Professional Documents
Culture Documents
إنھا المعرفة والحكمة األزلية التي طالما أشير إليھا بتعبير الغنوصية األساسية .غير أنھا تعني في األساس :المعرفة
األصلية .لكننا ال نشير إلى أيّة معرفة ھنا ،ذلك أن الغنوصية ھي معرفة خاصة جداً :تلك المعرفة التي تؤدي إلى
تحول كبير لدى أولئك الذين يحصلون عليھا .معرفة قادرة على إحداث ليس أقل من اليقظة والتحرر الروحي .غايتھا
تسليط الضوء على أوضاع البشرية والعمل على إيقاظ اإلنسان ،ومساعدته على الخالص من السجن الذي يجد نفسه
فيه .لھذا السبب تعرضت ھذه المعرفة دوما وبشكل متكرر للھجوم عبر مسار التاريخ ،ذلك أن ھذه المعرفة تشكل
خطراً على السلطات السياسية والدينية التي تحكم البشرية من خلف الكواليس ،ولھذا السبب أيضا ً بقيت ھذه المعرفة
دوما ً سرية .فالغنوصية ھي المعرفة السرية التي ال يمكن الوصول إليھا إالّ لمن يستحقھا .لقد حاولت ديانات مختلفة
عبر التاريخ أن تبقي اإلنسان جاھالً بھذه المعرفة ،بل بھذا النوع من المعرفة األصلية األولية األساسية والتي تسمى
الغنوصية ..واآلن سنعرف السبب.
ھذه المعرفة األصلية األزلية ھي معرفة نقية بالكامل ،كما أنھا ثابتة ال تتغير ،ولن تتغير طالما أن الوضع الروحي
لإلنسان وكل ما يسمى بـ "الخلق" و"الخليقة" و"العالم" لم يتغير بعد .لقد تم كشف ھذه المعرفة األصلية في مناسبات
عدة في الماضي بشكل علني ،غير أن كل ما تم كشفه لم يكن حقا ً الشكل النقي الخالص لھذه المعرفة ،بل الشكل الذي
تم اعتماده وتكييفه وتغييره بحيث يالئم الظروف التاريخية والثقافية للزمان والمكان اللذان وجدت فيھما .ومع ذلك ،لم
تسلم الغنوصية البدائية من وصفھا دائما ً بالزندقة من قبل كل نظام ديني وفلسفي بوجه عام ،فمنعت واضطھدت
ولوحقت ،وبذلك أر ِغ َمت على التخفي واالستتار لتصبح سرية.
عندما نتفحص بإمعان ھذه المعرفة المحرمة ،الممنوعة ،فيصبح باإلمكان استعادة األجزاء المبعثرة الالزمة إلعادة
تشكيل الصورة الكلية لتلك المعرفة األزلية.
ً
وإذا أمكن الكشف عن تلك المعرفة وتدوينھا ،فالنتيجة ستكون كتابا ذا تأثير قوي ومربك ،ذلك أن ھذه النصوص
ستكون األكثر خطورة في العالم ،فھي تملك القدرة على إيقاظ وتحرير أولئك الذين يقرأونھا ويدرسونھا .والحقيقة إن
مثل ھذا الكتاب سيكون شيئا ً غريبا ً في ھذا العالم المخلوق ،بل سوف يكون شيئا ً أصيالً لم يتم تلفيقه أو اختراعه ھنا
على ھذه األرض ،وإنما كتاب أتى من مكان آخر :من عالم آخر مختلف تماما ً عن ھذا العالم .ھذا الكتاب سيكون
أيضا ً قادراً على البقاء؛ فال النيران تقدر أن تلتھمه ،وال الزمن يمكن أن يبطله.
في ھذا الكتاب سأحاول أن أبقى قريبا ً قدر اإلمكان من تلك التي كانت ومازالت تشكل المعرفة األصلية ،أي المعرفة
الغنوصية في شكلھا النقي.
.2المادة َ
ش ٌّر
كل الديانات تتفق على أن "المادة شيء جيد" ،وأن "العالم جيد وخير أيضا ً" ،وأن ﷲ خالق كل شيء" .وأن "ﷲ
عادل ،وصالح ،وإنه خلق شيئا ً مفيدا لإلنسان" .لھذا يقول الكتاب المقدس" :وقال ﷲ ليكن نور ،فكان نور .ورأى ﷲ
النور أنه حسن" .لكن المعرفة األولية األزلية )والتي يمكننا من اآلن فصاعدا تسميتھا بالمعرفة الغنوصية ،وذلك
لتمييزھا عن غيرھا من الغنوصية المزيفة false gnosis التي ظھرت عبر التاريخ( ،تؤكد عكس ذلك :المادة شر
وغير نقية؛ المادة ھي سجن للروح ،وھذا العالم المادي ھو الجحيم بعينه.
إن المادة َشرٌّ ،فإذا كانت المادة شرّ اً ،فالبد أن يكون خالقھا بالضرورة ش ٌر أيضا ً .ھذا العالم المادي ،بالنسبة
للغنوصيين ،قد خلقه إله شيطان وليس إله خيّر .فالمادة شيء شيطاني ،وبالتالي فإن من خلقھا البد أن يكون ھو أيضا ً
كيان شيطاني .
شر
.3الزمن ٌّ
بالرغم من أن الكتاب المقدس ال يشير إلى ذلك ،إال ّ أن الزمن بدأ مع "االنفجار الكبير" .ففي بداية الخلق ،عندما قال
ﷲ "ليكن ھناك نور" ،لم يكن باإلمكان أن تقال ھذه الكلمات لو أن الزمن لم يكن موجوداً .فقد وُ ِج َد الزمن عندما خلق
اإلله الخالق النور .إن االنفجار الكبير األول ،مع ما تاله من تمدد ،لم يكن ليحصل بدون زمن ،ولذلك تم خلق الزمن
والمكان معا ً ،وبالتالي ال يمكن الفصل بينھما .إن الزمن ھو أنفاس اإلله الخالق ،وكل خليقته ،بما في ذلك تمدد
الكون ،وإن تطور الكائنات بكافة أنواعھا ،والتطور التدريجي لخططه ،ما كان ليحدث بدون زمن .لھذا فإن الزمن
مكون شيطانيّ بالنسبة للغنوصيين ،مثله مثل المادة تماما ً ،وشأنه شأن اإلله الخالقالذي ھو َن َفسُ اإلله الخالق ،ھو َّ
نفسه .
في القرون األولى من عصرنا ھذا ،نظرت العديد من الطوائف الغنوصية إلى اإلله الخالق على أنه ليس كائنا ً
صالحاً ،أو حتى مجرد كائن ،بل ككائن شيطاني .كما أن العديد من ھذه الطوائف ربطته بالشيطان .يروي غوستافو
أدولفو بيكيور في إحدى أعماله كيف خلق براھما العالم على شكل فقاعات ،وكيف اختبرھا .ففي بعض األحيان
كانت تنتج أشياء خيّرة ،وأحيانا شريرة .لذلك فإن اإلله الخالق ليس إلھا ً مثاليا ً تماما ً ،بل من الواضح أنه غير كفؤ
أبداً :فھناك عوالم تنقلب إلى عوالم سيئة ،فيتوجب عليه تدميرھا ،وھناك عوالم تصبح أفضل .ومن ھنا نرى أنه
يحاول ويجرّ ب ،ويخلق من خالل التجربة والخطأ .يقول الكتاب المقدّس " :قال ﷲ :ليكن ھناك نور ،فكان النور".
ورأى ﷲ النور أنه كان خيراً" .كيف ھذا! ألم يكن َيعلَم بذلك؟ ألم يكن َيعلم أنه كان شيئا جيداً؟ لھذا السبب يقول
الغنوصيون "نحن في حضرة خالق يجھل نتائج خلقه" .
وبالمثل ،فإن اإلله الخالق يؤ ّكد دائما ً إنه اإلله الوحيد .وھو ال يقول ھذا مرة واحدة ،بل نراه يكرر ذلك طوال الوقت،
فھو يقول باستمرار" :أنا ﷲ الوحيد"" ،وال إله آخر"" ،أنا ،إلھكم ،إنا اإلله الوحيد" ،الخ .ونحن نعلم جميعا ً أنه عندما
يقوم شخص بتكرار الشيء ذاته مرّ ات عديدة ،فذلك ألنه ليس متأ ّكداً مما يقول ،وھذا ھو السبب في تكراره لذلك
مرات كثيرة .أمّا تفسير الغنوصيين لذلك فھو أن الخالق يشتبه بوجود إله آخر أعلى منه ،نظراً ألنه ليس متأكداً مما
يقوله تماما ً .أمّا ﷲ الذي ال يحدّه شيء فھو أكثر تفوّ قا ً عليه ،وأعظم منه بكثير ،بل وأكثر أھمية ،وھذا ما يحاول
خالق الكون المادي إخفاءه من خالل تكراره على نحو متواصل قائالً" :أنا اإلله الوحيد"" ،وال يوجد إله آخر".
ھذا اإلله الخالق ،بال ريب ،ھو خالق العالم ،بل خالق كل العوالم ،والكواكب ،والكون ،والمادة ،والزمن .وھو
المسؤول ع ّما يسميّه الفيزيائيون اليوم :االنفجار الكبير .والحقيقة إن كل ما أشارت إليه الفيزياء الحديثة ،بأن كل
شيء بدأ بانفجار ضخم ،بومضة من الضوء ،ي ّتفق مع معظم األساطير في جميع األديان بشأن خلق العالم .فاإلله
األول خلق الضوء ،وبعدھا خلق أشياء أخرى متنوعة ،إلى أن تمكن من خلق الحيوانات ،وفي النھاية ،خلق اإلنسان.
كل ھذه األساطير الموجودة في الكتاب المقدس وفي الكتب الدينية األخرى تتفق مع استنتاجات علماء الفيزياء في
العصر الحديث ،ومع علماء األحياء بشأن خلق العالم واإلنسان .
وبالطبع فإن ھذا الخلق مليء باألخطاء ،وغير كامل .فإذا كان ھذا العالم ناقص ،وإذا كانت المادة ال تخلو من
العيوب ،أو إذا كان كل ما ھو موجود في الكون غير كامل ،فذلك ألن خالق كل ھذا ھو كائن غير كامل .
الغنوصي اليوم ،يقول على سبيل المثال " :لقد كانت الديناصورات فكرة غبية؛ كانت خطأ ،ولھذا كان على الخالق
إبادتھا والتخلّص منھا بالكامل ثم البدء من جديد بتجربة أخرى ،إلى أن استطاع أن يتدبّر شيئا ً كان راضيا ً عنه".
وبما أن اإلله الخالق لديه خطط ،فسوف نبحث فيما بعد حول ماذا تدور ھذه الخطط .
كما يؤ ّكد الفيزيائيون أيضا ً ،وألبرت أينشتاين واحد منھم ،بأن الكون ليس شيئا ً ال حدود له ،وإ ّنما ھو أشبه بفقاعة
تحوي كل الخلق .فالكون محدود مثلما زع َم أينشتاين .إذن ھذا الخلق محدود ،وھو يشبه فقاعة ضخمة تحتوي كل
ِث من قبل اإلله الخالق ،وال نعرف ما ھو موجود خارجھا .لكن الغنوصية تدعي أنھا تعرف ،مثلما سنرى شيء أحد َ
اآلن .
في الكتب المقدسة لمختلف الديانات ،والتي يقال إنھا مستوحاة من اإلله خالق الكون ،أوردنا حقائق وتفاصيل تبيّن أن
صوّ ُر أحيانا ً على أنه إله حاقد ،سيء
اإلله الخالق ھو كائن منقوص ،وليس سليما ً بكل معنى الكلمة .ھذا اإلله ّي َ
الطباع ،متعجرف ،وغير واثق ،ومتردد .إله يحب تقديم التضحيات باسمه ،ويحب اإلبادة الجماعية ،وھو الذي يأمر
الناس بقتل اآلخرين ،وانتزاع ممتلكاتھم ،وأرضھم ،وشعبھم ،وماشيتھم .يعطي األوامر ليس فقط لقتل أعدائه ،وإ ّنما
لقتل النساء واألطفال والحيوانات أيضا ً .إله يرتكب المجازر الجماعية .ھذا اإلله يطلب تقديم تضحيات باسمه ألنه
يحب رائحة اللحم المشوي للضحايا التي قدّمت لمذبح التضحية .إنه اإلله الذي س ّبب الطوفان الذي أغرق مئات
اآلالف من البشر! ھكذا ُذ ِكر في الكتاب المقدس وفي غيره من النصوص التي سبقته ،كالتي ُذكرت في الطوفان
البابلي على سبيل المثال .لقد تذوّ ق ھذا اإلله طعم ضحاياه من البشر ،والحيوانات ،وتذوّ ق َدماء أعدائه التي سالت.
إنه إله ُيحبُّ أن يكون ُم َق َّدراً ،وأن يُع َب َد ويُخدَ َم ،وأن ُيخشى ويطاع .يحب أن تبنى المعابد تكريما له ،ويحب الطقوس
والوصايا وتنفيذ أوامره ،وأن تر َسل األدعية له .إله يرغب برؤية جميع الكائنات الحية وھي تعاني من األلم ،ألنه
يحب التعذيب والمعاناة .يسميه الغنوصيين القدماء يلضباؤوث ،ويعني "ابن الفوضى" .وأحيانا كان يطلق عليه اسم
صاباؤت :أي "إله اإلجھاد" .كما كانوا يس ّمونه أيضا ً كوزموكريتور ،أو أركونت العظيم ،أي خالق ومنظم المادة.
غير أن االسم األكثر شيوعا ً الذي يطلقه الغنوصيين عليه ھو خالق الكون المادي ،demiurgeوتعني الخالق باللغة
اليونانية .
وبدون شك فإن ھذا "الكائن المتفوق" ال يمكن أن يكون جيداً ،فكان من الطبيعي أن يتعرض لالضطھاد على مر
التاريخ أولئك الذين أكدوا ذلك )ھذه األفكار التي أذكرھا( ،أو يدفعوا حياتھم ثمن تجرؤھم على قول ما كان بالنسبة
لھم حقيقة .فالكائن األعلى الذي يحب الحروب ،ذلك الكائن المبيد ،والذي يأمر بختان األوالد ،ال يمكن أن يكون إلھا
جيداً .لھذا السبب يشبھه الغنوصيون بالشيطان .كذلك اعتبروه خالق الشيطان.
ھذا العالم الذي أنشأه الخالق ال ينتمي إال له .كل األشياء المادية في ھذا العالم تستجيب له ،وتعبده ،وتكبّره .وبطبيعة
الحال فإن العقائد التي نحن بصددھا قد أدينت كي ُت َّ
ضط َھ ُد إلى األبد ،ولن يكون لھا ذلك التأثير القوي ،أو تحظى
بنجاح كبير .وال يمكن إال ّ لقلة من الشجعان دراسة وتفسير ھذه األفكار الغنوصية القديمة والخالدة ،أو الحفاظ عليھا،
وھم بال شك موجودين في أرض العدو .غير أن الغنوصية كانت دائما موجودة في ھذا العالم الغريب الذي ال تنتمي
إليه .وھذا الفكر الغنوصي ،خالفا ً لجميع األفكار التقليدية ،ھو األكثر اضطھادا واألكثر رفضا ً من قبل الجميع .فھناك
موضوعات "ال ينبغي" المساس بھا ،وأشياء "ال ينبغي" أن ُتقال ،وھناك كتب "يجب" تختفي ،ذلك أننا نعيش في
قول" :اثنين زائد اثنين يساوي أربعة" .
عالم حيث ال نملك سوى حرية ِ
والحقيقة إن ھذا العالم ھو األرض العدوة للغنوصي؛ فالغنوصي الذي سيكون قادراً على الظھور والتحدث ،سوف
يختفي بسرعة ،نظراً ألن الخليقة كلھا سوف تتحول ضده بشكل تلقائي .فإلى كم سنة مقبلة يمكن ليسوع المسيح التنبؤ
وفقا لألسطورة المسيحية؟ إنھا ثالثة سنوات فقط ،ولكن خالل ھذه السنوات الثالث تشكل دين ناجح بات معروفا ً اآلن
على األرض منذ 2000سنة خلت!
كنا نقول إنَّ ھذا العالم ھو األرض العدوة للغنوصي ،ألن ھذا العالم المادي برمّته ،وجميع الكائنات التي تعيش فيه،
مصنوع من المادة ،ومتحيز للمادة .عالم ينتمي للمادة ،ويدافع عن المادة وخالقھا ،وال يمكنه تخيّل أي شيء آخر.
وبالتالي فإن جميع المعارضين للعالم المادي وإلھه الخالق يشكلون خطراً عليه ،ويجب تدميرھم .لذلك ُي َ
نظ ُر إلى
الغنوصية على أنھا شيء مُروِّ ٌع ال يمكن تصوره ،ويجب القضاء عليھا .
صوَّ روا اإلله الخالق كشيء مروّ ع ،يتخذ شكل األخطبوط أو الزواحف ،وأحيانا برأس خنزير، أمّا الغنوصيون فقد َ
أو يتخذ شكل خنزير بري ،أو حمار .لھذا السبب تمنع بعض األديان أكل لحوم ھذه الحيوانات .كما صُوِّ َر أيضا على
شكل مخلوق شيطاني مكون من رأس ماعز وجسد امرأة ،ذلك الذي يعبده فرسان الھيكل وأتباع بعض المذاھب
الماسونية .كما أن بعض الغنوصيين صوّ روا اإلله الخالق أيضا ً على شكل خنزير برّ ي ضخم متعدد األعين ،نصف
نائم ،وھو ينفث الزمن ،ألن الزمن كما قلنا ،ھو َن َفسُ ھذا اإلله الخالق.
ال شك في أن ھذا العالم ليس عالما جيّداً؛ فالحيوانات يجب أن تمزق وتدمر بعضھا البعض لكي تأكل وتبقى على قيد
الحياة .والبشر يحتاجون لالحتيال على بعضھم البعض في جميع مراتب الحياة إلعالء شأنھم ،وألجل المنافسة
والحفاظ على حياة أفضل .الحيوانات العاشبة تحتاج إلى تدمير النباتات التي ھي أيضا ً كائنات حيّة .كل شيء يدمر
نفسه بصورة مستمرة ويدمر غيره ،ليأتي في النھاية من يسمي كل ھذا "كماالً" أو "توازنا ً مثاليا ً" .ذلك أمر ال
ُيص َّدق! إنه الجحيم .فھذا العالم ليست نظاما ً مثاليا ً أو حتى نظام جيد؛ إنه نظام ينبغي لكل شخص أن يدمر شيئا ً ما
آخر من أجل البقاء على قيد الحياة .ھذا النظام المخلوق ،وھذا العالم الذي خلقه "كائن متفوّ ق" ،اسمه :اإلله الخالق،
أو الديموريج ،demiurgeأي خالق الكون المادي .
رأينا بالفعل أن الغنوصيين يؤكدون أن خالق الكون المادي أو اإلله الخالق ھو كائن فاشل وجاھل إلى حد كبير ،وأنه
يجھل المآالت التي ستكون لدى كل مخلوق من مخلوقاته .إنه يجرّ ب ،ويتقدم في عمليات الخلق من خالل المحاولة
والخطأ .كما أجرينا أيضا ً مقارنة بين األساطير المتعلقة بخلق العالم ونظرية االنفجار الكبير للفيزياء الحديثة .ھناك
كتاب رائع كتبه أوسكار كيس ميرث ،يسمى "البداية كانت النھاية" ،وفيه يبين بوضوح التشابه بين موقف سفر
التكوين في الكتاب المقدس ،وبين موقف الفيزياء الحديثة ،وأن كال الموقفين منسجمين بشكل كامل .
يقول الغنوصيين على سبيل المثال إن ھذا اإلله ھو إله أنھكه التعب ،إله يحتاج ألن يستريح في اليوم السابع ،وإنه
بسبب ھذا ال يمكن أبداً أن يكون إلھا ً كامالً.
ثمة أم ٌر آخر مثير لالھتمام يتعلق باألساطير في مختلف األديان ،وھو أن الخالق ال يخلِق بمفرده ،فھو يقول:
"لنجعل" ،كما لو أن ھناك العديد من الخالقين يعملون معا ً" .دعونا نجعل كذا"" ،فلنجعل ذاك" .يقول الكتاب المقدس:
"لنجعل اإلنسان على صورتنا ،وعلى مثالنا" .لماذا ھذه الـ "نا" الدالة على الجماعة؟ من ھم اآلخرين؟ من ھو اإلله
اآلخر الذي يشاركه في عملية الخلق؟
يقول القديس أوغسطين في كتابه "حول الثالوث" ببراعة ومھارة ،وھو يقول ھذا لمرة واحدة وبشكل واضح للغاية:
"الخالق يقول "لنجعل" ،في صيغة الجمع ،ألنه يتحدث عن ثالثة أشخاص إلھيين :اآلب واالبن والروح القدس ،الذين
ھم ثالثة ،وكذلك شخص واحد في الوقت ذاته .لھذا السبب يتحدّث ﷲ في صيغة الجمع .أوغسطين ال يعود إلى ھذه
القضية أبدا ،فھو يحسم قضية كھذه لمرة واحدة ،وإلى األبد .
بالنسبة للغنوصية ،فإن خالق الكون المادي ليس وحده من يقوم بمھمة الخلق المادي ،وتشكيل عوالم مختلفة ،وإجراء
العمليات التطورية وخلق الكائنات والكينونات بمفرده .،ففي الھند ،على سبيل المثال ،يسمونھم ديفاس ،devas
ديفاس البنائين ،وھم المالئكة الذين يساعدون في الخلق .إنھم أقل درجة من اإلله الخالق ،لكنھم معه ،ويساعدونه ،فقد
أوكل اإلله الخالق العديد من المھام للمالئكة الخالقين .وھذا ما كان يعتقد أيضا ً في بابل القديمة وديانات الشرق في
العصور القديمة .ھناك عدد ال يحصى من المالئكة الخالقة يساعدون الخالق على تطوير خطته في العالم المادي ،أو
كما يقول الغنوصيون ،في العالم المادي الجھنمي ،الذي يخلقه ويعطيه شكالً .
اإلله الخالق وحده المسؤول ،لكنه يعتمد على جيش من المساعدين ،جيش من المالئكة البنائين -الشياطين الذين
يدعمونه في خلقه وينفذون أوامره .لھذا السبب يسمى الخالق إلوھيم في سفر التكوين .والقصة في الكتاب المقدس
تبدأ على النحو التالي ،Bereshit bará elohim :أي )"في البدء ُخلِ َقت اآللھة ،("...ألن إلوھيم في العبرية ھي
صيغة جمع تعني "آلھة" ،أو "أسياد" .أمّا الغنوصيون فيشيرون إلى أن ھؤالء اآللھة ھم خالقي الكون المادي ،وھم
المالئكة-الشياطين البنائين الموجودين بأعداد كبيرة ،وبالماليين ،ممن يساعدونه في مھمة الخلق .
حتى في النظم الفكرية التي تعارض الغنوصية ،تلك التي ترى في خلق العالم شيئا ً جيداً ،فإننا نسمع بذكر ھؤالء
المساعدين ،وبالتسلسالت الھرمية الخاصة بھم ،والتي تم تقسيمھا وفقا ً لوظائفھا .كما أن ھناك نصوص ثيوصوفية
حديثة ،من بينھا تلك التي لبالفاتسكي ،وبيلي ،حيث نستطيع من خاللھا معرفة المزيد عن أسمائھم ومھامھم.
فالوصي على األرض ،على سبيل المثال ،ھو سانات كومارا .Sanat Kumaraوبتبديل حرفين ،نحصل على اسمه
الحقيقي :الشيطان كومارا .Satan Kumaraذلك االسم الذي يصعب إخفاؤه ،نظراً ألن البشر البد وأنھم ال زالوا
يجھلون الحقيقة ،أو يجھلون المستقبل الذي يخبئه الخالق لھم ،لذا من األفضل أال ّ يكون اسم ھذه الشخصية معروفا ً
على نطاق واسع .أمّا في الوقت الحالي ،فال تزال البشرية غير مستعدة لسماع أن لكوكب األرض وصي ھو
الشيطان .satanوھذا الشيطان أدنى مرتبة من اآلخر ،أي الشيطان األكبر ،الشيطان الرئيسي األكثر أھمية في ھذا
النظام المادي المخلوق ،ھذا الكون المحدود والمليء بالعيوب والنواقص ،الذي تم ّكن من خلقه .ھؤالء الخالقين
الشيطانيين الذين يساعدون خالق الكون المادي ،تصوّ رھم األساطير الغنوصية على شكل وحوش .
كل األساطير الدينية تقريبا ً تروي أن اإلنسان "خلقه ﷲ من تراب األرض" .كما يقول الكتاب المقدس بوضوح:
"وجبل الرب اإلله آدم من تراب األرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة ،فصار آدم نفسا حية" .ومن ھنا القول بأن ﷲ
خلق جسد ونفس اإلنسان؛ أي جزء مادي ،وھو الجسد المصنوع من التراب ،وجزء روحاني ،نسميه الن ْفس ،وھو
َن َفسُ الخالق .اآلن ،لو كان اإلنسان مكوَّ نٌ من الجسد والنفس فقط ،فسيكون مثل أي حيوان آخر .ربما يكون أكثر
ذكاء من المخلوقات األخرى بعض الشيء ،لكنه في الداخل سيكون أشبه بالحيوان ،بقليل أو كثير .وفي وقت الحق
بعد ما يسمى بـ "السقوط" ،سنرى أن اإلنسان مثلما نعرفه اليوم ھو أكثر من جسد ونفس .وبالرغم من أن ﷲ خلق
الجسد والنفس ،إال ّ أن ھناك شيء آخر .ھناك روح غير مخلوقة ،أي أنھا ليست من خلق ﷲ ،وتلك الروح تم سجنھا
وتطويقھا داخل نفس اإلنسان .غير أن الكتاب المقدس ال يقول ذلك ،ألنه يتحدث عمّا َخلَ َقه ﷲ ،وﷲ َخلَ َق الجسد
والنفس .أمّا الغنوصيون فيؤكدون على أن اإلنسان لديه جسد ،ونفسٌ ،وروح .فمن أين أتت ھذه الروح وھي ليست
من صنع اإلله الخالق؟ لماذا وجدت في الجسد؟ ھذه ھي واحدة من القضايا المقبلة التي سنبحث فيھا .
