
‫قالت مقاطعة �إياه يف حدة‪�« :‬آيري�س تعمل يف القلعة! �ألي�س كذلك؟!»‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪� -‬صحيح‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أي �أنها ت�أكل �أ�صنا ًفا خمتلفة من الطعام يف كل يوم‪ ..‬ت�أكل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ذات �أطباق الأمرية‪ ..‬ماذا كان ا�سمها؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬لي�ست خادمة مقيمة‪ ..‬ولذا ال حت�صل على الطعام‪� ..‬إنها فقط‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جتني �أج ًرا زهيدً ا تت�صرف به والدتي‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ولكن ما كان ا�سم تلك الأمرية؟‬


‫‪� -‬أوفيليا‪َ ..‬مل ت�س�ألني؟‬
‫‪ -‬ال �شيء‪ ..‬اذهب‪.‬‬
‫كانت دموعها قد توقفت وحل تعبري من الوجوم على وجهها‪.‬‬
‫أنك �ست�أخذين الطعام �إىل �آيري�س يف‬
‫‪� -‬س�أذهب‪ ..‬لكن عديني ب� ِ‬
‫غيابي‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫‪� -‬أعدك‪.‬‬
‫ارت�سمت ابت�سامة خافتة �أرغمها على وجهه‪ ..‬هم�س‪�« :‬شك ًرا»‪ ،‬ثم‬
‫خطا خطوتني يف اجتاهها ليحت�ضنها‪ ..‬ولكنها دفعته وتراجعت �إىل‬
‫اخللف ك َمن يهرب من �ضربة �أو �صفعة! مل ي ُقل �شي ًئا‪ ،‬بل ا�ستدار نحو‬
‫الباب من�صر ًفا‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫�أما هي‪ ،‬فوقفت تراقبه وهو يبتعد‪ ،‬هم�ست‪�« :‬أعدك ب�أين �س�ألقي كل‬
‫بقايا الطعام يف القمامة ولن �أعطي لقمة واحدة ل�شقيقتك البلهاء»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬ويف احلجرة الكبرية التي ينام فيها احلرا�س‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫جل�س �سي�سيل على حافة �سريره‪ ،‬يغلق �أزرار قمي�صه اجلديد‪ ..‬ويحكم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ربط خيوط احلذاء الأ�سود طويل العنق‪ ..‬الآن بات يبدو مثل ُح ّرا�س‬
‫متاما‪.‬‬
‫القلعة ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫قاده رفيق له �إىل بهو القلعة‪ ،‬وهناك وجدها يف انتظاره‪� ..‬أوفيليا‪..‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الأمرية الق�صرية ذات الثياب املحت�شمة ج ًّدا‪ ..‬التي ال تتزين �إال‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بتاجها الل�ؤل�ؤي‪.‬‬
‫مل ُي ِطل النظر �إىل عينيها‪ ،‬انحنى ليقول يف احرتام‪�« :‬أيتها‬
‫الأمرية‪� ..‬أنا رهن خدمتك»‪.‬‬
‫ابت�سمت‪�« :‬أنت‪� ..‬سي�سيل‪� ،‬صحيح؟»‬
‫‪ -‬نعم �أيتها الأمرية‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعرف مهامك؟‬
‫‪58‬‬
‫أيام‪.‬‬
‫‪ -‬نعم �أيتها الأمرية‪� ..‬س�أكون حار�سك ال�شخ�صي لب�ضعة � ٍ‬
‫‪ -‬هل تعلم َمل اخرتتك؟‬
‫‪ -‬ال �أعلم �أيتها الأمرية‪.‬‬
‫‪ -‬هل يهمك �أنْ تعلم؟‬
‫‪ -‬ما يهمني هو القيام بواجبي وح�سب‪.‬‬
‫ابت�سمت‪« :‬جيد‪ ..‬اتبعني � ًإذا»‪.‬‬
‫ومل تكد تتجاوز البهو حتى ا�ستوقفها امل�س�ؤول املايل للقلعة‪..‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫احرتاما‪�« :‬أمريتي»‪.‬‬
‫ً‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫نايت‪ ..‬اقرتب‪ ،‬ثم �أوم�أ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬ماذا هناك يا نايت؟‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رفع ب�صره نحو �سي�سيل ك�إ�شارة لها لت�صرفه‪ ..‬التفتت �إىل �سي�سيل‬
‫لتهم�س له‪« :‬دعنا وحدنا ً‬
‫قليل»‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫احرتاما وابتعد ليقف يف الناحية الأخرى من البهو‪.‬‬


‫ً‬ ‫ف�أوم�أ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هم�ست �أوفيليا‪« :‬ماذا هناك؟»‬


‫�أجاب وعيناه ال تفارقان �سي�سيل‪َ « :‬مل هذا ال�شاب هنا يا �أمريتي؟»‬
‫‪ -‬هذا لي�س من �ش�ؤونك‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أق�صد التدخل فيما ال يعنيني‪ ..‬ولكنه من �صومعة الق�ضاة‬
‫حذرة‪.‬‬
‫لك �أنْ تكوين ِ‬
‫يا �أمريتي‪ ..‬ينبغي ِ‬
‫‪� -‬أحذر من ماذا حتديدً ا؟‬
‫‪59‬‬
‫‪� -‬إنه قادر على �أذيتك‪ ..‬تعلمني الو�شوم ال�شيطانية التي‬
‫يتعلمونها يف �صومعة الق�ضاة‪� ..‬إنْ انفرد بك ور�سم �شي ًئا من‬
‫هذه الو�شوم على �أي جزء منك �ستكون نهايتك!‬
‫‪� -‬أعلم ما يقدر طالب �صومعة الق�ضاة على فعله‪ ..‬ولكنه لن‬
‫يفعل �شي ًئا‪ُ ..‬كن مطمئ ًنا‪.‬‬
‫‪ -‬هل ت�سمحني يل مبراقبته عن ُبعد؟ لن �ألفت نظره يل‪.‬‬
‫«افعل ما �شئت»‪ .‬قالتها ثم �أ�شارت ل�سي�سيل باتباعها‪ ،‬واجتهت �إىل‬
‫قاعة الطعام حيث جل�س والدها وبري�شيليا و�آرون‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫خارجا عند الباب‪ ..‬ولكن‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جل�ست على مقعدها بينما وقف �سي�سيل ً‬
‫ﻜﺘ‬

‫بري�شيليا ملحته وعرفت هويته‪ ..‬ومل ي ُفت �أوفيليا تعبري الرعب الذي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ارت�سم يف عيني بري�شيليا‪ ..‬الرعب الذي ال جتدي معه الكلمات‪..‬‬


‫الرعب املكتوم الذي ُيعاقب �ضحيته �إنْ نطق به‪ .‬فكرت بينما تتناول‬
‫ﺸﺮ‬

‫�شوكتها و�سكينها‪�« ،‬أخ ًريا �ستذوقني مرارة الكتمان»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل ت ُكن بري�شيليا خمطئة حينما اتهمت �أوفيليا بالغرية �ساب ًقا‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كانت �أوفيليا ت�شعر بغرية �شديدة جتاهها‪ ..‬ولكن تلك الغرية مل ت ُكن‬
‫من جمالها‪ ..‬مل ت ُكن من حتررها‪ ..‬مل ت ُكن من �إ�سرافها‪ ..‬مل ت ُكن‬
‫من راحة بالها‪ ..‬بل كانت ل�سبب �آخر ال يخطر على بال �أحد‪ ..‬كانت‬
‫ت�شعر بالغرية من بري�شيليا لأن الأخرية ال تغار منها! وحتديدً ا‪ ..‬لأن‬
‫بري�شيليا مل تفكر يف كيفية �إبعاد �أوفيليا عن عر�ش والدها الذي ت�ضمن‬
‫احل�صول عليه رغم �أنها لي�ست الوريثة الكربى! كانت تتمنى �أنْ ترى‬
‫التحدي و�أنْ تقاتل �شقيقتها الكربى لتثبت �أنها الأحق‪ ..‬كانت تتمنى‬
‫‪60‬‬
‫�أنْ حتمل هموم اململكة بينما يوا�سيها ح�سد الآخرين على الأقل‪..‬‬
‫ولكن بري�شيليا مل تقاتل من �أجل �سلبها هذه امل�س�ؤوليات‪ ..‬كانت تعلم‬

‫‪n‬‬
‫ب�أنّ �أوفيليا هي امللكة القادمة‪ ..‬ومل تعرت�ض‪ ..‬مل تهتم ومل تظهر �أي‬
‫غرية!‬

‫يف قبو ح�صن قدمي و�سط ال�صحراء ال�شرقية‪ ..‬جل�ست ليالك‬


‫برفقة رجلني يرتديان ال�سواد‪ ..‬كانا ملثمني‪ ،‬ومل ت َر �سوى �أعينهم‬
‫النفا ّذة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫حتدث �أحدهما‪ُ « :‬ترى‪ ..‬ما الذي دفع امللكة �إىل ا�ستدعائنا؟»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫رفعت ناظرها �إليه‪ ،‬وتعلقت بجزء من الثانية بالقالدة التي‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يرتديها‪ ..‬التي تنتهي بري�ش �أبي�ض ق�صري ومنتوف‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�أجابت بت�سا�ؤل‪ً �« :‬إذا‪َ � ..‬‬


‫أنت ال�ص ّياد؟»‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أجاب امللثم‪ ،‬الذي مل مييزه عن رفيقه �سوى عينيه الزرقاوين‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫املائلتني �إىل ال�شفافية‪�« :‬صحيح‪ ..‬هذا هو لقبي»‪.‬‬


‫مرت حلظات من ال�صمت قبل �أنْ تردف يف ثبات‪�« :‬أريد منكم‬
‫خدمة‪ ..‬ولكم �أنْ تطلبوا ما تريدون من الذهب»‪.‬‬
‫‪ -‬وما هي؟‬
‫‪ -‬غدً ا‪� ..‬سيذهب امللك �إيدن �إىل الكهوف الغربية كعادته‬
‫و�سيكون معه جمع �صغري من ا ُ‬
‫حلرا�س‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫«�سيقتل‬
‫�صمتت هنيهة وهي تدير عينيها بينهما‪ ،‬ثم �أردفت‪ُ :‬‬
‫ا ُ‬
‫حل ّرا�س‪ ..‬و�س ُيختطف امللك وم�ست�شاره‪ ..‬و ُي�سجنان يف مكان ال يعلمه‬
‫�أحد»‪.‬‬
‫لك �أنْ ت�شرحي لنا �أ�سبابك؟‬
‫‪ِ -‬من ال�سهل تنفيذ ذلك‪ ..‬ولكن هل ِ‬
‫‪َ ِ -‬ل تهمك �أ�سبابي؟‬
‫‪ -‬نحن ال نقتل من �أجل الذهب وح�سب‪ ..‬بل من �أجل �إحقاق‬
‫العدالة‪ ..‬ال نرتكب الظلم �أبدً ا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬امللك �إيدن معتوه ح ًقا كما ُيعرف عنه‪ ..‬وال ي�ستطيع �إدارة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫اململكة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬يبدو �سب ًبا قو ًيا‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬يرف�ض ا�ستغالل الكهوف الغربية ل�سد حاجات ال�شعب من‬


‫ﺸﺮ‬

‫املياه‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬لنا م�صادر �أكدت لنا �صحة هذا الأمر‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابت�سمت بينما ارتفع حاجبها‪ً �« :‬إذا‪� ..‬أنت مقتنع ب�أ�سبابي»‪.‬‬


‫‪� -‬سنت�ساوم على الذهب بعد تنفيذ املهمة‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫�أوم�أت‪ ،‬ثم وقفت لرتاقبهما وهما يبتعدان‪ .‬ات�سعت ابت�سامتها وهي‬
‫تفكر‪�« :‬ست�أتيك ال�ضربة من حيث ال تتوقع يا ريجان»‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫حول طاولة كبرية‪ ..‬ويف �إحدى قاعات االجتماع يف قلعة القمم‬
‫الدخانية‪ ..‬جل�ست �أوفيليا برفقة ثالثة مل يجتمعوا منذ زمن‪ .‬ولكن‬
‫انتباههم جمي ًعا كان من�ص ًبا على الأعور الذي تغطي ال�ضمادات‬
‫يديه‪ ..‬مل ي ُكن �أعو َر حني غادرهم �آخر مرة‪ ..‬ولكن زنزانة ق�صر‬
‫الرمال �أفقدته عينه وبع�ض �أ�صابعه‪.‬‬
‫قال ب�صوت اكت�سب بحة جديدة‪« :‬مملكة ال�صحاري لي�ست بالقوة‬
‫التي قدرناها يا ملكتي»‪.‬‬
‫كان يناديها بامللكة كرفيقيه‪ ..‬ورغم �أنّ والدها ما يزال ي�شغل ذلك‬

‫ﻋﺼ‬
‫العر�ش‪ ،‬ف�إنهم بايعوها بالوالء منذ زمن‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تابع‪« :‬ميلكون الكثري من الذهب‪ ..‬ولكن عدتهم الع�سكرية ال‬
‫ﻜﺘ‬

‫ت�ستحق �أنْ ت�سمى عدة ع�سكرية»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تدخلت �أوفيليا بال�س�ؤال‪« :‬كم عدد جنودهم؟»‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ع�شرة �آالف جندي‪ ..‬بينهم �ألف فار�س و�ألفني من امل�شاة‪..‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫و�سبعة �آالف من الرماة‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بدت الده�شة يف عيني �أوفيليا‪« :‬ما هذه الرتكيبة الغريبة!»‬


‫�أجاب‪« :‬ال �أدري‪ ..‬ولكني ال �أظن �أنّ هناك من د ّبر �أو خطط لها‪..‬‬
‫بل هي نتيجة �إهمال وتقاع�س»‪.‬‬
‫تدخل الرجل اجلال�س بجانبه‪ ،‬والذي ميزه لونه الأ�سمر ال�شبيه‬
‫تق�صدها‬
‫باملعدن املحرتق‪« :‬ولكن‪� ..‬أال ميكن �أنْ تكون هذه تركيبة ّ‬
‫ريجان؟»‬
‫‪63‬‬
‫�أجابه الأعور بالثقة ذاتها‪« :‬ريجان مل َي ُعد القائد الع�سكري الأول‪..‬‬
‫لقد ُع ِزل عن مهمته هذه لي�صري ُم�ست�شار امللك �إيدن‪� ..‬أو بالأحرى‪..‬‬
‫مرافقه الذي يق�ضي يومه يف الت�سلية وزيارة الكهوف»‪.‬‬
‫فقالت �أوفيليا‪« :‬عقلية جبارة كهذه تُعزَ ل عن قيادة اجلي�ش! �إيدن‬
‫هذا‪ ..‬معتوه ح ًقا»‪.‬‬
‫كنت �أجل�س بينكم الآن‪.‬‬
‫‪ -‬لو كان ميلك ذرة من العقل ملا ُ‬
‫تدخلت يف احلديث امر�أة بدت يف الثالثني‪ ،‬لها �شعر �أحمر ق�صري‬
‫ووجه دائري ممتلئ‪ً �« :‬إذا‪ ..‬لدينا مملكة يحكمها معتوه‪ ..‬يحر�سها‬
‫ﻋﺼ‬
‫جي�ش �صغري �أغلبه من الرماة‪ ..‬ويغيب عنها الأمري الذي كان يقف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫باملر�صاد لكل َمن يحاول امل�سا�س ب�أمنها»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أوم�أ الأعور وهو يرمق �أوفيليا بعينه الوحيدة‪�« :‬أي �أنها فر�صتنا‬
‫الذهبية يا ملكتي»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حلت هنيهة من ال�صمت تبادلوا فيها نظرات عميقة املعنى‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫التفتت �أوفيليا �إىل �صاحب اللون املُحرتق لتهم�س‪« :‬ميكنك البدء‬


‫بت�صميم الدروع التي حدثتك عنها من قبل»‪.‬‬
‫دعى برئي�س احل ّدادين‪ ..‬وكان امل�س�ؤول عن‬
‫�أوم�أ باملوافقة‪ ..‬كان ُي َ‬
‫�صناعة �أ�سلحة جي�ش القمم الدخانية‪.‬‬
‫جاءت طرقات على الباب‪ ،‬فهبوا واقفني و�صمتوا عندما �شرع‬
‫احلار�س باب القاعة‪ ..‬وبعد حلظات جاء امللك مريلني الذي دلف �إىل‬
‫القاعة‪ ..‬وحلقه بع�ض الرجال الذين جاءوا خلفه‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫جل�س يف مقدمة الطاولة‪ ،‬ثم �أ�شار لهم باجللو�س‪ ،‬وقبل �أنْ يبتدئ‬
‫االجتماع التفت �إىل �أوفيليا وقال �ضاح ًكا‪« :‬متحم�سة لالجتماعات‬
‫دائ ًما يا �أوفيليا! �أول احل�ضور كالعادة!»‬
‫ارت�سمت ابت�سامة على وجهها وهي تقول‪« :‬بل �أنت الذي يت�أخر‬
‫دائ ًما يا �أبي»‪.‬‬
‫خا�صا‬
‫اجتماعا ً‬
‫ً‬ ‫ابتد�أ امللك مريلني اجتماعه‪ ،‬غري عا ٍمل ب�أنّ هناك‬
‫قد انتهى قبل حلظات‪ ..‬كانت �أوفيليا �أذكى من �أنْ تعقد اجتماعاتها‬
‫ال�سرية حتت جنح الظالم �أو يف �أماكن منعزلة‪ ..‬كانت اجتماعاتها‬

‫ﻋﺼ‬
‫اخلا�صة ُت َرى يف القاعات ذاتها التي يعقد فيها والدها اجتماعاته‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كل ما كانت تفعله هو االتفاق مع �أولئك الثالثة ‪-‬الذين يح�ضرون‬
‫ﻜﺘ‬

‫أي�ضا‪ -‬على احل�ضور مبك ًرا! وهكذا‪ ،‬فهي‬ ‫اجتماعات امللك مريلني � ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪n‬‬
‫تخطط ملا تريد دُون حاجة لتربير تواجدها املغلق مع ثالثة من كبار‬
‫رجال اململكة‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫جوعا‪..‬‬
‫خارج ذلك الباب‪ ،‬وقف �سي�سيل الذي بد�أت معدته بالت�ضور ً‬
‫لقد اقرتب امل�ساء وهو ما يزال يتنقل بني �أبواب القاعات‪ ..‬واق ًفا على‬
‫قدميه يف انتظار الأمرية �أوفيليا وهي تتنقل بني اجتماعاتها‪� ..‬س�أله‬
‫احلار�س الآخر الذي يقف على الباب ذاته‪�« :‬أنت جديد هنا‪� ،‬ألي�س‬
‫كذلك؟ َمن بديلك؟»‬
‫انزعج �سي�سيل لف�ضول احلار�س‪ ،‬ولكنه �أجاب‪« :‬بلى‪� ..‬أنا جديد‪،‬‬
‫وال �أعلم ما الذي تق�صده ببديلي»‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫‪� -‬أعني احلار�س الذي ت�ستبدل معه موقع احلرا�سة عند مغيب‬
‫ال�شم�س‪� ..‬أم �أنك تقف على قدميك طوال الليل والنهار؟‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪.‬‬
‫ارت�سم تعبري من اال�ستغراب على وجه احلار�س‪ ،‬ولكنه مل يجادل‪..‬‬
‫بل ابتعد ليحل حمله احلار�س البديل‪ ..‬ان�صرف �إىل م�سكن احل ّرا�س‬
‫لتناول الع�شاء‪� ..‬أما �سي�سيل‪ ،‬فظل واق ًفا حتى انتهاء االجتماع‪.‬‬
‫وفور انتهائه‪َ ،‬ت ِبع �سي�سيل �أوفيليا بعد خروجها‪ ،‬واجتها �إىل قاعة‬
‫الطعام اخلا�صة بامللك‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫التفتت له عند باب احلجرة �آمرة‪« :‬ال حاجة للوقوف خارج قاعة‬
‫ﻜﺘ‬

‫الطعام»‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رفع ناظره للحظة وك�أنه يت�أكد مما �سمعه‪ ..‬فكررت‪�« :‬ستنتظرين‬


‫ﺸﺮ‬

‫عند الباب‪ ،‬ولكنك �ستقف داخل القاعة»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬أمرك‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تع ّمدت ذلك لرتاقب تعابري بري�شيليا‪ ..‬ومل ِتخب توقعاتها‪ ..‬مل‬
‫ت ُكن بري�شيليا على طبيعتها‪ ..‬مل ترثثر‪ ..‬مل ت�ضحك‪ ..‬مل تغ�ضب‪ ..‬مل‬
‫ت�صرخ‪ ..‬بل ظلت �صامتة تتحا�شى النظر �إىل الباب‪ ..‬غري قادرة على‬
‫�إنهاء ربع طب ِقها‪.‬‬
‫بك‬
‫�أفاقت من �سرحانها ال�صامت عندما جاء �صوت والدها‪« :‬ما ِ‬
‫يا بري�شيليا؟ َمل ال ت�أكلني؟»‬
‫«ل�ست جائعة يا �أبي»‪.‬‬
‫�أجابت يف توتر‪ُ :‬‬
‫‪66‬‬
‫أنت مري�ضة؟‬
‫‪ -‬هل � ِ‬
‫�أرغمت ابت�سامة على وجهها لتتظاهر ب�أنها على ما ُيرام‪�« ،‬أبدً ا‪..‬‬
‫ال تقلق‪� ،‬أنا بخري»‪.‬‬
‫حلت وهلة من ال�صمت قبل �أنْ يخرقها �آرون‪�« :‬سنلعب ال�شطرجن‬
‫هذا امل�ساء‪� ،‬ألي�س كذلك يا �أوفيليا؟»‬
‫ارت�سمت على وجهها االبت�سامة الوديعة التي ال ترت�سم �إال لآرون‪،‬‬
‫«بالطبع‪� ..‬سنلعب فور االنتهاء من طعام الع�شاء»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أوم أ� مبت�س ًما وهو يعاود النظر �إىل طبقه‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قالت �أوفيليا دُون �أنْ تلتفت �إىل اخلادمة التي وقفت على م�سافة‬
‫ﻜﺘ‬

‫ق�صرية تنتظر الأوامر‪« :‬هل �أتت �آيري�س اليوم؟»‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬نعم يا �آمريتي‪� ..‬إنها يف املطبخ‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ا�ستدعيها‪ ..‬ولتنتظرنا يف حجرة �آرون‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أمرك‪.‬‬
‫ان�صرف الأربعة بعد انتهاء الع�شاء‪ ..‬ولكن بري�شيليا �سارعت‬
‫ب�إيقاف �أوفيليا لتفرغ فيها �شي ًئا من غيظها‪..‬‬
‫«انتظرين يف حجرتك يا �آرون»‪ ،‬قالتها �أوفيليا وهي تتوقف لتواجه‬
‫بري�شيليا التي كانت متطرها بنظرات ال�سخط‪.‬‬
‫«ل جئت‬‫بادرتها بري�شيليا باحلديث لتهم�س من بني �أ�سنانها‪َ ِ :‬‬
‫حار�سا �شخ�ص ًيا لك؟»‬
‫بذلك ال�شاب ليعمل ً‬
‫‪67‬‬
‫أنت تعرفني الإجابة‪.‬‬
‫‪ِ �-‬‬
‫‪ -‬ما �أعرفه هو �إنّ كل ما تفعلينه �سببه خبثك وج�شعك وكراهيتك‬
‫العمياء لكل ما حولك‪.‬‬
‫ابت�سمت �أوفيليا وهي ت�صفق بيديها يف �سخرية‪« :‬ذكية كعهدك»‪..‬‬
‫ثم ا�ستدارت لتبتعد‪ ،‬ولكن بري�شيليا قب�ضت على ك ّمها الطويل‬
‫الف�ضفا�ض بقوة لتوقفها جمددًا ولينك�شف جزء من كتفها‪ ..‬ومل تتوقع‬
‫عيني �أوفيليا وهي تزيح قب�ضة بري�شيليا‬
‫الغ�ضبة التي ارت�سمت يف ّ‬
‫بقوة وتعيد رفع ُك ّمها‪ ..‬قالت بغ�ضب ال تتذكر متى ر�أته على وجهها‬

‫ﻋﺼ‬
‫من قبل‪« :‬كيف جتر�ؤين؟!»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لبع�ض اللحظات‪ ،‬ظلت بري�شيليا �ساهمة حتت ت�أثري الغ�ضبة‬
‫ﻜﺘ‬

‫املفاجئة‪ ..‬وحتت ت�أثري الو�شم الأحمر الغريب الذي فوجئت به يغطي‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كتف �شقيقتها‪ ..‬ولكنها طردت خواطرها هذه بعيدً ا ثم قالت يف‬


‫ﺸﺮ‬

‫أنت متلكني قل ًبا متفح ًما‪ ..‬تنوين‬


‫غل‪�« :‬أنا �أعرفك‪� ..‬أعرفك جيدً ا‪ِ � ..‬‬
‫ﻭ‬

‫�إيذاءه‪� ،‬ألي�س كذلك؟»‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أجابتها �أوفيليا التي ا�ستعادت هدوءها ولكن نظرات الغ�ضب‬


‫كنت‬
‫أنت تكرتثني لأمره ج ًّدا‪� ..‬إنه �أمريك الذي ِ‬
‫مل تفارقها بعد‪« :‬و� ِ‬
‫تبحثني عنه ً‬
‫طويل‪� ..‬ألي�س كذلك؟»‬
‫حمي ح ًقا �أنْ تقعي يف حب �أمري ال ميلك‬ ‫ثم تابعت‪�« :‬إنه لأمر ّ‬
‫الذهب! �أت�ساءل ما الذي ر�أي ِته فيه بعد حلظات من احلديث التافه‬
‫وح�سب! �أميلك هو القدرة على ت�شوي�ش عقول الأمريات ح ًقا �أم �أنّ‬
‫كل ما يف الأمر هو كونك بال عقل يف املقام الأول؟ يف ِك ْلتا احلالتني‪..‬‬
‫‪68‬‬
‫بكيت‬
‫م�شاعرك لأن والدنا لن يقبل مهزلة كهذه مهما ِ‬
‫ِ‬ ‫َ�ست ُْد َفن‬
‫�صرخت»‪ .‬ومل تكد تكمل جملتها حتى جاءتها �صفعة بري�شيليا‬
‫ِ‬ ‫�أو‬
‫لت�سقطها � ً‬
‫أر�ضا!‬
‫كان �سي�سيل يقف على ُبعد م�سافة قريبة‪ ..‬وما �إنْ ارتطمت �أوفيليا‬
‫أنت‬
‫م�سرعا لي�ساعدها على النهو�ض‪� ..‬س�ألها‪« :‬هل � ِ‬
‫ً‬ ‫بالأر�ض حتى جاء‬
‫بخري �أيتها الأمرية؟»‬
‫وقبل �أنْ ترد جوا ًبا‪� ،‬صاحت فيها بري�شيليا‪�« :‬صحيح‪� ..‬أنا بال‬
‫نطقت‬
‫ِ‬ ‫أخنقك بيدي �إنْ‬
‫عقل‪ ..‬هذا هو ال�سبب‪ ..‬ولهذا توقعي �أنْ � ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ب�شيء عن هذا! تذكري وتخيلي ما ميكن لفتاة معدومة العقل �أنْ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تفعل!» ثم ا�ستدارت م�سرعة لتبتعد وتلحق بها و�صيفتها املرتعدة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أما �أوفيليا‪ ،‬فهم�ست‪«َ :‬من قال �أين بحاجة �إىل �أنْ �أنطق ب�أي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪n‬‬
‫�شيء؟»‪ ،‬ثم وقفت لرتتب ثوبها جمددًا‪ ،‬وتابعت م�سريها �إىل حجرة‬
‫ﺸﺮ‬

‫�آرون‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪69‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫الوشم األحمر‬

‫فوجئ �سي�سيل باندفاع �آيري�س ناحيته عند باب حجرة �آرون‪،‬‬


‫فج َثا على ركبتيه ليكون يف م�ستوى طولها‪ ..‬كانت‬ ‫احت�ضنته بقوة َ‬
‫ﻋﺼ‬
‫عيناه تفي�ضان باالمتنان لر�ؤيتها فلم ي ُكن يتوقع ر�ؤيتها قبل انق�ضاء‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال�سنوات ال�سبع‪ ..‬وعلى م�سافة ق�صرية‪ ،‬جل�س �آرون و�أوفيليا يت�أمالن‬
‫هذا امل�شهد دُون �أنْ يعرت�ضا‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قال �سي�سيل‪ ،‬بعد �أنْ قام ليقف جمددًا‪ ،‬خماط ًبا �أوفيليا‪�« :‬أعتذر‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أيتها الأمرية‪ ..‬ولكن هذه الطفلة هي �شقيقتي‪ ..‬ومل ن َر بع�ضنا منذ‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫زمن»‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أجابت مبت�سمة‪« :‬ال ب�أ�س»‪.‬‬


‫كان �سي�سيل يرغب يف �س�ؤال �آيري�س عن �أحوالها‪ ..‬ولكن مل ي ُكن‬
‫يف املكان وال الزمان املنا�سب‪ ،‬ولذلك هم�س لها‪« :‬الأمرية �أوفيليا‬
‫تنتظرك يا عزيزتي‪ ..‬اذهبي‪� ..‬سنجل�س ونتبادل حدي ًثا ً‬
‫طويل فيما‬
‫بعد»‪.‬‬
‫غابت ابت�سامتها وهي ت�س�أل‪« :‬متى؟»‬
‫‪71‬‬
‫‪ -‬ال �أدري‪ ..‬ولكننا �سنلتقي حت ًما‪.‬‬
‫ربت على كتفها وهو يدفعها بلطف‪« :‬هيا‪ ..‬اذهبي»‪ ..‬ثم �أوم�أ‬
‫احرتاما للأمريين وخرج من احلجرة ليقف على بابها‪.‬‬
‫ً‬
‫بوجه عبو�س‪ ،‬جاءت �آيري�س لتقف خلف مقعد �أوفيليا‪ ،‬هم�ست‬
‫وعدك‬
‫ِ‬ ‫لها الأخرية قبل �أنْ تبد�أ باللعب‪« :‬ال حتزين يا �آيري�س‪ ..‬لقد‬
‫عليك �أنْ تركزي على‬
‫ب�أنكما �ستلتقيان و�أنا واثقة ب�أنكما �ستفعالن‪ِ ..‬‬
‫لوح ال�شطرجن الآن»‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫�أوم�أت �آيري�س‪ ،‬ثم ح ّرك �آرون جنديه الأول‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أخذ �سي�سيل ي�سرتجع يف عقله ما حدث قبل �أنْ يلتقي ب�آيري�س‪،‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ً‬
‫حماول تذكر ما ر�آه حينما جذبت بري�شيليا ُكم �أوفيليا‪ ..‬ت�ساءل‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫«�أكان ذلك و�ش ًما �أحمر؟ ال �أ�ستطيع اجلزم مبا ر�أيت»‪ .‬كان ذلك‬
‫الو�شم الأحمر كاف ًيا لتعري�ض �أوفيليا لت�سا�ؤالت خطرية‪ ..‬ففي مملكة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫القمم الدخانية‪ُ ،‬يح ّرم تعلم الو�شوم وجتربتها على غري املنت�سبني‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�صومعة الق�ضاة‪ ،‬و ُي�ستثنى من هذا و�شم اجلنة الذي �سربه �أحدهم‬
‫�إىل الفقراء منذ زمن بعيد‪ ،‬واتفقت �صومعة الق�ضاة على جتاهله‬
‫لأنهم اعتربوه عقا ًبا ذات ًيا ي�ستحقه مرتكبوه‪ .‬كانت �صومعة الق�ضاة‬
‫هي ميزان احلكمة الذي ين�صاع له اجلميع‪ ..‬ف�أي جمرم‪� ..‬أي خما ِلف‬
‫مهما كانت درجته يف املجتمع ومهما كان مقدار ثروته‪ ..‬يتم تقرير‬
‫عقوبته من ِقبل �صومعة الق�ضاة‪ ..‬ويتم معاقبته بو�شم ي�ضعوه عليه‪..‬‬
‫مل ت ُكن هذه الو�شوم � ً‬
‫أ�شكال عادية‪ ..‬بل هي �أوامر �سحرية حمتومة‬
‫‪72‬‬
‫التحقق‪ ..‬ولكن ما معنى �أنْ حتمل �أمرية القلعة �أحد الو�شوم؟ الو�شوم‬
‫�إما عقاب و�إما �شفاء‪ ..‬ومل ي�سبق �أنْ جاء �أحد حكماء ال�صومعة‬
‫لر�سم �أي منها على كتف هذه الأمرية‪ ..‬كان هذا ما �أخذ يدور يف‬
‫عقل �سي�سيل وهو يتذكر كلمات معلمه ال�شيخ‪ .‬ولكن اقرتاب �أحدهم‬
‫جعل �سي�سيل ي�ضع هذه اخلواطر جان ًبا لوهلة‪.‬‬
‫كان القادم نايت‪ ،‬وكان �سي�سيل قد الحظ مراقبته �إياه طوال اليوم‪.‬‬
‫‪ -‬هل �أنت جائع؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫رفع �سي�سيل ناظره �إليه‪ ،‬حائ ًرا يف الإجابة املنا�سبة‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ابت�سم نايت‪« :‬بالت�أكيد �أنت جائع‪ ..‬تف�ضل»‪ .‬قالها وهو ُيخرج قطعة‬
‫ﻜﺘ‬

‫من اخلبز من جيبه‪ ..‬يواريها يف طية كمه حتى ال ينتبه �أحد احلرا�س‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الآخرين يف املمر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أجابه �سي�سيل‪�« :‬شك ًرا‪ ..‬ال �أريد»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اقرتب منه نايت ليهم�س‪�« :‬إنها من الأمرية بري�شيليا‪ ..‬ينبغي لك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أنْ تقبلها»‪.‬‬
‫‪� -‬شك ًرا‪ ..‬ولكني ال �أريد‪.‬‬
‫‪ -‬تعلم �أنك �ستظل واق ًفا على قدميك حتى ال�صباح‪� ،‬صحيح؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬معلوماتك خاطئة � ًإذا‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪ ،‬فرد نايت‪« :‬لن تقف حتى ال�صباح‪،‬‬ ‫ارتفع حاجب �سي�سيل‬
‫بل �ستقف حتى ت�سقط مغ�ش ًيا عليك‪ ..‬ثم �ست�أمر الأمرية �أوفيليا‬
‫احلرا�س ب�إيقاظك و�إجبارك على الوقوف جمددًا‪ ..‬حتى ت�سقط‬
‫جمددًا‪ ..‬وهكذا‪ ..‬تظل واق ًفا دُون نوم �أو طعام �أو ماء حتى ت�صبح‬
‫كاجلثة‪� ..‬أو ت�صبح جثة ح ًقا»‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا قد تفعل الأمرية �شي ًئا كهذا؟‬
‫‪� -‬إنها ذكية‪ ..‬ولكن �أ�ساليبها ب�سيطة دائ ًما‪ ..‬تقتل َمن تريد‬
‫عن طريق توظيفهم ثم حرمانهم من فرتات راحتهم! هكذا‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫وح�سب!‬
‫‪ -‬مل جتب عن �س�ؤايل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يوما �صع ًبا للغاية عليك‪..‬‬


‫‪ -‬ال �أعلم �أ�سبابها‪ ..‬ولكن غدً ا �سيكون ً‬
‫ولهذا �أن�صحك بتقبل هدية الأمرية بري�شيليا‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�صحيحا فال فائدة من قطعة اخلبز هذه‪ ..‬لن‬ ‫‪� -‬إنْ كان ما تقوله‬
‫ﻭ‬

‫ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تفعل �سوى متديد فرتة وقويف وجعل يومي �أ�صعب‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ك�شر نايت وهو يعيد قطعة اخلبز �إىل جيبه‪ ،‬هم�س‪�« :‬أنت تظنني‬
‫�أمزح معك‪ ..‬تظن �أنّ الأمرية غري قادرة على فعل �شيء كهذا لأنك‬
‫من �صومعة الق�ضاة! غبي»‪.‬‬
‫قالها وا�ستدار مبتعدً ا‪� ،‬أما �سي�سيل‪ ،‬فبد�أ يت�ساءل كيف ميكن لفتاة‬
‫�صحيحا‪-‬؟ هو يعلم �أنها‬
‫ً‬ ‫مثلها �أنْ تفعل �أ�شياء كهذه ‪�-‬إنْ كان هذا‬
‫لطيفة للغاية مع �شقيقته التي �أخربته م�سب ًقا ب�أنّ الأمرية حتبها وال‬
‫‪74‬‬
‫عمل يفوق طاقتها‪ ..‬بل ت�أخذها معها‬ ‫ت�سمح ب�إرهاقها �أو حتميلها ً‬
‫وتعطيها الكثري من الأوراق والألوان للر�سم‪ ..‬ور�أى كيف حتدث �آرون‬

‫‪n‬‬
‫وتبت�سم له برقة بالغة‪ ..‬هل ميكن �أنْ يجتمع اللطف ال�شديد والق�سوة‬
‫ال�شديدة يف قلب واحد؟ ت�سا�ؤالت ال ح�صر لها وال �إجابات لها‪.‬‬

‫بعد انتهاء �أ�شواط ال�شطرجن‪ ،‬ان�صرف �آرون لريى طيوره‪� ،‬أما‬


‫�أوفيليا‪ ،‬ف�صرفت �آيري�س ثم �أمرت �سي�سيل باتباعها‪ .‬و ّدع �شقيقته‬
‫بابت�سامة من بعيد‪ ..‬ثم �سار وراء �أوفيليا التي اجتهت �إىل جناحها‪..‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وعند باب حجرتها‪ ،‬حدجته بنظرة حادة وهي تقول‪« :‬لن يغم�ض لك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جفن‪ ،‬ولن جتل�س‪� ..‬ستظل واق ًفا حتى �آمرك بغري ذلك»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أمرك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فعلت خالف ما �أقول‪.‬‬


‫‪ -‬هناك َمن يراقبك‪ ..‬و�س�أعلم بالأمر �إنْ َ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬لن �أخالفك‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫جتاوزته ودلفت �إىل حجرتها‪.‬‬


‫رفع �سي�سيل ب�صره من الأر�ض ليت�أمل ال�سقف الذي بدا كهوة‬
‫مظلمة‪ ،‬بينما تداعت كلمات �شيخه �إىل عقله جمددًا‪.‬‬
‫‪ -‬تقول بع�ض خادمات الأمرية �أوفيليا ب�أنها تختفي عند منت�صف‬
‫الليل دائ ًما‪ ..‬تختفي يف حجرتها ثم تعود للظهور وك�أن �شي ًئا مل‬
‫ي ُكن‪ ..‬نحن ن�شك بوجود حجرة �سرية مت�صلة بحجرتها‪ ..‬وقد‬
‫حتتوي هذه احلجرة على الكتب املحظورة التي اختفت ب�شكل‬
‫‪75‬‬
‫مبهم من �صومعة الق�ضاة‪ ..‬ال �سيما بعد �أنْ �أ�شاعت بع�ض‬
‫و�شوما حمراء على �سيقانها‪..‬‬
‫اخلادمات �أنّ الأمرية تخفي ً‬
‫كل �شيء ي�شري �إىل �أنها متلك الكتب امل�سروقة‪ ..‬يتطلب الأمر‬
‫ً‬
‫تخطيطا حمك ًما وذه ًبا كث ًريا للتمكن من ت�سريب هذه الكتب‪..‬‬
‫ال �أحد �سوى فرد من العائلة احلاكمة قادر على تدبري �أمر‬
‫كهذا‪ ..‬والأمرية �أوفيليا هي امل�شتبه الأول‪.‬‬
‫كانت كلمات ال�شيخ ترن يف عقله وهو يفكر بطريقة للتمكن من‬
‫ا�ستك�شاف حجرتها‪« :‬الليلة هي فر�صتي الوحيدة»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل�س زجاجة ال�سائل القاين املختبئة يف �صرة لفها حتت حزامه‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وا�سرتجع الو�شوم التي تعلم نق�شها يف �صومعة الق�ضاة حتى الآن‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ولكن عاقبته ميكن �أنْ تكون املوت �إنْ ر�سم و�ش ًما على الأمرية دُون‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫علمها ودُون ُحكم ر�سمي من �صومعة الق�ضاة‪ ..‬ولهذا‪� ،‬سيرتك‬


‫كحل �أخري‪ ..‬ثم انحنى لي�ستل قاطعة املعادن التي ُث ِّبتت يف‬
‫الو�شوم ٍ‬
‫ﺸﺮ‬

‫ظهر حذائه الطويل‪ ،‬وعاود الوقوف �شاب ًكا يديه خلف ظهره‪ ،‬بينما‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ا�ستقرت قاطعة املعادن بني مقب�ض الباب و�إطاره‪ ،‬و�صدر ه�سي�س‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫خافت �إثر احتكاكها بالقفل النحا�سي‪.‬‬


‫كيف علم ب�أنّ القفل نحا�سي؟ كيف علم ب�أنّ مقب�ض باب احلجرة‬
‫من هذا النوع؟ كلها معلومات بد�أ �شيخه بجمعها منذ زمن وعلى‬
‫دفعات‪ ..‬كان كل �شيء مهي�أ لهذه املغامرة‪ ..‬كل �شيء عدا املقتحم‬
‫الذي جاءته الدعوة �أخ ًريا ِمن الأمرية نف�سها‪.‬‬
‫لقد حل منت�صف الليل‪ ..‬ومت قطع ل�سان القفل بالكامل‪ ..‬وال ُب َّد �أنّ‬
‫حجرة �أوفيليا خالية الآن‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫دار �سي�سيل بعينيه يف �أرجاء املكان باح ًثا عن �أي حرا�س‪ ..‬ولكنه مل‬
‫ي َر �أحدً ا‪ ..‬فكر «ال ُب َّد �أنّ ُمراقبي يختبئ جيدً ا‪� ..‬أو �أنه ي�أخذ غفوة‪..‬‬
‫لكنه �سين�صرف للبحث عني يف مكان �آخر �إنْ اكت�شف اختفائي»‪..‬‬
‫ثم دفع الباب يف هدوء �شديد‪ ..‬ومن الفرجة ال�صغرية ان�سحب �إىل‬
‫الداخل‪ ،‬و�أعاد غلق الباب وهو ينخف�ض على ركبتيه‪ ..‬رفع ب�صره �إىل‬
‫احلجرة التي كانت مظلمة‪ ..‬عدا �شمعة �صغرية يرتاق�ص نورها عند‬
‫جدا ال يكاد يرى �إثره �شي ًئا‪ ..‬ولهذا ظل عدة دقائق‬
‫ال�شرفة‪ ،‬نور خافت ًّ‬
‫يف مكانه‪ ،‬حتى اعتادت عيناه الظالم وبد�أ بتمييز حواف الأ�شياء‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫الآن �صار يرى معامل احلجرة؛ خزانة ملكية �ضخمة‪ ..‬لوحات‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مذهبة الأطراف‪� ..‬سرير �ضخم حتيط به ال�ستائر ويغ�ص بالأغطية‬
‫ﻜﺘ‬

‫والو�سائد‪ ..‬مل ي ُكن قاد ًرا على تبني �إنْ كان هناك من ينام على‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�سرير‪ ..‬ولكنه كان مت�أكدً ا من �أنها قد و�ضعت بع�ض الو�سائد‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪-‬حت�س ًبا‪ -‬لتوحي ب�أنها نائمة‪ ..‬يف كل الأحوال‪ ..‬ميلك الفر�صة‬


‫الذهبية لتفقد احلجرة الآن‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫لقد قر�أ كث ًريا‪ ..‬ويعلم �أنّ مداخل املخابئ يف القالع غال ًبا ما تكون‬
‫ال�سجاد‪ ..‬خلف اللوحات‪ ..‬خلف املكتبات‪ ..‬بداخل اخلزائن‪..‬‬ ‫حتت ّ‬
‫ولهذا بد�أ بتفقد هذه الأماكن‪ ..‬ومرت الدقائق‪ ..‬دُون جدوى‪..‬‬
‫بالت�أكيد خمب�أ كهذا يحتاج وقتًا �أطول‪ ..‬ولكن الأمرية �أوفيليا ب�سيطة‬
‫الأ�ساليب‪ ..‬هذا ما �أخربه به نايت‪� ..‬إنها معقدة لكنها تتبع الأ�ساليب‬
‫الب�سيطة دائ ًما‪ ..‬ولهذا‪ ،‬قرر البحث يف الأدراج االعتيادية‪ ..‬والأماكن‬
‫مدخل لأي خمب�أ‪ ..‬ولكنها قد حتمل دالئل‪.‬‬ ‫التي ال ميكن �أنْ تكون ً‬

‫‪77‬‬
‫ويف �أحد �أدراج جموهراتها‪ ،‬وجد ورقة ملفوفة‪ ،‬فتحها‪ ..‬فر�أى‬
‫ر�س ًما ‪ -‬نقو�ش متداخلة على نحو �شديد التعقيد؛ هذا الر�سم لو�شم‬
‫�سحري‪ ..‬ي�ستطيع �إدراك هذا ب�شكل م�ؤكد‪ ،‬و�شم �شبيه مبا يتعلمه‬
‫يف �صومعة الق�ضاة‪ ..‬ي�شبهه من ناحية كونه و�ش ًما‪ ،‬ولكنه يختلف يف‬
‫�أمر �آخر‪ ..‬لقد تعلم �أنّ و�شوم العقاب تتميز بوجود جنمات كثرية‪..‬‬
‫�أما و�شوم ال�شفاء فتتميز بدوائرها ومنحنياتها ال�شبيهة ب�أغ�صان‬
‫النباتات‪ ..‬لكن هذا الر�سم ال يحوي على �أي جنمة �أو دائرة! �إنه‬
‫خليط من الأ�شكال الرباعية والنقاط امل�صطفة على نحو مل يره‬
‫من قبل‪ ،‬ت�ساءل‪�« :‬أي نوع من الو�شوم ميكن �أنْ يكون هذا؟ ً‬
‫مهل‪..‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قال املعلم ب�أنّ الكتب التي يف حوزتها كتب حمظورة‪ ..‬وهذا يعني»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وات�سعت عيناه وهو يدرك �أنّ هذا الو�شم و�شم حمظور‪ ..‬والو�شوم‬
‫املحظورة ال يدر�سونها وال يتطرقون لها‪ ..‬بل ال يعلمون بوجودها‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وازدرد ريقه وهو يدرك �أنّ ما يتعلمه حكماء ال�صومعة لي�س �سوى جزء‬
‫ﺸﺮ‬

‫جدا مت �إخفا�ؤه لأ�سباب جمهولة‪.‬‬


‫من علم كبري ًّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أعاد الورقة �إىل مكانها‪ ،‬ثم �سمع �صوت حركة قادمة من �سرير‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الأمرية‪ ..‬وحني التفت‪ ،‬وجدها تنه�ض من �سريرها ‪-‬لقد كانت نائمة‬


‫هناك بعد كل �شيء‪ -‬وقفت‪ ..‬ب�شعرها املنكو�ش وثوبها الف�ضفا�ض‬
‫الوا�سع‪ ..‬مقطبة اجلبني‪ ..‬ترمقه بنظرات تقطر غ�ض ًبا بينما‬
‫يرتاق�ص نور ال�شمعة على جانب وجهها م�ضي ًفا �إليها مل�سة مرعبة مل‬

‫‪n‬‬
‫ت ُكن تنق�صها‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬ويف �أحياء العا�صمة الذهبية‪� ..‬سار �إيدن مع‬
‫ح�شد من حرا�سه يف �أحياء عا�صمته‪ ..‬لقد خرج ليتفقد مدينته بنف�سه‬
‫‪-‬بنا ًء على ن�صيحة ريجان‪ -‬حتى يعطي ال�سكان االنطباع ب�أنه يفهم‬
‫م�شاكلهم ويعمل على حلها‪ ..‬لقد كانت هذه الأحياء تزدان بنوافري‬
‫املياه يف �آخر مرة زارها‪� ..‬أما الآن‪ ،‬فقد زحفت الرمال فوق العتبات‬
‫وعلى بع�ض الوجوه‪ ..‬ور�أى عدة م�شاجرات على ِقرب املياه وعلى‬
‫�أ�سعارها عند عتبات الدكاكني‪ ..‬ولكن ما �أثار ف�ضوله ح ًقا كان ر�ؤية‬
‫بع�ض النا�س مرمتني عطا�شى على عتبات �أبوابهم املزينة بالذهب‪.‬‬
‫«ل ال يبيعون ما ميلكون من الذهب من‬ ‫ً‬
‫مت�سائل‪َ ِ :‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫هم�س لريجان‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�أجل �شراء املياه؟»‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أجابه‪« :‬ال �أحد ي�شرتي الذهب يا موالي‪ ..‬ال�سوق املحلية كا�سدة‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫والذهب �أقل قيمة من الفحم»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هل رد امللك مريلني على عر�ضنا؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬لي�س بعد‪ ..‬لكني مت�أكد من موافقته‪� ..‬صحيح �إنّ الذهب‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال يعادل �شي ًئا هنا‪ ..‬ولكنه يعادل كل �شيء يف مملكة القمم‬
‫الدخانية‪.‬‬
‫�أوم�أ �إيدن وهو يتابع �سريه‪ ..‬بينما ترامت �إىل م�سامعه عبارات‬
‫التو�سل واال�ستجداء‪ ،‬ولهذا‪� ،‬أمر رجاله مبلئ الآبار من خمزون‬
‫ق�صره‪ ..‬ورغم �أنه مل يرغب بفعل هذا ح ًقا‪ ،‬ف�إنه كان �ضرور ًيا لتتحول‬
‫بدل من �أنْ تتحول �إىل لعنات تطاله‪.‬‬ ‫عبارات التو�سل �إىل �شكر وثناء ً‬
‫‪ -‬هذا يكفي‪ ..‬فلنذهب �إىل الكهوف‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫‪n‬‬
‫كان ذلك ما هم�س به �إيدن لريجان الذي �أوم أ� باملوافقة‪ ،‬ثم �أمر‬
‫الرجال ب�إح�ضار عربة امللك‪.‬‬

‫يف بهو قلعة القمم الدخانية‪ ،‬و�أمام امللك مريلني‪ ..‬وقف �سي�سيل‬
‫خاف�ضا ب�صره �إىل الأر�ض‪ ..‬بينما زينت وجهه كدمتان كادتا ت�سحقان‬‫ً‬
‫عينه الي�سرى‪ ..‬كانت ال�سال�سل تكبل يديه وقدميه‪ ..‬بينما غ�ص املكان‬
‫باحلرا�س ورجال �صومعة الق�ضاة‪ ..‬مل ي ُكن غ�ضب امللك مريلني من‬
‫الأ�شياء املحبذ ر�ؤيتها‪ ..‬ولكن دموع ابنته �أوفيليا املرمية يف �سريرها‬

‫ﻋﺼ‬
‫والو�شم ال�شيطاين الذي زين ذراعها النازفة �أ�صابه بغ�ضب جمنون‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لقد قال رجال ال�صومعة ب�أنّ هذا الو�شم من و�شوم العقاب‪ ..‬وي�صيب‬
‫ﻜﺘ‬

‫�صاحبه بحمى �شديدة ترديه �صري ًعا يف يومني‪ ..‬هم هنا من �أجل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عالجها‪ ..‬ولكنهم �أخربوا امللك ب�أنّ و�شم ال�شفاء املعاك�س مل ي�سبق‬


‫ﺸﺮ‬

‫�أنْ جنح من قبل‪� ..‬أي ال فائدة من جتربته حتى‪ ..‬وبالطبع‪ ،‬مل ي�ستمع‬
‫ﻭ‬

‫�إليهم‪ ..‬بل �أمرهم بتجربة �أي عالج حتى و�إنْ كانت فر�صة جناحه‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�شبه معدومة‪.‬‬
‫ان�صرف احلكماء �إىل حجرة الأمرية‪ ،‬يتقدمهم �سريو�س‪ ..‬و�أما‬
‫�سي�سيل‪ ،‬ف�شعر باالختناق بينما قب�ضت �أ�صابع امللك على رقبته وهو‬
‫ي�صرخ فيه‪�« :‬ألن جتيبني �أبدً ا؟! ِ َل َ‬
‫فعلت هذا بابنتي؟!»‬
‫«ل�ست الفاعل»‪.‬‬
‫جاءت كلماته ب�صعوبة‪ُ :‬‬
‫‪ -‬وتنكر الأمر بكل وقاحة!‬
‫‪80‬‬
‫دفعه � ً‬
‫أر�ضا وهو ي�أمر احلرا�س ب�أخذه �إىل الزنزانة‪� ،‬صاح فيهم‪:‬‬
‫«�ستنتزعون اعرتافه ب�أي ثمن! هل تفهمون؟!»‬
‫‪� -‬أمرك �أيها امللك‪.‬‬
‫تقدموا ليجرجروه �إىل خارج البوابة‪ ..‬متجهني �إىل بوابة �أحد‬
‫دعى بربج ال�سال�سل لكرثة املقيدين بها يف‬
‫�أبراج القلعة‪ ،‬الذي ُي َ‬
‫زنزاناته‪.‬‬
‫كانت بري�شيليا تراقب الأمر من بعيد‪ ..‬قاب�ضة على يد و�صيفتها‬
‫التي �شعرت مبدى خوفها وتوترها‪ ..‬هم�ست مت�سائلة‪« :‬ما الذي‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�سيفعلونه به؟»‬
‫�أجابت و�صيفتها ب�صوت خفي�ض‪« :‬لقد ر�سم و�ش ًما �شيطان ًيا مميتًا‬
‫ﻜﺘ‬

‫على ذراع الأمرية �أوفيليا‪� ..‬سيقتلونه حت ًما»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أوفيليا خبيثة وخمادعة‪� ..‬أنا واثقة ب�أنه بريء‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫أنت ال تعرفني عنه �شي ًئا يا �أمريتي‪ ..‬قد يكون �أكرث ً‬


‫خداعا‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وخب ًثا من الأمرية �أوفيليا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أنا مت�أكدة �أنها تتظاهر بهذا من �أجل قتله وح�سب‪ ..‬كانت‬
‫تلمح �إىل �أنها �ستجعل والدي يقتله‪ ..‬قالتها بنف�سها ليلة‬
‫البارحة‪.‬‬
‫‪ -‬الأمرية �أوفيليا م�صابة باحلمى ح ًقا‪ ..‬وجروح ذراعها‬
‫حقيقية‪� ..‬أعلم �أنها الطرف املخادع يف العادة‪ ..‬ولكنها اليوم‬
‫�ضحية على و�شك املوت يا �أمريتي‪ ..‬هذا الغريب قاتل جاء‬
‫وعليك �أنْ ت�صدقي هذه احلقيقة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫للنيل من �شقيقتك‬
‫‪81‬‬
‫‪� -‬ستنه�ض من فرا�شها ك�أنّ �شي ًئا مل ي ُكن و�سرتين‪.‬‬
‫حلت حلظات من ال�صمت قبل �أنْ تردف‪« :‬لن �أ�سمح لهم بقتله‬
‫مهما ح�صل»‪.‬‬
‫رمقتها �إيفي بنظرة مرعوبة وهي تهم�س‪« :‬ال تقويل هذا يا �أمريتي!‬
‫آمرت معه!»‬
‫�سمعك �أحد �سيظن �أنك ت� ِ‬
‫ِ‬ ‫لو‬

‫‪n‬‬
‫جتاهلتها بري�شيليا وهي غري مقتنعة ب�أي كلمة من كلماتها‪..‬‬
‫َف ِعنادها كان ال�شيء الوحيد الذي يتفوق على غبائها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف ال�صحراء الغربية‪ ،‬ات�سعت عيون �إيدن رع ًبا حني خرج من‬
‫ﻜﺘ‬

‫كهفه ليجد جثث ح ّرا�سه تفر�ش الأر�ض حول املدخل‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صاح‪« :‬ريجان! �أين �أنت؟! ريجان!»‬


‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫ولكن مل ي�أ ِته �أي رد‪� ..‬أخذ يرك�ض بني اجلثث‪ ..‬يهزها ويبحث‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عن ريجان بينها‪ ..‬ولكن مل ترد �أي جثة جوا ًبا‪ ..‬ومل يجد م�ست�شاره‬
‫بينها‪َ ..‬ج َثا على ركبتيه حائ ًرا‪ ..‬ليفاج�أ بكف غليظة تطبق على فمه‬
‫وت�سحبه �إىل اخللف‪ ..‬وقبل �أنْ يتلقى ال�ضربة التي �أفقدته وعيه‪ ،‬ملح‬

‫‪n‬‬
‫القالدة املنتهية بالري�ش املنتوف‪.‬‬

‫قبيل املغيب‪ ،‬ويف برج ال�سال�سل‪ ،‬وقف �سريو�س لريمق �سي�سيل‬


‫جال�سا يف زاوية الزنزانة‪ ..‬مقو�س الظهر‪ ..‬يريح ر�أ�سه بني ركبتيه‪..‬‬
‫ً‬
‫‪82‬‬
‫رفع ر�أ�سه حني �سمع �صرير الباب احلديدي وهو ُيفتَح من ِقبل حار�سه‪،‬‬
‫ثم دلف �إىل الداخل معلمه الذي بدا على وجهه تعبري من الوجوم‪.‬‬
‫حماول جتاهل جراحه التي ت�سبب بها �سوط‬‫ً‬ ‫اقرتب ليجثو جواره‪،‬‬
‫ً‬
‫وحماول جتاهل ال�سوائل املختلطة ب�شعره الفاحم‪� ..‬س�أله يف‬ ‫�سجانه‪،‬‬
‫ّ‬
‫هم�س‪�« :‬أخربين‪ ..‬ما الذي حدث؟»‬
‫‪ -‬هل ت�صدق �أنني فعلت ذلك ح ًقا؟‬
‫‪ -‬ال �أ�صدق‪ ..‬ولهذا �أ�س�ألك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ت�سللت �إىل حجرتها كما اتفقنا‪ ..‬ومل �أد ِر كيف وجدتها‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ُ‬ ‫‪ -‬لقد‬
‫واقفة ورائي فج�أة‪ ،‬حتدجني بنظرات غا�ضبة‪ ..‬ولكن �سرعان‬
‫ﻜﺘ‬

‫أر�ضا �إثر �ضربة جاءتها من ِقبل �شخ�ص مل‬ ‫ما َ�س َق َطت � ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تلقيت �أنا ال�ضربة ذاتها‪ ..‬ذلك‬


‫�أره‪ ..‬ومل تكد ت�سقط حتى ُ‬
‫ال�شخ�ص‪ ..‬هو َمن ر�سم و�شم احلمى على ذراعها‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هل متلك فكرة عن هويته؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ال �أدري ح ًقا‪.‬‬


‫حلت هنيهة �صمت قبل �أنْ يردف‪« :‬كان �سري ًعا‪ ..‬حمرت ًفا‪ ..‬لقد‬
‫�ضربها و�ضربني قبل �أنْ �أملحه حتى»‪.‬‬
‫‪ً � -‬إذا‪ ..‬هي تعلم ب�أنك مل تر�سم ذلك الو�شم على ذراعها‪.‬‬
‫كنت بعيدً ا عنها حني تل َّق ْت �ضربتها‪ ..‬ولكن من املُحال �أنْ‬
‫‪ُ -‬‬
‫ت ِّربئني من هذا الأمر‪.‬‬
‫‪83‬‬
‫كنت تبحث؟‬ ‫عم َ‬
‫‪ -‬هل َع ِل َمت َّ‬
‫‪ -‬ر�أتني و�أنا �أتفح�ص �شي ًئا يحظر عليها حيازته‪.‬‬
‫‪ -‬الكتب امل�سروقة؟‬
‫‪ -‬ورقة فيها ر�سم لأحد الو�شوم التي �أعتقد �أنها ن�سختها من‬
‫الكتب امل�سروقة‪.‬‬
‫�أطلق �سريو�س تنهيدة عميقة بينما تع�صف يف ر�أ�سه الأفكار‪ ..‬عاد‬
‫ليقول‪« :‬هناك الكثري من الأمور التي ينبغي لنا ك�شفها‪ ..‬ولكن �أهمها‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�أولها هوية َمن ر�سم هذا الو�شم على ذراعها‪ ..‬حاول التذكر‪� ..‬أمل‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ت َر �أي �شيء مريب طوال فرتة حرا�ستك؟ �أمل ي ُكن هناك من يحوم‬
‫ﻜﺘ‬

‫حولك �أو حولها؟»‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صمت �سي�سيل هنيهة ثم �أردف‪« :‬ال �شيء مريب‪ ..‬ولكن‪ ..‬لقد‬


‫ﺸﺮ‬

‫ت�شاجرت مع �شقيقتها التي �صفعتها بقوة و�أهانتها‪ ..‬و�سمعتها تهددها‬


‫بخنقها»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬تذكر �أنّ ال�شخ�ص املريب لي�س �صاحب ال�صفعات �أو التهديدات‬


