You are on page 1of 24

‫سلسلة‬

‫كيف تجدد إيمانك‬

‫تجدد إيمانك‬
‫كيف ّ‬
‫بواسطة منهاج إجرائي‬

‫اﻷستاذ التهامي الشامي‬

‫‪1‬‬
‫إهداء‬

‫إلى أحبائي أعز الناس إلى قليب ‪ ،‬فلذة كبدي ومهجة حياتي ‪ ،‬ذرية تؤتي خصالها الطيبة كل حني‬

‫بإذن ربها ‪ ،‬لكم مين حسن الرضا وأصدق الدعاء ‪ ،‬وإلى رفيقة العمر وشقيقة الروح أخلص الدعاء‬

‫بالرحمة واملغفرة ‪ ،‬إلى هؤالء أهدي كل حرف خطته يدي إبتغاء مرضاة الله ‪ ،‬وكل فكرة اهتديت‬

‫إليها وزادتين قرباً من الحق سبحانه ‪ ،‬جمعين الله وأيكم على ما يحبه ويرضاه ‪ ،‬وختم لي ولكم‬

‫بسعادة الدارين ‪ ،‬إنه على ما يشاء قدير وباإلستجابة جدير ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫محتويات البحث‬

‫‪5.……4 :‬‬ ‫املقدمة‬

‫‪11.……6 :‬‬ ‫تجديد مفهوم قراءة القرآن‬

‫‪16...…12:‬‬ ‫كيف تجدد إيمانك‬

‫كيف تكتسب الوعي اإليماني ‪19...…17:‬‬

‫‪24...…20:‬‬ ‫كيف تغري الواقع‬

‫‪3‬‬
‫املقدمة‬

‫قال تعالى‪ ":‬رسالً مبرشين ومنذرين لئال يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً‬
‫حكيماً "ـ النساء ‪ 165‬ـ‬
‫تتابعا للحركات اإلصالحية ‪ ،‬اليت تسعى لتصحيح انحراف الفهم‬
‫ً‬ ‫إن بعث الرسل واﻷنبياء ليس إال‬
‫لرسالة االستخالف في اﻷرض ‪ ،‬فكلما زاغت البرشية عن الحق والصواب وترسخت االنحرافات‬
‫رسوال ‪ ،‬ليجدد ويصلح املفاهيم لتحرير العقول من جميع القيود‬
‫ً‬ ‫العبادية واملعامالتية إال بعث الله‬
‫اليت كبلتها ومنعتها من النهوض بأعباء االستخالف على أحسن وجه ‪ ،‬قال تعالى‪ " :‬الذين إن‬
‫مكناهم في اﻷرض أقاموا الصالة وآتوا الزكاة ‪ ،‬وأمروا باملعروف ونهوا عن املنكر ‪ ،‬ولله عاقبة اﻷمور‬
‫ـ الحج ‪ 41‬ـ‬
‫والتمكني يعين‪ :‬القدرة على القيام بعمارة اﻷرض على أساس العدل واملساواة واملحبة واإلخاء ‪...‬‬
‫وتحقيق هذا املبتغى يتطلب تجديد اﻷفكار والتصورات لتالئم املحدثات والتطورات اليت تطرأ على‬
‫ّ‬
‫ينفض الناس عن املنهج الرباني الذي يدعو اإلنسان لحركة حضارية‬ ‫املجتمعات البرشية ‪ ،‬حىت ال‬
‫فتتحول العالقات‬
‫ّ‬ ‫في الفكر واﻷخالق والعمل لينقذه من االستغراق املادي ‪ ،‬والوقوع في بؤرة التشيؤ‬
‫دائما إلى إصالح‬
‫ً‬ ‫بني البرش إلى ما يشبه عالقات آلية بني اﻷشياء ‪ ،‬لذا نجد الخطاب القرآني يدعو‬
‫ممنهج يتماىش مع الفطرة السليمة ‪ ،‬قال تعالى ‪":‬لكل جعلنا منكم |رِشعة ومنهاجا ‪ ،‬ولو شاء الله‬
‫لجعلكم ّأم ة واحدة ‪ ،‬ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ‪ ،‬فاستبقوا الخريات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم‬
‫بما كنتم فيه تختلفون" ـ املائدة ‪ 48‬ـ‬
‫تبني بأن اﻷديان السماوية تتّ فق وتتّ حد في أصول العقيدة فقط ال في الرشيعة ‪ ،‬يقول‬‫اآلية ّ‬
‫السعدي رحمه الله في تفسري اآلية ‪ " :‬لكل منكم أيها اﻷمم جعلنا رِشع ًة ومنهاجاً ‪ ،‬أي طريق‬
‫واضح ال لبس فيه وال غموض ‪ ،‬وهذه الرشائع اليت تختلف باختالف اﻷمم هي اليت تتغري بحسب‬
‫تغري اﻷزمنة واﻷحوال ‪ ،‬وكلها تُرجع إلى العدل في وقت رِشعتها ‪ ،‬وأما اﻷصول الكبار اليت هي‬
‫مصلحة وحكمة في كل زمان ‪ ،‬فإنها ال تختلف ّ‬
‫فترشع في جميع الرشائع ‪ .‬وقوله تعالى ‪":‬ولكن‬
‫ليبلوكم في ما آتاكم "أي يختربكم وينظر كيف تعملون ‪ ،‬ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته‬
‫ويؤتي كل أحد ما يليق به ليحصل التنافس بني اﻷمم ‪ ،‬فكل أمة تُحرص على سبق غريها ‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪" :‬فاستبقوا الخريات" أي ‪ :‬بادروا إليها وأكملوها ‪ ،‬فإن الخريات الشاملة لكل فرض ومستحب‬
‫من حقوق الله وحقوق عباده ‪ ،‬ال يصري فاعلها سابقا لغريه مستولياً على اﻷمر إال بأمرين ‪ :‬املبادرة‬
‫إليها ‪ ،‬وانتهاز الفرصة حني يجيء وقتها ويعرض عارضها ‪ ،‬واالجتهاد في أدائها كاملة على الوجه‬
‫املأمور به‪".‬كتاب ‪« :‬تيسري الكريم الرحمن في تفسري كالم املنان»‬

‫‪4‬‬
‫إن املنهاج اإلصالحي ال قيمة له إذا لم يتوفر له علم يربهن على صحته ‪ ،‬ويحوله إلى سلوك بناء‬
‫علو ا في اإلبداع والتطور والتنمية ‪ ،‬حىت ال يكون املجتمع املؤمن عالة على‬
‫في الواقع يمنح املجتمع ً‬
‫وحل‬
‫ُّ‬ ‫اآلخرين ‪ ،‬ﻷن قانون اﻷخذ باﻷسباب ال يقبل محاباة وال يفرق بني مجتمع مؤمن وغري مؤمن ‪،‬‬
‫يعد نشاطاً ذهنياً معرفياً موجهاً ينتظم‬‫مشكالت اإلنسان يتحقق حرصاً بوساطة التفكري ‪ ،‬الذي ُّ‬
‫خ ّ |طي العقبات‬
‫بشكل منهاجي ‪ ،‬ويسري وفق اسرتاتيجية منظمة ومخطط هادف ‪ ،‬واليمكن أبداً َت َ‬
‫التوسل واﻷدعية ‪ ،‬والقبوع في املنطقة املبهمة بني القدر وخطأ البرش ‪ ،‬وهي‬
‫ُّ‬ ‫وردعها عن طريق‬
‫منطقة تخضع لسوء الفهم أكرث مما تخضع لإليمان ‪ ،‬إذ ال إيمان بالقدر في تفسري فساد البرش ‪ ،‬بل‬
‫اﻷجدر واﻷنفع هو ّ |‬
‫تبين املنهاج املستند إلى االستبصار واملنطق ‪ ،‬الذي يمارسه املؤمن من منطلق‬
‫الوعي اإليماني‪ .‬فاآليات اليت تذكر قصة اهتداء سيدنا إبراهيم عليه السالم إلى اإليمان الصادق‬
‫حل املشكالت ‪ ،‬إلى أن وصل إلى الحل‬‫كلها كانت خطوات فعلية ‪ ،‬ترتكز على عملية التفكري في ّ |‬
‫املناسب للمشكلة برمتها ‪ ،‬فختم أطروحته باستنتاج دامغ ‪ ":‬فأي الفريقني أحق باﻷمن إن كنتم‬
‫تعلمون ‪ .‬الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم اﻷمن وهم مهتدون"ـ اﻷنعام ‪ 81‬ـ ‪82‬‬
‫يبي|نان بعد امتحان االختيار بني الحق والباطل ‪ ،‬واستقراء الرباهني واستخالصها‬
‫إن هذين اآليتني ّ‬
‫ُّ‬
‫التعقل ودالئل الهدى ‪ ،‬اللذين بفضلهما يتم االهتداء‬ ‫من املشاهد الكونية ‪ ،‬مدى االنسجام املطلق بني‬
‫إلى الوعي اإليماني ‪ ،‬الذي يُوصل املؤمن نحو الصالح والتكامل ‪.‬‬
‫أخي في الله اغتنم فرصة التوبة واﻷوبة إلى الله ‪ ،‬فالعرض مستمر إلى حني نفد املخزون من العمر‬
‫وحاول أن تبدأ من اللحظة في تغيري أفكارك ‪ ،‬ﻷنها وحدها الكفيلة بتجديد إيمانك ‪ ،‬وتجديد إيمانك‬
‫هو السبيل اﻷوحد إلصالح أعمالك ‪ ،‬قال تعالى‪":‬إن الله ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما بأنفسهم "‬
‫‪ .‬ـ الرعد ‪ 11‬ـ‬
‫هيا بنا يا أخي في الله نؤمن ساعة فرناجع فيها أفكارنا وما قدمته أيدينا ‪ ،‬ولتكن لك قوة في دين‬
‫وإيمان في يقني ‪ ،‬وعلم في حلم وحلم بعلم ‪ ،‬واستشعر رقابة الله في كل عمل وكل حني ‪ ،‬وأياك‬
‫والتمين بغري عمل فإنه بضاعة الغافلني ‪ ،‬وصارح نفسك قبل مصارحة اآلخرين لك ‪ ،‬ورحم الله‬
‫وع َّجل فأرسل لنفسه طوق النجاة قبل فوات اﻷوان‬
‫امرُأً عرف ذنوبه فاستغفر ربه وأناب إليه ‪َ ،‬‬
‫وجعل لسانه يلهج بقوله تعالى ‪":‬وعجلت إليك ربي لرتىض "ـ طه ‪ 84‬ـ‬