اإلنسان في جنة عدن ،ھذا "الفردوس" الذي وضعه ﷲ فيه ،لم يكن يعرف من يكون ،وكان ينفذ األوامر وحسب.
فعلى سبيل المثال ،كان يسمّي الحيوانات ،لكونه على نحو ما مديراً ُم َكلَّفا ً ،أو ممثالً لإلله الخالق .ھناك ،في ذلك
"الفردوس" الذي أع ّده ﷲ له ،كان أشبه بالنائم ،فلم يكن يعرف حقيقته أو من أين جاء .ثم أصبح اإلنسان مدركا
لحقيقته ،فوجد ذاته ،فقط بعد حصول ما كان يسمى بـ "الخطيئة" ،والعصيان ،أي عندما أكل الفاكھة المحرمة ُ
وط ِردَ
من الجنة .وسوف نناقش ھذا أيضا ً في وقت الحق .
ٌ
خلق شيطاني ،وشرير ،وينبثق من خالق قلنا إن ﷲ خلق الجسد والنفس .وبالنسبة للغنوصيين ،فإن كل الخلق ھو
ً ّ
شيطان ،أي خالق الكون المادي الشيطاني .لذلك ليس الجسد فقط شيطاني ،وإنما نفسُ اإلنسان أيضا ھي شيء شرير
وشيطاني .
بالنسبة للغنوصيين ،ھناك إله آخر أسمى من اإلله الذي خلق العالم واإلنسان .فاإلله الخالق ليس ھو اإلله الوحيد؛
ھناك إله آخر أعلى منه ،إله مثالي متفوق بالمطلق .ھذا اإلله ،ال سبيل لمعرفته بالنسبة لإلنسان ،فھو خارج ھذا
الخلق الجھنمي والقذر .يستحيل على اإلنسان أن يجد ھذا اإلله عن طريق جسده ونفسه المنقوصين والمخلوقين على
تلك الحال ،وال يمكن أن يمتلك فكرة أو لمحة بسيطة من الحدس عما يكون ھذا اإلله الذي ھو خارج ھذا الكون
المحدود إال ّ اإلنسان الذي حرر ذاته بالكامل من ھذا الجسد .اإلغريق القدماء يُسمومه أغنوستوس ثيوس ،أي اإلله
المجھول .ھذا اإلله بالنسبة للغنوصيين ،ليس مجھوالً فحسب ،بل يستحيل معرفته ،وال سبيل إلى معرفته ،على
األقل بھذا النموذج العادي من وجوده في ھذا العالم .بواسطة الجسد والنفس ال يمكن أن نمتلك أدنى فكرة ع ّما ھو
ھذا اإلله ،الذي ھو خارج ھذا النظام برمته ،ومتفوق بشكل مطلق على اإلله الخالق .إنه إله يستحيل إدراكه بھذا
الجسد وھذه النفس ،اللذان أتيا من ھذا الكون المخلوق من المادة والزمن .
ھذا اإلله ال ينتمي إلى المستوى المادي ،وإ ّنما إلى مستوى المادة المضادة .إنه إله المادة المضادة ،ويمقت جحيم
المادة المخلوقة ،والذي ال يمكننا إدراكه ونحن في حالة وجودنا الحالي ،وال حتى تخيله .إنه لغز بالنسبة لنا .ھذا اإلله
الذي ال سبيل لمعرفته ھو بمثابة النار التي ال يمكن وصفھا وال تصورھا .إنه اإلله الحقيقي .
لكن ھذا اإلله الحقيقي ،ال يمكننا الوصول إليه عاد ًة ،وال يمكنه إظھار نفسه أو العمل في ھذا الكون الناقص والنجس،
وفي ھذه األبعاد الجھنمية للمادة والزمن المخلو َقين .ال يمكنه اختراق ھذه األبعاد إالّ في حاالت استثنائية ،ومن خالل
أح ِد رسله إلحداث تغيير صغير عموما ً ،وبتضحيات كبيرة ،وھذا ال يحدث إال ّ في حاالت نادرة جداً ،نظراً للظروف
الكائنة في ھذا الجحيم المادي .
تؤكد الغنوصية أن اإلنسان يتكون من ثالثة مواد ،أي من ثالثة عناصر ھي :الجسد ،والنفس والروح .وقد رأينا أن
س عن طريق بعث أنفاسه في أنف الجسد والنفس أوجدھما اإلله الخالق .إذ َخلَ َق الجسدَ من تراب األرض وأعطاهُ الن ْف َ
اإلنسان .فالجسد ،وكذلك النفس ،أنشأھما خالق الكون المادي ،أو اإلله الخالق .
غير أن ھناك عنصر آخر في اإلنسان ،وھذا العنصر لم يخلقه ﷲ .إنه عنصر من عالم آخر ،من مملكة أخرى ،من
مملكة المادة المضادة التي ال سبيل إلى معرفتھا ،والتي ال يمكننا حتى تخيلھا ونحن في حالتنا العادية .شرارة المادة
المضادة ھذه ،والتي بدونھا ما من كائن بشري يمكن أن يتطور ليصبح على ما ھو عليه اليوم ،ھي الروح .بدونھا ما
كان لكائن بشري أن يميّز نفسه عن الحيوان العادي .ھذه الشرارة الخاصة ،غير المخلوقة ،والمق ﱠد َسة ،القادمة من
مملكة ال سبيل إلى معرفتھا ،يطلق عليھا الغنوصيون تسمية الروح.
وفقا للغنوصية ،ھذه الروح التي ال تنتمي إلى ھذا العالم ،وقد تم إغوائھا وربطھا بالمادة الجھنمية من أجل االستفادة
منھا واستخدامھا كقوة دافعة للتطور المادي .لقد حوصرت الشرارة غير المخلوقة في كل إنسان من أجل إطالق ھذه
العملية التطورية التي تتجلى في خطط اإلله الخالق .فاألرواح القدسية ُتس َتخ َد ُم لتحسين التطور على مستوى ھذه
المادة النجسة .
ھذه الروح المشكلة بالكامل من المادة المضادة ،تمت محاصرتھا وتصفيدھا وسجنھا في ھذا الجحيم ،وھي تعاني من
العذاب الذي يستحيل علينا تخيّله .إنھا واحدة من أقسى أشكال التعذيب الموجودة ،كونھا مقيَّدة بھذا العالم البغيض
للمادة ،وبھذا المسخ المخلوق الذي نسميه جسد ونفس اإلنسان .لقد قيدت الروح رغما ً عنھا ،واستخدمت في كل
إنسان لدفع تطوره ،بحيث يستطيع اإلله الخالق تنفيذ خططه .إنه عذاب ال يطاق بالنسبة للروح :السجن رغم إرادتھا
في عالم نجس وغريب عنھا ،واستخدامھا ككائن في متناول اليد بحيث يمكن إنجاز خطة جنونية .وفي وقت الحق
سوف نتفحّ ص ھذا بمزيد من التفصيل .
بعبارة أخرى ،يمكننا القول إن الروح ،شرارة المادة المضادة غير المخلوقة ،والتي مصدرھا المملكة العصية على
المعرفة ،قد تم احتجازھا داخل فقاعة من مادة مخلوقة ،ثم قُيّدت وعُذبت داخل ھذه المادة .
يؤ ّكد الغنوصيين إنه لو لم يتم استخدام الروح ،لما توقف اإلنسان عن كونه أشبه بالقرد ،ولَما تطور إلى ما ھو عليه،
ويمكننا أن نرى كيف تطور بسرعة خالل بضعة آالف من السنين خالفا ً لماليين السنين التي عاشھا كائنا ً أكثر
تطوراً من القرد بقليل .
ھكذا توفر الروح القوة لھذا المسخ المخلوق المسمى الجسد والروح .وھذه الروح تم ربطھا بالنفس؛ فإذا مات
الشخص ،فإن النفس تترك الجسد وتأخذ معھا الروح التي ر ُِب َطت بھا .إن الروح ليست مربوطة بالجسد ،بل تتصل
نفس
بالجسد من خالل النفس المربوطة بھا ،النفسُ ھي نفخة اإلله الخالق على اإلنسان ،تلك النفخة التي حولته إلى " ٍ
س ھي الجانب الروحاني في الكائن البشري ،لكنھا ليست أسمى منزلة مثل الروح غير المخلوقة. حية" .إن الن ْف َ
ھناك الكثير من الخلط بشأن ھذه القضايا؛ لھذا السبب يبدو أننا خالل وصفنا ألفكار الغنوصية نعبر عن وجھة نظر
مختلفة بعض الشيء عن وجھات النظر المألوفة ،لذلك فإن كل شخص له الحق على األقل في أن يختار الشيء الذي
ھو في الواقع مختلف تماما ً عن باقي وجھات النظر .
إن الروح موجودة في ھذا العالم لكنھا ال تنتمي إليه .إنھا ال تنتمي إلى عالم المادة والزمن الوھمي .
يمكننا االستنتاج إنه إذا كان لشرارة نار المادة المضادة ھذه ،أي الروح ،أن تحرر نفسھا من السجن ،فيمكن أن يكون
سلوكھا في ھذا العالم عدوانيا ً للغاية :أوالً ،ألن المادة المضادة تمقت المادة .ثانيا ً ،ألنھا حوصرت بإتقان و ُ
ص ِّفدت
رغما ً عنھا آلالف السنين .من الطبيعي إذن ،على مستوى المنطق المجرد ،إذا أمكن لھذه الروح أن تحرر نفسھا،
الملوث ،العالم المخلوق ،أي
َّ فإن أول شيء يمكن أن تفعله سيكون التدمير :تدمير كل ما يحيط بھا في ھذا العالم
الكون المادي لإلله الخالق .ھذه الروح ليست كائنا شرّ يراً ،لكن ھذا السلوك سيكون سلوكا ً عاديا ً للشخص الذي
اح ُت ِج َز في السجن ظلما ً ورغم إرادته كما يقول الغنوصيون .لقد سجنت في عالم ال تنتمي له ،في العالم الشيطاني
للمادة والزمن .
ثمة حقيقة مثيرة لالھتمام ،وھي أن المسيحية في بدايتھا أيدت وجود ھذه الكيانات الثالثة في اإلنسان :الجسد والنفس
والروح .فالقديس بولس ،على سبيل المثال ،وقبله القديس أوغسطين أيضا ً أيدا ذلك .لكن كلمة الروح أزيلت في وقت
الحق خالل المجالس والقرارات الصادرة عن البابا والكنيسة الرومانية ،وبقي ما ھو معروف لنا اآلن :الجسد
والنفس .اآلن يبدو أن النفس ھي الشيء الوحيد اإللھي داخل اإلنسان ،وأنه ال يوجد شيء آخر .فماذا حدث للروح؟
لقد اختفت .ومن الملفت للنظر أن ذلك حدث بھذه الطريقة .وفي وقت الحق سوف نعود إلى ھذه المسألة.
ذكرنا إن اإلنسان يتكوّ ن من جسد ونفس وروح ،لھذا السبب لدينا ثالثة أنواع مختلفة من اإلنسان حسب الجانب الذي
يتأثر به من ھذه الجوانب الثالثة .ومنذ العصور القديمة صنفت الغنوصية اإلنسان على النحو التالي :من الناحية
الجسدية ،والنفسية ،والروحية .ھذه التصنيفات اس َتخ َدمھا كذلك القديس بطرس .الكاثار 1أيضاً ،على سبيل المثال،
قسّموا اإلنسان إلى ثالثة أصناف :األرضي إذا كان محكوما بالجسد؛ والصنف النفسي إذا كان تحت سيطرة النفس؛
والصنف الروحاني إذا كان محكوما للروح.
في واحدة من المؤلفات الغنوصية التي اكتشفت في نجع حمّادي ،المسمّاة بـ "المقالة الثالثية" ،نجد التقسيم نفسه
لإلنسان :مادي ،ونفسي ،وروحي .كما أن يوليوس إيفوال في كتابه عن يوغا التانترا التي ترتكز إلى التقاليد الھندية
القديمة ،يصنف الرجال إلى ثالثة أنواع ،وھذا التصنيف يحمل الخصائص نفسھا كما نرى ھنا :باسو ،فيرا وديفيا.
باسو تعني الحيوان ،وتشير إلى الرجل الحيوان الذي تھيمن عليه الغرائز .فيرا ھو المحارب الذي يسعى ألن
يستيقظ؛ إنه مشوّ ش إلى حد ما ،لكنه يقاتل لتحرير نفسه من ھذا العالم المادي ويرضي روحه .أخيرا ديفيا ،وھو
النوع الثالث من اإلنسان الذي تحررت روحه بالفعل ،وتقوم بتوجيھه بكل معنى الكلمة .فاإلنسان المثالي و ِجد في
ھذه المجموعة.
.10الشيطان ،الطاغية
لقد ضاع اإلنسان في حالته العادية في التشوّ ش والبالدة وعدم معرفة من يكون ،ومن أين أتى ،أو إلى أين يمضي .ال
يعرف ما يجب عليه فعله ،وھو في حالة من االرتباك ،كما لو أنه في حالة ضبابية أو نصف نائم .
عندما كنا نتحدث عن خالق العالم ،قلنا إن الخالق بالنسبة للغنوصيين ،أي خالق الكون المادي ،خالق المادة
واإلنسان ،يمكن تشبيه بالشيطان ،نظراً ألن المادة شيطانية ،وكل الخلق شيطاني ،والخالق ذاته كائن شيطاني .ھذا
الخالق قد ظلم اإلنسان؛ فمنذ أن َخلَ َق ُه ،أجبره على تنفيذ أوامره وطاعة وصاياه والخضوع لسيطرته .ھذا الخالق يريد
أن يطيعه اإلنسان ،ويكبّره ،ويخشاه ،ويعبده عن طريق التضحيات والطقوس .يريد أن يفرض قواعده المستبدة على
اإلنسان .يريد من اإلنسان أن يمتثل له ويتخلّى عن رغباته ،التي ھي غالبا ما تكون رغبات روحه ،ورغبات ذاته
الروحية ،التي يحملھا في داخله على الرغم من جھله بھا .إن الخالق ،وفقا للغنوصية ،لديه خطة لخليقته ،ولھذا
السبب خلق الكون ووضع اإلنسان فيه .لديه خطة يريد المضي فيھا قُ ُدما ً ،وھو بحاجة لإلنسان من أجل القيام بذلك.
ومع ذلك يحتاج ألن يتصرف اإلنسان وفقا ً ألوامره ،اي أوامر الخالق ،وليس وفقا لرغبات الروح .إن خالق الكون
ظھ َر نفسھا .يريد من اإلنسان أن يتصرف من خالل نفسه وليس المادي ال يسمح للروح المكبّلة في نفس اإلنسان أن ُت ِ
من خالل روحه .لھذا السبب كان من الضروري أن يقمع اإلنسان ويخيفه ويُقلِق ُه .إنه اإلله الذي يضطھد مخلوقاته
بكل معنى الكلمة.
1
الكاثار ھي حركة دينية لھا جذور غنوصية بدأت في منتصف القرن الثاني عشر .وقد اعتبرتھا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية آنذاك على أنھا طائفة
خارجة عن الدين المسيحي .كانت الكاثارية موجودة في معظم مناطق أوروبا الغربية ،وھي من أصل فرنسي جنوبي.
.11لوسيفر ،المحرر
تروي األساطير الغنوصية بأن لوسيفر ھو رسول ﷲ الذي ال سبيل إلى معرفته .ونحن قلنا إن ھذا اإلله ،اإلله
األعظم ،الذي ال يمكن بلوغه وال سبيل إلى معرفته ،غير قادر على اختراق ھذا الكون المحدود ذي المادة النجسة
والشيطانية .لكنه وفقا ً لھذه األساطير ،يستطيع إرسال شخص ،وھو لوسيفر ،ألنه ال يستطيع اختراق العالم الجھنمي
لھذا الكون إالّ من خالل تضحية عظيمة يقوم بھا كائن روحي مدھش ونقي ،من النار المضادة للمادة .لقد أرسل ﷲ
العظيم المجھول ،لوسيفر ،حسب األساطير الغنوصية ،وھو مالك من نور ونار يفوقان الوصف ،لكي ينير بصيرة
اإلنسان ويساعده على االستيقاظ ومعرفة أصله الحقيقي وأصل روحه المسجونة في ھذه المادة النجسة المسمّاة
الجسد والنفس .لوسيفر كائن غير مخلوق ،جاء إلى العالم المخلوق كي يجلب له النور :الغنوصية المحرِّ َرة ،أي
المعرفة المنقذة التي يمكنھا إيقاظ اإلنسان ،بل حتى مساعدته على تحرير روحه المسجونة .إنھا المعرفة التي تتيح له
أن يعرف من ھو حقا ،ولماذا ھو موجود في ھذا العالم وما يتعين عليه القيام به لتحرير نفسه وتحقيق روحه ،التي
تنتمي إلى مستوى آخر غير مخلوق ،وال سبيل لمعرفته.
قلنا إن لوسيفر جاء إلى العالم إلحداث يقظة لدى اإلنسان ومساعدته على تذ ّكر أصله اإللھي ،أي األصل اإللھي
لروحه ،ومساعدته على تحرير نفسه من الجسد والنفس اللذان حوصِ ر فيھما ،ومن المادة والزمن المخلو َقين .
يعتبر الغنوصيون أن أسطورة الخلق التوراتية يمكن تفسيرھا على النحو التالي :لقد أوقع الشيطان خالق العالم آدم
وحواء في شرك عالمه البائس ،أمّا لوسيفر ،الذي اتخذ شكل ثعبان ،فق َّدم لھم فاكھة المعرفة المنقذة المحرمة ،وبي ََّن
لھم أن الخالق احتال عليھم .بعبارة أخرى ،قال الخالق لإلنسان" :أمّا من شجرة معرفة الخير والشر فال تأكال ،ألنه
في اليوم الذي تأكالن منھا ،فموتا تموتان" .ولكن من جانب آخر قال الثعبان" :فلن تموتا بالتأكيد .ألن ﷲ يعلم إنه في
اليوم الذي تأكالن منھا ،س ُتف َت ُح بصيرتكما ،وسوف تكونان كا ،عارفين للخير والشر" .ويمضي الكتاب المقدس
قائالً ":ثم فتحت عينا كل منھما" ،ولم يقل "كالھما ماتا" ،بل يقول" :ثم فتحت عينا كل منھما" مثلما قال الثعبان.
ب الخالق؛ ذلك أنه وفيما بعد يقول الخالق" :واآلن أصبح اإلنسان واحد منا ،ألنه عرف الخير والشر" .إذن لقد َك َذ َ
قال إنَّ اإلنسان سوف يموت إذا أكل الفاكھة ،بيد أنه لم يمت .كان الثعبان يقول الحقيقة .بل إن الخالق نفسه انتھى
إلى الموافقة على أن الثعبان كان على حق .وبتعبير أدق ،ينعت الغنوصيون خالق الكون المادي بالكاذب ،وكذلك
بالمنتحِل .فبالنسبة لھم ،الخلق برمّته ھو محاولة فاشلة من قبل خالق الكون المادي لتقليد العالَم الذي ال سبيل
لمعرفته .وعلى ھذا النحو ،يعتقد الغنوصيون إن الكتاب المقدس نفسه ھو كتاب منتحل بالكامل ،وذلك استنادا
بالدرجة األولى إلى النصوص البابلية والنصوص المصرية التي سبقت الكتاب المقدس .
الغنوصيين يعتقدون أن ھذا الثعبان لوسيفر ،ھو محرر اإلنسان والعالم .إنه الحكمة؛ الغنوصية المحررة التي توقظ
اإلنسان من غفلته وتنقذه .إذن بطبيعة الحال ،فإن رسول ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته ،لوسيفر ،ھو خصم وعدو لخالق
العالم .
توضّح الغنوصية بأن الخالق يريد الحفاظ على اإلنسان أسيراً في ھذا الفضاء المحدود ،السفلي والنجس .بل يمنع
اإلنسان من االتصال مع العالم األسمى أيضا ً ،ممثالً في األسطورة التوراتية بالثمرة التي تأتي من شجرة معرفة
الخير والشر .لكن لوسيفر ،مالك النور ،قدم تضحيات كبيرة وھبط إلى ھذا الجحيم الشيطاني ليقدم الفاكھة الغنوصية
المحرمة لإلنسان ،ويفتح عينيه لكي يكون قادراً على تذكر أصله اإللھي ،وتفوقه على الخالق .الغنوصيون يعتبرون
أنه قبل وصول الثعبان إلى الجنة ،كان اإلنسان جاھالً ،وكان أعمى بشأن وضعه الصحيح .كما يؤكدون أن آدم
وحواء كانا في حالة من العبودية ،إلى أن فتح الثعبان لوسيفر أعينھم ،وأطعمھم فاكھة المعرفة التي جعلتھما يتذكران
مصدرھما اإللھي ،ويصبحا واعيين للوضع الذي وجدا نفسيھما فيه .
وبالطبع فقد طرد الخالق آدم وحواء من ھذه الجنة التي كان قد وضعھما فيھا نظراً ألنه كان يريد لھم )وما يزال( أن
يعكساه ويكونا صورة عنه ،وتنفيذ تعاليمه حتى يكونا مثله وليس مثل ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته .يريد للروح أن تبقى
نائمة حتى يتمكن من االستفادة من طاقتھا ،ومنعھا من إظھار نفسھا في اإلنسان والعالم .
لوسيفر ،محرر اإلنسان والعالم ،كان يسمى أيضا ً مالك الجحيم ،والمبيد .ولكن ...مبيد ماذا؟ مبيد المادة ،ألنه يمقت
عالم المادة والزمن المخلوقين .يتصرف كأنه قوة معادية مضادة للمادة ،وعدوانية للغاية ،ألنه يكره كل ما تم خلقه،
ويكره كذلك جسد ونفس اإلنسان ،ألنه ينتمي إلى المستوى غير المخلوق الذي ال سبيل لمعرفته .إنه مبيد ،لكنه مبيد
المادة ،مبيد النجاسة .ھذه ھي أسطورة لوسيفر الغنوصية .
اآلن يمكننا االنتقال إلى وصف الكيانات غير المخلوقة ،والموجودة في ھذا العالم المخلوق .
أوالً ،ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته ،والذي ھو ليس موجوداً في ھذا العالم ،لكنه يستطيع التسلل إليه بجزء صغير جداً
من ذاته ،أي الرسول .ھذا الرسول ھو أيضا ً غير مخلوق ،ولم يخلقه إله الكون المادي .
ثانيا ،إنّ أرواح البشر المسجونة ،والتي تنتمي أيضا ً إلى العالم الذي ال سبيل لمعرفته ،ھي أرواح سرمدية غير
مخلوقة .ووفقا ً للغنوصية فإن جميع الكائنات الحية لديھا عنصر روحي غير مخلوق مح َت َجز داخل نفوسھا :ھي
الروح .ھذه الروح المح َت َج َزة داخل اإلنسان ھي أرفع شأنا بكثير من أرواح الحيوانات والنباتات والكائنات الحية
األخرى .لھذا فالفرق شاسع جداً بين اإلنسان والكائنات الحية األخرى ،مثلما ھو الفرق شاسع أيضا ً بين األرواح
المسجونة داخلھا .إن أرواح البشر تقع في فئة روحية راقية .
ثالثا ً ،ھناك كينونة غير مخلوقة أخرى وُ ضِ عت على ھذا المستوى المخلوق ،ھي المعرفة الغنوصية اإللھية المنقِ َذة.
المعرفة التي تأتي من الخارج ،والتي لم تنشأ داخل ھذا العالم.
قلنا إنه وفقا للتفسير الغنوصي لسفر التكوين ،فإن اإلله الخالق َس َج َن آدم وحواء في عالم من البؤس وأعطاھما نفسا ً
خانعة .يقول الكتاب المقدس إنه بعد أن تناول آدم وحواء الفاكھة المحرمة ،تواريا عن األنظار خجالً من الخطأ الذي
اقترفاه .عندما وصل ﷲ إلى الجنة ،خاطب آدم بھذه الكلمات" :أين أنتما؟" -ويبدو أن ﷲ يتصرف مثل سيد يخاطب
عبده -وعندما لم يجدھما ،فكان البد أن يقول " :أين أنتما؟ أين تختبئان؟ ماذا فعلتما؟ لماذا ال تعمالن ھنا؟ "
ھذا اإلله الخالق الذي خلق آدم وحواء غير قادر على التمييز بين الخير والشر ،بين المملكة غير المخلوقة وبين
المخلوقة .فقد خلقھما جاھلين أيضا ً لمصدرھما ومصيرھما .
لماذا خلَ َقھما ھكذا؟ وفقا ً للغنوصية؛ الخالق ال يريد لإلنسان أن يعرف أصله الحقيقي .لقد تم خلق ھذا العالم ضد إرادة
ﷲ الذي ال سبيل إلى معرفته ،وھذا شيء ال يريد الخالق لإلنسان أن يعرفه .إنه ال يريد للبشر )وما زال( أن يعرفوا
الوضع الروحي الذي كانوا يعيشونه ،وأين كانوا ،أو لماذا ُخلِقوا .إنه يريد منھم أن يبقوا جاھلين ،وما زالوا كذلك
حتى يومنا ھذا .ذلك ھو السبب في أنه نھاھم عن األكل من شجرة المعرفة؛ ذلك أنھا سوف "تفتح أعينھم" ،وتوقظھم
وتجعلھم يالحظون أين كانوا ،ومن أين أتوا ،والوضع الذي كانوا فيه ،وما كان عليھم القيام به .وإن ذلك من شأنه أن
يجعلھم يدركون أن عدن لم تكن جنة ،وإ ّنما عكس ذلك تماما ً .
في كتابه "الماسونية" ،يصف األب ليون ميورين التفسيرات الغنوصسية للج َّنة األرضية والثعبان الغنوصي ،وتبرز
فيه األفكار التالية :الرب يھوه ال يريد لإلنسان أن يعرف أصله أو ق َد َرهُ العظيم .انه يمنع كل اتصال مع العالم
األسمى .يريد من اإلنسان أن يكون انعكاسا له ،أي الخالق ،وليس انعكاسا ً األسمى .
