You are on page 1of 106

‫الطبعة األولى‬

‫‪ 1438‬هـ ‪ 2017 -‬م‬

‫ردمك ‪978-614-02-1579-5‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫هاتف بيروت‪+9613223227 :‬‬

‫‪ 9‬شارع محمد دوزي برج الكيفان‬


‫الجزائر العاصمة‬
‫هاتف ‪0776616609‬‬
‫‪e-mail: editions.elikhtilef@gmail.com‬‬

‫ب يـة و ــي ة ميــويرية أو ال مرونيــة أو‬ ‫يمنــع ن ـ أو ا ــمعم أ أج جــن مــا هــبا ال مـ‬
‫مي ني ية بم فيه الم جيأ الفوموغرافي والم ـجيأ ل ـى أطـرطة أو أصـرار مقـرو أ أو أيـة‬
‫و ي ة نطر أخرى بم فيه حفظ المع وم ت‪ ،‬وا مرج له ما دوا إبا خطـي مـا الن طـر‬

‫إن اآلراء الواردة يف هذا الكتاب ال تعرب بالضرورة عن رأي‬


‫" له جواطيم لم يدفعه إلى نظم صييدأ ثورية بط أ يجعـأ‬
‫ـرجيو أ ـ بيع‬ ‫فهمه م معيي ل ى العم أ وأص ق الحـ د‬
‫طوي ة‪ ،‬وص دمه هبه المالحظة إلى مغيير لغة طعره"‬
‫جورجي أم دو ‪ -‬أرض ثم ره ما به‬

‫‪5‬‬
‫المحتويات‬

‫تقديم‪ :‬محمد الريماوي‪9 ..........................................................‬‬

‫صوت ‪19 .......................................................................‬‬

‫الشك ‪21 ........................................................................‬‬

‫الحاجز ‪31 ......................................................................‬‬

‫القضية‪37 .......................................................................‬‬

‫األعمى مبص ار‪45 ...............................................................‬‬

‫ِالتباس ‪57 .......................................................................‬‬

‫لبن طازج ‪67 ....................................................................‬‬

‫المرأة التي سقطت من غيمة ‪73 ..................................................‬‬

‫موعد خارج اإلطار‪81 ...........................................................‬‬

‫احب ِظلِّه ‪87 .................................................................‬‬


‫ص ِ‬
‫َ‬
‫الفحل الذي أكل قلبه‪95 ..........................................................‬‬

‫‪7‬‬
‫"ابم ر األلم"‪ ،‬صير مضي ل ى المم هة البطرية‬
‫محمود الريم وج‬

‫يا له من عنوان شيق‪" :‬ابتكار األمل" هذا الذذ اّخذذذ‬


‫القاص اجلزائر حممد جعفر عنوانا لكتابه القصصي‪ .‬فاألمل هنا‬
‫وهو شعور أو انفعال ميتاز الكائن البشر بوعيه له‪ ،‬ال يقذ‬
‫فقط على ضحية‪ ،‬وليس جمرد قدر ّعيس أو مفاجأة صذادمة‪،‬‬
‫ولكنه ‪-‬ويا للغرابة‪ -‬موض حبث عنه واسذتدرا لذه‪ ،‬وإىل‬
‫درجة يتم معها اجتراحه‪ ،‬أو "ابتكار " على حد ّعبري املؤلذ‬
‫ومن دون الوقوع يف غواية املازوخية "ّعذيب الذات"‪.‬‬
‫بني قصص الكتاب ليست هناك قصة هبذا العنوان الذذ‬
‫اختار املؤل لكتابه‪ ..‬بيد أن التعبري يرد عنوانا ملقط أول من‬
‫قصة "املرأة اليت سقطت من غيمة"‪ .‬وذلذ يف إميذا ة إىل أن‬
‫املؤل اختار اإلحالة إىل نسيج الكتاب ككل‪ ،‬وإىل مواضذ‬
‫الكثافة التعبريية والدرامية فيه‪ .‬مستغنيا عن جعل أحد عنذاوين‬
‫القصص عنواناً جامعاً للكتاب‪ .‬والقصة املشار إليهذا ممذل‬
‫عنوانا شاعريا‪ ،‬لكنها ال ّنزلق إىل الشعر اجملاين الذ حذّر منه‬
‫‪9‬‬
‫املؤل حممد جعفر يف مقدمته‪ ،‬إذ ّقوم على بنا وأدا سرديني‬
‫مُحكمني‪ ،‬وّرصد القصة ظاهرة القسوة اليت ما انفكت املذرأة‬
‫ّنو مت وطأهتا‪ ،‬فقد اختارت البطلة شريكاً هلا واقترنت به‪،‬‬
‫ومل يكن هناك ما يعيب الزو سوى أن شقيق املرأة غري راضٍ‬
‫عنه‪ ،‬وقد عزم منذ البد على ّزوجيها مبن اختار هو هلا‪ .‬يعمد‬
‫الشقيق إىل ارّكاب جرمية قتل حبق الزو الرب ‪ ،‬فتواجه املرأة‬
‫واقعا مأساويا يُطبق عليها‪ .‬شقيقها بات قاّالً وزوجها الذذ‬
‫أحبته هو القتيل الضحية‪ .‬وأمام هذا اهلول ّلجذأ البطلذة إىل‬
‫االنتحار بقط شريان رسغها‪ ،‬لكنها "ختفق" يف وضذ حذد‬
‫حلياهتا‪ ،‬فيتضافر عليهذا األمل اجلسذد مذ األمل العذاطفي‬
‫والنفسي‪ ،‬وهي بذل وبدالً من أن ّض حذداً لذ مل‪ ،‬قذد‬
‫ابتكرت أملا إضافيا‪ .‬وبطبيعة احلال فإن أحداً ال يسعى إىل األمل‬
‫أو إىل التسبب به لنفسه‪ ،‬غري أن املؤل أراد العبور من املعذ‬
‫املباشر غري املقصود‪ ،‬إىل مع أعمق هو املقصود‪ ،‬فاجملتم برمخته‬
‫هو من يبتكر القيود ويسوخغ العس ‪ ،‬ويراقب جمذرى احليذاة‬
‫بسلبية وحياد كحال النسوة اللوايت يقمن بزيارة البطلة لعيادهتا‪،‬‬
‫لكن املناسبة احلزينة جير اهتباهلا من طرفهن للّغذو والثررذرة‬
‫وّزجية الوقت وحىت لإلحنا بالالئمة على البطلة عوضاً عذن‬
‫ّضامن اجلارات القريبات معها‪ .‬فيما البطلة وهي ّواجه هول‬
‫استالب أبسط حقوقها ال متل ملقاومة أمل فقْد الزو احلبيب‬
‫‪10‬‬
‫سوى أن ّبتكر أملها اخلاص‪ ،‬فباب املسرخات موصود بعذد أن‬
‫ألقت املأساة بظالهلا الثقيلة عليها‪ .‬وقد سعت األم إىل ختليص‬
‫ابنتها من أحزاهنا‪ ،‬بعرضها على شيخ كي يقوم بذ "عمذل"‬
‫خيلص ابنتها من آالمها النفسية املربخحة‪ ،‬وبينمذا هتنههذا األم‬
‫بسالمة اخلرو من الشجن النفسي‪ ،‬فإن االبنة جتيبذها وهذي‬
‫ّغالب حزهنا‪:‬‬
‫‪" -‬يا أمي لسوف ينتهي كل هذا‪ ،‬ويبدأ زمن هؤال !‬
‫قالت ذل ‪ ،‬بينما هي ّض يدها على بطنذها‪ .‬كانذت‬
‫وكأهنا ّشري إىل شي ما‪ .‬ورمبا إىل مضغة راحت ّتشكّل هناك‬
‫يف أعماقها"‪.‬‬
‫حييل عنوان "ابتكار األمل" إىل عنوان ديوان للشاعر اللبناين‬
‫عباس بيضون "نقد األمل"‪ ،‬فيما يشبه ّناصاً يق عند حذدود‬
‫العنوان‪ ،‬وال يتعدخا إىل ما هو أبعد‪ ،‬فثمة بون شاس بني عامل‬
‫الديوان على صعيد الرؤى واألدا التعبري والذائقذة اللغويذة‬
‫وعامل هذ اجملموعة القصصية‪.‬‬
‫على أن املؤل ال ينسج بقية قصصه على هذا املنوال من‬
‫الواقعية االجتماعية اليت ال ينضب معينها‪ ،‬فثمة قصص حيفذر‬
‫املؤل يف دواخل أبطاهلا ممن يعانون اغتراباً متعدد املظاهر‪ ،‬فيما‬
‫يبقى أرر الواق راوياً ونابضاً يف قذرارة القصذص وإن بغذري‬
‫صذب‪ .‬ففي القصة األوىل من األضمومة‪" :‬الشذ "‪ ،‬يضذ‬
‫‪11‬‬
‫الكاّب بطلته يف متاهة من الشكوك القائمة على احتماالت أو‬
‫سيناريوهات مفترضة ومتناسلة‪ .‬جتد البطلة وهي زوجة رقذم‬
‫هاّ على قصاصة ورق يف أحد جيوب مالبس زوجها‪ .‬رقم‬
‫ال يصحبه اسم أو مالحظة أو أ شرح‪ .‬حمض رقم‪ .‬وّتناهب‬
‫الشكوك الزوجة ابتدا من االحتمال "األقرب للوساوس" وهو‬
‫أن يكون الرقم إلحداهن‪ .‬حىت أهنا ّعمد إىل االّصال بالرقم‪،‬‬
‫لكن أحدًا على الطرف اآلخر ال جييب‪ .‬فتأخذذ يف افتذراض‬
‫احتماالت شىت‪ ،‬حىت ّصاب باإلهناك الذذه والعصبذذي‪.‬‬
‫وّنتهي القصة إىل أن ّغض الزوجة النظر عن األمر كله‪ ،‬بعذد‬
‫أن أمضت سحابة هنارها هنباً للشكوك وذل خشذية فقذدان‬
‫الزو واهتزاز أركان حياهتا‪.‬‬
‫هبذ الكيفية يسلط حممد جعفر الضو على مذا يعتذر‬
‫العالقات اإلنسانية ومنها الزوجية من "ّعقيد"‪ ،‬فالزوجة لذن‬
‫جترؤ على سؤال زوجها عن الرقم‪ ،‬وهو يف األغلب لن جييبها‬
‫باجلواب الشايف إذا سألت‪ ،‬وقد يستشيط غضباً ألهنا "ّنتذه‬
‫خصوصياّه"‪ .‬فيما لو كان األمر معكوساً فلن يتردد الزو يف‬
‫سؤال زوجته عن الرقم‪ .‬فاألعراف السارية ّبيح له ذل ‪ ،‬وال‬
‫يُفترض بالزوجة أن يكون هلا خصوصياهتا!‪.‬‬
‫وإذ ّبقى العالقات اإلنسانية (وكذل الذنفس البشذرية‬
‫كمسرح للتناقضات)‪ ،‬ميداناً رحباً وحقالً غنياً النشذغاالت‬
‫‪12‬‬
‫اآلداب والفنون هبا وخباصة يف حقول السرد‪ ،‬فذإنّ القذاص‬
‫اجلزائر حممد جعفر يديل هنا بدلو يف البهر العميقة ألسذرار‬
‫العالقات اإلنسانية‪ .‬ففي قصة "موعد خار اإلطار"‪ّ ،‬نتظذر‬
‫البطلة صديقها يف الشارع وفقا ملوعد مربوم بينهما‪ ،‬وكانت قد‬
‫وصلت قبل حلول املوعد بقليل‪ ،‬ويف وقفة االنتظذار ّلذ‬
‫ّتعرض ألشكال من املضايقات والتحرشات من طرف املارخة‪،‬‬
‫مبا جيعلها ختر رويداً رويداً من جو الصخفا واللّهفة على اللقا‬
‫بالصديق‪ .‬وحني حيل هذا يف املوعد وبغري ّأخري‪ ،‬فإن البطلذة‬
‫ّكون قد انتقلت إىل مزا آخر هو مذزا التحسذس مذن‬
‫اآلخرين مبن يف ذل صديقها الذ بدا شبه غريب أمامهذا‪،‬‬
‫وبدت عرى الصداقة وكأمنا ّعرضت إىل االهتزاز وإىل شذي‬
‫من التهتخ ‪ .‬وهو أمر يثري بطبيعة احلال اندهاش الصذديق إزا‬
‫هذا "االنقالب" املفاجئ‪ .‬أما البطلة نفسها فترى م نفسها أن‬
‫شعورها باالبتعاد النفسي عن صديقها هو أمر طبيعي! من دون‬
‫ّفسري لذل ‪ .‬غري أن اإلضا ة الثاوية يف قرارة املوق ّفيد أنه‬
‫ال ميكن بنا عالقات إنسانية محيمة وطبيعية يف بيهة "معاديذة"‬
‫ّنكر إنسانية املرأة‪ ،‬وّتربص للتحرش هبا مت دعوى العادات‬
‫واألخالق احلميدة‪.‬‬
‫بعيدًا عن ذل ‪ ،‬وفيما يتعلق بالتقنيات اليت يسذتذدمها‬
‫القاص حممد جعفر فإنه ال يتواىن عن اخلوض يف العالقات اليت‬
‫‪13‬‬
‫جتم بني ما هو حسي وما هو عاطفي وما هذو براغمذايت‪.‬‬
‫فالسارد الذ يبتكر الشذصيات واملواق يُصبح عرضذة ألن‬
‫يتحول إىل موضوع للسرد‪ .‬يف قصة "الفحل الذ أكل قلبذه"‬
‫حنن حيال بطل يقوم مبغامرات عاطفية لكنه مشدود يف الوقت‬
‫نفسه إىل مغامرات السرد والتزامه حياهلا‪ .‬حىت أن رفيقتذه ‪-‬‬
‫وهي قاصة أيضاً‪ّ -‬توسل العالقات العاطفية من أجل االرّقا‬
‫األدبذي‪ .‬ويتحول لقا ً ما بينهما يف فندق‪ ،‬إىل مناسبة يتم فيها‬
‫السعي إلجناز أدبذي‪ .‬من دون أن ّفتر العالقة بينهما‪ .‬واحلال‬
‫أن البطلة ّروم من رفيقها الذ حيظى مبكانة أدبية أن يكتذب‬
‫مقدمة لباكورة قصصية ّستعد إلصدارها‪ ،‬فيما هذو منشذغل‬
‫ساعتها بإمتام كتابة قصة ّعهد بإجنازها جمللة أدبية وفق اّفذاق‬
‫بينه وبني اجمللة‪ .‬وحني حيدث اللقذا احلمذيم بينذهما فذإن‬
‫ارّسامات القصة ّتبدى بوضوح يف خميلة البطل الكاّب‪ ،‬مبا يف‬
‫ذل عنوان القصة‪ :‬الفحل الذ أكل قلبه‪ ،‬فيما رفيقته ّرمذي‬
‫الوصال اجلسد واألدبذي معا‪ ،‬م رفيقها الذذ أصذابته‬
‫الشهرة‪ ،‬ويتحقق هلا ما ّريد كما يبلغ هو هدفه‪ .‬والرسالة‪ :‬أن‬
‫عالقات البشر باّت متشابكة خيتلط فيها ما هو إنساين مبا هو‬
‫مصلحي‪ ..‬والعالقة ال ّعود هدفا حبد ذاهتا كما يُفترض هبا أن‬
‫ّكون‪ ،‬بل هي كذل مناسبة يتم استثمارها إلقامذة حيذاة‬
‫جديدة يف اإلبداع‪ ،‬وإلجناز أرر أدبذي‪ .‬م ما يكتن ذلذ‬
‫‪14‬‬
‫من مبالغات ومن سذرية مضمرة حيال العالقة اليت ّنحو هذا‬
‫املنحى‪ ..‬لكن ّل هي احلياة! أو هذا هو ما آلت إليه احلياة يف‬
‫ّعقيداهتا اجلديدة كما ّومئ القصة بذكا ‪.‬‬
‫وعالوة على ذل فإن أشباحاً حيخة ال ّ ّطارد شذوص‬
‫القصص‪ .‬يف قصة "احلاجز" يشعر العائد إىل وطنذه يف حقبذة‬
‫التسعينات من القرن املاضي بعد غياب بالغربة والوحشذة يف‬
‫وطنه‪ ،‬ابتدا من خرب يف صحيفة يتعلق بذكرى عودة رئيس إىل‬
‫وطنه (حممد بوضياف) وّرأسه للبالد مث ّعرضذه لالغتيذال‪،‬‬
‫وسائق التاكسي الذ يراقب الراكب العائد ويتبادل معه أقذل‬
‫الكلمات وحبذر ومفظ شديدين‪ .‬مث يطلب منه اهلبوط قبذل‬
‫وصول هدفه ألن حادرا أمنيا قذد وقذ يف عذني املكذان‬
‫املستهدف‪ ،‬فيما شرطي حراسة يتشك هبوية العائد ويستدعيه‬
‫كي يطلب منه إطفا سيجارّه! وكأن العائد يسري يف حقذل‬
‫ألغام حيث يشكل إشعال سيجارة خطراً دامهاً‪.‬‬
‫ويف قصة "صاحب ظله"‪ ،‬فإن البطل رغم متتعه بصداقات‬
‫فإنه ال جيد صديقا يالزمه مثل ظله‪ ،‬الذ يتمظهذر كقذرين‬
‫وكشبح يف الوقت ذاّه‪ ،‬حىت إنه يدف عنه مثن فنجان قهوة يف‬
‫املقهى‪ ،‬وحني يشعر البطل بالوحشة وسط سهرة يغادر رغذم‬
‫إحلاح األصدقا عليه بالبقا ‪ ،‬وهناك يف اخلار ومت جذنح‬
‫الليل ّندف جمموعة أشقيا للتعد عليه وبغري سبب ويتعرض‬
‫‪15‬‬
‫لطعنة مدية‪ ،‬وال جيد مُغيثاً سوى عابر سبيل يقذوم بتغطيتذه‬
‫بأوراق صحيفة‪ ،‬فيما هو ما زال على قيد احلياة!‬
‫هبذ اإلطاللة على بعض قصص "ابتكار األمل" يتذبني أن‬
‫القاص حممد جعفر يواكب القصة العربية احلديثة من حيذث‬
‫التركيز على الشجون الذاّية لشذوص قصصه وهم يف الغالب‬
‫مهمخشون‪ ،‬واحلفر يف دواخلهم وّقصي ّقلباهتم النفسية‪ ،‬ولكن‬
‫من دون اإلشاحة عن الفضا االجتماعي وعن البيهة احمليطة اليت‬
‫ّضغط حلرمان الشذوص من أسباب االطمهنان‪ ،‬بذل علذى‬
‫العكس من ذل فإن هذ البيهة ّوفر عوامل مجة للقلق وإشاعة‬
‫اإلحساس باملطاردة‪ .‬وهي ّيمة كربى لطاملا عكفذت عليهذا‬
‫القصة احلديثة منذ قصص زكريا ّامر األوىل "صهيل اجلذواد‬
‫األبيض" قبل حنو ستة عقود‪ ،‬إىل النماذ املتأخرة اليت ّفذيض‬
‫عن أجيال املبدعني يف مشرق العامل العربذي ومغربه‪.‬‬
‫وما يضيفه حممد جعفر يف هذ األضمومة‪ ،‬هذو السذرد‬
‫الواقعي الذ يبدو يف ظاهر ّقريريا مباشرا يتجه إىل قذار‬
‫راهن وحاضر‪ ،‬فيما هو يف واق األمر سرد زاخذر بذالظالل‬
‫واملعاين اليت متو يف رنايا السرد‪ ،‬أو ّضيهها اللقطات املتتابعذة‬
‫لبؤرة احلدث ولكل ما حيِ خ هبا عرب لغة مشرقة ودقيقة‪ ،‬ال حمل‬
‫فيها للتزيخد النصي أو اإلغراق من الوص ‪ ،‬أو إرارة عاطفيذة‬
‫"امليلودراما"‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫وبقرا ة هذ اجملموعة يتعرف القار على مبدع موهوب‪،‬‬
‫يشق طريقه بأناة وربات‪ ،‬وخبصوصية واقعية جديدة ّستفيد من‬
‫إجنازات السرد يف العامل من حيث اإلفادة من لغة الصحافة ومن‬
‫اللقطات شبه السينمائية ومن كسر احلذاجز "الذومهي" مذ‬
‫املتلقي‪ .‬ما جيعل هذ اجملموعة مدعاة للترحيب واالحتفا هبا‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫صوت‬

‫من حوار م الكاّب‪..‬‬


‫س‪ :‬هل ّعتقد أن األساليب التعبريية السردية الدارجة اليوم‬
‫هي وليدة االبتكار والتجديد؟ مث إىل أ مدى ّراها ّسهم يف‬
‫نقل هواجس وانشغاالت الكاّب؟‬
‫‪ :‬الرهان األساسي يف العمليذة اإلبداعيذة ‪ -‬ومنذذ‬
‫البدايات ‪ -‬كان يف كيفية القول‪ .‬وإذا كذان البحذث عذن‬
‫إمكانات جديدة وغري مسبوقة بغرض اإلمساك بتعقيد الوجود‬
‫والظرف اإلنساين ال يزال ضرورة ال مناص منها‪ ،‬فإن اإلغراق‬
‫يف الذاّية مسة األدب يف العصر احلديث‪.‬‬
‫ولعل أبرز جتليات الذاّية اليوم أو َسقْطها ّل الشِذعرية‬
‫البغيضة اليت ّقوم على جتييش املشاعر واستفزازها عرب جمازات‬
‫مفضوحة هي أقرب إىل هذر العاجز‪ ..‬شعرية أشذبه للسذة‬
‫ّعذيب متقنة‪ .‬االعتراف فيها يكون من غري مع ‪ ،‬ويشذري إىل‬
‫ختلي األدب عن دور ومسؤوليته‪ .‬وألنه ال ميكن التأكيد على‬
‫‪19‬‬
‫فاعلية األدب إالَّ عرب التأكيد على جوهر ‪ ،‬فإن الكشط واحلفر‬
‫يف اللحظة وحماولة اإلمساك هبا والتركيز على اجلوهر بعيدا عن‬
‫اللغو والوص وما ال فائدة منه يف استعراض غذري مسذؤول‬
‫للعضالت اللغوية واألدبية‪ ،‬هو الغاية مىت كان املبدع واعيا هبا‬
‫حني الكتابة عنها‪ .‬إذ يصري الوقوف وجها لوجه أمام بذذا ة‬
‫العامل الغرض الكلي من الكتابة األدبية‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫الشك‬

‫جرت العادة أن ّفتش الزوجة يف الثياب اليت ستدف هبذا‬


‫إىل آلة الغسيل‪ ،‬خشية أن ّكون هبا أشيا مهمذة ميكنذها أن‬
‫ّتعرض إىل التل والضياع‪ .‬وبينما هي ّفعل هذ املرة وقعت‬
‫على منديل ورقي حمشور يف اجليب اخللفي لسروال جينز يلبسه‬
‫زوجها‪.‬‬
‫كان املنديل مطوِّيا بعناية فائقة‪ ،‬وحني فتحته انتبهت أنذه‬
‫يتضمن رقم هاّ حممول كتب على عجل بغري خط زوجها‪.‬‬
‫حينها محلته ووضعته على الطاولة قذرب السذرير وعذادت‬
‫ّكمل أشغاهلا‪ ،‬لكن مل ميض وقت طويل حىت عربها خذاطر‬
‫مريب أسر إليها بأن املنديل يتضمن سرا ما‪ .‬وأخربهتا هواجسها‬
‫أن الرقم ال بد أن يكون لسيدة‪ .‬فهل كانت متل ما يعزز هذا‬
‫اخليار؟‬
‫ليس غريبا أن يأخذ ّفكريها هذا املنحى‪ .‬فهذي كانذت‬
‫رهن مزا عركته الظروف يف غري صاحلها‪ ،‬وذهنيذة ّفكذر‬
‫‪21‬‬
‫وّعتقد بوجود مؤامرة ضدها‪ .‬مث ها هي ّعود إىل غرفة النذوم‬
‫لتأخذ املنديل بني يديها‪ّ .‬تلمسه وّقلِّبه على كذل جوانبذه‬
‫وّشمه حبثا عن أ رائحة عطر مميزة ّؤكد ظنوهنا‪.‬‬
‫بدت عليها اخليبة حني مل ّق على غري رائحذة املنذديل‬
‫املعطر‪ .‬أيضا مل ّكن مستعدة ألن ّستسلم‪ .‬قد يكفي املنذديل‬
‫الورقي والرقم الذ عليه كحجة دامغة‪ .‬ولتتجاوز وساوسذها‬
‫رأت التايل‪:‬‬
‫‪ -1‬أن ّتجاهل الرقم وهتمله كشي ال يعنيها م اإلبقذا‬
‫على وساوسها وعدم قدرهتا علذى الذتذلص ممذا‬
‫يزعجها‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ّطلب الرقم لتق على صاحبه‪ ،‬مذ احتمذالني‬
‫ارنني‪:‬‬
‫االحتمال األول‪ :‬أن يكون املتصل به أنثى‪.‬‬
‫االحتمال الثاين‪ :‬أن يكون املتصل به ذكرا‪.‬‬
‫هذا م غض النظر عما يدور يف ذهنها إذا مذا مقذق‬
‫االحتمال األول‪ ،‬لكون هذا االحتمال يتوفر علذى فرضذيتني‬
‫ارنتني عكس ما كانت ّرا هي‪:‬‬
‫الفرضية األوىل‪ :‬أن يكون الرقم ألنثى‪ ،‬وّكون هذ األنثى‬
‫عشيقة زوجها‪ ،‬وهي الفرضية اليت مل ّكن ّرى غريها وهذي‬
‫واقعة مت الضغط‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫الفرضية الثانية‪ :‬أن يكون الرقم ألنثذى‪ ،‬وّكذون هذذ‬
‫األنثى أ شي آخر غري عشيقة زوجها (من األقارب‪ ،‬زميلذة‬
‫عمل‪ ،‬سيدة مرّبط هبا ألجل قضا مصلحة مذا‪ .)..‬وهذي‬
‫الفرضية اليت ظلت حمجوبة عنها الندفاعها وهيمنة وساوسذها‬
‫عليها‪.‬‬
‫وحىت ال نستبق األحداث نعود إىل الزوجة واليت قذررت‬
‫االّصال لتق على صاحب الرقم ومن يكون‪ .‬حني مهَّت أن‬
‫ّفعل وجدت نفسها أمام طريقتني لفعل ذل ‪:‬‬
‫الطريقة األوىل‪ :‬أن ّطلب الرقم باستعمال هاّفها مباشرة‬
‫م إمكانية أن يتعرف عليها الطرف اآلخر بدور ‪.‬‬
‫الطريقة الثانية‪ :‬أن ّطلب الرقم باستعمال خاصية الذرقم‬
‫اجملهول‪.‬‬
‫مالت إىل الطريقة الثانية‪ .‬فعَّلت خاصية الذرقم اجملهذول‬
‫واّصلت‪ ،‬لكنها مل ّتلق أ رد‪ .‬كررت احملاولة رانية م نفس‬
‫النتيجة‪ .‬وانتهت إىل أن الطرف اآلخر يتجاهل الذرد غالبذا‬
‫حلساسية اجتا الرقم اجملهول‪ .‬إنه حذر وخيشذى التذورط يف‬
‫املشاكل‪ ،‬ومثل هذا التصرف ال ينتج إال عن أنثذى‪ .‬وهكذذا‬
‫وجدت نفسها يف مصيدة أخرى وهنبا لوساوس جديدة‪.‬‬
‫حمبطة وجدت نفسها متكم خلطة جديذدة‪ .‬وراحذت‬
‫ّستعرض أمامها جمموعة خيارات قلبتها على مهل‪:‬‬
‫‪23‬‬
‫‪ -1‬أن ّترك املنديل على الطاولة‪ ،‬لتتاب ّصرف الذزو‬
‫حياله‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ّأخذ املنديل وختفيه يف مكان ال يصل إليه الزو ‪،‬‬
‫مث ّرقب ردود أفعاله‪ ،‬وهل سيسأل عنه‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ّفاجئ الزو أوَّل ما يدخل بسؤاهلا عذن الذرقم‬
‫وملن يعود‪ .‬ماول من خالل ذل حماصرّه والتضييق‬
‫عليه‪.‬‬
‫‪ -4‬بدل كل ذل ‪ ،‬ميكنها أن ّسأل زوجها ويف صذيغة‬
‫مباشرة ملن يعود الرقم‪ .‬وإذا ملست ما يريب طالبته أن‬
‫يتصل بصاحبه يف حضورها‪ .‬هكذا فقط ميكنذها أن‬
‫ّق على احلقيقة كاملة‪.‬‬
‫راهنت على اخليار األخري‪ .‬وكان لزاما عليها ألجل ذل‬
‫أن ّنتظر عودة زوجها من اخلار ‪.‬‬
‫يف هذ األرنا راحت ّستعرض شريط حياهتا‪ .‬كانت ّل‬
‫عادة قدمية أدمنتها حىت أن الصور لكثرة ما قلَّبت فيها صارت‬
‫باهتة ال لون هلا‪.‬‬
‫بدأت مشكلتها أوَّل ما بدأت بأرب اكتشذافات عنذها‬
‫متذضت وّغذت كل وساوسها الالحقة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫اال مط ف األوأ‪:‬‬
‫شغفت به جلاذبيته وملا كان يبديه هلا من عاطفة‪ .‬وجدت‬
‫روحه أقرب إىل روح شاعر‪ .‬وال ّزال إىل اليوم متفظ لنفسها‬
‫ببعض من ّل األشعار اليت كان يراسلها هبا قبل ارّباطهمذا‪،‬‬
‫وإن وقفت على سرها الحقا‪.‬‬
‫بعد زواجهما‪ ،‬ويف ذكرى عيد ميالد قررت أن هتديذه‬
‫شيها خمتلفا‪ .‬وهي ّبحث وقعت على جمموعة شعرية لنزار قباين‬
‫عنواهنا "‪ 100‬رسالة حب"‪ .‬ال أمجل من الشعر‪ .‬هكذا قررت‪.‬‬
‫لكن بدل أن هتد إليه اجملموعة خطرت هلا فكرة‪ .‬عليهذا أن‬
‫ختتار من هذ األشعار قصيدة ّكتبها له خبط يدها‪ .‬وآمنت أنه‬
‫بذل ستصري هديتها أمجل؛ لكنها وهي ّقلب الكتاب بذني‬
‫يديها ّنشد قصيدة ّشدها أكثر اكتشفت أن كل األشعار اليت‬
‫كان يرسلها زوجها هلا كانت مسروقة من الكتذاب نفسذه‪.‬‬
‫ودامهها أوخل إحساس باخليبة‪.‬‬

‫اال مط ف الث ني‪:‬‬


‫هلذا االكتشاف ّاريخ سابق ارّبط بيوم عرسذها‪ .‬حذني‬
‫كانت ّتصدر جملس العرس اقتربت منها واحدة من املدعوات‬
‫وأسرت هلا يف خبث وّش ‪ ،‬وهي ّشري إىل إحداهن‪ّ" :‬لذ‬
‫هي اليت من املفروض أن ّكون الزوجة اليت حنتفي هبا اليذوم‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫لكن القدر والظروف شا ا غري ذل !"‪.‬‬
‫عندما عرضت على زوجها ما مسعته أنكر‪ .‬لكن ذلذ‬
‫اهلاجس ظل يشغلها ومل خيفت‪ .‬وراحذت ّتقصذى حذول‬
‫املوضوع حىت ّأكدت‪ ،‬عادت ّواجهه رانية‪ .‬وأمذام عنادهذا‬
‫اعترف أنه كان على عالقة بذ (ّل )‪ .‬لكنه أضاف يقول إن‬
‫ما حصل كان أيام املراهقة والطيش‪ .‬مث إهنا اليذوم متزوجذة‪،‬‬
‫فكي ّرهق نفسها مبا مضى وانقضى؟‬
‫وأما ما نغص عليها حياهتا أن الفتاة الحقا ّطلقت مذن‬
‫زوجها‪ ،‬ورجعت إىل بيت أهلها‪ .‬حينها مل يكن قد مضى عام‬
‫على زواجهما‪ .‬وعادت لتمتلئ هبواجسها القدمية‪ .‬وكانت هذ‬
‫املرة أمرَّ وأنكى‪ .‬ففي ظل امرأة مطلقة يصبح كل شي واردا‪.‬‬
‫وبدأت ّشعر باملهانة وبأهنا خمدوعة‪.‬‬

‫اال مط ف الث ل ‪:‬‬


‫مل ّعرف العاطفة قلبها إالَّ يف بيت الزوجيذة‪ .‬وقذدرت‬
‫إخالصها لزوجها أمال يف حياة سعيدة‪ ،‬وإن كانت بذرة الش‬
‫اخلبيثة مل متنحها راحة البال‪.‬‬
‫بعد إجناهبا أوَّل مولود هلا كاشفها زوجها برغبتذه يف أن‬
‫ّتوق عن العمل بداعي ّربية الطفل‪ .‬حينها قالت له بصريح‬
‫العبارة إن عملها خط أمحر‪ .‬كانت قد قررت املواجهة‪ .‬إمذا‬
‫‪26‬‬
‫نزاع ألجل حريتها أو طاعة عميا ‪ .‬وملا رضذت ملطلبه عرفت‬
‫أهنا ستعيش ما ّبقى هلا من عمر وهي ّنشد راحة خمدوعذة‪.‬‬
‫سلَّمت مكرهة بعدما وصل الشقاق بينهما إىل االنفصال‪ .‬وكاد‬
‫الطالق أن يكون بيِّنا لوال ّدخل والدهتا اليت أقنعتها بالعذدول‬
‫عن خيارها مؤكدة هلا أن سعادهتا يف بيت زوجها‪ .‬وكانذت‬
‫ّل نكسة قسمت ظهرها‪.‬‬

‫اال مط ف الرابع‪:‬‬
‫حاولت أن ّداف عن ماضيها يف ظل حاضر ليس فيه من‬
‫أحالمها شيها‪ ،‬وعن وجودها الذ يسري إىل العدم‪ .‬ما يزعجها‬
‫هذا الزو الذ ال يسعى إىل فهمها مرددا كل مذرة‪ :‬لقذد‬
‫أصبحت زوجة‪ .‬مل ّعود شابة‪ .‬أنت اآلن أم‪ ..‬وال يع هذا‬
‫إالّ جمموع التزامات جديدة‪ ،‬كما يع أيضا أن ّتقبل وضعها‬
‫وما آلت إليه‪.‬‬
‫اجلمي يريدها أن ّضحي بأحالمها وآماهلا‪ .‬يرغب يف أن‬
‫ممل صليب اآلالم واألحزان وحدها‪ .‬أن ّنسذى حقوقهذا‬
‫وّكبتها ومتنح ما هلا من حقوق لزوجها وأوالدها‪ .‬ويف خضم‬
‫ذل استغرقتها الوحدة وأعبا البيت‪ ،‬كمذا بذدأت ّترهذل‬
‫وّذو ‪ .‬ومل جتد من ّفسري لفتور عاطفة زوجهذا اجتاههذا‪،‬‬
‫فغلبتها الوساوس وظنت الظنون مجيعها‪ .‬م كذل ّضذحياهتا‬
‫‪27‬‬
‫سيظل قادرا على جتاوزها‪ .‬بذل كانت ّسرخ لنفسها‪ .‬وبقيت‬
‫هذ اجلملة مسمارا يدق رأسها‪.‬‬
‫م الوقت زادت عصبيتها‪ .‬ال شي عاد يعجبها‪ .‬وصذارت‬
‫ّغضب وّنفث غضبها يف وجه زوجها ألدىن سبب‪ .‬جتد يف ذل‬
‫ّنفيسا لوحدهتا ولبقائها يف البيت كأ حلَّة مركونة فيه‪ .‬كمذا‬
‫أخذت ّعاّبه كلما ّأخر يف العودة أو بدرت منه رغبة يف السهر‬
‫م أصدقائه أو السفر‪ .‬ومآخذها عليه كثرية‪ ،‬لكنه كان ينتهي إىل‬
‫إنكار كل ما كانت ّنسبه إليه‪ .‬ومل يكن يراها أكثر من متحاملة‬
‫هلا قائمة من التهم جاهزة لكن دون دليل واحد‪ .‬وأقصذى مذا‬
‫كانت ّأمل فيه حينها دليل‪ ،‬ليس لغرض استغالله حجة ضدخ ‪ ،‬بل‬
‫كسبيل يؤكد وساوسها ويثبت هلا أهنا امرأة خمونة وخائبة‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬وهي ّستعرض ماضيها شعرت بأهنا هشة‪ ،‬مل ّعذد‬
‫ّقوى على التحمل أكثر‪ ،‬كانت ّشعر باالختناق وكأن هناك‬
‫جدرانا أكثر بشاعة ووطأة من جدران غرفة نومها ّنبت مذن‬
‫العدم وّضيق عليها وّدفعها إىل الصراخ والبكا ‪.‬‬
‫ما حياهتا إالَّ وهم استطال حىت حسبته يغنيها‪ .‬اكتشفت‬
‫الحقا أهنا وحيدة وحدة ّنبذها وال ّريدها‪ .‬وما يذهلها كي‬
‫عادت ّتقبل وضعها!‪ ..‬أليس بقاؤها يف البيت وانتظارها لعودة‬
‫الزو ّأكيد على خنوعها؟ مث كي ال ّفكر يف حسم أمرها‬
‫من اآلن؟‬
‫‪28‬‬
‫ووجدت نفسها ّفكر يف‪:‬‬
‫‪ -1‬أن ّقط عالقتها هنائيا بزوجها وّطالبه بالطالق‪.‬‬
‫‪ -2‬أن ّتريث‪ .‬ماور وّسم منه م خيار حمسوم‪.‬‬
‫‪ -3‬أن ّتريث‪ .‬ماور وّسم منه م خيار مفتوح‪.‬‬
‫‪ -4‬أن ّتصرف كأن ال شي حصل‪.‬‬
‫لكن هل كانت قادرة على احلسم؟‬
‫كانت وهي ّتأمل خياراهتا ال ّ ّسأل كي ّتذلص من‬
‫ربقة االستكانة واخلنوع؟ حقا‪ ،‬هي ال ّدر كي يتجذاوز‬
‫اإلنسان وضعه‪ .‬وخصوصا إذا ما وجد نفسه عالقذا يف بهذر‬
‫عميقة ومعتمة‪ّ .‬درك أهنا موَّلت بالتدريج إىل ما هذي عليذه‬
‫اآلن‪ ،‬وإلّم ّعد ّذكر ّل الطريق الطويلة الذيت قطعتذها أو‬
‫أجربت على اخلوض فيها‪ .‬وواضح أن القرار الذ ستنتهي إليه‬
‫له عالقة مباشرة مبا أضحت عليه ال مبا كانته أو طمحذت أن‬
‫ّصري ‪ .‬إنه ميثلها يف احلاضر‪ ،‬لكن ما كان ليمثلها قبل اليوم أو‬
‫ميثل أحالمها‪.‬‬
‫يف خضم صراعها ّناهى إليها طرق على الباب‪ .‬وأدركت‬
‫أنه حان وقت عودة أبنائها من مدارسهم‪ .‬لذل قامت فزعذة‬
‫متسح دموعها‪ ،‬كما أخذت نفسا عميقا وهي ّستعد لتكذون‬
‫ّل اليت بات يعرفها اجلمي ‪ .‬حىت أهنا راحت ّعاّب نفسها‪.‬‬
‫ماذا دهاها لتسعى إىل خراب بيتها؟ ال يهمها إذا مذا كذان‬
‫‪29‬‬
‫زوجها خيوهنا خار البيت ما دام أنه سيعود آخر الليذل إىل‬
‫حضنها‪ .‬عليها أن ّقبل بواقعها على عالّه وإال فإنه لن يستمر‪.‬‬
‫وما ختشا أن ّنقلب حياهتا رأسا على عقب لتجد نفسها أمام‬
‫واق آخر ملي بالتعقيد واملفاجآت‪.‬‬
‫إهنا وبأ حال ال ّريد أن خيتفي زوجها من حياهتذا إىل‬
‫األبد‪ ،‬ال ّرغب يف أن جتد نفسها ذات يوم على السرير وحيدة‬
‫دونه‪ ،‬ال ّريد أن حيصل هذا‪ .‬كما أهنا موقنة أهنا ال متا إىل‬
‫شذصه لكنها متا إىل حضور ‪ .‬هذا احلضور الذ يع هلا‬
‫الكثري يف بيهة لن ّرمحها إذا ما هو غاب مت أ ذريعذة أو‬
‫ظرف‪ .‬وحني سارت إىل الباب ّفتحه كانت متلهفة إىل لقذا‬
‫أبنائها وّقبيلهم‪ .‬كذل شعرت بالشوق إىل زوجها‪ .‬شذوق‬
‫يعزز احتماال واحدا ال غري‪ ،‬ويلغي مجي االحتماالت األخرى‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الحاجز‬

‫يف الصفحة الرئيسية لصحيفة األخبار اليت اقتناها بطلنذا‬


‫أوَّل ما نزل باملطار ورد التايل‪:‬‬
‫مترخ اليوم الذكرى الثانية على عودة الرئيس حممد بوضياف‬
‫إىل اجلزائر بلد الذ عاش منفيا عنه ما يزيد عذن ‪ 27‬سذنة‪.‬‬
‫حممد بوضياف أو سي الطيب الوط أحذد قذادة الثذورة‬
‫اجلزائرية‪ .‬مت ّنصيبه يف ‪ 16‬يناير‪ /‬كانون الثاين من عذام ‪1992‬‬

