You are on page 1of 41

‫الديانة المحرمة‬

‫خوسيه ماريا ھيرو أراغون ‪ ‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .1‬المعرفة الروحية األصلية‬


‫‪ ‬‬

‫إنھا المعرفة والحكمة األزلية التي طالما أشير إليھا بتعبير الغنوصية األساسية‪ .‬غير أنھا تعني في األساس‪ :‬المعرفة‬
‫األصلية‪ .‬لكننا ال نشير إلى أيّة معرفة ھنا‪ ،‬ذلك أن الغنوصية ھي معرفة خاصة جداً‪ :‬تلك المعرفة التي تؤدي إلى‬
‫تحول كبير لدى أولئك الذين يحصلون عليھا‪ .‬معرفة قادرة على إحداث ليس أقل من اليقظة والتحرر الروحي‪ .‬غايتھا‬
‫تسليط الضوء على أوضاع البشرية والعمل على إيقاظ اإلنسان‪ ،‬ومساعدته على الخالص من السجن الذي يجد نفسه‬
‫فيه‪ .‬لھذا السبب تعرضت ھذه المعرفة دوما وبشكل متكرر للھجوم عبر مسار التاريخ‪ ،‬ذلك أن ھذه المعرفة تشكل‬
‫خطراً على السلطات السياسية والدينية التي تحكم البشرية من خلف الكواليس‪ ،‬ولھذا السبب أيضا ً بقيت ھذه المعرفة‬
‫دوما ً سرية‪ .‬فالغنوصية ھي المعرفة السرية التي ال يمكن الوصول إليھا إالّ لمن يستحقھا‪ .‬لقد حاولت ديانات مختلفة‬
‫عبر التاريخ أن تبقي اإلنسان جاھالً بھذه المعرفة‪ ،‬بل بھذا النوع من المعرفة األصلية األولية األساسية والتي تسمى‬
‫الغنوصية‪ ..‬واآلن سنعرف السبب‪.‬‬

‫ھذه المعرفة األصلية األزلية ھي معرفة نقية بالكامل‪ ،‬كما أنھا ثابتة ال تتغير‪ ،‬ولن تتغير طالما أن الوضع الروحي‬
‫لإلنسان وكل ما يسمى بـ "الخلق" و"الخليقة" و"العالم" لم يتغير بعد‪ .‬لقد تم كشف ھذه المعرفة األصلية في مناسبات‬
‫عدة في الماضي بشكل علني‪ ،‬غير أن كل ما تم كشفه لم يكن حقا ً الشكل النقي الخالص لھذه المعرفة‪ ،‬بل الشكل الذي‬
‫تم اعتماده وتكييفه وتغييره بحيث يالئم الظروف التاريخية والثقافية للزمان والمكان اللذان وجدت فيھما‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لم‬
‫تسلم الغنوصية البدائية من وصفھا دائما ً بالزندقة من قبل كل نظام ديني وفلسفي بوجه عام‪ ،‬فمنعت واضطھدت‬
‫ولوحقت‪ ،‬وبذلك أر ِغ َمت على التخفي واالستتار لتصبح سرية‪.‬‬
‫عندما نتفحص بإمعان ھذه المعرفة المحرمة‪ ،‬الممنوعة‪ ،‬فيصبح باإلمكان استعادة األجزاء المبعثرة الالزمة إلعادة‬
‫تشكيل الصورة الكلية لتلك المعرفة األزلية‪.‬‬
‫ً‬
‫وإذا أمكن الكشف عن تلك المعرفة وتدوينھا‪ ،‬فالنتيجة ستكون كتابا ذا تأثير قوي ومربك‪ ،‬ذلك أن ھذه النصوص‬
‫ستكون األكثر خطورة في العالم‪ ،‬فھي تملك القدرة على إيقاظ وتحرير أولئك الذين يقرأونھا ويدرسونھا‪ .‬والحقيقة إن‬
‫مثل ھذا الكتاب سيكون شيئا ً غريبا ً في ھذا العالم المخلوق‪ ،‬بل سوف يكون شيئا ً أصيالً لم يتم تلفيقه أو اختراعه ھنا‬
‫على ھذه األرض‪ ،‬وإنما كتاب أتى من مكان آخر‪ :‬من عالم آخر مختلف تماما ً عن ھذا العالم‪ .‬ھذا الكتاب سيكون‬
‫أيضا ً قادراً على البقاء؛ فال النيران تقدر أن تلتھمه‪ ،‬وال الزمن يمكن أن يبطله‪.‬‬
‫في ھذا الكتاب سأحاول أن أبقى قريبا ً قدر اإلمكان من تلك التي كانت ومازالت تشكل المعرفة األصلية‪ ،‬أي المعرفة‬
‫الغنوصية في شكلھا النقي‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ .2‬المادة َ‬
‫ش ٌّر ‪ ‬‬

‫كل الديانات تتفق على أن "المادة شيء جيد"‪ ،‬وأن "العالم جيد وخير أيضا ً"‪ ،‬وأن ﷲ خالق كل شيء"‪ .‬وأن "ﷲ‬
‫عادل‪ ،‬وصالح‪ ،‬وإنه خلق شيئا ً مفيدا لإلنسان"‪ .‬لھذا يقول الكتاب المقدس‪" :‬وقال ﷲ ليكن نور‪ ،‬فكان نور‪ .‬ورأى ﷲ‬
‫النور أنه حسن"‪ .‬لكن المعرفة األولية األزلية )والتي يمكننا من اآلن فصاعدا تسميتھا بالمعرفة الغنوصية‪ ،‬وذلك‬
‫لتمييزھا عن غيرھا من الغنوصية المزيفة ‪ false gnosis ‬التي ظھرت عبر التاريخ(‪ ،‬تؤكد عكس ذلك‪ :‬المادة شر‬
‫وغير نقية؛ المادة ھي سجن للروح‪ ،‬وھذا العالم المادي ھو الجحيم بعينه‪.‬‬
‫إن المادة َشرٌّ ‪ ،‬فإذا كانت المادة شرّ اً‪ ،‬فالبد أن يكون خالقھا بالضرورة ش ٌر أيضا ً‪ .‬ھذا العالم المادي‪ ،‬بالنسبة‬
‫للغنوصيين‪ ،‬قد خلقه إله شيطان وليس إله خيّر‪ .‬فالمادة شيء شيطاني‪ ،‬وبالتالي فإن من خلقھا البد أن يكون ھو أيضا ً‬
‫كيان شيطاني‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫شر ‪ ‬‬
‫‪ .3‬الزمن ٌّ‬

‫بالرغم من أن الكتاب المقدس ال يشير إلى ذلك‪ ،‬إال ّ أن الزمن بدأ مع "االنفجار الكبير"‪ .‬ففي بداية الخلق‪ ،‬عندما قال‬
‫ﷲ "ليكن ھناك نور"‪ ،‬لم يكن باإلمكان أن تقال ھذه الكلمات لو أن الزمن لم يكن موجوداً‪ .‬فقد وُ ِج َد الزمن عندما خلق‬
‫اإلله الخالق النور‪ .‬إن االنفجار الكبير األول‪ ،‬مع ما تاله من تمدد‪ ،‬لم يكن ليحصل بدون زمن‪ ،‬ولذلك تم خلق الزمن‬
‫والمكان معا ً‪ ،‬وبالتالي ال يمكن الفصل بينھما‪ .‬إن الزمن ھو أنفاس اإلله الخالق‪ ،‬وكل خليقته‪ ،‬بما في ذلك تمدد‬
‫الكون‪ ،‬وإن تطور الكائنات بكافة أنواعھا‪ ،‬والتطور التدريجي لخططه‪ ،‬ما كان ليحدث بدون زمن‪ .‬لھذا فإن الزمن‬
‫مكون شيطانيّ بالنسبة للغنوصيين‪ ،‬مثله مثل المادة تماما ً‪ ،‬وشأنه شأن اإلله الخالق‬‫الذي ھو َن َفسُ اإلله الخالق‪ ،‬ھو َّ‬
‫نفسه‪  .‬‬

‫‪ .4‬اإلله الخالق ‪ ‬‬

‫في القرون األولى من عصرنا ھذا‪ ،‬نظرت العديد من الطوائف الغنوصية إلى اإلله الخالق على أنه ليس كائنا ً‬
‫صالحاً‪ ،‬أو حتى مجرد كائن‪ ،‬بل ككائن شيطاني‪ .‬كما أن العديد من ھذه الطوائف ربطته بالشيطان‪ .‬يروي غوستافو‬
‫أدولفو بيكيور في إحدى أعماله كيف خلق براھما العالم على شكل فقاعات‪ ،‬وكيف اختبرھا‪ .‬ففي بعض األحيان‬
‫كانت تنتج أشياء خيّرة‪ ،‬وأحيانا شريرة‪ .‬لذلك فإن اإلله الخالق ليس إلھا ً مثاليا ً تماما ً‪ ،‬بل من الواضح أنه غير كفؤ‬
‫أبداً‪ :‬فھناك عوالم تنقلب إلى عوالم سيئة‪ ،‬فيتوجب عليه تدميرھا‪ ،‬وھناك عوالم تصبح أفضل‪ .‬ومن ھنا نرى أنه‬
‫يحاول ويجرّ ب‪ ،‬ويخلق من خالل التجربة والخطأ‪ .‬يقول الكتاب المقدّس‪ " :‬قال ﷲ‪ :‬ليكن ھناك نور‪ ،‬فكان النور"‪.‬‬
‫ورأى ﷲ النور أنه كان خيراً"‪ .‬كيف ھذا! ألم يكن َيعلَم بذلك؟ ألم يكن َيعلم أنه كان شيئا جيداً؟ لھذا السبب يقول‬
‫الغنوصيون "نحن في حضرة خالق يجھل نتائج خلقه"‪  .‬‬

‫وبالمثل‪ ،‬فإن اإلله الخالق يؤ ّكد دائما ً إنه اإلله الوحيد‪ .‬وھو ال يقول ھذا مرة واحدة‪ ،‬بل نراه يكرر ذلك طوال الوقت‪،‬‬
‫فھو يقول باستمرار‪" :‬أنا ﷲ الوحيد"‪" ،‬وال إله آخر"‪" ،‬أنا‪ ،‬إلھكم‪ ،‬إنا اإلله الوحيد"‪ ،‬الخ‪ .‬ونحن نعلم جميعا ً أنه عندما‬
‫يقوم شخص بتكرار الشيء ذاته مرّ ات عديدة‪ ،‬فذلك ألنه ليس متأ ّكداً مما يقول‪ ،‬وھذا ھو السبب في تكراره لذلك‬
‫مرات كثيرة‪ .‬أمّا تفسير الغنوصيين لذلك فھو أن الخالق يشتبه بوجود إله آخر أعلى منه‪ ،‬نظراً ألنه ليس متأكداً مما‬
‫يقوله تماما ً‪ .‬أمّا ﷲ الذي ال يحدّه شيء فھو أكثر تفوّ قا ً عليه‪ ،‬وأعظم منه بكثير‪ ،‬بل وأكثر أھمية‪ ،‬وھذا ما يحاول‬
‫خالق الكون المادي إخفاءه من خالل تكراره على نحو متواصل قائالً‪" :‬أنا اإلله الوحيد"‪" ،‬وال يوجد إله آخر"‪.‬‬

‫ھذا اإلله الخالق‪ ،‬بال ريب‪ ،‬ھو خالق العالم‪ ،‬بل خالق كل العوالم‪ ،‬والكواكب‪ ،‬والكون‪ ،‬والمادة‪ ،‬والزمن‪ .‬وھو‬
‫المسؤول ع ّما يسميّه الفيزيائيون اليوم‪ :‬االنفجار الكبير‪ .‬والحقيقة إن كل ما أشارت إليه الفيزياء الحديثة‪ ،‬بأن كل‬
‫شيء بدأ بانفجار ضخم‪ ،‬بومضة من الضوء‪ ،‬ي ّتفق مع معظم األساطير في جميع األديان بشأن خلق العالم‪ .‬فاإلله‬
‫األول خلق الضوء‪ ،‬وبعدھا خلق أشياء أخرى متنوعة‪ ،‬إلى أن تمكن من خلق الحيوانات‪ ،‬وفي النھاية‪ ،‬خلق اإلنسان‪.‬‬
‫كل ھذه األساطير الموجودة في الكتاب المقدس وفي الكتب الدينية األخرى تتفق مع استنتاجات علماء الفيزياء في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬ومع علماء األحياء بشأن خلق العالم واإلنسان‪  .‬‬
‫وبالطبع فإن ھذا الخلق مليء باألخطاء‪ ،‬وغير كامل‪ .‬فإذا كان ھذا العالم ناقص‪ ،‬وإذا كانت المادة ال تخلو من‬
‫العيوب‪ ،‬أو إذا كان كل ما ھو موجود في الكون غير كامل‪ ،‬فذلك ألن خالق كل ھذا ھو كائن غير كامل‪  .‬‬

‫الغنوصي اليوم‪ ،‬يقول على سبيل المثال‪ " :‬لقد كانت الديناصورات فكرة غبية؛ كانت خطأ‪ ،‬ولھذا كان على الخالق‬
‫إبادتھا والتخلّص منھا بالكامل ثم البدء من جديد بتجربة أخرى‪ ،‬إلى أن استطاع أن يتدبّر شيئا ً كان راضيا ً عنه"‪.‬‬
‫وبما أن اإلله الخالق لديه خطط‪ ،‬فسوف نبحث فيما بعد حول ماذا تدور ھذه الخطط‪  .‬‬

‫كما يؤ ّكد الفيزيائيون أيضا ً‪ ،‬وألبرت أينشتاين واحد منھم‪ ،‬بأن الكون ليس شيئا ً ال حدود له‪ ،‬وإ ّنما ھو أشبه بفقاعة‬
‫تحوي كل الخلق‪ .‬فالكون محدود مثلما زع َم أينشتاين‪ .‬إذن ھذا الخلق محدود‪ ،‬وھو يشبه فقاعة ضخمة تحتوي كل‬
‫ِث من قبل اإلله الخالق‪ ،‬وال نعرف ما ھو موجود خارجھا‪ .‬لكن الغنوصية تدعي أنھا تعرف‪ ،‬مثلما سنرى‬ ‫شيء أحد َ‬
‫اآلن‪  .‬‬

‫في الكتب المقدسة لمختلف الديانات‪ ،‬والتي يقال إنھا مستوحاة من اإلله خالق الكون‪ ،‬أوردنا حقائق وتفاصيل تبيّن أن‬
‫صوّ ُر أحيانا ً على أنه إله حاقد‪ ،‬سيء‬
‫اإلله الخالق ھو كائن منقوص‪ ،‬وليس سليما ً بكل معنى الكلمة‪ .‬ھذا اإلله ّي َ‬
‫الطباع‪ ،‬متعجرف‪ ،‬وغير واثق‪ ،‬ومتردد‪ .‬إله يحب تقديم التضحيات باسمه‪ ،‬ويحب اإلبادة الجماعية‪ ،‬وھو الذي يأمر‬
‫الناس بقتل اآلخرين‪ ،‬وانتزاع ممتلكاتھم‪ ،‬وأرضھم‪ ،‬وشعبھم‪ ،‬وماشيتھم‪ .‬يعطي األوامر ليس فقط لقتل أعدائه‪ ،‬وإ ّنما‬
‫لقتل النساء واألطفال والحيوانات أيضا ً‪ .‬إله يرتكب المجازر الجماعية‪ .‬ھذا اإلله يطلب تقديم تضحيات باسمه ألنه‬
‫يحب رائحة اللحم المشوي للضحايا التي قدّمت لمذبح التضحية‪ .‬إنه اإلله الذي س ّبب الطوفان الذي أغرق مئات‬
‫اآلالف من البشر! ھكذا ُذ ِكر في الكتاب المقدس وفي غيره من النصوص التي سبقته‪ ،‬كالتي ُذكرت في الطوفان‬
‫البابلي على سبيل المثال‪ .‬لقد تذوّ ق ھذا اإلله طعم ضحاياه من البشر‪ ،‬والحيوانات‪ ،‬وتذوّ ق َدماء أعدائه التي سالت‪.‬‬
‫إنه إله ُيحبُّ أن يكون ُم َق َّدراً‪ ،‬وأن يُع َب َد ويُخدَ َم‪ ،‬وأن ُيخشى ويطاع‪ .‬يحب أن تبنى المعابد تكريما له‪ ،‬ويحب الطقوس‬
‫والوصايا وتنفيذ أوامره‪ ،‬وأن تر َسل األدعية له‪ .‬إله يرغب برؤية جميع الكائنات الحية وھي تعاني من األلم‪ ،‬ألنه‬
‫يحب التعذيب والمعاناة‪ .‬يسميه الغنوصيين القدماء يلضباؤوث‪ ،‬ويعني "ابن الفوضى"‪ .‬وأحيانا كان يطلق عليه اسم‬
‫صاباؤت‪ :‬أي "إله اإلجھاد"‪ .‬كما كانوا يس ّمونه أيضا ً كوزموكريتور‪ ،‬أو أركونت العظيم‪ ،‬أي خالق ومنظم المادة‪.‬‬
‫غير أن االسم األكثر شيوعا ً الذي يطلقه الغنوصيين عليه ھو خالق الكون المادي ‪ ،demiurge‬وتعني الخالق باللغة‬
‫اليونانية‪  .‬‬

‫وبدون شك فإن ھذا "الكائن المتفوق" ‪ ‬ال يمكن أن يكون جيداً‪ ،‬فكان من الطبيعي أن يتعرض لالضطھاد على مر‬
‫التاريخ أولئك الذين أكدوا ذلك )ھذه األفكار التي أذكرھا(‪ ،‬أو يدفعوا حياتھم ثمن تجرؤھم على قول ما كان بالنسبة‬
‫لھم حقيقة‪ .‬فالكائن األعلى الذي يحب الحروب‪ ،‬ذلك الكائن المبيد‪ ،‬والذي يأمر بختان األوالد‪ ،‬ال يمكن أن يكون إلھا‬
‫جيداً‪ .‬لھذا السبب يشبھه الغنوصيون بالشيطان‪ .‬كذلك اعتبروه خالق الشيطان‪.‬‬

‫حر َقت ھذه الكتب ودمرت‪ .‬وذلك ھو‬‫ُ‬


‫اآلن نعرف ما ھو مصير الغنوصيين‪ ،‬وما ھو مصير تعاليمھم وكتبھم‪ :‬فقد أ ِ‬
‫مصير الذين يسمون بـ "الزنادقة" مثلما أطلق عليھم عبر التاريخ‪  .‬‬

‫ھذا العالم الذي أنشأه الخالق ال ينتمي إال له‪ .‬كل األشياء المادية في ھذا العالم تستجيب له‪ ،‬وتعبده‪ ،‬وتكبّره‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحال فإن العقائد التي نحن بصددھا قد أدينت كي ُت َّ‬
‫ضط َھ ُد إلى األبد‪ ،‬ولن يكون لھا ذلك التأثير القوي‪ ،‬أو تحظى‬
‫بنجاح كبير‪ .‬وال يمكن إال ّ لقلة من الشجعان دراسة وتفسير ھذه األفكار الغنوصية القديمة والخالدة‪ ،‬أو الحفاظ عليھا‪،‬‬
‫وھم بال شك موجودين في أرض العدو‪ .‬غير أن الغنوصية كانت دائما موجودة في ھذا العالم الغريب الذي ال تنتمي‬
‫إليه‪ .‬وھذا الفكر الغنوصي‪ ،‬خالفا ً لجميع األفكار التقليدية‪ ،‬ھو األكثر اضطھادا واألكثر رفضا ً من قبل الجميع‪ .‬فھناك‬
‫موضوعات "ال ينبغي" المساس بھا‪ ،‬وأشياء "ال ينبغي" أن ُتقال‪ ،‬وھناك كتب "يجب" تختفي‪ ،‬ذلك أننا نعيش في‬
‫قول‪" :‬اثنين زائد اثنين يساوي أربعة"‪  .‬‬
‫عالم حيث ال نملك سوى حرية ِ‬
‫والحقيقة إن ھذا العالم ھو األرض العدوة للغنوصي؛ فالغنوصي الذي سيكون قادراً على الظھور والتحدث‪ ،‬سوف‬
‫يختفي بسرعة‪ ،‬نظراً ألن الخليقة كلھا سوف تتحول ضده بشكل تلقائي‪ .‬فإلى كم سنة مقبلة يمكن ليسوع المسيح التنبؤ‬
‫وفقا لألسطورة المسيحية؟ إنھا ثالثة سنوات فقط‪ ،‬ولكن خالل ھذه السنوات الثالث تشكل دين ناجح بات معروفا ً اآلن‬
‫على األرض منذ ‪ 2000‬سنة خلت! ‪ ‬‬

‫كنا نقول إنَّ ھذا العالم ھو األرض العدوة للغنوصي‪ ،‬ألن ھذا العالم المادي برمّته‪ ،‬وجميع الكائنات التي تعيش فيه‪،‬‬
‫مصنوع من المادة‪ ،‬ومتحيز للمادة‪ .‬عالم ينتمي للمادة‪ ،‬ويدافع عن المادة وخالقھا‪ ،‬وال يمكنه تخيّل أي شيء آخر‪.‬‬
‫وبالتالي فإن جميع المعارضين للعالم المادي وإلھه الخالق يشكلون خطراً عليه‪ ،‬ويجب تدميرھم‪ .‬لذلك ُي َ‬
‫نظ ُر إلى‬
‫الغنوصية على أنھا شيء مُروِّ ٌع ال يمكن تصوره‪ ،‬ويجب القضاء عليھا‪  .‬‬

‫صوَّ روا اإلله الخالق كشيء مروّ ع‪ ،‬يتخذ شكل األخطبوط أو الزواحف‪ ،‬وأحيانا برأس خنزير‪،‬‬ ‫أمّا الغنوصيون فقد َ‬
‫أو يتخذ شكل خنزير بري‪ ،‬أو حمار‪ .‬لھذا السبب تمنع بعض األديان أكل لحوم ھذه الحيوانات‪ .‬كما صُوِّ َر أيضا على‬
‫شكل مخلوق شيطاني مكون من رأس ماعز وجسد امرأة‪ ،‬ذلك الذي يعبده فرسان الھيكل وأتباع بعض المذاھب‬
‫الماسونية‪ .‬كما أن بعض الغنوصيين صوّ روا اإلله الخالق أيضا ً على شكل خنزير برّ ي ضخم متعدد األعين‪ ،‬نصف‬
‫نائم‪ ،‬وھو ينفث الزمن‪ ،‬ألن الزمن كما قلنا‪ ،‬ھو َن َفسُ ھذا اإلله الخالق‪.‬‬

‫ال شك في أن ھذا العالم ليس عالما جيّداً؛ فالحيوانات يجب أن تمزق وتدمر بعضھا البعض لكي تأكل وتبقى على قيد‬
‫الحياة‪ .‬والبشر يحتاجون لالحتيال على بعضھم البعض في جميع مراتب الحياة إلعالء شأنھم‪ ،‬وألجل المنافسة‬
‫والحفاظ على حياة أفضل‪ .‬الحيوانات العاشبة تحتاج إلى تدمير النباتات التي ھي أيضا ً كائنات حيّة‪ .‬كل شيء يدمر‬
‫نفسه بصورة مستمرة ويدمر غيره‪ ،‬ليأتي في النھاية من يسمي كل ھذا "كماالً" أو "توازنا ً مثاليا ً" ‪ .‬ذلك أمر ال‬
‫ُيص َّدق! إنه الجحيم‪ .‬فھذا العالم ليست نظاما ً مثاليا ً أو حتى نظام جيد؛ إنه نظام ينبغي لكل شخص أن يدمر شيئا ً ما‬
‫آخر من أجل البقاء على قيد الحياة‪ .‬ھذا النظام المخلوق‪ ،‬وھذا العالم الذي خلقه "كائن متفوّ ق"‪ ،‬اسمه‪ :‬اإلله الخالق‪،‬‬
‫أو الديموريج ‪ ،demiurge‬أي خالق الكون المادي‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .5‬خلق العالم ‪ ‬‬

‫رأينا بالفعل أن الغنوصيين يؤكدون أن خالق الكون المادي أو اإلله الخالق ھو كائن فاشل وجاھل إلى حد كبير‪ ،‬وأنه‬
‫يجھل المآالت التي ستكون لدى كل مخلوق من مخلوقاته‪ .‬إنه يجرّ ب‪ ،‬ويتقدم في عمليات الخلق من خالل المحاولة‬
‫والخطأ‪ .‬كما أجرينا أيضا ً مقارنة بين األساطير المتعلقة بخلق العالم ونظرية االنفجار الكبير للفيزياء الحديثة‪ .‬ھناك‬
‫كتاب رائع كتبه أوسكار كيس ميرث‪ ،‬يسمى "البداية كانت النھاية"‪ ،‬وفيه يبين بوضوح التشابه بين موقف سفر‬
‫التكوين في الكتاب المقدس‪ ،‬وبين موقف الفيزياء الحديثة‪ ،‬وأن كال الموقفين منسجمين بشكل كامل‪  .‬‬

‫يقول الغنوصيين على سبيل المثال إن ھذا اإلله ھو إله أنھكه التعب‪ ،‬إله يحتاج ألن يستريح في اليوم السابع‪ ،‬وإنه‬
‫بسبب ھذا ال يمكن أبداً أن يكون إلھا ً كامالً‪.‬‬

‫خالق ضا ٍّل وشرير وھو خالق الكون المادي‪ .‬كان الغنوصيون‬


‫ٍ‬ ‫لقد أشار الغنوصيين على الدوام إلى أن الكون أوجده‬
‫يتساءلون دائما ً‪ :‬لماذا الكون ناقص للغاية؟! إنه ناقص ألن خالقه بالمِثل كائن ناقص‪ ،‬فقد خلقه على صورته ومثاله‪  .‬‬

‫ثمة أم ٌر آخر مثير لالھتمام يتعلق باألساطير في مختلف األديان‪ ،‬وھو أن الخالق ال يخلِق بمفرده‪ ،‬فھو يقول‪:‬‬
‫"لنجعل"‪ ،‬كما لو أن ھناك العديد من الخالقين يعملون معا ً‪" .‬دعونا نجعل كذا"‪" ،‬فلنجعل ذاك"‪ .‬يقول الكتاب المقدس‪:‬‬
‫"لنجعل اإلنسان على صورتنا‪ ،‬وعلى مثالنا"‪ .‬لماذا ھذه الـ "نا" الدالة على الجماعة؟ من ھم اآلخرين؟ من ھو اإلله‬
‫اآلخر الذي يشاركه في عملية الخلق؟ ‪ ‬‬
‫يقول القديس أوغسطين في كتابه "حول الثالوث" ببراعة ومھارة ‪ ،‬وھو يقول ھذا لمرة واحدة وبشكل واضح للغاية‪:‬‬
‫"الخالق يقول "لنجعل"‪ ،‬في صيغة الجمع‪ ،‬ألنه يتحدث عن ثالثة أشخاص إلھيين‪ :‬اآلب واالبن والروح القدس‪ ،‬الذين‬
‫ھم ثالثة‪ ،‬وكذلك شخص واحد في الوقت ذاته‪ .‬لھذا السبب يتحدّث ﷲ في صيغة الجمع‪ .‬أوغسطين ال يعود إلى ھذه‬
‫القضية أبدا‪ ،‬فھو يحسم قضية كھذه لمرة واحدة‪ ،‬وإلى األبد‪  .‬‬

‫بالنسبة للغنوصية‪ ،‬فإن خالق الكون المادي ليس وحده من يقوم بمھمة الخلق المادي‪ ،‬وتشكيل عوالم مختلفة‪ ،‬وإجراء‬
‫العمليات التطورية وخلق الكائنات والكينونات بمفرده‪ .،‬ففي الھند‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬يسمونھم ديفاس ‪،devas‬‬
‫ديفاس البنائين‪ ،‬وھم المالئكة الذين يساعدون في الخلق‪ .‬إنھم أقل درجة من اإلله الخالق‪ ،‬لكنھم معه‪ ،‬ويساعدونه‪ ،‬فقد‬
‫أوكل اإلله الخالق العديد من المھام للمالئكة الخالقين‪ .‬وھذا ما كان يعتقد أيضا ً في بابل القديمة وديانات الشرق في‬
‫العصور القديمة‪ .‬ھناك عدد ال يحصى من المالئكة الخالقة يساعدون الخالق على تطوير خطته في العالم المادي‪ ،‬أو‬
‫كما يقول الغنوصيون‪ ،‬في العالم المادي الجھنمي‪ ،‬الذي يخلقه ويعطيه شكالً‪  .‬‬

‫اإلله الخالق وحده المسؤول‪ ،‬لكنه يعتمد على جيش من المساعدين‪ ،‬جيش من المالئكة البنائين‪ -‬الشياطين الذين‬
‫يدعمونه في خلقه وينفذون أوامره‪ .‬لھذا السبب يسمى الخالق إلوھيم في سفر التكوين‪ .‬والقصة في الكتاب المقدس‬
‫تبدأ على النحو التالي‪ ،Bereshit  bará  elohim  :‬أي )"في البدء ُخلِ َقت اآللھة ‪ ،("...‬ألن إلوھيم في العبرية ھي‬
‫صيغة جمع تعني "آلھة"‪ ،‬أو "أسياد"‪ .‬أمّا الغنوصيون فيشيرون إلى أن ھؤالء اآللھة ھم خالقي الكون المادي‪ ،‬وھم‬
‫المالئكة‪-‬الشياطين البنائين الموجودين بأعداد كبيرة‪ ،‬وبالماليين‪ ،‬ممن يساعدونه في مھمة الخلق‪  .‬‬

‫حتى في النظم الفكرية التي تعارض الغنوصية‪ ،‬تلك التي ترى في خلق العالم شيئا ً جيداً‪ ،‬فإننا نسمع بذكر ھؤالء‬
‫المساعدين‪ ،‬وبالتسلسالت الھرمية الخاصة بھم‪ ،‬والتي تم تقسيمھا وفقا ً لوظائفھا‪ .‬كما أن ھناك نصوص ثيوصوفية‬
‫حديثة‪ ،‬من بينھا تلك التي لبالفاتسكي‪ ،‬وبيلي‪ ،‬حيث نستطيع من خاللھا معرفة المزيد عن أسمائھم ومھامھم‪.‬‬
‫فالوصي على األرض‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬ھو سانات كومارا ‪ .Sanat  Kumara‬وبتبديل حرفين‪ ،‬نحصل على اسمه‬
‫الحقيقي‪ :‬الشيطان كومارا ‪ .Satan  Kumara‬ذلك االسم الذي يصعب إخفاؤه‪ ،‬نظراً ألن البشر البد وأنھم ال زالوا‬
‫يجھلون الحقيقة‪ ،‬أو يجھلون المستقبل الذي يخبئه الخالق لھم‪ ،‬لذا من األفضل أال ّ يكون اسم ھذه الشخصية معروفا ً‬
‫على نطاق واسع‪ .‬أمّا في الوقت الحالي‪ ،‬فال تزال البشرية غير مستعدة لسماع أن لكوكب األرض وصي ھو‬
‫الشيطان ‪ .satan‬وھذا الشيطان أدنى مرتبة من اآلخر‪ ،‬أي الشيطان األكبر‪ ،‬الشيطان الرئيسي األكثر أھمية في ھذا‬
‫النظام المادي المخلوق‪ ،‬ھذا الكون المحدود والمليء بالعيوب والنواقص‪ ،‬الذي تم ّكن من خلقه‪ .‬ھؤالء الخالقين‬
‫الشيطانيين الذين يساعدون خالق الكون المادي‪ ،‬تصوّ رھم األساطير الغنوصية على شكل وحوش‪  .‬‬

‫‪ .6‬خلق اإلنسان ‪ ‬‬

‫كل األساطير الدينية تقريبا ً تروي أن اإلنسان "خلقه ﷲ من تراب األرض"‪ .‬كما يقول الكتاب المقدس بوضوح‪:‬‬
‫"وجبل الرب اإلله آدم من تراب األرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة‪ ،‬فصار آدم نفسا حية"‪ .‬ومن ھنا القول بأن ﷲ‬
‫خلق جسد ونفس اإلنسان؛ أي جزء مادي‪ ،‬وھو الجسد المصنوع من التراب‪ ،‬وجزء روحاني‪ ،‬نسميه الن ْفس‪ ،‬وھو‬
‫َن َفسُ الخالق‪ .‬اآلن‪ ،‬لو كان اإلنسان مكوَّ نٌ من الجسد والنفس فقط‪ ،‬فسيكون مثل أي حيوان آخر‪ .‬ربما يكون أكثر‬
‫ذكاء من المخلوقات األخرى بعض الشيء‪ ،‬لكنه في الداخل سيكون أشبه بالحيوان‪ ،‬بقليل أو كثير‪ .‬وفي وقت الحق‬
‫بعد ما يسمى بـ "السقوط"‪ ،‬سنرى أن اإلنسان مثلما نعرفه اليوم ھو أكثر من جسد ونفس‪ .‬وبالرغم من أن ﷲ خلق‬
‫الجسد والنفس‪ ،‬إال ّ أن ھناك شيء آخر‪ .‬ھناك روح غير مخلوقة‪ ،‬أي أنھا ليست من خلق ﷲ‪ ،‬وتلك الروح تم سجنھا‬
‫وتطويقھا داخل نفس اإلنسان‪ .‬غير أن الكتاب المقدس ال يقول ذلك‪ ،‬ألنه يتحدث عمّا َخلَ َقه ﷲ‪ ،‬وﷲ َخلَ َق الجسد‬
‫والنفس‪ .‬أمّا الغنوصيون فيؤكدون على أن اإلنسان لديه جسد‪ ،‬ونفسٌ ‪ ،‬وروح‪ .‬فمن أين أتت ھذه الروح وھي ليست‬
‫من صنع اإلله الخالق؟ لماذا وجدت في الجسد؟ ھذه ھي واحدة من القضايا المقبلة التي سنبحث فيھا‪  .‬‬
‫اإلنسان في جنة عدن‪ ،‬ھذا "الفردوس" الذي وضعه ﷲ فيه‪ ،‬لم يكن يعرف من يكون‪ ،‬وكان ينفذ األوامر وحسب‪.‬‬
‫فعلى سبيل المثال‪ ،‬كان يسمّي الحيوانات‪ ،‬لكونه على نحو ما مديراً ُم َكلَّفا ً ‪ ،‬أو ممثالً لإلله الخالق‪ .‬ھناك‪ ،‬في ذلك‬
‫"الفردوس" الذي أع ّده ﷲ له‪ ،‬كان أشبه بالنائم‪ ،‬فلم يكن يعرف حقيقته أو من أين جاء‪ .‬ثم أصبح اإلنسان مدركا‬
‫لحقيقته‪ ،‬فوجد ذاته‪ ،‬فقط بعد حصول ما كان يسمى بـ "الخطيئة"‪ ،‬والعصيان‪ ،‬أي عندما أكل الفاكھة المحرمة ُ‬
‫وط ِردَ‬
‫من الجنة‪ .‬وسوف نناقش ھذا أيضا ً في وقت الحق‪  .‬‬

