Professional Documents
Culture Documents
تجدد إيمانك
كيف ّ
بواسطة منهاج إجرائي
1
إهداء
إلى أحبائي أعز الناس إلى قليب ،فلذة كبدي ومهجة حياتي ،ذرية تؤتي خصالها الطيبة كل حني
بإذن ربها ،لكم مين حسن الرضا وأصدق الدعاء ،وإلى رفيقة العمر وشقيقة الروح أخلص الدعاء
بالرحمة واملغفرة ،إلى هؤالء أهدي كل حرف خطته يدي إبتغاء مرضاة الله ،وكل فكرة اهتديت
إليها وزادتين قرباً من الحق سبحانه ،جمعين الله وأيكم على ما يحبه ويرضاه ،وختم لي ولكم
2
محتويات البحث
3
املقدمة
قال تعالى ":رسالً مبرشين ومنذرين لئال يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً
حكيماً "ـ النساء 165ـ
تتابعا للحركات اإلصالحية ،اليت تسعى لتصحيح انحراف الفهم
ً إن بعث الرسل واﻷنبياء ليس إال
لرسالة االستخالف في اﻷرض ،فكلما زاغت البرشية عن الحق والصواب وترسخت االنحرافات
رسوال ،ليجدد ويصلح املفاهيم لتحرير العقول من جميع القيود
ً العبادية واملعامالتية إال بعث الله
اليت كبلتها ومنعتها من النهوض بأعباء االستخالف على أحسن وجه ،قال تعالى " :الذين إن
مكناهم في اﻷرض أقاموا الصالة وآتوا الزكاة ،وأمروا باملعروف ونهوا عن املنكر ،ولله عاقبة اﻷمور
ـ الحج 41ـ
والتمكني يعين :القدرة على القيام بعمارة اﻷرض على أساس العدل واملساواة واملحبة واإلخاء ...
وتحقيق هذا املبتغى يتطلب تجديد اﻷفكار والتصورات لتالئم املحدثات والتطورات اليت تطرأ على
ّ
ينفض الناس عن املنهج الرباني الذي يدعو اإلنسان لحركة حضارية املجتمعات البرشية ،حىت ال
فتتحول العالقات
ّ في الفكر واﻷخالق والعمل لينقذه من االستغراق املادي ،والوقوع في بؤرة التشيؤ
دائما إلى إصالح
ً بني البرش إلى ما يشبه عالقات آلية بني اﻷشياء ،لذا نجد الخطاب القرآني يدعو
ممنهج يتماىش مع الفطرة السليمة ،قال تعالى ":لكل جعلنا منكم |رِشعة ومنهاجا ،ولو شاء الله
لجعلكم ّأم ة واحدة ،ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ،فاستبقوا الخريات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم
بما كنتم فيه تختلفون" ـ املائدة 48ـ
تبني بأن اﻷديان السماوية تتّ فق وتتّ حد في أصول العقيدة فقط ال في الرشيعة ،يقولاآلية ّ
السعدي رحمه الله في تفسري اآلية " :لكل منكم أيها اﻷمم جعلنا رِشع ًة ومنهاجاً ،أي طريق
واضح ال لبس فيه وال غموض ،وهذه الرشائع اليت تختلف باختالف اﻷمم هي اليت تتغري بحسب
تغري اﻷزمنة واﻷحوال ،وكلها تُرجع إلى العدل في وقت رِشعتها ،وأما اﻷصول الكبار اليت هي
مصلحة وحكمة في كل زمان ،فإنها ال تختلف ّ
فترشع في جميع الرشائع .وقوله تعالى ":ولكن
ليبلوكم في ما آتاكم "أي يختربكم وينظر كيف تعملون ،ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته
ويؤتي كل أحد ما يليق به ليحصل التنافس بني اﻷمم ،فكل أمة تُحرص على سبق غريها ،ولهذا
قال" :فاستبقوا الخريات" أي :بادروا إليها وأكملوها ،فإن الخريات الشاملة لكل فرض ومستحب
من حقوق الله وحقوق عباده ،ال يصري فاعلها سابقا لغريه مستولياً على اﻷمر إال بأمرين :املبادرة
إليها ،وانتهاز الفرصة حني يجيء وقتها ويعرض عارضها ،واالجتهاد في أدائها كاملة على الوجه
املأمور به".كتاب « :تيسري الكريم الرحمن في تفسري كالم املنان»
4
إن املنهاج اإلصالحي ال قيمة له إذا لم يتوفر له علم يربهن على صحته ،ويحوله إلى سلوك بناء
علو ا في اإلبداع والتطور والتنمية ،حىت ال يكون املجتمع املؤمن عالة على
في الواقع يمنح املجتمع ً
وحل
ُّ اآلخرين ،ﻷن قانون اﻷخذ باﻷسباب ال يقبل محاباة وال يفرق بني مجتمع مؤمن وغري مؤمن ،
يعد نشاطاً ذهنياً معرفياً موجهاً ينتظممشكالت اإلنسان يتحقق حرصاً بوساطة التفكري ،الذي ُّ
خ ّ |طي العقبات
بشكل منهاجي ،ويسري وفق اسرتاتيجية منظمة ومخطط هادف ،واليمكن أبداً َت َ
التوسل واﻷدعية ،والقبوع في املنطقة املبهمة بني القدر وخطأ البرش ،وهي
ُّ وردعها عن طريق
منطقة تخضع لسوء الفهم أكرث مما تخضع لإليمان ،إذ ال إيمان بالقدر في تفسري فساد البرش ،بل
اﻷجدر واﻷنفع هو ّ |
تبين املنهاج املستند إلى االستبصار واملنطق ،الذي يمارسه املؤمن من منطلق
الوعي اإليماني .فاآليات اليت تذكر قصة اهتداء سيدنا إبراهيم عليه السالم إلى اإليمان الصادق
حل املشكالت ،إلى أن وصل إلى الحلكلها كانت خطوات فعلية ،ترتكز على عملية التفكري في ّ |
املناسب للمشكلة برمتها ،فختم أطروحته باستنتاج دامغ ":فأي الفريقني أحق باﻷمن إن كنتم
تعلمون .الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم اﻷمن وهم مهتدون"ـ اﻷنعام 81ـ 82
يبي|نان بعد امتحان االختيار بني الحق والباطل ،واستقراء الرباهني واستخالصها
إن هذين اآليتني ّ
ُّ
التعقل ودالئل الهدى ،اللذين بفضلهما يتم االهتداء من املشاهد الكونية ،مدى االنسجام املطلق بني
إلى الوعي اإليماني ،الذي يُوصل املؤمن نحو الصالح والتكامل .
أخي في الله اغتنم فرصة التوبة واﻷوبة إلى الله ،فالعرض مستمر إلى حني نفد املخزون من العمر
وحاول أن تبدأ من اللحظة في تغيري أفكارك ،ﻷنها وحدها الكفيلة بتجديد إيمانك ،وتجديد إيمانك
هو السبيل اﻷوحد إلصالح أعمالك ،قال تعالى":إن الله ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما بأنفسهم "
.ـ الرعد 11ـ
هيا بنا يا أخي في الله نؤمن ساعة فرناجع فيها أفكارنا وما قدمته أيدينا ،ولتكن لك قوة في دين
وإيمان في يقني ،وعلم في حلم وحلم بعلم ،واستشعر رقابة الله في كل عمل وكل حني ،وأياك
والتمين بغري عمل فإنه بضاعة الغافلني ،وصارح نفسك قبل مصارحة اآلخرين لك ،ورحم الله
وع َّجل فأرسل لنفسه طوق النجاة قبل فوات اﻷوان
امرُأً عرف ذنوبه فاستغفر ربه وأناب إليه َ ،
وجعل لسانه يلهج بقوله تعالى ":وعجلت إليك ربي لرتىض "ـ طه 84ـ
5
الخطوة اﻷولى :
تجديد مفهوم قراءة القرآن
6
املعيش في مختلف املجاالت واملناحي الحياتية الدنيوية ،ولعل هذا املفهوم املفتوح للقراءة هو الذي
ينبغي أن نفهم به القرآن ،ﻷن القراءة التقليدية منغلقة تغتال الفضول املعرفي التساؤلي ،و َت |ئد
تطور الفهم كمرشوع إبداعي يحمله قول الفصل ،قال تعالى " :إنه لقول الفصل وما هو بالهزل"
ـ الطارق 14 13ـ أي قول حاسم ال ريب فيه ،قول مرض في معانيه وجزالة ألفاظه ،وصائب في
مصدره ومقصده ،يتطلب قراءة استكشافية دائمة ،سواء من خالل االستبطان اإليماني الروحي أو
يتجدد
ّ من خالل التحليل املعرفي العقالني ،لذا يجب أن نغوص في أغواره ،و نتدبره كنص مفتوح
بالقراءة الجادة والرصينة ،ليصبح خطاباً يالئم ويساير التطور اإليماني على مر اﻷزمنة واﻷمكنة.