‫الله ولي التوفيق وهو نعم املولى والنصري‬

‫‪5‬‬
‫الخطوة اﻷولى ‪:‬‬
‫تجديد مفهوم قراءة القرآن‬

‫اﻷمية والجهل ‪ ،‬هي‬


‫لقد كانت أول وسيلة لتغيري وتجديد "املجتمع الجاهلي" الذي كانت تسوده ّ‬
‫تحث على تجديد املعرفة ‪ ،‬فكان أول ما نزل من القرآن قوله تعالى ‪" :‬اقرأ باسم‬
‫ُّ‬ ‫توجيه دعوة ربانية‬
‫ربك الذي خلق ‪ .‬خلق اإلنسان من علق ‪ .‬اقرأ وربك اﻷكرم‪ .‬الذي علم بالقلم‪ .‬علم اإلنسان ما لم‬
‫يعلم …"ـ العلق ‪ 1‬ـ ‪ 5‬ـ‬
‫وج ه به الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم ‪ ،‬في أول لحظة من لحظات‬
‫إن أول أمر إلهي ّ‬
‫اتصاله باملأل اﻷعلى هو "اقرأ "بمعناها اﻷوسع ‪ ،‬ولم تكن أهمية القراءة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي‬
‫نلمسه اآلن ونعرفه في حياة البرشية ‪ ،‬ولكنه سبحانه كان يعلم قيمة القراءة‪ /‬املعرفة وأهميتها في‬
‫تجديد وتطوير الحضارة ورقي اإلنسان ‪ ،‬وبأنها هي السبيل اﻷوحد للفهم واإلدراك ومبدأ العلم‬
‫واملعرفة ‪.‬‬
‫تعد نشاطاً ذهنياً قائماً على الفهم واملقارنة واالستقراء ‪ ،‬واالسرتجاع العقلي للمعلومات في‬
‫والقراءة ُّ‬
‫الدماغ ‪ ،‬سواء كانت على شكل مسطور أومنظور ‪ ،‬ومن أهم مقوماتها اإلنتباه واإلدراك والتذوق‬
‫واإلنفعال والتفاعل ‪ ،‬وهي ليست ترفاً فكرياً وإنما غايتها في صريورتها واقعاً فكرياً وسلوكياً ‪ ،‬ولقد‬
‫ملحوظا في التفكري النقدي ‪ ،‬فأضحى التفكري في القراءة قبل‬
‫ً‬ ‫شهدت النظرة ملفهوم القراءة تحوال ً‬
‫املقرؤ ‪ ،‬وهذا أمر مختلف ينطوي على القيمة املرتتبة عن التفكري في القراءة ذاتها ‪ ،‬والنظر في‬
‫أدواتها ومناهج البحث فيها ‪ ،‬مع اﻷخذ بعني االعتبار إختالف املدارس واملناهج ‪ ،‬بحسب اختالف‬
‫منطلقاتها الفكرية واملعرفية ‪ ،‬باإلضافة إلى اﻷسباب الخاصة املرتبطة بذاتية القاريء ‪ ،‬ومن هنا‬
‫تعدد قراءات القرآن ‪ ،‬لخلق وابتكار رؤى تُسهم في تجديد مآالت النص في لحظات‬
‫تأتي مرشوعية ّ‬
‫متجد دة ‪ ،‬بغية توسيع مدارك الفهم في كافة املجاالت املعرفية بمختلف أوجهها الداللية ‪ .‬و هذا‬
‫ّ‬
‫مؤطر‬
‫املفهوم الجديد للقراءة يتطلب تضافر جهود كبرية من تخصصات متنوعة ‪ ،‬لتقديم عمل جماعي َّ‬
‫َّ‬
‫ومنظ م ‪ ،‬يجمع بني اللساني والبالغي والتيولوجي ‪ ،‬واﻷنرتوبولوجي والسيميائي وعلم اﻷديان‬
‫املقارن ‪...‬إلخ ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬ولو أنما في اﻷرض من شجرة أقالم والبحر يمده من بعده سبعة‬
‫أبحر ‪ ،‬ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم "ـ لقمان ‪ 27‬ـ‬
‫وتبني عدم قدرة اإلنسان على إحصاء املعرفة والحكمة من كالم الله املطلق ‪ ،‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫اآلية توضح‬
‫طور نفسها انطالقاً من‬
‫يفيض إلى انفتاح املعىن وتجديد الداللية بواسطة القراءة ‪ ،‬اليت ما فتئت تُ ّ‬
‫صورا‬
‫ً‬ ‫تجديد أدواتها ‪ ،‬إلدراك أرسار القرآن الذي ال تنقيض عجائبه ‪ ،‬واليت ما فتئت تتبلور وتأخذ‬
‫تاريخي ًة شىت ‪ ،‬بحسب املعطيات املؤثرة في اإلنسان الذي له صلة وطيدة باﻷحداث والوقائع‬
‫اليت أعطت مصداقية لتفعيل التعاليم اإللهية ‪ ،‬وجعلها تطابق وتالئم الواقع واﻷعراف ومقتضيات‬

‫‪6‬‬
‫املعيش في مختلف املجاالت واملناحي الحياتية الدنيوية ‪ ،‬ولعل هذا املفهوم املفتوح للقراءة هو الذي‬
‫ينبغي أن نفهم به القرآن ‪ ،‬ﻷن القراءة التقليدية منغلقة تغتال الفضول املعرفي التساؤلي ‪ ،‬و َت |ئد‬
‫تطور الفهم كمرشوع إبداعي يحمله قول الفصل ‪ ،‬قال تعالى ‪ " :‬إنه لقول الفصل وما هو بالهزل"‬
‫ـ الطارق ‪ 14 13‬ـ أي قول حاسم ال ريب فيه ‪ ،‬قول مرض في معانيه وجزالة ألفاظه ‪ ،‬وصائب في‬
‫مصدره ومقصده ‪ ،‬يتطلب قراءة استكشافية دائمة ‪ ،‬سواء من خالل االستبطان اإليماني الروحي أو‬
‫يتجدد‬
‫ّ‬ ‫من خالل التحليل املعرفي العقالني ‪ ،‬لذا يجب أن نغوص في أغواره ‪ ،‬و نتدبره كنص مفتوح‬
‫بالقراءة الجادة والرصينة ‪ ،‬ليصبح خطاباً يالئم ويساير التطور اإليماني على مر اﻷزمنة واﻷمكنة‪.‬‬
‫متعددة وملزتمة‬
‫ّ‬ ‫إن تجديد مفهوم قراءة القرآن يحتاج إلى منهج ضابط يرثي القراءة ‪ ،‬ويجعلها‬
‫بأسس املعرفة اليت تحرتم خصوصية النصوص العقدية ‪ ،‬وتوازي بني املعىن الحرفي وبني املعاني‬
‫املؤو|ل على‬
‫ّ‬ ‫اﻷخرى املطمورة والجاثية في تالوين الخطاب القرآني ‪ ،‬رِشيطة أن ال تطغى سلطة‬
‫النص ‪ ،‬ﻷن املغاالة في التأويل تغتال النصوص وتعصف بها ‪ .‬فقراءة القرآن ليست شيئاً‬‫ّ‬ ‫سلطة‬
‫لتقدم ذاتها وتتبنني وتنضبط كإختيار ثقافي‬
‫اعتباطياً أو ذواتياً ولكنها رؤيا فكرية ـ معرفية ‪ ،‬تسعى ّ‬
‫يعد أداة اإلنسان في التعلم والتمرس والفهم لكل ما يتعلق‬
‫يتولد عنها اإلدراك والفهم املعقلن ‪ ،‬الذي ُّ‬
‫فعال‬
‫بالوجود والحياة واملصري ‪ ،‬وبالتالي فتجديد مفهوم قراءة القرآن يتطلب توظيف منهج علمي ّ‬
‫يتمكن من تشكيل وعي عقدي انطالقاً من‬
‫ّ‬ ‫مكن القاريء من الفهم الحر البعيد عن فكر الوسيط ‪ ،‬حىت‬
‫يُ ّ‬
‫االنفتاح على جميع مصادر املعرفة ‪ ،‬بدل القراءة الحرفية املنغلقة اليت أسست فهماً سطحياً ظاهرياً‬
‫تتبادر إلى ذهن القاريء‬
‫َ‬ ‫وجردته من كل الدالالت ‪ ،‬اليت يمكن أن‬
‫ّ‬ ‫حددت معىن الكلمة الحرفي‬
‫بحيت ّ‬
‫اللغوية فقط ‪ ،‬مع إقصاء باقي‬
‫ّ‬ ‫اﻷصولية على املسألة‬
‫ّ‬ ‫الداللة‬
‫وأقامت سياجاً دوغمائياً ملحورة ّ‬
‫الدالالت اﻷخرى ‪.‬‬
‫وهذا النوع من القراءة لم يتعامل مع القرآن كمؤسس للمعرفة ‪ ،‬وإنما تعامل معه باعتباره شاهداً‬
‫ؤسس للمعرفة إلى اجتهادات‬‫بالحق على معرفة تأسست خارجه ‪ ،‬فكان التحول واالنتقال من قرآن ُم ّ |‬
‫أسستها املعرفة ‪ ،‬فغدت أصالً مرجعياً لفهم وإدراك القرآن ‪ ،‬ومن هنا وجب رضورة االشتغال بآليات‬
‫قراءة جديدة ‪ ،‬ال تتأسس على الذاتية بل على وقائعية الحال وتاريخية الفهم ‪ ،‬إذ أن كل فهم هو فهم‬
‫زماني قصدي تاريخي ‪ ،‬يمتد ليشتمل على ما يعنيه النص في لحظته الراهنة ‪ .‬فالنص ال يرشح‬
‫ذاته إال عرب ثقافة املتلقي ‪ ،‬وبالتالي ليست هناك قراءة دائمة ‪ ،‬بل هناك فحسب قراءة تاريخية‬
‫تتحرك ضمن رِشوطها التاريخية ‪ ،‬لذا يجب أن ندرس القرآن دراسة موضوعية على ضوء واقعنا‬
‫الفكري واملعرفي ‪ ،‬تمكننا من فهم واقعنا فهماً يتجاوز فهم السلف باعتباره حقيقة مطلقة ‪ ،‬ﻷن‬
‫النصوص التفسريية الرتاثية اليت بني أيدينا ‪ ،‬ما هي في الواقع إال نتاج قراءات ذاتية عدة خضعت‬
‫لألهواء وامليوالت اإليديولوجية ‪ ،‬اليت كانت سائدة في واقعهم املجتمعي ‪ ،‬لذا ُّ‬
‫يحق للدارس نقدها‬
‫بناء على أنها منظومة معرفية تؤصل‬
‫ً‬ ‫وتفكيكها وتجاوزها ‪ ،‬بدال ً من من تقديسها والدفاع عنها‬
‫للحقيقة املطلقة ‪ ،‬اليت يجب أن نفهم من خاللها القرآن بمعزل عن واقعنا ‪ ،‬بينما فهم السلف ما هو‬

‫‪7‬‬
‫في الحقيقة إال نتاج جدل الفكر والواقع ‪ .‬فالنصوص الدينية ال يمكن أن تُفهم بمعزل عن الجانب‬
‫رد تلك النصوص إلى‬ ‫بد من ّ‬
‫اإليديولوجي ‪ ،‬الثاوي خلف الواقع الذي نشأت فيه ‪ ،‬وبالتالي ال ّ‬
‫سياقها الثقافي التاريخي ‪ ،‬الذي أُنتجت فيه ﻷنها حتماً محكومة ّ‬
‫بالظروف اليت أفرزتها ‪ ،‬وساهمت‬
‫في إنتاجها وإبداعها وال يمكن لها أن تتعالى عنها ‪.‬‬
‫ومن أهم مقومات القراءة الحديثة ‪ :‬علوم اللغة الحديثة اليت أصبحت أكرث التصا ًقا بعلم الداللة ‪ ،‬مما‬
‫جعلها ترتبط بتحليل السياقات اللغوية وغري اللغوية ‪ ،‬ﻷن االعتقاد بأن املعىن محصور في اللفظة‬
‫املكون الكالمي في كل‬
‫ّ‬ ‫وحدها مفهوم خاطئ ‪ ،‬فهناك مكون ال كالمي يُفرَض دائما بالرضورة فوق‬
‫ويحد د دالالت ذات أبعاد مختلفة حسب السياقات ‪ .‬فاملعىن املعجمي ليس كل‬
‫ّ‬ ‫وحدة كالمية محكية ‪،‬‬
‫يشء في إدراك معىن الكالم ‪ ،‬إذ ثمة عنارص غري لغوية ذات دخل كبري في توجيه وتحديد املعىن‬
‫تسمى بالسياق غري اللغوي ‪ ،‬وله تأثريه املبارِش على املعىن الدقيق للكلمة في املواقف الفعلية‬
‫وبالتالي فإن دراسة معاني الكلمات في القرآن ‪ ،‬تتطلب تحليالً لكافة السياقات واملواقف اليت وردت‬
‫فيها ‪ ،‬ملعرفة معناها املجازي أو االستعمال الكنائي ‪ ،‬بدل الرتكزي على املعىن الحرفي لها فقط ‪ ،‬ﻷن‬
‫النص الحي ال يعيش اال في ظل قراءة السياقات إلثراء املعرفة وتجديد اﻷفكار ‪ ،‬وكما يقول فقهاء‬
‫اللغة ‪ ":‬ال يشء ينطلق بداهة ‪ ،‬وال ليشء معطى ‪ ،‬وكل يشء مبين ‪ ،‬وال يشء خارج السياق ‪ ،‬ﻷن‬
‫السياق هو الكفيل بإخراج املعىن ‪.‬‬
‫ومن أهم السياقات اليت يجب مراعاتها أثناء القراءة ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬السياق اللغوي ‪ :‬هناك تالزم ال ينفصم بني اللغة ووظيفة التفكري ‪ ،‬وهي تتطور بتطور فكر‬
‫اإلنسان ‪ ،‬واﻷلفاظ اليت هي أوضاع اللغة لم توضع لتُ ْعرَف معانيها في أنفسها ‪ ،‬فحني يخاطب‬
‫متكلم سامعاً فهو ال يقصد إفهامه معاني الكلمات املفردة ولكن النظم ‪ ،‬أي من خالل السياق ‪ ،‬ﻷن‬
‫يقدمه السياق اللغوي ‪ ،‬هو معىن‬
‫متعدد ومحتمل ‪ ،‬في حني أن املعىن الذي ّ‬
‫ّ‬ ‫املعىن الذي يقدمه املعجم‬
‫للتعدد أو االشرتاك أو التعميم ‪ ،‬لذا يجب ُمجاوزة مدلول الكلمة إلى تركيب‬
‫ّ‬ ‫محدداً غري قابل‬
‫خاصاً ّ‬
‫الس ياق ‪ ،‬قال الجرجاني ‪ ":‬إن اﻷلفاظ هي خدم املعاني ‪ ،‬وأن املعاني هي املالكة‬
‫الكالم ومقتىض ّ‬
‫سياستها املتحكمة فيها ‪".‬‬
‫ثانياً ‪ :‬سياق املوقف ‪ :‬املراد به أسباب الزنول اليت ورد فيها النص ‪ ،‬وهو سياق خارجي يشمل كل‬
‫ما يحيط باللفظ من عنارص غري لغوية ‪ ،‬تتصل بمعطيات النازلة وحيثياتها وظرفيتها ‪ ،‬وهي تضفي‬
‫دالالت تساهم في توسيع أفق فهم النص ‪ ،‬ﻷن املعىن يرتبط ارتباطاً وثيقاً عند اإلنسان بخرباته‬
‫وأحاسيسه ومثله وحدوسه وقيمه ‪ ،‬لذا ال يمكن فهم أي نص لغوي إال على نحو يقتضيه العقل ‪ ،‬إذ‬
‫ال يوجد تناقض بني الوحي والعقل ‪.‬‬
‫يتم‬
‫ثالثاً ‪ :‬السياق املوضوعي ‪ :‬يجب ربط اآلية باملوضوع الذي تندرج تحته وينظمها ‪ ،‬ثم ُّ‬
‫تجميع اآليات ذات املوضوع الواحد تحت وحدة موضوعية واحدة ‪ ،‬ويُربط أجزاؤها بعضها ببعض‬

