Professional Documents
Culture Documents
زَوهار
إشراقة الروح في التلمود البابلي
حين تتقمص األرواح في غير أجسادها
روايـــة
حســــــام الغــــــــزالـي
3
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة األولى
2020
موافقة رئاسة مجلس الوزراء – إقليم كردستان العراق
وزارة الثقافة والشباب – رقم 2020/01/16 – 2719-26-55
5
"في كل دورة حياتية تكتسب المزيد من المعرفة الجامعة
القديرة التي تجعلك تتحرر من قيود اللحم والعظم".
جربان خليل جربان
إذا كان اهلل يحاسب الروح تبعاً لما فعلته خالل حياة واحدة
في جسد واحد دون أن تتقمص بأجساد أخرى ،فكيف
يمكن للبعض أن يحصل على القوة للتصرف في الروح
وإلقائها في الجحيم بعد الموت؟
أوريجي ِنس اإلسكندران
6
"اإلنسان روح وجسد .والجسد ،ذلك المركَب ،يمكن تحليله
وتدميره ،كما تفسد كلُّ المركبات بعوامل عدة ،أما الروح
فهي خالدة ،وال أحد يستطيع تدميرها ،ال الشر وال أية
عوامل أخرى ،وال حتى عوامل الكون والفساد ،بل هي باقية
إلى األبد ،وبما أن األرواح خالدة ،فاالستنتاج الحقيقي أنها
هي نفسها على الدوام ،ألنه إذا لم يكن أحدها مدمرًا ،فلن
تنتقص في العدد ،ال ولن تزيد ،ألن ازدياد الطبائع الخالدة
يجب أن يأتي من شيء فانٍ .وهكذا فكلُّ شيء سينتهي
في الخلود – وهذا محال".
إفالطون
7
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من
العلم إال قليالً.
اإلرساء – 85القرآن
8
الفصل األول
مل يعد أحد يجرؤ أن يسري ليالً تحت الضوء املعلق يف
منتصف الطريق ،والذي قد يخبو يف أية لحظة ،ليحيل املكان
إىل فضاء واسع يصعب تبني معامله ،وكأنه يف قلب العمران
غابة موحشة تنذر عابرها بالخطر الوشيك ،فالليل هنا ال
ى ألصوات األزمات،
يصلح للسفر وال للكالم؛ بل هو َرجع صد ً
وفراغ مثايل لتصفية حسابات النهار.
9
كان يسري متوجساً ،تظهر عىل وجهه أمارات الخوف والريبة
من شيئ ما ينتظره ،بدا ذلك جلياً من خالل التفاتاته وحركة
رأسه املستمرة.
مل تكن مثل هذه املظاهر مألوفة قبل عدة أعوام ،أما اآلن ،وبعد
تفيش الحروب الداخلية والفقر والجهل وانتشار البطالة ،فقد
بات التسول عند الشباب والنساء واألطفال مظهرا ً منترشا ً
ومعتادا ً.
10
سار قليالً غري مطمنئ ألمر ما قد يحدث له ،فحدسه الفطري
أنبأه بخطر وشيك.
عىل بعد أقل من مئة مرت خلفه ،سار ثالثة شبان يف مقتبل
العمر بشكل قد يبدو أول األمر اعتيادياً.
11
خلف أحد األعمدة فأوقعه أرضاً ،مل يشعر بعدها سوى
بخمسة رجال يجثمون فوقه وهم يرصخون؛ أمسكنا به..
أمسكنا به.
جرت العادة أن تطلق قيادة الرشطة حمالت مكثفة للقضاء
عىل املتسولني خاصة الشباب منهم ،بغية الحد من انتشار
التسول ،كونها ظاهرة سلبية وغري حضارية ،ومن ثم تسليم
هؤالء ملديرية العمل والتنمية االجتامعية التي تكتفي بأخذ
تعهد منهم بعدم مزاولة مهنة التسول ،ثم تعيدهم إىل الشارع
رغم علمها املسبق بأنهم مرشدون ال مأوى لهم وال مكان
يلجؤون إليه.
لكن األمر بدا مختلفاً هذه املرة ،إذ أن رجال الرشطة املتخفني
باللباس املدين كانوا قد أعدوا كميناً محكامً لإلمساك بهذا
املتسول بالذات!
رصاخه الصاخب وتلفظه بكلامت غريبة ولعابه الكثيف الذي
خرج من فمه وسال عىل ذقنه املتسخة مع محاوالته البائسة
للتخلص من األساور املعدنية املطبقة عىل معصميه كانت
دليالً بأن املقبوض عليه رجل مضطرب أو مختل عقلياً.
حمله ثالثة من عنارص الرشطة ووضعوه يف مؤخرة سيارتهم
الكبرية وانطلقوا بزعيق عجالتهم باتجاه املركز.
بقيت أصداء رصاخه وعياطه املستميت لإلفالت تصدح يف
سكون املكان حتى بعد ابتعاد السيارة التي تقله ،رصاخ غري
12
مفهوم دون كلمة واحدة ذات معنى ،أو حتى لفظ واحد مكتمل
لغوياً.
لكن ولألسف نادرا ً ما يكون عنارص الرشطة مطلعني عىل
الدراسات السيكولوجية والنفسية ملثل هؤالء.
* * *
ال يقل الدمار الذي تجره ويالت الحروب عىل اإلنسان عن ذاك
الذي تجره عىل البنيان ،فاإلنسان هو الضحية األوىل للحروب
من نواحي اقتصادية واجتامعية ونفسية.
ولهذا ،فإننا يف زمن الحرب نشعر بالعجز وعدم القدرة عىل
العطاء أو التفكري أو العمل ،ونستسلم لوساوس قهرية تتعلق
مبستقبلنا ومستقبل أطفالنا ،وقد يتطور الوسواس القهري
ليتحول إىل اضطراب نفيس يجعلنا نعاين من أمراض نفسية
تؤثر عىل أجسامنا وسلوكنا ،فيستسلم تفكرينا وإدراكنا
للواقع األسود لننهزم فكرياً وعقلياً ،متحولني إىل مجانني أو
أشباه مجانني نجول يف األزقة والشوارع دون معرفة مرادنا من
هذه الحياة.
يف مركز الرشطة تم إدخال الشاب الغريب ووضعه يف زنزانة
انفرادية تحمل الرقم .4
شاع بني كل أفراد القسم أنه قد ألقي القبض للتو عىل متسول
مجنون ،فهو إىل اآلن مل ينطق بكلمة مفهومة أو ذات مغزى؛
13
بل إنه مازال يترصف بشكل هستريي ،ويحاول التحرر من
قيوده املعدنية بكل ما أويت من قوة لكن دون وعي أو إدراك.
رفع املساعد املناوب سامعة الهاتف وطلب رقم املقدم
"مروان عبد الحميد" املكتوب اسمه أمامه عىل حافة املكتب..
14
-حسناً أنا قادم.
-احرتامي سيدي.
15
هدأ السجني للحظة وكأنه عرف من لغة الحوار أنه تهديد ،لكنه
وكالطفل الصغري عاد ليرصخ من جديد ،وبصوت مرتفع أكرث
وأكرث.
وصلت سيارة املقدم "مروان" إىل البهو الداخيل لقسم
الرشطة ،ترجل من سيارته والسيجارة مالزمة شفتيه ،قدم له
حارس البناء التحية مرحباً ،مل يأبه بذلك؛ بل دخل عىل
الفور.
* * *
يتبع ضباط الرشطة لوزارة الداخلية ،وهي الوزارة املسؤولة
عن حفظ أمن املواطنني ،وعن وضع وتنفيذ اسرتاتيجيات
أمنية من شأنها حفظ أمن الشعب من أي تجاوز أو اعتداء قد
يقع من قبل الخارجني عىل القانون ،مع مكافحة اإلرهاب
والحفاظ عىل أمن الدولة سياسياً واقتصادياً.
وعادة ما يكون رشط اإللتحاق مبهنة ضابط الرشطة للشباب
هو حصولهم عىل إجازة من كلية الحقوق ،ويف بعض الحاالت
يتم طلب اختصاصات دراسية مختلفة.
كام يخضع هؤالء الشباب لتدريبات جسدية وعسكرية
تؤهلهم بدنياً وعسكرياً لتسلم مناصبهم كضباط رشطة.
ومع ذلك ،فنادرا ً ما يكون لدى هؤالء الضباط اطالع عىل
الدراسات السيكولوجية والنفسية وعلم االجتامع ملعرفة
16
آليات الترصف يف حالة ارتكاب جرمية قتل من قبل أحد
األشخاص املختلني عقلياً أو أحد املجرمني املحرتفني.
* * *
جلس املقدم "مروان" عىل كرسيه الجلدي الكبري ،وصوت
رصاخ السجني يف الزنزانة الرابعة ميأل املكان ،نظر إىل
املساعد "يارس" وقال مستغرباً:
17
رفع السجني صوته بالرصاخ والحركات الهستريية بني اثنني
من رجال الرشطة كانا يقتادانه نحو غرفة الضابط؛ بل وزادت
محاوالته الفاشلة يف فك األغالل عن معصميه.
أدخاله بصعوبة فائقة إىل املكتب وهام ميسكان به بشكل
قوي يقلل من حركته العشوائية ،لكن بنيته القوية وقفت حائالً
دون سيطرتهم الفعلية عليه.
واجهه املقدم مروان ورصخ بوجهه:
18
-خذ ،اتصل بالدكتور سامي السقاف ليفحصه
ويشخص لنا حالته ،فقد يكون محتاالً.
19
ويخضع املتهم الختبارات تحلل وتكشف نسبة الكذب
والتمثيل لديه ،فليس من السهل ادعاء املرض العقيل يف مثل
هذه الحاالت.
* * *
مع خيوط فجر اليوم األول عىل اعتقال السجني الجديد
وصلت سيارة الدكتور سامي إىل مقر قسم األمن الجنايئ.
ترجل الطبيب من سيارته والنعاس مازال بادياً عىل وجهه.
سار نحو مدخل القسم ،رفع يده لتحية الحارس ،عىل الفور رد
الحارس التحية مرحباً به باسمه إذ ا ٔن زيارات الدكتور "سامي"
للمقدم "مروان" كثرية.
طرق الباب ودخل مكتب املقدم:
20
املدنيني تنطبق مواصفات ا ٔحد املجرمني عىل هذا
الشخص .نحن نبحث عنه منذ أكرث من سنة ،ومل
نتمكن من القبض عليه رغم ا ٔنه يحوم يف نفس
املنطقة التابعة لنا ..وبحسب املعلومات األولية ف ٕان
لديه العديد من األسامء ،وبحسب نفس املعلومات قد
يكون قاتالً متسلسالً ومسؤوالً عن العديد من جرائم
القتل الغامضة داخل املدينة وخارجها ،تم اإلمساك
به ليلة البارحة ،لكنه إىل اآلن مل يهدا ٔ ،ومازال يرصخ
كاملجنون.
-احرتامي سيدي.
21
-اجلبوا لنا السجني املجنون إىل قاعة التحقيق.
-حارض سيدي.
22
-دكتور هل تعرفه؟
-ال ،إنها املرة األوىل التي ا ٔراه فيها ،ولكن يبدو يل من
نظراته ا ٔن ا ٔمرا ً غريباً وراءه.
-ستعرف ..ستعرف!
* * *
يساعد النظر إىل حدقة عني الشخص املقابل يف تكوين فكرة
عام يدور يف ذهنه ،وما يحدد ذلك هو حجم ب ٔوب ٔو العني ،فحركة
مركز العني تعتَب إشار ًة ملا يفكر الشخص به ،وقد تكون م ٔورشا ً
عىل القدرة العقلية التي يتمتع بها ،كام ا ٔن مركز العني يعَب
عن مدى عمق مشاعره سواء كانت سلبية ا ٔو إيجابية،
23
ويتناسب حجم املركز طردا ً مع قوة املحفز الداخيل.
باملقابل ،فإن خَباء التحليل السيكولوجي يتدربون عىل
مالحظة الوميض الخارج من العني ،حيث يشري معدل
الوميض إىل حاالت معينة ،فكرثة الوميض من جهة قد تيش
بحالة من القلق ا ٔو عدم الراحة ،والوميض مبعدل ا ٔقل قد ييش
بأن الشخص يحاول السيطرة عىل حركات عينيه بشكل ا ٔكَب
ليخفي شيئاً ما يعرفه.
تنهد الدكتور بعمق واستدار نحو حقيبته ،فتحها وا ٔخرج منها
إبرة مهدئ ومنوم من نوع (ديازيبام) ثم طلب من الحارسني
االبتعاد عنه ،نظر الحارسان إىل املقدم ليأخذا موافقة
االبتعاد عن السجني ،فرسم املقدم انطباع االستغراب مع
موافقته عىل االبتعاد.
وضع الطبيب يده عىل كتف السجني وطلب منه الجلوس عىل
األرض ،بكل رضا وهدوء وافق السجني وجلس مستكيناً،
قرفص الدكتور بجانبه متحدثاً معه:
24
اقرتب الدكتور ا ٔكرث وقال له بصوت منخفض:
ما إن قال السجني جملته هذه حتى شعر الطبيب بدوار
وصداع شديد يجتاح را ٔسه وذهنه ،جحظت عيناه ورجفت
25
يداه ،تراجع إىل الخلف قليالً ،نظر إىل الساعة ،ثم عاد وتأمل
السجني املجنون من جديد وعالمات االستغراب والحرية
واضحة عىل محياه.
كان السجني يبتسم وهو ينظر إىل عيني الطبيب ،بينام
استغرق الطبيب يف عامل من الذكريات واالستغراب والتعجب.
جثا الطبيب عىل ركبتيه ،ش ّد يد السجني إليه وحقنه اإلبرة يف
ذراعه ،بينام األخري مل يحرك ساكناً ،فقط كان ينظر إىل عيون
الطبيب الراجفة.
شعر املقدم ا ٔن كالماً غريباً دار بني الطبيب والسجني ،فاقرتب
قليالً:
وقف الطبيب ،نظر إىل املقدم والحرية تأكل وجهه ،ثم عاد
ونظر إىل السجني قائالً:
* * *
26
الفصل الثان
27
يف عيد ميالده األول بعد ا ٔن تعارفا ا ٔهدته "إميا" الفتاة الهادئة
والجميلة هذه الساعة ،كانت تحمل شهادة املاجستري يف
الفنون الجميلة ،وتعمل يف الرسم والنحت ،ا ٔحبها وا ٔحبته منذ
اللقاء األول ،وبعد عدة ا ٔيام من تعارفهام عرض عليها الزواج
عىل ا ٔن تنتظره لينهي خدمة العلم..
لكن وبعد ذلك بثالثة ا ٔيام فقط تعرضت لحادث مروري ا ٔودى
بحياتها .كانت عالقتهام رسية ،وكان حبهام حقيقياً وصادقاً،
لكنه مل يذكرها ألحد ا ٔبدا ً ،ومل يذكر ا ٔن هذه الساعة هدية منها
كذلك ،حتى زوجته اليوم تظن ا ٔنها الحب األول والحقيقي يف
حياته ،وال تعلم ا ٔن بقلبه ثغرة سوداء لحب عظيم مل يكتمل.
* * *
تسلل صداع شدي ٌد إىل را ٔسه ،كانت ا ٔحجية صعبة ولرمبا
مستحيلة ،كيف عرف هذا الشخص ا ٔن وراء هذه الساعة قصة
كبرية بالنسبة له.
خمسة عرش عاماً حافظ فيها عىل هذه الساعة من الضياع
والتلف.
ادعى ا ٔنها من صديق له مات بسبب املرض ،كانت ال تفارق
معصمه ،وبني الفينة واألخرى يحملها إىل ا ٔشهر محالت بيع
الساعات لريممها ويبقيها قريبة منه كأحد ا ٔعضاء جسده.
28
ا ٔشارت الساعة يف معصمه إىل متام الثانية عرش ظهرا ً ،كان
يومه بعد حادثة ذلك السجني سيئاً للغاية ،إذ ا ٔنه مل يذهب
لعيادته صباحاً ومل يعد إىل بيته..
ذهب إىل كافرتيا تقدم الشاي والقهوة عىل ا ٔحد ا ٔرصفة
املدينة ،جالت بخاطره عدة ا ٔسئلة عجز عن إيجاد ا ٔي جواب
لها..
كيف عرف ا ٔنني مل ا ٔخَب زوحتي؟ كيف عرف القصة ا ٔصالً؟ هل
يعرف “إميا”؟ هل كانت تربطه عالقة معها؟ هل ا ٔخَبته هي
بالهدية قبل موتها؟ حتى وإن ا ٔخَبته كيف تذكرها؟ وكيف
مازال يتذكر شكل الساعة؟
ذهب خياله إىل ا ٔخطر االحتامالت التي عجز عن طردها من
رأسه.
أسئلة كثرية كادت ا ٔن تخرج الدكتور "سامي" عن طوره ،كان
الذهول والرتدد يسببان له صداعاً قوياً ،غاص يف بحر قديم
من األفكار ،وبني الفينة واألخرى كان ينظر إىل ساعته لعل
الوقت يسري ليستطيع مقابلة السجني مجددا ً يف مشفى
الطب النفيس.
أشارت الساعة يف معصمه إىل الثانية ظهرا ً ،ركن السيارة يف
مرا ٓب املشفى ودخل مرسعاً إىل الطابق الرابع حيث يقبع
مرىض التخلف العقيل.
29
يف الحقيقة مل يكن املشفى سوى مستودعات لحبس
املرىض فقط ليتم فيها حرمانهم من اإلندماج يف املجتمع
وسجنهم كاملجرمني.
ضمن البهو امل ٔودي إىل الغرفة التي و ِ
ض َع فيها السجني
الغريب كانت امرا ٔة قد فقدت ا ٔطفالها يف الحرب تغني بصوت
مرتفع ،ممسكة بوسادة ترضعها ،وتحيك لها القصص يك تنام
كأنها طفلتها الصغرية التي يرتاءى لها ا ٔنها تبيك.
رجل يرصخ فاتحاً فمه ليظهر كامل فكه العلوي الخايل من
األسنان ،معتقدا ً ا ٔنه مازال ضابطاً يف وحدته العسكرية.
ا ٔما قبالته فقد وقف رجل صامت بجانب الحائط يهز را ٔسه بني
الفينة والفينة من شدة الرضب الذي تعرض له ا ٔثناء اعتقاله،
ليتبني يف النهاية ا ٔن اعتقاله تم بصورة خاطئة بسبب تشابه
يف اسم األب فقط.
طلب الطبيب من الرشطي الحارس عىل باب غرفة املريض
فتحه ،ورفض دخول املمرض معه ،فقد ا ٔشار لهام برضورة
مقابلته لوحده.
دخل غرفة املعاينة العقلية حيث تم وضع السجني فيها
منفردا ً لحني تشخيص حالته بالصورة الصحيحة.
كان يجلس يف زاوية الغرفة ساكناً هادئاً عىل غري طبيعته بعد
اإلمساك به ،وكانت األساور املعدينة ماتزال مثبتة عىل
معصميه مع وضع يديه ا ٔمامه.