لكن اإلنسان استيقظ وأصبح مدركا ً للخير والشر .فكيف تمكن من ذلك؟ لقد أطعم ُه ثعبان اإلغراء في عدن من
الشجرة المحرمة التي فتحت عينيه .ھذا الثعبان ،وفقا للغنوصيين ،ھو لوسيفر ،رسول النور .إذن ھذا ھو معنى كلمة
لوسيفر :حامل النور .لقد اتخذ لوسيفر شكل ثعبان إليقاظ اإلنسان .إنه رسول ﷲ األعظم ،ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته.
إنه رسول ﷲ الحقيقي الذي جاء إلى ھذا العالم الناقص ،غير المؤھّل ،والبائس ،لكي يوقظ اإلنسان ويحرره ،ولكي
ُظھر له حقيقة وضعه وما يمكن أن يكون عليه مصيره العظيم .لھذا السبب ،فإن الذين يتبعون أوامر اإلله الخالق
ي ِ
يعتبرون الثعبان شيء خبيث وشيطاني ،وفي كل ھذه الفوضى شبّھوا الثعبان بالشيطان .
ولكن على الجانب اآلخر ،ينظر الغنوصيين للثعبان لوسيفر على أنه منقذ :شخص جاء إلنقاذ اإلنسان ،وھو رسول
ﷲ الحقيقي .ثعبان التنوير ھذا الذي جلب الغنوصية -الحقيقة الغنوصية التي تسمح للطبيعة األصيلة والحقيقية
لألشياء بأن تكون مرئيّة في ھذا العالم المليء بالفوضى -جاء لتحرير اإلنسان .لوسيفر ھو المحرر الحقيقي لإلنسان.
أتى لتحرير اإلنسان من طغيان يھوه ،من طغيان اإلله الخالق .لقد أحضر المعرفة الحقيقية التي في حد ذاتھا يمكن
أن تحرر اإلنسان وتساعده على الھروب من ھذا العالم الشيطاني والعودة إلى العالم الذي أتى منه .
ھذا الثعبان ھو ،بالنسبة للغنوصيين ،ثعبان الخالص ،الثعبان الذي فتح عيني اإلنسان ،والذي قدم له تفاحة اإلنعتاق
لتساعده على االستيقاظ وتحرير نفسه من عالم البؤس ھذا ،ومن المادة النجسة .
أراد الخالق خلق إنسان يشبه الكائنات الحية األخرى؛ غير قادر على التمييز بين الخير والشر ،لكن إجراءات الثعبان
أيقظته وحررته .وفقا للغنوصيين ،ھذه المعرفة ،ھذه الغنوصية التي جلبھا الثعبان لوسيفر لإلنسان ،تسببت بدون شك
في إحداث اضطراب كوني كبير في الخليقة .لھذا السبب ھي معرفة قوية .الغنوصية تسبب إحداث تغيرات داخل
أولئك الذين يحصلون عليھا ،وداخل الذين يصغون إليھا ،ألنھا ليست معرفة عامة أو شائعة ،وألنھا معرفة محرِّ رة .
ھناك كتاب ممتع كتبه ارنست بلوخ اسمه" :اإللحاد في المسيحية" ،والذي يقدم فيه تحليالت جيدة لھذا الجانب من
الفكر الغنوصي برمته ،الجانب المتعلق بثعبان التحرير باعتباره رسول ﷲ الحقيقي .
إن غنوصيوا األزمنة الالحقة ،في بداية المسيحية ،الذين باتوا ُيعرفون باسم الغنوصيين المسيحيين ،أو المسيحيين
الغنوصيين ،اعتبروا المسيح ثعبان سفر التكوين .كان ھذا ألن المسيح ،الذي جاء في وقت الحق بكثير من األحداث
التي حصلت في الجنة الدنيوية ،أتى حامالً رسالة محررة ،تماما مثل الثعبان :الرسالة التي تحرر اإلنسان من ھذا
العالم النجس .ھؤالء الغنوصيين المسيحيين يعتقدون أنھا كانت المعرفة التي أتاحت لإلنسان االتصال بالعالم اآلخر،
المعرفة المعارضة لخالق الكون المادي :عالم ﷲ الحقيقي الذي ال سبيل لمعرفته .
ھناك رسم غنوصي للثعبان الذي ُعلِّ َق على صليب ،األمر الذي يدل كذلك على التشابه الغنوصي بين ثعبان سفر
التكوين والمسيح .وثمة أساطير تقول إن الصليب الذي ُعلِّ َق المسيح عليه كان مصنوعا ً من خشب شجرة معرفة
الخير والشر .
تحول" قسطنطينكان قد مضى زمن عندما كتبت فيه كل ھذه المعرفة و ُنقِلِت .غير أن ھذه الفترة استمرت إلى أن " َّ
)إلى المسيحية( وتعززت الكنيسة الرومانية كدين رسمي لإلمبراطورية الرومانية .ومنذ ذلك الحين تم منع الكتب
واضطھدَ ت و ُدم ِِّرت .غير أن عدداً قليالً جداً من ھذه النصوص مازال موجوداً .
ِ والوثائق التي تتعلق بالغنوصية،
أوريجانوس ،على سبيل المثال ،وصف رسما ً تخطيطيا ً غنوصيا ً تستطيع أن ترى فيه بوضوح ثعبانا ً يقسم العالمين:
العالم المخلوق والعالم غير المخلوق .وعلى الرغم من أنه ال أحد يحب ھذه االزدواجية ،إالّ أن ھذه ھي الحقيقة،
ويجب أن يتم تقبّلھا .الغنوصيون يعرفون أن ھناك عالم آخر مثالي للغاية ،ال عالقة له بھذا العالَم .كان أوريجانوس
قادراً على الوصول إلى ھذه المخططات والكتب الغنوصية ،وإلى كل ھذه المعلومات ،من أجل انتقادھا في وقت
الحق ،مثلما فعل القديس أوغسطين ،وترتليان ،وھيبوليتوس ،وإيريناوس مدينة ليون ،وإبيفانيوس ،وغيرھم الكثير .
أمّا اآلن ،فإن معظم النصوص الغنوصية األصلية ُدمرت ولم تعد موجودة .لقد شوّ ه منتقدوا الغنوصية ھؤالء كافة
معلومات النصوص الغنوصية األصلية ،مع اقتطاع جمل من سياقھا لجعلھا تبدو سخيفة ،وھذه واحدة من بين
االستراتيجيات الماكرة األخرى .ولكن أ َّيا من ھذه األمور لم تعد مھمة اآلن .فالغنوصية األصلية حاضرة دائما ً ،رغم
أن ھناك العديد من الذين ال علم لھم بھا .لقد كانت الغنوصية دائما ً ھي نفسھا في مختلف الظروف التي ظھرت فيھا
للعلن ،على الرغم من وجود مفاھيم تاريخية وثقافية مختلفة .الغنوصية لم تختفي أبداً ،ولن تختفي على الرغم من
أنھا ممنوعة ومضط َھدَة .وسوف تبقى دائما ً في متناول أولئك الذين يستحقونھا .وكلما تعرّضت لالضطھاد أكثر،
كلما استجمعت قوتھا أكثر .
باإلضافة إلى كتاب بلوخ ،ھناك كتب أخرى مثيرة لالھتمام تصف ھذه الجوانب من الغنوصية القديمة التي تشير إلى
ثعبان عدن المخلّص .من إحدى ھذه الكتب ،“Adan, le dieu rouge” ،لروبرت أمبالين ،وكتاب آخر ھو "
"Gnostics and their Remainsلـ ،C. W. Kingوھذا األخير ُكتِ َ
ب في القرن التاسع عشر .
كما أن ھناك جزء مثير لالھتمام من معلومات تتعلق بثعبان سفر التكوين في كتاب "تفنيد جميع البدع" ،الذي كتبه
ھيبوليتوس ،المضطھد الكبير للغنوصيين .ففي ھذا الكتاب ،يعلق ھيبوليتوس على بعض كلمات سيلسوس وينتقدھا،
والتي ُتعتب ُر بالنسبة له كلمات مروعة .وھو يتحدث عن الجزء الذي يشير فيه سيلسوس إلى األحداث التي حصلت
وخر َب عمله ،كذلك ينبغي لكل إنسان
َّ في الفردوس الدنيوي حيث قال :مثلما لعن الخالق الثعبان عندما دمر خططه
أستيقظ أن يلعن الخالق .ومثلما لعن الخالق الثعبان المخلّص ،كذلك فإن الخالق نفسه سيتم لعنه من قبل كل روح
تحررت من براثنه طالما أنه موجود .لقد الحظ ھيبوليتوس المرعب ،أنه على الرغم من معرفته بأن الغنوصيين
ُي َشبّھون اإلله الخالق بالشيطان ،إال ّ أنه ما كان ليتخيّل أبداً أن يلعنوه أيضا ً .
والحقيقة إنه في العدد القليل من كتب الغنوصية التي تم إنقاذھا من النيران ،نرى أن اإلله الخالق يسمى أحيانا ً بـ
الشيطان .فالتقليد الغنوصي يشير إلى خالق الكون المادي على أنه "الشيطان ،خالق العالم واإلنسان" ،و "إبليس
وشياطينه ،خالقي العالم" ،وأشياء أخرى من ھذا القبيل.
ط ِردَ آدم وحواء من الجنة ،وكان لديھم أطفال.كلنا نعرف ما حدث بعد "سقوط" اإلنسان ،وفقا ً لسفر التكوين ،حيث ُ
أوالً قابيل ،ثم ھابيل .وجميعنا نعلم أن "ﷲ لم يتقبل األضحيات التي قدمھا قابيل له ،وإ ّنما تقبّل أضحيات ھابيل".
لذلك فإن قابيل ،الذي أكلته الغيرة ،رمى نفسه على أخيه وقتله .لقد اعتقدنا دائما ً ،والجميع يعرف ذلك" ،كيف كان
قابيل سيئا ً" ،و" كم كان أمراً فظيعا ً قتل ُ ُه ألخيه" .كان قابيل سيئا ً وھابيل جيداً؛ ذلك ھو التفسير الذي أعطي لنا في
اليھودية والمسيحية واإلسالم .حتى سانت أوغسطين في تفسيره ألسطورة قابيل وھابيل ،يشبّه قابيل باليھود ،وھابيل
بالمسيح .وھو يقول إن اليھود قتلوا المسيح بالطريقة نفسھا التي قتل فيھا قابيل ھابيل .ثم يتابع القديس أوغسطين،
مثل أي شخص آخر ،وفق التقليد المتعارف عليه ،في أن ھابيل كان جيداً ،بينما قابيل كان سيئا ً .
من الواضح جداً في الكتاب المقدس؛ أن ﷲ عاقب قابيل ونفاه .وھذا يعتبر شيئا ً منطقيا ً وطبيعيا ً :فقابيل سيء ،وھابيل
جيد .لكن التفسير الغنوصي مختلف تماما ً كما سنرى اآلن .
أوالً وقبل كل شيء ،تؤكد الغنوصية إن قابيل لم يكن ابن آدم ،وإن حواء حملت ابنھا األول قابيل من الثعبان،
لوسيفر ،الذي جعل حواء تحبل بأنفاسه .وبعبارة أخرى ،نرى أن قابيل مولود من الجسد ،لكنه لم يكن بشراً بالكامل.
فطبيعته الروحية كانت نبيلة ،ذلك أن والده كان لوسيفر ،تلك الروح القادمة من العالم المجھول.
من ناحية أخرى ،كان ھابيل ابن آدم وحواء ،أي بتعبير آخر :ھابيل ولد حقا ً من الجسد .
يمكننا اآلن أن نرى الفرق األول بين األخوين :قابيل متفوق على ھابيل .قابيل ھو ابن حواء ولوسيفر ،أول ثعبان
دخل جنة عدن .قابيل ھو ابن الروح والجسد .أمّا ھابيل ،فعلى العكس من ذلك ،ولد فقط من الجسد .لذلك يمكننا أن
نرى أوالً أن قابيل ليس شخصا ً شريراً ،لكنه في الواقع شخصا ً متفوقا ً ،ومھ ّما ً ،أكثر من ھابيل بكثير .
ثانيا ً ،قابيل قدم أضحيات لإلله الخالق بقدر ما قدم ھابيل إلرضائه ،وعرض عليه األشياء التي يحبھا .قابيل عرض
عرض الحيوانات ،كالخراف الصغيرة مثالً .ووفقا للكتاب المقدس فإن اإلله الخالق فضل َ الخضروات ،وھابيل
األخير :أي الدم المسفوح من الحيوانات النافقة ،ورائحة اللحم المشوي المنبعث من الجثة .يقول الكتاب المقدس إن
الخالق كان مسروراً من أضحيات ھابيل ،لكنه لم يكن مسروراً من أضحيات قابيل .ويبدو أن قابيل كانت له رغبة
قليلة في إرضاء الخالق ،نظراً ألنه لم يعرض سوى بضعة بذور ،وبقليل من الورع ،كما لو أنه لم يكن مقتنعا ً تماما ً
بجدوى تقديم األضحيات .إذن فمن الطبيعي أن يقبل الخالق أضحيات ھابيل ،وال يقبل تلك التي من قابيل .لم يرغب
قابيل بتقديم األضحيات للخالق بسبب جذوره ،فقد كان ابن لوسيفر ،وألنه امتلك في داخله الشرارة اإللھية من مالك
النور .وھذا ھو السبب في أنه لم يقدّم األضحيات المناسبة للخالق ،كما أن السبب في اشمئزازه من تقديمھا ھو أنه ال
ينتمي إلى ھذا العالم المخلوق .من ناحية أخرى ،ھابيل ،الذي لم تكن طبيعته من طبيعة الروح وإ ّنما من طبيعة
الحيوان ،قدم األضحيات المناسبة ،وتلك األضحيات كانت أكثر ما يسعد الخالق.
ثمة أسطورة قديمة تتعلق بما قاله ھابيل ألخيه قابيل في مناسبة معينة " :ﷲ قبل أضحيتي وقرباني ألنني أحبه ،أما
أضحيتك فقد رفضھا ألنك تكرھه" .اآلن من الواضح تماما ً أن قابيل يكره الخالق ألن األول مولود من الروح،
فطبيعته الحقيقية ھي طبيعة روحية! وبوضعھا بھذه الطريقة تصبح واضحة تماما ً .كل ھذه األساطير والخرافات
المحيطة بسفر التكوين تخبرنا بأشياء كثيرة ،ومن خاللھا ندرك أن الكثير من المعلومات تم تشويھھا وإخفاءھا عنا .
ھناك أشياء أخرى مثيرة لالھتمام مما قالھا قابيل ألخيه ،وھي جملة واحدة صغيرة تلخص موقفه .ھذه الكلمات تعتبر
مفتاحا ً" :ال يوجد قانون ،وال قاض" )الترجمة الفلسطينية .(8 :4 ،لقد رفض قابيل سلطة اإلله الخالق ،ورفض حقيقة
إجالله وطاعته .
في وقت الحق نرى أن قابيل قتل أخاه ھابيل ،وھذا شيء له مغزى عميق ،ألنه يدل على أن الروح ترفض وتدمر
وتقتل النفس .ھابيل ،الذي قُ ِّد َم في الكتاب المقدس على أنه الحب النقي والتفاني ،يمثل نفس اإلنسان وفقا للغنوصيين.
أمّا قابيل فعلى العكس من ذلك؛ فھو يمثل الروح ،وھو ما يفسر عداءه وكراھيته .إن العداء والكراھية ھما نموذج
الروح ،ألن الروح تمقت حقا ً ھذا العالم النجس ،والمليء بالقوانين غير العادلة والسخيفة .ھذا ما يفسر مقاومة قابيل
لتقديم األضحيات ،وعصيانه لوصايا الخالق .إن قابيل وھابيل متعارضان ومتضادان كما ھو الحال بين النفس
والروح .
النفس ھي حب نقي ،ولكن ليس حبا ً حقيقيا ً ،بل الحب المعروف للجميع .غير أن ذلك الذي نعتقد أنه حب ،والذي قيل
لنا إنه حب ،ھو في الواقع الفعلي كراھية .أمّا الروح فعكس ذلك؛ ولھذا ينظر إليھا على أنھا كراھية خالصة ،وعداوة
وانتقام .ذلك أن الشيء الوحيد الذي يمكن للروح أن تشعر به بسبب تقييدھا في ھذا الخلق الشيطاني ھو العداء
والكراھية ،تلك التي يعرفھا البشر العاديون على أنھا كراھية .بيد أن الروح التي ھي حب محض ،ال يمكن أن تشعر
إال ّ بالنفور واالشمئزاز تجاه ذلك الشيء الذي ھو في الواقع قمامة نقية .وھذا ھو السبب في أن الروح تريد تدمير
ھذا الخلق الشيطاني ،ألن الخلق بالنسبة لھا ھو مسخ مشوه ،وال ينبغي أبدا أن يأتي إلى حيز الوجود .ذلك ما يرمز
إليه قتل قابيل لھابيل .
قابيل ،من خالل تصرفاته ،تحرر تماما ً من الخالق ومن جسده وروحه .من خالل ھذه األعمال ضد اإلله الخالق
وضد أخيه غير الشقيق ھابيل ،تحرر مرة واحدة وإلى األبد من اإلله األدنى مرتبة ومن خلقه المتصدع والنجس.
بھذه األعمال قام بتحويل نفسه إلى خصم وعدو أبدي لخالق الكون المادي وما صنعه .
ھذه الحادثة برمتھا لقصة قابيل وھابيل مثلما وردت في سفر التكوين في الكتاب المقدس وفي األساطير ،كأسطورة
المدراش اليھودية وغيرھا ،فسرھا الغنوصيين بطريقة معاكسة تماما ً للنسخة المتفق عليھا عموما ً .
بعد ارتكاب قابيل لفعلته السامية ،يقول الكتاب المقدس إن قابيل حلّت عليه لعنه ﷲ و ُن ِف َي من ذلك المكان .إنه "ملعون
ومنفي" ،وھو المصير نفسه لثعبان الجنة .والحقيقة أنه كان شيئا ً منطقيا ً أن يحدث ھذا؛ ذلك أن قابيل حوّ ل نفسه إلى
خصم مطلق لإلله الخالق ،وفضال عن ذلك ،فقد حدثت أمور كثيرة أكثر إثارة لالھتمام ،وھي التي سنسلّط الضوء
عليھا ھنا :
أوالً وقبل كل شيء ،رأينا أن قابيل كان قد ل ُ ِع َن و ُنف َي من قبل اإلله الخالق .غير أن ھذا الذي يمكن أن يبدو عقابا ً ،ھو
عكس ذلك تماما ً بالنسبة للغنوصي؛ فأن تكون ملعونا ً ومنف ّيا ً من قبل الخالق ،لھو شرفً عظيم بالنسبة للغنوصي .إنه
رد فعل طبيعي من قِ َب ِل خالق الكون المادي الذي واجھه شخص وتحدت معه وصفعه على وجھه ،ھذا الخالق الذي
واجه شخصا ً جعل نفسه ِن ّداً له أو متفوّ قا ً عليه .فقابيل في المنفى ألنه حول نفسه بالكامل ،ونجح بنفي نفسه ،واآلن لم
يعد ينتمي إلى ھذا العالم ،رغم أنه استمر بالعيش فيه .يقول الكتاب المقدس إنَّ الخالق نفاه! لكن قابيل حر .لقد نال
حريته في الحياة ،ومن خالل تصرفاته لعن الخالق ونفى نفسه من ھذا الخلق البغيض .
ثانيا ً ،تروي العديد من األساطير اليھودية إن الخالق عاقب قابيل إلى األبد باألرق ،فحكم عليه بأالّ ينام مرة أخرى
أبداً ،أي بالسھر األبدي .لكن ھذا ليس عقابا ً بل انتصاراً بالنسبة للغنوصي .فالحكم عليه باليقظة األبدية ھو ميزة ،بل
فضيلة ،وھو إنجاز مھم .لقد أيقظ قابيل نفسه بعصيان وصايا الخالق و"قتل" نفسه .
ثالثا ً ،يقول الكتاب المقدس إنَّ الخالق حمى قابيل ،ولم يسمح ألحد بإيذائه أو بقتله ،وھذه حقيقة أخرى مثيرة لالھتمام.
يقول الغنوصيين إنَّ شخصا حول نفسه إلى روح نقية ،على الرغم من انه ال يزال يسكن في جسده المادي ،ھو
َ
تجاوز كل شيء، إنسان خالد ،ال ُيمّس .ال يمكن ألحد على اإلطالق إيذاءه أو مھاجمته اآلن ،وھو لم يعد يخاف ألنه
ولن يموت أبداً .إنه موجود في ھذا العالم ،لكنه خارج العالم أيضا .إنه خارج المادّة والزمن ،واآلن لم يعد يشكل
جزءا من الخلق .لقد نفى نفسه من ھذا العالم بإرادته .ال يمكن لإلله الخالق أن يؤذيه بعد اآلن ،ألن قابيل اآلن متفوق
عليه .
رابعا ً ،يقول الكتاب المقدس إنَّ الخالق وضع على قابيل عالمة مميزة ،كي يتسنى للجميع أن يتعرفوا عليه فال يؤذوه.
تقول بعض األساطير اليھودية القديمة إنَّ ھذه العالمة كانت قرنا ً على جبھته .ووجود قرن على الجبين يشير إلى
القوة؛ تلك القوة التي تأتي من الروح ،وھي القوة التي تميزه عن غيره من البشر .ھذا الشيء الصلب على جبھته
وروح َن ْت ُه .
َ يعني أن الروح قد حررت نفسھا وامتلكت الجسد ،وزادت من قُوَّ ِت ِه،
والحقيقة إنه ما من أحد وضع عالمة على قابيل ،وإ ّنما قابيل ھو الذي وضع العالمة بنفسه .وعندما يحدث ھذا ،فإن
جميع البشر يالحظونھا ،وكذلك الخليقة برمتھا .إن كل روح تحررت من سجن المادة سوف يكون لھا ھذه العالمة
إلى األبد ،ولن تعود الروح أبداً إلى ما كانت عليه من التقيّد بالمادة .تلك العالمة المميزة تعني أن الجسد َّ
تحول،
وأصبح صلبا ً كما األلماس .لقد حوّ لَت الروح الجسد وأصبح اآلن خالداً وأبديا ً .وسوف يكون ھذا داللته األبدية،
وبرھانا ً أزليا ً على مساره عبر الجحيم ،وانتصاره عليه .
بمقدورنا أن نجد عدة توليفات في التفسير الغنوصي ألسطورة قابيل في كتاب المونسنيور مورين حول الماسونية
الذي استشھدنا به في وقت سابق .كذلك في كتاب روبيرت إمبيالن " ،"Le dieu rougeوأيضا في كتاب "اإللحاد
في المسيحية" إلرنست بلوخ .وبالمثل ،ھناك أيضا ً العديد من الحقائق المثيرة لالھتمام في كتاب "األساطير العبرية"
للمؤّ لِ َفين :كرافز و باتاي .وھناك أيضا ً تفسير غنوصي عميق جداً لھذه األسطورة في رواية غريبة وجدتھا على
شبكة اإلنترنت اسمھا "" El Misterio de Belicena Villca
وفقا للغنوصيين فإن اإلله الخالق لديه العديد من الخطط ،والتي تشكل بمجموعھا "خطته الكبرى" .ذلك ھو السبب في
أنه خلق الكون واإلنسان .ولتحقيق أھدافه ،يمضي قُدما في تجربة تطورية يكون فيھا جسد ونفس وروح اإلنسان
ماض في التمرس ،والمحاولة ،فإذا نجح ،فسوف يوسع النتائج لتطال عالمه المخلوق بأكمله.أمّا إذا ٍ جزءا منھا .إنه
أخفق ،فسوف يتحتم عليه التخلص من ھذا المشروع والبدء من جديد من نقطة الصفر ،مثلما فعل ذلك مرات عديدة،
في المحاولة بشيء آخر مراراً وتكراراً .والحقيقة ھي أنه لن يتمكن من صنع نسخة مثالية أفضل مما كان يتصوره
بشأن العالم المجھول ،وھو ما يحاول تقليده عبثا ً .
ھذا الخالق بدون أدنى شك ،نجح في التجربة الماضية ،والتي على الرغم من أنھا تجربة ناقصة ،إالّ أنھا تتمتع
ببعض القيمة .فبعد ماليين السنين من الممارسة العقيمة ،حقق في غضون بضعة آالف من السنين خطوة بارزة في
تطوير أعظم أعماله :أال وھو اإلنسان .بعد ماليين السنين من تعليق التطور الذي عاش فيه سلف اإلنسان وكأنه
مجرد حيوان آخر ،إال ّ أنه تطور في الثالثين ألف سنة الماضية أكثر ممّا حصل خالل التاريخ بأكمله .أمّا
الغنوصيون فقد ربطوا ھذه الطفرة ،أي عملية "الخلق" ،وھذه القفزة التطورية الكبيرة ،باستخدامه ألرواح تتسم
بأعظم نقاء ،قادمة من العالم غير المخلوق .
لقد ش ّك َل اإلله الخالق جسداً من تراب األرض ،وبأنفاسه منحه عنصراً روحانيا ً ،ھو ال َّن ْفس .وأضاف إلى ھذه النفس
روحا ً ،تلك التي تم اإليقاع بھا عن طريق الخداع ،و ُس ِجنِت رغما عنھا في ھذا المِسخ الشيطاني من التراب وال َّن َفس:
ُ
كرھِت باستمرار لكي تدفع بتطور اإلنسان أي جسد ون ْفسُ اإلنسان .إنھا الطاقة اإللھية للروح المسجونة التي أ ِ
الحيوان قُ ُدما ً!
ولكن لماذا يريد الخالق لھذا الكائن أن يتطور؟ لكي يتحول تدريجيا ً نحوه .ھذا ھو السبب في تقديمه للوصايا
واألوامر .يريد من اإلنسان أن يتحول نحوه ،نحو الخالق ،ليصبح ھو والخالق واحد .سيكون الجسد والنفس سعداء
جداً إن حصل ھذا ألنھما جزء من اإلله الخالق .لكن الروح ليست جزءا منه ،ذلك أن لھا أصل آخر ومصير آخر .
