You are on page 1of 323

‫مكتبة‬

‫‪Telegram Network‬‬
‫«المكتبة النصية»‬
‫قام بتحويل كتاب (الطريق إلى الغرب)‬
‫لـ (أ‪ .‬ب‪ .‬جوتري)‬
‫الي صيغة نصية‪:‬‬
‫(فريق الكتب النادرة)‬
‫من مصر‪:‬‬
‫(شمس الحياة)‬
‫(ماجدة علي)‬
‫(هشام حسني)‬
‫(‪)A.Awakeel‬‬
‫(م‪ .‬محمد خضر)‬
‫(ماجد حنّا)‬
‫(محمد مصطفي كمال)‬
‫(مروة جمال)‬
‫(هشام حسني)‬
‫من السعودية‪:‬‬
‫(د‪ .‬طارق التميمي)‬
‫(زينه)‬
‫(نجاح السبيعي)‬
‫(أريج محمد)‬
‫(خالد مريع)‬
‫)‪(The-Inspired‬‬
‫الراشدي)‬
‫ّ‬ ‫قصي‬
‫ّ‬ ‫(ن‪ .‬أبو‬
‫من الكويت‪:‬‬
‫(منصور التميمي)‬
‫من لبنان‪:‬‬
‫(حسن العاملي)‬
‫(أحمد لحاف)‬
‫من سلطنه عمان‪:‬‬
‫(معالي)‬
‫من الجزائر‪:‬‬
‫(سعدي إلياس)‬
‫من سوريا‪:‬‬
‫(هادي إبراهيم)‬
‫(حذيفة ُمحمد)‬
‫(رنا وليد)‬
‫(محمد المقداد)‬
‫من العراق‪:‬‬
‫(سماهر)‬
‫(علي الشمري)‬
‫(آيات علي)‬
‫من اليمن‪:‬‬
‫(عبد هللا الحبابي)‬
‫من المغرب‪:‬‬
‫(رشيد تاديست)‬
‫‪OCR:‬‬
‫(طارق دردوري)‬
‫(منصور التميمي)‬
‫مراجعه وتنسيق‪:‬‬
‫العاملي)‬
‫ّ‬ ‫(حسن‬
‫غالف الطبعة العربية االولى‬
‫‪1949‬‬
‫رواية‬

‫الطريق إلى الغرب‬


‫أ‪.‬ب‪ .‬جوتري "االبن"‬
‫الطبعة النصية ‪2019‬‬

‫ترجمة‪ :‬جرانت إسكندر‬


‫آفاق للنشر والتوزيع‬
٢٠١٨ / ٢١٠٥٠ :‫رقم اإليداع‬
ISBN : ‫الترقيم الدولي‬
978 - 977-765 - 196 - 7
‫ أو تخزينه في‬.‫ ال يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه‬.‫جميع الحقوق محفوظة‬
.‫ أو نقله بأي شكل من األشكال دون إذن مسبق من الناشر‬،‫نطاق استعادة المعلومات‬
All rights are reserved. No part of this book may be reproduced,
stored in a retrieval system, or transmitted in any form, or by any
means without prior permission in writing from the publisher.
Afaq Bookshop & Publishing House
1 Kareem El Dawla st. - From Mahmoud Basiuny st. Talaat Harb
CAIRO – EGYPT - Tel: 00202 25778743 - 00202 25779803 Mobile:
+202-01111602787
E-mail:afaqbooks@yahoo.com – www.afaqbooks.com
‫ جمهورية‬- ‫ القاهرة‬-‫ ميدان طلعت حرب‬- ‫ من شارع محمود بسيوني‬-‫ شارع كريم الدولة‬١
‫مصر العربية‬
٠١١١١٦٠٢٧٨٧ :‫ موبايل‬- ٠٠٢٠٢ ٢٥٧٧٩٨٠٣ - ٠٠٢٠٢ ٢٥٧٧٨٧٤٣ :‫ت‬
‫بطاقة الفهرسة‬
‫إعداد الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية‬
‫إدارة الشؤون الفنية‬
‫جوتري‪ ،‬أ‪ .‬ب‪.‬‬
‫أ‪ .‬ب‪ .‬جوتري «االبن» ‪ :‬الطريق إلى الغرب‬
‫ترجمة‪ :‬جرانت إسكندر‬
‫ط‪ 1‬القاهرة ‪ -‬دار آفاق للنشر والتوزيع ‪2019 -‬‬
‫‪ 544‬ص‪ 21 ،‬سم‪.‬‬
‫رقم اإليداع ‪2018 / 21050‬‬
‫الترقيم الدولي ‪978 - 977 - 765 - 196 - 7‬‬
‫‪ - 1‬األدباء (روايات)‬
‫‪ - 2‬جوتري‪ ،‬أ‪ .‬ب‬
‫تقديم‬
‫أدت قصة «السماء الكبرى» إلى شهرة أ‪ .‬ب جوتري (االبن) األمر الذي مهد الطريق‬
‫أمام استقبال قصته «الطريق إلى الغرب» بحماسة شديدة ومنحه جائزة «البوليتزر»‪.‬‬
‫وقد ُو ِلدَ أ‪ .‬ب‪ .‬جوتري (االبن) في والية مونتانا‪ ،‬وكان أول عمل يمارسه في حياته هو‬
‫الصحافة‪ ،‬ثم انتقل للعمل في مجاالت كثيرة من بينها مصلحة الغابات‪ ،‬ومشروعات الري‪،‬‬
‫محررا صحفيًّا في مدينة لكسينجتون‪ .‬واستمر في هذا‬
‫ً‬ ‫ومخازن البقالة‪ .‬وأصبح عام ‪١٩٢٦‬‬
‫العمل لفترة طويلة في هذه المدينة‪ .‬وفي عام ‪ُ ١٩٥٠‬منحت قصته «الطريق إلى الغرب» جائزة‬
‫أخيرا»‪ .‬كما‬
‫ً‬ ‫«البوليتزر»‪ .‬وفي هذا قال برنارد دي فوتو‪« :‬إن رائد الغرب األول وجد قصته‬
‫قال ستيرلنج نورث عن الحوادث المثيرة التي احتوتها القصة‪« :‬إنها تتضمن في مادتها الرعب‬
‫الذي أثارته األبقار والمياه المندفعة‪ ...‬والهنود‪ ،‬والحية الرقطاء‪ ،‬والزوابع‪ ،‬ومنحدرات الجبال‬
‫المخيفة‪ .‬إن «الطريق إلى الغرب» هو ما يجب أن تكون عليه القصة التاريخية‪ ،‬ولكن قلما‬
‫يظهر من مثل هذا النوع من القصص بخصائصها»‪.‬‬
‫الفصل األول‬
‫بدأت بشائِر الفجر تظهر في األفق بعد أن كانت السماء تمطر في الليلة السابقة‪ ،‬ذلك النوع من‬
‫المطر الخفيف الذي يتساقط عادة في منتصف شهر مارس‪ .‬وحينما دلف «ليجي إيفانز» من‬
‫باب المطبخ‪ ،‬شاهد الطريق الموحل الذي يقود إلى المخزن‪ ،‬وكذلك آثار حذائه فوق هذه‬
‫األوحال‪ ،‬األمر الذي جعله يؤمن بأن كل شيء أصبح ًّ‬
‫مبتًّل‪ .‬وكان هذا المنظر كافيًا لكي يوحي‬
‫صا بتثبيت آالت أو تشذيب وإصًّلح شيء‬ ‫إن كان ً‬
‫عمًّل خا ًّ‬ ‫إلى نفسه ويقتنع بعدم العمل‪ ،‬حتى ْ‬
‫خاطئ‪ .‬ولم يكن تفكيره هو الذي أوحى إليه بالتوقف عن العمل‪ ،‬ولكنه كان يشعر في قرارة‬
‫نفسه بعدم الرغبة في العمل في ذلك اليوم‪.‬‬
‫لذلك قال وهو يغلق الباب‪:‬‬
‫ي أنني سوف أذهب إلى المدينة‪.‬‬
‫‪-‬ربيكا‪ ،‬يخيل إل َّ‬
‫فردت عليه قائلة كأنها تلومه‪:‬‬
‫لتتحدث عن أوريجون؟‬
‫فأجابها وهو يبتسم في الوقت الذي كان يجلس فيه فوق مقعد‪:‬‬
‫‪ِ -‬ل َم ال؟ إنني لم أفكر قط فيما سوف أتحدث فيه‪ ،‬ولكني سوف أتحدث في أي شيء يأتي في‬
‫ضا‪.‬‬
‫الحديث عر ً‬
‫شعورا تا ًّما بما يدور في أعماقه‪ ،‬ولكنه لم يكن يهتم بذلك؛ ألنها كانت‬
‫ً‬ ‫وكان يعرف أنها تشعر‬
‫دائ ًما تعرف ما يجول بخلده‪.‬‬
‫فردت عليه قائلة حينما كانت تجفف آخر طبق كانت تقوم بتنظيفه‪ ،‬ثم تعلق المنشفة على‬
‫َّ‬
‫عًّلقتها الخاصة‪:‬‬
‫‪-‬إنني ال أدري لماذا أصبح كل فرد مجنونًا فجأة‪ ..‬الكل يتحدث عن أوريجون‪ ،‬وأنت تعرف‬
‫أنها بعيدة لدرجة ال تستطيع معها معرفة مكانها أو تحديده تحديدًا دقيقًا‪.‬‬
‫‪-‬ليس كل إنسان‪ ،‬وليس العدد الذي سوف يكون عليه الوضع‪.‬‬
‫‪-‬إنها سوف تكتظ بطريقة مخيفة‪ ...‬إن هذا الكلب ال يترك كل شيء في مكانه‪.‬‬
‫ثم تناولت فرشاة من أحد األركان‪ .‬ونظر «إيفانز» إلى روك (الكلب) الذي ترك نفسه يسقط‬
‫في وسط الحجرة‪ ،‬مما أدى إلى ترك عًّلماته على الخشب البالي ألرض الحجرة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪-‬إن روك كلب طيب‪.‬‬
‫ً‬
‫متثاقًّل حتى وصل إلى «إيفانز» ووضع ذقنه‬ ‫وحين ذكر اسم الكلب‪ ،‬رفع الكلب رأسه ومشى‬
‫بين رجليه‪ ،‬وكان كبر السن قد ظهر على روك‪ ،‬وكانت السنون قد أطفأت البريق الذي كان‬
‫يلمع في عينيه الرماديتين‪ ،‬وكان نصف روك ينتمي إلى فصيلة «كًّلب الصيد»‪ ،‬أما النصف‬
‫اآلخر فهو غير معروف‪ ،‬ولكنه كان كلبًا وسي ًما يجمع خلي ً‬
‫طا من اللونين األبيض واألزرق‪،‬‬
‫وكان طيبًا في سلوكه‪ ،‬لذلك دافع عنه «إيفانز» ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪-‬إنك تطلبين الكثير حينما تسألينه أن ينفض قدميه قبل أن يأتي هنا‪.‬‬
‫ولكن ربيكا أبدت تذمرها وهي تقوم بإزالة الشيء األبيض الذي تركه روك‪ .‬وتوجه «إيفانز»‬
‫بحديثه إلى روك‪ ،‬في الوقت الذي كان يمسح بيديه على رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪-‬إنك ل ن تستطيع أن تذهب؛ ألنك سوف تمزق كًّلب المدينة‪ ،‬وتوقعني في مأزق في يوم من‬
‫األيام‪ ..‬هذا ما سوف تفعله‪.‬‬
‫‪-‬إنني لست على ثقة‪ ،‬ولكني أقول ال‪ ..‬طبعًا لن تذهب‪ .‬إنه مجرد حديث‪.‬‬
‫‪-‬كيف ذلك يا بيكي (ربيكا)؟‬
‫‪-‬ليس إلى أوريجون‪.‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫ًّ‬
‫مستقًّل اآلن‪ .‬إن ما سوف أحدده في ذهني سوف يكون على ضوء‬ ‫‪-‬ال تتركي يا بيكي تفكيرك‬
‫ما يقرره اآلخرون‪.‬‬
‫ولكنها أصدرت صوتًا بعدم االرتياح‪ ،‬وكان إيفانز يعرف أن ذلك يبدو غريبًا؛ ً‬
‫نظرا الختًّلف‬
‫التفكير واالنقسام في وجهات النظر‪ .‬وقد ال يعتقد أي رجل آخر أنها ال تزال باقية كما كانت‪،‬‬
‫ولكن ال يخطئ في أنها تناسبه ألي شيء آخر‪ ،‬ربما ألنها تعرفه في مظهره وداخل نفسه‪،‬‬
‫والرجل ال يعرف ما يعرفه الناس عنه‪ ،‬ولكنه يعرف في قرارة نفسه ما يُخفي وما يُظهر‪.‬‬
‫وتساءل‪:‬‬
‫‪-‬هل يرغب براوني في السفر معي؟‬
‫‪-‬لقد سمعته يقول إنه ذاهب للصيد‪ ،‬لذلك تجده يحفر للبحث عن الديدان اآلن‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا يفعل‪.‬‬
‫ثم قالت وهي تحملق فيه‪:‬‬
‫كبيرا منك‪ ،‬لقد كنت متعودًا على الصيد‪ ،‬وهو يفعل ذلك اآلن‪.‬‬
‫‪-‬إن فيه جز ًءا ً‬
‫‪-‬واآلن أكره ذلك!‬
‫‪-‬إنني لم أقل ذلك يا ليجي‪ ،‬ولم أقصد أن أقول ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫ضئيًّل كانت ترد عليه‬ ‫وكان على إيفانز أن يبتسم في قرارة نفسه‪ ،‬ففي كل مرة يجعل نفسه‬
‫قائلة‪« :‬إنني لم أقصد ذلك» وبعد ذلك ترك ألفكاره العنان وأخذ يقول‪:‬‬
‫‪-‬سوف تصبح أوريجون شيئًا طيبًا لإلنسان الذي يعرف كيف يخلق منها مكانًا لإلقامة‪ ،‬وضمها‬
‫إلى أمريكا‪.‬‬
‫ثم أخذ يردد هذا الكًّلم في ذهنه‪ ،‬على الرغم من أنه لم يكن يعكس ما يشعر به‪.‬‬
‫ولم تجب بيكي على ذلك‪ ،‬ولذلك استمر في حديثه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪-‬يجب أن يكون القنص والصيد طيبًا في أوريجون‪ ،‬لذلك سوف يميل براوني إليها‪ ،‬ولن يأكل‬
‫اإلنسان هناك مع األرانب والوحوش‪ .‬وعلى أي حال فإن براوني يرغب في الذهاب‪.‬‬
‫‪-‬تحدثت في المرة السابقة عن األرض فقلت إنها طيبة‪.‬‬
‫ضا وكل شيء‪.‬‬
‫‪-‬األرض أي ً‬
‫‪-‬كيف عرفت ذلك؟‬
‫‪-‬هذا ما يقولونه‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وهو ال يعتقد أنها صالحة‪.‬‬
‫‪-‬ديك سمرز ال يفكر في أوريجون بهذا الشكل ً‬
‫‪-‬ديك ال ينظر إليها هذه النظرة‪ ،‬ولكنه ينظر إليها على أنها مصدر للثروة والفراء وغير ذلك‪،‬‬
‫ولهذا ال يفكر في الفًّلحة والزراعة‪.‬‬
‫تفكيرا سلي ًما‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬إنه يفكر‬
‫‪-‬إن ذلك ال يبدو طبيعيًّا‪ ..‬إنك تستطيع أن تضع حيوانًا في قفص‪ ،‬ولكن هذا ال يتناسب مع‬
‫طبيعته؛ ألن «ديك» ليس حيوانًا‪.‬‬
‫‪-‬يجب أن تدعوه يا ليجي‪ .‬إن «ماتي» تبدو في حالة يُرثى لها‪.‬‬
‫‪-‬ربما يجب أن أفعل ذلك‪.‬‬
‫وخطت عدة خطوات نحوه‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪-‬ليجي‪ ،‬يجب أن نجعل براوني يفكر في كل شيء؛ ألننا يجب أال نخطو خطوة مفاجئة بالنسبة‬
‫ألوريجون‪.‬‬
‫‪-‬ال‪ ،‬لن يحدث ذلك‪ ،‬ولن تكون خطوتنا مفاجئة‪.‬‬
‫‪-‬حسنًا‪.‬‬
‫قالت ذلك بعنف وهي تضع الفرشاة جانبًا‪ ،‬وذلك في الوقت الذي تحول فيه نظر إيفانز إلى‬
‫الباب الذي فتح وبرز منه براوني‪ ،‬وتساءل إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪-‬أال ترغب في الذهاب إلى المدينة؟‬
‫فأجاب االبن‪:‬‬
‫‪-‬ال تقل ذلك يا بابا‪ ..‬إن هذا اليوم هو يوم الصيد‪.‬‬
‫فرد عليه إيفانز‪ ،‬وهو ال يزال يمسح بيده على رأس الكلب‪ ،‬وعيناه تفحصان براوني‪:‬‬
‫‪-‬ال يهم ذلك‪ .‬ربما كنت أعتقد أنك قد سئمت من نفسك‪ ،‬وأنني أقسم يا بني بأنك لو استطعت أن‬
‫ً‬
‫رجًّل إلهيًّا‪.‬‬ ‫تكسو العظام لح ًما ألصبحت‬
‫وكان براوني في اعتقاد إيفانز قد وصل مرحلة الرجولة؛ إذ كانت عظامه عريضة وطويلة‪،‬‬
‫ً‬
‫خجوال ومتخلفًا‪ ،‬جاء‬ ‫مكسوا بحمرة الخمر‪ .‬وكان فتًى طيبًا‬
‫ًّ‬ ‫وعضًّلته شديدة ومفتولة‪ ،‬ووجهه‬
‫إلى الوجود في وقت أصبحت األمور فيه في غاية من الصعوبة‪ ،‬وكان ال يعرف كيف يتصرف‬
‫في حضرة النساء‪ ،‬وال يعرف كيف يتحكم في نفسه أو يطلق لها العنان؛ ألنه كان يخشى‬
‫المواقف‪ .‬ونهض إيفانز وهو يقول‪:‬‬
‫‪-‬أرجو أن تكون قد حققت صيدًا طيبًا؛ ألنني أصبحت ً‬
‫مياال ألكل السمك بعد أن أكلت الكثير‬
‫من لحم الخنزير المجفف والبازالء‪ ..‬سوف أذهب‪.‬‬
‫واقتربت ربيكا من الباب‪ ،‬في الوقت الذي كان يخرج منه إيفانز‪ ،‬ووجهت حديثها إليه قائلة‪:‬‬
‫‪-‬تذكر يا ليجي‪...‬‬
‫فأومأ برأسه‪ ،‬واستمرت ربيكا في حديثها‪:‬‬
‫صغيرا كما كنت من قبل‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬إنك لم تعد‬
‫كبيرا إلى هذا الحد‪ ،‬وال أنت؛ فأنا أبلغ الخامسة والثًّلثين‬
‫ً‬ ‫صغارا‪ ،‬ولكني لست‬
‫ً‬ ‫‪-‬لسنا جميعًا‬
‫من العمر؛ أي أول مرحلة من مراحل الرجولة‪ .‬ابق حيث أنت يا روك‪.‬‬
‫ولم ترد ربيكا على ذلك بشيء‪ ،‬وإنما اكتفت بإغًّلق الباب ببطء‪ .‬وذهب إلى الحظيرة وأسرج‬
‫بغًّل‪ ،‬وكان عليه أن يقطع ستة أميال للوصول إلى «إندبندس» في منتصف اليوم إذا تحرك‬ ‫ً‬
‫على الفور‪ ،‬أو بعد ذلك بقليل إذا تكاسل البغل في المسير‪ ،‬وقد تكاسل البغل‪ ،‬وكان هو يرغب‬
‫فخورا بأن تكون له يد في ذلك‪ ،‬وفي بناء «كوخ‬
‫ً‬ ‫في أن يشترك في رحلة أوريجون؛ ألنه كان‬
‫العم سام» ووقف اإلنجليز‪ .‬وكانت ميسوري تكفيه كرجل يرغب في العيش إذا أراد العمل في‬
‫حدود ال تجعله غنيًّا‪ ،‬فهو يستطيع أن يعيش ويكافح الحمى ويتاجر‪ ،‬ويأمل أن يشتري في يوم‬
‫من األيام زنجيًّا حتى يكون عنده وقت كاف لكي يفعل ما يريد أن يفعله‪ .‬ولم يكن ما يرغب فيه‬
‫«إيفانز» هو امتًّلك مجموعة من الزنوج ومنزل كبير‪ ،‬وعدد من الجياد الممتازة مثلما يحدث‬
‫في مناطق القطن الواقعة في جنوب البًّلد‪ ،‬ربما لم يكن يرغب في امتًّلك أي زنجي؛ ألنه‬
‫رجًّل عبد نفسه‪ .‬ولم يكن يعرف‪ :‬هل من حق اإلنسان أن يمتلك إنسانًا آخر أبيض أو‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫أسود؟ ولكن كان كل همه ورغبته هو الحصول على الكثير من الحياة أكثر مما استطاع أن‬
‫يجد‪.‬‬
‫ً‬
‫عمًّل سخيفًا‪ ..‬الذهاب إلى أوريجون‪ .‬ولكن كان شيئًا طيبًا أن يفكر في وسيلة‬ ‫وكان هذا يبدو‬
‫للخروج عن تقاليد الوسائل القديمة‪ ،‬والتحرر من األماكن القديمة‪.‬‬
‫وكما قال أبوه‪ ،‬حينما كان يتحدث إليه وهو متجه إلى أوهايو في قارب صغير‪ :‬لم يكن هناك‬
‫أجمل من هذه البقعة التي تقع هناك‪.‬‬
‫وكان الوقت مناسبًا للتحرك‪ ،‬وهو الوقت الذي كانت فيه الحقول واألشجار تبدو عارية تشير‬
‫إلى أن الربيع سوف يأتي‪ ،‬واندفعت الدماء في جسده وبدأت األفكار تراوده‪ ،‬فحينما تذكر‬
‫احتراق منزل والده وزحف النيران إلى المدخنة المصنوعة من الطوب اللبن‪ ،‬اكتسحه الشعور‬
‫نفسه‪ ،‬وكأن الحادث يمر أمامه في ذلك الوقت بطريقة ال يرغب في تكرارها‪ ،‬بل إنه يستطيع‬
‫أن يبني حياته من جديد كما يرغب‪ ،‬وأن يسير على منهج مختلف‪ ،‬وهو أمر سوف يجعل‬
‫الناس يظنون أنه معتوه إذا عرفوا ما يدور بخلده‪.‬‬
‫وكان يعتقد أن اليوم سوف يكون دافئًا حينما تمر به العربة وسط عدد من األشجار المنتشرة‬
‫في البراري‪ ،‬وتحقق ما كان يعتقد؛ إذ شعر بالشمس تدفئ فخذيه‪ ،‬وظهر في ذلك الوقت سنجاب‬
‫صغير وسط الحشائش ينظر إليه‪ ،‬وقال‪« :‬إيفانز» مخاطبًا نفسه إنه كان يستطيع أن يطلق النار‬
‫عليه ويصيب رأسه إذا كانت بندقيته معه‪ ،‬ولكنه تركها في المنزل؛ ألنها ثقيلة‪.‬‬
‫ً‬
‫متوغًّل في األوحال وهو ال يشعر بغباوته وال يعرف الفضول‪ ،‬أيدرك ما تفعله‬ ‫كان البغل يسير‬
‫الطيور حينما تبني لنفسها ع ًّ‬
‫شا؟ ربما يدرك هذا البغل أكثر مما يدرك اإلنسان‪ ،‬ولكنه يسير‬
‫بطيئًا وحزينًا تحت ثقل األفكار‪.‬‬
‫وبدأت المدينة تظهر شيئًا فشيئًا‪ ،‬وبدأت المباني األولى المنتشرة على األرض المبتلة والتي‬
‫أغرقت أخشابها مياه مطر األمس‪ ،‬في حين وقفت الكًّلب تعطس في الزوايا واألركان أو‬
‫ضا زوجان من الخيام يلمح بياضهما في ضوء الشمس‪،‬‬ ‫تندفع إلى الفضاء لتنبح‪ .‬وهناك أي ً‬
‫وثًّلثة رجال يجلسون على قطعة خشب ممدودة قريبين بعضهم من بعض‪ ،‬في حين كانت‬
‫بنادقهم قريبة من أيديهم‪ ،‬ربما كانوا يتحدثون عن أوريجون منتظرين البدء‪ .‬وكانت المتاجر‬
‫مزدحمة بالعمًّلء الذين يدخلون ويخرجون‪ ،‬أما الزنوج فكانوا يفرغون البضائع اآلتية من‬
‫أماكن أخرى‪ .‬وكان هناك ثًّلثة من المكسيكيين يسيرون أمام وجهة «نوالند هاوس» بقبعاتهم‬
‫صا من النوع الذي كان يسرق تجار سانتافيه‪.‬‬
‫المخروطية العريضة‪ ،‬كما لو كانوا لصو ً‬
‫وكان هناك رجًّلن يقفان أمام وجهة مخزن هيتشكوك يتحدثون باهتمام شديد‪ ،‬أحدهما هو‬
‫تادلوك أحد مواطني إلينوي الذين قدموا إلى مدينة «إندبندس» للتحدث بشأن أوريجون‪ .‬ولم‬
‫يبد استعداده ورغبته في االشتراك مع أي مجموعة تكون قد تكونت‪ ،‬وإنما أعلن أنه يهدف‬
‫ً‬
‫مشغوال كل الوقت وفي كل مكان‪ ،‬كما هو الحال‬ ‫لتكوين مجموعته الخاصة‪ .‬وكان تادلوك يبدو‬
‫في ذلك الوقت الذي وصل فيه إيفانز‪.‬‬
‫وكان الرجل اآلخر يقف زائغ النظرات‪ ،‬وآثار الخمر تبدو على محياه؛ إذ ظل يومئ برأسه‬
‫إلى تادلوك‪ ،‬كما لو كان يقول نعم لكل ما يردده‪.‬‬
‫قال إيفانز‪« :‬كيف حالك يا مستر تادلوك؟»‪.‬‬
‫فالتفت تادلوك وظهرت عليه عًّلمات التذكر‪ ،‬وأجاب‪« :‬نعم صباحك يا إيفانز»‪.‬‬
‫وأخذ إيفانز يجذب البغل إلى حيث يمكن ربطه‪ ،‬في حين كان يشعر ببعض الوخزات في‬
‫ركبته‪ ،‬وبعد أن ربطه‪ ،‬توجه إلى الرجلين الواقفين‪.‬‬
‫فقال تادلوك‪:‬‬
‫‪-‬هذا هو هنري ماك بي‪ ...‬ليجي إيفانز‪.‬‬
‫فتصافحا‪.‬‬
‫واستمر تادلوك يقول‪:‬‬
‫‪-‬سوف يذهب ماك بي إلى أوريجون‪ .‬كيف حالك اآلن؟ هل قررت رأيًا وحددت موقفك؟‬
‫‪-‬ال أستطيع أن أجيب بالنفي أو اإليجاب؛ إذ إن عقلي من النوع الذي يقرر وضعه إذا زودته‬
‫باإلمكانيات الًّلزمة‪.‬‬
‫ولم يكن تادلوك يعتقد أن مثل هذا الوضع يتطلب السخرية‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن تتقدم في طريقك؛ ألنه سوف تكون هناك أشياء يجب فعلها‪.‬‬
‫وتساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬من أين أتيت يا ماك بي؟‬
‫‪ -‬من جنوب أوهايو ‪ -‬مدينة شينشناتي‪.‬‬
‫وأعلن تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو الرجل الذي يعرف كيف يحدد موقفه ورأيه‪.‬‬
‫فأجاب الرجل‪:‬‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي‪ ،‬كل شيء يتم فجأة‪ .‬اشتريت كل شيء‪ ،‬ووضعت زوجتي وأطفالي في المركب‪،‬‬
‫واتجهنا إلى الخارج‪ ،‬وهنا نحن أوالء اآلن‪ ..‬ومرحبًا بأوريجون‪ .‬إن األحوال ليست طيبة اآلن‬
‫في أوهايو‪.‬‬
‫فهز إيفانز رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬واألمور ليست على ما يرام هنا كذلك‪ ..‬دعنا نتناول شرابًا‪.‬‬
‫فقال ماك بي‪ ،‬وهو ينظر إلى تادلوك‪ ،‬الذي كان يهز رأسه‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي! إنه لتفكير سديد‪.‬‬
‫وهنا قال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬إنني لست من هواة الشراب‪.‬‬
‫وكان يبدو أنه يفكر مرتين‪ .‬وأضاف ً‬
‫قائًّل كما لو كان ال يعني ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬اذهبا أنتما معًا‪.‬‬
‫وبدأ يتحرك‪.‬‬
‫‪ -‬عندي رجًّلن آخران أود أن أقابلهما‪ ،‬وسوف أحضرهما معي بعد فترة‪.‬‬
‫وتحرك إيفانز وماك بي متجهين إلى الحانوت‪ ،‬وكان هيتشكوك يضع يده على جهاز الحسابات‬
‫منتظرا التجارة‪ ،‬في حين كانت عيناه المحمرتان تحملقان فيها‪ ،‬لذلك كان من الممكن القول‬
‫ً‬
‫بأن هيتشكوك من مدمني الخمر من أول وهلة‪.‬‬
‫وكانت هناك رائحة جلود في المكان‪ ،‬وكذلك الجبن والمًّلبس المتناثرة على الصندوق‪،‬‬
‫والويسكي الموضوع فوق «الطاولة»‪ ،‬واختلطت هذه الرائحة برائحة الفراء الحديثة الملقاة في‬
‫الخلف‪.‬‬
‫وقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬قدم إلينا الشراب أيها العجوز اللص!‬
‫‪ -‬أول شيء معقول أسمعك تقوله منذ أن عرف هللا متى يكون ذلك‪.‬‬
‫سا‪.‬‬
‫وسحب هيتشكوك كأسين‪ ،‬وظن أن الموضوع قد انتهى فسحب لنفسه كأ ً‬
‫وقال ماك بي‪ ،‬بعد أن مسح لحيته بكم معطفه قبل أن يشرب‪:‬‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي‪ ،‬قلت لنفسي أوريجون اآلن؛ ألن بها مكانًا لكل رجل‪.‬‬
‫وتحركت تفاحة آدم بسبب تدفق الويسكي‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ليس هناك أي منطق في دفع المعدة إلى العمل من أجل ال شيء‪.‬‬
‫وانحنى هيتشكوك على «الطاولة» وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يشبه داء الكلب‪ ،‬إذ تحدث العضة ويستمر الشعور بالرغبة في العض‪ ،‬أو قد يشبه كلبًا‬
‫مع عظمتان‪ ،‬فهو ال يستطيع أن يلذ بالعظمتين في وقت واحد‪ ،‬ولكنه ال يترك كلبًا غيره يأخذ‬
‫إحدى هاتين العظمتين‪ .‬دع اإلنجليز يأخذون أوريجون‪ ،‬ولنكتف بعظمة واحدة‪.‬‬
‫وسأل ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬إنك لن تستطيع وقفهم عن التحرك إلى أوريجون!‬
‫فأجاب إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ليس‪ ...‬ما دامت توجد «طاولة» نستند إليها‪ ،‬وشرابًا نتناوله!‬
‫وترك إيفانز نظره يتركز على ماك بي‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو العيب بالنسبة لميسوري؟ نفس الناس هنا‪ ،‬وكثير من اللحم للغذاء‪ ،‬وتستطيع النوم في‬
‫سرير دافئ مضمون‪.‬‬
‫فقال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك ال تدرك إدرا ًكا تا ًّما‪ .‬امأل الكأسين‪َّ ،‬‬
‫هًّل فعلت ذلك؟‬
‫ولما حان موعد الحساب‪ ،‬فشل في رفع سراويله‪ ،‬ثم تحول إلى إيفانز وقال‪:‬‬
‫ي‪ ،‬لقد تركت نقودي في العربة‪.‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا عل َّ‬
‫وهنا دفع إيفانز الحساب وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنك لست من نوع الرواد يا هيتشكوك‪ ،‬دعهم يستقرون‪ ،‬ثم اذهب بعد ذلك ببراميلك وكحولك‬
‫وأفكارك الخاصة بالثراء‪ ،‬فالبقالة ليست مما يمكن تسميته بالمغامرة‪.‬‬
‫‪ -‬إ نها جزء من قليل‪ ،‬أنت تعرف ذلك يا ليجي‪ .‬يجب على صاحب أي حانوت «بقالة» أن‬
‫يعرف كيف يكون سريعًا في سحب مسدسه‪.‬‬
‫ومد يده كما لو كان يظهر استعداده لما قد يحدث‪ ،‬مهما تكن الطبيعة‪.‬‬
‫‪ -‬وأين ستكون من غير أي حانوت؟‬
‫فرد ماك بي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬يا أهلل! عن طريق الديون‪.‬‬
‫فحملق هيتشكوك فيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أشير إليك‪ ،‬وأذكرك بأنه ال توجد عربة أو قاطرة تسير بالديون‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أمزح فقط‪.‬‬
‫ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬خذ معك حانوتك‪ ،‬وتستطيع ببعض المال القليل أن تؤسس حانوتًا جديدًا‪.‬‬
‫فأجاب هيتشكوك‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أكون ثريًّا‪ ..‬سوف أكون‪ ،‬عن طريق التجارة في البيض وأنواع المأكوالت‪ ،‬وما يمكن‬
‫أن أضعه داخل الحانوت‪.‬‬
‫فتساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا تتجر إذن؟‬
‫ونظر إليه هيتشكوك وأخذ يهز رأسه‪:‬‬
‫ً‬
‫ومقبوال‪ .‬إنني سوف أقدم‬ ‫ً‬
‫عاقًّل‬ ‫‪ -‬إنني أعمل بالتجارة دائ ًما إذا كان اإلنسان الذي أتعامل معه‬
‫لهذا اإلنسان «جوز الطيب» الخشبي الذي قدمه إليه أحد األمريكيين «يانكي» في إحدى‬
‫ً‬
‫عجوزا لدرجة أنني ال أستطيع أن أفتح عيني‪ .‬إنني أقوم بالتجارة‬ ‫المناسبات؛ ألنني أصبحت‬
‫معه؛ لكي أصل إلى أحسن الشروط وأفضل النتائج‪.‬‬
‫‪ -‬كيف يكون ذلك؟‬
‫‪ -‬أتجر في ال شيء مقابل ال شيء‪ ..‬أتوصل إلى تبادل تجاري عن طريق «جوز الطيب» إنها‬
‫تجرح كبريائي حينما أنظر إليها‪.‬‬
‫سمع إيفانز الباب يُفتح فتحول إليه ليرى تادلوك يلجه ومعه رجًّلن آخران‪ ،‬أحدهما يبدو أنه ال‬
‫يعدو أن يكون غًّل ًما‪ .‬وأخذ هيتشكوك يحملق في تادلوك‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف أنك ال ترغب في الويسكي‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫وكان يبدو في كًّلمه وكأنه يستغرب باالمتناع عن الشراب‪ ،‬في حين أن الجميع يتناولون‬
‫الشراب‪ ،‬وهو ليس من الوعَّاظ الذين يتحدثون عن جهنم والنار!‬
‫وبعد ذلك قال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬إيفانز؛ صافح كيرتس ماك‪ ،‬وشارلز فيرمان‪ ،‬وهذا هو هنري ماك بي‪.‬‬
‫صغيرا‪ ،‬وكانت مًّلمحه جميلة‬
‫ً‬ ‫وتصافح الرجال‪ ،‬وكان شارلز فيرمان هو الرجل الذي يبدو‬
‫وعيناه سوداوان‪ ،‬وجبهته مرتفعة‪ ،‬ومظهره جاد‪ ،‬يشعر الناظر إليه بأنه قد اعترك الكثير من‬
‫الصعاب في سنوات طويلة‪ ،‬أكثر مما يعتقد الناظر إليه من أول وهلة‪.‬‬
‫وكان كيرتس ماك أكبر سنًّا‪ ،‬ويختلف اختًّلفًا تا ًّما‪ ،‬وهو أمر جعل إيفانز يظن أنه يبلغ الخامسة‬
‫والثًّلثين‪ ،‬وكان من طراز الرجال الذين ال يبدون الكثير من االهتمام لما يدور حولهم؛ إذ إن‬
‫جز ًءا منه يكون بعيدًا وفي مكان آخر‪ ،‬وهو يبحث من الخلف أو األمام عما يمكن أن يفعله‪.‬‬
‫وقال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬لقد انضم ماك وفيرمان إلى صحبتي‪.‬‬
‫فصاح ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبًا بأوريجون‪.‬‬
‫ثم قال تادلوك‪ ،‬كما لو كان يمتلك الجميع‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أصبحنا قريبين برجالي من إلينوي‪ .‬إننا ال نرغب في صحبة كبيرة؛ ألننا نرغب في أن‬
‫يكون سفرنا خفيفًا وسريعًا‪.‬‬
‫وسأل ماك بي فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬كم عددكم؟‬
‫فأجاب الرجل الصغير‪:‬‬
‫‪ -‬زوجتي وابني‪.‬‬
‫‪ -‬متزوج‪ ،‬آه!‬
‫وهز فيرمان رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أفكر‪ ..‬عندي فتاة تبلغ السابعة عشرة‪ .‬ووالدتي وخمسة آخرون بجانبهما‪.‬‬
‫وطلب إيفانز المزيد من الشراب‪ ،‬ولم يكن بيكي يجاريه‪ ،‬ثم سأل من حوله‪:‬‬
‫‪ -‬هل لكم في شراب؟‬
‫ولم يجبه أي إنسان آخر سوى ماك بي‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنني أرغب في شراب‪.‬‬
‫ثم أجاب الجميع باإليجاب ما عدا تادلوك‪ ،‬ورفع فيرمان كأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬في صحة مكان ال توجد به حمى‪.‬‬
‫فرد عليه ماك بي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫مسمارا وسوف ينتج عنه مسمار كبير‪ .‬إنني أهيب‬
‫ً‬ ‫‪ -‬أجل باهلل‪ ،‬ومن أجل التربة الغنية‪ ،‬أزرع‬
‫بكم أال تكدسوا العشب‪ ،‬فالحشائش واألعشاب كافية في الشتاء إلطعام الخراف والحمًّلن‪.‬‬
‫دعوا العشب ينمو وسوف ترون الحمًّلن تنمو وتكبر وتسمن‪ ،‬هذه هي فكرتي عن الفًّلحة‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫شهرا أو أكثر قبل أن تبدأوا في التحرك‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬يبدو لي أنكم جميعًا على استعداد‪ ،‬ولكن أمامكم‬
‫فهز ماك رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن أول شيء هو الخدمة الممتازة‪ ،‬واألرض الطيبة‪ ،‬واإلقامة المريحة‪ ،‬والعمل المناسب‪.‬‬
‫ثم صمت وأخذ يحملق إلى األمام كما لو كان قد رأى أوريجون أمامه واألرض والموقع‪،‬‬
‫ومكان العمل الذي تحدث عنه‪ ،‬وكان يحرك إبهامه فوق أصابعه من ناحية راحة يده‪.‬‬
‫وقال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬إن أمامنا الكثير من العمل قبل أن نستطيع البدء في ذلك‪.‬‬
‫فأحنى فيرمان ‪-‬الرجل الصغير‪ -‬رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كلما أمعنت في التفكير فيها‪ ،‬ازددت إيمانًا بأني على حق؛ ال حمى‪ ،‬وأرض جديدة‪ ،‬وفرص‬
‫جديدة‪.‬‬
‫فأكمل إيفانز حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬وطرق جديدة للحياة واألشياء‪.‬‬
‫وكان يقول ذلك بعد أن قرأ ما يدور في خلد فيرمان‪ ،‬لذلك ابتسم له فيرمان وهز رأسه عًّلمة‬
‫على اإليجاب‪.‬‬
‫ثم تحدث تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬طبعًا‪ ،‬إنك تفعل الصواب‪ ،‬ويجب أن تنضم إلينا يا إيفانز اآلن‪.‬‬
‫فتساءل هيتشكوك‪ ،‬وهو يمسح جانبًا من فمه بظهر يده‪ ،‬وأخذت عيناه المنتفختان المحمرتان‬
‫تجوالن من فرد آلخر‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ما عيب ميسوري؟‬
‫ثم توقفت نظرات التساؤل‪ ،‬واتجه بعينيه إلى المدخل‪ ،‬واتجه معه إيفانز‪ .‬وكان الباب قد فُتح‬
‫وولجت منه فتاة تاركة نصفه مفتو ًحا خلفها‪ ،‬ووقفت عند المدخل مثل الطائر الذي يقف مستعدًّا‬
‫للطيران‪ ،‬ونظرت إلى إيفانز‪ ،‬وكانت فتاة من النوع الذي ال يظهر كل يوم‪ ،‬مجسدة في مًّلبسها‬
‫الفضفاضة التي ترتديها‪ .‬وكانت السرعة والحذر يبدوان على وجهها الشاحب وفمها الممتلئ‪،‬‬
‫أما عيناها فكانتا واسعتين سوداوين تشعان ضو ًءا وبريقًا‪ .‬وقالت‪ ،‬وهي تقف عارية القدمين‪،‬‬
‫وصدرها الصغير يعلو ويهبط داخل الثوب الفضفاض‪:‬‬
‫‪ -‬بابا‪...‬‬
‫فنظر ماك بي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪...‬‬
‫‪ -‬ماما تريدك‪ ...‬يجب أن تحضر إلى البيت على الفور‪.‬‬
‫وقال ماك بي‪ ،‬وهو يعبث بلحيته‪:‬‬
‫‪ -‬أخبري أمك بأني مشغول‪.‬‬
‫‪ -‬قالت لي أرجوك أن تحضر‪.‬‬
‫ورفعت قد ًما إلى أعلى ثم أنزلتها بجوار األخرى‪ ،‬وظن إيفانز في ذلك الوقت بأن والدتها‬
‫أوصتها بعدم العودة من غير والدها‪ ،‬لذلك قال لها والدها‪:‬‬
‫‪ -‬أخبريها بأنني سوف أحضر حينما أستطيع ذلك‪ ،‬وليس قبل ذلك‪ ،‬هل تسمعيني؟‬
‫وحول إيفانز ناظريه عنها إلى ماك بي‪ ،‬ثم جال بهما بين الحاضرين‪ ،‬فلمح ماك وهو منصرف‬
‫عا‪ ،‬كما لو كان قد أطلق ألفكاره العنان‪ ،‬ولم يهتم‬
‫وعيناه مشغولتان بما يمكن أن يسمى جو ً‬
‫كثيرا‪ ،‬ربما ألنهم ال يشعرون بمثل هذه المواقف كما يشعر بها إيفانز نفسه‪.‬‬
‫اآلخرون بالموقف ً‬
‫ثم قال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬اذهبي أنت‪.‬‬
‫فتحولت الفتاة ببطء وخرجت‪ ،‬ثم اختفت عن األنظار بعد أن أغلقت الباب خلفها‪.‬‬
‫وقال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا عليها من امرأة! إنها تريدك دائ ًما لشيء «إنها ابنتي ميرسي»‪.‬‬
‫ثم دفع يده إلى جيبه ليبحث عن شيء من الطباق لغليونه‪.‬‬
‫وشرب الجميع بسرعة لفترة دقيقة واحدة‪ ،‬ثم تولى تادلوك تحويل الموضوع الذي كان يدور‬
‫بخلد الحاضرين‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لم نقرر بعد مسألة المرشد‪ ،‬يجب علينا أن نبحث عن مرشد ممتاز‪.‬‬
‫فرد عليه ماك ً‬
‫قائًّل‪ ،‬ونظره مركز على المدخل‪:‬‬
‫‪ -‬هناك كثيرون ممن يقولون إنهم كذلك‪ ،‬فهناك ً‬
‫مثًّل «آدمز» أو «ميك»‪.‬‬
‫ولكن ماك بي لوى فمه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أراهن أنهم ال يعرفون أين يذهب المسمار نفسه‪.‬‬
‫ثم عاد تادلوك وقال مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬إن آدمز لم يذهب في حياته بعيدًا عن قلعة «الرامي»‪ ،‬وأي معتوه يستطيع أن يذهب إلى‬
‫«الرامي»؛ فهي البلدة التي تلي هذا الموقع مباشرة‪.‬‬
‫فسأله ماك‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا عن ميك؟‬
‫ولكن تادلوك تحول إلى إيفانز وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أعرف أنه وآدمز يستويان في معرفتهما‪ ،‬أنت تعرف من غير شك مرشدًا جيدًا‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعتقد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تتحدث كما لو كنت تستطيع‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أفكر فقط‪.‬‬
‫وانتظر تادلوك‪ ،‬ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنني أعرف أحدهم‪ ،‬ولكن العثور عليه هو األمر الصعب‪.‬‬
‫‪ -‬من هو؟‬
‫ي أن أحادثه ً‬
‫أوال بنفسي‪ ،‬ربما قد يوافق على قولي‪.‬‬ ‫‪ -‬ال أعرف‪ .‬ويجب عل َّ‬
‫‪ -‬ولماذا يعترض؟‬
‫ثم أمر ماك هيتشكوك بإحضار المزيد من الشراب‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعرف‪ ،‬ربما ال يقبل‪.‬‬
‫‪ -‬وكي ف تخشى إخباره بذلك؟ إن قولك ال يلزمه بشيء‪ .‬ويجب أن نعرف ما إذا كنا سنضع‬
‫االفتراض أو ال نستطيع‪ .‬سوف يكون هناك مبلغ كبير من المال له‪ ،‬ليس مبلغًا يعادل أموال‬
‫الشركات‪ ،‬ولكن العمل على أي حال سوف يكون أقل‪.‬‬
‫وقال إيفانز وهو يعيد ملء كأسه‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك على صواب‪ .‬إنه لن يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك‪ ،‬إنه ديك سمرز على كل حال‪،‬‬
‫وهو الشخص الذي استطاع أن يذهب إلى كل مكان للصيد والقنص وقتال الهنود‪ ،‬فهو يستطيع‬
‫أن يقودنا وهو مغمض العينين‪.‬‬
‫‪ -‬أين يعيش؟‬
‫‪ -‬إنه جاري‪.‬‬
‫‪ -‬هل هناك فرصة لًّلتصال به؟‬
‫‪ -‬من الصعب أن أقرر ذلك اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن سوف تتولى إخباره بذلك‪ .‬إننا ال نستطيع أن نعتمد على شيخ يسير متوكئًا على عصاه‬
‫وقنينة الخمر في يده‪.‬‬
‫وقال إيفانز ببطء‪ ،‬وهو ينظر إلى تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أعتقد أن ديك سمرز من أحسن الرجال الذين قابلتهم في حياتي‪.‬‬
‫‪ -‬سوف تذهب معنا لرؤيته‪.‬‬
‫‪ -‬غدًا‪ ،‬أو بعد غد‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬وسوف نتولى تحديد ما سندفعه له‪.‬‬
‫وكان تادلوك قد حدد في ذهنه الرقم الذي سيقدمه في ذلك الحين‪ ،‬ولكنه لم يذكر أي شيء عن‬
‫ذلك‪ ،‬وحينما تحدث كان يسأل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬هل قر رأيك على شيء اآلن؟‬
‫‪ -‬لست متأكدًا بعد‪.‬‬
‫ً‬
‫كامًّل في وقت ضئيل‪.‬‬ ‫نكون فريقًا‬
‫‪ -‬سوف ِ‬
‫وتساءل ماك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ترغب في البقاء هنا‪ ،‬في الوقت الذي تستطيع أن تذهب فيه إلى أوريجون‪ ،‬وكما قلت‬
‫من قبل‪ ،‬من يأتي ً‬
‫أوال سوف يًّلقي الخدمة الممتازة‪.‬‬
‫ولكن لم يكن عند إيفانز أي إجابة حاضرة على ذلك‪ .‬لذلك قال فيرمان الصغير‪ ،‬كما لو كان‬