‫ٌ‬
‫خلق شيطاني‪ ،‬وشرير‪ ،‬وينبثق من خالق‬ ‫قلنا إن ﷲ خلق الجسد والنفس‪ .‬وبالنسبة للغنوصيين‪ ،‬فإن كل الخلق ھو‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫شيطان‪ ،‬أي خالق الكون المادي الشيطاني‪ .‬لذلك ليس الجسد فقط شيطاني‪ ،‬وإنما نفسُ اإلنسان أيضا ھي شيء شرير‬
‫وشيطاني‪  .‬‬

‫‪ .7‬اإلله الذي ال سبيل لمعرفته ‪ ‬‬

‫بالنسبة للغنوصيين‪ ،‬ھناك إله آخر أسمى من اإلله الذي خلق العالم واإلنسان‪ .‬فاإلله الخالق ليس ھو اإلله الوحيد؛‬
‫ھناك إله آخر أعلى منه‪ ،‬إله مثالي متفوق بالمطلق‪ .‬ھذا اإلله‪ ،‬ال سبيل لمعرفته بالنسبة لإلنسان‪ ،‬فھو خارج ھذا‬
‫الخلق الجھنمي والقذر‪ .‬يستحيل على اإلنسان أن يجد ھذا اإلله عن طريق جسده ونفسه المنقوصين والمخلوقين على‬
‫تلك الحال‪ ،‬وال يمكن أن يمتلك فكرة أو لمحة بسيطة من الحدس عما يكون ھذا اإلله الذي ھو خارج ھذا الكون‬
‫المحدود إال ّ اإلنسان الذي حرر ذاته بالكامل من ھذا الجسد‪ .‬اإلغريق القدماء يُسمومه أغنوستوس ثيوس‪ ،‬أي اإلله‬
‫المجھول‪ .‬ھذا اإلله بالنسبة للغنوصيين‪ ،‬ليس مجھوالً فحسب‪ ،‬بل يستحيل معرفته‪ ،‬وال سبيل إلى معرفته‪ ،‬على‬
‫األقل بھذا النموذج العادي من وجوده في ھذا العالم‪ .‬بواسطة الجسد والنفس ال يمكن أن نمتلك أدنى فكرة ع ّما ھو‬
‫ھذا اإلله‪ ،‬الذي ھو خارج ھذا النظام برمته‪ ،‬ومتفوق بشكل مطلق على اإلله الخالق‪ .‬إنه إله يستحيل إدراكه بھذا‬
‫الجسد وھذه النفس‪ ،‬اللذان أتيا من ھذا الكون المخلوق من المادة والزمن‪  .‬‬

‫ھذا اإلله ال ينتمي إلى المستوى المادي‪ ،‬وإ ّنما إلى مستوى المادة المضادة‪ .‬إنه إله المادة المضادة‪ ،‬ويمقت جحيم‬
‫المادة المخلوقة‪ ،‬والذي ال يمكننا إدراكه ونحن في حالة وجودنا الحالي‪ ،‬وال حتى تخيله‪ .‬إنه لغز بالنسبة لنا‪ .‬ھذا اإلله‬
‫الذي ال سبيل لمعرفته ھو بمثابة النار التي ال يمكن وصفھا وال تصورھا‪ .‬إنه اإلله الحقيقي‪  .‬‬

‫لكن ھذا اإلله الحقيقي‪ ،‬ال يمكننا الوصول إليه عاد ًة‪ ،‬وال يمكنه إظھار نفسه أو العمل في ھذا الكون الناقص والنجس‪،‬‬
‫وفي ھذه األبعاد الجھنمية للمادة والزمن المخلو َقين‪ .‬ال يمكنه اختراق ھذه األبعاد إالّ في حاالت استثنائية‪ ،‬ومن خالل‬
‫أح ِد رسله إلحداث تغيير صغير عموما ً‪ ،‬وبتضحيات كبيرة‪ ،‬وھذا ال يحدث إال ّ في حاالت نادرة جداً‪ ،‬نظراً للظروف‬
‫الكائنة في ھذا الجحيم المادي‪  .‬‬

‫‪ .8‬الجسد والنفس والروح ‪ ‬‬

‫تؤكد الغنوصية أن اإلنسان يتكون من ثالثة مواد‪ ،‬أي من ثالثة عناصر ھي‪ :‬الجسد‪ ،‬والنفس والروح‪ .‬وقد رأينا أن‬
‫س عن طريق بعث أنفاسه في أنف‬ ‫الجسد والنفس أوجدھما اإلله الخالق‪ .‬إذ َخلَ َق الجسدَ من تراب األرض وأعطاهُ الن ْف َ‬
‫اإلنسان‪ .‬فالجسد‪ ،‬وكذلك النفس‪ ،‬أنشأھما خالق الكون المادي‪ ،‬أو اإلله الخالق‪  .‬‬

‫غير أن ھناك عنصر آخر في اإلنسان‪ ،‬وھذا العنصر لم يخلقه ﷲ‪ .‬إنه عنصر من عالم آخر‪ ،‬من مملكة أخرى‪ ،‬من‬
‫مملكة المادة المضادة التي ال سبيل إلى معرفتھا‪ ،‬والتي ال يمكننا حتى تخيلھا ونحن في حالتنا العادية‪ .‬شرارة المادة‬
‫المضادة ھذه‪ ،‬والتي بدونھا ما من كائن بشري يمكن أن يتطور ليصبح على ما ھو عليه اليوم‪ ،‬ھي الروح‪ .‬بدونھا ما‬
‫كان لكائن بشري أن يميّز نفسه عن الحيوان العادي‪ .‬ھذه الشرارة الخاصة‪ ،‬غير المخلوقة‪ ،‬والمق ﱠد َسة‪ ،‬القادمة من‬
‫مملكة ال سبيل إلى معرفتھا‪ ،‬يطلق عليھا الغنوصيون تسمية الروح‪.‬‬

‫وفقا للغنوصية‪ ،‬ھذه الروح التي ال تنتمي إلى ھذا العالم‪ ،‬وقد تم إغوائھا وربطھا بالمادة الجھنمية من أجل االستفادة‬
‫منھا واستخدامھا كقوة دافعة للتطور المادي‪ .‬لقد حوصرت الشرارة غير المخلوقة في كل إنسان من أجل إطالق ھذه‬
‫العملية التطورية التي تتجلى في خطط اإلله الخالق‪ .‬فاألرواح القدسية ُتس َتخ َد ُم لتحسين التطور على مستوى ھذه‬
‫المادة النجسة‪  .‬‬

‫ھذه الروح المشكلة بالكامل من المادة المضادة‪ ،‬تمت محاصرتھا وتصفيدھا وسجنھا في ھذا الجحيم‪ ،‬وھي تعاني من‬
‫العذاب الذي يستحيل علينا تخيّله‪ .‬إنھا واحدة من أقسى أشكال التعذيب الموجودة‪ ،‬كونھا مقيَّدة بھذا العالم البغيض‬
‫للمادة‪ ،‬وبھذا المسخ المخلوق الذي نسميه جسد ونفس اإلنسان‪ .‬لقد قيدت الروح رغما ً عنھا‪ ،‬واستخدمت في كل‬
‫إنسان لدفع تطوره‪ ،‬بحيث يستطيع اإلله الخالق تنفيذ خططه‪ .‬إنه عذاب ال يطاق بالنسبة للروح‪ :‬السجن رغم إرادتھا‬
‫في عالم نجس وغريب عنھا‪ ،‬واستخدامھا ككائن في متناول اليد بحيث يمكن إنجاز خطة جنونية‪ .‬وفي وقت الحق‬
‫سوف نتفحّ ص ھذا بمزيد من التفصيل‪  .‬‬

‫بعبارة أخرى‪ ،‬يمكننا القول إن الروح‪ ،‬شرارة المادة المضادة غير المخلوقة‪ ،‬والتي مصدرھا المملكة العصية على‬
‫المعرفة‪ ،‬قد تم احتجازھا داخل فقاعة من مادة مخلوقة‪ ،‬ثم قُيّدت وعُذبت داخل ھذه المادة‪  .‬‬

‫يؤ ّكد الغنوصيين إنه لو لم يتم استخدام الروح‪ ،‬لما توقف اإلنسان عن كونه أشبه بالقرد‪ ،‬ولَما تطور إلى ما ھو عليه‪،‬‬
‫ويمكننا أن نرى كيف تطور بسرعة خالل بضعة آالف من السنين خالفا ً لماليين السنين التي عاشھا كائنا ً أكثر‬
‫تطوراً من القرد بقليل‪  .‬‬

‫ھكذا توفر الروح القوة لھذا المسخ المخلوق المسمى الجسد والروح‪ .‬وھذه الروح تم ربطھا بالنفس؛ فإذا مات‬
‫الشخص‪ ،‬فإن النفس تترك الجسد وتأخذ معھا الروح التي ر ُِب َطت بھا‪ .‬إن الروح ليست مربوطة بالجسد‪ ،‬بل تتصل‬
‫نفس‬
‫بالجسد من خالل النفس المربوطة بھا‪ ،‬النفسُ ھي نفخة اإلله الخالق على اإلنسان‪ ،‬تلك النفخة التي حولته إلى " ٍ‬
‫س ھي الجانب الروحاني في الكائن البشري‪ ،‬لكنھا ليست أسمى منزلة مثل الروح غير المخلوقة‪.‬‬ ‫حية"‪ .‬إن الن ْف َ‬

‫ھناك الكثير من الخلط بشأن ھذه القضايا؛ لھذا السبب يبدو أننا خالل وصفنا ألفكار الغنوصية نعبر عن وجھة نظر‬
‫مختلفة بعض الشيء عن وجھات النظر المألوفة‪ ،‬لذلك فإن كل شخص له الحق على األقل في أن يختار الشيء الذي‬
‫ھو في الواقع مختلف تماما ً عن باقي وجھات النظر‪  .‬‬

‫إن الروح موجودة في ھذا العالم لكنھا ال تنتمي إليه‪ .‬إنھا ال تنتمي إلى عالم المادة والزمن الوھمي‪  .‬‬

‫يمكننا االستنتاج إنه إذا كان لشرارة نار المادة المضادة ھذه‪ ،‬أي الروح‪ ،‬أن تحرر نفسھا من السجن‪ ،‬فيمكن أن يكون‬
‫سلوكھا في ھذا العالم عدوانيا ً للغاية‪ :‬أوالً‪ ،‬ألن المادة المضادة تمقت المادة‪ .‬ثانيا ً‪ ،‬ألنھا حوصرت بإتقان و ُ‬
‫ص ِّفدت‬
‫رغما ً عنھا آلالف السنين‪ .‬من الطبيعي إذن‪ ،‬على مستوى المنطق المجرد‪ ،‬إذا أمكن لھذه الروح أن تحرر نفسھا‪،‬‬
‫الملوث‪ ،‬العالم المخلوق‪ ،‬أي‬
‫َّ‬ ‫فإن أول شيء يمكن أن تفعله سيكون التدمير‪ :‬تدمير كل ما يحيط بھا في ھذا العالم‬
‫الكون المادي لإلله الخالق‪ .‬ھذه الروح ليست كائنا شرّ يراً‪ ،‬لكن ھذا السلوك سيكون سلوكا ً عاديا ً للشخص الذي‬
‫اح ُت ِج َز في السجن ظلما ً ورغم إرادته كما يقول الغنوصيون‪ .‬لقد سجنت في عالم ال تنتمي له‪ ،‬في العالم الشيطاني‬
‫للمادة والزمن‪  .‬‬

‫ثمة حقيقة مثيرة لالھتمام‪ ،‬وھي أن المسيحية في بدايتھا أيدت وجود ھذه الكيانات الثالثة في اإلنسان‪ :‬الجسد والنفس‬
‫والروح‪ .‬فالقديس بولس‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬وقبله القديس أوغسطين أيضا ً أيدا ذلك‪ .‬لكن كلمة الروح أزيلت في وقت‬
‫الحق خالل المجالس والقرارات الصادرة عن البابا والكنيسة الرومانية‪ ،‬وبقي ما ھو معروف لنا اآلن‪ :‬الجسد‬
‫والنفس‪ .‬اآلن يبدو أن النفس ھي الشيء الوحيد اإللھي داخل اإلنسان‪ ،‬وأنه ال يوجد شيء آخر‪ .‬فماذا حدث للروح؟‬
‫لقد اختفت‪ .‬ومن الملفت للنظر أن ذلك حدث بھذه الطريقة‪ .‬وفي وقت الحق سوف نعود إلى ھذه المسألة‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .9‬ثالثة أنواع لإلنسان‬

‫ذكرنا إن اإلنسان يتكوّ ن من جسد ونفس وروح‪ ،‬لھذا السبب لدينا ثالثة أنواع مختلفة من اإلنسان حسب الجانب الذي‬
‫يتأثر به من ھذه الجوانب الثالثة‪ .‬ومنذ العصور القديمة صنفت الغنوصية اإلنسان على النحو التالي‪ :‬من الناحية‬
‫الجسدية‪ ،‬والنفسية‪ ،‬والروحية‪ .‬ھذه التصنيفات اس َتخ َدمھا كذلك القديس بطرس‪ .‬الكاثار‪ 1‬أيضاً‪ ،‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫قسّموا اإلنسان إلى ثالثة أصناف‪ :‬األرضي إذا كان محكوما بالجسد؛ والصنف النفسي إذا كان تحت سيطرة النفس؛‬
‫والصنف الروحاني إذا كان محكوما للروح‪.‬‬

‫في واحدة من المؤلفات الغنوصية التي اكتشفت في نجع حمّادي‪ ،‬المسمّاة بـ "المقالة الثالثية"‪ ،‬نجد التقسيم نفسه‬
‫لإلنسان‪ :‬مادي‪ ،‬ونفسي‪ ،‬وروحي‪ .‬كما أن يوليوس إيفوال في كتابه عن يوغا التانترا التي ترتكز إلى التقاليد الھندية‬
‫القديمة‪ ،‬يصنف الرجال إلى ثالثة أنواع‪ ،‬وھذا التصنيف يحمل الخصائص نفسھا كما نرى ھنا‪ :‬باسو‪ ،‬فيرا وديفيا‪.‬‬
‫باسو تعني الحيوان‪ ،‬وتشير إلى الرجل الحيوان الذي تھيمن عليه الغرائز‪ .‬فيرا ھو المحارب الذي يسعى ألن‬
‫يستيقظ؛ إنه مشوّ ش إلى حد ما‪ ،‬لكنه يقاتل لتحرير نفسه من ھذا العالم المادي ويرضي روحه‪ .‬أخيرا ديفيا‪ ،‬وھو‬
‫النوع الثالث من اإلنسان الذي تحررت روحه بالفعل‪ ،‬وتقوم بتوجيھه بكل معنى الكلمة‪ .‬فاإلنسان المثالي و ِجد في‬
‫ھذه المجموعة‪.‬‬

‫‪ .10‬الشيطان‪ ،‬الطاغية‬

‫لقد ضاع اإلنسان في حالته العادية في التشوّ ش والبالدة وعدم معرفة من يكون‪ ،‬ومن أين أتى‪ ،‬أو إلى أين يمضي‪ .‬ال‬
‫يعرف ما يجب عليه فعله‪ ،‬وھو في حالة من االرتباك‪ ،‬كما لو أنه في حالة ضبابية أو نصف نائم‪  .‬‬

‫عندما كنا نتحدث عن خالق العالم‪ ،‬قلنا إن الخالق بالنسبة للغنوصيين‪ ،‬أي خالق الكون المادي‪ ،‬خالق المادة‬
‫واإلنسان‪ ،‬يمكن تشبيه بالشيطان‪ ،‬نظراً ألن المادة شيطانية‪ ،‬وكل الخلق شيطاني‪ ،‬والخالق ذاته كائن شيطاني‪ .‬ھذا‬
‫الخالق قد ظلم اإلنسان؛ فمنذ أن َخلَ َق ُه‪ ،‬أجبره على تنفيذ أوامره وطاعة وصاياه والخضوع لسيطرته‪ .‬ھذا الخالق يريد‬
‫أن يطيعه اإلنسان‪ ،‬ويكبّره‪ ،‬ويخشاه‪ ،‬ويعبده عن طريق التضحيات والطقوس‪ .‬يريد أن يفرض قواعده المستبدة على‬
‫اإلنسان‪ .‬يريد من اإلنسان أن يمتثل له ويتخلّى عن رغباته‪ ،‬التي ھي غالبا ما تكون رغبات روحه‪ ،‬ورغبات ذاته‬
‫الروحية‪ ،‬التي يحملھا في داخله على الرغم من جھله بھا‪ .‬إن الخالق‪ ،‬وفقا للغنوصية‪ ،‬لديه خطة لخليقته‪ ،‬ولھذا‬
‫السبب خلق الكون ووضع اإلنسان فيه‪ .‬لديه خطة يريد المضي فيھا قُ ُدما ً‪ ،‬وھو بحاجة لإلنسان من أجل القيام بذلك‪.‬‬
‫ومع ذلك يحتاج ألن يتصرف اإلنسان وفقا ً ألوامره‪ ،‬اي أوامر الخالق‪ ،‬وليس وفقا لرغبات الروح‪ .‬إن خالق الكون‬
‫ظھ َر نفسھا‪ .‬يريد من اإلنسان أن يتصرف من خالل نفسه وليس‬ ‫المادي ال يسمح للروح المكبّلة في نفس اإلنسان أن ُت ِ‬
‫من خالل روحه‪ .‬لھذا السبب كان من الضروري أن يقمع اإلنسان ويخيفه ويُقلِق ُه‪ .‬إنه اإلله الذي يضطھد مخلوقاته‬
‫بكل معنى الكلمة‪.‬‬
‫‪                                                            ‬‬
‫‪1‬‬
‫‪  ‬الكاثار ھي حركة دينية لھا جذور غنوصية بدأت في منتصف القرن الثاني عشر‪ .‬وقد اعتبرتھا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية آنذاك على أنھا طائفة‬
‫خارجة عن الدين المسيحي‪ .‬كانت الكاثارية موجودة في معظم مناطق أوروبا الغربية‪ ،‬وھي من أصل فرنسي جنوبي‪.‬‬
‫‪ .11‬لوسيفر‪ ،‬المحرر ‪ ‬‬

‫تروي األساطير الغنوصية بأن لوسيفر ھو رسول ﷲ الذي ال سبيل إلى معرفته‪ .‬ونحن قلنا إن ھذا اإلله‪ ،‬اإلله‬
‫األعظم‪ ،‬الذي ال يمكن بلوغه وال سبيل إلى معرفته‪ ،‬غير قادر على اختراق ھذا الكون المحدود ذي المادة النجسة‬
‫والشيطانية‪ .‬لكنه وفقا ً لھذه األساطير‪ ،‬يستطيع إرسال شخص‪ ،‬وھو لوسيفر‪ ،‬ألنه ال يستطيع اختراق العالم الجھنمي‬
‫لھذا الكون إالّ من خالل تضحية عظيمة يقوم بھا كائن روحي مدھش ونقي‪ ،‬من النار المضادة للمادة‪ .‬لقد أرسل ﷲ‬
‫العظيم المجھول‪ ،‬لوسيفر‪ ،‬حسب األساطير الغنوصية‪ ،‬وھو مالك من نور ونار يفوقان الوصف‪ ،‬لكي ينير بصيرة‬
‫اإلنسان ويساعده على االستيقاظ ومعرفة أصله الحقيقي وأصل روحه المسجونة في ھذه المادة النجسة المسمّاة‬
‫الجسد والنفس‪ .‬لوسيفر كائن غير مخلوق‪ ،‬جاء إلى العالم المخلوق كي يجلب له النور‪ :‬الغنوصية المحرِّ َرة‪ ،‬أي‬
‫المعرفة المنقذة التي يمكنھا إيقاظ اإلنسان‪ ،‬بل حتى مساعدته على تحرير روحه المسجونة‪ .‬إنھا المعرفة التي تتيح له‬
‫أن يعرف من ھو حقا‪ ،‬ولماذا ھو موجود في ھذا العالم وما يتعين عليه القيام به لتحرير نفسه وتحقيق روحه‪ ،‬التي‬
‫تنتمي إلى مستوى آخر غير مخلوق‪ ،‬وال سبيل لمعرفته‪.‬‬

‫قلنا إن لوسيفر جاء إلى العالم إلحداث يقظة لدى اإلنسان ومساعدته على تذ ّكر أصله اإللھي‪ ،‬أي األصل اإللھي‬
‫لروحه‪ ،‬ومساعدته على تحرير نفسه من الجسد والنفس اللذان حوصِ ر فيھما‪ ،‬ومن المادة والزمن المخلو َقين‪  .‬‬

‫يعتبر الغنوصيون أن أسطورة الخلق التوراتية يمكن تفسيرھا على النحو التالي‪ :‬لقد أوقع الشيطان خالق العالم آدم‬
‫وحواء في شرك عالمه البائس‪ ،‬أمّا لوسيفر‪ ،‬الذي اتخذ شكل ثعبان‪ ،‬فق َّدم لھم فاكھة المعرفة المنقذة المحرمة‪ ،‬وبي ََّن‬
‫لھم أن الخالق احتال عليھم‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬قال الخالق لإلنسان‪" :‬أمّا من شجرة معرفة الخير والشر فال تأكال‪ ،‬ألنه‬
‫في اليوم الذي تأكالن منھا‪ ،‬فموتا تموتان"‪ .‬ولكن من جانب آخر قال الثعبان‪" :‬فلن تموتا بالتأكيد‪ .‬ألن ﷲ يعلم إنه في‬
‫اليوم الذي تأكالن منھا‪ ،‬س ُتف َت ُح بصيرتكما‪ ،‬وسوف تكونان كا ‪ ،‬عارفين للخير والشر"‪ .‬ويمضي الكتاب المقدس‬
‫قائالً‪ ":‬ثم فتحت عينا كل منھما"‪ ،‬ولم يقل "كالھما ماتا"‪ ،‬بل يقول‪" :‬ثم فتحت عينا كل منھما" مثلما قال الثعبان‪.‬‬
‫ب الخالق؛ ذلك أنه‬ ‫وفيما بعد يقول الخالق‪" :‬واآلن أصبح اإلنسان واحد منا‪ ،‬ألنه عرف الخير والشر"‪ .‬إذن لقد َك َذ َ‬
‫قال إنَّ اإلنسان سوف يموت إذا أكل الفاكھة‪ ،‬بيد أنه لم يمت‪ .‬كان الثعبان يقول الحقيقة‪ .‬بل إن الخالق نفسه انتھى‬
‫إلى الموافقة على أن الثعبان كان على حق‪ .‬وبتعبير أدق‪ ،‬ينعت الغنوصيون خالق الكون المادي بالكاذب‪ ،‬وكذلك‬
‫بالمنتحِل‪ .‬فبالنسبة لھم‪ ،‬الخلق برمّته ھو محاولة فاشلة من قبل خالق الكون المادي لتقليد العالَم الذي ال سبيل‬
‫لمعرفته‪ .‬وعلى ھذا النحو‪ ،‬يعتقد الغنوصيون إن الكتاب المقدس نفسه ھو كتاب منتحل بالكامل‪ ،‬وذلك استنادا‬
‫بالدرجة األولى إلى النصوص البابلية والنصوص المصرية التي سبقت الكتاب المقدس‪  .‬‬

‫الغنوصيين يعتقدون أن ھذا الثعبان لوسيفر‪ ،‬ھو محرر اإلنسان والعالم‪ .‬إنه الحكمة؛ الغنوصية المحررة التي توقظ‬
‫اإلنسان من غفلته وتنقذه‪ .‬إذن بطبيعة الحال‪ ،‬فإن رسول ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته‪ ،‬لوسيفر‪ ،‬ھو خصم وعدو لخالق‬
‫العالم‪  .‬‬

‫توضّح الغنوصية بأن الخالق يريد الحفاظ على اإلنسان أسيراً في ھذا الفضاء المحدود‪ ،‬السفلي والنجس‪ .‬بل يمنع‬
‫اإلنسان من االتصال مع العالم األسمى أيضا ً‪ ،‬ممثالً في األسطورة التوراتية بالثمرة التي تأتي من شجرة معرفة‬
‫الخير والشر‪ .‬لكن لوسيفر‪ ،‬مالك النور‪ ،‬قدم تضحيات كبيرة وھبط إلى ھذا الجحيم الشيطاني ليقدم الفاكھة الغنوصية‬
‫المحرمة لإلنسان‪ ،‬ويفتح عينيه لكي يكون قادراً على تذكر أصله اإللھي‪ ،‬وتفوقه على الخالق‪ .‬الغنوصيون يعتبرون‬
‫أنه قبل وصول الثعبان إلى الجنة‪ ،‬كان اإلنسان جاھالً‪ ،‬وكان أعمى بشأن وضعه الصحيح‪ .‬كما يؤكدون أن آدم‬
‫وحواء كانا في حالة من العبودية‪ ،‬إلى أن فتح الثعبان لوسيفر أعينھم‪ ،‬وأطعمھم فاكھة المعرفة التي جعلتھما يتذكران‬
‫مصدرھما اإللھي‪ ،‬ويصبحا واعيين للوضع الذي وجدا نفسيھما فيه ‪  .‬‬
‫وبالطبع فقد طرد الخالق آدم وحواء من ھذه الجنة التي كان قد وضعھما فيھا نظراً ألنه كان يريد لھم )وما يزال( أن‬
‫يعكساه ويكونا صورة عنه‪ ،‬وتنفيذ تعاليمه حتى يكونا مثله وليس مثل ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته‪ .‬يريد للروح أن تبقى‬
‫نائمة حتى يتمكن من االستفادة من طاقتھا‪ ،‬ومنعھا من إظھار نفسھا في اإلنسان والعالم‪  .‬‬

‫لوسيفر‪ ،‬محرر اإلنسان والعالم‪ ،‬كان يسمى أيضا ً مالك الجحيم‪ ،‬والمبيد‪ .‬ولكن ‪ ...‬مبيد ماذا؟ مبيد المادة‪ ،‬ألنه يمقت‬
‫عالم المادة والزمن المخلوقين‪ .‬يتصرف كأنه قوة معادية مضادة للمادة‪ ،‬وعدوانية للغاية‪ ،‬ألنه يكره كل ما تم خلقه‪،‬‬
‫ويكره كذلك جسد ونفس اإلنسان‪ ،‬ألنه ينتمي إلى المستوى غير المخلوق الذي ال سبيل لمعرفته‪ .‬إنه مبيد‪ ،‬لكنه مبيد‬
‫المادة‪ ،‬مبيد النجاسة‪ .‬ھذه ھي أسطورة لوسيفر الغنوصية‪  .‬‬

‫اآلن يمكننا االنتقال إلى وصف الكيانات غير المخلوقة‪ ،‬والموجودة في ھذا العالم المخلوق‪  .‬‬
‫أوالً‪ ،‬ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته‪ ،‬والذي ھو ليس موجوداً في ھذا العالم‪ ،‬لكنه يستطيع التسلل إليه بجزء صغير جداً‬
‫من ذاته‪ ،‬أي الرسول‪ .‬ھذا الرسول ھو أيضا ً غير مخلوق‪ ،‬ولم يخلقه إله الكون المادي‪  .‬‬

‫ثانيا‪ ،‬إنّ أرواح البشر المسجونة‪ ،‬والتي تنتمي أيضا ً إلى العالم الذي ال سبيل لمعرفته‪ ،‬ھي أرواح سرمدية غير‬
‫مخلوقة‪ .‬ووفقا ً للغنوصية فإن جميع الكائنات الحية لديھا عنصر روحي غير مخلوق مح َت َجز داخل نفوسھا‪ :‬ھي‬
‫الروح‪ .‬ھذه الروح المح َت َج َزة داخل اإلنسان ھي أرفع شأنا بكثير من أرواح الحيوانات والنباتات والكائنات الحية‬
‫األخرى‪ .‬لھذا فالفرق شاسع جداً بين اإلنسان والكائنات الحية األخرى‪ ،‬مثلما ھو الفرق شاسع أيضا ً بين األرواح‬
‫المسجونة داخلھا‪ .‬إن أرواح البشر تقع في فئة روحية راقية‪  .‬‬

‫ثالثا ً‪ ،‬ھناك كينونة غير مخلوقة أخرى وُ ضِ عت على ھذا المستوى المخلوق‪ ،‬ھي المعرفة الغنوصية اإللھية المنقِ َذة‪.‬‬
‫المعرفة التي تأتي من الخارج‪ ،‬والتي لم تنشأ داخل ھذا العالم‪.‬‬

‫‪ .12‬ثعبان الخالص ‪ ‬‬

‫قلنا إنه وفقا للتفسير الغنوصي لسفر التكوين‪ ،‬فإن اإلله الخالق َس َج َن آدم وحواء في عالم من البؤس وأعطاھما نفسا ً‬
‫خانعة‪ .‬يقول الكتاب المقدس إنه بعد أن تناول آدم وحواء الفاكھة المحرمة‪ ،‬تواريا عن األنظار خجالً من الخطأ الذي‬
‫اقترفاه‪ .‬عندما وصل ﷲ إلى الجنة‪ ،‬خاطب آدم بھذه الكلمات‪" :‬أين أنتما؟" ‪-‬ويبدو أن ﷲ يتصرف مثل سيد يخاطب‬
‫عبده‪ -‬وعندما لم يجدھما‪ ،‬فكان البد أن يقول‪ " :‬أين أنتما؟ أين تختبئان؟ ماذا فعلتما؟ لماذا ال تعمالن ھنا؟ " ‪ ‬‬

‫ھذا اإلله الخالق الذي خلق آدم وحواء غير قادر على التمييز بين الخير والشر‪ ،‬بين المملكة غير المخلوقة وبين‬
‫المخلوقة‪ .‬فقد خلقھما جاھلين أيضا ً لمصدرھما ومصيرھما‪  .‬‬

‫لماذا خلَ َقھما ھكذا؟ وفقا ً للغنوصية؛ الخالق ال يريد لإلنسان أن يعرف أصله الحقيقي‪ .‬لقد تم خلق ھذا العالم ضد إرادة‬
‫ﷲ الذي ال سبيل إلى معرفته‪ ،‬وھذا شيء ال يريد الخالق لإلنسان أن يعرفه‪ .‬إنه ال يريد للبشر )وما زال( أن يعرفوا‬
‫الوضع الروحي الذي كانوا يعيشونه‪ ،‬وأين كانوا‪ ،‬أو لماذا ُخلِقوا‪ .‬إنه يريد منھم أن يبقوا جاھلين‪ ،‬وما زالوا كذلك‬
‫حتى يومنا ھذا‪ .‬ذلك ھو السبب في أنه نھاھم عن األكل من شجرة المعرفة؛ ذلك أنھا سوف "تفتح أعينھم"‪ ،‬وتوقظھم‬
‫وتجعلھم يالحظون أين كانوا‪ ،‬ومن أين أتوا‪ ،‬والوضع الذي كانوا فيه‪ ،‬وما كان عليھم القيام به‪ .‬وإن ذلك من شأنه أن‬
‫يجعلھم يدركون أن عدن لم تكن جنة‪ ،‬وإ ّنما عكس ذلك تماما ً‪  .‬‬