30
ا ٔغلق الدكتور الباب بهدوء ونظر إىل السجني ،لكن األخري كان
واضعاً را ٔسه ذو الشعر الطويل بني يديه ساندا ً ركبتيه لألعىل.
تقدم الطبيب وضع يده عىل شعره وبدا ٔ س ٔواله..
31
شعر الطبيب للوهلة األوىل بالخضوع واالستسالم ،فنظرات
السجني باتت مخيفة وقوية ،وا ٔكدتها حركة غري شعورية من
فمه بعد إطباقه بشدة عىل الفك والشفتني ،كانت وميضاً
قاسياً.
شعر الطبيب بالخوف قليالً وقرر الخروج من الغرفة لطلب
املساعدة من املمرض..
لكن...
دون سابق إنذار وبحركة خفيفة وقوية نطحه السجني عىل
جبهته كرسعة الَبق...
شعر الطبيب بالدوار وعدم التوازن ،كانت نطحة صلبة
واحرتافية وليس من املعقول ا ٔن تكون من شخص مريض
عقلياً ا ٔو جسدياً ا ٔو نفسياً ،كانت رضبة مقصودة ودقيقة
بصورة رهيبة ،ا ٔصابت جبهة الطبيب باملكان الصحيح
املس ٔوول عن فقدان التوازن ليسقط الطبيب ا ٔرضاً.
من رسعة الرضبة وكون يديه مقيدتني سقط السجني بجانبه
كذلك ،لكن املفاجأة التي حصلت بعد سقوطهام عىل األرض
ا ٔن االثنني ا ٔخذا بالرصاخ معاً وهام يستنجدان بالحارس
ليخلصهام:
نادى الطبيب الحارس:
يل..
-أيها الحارس ادخل فورا ً إنه يعتدي ع ّ
32
ونادى السجني الحارس بنفس الوقت:
كانت املرة األوىل التي يتكلم بها السجني بهذه القوة وبجمل
متوازنة ورزينة.
أعاد الطبيب استنجاده بالحارس:
وقف االثنان معاً ،ومع فتح الحارس باب الغرفة اتجه االثنان
نحوه يك يخلص كل واحد من اآلخر...
وهنا تغريت األمور يف عيون الطبيب ،تغريت بشكل ال يصدقه
عقل وال عاقل.
بصورة غري منطقية ا ٔبدا ً ،فقد ا ٔمسك الحارس يد السجني
املجهول وا ٔخرجه خارج الغرفة ،بينام دفع الطبيب إىل الداخل
بقوة وا ٔوصد عليه باب الغرفة.
نعم هذا ما حدث بالضبط.
* * *
33
"دائماً يوجد بيننا نسخ ثانية من الشخص نفسه".
بنيامني فرانكلن
* * *
التقمص هو انتقال الروح من جسد بشري إلى آخر ،هذه
العقيدة ارتبطت بالكثير من المذاهب والطوائف الدينية،
ولم تبقَ في إطارها الفلسفي الديني بل تخطتها إلى بُّعدٍ
علمي حيث سعى علماء التنويم المغناطيسي وعلماء
الباراسيكولوجي مثل (مورين برنشتين) و(مايكل نيوتن)
و(ايان ستيفنسون) إلى دراسة عدد من الحاالت في بلدان
كثيرة إلثبات أو نفي التقمص.
املؤلف
* * *
34
الفصل الثالث
35
ساقي ،اقشعر بدين
َّ مل ا ٔعد قادرا ً عىل الوقوف ،خارت قوة
ورست فيه رعشة من الخوف والهلع ،اضطراب ،ارتجاف ،تلعثم،
تسمر ،وجوم ،رعب ،ذهول ،كان املوقف ا ٔشد رهبة من ا ٔي شيئ
قد تتوقعونه ،كدت بالفعل ا ٔن ا ٔصاب بالجنون ،فام حدث يل ال
يصدقه أي عقل برشي منطقي.
* * *
أنا الدكتور "سامي عز الدين سقاف" ،عمري خمسة وا ٔربعون
عاماً ،ا ٔخصايئ جراح يف األعصاب والدماغ ،اسم زوجتي
"نهلة" ،ولدي ابن اسمه "زين" عمره خمس سنوات ،ا ٔتحدث
لنفيس ولذايت اآلن وا ٔنا بكامل قواي العقلية والذهنية
والنفسية والجسدية ،ولكن بجسد مختلف..
اتصل يب مكتب املقدم "مروان" صديقي فجر هذا اليوم من
فرع الرشطة ملعاينة سجني يف الزنزانة اإلنفرادية الرابعة
بدعوى الجنون..
تفاجأت ا ٔن هذا املريض يعرف قصة الساعة التي ارتديها يف
معصمي منذ خمسة عرش عاماً ،والتي مل يطلع ا ٔي شخص
عىل قصتها ،إذ ا ٔنها من فتاة اسمها “إميا” ا ٔحببتها لعدة ا ٔشهر
وا ٔهدتني هذه الساعة بعيد ميالدي ،ثم وبعد ذلك بثالثة ا ٔيام
متاماً تعرضت الفتاة لحادث مروري وتوفيت.
تأثرت كثريا ً لحادث وفاتها وصنع اسمها بداخيل رمزية مقدسة
تجاهها..
36
حافظت عىل الساعة من الضياع والتلف إذ ا ٔنها ا ٔغىل هدية
تلقيتها يف حيايت.
بعد دخويل مشفى األمراض العقلية ملعاينة السجني وتحديد
صدقه من كذبه قام بنطحي عىل را ٔيس بقوة مل ا ٔكن اتوقعها
منه ،سقطت عىل األرض ،حاولت النهوض مستنجدا ً بالرشطي
الحارس ،وما إن وقفت حتى دخل الرشطي ودفعني ألبقى ا ٔنا
داخل غرفة املشفى املوصدة ،وهو يخرج.
هنا تغريت الحياة بنظري ،فقد انتقلت روحي إىل جسد
السجني ،وانتقلت روح السجني إىل جسدي.
لقد ا ٔخذ جسدي وخرج من املشفى بصوريت ،صورة الدكتور
"سامي" ،وا ٔنا دخلت جسده ألبقى هنا باسم السجني رقم
ا ٔربعة.
اآلن ،سيعيش هو حيايت بجسدي ،بينام ذكريايت وا ٔفكاري
ستبقى ا ٔسرية تحرقني هاهنا.
ا ٔنا اآلن دون اسم ا ٔو هوية ا ٔو صورة ا ٔو ا ٔي شيئ ا ٓخر ،ا ٔنا اآلن
لست سوى سجني مجنون.
عىل الجانب اآلخر من املشفى كان الدكتور "سامي" يصعد
واضح عليه ،ا ٔدار
ٌ سيارته مرسعاً بعد ا ٔن فك ربطة عنقه والتوتر
املحرك وغادر مرسعاً.
* * *
37
إني متأكد أني قد كنت هنا من قبل ،كما أنا آالف المرات،
وآمل أن أعود آالف المرات األخرى
يوهان جيته – طبيب أملان يف علم الترشيح.
* * *
تلمست جسدي جيدا ً ،تحسست ا ٔكتايف وبطني ،وجهي
وذقني طويلة الشعر ،ا ٔظافري املتسخة ،ا ٔنا لست ا ٔنا ،ا ٔنا
الدكتور "سامي" ا ٔما اآلن فمن ا ٔنا بهذا الجسد؟
اجتاحتني موجة من البكاء والخوف معاً ،شعرة واحدة من
التفكري ضمن عقيل فصلتني عن الجنون ،إما ا ٔن اهدا ٔ وا ٔفكر
بعقالنية ،أو أن ا ٔي ترصف مني سيكون مبثابة الدليل القاطع
عىل جنوين ،واختالل عقيل.
والس ٔوال الذي ا ٔدخلني حالة يائسة ،هو كيف حصل ذلك؟
كيف استطاع ا ٔن يبدل جسدي بنطحة را ٔسه تلك ،لقد استوىل
عىل جسدي وغادر به ..كيف فعلها؟
وهل توجد طريقة ما أسرتجع بها جسدي؟.
كنت قد قرا ٔت كثريا ً عن حاالت التقمص الروحي بعد املوت،
وسمعت ا ٓالف القصص عن ا ٔطفال يولدون بذاكرة حقيقية
ألحداث تثبت ا ٔنهم كانوا يعيشون يف مكان ما ،لكن حالتي هذه
غريبة ومل ا ٔسمع عنها من قبل ،كيف ميكن لإلنسان ا ٔن يتقمص
إنساناً ا ٓخر مازال عىل قيد الحياة ويتبادل معه الجسد؟!
38
وضعت يدي التي ليست يدي عىل صدغي وحاولت استيعاب
ماحدث معي ،كنت ا ٔبيك كاملجنون الحقيقي والذي لن يصدق
ا ٔي ا ٔنسان قصته هذه ،فأقل ما ميكن ا ٔن يقال عني ،ا ٔنني رجل
مصاب مبس جنوين.
* * *
يف الحكمة اإللهية ومن وجهة نظر "الثيوصفيا" يتكون
اإلنسان من مركبات سبعة وسبعة أجسام أو هياكل أو بنى أو
مستويات أو تدرجات ،كل هذه األجسام لها طاقة وطبقات
وأغلفة وحجب ،وتتألف هذه السباعية من مجموعتني ثالوث
علوي ورابوع سفيل ،وهي مرتبة من األخف األشف إىل األثقل
األكثف...
تبدأ من الجسم اآلمتي (اآلمتا أو الروح) وهي الشعلة اإللهية
الكامنة يف اإلنسان وتسمى (املوناد) أو اإلله الباطن.
ذكرها القرآن بآية "ونفخت فيه من روحي"" ،فنفخنا فيه من
روحنا" ،أي أن الذات اإللهية نفخت يف جسد اإلنسان روح
الله.
بعد ذلك يأيت الجسم اإلرشاقي (الجسم البويدهي) وهو أشبه
باملركبة التي تحمل الروح ،إنه الجسد الذي يعيش عىل هذه
األرض والذي ينهك ويضمحل مع مرور الوقت.
39
العيل أو الجسم السببي (الجسم العقيل األعىل أو
ّ ثم الجسم
األرفع) وهو النفس العليا والذي يعود للتجسد بحسب
الثيوصوفيا ،وهو اآللية التي يعمل من خاللها العقل البرشي.
كام ذكرتها كتب بني إرسائيل:
40
ضمن غرفة مشفى األمراض العقلية يف الطابق الرابع ،كان
السجني قد هدا ٔ مجددا ً بعد ا ٔن تيقن ا ٔنه تعرض للتو ألغرب
عملية نصب واحتيال قد تحدث يف عامل البرش ،لقد متت
رسقة جسده ووضعه يف جسد ا ٓخر ،وعليه كطبيب جراح
باألعصاب ومتمرس ا ٔن يثبت عملية رسقة جسده دون ا ٔن يقال
عنه مجنون ا ٔو مختل عقلياً.
أول ما كنت ا ٔفكر فيه هو ا ٔنني تعرضت لعملية ال تخضع
لقوانني املنطق وال الفيزياء ا ٔو الكيمياء وال حتى الطب
املتطور ،ما حصل معي ليس سوى عملية روحية احرتافية
غريبة ،وإلثباتها يجب ا ٔن يكون لدي دليل ديني ا ٔو مذهبي ا ٔو
روحي ،وعيل أن ا ٔكون متوازناً فكرياً وبالقدر املطلوب.
لكن هناك مشكلتان يجب تجاوزهام ،األوىل هي ا ٔن عائلتي
بخطر ،فالدكتور الهارب سيعيش اآلن حيايت بالشكل الكامل،
سينام مع زوجتي ،ويقبل ابني ،يدخل عياديت وقد يتحرش
بسكرترييت ،سيأخذ نقودي ،وسياريت ومنزيل ،وما ا ٔخشاه هو
ا ٔن يرتكب حامقة باسمي.
املشكلة الثانية هي كيف ا ٔخرج من هنا؟
فأي ادعاء يل وا ٔي كالم وا ٔي ترصيح بهذا الجسد ومن هذا
املكان ومبوضوع غري منطقي كالتقمص لن يكون سوى دليالً
قاطعاً عىل جنوين.
41
مجرد التفكري بزوجته وابنه كان كافياً ملد ِِّه بشعور املضطهد،
إذا بقي يفكر مبا حدث معه سيختنق وقد ميزق جسده إلخراج
روحه املظلومة من داخله لينتقل إىل مكان جديد.
لكن ما كان يخفف من وطأة معاناته هو قوته الجسدية التي
شعر بها ،ا ٔكتافه وذراعاه صلبة ،بنيته قوية ،وفوق كل هذا
دماغه سليم ويفكر بكل منطقية وهدوء ،بل يستذكر الكتب
التي قرا ٔها واألرقام واملواقع والشخصيات ،وبإمكانه ربط كل
هذه األمور لصياغة معادلة تساعده بالدرجة األوىل عىل
الخروج ،شعور بالقوة وذكاء عال وذاكرة قوية ،ا ٔمور جديدة
شعر بها للمرة األوىل.
* * *
"إذ تنبأ إيليا النبي عن طهارتك ،وإذ كان يحاول أن يتمثل
بها بالروح ،التف بإكليل روح جديدة ،فكوفئ أنه أعظم من
الموت بحكم إلهي".
األب ميثوديوس.
* * *
سارت الساعة متثاقلة ،مل يدخل ا ٔي شخص إىل غرفته بعد
تلك الحادثة سوى ممرضة وضعت له حبة من البطاطا مع
رغيف من الخبز ،وضعت الصحن وخرجت مرسعة إذ تم
42
إخبارها ا ٔن سجني هذه الغرفة خطر وقد يحاول اإلعتداء عليها
كام فعل قبل ساعات مع الطبيب "سامي".
نظر إىل انعكاس زجاج النافذة باتجاه الشارع ،كان الظالم قد
ا ٔسدل ستاره عىل الشوارع ،هو اآلن يعرف متى بإمكانه البدء
برحلة الخروج من هنا ،الحارس يف البهو لن ينام ،ولكن بحسب
علم الطب يفرتض بنا كبرش ا ٔن نكون يقظني يف الضوء ونياماً
يف الظالم ،فالضوء هو العنرص األكرث فاعلية يف ضبط اتساق
الجسم الداخيل ،وهنا يتم ضبط توازن الطاقة.
ا ٔشعة الشمس قبل رشوقها تكون بني اللون األحمر واألزرق،
وهذا اللون له تأثري مثري لألعصاب ويعتَب باعثاً عىل الخمول
لبضع دقائق ثم يعود الجسم لليقظة والحركة.
وبالنسبة للحارس اللييل ولطاقم املشفى املناوب ليالً
ستدخل أجسادهم مرحلة خمول األعصاب قبل رشوق
الشمس بدقائق.
زحف باتجاه سلة املهمالت يف زاوية الغرفة ،والتي مل تفرغ
منذ زمن ،رماها عىل األرض ،وا ٔخذ ينبش بني الفضالت املرمية
واملناديل الجافة ذات الرائحة النتنة عىل إبرة وخز مستعملة،
فوجد العرشات منها.
ا ٔمسك إحداها وا ٔدار را ٔس اإلبرة قليالً وبدا ٔ يطبق مهارته الفائقة
يف فك األساور املعدنية من الثقب الصغري ،بضع حركات فنية
وتم فتح األساور متاماً...
43
وقف واتجه إىل النافذة املصممة عالياً يك متنع هروب
املرىض ،حرك الرسير الحديدي املتهالك ،وضعه تحت
النافذة وصعد لينظر إىل الشارع ،تفاجأ بوجود شبك حديدي
خارجي عىل النافذة.
نزل مجددا ً واتجه نحو الباب ،وضع ا ٔذنه ليسرتق السمع
الخارجي ،كان البهو فارغاً...
إذا فكر بفتح الباب سيدخل يف مشكلة جديدة ،سرياه الحارس
وميسكه ،وهو اآلن بغنى عن املشاجرة اليدوية ،كام ا ٔن زي
املشفى الذي يرتديه كمريض سيكشف ا ٔي تحرك له ضمن
البهو.
وضع سالسل األغالل التي معه عىل قفل الباب وا ٔعاد إغالق
األساور ،فاطأمن ا ٔن ا ٔحدا ً لن يستطيع دخول غرفته من
الخارج..
اآلن بقي عليه التعامل مع النافذة العلوية والخروج منها ،عاد
وتسلق الجدار باتجاه النافذة واستقر بجانب الشبك
الحديدي ،حركه بقوة وابتسم ابتسامة خفية.
مبا ا ٔنه يف ا ٔحد املشايف الحكومية املبنية قدمياً فمن
الطبيعي ا ٔن تكون جميع ا ٔدوات ومعدات املشفى قدمية
ومنهكة.
الشباك الحديدية قد تآكلت وصدا ٔت وتهالكت خاصة من
الزوايا املثبتة باإلسمنت...
44
نظر إىل الشارع وعرف ا ٔن التوقيت املناسب للهرب مل يحن
بعد ،وحتى ذلك الوقت بإمكانه بدء عملية تحريك الشبك
الحديدي رويدا ً رويدا ً من الزاوية املتآكلة لفتح الجانب
األضعف منه.
* * *
ضمن إدارة املشفى كان مدير املشفى قد تلقى إشعارا ً موقعاً
من الدكتور "سامي سقاف" حول وضع السجني الجديد موجه
إلدارة الرشطة املدنية ،يثبت يف التقرير ا ٔن هذا السجني سليم
عقلياً ويعتَب مجرماً خطريا ً ووحشياً ،ويسمح لألجهزة األمنية
باستخدام العنف معه والرضب النتزاع االعرتاف منه وكشف
هويته ،فهو إىل اآلن يقوم بالتمثيل واالدعاء بأنه شخص
مختل عقلياً.
ا ٔكمل مدير املشفى خطاب الدكتور "سامي" بإمضائه عىل
الورقة لتسليم السجني صباح اليوم التايل لألجهزة األمنية
وإعادته إىل مركز الرشطة ملتابعة التحقيق وفق ما يرتئيه
ضابط التحقيق.
اآلن بدا ٔ الوقت بالتسارع ،مضت ا ٔكرث من ا ٔربع ساعات
والسجني يجلس عىل حافة النافذة ممسكاً بالشبك الحديدي
يحركه وقد وصل إىل ذروة فتحه.
45
ا ٔخريا ً ا ٔفلتت القاعدة الحديدية من اإلسمنت ،فتح عينيه بكل
رسور وش ّد املشبك ألعىل لينتهي وجود ا ٔي حاجز بينه وبني
حياته الجديدة بجسده الجديد وفكره وعقله الضارب بالقدم.
كان الوقت مواتياً اآلن لبدء رحلة الخروج ،خاصة وا ٔن الكل شبه
نيام ا ٔو يف حالة اسرتخاء.
ا ٔمسك املقبض ،نظر إىل الغرفة اللعينة التي فقد فيها جسده،
ثم رفع جسده الجديد ليتسلق البناء وصوالً إىل ا ٔعىل.