متعددة وملزتمة
ّ إن تجديد مفهوم قراءة القرآن يحتاج إلى منهج ضابط يرثي القراءة ،ويجعلها
بأسس املعرفة اليت تحرتم خصوصية النصوص العقدية ،وتوازي بني املعىن الحرفي وبني املعاني
املؤو|ل على
ّ اﻷخرى املطمورة والجاثية في تالوين الخطاب القرآني ،رِشيطة أن ال تطغى سلطة
النص ،ﻷن املغاالة في التأويل تغتال النصوص وتعصف بها .فقراءة القرآن ليست شيئاًّ سلطة
لتقدم ذاتها وتتبنني وتنضبط كإختيار ثقافي
اعتباطياً أو ذواتياً ولكنها رؤيا فكرية ـ معرفية ،تسعى ّ
يعد أداة اإلنسان في التعلم والتمرس والفهم لكل ما يتعلق
يتولد عنها اإلدراك والفهم املعقلن ،الذي ُّ
فعال
بالوجود والحياة واملصري ،وبالتالي فتجديد مفهوم قراءة القرآن يتطلب توظيف منهج علمي ّ
يتمكن من تشكيل وعي عقدي انطالقاً من
ّ مكن القاريء من الفهم الحر البعيد عن فكر الوسيط ،حىت
يُ ّ
االنفتاح على جميع مصادر املعرفة ،بدل القراءة الحرفية املنغلقة اليت أسست فهماً سطحياً ظاهرياً
تتبادر إلى ذهن القاريء
َ وجردته من كل الدالالت ،اليت يمكن أن
ّ حددت معىن الكلمة الحرفي
بحيت ّ
اللغوية فقط ،مع إقصاء باقي
ّ اﻷصولية على املسألة
ّ الداللة
وأقامت سياجاً دوغمائياً ملحورة ّ
الدالالت اﻷخرى .
وهذا النوع من القراءة لم يتعامل مع القرآن كمؤسس للمعرفة ،وإنما تعامل معه باعتباره شاهداً
ؤسس للمعرفة إلى اجتهاداتبالحق على معرفة تأسست خارجه ،فكان التحول واالنتقال من قرآن ُم ّ |
أسستها املعرفة ،فغدت أصالً مرجعياً لفهم وإدراك القرآن ،ومن هنا وجب رضورة االشتغال بآليات
قراءة جديدة ،ال تتأسس على الذاتية بل على وقائعية الحال وتاريخية الفهم ،إذ أن كل فهم هو فهم
زماني قصدي تاريخي ،يمتد ليشتمل على ما يعنيه النص في لحظته الراهنة .فالنص ال يرشح
ذاته إال عرب ثقافة املتلقي ،وبالتالي ليست هناك قراءة دائمة ،بل هناك فحسب قراءة تاريخية
تتحرك ضمن رِشوطها التاريخية ،لذا يجب أن ندرس القرآن دراسة موضوعية على ضوء واقعنا
الفكري واملعرفي ،تمكننا من فهم واقعنا فهماً يتجاوز فهم السلف باعتباره حقيقة مطلقة ،ﻷن
النصوص التفسريية الرتاثية اليت بني أيدينا ،ما هي في الواقع إال نتاج قراءات ذاتية عدة خضعت
لألهواء وامليوالت اإليديولوجية ،اليت كانت سائدة في واقعهم املجتمعي ،لذا ُّ
يحق للدارس نقدها
بناء على أنها منظومة معرفية تؤصل
ً وتفكيكها وتجاوزها ،بدال ً من من تقديسها والدفاع عنها
للحقيقة املطلقة ،اليت يجب أن نفهم من خاللها القرآن بمعزل عن واقعنا ،بينما فهم السلف ما هو
7
في الحقيقة إال نتاج جدل الفكر والواقع .فالنصوص الدينية ال يمكن أن تُفهم بمعزل عن الجانب
رد تلك النصوص إلى بد من ّ
اإليديولوجي ،الثاوي خلف الواقع الذي نشأت فيه ،وبالتالي ال ّ
سياقها الثقافي التاريخي ،الذي أُنتجت فيه ﻷنها حتماً محكومة ّ
بالظروف اليت أفرزتها ،وساهمت
في إنتاجها وإبداعها وال يمكن لها أن تتعالى عنها .
ومن أهم مقومات القراءة الحديثة :علوم اللغة الحديثة اليت أصبحت أكرث التصا ًقا بعلم الداللة ،مما
جعلها ترتبط بتحليل السياقات اللغوية وغري اللغوية ،ﻷن االعتقاد بأن املعىن محصور في اللفظة
املكون الكالمي في كل
ّ وحدها مفهوم خاطئ ،فهناك مكون ال كالمي يُفرَض دائما بالرضورة فوق
ويحد د دالالت ذات أبعاد مختلفة حسب السياقات .فاملعىن املعجمي ليس كل
ّ وحدة كالمية محكية ،
يشء في إدراك معىن الكالم ،إذ ثمة عنارص غري لغوية ذات دخل كبري في توجيه وتحديد املعىن
تسمى بالسياق غري اللغوي ،وله تأثريه املبارِش على املعىن الدقيق للكلمة في املواقف الفعلية
وبالتالي فإن دراسة معاني الكلمات في القرآن ،تتطلب تحليالً لكافة السياقات واملواقف اليت وردت
فيها ،ملعرفة معناها املجازي أو االستعمال الكنائي ،بدل الرتكزي على املعىن الحرفي لها فقط ،ﻷن
النص الحي ال يعيش اال في ظل قراءة السياقات إلثراء املعرفة وتجديد اﻷفكار ،وكما يقول فقهاء
اللغة ":ال يشء ينطلق بداهة ،وال ليشء معطى ،وكل يشء مبين ،وال يشء خارج السياق ،ﻷن
السياق هو الكفيل بإخراج املعىن .
ومن أهم السياقات اليت يجب مراعاتها أثناء القراءة :
أوالً :السياق اللغوي :هناك تالزم ال ينفصم بني اللغة ووظيفة التفكري ،وهي تتطور بتطور فكر
اإلنسان ،واﻷلفاظ اليت هي أوضاع اللغة لم توضع لتُ ْعرَف معانيها في أنفسها ،فحني يخاطب
متكلم سامعاً فهو ال يقصد إفهامه معاني الكلمات املفردة ولكن النظم ،أي من خالل السياق ،ﻷن
يقدمه السياق اللغوي ،هو معىن
متعدد ومحتمل ،في حني أن املعىن الذي ّ
ّ املعىن الذي يقدمه املعجم
للتعدد أو االشرتاك أو التعميم ،لذا يجب ُمجاوزة مدلول الكلمة إلى تركيب
ّ محدداً غري قابل
خاصاً ّ
الس ياق ،قال الجرجاني ":إن اﻷلفاظ هي خدم املعاني ،وأن املعاني هي املالكة
الكالم ومقتىض ّ
سياستها املتحكمة فيها ".
ثانياً :سياق املوقف :املراد به أسباب الزنول اليت ورد فيها النص ،وهو سياق خارجي يشمل كل
ما يحيط باللفظ من عنارص غري لغوية ،تتصل بمعطيات النازلة وحيثياتها وظرفيتها ،وهي تضفي
دالالت تساهم في توسيع أفق فهم النص ،ﻷن املعىن يرتبط ارتباطاً وثيقاً عند اإلنسان بخرباته
وأحاسيسه ومثله وحدوسه وقيمه ،لذا ال يمكن فهم أي نص لغوي إال على نحو يقتضيه العقل ،إذ
ال يوجد تناقض بني الوحي والعقل .
يتم
ثالثاً :السياق املوضوعي :يجب ربط اآلية باملوضوع الذي تندرج تحته وينظمها ،ثم ُّ
تجميع اآليات ذات املوضوع الواحد تحت وحدة موضوعية واحدة ،ويُربط أجزاؤها بعضها ببعض
8
مما توضحه
ليستخرج منها املفرس فهماً عاماً ملجموعها ،بحسب القضية وما اقتضاه الحال ُ فيها ّ
حوامل الرؤيا الرشعية .