‫في كتابه "الماسونية"‪ ،‬يصف األب ليون ميورين التفسيرات الغنوصسية للج َّنة األرضية والثعبان الغنوصي‪ ،‬وتبرز‬
‫فيه األفكار التالية‪ :‬الرب يھوه ال يريد لإلنسان أن يعرف أصله أو ق َد َرهُ العظيم‪ .‬انه يمنع كل اتصال مع العالم‬
‫األسمى‪ .‬يريد من اإلنسان أن يكون انعكاسا له‪ ،‬أي الخالق‪ ،‬وليس انعكاسا ً األسمى‪  .‬‬
‫لكن اإلنسان استيقظ وأصبح مدركا ً للخير والشر‪ .‬فكيف تمكن من ذلك؟ لقد أطعم ُه ثعبان اإلغراء في عدن من‬
‫الشجرة المحرمة التي فتحت عينيه‪ .‬ھذا الثعبان‪ ،‬وفقا للغنوصيين‪ ،‬ھو لوسيفر‪ ،‬رسول النور‪ .‬إذن ھذا ھو معنى كلمة‬
‫لوسيفر‪ :‬حامل النور‪ .‬لقد اتخذ لوسيفر شكل ثعبان إليقاظ اإلنسان‪ .‬إنه رسول ﷲ األعظم‪ ،‬ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته‪.‬‬
‫إنه رسول ﷲ الحقيقي الذي جاء إلى ھذا العالم الناقص‪ ،‬غير المؤھّل‪ ،‬والبائس‪ ،‬لكي يوقظ اإلنسان ويحرره‪ ،‬ولكي‬
‫ُظھر له حقيقة وضعه وما يمكن أن يكون عليه مصيره العظيم‪ .‬لھذا السبب‪ ،‬فإن الذين يتبعون أوامر اإلله الخالق‬
‫ي ِ‬
‫يعتبرون الثعبان شيء خبيث وشيطاني‪ ،‬وفي كل ھذه الفوضى شبّھوا الثعبان بالشيطان‪  .‬‬

‫ولكن على الجانب اآلخر‪ ،‬ينظر الغنوصيين للثعبان لوسيفر على أنه منقذ‪ :‬شخص جاء إلنقاذ اإلنسان‪ ،‬وھو رسول‬
‫ﷲ الحقيقي‪ .‬ثعبان التنوير ھذا الذي جلب الغنوصية ‪-‬الحقيقة الغنوصية التي تسمح للطبيعة األصيلة والحقيقية‬
‫لألشياء بأن تكون مرئيّة في ھذا العالم المليء بالفوضى‪ -‬جاء لتحرير اإلنسان‪ .‬لوسيفر ھو المحرر الحقيقي لإلنسان‪.‬‬
‫أتى لتحرير اإلنسان من طغيان يھوه‪ ،‬من طغيان اإلله الخالق‪ .‬لقد أحضر المعرفة الحقيقية التي في حد ذاتھا يمكن‬
‫أن تحرر اإلنسان وتساعده على الھروب من ھذا العالم الشيطاني والعودة إلى العالم الذي أتى منه‪  .‬‬

‫ھذا الثعبان ھو‪ ،‬بالنسبة للغنوصيين‪ ،‬ثعبان الخالص‪ ،‬الثعبان الذي فتح عيني اإلنسان‪ ،‬والذي قدم له تفاحة اإلنعتاق‬
‫لتساعده على االستيقاظ وتحرير نفسه من عالم البؤس ھذا‪ ،‬ومن المادة النجسة‪  .‬‬

‫أراد الخالق خلق إنسان يشبه الكائنات الحية األخرى؛ غير قادر على التمييز بين الخير والشر‪ ،‬لكن إجراءات الثعبان‬
‫أيقظته وحررته‪ .‬وفقا للغنوصيين‪ ،‬ھذه المعرفة‪ ،‬ھذه الغنوصية التي جلبھا الثعبان لوسيفر لإلنسان‪ ،‬تسببت بدون شك‬
‫في إحداث اضطراب كوني كبير في الخليقة‪ .‬لھذا السبب ھي معرفة قوية‪ .‬الغنوصية تسبب إحداث تغيرات داخل‬
‫أولئك الذين يحصلون عليھا‪ ،‬وداخل الذين يصغون إليھا‪ ،‬ألنھا ليست معرفة عامة أو شائعة‪ ،‬وألنھا معرفة محرِّ رة‪  .‬‬

‫ھناك كتاب ممتع كتبه ارنست بلوخ اسمه‪" :‬اإللحاد في المسيحية"‪ ،‬والذي يقدم فيه تحليالت جيدة لھذا الجانب من‬
‫الفكر الغنوصي برمته‪ ،‬الجانب المتعلق بثعبان التحرير باعتباره رسول ﷲ الحقيقي‪  .‬‬

‫إن غنوصيوا األزمنة الالحقة‪ ،‬في بداية المسيحية‪ ،‬الذين باتوا ُيعرفون باسم الغنوصيين المسيحيين‪ ،‬أو المسيحيين‬
‫الغنوصيين‪ ،‬اعتبروا المسيح ثعبان سفر التكوين‪ .‬كان ھذا ألن المسيح‪ ،‬الذي جاء في وقت الحق بكثير من األحداث‬
‫التي حصلت في الجنة الدنيوية‪ ،‬أتى حامالً رسالة محررة‪ ،‬تماما مثل الثعبان‪ :‬الرسالة التي تحرر اإلنسان من ھذا‬
‫العالم النجس‪ .‬ھؤالء الغنوصيين المسيحيين يعتقدون أنھا كانت المعرفة التي أتاحت لإلنسان االتصال بالعالم اآلخر‪،‬‬
‫المعرفة المعارضة لخالق الكون المادي‪ :‬عالم ﷲ الحقيقي الذي ال سبيل لمعرفته‪  .‬‬

‫المسيح‪ ،‬ھذا الغنوصي‪ ،‬حامل ھذه الرسالة‪ُ ،‬‬


‫ش َّب َه بثعبان سفر التكوين‪ ،‬والذي يعود إلى األرض للمرة الثانية لمساعدة‬
‫البشرية‪ .‬المجيء األول كان لوسيفر الثعبان‪ ،‬والثاني كان لوسيفر المسيح‪ .‬فوفقا ً للغنوصية المسيحية‪ ،‬عندما جاء‬
‫السيد المسيح إلى العالم‪ ،‬كان ذلك للمرة الثانية‪ ،‬نظراً ألن المرة األولى كانت في الجنة الدنيوية‪ .‬وفي كلتا الحالتين‬
‫كان في الواقع‪ ،‬لوسيفر‪ ،‬رسول ﷲ المجھول‪ .‬في كلتا الحالتين كانت الرسالة واحدة‪ :‬الغنوصية ھي التي تسبب‬
‫االضطراب والتغ ّيرات ويقظة الذين يصغون إليھا‪ ،‬وتحررھم‪ .‬إن الثعبان بالنسبة للغنوصيين المسيحيين ھو المسيح‪،‬‬
‫المخلص الذي جاء إلى ھذا العالم مرتين‪.‬‬

‫ھناك رسم غنوصي للثعبان الذي ُعلِّ َق على صليب‪ ،‬األمر الذي يدل كذلك على التشابه الغنوصي بين ثعبان سفر‬
‫التكوين والمسيح‪ .‬وثمة أساطير تقول إن الصليب الذي ُعلِّ َق المسيح عليه كان مصنوعا ً من خشب شجرة معرفة‬
‫الخير والشر‪  .‬‬
‫تحول" قسطنطين‬‫كان قد مضى زمن عندما كتبت فيه كل ھذه المعرفة و ُنقِلِت‪ .‬غير أن ھذه الفترة استمرت إلى أن " َّ‬
‫)إلى المسيحية( وتعززت الكنيسة الرومانية كدين رسمي لإلمبراطورية الرومانية‪ .‬ومنذ ذلك الحين تم منع الكتب‬
‫واضطھدَ ت و ُدم ِِّرت‪ .‬غير أن عدداً قليالً جداً من ھذه النصوص مازال موجوداً‪  .‬‬
‫ِ‬ ‫والوثائق التي تتعلق بالغنوصية‪،‬‬

‫أوريجانوس‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬وصف رسما ً تخطيطيا ً غنوصيا ً تستطيع أن ترى فيه بوضوح ثعبانا ً يقسم العالمين‪:‬‬
‫العالم المخلوق والعالم غير المخلوق‪ .‬وعلى الرغم من أنه ال أحد يحب ھذه االزدواجية‪ ،‬إالّ أن ھذه ھي الحقيقة‪،‬‬
‫ويجب أن يتم تقبّلھا‪ .‬الغنوصيون يعرفون أن ھناك عالم آخر مثالي للغاية‪ ،‬ال عالقة له بھذا العالَم‪ .‬كان أوريجانوس‬
‫قادراً على الوصول إلى ھذه المخططات والكتب الغنوصية‪ ،‬وإلى كل ھذه المعلومات‪ ،‬من أجل انتقادھا في وقت‬
‫الحق‪ ،‬مثلما فعل القديس أوغسطين‪ ،‬وترتليان‪ ،‬وھيبوليتوس‪ ،‬وإيريناوس مدينة ليون‪ ،‬وإبيفانيوس‪ ،‬وغيرھم الكثير‪  .‬‬

‫أمّا اآلن‪ ،‬فإن معظم النصوص الغنوصية األصلية ُدمرت ولم تعد موجودة‪ .‬لقد شوّ ه منتقدوا الغنوصية ھؤالء كافة‬
‫معلومات النصوص الغنوصية األصلية‪ ،‬مع اقتطاع جمل من سياقھا لجعلھا تبدو سخيفة‪ ،‬وھذه واحدة من بين‬
‫االستراتيجيات الماكرة األخرى‪ .‬ولكن أ َّيا من ھذه األمور لم تعد مھمة اآلن‪ .‬فالغنوصية األصلية حاضرة دائما ً‪ ،‬رغم‬
‫أن ھناك العديد من الذين ال علم لھم بھا‪ .‬لقد كانت الغنوصية دائما ً ھي نفسھا في مختلف الظروف التي ظھرت فيھا‬
‫للعلن‪ ،‬على الرغم من وجود مفاھيم تاريخية وثقافية مختلفة‪ .‬الغنوصية لم تختفي أبداً‪ ،‬ولن تختفي على الرغم من‬
‫أنھا ممنوعة ومضط َھدَة‪ .‬وسوف تبقى دائما ً في متناول أولئك الذين يستحقونھا‪ .‬وكلما تعرّضت لالضطھاد أكثر‪،‬‬
‫كلما استجمعت قوتھا أكثر‪  .‬‬

‫باإلضافة إلى كتاب بلوخ‪ ،‬ھناك كتب أخرى مثيرة لالھتمام تصف ھذه الجوانب من الغنوصية القديمة التي تشير إلى‬
‫ثعبان عدن المخلّص‪ .‬من إحدى ھذه الكتب‪ ،“Adan,  le  dieu  rouge”  ،‬لروبرت أمبالين‪ ،‬وكتاب آخر ھو "‪ ‬‬
‫‪ "Gnostics and their Remains‬لـ ‪ ،C. W. King‬وھذا األخير ُكتِ َ‬
‫ب في القرن التاسع عشر‪  .‬‬

‫كما أن ھناك جزء مثير لالھتمام من معلومات تتعلق بثعبان سفر التكوين في كتاب "تفنيد جميع البدع"‪ ،‬الذي كتبه‬
‫ھيبوليتوس‪ ،‬المضطھد الكبير للغنوصيين‪ .‬ففي ھذا الكتاب‪ ،‬يعلق ھيبوليتوس على بعض كلمات سيلسوس وينتقدھا‪،‬‬
‫والتي ُتعتب ُر بالنسبة له كلمات مروعة‪ .‬وھو يتحدث عن الجزء الذي يشير فيه سيلسوس إلى األحداث التي حصلت‬
‫وخر َب عمله‪ ،‬كذلك ينبغي لكل إنسان‬
‫َّ‬ ‫في الفردوس الدنيوي حيث قال‪ :‬مثلما لعن الخالق الثعبان عندما دمر خططه‬
‫أستيقظ أن يلعن الخالق‪ .‬ومثلما لعن الخالق الثعبان المخلّص‪ ،‬كذلك فإن الخالق نفسه سيتم لعنه من قبل كل روح‬
‫تحررت من براثنه طالما أنه موجود‪ .‬لقد الحظ ھيبوليتوس المرعب‪ ،‬أنه على الرغم من معرفته بأن الغنوصيين‬
‫ُي َشبّھون اإلله الخالق بالشيطان‪ ،‬إال ّ أنه ما كان ليتخيّل أبداً أن يلعنوه أيضا ً‪  .‬‬

‫والحقيقة إنه في العدد القليل من كتب الغنوصية التي تم إنقاذھا من النيران‪ ،‬نرى أن اإلله الخالق يسمى أحيانا ً بـ‬
‫الشيطان‪ .‬فالتقليد الغنوصي يشير إلى خالق الكون المادي على أنه "الشيطان‪ ،‬خالق العالم واإلنسان"‪ ،‬و "إبليس‬
‫وشياطينه‪ ،‬خالقي العالم"‪ ،‬وأشياء أخرى من ھذا القبيل‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .13‬قابيل الخالد ‪ ‬‬

‫ط ِردَ آدم وحواء من الجنة‪ ،‬وكان لديھم أطفال‪.‬‬‫كلنا نعرف ما حدث بعد "سقوط" اإلنسان‪ ،‬وفقا ً لسفر التكوين‪ ،‬حيث ُ‬
‫أوالً قابيل‪ ،‬ثم ھابيل‪ .‬وجميعنا نعلم أن "ﷲ لم يتقبل األضحيات التي قدمھا قابيل له‪ ،‬وإ ّنما تقبّل أضحيات ھابيل"‪.‬‬
‫لذلك فإن قابيل‪ ،‬الذي أكلته الغيرة‪ ،‬رمى نفسه على أخيه وقتله‪ .‬لقد اعتقدنا دائما ً‪ ،‬والجميع يعرف ذلك‪" ،‬كيف كان‬
‫قابيل سيئا ً"‪ ،‬و" كم كان أمراً فظيعا ً قتل ُ ُه ألخيه"‪ .‬كان قابيل سيئا ً وھابيل جيداً؛ ذلك ھو التفسير الذي أعطي لنا في‬
‫اليھودية والمسيحية واإلسالم‪ .‬حتى سانت أوغسطين في تفسيره ألسطورة قابيل وھابيل‪ ،‬يشبّه قابيل باليھود‪ ،‬وھابيل‬
‫بالمسيح‪ .‬وھو يقول إن اليھود قتلوا المسيح بالطريقة نفسھا التي قتل فيھا قابيل ھابيل‪ .‬ثم يتابع القديس أوغسطين‪،‬‬
‫مثل أي شخص آخر‪ ،‬وفق التقليد المتعارف عليه‪ ،‬في أن ھابيل كان جيداً‪ ،‬بينما قابيل كان سيئا ً‪  .‬‬

‫من الواضح جداً في الكتاب المقدس؛ أن ﷲ عاقب قابيل ونفاه‪ .‬وھذا يعتبر شيئا ً منطقيا ً وطبيعيا ً‪ :‬فقابيل سيء‪ ،‬وھابيل‬
‫جيد‪ .‬لكن التفسير الغنوصي مختلف تماما ً كما سنرى اآلن‪  .‬‬

‫أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬تؤكد الغنوصية إن قابيل لم يكن ابن آدم‪ ،‬وإن حواء حملت ابنھا األول قابيل من الثعبان‪،‬‬
‫لوسيفر‪ ،‬الذي جعل حواء تحبل بأنفاسه‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬نرى أن قابيل مولود من الجسد‪ ،‬لكنه لم يكن بشراً بالكامل‪.‬‬
‫فطبيعته الروحية كانت نبيلة‪ ،‬ذلك أن والده كان لوسيفر‪ ،‬تلك الروح القادمة من العالم المجھول‪.‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬كان ھابيل ابن آدم وحواء‪ ،‬أي بتعبير آخر‪ :‬ھابيل ولد حقا ً من الجسد‪  .‬‬

‫يمكننا اآلن أن نرى الفرق األول بين األخوين‪ :‬قابيل متفوق على ھابيل‪ .‬قابيل ھو ابن حواء ولوسيفر‪ ،‬أول ثعبان‬
‫دخل جنة عدن‪ .‬قابيل ھو ابن الروح والجسد‪ .‬أمّا ھابيل‪ ،‬فعلى العكس من ذلك‪ ،‬ولد فقط من الجسد‪ .‬لذلك يمكننا أن‬
‫نرى أوالً أن قابيل ليس شخصا ً شريراً‪ ،‬لكنه في الواقع شخصا ً متفوقا ً‪ ،‬ومھ ّما ً‪ ،‬أكثر من ھابيل بكثير‪  .‬‬

‫ثانيا ً‪ ،‬قابيل قدم أضحيات لإلله الخالق بقدر ما قدم ھابيل إلرضائه‪ ،‬وعرض عليه األشياء التي يحبھا‪ .‬قابيل عرض‬
‫عرض الحيوانات‪ ،‬كالخراف الصغيرة مثالً‪ .‬ووفقا للكتاب المقدس فإن اإلله الخالق فضل‬ ‫َ‬ ‫الخضروات‪ ،‬وھابيل‬
‫األخير‪ :‬أي الدم المسفوح من الحيوانات النافقة‪ ،‬ورائحة اللحم المشوي المنبعث من الجثة‪ .‬يقول الكتاب المقدس إن‬
‫الخالق كان مسروراً من أضحيات ھابيل‪ ،‬لكنه لم يكن مسروراً من أضحيات قابيل‪ .‬ويبدو أن قابيل كانت له رغبة‬
‫قليلة في إرضاء الخالق‪ ،‬نظراً ألنه لم يعرض سوى بضعة بذور‪ ،‬وبقليل من الورع‪ ،‬كما لو أنه لم يكن مقتنعا ً تماما ً‬
‫بجدوى تقديم األضحيات‪ .‬إذن فمن الطبيعي أن يقبل الخالق أضحيات ھابيل‪ ،‬وال يقبل تلك التي من قابيل‪ .‬لم يرغب‬
‫قابيل بتقديم األضحيات للخالق بسبب جذوره‪ ،‬فقد كان ابن لوسيفر‪ ،‬وألنه امتلك في داخله الشرارة اإللھية من مالك‬
‫النور‪ .‬وھذا ھو السبب في أنه لم يقدّم األضحيات المناسبة للخالق‪ ،‬كما أن السبب في اشمئزازه من تقديمھا ھو أنه ال‬
‫ينتمي إلى ھذا العالم المخلوق‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬ھابيل‪ ،‬الذي لم تكن طبيعته من طبيعة الروح وإ ّنما من طبيعة‬
‫الحيوان‪ ،‬قدم األضحيات المناسبة‪ ،‬وتلك األضحيات كانت أكثر ما يسعد الخالق‪.‬‬

‫ثمة أسطورة قديمة تتعلق بما قاله ھابيل ألخيه قابيل في مناسبة معينة‪ " :‬ﷲ قبل أضحيتي وقرباني ألنني أحبه‪ ،‬أما‬
‫أضحيتك فقد رفضھا ألنك تكرھه"‪ .‬اآلن من الواضح تماما ً أن قابيل يكره الخالق ألن األول مولود من الروح‪،‬‬
‫فطبيعته الحقيقية ھي طبيعة روحية! وبوضعھا بھذه الطريقة تصبح واضحة تماما ً‪ .‬كل ھذه األساطير والخرافات‬
‫المحيطة بسفر التكوين تخبرنا بأشياء كثيرة‪ ،‬ومن خاللھا ندرك أن الكثير من المعلومات تم تشويھھا وإخفاءھا عنا‪  .‬‬

‫ھناك أشياء أخرى مثيرة لالھتمام مما قالھا قابيل ألخيه‪ ،‬وھي جملة واحدة صغيرة تلخص موقفه‪ .‬ھذه الكلمات تعتبر‬
‫مفتاحا ً‪" :‬ال يوجد قانون‪ ،‬وال قاض" )الترجمة الفلسطينية‪ .(8 :4 ،‬لقد رفض قابيل سلطة اإلله الخالق‪ ،‬ورفض حقيقة‬
‫إجالله وطاعته‪  .‬‬

‫في وقت الحق نرى أن قابيل قتل أخاه ھابيل‪ ،‬وھذا شيء له مغزى عميق‪ ،‬ألنه يدل على أن الروح ترفض وتدمر‬
‫وتقتل النفس‪ .‬ھابيل‪ ،‬الذي قُ ِّد َم في الكتاب المقدس على أنه الحب النقي والتفاني‪ ،‬يمثل نفس اإلنسان وفقا للغنوصيين‪.‬‬
‫أمّا قابيل فعلى العكس من ذلك؛ فھو يمثل الروح‪ ،‬وھو ما يفسر عداءه وكراھيته‪ .‬إن العداء والكراھية ھما نموذج‬
‫الروح‪ ،‬ألن الروح تمقت حقا ً ھذا العالم النجس‪ ،‬والمليء بالقوانين غير العادلة والسخيفة‪ .‬ھذا ما يفسر مقاومة قابيل‬
‫لتقديم األضحيات‪ ،‬وعصيانه لوصايا الخالق‪ .‬إن قابيل وھابيل متعارضان ومتضادان كما ھو الحال بين النفس‬
‫والروح‪  .‬‬
‫النفس ھي حب نقي‪ ،‬ولكن ليس حبا ً حقيقيا ً‪ ،‬بل الحب المعروف للجميع‪ .‬غير أن ذلك الذي نعتقد أنه حب‪ ،‬والذي قيل‬
‫لنا إنه حب‪ ،‬ھو في الواقع الفعلي كراھية‪ .‬أمّا الروح فعكس ذلك؛ ولھذا ينظر إليھا على أنھا كراھية خالصة‪ ،‬وعداوة‬
‫وانتقام‪ .‬ذلك أن الشيء الوحيد الذي يمكن للروح أن تشعر به بسبب تقييدھا في ھذا الخلق الشيطاني ھو العداء‬
‫والكراھية‪ ،‬تلك التي يعرفھا البشر العاديون على أنھا كراھية‪ .‬بيد أن الروح التي ھي حب محض‪ ،‬ال يمكن أن تشعر‬
‫إال ّ بالنفور واالشمئزاز تجاه ذلك الشيء الذي ھو في الواقع قمامة نقية‪ .‬وھذا ھو السبب في أن الروح تريد تدمير‬
‫ھذا الخلق الشيطاني‪ ،‬ألن الخلق بالنسبة لھا ھو مسخ مشوه‪ ،‬وال ينبغي أبدا أن يأتي إلى حيز الوجود‪ .‬ذلك ما يرمز‬
‫إليه قتل قابيل لھابيل‪  .‬‬

‫قابيل‪ ،‬من خالل تصرفاته‪ ،‬تحرر تماما ً من الخالق ومن جسده وروحه‪ .‬من خالل ھذه األعمال ضد اإلله الخالق‬
‫وضد أخيه غير الشقيق ھابيل‪ ،‬تحرر مرة واحدة وإلى األبد من اإلله األدنى مرتبة ومن خلقه المتصدع والنجس‪.‬‬
‫بھذه األعمال قام بتحويل نفسه إلى خصم وعدو أبدي لخالق الكون المادي وما صنعه‪  .‬‬

‫ھذه الحادثة برمتھا لقصة قابيل وھابيل مثلما وردت في سفر التكوين في الكتاب المقدس وفي األساطير‪ ،‬كأسطورة‬
‫المدراش اليھودية وغيرھا‪ ،‬فسرھا الغنوصيين بطريقة معاكسة تماما ً للنسخة المتفق عليھا عموما ً‪  .‬‬

‫بعد ارتكاب قابيل لفعلته السامية‪ ،‬يقول الكتاب المقدس إن قابيل حلّت عليه لعنه ﷲ و ُن ِف َي من ذلك المكان‪ .‬إنه "ملعون‬
‫ومنفي"‪ ،‬وھو المصير نفسه لثعبان الجنة‪ .‬والحقيقة أنه كان شيئا ً منطقيا ً أن يحدث ھذا؛ ذلك أن قابيل حوّ ل نفسه إلى‬
‫خصم مطلق لإلله الخالق‪ ،‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فقد حدثت أمور كثيرة أكثر إثارة لالھتمام‪ ،‬وھي التي سنسلّط الضوء‬
‫عليھا ھنا‪  :‬‬

‫أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬رأينا أن قابيل كان قد ل ُ ِع َن و ُنف َي من قبل اإلله الخالق‪ .‬غير أن ھذا الذي يمكن أن يبدو عقابا ً‪ ،‬ھو‬
‫عكس ذلك تماما ً بالنسبة للغنوصي؛ فأن تكون ملعونا ً ومنف ّيا ً من قبل الخالق‪ ،‬لھو شرفً عظيم بالنسبة للغنوصي‪ .‬إنه‬
‫رد فعل طبيعي من قِ َب ِل خالق الكون المادي الذي واجھه شخص وتحدت معه وصفعه على وجھه‪ ،‬ھذا الخالق الذي‬
‫واجه شخصا ً جعل نفسه ِن ّداً له أو متفوّ قا ً عليه‪ .‬فقابيل في المنفى ألنه حول نفسه بالكامل‪ ،‬ونجح بنفي نفسه‪ ،‬واآلن لم‬
‫يعد ينتمي إلى ھذا العالم‪ ،‬رغم أنه استمر بالعيش فيه‪ .‬يقول الكتاب المقدس إنَّ الخالق نفاه! لكن قابيل حر‪ .‬لقد نال‬
‫حريته في الحياة‪ ،‬ومن خالل تصرفاته لعن الخالق ونفى نفسه من ھذا الخلق البغيض‪  .‬‬

‫ثانيا ً‪ ،‬تروي العديد من األساطير اليھودية إن الخالق عاقب قابيل إلى األبد باألرق‪ ،‬فحكم عليه بأالّ ينام مرة أخرى‬
‫أبداً‪ ،‬أي بالسھر األبدي‪ .‬لكن ھذا ليس عقابا ً بل انتصاراً بالنسبة للغنوصي‪ .‬فالحكم عليه باليقظة األبدية ھو ميزة‪ ،‬بل‬
‫فضيلة‪ ،‬وھو إنجاز مھم‪ .‬لقد أيقظ قابيل نفسه بعصيان وصايا الخالق و"قتل" نفسه‪  .‬‬

‫ثالثا ً‪ ،‬يقول الكتاب المقدس إنَّ الخالق حمى قابيل‪ ،‬ولم يسمح ألحد بإيذائه أو بقتله‪ ،‬وھذه حقيقة أخرى مثيرة لالھتمام‪.‬‬
‫يقول الغنوصيين إنَّ شخصا حول نفسه إلى روح نقية‪ ،‬على الرغم من انه ال يزال يسكن في جسده المادي‪ ،‬ھو‬
‫َ‬
‫تجاوز كل شيء‪،‬‬ ‫إنسان خالد‪ ،‬ال ُيمّس‪ .‬ال يمكن ألحد على اإلطالق إيذاءه أو مھاجمته اآلن‪ ،‬وھو لم يعد يخاف ألنه‬
‫ولن يموت أبداً‪ .‬إنه موجود في ھذا العالم‪ ،‬لكنه خارج العالم أيضا‪ .‬إنه خارج المادّة والزمن‪ ،‬واآلن لم يعد يشكل‬
‫جزءا من الخلق‪ .‬لقد نفى نفسه من ھذا العالم بإرادته‪ .‬ال يمكن لإلله الخالق أن يؤذيه بعد اآلن‪ ،‬ألن قابيل اآلن متفوق‬
‫عليه‪  .‬‬

‫رابعا ً‪ ،‬يقول الكتاب المقدس إنَّ الخالق وضع على قابيل عالمة مميزة‪ ،‬كي يتسنى للجميع أن يتعرفوا عليه فال يؤذوه‪.‬‬
‫تقول بعض األساطير اليھودية القديمة إنَّ ھذه العالمة كانت قرنا ً على جبھته‪ .‬ووجود قرن على الجبين يشير إلى‬
‫القوة؛ تلك القوة التي تأتي من الروح‪ ،‬وھي القوة التي تميزه عن غيره من البشر‪ .‬ھذا الشيء الصلب على جبھته‬
‫وروح َن ْت ُه‪  .‬‬
‫َ‬ ‫يعني أن الروح قد حررت نفسھا وامتلكت الجسد‪ ،‬وزادت من قُوَّ ِت ِه‪،‬‬
‫والحقيقة إنه ما من أحد وضع عالمة على قابيل‪ ،‬وإ ّنما قابيل ھو الذي وضع العالمة بنفسه‪ .‬وعندما يحدث ھذا‪ ،‬فإن‬
‫جميع البشر يالحظونھا‪ ،‬وكذلك الخليقة برمتھا‪ .‬إن كل روح تحررت من سجن المادة سوف يكون لھا ھذه العالمة‬
‫إلى األبد‪ ،‬ولن تعود الروح أبداً إلى ما كانت عليه من التقيّد بالمادة‪ .‬تلك العالمة المميزة تعني أن الجسد َّ‬
‫تحول‪،‬‬
‫وأصبح صلبا ً كما األلماس‪ .‬لقد حوّ لَت الروح الجسد وأصبح اآلن خالداً وأبديا ً‪ .‬وسوف يكون ھذا داللته األبدية‪،‬‬
‫وبرھانا ً أزليا ً على مساره عبر الجحيم‪ ،‬وانتصاره عليه‪  .‬‬

‫بمقدورنا أن نجد عدة توليفات في التفسير الغنوصي ألسطورة قابيل في كتاب المونسنيور مورين حول الماسونية‬
‫الذي استشھدنا به في وقت سابق‪ .‬كذلك في كتاب روبيرت إمبيالن "‪ ،"Le  dieu  rouge‬وأيضا في كتاب "اإللحاد‬
‫في المسيحية" إلرنست بلوخ‪ .‬وبالمثل‪ ،‬ھناك أيضا ً العديد من الحقائق المثيرة لالھتمام في كتاب "األساطير العبرية"‬
‫للمؤّ لِ َفين‪ :‬كرافز و باتاي‪ .‬وھناك أيضا ً تفسير غنوصي عميق جداً لھذه األسطورة في رواية غريبة وجدتھا على‬
‫شبكة اإلنترنت اسمھا "‪" El Misterio de Belicena Villca‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .14‬خطط اإلله الخالق ‪ ‬‬

‫وفقا للغنوصيين فإن اإلله الخالق لديه العديد من الخطط‪ ،‬والتي تشكل بمجموعھا "خطته الكبرى"‪ .‬ذلك ھو السبب في‬
‫أنه خلق الكون واإلنسان‪ .‬ولتحقيق أھدافه‪ ،‬يمضي قُدما في تجربة تطورية يكون فيھا جسد ونفس وروح اإلنسان‬
‫ماض في التمرس‪ ،‬والمحاولة‪ ،‬فإذا نجح‪ ،‬فسوف يوسع النتائج لتطال عالمه المخلوق بأكمله‪.‬أمّا إذا‬ ‫ٍ‬ ‫جزءا منھا‪ .‬إنه‬
‫أخفق‪ ،‬فسوف يتحتم عليه التخلص من ھذا المشروع والبدء من جديد من نقطة الصفر‪ ،‬مثلما فعل ذلك مرات عديدة‪،‬‬
‫في المحاولة بشيء آخر مراراً وتكراراً‪ .‬والحقيقة ھي أنه لن يتمكن من صنع نسخة مثالية أفضل مما كان يتصوره‬
‫بشأن العالم المجھول‪ ،‬وھو ما يحاول تقليده عبثا ً‪  .‬‬

‫ھذا الخالق بدون أدنى شك‪ ،‬نجح في التجربة الماضية‪ ،‬والتي على الرغم من أنھا تجربة ناقصة‪ ،‬إالّ أنھا تتمتع‬
‫ببعض القيمة‪ .‬فبعد ماليين السنين من الممارسة العقيمة‪ ،‬حقق في غضون بضعة آالف من السنين خطوة بارزة في‬
‫تطوير أعظم أعماله‪ :‬أال وھو اإلنسان‪ .‬بعد ماليين السنين من تعليق التطور الذي عاش فيه سلف اإلنسان وكأنه‬
‫مجرد حيوان آخر‪ ،‬إال ّ أنه تطور في الثالثين ألف سنة الماضية أكثر ممّا حصل خالل التاريخ بأكمله‪ .‬أمّا‬
‫الغنوصيون فقد ربطوا ھذه الطفرة‪ ،‬أي عملية "الخلق"‪ ،‬وھذه القفزة التطورية الكبيرة‪ ،‬باستخدامه ألرواح تتسم‬
‫بأعظم نقاء‪ ،‬قادمة من العالم غير المخلوق‪  .‬‬

‫لقد ش ّك َل اإلله الخالق جسداً من تراب األرض‪ ،‬وبأنفاسه منحه عنصراً روحانيا ً‪ ،‬ھو ال َّن ْفس‪ .‬وأضاف إلى ھذه النفس‬
‫روحا ً‪ ،‬تلك التي تم اإليقاع بھا عن طريق الخداع‪ ،‬و ُس ِجنِت رغما عنھا في ھذا المِسخ الشيطاني من التراب وال َّن َفس‪:‬‬
‫ُ‬
‫كرھِت باستمرار لكي تدفع بتطور اإلنسان‬ ‫أي جسد ون ْفسُ اإلنسان‪ .‬إنھا الطاقة اإللھية للروح المسجونة التي أ ِ‬
‫الحيوان قُ ُدما ً! ‪ ‬‬

‫ولكن لماذا يريد الخالق لھذا الكائن أن يتطور؟ لكي يتحول تدريجيا ً نحوه‪ .‬ھذا ھو السبب في تقديمه للوصايا‬
‫واألوامر‪ .‬يريد من اإلنسان أن يتحول نحوه‪ ،‬نحو الخالق‪ ،‬ليصبح ھو والخالق واحد‪ .‬سيكون الجسد والنفس سعداء‬
‫جداً إن حصل ھذا ألنھما جزء من اإلله الخالق‪ .‬لكن الروح ليست جزءا منه‪ ،‬ذلك أن لھا أصل آخر ومصير آخر‪  .‬‬

