You are on page 1of 164

2

‫زَوهار‬
‫إشراقة الروح في التلمود البابلي‬
‫حين تتقمص األرواح في غير أجسادها‬
‫روايـــة‬
‫حســــــام الغــــــــزالـي‬

‫كل شيئ يصبح جميالً حين نقرر نحن أن نراه جميالً‪.‬‬


‫هل حدث وأن تقمص إنسان ما إنساناً آخر وتبادل معه‬
‫الجسد ومازال كالهما على قيد الحياة؟‬
‫قد ال تصدق أنها قصة حقيقية‪ ...‬لكنها حقيقة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫الطبعة األولى‬

‫‪2020‬‬
‫موافقة رئاسة مجلس الوزراء – إقليم كردستان العراق‬
‫وزارة الثقافة والشباب – رقم ‪2020/01/16 – 2719-26-55‬‬

‫العراق – أربيل – ‪book.top.hg@gmail.com‬‬


‫هاتف‪009647712002100 – 009647508320868 :‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية‬
‫أو إلكترونية‪ ،‬بما فيها التسجيل الصوتي على أشرطة وأقراص‬
‫مقروءة أو أي وسيلة نشر أخرى بما فيها حفظ المعلومات‬
‫واسترجاعها دون إذن خطي من المؤلف‬
‫نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين‪ ،‬على أن نبدل‬
‫أمثالكم وننشئكم في ما ال تعلمون"‪..‬‬
‫الواقعة ‪ – 60-61‬القرآن‬

‫"وفيما هو مجتاز رأى إنساناً أعمى منذ والدته‪ ،‬فسأله‬


‫تالميذه قائلين‪ :‬يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد‬
‫أعمى؟ أجاب يسوع‪ :‬ال هذا أخطأ وال أبواه‪ ،‬ولكن لتظهر‬
‫أعمال اهلل فيه"‪.‬‬
‫إنجيل يوحنا – ‪15/1‬‬

‫‪5‬‬
‫"في كل دورة حياتية تكتسب المزيد من المعرفة الجامعة‬
‫القديرة التي تجعلك تتحرر من قيود اللحم والعظم"‪.‬‬
‫جربان خليل جربان‬

‫إذا كان اهلل يحاسب الروح تبعاً لما فعلته خالل حياة واحدة‬
‫في جسد واحد دون أن تتقمص بأجساد أخرى‪ ،‬فكيف‬
‫يمكن للبعض أن يحصل على القوة للتصرف في الروح‬
‫وإلقائها في الجحيم بعد الموت؟‬
‫أوريجي ِنس اإلسكندران‬

‫‪6‬‬
‫"اإلنسان روح وجسد‪ .‬والجسد‪ ،‬ذلك المركَب‪ ،‬يمكن تحليله‬
‫وتدميره‪ ،‬كما تفسد كلُّ المركبات بعوامل عدة‪ ،‬أما الروح‬
‫فهي خالدة‪ ،‬وال أحد يستطيع تدميرها‪ ،‬ال الشر وال أية‬
‫عوامل أخرى‪ ،‬وال حتى عوامل الكون والفساد‪ ،‬بل هي باقية‬
‫إلى األبد‪ ،‬وبما أن األرواح خالدة‪ ،‬فاالستنتاج الحقيقي أنها‬
‫هي نفسها على الدوام‪ ،‬ألنه إذا لم يكن أحدها مدمرًا‪ ،‬فلن‬
‫تنتقص في العدد‪ ،‬ال ولن تزيد‪ ،‬ألن ازدياد الطبائع الخالدة‬
‫يجب أن يأتي من شيء فانٍ‪ .‬وهكذا فكلُّ شيء سينتهي‬
‫في الخلود – وهذا محال"‪.‬‬
‫إفالطون‬

‫العقل – النفس – الكلمة – السابق – التالي‬


‫نجمة الطائفة الدرزية‬

‫‪7‬‬
‫ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من‬
‫العلم إال قليالً‪.‬‬
‫اإلرساء ‪ – 85‬القرآن‬

‫‪8‬‬
‫الفصل األول‬

‫طريق معتم‪ ،‬خا ٍل إال من رياح أواخر‬


‫ٌ‬ ‫مدين ٌة كبرية يخترصها‬
‫الشتاء‪.‬‬

‫ص َمتها املعارك عىل الشوارع التي كانت يوماً‬


‫ندوب غائر ٌة َو َ‬
‫ٌ‬
‫جميلة‪ ،‬والتي طالها الخراب والدمار كام طال كل يشء آخر‪..‬‬

‫مل يعد أحد يجرؤ أن يسري ليالً تحت الضوء املعلق يف‬
‫منتصف الطريق‪ ،‬والذي قد يخبو يف أية لحظة‪ ،‬ليحيل املكان‬
‫إىل فضاء واسع يصعب تبني معامله‪ ،‬وكأنه يف قلب العمران‬
‫غابة موحشة تنذر عابرها بالخطر الوشيك‪ ،‬فالليل هنا ال‬
‫ى ألصوات األزمات‪،‬‬
‫يصلح للسفر وال للكالم؛ بل هو َرجع صد ً‬
‫وفراغ مثايل لتصفية حسابات النهار‪.‬‬

‫عىل رصيف متهالك كرسته سنون الهاون وعجالت املدرعات‬


‫ٍ‬
‫بخطوات متسارعة‪ ،‬ببنيته الجسدية الصلبة‬ ‫الحربية‪ ،‬سار‬
‫وطوله الفاره املمشوق‪.‬‬

‫ثياب رثة متلؤها بقع من الزيت والطني‪ ،‬حذاء ريايض قديم‬


‫وأظافر سوداء غري مقلمة‪ ...‬شعره األشعث الطويل وذقنه‬
‫املشوه كانا دليالً عىل أنه ليس شخصاً طبيعياً‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫كان يسري متوجساً‪ ،‬تظهر عىل وجهه أمارات الخوف والريبة‬
‫من شيئ ما ينتظره‪ ،‬بدا ذلك جلياً من خالل التفاتاته وحركة‬
‫رأسه املستمرة‪.‬‬

‫َب الشارع املقابل‪ ،‬استدار مييناً ويسارا ً‪ ،‬ثم هرول بعض‬


‫َع َ َ‬
‫الشيئ وصوالً إىل الجرس املنحني منذ سنوات يف وسط‬
‫املدينة‪.‬‬

‫للوهلة األوىل‪ ،‬سيعتقد كل من يراه أنه متسول تائه أو أبله‪ ،‬لكن‬


‫من ميعن النظر يف عينيه‪ ،‬سيلحظ فطنته وذكاءه املسترتين‬
‫خلف مظهره الرث‪.‬‬

‫مل تكن مثل هذه املظاهر مألوفة قبل عدة أعوام‪ ،‬أما اآلن‪ ،‬وبعد‬
‫تفيش الحروب الداخلية والفقر والجهل وانتشار البطالة‪ ،‬فقد‬
‫بات التسول عند الشباب والنساء واألطفال مظهرا ً منترشا ً‬
‫ومعتادا ً‪.‬‬

‫تجاوز إشارة املرور تحت الجرس الكبري بخطى ثابتة وصوالً‬


‫إىل الرصيف املقابل‪ ،‬نظر إىل البناء املاثل أمامه‪ ،‬تأمله وكأنه‬
‫يبحث عن شيئ ما‪ ،‬قرأ بعض الالفتات واإلعالنات املعلقة عىل‬
‫البناء‪ ،‬وارتسمت عىل شفتيه ابتسامة خفية‪ ،‬ثم تابع سريه‬
‫حثيثاً بجانب سياج النهر الذي يقطع املدينة من منتصفها‪.‬‬

‫رغم الوقت املتأخر‪ ،‬إال أن الشارع مل يخل من بعض األصوات‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫سار قليالً غري مطمنئ ألمر ما قد يحدث له‪ ،‬فحدسه الفطري‬
‫أنبأه بخطر وشيك‪.‬‬

‫عىل بعد أقل من مئة مرت خلفه‪ ،‬سار ثالثة شبان يف مقتبل‬
‫العمر بشكل قد يبدو أول األمر اعتيادياً‪.‬‬

‫تساءل يف ذاته‪ ..‬من أين أىت هؤالء؟ وكيف ظهروا فجأة؟!‬

‫حاول امليش بخطوات أرسع باتجاه الجرس الكبري املقابل‬


‫له‪ ،‬ثم التفت إىل الوراء‪ ،‬أيقن أنهم يطاردونه‪ ،‬فاملسافة بينه‬
‫وبينهم باتت تقرص أكرث فأكرث‪.‬‬

‫ش ّد قبضتي يديه وأخذ يركض مرسعاً‪ ..‬نظر خلفه مجددا ً‪ ،‬رآهم‬


‫يركضون باتجاهه بأقىص رسعتهم فازداد خوفه‪ ،‬وأدرك أن‬
‫عليه الفرار بكل ما ميلك من قوة‪.‬‬

‫بنيته الجسدية الصلبة وقوامه الطويل سيساعدانه بكل تأكيد‬


‫عىل اإلفالت من هؤالء الحمقى‪ ...‬رصخ بصوت عا ٍل يف الفضاء‬
‫الواسع وقد أطلق ساقيه للريح‪ ،‬فآخر ما يريده هو الوقوع يف‬
‫قبضة غرباء متوحشني‪ ،‬فهنا الليل واسع وفارغ ومثايل‬
‫لتصفية الحسابات‪.‬‬
‫ركض برسعة جنونية كالغزال الهارب من مفرتسيه‪ ،‬خطواته‬
‫الواسعة املتسارعة جعلت من الصعب اللحاق به أو إمساكه‪.‬‬
‫لكن فجأة ودون سابق إنذار‪ ،‬اصطدم به شاب جديد كان كامناً‬

‫‪11‬‬
‫خلف أحد األعمدة فأوقعه أرضاً‪ ،‬مل يشعر بعدها سوى‬
‫بخمسة رجال يجثمون فوقه وهم يرصخون؛ أمسكنا به‪..‬‬
‫أمسكنا به‪.‬‬
‫جرت العادة أن تطلق قيادة الرشطة حمالت مكثفة للقضاء‬
‫عىل املتسولني خاصة الشباب منهم‪ ،‬بغية الحد من انتشار‬
‫التسول‪ ،‬كونها ظاهرة سلبية وغري حضارية‪ ،‬ومن ثم تسليم‬
‫هؤالء ملديرية العمل والتنمية االجتامعية التي تكتفي بأخذ‬
‫تعهد منهم بعدم مزاولة مهنة التسول‪ ،‬ثم تعيدهم إىل الشارع‬
‫رغم علمها املسبق بأنهم مرشدون ال مأوى لهم وال مكان‬
‫يلجؤون إليه‪.‬‬
‫لكن األمر بدا مختلفاً هذه املرة‪ ،‬إذ أن رجال الرشطة املتخفني‬
‫باللباس املدين كانوا قد أعدوا كميناً محكامً لإلمساك بهذا‬
‫املتسول بالذات!‬
‫رصاخه الصاخب وتلفظه بكلامت غريبة ولعابه الكثيف الذي‬
‫خرج من فمه وسال عىل ذقنه املتسخة مع محاوالته البائسة‬
‫للتخلص من األساور املعدنية املطبقة عىل معصميه كانت‬
‫دليالً بأن املقبوض عليه رجل مضطرب أو مختل عقلياً‪.‬‬
‫حمله ثالثة من عنارص الرشطة ووضعوه يف مؤخرة سيارتهم‬
‫الكبرية وانطلقوا بزعيق عجالتهم باتجاه املركز‪.‬‬
‫بقيت أصداء رصاخه وعياطه املستميت لإلفالت تصدح يف‬
‫سكون املكان حتى بعد ابتعاد السيارة التي تقله‪ ،‬رصاخ غري‬

‫‪12‬‬
‫مفهوم دون كلمة واحدة ذات معنى‪ ،‬أو حتى لفظ واحد مكتمل‬
‫لغوياً‪.‬‬
‫لكن ولألسف نادرا ً ما يكون عنارص الرشطة مطلعني عىل‬
‫الدراسات السيكولوجية والنفسية ملثل هؤالء‪.‬‬
‫* * *‬
‫ال يقل الدمار الذي تجره ويالت الحروب عىل اإلنسان عن ذاك‬
‫الذي تجره عىل البنيان‪ ،‬فاإلنسان هو الضحية األوىل للحروب‬
‫من نواحي اقتصادية واجتامعية ونفسية‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فإننا يف زمن الحرب نشعر بالعجز وعدم القدرة عىل‬
‫العطاء أو التفكري أو العمل‪ ،‬ونستسلم لوساوس قهرية تتعلق‬
‫مبستقبلنا ومستقبل أطفالنا‪ ،‬وقد يتطور الوسواس القهري‬
‫ليتحول إىل اضطراب نفيس يجعلنا نعاين من أمراض نفسية‬
‫تؤثر عىل أجسامنا وسلوكنا‪ ،‬فيستسلم تفكرينا وإدراكنا‬
‫للواقع األسود لننهزم فكرياً وعقلياً‪ ،‬متحولني إىل مجانني أو‬
‫أشباه مجانني نجول يف األزقة والشوارع دون معرفة مرادنا من‬
‫هذه الحياة‪.‬‬
‫يف مركز الرشطة تم إدخال الشاب الغريب ووضعه يف زنزانة‬
‫انفرادية تحمل الرقم ‪.4‬‬
‫شاع بني كل أفراد القسم أنه قد ألقي القبض للتو عىل متسول‬
‫مجنون‪ ،‬فهو إىل اآلن مل ينطق بكلمة مفهومة أو ذات مغزى؛‬

‫‪13‬‬
‫بل إنه مازال يترصف بشكل هستريي‪ ،‬ويحاول التحرر من‬
‫قيوده املعدنية بكل ما أويت من قوة لكن دون وعي أو إدراك‪.‬‬
‫رفع املساعد املناوب سامعة الهاتف وطلب رقم املقدم‬
‫"مروان عبد الحميد" املكتوب اسمه أمامه عىل حافة املكتب‪..‬‬

‫‪ -‬احرتامي سيدي‪ ،‬تم اإلمساك بالشاب املطلوب للتو‪،‬‬


‫ووضعناه يف الزنزانة اإلنفرادية رقم ‪.4‬‬
‫‪ -‬برافو‪ ،‬مسافة الطريق وسأصل إليكم‪.‬‬
‫‪ -‬بانتظارك سيدي‪ ،‬ولكن‪...‬‬
‫‪ -‬لكن ماذا؟‬
‫‪ -‬يبدو أن الشخص الذي تم اإلمساك به مصاب‬
‫بالجنون‪ ،‬مازال إىل اآلن يرصخ ويهذي ويحاول فك‬
‫األساور من يده‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ..‬املهم أن تكونوا أمسكتم بالشخص‬
‫املطلوب‪ ،‬وليس أي متسول صادفتموه!‬

‫ضحك املساعد بابتسامة مكتومة عىل سخرية الضابط‬


‫منهم‪ ،‬فكثرية هي األحيان التي يتم فيها إلقاء القبض عىل‬
‫الشخص الخطأ‪.‬‬

‫‪ -‬سيدي حسب املعلومات التي وصلتنا من معاونينا‬


‫فهذا هو الشخص املطلوب‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ -‬حسناً أنا قادم‪.‬‬
‫‪ -‬احرتامي سيدي‪.‬‬

‫أعاد املساعد "يارس" سامعة الهاتف إىل مكانها‪ ،‬أمسك‬


‫امللف الذي أمامه‪ ،‬ونظر إىل الرشطي املقابل له‪:‬‬

‫‪ -‬يبدو األمر غريباً‪ ،‬هل يعقل أن يكون هذا الشخص وراء‬


‫كل هذه األفعال؟!‬
‫‪ -‬ال تستغرب‪ ،‬هو مجنون وقد يفعل أكرث من ذلك‪.‬‬

‫كان رصاخ السجني يف الزنزانة اإلنفرادية الرابعة يزداد عىل‬


‫عكس توقعات عنارص الرشطة‪ ،‬إذ أنه أصبح أكرث هياجاً وبات‬
‫يحاول بكل قوته خلع باب الزنزانة‪ ،‬فيرضبه برأسه ويركله‬
‫بقدميه مع عياط شديد ورصاخ ال يفهم منه شيئاً‪.‬‬
‫لقد كان األمر أشبه بإمساك حيوان ضاري مفرتس وحبسه يف‬
‫قفص‪ ،‬ال ميكنه أن يفعل شيئاً سوى إحداث الجلبة العالية‪.‬‬
‫ناداه حارس السجن غاضباً‪:‬‬

‫‪ -‬ستهدأ أم أدخل إليك وألقنك درساً يعيد لك عقلك يا‬


‫ابن العاهرة!!!‪.‬‬

‫صدرت أصوات ضحك عارمة من باقي أفراد السجن‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫هدأ السجني للحظة وكأنه عرف من لغة الحوار أنه تهديد‪ ،‬لكنه‬
‫وكالطفل الصغري عاد ليرصخ من جديد‪ ،‬وبصوت مرتفع أكرث‬
‫وأكرث‪.‬‬
‫وصلت سيارة املقدم "مروان" إىل البهو الداخيل لقسم‬
‫الرشطة‪ ،‬ترجل من سيارته والسيجارة مالزمة شفتيه‪ ،‬قدم له‬
‫حارس البناء التحية مرحباً‪ ،‬مل يأبه بذلك؛ بل دخل عىل‬
‫الفور‪.‬‬
‫* * *‬
‫يتبع ضباط الرشطة لوزارة الداخلية‪ ،‬وهي الوزارة املسؤولة‬
‫عن حفظ أمن املواطنني‪ ،‬وعن وضع وتنفيذ اسرتاتيجيات‬
‫أمنية من شأنها حفظ أمن الشعب من أي تجاوز أو اعتداء قد‬
‫يقع من قبل الخارجني عىل القانون‪ ،‬مع مكافحة اإلرهاب‬
‫والحفاظ عىل أمن الدولة سياسياً واقتصادياً‪.‬‬
‫وعادة ما يكون رشط اإللتحاق مبهنة ضابط الرشطة للشباب‬
‫هو حصولهم عىل إجازة من كلية الحقوق‪ ،‬ويف بعض الحاالت‬
‫يتم طلب اختصاصات دراسية مختلفة‪.‬‬
‫كام يخضع هؤالء الشباب لتدريبات جسدية وعسكرية‬
‫تؤهلهم بدنياً وعسكرياً لتسلم مناصبهم كضباط رشطة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فنادرا ً ما يكون لدى هؤالء الضباط اطالع عىل‬
‫الدراسات السيكولوجية والنفسية وعلم االجتامع ملعرفة‬

‫‪16‬‬
‫آليات الترصف يف حالة ارتكاب جرمية قتل من قبل أحد‬
‫األشخاص املختلني عقلياً أو أحد املجرمني املحرتفني‪.‬‬
‫* * *‬
‫جلس املقدم "مروان" عىل كرسيه الجلدي الكبري‪ ،‬وصوت‬
‫رصاخ السجني يف الزنزانة الرابعة ميأل املكان‪ ،‬نظر إىل‬
‫املساعد "يارس" وقال مستغرباً‪:‬‬

‫‪ -‬أمازال يرصخ منذ اإلمساك به؟!‬


‫‪ -‬نعم سيدي‪ ،‬مل يهدأ أبدا ً‪.‬‬

‫نظر إىل امللف املوجود عىل املنضدة‪ ،‬وأخرج صورة لشاب‬


‫وسيم حليق الذقن‪ ،‬يختلف بالشكل الخارجي عن السجني‬
‫رقم أربعة‪ ،‬لكن له ذات النظرة ونفس بريق الذكاء يف عينيه‪.‬‬

‫‪ -‬أحرضوه إىل مكتبي اآلن‪.‬‬


‫‪ -‬سيدي‪ ،‬من األفضل أن ندخله إىل غرفة التحقيق‪ ،‬إنه‬
‫مجنون‪ ،‬وقد يقوم بترصفات خطرة‪ ،‬فقد أدخلناه‬
‫الزنزانة بصعوبة بالغة‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬أحرضه إىل هنا كام قلت لك‪.‬‬
‫‪ -‬حارض سيدي‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫رفع السجني صوته بالرصاخ والحركات الهستريية بني اثنني‬
‫من رجال الرشطة كانا يقتادانه نحو غرفة الضابط؛ بل وزادت‬
‫محاوالته الفاشلة يف فك األغالل عن معصميه‪.‬‬
‫أدخاله بصعوبة فائقة إىل املكتب وهام ميسكان به بشكل‬
‫قوي يقلل من حركته العشوائية‪ ،‬لكن بنيته القوية وقفت حائالً‬
‫دون سيطرتهم الفعلية عليه‪.‬‬
‫واجهه املقدم مروان ورصخ بوجهه‪:‬‬

‫‪ -‬اسكت وإال جعلتهم يسلخون جلدك بالرضب‪ ،‬اسكت‪.‬‬

‫دون جدوى كانت محاوالت املقدم يف تهدئته‪.‬‬


‫استدار حول مكتبه‪ ،‬وقف بجانب السجني‪ ،‬أمسك بشعره‬
‫الطويل وشده إىل الخلف رافعاً رأسه إىل أعىل ليتبني مالمحه‬
‫بصورة أوضح‪.‬‬

‫‪ -‬قلت لك اسكت يك أتحدث معك‪ ..‬اسكت أيها الحيوان‪.‬‬

‫عبثاً‪ ..‬وكأن السجني ال يسمعه وال يفهم كالمه‪.‬‬


‫رجع الضابط إىل مكتبه وهو يتأمل السجني‪ ،‬أخرج سيجارة‬
‫وأشعلها‪ ،‬ثم فتح جارورا ً يف صندوق لألوراق وأخرج "بطاقة‬
‫تعريفية" مكتوب عليها اسم‪:‬‬
‫(الدكتور سامي عز الدين سقاف ‪ -‬أخصايئ جراح يف أمراض‬
‫األعصاب والدماغ)‪ ،‬م ّد البطاقة باتجاه املساعد يارس‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ -‬خذ‪ ،‬اتصل بالدكتور سامي السقاف ليفحصه‬
‫ويشخص لنا حالته‪ ،‬فقد يكون محتاالً‪.‬‬

‫قبل أن ميسك املساعد يارس بالبطاقة مل يشعر الحارسان إال‬


‫وحالة هياج غاضبة وعنيفة انتابت السجني‪ ،‬ليفلت منهام‬
‫ويرمي بنفسه عىل يد املقدم محاوالً أن ميسك البطاقة بفمه‪.‬‬
‫سقطت البطاقة عىل األرض وارمتى السجني فوقها محاوالً أن‬
‫ميسكها بلسانه‪ ،‬لكن رسعان ما جثم الحارسان فوقه وأخذا‬
‫يلكامنه ويرضبانه بقوة وهام يسحبانه إىل زنزانته اإلنفرادية‬
‫رقم ‪.4‬‬
‫* * *‬
‫كثريا ً ما يقع رجال الرشطة يف فخ ادعاء املتهم للجنون‪،‬‬
‫خاصة إذا كان املتهم ا ٔو القاتل محرتفاً يف التمثيل وميلك‬
‫القدرة عىل اإليحاء عَب لغة الجسد املطلوبة للتمويه‪.‬‬
‫وتعتَب هذه الحيلة من ا ٔخطر الحيل للتهرب من عقوبة السجن‬
‫املشدد ا ٔو حتى حبل املشنقة‪.‬‬
‫ويف هذه الحالة يطلب ضباط التحقيق من األطباء الجنائيني‬
‫ا ٔن يشخصوا حالة املتهم‪ ،‬ليقرروا ما إذا كان يحتاج ملشفى‬
‫األمراض العقلية ا ٔم ال‪ ،‬علامً ا ٔنه يف كثريٍ من األحيان تكون‬
‫جرائم القتل نتيجة ألعراض ذهنية ا ٔو نفسية‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫ويخضع املتهم الختبارات تحلل وتكشف نسبة الكذب‬
‫والتمثيل لديه‪ ،‬فليس من السهل ادعاء املرض العقيل يف مثل‬
‫هذه الحاالت‪.‬‬
‫* * *‬
‫مع خيوط فجر اليوم األول عىل اعتقال السجني الجديد‬
‫وصلت سيارة الدكتور سامي إىل مقر قسم األمن الجنايئ‪.‬‬
‫ترجل الطبيب من سيارته والنعاس مازال بادياً عىل وجهه‪.‬‬
‫سار نحو مدخل القسم‪ ،‬رفع يده لتحية الحارس‪ ،‬عىل الفور رد‬
‫الحارس التحية مرحباً به باسمه إذ ا ٔن زيارات الدكتور "سامي"‬
‫للمقدم "مروان" كثرية‪.‬‬
‫طرق الباب ودخل مكتب املقدم‪:‬‬

‫‪ -‬صباح الخري سيادة املقدم‪..‬‬

‫مع ابتسامة بشوشة وسالم حار باليدين‪.‬‬

‫‪ -‬صباح األنوار واألزهار‪ ،‬نعتذر منك كثريا ً‪ ،‬لكن‬


‫املوضوع يحتاج لقرارك ويجب معرفة وضع السجني‬
‫قبل الساعة التاسعة صباحاً‪.‬‬
‫‪ -‬مل ا ٔفهم‪ ،‬ا ٔي سجني؟!‬
‫‪ -‬قمنا ب ٕامساك متهم غريب األطوار‪ ،‬يبدو للوهلة األوىل‬
‫ا ٔنه مصاب بالجنون‪ ،‬لكن حسب معلومات معاونينا‬

‫‪20‬‬
‫املدنيني تنطبق مواصفات ا ٔحد املجرمني عىل هذا‬
‫الشخص‪ .‬نحن نبحث عنه منذ أكرث من سنة‪ ،‬ومل‬
‫نتمكن من القبض عليه رغم ا ٔنه يحوم يف نفس‬
‫املنطقة التابعة لنا‪ ..‬وبحسب املعلومات األولية ف ٕان‬
‫لديه العديد من األسامء‪ ،‬وبحسب نفس املعلومات قد‬
‫يكون قاتالً متسلسالً ومسؤوالً عن العديد من جرائم‬
‫القتل الغامضة داخل املدينة وخارجها‪ ،‬تم اإلمساك‬
‫به ليلة البارحة‪ ،‬لكنه إىل اآلن مل يهدا ٔ‪ ،‬ومازال يرصخ‬
‫كاملجنون‪.‬‬

‫حاول الدكتور ا ٔن يستمع لصوت الرصاخ والعياط الذي مل‬


‫يهدا ٔ‪..‬‬

‫‪ -‬هذا رصاخه ا ٔليس كذلك؟‬


‫‪ -‬نعم‪ ..‬هل تنظر إىل حالته اآلن؟‬
‫‪ -‬ا ٔجل‪ ،‬خذين إىل الزنزانة‪.‬‬
‫‪ -‬ال هو موجود يف زنزانة انفرادية‪ ،‬سأطلبه إىل غرفة‬
‫التحقيق‪.‬‬
‫‪ -‬كام تريد‪.‬‬

‫ضغط املقدم عىل جرس الحارس‪ ،‬فدخل عىل الفور‪:‬‬

‫‪ -‬احرتامي سيدي‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫‪ -‬اجلبوا لنا السجني املجنون إىل قاعة التحقيق‪.‬‬
‫‪ -‬حارض سيدي‪.‬‬

‫عىل طاولة التحقيق وبحضور املقدم والحارس جلس الطبيب‬


‫سامي منتظرا ً وصول السجني ليعاينه ويتأكد هل هو مجنون‬
‫ا ٔم أنه يدعي الجنون‪ ،‬كان رصاخه يزداد ا ٔكرث فأكرث وهو يسري‬
‫عَب املمر امل ٔودي إىل قاعة التحقيق‪ ،‬باإلضافة إىل ذلك فإن‬
‫ا ٔصوات الرضب عىل رقبته وشتمه مل تتوقف من الحارسني‬
‫لجعله يصمت لكن دون جدوى‪.‬‬
‫دخل الحارسان ممسكان به‪ ،‬وقف الدكتور من مكانه وا ٔخذ‬
‫ينظر إىل عيون السجني التي مل تفارق هي األخرى عيون‬
‫الطبيب‪ ،‬تأمال بعضهام البعض‪ ،‬للوهلة األوىل شعر الطبيب ا ٔن‬
‫نظرة السجني غريبة إذ ا ٔنه مل يصمت بل استمر بالرصاخ لكن‬
‫تركزت عيناه عىل وجه الدكتور وبشكل غريب‪ ،‬حتى ا ٔن املقدم‬
‫"مروان" والحارسان شاهدا كيف يحملق بالطبيب وكأنه يعرفه‬
‫ا ٔشد املعرفة‪.‬‬
‫اقرتب الدكتور "سامي" ا ٔكرث‪ ،‬فنظرات السجني كانت مثرية له‪،‬‬
‫تأمال بعضهام البعض‪ ،‬ثم رفع الدكتور سامي يده والمس وجهه‬
‫طالباً منه ا ٔن يهدا ٔ‪ ،‬عىل الفور هدا ٔ السجني كحيوان مفرتس بني‬
‫يدي مدربه‪.‬‬
‫رفع املقدم عيونه باتجاه الدكتور وقال له‪:‬‬

‫‪22‬‬
‫‪ -‬دكتور هل تعرفه؟‬

‫مل يحرك الدكتور عينيه عن عيون السجني‪ ،‬شعر ا ٔن رسا ً ما‬


‫وراء هذا السجني فنظرات حدقة عينيه غريبة‪.‬‬
‫ا ٔجابه دون ا ٔن يلتفت‪:‬‬

‫‪ -‬ال‪ ،‬إنها املرة األوىل التي ا ٔراه فيها‪ ،‬ولكن يبدو يل من‬
‫نظراته ا ٔن ا ٔمرا ً غريباً وراءه‪.‬‬

‫تنهد املقدم بعمق ممتعضاً من هذه الفلسفة‪:‬‬

‫‪ -‬املهم ا ٔخَبنا هل هو مجنون ا ٔم يدعي الجنون؟ نريد‬


‫ا ٔن نعرف؟‬

‫أجابه الدكتور بكالم هادئ‪:‬‬

‫‪ -‬ستعرف‪ ..‬ستعرف!‬

‫* * *‬
‫يساعد النظر إىل حدقة عني الشخص املقابل يف تكوين فكرة‬
‫عام يدور يف ذهنه‪ ،‬وما يحدد ذلك هو حجم ب ٔوب ٔو العني‪ ،‬فحركة‬
‫مركز العني تعتَب إشار ًة ملا يفكر الشخص به‪ ،‬وقد تكون م ٔورشا ً‬
‫عىل القدرة العقلية التي يتمتع بها‪ ،‬كام ا ٔن مركز العني يعَب‬
‫عن مدى عمق مشاعره سواء كانت سلبية ا ٔو إيجابية‪،‬‬

‫‪23‬‬
‫ويتناسب حجم املركز طردا ً مع قوة املحفز الداخيل‪.‬‬
‫باملقابل‪ ،‬فإن خَباء التحليل السيكولوجي يتدربون عىل‬
‫مالحظة الوميض الخارج من العني‪ ،‬حيث يشري معدل‬
‫الوميض إىل حاالت معينة‪ ،‬فكرثة الوميض من جهة قد تيش‬
‫بحالة من القلق ا ٔو عدم الراحة‪ ،‬والوميض مبعدل ا ٔقل قد ييش‬
‫بأن الشخص يحاول السيطرة عىل حركات عينيه بشكل ا ٔكَب‬
‫ليخفي شيئاً ما يعرفه‪.‬‬
‫تنهد الدكتور بعمق واستدار نحو حقيبته‪ ،‬فتحها وا ٔخرج منها‬
‫إبرة مهدئ ومنوم من نوع (ديازيبام) ثم طلب من الحارسني‬
‫االبتعاد عنه‪ ،‬نظر الحارسان إىل املقدم ليأخذا موافقة‬
‫االبتعاد عن السجني‪ ،‬فرسم املقدم انطباع االستغراب مع‬
‫موافقته عىل االبتعاد‪.‬‬
‫وضع الطبيب يده عىل كتف السجني وطلب منه الجلوس عىل‬
‫األرض‪ ،‬بكل رضا وهدوء وافق السجني وجلس مستكيناً‪،‬‬
‫قرفص الدكتور بجانبه متحدثاً معه‪:‬‬

‫‪ -‬ال تخف يا صديقي‪ ،‬كل ما ا ٔريده هو حقنك بهذه اإلبرة‪،‬‬


‫سرتتاح بعدها‪ ،‬صدقني‪.‬‬

‫ارتسمت ابتسامة خفيفة عىل محيا السجني املجنون للمرة‬


‫األوىل‪ ،‬ثم متتم وهو ينظر إىل يد الطبيب بكلامت هامسة‬
‫وهمهمة من شفتيه‪..‬‬

‫‪24‬‬
‫اقرتب الدكتور ا ٔكرث وقال له بصوت منخفض‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا قلت؟ مل ا ٔسمعك يا صديقي‪.‬‬

‫كانت املرة األوىل التي يتحدث فيها السجني املجنون‬


‫وبصوت منخفض للغاية ا ٔقرب إىل الهمس‪:‬‬

‫‪ -‬كم الساعة اآلن؟‬

‫نظر الدكتور إىل ساعته‪ ،‬تأملها قليالً ثم قال له‪:‬‬

‫‪ -‬إنها الساعة السابعة إال ربع صباحاً‪.‬‬

‫عاد السجني ومتتم بكلامت مل يفهمها الطبيب‪ ،‬اقرتب الطبيب‬


‫ا ٔكرث وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬صدقني مل ا ٔسمعك‪ ،‬هل بإمكانك رفع صوتك قليالً؟!‬

‫هنا اقرتب السجني بكل هدوء من وجه الطبيب‪ ،‬وهمس بإذنه‬


‫قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬هل مازلت تخفي عن زوجتك قصة هذه الساعة؟‬

‫ما إن قال السجني جملته هذه حتى شعر الطبيب بدوار‬
‫وصداع شديد يجتاح را ٔسه وذهنه‪ ،‬جحظت عيناه ورجفت‬

