Professional Documents
Culture Documents
عذرية
أم
برود جنسي؟
إبراهيم رمزي
()1
[معصومان ..وجس النبض] ..
سعت أ َمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها ،وقالت لهما :إن جميال عندها الليلة .فأتياها مشتملين على
سيفيهما .فرأياه جالسا َحجرةً [ناحية] منها ،يحدثها ،ويشكو إليها بثَّه .ثم قال لها :يا بثينة ،أرأيت
ودي إياك وشغفي بك ،أال تجزينه؟ قالت :بماذا؟ قال :بما يكون بين المتحابين .فقالت له :يا
جميل ،أهذا تبغي؟! وهللا لقد كنتَ عندي بعيدا منه ،ولئن عاودتَ تعريضا بريبة ال رأيت وجهي
أبدا .فضحك ،وقال :وهللا ما قلت لك هذا إال ألعلم ما عندك فيه ،ولو علمت أنك تجيبينني إليه
لعلمت أنك تجيبين غيري ،ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في
يدي ،ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة األبد .أو ما سمعت قولي:
وإني ألرضى من بثينة بالذي @ لو أبصره الواشي لقَ َّرت بَالبله
آمله
المرجو قد خاب ِّ
ِّ بال ،وبأن ال أستطيع ،وبالمنى @ وباألمل
وبالنظرة العجلى ،وبالحول تنقضي @ أواخره ال نلتقي وأوائله
قال [الراوي] فقال أبوها ألخيها :قم بنا ،فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها،
فانصرفا وتركاهما( .األغاني ج)111/8:
()2
[وصف جسدي للمرأة /الحبيبة]
َ
غراء ِّمبسام كأن حديثها @ د ٌّر ت َ َحد ََّر نظمه منثور
الروادف َخلقها َممكور
ِّ محطوطة المتنين مضمرة الحشا @ ريا
[ محطوطة المتنين :ممدوتهما ] (األغاني ج)158/8:
()3
[ضجعة العذريين] ...
فقامت [بثينة] إلى جميل فأدخلته الخباء معها ،وتحدثا طويال ،ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه،
فذهب النوم بهما حتى أصبحا ،وجاءها غالم زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها ،فرآها نائمة
مع جميل ،فمضى لوجهه حتى خبر سيده ...فلما تبينت بثينة الصبح قد أضاء ،والناس منتشرين،
سك...فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النَّ َ
ضد [متاع البيت] سك نف َ
ارتاعت ،وقالت :يا جميل ! نف َ
وقالت :إنما أسألك ذلك خوفا من الفضيحة ال خوفا عليك ،ففعل ذلك ،ونامت كما كانت،
واضطجعت أم الجسير إلى جانبها ...فجاء نبيه [اسم زوجها] إلى أخيها وأبيها فأخذ بأيديهما
وعرفهما الخبر ،وجاؤوا بأجمعهم إلى بثينة وهي نائمة ،فكشفوا عنها الثوب ،فإذا أم الجسير إلى
جانبها نائمة ،فخجل زوجها وسب عبده ،وقالت ليلى ألخيها وأبيها :قبحكما هللا ،أفي كل يوم
تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا األعور [= زوجها] فيها بكل قبيح ...وأقام جميل عند بثينة حتى أجنه
الليل ثم ودعها وانصرف( .األغاني ج)122/8:
+++++
يحفل تاريخ الشعر العربي بالكثير من القصص عمن يسمون بالشعراء "العذريين" وما خلفوه
من شعر "عذري" .وتمنيت لو سموا بالشعراء "الشاذين" وسمي شعرهم بـ "الشذوذ
الغزلي".
مبدئيا أرى أن اآلية القرآنية في شقها "وأنهم يقولون ما ال يفعلون" تنطبق بانسجام كبير على
هذه الفئة من الشعراء.
القصص تتشابه إلى حد كبير ،شاعر وامرأة يتبادالن "حبا" يستمر مدى حياتهما .المرأة تتزوج
رجال آخر ،والشاعر قد يتزوج ،وقد يبقى طليقا ينتقل كالنحلة من زهرة لزهرة ...فأي عالقة هذه
وبتواز مع ذلك -كل واحد منهما يعيش
ٍ تؤلف بين شاعر وامرأة؟ ...في مقابل الحب المتبادل -
حياة أخرى مع طرف آخر .فما الذي يؤمله الشاعر من امرأة يدعي أنه يحبها وتدعي أنها تحبه
ولكنها ترتبط برجل آخر؟ فهي كما قال والد جميل بثينة" :ذات بعل يخلو بها وينكحها ،وأنت
عنها بمعزل ،ثم تقوم من تحت ه إليك ،فتغرك بخداعها وتريك الصفاء ،والمودة( "...،األغاني.