‫طالما أن الروح مق َّيدَة‪ ،‬فإن كل شيء سيكون على ما يرام‪ ،‬ويمضي باإلكراه نحو التطور‪ .‬والحقيقة أنه حتى لو‬
‫قامت روح واحدة بتحرير نفسھا‪ ،‬فسوف تفسد الخطة بأكملھا‪ .‬وھذا ھو السبب في أنه شيء في غاية األھمية أن‬
‫يكون استبداد خالق الكون المادي مطلقا ً‪ ،‬وأن جميع المعارف التي يمكن أن توقظ اإلنسان وتجعله يتذكر من ھو في‬
‫الحقيقة ال تزال ممنوعة ألنھا ستكون معرفة خطيرة‪ ،‬بل خطيرة للغاية ألنھا ستكون قادرة على زعزعة استقرار‬
‫خطة اإلله الخالق‪ .‬ووفقا ً للغنوصية‪ ،‬فإن روح واحدة فقط تتمكن من تحرير نفسھا‪ ،‬ستكون قادرة على إضعاف‬
‫الخليقة بأكملھا‪ ،‬وكذلك إضعاف اإلله الخالق‪ ،‬ومنعه من االستمرار في خططه‪ .‬ھذه الروح ستكون المنقذ‪ ،‬منقذ العالم‬
‫واألرواح األخرى‪ .‬ستكون في صالح تحرر ليس البشر فحسب‪ ،‬وإ ّنما في صالح الكون برمّته‪ ،‬وكذلك في صالح‬
‫الشرارات اإللھية التي ال حصر لھا‪ ،‬تلك القادمة من العالم األبدي غير المخلوق‪ ،‬والتي تجد نفسھا مسجونة ھنا في‬
‫ھذه اآللة العمياء الكبيرة‪ ،‬كي تجعلھا تعمل وتتطور‪  .‬‬

‫ھذا النظام‪ ،‬الذي أنشأه خالق الكون المادي‪ ،‬ال يمكن أن يعمل إال ّ إذا امتلك ھذه الجسيمات من العالم الروحي‬
‫المستعبدة والمسجونة ھنا‪ .‬يقول الغنوصيون إن جميع ھذه الجسيمات الروحية‪ ،‬تلك المسجونة في البشر‪ ،‬ھي األكثر‬
‫أھمية ونقاء في التسلسل الھرمي الروحي‪  .‬‬

‫وح َّث ُه على التطور‪ ،‬بحيث يتطور نحوه جنبا ً إلى جنب مع تطور‬
‫لقد أنشأ خالق الكون المادي ور َّكب كل ھذا َ‬
‫اإلنسان‪ .‬فإذا فشلت التجربة مع اإلنسان‪ ،‬فسوف يبسط يديه على مخلوقاته األخرى ويحاول مرة أخرى‪  .‬‬

‫قلنا إن خالق الكون المادي يريد من اإلنسان أن يتطور إلى أن يتحول إليه ويتحد معه‪ ،‬بحيث أن كل نفس‪ ،‬أو بعبارة‬
‫أخرى كل أنفاسه‪ ،‬وكل كائن مصنوع من الغبار‪ ،‬يمكن أن يعود إليه‪ ،‬ويحوّ ل نفسه إليه‪ .‬وھذا ھو الھدف النھائي‬
‫الذي يريده خالق الكون المادي لإلنسان‪  .‬‬

‫بسبب ھذا كله‪ ،‬يغدوا شيئا ً أساسيا ً بالنسبة لخالق الكون المادي أن يبقي على الروح مسجونة كي يتمكن من استخدام‬
‫طاقتھا‪ .‬لھذا السبب يحتاج خالق الكون المادي ألن يبقى اإلنسان نصف نائم وم َش َّوش بحيث ال يكف عن التقرّ ب‬
‫األعمى منه‪ ،‬من الخالق‪ ،‬الذي احتال عليه باإلغراء والعقاب‪ .‬لھذا السبب‪ ،‬ولكي يعمل النظام بأكمله‪ ،‬على اإلنسان‬
‫أن يحافظ على االعتقاد بأن الخالق ھو ﷲ الوحيد الموجود‪ ،‬وبأنه إله طيِّب‪  .‬‬

‫الغنوصيون يؤكدون على أنه إذا كان اإلنسان يتطور وصوالً إلى حد االندماج مع خالقه‪ ،‬ففي تلك اللحظة سوف تفقد‬
‫روحه كل إمكانية لتحرير نفسھا‪ ،‬في حين يستمر ھذا الكون‪  .‬‬

‫‪ .15‬الموت والتق ّمص ‪ ‬‬

‫من بين كل ھذه العملية التطورية التي اقترحھا اإلله الخالق وشجعھا‪ ،‬ثمة مسألة في غاية األھمية وھي موت اإلنسان‬
‫وتقمّصه‪ .‬عندما يموت إنسان‪ ،‬فيموت الجسد المادي في تلك المرحلة‪ ،‬وتنفصل النفس عن الجسد‪ ،‬وتأخذ معھا الروح‬
‫ال ُم َكبَّلة‪ ،‬ذلك ألن الروح ُم َكبَّلة بالنفس وليس بالجسد‪ .‬فالروح متصلة بالجسد من خالل الن ْفس‪  .‬‬

‫بعد الموت الجسدي تنسحب الن ْفس آخذة معھا ھذه الروح إلى مستويات أخرى‪ ،‬وھناك تستمر بمعاقبتھا‪ .‬وبالتالي فإن‬
‫ھذا العالم ھو الجحيم بالنسبة للغنوصيين؛ إنه متخم بالعقاب والمعاناة‪ ،‬منذ الوالدة حتى الموت‪ .‬لكن المعاناة تستمر‬
‫بعد الوفاة‪ ،‬بل ما ھو أكثر من ذلك‪ ،‬يمكن أن تصبح المعاناة أش ّد‪ ،‬فال َّن ْفسُ ُتعا َقبُ عن كل التصرفات التي انغمست‬
‫ضربُ الن ْفس‪ ،‬و ُتعا َقبُ ‪ ،‬و"تتط َّھر" مثلما يقول‬
‫فيھا على األرض حينما كانت في الجسد المادي‪ .‬ثم تستمر المعاناة؛ ف ُت َ‬
‫البعض‪ ،‬إلى أن يتم نقلھا إلى جسد جديد من أجل استمرار المعاناة‪ .‬والحقيقة أنه ال يمكن ألحد أن ينجو من الجحيم‪،‬‬
‫وال حتى من خالل الموت‪ ،‬فما إنْ تنفصل الن ْفس عن الجسد حتى تستمر في المعاناة‪ ،‬وأحيانا أكثر من َقبل‪،‬‬
‫ويتواصل الضرب والعقاب‪.‬‬

‫بھذه الطريقة يتم تشكيل سلوك البشر من خالل الميتات والتقمّصات الالحقة‪ .‬والحقيقة أنه يتم خداعھم عندما يقال لھم‬
‫إن ھذا العقاب ھو لمصلحتھم‪ ،‬وإنھم من خالل ذلك سوف "يتحسنون"‪ ،‬و"يتطورون"‪" ،‬ويصبحون أفضل"‪،‬‬
‫و"أنقى"‪ ،‬و"أقدس"‪ ،‬و"أكثر شبھا ً بخالقھم"‪ .‬أي أكثر َش َبھا ً بخالقھم الشيطان‪  .‬‬
‫لنسأل ھذا الخالق الشيطان‪ ،‬الذي يسمى "القاضي الصالح" و "إله الحب"‪ :‬لماذا يموت األطفال؟ اسأله أيضا ً لماذا‬
‫اخترع الكثير من الفيروسات واألمراض؟ سوف لن يُجيب‪ ،‬ذلك ألنه فضالً عن كونه غير عادل‪ ،‬ھو أيضا ً أص ُّم‬
‫وأعمى‪ .‬إن الخالق يتغذى على فيض األلم والبكاء الصادر من اإلنسان‪ .‬ھذا ما يؤكده الغنوصيون‪  .‬‬

‫ي ّدعي خالق الكون المادي إن اإلنسان "يكتمل" تدريجيا ً عن طريق العقاب‪ .‬وعبارة " ُي َك ّم ُل نفسه" تعني التش ُّب َه بخالق‬
‫الكون المادي أكثر وأكثر‪ ،‬وسينتھي العقاب عندما يستسلم اإلنسان للخالق‪ ،‬ويقبل بأن يكون مثله‪ ،‬ويتبرَّ أ من روحه‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫األمر األخير ھو ما يحدث عندما يقرر شخص ما أو مجتمع إقامة "ميثاق" أو تعھد دم مع خالق الكون المادي من‬
‫أجل الحد من المعاناة قليالً‪ .‬في ھذه الحاالت‪ ،‬يشارك الشخص أو مجموعة من األشخاص في ميثاق عھد للتبرّؤ من‬
‫الروح‪ ،‬مقابل السلطة أو الثروات المادية‪ .‬ھؤالء األشخاص يتخلّون عن كل شيء‪ ،‬مقابل أشياء قليلة جداً‪ .‬عليك أن‬
‫تكون مجنونا ً أو يائسا ً للغاية لتقطع عھداً أو تعقد اتفاقا ً مع خالق الكون المادي الشرير‪ .‬لقد و َّقعوا على م َذ ّكرة موتھم‬
‫الروحي‪ ،‬وسوف يتم فسخھا عندما يتالشى كل شيء تم خلقه‪  .‬‬

‫ب حوله في جميع "الكتب المقدسة" التي ألھمھم إيّاھا‪ .‬أن يحفظوھا في‬ ‫فماذا نفعل لنكون مثل الخالق؟ ھذا ما ُكتِ َ‬
‫داخلھم ھو كل ما ينبغي عليھم القيام به‪" :‬اعبد الخالق"‪ ،‬و"أحب جارك"‪" ،‬وال تأكل كذا وكذا"‪ ،‬و"حوِّ ل له الخد‬
‫اآلخر"‪ ،‬وما إلى ذلك‪ .‬ال يھم أن بعض المفاھيم األخالقية ال معنى لھا؛ بل يكفي إطاعتھا‪  .‬‬

‫من الواضح جداً ما يجب على اإلنسان فعل ُه إلرضاء الخالق‪ .‬النقطة المھمة ھي أن بعض األشياء يصعب القيام بھا‪،‬‬
‫ألن كل إنسان لديه روح مُك َّبلَة في داخله تصرخ لكي يعارض خالق الكون المادي وأال يطيعه‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فإن بعض‬
‫األشخاص يصغون لصوت الروح أكثر من غيرھم‪  .‬‬

‫لھذا السبب يوجد عقاب‪ .‬ولھذا السبب يوجد موت وتقمّص متالحق‪ ،‬كما أن بعض األشخاص يحتاجون للعقاب أكثر‬
‫من غيرھم ألجل تحطيمھم‪  .‬‬

‫خالل المعاناة‪ ،‬تأتي لحظة يتخلّى اإلنسان فيھا عن نفسه‪ .‬يستسلم ويقبل بأن يكون مثل خالق المادة‪ .‬إنه يفعل ذلك كي‬
‫ُظھ َر للخالق أن اقتناعه مطلَق‪ ،‬وليس‬ ‫يتوقف التعذيب‪ ،‬وليس ألي سبب آخر‪ .‬فلكي يستسلم عليه أن ينبذ روحه لي ِ‬
‫ً‬
‫ُصغ إلى الصوت الداخلي‪ ،‬ذلك‬ ‫مفتعال‪ .‬وبذلك تبقى ذاته الروحية ملغاة تماما ً؛ وھذا ھو الموت الروحي‪ .‬اآلن لن ي ِ‬
‫الصوت الذي ال يكاد يسمع‪ ،‬والذي يصرخ به لكي يعارض‪ ،‬وأال ّ يستسلم‪ ،‬ويقاتل دائما ً لنيل حرّ يته‪ .‬غير أن النفس‬
‫انتصرت؛ وانتصر خالق الكون المادي‪ ،‬فھذا الشخص حول نفسه إلى "قديس"‪ ،‬وإلى "مثال جدير باالقتداء"‪.‬‬
‫وبالنسبة للخالق‪ ،‬عندما يصل اإلنسان إلى نقطة حيث ال يعود يوجد في داخله أيّ انعكاس لروحه‪ ،‬فسيكون ذلك سبب‬
‫ابتھاجه وسروره‪ .‬اآلن‪ ،‬أصبح ھناك فراغ داخل ھذا الشخص‪ ،‬الفراغ الذي امتأل با فيما بعد‪ .‬لقد حول ھذا اإلنسان‬
‫نفسه إلى "ممثل ﷲ على األرض"‪ ،‬وإلى "إله حي"‪ ،‬وذلك بالتماثل مع خالقه‪ .‬ذلك ھو أحد أھم جوانب "الخطة‬
‫الكبرى" لإلله الخالق‪ .‬وھذا ھو السبب في أنه خلق المادة والزمن والكون برمّته‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬وسبب سجنه لألرواح‬
‫الخالدة‪  .‬‬

‫ما إن يندمج اإلنسان مع ﷲ‪ ،‬أو "يضيع نفسه في ﷲ" مثلما تقول بعض األديان‪ ،‬حتى تكون الروح قد أنھت عملھا‬
‫ھنا‪ .‬لكن خالق الكون المادي كي يبعد الروح عن التحرر‪ ،‬فإنه يربط الروح مرة أخرى بنفس شخص آخر يكون عند‬
‫أدنى مستوى تطوري‪ ،‬وذلك من أجل االستمرار في استغاللھا لتحقيق التطور‪ ،‬وتحقيق الھدف من الخلق‪ :‬وھو‬
‫اندماج اإلنسان بخالقه‪  .‬‬

‫سوف تتحرر األرواح فقط عندما يقرر الخالق إنھاء خلقه‪ ،‬وقد يحصل ذلك في غضون آالف الماليين من السنين‪.‬‬
‫ربما ُتحرِّ ُر بعض األرواح نفسھا مسبقا ً عبر وسائلھا الخاصة‪ ،‬إال ّ أن ھذا األمر في غاية الصعوبة‪ ،‬ذلك أن خالق‬
‫الكون المادي‪ ،‬الذي يعلم أن ھروب حتى روح واحدة من سجنه سيكون كارثيا ً بالنسبة له ولخلقه‪ ،‬لذلك اتخذ العديد‬
‫من االحتياطات الالزمة لتجنب حدوث ذلك‪  .‬‬

‫أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬لكي تعمل ھذه الخطة‪ ،‬فمن الضروري أن يبقى اإلنسان نائما ً‪ .‬من الضروري منع أيّ ذات‬
‫روحية من التعبير عن نفسھا قائلة‪" :‬أنا ال أوافق"‪" ،‬ھذا ليس عالمي"‪" ،‬ھذه ليست حياتي"‪" ،‬ھذا ليس قدري"‪" ،‬ھذا‬
‫العالم ھو الجحيم"‪  .‬‬

‫قلنا إنه ال أحد يستطيع الھرب من المعاناة‪ .‬وال أحد يمكنه تج ّنب العقاب الذي و َ‬
‫ض َع الخالق الشيطان مخلوقاته فيه‬
‫حتى عن طريق االنتحار‪ .‬إن األجساد والنفوس تنتمي إلى الخالق طوال حياتھا‪ ،‬حتى بعد الموت‪ .‬الحل الوحيد ھو‬
‫إلنسان ليس سوى نصف مستيقظ لكي‬ ‫ٍ‬ ‫من خالل تحرير الروح؛ وھذه ھي المھمة األكثر صعوبة وأھمية بالنسبة‬
‫يتمكن من القيام بھا‪  .‬‬

‫كنا نقول إن الخالق يحتاج ألن يبقى اإلنسان نائما ً من أجل جعل خطته متماسكة‪ ،‬وبالتالي البد من تدمير أيً شخص‬
‫أو أي كتاب يساعده على االستيقاظ وتحرير روحه‪ ،‬وھذا ھو السبب في أن كل ھذه المعرفة‪ ،‬ھذه الغنوصية‪ ،‬قد تم‬
‫اضطھادھا أشد االضطھاد وإسكاتھا‪  .‬‬

‫بالنسبة لخالق الكون المادي‪ ،‬من الضروري أال ّ يستيقظ اإلنسان وذلك كي يتمكن من اقتياده‪ ،‬كالسائر أثناء النوم‪،‬‬
‫وذلك من خالل تقمصات متوالية‪ ،‬إلى أن يبلغ أعلى نقطة في التطور‪ ،‬حيث يتعب فيھا من كثرة المعاناة‪ ،‬فيوافق‬
‫على تسليم ذاته اإللھية‪ ،‬وتسليم روحه الخالدة‪ ،‬لكي يندمج مع الخالق‪  .‬‬

‫‪ .16‬مانافنتاراس ‪ ‬و براالياس ‪ ‬‬

‫لدى الغنوصيون إجابة على سؤال ما إذا كانت الخليقة أبدية‪ ،‬أم أنھا ستزول ذات يوم‪ :‬إن كل شيء مخلوق البد أن‬
‫يزول؛ فخالق الكون المادي يخلق الكون‪ ،‬وبعد فترة يدمّره‪ .‬يقول حاخامات اليھود‪" :‬الرب مبارك كما ھو‪ ،‬يخلق‬
‫العوالم ويدمرھا"‪ .‬وفي تعاليم الشانكارا نقرأ‪" :‬كما الفقاعات التي تصعد من الماء‪ ،‬ينشأ العالم‪ ،‬ويعيش‪ ،‬ثم يذوب في‬
‫المولى العلي"‪) .‬أتمابوذا ‪ .(8‬كما أن الھندوس يسمون ھذا العالم "أنفاس براھما"‪ .‬وبراھما ‪ Brahma‬ھو اإلله‬
‫الخالق‪ ،‬وھو اسم آخر للـ ‪ ،demiurge‬أي خالق الكون المادي‪.‬‬

‫يبدأ اإلله الخالق بإحداث خلق جديد مع كل انفجار كوني كبير ‪Big  Bang‬؛ وھذا ھو الزفير‪ ،‬زفير أنفاسه‪ ،‬أي النفث‬
‫إلى الخارج‪ .‬ثم يتوسع ھذا الخلق‪ ،‬إلى أن يقرر وضع حد له‪ ،‬وذلك بامتصاصه من جديد وإعادته إلى نقطة البداية‪،‬‬
‫وھذا ھو االستنشاق‪ ،‬أي امتصاص َن َفسِ ِه‪ .‬عندما يحين موعد نھاية الخلق وتحطيمه‪ ،‬فيبدأ االنكفاء نحو الداخل‪ ،‬ويبدأ‬
‫الزمن في العودة إلى الوراء حتى يختفي‪ ،‬ثم تمضي فترة طويلة ال يخلق اإلله خاللھا أي شيء‪ .‬ھذا الطور يسمّيه‬
‫ت كوني يتم استرجاع كل شيء مخلوق فيھا‪ ،‬وينكمش إلى‬ ‫خلق تتبعھا فترة صم ٍ‬
‫الھنود "ليل براھما"‪ .‬أي أنَّ كل فترة ٍ‬
‫أن يختفي‪ .‬بعد أن يتم تدمير كل شيء‪ ،‬وبعد أن يتقلّص وصوالً إلى العدم‪ ،‬فيبدأ خلق جديد مع انفجار كوني آخر‪،‬‬
‫وھكذا دواليك‪ .‬إنَّ كل محاولة لخالق الكون المادي يتبعھا بمحاولة أخرى‪ ،‬ساعيا ً نحو الكمال الذي لن يناله أبدا‪.‬‬

‫في الھند‪ ،‬يطلق على دورات الخلق اسم مانافنتاراس ‪ ،Manvantaras‬وعلى دورات التدمير اسم براالياس‬
‫‪  .Pralayas‬‬

‫وھناك أغنية شائعة جداً في إسرائيل تدعى "أدون أوالم"‪ ،‬أي )"سيد العالم"(‪ ،‬حيث توجد فقرة فيھا تجعلنا نفكر في‬
‫فترة راحة الخالق بعد أن يد ِّمر صُن َع ُه‪ .‬ھذه األغنية تمضي على النحو التالي‪" :‬بعد ‪ ‬أن يزول كل شيء‪ ،‬سوف يحكم‬
‫الواحد الرھيب لوحده"‪ .‬وھي إشارة إلى فترة سكون الخالق عندما ال يبقى ھناك شيء مخلوق‪  .‬‬
‫عندما يتبدد الخلق برمته‪ ،‬يستمر غير المخلوق في الوجود كما ھو الحال دائما ً‪ ،‬ألنه أبدي؛ ليس له بداية أو نھاية؛‬
‫فھو ينتمي إلى مستوى األبدية المجھولة‪ .‬لن يتالشى في البرااليا إال ّ كل ما تم خلقه‪ ،‬فوحدھا تلك األشياء المخلوقة‬
‫ھي التي يمكن تدميرھا‪  .‬‬

‫الجدير بالقول إنه عندما يقرر خالق الكون المادي تدمير كل خليقته‪ ،‬أي عندما تنتھي المانافنتارا ‪،manvantara‬‬
‫عندئذ فقط‪ ،‬ستتحرر األرواح غير المخلوقة التي ظلت محتجزة في المادة‪ ،‬بينما يتم تدمير كل مادة‪ ،‬وكل األجساد‬
‫وكل األنفس‪ .‬وحدھا األرواح غير المخلوقة ھي التي لن يطالھا ھذا الدمار‪ ،‬وستعود إلى العالم الذي ال يمكن إدراكه‪،‬‬
‫التي جاءت منه‪  .‬‬

‫الغنوصيين ال يريدون االنتظار آالف الماليين من السنين‪ .‬بل يريدون تحرير أنفسھم اآلن‪ ،‬في أقرب وقت ممكن‪ .‬ال‬
‫يريدون تحرير أنفسھم فقط‪ ،‬بل يريدون أيضا ً وضع حد لھذا النظام الشيطاني بر ّمته‪ ،‬وألنفاس خالق الكون المادي‬
‫وخططه المجنونة‪ ،‬ووضع حد لعذاب األرواح المسجونة‪ ،‬وللخلق المتعاقب‪ ،‬وللدمار والموت والتق ّمص‪ ،‬وكل‬
‫شيء مخلوق‪ ،‬وكل ما ھو نجس‪ ،‬وكذلك خالق الكون المادي‪  .‬‬

‫‪ .17‬المؤامرة الكبرى ‪ ‬‬

‫على مدى التاريخ‪ ،‬تآمرت على األرض المؤسسات الدينية والسياسية لخالق الكون المادي بشكل متعمد للقضاء على‬
‫الغنوصية‪ ،‬أو على األقل تشويه رؤيتھا أينما وردت‪ .‬والحقيقة إن أ ّيا من النظم الفكرية التي يتم فيھا العثور على أيّ‬
‫أثر للغنوصية األصلية‪ ،‬إمّا ُمنِ َعت‪ ،‬أو أسيء تفسيرھا‪ .‬وھذا يبين مدى خطورة المعرفة الغنوصية على خطط خالق‬
‫الكون المادي‪ .‬لھذا كان إخفاء الحقيقة جزء من خطة مدبرة بحيث ال يتمكن اإلنسان من االستيقاظ‪ ،‬ناھيك عن‬
‫ضلَّال‪ ،‬ونصف نائم‪ ،‬إلى درجة أنه لن يصل إلى إدراك حقيقته‪،‬‬ ‫التمرد‪ .‬ھذا بشأن اإلنسان الذي يظل مشوَّ شا ً‪ ،‬و ُم َ‬
‫والوضع الموجود فيه‪ ،‬ذلك اإلنسان الذي لم يعرف حقيقة ما حدث‪ ،‬وال واقعه الحالي‪ ،‬وال ما سيكون عليه مستقبله‪.‬‬
‫إنھم يأملون في أال ّ يكتشف اإلنسان األجوبة الصحيحة لھذه األسئلة الثالثة األساسية‪ :‬من أنا؟ لماذا أنا ھنا؟ ماذا‬
‫يُف َت َرض أن أفعل؟ ‪ ‬‬
‫ُ‬
‫اضط ِھ َدت وأخفيت‪ ،‬فسوف تظل تكافح دائما ً لكي تتكشف‪ .‬إن أسوأ شيء يمكن‬ ‫لكن الحقيقة لن تزول أبدا‪ .‬وحتى لو‬
‫عمله للحقيقة ھو منعھا‪ ،‬فما سينتج عن ذلك ھو األثر المعاكس‪ :‬سوف تظھر بمزيد من القوة والعنف‪  .‬‬

‫ما ھو أول شيء يجب أخفاؤه؟ ‪ ‬‬

‫أوالً‪ ،‬سيكون من الضروري القضاء على فكرة أن وراء خالق الكون المادي غير الكفؤ‪ ،‬إله آخر موجود‪ ،‬متفوق‬
‫عليه ومطلق الكمال‪  .‬‬

‫من أجل إخفاء ھذا الجزء من الحقيقة الغنوصية‪ ،‬تم اختراع فكرة أن اإلله الخالق وﷲ المجھول ھما الشيء نفسه‪،‬‬
‫وأنَّ كالھما يش ّكالن اإلله الوحيد الموجود‪ :‬خالق الكون المادي‪ ،‬خالق السماء واألرض‪  .‬‬

‫في بداية المسيحية‪ ،‬صرح المعلّم الغنوصي الكبير مارسيون بكل وضوح‪" :‬إنَّ إله العھد القديم ليس إله العھد الجديد‪.‬‬
‫إنھما إلھين مختلفين‪ .‬األول ھو اإلله الذي يطبق القانون ويعاقب‪ ،‬في حين أن اآلخر ھو إله الحب الذي يغفر دائما ً‪.‬‬
‫فاإللھان متناقضان ‪ ‬‬
‫ما الذي يمكن القيام به لحجب ھذا الكالم؟ ذلك ما قاله أوريجانوس الذي جاء بالفكرة الالمعة التالية‪" :‬ليس ھناك‬
‫إلھين مختلفين‪ ،‬ال وجود إلله عادل‪ ،‬وآخر جيد‪ .‬إنھما اإلله نفسه‪ ،‬وھو عادل وجيد "‪ .‬بھذه الطريقة أصبح خالق‬
‫الكون المادي جيداً وكامالً‪  .‬‬

‫ثانيا ً‪ ،‬ھكذا تم إزالة الفرق بين العالم المجھول والعالم المخلوق‪ ،‬وبھذه الطريقة تم التخلص منه أيضا ً‪ .‬إنَّ أي شخص‬
‫يشير إلى وجود مملكتين متناقضتين سيتم تصنيفه بازدراء على أنه "ازدواجي"‪ ،‬كما لو أن وصْ فُ الواقع كما ھو‪،‬‬
‫أمر سيء‪ .‬المتآمرون قلّصوا كل شيء إلى مملكة واحدة فقط‪ :‬مملكة خالق الكون المادي‪  .‬‬

‫ثالثا ً‪ ،‬إذا كان خالق الكون المادي ھو إله جيد وكامل‪ ،‬فمن الذي يمكننا لومه على اقتراف جميع األشياء السيئة‬
‫الموجودة في ھذا العالم؟ إذا كانت الصفات القدسية المجھول قد تم نقلھا إلى خالق الكون المادي‪ ،‬فماذا عن‬
‫الصفات الديمورجية الشريرة والسخيفة‪ ،‬واالنتحال والكذب؟‬

‫ھذا ھو سبب فكرة أن خالق الكون المادي ليس الشيطان‪ ،‬وأن الشيطان ھو من اختراع شخص آخر‪ .‬لقد أصبح خالق‬
‫الكون المادي جيداً ومثاليا ً‪ ،‬وجُ رِّ د من مالمحه الشيطانية‪ ،‬وأنَّ كل الشر يأتي اآلن من ھذا الشيطان الجديد الذي ھو‬
‫خارج عنه‪ .‬لقد تم تحويل شر خالق الكون المادي‪ ،‬إلى شيطان مختلف عن الخالق‪ ،‬واآلن ھذا الشيطان الجديد ھو‬
‫الذي يحب الدم‪ ،‬ورائحة اللحم المحترق‪ ،‬واالستعباد‪ ،‬والحروب‪ ،‬والطقوس‪ ،‬والتضحيات والمؤامرات واإلبادة‬
‫الجماعية‪ .‬اآلن ھذا ھو الشيطان الجديد الذي يتمتع بحقيقة أن البشر ينحنون أمامه تعبداً‪ ،‬ويبرمون معه عھود أو‬
‫مواثيق الدم‪ ،‬مقابل السلطة أو الثراء الدنيوي‪ .‬والحقيقة إنه من السھل اكتشاف أن كل الخصائص التي لدى الشيطان‬
‫اآلن قد تم تخليص اإلله الخالق منھا في الكتاب المقدس‪  .‬‬

‫إذن‪ ،‬ما أصبح لدينا ھو‪ :‬ال وجود إلله ال سبيل إلدراكه‪ ،‬وتم نقل صفاته إلى خالق الكون المادي‪ ،‬ونقل سمات خالق‬
‫الكون المادي إلى الشيطان‪ .‬اآلن ما الذي تحتاجه ھذه المؤامرة الكبيرة وھذا االحتيال الكبير؟ ما تحتاج إليه ھو‬
‫شخص يستطيع تحويل ھذا الشيطان إليه‪ .‬يجب أن يكون شخصا ً نكرھه كثيراً‪ ،‬وبالتالي فإن الشيطان ھو الشخصية‬
‫التي يمكننا تصورھا على أنھا الشخصية األكثر حقارة‪  .‬‬

‫حدث أن قرر شخص ما الطريقة األنسب إلظھار حقيقة أن يكون‬ ‫َ‬ ‫رابعا ً‪ ،‬ھكذا انبثقت الفكرة الالمعة لھذه المؤامرة‪:‬‬
‫ھذا الشيطان الشرير ما ھو إال ّ لوسيفر‪ .‬بھذه الطريقة‪ ،‬لم يتم فقط "تطھير" خالق الكون المادي من طبيعته‬
‫الشيطانية‪ ،‬وإ ّنما أيضا ً تشويه شخصية لوسيفر تماما ً‪ .‬فتحوَّ ل مالك النور الذي أرسله ﷲ المجھول إلنقاذ البشرية إلى‬
‫وحش تتمثل مھمته في الحفاظ على اإلنسان مستع َبداً‪ .‬إنھا فكرة عظيمة من الممثلين الدنيويين لخالق الكون المادي‬
‫كي ينتقموا من لوسيفر في الوقت المناسب‪ ،‬العدو األبدي للشيطان الحقيقي الذي ھو خالق الكون المادي‪  .‬‬

‫فمن كيانين متعارضين ومتناقضين‪ ،‬أي اإلله الخالق وﷲ المجھول‪ ،‬تم تصوير األول‪ :‬خالق الكون المادي على أنه‬
‫"جيد وفريد من نوعه"‪ .‬ومن عالمين متعارضين لدودين‪ ،‬تم تصوير أحدھما على أنه "جيد"‪ :‬ذلك العالم الذي ينتمي‬
‫لخالق الكون المادي‪ .‬اآلن‪ ،‬العملية نفسھا حدثت مع كيانين متعارضين ولدودين ھما‪ :‬لوسيفر والشيطان‪ ،‬رسول ﷲ‬
‫الحقيقي والشيطان خالق المادة والزمن‪ ،‬حيث تم تحويلھما إلى كيان واحد ھو‪" :‬لوسيفر الشيطاني"‪ .‬تلك ھي‬
‫الطريقة التي يتآمر فيھا مشعوذي خالق الكون المادي ضد الحقيقة‪.‬‬

‫لقد ظل االعتقاد سائداً بأن لوسيفر وإبليس ھما شخص واحد‪ ،‬أو ما يسمونه الشيطان‪ ،‬إلى يومنا ھذا‪ .‬ففي العھد‬
‫الجديد‪ ،‬تم بالفعل اإلقرار رسميا ً بأن لوسيفر والشيطان ھما الشيء ذاته )لوقا‪ X.18)  (2 ،‬كورينثوس‪ .(XI.14 ،‬حتى‬
‫في كتاب المونسنيور مورين‪ ،‬والذي نقلنا عنه في وقت سابق‪ ،‬نجد الخلط ذاته‪ :‬حيث يسمي خالق الكون المادي‬
‫"يھوه لوسيفر" وليس "يھوه الشيطان"‪ ،‬الذي كان بالنسبة له خلطا ً صحيحا ً‪ .‬فإذا كان شخص مثل مورين‪ ،‬وھو رجل‬
‫دين معروف جداً في العالم الكاثوليكي الروماني قد ارتكب ھذا الخطأ‪ ،‬فما الذي يمكن أن نتوقعه من الشخص‬
‫العادي؟ ‪ ‬‬
‫خامسا ً‪ ،‬ما الذي يمكن القيام به لتشويه الفكرة الغنوصية القائلة بأن ھذا العالم المخلوق ھو الجحيم‪ ،‬وأن السماء ھي‬
‫مھد ﷲ الذي ال سبيل إلى معرفته؟ لقد ابتكر خيال المتآمرين الفكرة التالية‪ :‬قرروا إن ھذا العالم ليس الجحيم‪ ،‬وأن‬
‫الجحيم ھو في الخارج‪ ،‬بعيد عن ھنا‪ .‬كما أن الجحيم يمكن أن يكون مكانا ً لعقاب الذين يعصون خالق الكون المادي‬
‫أثناء حياتھم ھنا على األرض‪ .‬ولكن ما خصائص ھذا الجحيم؟ حدث أن قرر شخص ما الخصائص النموذجية التي‬
‫تميز العالم المجھول‪ ،‬والتي يمكن أن تخدم بشكل جيد للغاية كإطار لھذا الجحيم الجديد‪ .‬إذا كان لوسيفر حامل النور‪،‬‬
‫والكائن الناري الممث ٌل بمشعل النار‪ ،‬ھو الشيطان‪ ،‬فيمكننا أن نقول بعد ذلك إن ھذا الجحيم سيكون مكانا ً ممتلئا ً‬
‫باللھب‪ ،‬والذي يتم فيه حرق "اآلثمين"‪  .‬‬