‫يعني ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬آمل أن تستطيع الحضور‪.‬‬
‫وقال تادلوك‪ ،‬وهو يعد على أصابعه‪:‬‬
‫كثيرا مما نستطيع أن‬
‫ً‬ ‫ضا‪ ،‬أبعد‬ ‫‪ -‬إنك تعرف أن وادي ويًّلميت يعتبر واديًا خصبًا وجم ً‬
‫يًّل أي ً‬
‫نتصور‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما يحدثوني عنه‪.‬‬
‫‪ -‬إنه منطقة غنية‪ ،‬ومن الممكن الوصول إليها عن طريق المياه أو النهر أو المحيط‪.‬‬
‫فوافق إيفانز‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كانت لجنة «أيوا» تعرف ما تتحدث عنه ‪-‬منذ عامين‪ -‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬كيف يكون ذلك؟‬
‫‪ -‬لنأخذ الطقس مث ًًّل أو القوة المائية أو الصحة أو الخشب أو التربة أو األسواق المناسبة‪ ،‬فإننا‬
‫سوف نجد أوريجون تتفوق في كل ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬كان ذلك قبل أن يأتوا هنا‪.‬‬
‫‪ -‬إنك سمعت قصة مختلفة منذ ذلك الحين‪.‬‬
‫‪ -‬أال تعرف كما أعرف‪.‬‬
‫وقال تادلوك مستخد ًما يديه كما لو كان واقفًا أمام مكتب‪:‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬هناك سبب أفضل أي ً‬
‫ثم توقف برهة وواصل حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذه هي بلدنا أو بلد إنجلترا؟ هل تريدون أن تصبح بريطانية؟‬
‫‪ -‬هيتشكوك يريد ذلك‪ ،‬ولكني ال أريد‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬ما الذي ستقررونه اآلن؟ الشعب هو كل شيء‪ ،‬الشعب مثلك ومثلي‪ ،‬إذا كانت عندنا‬
‫النية الكافية لًّلستقرار هناك‪.‬‬
‫اندفعت الدماء إلى وجه تادلوك‪ ،‬وقد استطاع إيفانز من محرابه أن يرى شريانًا ينبض في‬
‫رقبته‪ ،‬في حين كانت الكلمات تندفع من فيه‪ .‬وبعد ذلك تحرك إيفانز‪ ،‬في حين استمر تادلوك‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم يقولون أربعة وخمسين أو القتال‪ ...‬وإننا يجب أال نحارب إذا كان هناك عدد كافٍ منا‬
‫على األرض‪.‬‬
‫ثم تهدل صوته واستمر يقول‪:‬‬
‫ضا الذين ينادونك بلفظ «بابا» أو‬
‫‪ -‬إنه لمن الفخر بالنسبة لك يا إيفانز وألوالدك وأحفادك أي ً‬
‫ضا جديدة‪ ،‬أو هل تريد أن تجلس على المقعد وتترك اآلخرين يصنعون‬ ‫«جد» أن يكتسبوا أر ً‬
‫التاريخ؟‬
‫ً‬
‫منديًّل من جيبه مسح به جبهته‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫وأخرج تادلوك‬
‫‪ -‬هذا هو كل شيء‪ ،‬إال أننا نريدك أنت‪.‬‬
‫وتساءل ماك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تعتقد؟‬
‫وقرأ إيفانز في وجه فيرمان أمله في أن يقول نعم‪ ،‬لذلك قال إيفانز وهو ينظر من وجه آلخر‬
‫منتظرا في صمت حتى ماك بي نفسه‪:‬‬
‫ً‬ ‫ليرى الجميع‬
‫‪ -‬إنكم تحرجونني‪ ..‬أخبروني ماذا أفعل؟ إذا ذهب ديك سمرز‪ ،‬سوف أذهب معكم‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫واندفع ماك بي يقول‪:‬‬
‫‪ -‬فلنتصافح‪.‬‬
‫ثم طلبوا شرابًا آخر ما عدا تادلوك وفيرمان‪ ،‬وخرج إيفانز وحل وثاق البغل وركبه متج ًها في‬
‫طريقه إلى بيته‪ ،‬وكان يقول في أثناء سيره إنه ترك الخمر تتحدث عنه‪ ،‬ولكن ظل يتساءل عما‬
‫سوف يفعله‪ .‬وكان الوضع يبدو كأنه استقر على حل معين‪ ،‬ولكنه ظل يراود نفسه بأن الوضع‬
‫سوف يتوقف على قوله نعم أو ال‪ ،‬وسوف يذهب إذا ذهب ديك‪ ،‬وربما يذهب بأي طريقة‬
‫نظرا لوجود الرجال األحرار والشجعان‪ ،‬والهدف من تحقيق خلق أمة جديدة‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫أخرى؛‬
‫سوف يكون هناك اتجاه جديد لألشياء والتربة الطيبة والصيد والقنص الثمين‪ ،‬والطقس‬
‫المناسب‪ ،‬ولن تكون هناك حمى‪ ،‬مرحبًا بالذهاب إلى أوريجون‪ .‬ولم يستطع أن يفسر كيف‬
‫اتجه هذا االتجاه‪ ،‬ولكنه بدأ يشعر بالتعب في رأسه من كثرة التخيل والتصور‪ ،‬إنه سوف يذهب‬
‫ألنه يرغب في الذهاب ألسباب ال حصر لها‪ ...‬وسوف يذهب إذا شعر بالشعور الذي يشعر به‬
‫اآلن بعد أن انطفأت النيران فيه‪.‬‬
‫ونزل من فوق البغل وحل رباطه ولجامه‪ ،‬وتركه في حظيرته متج ًها إلى بيته‪ ..‬وتذكر في هذه‬
‫اللحظة أنه لم يأكل شيئًا‪ ،‬وأنه يشعر بالجوع‪ .‬وكانت الشمس تنحدر تجاه الغرب في السماء‬
‫وتخرج أشعتها الباهتة من وسط السحب المتكاثفة‪ ،‬لذلك كان يبدو أن جو الغد سيكون طيبًا‬
‫ومناسبًا‪ ،‬وهو أمر سوف يدفعه إلى تقليب األرض وفًّلحتها؛ ألنه يعتمد عليها‪ ،‬وأخذ يكرر‬
‫لنفسه عبارة «إن اإلنسان ال يصنع التاريخ»‪ ،‬وكان يقف ملتصقًا ببيته وهو في هذا التفكير‪.‬‬
‫ورحب بمقدمه روك العجوز‪ ،‬ثم توجه إلى الباب وفتحه ليرى ربيكا واقفة بجوار المدفأة‪ ،‬وهنا‬
‫عليك يا بيكي‪ ..‬إننا ذاهبون إلى أوريجون»‪.‬‬
‫ِ‬ ‫صاح‪« :‬ضع سروالك‬
‫***‬
‫الفصل الثاني‬
‫انصرف الجميع من الحانوت بعد أن خرج منه إيفانز‪ ،‬وكان تادلوك قد أعلن أن عنده‬
‫ً‬
‫عمًّل يجب أن يحضره في نوالند هاوس‪ ،‬في حين اتجه ماك بي إلى بيته لمعرفة ما تريده‬
‫امرأته‪ ،‬واعتذر ماك باالنصراف ً‬
‫قائًّل إنه متجه لشراء بعض الماشية‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي خرج الجميع فيه من الباب تاركين هيتشكوك يحملق فيهم ويشيعهم‬
‫بنظراته‪ ،‬كان تادلوك يراقب إيفانز وهو يمتطي صهوة بغله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو الرجل الذي أرغب أن يكون بصحبتنا‪.‬‬
‫ضا؛ إذ إنه كان يحب هذا الرجل الضخم‬ ‫وكان هذا هو الشيء الذي يفكر فيه شارلز فيرمان أي ً‬
‫ذا الخلق السلس الذي تبدو عليه دالئل الفكاهة الطيبة والوجه البشوش‪ ،‬والقدرة البدنية‪ ،‬واليدين‬
‫الضخمتين‪ ،‬والهيكل الكبير‪ .‬إنه الرجل الذي يتمنى كل إنسان أن يصاحبه في رحلة محفوفة‬
‫أمًّل بأن صحبته سوف تكون أمتع وأفضل من‬ ‫بالمخاطر والصعوبات الطويلة‪ ،‬وكان يعطي ً‬
‫صحبة تادلوك الذي سوف يكون متعاليًا‪ ،‬صعب المعرفة‪.‬‬
‫وقد قال ماك لتادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬أتوقع أن إيفانز سوف يحضر بعد هذه الخطبة التي ألقيتها‪.‬‬
‫‪ -‬إنها الحقيقة التي أبرزها هللا‪.‬‬
‫فقال ماك‪ ،‬وهو يبتسم ويضع قبعته على رأسه‪ ،‬ويبتدئ في المسير‪:‬‬
‫‪ -‬الحقيقة التي أبرزها هللا على لسان تادلوك‪.‬‬
‫وحيا فيرمان الحاضرين‪ ،‬وسار في طريقه إلى ما يسميه بيته الذي لم يكن سوى حجرتين في‬
‫منزل على وشك االنهيار‪ ،‬ولكنه على أي حال أفضل بكثير من الخيمة‪.‬‬
‫وكان يشك في أن يستطيع تود العيش في خيمة يشعر فيها بالحمى‪ ،‬وكان يرغب في أن يكون‬
‫له مأوى ورعاية‪ ،‬وفوق ذلك يريد أن يكون عنده هواء جاف مثل ذلك النوع الذي يجده الناس‬
‫في وادي «بًّلت» الشاسع األطراف‪ ،‬الواقع بين الجبال في منطقة أوريجون‪ ،‬حيث ال أثر‬
‫للحمى على اإلطًّلق‪.‬‬
‫وتمنى فيرمان في هذه اللحظة أن يبتدئ التحرك على الفور بعد أن نظر حوله وشاهد األكواخ‬
‫تنغمس في األحوال‪ .‬وبعد أن شعر برطوبة الهواء على الرغم من ارتفاع الشمس‪ ،‬وكان‬
‫الضباب المخيف يغطي مدينة «إندبندس» كما هي عادة األراضي المنخفضة في كنتاكي‪ .‬وكان‬
‫يتساءل في بعض األحيان ويريد معرفة سبب ترك‬
‫والده لفيرجينيا متج ًها إلى كنتاكي عبر المنخفضات‪ ،‬ثم إلى أوهايو على عدة مراحل‪ .‬لقد كانت‬
‫فيرجينيا أكثر البًّلد صًّلحية من الناحية الصحية‪ ،‬وقد اعترف والده على أي حال في أيامه‬
‫األخيرة‪ ،‬حينما ترك جانبًا روح المغامرة‪ ،‬بأن الناس ال يخضعون للتجمد في منطقة معينة‪،‬‬
‫وإنما يظلون يتحركون وينظرون إلى غايات بعيدة‪ ،‬حتى ولو كانوا ال يستطيعون التحرك‪.‬‬
‫وحينما اقترب فيرمان‪ ،‬قامت سيدة المنزل بفتح الباب وفي يدها منفضة من الريش تزيل بها‬
‫األتربة والقاذورات العالقة‪ ،‬وكان طرف أنفها أحمر كالعادة نتيجة القيام بأعمال الطهو‪ ،‬ثم‬
‫قالت وهي تتوقف عن التنظيف وتترك ذراعيها تنزالن إلى أسفل ببطء‪:‬‬
‫‪ -‬أوه‪ ..‬إنه أنت‪.‬‬
‫ثم تحول نظره إلى أنثى خنزير راقدة في األوحال‪ ،‬ثم أخذت تنهض وتنظر بعينين صغيرتين‬
‫بلهاوين‪ ،‬ثم أصدرت صوتًا غبيًّا‪ ،‬وهربت بعيدًا‪.‬‬
‫وسأل فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقولين؟‬
‫ً‬
‫رجًّل آخر‪.‬‬ ‫‪ -‬كان يوجد رجل هنا‪ ..‬كنت تقول دائ ًما إنك تريد‬
‫‪ -‬أوه! حسنًا‪ .‬هل تعنين أنك سوف تذهبين معنا؟‬
‫‪ -‬لقد قال إنه سوف يذهب من أجل الركوب والحصول على الغذاء‪.‬‬
‫‪ -‬هل تحدث إلى زوجتي؟‬
‫‪ -‬إن يفعل ذلك؛ يعرف هللا كم تستطيع النساء الحديث‪ ،‬ولكني لم أقل شيئًا‪.‬‬
‫ثم عطست ومسحت أنفها‪.‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع أن أعرف أين ذهب؟‬
‫‪ -‬ذهب إلى مكان ما‪ ،‬ولكنه قال إنه سوف يعود مرة أخرى‪.‬‬
‫فقال فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬لقد فهمت‪.‬‬
‫وكان يأمل أن يعود الرجل بعربتين وماشية تكفي لجر هاتين العربتين‪ ،‬وكان يحتاج إلى‬
‫رجلين‪ ،‬بأقل تقدير‪ ،‬كان عنده واحد منهما على درجة كبيرة من النشاط يهوى مضغ الطباق‬
‫طوال اليوم‪ ،‬ويمضي يومه دائ ًما في حظائر الثيران والخيل والبغال‪.‬‬
‫ودخل فيرمان المنزل‪ ،‬ثم قالت المرأة وهي تحدث نفسها ووجهها مستدير نحو كتفها‪:‬‬
‫‪ -‬إن له وج ًها صار ًما‪.‬‬
‫ثم اتجه إلى حجرة وفتح بابها المؤدي إلى المكان الذي تحتله أسرته‪ ،‬ونظر إلى جوديث‪ ،‬تار ًكا‬
‫وجهه يسأل عن حال تود‪ ،‬فابتسمت ونادته قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬تود‪ .‬لقد عاد والدك‪.‬‬
‫عا من المطبخ راكبًا عصا‪.‬‬
‫فخرج تود مسر ً‬
‫‪ -‬يا لك من ولد مشاغب‪ .‬ألست كذلك؟‬
‫ثم أبعد العصا من بين فخذيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أمتطي صهوته إلى أوريجون‪.‬‬
‫فقال فيرمان وهو يلمس العصا‪:‬‬
‫‪ -‬سوف يكون حصانًا لطيفًا بالنسبة لشخص يبلغ الخامسة من العمر‪ ،‬إنك أحسن قافز‪.‬‬
‫فابتسمت جوديث البنها‪ ،‬ووضعت يدها على رأسه‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬إنه سوف يكون مستعدًّا‪ ،‬لقد أصبح سمينًا بما فيه الكفاية‪.‬‬
‫فحذرها فيرمان ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنها ال تزال أرض الحمى‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنها ال تشبه بادوكاه‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪ .‬إنه ال يبدو أحسن ً‬
‫حاال‪.‬‬
‫وحدث فيرمان نفسه بأن تود قد أصبح أفضل من قبل‪ ،‬على الرغم من أنه ال يزال‬
‫ً‬
‫هزيًّل‪ ،‬يشبه الطائر الصغير‪ ،‬ولكن عينيه أصبحتا صافيتين‪ ،‬وأصبح لونهما أكثر بريقًا‪.‬‬
‫فقال تود‪:‬‬
‫‪ -‬إنني على أحسن حال‪ .‬لماذا ال نذهب اآلن؟ ولماذا ننتظر يا والدي؟‬
‫‪ -‬سوف نذهب قريبًا‪ ،‬وتذكر أن تقول دائ ًما يا والدي‪.‬‬
‫وهزت جوديث رأسها‪ ،‬كما لو كانت تقول إنها ال تتعب نفسها بالتفاهات‪ ،‬ثم أخبرته‪:‬‬
‫كثيرا‪ ،‬ويوجد على المائدة أمامك دجاجة باردة وخبز ولبن‪.‬‬
‫‪ -‬لقد تناولنا غدائنا ألنك تأخرت ً‬
‫فذهب إلى المطبخ‪ ،‬أو الحجرة التي يمر منها إلى المطبخ‪ ،‬وجلس أمام المائدة‪ ،‬ونادى زوجته‬
‫وهو يبعد ساقيه بعضهما عن بعض‪:‬‬
‫‪ -‬جودي‪ ،‬لقد كنا نسير في االتجاه السليم‪.‬‬
‫فحضرت إليه مع تود‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أوه!‬
‫‪ -‬ليست الحمى فقط‪ ،‬وإنما كل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬أرجو ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنها تجعل اإلنسان يشعر بأنه شيء يُذكر ‪-‬هذه المغامرة‪ -‬وسوف تكون معنا صحبة طيبة‪،‬‬
‫كنت أتحدث مع بعض الرجال‪.‬‬
‫وترك ألفكاره العنان وهو ينزع قطع اللحم من صدر الدجاجة‪ ،‬فأخذ يتصور المزرعة التي‬
‫سوف يمتلكها في أوريجون‪ ،‬وسنابل القمح الصفراء المتماوجة‪ ،‬والسفن التي تأتي من كولومبيا‬
‫بدال من الضعف الذي يعتريه‪،‬‬ ‫لشحنها‪ .‬ورأى‪ ،‬أو تخيل‪ ،‬تود قويًّا يكسوه اللحم ويتمتع بالصحة‪ً ،‬‬
‫وأخذ يتصوره وهو ينمو وتنمو معه المنطقة ويزداد أهمية مع ازدياد أهمية البًّلد‪ ،‬وشعر بهذا‬
‫التخيل بالفرح بعيدًا عن المنغصات التي تسود حياته‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سوف يكون األمر صعبًا في البداية‪ ،‬ولكننا سوف نستطيع تحمل القليل من الصعوبات‪ ،‬أليس‬
‫كذلك يا بني؟‬
‫وامتطى تود العصا مرة أخرى‪ ،‬وصاح ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أواه!‬
‫وقال فيرمان‪ ،‬وهو يدرس آثار كًّلمه على جوديث‪:‬‬
‫‪ -‬هناك شيء واحد فقط‪ ،‬إنني أتمنى أن أوفق في إحضار عبد لنا‪.‬‬
‫كثيرا بي‪ ،‬فسوف أتحمل كل شيء بسهولة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تهتم ً‬
‫فأجاب‪ ،‬وهو يجعل لهجته صادرة من القلب‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫ولكن عقله عاد إلى كنتاكي‪ ،‬حيث اشترك أهالي تنيسي وكمبرالند مع أوهايو وعاشوا في بيت‬
‫وليس في أكواخ‪ ،‬واشتغلوا معًا‪ ،‬وعاشوا معًا‪ ،‬وبدأوا معًا‪ .‬وقد شعر في لحظة سابقة بيأس‬
‫شديد‪ ،‬وتملكه الشك بأن جوديث نفسها لن تستطيع أن تتحمل الصعاب؛ ألنها لم تكن فتاة قوية‪،‬‬
‫ولكن من يدري‪ ،‬لعل الوضع يختلف‪.‬‬
‫كثيرا ما يجدها في حالة انهيار‪،‬‬
‫لقد كانت تعمل على حسب حدود طاقتها وقدرتها‪ ،‬لدرجة أنه ً‬
‫وكان يشعر في بعض األحيان أن لحم خديها وشفتيها يقتربان من االختفاء‪ ،‬وأنه يشعر بقوة‬
‫تدفعه إلى النظر إلى عينيها الزرقاوين اللتين تمتلئان بالتحذير‪ ،‬ليستشف ما يدور في أغوارها‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وتمر بمراحل اليأس والخطورة وارتفاع درجة‬ ‫كثيرا ما تسقط ضحية الحمى أي ً‬‫ً‬ ‫وكانت‬
‫الحرارة‪ ،‬وتستمر في تناول األدوية المقاومة و«الكينين»‪ .‬وكان فيرمان قد قام من أجلها ومن‬
‫ضا ببيع مزرعته الصغيرة‪ ،‬وأخذ عبيده القًّلئل وذهب على ظهر مركب بخاري‬ ‫أجل تود أي ً‬
‫قذرا يعج بالرجال الذين تفوح منهم رائحة‬
‫إلى سانت لويس ثم إلى «إندبندس»‪ ،‬وكان المركب ً‬
‫القذارة والعفن والخمر‪ ،‬في حين كان الشر يتطاير من أعين الهنود الفقراء‪ ،‬وكانت األشجار‬
‫العارية تصطف على طول الساحل بطريقة تصلح ألن تكون حجرات هوائية‪ ،‬في حين كانت‬
‫ا ألغصان المائلة تغطي جذوع هذه األشجار وتحجب معظمها عن الرؤية‪ .‬وكان يبدو أمام‬
‫فيرمان أنه يرى المرض هناك أمامه ويرى الحمى تنتشر فوق أرض ال هواء فيها وال مجال‬
‫ضا بأن هذه الحمى تجري مع المياه أسفل المركب‪ ،‬مع التيار الثقيل‬
‫للتنفس‪ ،‬وكان يشعر أي ً‬
‫البطيء األصفر القا دم من أوهايو والمسيسبي‪ ،‬ولذلك شعر برغبة ملحة في العودة إلى حيث‬
‫أتى‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل عمليًّا‪،‬‬ ‫وقال مخاطبًا نفسه إنه كان على حق في ذلك الوقت‪ ،‬لقد كان يعرف أنه ليس‬
‫ولكنه يشعر بأنه على حق بالنسبة ألوريجون‪ .‬وكان يشعر هو وجوديث أن تود ال يمكن أن‬
‫يعيش في أرض النهر المنخفض؛ ألن األمراض تنتشر وتخيم على كل بقعة فيها‪ ،‬وأن الطريق‬
‫ممهد لعودة المرض‪ ،‬حتى إذا استطاع اإلنسان أن يتخلص من مرض معين لحقه آخر‪ .‬وعلى‬
‫هذا الوضع عاش كل من فيرمان وجوديث في خوف صامت ولكنه حقيقي‪ ،‬ويقع بعبئه على‬
‫كاهليهما‪ ،‬وكان فيرمان يشعر بالخوف في الليل وبالتفكير المستمر عن صحة ابنه الذي يشبه‬
‫جلده لون الذهب‪ ،‬وذهب تفكيره بعيدًا ليشعر بأن الحمى قد انهكت جسد ابنه الذي بدأ يذوي‬
‫ً‬
‫محاوال إبعاد‬ ‫ويذبل‪ ،‬مما جعل قلبه يقفز بين ضلوعه ويشعر بخوف قاتل‪ ،‬فجلس في سريره‬
‫شبح هذه الصورة من مخيلته ورأسه‪.‬‬
‫وسأله تود‪:‬‬
‫‪ -‬بماذا تفكر؟‬
‫‪ -‬فكرت في أن أذهب إلى الخارج‪ ،‬وأنظر بعض البغال‪.‬‬
‫فردت جوديث قائلة‪:‬‬
‫مبكرا؟‬
‫ً‬ ‫‪ -‬أال تعتقد أن الوقت ال يزال‬
‫‪ -‬أعتقد أن األسعار سوف ترتفع حينما تكتمل التجمعات الحقيقية‪.‬‬
‫وهنا سأل تود ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع أن أذهب يا بابا؟ أعني يا والدي؟‬
‫فنظر فيرمان إلى زوجته‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ضا‪ ،‬إن الجو لطيف في الخارج‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنها لن تضره‪ ،‬إذا لم ترغبي أنت في الذهاب أي ً‬
‫صا لجعلها‬
‫واسترسل فيرمان وهو ينهض ويسير متج ًها إلى ساحة المنزل الذي بنيت خصي ً‬
‫ً‬
‫مركزا للبيع‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك تستطيع يا بني‪.‬‬
‫وقد كان يو ًما لطيفًا وطيبًا من نوع األيام التي تجعل اإلنسان يميل ويرغب في العمل على‬
‫الفور‪ ،‬فقد كانت الشمس رائعة‪ ،‬وكانت رياح الربيع عبارة عن نسيم عليل بطيء في سيره‪،‬‬
‫ولم يكن هناك ما يعكر هذه الطبيعة سوى األوحال‪ .‬ولم يهتم فيرمان باألوحال وبالصعوبات‬
‫التي سوف يواجهها حينما تشق العربات طريقها وسط هذه األوحال‪ ،‬وشق فيرمان طريقه‬
‫وسطها وأمامه تود‪.‬‬
‫كان فيرمان يمتلك ثًّلث عربات تقف على عجًّلت حديدية يبلغ قطرها ثًّلث بوصات‪ ،‬ثم‬
‫أحضر عربتين كبيرتين مصنوعتين من الخشب الجيد وأرضها من صفائح الحديد‪ ،‬وصنع‬
‫فوقها صندوقًا يمكن أن يضم منقوالته األساسية وحاجياته‪ ،‬ويستطيع أن يجلس أو ينام فيه إذا‬
‫احتاج األمر‪ .‬واستطاع أن يجمع جميع معدات وأدوات سحب هذه العربات‪ ،‬وأن يشتري بندقية‬
‫سا وموقدًا من الحديد‪ ،‬وغًّلية وفرنًا هولنديًّا‪ ،‬وأطباقًا وأقدا ًحا من الصفيح؛ ألن أقداح‬
‫ومسد ً‬
‫الفخار سوف يصعب حملها بسبب ثقلها والخوف من كسرها‪ ،‬وكان يمتلك خيمة وأسطوانة‬
‫وجهازا لصنع الحبال التي تستخدم لربط الحيوانات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لصنع الزبد‪ ،‬وواحدة لخلط اللبن‪،‬‬
‫وكانت قائمة المعدات التي وردت في ذهنه كاملة‪ ،‬لذلك يجب أن يفكر اآلن في اإلمدادات‬
‫والغذاء واللحم‪ ،‬والسكر والمواد الجافة‪ ،‬والبن واألرز‪ ،‬وربما القليل من الخمر‪ ،‬والخل‪ ،‬وكذلك‬
‫الكتب‪ ،‬وبخاصة كتب األوالد؛ ألن الكتب سوف تكون نادرة في البلد الجديد‪ .‬وهو يستطيع أن‬
‫ينتقل إلى المكان الجديد بعربتين أكثر من بقية المسافرين‪.‬‬
‫وكان من أهم األشياء التي يجب أن يضعها في اعتباره هي مسألة القوة الكافية لسحب العربات‪،‬‬
‫ثيران للعربتين (سبعة أو ثمانية بأقل تقدير)‪ ،‬وبغال للركوب‪ ،‬وبقرات الستخراج األلبان‪،‬‬
‫وماشية لدفعها إلى الطريق والستخدامها فيما بعد‪ .‬هل يحاول أن يأخذ معه أغنا ًما ودجا ًجا‪،‬‬
‫وإوزا؟ يجب على اإلنسان أن يستمع إلى جميع أنواع النصائح؛ ألنه يرغب أن يكون متثبتًا‬ ‫ًّ‬
‫من كل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬واألدوية؟ يجب أال ينسى إمدادات كافية من األدوية‪.‬‬
‫وكان قد وصل إلى لب الموضوع‪ ،‬حينما سمع صوتًا يناديه من الخلف‪:‬‬
‫‪ -‬أتبحث عن رجل يذهب معك إلى الغرب؟ هل أستطيع أن أكون رجلك يا مستر فيرمان؟‬
‫فاستدار وقال‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫ً‬
‫طويًّل مرتفعًا وقبعة عتيقة‪.‬‬ ‫ً‬
‫وسرواال‬ ‫صا سمي ًكا‬ ‫ً‬
‫رجًّل مديد القامة‪ ،‬يرتدي قمي ً‬ ‫ثم انتظر ليرى‬
‫وأعلن الشخص‪:‬‬
‫ي‪ ،‬وهو اختصار لكلمة هيجنز‪ ،‬أود أن أكون في عربتك‪.‬‬
‫‪ -‬اسمي هيج‪ ،‬أو هذا ما يطلقونه عل َّ‬
‫قد تكون السيدة قد أخبرتك بذلك كله‪.‬‬
‫ضا؛ إذ إنه ليس كبير السن‪ ،‬ولكنه‬
‫وقد كانت السيدة على حق حينما ذكرت أن وجهه كان منقب ً‬
‫فقد أسنانه‪ ،‬األمر الذي سهل عليه تحريك فكيه وأنفه الرفيع‪ ،‬وكانت العينان تبدوان مزدحمتين‬
‫ضا بالمعاني الكامنة تحت الحاجبين‪ ،‬وقد الحظ فيرمان أن الطيبة تبدو على محياه‪ ،‬كما لو‬
‫أي ً‬
‫كانت الطبيعة قد حاولت رسم خطوط الطيبة وحسن الخلق عليه‪.‬‬
‫وقال الرجل‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أرغب في الذهاب‪ ..‬امنحني مكانًا لكي أضع رأسي عليه‪ ،‬أي مكان قديم‪ ،‬وبعض‬
‫الدريهمات لتغذيتي‪ ،‬وسأكون أنا تابعك‪ .‬كيف حالك يا بني؟‬
‫‪ -‬هل أنت ذو خبرة؟‬
‫‪ -‬إن أي رجل ال يصل إلى عمري من غير أن يتعلم ويعرف‪.‬‬
‫‪ -‬أعني هل تستطيع أن تدير حظيرة؟ وتدفع عربة؟ أو تتقدم للمعونة إذا ُ‬
‫ط ِلبَت منك؟‬
‫صغيرا وعديم الخبرة من الخارج‪ ،‬ولكني قد بلغت درجة‬
‫ً‬ ‫‪ -‬بالتأكيد يا سيدي‪ ،‬إنني قد أبدو‬
‫كبيرة من النضج من الداخل‪.‬‬
‫‪ -‬ما هدفك من النضج؟‬
‫‪ -‬ال أعرف ذلك معرفة تامة‪ ،‬وإنما أرغب في الذهاب إلى مكان لم أذهب إليه من قبل‪.‬‬
‫وكان هذا هو سبب الغالبية نفسه‪ ،‬وهو ما عبر عنه فيرمان‪ ،‬لذلك سأله‪:‬‬
‫‪ -‬ما عمرك؟‬
‫‪ -‬هذا ما ال أعرفه‪ ،‬وقد اعتاد والدي أن يقول‪ :‬إنني أصغر من أن أموت‪ ،‬وأكبر من أن أرضع‪.‬‬
‫وظهرت عًّلمة الرضا على الوجه المنكمش‪ ،‬عًّلمة قد تتسع إذا وجدت لها مخر ًجا‪.‬‬
‫‪ -‬إن الرجل الذي آخذه معي يجب أال يخشى العمل‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أقول لك كم أحبه‪ ،‬ولكني أبذل الكثير من أجل العثور عليه‪ ،‬بشرط أال يقتلني!‬
‫وقد أخبرك في الوقت نفسه بأنني أرغب في الفكاهة‪.‬‬
‫وتساءل وهو ينظر بعينين ثابتتين إلى فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬إنك سوف تحتاج إلى الفكاهة حينما تجد نفسك تأكل «بوشل» من التراب‪ ،‬وتجد امرأتك‬
‫تسألك كيف الحال‪ ،‬وبأنك تفقد عقلك ورأسك من أجل أوريجون‪.‬‬
‫‪ -‬من أين جئت؟‬
‫‪ -‬اآلن أو من قبل؟‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬االثنان معًا‪.‬‬
‫‪ -‬اآلن من بيتسبرج‪ ،‬وويلنج‪ ،‬ولويزفيل‪ ،‬وما بينها‪ .‬أما من قبل فقد أتيت من هنا ‪-‬ميسوري‪.‬‬
‫‪ -‬هذا عمل جدي‪ ،‬يجب أن تظل هادئًا ومتزنًا‪.‬‬
‫أمرا شاقًّا بالنسبة لي‪ ،‬سواء في اإلقامة أو الشراب‪ ،‬فإنني ال أتناول شرابًا‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ليس ً‬
‫وظل فيرمان يقلب األمر من جميع زواياه‪ ،‬ويفحص بعينيه الرجل مبتدئًا بجبهته التي تتسم‬
‫بالطيبة‪ ،‬إلى الوجه المنكمش‪ ،‬ثم إلى بقية الجسد‪ ،‬والقدمين اللتين تنتعًّلن حذاء قدي ًما ذا رقبة‪.‬‬
‫لقد كان يحتاج حقيقة إلى رجل آخر‪ ،‬وفي الوقت الذي كان يتأمل فيه هيجنز‪ ،‬انبرى هذا األخير‬
‫ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫ضا وضع األشياء‪ ،‬وأن أعالج البنادق والمدافع‪ ،‬وأصلح العجًّلت‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أستطيع أن أحدد أي ً‬
‫هل ترى اآلن؟‬
‫وانتظر‪ ...‬وحينما لم يرد فيرمان على الفور‪ ،‬أخرج يديه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ا نظر إليهما‪ ،‬إنهما تشبهان المخالب‪ ،‬إنني نحيف‪ ،‬ولكني قوي مثل الشوك الذي يعلو ظهر‬
‫القنفذ‪ ،‬إنني ال أطالب بأي شيء سوى أن أذهب معكم وأساعدكم‪ ،‬وأتناول غذائي من وعائكم‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫وانحنى هيجنز إلى تود وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نكون نحن االثنين فريقًا‪ ،‬أليس كذلك يا صغيري؟ سوف ننشر الفكاهة والضحك‪.‬‬
‫وشعر فيرمان بأن يد تود قد ازدادت شدة في يده‪ ،‬فنظر إلى أسفل‪ ،‬ورأى الصبي يبتسم ويخبر‬
‫هيجنز‪:‬‬
‫‪ -‬اسمي تود‪ ،‬وعندي حصان‪.‬‬
‫فقال هيج‪:‬‬
‫‪ -‬تود‪ ..‬أليس كذلك؟‬
‫ثم رفع رأسه إلى فيرمان وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫رجًّل معك‪.‬‬ ‫‪ -‬إذا كان األمر يسير هكذا يا سيدي‪ ،‬فإنك قد استخدمت‬
‫وقال فيرمان‪ ،‬وهو ال يرغب في التقيد وااللتزام بشيء بعد‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬إنني كنت ذاهبًا لمراقبة بعض البغال‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أجرها إذا لم يكن عندك أي اعتراض‪.‬‬
‫ووصل هيج إلى مكان تود وتناول يده‪ ،‬وظل فيرمان يفكر ً‬
‫قليًّل من غير أن يستطيع فعل أي‬
‫ً‬
‫رجًّل‪.‬‬ ‫شيء‪ ،‬وأصبح من المحقق أنه استأجر أو استخدم‬
‫سيجارا‪ ،‬وهو ينظر من خًّلل الدخان‬
‫ً‬ ‫وكان تاجر البغال يقف بجانب أعمدة «السور» يدخن‬
‫ً‬
‫رجًّل ناع ًما يرتدي الياقات المستديرة ويلوك السيجار في فمه‬ ‫إلى الحيوانات في الداخل‪ ،‬وكان‬
‫صغيرا في منطقته‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الكبير‪ ،‬وكان يحمل سيفًا‬
‫‪ -‬إنني أعتقد أنكم ترغبون في شراء بعض البغال‪ ،‬هل ترغبون في ذلك؟‬
‫‪ -‬أعتقد أنني أرغب‪.‬‬
‫‪ -‬عندي بعض منها ال تستطيعون العثور عليه‪.‬‬
‫وقال هيج‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا هو الكتاب المقدس‪ ...‬أراهن على ذلك‪.‬‬
‫فنظر إليه الرجل بحدة‪ ،‬ثم استمر في حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬خذ هذا النوع غير العادي الضخم الواقف هناك‪.‬‬
‫ثم أشار بسيجاره الضخم‪:‬‬
‫‪ -‬س وف يأخذك إلى المكان الذي ترغب فيه‪ ،‬ثم يعيدك منه‪ ،‬وهو يخضع التجاهات الغالبية‬
‫وي سير في ركابها‪ ،‬وقدماه ثابتتان‪ ،‬ويستطيع أن يدور حول نفسه داخل عش الدجاج وال‬
‫يتعرض ألي بيضة بالكسر‪.‬‬
‫ثم نفخ الرجل في سيجاره‪ ،‬كما لو كان يريد إثارة الرياح‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن اسمي توليتي‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا فيرمان‪ ،‬وهذا هيجنز‪.‬‬
‫‪ -‬غرباء‪ ...‬ألستما كذلك؟‬
‫‪ -‬إنني لم أ كن هنا منذ مدة طويلة‪.‬‬
‫وقال توليتي‪:‬‬
‫‪ -‬و أنا كذلك‪ ،‬ولكني هنا منذ فترة تكفي إلقامة تجارة من أجل أوريجون‪ ،‬إنك تنوي الذهاب إلى‬
‫أوريجون‪ ،‬أعتقد ذلك‪ ،‬إنها بلد جميل‪.‬‬
‫وقال تود‪:‬‬
‫‪ -‬لن أُصاب بالحمى بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬هذا حسن‪ .‬لعنة هللا على الحمى وما تتسبب فيه من آالم وهزات‪ .‬واآلن ماذا عن البغال؟‬
‫ثم سار إلى الحاجز ورفع الحواجز التي تغلق البوابة‪ ،‬وأخذ ينظر إلى رجل قفز إلى ظهر جواد‬
‫واستقر مدة دقيقة‪ ،‬ثم بدأ يتأرجح على «السرج»‪ ،‬ثم سأله توليتي وهو يحمل حاجز الباب في‬
‫يده‪:‬‬
‫‪ -‬هل تبحث عن بغال؟‬
‫فأجابه الرجل‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أسعى إليجاد بعضها‪ ،‬وقد أخبرني جاري بأن أبحث له عن بعض األنواع الممتازة‪.‬‬
‫ثم نزع قبعته وأخذ يمر بيده على رأسه التي يكسوها شعر فضي اللون‪ ،‬وكانت جميع حركاته‬
‫وكلماته مقصودة وسهلة‪ ،‬كما لو كان قد عاش فترة طويلة كافية للشعور بأن وطنه في أي بقعة‬
‫من بقاع العالم‪.‬‬
‫فقال توليتي‪:‬‬
‫‪ -‬إنك على حق‪ -‬عندي بعض األصناف الممتازة سوف أقدمها إليك مباشرة‪.‬‬
‫ثم تحول إلى فيرمان وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أقدم لك واحدة أو اثنتي عشرة منها‪ ،‬هناك بغل ضخم يستطيع أن يسير بنفسه من‬
‫غير أي رقابة‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أريد فقط األنواع التي يمكن امتطاؤها؛ ألني سوف أشتري بعض الثيران للعربات‪.‬‬
‫‪ -‬ألم تشترها بعد‪ ..‬آه؟‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بعد؛ إذ إنني كنت أجوب السوق لشراء بعض الماشية أي ً‬
‫وهنا قال توليتي‪ ،‬وهو يشير بسيجاره‪:‬‬
‫‪ -‬دعني اآلن أخبرك بشيء‪ ،‬إنني أبيع البغال والثيران معًا‪ ،‬حتى ولو لم يكن عندي ثيران في‬
‫الوقت الحاضر‪ ،‬وإذا كنت سأذهب إلى أوريجون فإني سوف أذهب راكبًا ً‬
‫بغًّل‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪ -‬أل ن البغل أسرع وأكثر بهجة‪ ،‬وأسهل قيادة‪ ،‬وأفضل من جميع األوجه‪ ،‬ومن األفضل الجلوس‬
‫ضا‪.‬‬
‫عليه أي ً‬
‫فقال هيج‪ ،‬وهو يبتسم ابتسامته الرقيقة‪:‬‬
‫‪ -‬زيادة في الرياح وأقل في المطر‪.‬‬
‫واستمر توليتي يتحدث على الرغم من هذه المقاطعة‪:‬‬
‫‪ -‬إن أي ثور سوف يخدم غرضه على أحسن حال‪ ،‬ولكن حينما يتعب ويرقد فوق األرض‪،‬‬
‫فلن يستطيع أي إنسان أن يجعله ينهض ولو بحزمة من العشب الجاف‪.‬‬
‫وهز تود يد والده فيرمان‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أريد البغل الكبير يا والدي‪.‬‬
‫‪ -‬ليست هذه هي طريقة الكًّلم يا تود‪.‬‬
‫وقال توليتي‪:‬‬
‫‪ -‬قل لي‪ ..‬كيف تلتقط األشياء؟ وأين سمعت ذلك؟‬
‫ثم سأله فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬ما المبلغ الذي تطلبه؟‬
‫دوالرا للواحد‪ ،‬وخمسة وسبعون لًّلثنين‪ ،‬واختر ما تشاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬أربعون‬
‫‪ -‬هذا يكفي‪.‬‬
‫‪ -‬رخيص‪ ..‬رخيص مثل التراب‪.‬‬
‫ثم دخل هيجز في المناقشة مرة ثانية‪:‬‬
‫‪ -‬من أين أتيت؟ إن هذا التراب غال وعزيز‪.‬‬
‫ولكن توليتي اكتفى بالنظر إليه حين سأله فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬وهل ستأخذ معك ً‬
‫بغاال؟‬
‫‪ -‬ت ستطيع أن تمتطي صهوة بغل‪ ،‬أو تحمله ما ال تستطيع أن تفعله مع الثور‪ .‬وسوف يأتي‬
‫الوقت الذي تجد نفسك فيه محا ً‬
‫طا بالهنود‪ ،‬فماذا تفعل بالثور البطيء؟‬
‫‪ -‬ألم تسافر في عربة؟‬
‫‪ -‬ال‪ .‬ولم أفقد أي شيء مني‪ ،‬ولكني أعرف اللحم الطيب معرفة تامة‪.‬‬
‫‪ -‬نصيحتك ليست هي ما أرمي إليه‪.‬‬
‫‪ -‬سوف يخبرك الناس بأي شيء‪.‬‬
‫ووضع الرجل قدمه على عارضة الحاجز‪ ،‬ومد يده وبها اللجام الذي أخذ يلوح به‪ ،‬ولم يكن‬
‫نحيفًا أو سمينًا كما كان فيرمان يعتقد‪ ،‬ولكنه كان مليئًا بالعضًّلت‪ ،‬وكان وجهه صار ًما‪ ،‬ولكنه‬
‫هادئ كما لو كان يعرف الصعوبات والصبر‪ .‬وتساءل فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقول يا سيدي؟‬
‫‪ -‬إنها ليست صفقتي‪.‬‬
‫ثم وجه الرجل كًّلمه إلى توليتي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ما هو شعور الهنود تجاه البغال؟‬
‫فأجاب توليتي بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم يشعرون بالجنون والرغبة الشديدة مثل أي شخص آخر‪.‬‬
‫وهز الرجل رأسه بهدوء‪ ،‬كما لو كان قد أوضح نقطة هامة‪ ،‬ثم نظر إلى اللجام في يده‪ .‬وفتح‬
‫توليتي فمه كما لو كان قد تذكر فجأة شيئًا تركه‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يفصح عنه‪.‬‬
‫وهنا قال هيج‪:‬‬
‫‪ -‬إن ما يميل إليه الهنود هو السرقة‪.‬‬
‫ثم رفع الرجل رأسه‪ ،‬وكانت عًّلمات اإليجابية تبدو على فيه‪ ،‬ولكن عينيه كانتا مسمرتين‪.‬‬
‫وأدار توليتي رأسه متوج ًها إلى الرجل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫طويًّل‪.‬‬ ‫‪ -‬إن لك أنفًا حادًّا‬
‫فتدخل فيرمان ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫ً‬
‫سؤاال سوف يجيب عنه‪ .‬هل تعني أن الهنود يسرقون البغال فقط‪ ،‬وال‬ ‫‪ -‬انتظر‪ .‬لقد سألته‬
‫يسرقون الثيران؟‬
‫‪ -‬ربما‪.‬‬
‫وحاول توليتي أن يزيح الرجل جانبًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪ -‬اترك السيد يشتري ما يريده‪ ،‬إن هذه المسألة ليست من شأنك‪.‬‬
‫وكان الرجل يبدو هادئًا وهو يضرب اللجام في راحة يده‪ ،‬وحينما تحدث مرة أخرى ظل هادئًا‪.‬‬
‫‪ -‬هذا البغل الكبير الواقف هناك‪ ..‬يبدو أنه كان مل ًكا لتوم بروكتور‪ .‬وكان توم قد اعترف بأنه‬
‫أقوى حيوان شاهده‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما كنت أقوله لهم منذ لحظة‪.‬‬
‫واستمر الرجل يقول‪:‬‬
‫‪ -‬نعم يا سيدي‪ ،‬لقد قال توم إن البغل يحدد هدفه‪ ،‬ثم يدفع قدمه في وجه الرجل الذي يريده‪ ،‬ثم‬
‫يحطم ما يريده‪ ،‬حتى ولو كانت األسنان‪ ،‬وال يخطئ الهدف نفسه‪.‬‬
‫وقال هيج‪:‬‬
‫‪ -‬ه ذا هو ما أقوله من أن قدمه ثابتة مؤكدة‪ ،‬وأراهن أنه يستطيع أن يطيح بأسناني لو رغب‬
‫في ذلك برفسة واحدة‪.‬‬
‫فصاح توليتي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫ي إذا لم أركبه‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا ال تبتعد أنت ‪ -‬لعنة هللا عل َّ‬
‫ثم أخذ يعدو نحو البوابة وقد صمم على شيء‪.‬‬
‫وظل الرجل واقفًا في هدوء‪ ،‬في حين بقيت قدمه على الحاجز ويده على ركبته‪ .‬وكان فيرمان‬
‫يتعجب مما إذا كان قد سبق له مشاهدة الخنجر الذي يتمنطقه توليتي ً‬
‫أوال‪ ..‬وكل ما استطاع أن‬
‫يقوله هو‪:‬‬
‫‪ً -‬‬
‫مهًّل أيها الضيف العزيز‪.‬‬
‫وتوقف توليتي‪ ،‬مثل الكلب الذي اندفع إلى الخارج بسبب ثورة عارمة‪ ،‬ويرغب في حسم‬
‫الموقف في آخر لحظة‪ ،‬وقد بدأت لهجة الجد تظهر على صوت توليتي حين قال‪:‬‬
‫‪ -‬ألست راغبًا في شراء أي شيء؟ ليس عندكم هنا أي عمل شريف جاد؟‬
‫فقال الرجل‪ ،‬وهو ينتزع قدمه من فوق الحاجز متج ًها إلى جواده‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن هذا صحيح‪.‬‬
‫‪ -‬ما اسمك؟‬
‫فأجاب «هيج» موج ًها كًّلمه إلى توليتي‪:‬‬
‫‪ -‬ربما أولد هيكوري‪ ،‬أو ربما أندي جاكسون بشخصه نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬اسمي ديك سمرز‪.‬‬
‫وكرر فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬ديك سمرز؟‬
‫فأجاب الرجل وهو يحرك رجله فوق الحصان‪ ،‬في حين ظل ساكنًا فترة دقيقة واحة‪ ،‬ثم أخذ‬
‫ينظر إلى الجميع من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم‪ ،‬من توليتي بسيجاره الضخم إلى هيج ثم‬
‫فيرمان وتود‪ ،‬ثم استدار بجواده‪.‬‬
‫وكان فيرمان يرغب في مناداته لسؤاله عما إذا كان هو نفسه رجل الجبال‪ ،‬وعما إذا كان‬
‫يرغب في أن يصبح مرشدًا للفريق الذي سوف يذهب إلى أوريجون‪ .‬ولكنه ظل صامتًا في‬
‫الوقت الذي كان الحصان فيه يشق طريقه باندفاع؛ ألنه كان يعرف أنه سوف يرى الرجل‬
‫الثاني الذي سوف ينتقل معه في رحلته‪.‬‬
***
‫الفصل الثالث‬
‫جلس ديك سمرز فوق جذع شجرة مقطوع وأخذ يدخن غليونه‪ ،‬وكانت األيام تبدو أطول مما‬