‫‪25‬‬
‫يداه‪ ،‬تراجع إىل الخلف قليالً‪ ،‬نظر إىل الساعة‪ ،‬ثم عاد وتأمل‬
‫السجني املجنون من جديد وعالمات االستغراب والحرية‬
‫واضحة عىل محياه‪.‬‬
‫كان السجني يبتسم وهو ينظر إىل عيني الطبيب‪ ،‬بينام‬
‫استغرق الطبيب يف عامل من الذكريات واالستغراب والتعجب‪.‬‬
‫جثا الطبيب عىل ركبتيه‪ ،‬ش ّد يد السجني إليه وحقنه اإلبرة يف‬
‫ذراعه‪ ،‬بينام األخري مل يحرك ساكناً‪ ،‬فقط كان ينظر إىل عيون‬
‫الطبيب الراجفة‪.‬‬
‫شعر املقدم ا ٔن كالماً غريباً دار بني الطبيب والسجني‪ ،‬فاقرتب‬
‫قليالً‪:‬‬

‫‪ -‬دكتور هل األمور عىل ما يرام؟‬

‫وقف الطبيب‪ ،‬نظر إىل املقدم والحرية تأكل وجهه‪ ،‬ثم عاد‬
‫ونظر إىل السجني قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬األمور ليست بخري‪ ،‬يجب نقل السجني إىل مشفى‬


‫الطب النفيس اليوم‪ ،‬وا ٔنا سأرشف عىل إجراء بعض‬
‫االختبارات للتأكد من حالته العقلية‪..‬‬

‫* * *‬

‫‪26‬‬
‫الفصل الثان‬

‫ري عىل قلب وعقل‬ ‫كان للجملة التي نطقها السجني وق ٌع كب ٌ‬


‫الدكتور سامي‪ ،‬إذ ا ٔنها ا ٔدخلته دوامة كبرية من الذكريات‪ ،‬وبقي‬
‫مزدوج يرن يف دماغه‪ ،‬من هو هذا الشخص؟!‬
‫ٌ‬ ‫س ٔو ٌ‬
‫ال‬
‫وكيف عرف بقصة الساعة؟!‬
‫اليوم يتجاوز عمر الدكتور "سامي" الخمسة واألربعني عاماً‪،‬‬
‫وقد مىض عىل قصة الساعة التي يحملها ا ٔكرث من خمسة‬
‫عرش عاماً‪ ،‬وحتى اآلن مل يكن يظن ا ٔن ا ٔحدا ً ما يعرف قصتها‪.‬‬
‫* * *‬
‫"مل ا ٔكن ا ٔعلم ا ٔنه يف اليوم الذي ا ٔلتقيِك فيه ستأخذينني إىل‬
‫ِ‬
‫بذكراك‪..‬‬ ‫جحيم يرافق حيايت كل يوم‬
‫ِ‬
‫ورحلت‪ ..‬حبك‬ ‫ِ‬
‫ٔحضانك‬ ‫ِ‬
‫ذراعيك وا‬ ‫ِ‬
‫جعلت حيايت منحرصة بني‬
‫ا ٔرس كل كياين وا ٔعطاين فرصة يك ا ٔحب الحياة وا ٔرى الكون‬
‫ملوناً‪..‬‬
‫ِ‬
‫ٔرعاك وا ٔعتني‬ ‫تعاهدنا ا ٔن نظل بقرب بعضنا البعض‪ ،‬وا ٔن ا‬
‫ٔنت وعدتني كذلك‪ ،‬لكن املوت املفاجئ مل‬ ‫بقلبك العاشق وا ِ‬
‫يكن رحيامً عىل قلبي‪ ...‬ففي كل يوم ا ٔفكر ِ‬
‫فيك وا ٔتأمل‪ ..‬يف كل‬
‫ِ‬
‫وكلامتك ا ٔقدسها وا ٔتلوها عىل قلبي لعله‬ ‫ِ‬
‫ذكراك‬ ‫يوم ا ٔستعيد‬
‫يسكن ويرتاح"‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫يف عيد ميالده األول بعد ا ٔن تعارفا ا ٔهدته "إميا" الفتاة الهادئة‬
‫والجميلة هذه الساعة‪ ،‬كانت تحمل شهادة املاجستري يف‬
‫الفنون الجميلة‪ ،‬وتعمل يف الرسم والنحت‪ ،‬ا ٔحبها وا ٔحبته منذ‬
‫اللقاء األول‪ ،‬وبعد عدة ا ٔيام من تعارفهام عرض عليها الزواج‬
‫عىل ا ٔن تنتظره لينهي خدمة العلم‪..‬‬
‫لكن وبعد ذلك بثالثة ا ٔيام فقط تعرضت لحادث مروري ا ٔودى‬
‫بحياتها‪ .‬كانت عالقتهام رسية‪ ،‬وكان حبهام حقيقياً وصادقاً‪،‬‬
‫لكنه مل يذكرها ألحد ا ٔبدا ً‪ ،‬ومل يذكر ا ٔن هذه الساعة هدية منها‬
‫كذلك‪ ،‬حتى زوجته اليوم تظن ا ٔنها الحب األول والحقيقي يف‬
‫حياته‪ ،‬وال تعلم ا ٔن بقلبه ثغرة سوداء لحب عظيم مل يكتمل‪.‬‬
‫* * *‬
‫تسلل صداع شدي ٌد إىل را ٔسه‪ ،‬كانت ا ٔحجية صعبة ولرمبا‬
‫مستحيلة‪ ،‬كيف عرف هذا الشخص ا ٔن وراء هذه الساعة قصة‬
‫كبرية بالنسبة له‪.‬‬
‫خمسة عرش عاماً حافظ فيها عىل هذه الساعة من الضياع‬
‫والتلف‪.‬‬
‫ادعى ا ٔنها من صديق له مات بسبب املرض‪ ،‬كانت ال تفارق‬
‫معصمه‪ ،‬وبني الفينة واألخرى يحملها إىل ا ٔشهر محالت بيع‬
‫الساعات لريممها ويبقيها قريبة منه كأحد ا ٔعضاء جسده‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ا ٔشارت الساعة يف معصمه إىل متام الثانية عرش ظهرا ً‪ ،‬كان‬
‫يومه بعد حادثة ذلك السجني سيئاً للغاية‪ ،‬إذ ا ٔنه مل يذهب‬
‫لعيادته صباحاً ومل يعد إىل بيته‪..‬‬
‫ذهب إىل كافرتيا تقدم الشاي والقهوة عىل ا ٔحد ا ٔرصفة‬
‫املدينة‪ ،‬جالت بخاطره عدة ا ٔسئلة عجز عن إيجاد ا ٔي جواب‬
‫لها‪..‬‬
‫كيف عرف ا ٔنني مل ا ٔخَب زوحتي؟ كيف عرف القصة ا ٔصالً؟ هل‬
‫يعرف “إميا”؟ هل كانت تربطه عالقة معها؟ هل ا ٔخَبته هي‬
‫بالهدية قبل موتها؟ حتى وإن ا ٔخَبته كيف تذكرها؟ وكيف‬
‫مازال يتذكر شكل الساعة؟‬
‫ذهب خياله إىل ا ٔخطر االحتامالت التي عجز عن طردها من‬
‫رأسه‪.‬‬
‫أسئلة كثرية كادت ا ٔن تخرج الدكتور "سامي" عن طوره‪ ،‬كان‬
‫الذهول والرتدد يسببان له صداعاً قوياً‪ ،‬غاص يف بحر قديم‬
‫من األفكار‪ ،‬وبني الفينة واألخرى كان ينظر إىل ساعته لعل‬
‫الوقت يسري ليستطيع مقابلة السجني مجددا ً يف مشفى‬
‫الطب النفيس‪.‬‬
‫أشارت الساعة يف معصمه إىل الثانية ظهرا ً‪ ،‬ركن السيارة يف‬
‫مرا ٓب املشفى ودخل مرسعاً إىل الطابق الرابع حيث يقبع‬
‫مرىض التخلف العقيل‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫يف الحقيقة مل يكن املشفى سوى مستودعات لحبس‬
‫املرىض فقط ليتم فيها حرمانهم من اإلندماج يف املجتمع‬
‫وسجنهم كاملجرمني‪.‬‬
‫ضمن البهو امل ٔودي إىل الغرفة التي و ِ‬
‫ض َع فيها السجني‬
‫الغريب كانت امرا ٔة قد فقدت ا ٔطفالها يف الحرب تغني بصوت‬
‫مرتفع‪ ،‬ممسكة بوسادة ترضعها‪ ،‬وتحيك لها القصص يك تنام‬
‫كأنها طفلتها الصغرية التي يرتاءى لها ا ٔنها تبيك‪.‬‬
‫رجل يرصخ فاتحاً فمه ليظهر كامل فكه العلوي الخايل من‬
‫األسنان‪ ،‬معتقدا ً ا ٔنه مازال ضابطاً يف وحدته العسكرية‪.‬‬
‫ا ٔما قبالته فقد وقف رجل صامت بجانب الحائط يهز را ٔسه بني‬
‫الفينة والفينة من شدة الرضب الذي تعرض له ا ٔثناء اعتقاله‪،‬‬
‫ليتبني يف النهاية ا ٔن اعتقاله تم بصورة خاطئة بسبب تشابه‬
‫يف اسم األب فقط‪.‬‬
‫طلب الطبيب من الرشطي الحارس عىل باب غرفة املريض‬
‫فتحه‪ ،‬ورفض دخول املمرض معه‪ ،‬فقد ا ٔشار لهام برضورة‬
‫مقابلته لوحده‪.‬‬
‫دخل غرفة املعاينة العقلية حيث تم وضع السجني فيها‬
‫منفردا ً لحني تشخيص حالته بالصورة الصحيحة‪.‬‬
‫كان يجلس يف زاوية الغرفة ساكناً هادئاً عىل غري طبيعته بعد‬
‫اإلمساك به‪ ،‬وكانت األساور املعدينة ماتزال مثبتة عىل‬
‫معصميه مع وضع يديه ا ٔمامه‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ا ٔغلق الدكتور الباب بهدوء ونظر إىل السجني‪ ،‬لكن األخري كان‬
‫واضعاً را ٔسه ذو الشعر الطويل بني يديه ساندا ً ركبتيه لألعىل‪.‬‬
‫تقدم الطبيب وضع يده عىل شعره وبدا ٔ س ٔواله‪..‬‬

‫‪ -‬ما اسمك يا صديقي؟ أنا هنا يك أساعدك؟‬

‫مل يتفوه املريض بأي كلمة‪.‬‬


‫حملق الطبيب بعيون املريض بش ّدة وقوة وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬ا ٔستطيع مساعدتك من خالل تقريري اآلن يك ال تعود‬


‫إىل السجن‪ ،‬وا ٔستطيع توفري كامل مستلزماتك هنا‬
‫لتبقى براحة وأمان‪ ،‬فقط قل يل كيف عرفت بقصة‬
‫الساعة؟‬

‫ارتسمت ابتسامة خفيفة عىل وجه السجني‪ ،‬ثم همس بصوت‬


‫منخفض بجملة مل يفهمها الطبيب‪...‬‬
‫اقرتب الطبيب ا ٔكرث وحاول سامع الجملة طالباً إعادتها‪ ،‬فعاد‬
‫السجني وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬هل مازلت دنيئاً مع النساء؟‬

‫وقف الطبيب وتراجع خطوة إىل الوراء‪ ،‬ثم وقف املريض‬


‫شامخاً صلباً ونظر بقوة إىل عيون الطبيب‪ ،‬كان من الصعب‬
‫عىل الطبيب تفسري هذه النظرة‪ ،‬نظرة كادت تخرتق را ٔسه‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫شعر الطبيب للوهلة األوىل بالخضوع واالستسالم‪ ،‬فنظرات‬
‫السجني باتت مخيفة وقوية‪ ،‬وا ٔكدتها حركة غري شعورية من‬
‫فمه بعد إطباقه بشدة عىل الفك والشفتني‪ ،‬كانت وميضاً‬
‫قاسياً‪.‬‬
‫شعر الطبيب بالخوف قليالً وقرر الخروج من الغرفة لطلب‬
‫املساعدة من املمرض‪..‬‬
‫لكن‪...‬‬
‫دون سابق إنذار وبحركة خفيفة وقوية نطحه السجني عىل‬
‫جبهته كرسعة الَبق‪...‬‬
‫شعر الطبيب بالدوار وعدم التوازن‪ ،‬كانت نطحة صلبة‬
‫واحرتافية وليس من املعقول ا ٔن تكون من شخص مريض‬
‫عقلياً ا ٔو جسدياً ا ٔو نفسياً‪ ،‬كانت رضبة مقصودة ودقيقة‬
‫بصورة رهيبة‪ ،‬ا ٔصابت جبهة الطبيب باملكان الصحيح‬
‫املس ٔوول عن فقدان التوازن ليسقط الطبيب ا ٔرضاً‪.‬‬
‫من رسعة الرضبة وكون يديه مقيدتني سقط السجني بجانبه‬
‫كذلك‪ ،‬لكن املفاجأة التي حصلت بعد سقوطهام عىل األرض‬
‫ا ٔن االثنني ا ٔخذا بالرصاخ معاً وهام يستنجدان بالحارس‬
‫ليخلصهام‪:‬‬
‫نادى الطبيب الحارس‪:‬‬

‫يل‪..‬‬
‫‪ -‬أيها الحارس ادخل فورا ً إنه يعتدي ع ّ‬

‫‪32‬‬
‫ونادى السجني الحارس بنفس الوقت‪:‬‬

‫‪ -‬أيها الحارس ادخل إنه يرضبني‪.‬‬

‫كانت املرة األوىل التي يتكلم بها السجني بهذه القوة وبجمل‬
‫متوازنة ورزينة‪.‬‬
‫أعاد الطبيب استنجاده بالحارس‪:‬‬

‫‪ -‬ادخل هذا املجنون يريد قتيل‪..‬‬

‫وأعاد السجني نفس الجملة تقريباً‪:‬‬

‫‪ -‬ادخل هذا املجنون يريد أن يقتلني‪.‬‬

‫وقف االثنان معاً‪ ،‬ومع فتح الحارس باب الغرفة اتجه االثنان‬
‫نحوه يك يخلص كل واحد من اآلخر‪...‬‬
‫وهنا تغريت األمور يف عيون الطبيب‪ ،‬تغريت بشكل ال يصدقه‬
‫عقل وال عاقل‪.‬‬
‫بصورة غري منطقية ا ٔبدا ً‪ ،‬فقد ا ٔمسك الحارس يد السجني‬
‫املجهول وا ٔخرجه خارج الغرفة‪ ،‬بينام دفع الطبيب إىل الداخل‬
‫بقوة وا ٔوصد عليه باب الغرفة‪.‬‬
‫نعم هذا ما حدث بالضبط‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪33‬‬
‫"دائماً يوجد بيننا نسخ ثانية من الشخص نفسه"‪.‬‬
‫بنيامني فرانكلن‬
‫* * *‬
‫التقمص هو انتقال الروح من جسد بشري إلى آخر‪ ،‬هذه‬
‫العقيدة ارتبطت بالكثير من المذاهب والطوائف الدينية‪،‬‬
‫ولم تبقَ في إطارها الفلسفي الديني بل تخطتها إلى بُّعدٍ‬
‫علمي حيث سعى علماء التنويم المغناطيسي وعلماء‬
‫الباراسيكولوجي مثل (مورين برنشتين) و(مايكل نيوتن)‬
‫و(ايان ستيفنسون) إلى دراسة عدد من الحاالت في بلدان‬
‫كثيرة إلثبات أو نفي التقمص‪.‬‬
‫املؤلف‬
‫* * *‬

‫‪34‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫وقفت مرعوباً مام حدث وكيف حدث‪ ،‬ارتعدت ا ٔوصايل وضعف‬


‫قلبي‪ ،‬غاب صويت عن الرصاخ‪ ،‬تسمرت يف مكاين مرتجفاً‬
‫وكأنني يف كابوس غري حقيقي‪ ،‬جف حلقي وذابت ا ٔضلعي‪ ،‬مل‬
‫ا ٔعد قادرا ً عىل الحركة‪...‬‬
‫معصمي‪ ،‬التفت إىل‬
‫ّ‬ ‫ي ا ٔمامي‪ ،‬كانت األساور مثبتة يف‬
‫رفعت يد َّ‬
‫زجاج النافذة العاكس لعيل ا ٔرى صوريت‪ ،‬كنت ا ٔنا الدكتور‬
‫"سامي" بعقيل وذكريايت وذهني وتفكريي‪ ،‬لكن بصورة وجسد‬
‫السجني‪ ،‬ا ٔما السجني فقد خرج بجسدي‪ ،‬غادر للتو ليعيش‬
‫حيايت ا ٔنا‪!..‬‬
‫دخل تفكريي بوتقة خارجة عن وعيي‪ ،‬طارحاً عيل الس ٔوال‬
‫األغرب يف حيايت‪:‬‬
‫كيف حدث هذا؟‬
‫ما إن نظرت إىل صوريت عىل الزجاج حتى صدرت مني رصخة‬
‫قوية‪ ،‬رصخة مزقت ا ٔحشاء السكون يف املكان‪.‬‬
‫توقفت املرا ٔة عن الغناء البنتها الوسادة‪ ،‬وصمت الرجل عن‬
‫الصياح‪ ،‬وانتفض خائفاً كل من سار يف البهو امل ٔودي إىل غرفة‬
‫السجني رقم ا ٔربعة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ساقي‪ ،‬اقشعر بدين‬
‫َّ‬ ‫مل ا ٔعد قادرا ً عىل الوقوف‪ ،‬خارت قوة‬
‫ورست فيه رعشة من الخوف والهلع‪ ،‬اضطراب‪ ،‬ارتجاف‪ ،‬تلعثم‪،‬‬
‫تسمر‪ ،‬وجوم‪ ،‬رعب‪ ،‬ذهول‪ ،‬كان املوقف ا ٔشد رهبة من ا ٔي شيئ‬
‫قد تتوقعونه‪ ،‬كدت بالفعل ا ٔن ا ٔصاب بالجنون‪ ،‬فام حدث يل ال‬
‫يصدقه أي عقل برشي منطقي‪.‬‬
‫* * *‬
‫أنا الدكتور "سامي عز الدين سقاف"‪ ،‬عمري خمسة وا ٔربعون‬
‫عاماً‪ ،‬ا ٔخصايئ جراح يف األعصاب والدماغ‪ ،‬اسم زوجتي‬
‫"نهلة"‪ ،‬ولدي ابن اسمه "زين" عمره خمس سنوات‪ ،‬ا ٔتحدث‬
‫لنفيس ولذايت اآلن وا ٔنا بكامل قواي العقلية والذهنية‬
‫والنفسية والجسدية‪ ،‬ولكن بجسد مختلف‪..‬‬
‫اتصل يب مكتب املقدم "مروان" صديقي فجر هذا اليوم من‬
‫فرع الرشطة ملعاينة سجني يف الزنزانة اإلنفرادية الرابعة‬
‫بدعوى الجنون‪..‬‬
‫تفاجأت ا ٔن هذا املريض يعرف قصة الساعة التي ارتديها يف‬
‫معصمي منذ خمسة عرش عاماً‪ ،‬والتي مل يطلع ا ٔي شخص‬
‫عىل قصتها‪ ،‬إذ ا ٔنها من فتاة اسمها “إميا” ا ٔحببتها لعدة ا ٔشهر‬
‫وا ٔهدتني هذه الساعة بعيد ميالدي‪ ،‬ثم وبعد ذلك بثالثة ا ٔيام‬
‫متاماً تعرضت الفتاة لحادث مروري وتوفيت‪.‬‬
‫تأثرت كثريا ً لحادث وفاتها وصنع اسمها بداخيل رمزية مقدسة‬
‫تجاهها‪..‬‬

‫‪36‬‬
‫حافظت عىل الساعة من الضياع والتلف إذ ا ٔنها ا ٔغىل هدية‬
‫تلقيتها يف حيايت‪.‬‬
‫بعد دخويل مشفى األمراض العقلية ملعاينة السجني وتحديد‬
‫صدقه من كذبه قام بنطحي عىل را ٔيس بقوة مل ا ٔكن اتوقعها‬
‫منه‪ ،‬سقطت عىل األرض‪ ،‬حاولت النهوض مستنجدا ً بالرشطي‬
‫الحارس‪ ،‬وما إن وقفت حتى دخل الرشطي ودفعني ألبقى ا ٔنا‬
‫داخل غرفة املشفى املوصدة‪ ،‬وهو يخرج‪.‬‬
‫هنا تغريت الحياة بنظري‪ ،‬فقد انتقلت روحي إىل جسد‬
‫السجني‪ ،‬وانتقلت روح السجني إىل جسدي‪.‬‬
‫لقد ا ٔخذ جسدي وخرج من املشفى بصوريت‪ ،‬صورة الدكتور‬
‫"سامي"‪ ،‬وا ٔنا دخلت جسده ألبقى هنا باسم السجني رقم‬
‫ا ٔربعة‪.‬‬
‫اآلن‪ ،‬سيعيش هو حيايت بجسدي‪ ،‬بينام ذكريايت وا ٔفكاري‬
‫ستبقى ا ٔسرية تحرقني هاهنا‪.‬‬
‫ا ٔنا اآلن دون اسم ا ٔو هوية ا ٔو صورة ا ٔو ا ٔي شيئ ا ٓخر‪ ،‬ا ٔنا اآلن‬
‫لست سوى سجني مجنون‪.‬‬
‫عىل الجانب اآلخر من املشفى كان الدكتور "سامي" يصعد‬
‫واضح عليه‪ ،‬ا ٔدار‬
‫ٌ‬ ‫سيارته مرسعاً بعد ا ٔن فك ربطة عنقه والتوتر‬
‫املحرك وغادر مرسعاً‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪37‬‬
‫إني متأكد أني قد كنت هنا من قبل‪ ،‬كما أنا آالف المرات‪،‬‬
‫وآمل أن أعود آالف المرات األخرى‬
‫يوهان جيته – طبيب أملان يف علم الترشيح‪.‬‬
‫* * *‬
‫تلمست جسدي جيدا ً‪ ،‬تحسست ا ٔكتايف وبطني‪ ،‬وجهي‬
‫وذقني طويلة الشعر‪ ،‬ا ٔظافري املتسخة‪ ،‬ا ٔنا لست ا ٔنا‪ ،‬ا ٔنا‬
‫الدكتور "سامي" ا ٔما اآلن فمن ا ٔنا بهذا الجسد؟‬
‫اجتاحتني موجة من البكاء والخوف معاً‪ ،‬شعرة واحدة من‬
‫التفكري ضمن عقيل فصلتني عن الجنون‪ ،‬إما ا ٔن اهدا ٔ وا ٔفكر‬
‫بعقالنية‪ ،‬أو أن ا ٔي ترصف مني سيكون مبثابة الدليل القاطع‬
‫عىل جنوين‪ ،‬واختالل عقيل‪.‬‬
‫والس ٔوال الذي ا ٔدخلني حالة يائسة‪ ،‬هو كيف حصل ذلك؟‬
‫كيف استطاع ا ٔن يبدل جسدي بنطحة را ٔسه تلك‪ ،‬لقد استوىل‬
‫عىل جسدي وغادر به‪ ..‬كيف فعلها؟‬
‫وهل توجد طريقة ما أسرتجع بها جسدي؟‪.‬‬
‫كنت قد قرا ٔت كثريا ً عن حاالت التقمص الروحي بعد املوت‪،‬‬
‫وسمعت ا ٓالف القصص عن ا ٔطفال يولدون بذاكرة حقيقية‬
‫ألحداث تثبت ا ٔنهم كانوا يعيشون يف مكان ما‪ ،‬لكن حالتي هذه‬
‫غريبة ومل ا ٔسمع عنها من قبل‪ ،‬كيف ميكن لإلنسان ا ٔن يتقمص‬
‫إنساناً ا ٓخر مازال عىل قيد الحياة ويتبادل معه الجسد؟!‬

‫‪38‬‬
‫وضعت يدي التي ليست يدي عىل صدغي وحاولت استيعاب‬
‫ماحدث معي‪ ،‬كنت ا ٔبيك كاملجنون الحقيقي والذي لن يصدق‬
‫ا ٔي ا ٔنسان قصته هذه‪ ،‬فأقل ما ميكن ا ٔن يقال عني‪ ،‬ا ٔنني رجل‬
‫مصاب مبس جنوين‪.‬‬
‫* * *‬
‫يف الحكمة اإللهية ومن وجهة نظر "الثيوصفيا" يتكون‬
‫اإلنسان من مركبات سبعة وسبعة أجسام أو هياكل أو بنى أو‬
‫مستويات أو تدرجات‪ ،‬كل هذه األجسام لها طاقة وطبقات‬
‫وأغلفة وحجب‪ ،‬وتتألف هذه السباعية من مجموعتني ثالوث‬
‫علوي ورابوع سفيل‪ ،‬وهي مرتبة من األخف األشف إىل األثقل‬
‫األكثف‪...‬‬
‫تبدأ من الجسم اآلمتي (اآلمتا أو الروح) وهي الشعلة اإللهية‬
‫الكامنة يف اإلنسان وتسمى (املوناد) أو اإلله الباطن‪.‬‬
‫ذكرها القرآن بآية "ونفخت فيه من روحي"‪" ،‬فنفخنا فيه من‬
‫روحنا"‪ ،‬أي أن الذات اإللهية نفخت يف جسد اإلنسان روح‬
‫الله‪.‬‬
‫بعد ذلك يأيت الجسم اإلرشاقي (الجسم البويدهي) وهو أشبه‬
‫باملركبة التي تحمل الروح‪ ،‬إنه الجسد الذي يعيش عىل هذه‬
‫األرض والذي ينهك ويضمحل مع مرور الوقت‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫العيل أو الجسم السببي (الجسم العقيل األعىل أو‬
‫ّ‬ ‫ثم الجسم‬
‫األرفع) وهو النفس العليا والذي يعود للتجسد بحسب‬
‫الثيوصوفيا‪ ،‬وهو اآللية التي يعمل من خاللها العقل البرشي‪.‬‬
‫كام ذكرتها كتب بني إرسائيل‪:‬‬

‫"في التقمص األول تصلح الروح عن طريق الخير‪ ،‬وفي‬


‫التقمص الثاني تصلح الروح بالشجاعة وتحدي الصعاب‪،‬‬
‫وفي التقمص الثالث تصلح الروح بالمجد وإال لن تخرج إلى‬
‫العالم القادم"‬
‫كتاب الزوهار – التوراة العهد القديم‪.‬‬
‫* * *‬
‫بحسب ابن سينا الثالوث العلوي يسمى النفس العليا الخالدة‬
‫وفيها الجسم الرغائبي وهو مقر الرغبات ويعتَب الجسد‬
‫الفاين‪ ،‬ثم الجسم النجمي وهو النور ومركز اإلحساس‬
‫والعواطف والشهوات والشعور‪ ،‬ثم الجسم األثريي وهو طاقة‬
‫الحياة‪ ،‬وأخريا ً الجسم الفيزيقي وهو الجسم املادي الثاين أو‬
‫الجسم الجرمي‪.‬‬
‫وكل هذا يشكل شخصية النفس الدنيا الفانية‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪40‬‬
‫ضمن غرفة مشفى األمراض العقلية يف الطابق الرابع‪ ،‬كان‬
‫السجني قد هدا ٔ مجددا ً بعد ا ٔن تيقن ا ٔنه تعرض للتو ألغرب‬
‫عملية نصب واحتيال قد تحدث يف عامل البرش‪ ،‬لقد متت‬
‫رسقة جسده ووضعه يف جسد ا ٓخر‪ ،‬وعليه كطبيب جراح‬
‫باألعصاب ومتمرس ا ٔن يثبت عملية رسقة جسده دون ا ٔن يقال‬
‫عنه مجنون ا ٔو مختل عقلياً‪.‬‬
‫أول ما كنت ا ٔفكر فيه هو ا ٔنني تعرضت لعملية ال تخضع‬
‫لقوانني املنطق وال الفيزياء ا ٔو الكيمياء وال حتى الطب‬
‫املتطور‪ ،‬ما حصل معي ليس سوى عملية روحية احرتافية‬
‫غريبة‪ ،‬وإلثباتها يجب ا ٔن يكون لدي دليل ديني ا ٔو مذهبي ا ٔو‬
‫روحي‪ ،‬وعيل أن ا ٔكون متوازناً فكرياً وبالقدر املطلوب‪.‬‬
‫لكن هناك مشكلتان يجب تجاوزهام‪ ،‬األوىل هي ا ٔن عائلتي‬
‫بخطر‪ ،‬فالدكتور الهارب سيعيش اآلن حيايت بالشكل الكامل‪،‬‬
‫سينام مع زوجتي‪ ،‬ويقبل ابني‪ ،‬يدخل عياديت وقد يتحرش‬
‫بسكرترييت‪ ،‬سيأخذ نقودي‪ ،‬وسياريت ومنزيل‪ ،‬وما ا ٔخشاه هو‬
‫ا ٔن يرتكب حامقة باسمي‪.‬‬
‫املشكلة الثانية هي كيف ا ٔخرج من هنا؟‬
‫فأي ادعاء يل وا ٔي كالم وا ٔي ترصيح بهذا الجسد ومن هذا‬
‫املكان ومبوضوع غري منطقي كالتقمص لن يكون سوى دليالً‬
‫قاطعاً عىل جنوين‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫مجرد التفكري بزوجته وابنه كان كافياً ملد ِِّه بشعور املضطهد‪،‬‬
‫إذا بقي يفكر مبا حدث معه سيختنق وقد ميزق جسده إلخراج‬
‫روحه املظلومة من داخله لينتقل إىل مكان جديد‪.‬‬
‫لكن ما كان يخفف من وطأة معاناته هو قوته الجسدية التي‬
‫شعر بها‪ ،‬ا ٔكتافه وذراعاه صلبة‪ ،‬بنيته قوية‪ ،‬وفوق كل هذا‬
‫دماغه سليم ويفكر بكل منطقية وهدوء‪ ،‬بل يستذكر الكتب‬
‫التي قرا ٔها واألرقام واملواقع والشخصيات‪ ،‬وبإمكانه ربط كل‬
‫هذه األمور لصياغة معادلة تساعده بالدرجة األوىل عىل‬
‫الخروج‪ ،‬شعور بالقوة وذكاء عال وذاكرة قوية‪ ،‬ا ٔمور جديدة‬
‫شعر بها للمرة األوىل‪.‬‬
‫* * *‬
‫"إذ تنبأ إيليا النبي عن طهارتك‪ ،‬وإذ كان يحاول أن يتمثل‬
‫بها بالروح‪ ،‬التف بإكليل روح جديدة‪ ،‬فكوفئ أنه أعظم من‬
‫الموت بحكم إلهي"‪.‬‬
‫األب ميثوديوس‪.‬‬
‫* * *‬
‫سارت الساعة متثاقلة‪ ،‬مل يدخل ا ٔي شخص إىل غرفته بعد‬
‫تلك الحادثة سوى ممرضة وضعت له حبة من البطاطا مع‬
‫رغيف من الخبز‪ ،‬وضعت الصحن وخرجت مرسعة إذ تم‬

‫‪42‬‬
‫إخبارها ا ٔن سجني هذه الغرفة خطر وقد يحاول اإلعتداء عليها‬
‫كام فعل قبل ساعات مع الطبيب "سامي"‪.‬‬
‫نظر إىل انعكاس زجاج النافذة باتجاه الشارع‪ ،‬كان الظالم قد‬
‫ا ٔسدل ستاره عىل الشوارع‪ ،‬هو اآلن يعرف متى بإمكانه البدء‬
‫برحلة الخروج من هنا‪ ،‬الحارس يف البهو لن ينام‪ ،‬ولكن بحسب‬
‫علم الطب يفرتض بنا كبرش ا ٔن نكون يقظني يف الضوء ونياماً‬
‫يف الظالم‪ ،‬فالضوء هو العنرص األكرث فاعلية يف ضبط اتساق‬
‫الجسم الداخيل‪ ،‬وهنا يتم ضبط توازن الطاقة‪.‬‬
‫ا ٔشعة الشمس قبل رشوقها تكون بني اللون األحمر واألزرق‪،‬‬
‫وهذا اللون له تأثري مثري لألعصاب ويعتَب باعثاً عىل الخمول‬
‫لبضع دقائق ثم يعود الجسم لليقظة والحركة‪.‬‬
‫وبالنسبة للحارس اللييل ولطاقم املشفى املناوب ليالً‬
‫ستدخل أجسادهم مرحلة خمول األعصاب قبل رشوق‬
‫الشمس بدقائق‪.‬‬
‫زحف باتجاه سلة املهمالت يف زاوية الغرفة‪ ،‬والتي مل تفرغ‬
‫منذ زمن‪ ،‬رماها عىل األرض‪ ،‬وا ٔخذ ينبش بني الفضالت املرمية‬
‫واملناديل الجافة ذات الرائحة النتنة عىل إبرة وخز مستعملة‪،‬‬
‫فوجد العرشات منها‪.‬‬
‫ا ٔمسك إحداها وا ٔدار را ٔس اإلبرة قليالً وبدا ٔ يطبق مهارته الفائقة‬
‫يف فك األساور املعدنية من الثقب الصغري‪ ،‬بضع حركات فنية‬
‫وتم فتح األساور متاماً‪...‬‬