‫‪8‬‬
‫مما توضحه‬
‫ليستخرج منها املفرس فهماً عاماً ملجموعها ‪ ،‬بحسب القضية وما اقتضاه الحال ُ فيها ّ‬
‫حوامل الرؤيا الرشعية ‪.‬‬
‫رابعاً ‪ :‬السياق املقصدي ‪ :‬ال بد من فهم الغاية من اﻷحكام القرآنية من خالل مقاصد الرشيعة‬
‫فاﻷحكام اليت رِشعها الله سبحانه املقصود منها جلب املصلحة ودرء املفسدة ‪ ،‬فال يُعقل أن يغفل‬
‫اإلنسان عن املقصد ويشتغل بالحكم فقط ‪ ،‬ﻷن املقاصد هي أرواح اﻷحكام اليت يرتتب عنها املعيار‬
‫لتصويب املطلوب من االجتهاد باﻷدلة العقلية ‪.‬‬
‫وبفضل املنهج السياقي يمكن تطوير قراءة القرآن ‪ ،‬والخروج من دائرة الجمود واالنغالق الفكري‬
‫ﻷن في اتباع الظاهر على وجهه هدم للرشيعة ‪ ،‬فالرشيعة أحكام تنطوي على مقاصد ‪ ،‬ومقاصد‬
‫تنطوي على أحكام ‪ ،‬وبالتالي يجب اتباع منهج متعدد السياقات ‪ ،‬بدل اإللزتام بالداللة اللغوية‬
‫حد ذاته عمالً يتنافى ومقصد كونية عاملية رسالة اإلسالم ‪ ،‬قال تعالى‪":‬الر‬
‫وحدها ‪ ،‬ﻷن هذا في ّ‬
‫كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى رصاط العزيز الحميد"‬
‫ـ إبراهيم ‪ 1‬ـ‬
‫عن عبدالله بن عمرو بن العاص ريض الله عنهما قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪":‬بلّ |غوا‬
‫عين ولو آية… "‬
‫فاﻷمة مأمورة بتبليغ القرآن إلى الناس كافة ‪ ،‬ولن يتحقق ذلك إال برتجمته إلى لغات اﻷمم اﻷخرى‬
‫ومن املستحيل ترجمته ترجمةً حرفي ًة ﻷن لكل لغة خصائصها وممزياتها ‪ ،‬وإذا كان هذا حال فيما‬
‫يرتجم من الكالم العادي ‪ ،‬فكيف إذا كان النص معجزاً وتنيالً من رب العاملني ‪ ،‬باإلضافة إلى أن‬
‫النص القرآني من حيث الجانب اللغوي يستعمل اإلشارة واإليحاء والرمز واملجاز ‪ ،‬وبالتالي فهو‬
‫حمال أوجه يحتمل عدداً غري محدود من وجوه التفسري ‪ ،‬وهذا يستلزم ضمناً تعدداً في الداللة بحكم‬
‫ّ‬
‫ركز على مضامني اآليات وما‬
‫تعدد املخاطبني به واختالفاً في اﻷزمنة ‪ ،‬لذا فالرتجمة يجب أن تُ ّ‬
‫ُّ‬
‫تحمله من دالالت ونتاجات فكرية ورؤى ومعاني متدفقة ‪ ،‬تخدم مقاصد عاملية الرسالة من خالل‬
‫دورها في التنوير الفكري ‪ ،‬لتأسيس مجتمع إنساني نمودجي يجعل الرحمة بمفهومها الشامل ضمن‬
‫أولوياته ‪ ،‬قال تعالى‪" :‬وما أرسلناك إال رحمة للعاملني "ـ اﻷعراف ‪ 125‬ـ‬
‫متغري الداللة ‪ ،‬بمعىن أن‬
‫ّ‬ ‫متحرك‬
‫ّ‬ ‫إن النص القرآني ال ينفك عن صفة الثبات في أصوله ‪ ،‬ولكنه‬
‫النص محدود والداللة غري محدودة وال متناهية ‪ ،‬لذا يصعب التطابق النهائي بني حرفية النص‬
‫ومقاصده ‪ ،‬دون التوقف عند حدود دائرة القارئ واملقروء ‪ ،‬ﻷن التفسري الحرفي للفظة سيفيض بنا‬
‫جل جالله "‬
‫إلى استحالة عقلية ‪ ،‬فال يمكن فهم القرآن بمعزل عن معرفة صاحب الخطاب " الله ّ‬
‫تسييج القرآن بسياج حرفية اللّ غة ‪ ،‬صحيح أن النص القرآني يعتمد على اللغة اليت‬
‫ّ‬ ‫لذا يستحيل‬
‫تجس د ثقافة البيئة ‪ ،‬لكن ارتباطها ضمن الشبكة السياقية للقرآن يجعلها قادرة على إعطاء دالالت‬ ‫ّ‬
‫ومفاهيم جديدة تالئم الثقافة املتداولة حالياً ‪ ،‬قال أحد العارفني بالله ‪ " :‬إذا كان اإلنسان يقول اكرث‬
‫مما يعين ‪ ،‬فإن الله يعين أكرث مما يقول ‪".‬‬

‫‪9‬‬
‫وبالتالي هناك فارقاً بني االستخدام اإللهي واالستخدام البرشي ‪ ،‬فاالستخدام اإللهي يرتقي باللفظة‬
‫إلى مستوى املصطلح املحكم الدقيق ‪ ،‬ويعطيها مفهومها املرجعي املرتبط بالسياق أينما استخدمت‬
‫في القرآن ‪ ،‬خالفاً للتصورات البالغية اإلنسانية ‪ ،‬اليت تسحب معناً معرفياً أو مجازياً مرتبطاً بداللة‬
‫قنِّن اإلعجاز ‪ ،‬وتقنني اإلعجاز يعين‬ ‫اللفظة نفسها ‪ .‬فالقاريء الذي يحاول تقنني بالغية القرآن فهو يُ ّ |‬
‫القدرة على اإلتيان باملعج| ز ‪ ،‬أي إعادة إنتاجه وفق نفس القوانني أو اإلتيان باملثل ‪ ،‬وما يستحيل‬
‫اإلتيان به يستحيل تقنينه ‪ ،‬ﻷن القرآن ليس خاضعاً لتقنني املعرفة به وقواعد فهمه من خارجه‬
‫ولو كان هذا الخارج هو الوسيط اللغوي الشائع الدالالت ‪ ،‬بل يجب إخضاع ما هو خارج القرآن ملا‬
‫هو داخله ‪ ،‬إال أن يكون التقنني نسبياً يتوافق مع الواقع اﻷقرب إلى ضوابط الفهم من داخله هو‬
‫بالذات ‪ ،‬إلدراك ما ينبغي لنا من موضوعات القرآن في كلياتها وليس في تفاصيلها املتحولة‬
‫وبالتالي إسقاط النسيب على املطلق هو من باب التضاد املفيض ال محالة إلى إنهيار الغائية ‪ ،‬اليت‬
‫تهيمن على الحركة التاريخية للقراءة في إطارها التأريخي واملوضوعي ‪ .‬قال تعالى ‪ ":‬قل لنئ‬
‫اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ال يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهرياً‬
‫"ـ اإلرساء ‪ 88‬ـ‬
‫تتحكم في الصريورة املعرفية ‪ ،‬ﻷن‬
‫ّ‬ ‫يهدم خصائص املفاهيم القرآنية اليت‬
‫إن الفهم اللغوي وحده ّ‬
‫تح ّدها قواعد اللغة ‪ ،‬وبالتالي كل ما تأتي به املعرفة اإلنسانية في‬
‫سعة اللغة القرآنية ال يمكن أن ُ‬
‫هذا املجال إنما هي تحديدات نسبية ‪ ،‬تساعد على تكوين املعرفة املتالئمة مع منطق مبادئها الغائية‬
‫اليت يتناولها العقل لتشكيل أسس فكرية وثقافية ‪ ،‬ولكن ال يمكن تحويلها إلى إطار مرجعي‬
‫موضوعي للتفكري ‪ ،‬ﻷن كل قراءة تتطلب تطوراً في حقل ومضمون النشاط الذهين ‪ ،‬لصياغة قراءة‬
‫متسامية على املنظومة املعيارية ‪ ،‬وهذا هو املفرتض من طبيعة النسق التطوري للفكر ‪ ،‬الذي يتجلى‬
‫على مستوى السلوكيات بحكم موروث التغاير التاريخي بني القاريء واملقروء ‪.‬‬
‫جل جالله ‪ ،‬هو الذي يمثل‬
‫ّ‬ ‫تقدم لبنات قراءة القرآن ‪ ،‬فإن اإلطار املرجعي هو الله‬
‫وإذا كانت املناهج ّ‬
‫اللحمة اﻷساسية اليت تنتج البعد الفهمي عن طريق توصيل املعىن بتشكيالته املتباينة في سبيل‬
‫تحقيق القصد منه ‪ ،‬إذ على إطار املرجعية يتوقف ضبط وتحريك الوحدات الجزئية إلقامة العالقات‬
‫اإلرتباطية اليت ينطوي عليها النص القرآني ‪ ،‬الذي يُم ّثل الهيكل والهيئة اللتقاط اإلشارات الهادية‬
‫موحد‬
‫لتعدد مراتب فهم العقل البرشي في إطار َّ‬
‫ُّ‬ ‫اليت يتمحور حولها القرآن ‪ ،‬لتصبح متفاعلة طبقاً‬
‫عضوياً ‪ ،‬لفتح الطريق أمام الوعي العقدي تبعاً للفارق النوعي في تطور العقل ‪ ،‬إذ لكل حالة عقلية‬
‫تاريخية إسقاطتها الذهنية الخاصة بها ‪ ،‬حسب أشكال تصورها للمعرفة اليت لها دالالتها املفهومية‬
‫املطلقة ‪ ،‬املمتدة بكامل طاقتها لتتعالى بتأثريها على كل تفاصيل خصائص اإلنسان ‪ ،‬اليت يحملها‬
‫في ذاته معرف ًة وسلوكاً ‪.‬‬
‫إن تفاسري السلف للنص القرآني أفضت إلى إستالب الصريورة املعرفية وفق ما تراه تقديساً للحركة‬
‫التاريخية ‪ ،‬دون إدراك مفهوم التاريخ وماهية غاياته ومقاصده ‪ ،‬اليت تُعطي للمعرفة بعداً إنسانياً‬