‫سبق‪ ،‬وكان الغسق قد بدأ ينشر ظًّلله بين األشجار‪ ،‬وكانت المرأة قد أضاءت النور في الكوخ‪،‬‬
‫والتصق بالجذع وهو يعرف أنه يجب أن يذهب ليحضر البقرة ويتولى حلبها؛ بعد أن عرف‬
‫أنه ال يوجد أي شخص آخر يتولى هذا العمل‪ ،‬وظل ساكنًا في مكانه يدخن غليونه‪.‬‬
‫وكانت الضفادع تقفز خارجة من المستنقع الضئيل الذي يتكون من مجرى المياه الصغير الذي‬
‫يأتي من شق صغير‪ ،‬وكانت رائحة الربيع وهواؤه الجميل ينتشران في كل مكان‪ ،‬وكان شكل‬
‫األشجار يوحي بمجيء الصيف‪ ،‬وقد أخرجت البراعم زهورها‪ ،‬وأخذت أوراق أشجار‬
‫الفراولة تهتز لمرور نسمات من الهواء العليل‪ .‬ولكن يجب عليه أن يذهب اآلن لحلب البقرة‪.‬‬
‫وهناك بعيدًا على طول سهل «بًّلت» أو «جرين ريفر» أو «بوبو آجي» أو «ثري فوركس»‬
‫أي الشركات الثًّلث‪ ،‬في الشمال يوجد الصيادون ‪-‬أو ما تبقى منهم‪ -‬ينصبون المصائد‬
‫ويجمعون صيدهم ويعدون أيامهم حتى يوم اللقاء‪ ،‬إال في حالة عدم وجود لقاء‪ ،‬وحيث توجد‬
‫قلعة «جيم بريجدر»‪.‬‬
‫وتحرك رجل من الكوخ‪ ،‬فشاهد فيه «سمرز» جاره «ليجي إيفانز» الذي قر رأيه على الذهاب‬
‫إلى أوريجون‪ ،‬وهو يرغب اآلن في أن يوافق الجميع على الذهاب‪.‬‬
‫وتساءل إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل لك رغبة في مصاحبتنا؟‬
‫ووقف بجسده الكبير على األرض‪ ،‬وقدم إلى سمرز زجاجة خضراء كان يعرف أنه قد‬
‫أحضرها له وشربا منها‪ ،‬ثم عادا إلى غليونيهما‪ ،‬وبعد فترة قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنها تخلق منا جسدًا شفافًا يا ديك‪.‬‬
‫فهز سمرز برأسه‪ ،‬وهو ال يتكلم‪ ،‬وإنما ترك الكحول يدفئ معدته‪ ،‬في حين ظل يفكر في البًّلد‬
‫عا‪ .‬ولكن منذ متى؟ في الفترة ما بين عامي ألف‬ ‫الجميلة التي قال لها في يوم من األيام ودا ً‬
‫وثمانمائة وسبعة وثًّلثين‪ ،‬وألف وثمانمائة وخمسة وأربعين‪ ،‬ثمانية أعوام‪ ،‬ولكنها كانت تبدو‬
‫كما لو كانت ممتدة إلى األبد‪ .‬وكان يعجب في بعض األحيان من األعشاب الوحشية التي تنمو‬
‫وسط الجبال بلونها األزرق‪ ،‬ومن الثيران واألبقار الوحشية التي تثير أصواتًا كالرعد وهي‬
‫تركض‪.‬‬
‫كان قد ودعها‪ ،‬وعاد إلى ميسوري للفًّلحة‪ ،‬واستطاع أن يشتري لنفسه مجموعة من البغال‪،‬‬
‫وأن يبني لنفسه كو ًخا‪ ،‬وأن يتزوج امرأة بيضاء‪ ،‬وأن يستقر لزراعة القمح والذرة والطباق‬
‫والخضراوات وتربية الخنازير‪ .‬وكان يعتبر الحياة القديمة كما لو كانت حركة شاذة وسط نغم‬
‫متناسق‪ ،‬كما يستطيع أن يتذكر ‪-‬إال في بعض الحاالت‪ -‬حينما يرى ببصيرته أن الشمس تشق‬
‫نارا تسقط خلف الجبال‪ .‬وكان يرى‬
‫طريقها فوق حافة العالم‪ ،‬وتكتسح طريقها كما لو كانت ً‬
‫عا جميلة‪ ،‬ويسمع أصوات عجًّلت العربات وهي تخوض المياه‪،‬‬ ‫في العادة وراء الشمس بقا ً‬
‫ويسمع الطلقات واألصوات في هذه البقاع‪ ،‬ثم السكون الشامل الذي يجعلك تظن أنه ال توجد‬
‫حياة‪.‬‬
‫وقد يرى قرية هندية أو نساء الهنود الحمر وهن يلتففن في عباءات حمراء‪ ،‬أو امرأة صغيرة‬
‫كاملة النمو‪ ،‬أو شابًّا تشعر في نظراته بالتحدي‪ ،‬كما لو كان يقول لك نعم ‪ -‬الليلة‪ -‬في حين‬
‫يخبر الزعيم بأن قلب األخ األبيض طيب‪ ،‬وهو يتكلم بنغمة واحدة‪ .‬وقد يرى أصدقاء مثل‬
‫«جيد سميث» أو «ديف جاكسون» أو «جيم ديكنز» الذين ماتوا جميعًا‪ .‬والتيتون العظيم الذي‬
‫يظهر فقط من بحيرة جاكسون‪ ،‬ثم رائحة روث الخنازير التي تزكم األنوف‪ ،‬أو قد يرى جاك‬
‫‪-‬البغل العجوز‪ -‬وهو يصهل‪ ،‬ويعرف أنه ال شيء سوى «ركوبة» يمتطيها الفًّلح لقضاء‬
‫حاجاته‪.‬‬
‫وقال إيفانز بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬ألم يقر رأيك بعد على ما سوف تفعله يا ديك؟‬
‫فهز سمرز رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن أسألك ً‬
‫أوال‪ ،‬إن الوقت ليس مناسبًا للتخمين‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أتساءل فقط ‪-‬ما لم يظهر الوقت لي الحقيقة‪ -‬يجب أن نعرف كل شيء قبل مرور الوقت‪.‬‬
‫ثم تناول سمرز القنينة من إيفانز وشرب مرة أخرى‪ ،‬وضحك بصوت عال‪ ،‬ونظر إلى أعلى‬
‫حيث توجد سويت ووتر (المياه العذبة) ونحو سوذرن باس (الممر الجنوبي)‪ ،‬وإلى األسفل‬
‫حيث سانديز‪ ،‬ثم جرين؛ لكي يرى الماعز البري أو «التيوس» كما اعتاد الناس تسميتها في‬
‫ذلك الحين‪ ،‬وكذلك «التيوس» الصغيرة التي تمرح وتقفز هنا وهناك‪ .‬وابتعدت الشمس وحل‬
‫الليل وانطفأت النيران‪ ،‬وبدأت الذئاب تجوب التًّلل تنير لها النجوم طريقها‪ ،‬وكانت هناك‬
‫رائحة دخان شجر الورد تعبق الجو وتدخل األنوف‪ ..‬يجب أن يذهب لحلب البقرة‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬ولكنه قال‪:‬‬ ‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬كما لو كان قد الحظ الدخان أي ً‬ ‫سا‬
‫وأخذ إيفانز نف ً‬
‫‪ -‬يا لها من أشجار‪ ...‬إن رائحتها ذكية لطيفة‪.‬‬
‫ويفكر اإلنسان في شيء واحد هو األشياء التي سبق أن فقدها فيما مضى‪ ،‬كما يفكر دائ ًما في‬
‫«حفرة جاكسون» وفي «جبال الرياح»‪ ،‬وكذلك نساء الهنود الحمر الًّلئي شاهدهن حينما‬
‫ضا إلى التفكير في األبقار الموجودة في سهول‬ ‫كانت الدماء حارة في جسده‪ ،‬وكان يميل أي ً‬
‫«الرامي»‪ ،‬وفي المسيح كما لو كان معه في األزمنة الغابرة‪ ،‬ثم تذكر صديقه «وايت هوك»‬
‫(الصقر األبيض) رئيس الشوشون‪ ،‬وكذلك جداول المياه التي تجري بسرعة وصفاء‪ ،‬وكذلك‬
‫الحية البيضاء السامة التي تكمن دائ ًما في عثرات الطريق‪.‬‬
‫وقال إيفانز‪:‬‬
‫كثيرا يا ديك‪.‬‬
‫‪ -‬إن تادلوك مرتبط بموعد وينتظر منك جوابًا‪ ،‬وال يمكن أن ألومه اآلن ً‬
‫ضا يا ليجي؟ إنك ال تترك أي شيء‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا أنت ذاهب أي ً‬
‫‪ -‬لقد أخبرتك‪ .‬يجب أن نستولي على أريجون يا ديك‪ ،‬وإنني أشعر بأني ملزم بتقديم العون‪.‬‬
‫‪ -‬ليس هذا كل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬لم يسبق لي الذهاب إلى هناك‪ ،‬ولكني هناك‪ ،‬ولست مقتنعًا بأن أعمل لكي أ ُبقي على أودي‬
‫ما دمت أستطيع أن أعمل أكثر‪ ..‬يجب أن تكون هناك وسيلة للعيش أفضل من ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫كسوال في يوم من األيام‪.‬‬ ‫‪ -‬إنني لم أتصورك‬
‫‪ -‬ربما‪ ..‬ولكن ال يوجد مجال كاف هنا في ميسوري‪.‬‬
‫فأومأ سمرز برأسه‪ ،‬وقال إيفانز ‪:‬‬
‫‪ -‬إ نه في الجو يا ديك مثل الحمى التي تحوم حول المستنقع‪ ،‬إن براوني يرغب في الذهاب‪،‬‬
‫يرا لكي‬
‫ضا‪ ،‬وما ترغب فيه ربيكا‪ ،‬فما الموقف اآلن؟ إنني ال أهتم كث ً‬
‫وهذا ما أرغب فيه أي ً‬
‫أسأل نفسي عن السبب‪ ،‬ولكني سوف أكتفي بالذهاب‪.‬‬
‫وهيأ سمرز نفسه كما لو كان يستعد للذهاب‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أذهب لحلب البقرة‪.‬‬
‫فرد عليه إيفانز بصوت أجش‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تحلب البقرة؟ اجلس يا رجل!‪ ..‬براوني! أهًّل يا براوني‪.‬‬
‫صا يأتي من اتجاه الكوخ‪ ،‬وجاء براوني يجري‪ ،‬وكان‬ ‫وكان سمرز قد استطاع أن يرى شخ ً‬
‫صبيًّا ال يبدو منه سوى ذراعين وساقين ورقبة‪ ،‬على الرغم من أنه كان يظن أنه رجل‪ ،‬ولكنه‬
‫لم يكن يبدو أنه قد وصل إلى هذه المرحلة‪ ،‬وصاح الغًّلم ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا والدي؟‬
‫‪ -‬لقد نسينا أمر البقرة‪ ،‬لقد قامت والدتك وبعض النسوة األخريات بعمل الًّلزم‪ ،‬خذ لنفسك د ًلوا‬
‫جردال» واذهب لتحلب بقرة ديك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫«‬
‫فدق الغًّلم األرض بقدمه‪ ،‬وقال سمرز موج ًها حديثه إلى إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬اتركه‪ ..‬إن الرجل ال يميل إلى القيام بأعمال النساء‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ليس ً‬
‫عمًّل عاديًّا يا براوني؛ ألنه ال يوجد أي عمل تافه‪ .‬اذهب يا بني‪.‬‬
‫فرد الغًّلم بصوت جاف مفاجئ مثل العجل الذي يتحول إلى ثور‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫وقد هزه هذا الصوت الذي لم يكن يتوقعه‪ ،‬فأطلق لساقيه الريح متج ًها إلى الكابين‪.‬‬
‫وتساءل سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬كم عمره اآلن؟‬
‫ً‬
‫طواال‪.‬‬ ‫‪ -‬سبعة عشر عا ًما‬
‫‪ -‬ال يبدو أنه قد بلغ هذا العمر‪.‬‬
‫‪ -‬ألنه كان ينمو ببطء بسبب الجو والغذاء‪ ،‬ولكنه سوف يتغير‪.‬‬
‫‪ -‬إنه غًّلم طيب‪.‬‬
‫وأعلن سمرز عن سروره إلى إيفانز‪ ،‬فرد عليه إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إ نني أدين بجزء من سبب ذهابي إليه هو نفسه‪ ،‬إنني أود أن يعرف الكثير غير الزراعة‬
‫واألشجار والقنافذ‪ ،‬أو الموت‪.‬‬
‫ثم عاد االثنان إلى الشراب‪ ،‬وبعد ذلك سأل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬هل هي رحلة شاقة وقاتلة يا ديك؟‬
‫‪ -‬إنها سهلة بالقدم أو بالخيل‪ ،‬ولكني ال أعرف ما هي بالنسبة للعربات؛ إذ إنني اعتدت التفكير‬
‫بأن العربة ال تستطيع أن تذهب إلى أبعد من «جرين»‪ ،‬ولكن بعض العربات استطاعت ذلك‪.‬‬
‫فقال إيفانز وهو يغير من وضعه فوق األرض‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أال أثقل عليك بأسئلتي‪ ..‬هل هناك أي شيء أستطيع أن أفعله لك؟‬
‫‪ -‬ال أعتقد ذلك‪.‬‬
‫ال يتيح الناس عادة ألي إنسان أن يقوم شخص مكلوم وحزين بعمل أي شيء لنفسه‪ ،‬فهم‬
‫يحضرون له الخبز واللحم‪ ،‬وقد يساعدونه في دق نعش الذي تُوفي له وحفر قبره وتوسيد‬
‫الجسد الميت في حفرة القبر‪ ،‬ثم يبقى الجميع محيطين به‪ ،‬الرجال يدخنون ويمضغون‬
‫ويتحدثون عن الخنازير والمحصوالت‪ ،‬في حين تتحدث النسوة حديث النساء‪ ،‬حتى يرقد الجسد‬
‫على األرض ويُوارى التراب‪ ،‬وقد يحاولون بناء مقبرة؛ لكي تغلق بإحكام على الجسد بعيدًا‬
‫عن الجو والحيوانات والحشرات‪.‬‬
‫وتحدث إيفانز فقال‪:‬‬
‫شعورا قويًّا ألمريكا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إن تادلوك رجل طيب الخلق‪ ،‬نال قس ً‬
‫طا من التعليم أكثر من غيره‪ ،‬ويكن‬
‫إنه الرجل الذي ارتضاه هللا ليكون قائدًا لهذه الصحبة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا قلت عن مكان مجيئه؟‬
‫‪ -‬لقد أتى من إلينوي‪ -‬ريف نهر إلينوي‪ -‬ولكني ال أعتقد أنه فًّلح‪ ،‬إنه يبدو موظفًا‪ ،‬وقد رأيته‬
‫هذا الصباح في المدينة‪ ،‬وأخبرته بأن يحضر‪ ،‬وقد يأتي‪ ..‬إنه رجل صلب الرأس‪.‬‬
‫ولم يجب سمرز على ذلك؛ ألنه لم يكن متيقنًا مما سوف يفعله مع تادلوك‪ ،‬ولم يرغب في أن‬
‫يلتزم بأي التزام على الفور‪ .‬وبعد فترة من السكون سأل إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل ترغب في إلقاء نظرة‪ ،‬إن الناس يرغبون في أن تقوم بإلقاء نظرة‪.‬‬
‫وأدار برأسه ناحية الكوخ‪.‬‬
‫فقال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫ولكنه لم ينهض‪ ،‬ولم يرغب في أن ينهض بعد‪ .‬وكان يشعر بالحزن أو بشيء من الحزن‪ ،‬كما‬
‫كان يعرف أن الصغار هم الذين يواجهون الموت بخيبة أمل؛ ألنهم ال يتوقعون من هللا القادر‬
‫أن ينفذ مشيئته هكذا‪.‬‬
‫أما الرجال فإنهم يتلقون الخسائر والمصائب كما تأتي‪ ،‬والرجل الذي يبلغ الخمسين من العمر‪،‬‬
‫يشعر بذلك ويتذكر الوداع القديم‪.‬‬
‫هذا يوضح كيف ودع امرأته التي لم تكن في حالة طيبة منذ عرفها‪ ،‬وإنما كانت دائمة االصفرار‬
‫شاحبة الوجه‪ ،‬مصابة بالحمى‪ ،‬وتقرب من الموت‪ ،‬وبخاصة حينما كانت تضع ابنها منه‪.‬‬
‫وعلى الرغم من كل ذلك‪ ،‬فقد كانت سيدة فاضلة‪ ،‬ولكنها لم تكن حسنة المظهر أو لطيفة أو‬
‫ودودًا في الخارج‪ ،‬وإنما كانت صعبة المراس‪ ،‬مجتهدة في عملها‪ ،‬ترغب في أداء األعمال‬
‫الطيبة لزوجها‪ .‬ولو كانت موجودة اآلن لتبعت البقرة في الصباح إليجاد األعشاب الخضراء‬
‫لها‪ ،‬ولم تكن الحمى هي التي قتلتها‪ ،‬ولكن كان يبدو أن قوتها قد هربت منها فجأة‪ ،‬وذهبت إلى‬
‫السرير حيث وافتها منيتها في يومين‪ .‬وكان يعرف أنها سوف تموت حينما كانت تنظر إليه‬
‫قادرا على أن يقول أي شيء لآلخر إال القليل‬
‫بعينين تعكسان لهيب الحمى‪ ،‬ولم يكن أي منهما ً‬
‫التافه مثل‪ :‬ما ألطف الربيع‪ ،‬وإنني مندهش لقيام ليجي إيفانز ببيع مكانه للذهاب إلى أوريجون‪.‬‬
‫ً‬
‫خيوال كبيرة في السن تموت مثل هذه الميتة‪ ،‬رآها تذهب بنفسها وترقد هذه الرقدة‬ ‫لقد رأى‬
‫وتسلم الروح‪ ،‬أو تنظر إليك بأعين بطيئة يائسة‪ ،‬في حين تخرج منها الروح وتختفي معالم‬
‫الحياة منها‪.‬‬
‫لقد كانت امرأة صريحة طيبة القلب‪ ،‬وكان يعتقد أنه يجب أن يشعر بالسوء واألزمة لفقدانها‪،‬‬
‫كما لو كان يشعر أن الطريق لم يكن مناسبًا لها‪ ،‬ويجب عليه أال يفكر في فتيات الهنود الحمر‪،‬‬
‫وفي األيام الخوالي التي قضاها وسط الجبال‪ ،‬ولكنه كان يفكر في بعضهن حينما كانت زوجته‬
‫على قيد الحياة‪ ،‬ولكن موتها شل تفكيره وجعل الحزن يسوده ويظهر عليه‪.‬‬
‫واختلطت المشاعر مثل أي شيء آخر؛ ألنك تشعر بالحزن وتعرف أنك يجب أن تكون حزينًا‬
‫وخفيف الظل في الوقت نفسه‪ ،‬كما هي الحال بالنسبة له اآلن‪ ،‬وكان يشعر في قرارة نفسه بأنه‬
‫حر إذا لم يقم بمراقبة نفسه بنفسه‪ ،‬وكان يبدو كأن العالم قد فتح ذراعيه من جديد وشعر أنه‬
‫حر‪ ،‬وأن الربيع والجبال تهز فيه المشاعر الكامنة بأنه يستطيع أن يرشد القافلة ويقودها إلى‬
‫أوريجون‪ ،‬كما يستطيع أي إنسان آخر أن يفعل‪ .‬وقال في نفسه إنه مجنون كبير‪ ،‬ولكن ال‬
‫يضره ان يفكر في أنه يستطيع أن يبتدئ من جديد‪ ،‬أو أن يعود إلى عادته في األيام الخوالي‬
‫الطيبة‪ .‬وكان حزينًا‪ ،‬ولكنه كان واثقًا ومتأكدًا‪ ،‬وقد شعر برياح الغرب تًّلطم وجهه وشاهد‬
‫زهور «الكاكتوس» تزدهر‪ ،‬لذلك شعر بالسرور والبهجة التي ال يستطيع أن يعبر عنها ألي‬
‫إنسان؛ ألنها كانت كافية في نفسه‪.‬‬
‫كان الليل قد بدأ يرخي سدوله‪ ،‬لذلك لم يستطع أن يرى من بداخل الكوخ‪ ،‬إال حينما تحرك‬
‫رأس عبر النافذة التي يبدو منها الضوء‪ ،‬واستطاع أن يسمع األصوات الصارخة التي تتحدث‬
‫بها النساء في الداخل‪ .‬وفي «الجرن» كانت الخنازير تطلق أصواتًا مخيفة تحدث ضوضاء‬
‫مزعجة‪ ،‬التي يطلق عليها البعض أنها عًّلمة‬
‫العاصفة‪.‬‬
‫وقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أي شي ء آخر‪ ...‬هناك واعظ يتحدث الليلة عند توكر‪ ،‬وقد رغب توكر أن أخبرك بما إذا‬
‫كنت تريده يعظ في الجنازة‪.‬‬
‫‪ -‬لقد تركت كل شيء له‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنه لم يكن يعرف شيئًا عن هذا الواعظ الذي حضر والذي قال عنه توكر إنه من النظاميين‪.‬‬
‫‪ -‬كل إنسان طيب‪ ،‬إنها كانت تريد واع ً‬
‫ظا‪.‬‬
‫ً‬
‫سؤاال‪ ،‬وإنما يتحدث عما يعرفه‪:‬‬ ‫فقال إيفانز‪ ،‬وهو ال يسأل‬
‫‪ -‬جناز في الصباح؟‬
‫فهز سمرز برأسه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هذا أفضل‪.‬‬
‫واستمر سمرز يومئ برأسه‪ ،‬في حين قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ق د يريد الواعظ قطعة من النقود يا ديك‪ ،‬ربما نستطيع أن نغني أغنية‪ ،‬وقد يستطيع هاري‬
‫بارلو أن يقرأ لنا جز ًءا من اإلنجيل‪ ،‬ويصلي‪ ،‬ثم ننهي األمر‪.‬‬
‫‪ -‬د ع الواعظ يحضر يا ليجي‪ ،‬أعتقد أن توكر سوف يستطيع إحضار أحدهم من مدينة إندبندس؛‬
‫إذ استطاع ذلك كما يعتقد‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أخبر توكر بأن هذا سيكون واعظ أوريجون‪ ،‬أو هذا ما أعتقده‪.‬‬
‫ثم وقف سمرز بعيدًا عن جذع الشجرة‪ ،‬وسار مع إيفانز إلى الكوخ وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذا هو الوضع؟ أفضل أن أرى وضع المرأة بنفسي‪.‬‬
‫وظل الرجل صامتًا وهو يسير حول الدائرة نفسها‪ ،‬وأسكتته المرأة وهو يدخل‪ ،‬وتركت له‬
‫جانبًا ليمر وهو يدخل‪ ،‬وكان يبدو عليها الحيوية والنشاط‪ .‬واعتقد في نفسه أنه ال يوجد أي‬
‫شيء مثل الموت يستطيع أن يجعل المرأة تتمسك بالحياة‪ ،‬وكان الجميع يتحدث إليه باإليحاء‬
‫أو بصوت منخفض ‪-‬ما عدا مسز إيفانز‪ -‬وكانوا يعرفون أنهم قلقون حوله‪ ،‬وال يعرفون الكلمات‬
‫التي يستطيعون مواساته بها‪ ،‬واشترك الجميع حول المائدة لتناول الطعام والحلوى‪ ،‬واستطاع‬
‫ووضع في حجرة النوم فوق‬ ‫أن يرى من خًّلل الباب التابوت الذي صنعه ليجي إيفانز‪ُ ،‬‬
‫عارضتين من الخشب كان سمرز يستخدمها في أعمال النجارة‪.‬‬
‫وقالت مسز إيفانز بصوتها الجهوري القوي‪:‬‬
‫‪ -‬بعد أن تلقي نظرة‪ ،‬تقدم لتناول طعامك‪ ..‬على كل فرد أن يتناول طعامه‪ ،‬وأنت اذهب لتناول‬
‫طعامك بصرف النظر عن أي شيء‪.‬‬
‫ثم ذهبت إلى غرفة النوم معه‪ ،‬وكانت تبدو خفيفة في حركتها على الرغم من ثقلها‪ ،‬ثم تناولت‬
‫مصبا ًحا غير نظيف ضعيف الضوء يعكس بعض الظًّلل داخل الحجرة‪ ،‬ثم قربت المصباح‬
‫من الصندوق حتى يستطيع أن يرى‪.‬‬
‫كانوا قد لفوا «ماتي» وصففوا شعرها وأرقدوها داخل الصندوق ويداها فوق صدرها‪ ،‬وكان‬
‫يبدو عليها الموت بسبب الحمى‪ ،‬كما كان سمرز يعتقد‪ ،‬وأخذ ينظر فترة طويلة إليها‪ ،‬وهو‬
‫يسمع صوت تنفس مسز إيفانز التي تقف بجواره منتظرة كلماته‪ .‬لقد شاهد الرداء الجديد‪،‬‬
‫أثرا ً‬
‫قاتًّل على خديها‪ ،‬وأخذ ينعم النظر‬ ‫وشاهد اليدين المنهكتين‪ ،‬وشاهد لون الحمى التي تركت ً‬
‫ضا مما كان يتذكر‪ .‬لقد شعر اآلن بأنه لن يراها مرة أخرى بعد ذلك‪،‬‬
‫في شعرها فوجده أكثر بيا ً‬
‫وكان كل ما تبقى منها هو جسد مس َّجى منكمش وساكن‪ ،‬وحينما يأتي الصباح سوف تذهب‬
‫وسوف يذهب الجميع‪ .‬أما «ماتي» التي أرقدوها في الصندوق فلن تقوم بعد ذلك إال في الذاكرة‬
‫فقط‪.‬‬
‫لقد كانت امرأته التي شاركته في مرقده‪ ،‬وحافظت على بيته‪ ،‬وشاركته في حياته وعمله‪،‬‬
‫وكانت خير زوجة‪ ،‬إن لم تكن أفضلها من جميع الزوايا‪ ،‬لذلك يجب أال يبتعد عما تركته له‪،‬‬
‫ويجب أال ينسى لونها الشاحب وعينيها الغائرتين‪ ،‬ونظرة التعب واإلنهاك التي ظلت تبدو‬
‫عليها دائ ًما‪.‬‬
‫وانتظر دقيقة أخرى ال يلمسها وال يرغب في ذلك‪ ،‬ثم استدار وهو يهز رأسه‪ ،‬ووجه حديثه‬
‫إلى المرأة وهو يخطو تجاه المطبخ‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أشعر باالمتنان لك‪ ،‬وال أستطيع أن أتصور أن هناك من يستطيع القيام بأفضل من ذلك‪.‬‬
‫وأدخل ليجي إيفانز رأسه وهو يقول‪:‬‬
‫ضا‪ ،‬هل تريد أن تتحدث إلى الواعظ؟‬
‫‪ -‬لقد وصل الواعظ يا ديك ومعه تادلوك أي ً‬
‫ولكن سمرز رد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ليست بي حاجة إلى محادثته‪.‬‬
‫ولم يكد يتم حديثه حتى دخل الواعظ‪ ،‬وكان طويل القامة‪ ،‬كبير السن‪ ،‬تبدو الطيبة على محياه‬
‫والفضيلة والبُعد عن الرذائل‪ ،‬وكان يضع على كتفيه معطفًا أسود ال يذهب مع سرواله الحائل‬
‫اللون‪ ،‬وال يتفق معه‪ .‬وثنى الواعظ يديه وتحدث بصوت يأتي من أعماق التاريخ ليطالب‬
‫المخطئين بالعودة إلى المسيح كما اعتقد سمرز‪.‬‬
‫‪« -‬الرب هو الذي يعطي‪ ،‬وهو الذي يمنح»‪.‬‬
‫وتناول سمرز يده من غير أن ينبس بحرف واحد‪ ،‬واستمع إلى الواعظ وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬اسمي ويذربي ‪-‬جوزيف ويذربي‪ -‬يا أخي سمرز‪ ،‬وقد أتيت من أندياني‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫وقال الصوت األجش‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أشعر بأن الرب قد قادني إلى هنا‪ ،‬إلى هذا البيت الحزين‪.‬‬
‫وكانت الكلمات تخرج من فمه منمقة ناضجة‪ ،‬كما لو كانت موجهة إلى الرب‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال تحزن‪ ،‬إن الرب يعمل بطرقه الغامضة الخفية علينا‪.‬‬
‫واضطر سمرز مرة أخرى أن يبتسم‪ ،‬وكان يعرف أن الوعَّاظ ورجال الطب ينتمون إلى‬
‫الوحدة نفسها‪ ،‬وقد ُخلقوا ليعرفوا ما لم يستطع أي إنسان معرفته‪ ،‬إنهم رفاق الروح األعظم‪.‬‬
‫ولكنه ال يبتسم اآلن‪ ،‬بل ظل ينظر إلى العينين الزرقاوين الشاحبتين‪ ،‬وكان يعرف أن ويذربي‬
‫يعتقد فيما قاله‪:‬‬
‫‪ -‬أيها األخ‪ ...‬لقد أخبرني توكر أنك تريد مني أن أتولى قيادة القداس‪.‬‬
‫‪ -‬إذا تفضلتم بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬هل لك في نص تختاره بنفسك‪ ،‬أو اختارته هي بنفسها؟‬
‫‪ -‬ال يوجد كما أتذكر‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أقرأ جز ًءا من سفر التكوين‪.‬‬
‫‪ -‬إذن اختره بنفسك‪.‬‬
‫واهتز الرأس األصلع ثم تحدث‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أخبروني بأنك قد تقوم بإرشاد القافلة إلى أوريجون‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪.‬‬
‫‪ -‬أ ريد أن أذهب‪ ..‬إنني أشعر كأن الرب يناديني إلى األرض الجديدة‪ ،‬ربما ألنقل بركاته إلى‬
‫الذين ال يعرفون حقيقته‪.‬‬
‫صغارا أو لم يتعودوا عليها‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إنها قطعة كبيرة بالنسبة لهم‪ ،‬أولئك الذين لم يعودوا‬
‫‪ -‬إنني أضع ثقتي في الرب‪.‬‬
‫‪ -‬إ نك لن تجد صعوبة في مصاحبتنا‪ ،‬فهناك كثيرون ممن يرغبون في الذهاب من إندبندس إلى‬
‫سانت جو‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عنك أنت؟‬
‫‪ -‬ال يهم حتى إذا كنت سأذهب‪ ،‬فإن المصاحبة لها أحكامها وقواعدها الخاصة‪ ،‬وأعتقد أننا‬
‫سوف نكون مسرورين بوجودك‪.‬‬
‫وهنا قامت مسز إيفانز بجذب سمرز من ذراعه قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬تعال لتتناول طعامك‪.‬‬
‫فأجاب‪:‬‬
‫‪ -‬ربما من األفضل أن أرى تادلوك‪ ،‬سوف أعود في لحظة‪.‬‬
‫وكان تادلوك يقف خلف الباب‪ ،‬وحينما شاهد سمرز وجه إليه حديثه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬نود أن نتحادث معك لفترة دقيقة واحدة‪ ،‬إذا كنت تغفر لنا مجيئنا في هذا الوقت‪.‬‬
‫فأجاب سمرز كما لو كان ال يعرف شيئًا‪:‬‬
‫‪ -‬من تكون أنت؟‬
‫‪ -‬عدد منا يمثل الجمعية‪.‬‬
‫وخرج صوت مسز إيفانز من الباب ليناديه‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تمنحوا الرجل فرصة لكي يتناول طعامه‪.‬‬
‫وقاد تادلوك الطريق للمجموعة الكبرى التي ظللت الكوخ وقت الظهر‪ ،‬أو التي سوف تظلله‬
‫قبل أن تغادره‪ .‬وكان هناك أربعة رجال آخرين من بينهم ليجي إيفانز الذي صاح قائ ًًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنها ليست فكرتي يا ديك‪.‬‬
‫فقال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن يتحمل أي شخص المسؤولية‪.‬‬
‫ووقف موقفًا صلبًا على قدميه‪ ،‬وتحول وجهه من إيفانز إلى سمرز‪ ،‬ثم واصل حديثه ق ً‬
‫ائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ليس شيئًا طيبًا‪ ،‬دعني أخبرك‪ ،‬لقد مضى شهر منذ أن طلبنا منك‪ ،‬ولكنك لم ترد بكلمة‬
‫نعم أو ال‪ ،‬وليس عندك أي سبب لكي تبقى من أجله هنا‪ .‬إن الوقت يمر بسرعة‪ ،‬يجب أن‬
‫نحصل على رد سريع؛ ألننا يجب أن نكون أول من يشق طريقه هناك‪ ..‬هل أنت ذاهب‬
‫إلرشادنا أو غير ذاهب؟ إذا كان الجواب بالنفي‪ ،‬فيجب علينا أن نبحث عن رجل آخر‪.‬‬
‫‪ -‬ربما قد يكون من األفضل أن تبحثوا عن شخص آخر‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قلت إننا يجب أن نكون من األوائل حتى ال نضطر أن نأكل فتات من سبقونا‪ ،‬لذلك أعددنا‬
‫كل إمكانياتنا‪.‬‬
‫قال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬فكرة طيبة‪.‬‬
‫وأكد إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نفضل أن تكون معنا يا ديك‪.‬‬
‫وقال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ما نرغب فيه جمي ًعا وما نطالب به‪.‬‬
‫كان هناك شيء خاص بهذا الشخص وبوقفته وحديثه‪ ،‬جعلت سمرز يشعر كأنه يرغب في أن‬
‫يبصق في وجهه‪ ،‬وبعد ذلك أجاب سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬افعل ما تراه مناسبًا‪.‬‬
‫واستدار متج ًها إلى الكوخ‪ ،‬وهو يفكر فيما قاله معتقدًا بأنه لن يؤدي إلى خلق اختًّلف إذا كان‬
‫قد أخبرهم اآلن‪ .‬وكان يبدو أن تادلوك قد أسقط عليه بعض الحجارة والرمال‪ ،‬وربما يعتبر‬
‫ذلك جز ًءا من خلقه وسلوكه‪ ،‬فاإلنسان ال يرغب في أن يدفع األمور دفعًا‪.‬‬
‫وكان سمرز يعرف من قبل ما يرغب في اإلجابة به‪ ،‬فقد كان يرغب أن ينتهي ً‬
‫أوال من الجنازة‪،‬‬
‫ثم يتولى بيع كل شيء ما عدا األرض نفسها التي قد يعود إليها‪ ،‬وما عدا الماشية التي يحتاج‬
‫إليها‪ ،‬كما سوف يُبقي على عارضة الخشب الضخمة التي سوف يستخدمها في إغًّلق باب‬
‫بيته‪ ،‬ثم يتولى وضع نقوده في البنك ويحكم إغًّلقه‪ ،‬وهذا أمر سوف يتطلب الكثير من الوقت‬
‫منه‪.‬‬
‫وقد تكون النسمة الخفيفة التي لفحت وجهه آتية من بعض الجبال البعيدة عبر السهول الطويلة‬
‫البعيدة‪ ،‬من أماكن شعر بصحتها وحقيقتها أكثر من األرض التي يسير عليها‪.‬‬
‫***‬

‫الفصل الرابع‬
‫تراجعت العربة بمؤخرتها إلى مدخل الباب‪ ،‬وكانت ممتلئة‪ ،‬ولكنها ال تستطيع أن تستوعب ما‬
‫بقي في المنزل‪ .‬وكان قد تم حزم األواني واألوعية وشحنها وأدوات السرير واألطباق‪ ،‬وقد‬
‫ُوضعت وضعًا دقيقًا في براميل‪ ،‬وكذلك تم حزم المًّلبس وبعض قطع األثاث‪ ،‬وهي األشياء‬
‫التي يجب وضعها داخل وأسفل غطاء العربة‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬قبل أن يغلقوا الباب ويخرجوا‬
‫ً‬ ‫لم يكن هناك الكثير مما يتطلب العمل السريع‪ ،‬ليس‬
‫تاركين بيت إيفانز ألسرة أخرى‪ .‬وقد حاولت ربيكا أن تحث الرجال بكل مرح وسرعة على‬
‫إنهاء أعمالهم‪ ،‬وكانت تتحرك هنا وهناك لتجد منشفة قد نسيتها أو تجد ملعقة مختفية‪ ،‬كما كانت‬
‫تقوم بعملية مسح دقيقة للكوخ‪ .‬وكانت العربة الثانية قد شحنت باألغذية والمحاريث وأدوات‬
‫الزراعة وحجر الطحن والسندان‪ ،‬وبعض األدوات األخرى التي رأى ليجي أنها الزمة له لشق‬
‫طريقه في الحياة في أوريجون‪ .‬وبعد أن قاما بإتمام إخًّلء «الجرن» وأخذا في تصفية المنزل‪،‬‬
‫سأل براوني‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بعد يا ماما؟‬
‫فأجابه ليجي‪:‬‬
‫‪ -‬ال يهم اآلن ما قمنا بتحميله حتى اآلن‪ ،‬إذ سوف نتعاون حين االلتقاء‪.‬‬
‫وكانت مسز إيفانز تعتقد أنها مثل الرجال تشعر بشعورهم نفسه وتحزن كامرأة تهجر منزلها‬
‫وتودعه‪ .‬إن البيت الذي تعيش فيه المرأة فترة طويلة‪ ،‬وتكون قد لمست كل زاوية من زواياه‪،‬‬
‫ووطئت قدماها كل ركن من أركان أرضه‪ ،‬يظل في ذاكرتها ويراود مخيلتها ً‬
‫ليًّل ونها ًرا‪ ،‬فهي‬
‫تتذكر الميًّلد والموت‪ ،‬والصغار‪ ،‬واألحاديث السارة التي تدور بين الذين يتزوجون حديثًا‪.‬‬
‫لذلك قالت‪ ،‬وهي تراقب ًّ‬
‫كًّل من ليجي وبراوني بعد أن خًّل البيت وأصبح يشمله الفراغ‬
‫والصمت‪:‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تأخذ الصندوق الخشبي أي ً‬
‫كان ليجي قد قام ببناء كل زاوية وألصق كل خشبة فيه‪ ،‬وكانت زوجته أو هو نفسه قد قامت‬
‫أو قام بوضع لمسة الجمال األخيرة‪ ،‬لذلك فقد كان كل شيء هناك يحمل طابعهما الخاص‪ .‬لقد‬
‫جاءا صغيرين وشاهدا السنوات تمر ولمسا الشقاء والسعادة‪ ،‬وكان يبدو أن المنزل قد شاركهما‬
‫في أوقاتهما وشعورهما‪ ،‬وأن الحزن قد خيم عليه بعد أن خلت حجراته‪ ،‬وأصبح جز ًءا من‬
‫الذكرى‪ ،‬يخشى مجيء الغرباء‪.‬‬
‫وفي الخارج كان رجالها يقفون وهم يتحدثون بأصوات عالية ويفكرون في كيفية ترتيب األشياء‬
‫في الخارج داخل العربة‪ ،‬وجاء صوت ليجي إليها قويًّا مليئًا بالرغبة والشعور بالتقدم إلى‬
‫األمام‪ ،‬وهو شعور لم يحس به منذ سنوات مضت‪ ،‬وكان كل شيء يسير على ما يرام‪ ،‬وهذا‬
‫ما أقنعت نفسها به‪ ،‬كما كان الركب على استعداد كامل للتحرك مهما يكن الوضع صعبًا‪ .‬وال‬
‫شك في أن أوريجون تناسب هذه المغامرة‪ ،‬فكل ما يحتاجه ليجي نفسه ‪-‬وبراوني فيما بعد‪ -‬هو‬
‫وجود فرصة أفضل من الفرصة الموجودة في ميسوري والجرأة الكافية‪ ،‬وإيجاد ما رسمته له‬
‫مخيلته‪ ،‬وهذا هو الشيء الذي كانت زوجته على ثقة من الحصول عليه‪ ،‬لذلك كانت سعيدة‬
‫سعادة تامة؛ ألن ليجي قام بتنفيذ فكرته المفاجئة بالذهاب إلى أوريجون‪.‬‬
‫قامت الزوجة بإزالة القاذورات واألتربة من فوق الباب‪ ،‬ثم نزعت مًّلبس التنظيف بعد أن‬
‫أصبح كل شيء في العربة‪ ،‬كل شيء‪ ،‬وأصبح ال يوجد في البيت سوى الفراغ‪ ،‬الفراغ وفرشاة‬
‫األتربة‪ ،‬وعًّلمات األتربة التي كانت تحاول إزالتها‪ ،‬والوحدة الصامتة‪.‬‬
‫وتردد صوت براوني في الحجرات الصامتة الميتة‪ ،‬في الحجرة التي ُو ِلد فيها والتي رقد فيها‬
‫وهو طفل‪ ...‬في مهده الصغير الذي صنعه له ليجي‪:‬‬
‫عنك أنتِ؟‬
‫‪ -‬أولد روكي (الكلب) على استعداد اآلن يا ماما‪ .‬ماذا ِ‬
‫ونزل ليجي من فوق العربة‪ ،‬ودخل المنزل ليلقي نظرة ويقول‪:‬‬
‫ضا!‬
‫ت على كل شيء‪ ،‬ما لم تكوني راغبة في شحن المنزل نفسه أي ً‬
‫أنك حصل ِ‬
‫‪ -‬يبدو ِ‬
‫‪ -‬أرجو أن نستطيع ذلك‪.‬‬
‫وقال وهو يضع يده فوق كتفها‪ ،‬ثم يتركه ويعود‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا كذلك يا بيكي‪ ،‬هل أنت مستعدة اآلن؟‬
‫وتبعته إلى الخارج حيث توجد أشعة شمس الصباح المشرقة‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أتبعك حينما أضع القبعة فوق رأسي‪.‬‬
‫وتحدث إليها براوني ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرني «بابا» بأنني أستطيع أن أقود القطيع إلى األمام‪ ،‬وأنت وهو تقودان الفريق‪.‬‬
‫فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬ثم أضافت‪:‬‬
‫‪ -‬انتظر لحظة‪.‬‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬وألقت‬ ‫وعادت مرة أخرى إلى الداخل‪ ،‬كما لو كانت قد نسيت الشخص الذي خدمهم‬
‫النظرة األخيرة الطويلة‪ ...‬نظرة الوداع األخير‪ .‬وأخذت تستنشق الهواء الذي سوف تهجره‪،‬‬
‫لفترة دقيقة طويلة أو دقيقتين‪ ،‬وأطلقت لخيالها العنان‪ ،‬ثم عادت إلى حيث يوجد الجميع لتجد‬
‫مكانها‪.‬‬
‫‪ -‬أسرعي يا «ماما»‪.‬‬
‫ورفعت رأسها وسارت بعد أن تثبتت من أن المزالج‪ ،‬الذي أحكمت وضعه وسبق أن استخدمته‬
‫عددًا من المرات‪ ،‬قد أحكم هذه المرة وأغلق الدار التي تركتها‪ ،‬متجهة إلى المكان الذي وقع‬
‫عليه اختيار الجميع‪.‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫كان ليجي إيفانز قد جلس في أحد األيام فوق جذع شجرة يتحدث‪ ،‬ويستعيد ما سبق أن تحدث‬
‫به الناس من لغات ولهجات غير معروفة‪ ..‬تذكر كل ذلك في هذا المكان الذي يطلق عليه اسم‬
‫«االلتقاء» حيث يتم انتخاب الضباط والقيام بالتفتيش على األشياء قبل البدء في السير‪ .‬كانت‬
‫األصوات تصم اآلذان‪ ،‬فالنساء يثرثرن‪ ،‬والرجال يرعون البغال والثيران ويتحدثون في‬
‫جماعات صغيرة‪ ،‬والصغار يصيحون‪ ،‬والكًّلب تنبح‪ ،‬والبغال تصهل بين لحظة وأخرى‪،‬‬
‫واألبقار تخور‪ ،‬لذلك لم تستطع العين أن تستريح‪ ،‬في حين ظل الناس يقومون بدق الخيام‪،‬‬
‫ودفع األبقار والماشية إلى الحظائر‪ ،‬وتفريغ العربات التي جاءت من إندبندس أو «ويست‬
‫بورت» ‪ ،‬وبدأ األطفال ينطلقون بين العربات المغطاة باألقمشة البيضاء‪ ،‬ويقفزن فوق أوتاد‬
‫الخيام أو يتمرغون وسط الحشائش المليئة باألتربة‪ .‬وبين حين وحين تظهر عربة جديدة عليها‬
‫عًّلمة ميسوري الزرقاء‪ ،‬وما تكاد تقف حتى يندفع الرجال واألطفال والنساء منها‪ ،‬ويتجه‬
‫الرجال على الفور إلى العمل على وضع الماشية داخل حظيرة لها‪.‬‬
‫وكان األخ ويذربي يتحرك وسط الناس‪ ،‬ويتوقف حينما يكون عليه أن يستمع‪ ،‬ويظهر الجد‬
‫على وجهه الكبير على أساس ما سبق أن عرفه من إيفانز‪ .‬وكان إيفانز يستمع إلى األصوات‬
‫المزعجة‪ ،‬في حين كان صوت ويذربي يطغي على جميع هذه األصوات‪ .‬وكان يبدو أنه يُعد‬
‫إللقاء موعظة في هذه الليلة حول «رب واحد‪ ،‬وعقيدة واحدة‪ ،‬ومعمودية واحدة»‪ .‬وكان األخ‬
‫ويذربي يرغب في إلقاء موعظته كما يسميها‪ ،‬وفي ذلك الوقت كان هناك بغل يتحرك بعربته‬
‫ويقترب ثم يقف ليرفع ذيله‪ ،‬األمر الذي جعل ويذربي يتوقف عن كًّلمه وهو مضطرب‪ ،‬وبعد‬
‫أن يتولى إلقاء موعظته سوف يقوم بإمرار قبعته على الحاضرين وهو يقول‪« :‬إن الرب يحب‬
‫المحسن الودود»‪ ،‬وقد اعتقد إيفانز أن هذا هو أحد أسباب قيامه بإلقاء مواعظه باستمرار‪ ،‬وهو‬
‫أنه لم يكن يمتلك شيئًا‪ ،‬فإذا كان األمر كذلك‪ ،‬وكان بقاؤه يتوقف على درجة احتياجه إلى المال‬
‫بعد كل موعظة مثل أي عمل تجاري أو زراعي‪ ،‬فإنه قد يغادر المكان بعد أن يكتفي‪ ،‬ولكنه‬
‫كان يحتاج إلى المال لكي يعمل عمل الرب‪ ،‬وربما فعل ذلك‪ ،‬ولم يستطع أن يستمع إليه‪ ،‬وكان‬
‫يشك في أن الرب قد اختاره لكي ينشر «الكلمة»‪.‬‬
‫وقف إيفانز بقدمه على مقدمة العربة‪ ،‬وبدأ يراقب ويستمع‪ ،‬ثم الحظ كلبة متخايلة تجري‬
‫ويجري وراءها معظم كًّلب المعسكر ومعها روك العجوز‪ ،‬ورفع كل من هذه الكًّلب رجليه‪،‬‬
‫وكان كل واحد وراء اآلخر‪ ،‬بجوار شجيرة ضعيفة‪ ،‬ك ٌّل يأمل في اندفاعه أن يصل إلى هدفه‬
‫حتى ولو كان أقل القليل‪ ،‬والكل يشعر بأن الرب قد عينه هو وحده واختاره لذلك‪.‬‬
‫وكان تادلوك السياسي يجول‪ ،‬مثل األخ ويذربي‪ ،‬حول المكان‪ ،‬على الرغم من أنه لم يكن‬
‫هنالك إنسان ينافسه في االنتخابات‪ ،‬فقد كان محدثًا لبقًا‪ ،‬وحمل معه كتاب المرشد ألوريجون؛‬