‫‪43‬‬
‫وقف واتجه إىل النافذة املصممة عالياً يك متنع هروب‬
‫املرىض‪ ،‬حرك الرسير الحديدي املتهالك‪ ،‬وضعه تحت‬
‫النافذة وصعد لينظر إىل الشارع‪ ،‬تفاجأ بوجود شبك حديدي‬
‫خارجي عىل النافذة‪.‬‬
‫نزل مجددا ً واتجه نحو الباب‪ ،‬وضع ا ٔذنه ليسرتق السمع‬
‫الخارجي‪ ،‬كان البهو فارغاً‪...‬‬
‫إذا فكر بفتح الباب سيدخل يف مشكلة جديدة‪ ،‬سرياه الحارس‬
‫وميسكه‪ ،‬وهو اآلن بغنى عن املشاجرة اليدوية‪ ،‬كام ا ٔن زي‬
‫املشفى الذي يرتديه كمريض سيكشف ا ٔي تحرك له ضمن‬
‫البهو‪.‬‬
‫وضع سالسل األغالل التي معه عىل قفل الباب وا ٔعاد إغالق‬
‫األساور‪ ،‬فاطأمن ا ٔن ا ٔحدا ً لن يستطيع دخول غرفته من‬
‫الخارج‪..‬‬
‫اآلن بقي عليه التعامل مع النافذة العلوية والخروج منها‪ ،‬عاد‬
‫وتسلق الجدار باتجاه النافذة واستقر بجانب الشبك‬
‫الحديدي‪ ،‬حركه بقوة وابتسم ابتسامة خفية‪.‬‬
‫مبا ا ٔنه يف ا ٔحد املشايف الحكومية املبنية قدمياً فمن‬
‫الطبيعي ا ٔن تكون جميع ا ٔدوات ومعدات املشفى قدمية‬
‫ومنهكة‪.‬‬
‫الشباك الحديدية قد تآكلت وصدا ٔت وتهالكت خاصة من‬
‫الزوايا املثبتة باإلسمنت‪...‬‬

‫‪44‬‬
‫نظر إىل الشارع وعرف ا ٔن التوقيت املناسب للهرب مل يحن‬
‫بعد‪ ،‬وحتى ذلك الوقت بإمكانه بدء عملية تحريك الشبك‬
‫الحديدي رويدا ً رويدا ً من الزاوية املتآكلة لفتح الجانب‬
‫األضعف منه‪.‬‬
‫* * *‬
‫ضمن إدارة املشفى كان مدير املشفى قد تلقى إشعارا ً موقعاً‬
‫من الدكتور "سامي سقاف" حول وضع السجني الجديد موجه‬
‫إلدارة الرشطة املدنية‪ ،‬يثبت يف التقرير ا ٔن هذا السجني سليم‬
‫عقلياً ويعتَب مجرماً خطريا ً ووحشياً‪ ،‬ويسمح لألجهزة األمنية‬
‫باستخدام العنف معه والرضب النتزاع االعرتاف منه وكشف‬
‫هويته‪ ،‬فهو إىل اآلن يقوم بالتمثيل واالدعاء بأنه شخص‬
‫مختل عقلياً‪.‬‬
‫ا ٔكمل مدير املشفى خطاب الدكتور "سامي" بإمضائه عىل‬
‫الورقة لتسليم السجني صباح اليوم التايل لألجهزة األمنية‬
‫وإعادته إىل مركز الرشطة ملتابعة التحقيق وفق ما يرتئيه‬
‫ضابط التحقيق‪.‬‬
‫اآلن بدا ٔ الوقت بالتسارع‪ ،‬مضت ا ٔكرث من ا ٔربع ساعات‬
‫والسجني يجلس عىل حافة النافذة ممسكاً بالشبك الحديدي‬
‫يحركه وقد وصل إىل ذروة فتحه‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ا ٔخريا ً ا ٔفلتت القاعدة الحديدية من اإلسمنت‪ ،‬فتح عينيه بكل‬
‫رسور وش ّد املشبك ألعىل لينتهي وجود ا ٔي حاجز بينه وبني‬
‫حياته الجديدة بجسده الجديد وفكره وعقله الضارب بالقدم‪.‬‬
‫كان الوقت مواتياً اآلن لبدء رحلة الخروج‪ ،‬خاصة وا ٔن الكل شبه‬
‫نيام ا ٔو يف حالة اسرتخاء‪.‬‬
‫ا ٔمسك املقبض‪ ،‬نظر إىل الغرفة اللعينة التي فقد فيها جسده‪،‬‬
‫ثم رفع جسده الجديد ليتسلق البناء وصوالً إىل ا ٔعىل‪.‬‬
‫وصوله إىل األسطح مل يتطلب منه جهدا ً يذكر‪ ،‬إذ ا ٔن غرفته‬
‫تقبع يف الطابق الرابع واألخري‪ ،‬ومن عىل سطح البناء عرف‬
‫النقطة األسهل للنزول مع اتكائه عىل حواف النوافذ وصوالً إىل‬
‫جذع شجرة الكينا الطويل والذي ساعده عىل النزول إىل‬
‫األرض‪.‬‬
‫بنيته الجسدية القوية ساعدته كثريا ً يف إنهاء هذه املهمة‪،‬‬
‫كان عليه فقط ا ٔن يصدر ا ٔوامر جريئة لعضالته لتتحرك بخفة‪،‬‬
‫وهذا ما كان يفتقده حني تذكر كيف كان مييش وكيف كانت‬
‫نظارته الطبية عىل ا ٔرنبة ا ٔنفه تشكل له عائقاً ا ٔمام حركات‬
‫جسده‪.‬‬
‫بحركات رسيعة والتفاتات حذرة وصل إىل الشارع العام‪ ،‬سار‬
‫عىل الرصيف مجددا ً حرا ً طليقاً‪ ،‬لكن بجسد وشعر وذقن‬
‫ومالبس تظهر ا ٔنه متسول ا ٔو مجنون‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫عليه ا ٔن يفعل شيئاً قبل ا ٔن يتم اكتشاف هربه من املشفى‪،‬‬
‫ومن الخطر ا ٔن يبقى يف املدينة‪.‬‬
‫* * *‬
‫شعور الخطر الذي باغتني مل ا ٔشعر به من قبل‪ ،‬فثمة ا ٔمر‬
‫عجيب يباغتنا حني نشعر بدنو الخطر‪ ،‬إنه شعور القوة‬
‫الفجائية‪ ،‬قوة خارقة تقذف بنا بعيدا ً عن مكمن الخطر‪،‬‬
‫فبداخلنا قوة خارقة ال تظهر إال عند الخطر‪.‬‬
‫مشكلته األساسية تكمن يف تغيري هيئته ومالبسه‪ ،‬وحصوله‬
‫عىل بعض األوراق واإلثباتات من منزله‪ ،‬لكن س ٔواالً جديدا ً ظهر‬
‫فجأة يف عقله‪ ،‬ماذا فعل ذلك املفرتس خالل الساعات‬
‫املاضية‪ ،‬وكيف يترصف اآلن بعد ا ٔن أصبح يف جسد الدكتور‬
‫"سامي"‪.‬‬
‫للوهلة األوىل تراءت له العديد من الصور السوداوية‪ ،‬هل يعقل‬
‫ا ٔنه نام عىل رسيره وبجانب زوجته‪ ،‬هل ق ّبل ابنه قبل ا ٔن ينام‪،‬‬
‫ارتفعت كمية من الدماء الحارة إىل دماغه متخيالً ماذا سيفعل‬
‫به‪.‬‬
‫كانت الساعة تشري إىل السادسة والنصف صباحاً حني وصل‬
‫مشياً إىل الحي الذي يسكنه‪ ،‬نظر من الرصيف املقابل إىل‬
‫شقته‪ ،‬كل شيئ يبدو طبيعياً‪ ،‬استدار إىل ا ٔمام البناء فوجد‬
‫سيارته مركونة يف مكانها‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫شعور جديد باغته‪ ،‬شعر بالخذالن والحرية‪ ،‬واجتاحته نوبة‬
‫من البكاء‪ ،‬رصاخ شديد كان يصدح بداخله‪ ،‬ثم تذكر ا ٔنه من‬
‫الرضوري السيطرة عىل مشاعره وا ٔحاسيسه يك ال يبدو‬
‫مجنوناً‪.‬‬
‫اعتاد منذ صغره عىل ا ٔن يكون دقيقاً‪ ،‬وا ٔن يحفظ مواعيد‬
‫وتوقيتات األمور التي تجري من حوله‪.‬‬
‫يف متام الساعة السادسة والنصف ستنهض زوجته من‬
‫الفراش‪ ،‬تعد الطعام وتجهز "زين" للذهاب إىل املدرسة‪ ،‬ثم‬
‫ترتدي ثيابها وتغادر هي األخرى إىل مدرستها‪ ،‬ويف متام‬
‫الساعة الثامنة والنصف سيغادر هو إىل عيادته‪.‬‬
‫الوقت الفارق هو ساعة واحدة‪.‬‬
‫تسلل إىل مدخل البناء ودخل كوة املنور الداخيل‪ ،‬ثم عَب من‬
‫خالله إىل غرفة تجمع ا ٔسالك الكهرباء وأنابيب املاء املوزعة‬
‫عىل البناء كامالً‪ ،‬راقب حركة الشارع من فتحة صغرية ضمن‬
‫الجدار الداخيل وبات يتنبأ بالوقت‪.‬‬
‫مل ميض سوى بضع دقائق حتى سمع هدير حافلة املدرسة‪،‬‬
‫وسمع صوت األطفال وهم يصعدون‪...‬‬
‫ارتقب قليالً وهو متسمر يرصد الشارع حتى اجتازت "نهلة"‬
‫الشارع املقابل باتجاه مدرستها‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫كثريا ً ما كان يرص عليها ا ٔن ترتك العمل وتتفرغ للطفل‪ ،‬لكنها‬
‫كانت ترفض وبشدة‪ ،‬إذ ا ٔنها تحب مهنة التدريس رغم‬
‫صعوباتها‪ ،‬وتَبر ذلك برضورة تحسني دخلهم املادي‪.‬‬
‫اليوم أدرك ا ٔن قرارها بالعمل كان صائباً‪ ،‬فحياته مل تكن سوى‬
‫سلسلة من املواقف واالختبارات والقرارات‪ ،‬واليوم لن يفرق‬
‫عن غريه من األيام‪.‬‬
‫مل يبق ا ٔمامه سوى قرار وحيد‪ ،‬وهو ا ٔن يعيد جسده لروحه‪ ،‬ولن‬
‫يحيد عن هذا القرار إال باملوت‪ ،‬فام حصل له ضمن املشفى‬
‫جعله يدرك معنى الهزمية الكاملة‪ ،‬هزمية جعلته قادرا ً عىل ا ٔن‬
‫يخطو نحو التحرر من هذا الجسد الذي تلبد بروحه وعقله‬
‫وا ٔنفاسه وذكرياته‪.‬‬
‫اآلن هو ا ٔمام مواجهة كبرية وعليه ا ٔن يثبت نفسه قبل انتشار‬
‫خَب هروبه من املشفى‪.‬‬
‫ردد يف ذاته؛ إن مل استطع العودة إىل حيايت الصحيحة فال‬
‫يجب ا ٔن ا ٔدعي القوة يوماً‪.‬‬
‫ا ٔمسك قطعة معدنية مرمية عىل األرض‪ ،‬ووضعها وسط ا ٔسالك‬
‫الكهرباء‪ ،‬ا ٔمسك ا ٔحدها وشدها بقوة لينقطع التيار‪...‬‬
‫انقطاع التيار الكهربايئ يف هذه األيام يعتَب ا ٔمرا ً عادياً للغاية‪،‬‬
‫ولن يثري حفيظة ا ٔحد‪ ،‬ولكنه ا ٔضمن لعملية االقتحام التي‬
‫ينوي فعلها‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫صعد درجات السلم ونفسه تقرتب من اإلنهيار‪ ،‬لكن رغبة الثأر‬
‫لتاريخه ولجسده الذي مل يعد جسده جعل صالبته يف‬
‫ري مسار حياته ا ٔكرث قوة‪.‬‬
‫مواجهة الحدث الذي غ ّ‬
‫وصل باب شقته‪ ،‬ا ٔدرك اآلن ا ٔنه هو وغرميه وحيدان ويفصل‬
‫بينهام هذا الباب‪ ،‬كان يحسب وبدقة وقت خروجه من املنزل‬
‫ليذهب إىل العيادة‪.‬‬
‫دماغه ربط التوقيتات ببعضها البعض‪ ،‬فمع مغادرة الطفل إىل‬
‫مدرسته ومغادرة "نهلة" إىل عملها‪ ،‬وتكاثف ا ٔصوات السيارات‬
‫وحركة ضوء الشمس يف الشارع تنبأ ا ٔن الساعة قد أصبحت‬
‫الثامنة والنصف متاماً‪.‬‬
‫جاء الصوت من الداخل‪ ،‬كان الدكتور "سامي" ماشياً باتجاه‬
‫الباب للخروج من منزله‪ ..‬فتح الباب‪ ،‬وما إن صار مفتوحاً‬
‫بالكامل حتى عاجله بلكمة رسيعة وقوية ا ٔعادته إىل الداخل‪..‬‬
‫كانت لحظة حاسمة بالنسبة للسجني الهارب‪ ،‬ا ٔخريا ً هاهو‬
‫يقف وجهاً لوجه مع جسده‪...‬‬
‫فتح الدكتور عينيه عىل ا ٔشدهام وقبل ا ٔن يتلفظ بكلمة واحدة‬
‫مل يشعر إال برضبة خفية وقوية توجهت مجددا ً من قبضة يد‬
‫السجني إىل ا ٔنفه‪.‬‬
‫مجددا ً وللمرة الثانية خالل ا ٔقل من ا ٔربع وعرشين ساعة‬
‫يسقط عىل األرض فاقدا ً توازنه‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪50‬‬
‫أغلقت الباب خلفي وجثمت بكامل وزين ورشاقتي عىل‬
‫جسده‪ ،‬عفوا ً عىل جسدي الذي سلبه مني‪ ،‬وا ٔخذت ا ٔنتحب‬
‫وا ٔبيك كاألطفال وا ٔنا ا ٔلكمه بكامل قويت‪ ،‬رضبت ا ٔنفه عدة‬
‫لكامت‪ ،‬رضبت فمه حتى نزلت الدماء من شفتيه‪ ،‬رضبت‬
‫وجنتيه وكرست نظارته الطبية فوق وجهه‪ ،‬كنت ا ٔشعر باألمل‬
‫مع كل لكمة ا ٔوجهها إىل وجهه الذي كان باألمس وجهي‪.‬‬
‫كانت لياقتي وقويت البدنية عالية جدا ً‪ ،‬بينام كنت ا ٔعرف نقاط‬
‫ضعف جسدي السابق‪ ،‬وا ٔعرف ا ٔنه يعاين من بداية الديسك يف‬
‫ا ٔسفل الظهر‪ ،‬وا ٔعرف ا ٔن سقوط نظارته الطبية سيجعله‬
‫ا ٔضعف بكثري‪.‬‬
‫حملته وا ٔدخلته إىل غرفة الضيوف‪ ،‬نظرت إىل منزيل كالزائر‬
‫هذه املرة‪ ،‬كل شيئ مرتب وطبيعي‪ ،‬ا ٔنا ا ٔعرف "نهلة" جيدا ً‪،‬‬
‫تستمتع حني تنظف املنزل‪.‬‬
‫ثبته عىل كريس طاولة الطعام‪ ،‬وربطت يديه وقدميه ببعض‬
‫الوشائح التي ا ٔحرضتها من غرفة نومي ا ٔنا و"نهلة"‪ ،‬بينام كان‬
‫هو ال يزال يرتنح من قوة الرضبات التي وجهتها لوجهه والذي‬
‫تلون باألزرق واألسود واألحمر‪ ،‬كام ا ٔحرضت سكيناً من املطبخ‬
‫ليكون التحقيق بطعم القوة هذه املرة‪..‬‬
‫ا ٔسئلة كثرية اجتاحت دماغي‪ ،‬وما ا ٔحتاجه اآلن هو ا ٔن يستعيد‬
‫وعيه بالصورة الطبيعية ليجيب عىل جميع األسئلة التي عليه‬
‫اإلجابة عنها‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫"اإلنسان العبقري ليس سوى حصيلة تجارب كثيرة‬
‫لحيوات عديدة مر ويمر بها من خالل التقمص‪ ،‬واألرواح‬
‫األكثر قدماً تعلم أكثر من األرواح المنتقلة حديثاً إلى‬
‫األجساد"‪.‬‬
‫هرني فورد – مؤسس رشكة فورد‬
‫* * *‬
‫ال يوجد علم يعارض أن شخصياتنا تتقمص هنا واآلن‪،‬‬
‫وعلينا أن نبدأ في تخمين العكس والشك بوجود فردية‬
‫سامية أكثر اتساعاً من أجسادنا‪ ،‬وهي فردية تسمح للعباقرة‬
‫أن يكونوا على اتصال أكثر بنا من الشخصيات العادية‪.‬‬
‫أوليفر لودج‪ -‬من كبار علامء الفيزياء‪ ،‬رئيس جمعية‬
‫البحث الروحي يف إنكلرتا‪ ،‬ومدير جامعة برمنغهام‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪52‬‬
‫من ا ٔصعب اللحظات التي قد متر باإلنسان هي ا ٔن يديل‬
‫بأحداث تحت تهديد السالح‪ ،‬ا ٔحداث يرفض اإلدالء بها‪.‬‬
‫قيدته إىل كريس الطعام بشكل قوي‪ ،‬مررت السكني عىل‬
‫جبهته وخده وعنقه‪ ،‬وسألته‪:‬‬

‫‪ -‬كيف فعلت هذا؟‬

‫كان وجهه شاحباً من الرضبات املتتالية عىل را ٔسه‪ ،‬وللمرة‬


‫األوىل ا ٔنظر إىل نفيس بشكل واقعي وليس كام كنت أرى‬
‫صوريت يف املرا ٓة‪ ،‬شعري القليل‪ ،‬جبهة را ٔيس العالية‪ ،‬عيوين‬
‫الصغرية‪ ،‬للمرة األوىل شعرت بضعف جسدي الذي غادرته‪،‬‬
‫واستشعرت قوة الجسد الجديد الذي سكنته‪.‬‬
‫ا ٔمسكت كوباً من املاء البارد وسكبته عىل را ٔسه ليصحو‬
‫مجددا ً من غفوته‪...‬‬
‫استنشق الهواء بصعوبة وصحى من غيبوبته‪ ،‬فالوقت ليس‬
‫لصالحي وإال كنت قد تفننت يف تعذيب جسدي الذي يحمله‪..‬‬
‫نظر إيل بتمعن وابتسم ابتسامة صفراوية وقال بكل هدوء‪:‬‬

‫‪ -‬هذا ا ٔنت؟‬

‫انفجرت يف الضحك‪..‬‬

‫‪ -‬ال‪ ..‬هذا ا ٔنت ا ٔما ا ٔنا فهو ا ٔنت‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ -‬ماذا تريد؟‬
‫‪ -‬تعرف ماذا ا ٔريد‪ ،‬ا ٔخَبين القصة‪ ،‬قل يل كيف فعلتها؟‬

‫كان اللقاء بينهام ا ٔشبه مبرسحية ا ٔبطالها مجانني‪ ،‬جلس‬


‫االثنان قبالة بعضهام البعض ا ٔحدهام مقيد مستكني‪ ،‬واآلخر‬
‫يجَبه عىل االعرتاف باآللية التي استطاع فيها ا ٔن ينتزع منه‬
‫جسده‪..‬‬
‫هذه املرة شعر السجني بضعف جسد الطبيب‪ ،‬وللمرة األوىل‬
‫منذ الحادثة كان عقله الباطني يحدثه بأن ال يعود إىل جسده‬
‫الحقيقي‪ ،‬فالجسد الذي هو بداخله اآلن يبدو ا ٔقوى‪ ،‬ا ٔذىك‪،‬‬
‫ا ٔكرث لياقة‪ ،‬وا ٔكرث جامالً فيام إذا تم تهذيبه‪ ،‬ولكنه ال يعرف فيام‬
‫إذا كان قادرا ً عىل البدء بحياته الجديدة هذه ا ٔم ال‪.‬‬
‫وضع السجني سكينه عىل عنق الدكتور‪ ،‬وا ٔرص بأن يخَبه كيف‬
‫استطاع تبديل األجساد فيام بينهام‪.‬‬
‫ضحك الطبيب‪..‬‬

‫‪ -‬يبدو ا ٔنك مجنون؟ من سيصدق كالمك هذا؟‬


‫‪ -‬الذكريات التي ا ٔحملها‪.‬‬
‫‪ -‬ا ٔي ذكريات؟‬
‫‪ -‬ابتسم السجني مجددا ً‪:‬‬

‫‪54‬‬
‫‪ -‬الذكريات التي ا ٔحملها بداخيل‪ ،‬فأنا الدكتور “سامي”‬
‫وا ٔنت السجني‪ ،‬وإىل اآلن مل تجبني‪ ،‬كيف فعلت هذا‬
‫وبادلت ا ٔجسادنا حينام نطحتني عىل جبهتي‪.‬‬
‫‪ -‬ا ٔنت من نطحني‪ ..‬ولست ا ٔنا‪.‬‬
‫‪ -‬ال تلف وتدور‪ ،‬ا ٔنت نطحتني بقوة عىل جبهتي حينام‬
‫كنت ترتدي هذا الجسد‪ ،‬وا ٔنا سقطت عىل األرض‬
‫بالجسد الجديد الذي ترتديه‪.‬‬

‫طأطأ الدكتور "سامي" را ٔسه إىل األرض وبدا ٔ باستذكار ما‬


‫حصل له نهار إلبارحة‪ ،‬ثم رفع را ٔسه وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬يف البداية ا ٔخَبين ماذا تعرف عن الساعة؟‬


‫‪ -‬هل ا ٔنت مجنون‪ ،‬ا ٔنت من يجب ا ٔن يخَبين بقصة‬
‫الساعة؟‪.‬‬
‫‪ -‬ا ٔنا ا ٔعرفها‪..‬‬
‫‪ -‬وا ٔنا ا ٔعرفها‪..‬‬
‫‪ -‬ما قصتها؟‪..‬‬
‫‪ -‬إنها من “إميا”‪..‬‬
‫‪ -‬نعم إنها من “إميا”‪..‬‬
‫‪ -‬متى ا ٔهدتني إياها؟‬
‫‪ -‬تقصد ا ٔهدتني إياها يل ا ٔنا‪.‬‬
‫‪ -‬لن نختلف عىل التسميات‪ ،‬ا ٔخَبين متى ا ٔهدتك إياها؟‬

‫‪55‬‬
‫‪ -‬يف عيد ميالدي‪ ،‬واآلن جاء دورك باإلجابة‪ ،‬ا ٔين‬
‫ا ٔهدتني إياها بالضبط إن كنت تدعي ما تدعيه؟‬
‫‪ -‬يف كافرتيا الجامعة‪ ،‬بعد ا ٔن رشبنا القهوة‪ ،‬حينها‬
‫كانت ترتدي قميصاً ا ٔسو َد جديدا ً‪ ،‬وقالت حينها إنها‬
‫فكرت يف رشاء قميص ا ٓخر يل‪ ،‬لكنها خشيت أال يكون‬
‫املقاس مناسباً‪.‬‬

‫كان الدوار يتسلل إىل را ٔسيهام‪ ،‬كيف ا ٔن كل واحد منهام يعرف‬


‫هذه القصة بحذافريها‪.‬‬
‫اقرتب السجني من قدمي الطبيب املربوط‪ ،‬وبدا ٔ بالبكاء‬
‫كاألطفال‪ ،‬شعر للحظة ا ٔنه بحاجة للبكاء‪ ،‬بىك بقوة وبشدة‪،‬‬
‫بىك فقط ليفرغ ما بداخل قلبه من ا ٔمل بعد التحول الذي طرا ٔ‬
‫عليه نهار اليوم السابق‪.‬‬

‫‪ -‬ملاذا تبيك وأنت األقوى اآلن؟‬


‫‪ -‬أرجوك أعد يل جسدي‪ ،‬أود العودة إىل سابق حيايت‬
‫وبالشكل الطبيعي‪.‬‬
‫‪ -‬لن يحدث هذا‪ ،‬فاآلن أنا أنا وأنت أنت‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬ال تقل ذلك‪ ،‬أنا أنت وأنت أنا كأجساد‪.‬‬
‫‪ -‬لن يصدقكك أحد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫عادت الدماء الحارة وصعدت إىل رأس السجني من جديد‪،‬‬
‫وضع سكينه عىل رقبة الدكتور ورصخ بصوت مكبوت بالقوة‬
‫والبكاء‪..‬‬

‫‪ -‬أعد إيل جسدي اآلن وإال قتلتك‪.‬‬

‫شعر الطبيب أن ال مفر له من هذا الفخ الذي صار فيه اآلن‪،‬‬


‫خاصة أنه استشعر جدية وصدق كلامت السجني‪ ،‬فإن مل ينفذ‬
‫له ما يريد سيقتله‪ ،‬كانت السكني تالمس رقبته بالشكل‬
‫الصحيح للقتل‪.‬‬
‫رفع الطبيب رأسه ونظر إىل عيون السجني الالمعة وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬هل أنت متأكد من أنك تريد العودة إىل هذا الجسد؟‬


‫‪ -‬نعم‪ ...‬اآلن وبرسعة‪.‬‬
‫‪ -‬جسدك أقوى من جسدي‪ ،‬فتي وشاب‪ ،‬انظر إىل‬
‫عضالتك وظهرك‪ ،‬صدقني جسدك أقوى من‬
‫جسدي‪..‬‬

‫أغمض السجني عينيه قليالً‪ ،‬ثم فتحهام وقال بصوت‬


‫منخفض مستكني‪:‬‬

‫يل جسدي‪.‬‬
‫‪ -‬أعد إ ّ‬

‫تنهد الدكتور "سامي"‪ ،‬صمت قليالً ثم قال‪:‬‬

‫‪57‬‬
‫‪ -‬حسناً‪ ،‬ولكن عيل أن أنطحك بقوة كام فعلت يف املرة‬
‫األوىل‪.‬‬

‫ارتسمت ابتسامة بسيطة عىل وجه السجني‪ ،‬إذ شعر ببصيص‬


‫أمل قادم‪ ،‬عىل الفور وضع السكني عىل األربطة وقطعها كلها‪.‬‬
‫وقف الطبيب خائفاً‪ ،‬ووقف السجني بوجهه‪ ،‬كان جسد‬
‫السجني أطول من جسد الطبيب‪ ،‬عىل الفور فهم السجني‬
‫املغزى‪ ،‬فجثا عىل ركبتيه أمام الدكتور‪ ،‬وقال له‪:‬‬

‫إيل جسدي‪ ،‬هيا افعلها‪.‬‬


‫‪ -‬هيا انطحني بكل قوتك‪ ،‬وأعد ّ‬

‫تراجع الدكتور خطوة إىل الخلف استعدادا ً لنطح السجني‬


‫ليعود جسده‪ ،‬ثم قال له‪:‬‬

‫‪ -‬اغمض عينيك واستعد‪..‬‬

‫اغمض السجني عينيه‪ ،‬شدهام بقوة منتظرا ً النطحة التي‬


‫ستعيده إىل حياته الحقيقية‪.‬‬
‫عىل الفور تناول الدكتور الشمعدانة الحديدة التي كانت‬
‫مبتناول يده‪ ،‬رفعها ورضبها عىل جبهة السجني بقوة‪.‬‬
‫مل يكن الدكتور بارعاً بالرضب‪ ،‬ومل يعرف كيف يرضب‪ ،‬ما أراده‬
‫هو القليل من الثواين التي تساعده عىل الركض خارج شقته‬
‫والرصاخ لطلب النجدة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫شعر السجني برضبة قوية‪ ،‬رضبة فهمها عىل الفور‪ ،‬إنها‬
‫ليست نطحة جبهة‪ ،‬لكنها كانت قوية بالصورة التي أوقعته‬
‫أرضاً عىل ظهره‪.‬‬
‫عىل الفور فتح عينيه‪ ،‬شاهد الطبيب يَهم بالركض خارج غرفة‬
‫الضيافة‪ ،‬برسعة الَبق ودون أدىن تفكري‪ ،‬حرك السكني بخفة‬
‫بني أصابع يديه‪ ،‬أمسكها من رأسها الحاد‪ ،‬ورماها برسعة‬
‫الَبق وبقوة الرصاصة باتجاه ظهر الطبيب لتجثم وسط‬
‫عموده الفقري وتسقطه أرضاً مع بقعة من الدماء‪.‬‬
‫هنا تغريت الحياة بشكل كيل يف عيون السجني مجددا ً‪ ،‬وقف‬
‫مرتجفاً‪ ،‬نظر إىل يديه‪ ،‬تقدم من جسد الطبيب املرمي عىل‬
‫األرض‪...‬‬
‫كانت الدماء تخرج من ظهره بغزارة‪...‬‬

‫‪ -‬ماذا فعلت‪ ،‬لقد قتلته‪ ،‬لقد قتلت جسدي‪!!..‬‬

‫ازداد األمر سوءا ً من جديد‪ ،‬جلس بجانب جثته وعادت الدموع‬


‫تنزل من عينيه‪.‬‬

‫‪ -‬أي حظ أسود هذا الذي يالحقني‪.‬‬

‫شخر الطبيب شخرته األخرية ومات‪.‬‬


‫جثى السجني عىل ركبتيه أمام الجسد امليت يتأمله لدقائق‪،‬‬
‫ماذا حصل‪ ،‬هل الجسد ميت اآلن؟‬

‫‪59‬‬
‫هل يصلح هذا الجسد للعودة إليه؟ أم أنه انتهى لألبد؟‪.‬‬
‫مل يكن أمامه أي خيار‪ ،‬ورغم ذلك شعور الندم عاد لينهش قلبه‬
‫ويحرقه حرقاً‪ ،‬ففي صدره اشتعلت نار حامية‪ ،‬نار ال ترحم‬
‫فعلته هذه‪ ،‬وهو اآلن مرتوك ملستقبل ال يعرفه‪ ،‬لقد مات‬
‫جسده‪ ،‬ذبلت عيناه‪ ،‬وتوقف الهواء يف صدره‪.‬‬
‫وقف‪ ،‬نظر إىل جسده املمدد أمامه كلوحة فنية ال تقدر بثمن‪،‬‬
‫تأمله‪ ،‬شعر أن جسده كان يستحق الفناء‪ ،‬لكن روحه وعقله‬
‫وماضيه وذكرياته تستحق الخلود‪.‬‬
‫أشياء كثرية عليه أن يفعلها قبل أن يغادر بحثاً عن إثبات‬
‫لهويته كـ"سامي"‪ ،‬أو كالدكتور "سامي"‪ ،‬ولكن بجسد وهيئة‬
‫مختلفة عن هيئته املاضية‪.‬‬
‫حمل ماكينة الحالقة وحلق رأسه وذقنه بشكل كيل‪ ،‬نظر إىل‬
‫املرآة مجددا ً‪ ،‬فشاهد شاباً وسيامً ال يتجاوز عمره الثالثني‬
‫عاماً‪ ،‬نظف أسنانه واستحم‪ ،‬دخل غرفة النوم وبدأ يبحث‬
‫ضمن الخزانة عن أي مقاسات مناسبة لقياس جسده الجديد‪.‬‬
‫حمل األوراق‪ ،‬ونزع ساعته الغالية من معصم جثته الهامدة‪،‬‬
‫ق ّبلها وضمها إىل قلبه‪ ،‬ثم دس مبلغاً من املال مبحفظته‪،‬‬
‫وخرج بعد أن وضع عطره املفضل‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪60‬‬
‫"إن الحياة تمتد مع الزمن مارة بأجيال فيزيائية وأجسام‬
‫مختلفة"‬
‫كارل غوستاف يونغ – طبيب وعامل نفس سويرسي‬
‫ومؤسس علم النفس التحلييل‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪61‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫رحلة الحياة الجديدة بحثاً عن الحقيقة‪ ،‬هذه هي التسمية‬


‫املناسبة التي أطلقها دماغه للتو‪ ،‬اسمه اآلن الدكتور‬
‫"سامي"‪ ،‬لكن هيئته وجسده ليست سوى السجني رقم أربعة‪.‬‬
‫إنه يعرف الطريق جيدا ً‪ ،‬ويعرف إىل أين سيتجه ويعرف مسبقاً‬
‫أن جميع الحكايا تنتهي يف الجنوب‪...‬‬
‫رحلته ستكون إلثبات شخصيته بدالئل دينية‪ ،‬فال العقل وال‬
‫العلم بإمكانهام إثبات ما حصل له‪ ،‬وحده الدين قادر عىل‬
‫منحه الثقة والدالئل ولرمبا الوثائق التي تثبت ما حصل له‪.‬‬
‫طريق رحلته باتجاه الجبل‪ ،‬باتجاه الريف‪ ،‬باتجاه البساطة‪،‬‬
‫فقضيته تحتاج للبساطة أكرث من حاجتها للتعقيد‪ ،‬إنها هجرة‬
‫إثبات وتأكيد الحقيقة‪.‬‬
‫هجرة أشبه بهجرة النبي ابراهيم تاركاً حضارة الرافدين‬
‫العريقة متجهاً إىل ريف بالد الشام‪ ،‬ليثبت رسالته ويدعم‬
‫معتقده‪.‬‬
‫هجرة أشبه بهجرة النبي من مكة املدينة التجارية والثقافية‬
‫الكبرية التي كذبت رسالته ليثبتها وينارصها الريف يف يرثب‪.‬‬
‫هجرة أشبه بهجرة النبي لوط من القدس العاصمة القوية‬
‫سياسياً وعسكرياً إىل قرى وأرياف سدوم وعمورة يف األردن‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫هجرة أشبه بهجرة النبي يونس الذي ترك نينوى عاصمة‬
‫الدولة اآلشورية ليذهب إىل قرى تسكن سواحل البحر‪.‬‬
‫هجرة أشبه بهجرة النبي موىس الذي ترك حضارة الفراعنة‬
‫يف مرص وهاجر إىل ريف سهول فلسطني ليثبت رسالته‪.‬‬
‫فالريف يحمل من املعتقدات ما ال تستطيع املدن حمله‪.‬‬
‫الريف يصدّق ما تكذبه املدن‪.‬‬
‫والسجني اآلن يعرف أن ضمن ٍ‬
‫ريف جنويب بهواء الجبل ستبدأ‬
‫رحلة حياته الجديدة يف البحث عن الحقيقة ليثبت شخصيته‬
‫املرسوقة بعد أن قتل بيديه جسده حينام قتل جسد الدكتور‬
‫"سامي"‪ ،‬وبقي الدكتور حياً بروحه داخل هذا الجسد الجديد‪.‬‬
‫* * *‬
‫جبل (أسلداموس) أو جبل (الريان) أو جبل (الدروز) أو (جبل‬
‫العرب)‪ ،‬جبل واحد بتسميات متعددة‪ ،‬وحوله الكثري من‬
‫السهول املمتلئة باألرياف‪ ،‬أوابد تاريخية لحضارة الروم‬
‫والبيزنطة‪ ،‬معامل كثرية لإلمَباطورية اليونانية والعهد النبطي‪،‬‬
‫أديان كثرية انترشت هاهنا بدءا ً من ميثولوجيا الفراعنة‬
‫وانتهاء بطوائف املوحيدين الدروز مرورا ً ببني إرسائيل‬
‫والديانات اإلبراهيمية‪.‬‬
‫كل الحضارات مرت وسكنت هذا الجبل‪ ،‬وعىل مدى آالف‬
‫السنني تكومت املعابد والكنائس والقصور وخزانات معارص‬