وصوله إىل األسطح مل يتطلب منه جهدا ً يذكر ،إذ ا ٔن غرفته
تقبع يف الطابق الرابع واألخري ،ومن عىل سطح البناء عرف
النقطة األسهل للنزول مع اتكائه عىل حواف النوافذ وصوالً إىل
جذع شجرة الكينا الطويل والذي ساعده عىل النزول إىل
األرض.
بنيته الجسدية القوية ساعدته كثريا ً يف إنهاء هذه املهمة،
كان عليه فقط ا ٔن يصدر ا ٔوامر جريئة لعضالته لتتحرك بخفة،
وهذا ما كان يفتقده حني تذكر كيف كان مييش وكيف كانت
نظارته الطبية عىل ا ٔرنبة ا ٔنفه تشكل له عائقاً ا ٔمام حركات
جسده.
بحركات رسيعة والتفاتات حذرة وصل إىل الشارع العام ،سار
عىل الرصيف مجددا ً حرا ً طليقاً ،لكن بجسد وشعر وذقن
ومالبس تظهر ا ٔنه متسول ا ٔو مجنون.
46
عليه ا ٔن يفعل شيئاً قبل ا ٔن يتم اكتشاف هربه من املشفى،
ومن الخطر ا ٔن يبقى يف املدينة.
* * *
شعور الخطر الذي باغتني مل ا ٔشعر به من قبل ،فثمة ا ٔمر
عجيب يباغتنا حني نشعر بدنو الخطر ،إنه شعور القوة
الفجائية ،قوة خارقة تقذف بنا بعيدا ً عن مكمن الخطر،
فبداخلنا قوة خارقة ال تظهر إال عند الخطر.
مشكلته األساسية تكمن يف تغيري هيئته ومالبسه ،وحصوله
عىل بعض األوراق واإلثباتات من منزله ،لكن س ٔواالً جديدا ً ظهر
فجأة يف عقله ،ماذا فعل ذلك املفرتس خالل الساعات
املاضية ،وكيف يترصف اآلن بعد ا ٔن أصبح يف جسد الدكتور
"سامي".
للوهلة األوىل تراءت له العديد من الصور السوداوية ،هل يعقل
ا ٔنه نام عىل رسيره وبجانب زوجته ،هل ق ّبل ابنه قبل ا ٔن ينام،
ارتفعت كمية من الدماء الحارة إىل دماغه متخيالً ماذا سيفعل
به.
كانت الساعة تشري إىل السادسة والنصف صباحاً حني وصل
مشياً إىل الحي الذي يسكنه ،نظر من الرصيف املقابل إىل
شقته ،كل شيئ يبدو طبيعياً ،استدار إىل ا ٔمام البناء فوجد
سيارته مركونة يف مكانها.
47
شعور جديد باغته ،شعر بالخذالن والحرية ،واجتاحته نوبة
من البكاء ،رصاخ شديد كان يصدح بداخله ،ثم تذكر ا ٔنه من
الرضوري السيطرة عىل مشاعره وا ٔحاسيسه يك ال يبدو
مجنوناً.
اعتاد منذ صغره عىل ا ٔن يكون دقيقاً ،وا ٔن يحفظ مواعيد
وتوقيتات األمور التي تجري من حوله.
يف متام الساعة السادسة والنصف ستنهض زوجته من
الفراش ،تعد الطعام وتجهز "زين" للذهاب إىل املدرسة ،ثم
ترتدي ثيابها وتغادر هي األخرى إىل مدرستها ،ويف متام
الساعة الثامنة والنصف سيغادر هو إىل عيادته.
الوقت الفارق هو ساعة واحدة.
تسلل إىل مدخل البناء ودخل كوة املنور الداخيل ،ثم عَب من
خالله إىل غرفة تجمع ا ٔسالك الكهرباء وأنابيب املاء املوزعة
عىل البناء كامالً ،راقب حركة الشارع من فتحة صغرية ضمن
الجدار الداخيل وبات يتنبأ بالوقت.
مل ميض سوى بضع دقائق حتى سمع هدير حافلة املدرسة،
وسمع صوت األطفال وهم يصعدون...
ارتقب قليالً وهو متسمر يرصد الشارع حتى اجتازت "نهلة"
الشارع املقابل باتجاه مدرستها.
48
كثريا ً ما كان يرص عليها ا ٔن ترتك العمل وتتفرغ للطفل ،لكنها
كانت ترفض وبشدة ،إذ ا ٔنها تحب مهنة التدريس رغم
صعوباتها ،وتَبر ذلك برضورة تحسني دخلهم املادي.
اليوم أدرك ا ٔن قرارها بالعمل كان صائباً ،فحياته مل تكن سوى
سلسلة من املواقف واالختبارات والقرارات ،واليوم لن يفرق
عن غريه من األيام.
مل يبق ا ٔمامه سوى قرار وحيد ،وهو ا ٔن يعيد جسده لروحه ،ولن
يحيد عن هذا القرار إال باملوت ،فام حصل له ضمن املشفى
جعله يدرك معنى الهزمية الكاملة ،هزمية جعلته قادرا ً عىل ا ٔن
يخطو نحو التحرر من هذا الجسد الذي تلبد بروحه وعقله
وا ٔنفاسه وذكرياته.
اآلن هو ا ٔمام مواجهة كبرية وعليه ا ٔن يثبت نفسه قبل انتشار
خَب هروبه من املشفى.
ردد يف ذاته؛ إن مل استطع العودة إىل حيايت الصحيحة فال
يجب ا ٔن ا ٔدعي القوة يوماً.
ا ٔمسك قطعة معدنية مرمية عىل األرض ،ووضعها وسط ا ٔسالك
الكهرباء ،ا ٔمسك ا ٔحدها وشدها بقوة لينقطع التيار...
انقطاع التيار الكهربايئ يف هذه األيام يعتَب ا ٔمرا ً عادياً للغاية،
ولن يثري حفيظة ا ٔحد ،ولكنه ا ٔضمن لعملية االقتحام التي
ينوي فعلها.
49
صعد درجات السلم ونفسه تقرتب من اإلنهيار ،لكن رغبة الثأر
لتاريخه ولجسده الذي مل يعد جسده جعل صالبته يف
ري مسار حياته ا ٔكرث قوة.
مواجهة الحدث الذي غ ّ
وصل باب شقته ،ا ٔدرك اآلن ا ٔنه هو وغرميه وحيدان ويفصل
بينهام هذا الباب ،كان يحسب وبدقة وقت خروجه من املنزل
ليذهب إىل العيادة.
دماغه ربط التوقيتات ببعضها البعض ،فمع مغادرة الطفل إىل
مدرسته ومغادرة "نهلة" إىل عملها ،وتكاثف ا ٔصوات السيارات
وحركة ضوء الشمس يف الشارع تنبأ ا ٔن الساعة قد أصبحت
الثامنة والنصف متاماً.
جاء الصوت من الداخل ،كان الدكتور "سامي" ماشياً باتجاه
الباب للخروج من منزله ..فتح الباب ،وما إن صار مفتوحاً
بالكامل حتى عاجله بلكمة رسيعة وقوية ا ٔعادته إىل الداخل..
كانت لحظة حاسمة بالنسبة للسجني الهارب ،ا ٔخريا ً هاهو
يقف وجهاً لوجه مع جسده...
فتح الدكتور عينيه عىل ا ٔشدهام وقبل ا ٔن يتلفظ بكلمة واحدة
مل يشعر إال برضبة خفية وقوية توجهت مجددا ً من قبضة يد
السجني إىل ا ٔنفه.
مجددا ً وللمرة الثانية خالل ا ٔقل من ا ٔربع وعرشين ساعة
يسقط عىل األرض فاقدا ً توازنه.
* * *
50
أغلقت الباب خلفي وجثمت بكامل وزين ورشاقتي عىل
جسده ،عفوا ً عىل جسدي الذي سلبه مني ،وا ٔخذت ا ٔنتحب
وا ٔبيك كاألطفال وا ٔنا ا ٔلكمه بكامل قويت ،رضبت ا ٔنفه عدة
لكامت ،رضبت فمه حتى نزلت الدماء من شفتيه ،رضبت
وجنتيه وكرست نظارته الطبية فوق وجهه ،كنت ا ٔشعر باألمل
مع كل لكمة ا ٔوجهها إىل وجهه الذي كان باألمس وجهي.
كانت لياقتي وقويت البدنية عالية جدا ً ،بينام كنت ا ٔعرف نقاط
ضعف جسدي السابق ،وا ٔعرف ا ٔنه يعاين من بداية الديسك يف
ا ٔسفل الظهر ،وا ٔعرف ا ٔن سقوط نظارته الطبية سيجعله
ا ٔضعف بكثري.
حملته وا ٔدخلته إىل غرفة الضيوف ،نظرت إىل منزيل كالزائر
هذه املرة ،كل شيئ مرتب وطبيعي ،ا ٔنا ا ٔعرف "نهلة" جيدا ً،
تستمتع حني تنظف املنزل.
ثبته عىل كريس طاولة الطعام ،وربطت يديه وقدميه ببعض
الوشائح التي ا ٔحرضتها من غرفة نومي ا ٔنا و"نهلة" ،بينام كان
هو ال يزال يرتنح من قوة الرضبات التي وجهتها لوجهه والذي
تلون باألزرق واألسود واألحمر ،كام ا ٔحرضت سكيناً من املطبخ
ليكون التحقيق بطعم القوة هذه املرة..
ا ٔسئلة كثرية اجتاحت دماغي ،وما ا ٔحتاجه اآلن هو ا ٔن يستعيد
وعيه بالصورة الطبيعية ليجيب عىل جميع األسئلة التي عليه
اإلجابة عنها.
51
"اإلنسان العبقري ليس سوى حصيلة تجارب كثيرة
لحيوات عديدة مر ويمر بها من خالل التقمص ،واألرواح
األكثر قدماً تعلم أكثر من األرواح المنتقلة حديثاً إلى
األجساد".
هرني فورد – مؤسس رشكة فورد
* * *
ال يوجد علم يعارض أن شخصياتنا تتقمص هنا واآلن،
وعلينا أن نبدأ في تخمين العكس والشك بوجود فردية
سامية أكثر اتساعاً من أجسادنا ،وهي فردية تسمح للعباقرة
أن يكونوا على اتصال أكثر بنا من الشخصيات العادية.
أوليفر لودج -من كبار علامء الفيزياء ،رئيس جمعية
البحث الروحي يف إنكلرتا ،ومدير جامعة برمنغهام.
* * *
52
من ا ٔصعب اللحظات التي قد متر باإلنسان هي ا ٔن يديل
بأحداث تحت تهديد السالح ،ا ٔحداث يرفض اإلدالء بها.
قيدته إىل كريس الطعام بشكل قوي ،مررت السكني عىل
جبهته وخده وعنقه ،وسألته:
-هذا ا ٔنت؟
انفجرت يف الضحك..
53
-ماذا تريد؟
-تعرف ماذا ا ٔريد ،ا ٔخَبين القصة ،قل يل كيف فعلتها؟
54
-الذكريات التي ا ٔحملها بداخيل ،فأنا الدكتور “سامي”
وا ٔنت السجني ،وإىل اآلن مل تجبني ،كيف فعلت هذا
وبادلت ا ٔجسادنا حينام نطحتني عىل جبهتي.
-ا ٔنت من نطحني ..ولست ا ٔنا.
-ال تلف وتدور ،ا ٔنت نطحتني بقوة عىل جبهتي حينام
كنت ترتدي هذا الجسد ،وا ٔنا سقطت عىل األرض
بالجسد الجديد الذي ترتديه.
55
-يف عيد ميالدي ،واآلن جاء دورك باإلجابة ،ا ٔين
ا ٔهدتني إياها بالضبط إن كنت تدعي ما تدعيه؟
-يف كافرتيا الجامعة ،بعد ا ٔن رشبنا القهوة ،حينها
كانت ترتدي قميصاً ا ٔسو َد جديدا ً ،وقالت حينها إنها
فكرت يف رشاء قميص ا ٓخر يل ،لكنها خشيت أال يكون
املقاس مناسباً.
56
عادت الدماء الحارة وصعدت إىل رأس السجني من جديد،
وضع سكينه عىل رقبة الدكتور ورصخ بصوت مكبوت بالقوة
والبكاء..
يل جسدي.
-أعد إ ّ
57
-حسناً ،ولكن عيل أن أنطحك بقوة كام فعلت يف املرة
األوىل.
58
شعر السجني برضبة قوية ،رضبة فهمها عىل الفور ،إنها
ليست نطحة جبهة ،لكنها كانت قوية بالصورة التي أوقعته
أرضاً عىل ظهره.
عىل الفور فتح عينيه ،شاهد الطبيب يَهم بالركض خارج غرفة
الضيافة ،برسعة الَبق ودون أدىن تفكري ،حرك السكني بخفة
بني أصابع يديه ،أمسكها من رأسها الحاد ،ورماها برسعة
الَبق وبقوة الرصاصة باتجاه ظهر الطبيب لتجثم وسط
عموده الفقري وتسقطه أرضاً مع بقعة من الدماء.
هنا تغريت الحياة بشكل كيل يف عيون السجني مجددا ً ،وقف
مرتجفاً ،نظر إىل يديه ،تقدم من جسد الطبيب املرمي عىل
األرض...
كانت الدماء تخرج من ظهره بغزارة...
59
هل يصلح هذا الجسد للعودة إليه؟ أم أنه انتهى لألبد؟.
مل يكن أمامه أي خيار ،ورغم ذلك شعور الندم عاد لينهش قلبه
ويحرقه حرقاً ،ففي صدره اشتعلت نار حامية ،نار ال ترحم
فعلته هذه ،وهو اآلن مرتوك ملستقبل ال يعرفه ،لقد مات
جسده ،ذبلت عيناه ،وتوقف الهواء يف صدره.
وقف ،نظر إىل جسده املمدد أمامه كلوحة فنية ال تقدر بثمن،
تأمله ،شعر أن جسده كان يستحق الفناء ،لكن روحه وعقله
وماضيه وذكرياته تستحق الخلود.
أشياء كثرية عليه أن يفعلها قبل أن يغادر بحثاً عن إثبات
لهويته كـ"سامي" ،أو كالدكتور "سامي" ،ولكن بجسد وهيئة
مختلفة عن هيئته املاضية.
حمل ماكينة الحالقة وحلق رأسه وذقنه بشكل كيل ،نظر إىل
املرآة مجددا ً ،فشاهد شاباً وسيامً ال يتجاوز عمره الثالثني
عاماً ،نظف أسنانه واستحم ،دخل غرفة النوم وبدأ يبحث
ضمن الخزانة عن أي مقاسات مناسبة لقياس جسده الجديد.
حمل األوراق ،ونزع ساعته الغالية من معصم جثته الهامدة،
ق ّبلها وضمها إىل قلبه ،ثم دس مبلغاً من املال مبحفظته،
وخرج بعد أن وضع عطره املفضل.
* * *
60
"إن الحياة تمتد مع الزمن مارة بأجيال فيزيائية وأجسام
مختلفة"
كارل غوستاف يونغ – طبيب وعامل نفس سويرسي
ومؤسس علم النفس التحلييل.
* * *
61
الفصل الرابع
62
هجرة أشبه بهجرة النبي يونس الذي ترك نينوى عاصمة
الدولة اآلشورية ليذهب إىل قرى تسكن سواحل البحر.
هجرة أشبه بهجرة النبي موىس الذي ترك حضارة الفراعنة
يف مرص وهاجر إىل ريف سهول فلسطني ليثبت رسالته.
فالريف يحمل من املعتقدات ما ال تستطيع املدن حمله.
الريف يصدّق ما تكذبه املدن.
والسجني اآلن يعرف أن ضمن ٍ
ريف جنويب بهواء الجبل ستبدأ
رحلة حياته الجديدة يف البحث عن الحقيقة ليثبت شخصيته
املرسوقة بعد أن قتل بيديه جسده حينام قتل جسد الدكتور
"سامي" ،وبقي الدكتور حياً بروحه داخل هذا الجسد الجديد.
* * *
جبل (أسلداموس) أو جبل (الريان) أو جبل (الدروز) أو (جبل
العرب) ،جبل واحد بتسميات متعددة ،وحوله الكثري من
السهول املمتلئة باألرياف ،أوابد تاريخية لحضارة الروم
والبيزنطة ،معامل كثرية لإلمَباطورية اليونانية والعهد النبطي،
أديان كثرية انترشت هاهنا بدءا ً من ميثولوجيا الفراعنة
وانتهاء بطوائف املوحيدين الدروز مرورا ً ببني إرسائيل
والديانات اإلبراهيمية.
كل الحضارات مرت وسكنت هذا الجبل ،وعىل مدى آالف
السنني تكومت املعابد والكنائس والقصور وخزانات معارص
63
العنب القريبة من املقابر الدينية والبوابات واألقواس
الرومانية واألعمدة والقالع التي حملت الحضارات.
وجهة السجني كانت واضحة ،إنها باتجاه جبل املوحدين
الدروز يف جبل (أسلداموس) أو ما باتت تعرف اليوم باسم
(السويداء) ،أو (سوادا) من اللغة اليونانية والتي تعني
الحجارة السوداء.
بالد الحجارة السوداء واملياه العذبة.
طريق طويل ،برية تستنشق عليل الجبل ،صخور بيضاء
وسوداء ،تربة حمراء ،خرضة وماء ،قراها تستقبلك بصياح
الديك ،وتغريد الطيور ،رائحة األعشاب والنعناع ،طرق محصبة
غَباء ،وحقول الكرمة تحف بها األسيجة والتي متتد أمامك
عىل م ّد البرص ،إنها "السويداء" أرض تزخر باملعامل ،سكانها
متشابهون بلهجتهم ومالمح وجههم وتقاليد لبسهم ،يف
أصواتهم حنني رائع وتحيتهم تزخر بالحرارة ،عيون الرجال
فيها قاسية ونظرات النساء دافئة ،تشعر حني تصافحهم أنك
تصافح أشخاصاً أعامرهم تفوق األلف عام ،فهم سادة األرض
والخصبة هاهنا ،واألرحام التي حملتهم أرحام متشابهة.
وصل السجني رقم أربعة إىل وجهته بعد رحلة أخذت منه يوماً
ونصف اليوم من االستعدادت املعقدة ،خاصة بعد كرثة
الحواجز األمنية املنترشة عىل الطريق الواصل بني العاصمة
دمشق والسويداء.
64
وصل إىل األرض التي ستحميه ورمبا تثبت ما لن يستطع أحد
إثباته.
الشمس مختلفة هنا ،شمس تتصدر كبد السامء بنور وإرشاق
مل يره من قبل ،فأشعة الشمس فوق وحول الجبال تختلف
بأشعتها عن السهول والسواحل.
الشمس هنا تتسلل رويدا ً رويدا ً إىل جسد وروح اإلنسان ،هنا
تطبع بياضها عىل وجه الحياة ،فتتلون األرض بكل األلوان
الزاهية.
وقف أمام بناء بحجارة بازلتية سوداء ،وفن معامري يحمل
دالالت األديرة القدمية ،دير (عني الزمان) أو كام سامه
العثامنيون (دير سنان).
65
تعتَب النجمة الخامسية شكالً من أشكال الهندسة الرياضية
وترسم باستخدام خمس قطع مستقيمة ،وهي تعتَب أبسط
مضلع نجمي.