‫العلنية‪� ..‬أولئك ال ميلكون �سوى كفوفهم و�أل�سنتهم‪ ..‬ولهذا‬
‫يجاهرون بها‪ ..‬ولكن ال�شخ�ص املريب هو َمن يرمقك يف حذر‬
‫ثم ي�ضحك يف وجهك فج�أة ويبدي ح ًبا ال منطق له‪ ..‬املريب‬
‫هو �صاحب �أكرث العطايا ً‬
‫جزل‪.‬‬
‫حل �صمت ق�صري بينما ات�سعت عينا �سي�سيل وهو يدرك ما مل‬
‫يخطر على باله من قبل‪« :‬يف احلقيقة‪ ..‬هناك َمن كان يحوم حويل‬
‫‪84‬‬
‫ل�ست واث ًقا‪ ..‬لكنه الوحيد‬
‫طوال الوقت‪� ..‬أظن �أنه كان يراقبني‪ُ ..‬‬
‫الذي ميلك مثل هذه الفر�صة‪ ..‬ا�سمه نايت»‪.‬‬
‫�أوم أ� �سريو�س متفه ًما‪ ،‬ثم هم�س حمذ ًرا‪« :‬ا�سمعني جيدً ا‪� ..‬ست�صمد‬
‫حتت ال�سوط ولن تذكر ا�سمه �أبدً ا‪� ..‬أخربهم ب�أنك ال تعرف �أحدً ا‬
‫وال ت�شك ب�أحد‪ ..‬يف النهاية‪� ،‬سيقوم �أحد حكماء ال�صومعة ب�إ�صدار‬
‫احلكم يف حقك‪ ..‬ولن يكون عقابك املوت ما دُمت تنكر الأمر»‪.‬‬
‫‪ -‬لكن‪ ..‬ملاذا ال �آتي با�سمه؟ رمبا يكون هو الفاعل ح ًقا‪.‬‬
‫‪� -‬أمل تت�ساءل كيف ميكن ل�شخ�ص مثله �أنْ يجيد ر�سم و�شوم‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫العقاب؟‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬بلى‪ ،‬هو لي�س من �صومعة الق�ضاة‪ ..‬وال ميلك النفوذ الكايف‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ل�سرقة كتب ال�صومعة‪ ..‬فكيف!؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬إنْ كان الفاعل ح ًقا‪ ،‬ف�أنت تقف �أمام �أحد املنت�سبني جلماعة‬
‫البوم الهالك‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬البوم‪ ..‬الهالك؟‬
‫‪� -‬إنها جماعة من�شقة عن �صومعة الق�ضاة‪ِ ..‬يكنون لنا كراهية‬
‫�شديدة‪ ..‬ويتخذون من جثث البوم وري�شه املنتوف رم ًزا لهم‪..‬‬
‫لقد مت نفيهم �إىل مملكة ال�صحاري منذ زمن بعيد‪ ..‬ولكن‬
‫يبدو �أنّ بع�ضهم ما يزال هنا‪ ..‬يجيدون ر�سم بع�ض الو�شوم‪..‬‬
‫وي�سعون �إىل حتقيق العدالة احلقيقية بزعمهم‪ ..‬يظنون �أنهم‬
‫�آلهة هذا العامل‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ -‬ما مدى خطرهم؟‬
‫فعو�ضا عن معرفتهم‬‫‪ -‬هم �أخطر من �أي عدو قد تواجهه‪ً ..‬‬
‫بالو�شوم‪ ،‬يتلقون تدريبات ج�سدية �صارمة‪ ..‬وتدريبات نف�سية‬
‫لالعتياد على القتل من �أجل تطهري العامل‪ ..‬هم �أخطر من‬
‫�أي قاتل م�أجور لأنهم يظنون ب�أنّ ِمن حقهم اختيار هوية َمن‬
‫يقتلون‪.‬‬
‫علي �أنْ �أخر�س و�أتظاهر بالغباء بينما يقطع ذلك اجلالد‬ ‫‪ً � -‬إذا‪َّ ..‬‬
‫ما تبقى من جلدي‪ ..‬لأن هذا �أف�ضل من التورط معهم‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫تنهد �سريو�س بعمق وهو يقول‪�« :‬س�أبذل َق َ�صارى جهدي لإخراجك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫من هنا‪ ..‬ال ي�ستطيع امللك مريلني قتلك‪ ..‬الأمر بالتحقيق معك هو‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أق�صى �صالحية ميلكها‪� ..‬صومعة الق�ضاة هي َمن تقرر»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نه�ض �سريو�س واق ًفا‪ ..‬ثم هم�س‪�« :‬إنّ هذا الأمر بيني وبينك‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إياك �أنْ تنطق ب�شيء عن و�شوم الكتب املحظورة �أو عن جماعة البوم‬
‫الهالك‪ ..‬ال �أحد ينبغي له �أنْ يعرف �شي ًئا �أو يعرف �أنك تعرف �شي ًئا!»‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪n‬‬
‫�أوم أ� �سي�سيل‪ ،‬ثم ملح معلمه ي�سري مبتعدً ا‪ ،‬ف�أ�سند ر�أ�سه �إىل اجلدار‬
‫ال�صخري ثم �أغم�ض عينيه‪.‬‬

‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬ويف بهو قلعة احلكام‪ ،‬توقف نايت عند �أحد‬
‫الأعمدة الرخامية‪ ،‬متظاه ًرا بقراءة ر�سالة خا�صة ب�إحدى الطلبات‬
‫بينما تتبع عيناه املارة‪ ..‬ر�أى بري�شيليا ت�صعد الدرجات متجهة �إىل‬
‫«دورك هو القادم �أيتها اجلميلة»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫جناحها‪ ،‬فكر‪:‬‬
‫‪86‬‬
‫ارت�سمت على وجهه ابت�سامة وهو يتذكر الر�سالة التي د�سها يف يد‬
‫�أوفيليا يوم البارحة‪ ..‬يف تلك الر�سالة‪� ،‬أكد عليها ب�أنْ تبقى يف �سريرها‬
‫طوال الليل وال تغادره ثانية واحدة‪� ..‬أكد عليها ب�أنْ ال تغفى لها عني‬
‫أي�ضا باختفاء الأمرية عند‬‫لأن هناك ما يجب �أنْ تراه‪ ..‬لقد �سمع هو � ً‬
‫منت�صف الليل‪ ..‬ولهذا جل�أ �إىل هذه الر�سالة ليجربها على البقاء‬
‫يف �سريرها‪� ..‬أرادها �أنْ تكون هناك حتى ير�سم ذلك الو�شم على‬
‫ذراعها‪ ..‬ال وقت �أف�ضل من فعلها يف وجود فرد من �صومعة الق�ضاة‪..‬‬
‫فرد يتحمل التهمة ويبعد عنه �أي �شبهة ممكنة‪.‬‬
‫لقد ر�سم و�شم احلمى على ذراعها‪ ..‬ور�سم و�ش ًما �آخر � ً‬
‫أي�ضا‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بدا �أنّ رجال �صومعة الق�ضاة مل ينتبهوا له‪ ..‬ر�سم و�شم الن�سيان‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وبهذا ي�ضمن �أنْ ال تتذكر �أوفيليا ما حدث قبيل تلك ال�ضربة‪� ..‬ستكون‬

‫‪n‬‬
‫�أوفيليا واثقة ب�أنّ �سي�سيل هو الفاعل‪ ..‬و�ستنطق با�سمه قبل �أنْ تنهيها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احلمى‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪87‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل السادس‬
‫قمة البرج‬

‫لقد م�ضت ثالثة �أيام‪ ،‬وما زالت �أوفيليا ت�ستلقي بال حراك يف‬
‫فرا�شها‪ ..‬يحيط بها حكماء ال�صومعة العاجزين عن فعل �شيء �سوى‬

‫ﻋﺼ‬
‫تفقد نب�ضها‪ ..‬لقد ر�سموا و�ش ًما م�ضادًا لو�شم احلمى على ذراعها‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأخرى‪ ..‬ولكنهم كانوا يعلمون �أنّ ال جدوى منه‪ ..‬اليوم فقط‪ ،‬بد�أوا‬
‫ﻜﺘ‬

‫بالت�سا�ؤل �إنْ كان و�شمهم امل�ضاد هو �سبب بقاء قلب �أوفيليا ً‬


‫ناب�ضا رغم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫انق�ضاء ثالثة �أيام‪ ..‬ففي العادة‪ ،‬يق�ضي و�شم احلمى على �ضحيته يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫يومني �أو �أقل‪ ..‬وقف �آرون على بابها يراقبها �صامتًا‪ ..‬و�أما �آيري�س‪،‬‬
‫فكانت �أكرث َمن ذرف الدمع يف هذه الأيام الثالثة‪ ..‬رغم �سخرية بقية‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اخلدم منها وحماولتهم �إقناعها ب�أنّ الأمرية �أوفيليا ال ت�ستحق كل هذا‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫احلزن‪ ..‬ف�إنها مل ت ُكن قادرة على التوقف عن البكاء‪ ..‬هذه الأمرية‪..‬‬


‫تكاد تكون �أكرث من تق�ضي وقتها معه‪ ،‬الوحيدة التي �صحبتها معها‬
‫كث ًريا �إىل تلك احلجرة التي تقع يف علية القلعة ومتتلئ بالكتب‪..‬‬
‫الوحيدة التي كانت تعطيها الكثري من ري�ش الر�سم والأوراق وتق�ضي‬
‫وقتها معها يف الر�سم‪ ..‬لقد كانت ت�سمح لها بالر�سم على �أجزاء‬
‫ج�سدها حتى‪ ..‬تتذكر �آيري�س النقو�ش التي ر�سمتها على ظهر الأمرية‬
‫جدا بق�ضاء وقتها يف ممار�سة الر�سم‬ ‫و�ساقيها وكتفيها‪ ..‬كانت �سعيدة ًّ‬
‫‪89‬‬
‫الذي تع�شقه! وتتذكر حتذير الأمرية لها من البوح لأي كان عن هذا‬
‫الأمر و�إال �سي�أخذونهما �إىل الزنزانات‪ ..‬ولهذا‪ ،‬مل تنطق بالأمر حتى‬
‫ل�سي�سيل الذي كانت ت�سرد له كل ما يحدث يف القلعة‪.‬‬
‫جدا‬
‫ما الذي �سيحدث لها �إنْ ماتت الأمرية؟ �ست�صبح وحيدة ًّ‬
‫جمددًا‪ ..‬لن يكون هناك من يحدثها برقة ولطف‪ ..‬فاجلميع ‪-‬عدا‬
‫�سي�سيل و�أوفيليا‪ -‬ي�صرخون عليها طوال الوقت ويتهمونها بالغباء‬
‫والتخلف‪� ..‬ستغادر هذه القلعة لأنها تكره كن�س �أر�ضيات املطبخ‬
‫وتنظيف الأواين وتعنيف الطهاة‪ ..‬و�ستعود جمربة �إىل احلجرة‬
‫الطينية حيث ت�صرخ �أمها وتتهمها بالغباء وعدم اجلدوى وجتربها‬

‫ﻋﺼ‬
‫يف النهاية على الت�سول يف الطرقات‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫فرحا حني �سمعت ب�أنّ‬
‫ولكن حزنها مل يدُم‪ ،‬وات�سعت عيناها ً‬
‫الأمرية �أوفيليا �صارت قادرة على اجللو�س واحلديث‪ ..‬ولهذا‪ ،‬هرعت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إىل حجرتها لتطمئن بنف�سها‪ ..‬وات�سعت ابت�سامتها وهي ترى الأمرية‬


‫ﺸﺮ‬

‫تقف على قدميها‪ ،‬ترتدي ثوبها الطويل بينما ت�سرح �إحدى اخلادمات‬
‫ﻭ‬

‫�شعرها‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قادما بنف�سه‪ ،‬تعتلي وجهه‬


‫تراجعت �إىل الوراء حني ر�أت امللك ً‬
‫ابت�سامة وا�سعة‪.‬‬
‫وقفت عند الباب تنظر �إىل امللك وهو يعانق ابنته يف �سعادة‪،‬‬
‫وانتظرت انق�ضاء هذه اللحظات حتى ي�أتي دورها يف حمادثة الأمرية‬
‫و�إخبارها كم هي �سعيدة ب�شفائها‪ ..‬ولكن دورها مل ي� ِأت‪.‬‬
‫فحني غادر امللك‪ ،‬و�ضعت الأمرية تاجها الل�ؤل�ؤي على ر�أ�سها ثم‬
‫خرجت من حجرتها م�سرعة‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫احرتاما لأوفيليا التي جاءت‬
‫ً‬ ‫ويف حجرة الأختام‪ ،‬هب نايت واق ًفا‬
‫�إىل حجرته و�أغلقت الباب خلفها لتنفرد به‪.‬‬
‫�سرت رع�شة رعب فيه وهو يدرك �أنها �شفيت من و�شم احلمى‬
‫ينج منه �أحد قبلها‪ .‬ولكنه ر�سم ابت�سامة ودود على وجهه وهو‬
‫الذي مل ُ‬
‫تعافيت»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ؤيتك وقد‬
‫�شفيت‪� ..‬أنا �سعيد بر� ِ‬
‫يقول‪�« :‬أمريتي‪ ..‬لقد ِ‬
‫مل تبت�سم‪ ،‬كان تعبري من اجلدية واحلزم يرت�سم على وجهها‪،‬‬
‫�أجابت‪�« :‬أريد م�ساعدتك»‪.‬‬
‫‪� -‬أنا طوع �أمرك �أيتها الأمرية‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أريدك �أنْ ت�ساعدين يف عقاب من ر�سم ذلك الو�شم على‬
‫ﻜﺘ‬

‫ذراعي‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬إنه يف برج ال�سال�سل‪� ..‬أظن ب�أنه يتلقى جزاءه بالفعل‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أعلم‪ ..‬ولكني �أريد �أنْ �أ�ضمن �سالمتي‪� ..‬إنْ خرج ح ًّيا من تلك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الزنزانة ف�ستكون نهايتي �أنا‪ ..‬يجب �أنْ نتخل�ص منه‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ً‬
‫مت�سائل‪« :‬هل تعنني‪ ..‬قتله؟ ولكن‪ ..‬ماذا‬ ‫رفع نايت ب�صره �إليها‬
‫بتورطك �أيتها الأمرية؟ �إنّ هذا �أمر خطري»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�إنْ علم �أحد‬
‫طلبت م�ساعدتك! لدي خطة‪ ..‬ولن يتورط � ٌّأي منا يف‬
‫‪ -‬لهذا ُ‬
‫الأمر‪.‬‬
‫�أوم�أ‪�« ،‬أنا طوع �أمرك»‪.‬‬
‫‪ -‬اتبعني � ًإذا‪� ..‬سنذهب لزيارته‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫‪n‬‬
‫ارت�سم تعبري من الده�شة على وجهه لعجلتها‪ ،‬ولكنه مل يعرت�ض‪،‬‬
‫بل َت ِبعها وخرجا متجهني �إىل برج ال�سال�سل‪.‬‬

‫على عتبة البيت الطيني املتهالك‪ ،‬جل�ست والدة �سي�سيل �صامتة‪،‬‬


‫وبجوارها جل�ست فيوال التي جاءت لزيارتهم بعد غياب طويل‪ ..‬قالت‬
‫جئت دون علم �سي�سيل‪� ..‬إنه ال ي�سمح يل باخلروج‬
‫ب�صوت حزين‪« :‬لقد ُ‬
‫علم بخروجي ي�ضربني ب�شدة»‪.‬‬ ‫من ذلك القبو‪� ..‬إنْ َ‬
‫قلت ب�أنه انتقل لل�سكن يف قلعة القمم الدخانية؟‬
‫‪ -‬هل ِ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬قال �إنه ذهب للعمل عند الأمرية �أوفيليا‪ ..‬لقد مرت ثالثة‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أيام منذ رحيله‪ ..‬ال �أدري متى �سيعود‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬هذه هي درا�سته التي �أزعجنا بها � ًإذا؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫�صباحا‬
‫ً‬ ‫«�إنه ال يدر�س �أبدً ا‪ ..‬مل �أره مم�س ًكا ب�أي كتاب‪ ..‬يرحل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ليل ويغ�ضب ب�شدة �إنْ �س�ألته عن �أي �شيء»‪ ..‬ثم غطت وجهها‬ ‫وي�أتي ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫باك‪« :‬ثم ي�ضربني ويرتكني �أبكي يف زاوية‬‫بكفيها وهي تقول ب�صوت ٍ‬


‫القبو ويذهب لينام! �أنا مل �أفعل �أي �شيء! ال �أدري ملاذا يكرهني!»‬
‫أنت؟‬
‫بك � ِ‬
‫‪ -‬هو ال يبايل بوالدته التي �أجنبته فكيف �سيبايل ِ‬
‫حلت وهلة من ال�صمت‪ ،‬قطعها قدوم �آيري�س التي فوجئت بوجود‬
‫فيوال‪ ..‬ولكن �سرعان ما دلفت �إىل الداخل متجاهلة �إياها‪ ..‬ا�ستوقفتها‬
‫والدتها‪« :‬تعايل �إىل هنا»‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫اقرتبت وهو ترد قاطبة اجلبني‪« :‬ماذا؟»‬
‫أنت تخدمني ذات الأمرية التي يعمل �سي�سيل لديها‪..‬‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫�أخربيني‪ ..‬هل ر�أي ِته يف القلعة؟‬
‫بدا الرتدد على وجه �آيري�س‪ ،‬ولكنها �أجابت‪« :‬نعم‪ ..‬ر�أيته»‪.‬‬
‫‪ -‬هل قال �شي ًئا؟‬
‫‪� -‬إننا �سنلتقي قري ًبا‪.‬‬
‫‪ -‬فقط؟ �أمل ي ُقل �أي �شيء �آخر؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ألك ِمن �أين ن�أتي بقوتنا؟! �أمل ي�س�أل‬


‫ألك عني؟ �أمل ي�س� ِ‬
‫‪� -‬أمل ي�س� ِ‬
‫عن والده؟‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫زفرت والدتها بقوة وهي تقول‪« :‬يا له من حقري»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ال!‬
‫‪ -‬بل هو كذلك! هل تعلمني ب�أنه ال ي�سمح لفيوال باخلروج من‬
‫بيته؟ مينعها من �إح�ضار الطعام لنا!‬
‫‪ -‬تكذب!‬
‫قالتها وهي ترمقها بنظرة غا�ضبة‪ ..‬ولكن الأخرية تدخلت لتقول‬
‫بينما متلأ عيناها الدموع‪�« :‬أنا ال �أكذب! �شقيقك ال يبايل بك وال ب�أي‬
‫�أحد �آخر!»‬
‫‪93‬‬
‫�صاحت �آيري�س‪« :‬تكذبني! �سي�سيل يحبني!»‬
‫مل ترد فيوال جوا ًبا‪ ،‬بل رمقتها بنظرة حاقدة مل متتزج بتلك‬
‫الدموع التي جتمعت يف عينيها‪ ..‬تدخلت والدة �آيري�س لتقطع هذا‬
‫اجلدال‪« :‬اذهبي وا�ستبديل ثيابك يا �آيري�س‪ ..‬اذهبي!»‬
‫ومل تد ِر �أي �أفكار �أخذت جتوب عقل فيوال‪ ..‬ففيوال تكفيها مثل تلك‬
‫النظرة الغا�ضبة حتى ت�ستثري كراهيتها وجتعلها تتخذ قرا ًرا بت�أديب‬

‫‪n‬‬
‫�صاحب هذه النظرات‪ ..‬ولقد قررت للتو �أنّ الأوان قد حان لتعليم‬
‫البلهاء ال�صغرية بع�ض التهذيب‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�صعدت �أوفيليا الدرجات ال�صخرية يف برج ال�سال�سل بينما يتبعها‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫نايت يف �صمت‪ ..‬كانت ا�ستغاثات ال�سجناء وت�أوهاتهم تعلو �أكرث‬


‫و�أكرث كلما تقدموا يف امل�سري‪ ..‬فكلما ارتفعت زنزانة ال�سجني ازدادت‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أ�ساليب التحقيق فظاظة‪ ..‬ت�ساءل نايت عن ثبات الأع�صاب الذي‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫متلكه �أوفيليا لت�سري و�سط �أجواء كهذه دُون �أنْ تبدي �أي انزعاج‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بقي على �صمته حتى خرقته هي ب�س�ؤالها‪« :‬نايت‪� ..‬أنت تعلم‬ ‫ولكنه َ‬
‫�أنك �أكرث َمن �أثق به يف هذه القلعة‪� ،‬ألي�س كذلك؟»‬
‫‪ -‬هذا �شرف يل يا �أمريتي‪.‬‬
‫‪ -‬وتعلم �أين �أ�ستعني بك �أكرث من �أي �شخ�ص �آخر‪� ،‬صحيح؟‬
‫‪� -‬أعلم يا �أمريتي‪ ..‬و�آمل �أال �أخيب ظنك �أبدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬وتعلم �أنّ لك مكا ًنا مميزً ا يف قلبي‪� ..‬صحيح؟‬
‫‪94‬‬
‫مل يعلم َمب يرد‪ ..‬ولكنها مل تنتظر رده‪ ،‬تابعت‪« :‬لطاملا �أُعجبت‬
‫ب�أ�سلوبك الهادئ يف التعامل مع الأمور‪ ..‬وب�أفكارك الذكية يف التخطيط‬
‫وتوزيع الأموال‪� ..‬أُ ُ‬
‫عجبت بتفانيك من �أجل القلعة وبانحيازك �إىل‬
‫جانبي دائ ًما‪ ..‬يف كل يوم كنت �أجد �سب ًبا جديدً ا للإعجاب ب�شخ�ص‬
‫مثلك»‪.‬‬
‫توقف نايت للحظة وهو يدرك �أنهما قد جتاوزا اجلناح الذي يحوي‬
‫زنزانة �سي�سيل‪ ..‬ولكن �أوفيليا كانت توا�صل امل�سري‪ ..‬مل يعرف كيف‬
‫يقطع حديثها‪� ..‬سيكون من الوقاحة �أنْ يقاطعها وهي تتحدث عن‬
‫�إعجابها به!‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬لقد قررتَ �أين َمن ي�ستحق �إخال�صك يف هذه القلعة‪ ..‬وال تعلم‬
‫ﻜﺘ‬
‫كم مرة �شعرتُ باالمتنان العميق لك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حلت حلظات من ال�صمت قبل �أنْ يهم�س يف ارتباك‪« :‬هذا �أكرث‬


‫مما �أ�ستحق �أيتها الأمرية‪� ..‬أنا ال �أفعل �سوى واجبي»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مل ترد جوا ًبا‪ ..‬فانتظر حلظات �أخرى قبل �أنْ يردف‪�« :‬أمريتي‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫نحن نتجاوز زنزانة �سي�سيل‪ ..‬علينا �أنْ نعود»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ودُون �أنْ تلتفت �أو تتوقف �أجابت‪�« :‬أعلم‪ُ ..‬قلت لك ب�أين �أملك‬
‫خطة»‪.‬‬
‫تبعها‪ ..‬ومل يتحدثا حتى و�صال �إىل قمة الربج‪ ..‬كانت قمة الربج‬
‫حتوي زنزانة واحدة فقط‪ ..‬وكانت خالية‪.‬‬
‫وحني توقفت �أوفيليا والتفتت �إليه بوجهها املمتقع حز ًنا‪� ..‬سرت‬
‫فيه رع�شة رعب مل ي�شعر مبثلها يف حياته!‬
‫‪95‬‬
‫وقبل �أنْ يفتح فمه بال�س�ؤال‪ ،‬فوجئ بالرجال الذين يدفعونه دف ًعا‬
‫�إىل تلك الزنزانة‪ ،‬ثم يقيدون ذراعيه ورجليه ب�سال�سل ثقيلة �إىل‬
‫جدارها‪.‬‬
‫كانت �صدمته ت�شل ل�سانه‪ ..‬مل يعلم ما رد الفعل املنا�سب‪ ..‬هل‬
‫ينكر؟ ي�س�أل؟ يعرت�ض؟ ي�ستنجد؟! ولكنها �أجابت على كل �أ�سئلته‬
‫بينما ترمقه بتلك النظرة التي متزج احلزن والغ�ضب‪« :‬مل ولن �أن�سى‬
‫طعنتك يل �أبدً ا‪ ..‬ال فائدة من و�شم الن�سيان الذي و�ضعتَه على ظهر‬
‫رقبتي‪ ..‬ل�سوء حظك‪� ..‬أنا منيعة �ضد و�شوم الن�سيان»‪ ..‬ثم هم�ست‪:‬‬

‫‪n‬‬
‫«ل�ست بومة غافية‪ ..‬ال �أحد ينتف ري�شي»‪ .‬وابتعدت باخلطوات تاركة‬
‫ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫�إياه يف انتظار حلظات الأمل ال�شنيع‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جال�سا على الأر�ضية ال�صخرية‪ ..‬يهم بتناول وجبته‬


‫كان �سي�سيل ً‬
‫الأوىل بعد ثالثة �أيام من التجويع‪� ..‬شعر بالدماء جتري يف عروقه‬
‫ﺸﺮ‬

‫�سجانه لزيارته‬
‫جمددًا وبذلك ال�صداع القاتل ينجلي فج�أة‪ ..‬مل ي� ِأت ّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اليوم‪ ..‬ت�ساءل يف داخله عن ال�سبب‪ ..‬ولكن زيارة �أوفيليا حملت‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الإجابات‪.‬‬
‫رفع ناظره لريمق باب الزنزانة وهو ُيفتَح‪ ..‬ثم تدلف الأمرية التي‬
‫ال تخ�شى �شي ًئا وال ت�شمئز من �أي �شيء‪ ..‬ت�سري غري �آبهة بكونها تدو�س‬
‫على قذارات قد تكون دماء �أو ف�ضالت ب�شرية �أو قيء‪ ..‬وال تعت�صر لها‬
‫خلجة يف وجهها �إثر الرائحة املنفرة‪.‬‬
‫وقفت قبالته‪ ،‬فتوقف عن م�ضغ قطعة البطاط�س التي ملأت فمه‪..‬‬
‫وابتلعها كما هي‪..‬‬
‫‪96‬‬
‫قالت بوجه ال ي�شي ب�أي تعبري‪�« :‬سوف �أ�ساحمك على تطفلك»‪.‬‬
‫ارت�سم تعبري من ال�سخرية على وجهه وهو يجيب‪�« :‬سيكون هذا‬
‫لط ًفا ِ‬
‫منك �أيتها الأمرية»‪.‬‬
‫‪ -‬لكني �أريد منك ال�صمت يف املقابل‪ ..‬لن تف�ضح �س ّري‪.‬‬
‫أطلقت �سراحي؟‬
‫لك هذا �إنْ � ِ‬
‫‪ -‬وما الذي ي�ضمن ِ‬
‫‪� -‬أ�ستطيع م�ساعدتك يف �إيجاد الو�شم الذي ي�شفي �شقيقتك‬
‫�آيري�س من حالتها املر�ض ّية‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬‫‪ -‬وكيف �أ�ضمنُ هذا؟‬
‫‪ -‬لن ت�ضمن �شي ًئا‪ ..‬ولكن ما الأثمن بر�أيك؟ هل تف�ضل التخلي‬
‫ﻜﺘ‬

‫عن فر�صة �ضئيلة لعالج �شقيقتك مقابل ف�ضح �أمرية لن‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تنفعك ف�ضيحتها ب�شيء؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬بالطبع �أف�ضل االحتفاظ ب�أي فر�صة لعالج �آيري�س‪ ..‬ولكن‬


‫ﻭ‬

‫أنت ب�إطالق �سراحي؟‬


‫ملاذا تخاطرين � ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ارت�سمت ابت�سامة على وجهها وهي جتيبه‪« :‬لذات ال�سبب الذي‬


‫يجعلك جتادلني‪� ..‬أنت تث ّمن املعرفة �أكرث من �أي �شيء �آخر»‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي تق�صدينه؟‬
‫‪� -‬إنّ الو�شوم املحظورة �أ�شبه بتيار ال يلبث �أنْ يجرك �إىل‬
‫أيت �أحد هذه الو�شوم‪ ..‬و�ستلهث وراءها قري ًبا‬
‫�أعماقه‪ ..‬لقد ر� َ‬
‫ج ًّدا‪ ..‬ال �أرى الغباء يف عينيك‪ ..‬الأغبياء فقط من يدمرون‬
‫فر�صهم الذهبية من �أجل تدمري الآخرين‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫مل ت ِغب الده�شة عن وجهه‪..‬‬
‫عادت لرتدف‪�« :‬أنا ال �أ�ضيع �أي فر�صة جتعلني �أقوى‪ ..‬ولهذا‬
‫�س�أنتظرك‪� ..‬سرتحل من هذه القلعة و�ستدفن نف�سك يف غبار مكتبات‬
‫يل لنعمل م ًعا على‬ ‫ال�صومعة‪ ..‬وحني يحني الوقت املنا�سب‪� ،‬ست�أتي �إ َّ‬
‫�إيجاد �أ�شياء كثرية‪ ..‬و�سيكون �شفاء �آيري�س �أولها‪ ..‬ال �أ�ستطيع �أنْ‬
‫�أ َّد ِعي ب�أين �أحبها �أكرث مما حتبها‪ ..‬ولكن ثق ب�أنّ هذه الطفلة متلك‬
‫مواهب �أحتاجها ج ًّدا‪ ..‬ال �أ�ستطيع اال�ستغناء عنها مهما حدث»‪.‬‬
‫حلت حلظات �صمت قبل �أنْ تتابع‪�« :‬شرطي الوحيد هو �أنْ تكون‬

‫ﻋﺼ‬
‫�شخ�ص �آخر‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫�إىل جانبي‪ ..‬يف اللحظة التي �س�أجدك تقف �إىل جانب‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�سيكون موتك»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫حلرا�س ليف ّكوا �أغالله‪� ..‬أما �سي�سيل‪،‬‬


‫ا�ستدارت مبتعدة‪ ،‬وجاء ا ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فقد بد�أت جذوة ف�ضوله ت�شتعل بالفعل‪ ..‬لقد بد�أ يفهم �سبب ثقتها‬

‫‪n‬‬
‫به‪� ..‬إنه يرى �أين تكمن م�صلحته الآن‪� ..‬أين تكمن فر�صة عالج‬
‫ﺸﺮ‬

‫�آيري�س‪ ..‬عليه �أنْ ي�سكت�شف الإرث املحظور‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أخذت فيوال تكن�س الأر�ضية قبالة البيت الطيني املتهالك‪ ..‬كانت‬


‫قد �أعدت طعام الغداء وانتهت من جلب املياه وتنظيف املالب�س‪ ..‬مل‬
‫ت�سمح للعجوز ب�أداء �أي من مهام البيت‪ ..‬كانت تريد �أنْ تظهر مبظهر‬
‫الزوجة الرائعة يف عيني والدة �سي�سيل‪ ..‬وقد جنحت بالفعل‪.‬‬
‫و�ضعت املكن�سة جان ًبا حني ملحت �آيري�س اجلال�سة على البقعة‬
‫الطينية‪ ..‬تهم بر�سم �أ�شكال خمتلفة على الأر�ضية با�ستخدام عود‬
‫خ�شبي �أخذت تغر�سه يف الأر�ض وتلوث معه يديها ووجهها وثيابها‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫نظفت بيتكم القذر للتو‪ ..‬لن‬
‫ُ‬ ‫اقرتبت منها فيوال لتهم�س‪« :‬لقد‬
‫أنت بهذه احلالة!»‬
‫تدخلي �إىل الداخل و� ِ‬
‫مل ترد �آيري�س جوا ًبا‪ ،‬بل تابعت الر�سم‪ ..‬مل تتق�صد جتاهلها هذه‬
‫املرة‪ ،‬ولكن تركيزها كان من�ص ًبا على ما تر�سمه‪.‬‬
‫اقرتبت فيوال وقد ر�سمت تعب ًريا من اال�شمئزاز على وجهها‪« :‬ما‬
‫الذي تفعلينه؟! هل تظنني نف�سك طفلة ح ًقا؟! َمن يف عمرك يتزوجون‬
‫أنت ما تزالني تلعبني بالطني!»‬ ‫وينجبون � ً‬
‫أطفال و� ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ومل ي�أ ِتها جواب‪ ..‬فاقرتبت �أكرث‪ ..‬وارت�سمت على وجهها الده�شة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حني ر�أت الأ�شكال التي ارت�سمت على الأر�ضية الطينية‪ ..‬كان ً‬
‫خليطا‬
‫ﻜﺘ‬

‫من الأ�شكال الرباعية والنقاط امل�صطفة على نحو دقيق ي�صعب على‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أي طفل ‪�-‬أو بالغ‪� -‬أنْ يتقنه‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫تعلمت‬
‫ِ‬ ‫ك�شرت فيوال وهي ت�س�ألها‪« :‬ما هذه الأ�شكال؟ من �أين‬
‫ﻭ‬

‫هذا؟!»‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الآن فقط‪ ،‬جنحت يف جذب انتباه �آيري�س التي انتف�ضت خو ًفا‬


‫و�أخذت تطبطب على الأ�شكال لتخفيها‪.‬‬
‫علمك هذه الأ�شكال؟‬
‫ِ‬ ‫جثت فيوال قربها وعادت لت�س�أل‪«َ :‬من‬
‫�أجيبيني!»‬
‫‪ -‬ال �أحد!‬
‫ونه�ضت لتجري �إىل داخل البيت‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫نظفت البيت للتو!»‬
‫�صاحت فيوال‪« :‬توقفي! لقد ُ‬

‫‪n‬‬
‫ثم ان�صرفت بدورها للتظلم وال�شكوى عند والدة �سي�سيل‪.‬‬

‫يف قبو احل�صن القدمي‪ ..‬جل�ست ليالك برفقة املل ّث َمني بال�سواد‪..‬‬
‫بادرت باحلديث‪« :‬لقد نفذمت االتفاق‪ ..‬وحان دوري لأعطيكم �أجركم‬
‫من الذهب‪� ..‬أمل حتددوا �أجرتكم بعد؟»‬
‫قال �أحدهما‪« :‬الفو�ضى تعم ق�صر الرمال‪ ..‬واجلميع يبحث عن‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنت َمن‬
‫امللك وم�ست�شاره‪ ..‬كيف تنوين �إخماد هذه الفو�ضى؟ هل � ِ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�سيحكم اململكة؟»‬
‫ﻜﺘ‬

‫كنت َمن يحكم‪ ..‬هل تظن ب�أنّ �إيدن كان يحكم ح ًقا؟ كل‬
‫‪ -‬لطاملا ُ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ما كان يفعله هو تعطيل كل قرار ي�صب يف م�صلحة مملكته‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫أنت تريدين تن�صيب الأمري مي�ست مل ًكا‪.‬‬


‫‪ِ �-‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬وهل ترى هذا قرا ًرا �سي ًئا؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الأمري مي�ست منت�سب �إىل �صومعة الق�ضاة‪.‬‬


‫‪� -‬س�أتدبر الأمور �إىل حني عودته‪.‬‬
‫أنت‪..‬‬
‫حلت حلظات من ال�صمت قبل �أنْ يجيبها ب�صوته ال�صارم‪ِ �« :‬‬
‫�ضعيفة الذاكرة ج ًّدا»‪.‬‬
‫ارت�سمت تك�شرية ا�ستنكار على وجهها‪ ،‬فتابع‪�« :‬صومعة الق�ضاة‬
‫هي املكان الذي خرجنا منه‪� ..‬صومعة الق�ضاة هي امل�ؤ�س�سة التي‬
‫‪100‬‬
‫ننوي تدمريها‪ ..‬لقد مت نفينا �إىل هذه اململكة حتى ال تتاح لنا فر�صة‬
‫أنت تريدين تن�صيب �أحد املنت�سبني لها َم ِل ًكا!»‬
‫امل�سا�س بها‪ ..‬و� ِ‬
‫زفرت بعمق وهي تقول‪« :‬مي�ست مل يذهب �إىل هناك وال ًء لهم‪ ..‬بل‬
‫ذهب ليتعلم حتى ي�صبح مل ًكا حكي ًما»‪.‬‬
‫‪ -‬عودة مي�ست �ستكون بعد �سبع �سنوات يف كل الأحوال‪ ،‬ولكن‬
‫هناك �أمر �آخر ينبغي لنا �أنْ نذكرك به‪.‬‬
‫‪ -‬ذكرين به � ًإذا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬بعد �أنْ مت نفينا �إىل هذه اململكة‪ ..‬هناك َمن �شن علينا حر ًبا‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لأننا ن�شكل خط ًرا‪ ..‬هل تتذكرين هوية َمن بد�أ بت�صفيتنا‬
‫ﻜﺘ‬

‫حتى فقدنا ن�صف عددنا؟ هل تتذكرين ال�سبب وراء اختبائنا‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لن�صري منظمة �سرية من جمهويل الهوية؟‬


‫ﺸﺮ‬

‫ازدردت ليالك ريقها وهي ت�شعر بق�شعريرة خوف ت�سري فيها‪..‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت �أيتها امللكة ليالك! تظنني ب�أنّ �أوامرك كانت �سرية‬


‫تابع‪�« :‬إنه � ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ح ًقا؟! تظنني �أنّ البوم الهالك ال يعلم بهوية َمن ق�ضى على ن�صف‬
‫�سربه؟»‬
‫�أجابت يف هدوء و�صوت حاولت �أنْ يظهر احلزم فيه‪« :‬كان هذا‬
‫�إجراء �ضروري �ضد التهديد الذي جاء يطال مملكتي‪ ..‬ولكني �أدركت‬
‫بعدها �أنكم ال متثلون تهديدً ا وتركتكم يف حال �سبيلكم! لقد مرت‬
‫ع�شر �سنوات منذ هذه احلادثة‪َ ..‬مل تتحدث عنها الآن؟!»‬
‫أدركت ب�أننا نفوقك قوة ولهذا ترك ِتنا يف حال �سبيلنا‪.‬‬
‫‪ -‬بل � ِ‬
‫‪101‬‬
‫وا�ضحا يف عينيها‪َ ِ :‬‬
‫«ل‬ ‫ً‬ ‫نه�ضت ليالك واقفة وقد تبدى الغ�ضب‬
‫حتا�سبني على �أمر كهذا؟! لقد حدث هذا منذ زمن بعيد! نحن هنا‬
‫الآن من �أجل االتفاق الذي عقدناه ووافقتم عليه»‪.‬‬
‫نظرتك عنا �أبدً ا‪ ..‬كم مرة علينا �أنْ نخربك‬
‫ِ‬ ‫أنت ال تغريين‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ب�أننا ل�سنا قتلة م�أجورين؟ نحن نفعل ال�صواب �أيتها امللكة‪..‬‬
‫نحن ال نقتل من �أجل الذهب وحده!‬
‫‪ -‬ما الذي تريدونه � ًإذا؟!‬
‫‪ -‬نريد �إحقاق العدالة‪ ..‬وهذه العدالة تتجلى يف �أنْ يتم �إق�صا�ؤك‬
‫ﻋﺼ‬
‫أنت ومي�ست ِمن �أي �سلطة‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫� ِ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬لـ‪ ...‬ملاذا وافقتم على طلبي � ًإذا؟ َومن الذي �سيحكم اململكة؟!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ارت�سم تعبري من الده�شة والرعب على وجهها وهي ت�سمع �أ�صوات‬


‫ﺸﺮ‬

‫الأقدام القادمة على درجات القبو‪ ..‬وخالل حلظات‪ ..‬اقرتب �إيدن‬


‫وم�ست�شاره ووقفا يرمقانها بكراهية مل ت َرها من قبل!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫نه�ض امللثم واق ًفا‪ ،‬هم�س‪« :‬كان من ال�ضروري تدبري هذا ليت�سنى‬
‫للملك ر�ؤيتك على حقيقتك‪ ..‬هذا ي�ساعده على اتخاذ قرار �سليم ما‬
‫كان �سيتخذه حتت ظروف �أخرى»‪ ..‬ثم ا�ستدار ورفيقه من�صر َفني‪..‬‬
‫أنك‬
‫�أما �إيدن‪ ..‬فاقرتب منها ليقول يف غ�ضب وانك�سار‪« :‬ال �أ�صدق � ِ‬
‫عر�ضت الذهب لقتلي‪� ..‬أنا‪ ..‬ال �أ�صدق»‪.‬‬
‫ِ‬
‫�أجابت ب�صوت ي�شوبه الرعب‪�« :‬أنا‪ ..‬مل �آمر بـ‪ ..‬قتلك»‪.‬‬
‫تدخل ريجان‪« :‬امللكة ليالك يجب �أن ُتعا َقب»‪.‬‬
‫‪102‬‬
‫رد �إيدن ومل تفارق عيناه ليالك حلظة‪« :‬بالطبع‪ ..‬ال ميكن �أنْ متر‬
‫فعلة كهذه دُون عقاب»‪.‬‬
‫ا�ستدار من�صر ًفا وتبعه ريجان‪� ..‬أما ليالك‪ ..‬فظلت يف ذلك القبو‬
‫الذي جعله �إيدن �سج ًنا لها‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪103‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل السابع‬
‫اإلرث المحظور‬

‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬ويف قلعة القمم الدخانية‪ ،‬وقفت فيوال تنوح‬
‫على بوابة القلعة حتى ي�سمحوا لها مبقابلة الأمرية �أوفيليا‪ ..‬لقد‬

‫ﻋﺼ‬
‫حلقت ب�آيري�س ولكن الأخرية �سبقتها واختفت يف داخل القلعة‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫وحني �أدركت �أن ال �سبيل لل�سماح لها‪� ،‬أخذت تتو�سل �إىل املارة‬
‫ليو�صلوا ر�سالتها ‪-‬ال�شفهية طب ًعا‪� -‬إىل الأمرية‪ ..‬وبالفعل‪ ،‬وجدت َمن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يو�صل تلك الر�سالة‪ ..‬و�أدركت ب�أنها و�صلت حني جاء �أحد احلرا�س‬
‫ﺸﺮ‬

‫لي�صحبها �إىل الداخل ملقابلة �أوفيليا‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ويف بهو القلعة الوا�سع‪ ،‬وقفت قبالة الأمرية بينما ترتع�ش �أو�صالها‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كانت املرة الأوىل التي تزور فيها مكا ًنا كهذا‪ ..‬وزادت رهبتها �إثر‬
‫ر�ؤية الأمرية �أوفيليا‪ ..‬الآن تدرك �أنّ �سي�سيل مل ي� ِأت �إىل هنا من �أجل‬
‫العبث‪� ..‬أمرية كهذه ال ميكن العبث معها �أبدً ا‪.‬‬
‫اقرتبت منها الأمرية لتهم�س‪�« :‬أخربتني �إحدى اخلادمات ب�أنك‬
‫تعلمني �شي ًئا عن �شخ�ص ين�شر و�شوم القلعة»‪.‬‬
‫قالت فيوال ب�صوت مرجتف‪« :‬نـ‪ ..‬نعم‪ ..‬هـ‪ ..‬هناك خادمة تعمل‬
‫و�شوما غريبة يف كل مكان‪..‬‬
‫عندك‪ ..‬ا�سمها‪� ..‬آيري�س‪� ..‬إنها تر�سم ً‬
‫‪105‬‬
‫�إنها‪ ..‬ال تزور مكا ًنا �سوى القلعة‪ ..‬ولهذا‪ ..‬ظننت �أنّ من واجبي �أنْ‬
‫�أخربك بالأمر»‪.‬‬
‫لك �أنْ تهدئي ً‬
‫قليل؟ ِ َل كل هذا اخلوف؟ �أنا لن �أ�ؤذيك‪.‬‬ ‫‪ -‬هل ِ‬
‫أرجوك‪ ..‬ال تخربيه ب�أين‬
‫‪� -‬سي�سيل‪� ..‬سيقتلني �إنْ علم بالأمر‪ِ � ..‬‬
‫�أخربتك بالأمر!‬
‫‪� -‬سي�سيل؟‬
‫‪� -‬أنا‪ ..‬زوجته‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أوم�أت �أوفيليا تفه ًما‪ ،‬ثم عادت ت�س�أل‪« :‬ا�سمعيني‪ ..‬ال توجد هناك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�شوم تخ�ص القلعة‪ ..‬ولكن يبدو �أنّ �آيري�س ت�أثرت ً‬
‫قليل مبا تراه من‬
‫ﻜﺘ‬

‫نقو�ش وزخارف يف �أرجاء القلعة»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كنت‬
‫�شعرت فيوال بخيبة �أمل كبرية‪ ،‬لكنها قالت‪�« :‬أنا �أعتذر �إنْ ُ‬
‫ﺸﺮ‬

‫خمطئة �أيتها الأمرية‪ ..‬ولكني خلتُها مثل الو�شوم التي يدر�سها‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫جدا لأين �أ�ضعت وقتك الثمني!»‬


‫�سي�سيل‪� ..‬أنا �آ�سفة ًّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لكن‪ ..‬كيف قامت �آيري�س بن�شر هذه النقو�ش؟ هل متلك �أورا ًقا‬
‫وكت ًبا يف بيتها؟‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ولكنها تر�سمها على اجلدران بالطب�شور‪ ..‬وتقول ب�أنها‬
‫تعلمتها من قلعة القمم الدخانية‪ ..‬هناك من بد�أ بتقليدها يف‬
‫احلي‪ ..‬و�أخ�شى �أنْ متتلئ جدران احلي بها‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ تهم�س‪« :‬ال ميكن �أنْ ينجح �أحد‬
‫�أخذت �أوفيليا ً‬
‫يف تقليد �آيري�س‪ ..‬تعلمني �أنها متلك موهبة ر�سم عظيمة ال ي�ضاهيها‬
‫‪106‬‬
‫فيها �أحد‪ ..‬لقد و�صلت ر�سالتك‪ ..‬و�أمتنى �أنْ تغربي عن وجهي لأين‬
‫�أكره الكذب ج ًّدا»‪.‬‬
‫ات�سعت عينا فيوال رع ًبا وهي ترتاجع خطوة �إىل الوراء‪ ،‬ثم هم�ست‬
‫قبل �أنْ تبتعد‪�« :‬أنا �آ�سفة على ت�ضييع وقتك الثمني �أيتها الأمرية!‬
‫�ساحميني!»‬
‫ولكن �أوفيليا تابعت �سريها م�شيحة بب�صرها عنها‪ ..‬كانت واثقة‬
‫ب�أنّ �آيري�س تفي بوعودها دائ ًما‪ ..‬لقد وعدتها ب�أنها لن تخرب �أحدً ا عن‬
‫الو�شوم‪ ..‬من املُحال �أنْ تر�سم �آيري�س الو�شوم على جدران احلي كما‬

‫ﻋﺼ‬
‫َت ّدعي تلك الفتاة اله�ستريية الكاذبة‪ ..‬ولكنها تدرك � ً‬
‫أي�ضا �أنّ �آيري�س‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف احلقيقة طفلة‪ ..‬عقلها عقل طفلة يف الرابعة‪ِ ..‬ومن املحتمل �أنْ‬
‫ﻜﺘ‬

‫تكون قد �أف�شت عن الأمر دُون ق�صد‪ ..‬وما دامت هناك فتاة تنبهت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪n‬‬
‫أي�ضا‪ ..‬ولهذا‪� ،‬أخذت‬ ‫فمن املحتمل �أنْ يتنبه غريها � ً‬‫�إىل الو�شوم‪ِ ..‬‬
‫�أوفيليا تفكر يف حل ج ّدي ملنع احتمال كهذا‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ا�ستلقى �سي�سيل على ال�سرير اخل�شبي يف �إحدى حجرات العالج يف‬


‫�صومعة الق�ضاة‪ ..‬لقد مت االعتناء بجراحه دُون احلاجة �إىل ا�ستخدام‬
‫�أي و�شم‪ ،‬ولكنه كان يحتاج املزيد من الراحة للتعايف‪ ..‬جل�س �سريو�س‬
‫‪-‬معلمه‪ -‬جوار �سريره‪ ،‬قال بعد حلظات من ال�صمت‪�« :‬أنا ال�سبب‬
‫علي �أنْ �أورطك يف هذا الأمر»‪.‬‬‫فيما حدث لك‪ ..‬ما كان َّ‬
‫‪ -‬بل �أنا ممنت لك‪ ..‬و�س�أكون ممت ًنا �أكرث �إنْ �أخربتني �أكرث عن‬
‫الو�شوم املحظورة‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫بدت نظرة ا�ستنكار على وجه �سريو�س وهو يجيب‪« :‬ما الذي تقوله؟‬
‫من غري امل�سموح لك �أنْ ت�أتي بذكر هذه الو�شوم على ل�سانك‪ ..‬عليك‬
‫أيت وكل ما �سمعت!»‬
‫ان�س كل ما ر� َ‬
‫�أنْ تن�سى كل ما حدث‪ ..‬هل تفهم؟ َ‬
‫�سارحا‪ ..‬تلتمع يف عينيه نظرة تعلق‬
‫مل يرد �سي�سيل جوا ًبا‪ ..‬كان ً‬
‫وتوق‪..‬‬
‫هم�س �سريو�س يف غ�ضب‪« :‬عقاب َمن يعبث بالو�شوم املحظورة هو‬
‫الإعدام! هل تعلم هذا؟!»‬
‫‪ -‬ملاذا؟ ما القوة التي متلكها هذه الو�شوم حتى يتم حترميها‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫بهذا احلر�ص؟‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬إنها تفتح بوابة من بوابات اجلحيم‪ ..‬وحني تفتح لك تلك‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫البوابة‪� ..‬ستعربها كالأحمق لأنك تريد املزيد‪� ..‬ستود باملزيد‬


‫دائ ًما‪ ..‬ال ميكن �أنْ تكتفي من هذه الو�شوم‪� ..‬إنها وبال كفيل‬
‫ﺸﺮ‬

‫بتدمري العامل‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬لكني ال �أريد �سوى �شيء واحد‪� ..‬أريد �إيجاد عالج ل�شقيقتي‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�ست �أحمق‪ ..‬ولن �أعرب بوابات اجلحيم‪.‬‬‫�أنا ُ‬


‫‪ -‬الو�شوم التي نتعلمها لها �ضوابط وقواعد‪ ..‬نعرف حدود ما‬
‫نتعامل معه‪ ..‬ولكن الو�شوم املحظورة �أمر �آخر‪ ..‬ال قواعد يف‬
‫التعامل معها‪ ..‬ميكن �أنْ تدجمها لت�صبح �شي ًئا �آخر‪ ..‬ميكن‬
‫�أنْ ُتطبقها على اجلماد واحليوان وعلى �أكرث من ج�سد واحد‪..‬‬
‫ميكن �أنْ تطبقها على �أج�سام لي�ست يف جمال ب�صرك وال حتى‬
‫يف العامل الذي نعي�ش فيه! �إنها غري قابلة للت�صنيف‪ ..‬قوتها‬
‫‪108‬‬
‫تفوق قدرة �أي ب�شري على التحمل والتحكم‪ ..‬ال ت�ؤدي �إال �إىل‬
‫الهالك‪.‬‬
‫‪ -‬قوة كهذه ال ُب َّد �أنها كافية لعالج �شقيقتي‪.‬‬
‫‪ -‬هذه لي�ست قوة! بل فو�ضى �شيطانية عارمة‪ ..‬ال ميكن �أنْ‬
‫حتيط بهذا العلم! ال ميكن �أنْ متلك العقل الكايف! �سرتتكب‬
‫�أخطا ًء وتهلك قبل �أنْ جتد العالج الذي تبحث عنه‪.‬‬
‫عالجا حلالة‬
‫ً‬ ‫‪ -‬لكن الأمر ي�ستحق املحاولة‪ ..‬مل يجد �أحد‬
‫�شقيقتي با�ستخدام و�شوم ال�شفاء العادية‪ ..‬وال ميكن �أنْ �أجد‬
‫ﻋﺼ‬
‫�أنا العالج‪ ..‬فهذه الو�شوم حمدودة ولها قواعد �صارمة‪ ..‬ال‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ميكن �أنْ تفعل �أكرث مما مت تقديره‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫زفر �سريو�س بقوة وهو يقول يف �صرامة‪�« :‬سي�سيل!»‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ميكنني �أنْ �أعدك بعدم االقرتاب من هذه الو�شوم‪ ..‬ولكني‬


‫�س�أفعل يف غيابك‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أنت جتعلني �أ�شعر ب�أ�شد الندم لأين ظننت ب�أنّ من الإمكان‬
‫الوثوق بك‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أريدك �أنْ تندم‪� ..‬أريد �أنْ �أفعل هذا حتت �إ�شرافك‪� ..‬أريد‬
‫م�ساعدتك‪.‬‬
‫‪ -‬ال ميكنني م�ساعدتك‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أريد منك �أنْ تعلمني �أي �شيء‪ ..‬ما �أريده منك هو �أنْ �أبقى‬
‫اجنرفت دُون وعي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حتت رقابتك لتوقفني �إنْ‬
‫‪109‬‬
‫‪ -‬و�سرتيد مني �أنْ �أ�سمح لك باالطالع على املكتبات ال�سرية‬
‫� ً‬
‫أي�ضا‪� ..‬سرتيد مني �أنْ �أخرق قوانني ال�صومعة وكل مبادئي‬
‫وعهودي‪.‬‬
‫‪ -‬وهل �سترتكني �أبحث عن طريقة �أخرى من وراء ظهرك؟‬
‫‪ -‬لن �أفعل‪� ..‬أعلم مدى عنادك‪.‬‬
‫‪ً � -‬إذا‪� ،‬أنت موافق على خرق القوانني من �أجلي‪.‬‬
‫وعلي قتلك �إنْ ر�أيتك مو�ش ًكا على عبور بوابة اجلحيم‪.‬‬
‫‪َّ -‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ارت�سمت ابت�سامة على وجه �سي�سيل وهو يقول‪�« :‬شك ًرا»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أنا ال �أمزح‪� ..‬س�أقتلك بيدي دُون تردد �إنْ لزم الأمر‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أعلم‪ ..‬ولهذا �أ�شكرك‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫حلت وهلة من ال�صمت‪ ،‬ع�صفت فيها الأفكار بر�أ�س �سريو�س‪ ..‬هو‬


‫ﻭ‬

‫مل يوافق على قرار كهذا لأن �سي�سيل �أجربه‪ ..‬ففي داخله‪ ،‬تكمن ذرة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫من الت�شجيع لدفع �سي�سيل التخاذ هذا القرار‪ ..‬كل ما يف الأمر هو �أنه‬
‫مل ي ُكن يريد �أنْ يتحمل ذنبه‪ ..‬مل ي ُكن يريد �أنْ يحكم عليه بالهالك‬
‫بنف�سه‪� ..‬أما الآن‪ ،‬فيمكنه �أنْ يتنف�س ال�صعداء لأنه مل يحكم على‬
‫�سي�سيل باملوت‪ ..‬ف�سي�سيل اختار الأمر بنف�سه‪� ..‬صحيح �أنه �سينق�ض‬
‫القوانني‪ ،‬ولكنه �سيفعل هذا مل�صلحة ال�صومعة‪� ..‬سيكون �سي�سيل هو‬
‫الأداة التي �سيتمكنون خاللها من فر�ض املنع على الو�شوم املحظورة‪..‬‬
‫فكيف ميكن �أنْ يتم القب�ض على َمن يجيد هذه الو�شوم دُون اال�ستعانة‬
‫َمبن يفهمها؟ رمبا كان من املُحال �أنْ يقدر فرد عادي على مواجهة‬
‫‪110‬‬
‫‪n‬‬
‫الأمرية �أوفيليا والقب�ض عليها متلب�سة بجرميتها‪ ..‬ولهذا‪ ،‬ال ُب َّد �أنْ‬
‫ي�شرف على جتنيد َمن يقدر على ذلك‪.‬‬

‫ت�ستطع �أوفيليا تفادي بري�شيليا التي جاءت لتقطع طريقها‪،‬‬


‫مل ِ‬
‫متطرها بنظراتها الغا�ضبة‪ ..‬بادرت حديثها ب�س�ؤال مبا�شر‪�« :‬أين‬
‫هو؟»‬
‫�أطلقت �أوفيليا زفرة عميقة قبل �أنْ جتيب‪�« :‬أمريك الذي مل ينجح‬
‫يف قتلي؟ �إنه يتعفن‪ ..‬اذهبي وابحثي عنه يف برج ال�سال�سل»‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أر�سلت من يبحث عنه بالفعل‪ ..‬ومل يجدوا له �أث ًرا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد � ُ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬كما تعلمني‪ ..‬لقد ق�ضيت الأيام املن�صرمة �أحت�ضر يف فرا�شي‪..‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ِمن ال�صعب �أنْ �أراقبه و�أنا �أحت�ضر‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬لقد اختفى اليوم! �أي بعد نهو�ضك من مر�ضك الكاذب‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ارت�سمت ابت�سامة على وجه �أوفيليا وهي تقول‪« :‬رمبا ذهب �إىل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫القرب � ًإذا»‪.‬‬
‫ت�ستطع �أنْ تتفادى ال�صفعة التي لفحت خدها‪.‬‬
‫ومل ِ‬
‫أنت تتذكرين‬
‫�أخذت بري�شيليا ت�صيح‪�« :‬أجيبيني! ما الذي فعلته؟! � ِ‬
‫تهديدي ال�سابق‪� ،‬صحيح؟ �س�أخنقك يف نومك! �س�أخنقك!»‬
‫و�ضعت �أوفيليا يدها على خدها امللتهب وهي ترمق �شقيقتها‬
‫الهائجة بنظرات هادئة تختزن الكثري‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫هم�ست‪« :‬حاويل»‪ ،‬ثم تنحت جان ًبا وابتعدت‪.‬‬
‫�أما بري�شيليا‪ ،‬فابتعدت م�سرعة �إىل جناحها‪ ،‬تلحق بها و�صيفتها‬
‫املرتعدة ‪-‬كالعادة‪ -‬وهناك‪ ،‬جتازوت ال�صندوق الذي فا�ض باخليوط‬
‫الذهبية‪ ..‬دُون �أنْ تلقي له ً‬
‫بال‪.‬‬
‫بادرت �إيفي باحلديث لتخفف من انفعالها‪« :‬لقد و�صلت الدفعة‬
‫الأوىل من خيوطك الذهبية يا �أمريتي‪ ..‬هل �آمر اخلادمات ب�إح�ضار‬
‫القما�ش و�إبر التطريز؟»‬
‫أنت!‬
‫‪ -‬ال �أريدها! خذيها � ِ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اقرتبت منها �إيفي لتقول يف هدوء‪« :‬ما تفعلينه خاطئ يا �أمريتي‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫أنت ال تالحظني ت�صرفاتك»‪.‬‬ ‫� ِ‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أجابتها بري�شيليا يف غ�ضب‪�« :‬أوفيليا ت�ستحق ما هو �أكرث من تلك‬


‫ﺸﺮ‬

‫ال�صفعة!»‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أنت تعطينها �أ�سبا ًبا‬


‫‪� -‬أوفيليا �ست�صبح امللكة يا �أمريتي‪ِ � ..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫لأذيتك حني متلك القوة‪.‬‬


‫مل ترد جوا ًبا‪ ..‬كانت تعلم مدى �صحة هذا‪ ..‬ولكنها كانت من‬
‫النوع الذي يخطو اخلطوة وال يفكر باخلطوة التي تليها‪.‬‬
‫فر�صتك مع الأمري مي�ست؟ �أنا ال �أ�صدق‬
‫ِ‬ ‫أ�ضعت‬
‫تابعت �إيفي‪« :‬كيف � ِ‬
‫فعلت»‪.‬‬
‫ما ِ‬
‫متغطر�سا ولئي ًما‪� ..‬أنا �أكره ه�ؤالء املنمقني‪� ..‬أكرههم‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬بدا يل‬
‫‪112‬‬
‫أنك الأكرث‬
‫‪ -‬عندما يقارنك الآخرون بالأمرية �أوفيليا‪ ..‬يرون � ِ‬
‫تنم ًقا‪.‬‬
‫حلت حلظة �صمت قبل �أنْ ت�س�ألها بري�شيليا‪« :‬هل �أنا‪ ..‬متناق�ضة‬
‫ح ًقا؟»‬
‫أنت �شديدة التناق�ض‪ ..‬وهذا ما قد ي�ستغله‬
‫‪ -‬نعم يا �أمريتي‪ِ � ..‬‬
‫�أعدا�ؤك‪.‬‬
‫‪ -‬لكني ال �أ�شعر ب�أين متناق�ضة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫أنك ال ترين نف�سك يا �أمريتي‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪-‬ل ِ‬
‫قالت بنظرة �سارحة‪« :‬ما �أ�شعر به‪ ..‬هو �أين كنت �ضائعة‬
‫ﻜﺘ‬

‫ومتخبطة‪ ..‬مل �أ ُكن واثقة ح ًقا مما كنت �أريده‪ ..‬يف داخلي‪ ..‬كنت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أعرف �أين خمطئة‪ ..‬ولكني مل �أ ُكن �أجر�ؤ على االعرتاف‪ ..‬الآن‬