‫وبقدر ما تتعلق المسألة بالغنوصيين‪ ،‬فإن المملكة التي ال سبيل إلدراكھا ھي بالتحديد النار المضادة للمادة‪ ،‬والتي‬
‫تشمئز من ھذا الخلق النجس‪ ،‬وتريد إبادته لو أمكنھا ذلك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن النار ذاتھا بالنسبة للغنوصيين ھي شيء‬
‫جيد ومرغوب‪ ،‬وليست شيئا ً شيطانيا ً‪  .‬‬

‫أمّا النقطة السادسة فھي أن الروح واحدة من األشياء األخرى التي ُيعتبرون القضاء عليھا أمراً مھماً‪ ،‬أو على األقل‬
‫تحويلھا إلى شيء غير قابل لإلدراك‪ .‬إن ممثلي خالق الكون المادي على األرض ال يمكن أن يسمحوا بذلك‪ ،‬ولكن‬
‫بعد كل ھذه المداواة‪ ،‬مازال االعتقاد قائما ً بأن ھناك شيء غير مخلوق‪ ،‬وإلھي داخل اإلنسان‪ .‬لذلك وجب عليھم‬
‫التخلص من فكرة الروح أيضا ً‪  .‬‬

‫لقد رأينا سابقا ً أن اإلنسان بالنسبة الغنوصيين يتألف من ثالثة كيانات‪ :‬الجسد‪ ،‬والن ْفس‪ ،‬والروح‪ .‬فالجسد والن ْفس‬
‫أوجدھما خالق الكون المادي‪ ،‬في حين أن الروح التي تشكلت في المستوى غير المخلوق واألبدي ال تنتمي لفضاء‬
‫ھذا الخلق‪ .‬إن النفس والروح‪ ،‬الكيانان اللذان ال يمكن أن تراھما عين اإلنسان العادي‪ ،‬ھما كيانين على طرفي نقيض‬
‫بكل معنى الكلمة‪ ،‬بل كيانين عدوين لدودين‪ .‬فالنفس أوجدھا خالق الكون المادي‪ ،‬والتي تعطي الحياة للجسد‪ ،‬ھي‬
‫الجانب الروحاني فيه‪ ،‬وھي من يتوق إلى االتحاد مع الخالق واالندماج فيه‪ .‬أمّا الروح‪ ،‬سجينة ھذا العالم الغريب‬
‫الذي ال تنتمي له‪ ،‬والذي ھو جحيم بالنسبة لھا‪ ،‬فال تريد سوى تحرير نفسھا والعودة إلى العالم الذي يفوق إدراك‬
‫البشر‪ ،‬والذي جاءت منه‪ .‬فالجسد والنفس بالنسبة للروح ھما كيانين بغيضين مثل المادة والزمن‪  .‬‬

‫أمّا بالنسبة لخالق الكون المادي وخلقه‪ ،‬فمن الضروري‪ ،‬بل من األساسي‪ ،‬أن َ‬
‫تبق الروح مقيدَة بنفس اإلنسان‪ .‬ذلك‬
‫أن خطته التطورية ال يمكن أن تعمل بدون األرواح التي تم ربطھا بالمادة‪ .‬ومع ھذا فثمة أمر مھم‪ ،‬وھو أن خالق‬
‫الكون المادي يريد أن يبقى ھذا األمر سراً‪ ،‬إذ ال ينبغي لإلنسان أبدا أن يدرك أن ما في داخله ھو شرارة غير‬
‫مخلوقة سرقت من عالم آخر‪  .‬‬

‫لذلك‪ ،‬ومن أجل القضاء على فكرة الغنوصية حول الروح‪ ،‬جاء وكالء خالق الكون المادي على األرض بھذه الفكرة‬
‫الماكرة‪ :‬بإمكانھم جعل الكيانين المتعارضين والمتناقضين كيانا ً واحداً فقط‪ .‬يمكنھم أخذ كل خصائص الكمال والنقاء‬
‫اإللھية من الروح‪ .‬ويتركون فقط جانبھا غير المخلوق‪ ،‬ألنه إذا اكتشف اإلنسان أن لديه شيء مخلوق في داخله‬
‫فسيبدأ في طرح األسئلة‪ ،‬وھذا ليس جيداً‪ .‬سوف ُتن َق ُل جميع فضائل الروح إلى النفس‪ ،‬وبھذه الطريقة يمكن تحويلھا‬
‫من كيان شيطاني إلى كيان مثالي‪ .‬وبذلك لن يعود ھناك المزيد من الكالم حول الروح غير المخلوقة‪ .‬سيبقى ھناك‬
‫كيان واحد فقط داخل جسد اإلنسان ھو‪" :‬ال َّن ْفسُ اإللھية الكاملة التي خلقھا ﷲ"‪.‬‬

‫قلنا إنه في بداية المسيحية‪ ،‬كان أول الالھوتيين المسيحيين‪ ،‬وھو سانت أوغسطين‪ ،‬من بين الھوتيين آخرين‪ ،‬يشير‬
‫دائما ً إلى جسد ونفس وروح اإلنسان‪ .‬ولكن‪ ،‬مع مرور الزمن‪ ،‬بدأ يختفي ھذا الكالم‪ .‬فقد تحولت الروح‪ ،‬أوالً في‬
‫"الفكر"‪ ،‬إلى كيان واحد مع النفس‪ ،‬إلى أن أتى يوم مناسب تقرر فيه إزالة الروح تماما ً بوصفھا جزءا من الكائن‬
‫البشري‪ ،‬تاركين خلفھم الجسد والروح فقط‪ .‬فكانت المؤامرة ناجحة‪ :‬إذ نسي اإلنسان كل شيء عن الروح‪  .‬‬
‫وليس ھذا في المسيحية فقط‪ ،‬بل في جميع أديان خالق الكون المادي )الديموريج(‪ ،‬فالجسد والنفس ُي َ‬
‫نظ ُر إليھما على‬
‫أنھما الجزأين المكونين الوحيدين لإلنسان‪  .‬‬

‫ولم يتمكنوا فقط من التخلص من فكرة وجود شيء غير مخلوق داخل اإلنسان‪ ،‬بل تمكنوا أيضا ً من التخلص من‬
‫فكرة أن ھناك سجين مظلوم في داخله‪ .‬فمن األفضل أال ّ يعرف أحد لماذا ُس ِج َنت الروح‪ ،‬نظراً ألن البشر سيبدأون‬
‫في طرح األسئلة‪ ،‬وربما يستيقظ بعضھم أيضا ً‪ .‬لذلك من األفضل أن يبقوا عميانا ً ويناقشون قضايا أقل خطورة مثل‬
‫كرة القدم أو الجنس‪  .‬‬

‫النقطة السابعة ھي أنه بغية تزييف التأكيد الغنوصي بأن ھذه الخليقة منقوصة‪ ،‬ألن الخالق ھو كائن ناقص‪ ،‬فكان‬
‫على المتآمرين شحذ ذكائھم الشيطاني أكثر من ذلك‪ .‬فالنقص الموجود في كل شيء في ھذا العالم ھو شيء واضح‬
‫للغاية‪ ،‬والمالحظ أن ذلك ال يمكن إنكاره‪ ،‬وبغض النظر عن غباء البشرية الذي آلت إليه‪ ،‬فإنھا لن نعترف بأن ھذا‬
‫العالم فردوسا ً‪  .‬‬

‫إذن ما ھو الحل؟ كيف يمكن تبرير أن "خالق الكون المادي الكامل" قد أوجد مثل ھذا المسخ الرھيب؟ عالوة على‬
‫ذلك فإن الغنوصيون يعارضون ھذه الخليقة غير السليمة‪ ،‬التي أنشأھا إله غشاش وغير ُكفء ضد مملكة اإلله‬
‫الحقيقي األبدية غير المخلوقة‪ .‬ما الذي يمكن عمله للتخلص من ھذه األفكار الخطيرة؟ الحل الذي َخ َط َر في ذھن‬
‫المتآمرين والذي من شأنه محو فكرة وجود عالم غير مخلوق وكامل‪ ،‬وفي الوقت نفسه تتراجع ھذه الشكوك بخالق‬
‫الكون المادي عديم الخبرة الذي خلق العالم‪ .‬ھذا الحل سيكون مفيداً أيضا ً لتبرير ما ال يمكن إخفاؤه‪ :‬النجاسة والنقص‬
‫الموجودان في العالم المخلوق‪ .‬فما ھي الخدعة التي خططوا لھا ھذه المرة؟ سوف نبحث في ھذه المسألة اآلن‪.‬‬

‫ذكر المتآمرون أن كل المواصفات التي تمتاز بھا مملكة ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه تم نقلھا إلى خليقة الديموريج‬
‫)خالق الكون المادي(‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬لم ُتن َقل إلى ھذه الخليقة فحسب‪ ،‬وإ ّنما نقِلَت إلى الخلق الذي سبقه أيضا ً‪ .‬بالنسبة لِما‬
‫يسمى بخليقة الديموريج‪ ،‬التي كانت بالفعل مثالية ونقية‪ ..‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإن خالق الكون المادي‪ ،‬الذي أصبح كامالً‪،‬‬
‫كان أيضا ً قادراً على خلق عالم مثالي ونقي‪ .‬اآلن‪ ،‬نجد أنه لم يعد ھناك مكان لإلله الذي يفوق إدراك البشر ومملكته‪،‬‬
‫تحول كل ھذا‬ ‫في حين أن خالق الكون المادي‪ ،‬الديموريج‪ ،‬بعد أن أصبح كامالً‪ ،‬قام بإنجاز عمل مثالي‪ .‬ولكن‪ ،‬كيف َّ‬
‫الخلق المثالي إلى شيء ناقص كما ھو اليوم؟ ھنا يكمن تألق الرسل في الخداع‪ :‬إنھا مسؤولية اإلنسان في أن الخليقة‬
‫أصبحت نجسة وناقصة‪ .‬فالخالق‪ ،‬الكائن المثاليّ ‪ ،‬قد خلق العالم مثاليا ً‪ ،‬لكن اإلنسان قام بتخريبه‪ .‬كان الجنة مثالية‪،‬‬
‫لكن اإلنسان والثعبان لوسيفر دمّرا ھذا الكمال‪" ،‬وسقطا" معه‪  .‬‬

‫إذن‪ ،‬لدينا خالق صالح وكامل‪ ،‬ذلك الخالق الذي أنجز عمالً صالحا ً وكامالً‪ .‬جميع خلقه‪ ،‬المادة‪ ،‬والزمن‪ ،‬واإلنسان‪،‬‬
‫كلھا كانت سليمة‪ .‬كانت الجنة مكانا ً مثاليا ً‪ ،‬وكان اإلنسان يعيش فيھا سعيداً‪ .‬غير أن كل ھذا سار بشكل خاطئ‪،‬‬
‫وتدھور بسبب عصيان اإلنسان‪  .‬‬

‫إن القول في أن اإلنسان ھو المسؤول عن "الخطيئة األصلية" وعن "السقوط"‪ ،‬كان أحد أسخف األفكار التي‬
‫تصورھا ضد الروح وضد اإلله الحقيقي‪ .‬لقد تم تحميل اإلنسان المسؤولية عن عدم كفاءة الخالق وأوجه القصور في‬
‫عمله! ‪ ‬‬

‫لقد رأينا بالفعل أن اإلنسان لم يكن أكثر من مجرد خادم جاھل في الجنة‪ .‬لقد تجاھل كل ما يتعلق بنفسه وبخالقه‪،‬‬
‫ويبدو أنه ال يزال يقوم بھذا التجاھل‪ .‬لم يكن يعلم أن ھناك أله آخر موجود‪ ،‬متفوق بشكل كبيرعلى اإلله الخالق‪ .‬لم‬
‫يكن يعرف أن وراء جسده وروحه‪ ،‬ھناك روح مسجونة‪ .‬إنه لن يعرف حتى يستيقظ ويكون قادراً على المتمرد‪  .‬‬
‫بالنسبة للغنوصية‪" ،‬الخطيئة األصلية" الوحيدة الموجودة كانت تلك التي ارتكبھا خالق الكون المادي بربط األرواح‬
‫الخالدة مع النفس البشرية الفانية لإلنسان‪ .‬يرى الغنوصيون أن "السقوط" الوحيد الذي حصل‪ ،‬وساعد على حدوثه‬
‫خالق الكون المادي‪ ،‬كان سقوط األرواح في عالم المادة الجھنمي‪.‬‬

‫لقد قمنا بمراجعة القضايا السبعة المخفية‪ ،‬وتشويه الحقائق الذي ُن ِّف َذ بحق الغنوصية من قِ َب ِل ُخدّام الديموريج على‬
‫األرض‪ .‬اآلن سوف نلقي نظرة على الوسائل التي استخدمھا ھؤالء المتآمرين لتحسين فرض ما لديھم من تحريفات‪  .‬‬

‫والھدف من ذلك ھو التخلص من كل المعارف التي تشير إلى غير المخلوق‪ ،‬وإلى صحوة اإلنسان‪ ،‬وتحرير‬
‫األرواح‪ ،‬والتمرد ضد خالق الكون المادي‪ .‬ھذه المعرفة غير المخلوقة ھي الغنوصية‪ ،‬والتي تشكل خطراً كبيراً على‬
‫الديكتاتورية العالمية الشيطانية‪ .‬ينبغي إزالة المعرفة الغنوصية ألنھا تمثل أكبر تھديد لخالق الكون المادي وعمله‪  .‬‬

‫شعارھم ھو‪ :‬يجب تدمير كل ما يعارض النظام الذي أنشئ من قبل خالق الكون المادي‪ ،‬أمّا تلك التي ال يمكن‬
‫القضاء عليھا فيجب تشويھھا وإفسادھا حتى يصبح التعرف عليھا غير ممكن‪  .‬‬

‫ستالين‪ ،‬وكيل خالق الكون المادي‪ ،‬قال‪" :‬إذا كنت ال تستطيع خنق عدوك‪ ،‬فاحتضنه"‪ .‬ھكذا يفعل العمالء‬
‫اإلصالحيين التابعين لخالق الكون المادي ضد الغنوصية‪ .‬إذا كان ھناك شيء ال يمكن منعه‪ ،‬فيتم احتضانه‪،‬‬
‫واإلحاطة به من أجل خنقه وتحويله إلى شيء غير مؤ ٍذ‪ .‬وليس غير مؤ ٍذ وحسب‪ ،‬بل بھذه الطريقة يتم تحييد‬
‫المعرفة وتحويلھا‪ ،‬وغالبا ً ما يتم وضعھا للعمل في خدمة خالق الكون المادي نفسه‪ .‬ھذا ھو الحال مع األديان التي‬
‫كانت في البداية ثورية ومعارضة لخالق الكون المادي‪ ،‬فوضعت في خدمته بعد أن تمت فلترتھا وتشويھھا‪ ،‬كما‬
‫جرى تحويل كل دين من ھذه األديان إلى دين ديمورجي آخر‪ .‬وھذا ھو الحال على سبيل المثال مع المسيحية‬
‫والبوذية والتانترية‪ ،‬وغيرھا‪ .‬لقد تم تحويلھا إلى أديان تعارض تماما ً تلك التي نشأت في البداية‪.‬‬

‫األمر يتعلق بالسعي لضمان أال ّ تبقى أي معرفة خارج سيطرة ديكتاتورية خالق الكون المادي‪ ،‬والتأكد من عدم‬
‫وجود أي عنصر قادم من العالم غير المخلوق يمكن أن يشكل خطراً على عمل الخالق أو خططه‪  .‬‬

‫ثمة شيء ما زال يحدث ھو حرق الكتب الخطيرة‪ .‬بالطبع يتم ذلك بسرية في ھذه األيام‪ .‬لقد تغير الزمن‪ ،‬وباتت‬
‫الديكتاتوريات "الديمقراطية" الحديثة تلجأ إلى تدمير الكتب خلسة‪  .‬‬

‫في وقتنا الحاضر ال يتم حرق الكتب في األماكن العامة‪ ،‬وإ ّنما يتم شراؤھا بشكل فردي وتسليمھا إلى وكيل ما أو إلى‬
‫سلطة دينية تقوم بعد ذلك بإتالفھا‪ .‬يتم شراء طبعات كاملة لھذا الغرض كلما أمكن ذلك‪ ،‬والشيء نفسه يحدث مع‬
‫حقوق التأليف والنشر‪ .‬كما أن ھناك طرق أخرى‪ ،‬لكني ال أصف إالّ ما كنت واثقا ً من قدرتي على إثباته‪ .‬لدي قائمة‬
‫طويلة من الكتب والمؤلفين الذين عانوا من ھذا المصير‪ ،‬ممن ال تظھر كتبھم في القوائم "الرسمية" للكتب الممنوعة‬
‫أو المفقودة‪  .‬‬

‫عادة ما يتم أيضا ً اضطھاد أو معاقبة مؤلفي ھذه الكتب‪ .‬وھو أمر عادي جدا بالنسبة لھم أن يتم تھديدھم أو إرھابھم‬
‫أو اضطھادھم بطرق مختلفة‪ .‬كما تحدث سرقة المخطوطات في كثير من األحيان‪ ،‬أو تخريبھا أثناء الطباعة‪ ،‬وما‬
‫إلى ذلك‪ .‬لقد شوھت سمعة كثير من المؤلفين‪ ،‬وسجنوا‪ ،‬أو أخِذوا إلى منشآت األمراض العقلية ألنھم ألّفوا كتبا ً‬
‫تعارض النظام الديمورجي‪ ،‬وھذا لم يحدث في البلدان الشيوعية فحسب‪ ،‬نظراً ألن الشيء نفسه يحصل في‬
‫الديكتاتوريات "الديمقراطية"‪  .‬‬

‫لقد قُ ِت َل العديد من المؤلفين العنيدين على نحو غامض بأمراض غريبة أو في حوادث لم يتم التحقيق فيھا بشكل كامل‬
‫أبدا‪ .‬في ھذه األيّام ھناك فرق قتل تعود لخالق الكون المادي لديھا وسائل فعالة للغاية تحت تصرفھا من أجل التغطية‬
‫على جرائمھا‪ .‬لقد كان ھذا عموما ً مصير المتمردين العظماء والمعارضين لخالق الكون المادي وعمله‪ .‬في ھذا‬
‫العالم المخلوق‪ ،‬لدى خالق الكون المادي ووكالؤه جميع وسائل الفوز‪ ،‬فھذه ھي مملكته‪ :‬مملكة خالق الكون المادي‪.‬‬
‫ھذه المملكة تعارض الغنوصي تماما ً‪ :‬إنھا األرض العدوة حيث يجب أن يعمل‪ .‬وبالتأكيد فإن كل شيء مخلوق‬
‫سيكون ضده‪ .‬لذلك فإن حرب الغنوصي يجب أن تكون بالطريقة نفسھا‪ :‬حرب شاملة‪.‬‬

‫دعونا نأخذ حالة ماني‪ ،‬وھو معلّم غنوصي كبير‪ ،‬أسس الديانة المانو ّية‪ ،‬والتي انتمى إليھا القديس أوغسطين لتسع‬
‫سنوات‪ .‬لقد وُ ِجدَ ماني بالفعل؛ أي أنه ليس شخصية أسطورية من دين ديمورجي آخر‪  .‬‬

‫وخشية أن تتشوّ ه تعاليمه‪ ،‬فقد كتب ماني عدة كتب حوربت طوال قرون‪ ،‬ودمرت وأخفيت‪ .‬غير أنه عندما اع ُتقِدَ أنھا‬
‫ضاعت إلى األبد‪ ،‬تم العثور على مكتبة مانوية كاملة في الصين في القرن العشرين‪ .‬فكانت معجزة‪ ،‬تماما ً كتلك التي‬
‫و ِج َدت في نجع حمادي‪ .‬لقد تم إخفاءھا أللف وخمسمائة سنة تقريبا ً‪  .‬‬

‫ماني الذي لم يتخ َّل أبداً عن وعظه‪ ،‬اضطھد وسجن وتعرض للتعذيب حتى الموت على يد كھنة خالق الكون المادي‬
‫في بالد فارس القديمة‪ .‬تقول إحدى الروايات إن ماني ُسلِخ جلده وھو حي‪ .‬مزقوا جلده ومألوه بالتبن لعرضه عند‬
‫أبواب المدينة كتحذير ألعداء اإلله الخالق‪ .‬بينما تروي نسخة أخرى أن ماني ُسل َِخ جلده بعد موته‪ .‬كما قيل إنه بقي‬
‫حيا ً وھو مقيّد بالسالسل لمدة ستة وعشرين يوما ً من المعاناة الشديدة ثم مات‪ .‬وبسبب كل ذلك يتحدث الناس عن‬
‫"صلب ماني"‪ .‬لكن ماني لم يكن شخصا ً عادياً؛ فقد حرر نفسه عندما كان على قيد الحياة‪ .‬ذلك أن التعذيب والموت‬
‫ؤثرا على أولئك الذين أرضوا روحھم‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬جعلھم التعذيب يضحكون‪  .‬‬ ‫ال يمكن أن ي ّ‬

‫دعونا نأخذ حالة أخرى‪ ،‬والتي يوجد منھا الكثير‪ ،‬ھي حاله زينو ابن إيليا الذي سُجنً وق ّي َد‪ ،‬وأثناء تعرضه للتعذيب‬
‫قال لجالده‪" :‬تعال واقترب مني‪ ،‬وسوف أھمس لك بكل ما تريد أن تعرفه"‪ .‬عندما أصبح الجالد قريبا ً من زينو‪ ،‬قام‬
‫يعذبه أكثر حتى يجبره على التخلي‬ ‫األخير بعض أذنه‪ .‬فقال الجالد لزينو وقد اجتاحته نوبة من الغضب إنه سوف ّ‬
‫فر َّد عليه زينو بالطريقة التالية‪ :‬عض لسانه ورماه عند قدمي الجالد‪.‬‬
‫عن أفكاره‪َ .‬‬

‫كيف لنا أن نصدق أن شخصا ً مكتمالً مثل زينو يمكن أن يبالي حقا ً بما يحصل لجسده ونفسه! إن جالد زينو لم يكن‬
‫سوى مھرج ھزيل‪ .‬ھكذا يكون جنود الروح المحاربين؛ إنھم يفضلون تحمل التعذيب والموت‪ ،‬بدل التخلي عن‬
‫أفكارھم‪  .‬‬

‫وضمن الديكتاتورية الساحقة لخالق الكون المادي ومخادعيه‪ ،‬ھناك نوع آخر من التھديد والوعيد‪ :‬العقاب التي حدده‬
‫خالق الكون المادي نفسه‪ .‬والكتب المقدسة ألديان خالق الكون المادي مليئة بھذه التحذيرات‪ :‬معاقبة آدم وحواء‪،‬‬
‫الطوفان العظيم‪ ،‬سدوم وعمورة‪ ،‬برج بابل‪ ،‬وطواعين مصر‪ ،‬وغيرھا الكثير‪  .‬‬

‫ما فائدة العقاب‪ ،‬فضالً عن التخلص من المعارضين؟ لماذا ھناك الكثير من التھديد والوعيد؟ الجواب بسيط‪ :‬وھو‬
‫زرع الخوف‪ .‬فالخوف من العقاب يجعل العبيد يعملون بجد‪ ،‬ويتخلون عن محاولة الھرب‪ .‬العبد الذي يخاف ھو أكثر‬
‫طاعة وإذعانا ً‪ .‬الخوف من العقاب ھو الوسيلة المستخدمة من قبل خالق الكون المادي لجعل اإلنسان يعيش خاضعا ً‬
‫له‪ ،‬ومطيعا ً لوصاياه طوال حياته‪ .‬أن أفضل عبد بالنسبة لخالق الكون المادي ھو العبد الذي يخاف منه ويطيعه‬
‫بإخالص أكثر‪ .‬يريد عباده إضاعة حياتھم بالعمل من أجل قضيته‪ ،‬معتقدين أنه "عندما أموت سأذھب إلى الجنة"‪.‬‬
‫ھذا ھو العبد المثالي لخالق الكون المادي‪ .‬يريد من اإلنسان أن يھرم دون أن يتمرد‪ ،‬ودون أن يستيقظ‪ ،‬ودون أن‬
‫يحرر روحه‪ .‬وھذا ھو السبب في زرع الخوف‪ ،‬وھذا ھو سبب المؤامرة‪ :‬كي ال يتمكن أحد من العثور على طريق‬
‫التحرر والعودة‪  .‬‬

‫ضمن ديكتاتورية خالق الكون المادي ال حرية لإلنسان إال في االختيار بين عدة أشياء ال فرق بينھا‪ .‬إنھا األشياء‬
‫ذاتھا‪ ،‬ولكن بأقنعة مختلفة‪ .‬ھناك دائما ً حرية الفكر طالما أنھا ال تتعارض مع "طريقة التفكير الصحيحة من الناحية‬
‫السياسية" التي يفرضھا وكالء خالق الكون المادي‪  .‬‬
‫دعونا نأخذ حالة األديان‪ .‬جميع األديان تبدو مختلفة‪ ،‬لكنھا ليست كذلك‪ .‬إنھا الشيء ذاته‪ ،‬وال تختلف سوى في‬
‫المظھر فقط‪ .‬إلھھا ھو نفسه‪ :‬خالق العالم‪ .‬يسمونه براھما‪ ،‬أو بعل‪ ،‬أو يھوه‪ ،‬أو مولوك‪ ،‬أو الرب أو ﷲ‪ ،‬ولكنه دائما ً‬
‫ھو نفسه‪ :‬خالق الكون المادي‪.‬‬

‫إنھا تحاول إعطاء انطباع زائف عن التنوّ ع‪ ،‬بحيث يعتقد الشخص النائم أنَّ ھناك تنوّ ع في المسارات‪ ،‬مع مصائر‬
‫مختلفة‪ ،‬وله حرية االختيار فيما بينھا‪ .‬بل ھناك أشخاص ممن ينتقلون من دين إلى آخر‪ ،‬معتقدين أنھم من خالل‬
‫ذلك يُحدِثون تغييراً كبيراً‪ .‬استغرق األمر مع رينيه جينو‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬سنوات من الدراسة والتأمل التخاذ‬
‫قرار التخلي عن المسيحية واالنضمام إلى الماسونية والبناؤون األحرار‪ ،‬ليتخلى عنھا بالكامل في وقت الحق ويعتنق‬
‫اإلسالم‪ .‬لقد ظن أنه حقق قفزات كبيرة مع ھذه التغيرات‪ ،‬لكن الشيء الوحيد الذي فعله ھو الطواف بشكل دائري‬
‫داخل متاھته‪ .‬كان بحثه فارغا ً‪ .‬فإذا كان جينو‪ ،‬المثقف في ھذه المواضيع‪ ،‬قد عاش ھذه البلبلة في التفكير‪ ،‬فيمكن‬
‫للمرء أن يتخيل األخطاء التي سيرتكبھا الشخص العادي‪  .‬‬

‫كما أن ‪ ‬حالة القديس أوغسطين ھي أكثر إثارة للشفقة‪ .‬كان أوغسطين من أتباع ماني‪ ،‬مصغيا ً أو مستمعا ً‪ ،‬وكان على‬
‫وشك لقاء ماني شخصيا ً‪ ،‬فعزم على التخلي عن كل شيء واعتناق المسيحية‪ .‬وبارتداده‪ ،‬رفض أوغسطين ﷲ الذي‬
‫ال سبيل لمعرفته‪ ،‬ورفض الروح‪ ،‬واختار خالق الكون المادي والنفس‪ .‬قاوم الزھد المتطرف للمانوية لكي يزج نفسه‬
‫في الدين الشعبي االستبدادي الجديد لقسطنطين‪ :‬المسيحية‪  .‬‬

‫ھناك أشخاص نصف مستيقظين‪ ،‬والذين يخشون قضاء حياتھم في النوم‪ ،‬يبحثون بيأس عن طريقة للخروج من‬
‫المتاھة التي حوصِ روا فيھا‪ .‬ولألسف‪ ،‬فإن معظمھم تجاھل أن الخيارات التي تظھر أمامھم كلھا الشيء ذاته‪ ،‬ولكن‬
‫خر ٍج أبداً‪ ،‬أو يدركوا أن األديان‪ ،‬مثل‬
‫بأقنعة تن ّكر مختلفة‪ .‬والھدف من كل ذلك بالنسبة لھا‪ ،‬ھو أال يعثروا على َم َ‬
‫األحزاب السياسية‪ ،‬ھي الشيء نفسه‪ ،‬ولكن بوجوه مختلفة‪ ،‬وكلھا تحت سيطرة خالق الكون المادي‪  .‬‬

‫قبل بضع سنوات قال الداالي الما إنه ال ينبغي أن يكون ھناك دين واحد فقط‪ ،‬وإ ّنما "سوبر ماركت من األديان"‪.‬‬
‫وھذه ھي أفضل وسيلة لجعل اإلنسان يعتقد أنه محاط بمجموعة متنوعة من الخيارات‪ ،‬وأنه عندما ي ّتخذ خياراً‪،‬‬
‫فسوف يحصل على شيء يختلف عن البقية‪  .‬‬

‫إن الھدف من ھذه الديانات ھو إبقاء اإلنسان نائما ً‪ ،‬ودفعه بصورة عمياء إلى المسلخ النھائي‪ :‬انصھاره مع خالق‬
‫الكون المادي‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .18‬النور والظلمة ‪ ‬‬

‫منذ آالف السنين والھنود يؤكدون أن الخليقة برمتھا‪ ،‬أي كل شيء مخلوق‪ ،‬ھو خداع ووھم محض‪ .‬وعندما ننظر‬
‫إلى ذلك بعين الروح‪ ،‬فسنرى أن كل عمل لخالق الكون المادي ال وجود له في الواقع‪ ،‬وھو ليس أكثر من كذبة‬
‫كبرى‪ .‬إن العالم المخلوق‪ ،‬مثلما تالحظه الحواس‪ ،‬ھو العقبة الكبيرة التي تفصل اإلنسان عن العالم الحقيقي‪ .‬والحقيقة‬
‫إنه لم يتم تضليل اإلنسان من خالل أوھام المادة فقط‪ ،‬بل اجتمع أيضا ً وھم المادة التي أنشأھا خالق الكون المادي مع‬
‫وھم الثقافة التي أوجدھا اإلنسان‪ ،‬ولكنھا في خدمة خالق الكون المادي‪ .‬إن جميع المحفزات الثقافية التي انھالت على‬
‫اإلنسان بشكل مستمر‪ ،‬ترمي إلى إبقائه في حالة من التشوّ ش والخنوع‪ .‬فالكتب والصحف والمجالت والسينما‬
‫منوما ً مغناطيسيا ً‬
‫والتلفزيون وبعض الوسائل المستخدمة من قبل ممثلي خالق الكون المادي تبقي على اإلنسان َّ‬
‫ومطيعا ً‪ ،‬وتحرص على التأ ّكد من أنه يتصرف كمن يمشي أثناء نومه‪ ،‬ويعمل‪ ،‬وينام‪ ،‬ويھدر الوقت ويضيّع الفرص‪،‬‬
‫وتحرص على أال ّ يستيقظ أبدا‪ ،‬تماما ّ مثل الذين يدخلون في غيبوبة تامة‪ ،‬أو مثل "الغولَم"‪ 2‬الذين أنشأھم خالق الكون‬
‫المادي‪ ،‬والذين يخدمون غاية ال تمت إلى غايات الروح ِبصِ لة‪.‬‬

‫الخ ْل ِق والذي تقوم به وسائل الثقافة‪ ،‬يتم تمريره بدوره من‬


‫كل ھذا االرتباك الشامل‪ ،‬ھذا الخداع الكبير الذي يأتي من َ‬
‫خالل اآلباء ألطفالھم الصغار‪ ،‬وفي وقت الحق من خالل المعلمين في المدارس‪ .‬بھذه الطريقة‪ ،‬يتم سحق أدنى‬
‫ومضة للروح منذ اليوم الذي يولد فيه اإلنسان‪ .‬إن كل تمرد‪ ،‬أو عصيان‪ ،‬أو معارضة‪ ،‬وكل ما يصدر عن الروح‪،‬‬
‫قد تمت إبادته عن طريق العقاب والتھديد وغسل الدماغ‪ .‬إن اآلباء الشيطانيون يش ّكلون عبيد المستقبل لخالق الكون‬
‫المادي من خالل تحويل أبنائھم إلى آالت عمياء ومطيعة‪.‬‬

‫وسط كل ھذه الفوضى الشاملة‪ ،‬يعتقد اإلنسانُ أنه يعرف ما ھو الخير وما ھو الشر‪ .‬كما يعتقد أيضا ً أنه من خالل‬
‫القيام بما يسمى بأعمال "الخير" وتجنب ما يسمى بأعمال "الشر" ين ّفذ واجبه تماما ً‪ .‬لكن الحقيقة ھي أنه ال يعرف كم‬
‫ھو مشوَّ ش‪ ،‬وبأنه يعيش كذبة‪ ،‬وبأنه يخدع نفسه واآلخرين باستمرار‪ .‬إنه ال يعرف؛ ألنه نائم‪ ،‬وألنه تم غسل‬
‫دماغه‪ ،‬وألن روحه تم إلغاءھا منذ والدته‪ .‬إن معظم البشر يطلقون تسمية النور على كل ما ھو ظالم حقيقي‪،‬‬
‫ويتصوّ رون النور الحقيقي على أنه ظالم‪ .‬يسمون كل شيء ذو منشأ شيطاني من خالق الكون المادي "خيراً"‪ ،‬وكل‬
‫ما ينشأ عن ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته "شرّ اً"‪  .‬‬