تحتوي النجمة الخامسية عىل عرشة نقاط تقاطع وخمسة
للرؤوس البارزة الداخلية باإلضافة إىل خمس عرشة قطعة
مستقيمة.
ترسم النجمة بخطوط متساوية الطول ،والنسبة بني القطعة
والبعد بني الرأسني تساوي النسبة املقدسة ،أو ما تعرف
بالنسبة الذهبية.
وردت صورة النجمة الخامسية يف األساطري الدينية القدمية
كرمز وثني يرمز إىل العنارص الخمسة املكونة للطبيعة وهي
(األرض ،الهواء ،املاء ،النار ،والروح) ،وأول الديانات التي أمنت
بها هي ديانة (ويكا) ،ويقال أنها كانت مرسومة عىل خاتم
النبي سليامن لذلك فلها عالقة بالسحر عىل مر العصور.
عند بعض الطوائف اليهودية رمزت النجمة الخامسية إىل كتب
أسفار موىس الخمسة املقدسة.
وعند املسيحيني رمزت إىل جروح املسيح التي صلب عليها.
أما اإلمَباطور "قسطنطني" األول الذي دمج ما بني رموز
الوثنية واملسيحية استخدم النجمة الخامسية كختم عىل
اعتبار أنها رمز الحقيقة ،ومن خاللها استطاع كسب املساعدة
66
من الكنيسة املسيحية عسكرياً لالستيالء عىل اإلمَباطورية
الرومانية عام 312م.
يف أسطورة السري Gawainوالفارس األخرض كانت النجمة
الخامسية منقوشة من الذهب عىل درعه العظيم والتي دلت
عىل الكرم والشجاعة والتقوى والقوة والعفة.
* * *
67
دخل باحة الدير ضمن صحن تحيط بجوانبه مجموعة من
الغرف بطابقني.
يف الطابق السفيل أعمدة رومانية قدمية تعود إىل العرص
البيزنطي ،جدران حجرية كبرية ،وأروقة مزخرفة بالكثري من
الرسومات.
صعد الدرج الحجري ليصل إىل الطابق العلوي...
رواق ميتد عىل الجهات األربع تحمله قناطر محمولة عىل
أعمدة صغرية لها تيجان مزخرفة منحوتة من حجر البازلت.
وقف أمام أحد الغرف ،والتي تبدو كغرفة لحارس هذا املكان،
قرع الباب ودخل عىل الفور.
شاهد شيخاً خمسينياً يلبس جلباباً أسو َد طويالً ،ويضع
قلنسوة بيضاء كبرية ،بشاربه األبيض العريض املفتول.
-السالم عليكم..
-وعليكم السالم يا بني تفضل اجلس.
68
وقف الشيخ واتجه نحو طاولة مركونة يف الزاوية:
69
-قلت لك يا بني عني الزمان غري موجود اآلن ،لقد مات
منذ مئات السنني ،ومل يبق سوى ديره هذا كحصن
حصني لنا كموحدين.
-متى اكتشفت َ
أنك أنتَ لستَ أنتَ .
-لقد تق ّمص أحدهم جسدي قبل 3أيام فقط بحادثة
غريبة ،وحولني إىل هذا الجسد ،لذا أرجوك أريد
مقابلة شيخ وعني هذا الزمان واآلن.
70
-اعذرين يا بني ،لن يصدق قصتك أحد ،وأنا ال استطيع
مساعدتك.
71
مبساندة األرواح التائهة ،األرواح التي ال تجد أجسادا ً أو
أجساماً تسكنها ،فتنادي األرواح التائهة صارخة يف عرض
السامء باسمه...
فينزل املالك "حَباكوم" ليش ّد كل روح إىل جسدها الذي
عليها أن تسكنه.
ويف ديانة الدروز األقرب إىل ديانة التصوف اإلسالمية
واليهودية ،من يطلب "الحبقة" من أي شخص آخر وال
يستجيب ملساندته فإن روحه تصاب باللعنة فتكرث عليها
املحن ،ويصيبه سوء الحظ ،وتضعف نفسه يف مواجهة
السحر والعني ،وإذا ما خرجت روحه من جسده ستتيه يف
الكون والفضاء ،وإذ ما طلبت من مالك األرواح مساعدتها،
فسيذك ّرها مبا فعلت.
أما من ينارص من طلبها منه ،فإن روحه تسمو وتقوى وتفيض
عليه الَبكات.
* * *
في القرن الرابع تنبأ "مالخي النبي" عن مجيئ يوحنا
المعمدان إلعداد الطريق أمام المسيح:
"إني قد رأيت الروح نازلة إلى الجسد مثل حمامة فاستقر
عليه"
عن مالخي – 3/1يوحنا
72
كام يستدل من النصوص الواردة يف رسائل الدروز بأن النفس
البرشية تنتقل بالتناسخ والتقمص إىل أجسام جديدة،
فالروح ال متوت بل ميوت قميصها (الجسم) ويصيبه البىل
فتنتقل النفس إىل قميص آخر.
كام ال ينحرص التناسخ عندهم بني الناس بل يكون أحياناً مع
البهائم وهو ما يسمى باملسخ.
فالعامل قد خلق دفعة واحدة والبرش خلقوا سوية وليسوا
مبتناسلني من أب واحد ،فعدد البرش ال يزيد وال ينقص.
أما العذاب األكَب فهو عذاب الضمري والندم عىل ما فات ألنها
مل تنتفع من أدوارها املاضية ،فكلام مات اإلنسان انتقلت
روحه إىل مولود جديد ،ويسمى ذلك الفرقة أو الخلقة ،حيث
تشبه النفس السائل الذي يحتاج إلناء يضبطها ،فإذا كرس فال
ب َّد من تلقي السائل يف إناء غريه لئال يهرف ويضيع،
ويستدلون بقول القرآن( :يخرج الحي من امليت ويخرج امليت
من الحي ،ويحي األرض بعد موتها وكذلك تخرجون).
فال ينفع نفساً إميانها إن مل تكن آمنت من قبل وكسبت يف
إميانها خريا ً.
* * *
73
(جَبَلَ الرب اإلله آدم تُّراباً من األرض ،ونفخ في أنفه نسمة
حياة ،فصار آدم نفساً حية).
(سفر التكوين - 7التوراة).
(وبدأ خلق اإلنسان من طين ،ثم جعل نسله من ساللة من
ماء مهين ،ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع
واألبصار واألفئدة قليالً ما تشكرون).
(السجدة – 7القرآن).
* * *
ضمن سيارة قدمية صعد السجني بجانب الشيخ "عقيل"،
باتجاه قرية صغرية تسمى (نجران) إحدى قرى السويداء ،لقد
وعد الشيخ السجني مبساعدته وإيصاله إىل "عني الزمان".
كانت مالمح التمدن تغيب شيئاً فشيئاً ،لتظهر بدالً عنها لوحة
تجسد جامل الطبيعة بهواء نقي وبيوت طينية متواضعة ،فهنا
ندرك عمق الفكر النابع من تاريخ هذه الحجارة ،تاريخ يسكن
الروح كام سكنت روح الدكتور "سامي" جسد هذا السجني،
أفكار كثرية كانت تدور ضمن خلد السجني وهو جالس يتأمل
الطبيعة ،وسؤال واحد مازال يحفر يف أعمق نقطة بدماغه،
كيف فعل هذا؟
كيف استطاع برضبة عىل الرأس أن يغري تاريخي ،لقد سلبني
جسدي ،وهذا ما ال يصدقه املنطق والعقل ،نحن اليوم يف زمن
74
التكنولوجيا وعرص املعلومات والرسعة ،وال توجد إجابة
رصيحة عىل ما فعله؛ بل سيتهمني مجتمعي بالجنون ،هذا
أمر طبيعي ،وقليلة هي الديانات التي تؤمن بالتقمص من
خالل الحجة العقلية والشهود الذين مروا مبثل ما مررت به.
* * *
تقع قرية (نجران) يف الجهة الغربية الشاملية من السويداء
باتجاه منطقة اللجاة الصخرية ،وال يعرف عىل وجه التأكيد
سبب تسميتها بنجران ،فقد تواتر شفهياً العديد من القصص
عن سبب التسمية ،فقيل إنها مشتقة من تسمية (جران
الذهب) ألنها تحوي عىل كنوز مدفونة يف باطنها ،وهناك من
قال إن التسمية أتت بعد أن لجأ إليها قائد روماين اسمه (ران)
هرباً من قطاع الطرق وحني دخلها قالت العامة (نجا ران) ثم
حرفت التسمية إىل (نجران) لكن األقرب ما ذهب إليه بعض
الباحثني وهو أن نجران وحني كانت تتبع لحكم الكنيسة
سميت بنجران تيمناً بنجران السعودية.
كام وقيل أن النبي محمد م ّر بها أثناء رحلة تجارته إىل الشام،
كام سكنها الغساسنة وكانت تتبع آنذاك إىل مدينة برصى
األثرية.
* * *
75
وصلنا إىل قرية (نجران) ومبجرد أن ننظر إىل شوارعها وقناطر
منازلها سنعرف أنها مدينة تاريخية ،كانت الشمس متيل نحو
الغروب ،وبدأت نسامت هواء الليل الباردة تتسلل إىل عظامي.
توقفت السيارة أمام منزل حجري قديم واسع ،ومدخله عبارة
عن قنطرة حجرية كبرية ،وقفت تأملتها قليالً قبل أن يهمس
يل الشيخ (عقيل) بالسري معه.
حي كل منازله حجرية ،واستغربت ملاذا
مشينا نزوالً ضمن ّ
أرادنا أن نرتجل من السيارة أمام ذلك البيت الكبري الذي يبدو
مهجورا ً.
طال بنا امليش ألكرث من نصف ساعة ،كانت الشمس قد غربت
بشكل كامل وبدأ الظالم يتسلل إىل املنازل ،إىل أن وصلنا إىل
مبني حديثاً من
ٌ منزل بعيد عن مركز القرية ،منزل نصفه
الطوب واإلسمنت ،ونصفه اآلخر مبني قدمياً بطراز أثري قديم
من الحجارة الَبكانية السوداء.
طلب مني الشيخ "عقيل" االنتظار قليالً أمام املنزل ،بينام قام
بالطرق عىل باب مدخل البيت الكبري بقوة ،ودخله باتجاه
الحديقة قبل أن يخرج أحد ما الستقباله.
أما أنا فوقفت عىل الشارع املقابل أنتظر...
تقابل الشيخ "عقيل" مع رجل كبري بالسن يتجاوز عمره
التسعني عاماً وجهاً لوجه عند مدخل البيت ،كانت ذقنه
76
بيضاء نقية طويلة ،وشاربه أبيض كثيف مفتول ،يرتدي جلباباً
أبيض ويضع قلنسوة بيضاء كبرية.
َ
يل الشيخ
وقفا يتحدثان أمام املنزل لعدة دقائق ،ثم نظر إ ّ
"عقيل" من بعيد وأشار بيده يك أدخل املنزل من بوابته
الكبرية.
حني قابلت الشيخ الكبري شعرت أنني أمام رجل نوراين
وروحي عظيم ،برشته بيضاء صافية ،وعيونه كبرية واضحة
متأللئة ،قلت يف نفيس لعله شيخ "عني الزمان".
77
جلست يف زاوية الغرفة الدافئة ،وجلس بجانبي الشيخ
"عقيل" والشيخ عني الزمان ،نظرت إىل عيون الشيخ الصافية
حيث بدأ هو الكالم:
وقف الشيخ ببطء ممسكاً عكازه املعوجة وعاد ليقول مجددا ً:
78
سار عدة خطوات باتجاه الباب وهو يردد نفس العبارة عدة
مرات:
79
حني شممت الرائحة وشاهدت عدد املناسف بدأ لعايب يسيل
والشعور بالجوع يجتاحني بقوة.
* * *
العقل األخالقي اإلنساين يقوم عىل الشجاعة والكرم وحامية
الدخيل أو الضيف ،ففي القانون األخالقي تحمي املجتمعات
حقوقها ويسود األمن والسالم ،وأهل الجبل مثلهم كمثل جميع
الشعوب التي مازالت تحافظ عىل قوانينها وعاداتها ،لقد
استقبلوين بحفاوة قبل أن يسمعوا قصتي ،وقدموا يل الطعام
مرحبني يب دون أي مقابل.
بعد وجبة الطعام الدسمة تلك قدموا لنا الشاي الساخن ،ومع
كل كالم كانوا يتحاورونه كان السالم والرتحيب يتكرر بشكل
كبري وملفت لإلنتباه ،إىل أن عدت وبدأت الكالم موجهاً حواري
إىل الشيخ الجليل الذي نجلس مبنزله والكل صامت يستمع:
80
عاد الشيخ الجليل ونظر إىل عيون الحارضين الصامتني ثم
قال يل:
81
وتاريخها القديم والحديث يف الرشق األوسط ،قرأت
الكثري عن قصص التقمص الروحي ،سمعت قصصاً
من شهود عايشوها ،وآخر ما كنت أتخيله أن أتعرض
للتقمص يف وضح النهار وبهذا العمر ،كام أنني
معجب بالفكر الدرزي ،وأعرف أنه أحد أعمدة
الديانات الساموية اليوم ،يقوم عىل العفو والتسامح
والتصالح بني البرش والذات اإللهية ،وصدقني ال خيار
يل يف هذه الحياة سوى أن اجلس يف مجلسكم هذا
وأقص عليكم قصتي كاملةً.
بعد كلامته هذه ساد صمت كبري واستغراب ،فلم يسمع أحد أن
التقمص قد يحدث للكبار أو الشباب ويف وضح النهار ،أو ما
الحي ،كل القصص التي سمعوا عنها كانت
ّ يسمى بالتقمص
لتقمص أرواح ماتت ،أما أن يوجد قصص يف هذا العرص عن
الحي كام يسمونه فهذا يعتَب أحد النوادر الغريبة
ّ التقمص
والتي تسرتعي االنتباه واالهتامم.
* * *
"نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ،على أن
نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ال تعلمون".
الواقعة -60القرآن
* * *
82
تعود عقيدة التقمص يف األديان إىل قدماء املرصيني وتعاليم
فيثاغورس وبوذا ،فالتقمص هو لبس قميص اآلخر بشخصيته
مع محاكاته بالسلوك والهيئة من خالل انتقال الروح من جسد
إىل جسد آخر ،واملذهب الدرزي هو كغريه من املذاهب التي
تؤمن بانتقال وتناسخ األرواح ،حيث بنى الدروز إميانهم عىل
ما جاء يف كتب الديانات الساموية كافة ،موضحني أن هناك
آيات قرآنية وأخرى إنجيلية وتوراتية وتلمودية استدلوا من
خاللها عىل وجود حقيقة التقمص.
ومن اآليات القرآنية التي يستدلون بها آية من سورة البقرة
(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم مييتكم ثم
يحييكم) ،باإلضافة إىل آيات إنجيلية منها آية ( )17/1يف
إنجيل لوقا التي تشري إىل أن يحيى املعمدان أىت بروح أيليا
النبي.
فالتقمص متوارث آمنت به الديانات الفرعونية كتناسخ
األرواح ،وهو عقيدة راسخة عند األزيديني والبهائيني ،وبعض
الطوائف اليهودية واملسيحية واإلسالمية ،إنه بحسب الفكر
الصويف املتدين مفتاح ألرسار الروح ،علم عميق وجب الغوص
به.
* * *
83
"يا نفس كل مكروه أصابك وأنت في عالم الكون،
فتيقني أن سببه وأصله هو من قِبلكِ ومن صُّنعكِ،
ومتى ورد عليك وارد من المكاره ،فلم تعرفي سببه
وأصله ،فال تُّحيليه وتظني أسبابه من غيرك وعلى غيرك،
بل اجعلي سببه وأصله خطؤك القديم األول".
هرمس البابيل – أو النبي إدريس الوارد يف القرآن.
* * *
اسمي الدكتور سامي عز الدين سقاف ،اخصايئ وجراح يف
أمراض األعصاب والدماغ ،أحببت يف شبايب أي قبل أكرث من
خمسة عرش عاماً فتاة رائعة الجامل مل أحب يوماً سواها،
اسمها “إميا” ،كانت لطيفة جدا ً معي ،مل تستمر عالقتي معها
سوى بضعة أسابيع ،ومنذ األيام األوىل لتعارفنا عرضت عليها
الزواج ،وكانت املوافقة املبدئية الستمرار عالقتنا واضحة من
عينيها...
يف عيد ميالدي األول بعد أن تعرفت عليها أهدتني هذه
الساعة ،إنها عزيزة عىل قلبي وأحملها معي أينام ذهبت وفا ًء
لذكراها.
بعد أن أهدتني هذه الساعة بثالثة أيام تعرضت لحادث سيارة
وتوفيت ،وأنا حزنت حزناً شديدا ً ،وإىل اليوم ال تفارق ذاكريت.
مضت األيام واألشهر والسنون ،وتزوجت مبعلمة اسمها
"نهلة" ،وأنجبت منها طفالً أسميته "زين".
84
منذ عدة أيام اتصل يب عند الصباح الباكر ضابط يف أمن
الدولة والرشطة اسمه "مروان عبد الحميد" ليخَبين أنهم
أمسكوا أحد املتهمني وهو يدعي الجنون ،وطلب مني عىل
وجه الرسعة القدوم إلجراء الفحوصات له لنتأكد هل هو
مجنون أم أنه يدعي الجنون ليهرب من مصريه.
حني قابلت السجني املجنون شعرت من نظرة عينيه بالقوة
والفطنة ،كانت عيونه قوية بشكل مل أره من قبل ،أردت حقنه
بإبرة مهدئ لألعصاب يك أستطيع معاينته فقد كان متوترا ً
للغاية ويرصخ مثل الوحش الهائج.
حني اقرتبت منه همس بكلامت مل أفهمها ..اقرتبت منه
وطلبت أن يعيد ما قال ،وهنا كانت املفاجأة ،إذ أنه قال يل:
(هل ما زلت تخفي عن زوجتك قصة هذه الساعة؟).
وهنا شعرت بالدوار ،إذ أنني مل أخَب أحدا ً بقصة صاحبة
الساعة ،ثم إن “إميا” قد توفيت قبل أكرث من خمسة عرش
عاماً ،وكيف مازال يتذكر شكل الساعة.
طلبت حينها نقله إىل مشفى األمراض العقلية والنفسية
ملعاينته بشكل أفضل ،وحني زرته يف جناحه ضمن املشفى
صباح اليوم نفسه ،كان هادئاً عىل غري عادته ،وما إن بدأت
الحوار معه ألعرف كيف عرف بقصة هذه الساعة ،نهض عىل
الفور من مكانه ورضبني برأسه عىل رأيس مبنتهى القوة،
85
شعرت بالدوار الشديد وسقطت عىل األرض ،رصخت
مستنجدا ً بالحارس خلف الباب ،وهنا تغريت حيايت...
وقفت ألمسك بالحارس فتفاجأت أن شكيل وبدين وبرشيت
وصويت وكل شيئ ضمن جسدي الخارجي قد تغري ،لقد
تحولت أنا إىل السجني داخل جناح املشفى أما هو فقد
خرج..