‫ﺸﺮ‬

‫فقط‪� ..‬أعلم ما الذي �أريده ح ًقا»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬وما الذي تريدينه؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أريد �أنْ �أكت�شف عامله‪ ..‬ذلك ال�شاب الب�سيط‪� ..‬أريد �أنْ �أحتدث‬
‫معه‪� ..‬أريد �أنْ �أعرف كيف يعي�ش حياته الب�سيطة‪.‬‬
‫تابعت بعد حلظة �صمت‪�« :‬صرت �أكره العي�ش يف هذه القلعة بعد‬
‫ر�ؤيته‪� ..‬أ�شعر ب�أين ال �أعي�ش احلياة على حقيقتها»‪.‬‬
‫‪ -‬هل تظنني ب�أنّ حياته ب�سيطة ح ًقا يا �أمريتي؟ حياته �أكرث‬
‫تعقيدًا من حياتك مبراحل‪ ..‬جميع الب�سطاء يعي�شون حياة‬
‫معقدة‪� ..‬إنهم يفكرون يف �أمور تظنينها ُو ِجدت مبح�ض‬
‫‪113‬‬
‫يوما يف كيفية احل�صول على‬
‫فكرت ً‬
‫الفطرة �أو ال�صدفة‪ ..‬هل ِ‬
‫قوت يومك؟ هذا �أب�سط مثال‪.‬‬
‫لكنك مل تنظري �إىل عينيه يا �إيفي‪� ..‬إنه خمتلف‪ ..‬ذلك العمق‬
‫‪ِ -‬‬
‫يف عينيه‪ ..‬ال �أعرف كيف �أ�صفه‪.‬‬
‫‪ -‬جميع الفقراء ميلكون مثل تلك النظرة يا �أمريتي‪ ..‬كل‬
‫أنك مل حتدقي يف عيونهم مبا يكفي‪ ..‬و�أنا‬ ‫ما يف الأمر هو � ِ‬
‫إليك‪،‬‬
‫�أتفهم �سبب اجنذابك �إليه‪ ..‬لقد �ش ّدك لأنه مل يلتفت � ِ‬
‫بك‪ ..‬قد‬ ‫يبال بجمالك بينما كان اجلميع يحدقون ِ‬ ‫�صحيح؟ مل ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫يكون ت�صرفه هذا غري ًبا ولكنه لي�س مرب ًرا لردة فعلك املبالغ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فيها‪ ..‬رمبا كان قد جاء �إىل القلعة تار ًكا والدته �أو �شقيقته‬
‫ﻜﺘ‬

‫جوعا‪ ..‬ولهذا كان �شاردًا يفكر يف كيفية تدبر قوت‬ ‫تت�ضور ً‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ولكنك �أمرية‪..‬‬
‫ِ‬ ‫عائلته‪ ..‬ال ُب َّد �أنه يعي�ش حياة معقدة ح ًقا‪..‬‬
‫أنت يف م�ستوى يفوق م�ستواه مبراحل‪ ..‬ال ميكنك �أنْ تنحدري‬ ‫� ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إىل تعقيدات حياة الب�سطاء!‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ال �أ�ستطيع‪ ..‬كلما تذكرته‪� ..‬أ�شعر بقلبي ينقب�ض حز ًنا‪ ..‬ال‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ميكنني �أنْ �أجتاهله‪.‬‬


‫‪ -‬هل تظنني �أنه �سريحب بك ويبادلك الإعجاب؟ �أهناك َمن‬
‫ُيعجب مبن يراه �سب ًبا ل�شقائه وتعا�سته؟ جميع الفقراء ي�ؤمنون‬
‫يف داخلهم ب�أنّ الأغنياء هم �سبب فقرهم‪ ..‬لو كانوا قد تخلوا‬
‫عن بع�ض �أموالهم ملا �صار هناك تفاوت يف الرثوات‪� ..‬أنا من‬
‫هذه الطبقة يا �أمريتي و�أعرف كيف يفكرون‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫‪� -‬أنا ال �أريده �أنْ ُيعجب بي‪.‬‬
‫أنك ترغبني‬
‫يقحمك يف حياته ويفتح لك قلبه ل ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬تريدين �أنْ‬
‫بك يا �أمريتي‪� ..‬إنه لي�س �سبيكة‬
‫يف ذلك وح�سب‪ ..‬لن يرحب ِ‬
‫ميكنك �أنْ تتوقعي �أنْ يحدث‬
‫ِ‬ ‫ب�شري‪ ..‬وال‬
‫ذهب متتلكينها! �إنه ّ‬
‫أنك ترغبني بذلك! ال تفكري كما يفكر �أغلب‬ ‫ما تريدين ل ِ‬
‫الأغنياء‪.‬‬
‫حلت وهلة من ال�صمت مل تعرف بري�شيليا كيف تخرقها‪ ..‬ولكن‬
‫التعبري املرت�سم على وجهها كان ي�شي بال�ضياع امل�شوب باحلزن‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫عليك �أنْ تدركي �أنّ‬
‫أرجوك‪ِ ..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ربتت �إيفي على كتفها وهي تهم�س‪ِ �« :‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ال جدوى من هذا التفكري»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ح�س ًنا‪� ..‬س�أحاول جتاهله‪ ..‬ولكني �أريد �أنْ �أطمئن �أنه بخري‬
‫ﺸﺮ‬

‫� ًأول‪ ..‬ال �أدري ما الذي حدث له بعد حادثة �أوفيليا‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عليك �أنْ تتجاهلي هذا � ً‬


‫أي�ضا‪.‬‬ ‫‪ِ -‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أح�ضري ري�شتي وعدة الكتابة‪� ..‬س�أكتب ر�سالة �إىل‪� ..‬صومعة‪..‬‬


‫ماذا كان ا�سمها؟‬
‫‪� -‬صومعة الق�ضاة‪.‬‬
‫قالتها وهي تنه�ض لتح�ضر ما �أمرت به بري�شيليا‪ ..‬رغم املخاطرة‪،‬‬
‫ف�إنّ �إيفي كانت �سعيدة ب�أنّ بري�شيليا اكتفت بر�سالة ً‬
‫عو�ضا عن‬
‫الذهاب بنف�سها‪ ..‬ومل تعلم ب�أنّ هذه الر�سالة كانت البداية‪ ..‬بداية‬
‫‪115‬‬
‫‪n‬‬
‫النخراط بري�شيليا يف �أمور �أكرب منها و�أكرث تعقيدً ا من �أي �شيء م�ضى‬
‫يف حياتها‪.‬‬

‫حني عادت فيوال �إىل القبو‪ ..‬وجدت �سي�سيل‪ ..‬يجل�س يف �إحدى‬


‫الزوايا منهم ًكا يف الكتاب الكبري الذي فر�شه على طاولة خ�شبية‬
‫�صغرية قبالته‪.‬‬
‫يبد �أي رد فعل‪ ..‬بل تابع قراءته‪.‬‬
‫تنبه �إىل قدومها‪ ،‬ولكنه مل ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫�صاحت وهي تندفع نحوه‪�« :‬سي�سيل! لقد ا�شتقت �إليك! ال �أ�صدق‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�أنك قد عدتَ �أخ ًريا!»‬
‫ﻜﺘ‬

‫كانت تر�سم ابت�سامة بلهاء على وجهها‪ ..‬بينما تكاد عيناها تذرف‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الدمع ‪-‬الذي تذرفه يف كل يوم دُون انقطاع‪-‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫رفع ب�صره جلزء من اللحظة قبل �أنْ يعيده �إىل كتابه‪ ..‬ومل يرد‬
‫جوا ًبا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫عادت لتقول بنربة �أعلى‪�« :‬أهكذا ت�ستقبلني؟! ملاذا تتجاهلني؟‬


‫�أخربتك ب�أين ا�شتقت لك كث ًريا!»‬
‫هم�س‪�« :‬أ�ستقبلك كما ودِّع ِتني‪ ..‬ما الذي يثري غرابتك؟»‬
‫َ‬
‫ودعتك بدموعي‬ ‫�صمتت للحظة قبل �أنْ تقول ب�صوت مهزوز‪« :‬لقد‬
‫لأين مل �أ ُكن �أحتمل فكرة غيابك!»‬
‫أنت واثقة؟ ما‬
‫رفع ر�أ�سه ليت�أملها للحظة قبل �أنْ ي�س�ألها‪« :‬هل � ِ‬
‫�أتذكره هو �أننا كنا نت�شاجر»‪.‬‬
‫‪116‬‬
‫‪ -‬ملاذا تتهمني ب�أنني كنت �أ�شاجرك؟ �أنت من دفعني بقوة‬
‫ت�سببت يل بكدمة كبرية على كتفي‪.‬‬
‫َ‬ ‫لأ�سقط � ً‬
‫أر�ضا! لقد‬
‫�أطلق زفرة عميقة وهو يهم�س‪« :‬حالتك تتفاقم �سو ًءا‪ ..‬رمبا كان‬
‫من الأَ ْوىل �أنْ �أبد�أ بالبحث عن عالج حلالتك‪ ..‬من الوا�ضح �أنها �أكرث‬
‫خطورة من حالة �آيري�س»‪.‬‬
‫تبدلت مالمح وجهها لريت�سم الغ�ضب عليها‪« :‬والآن تقارنني بتلك‬
‫البلهاء؟!» ثم ا�ستدارت لتدفن وجهها يف كفيها باكية‪.‬‬
‫مل يرد جوا ًبا‪� ،‬صار قاد ًرا على جتاهلها بكفاءة‪ ..‬وقاد ًرا على‬
‫ﻋﺼ‬
‫الرتكيز فيما يقر�أ رغم �صوت بكائها‪ ..‬كان واث ًقا ب�أنّ جتاهله �إياها‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يغذي كراهيتها له ‪-‬رغم �أنه ال ميلك و�سيلة �أخرى للتعامل معها‪-‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ولكنه مل يتوقع �أنْ ما فعله للتو �سيدفعها �إىل اتخاذ قرار جديد هذه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املرة‪ ..‬لقد قررت �أنه يحتاج �إىل بع�ض التهذيب‪ ..‬و�ستبد�أ يف البحث‬
‫ﺸﺮ‬

‫عن ثغرة‪ ..‬لديها كل الوقت لتق�ضي �أيامها بح ًثا عن خط أ� ُيعاقب‬


‫ﻭ‬

‫عليه‪ ..‬يجب �أنْ يف�شل يف �إيجاد العالج الذي يبحث عنه‪ ..‬يجب �أنْ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪n‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ُيطرد من ال�صومعة‪ ..‬يجب �أنْ ُيلقى يف زنزانة القلعة‪ ..‬هكذا فقط‬


‫�ست�شعر باالرتياح بعد �إهاناته لها‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫االختفاء‬

‫مرت عدة �أيام‪ ،‬تنازلت فيها ليالك عن كربيائها لتقرر احلديث‬


‫�إىل حار�س زنزانتها‪ ..‬كان عنيدً ا وجبا ًنا‪ ..‬يخ�شى التواط�ؤ معها‬

‫ﻋﺼ‬
‫مثلما يخ�شى جتاهلها‪ ..‬ولكن الدقائق التي كان يفتح فيها باب القبو‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪-‬لإي�صال طعامها‪� -‬صارت تطول �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ..‬ويف النهاية‪� ،‬أقنعته‬
‫ﻜﺘ‬

‫بالقيام ُمبهمة �صغرية ل�صاحلها‪ُ ..‬مهمة ما كانت لتقدر عليها لو‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كانت يف القلعة‪ ..‬لقد طلبت منه �أنْ ي�أتيها بعدة كتابة و�أنْ يتوىل مهمة‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إر�سال ر�سالتها �إىل �صومعة الق�ضاة‪ ..‬وحتديدً ا‪� ،‬إىل الأمري مي�ست‪..‬‬
‫تخربه فيها ب�أنها تتعفن يف قبو معزول بينما يعيث �إيدن وريجان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ف�سادًا يف اململكة‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ومل ت ُكن تلك ر�سالتها الوحيدة‪ ..‬فقد جنحت يف جعل حار�سها‬


‫ً‬
‫مر�سال لها‪ ..‬وكان الو�سيلة التي تلقت بها ر�سالة من مي�ست �أخ ًريا‪..‬‬
‫تعجبت ل�سرعة و�صول الرد‪ ،‬ولكن تعجبها تال�شى حني همت بالقراءة‬
‫لتدرك �أنّ هذا لي�س ردًا‪ ..‬لقد �أر�سل مي�ست هذه الر�سالة قبل �أنْ‬
‫وعو�ضا عن التعجب‪ ،‬ارت�سم على وجهها تعبري من‬ ‫يتلقى ر�سالتها‪ً ..‬‬
‫الرعب وهي تقر�أ كلماته‪..‬‬

‫‪119‬‬
‫�إىل امللكة ليالك‪..‬‬
‫�أكتب هذه الر�سالة بكل ما يف الأمر من خماطرة لأين �أثق ب�أنك‬
‫الوحيدة القادرة على الت�رصف بحكمة‪.‬‬
‫احلدادين‪ ..‬مفادها ب�أنه يعمل على‬ ‫لقد �سمعت �إ�شاعة عن رئي�س ّ‬
‫ت�صميم دروع قوية قادرة على مقاومة احلرارة العالية‪ ..‬مملكة القمم‬
‫نادرا‪ ..‬قد ترين �أين �أتوهم‪ ،‬ولكني ال‬ ‫الدخانية ال ترى ال�شم�س �إال ً‬
‫�أخطئ يف هذه الأمور‪ ..‬هناك خمطط لغزو مملكتنا‪ ..‬عليكِ � ْأن تفعلي‬
‫كل ما يف و�سعك لإعادة تهيئة اجلنود‪ ..‬وعليكِ � ْأن تفعلي هذا مب�ساعدة‬

‫‪n‬‬ ‫ﻋﺼ‬
‫ريجان‪ ..‬عليه � ْأن ير�ضخ ويفهم‪ ..‬يجب � ْأن جنهز دفاعاتنا‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف �صومعة الق�ضاة‪ ،‬ويف �أحد الأقبية‪ ..‬جل�س �سي�سيل وحيدً ا‪،‬‬
‫حماطا ب�أكوام من الكتب �شبه املهرتئة‪ ..‬لقد مر �شهر كامل منذ‬ ‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أنْ اتخذ قراره با�ستك�شاف الإرث املحظور‪ ..‬والآن‪� ،‬صار يدرك ب�أنّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حماولة الإم�ساك ب�أطراف هذا العلم �شبه م�ستحيلة‪ ..‬فكلما حاول‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أي�ضا ي�ؤمن ب�أنه على الطريق‬‫الإم�ساك بخيط �أفلت �آخر‪ ..‬ولكنه كان � ً‬
‫ال�سليم‪ ..‬عليه �أنْ يت�شتت و�أنْ يف�شل‪ ..‬هذه مراحل ال ُب َّد منها‪ ..‬ما يهم‬
‫هو ال�صرب واال�ستمرار‪.‬‬
‫مل ي ُكن يعكر �صفوه �سوى ر�سائل بري�شيليا التي تكاثرت يف الآونة‬
‫الأخرية‪ ..‬يف كل مرة كان يعود لبيته يجد ر�سالة منها‪ ..‬مل ت ُكن فيوال‬
‫جتيد القراءة‪ ،‬ولكن نظرات عيونها املت�شككة مل تغب عنه وهو ميزق‬
‫الر�سائل بعد قراءتها‪.‬‬
‫‪120‬‬
‫جميعها كانت ر�سائل بال معنى ‪-‬بر�أيه‪ -‬ت�س�أله عن �أحواله و�إنْ كان‬
‫ب�صحة جيدة‪ ..‬مل يرد �أي جواب‪ ..‬وكان يت�ساءل يف داخله عن ال�سبب‬
‫الذي يجذب البلهاوات �إليه‪.‬‬
‫ولكن هذا مل ي ُكن ر�أي فيوال التي �صارت تراقبه دُون كلل‪ ..‬ترت�صد‬
‫لكل حركة من حركاته‪ ..‬حتاول ا�سرتجاع ما كانت تتعلمه يف درو�س‬
‫القراءة لتعرف ماذا يفعل! ت�شتم غباءها و�إهمالها وتعيد املحاولة‪..‬‬
‫وكرثت املرات التي كان ي�أتي ليجدها حتملق يف كتبه و�أوراقه‪ ..‬ولكنه‬
‫مل ي ُكن يلقي لها ً‬
‫بال‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل ي ُكن يلقي ً‬
‫بال لأي �شيء �سوى كتبه‪ ..‬حتى تلقى تلك الر�سالة من‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأمرية ‪-‬التي �سماها يف داخله بالأمرية البلهاء‪-‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سي�سيل‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال �أعلم ِ َل ال ترد على �أي من ر�سائلي‪ ..‬ولكني �أظن ب� ّأن هذا الأمر‬
‫ﺸﺮ‬

‫أر�سلت خادمة تتفقدها يف‬‫يهمك‪� ..‬شقيقتك �آيري�س مفقودة‪ ..‬لقد � ُ‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بيتها‪ ..‬ولكن والدتك �أخربتها ب� ّأن �آيري�س مل َت ُعد �إىل البيت منذ ع�رشة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أيام‪ ..‬لقد خرجت ُدون عودة‪.‬‬


‫تلك الر�سالة‪ ،‬كانت ما َق َلب �أفكاره وم�شاعره ر� ًأ�سا على عقب‪..‬‬
‫تال�شت مالمح الالمباالة ليحل حملها تعبري من الغ�ضب امل�شوب‬
‫باخلوف‪ ..‬كيف ميكن �أنْ تختفي طفل ٌة معدومة ال يبايل بها �أي ل�ص �أو‬
‫خمتطف؟! كانت نظراته كفيلة ب�إ�شعال الف�ضول يف فيوال التي اقرتبت‬
‫لت�س�أله يف قلق‪« :‬ماذا حدث؟! َمل �أنت غا�ضب؟»‬

‫‪121‬‬
‫أخذت الطعام �إىل �آيري�س ليلة‬ ‫�أجابها ب�س�ؤال فاج�أها‪« :‬هل � ِ‬
‫البارحة؟»‬
‫جاء ردها فور ًيا‪« :‬بالطبع! �أنا �آخذ الطعام �إىل هناك يف كل يوم!»‬
‫أيت �آيري�س؟‬
‫‪ -‬هل ر� ِ‬
‫هنا‪� ،‬أح�ست ب�أنّ هناك ما يريب يف �س�ؤاله‪ ،‬ف�أجابت‪« :‬مل �أرها‬
‫ليلة البارحة‪ ..‬هل حدث �شيء ما؟»‬
‫‪ -‬متى كانت �آخر مرة ر�أي ِتها فيها؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أجلمها �س�ؤاله‪ ..‬ومل تعرف ما اجلواب الأن�سب حتى ال تف�ضح‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫كذبتها‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫عاد لي�س�أل‪« :‬متى ر�أي ِتها �آخر مرة؟»‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تعجبت من نفاد �صربه‪� ،‬أجابت مت�أتئة بينما تتهي�أ دموعها‪« ،‬لـ‪..‬‬


‫ال �أتذكر»‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫�شتمتك‬
‫ِ‬ ‫‪� -‬أنا �أتذكر‪� ..‬أخرب ِتني قبل ثالثة �أيام ب�أنّ �آيري�س‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وقامت ب�سكب احل�ساء على ثيابك لأنه �سيئ املذاق‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لقد �أريتُك ثوبي املت�سخ!‬


‫‪ -‬هذا لي�س اجلواب الذي �أبحث عنه‪.‬‬
‫تراجعت خطوات عدة �إىل الوراء بينما �أجلمها اخلوف واحلرية‪.‬‬
‫كنت‬
‫عاد ليقول ب�صرامة‪�« :‬آيري�س مفقودة منذ ع�شرة �أيام‪ ..‬لقد ِ‬
‫تكذبني‪ ..‬مل ت�أخذي الطعام �إليها ومل تريها ومل ت�سكب احل�ساء على‬
‫ثوبك»‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫�أربكتها نربة احلزم تلك‪ ..‬مل ت ُكن قد �سمعتها منه م�سب ًقا‪ ..‬وكانت‬
‫كفيلة ب�إطالق �شالل الدموع‪.‬‬
‫وكان يدرك ب�أنّ ال جدوى من اجلدال معها‪ ..‬رغم رغبته بعقابها‪،‬‬
‫خارجا م� ً‬

‫‪n‬‬
‫ؤجل ذلك‪ ..‬واجته مبا�شرة �إىل معلمه‬ ‫ً‬ ‫لكنه ان�صرف‬
‫العجوز‪� ..‬سريو�س‪.‬‬

‫ا�ستنكر �سريو�س نظرات �سي�سيل الغا�ضبة وهو يطلب منه م�ساعدته‬


‫على الت�سلل �إىل خارج ال�صومعة‪..‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�صارما‪« :‬لن تخرج من ال�صومعة»‪.‬‬
‫كان رده ً‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أخربتك ب�أنّ �شقيقتي ال�صغرية مفقودة‪ ..‬يجب �أنْ �أذهب‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫للبحث عنها‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫حار�سا يقف‬
‫‪� -‬أنا ال �أ�ستطيع م�ساعدتك! �أال تفهم؟ �أال ترى كم ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫على البوابات اخلارجية؟!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬س�أجنح بتجاوزهم �إنْ ح�صلت على ت�صريح منك!‬


‫‪َ -‬ومن قال ب�أنك �ستقنعني يف كتابة هذا الت�صريح؟ لن تخرج!‬
‫هذا هو القانون الأكرث �صرامة هنا‪ ..‬لن تعرب البوابات!‬
‫‪ -‬ماذا �إنْ كانت �شقيقتي يف خطر؟ ما الفائدة من وجودي هنا؟‬
‫�أنا مل � ِآت �إىل هذه ال�صومعة �إال من �أجلها!‬
‫‪ -‬ميكنني التدبر يف �إر�سال َمن يبحث عنها‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫‪ -‬يجب �أنْ �أبحث عنها بنف�سي‪.‬‬
‫�أخذ �سريو�س �شهي ًقا عمي ًقا قبل �أنْ يردف‪« :‬خروجك من ال�صومعة‬
‫وافقت على م�ساعدتك يف درا�سة الكتب املحظورة‬ ‫ُ‬ ‫مرفو�ض‪ ..‬لقد‬
‫ويجب �أنْ ت�شكرين ‪-‬على الأقل‪ -‬با�ستكمال ما بد�أتَ به‪ ..‬لن تقدر‬
‫عمل تبد�أه يف حياتك �إنْ �سمحت لنف�سك باختالق‬ ‫على ا�ستكمال �أي ٍ‬
‫الأعذار»‪.‬‬
‫‪ -‬اختالق الأعذار؟ �أترى اختفاء �شقيقتي جمرد عذر اختلقتُه؟!‬
‫‪� -‬صحيح �أنه عذر قوي‪ ..‬لكنه جمرد عذر‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬قد يبدو لك كعذ ٍر ولكنه �أولويتي‪� ..‬شقيقتي �أكرث �أهمية من‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ال�صومعة مبا فيها‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أخف�ض �صوتك والتزم ب�آداب احلديث مع َمن يكربك يف ال�سن‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫والعلم واحلكمة‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ا�ستدار �سي�سيل وهو ينوي اخلروج بعدما بد�أ بالي�أ�س من ا�ستجابة‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�سريو�س ملطلبه‪ ..‬ولكن الأخري ا�ستوقفه‪�« :‬إىل �أين �أنت ذاهب؟»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ال �ش�أن لك‪.‬‬


‫‪ -‬بل هو �ش�أين‪ ..‬و�ستذهب �إىل حيث �أر�شدك‪.‬‬
‫‪ -‬لن �أبقى يف ال�صومعة‪ ..‬مهما كانت عقوبتي ومهما كانت‬
‫�أوامرك‪.‬‬
‫‪ -‬رغم وقاحتك‪ ..‬تبقى مهمتي �إر�شادك‪ ..‬ولن �أبخل عليك‬
‫بن�صيحتي‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫حلت حلظة من ال�صمت قبل �أنْ يردف‪« :‬هناك طريقة تخرج بها‬
‫من ال�صومعة‪ ..‬دُون �أنْ تلفت ناظر �أحد‪ ..‬ودُون �أنْ ت�ضطر �إىل عبور‬
‫البوابات»‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪�« :‬أي طريقة؟»‬ ‫اقرتب �سي�سيل منه‬
‫‪� -‬أُومن بذكائك‪ ..‬ولكنك ت�صدمني ببالهتك يف بع�ض الأحيان‪.‬‬
‫ابتلع �سي�سيل الإهانة‪ ..‬فتابع �شيخه‪�« :‬أمل تقر�أ حتى الآن عن و�شم‬
‫التنقل الآين؟»‬

‫ﻋﺼ‬
‫ك�شر �سي�سيل جمي ًبا‪« :‬قر�أت عنه‪ ..‬و�شم �شديد التعقيد وغام�ض‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الظروف‪� ..‬إجادة و�شم كهذا �سيتطلب �شهو ًرا»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬سيتطلب منك يومني �أو ثالثة‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أنت تهز�أ بي‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬سيتطلب يومني �أو ثالثة فقط �إنْ كنت تفعلها من �أجل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�شقيقتك‪.‬‬
‫‪ -‬وهل ي�ستحق الأمر �أنْ �أخاطر ب�إ�ضاعة هذه الأيام؟‬
‫‪ -‬وهل تف�ضل �أنْ تق�ضي �أ�ضعاف هذه الأيام ت�سري فيها على‬
‫قدمك بح ًثا عنها؟ هل تت�صور َكم الأماكن التي ميكنك البحث‬
‫فيها �إنْ �أجدت الو�شم؟ ميكنك �أنْ تزور ع�شرات الأماكن‬
‫‪-‬مهما بلغت امل�سافات بينها‪ -‬يف يوم واحد!‬

‫‪125‬‬
‫مل يرد �سي�سيل جوا ًبا‪ ..‬لقد �أدرك �أنّ ن�صيحة �سريو�س هي احلل‬
‫�سالحا جبا ًرا‪ ..‬ولهذا �سي�سهر الليلة‬
‫ً‬ ‫الأمثل‪ ..‬فالتنقل الآين �سيكون‬
‫ليدر�سه و�سي�ستهلك الكثري من الأوراق يف حماوالت �إتقانه‪ ..‬بالفعل‪،‬‬

‫‪n‬‬
‫�سالحا جبا ًرا ‪-‬و�إنْ �صح القول‪� -‬سيكون جبا ًرا‬
‫ً‬ ‫�سيكون هذا الو�شم‬
‫�أكرث من الالزم‪.‬‬

‫على فرا�ش الق�ش‪ ،‬ا�ستلقى مي�ست بعد يوم طويل من الدرا�سة‪،‬‬


‫يريح فقرات ظهره التي كانت تئن �أملًا �إثر اجللو�س املتوا�صل‪ .‬وقبل �أنْ‬

‫ﻋﺼ‬
‫يغفو‪� ،‬أخرج الر�سالة التي ا�ستلمها قبيل عودته‪ ،‬وق ّربها من ال�شمعة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الوحيدة امل�شتعلة قرب ر�أ�سه‪ ..‬زفر بعمق بعد قراءة كلمات ليالك‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫هم�س‪« :‬تلك احلمقاء‪ ..‬لقد حذرتها مرا ًرا من اللجوء �إىل البوم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الهالك»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أراح ر�أ�سه على الو�سادة اخل�شنة وهو يغم�ض عينيه‪ ..‬ولكن كلمات‬
‫ﻭ‬

‫تلك الر�سالة كانت كفيلة ب�شحن عقله مبختلف الو�ساو�س واملخاوف‪..‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حتى بعد �إطفائه لتلك ال�شمعة وتخييم الظالم‪ ..‬بقيت عيناه‬


‫مت�سعتان‪ ..‬يفكر يف حل مل�صيبته‪ ..‬هم�س لنف�سه‪« :‬ال ميكنني �أنْ �أغادر‬
‫علي �أنهاء ما بد�أت به‪ ..‬ولكن‪ ..‬ليالك ال ميكنها �أنْ تفعل‬
‫ال�صومعة‪َّ ..‬‬
‫�شي ًئا‪ ..‬لن يرتكها البوم الهالك يف حالها حتى و�إنْ مت الإفراج عنها»‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا وهو يح ّدق يف ال�سقف الذي ال يرى �شي ًئا منه‪،‬‬
‫�أطلق ً‬
‫«حتى و�إنْ كنت ال �أ�ستطيع �أنْ �أتلقى الدعم من مملكتي‪ ..‬ميكنني �أنْ‬
‫�أعمل ملنع هذه احلرب من الأ�سا�س‪ ..‬ميكنني �أنْ �أ�ستعني َمبن �سيمنع‬
‫امللك مريلني من �شن هذه احلرب»‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫كان هناك ا�سم واحد يلمع يف عقله‪..‬‬
‫�أوفيليا‪ ..‬الأمرية الذكية والطموح‪ ..‬من ميكن �أنْ يردع قرا ًرا كهذا‬

‫‪n‬‬
‫�سواها؟ يجب �أنْ يك�سب دعمها‪ ..‬هي وحدها من تقدر على �إيقاف‬
‫احلرب‪ ..‬وفاتَه �إنّ الذكاء والطموح هما منبع هذه النية‪.‬‬

‫وقفت فيوال‪ ،‬تت�أمل ذلك الر�سم الذي ملأ كل الأوراق التي تكومت‬
‫يف زاوية القبو‪ ..‬لقد مر يومان‪ ..‬ق�ضاهما �سي�سيل يف ر�سم ال�شيء‬
‫ذاته‪ ..‬انتف�ضت حني �سمعت �صرير الباب‪ ..‬وابتعدت عن تلك الزاوية‬
‫ﻋﺼ‬
‫أتيت‬
‫لرت�سم ابت�سامتها الوا�سعة وهي تقول مرحبة به‪�« :‬أوه‪ ..‬لقد � َ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مبك ًرا ج ًّدا! لكنك تبدو متع ًبا!»‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�ضع ال�صفيحة املعدنية التي كان يحملها � ً‬


‫أر�ضا وهو يقول‪« :‬خذيها‬
‫واذهبي �إىل بيتي‪ ..‬تناويل ع�شاء هذه الليلة مع والدتي»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ارت�سم على وجهها احلزن وهي ت�س�أله‪« :‬ملاذا؟ ملاذا ال تريد تناول‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الع�شاء معي؟»‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ل�ست جائ ًعا‪ ..‬و�أحتاج �إىل الرتكيز فيما �أعمل عليه‪.‬‬


‫‪ُ -‬‬
‫‪ -‬فهمت‪ ..‬تريد التخل�ص من �إزعاجي‪.‬‬
‫ومل يحتج �إىل االلتفات لريى تعبريات وجهها املتبدلة يف �أقل‬
‫متاما �أنّ‬
‫من ثانية‪ ..‬لتغيب االبت�سامة ويحل الغ�ضب والوجوم‪ .‬يعلم ً‬
‫ا�ستكمال احلوار يعني انطالق الدموع‪ ..‬ولهذا اجته �إىل تلك الزاوية‬
‫وجل�س ليعطيها ظهره‪.‬‬
‫‪127‬‬
‫حملت ال�صفيحة املعدنية وهي تتجه نحو الباب بخطوات �سريعة‬
‫عالية الوقع‪ ..‬ثم �صفقته وراءها وابتعدت‪ ..‬مل ت ُكن قد ابتعدت ح ًقا‪..‬‬
‫بل جل�ست وراء �شجرية وهمت بتناول طعامها‪ ..‬ثم رمت ما تبقى وراء‬
‫تلك ال�شجرية‪ ..‬وجل�ست حتدق يف مدخل القبو بنظرات متتلىء بالغل‪:‬‬
‫«ما الذي يعمل عليه؟!» كان ذلك هو ال�س�ؤال الذي ميزق �أع�صابها‪.‬‬
‫يف الداخل‪ ،‬كان �سي�سيل مي�سك بزجاجة ال�سائل القاين‪ ..‬يت�أملها‬
‫بينما اختلطت يف داخله امل�شاعر‪ ..‬لقد حان �أوان ر�سم و�شمه الأول‪..‬‬
‫نف�سا عمي ًقا‬
‫ا�ستل الإبرة الرفيعة من �صندوق خ�شبي �صغري‪ ..‬و�أخذ ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫قبل �أنْ ي�شمر عن �ساعده الأي�سر‪ ..‬لن يخطئ‪ ..‬لقد متكن من �إتقان‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هذا الو�شم ‪ -‬كان و�ش ًما �صغ ًريا‪ ..‬ومل يعرف َمل كان يعتقد ب�أنه‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سي�أخذ الكثري من وقته ح ًقا‪� ..‬صحيح �أنه وجد بع�ض التناق�ض فيما‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يخ�ص خوا�ص هذا الو�شم‪ ..‬ولكنه لن يعلم احلقائق حتى يجرب‪..‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�إنه يحتاج �إىل هذا الو�شم‪ ..‬وال وقت لديه ليتعمق يف تفح�ص تلك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اخل�صائ�ص الآن‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أغم�ض عينيه بقوة حني �أح�س بوخزة تلك الإبرة‪ ..‬ولكنه �أعاد‬
‫فتحهما عنوة‪ ..‬ال ُب َّد �أنْ يرى م�سار الإبرة جيدً ا حتى ال يخطئ يف‬
‫ً‬
‫�ضاغطا على �أ�سنانه‪ ..‬وا�صطفت على ذراعه النقاط‬ ‫الر�سم‪ ،‬تابع‪..‬‬
‫واختلط ال�سائل القاين بقطرات من دمه‪ ..‬وحني اكتمل ال�شكل‬
‫الرباعي الأخري‪� ..‬سقطت الإبرة من يده لي�شعر بت�شنج �شديد يع�صف‬
‫بع�ضالته‪� ..‬أغم�ض عينيه بقوة مان ًعا نف�سه من ال�صراخ‪ ..‬ومرت‬
‫حلظات الأمل ‪-‬التي بدت ك�ساعات طويلة‪ -‬لينتهي هذا الت�شنج‬
‫‪128‬‬
‫�أخ ًريا‪ ..‬لقد اختفى من القبو تار ًكا �أوراقه و�إبرته وراءه‪ ..‬لقد جنح يف‬
‫�إتقان و�شم التنقل الآين‪.‬‬
‫وحني عادت فيوال �إىل القبو‪ ..‬فوجئت باختفائه‪ ..‬وارت�سم الرعب‬
‫على وجهها للحظات‪ ..‬لقد كانت تراقب املدخل طوال الوقت‪ ..‬من‬
‫املُحال �أنْ يكون قد خرج! لكن م�شاعرها �سرعان ما تبدلت جمددًا‬
‫حني وجدت �أنّ هذه هي الثغرة التي كانت تبحث عنها‪.‬‬
‫أي�ضا‪ -‬لتخرب‬‫�ستنطلق �إىل �صومعة الق�ضاة ‪-‬ورمبا �إىل القلعة � ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫اجلميع ب�أنه اختفى �أمام ناظرها‪� ..‬ست�أخذ معها �أوراقه لرتيها �إياهم‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أي�ضا ب�أنه �صفعها وذبح �شقيقته قربا ًنا بعد �أنْ �سرق‬
‫ورمبا ت ّدعي � ً‬
‫ﻜﺘ‬

‫بع�ض الذهب‪ ..‬هذه املرة‪� ،‬سيكون معها دليل ملمو�س �سيجعل حكماء‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كاف ليفهموا كيف اختفى وليتخذوا قرا ًرا‬ ‫ال�صومعة ينتف�ضون‪ ..‬دليل ٍ‬

‫‪n‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بالبحث عنه يف كل مكان و�إعالن �أنه بات مطلو ًبا للإعدام‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫حني فتح �سي�سيل عينيه جمددًا‪ ..‬وجد نف�سه يف مكان مل يره من‬
‫قبل‪� ..‬سماء �صافية‪� ..‬شم�س خجول مو�شكة على املغيب‪ ..‬وبيوت‬
‫خ�شبية ا�صطفت يف غري ترتيب‪ ..‬ال �أثر لأي جبال حوله‪ ..‬نه�ض واق ًفا‬
‫حني تنبه �إىل �أنه ي�ستلقي يف منت�صف الطريق املمهد باحلجارة‪..‬‬
‫ي�ستطع �أنْ يبعد عينيه عن‬
‫حاول �أنْ ال يثري ال�شبهة بف�ضوله‪ ..‬ولكنه مل ِ‬
‫املارة‪�« ..‬أي قوم ه�ؤالء؟! كانت �أ�شكالهم خمتلفة‪ ..‬لون ب�شرتهم يفتقر‬
‫‪129‬‬
‫�إىل ال�شحوب الذي يتميز به قومه‪� ..‬شعرهم مييل �إىل درجات البني‬
‫متاما للون �شعره فاحم ال�سواد‪ ..‬حتى يف حديثهم‬
‫والأحمر املغايرين ً‬
‫كانوا ي�ستخدمون لغة خمتلفة‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫لقد جنح و�شمه ح ًقا‪ ..‬ولكنه مل يق ّربه قيد �أمنلة من �شقيقته‪ ..‬بل‬
‫�أبعده كث ًريا‪ ..‬كث ًريا ج ًّدا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪130‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫لقاء الساحرة‬

‫امتلأ �صدر �سي�سيل بالقهر واحلنق وهو يلعن نف�سه ومعلمه على‬
‫اتخاذ هذا القرار املتهور‪ ..‬كان يجل�س على قارعة الطريق عاج ًزا عن‬

‫ﻋﺼ‬
‫فعل �أي �شيء‪ ..‬يفكر يف �شقيقته‪ ..‬يفكر يف طريق عودته‪ ..‬يفكر يف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫احلقائق التي قر�أها حيال هذا الو�شم‪ ..‬ويفكر يف كيفية التفاهم مع‬
‫ﻜﺘ‬

‫ه�ؤالء القوم الذين يتجاهلونه ويبدون اال�ستغراب كلما حاول احلديث‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إىل �أحدهم!‬
‫ﺸﺮ‬

‫كان جائ ًعا‪ ..‬وكان ي�شعر بنعا�س �شديد كونه ق�ضى الليلة املن�صرمة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يف الر�سم على �ضوء ال�شموع‪� ..‬أرجع ر�أ�سه �إىل الوراء لي�ستند �إىل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اجلدار خلفه‪ ..‬ومل ي�شعر بنف�سه حني غفا غفوة طويلة مل يوقظه منها‬
‫�إال �شقاوة بع�ض ال�صبية الذين �أخذوا ير�شقونه باحلجارة يف ال�صباح‬
‫الباكر‪ ..‬والذين الذوا بالفرار فو ًرا حني ر�أوه يفتح عينيه‪.‬‬
‫نه�ض ليتجول يف البلدة‪ ..‬عله يفهم �شي ًئا على �ضوء ال�شم�س‬
‫املنرية‪ ..‬تعجب من �صخب ال�سكان ومن االزدحام الذي مل يره ليلة‬
‫البارحة‪ ..‬وتعجب �إثر �أمر �آخر الحظه للتو‪ ..‬هناك ما ي�شبه ال�ضوء‬
‫اخلافت حول ر�ؤو�س املارين‪� ..‬ضوء خافت يختلف يف لونه و�شدته‬
‫‪131‬‬
‫من �شخ�ص �إىل �آخر‪ ..‬حاول �أنْ ي�سري دُون �أنْ يثري الف�ضول بحملقته‬
‫فيهم‪ ..‬ومل يتوقف �إال عندما وجد نف�سه يف �ساحة مفتوحة‪� :‬ش ّبان‬
‫دروعا‪ ..‬رغم حداثة �سنهم‪� ..‬آخرون يلوحون ب�سيوف خ�شبية‪..‬‬ ‫يرتدون ً‬
‫جتمع بع�ضهم يت�ضاحكون �أو يت�شاجرون يف جمموعات �صغرية بينما‬
‫تفرق �آخرون بدا عليهم ال�ضياع‪ ..‬بدا له املكان �أ�شبه ب�ساحة تدريب‬
‫ع�سكري‪ ..‬ومل تغب عنه نظراتهم امل�ستنكرة لوجوده‪ ..‬ومل يدرك مدى‬
‫غرابة تواجده هنا �إىل �أنْ قب�ضت على كتفه يد حديدية لرجل �ضخم‬
‫البنية �أخذ ي�صرخ فيه ب�صيغة مت�سائلة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل يرد �سي�سيل جوا ًبا‪ ..‬كان يدرك ب�أنّ الرجل ي�س�أله عن هويته �أو‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سبب تواجده‪ ..‬ولكنه مل يعرف كيف ي�صوغ له اجلواب املنا�سب‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫مل ينتظر ال�ضخم كث ًريا‪ ..‬بل دفع �سي�سيل دف ًعا لي�أخذه �إىل �أكرب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اخليام املنت�صبة يف ال�ساحة‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ويف الداخل‪ ،‬ر�آها جتل�س على �سجادة؛ امر�أة بدت يف ال�ستينيات‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫من العمر‪ُ ..‬ماطة ب�أكوام من الكتب والأوراق امل�صفرة‪ ..‬كان لها‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ب�شرة �شاحبة ت�شبه �شحوب ب�شرته‪ ،‬و�إنْ امتلأت بالتجاعيد‪ ..‬وكان لها‬
‫يوما‬
‫�شعر من�سدل بالغ الطول‪ ،‬اختلط بيا�ضه ب�سواده الذي كان فاح ًما ً‬
‫ما‪ ..‬ومل ي ُكن هناك �أي �ضوء يحيط بر�أ�سها كالبقية‪ ..‬رفعت عينيها‬
‫�إليه‪ ..‬ثم �س�ألته‪«َ :‬من �أنت؟»‬
‫ارت�سمت على وجهه �أمارات التعجب‪� ..‬إنها جتيد لغته!‬
‫أنت؟»‬
‫�أجاب‪« :‬ا�سمي �سي�سيل‪َ ..‬من � ِ‬
‫‪132‬‬
‫انفرجت �شفتيها عن ابت�سامة ك�شفت بع�ض التجاعيد العميقة على‬
‫جانبي فمها‪ ..‬ثم �أجابت‪�« :‬أنا �إينور‪ ..‬ويلقبونني هنا بال�ساحرة»‪..‬‬
‫ثم �أ�شارت �إليه ليجل�س‪« :‬من املثري �أنْ �أجد �أحد �أبناء قومي هنا‪..‬‬
‫تف�ضل‪� ..‬أود �أنْ �أ�سمع حكايتك»‪.‬‬
‫واقرتب رويدً ا ليجل�س على ذات ال�سجادة‪ ..‬وقرر �أنه �سيخربها‬
‫باحلقيقة‪ ..‬لقد بدت له ككبرية القوم هنا‪ ..‬ثم �إنّ تلك الكتب املتك ّومة‬
‫حولها �أعطتها مل�سة من العلم والعقالنية‪ ..‬وبعد كل �شيء‪ ،‬ال �أحد‬
‫�سواها قادر على فهم و�ضعه هنا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ثم بد�أ يف�صح عما لديه‪ ..‬ي�سرد حكايته منذ دخوله ال�صومعة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫وحتى انتقاله �إىل هذا املكان الغريب‪ ..‬ومل ي َر �أي عالمة من عالمات‬
‫التعجب على وجهها‪ ..‬بل ا�ستمعت �إليه يف هدوء وانتظرته حتى ينتهي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لتقول بلهجة �ساخرة‪« :‬وك�أنك حتكي حكايتي ب�شكل �آخر»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫أنت � ً‬
‫أي�ضا �إىل هنا بالو�شم ذاته؟»‬ ‫انتقلت � ِ‬
‫ِ‬ ‫�س�ألها‪« :‬هـل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬صحيح‪ ..‬كنت �صغرية ومتحم�سة‪ ..‬وظننت ‪-‬بكل غباء‪� -‬أنّ‬


‫ب�إمكاين تطويع الو�شوم املحظورة على هواي‪.‬‬
‫حلت حلظة �صمت قبل �أنْ يخرقها‪« :‬تتحدثني ب�صيغة املا�ضي‪..‬‬
‫أنك غري قادرة على العودة؟»‬
‫أنك‪ِ � ..‬‬
‫�أهذا يعني‪ِ � ..‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ جتيب‪�« :‬أ�ستطيع العودة متى ما �أردت»‪.‬‬
‫�أخذت ً‬
‫أنت هنا � ًإذا؟‬
‫‪ -‬وملاذا � ِ‬
‫‪133‬‬
‫‪� -‬أنا �سيدة القوم هنا‪ ..‬ال�ساحرة‪ ..‬احلكيمة‪� ..‬صانعة القوة‬
‫التي يغرقها امللوك بالذهب لت�ساند جيو�شهم‪ ..‬هل تعلم ما‬
‫�سيحدث يل �إنْ عدت �إىل موطني؟ �س�أكون حبي�سة زنزانة‬
‫قذرة �أو رمبا �أكون جمرد جثة‪ ..‬لن �أعود �إىل هناك �أبدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن‪� ..‬أي مملكة هذه؟ �إنها ال تبدو كمملكة القمم الدخانية‬
‫وال حتى مملكة ال�صحاري‪.‬‬
‫ات�سعت ابت�سامتها جمددًا وهي تقول‪« :‬ال �أ�صدق مدى بالهتك‬
‫ح ًقا‪� ..‬أنت تفوق بالهتي بكثري حني كنت يف �سنك‪ ..‬على الأقل‪ُ ،‬‬
‫كنت‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أعلم �أنّ و�شم التنقل الآين �سينقلني عرب الأبعاد قبل �أنْ �أ�ستخدمه»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ات�سعت عيناه ده�شة وهو يردد‪« :‬عرب‪ ..‬الأبعاد؟ ما الذي تق�صدينه‬
‫ﻜﺘ‬

‫بالأبعاد؟!»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬هل تظن ب�أنّ الأر�ض برمتها ُوجدت لي�سكنها �سكان القمم‬


‫ﺸﺮ‬

‫الدخانية وال�صحاري وح�سب؟ العامل �أكرب بكثري مما تظن‪..‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الأر�ض ت�سكنها خملوقات عاقلة كثرية‪ ..‬كل ما يف الأمر �أنهم‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ي�سكنون �أبعادًا خمتلفة ال ميكن عبورها �إال بو�سائل الإرث‬


‫املحظور‪ ..‬كل ُبعد ي�سكنه خملوقات يظنون ب�أنهم الوحيدون‬
‫ب�سبب الق�صور يف حوا�سهم‪ ..‬عيوننا غري قادرة على ر�ؤية ما‬
‫هو �أكرث من جزء �شديد ال�ض�آلة من الطيف ال�ضوئي املمتد‪..‬‬
‫�آذاننا غري قادرة على التقاط ما هو �أكرث من جزء �شديد‬
‫املحدودية من الرتدد ال�صوتي‪ ..‬ال ميكنك حتى �أنْ تتخيل �سعة‬
‫العامل الذي يقع خارج حوا�سنا‪ ..‬فحتى عقولنا �أ�صغر من �أنْ‬
‫تدرك كل هذه ال�سعة‪.‬‬
‫‪134‬‬
‫كانت املرة الأوىل التي ي�سمع فيها �شي ًئا كهذا‪ ..‬عاد لي�س�أل‪�« :‬أهذا‬
‫يعني‪� ..‬أننا‪ ..‬يف عامل خمتلف؟»‬
‫‪ -‬عمل ًيا‪ ..‬نعم‪ ..‬عامل خمتلف من �ضمن العوامل التي تقع على‬
‫هذه الأر�ض‪� ..‬أعلم �أنّ من ال�صعب تخيل هذا‪ ،‬ولكن عامل‬
‫الأر�ض ينطوي على عوامل خمتلفة‪ ..‬وكل عامل له حمدوديته‬
‫وقوانني الزمان واملكان اخلا�صة به‪ ..‬وحني تنتقل بينها‪..‬‬
‫تنطبق عليك قوانني العامل اجلديد‪.‬‬
‫‪ -‬وما هي قوانني هذا العامل؟ كيف يختلف عن عاملنا؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬هناك العديد من االختالفات ال�سطحية‪ً ..‬‬
‫مثل‪� ..‬صارت‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫معدتي ال تتحمل بع�ض الأطعمة التي كنت معتادة على تناولها‬
‫يف عاملي‪ ..‬و�صار �شعر ر�أ�سي ينمو ب�صورة غريبة منذ �أنْ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫انتقلت �إىل هنا‪� ،‬أحتاج �إىل ق�صه كل �شهر و�إال جتاوز طوله‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أ�سفل ظهري‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مل يقاطعها بينما تابعت‪« :‬وهناك عدد من االختالفات اجلوهرية‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مثل‪� ..‬صرت قادرة على ر�ؤية ما ي�شبه الهالة حول ر�ؤو�س ه�ؤالء‬ ‫ً‬
‫النا�س‪� ..‬أ�ستطيع معرفة م�شاعرهم من �ألوان هذه الهالة‪ ..‬ولكن يبدو‬
‫�أنّ هذه القدرة ال ت�سري على �سكان عاملي‪ ..‬ف�أنت �أول ب�شري �أقابله‬
‫هنا دُون هالة»‪.‬‬
‫الآن �أدرك �أنها ت�شري �إىل ذلك ال�ضوء امللون الذي ر�آه يحيط‬
‫بر�ؤو�س اجلميع �سواها‪ ..‬و�أدرك ال�سبب وراء كونها ا�ستثنا ًء‪.‬‬
‫‪135‬‬
‫‪ -‬ولكن لعل �أبرز االختالفات بني العاملني هو �سرعة مرور الزمن‪.‬‬
‫انتف�ض �إثر ذكر �سرعة الزمن‪� ،‬س�ألها‪« :‬وهل عاملنا هو الأ�سرع؟»‬
‫يوما‬
‫‪ -‬كال‪ ..‬هذا العامل �أ�سرع بكثري‪ ..‬فعام كامل هنا يعادل ً‬
‫واحدً ا فقط يف عاملنا‪� ..‬س�أكون يف اخلام�سة والع�شرين من‬
‫عمري �إنْ كنت قد عدتُ �إىل عاملي‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنك مل تعودي‪.‬‬
‫‪ -‬لقد ع�شت ثال ًثا و�أربعني ً‬
‫عاما بتمامها يف هذا العامل‪ ..‬لو‬

‫ﻋﺼ‬
‫كنت يف عاملي ما كنت لأحظى بالفر�ص التي حظيت بها هنا‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سرعة مرور الزمن قد تبدو فر�صة لنبدو �أ�صغر �أو نعي�ش‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أكرث‪ ..‬ولكن الأمر لي�س بهذه الب�ساطة‪ ..‬ال ت�ستطيع االحتيال‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫على الزمن مهما حدث‪ ..‬فج�سدك �سيعي�ش زمنه �أينما كان‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫كاد ي�س�ألها كيف ت�أكدت من ذلك وهي مل حتاول العودة �إىل عاملها‬
‫جمددًا‪ ..‬ولكنه �أوم�أ تفه ًما‪ ..‬ثم قال بعد وهلة �صمت‪« :‬قد يكون هذا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هو العامل الأف�ضل بر�أيك‪ ..‬ولكني �أريد �أنْ �أعود �إىل عاملي»‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ارت�سمت على وجهها ابت�سامة وهي تقول‪« :‬لتبحث عن �شقيقتك‪..‬‬


‫نعم‪� ..‬أعلم �أنك لن تقتنع بن�صيحتي‪ ..‬ولكن من ال�صعب ج ًّدا �أنْ‬
‫ُمت هنا‪ ،‬ف ُكن مت�أكدً ا ب�أنّ اململكة‬
‫تنجح يف النجاة بعد عودتك‪ ..‬ما د َ‬
‫برمتها تبحث عنك‪ ..‬ولن يلبثوا �أنْ يقب�ضوا عليك ويزجوا بك يف‬
‫انتقلت با�ستخدام و�شم حمظور‪ِ ..‬ومن امل�ستحيل‬ ‫َ‬ ‫زنزانة خانقة‪ ..‬لقد‬
‫�أنْ تنجو من عقبات �أمر كهذا»‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫‪ -‬ال �أ�ستطيع التخلي عن املحاولة ما دامت هناك فر�صة‪ ..‬مهما‬
‫بلغت �ض�آلتها‪.‬‬
‫‪ -‬لي�ست هناك �أي فر�صة‪.‬‬
‫‪ -‬هذا �أمر �أقرره وحدي‪.‬‬
‫‪ -‬و�أنا ال م�صلحة يل يف تقرير قراراتك‪ ..‬ولهذا �س�أ�ساعدك �إنْ‬
‫�أردت‪ ..‬ولكن م�ساعدتي لي�ست باملجان‪.‬‬
‫‪ -‬وما ثمنك؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنا �أعمل الآن على و�صفة �شديدة التعقيد‪ ..‬من �ش�أنها م�ضاعفة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ح�صلت على ما ينق�صني‪ ..‬ف�س�أجنح يف‬‫ُ‬ ‫ح�سا�سية الأفكار‪� ..‬إنْ‬
‫ﻜﺘ‬

‫منح قدرة التخاطر بالأفكار له�ؤالء القوم‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صمت �سي�سيل حلظة م�ستدر ًكا �أنّ لقب ال�ساحرة مل ُي َنح جزا ًفا‬
‫ﺸﺮ‬

‫لهذه املر�أة‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫تابعت‪�« :‬أريد �أنْ حت�ضر يل وثيقة �إنبات احلجر النيزكي»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬تريدين مني العودة �إىل هنا جمددًا؟ هل تظنني �أين �أملك‬


‫الوقت الكايف ح ًقا؟‬
‫‪ -‬ال تتغابى‪ ..‬ق�ضاء يوم كامل هنا يعني �أنك لن تغيب عن عاملك‬
‫�سوى دقائق‪.‬‬
‫كان يدرك �صحة ما تقول‪ ..‬وكان يدرك �أنه ال ميلك خيا ًرا �آخر‪..‬‬
‫�إما �أنْ يقبل عر�ضها و�إما �أنْ يتيه يف هذا العامل لبقية حياته‪� ،‬س�ألها‪:‬‬
‫«و�أين �س�أجد وثيقتك؟»‬
‫‪137‬‬
‫�أطلقت تنهيدة عميقة وهي جتيبه‪�« :‬إنها يف �إحدى احلجرات‬
‫ال�سرية لقلعة القمم الدخانية»‪.‬‬
‫كنت يف مهمة ال�ستك�شاف‬ ‫دغدغ ردها ذاكرته‪� ..‬أجاب‪« :‬لقد ُ‬
‫وف�شلت يف معرفة مكانها‪ ..‬ولكن‪ ..‬ما‬
‫ُ‬ ‫حجرة كهذه منذ زمن ق�صري‪..‬‬
‫�صلتك بهذه احلجرة؟»‬
‫ِ‬
‫جمعت‬
‫ُ‬ ‫ارت�سمت على وجهها ابت�سامة �ساخرة وهي تقول‪�« :‬أنا َمن‬
‫الكتب املحظورة فيها‪ ..‬وبالطبع‪� ،‬أعلم كل خمب�أ وخمرج يف قلعتي»‪.‬‬
‫‪ -‬قلعتك؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬أنا ال�شقيقة ال�صغرى للملك مريلني‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫ي�ستطع �سي�سيل �إخفاء الده�شة يف عينيه‪ ،‬عاد لي�س�أل‪ً �« :‬إذا‪..‬‬


‫مل ِ‬
‫أنت َمن �سرق الكتب التي تتهم ال�صومع ُة الأمرية �أوفيليا ب�سرقتها؟»‬
‫� ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اتهاما جزا ًفا‪ ..‬لطاملا كانت �أوفيليا معجبة‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬وقد ال يكون هذا ً‬


‫بي ومتلهفة للتعلم‪ ..‬ال ُب َّد �أنها وجدت خمبئي بعد رحيلي‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫واتخذته خمب أً� لها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬وكيف ميكن الو�صول �إىل هذا املخب�أ؟‬


‫تتعجل‪.‬‬
‫‪� -‬س�أخربك بكل �شيء‪ ..‬ال ّ‬
‫ونه�ضت لتح�ضر كتا ًبا �سمي ًكا و�صندو ًقا خ�شب ًيا قد ًميا‪.‬‬
‫«علي �أنْ �أعلمك املزيد عن و�شم‬ ‫جل�ست وه َّمت بفتح الكتاب‪َّ :‬‬
‫التنقل الآين‪ ..‬يجب �أنْ تفهم دالالته ال�شكلية كاملة لت�ستطيع االنتقال‬
‫�إىل وجهتك بدقة»‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫ورغم �صغر حجم هذا الو�شم‪ ،‬ا�ستغرق در�سها �ساعات متوا�صلة‪،‬‬
‫وكان �شرحها كفيل بجعل �سي�سيل ينبهر بها‪ ..‬متنى لو �أنه يتتلمذ على‬

‫‪n‬‬
‫يديها‪ ..‬ولكنه ال ميلك الوقت الكايف ملزيد من الدرو�س الآن‪ ..‬رمبا‬
‫يعود �إليها يف امل�ستقبل جمددًا‪ ..‬رمبا‪.‬‬

‫حول طاولة االجتماعات امل�ستديرة‪ ،‬جل�س مريلني بينما ارت�سمت‬


‫على وجهه �أمارات االنزعاج‪ ،‬يحدق بر�سالة جاهد كي ال ميزقها‬
‫غ�ض ًبا‪ ..‬ر�سالة حتمل كلمات �شكر وامتنان من امللك �إيدن‪ ،‬حل‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال�صمت على اجلال�سني حوله‪ ،‬امل�شيحني ب�أعينهم جتن ًبا النفجار‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ملكهم‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫قطع ال�صمت ب�صوته اجلهور‪�« :‬أوفيليا!»‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كانت جتل�س جواره‪ ،‬ومل ي ُكن بحاجة �إىل رفع �صوته ح ًقا‪ ،‬رفعت‬
‫ﺸﺮ‬

‫ناظرها �إليه يف ت�سا�ؤل‪« ،‬نعم يا �أبي»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أمكنك �أنْ تقبلي عر�ض امللك �إيدن دُون علمي‪..‬‬


‫‪ -‬ال �أ�صدق كيف � ِ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هل تعلمني مقدار اخل�سارة يف م�شروع كهذا؟‬


‫‪� -‬أنت �أعطيتني �صالحية الرد على الر�سائل املُهملة‪ ..‬وهذه‬
‫الر�سالة مت �إهمالها لوقت طويل‪.‬‬
‫لك ِ َل قمت ب�إهمالها؟ لأنها ر�سالة ال حتمل �أي‬ ‫‪� -‬أمل يخطر ِ‬
‫منطق! يريد بناء قناة مائية بطول �ألفي ميل! ال ُب َّد �أنه كتب‬
‫هذه الر�سالة وهو َث ِمل‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫‪� -‬إنه ملك‪ ..‬ويجب �أنْ يتحمل م�س�ؤولية الر�سائل التي يكتبها‪..‬‬
‫ثم �إنّ هذا ل�صاحلنا نحن‪.‬‬
‫‪ -‬ومنذ متى ونحن نبحث عن ثغرات جرياننا لن�ستخدمها‬
‫�ضدهم؟ �إنهم ميرون ب�أزمة �صعبة ويجب �أنْ ن�ساعدهم‪ ،‬ال �أنْ‬
‫ن�ستنزف الرثوة الوحيدة التي ميلكونها‪.‬‬
‫‪ -‬نحن لن ن�ستنزف ثروته‪ ..‬هو َمن �سيفعل‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ ي�شيح بوجهه �إىل َمن حوله لي�صرخ‪:‬‬
‫�أخذ ً‬
‫«اخرجوا جمي ًعا! اتركوين وحدي مع الأمرية �أوفيليا»‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل تختلج ع�ضلة يف وجهها‪ ،‬بل تابعتهم يف هدوء بينما يخرجون‬
‫ﻜﺘ‬

‫بخطى �سريعة متوترة‪..‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وما �إنْ انتهى �صرير الباب حتى عاد ليحدجها بنظرته الغا�ضبة‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫منحى غري ًبا ج ًّدا»‪.‬‬


‫أنت تتخذين ً‬
‫«ال يعجبني �أ�سلوبك يا �أوفيليا‪ِ � ..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ما الذي تعنيه بهذا يا �أبي؟‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ال متلكني ذرة من التعاطف مع من حولك‪.‬‬