ج)137/8:
أليس الشاعر العذري رجال شاذا؟ ،يرضيه أن تكون حبيبته تحت رجل آخر "ينكحها ..ثم تقوم
من تحته إليه "..ليوهمنا أنه يقنع ب" :النظرة والبسمة والكلمة الحلوة " ....من التي يعتبرها
"الحبيبة الوفية الطاهرة المالك [ "...النص األول]
+++++
ورغم أن الحكاية األولى تقول إن جميال طلب جزاء يتمثل في "ما يكون بين المحبين" ،وبما أن
العالقة الجنسية ال ت َ ِّرد في قاموس هؤالء الشعراء ،فلنتساءل:
ولكن الشذوذ الذي يالحق هذه العالقات يبرز من جديد ..ويفرض الكثير من األسئلة :أليس هناك
انجذاب للحواس :هل العيون مفقوأة؟ وهل اآلذان صماء؟ وهل األنفاس والزفرات صقيعية
س َرت في العروق حرارة محمومة ،وال في األطراف مكتومة؟ وهل األنوف مزكومة معطلة؟ ..أ َما َ
رعشات متوثبة...؟
أم إن أصحابنا كالقطع الثلجية البريئة من العواطف البشرية؟؟؟؟..
ولنا أن نشك حتى في ذلك "الحديث الطويل الذي أخذ قسطا من ليلهما" ،فلعله أكثر برودة من
أحاديث الخصوم يلتقون مكرهين حول مائدة التفاوض.
ولو كان غير ذلك ألجج في النفوس لهيبها وحلق بهما إلى الرحاب الوردية التي ستحرمها من
اإلغفاء ،بله النوم.
وما دامت الروايات المحكية عن هذه الفئة من الشعراء تجافي المنطق العادي والطبيعة البشرية
العادية ،فالشذوذ المالحق لهذه العالقة قد يدفعنا إلى افتراضات لمحاولة استشفاف كنه هذه
"العالقة" .وستكون حتى أكثر االفتراضات شططا ذات موقع في التحليل.
+++++
كلما قرأت حكاية من نوع النص األول ،إال وخطرت ببالي لفظة "السذاجة" .سذاجة الحكي،
وسذاجة الحدث .كما تنهال التساؤالت:
أين هي الغيرة؟ أين هي الحمية؟ أين العيون التي تتقدد شررا دفاعا عن الشرف؟ وأين ..وأين..؟
ما أكثر األوهام التي تصور عزة الرجل العربي وأنفته وشممه وغيرته وحمايته للشرف.
تقول الحكاية :فقال أبوها [والد بثينة] ألخيها :قم بنا ،فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل [أي
جميل] من لقائها ،فانصرفا وتركاهما".
األب -هنا -يتخذ قراره -بكل بساطة -ويبلغه البنه في صورة األمر .قرار يبيح لجميل أن يقابل
فتاتهم "دون قيد أو شرط" ،ودون اعتبار للتقاليد.
وقد يقال :إن هذه حالة "شاذة" ال يقاس عليها ،وال تسري على جميع الرجال بذلك المجتمع.
وبذلك ينضاف "شذوذ" إلى "شذوذ".
و ِّل َم لم يبق هذا القرار ساري المفعول أبدا؟
لم رفع أمر جميل للسلطان؟ ول َم أهدَر د َم جميل؟...
لنقرأ ما ورد في األغاني ج:131/8:
"إن السلطان أهدر دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه وقد غشي دورهم ،فحذِّرهم مدة ،ثم وجدوه
عندها ،فأعذروا إليه ،وتوعدوه ،وكرهوا أن ينشب بينهم وبين قومه حرب في دمه ،وكان قومه
أعز من قومها ،فأعادوا شكواه إلى السلطان ،فطلبه طلبا شديدا ،فهرب إلى اليمن فأقام بها
مدة".