طالما أن الروح مق َّيدَة ،فإن كل شيء سيكون على ما يرام ،ويمضي باإلكراه نحو التطور .والحقيقة أنه حتى لو
قامت روح واحدة بتحرير نفسھا ،فسوف تفسد الخطة بأكملھا .وھذا ھو السبب في أنه شيء في غاية األھمية أن
يكون استبداد خالق الكون المادي مطلقا ً ،وأن جميع المعارف التي يمكن أن توقظ اإلنسان وتجعله يتذكر من ھو في
الحقيقة ال تزال ممنوعة ألنھا ستكون معرفة خطيرة ،بل خطيرة للغاية ألنھا ستكون قادرة على زعزعة استقرار
خطة اإلله الخالق .ووفقا ً للغنوصية ،فإن روح واحدة فقط تتمكن من تحرير نفسھا ،ستكون قادرة على إضعاف
الخليقة بأكملھا ،وكذلك إضعاف اإلله الخالق ،ومنعه من االستمرار في خططه .ھذه الروح ستكون المنقذ ،منقذ العالم
واألرواح األخرى .ستكون في صالح تحرر ليس البشر فحسب ،وإ ّنما في صالح الكون برمّته ،وكذلك في صالح
الشرارات اإللھية التي ال حصر لھا ،تلك القادمة من العالم األبدي غير المخلوق ،والتي تجد نفسھا مسجونة ھنا في
ھذه اآللة العمياء الكبيرة ،كي تجعلھا تعمل وتتطور .
ھذا النظام ،الذي أنشأه خالق الكون المادي ،ال يمكن أن يعمل إال ّ إذا امتلك ھذه الجسيمات من العالم الروحي
المستعبدة والمسجونة ھنا .يقول الغنوصيون إن جميع ھذه الجسيمات الروحية ،تلك المسجونة في البشر ،ھي األكثر
أھمية ونقاء في التسلسل الھرمي الروحي .
وح َّث ُه على التطور ،بحيث يتطور نحوه جنبا ً إلى جنب مع تطور
لقد أنشأ خالق الكون المادي ور َّكب كل ھذا َ
اإلنسان .فإذا فشلت التجربة مع اإلنسان ،فسوف يبسط يديه على مخلوقاته األخرى ويحاول مرة أخرى .
قلنا إن خالق الكون المادي يريد من اإلنسان أن يتطور إلى أن يتحول إليه ويتحد معه ،بحيث أن كل نفس ،أو بعبارة
أخرى كل أنفاسه ،وكل كائن مصنوع من الغبار ،يمكن أن يعود إليه ،ويحوّ ل نفسه إليه .وھذا ھو الھدف النھائي
الذي يريده خالق الكون المادي لإلنسان .
بسبب ھذا كله ،يغدوا شيئا ً أساسيا ً بالنسبة لخالق الكون المادي أن يبقي على الروح مسجونة كي يتمكن من استخدام
طاقتھا .لھذا السبب يحتاج خالق الكون المادي ألن يبقى اإلنسان نصف نائم وم َش َّوش بحيث ال يكف عن التقرّ ب
األعمى منه ،من الخالق ،الذي احتال عليه باإلغراء والعقاب .لھذا السبب ،ولكي يعمل النظام بأكمله ،على اإلنسان
أن يحافظ على االعتقاد بأن الخالق ھو ﷲ الوحيد الموجود ،وبأنه إله طيِّب .
الغنوصيون يؤكدون على أنه إذا كان اإلنسان يتطور وصوالً إلى حد االندماج مع خالقه ،ففي تلك اللحظة سوف تفقد
روحه كل إمكانية لتحرير نفسھا ،في حين يستمر ھذا الكون .
من بين كل ھذه العملية التطورية التي اقترحھا اإلله الخالق وشجعھا ،ثمة مسألة في غاية األھمية وھي موت اإلنسان
وتقمّصه .عندما يموت إنسان ،فيموت الجسد المادي في تلك المرحلة ،وتنفصل النفس عن الجسد ،وتأخذ معھا الروح
ال ُم َكبَّلة ،ذلك ألن الروح ُم َكبَّلة بالنفس وليس بالجسد .فالروح متصلة بالجسد من خالل الن ْفس .
بعد الموت الجسدي تنسحب الن ْفس آخذة معھا ھذه الروح إلى مستويات أخرى ،وھناك تستمر بمعاقبتھا .وبالتالي فإن
ھذا العالم ھو الجحيم بالنسبة للغنوصيين؛ إنه متخم بالعقاب والمعاناة ،منذ الوالدة حتى الموت .لكن المعاناة تستمر
بعد الوفاة ،بل ما ھو أكثر من ذلك ،يمكن أن تصبح المعاناة أش ّد ،فال َّن ْفسُ ُتعا َقبُ عن كل التصرفات التي انغمست
ضربُ الن ْفس ،و ُتعا َقبُ ،و"تتط َّھر" مثلما يقول
فيھا على األرض حينما كانت في الجسد المادي .ثم تستمر المعاناة؛ ف ُت َ
البعض ،إلى أن يتم نقلھا إلى جسد جديد من أجل استمرار المعاناة .والحقيقة أنه ال يمكن ألحد أن ينجو من الجحيم،
وال حتى من خالل الموت ،فما إنْ تنفصل الن ْفس عن الجسد حتى تستمر في المعاناة ،وأحيانا أكثر من َقبل،
ويتواصل الضرب والعقاب.
بھذه الطريقة يتم تشكيل سلوك البشر من خالل الميتات والتقمّصات الالحقة .والحقيقة أنه يتم خداعھم عندما يقال لھم
إن ھذا العقاب ھو لمصلحتھم ،وإنھم من خالل ذلك سوف "يتحسنون" ،و"يتطورون"" ،ويصبحون أفضل"،
و"أنقى" ،و"أقدس" ،و"أكثر شبھا ً بخالقھم" .أي أكثر َش َبھا ً بخالقھم الشيطان .
لنسأل ھذا الخالق الشيطان ،الذي يسمى "القاضي الصالح" و "إله الحب" :لماذا يموت األطفال؟ اسأله أيضا ً لماذا
اخترع الكثير من الفيروسات واألمراض؟ سوف لن يُجيب ،ذلك ألنه فضالً عن كونه غير عادل ،ھو أيضا ً أص ُّم
وأعمى .إن الخالق يتغذى على فيض األلم والبكاء الصادر من اإلنسان .ھذا ما يؤكده الغنوصيون .
ي ّدعي خالق الكون المادي إن اإلنسان "يكتمل" تدريجيا ً عن طريق العقاب .وعبارة " ُي َك ّم ُل نفسه" تعني التش ُّب َه بخالق
الكون المادي أكثر وأكثر ،وسينتھي العقاب عندما يستسلم اإلنسان للخالق ،ويقبل بأن يكون مثله ،ويتبرَّ أ من روحه .
األمر األخير ھو ما يحدث عندما يقرر شخص ما أو مجتمع إقامة "ميثاق" أو تعھد دم مع خالق الكون المادي من
أجل الحد من المعاناة قليالً .في ھذه الحاالت ،يشارك الشخص أو مجموعة من األشخاص في ميثاق عھد للتبرّؤ من
الروح ،مقابل السلطة أو الثروات المادية .ھؤالء األشخاص يتخلّون عن كل شيء ،مقابل أشياء قليلة جداً .عليك أن
تكون مجنونا ً أو يائسا ً للغاية لتقطع عھداً أو تعقد اتفاقا ً مع خالق الكون المادي الشرير .لقد و َّقعوا على م َذ ّكرة موتھم
الروحي ،وسوف يتم فسخھا عندما يتالشى كل شيء تم خلقه .
ب حوله في جميع "الكتب المقدسة" التي ألھمھم إيّاھا .أن يحفظوھا في فماذا نفعل لنكون مثل الخالق؟ ھذا ما ُكتِ َ
داخلھم ھو كل ما ينبغي عليھم القيام به" :اعبد الخالق" ،و"أحب جارك"" ،وال تأكل كذا وكذا" ،و"حوِّ ل له الخد
اآلخر" ،وما إلى ذلك .ال يھم أن بعض المفاھيم األخالقية ال معنى لھا؛ بل يكفي إطاعتھا .
من الواضح جداً ما يجب على اإلنسان فعل ُه إلرضاء الخالق .النقطة المھمة ھي أن بعض األشياء يصعب القيام بھا،
ألن كل إنسان لديه روح مُك َّبلَة في داخله تصرخ لكي يعارض خالق الكون المادي وأال يطيعه .وبالطبع ،فإن بعض
األشخاص يصغون لصوت الروح أكثر من غيرھم .
لھذا السبب يوجد عقاب .ولھذا السبب يوجد موت وتقمّص متالحق ،كما أن بعض األشخاص يحتاجون للعقاب أكثر
من غيرھم ألجل تحطيمھم .
خالل المعاناة ،تأتي لحظة يتخلّى اإلنسان فيھا عن نفسه .يستسلم ويقبل بأن يكون مثل خالق المادة .إنه يفعل ذلك كي
ُظھ َر للخالق أن اقتناعه مطلَق ،وليس يتوقف التعذيب ،وليس ألي سبب آخر .فلكي يستسلم عليه أن ينبذ روحه لي ِ
ً
ُصغ إلى الصوت الداخلي ،ذلك مفتعال .وبذلك تبقى ذاته الروحية ملغاة تماما ً؛ وھذا ھو الموت الروحي .اآلن لن ي ِ
الصوت الذي ال يكاد يسمع ،والذي يصرخ به لكي يعارض ،وأال ّ يستسلم ،ويقاتل دائما ً لنيل حرّ يته .غير أن النفس
انتصرت؛ وانتصر خالق الكون المادي ،فھذا الشخص حول نفسه إلى "قديس" ،وإلى "مثال جدير باالقتداء".
وبالنسبة للخالق ،عندما يصل اإلنسان إلى نقطة حيث ال يعود يوجد في داخله أيّ انعكاس لروحه ،فسيكون ذلك سبب
ابتھاجه وسروره .اآلن ،أصبح ھناك فراغ داخل ھذا الشخص ،الفراغ الذي امتأل با فيما بعد .لقد حول ھذا اإلنسان
نفسه إلى "ممثل ﷲ على األرض" ،وإلى "إله حي" ،وذلك بالتماثل مع خالقه .ذلك ھو أحد أھم جوانب "الخطة
الكبرى" لإلله الخالق .وھذا ھو السبب في أنه خلق المادة والزمن والكون برمّته ،واإلنسان ،وسبب سجنه لألرواح
الخالدة .
ما إن يندمج اإلنسان مع ﷲ ،أو "يضيع نفسه في ﷲ" مثلما تقول بعض األديان ،حتى تكون الروح قد أنھت عملھا
ھنا .لكن خالق الكون المادي كي يبعد الروح عن التحرر ،فإنه يربط الروح مرة أخرى بنفس شخص آخر يكون عند
أدنى مستوى تطوري ،وذلك من أجل االستمرار في استغاللھا لتحقيق التطور ،وتحقيق الھدف من الخلق :وھو
اندماج اإلنسان بخالقه .
سوف تتحرر األرواح فقط عندما يقرر الخالق إنھاء خلقه ،وقد يحصل ذلك في غضون آالف الماليين من السنين.
ربما ُتحرِّ ُر بعض األرواح نفسھا مسبقا ً عبر وسائلھا الخاصة ،إال ّ أن ھذا األمر في غاية الصعوبة ،ذلك أن خالق
الكون المادي ،الذي يعلم أن ھروب حتى روح واحدة من سجنه سيكون كارثيا ً بالنسبة له ولخلقه ،لذلك اتخذ العديد
من االحتياطات الالزمة لتجنب حدوث ذلك .
أوالً وقبل كل شيء ،لكي تعمل ھذه الخطة ،فمن الضروري أن يبقى اإلنسان نائما ً .من الضروري منع أيّ ذات
روحية من التعبير عن نفسھا قائلة" :أنا ال أوافق"" ،ھذا ليس عالمي"" ،ھذه ليست حياتي"" ،ھذا ليس قدري"" ،ھذا
العالم ھو الجحيم" .
قلنا إنه ال أحد يستطيع الھرب من المعاناة .وال أحد يمكنه تج ّنب العقاب الذي و َ
ض َع الخالق الشيطان مخلوقاته فيه
حتى عن طريق االنتحار .إن األجساد والنفوس تنتمي إلى الخالق طوال حياتھا ،حتى بعد الموت .الحل الوحيد ھو
إلنسان ليس سوى نصف مستيقظ لكي ٍ من خالل تحرير الروح؛ وھذه ھي المھمة األكثر صعوبة وأھمية بالنسبة
يتمكن من القيام بھا .
كنا نقول إن الخالق يحتاج ألن يبقى اإلنسان نائما ً من أجل جعل خطته متماسكة ،وبالتالي البد من تدمير أيً شخص
أو أي كتاب يساعده على االستيقاظ وتحرير روحه ،وھذا ھو السبب في أن كل ھذه المعرفة ،ھذه الغنوصية ،قد تم
اضطھادھا أشد االضطھاد وإسكاتھا .
بالنسبة لخالق الكون المادي ،من الضروري أال ّ يستيقظ اإلنسان وذلك كي يتمكن من اقتياده ،كالسائر أثناء النوم،
وذلك من خالل تقمصات متوالية ،إلى أن يبلغ أعلى نقطة في التطور ،حيث يتعب فيھا من كثرة المعاناة ،فيوافق
على تسليم ذاته اإللھية ،وتسليم روحه الخالدة ،لكي يندمج مع الخالق .
لدى الغنوصيون إجابة على سؤال ما إذا كانت الخليقة أبدية ،أم أنھا ستزول ذات يوم :إن كل شيء مخلوق البد أن
يزول؛ فخالق الكون المادي يخلق الكون ،وبعد فترة يدمّره .يقول حاخامات اليھود" :الرب مبارك كما ھو ،يخلق
العوالم ويدمرھا" .وفي تعاليم الشانكارا نقرأ" :كما الفقاعات التي تصعد من الماء ،ينشأ العالم ،ويعيش ،ثم يذوب في
المولى العلي") .أتمابوذا .(8كما أن الھندوس يسمون ھذا العالم "أنفاس براھما" .وبراھما Brahmaھو اإلله
الخالق ،وھو اسم آخر للـ ،demiurgeأي خالق الكون المادي.
يبدأ اإلله الخالق بإحداث خلق جديد مع كل انفجار كوني كبير Big Bang؛ وھذا ھو الزفير ،زفير أنفاسه ،أي النفث
إلى الخارج .ثم يتوسع ھذا الخلق ،إلى أن يقرر وضع حد له ،وذلك بامتصاصه من جديد وإعادته إلى نقطة البداية،
وھذا ھو االستنشاق ،أي امتصاص َن َفسِ ِه .عندما يحين موعد نھاية الخلق وتحطيمه ،فيبدأ االنكفاء نحو الداخل ،ويبدأ
الزمن في العودة إلى الوراء حتى يختفي ،ثم تمضي فترة طويلة ال يخلق اإلله خاللھا أي شيء .ھذا الطور يسمّيه
ت كوني يتم استرجاع كل شيء مخلوق فيھا ،وينكمش إلى خلق تتبعھا فترة صم ٍ
الھنود "ليل براھما" .أي أنَّ كل فترة ٍ
أن يختفي .بعد أن يتم تدمير كل شيء ،وبعد أن يتقلّص وصوالً إلى العدم ،فيبدأ خلق جديد مع انفجار كوني آخر،
وھكذا دواليك .إنَّ كل محاولة لخالق الكون المادي يتبعھا بمحاولة أخرى ،ساعيا ً نحو الكمال الذي لن يناله أبدا.
في الھند ،يطلق على دورات الخلق اسم مانافنتاراس ،Manvantarasوعلى دورات التدمير اسم براالياس
.Pralayas
وھناك أغنية شائعة جداً في إسرائيل تدعى "أدون أوالم" ،أي )"سيد العالم"( ،حيث توجد فقرة فيھا تجعلنا نفكر في
فترة راحة الخالق بعد أن يد ِّمر صُن َع ُه .ھذه األغنية تمضي على النحو التالي" :بعد أن يزول كل شيء ،سوف يحكم
الواحد الرھيب لوحده" .وھي إشارة إلى فترة سكون الخالق عندما ال يبقى ھناك شيء مخلوق .
عندما يتبدد الخلق برمته ،يستمر غير المخلوق في الوجود كما ھو الحال دائما ً ،ألنه أبدي؛ ليس له بداية أو نھاية؛
فھو ينتمي إلى مستوى األبدية المجھولة .لن يتالشى في البرااليا إال ّ كل ما تم خلقه ،فوحدھا تلك األشياء المخلوقة
ھي التي يمكن تدميرھا .
الجدير بالقول إنه عندما يقرر خالق الكون المادي تدمير كل خليقته ،أي عندما تنتھي المانافنتارا ،manvantara
عندئذ فقط ،ستتحرر األرواح غير المخلوقة التي ظلت محتجزة في المادة ،بينما يتم تدمير كل مادة ،وكل األجساد
وكل األنفس .وحدھا األرواح غير المخلوقة ھي التي لن يطالھا ھذا الدمار ،وستعود إلى العالم الذي ال يمكن إدراكه،
التي جاءت منه .
الغنوصيين ال يريدون االنتظار آالف الماليين من السنين .بل يريدون تحرير أنفسھم اآلن ،في أقرب وقت ممكن .ال
يريدون تحرير أنفسھم فقط ،بل يريدون أيضا ً وضع حد لھذا النظام الشيطاني بر ّمته ،وألنفاس خالق الكون المادي
وخططه المجنونة ،ووضع حد لعذاب األرواح المسجونة ،وللخلق المتعاقب ،وللدمار والموت والتق ّمص ،وكل
شيء مخلوق ،وكل ما ھو نجس ،وكذلك خالق الكون المادي .
على مدى التاريخ ،تآمرت على األرض المؤسسات الدينية والسياسية لخالق الكون المادي بشكل متعمد للقضاء على
الغنوصية ،أو على األقل تشويه رؤيتھا أينما وردت .والحقيقة إن أ ّيا من النظم الفكرية التي يتم فيھا العثور على أيّ
أثر للغنوصية األصلية ،إمّا ُمنِ َعت ،أو أسيء تفسيرھا .وھذا يبين مدى خطورة المعرفة الغنوصية على خطط خالق
الكون المادي .لھذا كان إخفاء الحقيقة جزء من خطة مدبرة بحيث ال يتمكن اإلنسان من االستيقاظ ،ناھيك عن
ضلَّال ،ونصف نائم ،إلى درجة أنه لن يصل إلى إدراك حقيقته، التمرد .ھذا بشأن اإلنسان الذي يظل مشوَّ شا ً ،و ُم َ
والوضع الموجود فيه ،ذلك اإلنسان الذي لم يعرف حقيقة ما حدث ،وال واقعه الحالي ،وال ما سيكون عليه مستقبله.
إنھم يأملون في أال ّ يكتشف اإلنسان األجوبة الصحيحة لھذه األسئلة الثالثة األساسية :من أنا؟ لماذا أنا ھنا؟ ماذا
يُف َت َرض أن أفعل؟
ُ
اضط ِھ َدت وأخفيت ،فسوف تظل تكافح دائما ً لكي تتكشف .إن أسوأ شيء يمكن لكن الحقيقة لن تزول أبدا .وحتى لو
عمله للحقيقة ھو منعھا ،فما سينتج عن ذلك ھو األثر المعاكس :سوف تظھر بمزيد من القوة والعنف .
أوالً ،سيكون من الضروري القضاء على فكرة أن وراء خالق الكون المادي غير الكفؤ ،إله آخر موجود ،متفوق
عليه ومطلق الكمال .
من أجل إخفاء ھذا الجزء من الحقيقة الغنوصية ،تم اختراع فكرة أن اإلله الخالق وﷲ المجھول ھما الشيء نفسه،
وأنَّ كالھما يش ّكالن اإلله الوحيد الموجود :خالق الكون المادي ،خالق السماء واألرض .
في بداية المسيحية ،صرح المعلّم الغنوصي الكبير مارسيون بكل وضوح" :إنَّ إله العھد القديم ليس إله العھد الجديد.
إنھما إلھين مختلفين .األول ھو اإلله الذي يطبق القانون ويعاقب ،في حين أن اآلخر ھو إله الحب الذي يغفر دائما ً.
فاإللھان متناقضان
ما الذي يمكن القيام به لحجب ھذا الكالم؟ ذلك ما قاله أوريجانوس الذي جاء بالفكرة الالمعة التالية" :ليس ھناك
إلھين مختلفين ،ال وجود إلله عادل ،وآخر جيد .إنھما اإلله نفسه ،وھو عادل وجيد " .بھذه الطريقة أصبح خالق
الكون المادي جيداً وكامالً .
ثانيا ً ،ھكذا تم إزالة الفرق بين العالم المجھول والعالم المخلوق ،وبھذه الطريقة تم التخلص منه أيضا ً .إنَّ أي شخص
يشير إلى وجود مملكتين متناقضتين سيتم تصنيفه بازدراء على أنه "ازدواجي" ،كما لو أن وصْ فُ الواقع كما ھو،
أمر سيء .المتآمرون قلّصوا كل شيء إلى مملكة واحدة فقط :مملكة خالق الكون المادي .
ثالثا ً ،إذا كان خالق الكون المادي ھو إله جيد وكامل ،فمن الذي يمكننا لومه على اقتراف جميع األشياء السيئة
الموجودة في ھذا العالم؟ إذا كانت الصفات القدسية المجھول قد تم نقلھا إلى خالق الكون المادي ،فماذا عن
الصفات الديمورجية الشريرة والسخيفة ،واالنتحال والكذب؟
ھذا ھو سبب فكرة أن خالق الكون المادي ليس الشيطان ،وأن الشيطان ھو من اختراع شخص آخر .لقد أصبح خالق
الكون المادي جيداً ومثاليا ً ،وجُ رِّ د من مالمحه الشيطانية ،وأنَّ كل الشر يأتي اآلن من ھذا الشيطان الجديد الذي ھو
خارج عنه .لقد تم تحويل شر خالق الكون المادي ،إلى شيطان مختلف عن الخالق ،واآلن ھذا الشيطان الجديد ھو
الذي يحب الدم ،ورائحة اللحم المحترق ،واالستعباد ،والحروب ،والطقوس ،والتضحيات والمؤامرات واإلبادة
الجماعية .اآلن ھذا ھو الشيطان الجديد الذي يتمتع بحقيقة أن البشر ينحنون أمامه تعبداً ،ويبرمون معه عھود أو
مواثيق الدم ،مقابل السلطة أو الثراء الدنيوي .والحقيقة إنه من السھل اكتشاف أن كل الخصائص التي لدى الشيطان
اآلن قد تم تخليص اإلله الخالق منھا في الكتاب المقدس .
إذن ،ما أصبح لدينا ھو :ال وجود إلله ال سبيل إلدراكه ،وتم نقل صفاته إلى خالق الكون المادي ،ونقل سمات خالق
الكون المادي إلى الشيطان .اآلن ما الذي تحتاجه ھذه المؤامرة الكبيرة وھذا االحتيال الكبير؟ ما تحتاج إليه ھو
شخص يستطيع تحويل ھذا الشيطان إليه .يجب أن يكون شخصا ً نكرھه كثيراً ،وبالتالي فإن الشيطان ھو الشخصية
التي يمكننا تصورھا على أنھا الشخصية األكثر حقارة .
حدث أن قرر شخص ما الطريقة األنسب إلظھار حقيقة أن يكون َ رابعا ً ،ھكذا انبثقت الفكرة الالمعة لھذه المؤامرة:
ھذا الشيطان الشرير ما ھو إال ّ لوسيفر .بھذه الطريقة ،لم يتم فقط "تطھير" خالق الكون المادي من طبيعته
الشيطانية ،وإ ّنما أيضا ً تشويه شخصية لوسيفر تماما ً .فتحوَّ ل مالك النور الذي أرسله ﷲ المجھول إلنقاذ البشرية إلى
وحش تتمثل مھمته في الحفاظ على اإلنسان مستع َبداً .إنھا فكرة عظيمة من الممثلين الدنيويين لخالق الكون المادي
كي ينتقموا من لوسيفر في الوقت المناسب ،العدو األبدي للشيطان الحقيقي الذي ھو خالق الكون المادي .
فمن كيانين متعارضين ومتناقضين ،أي اإلله الخالق وﷲ المجھول ،تم تصوير األول :خالق الكون المادي على أنه
"جيد وفريد من نوعه" .ومن عالمين متعارضين لدودين ،تم تصوير أحدھما على أنه "جيد" :ذلك العالم الذي ينتمي
لخالق الكون المادي .اآلن ،العملية نفسھا حدثت مع كيانين متعارضين ولدودين ھما :لوسيفر والشيطان ،رسول ﷲ
الحقيقي والشيطان خالق المادة والزمن ،حيث تم تحويلھما إلى كيان واحد ھو" :لوسيفر الشيطاني" .تلك ھي
الطريقة التي يتآمر فيھا مشعوذي خالق الكون المادي ضد الحقيقة.
لقد ظل االعتقاد سائداً بأن لوسيفر وإبليس ھما شخص واحد ،أو ما يسمونه الشيطان ،إلى يومنا ھذا .ففي العھد
الجديد ،تم بالفعل اإلقرار رسميا ً بأن لوسيفر والشيطان ھما الشيء ذاته )لوقا X.18) (2 ،كورينثوس .(XI.14 ،حتى
في كتاب المونسنيور مورين ،والذي نقلنا عنه في وقت سابق ،نجد الخلط ذاته :حيث يسمي خالق الكون المادي
"يھوه لوسيفر" وليس "يھوه الشيطان" ،الذي كان بالنسبة له خلطا ً صحيحا ً .فإذا كان شخص مثل مورين ،وھو رجل
دين معروف جداً في العالم الكاثوليكي الروماني قد ارتكب ھذا الخطأ ،فما الذي يمكن أن نتوقعه من الشخص
العادي؟
خامسا ً ،ما الذي يمكن القيام به لتشويه الفكرة الغنوصية القائلة بأن ھذا العالم المخلوق ھو الجحيم ،وأن السماء ھي
مھد ﷲ الذي ال سبيل إلى معرفته؟ لقد ابتكر خيال المتآمرين الفكرة التالية :قرروا إن ھذا العالم ليس الجحيم ،وأن
الجحيم ھو في الخارج ،بعيد عن ھنا .كما أن الجحيم يمكن أن يكون مكانا ً لعقاب الذين يعصون خالق الكون المادي
أثناء حياتھم ھنا على األرض .ولكن ما خصائص ھذا الجحيم؟ حدث أن قرر شخص ما الخصائص النموذجية التي
تميز العالم المجھول ،والتي يمكن أن تخدم بشكل جيد للغاية كإطار لھذا الجحيم الجديد .إذا كان لوسيفر حامل النور،
والكائن الناري الممث ٌل بمشعل النار ،ھو الشيطان ،فيمكننا أن نقول بعد ذلك إن ھذا الجحيم سيكون مكانا ً ممتلئا ً
باللھب ،والذي يتم فيه حرق "اآلثمين" .