رابعاً :السياق املقصدي :ال بد من فهم الغاية من اﻷحكام القرآنية من خالل مقاصد الرشيعة
فاﻷحكام اليت رِشعها الله سبحانه املقصود منها جلب املصلحة ودرء املفسدة ،فال يُعقل أن يغفل
اإلنسان عن املقصد ويشتغل بالحكم فقط ،ﻷن املقاصد هي أرواح اﻷحكام اليت يرتتب عنها املعيار
لتصويب املطلوب من االجتهاد باﻷدلة العقلية .
وبفضل املنهج السياقي يمكن تطوير قراءة القرآن ،والخروج من دائرة الجمود واالنغالق الفكري
ﻷن في اتباع الظاهر على وجهه هدم للرشيعة ،فالرشيعة أحكام تنطوي على مقاصد ،ومقاصد
تنطوي على أحكام ،وبالتالي يجب اتباع منهج متعدد السياقات ،بدل اإللزتام بالداللة اللغوية
حد ذاته عمالً يتنافى ومقصد كونية عاملية رسالة اإلسالم ،قال تعالى":الر
وحدها ،ﻷن هذا في ّ
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى رصاط العزيز الحميد"
ـ إبراهيم 1ـ
عن عبدالله بن عمرو بن العاص ريض الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم":بلّ |غوا
عين ولو آية… "
فاﻷمة مأمورة بتبليغ القرآن إلى الناس كافة ،ولن يتحقق ذلك إال برتجمته إلى لغات اﻷمم اﻷخرى
ومن املستحيل ترجمته ترجمةً حرفي ًة ﻷن لكل لغة خصائصها وممزياتها ،وإذا كان هذا حال فيما
يرتجم من الكالم العادي ،فكيف إذا كان النص معجزاً وتنيالً من رب العاملني ،باإلضافة إلى أن
النص القرآني من حيث الجانب اللغوي يستعمل اإلشارة واإليحاء والرمز واملجاز ،وبالتالي فهو
حمال أوجه يحتمل عدداً غري محدود من وجوه التفسري ،وهذا يستلزم ضمناً تعدداً في الداللة بحكم
ّ
ركز على مضامني اآليات وما
تعدد املخاطبني به واختالفاً في اﻷزمنة ،لذا فالرتجمة يجب أن تُ ّ
ُّ
تحمله من دالالت ونتاجات فكرية ورؤى ومعاني متدفقة ،تخدم مقاصد عاملية الرسالة من خالل
دورها في التنوير الفكري ،لتأسيس مجتمع إنساني نمودجي يجعل الرحمة بمفهومها الشامل ضمن
أولوياته ،قال تعالى" :وما أرسلناك إال رحمة للعاملني "ـ اﻷعراف 125ـ
متغري الداللة ،بمعىن أن
ّ متحرك
ّ إن النص القرآني ال ينفك عن صفة الثبات في أصوله ،ولكنه
النص محدود والداللة غري محدودة وال متناهية ،لذا يصعب التطابق النهائي بني حرفية النص
ومقاصده ،دون التوقف عند حدود دائرة القارئ واملقروء ،ﻷن التفسري الحرفي للفظة سيفيض بنا
جل جالله "
إلى استحالة عقلية ،فال يمكن فهم القرآن بمعزل عن معرفة صاحب الخطاب " الله ّ
تسييج القرآن بسياج حرفية اللّ غة ،صحيح أن النص القرآني يعتمد على اللغة اليت
ّ لذا يستحيل
تجس د ثقافة البيئة ،لكن ارتباطها ضمن الشبكة السياقية للقرآن يجعلها قادرة على إعطاء دالالت ّ
ومفاهيم جديدة تالئم الثقافة املتداولة حالياً ،قال أحد العارفني بالله " :إذا كان اإلنسان يقول اكرث
مما يعين ،فإن الله يعين أكرث مما يقول ".
9
وبالتالي هناك فارقاً بني االستخدام اإللهي واالستخدام البرشي ،فاالستخدام اإللهي يرتقي باللفظة
إلى مستوى املصطلح املحكم الدقيق ،ويعطيها مفهومها املرجعي املرتبط بالسياق أينما استخدمت
في القرآن ،خالفاً للتصورات البالغية اإلنسانية ،اليت تسحب معناً معرفياً أو مجازياً مرتبطاً بداللة
قنِّن اإلعجاز ،وتقنني اإلعجاز يعين اللفظة نفسها .فالقاريء الذي يحاول تقنني بالغية القرآن فهو يُ ّ |
القدرة على اإلتيان باملعج| ز ،أي إعادة إنتاجه وفق نفس القوانني أو اإلتيان باملثل ،وما يستحيل
اإلتيان به يستحيل تقنينه ،ﻷن القرآن ليس خاضعاً لتقنني املعرفة به وقواعد فهمه من خارجه
ولو كان هذا الخارج هو الوسيط اللغوي الشائع الدالالت ،بل يجب إخضاع ما هو خارج القرآن ملا
هو داخله ،إال أن يكون التقنني نسبياً يتوافق مع الواقع اﻷقرب إلى ضوابط الفهم من داخله هو
بالذات ،إلدراك ما ينبغي لنا من موضوعات القرآن في كلياتها وليس في تفاصيلها املتحولة
وبالتالي إسقاط النسيب على املطلق هو من باب التضاد املفيض ال محالة إلى إنهيار الغائية ،اليت
تهيمن على الحركة التاريخية للقراءة في إطارها التأريخي واملوضوعي .قال تعالى ":قل لنئ
اجتمعت اإلنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ال يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهرياً
"ـ اإلرساء 88ـ
تتحكم في الصريورة املعرفية ،ﻷن
ّ يهدم خصائص املفاهيم القرآنية اليت
إن الفهم اللغوي وحده ّ
تح ّدها قواعد اللغة ،وبالتالي كل ما تأتي به املعرفة اإلنسانية في
سعة اللغة القرآنية ال يمكن أن ُ
هذا املجال إنما هي تحديدات نسبية ،تساعد على تكوين املعرفة املتالئمة مع منطق مبادئها الغائية
اليت يتناولها العقل لتشكيل أسس فكرية وثقافية ،ولكن ال يمكن تحويلها إلى إطار مرجعي
موضوعي للتفكري ،ﻷن كل قراءة تتطلب تطوراً في حقل ومضمون النشاط الذهين ،لصياغة قراءة
متسامية على املنظومة املعيارية ،وهذا هو املفرتض من طبيعة النسق التطوري للفكر ،الذي يتجلى
على مستوى السلوكيات بحكم موروث التغاير التاريخي بني القاريء واملقروء .
جل جالله ،هو الذي يمثل
ّ تقدم لبنات قراءة القرآن ،فإن اإلطار املرجعي هو الله
وإذا كانت املناهج ّ
اللحمة اﻷساسية اليت تنتج البعد الفهمي عن طريق توصيل املعىن بتشكيالته املتباينة في سبيل
تحقيق القصد منه ،إذ على إطار املرجعية يتوقف ضبط وتحريك الوحدات الجزئية إلقامة العالقات
اإلرتباطية اليت ينطوي عليها النص القرآني ،الذي يُم ّثل الهيكل والهيئة اللتقاط اإلشارات الهادية
موحد
لتعدد مراتب فهم العقل البرشي في إطار َّ
ُّ اليت يتمحور حولها القرآن ،لتصبح متفاعلة طبقاً
عضوياً ،لفتح الطريق أمام الوعي العقدي تبعاً للفارق النوعي في تطور العقل ،إذ لكل حالة عقلية
تاريخية إسقاطتها الذهنية الخاصة بها ،حسب أشكال تصورها للمعرفة اليت لها دالالتها املفهومية
املطلقة ،املمتدة بكامل طاقتها لتتعالى بتأثريها على كل تفاصيل خصائص اإلنسان ،اليت يحملها
في ذاته معرف ًة وسلوكاً .