‫ھناك قوتان متعارضان تعمالن داخل وخارج اإلنسان‪ :‬الخالق‪ ،‬واإلله الذي ال سبيل لمعرفته‪ ،‬المخلوق وغير‬
‫المخلوق‪ ،‬الن ْفسُ والروح‪ .‬إحداھما تمثل الظلمة والشر‪ ،‬واألخرى ّ‬
‫تمث ُل النور والخير‪ .‬إذن من السھل أن نتصور ما‬
‫سيكون عليه موقف الغنوصي‪ ،‬وما ھو موقف الشخص النائم‪  .‬‬

‫يقال إن تاريخ البشرية بمجمله يمكن تفسيره على أنه معركة بين النور والظالم‪ ،‬ولكن ما ھو النور وما ھو الظالم؟‬
‫معظم الناس ال يدركون أنھم يقضون حياتھم يكافحون لصالح الشر الحقيقي‪ .‬إن ما يسمّيه اإلنسان نوراً ھو النور‬
‫الذي أنشأه خالق الكون المادي‪ ،‬ألن اإلنسان ال يعرف أي نور متفوّ ق عليه‪ .‬إن النور الذي يأتي من العالم المخلوق‪،‬‬
‫ھو بالنسبة للروح ُ‬
‫ظل َم ٌة ال ُيس َب ُر لھا غو ٌر‪ .‬الظالم‪ ،‬الذي مصدره خالق الكون المادي وخلقه الشيطاني‪ ،‬ھو ما ُي َسمّي ِه‬
‫اإلنسان نوراً‪ .‬اإلنسان يسمّي الحقيقة بالكذبة الكبيرة‪ ،‬والخداع الكبير‪ ،‬وھذا ما يمكن أن ندعوه بالمھزلة الكبرى‪  .‬‬

‫ھناك نور آخر‪ ،‬أعظم شأنا ً‪ ،‬نور يفوق إدراك البشر‪ ،‬وال يمكن تصوره‪ :‬النور غير المخلوق الذي يأتي من ملكوت‬
‫ﷲ الحقيقي الذي يفوق إدراك البشر‪ .‬ماذا سيحدث لو انفجر ھذا النور في ھذا الكون النجس؟ سوف يصاب اإلنسان‬
‫بالعمى تقريبا ً‪ .‬ماذا يمكن أن يُبصِ ر؟ ھل يمكن أن يرى نوراً؟ كال‪ ،‬سوف يرى الظالم‪ .‬فعيناه غير مستعدتان لرؤية‬
‫ھذا النور الذي ال حدود لنقائه وكماله‪ .‬سيكون مرعوبا ً‪ ،‬وخائفا ً‪ ،‬وھو محق في ذلك‪ ،‬ألن ذلك النور سوف ُيد ّم ُرهُ‪.‬‬
‫لھذا سيسمّي ھذا النور بـ "الشر" و "الظالم"‪ ،‬وھذا ما يحدث مع كل شيء يُن َظ ُر إليه من خالل عيون غير نقية‪ ،‬أي‬
‫من خالل جسد ونفس اإلنسان‪ ،‬وليس من خالل عيون الروح‪  .‬‬

‫ھذا ھو الخلط الحاصل بين الظالم والنور‪ ،‬والخلط نفسه قائم بين ﷲ الخالق وﷲ الذي يتخطى إدراك البشر؛ بين‬
‫المخلوق وغير المخلوق؛ بين النفس والروح‪ .‬وھذا ھو السبب في أن اإلنسان‪ ،‬وبشكل غير مقصود‪ ،‬يُسمّي الظالم‬
‫الحقيقي نوراً‪ ،‬أما النور الحقيقي فيسميه ظالما ً‪ .‬إن النور الحقيقي سيُعميه ويدمره‪ .‬فإذا أريد لإلنسان أن يصمد أمام‬
‫رؤية النور الحقيقي دون أن يموت‪ ،‬فإنه لن يرى سوى ظالم ال يسبر غوره‪ ،‬ألنه سيرى النور الحقيقي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫‪ .19‬المحافل السوداء والمحافل البيضاء ‪ ‬‬


‫‪                                                            ‬‬
‫‪ 2 ‬الغولم ‪ ،golems‬حسب األساطير اليھودية ھي أشكال من الطين ُب ِعثِت فيھا الحياة‪ .‬كما تعني أيضا ً آالت تتصرف كالبشر‪) .‬قاموس‬
‫أوكسفورد(‬
‫األسود‪ .‬الكائنات التي تشكل ھذه المحافل تعمل في‬
‫َ‬ ‫قيل للكثير في اآلونة األخيرة عن المحفل األبيض والمحفل‬
‫مستويات أبعاد أخرى‪ ،‬والتي ھي كائنات غير مرئية للشخص العادي‪ .‬ويقال إن المحفل األبيض يتكون من كائنات‬
‫يفترض أنھا مُتطوِّ رة للغاية‪ ،‬الذين يحاولون مساعدة اإلنسان على التطور‪ ،‬بشكل يتفق مع الخطة الكبرى التي حددھا‬
‫اإلله الخالق لخلقه المادي ومخلوقاته‪ .‬ول ّما كان ھذا المحفل يحاول مساعدة اإلنسان‪ ،‬فھو بالتالي يستطيع إنجاز‬
‫رض ضمن خطة الخلق‪ ،‬فھو ي َُسمّى بـ "المحفل األبيض" أو "األخوة البيضاء"‪ .‬ويمكن أن يكون‬ ‫وظيفته على نحو ُم ٍ‬
‫شيئا ً يشبه "محفل خ ِّير لكائنات نورانية خيّرة"‪  .‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬يمكننا أن نتخيل بالفعل من ھم أعضاء المحفل األسود‪ :‬إنھم أولئك الذين يعارضون خطة اإلله‬
‫الخالق‪ ،‬وأولئك الذين يحاولون منع تنفيذ ھذه الخطة‪ .‬ھذا ھو المحفل األسود‪ ،‬أي " الفتيان األشرار في الفيلم"‪ .‬ولكن‬
‫البد لنا من توضيح أننا نستخدم مصطلح "المحفل األسود" لتفادي الخلط‪ ،‬ألن ھذا ما ھو معروف لدى العامة بعد أن‬
‫أعطي ھذا االسم من قبل وكالء خالق الكون المادي‪ .‬إنَّ ممثلي الروح ال يمكن أن يش ّكلوا "محفالً" أبداً‪ .‬فاالسم‬
‫الحقيقي لھم ھو األخوّ ة السوداء‪.‬‬

‫فالمحفل األبيض يعمل لصالح اإلله الخالق وخطته‪ ،‬في حين أن المحفل األسود يعمل ضده‪ .‬لھذا ُيسمى أعضاء‬
‫المحفل األسود بـ "األخوة الخاطئين"‪ ،‬والسبب ھو‪" :‬بما أنھم قادرين على المساعدة في البناء‪ ،‬فقد قرروا التدمير" و‬
‫"بما أنھم قادرين على فعل الخير‪ ،‬فاختاروا الشر"‪ .‬عندما ُذ ِك َر أن أعضاء المحفل األسود يعارضون "الخطة المثالية‬
‫لخالق الكون المادي الخيّر"‪ ،‬فالنتيجة ھي الرفض والنفور الطبيعي لـ "أعداء الخير" ھؤالء‪ .‬إنَّ ما جرى إخفاؤه‬
‫عمداً لقرون طويلة ھو أن "أعداء ﷲ الواحد" ھؤالء‪ ،‬ال يعارضون عمل ھذا الخالق‪ ،‬فقط بقصد المعارضة‪ ،‬وإ ّنما‬
‫عمدوا إلى إخفاء حقيقة أن لديھم إله آخر‪ ،‬وھو ليس الشيطان‪ ،‬وإ ّنما اإلله الحقيقي واألسمى‪ .‬لقد جرى إخفاء نضالھم‬
‫من أجل إفشال خطط خالق الكون المادي‪ ،‬وھي مھمة مقدسة لھؤالء المحاربين المنتمين للخير الحقيقي‪ .‬كما جرى‬
‫أيضا ً إخفاء أن ﷲ يفوق إدراك البشر لديه خطة؛ بل خطة في منتھى الكمال والروعة‪ .‬كل ھذه المعلومات تم حجبھا‬
‫عنا لخداعنا على أكمل وجه‪ ،‬وتشويه سمعة محاربي الروح‪ ،‬واالفتراء عليھم‪ ،‬بحيث ال يمكن أن نستيقظ‪ ،‬بل حتى‬
‫كي ال نكون "كا ‪ ،‬عارفين للخير والشر"‪  .‬‬

‫ھناك حرب بدأت مع االنفجار الكبير‪ ،‬منذ آالف الماليين من السنين‪ ،‬بين ھاتين القوتين‪ :‬الظلمة والنور‪ ،‬بين اإلله‬
‫الخالق وﷲ يفوق إدراك البشر‪ .‬والمحافل البيضاء والسوداء ھي جيوش تلك القوتين‪ .‬وبما أن ھذا العالم ھو عالم‬
‫خالق الكون المادي‪ ،‬فھو الوحيد الذي يقرر من يسمّيه أبيض‪ ،‬ومن يسميه أسود‪ .‬إن عالم خالق الكون المادي ھو‬
‫أيضا ً ساحة المعركة التي ُتخاضُ فيھا ھذه الحرب‪  .‬‬

‫كيف يتم عادة تصوير "أسياد الحكمة" للمحفل األبيض ھؤالء؟ يتم تصويرھم على أنھم مالئكيون ولطفاء‪ ،‬ملتحون‬
‫رون على ھذا النحو من أجل خداع البسطاء من البشر‬ ‫ويرتدون األبيض‪ ،‬كما لو كانوا طاھرين وأنقياء‪ .‬وھم ي َ‬
‫ُصوَّ َ‬
‫على نحو أفضل؛ بحيث ال يشك أحد بأن ھؤالء القوم ھم الشياطين الحقيقيين‪ ،‬المسؤولين عن تنفيذ الخطة الشيطانية‬
‫لخالق الكون المادي‪ ،‬وبحيث ال يشتبه أحد بأن ھؤالء المخادعين يحاولون التأكد من أن البشرية منقادة بشكل أعمى‪،‬‬
‫وتتقدم نحو الموت الروحي‪ ،‬وبحيث ال يكتشف أحد أبداً أن جالدي الروح ھؤالء ھم أولئك الذين يرغبون في أن‬
‫يكون كل شخص ليس أكثر من مسنن في عجلة‪ ،‬إي ليس أكثر من آلة‪ ،‬وليس أكثر وصلَة‪ .‬بل ليس أكثر من نملة في‬
‫كثيب النمل الشيوعي العالمي الذي ادّخره الشيطان خالق الكون المادي كمصير نھائي للبشرية‪.‬‬

‫يقال إنه في نھاية تطور كل إنسان‪ ،‬إذا كان قد خسر معركة الروح‪ ،‬ولم يعد بمقدوره القتال أكثر من ذلك‪ ،‬فسوف‬
‫يرى الوجوه الحقيقية لـ "أسياد" المحفل األبيض المزيفين‪  .‬‬

‫في السنوات المائة والخمسون الماضية‪ ،‬أخذت أوصاف أعضاء المحفل األبيض ھؤالء تضح في كل مرة أكثر‬
‫فأكثر‪ .‬ويمكن العثور أسمائھم‪ ،‬ومظاھرھم‪ ،‬وخصائصھم في كتب ھيلينا بالفاتسكي وفي كتب الذين اتبعوھا‪ ،‬مثل‬
‫أليس بيلي لكونھا واحده من أبرزھم‪ .‬لقد تحدثنا عن أحد أعضاء المحفل األبيض‪ :‬الشيطان كومارا ‪Satan ‬‬
‫‪ .Kumara‬ويا له من اسم! كان اسما ً فاقعاً‪ ،‬وكان ال بد من إخفائه في وقت الحق‪ ،‬فتم تغييره إلى سانات كومارا‬
‫‪ .Sanat  Kumara‬كل واحد منھم‪ ،‬مثل خالق الكون المادي‪ ،‬لديه العديد من األسماء‪ ،‬والعديد من األقنعة ألجل‬
‫تحقيق خداع أفضل‪ .‬البعض منھم لديھم أسماء حقيقية للشياطين‪ ،‬مثل ميتريا‪ ،‬والذي يقال إنه "المسيح الحقيقي"‪ ،‬أو‬
‫"أسياد" مثل موراي و دول خول‪ .‬وآخرون لديھم ألقابا ً نبيلة مثل "األمير" راكوتزي‪ ،‬وھو "أمير" الظالم الحقيقي‪.‬‬
‫ھناك الكثير‪ ،‬وكلھم متشابھون‪ .‬وكل ھؤالء الشياطين ليسوا إالً قشور بيض فارغ لخالق الكون المادي‪ ،‬وسيتم‬
‫تحطيمھم عندما يحين موعد فترة التدمير ‪ ،pralaya‬جنبا ً إلى جنب مع كل ما ُخلِق‪  .‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬يتم تمثيل أعضاء المحفل األسود على أنھم كائنات متوحشة رھيبة‪ .‬ولكن ما ھي الطريقة األخرى‬
‫التي يمكن تصويرھم فيھا ضمن عالم خالق الكون المادي؟ يطلقون على أعضاء المحفل األسود أسم "رسل الشيطان"‬
‫أو "عمالء الخبيث"‪ .‬كما أنھم يصوَّ رون كوحوش مد ِّمرة‪ ،‬وعادة ما يرتدون األسود للتشويش على ّ‬
‫السذج من البشر‪  .‬‬

‫ولكن لنضع جانبا ً األكاذيب التي تم اختراعھا لتشويه سمعتھم‪ ،‬ودعونا اآلن نحلل بعض خصائص المحاربين الذين‬
‫ينتمون للمحفل األسود‪  .‬‬

‫أوالً‪ ،‬أي مظ َھ ٍر يمكن أن ي َّتخذه كائن إلھي‪ ،‬كائن النور الذي يدخل ھذا الجحيم؟ بالتأكيد ليس وجھا سعيداً‪ ،‬وإ ّنما وجه‬
‫يطفح باأللم‪ ،‬وجه مشوه بكل أنواع المعاناة‪ .‬إن تضحية كائنات النور‪ ،‬الذين يغزون عالم خالق الكون المادي‬
‫لمساعدة األشخاص الذين ضللوا طريقھم‪ ،‬تنطوي على أسوأ معاناة التي يمكن تخيلھا‪  .‬‬

‫ثانيا‪ ،‬ما يمكن أن نقول عن لون الضوء غير المخلوق الذي يراه اإلنسان النائم ؟ إنه األسود الحالك بالطبع‪ ،‬ألن‬
‫النور الحقيقي ُيعمي الشخص النجس‪ .‬فأن يكون ُم َمثالً باللون األسود لھو شرف بالنسبة لمحارب الروح‪ ،‬ألن األسود‬
‫يشير إلى النور النقي‪ ،‬وھو الضوء الحقيقي المسبب للعمى‪  .‬‬

‫ثالثا ً‪ ،‬كيف تتصرف الكائنات النورانية ھذه عندما تقتحم كون الديموريج؟ عندما يتسلل محاربو المحفل األسود إلى‬
‫ھذا الجحيم المخلوق‪ ،‬فيقومون بتنفيذ مھمة محددة ولفترة محدودة‪ ،‬ومن ثم يخرجون في أسرع وقت ممكن‪ .‬ليس‬
‫لديھم وقت لتضييعه‪ ،‬ألن ھذا العالم النجس ھو عذاب ال يوصف بالنسبة لھم‪ .‬عند وصولھم إلى المسخ المعتوه الكبير‬
‫لخالق الكون المادي‪ ،‬فإن الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله ھو الضرب في المكان الصحيح حيث يوقعون األذى‪ ،‬ثم‬
‫يھربون‪ .‬ذلك أنَّ الحرب بالنسبة للقادمين من العالم المجھول ضد العالم المخلوق ھي حرب شاملة‪ .‬فبالنسبة لھم‪ ،‬ما‬
‫من شيء مخلوق يستحق البقاء‪  .‬‬

‫إذا أمكن للشخص العادي أن يرى ھذه الكائنات‪ ،‬فسوف يفزع بسبب عدوانيتھا ودمارھا‪ .‬سوف يراھا كأداء خطرين‪،‬‬
‫مثل الكائنات التي تخيلھا فيلم سفينة الحب‪ ،‬أو تلك التي في أفالم مثل "‪ "Hellraiser‬أو "بريداتور"‪ .‬فالشخص‬
‫العادي الذي يشاھد الواقع من خالل جسده ون ْفسِ ه‪ ،‬يرى النقاء نجاسة‪ ،‬ويرى منقذيه أعداء‪  .‬‬

‫إن محاربي الروح يشمئزون من المادة‪ .‬إنھم مدمرون بالفعل‪ ،‬لكنھم مدمرو النجاسة‪ .‬إذا تقاب َل الشخص العادي وجھا‬
‫لوجه مع ھذه الكائنات‪ ،‬فإن كل ما كان نجسا ً في داخله‪ ،‬مثل جسده وروحه‪ ،‬سوف يتفكك‪ .‬ذلك أن ھذه الكائنات‬
‫تتكون من النار المضادة للمادة القادمة من العالم اآلخر؛ وبالتالي ال يمكن لذرة واحدة مخلوقة أن تصطدم بھم دون‬
‫أن تتالشى‪ .‬إذا اقترب ھؤالء المحاربين من الشخص العادي‪ ،‬فسوف يدمرون جسده ونفسه‪ ،‬مع أنھم لن يدمروا‬
‫روحه‪ ،‬فھي مصنوعة من النار النقية‪ ،‬مثلھم تماما ً‪ .‬سوف يتم تدمير الجوانب التافھة فقط‪ ،‬أي الجزء المريض‪ ،‬ذلك‬
‫الذي يسجن الروح‪ ،‬أي التابوت الذي يغلفه‪ :‬جسد ونفس الحيوان الذي يسمى خطأ باإلنسان‪.‬‬

‫على صعيد آخر‪ ،‬فإن األشخاص الذين تحولوا إلى روح نقية لن ينتابھم الخوف من أي شيء‪ .‬يمكنھم بالفعل أن يروا‬
‫الواقع كما ھو‪ .‬ويمكنھم بالفعل التمييز بشكل صحيح بين الخير والشر‪ .‬يمكنھم أن يروا فعال أعضاء المحفل األسود‬
‫مثلما ھم في الواقع‪ .‬إنھم يعرفون أن النار المضادة للمادة تدمر المخلوق فقط‪ ،‬وليس غير المخلوق‪ .‬الروح ال تخشى‬
‫الموت‪ ،‬طالما أن األمر يتعلق بالروح بكل بساطة‪ ،‬فال وجود للموت‪ ،‬ألن الروح خالدة‪ .‬ففي اليوم الذي يتم فيه تدمير‬
‫كل ما ھو قمامة‪ ،‬بمعنى القول‪ :‬في اليوم الذي يتم فيه تفكيك كل الخلق وخالقه‪ ،‬عندما ال يبقى شيء‪ ،‬وال حتى ذرة‬
‫واحدة‪ ،‬جسداً كان أم نفساً‪ ،‬فلن يبق سوى األرواح التي تحررت إلى األبد‪ .‬فال تعود الثنائية موجودة‪ ،‬والعالم سوف‬
‫يعود كونا ً واحداً‪ ،‬بل وحد فقط‪ :‬وھو النار الخالدة التي تفوق التصور‪  .‬‬

‫‪ ‬‬

‫التمرد والمعارضة‬
‫ّ‬ ‫‪.20‬‬

‫لخص الغنوصيون االختالفات المطلقة بين اإلله الخالق‪ ،‬وبين ﷲ الذي يفوق إدراك البشر‪ ،‬اعتبروا أن ﷲ‬ ‫بعد أن ّ‬
‫الذي خلق العالم ھو أدنى منزلة بكل معنى الكلمة من ﷲ الحقيقي‪ .‬لذلك من الطبيعي أن يؤكدوا على أن كل قوانين‬
‫وأوامر اإلله الذي خلق العالم واإلنسان يجب تحطيمھا‪ ،‬ذلك ألنه ليس عالم اإلله الحقيقي وإ ّنما عالم اإلله اآلخر‪،‬‬
‫المحتال‪ ،‬اإلله األدنى منزلة وغير الكفؤ‪ .‬بالنسبة للغنوصيين فإن كل ما ھو موجود في الكتب الدينية ليس من اإلله‬
‫الحقيقي الذي ال يمكن إدراكه‪ ،‬وإ ّنما من اإلله الخالق أو الديموريج‪ .‬إن كل وصاياه التي يريد من اإلنسان إطاعتھا‪،‬‬
‫وكيف يتفاعل معھا‪ ،‬وكيف ينبغي أن يعبده ويخدمه‪ ،‬كلھا تظھر في تلك الكتب‪ .‬بعد ذلك يخلص الغنوصيون إلى أنه‬
‫إذا كانت تلك القوانين صادرة عن خالق الكون المادي‪ ،‬الديموريج‪ ،‬فيجب أالّ ُتطاع‪.‬‬

‫الغنوصيون يعارضون مسبقا ومن حيث المبدأ كل شيء يأتي من خالق الكون المادي‪ .‬فكل ما يقوله الخالق‪،‬‬
‫وأوامره وطلباته يجب أال ُتطاع‪ .‬ألنه ليس اإلله الحقيقي وإ ّنما إله محتال يعتبر نفسه "اإلله الوحيد"‪.‬‬

‫ھذا الموقف الغنوصي عندما ينظر إليه الشخص العادي من الخارج‪ ،‬فيبدو له تمرّ داً وموقفا ً مقيتا ً‪ .‬فالشخص العادي‬
‫يتصوّ ر أن إلھا ً صالحا ً خلق اإلنسان‪ ،‬وھو يحبه‪ ،‬ويريد مساعدته‪ ،‬ويحمل له آماالً كبيرة‪ ،‬ويحتاجه لإلكمال عمله‬
‫وإتقانه‪ .‬الشخص العادي ينظر إلى ھذا الموقف الغنوصي ضد " األب الصالح الذي جلبه إلى ھذا العالم" برعب‬
‫شديد‪ .‬فاإلنسان‪ ،‬الذي ھو أفضل مخلوقات ﷲ‪ ،‬يمكن أن يتمرد ضده‪ ،‬ويعارضه‪ ،‬ويبرّ أ منه؟! يا لھذه الفظاعة! بيد أن‬
‫ما ال يعرفه الشخص العادي ھو كل ما قلناه لغاية اآلن عن ھذا "األب الصالح" وأعماله وخططه‪.‬‬
‫إن التمرّ د ضد خالق العالم المادي بالنسبة للغنوصية ال يحرر اإلنسان من عبوديته واسترقاقه فقط‪ ،‬بل يوقظه أيضا ً‬
‫ويبعده عن سلطة خالق الكون المادي‪ .‬ومن خالل معارضته الثابتة‪ ،‬يكتسب الغنوصي تدريجيا ً قوة مساوية لإلله‬
‫الخالق‪ ،‬وفيما بعد يصبح متفوقا ً عليه‪.‬‬

‫لو كان اإلنسان جسداً ونفسا ً فقط‪ ،‬ولو كان ذلك الكيانين اللذان خلقھما الديموريج‪ ،‬خالق الكون المادي‪ ،‬ھما الشيئان‬
‫الوحيدان اللذان يتكون منھما اإلنسان‪ ،‬فبطبيعة الحال لن يكون ھناك أيّ تمرد على اإلطالق‪ .‬إذ ما من شيء مخلوق‬
‫يتمرد ضد خالقه‪ .‬لكن ما يحدث ھو أن ھناك شيء في داخل اإلنسان ليس من صنع اإلله الخالق‪ :‬وھي الروح‬
‫الخالدة‪ .‬لقد ُجلِ َبت الروح من الخارج‪ ،‬وال تنتمي إلى ھذا العالم‪ .‬وقد تمت إضافتھا إلى ھذا المِسخ الذي ھو جسد‬
‫ونفس‪ ،‬لجعله يقوم بوظيفته ويتطور‪ .‬لكنھا أنھا وضعت ضد إرادتھا‪ ،‬ووجدت نفسھا مسجونة داخل المادة‪ .‬إنھا‬
‫الروح التي تتمرّ د‪ ،‬وھذا ليس تمرّ داً ضد خالقھا‪ ،‬وإ ّنما ضد الذي سجنھا‪ .‬وإليكم ھذه المالحظة‪ :‬ھذا التمرد مصدره‬
‫الروح‪ .‬فھي لم ُتخلَق داخل اإلنسان‪ ،‬تلك الروح التي تحتقر وتعارض الخالق الشيطان وعمله‪  .‬‬

‫الغنوصي ھو الشخص الذي تحوَّ ل إلى روحه‪ ،‬إنه الشخص ذي الروح التي حررت نفسھا وامتلكت جسده ونفسه‬
‫الستخدامھما كآالت‪ ،‬وسيكون متمرّ داً كبيراً وخصما ً لخالق العالم المادي وعمله‪ .‬أفعاله ستكون مھيبة ومدمّرة‪ ،‬تماما ً‬
‫مثل كل روح متحررة‪ .‬وكما في حالة قابيل‪ ،‬لن تعود ھناك سلطة لإلله الخالق عليه‪.‬‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فإن الشخص النصف نائم سيكون نصف متمرد‪ .‬سوف يبحث بشكل أعمى عن مخرج‪ ،‬وسيكون‬
‫معارضا ً بصورة غير واعية تقريبا ً للعالم المخلوق الذي يحيط بروحه ويخنقھا‪ .‬إن موقفه النصف ٍ‬
‫واع لن يسمح له‬
‫بتمرد أو معارضة قادرة على تشكيل خطر على خالق العالم المادي أو على عمله‪.‬‬
‫قلنا إنه أثناء عملية تحرير الروح‪ ،‬يكتسب اإلنسان قوة مساوية‪ ،‬وفيما بعد تتفوق على قوة اإلله الخالق‪ .‬وقلنا أيضا ً‬
‫إن التمرد والمعارضة القوية والمستمرة ُتض ِعفُ خالق الكون المادي وتسلب قوته‪ .‬وھذا يأخذنا إلى المواقف الممكنة‬
‫األربعة التي تتعلق بفكرة أن اإلنسان يمكن أن يمتلك قوة اإلله الخالق‪  .‬‬

‫الموقف األول ھو‪ :‬وجود خالق الكون المادي‪ .‬وجود ﷲ الذي خلق السماوات واألرض‪  .‬‬

‫الموقف الثاني ھو‪ :‬عدم وجود خالق الكون المادي‪ .‬وھذا ھو اإللحاد؛ فكل ما ھو موجود ھو نتاج التطور األعمى‬
‫للمادة‪  .‬‬

‫الموقفين األولين‪ ،‬ﷲ موجود ‪ /‬ﷲ غير موجود ھي المواقف التقليدية في تاريخ البشرية‪  .‬‬

‫كان يعتقد دائما أنه ال يمكن أن يكون ھناك موقف ثالث‪ ،‬ولكن بعد قدوم نيتشه‪ ،‬أعلن أن "ﷲ قد مات"‪ .‬وھذه ھي‬
‫الفكرة الثالثة في أن اإلنسان يمكن أن يكون اإلله الخالق‪ :‬لقد كان ﷲ موجوداً‪ ،‬لكنه اآلن ميت‪ .‬ھذه الفكرة على ما‬
‫يبدو تقع في مكان ما في المنتصف‪ ،‬بين موقف أن ﷲ موجود‪ ،‬وموقف أن ﷲ غير موجود‪  .‬‬

‫أمّا الموقف الرابع فھو موقفي الغنوصي‪ :‬اإلله الخالق موجود‪ ،‬ولكن على اإلنسان التخلّص منه‪  .‬‬

‫ھذا الموقف األخير يبدو أنه سبب الكثير من الذعر‪ ،‬حيث ُيحكم عليه بالطريقة التي تم فيھا التضييق عليه وإخفائه‪.‬‬
‫يؤكد الغنوصيون إنه يجب العمل على محاصرة الخالق وإضعافه‪ ،‬بطريقة ال يتمكن معھا بخلق أي شيء آخر‪،‬‬
‫وبحيث يختفي في نھاية المطاف‪ .‬يجب أن يقضي اإلنسان على االزدواجية في العالم لتكون ھناك مملكة واحدة‬
‫فقط‪ :‬ھي مملكة ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه‪  .‬‬

‫كما يؤكد الغنوصيين إن الھجمات يجب أن تستھدف اإلله الخالق لمنعه من العودة إلى دورات الخلق والھدم‪،‬‬
‫المانافنتاراس و البراالياس‪ ،‬التي ‪ ‬ال نھاية لھا‪ ،‬والقائمة على التجربة والخطأ في ھذا االنتحال العظيم الذي لن يبلغ‬
‫الكمال أبداً‪ .‬حتى لو تم تدمير كل شيء مخلوق بسلسلة تفاعالت ذرية‪ ،‬فإن خالق الكون المادي سوف يعيد خلق كل‬
‫شيء مرة أخرى‪ .‬لھذا السبب يرى الغنوصي أن اإلله الخالق ھو الذي يجب أن ًيھزم ويُقضى عليه‪  .‬‬

‫في فيلم مشوّ ق يدعى "الساحر"‪ ،‬الذي ھو "شخص سيء"‪ ،‬يحاول العثور بالضبط على الكلمات التي خلق فيھا‬
‫الديموريج العالم‪ .‬وبلفظ ھذه الصيغة بشكل مقلوب يجعل كل الخلق يختفي‪ .‬والحقيقة إن ھذه ليست فكرة سيئة‪ ،‬بل‬
‫باألحرى مضيعة للوقت‪ :‬فلو حدث مثل ھذا‪ ،‬لعمد خالق الكون المادي إلى خلق كل شيء مرة أخرى‪  .‬‬

‫موضوع آخر مھم وھو االنتحار‪ .‬يبدو االنتحار تمرداً ضد الخالق‪ ،‬لكنه ليس كذلك‪ .‬إذ يخطئ أولئك الذين يعتقدون‬
‫أن االنتحار وسيلة للھرب من براثن خالق الكون‪  .‬‬

‫يصاب بالجنون‪ .‬إذ يدرك‬


‫َ‬ ‫عندما تبدأ صحوة اإلنسان‪ ،‬ويبدأ في رؤية األشياء كما ھي في الواقع‪ ،‬فإنه يخشى من أن‬
‫أن كل ما تعلّمه كان مجرد أكاذيب‪ ،‬وأنه محاط بأناس مجانين وممن يسيرون وھم نائمين‪ ،‬وأنه عالق في معسكر‬
‫اعتقال ضخم يسكنه مخبولين‪ .‬فإذا لم يعثر ھذا الشخص بسرعة على أناس آخرين يقظين مثله‪ ،‬فمن المرجح أنه‬
‫سوف يفكر في االنتحار في محاولة للھرب من ھذا السجن الكبير‪ .‬لھذا السبب يفضَّل معظم الناس أن يبقوا نائمين‪.‬‬
‫معظمھم ال يريد أن يعرفوا الحقيقة‪ :‬إنھم يعيشون في مصحة عقلية ضخمة اخترعھا وسيطر عليھا المجنون األعلى‪.‬‬
‫فقط أقلية من الفتية الشجعان للغاية سيسعون إلى ھذه المعرفة الخاصة القادرة على إيقاظھم‪  .‬‬
‫لقد رأينا أن محاولة تدمير عمل خالق الكون المادي ال طائل منه‪ ،‬ألنه سوف يعيد خلقه مجدداً‪ .‬األمر ذاته ينطبق‬
‫على االنتحار الذي ھو خطأ أيضاً‪ ،‬وكذلك ينطبق على التمرد الذي ال فائدة منه‪ ،‬ألنه في ھذه الحالة يتعارض مع‬
‫التحرر تماما ً‪  .‬‬

‫عندما ينتحر الشخص العادي‪ ،‬تنفصل نفسه عن جسده وتنتقل إلى خالق الكون المادي‪ ،‬آخذة معھا الروح‪ ،‬ألن الروح‬
‫مقيَّدة بالنفس‪ .‬بعدھا تأتي مرحلة المحاكمة والعقاب والكارما‪ .‬ھذا ما يحدث في كل مرة يموت فيھا اإلنسان‪،‬‬
‫واالنتحار ليس استثناء‪ .‬في حالة االنتحار‪ ،‬سيكون العقاب الذي يطبقه خالق الكون المادي أكبر‪ :‬فقد حاول السجين‬
‫الفرار‪ ،‬ووقع في الفخ مرة أخرى‪ ،‬فحصل على عقوبة مزدوجة‪ .‬إن السجين الذي انتحر‪ ،‬لم يھرب من أي شيء‪ ،‬ولم‬
‫يحرر نفسه من شيء‪ .‬وھا ھو في يد خالق الكون المادي مرة أخرى‪ .‬إن االنتحار بالنسبة للشخص العادي ليست‬
‫وسيلة للخروج وال للتحرر‪ ،‬بل على العكس من ذلك‪ :‬سوف تصبح حالته أسوأ‪  .‬‬