‫رئيسا للمجلس األعلى للدولة‪ .‬اغتيل يف مدينة عنابة يذوم ‪29‬‬

‫جوان‪ /‬حزيران من العام نفسه على يذد ضذابط بذاحلرس‬


‫الرئاسي‪...‬‬
‫‪‬‬

‫هنا خيمد الشوق قليال وهتمد الروح على أمل لقا قريب‪.‬‬
‫ّستكني هواجسه بعدما وطأ أرض الذوطن أخذريا‪ ،‬وإنّ يف‬
‫الصحافة أخبار بلون الشؤم ال ّبشر خبري‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫خر من املطار يف جو ّكتسحه الربودة والرطوبة‪ .‬أشعل‬
‫سيجارّه األوىل‪ ،‬مث محل رأسه إىل السما يتأملذها‪ ،‬وكانذت‬
‫ّدف إليه بإحساس خفي يبثه أن احلال لن يلبث كذذل ‪ ،‬وأن‬
‫هناك عواص آّية سيكون مسرحها الليل بطوله‪ .‬واستطاعت‬
‫جنمة قطبية اكتشفها معلقة يف السما وحيدة أن ّبدخد بعضا من‬
‫خماوف نفسه املثقلة‪.‬‬
‫استقل سيارة أجرة كان صاحبها صذموّا علذى وجذه‬
‫غريب‪ .‬مل يسأله إالَّ عما اعترب ضروريا‪ .‬أين يريد أن يذهب؟‬
‫أين يريد أن ينزل؟ وحىت عندما بدا مستا ً ملا ذكر له العنوان‪،‬‬
‫فإنه مل يتأخر يف محل حقيبته والدف هبا إىل صندوق السذيارة‬
‫اخللفي‪.‬‬
‫كان واضحا أنه مشغول مبراقبته م ذل ‪ .‬هذا ما الحظه‬
‫عليه طول الطريق‪ .‬ضبطه ينظر إليه عرب املرآة العاكسة أكثر من‬
‫مرخة‪ ،‬حىت إذا حاول مواجهته كان السائق يرّد ببصر غري قادر‬
‫على الثبات‪.‬‬
‫حاول أن خيمخن ما ورا نظراّه‪ ،‬لكنه ما لبث أن انشذغل‬
‫عنه بتأمل املدينة‪ .‬راح يتاب ّفاصيلها من خل الزجا كمن‬
‫يدعي معرفتها‪ّ .‬ستفز الذكريات وهي ّعود إليه ضاجخة فكأهنا‬
‫مل ختفت يوما‪ ،‬وإن ظلت مالحمه جامدة وكذأن ال عاطفذة‬
‫ّأسر ‪ ،‬فيبدو ال هو فرح بالعودة وال هو متأسي منها‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫كان يعتقد أن جيازف بعودّه‪ .‬وكان ال ي يسأل نفسذه‬
‫هل ال زال هناك من يذكر ؟ وهل سيتعرخفون عليه؟ وواضذح‬
‫أنه قريبا سيق على أجوبة ألسهلته الكذربى‪ ،‬والذيت ظذلَّ‬
‫يردخدها ما يني عن رالرني سنة‪ ،‬هي املدة اليت قضاها يف ديار‬
‫الغربة‪.‬‬
‫عاش يف وهم أنه مغضوب عليه‪ .‬مطارد ومنفي‪ .‬حىت إذا‬
‫جرب العودة جرت األمور بسالسة ودون معوقات‪ .‬مل يلفت‬
‫امسه أحداً‪ .‬ال شركة الطريان وال شرطة احلدود وكأنه بذات‬
‫اليوم جمهوال لدى اجلمي ‪ .‬كما أنخه مل يعرف هل عليه أن حيزن‬
‫لذل أم يسعد؟ مث أمل يكن هذا ما يعوَّل عليه من أجل عذودة‬
‫ميسورة ومن دون منغصخات؟‬
‫كانت الساعة قد جتاوزت منتص الليل عندما ّوقفذت‬
‫سيارة األجرة أمام حاجز عسكر للمراقبة يقوم على مشارف‬
‫املدينة القدمية‪ .‬وكان اجلوخ ال يزال بارداً‪ ،‬وأخذ العسكر ينفخ‬
‫يف يديه يدفههما وهو يطالبهما بالورائق‪ .‬وراقب أوراقه مذدققا‬
‫فيها مث ّفحخص وجهه بعناية‪ ،‬وأردف‪:‬‬
‫‪ -‬جيب احلذر‪ .‬كان هناك إطالق نار قبل قليل‪..‬‬
‫وهت السائق‪ - :‬رمبا عليَّ أالَّ أّقدم أكثر‪.‬‬
‫كفا ما قام به ألجله كزبون‪ .‬سأله عن أجرّه‪ ،‬ونقذد‬
‫إياها م إكرامية مناسبة مث نزل دون أن ينقم عليه حمترما فيذه‬
‫‪33‬‬
‫خوفه‪ .‬ونزل السائق يف أرر ليدف له حبقيبته‪ .‬وبعذدما فعذل‬
‫ركب وأقل كمن يهرب‪.‬‬
‫أشعل حينها سيجارّه الثالثة‪ .‬وراح حيرقها وهو يتقذدم‬
‫باجتا املدينة القدمية‪ .‬لكن ما إن ّقدم بض خطوات حىت انتبه‬
‫لصوت جهور يطالبه بالتوق ‪ .‬كان ذل صوت العسكر‬
‫نفسه الذ دقّق يف أوراقه‪ .‬هذا ما قدَّر ‪.‬‬
‫التفت متوجسا‪ .‬كذل سيطر عليه الرعب ألوخل مرة وهو‬
‫يرى العسكر يتقدم حنو خبطى سريعة وسذالحه باجتاهذه‪.‬‬
‫ّصلب ووق موّوراً‪ .‬مل يعرف كي يتصرف‪ .‬وّسا ل هل‬
‫عليه أن يرف يديه دليال على مزيد من االمتثال؟‬
‫حني صار بينه وبني العسكر مسافة خطوّني‪ ،‬طالبه هذا‬
‫األخري بأن يرمي سيجارّه‪ .‬واستجاب دون ّفكذري‪ .‬رماهذا‬
‫يتنصل منها بينما عفسها العسكر بكعذب حذائذه وقذام‬
‫يسحقها‪ ،‬وبعدها خاطبه قائال‪:‬‬
‫‪ -‬اآلن ميكن الذهاب‪..‬‬
‫اآلن أصبح يف األّون‪ .‬ليس خائفا وإن اعترا التردخد وهو‬
‫يطرق دربه القدمي الذ ال يزال على عهد به مضعضعا وّالفا‪.‬‬
‫ال شي ميوت‪ ،‬وكل شي يبقى البدا هنذاك يف العمذق‬
‫ينتظر فرصته‪ .‬هذا ما يؤمن به وهذا ما يرا ‪ .‬وهذو وإن ظذلَّ‬
‫طول مدخة غربته مشغوال بأن يربخر لنفسه أسباب هجرّه‪ ،‬فإنذه‬
‫‪34‬‬
‫سيجد نفسه مضطرا ‪ -‬وبعدما عاد ‪ -‬أن يربر لآلخرين أسباب‬
‫عودّه‪.‬‬
‫كانت قد بدأت متطر‪ .‬ومضذى يف خطذوات متعجلذة‬
‫ومرّبكة هذ املرة‪ .‬وقام يترصد أدىن حركة غادرة ميكنذها أن‬
‫ّأّيه من الظلمة اليت ّكتن املكان من حوله‪ .‬ظلمذة ّشذبه‬
‫حكايته الباقية‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫القضية‬

‫يف ذل الصباح البارد استفاق الكاّب معكّر املزا ‪ .‬وألن‬


‫التدفهة سيهة عاد غري راغب يف أن يتزحزح من سرير ‪.‬‬
‫بقي على ذل الوض حىت حضرت القهذوة إىل فراشذه‬
‫عر على صذفحته‬ ‫شرهبا على مهل‪ .‬أخذ أيضا يعبث لوَّاله‪َّ .‬‬
‫يف الفايسبوك‪ .‬لفت انتباهه إعالن خيصخ جائزة إبداعية عربية‪.‬‬
‫دقق يف ّفاصيله‪ ،‬وحفزّه قيمة اجلائزة اهلائلة على املشذاركة‬
‫فيها‪.‬‬
‫جيب التنويه باجيابيته‪ .‬فكاّبنا مل يعتر الش للحظة يف أن‬
‫ما يعتزم اخلوض فيه صعب أو حمال املنال‪ .‬رددخ‪ :‬ال أحد أفضل‬
‫من أحد كتعويذة‪ ،‬مث نادى على قوة إرادّه وأسَّر إليها أنه قد‬
‫حانت ساعة االمتحان العظيمة‪.‬‬
‫قفز من سرير ‪ ،‬وطوَّح بنفسه بعيدا عنه‪ .‬جيب أن يكذ‬
‫عن االستهتار بوقته؛ كما عليه أن يطعنه يف دبر حىت يستطي‬
‫التذلص منه‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫مل يكن ميل مكتبا يليق بعبقريته‪ ،‬فأصرخ على نقذل طاولذة‬
‫املطبخ إىل غرفة النوم‪ .‬وغري عابئ بالفوضى الذيت راح حيذدرها‬
‫وبإقالقه للجريان‪ ،‬قام جيرخ طاولة منذور خشبها اقتناها قبل زواجه‬
‫من سوق األراث املستعمل‪ .‬ويَذكرُ أهنا مل ّستقم ومل ّعد صاحلة‬
‫لالستعمال إالَّ بعد أن غرز يف جذعها حنو عشرين مسمارا‪.‬‬
‫ما إن استوى جالسا إىل طاولته حىت استدعى زوجته‪ .‬ملا‬
‫وقفت أمامه‪ ،‬بادرها بالسؤال‪ .‬هل ّعرفني مريّيدس؟‬
‫رغم الشهادة اجلامعية الرفيعة اليت موزها‪ ،‬بذان عليهذا‬
‫اجلهل‪ .‬وحاول إدهاشها فقصخ عليها حياة غابو العظيم وزوجته‬
‫مريّيدس كما حصل وقرأها ذات صي حار‪.‬‬
‫ّوخى أن جيعلها ختر بفكرة أنه لوال ّل املرأة النبيلة ما‬
‫كان لصاحبه أن يكتب روائعه اليت أهبرت العامل‪ .‬كما أنه عليها‬
‫أن ّستلهم مما حدخرها به حىت ال ّطول قرون اجلهذل لذديها‪.‬‬
‫والعربة باخلواّيم‪.‬‬
‫بدورها عليها أن ّكون له سندا‪ .‬ويعدها أنه لن يكذون‬
‫خبيال معها غدا حني يصبح ذا شأن وصيت‪ .‬وعلى فرض مبذا‬
‫سيكون طلب من مديرة أعماله أن ّع خر ّذواا إىل مطبذهذا‪،‬‬
‫وّعدخ له فنجانا آخر من القهوة املعتقة يساعد يف إهلامه‪ .‬وهذا‬
‫ما باشرّه على الفور‪ .‬بل إهنا واقتدا ً مبريّيدس قرخرت أن ّطبخ‬
‫لزوجها الكاّب غدا ً يليق مبقامه‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫فكَّت عقدة منديل كانت ّدسه يف اخلزنة بذني طيذات‬
‫املالبس‪ .‬وسحبت يف حرص مبلغا رأت أن ّضحخي به معوِّلذة‬
‫على شرا نص رطل "كفتة" جممَّدة سعرها بنصذ سذعر‬
‫اللحوم الطازجة‪.‬‬
‫يف ّل األرنا خال الزو الكاّب إىل نفسه‪ .‬راح يشحذ‬
‫قرحيته متوَّسال مَنَّها‪ .‬ومل يكن يرضيه إالَّ أن يق على القمذة‬
‫ومتوخجا بني كبار املنافسني‪ .‬وأما املدعوون فسينحنون إكبذارا‬
‫لعبقريته الفذّة‪ .‬ويف كل األحوال هو ليس بغافل‪ .‬ومنوط به أن‬
‫يتعامل م عبارات اإلطرا حبذر شديد‪ .‬إذ يدرك أنه سيولد له‬
‫حسخاد وناقمون من ساعتها‪.‬‬
‫مث هل عليه أن يطل زوجته برغبته يف االدخار ابتدا من‬
‫الشهر اجلار حىت يتس له ابتياع بدلة جديدة ّليق مبقامه يوم‬
‫يعلن عن امسه فائزا باجلائزة الكبرية؟ يعرف أهنا ستنغص عليه‪،‬‬
‫لكنه أيضا ميكنه هجرها مىت صار يف عداد الكبار واملمجَّدين‪.‬‬
‫عليه أال يلهيه شي عن قضايا العامل املصريية؛ كما جيذب أال‬
‫يق عائق أمامه يسد عليه طريق اجملد‪.‬‬
‫سيجوب العامل‪ ،‬وسيكون له يف كذلّ أرض ينذزل هبذا‬
‫متابعون مولعون به‪ .‬سيعاملونه كنجم‪ .‬ويف مهرجانات القرا ة‬
‫اليت سيحضرها سيوق لقرائه عشرات أالف النسخ‪ .‬يريذدهم‬
‫طابورا طويال ّصوخر ومصيه الصحافة‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫سيؤكد أمام امل أن كاّبا واحدا مميزا قادر لوحد أن يغري‬
‫خريطة القرا ة يف البلدان اليت يقال عنها إهنا ال ّقذرأ‪ .‬ورمبذا‬
‫حينها فقط سيتس للمسؤولني يف بلذد أن يلتفتذوا إليذه‪،‬‬
‫هو الذ مل يعترفوا به يوما‪ ،‬وظلوا يبذسونه حقه لسذنوات‬
‫طويلة‪.‬‬
‫هل سيثور وينتقم منهم حينها؟‪ ..‬ال‪ ،‬أبدا‪ .‬فليس هذا من‬
‫شيمه‪ .‬سيصر على مقابلتهم بالتواض ‪ ،‬وسذيعاملهم حبكمذة‬
‫زائدة‪.‬‬
‫حدَّث نفسه‪ ،‬األفكار متاحة للجمي ‪ .‬وله أن يتصيخد منها‬
‫ما هو مناسب‪ .‬ومحلق داخله مفكرا‪ .‬عليه أن ميلذ مهذارة‬
‫وخِفة القط ليتصيد ما يصلح منها‪ .‬ومل يكن يقصد بأ حال‬
‫من األحوال ذل القط األسيان الذ يعيش وسذطهما‪ ،‬هذو‬
‫وزوجته‪ .‬فمثله ال يصلح لغري التمسح برجله ومضايقته وطرح‬
‫براز أينما حلَّ‪.‬‬
‫مل يكن قد حدخد بعد املوضوع الذ سيذوض فيه‪ .‬يريد‬
‫أن يكتب ما هو جدير وملفتٌ لالنتبا ‪ .‬كذل جيب أن يأسر‬
‫جلنة التخحكيم قبل القرا ‪.‬‬
‫عليه أيضا أن يستلهم مما هو جر ومثري‪ .‬كما لن يسعه‬
‫أن يعر واقعه ويفضحه إال إذا مرر من خوفه‪ .‬هكذا يكذون‬
‫اإلخالص للكتابة‪ .‬القرخا سيفهمونه ال حمالة‪ .‬إن مل يكن اليوم‬
‫‪40‬‬
‫فغدا‪ .‬لكن ماذا عن جلنة التحكيم؟ رمبا عليه أن يقر بأن ّشذيبه‬
‫لبعض ما يكتبه ضرورة أيضا وال مفر منه‪ ،‬فشجرة الربّقال ال‬
‫ّطرح مثارها ما مل ّشذب أغصاهنا ويعذت هبذا‪ .‬والكاّذب‬
‫احلقيقي هو الذ ال يسمح لنفسه باالحندار إىل حيث يغذرق‬
‫أصحاب العر والتهت ‪.‬‬
‫كان على معرفة جيدة بالوسط الثقايف‪ ،‬كما كان علذى‬
‫اطالع بيِّن بالنصوص اليت نالت األهلية يف السنوات األخرية أو‬
‫بتل اليت انتصبت متوَّجة يف عديذد اجلذوائز‪ .‬وراح يعذدد‬
‫املوضوعات اليت ّستحق‪ .‬ورأى أن مشاكل احلروب واهلجرة‪،‬‬
‫وقضايا الالجهني واملنفى‪ ،‬ومسألة التطرف والتعصذب ّكذاد‬
‫ّكون األررية لدى مجوع الناجحني‪.‬‬
‫بعد مدخ وجزر قام ينته بياضذات األوراق املرصذوفة‬
‫أمامه‪ .‬فعل ذل دون كلل‪ .‬وراح يرسذم عليهذا أحرفذا مث‬
‫كلمات فأسطرا‪ ،‬أخذت ّتدفق يف غزارة ليس كمثلذها غذري‬
‫غزارة أمطار ليلة البارحة‪ ،‬واليت فضحت هشاشة البيت الذذ‬
‫يسكن فيه‪.‬‬
‫مل ّكن القضية سهلة‪ .‬استنفدت منه الكتابة الكثري مذن‬
‫الوقت‪ ،‬كما سذر هلا علبة "نسيم" كاملة‪ .‬أهذدر عشذرين‬
‫سيجارة دون أن ينتبه‪ .‬وم ذل فإنه عندما أعاد قذرا ة مذا‬
‫كتبه اغتم‪ .‬مل يرقه أبدا ما سوخد ‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫أ خيبة هذ ؟ أم أهنا اللعنة ّطارد ؟ مث هل مصذري أن‬
‫يظل على اهلامش نكرة ال يشري إليه أحد؟‬
‫عزا فشله ملشاعر اجلامدة‪ .‬إنه مل يشعر كفايذة مبعضذلة‬
‫أبطاله‪ .‬وراح خياطب نفسه بعبارة لطاملا مسعها ّتردد يف الوسط‬
‫األدبذي‪ .‬األهم أن ّرفد نص من خالل النظر إىل داخلذ ‪،‬‬
‫كما جيب أن ّستلهم من جتارب الشذصية‪.‬‬
‫حاول إصالح ما ميكن إصالحه من كسور وأعطذاب‪.‬‬
‫واستمر كذل ألكثر من ساعتني‪ ،‬لكنه عاد خايل الوفاض‪ .‬مل‬
‫يقتن جمددا مبا انتهى إليه‪ .‬ولعل القضية كلها يف أنه مل يعش!‬
‫على أرر ذل دامهه شعور باالنقباض كاد أن يتحول إىل‬
‫مصدر للتعاسة لوال أنه قام يستنجد بزوجته رانية‪ .‬طلب منذها‬
‫أن ّطل على املسوَّدة‪ .‬وكانت رغم مكورها يف البيت لسذنني‬
‫طويلة ال ّزال مولعة بالكتب‪ ،‬كما كان يراهذا بذني احلذني‬
‫واآلخر ّقرأ‪ .‬فلم يكن يرضى بأن يرّبط بامرأة جاهلة‪ .‬هذذا‬
‫أيضا واحد من خياراّه امللهمة‪.‬‬
‫ما إن انتهت من القرا ة حىت طالبها برأيها‪ .‬هزت رأسها‬
‫مينة ويسرة ال ّدر ماذا ّقول‪ .‬مث خاضت مرغمة يف كذالم‬
‫غامض هو صنو اخلوف‪ .‬اخلوف طبعا على مشاعر زوجها‪ .‬مث‬
‫أهنا متكنت من خمر ملعضلتها الحقا‪ ،‬وذل عندما سأهلا‪ ،‬هل‬
‫ّعتقدين أنه ينقصها شي ؟‬
‫‪42‬‬
‫حينها هتلل وجهها‪ .‬عادت فأكدت له أن القصة جيذدة‪،‬‬
‫لكنها ّظل يف حاجة إىل هبار وملح‪.‬‬
‫ما باهلا ممل معها مطبذها إىل عامل الكتابة! وكأنذه ال‬
‫ّكفي رائحة الطبخ اليت ّفوح منها؟‪ ..‬هكذا حدث نفسذه‪،‬‬
‫فلطاملا اعتادها رزينة‪.‬‬
‫كان قد أغفل‪ ،‬وبسبب مشاعر اإلحباط اليت متلكتذه أن‬
‫البهار وامللح أوردهتما هنا كمجاز ملا هو أكرب‪ .‬وسايرها يقول‪،‬‬
‫ميكن جدا!‬
‫عزخز هذا رقتها يف نفسها‪ ،‬كما وخوَّل هلا أن ختذوض يف‬
‫خطبة عصما ‪ .‬قالت بعد ذل كالما خطريا ال يقذدر عليذه‬
‫حىت فطاحلة النقد‪.‬‬
‫‪ ..‬إن ما كتبته ال يتضمن ّل اخلصوصية الذيت متنحذه‬
‫التفرد‪ ،‬وهو ال خيض ملنحى حمدخد‪ .‬وهو هيويل وملبد‪ .‬يقذول‬
‫كل شي ‪ ،‬وال يكاد يقول شيها يف الوقت عينه‪ .‬وعليذ أن‬
‫ّفكر كي ّستطي أن متنحه ما يدل عليه‪ .‬وأما إذا ما ّفضلتَ‬
‫بطرحه جانبا فسيكون أفضل‪..‬‬
‫ميكن أيضا أن ّبدأ مرة رانية‪ .‬ومل ال ّكون قصت اجلديدة‬
‫عن فلسطني مثال‪ ،‬ما دمت هتتم لنص يتمثل مهّا وقضية‪.‬‬
‫كثريا ما كان ينقم عليها‪ .‬وغالبا ما أعلن عن ّذمر ويأسه‬
‫منها‪ .‬لكن عليه أن يعترف هذ املرة أنه أمام مريّيدس أخرى‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫وال ميكنه إالَّ أن يسعد بامرأة مثلها!‬
‫وقرر أن جيازيها هبدية مثينة يعدها هبا مىت فاز‪ .‬كما ميكنه‬
‫أن يصر على قطرها معه إىل حفل ّتوجيه‪ ،‬وميكِّنها كما مل ملم‬
‫يوما من أن ّرف هامتها مزهوَّة بعالقاهتا اجلديدة اليت ستكوِّهنا‬
‫م زوجات خرية الكتخاب‪ .‬وهنخ أرقى بكثري مذن جذارات‬
‫النحس ونسا حيهم التعيسات‪.‬‬
‫كذل هذ املرة لن ينغص عليه سعادّه جار الذ ميل‬
‫سيارة ورصيدا يف البن ‪ .‬آن له بدور أن يكون من احملسودين‪.‬‬
‫واأليام دول‪.‬‬
‫ستحقق مفته األدبية اليت سيكتبها عن فلسطني صذدى‬
‫طيخبا‪ ،‬كما أنه سيفحم جلنة التحكيم وجيعلها يف حر كبري إذا‬
‫ما حاولت أن ّسعى باجلائزة إىل سوا ‪ .‬وله مِن اآلن أن يتدبر‬
‫كوفية فلسطينية مناسبة يضعها شاال حول رقبته‪ ،‬وذل حذني‬
‫يصعد املنصة فائزا ّدليال على ّعاطفه وإخالصه للقضيخة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫األعمى مبصراً‬