‫‪63‬‬
‫العنب القريبة من املقابر الدينية والبوابات واألقواس‬
‫الرومانية واألعمدة والقالع التي حملت الحضارات‪.‬‬
‫وجهة السجني كانت واضحة‪ ،‬إنها باتجاه جبل املوحدين‬
‫الدروز يف جبل (أسلداموس) أو ما باتت تعرف اليوم باسم‬
‫(السويداء)‪ ،‬أو (سوادا) من اللغة اليونانية والتي تعني‬
‫الحجارة السوداء‪.‬‬
‫بالد الحجارة السوداء واملياه العذبة‪.‬‬
‫طريق طويل‪ ،‬برية تستنشق عليل الجبل‪ ،‬صخور بيضاء‬
‫وسوداء‪ ،‬تربة حمراء‪ ،‬خرضة وماء‪ ،‬قراها تستقبلك بصياح‬
‫الديك‪ ،‬وتغريد الطيور‪ ،‬رائحة األعشاب والنعناع‪ ،‬طرق محصبة‬
‫غَباء‪ ،‬وحقول الكرمة تحف بها األسيجة والتي متتد أمامك‬
‫عىل م ّد البرص‪ ،‬إنها "السويداء" أرض تزخر باملعامل‪ ،‬سكانها‬
‫متشابهون بلهجتهم ومالمح وجههم وتقاليد لبسهم‪ ،‬يف‬
‫أصواتهم حنني رائع وتحيتهم تزخر بالحرارة‪ ،‬عيون الرجال‬
‫فيها قاسية ونظرات النساء دافئة‪ ،‬تشعر حني تصافحهم أنك‬
‫تصافح أشخاصاً أعامرهم تفوق األلف عام‪ ،‬فهم سادة األرض‬
‫والخصبة هاهنا‪ ،‬واألرحام التي حملتهم أرحام متشابهة‪.‬‬
‫وصل السجني رقم أربعة إىل وجهته بعد رحلة أخذت منه يوماً‬
‫ونصف اليوم من االستعدادت املعقدة‪ ،‬خاصة بعد كرثة‬
‫الحواجز األمنية املنترشة عىل الطريق الواصل بني العاصمة‬
‫دمشق والسويداء‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وصل إىل األرض التي ستحميه ورمبا تثبت ما لن يستطع أحد‬
‫إثباته‪.‬‬
‫الشمس مختلفة هنا‪ ،‬شمس تتصدر كبد السامء بنور وإرشاق‬
‫مل يره من قبل‪ ،‬فأشعة الشمس فوق وحول الجبال تختلف‬
‫بأشعتها عن السهول والسواحل‪.‬‬
‫الشمس هنا تتسلل رويدا ً رويدا ً إىل جسد وروح اإلنسان‪ ،‬هنا‬
‫تطبع بياضها عىل وجه الحياة‪ ،‬فتتلون األرض بكل األلوان‬
‫الزاهية‪.‬‬
‫وقف أمام بناء بحجارة بازلتية سوداء‪ ،‬وفن معامري يحمل‬
‫دالالت األديرة القدمية‪ ،‬دير (عني الزمان) أو كام سامه‬
‫العثامنيون (دير سنان)‪.‬‬

‫النجمة الخامسية امللونة تقبع عىل قبة املكان‪ ،‬وترسم يف كل‬


‫زواياه‪ ،‬نجمة حملت اللون األخرض ثم األحمر واألصفر واألزرق‬
‫واألبيض‪ ،‬ذات الدالالت اللونية التي ترمز إىل العقل والنفس‬
‫والكلمة والسابق والتايل‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫تعتَب النجمة الخامسية شكالً من أشكال الهندسة الرياضية‬
‫وترسم باستخدام خمس قطع مستقيمة‪ ،‬وهي تعتَب أبسط‬
‫مضلع نجمي‪.‬‬
‫تحتوي النجمة الخامسية عىل عرشة نقاط تقاطع وخمسة‬
‫للرؤوس البارزة الداخلية باإلضافة إىل خمس عرشة قطعة‬
‫مستقيمة‪.‬‬
‫ترسم النجمة بخطوط متساوية الطول‪ ،‬والنسبة بني القطعة‬
‫والبعد بني الرأسني تساوي النسبة املقدسة‪ ،‬أو ما تعرف‬
‫بالنسبة الذهبية‪.‬‬
‫وردت صورة النجمة الخامسية يف األساطري الدينية القدمية‬
‫كرمز وثني يرمز إىل العنارص الخمسة املكونة للطبيعة وهي‬
‫(األرض‪ ،‬الهواء‪ ،‬املاء‪ ،‬النار‪ ،‬والروح)‪ ،‬وأول الديانات التي أمنت‬
‫بها هي ديانة (ويكا)‪ ،‬ويقال أنها كانت مرسومة عىل خاتم‬
‫النبي سليامن لذلك فلها عالقة بالسحر عىل مر العصور‪.‬‬
‫عند بعض الطوائف اليهودية رمزت النجمة الخامسية إىل كتب‬
‫أسفار موىس الخمسة املقدسة‪.‬‬
‫وعند املسيحيني رمزت إىل جروح املسيح التي صلب عليها‪.‬‬
‫أما اإلمَباطور "قسطنطني" األول الذي دمج ما بني رموز‬
‫الوثنية واملسيحية استخدم النجمة الخامسية كختم عىل‬
‫اعتبار أنها رمز الحقيقة‪ ،‬ومن خاللها استطاع كسب املساعدة‬

‫‪66‬‬
‫من الكنيسة املسيحية عسكرياً لالستيالء عىل اإلمَباطورية‬
‫الرومانية عام ‪ 312‬م‪.‬‬
‫يف أسطورة السري ‪ Gawain‬والفارس األخرض كانت النجمة‬
‫الخامسية منقوشة من الذهب عىل درعه العظيم والتي دلت‬
‫عىل الكرم والشجاعة والتقوى والقوة والعفة‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪67‬‬
‫دخل باحة الدير ضمن صحن تحيط بجوانبه مجموعة من‬
‫الغرف بطابقني‪.‬‬
‫يف الطابق السفيل أعمدة رومانية قدمية تعود إىل العرص‬
‫البيزنطي‪ ،‬جدران حجرية كبرية‪ ،‬وأروقة مزخرفة بالكثري من‬
‫الرسومات‪.‬‬
‫صعد الدرج الحجري ليصل إىل الطابق العلوي‪...‬‬
‫رواق ميتد عىل الجهات األربع تحمله قناطر محمولة عىل‬
‫أعمدة صغرية لها تيجان مزخرفة منحوتة من حجر البازلت‪.‬‬
‫وقف أمام أحد الغرف‪ ،‬والتي تبدو كغرفة لحارس هذا املكان‪،‬‬
‫قرع الباب ودخل عىل الفور‪.‬‬
‫شاهد شيخاً خمسينياً يلبس جلباباً أسو َد طويالً‪ ،‬ويضع‬
‫قلنسوة بيضاء كبرية‪ ،‬بشاربه األبيض العريض املفتول‪.‬‬

‫‪ -‬السالم عليكم‪..‬‬
‫‪ -‬وعليكم السالم يا بني تفضل اجلس‪.‬‬

‫جلس السجني الهارب بهدوء‪ ،‬كان الخوف قد ازداد أكرث فأكرث‬


‫بداخله‪ ،‬نظر بارتياب حوله وقبل أن يبدأ الكالم سبقه الشيخ‬
‫قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬أهالً وسهالً بك يا بني‪ ،‬يبدو أنك وصلت للتو‪.‬‬


‫‪ -‬نعم يا شيخي اآلن وصلت‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫وقف الشيخ واتجه نحو طاولة مركونة يف الزاوية‪:‬‬

‫‪ -‬هل هي املرة األوىل التي تزور فيها هذا الدير؟‪.‬‬


‫‪ -‬يف الحقيقة سمعت عنه الكثري وهي املرة األوىل التي‬
‫أزوره‪.‬‬

‫مأل الشيخ كأس املاء وقدمه للشاب‪:‬‬

‫حي الله بك يف كل األوقات‪.‬‬


‫‪ -‬أهالً وسهالً‪ّ ،‬‬

‫وضع السجني كأس املاء وقد هدأت أوصاله قليالً ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬شيخي أود مقابلة شيخ وعني هذا الزمان‪.‬‬

‫فتح الشيخ عينيه عىل أشدهام‪ ،‬ثم ارتسمت ابتسامة بسيطة‪:‬‬

‫‪ -‬عفوا ً يا بني‪ ،‬لكن شيخ الزمان غري موجود اآلن‪ ،‬لقد‬


‫مات منذ مئات السنني‪.‬‬

‫عاد السجني وقال بلهجة صارمة‪:‬‬

‫‪ -‬قصتي طويلة يا شيخي‪ ،‬وأود مقابلة شيخ وعني هذا‬


‫الزمان‪.‬‬

‫عاد الشيخ وابتسم‪:‬‬

‫‪69‬‬
‫‪ -‬قلت لك يا بني عني الزمان غري موجود اآلن‪ ،‬لقد مات‬
‫منذ مئات السنني‪ ،‬ومل يبق سوى ديره هذا كحصن‬
‫حصني لنا كموحدين‪.‬‬

‫بلغة صارمة وقوية‪...‬‬

‫‪ -‬شيخي‪ ،‬لن أغادر هذا املكان حتى أقابله‪.‬‬

‫وقف الشيخ مجددا ً‪ ،‬واستدار باتجاه الشاب‪:‬‬

‫‪ -‬وماذا تريد من شيخ وعني هذا الزمان؟‬

‫تنهد السجني بقوة‪ ،‬عض عىل أسنانه‪ ،‬وبصوت خافت وراجف‬


‫قال له‪:‬‬

‫‪ -‬أنا لست أنا‪...‬‬

‫صمت الشيخ "عقيل" للحظة‪ ،‬تنفس بعمق وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬متى اكتشفت َ‬
‫أنك أنتَ لستَ أنتَ ‪.‬‬
‫‪ -‬لقد تق ّمص أحدهم جسدي قبل ‪ 3‬أيام فقط بحادثة‬
‫غريبة‪ ،‬وحولني إىل هذا الجسد‪ ،‬لذا أرجوك أريد‬
‫مقابلة شيخ وعني هذا الزمان واآلن‪.‬‬

‫رفع الشيخ رأسه إىل سقف الغرفة‪ ،‬تنهد وقال له‪:‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ -‬اعذرين يا بني‪ ،‬لن يصدق قصتك أحد‪ ،‬وأنا ال استطيع‬
‫مساعدتك‪.‬‬

‫وقف السجني وتحرك بضع خطوات باتجاه الشيخ‪ ،‬وقف أمامه‬


‫نظر إىل عينيه بإرصار وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬قلت لك أنا اآلن لست أنا‪ ،‬أحدهم رسق جسدي‪،‬‬


‫َ‬
‫ومنك املساعدة بحق‬ ‫وجئت إليكم اليوم طالباً منكم‬
‫(الحبقة)‪.‬‬

‫حني نطق جملته األخرية مزيدا ً عليها كلمة (حبقة) تغريت‬


‫مالمح الشيخ الدرزي‪ ،‬كان وكأنه قد تلقى شيفرة رسية أو جملة‬
‫خطرية وعليه أن يبدأ بها‪...‬‬
‫من اآلن فصاعدا ً سيقف بجانب هذا الشاب حتى تفك عنه‬
‫حبقته أو ميوت دون ذلك‪.‬‬
‫* * *‬
‫يؤمن القليل من املوحيدين الدروز بدعاء (الحبقة)‪ ،‬إذ ال‬
‫يعرف بالضبط من أين جاءت التسمية‪ ،‬فبعضهم يؤكد أن‬
‫الكلمة مشتقة من اسم امرأة مجاهدة ومناضلة اسمها (حبقة‬
‫نعيم)‪ ،‬لكن األسطورة األقوى واملتوارثة من أرض العَبانيني‬
‫مهد الديانة اليهودية تقول إن "الحبقة" أو "حَباكوم" يف كتاب‬
‫"الزوهار" و"التلمود البابيل" هو اسم مالك السامء املختص‬

‫‪71‬‬
‫مبساندة األرواح التائهة‪ ،‬األرواح التي ال تجد أجسادا ً أو‬
‫أجساماً تسكنها‪ ،‬فتنادي األرواح التائهة صارخة يف عرض‬
‫السامء باسمه‪...‬‬
‫فينزل املالك "حَباكوم" ليش ّد كل روح إىل جسدها الذي‬
‫عليها أن تسكنه‪.‬‬
‫ويف ديانة الدروز األقرب إىل ديانة التصوف اإلسالمية‬
‫واليهودية‪ ،‬من يطلب "الحبقة" من أي شخص آخر وال‬
‫يستجيب ملساندته فإن روحه تصاب باللعنة فتكرث عليها‬
‫املحن‪ ،‬ويصيبه سوء الحظ‪ ،‬وتضعف نفسه يف مواجهة‬
‫السحر والعني‪ ،‬وإذا ما خرجت روحه من جسده ستتيه يف‬
‫الكون والفضاء‪ ،‬وإذ ما طلبت من مالك األرواح مساعدتها‪،‬‬
‫فسيذك ّرها مبا فعلت‪.‬‬
‫أما من ينارص من طلبها منه‪ ،‬فإن روحه تسمو وتقوى وتفيض‬
‫عليه الَبكات‪.‬‬
‫* * *‬
‫في القرن الرابع تنبأ "مالخي النبي" عن مجيئ يوحنا‬
‫المعمدان إلعداد الطريق أمام المسيح‪:‬‬
‫"إني قد رأيت الروح نازلة إلى الجسد مثل حمامة فاستقر‬
‫عليه"‬
‫عن مالخي ‪ – 3/1‬يوحنا‬

‫‪72‬‬
‫كام يستدل من النصوص الواردة يف رسائل الدروز بأن النفس‬
‫البرشية تنتقل بالتناسخ والتقمص إىل أجسام جديدة‪،‬‬
‫فالروح ال متوت بل ميوت قميصها (الجسم) ويصيبه البىل‬
‫فتنتقل النفس إىل قميص آخر‪.‬‬
‫كام ال ينحرص التناسخ عندهم بني الناس بل يكون أحياناً مع‬
‫البهائم وهو ما يسمى باملسخ‪.‬‬
‫فالعامل قد خلق دفعة واحدة والبرش خلقوا سوية وليسوا‬
‫مبتناسلني من أب واحد‪ ،‬فعدد البرش ال يزيد وال ينقص‪.‬‬
‫أما العذاب األكَب فهو عذاب الضمري والندم عىل ما فات ألنها‬
‫مل تنتفع من أدوارها املاضية‪ ،‬فكلام مات اإلنسان انتقلت‬
‫روحه إىل مولود جديد‪ ،‬ويسمى ذلك الفرقة أو الخلقة‪ ،‬حيث‬
‫تشبه النفس السائل الذي يحتاج إلناء يضبطها‪ ،‬فإذا كرس فال‬
‫ب َّد من تلقي السائل يف إناء غريه لئال يهرف ويضيع‪،‬‬
‫ويستدلون بقول القرآن‪( :‬يخرج الحي من امليت ويخرج امليت‬
‫من الحي‪ ،‬ويحي األرض بعد موتها وكذلك تخرجون)‪.‬‬
‫فال ينفع نفساً إميانها إن مل تكن آمنت من قبل وكسبت يف‬
‫إميانها خريا ً‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪73‬‬
‫(جَبَلَ الرب اإلله آدم تُّراباً من األرض‪ ،‬ونفخ في أنفه نسمة‬
‫حياة‪ ،‬فصار آدم نفساً حية)‪.‬‬
‫(سفر التكوين‪ - 7‬التوراة)‪.‬‬
‫(وبدأ خلق اإلنسان من طين‪ ،‬ثم جعل نسله من ساللة من‬
‫ماء مهين‪ ،‬ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع‬
‫واألبصار واألفئدة قليالً ما تشكرون)‪.‬‬
‫(السجدة‪ – 7‬القرآن)‪.‬‬
‫* * *‬
‫ضمن سيارة قدمية صعد السجني بجانب الشيخ "عقيل"‪،‬‬
‫باتجاه قرية صغرية تسمى (نجران) إحدى قرى السويداء‪ ،‬لقد‬
‫وعد الشيخ السجني مبساعدته وإيصاله إىل "عني الزمان"‪.‬‬
‫كانت مالمح التمدن تغيب شيئاً فشيئاً‪ ،‬لتظهر بدالً عنها لوحة‬
‫تجسد جامل الطبيعة بهواء نقي وبيوت طينية متواضعة‪ ،‬فهنا‬
‫ندرك عمق الفكر النابع من تاريخ هذه الحجارة‪ ،‬تاريخ يسكن‬
‫الروح كام سكنت روح الدكتور "سامي" جسد هذا السجني‪،‬‬
‫أفكار كثرية كانت تدور ضمن خلد السجني وهو جالس يتأمل‬
‫الطبيعة‪ ،‬وسؤال واحد مازال يحفر يف أعمق نقطة بدماغه‪،‬‬
‫كيف فعل هذا؟‬
‫كيف استطاع برضبة عىل الرأس أن يغري تاريخي‪ ،‬لقد سلبني‬
‫جسدي‪ ،‬وهذا ما ال يصدقه املنطق والعقل‪ ،‬نحن اليوم يف زمن‬

‫‪74‬‬
‫التكنولوجيا وعرص املعلومات والرسعة‪ ،‬وال توجد إجابة‬
‫رصيحة عىل ما فعله؛ بل سيتهمني مجتمعي بالجنون‪ ،‬هذا‬
‫أمر طبيعي‪ ،‬وقليلة هي الديانات التي تؤمن بالتقمص من‬
‫خالل الحجة العقلية والشهود الذين مروا مبثل ما مررت به‪.‬‬
‫* * *‬
‫تقع قرية (نجران) يف الجهة الغربية الشاملية من السويداء‬
‫باتجاه منطقة اللجاة الصخرية‪ ،‬وال يعرف عىل وجه التأكيد‬
‫سبب تسميتها بنجران‪ ،‬فقد تواتر شفهياً العديد من القصص‬
‫عن سبب التسمية‪ ،‬فقيل إنها مشتقة من تسمية (جران‬
‫الذهب) ألنها تحوي عىل كنوز مدفونة يف باطنها‪ ،‬وهناك من‬
‫قال إن التسمية أتت بعد أن لجأ إليها قائد روماين اسمه (ران)‬
‫هرباً من قطاع الطرق وحني دخلها قالت العامة (نجا ران) ثم‬
‫حرفت التسمية إىل (نجران) لكن األقرب ما ذهب إليه بعض‬
‫الباحثني وهو أن نجران وحني كانت تتبع لحكم الكنيسة‬
‫سميت بنجران تيمناً بنجران السعودية‪.‬‬
‫كام وقيل أن النبي محمد م ّر بها أثناء رحلة تجارته إىل الشام‪،‬‬
‫كام سكنها الغساسنة وكانت تتبع آنذاك إىل مدينة برصى‬
‫األثرية‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪75‬‬
‫وصلنا إىل قرية (نجران) ومبجرد أن ننظر إىل شوارعها وقناطر‬
‫منازلها سنعرف أنها مدينة تاريخية‪ ،‬كانت الشمس متيل نحو‬
‫الغروب‪ ،‬وبدأت نسامت هواء الليل الباردة تتسلل إىل عظامي‪.‬‬
‫توقفت السيارة أمام منزل حجري قديم واسع‪ ،‬ومدخله عبارة‬
‫عن قنطرة حجرية كبرية‪ ،‬وقفت تأملتها قليالً قبل أن يهمس‬
‫يل الشيخ (عقيل) بالسري معه‪.‬‬
‫حي كل منازله حجرية‪ ،‬واستغربت ملاذا‬
‫مشينا نزوالً ضمن ّ‬
‫أرادنا أن نرتجل من السيارة أمام ذلك البيت الكبري الذي يبدو‬
‫مهجورا ً‪.‬‬
‫طال بنا امليش ألكرث من نصف ساعة‪ ،‬كانت الشمس قد غربت‬
‫بشكل كامل وبدأ الظالم يتسلل إىل املنازل‪ ،‬إىل أن وصلنا إىل‬
‫مبني حديثاً من‬
‫ٌ‬ ‫منزل بعيد عن مركز القرية‪ ،‬منزل نصفه‬
‫الطوب واإلسمنت‪ ،‬ونصفه اآلخر مبني قدمياً بطراز أثري قديم‬
‫من الحجارة الَبكانية السوداء‪.‬‬
‫طلب مني الشيخ "عقيل" االنتظار قليالً أمام املنزل‪ ،‬بينام قام‬
‫بالطرق عىل باب مدخل البيت الكبري بقوة‪ ،‬ودخله باتجاه‬
‫الحديقة قبل أن يخرج أحد ما الستقباله‪.‬‬
‫أما أنا فوقفت عىل الشارع املقابل أنتظر‪...‬‬
‫تقابل الشيخ "عقيل" مع رجل كبري بالسن يتجاوز عمره‬
‫التسعني عاماً وجهاً لوجه عند مدخل البيت‪ ،‬كانت ذقنه‬

‫‪76‬‬
‫بيضاء نقية طويلة‪ ،‬وشاربه أبيض كثيف مفتول‪ ،‬يرتدي جلباباً‬
‫أبيض ويضع قلنسوة بيضاء كبرية‪.‬‬
‫َ‬
‫يل الشيخ‬
‫وقفا يتحدثان أمام املنزل لعدة دقائق‪ ،‬ثم نظر إ ّ‬
‫"عقيل" من بعيد وأشار بيده يك أدخل املنزل من بوابته‬
‫الكبرية‪.‬‬
‫حني قابلت الشيخ الكبري شعرت أنني أمام رجل نوراين‬
‫وروحي عظيم‪ ،‬برشته بيضاء صافية‪ ،‬وعيونه كبرية واضحة‬
‫متأللئة‪ ،‬قلت يف نفيس لعله شيخ "عني الزمان"‪.‬‬

‫‪ -‬السالم عليكم شيخي‪.‬‬


‫حي الله‪ ،‬أهالً وسهالً بك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -‬وعليكم السالم يا بني‪،‬‬
‫تفضل تفضل‪.‬‬
‫‪ -‬أعتذر منك شيخي الجليل ولكن قصتي‪...‬‬

‫رفع يده طالباً مني السكوت وقال‪:‬‬

‫حي الله‪ ،‬تفضل بالدخول‪.‬‬


‫‪ -‬ال تتحدث بشيئ هنا‪ّ ،‬‬

‫غرفة حجرية كبرية جدرانها مطلية بالحوار والطبشور‬


‫األبيض‪ ،‬ووسائد ومجلس أريض بسيط للغاية‪ ،‬بعض ورود‬
‫الزينة الطبيعية والبالستيكية‪ ،‬وصور لعدة شيوخ كبار يف‬
‫السن معلقة عىل الجدران‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫جلست يف زاوية الغرفة الدافئة‪ ،‬وجلس بجانبي الشيخ‬
‫"عقيل" والشيخ عني الزمان‪ ،‬نظرت إىل عيون الشيخ الصافية‬
‫حيث بدأ هو الكالم‪:‬‬

‫حي الله بكم‪ ،‬رشفتمونا‪ ،‬أهالً وسهالً‪.‬‬


‫‪ -‬يا ّ‬
‫‪ -‬أهالً وسهالً بك شيخنا الجليل‪ ،‬وأعتذر من حرضتكم‬
‫شيخي‪ ،‬ال أود إزعاجكم لكن قصتي تبدأ‪...‬‬

‫مجددا ً رفع يده‪.‬‬

‫‪ -‬أنا مل أطلب منك التحدث يا بني‪ ،‬قبل كل شيئ أنت‬


‫حي الله‪ ،‬أهالً وسهالً‬
‫وحق علينا إكرامك‪ ،‬يا ّ‬
‫ّ‬ ‫ضيفنا‪،‬‬
‫بك من حيث أتيت‪ ،‬رشفتمونا‪.‬‬

‫وقف الشيخ ببطء ممسكاً عكازه املعوجة وعاد ليقول مجددا ً‪:‬‬

‫حي الله بكم أهالً وسهالً‪ ،‬رشفتمونا‪ ...‬قبل كل شيئ‬


‫‪ -‬يا ّ‬
‫يجب أن نأكل معاً‪..‬‬
‫‪ -‬لكن شيخي أنا‪...‬‬

‫رفع يده مجددا ً يك أصمت‪:‬‬

‫حي الله بكم أهالً وسهالً‪ ،‬رشفتمونا‪ ..‬لن نتكلم‬


‫‪ -‬يا ّ‬
‫بشيئ قبل أن نتناول طعام العشاء‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫سار عدة خطوات باتجاه الباب وهو يردد نفس العبارة عدة‬
‫مرات‪:‬‬

‫حي الله بكم أهالً وسهالً‪ ،‬رشفتمونا‪.‬‬


‫‪ -‬يا ّ‬

‫خالل نصف ساعة كانت غرفة الضيافة الصغرية هذه تعج‬


‫بأكرث من خمسة عرش رجالً يتجاوز عمر كل شخص منهم‬
‫الخمسني عاماً‪ ،‬وكلهم بنفس املظهر‪ ،‬شارب كثيف مفتول‪،‬‬
‫وقلنسوة وجلباباً أو رسوال‪.‬‬
‫عرفت أن جميعهم من شيوخ القرية‪ ،‬والجميع جاء مرحباً يب‬
‫والتعرف عىل قصتي‪ ،‬لكن إىل هذه اللحظة مل يسمح يل‬
‫بالتكلم‪.‬‬
‫الجميع يرحب بالجميع بنفس العبارة‪:‬‬

‫حي الله‪ ،‬أهالً وسهالً‪ ،‬رشفتمونا‪.‬‬


‫ّ‬ ‫‪-‬‬

‫بعد قليل دخل عدة شبان يف مقتبل العمر يحمل كل واحد‬


‫منهم (منسفاً) من طعام (مليحي الجبل) أو هكذا يسمى‪ ،‬وهو‬
‫من األطعمة الشعبية املشهورة يف جبل السويداء‪ ،‬يتكون من‬
‫الَبغل األبيض مع قطع الدجاج وعليه كمية كبرية من اللنب‬
‫املجمد الحامض حموضة تفتح الشهية‪ ،‬وعليه السمن‬
‫والزيت البلدي األصيل ذو الرائحة التي تفتح الشهية كذلك‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫حني شممت الرائحة وشاهدت عدد املناسف بدأ لعايب يسيل‬
‫والشعور بالجوع يجتاحني بقوة‪.‬‬
‫* * *‬
‫العقل األخالقي اإلنساين يقوم عىل الشجاعة والكرم وحامية‬
‫الدخيل أو الضيف‪ ،‬ففي القانون األخالقي تحمي املجتمعات‬
‫حقوقها ويسود األمن والسالم‪ ،‬وأهل الجبل مثلهم كمثل جميع‬
‫الشعوب التي مازالت تحافظ عىل قوانينها وعاداتها‪ ،‬لقد‬
‫استقبلوين بحفاوة قبل أن يسمعوا قصتي‪ ،‬وقدموا يل الطعام‬
‫مرحبني يب دون أي مقابل‪.‬‬
‫بعد وجبة الطعام الدسمة تلك قدموا لنا الشاي الساخن‪ ،‬ومع‬
‫كل كالم كانوا يتحاورونه كان السالم والرتحيب يتكرر بشكل‬
‫كبري وملفت لإلنتباه‪ ،‬إىل أن عدت وبدأت الكالم موجهاً حواري‬
‫إىل الشيخ الجليل الذي نجلس مبنزله والكل صامت يستمع‪:‬‬

‫‪ -‬شيخي الكبري أشكركم عىل حسن ضيافتكم‪ ،‬وأنا يف‬


‫الحقيقة جئت اليوم ملقابلة شيخ عني هذا الزمان!!!‬

‫نظر الشيخ الجليل إىل عيون الحارضين ثم نظر إيل وقال‪:‬‬

‫‪ -‬ولكن شيخ عني الزمان غري موجود يا بني‪.‬‬


‫‪ -‬أنا اليوم بينكم ألخَبكم بقصتي لعلكم تكونون سندا ً‬
‫يل ورسالً أوفياء لرسالة عني الزمان وتساعدونني‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫عاد الشيخ الجليل ونظر إىل عيون الحارضين الصامتني ثم‬
‫قال يل‪:‬‬

‫‪ -‬عىل الرحب والسعة يا بني‪ ،‬نحن سنقدم كل ما‬


‫باستطاعتنا ملساعدتك‪.‬‬

‫تنفست الصعداء‪ ،‬نظرت إىل عيون جميع الحضور وهممت‬


‫بالتحدث؛ لكن الشيخ عاد وقاطعني‪:‬‬

‫‪ -‬بني‪ ،‬قبل أن تتحدث بأي شيئ‪ ،‬أنت ضيفي اليوم‬


‫والغد وبعد غد‪ ،‬وبإمكانك أن ال تتحدث بشيئ خالل‬
‫هذه الفرتة إىل أن تشعر باآلمان واإلطمئنان‪ ،‬فإن‬
‫أحببت تركناك اليوم لتسرتيح ثم تتحدث يف الوقت‬
‫الذي يناسبك‪.‬‬
‫‪ -‬ال يا شيخي‪ ،‬أنا جئتكم اليوم ألقص عليكم ما حصل‬
‫معي قبل عدة أيام‪ ،‬وأنا أعرف أن ال أحد بإمكانه‬
‫مساعديت سواكم‪.‬‬
‫‪ -‬إن شاء الله سنحاول مساعدتك مبا نستطيع‪ ،‬ولكن‬
‫أخَبين ملاذا اخرتتنا وكيف فهمت طريقة االستنجاد‬
‫بنا؟‬
‫‪ -‬يف البداية يا شيخي أنا طبيب وجراح قبل أن يحصل‬
‫يل ما حصل‪ ،‬ولدي اطالع كبري عىل الديانات‬

‫‪81‬‬
‫وتاريخها القديم والحديث يف الرشق األوسط‪ ،‬قرأت‬
‫الكثري عن قصص التقمص الروحي‪ ،‬سمعت قصصاً‬
‫من شهود عايشوها‪ ،‬وآخر ما كنت أتخيله أن أتعرض‬
‫للتقمص يف وضح النهار وبهذا العمر‪ ،‬كام أنني‬
‫معجب بالفكر الدرزي‪ ،‬وأعرف أنه أحد أعمدة‬
‫الديانات الساموية اليوم‪ ،‬يقوم عىل العفو والتسامح‬
‫والتصالح بني البرش والذات اإللهية‪ ،‬وصدقني ال خيار‬
‫يل يف هذه الحياة سوى أن اجلس يف مجلسكم هذا‬
‫وأقص عليكم قصتي كاملةً‪.‬‬

‫بعد كلامته هذه ساد صمت كبري واستغراب‪ ،‬فلم يسمع أحد أن‬
‫التقمص قد يحدث للكبار أو الشباب ويف وضح النهار‪ ،‬أو ما‬
‫الحي‪ ،‬كل القصص التي سمعوا عنها كانت‬
‫ّ‬ ‫يسمى بالتقمص‬
‫لتقمص أرواح ماتت‪ ،‬أما أن يوجد قصص يف هذا العرص عن‬
‫الحي كام يسمونه فهذا يعتَب أحد النوادر الغريبة‬
‫ّ‬ ‫التقمص‬
‫والتي تسرتعي االنتباه واالهتامم‪.‬‬
‫* * *‬
‫"نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين‪ ،‬على أن‬
‫نبدل أمثالكم وننشئكم في ما ال تعلمون"‪.‬‬
‫الواقعة ‪ -60‬القرآن‬
‫* * *‬