‫‪10‬‬
‫ّ|‬
‫يؤس س حرية العالقة املبارِشة بني الله واإلنسان بدون فرض سلطة فكر الوسيط ‪ ،‬وبالتالي املعضلة‬
‫فمن أضفى على فكر الوسيط صفة املطلق ‪ ،‬بدل التعامل معه كتاريخ فكر أصبح من ثقافة املجتمع‬
‫وبأنه فقط نقل لنا وجهة نظره ‪ ،‬وهذا ال يلزمنا بأن نفهم الدين من خاللها بل يجب قراءة ما بلغه‬
‫من علم ومعرفة بعقل متفتح ‪ ،‬دون أن ّ‬
‫نغض الطرف عن عيوبه باعتباره سلف اﻷمة وخري قرونها‬
‫فهذه الرؤيا رسخت لدى اﻷمة العقل القيايس ‪ ،‬الذي يحتاج إلى نسخة أصلية يقتدي ويحتدي بها‬
‫وهكذا غاب تجديد القراءة الذي يروم ويبتغي تغيري الواقع ‪ ،‬عرب اإلبداع الفكري والثقافي لتجاوز‬
‫اإلنهاك التام ‪ ،‬الذي أصاب املنظومة الفكرية اإلسالمية في صميمها ‪ ،‬وأفىض إلى إنسداد القراءة‬
‫بحيث أصبح القاريء يقرأ فهم اآلخر للقرآن ‪ ،‬أي يقرأ نصاً برشياً أُ ْض |ف َيت علية قداسة النص‬
‫اﻷصلي ‪ ،‬معتقداً أن ذلك هو منتهى الفهم واإلدراك للحقيقة ما جاء في القرآن ‪ ،‬قال تعالى‪ ":‬وقال‬
‫الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ‪".‬ـ الفرقان ‪ 30‬ـ ‪ 31‬ـ‬
‫إن هجر القرآن املتعارف عليه بني أغلبية املسلمني هو عدم القراءة ‪ ،‬بينما املراد هو هجر تأمله‬
‫وتدبره لفهم وإدراك املضامني املوجودة في اآليات القرآنية والعمل بتعاليمها ‪ .‬فاإلعراض عن تأمل‬
‫وتدبر القرآن والتقاعس عن محاولة السعي الذاتي إلدراك وفهم آياته البينات ‪ ،‬واالكتفاء باستهالك‬
‫التفاسري الجاهزة دون تميزي أو تمحيص من أعظم أنواع الهجر ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬كتاب أنزلناه إليك‬
‫ليدبروا آياته وليتذكر أولوا اﻷلباب ‪ " .‬ـ ص ‪ 29‬ـ‬

‫‪11‬‬
‫الخطوةالثانية ‪:‬‬
‫كيف تجدد إيمانك‬

‫متجدد‬
‫ّ‬ ‫محددة سلفاً ‪ ،‬يجب ف ْهمه كما ف |همه أجدا ُدنا باﻷمس ‪ ،‬أم أنّ ه مفهوم‬
‫هل اإليمان قضية عفوية ّ‬
‫له عالقة بالوعي ؟‬
‫ليس هناك كلمة أخذت مساحة واسعة في املعىن وفي االستخدام مثل اإليمان ‪ ،‬قد يبدو للوهلة‬
‫اﻷولى أن معناه حقيقة تبدو في منتهى البداهة ‪ ،‬ليست بحاجة للتفكري إلى درجة أن املتدين قد ال‬
‫وتدبر مفهومه ‪ ،‬ﻷنه يرى بأن مفهومه معطى جاهز سلفاً في ذاته ‪ ،‬وبكونه مسألة‬‫ُّ‬ ‫يرى ٍ‬
‫داع للبحث‬
‫املتجدد‬
‫ّ‬ ‫محسومة وبديهية ال ينبغي مناقشتها ‪ ،‬بينما هو من أكرب املواضيع اليت يجب أن تأخذ حقها‬
‫في املجال املعرفي ‪.‬‬
‫إن طرح قضية فهم اإليمان أصبح التفكري فيه وارد بعد أن كان ضمن دائرة املستحي |ل ‪ ،‬ﻷن التطور‬
‫املعرفي أصبح َين َْطر| ح بقوة في قلب جدل الفهم ‪ ،‬اﻷمر الذي أربك مفاهيم كانت أساسية عند السلف‬
‫واليت تلقاها املتدين توارثاً كبدائه في الثقافة الدينية السائدة في مجتمعه ‪ ،‬دون تمكينه من السند‬
‫تم الفصل فيه بالرتهيب وشيوع التكفري‬
‫العقالني الكفيل برشعنة وعقلنة اقتناعه االعتقادي ‪ ،‬الذي َّ‬
‫بدل التفكري ‪ ،‬والنتيجة تحنيط اإليمان| وتحويله إلى طقوس شعائرية بال عمق فكري ‪ ،‬عملت على‬
‫تحول التفكري في اإليمان إلى‬
‫انطفاء توهج فاعليته في الفرد واملجتمع ‪ ،‬وفي ظل هذه املعطيات ّ‬
‫تكونت في الحقل الديين أساساً‬‫عملية آلية ‪ ،‬تُ ْفر َ ُض فيها حدود وعمق املعرفة الجاهزة املكتسبة ‪ ،‬اليت ّ‬
‫على أنها هي الحقيقة املطلقة ‪ ،‬بحيث إذا طرحنا سؤال ‪ :‬ما هو االيمان ؟‪ .‬فأول ما يتبادر الى ذهن‬
‫املتدين هو التعريف الذي ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جربيل‪ ":‬أن‬
‫تؤمن بالله ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ‪ ،‬وتؤمن بالقدر خريه ورِشه ‪".‬‬
‫بيد أن هذا التعريف االخزتالي يجب أن ينتمي إلى الوعي كفكرة ‪ ،‬حىت ال يبقى تعريفاً انتقائياً يعرب‬
‫غالبا ما يستخدم هذا التعريف كوسيلة للتصنيف والتميزي‬
‫ً‬ ‫عن االنتماء املذهيب‪ /‬االيديولوجي ‪ ،‬بحيث‬
‫يشو|ه مفهوم اإليمان فحسب ‪ ،‬بل يؤجج‬
‫ّ‬ ‫بني املؤمن والكافر ‪ ،‬وهذا اللون من التعريف الديماغوجي ال‬
‫الرصاع السيايس واالجتماعي ‪ ،‬إذ أن غياب الوعي أدى باملسلمني إلى التعصب املذهيب واللجوء إلى‬
‫مواقف فكرية أو سياسية ‪ ،‬تقوم على كيل االتهامات بالكفر واإللحاد والزندقة ‪.‬‬
‫متضمنة في اآليات ترصيحاً وتطبيقاً وتعليماً ‪ ،‬فاإلسالم لم يأت‬
‫ّ‬ ‫إن الدعوة إلى التجديد في القرآن‬
‫ليغري ويصلح ما كان سائداً من اعتقادات في املجتمع الجاهلي من أباطيل وأوهام ‪ ،‬حجبت‬ ‫ّ‬ ‫إال‬
‫الفطرة الصحيحة وساهمت في تحريف القيم واملباديء اإلنسانية ‪ ،‬لذا فالتجديد واإلصالح من‬
‫رضورات ترسيخ اإليمان ‪ ،‬الذي يكمن هدفه في تصحيح مسار اإلنسان الفكري ‪ ،‬ومن هنا كان منهاج‬

‫‪12‬‬
‫مقتضي ا للتجديد والتغيري ‪ ،‬قال تعالى ‪ " :‬إن الله ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما‬
‫ً‬ ‫الرسالة اإلسالمية‬
‫بأنفسهم "ـ الرعد ‪ 11‬ـ‬
‫وإذا كان التغيري‪ /‬التجديد ممكناً فما أدواته ‪ ،‬وما حدوده ‪ ،‬وما قيمته ؟‬
‫إن الدعوة إلى تجديد اإليمان في القرآن أخذت صوراً وأشكاال ً ‪ ،‬تكمن في تطبيقاتها العملية على‬
‫أرض الواقع ‪ ،‬أو بذم ما يعارضها من جمود وتقليد أعمى و محاكاة اﻷمم السالفة ‪ ،‬قال تعالى ‪:‬‬
‫" وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إال قال مرتفوها ‪ ،‬إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على‬
‫آثارهم مهتدون "ـ الزخرف ‪ 23‬ـ‬
‫حث عليها القرآن تحرير العقل من نري التقليد ‪ ،‬وهذه من أعظم‬ ‫أجل أدوات التجديد وأهمها اليت ّ‬
‫ّ‬ ‫ومن‬
‫وحمل اإلنسان تبعية عمله‬
‫ّ‬ ‫القضايا اليت حرص عليها الدين ‪ ،‬فلم يقبل إال اإلتباع املختار الواعي ‪،‬‬
‫واملسؤولية عنه رافضاً التعلُّ ل والتربير ‪ ،‬قال تعالى‪" :‬يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا‬
‫أطعنا الله وأطعنا الرسول وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكرباءنا فأضلونا السبيل"ـ اﻷحزاب ‪ 66‬ـ ‪67‬‬
‫اختط سبيالً جديداً إليمان متجدد ‪ ،‬من خالل الدعوة إلى التفكر والتأمل‬
‫ّ‬ ‫وبهذا يكون اإلسالم قد‬
‫حرر اإلنسان من سلطة الركون إلى االقتداء اﻷعمى ‪ ،‬وليخلّ صه من قبضة تجار‬ ‫والتدبر ليُ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتعقل‬
‫الدين وهيمنتهم على عقله ومصريه ‪ .‬فالله سبحانه كلما أسنت الحياة وانحرفت البرشية عن جادة‬
‫الصواب إال وبعث رسوال ً لتصحيح املسار ‪ ،‬وتجديد املفاهيم واﻷفكار لتقويم االعوجاج ‪ ،‬بحيث لم‬
‫كل منهم بجديد يبهر أبناء زمانه ويتناسب مع ثقافتهم ‪ ،‬وبفضل‬
‫يكرر نيب إعجاز نيب آخر ‪ ،‬بل أتى ٌّ‬ ‫ّ‬
‫تتقدم البرشية وتتطور وترتقي ‪ ،‬ولقد جاءت أحكام الرشيعة الخاتمة لتصحيح‬‫ّ‬ ‫تجدد الرشائع‬
‫ُّ‬
‫اﻷوضاع الخاطئة ‪ ،‬اليت كانت سائدة في املجتمع "الجاهلي"‪ ،‬ومن ممزيات هذه اﻷحكام أنها لم تكن‬
‫وتبدلت بحسب الحاجة واملرحلة ‪ ،‬لتكون متالئمة مع ظروفها‬
‫ّ‬ ‫وتنوعت‬
‫ّ‬ ‫تدرجت‬
‫جامد ًة ‪ ،‬فقد ّ‬
‫عما سواه بقيم‬
‫ويتمزي ّ‬
‫ّ‬ ‫يتأطر اإليمان الجديد بإطاره الخاص به ‪،‬‬
‫ومتماشية مع اﻷحداث ‪ ،‬حىت ّ‬
‫وسلوكي ات ومظاهر جديدة لم يعهدها املجتمع من قبل ‪ ،‬غري أن االلتباس يعاود الظهور في كل زمان‬
‫ّ‬
‫ومكان بأشكال جديدة وتجليات مختلفة ‪ ،‬لذا ينبغي على املسلمني العمل على فك هذا االلتباس‬
‫املعرفي من جديد ‪ ،‬وذلك بتجديد أدوات فهم الدين بمعناه الرشعي والحضاري ‪ ،‬وهذا ليس من البدع‬
‫بل هو رضورة أكيدة ‪ ،‬بغية مسايرة الواقع طبقاً ملا يقتضيه من متغريات وتعقيدات ‪ ،‬اليت تتغري بها‬
‫الفتاوي واﻷحكام وهي ‪ :‬الزمان واملكان واﻷشخاص واﻷحوال ‪ ،‬وهذا ما أثبته القرآن الكريم والسنة‬
‫النبوية ‪ ،‬اللذان يجب أن ندركهما في ظل واقعنا املعيش ال في واقع غرينا ‪ .‬فالسابقون قد فهموا‬
‫املربر املسوغ لعملية‬
‫ّ‬ ‫بناء على مقتضيات ومعطيات واقعهم وحسب قدراتهم الفكرية ‪ ،‬وهذا هو‬‫ً‬ ‫القرآن‬
‫التوهم‬
‫ُّ‬ ‫التجديد في وقتنا الراهن وواقعنا الحارض ‪ ،‬مع اﻷخذ بعني االعتبار بأن الدين ثابت ‪ ،‬ومن‬
‫الظن بأن الوسائل من الثوابت واملقدسات كذلك ‪ ،‬بحيث ال يجوز تطويرها أو حىت مراجعتها ودراسة‬
‫ّ‬
‫يتعقل شيئاً إال إذا كان ذلك اليشء داخل نطاق مقاييس ومفاهيم‬ ‫جدواها ‪ .‬فاإلنسان ال يستطيع أن‬