‫‪ -‬وما الذي ينبغي يل فعله؟ لي�س من م�س�ؤوليتي تعديل قراراته‪..‬‬
‫أهل التخاذ القرارات فهذه لي�ست م�شكلتي‪.‬‬‫�إنْ كان لي�س � ً‬
‫ل�ست م�س�ؤولة عنه‪ ..‬ولكنك م�س�ؤولة عن كم‬
‫أنت ِ‬ ‫‪� -‬صحيح‪ِ � ،‬‬
‫الأعداء الذين تك�سبينهم دُون انقطاع‪� ..‬إبداء بع�ض التعاطف‬
‫أنك ذكية يف اكت�ساب‬
‫واللطف ال يعني �أنك �ضعيفة‪ ..‬بل يعني � ِ‬
‫احللفاء‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫أق�س على �أحد دُون �سبب‪.‬‬
‫‪� -‬أنا مل � ُ‬
‫‪ -‬بل تفعلني‪� ..‬أنا �أعلم الإجراء الذي اتخذ ِته �ضد نايت‪.‬‬
‫‪ -‬نايت حاول قتلي‪.‬‬
‫‪� -‬صحيح‪ ،‬ولكن ينبغي �أنْ تتحلي ببع�ض احلكمة يف العقاب‪..‬‬
‫كان الأَوْىل �أنْ تقومي بحب�سه وح�سب‪ ..‬قليل من اجللدات‬
‫اخرتت قمة‬
‫ِ‬ ‫يه ّذب‪ ،‬ولكن الكثري منها ي�شحذ الأنياب‪ ..‬لقد‬
‫برج ال�سال�سل‪ ..‬جعلته يتلقى �أ�شد �أنواع التعذيب‪ ..‬ترك ِته‬
‫ك�سبت عد ًوا‬
‫ِ‬ ‫يتغذى بالكراهية والرغبة يف االنتقام‪ ..‬وبهذا‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ال ميكن قهره‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬عدو مقيد بال�سال�سل‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬بل عدو طليق‪ ..‬لقد اختفى قبيل الفجر‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫بدت عالمات الده�شة على وجهها وهي تردد‪« :‬كـ‪ ..‬كيف؟!»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ال �أدري‪ ..‬وال تهمنا كيفية هربه! ما يهم الآن هو �ضرورة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫اتخاذ احلذر مع عدو مثله‪ ..‬ال ميكن �أنْ يهرب �أحد من تلك‬
‫الزنزانة �إال �إنْ كانت وراءه جماعة قوية تدعمه‪ ..‬جماعة يجب‬
‫�أنْ نهابها ح ًقا‪ ..‬جماعة قمنا با�ستفزازها ب�سبب ق�سوتك الال‬
‫مربرة‪.‬‬
‫‪ -‬و�أي �سطوة ميلكها البوم الهالك يف مملكتنا؟!‬
‫‪ -‬ال ندري‪ ..‬ولهذا ما كان علينا �أنْ نت�صرف بنا ًء على الظنون‬
‫وح�سب‪ ..‬ال ميكن �أنْ ت�أمني عدوك �أبدً ا‪ ..‬ولكن ميكنك‬
‫‪141‬‬
‫تطويعه لي�صري حليفك م�ؤقتًا‪ ..‬ميكنك ك�سب وده حتى ال‬
‫�ضربت بهذه‬
‫ِ‬ ‫يراك فري�سته الأوىل حني ميلك القوة‪ ..‬لقد‬
‫املبادئ عر�ض احلائط‪.‬‬
‫‪ -‬وهل كان البوم الهالك حليفنا حني �أر�سلوا مَن يقتلني؟ العدو‬
‫أي�ضا يفكر مثلما نفكر‪ ..‬وميكنه �أنْ ي�ستغل‬ ‫لي�س ً‬
‫طفل‪ ..‬هو � ً‬
‫�سذاجتنا ليوهمنا ب�أنه حليف‪ ..‬ثم ينقلب علينا لأننا كنا‬
‫�أغبياء حني مل ننقلب عليه يف �ضعفه‪.‬‬
‫‪� -‬أنا �أعرف �إيدن منذ كان ً‬
‫طفل‪� ..‬إنْ كان البوم الهالك ي�ستحق‬

‫ﻋﺼ‬
‫الق�سوة‪ ،‬ف�إيدن ال ي�ستحقها‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬ال ميكن �أنْ ن�ضمن هذا �أبدً ا‪ ..‬فهو مل َي ُعد ً‬
‫طفل‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫زفر مريلني بعمق بينما حل ال�صمت للحظات‪ ،‬بدت ردود �أوفيليا‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حججا �أكرث‪.‬‬
‫مفحمة و�إنْ كان مل يقتنع بحججها‪ ،‬ولكنه مل ميلك ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫يف داخله‪ ،‬كان مبهو ًرا‪ ،‬وت�ساءل �إنْ كان قائد جي�شه نف�سه ميلك‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عقلية كعقليتها‪ ،‬ولكنه مل ي�صارحها ب�أفكاره كي ال تتمادى فيما تفعل‪،‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫كل‪ ..‬لقد م�ضى ما‬ ‫بل اكتفى برد �صارم �أراد به �إنهاء حديثه‪« ،‬على ٍ‬
‫م�ضى‪ ..‬ولكن علينا �أنْ نذهب يف زيارة للملك �إيدن للتفاو�ض يف �أمر‬
‫الر�سالة‪ ..‬ولتو�ضيح �أنّ القرار الذي رد عليه مل ي ُكن القرار الأخري»‪.‬‬
‫‪� -‬أنا‪ ..‬ال �أ�ستطيع الذهاب‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪« :‬ملاذا؟»‬ ‫ك�شر‬
‫‪ -‬ال �أريد الظهور مبظهر البلهاء عدمية امل�س�ؤولية‪ ..‬ال �أريد‬
‫مواجهته‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫عليك �أنْ تكوين‬ ‫زفر بعمق وهو يقول‪�« :‬سيكون هذا ُجب ًنا ِ‬
‫منك‪ِ ..‬‬
‫معي»‪.‬‬
‫‪� -‬أبي‪� ..‬أرجوك ال جتربين على هذا‪.‬‬
‫‪� -‬سننطلق يف خالل يومني‪ ..‬وال �أريد �أي نقا�ش حيال هذا الأمر‪.‬‬
‫قالها وهو ي�ستدير ليخرج‪ ،‬تار ًكا �إياها وقد ارت�سمت يف عينيها‬

‫‪n‬‬
‫نظرة عميقة املعنى‪ ..‬كانت تدرك �أنّ قرار والدها قطعي‪ ..‬وكانت‬
‫جدا من هذه الرحلة‪.‬‬
‫منزعجة ًّ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف خيمة �إينور‪ ،‬ويف نور �شموع كبرية �أ�شعلتها �إثر تخييم الظالم‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫جل�س �سي�سيل‪ ،‬مم�س ًكا بكتاب �ضخم قر�أه مرات عدة بالفعل‪ ..‬لقد‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م�ضى على وجوده هنا �ستة �شهور كاملة‪ ..‬كان ع�س ًريا عليه �أنْ يتخيل‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أنّ كل هذا الزمن ال يعادل �أكرث من ن�صف يوم يف عامله‪ ..‬ورغم‬


‫حترقه للعودة‪ ،‬لكنه انتظر‪ ..‬يجب �أنْ مير ن�صف يوم على الأقل يف‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عامله قبل عودته‪ ..‬ولهذا ا�ستغل امتداد الزمن هذا ليتعلم املزيد‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ويف كل يوم من العامل اجلديد‪ ،‬كانت تت�ضح له �أمو ًرا �أكرث‪ ..‬لقد �صار‬
‫يتقن الكثري من الو�شوم بالفعل‪ ،‬املحظورة وغري املحظورة‪ ..‬و�سيعود‬
‫حت ًما �إىل هذا املكان جمددًا‪ ..‬ولكن عليه � ًأول �أنْ يجد �شقيقته‪ ..‬ورغم‬
‫ي�ستطع االنتظار �أكرث‪.‬‬
‫اعرتا�ض �إينور على عودته املبكرة‪ ،‬ف�إنه مل ِ‬
‫وكما وعدته‪� ،‬أوفت بوعدها‪ ..‬ف�أعطته زجاجة ال�سائل القاين‬
‫والإبرة‪ ..‬ونبهته على تفا�صيل و�شم العودة‪ ..‬ثم تركته وحيدً ا يف‬
‫اخليمة‪ ..‬يهم بر�سم و�شمه‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬بخوف �أكرب‪ ،‬وبحر�ص �أكرب‪.‬‬
‫‪143‬‬
‫ومثلما وعدته‪ ،‬تال�شى‪ ..‬ثم وجد نف�سه يف مكان �سرعان ما �أ ِلفه‪..‬‬
‫�ضباب خانق يحيط به من كل جهة‪ ..‬وبرودة جتمد العظام‪� ..‬إنه يف‬
‫�أعايل القمم الدخانية‪ً � ..‬إذا‪ ،‬لقد َ�ص َد َقت ال�ساحرة‪.‬‬
‫ولكنه ال ي�ستطيع االن�صراف للبحث عن �شقيقته قبل �أنْ يتم‬
‫اتفاقه‪� ..‬سيكون عليه الآن �أنْ يجد وثيقة �إينور‪ ..‬و�سيكون عليه �أنْ‬
‫كامل يف عاملها‪..‬‬ ‫عاما ً‬
‫ي�سرع ج ًّدا‪ ..‬فكل يوم مي�ضي هنا يعادل ً‬

‫‪n‬‬
‫وخطرت له بع�ض الأفكار‪ ..‬لقد �أعادته ووفت بوعدها‪ ،‬ف ِل َم عليه �أنْ‬
‫يفي بوعده؟ �إنه ال يحتاجها بعد الآن‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كان الظالم قد حل‪ ،‬وما زال �سي�سيل يتفح�ص طريقه ً‬
‫نزول‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫و�شاحا كب ًريا على رقبته ون�صف وجهه‪ ..‬متحفزًا‬


‫ي�سري يف حذر‪ ،‬يلف ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫علم ب�أنه �صار الهدف الأول لرجال القلعة‬‫لأي حركة‪ ..‬فقد كان على ٍ‬
‫ﺸﺮ‬

‫علم ب�أنه على الطريق ال�صحيح حني تبدت‬ ‫وال�صومعة‪ ..‬و�صار على ٍ‬
‫ﻭ‬

‫له مالمح الغابة التي يقطعها‪ ..‬رغم �أنها كانت خالية من الب�شر‪ ،‬ف�إنه‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يعلم ب�أنّ اخلطر يتعاظم كلما نزل �أكرث‪ ..‬فاحلرا�س ينت�شرون على‬
‫املنهك حتى ملح ذلك الربج‪ ،‬توقف‬ ‫طول ال�سفح‪ ..‬ولكنه تابع �سريه ِ‬
‫�شاع ًرا بن�شوة االنت�صار امل�ؤقت‪ ..‬لقد جنح يف الو�صول �إىل قلعة القمم‬
‫بعد بينما يختبئ خلف‬ ‫الدخانية‪ ..‬يراقب �أ�سوارها اخللفية من على ٍ‬
‫جذع تنوب كبرية‪ ..‬وهنا تب ّدت بع�ض الإجابات يف عقله‪.‬‬
‫‪« -‬لقد جعلتني �إينور �أ�سلك هذا الطريق لتجربين على تنفيذ‬
‫اتفاقنا � ًأول‪ ..‬تلك اخلبيثة»‪ ..‬ورغم انزعاجه‪ ،‬ف�إنه كان يدرك ب�أنّ‬
‫ت�صرفها هذا ي�سمى حكمة ال خب ًثا‪ ..‬فهي بحاجة �إليه وال ُب َّد �أنْ تتخذ‬
‫‪144‬‬
‫بع�ض الإجراءات لت�ضمن وفاءه‪ ..‬هو يعلم �أنّ احلرا�س يحت�شدون عند‬
‫ال�سفح وعند البوابات‪ ..‬ولكن ال حاجة �إىل حرا�سة قمم اجلبال التي‬
‫ال يعي�ش فيها �أي �إن�سي‪� ..‬إنهم يحر�سون القلعة من ب�شري ال من طائر‬
‫�سي�أتي ليحط من ال�سماء‪ ..‬وكان هذا ما ا�ستغلته �إينور‪ ..‬ف�سي�سيل لن‬
‫يقدر على الذهاب �إىل �أي مكان �سوى القلعة‪� ..‬سينفذ اتفاقه ثم يعود‬

‫‪n‬‬
‫�إليها لي�سلمها الوثيقة وبعدها فقط �سينتقل جمددًا �إىل مكان �آخر‬
‫�أكرث �أما ًنا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كان الليل قد انت�صف‪ ،‬ومل ي ُكن قد مر زمن طويل على غفوة �إيدن‪،‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ولكن ‪-‬وككل ليلة‪ -‬مل يهن�أ بغفوة طويلة دُون �أنْ ينه�ض يف جزع �إثر‬
‫ﻜﺘ‬

‫ذلك احللم‪ ..‬هذه املرة‪ ..‬كان اخلوف الذي اعرتاه �أعظم‪ ..‬مد ذراعه‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ليلتقط الر�سالة التي و�ضعها قرب ال�شمعة املولعة بجوار �سريره‪..‬‬


‫الر�سالة التي جنحت ليالك يف �إي�صالها له‪ ،‬والتي قرر جتاهلها حني‬
‫ﺸﺮ‬

‫ر�أى �أنها قادمة من الأمري مي�ست‪ ..‬مل ي ُكن يعلم ب�أنّ امللكة ليالك قد‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اطلعت عليها بالفعل‪ ،‬فقد د ّبرت الأمر ليبدو �أنّ الر�سالة وقعت يف يده‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بينما مل ي ُكن من املفرت�ض ذلك‪.‬‬


‫لقد ن�صحه ريجان �ساب ًقا بتجاهل هذه الر�سالة‪ ،‬و�أخربه ب�أنّ خبايا‬
‫الأمري مي�ست جمهولة‪ ..‬وال ميكن �أنْ يثقوا بكالم َمن يجهلون نواياه‪..‬‬
‫ي�ستطع جتاهل هذه الر�سالة‪ ..‬كيف يتجاهلها وهي‬ ‫ولكن �إيدن مل ِ‬
‫تذكره بحلمه الذي يراه كل يوم؟‬
‫هذه الر�سالة‪ ..‬تنذره من احلرب التي يراها كل ليلة‪ ..‬من املُحال‬
‫�أنْ يتجاهلها‪ ..‬من املُحال �أنْ تكون جمرد �صدفة‪.‬‬
‫‪145‬‬
‫ابتلع ريقه وقد ات�سعت عيناه وهو يدرك �شي ًئا مل يخطر له من قبل‪،‬‬
‫«�أحالمي هي ر�ؤى من امل�ستقبل»‪ .‬ولكن هل يعني هذا �إنّ هذه ر�ؤيا‬
‫حتذيرية �أم تقريرية؟ مل ي ُكن مت�أكدً ا‪ ..‬و�إنْ كانت رع�شة ج�سده ّ‬

‫‪n‬‬
‫ترجح‬
‫اخليار الثاين‪.‬‬

‫لقد وجد �سي�سيل طريقه‪ ..‬ب�أنفا�س الهثة وبحبات العرق املتجمدة‬


‫على جبينه‪َ ،‬ه َّم ب�إزاحة القطعة احلجرية من قمة �أحد الأبراج‬
‫الرئي�سية يف قلعة القمم الدخانية‪ ..‬لقد وجد هذه القطعة بعد بحث‬

‫ﻋﺼ‬
‫جهيد‪ ..‬وكان الزمن قد تكفل بتهتك التحامها بباقي الأحجار‪ ..‬لوال‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الليل و�ضباب القمم‪ ..‬كان �سيكون مك�شو ًفا للحرا�س الذين انت�شروا‬
‫ﻜﺘ‬

‫ً‬
‫انخفا�ضا‪ ..‬ورغم ذلك‪ ،‬تابع عمله يف هدوء تام‪..‬‬ ‫يف الأبراج الأكرث‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و ِا ْن َ�سل �إىل داخل احلجرة ال�سرية التي �صارت تثري ف�ضوله �أكرث من‬
‫قبل‪ ..‬ومل ي ُكن الظالم ً‬
‫دام�سا ح ًقا‪ ..‬فهناك �شمعة �صغرية م�شتعلة يف‬
‫ﺸﺮ‬

‫الزاوية‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫انكم�ش قلبه حتفزً ا‪ ..‬فهذه ال�شمعة تعني �أنّ �أوفيليا كانت هنا‬
‫وميكن �أنْ تعود يف �أي حلظة‪ ..‬ولكنه �سرعان ما جتر�أ ليخطو خطواته‬
‫يف اجتاه تلك ال�شمعة‪ ..‬يجب �أنْ ي�ستغل غيابها لإيجاد الوثيقة‪.‬‬
‫انتف�ض حني دا�س بقدمه على �شيء مل يعلم كنهه‪� ..‬شيء رجح �أنه‬
‫جمموعة من الكتب املتناثرة‪ ..‬فرائحة الورق العتيق كانت متلأ اجلو‪..‬‬
‫تخللتها رائحة احرتاق ال�شمع والفحم الذي مل يعلم م�صدره‪ ..‬وكانت‬
‫ي�ستطع متييزها جيدً ا‪ ..‬ولكنه تابع ال�سري حتى‬
‫هناك رائحة رابعة مل ِ‬
‫�أم�سك بتلك ال�شمعة‪ ..‬ثم رفعها لي�ستك�شف ما يف احلجرة‪ ..‬وبالفعل‪،‬‬
‫‪146‬‬
‫كانت جدران احلجرة مليئة برفوف الكتب القدمية‪ ..‬بع�ضها بدا ك�أنه‬
‫مل مي�س منذ زمن بعيد �إثر احت�شاد الغبار‪ ..‬لقد �أخربته �إينور ب�أنّ‬
‫الوثيقة يف �صندوق خ�شبي نق�ش عليه ا�سمها و�أذيب قفله احلديدي‪..‬‬
‫�إنه يلمح بع�ض ال�صناديق على الرف الذي يقابله‪ ..‬عليه �أنْ ميعن‬
‫النظر �أكرث ليجد مراده‪.‬‬
‫خطا عدة خطوات عائدً ا من حيث �أتى لي�ستك�شف ذلك الرف‪..‬‬
‫وك�شر حاجبيه حني دا�س بقدمه على كومة الكتب تلك جمددًا‪..‬‬
‫و�أدرك �أنها مل ت ُكن كومة كتب حني انحنى لي�ستك�شف ماهيتها‪ ..‬مد‬
‫يده ليتلم�س تلك الكومة‪ ..‬وارتع�ش حني �أح�س بلزوجة غريبة يف يده‪..‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حينها‪� ..‬أدرك ما ر�أى‪ ..‬وكان ما ر�آه كفيل بزلزلة كيانه‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫لقد كانت بقايا جثة‪ ..‬جثة تعرف على �صاحبها فو ًرا‪ ..‬جثة �شقيقته‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�آيري�س‪ ..‬وكان ما تل ّم َ�سه هو ما تبقى من ر�أ�سها‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ملقى بال دماغ بعد �أنْ مت �إفراغ جمجمته‪.‬‬


‫ر�أ�سها الذي كان ً‬

‫‪n‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪147‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل العاشر‬
‫أمير البوم‬

‫كانت ال�صدمة كفيلة بجعل ع�ضالته تتهاوى وه ًنا‪ ..‬فارتطم‬


‫بالأر�ض بينما ات�سعت عيناه يف غري ت�صديق‪ ..‬قلبه يكاد يخرج من‬

‫ﻋﺼ‬
‫�صدره من فرط االنفعال‪ ..‬وعقله يرف�ض ت�صديق ما يدرك حقيقته‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ولكنها كانت احلقيقة ح ًقا‪� ..‬شقيقته التي َ َ‬
‫عب الأبعاد من �أجلها‬
‫ﻜﺘ‬

‫فارقت احلياة منذ زمن‪ .‬مل َت ُعد هناك �آيري�س يف هذا العامل‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عاود النهو�ض رغم ارجتافة �أو�صاله وغ�شاوة الدمع التي غلفت‬


‫ﺸﺮ‬

‫مقلتيه‪ ..‬يدرك �أنّ عليه الت�صرف بحكمة وعقالنية‪ ..‬يدرك �أنّ‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الأمرية التي �أ�شعلت ال�شمعة �ست�أتي يف �أي حلظة لتجده‪ ..‬يدرك �أنّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫التهور واجلنون لي�سا من �سماته‪ ..‬ولهذا لن يكون غب ًيا‪� ..‬سيتح ّمل‬


‫�أمله‪ ..‬و�س ُينهي ما �أتى من �أجله‪� ..‬صحيح �أنّ �ضربات قلبه ت�أبى‬
‫الر�ضوخ‪� ..‬صحيح �أنه �صار ال يرى �شي ًئا من دمعه الذي �صار يغطي‬
‫وجهه‪� ..‬صحيح �أنّ �أنفا�سه �صارت خمتنقة ج ًّدا‪ ..‬ولكنه �سيتحمل‪..‬‬
‫�سيتحمل هذه اللحظات الع�صيبة حتى يخرج من هنا‪.‬‬
‫�سيرتك تلك الأمرية تنجو من املوت هذه املرة‪ ،‬ميكنه �أنْ يقتلها‬
‫يف حلظة‪ ،‬ولكن تبقى احتمالية ب�سيطة للف�شل‪ ..‬ولهذا‪� ..‬سيرتكها‬
‫‪149‬‬
‫يوما ما ليدمرها‪ ..‬ليد ّمر هذا‬ ‫ويرحل‪� ..‬سيرتكها‪ ،‬ولكنه �سيعود ً‬
‫العامل بر ّمته‪ .‬لقد ماتت �آيري�س‪ ..‬وال �شيء ي�ستحق البقاء بعدها‪..‬‬
‫لكن‪ ..‬عليه �أنْ يعود �إىل تلك ال�ساحرة � ًأول‪ ..‬عليه �أنْ يتم مهمته‪..‬‬
‫عليه �أنْ يجد وثيقة احلجر النيزكي‪.‬‬
‫كتم �أنفا�سه امل�ضطربة وجتاوز اجلثة متج ًها �إىل ذلك الرف‪..‬‬
‫ال�شمعة ترتاق�ص حتى تكاد تنطفئ يف �أي حلظة‪ ..‬والربودة املفعمة‬
‫بال�ضباب املت�سلل من الفتحة العلوية يف ازدياد‪ ..‬ق ّرب ال�شمعة من ذلك‬
‫الرف لي�ستك�شف ال�صناديق‪ ..‬ومد يده املرجتفة ليتلم�س الأقفال‪ ..‬ثم‬
‫وجده؛ �صندوق خ�شبي �صغري �أذيب قفله‪ ..‬وحني ق ّرب ال�شمعة‪ ،‬تراءى‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫له ا�سم ال�ساحرة بحروف مبعرثة �صغرية‪ ..‬وم ّد يده لي�ستل ذلك‬
‫ﻜﺘ‬
‫ال�صندوق ثم يربطه حول خ�صره‪ ..‬تبقى الآن مهمة العودة‪ ..‬يجب‬
‫�أنْ ي�ستجمع تركيزه وينق�ش و�شم التنقل الآين ليعود �إىل عامل �إينور‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫وهم با�ستخراج الإبرة‬ ‫و�ضع ال�شمعة � ً‬


‫أر�ضا عند زاوية املكتبة‪ّ ..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫هم بر�سم الو�شم الذي حفظه عن ظهر قلب‪،‬‬ ‫وال�سائل القاين‪ ..‬وما �إنْ ّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حتى انتف�ض �إثر �سماعه �صوت اخلطوات‪� ..‬إنها قادمة‪ ..‬قاتلة �آيري�س‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫تعود �إىل احلجرة‪ ..‬لن ينجح يف ا�ستكمال الو�شم قبل و�صولها‪..‬‬


‫تراوده فكرة قتلها بقوة‪ ..‬يود لو يحطم ر�أ�سها كما فعلت ب�شقيقته‪ ..‬ال‬
‫يرغب ب�شيء �أكرث من �إ�سالة دمائها يف هذه اللحظة‪ ..‬ولكن‪ ..‬ولكنه‬
‫�سيكون �أقوى من هذه العواطف التي يدرك �أنها قد تت�سبب مبقتله‬
‫وجناتها‪ ..‬لن ير�ضخ حلزنه مهما كانت �سطوته‪ ..‬ولهذا‪ ..‬و�ضع‬
‫الإبرة جان ًبا للحظة وحجب �ضوء ال�شمعة بكفيه‪ ..‬ف�أظلم املكان �إال‬
‫من ال�ضوء اخلافت املت�سلل من الفتحة العلوية‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫اخلطوات تتوقف‪ ..‬ثم ت�ستدير �صاحبتها عائدة لتجلب �شمعة‬
‫�أخرى ظ ًنا ب�أنّ �شمعتها انطف�أت‪.‬‬
‫�أزاح �سي�سيل كفيه اللذين كادا يحرتقان ‪�-‬أو احرتقا ً‬
‫فعل‪ -‬و�أخذ‬
‫نف�سا عمي ًقا ‪-‬ال يتوافق مع �ضربات قلبه اجلنونية‪ -‬ثم َّ‬

‫‪n‬‬
‫هم با�ستكمال‬ ‫ً‬
‫ذلك الو�شم على �ساعده الأي�سر الذي �صار مزدح ًما‪.‬‬

‫كان ريجان يقف يف بهو قلعة الرمال بهندام مبعرث �إثر ا�ستدعائه‬

‫ﻋﺼ‬
‫العاجل من ِقبل امللك‪ ..‬امللك الذي امتلأت مقلتاه بالدموع مما جعله‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يدفع به �إىل �إحدى القاعات املغلقة حيث ال يتفرج ا ُ‬
‫حل ّرا�س‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫مل يعرف ريجان ما رد الفعل الأن�سب ملوقف كهذا‪ ..‬فقد كان �إيدن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫على �شفا االنهيار وهو يتمتم بعبارات مبهمة خمتلطة ويردد كل حني‪:‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫«�أنا ال �أملك ً‬
‫جي�شا! ال �أملك الأموال الكافية لبناء جي�ش وال �أملك‬
‫ﻭ‬

‫الوقت الكايف! ال �أملك ً‬


‫جي�شا!»‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وقاطعه ريجان بال�س�ؤال عدة مرات قبل �أنْ يجيبه‪�« :‬سيغزون‬


‫مملكتي! لقد كان مي�ست حم ًقا فيما يفعل! كان مي�ست حم ًقا يف‬
‫�شكوكه و�أنا مل �أ�ستمع �إليه قط! بل �أبرمت اتفا ًقا ب�صرف كل الرثوة‬
‫التي �أملكها ل�صالح امللك مريلني الذي ينوي غزو مملكتي!»‬
‫عاد ريجان للت�سا�ؤل‪�« :‬أرجوك اهد�أ وا�شرح يل الأمر! كيف �أدركت‬
‫ب�أنّ ما كتبه الأمري مي�ست يف تلك الر�سالة �صحيح؟ رمبا كان يكذب»‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫حلت حلظة �صمت على �إيدن وهو ينظر �إىل عيني ريجان يف رعب‪:‬‬
‫«الأحالم التي �أراها حقيقية يا ريجان‪� ..‬إنها حتذيرات من احلرب‬
‫القادمة‪� ..‬أنا مل �أفهم فحوى هذه الأحالم من قبل ولكني �أفهمها‬
‫الآن‪� ..‬سيزحفون على مملكتي ويعيثون بها ف�سادًا‪� ..‬سيقتلون اجلميع‬
‫ويدمرون كل �شيء»‪.‬‬
‫�أراد ريجان �أنْ ي�س�أله كيف ا�ستنتج هذا‪ ..‬ولكنه �أدرك �أنه لن يلقى‬
‫جوا ًبا‪ ..‬هل هذا امللك جمرد جمنون بعد كل �شيء؟ هل هذا الرعب‬
‫الذي تنب�ض به عيناه م�صدره اجلنون؟ رغم ت�شككه‪ ،‬ف�إنّ تعابري وجه‬
‫�إيدن ونظرات عيونه الزائغة بعثت رجفة خوف يف ج�سد ريجان‪ ..‬لقد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ً‬
‫متخبطا ج ًّدا‪ ..‬يود لو �أنه قادر على نبذ �أفكار �إيدن‪ ..‬ولكنه ي�شعر‬ ‫بات‬
‫ب�صدقها يف داخله‪ ..‬رمبا كان عليهما �أنْ ي�ستمعا ملي�ست ح ًقا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ابتلع ريجان ريقه يف �صعوبة وهو يحاول بث الطم�أنينة يف نربته‪:‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«�أنا �أثق بر�ؤياك يا موالي‪ ..‬و�أريد منك �أنْ تثق بي وتعيدين �إىل قيادة‬
‫ﺸﺮ‬

‫اجلي�ش»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬رمبا لن يكون هكذا كاف ًيا‪ ..‬مـ‪ ..‬ما ر�أيك ب�أنْ نطلب م�ساعدة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫البوم الهالك؟ �إنهم يدعمونني!‬


‫رد ريجان ب�صرامة مل َيعتد ا�ستخدامها مع م ِلكه‪« :‬لن نفعل! يجب‬
‫�أنْ ال نرتكب خط�أ امللكة ليالك!»‬
‫‪ -‬لكنهم يدعمونني! بف�ضلهم �أجل�س جمددًا على عر�شي!‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ يردف‪« :‬نحن ال نعلم �شي ًئا عن‬
‫�أخذ ريجان ً‬
‫نواياهم! �أرجوك يا موالي! ثق بي وح�سب! �س�أبذل و�سعي من �أجل‬
‫ذدمت �أتنف�س»‪.‬‬
‫�إعادة بناء قواتنا ولن يتعدى �أحد حدود مملكتنا ما ُ‬
‫‪152‬‬
‫‪n‬‬
‫�أوم أ� �إيدن بعيونه الزائغة وهو يدرك �أنّ الأيام القادمة �ستكون‬
‫خمتلفة‪� ..‬ستكون ع�صيبة!‬

‫فتح �سي�سيل عينيه جمددًا‪ ..‬لقد زالت الت�شنجات الع�ضلية‬


‫لي�ستعيد توازنه‪ ،‬وتال�شت الظلمة التي كانت تغلفه يف �أثناء انتقاله‬
‫عدين‪ ..‬وها هو يقف جمددًا �أمام اخليمة الكبرية حيث تقطن‬ ‫عرب ال ُب َ‬
‫�إينور‪ .‬تقدم خطوتني ثم ما لبث حار�س اخليمة �أنْ �أف�سح له الطريق‬
‫دُون �س�ؤال‪ ..‬وهذا ما تعلمه ا ُ‬
‫حل ّرا�س يف �أثناء �إقامة �سي�سيل هنا خالل‬

‫ﻋﺼ‬
‫ال�شهور املن�صرمة‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ويف الداخل‪ ،‬وجدها‪ ،‬جتل�س مبت�سمة وك�أنها كانت ترتقب عودته‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ً �-‬‬
‫أهل بعودتك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل يبت�سم‪ ،‬بل �سارع بفك الرباط املعقود بحزامه ليحرر �صندوقها‬
‫ﺸﺮ‬

‫اخل�شبي‪ ..‬ثم ناولها �إياه بينما تنطق عيناه بغ�ضب عميق �أدركته فو ًرا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫مدت يدها متناولة ال�صندوق وهي تت�ساءل‪« :‬ما الذي حدث معك؟»‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل ي ُكن قاد ًرا على ا�ستخراج الكلمات من حلقه‪ ..‬فالغ�صة التي‬
‫جدا �أنْ ينطق دُون �أنْ تنطلق دموعه‬
‫�أخفاها �أجلمته‪ ..‬من ال�صعب ًّ‬
‫التي يحب�سها ب�صعوبة بالغة‪.‬‬
‫�أ�شارت له باجللو�س‪ ،‬ثم ه ّمت بفتح �صندوقها بينما متنحه‬
‫الفر�صة ال�ستعادة رباطة ج�أ�شه‪ .‬ات�سعت ابت�سامتها وهي تقلب وثيقتها‬
‫بني يديها‪ ..‬هم�ست‪�« :‬إنها الوثيقة التي �أردتها ح ًقا‪� ..‬أ�شكرك! ال تعلم‬
‫ما الذي قدمتَه يل! ب�سبب هذه الوثيقة �سيخ ّلد التاريخ ا�سمي»‪.‬‬
‫‪153‬‬
‫مل يرد جوا ًبا‪ ،‬ومل يزح ناظره عن الأر�ض التي كاد يثقبها بعينيه‪.‬‬
‫مل تتابع احلديث‪ ،‬بل ه ّمت بالنفخ على وثيقتها املغلفة بالغبار‪ ..‬ثم‬
‫ا�ستلت منظارها ال�سميك لتتمكن من قراءة احلروف ال�صغرية التي‬
‫بهت بع�ضها‪ ..‬ا�ستغرقت يف القراءة �ساعات عديدة حتى كادت تن�سى‬
‫وجوده‪ ..‬ومل تلتفت �إليه جمددًا حتى نطق �أخ ًريا‪.‬‬
‫منك �أنْ تعلميني املزيد‪.‬‬
‫‪� -‬أريد ِ‬
‫ك�شرت جبينها مت�سائلة‪« :‬املزيد من الو�شوم؟ �أال تريد العودة �إىل‬
‫عاملك؟»‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬بلى‪ ..‬ولكن بعد �أنْ �أتعلم بع�ض الو�شوم‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬و�أي و�شوم تريد �أنْ تتعلمها؟‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬و�شوم اال�ستدعاء‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ارت�سمت على وجهها ابت�سامة ال تنا�سب املوقف‪ ..‬قالت بلهجة‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ملول‪« ،‬ال تتحامق‪ ..‬هل تدرك معنى ما تقول؟»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أدرك ما �أقول‪.‬‬


‫وكانت نظرات عينيه ت�شي ب�أنه يدرك ما يقوله ح ًقا‪.‬‬
‫غابت ابت�سامتها وهي ت�شعر بجديته‪« :‬كيف �سي�ساعدك ا�ستدعاء‬
‫الكيانات ال�شيطانية يف �إيجاد �شقيقتك؟ هل لك �أنْ ت�شرح يل هذا؟»‬
‫رفع ناظره �إليها ليجيب يف هدوء اختزن الكثري من القهر امل�ش ّوب‬
‫باالنك�سار‪�« :‬شقيقتي مل َي ُعد لها وجود يف عاملي‪ ..‬ولهذا‪.»...‬‬
‫‪154‬‬
‫ا�ستكملت عبارته وهي تدرك نيته‪ ...« :‬ولهذا تريد تدمري عاملك؟»‬
‫كان �صمته يحمل الإجابة‪ ..‬و�أدركت �أنّ ال جدوى من حماوالت‬
‫ردعه‪.‬‬
‫حلت حلظات �صمت ا�ستغرقت فيها مفكرة قبل �أنْ ترد جوا ًبا‪:‬‬
‫«كما تريد‪� ..‬س�أعلمك‪ ..‬ولكن �سي�ستغرق الأمر وقتًا»‪.‬‬
‫�أجاب‪« :‬ال �أملك �شي ًئا �سوى الوقت»‪.‬‬
‫ابت�سمت جمددًا‪ ،‬ورغم �أنها متلك كل �شيء �سوى الوقت‪ ،‬ف�إنها‬
‫ﻋﺼ‬
‫قررت �أنه ي�ستحق معرو ًفا كهذا‪ ..‬ومل ي ُكن هذا �سببها الوحيد لتقدمي‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫امل�ساعدة‪ ،‬ففي داخلها‪ ،‬كانت تكمن رغبة مكبوتة يف تدمري العامل‬

‫‪n‬‬
‫الذي ن َب َذها‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يف اليوم التايل‪ ،‬كانت �أوفيليا جتل�س بداخل العربة امللكية التي‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�ش ّقت طريقها �إىل مملكة ال�صحاري‪ ..‬ت�ضع يدها على خدها وحتدق‬
‫يف اجلبال املبتعدة من خلف النافذة‪ ..‬وال�سماء التي بد�أت ت�صطبغ‬
‫نف�سا عمي ًقا وهي تعيد ناظرها �إىل الكتاب‬
‫بحمرة املغيب‪� ..‬أطلقت ً‬
‫ال�سميك يف حجرها‪ ..‬تابعت القراءة‪� ..‬أو بالأ�صح‪ ،‬تظاهرت بذلك‪..‬‬
‫ً‬
‫من�شغل ب�أمر �آخر اقرتب �أوانه‪ ..‬لقد م�ضى يوم كامل منذ‬ ‫فعقلها كان‬
‫انطالقهم من قلعة القمم الدخانية‪ ..‬و�صاروا على مقربة من النقطة‬
‫التي َب َن ْت خمططها عليها‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫عادت بذاكرتها �إىل الأيام املن�صرمة حني بد�أت تخطط لهذه‬
‫اللحظة‪ ..‬وابت�سمت حني تذكرت ب�أنّ كل �شيء ي�سري وفق ما تريد‪..‬‬
‫فهي من دفع امللك مريلني �إىل اخلروج يف هذه الرحلة‪ ..‬كانت تعلم‬
‫عمق العالقة التي جتمع امل ِل َكني‪ ..‬وكانت تعلم ما �سي�سببه ردها على‬
‫�إيدن من غ�ضب ولذلك �أر�سلته‪� ..‬أرادت �أنْ تفتعل �أم ًرا يدفع بامللك‬
‫�إىل اخلروج من قلعته‪ ..‬وجنحت يف ذلك‪� ..‬صحيح �أنها مل ت ُكن‬
‫أي�ضا‪ ،‬ولكنها متلك ً‬
‫خططا بديلة دائ ًما‪.‬‬ ‫تخطط للخروج معه � ً‬
‫وانتف�ضت العربة لي�سقط الكتاب من ِحجرها‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�صهيل اخليول املرتبكة �إثر التوقف املفاجئ‪ ..‬توتر و�صياح �سائ�سي‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫العربات امللك ّية وانتفا�ضة ح ّرا�س امللك الذين ا�صطفوا حول العربات‬
‫ﻜﺘ‬

‫�شهرين �سيوفهم‪.‬‬
‫ُم ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كل �شيء ي�سري وفق ما تتوقع‪ ..‬وتدرك جيدً ا �أنّ والدها امللك‬
‫ﺸﺮ‬

‫ينتف�ض رع ًبا يف عربته املنمقة‪ ..‬ولكنها ت�ؤمن ب�أنّ ال �ضرر يف ذلك فلن‬
‫ﻭ‬

‫يقتله بع�ض الرعب‪ ..‬هي حتب والدها وتق ّدر ثقته فيها‪ ..‬ويف الوقت‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ذاته‪ ،‬ت�ؤمن ب�أنّ بع�ض الأهداف تلزمها بع�ض الت�ضحيات‪� ..‬سريتعب‬


‫قليل ويكرهها ثم يعتاد على حياته اجلديدة اخلالية من التيجان‪..‬‬ ‫ً‬
‫وهذه ت�ضحية تافهة مقارنة بهدفها احلقيقي‪.‬‬
‫حتفزت �إثر اال�شتباك العنيف �أمام باب عربتها‪ ..‬وودت لو ت�صفع‬
‫الو�صيفة اجلال�سة قبالتها وهي ت�صرخ يف ه�ستريية‪ ..‬ورغم �أنها من‬
‫د ّبر كل هذا‪ ،‬ف�إنّ قلبها كان ينتف�ض رع ًبا حني اقتحم الرجل امللثم‬
‫بال�سواد عربتها‪ ،‬ثم جرها وراءه ج ًرا وهي بالكاد متنع نف�سها من‬
‫التعرث يف ف�ستانها‪.‬‬
‫‪156‬‬
‫«�إنهم يختطفون الأمرية �أوفيليا! ال ت�سمحوا لهم بالهروب!» كانت‬
‫تلك �صيحات احل ّرا�س الذين افرت�ش �أكرثهم الأر�ض بالفعل‪.‬‬
‫ومن بعيد‪ ،‬ملحت والدها الذي �أطل من عربته بعينني زائغتني‬
‫غا�ضبتني وهو ي�صرخ‪ ..‬مل ت�سمع ما يقول‪ ،‬ولكن حماوالته للخروج‬
‫من عربته وممانعة احل ّرا�س جعلتها تدرك �أنه يريد �إنقاذها‪ ..‬ومل‬
‫ت َر ما حدث بعد ذلك‪ ،‬فقد �ساقها املل ّثم خلفه ثم رفعها على ظهر‬
‫جواد �سرعان ما انطلق بهما‪ ..‬كان �سري ًعا قو ًيا‪ ..‬لدرجة �أنها مل جتد‬
‫الفر�صة للنطق �أو االلتفات‪ ..‬بل ت�شبثت بظهر اجلواد وهي تغم�ض‬

‫‪n‬‬ ‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫عينيها بقوة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف �إحدى حجرات �صومعة الق�ضاة‪ ،‬وقف �سريو�س وهو يت�أمل‬


‫الر�سالة التي تلقاها منذ قليل ال�ستدعاء الأمري مي�ست من ِقبل‬
‫ﺸﺮ‬

‫الأمرية �أوفيليا‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬الأمرية �أوفيليا متجهة �إىل مملكة ال�صحاري ولن تعود قبل‬


‫�شهر على الأقل‪ ،‬ملاذا ت�ستدعي الأمري مي�ست �إىل القلعة؟!‬
‫بدا الأمر غري ًبا‪ ،‬ولكنها لي�ست املرة الأوىل التي تت�صرف فيها‬
‫�أوفيليا بغرابة‪ ..‬فحتى ا�ستدعاء �سي�سيل �ساب ًقا كان ملي ًئا بالريبة‪.‬‬
‫وكان �سريو�س ميلك احلق يف الرف�ض‪ ،‬ولكنه يدرك �أنّ مي�ست �أمري‬
‫بعد كل �شيء‪ ،‬وعليه �أنْ يتف ّهم �أنّ هناك طوارئ ت�ستدعي خروجه مهما‬
‫حاول االنعزال عن العامل اخلارجي‪ ..‬ثم �إنه مطلوب يف القعلة ملدة‬
‫‪157‬‬
‫يوم واحد وح�سب‪ ..‬ال ي�ستحق الأمر �أنْ يتخذ موقف �صاحب ال�سلطة‬
‫امل�ستبد‪ ..‬ولهذا‪� ،‬سمح له باخلروج‪.‬‬
‫ومل ت ِغب عنه نظرة التوتر وال�شرود التي كانت تعلو وجه مي�ست وهو‬
‫يخربه ب�أمر ا�ستدعائه‪ ..‬مل ي ُكن متفاج ًئا �أو متعج ًبا‪ ..‬بل كان يبدو‬
‫علم بكل �شيء‪� ..‬أي �شيء؟! ال يدري! وال يريد �أنْ ي�س�أل حتى ال‬‫على ٍ‬
‫حري�صا على ال�صمت‬
‫ً‬ ‫يواجهه مي�ست باالمتناع عن الإجابة‪ ..‬فقد بدا‬
‫ومل ينطق �سوى بجملة واحدة‪« :‬لن �آخذ معي �شي ًئا من حاجياتي‪..‬‬
‫فقد مت جتهيز جناحي م�سب ًقا يف القلعة»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬مت جتهيز جناح كامل من �أجل يوم واحد؟!‬
‫ﻜﺘ‬

‫ً‬
‫مت�سائل‪ ،‬ولكن مي�ست مل يرد جوا ًبا‪،‬‬ ‫كان ذلك ما رد به �سريو�س‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�أدرك �سريو�س جمددًا �أنّ مي�ست هذا �أمري ِومن املتوقع �أنْ ُي َعامل‬
‫ﺸﺮ‬

‫ك�أمري خارج ال�صومعة‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هم باملغادرة‪ ،‬ثم �صعد‬


‫وما �إنْ ا�ستلم وثيقة اخلروج امل�ؤقتة حتى ّ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫على منت العربة املن ّمقة التي كانت تنتظره منذ زمن �أمام البوابة‬
‫اخلارجية‪.‬‬
‫ومن عيني مي�ست بدت نظرة م�شو�شة‪ ..‬كانت دقات قلبه م�ضطربة‬
‫وهو يقب�ض بيده على ر�سالة �أخرى كان يخبئها يف مالب�سه‪ ،‬ي�شد بيده‬
‫عليها ثم يبتلع ريقه وهو يدرك املخاطرة التي يقحم نف�سه فيها‪.‬‬
‫‪ -‬هذه هي الطريقة الوحيدة حلماية مملكتي‪.‬‬
‫‪158‬‬
‫كان ذلك ما �أخذ يردده يف داخله ليبعث بع�ض الثقة يف نف�سه‪ ..‬ال‬
‫ُب َّد �أنْ يكون ملي ًئا بالثقة حتى يفر�ض هيبته‪ ..‬ال ُب َّد �أنّ الأمرية �أوفيليا‬

‫‪n‬‬
‫يف طريقها للعودة‪ ..‬ويجب �أنْ ينفذ ما اتفقا عليه يف الأيام املن�صرمة‬
‫قبل �أنْ ت�صل‪.‬‬

‫كانت بري�شيليا تتخفف من جموهراتها ا�ستعدادًا للنوم حني‬


‫هم�ست لها �إحدى خادماتها لتجعل �أي �أثر للنعا�س يختفي من عينيها‪..‬‬
‫‪ -‬الأمري مي�ست يف القعلة يا �أمريتي‪� ..‬إنه ينتظرك يف البهو‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬ ‫ّ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ك�شرت وهي تلتفت بينما ترت�سم على وجهها �أمارات االنزعاج‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫«الأمري مي�ست؟! ما الذي يفعله هنا؟»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬ال نعلم يا �أمريتي!‬


‫ﺸﺮ‬

‫ت�أففت بري�شيليا يف �ضيق وهي تعيد ارتداء القالدة التي خلعتها‬


‫للتو‪ ..‬بينما �أعادت و�صيفتها تثبيت �شعرها �إىل الوراء لتعيد و�ضع‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫التاج على ر�أ�سها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫هم�ست لها و�صيفتها العجوز وهي ت�سرع اخلطوات �إىل اخلارج‪« ،‬ال‬
‫تقابليه بوجه عبو�س يا �أمريتي! ابت�سمي ً‬
‫قليل!»‬
‫اهتماما‪ ..‬بل تابعت خطاها �إىل البهو‬
‫ً‬ ‫ولكن بري�شيليا مل تعرها‬
‫حيث وجدته يف انتظارها‪ ..‬مل ي ُكن يرتدي هندام طالب ال�صومعة‪..‬‬
‫هنداما جدي ًرا ب�أمري مملكة ال�صحاري‪ ..‬وكان �أكرث‬
‫ً‬ ‫بل كان يرتدي‬
‫ما لفتها فيه ردا�ؤه الذي تطرزت �أطرافه بخيوط الذهب‪ ..‬ونظرته؟‬
‫ماذا ت�سمى هذه النظرة حتديدً ا؟‬
‫‪159‬‬
‫�أرغمت ابت�سامة على وجهها وهي تقول ب�صوت حاولت �أنْ يكون‬
‫ب�شو�شا‪ً �« :‬‬
‫أهل بالأمري مي�ست!»‬ ‫ً‬
‫ابت�سم بدوره ابت�سامة بدت لزجة مرغمة‪�« :‬شك ًرا �أيتها الأمرية»‪.‬‬
‫‪ -‬ترى ما �سر هذه الزيارة املفاجئة؟ �أنت تعلم ب�أنّ والدي يف‬
‫طريقه �إىل مملكتكم‪.‬‬
‫‪� -‬صحيح‪.‬‬
‫�أطلقت �ضحكة‪« :‬ينبغي �أنْ تنتظر عودته‪ ،‬ف�أنا ال �أملك �شي ًئا من‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أمر هذه القلعة! �أنا ال �أختلف عن �أي لوحة معلقة للزينة وح�سب»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫�شهقت و�صيفتها وهي حتاول التدخل لإيقافها عن �أ�سلوبها‬
‫اال�ستهزائي‪ ،‬ولكن بري�شيليا تابعت‪« :‬ال ُب َّد �أنك �أتيت يف هذا الوقت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حتديدً ا لأمر طارئ‪ ..‬ولكن ال ميكنني م�ساعدتك ح ًقا»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�س�ألها بنربته الهادئة‪« :‬ملاذا تبدين منزعجة مني ب�شدة؟ مل تكوين‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هكذا يف لقائنا الأول»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أطلقت زفرة قبل �أنْ جتيبه‪« :‬ل�ست منزعجة منك! ولكني �أ�شعر‬
‫بال�ضيق»‪.‬‬
‫‪� -‬آ�سف ل�سماع هذا‪ ..‬ولكن �سيكون عليك االعتياد على هذا‪.‬‬
‫ك�شرت حاجبيها يف ا�ستغراب وهي حتاول ا�ستدراك ما يقول‪:‬‬
‫«ماذا؟»‬

‫‪160‬‬
‫رجال‬
‫ولكنه مل يرد جوا ًبا‪ ..‬ومل تكد تلمح �إ�شارته قبل �أنْ جتد ثالثة ٍ‬
‫من حرا�س قلعتها يقب�ضون على ذراعيها ويجرونها �إىل اخلارج‪..‬‬
‫كانت �شبه حممولة يف الهواء فلم ت�شعر بالأر�ض حتت قدميها‪ ..‬وعلى‬
‫وجهها ارت�سم �أعظم خوف �شعرت به يف حياتها‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي تفعلونه؟! �أنا �أمرية هذه القلعة و�آمركم ب�إنزايل! �إىل‬
‫�أين ت�أخذونني؟!‬
‫ومل يب ُد �أنّ هناك َمن ي�ستجيب ل�صياحها �سوى و�صيفتها العجوز‬
‫التي حاولت اللحاق بها قبل �أنْ تتلقى �ضربة �أ�سقطتها � ً‬
‫أر�ضا وهي تئن‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ومن بعيد‪ ،‬ملحت احلرا�س وهم يحيطون ب�شقيقها �آرون‪ ..‬ثم‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أدركت ما يجري؛ الأمري مي�ست ا�ستغل غياب امللك من �أجل فر�ض‬
‫ﻜﺘ‬

‫ال�سيطرة على القلعة‪ ..‬ولكن كيف ي�ستجيب له حرا�س القلعة؟! كيف‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال يوقفه �أحد؟ هل ميكن �أنْ يكون متعاو ًنا مع خائن من بينهم؟ ثم‬
‫ﺸﺮ‬

‫ات�سعت عيناها رع ًبا حني خطر لها ا�سم �أول م�شتبه به‪�« :‬أوفيليا!»‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وكانت تلك �أ�سود ليلة يف حياتها‪� ..‬أول ليلة تبيت فيها على �أر�ضية‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صخرية ياب�سة‪� ..‬أول ليلة ترقد فيها يف مكان تلهو فيه جرذان مل‬
‫تتخيلها يف �أ�سو�أ كوابي�سها‪� ..‬أول ليلة تتخلى فيها عن ما ترتديه من‬
‫جموهرات لتقدمها ر�شوة حلار�سها الذي مل يبد �أي اهتمام بها! كانت‬
‫يوما ما‪ ..‬الليلة التي‬
‫�أول ليلة لأ�شياء كثرية مل تتخيل �أنها �ستعي�شها ً‬

‫‪n‬‬
‫�أ�صبحت فيها �سجينة مبعنى الكلمة‪� ..‬سجينة لزنزانة خانقة كريهة‬
‫املظهر والرائحة‪ ..‬جعلتها ت�ستفرغ ما يف معدتها مرات عدة‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫بد�أ اجلواد يبطئ من حركته من بعد حلول ال�صباح‪ ،‬و�شعرت‬
‫�أوفيليا بالتوتر حني بدت معامل قلعة القمم الدخانية من بعيد‪،‬‬
‫خاطبت امللثم الذي يجل�س خلفها وي�سندها من اجلانبني حتى ال‬
‫ت�سقط‪« :‬هل هناك �أي نب�أ جديد من الأمري مي�ست؟»‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪.‬‬
‫جاءها رده‪ ،‬وك�شرت غا�ضبة وهي تنوي حما�سبة رجالها‪ ..‬كيف‬
‫ً‬
‫مر�سال لها؟ ال ُب َّد لها �أنْ تتهي�أ يف حال ف�شله يف‬ ‫لهم �أنْ ال ير�سلوا‬
‫ال�سيطرة على القلعة‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫وتباط�أ اجلواد �أكرث و�أكرث حني �صار على �سفح اجلبل‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ابت�سمت �أوفيليا وهي تدرك مدى اقرتابها من �أول انت�صار لها‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫�ستجل�س على هذا العر�ش وحدها‪ ..‬ال ُب َّد �أنّ الأعور قد هي أ� اجلنود‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من �أجل رحلتهم القادمة‪ ..‬اجلنود الذين �صاروا جنودها الآن والذين‬
‫ﺸﺮ‬

‫ينتظرون �إ�شارتها من �أجل بدء احلرب على مملكة ال�صحاري‪ ..‬خطر‬


‫لها كيف �أنّ انتقال ال�سلطة �أمر مثري لل�سخرية‪ ..‬وكيف �أنّ �إخال�ص‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اجلنود �أمر ال حقيقة له بل هو جمرد طاعة جمربة ملن يجل�س على‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ذلك الكر�سي! والآن‪� ،‬ستجل�س هي على هذا الكر�سي‪� ..‬سيت�ساءل‬


‫الكثريون عن �سبب تعجلها‪ ،‬فهي �ستجل�س عليه يف كل الأحوال‪..‬‬
‫ولكنها ال ت�ستطيع االنتظار‪ ..‬هي لن تعي�ش للأبد‪ ..‬يجب �أنْ حتتل‬
‫مملكة ال�صحاري الآن ال بعد ثالثني �سنة‪.‬‬
‫و�أمام بوابة القلعة توقف اجلواد‪ ..‬ثم �ساعدها املل ّثم لتنزل‪..‬‬
‫التفتت �إليه مت�سائلة‪« :‬هل القلعة حتت �سيطرة الأمري مي�ست؟ هل‬
‫جنح يف مهمته؟»‬
‫‪162‬‬
‫حزاما جلد ًيا من جيبه ق ّيد به‬
‫ً‬ ‫ولكنه مل يجبها‪ ..‬بل �أخرج‬
‫مع�صميها وراء ظهرها‪ ..‬ثم دفعها �إىل الداخل!‬
‫توقف لتلتفت غا�ضبة‪ ،‬ثم خاطبته بحدة‪« :‬كيف جتر�ؤ على هذا؟!»‬
‫ثم ابتلعت ريقها حني ملحت القالدة التي تتدىل من رقبته‪ ..‬القالدة‬
‫املنتهية بالري�ش املنتوف‪ ..‬القالدة التي تدرك معناها جيدً ا‪ ..‬وات�سعت‬
‫عيناها �صدمة‪.‬‬
‫‪ -‬مـ‪َ ..‬من �أنت؟‬
‫ولكنه تابع دفعها‪ ..‬هذه املرة‪� ..‬أجلمها اخلوف ومل تتوقف‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫لتعرت�ض‪ ،‬بل تابعت �سريها ب�أقدام حاولت جاهدة �أنْ تبدو ثابتة‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وحني دخلت البهو امللكي‪ ،‬مل متلك �سوى �أنْ تخر على ركبتيها‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حل ّرا�س متكومة على‬‫كان البهو م�صطب ًغا بالدماء‪ ..‬وكانت جثث ا ُ‬
‫ﺸﺮ‬

‫بع�ضها‪ ..‬ولكن ما �أرعبها كان جثث طيور البوم التي زاحمتهم‪..‬‬


‫الري�ش املنتوف يف كل مكان‪« ..‬كـ‪ ..‬كيف و�صل البوم الهالك �إىل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هنا؟! كـ‪ ..‬كيف متكنوا من اقتحام القلعة؟!» ولكن ت�سا�ؤالتها �سرعان‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ما خبت فقد جاءها اجلواب �سري ًعا‪ ..‬جاءها مع نظرتها �إىل عر�ش‬
‫والدها الذي يجل�س عليه الآن �شقيقها �آرون‪ ..‬بينما يقف �إىل جواره‬
‫�صاحب وجه تعرفه جيدً ا‪ ..‬نايت‪ ..‬امل�س�ؤول املايل ال�سابق‪.‬‬
‫كان �آرون يرمقها بابت�سامة تعلوها نظرة مل ت َرها يف حياتها‪ ..‬يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬ر�أتها كث ًريا يف كل �شوط �شطرجن تلعبه �ضده‪ ،‬ولكنها مل‬
‫تدرك قط �أنّ هناك ما يختبئ وراء هذه النظرات‪.‬‬
‫‪163‬‬
‫�آرون‪ ..‬لطاملا كان ذك ًيا ملي ًئا بالتحدي‪ ..‬لطاملا ناف�سها وتعلم منها‬
‫�أ�شياء كثرية‪� ..‬آرون ن�ش�أ على يديها فكيف ميكن �أنْ ت�ستبعد منه نية‬
‫جدا‪ ..‬وتدرك � ً‬
‫أي�ضا �أنها لي�ست بالقوة‬ ‫كهذه؟! الآن تدرك �أنها حمقاء ًّ‬
‫التي تظنها فقد �شعرت بدموعها تبلل وجهها �إثر الأمل الذي �شعرت‬
‫به يع�صف بقلبها‪.‬‬
‫نطق ليجعلها تختنق بكلماته‪�« :‬شك ًرا ً‬
‫جزيل على كل ما فعل ِته يا‬
‫كنت عاجزًا على فعله من �أجل �أنْ �أ�صبح‬
‫فعلت كل �شيء ُ‬ ‫�أوفيليا‪ ..‬لقد ِ‬
‫لك ولكني ال �أ�ستطيع �إبقاءك بجانبي‪� ..‬سي�أخذونك‬ ‫امللك‪� ..‬أنا ممنت ِ‬
‫�إىل الزنزانة‪ ..‬ولكن ال تقلقي‪ ،‬فقد �أمرتهم باختيار زنزانة نظيفة»‪..‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�أ�شار للملثم لي�أخذها �إىل برج ال�سال�سل‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪164‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الحادي عشر‬
‫المفتاح‬

‫أعوام كاملة على �سي�سيل يف ال ُبعد الآخر‪ ..‬ت�سعة‬


‫لقد مرت ت�سعة � ٍ‬
‫أعوام ق�ضاها يف‬
‫أعوام ق�ضاها يف تعلم �شيء جديد كل يوم‪ ..‬ت�سعة � ٍ‬ ‫� ٍ‬
‫ﻋﺼ‬
‫التعلم وال �شيء �سوى التعلم حتى �صار ُيل ّقب برفيق ال�ساحرة‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫اليوم‪ ،‬قررت �إينور ‪-‬التي احدودب ظهرها كث ًريا‪ -‬ب�أنّ موعد عودته‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قد حان‪ ..‬ورغم رغبته مبعرفة م�صري اجلماعة التي �أ�س�ستها �إينور‪..‬‬
‫اجلماعة التي يوقن ‪-‬وتوقن هي‪� -‬أنها لن تبقى جمرد فرقة من جي�ش‬
‫ﺸﺮ‬

‫ح�سا‬
‫امللك‪ ..‬فاحلوا�س احلادة التي �صاروا ميلكونها ط ّورت لديهم ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عال ًيا بالتف ّرد واالختالف‪ ..‬هذه الفرقة لن تبقى جمرد فرقة �ضمن‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يوما ما و�سيعلنون �أنهم‬ ‫جي�ش من متبلدي الإح�سا�س‪� ..‬سين�شقون ً‬


‫دما من البقية‪� ..‬سيحاربون ليكونوا �سادة القوم‪ ..‬ولكن �سي�سيل‬
‫�أعرق ً‬
‫ال ميلك الوقت لينتظر حدوث ذلك‪ ..‬لقد حان موعد عودته‪ ..‬حان‬
‫موعد االنتقام الذي ظل ي�شحذه طيلة هذه ال�سنوات‪.‬‬
‫ويف داخل قبو حجري �ضمن القلعة التي �صارت �إينور ت�سكنها‪،‬‬
‫وقف �سي�سيل �صامتًا‪ ،‬يفكر فيما ينتظره بعد عودته‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫و�ضعت �إينور الإبرة الرفيعة وقنينة ال�سائل القاين على املن�ضدة‬
‫اخل�شبية قبالتها ثم خاطبته بلهجة �آمرة‪�« :‬س�أر�سم لك و�شم العودة‪..‬‬
‫اجل�س»‪.‬‬
‫‪� -‬س�أر�سمه �أنا‪.‬‬
‫‪� -‬أعلم �أنك تتقن هذا الو�شم كا�سمك‪ ..‬ولكن ذراعك الي�سرى‬
‫ممتلئة بالو�شوم ال�سابقة‪ ..‬ال ميكن ر�سم هذا الو�شم �إال على‬
‫الذراع‪ ..‬ولهذا‪� ،‬س�أر�سمه �أعلى ذراعك اليمنى‪.‬‬
‫‪ -‬ما زال هناك حيز له على الذراع الي�سرى‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬رمبا ترغب بالعودة �إىل هنا الح ًقا‪ ،‬رمبا ترغب بالهرب‬
‫ﻜﺘ‬

‫جمددًا‪ ..‬ولذلك �س�أترك هذا احليز لك‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هام�سا‪« :‬تفكرين بكل االحتماالت دائ ًما‪ ..‬ال ب�أ�س‪ ،‬فلرت�سمي‬


‫�أوم�أ ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫يل هذا الو�شم»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تلم�س احلقيبة املعلقة بحزامه ليت�أكد من وجود �إبرته اخلا�صة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫نف�سا‬
‫وزجاجة ال�سائل القاين‪ ،‬ثم ك�شف عن ذراعه اليمنى و�أخذ ً‬
‫عمي ًقا يف انتظار ذلك الأمل احلارق‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫�أما هي‪ ،‬فا�ستلت �إبرتها يف احرتافية ثم �شرعت بنق�ش الو�شم بيد‬
‫حتركها �أع�صاب �شديدة الثبات‪.‬‬