‫ليظهر أنه يعرف أكثر من غيره‪ ،‬ما عدا ‪-‬ربما‪ -‬ديك سمرز الذي يعرف كيف يسلك الطريق‬
‫إلى الغرب‪.‬‬
‫وحينما كانت الشمس تميل إلى المغيب‪ ،‬بدأت الرياح الخفيفة تصفر وتهز األعشاب‪ ،‬وبدأت‬
‫األصوات الموجودة داخل المعسكر تزداد حدة وخشونة‪ ،‬مثل أصوات اإلوز الذي يثيره أي‬
‫ميًّل أو أكثر ً‬
‫قليًّل غربي مدينة إندبندس‬ ‫شيء‪ .‬وعلى الرغم من أنهم كانوا على بعد عشرين ً‬
‫وأنهم لم يشاهدوا أي هندي ما عدا بعض «الشونيز» و«الكوز» الذين تراهم غالبًا في ميسوري‬
‫أو تراهم في أي وقت‪ ،‬فإن هذا األمر أدى إلى شعور بعض الناس بالخوف‪ ،‬كما لو كانوا قد‬
‫فقدوا كل أمل في األمن‪ ،‬وكما لو كانوا يواجهون أعداء لم يشاهدوهم أو يعرفوهم من قبل‪.‬‬
‫وكانت هناك مسز تورلي‪ ،‬التي ظلت تتحدث وتنظر حولها كما لو كانت تنتظر أضخم هندي‬
‫ُولد حتى اآلن‪ ،‬أما مسز ماك بي فقد كانت تعيش في رعب‪ ،‬وظلت تطالب بالعودة إلى أوهايو‪،‬‬
‫في حين كان ماك بي نفسه يبحث عن مكان يخفي فيه خوفه وضآلته‪ .‬وكان هناك غيرها ‪-‬لم‬
‫يكن إيفانز يعرف كم عددهم‪ -‬وإنما كانوا يشعرون بالقلق‪ ،‬وكان هذا القلق أو الرعب ينعكس‬
‫على وجوههم‪ ،‬وبخاصة حينما يتجه تفكيرهم نحو «بًّلت» و«بونيس» والتًّلل السوداء‬
‫و«السيوكس»‪.‬‬
‫كانت ربيكا جالسة في ظل العربة وتهز بطبق أمام وجهها؛ لتجلب الهواء لعدم وجود ما هو‬
‫أفضل من ذلك‪ ،‬وذلك على الرغم من أن شهر أبريل لم يكن قد انتهى بعد‪ ،‬وكان براوني يقف‬
‫بعيدًا يرقب الماشية مع هيج الذي استأجره فيرمان‪ ،‬وعدد آخر من الرجال ومن الشباب الذين‬
‫ليست لهم عائًّلت‪ .‬وأنت ال تستطيع أن تظن متى يقوم «الكوز» بالهجوم على خيولهم أو‬
‫أبقارهم‪ ،‬أو باالستيًّلء على دواجنهم أو مخزونهم من الغذاء‪ ،‬إنك ال ترغب مطلقًا في وقوع‬
‫مثل هذا الهجوم لنهب المخزون‪.‬‬
‫وكان إيفانز يراقب ربيكا‪ ،‬وبعد فترة وجيزة تبادل الحديث معها فقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أشعر بأننا قد بدأنا بالفعل‪ ،‬إن الطريق الذي يسلكه الجميع يجعلنا نشعر بأننا مساقون‬
‫إلى مكان معين داخل الجبال‪.‬‬
‫فردت عليه ربيكا‪ ،‬وهي ما زالت مستمرة في هز الطبق أمام وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬كنت مثل اآلن أقوم بإعداد المكان القديم الستقبال الجميع‪.‬‬
‫وكان يبدو أن األمر أصبح غريبًا بالنسبة له؛ ألنها أطلقت لفظ «المكان القديم» على المزرعة‪،‬‬
‫ولم يمض على تركه وعلى مصافحة الشخص الذي اشتراه لنفسه ودفع مبلغ أربعمائة دوالر‬
‫عدًّا ونقدًا له‪ ،‬سوى وقت ضئيل‪ ،‬ولم يكن قد غادر هذا «المكان القديم» إال منذ برهات ليمر‬
‫بطريقه إلى األعشاب الخضراء وأوراق الطباق النائمة في أحواضها‪ .‬وكان قد ألقى النظرة‬
‫األخيرة على حقل الذرة حيث ظهرت البشائر األولى له‪ ،‬وعلى «الكابين» الذي تعرف فيها‬
‫بربيكا تعرفًا حقيقيًّا وأنجبا فيها براوني‪ .‬أما اآلن فلم يعد هذا المكان سوى المكان القديم‪ ...‬وهذا‬
‫ً‬
‫عزيزا منه ومن ربيكا‬ ‫ما جعله يشعر بشيء من الحزن حين مغادرته له كما لو كان جز ًءا‬
‫وبراوني قد تُرك إلى األبد‪ .‬وإذا استطاع أن يغتنم بعض الوقت ويعبر منطقة «الكوز» ثم‬
‫وأخيرا «بًّلت» فإنه سوف يشعر باألمان واالطمئنان‪ ،‬وكان قد شاهد من‬ ‫ً‬ ‫منطقة «ليتل بلو»‬
‫قبل مدى اتساع الهضاب والغابات‪ ،‬لدرجة أنه شعر بأن هذا الطريق سوف يكون عظي ًما‬
‫ً‬
‫وطويًّل‪ ،‬ثم عبور صحراء مفتوحة إلى «بًّلت» حيث أوريجون‪ ،‬ومجال الحياة الجديدة‪ .‬إن‬
‫أوريجون قطعة من أمريكا‪ ..‬هل تراهن على ذلك‪ ..‬سوف يتولى هو واآلخرون احتًّلل‬
‫أوريجون‪ .‬وماذا سوف يستطيع اإلنجليز فعله بعد ذلك؟ وشعر في قرارة نفسه بأنه رجل من‬
‫أوريجون منذ زمن طويل‪.‬‬
‫ثم سأل زوجته‪:‬‬
‫‪ -‬هل تشعرين بتحسن اآلن يا بيكي؟ أقصد بشأن االستمرار؟‬
‫شا‪ ،‬ويبدو دافئًا خاليا من آثار الدموع في ذلك الوقت‪ ،‬فقد‬
‫وجعلته يبتسم‪ ،‬فقد كان وجهها بشو ً‬
‫كانت تصيح منذ لحظة حينما تركت المكان القديم‪ ،‬ثم وجهت وجهها تجاه الغرب‪ ،‬ولم تعد‬
‫تنظر خلفها‪ ،‬ولم يكن إيفانز يعرف معرفة تامة أو يشعر بماذا يعني تنازل امرأة عن بيتها الذي‬
‫رتبت حياتها فيه‪ ،‬قد ترفض المرأة التحرك ومغادرة مكانها األول؛ ألن ذلك يعني التخلي عن‬
‫ظهورها الصفراء (يقصد بها وقت الزواج)‪ .‬وهو‪ ،‬على الرغم من ذلك‪ ،‬يفهم ربيكا من زوايا‬
‫كثيرة‪ ،‬فهي سوف تقوم بالرحلة من غير أي تذمر أو شكوى‪ ،‬وسوف يكون حديثها مر ًحا كما‬
‫سوف تقوم بتنفيذ أعمال تجيدها بيديها‪.‬‬
‫وأجابته على قوله‪:‬‬
‫‪ -‬إنني على خير ما يرام يا ليجي‪ ،‬فاألزمة تعم الجميع‪ ...‬ولماذا تسألني؟ هل غيرت رأيك؟‬
‫لك ولي‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬الكل سيذهب إلى أوريجون التي سوف تكون ِ‬
‫وكان صوتها يبدو ناع ًما حين قالت‪:‬‬
‫‪ -‬إنك أكبر مغفل يا ليجي‪.‬‬
‫وكان يعرف ماذا تعني‪ ،‬لقد كانت تعني أن الوقت لم يحن بعد لكي يحني رأسه ألوريجون‪،‬‬
‫ويشعر بتحسن لتحقيق هدفه‪ .‬لقد شعر بأن هذا االتجاه غريب‪.‬‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هالو‪ ،‬هذا هو ديك‪.‬‬
‫وشاهد إيفانز‪ ،‬ديك سمرز‪ ،‬وهو يجول‪ ،‬ويبدو كأنه شيء‪ ،‬وهو يلبس سرواله وقميصه المعلم‪،‬‬
‫ً‬
‫رجًّل يسترعي‬ ‫كما شاهد شعره الفضي وقامته الطويلة وذراعيه وساقيه القويتين‪ ،‬لقد كان‬
‫األنظار؛ إذ إنه يختلف عن أي إنسان آخر‪ .‬وكان إيفانز يعرف أنه يختلف عن هؤالء الذين‬
‫يتبعون قافلة سانتافيه‪ ،‬وعن المكسيكيين الذين يرتدون مًّلبسهم حبًّا في الظهور‪ ..‬لم يكن هناك‬
‫حب ظهور في ديك‪ ،‬بل كان هو نفسه دون أي تغيير‪ .‬وتحدثت إليه ربيكا‪ ،‬وهي تنظر إلى‬
‫فراش الكبش الذي يضعه فوق كتفيه‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك قد تخلصت من جميع شحوماتك!‬
‫‪ -‬أعتقد أنني قد وصلت إلى درجة كافية من التخلص‪.‬‬
‫‪ -‬هل هي الشمس التي فعلت ذلك بك يا ديك؟‬
‫فتحدث إيفانز‪ ،‬وقال وهو يشير إلى العربات والخيام والناس واألحاديث والخيل والثيران وكل‬
‫شيء‪.‬‬
‫‪ -‬إنها الوجبات الغذائية‪ ،‬هناك بعض الناس الذين سيعودون من حيث أتوا‪.‬‬
‫وتحول سمرز إلى غليونه‪ ،‬فأخذ يملؤه بالطباق وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن األمر سوف ينجلي عما قريب‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إن تادلوك يشبه الضفدع الكبير‪.‬‬
‫‪ -‬إنه يبدو كذلك‪ ،‬لقد بدأ بداية قوية ال يستطيع أي إنسان آخر أن ينافسه فيها‪.‬‬
‫‪ -‬ربما سوف يصبح قائدًا مناسبًا‪.‬‬
‫وهز سمرز رأسه‪ ،‬كما لو كان ال يوافق على هذا الرأي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نراقبه بدقة‪.‬‬
‫ً‬
‫طويًّل من غليونه‪ ،‬في حين أخذت عيناه الرماديتان تجوبان فيما حوله‪.‬‬ ‫سا‬
‫وجذب نف ً‬
‫وقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يريد أن يقتل جميع الكًّلب حتى كلبي العجوز ‪ -‬روكي‪.‬‬
‫واستمر سمرز يدخن‪.‬‬
‫وقال إيفانز مرة أخرى‪ ،‬وهو يضع كلماته في صورة أسئلة‪:‬‬
‫‪ -‬ه ذا هو ما سمعته‪ ..‬ولكنه لن يستطيع أن يظهر على المكشوف‪ ..‬ال أعتقد أنه سيفعل ذلك؛‬
‫ألنه سوف يكلفه الكثير من األصوات‪.‬‬
‫ثم استطرد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم يقولون إن الكًّلب ال تستطيع أن تقدم على مثل هذا العمل‪ ،‬أليس كذلك؟ وهم يقولون‬
‫إنهم سوف يقدموننا إلى الهنود‪.‬‬
‫ونظر سمرز إلى ربيكا وظهرت ابتسامة شاحبة على وجهه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم يصنعون لح ًما طيبًا إذا كان عندهم ما يكفي من الطعام‪.‬‬
‫‪ -‬آه‪.‬‬
‫‪ -‬السيكوس يأكلون الكًّلب الصغيرة‪ ،‬وقد أكلت أنا منها‪ ،‬وهي تشبه لحم الخنزير‪.‬‬
‫فسأله إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت واثق يا ديك؟ وهل يجب أن نتولى قتل الكًّلب؟‬
‫‪ -‬أنت الذي سوف تدفع الثمن‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف معرفة تامة‪ ،‬ولكن هل تعتقد أنه يجب علينا فعل ذلك؟‬
‫‪ -‬إن الكلب يستطيع أن يذهب حيث تستطيع البقرة‪.‬‬
‫‪ -‬لم أفكر هذا التفكير من قبل‪.‬‬
‫‪ -‬إنهم لن يتركوننا على أي حال‪ ،‬بل سوف يقيمون الحراسة علينا‪.‬‬
‫وصمت سمرز لحظة‪ ،‬ثم استمر في حديثه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬من الصعب جدًّا التسلل إلى معسكر الهنود للتجسس عليها من أجل الكًّلب‪.‬‬
‫‪ -‬إن تادلوك ال يعرف شيئ ًا عن ذلك‪ ،‬يجب أن نخبره ونحثه‪.‬‬
‫ثم أخرج إيفانز غليونه من جيبه‪ ،‬وأخذ يحشوه‪ ،‬ولكنه سمع صوت بوق ينادي الرجال للحضور‬
‫إلى االنتخابات‪ .‬وذهب كل من إيفانز وسمرز إلى مركز المعسكر حيث اجتمع الرجال‪،‬‬
‫واستطاع إيفانز أن يشاهد‪ ،‬وهو في طريقه‪ ،‬صفًّا من الكًّلب مرة أخرى يتبعه غًّلم صغير‬
‫أبيض اللون نحيف للغاية‪ ،‬وسمع إيفانز صوتًا يناديه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬تودي‪ ..‬عد يا تود‪.‬‬
‫وكان هذا الصوت هو صوت مسز فيرمان الطويلة القامة المليئة األرداف الخفيفة الشعر‬
‫الصافية العينين مثل المياه‪ ،‬وخرجت لتمسك الغًّلم من يده‪ .‬واجتمع كل شخص في المعسكر‬
‫من أجل االنتخابات‪ ،‬وكان الرجال يقفون في األمام يمضغون ويبصقون‪ ،‬في حين كانت النساء‬
‫واقفات في الخلف‪ ،‬ومعهن الصغيرات‪ ،‬مصغيات لما يدور‪ .‬وبعد أن تم انتخاب تادلوك قائدًا‬
‫مؤقتًا للقافلة‪ ،‬أعلن أتباع النظام في هذا االجتماع‪ ،‬ثم وقف فوق قطعة عالية من الخشب وألقى‬
‫بملعقة على طبق من الصفيح لكي يسود السكون‪ ،‬ولما ساد السكون أرجاء المكان بدأ يتحدث‪،‬‬
‫مستديرا‪ ،‬لذلك‬
‫ً‬ ‫في حين التف الواقفون حول المنصة التي يقف عليها‪ .‬وكان كل شيء يحيط به‬
‫ظن إيفانز أن األوجه أصبحت مستديرة‪ ،‬وكذلك األجساد وطريقة الوقوف‪ .‬وكان يتعجب هو‬
‫ضا‪ ،‬واعترف لنفسه بأن تادلوك قد خلق من‬ ‫مستديرا مثل اآلخرين أي ً‬
‫ً‬ ‫نفسه من أنه قد يكون‬
‫واحمرارا‪ ،‬وفكيه القويين‬
‫ً‬ ‫نفسه شخصيته‪ ،‬وكذلك من أسنانه البيضاء ووجهه الممتلئ حيوية‬
‫رجًّل يسترعي‬‫ً‬ ‫وجذور شعر ذقنه‪ ،‬وعينيه الجريئتين‪ ،‬وذراعيه وساقيه القويتين‪ ،‬لقد كان‬
‫األنظار؛ إذ إنه يختلف‪ ،‬ولكن القلق كان يعتري إيفانز من أن تادلوك قد ال يكون كذلك‪ ،‬ولم‬
‫تفكيرا سيئًا بشأن هذا الفريق‪.‬‬
‫ً‬ ‫يكن يرغب في أن يفكر‬
‫وكان تادلوك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬رفقائي‪ ..‬إن عندي سببًا كافيًا لًّلعتقاد بأننا سوف نكون أول من يذهب إلى أي مكان؛ ألن‬
‫قطارات سانت جو‪ ،‬لن تسير قبل عدة أيام‪ ،‬لذلك يبدو لي أننا سوف نكون أول من يدخل‬
‫بعرباته‪ ،‬وأول من يهرب من غبار وأتربة الصحراء‪ ،‬لنجد الحشائش لحيواناتنا‪ ،‬وأن نكون‬
‫أول من يصل إلى ويًّلميت‪.‬‬
‫وكان البعض يصيح استحسانًا لكلماته‪ ،‬فيصمت لحظة ليمنحهم وقتًا كافيًا لًّلستحسان‪ ،‬وحينما‬
‫ينتهون يكون هناك البعض ممن ال يزالون يصيحون قائلين‪:‬‬
‫‪« -‬الرئيس‪ ..‬السيد الرئيس»‪.‬‬
‫ووقف األخ ويذربي بجواره‪ ،‬وهو يضع فوق كتفيه معطفه األسود‪ ،‬على الرغم من أنه يشعر‬
‫بازدياد الحرارة‪ ،‬وارتفع صوته يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إننا لم نؤد الصًّلة‪ ..‬إننا لم نفتتح الحديث بالصًّلة‪.‬‬
‫فقال أحد األفراد الذين يقفون خلف ويذربي‪:‬‬
‫‪ -‬اجلس من أجل المسيح‪.‬‬
‫وأجابه صوت آخر‪:‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أتذكر ما قاله والدي في موعظة يوم األحد من أننا لن نستطيع أبدًا عبور‬
‫المسيسبي‪.‬‬
‫وكان هناك غيرهم من الرجال الذين يهمهمون‪ ،‬أما النساء فكن ‪-‬كما الحظ إيفانز وهو ينظر‬
‫من حوله‪ -‬يهززن رؤوسهن معتقدات أن ويذربي كان على حق‪ .‬ولكن تادلوك لم يهتز‪ ،‬وإنما‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني آسف أيها األخ ويذربي‪ ،‬كان ذلك خطأ مني‪ ،‬هل تتفضل بالقيام بالصًّلة؟‬
‫ضا‪ ،‬ثم رفع يديه شيئًا فشيئًا وطلب من الرب أن يكون‬ ‫ثم أحنى رأسه‪ ،‬فأحنى ويذربي رأسه أي ً‬
‫ً‬
‫طويًّل ومحفوفًا بالمخاطر‪ ،‬ولكنهم‬ ‫رحي ًما بالمذنبين الضعفاء‪ ،‬وقال إنهم عرفوا أن الطريق كان‬
‫وضعوا ثقتهم فيه‪ ..‬إننا نسجد لك؛ لتحمينا من العوامل والعناصر والوحوش والمرض‬
‫والحوادث؛ ولكي تمنحنا القوة في هذه الرحلة‪ ،‬وتجعل قلوبنا عامرة بك مهما يمر بنا‪ ..‬ولتجعلنا‬
‫شكورين لنعمتك وفضلك‪ ،‬ولتقودنا إلى معرفة عظمتك ولتجعل المذنب يتوب إليك‪ ،‬والمخطئ‬
‫يرى نتيجة شروره‪ ،‬والزاني والزانية يفهمان ذنبهما حتى ال يعودا إلى مثل هذا العمل‪ ..‬إننا‬
‫نسجد لك لكي تسبغ علينا من حكمتك الروحية‪ ،‬ولتجعلنا جميعًا مسيحيين‪ ..‬بارك الرب في‬
‫األطفال الصغار الذين قال عنهم المسيح دعهم يدخلون في رحابي‪ ..‬وليمسك الرب العاصفة‬
‫حتى ال تأتي على جهودنا‪ ،‬وليمنحنا الرب خيرات األرض‪ ..‬اجعلنا نهابك‪ ،‬وننشد لك أهزوجة‬
‫المدح األبدي‪ ..‬آمين‪ ،‬آمين‪.‬‬
‫ً‬
‫طويًّل يكفي ألن تنتقل فيه نملة من قدم ديك‬ ‫استغرقت كلمة ويذربي في التحدث إلى الرب وقتًا‬
‫سمرز إلى رأسه من غير احتساب المرتفعات والمنخفضات والرحًّلت الفرعية‪ ،‬وضًّلل‬
‫الطريق الذي يمتلئ بحراب العشب‪ .‬وأخذ إيفانز يلقي بنظره إلى سمرز‪ ،‬في الوقت الذي كانت‬
‫الموعظة مستمرة‪ ،‬فرأى رأسه ينحني وعينيه تحملقان في فضاء بعيد‪ ،‬وتعجب من أن يكون‬
‫سمرز يؤمن باهلل‪ ،‬ولكن ذلك ال يخلق أي اختًّلف؛ إن أي إله يستحق الركوع له سوف يعرف‬
‫عا طالبًا البركة والمغفرة‪.‬‬
‫أن ديك سمرز رجل طيب الخلق حتى ولو لم يقم بإحناء رأسه خشو ً‬
‫ولم يكن إيفانز يعتقد أن سمرز يطلب أو يرجو‪ ،‬في يوم من األيام‪ ،‬أحدًا حتى ولو كان هللا نفسه‪.‬‬
‫ولما انتهى ويذربي من موعظته‪ ،‬قال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬عندنا قواعد وأحكام يجب أن نتبعها‪ ،‬كما يجب أن نقيم تنظي ًما لنا‪.‬‬
‫وأخيرا تساءل تادلوك‬
‫ً‬ ‫وجاء صوت يهتف‪ ،‬فحاول تادلوك أن يسكته بيده‪ ،‬ولكنه لم يصمت‪،‬‬
‫ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا دهاك يا تورلي؟‬
‫أخيرا من التًّلل في ميراميك‪،‬‬
‫ً‬ ‫وتحرك إيفانز ليرى تورلي الذي كان قد اندمج في الركب‬
‫وكانت الكلمات تخرج عالية وسريعة من فمه الضيق‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو لي ألول مرة أن أول شيء يفكر فيه اإلنسان هو‪ :‬هل نرغب في االستمرار أو االنتظار‬
‫لبعضهم‪ ،‬الذين ليسوا على استعداد بعد؟ توجد هناك قاطرة لهؤالء‪ ،‬أليس هناك رجال ناضجون‬
‫على حسب ما أرى؟ أين سنتلقي بالبونيز‪ ،‬والسيوكس؟ هناك سيل من الناس سوف يتدفق علينا‬
‫بالمئات‪ ،‬وقد قال الدكتور وولش القادم من إنديانا إننا نستطيع أن ننضم إليه‪ ،‬لقد أخبرني بذلك‬
‫بنفسه‪ ،‬ولكني أقول دعنا ننتظره‪ ،‬ولتكن مائة عربة على طول الطريق‪.‬‬
‫فصاح تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬سكون‪ .‬نظام‪.‬‬
‫وظل يدق على الطبل‪ ،‬وازداد صوته حدة بتوقف الضوضاء الشديدة‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لقد بحث ذلك الوضع بحثًا تا ًّما‪ ،‬وكل فرد نضم إلى هذه المجموعة يعرف معرفة تامة أننا‬
‫مبكرا؛ لكي نكون أول الداخلين‪ .‬ومجموعتنا كبيرة بما فيه الكفاية؛ أربع‬
‫ً‬ ‫نزمع البدء في الرحيل‬
‫ً‬
‫رجًّل مسلحين‪.‬‬ ‫وعشرون عربة ونحو ثًّلثين‬
‫ورفع يده ليشير إلى ديك سمرز ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬اسألوا ديك سمرز هناك‪ ،‬إنه يعرف‪ ،‬وسوف يخبركم بأنه من الممكن أن تكون القافلة كبيرة‪..‬‬
‫كبيرة لدرجة تصبح حركتها وسيرها بطيئين وصعبين‪.‬‬
‫ثم نظر إلى تورلي‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أي إنسان يخاف يستطيع أن يبقى‪ ،‬ولكننا سوف نستمر في طريقنا‪ ..‬لقد انتهينا من ذلك‪.‬‬
‫وسكت تورلي‪ ،‬ولكن كانت هناك أصوات أخرى تصيح‪ ،‬واستطاع أن يميز إيفانز صوتًا منها‪،‬‬
‫كان صوت مسز تورلي الذي يعرفه معرفة تامة‪.‬‬
‫وكان تادلوك قد انشغل‪ ،‬لذلك سأل كما لو كان ال يعرف‪:‬‬
‫‪ -‬هل اللجنة على استعداد إلعداد البيان؟‬
‫أجابه ماك‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬إنها على استعداد‪.‬‬
‫ثم تقدم إلى األمام‪ ،‬وعلى وجهه أمارات التفكير‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن لجنتكم توصي بأن يتم انتخاب تادلوك قائدًا لهذه القافلة‪ ،‬وشارلز فيرمان مساعدًا له‪،‬‬
‫وهنري شيلدز قائدًا لحرس المؤن‪ ،‬على أن يعمل كل منهم حتى نهاية الرحلة‪.‬‬
‫وقام شخص من إلينوي من أصل ألماني‪ ،‬يُدعى بروور‪ ،‬بحركة للموافقة على هذه التوصية‪،‬‬
‫وقام هنري ماك بي بمساندة هذه الحركة‪.‬‬
‫وأتى تادلوك بحركة كما لو كان يهم بالنزول من فوق منصته‪ ،‬وأخذ يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل يرغب أي فرد في تولي الرياسة؟ إن ذلك ليس من حقي‪.‬‬
‫ولكن الصيحات تزايدت لتقول‪:‬‬
‫‪ -‬استمر حيث أنت‪.‬‬
‫فأعاد تادلوك قدمه إلى المنصة مرة أخرى‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬هل هو إجماع؟‬
‫ازداد الهتاف والتصفيق‪.‬‬
‫‪ -‬أشكركم‪ .‬أشكركم جمي ًعا‪ ،‬سوف أبذل قصارى جهدي‪ ..‬هل هناك تقرير آخر؟‬
‫ً‬
‫مركزا‬ ‫وكان هناك تقرير آخر قام ماك بقراءته‪ ،‬وكان إيفانز يستمع نصف استماع؛ إذ لم يكن‬
‫انتباهه‪ ..‬نوصي بنقل غير القادرين‪ ،‬على القطار الذاهب إلى أوريجون‪ ..‬ونوصي بإقامة‬
‫مجلس للحكم يتكون من ستة أشخاص من المنتخبين‪ ،‬ونوصي بدفع ضريبة لتغطية النفقات‪،‬‬
‫بما في ذلك مبلغ مائتي دوالر نفقات المرشد‪ ..‬ونوصي بعدم تناول المشروبات الروحية إال‬
‫لألغراض الطبية‪ ..‬ونطلب عربات تستطيع أن تحمل أزيد من طاقتها بمقدار الربع‪ ،‬وفريقًا‬
‫للسحب يزيد بمقدار الربع‪ ..‬القتل للقاتل‪ ..‬الجلد تسع وثًّلثون جلدة للسرقة وتسع وثًّلثون جلدة‬
‫للزنا (كلمات رنانة ألشياء بسيطة) يحدد المجلس العقوبة بالنسبة للكلمات النابية‪ ..‬يوصي‬
‫المجلس بأن يتحرك الركب في الساعة السابعة صبا ًحا كل يوم‪ ،‬ويسير بمعدل يتردد بين عشرة‬
‫وخمسة عشر ً‬
‫ميًّل في اليوم‪.‬‬
‫وكانت قائمة طويلة جعلت سمرز يتحرك في مكانه ويبدي ضيقه‪ ،‬كما تحولت أنظار إيفانز‬
‫إلى كل من ماك‪ ،‬وفيرمان‪ ،‬وماك بي‪ ،‬وبروور‪ ،‬ثم إلى فتاة بعيدة عن الرجال هي «ميرسي‬
‫ماك بي» التي كانت ترتدي قبعة عريضة حمراء‪ ،‬وتقف زائغة البصر بوجه شاحب‪ ،‬كما لو‬
‫صغيرا استمع إلى أصوات كثيرة وضوضاء‪ ،‬وكان الحزن والفراغ يبدوان على‬ ‫ً‬ ‫جروا‬
‫ً‬ ‫كانت‬
‫وجهها‪ ،‬ولكن مجرد النظر إليها كان يوحي بأنها تحاول البحث عن رجل معين‪ .‬إنك تستطيع‬
‫أن تعرف ما تريده من الحيوانات وتعرف كيف توجهها‪ ،‬ولكنك ال تستطيع أن تدخل في أعماق‬
‫تحذيرا‬
‫ً‬ ‫النفس البشرية لتعرف ما يدور فيها‪ ..‬تسع وثًّلثون جلدة للزاني والزانية؟ كان هذا‬
‫موج ًها من جميع الرجال المتزوجين إلى العزاب الذين سوف يشتركون في الرحلة‪.‬‬
‫وكان األخ ويذربي يرغب في إضافة شيء معين لهذه القائمة‪ ،‬فطالب المجموعة باتباع‬
‫« القانون الخلقي واألدبي الذي وضعه هللا في صدر كل إنسان»‪ .‬وظهرت ابتسامة صغيرة‬
‫ضا‪،‬‬
‫على وجه تادلوك‪ ..‬كان يعرف أكثر مما يدفعه إلى الضحك‪ ،‬ولكنه عرف كيف يبتسم أي ً‬
‫وأنه من األفضل منح الواعظ فرصة عمل ما يرغب فيه‪.‬‬
‫أما الرجل الذي كان يقف خلف إيفانز‪ ،‬فقد همهم ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أ خرسوا هذا الرجل الثرثار‪ ،‬هل يريد أن يضع القوانين‪ ،‬وأال يكون هناك شيء دون أن‬
‫يتدخل فيه؟‬
‫وعاد ماك إلى تًّلوة المزيد‪ ..‬نطلب ونحتاج إمدادات بالكميات التالية‪ ..‬مائتا رطل من الدقيق‬
‫ً‬
‫رطًّل من‬ ‫ً‬
‫رطًّل من المواد الغذائية‪ ،‬وخمسون‬ ‫لكل شخص ما عدا األطفال‪ ..‬خمسة وسبعون‬
‫اللحم‪ ،‬تعيين ثًّلثة مراقبين لإلشراف على العربات واإلمدادات‪ ..‬هل الجميع موافقون على هذا‬
‫التقرير؟ نعم‪..‬‬
‫وكان صوت إيفانز في الخلف يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن كل هذا يؤكد ويحدد رأي الواعظ‪.‬‬
‫وكان إيفانز يعتقد أن هذه القواعد ال تكفي؛ إذ لم تتضمن شيئًا عن الماشية وكم عدد الرؤوس‬
‫كبيرا من الماشية‪،‬‬
‫التي سوف تدفع العربات وتسير في الركب‪ .‬وكان تادلوك نفسه يمتلك عددًا ً‬
‫ً‬
‫عادال‪ ..‬في أن يتولى الرجل القيادة ألنه يمتلك أكثر من‬ ‫وبقرة أو بقرتين للحلب‪ .‬لم يكن ذلك‬
‫غيره‪ ،‬وكانت عنده فكرة ألن يتحدث‪ ،‬ولكن تادلوك قال في هذه اللحظة‪:‬‬
‫‪ -‬س وف يتم عمل الكثير من األشياء كلما توغلنا في المسير‪ ،‬أما الشيء الضروري اآلن فهو‬
‫التنظيم السريع حتى يمكن أن نخطو أول خطوة‪.‬‬
‫وكانت كلماته تحمل الكثير من المنطق‪ ،‬لذلك وجد إيفانز نفسه يشعر بشيء من الذنب‪ ،‬ولم‬
‫ً‬
‫رجًّل من الرجال‬ ‫يكن هناك أي سبب للشك في تادلوك إذا اعتاد اإلنسان على طريقته‪ ،‬فقد كان‬
‫الذين يحبون تركيز األشياء في أيديهم‪ ،‬ولم تكن هناك أي غضاضة في ذلك‪ .‬كان تادلوك قد‬
‫أخبر سمرز في الليلة السابقة قبل الجنازة أنه يجب أن يكون هناك من يتحمل المسؤولية‪ ،‬كان‬
‫تا دلوك على حق باستثناء فكرته السخيفة الخاصة بالكًّلب‪ ،‬ولم يقل أي إنسان أي شيء حتى‬
‫اآلن عن الكًّلب‪.‬‬
‫‪ -‬أي عمل آخر؟‬
‫وجاءت الحركة التالية من ماك بي نفسه‪ ،‬الذي طالب بترك الكًّلب أو قتلها‪ .‬وبعد أن شاهده‬
‫إيفانز يتحدث بكلمات جدية وقوية‪ ،‬كان يعرف أن ماك يعني ما يقول‪ ،‬وكان يعرف جيدًا أنه‬
‫سوف يقدم أكبر كلب لهذه العملية ً‬
‫دليًّل على صدقه‪.‬‬
‫‪ -‬هل هناك مؤيد ثان؟‬
‫لقد كان بروور ‪-‬رجل إلينوي األلماني األصل‪ -‬هو الثاني في تأييد منع الكًّلب من استمرار‬
‫السفر‪ ،‬ومنعها من دخول أوريجون؛ ألنها سوف تكون إشارة تدل الهنود على مكان المجموعة‪.‬‬
‫وأخذت األلسنة تهتف بكلمتي نعم‪ ..‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬نعم‪ ،‬ثم دق تادلوك على وعاء ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬دعنا نحتكم في ذلك‪.‬‬
‫فتحدث نحو ستة أشخاص كل منهم بعد اآلخر محاولين رفع أصواتهم بشأن هذه المناقشة التي‬
‫تدور بقوة ‪-‬ماك بي‪ ،‬فيرمان‪ ،‬وبروور مرة أخرى‪ ،‬ويانكي يطلق عليه اسم باتش‪ ،‬وإيفانز‬
‫نفسه‪ .‬قال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬أ جل‪ .‬اقتلوا الكًّلب‪ ..‬إنها لم تكن صالحة ألي فرد‪ ،‬وإنما كانت تقف حجر عثرة في طريق‬
‫التقدم‪.‬‬
‫وقال فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬دع كل رجل يفعل ما يرغب أن يفعله‪ ..‬إن مثل هذا العمل ليس من اختصاص المجموعة‪.‬‬
‫فصاح إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬اسألوا ديك سمرز‪ .‬اسألوا ديك‪ ،‬فهو يعرف أكثر من أي فرد آخر‪.‬‬
‫وزاد الصياح‪ ،‬فقالت مجموعة من األشخاص‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬دعوا سمرز يتحدث‪.‬‬
‫وكان يبدو على سمرز أنه غير راض عن التحدث أمام مجموعة من الناس‪ ..‬ثم أخذ يعبث في‬
‫سرواله الجلدي وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أ ود أن أستغل االختًّلفات‪ ،‬ولكني أعتقد أن هناك بعض الكًّلب التي يجب التخلص‬
‫منها‪ ،‬وهناك البعض اآلخر الذي يجب اإلبقاء عليه‪ ..‬وعلى أي حال فإن الكلب الذي يموت ال‬
‫يعتبر خسارة إال لصاحبه‪.‬‬
‫كان هذا هو تفكير إيفانز نفسه‪ ..‬لقد كان الناس يتساءلون ويؤكدون أن الكلب لن يستطيع تحمل‬
‫الرحلة‪ ،‬وهذا سبب كاف يجب أن يقبله كل فرد‪.‬‬
‫واستمر سمرز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف تخبر الكًّلب هذا المعسكر عما يفعله الهنود قريبًا جدًّا‪ ،‬وربما أسرع مما نتوقع‪ .‬أما‬
‫بالنسبة لي‪ ،‬فإنني أرغب في وقوع أزمات ومشكًّلت مع الهنود ما عدا بعض الشحاذة‪ ،‬وقليل‬
‫من السرقات‪ .‬والهنود عادة ال يرغبون في االصطدام بمجموعة كبيرة مثل هذه المجموعة‪.‬‬
‫وفي هذه األثناء كان تادلوك يمر بيده على فكه‪ ،‬في حين دخل من قطع الحديث مرة أخرى‪،‬‬
‫وبعد فترة وجيزة طرق الطبق مرة أخرى وقال‪:‬‬
‫كثيرا في المضايقات التي سوف تسببها الكًّلب‪ ..‬سوف تخلق ضوضاء مخيفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪ -‬إنني أفكر‬
‫وسوف تعوق تحركات الركب‪ ،‬سوف تسقط تحت األقدام والعجًّلت في الصباح‪ ،‬وتؤذي‬
‫نفسها‪ ،‬أو تفقد أو تتسبب في التأخير‪ ..‬إنني خائف‪ ..‬وعلى أي حال دعنا نأخذ األصوات‪.‬‬
‫إنك ال تستطيع أن تكون واثقًا من شيء عن طريق األصوات ‪-‬أي جانب سوف يفوز‪ ،‬ولكن‬
‫بعد أن طالب تادلوك برفع األيدي الموافقة وأحصاها بدقة قال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تم تنفيذ أخذ األصوات‪ ،‬وتمت الموافقة‪.‬‬
‫ولكنه لم يقل من الذي سوف يتولى تنفيذ القتل ومتى‪ ،‬وصمم إيفانز على أن يكون بينه وبين‬
‫أمرا معينًا؛ لذلك أصبح األمر يقلقه ويحيره‪ ،‬وأخذ يربط‬
‫الشخص الذي سوف يأتي لقتل روك ً‬
‫بين األشياء بطرقه السلمية‪.‬‬
‫وبينما يفكر في هذا كله‪ ،‬استمر تادلوك في إجراءات انتخاب المجلس وتعيين المراقبين‪ ..‬ولم‬
‫عضوا‬
‫ً‬ ‫تكن مفاجأة كبرى إليفانز حينما سمع اسمه يتردد في القائمتين‪ ..‬لقد انتخبه الجمهور‬
‫في المجلس وعينه تادلوك مراقبًا‪ .‬وكان كل ما يرمي إليه تادلوك هو أن يجذب كل فرد في‬
‫المجموعة للعمل بجانبه؛ ألنه كان يهدف إلى استغًّلل كل طاقة فيهم لنجاح المهمة‪.‬‬
‫وعلى أي حال‪ ،‬أصبح كل شيء معدًّا وتا ًّما‪ ،‬وتلفت إيفانز حوله فشاهد براوني يمتطي بغله‪،‬‬
‫ثم نظر إلى البراري الممتدة حيث ترعى الحيوانات‪ ،‬فرأى البغال والخيول تقفز هنا وهناك‪،‬‬
‫ورأى الثيران تستريح في أمان‪ ،‬فعرف كما يعرف معرفة تامة أنه من الممكن االعتماد على‬
‫براوني‪.‬‬
‫سا فوق البغل بهدوء وعيناه مثبتتان بعزم‪ ،‬وتأمل‬
‫ثم عادت نظراته إلى براوني‪ ..‬كان الغًّلم جال ً‬
‫رجًّل قوي الشكيمة يمكن أن يركز ثقته فيه في المستقبل‪ .‬وقبل أن يستدير‬‫ً‬ ‫إيفانز ابنه فرأى فيه‬
‫برأسه‪ ،‬عرف ما شاهده براوني‪ ..‬إنها الفتاة ميرسي ماك بي ذات الوجه الحزين‪ ،‬لقد كان‬
‫يراقب وجهها وقبعتها الحمراء‪ ،‬والثديين الصغيرين البارزين في صدرها داخل الثوب‬
‫الفضفاض‪.‬‬
‫وحملق فيها إيفانز لفترة وجيزة‪ ،‬ثم عاد إلى النظر إلى ولده‪ ،‬لقد كان االثنان في عمر متقارب‪،‬‬
‫وكان يبدو عليهما أنهما قد بلغا السابعة عشرة‪ ،‬وكانت النظرة التي تبدو على وجه إيفانز تشبه‬
‫النظرة التي وجهها ماك إلى الفتاة ألول مرة‪ ..‬لقد كانت تشبهها‪ ،‬ولكنها تختلف في جوهرها؛‬
‫إذ كانت تتصف باللطف والرقة وعدم الخبرة واإلدراك‪ ،‬ال تفكر فيما هو السرور فقط أو ربما‬
‫مطلقًا‪ ،‬وإنما في الوداعة والرقة والجمال والسعادة‪ ..‬إنه شعور ينبض من أعماق القلب‪.‬‬
‫وتحول إيفانز بنظره بعد ذلك‪ ،‬ولعن نفسه؛ إذ كان يبني أشياء في مخيلته ال يوجد لها أساس‬
‫ً‬
‫طويًّل في األيام الغابرة‪ ،‬ومرت مسحة من السعادة‬ ‫من الوجود‪ ،‬أو من شعوره الذي ظل يراوده‬
‫أمام ناظريه‪ ،‬وقال لنفسه لنزوجه ولنجعله يقول لهنري ماك بي «أبي» ولمسز ماك بي‬
‫«والدتي»‪ ،‬ولنجعلهم في أيدينا بقية حياتنا؛ حتى تصبح الحياة سهلة‪ ..‬وألبعده عن الزنا حتى‬
‫ال يتعرض للجلدات التسع والثًّلثين‪.‬‬
‫الفصل السادس‬
‫ظن ديك سمرز أن هؤالء الرجال يختلفون عن رجال الجبال‪ ،‬وأنهم ال يستطيعون التمتع‬
‫بالحياة كما يمكن أن يكون‪ ،‬ولكنهم يرغبون أن يجعلوا منها شيئًا يذكر‪ ،‬كما لو كانوا يستطيعون‬
‫أخذها وتشكيلها بالطريقة التي يرغبون فيها‪ .‬إنهم ال يتحدثون عن البيرة أو الويسكي أو نساء‬
‫وفتيات الهنود‪ ،‬وكذلك ال ينغمسون في الجو‪ ،‬وإنما يتحدثون عن المحصوالت والمياه‬
‫واألعمال‪ ،‬ولم يًّلحظوا الشمس وهي تسطع بضوئها‪ ،‬أو أوراق األشجار الحائلة إال على طول‬
‫الطريق‪ ،‬وكان من الممكن أن ينظروا إلى الوراء فيما بعد ويتعجب كل منهم لما حدث‪ ،‬بعد أن‬
‫مرت األشياء بهم من غير أن يهتموا بها أو يلتفتوا إليها‪ .‬وقد يتذكرون الصباح في المعسكر‬
‫والدخان يرتفع‪ ،‬وأشعة الشمس تخترق حجب الضباب الكثيف‪ ،‬والهواء الشديد‪ .‬إنهم يأملون‬
‫في الحصول على أفضل ما في اليوم‪ ،‬ولكن اإلنسان الذي ينظر إلى الخلف يشعر بالشعور‬
‫نفسه‪ ،‬ولم تكن هناك أي وسيلة بعد ذلك إلضاعة الوقت‪.‬‬
‫وعلى مسافة قليلة من المعسكر جلس سمرز القرفصاء فوق األرض وأخذ يعبث بعصاه في‬
‫ترابها‪ ،‬وكان كلما نظر إلى األمام شاهد بعض المفتشين اآلخرين وهم يقومون بين لحظة‬
‫ولحظة بجولة لمشاهدة ما إذا كان كل شيء على ما يرام طبقًا لألحكام الموضوعة‪ .‬وكانت‬
‫بعض النسوة يقمن بإعداد العشاء‪ ،‬أما هؤالء الًّلئي ال يمتلكن مواقد‪ ،‬فقد قمن بإشعال النار في‬
‫كبيرا‪ ،‬وكانت الدموع تتساقط من أعينهن بسبب األدخنة‬ ‫بعض األخشاب وصنعن منها موقدًا ً‬
‫المتصاعدة من النيران ومن األغذية‪ .‬واختفت الحرارة بعد ذلك باختفاء الشمس‪ ،‬وكانت الماشية‬
‫قد صعدت على السفوح لترعى في حين خيم على المعسكر صمت عميق‪ .‬وكان الصغار‬
‫يشعرون بالجوع وهم يلعبون ويلهون‪ ،‬وفي الوقت نفسه كان الكبار من الرجال مشغولين‬
‫باإلعداد للبدء في التحرك غدًا‪ .‬وبدأت النسوة ينصرفن بعيدًا عن النيران‪ ،‬وكانت أصوات‬
‫الخفافيش وطيور الليل تصدر من بين األشجار بطريقة مزعجة‪.‬‬
‫وأدت صيحات عصفور الليل إلى تنبيه «ماتي» التي كانت ترقد فوق القاذورات وهي ترتعد‬
‫من البرد‪ ،‬واستمرت في رقدتها الطويلة من غير أن تتحرك‪ ،‬وذلك على الرغم من أن األخ‬
‫تفكيرا آخر؛ لقد فتح أبواب السماء في مراسيم الجنازة وأدخل الروح إلى‬
‫ً‬ ‫ويذربي كان يفكر‬
‫الداخل في محبة هللا‪ ،‬وكان من الجميل التفكير على هذا النحو تار ًكا الرأس يستريح والقلب‬
‫يتوقف إلى األبد‪ .‬ما الذي قام ويذربي بقراءته بالفعل؟ «الرحمة والسًّلم عليك من الرب‪..‬‬
‫أبانا‪ ..‬ومن المسيح» قال ويذربي إن هذه الكلمات قد أخذها من الدعوات؛ ألنه مؤمن بها‪.‬‬
‫وكان سمرز يأمل أن يعرف ويذربي من أجل ماتي ما كان يتحدث بشأنه‪ .‬إن لها الحق في‬
‫الراحة األبدية واالبتعاد عن الحمى واآلالم‪ ،‬ولكن كل شيء كان ضد الجمال؛ إذ ماتت‪ ،‬ولم‬
‫تبق سوى الذكرى العطرة‪ ،‬وأال يدع قلبه يتحطم بالمشكًّلت‪.‬‬
‫ولم يكن سمرز يعتقد أن قلبه مليء بالمشكًّلت مثل اآلخرين؛ إذ إنه رجل جبال‪ ،‬أو يجب أن‬
‫يكون هكذا‪ ،‬وقد قام بالتجوال والترحال مع الصيادين الذين لم يفكروا في يوم من األيام في‬
‫األرض أو األخشاب‪ ،‬أو في القيام بحيل الكتساب األموال‪ ،‬ولكنهم استمروا يو ًما بعد يوم‬
‫يأخذون ما يأتيهم في الصباح كأمر طيب في حد ذاته‪ ،‬وأن الغد فيه من الوقت ما يكفي للتفكير‬
‫فيما سيأتي به الغد‪ .‬كانت هذه هي فلسفة سمرز التي شعر بها‪ ،‬ولكن العوامل المحركة كانت‬
‫تختلف‪ ..‬لقد كانوا يرحلون للوصول إلى بعض األماكن ما دامت الحياة تنبض في أجسادهم‪،‬‬
‫ولكنهم كانوا محرومين من فرصة النوم في الفراش الدافئ مع امرأة‪ ،‬أو التفكير فيما سوف‬
‫يكون عليه األمر فيما بعد‪ .‬وكانوا يقولون دائ ًما‪ :‬هل من الممكن زراعة البراري بالمحصوالت؟‬
‫إن األرض التي ال تنمو فيها شجرة لن ينمو فيها أي شيء‪ ..‬إن الشيء الذي يعمل عادة هو‬
‫قطع األشجار وزراعة المنطقة المحيطة بجذوع هذه األشجار‪ .‬وكان سمرز يعتقد أن هذه‬
‫األرض على طول «بير» أو «بويز» التي يلعب فيها األوالد الصغار يمكن أن تستخدم في‬
‫الزراعة‪ .‬كان الرجال من ذوي األسر الذين يقيمون مع زوجاتهم ويتمتعون بالحياة مع أوالدهم‪،‬‬
‫ولذلك كانوا ينظرون إلى إقامة مزارع ومدارس وحكومة‪ ،‬وتنظيم الحياة على أسس وقواعد‪.‬‬
‫ثم وقف بقدميه فوق الحشائش المتربة مثل ليجي إيفانز‪ ،‬الذي كان يتوجه إليه اآلن وعلى وجهه‬
‫نصف ابتسامة‪ ،‬بينما يتبع كلبه روك قدميه‪ ،‬وكان يتحدث مثل ليجي عن البًّلد ‪-‬الواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ -‬التي تمتد من المحيط إلى المحيط اآلخر‪ ،‬وبدأت األفكار تزداد وتتزاحم في‬
‫ذهن ليجي‪ ،‬لذلك لم يكن يجد أي مبرر للقول بإعطاء أوريجون للبريطانيين‪ .‬كان والده يحارب‬
‫اإلنجليز‪ ،‬في حين كان البانكي (األمريكيون) يديرون ظهورهم‪ ،‬كما لو كانوا يرغبون في ترك‬
‫المكان لإلنجليز متجهين إلى بًّلد أخرى‪.‬‬
‫ولم يكن ليجي رجل حرب‪ ،‬ولكنه كان رجل صداقة وود‪ ،‬يقلل من شأنه أمام الغير مثلما يفعل‬
‫الرجال األقوياء في بعض األحيان‪ ،‬كما لو كانوا يشعرون بالذنب؛ ألنهم حصلوا على أفضل‬
‫ما يريدون‪ ،‬وكان كل ما يرمي إليه هو أن يجعل األمريكيين يستقرون في البًّلد ويجعلونها‬
‫ضا؛ إذ لم يكن يرغب أو يميل إلى إضاعة الوقت لكي‬ ‫أمريكية‪ ،‬ولم يكن ليجي شبه اآلخرين أي ً‬
‫يستطيع أن يصل إلى الهدف‪ .‬وكان سمرز يظن أن إيفانز سوف يذهب إلى الغرب لمجرد‬
‫الترفيه‪ ،‬كما كان هو نفسه يأمل في ذلك‪ ،‬وذلك باإلضافة إلى ما يسمونه بالوطنية‪ ،‬أو بأي‬
‫شيء آخر‪ .‬وكانت روح االستكانة ال تزال بعيدة في ليجي نفسه؛ ألنه كان يسعى إلى فتح آفاق‬
‫جديدة ومراعٍ أخرى‪ .‬كان هذا هو أفضل سبب وكانت فرصة ضئيلة أن يجد الناس أنفسهم‬
‫أثرياء وفي وضع أفضل‪ ،‬بمجرد أن يستقروا في أوريجون‪.‬‬
‫كثيرا ال يقترب من القواعد التي وضعت‬‫ً‬ ‫كان إيفانز ينظر إلى ما سلبه سمرز‪ ،‬ولم يكن شيئًا‬