إن تفاسري السلف للنص القرآني أفضت إلى إستالب الصريورة املعرفية وفق ما تراه تقديساً للحركة
التاريخية ،دون إدراك مفهوم التاريخ وماهية غاياته ومقاصده ،اليت تُعطي للمعرفة بعداً إنسانياً
10
ّ|
يؤس س حرية العالقة املبارِشة بني الله واإلنسان بدون فرض سلطة فكر الوسيط ،وبالتالي املعضلة
فمن أضفى على فكر الوسيط صفة املطلق ،بدل التعامل معه كتاريخ فكر أصبح من ثقافة املجتمع
وبأنه فقط نقل لنا وجهة نظره ،وهذا ال يلزمنا بأن نفهم الدين من خاللها بل يجب قراءة ما بلغه
من علم ومعرفة بعقل متفتح ،دون أن ّ
نغض الطرف عن عيوبه باعتباره سلف اﻷمة وخري قرونها
فهذه الرؤيا رسخت لدى اﻷمة العقل القيايس ،الذي يحتاج إلى نسخة أصلية يقتدي ويحتدي بها
وهكذا غاب تجديد القراءة الذي يروم ويبتغي تغيري الواقع ،عرب اإلبداع الفكري والثقافي لتجاوز
اإلنهاك التام ،الذي أصاب املنظومة الفكرية اإلسالمية في صميمها ،وأفىض إلى إنسداد القراءة
بحيث أصبح القاريء يقرأ فهم اآلخر للقرآن ،أي يقرأ نصاً برشياً أُ ْض |ف َيت علية قداسة النص
اﻷصلي ،معتقداً أن ذلك هو منتهى الفهم واإلدراك للحقيقة ما جاء في القرآن ،قال تعالى ":وقال
الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ".ـ الفرقان 30ـ 31ـ
إن هجر القرآن املتعارف عليه بني أغلبية املسلمني هو عدم القراءة ،بينما املراد هو هجر تأمله
وتدبره لفهم وإدراك املضامني املوجودة في اآليات القرآنية والعمل بتعاليمها .فاإلعراض عن تأمل
وتدبر القرآن والتقاعس عن محاولة السعي الذاتي إلدراك وفهم آياته البينات ،واالكتفاء باستهالك
التفاسري الجاهزة دون تميزي أو تمحيص من أعظم أنواع الهجر ،قال تعالى ":كتاب أنزلناه إليك
ليدبروا آياته وليتذكر أولوا اﻷلباب " .ـ ص 29ـ
11
الخطوةالثانية :
كيف تجدد إيمانك
متجدد
ّ محددة سلفاً ،يجب ف ْهمه كما ف |همه أجدا ُدنا باﻷمس ،أم أنّ ه مفهوم
هل اإليمان قضية عفوية ّ
له عالقة بالوعي ؟
ليس هناك كلمة أخذت مساحة واسعة في املعىن وفي االستخدام مثل اإليمان ،قد يبدو للوهلة
اﻷولى أن معناه حقيقة تبدو في منتهى البداهة ،ليست بحاجة للتفكري إلى درجة أن املتدين قد ال
وتدبر مفهومه ،ﻷنه يرى بأن مفهومه معطى جاهز سلفاً في ذاته ،وبكونه مسألةُّ يرى ٍ
داع للبحث
املتجدد
ّ محسومة وبديهية ال ينبغي مناقشتها ،بينما هو من أكرب املواضيع اليت يجب أن تأخذ حقها
في املجال املعرفي .
إن طرح قضية فهم اإليمان أصبح التفكري فيه وارد بعد أن كان ضمن دائرة املستحي |ل ،ﻷن التطور
املعرفي أصبح َين َْطر| ح بقوة في قلب جدل الفهم ،اﻷمر الذي أربك مفاهيم كانت أساسية عند السلف
واليت تلقاها املتدين توارثاً كبدائه في الثقافة الدينية السائدة في مجتمعه ،دون تمكينه من السند
تم الفصل فيه بالرتهيب وشيوع التكفري
العقالني الكفيل برشعنة وعقلنة اقتناعه االعتقادي ،الذي َّ
بدل التفكري ،والنتيجة تحنيط اإليمان| وتحويله إلى طقوس شعائرية بال عمق فكري ،عملت على
تحول التفكري في اإليمان إلى
انطفاء توهج فاعليته في الفرد واملجتمع ،وفي ظل هذه املعطيات ّ
تكونت في الحقل الديين أساساًعملية آلية ،تُ ْفر َ ُض فيها حدود وعمق املعرفة الجاهزة املكتسبة ،اليت ّ
على أنها هي الحقيقة املطلقة ،بحيث إذا طرحنا سؤال :ما هو االيمان ؟ .فأول ما يتبادر الى ذهن
املتدين هو التعريف الذي ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جربيل ":أن
تؤمن بالله ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،وتؤمن بالقدر خريه ورِشه ".
بيد أن هذا التعريف االخزتالي يجب أن ينتمي إلى الوعي كفكرة ،حىت ال يبقى تعريفاً انتقائياً يعرب
غالبا ما يستخدم هذا التعريف كوسيلة للتصنيف والتميزي
ً عن االنتماء املذهيب /االيديولوجي ،بحيث
يشو|ه مفهوم اإليمان فحسب ،بل يؤجج
ّ بني املؤمن والكافر ،وهذا اللون من التعريف الديماغوجي ال
الرصاع السيايس واالجتماعي ،إذ أن غياب الوعي أدى باملسلمني إلى التعصب املذهيب واللجوء إلى
مواقف فكرية أو سياسية ،تقوم على كيل االتهامات بالكفر واإللحاد والزندقة .
متضمنة في اآليات ترصيحاً وتطبيقاً وتعليماً ،فاإلسالم لم يأت
ّ إن الدعوة إلى التجديد في القرآن
ليغري ويصلح ما كان سائداً من اعتقادات في املجتمع الجاهلي من أباطيل وأوهام ،حجبت ّ إال
الفطرة الصحيحة وساهمت في تحريف القيم واملباديء اإلنسانية ،لذا فالتجديد واإلصالح من
رضورات ترسيخ اإليمان ،الذي يكمن هدفه في تصحيح مسار اإلنسان الفكري ،ومن هنا كان منهاج
12
مقتضي ا للتجديد والتغيري ،قال تعالى " :إن الله ال يغري ما بقوم حىت يغريوا ما
ً الرسالة اإلسالمية
بأنفسهم "ـ الرعد 11ـ
وإذا كان التغيري /التجديد ممكناً فما أدواته ،وما حدوده ،وما قيمته ؟
إن الدعوة إلى تجديد اإليمان في القرآن أخذت صوراً وأشكاال ً ،تكمن في تطبيقاتها العملية على
أرض الواقع ،أو بذم ما يعارضها من جمود وتقليد أعمى و محاكاة اﻷمم السالفة ،قال تعالى :
" وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إال قال مرتفوها ،إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مهتدون "ـ الزخرف 23ـ
حث عليها القرآن تحرير العقل من نري التقليد ،وهذه من أعظم أجل أدوات التجديد وأهمها اليت ّ
ّ ومن
وحمل اإلنسان تبعية عمله
ّ القضايا اليت حرص عليها الدين ،فلم يقبل إال اإلتباع املختار الواعي ،
واملسؤولية عنه رافضاً التعلُّ ل والتربير ،قال تعالى" :يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا
أطعنا الله وأطعنا الرسول وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكرباءنا فأضلونا السبيل"ـ اﻷحزاب 66ـ 67
اختط سبيالً جديداً إليمان متجدد ،من خالل الدعوة إلى التفكر والتأمل
ّ وبهذا يكون اإلسالم قد
حرر اإلنسان من سلطة الركون إلى االقتداء اﻷعمى ،وليخلّ صه من قبضة تجار والتدبر ليُ ّ
ّ ّ
والتعقل
الدين وهيمنتهم على عقله ومصريه .فالله سبحانه كلما أسنت الحياة وانحرفت البرشية عن جادة
الصواب إال وبعث رسوال ً لتصحيح املسار ،وتجديد املفاهيم واﻷفكار لتقويم االعوجاج ،بحيث لم
كل منهم بجديد يبهر أبناء زمانه ويتناسب مع ثقافتهم ،وبفضل
يكرر نيب إعجاز نيب آخر ،بل أتى ٌّ ّ
تتقدم البرشية وتتطور وترتقي ،ولقد جاءت أحكام الرشيعة الخاتمة لتصحيحّ تجدد الرشائع
ُّ
اﻷوضاع الخاطئة ،اليت كانت سائدة في املجتمع "الجاهلي" ،ومن ممزيات هذه اﻷحكام أنها لم تكن
وتبدلت بحسب الحاجة واملرحلة ،لتكون متالئمة مع ظروفها
ّ وتنوعت
ّ تدرجت
جامد ًة ،فقد ّ
عما سواه بقيم
ويتمزي ّ
ّ يتأطر اإليمان الجديد بإطاره الخاص به ،
ومتماشية مع اﻷحداث ،حىت ّ
وسلوكي ات ومظاهر جديدة لم يعهدها املجتمع من قبل ،غري أن االلتباس يعاود الظهور في كل زمان
ّ
ومكان بأشكال جديدة وتجليات مختلفة ،لذا ينبغي على املسلمني العمل على فك هذا االلتباس
املعرفي من جديد ،وذلك بتجديد أدوات فهم الدين بمعناه الرشعي والحضاري ،وهذا ليس من البدع
بل هو رضورة أكيدة ،بغية مسايرة الواقع طبقاً ملا يقتضيه من متغريات وتعقيدات ،اليت تتغري بها
الفتاوي واﻷحكام وهي :الزمان واملكان واﻷشخاص واﻷحوال ،وهذا ما أثبته القرآن الكريم والسنة
النبوية ،اللذان يجب أن ندركهما في ظل واقعنا املعيش ال في واقع غرينا .فالسابقون قد فهموا
املربر املسوغ لعملية
ّ بناء على مقتضيات ومعطيات واقعهم وحسب قدراتهم الفكرية ،وهذا هوً القرآن
التوهم
ُّ التجديد في وقتنا الراهن وواقعنا الحارض ،مع اﻷخذ بعني االعتبار بأن الدين ثابت ،ومن
الظن بأن الوسائل من الثوابت واملقدسات كذلك ،بحيث ال يجوز تطويرها أو حىت مراجعتها ودراسة
ّ
يتعقل شيئاً إال إذا كان ذلك اليشء داخل نطاق مقاييس ومفاهيم جدواها .فاإلنسان ال يستطيع أن
13
منظومته الفكرية ،وهذا هو منهج القرآن في الدعوة إلى التجديد .قال تعالى " :يا أيها الذين آمنوا
آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله"ـ النساء 136ـ
إن املطلوب من املؤمنني هنا ليس هو اإليمان الحاصل عندهم وقت الخطاب ،بل املطلوب منهم أن
منصب على الزيادة
ٌّ يرتقوا في درجات اإليمان من خالل الزيادة فيه على ما كان حاصالً لهم ،فاﻷمر
ّ
التعقل والتدبر في ومقرر ،وتجديده ال يكون إال عن طريق
ّ ﻷن اإليمان يزيد وينقص كما هو معلوم
آيات اآلفاق واﻷنفس ،لريتفع مستوى التوحيد وتزداد االستقامة على أمر الله .