‫كانت زميلة دراسة حصل أن مج بينه وبينذها احلذب‪.‬‬


‫الحقا افترقا‪ ،‬وظلّ طول مدة الفراق حياول ّقصخي أخبارهذا‪،‬‬
‫لكن مُنيت مجي حماوالّه بالفشل‪ .‬ومل يعد يرِد خبلد أنه سيعود‬
‫ويلتقي هبا يوماً‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬وبعد سنوات عديدة ها هو يق أمامها من جديد‬
‫(رالث سنوات بالضبط‪ ،‬فصاحبنا دقيق يف حساباّه‪ ،‬وال ميكنه‬
‫أن خيطئ استنادا إىل مراجعات عديدة ال ميكن اخلوض فيها يف‬
‫احلني‪ ،‬وإن كان القار سينتهي إليها ال حمالة مذىت واصذل‬
‫القرا ة)(‪.)1‬‬
‫ألفى نفسه وسط حفلة ختر لىب الدعوة إليهذا مرغمذا‬
‫وحمرجا‪ .‬وما فتئ يسأل نفسه طول الوقت (وحىت بداية قصتنا‬
‫طبعاً) عن السبب الذ أوجد هنا‪ .‬فلطاملا اعتقد أنه ال ينتمي‬
‫(‪ )1‬كسر اإليقاع ‪ -‬هنا‪ ،‬ويف هذا النص مديدا ‪ -‬مقصود حىت ال حيصذل‬
‫االندما ‪ .‬إنه شكل من التغريب كذل املوجود يف املسرح‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫إىل مثل هذ العوامل‪ ،‬كما ال ميكنه أن ينسجم معها بأ حال‬
‫من األحوال‪( .‬إذا مل ّقتن عزيز القار لو احلفلة لذ أن‬
‫ّقترح ما شهت‪ :‬عرس‪ ،‬ختان‪ ،‬ليلة رأس السنة‪ ،‬عيد مذيالد‪،‬‬
‫دعوة على املسرح أو السينما‪ ،‬ندوة‪ ..‬ما يهمنا يف األصل هو‬
‫اجلم بني البطلني يف بيهة واحدة حىت حيدث االصطدام وّبذدأ‬
‫قصتنا واليت هي إىل اآلن مل ّبدأ بعد‪ .‬اعتراف صغري ل طبعا‪:‬‬
‫لو عرفت كي أختلص من كل هذ الديباجة ألبذدأ قصذيت‬
‫لفعلت‪ ،‬لكن كي ميكن ذل وأنا حمكوم بعناصر القصذة‪..‬‬
‫ّل العناصر اليت مىت جتاهلتها كنت عرضذة لذنريان النقذد‬
‫والنقاد؟)‬
‫انشغل مبراقبة احلضور‪ .‬يراهم وهم جيتمعون‪ ،‬يتنفسذون‪،‬‬
‫يُسِرخون عن أنفسهم ويستمتعون‪ ..‬وبينما هو كذذل لفذت‬
‫انتباهه وجه بدا مألوفا لديه‪ّ .‬أمخله يدقق النظر فيه‪ .‬ومىت فعذل‬
‫أمكنه أن يتعرخف على صاحبه‪.‬‬
‫أوَّل ما حملها عرفها‪ .‬والتهبت الذذاكرة بعذدما طفذت‬
‫الذكريات على السطح‪ .‬كذل خفق قلبه يف عن ‪ .‬ال يذزال‬
‫جيدها مجيلة‪ ،‬كما ‪ -‬برأيه ‪ -‬منحها الغياب نضارة واسذتوا ً‬
‫(وسأضطر إىل التوق هنا رافضا فكرة وصفها ما دمذت ال‬
‫أمل جرأة بعض الكتاب يف وص أبطاهلم وقذدرهتم علذى‬
‫ومسهم لمال معني‪ .‬وكأهنم يريدوننا أن نبصر بعيوهنم هذم ال‬
‫‪46‬‬
‫بأعيننا حنن‪ .‬م أنه غالبا ما جتدهم يتحيزون لشكل معني مذن‬
‫اجلمال هو أقرب إىل انتما اهتم اجلغرافية ّفضحهم يف ذلذ‬
‫عنصرية مقيتة‪ .‬ورمبا أيضا الحظتم أن مل أمنح ألبطايل أمسذا‬
‫ما دمت ال أنظر إليهم إالَّ بوصفهم حاالت ومناذ بشرية)‬
‫ينشغل مبراقبتها‪ .‬كما يستعيد صوهتا الغذابر املبحذوح‪.‬‬
‫ويسأل نفسه‪ ،‬ماذا لو ّبادلنا بض كلمات؟‬
‫خيترق الصفوف متقدما حنوها حىت إذا اقترب مسافة معينة‬
‫ّثاقل‪ .‬شدَّ انتباهه سيد يق إىل جانبها كانت ّوليذه كذل‬
‫اهتمامها‪ .‬مسمخرا مكانه ّسا ل عن نوع العالقة الذيت ّذربط‬
‫كليهما؟‬
‫كذل ‪ ،‬وبينما هو عرضة ملشاعر وهواجس مقلقذة راح‬
‫يستعيد ما حصل بينهما (أضطر هنا إىل النبش يف ماضيهما معا‬
‫مبا جيعل احلبكة مستساغة ومنطقية‪ .‬وعليه فأنا أفترض التايل‪):‬‬
‫كانا من مدينتني خمتلفتني مجعت بينهما الدراسذة‪ .‬بعذد‬
‫خترجه اضطر للعودة إىل مدينته‪ ،‬ليصبح بعدها اللقا معضلة يف‬
‫حد ذاّه‪ّ .‬ناقشا يف أمر االرّباط‪ .‬وكان مستحيال ما مل حيُذز‬
‫عمال قاراً يكفل له مواجهة أعبا احلياة‪.‬‬
‫اّفقا على أن يؤد إلزامية اخلدمة العسذكرية الشذرط‬
‫الرئيس للفوز مبنصب عمل يف الوظي العمومي‪ ،‬بينما ّنتظر‬
‫هي خالل هذ الفترة ومهما كانت الظروف‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫افترقا من غري ما ضغينة أو سو فهم‪ .‬ومل يكن هاجسه أنه‬
‫ظلّ‪ -‬وبعد أكثر من سنة على ّأديته إللزامية اخلدمذة‪ -‬بذال‬
‫منصب شغل‪ .‬كذل مل ّزعجه األبواب املوصدة يف وجهه هو‬
‫الذ ال ميل واسطة أو ما ميكن أن يسذند (أورد اجلملذة‬
‫األخرية هنا‪ ،‬وإن كنت غري مستعد ملناقشتها حذىت ال أضذي‬
‫خيط احلكاية‪ .‬وأراها م ذل كتذوم ّبتعد عن املركز لكنها‬
‫ال جتانبه‪ .‬كما أهنا ّشكل إضافة له ملا ممله من رؤى ّفضذح‬
‫واقعنا‪ ،‬وألهنا ّزيد يف محولة النص) وإن ما هاله وعظُم عنذد‬
‫وظل يشغله أخبارها اليت انقطعت عنه مذ انتقل للذدمة‪ .‬كما‬
‫با ت الحقا كل حماوالّه لتقصي أخبارها بالفشذل‪ .‬ولذوال‬
‫الصدفة ما كان ليق أمامها اليوم‪.‬‬
‫كان ال يزال مشغوال بالنخظر إليها‪ .‬وكانت ال ّزال مهتمة‬
‫بالسيد الواق إىل جانبها‪ .‬كما كان هناك صديق له حضر يف‬
‫صحبته أخذ يرصد اجلمي دون أن ينتبه إليه أحد‪.‬‬
‫قط عليه هذا األخري ّواّر ذكرياّه‪ .‬وسذأله يف خبذث‬
‫حماو ًال استدراجه للحديث‪:‬‬
‫‪ -‬هل كنت ّعرفها؟ هل كانت حبيبت ؟‬
‫‪ -‬إهنا حبيبيت‪.‬‬
‫أبداف الغرية قال ما قال؟ أم بداف الشهوة بعدما استثار‬
‫احلاضر وهو حيكم ماضيه ويشد بزند غري ؟‬
‫‪48‬‬
‫قد يكون هذا ما نرا ‪ ،‬لكن الواق يقول شذيها آخذر‪.‬‬
‫فصاحبنا ال يبدو مهتما لعدم التخصديق الذ عكسته مالمذح‬
‫صديقه‪ ،‬كما مل يشعر بأنه مضطر لتربير ما قالذه ومل يسذ‬
‫إلقناعه بشي ‪ .‬وعلى العكس من ذل بدا متجانسا‪ ،‬متآلفذا‪،‬‬
‫متصاحلا م وجود ‪ .‬مقتنعا متاما مبا أورد كجواب‪ .‬وال مبالياً‬
‫مدَّ يد إىل طاولة أمامه‪ .‬أخذ من صحن عليهذا شذيها مذن‬
‫املقبالت ما لبث أن دف به إىل فمه دفعة واحدة‪ ،‬وراح ميضغه‬
‫على أقل من مهل‪ .‬وكان بذل قد منح لنفسه فرصة أن يكون‬
‫جوابه قاطعا موجزا وخمتصرا‪ ،‬كما جعل من صمته عقب مجلته‬
‫مقنعا (عزيز القار إذا بدا ل أن أبدعت وأنت ّطذرح‬
‫بديال عن جو احلفلة‪ ،‬فأنت هنا مضطر أن ّواصذل إبذداع‬
‫وّقنعنا بتعلَّة جتوِّز لنا هبا رغبته يف الصمت)‪.‬‬
‫جدير بذي أن أقول إين أفهمه‪ .‬فهو مل يسْ َ ليكون مقنعا‬
‫بقدر ما كان يهمه أن يكون صادقا‪ .‬وهو حني قال ما قال مل‬
‫يكن خياطب صديقه بقدر ما كان خياطب نفسه‪ .‬صحيح أنذه‬
‫فعل ذل بصوت جهور ‪ ،‬لكن أال نفعل حنن ذل عادة؟ أال‬
‫خناطب أنفسنا أحيانا بصوت مرّف كرد فعذل هذو أشذبه‬
‫باالعتراف؟‬
‫لقد وجد نفسه أمام معضلة حقيقية ليس لكونه اضطر إىل‬
‫الكذب (كما يتبادر إىل ذهن البعض ممن هم علذى اسذتعداد‬
‫‪49‬‬
‫إلسا ة الظن به) وهو يتجاوز فِعل (كانذت) الذذ يفيذد‬
‫املاضي ُمعْليخًا من صوت احلاضر مشدداً عليذه؛ بذل لكونذه‬
‫وق أخريا أمام نفسه وأدرك حقيقة مل ينتبه إليها من قبل‪ ،‬أو‬
‫يكون قد ّغافل عنها منذ زمن‪ .‬وهي أن الفتاة ال ّزال حبيبته‬
‫فعالً‪.‬‬
‫أفهم أن منكم من يتسا ل كي أهنا حبيبته بينما هذو مل‬
‫يلتق هبا منذ رالث سنوات‪ ،‬كما كان جيهل كل شي عنذها‬
‫خالل هذ الفترة؟ ويكفي أيضا أن نبحث يف صذفة الرجذل‬
‫الذ يرافقها حىت نق على ما يعارض فكرّه ويدحضذها!‪..‬‬
‫وهكذا سنجد أنفسنا مضطرين أن نسم له أكثر حىت نفهمه‪.‬‬
‫لكن كي ميكننا ذل وصاحبنا ال يريد التكلم؟‬
‫(ما عليَّ يف هذ احلالة إالَّ أن أستقرِ داخله‪ .‬وال ميكنكم‬
‫أن ّعتقدوا أنخي سأجانب الصواب وأخطذئ يف ّوصذي أو‬
‫استقرا حالته‪ .‬فال ّنسوا أنخي خالقه‪ ،‬وعليه يكون كل ما لذه‬
‫عالقة به له أيضا عالقة مباشرة مبشيهيت)‪.‬‬
‫مل يعد وبفعل الزمن يذكرها كل حني‪ .‬البد أنه نسذيها‬
‫وإن ظلّت ّزور خياله وأحالمه على فترات كتجربة مذرَّ هبذا‬
‫ويشعر إزا ها باخليبة‪ .‬لكن األكيد أيضا أنه وهو ينطق بإجابته‬
‫مل يكن يهمه الوعد الذ قطعته الفتاة له‪ ،‬بل ما كذان يعنيذه‬
‫وعد هو هلا‪ .‬كما أنه وطوال هذ الفترة مل يسْ َ خليانتها ومل‬
‫‪50‬‬
‫ُيقم أ خ عالقة م فتاة أخرى‪ .‬أليس هذا وفا للحذب؟ مث أال‬
‫يع هذا العيش فيه؟‬
‫إين أمسعه اآلن متاما‪ .‬أمسعه يقول‪ :‬أنا مل أخنها‪ .‬وما حصل‬
‫مل يكن بإراديت‪ .‬مل نكن حباجة إال إىل لقا ليتجدد هوا رئتينا‬
‫وننتشي باحلب من جديد‪ .‬وأعترف أمام نفسي وأمامها وأمام‬
‫اجلمي مبن فيهم صديقي وذل الذ هو بصحبتها اآلن أن ال‬
‫أزال على العهد وأحبها‪ ..‬فبفضل هذ اخلضة أدرك أنه ال يزال‬
‫يعيش حبه‪.‬‬
‫أمل ّكن قد رأّه بعد؟‬
‫اكتشفها ّتابعه بطرف خفي حىت إذا ما ّالقت أعينذهما‬
‫إنبجس القلق وبان على حمياها‪ ،‬فكانت كمن غشيتها الظلمذة‬
‫جرا الصدمة واملفاجأة‪( .‬هل كانت ّتوق أن يقذدم علذى‬
‫ّصرف أخرق مثال؟) وواضح أن ما أخذ يسيطر عليها أكذرب‬
‫من القلق‪ .‬إنه اهلل يتذفى ورا اهتمامها مبرافقهذا وادعذا‬
‫انشغاهلا به‪.‬‬
‫لتتجاوز هلعها مسحت لنفسها بأن ختاطب رجلها لملذة‬
‫مقتضبة غرقت على أررها يف ضح صاخب وكأن ال شذي‬
‫هناك البتة‪ .‬حىت إذا جنحت يف استقطاب اهتمامه راحا يضجان‬
‫بالضح والفرح معاً‪ .‬ويف مقابل ذل كانت ّتعمد جتاهذل‬
‫بطلنا لسبب ال ميكن أن يكون على جهل به‪ .‬لتصري كل اآلالم‬
‫‪51‬‬
‫اليت ّكبدها جرا االنفصال من أجل هذ النظذرة الالمباليذة‬
‫ولتطوى قصتهما وّنتهي إىل الالشي ‪.‬‬
‫أيهما كان أقل وفا ؟ هو أم هي؟ أم املاضي وهو ينز اآلن‬
‫شحيحا‪ ،‬وال يثري غري أوجاع صغرية وباردة؟ مث هل يكفيه أن‬
‫يصابر ‪ -‬وإذا ما صابر اجملالد ف جل عزا يذرا قريبذا ‪ -‬وال‬
‫عزا له غري الذكرى انفتحت أدراجها وّبعثرت أوراقها‪ .‬ومن‬
‫فرط لفح الواقعة اشتعلت والتهبت أكثر فأحرقته يف خضذمها‬
‫بكلّه؟‬
‫بات على يقني من أنخه حىت ولو سار باجتاهها ستنكر ‪ .‬مل‬
‫ختاطر قدميا‪ ،‬فكي ختاطر اليوم؟ وعلى أرر ذل غمر شذعور‬
‫مثقل باألسى أخذ يدو به عميقا حيث ال رجوع‪.‬‬
‫هو مل ينس‪ ،‬ويعتقد أهنا بدورها ال ميكنها النسذيان‪ ..‬ال‬
‫أحد ينسى‪ .‬ومىت ورد النسيان على لسان أحدهم إالَّ وكذان‬
‫جمرد إنكار يعبِّر عن التجاهل‪ .‬إن الذكرى بالنسبة ألمثاهلم جمرد‬
‫عقبة متَّ جتاوزها إىل وض خمتل ‪ ،‬وإذا ما حَاصَرَّْهم يف الزاوية‬
‫عادوا إىل االعتراف‪ّ .‬فضحهم يف ذل بلبلتذهم ومتلملذهم‬
‫وضيقهم‪.‬‬
‫وحد كان‪ ،‬ووحد مقدر له أن يكون حىت يطويه املوت‬
‫(هل استعار هنا كلمات شاعر ما سوداو الطب ؟‪ ..‬ال ميكن‬
‫طبعا لسبب بسيط وهو أن صديقنا ال ميول شعرية له‪ .‬وإمنذا‬
‫‪52‬‬
‫عربّه حلظات من األسى والشجن كتل اليت ّوحدنا مجيعذا‬
‫وّصيِّرنا شعرا )‪.‬‬
‫ّاليا استحكم فيه شعور بالغضب والكر ‪ ..‬غضب وكر‬
‫ليسا موجخهني بالضرورة ضد الفتاة‪ ،‬وغالبا ما يكونان صادرين‬
‫عنه ضد نفسه‪ .‬غضب وكر حيفران فيه عميقذا‪ ،‬ويعريانذه‬
‫وجيعالنه يدرك كم كان حاملا‪ ،‬ال واقعيا‪ ،‬أرعنا وشديد الغبا ‪.‬‬
‫األكيد أن وقوفه أمامها بعد عديد السنوات شكل صدمة‬
‫له‪ ،‬لكن من يظن أن لتجربة مثل هذ أرار سلبية ال غري يكون‬
‫خمطها‪.‬‬
‫لقد جعلته هذ التجربة يستعيد الصورة املثالية حلبه والذ‬
‫ظل حيتفظ به كل هذا العمر يف خزنة القلب‪ .‬يسذتعيد اآلن‬
‫وينفض عنه غبار السنني ويعيد النظر فيه من جديد‪ .‬وغري بعيد‬
‫أن يعود فيمزق هذ الصورة ويكسر إطارها يف أول فرصة غري‬
‫آس على شي ‪.‬‬
‫عمى احلب ما جعله رهنا للماضي‪ .‬وألجل أن يسذتفيق‪،‬‬
‫عليه أن يسمل عينيه (عينا احلب‪ ،‬وليس عينيه هو‪ .‬وشتان بني‬
‫ما فعله أوديب وما سيقدم عليه بطلنا‪ .‬وهلذا آمذل عزيذز‬
‫القار أال ماول الربط بينهما‪ .‬مث لعل ال ّعرف عن أوديب‬
‫إال ّل النظرية اليت أّى هبا احمللل النفسي فرويد‪ ،‬وغري بعيذد‬
‫أن مل ّقرأ شيها من املسرح اليوناين‪ .‬وأحب أن أخذربك أن‬
‫‪53‬‬
‫لسوفوكل مسرحية أخرى عنواهنا أنتيجون‪ .‬رمبا هي األقذرب‬
‫هنا إذا ما أردت أن ّبحث عن عالقة)‪.‬‬
‫هل ميكنه ذل ؟‬
‫أقول إن للفاصل الزم دور ‪ .‬مث إن مشاعر م الوقذت‬
‫قد قلّ احتدامها وعنفواهنا‪ ،‬وبات قادرا على السيطرة عليهذا‪.‬‬
‫كما ال ميكن أن نتصور أن يكون هذا موقفه لو حصذل مذا‬
‫حصل معه اآلن بعد شهر أو شهرين من افتراقهما‪.‬‬
‫وألنه استفاق وبدأ يشعر بالتحرخر (أو يعتقد أن هذا مذا‬
‫حيصل معه) يفلت ضحكة مستهجنة ساخرة (من يقصد هبذا‬
‫مديدا؟) ويلتفت يويل صاحبته ظهر متجاوزا مشاعر ومذا‬
‫خلفته فيه من أرر‪ ،‬وكأنه ّبدل إىل آخر غري ذل الذ ردخ قبل‬
‫قليل على صديق له لزم ال يقبل مناقشة‪ .‬فهل اندمل جرحذه‬
‫هبذ السرعة ويف حلظة؟ (ميكننا مجيعا أن نتكهن مبا كان حيدث‬
‫يف أعماقه‪ ،‬وهلذا سيبدو لنا ّصرفه منطقيذا دون أن نقذ يف‬
‫التناقض!)‪.‬‬
‫فارًا بنظر منها إىل ما حوله‪ ،‬وحماوال االنشغال عنها لو‬
‫احلفلة (احلفلة اليت مل يشعر للحظة أنه ينتمي إليها) ّلفت انتباهه‬
‫إحداهن وهي ّبتسم له‪.‬‬
‫ّروقه فيبتسم هلا بدور معربا عن ود خذالص‪ .‬مث وهذو‬
‫يفكر يف اخلطوة التالية كان لسان حاله يقول‪( :‬أو كنت أنا من‬
‫‪54‬‬
‫يقول‪ ،‬أشبه يف ذل اجلدات وهن خيتمن حكاياهتن خبالصة أو‬
‫حكمة‪ .‬م اعتراف بسيط أن هذا مل يكن وارداً أو مطروحذا‬
‫وأنا أبدأ هذ القصخة) كل عقيدة هي صادقة ما مل خيذهلا الزمن‬
‫أو ختنها التجربة أو يلو زمامها احمل ‪ .‬وعلى املر أن يتحلى‬
‫بالقدرة على اإلميان بعقائد جديدة بدل ّل اليت كان يؤمن هبا‬
‫ومل ّقُد قط إىل برخ األمان‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫اِلتباس‬

‫ال ّوحة األولى‬


‫حدث قنص لشرطي قرب السخوق املغطّاة حبي السذويقة‬
‫الشعبذي‪ .‬سقط الشرطي غارقا يف بركة من الدخما سذلبتها‬
‫مشس الظهرية لوهنا فبدت سودا قامتة‪ .‬يف حلظذة ‪-‬وبذداعي‬
‫اخلوف‪ -‬انفضخ مجي من كان متواجدا باملكان كما أغلقذت‬
‫احملال أبواهبا‪ .‬ورغم أن مركزا للشرطة كان يق غري بعيد عن‬
‫موق احلادث إالَّ أن وصول رجال األمذن اسذتغرق بعذض‬
‫الوقت‪ ،‬ومل يتمكن احملققون حينها من العثور على شي ‪.‬‬
‫يف الغد‪ ،‬وقبل طلوع الفجر ّقدخمت سيارة بيجو طذراز‬
‫‪ 403‬وشاحنة عسكرية وحوايل عشرين شرطيا مذن النذبذة‬
‫داخل حي الدخرب العتيق‪ .‬طوَّقوا املكان الذذ يقصذدونه‪،‬‬
‫ومتركزوا يف نقاط حسخاسة‪ ،‬كما التفذوا حذول واد عذني‬
‫الصخفرا وربضوا أمام منحدر يسدخون كل منفذ قد يلجأ إليه‬
‫املتخهم احملاصر‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫أُعدخ كل شي يف ّنسيق حمكم‪ .‬ومل يرصد أحذد مذن‬
‫السخكان النيام أدىن حركة أو هفوة‪ .‬وم ّباشري الصباح األوىل‪،‬‬
‫وقبل أن يبدأ املصلّون يف اخلذرو إىل مسذجد طبانذة ألدا‬
‫صالهتم أعطي الضو األخضر للهجوم‪ .‬وما لبذث أن انذدف‬
‫اجملندون يف حذر باجتا إحدى الدخور السكنية‪ .‬ارّقوا األدرا‬
‫حنو الدور الثالث آخر أدوار البناية‪ .‬وسرعان ما حطّموا بذاب‬
‫املسكن املقصود‪ ،‬واكتسحوا الغرفة الوحيدة املأهولذة‪ ،‬وهذم‬
‫يشهرون أسلحتهم يف وجه اجلمي ‪.‬‬
‫هكذا وضعوا يدهم على املتخهم‪ .‬قيَّدو بعدما ّلقى ضربة‬
‫موجعة على رأسه مبؤخرة كالشنكوف أفقدّه ّوازنه‪ .‬وأعلذن‬
‫قائد العملية يف نربة انتصار وهو يفرد صدر ‪:‬‬
‫‪ -‬ها قد وقعت أيها اإلرهابذي القذر‪..‬‬
‫فتخشوا املكان يف حذر شديد أمال يف العثور علذى قطعذة‬
‫سالح حمتملة أو منشور سر يكفل هلم جترمي املقبوض عليذه‪.‬‬
‫وحني مل جيدوا يف حوزّه ما يريب أصاهبم التشوش‪ .‬أهذانو‬
‫واهنالوا عليه بالضرب أمام أبنائه وزوجته‪ .‬واقتذادو أمذامهم‬
‫مُنح اجلذع يلبس بعضه كجورب نزع علذى عجذل وال‬
‫يساو نكلة‪.‬‬
‫يف السيارة اليت حُشر فيها وضعوا عصابة حذول عينيذه‪.‬‬
‫كان واضحا أهنم ال يريدونه أن يعرف إىل أين يقتادونه‪ .‬ومت‬
‫‪58‬‬
‫مصباح النيون ويف غرفة ضيقة وباردة قاموا باستجوابه‪ .‬وجهوا‬
‫إليه أسهلة كثرية‪ ،‬وأصرخوا على أن يديل باعترافاّه كاملة‪..‬‬
‫‪ -‬اآلن أيها املذصي ستقول لنا كل شي ‪ .‬هيا اعتذرف‬
‫كي قتلت الشرطي وأين أخفيت سالح اجلرمية؟‪ ..‬ما هذي‬
‫اجلهة اليت ّنتمي إليها‪ ،‬وماذا عن رّبت يف التنظيم؟‪ ..‬ما هذي‬
‫العمليات اليت ختطّطون هلا؟ علي أن ّزوخدنذا بأمسذا مجيذ‬
‫املتورخطني مع ‪ .‬كن متعاونا حىت ال يصيب األذى‪..‬‬
‫مل يكن يفهم ما حيصل معه أو هكذا كان يبدو وهو يردخد‬
‫مكرها‪" :‬هذا ليس صحيحا‪ .‬ال عالقة يل بشي ‪ .‬ال بدخ أنكذم‬
‫وقعتم على الرجل اخلطأ"‪ .‬مؤكدا يف كل مرة أنذه ضذحية‬
‫افترا ات ال أساس هلا من الصحخة‪ .‬وألنه انتهى إىل إنكار مجي‬
‫اهتاماهتم لوى اجلزع وجوههم وّلبخستهم عصبيخة غذري مذربخرة‬
‫فكأهنم جنس آخر غري آدمي‪.‬‬
‫اعتربو داهية ورجال خطريا‪ ،‬وأصرخوا على أن كل ما قاله‬
‫ويدعيه أكاذيب ال جيب أن ّنطلي عليهم‪.‬‬
‫عزلو ‪ ،‬وخالل مدخة حجز مل يسمحوا ألحد من معارفذه‬
‫بزيارّه‪ .‬كذل سلّطوا عليه كل ألوان التعذيب‪ .‬حاولوا أيضذا‬
‫انتزاع اعترافات منه مت الضغط واإلكرا ‪ .‬ومن شدة القسذوة‬
‫واألمل بكى كامرأة‪ .‬وإذا قدخر له أن يبقى على قيد احلياة فذ ن‬
‫أجله مل حين بعد‪ ،‬ألنّ ما ّعرض له كان ليقضي على رور ضذم‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫الحقا‪ ،‬وبدل أن خيلوا سبيله لعدم ّوفر األدلة أخضذعو‬
‫حملاكمة صورية وحكموا عليه باألشغال الشاقة املؤبدخة‪ .‬إذ جيب‬
‫أن يكون هناك متهم يُحمخلونه وزر القضية كلها‪.‬‬

‫ال ّوحة الث نية‬


‫حدث قنص لشرطي قرب السخوق املغطّاة حبي السذويقة‬
‫الشعبذي‪ .‬سقط الشرطي غارقا يف بركة من الدخما سذلبتها‬
‫مشس الظهرية لوهنا فبدت سودا قامتة‪ .‬يف حلظذة ‪-‬وبذداعي‬
‫اخلوف‪ -‬انفضخ مجي من كان متواجدا باملكان كما أغلقذت‬
‫احملال أبواهبا‪ .‬ورغم أن مركزا للشرطة كان يق غري بعيد عن‬
‫موق احلادث إالَّ أن وصول رجال األمذن اسذتغرق بعذض‬
‫الوقت‪ ،‬ومل يتمكن احملققون حينها من العثور على شي ‪.‬‬
‫يف الغد‪ ،‬وقبل طلوع الفجر ّقدخمت سيارة بيجو طذراز‬
‫‪ 504‬وشاحنة عسكرية وحوايل عشرين شرطيا من النذبة داخل‬
‫حي الدخرب العتيق‪ .‬طوَّقوا املكان الذ يقصدونه‪ ،‬ومتركزوا يف‬
‫نقاط حسخاسة‪ ،‬كما التفوا حول واد عني الصخفرا وربضذوا‬
‫أمام منحدر يسدخون كل منفذ قد يلجأ إليه املتخهم احملاصر‪.‬‬
‫أُعدخ كل شي يف ّنسيق حمكم‪ .‬ومل يرصد أحذد مذن‬
‫السخكان النيام أدىن حركة أو هفوة‪ .‬وم ّباشري الصباح األوىل‪،‬‬
‫وقبل أن يبدأ املصلّون يف اخلذرو إىل مسذجد طبانذة ألدا‬
‫‪60‬‬
‫صالهتم أعطي الضو األخضر للهجوم‪ .‬وما لبذث أن انذدف‬
‫اجملندون يف حذر باجتا إحدى الدخور السكنية‪ .‬ارّقوا األدرا‬
‫حنو الدور الثالث آخر أدوار البناية‪ .‬وسرعان ما حطّموا بذاب‬
‫املسكن املقصود‪ ،‬واكتسحوا الغرفة الوحيدة املأهولذة‪ ،‬وهذم‬
‫يشهرون أسلحتهم يف وجه اجلمي ‪.‬‬
‫هكذا وضعوا يدهم على املتخهم‪ .‬قيَّدو بعدما ّلقى ضربة‬
‫موجعة على رأسه مبؤخرة كالشنكوف أفقدّه ّوازنه‪ .‬وأعلذن‬
‫قائد العملية يف نربة انتصار وهو يفرد صدر ‪:‬‬
‫‪ -‬ها قد وقعت أيها اإلرهابذي القذر‪..‬‬
‫فتخشوا املكان يف حذر شديد أمال يف العثور علذى قطعذة‬
‫سالح حمتملة أو منشور سر يكفل هلم جترمي املقبوض عليذه‪.‬‬
‫وحني مل جيدوا يف حوزّه ما يريب أصاهبم التشوش‪ .‬أهذانو‬
‫واهنالوا عليه بالضرب أمام أبنائه وزوجته‪ .‬واقتذادو أمذامهم‬
‫مُنح اجلذع يلبس بعضه كجورب نزع علذى عجذل وال‬
‫يساو نكلة‪.‬‬
‫يف السيارة اليت حُشر فيها وضعوا عصابة حذول عينيذه‪.‬‬
‫كان واضحا أهنم ال يريدونه أن يعرف إىل أين يقتادونه‪ .‬ومت‬
‫مصباح النيون ويف غرفة ضيقة وباردة قاموا باستجوابه‪ .‬وجهوا‬
‫إليه أسهلة كثرية‪ ،‬وأصرخوا على أن يديل باعترافاّه كاملة‪.‬‬
‫‪ -‬اآلن أيها املذصي ستقول لنا كل شي ‪ .‬هيا اعتذرف‬
‫‪61‬‬
‫كي قتلت الشرطي وأين أخفيت سالح اجلرمية؟‪ ..‬ما هذي‬
‫اجلهة اليت ّنتمي إليها‪ ،‬وماذا عن رّبت يف التنظيم؟‪ ..‬ما هذي‬
‫العمليات اليت ختطّطون هلا؟ علي أن ّزوخدنذا بأمسذا مجيذ‬
‫املتورخطني مع ‪ .‬كن متعاونا حىت ال يصيب األذى‪..‬‬
‫مل يكن يفهم ما حيصل معه أو هكذا كان يبدو وهو يردخد‬
‫مكرها‪" :‬هذا ليس صحيحا‪ .‬ال عالقة يل بشي ‪ .‬ال بدخ أنكذم‬
‫وقعتم على الرجل اخلطأ"‪ .‬مؤكدا يف كل مرة أنذه ضذحية‬
‫افترا ات ال أساس هلا من الصحخة‪ .‬وألنه انتهى إىل إنكار مجي‬
‫اهتاماهتم لوى اجلزع وجوههم وّلبخستهم عصبيخة غذري مذربخرة‬
‫فكأهنم جنس آخر غري آدمي‪.‬‬
‫اعتربو داهية ورجال خطريا‪ ،‬وأصرخوا على أن كل ما قاله‬
‫ويدعيه أكاذيب ال جيب أن ّنطلي عليهم‪.‬‬
‫عزلو ‪ ،‬وخالل مدخة حجز مل يسمحوا ألحد من معارفذه‬
‫بزيارّه‪ .‬كذل سلّطوا عليه كل ألوان التعذيب‪ .‬حاولوا أيضذا‬
‫انتزاع اعترافات منه مت الضغط واإلكرا ‪ .‬ومن شدة القسذوة‬
‫واألمل بكى كامرأة‪ .‬وإذا قدخر له أن يبقى على قيد احلياة فذ ن‬
‫أجله مل حين بعد‪ ،‬ألنّ ما ّعرض له كان ليقضي على رور ضذم‪.‬‬
‫الحقا‪ ،‬وبدل أن خيلوا سبيله لعدم ّوفر األدلة أخضذعو‬
‫حملاكمة صورية وحكموا عليه باألشغال الشاقة املؤبدخة‪ .‬إذ جيب‬
‫أن يكون هناك متهم يُحمخلونه وزر القضية كلها‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫ال ّوحة الث لثة‬
‫حصل قنص لشرطي قرب السخوق املغطّاة حبي السذويقة‬
‫الشعبذي‪ .‬سقط الشرطي غارقا يف بركة من الدخما سذلبتها‬
‫مشس الظهرية لوهنا فبدت سودا قامتة‪ .‬يف حلظذة ‪-‬وبذداعي‬
‫اخلوف‪ -‬انفضخ مجي من كان متواجدا باملكان كما أغلقذت‬
‫احملال أبواهبا‪ .‬ورغم أن مركزا للشرطة كان يق غري بعيد عن‬
‫موق احلادث إالَّ أن وصول رجال األمذن اسذتغرق بعذض‬
‫الوقت‪ ،‬ومل يتمكن احملققون حينها من العثور على شي ‪.‬‬
‫يف الغد‪ ،‬وقبل طلوع الفجر ّقدخمت سيارة بيجو طذراز‬
‫‪ 505‬وشاحنة عسكرية وحوايل عشرين شرطيا مذن النذبذة‬
‫داخل حي الدخرب العتيق‪ .‬طوَّقوا املكان الذذ يقصذدونه‪،‬‬
‫ومتركزوا يف نقاط حسخاسة‪ ،‬كما التفذوا حذول واد عذني‬
‫الصخفرا وربضوا أمام منحدر يسدخون كل منفذ قد يلجأ إليه‬
‫املتخهم احملاصر‪.‬‬
‫أُعدخ كل شي يف ّنسيق حمكم‪ .‬ومل يرصد أحذد مذن‬
‫السخكان النيام أدىن حركة أو هفوة‪ .‬وم ّباشري الصباح األوىل‪،‬‬
‫وقبل أن يبدأ املصلّون يف اخلذرو إىل مسذجد طبانذة ألدا‬
‫صالهتم أعطي الضو األخضر للهجوم‪ .‬وما لبذث أن انذدف‬
‫اجملندون يف حذر باجتا إحدى الدخور السكنية‪ .‬ارّقوا األدرا‬
‫حنو الدور الثالث آخر أدوار البناية‪ .‬وسرعان ما حطّموا بذاب‬
‫‪63‬‬
‫املسكن املقصود‪ ،‬واكتسحوا الغرفة الوحيدة املأهولذة‪ ،‬وهذم‬
‫يشهرون أسلحتهم يف وجه اجلمي ‪.‬‬
‫هكذا وضعوا يدهم على املتخهم‪ .‬قيَّدو بعدما ّلقى ضربة‬
‫موجعة على رأسه مبؤخرة كالشنكوف أفقدّه ّوازنه‪ .‬وأعلذن‬
‫قائد العملية يف نربة انتصار وهو يفرد صدر ‪:‬‬
‫‪ -‬ها قد وقعت أيها اإلرهابذي القذر‪..‬‬
‫فتخشوا املكان يف حذر شديد أمال يف العثور علذى قطعذة‬
‫سالح حمتملة أو منشور سر يكفل هلم جترمي املقبوض عليذه‪.‬‬
‫وحني مل جيدوا يف حوزّه ما يريب أصاهبم التشوش‪ .‬أهذانو‬
‫واهنالوا عليه بالضرب أمام أبنائه وزوجته‪ .‬واقتذادو أمذامهم‬
‫مُنح اجلذع يلبس بعضه كجورب نزع علذى عجذل وال‬
‫يساو نكلة‪.‬‬
‫يف السيارة اليت حُشر فيها وضعوا عصابة حذول عينيذه‪.‬‬
‫كان واضحا أهنم ال يريدونه أن يعرف إىل أين يقتادونه‪ .‬ومت‬
‫مصباح النيون ويف غرفة ضيقة وباردة قاموا باستجوابه‪ .‬وجهوا‬
‫إليه أسهلة كثرية‪ ،‬وأصرخوا على أن يديل باعترافاّه كاملة‪.‬‬
‫‪ -‬اآلن أيها املذصي ستقول لنا كل شي ‪ .‬هيا اعتذرف‬
‫كي قتلت الشرطي وأين أخفيت سالح اجلرمية؟‪ ..‬ما هذي‬
‫اجلهة اليت ّنتمي إليها‪ ،‬وماذا عن رّبت يف التنظيم؟‪ ..‬ما هذي‬
‫العمليات اليت ختطّطون هلا؟ علي أن ّزوخدنذا بأمسذا مجيذ‬
‫‪64‬‬
‫املتورخطني مع ‪ .‬كن متعاونا حىت ال يصيب األذى‪..‬‬
‫مل يكن يفهم ما حيصل معه أو هكذا كان يبدو وهو يردخد‬
‫مكرها‪" :‬هذا ليس صحيحا‪ .‬ال عالقة يل بشي ‪ .‬ال بدخ أنكذم‬
‫وقعتم على الرجل اخلطأ"‪ .‬مؤكدا يف كل مرة أنذه ضذحية‬
‫افترا ات ال أساس هلا من الصحخة‪ .‬وألنه انتهى إىل إنكار مجي‬
‫اهتاماهتم لوى اجلزع وجوههم وّلبخستهم عصبيخة غذري مذربخرة‬
‫فكأهنم جنس آخر غري آدمي‪.‬‬
‫اعتربو داهية ورجال خطريا‪ ،‬وأصرخوا على أن كل ما قاله‬
‫ويدعيه أكاذيب ال جيب أن ّنطلي عليهم‪.‬‬
‫عزلو ‪ ،‬وخالل مدخة حجز مل يسمحوا ألحد من معارفه‬
‫بزيارّه‪ .‬كذل سلّطوا عليه كل ألوان التعذيب‪ .‬حاولوا أيضا‬
‫انتزاع اعترافات منه مت الضغط واإلكرا ‪ .‬ومن شدة القسوة‬
‫واألمل بكى كامرأة‪ .‬وإذا قدخر له أن يبقى على قيد احلياة ف ن‬
‫أجله مل حين بعد‪ ،‬ألنّ ما ّعرض له كان ليقضي علذى رذور‬
‫ضذم‪.‬‬
‫الحقا‪ ،‬وبدل أن خيلوا سبيله لعدم ّوفر األدلة أخضذعو‬
‫حملاكمة صورية وحكموا عليه باألشغال الشاقة املؤبدخة‪ .‬إذ جيب‬
‫أن يكون هناك متهم يُحمخلونه وزر القضية كلها‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫لبن طازج‬

‫يف ذل اليوم دق جرس الفترة الصباحية‪ .‬وغادر التالميذ‬


‫مقاعدهم‪..‬‬
‫وُّ ِجه الصبذي م أقرانه يف طابور حنو باب آخر يقذ يف‬
‫غري ذل اجلانب الذ اعتاد وأل اخلرو منه العام الفائت‪.‬‬
‫ومتلكه بسبب ذل اجلزع‪ ،‬وشعر باالرّبذاك‪ .‬ويف اخلذار‬
‫ووسط فوضى عارمة فقدَ حدسه باملكان‪ ،‬ومل يعذد يعذرف‬
‫كي يعود إىل بيتهم‪ .‬وغري خمري استسلم للحشود ّدف به إىل‬
‫األمام‪.‬‬
‫كان يعرف أنه يتواجد غري بعيد عن الشارع الذ يقطن‬
‫به حبكم أن املدرسة قريبة‪ .‬ورأى أن ميشي قليال علّه جيد مذا‬
‫يهتد به‪ .‬وسار على غري هدى مسافة معينة مث أدرك أنه عليه‬
‫أن يتوق حىت ال يوغل أكثر ويتورط يف االجتا اخلاطئ‪.‬‬
‫مذهوال أخذ يتأمل ما حوله‪..‬‬
‫ماذا حيصل معي؟‬
‫‪67‬‬
‫املعامل من حوله ال يكاد مييزها أو يعرفها‪ .‬كان كمن وجل‬
‫رقبا أسود جعله على الناصية األخرى من العامل‪ .‬وهناك راحت‬
‫ميط به ومن كل جانب عمارات ضذذمة وشذاهقة ّشذبه‬
‫العمالقة أخذت ّسد عليه األرض والسما ‪ .‬والفضا ‪ -‬إذا ما‬
‫نقل بصر حوله ‪ -‬أضيق من غرفة التذزين بالبيت‪ ،‬وهو فارغ‬
‫كأن قوة عظيمة سحبت الناس مجيعهم وّركته وحد ‪ .‬وللحظة‬
‫مل يعد يصله شي ‪ .‬ال أصدا وال أصوات وال حركة‪ .‬فقذط‬
‫صفري الريح يف الفراغ‪ .‬وأما األمان فتالشى ّذدرجييا‪ .‬وأمذا‬
‫األمل‪ ،‬فال بد أن يأيت يف احلني أو ال يأيت ألن ما بذدأ يفعلذه‬
‫اخلوف به ال حيتمل‪.‬‬
‫كعصفور أطبقت عليه كماشة مل يعد يسعه إال التذذبط‪.‬‬
‫وجثم على قلبه شعور مثقل بالكرب واليأس‪ .‬كان سيصدخق أنه‬
‫حيلم‪ ،‬وأن ما يعانيه كابوس لوال أنه يف وضح النهار‪ .‬كما أنه‬
‫يتذكر متاما ما حصل معه منذ الوقت الذ استيقظ فيها وحىت‬
‫حلظة خروجه من املدرسة‪ .‬وإن كان يتم يف أن يكون مذا‬
‫حيدث معه حيصل له يف نومه‪ ،‬ف نه مىت ّعاظمذت مشذاكله‬
‫رغب يف حل يأّيه يف جرعة سحر‪.‬‬
‫ظ متاما وأالّ مهرب له وال أمذل يف هِبذات‬ ‫يدرك أنه يق ٌ‬
‫ّعتقه‪ .‬وَيغْلُبُ على الصبذي ذعرٌ شديد حاملا يدرك أنه ضائ ‪.‬‬
‫وم ذل حياول أن يضبط انفعاالّه ويسيطر على نفسه‪ .‬يكبح‬
‫‪68‬‬
‫دموعه أيضا‪ ،‬مث يقرخر أنه حان الوقت الذ جيب أن يطلب فيه‬
‫املساعدة‪ .‬لكن ماذا عليه أن يفعل؟‬
‫جيول بنظر يف املكان من حوله‪..‬‬
‫أمام السور هناك‪ ،‬وعلى بعد رالرني مترا منه يظهر كهذل‬
‫يف مثل سن والد يرّد جينز وسترة رماديذة‪ ،‬يشذري إليذه‬
‫ملوحا‪ .‬لكن الظاهر أن الرجل ال يأبه له‪ ،‬ويبدو مهتما أكثذر‬
‫مبوعد يترقبه من خالل ساعة يد اليت يصرخ على النظذر فيهذا‬
‫وبالكاد يرف عينه عنها‪ .‬كذل على الرصذي ويف اجلهذة‬
‫املقابلة يلمح امرأة ضعيفة البنية مقوسة الظهر ّلتح احلاي ‪،‬‬
‫ال يعنيها أمر حني يناد عليها‪ّ .‬بدو مشغولة أكثر بقفتذها‬
‫وهي جتاهد يف محلها‪.‬‬
‫هل عليه أن يناد ويصرخ؟‬
‫يفكر لعلّ أمه أو أحدا من اجلريان يتعرخف علذى صذوّه‬
‫فيهب لنجدّه‪ ،‬وهكذا يأخذ يف املناداة‪" :‬يا مَّا‪ ..‬يا مَّا‪ ."..‬لكن‬
‫ال أمخه وال غريها من سكان العمارات يطلّ أو يستفسر‪ ،‬وحتما‬
‫مل يعنهم صراخ طفل متروك لوحذد ‪ ،‬ومل جيذدوا معذ يف‬
‫صراخه‪.‬‬
‫فهل ختلّى اجلمي عنه؟‬
‫ّطغى عليه الوساوس وهتامجه اهلواجس كما يستويل عليه‬
‫جزع قاّل ما دام أنه متروك يف هذا العامل لوحد ‪ ،‬وال أحذد‬
‫‪69‬‬
‫يشعر بضياعه أو باملصري الذ ينتظر ‪.‬‬
‫من هنا ّق عينه عليهم‪ ،‬وهم إذا ما راقبو فمن أمذاكن‬
‫ّعنيهم ال جيد فيها نفسه أيضا‪ .‬لكلٍّ زاويته اليت يبصر هبا العامل‬
‫وهذا ما يذهله ويشله‪ ،‬إذ مبنطق الطفل نفسه جيب أن يكذون‬
‫كل واحد جز ًا من اجملموع وله عني اجلماعة‪ .‬ما يرا جيذب‬
‫أن يكون هو نفس ما يرونه‪ ،‬وما يشعر به ال بد أن يشذعروا‬
‫به بدورهم‪ .‬لكن ذل الرجل وّل املرأة واآلخذرين بذدوا‬
‫له خمتلفني أو باألحرى مستقلني‪ ،‬هم ليسوا هذو‪ ،‬كمذا أن‬
‫وجود ال يعنيهم يف شي ‪ ،‬وإال كي ال يشعر أحذد سذوا‬
‫مبأساّه؟‬
‫ُّرعب الصبذي الفكرة اليت اكتشفها لتذو ‪ .‬ويف غمذرة‬
‫فزعه يأخذ يف الدوران حول نفسه‪ .‬خيطو هنا وهناك غري قادر‬
‫على البت يف شي ‪ .‬وحلسن احلظ يكتش أنه يقبذ خلذ‬
‫العمارة اليت هبا مسكنهم؛ فكي مل ينتبه قبل ذل ؟!‬
‫كأنه وق يف الظلمة لبعض الوقت مث عرب منها إىل النذور‪.‬‬
‫ضاع ملدة قصرية من الزمن‪ ،‬وكان فيها كمن وجل عاملا موازيا‬
‫مث ما لبث أن عاد‪ .‬صحيح أن هذ التجربة مل ّدم ألكثر مذن‬
‫دقائق معدودة‪ .‬وصحيح أنه ليس بذل السو أن ّكتشذ‬
‫أن ضائ مث هتتد إىل طريق العودة دون أن ميرخ وقت طويل‬
‫ودون أن ّشهد معاناة كبرية‪ .‬لكن كذل كان هناك شذعور‬
‫‪70‬‬
‫الصبذي املضاع مبحنته‪ ،‬وهذا ما منح ّل اللحظات قوهتا‬
‫وسطوهتا عليه‪ .‬مث إن األرر يف واق األمر ال يرجذ للتجربذة‬
‫نفسها بل لالكتشاف الذ اكتشفه‪ .‬إنه خيتل عذن اآلخذر‬
‫الذ ال يع وجود مساندّه له بالضرورة‪ ،‬وإنه ال بد متروك‬
‫يعاين قسوة الوحدة لبقية عمر دون دعم!‬
‫هل كان األمر مضحكا؟‬
‫يف البيت يكتم الصبذي القصخة وال حيكيها‪ .‬رمبا يفعذل‬
‫ذل بداف اخلجل‪ .‬ال يستطي أن يقول إنه ضذاع وصذرخ‬
‫يطلب املساعدة‪ ،‬بينما هو خل العمارة اليت يقطنها ويف مكان‬
‫قريب لطاملا ّردد عليه م أقرانه للعب فيسيؤون فهمه‪ .‬كذل‬
‫مل ينم يف ّل الليلة وال يف الليايل الالحقة‪.‬‬
‫بسبب هذ التجربة أيضا يكون ذل الصبذي قذد ودَّع‬
‫الطفل فيه‪ .‬لقد ظلّ يستعيد ّل احلادرة والرعب يغشا ‪ .‬رعب‬
‫ال يعرف كي يتجاوز أو يداويه‪ ..‬رعب غامض ال قبل لذه‬
‫به‪ .‬ولقد امت من ليلتها هبواجس مقلقة اختذت اخلوف قناعذا‬
‫وارّدت اجملهول عبا ة‪ ،‬وصارت ّك باخلوف من اجملهول‪..‬‬
‫مث إن هذا اخلوف ظل يرافقه‪ .‬يصحبه ّارة فيكون على جانبه‪،‬‬
‫وّارة يسري خلفه‪ ،‬كما يتقدمه مرات عديدة وال يتذلَّذ إالَّ‬
‫فيما ندر‪ ..‬وهو ينغصخ عليه وال يريد أن ينصرف كحاله حني‬
‫يقوم بعمل خمال يكسبه وعيد الوالدة‪ ،‬وانتظار مصري لذه ال‬
‫‪71‬‬
‫حمالة سينجلي م عودة األب من عمله‪.‬‬
‫يف ّل املرة كان اخلوف مفرطا ضاجا صاخبا ال خيلص‬
‫وال ميكنه أن يتذلص منه‪ ،‬ألنه غري حمدد بزمن وغري مرهذون‬
‫حبالة‪ .‬وهو كالكل على جلد عليه أن يقبل به وأن يتعذايش‬
‫معه يف كل األحوال‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫المرأة التي سقطت من غيمة‬

‫ابم ر األلم‪:‬‬
‫إذن‪ ،‬مل ّقض خالل حماولتها االنتحار‪ .‬بقيت حيَّة جتذر‬
‫خلفها كل أيام النحس اليت عاشتها‪ّ .‬سذتعيدها ذاكرهتذا وال‬
‫ّريد أن ّفلتها‪ .‬وكانت كلما وقفت أمام نفسها عاودهتا ّل‬
‫اللحظات مشبعة مبرارة أكرب وأفظ ‪.‬‬
‫ظلت الذكريات جتلدها‪ .‬ورغم اآلالم اليت كانت ّسببها‬
‫هلا فإهنا مل ّكن لتؤد إىل حتفها‪ ،‬إذ كان ما سيقتلها حقا هو‬
‫العيش يف اخليانة‪ .‬ويف عرفها أن كل يوم ّعيشه بعيدة عمذن‬
‫ّفتقد هو خيانة له‪ .‬مث مل ّبقى وحيدة يف عامل فقدت فيه كل‬
‫عزا أو أمل؟‬
‫كان قدرها أن ميا متذمة حبب من مل يعد موجودا بيننا‬
‫بعدما انصرف إىل حيث ال ّدر ‪ ،‬وغلَّق األبواب خلفه ظانذا‬
‫أهنا لن ّلحق به‪ .‬إالّ أهنا وم فائض احلب الذ ّغذرق فيذه‬
‫قررت العبور إليه‪ .‬أ نعم‪ ،‬لطاملا نازعها التفكري يف خالقهذا‪،‬‬
‫‪73‬‬
‫لكن ما اإلنسان إذا مل يكن جمموع زالّه؟ وما العمذر إذا مل‬
‫يكن حبماقاّه؟ ويف عجلة من أمرها قطعت شرايني سذاعدها‬
‫األيسر مبدية حادة؛ لكن احلظ الذ يبالغ يف لؤمه معها أىب أن‬
‫يناوهلا مرة أخرى ما ّريد‪ .‬وهي رهينة وضعها اجلديد مل يسعها‬
‫غري االستسالم‪ .‬ليس كمذر ّرا ‪ ،‬بل كوقوع يف حالة ّع‬
‫فيما ّعنيه فقدان الرغبة يف العيش‪.‬‬

‫يف مر م صو ‪ ،‬يف مرل ه‪:‬‬


‫مل ممل األيام أ جديد‪ .‬كما مل ّتحسن حالتذها منذذ‬
‫استفاقتها من غيبوبتها‪ .‬وأكثر من ذل بدا وضعها غري مستقر‪،‬‬
‫بل يسري إىل األسوأ وهي عازفة عن الطعام والشراب‪ ،‬اللهم إالَّ‬
‫الدوا ّتجرعه مرغمة‪ ،‬واحلقن واألمصال وهذي ّغذرس يف‬
‫جسدها بال رغبة منها‪.‬‬
‫ُّجلسها أمها كل صباح يف فراشها فال ّراها ّتزحزح من‬
‫مكاهنا‪ .‬وّظلّ وامجة فيما نظرها شاخص أمامها خالٍ من كل‬
‫ّعبري‪ .‬ويف اللّحظة اليت يعتقد فيها اجلمي أهنا فقدت اإلحساس‬
‫بكل شي ‪ّ ،‬غذو ّستعيد ما مرَّ هبا‪ .‬يعربها كفيلم قدمي باألبيض‬
‫واألسود ال يثري لديها أ مشاعر‪.‬‬
‫كانت من النوع الذ يصدخق أحالمه وحياول أن يبلغهذا‬
‫على أرض الواق راضيا بالضريبة‪ ،‬ومتقبال األمثان اليت وجذب‬
‫‪74‬‬
‫دفعها‪ .‬فالعزا أوال وأخريا يف أن ّشعر بأن متل ما راهنذت‬
‫عليه وناضلت لكسبه‪ .‬لكن ما مل ّتوقعه قد حصل‪.‬‬
‫أجزم أخوها أنه لن يتركها هتنأ مبن اختارّه زوجا‪ .‬وظلّ‬
‫يصرخ يف وجهها مثل ضفدع منتفخ األودا أنذه مسذتعد‬
‫الرّكاب جرمية حىت مينعها عما اعتزمته‪ .‬أضرت به ملا رفضت‬
‫صديقا له اختار هلا‪ ،‬وأخرجه ذل عن طور ‪ .‬كرهَته يومهذا‬
‫كما عافت صديقه حىت دون أن ّرا ‪ .‬ال بد أهنما مذن طينذة‬
‫واحدة‪ .‬وأصرخت على من أحبت‪ ،‬ومل ّكن ّدر أن أخاهذا‬
‫سينفذ وعيد ‪ ،‬وأن حبيبها سيقتل وّسقط هي يف اهلاوية مذن‬
‫بعد ‪.‬‬
‫أردو قتيال بدم بارد‪ .‬هكذا طالعتها األخبذار‪ .‬ومل يبذدُ‬
‫غريبا ما حصل بعدما ّسيخد العن وطغى‪ ،‬وبعدما موَّلت البلد‬
‫إىل مقربة ألبنائها‪ .‬وقد خلّ ذل لديها حزنا سيظل وحذد‬
‫يتكرر ليذكرها بنفسه إىل ما ال هناية‪.‬‬

‫لطف ل ى القطيع‪:‬‬
‫ال يكاد باب غرفتها يغلق لكثرة الوافذدات والزائذرات‪.‬‬
‫حيضرن لعيادهتا واالطمهنان على حاهلا‪ .‬ينحشرن وسط غرفذة‬
‫ضيقة معتمة مكتظة بأراث قدمي ّكدست فوقه أفرشة من كل‬
‫حجم ولون‪ .‬يدخلن أوَّل ما يدخلن جزعات متعاطفات مث ال‬
‫‪75‬‬
‫ميضي وقت كثري حىت جتدهن وقد أخذن يف الثرررة ككذورس‬
‫يلعل يف نشاز‪ .‬يُطلقن العنان جلهورة أصواهتن معتدين علذى‬
‫سالمة املريضة‪ .‬خيضن يف أحاديث جانبية وّسذقطط أخبذار‬
‫بعضهن البعض‪.‬‬
‫يتجاوزن مأساهتا ويقفزن على جرحها‪ ،‬حذىت إذا عذدن‬
‫ّعجنب إلقدامها على االنتحار‪ .‬يغفلن عن دوافعها ويتغافلن عمذا‬
‫فعله زبانية الظالم يف حقها وحق زوجها‪ .‬أكثر من ذل يتمادين‪.‬‬
‫يقاضينها فقط ألهنا أحبخت ودافعت عن حبها جهارا‪ .‬غري مقبول‬
‫هذا يف عرفهن‪ .‬يتشفّني هذ املرة مت هن ضغينة ال يعلم أحد من‬
‫أين رضعنها‪ .‬أصابتهن بدورهن اللورة بعدما عمخ الوبا واستفحل‪.‬‬
‫ولو كان األمر بيدهن لشحذن السكاكني بدورهن‪.‬‬
‫هل كانت ّسمعهن؟ ال يبالني لذل ‪ .‬فمىت انطلقذن ال‬
‫ميكن لشي أن يُلجمهن‪ .‬ها هو احلقد يركّب لسانا وينطذق‬
‫لهله‪ .‬وها هنخ يتسا لن من أين هلذا بكذلّ هذذا اجلمذوح‬
‫والعصيان؟ مث ال يلبثن أن يرين فيه ّنمخرا وهتوخرا ال يليق بأنثى‪،‬‬
‫بل هو احنراف خطري ليس فيه من الشرف شي ‪.‬‬
‫هتمس إحداهنخ وهي هتزخ عجيزهتا الضخذذمة‪ ،‬مذاول أن‬
‫ّثبت على وض مناسب‪ .‬لقد ارّكبت خطيهة‪ّ .‬وافقها بذاقي‬
‫النخسوة؛ بينما ّستعجب أخرى‪ .‬ما يُحيخرين‪ ،‬من أين حازت كل‬
‫ّل القدرة؟ ّلتفت إليها رالثة بعدما سا ها مذا مسعذت‪ .‬ال‬
‫‪76‬‬
‫يغرن األمر‪ .‬إنخه اجلنب يا عزيزيت وعدم الثقة باهلل‪ .‬سريعا ّعود‬
‫صاحبتها فتوافقها وهي ُّمعن يف هزخ رأسها‪ّ .‬زعذق عجذوز‬
‫فقدت كل أسناهنا‪ .‬ما فعله أخوها يشرفه‪ .‬داف عن عرضذه‬
‫بعدما مل يستط ّرويضها‪ .‬وَّعجب شابخة ألمرهن‪ .‬ولعلها ملم‬
‫باحلب أيضا‪ .‬لكننا مل نسم عنها ما يعيب‪ ،‬كما أهنا مل ّفعل‬
‫ما يشني‪ .‬فقط أحبخت وّزوخجت مبن أحبت! ّستحي أم الشابخة‬
‫جلسارة ابنتها وجرأهتا وسط احلاضذرات‪ .‬هتتذ ّسترضذي‬
‫اجلوقة‪ .‬ماذا ّعرفني أنت؟ إهنا جمرخد فتاة عابثة‪ .‬ولقذد رأوهذا‬
‫ّستحم م األوالد يف (القلتا)‪ .‬يا أمي كان ذل ملا كذان يف‬
‫عمرها ست سنوات‪ .‬أنا نفسي مسعت هذ القصخة من أكثذر‬
‫من مرة‪ .‬وّعود األم فتقرص الشابة يف فذذها ّدعوها بذذل‬
‫إىل الصخمت‪ .‬وّردف بصوت ّريد أن يسود‪ .‬لكن من غريها‬
‫خيالط الذكور؟ يكفي أهنا ّعمل ممرضة يف مستشفى غيفذارا‪..‬‬
‫حينها ُّلجم الشابة‪ ،‬وّكتفي هبز كتفيها استهانة‪ ،‬وبينها وبذني‬
‫نفسها ّردد‪ .‬أ قطي هذا؟!‬