‫بشأنها األحكام‪ -‬بطانية‪ ،‬وجلد جاموسة يكفيان لتغطية صندوق ويسكي‪ ،‬وبعض اللحم المجفف‬
‫والقهوة والطباق‪ ،‬وقدر صغير‪ ،‬وسكينتان وبندقيتان تكفي إحداهما إلسقاط أي طائر‪ ،‬وكان‬
‫ضا من الخرز األزرق واألبيض‪ ،‬وشص لصيد األسماك‪ ،‬وبعض‬ ‫عنده بعض أمتعة الهنود أي ً‬
‫الطباق‪ ،‬وبعض األلوان الحمراء البراقة‪ ،‬فإذا جمعت جميع مسروقاته‪ ،‬فإنها ال تكفي حمولة‬
‫زوجين من الخيل‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فقد كانت أكثر مما يحتاجه‪ ،‬وكان يستطيع أن ينتقل‬
‫من مكانه من غير إفطار‪ ،‬وليس معه أي شيء‪ ،‬سواء بندقيته أو الخيل التي يمتطيها‪ ،‬ويستطيع‬
‫أن يعود إلى مكانه وقت الغداء من غير خيله‪.‬‬
‫وفي هذا قال‪:‬‬
‫كثيرا يا ليجي؟‬
‫‪ -‬أليس هذا األمر ً‬
‫‪ -‬ال‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحتاج إلى الكثير من األشياء‪.‬‬
‫‪ -‬لست أنت‪ ..‬أعتقد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لم أر في حياتي مجموعة ذات مسروقات كثيرة‪ ،‬إنها ليست الطريقة التي اعتدنا السفر بها‪.‬‬
‫‪ -‬أصبحت األمور تختلف‪.‬‬
‫‪ -‬لقد سافرت الكثير من األميال من غير أن يكون معي شيء آكله‪.‬‬
‫واستطاع سمرز أن يشعر بأن إيفانز قد تضايق ً‬
‫قليًّل في داخل نفسه؛ إذ وقع بين الصداقة‬
‫واإلحساس الصريح‪ ،‬وبين القواعد التي كان يجب أن يتبعها‪ .‬وكان هذا هو الشيء الذي يحبه‬
‫سمرز ويميل إليه في إيفانز نفسه‪ ،‬إن ما شعر به كان يستحق التنفيذ؛ ألنه كان يرغب في عمل‬
‫ً‬
‫رجًّل يعتمد عليه‪ ،‬وكانت هذه األشياء سخيفة بما فيه الكفاية‪.‬‬ ‫الصواب‪ ،‬لقد كان‬
‫ورفع إيفانز طرف الغطاء الهندي‪ ،‬فأظهر برميل الويسكي الصغير لألنظار‪.‬‬
‫فقال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬إن القواعد واللوائح جميلة‪ ،‬ولكني ال أعتقد أنها تناسبني‪ .‬أال تستطيع أن تنساني يا ليجي؟‬
‫قليًّل‪ ،‬ثم عبس في وجه سمرز ً‬
‫قليًّل‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫وهز إيفانز رأسه ً‬
‫‪ -‬إ نني لن أضايق نفسي بك يا ديك‪ ،‬فأنا أعرفك معرفة تامة‪ ،‬ويبدو عليك أنك رجل سكير‪.‬‬
‫ابتعد يا روك لعنة هللا عليك‪ ،‬ال تندس هكذا‪.‬‬
‫‪ -‬إنني رجل سكير‪ ..‬ربما ترغب أنت في بعضها‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪« ..‬خل» طيب‪.‬‬
‫‪ -‬إنه أفضل من أنواع التفاح‪ ،‬كنت أقول دائ ًما إن الشعير أفضل بكثير من التفاح‪.‬‬
‫وفي هذه اللحظة انطلقت طلقة بندقية في الجو من الطرف اآلخر من المعسكر‪ ،‬حيث ال‬
‫يستطيعون مشاهدة أي شيء‪ ،‬فنظر إيفانز إلى روك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫شعورا عميقًا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إن ذلك الملعون ماك بي قد بدأ في تنفيذ القرار‪ ،‬إنه قاتل الكًّلب‪ .‬إنني أشعر‬
‫بشأنه‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوي أن تفعل؟‬
‫‪ -‬كل ما أعرفه هو أنه لن يقوم بإطًّلق النيران على روك‪ ،‬ارقد يا فتى‪.‬‬
‫وأخذ يمر بيده على فكه واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن ماك بي ال يمتلك ما يكفي من الغذاء وغيره‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعني أن ماك بي ليس إنسانًا مناسبًا في هذه المجموعة؟‬
‫فهز إيفانز رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد شبع تادلوك‪ ،‬وكذلك ماك؛ لذلك فإنهما لن يعودا‪ ..‬أليس معك نقود يا ديك؟ إنك لن تستطيع‬
‫دفع الضرائب‪ ،‬وأعتقد أن ذلك سوف يكلفك الكثير‪.‬‬
‫‪ -‬ال يهم ذلك‪ .‬ولذلك لماذا يقوم كل من ماك وتادلوك بتقديم المساعدة؟‬
‫فهز إيفانز كتفيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أراهن بأن ماك بي من المتسلقين‪ ،‬وعندنا هنا أحكام خاصة بالمتسلقين‪ ،‬وأراهن بأنه‬
‫يمتلك أكثر مما تمتلك أنت‪.‬‬
‫‪ -‬ال توجد هناك طريقة الكتشاف ذلك إال إرسال رجل إلى أوهايو الكتشاف هذا الوضع‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬إنه يقول إنه نظيف نظافة تامة‪.‬‬
‫‪ -‬إن له ابنة لطيفة حسنة المظهر‪.‬‬
‫‪ -‬لطيفة لدرجة جد مملة‪.‬‬
‫‪ -‬هل يقلقك ذلك؟‬
‫ي‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬إن النساء ال يثرن القلق ف َّ‬
‫وتردد صدى صوت البندقية مرة أخرى‪ ،‬ورأى ماك بي في تلك اللحظة والبندقية تدخن في‬
‫يده‪ ،‬ومن خلفه اندفع كلب أسود إلى ظهره‪ ،‬وبدأ الكلب ينبح نبا ًحا مخيفًا‪ ..‬نباح اآلالم القاتلة‪،‬‬
‫وبدأ ماك بي يزحف ويحاول الوقوف‪ ،‬ويهدئ من نفسه‪ ،‬في حين أخذ نباح الكلب يتضاءل‬
‫كبيرا في يده‪،‬‬
‫ً‬ ‫حجرا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫متناوال‬ ‫حتى أصبح شبي ًها بالصفير‪ ،‬ثم وقف ماك بي واتجه إلى الكلب‬
‫وكان الكلب ينظر إليه كمن يطلب مساعدة وعونًا‪ ،‬ولكن ماك بي أخذ يدق بالحجر رأس الكلب‪.‬‬
‫وفي هذه األثناء خرج غًّلم صغير يجري وهو يصيح في حين تعدو خلفه امرأة‪ ،‬وصاحت‬
‫المرأة بماك بي في حين انحنى الغًّلم على كلبه‪ ،‬فقال ماك بي شيئًا ما‪ ،‬وتحول عائدًا تجاه‬
‫إيفانز وسمرز‪ ،‬كما لو كان عمله على غاية من األهمية مما يتطلب اإلنصات‪.‬‬
‫ووقف روك على قدميه األماميتين‪ ،‬فنهره إيفانز وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ارقد يا شقي‪.‬‬
‫ووقف ماك بي ليشحن بندقيته‪ ،‬وشاهدهما‪ ،‬ولكنه استمر في مشيته‪ ،‬وكان وجهه جادًّا مثل‬
‫البومة‪.‬‬
‫ثم قال إليفانز‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تتخلص من هذا الكلب الراقد هناك‪ ،‬وإال فسوف أضطر إلى إطًّلق النار عليه‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لن تقوم بإطًّلق النار على كلبي يا ماك بي‪.‬‬
‫‪ -‬إنها اللوائح‪.‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا على اللوائح‪.‬‬
‫‪ -‬إنني معين لتنفيذ هذه اللوائح‪ ..‬تخلص من الكلب‪ ،‬وإال اضطررت إلى قتله‪.‬‬
‫رجًّل بطيئًا في تصرفه‪ ،‬لذلك لم يغضب ً‬
‫كثيرا من هذا القول‪ .‬وكان سمرز يعرف‬ ‫ً‬ ‫كان إيفانز‬
‫كيف يرد على مثل هذا الموقف‪ ،‬إذ غالبًا ما يقوم بتصيد الكلمات‪ ،‬وكان رده على ذلك هو‪:‬‬
‫‪ -‬اقتل أنت كلبي يا ماك بي‪ ،‬وسوف تدفع ثمن ذلك‪.‬‬
‫فبصق فوق الحشائش وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ليس هناك أي مخرج من اللوائح‪.‬‬
‫‪ -‬إنني سوف أنسحب من هذه المجموعة وآخذ معي هؤالء الذين يمتلكون كًّلبًا‪ ..‬أخبر تادلوك‬
‫بذلك‪.‬‬
‫وكان سمرز يقول في نفسه‪ :‬امنح بعض الرجال بندقية وشيئًا من السلطة‪ ،‬وسوف تراهم‬
‫يقومون بتنفيذ األوامر بعنجهية وغباوة‪ ،‬لذلك أجاب ماك‪:‬‬
‫‪ -‬قل له أنت بنفسك‪ ..‬إن عندي عم ًًّل يجب أن أتمه‪.‬‬
‫‪ -‬لقد أخبرتك أنت‪ ..‬ال تمس روك‪.‬‬
‫ووقف إيفانز بجانب ماك‪ ،‬وكان يبدو ضخ ًما بجواره على الرغم من أنه ظل على حكمته‬
‫ووقاره‪ ،‬كما لو كان قد خجل من طول قامته وضخامته‪ ،‬وكان يبدو في مظهره أنه يخشى‬
‫ارتكاب الخطأ‪ ،‬ثم سأل سمرز إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ليجي‪ ،‬لماذا ال تطرقه حتى يتساوى في الحجم؟‬
‫‪ -‬أعتقد أنني يجب أن أفعل ذلك‪.‬‬
‫خطرا في تلك اللحظة؛ ألنه يمتلك بندقية في يده‪،‬‬
‫ً‬ ‫وكان ما فهمه إيفانز هو أن ماك بي قد يكون‬
‫واألهمية في صدره‪.‬‬
‫وانتصب سمرز وقال‪:‬‬
‫‪ -‬اقسم يا ماك بي أنني ال أعرف لماذا لم يقتلك أي إنسان حتى اآلن؟‬
‫فاستعد ماك بي ببندقيته واستدارت حدقتا عينيه أكثر من قبل‪ ،‬وقال بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬إنها اللوائح ويجب أن أقوم بواجبي‪.‬‬
‫قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أخبر تادلوك بما قلته‪.‬‬
‫ً‬
‫تحوال في وجه ماك بي‪ ،‬وشاهد فوهة البندقية ال توجه إليه‪ ،‬وإنما أخذت تدور‬ ‫وشاهد سمرز‬
‫بطريقة عصبية‪ ،‬وكان يبدو على وجه ماك بي الرعب والخوف‪ ،‬ولكن غروره جعله يتمسك‬
‫بموقفه‪.‬‬
‫تأثرا يحول ماك بي عن رأيه فقال‪:‬‬
‫واضطر سمرز أن يجعل من صوته ً‬
‫‪ -‬انظر يا ماك بي‪ ..‬إننا ال نتصيد المشكًّلت‪ ..‬انظر إلى هذا الكلب العجوز‪..‬‬
‫ثم أشار إلى روك‪.‬‬
‫ً‬
‫سهًّل‪ ،‬فتحول ماك بي برأسه‪ ،‬وبقفزة واحدة وضربة مفاجئة باليد استطاع سمرز‬ ‫كان األمر‬
‫أن ينتزع البندقية بعيدًا‪ ،‬فسقط ماك بي نصف سقطة‪ ،‬وحاول أن يتشبث بالبندقية‪ ،‬ولكنه فشل‪،‬‬
‫وقام على قدميه‪ ،‬وخطا خطوة إلى الوراء‪ ،‬واستطاع سمرز أن يرى آثار ورائحة الخمر في‬
‫فمه‪ ،‬وصاح ماك بي في صوت عال يشبه صوت النساء‪:‬‬
‫‪ -‬إنك لن تتخلص من هذه البندقية!‬
‫‪ -‬اذهب وأخبر تادلوك كما طلب منك ليجي إيفانز‪.‬‬
‫فرد ماك بي وهو يسرع إلى وسط المعسكر وينظر خلفه من فوق كتفه‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬سوف أخبره‪.‬‬
‫قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬علينا أن نراقبه اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬أجل‪.‬‬
‫‪ -‬لم يكن هناك أي سبب يجعلك تندفع لفعل ذلك‪ ..‬لم أكن أقدم على هذا العمل بنفسي‪ ،‬ولكن قد‬
‫أفعله بطريقة ليست بهذه السرعة‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ ،‬لقد قمت بالعمل فجأة‪ ،‬اعتقدت أن الكلب األسود طلب مني أن أثأر له‪.‬‬
‫ً‬
‫محاوال‬ ‫وصمت إيفانز وظن سمرز أنه ال يرغب في أن يتحدث عن ماك بي‪ ،‬لذلك قال سمرز‬
‫تغيير موضوع الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا عن صاحب طلب الرحمة والغفران؟‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬ويذربي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا بشأنه؟‬
‫‪ -‬إنه على أحسن حال بما سرقه‪.‬‬
‫فهز إيفانز برأسه الكبير وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إ نه لم يحصل على أي شيء يا ديك سوى زوجين من الخيل‪ ،‬وربما وجبتين من الغذاء‪،‬‬
‫ويجب أن أخبره‪.‬‬
‫‪ -‬هل تتحدث إليه؟‬
‫‪ -‬ل قد قال إنه سوف يذهب إليها بمفرده إذا لم يستمر الركب‪ .‬هللا وهو فقط‪ ،‬يجب أن أتحدث‬
‫إليه‪.‬‬
‫‪ -‬اترك فرصة لماك بي ليتحدث إلى تادلوك‪.‬‬
‫وكانت عينا سمرز تجوالن في خًّلل المعسكر بأسره‪ ،‬فشاهد مجموعة من الرجال وماك بي‬
‫وسطهم‪ .‬فنظر إيفانز إلى الشمس وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬أعتقد أن الوقت مناسب اآلن‪.‬‬
‫وأخذ االثنان يدخنان غليونيهما‪ ،‬ثم نهضا متجهين إلى المجموعة‪ ،‬وأخبر إيفانز سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن بيكي تدعوك لتناول العشاء معنا‪.‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أدبر شؤوني‪.‬‬
‫‪ -‬ليس على حسب طريقة بيكي‪ ..‬فهي تقول إنك ال تحصل على الغذاء المناسب‪ ،‬لذلك يجب أن‬
‫تحضر لتناول طعامك معنا بصفة منتظمة‪.‬‬
‫‪ -‬إن هذا كرم أخًّلق منها‪ ،‬وأنت كذلك‪ .‬سوف أرى ما إذا كانت هناك لحوم في الوعاء‪.‬‬
‫وصاح إيفانز وهو ينظر إلى بندقيتين يحملهما سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬هل استخدمت بندقية ماك بي؟‬
‫فقال سمرز وهو يستعيد ذاكرته‪:‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا على هذا الواعظ إذا لم يتناول أجرة قداس وجناز ماتي‪.‬‬
‫‪ -‬هنا يا روك‪ .‬أعتقد أنه يستطيع أن يرفع قبعته دائ ًما ليتلقى فيها النقود‪ ،‬إنه يلقي بمواعظه من‬
‫أجرا‪ ،‬وهو يقول إن الوعظ شيء والقداس الجنائزي شيء آخر‪.‬‬ ‫رأسه وال يتلقى ً‬
‫‪ -‬عليه اللعنة‪.‬‬
‫ومر االثنان بجوار النيران التي كانت موقدة للطهي وبين الخيام والعربات‪ ،‬وكان إيفانز منتب ًها‬
‫لمراقبة كلبه الذي يتعقب قدميه‪ ،‬وسوف يخلو المعسكر طبقًا للخطة بعد أن تسير العربات‬
‫واحدة في إثر األخرى‪ ،‬وتُربط الثيران بالسًّلسل في العربات التي تستطيع أن تكون دائرة‬
‫متشابكة لمواجهة أي هجوم من جانب الهنود‪.‬‬
‫كان تادلوك قد عقد محكمة ‪-‬تستطيع أن تسميها كذلك‪ -‬وطالب المفتشين بتقديم تقاريرهم‪ ،‬وكان‬
‫يستمع إلى مًّلحظاتهم‪ ،‬ويدون ما يسمع من أرقام في ورقة أمامه‪ .‬وكان فيرمان وماك بجانبيه‬
‫وذلك باإلضافة إلى بعض الرجال الذين أحاطوا به؛ األخ ويذربي‪ ،‬بروور‪ ،‬وهيجنز‪ ،‬وأسماء‬
‫أخرى كان سمرز يحاول أن يتعلمها مثل‪ :‬جورهام‪ ،‬وكاربنتر‪ ،‬وبيرد‪ ،‬ودورتي‪ ،‬وباتش‪،‬‬
‫وهولدريدج‪ ،‬ومارتن‪ ،‬وكانوا يشكلون مجموعة ال بأس بها ما عدا واحدًا أو اثنين فقط مثل‬
‫ماك بي‪ .‬اتجه سمرز إلى ماك وسلمه بندقيته ثم عاد مرة أخرى‪.‬‬
‫كانت الشمس قد بدأت تظهر في كبد السماء ككرة حمراء‪ ،‬في حين كانت هناك رياح خفيفة‬
‫قادمة من الغرب تشعل النيران الموقدة وتزيد لهيبها‪ ،‬األمر الذي استرعى نظر سمرز حينما‬
‫أخذ يدور ببصره فيما حوله ليرى النساء وقد التففن في شبه دائرة لًّلبتعاد عن الدخان‪.‬‬
‫واستطاع أن يسمع األصوات األولى للخنافس والصراصير ومختلف الهوام والديدان الطائرة‪،‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫وبدأت ضفادع األشجار تصدر نقيقها بأصوات ثابتة وصوت طائر الليل أي ً‬
‫ونظر تادلوك في ورقة أمامه‪ ،‬ثم رأى إيفانز وسمرز‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني مسرور بمجيئكما‪ ..‬إننا ال نود أن نخلق مشكًّلت بسبب الكًّلب‪.‬‬
‫فرد سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لم تكن هناك مشكًّلت بمعنى الكلمة‪.‬‬
‫‪ -‬س وف أتولى وقف العمل بالقاعدة الخاصة بالكًّلب بموافقة كل فرد هنا‪ ،‬إلى أن نستطيع أن‬
‫عا آخر في أي مكان آخر يصل إليه الركب‪ .‬هل هذا يكفي؟‬ ‫نعقد اجتما ً‬
‫أجاب إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا يكفي‪ ،‬إذا عملت على تعديل القاعدة‪.‬‬
‫فرد تادلوك‪ ،‬بعد فترة من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬إ ن هذا يتوقف على رأي الركب‪ ..‬ولكني أعتقد أن هذا يكفي‪ ..‬وال يرغب أي فرد في أن‬
‫ينقسم الركب بسبب مثل هذه األشياء التافهة‪.‬‬
‫كان الرجال يهزون رؤوسهم أو يصدرون أصواتًا تأييدًا لكلمات تادلوك‪ ،‬ثم تحدث ماك بي‬
‫بصوت مرتفع‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا يًّلئمني‪ ..‬إنني ال أتقاضى مكافأة عن مثل هذا العمل‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وهو السماح ببقاء الكًّلب بعد‬
‫وما كان تادلوك يرغب في قوله‪ ،‬كان سمرز يفكر فيه أي ً‬
‫ذلك‪ ،‬وكان واض ًحا أن مثل هذا الموضوع لن يُبحث مرة أخرى‪.‬‬
‫وقال تادلوك موج ًها الحديث إلى إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬هل انتهيت من تفتيشك؟‬
‫‪ -‬انتهى كل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬ماذا وراءك؟‬
‫‪ -‬ك ل شيء على خير ما يرام‪ .‬ومعي هنا األرقام ما عدا‪ -‬حسنًا‪ -‬عجز األخ ويذربي‪ً ..‬‬
‫عفوا‬
‫ً‬
‫عجزا في إمداداته‪.‬‬ ‫أنت تعرف أن األخ ويذربي يعاني‬
‫وأدار ويذربي وجهه إلى تادلوك‪ ،‬فسأله تادلوك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذا صحيح يا ويذربي؟‬
‫‪ -‬نعم من الناحية المادية‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعرف اللوائح‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أذهب سواء كنت أملك أو ال أملك‪ ،‬وسواء بكم أو من غيركم‪.‬‬
‫‪ -‬لن أكون جافًّا معك‪.‬‬
‫‪ -‬إن الرب سوف يقدم لي معونته‪.‬‬
‫فقال هيج‪ -‬رجل فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬حينما يمنحك الرب الغذاء‪ ،‬اطلب لي منه زو ًجا جديدًا من السراويل‪ ..‬هًّل فعلت ذلك من‬
‫أجلي؟‬
‫ثم أشار إلى السروال الممزق الذي يرتديه‪.‬‬
‫فعقص تادلوك حاجبيه‪ ،‬كما لو كان هذا الوقت ال يصلح للمزاح وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن وضع ثقتك في هللا شيء جميل‪ ،‬ولكن الثقة لن تمنحك حق المرور مع هذه المجموعة‪.‬‬
‫وكان صوت تادلوك حادًّا كما لو كان قد مل قراءة وسماع األرقام والتقارير‪ ،‬وأراد أن ينهي‬
‫كل جدال حول مثل هذه الموضوعات‪ .‬وكانت عينا ويذربي الباهتتان تناقش عيني تادلوك‬
‫السوداوين في صمت‪ ،‬ثم قال في النهاية‪:‬‬
‫‪ -‬إنني لم أعش حتى عامي الرابع والستين من غير أن أعرف أن هللا سوف يمنحني‪.‬‬
‫وكان الرجال اآلخرون يقفون في صمت وهدوء‪ ،‬وظن سمرز أن غالبيتهم يشعرون بالعطف‬
‫تجاه هذا الواعظ‪ ،‬ولكنه كان يعرف في الوقت نفسه أن جداله كان سخيفًا‪ .‬وتحدث تادلوك بعد‬
‫ذلك‪ ،‬كما لو كان يحدث ً‬
‫طفًّل يحاول أن يظهر له المنطق‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪ -‬أال ترى أيها األخ ويذربي أننا ال نستطيع أن نمنحك هذه الفرصة لصالحك وصالحنا معًا‪..‬‬
‫ضا‪ ،‬ولكني ال أومن بأنه يوافق على التهور والًّلمباالة‪..‬‬
‫إنني أؤمن باهلل أي ً‬
‫‪ -‬إنه يريد من اإلنسان أن يساعد نفسه‪.‬‬
‫فوافق الرجال على ذلك‪ ،‬وبصق بعضهم على األرض وظلوا يهزون رؤوسهم وينقلون‬
‫أبصارهم بين ويذربي وتادلوك جيئة وذهابًا‪.‬‬
‫واستمر تادلوك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني لن أكون قائدًا من أي نوع إذا أذنت لك بالذهاب؛ ألنني أكون بذلك قد دعوتك لمواجهة‬
‫الصعاب والمشكًّلت‪.‬‬
‫وكانت نظرات ويذربي ال تزال ثابتة على وجه تادلوك‪ ،‬وقال وهو ساهم‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قال المسيح‪« :‬ليكن عندكم قدر من اإليمان»‪.‬‬
‫ولكن تادلوك رد عليه بقوة ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنها ليست مسألة إيمان‪ ،‬ولكنها مسألة عقل ومنطق‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أنا الذي سوف أغامر وأواجه الصعاب‪ ،‬ولستم أنتم‪.‬‬
‫عا‪ ،‬يجب‬
‫‪ -‬إننا ال نستطيع أن نأذن ألي رجل بالسفر لنفسه‪ ،‬وال نستطيع أن نتركك تموت جو ً‬
‫إذن أن نقتسم مؤننا مهما تكن صغيرة‪ ،‬وإذا ضعفت أو مرضت‪ ،‬فلن نستطيع أن نهجرك‪.‬‬
‫وكان تادلوك يتحدث ويقف ً‬
‫قليًّل تار ًكا له الوقت الكافي لكي يقر رأيه على شيء‪ ،‬ثم استمر‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نعمل على المحافظة على األخ‪.‬‬
‫فقال ويذربي‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أذهب‪.‬‬
‫مضطرا إلى القول بأنك‬
‫ًّ‬ ‫‪ -‬يا أهلل! ولكن ليس معنا‪ ..‬إنك لن تستمع إلى العقل‪ ،‬لذلك أجد نفسي‬
‫لن تأتي معنا‪ .‬هل فهمت؟‬
‫فنظر ويذربي حوله يبحث وسط الوجوه عن مشكلته لعله يهتدي إلى حل‪ ،‬ولكن ِظل تادلوك‬
‫كان مخي ًما على الجميع‪ ،‬وشعر كما لو كان قد توصل إلى اإلجابة‪ ،‬لذلك أحنى رأسه وقال‬
‫بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أشعر أن الرب يناديني‪ ..‬سوف أذهب بمفردي‪.‬‬
‫‪ -‬إننا ال نستطيع أن نمنعك من فعل ذلك‪ ،‬ولكن يجب أن تفهم أننا ال نتحمل أي مسؤولية‪.‬‬
‫وصاح عصفور الليل القابع وسط ظًّلل األشجار‪.‬‬
‫وسمع سمرز نفسه وهو يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬انتظر يا تادلوك‪ ..‬سوف أصحبه معي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫‪ -‬سوف أرعى مصالحه‪ ..‬وال تهتموا بشأنه‪.‬‬
‫ونظر تادلوك إلى إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنك مفتش هذا القسم‪ ،‬هل يستطيع سمرز أن يكفي اثنين؟‬
‫‪ -‬إ ذا قال ديك إنه سوف يتواله ويأخذه معه‪ ،‬فإنه سوف يفعل ذلك‪ ،‬وال شأن ألي فرد آخر‬
‫بالتدخل‪.‬‬
‫‪ -‬إن هذا ليس هو الموضوع‪.‬‬
‫فقاطع سمرز الحديث ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬قلت إنني سوف أتولى أمره‪ .‬أال يكفي ذلك؟‬
‫فقال فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا يكفي بالنسبة لي‪.‬‬
‫وتحول ويذربي إلى سمرز وقد زال عنه القلق‪ ،‬كما لو كان قد رأى يدي هللا ممدودتين إلنقاذه‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬بارك هللا فيك أيها األخ سمرز‪ ،‬لقد قلت إن هللا سوف يمدني بالعون‪.‬‬
‫وهمهم هيج ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬وأين هو السروال؟‬
‫ظا! واع ً‬
‫ظا كان‬ ‫وكان سمرز يتعجب لنفسه بعد ذلك‪ ،‬حينما جلس عند عائلة إيفانز‪ ..‬يساند واع ً‬
‫كبيرا بلحية كبيرة يمتطي أقرب السحب‪ ،‬وممس ًكا بالصاعقة في يد‬‫ً‬ ‫ً‬
‫رجًّل‬ ‫يظن أن الرب كان‬
‫وبالرحمة في اليد األخرى‪ .‬وقال بصوت مرتفع‪:‬‬
‫‪ -‬ال تخبرني بما سوف يفعله الناس‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل السابع‬

‫كانت العًّلمات المميزة للرحلة هي دفع وجذب وشد وإدارة العجًّلت‪ ،‬وأكل األتربة واألوحال‪..‬‬
‫عليها اللعنة‪ ،‬والسباحة في نهر من العرق‪ ،‬والتجمد من البرد في الليل‪ ،‬والعمل تحت الشمس‪،‬‬
‫واالستمرار في التحرك‪ ،‬ومراقبة المخزون من اإلمدادات‪ ،‬وتثبيت العربات‪ ،‬وتفريغ‬
‫الحموالت وإعادة الحموالت‪ ،‬والنوم كالموتى‪ ،‬في حين كانت العجًّلت تدور من غير توقف‬
‫إلى فوق وإلى أسفل‪ ..‬ادفع‪ ،‬اجذب‪ ،‬شد‪ ،‬وأدر العجًّلت‪ ..‬لعنة هللا على البق والحشرات‪ ،‬ولعنة‬
‫هللا على المسافة‪ ،‬وعلى مجاري المياه العميقة واألشجار‪ ..‬فلنستمر في المسير‪ ..‬مرحبًا‬
‫بأوريجون‪.‬‬
‫وفي الليل يغط الجميع في نومهم‪ ،‬ومن بينهم من يشعر بالدفء مع زوجته‪ ،‬ولكنهم ال يهتمون‬
‫بذلك وإن كانوا يعرفونه‪ ،‬وإنما يهتمون بما يشعرون به من كراهية‪ ،‬والعضًّلت المفتولة‬
‫تذوب‪ ..‬دع عقلك يتوقف‪ ..‬دع النساء يحضرن مثل الفتاة ميرسي ماك بي‪ ..‬دع النوم يطغي‬
‫على الجميع حتى يستريحوا من عناء التعب الذي حل بهم‪.‬‬
‫لم يتحدث كيرتس ماك إلى أرماندا مثلما يتحدث أي رجل إلى زوجته‪ ،‬أو يشجعها على أن‬
‫تتحدث إليه‪ ..‬لم يفعل ذلك في هذه األيام‪ ،‬ولم يكن هناك أي أمل في أن يفعل ذلك في المستقبل‪.‬‬
‫إنهم يقولون ما يجب أن يقولوه‪ ..‬وهي تقوم في بعض األحيان بتنفيذ بعض األشياء حتى ولو‬
‫كانت منغمسة في األتربة واألوحال‪ ،‬وكذلك لو كان الطقس غير مناسب‪ ،‬وكان يجيبها دائ ًما‬
‫إجابات مقتضبة ليرى األلم في وجهها وليلتذ بذلك على طول الطريق‪.‬‬
‫وكان يقول لنفسه إن هذا هو كل شيء ما دامت القافلة تسير في طريقها إلى «ليتل بلو»‪ ،‬وما‬
‫دام التوتر يكمن في داخل نفسه‪ ..‬إنه لن يندب حظه بعد اآلن مرة أخرى‪ ..‬دعها تنقذ نفسها‪ ،‬أو‬
‫لتذهب إلى الجحيم‪ ،‬إنه لن يستجدي كما سبق أن استجداها في تلك الليلة التي عبروا فيها‬
‫«الكوز»‪.‬‬
‫كان الربيع يبدو في نسمات الهواء‪ ،‬وكانت أصوات طيور الليل تتردد خارج الخيمة‪ ،‬في حين‬
‫تلعب النسمات بقماش الخيمة‪ ..‬وكان يرغب فيها في هذه الليلة مثلما رغب فيها مرات كثيرة‬
‫من قبل‪ ،‬ولكنها قالت له‪:‬‬
‫‪ -‬ال يا كيرتس‪ ..‬أرجوك‪.‬‬
‫‪ -‬لقد مضت مدة طويلة‪.‬‬
‫ثم تدفع يده التي تجوس في جسدها وتقول له‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك‪.‬‬
‫‪ِ -‬ل َم ال؟‬
‫‪ -‬إنني خائفة‪.‬‬
‫‪ -‬خائفة؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬من ماذا؟‬
‫‪ -‬أنت تعرف‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لم تصلي إلى هذه المرحلة حتى اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬ربما أصل إليها‪ ،‬ثم نحتاج إلى طبيب أو أي شيء آخر‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تستخدمين ذلك دائ ًما كعذر‪.‬‬
‫ولكنها لم تجب على ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لم ترغبي أبدًا في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف أنك تعتقد هذا‪.‬‬
‫‪ -‬ه ل تعرفين أن مثل هذا المسلك ال يليق بأي سيدة‪ ..‬هل السيدة المحترمة ال ترغب في ذلك؟‬
‫‪ -‬كيرتس!‬
‫‪ -‬عودي إلى موطنك‪ ،‬إنك ال ترغبين في ذلك أبدًا‪ ،‬ولن يستمر األمر معي على هذا الحال‪.‬‬
‫‪ -‬ليس هذا بصحيح‪.‬‬
‫‪ -‬إنها أقرب إلى الحقيقة على أي حال‪.‬‬
‫ثم صمت لفترة طويلة‪ ،‬ثم اندفع والرغبة المفاجئة تبدو في كلماته‪:‬‬
‫أرجوك يا أرماندا‪ ،‬إنني جد آسف‪ ..‬اآلن من فضلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع‪.‬‬
‫أرجوك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ً‬
‫طويًّل‪..‬‬ ‫صبورا‪ ..‬ولكنني ال أستطيع أن أستمر على هذا الحال‬
‫ً‬ ‫‪ -‬لقد كنت‬
‫‪ -‬ال أستطيع‪ ..‬إني خائفة‪.‬‬
‫ثم بدت نهاية الحديث في كًّلمه حين قال‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعنين أن هذا الوضع ليس دائ ًما‪ ،‬وإنما سيكون في خًّلل فترة سفرنا فقط؟‬
‫‪ -‬ال أعرف‪.‬‬
‫إنك سوف تهجرين نصف الزوجة التي كانت عزيزة عندي‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬يا إلهي! ِ‬
‫فأجابت بصوت ضئيل‪:‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع ذلك يا كيرتس‪.‬‬
‫أنك ال ترغبين‪.‬‬
‫ت تعنين ِ‬
‫‪ -‬أن ِ‬
‫فأخذت تبكي‪ ،‬وكان النشيج يهزها‪ ،‬في حين كان هو يرغب فيها أكثر من أي فترة مضت‪ ،‬كان‬
‫يريد أن يضع خديها الدافئتين المبتلتين على خديه‪ ،‬وأن يبلل شفتيه بشفتيها‪ ،‬وأن يشعر بجسدها‬
‫يخضع لجسده‪ ،‬ولكنها لم تكن ترغب في ذلك‪.‬‬
‫ولو كان هناك رجل آخر ألجبرها وأخضعها لسلطانه‪ ،‬وأهمل موافقتها أو اعتراضها‪ ..‬إن‬
‫الزوجة ال تي ليست عندها رغبة أمامها واجب آخر‪ ..‬ولكنه لم يفعل أي شيء‪ ،‬ليس كيرتس‬
‫ماك هو الذي يفعل ذلك‪ ،‬وقد جاء من مدينة «بافالو» من أعمال نيويورك حيث تربى على‬
‫ً‬
‫حائًّل بيني وبينها ال أفهمه! وأدى هذا‬ ‫النعومة والرقة‪ .‬كان يقول في نفسه إن هناك شيئًا يقف‬
‫القول إلى زيادة جنون ه‪ ..‬لماذا وضع هللا الجمال في وجه المرأة‪ ،‬ومنحها الصدر الجميل‬
‫والفخذين الممتلئتين الجذابتين‪ ،‬ثم تمنع دفئها؟‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كنت زوجة صالحة حقًّا لبقيت في بافالو‪.‬‬
‫ولكنها لم ترد عليه‪ ،‬أو تحاول الرد‪.‬‬
‫ً‬
‫محاوال البدء من جديد في الغرب؟‬ ‫‪ -‬لماذا تظنين أنني قد تركت عملي‬
‫فبقيت صامتة‪ ،‬ولكنه استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لكي أبتعد عن إثارة األعصاب‪ ،‬وإبعاد األشياء عن ذهني وتفكيري‪.‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تبالغ ً‬
‫‪ -‬كان هذا هو لب الموضوع وأعماقه‪.‬‬
‫وكانت إجابتها أشبه بالصراخ والبكاء‪ ،‬ولكنه استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن ما تريدينه زو ًجا لك هو راهب ملعون‪.‬‬
‫فبكت وهي تقول‪:‬‬
‫ضا‪ ،‬وأمامنا الكثير الذي يجب أن نعيش من‬
‫‪ -‬لماذا تقول هذه األشياء؟ نحن نحب بعضنا بع ً‬
‫أجله‪.‬‬
‫فأجابها‪ ،‬وقد كره نفسه ليس بسبب الكذبة التي ذكرها‪ ،‬وإنما بسبب الضعف الذي اعتراه وجعله‬
‫يكذب‪:‬‬
‫سؤالك مرة أخرى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لن أعاود‬
‫لقد قال هذا الشيء نفسه من قبل‪ ،‬ثم يعود إليه‪ ،‬فينسى توبته‪ ،‬وينسى غضبه‪ ،‬وبخاصة حينما‬
‫تحدثه عن الحب وتًّلطفه على السرير حتى ينام‪ .‬لقد طلب منها الصفح ووجه اللوم إلى نفسه‬
‫بسبب مثل هذه الليالي‪ ..‬كيرتس ماك الشاب الناعم‪ ،‬الضعيف‪ ،‬المتأرجح‪ ،‬والعاطفي‪ ،‬ولكن هل‬
‫هناك خطأ مع العاطفة؟ إن مكمن الخطأ فيه هو أنه ال يستطيع أن يكبح جماح نفسه‪ ،‬وكان‬
‫خفيف الروح‪ ،‬يعتمد على الهبة أو الرفض ألي معروف‪ ،‬لذلك قال لها‪:‬‬
‫إنك تدفعينني إلى النساء األخريات‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعني ذلك يا كيرتس‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أستطيع أن أنظر إليهن‪ ،‬وأظل أفكر‪ ،‬سوف أجد امرأة أخرى أي ً‬
‫‪ -‬هل هذا ما تريده؟‬
‫إنك ال ترغبين في‪...‬‬
‫‪ -‬ماذا تهتمين من أجله؟ ِ‬
‫‪ -‬هل هذا ما تريده؟‬
‫‪ -‬أريد‪ ..‬يا للسماء‪ ..‬كان يجب أن تتزوجي قائد سفينة‪.‬‬
‫وكان يرقد فوق السرير ويسمع نحيبها ويحس ببهجة قوية باهتزاز جسدها‪ .‬وصمم بينه وبين‬
‫صا‪ ،‬ولكنها جعلت ذلك مس ً‬
‫تحيًّل‪،‬‬ ‫نفسه على أن يجد له امرأة أخرى‪ ..‬كان يريد أن يكون مخل ً‬
‫لذلك سوف يلقي جميع القيود جانبًا‪ ،‬وسوف يخرج من هدوئه ووقاره‪ .‬لقد كان الناس يميلون‬
‫إلى أبويه وهما يحاضرانه عن ارتكاب الذنوب وعن الخطيئة‪ ،‬إن بعض الناس مثل الوعاظ‪،‬‬
‫كاألخ ويذربي‪ ،‬يعظون ضد الشر والخطيئة‪ ،‬ويحددون العقاب بعدد معين من الجلدات في‬
‫ً‬
‫رجًّل‬ ‫حالة الزنا‪ ،‬لذلك يخشى كل شخص من االفتضاح ومن العقاب‪ ،‬ولكن لنفرض أن هناك‬
‫ليس عنده ما يمنعه من ارتكاب الزنا‪ ،‬فما الوضع‪ ،‬مثل حال ماك؟ سوف يجد لنفسه امرأة‪..‬‬
‫سوف يتخلى عن األخًّلق والمبادئ الخلقية التي تأصلت في ذاته‪.‬‬
‫لقد أقسم أمام نفسه على أن يقاوم المبادئ التي قد تنحيه عن هذا التفكير‪ ،‬وأن يقتل في نفسه‬
‫الضمير الذي يحاول أن يكبت فيه روح الرجولة‪ .‬وكان طائر الليل ال يزال يصيح في الخارج‪،‬‬
‫كما كانت النسمات تداعب أطراف الخيمة‪ .‬وفي هذه األثناء سمع صهيل أحد الجياد‪ ،‬وخوار‬
‫إحدى األبقار‪ ،‬واستطاعت أذناه أن تلتقط صوت اندفاع وهمهمة «الكوز»‪.‬‬
‫كانوا قط استطاعوا عبور النهر في ذلك اليوم والتحرك إلى جزء مكشوف من البراري يقع‬
‫على طول ضفة الغدير‪ ،‬وأخذ يسترجع في ذهنه ما مر به من مناظر‪ ..‬كانوا قد صمموا على‬
‫صنع عوامة؛ ألن معظم أجزاء الركب كانت ضعيفة‪ ،‬كما أخبرهم ديك سمرز بالقيام بذلك‬
‫وهو يقودهم عبر النهر‪ .‬لقد شاهد ديك سمرز في ذلك الوقت يركب بجسارة عبر النهر ليكتشف‬
‫ممرا فيه‪ ،‬وشاهد العربات تندفع وسط المياه‪ ،‬والثيران تشق عباب هذه المياه‪ ،‬وكانت العربات‬
‫ًّ‬
‫الخفيفة‪ ،‬مثل عربته‪ ،‬سهلة الحركة في أثناء العبور‪ ،‬وقد استمع عدد من هنود «الكوز» إلى‬
‫هذه الحركة فهرعوا إلى الضفة مثل الماعز ليشاهدوا ما يدور في المياه‪ ،‬وهم يضعون‬
‫العباءات والريش‪ ،‬والزينة‪ ،‬والمًّلبس الشاذة واأللوان‪ .‬وتم نقل النساء واألطفال‪ ،‬والكثير من‬
‫المؤن فوق العوامة بعد أن تم رفع جميع هذه األشياء وهؤالء األشخاص من العربات ليخف‬
‫وزنها وتخف حركتها تبعًا لذلك‪ ،‬وقد عاون الهنود في هذه العملية وساهموا في إتمام خوض‬
‫المياه بنجاح‪ ،‬لذلك قدمت لهم هدايا من الخرز والطباق وبعض المًّلبس القديمة‪.‬‬
‫وأخذ ماك اآلن ‪-‬كما سبق‪ -‬ينظر إلى النساء ويضع احتمال الفوز بها ‪-‬جوديث فيرمان‪ -‬إنها‬
‫فتاة طويلة شاحبة‪ ،‬ولكنها جميلة ذات كبرياء وردفين عريضين‪ ،‬ثم مسز باتش الصغيرة‬
‫القادمة من نيو إنجلند التي قد تخفي شيئًا من حقيقتها‪ ،‬ومسز تادلوك الهادئة التي قد يصبح من‬
‫ضا‪ ،‬وربيكا إيفانز السيدة االجتماعية ذات النكتة الحاضرة التي‬
‫الممكن جذبها بطريقة هادئة أي ً‬
‫يشبه شكلها شكل حزمة من البرسيم‪ ،‬ومسز بروور التي أنجبت عشر أطفال حتى اآلن ويبدو‬
‫عليها ذلك‪.‬‬
‫وأبقى أفضلهن جميعًا إلى النهاية‪ ،‬ثم ترك ميرسي ماك بي تأتي أمام ناظريه‪ ،‬إن شعرها أسود‬
‫فاحم‪ ،‬وبشرتها بيضاء وثدييها صغيران وفمها دقيق وعينيها مليئتان بالفصاحة‪ ،‬وهي تمتاز‬
‫بهذا الحزن الذي يشبه الجوع‪ ،‬أو الجوع الذي يشبه الحزن‪ ،‬إنها ال تعرف شيئًا عن أي شيء‪،‬‬
‫ولكن من الممكن تعليمها‪.‬‬
‫ولم يستطع أن ينظر إلى أرماندا كما قد ينظر إليها أي رجل آخر‪ ..‬إنه يستطيع أن يصفها‪ ،‬فهو‬
‫يستطيع أن يقول إنها مقبولة‪ ،‬متوسطة الطول‪ ،‬وأن جسمها بديع التكوين‪ ،‬ووجهها بيضاوي‬
‫وعينيها واسعتان وتميًّلن إلى االخضرار‪ ..‬ولكنه لم يستطع أن يراها كما يراها أي رجل آخر‪.‬‬
‫هل ينظر إليها أي رجل نظرة مختلفة إذا عرف أنها باردة؟‬
‫وهل األخريات باردات؟ وهل يواجه الرجال اآلخرون مثل هذه الصعوبات ويصعدون إلى‬
‫أسرتهم وهم يشعرون بالجوع والمرارة؟ وهل النساء ‪-‬يشبهن مسز بروور‪ -‬مطيعات‬
‫وخاضعات اللتزاماتهن؟ «ال تشته امرأة غيرك» ولكنه ترك فكرة امتًّلك إحداهن تراوده‬
‫وتسيطر عليه‪ ..‬أن يمتلك واحدة منهن ممن ترغب بشغف وحدة ورقة ولطف في اإليواء س ًّرا‬
‫إلى سرير معه‪ ،‬أو على طول الضفة الخضراء التي تكسوها طبقة من العشب األخضر‬
‫الكثيف‪ ..‬برقة ولطف‪ ..‬هذه هي الكلمة‪ ،‬ربما هي الكلمة التي يرغب فيها الرجل وال يرغب‬
‫في أي شيء آخر‪ ..‬إنها الرقة واللطف‪ ..‬إن «أرماندا» لم تكن رقيقة أو لطيفة أبدًا‪ ،‬ولم تتصف‬
‫بهذه الصفة أبدًا‪ ..‬أنت تعرف أنها تحبك بسبب أشياء ال يمكن الكشف عنها‪ ،‬وبسبب بعض‬
‫األعمال نصف الكاملة‪ ،‬وبسبب الشعور الذي أبديته بطريقة غير مباشرة‪ ،‬وبسبب الرعاية‬
‫التي أبديتها من غير تحفظ‪ ..‬لعن هللا كل ذلك؛ ألنه ال يكفي‪.‬‬
‫وأبعد تف كيره عنها‪ ،‬وعاد مرة أخرى إلى النهر ليراقب كيفية العبور‪ ..‬لقد عبرت النساء‬
‫والعربات والمؤن‪ ،‬أما الماشية وبقية أنواع المخزونات فقد توقفت عند بداية الضفة‪ ،‬وكان‬
‫يقودها ديك سمرز ويدفعها الخيالة من البيض والحمر‪ ،‬واندفع القائد إلى المياه‪ ،‬وتبعه‬
‫اآلخرون‪ ،‬أما اآلن فإنهم يسبحون في خط يسير مع اتجاه تيار المياه‪.‬‬
‫كان هذا العبور أسهل عبور من نوعه؛ إذ لم يفقد أي حيوان أو برميل أو صندوق أو جوال‪،‬‬
‫باستثناء بعض األشياء الصغيرة التي بدأ «الكوز» في التقاطها‪ ..‬كان من النوع الذي يجعل‬
‫اإلنسان ينتعش باألمل والفرح والرغبة في زوجته‪.‬‬
‫و زأر ماك في سريره وتحرك إلى نهايته‪ ،‬ثم سحب الغطاء من فوق زوجته‪ ،‬وقال لنفسه وهو‬
‫يقفز من سريره ويرتدي سرواله بعد أن عجز عن النوم في تلك الليلة‪:‬‬