تح ُّّث على التجديد ،وتؤكد ذلك املعىن باعتباره أمرًا واجب التنفيذ :
ولقد وردت أحاديث نبوية ُ
أوال ً :عن أبي هريرة ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " :إن الله يبعث
لهذه اﻷمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" .ـ رواه الحاكم بسند صحيح ـ
ثانياً :عن عبد الله بن عمرو بن العاص ريض الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " :إن اإليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ،فاسألوا الله أن يجدد اإليمان في
قلوبكم " ـ رواه الحاكم ـ
ثالثاً :عن أبي هريرة ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " :جددوا إيمانكم
قيل :يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا ؟ قال :أكرثوا من قول ال إله إال الله".ـ رواه أحمد ـ
الحديث اﻷول يتحدث عن تجديد الدين ،والثاني والثالث يتحدثان عن تجديد اإليمان .
وعالقة تجديد الدين بتجديد اإليمان عالقة بناء بأساس ،ولقد سعى السلف إلثبات مفهوم اإليمان
كحقيقة متعينة على اﻷدلة اللغوية ،والشواهد الرشعية والرباهني الكالمية :
ﻷن أصله أَ ْأمن ،فأبدلت الهمزة الثانية الساكنة ألفاً
أوال :اﻷدلة اللغوية :فعل آمن على وزن أَ ْفعل ّ
أن الجذر" أمن"يعين :الطمأنينة والثقة اليت تنبعث منفصارت آمن ،واملالحظ من كالم أهل اللغة ّ
التصديق ،الذي هو سبب في أن يصبح الفرد مؤمنًا .
بيد أن مفهوم اإليمان في القرآن والسنة يتضمن مجموعة من الصفات املرتبطة فيما بينها ،لكنّ ها في
نؤكد على الصفات اليت تأتي
نفس الوقت ليست واحدة ،فإذا أردنا إدراك مفهوم اإليمان يجب أن ّ
معىن مركباً
ً باعتبارها مرادفة له ،وواضحة تماماً في البناء املعرفي له ،بحيث تُعطي هذه الصفات
صعب تفكيكه ،عن أبي هريرة ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ":اإليمان
بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول ال إله إال الله ،وأدناها إماطة اﻷذى عن الطريق
والحياء شعبة من اإليمان".ـ رواه مسلم ـ
ولقد وردت آيات قرآنية عدة تعرضت إلى أوصاف اإليمان ،من خالل رؤية آثاره وتجلياته املتفرعة
في الحياة العملية ،وليس إلى تعريف مفهومه تعريفاً مجرداً باملعىن العقلي .
ثانيا :الشواهد الرشعية :لقد خلُص الفقهاء إلى تعريف اإليمان بقولهم ":اإليمان تصديق القلب
وإقرار اللسان ،وعمل الجوارح" ،ويراد بتصديق القلب اإلقرار واالعتقاد املبين على العلم و املعرفة
قال تعالى ":إنما يخىش الله من عباده العلماء إن الله غفور رحيم "ـ فاطر 28ـ
14
ويطلق تصديق القلب على شيئني :
اﻷول :التصديق الخربي العلمي الذهين .
الثاني :التصديق العملي أي تصديق الخرب باالمتثال واالنقياد.
واملراد بالتصديق القليب الذي ورد في التعريف هو في الواقع املعادل لاللزتام اليقيين ،الناتج عن
النشاط الفكري والوجداني الحاصل في الدماغ والقلب ،ﻷن هناك عالقة وطيدة ثنائية االتجاه
بينهما ،فكالهما يؤثر في اآلخر ويتأثر ،وانطالقاً من أن اإليمان قناعة فكرية فلقد كان اﻷكرث علماً
هم اﻷكرث خوفاً من الله ،ﻷن العلم هو مقدمة إيمانية تشكل القاعدة اليت ينبين عليها اإليمان
ليتطور ويزيد من خالل زيادة العلم ،فكلّ ما زاد علم اإلنسان ازداد يقينه
ّ وينطلق منها ﻷداء وظيفته
بالخالق سبحانه ،فيصبح مؤمناً صدوقاً ملزتماً بمقتىض علمه ،ويربز آثار ذلك من خالل الخشية
أخص من الخوف ،فإن الخشية للعلماء بالله تعالى ،فهي خوف
ّ قال الفريوز ابادي " :الخشية
مقرون بمعرفة ".
إن اإليمان الصادق يُفيض إلى التصميم على العمل وفق املعرفة ال عن الجهل ،فيأخذ االلزتام شكله
الذهين والعملي ،ثم يرسي وينتقل إلى اﻷعضاء والجوارح ،لذا يمكن أن نصف اإليمان بأنه سلوك
ارتكاسا لإلنسان على ذاته وانغال ًقا عليها ،بل هو تجربة مفتوحة غايتها
ً فعال موضوعي ،وليس
ّ
إظهار آثارصفاته الحميدة على الفرد واملجتمع ،انطالقاً من اﻷخذ باﻷسباب وحسن التوكل ،ولقد
تتابع علماء اإلسالم على القول بأنّ ه ال إيمان إال بعمل ،وال عمل إال بإيمان ،ﻷن عندما يربز اإليمان
في العمل يصل املؤمن إلى درجة الوعي اإليماني ،وهذا الطريق ال يمكن سلوكه إ ّال من خالل العمل
الصالح ،فهو جرس ٌ بني العلم واإليمان ،قال تعالى" :من عمل صالحا من ذكر أو أنىث وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ،ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"ـ النحل 97ـ
وصدق ولم يعمل بجوارحه لم يبلغ اإليمان الذي يريده الله تعالى منه ،ﻷن ّ إن املؤمن إذا َّ
تعقل
يعد ُم ْس |قطاً ﻷصل
السلوك الحميد والعمل الحسن ركنان أساسيان ال يقوم اإليمان إال بهما ،وتركهما ُّ
اإليمان ،لذا قرن الله سبحانه بني اإليمان والعمل الصالح في مواضع كثرية في كتابه ،قال
تعالى":ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ،والكافرون لهم عذاب شديد"
ـ الشورى 26ـ
ضم إليه ـ سبحانه ـ قال اآلجري رحمه الله ..." :لم يدخل املؤمنون الجنة باإليمان وحده حىت ّ
مصد ًقا بقلبه ،وناط ًقا
ّ العمل الصالح الذي قد ّ
وفقهم له ،فصار اإليمان ال يتم ﻷحد حىت يكون
وعامال بجوارحه ".
ً بلسانه ،
وقال مالك رحمه الله " :اإليمان معرفة الحق والعمل به ،واإلصابة في القول والعمل ".