‫حل�سن حظ بري�شيليا‪ ،‬كان حار�سها جبا ًنا‪ ..‬ومل يحاول االعرتا�ض‬


‫حني اقتحم رجال البوم الهالك برج ال�سال�سل‪ ..‬ولهذا مل ين�ضم‬
‫‪166‬‬
‫جلثث احلرا�س التي فر�شت كث ًريا من املمرات‪ ..‬ولكنه �صار يدرك ب�أنّ‬
‫ال�سلطة يف اليد اخلاطئة الآن‪ ..‬لقد كان �ساب ًقا من �أ�شد املتع�صبني‬
‫للأمرية �أوفيليا‪ ..‬وكان ي�ؤمن ب�أنها الأقوى والأجدر لتويل العر�ش‪..‬‬
‫وكان ي�سمع دائ ًما عن حماقة وغباء الأمرية بري�شيليا‪ ،‬ولطاملا كرهها‬
‫ب�سبب هذه الأقاويل‪ ..‬ولكنه رغم ذلك‪ ،‬يدرك �أنه ال ميلك خيا ًرا الآن‪..‬‬
‫�إنه يحر�س الأمرية احلمقاء‪ ..‬وهو يف�ضل �أنْ يدعمها مبا ي�ستطيع‪..‬‬
‫عليه �أنْ ين�سى الأمرية �أوفيليا فقد وىل عهدها‪ ..‬ال ميكن �أنْ تخرج من‬
‫تلك الزنزانة التي و�ضعوها فيها‪ ..‬فقد كانت زنزانتها من الزنزانات‬
‫القليلة ال ميكن �أنْ ُتفتح �إال مبفتاح فريد من نوعه‪ ،‬مت ت�صميمه بتعقيد‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بالغ‪ ..‬وال يحتفظ به �إال م�ست�شار امللك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫اقرتبت بري�شيليا من باب الزنزانة �إثر �إ�شارته‪ ،‬و�أدركت �أنه قرر‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يلق لها ً‬
‫بال يف الأيام الت�سعة‬ ‫الإجابة عن بع�ض ت�سا�ؤالتها التي مل ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫املن�صرمة‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قال ب�صوت هام�س‪« :‬الأمرية �أوفيليا ُمتجزة يف �إحدى زنزانات‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الطابق ال�سفلي‪ ..‬لقد و�ضعوها يف زنزانة ي�ستحيل الهروب منها»‪.‬‬


‫‪ -‬مـ‪ ..‬ما الذي تقوله؟ �أتعني �أنها لي�ست ال�سبب وراء ما حدث؟‬
‫‪ِ -‬من املُحال �أنْ تفعل الأمرية �أوفيليا �شي ًئا كهذا‪ ..‬ثم �إنّ ه�ؤالء‬
‫الرجال هم رجال البوم الهالك‪ ..‬ال �أدري �أين كان يختبئ كل‬
‫ون�صبوا �آرون‬
‫ه�ؤالء‪ ..‬ولكنهم هاجموا القلعة يف غياب امللك ّ‬
‫مل ًكا‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫بدا لها �أنّ �صدماتها لن تنتهي‪ ،‬ت�ساءلت‪�« :‬آرون؟! ظننت ب�أنّ‬
‫مي�ست َمن ُن�صب مل ًكا!»‬
‫‪ -‬يبدو �أنّ الأمري مي�ست كان ينوي ذلك ً‬
‫فعل‪ ..‬ولكن البوم‬
‫ً‬
‫حماول قتله‪ ..‬لقد هرب‬ ‫الهالك تدخل يف اللحظة الأخرية‬
‫الأمري مي�ست‪ ..‬وقام البوم الهالك بتن�صيب �آرون كملك‪ ..‬ال‬
‫�أدري �إنْ كان َمن �أتى بهم �إىل هنا �أم �أنهم َمن قرر فر�ض هذا‬
‫عليه! ِمن ال�صعب فهم ما يحدث‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا عن والدي امللك؟ �أمل يعلم مبا يحدث هنا؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫ولكنها قطعت عبارتها وعادت بخطواتها �إىل الوراء �إثر اقرتاب‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نف�سا عمي ًقا وهي‬
‫اخلطوات الثقيلة لأحد املت�شحني بال�سواد‪� .‬أطلقت ً‬
‫ﻜﺘ‬

‫حتاول تهدئة �ضربات قلبها املت�سارعة‪« ..‬يجب �أنْ �أفعل �شي ًئا‪ ..‬يجب‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنْ �أفعل �شي ًئا»‪ ،‬هذا ما �أخذت تردده وهي تفكر يف حل مل�شكلتها‬
‫ﺸﺮ‬

‫العوي�صة‪ ..‬لقد �أدركت ب�أنّ اجلرذان والغبار الذي الت�صق بجبينها‬


‫ﻭ‬

‫‪n‬‬
‫وتخلل �شعرها لي�س �أعظم م�صيبة تواجهها‪ ..‬هناك جماعة من القتلة‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يتجولون يف قلعتها ويجب �أنْ تت�صرف ك�أمرية عاقلة‪ ..‬يجب‪.‬‬

‫انق�ضت بع�ض الدقائق احلالكة حتى �صار �سي�سيل مييز املكان‬


‫الذي نقلته �إليه �إينور؛ حجرة حالكة رطبة‪ ..‬م�شبعة بالغبار ورائحة‬
‫الورق واحلرب‪ ..‬ال ُب َّد �أنه يف �إحدى حجرات �صومعة الق�ضاة‪..‬‬
‫ابتلع ريقه وهو يطمئن نف�سه �أنّ ما كان يخ�شاه مل يحدث‪،‬‬
‫فال�ساحرة مل تخدعه‪ ..‬حتى هذه اللحظة‪ ،‬التزمت بكل ما اتفقا عليه‬
‫‪168‬‬
‫بنزاهة تامة‪ ..‬لقد نقلته �إىل هذه املكتبة حتديدً ا لأنها حتت �إ�شراف‬
‫�سريو�س‪� ..‬أخربته ب�أنّ �سريو�س قد يتمكن من م�ساعدته‪ ..‬ف�صحيح‬
‫�أنه تعلم و�شوم اال�ستدعاء التي يحتاجها‪ ،‬لكن هذه الو�شوم ال تعمل‬
‫بعيدً ا عن فجوة مكانية تعترب ً‬
‫�شرطا �أ�سا�س ًيا ملثل هذه الو�شوم‪ ..‬عليه‬
‫�أنْ يبحث عن مكان هذه الفجوة‪ ..‬ورمبا يتمكن من الو�صول �إىل بع�ض‬
‫الأدلة بالعمل مع �سريو�س‪ ..‬كيف �سيفاحت �سريو�س ب�أمر كهذا؟ ال‬
‫يعلم‪ ..‬ولكنه �سينتظر‪ ..‬ومل يطل انتظاره‪.‬‬
‫فقد تداعت �إىل م�سامعه �أ�صوات جلبة قادمة من الأعلى‪� ..‬أ�صوات‬
‫ُحطام و�صراخ ونزاع‪ ..‬ارتطام �أج�سام بالأر�ضية اخل�شبية التي مت ّثل‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�سقفه‪ ..‬ثم‪ ..‬رائحة حريق‪ ..‬هناك نار م�شتعلة يف مكان ما‪ ،‬نار يف‬
‫ﻜﺘ‬
‫طور االنت�شار وتتجه �إىل حيث يختبئ‪ ..‬نار ي�سبقها دخان �شعر به‬
‫ل رئتيه بالفعل‪ ..‬و�أدرك �سري ًعا �أنّ عليه �أنْ يغادر هذا املكان فو ًرا‪.‬‬
‫مي أ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ِ -‬من اجليد �أنّ �إينور تركت يل هذه الف�سحة على ذراعي‬
‫ﺸﺮ‬

‫الي�سرى‪� ..‬س�أغادر هذا املكان ثم �أعاود االنتقال �إىل مكان‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أكرث �أما ًنا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫فكر يف امتنان وهو يهم با�ستخراج �إبرته وقنينة ال�سائل القاين‪..‬‬


‫ورغم �شح ال�ضوء‪ ،‬ف�إنه كان قاد ًرا على ر�سم ذلك الو�شم‪� ..‬صارت‬
‫�أ�صابعه تتحرك بتلقائية تكاد ال تتطلب منه النظر‪.‬‬
‫اخلطوات تقرتب �أكرث‪ ..‬ثم تتوقف ليتبعها �ضرب عنيف على‬
‫الباب اخل�شبي الذي يف�صله عن ه�ؤالء‪ ..‬ه�ؤالء الذين �أدرك �أنّ‬
‫�صومعة الق�ضاة مل َت ُعد �أكرث الأماكن �أما ًنا وهدو ًءا من بعدهم‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫لقد انتهى من ر�سم و�شمه‪ ..‬و�صار ينتظر ابتداء تقل�صات‬
‫ع�ضالته‪ ..‬ولكن هذه اللحظات ال تنق�ضي‪.‬‬
‫لقد مت اقتحام القبو‪ ..‬رجال مت�شحون بال�سواد يزينون رقابهم‬
‫بقالئد الري�ش املنتوف‪ ..‬يتجهون �إليه بينما يقف مم�س ًكا بذراعه‬
‫النازفة ونظرات عدم الت�صديق تعتلي وجهه‪..‬‬
‫‪ -‬ملاذا ال يعمل الو�شم؟! ملاذا؟!‬
‫هذا ما �أخذ يع�صف يف ذهنه وهو يدرك �أنّ هناك �شي ًئا خاط ًئا‪،‬‬
‫«�أنا مت�أكد من �صحة الو�شم‪ ..‬ملاذا مل يحدث االنتقال؟!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�أدرك �أنه �صار يف قب�ضتهم‪ ..‬زجاجة ال�سائل القاين تته�شم حتت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الأحذية الثقيلة‪ ..‬ثم ُي�ساق �إىل اخلارج كما ِ�سيقَ الكثري من البوم‬
‫ﻜﺘ‬

‫الغايف من قبله‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أيام فقط يف هذا العامل منذ غيابي‪ ..‬ما الذي‬


‫‪ -‬لقد مرت ت�سعة � ٍ‬
‫ﺸﺮ‬

‫حدث ليظهر رجال البوم الهالك؟!‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫كان يت�ساءل يف داخله وهو يتلفت لريى َمن كانوا رفاقه يف الدرا�سة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يفرت�شون الأر�ض‪ ..‬و�أدرك �أنه �سيزور برج ال�سال�سل جمددًا‪ ..‬فال ُب َّد‬

‫‪n‬‬
‫�أنّ البوم الهالك ينوي التحقيق معه‪ ..‬لهذا ال�سبب مل ينتفوا ري�شه‬
‫بعد‪.‬‬

‫ويف احلجرات ال�سكنية لطالب ال�صومعة‪ ،‬انت�شرت ذات الفو�ضى‪،‬‬


‫و�إنْ مل ي�سفكوا دماء �أفراد الأ�سر‪ ..‬فهم ‪-‬بعد كل �شيء‪ -‬ال يقتلون‬
‫ب�شكل ع�شوائي‪ ،‬بل وفق مبادئهم‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫وجتمع جمع غفري منهم يف حجرة دُون �سواها‪ ..‬لعلمهم �أنها‬
‫كانت حجرة مي�ست‪ ..‬هدفهم الهارب‪ ..‬توقف �أحدهم ميعن النظر‬
‫يف �إحدى الر�سائل التي كانت مد�سو�سة حتت الو�سادة‪ ،‬ثم ما لبث �أنْ‬
‫رفع �صوته بال�صياح �آم ًرا‪« ،‬لقد ف ّر الأمري مي�ست وهو يف طريقه �إىل‬
‫مملكته! يجب �أنْ نوقفه!»‬
‫كانت الر�سالة �شبه حمرتقة‪ ،‬ولكنه ا�ستطاع تبني مغزاها‪.‬‬
‫�أمتنى ‪ ###‬التوفيق ‪ #### ####‬الليلة‪..‬‬
‫‪ ##########‬الف�شل ‪ #######‬انتظارك ‪ #####‬الغربي‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪.. #############‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سينت�شلك ‪ ####### ##########‬خمرج القلعة ال�رسي ‪#####‬‬


‫‪ ،#### #######‬و�سننطلق عائدين �إىل ‪######‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫�سننتظرك حتى نطمئن �إىل جناح املهمة‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬الأمري مي�ست هرب عرب الوادي الغربي!‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫حلظات انت�شر هذا النب�أ لين�سحبوا جمي ًعا من ال�صومعة‬


‫ٍ‬ ‫ويف‬
‫أكواما من الفو�ضى‪ ..‬و�إىل وجهة حمددة انطلقوا‪.‬‬
‫تاركني وراءهم � ً‬
‫الطريق الغربي املمتد و�سط اجلبال التي ت�صل اململكتني‪ ..‬هذا هو‬
‫الطريق الأ�سرع بني اململكتني الذي مت التلميح �إليه يف تلك الر�سالة‬

‫‪n‬‬
‫التي تال�شت معظم كلماتها‪ ..‬الطريق الذي خ ّمن البوم الهالك �أنه‬
‫املكان الذي تهي�أ رجال مي�ست ال�ستقباله فيه من �أجل الهروب‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫مل يقاومهم �سي�سيل يف الطريق عرب برج ال�سال�سل‪ ..‬بل �سار معهم‬
‫الدرجات متج ًها �إىل زنزانته‪ ..‬كان يدرك �أنّ ال جدوى من املقاومة‬
‫ً‬
‫حماول اقتنا�ص �أكرب قدر من الأدلة‬ ‫�أو توجيه الأ�سئلة‪� ..‬سي�صمت‬
‫حول ما يجري حوله‪ ..‬و�سيق�ضي ليلته ‪�-‬أو لياليه‪ -‬يف هذه الزنزانة‬
‫الباردة‪ ..‬ثم �سيفكر يف طريق خروجه من هذه الزنزانة لري�سم و�شمه‬
‫يف الفجوة املكانية التي �ستدم ّرهم جمي ًعا‪.‬‬
‫بالت�أكيد �سيخرج‪ ..‬هي م�س�ألة وقت فقط‪ ..‬يحتاج بع�ض الوقت‬
‫لي�ستعيد هدوءه ويفكر‪ ،‬كانت الزنزانات ممتلئة‪ ..‬ولكن اجلناح الذي‬
‫نوعا ما‪ ..‬لقد و�ضعوه يف زنزانة منفردة ومنها‬ ‫�أُ ِخ َذ �إليه كان هاد ًئا ً‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أدرك �أنهم �صنفوه �ضمن ال�سجناء ذوي الأهمية‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬سي�سيل!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كان ذلك الهم�س الذي ترامى �إىل م�سامعه مع حلول الظالم واتّقاد‬
‫ﺸﺮ‬

‫امل�شاعل‪ ..‬مل يحرك �ساك ًنا‪ ..‬ولكن مع تكرار ذلك الهم�س �صار يدرك‬
‫ﻭ‬

‫�أنه �صوت م�ألوف‪ ..‬ومل يرد جوا ًبا‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ملاذا تتجاهلني دائ ًما؟! ملاذا؟!‬


‫يحاول تذكر هذه النربة‪ ..‬ولكنه يف�شل‪..‬‬
‫‪ -‬لقد هرب �سريو�س من ال�صومعة قبل املذبحة‪ ..‬وهو الوحيد‬
‫القادر على �إنقاذنا‪.‬‬
‫انت�شله ا�سم �سريو�س من �صمته‪ ..‬نه�ض ليقرتب من بوابة زنزانته‬
‫أنت؟»‬ ‫ً‬
‫مت�سائل‪«َ :‬من � ِ‬ ‫ثم هم�س‬
‫‪172‬‬
‫‪� -‬أنا الأمرية بري�شيليا! ال �أ�صدق �أنك ن�سيتني بهذه ال�سرعة!‬
‫�أ�ضمر خواطره ال�ساخرة من تفاوت الأزمان‪ ،‬ثم قال بالهم�س ذاته‪:‬‬
‫بك �إىل هذه الزنزانة؟»‬ ‫«ماذا تعرفني عن �سريو�س؟ وما الذي جاء ِ‬
‫‪� -‬أنا ال �أعرف �شي ًئا! ولكن ما �أعرفه هو �أنّ ه�ؤالء ينتمون �إىل‬
‫جماعة البوم الهالك‪ ..‬و�أما �سريو�س‪ ،‬فال �أعرف �شي ًئا عنه‬
‫�سوى �أنه ا�ستطاع الهرب‪� ..‬أنا ال �أعرف مكانه‪ ،‬ولكن حار�س‬
‫زنزانتي �سي�ساعدين يف الو�صول �إليه‪.‬‬
‫‪ -‬حار�س زنزانتك؟‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬نعم‪� ..‬إنه يقف �إىل �صفنا‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬تق�صدين �ص ّف ِك � ِ‬
‫أنت‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أطلقت تنهيدة عميقة قبل �أنْ تقول‪�« :‬سنخرج من هنا م ًعا‪ ..‬عليك‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أنْ تثق بي»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ارت�سمت على وجهه ابت�سامة �ساخرة مل تلمحها‪ ..‬فهي تطلب‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫منه �شي ًئا ع�س ًريا ج ًّدا‪ ..‬ورغم �إدراكه �أنه غري قادر على و�ضع ثقته‬
‫فيها �أو يف غريها‪ ،‬لكنه يدرك �أنه جمرب على ذلك‪ ..‬ال ُب َّد من الوثوق‬
‫ب�أحدهم‪ ..‬ال ُب َّد من هذه املخاطرة �إنْ كان يريد اخلروج من هنا‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذي تريدينه باملقابل؟‬
‫�أزعجها رده ب�شدة‪ ،‬ولكنها �أجابت‪« :‬ال �أعلم‪� ..‬سرنى الح ًقا»‪.‬‬
‫و�صمتا �إثر اقرتاب اخلطوات‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫لقد عاد حرا�س الزنزانات بعد غيبة ق�صرية‪ ..‬ولكنهم مل يكونوا‬
‫وحدهم‪ ..‬كانت هناك زائرة ت�سري �إىل جانب امللثم بال�سواد‪َ َ ،‬‬
‫وت ّفز‬
‫�سي�سيل حني �سمع امللثم ي�أمرها‪« :‬هذه هي زنزانة املدعو �سي�سيل‪ ..‬ال‬
‫تطيلي زيارتك!»‬
‫�شعر �سي�سيل بالدماء تثور يف عروقه وهو يرى فيوال ترمقه‬
‫بنظراتها املت�سعة التي ت�شع برباءة �صار ميقتها‪.‬‬
‫كادت تلت�صق بالق�ضبان احلديدية التي تف�صلها عنه وهي تردد يف‬
‫جدا على غيابك!»‬
‫قلقت ًّ‬
‫انفعال‪�« :‬أين اختفيت يا �سي�سيل؟! لقد ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫تعطه الفر�صة للرد �إذ‬ ‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫تابع رمقها بالنظرة الكارهة ذاتها‪ ..‬ومل ِ‬
‫ﻜﺘ‬

‫تابعت‪« :‬ما الذي حدث لك؟! لقد تغري مظهرك كث ًريا وك�أنك كربتَ‬
‫�سنوات عدة!»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫ومل ي ُكن �سي�سيل قد ر�أى جتاعيد الثالثينيات الطفيفة التي بدت‬


‫ﻭ‬

‫تغزو وجهه �إثر الأعوام التي ان�صرمت من عمره يف عامل �إينور‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أنت بخري؟ لقد ا�شتقت لك كث ًريا!‬


‫‪ -‬هل � َ‬
‫جاءها رده �أخ ًريا ليلجمها‪« :‬اهربي»‪.‬‬
‫ارت�سمت على وجهها �أمارات الده�شة واال�ستفهام‪.‬‬
‫تابع‪« :‬اهربي �إىل �أبعد مكان ميكنك الو�صول �إليه واختبئي‪..‬‬
‫اختبئي جيدً ا لأين �س�أقتلك بعد خروجي من هنا‪� ..‬س�أقتلك‪ ..‬هل‬
‫تفهمني؟»‬
‫‪174‬‬
‫نظرات عينيه الغا�ضبة جعلتها تنتف�ض رع ًبا‪� ..‬أرادت �أنْ ت�س�أل‬
‫عن ال�سبب ‪-‬رغم �أنها تدركه يف داخلها‪ -‬ولكن الكلمات كانت ت�أبى‬
‫اخلروج‪.‬‬
‫نف�سك‬
‫‪ -‬لن �أ�ستطيع منع نف�سي من قتلك‪ ..‬ولهذا �أرى �أنْ تقتلي ِ‬
‫قبل �أنْ �أجدك‪.‬‬
‫تراجعت عدة خطوات �إىل الوراء وهي ما تزال حتت �صدمتها‪..‬‬
‫وللحظة‪� ..‬شعرت بغمرة من الذكريات القدمية التي كادت تن�ساها‪،‬‬
‫جتوب عقلها جمددًا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫«�س�أقتلك!» ترتدد تلك الكلمة يف ذهنها ب�أ�صوات عدة‪ ..‬وترتاءى‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫فعل‪ ..‬يرت�سم الرعب‬ ‫لها �أطياف لأنا�س ظنت �أنها حمتهم من ذهنها ً‬
‫ﻜﺘ‬

‫يف عينيها وهي ت�شعر ب�أنها عادت جمددًا �إىل ذلك امللج أ� الذي ن�ش�أت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فيه‪ ..‬م�شاعر الرعب ذاتها تعود لتطغى عليها‪ ..‬لقد ظنت ب�أنها‬
‫تخل�صت من كل ذلك �أخ ًريا حني التقت ب�سي�سيل‪ ..‬وظنت ب�أنه �سيكون‬
‫ﺸﺮ‬

‫منقذها‪ ..‬و�سيجعلها تن�سى كل ما م�ضى‪ ..‬ولكن هذا الغ�ضب الذي‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تراه يف عينيه �أعاد �إليها هذه امل�شاعر‪� ..‬سيقتلها ما �إنْ يخرج من هذه‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الزنزانة‪� ..‬سيقتلها ولن يحميها منه �أحد؛ ولهذا اندفعت �إىل اخلارج‬
‫متالحقة الأنفا�س تكاد ال ترى �شي ًئا من الدموع التي �أغ�شت ب�صرها‪.‬‬
‫�أما �سي�سيل فرتاجع بدوره لي�ستند على جدار زنزانته دُون �أي كلمة‬
‫�أخرى‪.‬‬
‫‪َ -‬من تلك الفتاة؟ وملاذا تهدد بقتلها؟‬
‫جاءت ت�سا�ؤالت بري�شيليا بعد وهلة من ال�صمت املهيب‪ ..‬ومل يرد‬
‫جوا ًبا‪.‬‬
‫‪175‬‬
‫‪ -‬ال �أ�صدق �أنك تنوي ما قلته‪ ..‬لقد قلت ذلك لتخويفها‪..‬‬
‫�صحيح؟‬
‫كان غار ًقا يف خواطره �إىل درجة عدم �سماعها‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا تتجاهلني بهذه الوقاحة؟! �صحيح �أين �سجينة ولكني‬
‫�أمرية ويجب عليك �أنْ حترتمني!‬
‫انتبه �إثر ارتفاع نربة �صوتها‪.‬‬
‫‪� -‬أنا �آ�سف �أيتها الأمرية‪ ..‬مل �أنتبه �إىل حديثك‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫و�صل كي ال �أجتاهلك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬والآن حتدثني بر�سمية �ساخرة! اخر�س ِّ‬
‫ﻜﺘ‬

‫باملثل حني يحني خال�صي!» تراجعت لتجل�س على �سريرها‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫احلديدي وهي تنتف�ض غ�ض ًبا‪ ..‬تقاوم اال�سرت�سال يف لومه‬


‫ﺸﺮ‬

‫على جميع املرات التي جتاهلها فيها حتى ال ت�سيل دموعها‪،‬‬


‫«�إىل متى �سيتجاهلني هذا الأحمق؟! �أال يرى �أين �أو ِّليه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اهتماما غري اعتيادي؟! ملاذا ال يق ّدر هذا الأمر على الأقل؟!‬


‫ً‬
‫ملاذا ال يحاول متلقي على الأقل؟!‬
‫كبتت خواطرها وهي تت�صنع الهدوء الذي ال ت�شي به �أنفا�سها‬
‫املتالحقة‪� ..‬أما هو‪ ،‬فكان يدرك اهتمامها به منذ زمن‪ ..‬ولكنه مل‬
‫اهتماما لأنه مل ميلك املزاج الرائق �أو الفراغ لأ�شياء كهذه‪..‬‬
‫ً‬ ‫يعرها‬
‫ولو كانت ت�سمع الأفكار التي تدور يف خلده لتفهمت �أ�سباب جتاهله‬
‫�إياها‪ ..‬ولأدركت ب�أنه لن يبادلها �إعجابها لأنه ‪-‬يراها بلهاء � ًأول‪-‬‬
‫‪176‬‬
‫‪n‬‬
‫ولأنه على يقني بعدم وجود �أي م�ستقبل لأي عالقة تربطه ب�أي كان‪..‬‬
‫يعلم هذا يقي ًنا لأنه َمن �سيدمر هذا امل�ستقبل‪.‬‬

‫مع بزوغ �شم�س ال�صباح الباكر‪ ،‬كان برج ال�سال�سل هاد ًئا على غري‬
‫العادة‪ ..‬عدد قليل من احلرا�س تبقى‪� ،‬أغلبهم من احلرا�س القدامى‪،‬‬
‫فقد انطلق �أغلب رجال البوم الهالك يف ُمهمة القب�ض على مي�ست‪..‬‬
‫�آخر َمن تبقى من �أهدافهم‪.‬‬
‫ومل ت ُكن �أوفيليا قد الحظت �شي ًئا من هذا‪ ..‬فمنذ احتجازها وهي‬
‫ﻋﺼ‬
‫منزوية يف زاوية زنزانتها‪ ..‬متتنع عن الطعام والكالم‪ ..‬وال تطل من‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫عينيها �سوى نظرة ت�شي بك�آبة َمن يتمنى املوت‪ ..‬واليوم‪ ،‬حان �أوان‬
‫ﻜﺘ‬

‫خروجها عن �صمتها‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لديك زائر �أيتها الأمرية‪ ..‬يقول �إنه �صبي الإ�سطبل اخلا�ص‬


‫‪ِ -‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بك‪ ..‬هل �أطرده؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫انتظر منها التجاهل‪ ..‬رمبا الرف�ض‪ ..‬ولكنها رفعت ناظرها ‪-‬لأول‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مرة‪ -‬ونه�ضت من مكانها! �أعاد احلار�س النظر �إىل �صبي الإ�سطبل‬


‫هذا الذي انتزع منها �سكونها‪ ..‬ب�شرة نحا�سية و�شعر �أ�سود ق�صري‬
‫د�سه يف قبعة مهرتئة‪ ..‬ورغم ثيابه الرثة‪ ،‬ف�إنّ �أظافره كانت �أنظف‬
‫من الالزم‪ ..‬نظرته �أقوى من الالزم‪ ..‬ووجهه �أنعم من الالزم‪..‬‬
‫ولكنه جتاهل كل هذا وابتعد باخلطوات‪..‬‬
‫أنت بخري؟‬
‫‪ -‬هل � ِ‬

‫‪177‬‬
‫كان ذلك �س�ؤاله‪ ،‬ومل ي ُكن يحتاج جوا ًبا ح ًقا مع هيئتها املبعرثة‬
‫وعينيها الغائرتني يف ال�سواد‪.‬‬
‫‪� -‬أنت‪ ..‬ما تزال هنا؟‬
‫�شقيقك املجنون �أمر بتنظيم اجلي�ش وا�ستدعاء عدد كبري من‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫�شبان اململكة للتدريب‪� ..‬إنه �إعالن غري مبا�شر للحرب على‬
‫عاجل �أم � ً‬
‫آجل!‬ ‫مملكتي‪� ..‬سينطلق ليدمر مملكتي ً‬
‫‪� -‬آرون‪ ..‬يريد احلرب؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫ظنت ب�أنها لن تنده�ش جمددًا‪ ..‬ولكن عيناها ات�سعتا �إثر هذا‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫النب�أ‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ابتلع ريقه وهو يهم�س‪« :‬وال �سبيل للخال�ص من كل هذا �إال‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عر�شك و�ست�ساعدينني يف حماية‬


‫ِ‬ ‫أ�ساعدك على ا�ستعادة‬
‫ِ‬ ‫بتعاوننا‪� ..‬س�‬
‫ﺸﺮ‬

‫متاما كما اتفقنا منذ البداية»‪.‬‬


‫مملكتي‪ً ..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وانق�ضت حلظات �صمت �أزعجته‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أوفيليا‪.‬‬
‫كانت �شاردة‪ ..‬حتملق يف ثقب املفتاح بتمعن وك�أنها ترى �شي ًئا‬
‫غري ًبا!‬
‫‪� -‬أوفيليا!‬
‫وت�ستمر يف احلملقة بعينني ال تطرفان‪.‬‬
‫‪178‬‬
‫‪ -‬وجودي هنا ي�شكل خماطرة كبرية‪� ..‬سيكت�شفون �أمر ر�سالتي‬
‫امل�ض ِّللة قري ًبا و�سيعلمون �أين مل �أهرب! �أنا ال �أملك اليوم‬
‫ب�أكمله!‬
‫رفعت ناظرها �إليه‪ ..‬وت�ساءل عن كنه هذا الربيق الذي ملعت به‬
‫عينيها‪..‬‬
‫‪� -‬أريد �أنْ حت�ضر يل ورقة وري�شة كتابة‪.‬‬
‫‪ -‬لـ‪ ..‬ملاذا؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬س�أر�سم لك طريق خروجي من هنا‪ ..‬ثق بي وح�سب‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كما تريدين‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫وان�صرف باح ًثا عما تريد‪..‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أما هي‪ ،‬فرتاجعت خطوة وقد بد�أت ت�شعر ب�أنّ كل �شيء �سيتبدل‬
‫قري ًبا‪ ..‬وعلى وجهها ارت�سمت ابت�سامة انت�صار‪ ..‬ثم تداعت �إىل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عقلها بع�ض الذكريات‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ذكريات تلك الليلة العا�صفة التي طلبت فيها من خادمتها‬


‫ال�صغرية �آيري�س اللحاق بها �إىل حجرة الر�سم‪ ..‬كانت �آيري�س‬
‫�سعيدة‪ ..‬وت�ساءلت كث ًريا عن كنه ما �سرت�سمه هذه الليلة‪ ..‬وق�ضيا‬
‫عددًا من ال�ساعات يتدربان على النق�ش الرباعي املعقد‪ ..‬كثري من‬
‫الأوراق �أُهدرت يف التدريب‪ ..‬وقرب الفجر حان وقت التطبيق العملي‪.‬‬
‫‪� -‬أين �أر�سم النق�ش؟‬
‫‪179‬‬
‫كان ذلك �س�ؤال �آيري�س‪.‬‬
‫لك هذا النق�ش‪.‬‬
‫‪ -‬هذه املرة‪� ..‬س�أر�سم �أنا ِ‬
‫تبدت نظرة تعجب م�شوبة باخلوف على وجه �آيري�س وهي تقول‬
‫معرت�ضة‪�« :‬ستعاقبني‪� ..‬أمي»‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقلقي‪ ..‬ميكنني �إزالته فيما بعد‪.‬‬
‫‪ -‬ح ًقا؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ..‬والآن ا�شربي هذا ال�شراب‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫مل ت�س�أل �آيري�س جمددًا‪ ..‬وتناولت الك�أ�س الزجاجي من يد‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سيدتها‪ ..‬ثم جرعت ما فيه‪ ..‬ومل تدرك �أنّ اخلفة التي بد�أت ت�شعر‬
‫بها يف ر�أ�سها ت�شي بتخدر �أع�صابها‪ ..‬ويف غ�ضون دقائق‪ ،‬كانت �آيري�س‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قد �سقطت فاقدة الوعي‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫أنت تغطني يف‬


‫‪ -‬لن ت�شعري ب�شيء يا �صغرية‪� ..‬سيتم كل �شيء و� ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫غفوتك‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وا�ستلت �إبرتها وزجاجة ال�سائل القاين‪ ..‬لقد �سبق و�أنْ ر�سمت‬


‫عددًا من الو�شوم على �أجزاء ج�سدها نف�سها من قبل‪ ،‬ولكن هذه هي‬
‫املرة الأوىل التي �سرت�سم فيها و�ش ًما على ج�سد ب�شري �آخر‪ ..‬و�أخذت‬
‫نف�سا عمي ًقا‪ ..‬فهذا الو�شم �سيكون خمتل ًفا‪ ..‬و�شم �صعب ال تدري �إنْ‬
‫ً‬
‫كانت �ستنجح يف �إمتام طقو�سه‪ ..‬ولكنها ر�سمته رغم كل �شيء‪ ..‬تتذكر‬
‫النقاط امل�صطفة واخلطوط الرباعية على ظهر �آيري�س والدماء التي‬
‫جاءت �أغزر مما ينبغي‪ ..‬تتذكر ثبات �أع�صابها وهي ت�ستكمل مهمتها‬
‫‪180‬‬
‫بالو�شم الآخر الذي ر�سمته على ذراعها الي�سرى‪ ..‬تتذكر كيف �أنها مل‬
‫ت�سمح ل�ضربات قلبها املتخبطة بالت�أثري على �آخر مرحلة من طقو�س‬
‫هذا الو�شم‪ ..‬وكيف �أنّ يدها مل ترجتف حني ا�ستلت ذلك امل�شرط‬
‫و�أخذت ت�شق به جمجمة �آيري�س‪ ..‬كانت هناك دماء كثرية‪ ..‬وتطلب‬
‫الأمر منها الكثري من اجلهد‪ ..‬الكثري من ال�صرب‪ ..‬ولكنها يف النهاية‬
‫ح�صلت على ذلك اجلزء من دماغ �آيري�س‪ ..‬ورغم رغبتها باالرجتاع‪،‬‬
‫لكنها م�ضغت كتلة الألياف املخية تلك وابتلعتها‪ ..‬م�ؤمنة كل الإميان‬
‫ب�أنّ ما �ستح�صده ي�ستحق الت�ضحية مب�شاعرها الإن�سانية م�ؤقتًا‪..‬‬
‫�ستح�صل على قدرة �آيري�س على الت�صوير والتذكر‪ ..‬القدرة التي‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أبهرتها دائ ًما والتي جعلتها غري قادرة على التخلي عنها من قبل‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫انقطع حبل ذكريات �أوفيليا مع عودة مي�ست‪ ..‬هذه املرة‪ ،‬مع‬
‫الورقة وري�شة الكتابة التي طلبتها منه‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ا�ستوقفه احلار�س‪ ،‬ولكنها نهرته خماطبة‪�« :‬إنها جمرد ورقة‬


‫ﺸﺮ‬

‫وري�شة للكتابة! �أريد كتابة ر�سالة ل�شقيقي!»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وتراجع عدة خطوات �إىل الوراء‪.‬‬


‫تناولت �أوفيليا عدة الكتابة تلك من بني الق�ضبان احلديدية‪ ،‬ثم‬
‫�أخذت حتملق يف ذلك القفل جمددًا‪ ..‬و�شرعت تر�سم‪.‬‬
‫وات�سعت عينا مي�ست وهو يرى ما �أخذت تخطه بدقة مل يعهدها‬
‫يف ب�شر‪� ..‬إنها تر�سم فتحة القفل! تر�سمها بنتوءاتها املح�سوبة وك�أنها‬
‫�صورة مكربة لتلك الفتحة‪ ..‬ثم تر�سم املفتاح الذي �سيفتح هذا‬
‫القفل‪ ..‬تر�سمه وك�أنها تراه قبالتها‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫ي�ستطع مي�ست كبح ده�شته‪« ،‬كـ‪ ..‬كيف؟»‬
‫ومل ِ‬
‫ومل ترد جوا ًبا‪ ..‬بل تابعت ر�سمها ثم هم�ست وهي تلف لوحتها‬
‫الورقية وتد�سها يف يده‪« :‬خذ هذه �إىل رئي�س احلدادين‪ ..‬و�أخربه ب�أين‬
‫�أنتظر ن�سختي من املفتاح»‪.‬‬
‫�أوم أ� وهو غري قادر على الت�شكيك �أو الت�سا�ؤل‪ ..‬لقد ر�أى لتوه قدرة‬
‫غري ب�شرية على الت�صوير‪ ..‬و�أيقن يف داخله �أنه اختار اجلانب الأقوى‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫هذه الأمرية هي من �سينت�صر و�ستجلب ن�صره معها‪ ..‬لقد كان‬
‫حم ًقا حني قرر الوقوف �إىل جانبها‪� ..‬أو هكذا ظن‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪182‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬
‫طارق ال ُنحاس‬

‫مرت �أيام قليلة قبل �أنْ يعود البهو امللكي لقلعة القمم الدخانية‬
‫لالزدحام برجال البوم الهالك‪ ..‬هذه املرة‪ ،‬كانوا �أكرث غ�ض ًبا وتوت ًرا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫و�أمام �آرون ونايت‪ ،‬وقف �أحدهم وهو يحني ر�أ�سه مللكه اجلديد‬
‫ﻜﺘ‬
‫قبل �أنْ يردف‪« :‬مل جند �أي �أثر ملي�ست يف الطريق الغربي‪� ..‬أظن ب�أنّ‬
‫تلك الر�سالة كانت خدعة لت�ضليلنا وح�سب»‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫رد �آرون ب�صوته الذي مل يكت�سب بحة املراهقة بعد‪« :‬لقد �أراد‬
‫ﺸﺮ‬

‫جركم �إىل الطريق الغربي ليتيح لنف�سه الهرب من طريق �آخر»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أوم�أ نايت الذي كان يقف �إىل جانبه‪« :‬ولقد انطلت خدعته عليكم‬
‫وربح ثمانية �أيام ليتدبر �أمره خاللها»‪.‬‬
‫حل �صمت ق�صري قبل �أنْ يعود �آرون ليقول بلهجة مت�سائلة‪�« :‬أنا ال‬
‫�أعرف �أي نوع من الأ�شخا�ص هو مي�ست‪ ..‬ولكنه كان يت�آمر مع �أوفيليا‬
‫�شخ�صا كهذا اختار الهرب ح ًقا؟»‬
‫ً‬ ‫للإطاحة بالقلعة‪ ..‬هل تظنون �أنّ‬
‫تدخل نايت‪« :‬هل تعتقد �أنه ما زال يختبئ يف اململكة؟»‬
‫جدا‪ ..‬رمبا كان متنك ًرا‪.‬‬
‫‪� -‬أظن ب�أنّ هذا احتمال وارد ًّ‬
‫‪183‬‬
‫رد رجل البوم الهالك‪« :‬هذا يجعل �إيجاده �أم ًرا �صع ًبا ج ًّدا‪ ..‬ال‬
‫�سيما �أنّ ثمانية �أيام كاملة قد مرت‪ ..‬ال ندري يف �أي مدينة قد يكون‬
‫خمتب ًئا»‪.‬‬
‫‪ -‬وهذا يعني �أنّ عليكم بذل جهدكم من �أجل �إيجاده‪ ..‬ومن �أجل‬
‫حرا�سة برج ال�سال�سل جيدً ا‪ ..‬ال �سيما زنزانة الأمرية �أوفيليا‬
‫فهو قد يحاول الو�صول �إليها‪.‬‬
‫‪� -‬سنكثف احلرا�سة على زنزانتها و�سنن�شر �أفرادنا يف جميع‬
‫املدن‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪ -‬جيد‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫قالها وهو ينزل من عر�شه م�ش ًريا �إىل نايت ليتبعه‪ ..‬ويف نهاية‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫البهو توقف خماط ًبا �إياه‪�« :‬أريد منك �أنْ ترافقني �إىل برج ال�سال�سل»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أجاب نايت‪« :‬ولكن‪َ ِ ..‬ل تريد الذهاب بنف�سك �إىل هناك؟»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�شقيقتي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪� -‬أريد �أنْ �أرى‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل يعرت�ض نايت‪� ،‬أردف‪« :‬ح�س ًنا‪� ..‬سنذهب �إىل هناك»‪.‬‬


‫و�أ�شار نايت �إىل بع�ض احلرا�س ليتبعاهما �إىل برج ال�سال�سل‪.‬‬
‫‪� -‬أنت تكره �أوفيليا ب�شدة‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬
‫فوجئ نايت بهذا ال�س�ؤال‪ ،‬ولكنه �أردف‪« :‬ال �أكرهها‪ ..‬ولكني �أظن‬
‫ب�أنها ت�شكل خط ًرا كب ًريا �إنْ مل ت ُكن يف �صفك»‪.‬‬
‫‪ -‬وهل ترى �أنّ هذا �سبب للتخل�ص منها؟‬
‫‪184‬‬
‫مل يعرف نايت ما اجلواب الأن�سب لهذه الأ�سئلة‪� ..‬إنّ �آرون ن�سخة‬
‫�أخرى من �أوفيليا ح ًقا‪..‬‬
‫ل�ست املخ ّول التخاذ هذه القرارات �أيها امللك‪ ..‬ولكني‬
‫�أجاب‪�« :‬أنا ُ‬
‫كاف لردع خطرها»‪.‬‬
‫�أظن �أنّ حب�سها يف الزنزانة ٍ‬
‫‪ -‬لكنك بالت�أكيد تتمنى �أنْ تذيقها من الك�أ�س التي �أ�سقتك منها‬
‫يف قمة برج ال�سال�سل‪� ..‬ألي�س كذلك؟‬
‫‪� -‬أظنها ذاقت من الك�أ�س بالفعل بر�ؤيتك على العر�ش‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫جدا! ولكن مراوغتك هي‬
‫�أطلق �آرون �ضحكة ق�صرية‪�« :‬أنت مراوغ ًّ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ما �سمح يل بالو�صول �إىل هذا العر�ش»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪n‬‬
‫ومل يرد نايت جوا ًبا‪ ..‬بل تابع �سريه على الدرجات امل�ؤدية لزنزانات‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫برج ال�سال�سل بينما يتقدمه �آرون‪.‬‬


‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قليل مع اقرتاب اخلطوات‪ ..‬و�شعر بنب�ضاته‬ ‫رفع �سي�سيل ب�صره ً‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تت�سارع حني ملح وجه نايت‪ .‬كان لقا�ؤه ال�سابق بنايت مقت�ض ًبا غري ًبا‬
‫ملي ًئا باال�ستغالل‪ ..‬وكان هو الطرف الذي كان عليه �أنْ ي�صمت‬
‫ويتحمل اجللدات لأن نايت يقف �إىل جانب جماعة يخ�شاها اجلميع‪..‬‬
‫ولكن ملاذا جاء نايت و�آرون الآن؟‬
‫وجاءه اجلواب حني جتاوزا زنزانته �إىل زنزانة بري�شيليا‪.‬‬
‫‪ -‬بري�شيليا!‬
‫‪185‬‬
‫كان ذلك �صوت �آرون الطفويل الذي تردد �صداه يف املكان‪.‬‬
‫نه�ضت بري�شيليا لتقرتب من بوابة الزنزانة بنظرات تختزل غ�ض ًبا‬
‫وقه ًرا �شديدين‪ ..‬ولكنها مل تنطق بعد‪ ..‬فهي ال تعلم كيف تعامل هذا‬
‫اهتماما يف حياتها قط‪ ..‬مل حتاول االقرتاب‬
‫ً‬ ‫ال�صبي الذي مل تعره‬
‫منه �أو معرفة ما يفكر فيه‪ ..‬بل جتاهلته بكفاءة تامة ك�أنه قطعة من‬
‫�أثاث هذه القلعة‪� ..‬أو على �أح�سن تقدير‪ ،‬اعتربته هرة الهية �أو ط ًريا‬
‫يغني يف قف�ص‪.‬‬
‫عاد ال�صدى الطفويل لي�صدح باملكان‪�« :‬أعلم �أنك تكرهني هذا‬

‫ﻋﺼ‬
‫املكان‪ ..‬ولهذا �س�أنقلك �إىل مكان �آخر‪� ..‬ستكونني م�سجونة هناك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫� ً‬
‫أي�ضا‪ ..‬ولكن يف حجرة كبرية جميلة»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫هنا انفجرت وك�أنها تنا�ست حتفزها‪«َ :‬من الذي ميلي لك هذا؟!‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أخربين! َمن الذي يجربك على الت�صرف بهذه الطريقة؟!»‬


‫ﺸﺮ‬

‫والتقت عيناها بعيني نايت الذي طاملا كرهته ونعتته ب�أقبح‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ال�صفات‪..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ولكن �آرون عاد ليقول بجدية‪َ ِ :‬‬


‫«ل تنظرين �إىل نايت؟ �أنا َمن �صنع‬
‫أفوقك‬
‫جدا �أنْ تعرتيف ب�أين � ِ‬
‫كل هذا! مل يجربين �أحد! هل من ال�صعب ًّ‬
‫ذكا ًء وفه ًما للحياة؟!»‬
‫ابتلعت بري�شيليا ريقها وهي ترى نظراته امل�سمومة‪ ..‬هل هذا‬
‫الكالم ي�صدر من طفل ح ًقا؟! هل هذا ال�شيطان ال�صغري هو �شقيقها‬
‫ح ًقا؟! هي ال تعلم َمن كان �شقيقها ومل حتاول املعرفة قط!‬

‫‪186‬‬
‫عاد لريدف بنربة �أعلى‪« :‬هل تعلمني �أنني قر�أت جميع الكتب يف‬
‫مكتبة القلعة؟! هل تعلمني �أنني �أحفظ اخلطط الع�سكرية وتاريخ‬
‫أنت؟! هل جتيدين �شي ًئا‬
‫احلروب عن ظهر قلب؟! كم كتا ًبا قر� ِأت � ِ‬
‫�سوى التطريز وتبذير الأموال؟!»‬
‫‪� -‬أنا‪ ..‬ال �أنتق�ص منك‪ ..‬ولكن من ال�صعب �أنْ �أ�صدق �أنك‬
‫وحدك �صاحب هذا القرار‪ ..‬ال ُب َّد �أنّ �أوفيليا‪...‬‬
‫زلت‬
‫أنت ما ِ‬
‫قمت با�ستغالل �أوفيليا نف�سها و� ِ‬
‫قاطعها بحدة‪« :‬لقد ُ‬
‫أنك تكلمني ً‬
‫طفل �أبله؟!»‬ ‫تظنني � ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪� -‬آرون‪ ..‬ا�سمعني‪� ..‬أنا �أعلم �أنك‪...‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫أنت ال تعلمني �شي ًئا ولذلك اخر�سي وح�سب! ال �أريد �أنْ �أ�سمع‬
‫‪ِ �-‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أي كلمة �أخرى و�إال �س�أغري ر�أيي حيال مكان حب�سك!‬


‫ﺸﺮ‬

‫زفرت بري�شيليا بقوة وهي ت�شعر ب�أنها غري قادرة على احتمال �أنْ‬
‫يهينها هذا الطفل‪ ..‬مهما بلغ ن�ضجه وفهمه فهو يف النهاية طفل‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هو �شقيقها ال�صغري! ولكن‪ ..‬هل من املمكن �أنه بهذا الذكاء واخلبث‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ح ًقا؟! بداخلها �صوت ي�ؤكد عليها نعم‪ ..‬ولكن ت�صديق هذا ال�صوت‬
‫يعني �أنها يف م�أزق حقيقي! �إنْ كانت �أوفيليا نف�سها ُخ ِدعت فما فر�صة‬
‫جناتها هي من كل هذا؟!‬
‫ابتلعت ريقها مف�ضلة ال�صمت بينما اقرتب حار�س الزنزانة‬
‫ليفتح القفل‪ ..‬و�أدركت �أنها لن تبيت ليلة �أخرى يف هذه الزنزانة‪..‬‬
‫ت�ستطع �أنْ متنع نف�سها من توجيه �س�ؤال �آخر لآرون قبل خروجها‪:‬‬
‫ومل ِ‬
‫«ماذا عنه؟ ملاذا حتتجزونه؟» قالتها وهي ت�شري �إىل زنزانة �سي�سيل‪..‬‬
‫‪187‬‬
‫ورغم �أنّ �شائعة �إعجابها به قد تف�شت �إىل اجلميع‪ ،‬ف�إنّ �آرون �أجاب‬
‫دُون �أي اعتبار �إىل �أ�سباب هذا ال�س�ؤال‪�« :‬إنه من �صومعة الق�ضاة‬
‫ويجب �أنْ ميوت‪ ..‬ال�سبب الوحيد لبقائه ح ًّيا حتى الآن هو �أنّ هناك‬
‫الكثري من الأمور التي عليه �إخبارنا بها»‪.‬‬
‫‪ -‬يجب �أنْ ميوت؟! هل �ستقتلونه بعد التحقيق معه؟!‬
‫ً‬
‫متجاهل اخلوف الذي ارت�سم يف عينيها‪« :‬هذا �أمر م�ؤكد»‪.‬‬ ‫�أجاب‬
‫و�أ�شار بعينيه �إىل احلار�سني اللذين �أحكما القب�ض على ذراعيها‬
‫حني انتف�ضت‪ ..‬ومل جتد بدً ا من �أنْ تخر على ركبتيها لت�ستجديه‪:‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫«�آرون عزيزي! �أرجوك‪ ..‬ال تقتله الآن‪� ..‬أب ِقه يف الزنزانة لكن ال تقتله!»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬خذاها �إىل زنزانتها اجلديدة‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قالها بهدوء �صادم‪ ..‬و�شعرت بري�شيليا بنف�سها ترتفع كالري�شة بني‬


‫ﺸﺮ‬

‫ذراعي احلار�سني‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫‪� -‬آرون! �أرجوك! ال ت ُكن قا�سي القلب مثل �أوفيليا! �آرون!‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وتال�شى �صدى �صراخها �شي ًئا ف�شي ًئا وهي تبتعد‪ ..‬وحني غابت عن‬
‫متاما‪ ..‬التفت االثنان �إىل زنزانة �سي�سيل‪ ..‬اقرتب �آرون‬
‫�أنظارهما ً‬
‫رويدً ا قبل �أنْ يخاطبه‪« :‬مرح ًبا‪� ..‬سي�سيل!»‬
‫وجاءت حتيته مع ابت�سامة �أ�ضفت براءة غريبة على وجهه‪.‬‬
‫حمني‬
‫ّ‬ ‫ونه�ض �سي�سيل ليخطو خطواته �إىل البوابة‪ ..‬ثم وقف‬
‫الر�أ�س‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫قال �آرون بلهجة مرحة ي�شوبها احلما�س‪�« :‬أخربوين ب�أنك �شديد‬
‫الذكاء والتمرد»‪.‬‬
‫رفع �سي�سيل عينه للحظة ثم عاود النظر �إىل الأر�ضية دُون رد‪..‬‬
‫أنت مل ُت ِبد �أي مقاومة حتى الآن ولهذا �أتوقع منك تعاو ًنا ً‬
‫تاما‪..‬‬ ‫‪َ �-‬‬
‫�ستخربنا بكل �شيء‪� ..‬ستخربنا كيف ت�سللت �إىل حجرة �أوفيليا‬
‫وملاذا‪� ..‬ستخربنا مبا ر�أيت‪� ..‬ستخربنا بكيفية اختفائك و�إىل‬
‫�أين ذهبت وماذا فعلت‪ ..‬و�ست�شرح كل و�شم منقو�ش على‬
‫ج�سدك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫بهدوء �أجابه �سي�سيل‪« :‬ال �ش�أن لكم مبا فعلته يف �أثناء اختفائي‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وال بالو�شوم»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫انفرجت �شفتا �آرون عن ابت�سامة وا�سعة وهو ي�صيح‪« :‬رائع! لقد‬


‫قرر املقاومة!»‬
‫ﺸﺮ‬

‫تدخل نايت‪« :‬عنادك �سيكون ال�سبب يف موتك‪ ..‬هل تعلم ذلك؟»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫«�ستقتلوين يف كل الأحوال‪ ..‬ولذلك �أف�ضل �أنْ �أموت دُون �أنْ �أف�شي‬


‫حتد‪.‬‬
‫�أ�سراري اخلا�صة»‪ .‬قالها وهو يرفع عينيه نحو نايت يف ٍ‬
‫�أطلق �آرون �ضحكة ق�صرية وهو يردف‪�« :‬إنه حمق! يعلم �أننا‬
‫�سنقتله على كل حال فلماذا يخربنا ب�أ�سراره؟ ولكن يبدو �أنه ال يعلم‬
‫موت يختلف»‪.‬‬ ‫�أنّ مو ًتا عن ٍ‬
‫قال نايت‪ُ « :‬كن مت�أكدً ا ب�أين �س�أجعله يدرك الفارق �أيها امللك‪..‬‬
‫حد �سي�صمد»‪.‬‬
‫�س�أتوىل �أمره بنف�سي‪ ..‬و�سرنى �إىل �أي ٍ‬
‫‪189‬‬
‫‪� -‬أثق بقدرتك على ذلك‪.‬‬
‫قالها وهو ي�ستمر يف م�سريه‪ ..‬وحلقه نايت الذي هم�س ل�سي�سيل‬
‫قبل �أنْ ين�صرف‪�« :‬س�أعود �إليك الح ًقا»‪.‬‬
‫وكانت وجهتهما الأخرية زنزانة �أوفيليا‪ ..‬و�أمام بوابة زنزانتها‬
‫توقفا‪ ..‬وملحت �آرون وهو يق ّرب وجهه من ق�ضبان الزنزانة مناد ًيا‬
‫�إياها‪�« :‬أوفيليااا!» ولكنها مل تتحرك من مكانها ومل تنب�س بكلمة‪.‬‬
‫أنك غا�ضبة مني ب�شدة‪ ..‬ولكني م�ضطر �إىل حب�سك‪ ..‬ال‬
‫‪� -‬أعلم � ِ‬
‫ميكن �أنْ يجتمع كالنا يف مكان واحد كالعر�ش‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ومل تلتفت حتى‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫عليك �أنْ‬
‫‪� -‬أوفيليا! ال فائدة مما تفعلينه‪ ..‬هل تدركني هذا؟ ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫تتقبلي �أنني امللك‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫هام�سا‪�« :‬إنها غا�ضبة منك ولهذا لن تكلمك‪..‬‬


‫وهنا تدخل نايت ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لنعد �إىل القلعة �أيها امللك»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أنت حمق‪ ..‬ال �أظن ب�أنها �ستنظر �إىل وجهي جمددًا ولكني‬
‫�أعلم �أنها ت�سمعني‪ ..‬ولهذا �أنا هنا لأو�ضح لها �أم ًرا ُمه ًما قبل‬
‫رحيلي‪.‬‬
‫لك‬
‫زلت � ِأكن ِ‬
‫ؤذيك‪ ..‬وما ُ‬ ‫ثم عاد ليقول بنربة �أعلى‪�« :‬أنا لن �أ� ِ‬
‫عليك �أنْ تدركي جيدً ا �أنني امللك‬
‫الكثري من احلب واالمتنان‪ ..‬ولكن ِ‬
‫علي‪ ..‬هل تفهمني؟ لن �أ�سمح‬ ‫لك �أي حماولة لالنقالب َّ‬‫الآن ولن �أغفر ِ‬
‫لك بالتعاون مع �أي كان �ضدي‪ ..‬و�سيكون العقاب �ألي ًما جراء املحاولة‬
‫ِ‬
‫‪190‬‬
‫‪n‬‬
‫وح�سب‪ ..‬فال حتاويل �أبدً ا!» ثم ا�ستدار عائدً ا لينزل درجات الربج‬
‫ومن ورائه نايت‪.‬‬

‫و�سط عا�صمة القمم الدخانية‪ ،‬ويف حجرة �صغرية يف علية �إحدى‬


‫حانات حي فقري‪ ،‬جل�س مي�ست يت�أمل �صورته يف املر�آة ال�صغرية‬
‫مك�سورة الطرف قبالته‪ ..‬لقد تغري مظهره ً‬
‫قليل بفعل �إطالق حليته‪..‬‬
‫ولكن �شعريات حليته مل ت ُكن غزيرة حتى تبدل من مالحمه ب�شكل‬
‫كبري‪ ..‬كانت مفرقة متفاوتة الأطوال‪ ..‬كيف ميكن �أنْ يبدل من مظهره‬

‫ﻋﺼ‬
‫متاما‪ ..‬وميكن �أنْ يتعرف عليه َمن‬
‫�أكرث؟ ب�شرته النحا�سية تف�ضحه ً‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يبحث عنه ب�سهولة �إنْ كان ميلك بع�ض املعلومات عن مظهره‪ ..‬يعلم‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أنهم يبحثون عنه يف كل جحر‪ ..‬و�سيمرون من هذه احلانة ً‬


‫عاجل �أم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫� ً‬
‫آجل‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ترى َمن مياثلني لون ب�شرتي يف هذه العا�صمة؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أخذ يفكر‪ ..‬هو ال يرغب يف االختباء ح ًقا‪ ..‬وال فائدة من حماولة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫تغيري هيئته‪ ..‬ولهذا‪ ،‬من الأف�ضل �أنْ يندمج يف املجتمع ب�شكله احلايل‬
‫يوما ما �إىل القلعة دُون �أنْ ي�شعر‬
‫ولكن بهوية خمتلفة‪ ..‬يريد �أنْ يعود ً‬
‫�أحد ب�أي ما يريب‪ ..‬يجب �أنْ يجد طريقة يظهر فيها للعيان دُون‬
‫أ�شخا�صا مياثلونه وبهذا يندمج‬
‫ً‬ ‫�أنْ يرتابوا يف �أمره‪ ..‬يجب �أنْ يجد �‬

‫‪n‬‬
‫أ�شخا�صا نحا�سيي‬
‫ً‬ ‫معهم ليبدو فردًا منهم‪ ..‬ولكن َمن هم!؟ �أين يجد �‬
‫الب�شرة يف هذه البالد؟!‬

‫‪191‬‬
‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬ويف حجرة ف�سيحة رحبة‪ِ ،‬ا ْن َ�س َّلت �أ�شعة ال�شم�س‬
‫اخلجول عرب النوافذ التي تطل على عا�صمة القمم الدخانية من على‬
‫ارتفاع �شاهق‪ .‬كانت احلجرة مفرو�شة ب�أثاث ملكي باهظ ق�سمها �إىل‬
‫ق�سم للنوم وق�سم للأكل وق�سم للحياكة والتطريز! وك�أنها ُج ّهزت يف‬
‫اعتبار خا�ص ملزاج �صاحبتها التي وقفت ترمق كل �شيء بوجه عبو�س‪.‬‬
‫ت�ستطع‬
‫ت�ستطع النوم رغم نعومة الفرا�ش املح�شو بري�ش النعام‪ ،‬ومل ِ‬ ‫مل ِ‬
‫الأكل رغم طاولة الع�شاء التي انتظرتها ليلة البارحة ب�شتى الأطباق‬
‫املحببة �إليها‪.‬‬
‫وقفت بري�شيليا وراء النافذة التي تنت�صفها ق�ضبان فوالذية ال‬

‫ﻋﺼ‬
‫ت�سمح مبرور ر�أ�سها حتى‪ ،‬ودارت يف خلدها �أفكار كثرية مل تلبثها‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫منذ البارحة‪ ..‬ومل ت ِفق من ا�ستغراقها حتى �سمعت جلبة عند باب‬
‫ﻜﺘ‬

‫احلجرة وهو ُيفتَح‪ ..‬ال ُبد �أنهم �أتوا لأخذ �أطباق الع�شاء وا�ستبدالها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ب�أطباق الإفطار‪ .‬مل تلتفت يف البداية‪ ،‬ولكنها �شهقت حني �سمعت‬


‫�صوت و�صيفتها العجوز‪.‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫أنت بخري؟‬
‫‪� -‬أمريتي! ما الذي فعلوه بك! هل � ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وكانت الدموع جتتمع يف عيني الو�صيفة حني التفتت �إليها بري�شيليا‬


‫التي ارمتت يف ح�ضنها وهي ت�ستغرق يف البكاء‪.‬‬
‫أنت يف �أمان!» ثم �أ�شارت لبقية اخلادمات‬
‫أرجوك اهد�أي! � ِ‬
‫�أمريتي! � ِ‬
‫حتى يخرجن من احلجرة‪.‬‬
‫ومن بني �شهقاتها‪ ،‬جاءت عبارات بري�شيليا متقطعة مبتورة‬
‫جدا وبال جدوى! �أنا �أكره نف�سي! �أكره‬
‫احلروف‪�« :‬أنا‪� ..‬أنا غبية ًّ‬
‫نف�سي!»‬
‫‪192‬‬
‫أرجوك ال تقويل هذا! ال تلقي اللوم على نف�سك!‬
‫‪� -‬أمريتي! � ِ‬
‫رفعت بري�شيليا عينيها لتقول بينما تخنقها الدموع‪�« :‬أتفهم الآن‬
‫ملاذا تكرهني �أوفيليا واجلميع‪ ..‬يكرهونني لأين �أ�ستحق الكراهية‬
‫أيت َمن هو �أغبى مني؟ هل ر�أيت من يعي�ش حياة �أتفه من‬ ‫ح ًقا! هل ر� ِ‬
‫حياتي؟! لقد كربتُ يف هذه القلعة دُون �أنْ �أعي �شي ًئا! دُون �أنْ �أحاول‬
‫حتى!»‬
‫ربتت �إيفي على ظهرها متمتمة بلهجة موا�سية‪« :‬ال حتملي نف�سك‬
‫ذنوب غريك يا �أمريتي! يجب �أنْ ال تفكري بهذه الطريقة!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كان من املفرت�ض �أنْ �أحمي اململكة من �أي خطر كوين وريثة‬
‫ﻜﺘ‬

‫العر�ش الأوىل! ولكني مل �أ�شعر بذرة م�س�ؤولية جتاه هذا الأمر!‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫مل �أهتم ومل �أحاول! والآن ي�سيطر ه�ؤالء القتلة على كل �شيء!‬
‫ما كان هذا ليحدث لو �أين‪...‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫كنت �ستكونني‬‫أرجوك توقفي عن هذا! وما الذي ِ‬ ‫‪� -‬أمريتي! � ِ‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قادرة على فعله؟ لقد خدع ه�ؤالء �أوفيليا � ً‬