‫‪13‬‬
‫منظومته الفكرية ‪ ،‬وهذا هو منهج القرآن في الدعوة إلى التجديد ‪ .‬قال تعالى ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله"ـ النساء ‪ 136‬ـ‬
‫إن املطلوب من املؤمنني هنا ليس هو اإليمان الحاصل عندهم وقت الخطاب ‪ ،‬بل املطلوب منهم أن‬
‫منصب على الزيادة‬
‫ٌّ‬ ‫يرتقوا في درجات اإليمان من خالل الزيادة فيه على ما كان حاصالً لهم ‪ ،‬فاﻷمر‬
‫ّ‬
‫التعقل والتدبر في‬ ‫ومقرر ‪ ،‬وتجديده ال يكون إال عن طريق‬
‫ّ‬ ‫ﻷن اإليمان يزيد وينقص كما هو معلوم‬
‫آيات اآلفاق واﻷنفس ‪ ،‬لريتفع مستوى التوحيد وتزداد االستقامة على أمر الله ‪.‬‬
‫تح ُّّث على التجديد ‪ ،‬وتؤكد ذلك املعىن باعتباره أمرًا واجب التنفيذ ‪:‬‬
‫ولقد وردت أحاديث نبوية ُ‬
‫أوال ً ‪ :‬عن أبي هريرة ريض الله عنه قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ " :‬إن الله يبعث‬
‫لهذه اﻷمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها‪" .‬ـ رواه الحاكم بسند صحيح ـ‬
‫ثانياً ‪ :‬عن عبد الله بن عمرو بن العاص ريض الله عنهما قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم ‪ " :‬إن اإليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ‪ ،‬فاسألوا الله أن يجدد اإليمان في‬
‫قلوبكم " ـ رواه الحاكم ـ‬
‫ثالثاً ‪ :‬عن أبي هريرة ريض الله عنه قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪" :‬جددوا إيمانكم‬
‫قيل‪ :‬يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا ؟ قال‪ :‬أكرثوا من قول ال إله إال الله‪".‬ـ رواه أحمد ـ‬
‫الحديث اﻷول يتحدث عن تجديد الدين ‪ ،‬والثاني والثالث يتحدثان عن تجديد اإليمان ‪.‬‬
‫وعالقة تجديد الدين بتجديد اإليمان عالقة بناء بأساس ‪ ،‬ولقد سعى السلف إلثبات مفهوم اإليمان‬
‫كحقيقة متعينة على اﻷدلة اللغوية ‪ ،‬والشواهد الرشعية والرباهني الكالمية ‪:‬‬
‫ﻷن أصله أَ ْأمن ‪ ،‬فأبدلت الهمزة الثانية الساكنة ألفاً‬
‫أوال ‪ :‬اﻷدلة اللغوية ‪ :‬فعل آمن على وزن أَ ْفعل ّ‬
‫أن الجذر" أمن"يعين ‪ :‬الطمأنينة والثقة اليت تنبعث من‬‫فصارت آمن ‪ ،‬واملالحظ من كالم أهل اللغة ّ‬
‫التصديق ‪ ،‬الذي هو سبب في أن يصبح الفرد مؤمنًا ‪.‬‬
‫بيد أن مفهوم اإليمان في القرآن والسنة يتضمن مجموعة من الصفات املرتبطة فيما بينها ‪ ،‬لكنّ ها في‬
‫نؤكد على الصفات اليت تأتي‬
‫نفس الوقت ليست واحدة ‪ ،‬فإذا أردنا إدراك مفهوم اإليمان يجب أن ّ‬
‫معىن مركباً‬
‫ً‬ ‫باعتبارها مرادفة له ‪ ،‬وواضحة تماماً في البناء املعرفي له ‪ ،‬بحيث تُعطي هذه الصفات‬
‫صعب تفكيكه ‪ ،‬عن أبي هريرة ريض الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪ ":‬اإليمان‬
‫بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول ال إله إال الله ‪ ،‬وأدناها إماطة اﻷذى عن الطريق‬
‫والحياء شعبة من اإليمان‪".‬ـ رواه مسلم ـ‬
‫ولقد وردت آيات قرآنية عدة تعرضت إلى أوصاف اإليمان ‪ ،‬من خالل رؤية آثاره وتجلياته املتفرعة‬
‫في الحياة العملية ‪ ،‬وليس إلى تعريف مفهومه تعريفاً مجرداً باملعىن العقلي ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الشواهد الرشعية ‪ :‬لقد خلُص الفقهاء إلى تعريف اإليمان بقولهم ‪ ":‬اإليمان تصديق القلب‬
‫وإقرار اللسان ‪ ،‬وعمل الجوارح"‪ ،‬ويراد بتصديق القلب اإلقرار واالعتقاد املبين على العلم و املعرفة‬
‫قال تعالى ‪":‬إنما يخىش الله من عباده العلماء إن الله غفور رحيم "ـ فاطر ‪ 28‬ـ‬

‫‪14‬‬
‫ويطلق تصديق القلب على شيئني ‪:‬‬
‫اﻷول ‪ :‬التصديق الخربي العلمي الذهين ‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬التصديق العملي أي تصديق الخرب باالمتثال واالنقياد‪.‬‬
‫واملراد بالتصديق القليب الذي ورد في التعريف هو في الواقع املعادل لاللزتام اليقيين ‪ ،‬الناتج عن‬
‫النشاط الفكري والوجداني الحاصل في الدماغ والقلب ‪ ،‬ﻷن هناك عالقة وطيدة ثنائية االتجاه‬
‫بينهما ‪ ،‬فكالهما يؤثر في اآلخر ويتأثر ‪ ،‬وانطالقاً من أن اإليمان قناعة فكرية فلقد كان اﻷكرث علماً‬
‫هم اﻷكرث خوفاً من الله ‪ ،‬ﻷن العلم هو مقدمة إيمانية تشكل القاعدة اليت ينبين عليها اإليمان‬
‫ليتطور ويزيد من خالل زيادة العلم ‪ ،‬فكلّ ما زاد علم اإلنسان ازداد يقينه‬
‫ّ‬ ‫وينطلق منها ﻷداء وظيفته‬
‫بالخالق سبحانه ‪ ،‬فيصبح مؤمناً صدوقاً ملزتماً بمقتىض علمه ‪ ،‬ويربز آثار ذلك من خالل الخشية‬
‫أخص من الخوف ‪ ،‬فإن الخشية للعلماء بالله تعالى ‪ ،‬فهي خوف‬
‫ّ‬ ‫قال الفريوز ابادي ‪" :‬الخشية‬
‫مقرون بمعرفة ‪".‬‬
‫إن اإليمان الصادق يُفيض إلى التصميم على العمل وفق املعرفة ال عن الجهل ‪ ،‬فيأخذ االلزتام شكله‬
‫الذهين والعملي ‪ ،‬ثم يرسي وينتقل إلى اﻷعضاء والجوارح ‪ ،‬لذا يمكن أن نصف اإليمان بأنه سلوك‬
‫ارتكاسا لإلنسان على ذاته وانغال ًقا عليها ‪ ،‬بل هو تجربة مفتوحة غايتها‬
‫ً‬ ‫فعال موضوعي ‪ ،‬وليس‬
‫ّ‬
‫إظهار آثارصفاته الحميدة على الفرد واملجتمع ‪ ،‬انطالقاً من اﻷخذ باﻷسباب وحسن التوكل ‪ ،‬ولقد‬
‫تتابع علماء اإلسالم على القول بأنّ ه ال إيمان إال بعمل ‪ ،‬وال عمل إال بإيمان ‪ ،‬ﻷن عندما يربز اإليمان‬
‫في العمل يصل املؤمن إلى درجة الوعي اإليماني ‪ ،‬وهذا الطريق ال يمكن سلوكه إ ّال من خالل العمل‬
‫الصالح ‪ ،‬فهو جرس ٌ بني العلم واإليمان ‪ ،‬قال تعالى‪" :‬من عمل صالحا من ذكر أو أنىث وهو مؤمن‬
‫فلنحيينه حياة طيبة ‪ ،‬ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"ـ النحل ‪ 97‬ـ‬
‫وصدق ولم يعمل بجوارحه لم يبلغ اإليمان الذي يريده الله تعالى منه ‪ ،‬ﻷن‬ ‫ّ‬ ‫إن املؤمن إذا َّ‬
‫تعقل‬
‫يعد ُم ْس |قطاً ﻷصل‬
‫السلوك الحميد والعمل الحسن ركنان أساسيان ال يقوم اإليمان إال بهما ‪ ،‬وتركهما ُّ‬
‫اإليمان ‪ ،‬لذا قرن الله سبحانه بني اإليمان والعمل الصالح في مواضع كثرية في كتابه ‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪":‬ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ‪ ،‬والكافرون لهم عذاب شديد"‬
‫ـ الشورى ‪ 26‬ـ‬
‫ضم إليه ـ سبحانه ـ‬ ‫قال اآلجري رحمه الله‪ ..." :‬لم يدخل املؤمنون الجنة باإليمان وحده حىت ّ‬
‫مصد ًقا بقلبه ‪ ،‬وناط ًقا‬
‫ّ‬ ‫العمل الصالح الذي قد ّ‬
‫وفقهم له ‪ ،‬فصار اإليمان ال يتم ﻷحد حىت يكون‬
‫وعامال بجوارحه ‪".‬‬
‫ً‬ ‫بلسانه ‪،‬‬
‫وقال مالك رحمه الله ‪ " :‬اإليمان معرفة الحق والعمل به ‪ ،‬واإلصابة في القول والعمل ‪".‬‬
‫ثالثا ‪ :‬الرباهني الكالمية ‪ :‬إن علم الكالم ينطلق من مقدمات ُّ‬
‫تعقلية لتعريف اإليمان كحال بقية‬
‫املفاهيم الفكرية املتشعبة الداللة ‪ ،‬نظراً الرتفاع نسبة الغيب فيها ‪ ،‬وهذا ما أدى إلى وجود معركة‬
‫توجههم في تلك الفرتة يدور‬
‫آراء دائمة عند الكالميني في القرون اﻷولى ‪ ،‬بحيث نجد أن مركز ّ‬