‫‪82‬‬
‫تعود عقيدة التقمص يف األديان إىل قدماء املرصيني وتعاليم‬
‫فيثاغورس وبوذا‪ ،‬فالتقمص هو لبس قميص اآلخر بشخصيته‬
‫مع محاكاته بالسلوك والهيئة من خالل انتقال الروح من جسد‬
‫إىل جسد آخر‪ ،‬واملذهب الدرزي هو كغريه من املذاهب التي‬
‫تؤمن بانتقال وتناسخ األرواح‪ ،‬حيث بنى الدروز إميانهم عىل‬
‫ما جاء يف كتب الديانات الساموية كافة‪ ،‬موضحني أن هناك‬
‫آيات قرآنية وأخرى إنجيلية وتوراتية وتلمودية استدلوا من‬
‫خاللها عىل وجود حقيقة التقمص‪.‬‬
‫ومن اآليات القرآنية التي يستدلون بها آية من سورة البقرة‬
‫(كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم مييتكم ثم‬
‫يحييكم)‪ ،‬باإلضافة إىل آيات إنجيلية منها آية (‪ )17/1‬يف‬
‫إنجيل لوقا التي تشري إىل أن يحيى املعمدان أىت بروح أيليا‬
‫النبي‪.‬‬
‫فالتقمص متوارث آمنت به الديانات الفرعونية كتناسخ‬
‫األرواح‪ ،‬وهو عقيدة راسخة عند األزيديني والبهائيني‪ ،‬وبعض‬
‫الطوائف اليهودية واملسيحية واإلسالمية‪ ،‬إنه بحسب الفكر‬
‫الصويف املتدين مفتاح ألرسار الروح‪ ،‬علم عميق وجب الغوص‬
‫به‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪83‬‬
‫"يا نفس كل مكروه أصابك وأنت في عالم الكون‪،‬‬
‫فتيقني أن سببه وأصله هو من قِبلكِ ومن صُّنعكِ‪،‬‬
‫ومتى ورد عليك وارد من المكاره‪ ،‬فلم تعرفي سببه‬
‫وأصله‪ ،‬فال تُّحيليه وتظني أسبابه من غيرك وعلى غيرك‪،‬‬
‫بل اجعلي سببه وأصله خطؤك القديم األول"‪.‬‬
‫هرمس البابيل – أو النبي إدريس الوارد يف القرآن‪.‬‬
‫* * *‬
‫اسمي الدكتور سامي عز الدين سقاف‪ ،‬اخصايئ وجراح يف‬
‫أمراض األعصاب والدماغ‪ ،‬أحببت يف شبايب أي قبل أكرث من‬
‫خمسة عرش عاماً فتاة رائعة الجامل مل أحب يوماً سواها‪،‬‬
‫اسمها “إميا”‪ ،‬كانت لطيفة جدا ً معي‪ ،‬مل تستمر عالقتي معها‬
‫سوى بضعة أسابيع‪ ،‬ومنذ األيام األوىل لتعارفنا عرضت عليها‬
‫الزواج‪ ،‬وكانت املوافقة املبدئية الستمرار عالقتنا واضحة من‬
‫عينيها‪...‬‬
‫يف عيد ميالدي األول بعد أن تعرفت عليها أهدتني هذه‬
‫الساعة‪ ،‬إنها عزيزة عىل قلبي وأحملها معي أينام ذهبت وفا ًء‬
‫لذكراها‪.‬‬
‫بعد أن أهدتني هذه الساعة بثالثة أيام تعرضت لحادث سيارة‬
‫وتوفيت‪ ،‬وأنا حزنت حزناً شديدا ً‪ ،‬وإىل اليوم ال تفارق ذاكريت‪.‬‬
‫مضت األيام واألشهر والسنون‪ ،‬وتزوجت مبعلمة اسمها‬
‫"نهلة"‪ ،‬وأنجبت منها طفالً أسميته "زين"‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫منذ عدة أيام اتصل يب عند الصباح الباكر ضابط يف أمن‬
‫الدولة والرشطة اسمه "مروان عبد الحميد" ليخَبين أنهم‬
‫أمسكوا أحد املتهمني وهو يدعي الجنون‪ ،‬وطلب مني عىل‬
‫وجه الرسعة القدوم إلجراء الفحوصات له لنتأكد هل هو‬
‫مجنون أم أنه يدعي الجنون ليهرب من مصريه‪.‬‬
‫حني قابلت السجني املجنون شعرت من نظرة عينيه بالقوة‬
‫والفطنة‪ ،‬كانت عيونه قوية بشكل مل أره من قبل‪ ،‬أردت حقنه‬
‫بإبرة مهدئ لألعصاب يك أستطيع معاينته فقد كان متوترا ً‬
‫للغاية ويرصخ مثل الوحش الهائج‪.‬‬
‫حني اقرتبت منه همس بكلامت مل أفهمها‪ ..‬اقرتبت منه‬
‫وطلبت أن يعيد ما قال‪ ،‬وهنا كانت املفاجأة‪ ،‬إذ أنه قال يل‪:‬‬
‫(هل ما زلت تخفي عن زوجتك قصة هذه الساعة؟)‪.‬‬
‫وهنا شعرت بالدوار‪ ،‬إذ أنني مل أخَب أحدا ً بقصة صاحبة‬
‫الساعة‪ ،‬ثم إن “إميا” قد توفيت قبل أكرث من خمسة عرش‬
‫عاماً‪ ،‬وكيف مازال يتذكر شكل الساعة‪.‬‬
‫طلبت حينها نقله إىل مشفى األمراض العقلية والنفسية‬
‫ملعاينته بشكل أفضل‪ ،‬وحني زرته يف جناحه ضمن املشفى‬
‫صباح اليوم نفسه‪ ،‬كان هادئاً عىل غري عادته‪ ،‬وما إن بدأت‬
‫الحوار معه ألعرف كيف عرف بقصة هذه الساعة‪ ،‬نهض عىل‬
‫الفور من مكانه ورضبني برأسه عىل رأيس مبنتهى القوة‪،‬‬

‫‪85‬‬
‫شعرت بالدوار الشديد وسقطت عىل األرض‪ ،‬رصخت‬
‫مستنجدا ً بالحارس خلف الباب‪ ،‬وهنا تغريت حيايت‪...‬‬
‫وقفت ألمسك بالحارس فتفاجأت أن شكيل وبدين وبرشيت‬
‫وصويت وكل شيئ ضمن جسدي الخارجي قد تغري‪ ،‬لقد‬
‫تحولت أنا إىل السجني داخل جناح املشفى أما هو فقد‬
‫خرج‪..‬‬
‫أصبت بحالة عنيفة من الهيجان فكيف لهذا األمر أن يحدث‪..‬‬
‫كيف استطاع رسقة جسدي ليعطيني هذا الجسد ويخرج هو‬
‫بجسدي‪...‬‬
‫بنفس الليلة وكوين أمتتع بقدرايت العقلية كامل ًة استطعت‬
‫الهرب من املشفى واتجهت نحو بيتي ألطمنئ عىل زوجتي‬
‫ي وبدأ يحفر يف دماغي عام‬
‫وسواس قهر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫وابني‪ ،‬فقد استبد يب‬
‫قد يفعله بشخصيتي بعد أن تقمصني‪...‬‬
‫راقبت املنزل حتى خرجت زوجتي وابني ودخلت البيت‪،‬‬
‫وبدأت برضبه ولكمه‪ ،‬ثم قيدته عىل الكريس ألنتزع منه أغىل‬
‫ما رسق مني‪...‬‬
‫وهنا طلب مني بعد الكثري من الحوار واملشادّة الكالمية أن‬
‫يرضبني عىل جبهتي بجبهته ليتمكن من إعادة أرواحنا إىل‬
‫مكانها‪ ،‬ووافقت عىل ذلك‪ ،‬لكنه وبدل أن يرضبني بجبهته قام‬
‫ورضبني بالشمعدانة املوجودة بجانب الطاولة‪ ،‬وه ّم بالهرب‬
‫والخروج‪...‬‬

‫‪86‬‬
‫ولألسف وبدون أدىن تفكري بعد كل ما حصل يل‪ ،‬أمسكت‬
‫السكني ورميتها عىل ظهره بقوة مجنونة‪ ،‬لتستقر بجانب‬
‫عموده الفقري‪ ،‬مل أكن أنوي قتله‪ ،‬لكن هذا ما حصل‪.‬‬
‫عىل الفور حملت بعض احتياجايت وهربت قادماً إليكم‪ ،‬فأنا‬
‫أعرف أن العقل واملنطق لن يصدقا ما أقصه عليكم اآلن‪..‬‬
‫لكن أقسم لكم أن ما أخَبتكم به هو الحقيقة بعينها‪.‬‬
‫ساد صمت مطبق يف املضيف الواسع‪ ،‬ثم نطق الشيخ الكبري‬
‫جملة واحدة‪:‬‬
‫‪ -‬أصدقكك يا بني‪ ،‬وال حول وال قوة إىل بالله‪.‬‬
‫وهنا عادت حوارات الشيوخ لرتتفع بالضجيج واألحاديث‬
‫الجانبية‪ ،‬بعضها يؤيد وبعضها ينفي‪ ،‬وما كان مني إال أن‬
‫أصغي لحوار الجميع بجملهم الكثرية‪:‬‬

‫‪ -‬التقمص حقيقة لكن مل أسمع قبل ذلك بالتقمص‬


‫الحي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬هو ارتكب جرمية قتل‪....‬‬
‫‪ -‬هو قتل جسده والله أعلم أين ذهبت الروح التي‬
‫سكنت جسده‪.‬‬
‫‪ -‬هل يعقل أن تكون حبيبته “إميا” هي صاحبة‬
‫التقمص؟‪..‬‬
‫‪ -‬ال أظن أن املرأة تتقمص الرجل‪..‬‬
‫‪ -‬قصة غريبة‪..‬‬

‫‪87‬‬
‫‪ -‬اللهم أجرنا من هكذا تقمص‪..‬‬
‫‪ -‬لديه دليل‪ ..‬فذاكرته لوحدها كافية بأن تثبت حقيقة‬
‫قصته‪..‬‬
‫‪ -‬نعم بإمكان زوجته أن تجلس معه وتصدق روايته إن‬
‫ذك ّرها ببعض التفاصيل الخاصة‪..‬‬
‫‪ -‬املشكلة أن جسده قد فني‪..‬‬
‫‪ -‬أنا أرى أن الفرصة جاءت لنا يك نثبت للجميع أن‬
‫التقمص حقيقة واقعية‪ ،‬يجب أن نساعده يف كشف‬
‫الحقيقة‪.‬‬

‫وقف الشيخ صاحب املضيف‪ ،‬تنهد قليالً‪ ،‬ثم قال بعد أن‬
‫صمت الجميع‪:‬‬

‫‪ -‬بني‪ ،‬أنت اليوم ضيفي‪ ،‬سنرتكك لرتتاح‪ ،‬وغدا ً صباحاً‬


‫سنعقد اجتامعاً يف دار عني الزمان‪ ،‬لندعو أن يهدينا‬
‫ويل الزمان للحقيقة‪ ،‬فال نظلمك وال نظلم أنفسنا وال‬
‫نظلم اإلنسانية بداخلنا‪ ،‬ستنام اليوم يف داري ويف‬
‫مضيفي هذا‪ ،‬وإن غدا ً لناظره قريب‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪88‬‬
‫ميثاق ويل الزمان‪ :‬هو مدخل ديانة التوحيد لدى الدروز‬
‫وعهدهم األبدي معها‪ ،‬وهو العهد أو القسم الذي به يصبح‬
‫الدرزي درزياً‪ ،‬بإمامة "حمزة" ورفض جميع األديان واملذاهب‬
‫والتَبي منها‪ ،‬ويختلف هذا امليثاق عام يسبقه يف الرتتيب‬
‫ضمن رسائل الحكمة اختالفاً جوهرياً‪ ،‬ويعتقد أن من وضعه‬
‫يل وأنه‬
‫هو "حمزة بن عيل"‪ ،‬ويرى الدروز أن هذا امليثاق أز ّ‬
‫يتقمص مع روح املوحد‪ ،‬وأ ّن من وقّع عىل امليثاق يف زمن‬
‫بقي موحدا ً وموقعاً عىل امليثاق يف جميع أجياله‬
‫الكشف َ‬
‫حيواته الالحقة‪.‬‬
‫و َ‬
‫وبعد امليثاق يطلّع الدرزي عىل التفسري الباطني ملعاين‬
‫القرآن اإلسالمي وغري املعلنة للعلن تحت اسم رسائل‬
‫الحكمة‪ ،‬والتي كتبها "حمزة بن عيل بن أحمد"‪ ،‬والتي إىل اآلن‬
‫تعتَب شيفرة رسية مينع االطالع عليها ومينع نرشها ومينع‬
‫إخراجها خارج حدود الطائفة الجغرايف‪ ،‬وال يسمح سوى‬
‫لشيوخ الطائفة اإلطالع عليها وذلك بعد أن يتجاوز عمر الرجل‬
‫األربعني ويوقع عىل امليثاق األزيل ويكون من أبناء الدرز أباً‬
‫عن جد حرصا ً‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪89‬‬
‫إنني ألسبح بالقداسة التامة لهذا اليوم‪...‬‬
‫فهو مُّذهل وجليل‪ ...‬إن ملكوتك يا رب يتجلى فيه‪...‬‬
‫وإن عرشك مقام على الرحمة‪ ،‬وعليه يستقر الحق‪...‬‬
‫أنت الحكم الذي يجازي‪ ،‬وال يخفى على علمك شيئ‪...‬‬
‫فأنت الشاهد والشهيد والكاتب والمقر والمدون ومتذكر‬
‫كل شيئ بالحق‪...‬‬
‫حتى من نحسبهم ماتوا قديماً في الماضي‪...‬‬
‫إال أن أرواحهم حولنا‪...‬‬
‫تدور وتعود‪...‬‬
‫وتدور وتعود‪...‬‬
‫حتى تفتح الكتاب المسطور وتأمر بنفخ الشوفار‪...‬‬
‫فترتعد حتى المالئكة فتصيح عالياً يوم الدين بنا حل‪...‬‬
‫ففي الدينونة ليست المالئكة عن الخطأ بمعصومة‪.‬‬
‫دعاء يهوداه هنايس – التلمود البابيل القديم‬
‫* * *‬

‫‪90‬‬
‫من أرض مرص القدمية الشاهدة عىل والدة الكثري من األديان‪،‬‬
‫كانت مهد دعوة ديانة التوحيد‪ ،‬وامليثاق الذي حدد حياة‬
‫الدروز وسياستهم وثقافتهم التي انطلقت قبل أكرث من ألف‬
‫عام‪...‬‬
‫ففي عام ‪1013‬م كان جامع "الحاكم" يعكس حالة النفوذ‬
‫السيايس والديني التي عرفتها الخالفة "الفاطمية"‪ ،‬وحينها‬
‫ظهرت الفرق الدينية بني الخيار الشيعي الذي ينظر إىل أن‬
‫أحفاد النبي أحق بالخالفة‪ ،‬وفرق رأت غري ذلك‪ ،‬فكان الخلفاء‬
‫الفاطميون من أتباع املذهب الشيعي اإلسامعييل‪ ،‬وحينها‬
‫اتسعت الخالفة الفاطمية لتنترش ما بني املحيط األطليس‬
‫والبحر األحمر واليمن ومكة وبالد الشام‪...‬‬
‫وهنا ظهر "الحاكم بأمر الله"‪ ،‬وبويع خليفة عىل الفاطميني‬
‫ومل يكن تجاوز الحادية عرش من عمره‪ ،‬فقرب منه رجال الدين‬
‫والفقهاء وأكرمهم‪ ،‬كام أسس دار الحكمة التي من خاللها‬
‫ظهرت حركات تفكر إسالمي جديدة‪.‬‬
‫وبدأت تأثريات فكرية جديدة تدخل العرص اإلسالمي قامئة‬
‫عىل ترجمة النصوص "اإلغريقية" و"البابلية" و"الفارسية"‬
‫و"الهندية"‪.‬‬
‫وهنا تصدّر عىل الساحة العلمية الدينية والفلسفية املرتجمة‬
‫شاب اسمه (حمزة بن عيل بن أحمد الزوزين)‪ ،‬املولود يف زوزن‬

‫‪91‬‬
‫شاميل إيران قادماً سريا ً عىل األقدام عَب الفرات يف العراق‬
‫ليطلع يف رحلته عىل األفكار الدينية الجديدة املنترشة‪...‬‬
‫فقام بتأسيس فرقة الدروز املوحدة ذات األفكار الجديدة‬
‫ليضع أطروحاته حول نشأة الكون‪ ،‬وغاية اإلنسان يف هذا‬
‫الكون‪ ،‬وماذا يريد الله من البرش‪ ،‬مازجاً الفلسفة اإلسالمية‬
‫بالفلسفات الهندية والبابلية واإلغريقية والفارسية واليونانية‪،‬‬
‫خصوصاً بفلسفة سقراط وإفالطون وكليتينوس وفيثاغوراس‪.‬‬
‫تاريخياً يعتَب هؤالء الفالسفة قد دخلوا صميم التوحيد يف‬
‫فرضياتهم الفلسفية‪ ،‬وكانوا بحق صناع العتبة األوىل التي‬
‫بناها "حمزة بن عيل" يف الفكر التوحيدي اإلسالمي ملعرفة‬
‫الذات اإلنسانية للوصول إىل معرفة الله‪ ،‬وتفسري الكون‪.‬‬
‫فحكامء اليونان كانوا السابقني يف وضع جميع الفلسفات‬
‫التي بنيت عليها الديانات فيام بعد‪.‬‬
‫هنا كتب "حمزة" ميثاق التوحيد والذي يعتَب الظاهرة الكَبى‬
‫إىل اليوم يف وضع ركن التقمص بأدلته العقلية وشهوده ممن‬
‫يرون حيوات متقمصة سابقة مع دالئلها عَب ذكر التاريخ‬
‫واألسامء وبصورة مل يستطع العلم أن يفرسها إىل اليوم‪.‬‬
‫فامليثاق له أهمية كبرية يف علم التقمص واملوحد الذي يوقع‬
‫عىل ميثاق "ويل الزمان" والذي أق ّر التوحيد يف زمن الكاشف‪،‬‬
‫يحمي نفسه يف األجيال القادمة‪ ،‬وبهذا يكون موحدا ً يف كل‬
‫األجيال التي سيتقمصها الحقاً‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الفصل الخامس‬

‫يف صباح اليوم التايل وعند الساعة التاسعة والنصف تناولت‬


‫إفطاري لوحدي‪ ،‬فقد عرفت أن الشيخ "زين الدين" الذي‬
‫أجلس يف داره قد غادر إىل "دار عني الزمان" هو وبعض‬
‫الشيوخ ليتباحثوا يف قصتي‪.‬‬
‫خرجت إىل حديقة الدار الكبرية‪ ،‬ألستنشق هواء الجبل النقي‪،‬‬
‫واستشعر تربته الحمراء املمزوجة يف السواد التي تجعل روح‬
‫اإلنسان تسمو بتفكريها‪...‬‬
‫مل استطع النوم بالشكل الكايف ليلة أمس‪ ،‬فبني الفينة‬
‫واألخرى أخرج مرآة صغرية أخفيها يف معطفي وأنظر إىل‬
‫شكيل يف املرآة لعيل أرى تغريا ً يف شكيل‪.‬‬
‫يف الحقيقة‪ ،‬بعض األمور يف بنيتي وجسدي باتت تعجبني‬
‫مؤخرا ً‪ ،‬فعمري يبدو أصغر بعرش سنوات تقريباً‪ ،‬كام أن لون‬
‫عيوين أجمل وشكلها أكَب‪ ،‬ولست بحاجة لوضع النظارات‬
‫ي كرش كام كان يف السابق‪ ،‬وعضالت‬
‫الطبية تلك‪ ،‬ومل يعد لد ّ‬
‫معديت وأكتايف ظاهرة للعيان‪ ،‬وطويل ممشوق يساعدين‬
‫بشكل كبري جدا ً يف امليش والركض‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫مل ميض الكثري من الوقت حتى وصل الشيخ املعمر "زين‬
‫الدين" كانت مالمح وجهه شاحبة ومختلفة عن الليلة السابقة‪،‬‬
‫صافحني ثم طلب مني أن نجلس يف املضيف لنتحدث قليالً‪.‬‬

‫‪ -‬بني أشعر باملحنة التي تعصف بك‪ ،‬وأصدق كالمك‪،‬‬


‫فلو كنتَ كاذباً لكشفت ذلك من نظرة عينيك‪.‬‬
‫‪ -‬شكرا ً لك يا شيخي عىل هذه الثقة‪ ،‬ولكن صدقني بات‬
‫املوت بالنسبة يل أهون من أن أبقى هكذا دون هوية‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬معك حق‪ ،‬اليوم اجتمعت مع شيوخ ووجهاء‬
‫البلد لنبحث يف موضوعك هذا‪ ،‬فنحن نؤمن‬
‫بالتقمص‪ ،‬ولو مل تكن مؤمناً وحيواتك السابقة صافية‬
‫ملا حصل معك التقمص بهذا الشكل‪ ،‬ولكن ما يفزعنا‬
‫هو الطريقة التي حصل لك فيها التقمص‪ ،‬فنحن‬
‫نعرف أنه يحدث من خالل الوالدة واملوت وليس‬
‫باالنتقال الحي‪.‬‬

‫تنهد قليالً ثم تابع‪:‬‬

‫‪ -‬ولعل هذا األمر اختبار وامتحان لنا من الله عز وجل‪،‬‬


‫يريدنا أن نرى معجزة انتقال األرواح الحية بالتقمص‪،‬‬
‫ويف نهاية اجتامعنا كان الجميع متفق عىل‬
‫مساعدتك ومساندتك‪ ،‬فلرمبا أنت رسول من الله‬

‫‪94‬‬
‫جئت إلينا لتثبت لنا معجزة برسالة يريد الله أن نراها‬
‫من خاللك‪ ،‬ولرمبا تكون ظاهرتك هذه سبباً يف إميان‬
‫الكثريين بالله ومبعجزاته يف هذا الزمن الذي مل نعد‬
‫نرى فيه معجزة‪ ،‬وأنا عىل عتبة املوت واالنتقال‪،‬‬
‫ولرمبا تكون أنت أخي أو ابني يف حيوات بعيدة أو‬
‫قريبة‪.‬‬
‫‪ -‬شكرا ً لك يا شيخي عىل كل هذا‪ ،‬ويكفيني منك الدعم‬
‫النفيس الذي تقدمه يل‪.‬‬
‫‪ -‬ال يا بني‪ ،‬الكالم لوحده ال يكفي‪ ،‬يجب أن نستمر يف‬
‫قصتك هذه ونثبتها أو ننفيها بالعقل والحجة الدامغة‪،‬‬
‫وسنكون معك يف إيصال الحق لك‪ ،‬وإثبات شخصيتك‬
‫وروحك‪ ،‬فهذا واجبنا األخالقي والديني‪.‬‬

‫شعرت أن نوبة من البكاء ستجتاحني بعد كالم الشيخ الجليل‪،‬‬


‫لكن أردت سؤاله عام كان يحريين‪:‬‬

‫‪ -‬ولكن كيف سنثبت ذلك يا شيخي؟ فأنا إىل اآلن ال‬


‫أعرف كيف فعلها ذلك الشخص‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬نحن سنتوىل الدفاع عنك حتى نصل إىل‬
‫نهاية قصتك ونثبتها أمام املأل كلهم‪ ،‬ولكن‪...‬‬

‫وتنهد الشيخ تنهيدة عميقة شعرت بالخوف منها‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫‪ -‬ولكن ماذا يا شيخي؟‬
‫‪ -‬يجب أن تخضع الختبار "مقري الوحش"!!‬

‫كان االسم لوحده مخيف وذو دالالت أشبه باألفالم السينامئية‪.‬‬

‫‪ -‬وما هو اختبار "مقري الوحش"؟‬


‫‪ -‬هو اختبار األرواح يا بني لنتثبت فيه إن كالمك حق‪،‬‬
‫وأن الروح التي تسكنك روح مؤمنة وليست شيطانية‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنني أقول الحقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬أنا أعرف أنك تقول الحقيقة ولكن االختبار سيكون‬
‫بالعلن بني الشيوخ العقَّال‪ ،‬وهو أحد الرشوط الرسية‬
‫يف رسالة الحكمة‪ ،‬إنه امتحان الصدق الرسي لروحك‪.‬‬

‫* * *‬
‫يعتَب امتحان الصدق لألرواح من األمور الرسية يف رسائل‬
‫الحكمة القدمية‪ ،‬والتي تعود إىل ما ورد يف التوراة العهد‬
‫القديم‪ ،‬والتي استخدمها "رعوئيل" يف التوراة أو ما سمي‬
‫بالنبي شعيب يف القرآن‪ ،‬ليتأكد من صالح روح النبي موىس‬
‫قبل أن يزوجه إحدى ابنتيه‪ ،‬ويعتمد االختبار عىل الصيام عن‬
‫الكالم والطعام ملدة ثالثة أيام متتالية وال يسمح إال برشب‬
‫املاء‪ ،‬وخالل فرتة الصيام ستظهر رؤيا أثناء النوم تحمل‬

‫‪96‬‬
‫رسالة أو اسامً يكون له داللة عىل صدق أو كذب من يخضع‬
‫لالختبار‪ ،‬وهذه الداللة يجب أن يعرفها الحارضون‪.‬‬
‫* * *‬
‫الروح تتماوج دائماً بين األجساد‪ ،‬فهي ال تُّضيئ بدون‬
‫الجسد‪ ،‬أما الجسد فيفنى بدون الروح‪.‬‬
‫جيوردانو برونو – فيلسوف إيطايل ‪ -‬عمل استاذاً يف‬
‫أكسفورد‬
‫* * *‬
‫طلب مني الشيخ "زين الدين" أن استحم مباء ساخن فيه‬
‫أوراق شجرة غريبة منحت املاء رائحة زكية‪...‬‬
‫وبعد أن ارتديت مالبيس رست مع الشيخ باتجاه منزل كبري‬
‫مهجور يسمى (دار مقري الوحش)‪.‬‬
‫حني وصلنا إليه كان أمام بابه خمسة عرش شيخاً يرتدون‬
‫أبيض‬
‫َ‬ ‫جميعاً نفس املالبس‪ ،‬جلباباً أسو َد طويالً‪ ،‬وطربوشاً‬
‫قبته حمراء‪ ،‬والجميع لهم نفس السحنة وبياض البرشة‬
‫وحمرة الوجنتني وهدوء العينني‪.‬‬
‫أما الشيخ "زين الدين" فارتدى مثلهم متاماً سوى أن قبة‬
‫طربوشه كانت خرضاء‪.‬‬
‫دخلنا دار مقري الوحش جميعاً وأنا أسري وسط املجموعة‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫العديد من الغرف والدهاليز تحت األرض القدمية‪ ،‬كلها مبنية‬
‫من الحجارة السوداء الضخمة والقوية‪.‬‬
‫وصلنا إىل نهاية ممر الدهاليز حيث يظهر أثر باب حجري‬
‫صغري مخفي‪ ،‬جلس الشيخ "زين الدين" وجلس بالقرب منه‬
‫بعض الشيوخ وبدأوا بنزع الحجارة غري املثبتة بالطني أو‬
‫اإلسمنت‪.‬‬
‫هنا بدأ الخوف يتسلل إىل جسدي خاصة بوجود الرطوبة‬
‫والهواء الجاف‪ ،‬لكن املكان كان دافئاً نوعاً ما‪.‬‬
‫أزاحوا بعض الحجارة ليكشفوا عن باب صغري ارتفاعه ال‬
‫يتجاوز املرت‪ ،‬شعرت أنه مكان رسي وال يعرف بوجوده أحد‪.‬‬
‫قرفص الشيخ "زين الدين" وتجاوز بصعوبة الباب الحجري‬
‫املنخفض ليتبعه بعض الشيوخ ثم دخلت أنا‪.‬‬
‫ما إن تجاوزت الباب الصغري الضيق حتى ظهرت أمامي باحة‬
‫دائرية حجرية واسعة وحولها ستة أبواب‪ ،‬كان املكان معتامً‪،‬‬
‫وعىل الفور أخرج الشيوخ كمية من الشموع وأشعلوا بعضها‪.‬‬
‫ازداد املكان رطوبة وصار شكله مخيفاً‪ ،‬فلم أعرف ماذا يوجد‬
‫خلف األبواب الستة‪ ،‬تقدمت قليالً من أحدها فاكتشفت أنه‬
‫باب حجري بإطار حديدي وعىل كل باب منحوت شكل لنجمة‬
‫سداسية مبثلثني متعارضني تشبه إىل حد كبري نجمة النبي‬
‫"داود" أو ما تسمى بالعَبية "ماجني دافيد" أي درع داود‪،‬‬
‫والتي هي من رموز الشعب اليهودي املقدسة‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫عىل الفور شكل الشيوخ العقَّال حلقة دائرية حويل أنا والشيخ‬
‫ركبتي‪ ،‬ثم قال يل بكل‬
‫ّ‬ ‫"زين الدين"‪ ،‬والذي أجلسني عىل‬
‫هدوء‪:‬‬

‫‪ -‬بني باسم الله أسميك من كل عني سوداء‪ ،‬وباسم الله‬


‫أسميك من كل لسان كاذب‪ ،‬وباسم الله أسميك من كل‬
‫أذن جوفاء‪ ،‬وباسم الله اسميك من كل قلب ال يذكر‬
‫فيه اسم الرب‪ ،‬وباسم الله اسميك من كل روح‬
‫شيطانية‪ ،‬أنت اليوم يف امتحان "رعوئيل بدار مقري‬
‫الوحش" هنا يف أرض نجران األرض التي داست‬
‫ترابها كل أقدام األنبياء‪...‬‬
‫أنت اليوم يف اختبار لون روحك‪ ،‬ومكانها يف هذا‬
‫امللكوت‪ ،‬فإما أن تنجو روحك وتعود ساملة بيضاء‪،‬‬
‫أو أن تحرق ويطري رمادها ورفاتها‪.‬‬
‫بني ستمتنع عن الطعام والكالم لثالثة أيام متتالية‬
‫بلياليها‪ ،‬ولن يدخل جوفك سوى املاء‪ ،‬وبعد هذه‬
‫س َمت‬
‫األيام الثالثة سنعود إليك‪ ،‬ستكون روحك قد َ‬
‫وارتفعت وحامت يف ملكوت املكان‪ ،‬فال زمان يقيدها‪،‬‬
‫الرب‬
‫ّ‬ ‫وال مكان يثبتها‪ ...‬فهي روح خارجة من روح‬
‫العيل يف السموات‪ ،‬وستدلك روحك من خالل رؤيا‬
‫تراها يف نومك أو يف بصريتك عىل باب عليك أن‬

‫‪99‬‬
‫تفتحه بحضورنا من بني هذه األبواب الستة‪ ،‬باب‬
‫تفتحه ال تفتح سواه‪ ،‬باب بداخله ِ‬
‫وضع "مفتاح‬
‫األرواح النجمي"‪ ،‬فإن اخرتت بعد الرؤيا الباب‬
‫الصحيح نجوت وكنت من الفائزين‪ ،‬نجوت وكلنا معك‬
‫يف إثبات ما أنت عليه‪ ...‬بني وإن اخرتت الباب‬
‫الخاطئ فاعلم أن روحك روح شيطان أسود‪ ،‬ولن‬
‫يخرج جسدك من هذا املكان أبدا ً‪ ...‬فهل تقبل من‬
‫هاهنا امتحان "رعوئيل"؟‬

‫كانت عظامي ترتجف‪ ،‬مل أعرف هل بسبب شعوري ببعض‬


‫الَبد أم أن الخوف حقيقة بدأ يتسلل إىل جسدي‪..‬؟‬

‫‪ -‬شيخي الجليل‪ ،‬بعد كل ما حدث يل‪ ،‬أوافق عىل‬


‫امتحان "رعوئيل"‪ ،‬فاملوت أهون عيل من أن أعيش‬
‫دون هوية‪ ،‬بعد أن رسق مني جسدي ووضعت روحي‬
‫يف هذا الجسد‪.‬‬
‫‪ -‬إذا ً عىل بركة الله نبدأ‪.‬‬

‫وهنا أمسك كل شيخ بذراع الشيخ الذي بجانبه ليشكلوا حلقة‬


‫متامسكة قوية‪ ،‬ويف وسطهم وقف الشيخ "زين الدين" وبدأوا‬
‫بأهازيج وصالة ومدح مل أسمع به من قبل‪:‬‬

‫‪100‬‬
‫هو الله‪ ...‬يعلو كأسنا فوق كل الكؤوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬من سادات الناس نحن املوحدون الدروز‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬كنقش عىل املاء صفو النفوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬أرسل لنا ببهائة كل الكنوز‪..‬‬
‫نبي محروس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬ما قام يف ارسائيل إال ٌ‬
‫هو الله‪ ...‬رشيعته من كل املهامز والرموز‪...‬‬
‫هو الله‪ ...‬ما قام يف بكة إسال ٌم إال مأنوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬كل من ناجاه بالرحمة سام بالفوز‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬حيدرة األنزع أضاء الشموس‪..‬‬
‫طريق نجاة إال بسلامن ذو القوة الرضوس‪.‬‬
‫َ‬ ‫هو الله‪ ...‬ال‬
‫* * *‬

‫‪101‬‬
‫ثم وقف الشيخ‪ ،‬وضع يده عىل رأيس فصمت الجميع بشكل‬
‫كامل‪ ،‬جثا بصعوبة عىل ركبتيه وبدأ يقرأ من القرآن‪:‬‬
‫يل هني وقد خلقتك من قبل ومل تك‬
‫"قال كذلك قال ربك هو ع ّ‬
‫رب اجعل يل آية‪ ،‬قال آيتك أال تكلم الناس ثالث ليا ٍل‬
‫شيئا‪ ،‬قال ِّ‬
‫سويا‪ ،‬فخرج عىل قومه من املحراب فأوحى إليهم أن سبحوا‬
‫بكرة وعشيا"‪.‬‬
‫ثم اقرتب من وجهي ونفخ عليه ثالث مرات موجهاً نفخاته إىل‬
‫عيني‪ ،‬وقال مجددا ً‪:‬‬
‫َّ‬
‫"من دم هابيل إىل دم زكريا يهوياداع الذي أهلك بني املذبح‬
‫والبيت‪ ،‬ومن كل دمٍ سفك عىل األرض من دم هابيل الصديق‬
‫إىل زكريا برخيا‪ ،‬الذي قتل بني الهيكل واملذبح‪ ،‬نستودع‬
‫روحك هنا لتكشف لنا الحقيقة"‪.‬‬
‫ي منهم ببنت شفة‪ ،‬بدأوا بالخروج‬
‫بعد ذلك ودون أن يتحدث أ ٌ‬
‫من املكان واحدا ً تلو اآلخر‪...‬‬
‫أخرهم خرج الشيخ "زين الدين" بعد أن وضعوا إنا ًء كبريا ً من‬
‫املاء وحوله العديد من الشموع غري املستخدمة لتكفيني مدة‬
‫إقامتي وصومي يف هذا املكان وحيدا ً‪.‬‬
‫أعادوا بناء حجارة الباب الرسي الصغري‪ ،‬وتركوين يف عزلة‬
‫أشبه بعزلة األنبياء حني يتفكرون يف ملكوت السموات‪ ،‬لكن‬
‫هذه املرة يف مكان منقطع عن أي شيئ‪ ،‬وبدهليز ودرج‬