وبقدر ما تتعلق المسألة بالغنوصيين ،فإن المملكة التي ال سبيل إلدراكھا ھي بالتحديد النار المضادة للمادة ،والتي
تشمئز من ھذا الخلق النجس ،وتريد إبادته لو أمكنھا ذلك .ومع ذلك ،فإن النار ذاتھا بالنسبة للغنوصيين ھي شيء
جيد ومرغوب ،وليست شيئا ً شيطانيا ً .
أمّا النقطة السادسة فھي أن الروح واحدة من األشياء األخرى التي ُيعتبرون القضاء عليھا أمراً مھماً ،أو على األقل
تحويلھا إلى شيء غير قابل لإلدراك .إن ممثلي خالق الكون المادي على األرض ال يمكن أن يسمحوا بذلك ،ولكن
بعد كل ھذه المداواة ،مازال االعتقاد قائما ً بأن ھناك شيء غير مخلوق ،وإلھي داخل اإلنسان .لذلك وجب عليھم
التخلص من فكرة الروح أيضا ً .
لقد رأينا سابقا ً أن اإلنسان بالنسبة الغنوصيين يتألف من ثالثة كيانات :الجسد ،والن ْفس ،والروح .فالجسد والن ْفس
أوجدھما خالق الكون المادي ،في حين أن الروح التي تشكلت في المستوى غير المخلوق واألبدي ال تنتمي لفضاء
ھذا الخلق .إن النفس والروح ،الكيانان اللذان ال يمكن أن تراھما عين اإلنسان العادي ،ھما كيانين على طرفي نقيض
بكل معنى الكلمة ،بل كيانين عدوين لدودين .فالنفس أوجدھا خالق الكون المادي ،والتي تعطي الحياة للجسد ،ھي
الجانب الروحاني فيه ،وھي من يتوق إلى االتحاد مع الخالق واالندماج فيه .أمّا الروح ،سجينة ھذا العالم الغريب
الذي ال تنتمي له ،والذي ھو جحيم بالنسبة لھا ،فال تريد سوى تحرير نفسھا والعودة إلى العالم الذي يفوق إدراك
البشر ،والذي جاءت منه .فالجسد والنفس بالنسبة للروح ھما كيانين بغيضين مثل المادة والزمن .
أمّا بالنسبة لخالق الكون المادي وخلقه ،فمن الضروري ،بل من األساسي ،أن َ
تبق الروح مقيدَة بنفس اإلنسان .ذلك
أن خطته التطورية ال يمكن أن تعمل بدون األرواح التي تم ربطھا بالمادة .ومع ھذا فثمة أمر مھم ،وھو أن خالق
الكون المادي يريد أن يبقى ھذا األمر سراً ،إذ ال ينبغي لإلنسان أبدا أن يدرك أن ما في داخله ھو شرارة غير
مخلوقة سرقت من عالم آخر .
لذلك ،ومن أجل القضاء على فكرة الغنوصية حول الروح ،جاء وكالء خالق الكون المادي على األرض بھذه الفكرة
الماكرة :بإمكانھم جعل الكيانين المتعارضين والمتناقضين كيانا ً واحداً فقط .يمكنھم أخذ كل خصائص الكمال والنقاء
اإللھية من الروح .ويتركون فقط جانبھا غير المخلوق ،ألنه إذا اكتشف اإلنسان أن لديه شيء مخلوق في داخله
فسيبدأ في طرح األسئلة ،وھذا ليس جيداً .سوف ُتن َق ُل جميع فضائل الروح إلى النفس ،وبھذه الطريقة يمكن تحويلھا
من كيان شيطاني إلى كيان مثالي .وبذلك لن يعود ھناك المزيد من الكالم حول الروح غير المخلوقة .سيبقى ھناك
كيان واحد فقط داخل جسد اإلنسان ھو" :ال َّن ْفسُ اإللھية الكاملة التي خلقھا ﷲ".
قلنا إنه في بداية المسيحية ،كان أول الالھوتيين المسيحيين ،وھو سانت أوغسطين ،من بين الھوتيين آخرين ،يشير
دائما ً إلى جسد ونفس وروح اإلنسان .ولكن ،مع مرور الزمن ،بدأ يختفي ھذا الكالم .فقد تحولت الروح ،أوالً في
"الفكر" ،إلى كيان واحد مع النفس ،إلى أن أتى يوم مناسب تقرر فيه إزالة الروح تماما ً بوصفھا جزءا من الكائن
البشري ،تاركين خلفھم الجسد والروح فقط .فكانت المؤامرة ناجحة :إذ نسي اإلنسان كل شيء عن الروح .
وليس ھذا في المسيحية فقط ،بل في جميع أديان خالق الكون المادي )الديموريج( ،فالجسد والنفس ُي َ
نظ ُر إليھما على
أنھما الجزأين المكونين الوحيدين لإلنسان .
ولم يتمكنوا فقط من التخلص من فكرة وجود شيء غير مخلوق داخل اإلنسان ،بل تمكنوا أيضا ً من التخلص من
فكرة أن ھناك سجين مظلوم في داخله .فمن األفضل أال ّ يعرف أحد لماذا ُس ِج َنت الروح ،نظراً ألن البشر سيبدأون
في طرح األسئلة ،وربما يستيقظ بعضھم أيضا ً .لذلك من األفضل أن يبقوا عميانا ً ويناقشون قضايا أقل خطورة مثل
كرة القدم أو الجنس .
النقطة السابعة ھي أنه بغية تزييف التأكيد الغنوصي بأن ھذه الخليقة منقوصة ،ألن الخالق ھو كائن ناقص ،فكان
على المتآمرين شحذ ذكائھم الشيطاني أكثر من ذلك .فالنقص الموجود في كل شيء في ھذا العالم ھو شيء واضح
للغاية ،والمالحظ أن ذلك ال يمكن إنكاره ،وبغض النظر عن غباء البشرية الذي آلت إليه ،فإنھا لن نعترف بأن ھذا
العالم فردوسا ً .
إذن ما ھو الحل؟ كيف يمكن تبرير أن "خالق الكون المادي الكامل" قد أوجد مثل ھذا المسخ الرھيب؟ عالوة على
ذلك فإن الغنوصيون يعارضون ھذه الخليقة غير السليمة ،التي أنشأھا إله غشاش وغير ُكفء ضد مملكة اإلله
الحقيقي األبدية غير المخلوقة .ما الذي يمكن عمله للتخلص من ھذه األفكار الخطيرة؟ الحل الذي َخ َط َر في ذھن
المتآمرين والذي من شأنه محو فكرة وجود عالم غير مخلوق وكامل ،وفي الوقت نفسه تتراجع ھذه الشكوك بخالق
الكون المادي عديم الخبرة الذي خلق العالم .ھذا الحل سيكون مفيداً أيضا ً لتبرير ما ال يمكن إخفاؤه :النجاسة والنقص
الموجودان في العالم المخلوق .فما ھي الخدعة التي خططوا لھا ھذه المرة؟ سوف نبحث في ھذه المسألة اآلن.
ذكر المتآمرون أن كل المواصفات التي تمتاز بھا مملكة ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه تم نقلھا إلى خليقة الديموريج
)خالق الكون المادي( ،ومع ذلك ،لم ُتن َقل إلى ھذه الخليقة فحسب ،وإ ّنما نقِلَت إلى الخلق الذي سبقه أيضا ً .بالنسبة لِما
يسمى بخليقة الديموريج ،التي كانت بالفعل مثالية ونقية ..بعبارة أخرى ،فإن خالق الكون المادي ،الذي أصبح كامالً،
كان أيضا ً قادراً على خلق عالم مثالي ونقي .اآلن ،نجد أنه لم يعد ھناك مكان لإلله الذي يفوق إدراك البشر ومملكته،
تحول كل ھذا في حين أن خالق الكون المادي ،الديموريج ،بعد أن أصبح كامالً ،قام بإنجاز عمل مثالي .ولكن ،كيف َّ
الخلق المثالي إلى شيء ناقص كما ھو اليوم؟ ھنا يكمن تألق الرسل في الخداع :إنھا مسؤولية اإلنسان في أن الخليقة
أصبحت نجسة وناقصة .فالخالق ،الكائن المثاليّ ،قد خلق العالم مثاليا ً ،لكن اإلنسان قام بتخريبه .كان الجنة مثالية،
لكن اإلنسان والثعبان لوسيفر دمّرا ھذا الكمال" ،وسقطا" معه .
إذن ،لدينا خالق صالح وكامل ،ذلك الخالق الذي أنجز عمالً صالحا ً وكامالً .جميع خلقه ،المادة ،والزمن ،واإلنسان،
كلھا كانت سليمة .كانت الجنة مكانا ً مثاليا ً ،وكان اإلنسان يعيش فيھا سعيداً .غير أن كل ھذا سار بشكل خاطئ،
وتدھور بسبب عصيان اإلنسان .
إن القول في أن اإلنسان ھو المسؤول عن "الخطيئة األصلية" وعن "السقوط" ،كان أحد أسخف األفكار التي
تصورھا ضد الروح وضد اإلله الحقيقي .لقد تم تحميل اإلنسان المسؤولية عن عدم كفاءة الخالق وأوجه القصور في
عمله!
لقد رأينا بالفعل أن اإلنسان لم يكن أكثر من مجرد خادم جاھل في الجنة .لقد تجاھل كل ما يتعلق بنفسه وبخالقه،
ويبدو أنه ال يزال يقوم بھذا التجاھل .لم يكن يعلم أن ھناك أله آخر موجود ،متفوق بشكل كبيرعلى اإلله الخالق .لم
يكن يعرف أن وراء جسده وروحه ،ھناك روح مسجونة .إنه لن يعرف حتى يستيقظ ويكون قادراً على المتمرد .
بالنسبة للغنوصية" ،الخطيئة األصلية" الوحيدة الموجودة كانت تلك التي ارتكبھا خالق الكون المادي بربط األرواح
الخالدة مع النفس البشرية الفانية لإلنسان .يرى الغنوصيون أن "السقوط" الوحيد الذي حصل ،وساعد على حدوثه
خالق الكون المادي ،كان سقوط األرواح في عالم المادة الجھنمي.
لقد قمنا بمراجعة القضايا السبعة المخفية ،وتشويه الحقائق الذي ُن ِّف َذ بحق الغنوصية من قِ َب ِل ُخدّام الديموريج على
األرض .اآلن سوف نلقي نظرة على الوسائل التي استخدمھا ھؤالء المتآمرين لتحسين فرض ما لديھم من تحريفات .
والھدف من ذلك ھو التخلص من كل المعارف التي تشير إلى غير المخلوق ،وإلى صحوة اإلنسان ،وتحرير
األرواح ،والتمرد ضد خالق الكون المادي .ھذه المعرفة غير المخلوقة ھي الغنوصية ،والتي تشكل خطراً كبيراً على
الديكتاتورية العالمية الشيطانية .ينبغي إزالة المعرفة الغنوصية ألنھا تمثل أكبر تھديد لخالق الكون المادي وعمله .
شعارھم ھو :يجب تدمير كل ما يعارض النظام الذي أنشئ من قبل خالق الكون المادي ،أمّا تلك التي ال يمكن
القضاء عليھا فيجب تشويھھا وإفسادھا حتى يصبح التعرف عليھا غير ممكن .
ستالين ،وكيل خالق الكون المادي ،قال" :إذا كنت ال تستطيع خنق عدوك ،فاحتضنه" .ھكذا يفعل العمالء
اإلصالحيين التابعين لخالق الكون المادي ضد الغنوصية .إذا كان ھناك شيء ال يمكن منعه ،فيتم احتضانه،
واإلحاطة به من أجل خنقه وتحويله إلى شيء غير مؤ ٍذ .وليس غير مؤ ٍذ وحسب ،بل بھذه الطريقة يتم تحييد
المعرفة وتحويلھا ،وغالبا ً ما يتم وضعھا للعمل في خدمة خالق الكون المادي نفسه .ھذا ھو الحال مع األديان التي
كانت في البداية ثورية ومعارضة لخالق الكون المادي ،فوضعت في خدمته بعد أن تمت فلترتھا وتشويھھا ،كما
جرى تحويل كل دين من ھذه األديان إلى دين ديمورجي آخر .وھذا ھو الحال على سبيل المثال مع المسيحية
والبوذية والتانترية ،وغيرھا .لقد تم تحويلھا إلى أديان تعارض تماما ً تلك التي نشأت في البداية.
األمر يتعلق بالسعي لضمان أال ّ تبقى أي معرفة خارج سيطرة ديكتاتورية خالق الكون المادي ،والتأكد من عدم
وجود أي عنصر قادم من العالم غير المخلوق يمكن أن يشكل خطراً على عمل الخالق أو خططه .
ثمة شيء ما زال يحدث ھو حرق الكتب الخطيرة .بالطبع يتم ذلك بسرية في ھذه األيام .لقد تغير الزمن ،وباتت
الديكتاتوريات "الديمقراطية" الحديثة تلجأ إلى تدمير الكتب خلسة .
في وقتنا الحاضر ال يتم حرق الكتب في األماكن العامة ،وإ ّنما يتم شراؤھا بشكل فردي وتسليمھا إلى وكيل ما أو إلى
سلطة دينية تقوم بعد ذلك بإتالفھا .يتم شراء طبعات كاملة لھذا الغرض كلما أمكن ذلك ،والشيء نفسه يحدث مع
حقوق التأليف والنشر .كما أن ھناك طرق أخرى ،لكني ال أصف إالّ ما كنت واثقا ً من قدرتي على إثباته .لدي قائمة
طويلة من الكتب والمؤلفين الذين عانوا من ھذا المصير ،ممن ال تظھر كتبھم في القوائم "الرسمية" للكتب الممنوعة
أو المفقودة .
عادة ما يتم أيضا ً اضطھاد أو معاقبة مؤلفي ھذه الكتب .وھو أمر عادي جدا بالنسبة لھم أن يتم تھديدھم أو إرھابھم
أو اضطھادھم بطرق مختلفة .كما تحدث سرقة المخطوطات في كثير من األحيان ،أو تخريبھا أثناء الطباعة ،وما
إلى ذلك .لقد شوھت سمعة كثير من المؤلفين ،وسجنوا ،أو أخِذوا إلى منشآت األمراض العقلية ألنھم ألّفوا كتبا ً
تعارض النظام الديمورجي ،وھذا لم يحدث في البلدان الشيوعية فحسب ،نظراً ألن الشيء نفسه يحصل في
الديكتاتوريات "الديمقراطية" .
لقد قُ ِت َل العديد من المؤلفين العنيدين على نحو غامض بأمراض غريبة أو في حوادث لم يتم التحقيق فيھا بشكل كامل
أبدا .في ھذه األيّام ھناك فرق قتل تعود لخالق الكون المادي لديھا وسائل فعالة للغاية تحت تصرفھا من أجل التغطية
على جرائمھا .لقد كان ھذا عموما ً مصير المتمردين العظماء والمعارضين لخالق الكون المادي وعمله .في ھذا
العالم المخلوق ،لدى خالق الكون المادي ووكالؤه جميع وسائل الفوز ،فھذه ھي مملكته :مملكة خالق الكون المادي.
ھذه المملكة تعارض الغنوصي تماما ً :إنھا األرض العدوة حيث يجب أن يعمل .وبالتأكيد فإن كل شيء مخلوق
سيكون ضده .لذلك فإن حرب الغنوصي يجب أن تكون بالطريقة نفسھا :حرب شاملة.
دعونا نأخذ حالة ماني ،وھو معلّم غنوصي كبير ،أسس الديانة المانو ّية ،والتي انتمى إليھا القديس أوغسطين لتسع
سنوات .لقد وُ ِجدَ ماني بالفعل؛ أي أنه ليس شخصية أسطورية من دين ديمورجي آخر .
وخشية أن تتشوّ ه تعاليمه ،فقد كتب ماني عدة كتب حوربت طوال قرون ،ودمرت وأخفيت .غير أنه عندما اع ُتقِدَ أنھا
ضاعت إلى األبد ،تم العثور على مكتبة مانوية كاملة في الصين في القرن العشرين .فكانت معجزة ،تماما ً كتلك التي
و ِج َدت في نجع حمادي .لقد تم إخفاءھا أللف وخمسمائة سنة تقريبا ً .
ماني الذي لم يتخ َّل أبداً عن وعظه ،اضطھد وسجن وتعرض للتعذيب حتى الموت على يد كھنة خالق الكون المادي
في بالد فارس القديمة .تقول إحدى الروايات إن ماني ُسلِخ جلده وھو حي .مزقوا جلده ومألوه بالتبن لعرضه عند
أبواب المدينة كتحذير ألعداء اإلله الخالق .بينما تروي نسخة أخرى أن ماني ُسل َِخ جلده بعد موته .كما قيل إنه بقي
حيا ً وھو مقيّد بالسالسل لمدة ستة وعشرين يوما ً من المعاناة الشديدة ثم مات .وبسبب كل ذلك يتحدث الناس عن
"صلب ماني" .لكن ماني لم يكن شخصا ً عادياً؛ فقد حرر نفسه عندما كان على قيد الحياة .ذلك أن التعذيب والموت
ؤثرا على أولئك الذين أرضوا روحھم ،بل على العكس من ذلك ،جعلھم التعذيب يضحكون . ال يمكن أن ي ّ
دعونا نأخذ حالة أخرى ،والتي يوجد منھا الكثير ،ھي حاله زينو ابن إيليا الذي سُجنً وق ّي َد ،وأثناء تعرضه للتعذيب
قال لجالده" :تعال واقترب مني ،وسوف أھمس لك بكل ما تريد أن تعرفه" .عندما أصبح الجالد قريبا ً من زينو ،قام
يعذبه أكثر حتى يجبره على التخلي األخير بعض أذنه .فقال الجالد لزينو وقد اجتاحته نوبة من الغضب إنه سوف ّ
فر َّد عليه زينو بالطريقة التالية :عض لسانه ورماه عند قدمي الجالد.
عن أفكارهَ .
كيف لنا أن نصدق أن شخصا ً مكتمالً مثل زينو يمكن أن يبالي حقا ً بما يحصل لجسده ونفسه! إن جالد زينو لم يكن
سوى مھرج ھزيل .ھكذا يكون جنود الروح المحاربين؛ إنھم يفضلون تحمل التعذيب والموت ،بدل التخلي عن
أفكارھم .
وضمن الديكتاتورية الساحقة لخالق الكون المادي ومخادعيه ،ھناك نوع آخر من التھديد والوعيد :العقاب التي حدده
خالق الكون المادي نفسه .والكتب المقدسة ألديان خالق الكون المادي مليئة بھذه التحذيرات :معاقبة آدم وحواء،
الطوفان العظيم ،سدوم وعمورة ،برج بابل ،وطواعين مصر ،وغيرھا الكثير .
ما فائدة العقاب ،فضالً عن التخلص من المعارضين؟ لماذا ھناك الكثير من التھديد والوعيد؟ الجواب بسيط :وھو
زرع الخوف .فالخوف من العقاب يجعل العبيد يعملون بجد ،ويتخلون عن محاولة الھرب .العبد الذي يخاف ھو أكثر
طاعة وإذعانا ً .الخوف من العقاب ھو الوسيلة المستخدمة من قبل خالق الكون المادي لجعل اإلنسان يعيش خاضعا ً
له ،ومطيعا ً لوصاياه طوال حياته .أن أفضل عبد بالنسبة لخالق الكون المادي ھو العبد الذي يخاف منه ويطيعه
بإخالص أكثر .يريد عباده إضاعة حياتھم بالعمل من أجل قضيته ،معتقدين أنه "عندما أموت سأذھب إلى الجنة".
ھذا ھو العبد المثالي لخالق الكون المادي .يريد من اإلنسان أن يھرم دون أن يتمرد ،ودون أن يستيقظ ،ودون أن
يحرر روحه .وھذا ھو السبب في زرع الخوف ،وھذا ھو سبب المؤامرة :كي ال يتمكن أحد من العثور على طريق
التحرر والعودة .
ضمن ديكتاتورية خالق الكون المادي ال حرية لإلنسان إال في االختيار بين عدة أشياء ال فرق بينھا .إنھا األشياء
ذاتھا ،ولكن بأقنعة مختلفة .ھناك دائما ً حرية الفكر طالما أنھا ال تتعارض مع "طريقة التفكير الصحيحة من الناحية
السياسية" التي يفرضھا وكالء خالق الكون المادي .
دعونا نأخذ حالة األديان .جميع األديان تبدو مختلفة ،لكنھا ليست كذلك .إنھا الشيء ذاته ،وال تختلف سوى في
المظھر فقط .إلھھا ھو نفسه :خالق العالم .يسمونه براھما ،أو بعل ،أو يھوه ،أو مولوك ،أو الرب أو ﷲ ،ولكنه دائما ً
ھو نفسه :خالق الكون المادي.
إنھا تحاول إعطاء انطباع زائف عن التنوّ ع ،بحيث يعتقد الشخص النائم أنَّ ھناك تنوّ ع في المسارات ،مع مصائر
مختلفة ،وله حرية االختيار فيما بينھا .بل ھناك أشخاص ممن ينتقلون من دين إلى آخر ،معتقدين أنھم من خالل
ذلك يُحدِثون تغييراً كبيراً .استغرق األمر مع رينيه جينو ،على سبيل المثال ،سنوات من الدراسة والتأمل التخاذ
قرار التخلي عن المسيحية واالنضمام إلى الماسونية والبناؤون األحرار ،ليتخلى عنھا بالكامل في وقت الحق ويعتنق
اإلسالم .لقد ظن أنه حقق قفزات كبيرة مع ھذه التغيرات ،لكن الشيء الوحيد الذي فعله ھو الطواف بشكل دائري
داخل متاھته .كان بحثه فارغا ً .فإذا كان جينو ،المثقف في ھذه المواضيع ،قد عاش ھذه البلبلة في التفكير ،فيمكن
للمرء أن يتخيل األخطاء التي سيرتكبھا الشخص العادي .
كما أن حالة القديس أوغسطين ھي أكثر إثارة للشفقة .كان أوغسطين من أتباع ماني ،مصغيا ً أو مستمعا ً ،وكان على
وشك لقاء ماني شخصيا ً ،فعزم على التخلي عن كل شيء واعتناق المسيحية .وبارتداده ،رفض أوغسطين ﷲ الذي
ال سبيل لمعرفته ،ورفض الروح ،واختار خالق الكون المادي والنفس .قاوم الزھد المتطرف للمانوية لكي يزج نفسه
في الدين الشعبي االستبدادي الجديد لقسطنطين :المسيحية .
ھناك أشخاص نصف مستيقظين ،والذين يخشون قضاء حياتھم في النوم ،يبحثون بيأس عن طريقة للخروج من
المتاھة التي حوصِ روا فيھا .ولألسف ،فإن معظمھم تجاھل أن الخيارات التي تظھر أمامھم كلھا الشيء ذاته ،ولكن
خر ٍج أبداً ،أو يدركوا أن األديان ،مثل
بأقنعة تن ّكر مختلفة .والھدف من كل ذلك بالنسبة لھا ،ھو أال يعثروا على َم َ
األحزاب السياسية ،ھي الشيء نفسه ،ولكن بوجوه مختلفة ،وكلھا تحت سيطرة خالق الكون المادي .
قبل بضع سنوات قال الداالي الما إنه ال ينبغي أن يكون ھناك دين واحد فقط ،وإ ّنما "سوبر ماركت من األديان".
وھذه ھي أفضل وسيلة لجعل اإلنسان يعتقد أنه محاط بمجموعة متنوعة من الخيارات ،وأنه عندما ي ّتخذ خياراً،
فسوف يحصل على شيء يختلف عن البقية .
إن الھدف من ھذه الديانات ھو إبقاء اإلنسان نائما ً ،ودفعه بصورة عمياء إلى المسلخ النھائي :انصھاره مع خالق
الكون المادي .
منذ آالف السنين والھنود يؤكدون أن الخليقة برمتھا ،أي كل شيء مخلوق ،ھو خداع ووھم محض .وعندما ننظر
إلى ذلك بعين الروح ،فسنرى أن كل عمل لخالق الكون المادي ال وجود له في الواقع ،وھو ليس أكثر من كذبة
كبرى .إن العالم المخلوق ،مثلما تالحظه الحواس ،ھو العقبة الكبيرة التي تفصل اإلنسان عن العالم الحقيقي .والحقيقة
إنه لم يتم تضليل اإلنسان من خالل أوھام المادة فقط ،بل اجتمع أيضا ً وھم المادة التي أنشأھا خالق الكون المادي مع
وھم الثقافة التي أوجدھا اإلنسان ،ولكنھا في خدمة خالق الكون المادي .إن جميع المحفزات الثقافية التي انھالت على
اإلنسان بشكل مستمر ،ترمي إلى إبقائه في حالة من التشوّ ش والخنوع .فالكتب والصحف والمجالت والسينما
منوما ً مغناطيسيا ً
والتلفزيون وبعض الوسائل المستخدمة من قبل ممثلي خالق الكون المادي تبقي على اإلنسان َّ
ومطيعا ً ،وتحرص على التأ ّكد من أنه يتصرف كمن يمشي أثناء نومه ،ويعمل ،وينام ،ويھدر الوقت ويضيّع الفرص،
وتحرص على أال ّ يستيقظ أبدا ،تماما ّ مثل الذين يدخلون في غيبوبة تامة ،أو مثل "الغولَم" 2الذين أنشأھم خالق الكون
المادي ،والذين يخدمون غاية ال تمت إلى غايات الروح ِبصِ لة.