ثالثا :الرباهني الكالمية :إن علم الكالم ينطلق من مقدمات ُّ
تعقلية لتعريف اإليمان كحال بقية
املفاهيم الفكرية املتشعبة الداللة ،نظراً الرتفاع نسبة الغيب فيها ،وهذا ما أدى إلى وجود معركة
توجههم في تلك الفرتة يدور
آراء دائمة عند الكالميني في القرون اﻷولى ،بحيث نجد أن مركز ّ
15
ويتمحور حول مسألة كالمية قوية في باب اإليمان ،بغية إدراك الجوانب الغامضة في ذلك املفهوم
قسمهم إلى |ملَل و |ن َحل مختلفة فيما بينها حول الجانب
ّ فنتج عن هذا أول خالف بني املسلمني ،
فتحول اإليمان
ّ سواء في املذاهب الفقهية أو املذاهب الكالمية ،
ً التصويري والعقائدي لذلك املفهوم ،
يتحول إلى أيديولوجيا مغلقة
ّ معقولية ،مما جعل نسقه في ما بعد
ّ كالمية
ّ إلى عقائد ضمن صيغ
تحزيات
بناء على ّ
ً على ذاتها ،أفضت إلى كل الحروب الكالمية ،كل جماعة أسست نظمها املعرفية
إيديولوجية معينة ،وهكذا أصبح مفهوم اإليمان يمثل معضلة بني املفهومات الكالمية في اإلسالم
تشعب الحقل الداللي وغدا عند املتكلّ |مة يمثل َّ
أهم املفهومات املفتاحية في مجال االنتماء ،وهذا ّ بحيث
املزنلق الفكري أفيض إلى انحراف اإليمان وابتعاده عن أداء وظيفته املتجلية في السلوك كممارسة
فعلية ،لذا أصبح من الرضوري تحرير مفهوم اإليمان من نزعته التجريدية ،الناتجة عن سيطرة
ولجة االحباط حىت ال يبقى اإليمان تكأ ًة ومربراً
املنطق الصوري عليه ،إلخراجه من متاهة القلق ّ
دائماً للرصاع السيايس واإلجتماعي .
16
الخطوة الثالثة :
كيف تكتسب الوعي اإليماني
عن فَ َضالَة بن ُعبَ ْي ٍد ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :
" أال أخربكم باملؤمن ؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم ،واملسلم من سلم الناس من لسانه
ويده ،واملجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ،واملهاجر من هجر الخطايا والذنوب" .
ـ رواه الرتمذي ـ
عرفه كصفات ترتكز علىقابال للتقويض واالخزتال ،بل ّ
ً مفهوما انتقائياً لإليمان
ً إن القرآن لم يطرح
الواجب اﻷخالقي ،وكمبدأ أسايس في الحياة من أجل تمتني العالقة بني الخالق واملخلوق وتقديرها
في وظيفة االستخالف ،و بأنه هو الطريق اﻷنجع للوصول إلى عالم الحقائق واملعيار اﻷسمى لها
فكريا
ً شكل بحق وحقيقة الوعي اإليماني ،ﻷن يمكن تأصيله
وهذا املفهوم القرآني لإليمان هو الذي يُ ّ
عقال ،ﻷنه غري قابل للتأصيل الفكري يأتي بالتوارث فقط ،وبالتالي الوعي
وما دونه فهو منبوذ ً
اإليماني يأتي من دائرة املعقوالت الخالية من التناقضات املنطقية .
والوعي من منظور علماء اللغة هو :الفهم واإلدراك ،ولقد ورد في الحديث النبوي ّ :
"نرض الله امر ًأ
سمع مقاليت ووعاها" ،أي فهمها وادرك معناها ومغزاها .
يتمان بواسطة استعداد الذهن لإلحاطة باليشء الستنباط حقيقته ،واصطالحاً :
والفهم واإلدراك ّ
فرس بأنه
الوعي هو االعتقاد الفكري الناجم عن حالة اإلدراك ،اليت يكون عليها عقل اإلنسان ،ويُ َّ
تتحصل لدى اإلنسان
َّ نشاط عصيب للخاليا الدماغية ،ينجم عنه إدراك يتمثل في تلك املعرفة ،اليت
بصدد وجوده وأفعاله وأفكاره ،وهو خاصية إنسانية يتمزي بها عن باقي الكائنات ،لذا ال يمكن
توسط منه ﻷنه وعي الرضورة ،وبحسب
التفكري في اإليمان كيشء منفصل عن الوعي ،وبدون ُّ
تحوله إلى يقني ناجم
يتحدد مفهوم اإليمان ووظيفته ،وآليات العمل اليت يمكنها أن ّ
ّ املتشكل
ّ الوعي
عن توحيد العقل والوجدان ،وبفضل هذا التوحيد التأليفي بني العقل والوجدان يتحقق الوعي
فيغدو الوعي و اإليمان قطبان لحقيقة واحدة ،وفي هذه القطبية املتقابلة يتجلى الوعي في اإليمان
اإليمان فيه .
ُ تماما كما يتجلى
ً
والهدف من الوعي اإليماني يعتمد كثريًا على فهمنا لوظيفة االستخالف في اﻷرض ،وهي أكرب
شكل أفضل فرصة لتحرير مفهوم اإليمان من التعصب وضيق اﻷفق اختباراتنا وابتالءاتنا اليت تُ ّ
الفكري ،ليصل املؤمن إلى مستوى الرقي الالئق من خالل أنماط سلوكه اإلنساني على كافة
وسياسيا ،قال تعالى ":ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة
ً واقتصاديا
ً اجتماعيا
ً اﻷصعدة :
الدنيا ،ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام .وإذا تولى سعى في اﻷرض ليفسد فيها
ويهلك الحرث والنسل ،والله ال يحب الفساد "ـ البقرة 204ـ 205ـ
17
إن الوعي اإليماني ال يكمن فقط في اﻷقوال واﻷفعال املشاهدة ،بل له تجليات كثرية تتضح من
خالل أفكار املؤمن ،وتصوراته للحكمة من وجود اإلنسان ،وبالتالي ال فائدة ترجى من اإليمان إذا
تحدد
كان التفكري والتصور فاسدين ،ﻷن هذين اآلخرين هما اللذان يمثالن اآللية املعرفية اليت ّ
ّ
يتبىن ااإليمان من دون وعي بأنه فاسد التفكري الوعي اإليماني ،وهكذا يمكن نعت املتدين الذي
سكن وراح ٌة وإعفاء من "وجع التفكري" ،الذي ُّ
يعد من ٌ والتصور ،يُ ّقدم نمطاً عقائدياً شكلياً ﻷن فيه
مقدمات اإليمان ،قال تعالى ":إن في خلق السماوات واﻷرض واختالف الليل والنهار آليات ﻷولي
اﻷلباب .الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ،ويتفكرون في خلق السماوات واﻷرض
ربنا ما خلقت هذا باطال ،سبحانك فقنا عذاب النار"ـ آل عمران 190ـ 191ـ
مقد مة اإليمان هي التفكري املبين على الرباهني العقلية لبلوغ اليقني ،وبما
وتبني بأن ّ
ّ ّ
توضح اآلية
تتجدد وتتطور فحتماً سيتطوراإليمان ،ويتجاوز التصور التقليدي الشائع الذي يستلب
ّ أن الرباهني
الذات ،ويجعل املتدين يفتقر إلى الوعي اإليماني معرفياً وقيمياً ،ضمن التجربة اإلنسانية وعالقتها
بالتفكري والتصور .فاإليمان يتجدد بالسعي الجاد نحو املعرفة ،قال تعالى ":وإذا تليت عليهم آياته
زادتهم إيماناً"ـ اﻷنفال 2ـ
فكر وتصور اآليات الربانية ،إال وازدادت معرفته بعظمة الخالق سبحانه
تبني اآلية بأن املؤمن كلما ّ
ّ
والزيادة هي ارتقاء من القليل إلى الكثري ،وهي عملية مصاحبة لتطور وتحول وتجديد واقع اليشء
وتقويته ،وبالتالي فإن اإليمان يزيد ويتقوى من خالل زيادة املعرفة كما توضح اآلية ،فكلما أدرك
وتجدد وارتقى من حسن إلى
ّ اإلنسان آيات الله سبحانه املنبثة في اآلفاق واﻷنفس ،إال وزاد إيمانه
أحسن ،عن عبد الله بن عمرو بن العاص ريض الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " :إن اإليمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ،فاسألوا الله أن يجدد اإليمان في
قلوبكم "ـ رواه الحاكم ـ
ومفهوم التجديد كثريًا ما يرتادف مع مصطلحات :التغيري ـ التطور ـ التقدم … ،واستخدام هذه
املفردات يتضمن معىن واح ًدا هو الصيغة اإلرادية لإلصالح ،اليت يجب أن تكون مستوعبة ومدركة
عقلياً ،تهدف إلى إصالح اﻷسس واملقومات الفكرية القائمة عن طريق توجيه وتعديل وتطوير
املقاييس واملعايري ،اليت يجري عليها املرء في صياغة أفكاره وتصوراته ،اليت تتحول إلى اعتقاد
يتجلى في أقواله وأفعاله ،قال تعالى ":سرنيهم آياتنا في اآلفاق وفي أنفسهم حىت يتبني لهم أنه
الحق أولم يكف بربك أنه على كل يشء شهيد "ـ فصلت 53ـ
إن اآلية تنقل موضوع الفكر الديين من االقتناع بالدليل من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ،لتمتني
اإليمان وتقويته عن طريق إدراك الحقائق املتجلية في ظواهر" اآلفاق واﻷنفس" بالدالئل العقلية
وهذه النقلة النوعية ال يمكن أن يحققها اإلنسان إال بواسطة العلم الواقعي املبين على أسس املنهج
العلمي ،كتقرير أن الكون ومفرداته ذا وجود موضوعي مستقل ،قابل للمعرفة بالحواس واالستدالل
العقلي ،لبيان حقيقة تلك الظواهر وعنارصها وقوانينها ووظيفتها ،لتصبح مصادر معرفية داللتها
18
قطعية ال يمكن مصادرتها ،وقوله تعالى" :سرنيهم" فعل مضارع مقرون ب"سني" االستقبال للداللة
على االستمرار ،بمعىن أن كل ما يتصل بمعرفة اإلنسان في أبعادها املختلفة ،يعتمد باﻷساس على
املجهود املعرفي املستقبلي لإلنسان ،ومما سبق يتبني لنا أن البرشية على موعد من الله متجدد
ومستمرالكتشاف آياته بواسطة العلم واملعرفة املتجددين ،لتقوم الحجة ذات الداللة القائمة بذاتها
على أن حركة هذا الكون منضبطة بسنِّن ال تتبدل وال تتغري ،وهي متضمنة في كافة املخلوقات .