‫‪ -‬ال فائدة من الرشح والبكاء‪.‬‬
‫وأخذ يجول حول الخيام التي تقع داخل الحلقة التي صنعتها العربات‪ .‬وكان يشعر بالخيول وال‬
‫يراها بسبب صهيلها‪ .‬وكان المعسكر ساكنًا ما عدا بعض الهمهمات الخافتة التي كانت تصدر‬
‫بين حين وحين‪ .‬أو التنفس البطيء الصعب لرجل كان يستلقي على ظهره‪ .‬أو شخير البعض‪،‬‬
‫أو صياح طفل يحلم حل ًما مزع ًجا‪ .‬وكانت النيران قد انطفأت‪ ،‬في حين كانت النجوم تشع‬
‫ضوءها الكبير على الفضاء وتضيء قمم العربات التي كان يلفها الظًّلم‪ .‬وفجأة سمع صوت‬
‫صادرا من أحد الهنود‪ ..‬لقد سمع قبل ذلك بعض‬
‫ً‬ ‫عواء ذئب في مكان ما‪ ،‬أو ربما كان صوتًا‬
‫الهنود يقلدون الذئاب‪ ،‬أو يرتدون فراء الذئاب‪ ،‬وهم يقومون بسرقة بعض المخازن‪ ..‬لذلك‬
‫سحب بندقيته وأمسك بها في يده‪.‬‬
‫وقال أحد األشخاص‪:‬‬
‫أهًّل‪ ..‬اصمت ً‬
‫قليًّل‪.‬‬ ‫‪ً -‬‬
‫وعرف فيه سمرز نفسه من شبحه األبيض ومن السروال الجلدي الذي يرتديه‪ ،‬وكان يجلس‬
‫في بقعة مكشوفة يستطيع أن يقوم بالمراقبة منها‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تنم بعد؟‬
‫‪ -‬لقد نمت بما فيه الكفاية‪ ..‬ما يكفيني بقية حياتي على ما أعتقد‪.‬‬
‫‪ -‬لقد شاهدت الزراع وهم يستيقظون مبكرين أو متأخرين‪.‬‬
‫‪ -‬ال شيء يعادل اتباع بغل إلراحة العقل‪.‬‬
‫وقد تصور ماك أن سمرز لم ينل ما يكفيه من الراحة هذه الليلة‪ .‬وفي حين كان يتحدث‪ ،‬ظل‬
‫يستمع ويراقب ما حوله كأن هذه المحادثة لم تؤثر عليه إال من السطح فقط‪.‬‬
‫وسأل ماك‪:‬‬
‫‪ -‬هل تتوقع مشكًّلت؟‬
‫‪ -‬ربما ال‪ ..‬هؤالء «الكوز» الفقراء‪ ..‬إنهم جائعون ومعرضون للبرد‪ ،‬وهم يقومون بسرقة‬
‫أشياء تافهة بالنسبة ألي هندي‪.‬‬
‫فقال ماك‪:‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا على الضوضاء‪.‬‬
‫وشعر بدهشة بسيطة حينما أجابه سمرز‪.‬‬
‫‪ -‬إنهم يشقون طريقهم كما نشق نحن طريقنا‪ ،‬وأعتقد أننا نشكل ضوضاء كبرى بالنسبة لهم‪.‬‬
‫فأجابه ماك وهو يستخدم لهجة تأكيدية‪:‬‬
‫‪ -‬ال أكاد أرى ذلك‪ ..‬ويجب عليهم أن يتعلموا‪.‬‬
‫وانتظر ماك‪ ،‬ولكن إجابة سمرز كانت مقتضبة‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أذهب أللقي نظرة على الماشية‪.‬‬
‫كانت األعشاب جديدة وناعمة تحت وطأة القدم لدرجة أنه يستطيع أن يسير بهدوء تام مثلما‬
‫يسير الهندي نفسه‪ .‬كان يجب أن تكون الماشية في اتجاه الشمال بعيدًا عن النهر‪ ،‬لذلك اتجه‬
‫مسترشدًا بالقطب الشمالي‪ ،‬وبعد لحظة شاهد حركة فنادى‪ :‬من هناك؟ واتجه إلى حيث هذه‬
‫الحركة ليجد الغًّلم براوني إيفانز الذي كان قد استأجره ليساعده في مراقبة الماشية‪ .‬وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬هل كل شيء على ما يرام؟‬
‫‪ -‬إن الماشية حيوانات هادئة‪.‬‬
‫وأخذ ماك يحدق النظر بعيدًا في الظًّلم‪ ،‬فشاهد الماشية واقفة على المنحدرات وتساءل ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنني في دهشة‪ ..‬لماذا تسلك هذا المسلك؟‬
‫‪ -‬إنني أشتم رائحة الهنود‪ .‬على ما أعتقد‪.‬‬
‫‪ -‬هل هناك أي عًّلمة تدل على الهنود؟‬
‫‪ -‬ليس بعد‪ ،‬إلى أن يقلدوا الذئاب‪.‬‬
‫‪ -‬إن الوقت قد حان لتغيير الرقابة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬ال يزال هناك بعض الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬من بالخارج؟‬
‫‪ -‬هولدريدج‪ ،‬وماك بي‪ ،‬وباتش واقفون مع الماشية‪ .‬إن سمرز يريد حراسة قوية هذه الليلة‪.‬‬
‫‪ -‬هذا هو عين الصواب‪.‬‬
‫‪ -‬يقول سمرز إن الهنود يسرقون وهم في صورة الذئاب‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن تنتبه انتبا ًها تا ًّما‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قال إنه شاهدهم‪ .‬ولكن ربما يقوم الكوز بذلك‪ ..‬إذ تخلو أمعاؤهم من الغذاء اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬استمر أنت في المراقبة كما كنت‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ ..‬يقول ديك إن أفضل طريقة الكتشاف «الكوز» هو الرقابة الشديدة والسليمة‪ .‬هذه‬
‫هي ديًّلوير‪.‬‬
‫‪ -‬ديًّلوير؟‬
‫‪ -‬ولكن يجب أن تُبقي عينيك متفتحتين «للبونيز» أنفسهم‪.‬‬
‫‪ -‬هل يعرف سمرز كل شيء؟‬
‫فقال الغًّلم‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا؟ أعتقد أنه ال يعرف شيئًا‪ ،‬ولكنه يعرف مخازن األشياء‪.‬‬
‫حذرا من أن يقول‪:‬‬
‫ضا‪ .‬ولكنه كان ً‬
‫كان ماك يميل إلى سمرز وإلى براوني أي ً‬
‫‪ -‬إنك قد تعتقد من الحديث الذي دار بيننا أنه ال يوجد أي إنسان له شعور مثل سمرز‪.‬‬
‫ولم يرد براوني‪ .‬ولكنه ظل ساكنًا‪ ،‬وكان ماك يعرف أنه قد استاء من ذلك كما كان يرغب في‬
‫ذلك‪ .‬وفي هذه اللحظة سقط أحد الشهب‪ ،‬وتساءل براوني وهو فرح‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعتقد أن هذا الشهاب قد سقط في أوريجون يا مستر ماك؟‬
‫وقبل أن يستطيع ماك اإلجابة‪ ،‬سمع صوت طلقة بندقية في الطرف اآلخر البعيد من المرعى‪،‬‬
‫وأخذ صوتها يتًّلشى شيئًا فشيئًا حتى ساد السكون‪ .‬ورفع براوني بندقيته وهو يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬هنود‪ ..‬هنود‪.‬‬
‫‪ -‬أنصت‪.‬‬
‫وما سمعه ماك كان صرخات تأتي من المعسكر عبر الظًّلم‪ ..‬وسمع اصطدام سًّلسل الثيران‬
‫وأصوات الجري والكر والفر‪ .‬وجاء صوت طلقة أخرى وسط الظًّلم لتطغي على األصوات‬
‫جميعها‪ .‬وكانت الماشية قد بدأت تقفز على أقدامها‪ ..‬فاستطاع ماك أن يرى بعضها وهي‬
‫تتصارع وسط ظًّلم الليل‪ ،‬في حين كان تنفسها العميق وأصواتها تغطي على السكون‬
‫والهدوء‪ ،‬وبدأت الماشية الواقفة هناك في الحافة األخرى تندفع‪.‬‬
‫وفي هذه األثناء ارتفع صوت ليجي إيفانز صائ ًحا‪:‬‬
‫‪ -‬براوني؟ أين أنت يا براوني؟‬
‫‪ -‬إنني هنا يا والدي‪.‬‬
‫فاندفع إيفانز وخلفه بعض الرجال‪ .‬ثم صدرت طلقة أخرى جديدة‪ .‬وسمع ماك صوت البندقية‬
‫ثم أصوات الحوافر‪ ..‬وكانت رقعة الظًّلم تتزايد وتنتشر‪.‬‬
‫وصاح البعض ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا عليهم إنهم يذهبون‪.‬‬
‫‪ -‬الخيل‪ .‬إلى الخيل‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ .‬ال يمكن قيادتها‪.‬‬
‫وعرف ماك فيه صوت سمرز‪.‬‬
‫‪ -‬أوقف الخيل‪ ..‬الحق بها‪ .‬لقد أخبرتك‪.‬‬
‫وبدأ الطابور الطويل من الحيوانات الهاربة يختفي ويتًّلشى‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ .‬انتظر‪.‬‬
‫ووقف سمرز خلف ماك‪ .‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هنود‪ ..‬هل رأيت هنودًا؟‬
‫فأجاب ماك‪:‬‬
‫‪ -‬كًّل‪ ...‬ثم انبرى براوني يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كانت الماشية في قلق‪.‬‬
‫كثيرا لدرجة أنها‬
‫ً‬ ‫ولم يستطع ماك أن يرى الماشية اآلن‪ ،‬فقد كانت أصوات أظًّلفها تبتعد‬
‫أصبحت كدقات الطبل البعيدة‪ .‬ثم سمع أصوات الحراس اآلخرين فجأة‪.‬‬
‫فسألهم سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل هم هنود؟‬
‫فأجاب ماك بي‪.‬‬
‫‪ -‬أجل‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنت متأكد؟‬
‫فأجاب باتش‪:‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫ثم أضاف هولدريدج‪:‬‬
‫‪ -‬لقد شاهدت أحدهم‪ ..‬كان هنديًّا أو ذئبًا‪.‬‬
‫فصاح تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬امتطوا خيولكم‪.‬‬
‫‪ -‬قفوا‪.‬‬
‫عا؟‬
‫‪ -‬ماذا دهاك يا سمرز؟ هل تريد أن تعرقل وتعطل اجتما ً‬
‫ولم يجبه سمرز‪ .‬ولكن إيفانز تولى ذلك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬اترك األمر لديك‪.‬‬
‫‪ -‬إن سمرز ليس القائد هنا‪ .‬امتطوا جيادكم‪.‬‬
‫ثم تحدث سمرز بصوت كان ماك يميل إليه ولكنه يقاومه‪.‬‬
‫‪ -‬ال تنسوا أنفسكم‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أنسى هذه الماشية‪.‬‬
‫وتحدث باتش بلهجة معتدلة ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنك تمتلك معظمها‪.‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا عليها‪ .‬ما صلة ذلك بها؟ هل تريد أن تفقد ماشيتك؟‬
‫وكان الرجال قد تجمعوا‪ ،‬وحاول نحو ستة أفراد منهم أن يتحدثوا‪ ،‬ولكن كلمات سمرز كانت‬
‫أقوى منها‪.‬‬
‫‪ -‬إن القواعد واللوائح تنص على أنني أنا الذي أتولى دعوة مجلس الحرب‪.‬‬
‫فتحول إليه تادلوك‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ادعه إذن‪.‬‬
‫وتحدث ماك من غير أقل تفكير‪ ،‬وعرف بعد أنه قد خرج عن طوره وأبدى رغبة عنيفة‬
‫للحرب‪.‬‬
‫‪ -‬فلتسقط اللوائح‪ ،‬إذا لم تكن تعمل على تنفيذ أي عمل‪.‬‬
‫فتقدم سمرز نحوه وقال بهدوء لدرجة جعلت الكل يصغي إليه‪:‬‬
‫‪ -‬ماك‪ ،‬من الممكن أن يكون «البونيز» هم الذين قاموا بذلك‪ ،‬ثم إنني ال أرغب في إرسال‬
‫شباب يافع في الليل حتى ولو كان لمواجهة «الكوز»‪.‬‬
‫ثم صمت لحظة كما لو كان يرغب في تثبيت كلماته في األعماق‪ ،‬واستمر بعد ذلك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف تستطيعون استعادة المزيد من الماشية أكثر مما تستطيعون اآلن حينما يتضح النهار‪.‬‬
‫واستمر سمرز يدور بوجهه للتحدث إلى الجميع وهو يقول‪:‬‬
‫سا للحرب‪ .‬ولكن عليكم جميعًا أن تراقبوا العربات‪.‬‬
‫أكون مجل ً‬
‫‪ -‬سوف ِ‬
‫ولم يقل أي شيء أكثر من ذلك‪ ،‬ثم اختفى مثل الظًّلل‪ .‬وبعد لحظة شاهده ماك يشبه الشبح‬
‫الذي يتحرك في الظًّلم‪ ،‬ثم يفقد أثره في الفراغ والظًّلم القاتم‪ .‬وبعد دقيقة واحدة سمع ماك‬
‫عضوا محاربًا‪..‬‬
‫ً‬ ‫الحديث يدور‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن ينتظر ليسمع القرار‪ ..‬لذلك قرر أن يكون‬
‫الشاب اليافع المحارب‪ ،‬ثم قفز فوق جواده مثل المسعور‪ ،‬ربما ليواجه الهنود ويقاتلهم‪ ،‬وبذلك‬
‫يستهلك قواه في شيء آخر غير المرأة‪ ..‬وقد وجد هذا الرجل اللذة والسرور في أن يكون‬
‫مجنونًا – ولكنه لم يستطع أبدًا أن يشرح ألرماندا كيف كان ذلك‪ ..‬وإذا كان قد فعل ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫لن يؤدي إلى تغيير الوضع‪ ..‬ليس مع أرماندا‬
‫خرجت بعض النساء لًّللتقاء به وتحذيره وإلقاء األسئلة عليه‪ ،‬وأمسكن باللجام ودرن حوله‬
‫لمواجهته وإثنائه عن رأيه‪ ،‬ولكنه رد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن كل شيء على ما يرام‪ ..‬لقد قلت إن كل شيء على ما يرام‪.‬‬
‫وكانت هناك أخريات ينتظرن لمعرفة ما صمم عليه‪ ،‬ولكنه استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن كل شيء على ما يرام‪.‬‬
‫واستمر في طريقه ينظر إليهن‪ ،‬ويكرههن ألنهن جميعًا نساء‪ .‬وكانت مسز تورلي تصيح‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كنت أعرف أننا يجب أال نأتي‪ ..‬لقد كنت أعرف ذلك!‬
‫وقفز ماك بجواده فوق مقدمة إحدى العربات وانطلق في طريقه‪ .‬كانت النيران قد تزايدت‬
‫وبدأت تتراقص في أعين الخيل‪ ،‬التي كانت تقف رافعة الرأس غير مستقرة في وضعها نتيجة‬
‫للشعور بالقلق‪.‬‬
‫وكان ماك قد عاد واقترب من عربته ليأخذ سرجه على جواده‪ ،‬وحينما دار بجواده شاهد‬
‫أرماندا التي قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوي أن تفعل يا كيرتس؟‬
‫‪ -‬أتصيد بعض الهنود‪.‬‬
‫فبدا وجهها شاحبًا وبدأ صوتها يتهدج ويبدو فيه األسف وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬بمفردك؟‬
‫وحينما لم تجده يجاوبها استمرت تقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنك ال تعرف الهنود يا كيرتس‪.‬‬
‫فرد عليها‪ ،‬وهو يضع قدمه في المهماز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني سأعرفهم حينما أرى واحدًا‪.‬‬
‫‪ -‬لن تذهب‪.‬‬
‫‪ -‬لن أذهب‪ .‬آه‪.‬‬
‫‪ -‬أرجوك‪.‬‬
‫أرجوك‪ ..‬أرجوك‪ ..‬من أجل رجائها سوف تمتلك ما كان يمتلكه‪.‬‬
‫وأدار جواده وانطلق‪ .‬وسمعها تقول‪:‬‬
‫حذرا‪ ،‬وأن ترعى نفسك‪.‬‬
‫‪ -‬أرجوك أن تكون ً‬
‫وتحقق بعد ذلك أنه قام بعمله الجديد لكي يدخل األلم والحزن على نفسها‪ .‬ولم يكن يهتم بذلك‪.‬‬
‫وتعثر الجواد بمجرد أن لكزه في جانبيه في الظًّلم‪ ،‬ثم نهض الجواد وسار على غير هدى‬
‫حتى وصل إلى النهر‪ ،‬فخفض من رأسه‪ ،‬وظل يشرب ثم رفع رأسه مرة أخرى وهزه بقوة‬
‫وصهل مرتين‪.‬‬
‫وكان الظًّلم هنا كثيفًا بسبب كثرة األشجار التي كان يشعر بضرباتها في كتفيه ورأسه‪ ..‬وكان‬
‫النهر نفسه يرقد في بحر شامل من الظًّلم مثل الظًّلم المنتشر على بُعد كبير‪ ..‬أما في السماء‬
‫فقد كان هناك نجم براق يشع ضو ًءا متحر ًكا‪ ،‬فنظر إلى أعلى ليرى النجم نفسه في السماء‪،‬‬
‫وأخذت كلمات اإلنجيل تدور في رأسه‪ :‬حينما شاهدوا النجم‪ ،‬ابتهجوا‪ ،‬وزادت بهجتهم‬
‫وسرورهم قوة‪ ...‬واستطاع أن يتذكر هذه الكلمات التي كان يقرؤها وهو طفل‪ .‬وفعلت هذه‬
‫الكلمات به فعل السحر‪ ،‬فدفعته إلى التحرك على هدى كلمات الكنيسة التي تركت هذه اآلثار‬
‫فيه‪ .‬وجذب جواده بعيدًا عن المياه‪ ،‬وسار به وسط األشجار في االتجاه الذي يتذكر أن الماشية‬
‫قد اتجهت إليه‪ .‬ولم يحدث أي شيء‪ ،‬وأضاءت السماء ضو ًءا خافتًا نتيجة لسقوط أحد الشهب‪،‬‬
‫فعوت الذئاب‪ ،‬وتعثر الجواد‪ ،‬وبدأ يصهل بشدة وخوف‪ ..‬دعه يصهل‪ ..‬دعه يعمل‪ ..‬دعه ينشط‬
‫قلبه ورئتيه‪ ..‬انهض‪ ..‬سوف تحتج أرماندا‪ ،‬إنها تعتقد في ضرورة مًّلطفة الحيوان ومعاملتها‬
‫بالطيبة‪ ..‬انهض‪.‬‬
‫وكان بعيدًا عن مركز المجموعة عندما سمع طلقة بندقية خافتة آتية من مكان المعسكر فجذب‬
‫جواده ليوقفه‪ ،‬ثم قفز عليه وبدأ يفكر في الهنود قبل أن يجمع شتات تفكيره‪ ،‬ويفكر في المعسكر‪،‬‬
‫وفي أرماندا التي تقف من غير حمايته‪ .‬وخطر له أن الساعة قد قاربت الرابعة‪ ،‬وأن الحراس‬
‫قد قاموا بإشعال النيران تمهيدًا لرحلة اليوم‪ ،‬فلكز جواده لكي يقفز‪.‬‬
‫لم يحدث أي شيء‪ ..‬واستمر راكبًا مسافة ميل آخر‪ ،‬ثم اتجه مرة أخرى يعبر الطريق إلى‬
‫المعسكر‪ ..‬وجاءت ومضة خاطفة في السماء أضاءت معالم الطريق أمامه‪ ،‬فرأى نفسه يقف‬
‫على صخرة عالية وسط النهر نفسه‪ ..‬وشعر أن مكان المعسكر وراءه‪ ،‬لذلك بدأ من جديد‪.‬‬
‫وكان قريبًا جدًّا لدرجة أنه استطاع أن يسمع األصداء الرفيعة في وقت سوف ينبلج فيه الفجر‪..‬‬
‫ورأى الهندي في صورة الشجرة فظنه في بداية األمر زنجيًّا أو ربما حية‪ ..‬فاقترب منه وشاهد‬
‫سا عاريًا‪ ،‬وهنديًّا يلتف ببطانية حول الكتفين يقف لمراقبة المعسكر من المرتفع البسيط‪..‬‬‫رأ ً‬
‫كان يراقب فقط‪.‬‬
‫سا‪ ،‬وقد يكون معه قوس ورماح يخفيها‬ ‫فأوقف ماك جواده‪ .‬ولم يكن الهندي يمتلك بندقية أو قو ً‬
‫في مكان ما‪ .‬ولكن ماك لم يشاهد شيئًا‪ ..‬قد تكون في طيات البطانية التي يلتف فيها‪ .‬ونزل ماك‬
‫من فوق جواده وربطه‪ ،‬ثم سار ببطء وهدوء‪ ،‬وبدأ يشعر بالدماء الحارة تدفعه فتنهد ببطء‪،‬‬
‫وابتلع لعابه‪.‬‬
‫وكان يستطيع أن يحكم تصويبه من هذا المكان‪ :‬كل ما عليه أن يرفع البندقية ويصوبها إلى‬
‫الهدف ثم يطلقها‪ ،‬وال يمكن أن يخيب تصويبه أبدًا‪ ..‬ونظر حوله ليرى ما إذا كان هناك هنود‬
‫آخرون‪ ..‬ولكنه لم ير شيئًا‪ ..‬وأخذ يسترق السمع‪ ،‬ولكنه لم يسمع شيئًا‪ ..‬بل كان يسمع أصوات‬
‫النساء وهن يطهين لإلفطار من بعيد‪ ،‬وأصوات الرجال وهم يتجمعون‪.‬‬
‫وكانت الدماء قد بدأت تندفع حارة في جسده ورئتيه للعمل السريع‪ ،‬وكان يعرف أنه لن يخيب‬
‫في إطًّلقه النيران‪ ..‬كانت البندقية مشحونة‪ ،‬وكانت العيون مركزة‪ .‬وكان اإلصبع على الزناد‪،‬‬
‫ولم يكن هناك سوي الضغط وينتهي كل شيء‪ .‬وتحول الهندي والتفت حوله‪ ..‬كان وجهه قويًّا‬
‫ومنتب ًها‪ .‬وكانت عيناه تجريان نحو منطقته‪ ،‬وشاهدهما ماك وهما تقتربان منه ثم تتركزان عليه‬
‫بصورة تمتلئ بالفزع والرعب بمجرد النظرة األولى‪ ..‬فصاح‪ ..‬وصاحت العينان والوجه معًا‬
‫كأنما ليقوال‪« :‬أرجوك‪ ..‬أرجوك» من غير أن يستطيع النطق بهاتين الكلمتين‪.‬‬
‫وسقط الهندي في اللحظة التي سمع فيها صوت البندقية‪ ..‬لم يصرخ أو يهرب‪ ،‬وإنما ظل معلقًا‬
‫لفترة صغيرة ووجهه الشاحب يرنو إليه ثم سقط على األرض‪.‬‬
‫أخذ ماك يعدو‪ ..‬كان قد تحقق من أن الهندي قد مات وسقط تغطيه البطانية ووجهه يتطلع إلى‬
‫ً‬
‫رجًّل نحيفًا به الكثير من الندبات وعًّلمات الجوع‪« ..‬الكوز» الذي‬ ‫السماء‪ .‬وفمه مفتوح ‪-‬كان‬
‫طلب الرحمة‪ ،‬وجاءه الرد‪ ،‬وال يستطيع أن يسأل العفو والرحمة مرة أخرى أو أن ينتقل‪.‬‬
‫وانتظر ماك فترة دقيقة طويلة؛ شعر بأن المعسكر قد سكت‪ ،‬ثم بدأت الضوضاء تسوده بعد أن‬
‫استمعت إلى طلقة بندقيته‪ ،‬وشعر ماك باإلنهاك والتعب يحل عليه وهو يراقب‪ ،‬وشعر بالوحدة‬
‫تزحف إليه‪ ..‬وشعر بأنه يود أن يتحدث إلى أرماندا من غير أي مبرر‬
‫***‬
‫دفع وشد وجذب‪ ،‬وإدارة العجًّلت‪ ،‬وأكل األتربة واألوحال‪ ..‬عليها اللعنة‪ ،‬والسباحة في نهر‬
‫من العرق‪ ،‬والتجمد من البرد في الليل‪ ،‬والعمل تحت الشمس‪ ،‬واالستمرار في التحرك‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الثامن‬

‫كان «الكوز» خلفهم‪ ،‬وكان كل من «الوكاروسا» و«الكوز» واأللوان الثقيلة والخفيفة ‪-‬‬
‫و«البيج بلو» يوجدون في الذاكرة فقط كلما توغل الركب في أسفل التًّلل‪ ،‬وفي خًّلل األشجار‬
‫‪ -‬كل منهم قد أدى الكثير من بذل الجهود والعرق والوقت‪ ،‬وفقد األشياء‪.‬‬
‫وبعد أن يكونوا قد مروا بمرحلة معينة بنجاح‪ ،‬تظل هذه المرحلة قائمة في الذاكرة‪ ..‬لقد كانوا‬
‫يضعون عًّلماتهم في أماكن ال توجد بها آثار عًّلمات‪ ،‬لذلك كانت ذكراهم تظل باقية بعد أن‬
‫مستقرا جديدًا‪ ..‬وقد سمعت ربيكا إيفانز أصوات‬
‫ًّ‬ ‫تكون هذه المجموعة قد استطاعت أن تجد لها‬
‫األطفال وهم يبكون‪ ،‬في حين كانت لفحات النسيم الرطب تضرب وجهها‪ ،‬وشمت رائحة‬
‫الدخان والقهوة‪ ،‬وشاهدت العربات تقف بيضاء في الشمس المتأخرة‪.‬‬
‫استطاعت في هذه اللحظة أن تنتهز الفرصة وتتحدث إلى ليجي وبراوني‪ ،‬بعد أن تم سحب‬
‫العربات في مجموعات وربطها بعضها ببعض بوساطة سًّلسل الثيران‪ ،‬واستطاع هؤالء أن‬
‫يجتمعوا معًا ليتحدثوا عن بيوتهم الجديدة‪ ،‬أو ربما عن بيتهم القديم‪ .‬وسوف يدهش ليجي حول‬
‫كيفية سريان األوضاع في ميسوري‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬ليس بشأن المحصول أو الماشية‪ ،‬وإنما بشأن البئر التي تنتج مياها‬‫وسوف تدهش ربيكا أي ً‬
‫عذبة أكثر عذوبة من مياه النهر نفسه‪ ..‬كانت تفكر في أختها الموجودة في نيو مدريد‪ ،‬وأختها‬
‫الصغيرة التي لم تستطع أن تصورها في ذهنها سوى الصورة التي رسمت لها وهي ما زالت‬
‫صغيرة‪ ..‬كانت ترتدي دائ ًما المًّلبس الجديدة المصنوعة من أجود األقمشة التي قامت الوالدة‬
‫طا لعقص شعرها به‪.‬‬ ‫بإعدادها في عيد ميًّلدها السادس‪ ،‬وقامت ربيكا بإهدائها شري ً‬
‫واستمرت أماكن إقامة المعسكر ليلة أمس والليلة السابقة لها كما هي‪ ،‬وشعر الجميع كأنهم في‬
‫بيوتهم بالفعل‪ ،‬وكان على العربات أن تقطع مسافات أخرى طويلة‪ ،‬كما كان على المجموعات‬
‫أن تلتقي وتتبادل الحديث في ذكرى األيام الخوالي الحلوة التي عاشوها في المكان القديم‪،‬‬
‫وروح الصداقة التي سادتهم‪ ،‬ولم يكونوا يعرفون أي شيء عن األيام التالية‪ ،‬ولكن الذكريات‬
‫الجميلة جعلتهم يشعرون بالدفء‪.‬‬
‫وصاحت ربيكا «هوو» في الثيران‪ ،‬ثم جذبت معطفها القديم حول رقبتها‪ ..‬كانت تسير بجوار‬
‫العربة وهي تشعر بالتعب والمرارة‪ ..‬لم تكن ترغب في أن تركب المخاطر‪ ..‬كانت تشعر‬
‫بالقشعريرة وباآلالم فوق جلدها‪.‬‬
‫وكان ليجي يسبقها ويلتفت إليها بين حين وحين ليبتسم ثم ليعود إلى فريقه‪ ..‬وكان روك يتحرك‬
‫وراءه ويتبعه‪ ،‬كان هذا هو حاله والكلب معه‪ ..‬إذ كان يتبع ليجي أو براوني غالبية الوقت كما‬
‫لو كان يسير وراء قائده‪.‬‬
‫حاولت ربيكا أن تطرد عنها األفكار التي تراودها عن الماضي‪ ..‬كان رجلها وابنها سعيدين‬
‫وهذا يكفي‪ ..‬كانوا يمضون وقتًا طيبًا‪ .‬وهذا ما قاله ديك سمرز أي ً‬
‫ضا ‪-‬من أنه ال توجد هناك‬
‫مشكًّلت تقف في طريقهم‪ -‬ولم تكن هناك مشكًّلت سوى مشكلة الهندي الذي أطلق عليه ماك‬
‫الرصاص دون أي سبب‪ ،‬ومسألة «الكوز» الذين حضروا للتحدث بشأن إطًّلق النيران‪ ،‬مع‬
‫تادلوك‪ ..‬استطاع الرجال أن يعثروا على الماشية ماعدا واحدة منها فقط‪ ..‬وكان تعليق ديك‬
‫على ذلك هو أن الحيوان يجفل ويرتعد حين رؤية منظر الهندي‪.‬‬
‫قامت ربيكا بقيادة العربة الثانية‪ ،‬على الرغم من أن براوني كان يتولى ذلك في بعض األحيان‪..‬‬
‫ومن الممكن الثقة في بعض األحيان بالثيران؛ إذ كان الطريق مفتو ًحا‪ ،‬وكانت جياد سمرز‬
‫مربوطة في الخلف‪ ،‬وكانت ربيكا تركز نظرها‪ ،‬سواء راكبة أو مترجلة‪ ،‬على زوجها ليجي‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬على الرغم من أنه كان يختفي بين الفينة واألخرى للكشف عن‬ ‫وبراوني‪ ،‬وديك سمرز أي ً‬
‫طا‪ ..‬ويحضر معه بعض البط‬ ‫الهنود‪ ،‬أو تحديد معالم الطريق‪ ،‬أو الصيد‪ .‬وكان يمأل المكان نشا ً‬
‫والحمام‪ ،‬وبعض الطيور األخرى‪ ..‬لقد استطاع أن يأتي بصيد ثمين اآلن؛ لقد استطاع في الليلة‬
‫البارحة أن يحضر معه ديكين روميين وشيئًا غريبًا أطلق عليه اسم عنزة برية‪ ،‬ولكن البعض‬
‫ضا‪ ،‬وكانت تعتقد أنه قد‬ ‫قال إنها وعل‪ ،‬لقد جعل األواني تمتلئ‪ ،‬أوانيهم وأواني ويذربي أي ً‬
‫مضى وقت طويل قبل أن يستطيع األخ ويذربي أن يتناول غذا ًء دس ًما‪ ،‬لذلك كانت موعظته‬
‫تتسم هذه المرة بالقوة ضد السفر في يوم السبت‪ ،‬ولكنهم ظلوا يسيرون في هذا اليوم‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل طيبًا‪ ،‬وكان ليجي زوجها كذلك‪ ،‬وهو أمر بدأ كل أفراد المجموعة في معرفته‪.‬‬ ‫وكان ديك‬
‫كان ليجي قوي الجسد‪ ،‬وطيبًا في أخًّلقه‪ ،‬وكانت روحه هي أفضل أرواح الجميع‪ ..‬هادئة‬
‫ضا‪ ،‬ويضرب بسوطه في الفضاء بين حين وحين‪،‬‬ ‫وطيبة‪ .‬كانت تراه أمامها يقود عربة ثقيلة أي ً‬
‫وكان يقدم المساعدة إلى الجميع‪ ،‬ويدفع العربات وهي تمر عبر األنهر واألوحال‪ ،‬ويخرج‬
‫كثيرا‪ ،‬وال بصوت عال‪ ،‬مثله في ذلك‬ ‫ًّ‬
‫ومبتًّل بالماء أو العرق‪ ،‬وكان ال يتحدث ً‬ ‫موحل المًّلبس‬
‫مثل تادلوك‪ ..‬ولكنه كان يساهم بنصيبه‪ ،‬بل بأكثر منه في النشاط والعمل‪.‬‬
‫كان يراوني يعود معظم األوقات باألبقار‪ ،‬وكانت تشاهده في بعض األحيان حينما كان الركب‬
‫ً‬
‫خجوال‬ ‫يتسلق مرتفعًا‪ ،‬وتلوح له دائ ًما‪ ،‬فكان يرد عليها بحركة صغيرة‪ ،‬وكان حتى ذلك الوقت‬
‫في إظهار عواطفه ألنه ال يزال غًّل ًما‪ ..‬ولكنه مع ذلك كان يقوم بأعمال الرجال‪ ..‬ال يحتاج‬
‫سا التي أحضرها معه ليجي‪ ،‬ولكنه كان قد أجرها لماك‬ ‫إلى معونة لمراقبة الخمسة عشر رأ ً‬
‫سا أو أكثر حتى يستطيع أن يكسب شيئًا‪ .‬وكانت ربيكا تعتقد أن ماك‬ ‫الذي كان يملك أربعين رأ ً‬
‫ال يستطيع أن يجذب إليه أي صديق مخلص‪.‬‬
‫وضربت ربيكا أقرب ثور إليها بالعصا التي كانت تحملها‪ ..‬كانت تريد أن تكون قريبة من‬
‫ليجي‪ ،‬وكانت تترك الفريق يبتعد عنها ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ولكن ازداد تيار الهواء واهتزاز جسدها وهبوط‬
‫روحها المعنوية جعلها تندفع إلى االقتراب من ليجي‪ .‬وعند منطقة «ليتل بلو» كانت األتربة‬
‫تغطي وجوههم‪ ،‬ثم هطلت األمطار بعد ذلك لتغسل ذلك كله‪ .‬كانت العربات التي في المؤخرة‬
‫محملة باألتربة التي تغطيها باستمرار‪.‬‬
‫أخذت ربيكا تنظر حولها لتدرس طبيعة األرض المحيطة‪ ،‬لقد بدأ الركب يدخل منطقة مختلفة‬
‫تمام االختًّلف‪ ..‬غابات وتًّلل ً‬
‫أوال‪ ،‬ثم براري ثانيًا مثل تلك التي تقع في الطرف القريب من‬
‫جبال روكي‪ ،‬ثم غابات مرة ثانية وصخور جيرية وتًّلل عالية على طول «بيج فيرموليون»‪،‬‬
‫وأصبحت هذه المنطقة تبدو كأنها قد تفتحت؛ إذ تستطيع العين أن تجول إلى أبعد ما يمكن‪،‬‬
‫وكانت األشجار متباعدة تجعل من السهل المرور بينها‪ ..‬إنك ال تستطيع أن تتحدث عن ذلك‪،‬‬
‫ولكن الصباح سوف يؤكد ذلك مرة أخرى‪.‬‬
‫كانت الرياح‪ ،‬التي تهب‪ ،‬ال تشبه تلك الرياح التي كانت تهب في المقر القديم‪ ..‬كانت ثابتة‬
‫وأكثر قوة‪ ..‬تأتي بشدة من الغرب كأنما ال توجد أمامها أي نهاية‪ ..‬وكانت الرياح تكفي لثني‬
‫األشجار أو اإلطاحة بها‪ ،‬كما كانت تصفر فوق التًّلل العارية‪ ،‬وتتجه بسرعة نحو الشقوق‬
‫ونحو الفراغ في السهل كما لو كانت ترغب في دفع الركب‪ ..‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فقد قال‬
‫الناس إنها شيء ال يذكر‪ ..‬انتظر حتى نصل إلى أبعد من ذلك‪ ..‬ولكنها كانت كافية‪ ..‬كانت أكثر‬
‫من كافية‪.‬‬
‫كانت مسرورة حينما توقف الركب‪ ،‬لذلك تنفست الصعداء وأخذت تمر بيدها على كتفها وتحكه‬
‫بقوة‪ ،‬ولم تعبأ بمن يكون قد رآها‪ ،‬ثم واصلت السير إلى ليجي قبل أن يصمم على الذهاب‬
‫لرؤية ما وقع‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬راقبي الماشية‪َّ ..‬‬
‫هًّل فعلت ذلك يا بيكي‪.‬‬
‫‪ -‬انتظر يا ليجي‪ ،‬يجب أال تقوم بكل العمل بنفسك‪ ..‬هل نستطيع أن نتحدث ولو ً‬
‫قليًّل؟‬
‫فاعترض في بداية األمر‪ ،‬وكانت تعرف ذلك‪ ،‬ثم نظر إليها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫بك؟‬
‫‪ -‬لماذا؟ هل هناك أشياء تريدينها‪ .‬ماذا ِ‬
‫‪ -‬أريد أن أتحدث إليك فقط‪ ،‬هذا هو كل شيء‪.‬‬
‫‪ -‬تتحدثين في ماذا؟‬
‫‪ -‬مجرد حديث‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لست على حالتك الطبيعية يا بيكي‪ ..‬أراهن على أنك متعبة‪.‬‬
‫‪ -‬إنني على ما يرام‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا ال تركبين ً‬
‫بدال من السير؟‬
‫‪ -‬إنني على ما يرام‪ ..‬إنها الرياح وال شيء غيرها‪.‬‬
‫‪ -‬هل تشغل ذهنك؟‬
‫‪ً -‬‬
‫قليًّل‪.‬‬
‫‪ -‬ليس هناك ما يشغلك‪ ..‬إن األمور سوف تتحسن‪ ..‬فكري في هدوء‪ ،‬وأنت ترين أشياء جميلة‪.‬‬
‫ثقي بنفسك ً‬
‫قليًّل‪ ،‬وسوف ترين أن كل شيء على ما يرام‪.‬‬
‫‪ -‬هذه الرياح التي تهب باستمرار‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أقول لنفسي إن هذا يوم جميل للسفر‪.‬‬
‫ولكنها لم تجب عليه‪ ،‬وإنما خطت بعض خطوات‪ ،‬ودارت دورة كاملة لتتحدث إلى ليجي‬
‫وظهرها للهواء القوي‪ .‬كانت تعرف أنها امرأة قوية‪ ،‬ولكنها تحتاج اآلن إلى قوته هو‪ ،‬لذلك‬
‫قالت له‪:‬‬
‫سيرا حسنًا ومؤكدًا يا ليجي؟‬
‫‪ -‬هل تعتقد أن األمور سوف تسير ً‬
‫فرد عليها ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬تناولي بعض الدهنيات يا حبيبتي‪ ،‬وال تطلقي العنان لمخاوفك‪ .‬هل تسمعينني؟‬
‫واستخدم لف ً‬
‫ظا قلما استخدمه معها وهو «حبيبتي»؛ ألنه كان يشعر بأنها بحاجة إليه‪.‬‬
‫وكانت تسمع بعض األصوات من خلفها‪ ،‬لذلك استدارت لترى تادلوك قاد ًما فوق ظهر جواده‪.‬‬
‫وتحدث وهو يقفز واقفًا ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نحبس هنا ونحاصر‪.‬‬
‫فأجاب ليجي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫‪ -‬ي قول سمرز‪ :‬إن هذه هي فرصتنا األخيرة للحصول على أخشاب للجرارات ومقدمات‬
‫العربات‪ ،‬وسوف أفترض أن هذا الوضع هو الصحيح‪.‬‬
‫‪ -‬ديك يعرف معرفة تامة‪.‬‬
‫وقال تادلوك‪ ،‬كما لو كان يغالطهم في ذلك‪:‬‬
‫ضا‪ ..‬يقلن إنهن يرغبن في القيام بغسل بعض المًّلبس‬
‫‪ -‬إن بعض النساء يرغبن في التوقف أي ً‬
‫وتنظيف األواني هنا‪.‬‬
‫‪ -‬هل األمر كذلك؟‬
‫‪ -‬إنني أكره هذه التعطًّلت التي ال نهاية لها‪.‬‬
‫‪ -‬سوف نحتاج إلى بعض المحاور ومقدمات العربات قبل أن نبتدئ من جديد‪.‬‬
‫فقال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد ذلك‪ ..‬لكن هذا األمر ممل للغاية‪.‬‬
‫وحينما امتطى جواده صاح ليجي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو تادلوك‪.‬‬
‫‪ -‬قوي وكبير أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬هل تنادونني؟‬
‫‪ -‬أنت في جانبه‪.‬‬
‫فأومأ ليجي بطرف عينيه‪ ،‬كأنما ليقول نعم‪.‬‬
‫‪ -‬لم أقل أنني مستعد للقيام بذلك اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬هناك البعض الذين هم على استعداد‪ ..‬مثل باتش‪ ،‬وجورهام‪ ،‬ودورتي ‪ -‬كما سمعت‪ ،‬أليس‬
‫كذلك يا ليجي؟‬
‫واستمر ليجي يومئ برأسه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إ ن هذا ليس من شأني‪ ..‬ولكنهم يقولون إنه يتحدث بسرعة‪ ..‬إن السبب في ذلك هو أن ماشيته‬
‫هي التي تتسبب في البطء‪ ..‬وبخاصة لعدم وجود أحد معه يعاونه‪ ،‬ماعدا مارتن وماك بي‬
‫لبعض الوقت فقط‪.‬‬
‫‪ -‬أليسوا على حق في ذلك؟‬
‫فتحدث ليجي من غير أي حماس‪ ،‬ولكنه كان يزن الكلمات في ذهنه‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬فما دام القائد باقيًا‪ ..‬فسوف يزداد نفوذه‪ ،‬وسوف يحاول العمل بقوة‪ .‬إن هذا ليس مكانًا‬
‫يسهل العمل فيه حيث يوجد البعض من الراغبين في اإلسراع والبعض اآلخر يرغب في‬
‫العودة‪ ،‬والبعض الثالث يخشى الهنود‪ ،‬والبعض الرابع يأسف لهذه الحالة‪ ،‬والبعض الخامس‬
‫يقف على الحياد‪.‬‬
‫‪ -‬إنه لن يفقد الرحلة يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬إن المسألة هي من هو األفضل؟‬
‫‪ -‬أنت األفضل‪ .‬هل أنت مجنونة؟‬
‫‪ -‬أنا!‬
‫وتقلص وجهه وظهرت عليه سمات االنزعاج‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لم تعط نفسك حقها أبدًا بالنسبة لما تستطيع أن تفعله حقيقة‪.‬‬
‫وقبل أن يحري جوابًا كان الركب قد بدأ يتحرك‪ ،‬وبدأت تسمع أصوات المدارات‪ ،‬وشاهدت‬
‫مقدمات العربات تتأرجح‪ ،‬ثم سألها ليجي‪:‬‬
‫ت على ما يرام اآلن يا بيكي؟‬
‫‪ -‬هل أن ِ‬
‫‪ -‬ماذا تقول؟‪ .‬ليس بي شيء‪.‬‬
‫ثم سارت إلى الخلف وتلفتت حولها والرياح تصفر في أذنيها‪ ،‬وتحدثت إلى فريقها‪ .‬كانت‬
‫تعرف أنها على ما يرام‪ ،‬وكانت تعرف أن ليجي يستطيع أن يعمل بالقليل من الدفع‪ ،‬ولكنها‬
‫لن تفكر في ذلك‪ ،‬إنها تفكر اآلن في المعسكر‪ .‬وبعد أن أنهت عملية الغسيل‪ ،‬وإعداد العشاء‪،‬‬
‫طا من الراحة‪ ..‬ولكن ليجي وبراوني سوف‬ ‫استطاعت أن تستريح‪ ،‬وأن تدع نفسها لتنال قس ً‬
‫يتحدثان فترة بسيطة حول هذه األرض التي ال تضم مأوى أو مسكنًا‪ ،‬وحول المسكن الجديد‬
‫الذي سوف يمتلكونه ليحميهم من الرياح‪.‬‬
‫ثم قامت بضم ذراعيها إلى صدرها لتدفئهما وتدفئ صدرها وتستريح‪ ..‬إن أي امرأة تمتلك مثل‬
‫صدرها تخشى أن تقف لتعمل في طرقات أوريجون‪.‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫قال ديك سمرز‪:‬‬


‫‪ -‬إن الوقت مناسب للوصول إلى بًّلت‪ ..‬ونحن نستطيع أن نبتدئ من اآلن‪.‬‬
‫فأجابه ليجي إيفانز‪ ،‬وهو يعتقد أن عيني ديك كانتا تتطلعان إلى بًّلت‪ ..‬تنظران نظرة بعيدة‬
‫إلى المسافة‪ ..‬نظرة خاصة باألشياء البعيدة التي تحضر إلى الذهن والذكريات‪ :‬أوه‪ -‬هاه‪.‬‬
‫وأدار إيفانز رأسه باحثًا عن التًّلل التي كان الناس يتحدثون عنها مثل سواحل نبراسكا‪ ،‬ثم‬
‫قال‪:‬‬
‫ً‬
‫طويًّل في اإلعداد لها‬ ‫‪ -‬إنها الرحلة الوحيدة التي قمت بها في حياتي‪ ،‬والتي استغرقت وقتًا‬
‫والبدء بها‪ .‬كان يعرف ما يعنيه ديك‪ ..‬كان ديك يعني أنه في حالة الوصول إلى بًّلت سوف‬
‫يجدون أنفسهم في منطقة مختلفة تمام االختًّلف تمهيدًا للبدء الحقيقي في التوجه إلى الجبال ثم‬
‫إلى أوريجون‪ ..‬لقد شعر هو نفسه بهذا الشعور مع أنه لم يسبق أن اشترك في ركب‪ ،‬ولم يسبق‬
‫له مشاهدة بًّلت إال من خًّلل أحاديث الناس إليه‪ ..‬سوف تكون هذه المنطقة ضحلة وكبيرة‪..‬‬
‫بها نهر رملي وضفاف مسطحة‪ ..‬ال توجد أشجار إال في منطقة الجزر المليئة باألوحال‪ ،‬والتي‬
‫يكثر فيها الجاموس البري لدرجة ال يستطيع اإلنسان معها إحصاءه‪.‬‬
‫وامتطى باتش جواده بجانب ديك‪ .‬ودورتي‪ ،‬ومارتن‪ ،‬وقام الجميع باكتشاف مكمن الهنود‬
‫ودراسة معالم الطريق؛ حتى تستطيع العربات أن تسلكه بهدوء‪ .‬وقال باتش إليفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا يبدو أكثر من بداية‪ ،‬إذا كانت الخطوة األولى قد جاءت بالفعل من ماساتشوستي‪.‬‬
‫فأجاب إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعتقد أن حمى أوريجون قد انتقلت إلى هذا المكان البعيد‪.‬‬
‫وجاءت ابتسامة بسيطة متسائلة على وجه باتش لتقول‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تسمع من قبل عن هول كيلي‪ ،‬أو كابتن ويث؟‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أقول إنني سمعت ذلك‪.‬‬
‫وكان سمرز يهز برأسه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫مرا أُطلق عليه اسمه‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أعرف ويث‪ ..‬إن هناك م ًّ‬
‫وتوقع إيفانز أن يستمر ديك في ذكر المزيد‪ ،‬ولكن كل ما قاله ديك بعد ذلك هو‪:‬‬
‫ً‬
‫وممتازا‪.‬‬ ‫‪ -‬لقد كان إنسانًا طيبًا‬
‫ونظر إليه فشاهد عًّلمات التفكير تنعكس عليه‪ ،‬واعتقد إيفانز أن «ديك» يحاول الرجوع‬
‫بذاكرته إلى الوراء ليتذكر «ويث»‪ ،‬واأليام الخوالي التي ذهبت واندثرت‪.‬‬
‫ثم قال باتش‪:‬‬
‫‪ -‬كان كيلي وويث يرغبان في أوريجون مثلما يرغب أي إنسان فيها‪ ..‬وبخاصة كيلي نفسه‪.‬‬
‫لقد كان عندنا لمسة من حمى أوريجون قبل أن يعرف اآلخرون أي شيء عنها‪.‬‬