أصبت بحالة عنيفة من الهيجان فكيف لهذا األمر أن يحدث..
كيف استطاع رسقة جسدي ليعطيني هذا الجسد ويخرج هو
بجسدي...
بنفس الليلة وكوين أمتتع بقدرايت العقلية كامل ًة استطعت
الهرب من املشفى واتجهت نحو بيتي ألطمنئ عىل زوجتي
ي وبدأ يحفر يف دماغي عام
وسواس قهر ٌ
ٌ وابني ،فقد استبد يب
قد يفعله بشخصيتي بعد أن تقمصني...
راقبت املنزل حتى خرجت زوجتي وابني ودخلت البيت،
وبدأت برضبه ولكمه ،ثم قيدته عىل الكريس ألنتزع منه أغىل
ما رسق مني...
وهنا طلب مني بعد الكثري من الحوار واملشادّة الكالمية أن
يرضبني عىل جبهتي بجبهته ليتمكن من إعادة أرواحنا إىل
مكانها ،ووافقت عىل ذلك ،لكنه وبدل أن يرضبني بجبهته قام
ورضبني بالشمعدانة املوجودة بجانب الطاولة ،وه ّم بالهرب
والخروج...
86
ولألسف وبدون أدىن تفكري بعد كل ما حصل يل ،أمسكت
السكني ورميتها عىل ظهره بقوة مجنونة ،لتستقر بجانب
عموده الفقري ،مل أكن أنوي قتله ،لكن هذا ما حصل.
عىل الفور حملت بعض احتياجايت وهربت قادماً إليكم ،فأنا
أعرف أن العقل واملنطق لن يصدقا ما أقصه عليكم اآلن..
لكن أقسم لكم أن ما أخَبتكم به هو الحقيقة بعينها.
ساد صمت مطبق يف املضيف الواسع ،ثم نطق الشيخ الكبري
جملة واحدة:
-أصدقكك يا بني ،وال حول وال قوة إىل بالله.
وهنا عادت حوارات الشيوخ لرتتفع بالضجيج واألحاديث
الجانبية ،بعضها يؤيد وبعضها ينفي ،وما كان مني إال أن
أصغي لحوار الجميع بجملهم الكثرية:
87
-اللهم أجرنا من هكذا تقمص..
-لديه دليل ..فذاكرته لوحدها كافية بأن تثبت حقيقة
قصته..
-نعم بإمكان زوجته أن تجلس معه وتصدق روايته إن
ذك ّرها ببعض التفاصيل الخاصة..
-املشكلة أن جسده قد فني..
-أنا أرى أن الفرصة جاءت لنا يك نثبت للجميع أن
التقمص حقيقة واقعية ،يجب أن نساعده يف كشف
الحقيقة.
وقف الشيخ صاحب املضيف ،تنهد قليالً ،ثم قال بعد أن
صمت الجميع:
* * *
88
ميثاق ويل الزمان :هو مدخل ديانة التوحيد لدى الدروز
وعهدهم األبدي معها ،وهو العهد أو القسم الذي به يصبح
الدرزي درزياً ،بإمامة "حمزة" ورفض جميع األديان واملذاهب
والتَبي منها ،ويختلف هذا امليثاق عام يسبقه يف الرتتيب
ضمن رسائل الحكمة اختالفاً جوهرياً ،ويعتقد أن من وضعه
يل وأنه
هو "حمزة بن عيل" ،ويرى الدروز أن هذا امليثاق أز ّ
يتقمص مع روح املوحد ،وأ ّن من وقّع عىل امليثاق يف زمن
بقي موحدا ً وموقعاً عىل امليثاق يف جميع أجياله
الكشف َ
حيواته الالحقة.
و َ
وبعد امليثاق يطلّع الدرزي عىل التفسري الباطني ملعاين
القرآن اإلسالمي وغري املعلنة للعلن تحت اسم رسائل
الحكمة ،والتي كتبها "حمزة بن عيل بن أحمد" ،والتي إىل اآلن
تعتَب شيفرة رسية مينع االطالع عليها ومينع نرشها ومينع
إخراجها خارج حدود الطائفة الجغرايف ،وال يسمح سوى
لشيوخ الطائفة اإلطالع عليها وذلك بعد أن يتجاوز عمر الرجل
األربعني ويوقع عىل امليثاق األزيل ويكون من أبناء الدرز أباً
عن جد حرصا ً.
* * *
89
إنني ألسبح بالقداسة التامة لهذا اليوم...
فهو مُّذهل وجليل ...إن ملكوتك يا رب يتجلى فيه...
وإن عرشك مقام على الرحمة ،وعليه يستقر الحق...
أنت الحكم الذي يجازي ،وال يخفى على علمك شيئ...
فأنت الشاهد والشهيد والكاتب والمقر والمدون ومتذكر
كل شيئ بالحق...
حتى من نحسبهم ماتوا قديماً في الماضي...
إال أن أرواحهم حولنا...
تدور وتعود...
وتدور وتعود...
حتى تفتح الكتاب المسطور وتأمر بنفخ الشوفار...
فترتعد حتى المالئكة فتصيح عالياً يوم الدين بنا حل...
ففي الدينونة ليست المالئكة عن الخطأ بمعصومة.
دعاء يهوداه هنايس – التلمود البابيل القديم
* * *
90
من أرض مرص القدمية الشاهدة عىل والدة الكثري من األديان،
كانت مهد دعوة ديانة التوحيد ،وامليثاق الذي حدد حياة
الدروز وسياستهم وثقافتهم التي انطلقت قبل أكرث من ألف
عام...
ففي عام 1013م كان جامع "الحاكم" يعكس حالة النفوذ
السيايس والديني التي عرفتها الخالفة "الفاطمية" ،وحينها
ظهرت الفرق الدينية بني الخيار الشيعي الذي ينظر إىل أن
أحفاد النبي أحق بالخالفة ،وفرق رأت غري ذلك ،فكان الخلفاء
الفاطميون من أتباع املذهب الشيعي اإلسامعييل ،وحينها
اتسعت الخالفة الفاطمية لتنترش ما بني املحيط األطليس
والبحر األحمر واليمن ومكة وبالد الشام...
وهنا ظهر "الحاكم بأمر الله" ،وبويع خليفة عىل الفاطميني
ومل يكن تجاوز الحادية عرش من عمره ،فقرب منه رجال الدين
والفقهاء وأكرمهم ،كام أسس دار الحكمة التي من خاللها
ظهرت حركات تفكر إسالمي جديدة.
وبدأت تأثريات فكرية جديدة تدخل العرص اإلسالمي قامئة
عىل ترجمة النصوص "اإلغريقية" و"البابلية" و"الفارسية"
و"الهندية".
وهنا تصدّر عىل الساحة العلمية الدينية والفلسفية املرتجمة
شاب اسمه (حمزة بن عيل بن أحمد الزوزين) ،املولود يف زوزن
91
شاميل إيران قادماً سريا ً عىل األقدام عَب الفرات يف العراق
ليطلع يف رحلته عىل األفكار الدينية الجديدة املنترشة...
فقام بتأسيس فرقة الدروز املوحدة ذات األفكار الجديدة
ليضع أطروحاته حول نشأة الكون ،وغاية اإلنسان يف هذا
الكون ،وماذا يريد الله من البرش ،مازجاً الفلسفة اإلسالمية
بالفلسفات الهندية والبابلية واإلغريقية والفارسية واليونانية،
خصوصاً بفلسفة سقراط وإفالطون وكليتينوس وفيثاغوراس.
تاريخياً يعتَب هؤالء الفالسفة قد دخلوا صميم التوحيد يف
فرضياتهم الفلسفية ،وكانوا بحق صناع العتبة األوىل التي
بناها "حمزة بن عيل" يف الفكر التوحيدي اإلسالمي ملعرفة
الذات اإلنسانية للوصول إىل معرفة الله ،وتفسري الكون.
فحكامء اليونان كانوا السابقني يف وضع جميع الفلسفات
التي بنيت عليها الديانات فيام بعد.
هنا كتب "حمزة" ميثاق التوحيد والذي يعتَب الظاهرة الكَبى
إىل اليوم يف وضع ركن التقمص بأدلته العقلية وشهوده ممن
يرون حيوات متقمصة سابقة مع دالئلها عَب ذكر التاريخ
واألسامء وبصورة مل يستطع العلم أن يفرسها إىل اليوم.
فامليثاق له أهمية كبرية يف علم التقمص واملوحد الذي يوقع
عىل ميثاق "ويل الزمان" والذي أق ّر التوحيد يف زمن الكاشف،
يحمي نفسه يف األجيال القادمة ،وبهذا يكون موحدا ً يف كل
األجيال التي سيتقمصها الحقاً.
92
الفصل الخامس
93
مل ميض الكثري من الوقت حتى وصل الشيخ املعمر "زين
الدين" كانت مالمح وجهه شاحبة ومختلفة عن الليلة السابقة،
صافحني ثم طلب مني أن نجلس يف املضيف لنتحدث قليالً.
94
جئت إلينا لتثبت لنا معجزة برسالة يريد الله أن نراها
من خاللك ،ولرمبا تكون ظاهرتك هذه سبباً يف إميان
الكثريين بالله ومبعجزاته يف هذا الزمن الذي مل نعد
نرى فيه معجزة ،وأنا عىل عتبة املوت واالنتقال،
ولرمبا تكون أنت أخي أو ابني يف حيوات بعيدة أو
قريبة.
-شكرا ً لك يا شيخي عىل كل هذا ،ويكفيني منك الدعم
النفيس الذي تقدمه يل.
-ال يا بني ،الكالم لوحده ال يكفي ،يجب أن نستمر يف
قصتك هذه ونثبتها أو ننفيها بالعقل والحجة الدامغة،
وسنكون معك يف إيصال الحق لك ،وإثبات شخصيتك
وروحك ،فهذا واجبنا األخالقي والديني.
95
-ولكن ماذا يا شيخي؟
-يجب أن تخضع الختبار "مقري الوحش"!!
* * *
يعتَب امتحان الصدق لألرواح من األمور الرسية يف رسائل
الحكمة القدمية ،والتي تعود إىل ما ورد يف التوراة العهد
القديم ،والتي استخدمها "رعوئيل" يف التوراة أو ما سمي
بالنبي شعيب يف القرآن ،ليتأكد من صالح روح النبي موىس
قبل أن يزوجه إحدى ابنتيه ،ويعتمد االختبار عىل الصيام عن
الكالم والطعام ملدة ثالثة أيام متتالية وال يسمح إال برشب
املاء ،وخالل فرتة الصيام ستظهر رؤيا أثناء النوم تحمل
96
رسالة أو اسامً يكون له داللة عىل صدق أو كذب من يخضع
لالختبار ،وهذه الداللة يجب أن يعرفها الحارضون.
* * *
الروح تتماوج دائماً بين األجساد ،فهي ال تُّضيئ بدون
الجسد ،أما الجسد فيفنى بدون الروح.
جيوردانو برونو – فيلسوف إيطايل -عمل استاذاً يف
أكسفورد
* * *
طلب مني الشيخ "زين الدين" أن استحم مباء ساخن فيه
أوراق شجرة غريبة منحت املاء رائحة زكية...
وبعد أن ارتديت مالبيس رست مع الشيخ باتجاه منزل كبري
مهجور يسمى (دار مقري الوحش).
حني وصلنا إليه كان أمام بابه خمسة عرش شيخاً يرتدون
أبيض
َ جميعاً نفس املالبس ،جلباباً أسو َد طويالً ،وطربوشاً
قبته حمراء ،والجميع لهم نفس السحنة وبياض البرشة
وحمرة الوجنتني وهدوء العينني.
أما الشيخ "زين الدين" فارتدى مثلهم متاماً سوى أن قبة
طربوشه كانت خرضاء.
دخلنا دار مقري الوحش جميعاً وأنا أسري وسط املجموعة.
97
العديد من الغرف والدهاليز تحت األرض القدمية ،كلها مبنية
من الحجارة السوداء الضخمة والقوية.
وصلنا إىل نهاية ممر الدهاليز حيث يظهر أثر باب حجري
صغري مخفي ،جلس الشيخ "زين الدين" وجلس بالقرب منه
بعض الشيوخ وبدأوا بنزع الحجارة غري املثبتة بالطني أو
اإلسمنت.
هنا بدأ الخوف يتسلل إىل جسدي خاصة بوجود الرطوبة
والهواء الجاف ،لكن املكان كان دافئاً نوعاً ما.
أزاحوا بعض الحجارة ليكشفوا عن باب صغري ارتفاعه ال
يتجاوز املرت ،شعرت أنه مكان رسي وال يعرف بوجوده أحد.
قرفص الشيخ "زين الدين" وتجاوز بصعوبة الباب الحجري
املنخفض ليتبعه بعض الشيوخ ثم دخلت أنا.
ما إن تجاوزت الباب الصغري الضيق حتى ظهرت أمامي باحة
دائرية حجرية واسعة وحولها ستة أبواب ،كان املكان معتامً،
وعىل الفور أخرج الشيوخ كمية من الشموع وأشعلوا بعضها.
ازداد املكان رطوبة وصار شكله مخيفاً ،فلم أعرف ماذا يوجد
خلف األبواب الستة ،تقدمت قليالً من أحدها فاكتشفت أنه
باب حجري بإطار حديدي وعىل كل باب منحوت شكل لنجمة
سداسية مبثلثني متعارضني تشبه إىل حد كبري نجمة النبي
"داود" أو ما تسمى بالعَبية "ماجني دافيد" أي درع داود،
والتي هي من رموز الشعب اليهودي املقدسة.
98
عىل الفور شكل الشيوخ العقَّال حلقة دائرية حويل أنا والشيخ
ركبتي ،ثم قال يل بكل
ّ "زين الدين" ،والذي أجلسني عىل
هدوء:
99
تفتحه بحضورنا من بني هذه األبواب الستة ،باب
تفتحه ال تفتح سواه ،باب بداخله ِ
وضع "مفتاح
األرواح النجمي" ،فإن اخرتت بعد الرؤيا الباب
الصحيح نجوت وكنت من الفائزين ،نجوت وكلنا معك
يف إثبات ما أنت عليه ...بني وإن اخرتت الباب
الخاطئ فاعلم أن روحك روح شيطان أسود ،ولن
يخرج جسدك من هذا املكان أبدا ً ...فهل تقبل من
هاهنا امتحان "رعوئيل"؟
100
هو الله ...يعلو كأسنا فوق كل الكؤوس..
هو الله ...من سادات الناس نحن املوحدون الدروز..
هو الله ...كنقش عىل املاء صفو النفوس..
هو الله ..أرسل لنا ببهائة كل الكنوز..
نبي محروس..
هو الله ..ما قام يف ارسائيل إال ٌ
هو الله ...رشيعته من كل املهامز والرموز...
هو الله ...ما قام يف بكة إسال ٌم إال مأنوس..
هو الله ..كل من ناجاه بالرحمة سام بالفوز..
هو الله ...حيدرة األنزع أضاء الشموس..
طريق نجاة إال بسلامن ذو القوة الرضوس.
َ هو الله ...ال
* * *
101
ثم وقف الشيخ ،وضع يده عىل رأيس فصمت الجميع بشكل
كامل ،جثا بصعوبة عىل ركبتيه وبدأ يقرأ من القرآن:
يل هني وقد خلقتك من قبل ومل تك
"قال كذلك قال ربك هو ع ّ
رب اجعل يل آية ،قال آيتك أال تكلم الناس ثالث ليا ٍل
شيئا ،قال ِّ
سويا ،فخرج عىل قومه من املحراب فأوحى إليهم أن سبحوا
بكرة وعشيا".
ثم اقرتب من وجهي ونفخ عليه ثالث مرات موجهاً نفخاته إىل
عيني ،وقال مجددا ً:
َّ
"من دم هابيل إىل دم زكريا يهوياداع الذي أهلك بني املذبح
والبيت ،ومن كل دمٍ سفك عىل األرض من دم هابيل الصديق
إىل زكريا برخيا ،الذي قتل بني الهيكل واملذبح ،نستودع
روحك هنا لتكشف لنا الحقيقة".
ي منهم ببنت شفة ،بدأوا بالخروج
بعد ذلك ودون أن يتحدث أ ٌ
من املكان واحدا ً تلو اآلخر...
أخرهم خرج الشيخ "زين الدين" بعد أن وضعوا إنا ًء كبريا ً من
املاء وحوله العديد من الشموع غري املستخدمة لتكفيني مدة
إقامتي وصومي يف هذا املكان وحيدا ً.
أعادوا بناء حجارة الباب الرسي الصغري ،وتركوين يف عزلة
أشبه بعزلة األنبياء حني يتفكرون يف ملكوت السموات ،لكن
هذه املرة يف مكان منقطع عن أي شيئ ،وبدهليز ودرج
102
حجري تحت األرض مبا ال يقل عن عرشة أمتار ،لقد غادروا
جميعاً.
* * *
"دار مقري الوحش" أو الدار التي بنى عليها النبي "شعيب"
بيتاً له بعد أن طرده قومه من أرضه ،منزل حجري قديم يحوي
الكثري من الغرف والدهاليز تحت األرض ،ويتجاوز عدد غرفه
360غرفة ،يوجد يف أسفلها ما يسمى املشنقة ،ولها درج
دائري ينحدر إىل أسفل األرض...
كام يحوي هذا املكان عىل قوس حجري قطر دائرته يصل إىل
9أمتار ،وخلفه سقف حجري يضم أحجارا ً منحوتة برموز
كبرية وضخمة ،وإىل اآلن مل تفرس هذه الرموز أو يكشف
معناها.
أما يف باحته الحجرية السفلية توجد نجمة سداسية مخفية،
نجمة تتشابه بشكل كيل مع نجمة داود عىل شكل مثلثني كل
منهام متساوي األضالع ،ولهام مركز واحد ،رأس أحدهام إىل
أعىل ورأس اآلخر إىل أسفل ،ويشكل املثلثان املتداخالن
نجمة سداسية ذات رؤوس تلمسها جميعاً دائرة افرتاضية.
نحت أسفل النجمة كلمة إغريقية قدمية ويقال أن معناها
"السحر أو التعويذة" ،وفوق النجمة كتابة مشابهة لنفس شكل
الحروف ويقال أن معناها "اللعنة".
103
تاريخياً تعتَب النجمة السداسية أقوى الرموز يف السحر
والشعوذة لدى ديانات مختلفة ،وال تزال هذه النجمة إىل اآلن
تستخدم يف السحر والعلوم الشيطانية.
ففي الديانات املرصية القدمية كانت النجمة السداسية رمزا ً
هريوغليفياً ألرض األرواح ،وحسب املعتقد الفرعوين فإن
النجمة السداسية كانت رمزا ً لإلله "حورس".
أما يف الديانة الهندوسية تستعمل النجمة السداسية كمركز
التحاد القوى املتضادة ،مثل "املاء والنار" ،أو "الذكر
واألنثى" ،فالذكر رأس مثلثه ألعىل أما األنثى لألسفل،
وباجتامع الرمزين ينتج "الهيكساغرام" ،وهو ما يسمى
بالتجانس الكوين حسب الفلسفة اليونانية ،حيث اإلله
"شيفا" هو الخالق األنثى ،ألن األنثى مصدر جميع األشياء
وهي الوالّدة ،بينام الرجل هو القوي بعضالته فقط وصانع
الرشور والحروب.