والد جميل هو اآلخر حذره -باعتماد الصورة الجنسية إلثارة نخوة ابنه -إذ نجد في األغاني:
"يا بني ،حتى متى أنت ع َِّمه في ضاللك ،ال تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها،
وأنت عنها بمعزل ،ثم تقوم من تحته إليك ،فتغرك بخداعها وتريك الصفاء ،والمودة ،وهي
مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها ...فإذا انصرفتَ عنها عادت إلى بعلها على حالتها
المبذولة .إن هذا لذ ٌّل و َ
ضيم ..فأنشدك هللا إال كففت وتأملت أمرك(" ..األغاني ج)137/8:
إذا كان الشعراء العذريون ،وجميل – في مقدمتهم -بدون نخوة أو كرامة ،ويستعذب الذل
والضيم ويحمل نعت :العذري .فهل هذه "العذرية" المزعومة ،وقف على الرجال؟
ِّلم لَم يطلق على صاحبته :بثينة العذرية؟ سؤال لم يطرح قبل اآلن ،لتمحيص السلوك ،ال إلثبات
النسب لبني عذرة.
أهذه هي "النظرة العجلى ..ومن الحول إلى الحول" كما ذكر في النص األول؟
هل كانت بثينة في نظره أشبه بال َمعلمة "المقدسة" التي يأتي إليها كل عام "متمسحا بأركانها"،
يجدد لها خضوعه وذله ،ويتلقى منها صكوك الرضا والتعميد ..فقط ..ثم :وداعا ،وإلى فرصة
مقبلة.
+++++
()4
[ تعرية امرأة ..غصبا]
بطال النص هما :جواس بن قطبة العذري ،وجميل بن معمر العذري ،اللذين كانا يتهاجيان
ويتفاضالن في قول الشعر.
تذكرن ...أباك في فخر ،فإنه كان يسوق معنا الغنم بتيماء، َّ ([قال يهود تيماء لجميل بن معمر ]:وال
وعليه شملة ال تواري استه .ونفَّروا [نصروا] عليه جواسا ... ،ونشب الشر بين جميل وجواس،
وكانت تحته أم الجسير أخت بثينة التي يذكرها جميل في شعره إذ يقول:
علَ ِّله
يا خليلي إن أم جسير @ حين يدنو الضجيع من َ
سب ِّله روضة ذات حنو ٍة وخزامى @ جاد فيها الربيع من َ
فغضب لجميل نفر من قومه ،يقال لهم :بنو سفيان .فجاؤوا إلى جواس وهو في بيته ،فضربوه،
وعروا امرأت َه أ َّم الجسير في تلك الليلة .فقال جميل:
قيس وعاصم صق َري بني سفيان ٍ عر جواس استها إذ يسبُّهم @ ب َ ما َّ
أمر وأدهى من وقيعة سالم هما جردا أم الجسير وأوقعا @ َّ
يعني سالم بن دارة)( .األغاني ج)155/22:
[عل ،علال :شرب ثانية أو تباعا ،والمراد هنا هو الشرب من رضاب أم الجسير /الحنوة :الريحان /السبل :المطر /عر :عاب وساء].
* "غضبوا له"؟
أبسبب المنافسة على األولية في الشعر؟ .تلك علة واهية ال تبرر فعلهم" :تعرية زوجة ،وضرب
زوجها".
* فعلهم نال رضى جميل.
رغم أن المرأة هي أخت حبيبته التي مأل األرض تغنيا بها ...فأين العذرية في القول والسلوك؟
* وبثينة ألها نخوة وغيرة على أختها؟
هل أرضاها شعر جميل في أختها ،وما صرمته؟
هل كافأته عليه بإيوائه تحت خيمتها؟
* أين هذا مما يحكى عن غضب جميل بن معمر حينما هجاه جواس بن قط َبة ،وعرض بأخت له:
إلى فخذيها العَبلَتَي ِّن وكانتا @ بعهدي لَفَّاوي ِّن أر ِّدفَتا ثقالً
[عبلت الفخذان :غلظتا وضخمتا وابيضتا][ .األغاني ج]143/8 :
()5
[العبث بالكشف عن است امرأة ...والحرب]
ثم كان اليوم الثاني من أيام الفجار األولى .وكان السبب في ذلك أن شبابا من قريش وبني كنانة
كانوا ذوي غرام .فرأوا امرأة من بني عامر ،جميلة ،وسيمة ،وهي جالسة بسوق عكاظ في درع،
وهي فضل ،عليها برقع لها ،وقد اكتنفها شباب من العرب ،وهي تحدثهم.
فجاء الشباب من بني كنانة وقريش ،فأطافوا بها ،وسألوها أن تسفر ،فأبت.