‫ثم صمت باتش بعد ذلك‪ .‬وكان أنفه الرفيع قد تلون بلونه الطبيعي وبدا عليه االهتمام‪ ..‬كان‬
‫كوجه «يانكي»‪ ..‬ولكنه لم يكن وج ًها سيئًا‪ ،‬كما يعتقد إيفانز‪.‬‬
‫وتحرك إيفانز فوق سرجه‪ ..‬في حين كان روك العجوز قد انتهى من جولته االكتشافية بين‬
‫الشجيرات وبعض األعشاب التي داست عليها أقدام الجياد‪ .‬كان روك ‪-‬هذا الكلب العجوز‪-‬‬
‫ثابتًا يسير باتزان وعظمة‪ ،‬وكان يتبع الجميع وهم يتجهون إلى المنحدرات المدرجة التي‬
‫تسلقوها‪ ،‬واستطاع أن يرى العربات تسير في تيار عنيف من الرياح ووسط دوامة من األتربة‬
‫والغبار‪ ..‬كان الوقت قد بدأ يزحف نحو الظهر‪ ،‬في حين كانت القافلة تشق طريقها‪ .‬كانت‬
‫ضا‪ ،‬يحوطها ويسير خلفها‬ ‫الجياد الطليقة تسير خلف العربات‪ ،‬وتسير الماشية خلف الجياد أي ً‬
‫الحراس من كل جانب للمحافظة على نظام سيرها‪ ،‬ودفعها إلى األمام‪ .‬وكانت النساء واألطفال‬
‫يسيرون في الخارج وسط األتربة يضحكون ويتسامرون ويشاهدون األزهار الطبيعية البرية‬
‫القوية لدرجة تثير الدهشة في نموها في هذه البقاع الواقعة بين «ليتل بلو» وبًّلت‪ ،‬ووجدت‬
‫النساء زهور الكاكتوس الحبيبة إلى قلبها‪ ،‬والورود البرية التي بدأت براعمها في االزدهار‪.‬‬
‫وكانت ألوان األزهار تشع أضواء في ضوء الشمس‪ ،‬على الرغم من وجود األتربة‪ ،‬في حين‬
‫ً‬
‫رجًّل‬ ‫كانت قمم العربات البيضاء مغطاة بطبقة سميكة من األتربة‪ .‬وفي هذه األثناء شاهد إيفانز‬
‫يسير على طول الخط‪ ..‬ربما كان تادلوك نفسه يحاول أن يجعل الركب يسير في اتجاه مستقيم‬
‫ً‬
‫رجًّل عظي ًما في النظام‪ ،‬وفي إلقاء األوامر‪ ،‬على الرغم من أنه لم يكن يجيد‬ ‫واحد‪ ..‬لقد كان‬
‫كثيرا كما يجب أن يكون عليه القائد‪ .‬وكان إيفانز‬‫ً‬ ‫ركوب الخيل‪ .‬لذلك لم يستطع أن يركب‬
‫يتعجب من أنه لم يفكر أبدًا في الكًّل ب التي كان يرغب في قتلها‪ ..‬أما اآلن فهناك كلب يسير‬
‫خلفه‪ ،‬وهناك نحو ستة كًّلب غيره تسير خلف النساء واألطفال‪ ،‬وتندفع بين حين وحين في‬
‫كثيرا على العدد الذي قطعته‬
‫أحد الجوانب‪ ..‬استطاعت الكًّلب أن تسير عددًا من األميال يزيد ً‬
‫الجياد أو الثيران‪ ،‬ومازالت مستمرة في طريقها‪.‬‬
‫واستطاع إيفانز أن يشاهد بنفسه عربتيه‪ ،‬وأن يميز ربيكا بجوار إحداهما‪ .‬وال شك أن براوني‬
‫كان بداخل العربة الثانية يقودها‪ .‬وكان يعرف والفخر يملؤه أن ربيكا سوف تبحث عنه؛‬
‫لتستوثق من أنه على ما يرام‪ ،‬كما يبحث هو نفسه عنها ليستوثق من ذلك‪.‬‬
‫مضطرا الستنشاق األتربة‪ ،‬وكان ماك‬
‫ًّ‬ ‫كان ذلك في يوم من األيام حينما ال يجد براوني نفسه‬
‫قد طلب معونة شيلدز في مرة من المرات‪ .‬أما اآلن فقد عاد شيلدز باألبقار‪ ،‬ولم يكن إيفانز‬
‫يفكر مطلقًا في ماك‪ ،‬ولكنه فكر في ليلة هروب الماشية‪ ،‬وقيام ماك بقتل الهندي‪ .‬لقد كان القتل‬
‫قاسيًا وال فائدة منه‪ ،‬لم يستطع أن يعود عليه بشيء‪ ،‬على الرغم من أن بعض الرجال قد‬
‫ضحكوا في هذه اآلونة قائلين إن الهندي قد أصيب بحالة مرض سقط على إثرها‪ ..‬وتستطيع‬
‫أن تفكر أنت من خًّلل حديثهم أن الهندي يشبه الحشرات التي يجب التخلص منها‪ ،‬وكان ماك‬
‫ً‬
‫فاضًّل‪ ،‬ما لم يكن غريبًا‪.‬‬ ‫ً‬
‫رجًّل طيبًا‬ ‫يبدو‬
‫ثم استدار إيفانز فوق سرج جواده‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬تادلوك‪ ..‬أال تعتقد أننا نسير في الطريق الصواب؟‬
‫فأجابه باتش‪:‬‬
‫‪ -‬إن تادلوك يأكل الكثير من البقول‪.‬‬
‫وتحدث كما لو كان قد أدار جميع األشياء في ذهنه‪ ،‬وخرج بإجابته التي ال يستطيع أي إنسان‬
‫االعتراض عليها‪.‬‬
‫كان مارتن قد جاء مع تادلوك من إلينوي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن تادلوك على ما يرام‪.‬‬
‫ثم نظر إلى باتش بعينين تشع منهما الغباوة‪ ،‬وكان وجهه يبدو كما لو كان يعرف أنه ال يجد‬
‫من يبادله العطف‪ ،‬ثم سار في طريقه وهو يقفز قفزات خفيفة فوق جواد كأنه في يوم بارد‪.‬‬
‫لم يكن باتش من النوع الذي يبتدئ القتال‪ ،‬على الرغم من أن إيفانز كان يعتقد أنه يستطيع أن‬
‫يحمي نفسه إذا رغب في ذلك‪ ،‬لذلك لم يجب على مارتن‪.‬‬
‫وهنا قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ربما ال يكون شيئًا سيئًا حين يجد مثله إنسانًا يدفعه‪.‬‬
‫فتحدث مارتن ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا هو ما أقوله‪ ،‬وكما يقوله هو‪ ،‬يجب أن يكون هناك من يتولى المسؤولية‪.‬‬
‫ولكن ديك قال‪ ،‬وعًّلمات الغضب تبدو عليه ً‬
‫قليًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ال يجب عليه أن يأخذها لنفسه‪ ،‬مثلما أخذها هللا لنفسه‪ ..‬إيه! أليس كذلك يا دورتي؟‬
‫ً‬
‫طويًّل قط‪ ،‬على الرغم من أن حب الكًّلم كان‬ ‫ولكن دورتي لم يشترك في الحديث‪ ،‬ولم يتحدث‬
‫يبدو على وجهه‪ ،‬ولكنه مع ذلك استمر في صمته‪ ،‬في حين كانت عيناه تشعان ضو ًءا بصفاء‬
‫زرقتهما‪ ،‬وكانت الحمرة تكسو وجنتيه تحت وهج الشمس‪ ،‬ثم يتغير لونهما‪ ،‬ثم يعودان كما‬
‫صا أحمر‬‫كانا مثلما تفعل الحية بجلدها الذي تبدله ثم تعود إلى طبيعتها‪ ..‬وهكذا‪ .‬كان يرتدي قمي ً‬
‫صا بالصيد‪ ،‬ويحمل معه بندقية عتيقة‪ ،‬ربما كان والده يستخدمها للصيد حينما كان‬ ‫قدي ًما خا ًّ‬
‫غًّل ًما في غرب فرجينيا‪.‬‬
‫وقال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬لقد مر وقت طويل منذ أن ابتعدت عن فكرة‪ :‬إن ما يؤذيني سوف يكون لصالحي جسدًا‬
‫ورو ًحا‪.‬‬
‫فرد عليه إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أال تترك األخ ويذربي يسمعك تقول ذلك‪.‬‬
‫فاستمر ديك في حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬إن ما شفاني في حقيقة األمر هو طب الهنود‪.‬‬
‫فتساءل باتش‪:‬‬
‫‪ -‬طب الهنود؟‬
‫‪ -‬إنه دواء يحصل عليه الهند من جذور معينة‪ ،‬كانت والدتي تمسكني من أنفي‪ ،‬وحينما أفتح‬
‫فمي ألتنفس أجدها تصب هذا الدواء من قدح صغير‪ ..‬لقد كانت تقول إنه شفاء ألنه سيئ الطعم‬
‫ومر المذاق‪.‬‬
‫فسأله باتش‪:‬‬
‫‪ -‬وهل كان كذلك؟‬
‫واستمر ديك في حديثه‪:‬‬
‫‪ -‬إ نها كانت تشبه األطباء؛ فهم يقولون إن وجود حيوية ضئيلة في اإلنسان يدل على وجود‬
‫القليل من المرض‪ ..‬ولم تنقطع عن التفكير في أن قلة الحيوية تقلل من الشفاء‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تتحدث عن الجراحين؟‬
‫‪ -‬عن الجراحين واألطباء المعالجين‪ ..‬إن المشكلة عند المريض هي‪ :‬هل يستطيع أن يعيش في‬
‫خًّلل فترة العًّلج؟‬
‫فابتسم باتش‪ ،‬كأنما يظن أن ديك ال يعتقد فيما يقوله‪:‬‬
‫‪ -‬وهل جاء العًّلج الهندي بفائدة؟‬
‫‪ -‬لقد أدى إلى النتيجة التي قصد منها‪ ،‬وربما زاد على ذلك‪ ،‬خذ جرعة منها وسوف تجد نفسك‬
‫أقوى مما أنت عليه‪.‬‬
‫‪ -‬ربما كان ذلك الدواء بالذات نافعًا‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بالنسبة لتفكيري‪ً ..‬‬
‫فمثًّل ابتلعت في مرة من المرات قطعة نقود‪ ،‬فقامت والدتي باقتًّلع‬
‫أحد هذه الجذور وغليها في ماء‪ ،‬ثم إفراغها في جوفي‪ ..‬هل تعرف أن النقود قد خرجت مشوهة‬
‫وال يمكن إنفاقها‪.‬‬
‫فسأله باتش‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬وماذا بعد ذلك؟‬
‫‪ -‬لقد قال صاحب المحل إنها عملة مزيفة‪ ،‬كان تردد صوتها أجوف‪ ،‬كنت أعرف ذلك‪ ،‬إن هذا‬
‫الدواء الهندي يستطيع أن يخرج أي شيء صلب من الجوف‪.‬‬
‫فأخذ دورتي يضحك‪ ،‬في حين َّ‬
‫قطب باتش حاجبيه‪ ،‬وقال بعد لحظة‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعني بعد ذلك أن تادلوك يشبه الدواء الهندي؟‬
‫‪ -‬إن الحديث جرني فقط إلى ذكر الطب الهندي‪ ،‬وهذا هو كل شيء‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أ ْب ِعد تادلوك‪ ،‬وسوف يكون عندنا الكثير مما نتحدث فيه‪.‬‬
‫ولم يكن يعني إنهاء الحديث‪ ،‬ولكنه توقف ولم يهتم أي إنسان بالقول بأنهم يستطيعون االستمرار‬
‫في الحديث حول الهنود‪ ،‬أو العودة ثانية‪ ،‬أو االنتظار إلى أن يصل ركب آخر ينضم إليهم‪ .‬كان‬
‫هناك في المعسكر بعض الناس الذين يرغبون في فعل ذلك أو في القيام بأي عمل‪ ،‬إال الذهاب‬
‫بالطريقة التي صمموا عليها في بداية األمر‪ .‬وامتطى الخمسة جيادهم وساروا بهدوء‪ ،‬وكان‬
‫الصوت الوحيد الصادر هو صوت أقدام الخيل وهي تسير تحت سماء صافية مشعة‪ .‬واختار‬
‫معسكرا جافًّا على الطريق المنقسم الذي كانت المياه تندفع إليه وتملؤه‬
‫ً‬ ‫ديك مكان الظهيرة‪ ..‬كان‬
‫من المكان الذي استخدموا مياهه في الصباح‪ ،‬وكان من المفروض أال تكون هناك أي مياه‬
‫على طول الطريق من راس «ليتل بلو» إلى بًّلت‪ ،‬ولكن ديك كان يعرف أين توجد المياه‬
‫على مسافة ميلين من الركب‪ ،‬لذلك قاده إليه ليكون مكان المعسكر في الليل‪.‬‬
‫وكان إيفانز يقول إن هذا الركب كان محظو ً‬
‫ظا لوجود ديك فيه‪ ،‬فإنهم من غيره كانوا سيسلكون‬
‫طريقًا جافًّا مسافة خمسة وعشرين ً‬
‫ميًّل بأقل تقدير‪.‬‬
‫واستمرت العربات تشق طريقها رويدًا رويدًا في أربعة أعمدة كما فعلت وقت الظهيرة‪ ،‬ثم‬
‫حلت أربطة الثيران‪ ،‬ولكنها لم تطلق‪ ،‬وبدأت النساء ينهمكن في إعداد الطعام‪.‬‬
‫كان التعب واإلنهاك يبدوان على ربيكا‪ ،‬لذلك سألها إيفانز بعد أن انتهت من كل شيء بعد‬
‫تناول الطعام‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ال تستريحين هذه الليلة؟ سوف أتولى القيادة بنفسي‪.‬‬
‫‪ -‬قم بعملك يا ليجي‪ ..‬هل تريد أن ترى بًّلت؟ سوف تراها قريبًا‪ ..‬وال تنس يا براوني أن تتولى‬
‫قيادة األبقار اليوم‪.‬‬
‫فابتسم لها‪ ،‬ولم يرد عليها‪ ،‬وإنما أبدى دهشته حينما عرف أنها أدركت ما يعتمل في نفسه؛ إذ‬
‫لم يصرح لها بأنه يشعر باهتمام كبير من أجل مشاهدة بًّلت‪.‬‬
‫تناول الجميع طعامهم بسرعة‪ ،‬وكانت غالبية الجوالت تطوف حول النهر‪ ،‬ثم تجمع الركب‬
‫مرة أخرى وواصل سيره‪ ..‬ولم يكن النوم يغالب أي فرد‪ ،‬وبخاصة بعد تناول الطعام وازدياد‬
‫الحرارة كما هي العادة بعد الظهر‪ ،‬ولكن كان هناك القليل من التوتر‪.‬‬
‫وقبل أن تتحرك العربات‪ ،‬امتطى إيفانز جواده واتجه إلى مصاحبة ديك وباتش والركاب‬
‫اآلخرين في الخارج‪ .‬وكان روك قد بدأ يستيقظ ويشعر بواجبه بالتدريج‪ ،‬لذلك قام بتتبع إيفانز‪.‬‬
‫وشاهد إيفانز في طريقه األخ ويذربي يتحدث بشغف لسيدتين‪ ،‬حتى بًّلت لم تستطع أن تحول‬
‫ويذربي عن طريق الخًّلص‪ ،‬كان تادلوك يقف بعربته وفي يده السوط‪ ،‬كما لو كان مستعدًّا‬
‫للنيل من أي إنسان يكسل عن القيام بعمله‪.‬‬
‫كانت األرض مستوية وممهدة أمامهم‪ ،‬ال يوجد بها أي شيء يمكن أن تلتقطه العين‪ ،‬إال بعض‬
‫الوعول بين حين وحين؛ إذ كانت تقف رافعة رؤوسها وهي تراقب ما يدور‪ ،‬ثم تدور حول‬
‫نفسها وتلوذ بالهرب‪ ،‬ثم تتجمع لتراقب من جديد‪ .‬كان باتش يرغب في أن يطلق النيران على‬
‫أحدها‪ ،‬ولكن ديك أخبره بأنهم سوف يجدون الكثير منها على طول طريق النهر‪ ،‬لذلك لم تكن‬
‫هناك حاجة اآلن لحمل ما يصيده اآلن‪ .‬استمروا في سيرهم من غير حديث كبير‪ ،‬وكان دورتي‬
‫يقف في خلف الركب ومعه أربعة من الرجال‪ ،‬وفي هذه األثناء تأخر مارتن عن المقدمة وبدأ‬
‫يسير في نهاية الركب‪.‬‬
‫ولم تكن عينا ديك مستقرتين أبدًا‪ ،‬كانتا تجوالن يمنة ويسرة‪ ،‬أما ًما وخلفًا‪ ،‬وكان إيفانز يتصور‬
‫ً‬
‫شماال أو جنوبًا كان ديك يلقي نظرة‪ ،‬ولكن‬ ‫أن ما بقي ليس إال القليل‪ .‬وحينما مروا بقافلة تتجه‬
‫إيفانز كان يعرف أن نظرة واحدة من ديك تكفي لمعرفة متى سار ركب هنا آلخر مرة‪.‬‬
‫قال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬طريق «البونيز»‪ ..‬يتجه إلى أركنساس‪.‬‬
‫‪ -‬لن نرى أي «بونيز» في الطريق‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بعد؛ ألنهم سيكونون في الغرب‪.‬‬
‫كانت الشمس تزحف نحو الغرب زحفًا بطيئًا‪ ،‬وبدأت أشعتها في مًّلطمة وجنتي إيفانز‪ ،‬األمر‬
‫الذي جعله يشعر ببعض القلق بسبب السخونة التي تعرضت لها البشرة والتي أصابته بالنعاس‪،‬‬
‫فمال فوق السرج تار ًكا ديك يتولى الرقابة‪ ،‬في حين كان ذهنه منصرفًا وينتقل من شيء غير‬
‫هام آلخر‪ ،‬ولكن ديك أعاده إلى تركيز‬
‫ذهنه حين قال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو الساحل‪ ..‬أعتقد ذلك‪.‬‬
‫فكان ما رآه إيفانز يشبه سلسلة من التًّلل المرتفعة غير المتصلة‪ ،‬تقف بحدة في اتجاه الشمال‬
‫الغربي‪ ،‬شامخة في عنان السماء‪.‬‬
‫فصاح باتش‪:‬‬
‫‪ -‬جبال!‬
‫‪ ‬تًّلل رملية‪ ،‬وليست مرتفعة كما يمكن أن تظن وأنت تقف هنا‪.‬‬
‫وثبت بعد ذلك أن ديك كان على حق‪ ،‬فكلما اقتربوا كانت تتضاءل إلى أن أصبحت في النهاية‬
‫مجرد أعمدة من الرمال ترتفع ما بين أربعين وستين قد ًما‪ .‬كانت الرياح تذروها رويدًا رويدًا‪،‬‬
‫كما كانت أشجار الكاكتوس تجمعها بعد ذلك‪ .‬وشاهد إيفانز‪ ،‬وهو يمتطي جواده‪ ،‬بالقرب منها‬
‫الكثير من األشجار التي تغطي المنطقة‪ ،‬مما جعل جواده يميل نحو األرض ويقتلع الكثير منها‬
‫ليمضغه‪ ،‬وكان هناك مسحوق أبيض من الملح ينتشر فوق سطح األرض‪.‬‬
‫كان إيفانز قد سمع من قبل عن بًّلت‪ ،‬وصورها في ذهنه‪ ،‬واعتقد أنه يعرف ما سوف يشاهده‪،‬‬
‫ولكن بعد أن أوقف جواده على القمة في ذلك الوقت لم يستطع أن يصدق ناظريه‪ ،‬لم يستطع‬
‫أن يصدق أن استواء األرض يمكن أن يكون بهذا الشكل‪ ،‬وأن امتدادها يمكن أن يسير بهذا‬
‫البعد‪ ،‬أو أن السماء ترتفع بعيدة في أغوار الفضاء‪ .‬رأى كلبه روك يقتفي أثر فأر أبيض حتى‬
‫جحره‪ ،‬وشاهد مجموعة من الوعول‪ ،‬والنهر يجري كالفضة‪ ،‬والغابات واألشجار ترتفع فوق‬
‫هذا النهر‪ ،‬وكثبان الرمال في مجموعات ضخمة‪ ..‬كأن شيئًا لم يستطع أن يتصوره أو يصفه‬
‫ً‬
‫مقفًّل‬ ‫بكلمة‪ ..‬ظن أن هذا المنظر لم يسبق أن شاهده العالم من قبل‪ .‬لقد عاش هذا المنظر‬
‫بواسطة األشجار التي تحيط به والتًّلل التي تلفه‪ ،‬واعتقد أن العالم ليس سوى لعبة‪ ،‬وأن التًّلل‬
‫والهضاب والجبال مهما ترتفع‪ ،‬فلن تصبح أكثر من بندقية ترتفع في فضاء الكون‪.‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪ -‬يا أهلل! يا أهلل! يا ديك‪.‬‬
‫فهز ديك رأسه وهو يعرف أن هذا المنظر قد عقد لسانه من قبل‪ ،‬وأخرس األلسنة القوية‬
‫وجعلها ال تستطيع أن تعبر بكلمات واضحة عن هذا المنظر‪ ،‬كما لو كان هذا المنظر قد حطم‬
‫جميع قواعد الحديث‪.‬‬
‫أوقف إيفانز جواده‪ ،‬وكان ديك يركب بجواره‪ ،‬وباتش بالجانب اآلخر‪ ،‬في حين كان مارتن في‬
‫المؤخرة‪ ،‬فأحس بشعور عميق داخل نفسه‪ ،‬وظل يردد‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن أعرف أبدًا أنه سوف يكون على مثل هذا الجمال وهذه الروعة‪.‬‬
‫قال ذلك بصوت مرتفع ولكن أمام نفسه‪ ..‬كان متواضعًا‪ ،‬ولكنه كان متمال ًكا لنفسه ف ً‬
‫خورا بقوته‬
‫وبكبريائه الصامتة التي جعلته يسعى إلى أوريجون‪ ..‬سوف يكون األمر ً‬
‫سهًّل‪ ،‬ولكنها لن تكون‬
‫عا من التسلية كما يسميها بعض الناس‪ ..‬كان االسم عظي ًما‪ ..‬وهو االسم الوحيد الذي أمكن‬
‫نو ً‬
‫أن يطلقه عليه في ذهنه‪ .‬شعر بالعظمة والقوة تكتسحان كيانه‪ ،‬عظمة تأتي من عظمة‪ ،‬ولكنه‬
‫تنازل عنها وهو يفكر في تادلوك‪ ،‬وأهميته الذاتية‪ ،‬ولكنه ظل يشعر بالعظمة‪ .‬والتصق ديك‬
‫بجواده‪ ،‬والتصق األربعة اآلخرون كذلك‪ ،‬وساروا بتؤدة فوق المنحدر الصعب‪ ،‬ثم عبروا‬
‫أخيرا إلى النهر‪.‬‬
‫ً‬ ‫السهل المستوي‪ ،‬ووصلوا‬
‫الفصل العاشر‬
‫كان على هيجنز أن يبتسم لنفسه؛ فقد كان الرجال يثيرونه بالضحك واالبتسام‪ ،‬وبخاصة حينما‬
‫يتحدثون إلى النساء‪ ،‬وحينما تجمعت عربات الركب في طريقها إلى منطقة بًّلت‪ ..‬كان الرجال‬
‫يتحدثون في موضوعات ال تتسم بالحياد وهم منفردون‪ ،‬ولكن األدب والحياء والرقة تفيض‬
‫منهم جميعًا حينما يتحدثون في حضرة بعض النساء‪ ..‬إن الرجال يبدون أكثر رقة ولطفًا وأدبًا‬
‫حين وجود الجنس اآلخر بينهم‪ .‬كان السؤال الذي أخذ يدور بعد أن قل توافر الخشب‪ ..‬هو‪:‬‬
‫ماذا ستفعل النساء حين الطهو والرغبة في إشعال النار؟ هل يستخدمن روث الماشية؟ إن أي‬
‫مجنون مثله قد يفكر في ذلك‪ ،‬ولكن ال‪ ..‬سوف يقرر األزواج ما يريدون ويعودون إلى نسائهم‬
‫وأمارات الجد ترتسم على وجوههم ليقولوا ما يرونه سلي ًما ومناسبًا‪ .‬ولكن كيف سيقولون ذلك؟‬
‫نظرا لعدم توافر األخشاب‬ ‫كان هينجز يتعجب! كيف سيتولى المستر بيرد إخبار زوجته؟ مدام؛ ً‬
‫عا محددًا ولكنه قام تلقائيًّا؛ إذ كان‬
‫فسوف نضطر إلى استخدام روث الماشية‪ .‬لم يكن ذلك اجتما ً‬
‫معظم الرجال موجودين‪ ،‬وكان ديك سمرز يرتكز على حافة بندقيته في أحد األركان وينظر‬
‫إليهم‪ ،‬ثم ينظر بعيدًا إلى الشمس الغاربة التي تختفي وسط مًّليين األميال من البراري‪ .‬حاول‬
‫هيجنز أن يتكهن ما يدور في رأسه‪ ،‬ربما فكر في أن هناك لوائح خاصة فيما يجب فعله للطهو‪،‬‬
‫إذا لم تكن هناك أخشاب‪ ..‬لوائح خاصة باللجوء إلى روث الماشية‪.‬‬
‫كان بيرد يتحدث ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنني باألصالة عن نفسي ال أرغب في ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل لم يستطع هيجنز أن يفهمه فه ًما تا ًّما‪ ،‬إال كما يراه أمامه متزنًا يجلس بحكمة‬ ‫كان بيرد‬
‫ويتحدث بعقل مع المجموعة‪ ..‬وهو لم يتعود أن يلمس الحيوانات أو يستخدم ما يخرج منها‬
‫طا قد جاء من مكان ما من الشرق يتمتع بشخصية قوية وبارزة‪ ،‬جاد في‬ ‫رجًّل وس ً‬
‫ً‬ ‫بنفسه‪ .‬كان‬
‫أخًّلقه وطباعه‪ ،‬حكيم في تصرفاته‪ ،‬مهذب في مسلكه مع النساء‪ ،‬يقول «آمين» وراء كلمات‬
‫األخ ويذربي وصلواته‪ ،‬ولذلك اعتقد هيجنز أن له أفكاره الخاصة بشأن هذا الموضوع وبشأن‬
‫موضوعات أخرى‪.‬‬
‫وتحدث تادلوك كما يتحدث دائ ًما‪ ،‬وكما لو كان لم يترك شيئًا لم يذكر‪ ،‬وهو يجه كلماته إلى‬
‫سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬ال يوجد بيننا من يرغب في ذلك‪ ..‬ولكن هل أنت متأكد؟‬
‫فهز سمرز رأسه‪ ،‬كان ‪-‬حتى ذلك الوقت‪ -‬ينظر عبر مًّليين األميال من السهول‪ ،‬وأخذ هيجنز‬
‫يتكهن بأنه قد قنع وشعر بالسرور البسيط بما يكون قد ذكره في الحديث التافه‪ .‬وتتبع هيجنز‬
‫نظرات وحملقة تادلوك في اتجاه النهر حيث كانت هناك مجموعة متفرقة من الشجيرات‬
‫وبعض األحطاب وثًّلث أشجار ميتة‪ ،‬حيث كان بوتر وبراوني إيفانز وغيرهما يعملون‬
‫معاولهم فيها تقطيعًا؛ لمحاولة الحصول على وقود كافٍ للنيران‪ ،‬ثم أخذت عينا تادلوك تجوبان‬
‫ما وراء النهر حيث توجد منطقة بًّلت‪ ،‬ما عدا جزيرة صغيرة من األشجار والغابات التي‬
‫تقف عارية وسط بحر من الرمال‪.‬‬
‫ً‬
‫سؤاال‪:‬‬ ‫وقال تادلوك‪ ،‬وهو ينظر إلى أعالي النهر كما لو كان ال يسأل‬
‫‪ -‬ال توجد أخشاب‪ ..‬ال أخشاب على اإلطًّلق‪.‬‬
‫فرد عليه سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ليس بما فيه الكفاية‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا عن روث الماشية؟‬
‫‪ -‬متوافر‪ ..‬سوف ندخل منطقة يتوافر فيها روث الجاموس البري‪.‬‬
‫ضا؟ ألم يسبق أن استخدمه آخرون؟‬
‫نادرا أي ً‬
‫‪ -‬ألن يكون ً‬
‫‪ -‬إنه يتراكم بسرعة كبيرة‪.‬‬
‫وكانت إجابة حاذقة شعر بها هيجنز‪ ،‬ولكن تادلوك لم يبتسم لذلك‪ ،‬بل قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أفهم ذلك‪ ..‬لماذا توجد أشجار وغابات فوق الجزر؟‬
‫ولكن فيرمان‪ ،‬الشاب اللطيف النشيط‪ ،‬مال فوق األرض وأخذ حفنة من التربة وقلبها بين‬
‫بنصره وأصابعه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إ ن هذه التربة ال تصلح إلنتاج أي شيء سوى األعشاب واألشجار الشوكية (الصبار)‪ ،‬إنها‬
‫رمال‪.‬‬
‫فتحدث تادلوك ببطء‪ ،‬كما لو كان متج ًها لإلدالء بإجابة قاطعة وقوية‪:‬‬
‫‪ -‬يجب إذن أن تكون تربة الجزر غنية‪.‬‬
‫وبدأ الرجال يفكرون ويهزون رؤوسهم‪ ،‬ولم ينقذهم من تفكيرهم سوى قول سمرز نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬إن الهنود يشعلون النيران في البراري‪ ،‬ولكن النيران ال تصل إلى الجزر‪.‬‬
‫كثيرا باإلجابة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫وبدأ تادلوك ينظر كما لو كان ال يهتم ً‬
‫‪ -‬على أي حال هذا ليس هو السؤال‪ ..‬هل نستطيع أن نجد ونلتقط وقودًا كافيًا من الشجيرات‬
‫واألعشاب الجافة في أثناء سيرنا؟‬
‫فأجابه سمرز‪ ،‬كما لو كان يرغب في لمس تفكيره‪:‬‬
‫‪ -‬إن ذلك سوف يعرقل ويعوق سير الركب ويبطئ من حركته‪.‬‬
‫فغشيت وجه تادلوك سحابة قاتمة‪ ،‬ورد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نكتسب الوقت وال نضيعه‪.‬‬
‫فقال ليجي إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم يكن هناك شيء آخر‪ ،‬فلن يكون أمامنا سوى األمر األول‪.‬‬
‫ثم اقترب من تادلوك ونظر هيجنز إليه وإلى تادلوك ووازن بينهما في الحجم‪ ،‬كان إيفانز أطول‬
‫صدرا من إيفانز‪.‬‬
‫ً‬ ‫من تادلوك‪ ،‬وكان تادلوك أنحف‬
‫وقال بيرد بهدوء مثل البومة التي تقبع ساكنة‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه يجب أن ننظر إلى هذه المسألة بعين االعتبار‪ ،‬إنها ليست مجرد شيء يتم تقريره‬
‫من غير تركيز وعقل‪ ..‬ماذا تقول أيها األخ ويذربي؟‬
‫ً‬
‫وسرواال قدي ًما به تمزق‪ ،‬ولم يجب على الفور‪ ،‬ولكنه‬ ‫صا أزرق‬
‫فوقف ويذربي وهو يرتدي قمي ً‬
‫أخذ يجول بناظريه إلى أعلى وأسفل‪ ،‬وإلى ما هو أبعد من ذلك‪ ،‬كأنما يستعد لمخاطبة هللا‪.‬‬
‫ثم قال بيرد وهو يزم شفتيه‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أود أن أذكر كل حديثي هنا؛ ألن الوضع هنا يبدو غير مناسب‪ ..‬يجب أن نسأل الناس‬
‫االمتناع عن استخدام الروث إذا استطعنا أن نتجنبه‪ ،‬إنه شيء ال يليق بالسيدات‪.‬‬
‫فصاح إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬شو!‬
‫وبدأ بيرد يدرس إيفانز ً‬
‫قليًّل‪ ،‬كما لو كان قد فوجئ بظهور إنسان يشعر بشعور مخالف له‪.‬‬
‫واستمر إيفانز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن زوجتي سوف تستخدمه‪ ،‬وال تفكر في شيء غيره‪.‬‬
‫فرد بيرد ً‬
‫قائًّل‪ ،‬وهو يبدو كما لو كان قد فقد ثقته في نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬ولكني ما زلت أعتبر هذه الفكرة غير سليمة‪.‬‬
‫وانتصب هيجنز بملء راحته فوق األرض‪ ،‬وذلك بعد أن فوجئ بأن بيرد وبعض الرجال‬
‫حرا‪ ،‬وال يفكرون كبشر‬‫تفكيرا ذاتيًّا ًّ‬
‫ً‬ ‫اآلخرين يخضعون في تفكيرهم آلراء النساء وال يفكرون‬
‫تفكيرا بعيدًا عن الواقع‪ .‬ولم يقم هيجنز من‬
‫ً‬ ‫واقعيين مكونين من لحم ودم ومعدة‪ ،‬وإنما يفكرون‬
‫نفسه قاضيًا على النساء‪ ،‬ولكنهن سوف يجدن أنفسهن مضطرات للخضوع للواقع‪ .‬إن النساء‬
‫رؤوسهن أشد صًّلبة من الرجال‪ ،‬وهذا ما قد ينطبق على مسز بيرد‪.‬‬
‫كان ماك بي هادئًا‪ ،‬وهو أمر غير معهود فيه‪ ،‬وكان يبصق ويتحدث حديثًا مزع ًجا ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬إ ن القليل من التنازل عن الكبرياء لن يضر في شيء‪ ،‬ولن يؤذي أي إنسان‪ ..‬واستخدام‬
‫الروث الجاف سوف يساعد على إتمام الطهو وينتهي كل شيء‪.‬‬
‫فانتحى باتش ببيرد جانبًا‪ ،‬وتحدث بهدوء بوجهه الصارم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن استخدام لغة كهذه وشعور كذلك الشعور لن يؤدي إال إلى االعتراض‪.‬‬
‫فنظر ماك بي إلى تادلوك ولم يستشف منه شيئًا‪ ،‬مما جعله يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن زوجتك تعرف ما يكفي لمنع تدخلها‪.‬‬
‫واستعد ماك لإلجابة‪ ،‬ولكن تادلوك تحول إليه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أغلق فمك‪.‬‬
‫فغمغم ماك وأخذ يحك لحيته‪ ،‬ثم يبصق على األرض‪ ،‬ثم أجاب بعد فترة صمت قصيرة‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا فوق ما أسمح به‪.‬‬
‫وتحدث تادلوك إلى االثنين‪ ،‬كما لو كان يحذر ماك بي ويطمئن اآلخرين‪:‬‬
‫‪ -‬نستطيع على أي حال أن نسميها «شبس»‪.‬‬
‫ولم يكن هيجنز قد ابتعد وهدأ بعد‪ ،‬وبخاصة بعد أن شاهد بيرد يهز رأسه‪ ،‬لذلك تساءل ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ال نسميها كع ًكا؟‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟‬
‫ً‬
‫مقبوال‪.‬‬ ‫‪ -‬إنه اسم يجعلها تختلف عما هي عليه‪ ..‬اسم جميل ممكن أن يكون‬
‫أخذ تادلوك يفكر في ذلك‪ ،‬في حين تبادل سمرز وإيفانز النظرات‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ليس وقت السخافات‪.‬‬
‫ثم حملق في هيجنز كما لو كان هيجنز لم يعر هذا الموضوع أي احترام أو اعتبار‪.‬‬
‫‪ -‬إنك ال تبدي أي اهتمام‪.‬‬
‫فأجاب هيجنز‪:‬‬
‫‪ -‬حينما أعمل أجد في عملي‪ ،‬وحينما أستريح أعطي نفسي حقها في االستراحة‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت ال تجهد نفسك بالتفكير في حماية زوجة‪.‬‬
‫‪ -‬إنني كنت أحتاج إلى حماية من آخر زوجة لي‪.‬‬
‫استمد األخ ويذربي قوته من السماء‪ ،‬ثم وجه نظره إلى ماك بي‪ ،‬ولكنها لم تكن نظرة قاسية‪،‬‬
‫بل كانت نظرة مليئة بالتراحم كما اعتقد هيجنز نفسه‪.‬‬
‫وهنا سأل تادلوك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقول يا ماك؟‬
‫فأجاب ماك‪:‬‬
‫‪ -‬ال شيء‪.‬‬
‫ثم نظر إلى أسفل في اتجاه النهر حيث كانت النساء يحمن هناك‪.‬‬
‫وقال تادلوك‪ ،‬كما لو كان يوجه كًّلمه إلى أطفال ويشرح لهم‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬لنفحص اإلمكانيات‪.‬‬
‫ثم عد النقاط على أصابعه واستمر يقول‪:‬‬
‫أوال‪ :‬إ ننا نستطيع أن نحاول جمع كمية كافية من األخشاب على طول الطريق الذي نسير‬ ‫‪ً -‬‬
‫عليه‪ .‬ثانيًا‪ :‬ربما نستطيع أن نطهو كمية كافية من الطعام تكفي لمساعدتنا على االستمرار في‬
‫السير من غير إيقاد النيران لعدة أيام‪ .‬ثالثًا‪:‬‬
‫فتحدث إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أو أن يقوم الرجال بالطهو بأنفسهم‪ ..‬إنني ال أرى أي فائدة من وراء الحديث‪.‬‬
‫‪ -‬إننا نريد الشعور العام‪.‬‬
‫فأجاب إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أرغب في أن أقوم بالطهو‪.‬‬
‫وترك ماك المجموعة‪ ،‬تركها من غير أي حديث كرجل شعر بتعب من الحديث‪ ،‬وشاهده‬
‫هيجنز يتحدث إلى الفتاة ميرسي ماك بي‪ ،‬ويبتسم وهو يسير في طريقه‪.‬‬
‫كان إيفانز هو الشخص الذي ترك الرجال يتساءلون‪ ،‬لقد سألهم‪:‬‬
‫‪ -‬هل ترغبون في أن تتولوا الطهو بأنفسكم؟‬
‫لم يكن بيرد وباتش يرغبان في مواجهة أي اختيار وبخاصة بيرد نفسه‪ ،‬كانا ينظران إلى‬
‫األرض ويضغطان بأرجلهما بقوة ويهزان رأسيهما ببطء‪ ،‬وكان هيجنز يشعر بأن باتش يتحمل‬
‫أعباء أكثر من بيرد‪ ،‬على الرغم من أنهما كانا يسيران في االتجاه نفسه ويقفان معًا‪ ،‬وكانت‬
‫أمارات الطبيعة اإلقليمية تبدو على وجه باتش (اليانكي)‪ ،‬في حين كان األدب والعجز حيال‬
‫الحيوانات يبدوان على بيرد‪.‬‬
‫وعاد األخ ويذربي بذهنه إلى األرض‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ما يريده هللا سوف يكون‪.‬‬
‫فتساءل تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫‪ -‬أعني أنه إذا لم يكن قد ترك لنا شيئًا لنطهو به‪ ،‬م ا عدا روث الماشية‪ ،‬فإن ذلك يعني أننا‬
‫سوف نطهو بهذا الروث‪.‬‬
‫‪ -‬نحن؟‬
‫‪ -‬هؤالء الذين يقومون بالطهو بصفة مستمرة‪.‬‬
‫فقال ماك بي‪ ،‬وقد نسي أن تادلوك قد أسكته من قبل‪:‬‬
‫‪ -‬إن ذلك يناسبني‪.‬‬
‫‪ -‬إن ما يبدو طبيعيًّا في نظر الرب ليس طبيعيًّا في نظرنا‪.‬‬
‫وكان الرجال يهزون رؤوسهم مرة أخرى‪ ،‬وشعر بيرد بتحسن بعد أن شعر أن الرب قد اتخذ‬
‫موقفًا‪.‬‬
‫وتحدث هولدريدج ‪-‬ألول مرة في ذلك الوقت‪ -‬لقد كان يقف بعيدًا عن تيار الحديث يستمع‬
‫ً‬
‫رجًّل ينعكس عليه الحياء‪ ،‬على الرغم‬ ‫ويراقب بوجه تكسوه لحية سوداء‪ ،‬وكان هيجنز يعتبره‬
‫من أنه لم يبرز ذلك‪ ،‬وتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬من الذي سوف يتولى التقاط (شبس) الماشية؟‬
‫فرد تادلوك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬يستطيع الغلمان إحضاره‪.‬‬
‫واقتنع هيجنز بأن الغلمان هم أصلح األشخاص اللتقاط هذا الروث الجاف‪ ،‬أما النساء فيتولين‬
‫الطهو على نيرانه‪ ،‬ويغض الرجال النظر عن هذه األشياء‪ .‬كانت هذه الحركة مجرد انحناءة‬
‫لألخًّلق؛ ألنهم كانوا يعرفون من البداية‪ ،‬أنهم سوف يوافقون على استخدام «شبس» الروث‪.‬‬
‫وبالعودة إلى العربات‪ ،‬نجد أن هيجنز قد سمع إيفانز يقول لسمرز‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫فرد سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنها مجرد لمسة لألبقار والماشية‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الحادي عشر‬
‫ارتفع الغبار تحت أقدام الماشية ليغطي أجساد الرجال ويزكم األنوف ويملؤها باألتربة الكثيفة‪..‬‬
‫وكانت الشمس قوية وملتهبة‪ ،‬على الرغم من أن الصيف لم يكن قد حل بعد‪ ..‬واستمر هذا‬
‫الوضع حتى أصبح براوني يبدو قاتم اللون مثل السرج الذي يجلس فوقه بسبب فعل األتربة‬
‫والشمس‪ ..‬وكانت األتربة تتغلغل داخل الحنجرة وبين األسنان وتثير أو تخلق «البلغم»‪ ،‬كما‬
‫تركزت كميات منها فوق األذن وداخلها‪ ،‬واستمرت الماشية تثيرها بقوة‪ ،‬واستمر يصيح فيها‬
‫باالستمرار في السير‪ ،‬في حين كانت خطوط السماء واضحة وصافية‪ ،‬وموجات الحرارة‬
‫تنطلق بسرعة‪.‬‬
‫طا بالذهاب واإلقامة‬‫كان اسمه براوني إيفانز‪ ،‬وكان يبلغ السابعة عشرة من العمر‪ ،‬وكان مرتب ً‬
‫في أوريجون‪ ،‬وكانت اليدان اللتان تمسكان باللجام هما يداه ذواتا األظافر غير المنسقة والعظام‬
‫الصلبة التي وجدت لتطيع األوامر‪ ،‬وكانت القدمان الموجودتان في الحذاء ذي الرقبة هما‬
‫قدماه‪ ،‬وبقية جسده الداخل في قميصه وسرواله هو نفسه من الداخل‪ ،‬وكان يفكر في أفكار‬
‫معينة‪ ،‬ويشعر بشعور لم يسبق له الشعور به من قبل‪ .‬كان الجو يحمل في طياته صورة‬
‫األمطار من خارج السماء‪ ،‬كما كان هناك احتمال قيام زوبعة من الرياح تدفع السحب أمامها‪،‬‬
‫وسوف ترتعد العظام داخل الجسد بسبب البرد‪ ،‬كما ترتعد األعشاب وتنثني أمام الرياح نفسها‬
‫وتبدو حزينة‪ .‬يجب قيادة الجياد المفككة‪ ..‬إن جوادًا يرغب في حك رأسه واالنطًّلق‪.‬‬
‫سوف ينتهي اليوم شيئًا فشيئًا‪ ،‬وسوف يتضاءل الوقت‪ ،‬وقت الظهيرة‪ ،‬ووقت التوقف وإقامة‬
‫المعسكر‪ ،‬في حين كان العقل يجري منطلقًا‪ ،‬وكانت العيون تنظر يمنة ويسرة بحثًا عن الهنود‬
‫والجاموس البري وبقية الحيوانات البرية مثل كًّلب البراري‪ ،‬وكانت عربات الركب تصل‬
‫متأخرة لتستمع إلى أصوات البوم وهي تنعق في جحورها‪ ،‬أو مثل القنفذ الذي أطلق عليه أحد‬
‫الرجال نيرانه‪ .‬قال ديك سمرز إنه نوع من «الصبير» الذي قام األوالد بإزالته‪.‬‬
‫إن العين تشاهد الركب وهو يميل بفعل الرياح‪ ،‬الرجال يسيرون في مجموعات‪ ،‬والنساء‬
‫وصحوا‪ ،‬وكان الطريق ممهدًا‬
‫ً‬ ‫واألطفال يسيرون معًا على طول الطريق‪ ،‬إذا كان اليوم مناسبًا‬
‫وسلي ًما‪ .‬وقد يبدو الركاب للناظر ‪-‬مثل سمرز ووالدي‪ ،‬والمستر باتش‪ ،‬أو المستر فيرمان‬
‫والمستر تادلوك وغيرهم‪ -‬وقد تعكس إحدى الزجاجات أشعة الشمس القادمة عبر الغبار‪ ،‬فإذا‬
‫جاءت الظهيرة فإن الراكبين سوف يترجلون ويبدأون في حفر الجحور على طول ضفة النهر؛‬
‫حتى يمكن إمرار المياه التي ال تمر؛ ألنها تحمل رواسب كثيفة‪ .‬إن مشكلة بًّلت هي أنها منطقة‬
‫تقبع في جهة منخفضة من الجانب‪.‬‬
‫كان اسم هيجنز‪ ،‬هو هيجنز‪ ،‬ومارتن‪ ،‬هو مارتن‪ ،‬وبوتر‪ ،‬هو بوتر‪ ،‬وماك بي‪ ،‬هو هنري ماك‬
‫بي‪ ،‬وكان الجميع يسيرون في خط في مؤخر ركب الماشية مع اآلخرين الذين يتغيرون يو ًما‬
‫عن يوم‪ .‬وكان هيج يتحدث إلى نفسه من فم ال يفصل بين األنف والذقن إال ً‬
‫قليًّل‪ ،‬وكان يمتطي‬
‫جواده ويحدثك عن ذلك إذا رأى أن ذلك مناسبًا‪ ،‬وكان أنفه يبدو كسكين يقطع وجهه ومًّلمحه‪.‬‬
‫أما مارتن فقد كان يمتطي جواده‪ ،‬ويمضغ الطباق‪ ،‬ويكاد يبتسم ويتحدث ً‬
‫قليًّل‪ ،‬أو يقوم بعمله‬
‫كما لو كانت الحياة شيئًا يؤسف له وال سبيل للتخلص منه‪ .‬وكان الناس يصفون بوتر بأنه رجل‬
‫متزن‪ ،‬فحينما يتحدث كان كل حديثه ينصب على الخيول والبغال والماشية‪.‬‬
‫كانت هذه هي أسماؤهم التي عرفوا بها‪ ،‬ولكن معرفة االسم ال تعني معرفة اإلنسان‪ ،‬إن اإلنسان‬
‫يعيش في أعماق وأغوار نفسه‪ ..‬تحت أحاديثه وأفعاله‪ ،‬كما هو الحال معه نفسه ‪-‬براوني إيفانز‪-‬‬
‫ضا بالنسبة لآلخرين‪ ..‬بعض‬ ‫سرا غام ً‬
‫الذي يتحدث ويتحرك مثل أي إنسان آخر‪ ،‬ولكنه ال يزال ًّ‬
‫الناس يقولون إنه نحيف وودود وخجول‪ ،‬ولكنهم ال يعرفونه على حقيقته؛ ألنه ال يدعهم‬
‫يعرفون حقيقته؛ وألن ذلك سوف يعني وقوفه عاريًا‪ ،‬وقد يبدو أنه ال يظهر مثل اآلخرين‪،‬‬
‫وإنما يختلف عن هم‪ ،‬بخجله وحيائه‪ ..‬يا له من إنسان عجيب! إن الناس يميلون إليه بطبعه‬
‫وحيائه‪ ،‬وال يتأثرون بأفكاره الجنونية‪.‬‬
‫إنه ال يرضى بالتحدث عما يعتمل داخل نفسه‪ ،‬ليس حتى بشأن الطريقة التي يمتلئ صدره فيها‬
‫باألشياء والعوامل حينما ينهض وينظر إلى المنطقة‪ ،‬وكيف كان قلبه يتحول ويدق حينما يشم‬
‫رائحة المعسكر‪ ،‬أو أصوات اإلوز البري الذي أقام عششه على طول ضفة النهر‪ ،‬سوف‬
‫يعرف في هذه اللحظة أنه ال يستطيع أن يجعل األشياء الطيبة تنتظره‪ ،‬إنه لم يستطع أن يقود‬