‫م أوحت به الغيمة‪:‬‬
‫ما زال لنا يف احلياة بقية‪ ،‬وما زال لنا يف الغد حظ‪ .‬العبارة‬
‫األررية لدى أمها‪ّ .‬ردخدها مبناسبة ومن غري مناسذبة‪ّ .‬نطقهذا‬
‫بإميان عميق ال يتسلّل إليه ش ‪ .‬كما جتدها جتتهد يف العمل هبا‬
‫‪77‬‬
‫فتراها ّندف يف كل اجتا عنادا منها يف بعث احلياة يف ابنتذها‪،‬‬
‫حىت أنخها أحضرت مرة أحد الشيوخ إىل البيت‪ .‬قالت عنه إنه‬
‫أحد املرابطني‪ .‬كلّفها كثريا لكن كلّ شي يهذون يف سذبيل‬
‫غاليتها‪.‬‬
‫أجرى الشيخ معموله‪ .‬ويف صباح الغد كانت الفتاة قذد‬
‫وطأت األرض بقدميها املتحجخرّني‪ .‬وجدت نفسذها ّنذدف‬
‫خار الفراش بعدما دامهها دوخار خفي وغثيان كادت بسببه‬
‫أن ّطرح كل أمعائها‪.‬‬
‫استجمعت قواها واستندت على اجلدار َّصلبُ جِدعها‪.‬‬
‫مث حاولت املشي وراحت جتر رجليها وبدت أشبه بصبذذي‬
‫صغري حياول أن خيطو خطواّه األوىل‪.‬‬
‫جاهدت لتذر من حدود غرفتها أو الصندوق الذذ‬
‫حشرت فيه‪ .‬وكادت ّق وهي ّعرب اجملاز‪ .‬وعندما خرجت إىل‬
‫احلوش كان املاضي قد انزلق خل ظهرها‪ .‬وجدت نفسذها‬
‫ّغمض عينيها وهي ّواجه دفق النور‪ .‬ومل ّستط أن ّقذاوم‬
‫إغرا اإلبصار‪ ،‬فأصرخت جاهدة على فتحهما ومقاومة العمى‪.‬‬
‫حينها كانت كمن يُطل على هذا العامل عرب حلم خضر أو من‬
‫فردوس مساو ‪.‬‬
‫كانت الشمس فاّرة‪ ،‬لكن أشعتها نافذة حىت أهنا شعرت‬
‫هبا ختترق كل مسامات جلدها‪ .‬جتاوزت شذعورها بالذدوخار‬
‫‪78‬‬
‫والغثيان‪ّ .‬نفست وعبَّت مل رئتيها هوا منعشا حيا‪ .‬وغذري‬
‫الشمس والنور واهلوا كانت هناك أمها ّربض وسط احلذوش‬
‫جتلس القرفصا أمام صينية القهوة‪ .‬ما إن رأت ابنتذها حذىت‬
‫جتاوزت مرضها وأالم املفاصل الذ ّعاين منه‪ ،‬وقامت دهشة‬
‫ّطفر الدموع من عينيها‪.‬‬
‫غري قادرة على متال نفسها خطت باجتا ابنتها ّأخذذها‬
‫يف أحضاهنا‪..‬‬
‫‪ -‬احلمد هلل أن عدت إىل احلياة أخريا‪.‬‬
‫غالبت االبنة حزهنا‪ ،‬وحاولت االبتسام ما قدرت‪.‬‬
‫‪ -‬يا أمي لسوف ينتهي كل هذا‪ ،‬ويبدأ زمن هؤال !‬
‫قالت ذل ‪ ،‬بينما هي ّض يدها على بطنذها‪ .‬كانذت‬
‫وكأهنا ّشري إىل شي ما‪ .‬ورمبا إىل مضغة راحت ّتشكّل هناك‬
‫يف أعماقها‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫موعد خارج اإلطار‬

‫"يقبأ ل ى ج المي الحية معجبـ فـي بـ دأل األمـر‪ ،‬ثـم ال ي بـ‬


‫أا يراه أصأ جم ال و م ال ما جالمي الع جية‪ ،‬فيط لبن بردهـ‬
‫نت "‬ ‫م‬
‫بجم ليوا ‪ -‬موفيق الح يم‬

‫كنتُ غاضبة‪ .‬سيهة املزا وغاضبة‪ .‬وكانت أعصابذذي‬


‫مشدودة فيما رائحة الصديد اليت يعبق هبا اجلو ّسبب يل اهليا‬
‫وّزيد من نفور ‪ .‬ما من حل!‪ّ ..‬وقعته أن يصل قبلي‪ ،‬لكذن‬
‫يبدو أنه ّأخر‪ ،‬أو يف الواق أنا من أبكر‪ .‬ما يزال على موعدنا‬
‫عشر دقائق كاملة‪ .‬ال أحد يقذدر علذى ضذبط مواعيذد‬
‫املواصالت‪ .‬ختشى أن ّصل متأخرا فتصل متقدما‪ .‬حيصل هذا‬
‫أيضا وإن نادرا‪ ،‬وال أدر هل عليخ أن أشعر باالمتنان لذل ؟‬
‫لو اّفقنا أن نلتقي يف مقهى لكان أفضذل‪ .‬مرجذت أن‬
‫يصل قبلي وأضطر إىل الدخول وحد والبحث عنه كمغفلة‪.‬‬
‫وها أنا اآلن أق كدبوس مغروز يف أرض الرصي أنتظر ‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫أشعر بأين يف ورطة‪ ،‬وأسأل كي أحافظ على وقذار‬
‫ورزانيت بينما أنا على صفيح ساخن‪ .‬ال ميكن أن يكون اجلحيم‬
‫أكثر قسوة‪ .‬وال خالص يل من هذا الوض إالَّ بأن أمذول إىل‬
‫عمود إنارة أو كرسي خشبذي أو كيس نفايذات ال يهذتم‬
‫لوجود أحد‪ .‬وحد هذا ما سيدف ع القرف الذ يصيب‬
‫به املارة وأصحاب السيارات‪ .‬جتدهم وهم يبذادرون للفذت‬
‫انتباهي مثل (الزومبذي)‪ّ .‬فضحهم عيوهنم اجلاحظة وألسنتهم‬
‫املدلوقة والسيالن املزمن الذ يعانون منه يستفحل مذىت رأوا‬
‫إنارا واإلناث يف كلّ مكان‪ .‬وحىت ذل الشرطي وهو يقذ‬
‫على الرصي املقابل والذ هو من املفروض هنذا حلمذاييت‬
‫ينصب فذاخه حويل ويعتقد لبالهته أنه مثلي مثل أ ذبابذة‬
‫حقرية ميكن أن أق على عسله بسهولة‪.‬‬
‫أفكر أن أغيظهم‪ .‬ماذا لو استجبت لتحرشات أحذدهم؟‬
‫أضح مث ال ألبث أن أبتر ضحكيت‪ .‬إذ علي أن أظل جهمذا‬
‫عابسة‪ .‬هنا ال جمال للرهافة‪ .‬سيظنون الظنون مجيعها إذا مذا‬
‫أبديت رقيت‪ ،‬وحينها لن أخلص من غبائهم‪.‬‬
‫خيرج هذا عن طور ويدفع ألقتذرف أ مصذيبة‪.‬‬
‫وأّصوخر أين ال أحتا إىل إعمال املذيلة بقدر ما أحتذا إىل‬
‫فرقعة ّصرفهم عنخي‪ .‬يف عاملي اآلخر كنت أطفهُهم بكبسة زر‪.‬‬
‫ال أسهل من أن أضعهم يف حفرة وأهيل عليهم التراب من غري‬
‫‪82‬‬
‫أس ‪ ،‬لك هنا حباجة لرشخاش ملقم بست وستني طلقة‪ .‬هكذا‬
‫أطلق بينما ألت حول حمور دورة كاملة‪ .‬ست وستون طلقة‬
‫ّع ستا وستني إصابة ال حمالة‪ .‬وم ذل ال أظن سذأختلص‬
‫منهم مجيعهم هؤال احلمقى‪.‬‬
‫أجفل وقد باغت صوت خفيض مهذب يلقذي بسذالمه‪.‬‬
‫ألتفت حنو مصدر وأنا مرعوبة‪ ،‬وال أصدق أين أق يف حضرّه‪.‬‬
‫مل أّوق أن ّكون أنتَ‪ .‬أبد ّعجبذي مذن حركتذه‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬أردتُ أن أفاجه ‪.‬‬
‫وددت أن أردخ عليه‪ ،‬وأقول‪" :‬حاول أن متفظ مبفاجآّ‬
‫لنفس "‪ ،‬لك أمسكت‪ .‬ليس من اللباقة يف شي أن أكذون‬
‫صرحية دائما‪ .‬يف حذر أنبهه‪ .‬لكن أفزعت حقا!‬
‫يف الثالرني من عمر ‪ .‬معنتٍ هبندامه كما العادة‪ .‬وسذامق‬
‫إىل حد مهول‪ ،‬فال أعرف مىت وقفت أمامه هل عليَّ أن أممل‬
‫طوله أم أدار قصر ؟ حياول ّقبيلي‪ ،‬لك أمد يد أصافحه‪.‬‬
‫أقط عليه الطريق يسوق إىل ذل حرجي‪ ،‬كما أين ال أريذد‬
‫أن أبدو كفتاة سهلة لتتالقى األك سريعا ويف برودة؛ علذى‬
‫األقل من ناحييت‪ .‬وبينما أُصرخ على قناع اجلدِّيذة ال أريذد أن‬
‫أنزعه حياول هو أن يبدو مرحا وودودا‪.‬‬
‫يعود فيقول‪ّ :‬بدين مجيلة‪ .‬يستفزين هذ املرة‪ .‬واحلقيقة ال‬
‫أجد يف كالمه أ مدح‪ ،‬بل يصل ما قال كنوع من التملذق‬
‫‪83‬‬
‫الزائ ‪ .‬فأنا ال أزال مستثارة وعالقة يف احمليط الذ اضطررت‬
‫أن أنتظر فيه‪.‬‬
‫كانت يد اليسرى ال ّزال خل ظهر ‪ ،‬مث فجأة وكمذا‬
‫يفعل الساحر أجد يسحبها م باقة ورد كبرية وملوَّنة‪ .‬يقدمها‬
‫يل دون أن ينسى ّنهيدة العاشق‪ ،‬فيبدو حبركته ّلذ وباقذة‬
‫الورد شبيها بذ "كريس أودونيل" يف فيلم األعذزب‪ ،‬لكذ‬
‫للصراحة مل أكن جاهزة ألجن به خصوصا م األسباب الذيت‬
‫أمحلها‪.‬‬
‫حر خ بذي أيضا أن أفرح وأبتهج وأنا أستقبل الباقة‪ ،‬وأن‬
‫أنشغل بورود وأّظاهر بشم عطرها‪ ،‬لكن هذا ال حيصل بعدما‬
‫ّلبخس الرعب‪.‬‬
‫كنت ‪ -‬وهذا ما مل يفهمه ‪ -‬قد بدأت أشعر باالرّبذاك‬
‫والتشتت‪ .‬بل أكثر من ذل ظهر أين مفككة كدمية عبث هبا‬
‫أحدهم وفصل أجزا ها‪ .‬ورحت أّسا ل أال يزال الشرطي يف‬
‫مكانه؟ هل يبحث لنا عن هتمة؟ أّصور أنه ليس هناك ما مينعه‪.‬‬
‫وميكنه إذا ما شا أن يض القيد يف أيدينا ويسحبنا أمامذه إىل‬
‫املركز‪ .‬وألنه مل يفعل أقدر أين أعيش معجزة‪.‬‬
‫ّسلمتُها مكرهة وعلى مضض‪ .‬وبينما ختلص هذو مذن‬
‫هوس الباقة‪ ،‬بقيت أنا رهينة هلذا‪ ..‬كرهتذها ورود ‪ .‬أقذدر‬
‫رومانسيته‪ ،‬كما يعني اهتمامه املفرط بذي‪ ،‬لكن حقا جبانة‬
‫‪84‬‬
‫أمام أوله الذين يعلنون عن رفضهم لكل ّناغم أو انسذجام‬
‫بداع احلشمة والوقار‪ّ .‬شي بذل ّصرفاهتم‪ .‬كما ال ميكن أن‬
‫أّعامل م ورود دون أن أشعر بنظراهتم املركزة حنو كما لو‬
‫كنت أقدم عرضا هزليا ساخرا وجريها‪ .‬وأوخل ما فكرت فيذه‬
‫وأنا أستقبل باقته أن أحشرها يف حقيبة يد ‪ ،‬لكن ظهر أهنا ال‬
‫ّسعها‪.‬‬
‫باقة ورد ّصل كأيقونة على جهذاز "أيبذاد" ّكفذي‬
‫وّشعرين أن أنثى وجتعل أضج بالفرح‪ .‬يف عامل االفتراض كل‬
‫شي سهل وممت ‪ .‬حىت أين مىت شعرت بالتعذب أو الضذجر‬
‫كنت اعتذر وانكفئ على جنبذي اآلخر وأنام‪ .‬وحد اإلطار‬
‫األزرق قلعيت‪ .‬ووحد فيه أعامل كملكة‪ .‬وأمخا يف هذا العذامل‬
‫املتواطئ فال غري املعاناة‪ .‬على النسا فيه أن حيظني بشذجاعة‬
‫نادرة لقضا مشاويرهن وإال ضعن كقرابني مهملة‪.‬‬
‫ظلّت ابتساميت م ذل مرسومة على وجهي دون أن يع‬
‫ذل أين مبتسمة فعال‪ .‬وقدخر هو هواجسي فراح يسأل ‪ :‬ماذا‬
‫ب ؟ ويف صوت أشبه باآللة الصدئة نطقت‪ :‬ال شي ‪ ..‬كرخرهتا‬
‫مرّني‪ .‬أعقب ذل صمت دام لثانية واحدة أعلنت عقبه عذن‬
‫رغبيت يف االنصراف‪ .‬طبعا اختلقتُ سببا حاولت أن أصذوغه‬
‫حىت يبدو مقنعا‪ .‬لكن وأنا أطرحه بدا وأنه يتضمن خلال مذا‪.‬‬
‫وم ذل أصررت عليه متملصة‪ .‬وحني وليته ظهر وانطلقت‬
‫‪85‬‬
‫مل أكن يف حاجة ألن أّظاهر بالسعادة أو أن أكبذت فرحذي‬
‫مغتاظة‪ .‬فلقد أمكن حقا أن أبتسم بصفا وراحة ألول مرة‪.‬‬
‫وكنتُ أردد ما بي وبني نفسي‪" :‬إنه يبدو ذكيا مبا يكفي‪ ،‬وال‬
‫ميكن أن ّنطلي عليه حيلة ممارلة‪ .‬لكنه أيضا لطيذ وحتمذا‬
‫سيعذرين‪."..‬‬

‫‪86‬‬
‫ب ظِلِّه‬
‫صَاحِ ُ‬

‫‪-1-‬‬
‫استيقظ من نومه مثقال كمن كان يؤد سذرة‪ .‬انتبه إىل‬
‫من لانبه فتذكر ليلة البارحة‪ .‬ملا حملها أشار إليهذا‪ .‬وعنذدما‬
‫اقتربت منه عزف عنها وّأفّ ‪ ،‬مث قَبِل هبا مرغما جزعا بالقدر‬
‫نفسه الذ مل يكن يسمح له بقضا ليله وحيداً‪.‬‬
‫مرك إىل احلمام‪ ،‬وهناك حاول أن يغتسل ليتذف مذن‬
‫ّعب حيسه لكنه وجد احلنفية مضربة كالعادة‪ .‬اكتفى بتأمذل‬
‫حالته يف املرآة‪ .‬وعلى صفحتها ألفى صورة شاحبة ال لون هلا‪.‬‬
‫عاد إىل غرفة نومه‪ ،‬وفتح النور‪ .‬حينها استيقظت الفتذاة‪.‬‬
‫ّأملها مليخا وّأس ‪ .‬كانت البارحة ّشبه ظلمته وها هي اآلن‬
‫جتسد مأساّه كاملة‪.‬‬
‫لفَّت بصرها ّتعرف على املكان من حوهلذا‪ ،‬وكانذت‬
‫وكأهنا ّكتشفه ألول مرة‪ .‬سألته عن الكتب املنتشرة بعبذث‬
‫وفوضى يف غرفة نومه‪ .‬وأخربها أهنا متعلقة بعمله‪ .‬قالت إهنذا‬
‫‪87‬‬
‫متا إىل من يهتم هبا‪ ،‬فهي هنا عرضة للغبار والتل أكثر من‬
‫أ شي آخر‪ .‬وّعجب لتدخلها فيما ال يعنيها‪ ،‬وامتعض منها‬
‫وبدأ يشعر بالتوّر‪.‬‬
‫عليهَ أن يتذلص من الفتاة سريعا‪..‬‬
‫أخربها أنه ّأخر عن موعد عمله‪ ،‬وهو بصدد اخلذرو‬
‫حاالَ‪ .‬فتحركت ألول مرة‪ ،‬وهي ّسأله هل ميكنها أن ّعذود‬
‫هذا املسا أيضا‪ .‬م خر لكنه وجد خمرجاً مناسبا‪ .‬قذال إنذه‬
‫مضطر للسفر يف رحلة عمل‪ ،‬ولن يعود قبل هناية األسبوع‪.‬‬
‫كان جو الغرفة مشبعا بالرطوبة والعفن‪ .‬وبادرت الفتذاة‬
‫أوَّل ما قامت إىل فتح النافذة‪ ،‬لكنها انتبهت إليذه يزجرهذا‬
‫ويصدها ويق حائال دون وصوهلا إليها‪.‬‬
‫استغربت واستهجنت ّصرفه فيما هي ّعذود إىل مكاهنذا‬
‫مذعنة‪ .‬قالت إهنا ّريد هوا ً نقيا بدل هوا الغرفة اخلانق! وراحت‬
‫ّرّد رياهبا على مهل‪ .‬حينها فقط عاد إليه هدو ‪ .‬ومن مكانه‬
‫ذاك مل يفته أن يطلّ عرب خصاص النافذة إىل اخلار ‪.‬‬
‫وجد ُ هناك ينتظر وقد أبكر كعادّه‪ .‬كان ظِلّه يقذ‬
‫مستندا إىل عمود اإلنارة ومشغوال بتصفح جريدة حيملها معه‪.‬‬
‫وحاول أن يبتسم بعدما عربّه فكرة خبيثة‪ .‬ماذا لو يعقد معذه‬
‫صلحا؟‪ ..‬يدعو إىل شقته ومينحه الفرصة يف أن يقلِّب الفتذاة‬
‫اليت معه!‬
‫‪88‬‬
‫‪-2-‬‬
‫انطلقا معًا‪ ،‬وعلى السلم جتاوزها ينكرها‪ .‬وخار العمارة‬
‫غمر ضو الصباح فمدَّ يد أمامه ينشد مزيدا من العتمة‪ ،‬وإن‬
‫راحت عينا جتوسان حميطه وّستطلعان مكان صاحبه‪ .‬ووجد‬
‫يطو جريدّه ويستعد للحاق به‪.‬‬
‫مل ّكن مقهى "السعادة" بعيدة عن مقر سذكنا ‪ .‬عذرخ‬
‫عليها كعادّه كل صباح‪ .‬جلس يف مكان قصي وطلب قهوّه‬
‫وهو يلمح بنص عني ظلّه يركن إىل طاولة لوار ‪ ،‬مث وهذو‬
‫يقدم طلباّه كأ زبون عاد ‪.‬‬
‫ّصوخر أنه ال يزال أمامه متس من الوقت‪ .‬فتح حمفظتذه‬
‫واستذر منها ورقة وقلما‪ .‬فكرخ قليال‪ ،‬مث سطر عنوانا كذبريا‬
‫جعله يتوسط الورقة‪" .‬الرجل العصر "‪ .‬وما سوَّد الحقا كان‬
‫مقاال يف املوضة‪ ،‬راح يص فيه أحسن األزيا اليت ينبغي على‬
‫املر أن يرّديها يف هذا الفصل‪ .‬وخلُصَ أنّ أحسنها ما كذان‬
‫بلون رماد ‪ ،‬فهو برأيه لون "ال متحزب"‪.‬‬
‫انتهى من قهوّه ومن كتابة مقاله‪ ،‬وقرخر أنه حان الوقذت‬
‫ليتوجه إىل مقر جريدة "املَشرق" أين يعمل‪ .‬وحني كان ينقذد‬
‫النادل احلساب خطرت له فكرة أن يدف مثن القهوة اليت شرهبا‬
‫صاحبه أيضا‪ .‬وهذا ما فعله‪.‬‬
‫استقل ّاكسي‪ .‬ويف داخل السيارة ضح حىت أربذ‬
‫‪89‬‬
‫السائق‪ .‬كان يستعيد البلبلة اليت أوق فيها ظلّه الذذ ّسذمر‬
‫مكانه متعجبا مستغربا ّصرفه‪ .‬ألوخل مرة يتس له أن يفلذت‬
‫منه‪ ،‬لكنه كان على يقني أنه سيجد وقد سبقه إىل مقر اجلريدة‬
‫ما دام على علم بكل خططه وطرق سري ‪.‬‬