‫‪15‬‬
‫ويتمحور حول مسألة كالمية قوية في باب اإليمان ‪ ،‬بغية إدراك الجوانب الغامضة في ذلك املفهوم‬
‫قسمهم إلى |ملَل و |ن َحل مختلفة فيما بينها حول الجانب‬
‫ّ‬ ‫فنتج عن هذا أول خالف بني املسلمني ‪،‬‬
‫فتحول اإليمان‬
‫ّ‬ ‫سواء في املذاهب الفقهية أو املذاهب الكالمية ‪،‬‬
‫ً‬ ‫التصويري والعقائدي لذلك املفهوم ‪،‬‬
‫يتحول إلى أيديولوجيا مغلقة‬
‫ّ‬ ‫معقولية ‪ ،‬مما جعل نسقه في ما بعد‬
‫ّ‬ ‫كالمية‬
‫ّ‬ ‫إلى عقائد ضمن صيغ‬
‫تحزيات‬
‫بناء على ّ‬
‫ً‬ ‫على ذاتها ‪ ،‬أفضت إلى كل الحروب الكالمية ‪ ،‬كل جماعة أسست نظمها املعرفية‬
‫إيديولوجية معينة ‪ ،‬وهكذا أصبح مفهوم اإليمان يمثل معضلة بني املفهومات الكالمية في اإلسالم‬
‫تشعب الحقل الداللي وغدا عند املتكلّ |مة يمثل َّ‬
‫أهم املفهومات املفتاحية في مجال االنتماء ‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫بحيث‬
‫املزنلق الفكري أفيض إلى انحراف اإليمان وابتعاده عن أداء وظيفته املتجلية في السلوك كممارسة‬
‫فعلية ‪ ،‬لذا أصبح من الرضوري تحرير مفهوم اإليمان من نزعته التجريدية ‪ ،‬الناتجة عن سيطرة‬
‫ولجة االحباط حىت ال يبقى اإليمان تكأ ًة ومربراً‬
‫املنطق الصوري عليه ‪ ،‬إلخراجه من متاهة القلق ّ‬
‫دائماً للرصاع السيايس واإلجتماعي ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الخطوة الثالثة ‪:‬‬
‫كيف تكتسب الوعي اإليماني‬

‫عن فَ َضالَة بن ُعبَ ْي ٍد ريض الله عنه قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ‪:‬‬
‫" أال أخربكم باملؤمن ؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ‪ ،‬واملسلم من سلم الناس من لسانه‬
‫ويده ‪ ،‬واملجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ‪ ،‬واملهاجر من هجر الخطايا والذنوب‪" .‬‬
‫ـ رواه الرتمذي ـ‬
‫عرفه كصفات ترتكز على‬‫قابال للتقويض واالخزتال ‪ ،‬بل ّ‬
‫ً‬ ‫مفهوما انتقائياً لإليمان‬
‫ً‬ ‫إن القرآن لم يطرح‬
‫الواجب اﻷخالقي ‪ ،‬وكمبدأ أسايس في الحياة من أجل تمتني العالقة بني الخالق واملخلوق وتقديرها‬
‫في وظيفة االستخالف ‪ ،‬و بأنه هو الطريق اﻷنجع للوصول إلى عالم الحقائق واملعيار اﻷسمى لها‬
‫فكريا‬
‫ً‬ ‫شكل بحق وحقيقة الوعي اإليماني ‪ ،‬ﻷن يمكن تأصيله‬
‫وهذا املفهوم القرآني لإليمان هو الذي يُ ّ‬
‫عقال ‪ ،‬ﻷنه غري قابل للتأصيل الفكري يأتي بالتوارث فقط ‪ ،‬وبالتالي الوعي‬
‫وما دونه فهو منبوذ ً‬
‫اإليماني يأتي من دائرة املعقوالت الخالية من التناقضات املنطقية ‪.‬‬
‫والوعي من منظور علماء اللغة هو ‪ :‬الفهم واإلدراك ‪ ،‬ولقد ورد في الحديث النبوي ‪ّ :‬‬
‫"نرض الله امر ًأ‬
‫سمع مقاليت ووعاها" ‪ ،‬أي فهمها وادرك معناها ومغزاها ‪.‬‬
‫يتمان بواسطة استعداد الذهن لإلحاطة باليشء الستنباط حقيقته ‪ ،‬واصطالحاً ‪:‬‬
‫والفهم واإلدراك ّ‬
‫فرس بأنه‬
‫الوعي هو االعتقاد الفكري الناجم عن حالة اإلدراك ‪ ،‬اليت يكون عليها عقل اإلنسان ‪ ،‬ويُ َّ‬
‫تتحصل لدى اإلنسان‬
‫َّ‬ ‫نشاط عصيب للخاليا الدماغية ‪ ،‬ينجم عنه إدراك يتمثل في تلك املعرفة ‪ ،‬اليت‬
‫بصدد وجوده وأفعاله وأفكاره ‪ ،‬وهو خاصية إنسانية يتمزي بها عن باقي الكائنات ‪ ،‬لذا ال يمكن‬
‫توسط منه ﻷنه وعي الرضورة ‪ ،‬وبحسب‬
‫التفكري في اإليمان كيشء منفصل عن الوعي ‪ ،‬وبدون ُّ‬
‫تحوله إلى يقني ناجم‬
‫يتحدد مفهوم اإليمان ووظيفته ‪ ،‬وآليات العمل اليت يمكنها أن ّ‬
‫ّ‬ ‫املتشكل‬
‫ّ‬ ‫الوعي‬
‫عن توحيد العقل والوجدان ‪ ،‬وبفضل هذا التوحيد التأليفي بني العقل والوجدان يتحقق الوعي‬
‫فيغدو الوعي و اإليمان قطبان لحقيقة واحدة ‪ ،‬وفي هذه القطبية املتقابلة يتجلى الوعي في اإليمان‬
‫اإليمان فيه ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تماما كما يتجلى‬
‫ً‬
‫والهدف من الوعي اإليماني يعتمد كثريًا على فهمنا لوظيفة االستخالف في اﻷرض ‪ ،‬وهي أكرب‬
‫شكل أفضل فرصة لتحرير مفهوم اإليمان من التعصب وضيق اﻷفق‬ ‫اختباراتنا وابتالءاتنا اليت تُ ّ‬
‫الفكري ‪ ،‬ليصل املؤمن إلى مستوى الرقي الالئق من خالل أنماط سلوكه اإلنساني على كافة‬
‫وسياسيا ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة‬
‫ً‬ ‫واقتصاديا‬
‫ً‬ ‫اجتماعيا‬
‫ً‬ ‫اﻷصعدة ‪:‬‬
‫الدنيا ‪ ،‬ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام ‪ .‬وإذا تولى سعى في اﻷرض ليفسد فيها‬
‫ويهلك الحرث والنسل ‪ ،‬والله ال يحب الفساد "ـ البقرة ‪ 204‬ـ ‪ 205‬ـ‬

‫‪17‬‬
‫إن الوعي اإليماني ال يكمن فقط في اﻷقوال واﻷفعال املشاهدة ‪ ،‬بل له تجليات كثرية تتضح من‬
‫خالل أفكار املؤمن ‪ ،‬وتصوراته للحكمة من وجود اإلنسان ‪ ،‬وبالتالي ال فائدة ترجى من اإليمان إذا‬
‫تحدد‬
‫كان التفكري والتصور فاسدين ‪ ،‬ﻷن هذين اآلخرين هما اللذان يمثالن اآللية املعرفية اليت ّ‬
‫ّ‬
‫يتبىن ااإليمان من دون وعي بأنه فاسد التفكري‬ ‫الوعي اإليماني ‪ ،‬وهكذا يمكن نعت املتدين الذي‬
‫سكن وراح ٌة وإعفاء من "وجع التفكري"‪ ،‬الذي ُّ‬
‫يعد من‬ ‫ٌ‬ ‫والتصور ‪ ،‬يُ ّقدم نمطاً عقائدياً شكلياً ﻷن فيه‬
‫مقدمات اإليمان ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬إن في خلق السماوات واﻷرض واختالف الليل والنهار آليات ﻷولي‬
‫اﻷلباب ‪ .‬الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ‪ ،‬ويتفكرون في خلق السماوات واﻷرض‬
‫ربنا ما خلقت هذا باطال ‪ ،‬سبحانك فقنا عذاب النار"ـ آل عمران ‪190‬ـ ‪ 191‬ـ‬
‫مقد مة اإليمان هي التفكري املبين على الرباهني العقلية لبلوغ اليقني ‪ ،‬وبما‬
‫وتبني بأن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫توضح اآلية‬
‫تتجدد وتتطور فحتماً سيتطوراإليمان ‪ ،‬ويتجاوز التصور التقليدي الشائع الذي يستلب‬
‫ّ‬ ‫أن الرباهني‬
‫الذات ‪ ،‬ويجعل املتدين يفتقر إلى الوعي اإليماني معرفياً وقيمياً ‪ ،‬ضمن التجربة اإلنسانية وعالقتها‬
‫بالتفكري والتصور ‪ .‬فاإليمان يتجدد بالسعي الجاد نحو املعرفة ‪ ،‬قال تعالى‪ ":‬وإذا تليت عليهم آياته‬
‫زادتهم إيماناً"ـ اﻷنفال ‪ 2‬ـ‬
‫فكر وتصور اآليات الربانية ‪ ،‬إال وازدادت معرفته بعظمة الخالق سبحانه‬
‫تبني اآلية بأن املؤمن كلما ّ‬
‫ّ‬
‫والزيادة هي ارتقاء من القليل إلى الكثري ‪ ،‬وهي عملية مصاحبة لتطور وتحول وتجديد واقع اليشء‬
‫وتقويته ‪ ،‬وبالتالي فإن اإليمان يزيد ويتقوى من خالل زيادة املعرفة كما توضح اآلية ‪ ،‬فكلما أدرك‬
‫وتجدد وارتقى من حسن إلى‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان آيات الله سبحانه املنبثة في اآلفاق واﻷنفس ‪ ،‬إال وزاد إيمانه‬
‫أحسن ‪ ،‬عن عبد الله بن عمرو بن العاص ريض الله عنهما قال ‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم قال ‪ " :‬إن اإليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ‪ ،‬فاسألوا الله أن يجدد اإليمان في‬
‫قلوبكم "ـ رواه الحاكم ـ‬
‫ومفهوم التجديد كثريًا ما يرتادف مع مصطلحات ‪ :‬التغيري ـ التطور ـ التقدم … ‪ ،‬واستخدام هذه‬
‫املفردات يتضمن معىن واح ًدا هو الصيغة اإلرادية لإلصالح ‪ ،‬اليت يجب أن تكون مستوعبة ومدركة‬
‫عقلياً ‪ ،‬تهدف إلى إصالح اﻷسس واملقومات الفكرية القائمة عن طريق توجيه وتعديل وتطوير‬
‫املقاييس واملعايري ‪ ،‬اليت يجري عليها املرء في صياغة أفكاره وتصوراته ‪ ،‬اليت تتحول إلى اعتقاد‬
‫يتجلى في أقواله وأفعاله ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬سرنيهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حىت يتبني لهم أنه‬
‫الحق أولم يكف بربك أنه على كل يشء شهيد "ـ فصلت ‪ 53‬ـ‬
‫إن اآلية تنقل موضوع الفكر الديين من االقتناع بالدليل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ‪ ،‬لتمتني‬
‫اإليمان وتقويته عن طريق إدراك الحقائق املتجلية في ظواهر" اآلفاق واﻷنفس" بالدالئل العقلية‬
‫وهذه النقلة النوعية ال يمكن أن يحققها اإلنسان إال بواسطة العلم الواقعي املبين على أسس املنهج‬
‫العلمي ‪ ،‬كتقرير أن الكون ومفرداته ذا وجود موضوعي مستقل ‪ ،‬قابل للمعرفة بالحواس واالستدالل‬
‫العقلي ‪ ،‬لبيان حقيقة تلك الظواهر وعنارصها وقوانينها ووظيفتها ‪ ،‬لتصبح مصادر معرفية داللتها‬