وعلى سبيل املثال ال الحرص لقد جاءت العلوم اإلنسانية التجريبية شاهدة بصدق على الوعي
اإليماني في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات ،حيث أكد الدكتور جاكوب هريش من جامعة
تورنتو بكندا على أن أثر الوعي اإليماني ،يظهر بوضوح على النشاط العصيب في القرشة الحزامية
اﻷمامية لدماغ اإلنسان ،وهي املسؤولة عن الوظائف العقالنية املعرفية ،مثل اتخاذ القرار والتحكم
في املشاعر واالندفاع ،كما أنها مسؤولة عن الشعور بالقلق والتوتر ،وتنشط هذه املنطقة عند
شعور الفرد بعدم اليقني من يشء ما تعرض له ،أو من شعوره من عدم مصداقية حدث أو موقف
ما ،فتتولد حالة القلق هذه لديه لتنبه الدماغ بوجوب إعادة التفكري بحرص لكبح جماح الشك .
بينت الدراسة بأن مقدار الوعي اإليماني مرتبط بحجم النشاط العصيب في الدماغ ،وهذا
وهكذا ّ
يعين أن اإليمان الحقيقي هو الذي يكون نتاج التفكري البناء ،املبين على أسس عقالنية ينتقيها
أساسيا من منظومته الفكرية ،اليت
ًّ املتدين بما يمتلكه من وعي ،ليصبح اإليمان فكرة تشكل جزءاً
فع ال في الطريقة اليت يعي بها الوجود والذات واآلخر .
لها دور ّ
19
الخطوة الرابعة :
ّK
تغرِّي الواقع كيف
20
ثانياً :إصالح الواقع :إن الوعي اإليماني ينمو بمقدار توسع اآلفاق الفكري الذي هو منطلق
التغيري ومبتدأه اﻷسايس ،به يحقق االنسان إنسانيته وأخالقيته باختياره وإرادته من دون جرب
وال إلجاء ،فتتولد عنده القيمة اﻷخالقية والشعور باملسؤولية ،تجاه ذاته و تجاه الواقع املجتمعي
انطالقاً من املشاركة الفكرية والسلوكية الفعلية ،وهذه من أخص خواص املؤمن الصادق الذي
وتحرره من تخلفه و ركوده ليكون
ّ يصبح هدفه املنشود بعد إصالح ذاته هو بداية إصالح املجتمع ،
له موقع ومكانة بني اﻷمم ،وهذا يتطلب منه أن يضع نصب عينيه إصالح أحوال اﻷفراد فكراً
وسلوكاً واقتصادياً واجتماعياً ،إلخراجهم من الضعف والتخلف إلى االستخالف املفيض إلى الخريية
قال تعالى ":كنتم خري أمة أخرجت للناس تأمرون باملعروف وتنهون عن املنكر وتؤمنون بالله "
ـ آل عمران 110ـ
إن الخريية ليست تفضيالً مجر ًدا عن أي رِشط أو اعتبار ،فالعالقة بني اﻷمة وصفات الخريية عالقة
كسبية ،تقوم على السعي وطلب اإلصالح ،وليست وجو ًدا قبلياً فطرياً ،وهي قائمة على الصفات
تحقق الرشوط وتُ َرتجم إلى واقع معيش ،فإن االنتماء وحده ليساليت ساقتها اآلية ،وإذا لم َت ّ
ادعاء ولكن تؤخذ غالباً .
ً يغري من حقيقة اﻷمر شي ًئا ،ﻷن خريية اﻷمة ال تتحققبمقدوره أن ّ
أخرت رِشط اإليمان على رِشطي اﻷمر باملعروف والنهي ومن اﻷمور الالفتة في آية خريية اﻷمة أنها َّ
يتقدم اإليمان ﻷنه أصل ،وتتأخر الصفتان اﻷخريتان ّ عن املنكر ،مع أن املتبادر إلى الذهن أن
ﻷنهما ثمرة ونتاج ،قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسريه " :إن تقديم اﻷمر باملعروف
والنهي عن املنكر وتأخري اإليمان بالله ،راجع إلى أنهما اﻷهم في هذا املقام املسوق ،للتنويه
بأفضلية اﻷمر باملعروف والنهي عن املنكر تطبي ًقا للمبدأ البالغي ،الذي ينص على أن التقديم ُم |
شعر
باﻷسبقية واﻷفضلية ".
ولقد تقدم اﻷمر باملعروف والنهي عن املنكر عن اإليمان ،ﻷنهما يتطلبان مجاهدة وسعي دؤوب
بحسب ما تقتضيه العزيمة واإلرادة ،وبقدر ما يبذل في ذلك من مجهودات وتضحيات لجلب
ّ
تتحقق الخريية من منطلق اإلنسانية ،وإذا تالزم اﻷمر والنهي مع اإليمان املصلحة ودرء املفسدة
تحققت الخريية من منطلق حالة إيمانية /إنسانية ،وبهذا يتمايز املؤمن ويتفاضل عن من سواه
ﻷنه يؤدي واجبه بغض النظر عن ُّ
تحقق منفعة شخصية يبتغي من ورائها مقابالً ،قال تعالى:
" أعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إال الحياة لدنيا .ذلك مبلغهم من العلم ،إن ربك هو أعلم
بمن ضل عن سبيله وهو أعلم باملهتدين"ـ النجم 29ـ 30ـ
وال يعقل أن الناس سيستجيبون لنداء الحق ولتطبيق هذا الدين على أنفسهم ،وهم يرون ما آلت
وتسيد الظلم وانتشار الفساد وإراقة
ُّ إليه اﻷمة من تخلف وترشدم وانحطاط القيم ،وضعف الهمم
دماء اﻷبرياء ،فإصالح أوضاع وأحوال املسلمني هو الذي يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجاً
فيطبقونه على أنفسهم ،ويحملون غريهم من قريب أو بعيد على تطبيقه ،ﻷن التوسع اﻷفقي قبل
يعد نفخاً في رماد ،ولذلك فإذا أرادنا الدعوة إلى اإلسالم فعلينا أوال ً التحرر من هذا
قيام القاعدة ّ
21
يعد عائ ًقا معرقالً لنرش الرسالة ،ﻷن املجتمع الراقي املتحرض القوي ثقافياً
الواقع املزري ،الذي ُّ
واقتصادياً واجمتاعياً صوته مسموع ،وآراؤه تفرض نفسها والكل يسعى لالقتداء به ،وحىت تكون
لإلسالم فعالية البد له من تحقق كافة مقومات اإلصالح ،اليت تالزم اإلنسان املتحرض وتربطه
عضويا في جانبها اإلنساني .