كذلك تعتَب النجمة السداسية أحد طقوس عبادة "منرود
وسمرياميس" ،و"عشتار وبعل" ،و"أفروديت وفينوس".
ويف الديانة "الزرادشتية" كانت النجمة السداسية من الرموز
الفلكية املهمة يف علم التنجيم ،ورمزا ً لكوكب زحل ،وال يزال
"الهيكساغرام" حارضا ً ضمن مراسم وطقوس "الدرودز
."Druids
104
يف طقوس "املاسونية" ورموز "النورانيني" وجامعة "الويكا"
الذين يسعون إلعادة بناء هيكل النبي "سليامن" والبحث عن
الصحائف املنزلة عىل النبي "موىس" ،يستخدمون النجمة
السداسية كبطاقة عضوية يف محافلهم ويف صلواتهم وتنبؤهم
باملستقبل.
فللرقم ستة أهمية كبرية يف الديانة اليهودية ،فأيام االسبوع
ستة ،والله خلق الكون يف ستة أيام ،والتقاسيم الستة للتعاليم
الشفهية ،كام أن النجمة السداسية متثل الحرف األول واألخري
من اسم داود بالعَبية.
كام أن اسم (يهوه) الذي يعد من أقدم أسامء الخالق األعظم
يف اليهودية ،منحوت بتشكيلة نجمة سداسة...
وتعتَب اإلهرامات شكالً من أشكال املثلث املتمم للنجمة
السداسية وهي منقوشة داخل غرف الفراعنة ضمن
اإلهرامات ،كام أن النجمة السداسية اليوم مازالت موجودة
عىل مبنى املدينة القدمية يف "فيينا" وعىل الكثري من
الكنائس يف أملانيا ،ويقال أن اتباع "فيثاغوراس" كانوا
يستخدمون النجمة السداسية بنفس شكلها الحايل.
* * *
105
الرجال العظام ال يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى هذه
المكانة في جيل واحد ،بل إن ذكريات الحيوات السابقة
وتتاليها بالتقمص جعلتهم يميزون الواقع بمنظر أكثر
شمولية من اآلخرين ،واألطفال الذين يقترحون أفكاراً
ماكان لهم أن يأتوا بها إال كونهم جاؤوا بتحضير فكري
متراكم وطويل.
يوهان هاردر – فيلسوف وناقد الهويت أملان.
* * *
إنها الساعات األوىل يل يف هذا املكان ،مل يسدل الليل ستاره
بعد ،رغم املكان املقفل إال أنني أستطيع الشعور بالوقت
والزمان ،بدأ الجوع يحايك معديت ،رشبت كمية جيدة من املاء
لكن دون فائدة ،ما أحتاجه هو الطعام ،املضغ والبلع والشبع
يك أرتاح ...تجولت يف الساحة املغلقة عدة مرات ،تأملت
األبواب ،نظرت إليها ،وأخذت أفكر بالطريقة التي بنوا فيها هذا
106
املكان ،متسائالً عن السبب الذي جعلهم يبنون هذه الغرف
الستة والساحة الحجرية أسفل األرض...
هل كانوا يختبئون هنا أثناء الغزوات والحروب؟.
فكرت يف الكثري من األمور ،أعدت إىل ذهني مشهد املشفى
وكيف تغري جسدي بعملية التقمص الحي ،ثم تصاعدت
أفكاري ودخلت حيز الدين والعذاب والقيامة.
ترصفات أرواحنا وما متليه علينا هو ما نحاسب عليه ،أما
أجسادنا فهي فانية ،إنها ليست سوى عربة نركبها لها طاقة
تح ّمل معينة ،ومدة صالحية ،وشكلها الخارجي ال عالقة له
أبدا ً مبا تضمره أرواحنا من الداخل ،جسدي اآلن هو الذي
يطلب الطعام كاآللة حني تتزود بالوقود لتستمر بالحركة...
لكن ما عالقة الصيام بالجسد والروح؟ وإذا فرغ الجسد من
الوقود كيف ستتأثر الروح؟
رمبا كلام جاع الجسد أكرث وخفت حركته ونشاطه وأصابه
العمى والتشويش تبدأ الروح بالنظر الصحيح ،وتسمو بالرؤية
والتفكر والتبرص ،وهذا عىل ما أظن ما يريدونه مني ،إنه
يل أن اختاره.
امتحان لتسمو روحي وتعرف رقم الباب الذي ع ّ
سار الوقت بطيئاً ازداد شعوري بالجوع ،رشبت كمية إضافية
من املاء ،لكن بدأ جسدي يهفو ويضعف ،وأخذت يداي
ترتجفان ،تسلل التعب والجوع إىل رأيس ،مىض الوقت أكرث
وأكرث ،وازداد الصداع أكرث وأكرث ،قدّرت الوقت بأنه منتصف
107
يل أن أنام ليميض الوقت رسيعاً ولتنتهي ليلتي
الليل ،ع ّ
يل
األوىل ،ولعل الرؤية تأتيني وتدلني عىل الباب الذي ع ّ
فتحه.
* * *
هي الروح بقدسيتها وتفردها ،نفحة ال منلك عليها سلطاناً،
قوانينها مقضية وأحكامها نافذة عىل أجسادنا ،إنها عامل
خاص مفاتيحه ليست بأيدينا...
يف عتمة املكان الذي فيه أنام دخل الشيخ "زين الدين" دون
أن يفتح ذلك الباب الحجري الصغري...
108
فجأة اختفى الشيخ "زين الدين" ،وظهرت األصوات من الغرف
أكرث وضوحاً:
هو الله ...يعلو كأسنا فوق كل الكؤوس..
هو الله ...من سادات الناس نحن املوحدون الدروز..
هو الله ...كنقش عىل املاء صفو النفوس..
هو الله ..أرسل لنا ببهائة كل الكنوز..
نبي محروس..
هو الله ..ما قام يف ارسائيل إال ٌ
هو الله ...رشيعته يف كل املهامز والرموز...
هو الله ...ما قام يف بكة إسال ٌم إال مأنوس..
هو الله ..كل من ناجاه بالرحمة سام بالفوز..
هو الله ...حيدرة األنزع أضاء الشموس..
هو الله ...وال طريق نجاة إال بسلامن ذو القوة الرضوس.
عيني فجأة من هذا الكابوس املزعج ،كانت أصواتهم
ّ فتحت
ماتزال ترن بأذين ،شعرت بالخوف ،وقفت واتجهت ألشعل
املزيد من الشموع ،لكن استوقفني ضوء بسيط أسفل الباب
األول ،اتجهت نحو الباب ،تلمسته وحاولت النظر من أسفله
لكن دون جدوى.
من أين يأيت هذا الضوء ،ضوء أشبه بضوء النهار ولكن كيف
تسلل ليصل إىل عمق عرشة أمتار تحت األرض.
109
شعرت برغبة يف فتح األبواب الستة ،لكن يبدو أنها موصدة
بقوة ،ثم إن الشيخ "زين الدين" نبهني من عدم االقرتاب
ومحاولة فتحها..
مل ميض سوى بعض الوقت حتى تسلل الضوء إىل أسفل
الباب الثاين ،ثم الثالث عىل الرتتيب ،فعرفت أن هذا ضوء
الشمس يزور الغرف واحدة تلو األخرى مع حركة ضوء النهار.
رشبت القليل من املاء ،وجلست أفكر.
استوقفني حلم ليلة األمس بزيارة الشيخ "زين الدين" مكاين
هذا.
هل هو مجرد حلم أم أن الرؤيا تأيت بهذه الطريقة ،ثم إنه مل
يفعل شيئاً سوى أنه سألني من أنت.
ثم سمعت مفردات وجمل األنشودة وهم يرتلونها.
بعد ذلك وبشكل مضحك اجتاحتني حالة من الهيجان كوين
أجلس لوحدي وال أحد يسمعني...
فوقفت وأخذت أرتل جمل األنشودة بصوت عا ٍل مع حركات
راقصة مييناً ويسارا ً أشبه بحلقات ِ
الذكر الصوفية..
هو الله ...يعلو كأسنا فوق كل الكؤوس..
هو الله ...من سادات الناس نحن املوحدون الدروز..
هو الله ...كنقش عىل املاء صفو النفوس..
هو الله ..أرسل لنا ببهائة كل الكنوز..
110
ضحكت قليالً ثم جلست وعدت إىل حالة التأمل والتفكري فيام
حصل يل.
* * *
انترش خَب الضيف الغريب املتقمصة روحه بني أبناء جميع
القرية ،وعرفوا أن الشاب يخضع المتحان "مقري الوحش"،
وكرث اللغو واملغاالة يف توصيف ما حدث وما قد يحدث.
عاد واجتمع الشيوخ العقَّال يف مضيف الشيخ "زين الدين"،
ليتباحثوا موضوع الدكتور "سامي" ،فبعضهم يستغرب وال
يصدق هذه الحادثة ،أما األكرثية فقد كانوا من رأي الشيخ
"زين الدين":
ثم وقف الشيخ بعد أن كرث اللغو بالحديث بني الحارضين وقال
بلغة صارمة:
111
إن ظهر صدقه يف نهاية االختبار سنسانده ونساعده
أمام الحكومة وأمام القضاء ونثبت لهم بالدليل القاطع
الحي ،وستكون ذكرياته
ّ أنه تعرض لحالة التقمص
أحد األدلة التي سنقدمها لهم ،وعندها سيثبت اليقني
يف قلوبنا جميعاً بأنها رسالة الله إلينا ،والله هو الذي
ريه نحونا ليظهر الحقيقة والحق الذي نؤمن به
س ّ
لدى كل من يشكك بعقائدنا ،واجبنا أن نساعده هو
دخيلنا ومل يعرف عنا خذالن الدخالء قط.
* * *
غربت شمس اليوم الثاين ،وطمس الظالم حواف األبواب
الستة ،حاولت الوقوف لكن الصداع وآالم الرأس ازدادت أكرث
فأكرث..
مل أعد أشعر بالجوع أو بالعطش ،فقط آالم وصداع برأيس،
وأعرف أن هذا بسبب نقص الطعام.
كثرية هي األفكار التي اجتاحت تفكريي ،طفولتي ،زوجتي،
ابني ،منظر جسدي بعد أن قتلته من عىل روح ذلك السارق،
هرويب من املشفى ،وصويل إىل هنا...
ازداد الصداع أكرث وأكرث ،والوقت مي ّر ببطئ شديد ،متى
سينتهي هذا االختبار ،وهل سأنجح به ،هل ستأتيني الرؤية
التي توضح يل أي باب يجب أن افتح...
112
بدأت جفوين تغمض مجددا ً ،لكنني أشعر بصعوبة يف النوم،
الصداع يف رأيس يزداد ...وأصوات غريبة وكالم غري مفهوم بدأ
يسمع من الغرف املغلقة.
ال ..األصوات تأيت من غرفة واحدة ،أغمضت عيني وأخذت
استمع برتكيز أكرث لألصوات القادمة..
إنها الغرفة السادسة ،صوت امرأة تتكلم ،سأحاول الرتكيز أكرث
ألعرف ماذا تقول هذه املرأة من همهامت...
الصوت بات أوضح ،إنه صوت مآلوف يل ،صوت أعرفه بشكل
جيد..
نعم إنه صوت “إميا”...
“إميا” ،ماتت فامذا تفعل يف الغرفة السادسة؟!!..
نهضت من مكاين ،كان ضوء الشمعة يخفت أكرث فأكرث ،حملت
شمعة جديدة ،يبدو أن الشموع نفدت ،وال يوجد شموع أكرث،
أشعلتها وجلست قبالة الباب السادس ،وضعت أذين عىل
الباب وهمست:
113
لقد سمعت صوتها واضحاً ،فهل أنا بحلم أم حقيقة ،أم أنها
مجرد هلوسة وهذيان؟
وضعت اصبعي فوق نار الشمعة ،لقد حرقت الشمعة اصبعي
لقد شعرت بأمل الحرق يف إصبعي ..عدت مجددا ً ووضعت
اصبعي فوق الشمعة وتركتها تحرقني أكرث هذه املرة ألتأكد
أين ال أحلم أو أهذي..
114
-وكيف تم ذلك أخَبيني؟ من قتلك؟
-ال عليك يا حبيبي ،ستعرف من قتلني فيام بعد ،يكفي
أنني أحبك..
-الله ما أجمل هذه الكلمة ،مل أسمع مبثل صدقها يف
حيايت.
-أنت حبيبي وستبقى حبيبي ،وأنا مل أعشق شخصاً
كام عشقتك.
“ -إميا” أخَبيني من الذي قتلك وكيف تم قتلك؟
-هذا األمر لن أخَبك به ،بل ستكتشفه لوحدك حني
تخرج من هنا ،حينها ستعرف من قتلني.
“ -إميا” هل أنا أحدث روحك اآلن؟؟
-نعم يا حبيبي.
-كيف لنا أن نتقابل؟؟
-قريباً سنتقابل ،كل ما تعرضت له وكل ما تفعله ليس
سوى طريقاً للقايئ مجددا ً.
-ولكن جسدي تبدل وتغري؟
-ال يهم الجسد يا حبيبي ،ما يهم هو روحك ،فنحن هنا
ال نرى األجساد بل نتاموج مع األرواح التي تشبهنا.
-وهل أختار هذا الباب ألنجح يف االختبار؟.
-هذا األمر يعود لك ،عليك أن تتأمل أكرث لتعرف الباب
الذي عليك أن تختاره.
115
ِ
أرجوك“ ،إميا”“ ،إميا” هل ِ
أرجوك أريد رؤيتك اآلن، -
ذهبت أين ِ
أنت ال تذهبي“ ..إمياااا”. ِ
شعرت بآالم أكرث تجتاح رأيس ،وبدأ النوم يرسق قويت ،شعرت
برغبة عارمة يف النوم ،لقد تعبت كثريا ً.
وضعت رأيس بجانب الشمعة وغفوت.
* * *
116
يف الصباح عاد الضوء ليتسلل من أسفل األبواب الستة،
نهضت فزعاً من مكاين بعد أن تذكرت حوار ليلة أمس ،نظرت
عيني عىل أشدهام ،كان إصبعي
ّ دقتي
ّ إىل إصبعي ،فتحت ح
محرتقاً وأمله مل يغب بعد.
نعم مل يكن حلامً ومل يكن وهامً لكن مل يكن حقيقة كذلك ،وأنا
نفيس ال أعرف ما حدث ،هل هكذا تكون الرؤيا؟!
إنها الليلة الثانية ،زارتني “إميا” وأخَبتني بأمر ذي أهمية
كبرية ،إنها مل متت بحادث سيارة قضا ًء وقدرا ً ،بل قتلت،
وحادث السيارة ليس سوى تغطية لتبدو حادثة املوت عادية.
من اآلن سيبدأ العد التنازيل لنهاية هذا االختبار ،وغدا ً صباحاً
سيفتحون الباب الصغري ويطلبون مني اختيار الغرفة التي
تحوي "املفتاح النجمي" ،وهو ما سيؤكد صدق روايتي.
ليس هذا فحسب بل سأخرج من هنا مبعلومة جديدة قد تفيد
يف فتح ملف تحقيق جديد مبقتل "إميا" ،وإن ثبتت حقيقة
معلومايت حول جرمية القتل هذه سيكون بيدي دليل مه ٌم
ألثبت شخصيتي ،وسأعود ملنزيل وزوجتي وعياديت متخلصاً
من كل ما حدث معي.
* * *
جميع أهايل القرية صغريا ً وكبريا ً كانوا يتحدثون مبوضوع
الرجل يف "دار مقري الوحش" والذي يخضع الختبار الصدق،
117
اختبار ال يعقد إال يف الحاالت الصعبة والتي ال يجد مجلس
العقَّال لها حالً ،كأن يتهم أحدهم بالرسقة أو بجرمية قتل وال
يوجد أمامه أي دليل ليثبت براءته ،حينها يقرر املجلس
إخضاعه الختبار صدقه أو كذبه يف "دار مقري الوحش" فإن
كان صادقاً تثبت براءته ،وإن كان كاذباً وخرج ساملاً من
"الدار" يتم إبعاده عن القرية ومصادرة منزله وأرضه وتقدميها
ألصحاب الحق.
وأحياناً نادرة قد يتم اختبار فتاة عذراء فيام إذا تم اتهامها
برشفها بني أبناء القرية ،فتدخل المتحان الدار وهكذا...
واليوم يعتَب هذا االختبار األول من نوعه ،إذ عادة ال يسمح
ألشخاص من خارج الطائفة الدرزية بخوض امتحان "مقري
الوحش" لكن مجلس شيوخ العقَّال أرادوا إثبات نظرياتهم يف
التقمص لبعض املتشككني من جهة ،ومن جهة ثانية شعروا
أن روح هذا الشخص تعود لحيوات قريبة فكرياً من حيواتهم،
وهذا ما جعلهم يستقبلونه.
* * *
وصلت إىل بداية اإلنهيار ،أريد أن أخرج من هذا املكان املعتم،
مل أعد قادرا ً عىل التفكري أو الرتكيز ،من املؤكد أن املفتاح
النجمي املقدس موجود يف الغرفة السادسة ،دليل دامغ
وصلني ليلة أمس ،فقد تحدثت معي "إميا" خلف باب الغرفة
السادسة وبالتأكيد فإن املفتاح موجود فيها..
118
يجب أن أخرج ،فالشمس قاربت عىل املغيب ومل أعد قادرا ً
عىل التحمل أكرث ،ال أريد أن أرى رؤيا إضافية ،يكفيني هذا...
تحركت نحو الباب الحجري الصغري ،وأردت نزع الحجارة
والخروج ،ولكن ال يوجد أي أثر ملكان الباب ،فالحجارة
مرصوفة ومتطابقة بشكل ال يسمح حتى للهواء أن يدخل،
الشمعة التي بيدي هي األخرية ،وحتى املاء نف َد بشكل كيل،
دفعت الحجارة املرصوفة لكن دون جدوى ،رفستها بقدمي،
فلم أستطع حتى تحريكها.
هل يعقل أن الحجارة ال تزاح إال من خلف الباب ،إذا ً أنا يف
سجن هنا ،وال ميكنني الخروج بإراديت ،وإن مل يأتوا فحتامً
سأموت.
جلست حائرا ً خائر القوى ،وبدأت تنتابني حالة من السعال
القوي...
مىض الوقت بطيئاً ،ثم عدت وسمعت صوتاً جديدا ً ،لكن هذه
املرة من الغرفة األوىل املقابلة للغرفة السادسة ،همهامت
وألفاظ غريبة ،كأين أعرف هذا الصوت جيدا ً ،زحفت نحو الباب
الحجري األول تلمسته بيدي:
119
عادت الهمهامت مع زئري مكتوم:
-من أنت؟
120
عاد وضحك بصوت عا ٍل ثم قال:
َ
يصدقك أحد ،ولن تستطيع إثبات -أنت مجنون ،ولن
ذلك أبدا ً!!