‫‪18‬‬
‫قطعية ال يمكن مصادرتها ‪ ،‬وقوله تعالى‪" :‬سرنيهم" فعل مضارع مقرون ب"سني" االستقبال للداللة‬
‫على االستمرار ‪ ،‬بمعىن أن كل ما يتصل بمعرفة اإلنسان في أبعادها املختلفة ‪ ،‬يعتمد باﻷساس على‬
‫املجهود املعرفي املستقبلي لإلنسان ‪ ،‬ومما سبق يتبني لنا أن البرشية على موعد من الله متجدد‬
‫ومستمرالكتشاف آياته بواسطة العلم واملعرفة املتجددين ‪ ،‬لتقوم الحجة ذات الداللة القائمة بذاتها‬
‫على أن حركة هذا الكون منضبطة بسنِّن ال تتبدل وال تتغري ‪ ،‬وهي متضمنة في كافة املخلوقات ‪.‬‬
‫وعلى سبيل املثال ال الحرص لقد جاءت العلوم اإلنسانية التجريبية شاهدة بصدق على الوعي‬
‫اإليماني في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات ‪ ،‬حيث أكد الدكتور جاكوب هريش من جامعة‬
‫تورنتو بكندا على أن أثر الوعي اإليماني ‪ ،‬يظهر بوضوح على النشاط العصيب في القرشة الحزامية‬
‫اﻷمامية لدماغ اإلنسان ‪ ،‬وهي املسؤولة عن الوظائف العقالنية املعرفية ‪ ،‬مثل اتخاذ القرار والتحكم‬
‫في املشاعر واالندفاع ‪ ،‬كما أنها مسؤولة عن الشعور بالقلق والتوتر ‪ ،‬وتنشط هذه املنطقة عند‬
‫شعور الفرد بعدم اليقني من يشء ما تعرض له ‪ ،‬أو من شعوره من عدم مصداقية حدث أو موقف‬
‫ما ‪ ،‬فتتولد حالة القلق هذه لديه لتنبه الدماغ بوجوب إعادة التفكري بحرص لكبح جماح الشك ‪.‬‬
‫بينت الدراسة بأن مقدار الوعي اإليماني مرتبط بحجم النشاط العصيب في الدماغ ‪ ،‬وهذا‬
‫وهكذا ّ‬
‫يعين أن اإليمان الحقيقي هو الذي يكون نتاج التفكري البناء ‪ ،‬املبين على أسس عقالنية ينتقيها‬
‫أساسيا من منظومته الفكرية ‪ ،‬اليت‬
‫ًّ‬ ‫املتدين بما يمتلكه من وعي ‪ ،‬ليصبح اإليمان فكرة تشكل جزءاً‬
‫فع ال في الطريقة اليت يعي بها الوجود والذات واآلخر ‪.‬‬
‫لها دور ّ‬

‫‪19‬‬
‫الخطوة الرابعة ‪:‬‬
‫ّ‪K‬‬
‫تغرِّي الواقع‬ ‫كيف‬

‫مردها إلى افتقارنا الى التقييم الصحيح‬


‫سواء على الصعيد الفردي أو اإلجتماعي ‪ُّ ،‬‬
‫ً‬ ‫جل مشاكلنا‬
‫إن َّ‬
‫يتمكن‬
‫ّ‬ ‫املطابق للواقع ‪ ،‬ومن البديهي أن اإلنسان إذا لم يدرك اﻷسباب والعلل سيخطيء الفهم ‪ ،‬ولن‬
‫أبداً من تصحيح املسار و جرب الخطأ ‪ ،‬إال حني يراجع طرق تفكريه ويتمكن من إيجاد الرؤيا‬
‫الواضحة املطابقة للواقع ‪ ،‬واملفضية إلى املعرفة الدقيقة والشاملة للعيوب حىت ال يدعها تزداد‬
‫و ترتاكم ‪ ،‬فكل إصالح هو رهني بالتجديد الذي هو في صميمه حالة ذهنية ‪ ،‬تتطلب بطبيعة الحال‬
‫تغيري وتطوير أدوات ووسائل الفهم واإلدراك ‪ ،‬الستيعاب الحقائق الكامنة واملتحكمة في الواقع‬
‫الذاتي واملوضوعي ‪ ،‬وهذه رضورة من رضورات إصالح الواقع اليت ال غىن عنها ‪ ،‬ولقد ورد ذكر‬
‫مفردة اإلصالح مرتبطة باإليمان في القرآن الكريم عدة مرات ‪ ،‬كمطلب نهضوي مرسخاً لإلصالح‬
‫والصالح ‪ ،‬إذ البد من االرتباط العضوي بني اإليمان وبني اإلصالح ‪ ،‬ﻷن اإلسالم عقيدة ورِشيعة‬
‫ونقطة البداية في اإلصالح الشامل هي إصالح اإليمان ‪ ،‬الذي يعيد صياغة اإلنسان ليمتد اإلصالح‬
‫بعد ذلك إلى الواقع ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقين رزقا‬
‫حسنا ‪ ،‬وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ‪ ،‬إن أريد إال اإلصالح ما استطعت ‪ ،‬وما توفيقي إال‬
‫بالله ‪ ،‬عليه توكلت وإليه أنيب"ـ هود ‪ 88‬ـ‬
‫وبداية اإلصالح هي ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬إصالح الذات ‪ :‬إن فكر االنسان ليس منفصالً عن إيمانه وأسلوب حياته ‪ ،‬وانما هو متصل‬
‫يقدم للمتدين منهاجاً‬
‫بهما أوثق اتصال يؤثر فيهما ويتأثر بهما ‪ ،‬ومن هنا كان أجدر اإليمان هو الذي ّ‬
‫كامالً شامالً للفكر ‪ ،‬لتحقيق الوعي اإليماني الناجم عن إدراك مفهوم اإليمان والعمل بهذا املفهوم‬
‫يكو نه املؤمن من أفكار ووجهات نظر ‪ ،‬ومفاهيم عن الله وكل مجاالت الوجود ‪ ،‬وقد يكون‬
‫انطالقاً مما ّ‬
‫الوعي وعياً زائفا عندما يصدر عن تصديق اعتقاد زائف ‪ ،‬بحيث تكون اﻷفكار غري متعايشة ذهنياً‬
‫من الناحية الفعلية واملنطقية والشعورية ‪ ،‬وما من يشء أعز من اليقني ﻷن به ينتقل املتدين من‬
‫يتحول الغيب الى شهادة وتظهر‬
‫ّ‬ ‫مستوى الفهم والتقدير إلى استشعار الهداية والطمأنينة ‪ ،‬بحيث‬
‫الرتابطات الخفية بني ما يشاهده ويحسه ‪ ،‬وبني الخالق العظيم من خالل استحضار عظمته وقدرته‬
‫املطلقة باستمرار ‪ ،‬فيحس بالتعالي عن الدنايا والتسامي في املشاعر ‪ ،‬قال الله تعالى‪ ":‬الذين آمنوا‬
‫وتطمنئ قلوبهم بذكر اللّ ه أال بذكر اللّ ه تطمنئ القلوب"ـ الرعد ‪28‬ـ‬
‫والسبب في االطمئنان أي االستقرار النفيس هو الوعي اإليماني ‪ ،‬الذي يجعل املؤمن يعيش في سياق‬
‫مركب شامل ‪ ،‬يضم اطراف الوجود كله من حيث املبدأ والغاية ‪ ،‬والسنِّن الجارية فيه مع وعي الحياة‬
‫الدنيا على حقيقتها ‪ ،‬وعياً إيمانياً ينسجم فكرياً مع ما يعيه ويشعر به ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ثانياً ‪ :‬إصالح الواقع ‪ :‬إن الوعي اإليماني ينمو بمقدار توسع اآلفاق الفكري الذي هو منطلق‬
‫التغيري ومبتدأه اﻷسايس ‪ ،‬به يحقق االنسان إنسانيته وأخالقيته باختياره وإرادته من دون جرب‬
‫وال إلجاء ‪ ،‬فتتولد عنده القيمة اﻷخالقية والشعور باملسؤولية ‪ ،‬تجاه ذاته و تجاه الواقع املجتمعي‬
‫انطالقاً من املشاركة الفكرية والسلوكية الفعلية ‪ ،‬وهذه من أخص خواص املؤمن الصادق الذي‬
‫وتحرره من تخلفه و ركوده ليكون‬
‫ّ‬ ‫يصبح هدفه املنشود بعد إصالح ذاته هو بداية إصالح املجتمع ‪،‬‬
‫له موقع ومكانة بني اﻷمم ‪ ،‬وهذا يتطلب منه أن يضع نصب عينيه إصالح أحوال اﻷفراد فكراً‬
‫وسلوكاً واقتصادياً واجتماعياً ‪ ،‬إلخراجهم من الضعف والتخلف إلى االستخالف املفيض إلى الخريية‬
‫قال تعالى‪ ":‬كنتم خري أمة أخرجت للناس تأمرون باملعروف وتنهون عن املنكر وتؤمنون بالله "‬
‫ـ آل عمران ‪ 110‬ـ‬
‫إن الخريية ليست تفضيالً مجر ًدا عن أي رِشط أو اعتبار‪ ،‬فالعالقة بني اﻷمة وصفات الخريية عالقة‬
‫كسبية ‪ ،‬تقوم على السعي وطلب اإلصالح ‪ ،‬وليست وجو ًدا قبلياً فطرياً ‪ ،‬وهي قائمة على الصفات‬
‫تحقق الرشوط وتُ َرتجم إلى واقع معيش ‪ ،‬فإن االنتماء وحده ليس‬‫اليت ساقتها اآلية ‪ ،‬وإذا لم َت ّ‬
‫ادعاء ولكن تؤخذ غالباً ‪.‬‬
‫ً‬ ‫يغري من حقيقة اﻷمر شي ًئا ‪ ،‬ﻷن خريية اﻷمة ال تتحقق‬‫بمقدوره أن ّ‬
‫أخرت رِشط اإليمان على رِشطي اﻷمر باملعروف والنهي‬ ‫ومن اﻷمور الالفتة في آية خريية اﻷمة أنها َّ‬
‫يتقدم اإليمان ﻷنه أصل ‪ ،‬وتتأخر الصفتان اﻷخريتان‬ ‫ّ‬ ‫عن املنكر ‪ ،‬مع أن املتبادر إلى الذهن أن‬
‫ﻷنهما ثمرة ونتاج ‪ ،‬قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسريه ‪" :‬إن تقديم اﻷمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر وتأخري اإليمان بالله ‪ ،‬راجع إلى أنهما اﻷهم في هذا املقام املسوق ‪ ،‬للتنويه‬
‫بأفضلية اﻷمر باملعروف والنهي عن املنكر تطبي ًقا للمبدأ البالغي ‪ ،‬الذي ينص على أن التقديم ُم |‬
‫شعر‬
‫باﻷسبقية واﻷفضلية ‪".‬‬
‫ولقد تقدم اﻷمر باملعروف والنهي عن املنكر عن اإليمان ‪ ،‬ﻷنهما يتطلبان مجاهدة وسعي دؤوب‬
‫بحسب ما تقتضيه العزيمة واإلرادة ‪ ،‬وبقدر ما يبذل في ذلك من مجهودات وتضحيات لجلب‬
‫ّ‬
‫تتحقق الخريية من منطلق اإلنسانية ‪ ،‬وإذا تالزم اﻷمر والنهي مع اإليمان‬ ‫املصلحة ودرء املفسدة‬
‫تحققت الخريية من منطلق حالة إيمانية‪ /‬إنسانية ‪ ،‬وبهذا يتمايز املؤمن ويتفاضل عن من سواه‬
‫ﻷنه يؤدي واجبه بغض النظر عن ُّ‬
‫تحقق منفعة شخصية يبتغي من ورائها مقابالً ‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫" أعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إال الحياة لدنيا ‪ .‬ذلك مبلغهم من العلم ‪ ،‬إن ربك هو أعلم‬
‫بمن ضل عن سبيله وهو أعلم باملهتدين"ـ النجم ‪ 29‬ـ ‪ 30‬ـ‬
‫وال يعقل أن الناس سيستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم ‪ ،‬وهم يرون ما آلت‬
‫وتسيد الظلم وانتشار الفساد وإراقة‬
‫ُّ‬ ‫إليه اﻷمة من تخلف وترشدم وانحطاط القيم ‪ ،‬وضعف الهمم‬
‫دماء اﻷبرياء ‪ ،‬فإصالح أوضاع وأحوال املسلمني هو الذي يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً‬
‫فيطبقونه على أنفسهم ‪ ،‬ويحملون غريهم من قريب أو بعيد على تطبيقه ‪ ،‬ﻷن التوسع اﻷفقي قبل‬
‫يعد نفخاً في رماد ‪ ،‬ولذلك فإذا أرادنا الدعوة إلى اإلسالم فعلينا أوال ً التحرر من هذا‬
‫قيام القاعدة ّ‬