‫أي�ضا رغم �أنها �أفعى‬
‫أنك مل تفعلي �شي ًئا لتمنعي ما‬ ‫خبيثة‪ ..‬الذنب لي�س ذنبك ل ِ‬
‫حدث‪ ..‬ولكن �سيكون من واجبك �أنْ تفعلي �شي ًئا الآن ً‬
‫بدل عن‬
‫البكاء والنحيب‪.‬‬
‫‪ -‬لقد ارتكب هذا �شقيقي الأ�صغر الذي ال �أتذكر حتى متى‬
‫دارت بيننا �آخر حمادثة! �أنا مل �أحاول بناء �أي عالقة ب�أي‬
‫كان! لطاملا كنت بعيدة عن كل �شيء!‬
‫‪193‬‬
‫‪ -‬ماذا عن عالقتنا � ًإذا؟ هل تظنني �أنّ لأوفيليا �أو �آرون ً‬
‫خادما‬
‫خمل�صا مثلي؟‬
‫ً‬
‫حل �صمت ق�صري قطعته �إيفي ثاني ًة‪« :‬نعم �أنا جمرد خادمة‬
‫عجوز‪ ..‬ولكن هل تعلمني ب�أنّ اخلدم هم َمن مينح القوة لأمري دُون‬
‫غريه؟ �أال يحتاج الأمري �إىل �شبكة جوا�سي�س و�إىل �أ�شخا�ص يخرتقون‬
‫القوانني من �أجله؟»‬
‫أيت يف حياتي‪.‬‬
‫أنت �أجنب َمن ر� ُ‬
‫أنت‪ِ � ..‬‬
‫‪� -‬أتفهم هذا‪ ..‬ولكن‪ِ � ..‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ تردف‪« :‬و� ِ‬
‫أنت �أمل تكوين �أغبى َمن‬ ‫�أخذت �إيفي ً‬
‫ﻋﺼ‬
‫أيت يف حياتي؟ ِمن �ش�أن الظروف �أنْ تغرينا»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ر� ُ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�صمتت بري�شيليا �إثر تلك الإهانة التي مل تعتربها �إهانة ح ًقا‪ ..‬بل‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫أنت تدركني الآن �أنّ واجبك �أنْ تفعلي‬


‫حقيقة معروفة‪ ..‬تابعت �إيفي‪ِ �« :‬‬
‫�شي ًئا‪� ،‬ألي�س كذلك؟ هذا ت�صرف يدل على الن�ضج‪ ..‬و�أنا م�ستعدة‬
‫ﺸﺮ‬

‫اتخذت هذا‬
‫ِ‬ ‫ُمت قد‬‫للمخاطرة بحياتي من �أجل م�ساعدتك ما د ِ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫القرار»‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قليل وقد توقفت دموعها‪ ..‬لكن �سرعان ما عادت‬ ‫�صمتت بري�شيليا ً‬


‫عيناها لالمتالء حني متتمت‪« :‬هل �ست�ساعدينني ح ًقا؟»‬
‫ابت�سمت �إيفي‪« :‬بالطبع! �سنخرج من هنا‪ ..‬و�س ُننقذ �سي�سيل‬
‫� ً‬
‫أي�ضا»‪.‬‬
‫ابت�سمت بري�شيليا يف امتنان وهي تقول‪« :‬لقد تغري موقفك من‬
‫�سي�سيل � ً‬
‫أي�ضا؟»‬
‫‪194‬‬
‫‪ -‬لقد �سمعت ب�أنهم �سي�أخذونه �إىل عل ّية برج ال�سال�سل الليلة‪..‬‬
‫�سيعذبونه كث ًريا‪ ..‬وهذا يدل على �أنه ي�شكل خط ًرا ما عليهم‪..‬‬
‫من ال�ضروري �أنْ ننقذه حتى يقف �إىل �صفنا �ضدهم‪.‬‬
‫تال�شت ابت�سامة بري�شيليا بينما عاد الوجوم �إىل وجهها‪.‬‬
‫تابعت �إيفي‪�« :‬أنا �أعرف كث ًريا من الأ�شياء و�أعرف قواعد اللعبة‬
‫جيدً ا‪ ..‬مل �أرغب ب�إقحامك يف النار من قبل حتى ال حترتقي‪ ..‬ولكننا‬
‫احرتقنا بالفعل الآن‪ ..‬ولذلك �ستثقني بي»‪.‬‬
‫�أوم�أت بري�شيليا وهي ت�شد على قب�ضة �إيفي التي �أردفت‪« :‬يجب �أنْ‬
‫ﻋﺼ‬
‫تبادلت احلديث مع عدة حرا�س يف‬ ‫ِ‬ ‫نبد�أ بت�شكيل حزبنا‪ ..‬ال ُب َّد �أ ْن ِك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ا�ستطعت مالحظة �إنْ كان �أحدهم مييل‬ ‫�أثناء فرتة احتجازك‪ ..‬هل‬
‫ﻜﺘ‬
‫ِ‬
‫�إليك؟ فكري يف َمن قد ين�ضم �إىل �صفنا منهم‪� ..‬ستكون هذه نقطة‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫البداية للتغلغل �إىل برج ال�سال�سل»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ابتلعت بري�شيليا ريقها وهي ت�ستغرق مفكرة‪ ،‬ثم قالت بعد هنيهة‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫«هناك َمن كنت �أبادله احلديث �أكرث من غريه‪ ..‬لكني ال �أعرف‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ا�سمه‪ ..‬كان ي�ستغل فرتات غياب رجال البوم الهالك ليحدثني عن‬
‫م�ستجدات الأمور»‪.‬‬
‫‪ -‬كيف يبدو ومتى توىل حرا�ستك؟‬
‫‪ -‬كان �أول َمن توىل حرا�ستي‪ ..‬ومت ا�ستبداله قبل �أربعة �أيام‪..‬‬
‫مل �أحفظ مالحمه جيدً ا‪ ..‬ولكنه كان ً‬
‫�ضئيل ق�ص ًريا‪� ..‬شبه‬
‫�أ�صلع‪� ..‬شاحب الب�شرة ب�شدة لدرجة �أين كنت �أت�ساءل �إنْ كان‬
‫م�صا ًبا بالبهاق‪.‬‬
‫‪195‬‬
‫ارت�سمت ابت�سامة وا�سعة على وجه �إيفي وهي تقول‪« :‬ماريون‬
‫ال�صغري‪ ..‬هكذا ينادونه‪� ..‬أعرف �أين ت�سكن والدته»‪.‬‬
‫أنت رائعة ح ًقا يا �إيفي! يبدو � ِ‬
‫أنك‬ ‫ابت�سمت بري�شيليا بدورها‪ِ �« :‬‬
‫تعرفني اجلميع يف هذه القلعة!»‬
‫«لن ن�صل �إىل هدفنا ب�سهولة‪ ..‬ولكن �إغفال اجلميع يل ولك‬
‫�سيمنحنا فر�صة عظيمة» قالتها وهي تتجه �إىل الطاولة التي ا�صطفت‬
‫ب�أطباق الإفطار‪.‬‬
‫عليك �أنْ ت�أكلي لت�ستعيدي قوتك يا �أمريتي‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬

‫‪n‬‬ ‫ﻋﺼ‬
‫�أوم�أت بري�شيليا وهي جتل�س قبالة تلك الطاولة‪« :‬بالت�أكيد!»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف قلب عا�صمة القمم الدخانية‪ ،‬ويف �أحد �أكرث الأحياء حيوية‪،‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫الك َب‪ ،‬مي�سح عرق جبينه‬‫وقف رجل يف منت�صف العمر‪� ،‬أقرب �إىل ِ‬
‫الذي جتمع فوق عينيه املحمرتني‪ ،‬واللتني تبدوان هكذا دائ ًما �إثر‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫تعر�ضه الدائم �إىل احلرارة العالية وذرات املعادن‪ ..‬كان مك�شوف‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الذراعني‪ ،‬وكان باد ًيا اختالف لون ب�شرة ذراعيه عن وجهه‪ ،‬فوجهه‬
‫كان قد اكت�سب لو ًنا نحا�س ًيا �أقرب �إىل االحرتاق‪.‬‬
‫كان ينظر �إىل عامله اجلديد وهو ي�صيح‪�« :‬أقوى! يجب �أنْ تتحول‬
‫قطعة النحا�س هذه �إىل �صفيحة رقيقة!»‬
‫وا�ضحا �أنه ال ميلك �أي خلفية عن‬
‫ً‬ ‫زاد العامل من قوة الطرق وكان‬
‫مهنة احلدادة‪ ..‬ولكن �سيده مل يوجه له �أي �إهانات‪ ..‬وذلك ب�سبب‬
‫�سبائك الذهب التي �أ�سكته العامل بها هذا ال�صباح!‬
‫‪196‬‬
‫ِ َل قد ميلك عامل ِحدادة مبتدئ �سبائك ذهب؟! ال ميلك �أي فكرة!‬
‫وال يهمه هذا ح ًقا! عامل يريد �أنْ يعمل فقط مقابل �إيجاد م�أكل وكومة‬
‫ق�ش ينام عليها‪ ..‬ميلك رغبة حقيقية يف التعلم وال يتذمر من ال�شرر‬
‫املتطاير يف وجهه الذي �أ�صابه بحروق �صغرية بالفعل منذ اليوم‬
‫الأول! بل بدا له �أنّ عامله يتعمد التخلي عن و�سائل احلماية ليك�سب‬
‫�أكرب عدد من احلروق اجللدية!‬
‫‪ُ -‬ترى َمن يكون هذا ال�شاب؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫كان يت�ساءل ثم ينف�ض ال�س�ؤال من عقله‪ ..‬ف�سبائك الذهب تلك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫كانت ال�شرط لكذبة اتفقا عليها‪ ..‬كذبة حر�ص على م�شاركتها مع كل‬
‫ﻜﺘ‬

‫من زار حمل حدادته و�س�أله عن هوية عامله اجلديد‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬إنه ابن �أختي مي�ست‪ ..‬ولقد جاء من بلدته البعيدة ليعي�ش‬

‫‪n‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫معي بعد وفاة والدته‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مع حلول الظالم‪ ،‬ويف ُعل ّية برج ال�سال�سل‪� ،‬شعر �سي�سيل بالهواء‬
‫البارد يلفحه حني مزق جالده الرداء الذي كان يغطي به جذعه‪..‬‬
‫كان ي�شعر بثقل الأ�صفاد احلديدية التي مت تثبيتها حول مع�صميه‪..‬‬
‫وكان عاجزً ا عن الر�ؤية بعد �أنْ مت حجب عينيه ب ُع�صابة �سوداء‪..‬‬
‫كان هاد ًئا‪ ..‬و�إنْ بد�أت �ضربات قلبه بالت�سارع بالفعل‪ُ ..‬ترى ما‬
‫الذي ينتظره؟ �أكان قراره �صائ ًبا حني قرر العناد؟‬
‫‪197‬‬
‫اقرتبت منه خطوات هادئة واثقة �سيحفظها جيدً ا‪ ..‬وهم�س‬
‫�صاحبها‪�« :‬سنبد�أ من حجرة �أوفيليا‪ ..‬كيف ت�سللت �إليها؟»‬
‫‪ -‬ال �أعرف‪.‬‬
‫ي�ستطع‬
‫ومل يكد يجيب حتى �شعر مبن يلوي ذراعه يف زاوية مل ِ‬
‫تخيلها‪ ..‬فع�ض على �شفتيه ليمنع �صرخة كادت تنطلق �إثر الأمل‪.‬‬
‫�أطلق نايت تنهيدة عميقة قبل �أنْ يردف‪« :‬ال �أريد �أنْ �أ�سمع هذه‬
‫الكلمة �أبدً ا! �أريد �إجابات‪ ..‬كيف ت�سللت؟»‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪ -‬ال �أعـ‪...‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫وقطع كلمته �صرخة �أمل �أطلقها رغ ًما عنه �إثر انف�صال عظمة‬
‫ال َع ُ�ضد عن لوح كتفه الأمين!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫كان الأمل فظي ًعا‪ ..‬وت�سارعت نب�ضات قلبه وهو يدرك حجم الأمر‬
‫الذي �أقحم نف�سه فيه! لقد قرر �أنْ يتحدى نايت وذلك من �أجل ت�أجيل‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قتله لأطول فرتة ممكنة! ف ُهم لن يقتلوه قبل �أنْ ميت�صوا منه كل‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫معلومة يحتاجونها ‪�-‬أو ال يحتاجونها‪ -‬ولكن‪ ..‬هذا الأمل‪ ..‬هذا الأمل‬


‫فعل! كيف‬ ‫حقيقي يع�صف به ب�شكل يجعله ين�سى الإجابة احلقيقية ً‬
‫�سيتحمل كل هذا؟ ما زال يف البداية! ما زال هناك الكثري! �إنها الليلة‬
‫الأوىل وح�سب!‬
‫‪ -‬مل �أفعل �شي ًئا �سوى خلع كتفك! �أ�ستطيع �إرجاع العظمتني �إىل‬
‫و�ضعهما الطبيعي‪ ..‬لكني �أحتاج �إىل �إجابة‪ ..‬كيف ت�سللت؟‬
‫‪198‬‬
‫هل ي�ستحق الأمر �أنْ يعاند؟ هل �سيخرج من هنا على �أي حال �إنْ‬
‫قرر املماطلة وك�سب الوقت؟ ال يدري!‬
‫‪ -‬كيف ت�سللت �إىل حجرة �أوفيليا؟‬
‫َمن الذي �سي�ساعده للخروج من هنا؟ لي�س هناك �سوى بري�شيليا‬
‫أمل عودتها من �أجله! لكن هل‬ ‫البلهاء التي قرر العناد واملماطلة مت� ً‬
‫�ستكون قادرة على �إنقاذه ح ًقا؟ رمبا ي�أتي �سريو�س من �أجله‪ ..‬لكن �أي‬
‫قوة ميلك �سريو�س بعد املذبحة التي حدثت يف ال�صومعة؟ ال ُب َّد �أنه‬

‫ﻋﺼ‬
‫يحاول النجاة بالتخفي والهرب‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬كيف ت�سللت؟‬
‫ﻜﺘ‬

‫ِمن امل�ضحك ح ًقا �أنه بات ي�ضع جناته رهن تلك الفتاة البلهاء التي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫طاملا �أراد التخل�ص منها وح�سب‪ ..‬الفتاة التي جتاهل كل ر�سائلها‬


‫ﺸﺮ‬

‫وعاملها بجفاء وجتاهلها متعمدً ا حتى اللحظة الأخرية‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ثم يقطع حبل �أفكاره الأمل ال�شنيع الذي جاء من انف�صال َع ُ�ضد‬
‫كتفه الأي�سر هذه املرة!‬
‫‪ -‬ميكنك املماطلة �أكرث ولكن حينها �سيبقى خلع كتفيك دُون‬
‫عالج و�سيت�سبب هذا ب�ضمور الع�صب و�شريان الذراع‪ ..‬وهذا‬
‫يعني موت خاليا الذراع واحلاجة �إىل برتها‪� ..‬أنا مد ّرب على‬
‫هذه الأمور و�أ�ستطيع عالج اخللع بحركة واحدة! لكن �أريد‬
‫�إجابتك � ًأول!‬
‫‪199‬‬
‫�سيجيب‪ ..‬ال ُب َّد �أنْ يجيب حتى ال يخ�سر ذراعيه!‬
‫‪ -‬كيف ت�سللت؟‬
‫‪ -‬قاطعة‪ ..‬املعادن‪.‬‬
‫كم �سي�صمد؟ وكم �س� ًؤال �سيجيب قبل �أنْ تنفد الأ�سئلة والإجابات؟‬
‫ال يعلم‪ ..‬الآن‪ ..‬يعلم فقط �أنه ي�صلي يف قرارة نف�سه لتتذكره بري�شيليا‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪200‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الثالث عشر‬
‫حدوة الحصان‬

‫فتح �سريو�س عينيه ب�صعوبة �إثر النور امل�شع الذي �أغ�شى ر�ؤيته‪..‬‬
‫�أكان نو ًرا م�ش ًعا ح ًقا؟ مل ي ُكن كذلك‪ ..‬بل كان �ضو ًءا خافتًا‪ ..‬ولكن‬

‫ﻋﺼ‬
‫كيف ميكن �أنْ ميتاز ال�ضوء اخلافت بهذا ال�سطوع؟ كان ذلك ما‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ً‬
‫حماول تبني ما حوله‪ ..‬و�شي ًئا ف�شي ًئا‬ ‫�أخذ يدور يف ر�أ�سه وهو يتلفت‬
‫ﻜﺘ‬

‫بد�أ يتعرف �إىل ماهية هذا املكان‪ ..‬مل يتعرفه ح ًقا‪ ..‬ولكنه الحظ �أنّ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫املكان �أ�شبه بغابة‪ ..‬غابة غريبة‪ ..‬فحوله انت�شر عدد هائل من اجلذوع‬
‫ﺸﺮ‬

‫العالية التي ال ي�ستطيع تبني قممها‪ ..‬ورغم ذلك مل ي ُكن هناك �أي �أثر‬
‫�آخر للحياة‪ ..‬فال�سكينة التي ملأت املكان �أثارت ريبته ب�شدة‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أهذا �صوت تنف�سه؟ �إنه ي�سمع �صوت تنف�سه من �شدة ال�صمت‬


‫املطبق على هذا املكان! ابتلع ريقه وهو ي�ستدير عله يلمح �شي ًئا غري‬
‫هذه اجلذوع املحيطة به‪ ..‬ثم ملح تلك الظالل‪� ..‬سبقتها �أ�صوات‬
‫خطوات خرقت ال�صمت مرعبة �إياه‪.‬‬
‫‪� -‬سريو�س!‬
‫قلبه يكاد يتوقف من �شدة اخلفقان‪ ..‬التفت جمددًا يف اجتاه‬
‫ملتفحا بثوب طويل‪ ..‬يغطي ر�أ�سه‬
‫ً‬ ‫�شخ�صا‬
‫ً‬ ‫م�صدر ال�صوت‪ ..‬كان‬
‫‪201‬‬
‫ب�شيء �أ�شبه باخلمار‪� ..‬أ�سدله على ن�صف وجهه حتى ال يتبني منه‬
‫�شي ًئا‪.‬‬
‫‪� -‬سريو�س!‬
‫أ�شخا�صا �آخرين‬
‫ً‬ ‫َمن يكون هذا؟ بل َمن يكون ه�ؤالء؟ فقد ر�أى �‬
‫يخرجون من الظالل‪ ..‬يرتدون ذات الثياب‪ ..‬وكانوا يحا�صرونه من‬
‫جميع اجلهات‪.‬‬
‫‪ -‬مـ‪ ..‬من �أنتم؟! و�أين‪� ..‬أنا؟‬
‫خرجت الكلمات من حلقه ب�صعوبة‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪� -‬أنت يف ح�ضرة ُحرا�س الأثري‪ ..‬و�أنت هنا من �أجل حماكمتك‬
‫ﻜﺘ‬

‫على جرميتك‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫هل ما يحدث هنا حقيقي؟ ما الذي يقوله هذا الرجل وما معنى‬
‫ﺸﺮ‬

‫ما يقول؟!‬
‫ﻭ‬

‫كان قد غ�ص بكلماته جمددًا‪ ..‬وازدادت عيناه ده�شة وخو ًفا‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ب�سببك‪ ..‬ت�سربت �أ�سرار قد تخل بتوازن عامل الهاك�سا�س‪.‬‬


‫�سمحت ل�سي�سيل باالنتقال �إىل عامل الهاك�سا�س حيث‬ ‫َ‬ ‫‪ -‬لقد‬
‫التقى ب�إينور‪ ..‬وحيث �أق َن َعتْه بت�سريب �أحد الأ�سرار التي ال‬
‫ينبغي �أنْ تغادر عاملك‪.‬‬
‫‪� -‬سكان الهاك�سا�س �سيكونون قادرين على التخاطر وا�ستقراء‬
‫امل�ستقبل‪.‬‬
‫‪ -‬وبع�ضهم �سيكون قاد ًرا على ر�ؤية كيانات ال تنتمي لعامله‪.‬‬
‫‪202‬‬
‫‪ -‬ب�سببك‪� ..‬ستدمر �إينور احلواجز بني العوامل‪.‬‬
‫باعا وك�أنهم �شخ�ص واحد! ومل يعرف �سريو�س‬ ‫كانوا يتحدثون ِت ً‬
‫�أين ينظر! فكان يتلفت كالأبله ً‬
‫متنقل بينهم وهم ي�شرحون له جرميته‬
‫بتلك الطريقة املتلفة للأع�صاب‪ ..‬ومل يدرك جرميته بعد! �أي �إينور‬
‫تلك التي يتحدثون عنها؟! �إينور التي يتذكرها �شابة مت تطبيق و�شم‬
‫العقاب عليها منذ �أ�سابيع قليلة‪ ..‬وكانت متهمة مبحاوالت ل�سرقة‬
‫الكتب املحظورة‪..‬‬
‫‪� -‬أنا‪ ..‬ال‪� ..‬أفهم‪َ ..‬من‪ ..‬هي‪� ..‬إينور؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ال�شابة التي خطرت ببالك للتو‪� ..‬شقيقة امللك مريلني التي مت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نفيها خارج عاملك‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬غري �أنها مل َت ُعد �شابة ح ًقا‪ ..‬فقد �صارت عجو ًزا بالفعل‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ولكن ما خ ّلفته وراءها كفيل بتدمري العامل الذي ُن ِف َيت �إليه‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫كان كم املعلومات التي يتناوبون على �صفعه بها �أكرب مما ميكن له‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أنْ يفهمها ويدركها‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أرجوكم‪ ..‬ما زلت ال �أفهم ما الذي تتحدثون عنه‪.‬‬


‫‪� -‬ستفهم كل �شيء‪ ..‬ال تقلق‪� ..‬ستفهم �أكرث مما ينبغي لك �أنْ‬
‫تفهمه‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫مل تطمئنه تلك الإجابة بقدر ما زادت من توتر نب�ضاته‪ ..‬ولكنه مل‬
‫ميلك خيا ًرا‪ ..‬عليه �أنْ يهد�أ وي�ستمع �إليهم! عليه �أنْ يفهم!‬

‫‪203‬‬
‫يف �سجنها‪ ،‬بداخل قبو احل�صن القدمي‪ ..‬جل�ست ليالك وهي‬
‫نف�سا عمي ًقا‬
‫تهم بقراءة ر�سالة �أو�صلها حار�سها لها خل�سة‪� ..‬أخذت ً‬
‫وهي حتاول التغلب على رجفة �أ�صابعها‪ ..‬فهذه الر�سالة قادمة من‬
‫مي�ست‪� ..‬أول ر�سالة منه بعد �شهور كاملة فقدت خاللها الأمل يف كونه‬
‫ما يزال على قيد احلياة!‬
‫ليالك‪..‬‬
‫جنحت يف االختباء من البوم الهالك‪� ..‬أنا يف‬ ‫�أريدك � ْأن تعلمي �أين ُ‬
‫�أمان م�ؤقتًا‪ ..‬ولكني حم�صور كف�أر �سجني‪ ..‬ال �أعلم � ْإن كانت ر�سالتي‬

‫ﻋﺼ‬
‫هذه �ستجدي �أي نفع �أو � ْإن كنتِ متلكني �أي قوة! ولكن هذا كل‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ما �أ�ستطيع فعله من �أجل مملكتنا الآن! �أرجوكِ يا ليالك‪ ..‬اتركي‬
‫ﻜﺘ‬

‫كربيائك جان ًبا وتو�سلي لإيدن من �أجل اال�ستماع �إليكِ ! يجب � ْأن‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يبا�رش �إيدن بحفر القناة املائية التي كان ينوي البدء بها‪� ..‬أعلم � ّأن‬
‫ﺸﺮ‬

‫هذا م�رشوع فا�شل! ولكن يجب � ْأن تبد أ� احلفريات ب�أ�رسع ما ميكن! ال‬
‫ﻭ‬

‫�أ�ستطيع البوح بالأ�سباب‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مي�ست‬
‫�أعادت ليالك قراءة الر�سالة مرات عدة‪ ..‬مل تد ِر ِ َل ْمل ِ‬
‫ت�ستطع‬
‫االبتهاج لنجاته‪ ..‬رغم �أنها ق�ضت ال�شهور املن�صرمة تتحرق لدليل‬
‫على جناته! لقد جنا‪ ..‬ولكنه ما زال يعلق م�ستقبل اململكة على كاهلها‬
‫لأنه ف�أر �سجني كما ي�صف نف�سه! ملاذا ال يهرب وي�أتي ليدافع عن‬
‫مملكته بنف�سه؟! ما قيمة بقائه خمتب ًئا هناك؟!‬

‫‪204‬‬
‫كانت ت�شعر بالغيظ �إزاء هذا‪ ..‬وتتمنى لو �أنها جتد �إجابة �شافية‪..‬‬
‫ولكنها تثق مبي�ست ثقة عمياء‪ ..‬تعلم �أنه ال يتخذ قرارات دُون دوافع‬
‫قوية‪.‬‬
‫‪� -‬أيها احلار�س!‬
‫مت�ض دقائق حتى �سمعت‬
‫نادت وهي تخبط بوابة القبو بقوة‪ ..‬ومل ِ‬
‫خ�شخ�شة املفتاح يف القفل احلديدي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا موالتي؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫ابتلعت ريقها وهي ترمقه بنظرة ا�ست�شعر فيها خطورة املوقف‪:‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫«�أريد �أنْ �أحتدث �إىل �إيدن‪� ..‬أرجوك �أبلغه ب�أنّ الأمر يتعلق باحلرب‬
‫ﻜﺘ‬

‫القادمة‪ ..‬يجب �أنْ �أراه»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قطب حاجبيه يف رد فعل مبا�شر‪�« :‬أي حرب يا موالتي؟»‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬احلرب التي �ستدمر مملكتنا! والتي ال ميكن الت�صدي لها �إال‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بتعاوننا جميعا!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أوم�أ احلار�س وهو مينع نف�سه من اال�سرت�سال ب�س�ؤال �آخر‪ ..‬كان‬

‫‪n‬‬
‫جدا‪..‬‬
‫يعلم �أنها لن تخربه مب�صدرها �أو دليلها‪ ..‬ولكنها بدت �صادقة ًّ‬
‫ولهذا نادى من ينوب عنه يف احلرا�سة ثم هُ ِرع ناحية الق�صر‪.‬‬

‫مع حلول الظالم‪ ..‬وعلى فرا�ش الق�ش‪ ،‬ا�ستلقى مي�ست بعد يوم‬
‫متاما‪ ..‬بلونه املحرتق و�شعره الذي ا�ستطال‬
‫مرهق‪ .‬لقد تبدلت هيئته ً‬
‫ِ‬
‫‪205‬‬
‫دُون تهذيب‪ ..‬وعينيه املحمرتني‪ ..‬لقد �صار يبدو كحداد حقيقي ُولد‬
‫وترعرع بني �شرارات ال�سندان وموقد اللحام‪ ..‬ولكنه �سرعان ما عاود‬
‫النهو�ض من فرا�شه‪ ..‬فقد �سمع معلمه ينادي عليه‪ ..‬ومل ي ُكن معلمه‬
‫ي�ستدعيه من فرتات راحته �إال ل�سبب‪.‬‬
‫هُ رع �إىل اخلارج ملب ًيا النداء‪ ..‬واق�شعر حني ر�أى الواق َفني على‬
‫القادمان من القلعة‪ ..‬وكان نايت �أحدهما‪..‬‬
‫َ‬ ‫عتبة الدكان‪ ..‬كان‬
‫حاول مي�ست كبح توتره‪ ..‬لقد انتظر هذه اللحظة منذ زمن‪ ..‬هذه‬
‫هي فر�صته للو�صول �إىل القلعة جمددًا! وعليه �أنْ ي�ستغل هذه الفر�صة!‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ولكن كيف؟ ال يعلم بعد!‬
‫ﻜﺘ‬

‫عاد معلمه لل�صياح‪« :‬تعال �إىل هنا يا مي�ست‪ ..‬م�ست�شار امللك‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يطلبك!»‬
‫ﺸﺮ‬

‫اقرتب وهو يحني ر�أ�سه �إىل الأر�ض عالمة لالحرتام‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫واقرتبت خطوات نايت جتاهه‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬ارفع ر�أ�سك �أيها ال�شاب‪ ..‬لقد قيل يل �أنك مبتكر عبقري رغم‬
‫�أنك ما تزال جديدً ا على هذه املهنة‪.‬‬
‫‪� -‬أقدر هذا الإطراء يا �سيدي‪.‬‬
‫‪� -‬أريدك �أنْ ت�شرح يل ت�صميمك الفريد حلدوات الأح�صنة‪..‬‬
‫خ�صي�صا لتالئم‬
‫ً‬ ‫�صممت هذه احلدوات‬
‫َ‬ ‫�أخربين معلمك ب�أنك‬
‫البيئة ال�صحراوية‪.‬‬
‫‪206‬‬
‫رد مي�ست دُون �أنْ يرفع عينيه‪« :‬هذا �صحيح يا �سيدي‪ ..‬يف‬
‫احلقيقة‪ ،‬لقد �صنعت هذه احلدوة بهدف التنقل بني البيئات املختلفة‬
‫ب�سال�سة‪ ..‬ولي�س من �أجل البيئة ال�صحراوية حتديدً ا»‪� ..‬صمت لهنيهة‬
‫بينما ي�ستل احلدوة التي �صنعها من يد معلمه‪ ،‬ثم تابع‪« :‬لقد �صنعتها‬
‫من قطعتني قابلتني لالنف�صال‪ ..‬والهدف منها �أنْ يتم ا�ستبدال‬
‫القطعة املالم�سة للأر�ض عند دخول الأرا�ضي ذات الطبيعة املغايرة‪..‬‬
‫فعلى �سبيل املثال‪ ،‬عند انتقال احل�صان من �أر�ضية ثلجية �إىل �أر�ضية‬
‫رملية‪ ،‬ال ُب َّد من تبديل احلدوات حتى يتمكن احل�صان من ا�ستكمال‬
‫امل�سرية الطويلة‪� ..‬أنت تعلم يا �سيدي �أنّ الأرا�ضي ال�صحراوية تلزمها‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حدوة خفيفة مقو�سة‪ ..‬بينما البيئة الثلجية تلزمها حدوة �سميكة‬
‫ﻜﺘ‬
‫دائرية»‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كان نايت يومئ بر�أ�سه يف فهم‪ ..‬وكان مبهو ًرا حني �أراه مي�ست‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫وب�سيطا يف‬ ‫كيفية تبديل القطعة ال�سفلية‪ ..‬فقد كان الت�صميم ذك ًيا‬
‫� ٍآن واحد‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫متاما»‪.‬‬
‫متتم بعد هنيهة‪« :‬هذا رائع! هذا ما نحتاجه ً‬
‫‪ -‬لكني مبتدئ يا �سيدي‪ ..‬وال �أدري �إنْ كان ت�صميمي هذا عمل ًيا‪.‬‬
‫التفت نايت �إىل معلم مي�ست منتظ ًرا رده‪� ،‬أجاب الأخري‪�« :‬أنا �أرى‬
‫ب�أنّ هذا الت�صميم ذكي يا �سيدي‪ ..‬ولكني مل �أخترب �أي حدوة من‬
‫�أجل بيئة �صحراوية من قبل‪ ..‬ولذلك �أرجو �أنْ متنحنا وقتًا �أطول‬
‫الختبار‪.»...‬‬

‫‪207‬‬
‫قاطعه نايت‪« :‬ال وقت لدينا‪ ..‬يجب �أنْ نبد�أ ب�صناعة احلدوات‪..‬‬
‫�إنْ كانت لديك �شكوك يف هذا الت�صميم في�ؤ�سفني �أنْ �أرف�ض ابتكار‬
‫تلميذك‪ ..‬رغم �أين �أتوق �إىل جتربته»‪.‬‬
‫�سمعت ب�أنّ رئي�س احلدادين يف القلعة‬
‫ُ‬ ‫تدخل مي�ست‪�« :‬سيدي‪ ..‬لقد‬
‫ميلك خربة عري�ضة يف هذا املجال‪ ..‬رمبا كان ب�إمكاننا جتاهل مرحلة‬
‫االختبار �إنْ ا�ستمعنا �إىل ر�أيه»‪.‬‬
‫أعطني احلدوة و�س�أعر�ضها‬
‫�أوم أ� نايت‪« :‬نعم‪ ..‬ب�إمكاننا ذلك‪ِ � ..‬‬
‫عليه»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كنت �أجتاوز حدودي‪ ..‬ولكني‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قال مي�ست‪�« :‬أنا �أعتذر يا �سيدي �إنْ ُ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أمتنى �أنْ �أعر�ض عليه احلدوة بنف�سي‪� ..‬أريد �أنْ �أ�شرح له الت�صميم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�أطرح عليه بع�ض الأ�سئلة»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ابت�سم نايت‪« :‬ال م�شكلة يف ذلك‪� ..‬ست�أتي �صباح الغد للقاء رئي�س‬
‫ﻭ‬

‫احلدادين»‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬شك ًرا ً‬


‫جزيل يا �سيدي! �أقدر لك منحي هذه الفر�صة الثمينة!‬
‫ا�ستدار نايت ورفيقه �إىل اخلارج‪ ،‬بينما ودعهما معلم مي�ست‬
‫�شاك ًرا‪ ..‬وحني عاد �إىل الداخل‪ ،‬وجد مي�ست يقف بينما ترت�سم على‬
‫وجهه ابت�سامة وا�سعة ال يتذكر متى ر�أى مثلها من قبل‪.‬‬
‫متتم‪« :‬عم ٌل جيد يا مي�ست‪ ..‬ولكن الأفكار ال قيمة لها �إنْ مل‬
‫�ستخدم لهدف حقيقي‪ ..‬اذهب للنوم فغدً ا يوم طويل»‪ ..‬ثم ربت على‬ ‫ُت َ‬
‫كتفه متجاو ًزا �إياه‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫يف ال�شهور املن�صرمة القليلة‪ ،‬كان معلمه يقرتب من االنفجار‪..‬‬
‫فبعد �أنْ نفد خمزون مي�ست من ال�سبائك‪ ..‬مل ي ُكن هناك ما ي�شرتي‬
‫به �صمت معلمه‪ ..‬وكان الأخري قد بد�أ بطرح الأ�سئلة جمددًا‪ ..‬ولكن‬
‫ذلك مل يدُم‪ ..‬ف�سرعان ما بد�أ يتقبل مي�ست كم�ساعد حقيقي‪ ..‬ال‬
‫�سيما حني بد�أ الأخري بعر�ض �أفكاره‪ ..‬وكانت لديه �أفكار خمتلفة على‬
‫الدوام‪ ..‬وهذا ما جعل معلمه يراه فر�صة الزدهار ما ي�صنعه يف حمل‬
‫حدادته املتوا�ضع‪.‬‬
‫الآن‪ ..‬يدرك مي�ست �أنّ عالقته مبعلمه قد تتوتر جمددًا‪ ..‬فنظرات‬

‫‪n‬‬
‫املعلم مل ت ُكن نظرات فخر �أو �إعجاب‪ ..‬بل كانت نظرات غرية وح�سد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ف�شل يف مداراتها‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫يف زنزانتها املبهرجة‪ ،‬كانت بري�شيليا جتل�س �ساهمة على طرف‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سريرها حني جاءتها �إيفي م�سرعة‪..‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫رفعت بري�شيليا ر�أ�سها يف ت�سا�ؤل‪�« ،‬إيفي؟ ما الذي جاء بك يف مثل‬


‫ﻭ‬

‫هذا الوقت؟»‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫اقرتبت �إيفي هام�سة‪ ،‬بينما ارت�سم على وجهها تعبري جاد‪« :‬لقد‬
‫ُتويف �أحد ال�سجناء هذا امل�ساء يف برج ال�سال�سل»‪.‬‬
‫كانت بري�شيليا و�إيفي قد و�ضعتا خطة الهروب منذ زمن‪ ..‬وكانت‬
‫الفكرة فكرة ط ّباخ املناوبة الأوىل من احل ّرا�س‪ ،‬الذي ك�سبتا دعمه‬
‫�ضمن حلفهما اجلديد‪ ..‬فقد �أ ّكد قدرته على د�س خم ّدر يف طعام‬
‫احلرا�س كونه امل�س�ؤول الأول عن �إعداد الوجبات التي ت�سبق بدء‬
‫مناوبتهم‪ ..‬وكان يعرف اجلرعة الكافية جلعلهم ي�سقطون نائمني‬
‫بعد �أخذ مواقعهم‪.‬‬
‫‪209‬‬
‫كانت تلك خطة هروب بري�شيليا من برجها‪ ،‬فاحلرا�س يف برجها‬
‫معدودون على الأ�صابع‪ ..‬وكانوا ينوون تطبيق اخلطة ذاتها يف برج‬
‫ال�سال�سل‪ ..‬ولكن برج ال�سال�سل ميتلئ برجال من البوم الهالك‬
‫� ً‬
‫أي�ضا‪ ..‬وه�ؤالء ال يتناولون وجبة احل ّرا�س‪ ..‬ولذلك‪ ،‬قرروا �أنْ ينتظروا‬
‫وفاة �أحد ال�سجناء ثم ا�ستبداله ب�سي�سيل للهرب بعيدً ا عن الأعني‪ ..‬ال‬
‫ميكن �أنْ يفلت �سي�سيل من �أعني البوم الهالك‪ ..‬ولكن ميكنه �أنْ يفلت‬
‫�إنْ تظاهر ب�أنه جثة‪.‬‬
‫امتقع وجه بري�شيليا وهي تقول‪« :‬الآن؟! ال ميكننا تنفيذ اخلطة يف‬

‫ﻋﺼ‬
‫مثل هذا الوقت! لقد فات �أوان وجبة الع�شاء!»‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫فقالت �إيفي‪« :‬لن يخرجوا اجلثة من الربج يف هذا الوقت يا‬
‫�أمريتي‪� ..‬سيخرجونه �صباح الغد»‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬سيرتكون اجلثة ليلة كاملة يف الزنزانة!؟‬


‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬صحيح‪.‬‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ً � -‬إذا علينا �أنْ نخرب الط ّباخ بالأمر! ويجب �أنْ يجهز ماريون‬
‫عربة يل‪.‬‬
‫قالت �إيفي بعد هنيهة �صمت‪« :‬ال �أعرف ماذا �أقول يا �أمريتي‪..‬‬
‫ولكن‪.»...‬‬
‫ك�شرت بري�شيليا وهي تدرك �أنّ �إيفي �آتية مب�صيبة‪« :‬لكن ماذا؟!‬
‫ماذا هناك؟»‬

‫‪210‬‬
‫‪ -‬لقد �أخربين ماريون ب�أنّ املجموعة التي حتر�س الزنزانات يف‬
‫بقعة �سي�سيل قد مت نقلها‪ ..‬بد ًءا من الغد‪� ،‬ست�أتي جمموعة‬
‫جديدة من احل ّرا�س‪ ..‬لن ن�ستطيع الو�صول لزنزانة �سي�سيل‬
‫وتبديله باجلثة يف وجودهم‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا يف ذلك؟ �أال ميكن �أنْ يدبر الط ّباخ �أمر تخديرهم؟‬
‫�صحيح �أننا ال ن�ستطيع تخدير جميع احلرا�س يف الربج‪ ..‬ولكن‬
‫ميكننا �أنْ نفعل ذلك لتلك املجموعة وح�سب!‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ تردف‪« :‬امل�شكلة �أنهم يتبعون‬
‫�أطلقت �إيفي ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫املناوبة الثانية‪ ..‬ط ّباخنا ال ي�شرف على وجباتهم»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬املناوبة الثانية؟! ما الذي جاء بهم �إىل برج ال�سال�سل؟! �أمل‬
‫ﻜﺘ‬

‫تخربيني من قبل �أنّ حرا�س املناوبة الثانية خمت�صون ببالط‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫امللك فقط؟!‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬صحيح‪ ..‬ولكن هذا تبدل الآن! ال ن�ستطيع �إخراج �سي�سيل!‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬لقد تويف �سجني �آخر قبل �شهرين وف�شلنا يف تنفيذ اخلطة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫بقي يف زنزانة �سي�سيل حتى ظهرية اليوم التايل‪..‬‬ ‫لأن نايت َ‬


‫وكدنا ُنك�شف حني �سقط احلرا�س ً‬
‫نياما‪ ..‬ومل نتمكن من‬
‫دفع ال�شبهة بعيدً ا عن ط ّباخنا �إال ب�صعوبة بالغة! فقد كان‬
‫من الع�سري على نايت ت�صديق �أنّ ح ّرا�س الربج اختاروا وقت‬
‫مناوبتهم ال�ستهالك كل زجاجات اخلمر الفارغة التي وجدها‬
‫يف �أمتعتهم! والآن نف�شل لأن املناوبة نف�سها تبدلت‪� ..‬إىل متى‬
‫�سننتظر يا �إيفي؟! �أخ�شى �أنّ هذه خطة فا�شلة لن نقدر على‬
‫تنفيذها �أبدً ا!‬
‫‪211‬‬
‫‪ -‬ولذلك يجب �أنْ ال ننتظر �أكرث يا �أمريتي!‬
‫‪ -‬ما الذي تعنينه؟!‬
‫نخرجك من هنا! �إنْ كنا غري قادرين على �إنقاذ‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬يجب �أنْ‬
‫أنت ما دمنا ن�ستطيع!‬
‫ننقذك � ِ‬
‫ِ‬ ‫�سي�سيل‪ ،‬فعلينا �أنْ‬
‫قطبت بري�شيليا جبينها وهي تزجمر‪« :‬لن �أخرج من هنا و�أترك‬
‫�سي�سيل ورائي!»‬
‫‪ -‬ميكننا �أنْ ندبر خطة �أخرى لإخراجه بعد هروبك!‬

‫ﻋﺼ‬
‫ً‬
‫م�ستحيل! ال�سبب الوحيد وراء جناحنا يف و�ضع‬ ‫‪� -‬سيكون هذا‬
‫�ستلتفت‬
‫ُ‬ ‫هربت‬
‫ُ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫هذه اخلطة هي �أنْ ال �أحد ي�شك بنا! �إنْ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أنظارهم �إ َّ‬
‫يل! لن �أ�ستطيع العودة جمددًا!‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫متاما‪ ..‬ولكنها مل متلك خيا ًرا‬


‫كانت �إيفي تدرك �أنّ هذا �صحيح ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫�آخر‪.‬‬
‫ﻭ‬

‫حرا�سك � ً‬
‫أي�ضا؟ �سنفقد فر�صتنا �إىل الأبد!‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬ماذا لو مت نقل‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أرجوك يا �أمريتي‪ ..‬يجب �أنْ تخرجي من هنا ب�أ�سرع فر�صة!‬


‫� ِ‬
‫أخربتك ب�أين لن �أتخلى عن �سي�سيل! يجب �أنْ نفكر بطريقة‬
‫ِ‬ ‫‪�-‬‬
‫�أخرى لإخراجه!‬
‫نف�سا عمي ًقا وهي ت�شعر برغبة يف �صفع بري�شيليا‪..‬‬
‫�أطلقت �إيفي ً‬
‫أرجوك كفي عن هذا يا‬‫�أم�سكت بيد بري�شيليا �ضاغطة عليها‪ِ �« :‬‬
‫�أمريتي! ما تفعلينه �سي�ؤدي �إىل هالكنا جمي ًعا! لي�س لدينا خيارات‬
‫�أخرى!»‬
‫‪212‬‬
‫مل ترد بري�شيليا جوا ًبا‪ ..‬كانت حتدق يف الفراغ وك�أنها ِتزن فكرة‬
‫يف عقلها‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي تفكرين فيه يا �أمريتي؟‬
‫قاطعتها �إيفي عاملة �أنّ بري�شيليا لن ت�أتي �سوى بفكرة خرقاء ال‬
‫ميكن تنفيذها‪.‬‬
‫�أجابتها بري�شيليا بعد وهلة من ال�صمت‪« :‬هناك طريقة يا �إيفي‪..‬‬
‫لقد وجدتها»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬ ‫‪� -‬أنا �أ�ستمع‪.‬‬


‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫«قلت ب�أنّ �سي�سيل ال ميكن‬ ‫نظرت بري�شيليا �إىل عينيها وهي تردف‪ِ :‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنْ يعرب من برج ال�سال�سل �إال كجثة‪� ،‬صحيح؟ ملاذا ال ُنزَ ِّيف موته � ًإذا؟‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال حاجة �إىل �أنْ ن�ستبدله بجثة ثانية‪ ..‬يجب �أنْ ندعهم يظنون �أنه مات‬
‫ﻭ‬

‫وبهذا ي�سمحون ب�إخراج جثته!»‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬فكرة جيدة عدا �أنّ تزييف موته م�ستحيل‪ ..‬كيف �سنز ِّيف‬
‫موته؟ اجلثث ال تخرج �إال بعد �أنْ يفح�صونها ويت�أكدون من‬
‫غياب عالمات احلياة فيها‪.‬‬
‫ل�ست بهذا الغباء يا �إيفي!‬
‫�شعرت بري�شيليا بالغيظ لرد �إيفي‪�« :‬أنا ُ‬
‫�أعلم �أنهم يفح�صون اجلثث‪ ..‬ولذلك علينا �أنْ نعطي �سي�سيل �س ًّما‬
‫يقتله ح ًقا‪ ..‬وحني نخرجه نعطيه امل�صل امل�ضاد لهذا ال�سم!»‬

‫‪213‬‬
‫‪ -‬و�أين ميكن �أنْ جند �س ًّما كهذا؟! نحن نعمل مع طباخ ال مع‬
‫خبري �سموم حمرتف! ثم �إين مل �أ�سمع يف حياتي عن �سم‬
‫كهذا‪ ..‬ال �أظن �أنّ له وجودًا �إال يف الق�ص�ص‪.‬‬
‫كان �صوت �إيفي قد عال ً‬
‫قليل‪ ..‬ولكنها �سرعان ما �أخف�ضته حني‬
‫�شعرت ب�أنها تقلل من احرتام �أمريتها‪.‬‬
‫ولكن تلك النربة �أزعجت بري�شيليا التي �سرعان ما عال �صوتها‬
‫�أكرث‪« :‬وما �أدراين! لكن ال ُب َّد من وجود حل ما! لي�س من ال�ضروري �أنْ‬
‫يكون �س ًما! �أال يوجد دواء م�شابه؟! ابحثي عن طبيب وا�س�أليه!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫احرتاما وهي تهم�س‪�« :‬أمرك يا �أمريتي‪..‬‬
‫ً‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫�أخف�ضت �إيفي ر�أ�سها‬
‫ﻜﺘ‬

‫�س�أبحث عن دواء ميكن �أنْ ي�ستخدم لتزييف املوت‪ ..‬و�س�آتيك بالأنباء‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫غدً ا»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫ا�ستدارت �إيفي لتخرج من احلجرة‪ ..‬بينما ا�ستلقت بري�شيليا على‬


‫ﻭ‬

‫�سريرها لتت�أمل ال�سقف املظلم‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كان قلبها ينب�ض بقوة‪ ..‬تعلم �أنها �ستخرج من هنا قري ًبا‪ ..‬وكانت‬
‫ت�شعر بالرعب �إزاء هذا‪ ..‬فقد كان جل ًيا �أنّ حياتها كهاربة �ستكون‬
‫�أ�صعب مبراحل من حياتها ك�سجينة مرتفة‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫‪214‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬
‫العشبة‬
‫ُ‬

‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬وقبالة ور�شة احلدادة الع�سكرية الكبرية‪،‬‬


‫ً‬
‫خاف�ضا نظره‬ ‫ً‬
‫م�سدل �شعره الذي ا�ستطال على وجهه‪،‬‬ ‫توقف مي�ست‬
‫ﻋﺼ‬
‫�إىل الأر�ض‪ ..‬كان ينتظر و�صول �أحدهم لي�صحبه �إىل داخل الور�شة‪،‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ومل يتوقع �أنْ ي�أتيه رئي�س احلدادين بنف�سه مرح ًبا به‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬اتبعني! �أنا مت�شوق ملعرفة �آلية ت�صميمك!‬


‫ﺸﺮ‬

‫تبعه مي�ست �إىل الداخل‪ ،‬ثم اجتها �إىل حجرة هادئة حيث ُثبت‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لوح �أ�سود على اجلدار‪ ،‬تناثرت عليه �آثار طب�شور �أبي�ض‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫جل�س رئي�س احلدادين على مقعد وثري قبالة اللوح ثم �أ�شار ملي�ست‪:‬‬
‫«تف�ضل! ا�شرح يل ت�صميمك!»‬
‫أر�ضا‪ ،‬والذي كان‬ ‫و�ضع مي�ست ال�صندوق الذي كان يحمله � ً‬
‫يحوي احلدوات التي �صممها‪ ،‬ثم �أعاد �شعره �إىل الوراء كا�ش ًفا عن‬
‫وجهه‪ ..‬ا�ستل ورقة مطوية كان يخفيها يف ثيابه‪ ،‬ثم اقرتب من رئي�س‬
‫هام�سا‪« :‬الأمرية �أوفيليا تنتظر مفتاح زنزانتها»‪.‬‬
‫احلدادين ً‬
‫‪215‬‬
‫نه�ض رئي�س احلدادين مبهو ًتا‪ ،‬و�ألقى نظرة �سريعة �إىل النافذة‬
‫ك�أنه يت�أكد �أنه يف �أمان‪ ..‬اقرتب من مي�ست لريد بالهم�س ذاته‪« :‬ما‬
‫الذي‪ ..‬تقوله؟!»‬
‫�أجاب مي�ست بينما تلتمع يف عينيه نظرة قوية‪« :‬لقد قامت الأمرية‬
‫�أوفيليا بر�سم مفتاح زنزانتها‪ ..‬وعليك �أنْ تنجزه ب�أق�صى �سرعة حتى‬
‫نتمكن من �إخراجها»‪.‬‬
‫ابتلع رئي�س احلدادين ريقه‪ ،‬ومرت حلظات وهو يفتح الورقة‬
‫املطوية‪ ،‬يت�أمل الر�سم الدقيق‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫انحنى مي�ست ليفتح �صندوق احلدوات الذي جاء به‪ ،‬ثم اقرتب‬
‫من رئي�س احلدادين مرد ًفا‪�« :‬أظن ب�أنّ ر�سمها دقيق مبا فيه الكفاية‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�ألي�س كذلك؟ هل ميكنني البدء ب�شرح ت�صميم احلدوة؟»‬
‫ﻜﺘ‬

‫رفع رئي�س احلدادين ر�أ�سه هنيهة يت�أمل فيها مي�ست‪ ..‬ثم ات�سعت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عيناه وهو يدرك هويته‪« ..‬هل �أنت‪ ..‬الأمري مي�ست؟!»‬


‫ﺸﺮ‬

‫علي!‬
‫ابت�سم مي�ست بزاوية فمه قبل �أنْ يجيب‪« :‬ي�سرين �أنك تعرفت َّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وي�شرفني العمل معك من �أجل الو�صول �إىل �أهدافنا امل�شرتكة»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ابت�سم رئي�س احلدادين بدوره وهو ي�شعر مبوجة من ال�سعادة‬


‫تغمره‪ ،‬فقد كان على و�شك فقدان الأمل بخروج �أوفيليا‪ ..‬مد يده‬
‫م�صافحا‪« :‬ال�شرف يل �أيها الأمري‪ ..‬ولكن‪ ..‬ال تقنعني ب�أنك متحم�س‬
‫ً‬
‫لت�صنيع حدوة ت�سهل احتالل مملكتك!»‬

‫‪n‬‬
‫ات�سعت ابت�سامة مي�ست‪« :‬بل �ستكون احلدوة التي �ستعيد جي�ش‬
‫�آرون من منت�صف الطريق»‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫يف البهو امللكي لق�صر الرمال‪ ،‬جل�س �إيدن على عر�شه متوت ًرا وهو‬
‫يرى ليالك تقرتب بخطواتها البطيئة املرتددة‪.‬‬
‫كانت تتلفت وك�أنها ال ت�صدق �أنها عادت �إىل ق�صرها جمددًا‪..‬‬
‫فال�شهور املن�صرمة بدت لها ك�سنوات‪ ..‬لقد ُخيل لها �أنّ حياتها كملكة‬
‫هذا الق�صر �شيء من املا�ضي ال�سحيق الذي كادت تن�ساه‪.‬‬
‫�أخف�ضت ب�صرها حني اقرتبت من عر�ش �إيدن‪ ،‬ثم قالت ب�صوت‬
‫خفي�ض‪�« :‬أ�شكرك على منحي هذه الفر�صة‪� ..‬أعرتف ب�أين كنت‬
‫خمطئة و�أنا نادمة ب�شدة على ما فعلت»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬اقرتبي‪� ..‬أخربين حار�سك ب�أنك تريدين �إخباري عن �أمر‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يخ�ص احلرب القادمة‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اقرتبت وهي متد يدها بر�سالة مي�ست الأخرية‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ا�ستل ريجان الر�سالة ليقر�أها بعينيه‪ ..‬ثم مررها لإيدن الذي‬


‫�أخذ يت�أملها بدوره‪ ..‬ومرت حلظات من ال�صمت قبل �أنْ يبادر ريجان‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بال�س�ؤال‪« :‬يريد منا الأمري مي�ست االمتناع عن بدء احلفريات؟! ما‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صلة هذا الأمر باحلرب؟»‬


‫بدت الده�شة على ليالك للحظات‪ ..‬فهي تعلم �أنّ حمتوى الر�سالة‬
‫يناق�ض ما قاله ريجان للتو‪ ..‬كادت تطلب منه قراءة الر�سالة ثانية‪..‬‬
‫ولكنها تنبهت �إىل حركة حاجبيه وك�أنه ينهاها عن االعرتا�ض‪.‬‬
‫�أردفت‪�« :‬أنا ال �أعرف ما هي ال�صلة‪ ..‬ولكني واثقة ب�أنه يخطط‬
‫ل�شيء‪ ..‬مي�ست خمتبئ يف مملكة القمم الدخانية حيث يالحقه البوم‬
‫‪217‬‬
‫الهالك من �أجل قتله! لن يطلب منا �أم ًرا كهذا �إال �إنْ كان واث ًقا مما‬
‫يفعل‪ ..‬علينا �أنْ نثق به ولو ملرة واحدة!»‬
‫قال ريجان ب�صوته اجلهور‪« :‬وما �أدرانا �أنّ مي�ست يقف �إىل‬
‫جانبنا؟ رمبا كان يخدعنا‪ ..‬ال منلك �أي دليل على احلرب التي‬
‫�أزعجنا بها! ولهذا لن ن�ستمع �إليه‪� ..‬سنحافظ على اتفاقنا مع مملكة‬
‫القمم الدخانية و�سنبد�أ باحلفريات يف �أق�صى �سرعة»‪.‬‬
‫مل ترد ليالك جوا ًبا‪ ..‬فقد �أدركت �أنّ ريجان افتعل ذلك الرد‬

‫ﻋﺼ‬
‫ل�سبب ما‪ ..‬وكان ظنها يف حمله حني ا�ستدعاها �إيدن الح ًقا لالجتماع‬
‫للحرا�س باالقرتاب‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫يف �إحدى احلجرات اخلا�صة‪ ..‬حيث ال ي�سمح ُ‬
‫ﻜﺘ‬

‫وهناك‪ ،‬جل�س الثالثة حول من�ضدة تو�سطتها ر�سالة مي�ست‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأخرية‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بادر �إيدن باحلديث‪�« :‬أظن ب�أنّ علينا اال�ستماع ملي�ست ح ًقا‪ ..‬ولكن‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫علينا �أنْ نتظاهر بعك�س ذلك»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫رفعت ليالك حاج ًبا مت�سائل ًة؛ ثم جاءها ريجان باجلواب‪:‬‬


‫«ال �أ�ستطيع االطمئنان �إىل رجال البوم الهالك‪� ..‬أنا واثق ب�أنهم‬
‫يراقبوننا‪ ..‬و�سينقلبون �ضدنا �إنْ علموا بتعاوننا مع مي�ست‪ ..‬يجب �أنْ‬
‫نتظاهر بالغباء والالمباالة‪ ..‬بينما ن�ستعد للمواجهة يف �سرية»‪.‬‬
‫هم�ست ليالك بنربة فيها كثري من الندم‪�« :‬أنا ال�سبب يف هذا‪� ..‬أنا‬
‫من �أخرجهم من جحرهم»‪.‬‬
‫‪218‬‬
‫أي�ضا ارتكبنا خط�أ حني مل ن�ستمع‬‫قال ريجان بحيادية‪« :‬نحن � ً‬
‫ملي�ست‪ ..‬وهذا ال يقلل من فظاعة الذنب الذي ارتكب ِته باللجوء �إىل‬
‫البوم الهالك‪ ..‬ولكني واثق ب�أنّ البوم الهالك بد�أ حتركاته منذ زمن‪..‬‬
‫ال �ش�أن مبا فعل ِته مع ظهورهم جمددًا»‪.‬‬
‫ن�صبوا �آرون مل ًكا يف مملكة القمم الدخانية‪ ..‬وهم على‬
‫تابع‪« :‬لقد ّ‬
‫علم تام با�ستعداداته ل�شن احلرب على مملكتنا‪ ،‬فلماذا ي�سمحون‬ ‫ٍ‬
‫له؟! �إنهم ينوون تدمرينا � ً‬
‫أي�ضا‪ ..‬ولكنهم يريدون لآرون �أنْ يقوم‬
‫بالأمر»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫قالت ليالك بعد هنيهة من ال�صمت‪�« :‬إنهم ين�صبون َمن يرونه‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جدي ًرا‪ ..‬ويبدو �أنّ ذلك الطفل هو الأجدر بر�أيهم»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫رفعت ناظرها �إليهما وهي تردف‪« :‬ال �أعرف ما مييز هذا الطفل‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ولكنه معروف بكراهيته ال�شديدة ل�صومعة الق�ضاة‪� ..‬إنه ي�ؤمن ب�أنّ‬


‫ﺸﺮ‬

‫الو�شوم �شر ال ُب َّد من التخل�ص منه‪ ..‬رمبا لهذا اعتربوه الأجدر‬


‫ﻭ‬

‫بالثقة‪ ..‬يريدون �أنْ يتفردوا بهذا العلم وحدهم‪ ..‬يريدون �أنْ يكونوا‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الأقوى دُون مناف�س»‪.‬‬


‫تدخل �إيدن الذي بدا غار ًقا يف �أفكاره‪« :‬بالطبع مل يعيدوين �إىل‬
‫عر�شي لأنهم يرونني الأجدر‪ ..‬بل رمبا لأين �أ�سهل من ميكن خداعه‪..‬‬
‫اختاروين لأنهم يظنون ب�أنهم قادرون على �سلبي عر�شي ب�أقل‬
‫اخل�سائر‪ ..‬ال �أدري كيف مل �أفكر بهذا من قبل»‪.‬‬
‫نه�ض ريجان منه ًيا االجتماع‪« :‬لقد م�ضى ما م�ضى‪ ..‬وما يهم هو‬
‫�أننا �صرنا على علم بهوية عدونا احلقيقي‪ ..‬يجب علينا �أنْ نعمل م ًعا‬
‫‪219‬‬
‫‪n‬‬
‫الآن‪ ..‬و�أنا واثق ب�أننا �سنكون قادرين على ردعهم بتعاوننا مع الأمري‬
‫مي�ست»‪.‬‬

‫و�سط �ساحة ع�سكرية كبرية‪� ..‬سار �آرون بقامته الق�صرية‬


‫وابت�سامته الوا�سعة‪ ..‬وكان ي�شبك ذراعيه خلف ظهره امل�ستقيم‪ ..‬ك�أنه‬
‫قائد ع�سكري حمنك‪.‬‬
‫لقد م�ضت قرابة ت�سعة �شهور منذ �أنْ ا�ستدعى �شبان اململكة‬
‫�أجمعني من �أجل التدريب الق�سري‪ ..‬والآن‪ ،‬يتجول برفقة نايت وعدد‬

‫ﻋﺼ‬
‫من رجاله لريى �صفوف اجلنود املت�أهبني‪ ..‬كان مزه ًوا مبا حقق حتى‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الآن‪ ،‬فعدد اجلنود الذين ي�شكلون جي�شه �صار �ضعفي عددهم �أيام‬
‫ﻜﺘ‬

‫حكم والده‪ .‬كان اجلميع يعلم ب�أنّ احلرب تقرتب؛ بل بد�أت‪ ..‬وال‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جمال للرتاجع‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫كان يو�شك على الدخول �إىل خيمة الأ�سلحة حيث يتم عر�ض ما‬
‫ﻭ‬