-أنا أعرف جيدا ً أنني اآلن أحلم ،ورمبا هي مجرد
هلوسات ،وأعرف أنك غري موجود اآلن ،فقد قتلتك
بيدي ،ولست نادماً عىل ذلك ،وسرتى كيف سأثبت
للجميع أنني أنا الدكتور سامي.
121
بدأت موجة من الغضب تجتاحني مجددا ً ،فهل يعقل أن
السجني الذي رسق جسدي قد أخَب والدي بأشياء وأكاذيب
عني؟
-أيب هل تسمعني؟؟
-نعم أسمعك..
-افتح الباب أريد رؤيتك اآلن ،افتح الباب..
-بني ال ميكنك رؤيتي ،وال ميكنني رؤيتك ،ولكن كل ما
سأقوله لك ،هو أن تنظر إىل أعامق قلبك وسرتاين
وتعرف الحقيقة ،عد إىل أعامق قلبك ،عد إىل أعامق
قلبك بني وستعود إىل حقيقتك كيفام كانت من قبل.
-أيب أنا يف سجن كبري ال أستطيع الخروج منه ،وكل ما
تسمعه عني مجرد كذب وافرتاء ،ومن يدعي أنه
الدكتور "سامي" هو إنسان كاذب ،نعم لقد مات
جسدي لكن روحي مازالت حية تسكن هذا الجسد.
122
-بني أنا ال أرى األجساد ..نحن هنا فقط نسمع األرواح
وأصداءها ،ونتاموج مع األرواح التي تشبهنا ،نحن يا
بني نعيش حياة (الزوهار) فهنا تجتمع أرواحنا
لتنتقل عَب األجساد مرة أخرى وهكذا.
123
أنا َمن أهوى ..و َمن أهوى أنا..
نحن روحان حللنا بدناً ...فإذا أبرصتني أبرصته..
وإذا أبرصته فكأن روحه روحي...
وروحي روحه...
أرسل ببهائه كل الكنوز..
نبي محروس..
ما قام يف إرسائيل إال ّ
رشيعته كل املهامز والرموز..
وما قام يف بكة إسال ٌم إال مأنوس..
كل من ناجاه بالرحمة سام بالفوز..
* * *
بهذه املناجاة وصل الشيوخ العقَّال إىل الباب الحجري
الصغري ،يرددون ويتلون األهازيج واألناشيد والتسابيح لفتح
باب "مقري الوحش" بعد صيام الشاب عن الكالم مع الناس
وعن الطعام لثالثة أيام متتالية بلياليها..
دخل أولهم الشيخ "زين الدين" ودخل خلفه الشيوخ ممسكني
بالشموع...
كان املكان هادئاً ،كل الشموع ذابت ،وقارورة املاء الكبرية
نفدت ،والشاب مغيش عليه أمام الباب األول ...جثا الشيخ
عىل ركبتيه ،تلمس موضع قلبه ،حاول أن يوقظه لكن زبدا ً
أبيض خرج من فمه..
َ
124
عىل الفور طلب الشيخ من باقي املجموعة أن يرفعوه عن
املكان املستلقي فيه.
حمله أربعة من الشيوخ وأبعدوه عن الباب األول..
وقف الشيخ "زين الدين" نظر إىل املجموعة املتبقية وقال
لهم:
تقدم أحد الشيوخ خطوة نحو الباب األول ،تلمسه ونظر إليه
وقال:
-لنفتحه وننظر.
تحملق باقي الشيوخ حول الشيخ "زين الدين" الذي أخرج من
جيبه ستة مفاتيح حديدية طويلة ،مفاتيح أشبه بتلك
املفاتيح الكبرية التي يفتحون بها أبواب القالع.
125
أدخل املفتاح يف دائرته الحديدة ،حركه ،ثم طلب من البعض
مساعدته لدفع الباب إىل الداخل...
مل يفتح الباب من زاويته كالطريقة التي تفتح بها األبواب
عادة ،بل دخل الباب بزواياه األربعة إىل الداخل وظل معلقاً
من خالل مشبك معدين وحبال قوية وسلسلة حديدية يف
أعاله ليصري أشبه بالجناح ،أو مبخرج ماء السد.
قرفص الشيخ "زين الدين" ودخل الحجرة ،ثم دخلها كل من
معه.
غرفة اسطوانية طوالنية ال تحوي أي زاوية بداخلها ،طولها
يفوق العرشة أمتار ،وقطرها ال يتجاوز الثالثة أمتار.
عىل أحد الجدران كانت نجمة فضية منحوتة بعناية فائقة،
حوافها من خليط معدين يجمع النحاس والَبونز القديم
معلقة عىل الجدار..
تقدم الشيخ "زين الدين" أمسكها ،رفهعا أمام الحضور وقال:
126
تقدم الشيخ "عقيل" وطلب أن يرى النجمة ،قدمها له الشيخ
"زين الدين" قبلها ووضعها عىل رأسه ،ثم أعطاها آلخر وهكذا..
ثم قال:
127
نادرا ً ما يتم االعرتاف بالدمج الذي يتم بني األفكار
(الغنوصية) ،أو (العرفانية) القدمية مع األفكار (اإلسالمية) أو
(املسيحية) أو حتى (اليهودية) أو مذاهب كل ديانة.
فـ(الغنوصية) أو (العرفانية) أو (الفكر املعريف) هو مصطلح
يطلق عىل فكر الديانات املتناقل وغري املتبدل بني الديانات
اإلبراهيمية الثالث ومذاهب كل ديانة.
يقوم الفكر (الغنويص) عىل اإلميان بأن الكون مادي مخلوق،
وهو انبثاق من ال ّرب األعىل الذي وضع شعلة الروح اإللهية يف
صلب الجسد البرشي ،وميكن تحرير أو إطالق هذه الشعلة
عدة مرات ولكن بعد معرفتها للحق.
انترشت األفكار (الغنوصية) يف محيط منطقة البحر
املتوسط ،وتطورت بعد أن اندمجت بالحركات الدينية
(اليهودية) و(املسيحية) األوىل ،وبنظريات أفالطون حول
الحياة وعالقة اإلنسان بالرب.
كام انترش الفكر "الغنويص" بزمن اإلمَباطورية الفارسية
حتى ظهرت يف الصني عىل شكل الديانة "املانوية" ويف
العراق عىل شكل الديانة "املندائية".
وإىل اليوم تعتَب الطائفة "الدرزية" يف سوريا ولبنان أكرث من
تَعلمها وعمل بها وتعرف عليها ،ويسمونها ضمناً بـ(العرفان).
واملعنى الحريف لكلمة "غنوسس" اليونانية هي "املعرفة
128
املستقاة من الخَبة النفسية املتكررة بالحيوات" أي بانتقال
األرواح بني األجساد ،أما املعنى باملفهوم الديني فهو:
"املعرفة الروحية املبنية عىل العالقة مع الذات اإللهية من
خالل الرابط الروحي الذي دمجه الله من ذاته يف اإلنسان".
وهذا جميعاً جاء من رموز معرفة كتاب "الزوهار" وهو
املخطوطات التي من خاللها انتقلت املعرفة الدينية وقصص
األولني عَب العصور بدءا ً من العرص البابيل القديم حني كتب
الفالسفة يف التلمود البابيل "بوابة اإلله" وإىل باقي الديانات
يف عرصنا هذا.
* * *
* * *
129
الفصل السادس
130
-الحمد لله كل شيئ عىل ما يرام ،ونحن هنا ألمر مهم
للغاية ،وال نريد أن نطيل املكوث.
131
ابتلع املقدم لعابه بصعوبة ،وشعر أنه اآلن أمام قصة معقدة
وجديدة ،ويبدو أن مواجهة ومعركة بني العقل والدين باتت
وشيكة بينهام.
* * *
تعتَب ثنائية اندماج "رجل الدين" و"رجل السلطة" يف الرشق
األوسط أحد األمور املهمة يف م ّد النفوذ والسيطرة عىل
الشعوب املتدينة.
فرجل "الدين والسلطة" ثنائية واجبة إلدارة املصلحة
املشرتكة إن صح التعبري ،وال يقترص هذا األمر عىل طائفة
بعينها أو ديانة أو مذهب ،بل إن السلطة القوية والذكية هي
التي تبني قوة دينية موجهة من خاللها لكافة الطوائف
واألديان التي تحميها جغرافياً الستمرار سيطرتها عىل
الشعب.
وكلام كان الشعب أكرث تديناً كلام أولت السلطة أهمية أكَب
لرجال الدين الستمرار قوتها ومعرفتها بكل صغرية وكبرية،
فمن جهة يضفي الحاكم مرشوعية سلطته باالستناد إىل
السلطة الدينية ليزكيها رجل الدين ويثبتها باعتبارها مشيئة
الرب أو اإلله أو الله ،ومن جهة ثانية يضمن لرجل الدين
ّ
مامرسة وصايته عىل الرعية ،مع الدعم والنفوذ واملصلحة
التي يريدها.
132
لكن أحياناً تصل جهة الدين وجهة السياسة إىل طريق شبه
مسدودة وذلك حني يتعارض القانون القضايئ للسلطة
السياسية ،مع الترشيع الديني الذي يدعي رجل الدين أنه
ساموي وله األحقية أو األسبقية.
كام ويحدث أن ينترص الدين أحياناً خاصة يف األمور املتعلقة
بني اإلنسان واألخالق ومصري حياته ورسم حدوده الدنيوية،
ويحدث كذلك وأن تنترص السياسة خاصة يف األمور املتعلقة
بالسلطة والسيطرة والقيادة.
لكن الحرب الحقيقية والتي إىل اليوم ال صلح فيها ،هو الرصاع
ما بني العقل والدين بعيدا ً عن السياسة ،خاصة إذا كانت
الحرب بني معتقد ال يؤمن به العقل ألنه غري ملموس أو غري
موجود وبني معتقد غيبي أو ماورايئ يؤمن به الدين إمياناً
أعمى.
فالعقل يصنع املعرفة من خالل البحث العلمي ليكتشف يف
عمقه األصل والجذور معتمدا ً عىل تصديق الفرضيات أو
تكذيبها بحسب األدلة العقلية واملنطقية ،صانعاً املعرفة
بأسئلة تبدأ بـ(كيف؟).
أما الدين فيعتمد دامئاً عىل املعلومات املتواترة واملوروثة
بحسب اآلباء واألجداد ،وبحسب املكان الجغرايف الذي ولد
فيه الشخص ليعتمد عىل ما تم توريثه له من معتقدات ،ودامئاً
133
يجب أن تعتمد إجابته عىل (نعم) لتصديق ما يسمع منذ نعومة
أظفاره.
* * *
انتهى الشيخ "زين الدين" من رسد قصة الشاب الدخيل
وحادثة مقتل جسد الدكتور "سامي".
كان الهدوء يسود مكتب املقدم الذي أصغى للقصة من
بدايتها إىل نهايتها دون أن يتفوه بكلمة.
وقف واتجه إىل كرسيه خلف مكتبه ،أمسك علبة السجائر ،أراد
أن يشعل واحدة لكنه شعر أن الوقت والحالة غري مالمئني أمام
طائفة الشيوخ هذه ،تنفس بعمق وقال:
134
-معك حق ،وهذا ما نطلبه يف الحقيقة ،يجب أن تعدّل
القوانني بالصورة التي تتامىش مع أحداث مشابهة
لهذه الحادثة ،ونحن يف الحقيقة أخَبنا قصة الشاب
واالختبار الذي تعرض له"ملختارة محجة الدروز" يف
لبنان واألردن ،كام وعرف بالحادثة الكثري من
الشخصيات السياسية الرفيعة وبعض وسائل اإلعالم،
ونريد قضا ًء يأخذ هذه األمور بعني االعتبار ،فام حدث
مع الدكتور "سامي" لرمبا يحدث مع أي شخص منا،
أليس كذلك؟
135
نظر الشيخ "زين الدين" إىل بقية الشيوخ ،ثم نظر إىل املقدم
وقال له:
136
-كام تريد سيدنا الشيخ ،سأتصل اليوم بوزارة
الداخلية ،وأطرح عليهم املوضوع بكل حيثياته
وتفاصيله ،وسأخَبك مبا يقرونه.
-عىل بركة الله ،وأنا إىل حينها سأحافظ عىل الشاب
يف بيتي منتظرا ً اتصالك.
-نعم ،أرجو أن تبقيه تحت عينيك ،وتنتبه منه جيدا ً وأن
ال تسمح له بالسفر أو املغادرة إىل أن أخَبك
بالخطوة التالية.
-إن شاء الله ،واآلن نستأذن من حرضتك باالنرصاف.
-بأمان الله ،مع السالمة.
-احرتامي سيدي.
137
-جهزوا السيارة سأذهب إىل مقر وزارة الداخلية يف
الحال األمر ال ميكن السكوت عنه.
-حارض سيدي.
* * *
تعرف السلطة السياسية يف سورية ولبنان أن التعاطي مع
أبناء الجبل يحتاج إىل دبلوماسية كبرية ،فأبناء الجبل ِ
ص َعاب
املراس ،ويشهد عىل هذا التاريخ الحديث والقديم ملسرية
الثورات التي ظهرت من بينهم ،كام أنهم يعتزون بتاريخهم وهم
إحدى الطوائف املؤسسة لسورية ولبنان بشكلهام الحايل
كدول.
* * *
من العدل أن يأتي المرء من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي
به لنفسه.
ابن رشد.
الحضارة التي بدأت بالكاتدرائيات والمعابد ال بد أن
تنتهي بالهرمسية والشيزوفرينيا.
إميل سيوران.
* * *
138
ضمن وزارة الداخلية ،تم إقرار ورسم الخطوات واملراحل التي
يجب التعامل معها يف قضية "السجني رقم أربعة" و"الدكتور
سامي عز الدين سقاف" ودخول شيوخ ووجهاء الطائفة
الدرزية ضمن ملف القضية دون أن يتعارض الفكر الديني
اإلسالمي باملذهب الدرزي مع القانون البرشي يف معالجة
مرتكبي جرائم القتل ،واألخذ بعني االعتبار أن االعرتاف
الحقيقي بالتقمص ضمن قوانني الدستور والقانون الجنايئ
قد يفتح باباً لن يغلق أبدا ً يف وجه رجال الرشطة والقضاء
العام ،خاصة يف قضايا القتل.
عاد املقدم "مروان" صعد سيارته وجبل من الهموم قد بات
ينزاح عن ظهره يف ملف قضية الدكتور "سامي".
أمسك جواله طالباً االتصال بالشيخ "زين الدين" وهو يقود
السيارة:
139
-سيتم عرض القضية عىل القضاء األعىل ضمن القرص
العديل بعد يومني متاماً وبحضوركم وحضور
الصحافة ،متجاوزين قايض التحقيق لتكون القضية
مفتوحة بيد القايض املدين العام ،وقايض رشعي من
الطائفة الدرزية ،وقايض من املحكة الروحية ،مع
قايض محكمة النقض ،وسيتم عرض القضية عليهم
بكامل حيثياتها وتفاصيلها ،وما يحكمون به نحن
بصدد تطبيقه ،كام طلبوا مني أن تقوم الدكتورة
"روجني فائز" املختصة بالسيكولوجيا النفسية
مبعاينة املتهم لتقدم للقايض أثناء املحاكمة تقريرا ً
طبياً مفصالً عن حالته الذهنية واستيعابه وتذكره
لألحداث املاضية والسابقة من حياته.
-حارض سيادة املقدم ،كل ما طلبته سنفعله بشكل
دقيق ،وموعدنا معك يف جلسة القضاء بعد الغد
وسيكون الشاب موجود معنا وقد قابل الدكتورة التي
ذكرت اسمها ،لكن أود أن أكون أنا أحد من يتكلم بصفة
محامي الدفاع عن الشاب أمام مجلس القضاة.
-أظن أن طلبك سيوافق من قبل القايض العام ،وأنا
سأطلب منه ذلك شخصياً قبل بدء جلسة املحكمة.
* * *
140
(أنا ال أعتقد بظاهرة التقمص ،لكنني واثقة بأنها موجودة
مئة بالمئة)
الدكتورة " هيلني وامباك" -مختصة يف الطب
النفيس – جامعة كالفورنيا
* * *
أنهى مكاملته وترجل من سيارته باتجاه شقة الدكتور سامي،
قرع الجرس ووقف حائرا ً يستحرض ما سيقول لـ"نهلة" زوجة
صديقه الدكتور:
ِ
زوجك!! -تقريباً وصلنا إىل قاتل
141
مل يكن للعبارة أي أثر بالنسبة لها:
-هل من مشكلة؟
-ال أعرف كيف ابدأ ،ولكن ما مدى معرفتك وإميانك
بتقمص األرواح!!
-تكلم سيادة املقدم ،تكلم بكل ما تعرف ،ماذا هناك؟
-التقمص كام تعرفني هو انتقال األرواح والتفكري وما
إىل ذلك من جسد إنسان إىل آخر ،والقاتل الذي
ارتكب جرميته يقول إنه هو الدكتور سامي ومعه
األدلة عىل ذلك.
142
مع نحيب ونشيج بكائها وقف ابنها "زين" عىل حافة الباب
يراقبها وهو يعرف سبب حزنها هذا..
* * *
نحن ال ندرك ماهية األشياء ،بل ندرك ظواهرها الحسية
في المكان والزمان ،فالروح موجودة من قبل ،وهي قد
تغادر إلى كواكب أخرى بعد فناء الجسد لتتقمص هناك،
أو تبقى في نفس مكانها ولكن بجسد جديد.
عامنوئيل كانت – فيلسوف أملان
* * *
143
أمام بوابة القرص العديل بدمشق ترجل أكرث من عرشة شيوخ
عقَّال متجهني إىل قاعة املحكمة من بينهم الشيخ "زين
الدين" والشيخ "عقيل"..
كام دخل بعض الصحفيني ممن ينقلون األخبار عَب مواقع
التواصل االجتامعي ،ووصل املقدم "مروان عبد الحميد"،
ومعه بعض العنارص األمنية.
للمرة األوىل وبصورة غري قانونية مل يصل املتهم بسيارة
الرشطة ،بل وصل بسيارة الدكتورة "روجني" والتي قضت معه
أكرث من أربع ساعات ضمن عيادتها الخاصة.
صافح املقدم "مروان" الشيخ "زين الدين" بحرارة ،ودخال
قاعة املحكمة..
ثم دخلت الدكتورة "روجني" وهي تسري بجانب الشاب
"املتهم" الذي مل يتم وضعه يف قفص اتهام ،وذلك حسب
توصيات الشيخ "زين الدين" للمقدم "مروان".
كانت عالمات التعب والوهن ظاهرة عليه ،فأكرث من أربع
ساعات قضاها مع دكتورة مختصة بعلم "الباراسيكولوجي" أو
ما يسمى علم الخوارق السيكولوجية.
دخل القاعة دون أن يتحدث ببنت شفة ،وأجلسته الدكتورة
ضمن الصف األول يف الوسط بينها وبني الشيخ "زين الدين".