‫‪21‬‬
‫يعد عائ ًقا معرقالً لنرش الرسالة ‪ ،‬ﻷن املجتمع الراقي املتحرض القوي ثقافياً‬
‫الواقع املزري ‪ ،‬الذي ُّ‬
‫واقتصادياً واجمتاعياً صوته مسموع ‪ ،‬وآراؤه تفرض نفسها والكل يسعى لالقتداء به ‪ ،‬وحىت تكون‬
‫لإلسالم فعالية البد له من تحقق كافة مقومات اإلصالح ‪ ،‬اليت تالزم اإلنسان املتحرض وتربطه‬
‫عضويا في جانبها اإلنساني ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ارتباطا‬
‫ً‬
‫نحدده‬
‫وإذا أردنا أن نفهم التجديد في مجال الواقع في هذا العرص وجب أن نفهمه كمنهاج قبل أن ّ‬
‫كنتيجة ‪ ،‬ﻷن منهاج التفكري يؤدي دوراً مهماً في تحديد نوعية اإلصالح ‪ ،‬وبالتالي يجب أوال ً‬
‫االعتناء برتبية الفرد كمنطلق ‪ ،‬ﻷنه نواة أساسية في تغيري واقع اﻷمة والرقي بها ‪ ،‬ومن أجل بناء‬
‫فعال قادر على املساهمة في بناء مجتمع أفضل ‪ ،‬علينا بتطوير طريقة تفكريه وتعويده على‬
‫فرد ّ‬
‫ّ‬
‫التعق ل السليم لكرس حواجز الجهل والتقليد والوصاية ‪ ،‬وأفضل أداة للسيطرة على هاته السلبيات‬
‫ّ‬
‫بالتعقل ‪ ،‬وهذه خمس توجهات تساعد على البدء في إصالح‬ ‫املدعم‬
‫َّ‬ ‫هي اإلدراك الواعي للواقع‬
‫الذات ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ النقد الذاتي ‪ :‬يُعترب النقد الذاتي في مجال العقيدة أحد أهم عنارص سالمة إيمان الفرد ‪ ،‬بحيث‬
‫بتمعن في مرجعية معتقداته وسلوكياته ‪ ،‬بهدف النظر إلى ذاته |‬
‫بحكمة‬ ‫ّ‬ ‫فكر‬
‫يجب على املؤمن أن يُ ّ‬
‫وتعقل ليكون ُم |‬
‫رشداً لنفسه ‪ ،‬يستدرك اﻷخطاء بتصحيحها والتحكم فيها ‪ ،‬ﻷن إذا عامل نفسه‬ ‫ّ‬
‫عو|دها على املحاسبة ‪ ،‬فيصبح قادراً على تحويل أفكاره ومعتقداته السلبية‬
‫سهل عليه أن يُ ّ‬
‫باملراقبة ُ‬
‫ملا هو إيجابي ‪ ،‬انطالقاً من مراجعة أفعاله وأفكاره وطموحه ‪ ،‬لتكون له رؤيا واضحة ملا عليه إيمانه‬
‫وبذلك تتحقق حركة إصالح الذات ‪.‬‬
‫عن ثابت بن الحجاج قال ‪ :‬قال عمر بن الخطاب ريض الله عنه‪":‬حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا‬
‫وتزينوا‬
‫ّ‬ ‫وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ‪ ،‬فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ‪،‬‬
‫للعرض اﻷكرب يومئذ تعرضون ال تخفى منكم خافية ‪ ".‬ـ حديث مرفوع ـ‬
‫‪ 2‬ـ تطوير املعرفة ‪ :‬يجب العمل بشكل مستمر من أجل اكتساب معارف جديدة ‪ ،‬بغية تحسني‬
‫املهارات الفكرية لالرتقاء باإليمان ‪ ،‬وهذا يتطلب من املتدين أن يفكر بوصفه رجل أفعال ‪ ،‬ويترصف‬
‫بوصفه رجل أفكار ‪ ،‬ﻷن املعرفة الحقة تصوغ وتنمي وتُرسخ الوعي اإليماني ‪ ،‬ليكون تنفيذه أمراً‬
‫ممتعاً وسهالً ‪ ،‬وسيكون املؤمن أكرث واقعية مع نفسه إذا استوعب أن املعرفة غايتها أن تكون محفز ًة‬
‫لكرس الحواجز وليس لبنائها ‪ ،‬قال تعالى ‪ " :‬يريد بكم اليرس وال يريد بكم العرس"ـ البقرة ‪ 185‬ـ‬
‫تعرسوا ّ|‬
‫وبرشوا‬ ‫يرسوا وال ّ |‬
‫وعن أنس ريض الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪| ّ " :‬‬
‫وال ّ |‬
‫تنفروا "ـ متفق عليه ـ‬
‫تحدي اﻷخطاء‬
‫بد من ّ‬
‫تعد خطوة كبرية في مجال تصحيح اﻷفكار وتطويرها ‪ ،‬إذ ال ّ‬
‫‪ 3‬ـ الجرأة ‪ُّ :‬‬
‫املتحكمون‬
‫ّ‬ ‫وعدم الوقوف عند العراقيل اليت تواجهنا من أجل تصحيح مسار إيماننا ‪ ،‬ﻷن أفكارنا نحن‬
‫واملسؤولون عنها ‪ ،‬عن أبي هريرة ريض الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ :‬املؤمن‬
‫القوي خري وأحب إلى الله من املؤمن الضعيف وفي ّ ٍ‬
‫كل خ ٍ‬
‫ري ‪ ،‬احرص على ما ينفعك واستعن بالله‬

‫‪22‬‬
‫وال تعجز ‪ ،‬فإن أصابك يشء فال تقل‪ :‬لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر الله وما‬
‫شاء فعل‪ ،‬فإن لو تفتح عمل الشيطان"ـ رواه مسلم ـ‬
‫‪ 4‬ـ التكون إمعة ‪ :‬إن غياب اإلرادة وضعف العزيمة يفضيان إلى ترسيخ عوائق داخلية ذاتية‬
‫يفكر بشكل قيايس ‪ ،‬يحتاج دوماً وأبداً إلى استحضار‬
‫بسبب أغالل الفكر الوصائي ‪ ،‬فيصبح العقل ّ‬
‫كل ما يتم التفكري فيه ‪ ،‬غري مدرك بأن تطوير الفكر وتحريره من التبعية‬
‫متبعة في ّ‬
‫أي نسخة فكرية َّ‬
‫ليس نقطة قوة طبيعية ‪ ،‬بقدر ما هو نتاج اإلرادة الصادقة وقوة العزيمة اللتني يحملهما العقل‬
‫البرشي ‪ ،‬وليس ثمة ما هو أكرث أهمية من الطريقة اليت يفكر بها اإلنسان ‪ ،‬ﻷنها هي املحدد الفعلي‬
‫واملقياس الحقيقي ملعرفة درجة اإليمان ‪ ،‬عن حذيفة ريض الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله صلى الله‬
‫عليه وسلم ‪ " :‬ال تكونوا إمعة ‪ ،‬تقولون إن أحسن الناس أحسنا ‪ ،‬وإن ظلموا ظلمنا ‪ ،‬ولكن وطنوا‬
‫أنفسكم ‪ ،‬إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فال تظلموا"ـ رواه الرتمذي ـ‬
‫‪ 5‬ـ علو الهمة ‪ :‬من الواجب على املؤمن التحلي بعزة النفس دون غرور ‪ ،‬والرتفع عن الدنايا لبلوغ‬
‫علو الهمة ‪ ،‬فهي منوطة بدرجة االقتناع بصواب اﻷفكار واحرتام القيم الحميدة ‪ ،‬واملباديء الرشيفة‬
‫و السعي الدائم إلدراك االصفات اإليمانية على بصرية وعلم ‪ ،‬وعدم استزناف الطاقة الذهنية في‬
‫الهمة صلُح ما وراء ذلك من اﻷعمال ‪ ،‬قال تعالى ‪ " :‬وإذا سمعوا‬
‫التوافه والرتهات ‪ ،‬ﻷن إذا صلُحت ّ‬
‫اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ‪ ،‬سالم عليكم ال نبتغي الجاهلني "ـ القصص ‪ 55‬ـ‬
‫وال يمكن إنكار أن كل فكر مرتبط بالواقع الذي نشأ فيه وتلك هي جدلية الفكر والواقع ‪ ،‬فكل معرفة‬
‫هي جواب عن مسألة وال يشء ينطلق بداهة بدون تطوير التفكري ‪ ،‬الذي هو مجمل العمليات الذهنية‬
‫اليت ينتج عنها الوعي اإليماني ‪ ،‬وهذا هو السبيل اﻷصوب لكسب اإليمان الحق ‪ ،‬الذي يكتسبه‬
‫ّ‬
‫التعقل ‪ ،‬ليصبح اإليمان قاعدة ثابتة وراسخة‬ ‫املتدين بفضل سعيه وجهده ووفق توافق العقيدة مع‬
‫مركوزة في كيانه على أساس حرية االختيار ‪ ،‬جاء في الحديث الرشيف ‪ … " :‬استفت قلبك ‪ ،‬والرب‬
‫ما اطمأنت إليه النفس ‪ ،‬واطمأن إليه القلب ‪ ،‬واإلثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك‬
‫الناس وأفتوك ‪ ".‬ـ رواه أحمد ـ‬
‫ّ‬
‫التعقل السليم ال يجوز له االعتقاد بيشء إذا لم يطمنئ‬ ‫واملراد من الحديث أن املؤمن العارف صاحب‬
‫لها فكرياً ووجدانياً ‪ ،‬قال تعالى ‪ " :‬قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقني"ـ البقرة ‪ 111‬ـ‬
‫إن اإليمان يجب أن يصدر عن العقل ومعايريه املنطقية واﻷخالقية ‪ ،‬وليس من الهوى والتعصب‬
‫وتقلبات املزاج والعفوية والعشوائية ‪ ،‬لذا على املتدين أن يعتين باقتناء أفكاره ﻷنها هي الحجة‬
‫|‬
‫املربهن به‬ ‫يعد املرجع النهائي‬
‫الدامغة والربهان الساطع على مدى مصداقية وعيه اإليماني ‪ ،‬الذي ُّ‬
‫تعد قوة تحمي وجودها‬
‫على إصابة العقل وخطائه ‪ ،‬وعلى سالمة الفهم وعلته ‪ ،‬فاﻷفكار املعقلنة ُّ‬
‫وتضمن استمراريتها وبقائها ‪ ،‬أما اﻷفكار املغلوطة سيهوي رصحها الذي يحسبه الجاهل قوياً‬
‫وشامخاً ومرتاصاً ‪ ،‬وهو في الحقيقة أوهن من بيت العنكبوت ‪ ،‬قال تعالى ‪ ":‬أنزل من السماء ماء‬
‫فسالت أودية بقدرها ‪ ،‬فاحتمل السيل زبداً رابياً ‪ ،‬ومما يوقدون عليه في النار ‪ ،‬ابتغاء حلية أو متاع‬

‫‪23‬‬
‫زبد مثله ‪ ،‬كذلك يرضب الله الحق والباطل ‪ ،‬فأما الزبد فيذهب جفاء ‪ ،‬وأما ما ينفع الناس فيمكث‬
‫في اﻷرض ‪ ،‬كذلك يرضب الله اﻷمثال‪ ".‬ـ الرعد ‪ 17‬ـ‬

‫تم بعون الله وتوفيقه‬

‫‪24‬‬

You might also like