وسط كل ھذه الفوضى الشاملة ،يعتقد اإلنسانُ أنه يعرف ما ھو الخير وما ھو الشر .كما يعتقد أيضا ً أنه من خالل
القيام بما يسمى بأعمال "الخير" وتجنب ما يسمى بأعمال "الشر" ين ّفذ واجبه تماما ً .لكن الحقيقة ھي أنه ال يعرف كم
ھو مشوَّ ش ،وبأنه يعيش كذبة ،وبأنه يخدع نفسه واآلخرين باستمرار .إنه ال يعرف؛ ألنه نائم ،وألنه تم غسل
دماغه ،وألن روحه تم إلغاءھا منذ والدته .إن معظم البشر يطلقون تسمية النور على كل ما ھو ظالم حقيقي،
ويتصوّ رون النور الحقيقي على أنه ظالم .يسمون كل شيء ذو منشأ شيطاني من خالق الكون المادي "خيراً" ،وكل
ما ينشأ عن ﷲ الذي ال سبيل لمعرفته "شرّ اً" .
ھناك قوتان متعارضان تعمالن داخل وخارج اإلنسان :الخالق ،واإلله الذي ال سبيل لمعرفته ،المخلوق وغير
المخلوق ،الن ْفسُ والروح .إحداھما تمثل الظلمة والشر ،واألخرى ّ
تمث ُل النور والخير .إذن من السھل أن نتصور ما
سيكون عليه موقف الغنوصي ،وما ھو موقف الشخص النائم .
يقال إن تاريخ البشرية بمجمله يمكن تفسيره على أنه معركة بين النور والظالم ،ولكن ما ھو النور وما ھو الظالم؟
معظم الناس ال يدركون أنھم يقضون حياتھم يكافحون لصالح الشر الحقيقي .إن ما يسمّيه اإلنسان نوراً ھو النور
الذي أنشأه خالق الكون المادي ،ألن اإلنسان ال يعرف أي نور متفوّ ق عليه .إن النور الذي يأتي من العالم المخلوق،
ھو بالنسبة للروح ُ
ظل َم ٌة ال ُيس َب ُر لھا غو ٌر .الظالم ،الذي مصدره خالق الكون المادي وخلقه الشيطاني ،ھو ما ُي َسمّي ِه
اإلنسان نوراً .اإلنسان يسمّي الحقيقة بالكذبة الكبيرة ،والخداع الكبير ،وھذا ما يمكن أن ندعوه بالمھزلة الكبرى .
ھناك نور آخر ،أعظم شأنا ً ،نور يفوق إدراك البشر ،وال يمكن تصوره :النور غير المخلوق الذي يأتي من ملكوت
ﷲ الحقيقي الذي يفوق إدراك البشر .ماذا سيحدث لو انفجر ھذا النور في ھذا الكون النجس؟ سوف يصاب اإلنسان
بالعمى تقريبا ً .ماذا يمكن أن يُبصِ ر؟ ھل يمكن أن يرى نوراً؟ كال ،سوف يرى الظالم .فعيناه غير مستعدتان لرؤية
ھذا النور الذي ال حدود لنقائه وكماله .سيكون مرعوبا ً ،وخائفا ً ،وھو محق في ذلك ،ألن ذلك النور سوف ُيد ّم ُرهُ.
لھذا سيسمّي ھذا النور بـ "الشر" و "الظالم" ،وھذا ما يحدث مع كل شيء يُن َظ ُر إليه من خالل عيون غير نقية ،أي
من خالل جسد ونفس اإلنسان ،وليس من خالل عيون الروح .
ھذا ھو الخلط الحاصل بين الظالم والنور ،والخلط نفسه قائم بين ﷲ الخالق وﷲ الذي يتخطى إدراك البشر؛ بين
المخلوق وغير المخلوق؛ بين النفس والروح .وھذا ھو السبب في أن اإلنسان ،وبشكل غير مقصود ،يُسمّي الظالم
الحقيقي نوراً ،أما النور الحقيقي فيسميه ظالما ً .إن النور الحقيقي سيُعميه ويدمره .فإذا أريد لإلنسان أن يصمد أمام
رؤية النور الحقيقي دون أن يموت ،فإنه لن يرى سوى ظالم ال يسبر غوره ،ألنه سيرى النور الحقيقي.
من ناحية أخرى ،يمكننا أن نتخيل بالفعل من ھم أعضاء المحفل األسود :إنھم أولئك الذين يعارضون خطة اإلله
الخالق ،وأولئك الذين يحاولون منع تنفيذ ھذه الخطة .ھذا ھو المحفل األسود ،أي " الفتيان األشرار في الفيلم" .ولكن
البد لنا من توضيح أننا نستخدم مصطلح "المحفل األسود" لتفادي الخلط ،ألن ھذا ما ھو معروف لدى العامة بعد أن
أعطي ھذا االسم من قبل وكالء خالق الكون المادي .إنَّ ممثلي الروح ال يمكن أن يش ّكلوا "محفالً" أبداً .فاالسم
الحقيقي لھم ھو األخوّ ة السوداء.
فالمحفل األبيض يعمل لصالح اإلله الخالق وخطته ،في حين أن المحفل األسود يعمل ضده .لھذا ُيسمى أعضاء
المحفل األسود بـ "األخوة الخاطئين" ،والسبب ھو" :بما أنھم قادرين على المساعدة في البناء ،فقد قرروا التدمير" و
"بما أنھم قادرين على فعل الخير ،فاختاروا الشر" .عندما ُذ ِك َر أن أعضاء المحفل األسود يعارضون "الخطة المثالية
لخالق الكون المادي الخيّر" ،فالنتيجة ھي الرفض والنفور الطبيعي لـ "أعداء الخير" ھؤالء .إنَّ ما جرى إخفاؤه
عمداً لقرون طويلة ھو أن "أعداء ﷲ الواحد" ھؤالء ،ال يعارضون عمل ھذا الخالق ،فقط بقصد المعارضة ،وإ ّنما
عمدوا إلى إخفاء حقيقة أن لديھم إله آخر ،وھو ليس الشيطان ،وإ ّنما اإلله الحقيقي واألسمى .لقد جرى إخفاء نضالھم
من أجل إفشال خطط خالق الكون المادي ،وھي مھمة مقدسة لھؤالء المحاربين المنتمين للخير الحقيقي .كما جرى
أيضا ً إخفاء أن ﷲ يفوق إدراك البشر لديه خطة؛ بل خطة في منتھى الكمال والروعة .كل ھذه المعلومات تم حجبھا
عنا لخداعنا على أكمل وجه ،وتشويه سمعة محاربي الروح ،واالفتراء عليھم ،بحيث ال يمكن أن نستيقظ ،بل حتى
كي ال نكون "كا ،عارفين للخير والشر" .
ھناك حرب بدأت مع االنفجار الكبير ،منذ آالف الماليين من السنين ،بين ھاتين القوتين :الظلمة والنور ،بين اإلله
الخالق وﷲ يفوق إدراك البشر .والمحافل البيضاء والسوداء ھي جيوش تلك القوتين .وبما أن ھذا العالم ھو عالم
خالق الكون المادي ،فھو الوحيد الذي يقرر من يسمّيه أبيض ،ومن يسميه أسود .إن عالم خالق الكون المادي ھو
أيضا ً ساحة المعركة التي ُتخاضُ فيھا ھذه الحرب .
كيف يتم عادة تصوير "أسياد الحكمة" للمحفل األبيض ھؤالء؟ يتم تصويرھم على أنھم مالئكيون ولطفاء ،ملتحون
رون على ھذا النحو من أجل خداع البسطاء من البشر ويرتدون األبيض ،كما لو كانوا طاھرين وأنقياء .وھم ي َ
ُصوَّ َ
على نحو أفضل؛ بحيث ال يشك أحد بأن ھؤالء القوم ھم الشياطين الحقيقيين ،المسؤولين عن تنفيذ الخطة الشيطانية
لخالق الكون المادي ،وبحيث ال يشتبه أحد بأن ھؤالء المخادعين يحاولون التأكد من أن البشرية منقادة بشكل أعمى،
وتتقدم نحو الموت الروحي ،وبحيث ال يكتشف أحد أبداً أن جالدي الروح ھؤالء ھم أولئك الذين يرغبون في أن
يكون كل شخص ليس أكثر من مسنن في عجلة ،إي ليس أكثر من آلة ،وليس أكثر وصلَة .بل ليس أكثر من نملة في
كثيب النمل الشيوعي العالمي الذي ادّخره الشيطان خالق الكون المادي كمصير نھائي للبشرية.
يقال إنه في نھاية تطور كل إنسان ،إذا كان قد خسر معركة الروح ،ولم يعد بمقدوره القتال أكثر من ذلك ،فسوف
يرى الوجوه الحقيقية لـ "أسياد" المحفل األبيض المزيفين .
في السنوات المائة والخمسون الماضية ،أخذت أوصاف أعضاء المحفل األبيض ھؤالء تضح في كل مرة أكثر
فأكثر .ويمكن العثور أسمائھم ،ومظاھرھم ،وخصائصھم في كتب ھيلينا بالفاتسكي وفي كتب الذين اتبعوھا ،مثل
أليس بيلي لكونھا واحده من أبرزھم .لقد تحدثنا عن أحد أعضاء المحفل األبيض :الشيطان كومارا Satan
.Kumaraويا له من اسم! كان اسما ً فاقعاً ،وكان ال بد من إخفائه في وقت الحق ،فتم تغييره إلى سانات كومارا
.Sanat Kumaraكل واحد منھم ،مثل خالق الكون المادي ،لديه العديد من األسماء ،والعديد من األقنعة ألجل
تحقيق خداع أفضل .البعض منھم لديھم أسماء حقيقية للشياطين ،مثل ميتريا ،والذي يقال إنه "المسيح الحقيقي" ،أو
"أسياد" مثل موراي و دول خول .وآخرون لديھم ألقابا ً نبيلة مثل "األمير" راكوتزي ،وھو "أمير" الظالم الحقيقي.
ھناك الكثير ،وكلھم متشابھون .وكل ھؤالء الشياطين ليسوا إالً قشور بيض فارغ لخالق الكون المادي ،وسيتم
تحطيمھم عندما يحين موعد فترة التدمير ،pralayaجنبا ً إلى جنب مع كل ما ُخلِق .
من ناحية أخرى ،يتم تمثيل أعضاء المحفل األسود على أنھم كائنات متوحشة رھيبة .ولكن ما ھي الطريقة األخرى
التي يمكن تصويرھم فيھا ضمن عالم خالق الكون المادي؟ يطلقون على أعضاء المحفل األسود أسم "رسل الشيطان"
أو "عمالء الخبيث" .كما أنھم يصوَّ رون كوحوش مد ِّمرة ،وعادة ما يرتدون األسود للتشويش على ّ
السذج من البشر .
ولكن لنضع جانبا ً األكاذيب التي تم اختراعھا لتشويه سمعتھم ،ودعونا اآلن نحلل بعض خصائص المحاربين الذين
ينتمون للمحفل األسود .
أوالً ،أي مظ َھ ٍر يمكن أن ي َّتخذه كائن إلھي ،كائن النور الذي يدخل ھذا الجحيم؟ بالتأكيد ليس وجھا سعيداً ،وإ ّنما وجه
يطفح باأللم ،وجه مشوه بكل أنواع المعاناة .إن تضحية كائنات النور ،الذين يغزون عالم خالق الكون المادي
لمساعدة األشخاص الذين ضللوا طريقھم ،تنطوي على أسوأ معاناة التي يمكن تخيلھا .
ثانيا ،ما يمكن أن نقول عن لون الضوء غير المخلوق الذي يراه اإلنسان النائم ؟ إنه األسود الحالك بالطبع ،ألن
النور الحقيقي ُيعمي الشخص النجس .فأن يكون ُم َمثالً باللون األسود لھو شرف بالنسبة لمحارب الروح ،ألن األسود
يشير إلى النور النقي ،وھو الضوء الحقيقي المسبب للعمى .
ثالثا ً ،كيف تتصرف الكائنات النورانية ھذه عندما تقتحم كون الديموريج؟ عندما يتسلل محاربو المحفل األسود إلى
ھذا الجحيم المخلوق ،فيقومون بتنفيذ مھمة محددة ولفترة محدودة ،ومن ثم يخرجون في أسرع وقت ممكن .ليس
لديھم وقت لتضييعه ،ألن ھذا العالم النجس ھو عذاب ال يوصف بالنسبة لھم .عند وصولھم إلى المسخ المعتوه الكبير
لخالق الكون المادي ،فإن الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله ھو الضرب في المكان الصحيح حيث يوقعون األذى ،ثم
يھربون .ذلك أنَّ الحرب بالنسبة للقادمين من العالم المجھول ضد العالم المخلوق ھي حرب شاملة .فبالنسبة لھم ،ما
من شيء مخلوق يستحق البقاء .
إذا أمكن للشخص العادي أن يرى ھذه الكائنات ،فسوف يفزع بسبب عدوانيتھا ودمارھا .سوف يراھا كأداء خطرين،
مثل الكائنات التي تخيلھا فيلم سفينة الحب ،أو تلك التي في أفالم مثل " "Hellraiserأو "بريداتور" .فالشخص
العادي الذي يشاھد الواقع من خالل جسده ون ْفسِ ه ،يرى النقاء نجاسة ،ويرى منقذيه أعداء .
إن محاربي الروح يشمئزون من المادة .إنھم مدمرون بالفعل ،لكنھم مدمرو النجاسة .إذا تقاب َل الشخص العادي وجھا
لوجه مع ھذه الكائنات ،فإن كل ما كان نجسا ً في داخله ،مثل جسده وروحه ،سوف يتفكك .ذلك أن ھذه الكائنات
تتكون من النار المضادة للمادة القادمة من العالم اآلخر؛ وبالتالي ال يمكن لذرة واحدة مخلوقة أن تصطدم بھم دون
أن تتالشى .إذا اقترب ھؤالء المحاربين من الشخص العادي ،فسوف يدمرون جسده ونفسه ،مع أنھم لن يدمروا
روحه ،فھي مصنوعة من النار النقية ،مثلھم تماما ً .سوف يتم تدمير الجوانب التافھة فقط ،أي الجزء المريض ،ذلك
الذي يسجن الروح ،أي التابوت الذي يغلفه :جسد ونفس الحيوان الذي يسمى خطأ باإلنسان.
على صعيد آخر ،فإن األشخاص الذين تحولوا إلى روح نقية لن ينتابھم الخوف من أي شيء .يمكنھم بالفعل أن يروا
الواقع كما ھو .ويمكنھم بالفعل التمييز بشكل صحيح بين الخير والشر .يمكنھم أن يروا فعال أعضاء المحفل األسود
مثلما ھم في الواقع .إنھم يعرفون أن النار المضادة للمادة تدمر المخلوق فقط ،وليس غير المخلوق .الروح ال تخشى
الموت ،طالما أن األمر يتعلق بالروح بكل بساطة ،فال وجود للموت ،ألن الروح خالدة .ففي اليوم الذي يتم فيه تدمير
كل ما ھو قمامة ،بمعنى القول :في اليوم الذي يتم فيه تفكيك كل الخلق وخالقه ،عندما ال يبقى شيء ،وال حتى ذرة
واحدة ،جسداً كان أم نفساً ،فلن يبق سوى األرواح التي تحررت إلى األبد .فال تعود الثنائية موجودة ،والعالم سوف
يعود كونا ً واحداً ،بل وحد فقط :وھو النار الخالدة التي تفوق التصور .
التمرد والمعارضة
ّ .20
لخص الغنوصيون االختالفات المطلقة بين اإلله الخالق ،وبين ﷲ الذي يفوق إدراك البشر ،اعتبروا أن ﷲ بعد أن ّ
الذي خلق العالم ھو أدنى منزلة بكل معنى الكلمة من ﷲ الحقيقي .لذلك من الطبيعي أن يؤكدوا على أن كل قوانين
وأوامر اإلله الذي خلق العالم واإلنسان يجب تحطيمھا ،ذلك ألنه ليس عالم اإلله الحقيقي وإ ّنما عالم اإلله اآلخر،
المحتال ،اإلله األدنى منزلة وغير الكفؤ .بالنسبة للغنوصيين فإن كل ما ھو موجود في الكتب الدينية ليس من اإلله
الحقيقي الذي ال يمكن إدراكه ،وإ ّنما من اإلله الخالق أو الديموريج .إن كل وصاياه التي يريد من اإلنسان إطاعتھا،
وكيف يتفاعل معھا ،وكيف ينبغي أن يعبده ويخدمه ،كلھا تظھر في تلك الكتب .بعد ذلك يخلص الغنوصيون إلى أنه
إذا كانت تلك القوانين صادرة عن خالق الكون المادي ،الديموريج ،فيجب أالّ ُتطاع.
الغنوصيون يعارضون مسبقا ومن حيث المبدأ كل شيء يأتي من خالق الكون المادي .فكل ما يقوله الخالق،
وأوامره وطلباته يجب أال ُتطاع .ألنه ليس اإلله الحقيقي وإ ّنما إله محتال يعتبر نفسه "اإلله الوحيد".
ھذا الموقف الغنوصي عندما ينظر إليه الشخص العادي من الخارج ،فيبدو له تمرّ داً وموقفا ً مقيتا ً .فالشخص العادي
يتصوّ ر أن إلھا ً صالحا ً خلق اإلنسان ،وھو يحبه ،ويريد مساعدته ،ويحمل له آماالً كبيرة ،ويحتاجه لإلكمال عمله
وإتقانه .الشخص العادي ينظر إلى ھذا الموقف الغنوصي ضد " األب الصالح الذي جلبه إلى ھذا العالم" برعب
شديد .فاإلنسان ،الذي ھو أفضل مخلوقات ﷲ ،يمكن أن يتمرد ضده ،ويعارضه ،ويبرّ أ منه؟! يا لھذه الفظاعة! بيد أن
ما ال يعرفه الشخص العادي ھو كل ما قلناه لغاية اآلن عن ھذا "األب الصالح" وأعماله وخططه.
إن التمرّ د ضد خالق العالم المادي بالنسبة للغنوصية ال يحرر اإلنسان من عبوديته واسترقاقه فقط ،بل يوقظه أيضا ً
ويبعده عن سلطة خالق الكون المادي .ومن خالل معارضته الثابتة ،يكتسب الغنوصي تدريجيا ً قوة مساوية لإلله
الخالق ،وفيما بعد يصبح متفوقا ً عليه.
لو كان اإلنسان جسداً ونفسا ً فقط ،ولو كان ذلك الكيانين اللذان خلقھما الديموريج ،خالق الكون المادي ،ھما الشيئان
الوحيدان اللذان يتكون منھما اإلنسان ،فبطبيعة الحال لن يكون ھناك أيّ تمرد على اإلطالق .إذ ما من شيء مخلوق
يتمرد ضد خالقه .لكن ما يحدث ھو أن ھناك شيء في داخل اإلنسان ليس من صنع اإلله الخالق :وھي الروح
الخالدة .لقد ُجلِ َبت الروح من الخارج ،وال تنتمي إلى ھذا العالم .وقد تمت إضافتھا إلى ھذا المِسخ الذي ھو جسد
ونفس ،لجعله يقوم بوظيفته ويتطور .لكنھا أنھا وضعت ضد إرادتھا ،ووجدت نفسھا مسجونة داخل المادة .إنھا
الروح التي تتمرّ د ،وھذا ليس تمرّ داً ضد خالقھا ،وإ ّنما ضد الذي سجنھا .وإليكم ھذه المالحظة :ھذا التمرد مصدره
الروح .فھي لم ُتخلَق داخل اإلنسان ،تلك الروح التي تحتقر وتعارض الخالق الشيطان وعمله .
الغنوصي ھو الشخص الذي تحوَّ ل إلى روحه ،إنه الشخص ذي الروح التي حررت نفسھا وامتلكت جسده ونفسه
الستخدامھما كآالت ،وسيكون متمرّ داً كبيراً وخصما ً لخالق العالم المادي وعمله .أفعاله ستكون مھيبة ومدمّرة ،تماما ً
مثل كل روح متحررة .وكما في حالة قابيل ،لن تعود ھناك سلطة لإلله الخالق عليه.
من ناحية أخرى ،فإن الشخص النصف نائم سيكون نصف متمرد .سوف يبحث بشكل أعمى عن مخرج ،وسيكون
معارضا ً بصورة غير واعية تقريبا ً للعالم المخلوق الذي يحيط بروحه ويخنقھا .إن موقفه النصف ٍ
واع لن يسمح له
بتمرد أو معارضة قادرة على تشكيل خطر على خالق العالم المادي أو على عمله.
قلنا إنه أثناء عملية تحرير الروح ،يكتسب اإلنسان قوة مساوية ،وفيما بعد تتفوق على قوة اإلله الخالق .وقلنا أيضا ً
إن التمرد والمعارضة القوية والمستمرة ُتض ِعفُ خالق الكون المادي وتسلب قوته .وھذا يأخذنا إلى المواقف الممكنة
األربعة التي تتعلق بفكرة أن اإلنسان يمكن أن يمتلك قوة اإلله الخالق .
الموقف األول ھو :وجود خالق الكون المادي .وجود ﷲ الذي خلق السماوات واألرض .
الموقف الثاني ھو :عدم وجود خالق الكون المادي .وھذا ھو اإللحاد؛ فكل ما ھو موجود ھو نتاج التطور األعمى
للمادة .
الموقفين األولين ،ﷲ موجود /ﷲ غير موجود ھي المواقف التقليدية في تاريخ البشرية .
كان يعتقد دائما أنه ال يمكن أن يكون ھناك موقف ثالث ،ولكن بعد قدوم نيتشه ،أعلن أن "ﷲ قد مات" .وھذه ھي
الفكرة الثالثة في أن اإلنسان يمكن أن يكون اإلله الخالق :لقد كان ﷲ موجوداً ،لكنه اآلن ميت .ھذه الفكرة على ما
يبدو تقع في مكان ما في المنتصف ،بين موقف أن ﷲ موجود ،وموقف أن ﷲ غير موجود .
أمّا الموقف الرابع فھو موقفي الغنوصي :اإلله الخالق موجود ،ولكن على اإلنسان التخلّص منه .
ھذا الموقف األخير يبدو أنه سبب الكثير من الذعر ،حيث ُيحكم عليه بالطريقة التي تم فيھا التضييق عليه وإخفائه.
يؤكد الغنوصيون إنه يجب العمل على محاصرة الخالق وإضعافه ،بطريقة ال يتمكن معھا بخلق أي شيء آخر،
وبحيث يختفي في نھاية المطاف .يجب أن يقضي اإلنسان على االزدواجية في العالم لتكون ھناك مملكة واحدة
فقط :ھي مملكة ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه .
كما يؤكد الغنوصيين إن الھجمات يجب أن تستھدف اإلله الخالق لمنعه من العودة إلى دورات الخلق والھدم،
المانافنتاراس و البراالياس ،التي ال نھاية لھا ،والقائمة على التجربة والخطأ في ھذا االنتحال العظيم الذي لن يبلغ
الكمال أبداً .حتى لو تم تدمير كل شيء مخلوق بسلسلة تفاعالت ذرية ،فإن خالق الكون المادي سوف يعيد خلق كل
شيء مرة أخرى .لھذا السبب يرى الغنوصي أن اإلله الخالق ھو الذي يجب أن ًيھزم ويُقضى عليه .
في فيلم مشوّ ق يدعى "الساحر" ،الذي ھو "شخص سيء" ،يحاول العثور بالضبط على الكلمات التي خلق فيھا
الديموريج العالم .وبلفظ ھذه الصيغة بشكل مقلوب يجعل كل الخلق يختفي .والحقيقة إن ھذه ليست فكرة سيئة ،بل
باألحرى مضيعة للوقت :فلو حدث مثل ھذا ،لعمد خالق الكون المادي إلى خلق كل شيء مرة أخرى .
موضوع آخر مھم وھو االنتحار .يبدو االنتحار تمرداً ضد الخالق ،لكنه ليس كذلك .إذ يخطئ أولئك الذين يعتقدون
أن االنتحار وسيلة للھرب من براثن خالق الكون .
عندما ينتحر الشخص العادي ،تنفصل نفسه عن جسده وتنتقل إلى خالق الكون المادي ،آخذة معھا الروح ،ألن الروح
مقيَّدة بالنفس .بعدھا تأتي مرحلة المحاكمة والعقاب والكارما .ھذا ما يحدث في كل مرة يموت فيھا اإلنسان،
واالنتحار ليس استثناء .في حالة االنتحار ،سيكون العقاب الذي يطبقه خالق الكون المادي أكبر :فقد حاول السجين
الفرار ،ووقع في الفخ مرة أخرى ،فحصل على عقوبة مزدوجة .إن السجين الذي انتحر ،لم يھرب من أي شيء ،ولم
يحرر نفسه من شيء .وھا ھو في يد خالق الكون المادي مرة أخرى .إن االنتحار بالنسبة للشخص العادي ليست
وسيلة للخروج وال للتحرر ،بل على العكس من ذلك :سوف تصبح حالته أسوأ .
ولكن في حالة اإلنسان الذي حقق روحه ،فسوف يختلف كل شي ،ألنه لم يعد شخصا ً عاديا ً .إنه الشخص الذي ھرب
من سجن خالق الكون المادي ،وال يمكن أن يصل إليه اآلن ھذا الخالق ويعقابه .وقوانين الكارما اآلن بالنسبة له لم
يعد لھا وجود ،فقد حول نفسه بمحض إرادته إلى كائن غير مخلوق ضمن العالم المخلوق ،وبمقدوره أن يفعل ما
يشاء ،بما في ذلك االنتحار .لقد ارتقت النفس والجسد النجس إلى مصاف األلوھة بواسطة الروح ولم يعد ينتميان
إلى خالق الكون المادي .أصبح جسده ،ونفسه ،وروحه شيء واحد فقط :غير قابل للتدمير ،خالد وأبدي .أ ّما
االنتحار بالنسبة لھذه النوع من البشر ،ھو ببساطة مجرد وسيلة لالنتقال من نقطة في الكون إلى أخرى ،أو من بعد
إلى آخر .