144
ثم دخلت "نهلة" وابنها وجلسا عىل الطرف املجاور للمكان
الذي جلس فيه املقدم "مروان" كانت مشاعرها تتاموج بني
الحزن والخوف الكبري.
* * *
يدرس علم "الباراسيكولوجي" أو علم ما وراء النفس ،أو علم
النفس املوازي القوى الخارقة وتأثرياتها عىل األجسام
الفيزيائية دون الخضوع لالفرتاضات العلمية املعروفة ،وهي
تتضمن دراسة ظاهريت اإلدراك وراء اإلحساس والتحريك
النفيس.
يتألف مصطلح "الباراسيكولوجي"من شقني أحدهام "البارا"
( )Paraوتعني القرب أو جانب أو مارواء.
أما الشق الثاين فهي "سيكولوجي" ( )Psychologyوتعني علم
النفس.
ترتكز أبحاث هذا العلم يف اإلجابة املنطقية حول األسئلة
املحرية لدى البعض كـ(املس الشيطاين) أو ما يعرف لدى
البعض باسم (الجن) ،و(التقمص) وانتقال األرواح ،كذلك
(التخاطر وقراءة األفكار) عن بعد ،و(الجالء البرصي) أي
القدرة عىل رؤية ما يقع خارج نطاق البرص ،و(التنبؤ) أي معرفة
األحداث قبل وقوعها ،و(التحريك العقيل) ويعني القوى
الخارقة يف تحريك األشياء أو ل ّيها أو عجنها أو كرسها دون
ملسها...
145
الحي،
ّ و(الخروج من الجسد) أو ما يعرف بالتقمص
و(االستبصار باملايض) أي ذكر حوادث وتواريخ دقيقة،
و(التواجد بني مكانني يف الوقت ذاته) ،و(انتقال املادة برسعة
الضوء) أو ما يعرف لدى بعض الطوائف الدينية بـ"طي األرض،
و(إشعال الحرائق ذهنياً) ،و(تجربة والخروج من الجسد لزمن
محدد) أو ما يعرف دينياً بـ"اإلسقاط النجمي" ،وظاهرة
(الديجافو) والتي تعني سبق الرؤية ،و(الطريان والتحليق)
الخارق يف الفضاء ،و(اللمس العالجي) أي ملس املريض أو
املعاق فيشفى عىل الفور.
* * *
دخل القايض العام وبجانبه جلس باقي القضاة ،كام دخل
قايض محكمة النقض وجلس معهم.
صمت الجميع لَبهة ،ثم قال القايض بصوت عالٍ:
-فتحت الجلسة.
146
مل يستجب أحد ،فأعاد الجملة مرة ثانية ،وهنا وقف الشيخ
"زين الدين":
سيدي القايض الله تعاىل خلق األرواح من روحه حيث قال يف
كتابه العزيز" :وإذ قال ربك للمالئكة إين خالق برشا ً من
147
صلصال من حأم مسنون ،فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين .صدق الله العظيم...
وقال كذلك :نحن قدرنا بينكم املوت وما نحن مبسبوقني عىل
أن نبدل أمثالكم وننشئكم يف ماال تعلمون .صدق الله العظيم...
جاءنا هذا الشاب منذ أيام خلت دخيالً علينا مستكيناً ضعيفاً،
يكاد يفقد عقله من هول ما حصل معه ،وما حصل معه ليس
باألمر الهني أو القليل،
هو الدكتور "سامي عز الدين سقاف" ،والذي ذهب ملعاينة
السجني املريض ،ولكن وبرضبة من رأسه وكونه ميتلك قدرات
خارقة للطبيعة ،استطاع ذلك السجني أن يتقمص جسد
الطبيب ويتبادل معه األدوار روحياً ،وهو ما يسمى لدينا
الحي...
ّ بالتقمص
سيدي القايض قد يبدو كالمي هذا غري منطقي للعلم وللمنطق
وألغلبكم هنا ..لكن من يؤمن بالتقمص سيجد أن كالمي
منطقي وطبيعي ،وكثرية هي األديان واملذاهب التي تؤمن
بالتقمص وانتقال األرواح ولكل منها أدلتها الروحية
والواقعية...
فإمياننا هذا مل يأت من العدم أو من أقوال وأحاديث متناقلة
قيل عن قال؛ بل نحن يا سيدي القايض نشهد وبشكل دائم
وبكثري من األدلة بنظرية التقمص ،فكم من طفل ولد ألبوين،
وبعد عدة سنوات بدأ يتذكر حياته السابقة من بني حيواته،
148
ويذكر أسامء ومناطق وتواريخ وحوادث يف مكان آخر مل يكن
قد زاره من قبل..
سيدي القايض كثرية هي الشواهد واألدلة وعديدة هي
املذاهب واألديان التي تؤمن مبثل هذه األمور والحوادث،
والتي إىل اآلن ال يأبه العلم بها ،وال يوليها اهتامماً يذكر ،علامً
أنها تكاد تحصل كل يوم يف حياتنا اليومية ،ليس هذا وحسب؛
بل لقد تغاىض عنها القانون وتجاهلها كلياً...
وقضية الدكتور "سامي السقاف" اليوم ليست قضيته لوحده،
بل هي قضية الكثري منا إىل أن يعرتف القانون بها ،فقد يقع
أحدنا يف شباك مثل هذه األمور ويظلم أو يتهم وهو منها
بريء...
فكم من جرمية قتل حدثت وكشفها طفل جاء من مكان آخر
بعد أن تقمصت روحه وقد وقعت قبل أن يقتل أو ميوت يف
حياته األوىل ...وكم من أرسار وحوادث سجلت ضد مجهول
وأثبتها وأظهر حقيقتها شخص تقمصت روحه بعد حني...
اليوم سيدي القايض لدينا الدكتور "سامي" ،ولكن بهيئة غري
هيئته وجسد غري جسده ،ودليلنا عىل ذلك هو أنه مازال
يحتفظ بذكرياته وتاريخه وبأشياء كثرية من ماضيه،
وبإمكانكم أن تتأكدوا منها حتى يتم إثبات صدق قضيته
وصحتها ،فزوجته وابنه وأصدقاؤه والكثري ممن يعرفونه
بالتأكيد لو جلسوا معه لعدة دقائق وحاوروه وبدأ هو بقص
149
حكايات وتفاصيل وأرسار حدثت بينه وبينهم سيكون هذا أكَب
الحي التي حدثت معه ...فهو يعرف
ّ دليل عىل حادثة التقمص
تاريخ الساعة التي يرتديها ،ويعرف الحادثة التي تعرضت لها
"إميا" ،كام أن بإمكانه أن يذكر لكم أحداثاً ستشهد زوجته
الحالية "نهلة" بحدوثها ،وأظن أنها قابلته اليوم واستمعت له
هي والدكتورة املختصة ،وأنا أقول لكم من كان يعرف الدكتور
"سامي" قبل موت جسده ،فليجلس مع روحه اآلن بجسده
املختلف وسيتأكد أنه هو.
سيدي القايض مل يبق يل من الكالم سوى أن أناشدك النظر
بعني العدالة إىل قضية من قضايا املاورائيات وقضايا يتحكم
بها الغيب أكرث من أن يتحكم بها املنطق والعلم يف زماننا
هذا ...فرمبا يأيت وقت يستطيع العلم أن يحايك قضايا مثل
التقمص ،وهنا نكون قد ظلمناه ألننا مل نكن نعرف..
وما مل يراه العلم اليوم قد يراه يف الغد ،والسالم عليكم ورحمة
الله وبركاته.
نظر القايض إىل أرجاء قاعة املحكمة ،كان الكل صامتاً
يستمع للشيخ "زين الدين".
أشار القايض للشيخ بالجلوس.
عاد الشيخ وقبل أن يجلس أمعن النظر بعني الرحمة إىل زوجة
الدكتور "سامي" وابنه ،ثم جلس يف مكانه.
نظر القايض إىل بعض الصور واألوراق أمامه:
150
-املدعي العام ليتفضل بحجته.
151
أبحاث مع فريق طبي متخصص ضمن "مجلس البحوث
الطبية" يف بريطانيا حول حالة التقمص.
* * *
يمكن القول إن الشخصية أكثر األدوات قدرة على اإلقناع.
أرسطو.
* * *
مجلس البحوث الطبية الَبيطاين :هو وكالة حكومية ممولة من
القطاع العام ،وهو مسؤول عن متويل وتنسيق البحوث الطبية
يف اململكة املتحدة ،يعتَب واحدا ً من سبعة مجالس بحوث
أكادميية ،وهذا املركز هو الذي قام بتطوير "البنسلني"
واكتشاف بنية الحمض النووي ،وحصلت أبحاثه عىل أكرث من
ثالثني جائزة نوبل ،ومؤخرا ً بدأ املجلس بتطوير أبحاث حول
نظريات املاورائيات وعلم امليتافيزيقيا.
* * *
إن األحالم في حياتنا هي البيئة التي فيها شكلنا
انطباعاتنا وأفكارنا وشعورنا ،وحياتنا ليست إال أحالماً لحياة
أكثر واقعية نتمنى أن نعيشها.
ليو تولستوي – روايئ وداعية سالم ومفكر رويس.
* * *
152
-سيدي القايض ،نحن اآلن لسنا أمام قضية انتحال شخصية
أو تقمص روح ما ،أو ما شابه ذلك..
لقد خضع املريض املتهم صباح اليوم لجلسة تنويم
مغناطيس يف عياديت للربط بني أفكاره الواعية واالواعية من
ذاكرته املخفية...
واستطعت إخضاع دماغه من خالل جهاز ( )EGEIلحالة
اسرتخاء كاملة فتحدث بكل التفاصيل التي عاشها خالل
السنوات املاضية وما حصل معه مؤخرا ً ،ثم تم إدخاله يف
فحص سيكولوجي كامل مع سحب بصامت أصابعه وبصمة
وجهه وبصمة عينيه ،لنكتشف أن حالة املتهم تعتَب األندر يف
علم النفس ،إذ أنه يعاين من انفصام عاطفي مع اعتالل نفيس،
وسأوضح لكم جميع التفاصيل بدقة إن سمحت يل املحكمة
وأمام العامة.
بعد أن صمتت الدكتورة لثانية بدأ الصخب والحوار الجانبي
بني جميع الحضور ،عىل الفور أمسك القايض مبطرقته
ورضبها بشدة ليصمت الجميع ،نظر إىل الدكتورة:
153
عز الدين سقاف" كام أسلف قبل قليل الشيخ "زين
الدين"،
154
جنونياً ،وكانت تخَبه بجميع األمور والقصص التي متر معها
يومياً وبالتفصيل.
ما أن ذكرت الدكتورة "روجني" اسم "إميا" حتى بدا املتهم
وكأنه يفقد تنفسه ،إذ صار وجهه أصفرا ً وبدأ يتنفس برسعة
وبصورة غريبة جعل الكل ينظر إليه.
رمقه القايض ،بعد أن توقفت الدكتورة "روجني" عن الكالم
وأخذت تنظر إليه باستعطاف.
ثم عاد القايض ووجه كالمه إىل الدكتورة:
155
وبسبب تعلقه الشديد بأمه ،قرر أن يتخلص من والده بصورة
ذكية ،فقام بتعطيل فرامل سيارة والده ،وربط مؤرش الفرامل
ليحدث االنقطاع حني تصل رسعة السيارة إىل الثامنني
كيلومرتا ً يف الساعة ،وذلك بنفس التوقيت الذي يعرف فيه أن
والده سيسافر من محافظة إىل محافظة ،لكن سوء القدر جعل
أخته "إميا" تقرر مرافقة والدها يف رحلته هذه ،وأثناء الطريق
انقطعت الفرامل وتويف األب واألبنة بحادث سيارة سجل
رس جرميته يف
مرورياً كحادث قضاء وقدر ،ليحتفظ هو ب ّ
ذاكرته دون أن يخَب بها أحدا ً ،وهنا نعتَب أنه تعرض للصدمة
النفسية األوىل ،فمكث يف غرفته ال يحدث أي شخص ،إذ فقد
أخته التوأم التي تعلق بها منذ صغره تعلقاً أشبه بالجنون.
بعد عدة أشهر توفيت أمه بسبب حزنها عىل الحادثة التي
تعرضت لها العائلة...
ليتحول "آدم" إىل حالة سيكولوجية جديدة تسمى يف علم
النفس الحديث باسم "اعتالل الذكاء العبقري والنفيس"،
ويسمى كذلك "بانفصام الشخصية العبقري الحاد"...
ولكونه كان يحب أخته وأمه حباً كبريا ً ومتعلق بهام أشد
التعلق ،بدأ دماغه بصقل وتغيري شخصيته الداخلية،
واالنتقال إىل حالة "التقمص العاطفي الذهني" ،أو "االنفصام
العبقري"...
156
يف هذه الحالة قرر دماغه أن يبدأ بتأهيله ليعيش حالة عشيق
أخته ،والذي كان يعرف مسبقاً أنه "الدكتور سامي" ،خاصة أن
أخته كانت تخَبه بكل ما كان يحصل معها أثناء مقابلتها
للدكتور "سامي" وكيف أنها تعلقت به عاطفياً ،وبدأت بحبه
خالل الفرتة الوجيزة التي تعرفت بها إليه...
وساعة اليد التي أهدتها له كانت من اختيار "آدم" فهو من
انتقاها لها حني كانت تبحث يف السوق عن هدية تناسب
حبيبها "سامي"...
انتقل "آدم" يدور يف الشوارع يراقب كل تفاصيل الدكتور
سامي دون أن يشعر هو بذلك ،بدءا ً من منزله إىل عيادته،
املشفى ،املطاعم التي يرتادها ،األصدقاء اللذين يزورهم ،ومل
يغادر املنطقة التي يعيش فيها الدكتور سامي أبدا ً ،إذ كان
ينام يف زوايا األبنية ،وغرف الكهرباء ،وسوى ذلك لعدة
سنوات...
بقي عىل حالته هذه إىل أن تم إلقاء القبض عليه بعد أن
استطاع جعل نفسه محل شبهة ،حيث كان يقوم بخلع أبواب
املحال التجارية ليالً ،أو إشعال الحرائق يف مداخل األبنية
وغري ذلك ..منتظرا ً أن يتم إمساكه.
وبالفعل تم له ذلك عىل يد املقدم "مروان"...
دماغه الالواعي هو الذي كان يسري جميع ترصفاته وحركاته
ويربط له األشياء ببعضها ليمنحه نتائج مرعبة ،فكان قادرا ً
157
عىل قراءة لغة العيون بشكل مبهر ،ويعرف ما يفكر به الشخص
من خالل حدسه...
ثم جاءت مقابلته للدكتور "سامي" وجهاً لوجه يف مشفى
األمراض العقلية ،إذ استطاع تسيري جميع األحداث وفق ما
كان يخطط لها بالضبط ،وبعد أن انفرد بالدكتور سامي ،أعطاه
دماغه الالواعي األمر لبدء عملية "االنفصام النفيس
الداخيل"...
وبالفعل بدأ حالة االنفصام النفيس ليعيش دور الدكتور
"سامي" بكامل التفاصيل والذكريات..
وهنا سيدي القايض كان دماغه الواعي مؤمناً ومصدقاً لكل ما
كان ميليه عليه دماغه الالواعي ،فصدّق وآمن أنه تعرض لعملية
حي ،وأن روحه هي روح الدكتور "سامي" ولكنها
تقمص روحي ّ
انتقلت إىل جسد السجني...
لقد كان "آدم" مقتنعاً بشكل ال تشوبه شائبة أنه عشيق أخته
السابق ،وكان يتخيل حياته ويتخيل أن نهلة هي زوجته.
أخريا ً سيدي القايض أود أن أبني لكم أننا أمام عبقرية نادرة
جمعت بني متالزمة "إسَبجر" بطيف نادر للغاية ،مع اعتالل
نفيس بدماغه الالواعي ،ومستوى تفكري نادر ودقيق وذاكرة
قوية وخارقة يف دماغه الواعي ،كل ذلك جعلنا جميعاً ندخل
يف دوامة شديدة مل نستطع تفسريها بسهولة.
158
وجهاز تسجيل الجلسة التي قمت بها صباح اليوم موجود
أمامكم سيدي القايض.
أمسك القايض باألوراق وجهاز التسجيل ،ثم نظر إىل املتهم:
* * *
تعتَب متالزمة "إسَبجر" أو متالزمة العبقري املوهوب ذات
أطياف وأشكال متعددة ،إذ أنها تختلف من شخص آلخر ،وهي
حالة نادرة جدا ً ،متنح املصاب بها قدرات عقلية مذهلة ،وقد
تتطور هذه القدرات بشكل أكَب لتتحول إىل قدرات خارقة،
وهي ال تعتَب من األمراض النفسية ولكونها حاالت نادرة
ومختلفة يطلق عليها اسم متالزمة...
ومن بني الشخصيات التي يفرتض علامء النفس إصابتهم
مبتالزمة "إسَبجر":
(مايكل أنجلو) الرسام والنحات واملهندس املعامري والشاعر
اإليطايل ،والذي لقب برجل النهضة النموذجي.
159
(أبراهام لينكولن) رجل الدولة واملحامي األمرييك ،والذي صنع
دستورا ً وقوانيناً ألمريكا جعلها املرتبعة عىل عرش
إمَباطورية العامل.
(بيل جيتس) إمَباطور التكنولوجيا يف عرصنا ،مؤسس رشكة
مايكروسوفت الرشكة األوىل يف عامل الَبمجيات ،ويعتَب ضمن
قامئة أغنى أغنياء العامل.
(موزارت) أنتج أكرث من 600تركيبة موسيقية أذهلت العامل
بغرابتها.
(ليونادرو دافنيش) الرسام واملوسيقي والطبيب وعامل النبات
وعامل الخرائط والنحات.
والكثري من العلامء الذين اهتمت بهم دول أوروبا وأمريكا بعيدا ً
عن املعتقدات.
* * *
160
بصوت قوي صدح يف القاعة:
-محكمة...
-حكمت املحكمة حضورياً عىل املتهم "آدم فرح"
بالسجن املؤبد ضمن مشفى األمراض العقلية
والنفسية ،قسم الحاالت الخطرة ،وعزله عن محيطه
كونه يصنف ضمن قامئة املجرمني الخطرين
واملختلني عقلياً...
رفعت الجلسة.
تـمـت
161
تنويه:
الرواية برسم جميع الحكومات ومنظامت حقوق اإلنسان يف
الرشق األوسط لدعم مراكز الرعاية النفسية والذهنية
للمصابني بأمراض نشخصها عىل أنها حاالت اعتالل
سيكولوجي وذهني.
فبيننا يعيش الكثري من العباقرة واملبتكرين الخارقني،
ونعتَبهم معتلني عقلياً ،أو ممسوسني دينياً ،إنهم يف الحقيقة
من باستطاعتهم إيجاد الحلول لجميع مشاكلنا العالقة يف
الطبيعة والعلوم والسياسة والطاقة والكثري غريها.
أخرجوهم من معتقالت وسجون العقول واستثمروهم يف مراكز
البحوث ،فهم ال يشبهوننا كونهم أفضل منا.
المؤلف
162
163
164