‫«علي �أنْ �أذهب‬


‫هام�سا يف �أذنه‪َّ :‬‬
‫�سي�أخذونه معهم حني �أوقفه نايت ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�إىل برج ال�سال�سل‪ ..‬هل تريد العودة �إىل القلعة؟»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أجابه �آرون بالهم�س ذاته‪« :‬بل �س�أكمل جولتي‪� ..‬أريد �أنْ �أت�أكد �أنّ‬
‫كل �شيء على ما يرام‪ ..‬ولكن‪ ..‬ما الذي طر�أ يف برج ال�سال�سل؟»‬
‫‪� -‬سي�سيل‪� ..‬سجني �صومعة الق�ضاة �صاحب الو�شوم الغريبة‪..‬‬
‫يقول احلرا�س �أنه فارق احلياة‪� ..‬أريد �أنْ �أت�أكد بنف�سي‪.‬‬
‫‪� -‬سيكون العجب بقا�ؤه ح ًّيا كل هذه ال�شهور‪ ..‬بالت�أكيد �سيموت‬
‫حتت التعذيب الذي � َ‬
‫أخ�ضعتَه له‪.‬‬
‫‪220‬‬
‫كنت �شديد احلر�ص‬‫‪ -‬ال ميكن �أنْ ميوت ب�سبب التعذيب‪ ..‬فقد ُ‬
‫على �أنْ ال يتعر�ض ملا يت�سبب مبوته �أو اختالل قواه العقلية‪.‬‬
‫‪ -‬لكنه مات‪.‬‬
‫علي �أنْ �أت�أكد ِمن ال�سبب‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما يقولونه‪ ..‬ولهذا َّ‬
‫�أوم أ� �آرون وهو يتابع �سريه‪ ،‬بينما ِا ْن َ�سل نايت بعيدً ا عن املوكب‬

‫‪n‬‬
‫امللكي ال�صغري‪ ..‬يتجه �إىل الإ�سطبل حيث ينتظره جواده‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كانت بري�شيليا جتوب حجرتها ذها ًبا و�إيا ًبا‪ ،‬غري قادرة على‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫التوقف عن ق�ضم �أظافرها من التوتر‪ ..‬لقد تخل�صت من جموهراتها‬
‫ﻜﺘ‬

‫وارتدت ثو ًبا �أ�سود �سات ًرا‪ ،‬وعلى �شعرها املنعقد يف �صرة �صغرية‪ ،‬لفت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫و�شاحا باللون ذاته‪ ..‬تنتظر الإ�شارة التي جاءتها �أخ ًريا من �إيفي‪.‬‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أمريتي‪ ..‬لقد نام احلرا�س!‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�سارعت بري�شيليا بنزول الدرجات بينما ارمتى عند �أقدامها‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫نياما‪ ..‬كان الوقت ظه ًرا‪ ..‬وكان احلرا�س قد عادوا‬


‫حرا�س برجها ً‬
‫للتو من ا�سرتاحة الغداء �إذ د�س الطباخ املخدر‪.‬‬
‫�سارعت بري�شيليا و�إيفي بال�صعود �إىل العربة ال�صغرية التي كانت‬
‫تنتظرها عند بوابة الربج‪ ..‬ثم انطلقت العربة بعيدً ا‪.‬‬
‫قالت �إيفي بعد هنيهة من ال�صمت امل�شوب بالتوتر‪�« :‬سيكت�شفون‬
‫�أمر هذه العربة قري ًبا‪ ..‬ولهذا �سننتقل �إىل عربة اخل�ضار التي جهزها‬
‫ماريون قرب ال�سوق»‪.‬‬
‫‪221‬‬
‫�أوم�أت بري�شيليا وهي غري قادرة على ال�شعور بالراحة بعد‪ ..‬رغم‬
‫خروجها من �سجنها‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا �إنْ مل يتم �إخراج جثث برج ال�سال�سل؟‬
‫‪ -‬اهد�أي يا �أمريتي‪� ..‬أخربنا ماريون ب�أنّ هناك جثتني منذ يوم‬
‫البارحة‪ ..‬ال يتم �إبقاء اجلثث �أكرث من يوم كامل‪� ..‬سيخرج‬
‫�سي�سيل معهم اليوم‪ ..‬ال �سبب يدعوهم �إىل �إخراج اجلثث‬
‫الأخرى و�إبقاء جثة �سي�سيل �إىل يوم الغد‪ ..‬ال تقلقي‪� ..‬ستنجح‬
‫خطتنا‪ ..‬ال ميكن �أنْ نف�شل بعد كل هذا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل ت ُكن واثقة من �شيء ح ًقا‪ ..‬ولكنها ال متلك خيا ًرا �آخر‪ ..‬ولذا‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫قب�ضت على كفي بري�شيليا وهي تر�سم على وجهها ابت�سامة ُم َطم ِئنة‪..‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫علها تهدئ بها روع �أمريتها امل�ضطربة‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫يف برج ال�سال�سل‪ ،‬ويف زنزانة �سي�سيل‪ ..‬وقف نايت عاقدً ا حاجبيه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يت�أمل طبيب ال�سجن وهو يتفقد نب�ض �سي�سيل‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫كان مت�أكدً ا من غياب عالمات احلياة‪ ..‬ولكنه �أعاد الفح�ص عدة‬


‫مرات من �أجل �إقناع نايت‪ ..‬الذي بدا وك�أنه ي�شكك فيما حدث‪.‬‬
‫نه�ض الطبيب لي�ؤكد ما وجد‪�« :‬إنه ميت يا �سيدي»‪.‬‬
‫�س�أله نايت‪« :‬هل هناك �سبب حمدد للموت؟»‬
‫رفع الطبيب حاجبيه يف ده�شة وهو يجيب‪« :‬بالنظر �إىل حال‬
‫اجلثة‪ ..‬يبدو �أنّ هناك الكثري من الأ�سباب!»‬
‫‪222‬‬
‫مل يرد نايت جوا ًبا‪ ..‬بل بدا م�ستغر ًقا بالتفكري وهو يت�أمل الطبيب‬
‫الذي �أخذ يلملم معداته ت�أه ًبا للرحيل‪.‬‬
‫قاطع الهدوء قدوم �أحد احلرا�س‪« :‬لقد جاء الرجال من �أجل‬
‫ا�ستخراج اجلثة يا �سيدي»‪.‬‬
‫ولكن نايت التفت له �آم ًرا‪« :‬ال‪ ..‬لن يتم ا�ستخراج هذه اجلثة‬
‫اليوم‪� ..‬أود �أنْ �أحتفظ بها»‪.‬‬
‫تبدت �أمارات اال�ستغراب على وجه احلار�س‪ ،‬ولكنه مل يجادل‪،‬‬
‫�أردف قبل �أنْ يبتعد‪« :‬كما ت�أمر يا �سيدي‪� ..‬س�أخرب الرجال بذلك»‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اقرتب نايت من الطبيب الذي كان يو�شك على اخلروج‪ ،‬ا�ستوقفه‬
‫ﻜﺘ‬

‫هام�سا‪�« :‬أريد منك معرو ًفا»‪.‬‬


‫ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪ -‬تف�ضل يا �سيدي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬ال �شك �أنك الحظت الو�شوم الغريبة التي تنت�شر على هذه‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫حر�صت على عدم �إف�سادها‬


‫ُ‬ ‫الحظت �أين‬
‫َ‬ ‫اجلثة‪ ..‬وال �شك �أنك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫رغم التعذيب الذي خ�ضع له هذا ال�سجني‪.‬‬


‫ً‬
‫مت�سائل‪...‬‬ ‫رفع الطبيب عينيه‬
‫تابع نايت‪�« :‬أريد �أنْ �أحتفظ بهذه الو�شوم‪ ..‬ولكني ال �أ�ستطيع‬

‫‪n‬‬
‫�أنْ �أوكل مهمة �سلخ جلده جلالدي ال�سجن‪ ..‬فهم �سيف�سدون تلك‬
‫النقو�ش‪� ..‬أريد �أنْ يتم الأمر باحرتافية»‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫يف البهو امللكي لقلعة القمم الدخانية‪ ..‬جل�س �آرون على عر�شه‬
‫بينما تبدت نظرات الغ�ضب من عينيه �إثر النب أ� الذي ا�ستجد فور‬
‫عودته‪« :‬كيف ميكن �أنْ تهرب الأمرية بري�شيليا؟! حمقاء مثلها‬
‫تخدعكم! ال �أ�صدق هذا!»‬
‫توقف حرا�س الربج �أمامه مطرقي الر�أ�س‪ ..‬نطق �أحدهم‪« :‬لقد مت‬
‫د�س خمد ٍر يف طعامنا �أيها امللك‪ ..‬يبدو �أنّ للأمرية حلفاء»‪.‬‬
‫جلي للجميع �أيها احلار�س! ولكن‬‫تدخل نايت‪« :‬ال تخربنا مبا هو ّ‬
‫كيف ميكن �أنْ تنجح الأمرية يف ذلك؟! �أمل يلحظ �أي منكم ما يريب؟!‬

‫ﻋﺼ‬
‫َمن رتب لنقلها؟! من خ ّدر احلرا�س؟! ال ُب َّد �أنها كانت تخطط للأمر‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫منذ مدة طويلة! و�أنتم مل تالحظوا �أي �شيء!»‬
‫ﻜﺘ‬

‫مل يرد احلرا�س جوا ًبا‪ ..‬تدخل �آرون جمددًا لي�صيح فيهم‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«تعلمون �أين �س�أنطلق مع اجلي�ش بعد يومني‪ ..‬هل �سنعود لنجد الأمرية‬
‫ﺸﺮ‬

‫أي�ضا؟! �أنتم جمرد حفنة من عدميي اجلدوى‪� ..‬س�أوكل‬ ‫�أوفيليا هاربة � ً‬


‫ﻭ‬

‫بحرا�سة زنزانة الأمرية �أوفيليا لرجال البوم الهالك»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ثم التفت �إىل نايت وهو يقول �آم ًرا‪�« :‬أريد منك �أنْ حتظر مرور‬
‫احلرا�س من عند زنزانة الأمرية �أوفيليا‪ ..‬ينبغي �أنْ نوكل �أحد رجال‬
‫البوم الهالك بحرا�ستها على مدار اليوم‪� ..‬سرتغب الأمرية �أوفيليا‬
‫با�ستغالل غيابي و�أنا �أدرك هذا جيدً ا! ولذلك علينا �أنْ نت�أهب ومننع‬
‫�أي حماولة!»‬
‫كنت �أفكر فيه � ً‬
‫أي�ضا �أيها امللك‪ ..‬يجب‬ ‫قال نايت يف حزم‪« :‬هذا ما ُ‬
‫�أنْ يتم اتخاذ �أ�شد �إجراءات احلرا�سة على زنزانة الأمرية �أوفيليا يف‬
‫‪224‬‬
‫�أثناء غيابنا‪ ..‬ولكن‪ ..‬ماذا نفعل �إزاء الأمرية بري�شيليا؟ هل نر�سل‬
‫َمن يبحث عنها؟»‬
‫�أجاب �آرون بنربة �أهد�أ ً‬
‫قليل‪« :‬قد تكون بري�شيليا هربت بتحالفها‬
‫مع اخلدم واحلرا�س‪ ..‬ولكنها غري قادرة على م�س العر�ش‪ ..‬ال �أريد‬
‫�أنْ �أ�شتت رجايل الآن‪ ..‬اتركوها تنعم بالهرب يف �أي جحر اختارته‪..‬‬
‫�سنبحث عنها حني نتفرغ لذلك»‪.‬‬
‫تدخل نايت‪« :‬ال �أظن �أنّ من ال�صواب جتاهلها �أيها امللك‪ ..‬لقد‬
‫متكنت من الهرب ب�سبب ا�ستخفافنا بها‪ ..‬رمبا علينا �أنْ نقب�ض عليها‬

‫ﻋﺼ‬
‫قبل �أنْ تفاجئنا بحركة �أخرى»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�أطلق �آرون زفرة عميقة وهو يقول ب�صوت �أهد�أ و�أكرث �صرامة‪:‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫«�أنا �أ�ؤيدك‪ ..‬لقد �أخط�أنا حني ا�ستخففنا بها‪ ..‬ولكن الوقت الآن‬
‫غري منا�سب‪ ..‬يجب �أنْ يتمركز رجال البوم الهالك يف القلعة وبرج‬
‫ﺸﺮ‬

‫ال�سال�سل‪ ..‬ميكنك �إر�سال فرقة من رجال القلعة للبحث عنها‪..‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ولكني ال �أريد �أنْ يتدخل رجال البوم الهالك يف �أمر تافه كهذا»‪.‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪n‬‬
‫�أوم�أ نايت‪ ،‬ثم ا�ست�أذن َم ِلكه لالن�صراف وتوجيه الأوامر اجلديدة‪.‬‬

‫قبيل مغيب ال�شم�س‪ ،‬جل�س الطبيب يف عيادته اخلا�صة وهو يجهز‬


‫�أدواته‪ ،‬يجب �أنْ ينجز املهمة التي �أوكله بها نايت قبل �أنْ تربد اجلثة‪..‬‬
‫كانت جثة �سي�سيل ترقد على طاولة �أ�شبه بطاولة الت�شريح‪ ،‬يف و�سط‬
‫القبو الذي خ�ص�صه الطبيب لهذا الغر�ض يف عيادته‪ ..‬وعلى طاولة‬
‫‪225‬‬
‫جانبية‪� ،‬أخذ يرتب �أدواته‪� ..‬سمع �صرير الباب وهو يقفل‪ ،‬ومل يلتفت‪،‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪« :‬هل �أح�ضرتَ املحاليل التي طلبتها منك؟»‬ ‫بل رفع �صوته‬
‫اقرتب م�ساعده وهو يجيب‪« :‬نعم‪� ..‬إنها جاهزة»‪.‬‬
‫أقفلت العيادة؟ ال ينبغي �أنْ يقاطعنا �أحد‪.‬‬
‫‪ -‬هل � َ‬
‫‪� -‬أقفلتُها يا �سيدي‪.‬‬
‫قالها وهو ي�ستل حمق ًنا كب ًريا‪ ،‬ميلأه من �إحدى الزجاجات‪ ..‬ثم‬
‫امل�ساعد من اجلثة و�أ�سرع ب�إفراغ املحقن ً‬
‫كامل يف ع�ضلة‬ ‫ِ‬ ‫اقرتب‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫الفخذ‪.‬‬
‫التفت الطبيب منعقد احلاجبني‪« :‬متهل! ال ينبغي �أنْ يتم �إفراغه‬
‫ﻜﺘ‬

‫يف الع�ضل! كيف ميكن �أنْ ترتكب خط أً� كهذا؟! ُ‬


‫ظننت �أنك تعر‪.»...‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م�ساعده حدجه بنظرة طويلة جعلت الطبيب يتوقف عن‬


‫ِ‬ ‫ولكن‬
‫ﺸﺮ‬

‫توبيخه‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫اقرتب م�ساعده ليقول يف جدية‪�« :‬إنه َح ّي‪ ..‬لقد تناول ع�شبة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ُمرخية للع�ضالت �أ�ض َع َفت من نب�ضاته �إىل احلد الذي ال يتم فيه‬
‫ك�شف وجودها‪ ..‬ولكني حقنته للتو مبا يعاك�س عمل الع�شبة‪ ،‬وذلك‬
‫حتى ال ميوت ً‬
‫فعل»‪.‬‬
‫‪ -‬مـ‪ ..‬ماذا؟! هل مت تزييف موته؟! ينبغي �أنْ نخرب نايت‪.‬‬
‫‪ -‬بل �سن�سمح له بالهرب‪� ..‬إنّ الأمرية بري�شيليا تتدبر هذا‬
‫الأمر‪ ..‬يجب �أنْ ندعمها ً‬
‫عو�ضا عن دعم �أولئك القتلة‪.‬‬
‫‪226‬‬
‫‪ -‬الأمرية بري�شيليا؟! ماذا ميكن �أنْ تفعل الأمرية بري�شيليا وهي‬
‫�سجينة يف برجها؟!‬
‫‪ -‬لقد هر َبت‪ ..‬و�ست�أتيك الأنباء قري ًبا‪.‬‬
‫نف�سا عمي ًقا قبل �أنْ يردف‪« :‬حتى �إنْ كان هذا‬ ‫�أطلق الطبيب ً‬
‫�صحيحا‪ ..‬الأمرية بري�شيليا ال ميكنها حمايتنا! �سيعاقبنا نايت �إنْ‬
‫ً‬
‫�ساعدنا بهروب هذا ال�سجني!» ثم نقل ناظره �إىل تلك الطاولة حيث‬ ‫ْ‬
‫ملح حركة ذراع �سي�سيل وهو يحاول النهو�ض‪.‬‬
‫فعل‪ ..‬و�سرت يف ج�سد الطبيب رع�شة �إثر‬ ‫كان يبدو كجثة حقيقية ً‬

‫ﻋﺼ‬
‫منظره‪ ..‬فرغم اعتياده املناظر الب�شعة‪ ..‬لكنها املرة الأوىل التي يرى‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�شخ�صا يبدو بهذا ال�سوء ورغم ذلك ي�ستطيع احلركة!‬ ‫فيها‬
‫ﻜﺘ‬
‫ً‬
‫�ألقى املُ ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�ساعد كومة من الثياب على �سي�سيل وهو يقول يف جدية‪:‬‬


‫«ارتد هذا ب�سرعة‪ ..‬يجب �أنْ نرحل!»‬‫ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫م�ساعده �سارع بعقد قطعة قما�شية‬ ‫كاد الطبيب ينطق‪ ..‬ولكن‬


‫ﻭ‬

‫ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫وكاح َليه‪ ،‬تبعها بقطعة قما�شية �سد بها ثغره ليمنعه‬


‫مع�ص َميه ِ‬
‫حول َ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫من ال�صراخ وطلب النجدة‪.‬‬


‫هم�س له قبل �أنْ يخرج برفقة �سي�سيل‪�« :‬أنا �آ�سف على هذا ح ًقا‪..‬‬

‫‪n‬‬
‫ل�ست جبا ًنا مثلك‪� ..‬أريد �أنْ �أ�سهم ولو بجزء ب�سيط يف التخل�ص‬
‫ولكني ُ‬
‫من ه�ؤالء القتلة‪ ..‬يجب �أنْ �أدعم الأمرية بري�شيليا»‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫الفصل الخامس عشر‬
‫الصهباء‬

‫انتظمت �صفوف اجلند املهيبة �إثر انطالق ال�صفري من بوق‬


‫قائدهم‪ ..‬كان �أغلبهم من الفر�سان‪ ..‬فقد تقرر �أنْ تتبعهم الكتائب‬

‫ﻋﺼ‬
‫الح ًقا‪ ،‬بعدما يتم �شق طريق �آمن لهم‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ي�ستطع �آرون �إخفاء ابت�سامته الوا�سعة وهو يقف على ر�أ�س‬ ‫مل ِ‬
‫اجلي�ش‪ ،‬يت�أمل �صنيعه و�صنيع نايت الذي توىل قيادتهم‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�صاح نايت وهو ي�سري يف حماذاة ال�صفوف‪�« :‬س ُي َ�س ّطر التاريخ هذا‬
‫ﺸﺮ‬

‫اليوم كبداية لبناء جمد جديد نفخر به! تزخر مملكة ال�صحاري‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫بعديد من الرثوات التي ال يجيد م ِلكها املعتوه ا�ستخدامها‪ ..‬ولذلك‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫يجب �أنْ نتوىل �أمر �إدارة مملكته! �سنق�ضي على ال�ضعف واجلهل‬
‫والفو�ضى و�سنحكم العامل ب�أ�سره بالقوة والنظام!»‬
‫تابع نايت �سريه خطوات عدة قبل �أنْ يتوقف لي�صيح جمددًا‪« :‬لقد‬
‫ق�ضينا بنجاح على الفو�ضى التي كانت تن�شرها �صومعة الق�ضاة هنا‪..‬‬
‫وحان الوقت لنق�ضي على الفو�ضى التي ت�سبب بها �إيدن املعتوه!»‬
‫تدخل �آرون لي�صيح‪�« :‬سنحكم العامل بالقوة والنظام!»‬
‫‪229‬‬
‫تبع �صيحته �صيحة جموع اجلند مرددين ما قال وك�أنه �شعار هذه‬
‫احلرب‪�« :‬سنحكم العامل بالقوة والنظام»‪.‬‬
‫ثم �شقوا طري ًقا من بينهم ليمر �آرون ومن خلفه رجاله‪ ..‬كان‬
‫�آرون ي�شعر بزهو طاملا حلم به‪ ..‬اليوم �سيبد�أ بتحقيق �أمنيته‪� ..‬أنْ‬
‫يكون امللك الأقوى‪� ..‬أنْ يجرد اجلميع من قواهم و�أنْ ميلك وحده كل‬
‫القوة‪� ..‬أنْ يحكم العامل برمته بقوة ال�سيف وحده‪.‬‬
‫وعلى جواد �أ�سود قوي مدجج بالدروع‪� ،‬صعد �آرون الذي كان بدوره‬
‫يزن �ضعف وزنه من الطبقات الفوالذية التي غطت �صدره وبطنه‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫وفخذيه‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫�سار �إىل جانبه نايت‪ ،‬ومن خلفهم ا�ستدار جمع الفر�سان ليبد�أوا‬
‫ﻜﺘ‬

‫امل�سري �إىل مملكة ال�صحاري‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫يف كهف �صغري على اجلانب ال�شرقي من �سل�سلة جبال القمم‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الدخانية‪ ،‬جل�ست بري�شيليا منكم�شة على نف�سها‪ ،‬تتدثر مبالءة من‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫ال�صوف بينما ه ّمت �إيفي ب�إ�شعال نار �صغرية عند املدخل‪ ،‬علها تبث‬
‫بع�ض الدفء‪ ..‬وقبل �أنْ تتم عملها‪ ،‬ات�سعت ابت�سامتها وهي تلمح‬
‫القا ِد َمني‪ ..‬هبت جر ًيا �إىل داخل الكهف لتب�شر �أمريتها‪« :‬لقد جنحوا‬
‫ب�إخراجه يا �أمريتي‪� ..‬سي�سيل هنا!»‬
‫نه�ضت بري�شيليا كاملفزوعة ولكن قدميها جتمدتا حني اقرتب‬
‫�ساعد طبيب الربج‪ ..‬ابتلعت ريقها وهي‬
‫�سي�سيل وهو يتكئ على ُم ِ‬
‫حتاول ا�ستيعاب ال�صلة بني �سي�سيل الذي تعرفه وبني الهيكل العظمي‬
‫‪230‬‬
‫الذي تراه �أمامها‪ ..‬هل كانت عيناه مفتوحتني �أم مغلقتني؟! ال ميكنها‬
‫تبني ذلك! كانت عينيه �أ�شبه ب ُك َرتَني جاحظتني غائرتني يف ال�سواد‪..‬‬
‫وكانت عظام وجنتيه بارزة‪ ..‬ومنابت �شعره دامية متورمة‪� ..‬آثار‬
‫لأ�سالك ووخزات يف رقبته‪ ..‬وكدمات متباينة الألوان‪ ..‬وبال �شعور‪،‬‬
‫تدفقت دموعها غزيرة على خديها‪.‬‬
‫هم‬
‫جثا ُم�ساعد الطبيب جوار �سي�سيل الذي �أ�سنده �إىل اجلدار‪ ،‬ثم َّ‬
‫بفتح حقيبته ليخرج بع�ض احلقن‪« :‬ال تقلقي يا �أمريتي‪� ..‬سيتعافى‪..‬‬
‫ولكن يجب �أنْ يبقى هنا ويخ�ضع للعالج‪� ..‬إنّ بع�ض جروحه ملوثة‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫حل له لي�أكل‪ ..‬فج�سده‬‫أي�ضا‪ ،‬علينا �أنْ جند ً‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫وقد تتفاقم حالتها‪ ..‬و� ً‬
‫يرف�ض الطعام‪ ..‬لقد ا�ستفرغ كلما ما و�ضعتُه يف فمه يف اليومني‬
‫ﻜﺘ‬

‫املن�صرمني‪ ..‬ال �أدري ماذا كان نايت يطعمه‪ ،‬ولكن يبدو �أنّ ج�سده‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ت�أقلم على ذلك الغذاء فقط خالل ال�شهور املن�صرمة»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫تقدمت بري�شيليا بخطواتها املرتددة لتجثو جواره‪ ،‬هم�ست‪:‬‬


‫ﻭ‬

‫«�سي�سيل‪ ..‬هل تعرف َمن �أكون؟»‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫رفع عينيه �إليها‪ ..‬ثم هم�س بكلمات متقطعة‪« :‬الأمرية‪ ..‬بري�شيليا»‪.‬‬


‫ابت�سمت‪« :‬رائع‪� ..‬أنت تتذكرين!»‬
‫ومل يرد جوا ًبا‪.‬‬
‫‪� -‬ستكون بخري يا �سي�سيل‪� ..‬صدقني‪.‬‬
‫ولكنه كان قد �أغلق عينيه جمددًا ك�أنه خلد �إىل النوم‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫تدخل ُم�ساعد الطبيب‪« :‬مل ي ُكن نايت ي�سمح له بالنوم‪ ..‬وكان نومه‬
‫متقط ًعا على مدار اليوم‪ ..‬ينام دقائق قليلة فقط‪ ..‬لهذا يحتاج بع�ض‬
‫الوقت حتى يعتاد جمددًا على النوم �ساعات متوا�صلة»‪.‬‬
‫�أوم�أت بري�شيليا متفهمة‪ ،‬ثم نه�ضت لتجل�س قرب النار التي‬
‫جنحت �إيفي ب�إ�شعالها‪ ..‬متتمت بعد وهلة من ال�صمت‪�« :‬أريد �أنْ‬
‫�أ�ستعيد عر�شي»‪.‬‬
‫قالت �إيفي‪�« :‬ستفعلني يا �أمريتي‪� ..‬سنتخل�ص من ه�ؤالء القتلة‪..‬‬
‫و�ستكونني امللكة»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪n‬‬
‫‪ -‬و�سيكون �إعدام نايت �أول ما �أفعله‪ ..‬و�سيتم ذلك ب�أب�شع ما‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ميكن‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يف برج ال�سال�سل‪ ،‬ويف زنزانتها‪ ،‬جل�ست �أوفيليا ترمق حرا�س‬


‫ﺸﺮ‬

‫خ�صي�صا لت�ضييق‬
‫ً‬ ‫زنزانتها اجلدد‪ ..‬و�أدركت �أنّ ه�ؤالء مت اختيارهم‬
‫ﻭ‬

‫اخلناق عليها خالل غياب �آرون ونايت‪ ..‬اقرتبت من ق�ضبان الزنزانة‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫لت�شري �إىل الواقف قبالتها‪ ،‬هم�ست‪« :‬ما ا�سمك؟»‬


‫كان غري ملثم كعادة البوم الهالك‪ ،‬فقد مت توجيه الأوامر لهذه‬
‫املجموعة بك�شف وجوههم وذلك حتى يعرفهم اجلميع كحرا�س زنزانة‬
‫الأمرية �أوفيليا‪ ..‬ولتجنب احتمالية �أنْ يحل حملهم حرا�س �آخرين‪.‬‬
‫�أجاب بعد هنيهة من ال�صمت‪« :‬ال ينبغي يل �أنْ �أحدثك بغري‬
‫�ضرورة �أيتها الأمرية‪� ..‬أرجو �أنْ حتافظي على القواعد حتى ال ُيعا َقب‬
‫�أحد»‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫ظننت �أنكم �سادة هذا‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬هل تتعر�ضون للعقاب �أنتم � ً‬
‫أي�ضا؟‬
‫العامل‪.‬‬
‫اقرتب ليهم�س يف �صرامة‪« :‬ال حتاويل �أنْ تلعبي �أي �أالعيب معي‪..‬‬
‫اخر�سي وح�سب»‪ ..‬ثم ا�ستدار ليعطيها ظهره ويتجاهلها‪.‬‬
‫حل �صمت ق�صري‪ ..‬ثم اقرتبت من الق�ضبان لتهم�س من وراء‬
‫ظهره‪�« :‬أنا ال �ألعب الأالعيب التي �أدرك �أال جدوى من ورائها‪ ..‬لكنني‬
‫�أحتاج كتبي‪� ..‬أريد منك �أنْ حت�ضر يل كتبي‪ ..‬كان احلرا�س ال�سابقون‬
‫يفعلون هذا لكنهم رحلوا»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ال ي�سمح ل�شيء �سوى وعاء الطعام والف�ضالت باملرور من‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫زنزانتك‪ ..‬ل ِع ْل ِمك‪ ،‬مفتاح زنزانتك مع نايت‪ ..‬وهو خارج‬
‫ﻜﺘ‬

‫اململكة الآن‪ِ ..‬من امل�ستحيل �أنْ يتم فتح باب زنزانتك لأننا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بب�ساطة‪ ..‬ال منلك املفتاح‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪َ -‬من حتدث عن باب الزنزانة؟! هل تظنني �أريد م�ساعدتك‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لأهرب؟!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬بالطبع تريدين الهرب‪ ..‬لقد مت حتذيرنا ولن ن�سمح بخرق‬


‫التعليمات‪.‬‬
‫�أطلقت زفرة عميقة وهي تردف‪« :‬ما �أريده وا�ضح‪� ..‬أريد كتبي! �أال‬
‫ميكنني �أنْ �أقر�أ يف زنزانتي؟! كيف ميكن �أنْ ت�ؤدي حفنة من الكتب‬
‫�إىل هروبي؟! ال �أريد منك �سوى مترير عدة كتب من بني الق�ضبان!‬
‫ميكنك تفح�ص الكتب كما ت�شاء �أو حتى متزقها ومتررها ك�أوراق‬
‫منف�صلة لتطمئن!»‬
‫‪233‬‬
‫مل يرد جوا ًبا‪ ،‬هم�ست جمددًا‪�« :‬أنت ال تريد �إ�سداء خدمة ب�سيطة‬
‫كهذه يل! فليكن‪ ..‬ماذا لو جعلناها �صفقة؟ �ست�أتي يل بالكتب من‬
‫مكتبة القلعة وقتما �أريد‪ ..‬وباملقابل �أعطيك �شي ًئا يهمك ًّ‬
‫جدا»‪.‬‬
‫بقائك هنا حبي�سة �إىل حني عودة امللك‪.‬‬
‫‪ -‬ال يهمني �سوى ِ‬
‫‪� -‬س�أعطيك الأمري مي�ست‪� ..‬س�أمنحك �شرف القب�ض عليه من‬
‫بني جميع البوم الهالك‪.‬‬
‫أنك ال تدركني كم تبدين تافهة بهذه‬
‫‪ -‬والآن تكذبني‪ ..‬يبدو � ِ‬
‫املحاوالت‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫علي‬
‫وحكمت َّ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬لقد منحتك فر�صة عظيمة و�أنت رف�ضتها‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بالكذب رغم �أنك مل حتاول تبني الأمر حتى‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬وهل من طريقة لتبني الأمر؟! �أعني‪ ..‬طريقة غري �إر�سايل �إىل‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فخ ُم َعد �س َل ًفا؟!‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬لن �أر�سلك �إىل �أي مكان! �س�آتي مبي�ست �إىل هنا‪ ..‬و�ستقب�ض‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أنت عليه‪ ..‬لن تخ�سر �شي ًئا‪ ..‬ولن تخاطر ب�شيء‪ ..‬ف�أنا حبي�سة‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف كل الأحوال‪.‬‬
‫أنك تبيعني الأمري مي�ست من �أجل حفنة من‬ ‫‪ -‬ال ميكن �أنْ �أبتلع � ِ‬
‫كنت �صادقة‪.‬‬
‫الكتب‪ ..‬و�إنْ ِ‬
‫‪ -‬وهل تظنني بحاجة �إليه ح ًقا؟ �أي قوة ميلك؟! �إنه ال ميلك‬
‫�شي ًئا‪ ..‬بل يتم�سك بي ك�أمله الأخري‪� ..‬أنا نف�سي ال �أملك من‬
‫يل‪ ..‬لكن ما زلت قادرة على‬ ‫�أمري �شي ًئا وقد �س ِئ ُ‬
‫مت جلو َءه �إ َّ‬
‫كط ْعم للح�صول على �أب�سط حقوقي‪.‬‬ ‫اال�ستفادة منه ُ‬
‫‪234‬‬
‫مل يرد جوا ًبا‪ ،‬بل عاد ليتجاهلها‪.‬‬
‫تراجعت بخطواتها لتجل�س على حافة �سريرها بينما ارت�سمت على‬
‫وجهها ابت�سامة خافتة‪ ..‬تدرك �أنها �أق َن َعته‪ ،‬ولذلك �ستمنحه املزيد‬
‫من الوقت لي�ستجمع �شجاعته ويخربها مبوافقته على ال�صفقة‪..‬‬

‫‪n‬‬
‫ب�شري ج�شع بعد كل �شيء‪..‬‬
‫�صحيح �أنه من البوم الهالك‪ ،‬لكنه جمرد ّ‬
‫و�سريغب يف اال�ستئثار ب�شرف القب�ض على مي�ست‪.‬‬

‫جل�س �آرون على �صخرة مل�ساء بجوار نار ا�ستوقدوها للطهي و�سط‬
‫ﻋﺼ‬
‫يوما منذ بد�أوا‬
‫خميم م�ؤقت �أقاموه لال�سرتاحة‪ ..‬لقد مر خم�سة ع�شر ً‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫أيام على بلوغهم م�شارف مملكة‬ ‫م�سريهم‪ ..‬وتبقى قرابة ع�شرة � ٍ‬
‫ﻜﺘ‬

‫ال�صحاري‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قال �آرون خماط ًبا نايت الذي كان يجل�س جواره‪ ،‬يهم بتق�شري‬
‫ﺸﺮ‬

‫جدا هنا‪ ..‬هل‬


‫بع�ض حبات البطاط�س التي مت �شيها‪�« :‬إنّ اجلو حار ًّ‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�سي�سوء �أكرث؟»‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أجابه نايت‪« :‬نعم �أيها امللك‪ ..‬مملكة ال�صحاري تتميز مبناخ‬


‫جدا‪� ..‬إنه �شديد احلرارة‪ ..‬ال �سيما يف هذا الوقت من العام»‪.‬‬
‫�صعب ًّ‬
‫‪ -‬هل تت�صور �أنْ يتحمل اجلنود احلرارة؟‬
‫تخ�ش من هذا �أيها امللك‪ ..‬من بعد هذا‬‫‪� -‬سيتحملونها‪ ..‬ال َ‬
‫املخيم‪� ،‬سيكون علينا االختيار بني طري َقني‪ ..‬الأول ُي َ‬
‫دعى‬
‫نوعا ما‪ ،‬تتمتع مبناخ‬‫�سهل الغزالن‪ ..‬وهو �أر�ض منخف�ضة ً‬
‫‪235‬‬
‫دعى بوادي الكربيت‪ ..‬وهو �أعلى‬
‫�أف�ضل من �سواها‪ ..‬والآخر ُي َ‬
‫ارتفاعا يف احلرارة‪.‬‬
‫ً‬ ‫املناطق املعروفة‬
‫وا�ضحا‪ ..‬هل‬
‫ً‬ ‫ظننت ب�أنّ خيارنا �سيكون‬
‫ُ‬ ‫‪� -‬أعلم هذا‪ ..‬ولكني‬
‫ترى �سب ًبا قد يدفعنا الختيار وادي الكربيت؟‬
‫‪ -‬ال �أظن‪ ،‬ولكن علينا نتخذ هذا القرار بعد عودة الك�شافة‪ ..‬ال‬
‫ُب َّد �أنْ نت�أكد �أنّ �سهل الغزالن �آمن‪ ..‬فكونه الطريق الأ�سهل‪،‬‬
‫يعني �أنّ العدو قد توقعه‪ ..‬وقد يكون ن�صب لنا �شر ًكا هناك‪.‬‬
‫‪ -‬وقد يكون العدو �سبقنا بخطوة �أخرى و�أع َّد لنا ً‬
‫فخا يف وادي‬
‫ﻋﺼ‬
‫الكربيت‪ ..‬فلننتظر الك�شافة ونقرر بنا ًء على معطياتهم‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪n‬‬
‫�أوم�أ نايت‪ ،‬ثم ق�ضم ق�ضمة من قطعة البطاط�س يف يده بينما‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يت�أمل النريان التي انعك�ست يف مقلتيه‪.‬‬


‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لقد �أ�صبح �سي�سيل قاد ًرا على اخلروج من الكهف‪ ..‬فقد بد�أ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ي�أكل‪ ..‬وا�ستعاد بع�ض الوزن‪ ..‬وكانت �صومعة الق�ضاة �أول وجهة �أ�صر‬
‫على زيارتها بعد حت�سنه‪.‬‬
‫مل ير�ضخ العرتا�ض بري�شيليا و�إيفي‪ ..‬فقد كان يحتاج بع�ض‬
‫الأدوات التي يخبئها يف قبوه‪ ..‬ورغم اعرتا�ض بري�شيليا وو�صيفتها‪،‬‬
‫ف�إنهما �أ�صرا على مرافقته بعد �أنْ ف�شال يف ثنيه عن الذهاب‪.‬‬
‫كانوا يرتدون ثيا ًبا تخفي معاملهم‪ ،‬وو�سط الأنقا�ض التي كانت‬
‫دعى بال�صومعة‪� ،‬أخذوا يتجولون‪ ،‬متجهني �إىل القبو الذي كان‬ ‫ُت َ‬
‫‪236‬‬
‫ي�سكن فيه �سي�سيل‪ ..‬كان باب القبو ما يزال على حاله‪ ،‬و�إنْ كان غري‬
‫مقفل‪.‬‬
‫لقد زحف الغبار على العتبة‪ ،‬و�أ�صدر الباب �صري ًرا يوحي بال ِقدم‬
‫حني دفعه �سي�سيل‪ ..‬ويف الداخل ت�سمر للحظات وهو يحاول تبني‬
‫ما يرى �إثر �ضوء ال�شم�س اخلافت املُ ْن َ�سل من النافذة العلوية‪ ..‬ومل‬
‫ي�ستطع �أنْ مينع ال�صدمة التي ارت�سمت على وجهه‪.‬‬
‫ِ‬
‫كانت جثة فيوال معلقة و�سط احلجرة‪ ،‬و�أ�سفل منها كر�سي خ�شبي‬
‫وا�ضحا �أنّ م�شنقتها مت �إعدادها ببدائية‬
‫ً‬ ‫انقلب على جانبه‪ ..‬وكان‬

‫ﻋﺼ‬
‫وا�ضحا �أنها َمن �أع َّد م�شنقتها‪ ..‬لقد قتلت نف�سها‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ً‬ ‫وغري خربة‪ ،‬كان‬
‫‪ -‬مـ‪َ ...‬من هذه الفتاة؟‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كانت تلك بري�شيليا التي ت�ساءلت بعد تردد‪ ..‬و�أدركت �أنّ �سي�سيل‬
‫يحاول ال�سيطرة على م�شاعره �إثر هذه ال�صدمة‪ ..‬فقد كان يتنف�س‬
‫ﺸﺮ‬

‫بقوة‪ ..‬رغم �أنه �سرعان ما �أ�شاح بب�صره وك�أنه مل ي َر �شي ًئا‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عادت بري�شيليا ت�س�أل‪�« :‬سي�سيل‪َ ..‬من هذه الفتاة؟!»‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أجاب بكلمات خمتنقة وك�أنه جمرب على ا�ستخراج هذه الكلمات‪:‬‬


‫«�إنها‪ ..‬زوجتي»‪.‬‬
‫متزوجا؟!‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫‪� -‬أنت‪َ ..‬‬
‫‪ -‬لقد‪ ..‬ق َت َلت نف�سها ب�سببي‪� ..‬أنا َمن �أجربها على هذا‪.‬‬
‫و�ضوحا لربي�شيليا وهي تتذكر زيارة فيوال‬
‫ً‬ ‫بدت الأمور �أكرث‬
‫ل�سي�سيل يف زنزانته‪.‬‬
‫‪237‬‬
‫‪ -‬لكن‪ ..‬ملاذا ف َع َلت ذلك؟ هل كان لك �أ�سباب؟‬
‫‪ -‬لقد كانت فتاة كاذبة ومتقلبة‪ ..‬ولقد ت�س ّب َب ْت يف اختفاء‬
‫�شقيقتي‪ ..‬ب�سببها ماتت �شقيقتي ال�صغرية‪ ..‬ولكنها كانت‬
‫وكنت عائلتها‬
‫يل‪ُ ..‬‬ ‫جمرد فتاة يتيمة ومري�ضة‪ ..‬كانت حتتاج �إ ّ‬
‫الوحيدة‪ ..‬ولكني مل �أتوقف حلظة لاللتفات لها‪ ..‬لقد كانت‬
‫فيوال فتاة بائ�سة مثرية لل�شفقة‪ ..‬هذه هي حقيقتها‪ ..‬جمرد‬
‫بائ�سة مثرية لل�شفقة‪ ..‬ورغم �إدراكي هذا‪ ،‬هدد ُتها بالقتل‬
‫ودفعتُها لالنتحار‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫كان قد �شعر ب�شيء من الراحة حني �أف�صح عن م�شاعره املكبوتة‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جتاه فيوال‪ ..‬ومل يد ِر ِ َل ال ي�شعر ب�أي ذنب رغم �إدراكه �أنه ال�سبب‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫ت�سمرت بري�شيليا وهي تفكر يف اجلوانب التي مل تعرفها عن‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫عج َبت به وخاطرت بنف�سها‬ ‫�سي�سيل من قبل‪ ..‬فهذا ال�شاب الذي �أُ ِ‬
‫ﺸﺮ‬

‫لأجل �إنقاذه‪ ،‬يعرتف �أمامها ب�أنه دفع زوجته امل�سكينة لالنتحار! ودار‬
‫ﻭ‬

‫يف خلدها حديثها مع �إيفي �ساب ًقا‪ ،‬عن حقيقة �سي�سيل التي ال تعرف‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عنها �شي ًئا‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫جتاوز اجلثة ثم اجته �إىل بع�ض ال�صناديق يف زاوية القبو‪ ،‬ينف�ض‬


‫عنها الغبار ليبحث عن الأدوات التي جاء من �أجلها‪.‬‬
‫مرت حلظات من ال�صمت الثقيل‪ ،‬خرقتها بري�شيليا �أخ ًريا وهي‬
‫تقرتب منه لتقول بنربة ت�شي باحلزن‪« :‬هل �ستفعل هذا بي � ً‬
‫أي�ضا؟»‬
‫توقف عن بعرثة احلاجيات من ال�صندوق‪ ..‬التفت دُون �أنْ تلتقي‬
‫عينيه بعينيها‪�« :‬أفعل‪ ..‬ماذا؟»‬
‫‪238‬‬
‫‪ -‬هل �ستجحد حبي لك وت�ضحيتي ِمن �أجلك؟ هل �ستتجاهلني‬
‫جتاهلت تلك امل�سكينة؟ حني �أفكر يف الأمر‪� ..‬أجد �أنّ هذا‬
‫َ‬ ‫كما‬
‫كنت تفعله بالفعل منذ لقائنا الأول‪.‬‬
‫ما َ‬
‫توقفت هنيهة تبتلع ريقها‪ ،‬ثم تابعت بنربة �أقوى‪« :‬يبدو �أنّ هذه‬
‫طبيعتك‪� ..‬أنت جمرد وغد �أناين بعد كل �شيء»‪.‬‬
‫بدا مرتددًا قبل �أنْ يرد‪« :‬ثقي ب�أين لن �أن�سى ما فعل ِته من �أجلي‪..‬‬
‫أعدك ب�أنني �س�أتذكر ذلك ما حييت»‪.‬‬
‫أنقذت حياتي‪ ..‬و� ِ‬ ‫لقد � ِ‬
‫منك �أنْ تتذكر! �أريد منك �أنْ تكون مدي ًنا يل‬‫‪� -‬أنا ال �أريد َ‬

‫ﻋﺼ‬
‫بحياتك‪ ..‬و�أنْ تعي�ش حياتك من �أجلي �أنا ال من �أجل نف�سك‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وم�صاحلك فقط! هل تفهم؟ لن جتحدين ولن تتجاهلني �أبدً ا!‬
‫ﻜﺘ‬

‫التفت لتلتقي عينيه بعينيها‪�« :‬س�أكون مدي ًنا ِ‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لك بحياتي‪ ..‬ولن‬


‫�أجحدك‪ ..‬لن �أجتاهلك»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫بدا من عينيها وك�أنها غري قادرة على ت�صديقه‪ ،‬عاد ليقول م�ؤكدً ا‪:‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫«رمبا كان جتاهل اجلميع طبيعتي ً‬

‫‪n‬‬
‫لكنك �ستكونني اال�ستثناء‬
‫فعل‪ِ ..‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫أعدك بهذا»‪.‬‬
‫الوحيد‪ِ � ..‬‬

‫يف برج ال�سال�سل‪ ،‬اقرتبت �أوفيليا من ق�ضبان زنزانتها �إثر �إ�شارة‬


‫حار�سها الذي عر�ضت عليه ال�صفقة �ساب ًقا‪.‬‬
‫هم�س‪�« :‬أنا �أوافق على �صفقتك‪ ..‬ولكن يجب �أنْ ت�سلميني مي�ست‬
‫� ًأول»‪.‬‬
‫‪239‬‬
‫ابت�سمت وهي ترد بالهم�س ذاته‪« :‬لك ذلك‪ ..‬ولكن كيف �ستقب�ض‬
‫على مي�ست يف وجود رفاقك هنا؟ ال ميكنني �أنْ �أرتب للأمر يف مكان‬
‫�آخر من الربج»‪.‬‬
‫جدا‪.‬‬
‫‪� -‬أ�ستطيع تدبر غيابهم‪ ..‬ولكن لفرتة ق�صرية ًّ‬
‫‪ -‬هذا �أمر عائد �إليك‪ ..‬ولكنك لن حتتاج الكثري من الوقت‪..‬‬
‫فمي�ست �سي�أتي كزائر‪ ..‬و�سيكون �أعزل لأنه �س ُي َفتّ�ش ك�أي‬
‫دخيل‪� ..‬سيكون من ال�سهل �أنْ تقب�ض عليه وحدك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن متى �سي�أتي؟!‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬ال �أعلم‪ ..‬فنحن ال نرتا�سل‪ ..‬لكنه مل ي� ِأت لزيارتي منذ زمن‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫جدا‪ ..‬بالت�أكيد‬
‫طويل‪ ..‬و�أظن ب�أنّ زيارته القادمة قريبة ًّ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سريغب با�ستغالل غياب امللك‪ ..‬عليك �أنْ تت�أهب عند قدوم‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أي زائر لر�ؤيتي‪ ،‬ولكن ال ميكنك �أنْ تقب�ض عليه حتى �أ�ؤكد لك‬
‫ﺸﺮ‬

‫هويته‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪� -‬سيكون من ال�صعب الت�أهب لهذا‪ ،‬ولكني �س�أحاول‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬اتفقنا‪.‬‬
‫هم�س بعد هنيهة من ال�صمت‪« :‬ال ِّن ْم�س»‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪� -‬س�أل ِتني عن ا�سمي �ساب ًقا‪ ..‬ا�سمي هو ال ِّن ْم�س‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫«ت�شرفت مبعرفتك �أيها النم�س»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ابت�سمت‪:‬‬

‫‪240‬‬
‫�صباح اليوم التايل‪ ،‬وقف �آرون ونايت و�سط خيمة �صغرية من‬
‫�ضمن املخيم الذي باتوا فيه مع بقية ا ُ‬
‫جلند الليلة الفائتة‪ ..‬وكان‬
‫ي�ستمع �إىل رجال الك�شافة الذين عادوا من رحلتهم الق�صرية‪.‬‬
‫‪� -‬سهل الغزالن �أف�ضل ً‬
‫حال بكثري من وادي الكربيت‪ ..‬فاحلرارة‬
‫فيه �أخف�ض والأر�ض منب�سطة منا�سبة للخيول‪ ..‬ولكن‪...‬‬
‫رفع الك�شاف عينيه �إىل نايت وهو يردف‪« :‬هناك ُعمال كرث يعملون‬
‫على حفريات عميقة‪ ..‬لن ن�ستطيع العبور من هناك ب�سال�سة‪..‬‬
‫�سن�ضطر �إىل ردم هذه احلفريات لنعرب من بع�ض املناطق‪ ..‬ورمبا‬

‫ﻋﺼ‬
‫ن�ضطر �إىل اال�شتباك مع ال ُعمال �إنْ مل يتعاونوا معنا»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫ت�ساءل �آرون‪�« :‬إنّ �إيدن يعلم ب�أنّ والدي ال �سلطة له على �أي �شيء‪..‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ورغم ذلك يبد�أ مب�شروع القناة املائية الذي اتفقا عليه م�سب ًقا؟! َمل‬
‫يهدر موارده على م�شروع لن يجني منه �شي ًئا؟ ما �أدراه ب�أين �س�أ�سمح‬
‫ﺸﺮ‬

‫بتوجيه �شالالت القمم الدخانية لت�صب يف قنواته؟!»‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قال نايت‪�« :‬إنه جمرد �أحمق‪ ..‬لقد وردتني ر�سالة مفادها �أنه با�شر‬
‫احلفريات عنادًا يف �شقيقه مي�ست‪ ..‬لقد طلب منه مي�ست �أنْ يوقف‬
‫هذا امل�شروع من �أجل التفرغ للحرب‪ ..‬وكان رد فعل نايت �أنْ �أنكر هذا‬
‫وقرر مبا�شرة احلفريات»‪.‬‬
‫فعل حني منعتم حماولة انقالب زوجته على‬ ‫‪ -‬كنتم موفقني ً‬
‫متاما لو �أنّ من يجل�س‬
‫حكمه‪ ..‬كنا �سنكون يف موقف خمتلف ً‬
‫على ذلك العر�ش هو مي�ست �أو ليالك‪.‬‬
‫‪241‬‬
‫حل �صمت ق�صري قبل �أنْ يردف �آرون‪« :‬ما ر�أيك ب�ش�أن الطريق‬
‫الأن�سب يا نايت؟ هل نختار �سهل الغزالن؟»‬
‫‪� -‬أريد �أنْ �أ�سمع ر�أيك � ًأول �أيها امللك‪.‬‬
‫قال �آرون بعد هنيهة من التفكري‪« :‬ال �أحبذ التدخل لإف�ساد‬
‫امل�شروع‪ ..‬فهذه القناة هي �إحدى م�شاريعنا بعد ال�سيطرة على مملكة‬
‫ال�صحاري‪ ..‬ينبغي �أنْ ندع العمال يتابعون عملهم‪ ..‬يجب �أنْ ينجزوا‬
‫بقدر ما ي�ستطيعون ليكون ا�ستكمال امل�شروع �أ�سهل و�أقل تكلفة»‪.‬‬
‫ابت�سم نايت‪« :‬هذا ما كنت �أفكر فيه � ً‬
‫أي�ضا‪ ..‬يجب �أنْ ال نف�سد‬
‫ﻋﺼ‬
‫عملهم‪ ..‬يجب �أنْ ن�سلك وادي الكربيت»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫التفت نايت �إىل الك�شاف وك�أنه يطلب ر�أيه‪� ،‬أجاب الأخري‪« :‬وادي‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫جدا‪..‬‬
‫الكربيت ال يبدو بذلك ال�سوء‪ ..‬عيبه الوحيد حرارته العالية ًّ‬
‫ولذلك علينا �أنْ نتخذ احتياطاتنا حتى ال ي�صاب جنودنا ب�سوء»‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪n‬‬
‫قال �آرون‪« :‬ا�ستد ِع طبيبنا وفرقة الإغاثة يا نايت‪ ..‬علينا �أنْ جنتمع‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫لنناق�ش �أف�ضل �سبل احلماية من �أجل عبور وادي الكربيت»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أيام منذ اتفاق النم�س و�أوفيليا‪ ..‬واليوم‪ ،‬جاءها‬ ‫مرت ثالثة � ٍ‬


‫ليخربها ب�أمر الزائر الذي جاء ي�س�أل عنها �أخ ًريا‪.‬‬
‫هم�س لها من وراء الق�ضبان‪�« :‬إنها امر�أة‪� ..‬س�آمرهم ب�صرفها»‪.‬‬
‫‪ -‬ال! �أنت ال تعرف مي�ست ح ًقا‪ ..‬لقد زارين يف املرة الأخرية‬
‫متنك ًرا على هيئة امر�أة‪ ..‬يجب �أنْ �أراها لأت�أكد‪.‬‬
‫‪242‬‬
‫هام�سا لرفاقه‪ ،‬يخربهم باال�ستدعاء‬
‫ً‬ ‫�أوم�أ‪ ،‬ثم تقدم بخطواته‬
‫العاجل من ِقبل رئي�س الزنزانة‪ ..‬والذي ينتظرهم يف حجرة‬
‫االجتماعات التي تبعد طوابق قليلة من هذه الزنزانة‪.‬‬
‫بدت �أمارات العجب على وجوههم‪ ،‬ت�ساءل �أحدهم‪« :‬ماذا عن‬
‫زنزانة الأمرية �أوفليليا؟ ال ميكن �أنْ نرتك مواقعنا»‪.‬‬
‫‪� -‬س�أبقى هنا حتى جميء فرقة احلرا�سة البديلة ثم �أتبعكم‪ ..‬ال‬
‫�أعلم عن �سبب هذا اال�ستدعاء العاجل‪ ..‬لكن يبدو �أنّ الرئي�س‬
‫ميلك �سب ًبا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫مل ت ُكن املرة الأوىل التي ي�ستدعيهم فيها الرئي�س‪ ..‬و�إنْ كانت‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫املرة الأوىل التي ي�ستدعيهم فيها قبل قدوم فرقة احلرا�سة البديلة‪..‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫لكنهم �سارعوا باخلروج‪� ..‬أما النم�س‪ ..‬فوقف منتظ ًرا حلظات حتى‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م�سرعا لي�أتي بالزائرة املتدثرة بالثياب الثقيلة‪..‬‬


‫ً‬ ‫يبتعدوا‪ ..‬ثم خرج‬
‫ﺸﺮ‬

‫دفعها �إىل قبالة زنزانة الأمرية �أوفيليا وهو يزيح الو�شاح الذي كانت‬
‫ﻭ‬

‫تلف به ر�أ�سها‪ ..‬وانك�شف �شعرها الأحمر الق�صري‪ ..‬ووجهها الدائري‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫املمتلئ‪.‬‬
‫عاد ليقول‪�« :‬إنها امر�أة! كيف ميكن �أنْ تكو‪.»...‬‬
‫ومل يكمل عبارته‪ ..‬فقد التفت غا�ض ًبا حني ملح قدوم �أحد‬
‫حار�سا عاد ًيا من حرا�س الربج‪ ..‬ولي�س من �ضمن‬
‫احلرا�س‪ ..‬كان ً‬
‫جماعة البوم الهالك‪.‬‬
‫جئت �إىل هنا؟! �أال تعرف �أنّ هذه املنطقة‬
‫�صاح فيه النم�س‪« :‬كيف َ‬
‫حمظورة على ا ُ‬
‫حل ّرا�س؟!»‬
‫‪243‬‬
‫كانت مالمح هذا احلار�س مميزة‪ ..‬له لون نحا�سي حمرتق‪..‬‬
‫و�شعر �أ�سود تدىل على جانبي وجهه‪ ..‬ونظرات قوية جريئة‪ ..‬ومل‬
‫يكد النم�س يلحظ كل ذلك‪ ..‬حتى التف حول رقبته حبل رفيع قوي‪،‬‬
‫فاج�أته به ال�صهباء من ورائه‪ ..‬من �أين �أتت بذلك احلبل؟! كانت‬
‫ترتديه كحزام‪ ..‬ولكن النم�س هوى � ً‬
‫أر�ضا قبل �أنْ يعرف هذا‪.‬‬
‫ويف �أثناء ذلك‪ ،‬اندفع مي�ست ليخرج املفتاح الذي ا�ستلمه من‬
‫رئي�س احلدادين منذ فرتة وجيزة‪ ..‬ثم �أدخله يف قفل الزنزانة‪..‬‬
‫ل ُيفتح ب�سال�سة وك�أن هذا مفتاحه الأ�صلي‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫رمت ال�صهباء غطا ًء للر�أ�س على �أوفيليا بينما �أخذ مي�ست بلف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ال�سل�سلة التي ا�ستلها من حزام النم�س حول مع�صمها‪ ،‬وبكل هدوء‪،‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫خرج متظاه ًرا ب�أنه جمرد حار�س يقود �أحد ال�سجناء‪ ..‬ومن املخرج‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الآخر‪ ،‬فرت ال�صهباء‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪244‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل السادس عشر‬
‫الخيانة‬

‫جلند املُرهقني �إثر �شم�س منت�صف‬


‫يف �صمت تام خ ّيم على موكب ا ُ‬
‫الظهرية احلارقة‪� ،‬شعر �آرون بر�ؤيته تتذبذب‪ ..‬كان نايت قد الحظ‬

‫ﻋﺼ‬
‫هذا‪ ،‬ولذا و�ضع �آرون على جواده ليدعمه ويتوىل القيادة‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫كان نايت ي�شعر ب�ضربات قلبه املت�سارعة‪ ،‬وكان العرق قد غطى‬
‫وجهه‪ ،‬كما غطى وجوه بقية الفر�سان‪ ..‬ورغم ذلك‪� ،‬صاح ليبعث فيهم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بع�ض العزم‪« :‬لقد جتاوزنا منت�صف الوادي‪ ..‬مل يتبقَ �سوى القليل‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫هذه هي املنطقة الأ�صعب‪� ..‬إنْ جتاوزناها �سنكون قد تخل�صنا من‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�أ�صعب العرثات يف رحلتنا»‪.‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل يرد ا ُ‬
‫جلند جوا ًبا‪ ،‬فقد كان ال�صمت من �ضمن تعليمات فرقة‬
‫الإنقاذ قبل البدء بعبور هذا الوادي‪ ..‬ولذلك ليحافظوا على طاقتهم‬
‫بكل الطرق املمكنة‪.‬‬
‫وانطلق �صهيل �أحد الأح�صنة لريمي الفار�س الذي امتطاه � ً‬
‫أر�ضا‪.‬‬
‫التفت نايت ليعرف ما حدث‪ ،‬ولكنه مل يكد يفعل ذلك حتى ارتفع‬
‫�صهيل بقية الأح�صنة‪ ،‬وك�أنها �أ�صيبت باجلنون‪ ..‬رامية الفر�سان‬
‫‪245‬‬
‫أي�ضا �إثر‬ ‫أر�ضا وهي جتري فزعة‪ ..‬وانطلقت �صيحات ا ُ‬
‫جلند � ً‬ ‫� ً‬
‫الإ�صابات التي ت�سببت بها الأح�صنة‪.‬‬
‫كان نايت يتلفت يف �صدمة وهو يفكر على عجل‪ ،‬و�سارع بالرتجل‬
‫عن جواده واجلري بعيدً ا ً‬
‫حامل �آرون بني ذراعيه‪.‬‬
‫‪ -‬ان�سحبوا! ترجلوا عن �أح�صنتكم وعودوا �إىل املخيم! ان�سحبوا‬
‫ً‬
‫حال!‬
‫�أخذت �صيحات االن�سحاب ترتدد‪ ،‬ومل يفلح �سوى ن�صف ا ُ‬
‫جلند‬

‫ﻋﺼ‬
‫باالبتعاد دُون �إ�صابة ُتذكر‪� ..‬أما الأح�صنة‪ ،‬فقد هربت بعيدً ا ليفقدوا‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�أكرثها‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫وبينما كان نايت يبتعد‪ ،‬ملح ال�شرارات التي كانت تنطلق من حوافر‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأح�صنة‪ ..‬لت�سبب ذعرهم‪ ..‬مل يدرك من �أين �أتت تلك ال�شرارات‪..‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ولكنه �سيعرف الح ًقا �أنها حدثت بفعل انف�صال جزء من حدوة‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫احل�صان حيث ت�سربت برادة حديد مت تخبئتها بني جزئي احلدوة‪..‬‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫و�إثر احلرارة ال�شديدة‪ ،‬تفاعلت مع الرمال الكربيتية لتنتج تلك‬

‫‪n‬‬
‫ال�شرارات‪.‬‬

‫يف حانة �صغرية على �أطراف العا�صمة‪ ،‬دلفت �أوفيليا التي ما زالت‬
‫تغطي ر�أ�سها بذلك الغطاء‪ ،‬برفقة مي�ست الذي ح َّياه �صاحب احلانة‬
‫من بعيد ك�أنه يرى وج ًها ي�ألفه‪.‬‬
‫‪246‬‬
‫رد مي�ست التحية ب�إمياءة ثم �صعد الدرجات �إىل الطابق العلوي‪،‬‬
‫ومن خلفه تبعته �أوفيليا‪ ..‬ثم دلف االثنان �إىل حجرة ا�ستقبلهما فيها‬
‫الأعور‪.‬‬
‫بك �أيتها امللكة‪� ..‬أنا‬ ‫ارت�سمت على وجهه ابت�سامة وهو يقول‪ً �« :‬‬
‫أهل ِ‬
‫�سعيد ح ًقا لر�ؤيتك»‪.‬‬
‫ابت�سمت بدورها‪« :‬و�أنا �سعيدة لر�ؤيتك � ً‬
‫أي�ضا»‪.‬‬
‫‪� -‬أرجو �أنْ تتحملي املكوث هنا لبع�ض الوقت‪ ..‬و�س�آتي لأخذك‬