‫ولكن في حالة اإلنسان الذي حقق روحه‪ ،‬فسوف يختلف كل شي‪ ،‬ألنه لم يعد شخصا ً عاديا ً‪ .‬إنه الشخص الذي ھرب‬
‫من سجن خالق الكون المادي‪ ،‬وال يمكن أن يصل إليه اآلن ھذا الخالق ويعقابه‪ .‬وقوانين الكارما اآلن بالنسبة له لم‬
‫يعد لھا وجود‪ ،‬فقد حول نفسه بمحض إرادته إلى كائن غير مخلوق ضمن العالم المخلوق‪ ،‬وبمقدوره أن يفعل ما‬
‫يشاء‪ ،‬بما في ذلك االنتحار‪ .‬لقد ارتقت النفس والجسد النجس إلى مصاف األلوھة بواسطة الروح ولم يعد ينتميان‬
‫إلى خالق الكون المادي‪ .‬أصبح جسده‪ ،‬ونفسه‪ ،‬وروحه شيء واحد فقط‪ :‬غير قابل للتدمير‪ ،‬خالد وأبدي‪ .‬أ ّما‬
‫االنتحار بالنسبة لھذه النوع من البشر‪ ،‬ھو ببساطة مجرد وسيلة لالنتقال من نقطة في الكون إلى أخرى‪ ،‬أو من بعد‬
‫إلى آخر‪  .‬‬

‫ھذا النوع من البشر ھو الذي تم وصفه في األسطورة المسيحية؛ إذ يقال إنه عندما ذھبوا للبحث عن جسد المسيح‪،‬‬
‫فلم يتمكنوا من العثور عليه‪ ،‬وكان القبر فارغا ً‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬بما أن الروح أخذت الجسد والنفس معھا! فبعد‬
‫"الموت"‪ ،‬تتم روحنة الجسد والنفس‪ ،‬ويتحدان مع الروح ويتحوالن إلى كيان واحد ال ينفصم‪ ،‬ويغادران معھا‪  .‬‬

‫دعونا نلقي نظرة على مثال عن انتحار شھير‪ ..‬حيث نتحدث اآلن عن المسيحية‪ ..‬وھو انتحار يھوذا‪ ،‬الرجل الذي‬
‫خان يسوع المسيح‪ .‬يقول الشخص العادي‪ ،‬الجاھل والمشوَّ ش‪ ،‬عن يھوذا‪ ،‬إنه وحش‪ ،‬وأنه كان السبب في صلب‬
‫يسوع المسيح‪ .‬إن يھوذا ھو الشخص السيئ في ھذه القصة‪ ،‬فمن الذي يمكن أن يحب يھوذا؟ ‪ ‬‬

‫لكن يھوذا بط ٌل بالنسبة للغنوصيين‪ ،‬وھو محسنٌ للبشرية‪ ،‬فمن خالل خيانته ساعد على إنجاز مھمة يسوع المسيح‪.‬‬
‫حتى "إنجيل يھوذا" الموجود أيضا ً‪ ،‬روى كل ھذه األحداث من وجھة نظره‪ .‬ويمكنك أن تتخيل بالفعل ما حدث لھذا‬
‫اإلنجيل‪  .‬‬

‫وفقا للغنوصيين‪ ،‬جاء يھوذا كي يساعد المسيح مع مھمته‪ .‬خيانة يھوذا ھي التي قادت مباشرة إلى صلب يسوع‬
‫المسيح‪ .‬إن موت المسيح ھو افتداء للعالم‪ .‬أن موت الفادي المخلص لم يكن ليتم من دون يھوذا‪ .‬ولم تكن لتنجح‬
‫المسيحية كدين بدون يھوذا‪ .‬كم كان سيختلف تاريخ المسيح لو أن يھوذا "أفضل تالمذة الرب" لم يكن موجوداً‪  .‬‬

‫ماذا يھم يھوذا بأن األجيال القادمة سوف تقول عنه إنه كان وحشا ً؟ ھذا ھو قدَ ر األبطال‪ ،‬والرجال العظماء‪ ،‬ھنا في‬
‫جحيم خالق الكون المادي! لقد عرف يھوذا دون أدنى شك أنھم سوف يتحدثون عنه بالسوء في وقت الحق‪ ،‬وأنه‬
‫سيتم تشويه سمعته بال رحمة‪ ،‬وسيكون مكروھا ومُح َتقراً من قبل الجميع‪ .‬ولكن ماذا يھم شخصا ً جاء لتنفيذ مھمة‬
‫أساسية‪ ،‬وجنبا إلى جنب مع شخص ليس أقل من منق ٍذ لھذا العالم؟ لھذا السبب قال المسيح ليھوذا‪" :‬يھوذا‪ ،‬ما ينبغي‬
‫أن تفعله‪ ،‬افعله بسرعة"‪ .‬إن "خيانته" كانت ضرورية لمستقبل المسيحية‪  .‬‬

‫عالم خالق الكون المادي‪ ،‬ألنه لم يعد لديه‬


‫ِ‬ ‫ماذا يمكن أن يفعل يھوذا بعد تنفيذ مھمته بنجاح؟ كان عليه أن يتخلى عن‬
‫عمل بعد اآلن‪ .‬بعد االنتھاء من مھمته‪ ،‬كان عليه أن يعود إلى منزله في العالم الذي ال يمكن للبشر تصوره‪  .‬‬
‫لقد انتحر يھوذا‪ .‬ووفقا ً لالعتقاد المتواتر‪ ،‬قيل لنا إن يھوذا أخذ طريقه إلى شجرة وشنق نفسه‪ .‬بعد أن أنھى مھمته‪،‬‬
‫يمكن لمحارب الروح أن يلجأ إلى االنتحار كوسيلة ليغادر بسرعة جحيم خالق الكون المادي‪ .‬أنه يستطيع فعل ذلك‬
‫ألنه ال ينتمي إلى ھذا العالم‪ ،‬وكما قلنا‪ ،‬ال الخالق وال شرائعه تملك أي سلطة عليه‪  .‬‬

‫ب‪ ،‬سوبرمان الروح‪ ،‬ھو شيء؛ وانتحار شخص نائم ھو شيء آخر‪ .‬ھذا ھو السبب في أن انتحار‬ ‫إن انتحار محار ٍ‬
‫يھوذا "ليس كانتحار شخص عادي‪ ،‬يقنط من أدنى شيء في عالم المادة‪ ،‬وبعدھا يقتل نفسه في يوم مشمس‪  .‬‬

‫الغنوصيين يقولون إن الشجرة التي شنق بھا يھوذا نفسه‪ ،‬لم تكن سوى شجرة عدن‪  .‬‬

‫‪ .21‬التكريس الغنوصي ‪ ‬‬

‫التكريس ھو طقس شعائري عادة ما يكون عمالً جماعيا ً‪ ،‬حيث تنتقل فيه المعارف السرية إلى المريد الذي ستحدث‬
‫في داخله تغيرات كبيرة‪ .‬ما إن يبدأ التكريس‪ ،‬فلن يعود المريد كما كان مرة أخرى‪ .‬عندما يكون التكريس حقيقيا ً‪،‬‬
‫وصحيحا ً‪ ،‬فإنه يش ّكل نقطة تحول في حياة المريد‪ ،‬ذلك أن ثمة ما ھو قبل وبعد التكريس‪ ،‬ألن شيئا ً ما قد حصل في‬
‫ھذا الطقس الذي غيّر حياته بطريقة مذھلة‪ .‬إنه شيء لن ينساه أبداً‪ .‬أعرف أشخاصا ً حصلوا على التكريس في أماكن‬
‫مختلفة‪ ،‬لكنھم لم يالحظوا حدوث أي شيء مميّز في أية مناسبة‪ .‬فبدون شك‪ ،‬لم يكن ھذا تكريسا ً حقيقيا ً‪ .‬ولكن عندما‬
‫يتلقى الشخص تكريسا ً صحيحا ً‪ ،‬فستكون تجربته في الواقع ملفتة للنظر‪ ،‬ولن ينساھا أبداً‪ .‬إن البعض يشبّه ھذه‬
‫التجربة بتلك التي يصاب فيھا بما يشبه وميض الضوء في منتصف الطقس الشعائري‪" .‬وميض الضوء" ھذا‪ ،‬ھو ما‬
‫يُحدِث التغيير الرھيب الذي سيضع عالمة فارقة في حياة المريد إلى األبد‪ .‬اآلن لن يعود مرة أخرى إلى ما كان عليه‬
‫من قبل‪ .‬سوف يظل مر ّكزاً على الھدف لبقية حياته‪ ،‬أي الھدف المحدد من التكريس الذي حصل عليه‪  .‬‬

‫إن كل شخص‪ ،‬عاجالً أم آجالً‪ ،‬سوف يتحتم عليه اختيار مسار واحد من بين مسارين فقط‪ ،‬متعارضين ومتضادين‪:‬‬
‫إمّا إرضاء نفسه أو إرضاء روحه‪ ،‬وليس ھناك احتمال ثالث‪ .‬فإ ّما مسار اليد اليمنى نحو خالق الكون المادي عن‬
‫طريق إرضاء النفس‪ ،‬أو مسار اليد اليسرى‪ ،‬نحو ﷲ الذي ال يمكن إدراكه‪ ،‬عن طريق إرضاء الروح‪ .‬وھذا األخير‬
‫ھو ما يش ّكل الھدف المحدد أو الغرض من التكريس‪ ،‬وھذا ھو السبب في أنه ليس ھناك سوى تلقين النفس‪ ،‬أو تلقين‬
‫الروح‪ .‬والغرض من التكريسين ھو تسھيل وصول المرشح نحو المصير الذي اختاره‪  .‬‬

‫من المھم أن تعرف الخصائص الرئيسية لكال التكريسين‪ ،‬ولكي تميّز بدقة بين تكريس وآخر‪ .‬كثير من الناس الذين‬
‫يجھلون ھذه التفاصيل يقعون في شراكٍ تقودھم مباشرة إلى ف ّكي خالق الكون المادي‪ .‬من السھل ارتكاب خطأ ما‬
‫نظراً ألن ھناك تمويه وتزييف يجب أخذه بعين االعتبار‪ ،‬وكذلك عدم وجود الكتب والمعلومات‪ .‬لذلك دعونا ننظر‬
‫إلى تلك األشياء التي من الضروري أخذھا في الحسبان لتكون قادراً على رفض الفاكھة المسمومة التي يقدمھا لنا‬
‫عبيد خالق الكون المادي‪  .‬‬

‫أوالً‪ ،‬إن الھدف من تكريس النفس ھو االندماج النھائي مع خالق الكون المادي‪ .‬وھذا األمر ذو أھمية كبيرة‪ .‬فإذا كان‬
‫شخص ما يحدثنا عن "االتحاد مع ﷲ"‪ ،‬و "فقدان الذات في ﷲ"‪ ،‬و "انصھار وعي الفرد مع وعي اإلله الواحد"‪ ،‬و‬
‫السمادھي )الذوبان في خالق الكون المادي(‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬فسنعرف عندئ ٍذ أننا نتعامل مع دين أو مذھب أو حركة‬
‫باطنية يكمن وراءھا خالق الكون المادي‪ .‬وبالطبع فإن التكريسات التي يتم منحھا ھناك ستكون تكريسات النفس‬
‫وليس الروح‪  .‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬لن يكون الھدف من تكريس الروح االندماج مع أيّ إله‪ .‬ففي نھاية المسار‪ ،‬وعند حدوث مواجھة‬
‫المكرس إلى مقاومته ورفضه‪ ،‬وإقصائه وإقصاء نفسه إلى األبد‪ .‬وفي‬ ‫ًّ‬ ‫شاملة مع خالق الكون المادي‪ ،‬سوف يضطر‬
‫ھذه الحاالت ال يكون األمر متعلقا ً بالسمادھي‪ ،‬وإ ّنما بالكيفاليا‪ :‬أي االنفصال المطلق‪ .‬لكنه أنه انفصال خاص‪ ،‬أي أنه‬
‫ال يقتصر فقط على االنفصال التام عن كل شيء أوجده الخالق‪ .‬كال؛ فالكيفاليا تتضمن حتما ً االنفصال التام والمطلق‬
‫عن خالق الكون المادي نفسه‪  .‬‬

‫ثانيا‪ ،‬الھدف من التكريس الذي يقود إلى خالق الكون المادي‪ ،‬ھو إضعاف ذات المريد‪ ،‬ودفعه إلى التخلي عنھا‪ .‬إن‬
‫كل حركة دينية تعمل لصالح خالق الكون المادي‪ ،‬تعطي أھمية كبيرة للحاجة إلى تدمير ذات المريدين‪ .‬فلكي يكون‬
‫االندماج مع خالق الكون المادي ناجحا ً‪ ،‬فمن الجوھري أن يتخلى المريد عن ذاته‪ .‬وبمجرد أن تتفكك الذات‪ ،‬فإن‬
‫الھيكل الفارغ الذي بات عليه المريد سوف يمأله بسرعة خالق الكون المادي‪ .‬ھذا الشخص الذي سلّم نفسه لخالق‬
‫الكون المادي مثل القربان‪ ،‬قد تحول إلى عدم‪ ،‬وھذا العدم مأله ھذا الخالق‪ .‬لقد تحقق ھدف خالق الكون المادي؛ فھذا‬
‫الشخص قطع شوطا ً طويالً لينتھي بإذابة نفسه في اإلله الذي خلقه‪  .‬‬

‫أمّا في تلقين الروح فيكون الھدف دائما ً توسيع الذات‪ ،‬ومراكمة الطاقة‪ .‬والغرض من توسيع الذات ھو االقتراب من‬
‫الروح‪ ،‬فإذا لم تكن الذات موجودة‪ ،‬فال يمكن للروح إظھار نفسھا‪ .‬إن التخلي عن الذات يعني التخلي عن الروح‪  .‬‬

‫ثالثا ً‪ ،‬في تلقين النفس نسمع كالما ً حول التطور والمستقبل والتقدم‪" :‬على النفس أن تتطور إلى أن تنصھر مع ﷲ"‪.‬‬
‫"كل الخليقة تتطور نحو ﷲ"‪" .‬سوف تستمر البشرية في التطور إلى أن تصبح طائفة كونية واحدة من األنفُس"‪" .‬إن‬
‫العالم يصبح أفضل كل يوم"‪  .‬‬

‫على النقيض من ذلك‪ ،‬ففي تلقين الروح نجد كالما ً حول العودة والماضي‪ .‬العالم يتجه نحو تدھوره ودماره‪ .‬ال يوجد‬
‫شيء جيد لنتطلع إليه في المستقبل‪ .‬فاستعادة شيء كان موجوداً في الماضي ھو أمر ضروري‪ .‬ومن أجل التعويض‬
‫عن الظلم الكبير الذي يقوم به خالق الكون المادي ومحتاليه‪ ،‬فمن الضروري أن نعود إلى ذلك الماضي لتعطيل كل‬
‫شيء‪ ،‬وتحرير ما ينبغي تحريره‪ ،‬وتدمير ما ينبغي تدميره‪.‬‬

‫رابعا ً‪ ،‬في تلقين النفس سوف يسمع المرء كالما ً عن الرحمة واإلخالص والمحبة والكرم والخدمة‪ .‬الرحمة لجميع‬
‫مخلوقات ﷲ خالق الكون المادي‪ .‬محبة الخالق ومحبة اآلخرين‪" .‬محبة كل شيء أتى به َن َفسُ الحياة اإللھية إلى حيز‬
‫الوجود" )و " َن َفسُ الحياة اإللھية" ھذا ليس إالً َن َفسُ خالق الكون المادي(‪ .‬والخدمة ھي خدمة اآلخرين‪ ،‬و "سادة"‬
‫المحفل األبيض‪ ،‬وخالق الكون المادي‪" ،‬إلحياء الخطة على األرض"‪ .‬مشدداً كذلك على لوم النفس‪ ،‬وإظھار الندم‪  .‬‬

‫أمّا في تلقين الروح‪ ،‬فالمرشح ھو بمثابة محارب أعلن الحرب الشاملة على قوى المادة‪ .‬ال نسمع فيه حديثا ً عن‬
‫السالم‪ ،‬وإ ّنما عن السيوف‪ ،‬وعن القتال من أجل الحرية‪ ،‬واالستيالء على السماوات عنوة‪ .‬ال نسمع في تلقين الروح‬
‫كالما ً عن الحب واإلخالص‪ ،‬واللوم‪ ،‬والندم‪ ،‬بل عن الواجب والشرف واالنتقام‪ .‬على المرء أن يأخذ في االعتبار أنه‬
‫عندما يتروحن المريد‪ ،‬فتتفاقم العدوانية في داخله‪ ،‬ويزداد نفوراً من كل ما ھو نقيض للروحانية‪ ،‬ومن كل ما ھو‬
‫نجس ومادي ومخلوق‪ .‬ھذا ھو العداء الطبيعي للروح تجاه خالق الكون المادي وعمله‪ .‬إذا شعرت الروح بالمحبة‬
‫تجاه خالق الكون المادي وخلقه‪ ،‬فإنھا لن تكون روحا ً‪ ،‬بل نفسا ً‪ .‬فالنفس ھي حب خالص )تجاه خالق الكون‬
‫المادي وعمله(‪ .‬أ ّما الروح فھي كراھية خالصة )لخالق الكون المادي وعمله(‪  .‬‬

‫التفاصيل التي ذكرناھا ھنا تسمح لنا بتحديد أفضل أل ّية جھة ينتمي أولئك األشخاص أو تلك الجماعات الدينية التي‬
‫تدعي أنھا تساعد اآلخرين‪ .‬عندما نستمع لھم‪ ،‬أو نقرأ كتبھم‪ ،‬فسنعرف مباشرة ما إذا كانوا مع ﷲ أو مع الشيطان‪،‬‬
‫ذلك أنه في ھذا العصر المظلم ال يسمع المرء سوى الحديث عن "رضا النفس"‪ ،‬وعن "قدرات النفس"‪ ،‬وعن "كمال‬
‫النفس"‪ ،‬وإنه لَ ِمنَ الجيد أن نتذكر إنه على الرغم من اضطھاد الروح ونفيھا‪ ،‬إالّ أن الحديث عن تحرر وإرضاء‬
‫الروح موجود أيضا ً‪  .‬‬

‫بعد أن َعرَّ فنا اثنين من أنواع التلقين الممكنة‪ ،‬فسوف نذھب إلى إلقاء نظرة على خصائصھا األخرى‪  .‬‬
‫ِث تغييرات‬‫في التلقين الغنوصي‪ ،‬يتلقى الشخص بعضا ً من المعرفة السرية‪ .‬وھذه ليست أيَّة معرفة‪ ،‬بل تلك التي ُتحد ُ‬
‫ملحوظة لدى المريد‪ .‬إنھا تتعلق بالمعرفة الخاصة التي لديھا القدرة على تحويل الشخص الذي يصغي إليھا‪ .‬ھذا‬
‫النوع من المعرفة يتسم بأھمية قصوى بالنسبة للغنوصي )رأينا سابقا ً أن معنى كلمة الغنوصية ھو‪ :‬المعرفة‬
‫الروحية(‪ .‬فبالنسبة لكل غنوصي‪ ،‬ال يتحقق الخالص باإليمان‪ ،‬بل من خالل المعرفة الروحية‪ .‬ھذه المعرفة السرية‬
‫التي ُتن َق ُل أثناء التكريس‪ ،‬ليست نھاية الطريق وإ ّنما بدايته‪ .‬كذلك فإن ھذه المعرفة لديھا القدرة على إيقاظ وحث‬
‫يتلق المعرفة ويدرسھا‪ ،‬فسوف تعمل على‬ ‫المرشح على الوصول إلى ھدفه النھائي‪ :‬وھو تحرير الروح‪ .‬بمجرد أن َّ‬
‫تحويل المرشح تدريجيا ً‪ ،‬وعلى مراحل‪ .‬ولتحقيق التغيير الجذري المنشود‪ ،‬وھو التحول النھائي للروح‪ ،‬فسوف‬
‫يترتب على المكرّ س أن يناضل باستمرار ودون كلل أو ملل‪ .‬ولسوف يعطيه تأثير التكريس وذكراه القوة بحيث ال‬
‫يستسلم أبداً أو ينسى ھدفه‪  .‬‬

‫ف عنھا مؤخراً‪ ،‬وأعطيت عنوانا ً ھو‪ ،"Trimorphic  Protennoia" :‬تقول إن‬ ‫في وثيقة غنوصية قديمة ُكشِ َ‬
‫التكريس ھو تجربة المعرفة التي تجلب الرضا الروحي‪ .‬كما تقول أيضا ً إنھا عملية صعود ُتحبط الكون الديمورجي‬
‫وتعزز الكون الحقيقي )فالكون ھو عمل خالق الكون المادي‪ ،‬أما الكون الحقيقي فھو الروح(‪ .‬التكريس يتحدث عن‬
‫المعرفة التي تحرر وتنقي‪ ،‬وعن األشخاص الذين يسعون إلى عالم الروح‪ ،‬وكذلك عن األشخاص الذين يسيرون في‬
‫الطريق المادي‪ .‬يتحدث عن التكريس الذي ينقّي المرء تدريجيا ً ويم ّھد الطريق لالرتقاء نحو عالم الروح‪ .‬وفي ھذا‬
‫الكتاب‪ ،‬يطلق على خالق الكون المادي تسمية "الشيطان الكبير"‪  .‬‬

‫وعادة ما تكون ھناك ثالثة تكريسات‪ .‬فبعد التغييرات التي تحصل في التكريس األول‪ ،‬وعندما يتم اعتبار المرشح‬
‫أنه بات مستعداً‪ ،‬فسوف يتلقى التكريس الثاني الذي سيعمل على إحداث أنواع أخرى من التغييرات‪ .‬بعدھا يجري‬
‫البدء في التكريس الثالث الذي سيم ِّھد الطريق تماما ً لبلوغ التحوّ ل النھائي‪  .‬‬

‫حدثنا عن التلقين الفردي؛ عندما‬ ‫ھناك سمة أخرى للتكريس وھي أنه يمكن أن يكون فرديا ً‪ ،‬أو جماعيا ً‪ .‬لغاية اآلن َت ّ‬
‫يقرر الشخص اجتياز العتبة‪ ،‬فيكون قد حصل على التكريس‪ .‬في الحالة الثانية‪ ،‬وھي أنَّ شعبا ً أو مجتمعا ً بأكمله‬
‫يسعى أعضاؤه إلى ھذا التحول كعضو واحد‪ .‬وھذه الحاالت ھي أكثر ندرة‪ ،‬بيد أنه كانت ھناك حاالت عديدة كھذه‬
‫عبر التاريخ‪  .‬‬

‫حالة أخرى ھي التكريس الذاتي؛ وتكون عندما يشعر المرشح بأنه مستعد‪ ،‬ويقرر أن يكرس ذاته‪  .‬‬

‫وھناك أيضا ً حالة تكريس يتلقاھا خالل النوم‪ .‬سوف نبحث في ھاتين الحالتين األخيرتين بمزيد من التفاصيل في‬
‫وقت الحق‪  .‬‬

‫كيف كان يتم إنجاز التكريس الغنوصي في األزمنة السابقة؟ لقد ُدمِّرت جميع الكتب الغنوصية التي وصفت العملية‪.‬‬
‫ولكن من ناحية أخرى دعونا نلقي نظرة على أحد أعداء الغنوصية‪ ،‬ممن تمكنوا من قراءة ھذه الكتب‪ .‬إيريناوس ابن‬
‫مدينة ليون كان أحد ھؤالء‪ ،‬فقد كتب كتابا ً من خمسة مجلدات بعنوان "‪) "Adversus  Haereses‬ضد البدع(‪.‬‬
‫المجلد األول فقط ھو الذي تمت ترجمته‪ ،‬والذي َيس ُھل جدا الحصول عليه‪ ،‬ذلك أن إيريناوس يسخر فيه من أفكار‬
‫الغنوصية‪ .‬أمّا المجلدات األخرى المكتوبة باللغة اليونانية والالتينية‪ ،‬فھي مخبأة في مكتبة ما يصعب الوصول إليھا‪.‬‬
‫وھذا أمر مفھوم؛ ألن المجلد الثاني يشير إلى أفكار غنوصي كبير ھو مارسيون‪ ،‬لكنھم ال يريدون للناس أن يتعرفوا‬
‫على أفكاره أو يقرأوا عمله الخالد "التضاد" على سبيل المثال‪ .‬لقد حاول أعداء الغنوصية التأكد من أنه ال ينبغي أن‬
‫يستنير شخص ما أو يستيقظ بسبب كتاب مارسيون؛ ولن يسمحوا بأي حال في أن تنھار إحدى أديان خالق الكون‬
‫المادي! ‪ ‬‬

‫لكن المجلد الثالث‪ ،‬وھو المجلد الذي حرصوا على إخفائه بإتقان أكبر‪ ،‬ھو الذي يصف مراسم تكريس الغنوصي‪.‬‬
‫فإذا كانت ھذه حال الكتب المعادية للغنوصية‪ ،‬والتي كتبت من قِ َب ِل أشخاص ليسوا أقل شأنا ً من القديس إيريناوس‪،‬‬
‫والمليئة بالتشھير والسخرية ضد الغنوصية‪ ،‬والتي تمت حراستھا بحذر شديد ‪ ...‬فماذا يمكن أن نتوقع في حالة‬
‫وجود كتاب غنوصي حقيقي! ‪ ‬‬

‫لقد توصّلت العالمة الكبيرة في الغنوصية‪ ،‬إلين باغيلز‪ ،‬إلى المجلد الثالث عن طريق إيريناوس ليون‪ ،‬وفي كتابھا‬
‫"األناجيل الغنوصية" تصف تفاصيل عدة من التكريس الغنوصي‪ .‬تخبرنا باغيلز أن المريد يدرك اآلن أنه كان سابقا ً‬
‫يعبد ويخدم خالق الكون المادي‪ ،‬الذي كان يخلط بينه وبين اإلله الحقيقي قبل أن يصل إلى تلك اللحظة‪ .‬فخالل مراسم‬
‫التكريس‪ ،‬يتوجه المريد إلى خالق الكون المادي معلنا ً استقالليته عنه وعن خلقه‪ ،‬قائالً له إنه اآلن لم يعد ينتمي إلى‬
‫المكرس با الذي ال سبيل إلدراكه‪ ،‬ويرفض سلطة اإلله الخالق‬ ‫ّ‬ ‫مجال سلطته‪ ،‬وإنه قد تجاوز كل ذلك‪ " .‬يعترف‬
‫ً‬
‫وأوامره‪ ،‬ويعلن أنه تحرر من سلطة خالق الكون المادي إلى األبد‪ .‬ومن اآلن فصاعدا ستكون عالقته بخالق الكون‬
‫المادي مختلفة كلّيا ً‪  .‬‬

‫من خالل التكريس يكون المكرّ س قد غيّر عالقته با الخالق جذريا ً‪ .‬وفصل نفسه عن خالق الكون المادي وعن كل‬
‫خليقته‪ .‬وفصل نفسه عن جسده ونفسه‪ .‬وھو اآلن خارج القوانين التي تحكم عالم المادة والزمن‪ .‬إنه اآلن خارج كل‬
‫شيء‪ ،‬باستثناء روحه‪  .‬‬

‫دعونا اآلن نعود إلى موضوع التكريس الذاتي‪ .‬ھناك أشخاص ممن استيقظوا بعض الشيء ويبحثون بيأس عن‬
‫المسار الذي يؤدي بھم إلى تحرير أرواحھم‪ .‬ھؤالء األشخاص يمكنھم تكريس أنفسھم وإحداث التغيير التجاوزي‬
‫الذي يقودھم إلى الروح‪  .‬‬

‫سوف أروي اآلن صيغة التكريس الذاتي التي وضعھا وطبقتھا على نفسي‪:‬‬

‫في الليل‪ ،‬وعندما يكون في السرير‪ ،‬ويستعد للنوم‪ ،‬فإن كل من يريد ھذه الرغبات يستطيع أن يردد الكالم التالي‬
‫عقليا ً إلى أن يغفو‪" :‬أريد أن أفصل نفسي عن اإلله الخالق وخليقته‪ ،‬أريد أن أفصل نفسي عن المادة والزمن‪ ،‬أريد‬
‫أن أفصل نفسي عن جسدي ونفسي‪ ،‬أريد أن تتحد ذاتي مع روحي‪ ،‬أريد لروحي أن تتحرر‪ ،‬أريد أن أكون روحي‪،‬‬
‫أنا روحي "‪  .‬‬

‫صيغة التكريس الذاتي ھذه تؤدي إلى نتائج مذھلة بشكل ال يصدق؛ ومع ذلك يجب تطبيقھا بحرص‪ .‬فمن األفضل‬
‫عدم ممارسة ذلك كل ليلة‪ ،‬على األقل في البداية‪  .‬‬

‫ھذا النمط من التكريس الذاتي الليلي يقودنا إلى الحاالت التي نتلقى فيھا التكريس أثناء النوم‪ .‬في ھذه الحاالت ينتقل‬
‫المريد من جسده المادي وتجرى مراسيم التكريس في أبعاد أخرى من الكون المخلوق‪ .‬ھناك مكرسين حصلوا على‬
‫تكريس واحد‪ ،‬أو اثنين‪ ،‬أو حتى ثالثة تكريسات أثناء النوم‪ .‬آخرون تلقوا التكريس األول على المستوى الجسدي‪،‬‬
‫والباقي خارجه‪ .‬كل حالة فريدة من نوعھا‪ ،‬وال توجد حالتان متشابھتان‪  .‬‬

‫خالل تنفيذ مراسم التكريس أثناء النوم‪ ،‬رغم أن المريد يكون بعيداً عن جسده المادي‪ ،‬إال ّ أنه يكون واعيا ً تماما ً لما‬
‫يحدث‪  .‬‬

‫ليس مكرسي الروح وحدھم من يحصلون على التكريس في أبعاد أخرى‪ ،‬وإ ّنما مكرّ سي النفس أيضا ً‪  .‬‬

‫في حالتي‪ ،‬بحثت في جميع أنحاء العالم‪ ،‬ولسنوات عديدة‪ ،‬عن شخص يمكن أن يعطيني التكريس الغنوصي الحقيقي‪.‬‬
‫في النھاية عثرت على ذلك الشخص الذي كان يعيش كل تلك السنوات في مكان يبعد عن بيتي أقل من مائة متر!‬
‫كنت قد بحثت في بلدان بعيدة عن ذلك الذي كان في متناول اليد‪ .‬عندما ذھبت وطرقت بابه قيل لي إنه كان قد غادر‬
‫ھذا العالم منذ وقت قصير‪ .‬كانت خيبة أملي كبيرة إلى درجة أنني فكرت أن الطريقة الوحيدة للحصول على التكريس‬
‫الغنوصي الحقيقي ھي البدء في تكريس نفسي أثناء النوم‪ ،‬وفي أبعاد أخرى من العالم المخلوق‪  .‬‬
‫واآلن سأروي بعض التجارب التي حدثت لي‪  :‬‬

‫ذات ليلة‪ ،‬حيث كنت أقرأ حينھا كتاب "الوجه األخضر"‪ ،‬للمؤلف غوستاف ميرينك‪ ،‬كررت عقليا ً عدة مرات قبل أن‬
‫أنام "أريد تحرير روحي"‪ ،‬وبعد ذلك غرقت في النوم‪ .‬كانت قد مضت نصف ساعة عندما أيقظني نور ساطع‪ .‬ظللت‬
‫مغلقا ً عينيّ ‪ ،‬ولكن باستطاعتي رؤية النور الساطع‪ .‬كان كل شيء من حولي نوراً‪ .‬فتحت عينيَّ ببطء‪ ،‬وأدركت أن‬
‫ھذا النور الشديد يمأل الغرفة بأكملھا‪ .‬اعتقدت أن شخصا ً ما دخل بيتي وأشعل األنوار‪ ،‬ولكن الحال لم يكن كذلك‪ ،‬فقد‬
‫كانت األنوار مطفأة؛ وكان ھذا نوراً مختلفا ً‪ ،‬نور غريب لم يسبق لي أن رأيت مثله من قبل‪ .‬ودون أن أتحرك‪،‬‬
‫نظرت في كافة أنحاء الغرفة ووجدت أن النور ينبعث من إحدى زوايا الغرفة‪ .‬شعاع من الضوء كان يتدفق من‬
‫الزاوية‪ ،‬وقد مأل الغرفة بالفعل‪ ،‬تدفق عليھا مثل ضباب مضيء اجتاح كل شيء‪ .‬وفي مواجھة ظواھر مثل ھذه‪،‬‬
‫يجب أن نحاول أال ّ نخاف ونتذكر أن الخوف ال وجود له بالنسبة للروح‪ .‬إن الروح ال تخشى شيئاً‪ ،‬ألنھا غير قابلة‬
‫للتدمير‪ ،‬وھي خالدة وأبدية‪  .‬‬