ً ارتباطا
ً
نحدده
وإذا أردنا أن نفهم التجديد في مجال الواقع في هذا العرص وجب أن نفهمه كمنهاج قبل أن ّ
كنتيجة ،ﻷن منهاج التفكري يؤدي دوراً مهماً في تحديد نوعية اإلصالح ،وبالتالي يجب أوال ً
االعتناء برتبية الفرد كمنطلق ،ﻷنه نواة أساسية في تغيري واقع اﻷمة والرقي بها ،ومن أجل بناء
فعال قادر على املساهمة في بناء مجتمع أفضل ،علينا بتطوير طريقة تفكريه وتعويده على
فرد ّ
ّ
التعق ل السليم لكرس حواجز الجهل والتقليد والوصاية ،وأفضل أداة للسيطرة على هاته السلبيات
ّ
بالتعقل ،وهذه خمس توجهات تساعد على البدء في إصالح املدعم
َّ هي اإلدراك الواعي للواقع
الذات :
1ـ النقد الذاتي :يُعترب النقد الذاتي في مجال العقيدة أحد أهم عنارص سالمة إيمان الفرد ،بحيث
بتمعن في مرجعية معتقداته وسلوكياته ،بهدف النظر إلى ذاته |
بحكمة ّ فكر
يجب على املؤمن أن يُ ّ
وتعقل ليكون ُم |
رشداً لنفسه ،يستدرك اﻷخطاء بتصحيحها والتحكم فيها ،ﻷن إذا عامل نفسه ّ
عو|دها على املحاسبة ،فيصبح قادراً على تحويل أفكاره ومعتقداته السلبية
سهل عليه أن يُ ّ
باملراقبة ُ
ملا هو إيجابي ،انطالقاً من مراجعة أفعاله وأفكاره وطموحه ،لتكون له رؤيا واضحة ملا عليه إيمانه
وبذلك تتحقق حركة إصالح الذات .
عن ثابت بن الحجاج قال :قال عمر بن الخطاب ريض الله عنه":حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
وتزينوا
ّ وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ،فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ،
للعرض اﻷكرب يومئذ تعرضون ال تخفى منكم خافية ".ـ حديث مرفوع ـ
2ـ تطوير املعرفة :يجب العمل بشكل مستمر من أجل اكتساب معارف جديدة ،بغية تحسني
املهارات الفكرية لالرتقاء باإليمان ،وهذا يتطلب من املتدين أن يفكر بوصفه رجل أفعال ،ويترصف
بوصفه رجل أفكار ،ﻷن املعرفة الحقة تصوغ وتنمي وتُرسخ الوعي اإليماني ،ليكون تنفيذه أمراً
ممتعاً وسهالً ،وسيكون املؤمن أكرث واقعية مع نفسه إذا استوعب أن املعرفة غايتها أن تكون محفز ًة
لكرس الحواجز وليس لبنائها ،قال تعالى " :يريد بكم اليرس وال يريد بكم العرس"ـ البقرة 185ـ
تعرسوا ّ|
وبرشوا يرسوا وال ّ |
وعن أنس ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم | ّ " :
وال ّ |
تنفروا "ـ متفق عليه ـ
تحدي اﻷخطاء
بد من ّ
تعد خطوة كبرية في مجال تصحيح اﻷفكار وتطويرها ،إذ ال ّ
3ـ الجرأة ُّ :
املتحكمون
ّ وعدم الوقوف عند العراقيل اليت تواجهنا من أجل تصحيح مسار إيماننا ،ﻷن أفكارنا نحن
واملسؤولون عنها ،عن أبي هريرة ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :املؤمن
القوي خري وأحب إلى الله من املؤمن الضعيف وفي ّ ٍ
كل خ ٍ
ري ،احرص على ما ينفعك واستعن بالله
22
وال تعجز ،فإن أصابك يشء فال تقل :لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ،ولكن قل :قدر الله وما
شاء فعل ،فإن لو تفتح عمل الشيطان"ـ رواه مسلم ـ
4ـ التكون إمعة :إن غياب اإلرادة وضعف العزيمة يفضيان إلى ترسيخ عوائق داخلية ذاتية
يفكر بشكل قيايس ،يحتاج دوماً وأبداً إلى استحضار
بسبب أغالل الفكر الوصائي ،فيصبح العقل ّ
كل ما يتم التفكري فيه ،غري مدرك بأن تطوير الفكر وتحريره من التبعية
متبعة في ّ
أي نسخة فكرية َّ
ليس نقطة قوة طبيعية ،بقدر ما هو نتاج اإلرادة الصادقة وقوة العزيمة اللتني يحملهما العقل
البرشي ،وليس ثمة ما هو أكرث أهمية من الطريقة اليت يفكر بها اإلنسان ،ﻷنها هي املحدد الفعلي
واملقياس الحقيقي ملعرفة درجة اإليمان ،عن حذيفة ريض الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " :ال تكونوا إمعة ،تقولون إن أحسن الناس أحسنا ،وإن ظلموا ظلمنا ،ولكن وطنوا
أنفسكم ،إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فال تظلموا"ـ رواه الرتمذي ـ
5ـ علو الهمة :من الواجب على املؤمن التحلي بعزة النفس دون غرور ،والرتفع عن الدنايا لبلوغ
علو الهمة ،فهي منوطة بدرجة االقتناع بصواب اﻷفكار واحرتام القيم الحميدة ،واملباديء الرشيفة
و السعي الدائم إلدراك االصفات اإليمانية على بصرية وعلم ،وعدم استزناف الطاقة الذهنية في
الهمة صلُح ما وراء ذلك من اﻷعمال ،قال تعالى " :وإذا سمعوا
التوافه والرتهات ،ﻷن إذا صلُحت ّ
اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ،سالم عليكم ال نبتغي الجاهلني "ـ القصص 55ـ
وال يمكن إنكار أن كل فكر مرتبط بالواقع الذي نشأ فيه وتلك هي جدلية الفكر والواقع ،فكل معرفة
هي جواب عن مسألة وال يشء ينطلق بداهة بدون تطوير التفكري ،الذي هو مجمل العمليات الذهنية
اليت ينتج عنها الوعي اإليماني ،وهذا هو السبيل اﻷصوب لكسب اإليمان الحق ،الذي يكتسبه
ّ
التعقل ،ليصبح اإليمان قاعدة ثابتة وراسخة املتدين بفضل سعيه وجهده ووفق توافق العقيدة مع
مركوزة في كيانه على أساس حرية االختيار ،جاء في الحديث الرشيف … " :استفت قلبك ،والرب
ما اطمأنت إليه النفس ،واطمأن إليه القلب ،واإلثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك
الناس وأفتوك ".ـ رواه أحمد ـ
ّ
التعقل السليم ال يجوز له االعتقاد بيشء إذا لم يطمنئ واملراد من الحديث أن املؤمن العارف صاحب
لها فكرياً ووجدانياً ،قال تعالى " :قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقني"ـ البقرة 111ـ
إن اإليمان يجب أن يصدر عن العقل ومعايريه املنطقية واﻷخالقية ،وليس من الهوى والتعصب
وتقلبات املزاج والعفوية والعشوائية ،لذا على املتدين أن يعتين باقتناء أفكاره ﻷنها هي الحجة
|
املربهن به يعد املرجع النهائي
الدامغة والربهان الساطع على مدى مصداقية وعيه اإليماني ،الذي ُّ
تعد قوة تحمي وجودها
على إصابة العقل وخطائه ،وعلى سالمة الفهم وعلته ،فاﻷفكار املعقلنة ُّ
وتضمن استمراريتها وبقائها ،أما اﻷفكار املغلوطة سيهوي رصحها الذي يحسبه الجاهل قوياً
وشامخاً ومرتاصاً ،وهو في الحقيقة أوهن من بيت العنكبوت ،قال تعالى ":أنزل من السماء ماء
فسالت أودية بقدرها ،فاحتمل السيل زبداً رابياً ،ومما يوقدون عليه في النار ،ابتغاء حلية أو متاع
23
زبد مثله ،كذلك يرضب الله الحق والباطل ،فأما الزبد فيذهب جفاء ،وأما ما ينفع الناس فيمكث
في اﻷرض ،كذلك يرضب الله اﻷمثال ".ـ الرعد 17ـ
24