فقام أحدهم فجلس خلفها ،وحل طرف ردائها ،وشده إلى فوق حج َزتِّها بشوكة -وهي ال تعلم .-
ت بالنظر
فلما قامت انكشف درعها عن دبرها .فضحكوا ،وقالوا :منعتنا النظر إلى وجهك ،وجد ِّ
إلى دبرك .فنادت :يا آل عامر .فثاوا وح َم لوا السالح .وحملته كنانة ،واقتتلوا قتاال شديدا .ووقعت
بينهم دماء.
صاحبتهم( .األغاني
ِّ فتوسط حرب بن أمية ،واحتمل دما َء القوم ،وأرضى بني عامر من مثلَة
ج)60/22:
[امرأة فضل :مختالة ،تفضل من ذيل ثوبها/.اكتنفها :أحاط بها/ .الحجزة :موضع التكة من السراويل ،أو موضع اإلزار من الوسط /.المثلة:
العقوبة والتنكيل.ج :مثالت].
()6
[ تعلمه سبيل الخيانة]
الموقف األول
ويتمثل في تخيله واختالقه المرأة مجهولة بالنسبة إليه يود التقرب منها (زير نساء) ،كي يخلص
من المشهد "الوضيع" إلى التباهي بعفة مصطنعة تتناقض أساسا مع طلب الوصال من امرأة.
(اللهم إال أن تكون شبيهة بقصة جميل بن معمر وبثينة؟؟؟؟).
الموقف الثاني
والذي يفترض فيه أن األحوص مثالي صادق العفة (الغدر ليس من طبعي .الخليل ال أفجعه.
الجار أوصاني به ربي) ،ولكن هذه العفة خانته في لحظة دعوته المرأة إلى ركوب الحرج كي
تصله وينعم بوصالها (سواء كان يعرفها من قبل أو ال يعرفها) .لحظة غابت عنه فيها القيم
المثالية والدينية واألخالقيات...
لنفترض أخيرا أن الشاعر كانت له نية سليمة في التقرب من المرأة بحيث كان يطلبها للزواج
باعتباره اإلنسان الذي يحمل لواء العفة،
فهل رأيتم من يريد أن يكون رديف زوج آخر -في نفس الوقت ،على امرأة واحدة -؟
وهل رأيتم من يخطب زوجة المستقبل بعبارة":تحرجي وصلي حبل امريء بوصالكم صب".
عف ينوي الزواج.
الصبابة للوصال ال لها ،والحرج الذي يدعوها إلى ركوبه ال يمكن أن يمليه ٌّ
شيء واحد نراه يمثل الحقيقة الصادقة في األبيات هو رد المرأة عليه ،فهي تعلمه المكيدة التي
وخداعه ،وبعد ذلك ال قيمة لدعوى األحوص سواء كان يمكن أن تجمع بينهما في خيانة الزوج ِّ
زير نساء أو عفيفا.
وحتى جميل ضرب عرض الحائط بهذه "النصيحة" واعتمد وصفةً بثي ِّنيةً – نسبة إلى بثينة –
فراش تضطجع عليه – بدون تحرج " -بثينة ٍ تلغي الزوج من حسابها ،وتختصر "المسافة" إلى
العذرية" و جميل العذري.
()7
[ حكم قيمة على شاعر " عذري"]
(اجتمع بالمدينة راوية جرير ،وراوية كثير ،وراوية جميل ،وراوية نصيب ،وراوية األحوص.
فافتخر كل واحد منهم بصاحبه ،وقال :صاحبي أشعر .فحكموا سكينة بنت الحسين ...ثم قالت
لراوية كثير :أليس صاحبك الذي يقول:
يقر بعيني ما يقر بعينها @ وأحسن شيء ما به العين قرت
فليس شيء أقر لعينها من النكاح ،أفيحب صاحبك أن ينكَح؟) (األغاني ج)173/16:
فما الذي كان يقر بعين جميل؟
وما الذي كان يقر بعين بثينة؟
وما الذي كان يقر بأعين باقي الشعراء "العذريين" أو "العذريين الشذاذ"؟.
خاتمة
في النقد والتأريخ األدبي عدد من التصنيفات التي اكتست مسوحا قدسية ،تستدعي منا اعتماد
رؤى أكثر جرأة ،لمراجعة األنماط الجاهزة التي نحقن بها جيال بعد جيل ،ونتلقاها بتسليم يعطل
عقولنا عن إعادة تشريحها.