ھذا النوع من البشر ھو الذي تم وصفه في األسطورة المسيحية؛ إذ يقال إنه عندما ذھبوا للبحث عن جسد المسيح،
فلم يتمكنوا من العثور عليه ،وكان القبر فارغا ً .وبطبيعة الحال ،بما أن الروح أخذت الجسد والنفس معھا! فبعد
"الموت" ،تتم روحنة الجسد والنفس ،ويتحدان مع الروح ويتحوالن إلى كيان واحد ال ينفصم ،ويغادران معھا .
دعونا نلقي نظرة على مثال عن انتحار شھير ..حيث نتحدث اآلن عن المسيحية ..وھو انتحار يھوذا ،الرجل الذي
خان يسوع المسيح .يقول الشخص العادي ،الجاھل والمشوَّ ش ،عن يھوذا ،إنه وحش ،وأنه كان السبب في صلب
يسوع المسيح .إن يھوذا ھو الشخص السيئ في ھذه القصة ،فمن الذي يمكن أن يحب يھوذا؟
لكن يھوذا بط ٌل بالنسبة للغنوصيين ،وھو محسنٌ للبشرية ،فمن خالل خيانته ساعد على إنجاز مھمة يسوع المسيح.
حتى "إنجيل يھوذا" الموجود أيضا ً ،روى كل ھذه األحداث من وجھة نظره .ويمكنك أن تتخيل بالفعل ما حدث لھذا
اإلنجيل .
وفقا للغنوصيين ،جاء يھوذا كي يساعد المسيح مع مھمته .خيانة يھوذا ھي التي قادت مباشرة إلى صلب يسوع
المسيح .إن موت المسيح ھو افتداء للعالم .أن موت الفادي المخلص لم يكن ليتم من دون يھوذا .ولم تكن لتنجح
المسيحية كدين بدون يھوذا .كم كان سيختلف تاريخ المسيح لو أن يھوذا "أفضل تالمذة الرب" لم يكن موجوداً .
ماذا يھم يھوذا بأن األجيال القادمة سوف تقول عنه إنه كان وحشا ً؟ ھذا ھو قدَ ر األبطال ،والرجال العظماء ،ھنا في
جحيم خالق الكون المادي! لقد عرف يھوذا دون أدنى شك أنھم سوف يتحدثون عنه بالسوء في وقت الحق ،وأنه
سيتم تشويه سمعته بال رحمة ،وسيكون مكروھا ومُح َتقراً من قبل الجميع .ولكن ماذا يھم شخصا ً جاء لتنفيذ مھمة
أساسية ،وجنبا إلى جنب مع شخص ليس أقل من منق ٍذ لھذا العالم؟ لھذا السبب قال المسيح ليھوذا" :يھوذا ،ما ينبغي
أن تفعله ،افعله بسرعة" .إن "خيانته" كانت ضرورية لمستقبل المسيحية .
ب ،سوبرمان الروح ،ھو شيء؛ وانتحار شخص نائم ھو شيء آخر .ھذا ھو السبب في أن انتحار إن انتحار محار ٍ
يھوذا "ليس كانتحار شخص عادي ،يقنط من أدنى شيء في عالم المادة ،وبعدھا يقتل نفسه في يوم مشمس .
الغنوصيين يقولون إن الشجرة التي شنق بھا يھوذا نفسه ،لم تكن سوى شجرة عدن .
التكريس ھو طقس شعائري عادة ما يكون عمالً جماعيا ً ،حيث تنتقل فيه المعارف السرية إلى المريد الذي ستحدث
في داخله تغيرات كبيرة .ما إن يبدأ التكريس ،فلن يعود المريد كما كان مرة أخرى .عندما يكون التكريس حقيقيا ً،
وصحيحا ً ،فإنه يش ّكل نقطة تحول في حياة المريد ،ذلك أن ثمة ما ھو قبل وبعد التكريس ،ألن شيئا ً ما قد حصل في
ھذا الطقس الذي غيّر حياته بطريقة مذھلة .إنه شيء لن ينساه أبداً .أعرف أشخاصا ً حصلوا على التكريس في أماكن
مختلفة ،لكنھم لم يالحظوا حدوث أي شيء مميّز في أية مناسبة .فبدون شك ،لم يكن ھذا تكريسا ً حقيقيا ً .ولكن عندما
يتلقى الشخص تكريسا ً صحيحا ً ،فستكون تجربته في الواقع ملفتة للنظر ،ولن ينساھا أبداً .إن البعض يشبّه ھذه
التجربة بتلك التي يصاب فيھا بما يشبه وميض الضوء في منتصف الطقس الشعائري" .وميض الضوء" ھذا ،ھو ما
يُحدِث التغيير الرھيب الذي سيضع عالمة فارقة في حياة المريد إلى األبد .اآلن لن يعود مرة أخرى إلى ما كان عليه
من قبل .سوف يظل مر ّكزاً على الھدف لبقية حياته ،أي الھدف المحدد من التكريس الذي حصل عليه .
إن كل شخص ،عاجالً أم آجالً ،سوف يتحتم عليه اختيار مسار واحد من بين مسارين فقط ،متعارضين ومتضادين:
إمّا إرضاء نفسه أو إرضاء روحه ،وليس ھناك احتمال ثالث .فإ ّما مسار اليد اليمنى نحو خالق الكون المادي عن
طريق إرضاء النفس ،أو مسار اليد اليسرى ،نحو ﷲ الذي ال يمكن إدراكه ،عن طريق إرضاء الروح .وھذا األخير
ھو ما يش ّكل الھدف المحدد أو الغرض من التكريس ،وھذا ھو السبب في أنه ليس ھناك سوى تلقين النفس ،أو تلقين
الروح .والغرض من التكريسين ھو تسھيل وصول المرشح نحو المصير الذي اختاره .
من المھم أن تعرف الخصائص الرئيسية لكال التكريسين ،ولكي تميّز بدقة بين تكريس وآخر .كثير من الناس الذين
يجھلون ھذه التفاصيل يقعون في شراكٍ تقودھم مباشرة إلى ف ّكي خالق الكون المادي .من السھل ارتكاب خطأ ما
نظراً ألن ھناك تمويه وتزييف يجب أخذه بعين االعتبار ،وكذلك عدم وجود الكتب والمعلومات .لذلك دعونا ننظر
إلى تلك األشياء التي من الضروري أخذھا في الحسبان لتكون قادراً على رفض الفاكھة المسمومة التي يقدمھا لنا
عبيد خالق الكون المادي .
أوالً ،إن الھدف من تكريس النفس ھو االندماج النھائي مع خالق الكون المادي .وھذا األمر ذو أھمية كبيرة .فإذا كان
شخص ما يحدثنا عن "االتحاد مع ﷲ" ،و "فقدان الذات في ﷲ" ،و "انصھار وعي الفرد مع وعي اإلله الواحد" ،و
السمادھي )الذوبان في خالق الكون المادي( ،وما إلى ذلك ،فسنعرف عندئ ٍذ أننا نتعامل مع دين أو مذھب أو حركة
باطنية يكمن وراءھا خالق الكون المادي .وبالطبع فإن التكريسات التي يتم منحھا ھناك ستكون تكريسات النفس
وليس الروح .
من ناحية أخرى ،لن يكون الھدف من تكريس الروح االندماج مع أيّ إله .ففي نھاية المسار ،وعند حدوث مواجھة
المكرس إلى مقاومته ورفضه ،وإقصائه وإقصاء نفسه إلى األبد .وفي ًّ شاملة مع خالق الكون المادي ،سوف يضطر
ھذه الحاالت ال يكون األمر متعلقا ً بالسمادھي ،وإ ّنما بالكيفاليا :أي االنفصال المطلق .لكنه أنه انفصال خاص ،أي أنه
ال يقتصر فقط على االنفصال التام عن كل شيء أوجده الخالق .كال؛ فالكيفاليا تتضمن حتما ً االنفصال التام والمطلق
عن خالق الكون المادي نفسه .
ثانيا ،الھدف من التكريس الذي يقود إلى خالق الكون المادي ،ھو إضعاف ذات المريد ،ودفعه إلى التخلي عنھا .إن
كل حركة دينية تعمل لصالح خالق الكون المادي ،تعطي أھمية كبيرة للحاجة إلى تدمير ذات المريدين .فلكي يكون
االندماج مع خالق الكون المادي ناجحا ً ،فمن الجوھري أن يتخلى المريد عن ذاته .وبمجرد أن تتفكك الذات ،فإن
الھيكل الفارغ الذي بات عليه المريد سوف يمأله بسرعة خالق الكون المادي .ھذا الشخص الذي سلّم نفسه لخالق
الكون المادي مثل القربان ،قد تحول إلى عدم ،وھذا العدم مأله ھذا الخالق .لقد تحقق ھدف خالق الكون المادي؛ فھذا
الشخص قطع شوطا ً طويالً لينتھي بإذابة نفسه في اإلله الذي خلقه .
أمّا في تلقين الروح فيكون الھدف دائما ً توسيع الذات ،ومراكمة الطاقة .والغرض من توسيع الذات ھو االقتراب من
الروح ،فإذا لم تكن الذات موجودة ،فال يمكن للروح إظھار نفسھا .إن التخلي عن الذات يعني التخلي عن الروح .
ثالثا ً ،في تلقين النفس نسمع كالما ً حول التطور والمستقبل والتقدم" :على النفس أن تتطور إلى أن تنصھر مع ﷲ".
"كل الخليقة تتطور نحو ﷲ"" .سوف تستمر البشرية في التطور إلى أن تصبح طائفة كونية واحدة من األنفُس"" .إن
العالم يصبح أفضل كل يوم" .
على النقيض من ذلك ،ففي تلقين الروح نجد كالما ً حول العودة والماضي .العالم يتجه نحو تدھوره ودماره .ال يوجد
شيء جيد لنتطلع إليه في المستقبل .فاستعادة شيء كان موجوداً في الماضي ھو أمر ضروري .ومن أجل التعويض
عن الظلم الكبير الذي يقوم به خالق الكون المادي ومحتاليه ،فمن الضروري أن نعود إلى ذلك الماضي لتعطيل كل
شيء ،وتحرير ما ينبغي تحريره ،وتدمير ما ينبغي تدميره.
رابعا ً ،في تلقين النفس سوف يسمع المرء كالما ً عن الرحمة واإلخالص والمحبة والكرم والخدمة .الرحمة لجميع
مخلوقات ﷲ خالق الكون المادي .محبة الخالق ومحبة اآلخرين" .محبة كل شيء أتى به َن َفسُ الحياة اإللھية إلى حيز
الوجود" )و " َن َفسُ الحياة اإللھية" ھذا ليس إالً َن َفسُ خالق الكون المادي( .والخدمة ھي خدمة اآلخرين ،و "سادة"
المحفل األبيض ،وخالق الكون المادي" ،إلحياء الخطة على األرض" .مشدداً كذلك على لوم النفس ،وإظھار الندم .
أمّا في تلقين الروح ،فالمرشح ھو بمثابة محارب أعلن الحرب الشاملة على قوى المادة .ال نسمع فيه حديثا ً عن
السالم ،وإ ّنما عن السيوف ،وعن القتال من أجل الحرية ،واالستيالء على السماوات عنوة .ال نسمع في تلقين الروح
كالما ً عن الحب واإلخالص ،واللوم ،والندم ،بل عن الواجب والشرف واالنتقام .على المرء أن يأخذ في االعتبار أنه
عندما يتروحن المريد ،فتتفاقم العدوانية في داخله ،ويزداد نفوراً من كل ما ھو نقيض للروحانية ،ومن كل ما ھو
نجس ومادي ومخلوق .ھذا ھو العداء الطبيعي للروح تجاه خالق الكون المادي وعمله .إذا شعرت الروح بالمحبة
تجاه خالق الكون المادي وخلقه ،فإنھا لن تكون روحا ً ،بل نفسا ً .فالنفس ھي حب خالص )تجاه خالق الكون
المادي وعمله( .أ ّما الروح فھي كراھية خالصة )لخالق الكون المادي وعمله( .
التفاصيل التي ذكرناھا ھنا تسمح لنا بتحديد أفضل أل ّية جھة ينتمي أولئك األشخاص أو تلك الجماعات الدينية التي
تدعي أنھا تساعد اآلخرين .عندما نستمع لھم ،أو نقرأ كتبھم ،فسنعرف مباشرة ما إذا كانوا مع ﷲ أو مع الشيطان،
ذلك أنه في ھذا العصر المظلم ال يسمع المرء سوى الحديث عن "رضا النفس" ،وعن "قدرات النفس" ،وعن "كمال
النفس" ،وإنه لَ ِمنَ الجيد أن نتذكر إنه على الرغم من اضطھاد الروح ونفيھا ،إالّ أن الحديث عن تحرر وإرضاء
الروح موجود أيضا ً .
بعد أن َعرَّ فنا اثنين من أنواع التلقين الممكنة ،فسوف نذھب إلى إلقاء نظرة على خصائصھا األخرى .
ِث تغييراتفي التلقين الغنوصي ،يتلقى الشخص بعضا ً من المعرفة السرية .وھذه ليست أيَّة معرفة ،بل تلك التي ُتحد ُ
ملحوظة لدى المريد .إنھا تتعلق بالمعرفة الخاصة التي لديھا القدرة على تحويل الشخص الذي يصغي إليھا .ھذا
النوع من المعرفة يتسم بأھمية قصوى بالنسبة للغنوصي )رأينا سابقا ً أن معنى كلمة الغنوصية ھو :المعرفة
الروحية( .فبالنسبة لكل غنوصي ،ال يتحقق الخالص باإليمان ،بل من خالل المعرفة الروحية .ھذه المعرفة السرية
التي ُتن َق ُل أثناء التكريس ،ليست نھاية الطريق وإ ّنما بدايته .كذلك فإن ھذه المعرفة لديھا القدرة على إيقاظ وحث
يتلق المعرفة ويدرسھا ،فسوف تعمل على المرشح على الوصول إلى ھدفه النھائي :وھو تحرير الروح .بمجرد أن َّ
تحويل المرشح تدريجيا ً ،وعلى مراحل .ولتحقيق التغيير الجذري المنشود ،وھو التحول النھائي للروح ،فسوف
يترتب على المكرّ س أن يناضل باستمرار ودون كلل أو ملل .ولسوف يعطيه تأثير التكريس وذكراه القوة بحيث ال
يستسلم أبداً أو ينسى ھدفه .
ف عنھا مؤخراً ،وأعطيت عنوانا ً ھو ،"Trimorphic Protennoia" :تقول إن في وثيقة غنوصية قديمة ُكشِ َ
التكريس ھو تجربة المعرفة التي تجلب الرضا الروحي .كما تقول أيضا ً إنھا عملية صعود ُتحبط الكون الديمورجي
وتعزز الكون الحقيقي )فالكون ھو عمل خالق الكون المادي ،أما الكون الحقيقي فھو الروح( .التكريس يتحدث عن
المعرفة التي تحرر وتنقي ،وعن األشخاص الذين يسعون إلى عالم الروح ،وكذلك عن األشخاص الذين يسيرون في
الطريق المادي .يتحدث عن التكريس الذي ينقّي المرء تدريجيا ً ويم ّھد الطريق لالرتقاء نحو عالم الروح .وفي ھذا
الكتاب ،يطلق على خالق الكون المادي تسمية "الشيطان الكبير" .
وعادة ما تكون ھناك ثالثة تكريسات .فبعد التغييرات التي تحصل في التكريس األول ،وعندما يتم اعتبار المرشح
أنه بات مستعداً ،فسوف يتلقى التكريس الثاني الذي سيعمل على إحداث أنواع أخرى من التغييرات .بعدھا يجري
البدء في التكريس الثالث الذي سيم ِّھد الطريق تماما ً لبلوغ التحوّ ل النھائي .
حدثنا عن التلقين الفردي؛ عندما ھناك سمة أخرى للتكريس وھي أنه يمكن أن يكون فرديا ً ،أو جماعيا ً .لغاية اآلن َت ّ
يقرر الشخص اجتياز العتبة ،فيكون قد حصل على التكريس .في الحالة الثانية ،وھي أنَّ شعبا ً أو مجتمعا ً بأكمله
يسعى أعضاؤه إلى ھذا التحول كعضو واحد .وھذه الحاالت ھي أكثر ندرة ،بيد أنه كانت ھناك حاالت عديدة كھذه
عبر التاريخ .
حالة أخرى ھي التكريس الذاتي؛ وتكون عندما يشعر المرشح بأنه مستعد ،ويقرر أن يكرس ذاته .
وھناك أيضا ً حالة تكريس يتلقاھا خالل النوم .سوف نبحث في ھاتين الحالتين األخيرتين بمزيد من التفاصيل في
وقت الحق .
كيف كان يتم إنجاز التكريس الغنوصي في األزمنة السابقة؟ لقد ُدمِّرت جميع الكتب الغنوصية التي وصفت العملية.
ولكن من ناحية أخرى دعونا نلقي نظرة على أحد أعداء الغنوصية ،ممن تمكنوا من قراءة ھذه الكتب .إيريناوس ابن
مدينة ليون كان أحد ھؤالء ،فقد كتب كتابا ً من خمسة مجلدات بعنوان ") "Adversus Haeresesضد البدع(.
المجلد األول فقط ھو الذي تمت ترجمته ،والذي َيس ُھل جدا الحصول عليه ،ذلك أن إيريناوس يسخر فيه من أفكار
الغنوصية .أمّا المجلدات األخرى المكتوبة باللغة اليونانية والالتينية ،فھي مخبأة في مكتبة ما يصعب الوصول إليھا.
وھذا أمر مفھوم؛ ألن المجلد الثاني يشير إلى أفكار غنوصي كبير ھو مارسيون ،لكنھم ال يريدون للناس أن يتعرفوا
على أفكاره أو يقرأوا عمله الخالد "التضاد" على سبيل المثال .لقد حاول أعداء الغنوصية التأكد من أنه ال ينبغي أن
يستنير شخص ما أو يستيقظ بسبب كتاب مارسيون؛ ولن يسمحوا بأي حال في أن تنھار إحدى أديان خالق الكون
المادي!
لكن المجلد الثالث ،وھو المجلد الذي حرصوا على إخفائه بإتقان أكبر ،ھو الذي يصف مراسم تكريس الغنوصي.
فإذا كانت ھذه حال الكتب المعادية للغنوصية ،والتي كتبت من قِ َب ِل أشخاص ليسوا أقل شأنا ً من القديس إيريناوس،
والمليئة بالتشھير والسخرية ضد الغنوصية ،والتي تمت حراستھا بحذر شديد ...فماذا يمكن أن نتوقع في حالة
وجود كتاب غنوصي حقيقي!
لقد توصّلت العالمة الكبيرة في الغنوصية ،إلين باغيلز ،إلى المجلد الثالث عن طريق إيريناوس ليون ،وفي كتابھا
"األناجيل الغنوصية" تصف تفاصيل عدة من التكريس الغنوصي .تخبرنا باغيلز أن المريد يدرك اآلن أنه كان سابقا ً
يعبد ويخدم خالق الكون المادي ،الذي كان يخلط بينه وبين اإلله الحقيقي قبل أن يصل إلى تلك اللحظة .فخالل مراسم
التكريس ،يتوجه المريد إلى خالق الكون المادي معلنا ً استقالليته عنه وعن خلقه ،قائالً له إنه اآلن لم يعد ينتمي إلى
المكرس با الذي ال سبيل إلدراكه ،ويرفض سلطة اإلله الخالق ّ مجال سلطته ،وإنه قد تجاوز كل ذلك " .يعترف
ً
وأوامره ،ويعلن أنه تحرر من سلطة خالق الكون المادي إلى األبد .ومن اآلن فصاعدا ستكون عالقته بخالق الكون
المادي مختلفة كلّيا ً .
من خالل التكريس يكون المكرّ س قد غيّر عالقته با الخالق جذريا ً .وفصل نفسه عن خالق الكون المادي وعن كل
خليقته .وفصل نفسه عن جسده ونفسه .وھو اآلن خارج القوانين التي تحكم عالم المادة والزمن .إنه اآلن خارج كل
شيء ،باستثناء روحه .
دعونا اآلن نعود إلى موضوع التكريس الذاتي .ھناك أشخاص ممن استيقظوا بعض الشيء ويبحثون بيأس عن
المسار الذي يؤدي بھم إلى تحرير أرواحھم .ھؤالء األشخاص يمكنھم تكريس أنفسھم وإحداث التغيير التجاوزي
الذي يقودھم إلى الروح .
سوف أروي اآلن صيغة التكريس الذاتي التي وضعھا وطبقتھا على نفسي:
في الليل ،وعندما يكون في السرير ،ويستعد للنوم ،فإن كل من يريد ھذه الرغبات يستطيع أن يردد الكالم التالي
عقليا ً إلى أن يغفو" :أريد أن أفصل نفسي عن اإلله الخالق وخليقته ،أريد أن أفصل نفسي عن المادة والزمن ،أريد
أن أفصل نفسي عن جسدي ونفسي ،أريد أن تتحد ذاتي مع روحي ،أريد لروحي أن تتحرر ،أريد أن أكون روحي،
أنا روحي " .
صيغة التكريس الذاتي ھذه تؤدي إلى نتائج مذھلة بشكل ال يصدق؛ ومع ذلك يجب تطبيقھا بحرص .فمن األفضل
عدم ممارسة ذلك كل ليلة ،على األقل في البداية .
ھذا النمط من التكريس الذاتي الليلي يقودنا إلى الحاالت التي نتلقى فيھا التكريس أثناء النوم .في ھذه الحاالت ينتقل
المريد من جسده المادي وتجرى مراسيم التكريس في أبعاد أخرى من الكون المخلوق .ھناك مكرسين حصلوا على
تكريس واحد ،أو اثنين ،أو حتى ثالثة تكريسات أثناء النوم .آخرون تلقوا التكريس األول على المستوى الجسدي،
والباقي خارجه .كل حالة فريدة من نوعھا ،وال توجد حالتان متشابھتان .
خالل تنفيذ مراسم التكريس أثناء النوم ،رغم أن المريد يكون بعيداً عن جسده المادي ،إال ّ أنه يكون واعيا ً تماما ً لما
يحدث .
ليس مكرسي الروح وحدھم من يحصلون على التكريس في أبعاد أخرى ،وإ ّنما مكرّ سي النفس أيضا ً .
في حالتي ،بحثت في جميع أنحاء العالم ،ولسنوات عديدة ،عن شخص يمكن أن يعطيني التكريس الغنوصي الحقيقي.
في النھاية عثرت على ذلك الشخص الذي كان يعيش كل تلك السنوات في مكان يبعد عن بيتي أقل من مائة متر!
كنت قد بحثت في بلدان بعيدة عن ذلك الذي كان في متناول اليد .عندما ذھبت وطرقت بابه قيل لي إنه كان قد غادر
ھذا العالم منذ وقت قصير .كانت خيبة أملي كبيرة إلى درجة أنني فكرت أن الطريقة الوحيدة للحصول على التكريس
الغنوصي الحقيقي ھي البدء في تكريس نفسي أثناء النوم ،وفي أبعاد أخرى من العالم المخلوق .
واآلن سأروي بعض التجارب التي حدثت لي :
ذات ليلة ،حيث كنت أقرأ حينھا كتاب "الوجه األخضر" ،للمؤلف غوستاف ميرينك ،كررت عقليا ً عدة مرات قبل أن
أنام "أريد تحرير روحي" ،وبعد ذلك غرقت في النوم .كانت قد مضت نصف ساعة عندما أيقظني نور ساطع .ظللت
مغلقا ً عينيّ ،ولكن باستطاعتي رؤية النور الساطع .كان كل شيء من حولي نوراً .فتحت عينيَّ ببطء ،وأدركت أن
ھذا النور الشديد يمأل الغرفة بأكملھا .اعتقدت أن شخصا ً ما دخل بيتي وأشعل األنوار ،ولكن الحال لم يكن كذلك ،فقد
كانت األنوار مطفأة؛ وكان ھذا نوراً مختلفا ً ،نور غريب لم يسبق لي أن رأيت مثله من قبل .ودون أن أتحرك،
نظرت في كافة أنحاء الغرفة ووجدت أن النور ينبعث من إحدى زوايا الغرفة .شعاع من الضوء كان يتدفق من
الزاوية ،وقد مأل الغرفة بالفعل ،تدفق عليھا مثل ضباب مضيء اجتاح كل شيء .وفي مواجھة ظواھر مثل ھذه،
يجب أن نحاول أال ّ نخاف ونتذكر أن الخوف ال وجود له بالنسبة للروح .إن الروح ال تخشى شيئاً ،ألنھا غير قابلة
للتدمير ،وھي خالدة وأبدية .
مت على أنعز ُفي ليلة أخرى ،وبعد قراءة بضع صفحات من كتاب "نظرية الحياة األبدية" لمؤلفه رودني كولنَ ،
أكرر ذھنيا ً عبارة "أريد الحصول على تكريس الروح" ..إلى أن غرقت في النوم .بعد أربعين دقيقة ،أيقظني الضوء
نفسه الذي كان من قبل ،غير أنه اآلن كان ھناك أيضا ً شخصان في الغرفة .ظللت مغمضا ً عينيَّ ،لكني "شعرت"
بوجود رجلين يقفان بجانب سريري .فأخذت أفكر "كيف دخال إلى ھنا إذا كانت األبواب والنوافذ موصدة ،وأنا
وحدي من لديه مفاتيح المنزل؟" كنت أخشى أن أفتح عينيَّ ،وأخاف من النظر إليھما ،وأخشى أن يالحظا أنني
ُ
حافظت على عينيَّ استيقظت .ثم سمعت صوتا ً غريبا ً وقويا ً" :أنت دعوتنا وھا نحن وصلنا ،واآلن أنت خائف!"