‫‪102‬‬
‫حجري تحت األرض مبا ال يقل عن عرشة أمتار‪ ،‬لقد غادروا‬
‫جميعاً‪.‬‬
‫* * *‬
‫"دار مقري الوحش" أو الدار التي بنى عليها النبي "شعيب"‬
‫بيتاً له بعد أن طرده قومه من أرضه‪ ،‬منزل حجري قديم يحوي‬
‫الكثري من الغرف والدهاليز تحت األرض‪ ،‬ويتجاوز عدد غرفه‬
‫‪ 360‬غرفة‪ ،‬يوجد يف أسفلها ما يسمى املشنقة‪ ،‬ولها درج‬
‫دائري ينحدر إىل أسفل األرض‪...‬‬
‫كام يحوي هذا املكان عىل قوس حجري قطر دائرته يصل إىل‬
‫‪ 9‬أمتار‪ ،‬وخلفه سقف حجري يضم أحجارا ً منحوتة برموز‬
‫كبرية وضخمة‪ ،‬وإىل اآلن مل تفرس هذه الرموز أو يكشف‬
‫معناها‪.‬‬
‫أما يف باحته الحجرية السفلية توجد نجمة سداسية مخفية‪،‬‬
‫نجمة تتشابه بشكل كيل مع نجمة داود عىل شكل مثلثني كل‬
‫منهام متساوي األضالع‪ ،‬ولهام مركز واحد‪ ،‬رأس أحدهام إىل‬
‫أعىل ورأس اآلخر إىل أسفل‪ ،‬ويشكل املثلثان املتداخالن‬
‫نجمة سداسية ذات رؤوس تلمسها جميعاً دائرة افرتاضية‪.‬‬
‫نحت أسفل النجمة كلمة إغريقية قدمية ويقال أن معناها‬
‫"السحر أو التعويذة"‪ ،‬وفوق النجمة كتابة مشابهة لنفس شكل‬
‫الحروف ويقال أن معناها "اللعنة"‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫تاريخياً تعتَب النجمة السداسية أقوى الرموز يف السحر‬
‫والشعوذة لدى ديانات مختلفة‪ ،‬وال تزال هذه النجمة إىل اآلن‬
‫تستخدم يف السحر والعلوم الشيطانية‪.‬‬
‫ففي الديانات املرصية القدمية كانت النجمة السداسية رمزا ً‬
‫هريوغليفياً ألرض األرواح‪ ،‬وحسب املعتقد الفرعوين فإن‬
‫النجمة السداسية كانت رمزا ً لإلله "حورس"‪.‬‬
‫أما يف الديانة الهندوسية تستعمل النجمة السداسية كمركز‬
‫التحاد القوى املتضادة‪ ،‬مثل "املاء والنار"‪ ،‬أو "الذكر‬
‫واألنثى"‪ ،‬فالذكر رأس مثلثه ألعىل أما األنثى لألسفل‪،‬‬
‫وباجتامع الرمزين ينتج "الهيكساغرام"‪ ،‬وهو ما يسمى‬
‫بالتجانس الكوين حسب الفلسفة اليونانية‪ ،‬حيث اإلله‬
‫"شيفا" هو الخالق األنثى‪ ،‬ألن األنثى مصدر جميع األشياء‬
‫وهي الوالّدة‪ ،‬بينام الرجل هو القوي بعضالته فقط وصانع‬
‫الرشور والحروب‪.‬‬
‫كذلك تعتَب النجمة السداسية أحد طقوس عبادة "منرود‬
‫وسمرياميس"‪ ،‬و"عشتار وبعل"‪ ،‬و"أفروديت وفينوس"‪.‬‬
‫ويف الديانة "الزرادشتية" كانت النجمة السداسية من الرموز‬
‫الفلكية املهمة يف علم التنجيم‪ ،‬ورمزا ً لكوكب زحل‪ ،‬وال يزال‬
‫"الهيكساغرام" حارضا ً ضمن مراسم وطقوس "الدرودز‬
‫‪."Druids‬‬

‫‪104‬‬
‫يف طقوس "املاسونية" ورموز "النورانيني" وجامعة "الويكا"‬
‫الذين يسعون إلعادة بناء هيكل النبي "سليامن" والبحث عن‬
‫الصحائف املنزلة عىل النبي "موىس"‪ ،‬يستخدمون النجمة‬
‫السداسية كبطاقة عضوية يف محافلهم ويف صلواتهم وتنبؤهم‬
‫باملستقبل‪.‬‬
‫فللرقم ستة أهمية كبرية يف الديانة اليهودية‪ ،‬فأيام االسبوع‬
‫ستة‪ ،‬والله خلق الكون يف ستة أيام‪ ،‬والتقاسيم الستة للتعاليم‬
‫الشفهية‪ ،‬كام أن النجمة السداسية متثل الحرف األول واألخري‬
‫من اسم داود بالعَبية‪.‬‬
‫كام أن اسم (يهوه) الذي يعد من أقدم أسامء الخالق األعظم‬
‫يف اليهودية‪ ،‬منحوت بتشكيلة نجمة سداسة‪...‬‬
‫وتعتَب اإلهرامات شكالً من أشكال املثلث املتمم للنجمة‬
‫السداسية وهي منقوشة داخل غرف الفراعنة ضمن‬
‫اإلهرامات‪ ،‬كام أن النجمة السداسية اليوم مازالت موجودة‬
‫عىل مبنى املدينة القدمية يف "فيينا" وعىل الكثري من‬
‫الكنائس يف أملانيا‪ ،‬ويقال أن اتباع "فيثاغوراس" كانوا‬
‫يستخدمون النجمة السداسية بنفس شكلها الحايل‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪105‬‬
‫الرجال العظام ال يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى هذه‬
‫المكانة في جيل واحد‪ ،‬بل إن ذكريات الحيوات السابقة‬
‫وتتاليها بالتقمص جعلتهم يميزون الواقع بمنظر أكثر‬
‫شمولية من اآلخرين‪ ،‬واألطفال الذين يقترحون أفكاراً‬
‫ماكان لهم أن يأتوا بها إال كونهم جاؤوا بتحضير فكري‬
‫متراكم وطويل‪.‬‬
‫يوهان هاردر – فيلسوف وناقد الهويت أملان‪.‬‬
‫* * *‬
‫إنها الساعات األوىل يل يف هذا املكان‪ ،‬مل يسدل الليل ستاره‬
‫بعد‪ ،‬رغم املكان املقفل إال أنني أستطيع الشعور بالوقت‬
‫والزمان‪ ،‬بدأ الجوع يحايك معديت‪ ،‬رشبت كمية جيدة من املاء‬
‫لكن دون فائدة‪ ،‬ما أحتاجه هو الطعام‪ ،‬املضغ والبلع والشبع‬
‫يك أرتاح‪ ...‬تجولت يف الساحة املغلقة عدة مرات‪ ،‬تأملت‬
‫األبواب‪ ،‬نظرت إليها‪ ،‬وأخذت أفكر بالطريقة التي بنوا فيها هذا‬

‫‪106‬‬
‫املكان‪ ،‬متسائالً عن السبب الذي جعلهم يبنون هذه الغرف‬
‫الستة والساحة الحجرية أسفل األرض‪...‬‬
‫هل كانوا يختبئون هنا أثناء الغزوات والحروب؟‪.‬‬
‫فكرت يف الكثري من األمور‪ ،‬أعدت إىل ذهني مشهد املشفى‬
‫وكيف تغري جسدي بعملية التقمص الحي‪ ،‬ثم تصاعدت‬
‫أفكاري ودخلت حيز الدين والعذاب والقيامة‪.‬‬
‫ترصفات أرواحنا وما متليه علينا هو ما نحاسب عليه‪ ،‬أما‬
‫أجسادنا فهي فانية‪ ،‬إنها ليست سوى عربة نركبها لها طاقة‬
‫تح ّمل معينة‪ ،‬ومدة صالحية‪ ،‬وشكلها الخارجي ال عالقة له‬
‫أبدا ً مبا تضمره أرواحنا من الداخل‪ ،‬جسدي اآلن هو الذي‬
‫يطلب الطعام كاآللة حني تتزود بالوقود لتستمر بالحركة‪...‬‬
‫لكن ما عالقة الصيام بالجسد والروح؟ وإذا فرغ الجسد من‬
‫الوقود كيف ستتأثر الروح؟‬
‫رمبا كلام جاع الجسد أكرث وخفت حركته ونشاطه وأصابه‬
‫العمى والتشويش تبدأ الروح بالنظر الصحيح‪ ،‬وتسمو بالرؤية‬
‫والتفكر والتبرص‪ ،‬وهذا عىل ما أظن ما يريدونه مني‪ ،‬إنه‬
‫يل أن اختاره‪.‬‬
‫امتحان لتسمو روحي وتعرف رقم الباب الذي ع ّ‬
‫سار الوقت بطيئاً ازداد شعوري بالجوع‪ ،‬رشبت كمية إضافية‬
‫من املاء‪ ،‬لكن بدأ جسدي يهفو ويضعف‪ ،‬وأخذت يداي‬
‫ترتجفان‪ ،‬تسلل التعب والجوع إىل رأيس‪ ،‬مىض الوقت أكرث‬
‫وأكرث‪ ،‬وازداد الصداع أكرث وأكرث‪ ،‬قدّرت الوقت بأنه منتصف‬

‫‪107‬‬
‫يل أن أنام ليميض الوقت رسيعاً ولتنتهي ليلتي‬
‫الليل‪ ،‬ع ّ‬
‫يل‬
‫األوىل‪ ،‬ولعل الرؤية تأتيني وتدلني عىل الباب الذي ع ّ‬
‫فتحه‪.‬‬
‫* * *‬
‫هي الروح بقدسيتها وتفردها‪ ،‬نفحة ال منلك عليها سلطاناً‪،‬‬
‫قوانينها مقضية وأحكامها نافذة عىل أجسادنا‪ ،‬إنها عامل‬
‫خاص مفاتيحه ليست بأيدينا‪...‬‬
‫يف عتمة املكان الذي فيه أنام دخل الشيخ "زين الدين" دون‬
‫أن يفتح ذلك الباب الحجري الصغري‪...‬‬

‫‪ -‬شيخي كيف دخلت إىل هنا؟ األبواب موصدة‪ ،‬والباب‬


‫الحجري الصغري مازال مغلقاً‪.‬‬
‫‪ -‬من أنت؟‬
‫‪ -‬أنا الدكتور سامي‪ ...‬ولكن ملاذا تسأل يا شيخي‪...‬‬
‫‪ -‬قل من أنت؟‬
‫‪ -‬هل مازلت ال تصدقني‪ ،‬ماذا عساي أفعل لتصدقني؟‬
‫‪ -‬قل من أنت؟؟؟‬
‫‪ -‬أنا‪ ..‬أنا‪ ..‬قل يل كيف دخلت؟‬

‫وبدأت األصوات تتعاىل من الغرف الستة املغلقة‪ ،‬أصوات‬


‫همهامت وآهات جامعية‪...‬‬

‫‪108‬‬
‫فجأة اختفى الشيخ "زين الدين"‪ ،‬وظهرت األصوات من الغرف‬
‫أكرث وضوحاً‪:‬‬
‫هو الله‪ ...‬يعلو كأسنا فوق كل الكؤوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬من سادات الناس نحن املوحدون الدروز‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬كنقش عىل املاء صفو النفوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬أرسل لنا ببهائة كل الكنوز‪..‬‬
‫نبي محروس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬ما قام يف ارسائيل إال ٌ‬
‫هو الله‪ ...‬رشيعته يف كل املهامز والرموز‪...‬‬
‫هو الله‪ ...‬ما قام يف بكة إسال ٌم إال مأنوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬كل من ناجاه بالرحمة سام بالفوز‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬حيدرة األنزع أضاء الشموس‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬وال طريق نجاة إال بسلامن ذو القوة الرضوس‪.‬‬
‫عيني فجأة من هذا الكابوس املزعج‪ ،‬كانت أصواتهم‬
‫ّ‬ ‫فتحت‬
‫ماتزال ترن بأذين‪ ،‬شعرت بالخوف‪ ،‬وقفت واتجهت ألشعل‬
‫املزيد من الشموع‪ ،‬لكن استوقفني ضوء بسيط أسفل الباب‬
‫األول‪ ،‬اتجهت نحو الباب‪ ،‬تلمسته وحاولت النظر من أسفله‬
‫لكن دون جدوى‪.‬‬
‫من أين يأيت هذا الضوء‪ ،‬ضوء أشبه بضوء النهار ولكن كيف‬
‫تسلل ليصل إىل عمق عرشة أمتار تحت األرض‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫شعرت برغبة يف فتح األبواب الستة‪ ،‬لكن يبدو أنها موصدة‬
‫بقوة‪ ،‬ثم إن الشيخ "زين الدين" نبهني من عدم االقرتاب‬
‫ومحاولة فتحها‪..‬‬
‫مل ميض سوى بعض الوقت حتى تسلل الضوء إىل أسفل‬
‫الباب الثاين‪ ،‬ثم الثالث عىل الرتتيب‪ ،‬فعرفت أن هذا ضوء‬
‫الشمس يزور الغرف واحدة تلو األخرى مع حركة ضوء النهار‪.‬‬
‫رشبت القليل من املاء‪ ،‬وجلست أفكر‪.‬‬
‫استوقفني حلم ليلة األمس بزيارة الشيخ "زين الدين" مكاين‬
‫هذا‪.‬‬
‫هل هو مجرد حلم أم أن الرؤيا تأيت بهذه الطريقة‪ ،‬ثم إنه مل‬
‫يفعل شيئاً سوى أنه سألني من أنت‪.‬‬
‫ثم سمعت مفردات وجمل األنشودة وهم يرتلونها‪.‬‬
‫بعد ذلك وبشكل مضحك اجتاحتني حالة من الهيجان كوين‬
‫أجلس لوحدي وال أحد يسمعني‪...‬‬
‫فوقفت وأخذت أرتل جمل األنشودة بصوت عا ٍل مع حركات‬
‫راقصة مييناً ويسارا ً أشبه بحلقات ِ‬
‫الذكر الصوفية‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬يعلو كأسنا فوق كل الكؤوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬من سادات الناس نحن املوحدون الدروز‪..‬‬
‫هو الله‪ ...‬كنقش عىل املاء صفو النفوس‪..‬‬
‫هو الله‪ ..‬أرسل لنا ببهائة كل الكنوز‪..‬‬

‫‪110‬‬
‫ضحكت قليالً ثم جلست وعدت إىل حالة التأمل والتفكري فيام‬
‫حصل يل‪.‬‬
‫* * *‬
‫انترش خَب الضيف الغريب املتقمصة روحه بني أبناء جميع‬
‫القرية‪ ،‬وعرفوا أن الشاب يخضع المتحان "مقري الوحش"‪،‬‬
‫وكرث اللغو واملغاالة يف توصيف ما حدث وما قد يحدث‪.‬‬
‫عاد واجتمع الشيوخ العقَّال يف مضيف الشيخ "زين الدين"‪،‬‬
‫ليتباحثوا موضوع الدكتور "سامي"‪ ،‬فبعضهم يستغرب وال‬
‫يصدق هذه الحادثة‪ ،‬أما األكرثية فقد كانوا من رأي الشيخ‬
‫"زين الدين"‪:‬‬

‫‪ -‬إن هذا مرسال من الله ليثبت لنا حقيقة وجود‬


‫الحي‪ ،‬وبأن الطائفة تسري وفق مسار‬
‫ّ‬ ‫التقمص‬
‫االعتقادات الحقيقية‪ ،‬ولكن معرفة الشاب لرقم الغرفة‬
‫التي تحوي املفتاح النجمي املقدس سيكون السيف‬
‫الذي يقطع الشك باليقني‪.‬‬

‫ثم وقف الشيخ بعد أن كرث اللغو بالحديث بني الحارضين وقال‬
‫بلغة صارمة‪:‬‬

‫‪ -‬الرجل الجالس اآلن يف غرفة اختبار "مقري الوحش"‬


‫هو دخيلنا‪ ،‬ونحن ال نخذل الدخالء وطالبي املعونة‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫إن ظهر صدقه يف نهاية االختبار سنسانده ونساعده‬
‫أمام الحكومة وأمام القضاء ونثبت لهم بالدليل القاطع‬
‫الحي‪ ،‬وستكون ذكرياته‬
‫ّ‬ ‫أنه تعرض لحالة التقمص‬
‫أحد األدلة التي سنقدمها لهم‪ ،‬وعندها سيثبت اليقني‬
‫يف قلوبنا جميعاً بأنها رسالة الله إلينا‪ ،‬والله هو الذي‬
‫ريه نحونا ليظهر الحقيقة والحق الذي نؤمن به‬
‫س ّ‬
‫لدى كل من يشكك بعقائدنا‪ ،‬واجبنا أن نساعده هو‬
‫دخيلنا ومل يعرف عنا خذالن الدخالء قط‪.‬‬

‫* * *‬
‫غربت شمس اليوم الثاين‪ ،‬وطمس الظالم حواف األبواب‬
‫الستة‪ ،‬حاولت الوقوف لكن الصداع وآالم الرأس ازدادت أكرث‬
‫فأكرث‪..‬‬
‫مل أعد أشعر بالجوع أو بالعطش‪ ،‬فقط آالم وصداع برأيس‪،‬‬
‫وأعرف أن هذا بسبب نقص الطعام‪.‬‬
‫كثرية هي األفكار التي اجتاحت تفكريي‪ ،‬طفولتي‪ ،‬زوجتي‪،‬‬
‫ابني‪ ،‬منظر جسدي بعد أن قتلته من عىل روح ذلك السارق‪،‬‬
‫هرويب من املشفى‪ ،‬وصويل إىل هنا‪...‬‬
‫ازداد الصداع أكرث وأكرث‪ ،‬والوقت مي ّر ببطئ شديد‪ ،‬متى‬
‫سينتهي هذا االختبار‪ ،‬وهل سأنجح به‪ ،‬هل ستأتيني الرؤية‬
‫التي توضح يل أي باب يجب أن افتح‪...‬‬

‫‪112‬‬
‫بدأت جفوين تغمض مجددا ً‪ ،‬لكنني أشعر بصعوبة يف النوم‪،‬‬
‫الصداع يف رأيس يزداد‪ ...‬وأصوات غريبة وكالم غري مفهوم بدأ‬
‫يسمع من الغرف املغلقة‪.‬‬
‫ال‪ ..‬األصوات تأيت من غرفة واحدة‪ ،‬أغمضت عيني وأخذت‬
‫استمع برتكيز أكرث لألصوات القادمة‪..‬‬
‫إنها الغرفة السادسة‪ ،‬صوت امرأة تتكلم‪ ،‬سأحاول الرتكيز أكرث‬
‫ألعرف ماذا تقول هذه املرأة من همهامت‪...‬‬
‫الصوت بات أوضح‪ ،‬إنه صوت مآلوف يل‪ ،‬صوت أعرفه بشكل‬
‫جيد‪..‬‬
‫نعم إنه صوت “إميا”‪...‬‬
‫“إميا”‪ ،‬ماتت فامذا تفعل يف الغرفة السادسة؟!!‪..‬‬
‫نهضت من مكاين‪ ،‬كان ضوء الشمعة يخفت أكرث فأكرث‪ ،‬حملت‬
‫شمعة جديدة‪ ،‬يبدو أن الشموع نفدت‪ ،‬وال يوجد شموع أكرث‪،‬‬
‫أشعلتها وجلست قبالة الباب السادس‪ ،‬وضعت أذين عىل‬
‫الباب وهمست‪:‬‬

‫‪“ -‬إميا”‪“ ...‬إميا”‪ ..‬هل أنت هنا؟‬

‫جاء صوتها عذباً رقيقاً كام يف السابق‪:‬‬

‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنا هنا أسمعك من خلف هذا الباب‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫لقد سمعت صوتها واضحاً‪ ،‬فهل أنا بحلم أم حقيقة‪ ،‬أم أنها‬
‫مجرد هلوسة وهذيان؟‬
‫وضعت اصبعي فوق نار الشمعة‪ ،‬لقد حرقت الشمعة اصبعي‬
‫لقد شعرت بأمل الحرق يف إصبعي‪ ..‬عدت مجددا ً ووضعت‬
‫اصبعي فوق الشمعة وتركتها تحرقني أكرث هذه املرة ألتأكد‬
‫أين ال أحلم أو أهذي‪..‬‬

‫‪ -‬آآآآآه‪ ..‬لقد حرقتني بالفعل‪..‬‬


‫َ‬
‫حرقك‪ ...‬ماذا تفعل؟‬ ‫‪ -‬ما هو الذي‬
‫‪“ -‬إميا”‪ ..‬لقد حرقت اصبعي ألتاكد أنني لست يف حلم‪،‬‬
‫وأن الصوت الذي أسمعه هو صوتك!!‪.‬‬
‫‪ -‬وهل لديك شك بأنك ال تحلم؟؟‬
‫‪“ -‬إميا” أنا طبيب‪ ،‬وواقعي‪ ،‬وأعرف أنك تعرضتي‬
‫ِ‬
‫وتوفيت قبل أكرث من خمسة عرش‬ ‫لحادث سيارة‬
‫يل اآلن لو مل يكن هذا هذياناً أو‬
‫عاماً‪ ،‬فكيف تتحدثني إ ّ‬
‫حلامً؟!‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬ولكن أنا مل أمت بحادث سيارة‪ ،‬بل كانت جرمية‬
‫قتل مغطاة بحادث سيارة ليتم إنهاء امللف كحادث‬
‫قضاء وقدر‪.‬‬
‫‪“ -‬إميا”‪ ..‬ماذا تقولني؟ هل تم قتلك؟‬
‫‪ -‬نعم يا حبيبي لقد تم قتيل‪..‬‬

‫‪114‬‬
‫‪ -‬وكيف تم ذلك أخَبيني؟ من قتلك؟‬
‫‪ -‬ال عليك يا حبيبي‪ ،‬ستعرف من قتلني فيام بعد‪ ،‬يكفي‬
‫أنني أحبك‪..‬‬
‫‪ -‬الله ما أجمل هذه الكلمة‪ ،‬مل أسمع مبثل صدقها يف‬
‫حيايت‪.‬‬
‫‪ -‬أنت حبيبي وستبقى حبيبي‪ ،‬وأنا مل أعشق شخصاً‬
‫كام عشقتك‪.‬‬
‫‪“ -‬إميا” أخَبيني من الذي قتلك وكيف تم قتلك؟‬
‫‪ -‬هذا األمر لن أخَبك به‪ ،‬بل ستكتشفه لوحدك حني‬
‫تخرج من هنا‪ ،‬حينها ستعرف من قتلني‪.‬‬
‫‪“ -‬إميا” هل أنا أحدث روحك اآلن؟؟‬
‫‪ -‬نعم يا حبيبي‪.‬‬
‫‪ -‬كيف لنا أن نتقابل؟؟‬
‫‪ -‬قريباً سنتقابل‪ ،‬كل ما تعرضت له وكل ما تفعله ليس‬
‫سوى طريقاً للقايئ مجددا ً‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن جسدي تبدل وتغري؟‬
‫‪ -‬ال يهم الجسد يا حبيبي‪ ،‬ما يهم هو روحك‪ ،‬فنحن هنا‬
‫ال نرى األجساد بل نتاموج مع األرواح التي تشبهنا‪.‬‬
‫‪ -‬وهل أختار هذا الباب ألنجح يف االختبار؟‪.‬‬
‫‪ -‬هذا األمر يعود لك‪ ،‬عليك أن تتأمل أكرث لتعرف الباب‬
‫الذي عليك أن تختاره‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪“ ،‬إميا”‪“ ،‬إميا” هل‬ ‫ِ‬
‫أرجوك أريد رؤيتك اآلن‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ذهبت أين ِ‬
‫أنت ال تذهبي‪“ ..‬إمياااا”‪.‬‬ ‫ِ‬

‫شعرت بآالم أكرث تجتاح رأيس‪ ،‬وبدأ النوم يرسق قويت‪ ،‬شعرت‬
‫برغبة عارمة يف النوم‪ ،‬لقد تعبت كثريا ً‪.‬‬
‫وضعت رأيس بجانب الشمعة وغفوت‪.‬‬
‫* * *‬

‫"في كل مرة نموت فيها نربح حياة جديدة بجسد جديد‪،‬‬


‫فاألرواح تعبر من كرة إلى أخرى دون أن تفقد شخصيتها‪،‬‬
‫فعندما أنزل إلى القبر أستطيع القول‪ :‬لقد أكملت أيام‬
‫عملي‪ ،‬ولكن ال أستطيع القول لقد انهيت عملي وحياتي‪،‬‬
‫فعملي الجديد سيبدأ من جديد في الصباح التالي‬
‫‪...‬وهكذا"‪.‬‬
‫فيكتور هوغو – أديب وروايئ وشاعر فرنيس‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪116‬‬
‫يف الصباح عاد الضوء ليتسلل من أسفل األبواب الستة‪،‬‬
‫نهضت فزعاً من مكاين بعد أن تذكرت حوار ليلة أمس‪ ،‬نظرت‬
‫عيني عىل أشدهام‪ ،‬كان إصبعي‬
‫ّ‬ ‫دقتي‬
‫ّ‬ ‫إىل إصبعي‪ ،‬فتحت ح‬
‫محرتقاً وأمله مل يغب بعد‪.‬‬
‫نعم مل يكن حلامً ومل يكن وهامً لكن مل يكن حقيقة كذلك‪ ،‬وأنا‬
‫نفيس ال أعرف ما حدث‪ ،‬هل هكذا تكون الرؤيا؟!‬
‫إنها الليلة الثانية‪ ،‬زارتني “إميا” وأخَبتني بأمر ذي أهمية‬
‫كبرية‪ ،‬إنها مل متت بحادث سيارة قضا ًء وقدرا ً‪ ،‬بل قتلت‪،‬‬
‫وحادث السيارة ليس سوى تغطية لتبدو حادثة املوت عادية‪.‬‬
‫من اآلن سيبدأ العد التنازيل لنهاية هذا االختبار‪ ،‬وغدا ً صباحاً‬
‫سيفتحون الباب الصغري ويطلبون مني اختيار الغرفة التي‬
‫تحوي "املفتاح النجمي"‪ ،‬وهو ما سيؤكد صدق روايتي‪.‬‬
‫ليس هذا فحسب بل سأخرج من هنا مبعلومة جديدة قد تفيد‬
‫يف فتح ملف تحقيق جديد مبقتل "إميا"‪ ،‬وإن ثبتت حقيقة‬
‫معلومايت حول جرمية القتل هذه سيكون بيدي دليل مه ٌم‬
‫ألثبت شخصيتي‪ ،‬وسأعود ملنزيل وزوجتي وعياديت متخلصاً‬
‫من كل ما حدث معي‪.‬‬
‫* * *‬
‫جميع أهايل القرية صغريا ً وكبريا ً كانوا يتحدثون مبوضوع‬
‫الرجل يف "دار مقري الوحش" والذي يخضع الختبار الصدق‪،‬‬

‫‪117‬‬
‫اختبار ال يعقد إال يف الحاالت الصعبة والتي ال يجد مجلس‬
‫العقَّال لها حالً‪ ،‬كأن يتهم أحدهم بالرسقة أو بجرمية قتل وال‬
‫يوجد أمامه أي دليل ليثبت براءته‪ ،‬حينها يقرر املجلس‬
‫إخضاعه الختبار صدقه أو كذبه يف "دار مقري الوحش" فإن‬
‫كان صادقاً تثبت براءته‪ ،‬وإن كان كاذباً وخرج ساملاً من‬
‫"الدار" يتم إبعاده عن القرية ومصادرة منزله وأرضه وتقدميها‬
‫ألصحاب الحق‪.‬‬
‫وأحياناً نادرة قد يتم اختبار فتاة عذراء فيام إذا تم اتهامها‬
‫برشفها بني أبناء القرية‪ ،‬فتدخل المتحان الدار وهكذا‪...‬‬
‫واليوم يعتَب هذا االختبار األول من نوعه‪ ،‬إذ عادة ال يسمح‬
‫ألشخاص من خارج الطائفة الدرزية بخوض امتحان "مقري‬
‫الوحش" لكن مجلس شيوخ العقَّال أرادوا إثبات نظرياتهم يف‬
‫التقمص لبعض املتشككني من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية شعروا‬
‫أن روح هذا الشخص تعود لحيوات قريبة فكرياً من حيواتهم‪،‬‬
‫وهذا ما جعلهم يستقبلونه‪.‬‬
‫* * *‬
‫وصلت إىل بداية اإلنهيار‪ ،‬أريد أن أخرج من هذا املكان املعتم‪،‬‬
‫مل أعد قادرا ً عىل التفكري أو الرتكيز‪ ،‬من املؤكد أن املفتاح‬
‫النجمي املقدس موجود يف الغرفة السادسة‪ ،‬دليل دامغ‬
‫وصلني ليلة أمس‪ ،‬فقد تحدثت معي "إميا" خلف باب الغرفة‬
‫السادسة وبالتأكيد فإن املفتاح موجود فيها‪..‬‬

‫‪118‬‬
‫يجب أن أخرج‪ ،‬فالشمس قاربت عىل املغيب ومل أعد قادرا ً‬
‫عىل التحمل أكرث‪ ،‬ال أريد أن أرى رؤيا إضافية‪ ،‬يكفيني هذا‪...‬‬
‫تحركت نحو الباب الحجري الصغري‪ ،‬وأردت نزع الحجارة‬
‫والخروج‪ ،‬ولكن ال يوجد أي أثر ملكان الباب‪ ،‬فالحجارة‬
‫مرصوفة ومتطابقة بشكل ال يسمح حتى للهواء أن يدخل‪،‬‬
‫الشمعة التي بيدي هي األخرية‪ ،‬وحتى املاء نف َد بشكل كيل‪،‬‬
‫دفعت الحجارة املرصوفة لكن دون جدوى‪ ،‬رفستها بقدمي‪،‬‬
‫فلم أستطع حتى تحريكها‪.‬‬
‫هل يعقل أن الحجارة ال تزاح إال من خلف الباب‪ ،‬إذا ً أنا يف‬
‫سجن هنا‪ ،‬وال ميكنني الخروج بإراديت‪ ،‬وإن مل يأتوا فحتامً‬
‫سأموت‪.‬‬
‫جلست حائرا ً خائر القوى‪ ،‬وبدأت تنتابني حالة من السعال‬
‫القوي‪...‬‬
‫مىض الوقت بطيئاً‪ ،‬ثم عدت وسمعت صوتاً جديدا ً‪ ،‬لكن هذه‬
‫املرة من الغرفة األوىل املقابلة للغرفة السادسة‪ ،‬همهامت‬
‫وألفاظ غريبة‪ ،‬كأين أعرف هذا الصوت جيدا ً‪ ،‬زحفت نحو الباب‬
‫الحجري األول تلمسته بيدي‪:‬‬

‫‪ -‬هل يوجد أحد هنا؟‪..‬‬

‫مل يجبني أحد‪ ،‬وضعت الشمعة األخرية بجانب مدخل‬


‫املفتاح لعيل أرى شيئاً‪ ،‬لكن دون جدوى‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫عادت الهمهامت مع زئري مكتوم‪:‬‬

‫‪ -‬من أنت؟‬

‫حني لفظت كلمة من أنت‪ ،‬تحولت الهمهامت إىل ضحكات‬


‫مخيفة‪ ،‬ثم جاء الصوت الذي عرفته عىل الفور‪...‬‬

‫‪ -‬أمل تعرفني بعد؟‬

‫مل أتوقع بتاتاً أن أسمع صوته هنا‪.‬‬

‫‪ -‬أنت‪ ،‬السجني السارق؟‬

‫ضحك هذه املرة بصوت عا ٍل‪:‬‬

‫‪ -‬تقصد أنت السجني وأنا الدكتور سامي‪.‬‬


‫‪ -‬أنت لست الدكتور سامي‪ ،‬متى ستفهم هذا‪ ،‬أنت‬
‫السجني الذي تقمصني‪.‬‬
‫‪ -‬لو تركتني ح ّياً لرمبا توصلنا إىل اتفاق‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬الشيئ الوحيد الذي لن أندم عليه هو قتلك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن كيف ستثبت شخصيتك بدوين اآلن‪..‬‬
‫‪ -‬إثبات شخصيتي بدونك أفضل بكثري من وجودك‬
‫باسمي وجسدي‪ ،‬تدخل منزيل وتنام مع زوجتي‪ ،‬وأنا‬
‫سأبقى أحرتق إىل أن تظهر الحقيقة‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫عاد وضحك بصوت عا ٍل ثم قال‪:‬‬

‫َ‬
‫يصدقك أحد‪ ،‬ولن تستطيع إثبات‬ ‫‪ -‬أنت مجنون‪ ،‬ولن‬
‫ذلك أبدا ً!!‬
‫‪ -‬أنا أعرف جيدا ً أنني اآلن أحلم‪ ،‬ورمبا هي مجرد‬
‫هلوسات‪ ،‬وأعرف أنك غري موجود اآلن‪ ،‬فقد قتلتك‬
‫بيدي‪ ،‬ولست نادماً عىل ذلك‪ ،‬وسرتى كيف سأثبت‬
‫للجميع أنني أنا الدكتور سامي‪.‬‬

‫وهنا قاطعني بضحكة أقوى ليقول‪:‬‬

‫‪ -‬هل تعلم من بداخل هذه الغرفة معي‪ ،‬اسمع صوته‬


‫وستعرف‪...‬‬

‫وجاء صوت جديد مل أكن أتوقع أن اسمعه بحيايت كلها‪ ،‬صوت‬


‫بلحن أبوي ناعم وحنون‪:‬‬

‫‪ -‬بني كيف حالك؟‬


‫‪ -‬أيب؟‬
‫‪ -‬نعم أنا أبوك‪ ،‬هل نسيت صويت؟‪..‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬مل ولن أنس صوتك يا أيب‪.‬‬
‫‪ -‬لكنك نسيت كل ما أوصيتك به‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫بدأت موجة من الغضب تجتاحني مجددا ً‪ ،‬فهل يعقل أن‬
‫السجني الذي رسق جسدي قد أخَب والدي بأشياء وأكاذيب‬
‫عني؟‬