‫مت على أن‬‫عز ُ‬‫في ليلة أخرى‪ ،‬وبعد قراءة بضع صفحات من كتاب "نظرية الحياة األبدية" لمؤلفه رودني كولن‪َ ،‬‬
‫أكرر ذھنيا ً عبارة "أريد الحصول على تكريس الروح"‪ ..‬إلى أن غرقت في النوم‪ .‬بعد أربعين دقيقة‪ ،‬أيقظني الضوء‬
‫نفسه الذي كان من قبل‪ ،‬غير أنه اآلن كان ھناك أيضا ً شخصان في الغرفة‪ .‬ظللت مغمضا ً عينيَّ ‪ ،‬لكني "شعرت"‬
‫بوجود رجلين يقفان بجانب سريري‪ .‬فأخذت أفكر "كيف دخال إلى ھنا إذا كانت األبواب والنوافذ موصدة‪ ،‬وأنا‬
‫وحدي من لديه مفاتيح المنزل؟" كنت أخشى أن أفتح عينيَّ ‪ ،‬وأخاف من النظر إليھما‪ ،‬وأخشى أن يالحظا أنني‬
‫ُ‬
‫حافظت على عينيَّ‬ ‫استيقظت‪ .‬ثم سمعت صوتا ً غريبا ً وقويا ً‪" :‬أنت دعوتنا وھا نحن وصلنا‪ ،‬واآلن أنت خائف!"‬
‫مغمضتان‪ ،‬ولم أر ّد‪ .‬كنت أرغب بالھروب‪ ،‬لكنني كنت أخشى من أن يھاجمانني إذا حاولت‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬سمعت صوتا ً‬
‫يقول‪" :‬إنك لم تكن على استعداد تام"‪ ،‬ثم أردف قائالً‪" :‬ليس أمامك خيار آخر"‪ .‬وفي الحال أدخال في رأسي شيئا ً‬
‫يشبه اإلبرة‪ ،‬دون إعطائي الوقت لكي أرد أو أدافع عن نفسي‪ .‬شعرت أنھما كانا يحقنان دماغي بسائل ما‪ ،‬وذلك‬
‫باستخدام ما بدا لي أنه نوع من حقنة معدنية أو شيء من ھذا القبيل‪ .‬ثم غفوت‪ .‬منذ ذلك اليوم شعرت في داخلي‬
‫بمسافة ما تفصلني عن العالم‪ ،‬وكنت أعرف دون أدنى شك ما ھو الھدف بالضبط مما كرست له كل جھودي لبقية‬
‫حياتي‪ .‬باإلضافة إلى أنني الحظت اختفاء شكوكي وارتيابي حول المسار األكثر مباشرة نحو الروح‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫إن الخوف الموجود في اإلنسان ھو عالمة على أنه ال يزال محدداً بالعالم المخلوق وقوانينه‪ .‬إنه إشارة على أنه ال‬
‫يزال يحب المادة‪ ،‬ويحب جسده ونفسه‪ ،‬وال يريد أن يفقدھما‪ .‬لھذا السبب يجب أن يكون انفصاله تدريجيا ً عن كل‬
‫شيء مخلوق‪ .‬وكلما تق َّد َم بالروحانية كلما ق َّل خوفه‪ ،‬وفي الوقت ذاته‪ ،‬مثلما قلنا سابقاً‪ ،‬يزداد عداؤه تجاه العالم‬
‫النجس والزائل‪ ،‬وھذا ھو الدليل على أن الشخص أصبح قريبا ً من روحه‪  .‬‬

‫بعد سنوات‪ ،‬كانت لي تجربة مماثلة بعد التكرار العقلي قبل النوم‪ .‬فقد ظھر الضوء نفسه‪ ،‬وكذلك الرجلين نفسھما‪.‬‬
‫وھذه المرة قال الصوت‪" :‬اآلن ال يوجد أيّ خوف"‪ .‬ثم أدخل في رأسي أداة غريبة أرسلت شعاعا ً أشبه بالشعاع‬
‫الليزري‪ .‬ثم حفرت على رأسي بواسطة الشعاع رمزاً غريبا ً على شكل مع َّين‪ .‬بعد تلك التجربة الثانية‪ ،‬والتي كانت‬
‫أقل عدوانية من األولى‪ ،‬الحظت أنني أصبحت اقرب إلى روحي دون أن أنظر حولي أو إلى الوراء‪ .‬لقد بات‬
‫الطريق ممھداً بالكامل‪ ،‬وتحول إلى طريق مباشر‪ ،‬واآلن ما عليَّ سوى أن أسير عليه‪  .‬‬

‫التكريس الثالث يھدف إلى المساعدة على التحوّ ل النھائي وتسھيله‪ ،‬وھو الخالص الحقيقي‪  .‬‬

‫‪ .22‬التحرر الحقيقي للروح‬


‫مع ما قلناه حتى اآلن‪ ،‬بتنا في وضع يمكننا الرد فيه على األسئلة األساسية الثالثة التي نادراً ما يسأل المرء نفسه عنھا‬
‫في الحياة‪ .‬ھذه األسئلة الثالثة ھي‪ :‬من أنا؟ لماذا وجدت ھنا؟ ما الذي يجب أن أفعله في ھذه الحياة؟‬

‫من أنا؟ أنا الروح غير المخلوقة واألبدية‪،‬والتي قٌي ّدت في جس ِد ونف ٍ‬
‫س مخلوقين وزائلين‪ ،‬ومسجونة في العالم المادي‪.‬‬

‫وج ُ‬
‫دت ھنا؟‬ ‫لماذا ِ‬

‫إنني ھنا لكي أُستَخ َد َم كحيوان اختبار في تجربة مجنونة تصورھا إله أدنى منزلة‪ .‬ھذه الخطة تتطلب روحا ً خالدة لكي‬
‫تُس َجنَ من أجل استخدام قوتھا المضادة للمادة لفرض تطور ھذا المسخ البشري النجس الذي يسمى الجسد والنفس‪ .‬إن‬
‫ق من أجله‪ :‬التحول نحو‬‫قوة الروح ھي أمر أساسي كي يتمكن اإلنسان إلى درجة ما من تحقيق الھدف النھائي الذي ُخلِ َ‬
‫خالق الكون المادي‪ .‬ھذه الطاقة المضادة للمادة‪ ،‬القادرة في حد ذاتھا على أن تش ّك َل خطراً على كل الخلق‪ ،‬تم تعطيلھا‬
‫جزئيا ً وتقليص قدرتھا لكي تُستَخدَم بأمان‪ .‬لھذا السبب يجب تقييد الروح وتشويشھا‪ ،‬لكي تساھم فقط بجزء صغير‬
‫للغاية من إمكاناتھا في العمل الشرير لخالق الكون المادي‪.‬‬

‫ما الذي يجب أن أفعله في ھذه الحياة؟‬

‫يجب أن أستيقظ‪ .‬يجب أن أصبح مدركا لوضعي الحقيقي وأجد مخرجا ً‪ .‬بعدھا يجب أن أحرر نفسي وأھرب من ھذا‬
‫السجن‪.‬‬

‫واآلن بعد أن قمنا بالرد على األسئلة الثالثة‪ ،‬سوف نلقي نظرة على ما قاله غوستاف ميرينك بھذا الشأن‪ ،‬ذلك المكرﱠس‬
‫الغنوصي العظيم الذي عبر ھذه التجربة بنجاح‪:‬‬

‫يقدم لنا ميرينك في كتابه األكثر عمقا وروعة "الوجه األخضر"‪ ،‬مفتاح عملية تحرير الروح‪ :‬دعونا نستعرض ھذه‬
‫القضايا ھنا‪ ،‬ألنھا الجواب المثالي على السؤال الثالث الذي طرحناه بشأن ما يجب أن نفعله‪ .‬بعد ذلك سوف نضيف‬
‫العديد من النقاط األخرى‪.‬‬

‫يقول ميرينك‪" :‬الوالدة الثانية ھي والدة روحية"‪" ،‬الوالدة الثانية تكون عندما تحرر الروح نفسھا"‪" ،‬الوالدة الروحية‬
‫الثانية تقودنا إلى الحياة األبدية"‪ .‬يعطينا ميرينك تقنية ويوصي بممارسة يجب اعتمادھا‪" :‬يجب عليك أن تسأل الروح‪،‬‬
‫ألنھا الوحيدة التي يمكن أن تسمعك"‪" ،‬يجب أن تتحدث إليھا‪ ،‬ال تسأل سواھا"‪ .‬ھنا يقول ميرينك بطبيعة الحال أن ﷲ‬
‫الذي ال سبيل إلدراكه بعيد جداً عن الشخص العادي‪ ،‬وعن خالق الكون المادي‪ ،‬الذي ربما يتسمع له‪ ،‬لك القاضي الذي‬
‫لن يغير األحكام الكارمية ويوافق على طلب تافه لشخص تافه‪ .‬كل ما تبقى لنا ھو أن نسأل الروح‪ .‬أ ّما في حالة وجود‬
‫شخص استيقظ وحرر ذاته‪ ،‬فستكون األمور مختلفة؛ سيكون بالفعل قادراً على تغيير المشيئة والقوانين واألقدار‪ .‬ولكن‬
‫إذا أراد الشخص العادي أن يُستَ َمع له‪ ،‬فيجب عليه أن يخاطب روحه‪ .‬يقول ميرينك‪" :‬إذا كنت تريد أن تصلي‪ ،‬فص ﱢل‬
‫لذاتك غير المرئية‪ ،‬فھي اإلله الوحيد الذي يُصغي لصالتك"‪ .‬ويضيف أيضا ً‪" :‬إذا كنت ترغب في تسريع األمور‪،‬‬
‫فاطلب من روحك أن تقودك إلى الھدف العظيم عبر أقصر الطرق‪ ،‬وستفعل ذلك"‪ .‬لھذا‪ ،‬ولكي تتقدم نحو ھذا "الھدف‬
‫العظيم"‪ ،‬ليس عليك أن تنظر إلى الخلف‪ ،‬أو تتلفّت حولك أو تشتت انتباھك‪ .‬يجب أالّ تثني اھتمامك مغريات العالم‬
‫الكثيرة‪ .‬ويجب أن تبقي عينيك مثبتتان جيداً على ھذا الھدف العظيم‪.‬‬

‫لقد أعطانا ميرينك بعض األفكار الجيدة التي يمكن أن توضع موضع التنفيذ أثناء الليل‪ .‬حالما نكون في السرير‬
‫استعدادا للنوم‪ ،‬فيمكننا أن نكرر عقليا ً عبارات مشابھة لما يلي‪" :‬أريد أن أوحﱢ َد ذاتي معك أيتھا الروح الخالدة"‪" ،‬أريد‬
‫أن أستيقظ"‪" ،‬أرشديني إلى الھدف العظيم"‪ .‬وبدون أن نفشل‪ ،‬سوف نلحظ التغييرات في صباح اليوم التالي‪ .‬بيد أن‬
‫عدداً قليالً جداً من األشخاص يتحدثون لروحھم! ومع ذلك فمعظمھم ينامون كقطعة خشب ميته!‬
‫بالنسبة لميرينك‪" ،‬تحرير الروح ھو الشيء الوحيد المفيد الذي يمكن القيام به في الحياة‪ ،‬وھو المھمة الوحيدة التي كان‬
‫ينبغي القيام بھا‪ ،‬وما من شيء آخر يبرر ھدر الوقت عليه‪ ،‬فكل ما تبقى عديم الفائدة‪ ،‬وھو المھمة الوحيدة‪ ،‬بل األكثر‬
‫أھمية‪ ،‬والتي يمكن للمرء أن يكرس لھا حياته"‪.‬‬

‫عندما تتحرر الروح‪ ،‬فيتروحن جسد اإلنسان وتتروحن نفسه‪ .‬إذن ھذا ھو "الھدف العظيم" لميرينك‪ ،‬وھو أن الروح‬
‫تح ﱢول الجس َد وتحول طبيعته إلى طبيعة روحية‪.‬‬

‫ق جسد ونفس اإلنسان لغرض آخر‪ :‬وھو‬ ‫لو حدث ھذا‪ ،‬فسيكون شيئا مروّعا بالنسبة لخالق الكون المادي! ذلك أنه َخلَ َ‬
‫أن يكون شبيھا به ويتحول إليه‪ .‬أ ّما اآلن فينتھي األمر باإلنسان إلى أن يتحول إلى روح! ال يقتصر األمر على تحرير‬
‫السجين لنفسه‪ ،‬ولكنه عالوة على ذلك يستولي على قطعة من عمل خالق الكون المادي! لقد أوجد خالق الكون المادي‬
‫اإلنسان بحيث يتطور حتى يتحول إلى قناة إظھار لنفسه‪ ،‬ولخالقه! ثم فجأة يتحول اإلنسان إلى أداة إظھار للروح! وھا‬
‫يعجب به ويعبده‪ ،‬ولكن حدث‬‫ق اإلنسان لكي َ‬ ‫ھي الروح المحررة تقوم بانتزاع أھم أعماله و ُتفشِ ُل خططه‪ .‬لقد َخلَ َ‬
‫العكس‪ :‬فقد تم تحويل جسد ونفس اإلنسان بواسطة الروح إلى معارضين ُمر ّوعَين للخالق وعمله‪.‬‬

‫حدث له التحوّل يصبح مدركا ً لعبثية كل شيء‪ ،‬ويالحظ تدريجيا ً أن اآلخرين ليسوا‬‫َ‬ ‫يقول ميرينك إن الشخص الذي‬
‫أكثر من خياالت وأشباح‪ ،‬وإنه ھو نفسه كان دائما ً واحداً منھم أيضا ً‪ .‬فالشخص الذي يتحول بھذه الطريقة يشعر بعزلة‬
‫أبشع مما يمكن تصوره‪ ،‬لكنه شيئا ً فشيئا ً سوف يكيف نفسه على ھذه الحالة الجديدة‪ ،‬وسيتغلب على كل الصفات‬
‫الرديئة‪ ،‬وعلى العزلة شعر بھا في البداية‪ ،‬وسوف يصل إلى مملكة جديدة‪ :‬ھي اليقظة‪ .‬يقول ميرينك إن "اليقظة ھي‬
‫صحوة الذات الخالدة واألبدية "‪ .‬لقد استيقظ الشخص‪ ،‬واآلن ال يوجد نوم بالنسبة له‪ .‬إنه في حالة من اليقظة الدائمة‪،‬‬
‫مثل قابيل‪ ،‬الخالد‪.‬‬

‫ال يصبح خالداً وأبديا ً إالً الشخص الذي استيقظ وترو َحنَ ‪ ،‬ولن تكون البرااليا قادرة على تدميره‪ .‬غير أن كل ھذا ال‬
‫يحدث من تلقاء نفسه‪ .‬فھو ليس سوى احتمال بعيد‪ ،‬ذلك أن ھناك جھود قصوى يجب أن تُب َذل لتحقيق ذلك‪.‬‬

‫ثم يضيف ميرينك قائال إنه عندما تتحرر الروح‪ ،‬فيتحرر كل الخلق بعض الشيء‪ .‬عندما يتروحن الجسد والنفس‬
‫بواسطة الروح‪ ،‬فيتحول إلى درجة ما الخلق بأكمله‪ .‬نحن نقول إن العمل الغنوصي األسمى يؤثر على الكون‪.‬‬

‫يقول ميرينك‪" :‬إذا تح ﱠو َل شخص واحد بشكل عميق‪ ،‬فإن عمله لن يموت أبدا‪ ،‬ألنه سيفتح ثغرة لن تُغلَ َ‬
‫ق مرة أخرى‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن اآلخرين ال يدركون ذلك‪ ،‬فسوف يمزق الشباك التي تبقي البشرية سجينة‪.‬‬

‫ووفقا لميرينك‪ ،‬عندما تسيطر الروح‪ ،‬فإن الشخص الذي تحول بھذه الطريقة يمكن أن يعيش في أبعاد مختلفة في‬
‫ك في ھذه العوالم‪ ،‬فقد جعل نفسه ملكا ً على كل ھذا الخلق‪ ،‬ويستطيع نقل‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬ألنه غيﱠ َر الزمان والمكان‪ .‬إنه َملِ ٌ‬
‫نفسه من مكان إلى آخر‪ ،‬أو بمقدوره أن يكون في أماكن مختلفة في الوقت نفسه‪ .‬تلك ھي قوة الروح‪.‬‬

‫ھنا ينتھي استعراضنا ألفكار ميرينك الغنوصية الرئيسية‪.‬‬

‫اآلن سوف نلقي نظرة على ما تخبرنا به الغنوصية األصلية حول عملية تحرير الروح ھذه‪.‬‬

‫للبدء بھذه العملية‪ ،‬على المرء أن يختار واحدة من ذواته‪ ،‬وھي الذات األقوى‪ ،‬واألكثر تجانسا ً مع روحه‪ .‬أ ّما الذوات‬
‫األخرى فغير مھمة‪ ،‬ألن ذاتا ً واحدة فقط ھي المھمة‪ ،‬وھي ذات الروح‪ .‬ھناك العديد من الذوات في كل إنسان‪ ،‬لكن‬
‫ذاتا ً واحدة واحد فقط تتوافق مع الروح‪ .‬والباقي ذوات النفس‪ ،‬وھذه األخيرة تشجع اإلنسان على "حب ﷲ" "ومحبة‬
‫جاره"‪ ،‬و "تحويل الخد اآلخر"‪ ،‬و "مشاركة كل شيء مع اآلخرين"‪ ،‬و "التعاون في خلق ﷲ"‪ ،‬وما إلى ذلك‪ .‬غير أن‬
‫الحقيقة عكس ذلك؛ فذات الروح ھي أعظم خصم للخالق وخلقه‪ ،‬ومن الضروري التمييز بين الذات التي تتوافق مع‬
‫الروح‪ ،‬ومع ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه‪ ،‬من جھة‪ ،‬وغيرھا من األنفس‪ ،‬التي ھي الجيوش الحقيقية للشياطين‪ ،‬من جھة‬
‫أخرى‪.‬‬

‫يقول القديس توماس‪َ " :‬ميﱢز لكي تتحد"‪ ،‬أ ّما الغنوصي فيقول‪َ " :‬ميﱢز لكي تنفصل"‪َ .‬ميﱢز لكي تُ َميﱢز على نحو أفضل‬
‫وتضع كل شيء في مكانه‪ .‬تقبل الخير وارفض الشر‪ .‬تقبل ما يوقظك‪ ،‬ويحررك‪ ،‬وارفض ما يقيدك ويسجنك‪ .‬ميﱢز‬
‫لكي تقطع وتفصل بين جانبين ال يمكن التوفيق بينھا‪ ،‬وينخرطان في صراع داخل اإلنسان‪ .‬ميّز وافصل إلنھاء‬
‫التشوّش‪ ،‬ولكي تضع كل شيء في المكان الذي ينتمي إليه‪.‬‬

‫الروح في اإلنسان تمثل ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه‪ .‬أ ّما الجسد والنفس فيمثالن اإلله الخالق‪ .‬ھذا ھو ما ينبغي التمييز‬
‫بينھما‪ :‬الخير والشر داخل اإلنسان‪.‬‬

‫سبق أن قلنا إن اإلنسان أمامه مسارين‪ ،‬ويجب أن يختار أحدھما‪ :‬إ ّما مسار الروح‪ ،‬أو مسار النفس‪ .‬إ ّما تضخيم‬
‫النفس‪ ،‬أو التبرؤ منھا‪ .‬إ ّما أن تكون انعكاسا الذي ال سبيل إلدراكه‪ ،‬أو انعاسا ً لخالق الكون المادي‪.‬‬

‫من يختار مسار النفس‪ ،‬فسوف يذوب في خالق الكون المادي‪ .‬ومن يختار مسار الروح‪ ،‬فسوف يضطر إلى مواجھة‬
‫خالق الكون المادي وقتاله وجھا لوجه‪ ،‬وھو الطريق الوحيد لتحرير الروح‪.‬‬

‫في ھذه المعركة النھائية‪ ،‬فإن خالق الكون المادي سيكون القوة المذيبة الكبيرة‪ ،‬والتي تسمى أيضا كونداليني‪ ،‬وھي‬
‫خالق الكون المادي في اإلنسان‪ .‬إذا فشل المحارب‪ ،‬فلن تكون ھناك فرصة ثانية في ھذه المانفانتارا‪ .3‬ومن المحتمل‬
‫أن تتفكك ذاته إلى ألف قطعة‪ ،‬وسوف يموت المحارب أو يصاب بالجنون‪ .‬ھناك العديد من مثل ھذه الحاالت في‬
‫مستشفيات األمراض العقلية‪ :‬محاربون ضربتھم قوة الكونداليني لخالق الكون المادي‪ .‬وفي أفضل األحوال‪ ،‬سيتحول‬
‫إلى أحد عابدي الخالق الدائمين‪ ،‬أو إلى "سيﱢد" للمحفل األبيض‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬إذا كانت ذات الروح قوية بما فيه‬
‫الكفاية‪ ،‬فسوف تكون قادرة على ھزيمة كونداليني خالق الكون المادي‪ ،‬وتحرير الروح إلى األبد‪ .‬سوف يفقد المحارب‬
‫وعيه لفترة قصيرة‪ ،‬ثم يعود للحياة من جديد في وقت الحق كروح‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬سيكون المحارب قادراً على‬
‫اإلمساك بقوة الكونداليني واستخدامھا ضد خالق الكون المادي نفسه‪ .‬ستكون ھناك أيضا حاالت يكون فيھا المحارب‬
‫قد تشرب القوة الروحية إلى درجة أن قوة الكونداليني لخالق الكون المادي ترفض القتال ضده‪ .‬وإن المحارب‪ ،‬من‬
‫خالل وسائل مختلفة‪ ،‬يجعلھا تظھر وتقاتل‪ .‬في ھذه المعركة النھائية‪ ،‬الضرورية جدا والحاسمة‪ ،‬يمكن أن يخسر‬
‫المحارب كل شيء خالل فترة المانفانتارا تلك‪ ،‬أو يفوز بكل شيء إلى األبد‪ .‬فمن ھو المحارب الذي لن يكون متلھفا ً‬
‫للدخول في ھذه المعركة؟‬

‫إذا نجح المحارب‪ ،‬وإذا تمكن من بناء جسر للروح وتحريرھا من سجنھا في العالم المادي‪ ،‬وتحقيق الخالص الحقيقي‪،‬‬
‫فسيظھر مسارين أمامه مرة أخرى‪ .‬أ ّما وقد ھزم خالق الكون المادي‪ ،‬فقد يتسبب في إحداث اضطرابات في الكون‬
‫بر ّمته‪ ،‬ويجد نفسه مرة أخرى ممتلكا ً القوى الكامنة في الروح‪ ،‬المتفوّقة بال حدود على تلك التي يمتلكھا اإلله الخالق‪.‬‬
‫لكنه سيجد نفسه مرة أخرى مضطراً لالختيار بين مسارين‪.‬‬

‫واحد من ھذين المسارين ھو العودة إلى ملكوت ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه‪ ،‬والذي جاء منه‪ ،‬ولن يعود أبداً إلى جحيم‬
‫خالق الكون المادي‪ .‬وفي ھذه الحالة‪ ،‬سوف يعود إلى ما كان عليه قبل سجنه في العالم المادي‪.‬‬

‫أ ّما المسار اآلخر‪ ،‬وھو المسار الذي تختاره معظم األرواح المح ﱠر َرة‪ ،‬ھو البقاء في ھذا العالم للقتال من أجل تحرير‬
‫األرواح المأسورة األخرى‪.‬‬

‫‪                                                            ‬‬
‫‪ 3 ‬المانفانتارا‪ .‬تتكون المانفانتارا من واحد وسبعين جزءاً تدعى مھايوكا‪ ،‬ومدة كل مھايوكا ھي أربع ماليين وثالثمائة وعشرون ألف سنة‬
‫أرضية‪ .‬وھي تشكل العصور الكونية األربعة‪.‬‬
‫لذلك فإن المحارب الناجح‪ ،‬إ ّما أن يتخلى عن جسده ونفسه إلى األبد‪ ،‬ويعود إلى العالم الذي أتى منه‪ ،‬أو يقرر البقاء‬
‫ھنا‪ ،‬واالستمرار في القتال من أجل تحرير سجناء خالق الكون المادي‪ .‬فإذا قرر البقاء‪ ،‬فسيكون قد حول نفسه إلى‬
‫منقذ للبشرية والعالم‪ ،‬إلى ديفيا خالد وأبدي‪ ،‬إلى عضو جديد في األخوة السوداء لمحاربي الروح‪.‬‬

‫عندما تختار الروح المتحررة البقاء في جحيم خالق الكون المادي لمواصلة القتال‪ ،‬حتى تحرير آخر األرواح‬
‫المسجونة‪ ،‬فسوف تضطر إلى استخدام جسدھا ونفسھا كأدوات‪ .‬ولكن جسدھا القديم ونفسھا‪ ،‬التي أنشأھا خالق الكون‬
‫المادي‪ ،‬ليست مناسبة الحتواء الروح التي حطمت السالسل واستعادت قدراتھا‪ ،‬ألنھا ستنحل على الفور وتتفكك‪ .‬قبل‬
‫كل شيء‪ ،‬يجب أن تحول الروح جسدھا ونفسھا‪ ،‬اللذان ھما نجسان أصال‪ ،‬ومصنوعان من مادة خالق الكون المادي‬
‫الھالكة‪ .‬سيتم تحويل طبيعة الجسد والنفس إلى طبيعة إلھية وأبدية بواسطة الروح‪ :‬إلى فاجرا‪ 4‬غير قابل للتدمير‪.‬‬
‫وھكذا سيصبح الطين وأنفاس خالق الكون المادي نقية ومتألقة‪ .‬وسوف تشكل مع الروح إلى األبد كيانا واحدا فقط‪،‬‬
‫غير قابل للفصل أو االنحالل‪ .‬وبھذه الطريقة تكون الروح مشمولة بالفاجرا‪ ،‬وھي المادة اإللھية‪ ،‬والتي ستسمح لھا‬
‫بالعمل والسفر عبر الفضاء والزمن في مھد خالق الكون المادي‪ ،‬وفي الوقت نفسه تنتج ظواھر موازية ومستمرة‬
‫تقريبا ً‪ .‬إن لون الفاجرا الناتجة عن تحول المادة النجسة بواسطة الروح المحررة‪ ،‬ھو لون أحمر كالدم‪ ،‬وھي أقسى من‬
‫الماس‪ .‬كما أن الفاجرا أبدية و غير قابلة للتدمير‪ .‬ال يمكن تدميرھا من قبل خالق الكون المادي عندما تنتھي‬
‫المانفاتارا‪.‬‬

‫لقد استولت الروح المنتصرة على جزء من خلق الديموريج‪ ،‬وھو النفس والروح‪ ،‬وحولتھما إلى مادة إلھية بواسطة‬
‫قوة الروح! ليس لخالق الكون المادي سيطرة عليھا‪ .‬لقد تحول المخلوق إلى غير مخلوق من خالل قوة الروح! لقد‬
‫أنشأ خالق الكون المادي جسد ونفس اإلنسان الستخدامھما زنزانة لسجن الروح‪ ،‬ولكن من اآلن فصاعدا ستستخدمھما‬
‫الروح المتحررة كأدوات لمعارضة عمل خالق الكون المادي وخططه! لقد حان الوقت النتقام الروح‪.‬‬

‫قلنا إن الروح أصبحت كيانا ً إلھيا ً واحداً مع جسدھا ونفسھا‪ .‬اآلن ستكون دائما ً روحا ً ونفسا ً وجسداً‪ ،‬وإلى األبد‪ .‬وھذا‬
‫الكيان له الخصائص الفيزيائية نفسھا كالتي كانت للمحارب في وقت تحوله‪ .‬سواء كان شابا ً‪ ،‬أو عجوزا‪ ،‬أو أشقرا‪ ،‬أو‬
‫أسمرا‪ ،‬أي الخصائص الفيزيائية نفسھا التي كانت له وقت تحوله إلى مادة إلھية مصنوعة من فاجرا غير قابلة للتدمير‪.‬‬

‫في عملية التحرير ھذه‪ ،‬وانتصار الروح‪ ،‬يقال إن الجسد والنفس قد ماتا وتم بعثھما في وقت الحق‪ .‬لقد حفظتھما‬
‫الروح ودمجتھما مع نفسھا‪ .‬ھذه الروح‪ ،‬المغطاة اآلن بجسد ونفس الفاجرا‪ ،‬أصبحت مختلفة أيضا ً بالنسبة لألرواح‬
‫األخرى‪ .‬فھي لن تعود مرة أخرى كما كانت عليه عندما كانت مسجونة من قِبَ ِل خالق الكون المادي‪ :‬إنھا روح حرة‬
‫من المستوى الذي ال يمكن للبشر إدراكه‪ .‬لقد قررت البقاء في جحيم خالق الكون المادي واستثماره مع الفاجرا‬
‫الراسخة إلى األبد‪ .‬من اآلن فصاعداً‪ ،‬سوف تكون الفاجرا دائما ھي العالمة الفارقة والسمة المميزة للروح‪ ،‬والدليل‬
‫المثالي النتصارھا على خالق الكون المادي الشيطاني وعالمة مميزة على تحولھا إلى منقذ للبشرية والعالم‪ .‬الجسد‬
‫والنفس اصطبغا باأللوھة واندمجا مع الروح‪ ،‬ستكون الوسام الذي تتباھى به الروح إلى األبد كتذكار على مرورھا‬
‫المظفر عبر عالم المادة المخلوقة الفاسد‪.‬‬

‫ھناك نص غنوصي قديم في سفر التكوين قيل من وجھة نظر الثعبان لوسيفر‪ ،‬ذلك النص الذي اختفى منذ ألف‬
‫وستمائة سنة‪ ،‬وتم الكشف عنه بأعجوبة في القرن العشرين في نجع حمادي في مصر‪ .‬في ھذا النص‪ ،‬ما يسمى ب‬
‫"شھادة الحقيقة"‪ ،‬وفيه ذكر لتأثير الروح المحررة على مملكة خالق الكون المادي‪.‬‬

‫إن بعض نصوص نجع حمادي تحدثنا عن بعث الجسد بعد الموت‪ .‬ال يمكن أن تتوفر القيامة الحقيقية والخالص إالّ‬
‫للروح المحررة والمنتصرة‪ .‬وفي األسطورة المسيحية ھناك إشارات واضحة إلى عمل الروح‪ ،‬وإثبات األصل‬

‫‪                                                            ‬‬
‫‪ 4 ‬فاجرا‪ ،‬ھي كلمة سنسكريتية تعني الصاعقة والماس في آن معا ً‪ .‬باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬فھي سالح يستخدم كأداة طقوسية ترمز إلى كل من‬
‫خصائص الماس )غير القابل للتلف(‪ ،‬والصاعقة )التي ال تقاوم(‪ .‬المترجم‪ ،‬نقال عن )ويكيبيديا(‪.‬‬
‫الغنوصي لھذا الدين‪ .‬عندما قيل لنا إنھم ذھبوا للبحث عن جسد المسيح في القبر ولم يجدوه‪ ،‬فيقولون بوضوح إن‬
‫جسده كان من الفاجرا‪ ،‬وبأنه قد غادر مع الروح‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬كان ھذا الكالم يتعلق بالمنقذ الحقيقي لإلنسان والعالم‪.‬‬
‫وھذا أفضل دليل على ذلك؛ فإذا أردنا أن نعرف ما إذا كان مرشد البشرية رسوالً حقيقيا ً أو مخلصا ً‪ ،‬فإن أفضل شيء‬
‫يمكننا القيام به ھو أن نذھب ونبحث عن الجثة في القبر‪ .‬فإذا لم نتمكن من العثور عليھا‪ ،‬فذلك ألن الجسد كان من‬
‫الفاجرا‪ ،‬وقد غادر مع الروح متحداً معھا بالكامل‪.‬‬

‫عالوة على ذلك‪ ،‬لم تذكر المسيحية أن المسيح قد "اندمج مع ﷲ" أو "اتحد مع ﷲ"‪ .‬بل على العكس من ھذا‪ ،‬فكانت‬
‫تؤكد دائما ً بأن "المسيح مع جسده‪ ،‬يجلس على يمين ﷲ"‪ .‬عندما يقولون "مع جسده"‪ ،‬فيمكننا أن تضيف "من‬
‫الفاجرا"‪ .‬ھذه اإلشارات واضحة‪ :‬فالمسيح ھو كيان منفصل‪ ،‬وﷲ الذي يشيرون إليه ال يمكن أن يكون اإلله الخالق‪،‬‬
‫خالق الكون المادي‪.‬‬

‫إذا دخلت الروح المح ﱠر َرة والمظفرة المستوى الذي ال يمكن للبشر تصوره‪ ،‬فسوف تفعل دائما ً ھكذا بجسدھا الجديد‬
‫المكون من الفاجرا ذي اللون األحمر‪ ،‬والذي لن تكون الروح قادرة على فصل نفسھا عنه طوال حياتھا األبدية‪ .‬إن‬
‫الشخص الذي ولد من جديد بھذه الطريقة‪ :‬فقد "ولِ َد مرتين"‪ " ،‬دون أن يموت"‪ ،‬وھو شخص خالد وأبدي‪ .‬مثل ھذا‬
‫الشخص‪ ،‬الذي حرر نفسه من خالق الكون المادي ومن سلسلة التقمصات‪ ،‬والذي انفصل نھائيا ً عن كل شيء مخلوق‬
‫ھائل في الكون المخلوق‪ .‬عندما تح ﱢر ُر الروح نفسھا‪ ،‬فتتحرر قليالً كل‬
‫ٍ‬ ‫ونجس‪ ،‬سيتسبب دائما ً في إحداث اضطرا ٍ‬
‫ب‬
‫الخليقة‪ .‬عندما تتولى روح ما تحرير نفسھا‪ ،‬وتھزم خالق الكون المادي وجھا لوجه‪ ،‬فيخسر ھذا األخير الطاقة والقيود‬
‫التي تسجن األرواح األخرى ويصبح أضعف أيضا ً‪.‬‬

‫عندما تقرر الروح البقاء في جحيم خالق الكون المادي‪ ،‬فھذا يعني أنھا سوف تقاتل بال كلل حتى يتم تحرير جميع‬
‫األرواح‪ ،‬وستواصل قتال خالق الكون المادي‪ ،‬إلى أن يضعف‪ ،‬ويقضي على أنفاسه الضارة‪ :‬البراالياس و‬
‫المانفانتاراس‪ ،‬حتى ال يعود بمقدوره خلق أي شيء‪ ،‬وينتھي إلى الزوال‪ .‬وبھذه الطريقة‪ ،‬ستختفي كل ثنائية‪ ،‬ويعود‬
‫الكون إلى حالته األحادية فقط‪ :‬وھي المملكة الخالدة الحقيقي الذي ال يمكن إدراكه‪.‬‬

‫النھاية‬

‫‪ ‬‬

You might also like