‫‪-3-‬‬
‫أمام مدخل اجلريدة سأله أحد املارين عن الوقت فاكتش‬
‫أنه فق َد ساعة يد ‪ .‬كانت التذكار الوحيد الذ يربطه بوالد ‪.‬‬
‫حزن لضياعها‪ ،‬مث قرخر أال يهتم‪ .‬إذ ال جيب أن يتوق الذزمن‬
‫عندها‪ .‬ويف الداخل حيَّا بعضهم لكنه مل يهتم بالردِّ على أحد‪.‬‬
‫ويف مكتبه هتال على كرسيه ضجرا‪ ،‬وّسا ل عذن الوقذت‬
‫وكي له أن ينقضي‪.‬‬
‫دخل عليه مكتبه صحفي متمرن أّا مبقال ملس فيه أوَّل ما‬
‫وض يد عليه ميله للون األبيض‪ .‬أنكر عليه وطالبه بإعذادة‬
‫صياغته مبا يتوافق وسياسة اجلريدة‪ .‬مث إنه ال يريد أخبارا مرجه‬
‫أمام صاحبه‪.‬‬
‫انصرف الصحفي مث عاد بعد ساعة‪ّ .‬أمل ما أجنز ‪ ،‬وكان‬
‫واضحا أن ما كتبه هذ املرخة مييل إىل اللون األسود‪ .‬سأله ملاذا‬
‫يصر على وج الرأس‪ .‬ومزق املقال أمامه وهو خيرب أنه أبذدا‬
‫لن يكون صحفيا ناجحا ما دام يفكر ويكتب هبذذا الشذكل‬
‫‪90‬‬
‫املري ‪ .‬وكان صوّه منفعال وحادا حىت أنه شعر بالضغط يعود‬
‫إليه‪.‬‬
‫رنَّ هاّفه اخللو ‪ .‬وانتشله من كدر رفيقه حكيم وهذو‬
‫يدعو للسهر عند الليلة يف شقته‪ .‬رحب بدعوّذه واعتربهذا‬
‫فرصة مناسبة سيتس له فيها أن يفر عن مهِّه ومذا يذنغص‬
‫عليه‪.‬‬

‫‪-4-‬‬
‫كان كل شي معدا الستقبال الذزوار‪ .‬وعقذد جملذس‬
‫الشراب واحلشيش‪ .‬هاجت الرؤوس وماجت حذىت أدركهذا‬
‫التعب والفتور‪ .‬وشَذصَ ببصر حنو السذق ليكشذ لذه‬
‫الدخان املتصاعد واملتراكم عن شبح له مالمح ظلّذه فعجذب‬
‫كي أمكنه أن يلحق به وهو يف عزِّ غيبوبته‪ .‬وحىت يهرب منه‬
‫طالبهم بأن يسطلو رانية‪.‬‬
‫قدموا إليه سيجارة جديدة عبَّ منها نفسا طويال‪ ،‬وكاد‬
‫خيتنق‪ .‬الحقا ّصوَّر نفسه مارداً جباراً يأسر العامل وحيتجذز‬
‫داخل علبة كربيت‪ .‬راقته الفكرة فشطح خبياله‪ .‬استلّ عذودا‬
‫أشعله مث عاد فأودعه العلبة‪ ،‬وراح يستمت بالعامل وهو حيترق‪.‬‬
‫استسلموا لعادة الكالم فتحدروا بال انفعال يف كل شذي‬
‫وال شي ‪ .‬ووجد نفسه يديل بدلو يف احلديث‪ .‬قال خياطذب‬
‫‪91‬‬
‫حكيم‪ .." :‬وال سبيل للعظمة ل اليوم إال إذا ّوِّجت قذاّال‪.‬‬
‫ّارة باسم الدين وّارة أخرى باسم السياسة؛ وأما إذا رُمت أن‬
‫ّكون من الفرقة الناجية فليس علي إالَّ أن ُّغذري جنسذ‬
‫وّقلبَ شاذا‪ ."..‬وضج اجمللس بالضح ‪ ،‬مث حل صمت مطبق‬
‫كالعدم‪ ،‬أعقبه طنني ذُبابة حاولت أن متل وجهه كرهذاً‪ ،‬مث‬
‫صوت سيارة مزجمرة أخذت ّعرب الشارع يف جنون‪.‬‬

‫‪-5-‬‬
‫أزف موعد عودّه إىل مسكنه‪ ،‬فأعلن عن رغبته يف املغادرة‪.‬‬
‫أبدت الشلَّة استيا ها وّرجته أن يبقى ويبيت بينهم‪ ،‬لكنه مجخج‬
‫واختلق أل عذر لينصرف‪ .‬ويف اخلار ّلقفته ظلمة موحشذة‬
‫جعلته يندم على ّسرعه؛ وودَّ لو عاد على أعقابه‪.‬‬
‫سار شاعرا بضع ووهن‪ ،‬وحذاول مذا اسذتطاع أن‬
‫يستأنس بظلّه وإن كان ال يرا ‪ ،‬إذ يكفي أنه هو يرا ‪.‬‬
‫من زقاق جانبذي طل عليه أشرار‪ .‬طالبو مبذا حيمذل‬
‫فحاول املماطلة‪ .‬وإن كان قد ذهل وجزع فلمنذاورهتم لذه‬
‫ولشعور بأنه بوغت‪ .‬وأما اخلوف فلم يأسر قلبه إال الحقذا‬
‫وحني ّأخر صاحبه يف الظهور‪.‬‬
‫وربوا عليه‪ ،‬وحاول التذلص منهم فانقلب ما بينذهم إىل‬
‫معركة حقيقية كان أمر اخلاسر فيها حمسوما سلفاً‪ .‬شذرع يف‬
‫‪92‬‬
‫الصراخ وهم يكيلون إليه ضربات قاسية وموجعة‪ ،‬مث أحذس‬
‫حبركة غادرة ومِدية ختترق جنبه األيسر‪ .‬وأخذ ينزف بينما هم‬
‫يقلِّبونه قبل أن ينطلقوا هاربني‪.‬‬

‫‪-6-‬‬
‫جاهد يكبت أمله فيما راحت دماؤ ّسيح وّغطي األرض‬
‫حوله‪.‬‬
‫كان يتنفس بصعوبة‪ .‬وما من حكمة ميكنها أن ّلط ما‬
‫بات حيدسه‪ .‬ويف انتظار ذل الذ قد يأيت وال يذأيت حمنذة‬
‫أخرى‪ .‬وطال انتظار حىت غشا اليأس فغاب عن الوعي‪.‬‬
‫الحقاً استفاق على شبح يق عليه‪ .‬شذص مظلم وبال‬
‫مالمح قام يغطي له وجهه لريدة كان حيملها معذه‪ .‬مث إنذه‬
‫انصرف عنه يتجاوز خبطى وئيدة‪..‬‬

‫‪93‬‬
‫الفحل الذي أكل قلبه‬

‫يف غرفته‪ ،‬يف فندق "هيلتون" ‪-‬أين كان مدعواً‪ -‬بدا غري‬
‫مهتم بالفتاة اليت اصطحبها معه للوسه إىل طاولة املكتب‪ .‬كان‬
‫مرّديًا "يت شارت" رماد كتبت عليه عبذارة "إىل األبذد"‬
‫باالجنليزية‪ ،‬و"شورت" داخلي مبربعات صغرية بيضا وسودا ‪،‬‬
‫كما كان ينتعل خفا منزليا ب اللون‪ ،‬ويض نظارة رؤية مقعرة‬
‫لتقريب النظر‪ ،‬فيما هو مشغول بالكتابة مباشرة على حاسوب‬
‫حممول مفتوح أمامه‪.‬‬
‫كأس الويسكي على جانب يد الذيم يرّشذ منذه‬
‫رشفات يبلل هبا شفتيه يف الغالب‪ .‬يعترف أنذه ال ملذو لذه‬
‫الكتابة والسهر إالَّ م الشرب خصوصا إذا كان املشروب من‬
‫النوع املمتاز وهدية من اجلهة صاحبة الدعوة‪ .‬كذل فكذرة‬
‫السيجارة يف يد مفز على الكتابة‪ .‬اعتذاد التذدخني قبذل‬
‫مذيرات الطبيب وإصابته بتصلب يف الشرايني التاجيذة‪ .‬اآلن‬
‫وألنه ّآل معها يكتفي هبا مطفأة يشغل هبا يد ملتمسا ّل‬
‫‪95‬‬
‫احلالة النفسية اليت ّتيحها له‪ .‬وكان إذا ما شعر بالضغط ووجد‬
‫نفسه جمرباً أشعلها وشدَّ منها نفسا أو نفسني ليقوم بعد ذلذ‬
‫بسحقها يف املنفضة‪.‬‬
‫لوهلة اعتقد أن ما سوَّد إىل اآلن جيد ويستحق العنذا ‪،‬‬
‫لكن وهو يعيد قرا ّه متأنيا اعترا بعض القلق وشعر وكأنذه‬
‫ينقصه شي ‪ .‬ملسه فاّرا ال ميكن أن يَعلَق منه شي يف الذاكرة‪.‬‬
‫فهو يشبه يوما عاديا ال حدث فيه مهم‪ ،‬وهكذا ال بد أن يُنسى‬
‫يف غمرة يوم جديد‪ .‬وحاول بغريزّه ‪ -‬وكمذا اعتذاد ‪ -‬أن‬
‫يتعرخف على وجه اخللل فيه‪.‬‬
‫كان كاّبا أصابته الشهرة مؤخرا وهو يف هنايذة العقذد‬
‫اخلامس من عمر ‪ .‬فازت روايته "كورر أقل" لذائزة دوليذة‬
‫وّرمجت ألكثر من لغة عاملية‪ ،‬وأما جمموعته القصصية "أقحوان‬
‫لكل األوقات" فالقت رواجا وإقباال كبريا‪ .‬كما مظى اليذوم‬
‫مقاالّه وكتاباّه باهتمام واس من لدن وسائل اإلعالم‪.‬‬
‫ما يشعر به ليس لديد عليه‪ .‬فلطاملا ألفه بطبعه املتشك ‪،‬‬
‫والعتقاد أن اكتمال أ نص يبدأ بعدم الرضا عنه منذ ساعة‬
‫الوالدة‪ ،‬وإن كان ما يُغذ وساوسه ويذكيها وجيعلها أكثذر‬
‫حدخة هذ املرة شعور بأن الوقت يدامهه‪ .‬عليه أن ينتهي مذن‬
‫كتابة قصة جديدة وأخرية يدف هبا إىل النشر قبل الغد يف التزام‬
‫هو جز من عقد مدفوع األجر أبرمه م جملة "إبداع" الثقافية‬
‫‪96‬‬
‫ويقتضي منه ّقدمي عشر قصص قصرية‪ ،‬قصة كل شهر‪.‬‬
‫راح يبذل جهد من جديد‪ ،‬وحاول ما استطاع أن يسترسل‬
‫أكثر‪ .‬فكرخ أيضا يف عنوان مناسب ملا يكتبه‪ ،‬لكن مل ّسعفه قرحيته‬
‫بأ شي ‪ .‬واضح أن هناك معاناة أخرى يف األفق‪ .‬وهو وحبكذم‬
‫جتربته على معرفة واضحة مبا سيحدث‪ .‬أحيانا حيضر العنوان أوال‬
‫ومنه يتمذض النص‪ ،‬ويف مرات عديدة يولد العنوان يف خضذم‬
‫النص وخالل الكتابة أو يظهر م هنايتها‪ .‬كما حيصل أن يتيه عنه‬
‫مرات ويعدو يالحقه دون جدوى‪.‬‬
‫وحاول جتاوز شعور بأنه حماصر‪ .‬مؤكذدا لنفسذه أن‬
‫العنوان سيحضر يف أ حلظة‪ .‬عليه أالَّ خيشى شيها‪ .‬والتفذت‬
‫صوب الفتاة اليت ّقامسه الغرفة‪ ،‬حىت إذا فعذل كذان كمذن‬
‫يكتشفها ألول مرة‪ .‬ابتسم هلا وشعخت عينا بربيق عجيذب‪.‬‬
‫واكتسح مالحمه وهج غطى على كل ّعبه وكدر ‪.‬‬
‫اجنذب إليها‪ .‬وال ميكن ادعا أن ما حصل كان بسذبب‬
‫سحر الفتاة ما دام أهنا برفقته منذ البداية‪ .‬وإمنا حصل األمذر‬
‫بفعل رغبته‪ ،‬وعندما شا أن حيرخرها أخريا من عقاهلا‪ .‬هكذذا‬
‫كان يفعل‪ .‬يكبحها ويطلقها مىت أراد‪ .‬وهو إذا كان يذتحكم‬
‫هبا ف ن هناك دائما بيض وافر يف سلته‪.‬‬
‫فرك يديه كمقبل على وليمة دمسة‪ .‬ودون مماطلة قام يقفز‬
‫إىل السرير لانبها‪ .‬حينها مالت الفتاة حنو ‪ ،‬وراحت ّسذتقبله‬
‫‪97‬‬
‫بقبلة طازجة ظلت متفظ له هبا مذ جلس إىل املكتب وحاسوبه‬
‫مشغوال عنها‪.‬‬
‫قبل ذل كانت الفتاة ال ّفتأ ّنتظر ضجرة‪ .‬ولتجذاوز‬
‫مللها وضيقها وحرجها انشغلت هباّفها وراحت ّتصفح مواق‬
‫التواصل االجتماعي‪ .‬كانت ّفهم أنه مذا دام علذى مكتبذه‬
‫ومستغرقا يف أوراقه فعليها أال ّقلقه‪ّ .‬درك خصوصية املبدع يف‬
‫هذ احلالة‪ّ .‬ل اخلصوصية اليت لن يرضى أن ينتهكها أحذد‪.‬‬
‫هو هناك ككلب حدخد حيز ببوله‪ ،‬حىت إذا عمد إىل جتذاوز‬
‫ّل احلدود أيخًا كان ناله ما ال يرضا ‪.‬‬
‫أما اآلن‪ ،‬وبعدما بات على السرير وإىل جانبها‪ ،‬فقد سذألته‬
‫هل ّقرأ له شعرا كتبته حديثا‪ .‬نظر إليها‪ .‬وإن أدركت مغذزى‬
‫نظرّه فإهنا مل ّكن مستعدة لتستسلم هذ املرة‪ .‬إهنا فرصتها الذيت‬
‫لن ّتكرر يف أن ّفتح معه املوضوع الذ يظل يشذغلها‪ .‬ولذن‬
‫يُرضيها إال أن ّقبض منه شيها ذا بال‪ .‬وسألته خماطرة بإقالقه‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن مىت ستكتب يل ّل املقدمة؟ الناشر يستعجل ‪..‬‬
‫شُدت عضالّه كمن أصيب بلسعة حارقة‪ .‬وقال هلا وهو‬
‫حياول أن خيفي انزعاجه‪:‬‬
‫‪ -‬ليس الليلة بكل ّأكيد‪.‬‬
‫وأبدت ّفهمها وإن كانت حذرة جتس كلماّه لتعذرف‬
‫مىت متدخ احلبل ومىت ّشدخ ‪.‬‬
‫‪98‬‬
‫‪ -‬أفهم‪ .‬وأنا ال أطلب من أن ّفعل هذا الليلة‪ .‬أريذدك‬
‫أن ّقوم به مىت سنح ل الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬اّفقنا‪ .‬سأرى ما ميكن عمله يف أقرب فرصة‪.‬‬
‫كان هاّفها ال يزال يف يدها‪ ،‬فأسقطته على الطاولة الليلية‬
‫مستعدة لالستسالم له كليا‪.‬‬
‫‪ -‬ما رأي يف اجملموعة؟ هل حقا راقت ؟‬
‫‪ -‬أكيد‪ .‬سبق وأخربّ بذل ‪.‬‬
‫‪ -‬هل ميكن أن ختربين ما الذ راق فيها أكثر؟‬
‫‪ّ -‬بدين مستعجلة‪ ،‬وأفضخل أن ّنتظر ّقدميي‪..‬‬
‫‪ -‬هل أزعج ؟‬
‫‪ -‬أبدا‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ،‬هل ستنام اآلن؟‬
‫‪ -‬يف حضن طبعا‪..‬‬
‫مل ّكن شهوانية وال رخيصة وال دنيهة وال بريهة‪ .‬كانذت‬
‫امرأة ّرغب يف النجاح بقوة ال غري‪ .‬صحيح أهنا حديثة السذن‬
‫قياسا به‪ ،‬وم ذل فإهنا كانت ّستعدخ إلطذالق جمموعتذها‬
‫القصصية األوىل‪" :‬قلب عجول"‪.‬‬
‫كذل كانت على قدر من األنورة واجلمذال‪ .‬وكانذت‬
‫مسن استغالل ما متلكه مبا يكفل هلا التقدخم يف حقذل األدب‬
‫املزروع باأللغام‪ .‬كانت معروفة يف الوسط األدبذذي‪ ،‬وهلذا‬
‫‪99‬‬
‫نصوص منشورة يف جرائد وجمالت خمتلفة‪ ،‬كما كانت ّظهذر‬
‫يف وسائل اإلعالم أكثر من الكاّب نفسه مستندة على شذبكة‬
‫من العالقات مريبة‪ .‬وهي إذ ّقضي سهرهتا معه هنذا ف هنذا‬
‫صديقته وّريد أن جتازيه على وعد بكتابة ّقدمي جملموعتذها‬
‫األوىل معتربة ذل ضريبة مقبولة ومقايضة عادلة‪ ،‬ما دام أنذه‬
‫سيعبخد الطريق أمامها وجيعلها ال حمالة ّتقدم خطوات مهمذة‬
‫وعمالقة‪ .‬أما هو فقد كان بطبيعته املنفلتة والدوجنوانية يشذعر‬
‫باالجنذاب حنوها‪ ،‬على أنّ هذا االجنذاب كان يشعر به حنو كل‬
‫النسا اجلميالت‪ .‬يق مت سطوة فتنتهن‪ ،‬لكن ليس بذنفس‬
‫السرعة اليت كن ينجذبن هبا إليه‪ .‬فهو يف نظر كثريات جنذم‪،‬‬
‫وأن حيظني به حلم بالنسبة إليهن‪ .‬مث من سيثبت العكس؟ من‬
‫سيقول أن أوخل نص إبداعي مل يكن ألجل إغوا امرأة؟ بَرَكة‬
‫الكتابة ونعمتها الوحيدة النسا ‪ .‬وهو مىت وق أمام أنثى فقدَ‬
‫زمام نفسه ومل يعد يكبحه شي ‪ .‬يندف ّقود غريزّه‪ ،‬وحيرص‬
‫خالل ذل أال يتورط قلبه الذ أكله منذ زمن وني ‪ .‬هذا يف‬
‫صاحله‪ .‬ال يرغب يف أن يتعلق بإحداهن ألنه مىت حصل ذلذ‬
‫وجد نفسه أمام التزامات هو يف غ عنها‪ .‬ما يهمه اللحظذة‪.‬‬
‫وهي وحدها ما يشكّل متعته حىت إذا جتاوزها انتفى كل شي‬
‫طرديا‪ .‬يكفيه ما يتحمله من أعبا ‪ .‬ال يزعجه أيضا أن ّكذون‬
‫الفتاة وكما يشاع عنها عشيقة اجلمي ما دامت هنذا ومعذه‬
‫‪100‬‬
‫الليلة‪ .‬غدا ستكون هناك أخرى‪ .‬وّبقى الوعود اليت أطلقها هلا‬
‫جمرد ّعلَّة‪ ،‬كما ميكن اعتبارها كالما سينتهي عند التسوي ‪.‬‬
‫أخذت أصاب الفتاة ّتلمس صدر وّبعث فيه بإشذارات‬
‫حمفزة‪ّ .‬ستثري لتستيقظ فيه شهوة فاحشة هوجا جارفة مثذل‬
‫اإلعصار‪ .‬وم ذل ال ميكنه أن ينسى حذر ‪ .‬ال يريد أن يبدو‬
‫مبتذال‪ ،‬شهوانيا وداعرا‪ .‬عليه أن يدار شبقه غري مقتن بدور‬
‫الصيخاد‪ .‬معه غالبا املرأة هي من يتودد‪ّ .‬تجاوز بذل شعورها‬
‫باإلمهال‪ ،‬ويف احلني نفسه يقوم هو بدور الترضذية يف ّبذادل‬
‫صريح ومعكوس ل دوار‪ .‬هذا جز من لعبته املفضلة‪ .‬كذل‬
‫يف العادة يظلّ يقظا شاعرا بكل رانية متر‪ .‬أن يعيش اللحظة ال‬
‫يع أن يضي يف الذهول وينفصل عن واقعه‪ .‬ال ضري أن يكون‬
‫حاضرا نص نص ‪ ،‬ضائعا نص نص ‪ .‬ففي النص مذا‬
‫جيعله راضيا‪ ،‬ليس لكونه قنوعا بل ألنه جبان جبنا يغلّفه دائما‬
‫حني يسميه ّعقال‪.‬‬
‫يسحبها إليه أخريا لتكتمل صورة الفحل لديذه‪ .‬الفحذل‬
‫الذ أكل قلبه‪ .‬هكذا يرى نفسه‪ .‬كما يصلح ما يرا عنوانذا‬
‫لقصته أيضا‪ .‬يبدو مقبوال وحيمل اجملازات املطلوبة‪ .‬اآلن ميكنه‬
‫أن يقول إنه انتهى من ّسويد قصته األخرية ومرخر من التزامذه‬
‫حنو اجمللة اليت ّستكتبه‪.‬‬

‫‪101‬‬
: ‫ل موايأ مع ال م‬
mohammeddjafar@hotmail.fr

You might also like