‫‪ -‬أيب‪ ...‬أيب هل تسمعني‪ ...‬هذا الشخص كاذب‪ ،‬كاذب‪،‬‬


‫وهو ليس ابنك‪ ،‬إياك أن تصدق كالمه‪ ،‬هو الذي رسق‬
‫جسدي‪ ،‬ووضعني بهذا الجسد ليرسق كل ما أملك‪...‬‬
‫أيب‪ ...‬افتح الباب أرجوك‪ ،‬افتحه اآلن‪.‬‬

‫ساد صمت يف املكان‪..‬‬

‫‪ -‬أيب هل تسمعني؟؟‬
‫‪ -‬نعم أسمعك‪..‬‬
‫‪ -‬افتح الباب أريد رؤيتك اآلن‪ ،‬افتح الباب‪..‬‬
‫‪ -‬بني ال ميكنك رؤيتي‪ ،‬وال ميكنني رؤيتك‪ ،‬ولكن كل ما‬
‫سأقوله لك‪ ،‬هو أن تنظر إىل أعامق قلبك وسرتاين‬
‫وتعرف الحقيقة‪ ،‬عد إىل أعامق قلبك‪ ،‬عد إىل أعامق‬
‫قلبك بني وستعود إىل حقيقتك كيفام كانت من قبل‪.‬‬
‫‪ -‬أيب أنا يف سجن كبري ال أستطيع الخروج منه‪ ،‬وكل ما‬
‫تسمعه عني مجرد كذب وافرتاء‪ ،‬ومن يدعي أنه‬
‫الدكتور "سامي" هو إنسان كاذب‪ ،‬نعم لقد مات‬
‫جسدي لكن روحي مازالت حية تسكن هذا الجسد‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫‪ -‬بني أنا ال أرى األجساد‪ ..‬نحن هنا فقط نسمع األرواح‬
‫وأصداءها‪ ،‬ونتاموج مع األرواح التي تشبهنا‪ ،‬نحن يا‬
‫بني نعيش حياة (الزوهار) فهنا تجتمع أرواحنا‬
‫لتنتقل عَب األجساد مرة أخرى وهكذا‪.‬‬

‫عيني‪ ،‬مل أعد قادرا ً عىل الرؤية‪،‬‬


‫ّ‬ ‫بدأ سواد بلون كاتم يدخل إىل‬
‫قدمي أمام الباب األول‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ومل أعد قادرا ً عىل الوقوف‪ ،‬جثوت عىل‬
‫بدأ تنفيس يضيق‪ ،‬وباتت الدنيا تغيب شيئاً فشيئاً عن ناظري‪.‬‬
‫* * *‬
‫"إذا لم أعتقد بظاهرة التقمص بعد كل اإلثباتات التي‬
‫تعاملت معها طوال فترة عملي‪ ،‬سوف أعتبر نفسي مختالً‬
‫عقلياً"‪.‬‬
‫آرثر غريدهام – طبيب نفيس بريطان‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪123‬‬
‫أنا َمن أهوى‪ ..‬و َمن أهوى أنا‪..‬‬
‫نحن روحان حللنا بدناً‪ ...‬فإذا أبرصتني أبرصته‪..‬‬
‫وإذا أبرصته فكأن روحه روحي‪...‬‬
‫وروحي روحه‪...‬‬
‫أرسل ببهائه كل الكنوز‪..‬‬
‫نبي محروس‪..‬‬
‫ما قام يف إرسائيل إال ّ‬
‫رشيعته كل املهامز والرموز‪..‬‬
‫وما قام يف بكة إسال ٌم إال مأنوس‪..‬‬
‫كل من ناجاه بالرحمة سام بالفوز‪..‬‬
‫* * *‬
‫بهذه املناجاة وصل الشيوخ العقَّال إىل الباب الحجري‬
‫الصغري‪ ،‬يرددون ويتلون األهازيج واألناشيد والتسابيح لفتح‬
‫باب "مقري الوحش" بعد صيام الشاب عن الكالم مع الناس‬
‫وعن الطعام لثالثة أيام متتالية بلياليها‪..‬‬
‫دخل أولهم الشيخ "زين الدين" ودخل خلفه الشيوخ ممسكني‬
‫بالشموع‪...‬‬
‫كان املكان هادئاً‪ ،‬كل الشموع ذابت‪ ،‬وقارورة املاء الكبرية‬
‫نفدت‪ ،‬والشاب مغيش عليه أمام الباب األول‪ ...‬جثا الشيخ‬
‫عىل ركبتيه‪ ،‬تلمس موضع قلبه‪ ،‬حاول أن يوقظه لكن زبدا ً‬
‫أبيض خرج من فمه‪..‬‬
‫َ‬

‫‪124‬‬
‫عىل الفور طلب الشيخ من باقي املجموعة أن يرفعوه عن‬
‫املكان املستلقي فيه‪.‬‬
‫حمله أربعة من الشيوخ وأبعدوه عن الباب األول‪..‬‬
‫وقف الشيخ "زين الدين" نظر إىل املجموعة املتبقية وقال‬
‫لهم‪:‬‬

‫‪ -‬الشاب مغيش عليه‪ ،‬يجب أن نعرف اختياره قبل أن‬


‫نخرج من هنا لنتبني حالته‪.‬‬

‫تقدم أحد الشيوخ خطوة نحو الباب األول‪ ،‬تلمسه ونظر إليه‬
‫وقال‪:‬‬

‫‪ -‬يبدو أن الشاب كان يحاول فتح هذا الباب بالتحديد‪،‬‬


‫ومبا أننا وجدناه مرمياً هنا أظن أن اختياره سيكون‬
‫الباب األول‪ ،‬ما رأيك أن نفتحه وننظر هل املفتاح‬
‫"النجمي املقدس" موجود هنا أم ال؟‬

‫تفكر الشيخ قليالً ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬لنفتحه وننظر‪.‬‬

‫تحملق باقي الشيوخ حول الشيخ "زين الدين" الذي أخرج من‬
‫جيبه ستة مفاتيح حديدية طويلة‪ ،‬مفاتيح أشبه بتلك‬
‫املفاتيح الكبرية التي يفتحون بها أبواب القالع‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫أدخل املفتاح يف دائرته الحديدة‪ ،‬حركه‪ ،‬ثم طلب من البعض‬
‫مساعدته لدفع الباب إىل الداخل‪...‬‬
‫مل يفتح الباب من زاويته كالطريقة التي تفتح بها األبواب‬
‫عادة‪ ،‬بل دخل الباب بزواياه األربعة إىل الداخل وظل معلقاً‬
‫من خالل مشبك معدين وحبال قوية وسلسلة حديدية يف‬
‫أعاله ليصري أشبه بالجناح‪ ،‬أو مبخرج ماء السد‪.‬‬
‫قرفص الشيخ "زين الدين" ودخل الحجرة‪ ،‬ثم دخلها كل من‬
‫معه‪.‬‬
‫غرفة اسطوانية طوالنية ال تحوي أي زاوية بداخلها‪ ،‬طولها‬
‫يفوق العرشة أمتار‪ ،‬وقطرها ال يتجاوز الثالثة أمتار‪.‬‬
‫عىل أحد الجدران كانت نجمة فضية منحوتة بعناية فائقة‪،‬‬
‫حوافها من خليط معدين يجمع النحاس والَبونز القديم‬
‫معلقة عىل الجدار‪..‬‬
‫تقدم الشيخ "زين الدين" أمسكها‪ ،‬رفهعا أمام الحضور وقال‪:‬‬

‫‪ -‬هذه معجزة جديدة أرادنا الله أن نراها‪ ،‬هذا الشاب‬


‫صادق بروايته‪ ،‬فالنجمة تحولت إىل هذه الغرفة بقدرة‬
‫جل‪ ،‬وكلنا يعرف أنها مل تكن هنا قبل عدة‬
‫القادر ع ّز و ّ‬
‫أعوام‪ ،‬هذه معجزات الله لنا لنؤمن به‪ ،‬ونؤمن بقدرته‬
‫وبرشيعته‪ ،‬ولنكن جميعاً رسالً لرسالته يف هذا الزمن‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫تقدم الشيخ "عقيل" وطلب أن يرى النجمة‪ ،‬قدمها له الشيخ‬
‫"زين الدين" قبلها ووضعها عىل رأسه‪ ،‬ثم أعطاها آلخر وهكذا‪..‬‬
‫ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬واآلن ماذا سنفعل لنرصة هذا الشاب؟‪.‬‬

‫تنهد الشيخ "زين الدين" بعمق‪ ،‬تراجع خطوة ليسند ظهره‬


‫عىل جدار الصومعة وقال بكل ثبات‪:‬‬

‫‪ -‬سأسافر غدا ً إىل العاصمة‪ ،‬وسأقف ضد أي قانون‬


‫يج ّرم هذا الشاب‪ ،‬سنقف معه حتى يعرتف القانون‬
‫البرشي بالقانون اإللهي‪ ،‬ولن نقبل بتسليمه إال بعد‬
‫أن نقنع القضاء بحقيقة روايته‪.‬‬
‫‪ِ -‬نع َم القرار قرارك‪.‬‬
‫‪ -‬لنتوكل عىل الله ولنبقي رسالة الحب وشعلة (العرفان)‬
‫متقدة يف قلوبنا‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫نادرا ً ما يتم االعرتاف بالدمج الذي يتم بني األفكار‬
‫(الغنوصية)‪ ،‬أو (العرفانية) القدمية مع األفكار (اإلسالمية) أو‬
‫(املسيحية) أو حتى (اليهودية) أو مذاهب كل ديانة‪.‬‬
‫فـ(الغنوصية) أو (العرفانية) أو (الفكر املعريف) هو مصطلح‬
‫يطلق عىل فكر الديانات املتناقل وغري املتبدل بني الديانات‬
‫اإلبراهيمية الثالث ومذاهب كل ديانة‪.‬‬
‫يقوم الفكر (الغنويص) عىل اإلميان بأن الكون مادي مخلوق‪،‬‬
‫وهو انبثاق من ال ّرب األعىل الذي وضع شعلة الروح اإللهية يف‬
‫صلب الجسد البرشي‪ ،‬وميكن تحرير أو إطالق هذه الشعلة‬
‫عدة مرات ولكن بعد معرفتها للحق‪.‬‬
‫انترشت األفكار (الغنوصية) يف محيط منطقة البحر‬
‫املتوسط‪ ،‬وتطورت بعد أن اندمجت بالحركات الدينية‬
‫(اليهودية) و(املسيحية) األوىل‪ ،‬وبنظريات أفالطون حول‬
‫الحياة وعالقة اإلنسان بالرب‪.‬‬
‫كام انترش الفكر "الغنويص" بزمن اإلمَباطورية الفارسية‬
‫حتى ظهرت يف الصني عىل شكل الديانة "املانوية" ويف‬
‫العراق عىل شكل الديانة "املندائية"‪.‬‬
‫وإىل اليوم تعتَب الطائفة "الدرزية" يف سوريا ولبنان أكرث من‬
‫تَعلمها وعمل بها وتعرف عليها‪ ،‬ويسمونها ضمناً بـ(العرفان)‪.‬‬
‫واملعنى الحريف لكلمة "غنوسس" اليونانية هي "املعرفة‬

‫‪128‬‬
‫املستقاة من الخَبة النفسية املتكررة بالحيوات" أي بانتقال‬
‫األرواح بني األجساد‪ ،‬أما املعنى باملفهوم الديني فهو‪:‬‬
‫"املعرفة الروحية املبنية عىل العالقة مع الذات اإللهية من‬
‫خالل الرابط الروحي الذي دمجه الله من ذاته يف اإلنسان"‪.‬‬
‫وهذا جميعاً جاء من رموز معرفة كتاب "الزوهار" وهو‬
‫املخطوطات التي من خاللها انتقلت املعرفة الدينية وقصص‬
‫األولني عَب العصور بدءا ً من العرص البابيل القديم حني كتب‬
‫الفالسفة يف التلمود البابيل "بوابة اإلله" وإىل باقي الديانات‬
‫يف عرصنا هذا‪.‬‬
‫* * *‬

‫* * *‬

‫‪129‬‬
‫الفصل السادس‬

‫عند مدخل قسم الرشطة واألمن الجنايئ طلب الشيخ "زين‬


‫الدين" هو والشيخان اللذان معه مقابلة املقدم "مروان عبد‬
‫الحميد"‪ ،‬والذي كان بانتظارهام بعد أن وصلته عدة اتصاالت‬
‫توصية من بعض املسؤولني يف الدولة وبعض الشخصيات‬
‫السياسية الرفيعة من خارج الدولة‪.‬‬
‫خرج املقدم مرسعاً باتجاه املدخل مرحباً بالشيخ ومن معه‪:‬‬

‫‪ -‬أهالً وسهالً‪ ..‬أهالً وسهالً شيخنا الجليل‪ ،‬تفضلوا‬


‫تفضلوا‪.‬‬

‫تصافح الجميع ودخلوا مكتب املقدم‪:‬‬

‫‪ -‬أهالً بك سيادة املقدم‪ ،‬كيف الحال؟ هل األمور عىل‬


‫ما يرام‪..‬‬
‫‪ -‬الحمد لله‪ ،‬حالياً نشهد بعض الهدوء بعد موجة‬
‫الحروب املتتالية التي كنا نخوضها يف األرياف ضد‬
‫الجامعات املسلحة‪.‬‬
‫‪ -‬ليحميكم الرب‪..‬‬
‫‪ -‬شكرا ً لك شيخنا‪ ،‬أخَبنا ما هي أخبار الجبل؟‬

‫‪130‬‬
‫‪ -‬الحمد لله كل شيئ عىل ما يرام‪ ،‬ونحن هنا ألمر مهم‬
‫للغاية‪ ،‬وال نريد أن نطيل املكوث‪.‬‬

‫تنهد املقدم وهو يقول‪:‬‬

‫‪ -‬تفضل أنا بالخدمة‪.‬‬


‫‪ -‬سيادة الضابط‪ ،‬أظن أنك تعلم بحادثة مقتل من‬
‫يدعي أنه الدكتور "سامي عز الدين سقاف"‪.‬‬

‫حني سمع املقدم كلمة "من يدعي" قام من مكانه واتجه‬


‫ليجلس عىل كريس صغري قبالة الشيخ "زين الدين"‪..‬‬

‫‪ -‬الدكتور "سامي" هو صديقي املفضل‪ ،‬وتم قتله‬


‫بأبشع صورة‪ ،‬ونحن يف الحقيقة نعرف من قتله‪،‬‬
‫ونبحث عنه يف كل مكان‪ ،‬وأنا متأكد أننا سنلقي‬
‫القبض عليه قريباً‪ ...‬لكن ماذا تقصد بكلمة "من يدعي‬
‫أنه الدكتور سامي"؟‪ ،‬أنا أعرف الدكتور "سامي" منذ‬
‫عدة سنوات‪ ،‬وكان بيننا زيارات أرسية‪ ،‬فزوجته‬
‫صديقة زوجتي‪ ،‬لذا أرجو أن توضح يل ما تعرف عن‬
‫قصة مقتله وبالتفصيل‪.‬‬
‫‪ -‬سيادة املقدم‪ ،‬أريد أن أخَبك يف البداية أن الدكتور‬
‫"سامي" مل يقتل أو ميت‪ ،‬جسد الدكتور "سامي" هو‬
‫الذي تأذى ومات‪ ،‬أما روحه فالتزال عىل قيد الحياة‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫ابتلع املقدم لعابه بصعوبة‪ ،‬وشعر أنه اآلن أمام قصة معقدة‬
‫وجديدة‪ ،‬ويبدو أن مواجهة ومعركة بني العقل والدين باتت‬
‫وشيكة بينهام‪.‬‬
‫* * *‬
‫تعتَب ثنائية اندماج "رجل الدين" و"رجل السلطة" يف الرشق‬
‫األوسط أحد األمور املهمة يف م ّد النفوذ والسيطرة عىل‬
‫الشعوب املتدينة‪.‬‬
‫فرجل "الدين والسلطة" ثنائية واجبة إلدارة املصلحة‬
‫املشرتكة إن صح التعبري‪ ،‬وال يقترص هذا األمر عىل طائفة‬
‫بعينها أو ديانة أو مذهب‪ ،‬بل إن السلطة القوية والذكية هي‬
‫التي تبني قوة دينية موجهة من خاللها لكافة الطوائف‬
‫واألديان التي تحميها جغرافياً الستمرار سيطرتها عىل‬
‫الشعب‪.‬‬
‫وكلام كان الشعب أكرث تديناً كلام أولت السلطة أهمية أكَب‬
‫لرجال الدين الستمرار قوتها ومعرفتها بكل صغرية وكبرية‪،‬‬
‫فمن جهة يضفي الحاكم مرشوعية سلطته باالستناد إىل‬
‫السلطة الدينية ليزكيها رجل الدين ويثبتها باعتبارها مشيئة‬
‫الرب أو اإلله أو الله‪ ،‬ومن جهة ثانية يضمن لرجل الدين‬
‫ّ‬
‫مامرسة وصايته عىل الرعية‪ ،‬مع الدعم والنفوذ واملصلحة‬
‫التي يريدها‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫لكن أحياناً تصل جهة الدين وجهة السياسة إىل طريق شبه‬
‫مسدودة وذلك حني يتعارض القانون القضايئ للسلطة‬
‫السياسية‪ ،‬مع الترشيع الديني الذي يدعي رجل الدين أنه‬
‫ساموي وله األحقية أو األسبقية‪.‬‬
‫كام ويحدث أن ينترص الدين أحياناً خاصة يف األمور املتعلقة‬
‫بني اإلنسان واألخالق ومصري حياته ورسم حدوده الدنيوية‪،‬‬
‫ويحدث كذلك وأن تنترص السياسة خاصة يف األمور املتعلقة‬
‫بالسلطة والسيطرة والقيادة‪.‬‬
‫لكن الحرب الحقيقية والتي إىل اليوم ال صلح فيها‪ ،‬هو الرصاع‬
‫ما بني العقل والدين بعيدا ً عن السياسة‪ ،‬خاصة إذا كانت‬
‫الحرب بني معتقد ال يؤمن به العقل ألنه غري ملموس أو غري‬
‫موجود وبني معتقد غيبي أو ماورايئ يؤمن به الدين إمياناً‬
‫أعمى‪.‬‬
‫فالعقل يصنع املعرفة من خالل البحث العلمي ليكتشف يف‬
‫عمقه األصل والجذور معتمدا ً عىل تصديق الفرضيات أو‬
‫تكذيبها بحسب األدلة العقلية واملنطقية‪ ،‬صانعاً املعرفة‬
‫بأسئلة تبدأ بـ(كيف؟)‪.‬‬
‫أما الدين فيعتمد دامئاً عىل املعلومات املتواترة واملوروثة‬
‫بحسب اآلباء واألجداد‪ ،‬وبحسب املكان الجغرايف الذي ولد‬
‫فيه الشخص ليعتمد عىل ما تم توريثه له من معتقدات‪ ،‬ودامئاً‬

‫‪133‬‬
‫يجب أن تعتمد إجابته عىل (نعم) لتصديق ما يسمع منذ نعومة‬
‫أظفاره‪.‬‬
‫* * *‬
‫انتهى الشيخ "زين الدين" من رسد قصة الشاب الدخيل‬
‫وحادثة مقتل جسد الدكتور "سامي"‪.‬‬
‫كان الهدوء يسود مكتب املقدم الذي أصغى للقصة من‬
‫بدايتها إىل نهايتها دون أن يتفوه بكلمة‪.‬‬
‫وقف واتجه إىل كرسيه خلف مكتبه‪ ،‬أمسك علبة السجائر‪ ،‬أراد‬
‫أن يشعل واحدة لكنه شعر أن الوقت والحالة غري مالمئني أمام‬
‫طائفة الشيوخ هذه‪ ،‬تنفس بعمق وقال‪:‬‬

‫‪ -‬القصة غريبة شيخنا‪ ،‬وال أعرف ماذا أقول‪...‬‬

‫ابتسم الشيخ "زين الدين" وقال له بإرصار‪:‬‬

‫‪ -‬هذه املرة نريد محاكمة عادلة‪ ،‬دون إقصاء الدين أو‬


‫إقصاء حاالت التقمص الحقيقية والتي ال تعرتفون‬
‫بها قانونياً أو روحياً‪.‬‬

‫عاد املقدم وتنهد من جديد‪:‬‬

‫‪ -‬ولكن ال يوجد قانون يف العامل يحايك مثل هذه‬


‫الحوادث واألمور‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫‪ -‬معك حق‪ ،‬وهذا ما نطلبه يف الحقيقة‪ ،‬يجب أن تعدّل‬
‫القوانني بالصورة التي تتامىش مع أحداث مشابهة‬
‫لهذه الحادثة‪ ،‬ونحن يف الحقيقة أخَبنا قصة الشاب‬
‫واالختبار الذي تعرض له"ملختارة محجة الدروز" يف‬
‫لبنان واألردن‪ ،‬كام وعرف بالحادثة الكثري من‬
‫الشخصيات السياسية الرفيعة وبعض وسائل اإلعالم‪،‬‬
‫ونريد قضا ًء يأخذ هذه األمور بعني االعتبار‪ ،‬فام حدث‬
‫مع الدكتور "سامي" لرمبا يحدث مع أي شخص منا‪،‬‬
‫أليس كذلك؟‬

‫هز باقي الشيوخ رأسهم باإليجاب‪ ،‬وقال الشيخ "عقيل"‪:‬‬

‫‪ -‬القوانني املوضوعة هي قوانني برشية تعتمد عىل‬


‫مالحظة العني‪ ،‬واألوىل أن تؤخذ القوانني اإللهية‬
‫والحاالت الغيبية والروحية بعني االعتبار كذلك‪.‬‬

‫حرك املقدم مروان رأس باإليجاب وقال‪:‬‬

‫‪ -‬مبا أن الدكتور "سامي" كان صديقي املقرب‪ ،‬وأنه‬


‫حي كام قلتم‪ ،‬هل بإمكاين‬
‫ّ‬ ‫تعرض لحالة تقمص‬
‫الجلوس معه‪ ،‬أو إحضاره إىل هنا‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫نظر الشيخ "زين الدين" إىل بقية الشيوخ‪ ،‬ثم نظر إىل املقدم‬
‫وقال له‪:‬‬

‫‪ -‬ال نستطيع ذلك سيادة املقدم‪ ،‬إنه دخيل يف مضيفنا‪،‬‬


‫ومن واجبنا املقدس أن نحميه ونرعاه حتى يصل إىل‬
‫حقه‪ ،‬وحقه لن يأخذه إال إذا جلسنا معه بحجتنا‬
‫وبراهيينا وبذاكرته وتاريخه أمام ٍ‬
‫قاض عادل‪ ،‬وحكم له‬
‫حكامً بالصورة التي ال يظلم بها‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ما هي األدلة الثانوية التي ميكن للقايض أن‬
‫يأخذ بها يف قصته هذه؟‬
‫‪ -‬سيادة املقدم‪ ،‬علم الله واسع كبري‪ ،‬ومعرفة اإلنسان‬
‫ضيقة صغرية مهام كَبت‪ ،‬إذا كان اإلنسان يف الوقت‬
‫الحايل ضعيفاً وغري قادر عىل إيجاد إثبات علمي‬
‫عىل التقمص مثالً‪ ،‬فهذا ال يعني أن التقمص غري‬
‫حقيقي‪ ،‬وال يجب نفيه حتى يتمكن اإلنسان من‬
‫إثباته‪ ،‬بل يجب التصديق به حتى يتم إثباته‪ ،‬وإال‬
‫كيف تفرس قصة الدكتور "سامي" واملئات من‬
‫القصص األخرى والتي يتذكر فيها أطفال متقمصون‬
‫حيوات عاشوا بها بأسامء وتواريخ وحوادث وتفاصيل‬
‫دقيقة مئة باملئة؟‪.‬‬

‫شعر املقدم "مروان" بالضيق واالستسالم‪:‬‬

‫‪136‬‬
‫‪ -‬كام تريد سيدنا الشيخ‪ ،‬سأتصل اليوم بوزارة‬
‫الداخلية‪ ،‬وأطرح عليهم املوضوع بكل حيثياته‬
‫وتفاصيله‪ ،‬وسأخَبك مبا يقرونه‪.‬‬
‫‪ -‬عىل بركة الله‪ ،‬وأنا إىل حينها سأحافظ عىل الشاب‬
‫يف بيتي منتظرا ً اتصالك‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أرجو أن تبقيه تحت عينيك‪ ،‬وتنتبه منه جيدا ً وأن‬
‫ال تسمح له بالسفر أو املغادرة إىل أن أخَبك‬
‫بالخطوة التالية‪.‬‬
‫‪ -‬إن شاء الله‪ ،‬واآلن نستأذن من حرضتك باالنرصاف‪.‬‬
‫‪ -‬بأمان الله‪ ،‬مع السالمة‪.‬‬

‫خرج الشيوخ من مكتب املقدم‪ ،‬الذي أخرج عىل الفور‬


‫سيجارة وأخذ ينفخ الدخان وهو يفكر بطريقة حل هذه‬
‫املعضلة‪.‬‬
‫مرت الدقائق وهو يتخيل األحداث كيف بدأت بإلقاء القبض‬
‫عىل ذلك السجني‪ ،‬ثم وصول الدكتور "سامي"‪ ،‬وكيف استكان‬
‫وهدأ بني يدي الدكتور‪ ،‬ثم إىل جرمية القتل التي حدثت يف‬
‫منزله‪.‬‬
‫ضغط عىل زر بجانب مكتبه وعىل الفور دخل الحارس‪:‬‬

‫‪ -‬احرتامي سيدي‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫‪ -‬جهزوا السيارة سأذهب إىل مقر وزارة الداخلية يف‬
‫الحال األمر ال ميكن السكوت عنه‪.‬‬
‫‪ -‬حارض سيدي‪.‬‬

‫* * *‬
‫تعرف السلطة السياسية يف سورية ولبنان أن التعاطي مع‬
‫أبناء الجبل يحتاج إىل دبلوماسية كبرية‪ ،‬فأبناء الجبل ِ‬
‫ص َعاب‬
‫املراس‪ ،‬ويشهد عىل هذا التاريخ الحديث والقديم ملسرية‬
‫الثورات التي ظهرت من بينهم‪ ،‬كام أنهم يعتزون بتاريخهم وهم‬
‫إحدى الطوائف املؤسسة لسورية ولبنان بشكلهام الحايل‬
‫كدول‪.‬‬
‫* * *‬
‫من العدل أن يأتي المرء من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي‬
‫به لنفسه‪.‬‬
‫ابن رشد‪.‬‬
‫الحضارة التي بدأت بالكاتدرائيات والمعابد ال بد أن‬
‫تنتهي بالهرمسية والشيزوفرينيا‪.‬‬
‫إميل سيوران‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪138‬‬
‫ضمن وزارة الداخلية‪ ،‬تم إقرار ورسم الخطوات واملراحل التي‬
‫يجب التعامل معها يف قضية "السجني رقم أربعة" و"الدكتور‬
‫سامي عز الدين سقاف" ودخول شيوخ ووجهاء الطائفة‬
‫الدرزية ضمن ملف القضية دون أن يتعارض الفكر الديني‬
‫اإلسالمي باملذهب الدرزي مع القانون البرشي يف معالجة‬
‫مرتكبي جرائم القتل‪ ،‬واألخذ بعني االعتبار أن االعرتاف‬
‫الحقيقي بالتقمص ضمن قوانني الدستور والقانون الجنايئ‬
‫قد يفتح باباً لن يغلق أبدا ً يف وجه رجال الرشطة والقضاء‬
‫العام‪ ،‬خاصة يف قضايا القتل‪.‬‬
‫عاد املقدم "مروان" صعد سيارته وجبل من الهموم قد بات‬
‫ينزاح عن ظهره يف ملف قضية الدكتور "سامي"‪.‬‬
‫أمسك جواله طالباً االتصال بالشيخ "زين الدين" وهو يقود‬
‫السيارة‪:‬‬

‫‪ -‬السالم عليكم شيخنا‪ ،‬كيف الحال؟‬


‫حي الله‪.‬‬
‫‪ -‬أهالً وسهالً سيادة املقدم‪ّ ،‬‬
‫‪ -‬شيخي منذ قليل خرجت من وزارة الداخلية حامالً‬
‫لكم التوصيات واألمور التي يجب أن نتعاون من‬
‫خاللها لحل قضية الدكتور "سامي"‪.‬‬
‫‪ -‬كيل آذان صاغية‪ ،‬ونحن نسمع ونطيع مبا يريض الله‬
‫ويريض ضمرينا تجاه دخيلنا‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫‪ -‬سيتم عرض القضية عىل القضاء األعىل ضمن القرص‬
‫العديل بعد يومني متاماً وبحضوركم وحضور‬
‫الصحافة‪ ،‬متجاوزين قايض التحقيق لتكون القضية‬
‫مفتوحة بيد القايض املدين العام‪ ،‬وقايض رشعي من‬
‫الطائفة الدرزية‪ ،‬وقايض من املحكة الروحية‪ ،‬مع‬
‫قايض محكمة النقض‪ ،‬وسيتم عرض القضية عليهم‬
‫بكامل حيثياتها وتفاصيلها‪ ،‬وما يحكمون به نحن‬
‫بصدد تطبيقه‪ ،‬كام طلبوا مني أن تقوم الدكتورة‬
‫"روجني فائز" املختصة بالسيكولوجيا النفسية‬
‫مبعاينة املتهم لتقدم للقايض أثناء املحاكمة تقريرا ً‬
‫طبياً مفصالً عن حالته الذهنية واستيعابه وتذكره‬
‫لألحداث املاضية والسابقة من حياته‪.‬‬
‫‪ -‬حارض سيادة املقدم‪ ،‬كل ما طلبته سنفعله بشكل‬
‫دقيق‪ ،‬وموعدنا معك يف جلسة القضاء بعد الغد‬
‫وسيكون الشاب موجود معنا وقد قابل الدكتورة التي‬
‫ذكرت اسمها‪ ،‬لكن أود أن أكون أنا أحد من يتكلم بصفة‬
‫محامي الدفاع عن الشاب أمام مجلس القضاة‪.‬‬
‫‪ -‬أظن أن طلبك سيوافق من قبل القايض العام‪ ،‬وأنا‬
‫سأطلب منه ذلك شخصياً قبل بدء جلسة املحكمة‪.‬‬

‫* * *‬

‫‪140‬‬
‫(أنا ال أعتقد بظاهرة التقمص‪ ،‬لكنني واثقة بأنها موجودة‬
‫مئة بالمئة)‬
‫الدكتورة " هيلني وامباك"‪ -‬مختصة يف الطب‬
‫النفيس – جامعة كالفورنيا‬
‫* * *‬
‫أنهى مكاملته وترجل من سيارته باتجاه شقة الدكتور سامي‪،‬‬
‫قرع الجرس ووقف حائرا ً يستحرض ما سيقول لـ"نهلة" زوجة‬
‫صديقه الدكتور‪:‬‬

‫‪ -‬أهالً وسهالً سيادة املقدم‪ ،‬تفضل‪.‬‬


‫‪ -‬شكرا ً نهلة‪.‬‬

‫جلسا بجانب نفس الطاولة التي دار فيها حوار األجساد‬


‫إلثبات األرواح‪ ،‬تنهد املقدم كثريا ً قبل البدء بالحوار‪:‬‬

‫‪ -‬هناك بعض األمور التي يجب أن تعرفيها‪.‬‬


‫‪ -‬تفضل سيادة املقدم أسمعك‪..‬‬

‫كان ثوبها ووشاحها األسود مينحانها سمة مالئكية صافية‪،‬‬


‫لكن نظرات عينيها الضامرة ما كانت لتخفي شعور‬
‫االستسالم والخوف واالنهزام الذي ينبض يف قلبها‪.‬‬

‫ِ‬
‫زوجك!!‬ ‫‪ -‬تقريباً وصلنا إىل قاتل‬

‫‪141‬‬
‫مل يكن للعبارة أي أثر بالنسبة لها‪:‬‬

‫‪ -‬شكرا ً لكم‪ ،‬هو نفسه املجنون الذي عاينه يف السجن‬


‫واملشفى أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬جميع األدلة التي جمعناها كانت صحيحة‪ ،‬هو‬
‫القاتل‪ ،‬وسيتم تسليمه للقضاء بعد الغد‪ ،‬ولكن!!‬

‫فتحت عينيها الضامرة الحزينة ونظرت إليه بتمعن‪:‬‬

‫‪ -‬هل من مشكلة؟‬
‫‪ -‬ال أعرف كيف ابدأ‪ ،‬ولكن ما مدى معرفتك وإميانك‬
‫بتقمص األرواح!!‬
‫‪ -‬تكلم سيادة املقدم‪ ،‬تكلم بكل ما تعرف‪ ،‬ماذا هناك؟‬
‫‪ -‬التقمص كام تعرفني هو انتقال األرواح والتفكري وما‬
‫إىل ذلك من جسد إنسان إىل آخر‪ ،‬والقاتل الذي‬
‫ارتكب جرميته يقول إنه هو الدكتور سامي ومعه‬
‫األدلة عىل ذلك‪.‬‬

‫تراجعت بخوف إىل الخلف بعد أن شعرت بشعور غريب‬


‫يجتاح تفكريها‪ ،‬ازدادت دقات قلبها برسعة جنونية‪ ،‬وقفت‬
‫ونظرت إىل نفس املكان الذي وجدت فيه جسد الدكتور‬
‫سامي ملطخاً بدمائه‪ ،‬اجتاحتها موجة من املشاعر الغريبة‬
‫وعادت لتبيك بصوت مسموع‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫مع نحيب ونشيج بكائها وقف ابنها "زين" عىل حافة الباب‬
‫يراقبها وهو يعرف سبب حزنها هذا‪..‬‬