‫ﻋﺼ‬
‫بعد �أنْ يتم تطهري بهو القلعة‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫‪ -‬هل كل �شيء جاهز؟‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬نعم‪ ..‬لقد عقدت اجتماعي مع قادة الكتائب‪ ..‬وهم مت�أهبون‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ملحا�صرة القلعة وت�صفية رجال البوم الهالك‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫‪ -‬هل تثق بهم؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬أنا القائد البديل لنايت‪ ..‬وكنت �أتوىل بنف�سي تنظيم فرق‬
‫اجلي�ش‪ ..‬لقد اخرتت �أكرث الرجال � ً‬
‫أهل لثقتنا ليكونوا �ضمن‬
‫الكتائب‪ ..‬يف كل كتيبة هناك َمن يتمنى �أنْ يق�ضي على البوم‬
‫الهالك يف �أقرب فر�صة‪� ..‬ستتكد�س جثثهم هذه الليلة‪ ..‬ال‬
‫ميكن �أنْ يتغلبوا على الكتائب مهما بلغوا من قوة‪ ،‬ففارق‬
‫العدد كبري ج ًّدا‪.‬‬
‫‪� -‬أمتنى لك التوفيق! و�س�أكون يف انتظار الأنباء هذه الليلة‪.‬‬
‫‪247‬‬
‫�أوم�أ‪ ،‬ثم قال وهو يلتفت نحو مي�ست‪�« :‬ستكون امللكة �أوفيليا حتت‬
‫علي �أنْ �أذهب الآن»‪.‬‬
‫حمايتك‪َّ ..‬‬
‫قال مي�ست‪« :‬ال تقلق حيال هذا‪� ..‬أمتنى لك التوفيق»‪.‬‬
‫ا�ستدار الأعور مبتعدً ا‪ ،‬ثم �أغلق الباب خلفه‪.‬‬
‫مرت حلظات �صمت قبل تزفر �أوفيليا بعمق وهي تتجه لتجل�س‬
‫على كر�سي خ�شبي عتيق‪ ..‬هم�ست وهي ت�شري ب�س ّبابتها �إىل الكر�سي‬
‫املقابل‪« :‬اجل�س يا مي�ست»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫جل�س يلفه ال�صمت‪ ،‬وكان يبدو �أنّ عقله من�شغل بكثري من الأفكار‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ن�سي ما حدث بينهما يف‬ ‫التي �أرهقته‪ ..‬ذلك الأعور‪ ..‬يعامله وك�أنه َ‬
‫ﻜﺘ‬

‫يبد �أي رد فعل منذ �أنْ التقيا ب�ش�أن �أوفيليا‪� ..‬إنه يعلم‬
‫املا�ضي‪ ..‬بل مل ِ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أنّ مي�ست ال�سبب وراء فقدانه لعينه و�أ�صابعه‪ ..‬ورغم ذلك ال ُيظهر‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أي رد فعل جتاهه‪� ..‬صحيح �أنّ الظروف تغريت‪ ..‬ولكن هذا ال يعني‬
‫ﻭ‬

‫ن�سي ما حدث‪.‬‬
‫�أنه َ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫قالت �أوفيليا وهي تنظر �إليه لتنت�شله من �سرحانه‪�« :‬شك ًرا لك يا‬
‫مي�ست‪� ..‬أنا ممتنة لك ح ًقا»‪.‬‬
‫فوجئ حني امتدت يدها لت�ضغط على كفه‪ ..‬ورغم �أنه كان يتحرق‬
‫�إىل اللحظة التي يجتمعان فيها م ًعا خارج ال�سجن‪ ..‬ف�إنه مل ي ُكن قاد ًرا‬
‫على �إيجاد الكلمات املنا�سبة‪.‬‬
‫عادت لت�س�أله‪« :‬ماذا هناك يا مي�ست؟ ما بك؟»‬
‫‪248‬‬
‫كانت تدرك �أ�سباب وجومه جيدً ا‪ ..‬تدرك جيدً ا �أنه �صار ِيكن لها‬
‫متاما خوفه من‬‫بع�ض امل�شاعر خالل ال�شهور املن�صرمة‪ ..‬وتدرك ً‬
‫القادم‪ ..‬وقلقه حيال وعدها بت�أمني حماية مملكته‪.‬‬
‫قالت بابت�سامة وهي تقرتب منه لتجربه على النظر يف عينيها‪« :‬ال‬
‫حتتفظ مب�شاعرك لنف�سك‪� ..‬أف�صح عما لديك»‪.‬‬
‫قال بعد هنيهة من ال�صمت وهو ي�سحب كفه من قب�ضة يدها‪:‬‬
‫«تعلمني يا �أوفيليا �أنني مل �أفعل ما فعلتُه من �أجلك‪ ..‬بل من �أجل‬
‫حماية مملكتي‪� ..‬س�أعترب �أين وفيت بوعدي حني جتل�سني على‬
‫دورك لتفي بوعدك يل»‪.‬‬ ‫عر�شك‪ ،‬و�سيحني عندها ِ‬

‫ﻋﺼ‬
‫ات�سعت ابت�سامتها بينما ت�ساءلت يف داخلها عن �سبب مكابرته‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حتى الآن وا�ستمراره يف �إنكار م�شاعره ال�شخ�صية‪ ،‬قالت يف هدوء‪:‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫«�أنا �أدرك هذا‪ ..‬ال حاجة لهذا اخلوف»‪.‬‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنا �أ�ضع م�ستقبل مملكتي بني يديك‪ ..‬لأنني جمرب على الثقة‬
‫ﺸﺮ‬

‫بك‪ ..‬تعلمني �أين ال �أملك خيا ًرا �آخر‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أي�ضا كنت ُمربة على الثقة‬ ‫ات�سعت ابت�سامتها وهي تردف‪�« :‬أنا � ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫بك‪ ..‬وب�سبب ذلك حتررتُ من �سجني‪� ..‬أحيا ًنا ُنرب على و�ضع ثقتنا‬
‫يف �أنا�س مل ن ُكن لنثق بهم يف ظروف �أخرى‪ ،‬غري عاملني ب�أنّ ذلك‬
‫اخليار الذي نظنه �أقبح اخليارات‪ ،‬هو يف احلقيقة �أف�ضل اخليارات‬
‫املمكنة»‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ً‬
‫مف�ضل عدم اخلو�ض‬ ‫مل ُي�شح بب�صره عن الأر�ض‪ ..‬ومل يرد جوا ًبا‪،‬‬
‫�أكرث يف هذا احلديث‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫يف الكهف اجلبلي‪� ،‬أخذت �إيفي ت�شعل ال�شموع �إثر بدء تخييم‬
‫الظالم‪ ،‬بينما جل�ست بري�شيليا عند مدخل الكهف‪ ،‬تتناول ً‬
‫بع�ضا من‬
‫الفاكهة التي �أح�ضرها ماريون‪� ..‬أما �سي�سيل‪ ،‬ف�أخذ يرقب احل�ساء‬
‫الذي و�ضعه على نار �صغرية‪ ..‬لقد �صارت معدته تتقبل بع�ض الأطعمة‬
‫ال�صلبة‪ ،‬ولذا و�ضع بع�ض قطع البطاط�س واجلزر يف ذلك الوعاء‪.‬‬
‫أر�ضا‪ ،‬قال م�ستئذ ًنا‪:‬‬
‫نه�ض ماريون بعدما و�ضع امل�ؤن التي جاء بها � ً‬
‫علي �أنْ �أذهب‪ ..‬هل حتتاجني �إىل �شيء �آخر؟»‬
‫«�أمريتي‪َّ ..‬‬
‫هزت بري�شيليا ر�أ�سها نف ًيا‪ ،‬ولكن �سي�سيل نطق ليوقفه‪ً :‬‬
‫«مهل»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫‪ -‬ماذا هناك؟‬
‫ﻜﺘ‬

‫رفع �سي�سيل ناظره �إليه وهو ي�س�أل‪« :‬هل تعرف مكان �سريو�س؟»‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫بدت �أمارات اال�ستغراب على وجه ماريون‪ ،‬لكنه �أجاب‪�« :‬أنا ال‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أعرف مكانه‪ ..‬لقد انقطعت �أنبا�ؤه منذ مذبحة ال�صومعة»‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫علمت بنجاته؟‬
‫‪ -‬كيف َ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كنت �ضمن الفرقة التي ذهبت لتفقد الأحوال بعد املذبحة‪..‬‬


‫‪ُ -‬‬
‫و�أخربين َمن جنا ِمن تالميذه �أنه اختفى قبل يوم من‬
‫املذبحة‪ ..‬حاولت معرفة املزيد عن �سبب ومكان اختفائه‪،‬‬
‫ولكني و�صلت �إىل طريق م�سدود‪ ..‬ثم كففت عن البحث‪.‬‬
‫تدخلت بري�شيليا خماطبة �سي�سيل‪َ « :‬مل � َ‬
‫أنت مهت ٌم ب�أمر �سريو�س؟‬
‫ما الذي تريده منه؟»‬
‫‪250‬‬
‫ولكن قطع حديثهما قدوم ُم�ساعد الطبيب‪ ،‬كان اخلوف يبدو على‬
‫وجهه‪ ،‬قال بعد �أنْ التقط �أنفا�سه املتالحقة‪�« :‬إنّ الأمور معقدة يف‬
‫قلعة القمم الدخانية‪ ..‬جميع الطرق امل�ؤدية �إىل القلعة مغلقة‪ ..‬و ُيقال‬
‫�إنّ اجلنود يحا�صرون القلعة»‪.‬‬
‫قطبت بري�شيليا جبينها وهي تت�ساءل‪« :‬جنود َمن؟! جنودنا؟!»‬
‫‪ -‬نعم‪� ..‬إنهم جنودنا‪ ..‬يبدو الأمر وك�أنه حماولة انقالب‪.‬‬
‫تدخلت �إيفي مت�سائلة بينما ارت�سم على وجهها اخلوف‪« :‬انقالب‬
‫َمن؟!»‬

‫ﻋﺼ‬
‫قالت بري�شيليا بنربة م�شوبة بالقهر‪�« :‬أوفيليا‪ ..‬ال �أحد �سواها قادر‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫على فعل هذا»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫اعرت�ض ماريون‪« ،‬لكن الأمرية �أوفيليا �سجينة‪ ..‬ومفتاح زنزانتها‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الوحيد مع نايت! ِمن امل�ستحيل �أنْ تخرج من زنزانتها»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫�أجابته بري�شيليا وهي تر�سم ابت�سامة �ساخرة على وجهها‪�« :‬إنّ‬


‫ﻭ‬

‫هذه الأفعى تفعل دائ ًما ما يعجز اجلميع عن ت�صوره‪ ..‬اذهب �إىل‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫هناك يا ماريون وحاول تبني الأمر‪ ..‬علينا �أنْ ال نفقد م�صادرنا و�سط‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫هذه الفو�ضى»‪.‬‬
‫أرجوك ال تربحي هذا املكان يف‬
‫ر َّد ماريون‪�« :‬أمرك �أيتها الأمرية‪ِ � ..‬‬
‫غيابي‪ ..‬علينا �أنْ نتبني الأو�ضاع � ًأول»‪.‬‬
‫‪� -‬أرجو �أنْ تتوخى احلذر‪� ..‬سنكون يف انتظارك‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫احرتاما‪ ،‬ثم ا�ستدار مبتعدً ا‪.‬‬
‫ً‬ ‫�أوم�أ‬

‫‪251‬‬
‫ر�سل من ِقبل �آرون‪ ،‬على ظهر جواد‬
‫فار�س ُم َ‬
‫م�ساء ذلك اليوم‪ ،‬جاء ٌ‬
‫من اجلياد ال�سريعة التي ت�ستُخدم لنقل الر�سائل العاجلة‪ ..‬وتوقف‬
‫�أمام قلعة القمم الدخانية‪� ،‬إثر املنظر الذي فوجئ به‪.‬‬
‫كان جنود الكتائب يحيطون بالقلعة من كل �صوب‪ ..‬وكانوا‬
‫متحفزين ومدججني بال�سيوف والدروع‪ ..‬ك�أنهم يف �أر�ض معركة‬
‫حامية‪.‬‬
‫لقد جاء الفار�س من جهة مملكة ال�صحاري ليطلب الدعم لآرون‬
‫وفر�سانه العالقني يف خميمهم‪ ،‬وبدا له �أنّ تل ّقي الدعم لن يكون بهذه‬
‫ال�سهولة‪ ..‬ولذلك اتخذ له خمب أً� يراقب منه ما يجري‪.‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫بوابة القلعة الكبرية ُتفتح‪ ..‬ويخرج الكثري من جنود الكتائب‬
‫ﻜﺘ‬

‫ب�سيوفهم ودروعهم امللوثة بالدماء‪ ..‬ثم يدوي �صفري من �أحد‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫الأبواق‪ ..‬يليه ا�صطفاف جنود الكتائب على جانبي البوابة ك�أنهم يف‬
‫ا�ستقبال ملكي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وا�ضحا �أنّ الن�صر كان حليف اجلنود‪.‬‬


‫ً‬ ‫لقد انتهت املعركة‪ ..‬وبدا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫وات�سعت عينا الفار�س �صدمة وهو يدرك ما حدث‪ ..‬فمن العربة‬


‫املتوقفة قبالة القلعة‪ ،‬ترجلت �أوفيليا‪ ..‬ترتدي ثوبها امللكي وتاجها‬
‫الل�ؤل�ؤي‪� ،‬شاقة طريقها �إىل داخل القلعة‪ِ ..‬ومن خلفها‪� ،‬سار مي�ست‬
‫وثالثة من كبار رجال اململكة‪ ،‬تع ّرف عليهم على الفور‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫تراجع وهو يدرك �أنه لن يكون قاد ًرا على احل�صول على �أي دعم‪..‬‬
‫وعاد �أدراجه لينقل هذا النب�أ لآرون ونايت العالقني و�سط ال�صحراء‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫يف بهو قلعة القمم الدخانية‪ ،‬وعلى العر�ش امللكي‪ ،‬جل�ست �أوفيليا‪..‬‬
‫يف م�شهد مهيب �أ�صاب اجلميع بالرهبة �إثر القوة التي متلكها هذه‬
‫الأمرية‪� ..‬أو لنقل‪ ..‬امللكة‪.‬‬
‫كانت ممرات القلعة تتكد�س بجثث رجال البوم الهالك‪ ،‬فقد كانت‬
‫�أوامرها تق�ضي بقتلهم ومنعهم من الهرب‪ ..‬حتى �إنْ ا�ست�سلموا‪..‬‬
‫ولكن بع�ضهم متكن من الهرب بعد كل �شيء‪ ..‬فقد كان االن�سحاب‬
‫من مبادئهم‪ ،‬وكان االختباء هو �أول ما يفعلونه عند تعر�ضهم لهجوم‬
‫غري متوقع يعلمون �أنه �سي�ستهلك قواهم‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أخذت �أوفيليا ترمق البهو الذي ا�صطبغ بالأحمر‪ ،‬بعد �أنْ مت �إزاحة‬
‫اجلثث التي كانت تنت�شر فيه‪ ..‬وقفت ترمق الرجال الذين وقفوا يف‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫البهو‪ ،‬يخف�ضون ر�ؤو�سهم َمل ِل َك ِتهم اجلديدة‪ ..‬قالت ب�صوت جهور‪« :‬كما‬
‫ﻜﺘ‬

‫تعلمون‪ ..‬كان البوم الهالك �آفة وجب التخل�ص منها‪ ..‬لقد متكنوا من‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫ال�سيطرة على القلعة بخداع �شقيقي �آرون وا�ستغالل خروج والدي‪..‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ظهرون �أنف�سهم‬ ‫ولكننا متكننا من نتف ري�شهم‪ ..‬وال �أظن �أنهم �س ُي ِ‬


‫ﻭ‬

‫للعلن جمددًا‪ ..‬لي�س يف عهد حكمي»‪.‬‬


‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�صمتت هنيهة قبل �أنْ تتابع‪« :‬تعلمون �أنهم يب�سطون نفوذهم يف‬
‫أي�ضا‪ ،‬ولذلك يتوجب علينا �أنْ ن�صحح بع�ض الأمور‬‫مملكة ال�صحاري � ً‬
‫هناك»‪.‬‬
‫مل ت ُكن قد حتدثت مع مي�ست ب�ش�أن اخلطوة القادمة حيال مملكة‬
‫ال�صحاري‪ ،‬ولذا حتفز �إثر ذكرها ململكته‪.‬‬
‫‪� -‬سنتابع ما كان �آرون يفعله‪ ،‬ولكننا �سنفعله بطريقتنا‪ ..‬يجب‬
‫�أنْ تكون مملكة ال�صحاري حتت �سيطرتنا‪.‬‬
‫‪253‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪ ،‬حني �أح�س‬ ‫بدا مي�ست مبهو ًتا �إثر ما تقول‪ ،‬وكاد ينطق‬
‫مبن يقب�ض على مع�صميه ليقيده ب�سل�سلة �سميكة‪.‬‬
‫�صاح فيها غري م�صدق ملا يحدث‪« :‬مـ‪ ..‬ما الذي تفعلينه يا‬
‫ميكنك �أنْ تفعلي هذا!»‬
‫ِ‬ ‫�أوفيليا؟! �أين وعدك؟! لقد كان بيننا اتفاق! ال‬
‫ولكنها مل تلتفت نحوه‪ ..‬و�سرعان ما غاب عن الأنظار بعد �أنْ دفعه‬
‫بع�ض الرجال �إىل اخلارج‪ ،‬ليودعوه �إحدى زنزانات برج ال�سال�سل‪.‬‬
‫تابعت خطابها‪�« :‬سنذهب لإنقاذ الفر�سان الذين خرجوا مع �آرون‪،‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫و�سنتابع امل�سري �إىل مملكة ال�صحاري‪ ..‬لكننا لن نت�سرع‪ ..‬يجب �أنْ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫نت�أكد من ا�ستقرار الأمور يف القلعة � ًأول»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫تباعا‪،‬‬
‫عادت لتجل�س على عر�شها‪ ،‬ثم �أخذ الرجال باال�ستئذان ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫يتناوبون الوقوف �أمامها ليعلنوا �إخال�صهم لها‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫وبدا عليها التعجب حني طلب الوقوف �أمامها �أحد ا ُ‬


‫حلرا�س‪..‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫عندها تدخل الأعور لينهره‪ ،‬ف�إعالن الإخال�ص مقت�صر على كبار‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الرجال وامل�س�ؤولني فقط‪ ..‬ومن الوقاحة �أنْ يزاحمهم حار�س عادي‪..‬‬


‫لكن �أوفيليا طلبت منه ال�سماح لذلك احلار�س باملثول �أمامها‪.‬‬
‫كان يخف�ض ر�أ�سه‪ ،‬قال ب�صوت بدا فيه التوتر‪�« :‬أنا �أعتذر عن‬
‫وقاحتي �أيتها امللكة ملقاطعة مرا�سيم �إعالن الإخال�ص‪ ..‬لكنني �أريد‬
‫جدا‪ ..‬و�أخ�شى �أنْ �أت�أخر فيفوت �أوانه»‪.‬‬
‫أطلعك على �أمر يهمك ًّ‬
‫�أنْ � ِ‬
‫�س�ألته يف ف�ضول‪« :‬تكلم‪ ..‬ماذا لديك»‪.‬‬
‫‪254‬‬
‫‪� -‬شقيقتك‪ ..‬الأمرية بري�شيليا‪� ..‬أنا �أعرف مكان اختبائها‪..‬‬
‫لكنها تتفق مع كثري من حرا�س وخدم القلعة‪ ..‬و�أخ�شى �أنْ‬
‫تهرب �إنْ ت�أخرنا‪.‬‬
‫«هل عرفتني عن‬ ‫بدت على وجه �أوفيليا نظرة متفهمة‪� ،‬س�ألته‪ّ :‬‬
‫نف�سك؟»‬
‫�أجاب ب�صوت بدا فيه بع�ض اخلجل‪« :‬يدعونني مباريون ال�صغري‬
‫�أيتها امللكة»‪.‬‬
‫�أوم�أت‪ ،‬ثم التفتت �إىل الأعور �آمرة‪�« :‬سرتافق ماريون ً‬
‫حال �إىل‬
‫ﻋﺼ‬
‫املكان الذي تختبئ فيه بري�شيليا و�ست�أتي بها ب�أ�سرع ما ميكن‪ ..‬هي‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫وجميع َمن يرافقها‪ ..‬و�ست�أخذ ما ال يقل عن ع�شرة رجال معك»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫«�أمرك �أيتها امللكة»‪ .‬قالها وهو ي�شري ملاريون باتباعه‪ ،‬ثم ِا ْن َ�سل‬

‫‪n‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫م�سرعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫خارج البهو امللكي‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كانت بري�شيليا و�إيفي تغطان يف نوم عميق حني فزعتا �إثر‬


‫ال�ضجة على مدخل الكهف‪ ..‬احت�ضنت �إيفي �أمريتها بقوة وهي‬
‫حتاول ا�ستيعاب ما يحدث‪ ..‬كانت ال�ضجة توحي با�شتباك �سي�سيل‬
‫و ُم�ساعد الطبيب مع بع�ض الرجال‪ ،‬و�أدركتا �أنّ ه�ؤالء الرجال قد‬
‫ربحا العراك‪ ..‬فقد اندفعوا �إىل داخل الكهف ليقب�ضوا عليهما‪ ،‬ثم‬
‫دفعاهما �إىل اخلارج حيث د�سوا بهما يف عربة مك�شوفة جل�س فيها‬
‫دام َيني امتلآ بالكدمات‪.‬‬
‫�سي�سيل و ُم�ساعد الطبيب بوجهني ِ‬

‫‪255‬‬
‫حتركت بهم العربة‪ ،‬وكانت بري�شيليا تنتف�ض يف الداخل‪ ..‬غري‬
‫قادرة على ت�صديق ما جرى للتو‪ ..‬هل مت القب�ض عليها جمددًا؟!‬
‫لقد بذلت كث ًريا من اجلهد لتهرب! كانت غري قادرة على النطق ب�أي‬
‫كلمة‪ ..‬وبدت يف نظرتها الزائغة خيبة �أمل وي�أ�س عميق مل ت�شعر به‬
‫ف�شلت‪ ..‬لن تتمكن من التخطيط للهرب جمددًا‪ ..‬ال‬ ‫من قبل‪ ..‬لقد ِ‬
‫ميكن �أنْ حت�صل على فر�صة الهرب ثاني ًة‪ ..‬هذه هي نهايتها حت ًما‪.‬‬
‫�أما �سي�سيل‪ ،‬فكان مطرق الر�أ�س‪ ،‬ي�شعر بخواء وانك�سار ال تعرب‬
‫عنه الكلمات‪ ..‬هل �سيتحمل اخل�ضوع لتحقيقات جالدي الربج ثانية؟!‬

‫ﻋﺼ‬
‫يدرك �أنه لن ي�ستطيع النجاة جمددًا‪ ..‬ال ي�ستطيع حتمل �أنْ ُيعاد ما‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حدث له يف ذلك الربج‪� ..‬سينهار ج�سده وعقله‪� ..‬سيموت �سري ًعا‬
‫ﻜﺘ‬

‫ج ًّدا‪ ..‬مرت يف ذهنه ذكرياته من قبل التورط مع �أوفيليا‪ ..‬وتذكر‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫حجم طموحه و�أحالمه التي مل يحقق منها �شي ًئا على الإطالق‪ ..‬لقد‬
‫ﺸﺮ‬

‫بذل كث ًريا من اجلهد ورغم ذلك عا�ش حياة تافهة‪ ..‬ورغم ذلك‬
‫�سيموت ميتة تافهة!‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬لو �أنني قتلتُها تلك الليلة‪ ..‬لو �أنني قتلتُها‪.‬‬


‫كان ذلك ما �أخذ يتمتم به كاملجنون وهو يتذكر ليلة ت�سلله �إىل‬
‫حجرة �أوفيليا ال�سرية‪ ..‬كانت تلك فر�صة ذهبية �أ�ضاعها طام ًعا يف‬
‫وبدل من �أنْ ينتقم من َ‬
‫العال‪ ..‬انتقم‬ ‫االنتقام من العامل �أجمع‪ً ..‬‬
‫َُ‬
‫العال منه‪..‬‬
‫‪ -‬لو �أنني قتلتُها‪ ..‬لو �أنني قتلتُها‪..‬‬

‫‪256‬‬
‫‪n‬‬
‫و�أ�سكتته �صفعة من احلار�س اجلال�س بجواره‪« ،‬تقتل َمن؟! لن تقتل‬
‫�أحدً ا �أيها اللعني! �أنت َمن �سيموت �إنْ مل ت ُكن قد � َ‬
‫أدركت الأمر بعد!»‬

‫قبيل منت�صف الليل‪ ،‬جاءت �أوفيليا لتزور زنزانة مي�ست‪� ..‬أمرت‬


‫احلار�س بفتح الباب‪ ،‬ثم دلفت �إىل الداخل‪ ..‬ووقفت مم�سكة ب�شمعتها‪،‬‬
‫تنظر �إليه وهو يجل�س م�سندً ا ظهره �إىل اجلدار‪ ،‬يت�أمل الفراغ‪.‬‬
‫قالت لتخرق ال�صمت‪« :‬ال ميكنني �أنْ �أخاطر بالوثوق بك‪ ..‬لقد‬
‫ح�صلت على ما �أرد ُته منك‪ ..‬ويجب �أنْ ال �أمنحك �أي فر�صة لإيذائي‪..‬‬
‫ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أرجو �أنْ تتفهم �سبب ت�صريف هذا»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫أنت ت�شعرين باخلوف وعدم الأمان‪ ..‬ترف�ضني ت�صديق فكرة‬ ‫‪ِ �-‬‬
‫وجود َمن تبادلينه الثقة دُون م�صالح‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬أنت نف�سك �أخربتني ب�أنك كنت جم ًربا على الوثوق بي من‬
‫ﺸﺮ‬

‫�أجل حماية مملكتك وح�سب‪ ..‬مل ت ُكن ثقتك بي خيا ًرا واردًا‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫يف الظروف العادية‪ ..‬ولهذا ال ميكنني �أنْ �أثق بك �إنْ مل �أ ُكن‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫يف ظرف يجربين على ذلك!‬


‫لكنك تدركني �أنّ احلقيقة لي�ست كذلك‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬حقيقة‪ ..‬ماذا؟‬
‫ً‬
‫مفروغا‬ ‫التفت لتلتقي عينيه بعينيها‪ ،‬قال بهدوء وك�أنه ي�ؤكد �أم ًرا‬
‫م�شاعرك جتاهي‪� ..‬إنّ ما‬
‫ِ‬ ‫منه‪« :‬حقيقة م�شاعري جتاهك‪ ..‬وحقيقة‬
‫بيننا �أعمق من �صفقة م�ؤقتة من �أجل م�صاحلنا ال�شخ�صية‪� ..‬أنت‬
‫ميكنك �أنْ تنكري وجود مثل هذه امل�شاعر»‪.‬‬‫ِ‬ ‫تدركني هذا‪ ..‬ال‬
‫‪257‬‬
‫كانت تنتظر اللحظة التي �سيقرر فيها الإف�صاح عن م�شاعره‬
‫جتاهها منذ �شهور م�ضت‪ ..‬ورغم �أنها حاولت حتفيزه لينطق بهذا‬
‫�ساب ًقا‪ ،‬ف�إنه مل يفعلها‪ ..‬و�شعرت ب�شيء من الغ�ضب لأنه انتظر اللحظة‬
‫التي ي�ستحيل بعدها �أنْ يبقيا م ًعا حتى يف�صح �أخ ًريا عن تلك امل�شاعر!‬
‫وت�ساءلت عما كان �سيحدث �إنْ نطق م�سب ًقا‪ ..‬هل كانت �ستتقبل الأمر‬
‫وتخربه ب�أنها ت�شاركه م�شاعره؟ هل كانت �ستكون لها ردة فعل خمتلفة‬
‫وهل �سي�ؤثر ذلك على قرارها الذي اتخذته حياله بعد انت�صارها؟‬
‫ورغم تلك الأفكار التي جالت بالها‪ ..‬ف�إنّ نظرتها الثابتة مل تعك�س‬
‫�أ ًيا من ذلك‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫حلت وهلة من ال�صمت قبل �أنْ جتيبه بالهدوء ذاته‪« :‬ال يغري‬
‫ﻜﺘ‬
‫�إدراكي لأي �أمر �أي �شيء‪� ..‬أنت ال تعرفني ح ًقا‪ ..‬حتى و�إنْ كانت مثل‬
‫هذه امل�شاعر لها وجود‪ ..‬ف�أنا �أملك القوة لدفن م�شاعري وجتاهلها‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫كنت �أت�صرف وفق‬‫متاما‪ ..‬ال ميكن �أنْ ت�ؤثر م�شاعري يف قراراتي‪ ..‬لو ُ‬
‫ً‬
‫ﺸﺮ‬

‫م�شاعري َلا ُ‬
‫كنت �أجل�س على العر�ش امللكي»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬ميكننا �أنْ نت�شارك يف حكم مملكة القمم الدخانية ومملكة‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫أعطيك ال�سلطة على مملكتي‪ ..‬و�سنكون ثنائ ًيا‬ ‫ال�صحاري‪� ..‬س� ِ‬


‫متناغ ًما‪ ..‬تعلمني �أننا ميكن �أنْ ن�شكل ثنائ ًيا فريدً ا‪.‬‬
‫‪ -‬رمبا �إنْ كنا يف زمان ومكان �آخرين‪ ..‬رمبا يف ق�ص�ص الأطفال‬
‫ذات النهايات ال�سعيدة‪.‬‬
‫لكنك‬
‫أنت متلكني اخليار‪ِ ..‬‬
‫‪ -‬ورمبا يف هذا الزمان واملكان‪ِ � ..‬‬
‫تتظاهرين ب�أنك ال متلكينه‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫قالت بنربة تبدى فيها القهر‪�« :‬أنت ال تعرفني‪ ..‬ال تعرف �شي ًئا‬
‫علمت‬
‫َ‬ ‫عني! ال ميكن �أنْ ِتكن يل �سوى م�شاعر الكره والبغ�ض �إنْ‬
‫بحقيقتي!»‬
‫‪ -‬وهل تظنني �أين مالك؟ �أنا � ً‬
‫أي�ضا �أحتمل كث ًريا من اخلطايا‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقارن نف�سك بي! هل تعلم �أين �شققت جمجمة طفلة كانت‬
‫حتبني وتخدمني ب�إخال�ص؟ كنت �أحبها كث ًريا‪ ..‬ولكني متكنت‬
‫من دفن م�شاعري هذه من �أجل القيام ببع�ض الطقو�س‬
‫ول�ست نادمة على �شيء! ال ميكنك �أنْ حتاججني‬ ‫ال�سحرية! ُ‬

‫ﻋﺼ‬
‫مب�شاعري جتاهك‪ ..‬هذه امل�شاعر التافهة ال قيمة لها على‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الإطالق! ال ميكن �أنْ ت�شكل �أي فارق لدي!‬
‫ﻜﺘ‬

‫عاد لينظر �إىل الفراغ‪ ..‬متتم‪« :‬كما تريدين‪ ..‬لكنني �س�أكون هنا‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من �أجلك‪ ..‬ولن يتغري موقفي جتاهك‪� ..‬أريدك �أنْ تعلمي �أين لن‬
‫ﺸﺮ‬

‫جانبك جمددًا �إن‬


‫ِ‬ ‫ؤذيك مهما ح�صل‪� ..‬س�أنتظرك‪ ..‬و�س�أقف �إىل‬‫�أ� ِ‬
‫ﻭ‬

‫أيك حيايل الح ًقا»‪.‬‬


‫لت ر� ِ‬
‫ب ّد ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫مل ترد جوا ًبا‪ ،‬بل ا�ستدارت لتخرج من الزنزانة‪ ،‬ومل تد ِر ما كنه‬
‫تلك الدموع التي جتمعت يف مقلتيها‪ ،‬ولكنها �سارعت مب�سحها بكفها‬
‫نف�سا عمي ًقا تداري به هذه امل�شاعر الغريبة التي اجتاحتها‪..‬‬
‫و�أخذت ً‬
‫ثم ابتعدت‪.‬‬
‫ي�ستطع فهم ال�سبب الذي مينعه حتى هذه اللحظة‬‫�أما هو‪ ،‬فلم ِ‬
‫من نبذها وكرهها‪ ..‬كان يظن �أنّ غدرها به �سيقلب موقفه جتاهها‪..‬‬
‫حري�صا على �أنْ ال يظهر م�شاعره ال�شخ�صية جتاهها من‬
‫ً‬ ‫ولذلك كان‬
‫‪259‬‬
‫قبل‪ ..‬ولكن كيف ميكن �أنْ ال تتبدل م�شاعره حتى بعد �أنْ تخلت عنه؟‬
‫يف داخله‪ ..‬كان يدرك �أنّ ال�سبب وراء موقفها منه هو اخلوف فقط‪..‬‬
‫مل ي ُكن يرى �شي ًئا �آخر يف عينيها‪� ..‬إنها خائفة‪ ..‬ولهذا تتخلى عن �أي‬
‫�شيء قد يعرت�ض طريقها من �أجل �أنْ حتقق �أهدافها‪ ..‬تدو�س على‬
‫كيانها وذاتها من �أجل �أهدافها‪ ..‬ولكن ما هي �أهدافها احلقيقية؟!‬
‫ملاذا تريد احتالل مملكته بهذا الإ�صرار؟ كان ذلك ما �أخذ يدور يف‬
‫خلده وهو يحاول �أنْ يفكر يف الإجابات دُون جدوى‪.‬‬

‫‪n‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪260‬‬
‫‪n‬‬
‫الفصل السابع عشر‬
‫ّ‬
‫النَفي‬

‫فجر اليوم التايل‪ ،‬جاءت �أوفيليا لتزور برج ال�سال�سل جمددًا‪،‬‬


‫هذه املرة‪ ،‬كانت تتجه �إىل الطابق الذي مت �إخال�ؤه من �أجل بري�شيليا‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ورفاقها فقط‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سارت بخطواتها الهادئة و�سط نور امل�شاعل و�ضوء ال�شم�س‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫اخلافت الذي بد�أ يت�سلل من فتحات اجلدران العلوية‪ ..‬وتوقفت �أمام‬


‫زنزانة بري�شيليا التي مل ت ُكن ذاقت طعم النوم بعد‪ ..‬كانت جتل�س‬
‫ﺸﺮ‬

‫�ضامة ركبتيها‪ ،‬بينما �أطلت من عينيها نظرة ي�أ�س‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬ستموتني الليلة يا بري�شيليا‪.‬‬


‫كان ذلك ما نطقت به‪ ..‬ومل ترد بري�شيليا جوا ًبا‪.‬‬
‫‪ -‬ال �أظن �أين �س�أكون قادرة على حتمل وجودك يف حياتي‪ ..‬كنت‬
‫أثبت �أنك قادرة على‬
‫ولكنك � ّ‬
‫�أظن �أنّ ب�إمكاين جتاهلك دائ ًما‪ِ ،‬‬
‫علي التخل�ص منك‪.‬‬
‫�أنْ ت�سببي الكثري من الإزعاج‪ ..‬ولذا وجب َّ‬
‫ومل ترفع بري�شيليا ر�أ�سها‪.‬‬
‫‪261‬‬
‫عادت �أوفيليا لتقول بالهدوء ذاته‪« :‬ال تريدين �أنْ تنظري �إىل‬
‫أجربك على ذلك»‪.‬‬
‫علي �أنْ � ِ‬
‫وجهي؟ يبدو �أنّ َّ‬
‫ثم التفت �إىل ُمرافقها الأعور‪ ،‬ففهم �إ�شارتها واجته مبا�شرة �إىل‬
‫الزنزانة التي ُتب�س فيها �إيفي‪ ..‬فتح باب زنزانتها وهو ي�سحبها �إىل‬
‫اخلارج‪ ،‬بينما �أخذت �إيفي تبكي يف �صمت مرتع�شة الأو�صال‪.‬‬
‫اجل َلبة ال�صغرية بانت�شال بري�شيليا من �صمتها‪،‬‬ ‫جنحت هذه َ‬
‫وهُ رعت �إىل ق�ضبان زنزانتها ت�صيح يف �أوفيليا‪« :‬اتركيها! اقتليني �أنا‬

‫ﻋﺼ‬
‫أرجوك!»‬
‫ولكن اتركي �إيفي يف حال �سبيلها! � ِ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ولكن �سيف الأعور �سبق رجاءها‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سقطت �إيفي � ً‬
‫أر�ضا بعد �أنْ �شق ذلك الن�صل �أوردة عنقها‪ ..‬و�سالت‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫دما�ؤها لتكون بركة حمراء �صغرية‪ ،‬على مر�أى من الزنزانات الأربع‪.‬‬


‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬

‫ت�ستطع النطق بكلمة‬


‫�شعرت بري�شيليا وك�أن �أنفا�سها تتقطع‪ ..‬ومل ِ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�أخرى‪ ..‬بل �أغزرت دموعها يف عينيها املت�سعتني وهي حتاول ا�ستيعاب‬


‫�أنها فقدت للتو‪ ،‬املر�أة التي ر ّبتها طيلة حياتها‪ ..‬املر�أة التي عرفتها‬
‫�أكرث من والدتها التي توفيت منذ والدة �آرون‪ ..‬والتي ال تكاد تتذكرها‪..‬‬
‫كان قلبها ينب�ض بعنف‪ ..‬باع ًثا رجفة بادية يف �شفتيها و�أطرافها‪.‬‬
‫اقرتبت �أوفيليا منها هام�سة‪�« :‬س�أقتلكم جمي ًعا‪ ..‬ولكني �س�أحر�ص‬
‫على قتل رفاقك الأعزاء � ًأول‪� ..‬أريدك �أنْ تت�أملي وتندمي على كل‬
‫حلظة ق�ضي ِتها يف حياتك»‪.‬‬
‫‪262‬‬
‫ثم ا�ستدارت مبتعدة �إىل اخلارج‪ ،‬تاركة وراءها �صمتًا ً‬

‫‪n‬‬
‫ثقيل وج ًوا‬
‫م�شب ًعا برائحة املوت‪.‬‬

‫هب �آرون ونايت وا ِقفني �إثر‬


‫يف خيمته ال�صغرية و�سط املخيم‪ّ ..‬‬
‫عودة الفار�س الذي �أر�سلوه طل ًبا للدعم‪ ..‬بدا وك�أنه غري قادر على‬
‫احلديث‪ ..‬يفكر يف كيفية �صياغة النب�أ الذي جاء به‪.‬‬
‫�س�أله نايت‪« :‬ما الذي حدث؟ هل �سي�أتينا الدعم الذي نحتاجه؟»‬

‫ﻋﺼ‬
‫�أجاب الفار�س متلعث ًما‪�« :‬سيدي‪ ..‬لقد حدثت كارثة»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ات�سعت عينا نايت وهو يعاود ال�س�ؤال‪« :‬ما الذي حدث؟!»‬
‫ﻜﺘ‬

‫رفع الفار�س عيناه‪ ،‬ليقول يف تردد‪« :‬لقد خرجت الأمرية �أوفيليا‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫من �سجنها‪ ..‬وارتكبت مذبحة كبرية �ضد رجال البوم الهالك‪� ..‬إنها‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫�إنها امللكة الآن‪ ..‬لقد بايعها جميع رجال اململكة على الإخال�ص»‪.‬‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫ر َّد نايت بده�شة بالغة على وجهه‪« :‬كـ‪ ..‬كيف خرجت؟! زنزانتها ال‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ميكن اخرتاقها‪� ..‬أنا �أحتفظ مبفتاح زنزانتها لدي! كيف خرجت؟!»‬


‫‪ -‬ال �أدري يا �سيدي! لكنها خرجت!‬
‫مرت حلظات �صمت �أخذ يفكر فيها نايت وهو ما يزال غري قادر‬
‫على الت�صديق‪.‬‬
‫عاد الفار�س لريدف‪« :‬ولقد‪� ..‬أعلنت ب�أنها �ست�أتي �إىل خميمنا‬
‫لإنقاذنا وا�ستكمال امل�سري �إىل مملكة ال�صحاري»‪.‬‬
‫‪263‬‬
‫ر َّد نايت‪« :‬لقد فهمت‪� ..‬أرجو �أال ت�سرب هذا النب�أ �إىل الفر�سان‪،‬‬
‫يجب �أنْ نحافظ على هدوئنا ون�صرب ً‬
‫قليل»‪.‬‬
‫‪ -‬لكنها �آتية �إىل هنا يا �سيدي‪.‬‬
‫‪ -‬لن ت�ؤذي �أحدً ا من الفر�سان‪ ..‬بل �ستتوىل قيادتهم فقط‪..‬‬
‫ولذا ال ينبغي �أنْ نثري فزعهم بال داع‪.‬‬
‫قال الفار�س بعد تردد‪« :‬ماذا‪ ..‬عن امللك؟ كيف �سنحميه؟»‬
‫‪� -‬ستكون حمايته م�س�ؤوليتي وحدي‪ ..‬لن �أح ّمل �أ ًيا منكم عبء‬

‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫ذلك‪.‬‬
‫احرتاما قبل �أنْ يخرج‪ ..‬وما �إنْ اختفى عن الأنظار‬
‫ً‬ ‫�أوم�أ الفار�س‬
‫ﻜﺘ‬

‫هام�سا‪�« :‬سنت�سلل من هنا �أيها امللك‪..‬‬


‫حتى التفت نايت �إىل �آرون ً‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�سنهرب قبل جميئها»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫كان �آرون ينظر �إىل الأر�ض وهو ما يزال حتت ت�أثري املفاج�أة‪ ..‬قال‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫برتدد‪« :‬نهرب‪� ..‬إىل �أين؟»‬

‫‪n‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪� -‬إىل مقرنا الرئي�سي‪� ..‬إىل وكر البوم الهالك‪.‬‬

‫فتح �سي�سيل عينيه ليجد نف�سه يف مكان خافت ال�ضوء‪ ،‬ورغم‬


‫يت�سطع فتح عينيه كاملتني �إثر ال�سطوع الذي انبعث من ذلك‬ ‫ذلك مل ِ‬
‫ال�ضوء الغريب‪ ..‬وقبالته‪ ،‬ملح ال�شيخ الذي جل�س مرتد ًيا ثيا ًبا بي�ضاء‬
‫ف�ضفا�ضة‪.‬‬
‫‪264‬‬
‫قال �سي�سيل بعد هنيهة من الت�أمل‪�« :‬سـ‪� ..‬سريو�س؟ هل �أنت‬
‫�سريو�س؟»‬
‫�أجاب ال�شيخ بكلمات هادئة �صارمة‪« :‬نعم‪� ..‬إنه �أنا يا �سي�سيل»‪.‬‬
‫‪� -‬أين اختفيت؟! وكيف؟!‬
‫‪ -‬هذا ال يهم الآن‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذي يهم � ًإذا؟!‬
‫بدت عيني �سريو�س �أكرث ملعا ًنا وهو يتابع بالنربة اجلامدة ذاتها‪:‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫«يجب �أنْ ت�صحح �أخطاءك يا �سي�سيل»‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪� -‬أي خط�أ؟‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫‪� -‬إينور‪ ..‬لقد �أخط�أتَ بالتعاون معها‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫ً‬
‫معرت�ضا‪« :‬ال �أظن ذلك‪ ..‬فقد‬ ‫عقد �سي�سيل حاجبيه وهو يرد‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫�ساع َدتني هذه املر�أة كث ًريا‪ ..‬هي من َع ّلمني كل �شيء �أعرفه عن‬
‫َ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫الو�شوم»‪.‬‬
‫نه�ض �سريو�س من كر�سيه متج ًها �إىل �سي�سيل بخطواته البطيئة‪،‬‬
‫خد َعتك حني ر�سمت‬‫ثم مد يده ليك�شف ذراع �سي�سيل اليمنى‪« :‬لقد َ‬
‫و�شم على ذراعك»‪.‬‬
‫لك �آخر ٍ‬
‫انتقلت �إىل حجرات ال�صومعة �إثره‪ ..‬لقد اتفقنا على‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬لكنني‬
‫ذلك ونفذته هي بنزاهة‪.‬‬
‫‪265‬‬
‫‪� -‬أمل تعلم َبعد ِ َل َ‬
‫ف�شلت يف االنتقال حني �أردتَ الهرب من رجال‬
‫كنت تتقنه‬
‫ر�سمت و�شم االنتقال الذي َ‬
‫َ‬ ‫البوم الهالك؟ لقد‬
‫وقفت م�شدوهً ا‬
‫كا�سمك‪ ..‬ورغم ذلك مل يحدث �أي �شيء‪َ ..‬‬
‫تنتظر �أنْ تبد�أ ع�ضالتك بالتقل�ص‪ ..‬ولكن رجال البوم الهالك‬
‫اقتحموا املكان وقادوك �إىل برج ال�سال�سل‪.‬‬
‫كان يتحدث بثقة وك�أنه يرى املوقف �أمامه‪.‬‬
‫بدت الده�شة وا�ضحة على وجه �سي�سيل‪ ..‬تابع �سريو�س‪�« :‬أمل تفهم‬
‫بعد َمل �أ�ص ّرت �إينور على �أنْ تر�سم لك و�شم االنتقال الذي �أعا َدك‬

‫ﻋﺼ‬
‫ر�سم و�شم �آخر‪ ..‬مل ي ُكن ما‬
‫�إىل عاملنا؟ لقد َف َعلت ذلك لأنها �أرادت َ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ر�س َمتْه و�شم االنتقال الذي تعرفه»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬ماذا كان‪ ..‬ذلك‪ً � ..‬إذا؟‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫قالها وهو يحاول تبني الو�شم الذي ُر�سم �أعلى ذراعه اليمنى‪ ،‬ومل‬
‫ﺸﺮ‬

‫كامل كونه ُر�سم يف زاوية لي�ست يف جمال نظره‪.‬‬ ‫ي ُكن قاد ًرا على تبينه ً‬
‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫قال �سريو�س جمي ًبا‪« :‬لقد ر�سمت لك و�شم ال َّنفي‪ ..‬لقد َط َر َدتك‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫من عاملها دُون عودة‪ ..‬لذلك مل َي ُعد لو�شم االنتقال العادي �أي ت�أثري»‪.‬‬
‫‪ -‬ولـ‪ ..‬ملاذا قد تفعل هذا؟‬
‫‪� -‬أرادت منعك من العودة �إىل عاملها و�إف�ساد ما َ�ص َن َعتْه‪..‬‬
‫لقد َر َ�س َمت على ذراعك الو�شم ذاته الذي ت�سبب بنفيها‬
‫من عاملنا‪ ..‬ولقد �أخفت هذه احلقيقة عنك حتى تتمكن من‬
‫عقابك بالو�شم ذاته‪.‬‬
‫‪266‬‬
‫�أوم�أ �سي�سيل وهو ي�شعر بجذوة من الكراهية ت�شتعل يف داخله‬
‫جتاهها‪ ..‬الآن يدرك �أنه كان جمرد �أبله تالعبت به كما تريد‪ ..‬ثم‬
‫تخل�صت منه‪.‬‬
‫عاد �سريو�س ي�سرت�سل يف حديثه‪« :‬ورغم ذلك‪� ..‬سيكون عليك‬
‫�أنْ تعود �إىل هناك و�أنْ تق�ضي على ما ت�سببت به �إينور من ف�ساد‪..‬‬
‫عليك �أنْ تزيل كل الآثار التي ترتبت على ت�سريب وثيقة �إنبات احلجر‬
‫النيزكي»‪.‬‬
‫‪ -‬وما هي هذه الآثار؟‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬لقد ن�ش�أت ح�ضارة ب�شرية جديدة �إثر ت�سريبك تلك الوثيقة‪..‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫�إنهم ي�سمون �أنف�سهم بالرتايفو�س‪ ..‬ويتمتعون بالقدرة على‬
‫ﻜﺘ‬

‫التخاطر‪ ..‬وتلقي النبوءات‪ ..‬وعلى ر�ؤية الأرواح التي تنتمي‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�إىل عوامل ال ينبغي لهم االحتكاك بها‪� ..‬إنّ هذا �أمر خطري‪..‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫وهم يتوارثون الأمر ك�أنه ُمهمة مقد�سة‪ ..‬ي�ستمرون بتطوير‬


‫ﻭ‬

‫منحى مد ّم ًرا‪.‬‬
‫هذه القدرات التي قد بد�أت تتخذ ً‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫كنت �أظن ب�أنّ التخاطر هو القدرة الوحيدة التي طورتها‬


‫‪ُ -‬‬
‫�إينور‪.‬‬
‫عام حتى الآن يف عاملها‪..‬‬
‫‪� -‬صحيح‪ ..‬ولكن مرت قرابة الأربعمئة ٍ‬
‫لقد حدث الكثري منذ �أنْ ُزرتَ ذلك َ‬
‫العال‪.‬‬
‫�سارحا‪« :‬وكيف ميكن يل �أنْ �أزيل‬
‫�س�أله �سي�سيل بعد وهلة بدا فيها ً‬
‫تلك الآثار؟»‬

‫‪267‬‬
‫نفي �آخر �أقوى من و�شمها‪� ..‬ستزول‬
‫و�شم ٍ‬
‫‪� -‬س�أر�سم على ظهرك َ‬
‫�آثار و�شمها ك�أنه مل يوجد‪ ..‬و�س�أعاقبك بالنفي �إىل عاملها‪ ..‬لن‬
‫تتمكن من العودة قبل �أنْ يندثر الإرث الذي جاءت به �إينور‪..‬‬
‫قمت بالتخل�ص من �آخر �سليالتها‪ ،‬فوف ًقا‬
‫وهذا �سيحدث �إنْ َ‬
‫لقوانينها‪ ،‬ال �أحد �سوى �سليالتها ميلك احلق على تداول العلم‬
‫الذي ورثوه منها‪.‬‬
‫‪� -‬ستنفيني جمددًا؟ وكيف �س�أمتكن من العودة؟‬
‫‪� -‬إنّ الو�شم الذي �س�أر�سمه على ظهرك خمتلف‪� ..‬إنه و�شم‬

‫ﻋﺼ‬
‫�شرطي‪ ..‬يزول مبجرد حتقق ال�شرط‪ ..‬و�سيكون ال�شرط �أنْ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬ ‫َ‬
‫تر�سم �أنت و�شم املوت على ج�سد �آخر �سليالت �إينور‪ ..‬حينها‬
‫َ‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سيزول �أثره‪ ..‬و�ستتمكن من العودة با�ستخدام و�شم االنتقال‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫العادي‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪« -‬مـ‪ ..‬ماذا �إنْ مل �أمتكن من حتقيق هذا ال�شرط؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪�« -‬ستظل منف ًيا يف ذلك العامل �إىل الأبد! هذا عقاب ال ُيذكر �إثر‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫ت�سببت به‪.‬‬
‫َ‬ ‫الف�ساد الذي‬
‫علمت بكل‬
‫‪ -‬لكن‪ ..‬لـ‪ ..‬ملاذا تريد عقابي بهذا الأمر؟ ومن �أين َ‬
‫هذه التفا�صيل عن �إينور؟ و‪ ..‬ومنذ متى و�أنت جتيد ر�سم‬
‫الو�شوم املحظورة؟‬
‫مل يرد �سريو�س جوا ًبا‪ ..‬و�سرعان ما تال�شى‪ ..‬خمل ًفا وراءه �أ�ضوا ًء‬
‫�صغرية فطن �سي�سيل �إىل �أنها يراعات‪ ..‬ثم فتح عينيه ليجد نف�سه‬
‫غار ًقا يف العرق‪ ..‬يفرت�ش �أر�ضية زنزانته‪.‬‬
‫‪268‬‬
‫نه�ض �شاع ًرا بال�ضياع‪ ،‬ثم جل�س على حافة �سريره حمني الظهر‪،‬‬
‫م�ستغر ًقا بالتفكري يف ذلك احللم‪� ..‬أكان حل ًما ح ًقا؟! لقد بدا حقيق ًيا‬

‫‪n‬‬
‫جدا! ذلك احلوار الطويل مع �سريو�س حمل �إليه �إجابات كثرية‪ ..‬ال‬ ‫ًّ‬
‫ميكن �أنْ يكون هذا جمرد حلم!‬

‫ترجل نايت و�آرون من ظهر اجلواد الذي ت�سللوا به من املخيم‪،‬‬


‫وتوقفوا قبالة ميناء �صغري‪ ..‬قال نايت م�ش ًريا �إىل ال�سفينة ال�صغرية‬
‫التي كانت تر�سو يف انتظارهم‪« :‬هيا �أيها امللك»‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫‪ -‬مل � ُأعد مل ًكا‪ ..‬نادين �آرون وح�سب‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫‪ -‬نحن ال ننادي بع�ضنا ب�أ�سمائنا‪ ..‬لكل فرد من البوم الهالك‬


‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫لقب‪ ..‬و�أنا �أرى �إنّ لقب امللك يليق بك �أكرث من �أي لقب �آخر‪.‬‬
‫ﺸﺮ‬

‫مرت هنيهة �صمت ت�أمل فيها �آرون قبل �أنْ يردف‪�« :‬أهذا يعني‬
‫أ�صبحت فردًا منكم الآن؟»‬ ‫�أنني �‬
‫ﻭ‬

‫ُ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫‪ -‬بل �ست�صبح‪ ..‬ال �أظنك متانع‪.‬‬


‫يوما ما لأحقق لقبي‪..‬‬
‫ابت�سم �آرون‪« :‬بالطبع ال‪ ..‬لكني �س�أعود ً‬
‫ولأجرب جميع �سكان اململكتني على مناداتي به»‪.‬‬
‫ابت�سم نايت بدوره وهو ي�ساعد �آرون على النزول �إىل امليناء‪.‬‬
‫عاد �آرون ي�س�أل‪�« :‬أت�ساءل عن لقبك �أنت»‪.‬‬
‫‪ -‬يعرفني البوم الهالك بال�ص ّراف‪.‬‬
‫‪269‬‬
‫معب‪ ..‬ح�س ًنا‪ ..‬فلرنحل �أيها‬
‫‪ -‬ال�ص ّراف؟! يا له من لقب ّ‬
‫ال�ص ّراف!‬

‫‪n‬‬
‫ثم دلف االثنان على ظهر تلك ال�سفينة التي �سرعان ما غادرت‬
‫امليناء لتغيب و�سط املحيط‪.‬‬

‫جال�سا يف زاوية زنزانتها‬


‫جفلت بري�شيليا �إثر ال�شيخ الذي فوجئت به ً‬
‫ظاه ًرا من العدم‪ ..‬كادت تنطق‪ ..‬لوال �أنه �أ�شار لها بال�صمت‪.‬‬
‫�سار ليختبئ خلف ق�ضبان �سريرها احلديدي‪ ،‬م�ش ًريا لها باتباعه‪..‬‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫اقرتبت‪ ،‬وقبل �أنْ تبادره ب�أي �س�ؤال هم�س‪�« :‬س�أر�سم على ظهرك‬
‫ﻜﺘ‬

‫�سيخرجك من هنا‪� ..‬أرجو �أنْ تك�شفي يل عن ظهرك‪..‬‬


‫ِ‬ ‫الو�شم الذي‬
‫و�أنْ تتحملي الأمل‪ ..‬يجب �أنْ ننتهي قبل قدوم اجلالدين الذين‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫�أر�سلتهم �أوفيليا للتو لقتلك»‪.‬‬


‫ﺸﺮ‬

‫مل جتادل‪ ،‬وجل�ست لتك�شف له عن ظهرها بينما تدور يف خلدها‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫الأ�سئلة‪ ..‬هل �ستنجو؟ هل �ستخرج ح ًقا؟! ثم �أغم�ضت عينيها �إثر‬


‫ﺯﻳﻊ‬

‫الأمل الذي باغتها مع �أول وخزة‪.‬‬


‫أرجوك حافظي على هدوئك �أيتها الأمرية‪ ..‬يجب �أنْ تتحملي‬
‫‪ِ �-‬‬
‫هذا الأمل‪� ..‬إنها فر�صتك الوحيدة للنجاة بحياتك‪.‬‬
‫ت�ستطع‬
‫ابتلعت ريقها وهي حتاول احلفاظ على هدوئها‪ ..‬ولكنها مل ِ‬
‫منع تلك الدموع التي جتمعت يف مقلتيها �إثر ذلك الأمل‪ ..‬كانت ت�شعر‬
‫برغبة بال�صراخ‪ ..‬ولكنها ع�ضت على �أ�سنانها مانعة نف�سها من ذلك‪..‬‬
‫يجب �أنْ تتحمل‪ ..‬يجب �أنْ تنجو‪.‬‬
‫‪270‬‬
‫مي�ض الكثري من الوقت حتى ترددت �أ�صوات اخلطوات‬ ‫ومل ِ‬
‫القادمة‪ ..‬خطوات �أحذية ثقيلة ينتعلها اجلالدين يف العادة‪ ..‬تبعتهم‬
‫خطوات �أكرث خفة ورقة‪ ،‬للملكة التي �سارت بهدوء ُ‬
‫جت ّر ثوبها الطويل‪.‬‬
‫هم�س ال�شيخ‪�« :‬أكاد �أنتهي»‪.‬‬
‫حاولت التنف�س بعمق م�ستجمعة نف�سها‪« :‬مـ‪ ..‬ماذا عن‪� ..‬سي�سيل؟»‬
‫‪ -‬لقد ر�سمت ذات الو�شم على ظهره � ً‬
‫أي�ضا‪� ..‬ستخرجان من‬
‫هنا م ًعا‪.‬‬

‫ﻋﺼ‬
‫اخلطوات تقرتب‪ ..‬ثم تتوقف‪ ..‬ويرتفع �صوت امللكة بنربته‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫الهادئة‪« :‬اقتلوه � ًأول»‪.‬‬
‫ﻜﺘ‬

‫كانت ت�شري �إىل زنزانة �سي�سيل‪ ..‬واندفع �أحدهم ليفتح الباب‪ ..‬ثم‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬

‫فوجئ بخلو الزنزانة‪ ..‬دلف عدة رجال �إىل الداخل ليتبينوا �أي �آثار‬
‫ﺸﺮ‬

‫للهرب‪ ..‬ولكن مل ي ُكن هناك �أي �شيء‪.‬‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫‪ -‬لقد‪ ..‬اختفى!‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫�سارت �أوفيليا م�سرعة يف اجتاه زنزانة بري�شيليا‪ ،‬ودارت بعينيها‬


‫يف الزنزانة لتجدها خالية � ً‬
‫أي�ضا‪.‬‬
‫‪ -‬كـ‪ ..‬كيف ميكن �أنْ يهربا؟! عليكم �أنْ حتققوا يف ما حدث هنا‬
‫فو ًرا!‬

‫‪n‬‬
‫كانت تلك �أوامرها‪ ،‬وانطلق �إثرها الرجال لينت�شروا يف الربج‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫فتح �سي�سيل وبري�شيليا عيونهما ليجدا نف�سيهما و�سط بلدة غري‬
‫م�ألوفة‪ ..‬كان الهدوء حولهما مريب‪ ..‬وكانت النظرات التي يحدجهما‬
‫بها املارة �أكرث ريبة‪.‬‬
‫كيف ميكن �أنْ يكون احلي بهذا الهدوء رغم ازدحامه؟! ِ َل ال يتكلم‬
‫�أحد؟!‬
‫كان ذلك ما �أخذ يت�ساءل عنه �سي�سيل قبل �أنْ يتذكر ُمهمته التي مت‬
‫نفيه �إىل هذا املكان من �أجلها‪.‬‬
‫ه�ؤالء القوم ي�ستخدمون التخاطر‪ ..‬و�سيكون عليه �أنْ يتعلمه‬
‫ﻋﺼ‬
‫ليتمكن من االندماج يف جمتمعهم‪.‬‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻜﺘ‬

‫هم�س لربي�شيليا قبل �أنْ ي�سحبها ليختفيا يف �أحد الأزقة‪« :‬نحن‬


‫نثري الريبة بهي�أتنا هذه‪ ..‬علينا �أنْ ن�ستبدل مالب�سنا � ًأول»‪.‬‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﺸﺮ‬

‫‪� -‬أين‪ ..‬نحن؟ كيف خرجنا من الربج؟‬


‫ﻭ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬

‫أمان‬
‫متاما �أيتها الأمرية‪ ..‬نحن يف � ٍ‬
‫‪ -‬نحن يف عامل خمتلف ً‬
‫ﺯﻳﻊ‬

‫من �شقيقتك الآن‪ ..‬ولكننا ل�سنا يف �أمان من قدرات الب�شر‬


‫اخلارقني ه�ؤالء‪� ..‬سيكون علينا �أنْ نتعلم قدراتهم‪� ..‬سيكون‬
‫علينا �أنْ ن�صبح منهم‪.‬‬

‫يتبع‪...‬‬

‫‪272‬‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬
‫ﺯﻳﻊ‬
‫ﺍﻟﺘﻮ‬
‫ﻭ‬ ‫ﺸﺮ‬
‫ﺐ ﻟﻠﻨ‬
‫ﻜﺘ‬
‫ﲑ ﺍﻟ‬
‫ﻋﺼ‬

You might also like