مغمضتان ،ولم أر ّد .كنت أرغب بالھروب ،لكنني كنت أخشى من أن يھاجمانني إذا حاولت .بعد ذلك ،سمعت صوتا ً
يقول" :إنك لم تكن على استعداد تام" ،ثم أردف قائالً" :ليس أمامك خيار آخر" .وفي الحال أدخال في رأسي شيئا ً
يشبه اإلبرة ،دون إعطائي الوقت لكي أرد أو أدافع عن نفسي .شعرت أنھما كانا يحقنان دماغي بسائل ما ،وذلك
باستخدام ما بدا لي أنه نوع من حقنة معدنية أو شيء من ھذا القبيل .ثم غفوت .منذ ذلك اليوم شعرت في داخلي
بمسافة ما تفصلني عن العالم ،وكنت أعرف دون أدنى شك ما ھو الھدف بالضبط مما كرست له كل جھودي لبقية
حياتي .باإلضافة إلى أنني الحظت اختفاء شكوكي وارتيابي حول المسار األكثر مباشرة نحو الروح.
إن الخوف الموجود في اإلنسان ھو عالمة على أنه ال يزال محدداً بالعالم المخلوق وقوانينه .إنه إشارة على أنه ال
يزال يحب المادة ،ويحب جسده ونفسه ،وال يريد أن يفقدھما .لھذا السبب يجب أن يكون انفصاله تدريجيا ً عن كل
شيء مخلوق .وكلما تق َّد َم بالروحانية كلما ق َّل خوفه ،وفي الوقت ذاته ،مثلما قلنا سابقاً ،يزداد عداؤه تجاه العالم
النجس والزائل ،وھذا ھو الدليل على أن الشخص أصبح قريبا ً من روحه .
بعد سنوات ،كانت لي تجربة مماثلة بعد التكرار العقلي قبل النوم .فقد ظھر الضوء نفسه ،وكذلك الرجلين نفسھما.
وھذه المرة قال الصوت" :اآلن ال يوجد أيّ خوف" .ثم أدخل في رأسي أداة غريبة أرسلت شعاعا ً أشبه بالشعاع
الليزري .ثم حفرت على رأسي بواسطة الشعاع رمزاً غريبا ً على شكل مع َّين .بعد تلك التجربة الثانية ،والتي كانت
أقل عدوانية من األولى ،الحظت أنني أصبحت اقرب إلى روحي دون أن أنظر حولي أو إلى الوراء .لقد بات
الطريق ممھداً بالكامل ،وتحول إلى طريق مباشر ،واآلن ما عليَّ سوى أن أسير عليه .
التكريس الثالث يھدف إلى المساعدة على التحوّ ل النھائي وتسھيله ،وھو الخالص الحقيقي .
من أنا؟ أنا الروح غير المخلوقة واألبدية،والتي قٌي ّدت في جس ِد ونف ٍ
س مخلوقين وزائلين ،ومسجونة في العالم المادي.
وج ُ
دت ھنا؟ لماذا ِ
إنني ھنا لكي أُستَخ َد َم كحيوان اختبار في تجربة مجنونة تصورھا إله أدنى منزلة .ھذه الخطة تتطلب روحا ً خالدة لكي
تُس َجنَ من أجل استخدام قوتھا المضادة للمادة لفرض تطور ھذا المسخ البشري النجس الذي يسمى الجسد والنفس .إن
ق من أجله :التحول نحوقوة الروح ھي أمر أساسي كي يتمكن اإلنسان إلى درجة ما من تحقيق الھدف النھائي الذي ُخلِ َ
خالق الكون المادي .ھذه الطاقة المضادة للمادة ،القادرة في حد ذاتھا على أن تش ّك َل خطراً على كل الخلق ،تم تعطيلھا
جزئيا ً وتقليص قدرتھا لكي تُستَخدَم بأمان .لھذا السبب يجب تقييد الروح وتشويشھا ،لكي تساھم فقط بجزء صغير
للغاية من إمكاناتھا في العمل الشرير لخالق الكون المادي.
يجب أن أستيقظ .يجب أن أصبح مدركا لوضعي الحقيقي وأجد مخرجا ً .بعدھا يجب أن أحرر نفسي وأھرب من ھذا
السجن.
واآلن بعد أن قمنا بالرد على األسئلة الثالثة ،سوف نلقي نظرة على ما قاله غوستاف ميرينك بھذا الشأن ،ذلك المكرﱠس
الغنوصي العظيم الذي عبر ھذه التجربة بنجاح:
يقدم لنا ميرينك في كتابه األكثر عمقا وروعة "الوجه األخضر" ،مفتاح عملية تحرير الروح :دعونا نستعرض ھذه
القضايا ھنا ،ألنھا الجواب المثالي على السؤال الثالث الذي طرحناه بشأن ما يجب أن نفعله .بعد ذلك سوف نضيف
العديد من النقاط األخرى.
يقول ميرينك" :الوالدة الثانية ھي والدة روحية"" ،الوالدة الثانية تكون عندما تحرر الروح نفسھا"" ،الوالدة الروحية
الثانية تقودنا إلى الحياة األبدية" .يعطينا ميرينك تقنية ويوصي بممارسة يجب اعتمادھا" :يجب عليك أن تسأل الروح،
ألنھا الوحيدة التي يمكن أن تسمعك"" ،يجب أن تتحدث إليھا ،ال تسأل سواھا" .ھنا يقول ميرينك بطبيعة الحال أن ﷲ
الذي ال سبيل إلدراكه بعيد جداً عن الشخص العادي ،وعن خالق الكون المادي ،الذي ربما يتسمع له ،لك القاضي الذي
لن يغير األحكام الكارمية ويوافق على طلب تافه لشخص تافه .كل ما تبقى لنا ھو أن نسأل الروح .أ ّما في حالة وجود
شخص استيقظ وحرر ذاته ،فستكون األمور مختلفة؛ سيكون بالفعل قادراً على تغيير المشيئة والقوانين واألقدار .ولكن
إذا أراد الشخص العادي أن يُستَ َمع له ،فيجب عليه أن يخاطب روحه .يقول ميرينك" :إذا كنت تريد أن تصلي ،فص ﱢل
لذاتك غير المرئية ،فھي اإلله الوحيد الذي يُصغي لصالتك" .ويضيف أيضا ً" :إذا كنت ترغب في تسريع األمور،
فاطلب من روحك أن تقودك إلى الھدف العظيم عبر أقصر الطرق ،وستفعل ذلك" .لھذا ،ولكي تتقدم نحو ھذا "الھدف
العظيم" ،ليس عليك أن تنظر إلى الخلف ،أو تتلفّت حولك أو تشتت انتباھك .يجب أالّ تثني اھتمامك مغريات العالم
الكثيرة .ويجب أن تبقي عينيك مثبتتان جيداً على ھذا الھدف العظيم.
لقد أعطانا ميرينك بعض األفكار الجيدة التي يمكن أن توضع موضع التنفيذ أثناء الليل .حالما نكون في السرير
استعدادا للنوم ،فيمكننا أن نكرر عقليا ً عبارات مشابھة لما يلي" :أريد أن أوحﱢ َد ذاتي معك أيتھا الروح الخالدة"" ،أريد
أن أستيقظ"" ،أرشديني إلى الھدف العظيم" .وبدون أن نفشل ،سوف نلحظ التغييرات في صباح اليوم التالي .بيد أن
عدداً قليالً جداً من األشخاص يتحدثون لروحھم! ومع ذلك فمعظمھم ينامون كقطعة خشب ميته!
بالنسبة لميرينك" ،تحرير الروح ھو الشيء الوحيد المفيد الذي يمكن القيام به في الحياة ،وھو المھمة الوحيدة التي كان
ينبغي القيام بھا ،وما من شيء آخر يبرر ھدر الوقت عليه ،فكل ما تبقى عديم الفائدة ،وھو المھمة الوحيدة ،بل األكثر
أھمية ،والتي يمكن للمرء أن يكرس لھا حياته".
عندما تتحرر الروح ،فيتروحن جسد اإلنسان وتتروحن نفسه .إذن ھذا ھو "الھدف العظيم" لميرينك ،وھو أن الروح
تح ﱢول الجس َد وتحول طبيعته إلى طبيعة روحية.
ق جسد ونفس اإلنسان لغرض آخر :وھو لو حدث ھذا ،فسيكون شيئا مروّعا بالنسبة لخالق الكون المادي! ذلك أنه َخلَ َ
أن يكون شبيھا به ويتحول إليه .أ ّما اآلن فينتھي األمر باإلنسان إلى أن يتحول إلى روح! ال يقتصر األمر على تحرير
السجين لنفسه ،ولكنه عالوة على ذلك يستولي على قطعة من عمل خالق الكون المادي! لقد أوجد خالق الكون المادي
اإلنسان بحيث يتطور حتى يتحول إلى قناة إظھار لنفسه ،ولخالقه! ثم فجأة يتحول اإلنسان إلى أداة إظھار للروح! وھا
يعجب به ويعبده ،ولكن حدثق اإلنسان لكي َ ھي الروح المحررة تقوم بانتزاع أھم أعماله و ُتفشِ ُل خططه .لقد َخلَ َ
العكس :فقد تم تحويل جسد ونفس اإلنسان بواسطة الروح إلى معارضين ُمر ّوعَين للخالق وعمله.
حدث له التحوّل يصبح مدركا ً لعبثية كل شيء ،ويالحظ تدريجيا ً أن اآلخرين ليسواَ يقول ميرينك إن الشخص الذي
أكثر من خياالت وأشباح ،وإنه ھو نفسه كان دائما ً واحداً منھم أيضا ً .فالشخص الذي يتحول بھذه الطريقة يشعر بعزلة
أبشع مما يمكن تصوره ،لكنه شيئا ً فشيئا ً سوف يكيف نفسه على ھذه الحالة الجديدة ،وسيتغلب على كل الصفات
الرديئة ،وعلى العزلة شعر بھا في البداية ،وسوف يصل إلى مملكة جديدة :ھي اليقظة .يقول ميرينك إن "اليقظة ھي
صحوة الذات الخالدة واألبدية " .لقد استيقظ الشخص ،واآلن ال يوجد نوم بالنسبة له .إنه في حالة من اليقظة الدائمة،
مثل قابيل ،الخالد.
ال يصبح خالداً وأبديا ً إالً الشخص الذي استيقظ وترو َحنَ ،ولن تكون البرااليا قادرة على تدميره .غير أن كل ھذا ال
يحدث من تلقاء نفسه .فھو ليس سوى احتمال بعيد ،ذلك أن ھناك جھود قصوى يجب أن تُب َذل لتحقيق ذلك.
ثم يضيف ميرينك قائال إنه عندما تتحرر الروح ،فيتحرر كل الخلق بعض الشيء .عندما يتروحن الجسد والنفس
بواسطة الروح ،فيتحول إلى درجة ما الخلق بأكمله .نحن نقول إن العمل الغنوصي األسمى يؤثر على الكون.
يقول ميرينك" :إذا تح ﱠو َل شخص واحد بشكل عميق ،فإن عمله لن يموت أبدا ،ألنه سيفتح ثغرة لن تُغلَ َ
ق مرة أخرى.
وعلى الرغم من أن اآلخرين ال يدركون ذلك ،فسوف يمزق الشباك التي تبقي البشرية سجينة.
ووفقا لميرينك ،عندما تسيطر الروح ،فإن الشخص الذي تحول بھذه الطريقة يمكن أن يعيش في أبعاد مختلفة في
ك في ھذه العوالم ،فقد جعل نفسه ملكا ً على كل ھذا الخلق ،ويستطيع نقل
الوقت نفسه ،ألنه غيﱠ َر الزمان والمكان .إنه َملِ ٌ
نفسه من مكان إلى آخر ،أو بمقدوره أن يكون في أماكن مختلفة في الوقت نفسه .تلك ھي قوة الروح.
اآلن سوف نلقي نظرة على ما تخبرنا به الغنوصية األصلية حول عملية تحرير الروح ھذه.
للبدء بھذه العملية ،على المرء أن يختار واحدة من ذواته ،وھي الذات األقوى ،واألكثر تجانسا ً مع روحه .أ ّما الذوات
األخرى فغير مھمة ،ألن ذاتا ً واحدة فقط ھي المھمة ،وھي ذات الروح .ھناك العديد من الذوات في كل إنسان ،لكن
ذاتا ً واحدة واحد فقط تتوافق مع الروح .والباقي ذوات النفس ،وھذه األخيرة تشجع اإلنسان على "حب ﷲ" "ومحبة
جاره" ،و "تحويل الخد اآلخر" ،و "مشاركة كل شيء مع اآلخرين" ،و "التعاون في خلق ﷲ" ،وما إلى ذلك .غير أن
الحقيقة عكس ذلك؛ فذات الروح ھي أعظم خصم للخالق وخلقه ،ومن الضروري التمييز بين الذات التي تتوافق مع
الروح ،ومع ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه ،من جھة ،وغيرھا من األنفس ،التي ھي الجيوش الحقيقية للشياطين ،من جھة
أخرى.
يقول القديس توماسَ " :ميﱢز لكي تتحد" ،أ ّما الغنوصي فيقولَ " :ميﱢز لكي تنفصل"َ .ميﱢز لكي تُ َميﱢز على نحو أفضل
وتضع كل شيء في مكانه .تقبل الخير وارفض الشر .تقبل ما يوقظك ،ويحررك ،وارفض ما يقيدك ويسجنك .ميﱢز
لكي تقطع وتفصل بين جانبين ال يمكن التوفيق بينھا ،وينخرطان في صراع داخل اإلنسان .ميّز وافصل إلنھاء
التشوّش ،ولكي تضع كل شيء في المكان الذي ينتمي إليه.
الروح في اإلنسان تمثل ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه .أ ّما الجسد والنفس فيمثالن اإلله الخالق .ھذا ھو ما ينبغي التمييز
بينھما :الخير والشر داخل اإلنسان.
سبق أن قلنا إن اإلنسان أمامه مسارين ،ويجب أن يختار أحدھما :إ ّما مسار الروح ،أو مسار النفس .إ ّما تضخيم
النفس ،أو التبرؤ منھا .إ ّما أن تكون انعكاسا الذي ال سبيل إلدراكه ،أو انعاسا ً لخالق الكون المادي.
من يختار مسار النفس ،فسوف يذوب في خالق الكون المادي .ومن يختار مسار الروح ،فسوف يضطر إلى مواجھة
خالق الكون المادي وقتاله وجھا لوجه ،وھو الطريق الوحيد لتحرير الروح.
في ھذه المعركة النھائية ،فإن خالق الكون المادي سيكون القوة المذيبة الكبيرة ،والتي تسمى أيضا كونداليني ،وھي
خالق الكون المادي في اإلنسان .إذا فشل المحارب ،فلن تكون ھناك فرصة ثانية في ھذه المانفانتارا .3ومن المحتمل
أن تتفكك ذاته إلى ألف قطعة ،وسوف يموت المحارب أو يصاب بالجنون .ھناك العديد من مثل ھذه الحاالت في
مستشفيات األمراض العقلية :محاربون ضربتھم قوة الكونداليني لخالق الكون المادي .وفي أفضل األحوال ،سيتحول
إلى أحد عابدي الخالق الدائمين ،أو إلى "سيﱢد" للمحفل األبيض .من ناحية أخرى ،إذا كانت ذات الروح قوية بما فيه
الكفاية ،فسوف تكون قادرة على ھزيمة كونداليني خالق الكون المادي ،وتحرير الروح إلى األبد .سوف يفقد المحارب
وعيه لفترة قصيرة ،ثم يعود للحياة من جديد في وقت الحق كروح .عالوة على ذلك ،سيكون المحارب قادراً على
اإلمساك بقوة الكونداليني واستخدامھا ضد خالق الكون المادي نفسه .ستكون ھناك أيضا حاالت يكون فيھا المحارب
قد تشرب القوة الروحية إلى درجة أن قوة الكونداليني لخالق الكون المادي ترفض القتال ضده .وإن المحارب ،من
خالل وسائل مختلفة ،يجعلھا تظھر وتقاتل .في ھذه المعركة النھائية ،الضرورية جدا والحاسمة ،يمكن أن يخسر
المحارب كل شيء خالل فترة المانفانتارا تلك ،أو يفوز بكل شيء إلى األبد .فمن ھو المحارب الذي لن يكون متلھفا ً
للدخول في ھذه المعركة؟
إذا نجح المحارب ،وإذا تمكن من بناء جسر للروح وتحريرھا من سجنھا في العالم المادي ،وتحقيق الخالص الحقيقي،
فسيظھر مسارين أمامه مرة أخرى .أ ّما وقد ھزم خالق الكون المادي ،فقد يتسبب في إحداث اضطرابات في الكون
بر ّمته ،ويجد نفسه مرة أخرى ممتلكا ً القوى الكامنة في الروح ،المتفوّقة بال حدود على تلك التي يمتلكھا اإلله الخالق.
لكنه سيجد نفسه مرة أخرى مضطراً لالختيار بين مسارين.
واحد من ھذين المسارين ھو العودة إلى ملكوت ﷲ الذي ال سبيل إلدراكه ،والذي جاء منه ،ولن يعود أبداً إلى جحيم
خالق الكون المادي .وفي ھذه الحالة ،سوف يعود إلى ما كان عليه قبل سجنه في العالم المادي.
أ ّما المسار اآلخر ،وھو المسار الذي تختاره معظم األرواح المح ﱠر َرة ،ھو البقاء في ھذا العالم للقتال من أجل تحرير
األرواح المأسورة األخرى.
3 المانفانتارا .تتكون المانفانتارا من واحد وسبعين جزءاً تدعى مھايوكا ،ومدة كل مھايوكا ھي أربع ماليين وثالثمائة وعشرون ألف سنة
أرضية .وھي تشكل العصور الكونية األربعة.
لذلك فإن المحارب الناجح ،إ ّما أن يتخلى عن جسده ونفسه إلى األبد ،ويعود إلى العالم الذي أتى منه ،أو يقرر البقاء
ھنا ،واالستمرار في القتال من أجل تحرير سجناء خالق الكون المادي .فإذا قرر البقاء ،فسيكون قد حول نفسه إلى
منقذ للبشرية والعالم ،إلى ديفيا خالد وأبدي ،إلى عضو جديد في األخوة السوداء لمحاربي الروح.
عندما تختار الروح المتحررة البقاء في جحيم خالق الكون المادي لمواصلة القتال ،حتى تحرير آخر األرواح
المسجونة ،فسوف تضطر إلى استخدام جسدھا ونفسھا كأدوات .ولكن جسدھا القديم ونفسھا ،التي أنشأھا خالق الكون
المادي ،ليست مناسبة الحتواء الروح التي حطمت السالسل واستعادت قدراتھا ،ألنھا ستنحل على الفور وتتفكك .قبل
كل شيء ،يجب أن تحول الروح جسدھا ونفسھا ،اللذان ھما نجسان أصال ،ومصنوعان من مادة خالق الكون المادي
الھالكة .سيتم تحويل طبيعة الجسد والنفس إلى طبيعة إلھية وأبدية بواسطة الروح :إلى فاجرا 4غير قابل للتدمير.
وھكذا سيصبح الطين وأنفاس خالق الكون المادي نقية ومتألقة .وسوف تشكل مع الروح إلى األبد كيانا واحدا فقط،
غير قابل للفصل أو االنحالل .وبھذه الطريقة تكون الروح مشمولة بالفاجرا ،وھي المادة اإللھية ،والتي ستسمح لھا
بالعمل والسفر عبر الفضاء والزمن في مھد خالق الكون المادي ،وفي الوقت نفسه تنتج ظواھر موازية ومستمرة
تقريبا ً .إن لون الفاجرا الناتجة عن تحول المادة النجسة بواسطة الروح المحررة ،ھو لون أحمر كالدم ،وھي أقسى من
الماس .كما أن الفاجرا أبدية و غير قابلة للتدمير .ال يمكن تدميرھا من قبل خالق الكون المادي عندما تنتھي
المانفاتارا.
لقد استولت الروح المنتصرة على جزء من خلق الديموريج ،وھو النفس والروح ،وحولتھما إلى مادة إلھية بواسطة
قوة الروح! ليس لخالق الكون المادي سيطرة عليھا .لقد تحول المخلوق إلى غير مخلوق من خالل قوة الروح! لقد
أنشأ خالق الكون المادي جسد ونفس اإلنسان الستخدامھما زنزانة لسجن الروح ،ولكن من اآلن فصاعدا ستستخدمھما
الروح المتحررة كأدوات لمعارضة عمل خالق الكون المادي وخططه! لقد حان الوقت النتقام الروح.
قلنا إن الروح أصبحت كيانا ً إلھيا ً واحداً مع جسدھا ونفسھا .اآلن ستكون دائما ً روحا ً ونفسا ً وجسداً ،وإلى األبد .وھذا
الكيان له الخصائص الفيزيائية نفسھا كالتي كانت للمحارب في وقت تحوله .سواء كان شابا ً ،أو عجوزا ،أو أشقرا ،أو
أسمرا ،أي الخصائص الفيزيائية نفسھا التي كانت له وقت تحوله إلى مادة إلھية مصنوعة من فاجرا غير قابلة للتدمير.
في عملية التحرير ھذه ،وانتصار الروح ،يقال إن الجسد والنفس قد ماتا وتم بعثھما في وقت الحق .لقد حفظتھما
الروح ودمجتھما مع نفسھا .ھذه الروح ،المغطاة اآلن بجسد ونفس الفاجرا ،أصبحت مختلفة أيضا ً بالنسبة لألرواح
األخرى .فھي لن تعود مرة أخرى كما كانت عليه عندما كانت مسجونة من قِبَ ِل خالق الكون المادي :إنھا روح حرة
من المستوى الذي ال يمكن للبشر إدراكه .لقد قررت البقاء في جحيم خالق الكون المادي واستثماره مع الفاجرا
الراسخة إلى األبد .من اآلن فصاعداً ،سوف تكون الفاجرا دائما ھي العالمة الفارقة والسمة المميزة للروح ،والدليل
المثالي النتصارھا على خالق الكون المادي الشيطاني وعالمة مميزة على تحولھا إلى منقذ للبشرية والعالم .الجسد
والنفس اصطبغا باأللوھة واندمجا مع الروح ،ستكون الوسام الذي تتباھى به الروح إلى األبد كتذكار على مرورھا
المظفر عبر عالم المادة المخلوقة الفاسد.
ھناك نص غنوصي قديم في سفر التكوين قيل من وجھة نظر الثعبان لوسيفر ،ذلك النص الذي اختفى منذ ألف
وستمائة سنة ،وتم الكشف عنه بأعجوبة في القرن العشرين في نجع حمادي في مصر .في ھذا النص ،ما يسمى ب
"شھادة الحقيقة" ،وفيه ذكر لتأثير الروح المحررة على مملكة خالق الكون المادي.
إن بعض نصوص نجع حمادي تحدثنا عن بعث الجسد بعد الموت .ال يمكن أن تتوفر القيامة الحقيقية والخالص إالّ
للروح المحررة والمنتصرة .وفي األسطورة المسيحية ھناك إشارات واضحة إلى عمل الروح ،وإثبات األصل
4 فاجرا ،ھي كلمة سنسكريتية تعني الصاعقة والماس في آن معا ً .باإلضافة إلى ذلك ،فھي سالح يستخدم كأداة طقوسية ترمز إلى كل من
خصائص الماس )غير القابل للتلف( ،والصاعقة )التي ال تقاوم( .المترجم ،نقال عن )ويكيبيديا(.
الغنوصي لھذا الدين .عندما قيل لنا إنھم ذھبوا للبحث عن جسد المسيح في القبر ولم يجدوه ،فيقولون بوضوح إن
جسده كان من الفاجرا ،وبأنه قد غادر مع الروح .بعبارة أخرى ،كان ھذا الكالم يتعلق بالمنقذ الحقيقي لإلنسان والعالم.
وھذا أفضل دليل على ذلك؛ فإذا أردنا أن نعرف ما إذا كان مرشد البشرية رسوالً حقيقيا ً أو مخلصا ً ،فإن أفضل شيء
يمكننا القيام به ھو أن نذھب ونبحث عن الجثة في القبر .فإذا لم نتمكن من العثور عليھا ،فذلك ألن الجسد كان من
الفاجرا ،وقد غادر مع الروح متحداً معھا بالكامل.
عالوة على ذلك ،لم تذكر المسيحية أن المسيح قد "اندمج مع ﷲ" أو "اتحد مع ﷲ" .بل على العكس من ھذا ،فكانت
تؤكد دائما ً بأن "المسيح مع جسده ،يجلس على يمين ﷲ" .عندما يقولون "مع جسده" ،فيمكننا أن تضيف "من
الفاجرا" .ھذه اإلشارات واضحة :فالمسيح ھو كيان منفصل ،وﷲ الذي يشيرون إليه ال يمكن أن يكون اإلله الخالق،
خالق الكون المادي.
إذا دخلت الروح المح ﱠر َرة والمظفرة المستوى الذي ال يمكن للبشر تصوره ،فسوف تفعل دائما ً ھكذا بجسدھا الجديد
المكون من الفاجرا ذي اللون األحمر ،والذي لن تكون الروح قادرة على فصل نفسھا عنه طوال حياتھا األبدية .إن
الشخص الذي ولد من جديد بھذه الطريقة :فقد "ولِ َد مرتين" " ،دون أن يموت" ،وھو شخص خالد وأبدي .مثل ھذا
الشخص ،الذي حرر نفسه من خالق الكون المادي ومن سلسلة التقمصات ،والذي انفصل نھائيا ً عن كل شيء مخلوق
ھائل في الكون المخلوق .عندما تح ﱢر ُر الروح نفسھا ،فتتحرر قليالً كل
ٍ ونجس ،سيتسبب دائما ً في إحداث اضطرا ٍ
ب
الخليقة .عندما تتولى روح ما تحرير نفسھا ،وتھزم خالق الكون المادي وجھا لوجه ،فيخسر ھذا األخير الطاقة والقيود
التي تسجن األرواح األخرى ويصبح أضعف أيضا ً.
عندما تقرر الروح البقاء في جحيم خالق الكون المادي ،فھذا يعني أنھا سوف تقاتل بال كلل حتى يتم تحرير جميع
األرواح ،وستواصل قتال خالق الكون المادي ،إلى أن يضعف ،ويقضي على أنفاسه الضارة :البراالياس و
المانفانتاراس ،حتى ال يعود بمقدوره خلق أي شيء ،وينتھي إلى الزوال .وبھذه الطريقة ،ستختفي كل ثنائية ،ويعود
الكون إلى حالته األحادية فقط :وھي المملكة الخالدة الحقيقي الذي ال يمكن إدراكه.
النھاية