‫‪ -‬نهلة أنا أعرفك وأعرف الدكتور سامي منذ زمن‪،‬‬


‫وأمتنى أن تثقي يب هذه املرة‪ ،‬ما أرجوه ِ‬
‫منك هو أن‬
‫تجليس مع الشاب بحضور الدكتورة "روجني"‪ ،‬وهي‬
‫طبيبة وعاملة مختصة بالسيكولوجيا النفسية‪،‬‬
‫وأظن ِ‬
‫أنك إذا حاورتيه ستعرفني إن كان بالفعل كام‬
‫يقول‪ ،‬تستطيعني أن تسأليه عدة أسئلة خاصة‬
‫تتعلق بذكرياتكام معاً‪ ،‬وتقريرك مهم للغاية أمام‬
‫القايض ضمن املحكمة‪.‬‬
‫‪ -‬سيادة املقدم ماذا تقول؟ بت أشعر أنني أعيش عىل‬
‫كوكب كل سكانه مجانني‪.‬‬

‫* * *‬
‫نحن ال ندرك ماهية األشياء‪ ،‬بل ندرك ظواهرها الحسية‬
‫في المكان والزمان‪ ،‬فالروح موجودة من قبل‪ ،‬وهي قد‬
‫تغادر إلى كواكب أخرى بعد فناء الجسد لتتقمص هناك‪،‬‬
‫أو تبقى في نفس مكانها ولكن بجسد جديد‪.‬‬
‫عامنوئيل كانت – فيلسوف أملان‬
‫* * *‬

‫‪143‬‬
‫أمام بوابة القرص العديل بدمشق ترجل أكرث من عرشة شيوخ‬
‫عقَّال متجهني إىل قاعة املحكمة من بينهم الشيخ "زين‬
‫الدين" والشيخ "عقيل"‪..‬‬
‫كام دخل بعض الصحفيني ممن ينقلون األخبار عَب مواقع‬
‫التواصل االجتامعي‪ ،‬ووصل املقدم "مروان عبد الحميد"‪،‬‬
‫ومعه بعض العنارص األمنية‪.‬‬
‫للمرة األوىل وبصورة غري قانونية مل يصل املتهم بسيارة‬
‫الرشطة‪ ،‬بل وصل بسيارة الدكتورة "روجني" والتي قضت معه‬
‫أكرث من أربع ساعات ضمن عيادتها الخاصة‪.‬‬
‫صافح املقدم "مروان" الشيخ "زين الدين" بحرارة‪ ،‬ودخال‬
‫قاعة املحكمة‪..‬‬
‫ثم دخلت الدكتورة "روجني" وهي تسري بجانب الشاب‬
‫"املتهم" الذي مل يتم وضعه يف قفص اتهام‪ ،‬وذلك حسب‬
‫توصيات الشيخ "زين الدين" للمقدم "مروان"‪.‬‬
‫كانت عالمات التعب والوهن ظاهرة عليه‪ ،‬فأكرث من أربع‬
‫ساعات قضاها مع دكتورة مختصة بعلم "الباراسيكولوجي" أو‬
‫ما يسمى علم الخوارق السيكولوجية‪.‬‬
‫دخل القاعة دون أن يتحدث ببنت شفة‪ ،‬وأجلسته الدكتورة‬
‫ضمن الصف األول يف الوسط بينها وبني الشيخ "زين الدين"‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ثم دخلت "نهلة" وابنها وجلسا عىل الطرف املجاور للمكان‬
‫الذي جلس فيه املقدم "مروان" كانت مشاعرها تتاموج بني‬
‫الحزن والخوف الكبري‪.‬‬
‫* * *‬
‫يدرس علم "الباراسيكولوجي" أو علم ما وراء النفس‪ ،‬أو علم‬
‫النفس املوازي القوى الخارقة وتأثرياتها عىل األجسام‬
‫الفيزيائية دون الخضوع لالفرتاضات العلمية املعروفة‪ ،‬وهي‬
‫تتضمن دراسة ظاهريت اإلدراك وراء اإلحساس والتحريك‬
‫النفيس‪.‬‬
‫يتألف مصطلح "الباراسيكولوجي"من شقني أحدهام "البارا"‬
‫(‪ )Para‬وتعني القرب أو جانب أو مارواء‪.‬‬
‫أما الشق الثاين فهي "سيكولوجي" (‪ )Psychology‬وتعني علم‬
‫النفس‪.‬‬
‫ترتكز أبحاث هذا العلم يف اإلجابة املنطقية حول األسئلة‬
‫املحرية لدى البعض كـ(املس الشيطاين) أو ما يعرف لدى‬
‫البعض باسم (الجن)‪ ،‬و(التقمص) وانتقال األرواح‪ ،‬كذلك‬
‫(التخاطر وقراءة األفكار) عن بعد‪ ،‬و(الجالء البرصي) أي‬
‫القدرة عىل رؤية ما يقع خارج نطاق البرص‪ ،‬و(التنبؤ) أي معرفة‬
‫األحداث قبل وقوعها‪ ،‬و(التحريك العقيل) ويعني القوى‬
‫الخارقة يف تحريك األشياء أو ل ّيها أو عجنها أو كرسها دون‬
‫ملسها‪...‬‬

‫‪145‬‬
‫الحي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫و(الخروج من الجسد) أو ما يعرف بالتقمص‬
‫و(االستبصار باملايض) أي ذكر حوادث وتواريخ دقيقة‪،‬‬
‫و(التواجد بني مكانني يف الوقت ذاته)‪ ،‬و(انتقال املادة برسعة‬
‫الضوء) أو ما يعرف لدى بعض الطوائف الدينية بـ"طي األرض‪،‬‬
‫و(إشعال الحرائق ذهنياً)‪ ،‬و(تجربة والخروج من الجسد لزمن‬
‫محدد) أو ما يعرف دينياً بـ"اإلسقاط النجمي"‪ ،‬وظاهرة‬
‫(الديجافو) والتي تعني سبق الرؤية‪ ،‬و(الطريان والتحليق)‬
‫الخارق يف الفضاء‪ ،‬و(اللمس العالجي) أي ملس املريض أو‬
‫املعاق فيشفى عىل الفور‪.‬‬
‫* * *‬
‫دخل القايض العام وبجانبه جلس باقي القضاة‪ ،‬كام دخل‬
‫قايض محكمة النقض وجلس معهم‪.‬‬
‫صمت الجميع لَبهة‪ ،‬ثم قال القايض بصوت عالٍ‪:‬‬

‫‪ -‬فتحت الجلسة‪.‬‬

‫ورضب مبطرقته عىل القاعدة الخشبية‪.‬‬


‫ساد الصمت مجددا ً‪ ،‬ثم بدأ القايض مبراجعة األوراق بني يديه‪،‬‬
‫فهو عىل علم مسبق بغرابة القضية‪:‬‬

‫‪ -‬السيد صاحب االسم االفرتايض "السجني رقم‬


‫أربعة"‪...‬‬

‫‪146‬‬
‫مل يستجب أحد‪ ،‬فأعاد الجملة مرة ثانية‪ ،‬وهنا وقف الشيخ‬
‫"زين الدين"‪:‬‬

‫‪ -‬سيدي القايض‪ ،‬ال يوجد أحد يف هذه القاعة باسم‬


‫"السجني رقم أربعة" وإذا سمحت يل بالكالم‪،‬‬
‫فسأوضح لحرضتك ولجميع الحضور القصة‬
‫بتفاصيلها كامل ًة‪.‬‬

‫حرك القايض رأسه باإليجاب‪:‬‬

‫‪ -‬تفضل‪ ،‬وأرجو أن تع ّرف عن اسمك أوالً‪.‬‬


‫‪ -‬أنا الشيخ "زين الدين أرشف" شيخ من شيوخ الطائفة‬
‫الدرزية‪...‬‬
‫سيدي القايض؛ نحن قوم مساملون مؤمنون‪ ،‬نؤمن‬
‫بالتوحيد وصفاء النفوس لنسمو‪ ،‬وإلهنا إله واحد ال‬
‫ميكن إدراكه بالعقل البرشي‪ ،‬ونقبل الوصايا العرشة‬
‫ونحرتم جميع املذاهب والديانات‪ ،‬ونؤمن بالقرآن‬
‫كتاب ساموي مقدس عادل من الله تعاىل‪ ،‬ونؤمن‬
‫بالتوراة واإلنجيل والزبور كتب ساموية منزلة من عند‬
‫الله سبحانه وتعاىل‪...‬‬

‫سيدي القايض الله تعاىل خلق األرواح من روحه حيث قال يف‬
‫كتابه العزيز‪" :‬وإذ قال ربك للمالئكة إين خالق برشا ً من‬

‫‪147‬‬
‫صلصال من حأم مسنون‪ ،‬فإذا سويته ونفخت فيه من روحي‬
‫فقعوا له ساجدين‪ .‬صدق الله العظيم‪...‬‬
‫وقال كذلك‪ :‬نحن قدرنا بينكم املوت وما نحن مبسبوقني عىل‬
‫أن نبدل أمثالكم وننشئكم يف ماال تعلمون‪ .‬صدق الله العظيم‪...‬‬
‫جاءنا هذا الشاب منذ أيام خلت دخيالً علينا مستكيناً ضعيفاً‪،‬‬
‫يكاد يفقد عقله من هول ما حصل معه‪ ،‬وما حصل معه ليس‬
‫باألمر الهني أو القليل‪،‬‬
‫هو الدكتور "سامي عز الدين سقاف"‪ ،‬والذي ذهب ملعاينة‬
‫السجني املريض‪ ،‬ولكن وبرضبة من رأسه وكونه ميتلك قدرات‬
‫خارقة للطبيعة‪ ،‬استطاع ذلك السجني أن يتقمص جسد‬
‫الطبيب ويتبادل معه األدوار روحياً‪ ،‬وهو ما يسمى لدينا‬
‫الحي‪...‬‬
‫ّ‬ ‫بالتقمص‬
‫سيدي القايض قد يبدو كالمي هذا غري منطقي للعلم وللمنطق‬
‫وألغلبكم هنا‪ ..‬لكن من يؤمن بالتقمص سيجد أن كالمي‬
‫منطقي وطبيعي‪ ،‬وكثرية هي األديان واملذاهب التي تؤمن‬
‫بالتقمص وانتقال األرواح ولكل منها أدلتها الروحية‬
‫والواقعية‪...‬‬
‫فإمياننا هذا مل يأت من العدم أو من أقوال وأحاديث متناقلة‬
‫قيل عن قال؛ بل نحن يا سيدي القايض نشهد وبشكل دائم‬
‫وبكثري من األدلة بنظرية التقمص‪ ،‬فكم من طفل ولد ألبوين‪،‬‬
‫وبعد عدة سنوات بدأ يتذكر حياته السابقة من بني حيواته‪،‬‬

‫‪148‬‬
‫ويذكر أسامء ومناطق وتواريخ وحوادث يف مكان آخر مل يكن‬
‫قد زاره من قبل‪..‬‬
‫سيدي القايض كثرية هي الشواهد واألدلة وعديدة هي‬
‫املذاهب واألديان التي تؤمن مبثل هذه األمور والحوادث‪،‬‬
‫والتي إىل اآلن ال يأبه العلم بها‪ ،‬وال يوليها اهتامماً يذكر‪ ،‬علامً‬
‫أنها تكاد تحصل كل يوم يف حياتنا اليومية‪ ،‬ليس هذا وحسب؛‬
‫بل لقد تغاىض عنها القانون وتجاهلها كلياً‪...‬‬
‫وقضية الدكتور "سامي السقاف" اليوم ليست قضيته لوحده‪،‬‬
‫بل هي قضية الكثري منا إىل أن يعرتف القانون بها‪ ،‬فقد يقع‬
‫أحدنا يف شباك مثل هذه األمور ويظلم أو يتهم وهو منها‬
‫بريء‪...‬‬
‫فكم من جرمية قتل حدثت وكشفها طفل جاء من مكان آخر‬
‫بعد أن تقمصت روحه وقد وقعت قبل أن يقتل أو ميوت يف‬
‫حياته األوىل‪ ...‬وكم من أرسار وحوادث سجلت ضد مجهول‬
‫وأثبتها وأظهر حقيقتها شخص تقمصت روحه بعد حني‪...‬‬
‫اليوم سيدي القايض لدينا الدكتور "سامي"‪ ،‬ولكن بهيئة غري‬
‫هيئته وجسد غري جسده‪ ،‬ودليلنا عىل ذلك هو أنه مازال‬
‫يحتفظ بذكرياته وتاريخه وبأشياء كثرية من ماضيه‪،‬‬
‫وبإمكانكم أن تتأكدوا منها حتى يتم إثبات صدق قضيته‬
‫وصحتها‪ ،‬فزوجته وابنه وأصدقاؤه والكثري ممن يعرفونه‬
‫بالتأكيد لو جلسوا معه لعدة دقائق وحاوروه وبدأ هو بقص‬

‫‪149‬‬
‫حكايات وتفاصيل وأرسار حدثت بينه وبينهم سيكون هذا أكَب‬
‫الحي التي حدثت معه‪ ...‬فهو يعرف‬
‫ّ‬ ‫دليل عىل حادثة التقمص‬
‫تاريخ الساعة التي يرتديها‪ ،‬ويعرف الحادثة التي تعرضت لها‬
‫"إميا"‪ ،‬كام أن بإمكانه أن يذكر لكم أحداثاً ستشهد زوجته‬
‫الحالية "نهلة" بحدوثها‪ ،‬وأظن أنها قابلته اليوم واستمعت له‬
‫هي والدكتورة املختصة‪ ،‬وأنا أقول لكم من كان يعرف الدكتور‬
‫"سامي" قبل موت جسده‪ ،‬فليجلس مع روحه اآلن بجسده‬
‫املختلف وسيتأكد أنه هو‪.‬‬
‫سيدي القايض مل يبق يل من الكالم سوى أن أناشدك النظر‬
‫بعني العدالة إىل قضية من قضايا املاورائيات وقضايا يتحكم‬
‫بها الغيب أكرث من أن يتحكم بها املنطق والعلم يف زماننا‬
‫هذا‪ ...‬فرمبا يأيت وقت يستطيع العلم أن يحايك قضايا مثل‬
‫التقمص‪ ،‬وهنا نكون قد ظلمناه ألننا مل نكن نعرف‪..‬‬
‫وما مل يراه العلم اليوم قد يراه يف الغد‪ ،‬والسالم عليكم ورحمة‬
‫الله وبركاته‪.‬‬
‫نظر القايض إىل أرجاء قاعة املحكمة‪ ،‬كان الكل صامتاً‬
‫يستمع للشيخ "زين الدين"‪.‬‬
‫أشار القايض للشيخ بالجلوس‪.‬‬
‫عاد الشيخ وقبل أن يجلس أمعن النظر بعني الرحمة إىل زوجة‬
‫الدكتور "سامي" وابنه‪ ،‬ثم جلس يف مكانه‪.‬‬
‫نظر القايض إىل بعض الصور واألوراق أمامه‪:‬‬

‫‪150‬‬
‫‪ -‬املدعي العام ليتفضل بحجته‪.‬‬

‫عىل الفور‪ ..‬وقبل أن يتكلم املدعي العام‪ ،‬وقفت الدكتورة‬


‫"روجني" أمام القايض‪:‬‬

‫‪ -‬سيدي القايض إذا سمحت يل بالتكلم‪ ،‬أنا الدكتورة‬


‫النفس‬ ‫بعلم‬ ‫املختصة‬ ‫فائز"‬ ‫"روجني‬
‫والباراسيكولوجي‪ ،‬واملكلفة من قبل املحكمة بإجراء‬
‫الفحص الطبي للمتهم‪ ،‬وتقديم التقارير الطبية‬
‫الخاصة بحالته‪ ،‬مع شهادة السيدة "نهلة" زوجة‬
‫املجني عليه‪ ،‬والتي حرضت جلسة إعدادي للتقرير‬
‫كامالً مع املتهم‪.‬‬

‫عاد الصمت ليخيم عىل الجميع وسط القاعة بعد كالم‬


‫الدكتورة "روجني"‪ ،‬التي تقدمت نحو املنصة بعد أن سمح لها‬
‫القايض بالتكلم‪.‬‬
‫‪ -‬سيدي القايض قبل أن أطلعكم عىل التقارير الطبية‪ ،‬الخاصة‬
‫باملتهم أود القول لحرضاتكم جميعاً أنني ال أنفي التقمص‬
‫كعلم يف "امليتافيزيقيا" أو علم "املاورائيات" وعلم‬
‫"الباراسيكولوجي"‪ ،‬فحاالت التقمص لها دالالت ماورائية‬
‫حقيققية‪ ،‬وقبل قدومي إىل دمشق‪ ،‬كنت قد أجريت عدة‬

‫‪151‬‬
‫أبحاث مع فريق طبي متخصص ضمن "مجلس البحوث‬
‫الطبية" يف بريطانيا حول حالة التقمص‪.‬‬
‫* * *‬
‫يمكن القول إن الشخصية أكثر األدوات قدرة على اإلقناع‪.‬‬
‫أرسطو‪.‬‬
‫* * *‬
‫مجلس البحوث الطبية الَبيطاين‪ :‬هو وكالة حكومية ممولة من‬
‫القطاع العام‪ ،‬وهو مسؤول عن متويل وتنسيق البحوث الطبية‬
‫يف اململكة املتحدة‪ ،‬يعتَب واحدا ً من سبعة مجالس بحوث‬
‫أكادميية‪ ،‬وهذا املركز هو الذي قام بتطوير "البنسلني"‬
‫واكتشاف بنية الحمض النووي‪ ،‬وحصلت أبحاثه عىل أكرث من‬
‫ثالثني جائزة نوبل‪ ،‬ومؤخرا ً بدأ املجلس بتطوير أبحاث حول‬
‫نظريات املاورائيات وعلم امليتافيزيقيا‪.‬‬
‫* * *‬
‫إن األحالم في حياتنا هي البيئة التي فيها شكلنا‬
‫انطباعاتنا وأفكارنا وشعورنا‪ ،‬وحياتنا ليست إال أحالماً لحياة‬
‫أكثر واقعية نتمنى أن نعيشها‪.‬‬
‫ليو تولستوي – روايئ وداعية سالم ومفكر رويس‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪152‬‬
‫‪ -‬سيدي القايض‪ ،‬نحن اآلن لسنا أمام قضية انتحال شخصية‬
‫أو تقمص روح ما‪ ،‬أو ما شابه ذلك‪..‬‬
‫لقد خضع املريض املتهم صباح اليوم لجلسة تنويم‬
‫مغناطيس يف عياديت للربط بني أفكاره الواعية واالواعية من‬
‫ذاكرته املخفية‪...‬‬
‫واستطعت إخضاع دماغه من خالل جهاز (‪ )EGEI‬لحالة‬
‫اسرتخاء كاملة فتحدث بكل التفاصيل التي عاشها خالل‬
‫السنوات املاضية وما حصل معه مؤخرا ً‪ ،‬ثم تم إدخاله يف‬
‫فحص سيكولوجي كامل مع سحب بصامت أصابعه وبصمة‬
‫وجهه وبصمة عينيه‪ ،‬لنكتشف أن حالة املتهم تعتَب األندر يف‬
‫علم النفس‪ ،‬إذ أنه يعاين من انفصام عاطفي مع اعتالل نفيس‪،‬‬
‫وسأوضح لكم جميع التفاصيل بدقة إن سمحت يل املحكمة‬
‫وأمام العامة‪.‬‬
‫بعد أن صمتت الدكتورة لثانية بدأ الصخب والحوار الجانبي‬
‫بني جميع الحضور‪ ،‬عىل الفور أمسك القايض مبطرقته‬
‫ورضبها بشدة ليصمت الجميع‪ ،‬نظر إىل الدكتورة‪:‬‬

‫‪ -‬تفضيل دكتورة تابعي حديثك‪.‬‬


‫‪ -‬شكرا ً سيادة القايض‪ ،‬أوالً املتهم املاثل أمامكم ال‬
‫يحمل لقب السجني رقم أربعة كام اعتدتم عىل‬
‫تسميته‪ ،‬وبنفس الوقت ال يحمل اسم الدكتور "سامي‬

‫‪153‬‬
‫عز الدين سقاف" كام أسلف قبل قليل الشيخ "زين‬
‫الدين"‪،‬‬

‫الشاب املاثل أمامنا اسمه "آدم فرح" وتأكدنا من خالل دائرة‬


‫النفوس والسجالت املدنية من ذلك‪.‬‬
‫"آدم" هو األخ التوأم لـ"إميا" أصيب يف سنوات عمره األوىل‬
‫مبتالزمة "إسَبجر" املتالزمة التي تعتَب شكالً من أشكال‬
‫"التوحد"‪ ،‬والتي تجعل املصاب بها يتمتع بقدرات ذهنية‬
‫عالية جدا ً‪ ،‬ويصنف حسب مقاييس الذكاء بـ"العبقري‬
‫املبتكر"‪ ،‬وتنسب أغلب االخرتاعات اإلعجازية التي حققها‬
‫اإلنسان عىل هذه األرض بإصابة معضمهم مبتالزمة العبقرية‬
‫"إسَبجر" ولكن بأطياف مختلفة‪...‬‬
‫اهتمت والدته به كثريا ً يف مرحلة مراهقته‪ ،‬فتعلق بها حد‬
‫الجنون‪ ،‬لكنه وبسبب العبقرية الخاصة التي ميتلكها تطورت‬
‫حالته وأصيب "بعقدة أوديب" سيكولوجياً‪ ،‬فبدأ يعشق أمه‬
‫حد الجنون‪ ،‬وينبذ والده بشكل كبري‪...‬‬
‫وهنا سيدي القايض‪ ،‬تحولت حالته إىل مرحلة جديدة أثناء‬
‫جلسة التنويم املغناطييس ليتحدث عن ماضيه بتفاصيل‬
‫كثرية ال يسعنا الوقت هنا لذكرها‪ ،‬ولكنه ذكر لنا الحادثة التي‬
‫من خاللها توفيت أخته "إميا" والتي كذلك كان يحبها حباً‬

‫‪154‬‬
‫جنونياً‪ ،‬وكانت تخَبه بجميع األمور والقصص التي متر معها‬
‫يومياً وبالتفصيل‪.‬‬
‫ما أن ذكرت الدكتورة "روجني" اسم "إميا" حتى بدا املتهم‬
‫وكأنه يفقد تنفسه‪ ،‬إذ صار وجهه أصفرا ً وبدأ يتنفس برسعة‬
‫وبصورة غريبة جعل الكل ينظر إليه‪.‬‬
‫رمقه القايض‪ ،‬بعد أن توقفت الدكتورة "روجني" عن الكالم‬
‫وأخذت تنظر إليه باستعطاف‪.‬‬
‫ثم عاد القايض ووجه كالمه إىل الدكتورة‪:‬‬

‫‪ -‬حسناً دكتورة أكميل حديثك‪..‬‬


‫‪ -‬سيدي القايض يتمتع "آدم" بذكاء خارق وبقدرة‬
‫عجيبة عىل قراءة ومالحظة التفاصيل‪ ،‬كام أن لديه‬
‫قدرة عجيبة عىل تحليل الواقع والحركات وابتكار‬
‫الحلول بصورة ال يتوقعها البرش الطبيعيون العاديون‪،‬‬
‫وهو حاصل عىل شهادة البكالوريوس يف علم التاريخ‬
‫القديم وعلم األديان وتطورها‪ ،‬وكان مولعاً بدراسة‬
‫وثائق األديان القدمية املتناقلة‪ ،‬كيف تشكلت وكيف‬
‫تطورت‪ ،‬وكيف تحورت تاريخياً‪ ...‬واستطاع خالل‬
‫دراسته وبفضل عبقريته أن يخفي عمن حوله أي‬
‫دليل عىل إصابته بأي اعتالل نفيس وسيكولوجي‪...‬‬

‫‪155‬‬
‫وبسبب تعلقه الشديد بأمه‪ ،‬قرر أن يتخلص من والده بصورة‬
‫ذكية‪ ،‬فقام بتعطيل فرامل سيارة والده‪ ،‬وربط مؤرش الفرامل‬
‫ليحدث االنقطاع حني تصل رسعة السيارة إىل الثامنني‬
‫كيلومرتا ً يف الساعة‪ ،‬وذلك بنفس التوقيت الذي يعرف فيه أن‬
‫والده سيسافر من محافظة إىل محافظة‪ ،‬لكن سوء القدر جعل‬
‫أخته "إميا" تقرر مرافقة والدها يف رحلته هذه‪ ،‬وأثناء الطريق‬
‫انقطعت الفرامل وتويف األب واألبنة بحادث سيارة سجل‬
‫رس جرميته يف‬
‫مرورياً كحادث قضاء وقدر‪ ،‬ليحتفظ هو ب ّ‬
‫ذاكرته دون أن يخَب بها أحدا ً‪ ،‬وهنا نعتَب أنه تعرض للصدمة‬
‫النفسية األوىل‪ ،‬فمكث يف غرفته ال يحدث أي شخص‪ ،‬إذ فقد‬
‫أخته التوأم التي تعلق بها منذ صغره تعلقاً أشبه بالجنون‪.‬‬
‫بعد عدة أشهر توفيت أمه بسبب حزنها عىل الحادثة التي‬
‫تعرضت لها العائلة‪...‬‬
‫ليتحول "آدم" إىل حالة سيكولوجية جديدة تسمى يف علم‬
‫النفس الحديث باسم "اعتالل الذكاء العبقري والنفيس"‪،‬‬
‫ويسمى كذلك "بانفصام الشخصية العبقري الحاد"‪...‬‬
‫ولكونه كان يحب أخته وأمه حباً كبريا ً ومتعلق بهام أشد‬
‫التعلق‪ ،‬بدأ دماغه بصقل وتغيري شخصيته الداخلية‪،‬‬
‫واالنتقال إىل حالة "التقمص العاطفي الذهني"‪ ،‬أو "االنفصام‬
‫العبقري"‪...‬‬

‫‪156‬‬
‫يف هذه الحالة قرر دماغه أن يبدأ بتأهيله ليعيش حالة عشيق‬
‫أخته‪ ،‬والذي كان يعرف مسبقاً أنه "الدكتور سامي"‪ ،‬خاصة أن‬
‫أخته كانت تخَبه بكل ما كان يحصل معها أثناء مقابلتها‬
‫للدكتور "سامي" وكيف أنها تعلقت به عاطفياً‪ ،‬وبدأت بحبه‬
‫خالل الفرتة الوجيزة التي تعرفت بها إليه‪...‬‬
‫وساعة اليد التي أهدتها له كانت من اختيار "آدم" فهو من‬
‫انتقاها لها حني كانت تبحث يف السوق عن هدية تناسب‬
‫حبيبها "سامي"‪...‬‬
‫انتقل "آدم" يدور يف الشوارع يراقب كل تفاصيل الدكتور‬
‫سامي دون أن يشعر هو بذلك‪ ،‬بدءا ً من منزله إىل عيادته‪،‬‬
‫املشفى‪ ،‬املطاعم التي يرتادها‪ ،‬األصدقاء اللذين يزورهم‪ ،‬ومل‬
‫يغادر املنطقة التي يعيش فيها الدكتور سامي أبدا ً‪ ،‬إذ كان‬
‫ينام يف زوايا األبنية‪ ،‬وغرف الكهرباء‪ ،‬وسوى ذلك لعدة‬
‫سنوات‪...‬‬
‫بقي عىل حالته هذه إىل أن تم إلقاء القبض عليه بعد أن‬
‫استطاع جعل نفسه محل شبهة‪ ،‬حيث كان يقوم بخلع أبواب‬
‫املحال التجارية ليالً‪ ،‬أو إشعال الحرائق يف مداخل األبنية‬
‫وغري ذلك‪ ..‬منتظرا ً أن يتم إمساكه‪.‬‬
‫وبالفعل تم له ذلك عىل يد املقدم "مروان"‪...‬‬
‫دماغه الالواعي هو الذي كان يسري جميع ترصفاته وحركاته‬
‫ويربط له األشياء ببعضها ليمنحه نتائج مرعبة‪ ،‬فكان قادرا ً‬

‫‪157‬‬
‫عىل قراءة لغة العيون بشكل مبهر‪ ،‬ويعرف ما يفكر به الشخص‬
‫من خالل حدسه‪...‬‬
‫ثم جاءت مقابلته للدكتور "سامي" وجهاً لوجه يف مشفى‬
‫األمراض العقلية‪ ،‬إذ استطاع تسيري جميع األحداث وفق ما‬
‫كان يخطط لها بالضبط‪ ،‬وبعد أن انفرد بالدكتور سامي‪ ،‬أعطاه‬
‫دماغه الالواعي األمر لبدء عملية "االنفصام النفيس‬
‫الداخيل"‪...‬‬
‫وبالفعل بدأ حالة االنفصام النفيس ليعيش دور الدكتور‬
‫"سامي" بكامل التفاصيل والذكريات‪..‬‬
‫وهنا سيدي القايض كان دماغه الواعي مؤمناً ومصدقاً لكل ما‬
‫كان ميليه عليه دماغه الالواعي‪ ،‬فصدّق وآمن أنه تعرض لعملية‬
‫حي‪ ،‬وأن روحه هي روح الدكتور "سامي" ولكنها‬
‫تقمص روحي ّ‬
‫انتقلت إىل جسد السجني‪...‬‬
‫لقد كان "آدم" مقتنعاً بشكل ال تشوبه شائبة أنه عشيق أخته‬
‫السابق‪ ،‬وكان يتخيل حياته ويتخيل أن نهلة هي زوجته‪.‬‬
‫أخريا ً سيدي القايض أود أن أبني لكم أننا أمام عبقرية نادرة‬
‫جمعت بني متالزمة "إسَبجر" بطيف نادر للغاية‪ ،‬مع اعتالل‬
‫نفيس بدماغه الالواعي‪ ،‬ومستوى تفكري نادر ودقيق وذاكرة‬
‫قوية وخارقة يف دماغه الواعي‪ ،‬كل ذلك جعلنا جميعاً ندخل‬
‫يف دوامة شديدة مل نستطع تفسريها بسهولة‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫وجهاز تسجيل الجلسة التي قمت بها صباح اليوم موجود‬
‫أمامكم سيدي القايض‪.‬‬
‫أمسك القايض باألوراق وجهاز التسجيل‪ ،‬ثم نظر إىل املتهم‪:‬‬

‫‪ -‬ينطق بالحكم بعد االستامع للتسجيالت والتأكد من‬


‫هوية املتهم‪ ،‬واملشاورة الخاصة مع باقي الزمالء‬
‫القضاة‪..‬‬
‫‪ -‬رفعت الجلسة‪.‬‬

‫* * *‬
‫تعتَب متالزمة "إسَبجر" أو متالزمة العبقري املوهوب ذات‬
‫أطياف وأشكال متعددة‪ ،‬إذ أنها تختلف من شخص آلخر‪ ،‬وهي‬
‫حالة نادرة جدا ً‪ ،‬متنح املصاب بها قدرات عقلية مذهلة‪ ،‬وقد‬
‫تتطور هذه القدرات بشكل أكَب لتتحول إىل قدرات خارقة‪،‬‬
‫وهي ال تعتَب من األمراض النفسية ولكونها حاالت نادرة‬
‫ومختلفة يطلق عليها اسم متالزمة‪...‬‬
‫ومن بني الشخصيات التي يفرتض علامء النفس إصابتهم‬
‫مبتالزمة "إسَبجر"‪:‬‬
‫(مايكل أنجلو) الرسام والنحات واملهندس املعامري والشاعر‬
‫اإليطايل‪ ،‬والذي لقب برجل النهضة النموذجي‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫(أبراهام لينكولن) رجل الدولة واملحامي األمرييك‪ ،‬والذي صنع‬
‫دستورا ً وقوانيناً ألمريكا جعلها املرتبعة عىل عرش‬
‫إمَباطورية العامل‪.‬‬
‫(بيل جيتس) إمَباطور التكنولوجيا يف عرصنا‪ ،‬مؤسس رشكة‬
‫مايكروسوفت الرشكة األوىل يف عامل الَبمجيات‪ ،‬ويعتَب ضمن‬
‫قامئة أغنى أغنياء العامل‪.‬‬
‫(موزارت) أنتج أكرث من ‪ 600‬تركيبة موسيقية أذهلت العامل‬
‫بغرابتها‪.‬‬
‫(ليونادرو دافنيش) الرسام واملوسيقي والطبيب وعامل النبات‬
‫وعامل الخرائط والنحات‪.‬‬
‫والكثري من العلامء الذين اهتمت بهم دول أوروبا وأمريكا بعيدا ً‬
‫عن املعتقدات‪.‬‬
‫* * *‬

‫‪160‬‬
‫بصوت قوي صدح يف القاعة‪:‬‬

‫‪ -‬محكمة‪...‬‬
‫‪ -‬حكمت املحكمة حضورياً عىل املتهم "آدم فرح"‬
‫بالسجن املؤبد ضمن مشفى األمراض العقلية‬
‫والنفسية‪ ،‬قسم الحاالت الخطرة‪ ،‬وعزله عن محيطه‬
‫كونه يصنف ضمن قامئة املجرمني الخطرين‬
‫واملختلني عقلياً‪...‬‬
‫رفعت الجلسة‪.‬‬

‫تـمـت‬

‫‪161‬‬
‫تنويه‪:‬‬
‫الرواية برسم جميع الحكومات ومنظامت حقوق اإلنسان يف‬
‫الرشق األوسط لدعم مراكز الرعاية النفسية والذهنية‬
‫للمصابني بأمراض نشخصها عىل أنها حاالت اعتالل‬
‫سيكولوجي وذهني‪.‬‬
‫فبيننا يعيش الكثري من العباقرة واملبتكرين الخارقني‪،‬‬
‫ونعتَبهم معتلني عقلياً‪ ،‬أو ممسوسني دينياً‪ ،‬إنهم يف الحقيقة‬
‫من باستطاعتهم إيجاد الحلول لجميع مشاكلنا العالقة يف‬
‫الطبيعة والعلوم والسياسة والطاقة والكثري غريها‪.‬‬
‫أخرجوهم من معتقالت وسجون العقول واستثمروهم يف مراكز‬
‫البحوث‪ ،‬فهم ال يشبهوننا كونهم أفضل منا‪.‬‬
‫المؤلف‬

‫‪162‬‬
163
164

You might also like