‫الماشية في الشمس الحارقة أو في الرياح التي تعصف بقوة‪ ،‬أو تحت وابل األمطار وفوق‬
‫األوحال العميقة‪ .‬كان يعرف كل شيء وهو يقوم بتنفيذ أعماله أو يذهب إلى الماء أو يسير في‬
‫جماعات أو يقوم بتشحيم محاور العربات‪ ،‬كان من أسراره أن يعرف أنه يعرف أشياء كثيرة‬
‫خزنها في رأسه‪ ،‬ولكنه كان يستيقظ في الليل على أصوات عواء الذئاب أو صفير الرياح‪،‬‬
‫كانت الطيبة تنعكس في طبائعه مثل أي شيء يستطيع أن يختزنه داخل نفسه‪.‬‬
‫ربما يواجهون الهنود في الغد ‪-‬البويز ذوي الشعور المعقدة أو شينيز أو األراباهوز أو‬
‫السيوكس‪ -‬الهنود المحاربين الذين يخططون أنفسهم باأللوان الحمراء والسوداء‪ ..‬لقد جاءوا‬
‫يتدفقون إلى البراري ويتجمعون حول العربات وينظرون إليها وهي تكون دائرة مكتملة‪ ،‬في‬
‫حين بدأت النساء يصرخن والرجال يفحصن البنادق‪ ،‬كانت الرياش تغطي رؤوس الهنود‪،‬‬
‫وتميل بفضل الرياح القوية التي تصفر في اآلذان‪.‬‬
‫فقال ديك سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬اثبتوا‪.‬‬
‫وكان يرقد فوق األرض ومعه بندقيته وبجواره براوني‪ ..‬وكان الرجال اآلخرون قد وزعوا‬
‫أنفسهم في مراكز مختلفة‪ ،‬في حين كانت النساء تجلسن هن واألطفال داخل العربات خائفات‬
‫يرتعدن ووجوههن بيضاء كالحة‪.‬‬
‫وقال ديك‪ ،‬وعيناه الرماديتان الباردتان تنظران من خًّلل ماسورة البندقية‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم ال يستطيعون الدخول بيننا‪ ،‬ولكنهم سوف يحيطون بنا في شكل دائرة‪.‬‬
‫وقال براوني‪:‬‬
‫‪ -‬طبعًا‪ ..‬ال‪.‬‬
‫فأدار ديك رأسه ونظر بعمق إليه وابتسم نصف ابتسامة‪ ،‬وهو يرى عيني براوني الباردتين‬
‫ويده فوق بندقيته‪ .‬كان الهنود يصرخون صرخاتهم المعهودة‪ ،‬في حين كانت حوافر الجياد‬
‫تزداد حدة‪ ،‬وفي هذه األثناء تحدثت بندقيتان فقتلتا جوادين هنديين‪ ،‬فأزعجتهم هاتان الطلقتان‬
‫وجعلتهم ينطلقون كمجموعة من الطيور‪ ،‬ثم عادوا وكونوا دائرة كبيرة حول العربات‪ ،‬ولم‬
‫يكن يبدو منهم سوى الرؤوس أو األقدام أو الرماح‪.‬‬
‫وأعاد براوني بندقيته الفارغة خلفه‪ ،‬وقال بصوت حاد مثل طلقات الرصاص‪:‬‬
‫‪ -‬بندقية‪.‬‬
‫فسمع صوتًا خلفه يشحن البندقية ويقدمها إليها‪ ،‬ويقول له‪:‬‬
‫‪ -‬ها هي ذي‪.‬‬
‫فنظر إلى الخلف نظرة سريعة ليرى أن ميرسي ماك بي هي التي قامت بشحن هذه البندقية‬
‫الفارغة‪ ،‬فقال براوني‪:‬‬
‫‪ -‬اخفضي من رأسك يا ميرسي‪.‬‬
‫ولكنها استمرت تشحن البندقية‪ ،‬في الوقت الذي مرت السهام من حولها بقوة عنيفة‪.‬‬
‫وأخذ ديك يعد‪:‬‬
‫‪ -‬اثنان‪.‬‬
‫ضا ‪ -‬بندقية!‬
‫‪ -‬اثنان لي أي ً‬
‫‪ -‬ثًّلثة‪..‬‬
‫‪ -‬ثًّلثة ‪ -‬بندقية!‬
‫كان ذلك أكثر مما اعتقده الهنود‪ ،‬ولم يكن يبدو أنهم قد شاهدوا ذلك من قبل‪ ،‬لذلك قاموا‬
‫باالنسحاب‪ ،‬وبدأوا يتًّلشون في المسافات البعيدة‪ ،‬وقال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬إنك لخير صائد بالبندقية‪.‬‬
‫وهذا ما جعل براوني يميل أكثر من قبل لديك سمرز‪ ،‬وبدأ يقلده في كيفية وضع سرجه‪ ،‬وفي‬
‫النظرة نفسها‪ ،‬واالبتسامة نصف الحزينة التي أظهرت أقل مما قد يفكر فيه‪ ..‬أصبح يحاول‬
‫تقليد ديك سمرز‪ ،‬ولكنه كان أصغر في مظهره‪ ،‬وبدأ الرجال والنساء ينظرون إليه وهو يمتطي‬
‫جواده بجوار ديك ويستمع إليه وهو يرتكز على بندقيته وهو يفكر؛ كم كان يسير كالغًّلم‪،‬‬
‫وسمع البعض وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو براوني إيفانز يسير وراء ديك سمرز‪.‬‬
‫كانت الماشية تنحدر فوق منحدرات الشمال المًّلصقة للنهر‪ ،‬وكان الرجال يحصون أعدادها‪،‬‬
‫ولكن سمرز قال‪:‬‬
‫‪ -‬اترك هذه للرجال يا براوني إيفانز‪ ،‬سوف تحصل على كمية من الطلقات فيما بعد‪ ،‬إننا في‬
‫حاجة اآلن إلى اللحوم‪.‬‬
‫ثم تحول جانبًا واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬التقط الرمح والسهام يا براوني‪.‬‬
‫لم يعرف المستر تادلوك ماذا بشأن البقول؟ وكيفية صيد الجاموس البري؟ لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬قوس وسهام‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬قوس وسهام‪.‬‬
‫‪ -‬يطلق القوس السهام بسرعة كبيرة أكثر من الحديد‪.‬‬
‫وقال براوني للمستر تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬ط لقة واحدة من البندقية‪ ،‬وينتهي كل شيء‪ ،‬ولكن في الوقت الذين تقوم فيه بشحن البندقية‪،‬‬
‫يكون الجاموس البري قد انطلق مسافة تبعد أربعة أيام من المسير‪.‬‬
‫ثم ركبا جواديهما‪ ،‬وانطلقا تاركين مستر تادلوك يردد في دهشة‪:‬‬
‫‪ -‬قوس وسهام!‬
‫واتجه الركب نحو سهل بًّلت‪ ،‬الذي كانت تهب منه رياح عالية‪ ،‬وساروا ببطء وسط األعشاب‬
‫النامية والمرعى‪ ،‬كان هناك ضباب من الغبار فوق الجاموس البري؛ وذلك بسبب األقدام‬
‫المتزاحمة‪ ،‬وكانت األتربة تتزاحم تحت وطأة األقدام‪ ،‬كما لو كانت أموا ًجا متًّلطمة تثير‬
‫األعين‪.‬‬
‫وقال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنتم مستعدون؟‬
‫واندفعت الجياد بأقصى سرعتها‪ ،‬وكان الصيادون ملتزمين الصمت التام‪ ،‬في حين كانت‬
‫موجات األتربة تندفع بقوة كما لو كان هناك سد قد انهار وتدفقت منه موجات ضخمة متًّلطمة‪.‬‬
‫كانت الحيوانات الكبيرة هي التي تخلفت وأخذت تحملق بأنظارها المليئة بالغباوة والغضب‪،‬‬
‫ثم تثور وتقفز مبتعدة‪ ،‬وتعود مرة أخرى كما لو كانت ترغب في التحدي‪.‬‬
‫وخرجت من فم ديك صيحة قوية وحشية وغريبة‪ ،‬كما لو كانت صيحة الحرب‪ ،‬فالتقطها‬
‫براوني ولكز جواده بمهماز واندفع بقوة وسط الجاموس من فتحة أوجدها تجمعها‪ .‬كانت قرون‬
‫هذه الحيوانات تتخبط بعضها في بعض كما لو كانت حرابًا تتًّلطم في الرياح‪ ،‬وكان صدى‬
‫أصوات األقدام يتردد بصورة مخيفة‪ ،‬في حين ارتفع الغبار الكثيف ليغشي األعين‪ ،‬وليخفي‬
‫ديك عن األنظار وغالبية األبقار‪ ،‬ما عدا القليل منها الذي يوجد في أقصى اليمين‪ ،‬كان صوت‬
‫أظًّلف هذا الجاموس يشبه الرعد‪.‬‬
‫فسحب براوني القوس التي كان يعلقها في ذراعه‪ ،‬ثم شد فيها سهامه فانغرست في جسد بقرة‬
‫سمينة من هذه األبقار البرية‪ ،‬فأبطأت البقرة سيرها وتعثرت في مشيتها ثم اختفت‪.‬‬
‫استطاع بهذه الطريقة أن يقتل خمس بقرات سمان‪ ،‬ثم تبخر بقية القطيع‪ ،‬فجذب جواده واتجه‬
‫أخيرا يندفع وراء بقرة تسير بجانب‬
‫ً‬ ‫من خًّلل الغًّلف الترابي إلى حيث يكمن ديك‪ ،‬فشاهده‬
‫بقرتين أخريين وثور وعجل صغير‪ ،‬ثم شاهد الجواد يتعثر في اندفاعه ليسقط ديك بقوة فوق‬
‫األرض‪ ،‬فرقد ديك دون حركة‪ ،‬فتوقف الثور وأخذ يدق األرض بقدمه‪ ،‬وأمارات الشر تبدو‬
‫من عينيه تمهيدًا لًّلتجاه إلى ديك‪.‬‬
‫لم يكن هناك أي وقت للتفكير‪ ..‬لكز براوني جواده واندفع بسرعة تجاه هذا الثور وأطلق سه ًما‬
‫قويًّا إلى الثور الذي كان قد اقترب من ديك‪ ،‬فخارت قوة الثور بعد أن اخترق السهم قلبه‪،‬‬
‫وسقط الثور على مسافة قدم واحد فقط من ديك‪ ،‬وكانت الدماء تتدفق من فمه حارة‪ ،‬فنظر ديك‬
‫حوله بعد أن أفاق ليرى أنه لم يصب بسوء‪ ،‬بل مجرد شعور بضعف القوى وجرح بسيط‪،‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن أقل ما أقدمه إليك في المحافظة على حياتي هو شكري العميق‪.‬‬
‫ثم ركبا إلى المعسكر‪ ،‬في حين نظرت إليهما النساء والرجال مشدوهين‪ ،‬وكانت إحدى هذه‬
‫النظرات موجهة من ميرسي ماك بي‪ ،‬التي كانت تقف في جانب من الجوانب‪ ،‬كان الجميع‬
‫يرقصون‪ ..‬هذا ما كان‪ .‬لقد كانت ميرسي وآل باتش وبيرد‪ ،‬والمستر ماك‪ ،‬وبوتر‪ ،‬يرقصون‪،‬‬
‫في حين كان هيج يعزف بعض الموسيقى الرفيعة‪ ،‬ثم توقف الجميع وأخذوا يحملقون‪ ،‬وكان‬
‫من بينهم ميرسي ماك بي التي أزاحت يد المستر ماك عنها‪ ،‬في حين كان الصيادان الجسوران‬
‫يمران‪ ،‬وانكست على فمها ابتسامة طفيفة تحمل معنى اإلعجاب والكبرياء‪ ،‬ولكنه لم يرد على‬
‫ابتسامتها؛ إذ كانت أمارات الجد والحزم تبدوان على وجهه‪ ،‬وهو في وضع مثل هذا الوضع‪،‬‬
‫وكان يشعر في قرارة نفسه بأنها تدرك الحال الذي هو عليه‪.‬‬
‫***‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬إننا في حاجة إلى «شبس» روث الجاموس الجاف؛ ألنه سوف يساعد والدتك ً‬
‫فردت عليه األم موجهة الكًّلم إلى األب‪:‬‬
‫‪ -‬ال تسأله أن يقوم بالتجميع والخلط وحلب األبقار‪.‬‬
‫‪ -‬ال أقصد أن تأخذيها مأخذ الصعوبة والتعقيد‪.‬‬
‫‪ -‬إن حلب األبقار ليس مشكلة‪ ،‬إنه مجرد مسألة عادية‪.‬‬
‫فقال براوني وهو ينزع السرج من فوق ظهر الجواد الكبير «نيللي» ويضعه بجوار العربة‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫وجاء روك (الكلب) مندفعًا بين أرجل الجواد المبتلة‪ ،‬وكان الرجال والنساء يعملون حول‬
‫العربات وينزعون الصناديق وينصبون الخيام‪ ،‬ويشعلون النيران‪.‬‬
‫وجاء والد براوني‪ ،‬حيث يقف االبن‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني لن أموت‪ ،‬سوف أتولى تثبيت األوضاع مع كل فرد‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قمت بحلب األبقار‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أقصد القيام بالحلب‪ ،‬إنني أقصد جمع «الشبس» الروث‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قلت إنني سوف أقوم بذلك يا بابا‪.‬‬
‫‪ -‬إنها تقلقك ألنها جديدة عليك؛ وألنك لم تتعود على ذلك‪ ..‬قم من غير أن تفكر في شيء‪.‬‬
‫ووضع الوالد يده فوق كتف ابنه براوني فشعر بدفئه وقوته‪ ،‬وظهرت ابتسامة متسائلة في‬
‫وجهه‪ ،‬كما لو كان يحاول أن يستشف ما يعتمل داخل براوني‪ ،‬ورد براوني على قوله ولم‬
‫ينظر إليه‪ ،‬بل كان ينظر إلى والدته التي كانت تحاول استخراج القدر من داخل الصندوق‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن ذلك ال يقلقني يا والدي‪.‬‬
‫‪ -‬إذن لم يكن عندك أي اعتراض‪ ،‬سوف أقوم بهذا العمل بنفسي‪ ،‬وأنت تتولى تثبيت الخيمة‪.‬‬
‫فهز براوني رأسه بالرفض‪ ،‬ولم يكن أمامه أي مخرج من ذلك إال تجميع روث الجاموس‬
‫الجاف‪ ،‬كان يشعر بالخجل من هذا العمل‪ ،‬ولكن كان من المخجل أن يظهر خجله أمام والده‪،‬‬
‫كان اللجام حتى ذلك الوقت معلقًا في نيللي (الجواد)‪ ،‬لذلك قرر أن يمتطيه ويتجه إلى حيث‬
‫كان القطيع يرعى ليلتقط بعض الروث الجاف ويضعه فوق ظهر الجواد ويعود به‪ ،‬وقد ال‬
‫يراه إال القليل من األفراد‪.‬‬
‫ً‬
‫خجًّل في حد ذاته‪،‬‬ ‫ً‬
‫خجًّل من الخجل نفسه‪ ،‬وأن يكون‬ ‫كانت العملية مليئة بالصعاب‪ ،‬أن يكون‬
‫ليس بشأن جمع روث الجاموس البري‪ ،‬ولكن بسبب عدم وجود أي شجيرات في وادي بًّلت‬
‫العاري يستطيع أن يختبئ خلفها‪ .‬إن الناس يخشون أن يقيموا شجيرات في هذا الطريق خوفًا‬
‫من اختباء الهنود خلفها‪ ،‬كان بعض النساء يمتلكن بعض أواني دورة المياه داخل العربات‪،‬‬
‫وبعضهن كن يذهبن بعيدًا إلى العراء‪ ،‬وكان أحد الرجال يقوم بحراستهن من بعيد؛ ليرقب‬
‫الطريق؛ خوفًا من وقوع أي هجوم عليهن‪.‬‬
‫ضا في اجتماعات يعقدنها في الصباح‬ ‫كانوا يفكرون في نظام‪ ،‬وكانت النساء تفكرن في ذلك أي ً‬
‫والظهر والمساء‪ ،‬فكن يجتمعن في حلقات‪ ،‬في الوقت الذي يجتمع فيه الرجال حول العربات‬
‫وينغمسون في أعمال خاصة‪ .‬وتناول براوني ً‬
‫حبًّل في يده وانطلق ممتطيًا نيللي‪ ،‬وربما لم يكن‬
‫هناك أي فرد يجعله يشعر بالرعب والخجل‪ ،‬وقد فوجئ في أثناء سيره بالنساء يتجهن في‬
‫العراء لقضاء حاجاتهن كبقية البشر‪ ،‬في حين كان الرجال يقفون على مسافة بعيدة شيئًا ما‬
‫يرقبون الطريق؛ خوفًا من أي هجوم مباغت‪ ،‬وحينما فكر في هذا الوضع ابتعد عنه الشعور‬
‫بالطيبة والرضاء‪.‬‬
‫ثم قام بفك الحبل ولفه حول وسطه‪ ،‬وعقد طرفه تار ًكا يديه حرتين‪ .‬كان الروث جافًّا من سطحه‬
‫ومبتًّل من أسفله‪ ،‬وكان ينتشر بكثرة فوق األعشاب الجافة الصفراء وتحتها الكثير من‬ ‫ًّ‬
‫الحشرات الرفيعة التي تجري بسرعة؛ لتبحث لها عن مأوى‪ ،‬حينما رفع هذا الكعك الجاف من‬
‫الروث‪ ،‬كان يرغب في الوقوف لمراقبة هذه الحشرات‪ ،‬ولكنه خشي أن يراه أحد‪.‬‬
‫كان هناك غيره ممن يقوم بهذه العملية مثل ابنة بروور الجافة الشعر وأخويها‪ ،‬وجو تورلي‪،‬‬
‫وجيف بيرد‪ ،‬وجود شيلدز‪ ،‬وهاري جورهام‪ ،‬واثنين أو ثًّلث من آل دورتي‪ .‬كان هناك بعض‬
‫الرجال الذين ليست لهم عائًّلت؛ لذلك كان يجب عليهم أن يقوموا بهذا العمل بأنفسهم‪ ،‬مثل‬
‫األخ ويذربي الذي قال إنه ليس على اإلنسان أن يشكو‪ ،‬وأن يشكر هللا أن أوجد له هذا الروث‬
‫إليق اد النيران‪ .‬كان األخ ويذربي يجمع (شبس) الروث ببطء وتؤدة‪ ،‬وربما كان يصلي في‬
‫قرارة نفسه‪ ،‬وهو يقوم بهذا العمل‪.‬‬
‫كان كل شيء هادئًا هدو ًءا تا ًّما‪ ،‬ولم يكن براوني يسمع أي شيء إال همسات طفيفة تأتي من‬
‫بعيد‪ ،‬حيث يرقد المعسكر‪ ،‬وذلك باإلضافة إلى صوت كعك الروث الذي ينتزعه من فوق‬
‫األعشاب‪ .‬كان نصف الشمس قد مال إلى المغيب‪ ،‬وكان األطفال قد بدأوا يلعبون بقذف بعضهم‬
‫ضا بالروث‪ ،‬حتى ناداهم آباؤهم مطالبين إياهم بالحضور‪ .‬واستمر براوني يلتقط كعك‬ ‫بع ً‬
‫الروث واحدة وراء األخرى‪ ،‬حتى أصبح ما يحمله سمي ًكا‪ .‬كان ديك سمرز قد استمر يقول‪،‬‬
‫في خًّلل اليومين اللذين استمر العبور فيهما من السهل إلى النهر‪ ،‬إن كعك الجاموس البري‬
‫يعني الجاموس البري نفسه‪ ،‬كان الركب يسير وحوله العظام منتشرة والجماجم واألرجل‪،‬‬
‫عا بطريقة دائرية‪ ،‬وهنا قال ديك إن هذه عظام بعض اآلدميين الذين قتلهم‬ ‫وكان بعضهم موز ً‬
‫البونيز‪ ،‬أو الذين ماتوا من اآلالم نتيجة إلصاباتهم‪.‬‬
‫واستمر براوني يلتقط المزيد من الروث الجاف وهو ال يعير أي إنسان أي اهتمام‪ ،‬وبعد فترة‬
‫شاهد ساقًا تقف على مسافة خطوات منه‪ ،‬كانت ساق ميرسي ماك بي‪ ،‬التي لم تره من قبل‪،‬‬
‫فأصابتها الدهشة لوجوده‪ ،‬واستطاع براوني أن يشاهد أصابعها الصغيرة وهي تنحني‪ ..‬لم‬
‫تتحدث أو تغض من طرفيها‪ ،‬ولكن الدماء اندفعت حارة إلى وجنتيها‪.‬‬
‫لم يستطع أن يفكر في أي شيء يقوله‪ ،‬وشعر بالحرارة ترتفع في وجهه‪ ،‬ولكنه ظل ينظر إليها‬
‫وإلى عينيها السوداوين والوجه األبيض الذي يحوطه إطار من الشعر الذي تحركه الرياح إلى‬
‫شعورا مباغتًا وجنونيًّا بأنه يرغب في أن يصل إليها ويلمسها كأي‬
‫ً‬ ‫الخلف وتعبث به‪ .‬وشعر‬
‫صغيرا وخائفًا‪..‬‬
‫ً‬ ‫شخص يرغب في أن يلمس شيئًا‬
‫كان يرغب في أن يحنو بيده فوقها‪ ،‬وكان يبدو أن لمسة واحدة سوف تؤدي إلى ذوبانهما في‬
‫حالة من التفاهم تنزع عنهما الخجل‪ ،‬وتغلفهما في إطار من الرقة الخالية من الكًّلم‪.‬‬
‫ثم قال لها‪:‬‬
‫ي أن أحمل هذا الحمل‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه يجب عل َّ‬
‫فنظرت إلى أسفل وغضت من نظرها وانحنت ً‬
‫قليًّل‪ ،‬فسقطت كعكة من الروث من أسفل يدها‬
‫وتعلقت بطرف ثوبها البالي‪ ،‬وبقيت على هذا الوضع‪ ،‬وشعر بالكلمات التي نطقها تعود إليه‬
‫مرة أخرى‪ ..‬كانت كلمات جوفاء‪ ،‬وشعر بأنه يقف عاريًا بيدين وقدمين كبيرتين‪ ،‬وبلحية‬
‫صغيرة متناثرة بدأت تظهر على وجهه‪ ..‬شعر بأنه ال يستطيع التصرف كما لو كان جبانًا قد‬
‫فقد طريقه وسط األحًّلم السخيفة‪.‬‬
‫ثم خطا خطوتين إلى األمام‪ ،‬وأدار رأسه فيما حوله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أتولى ذلك نيابة عنك‪.‬‬
‫فرمقته بنظرة سريعة بسيطة‪ ،‬لم يستطع أن يفهمها‪ ،‬ثم استمر يقول لها‪:‬‬
‫مسرورا لذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬سوف أكون‬
‫فردت عليه قائلة‪ ،‬وهي تستدير من غير أن تشكره‪:‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أقوم بذلك بنفسي‪.‬‬
‫ثم سارت في طريقها‪ ،‬وعادت فتوقفت تملؤها الشفقة والعزة والكرامة معًا‪ ،‬وانحنت لتلتقط‬
‫روث بقرة جافًّا‪.‬‬
‫وفجأة استطاع أن يفهم‪ ،‬وهو يراقبها‪ ،‬شيئًا عنها‪ ،‬استطاع أن يرى في ذهنه هنري ماك بي‪،‬‬
‫الكبير‪ ،‬ولحيته القذرة‪ ،‬وثوره األعجف‪ ،‬وجواده النحيف الذي يجر العربة التي تجلس بداخلها‬
‫مسز ماك بي‪ ،‬ومعها مجموعة دواجنها بأصواتها المرتفعة‪.‬‬
‫استطاع أن يتصور أنها كانت تشعر كما لو كانت حية قد عضتها‪ ،‬وتصور نفسه يسرع إليها‬
‫ليطيح برأس األفعى وسط األعشاب وهي ال تراه‪ ،‬ثم قفز إلى أعلى وهو يتصور ذلك‪ ،‬فعاد‬
‫إلى رشده‪ ،‬فوجد نفسه متج ًها إلى العربة يتبعه كلبه «روك» وهو مندهش‪ ،‬ولكنه ظل ينظر‬
‫إليها ويردد اسمها‪:‬‬
‫‪ -‬ميرسي‪ ..‬ميرسي‪.‬‬
‫وجاءت إليه في أحًّلمه‪ ..‬جاءت لتحنو عليه وتًّلطفه‪ ،‬وآثار الدموع باقية في مقلتيها‪ ،‬فاحتواها‬
‫بين ذراعيه ‪-‬وشعر بالقوة تطغي عليه والنهم يعتريه ويدفعه‪ ،‬فشعر بخجل من عنفه وقوته‪.‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬

‫وقف تادلوك بجوار عربته وقال بحدة‪ ،‬وهو ينظر إلى أسفل‪:‬‬
‫‪ -‬مارتن‪ ..‬أنت يا مارتن!‬
‫خطرا ما قد وقع‪ ..‬لم يكن مارتن قد آوى‬
‫ً‬ ‫ثم انتصب في وقفته ينتظر اإلجابة‪ ،‬وهو يعتقد أن‬
‫إلى فراش طوال شهر من السير في الطريق‪ ،‬بعد أن أطلق الحراس طلقات الساعة الرابعة‪.‬‬
‫‪ -‬مارتن‪.‬‬
‫كان الفجر قد بدأ ينبلج في الشرق بعيدًا في وادي بًّلت الضحل‪ ،‬في حين كانت مياه النهر‬
‫تتألق هنا وهناك وتعكس األضواء‪ ..‬وكان الليل حتى ذلك الوقت ينشر ظًّلمه على الكون‪ ،‬ولم‬
‫يكن يقشع هذا الظًّلم سوى بعض النيران القليلة التي بدأ بعض الناس في إشعالها‪ ،‬وبدأت‬
‫رائحة دخان المعسكر تتسرب إلى األنوف‪.‬‬
‫‪ -‬مارتن!‬
‫لم يستطع أن يحاول البحث عن الرجل‪ ،‬ولم يستطع أن يرى سوى جزء من غطاء العربة الذي‬
‫اعتاد مارتن أن يستخدمه كغطاء‪ ،‬أو أن يصنع منه خيمة على حسب نوع الليلة؛ معتدلة أو‬
‫مليئة بالعواصف‪.‬‬
‫فتقدم تادلوك وأمسك بيده طرف الغطاء‪ ،‬ثم جذبه وصاح ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي يحدث هنا؟‬
‫فتحرك الجسد النائم‪ ،‬ثم اعتدل وجلس‪ ،‬وجاء صوته ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني مريض‪ ..‬يا إلهي!‬
‫سريرا في إحدى العربات‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬اخرج من هنا إذن‪ ..‬يجب أن نعد لك‬
‫ولكن تادلوك لم يتلق أي رد‪ ،‬وظن أن مارتن يفكر في هذا األمر‪ ،‬ويسأل نفسه بضعف ع َّم إذا‬
‫قادرا على الوقوف اليوم‪ ،‬ثم صاح تادلوك في ضيق حاد‪:‬‬
‫كان ً‬
‫‪ -‬لقد كنت سلي ًما الليلة البارحة‪ ،‬وأخذت دورك في الحراسة!‬
‫ثم رفع السوط الذي في يده وضرب به األرض ولعن الحظ‪ ،‬لقد وصلوا اآلن إلى جزيرة برادي‬
‫بعيدًا بما فيه الكفاية عن منطقة بًّلت‪ ..‬كان الطريق صال ًحا ومليئًا بالجاموس البري‪ ،‬وكان‬
‫ضا! بدأت الشكوك تساوره مرة أخرى‪ ،‬في حين كان‬ ‫جوه حسنًا‪ ،‬واآلن يسقط أحد الرجال مري ً‬
‫الفجر يزحف في طريقه إلى نور الصباح‪ ،‬وبدأ الشك يتزايد باضطراد بأن مارتن يدعي‬
‫المرض أكثر مما هو عليه في حقيقة األمر‪ ..‬إن بعض الناس قد يبالغون في وعكة بسيطة‪،‬‬
‫وبخاصة إذا كانوا سيتحولون أو يرغبون في االبتعاد عن المشكًّلت والصعاب التي قد‬
‫يواجهونها ب سبب الهنود‪ ،‬ولم يكن الركب يرغب في الوقوف وإقامة معسكر‪ ،‬ولكن بعض‬
‫األفراد‪ ،‬مثل تورلي وزوجته‪ ،‬وبيرد‪ ،‬قد بدأوا يصيحون‪.‬‬
‫مخاطر! سوف ال يواجهون إال القليل منها‪ ،‬لقد هزموا‪ ،‬إن ماك يشبه المجنون‪ ،‬هذا ما أخبره‬
‫به تادلوك بعد أن أطلق نيرانه على الهندي المسكين‪ ..‬فقام وفد من «الكوز» بالمطالبة بالقاتل‪،‬‬
‫ولكن تادلوك استطاع أن يعالج الوضع بحكمة؛ إذ قام بتقديم لفائف من التبغ وبعض المأكوالت‬
‫والمًّلبس واألشياء األخرى‪ ،‬أما بقية الرحلة فلم يشاهدوا فيها بعد أي أثر «للبونيز» أو‬
‫«الشيين» أو «السيوكس»‪ ..‬لقد عبروا جميع الطرق في سًّلم وأمان‪ ،‬ولم يتعرض أي إنسان‬
‫حتى اآلن للمرض أو يشعر بآالم في المعدة أو الرأس أو غير ذلك‪ ،‬ثم قال تادلوك‪ ،‬وهو يدور‬
‫حول الدائرة ويسير‪:‬‬
‫سريرا مثبتًا‪ ،‬عليك أن تزحف خار ًجا من هنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬سوف نحضر لك‬
‫ورفع سوطه حينما كان بعض األفراد يتحدثون إليه‪ ،‬كانت جميع عرباته محملة ومعبأة كلها‪،‬‬
‫لذلك كان يجب عليه‪ ،‬إذا رغب في وضع سرير بداخله‪ ،‬أن يفرغ جز ًءا من الشحنة‪ ،‬ولكنه‬
‫سوف يتشاور مع ماك بشأنها‪ .‬ومر في أول األمر بعائلة إيفانز‪ ،‬ووقف لحظة يومئ برأسه‬
‫إليفانز ولزوجته ولديك سمرز‪ ،‬ثم ضمن أن ابن إيفانز يقوم من غير شك بجمع بعض األشياء‪.‬‬
‫وقال إيفانز وهو ينتفض‪:‬‬
‫عا شيئًا ما‪.‬‬
‫‪ -‬إن هذا الصباح يبدو الذ ً‬
‫‪ -‬عندنا رجل مريض‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬مارتن‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا يؤلمه؟‬
‫فهز تادلوك كتفيه‪ ،‬في حين تساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ما مدى مرضه؟‬
‫ثم استمر تادلوك يهز كتفيه ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أقوم بإحضار سرير‪.‬‬
‫فانتزع سمرز غليونه من فمه وأزاحه جانبًا‪ ،‬ونفث سحابة من الدخان حوله‪ ،‬ولكن هذا العمل‬
‫ضايق تادلوك؛ ألنه كان من نوع الرجال الذين يميلون في أي وقت للبحث في موضوع‬
‫المرض‪ ،‬كان يبحث الكلمات لكي يستطيع أن يصف سمرز بها‪ ،‬هل هو غير منظم‪ ،‬أو‬
‫فوضوي؟ تعود على العيش من غير هدف مثل الوحشيين؟‬
‫لذلك وجه حديثه إلى سمرز قا ً‬
‫ئًّل‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نسير في الوقت المحدد‪ ،‬نحن ال نستطيع أن نتوقف بسبب رجل واحد فقط‪.‬‬
‫كانت مسز إيفانز تنظف األوعية التي كانوا يتناولون إفطارهم فيها‪ ،‬ثم التفتت إلى زوجها‬
‫وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬ليجي‪ ..‬من األفضل أن نلقي نظرة‪.‬‬
‫فنظر إليها سمرز بعينيه الرماديتين اللتين تبدوان بيضاوين في ضوء الفجر‪ ،‬لتعبرا عن موافقته‬
‫واهتمامه‪.‬‬
‫ثم قال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬تستطيع أن ترى بنفسك‪.‬‬
‫فأجاب إيفانز بلطف‪:‬‬
‫‪ -‬أوه‪ ..‬هاه‪.‬‬
‫ثم وقف‪ ،‬وكان ظله يبدو ضخ ًما بجانب بقية الظًّلل التي كانت تتجه إلى الغرب‪ ،‬وشعر تادلوك‬
‫بنفاد صبره حياله‪ ،‬كما يشعر بالنسبة ألي طفل‪ .‬كان إيفانز بطيء الحركة في التوجه إلى مكان‬
‫مارتن‪ ،‬وكان كفئًا ولكن من غير قوة‪ ..‬ووجد تادلوك نفسه يندهش ويتساءل ع َّم إذا كان هذا‬
‫الرجل قد فقد أعصابه في يوم من األيام‪ ،‬وما إذا كان قد وصل إلى قرار من غير أي توجيه‬
‫من زوجته أو من سمرز‪ ،‬ثم قال يخاطبه‪:‬‬
‫‪ -‬تعال إذن‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وهناك تساءلت مسز إيفانز قائلة‪:‬‬
‫فدق سمرز على مؤخرة غليونه ونهض أي ً‬
‫‪ -‬أال تعتقد أنه من األفضل أن تصحب معك بعض األدوية يا ليجي؟‬
‫فأومأ إيفانز برأسه وذهب إلى مؤخرة العربة‪ ،‬وبعد فترة بدت طويلة لتادلوك‪ ،‬عاد ومعه‬
‫صندوق صغير‪.‬‬
‫ظاهرا‪ ،‬وكان شعره منفو ً‬
‫شا ولحيته نامية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان مارتن يرقد كما كان من قبل‪ ،‬ما عدا أنه أصبح‬
‫ويبدو الشحوب في وجهه النحيف‪ .‬وانحنى الثًّلثة كدجاجات ثًّلث ‪-‬كما يظن تادلوك‪ -‬حينما‬
‫شاهدوا «بقة» غريبة‪.‬‬
‫فسأله سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بك؟‬
‫فأمر تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬اخرج يا مارتن‪ ،‬لن نستطيع أن نشرف عليك ونعالجك وأنت في هذا الوضع‪ ،‬يجب أن‬
‫نضعك فوق سرير أو محفة؛ لننقلك إلى عربة من العربات‪.‬‬
‫ففتح مارتن عينيه وأخذ يحملق في الطرف المغطى من العربة‪ ،‬ثم لعق فمه بلسانه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يا رب‪.‬‬
‫احمرارا‪ ،‬وأن عينيه قد عكستا الحمى‪ ،‬ولكن تادلوك‬
‫ً‬ ‫رأى تادلوك أن وجه مارتن قد ازداد‬
‫استطاع أن يقول بجهد‪:‬‬
‫‪ -‬تعال يا رجل‪ ..‬إنك ال تستطيع أن تبقى حيث أنت‪.‬‬
‫فقال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه يعرف أكثر منك‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي كان تادلوك يتحدث فيه‪ ،‬تحرك مارتن‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أتولى ذلك‪.‬‬
‫فنهض على أربع وخرج من أسفل الغطاء وهو يزحف‪ ،‬وحينما خرج رقد مرة أخرى‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يبدو في حالة سيئة‪.‬‬
‫فرد عليه تادلوك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لن يشعر بأي سوء إذا نقل إلى داخل عربة‪.‬‬
‫فركع سمرز وساعد مارتن‪ ،‬ثم وضع راحته فوق جبينه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬تمهل‪ ،‬ال تخش شيئًا‪.‬‬
‫ثم وجه حديثه إلى تادلوك وإيفانز‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪ -‬ربما تكون حمى المعسكر‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬حمى المعسكر؟ أال يوجد اسم آخر لها؟‬
‫فقال مارتن‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي!‬
‫ثم أغمض عينيه‪ ،‬فنظر إليه سمرز وهز رأسه‪ ،‬وكان بعض األفراد من المعسكر قد بدأوا‬
‫يتدفقون بسبب منظر الرجال الثًّلثة الذين يحيطون بآخر يرقد فوق األرض‪ ،‬وقال أحدهم‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك؟‬
‫وشعر تادلوك بوجودهم خلفه‪ ،‬ولكنه لم يتحول أو ينطق‪ .‬كان يرغب في أن يبتعدوا؛ ألنهم‬
‫سوف يعبرون عن آرائهم‪ .‬كان البعض يرغب في الذهاب واالبتعاد‪ ،‬وكان البعض اآلخر‬
‫يرغب في البقاء‪ ،‬والبعض الثالث ال يعرف هل ينصرف أو يبقى ليعالج الرجل‪ ،‬وكانت النتيجة‬
‫أن ظل الوضع مائعًا ال نهاية له حينما كان لزا ًما عليهم أن ينقلوا مارتن إلى العربة للبدء في‬
‫السير‪ .‬وفي هذا الوضع أجاب إيفانز عن أسئلتهم ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنها حمى المعسكر‪.‬‬
‫فسأله صوت نسائي‪:‬‬
‫‪ -‬هل هي معدية؟‬
‫فرد تادلوك بعنف ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫وفتح مارتن عينيه وانتقل بهما بين مختلف الوجوه‪ ،‬كما لو كان يأمل أن يجد في وجوههم إجابة‬
‫لمشكلته وللمحنة التي يعيش فيها‪ .‬وأخذ تادلوك يدور في مكانه‪ ،‬وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬اذهبوا واستعدوا؛ ألننا سوف نتحرك في خًّلل دقائق‪ ..‬إيفانز‪ ،‬هًّل أخذت جز ًءا مما أحمله‬
‫حتى أستطيع إعداد السرير‪ ،‬سوف نتولى تمريضه واإلشراف على ذلك‪ ،‬ثم نسير في طريقنا‪.‬‬
‫فرد إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف ذلك يا تادلوك‪.‬‬
‫‪ -‬تعرف ماذا؟‬
‫‪ -‬أعرف ما يجب أن تفعله‪.‬‬
‫‪ -‬إنني هنا القائد‪ ،‬وإنني أنا الذي أتحمل المسؤولية‪.‬‬
‫وجاء صوت جاف من خلف تادلوك‪ ،‬عرف فيه صوت باتش‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نشترك جميعًا‪ ،‬أنت تعرف ذلك يا تادلوك‪ ،‬وكذلك يشترك جميع الرجال الذين‬
‫تستأجرهم‪.‬‬
‫‪ -‬من قال إننا لن نفعل ذلك؟ إننا سنكون جميعًا حينما يتم نقله إلى العربة‪.‬‬
‫فتحدث إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا ليس ما يعنيه باتش‪.‬‬
‫وأمسك تادلوك بالكلمات التي كادت تخرج من بين شفتيه ليقول‪ ..‬األغبياء! أيها األغبياء إنكم‬
‫تعملون اآلن كما لو كنتم تقضون وقت فراغ‪ ،‬ونظر إليهم واحدًا تلو اآلخر‪ -‬إيفانز‪ ،‬ثم سمرز‪،‬‬
‫ثم باتش‪ -‬يحاول أن يخ ضعهم لسيطرته‪ ،‬ولكنه قرأ في أعينهم صًّلبة في الرأي وغباوة‪،‬‬
‫سا‪ ،‬بضع كلمات أخرى‬ ‫وأصبح يعتقد أن األمور تتطور لتصبح مشكلة‪ ،‬أصبح الموقف حسا ً‬
‫خطرا وتتعرض قيادة الركب لهزة‪ ..‬فإذا‬ ‫ً‬ ‫ويتم وضع الخطوط‪ .‬أما اآلن فإن السلطة تواجه‬
‫خضع لهم فإنه يكون انهزم أمامهم‪ .‬وشعر بحركة بجانبه‪ ،‬فتحول ليرى مسز ماك بي‪ ،‬وكانت‬
‫امرأة ضئيلة الجسم تلبس مًّلبس ممزقة مثل الساحرات‪ ،‬وقد جاءت لتقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن دوا ًء يهوديًّا‪ ..‬إنه يصلح ألي شيء‪.‬‬
‫فأزاحها جانبًا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ..‬إيفانز تول أنت تمريضه وعًّلجه‪.‬‬
‫فقال إيفانز بلهجة جعلت تادلوك يشعر بالدهشة بسببها‪:‬‬
‫‪ -‬إ ن ما أريد أن أفعله هو أن أرى كل فرد يفعل الشيء المناسب ويراعيه‪ ،‬يجب أن نرعى‬
‫مارتن‪ ،‬لن أستطيع أن أضعه طوال الرحلة في عربة مغلقة‪.‬‬
‫‪ -‬هل ترغب في أن أقرب منك مؤخرة العربة؟‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬إن كل ما أريده هو أن أرى رعاية كاملة بشؤون مارتن‪ ،‬أو أي فرد آخر يسقط مري ً‬
‫فأمسك تادلوك نفسه‪ ،‬وحول الحديث ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫كبيرا في األعشاب بسبب الجاموس البري‪ ،‬سوف أكون قصير النظر إذا‬
‫ً‬ ‫صا‬
‫‪ -‬إن هناك نق ً‬
‫تركت مجموعات أخرى تسبقنا‪.‬‬
‫فرد عليه سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لسنا األوائل على أي حال‪ ،‬فهناك البعض ممن يتقدموننا‪.‬‬
‫‪ -‬ح فنة قليلة إذا كان هناك مثلهم حقيقة بالقليل من المؤمن والمعدات‪ ،‬ولكن هل بسبب وجود‬
‫من يسبقنا‪ ،‬يجب أن نترك البعض اآلخر ليتقدمنا ويسبقنا؟‬
‫كان سمرز يمسك فم الغليون بأسنانه‪ ،‬وتحدث بجانبه من فمه ببطء ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن حمى المعسكر تؤلم العظام بصورة بشعة‪.‬‬
‫فقال باتش‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أوافق على البقاء هنا إلى أن نشعر بأن مارتن قد تحسن‪.‬‬
‫وهنا سمع تادلوك همهمة الموافقة من جانب الجمهور الذين يزيد وقت مناقشتهم‪ ،‬كانت عيون‬
‫الجميع مركزة عليه في صورة اتهام‪ ،‬حينما شعر الجميع بأن هذا الموقف هو لصالح الركب‬
‫بأسره‪ .‬إن النظام هو الشيء الذي يقوم عليه أساس السلوك‪ ،‬وقت معين للنهوض‪ ،‬ووقت للسفر‪،‬‬
‫ووقت للنوم‪ ،‬ونظام لقطع مسافات معينة في اليوم‪ ،‬كل رجل يؤدي واجبه اليومي المحدد‪ ،‬كل‬
‫فرد ينفذ أوامر السلطة‪ ،‬بهذه الطريقة سوف يصلون إلى أوريجون بسًّلم وبسرعة‪ ،‬وسوف‬
‫يستطيعون سباق أي مجموعة أخرى‪ ،‬ولكن هؤالء الرجال ال يفضلون النظام أو التنظيم‪ ،‬إنهم‬
‫ال يستحقون القيادة التي قدمها لهم‪.‬‬
‫وبدأت أعصابه تثور لهذا التفكير‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نتحرك‪ ،‬هل تسمعونني؟ إنني أقول إننا سوف نتحرك‪.‬‬
‫ولكنهم لم يتحركوا‪ ،‬بل ظلوا ساكنين ينظرون إليه بغباوة وصًّلبة رأي‪ ،‬إلى أن قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تعرف يا تادلوك‪ ،‬كما نعرف نحن‪ ،‬أن هذا األمر يحتاج إلى عقد المجلس‪.‬‬
‫‪ -‬المجلس؟‬
‫‪ -‬دع المجلس يقرر‪ ..‬ليرى ما إذا كنا نتفق أو ال نتفق‪.‬‬
‫‪ -‬يا إلهي!‬
‫‪ -‬وفي الوقت نفسه لن أتحرك من مكاني‪.‬‬
‫وأضاف باتش ً‬
‫قائًّل‪ ،‬ووراءه همهمة الموافقة مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬وأنا كذلك‪.‬‬
‫كان يبدو أن تادلوك يلعنهم لو أن في يده مسألة اإلشراف على المجلس‪ ..‬كان بروور‪ ،‬وماك‪،‬‬
‫وفيرمان يقفون بجانبه مؤيدين‪ ..‬سوف يفقد الركب الوقت الذي سوف يستغرقه االجتماع وهو‬
‫أمر يؤسف له‪ ،‬ولكن قد ال تبدي هذه الرؤوس أي استعداد للتفاهم ومناقشة أوامره‪ ،‬لذلك قال‬
‫وهو يضحك منهم‪:‬‬
‫‪ -‬ابقوا حيث أنتم إذن‪ ..‬سوف نتحدث ونحن في طريقنا إلى أوريجون‪.‬‬
‫وتقدم إيفانز إلى جانب الرجل المريض‪ ،‬فأخبره تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬أمامك وقت كاف‪ ..‬ال داعي للعجلة‪ ،‬إننا سوف نذهب فقط إلى حيث توجد مدينة أوريجون‪.‬‬
‫ثم أضاف ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬سوف يجتمع المجلس في خًّلل ساعة‪.‬‬
‫وأخذ يراقب الذين عينوا أنفسهم بأنفسهم فترة بسيطة في حين ينقلون مارتن فوق سرير مناسب‬
‫داخل خيمة‪ ،‬ويتشاورون فيما بينهم على أن «شربة الملح» هي خير دواء لذلك‪ ..‬كان هناك‬
‫كثيرون ممن يرغبون في تقديم المساعدة من أدوية تقوية الدم‪ ،‬أو بلسم الحياة‪ ،‬أو الملينات‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك من العقاقير‪.‬‬
‫وبعد ذلك تركهم تادلوك ليناقش الموضوع مع ماك وفيرمان قبل عقد المجلس‪ ..‬كان قد قرر‬
‫عدم عقد المجلس على أساس أنه من المستحيل عقد هذا المجلس الخاص في هذا العراء‪ ..‬وكان‬
‫يعرف أن أي اجتماع بأشخاص معينين بصفة فردية في هذا المكان المكشوف سوف يثير‬
‫عا من المؤامرة‪ ،‬ولكنه قرر أن يجتمع بفيرمان وماك على الرغم من‬ ‫الشكوك بأن هناك نو ً‬
‫ذلك‪ ،‬ووضع ماك بي للرقابة‪.‬‬
‫وحينما سأله ذلك خرج بكل ثقة‪ ،‬وسوطه في يده يضرب به األعشاب بقوة وهو يشعر بعظمة‬
‫وتقدم‪ ..‬وكان هناك على حافة النهر خمس أو ست من النساء يغسلن المًّلبس في المياه الرملية‪،‬‬
‫كانت اثنتان منهن تمتلكان لوحين من الخشب‪ ،‬في حين كانت األخريات يعصرن مًّلبسهن بين‬
‫أيديهن‪ ،‬أما القطع الكبيرة فيضربنها فوق إحدى الصخور التي نشأت من شيء يعرفه هللا‪ .‬كان‬
‫هناك بعض الرجال‪ ،‬الذين لم يحضروا موقف مارتن‪ ،‬يتحدثون‪ ،‬في حين كان األطفال يعدون‬
‫بينهم‪ ..‬كان تادلوك يعرف معرفة تامة أنهم يتحدثون عنه وعن مارتن‪ ،‬وع َّم يجب فعله‪ ،‬حسنًا‬
‫إنه يستطيع أن يخبرهم بذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫عجوزا‪ ،‬في الطرف األعلى من‬ ‫وبعد ذلك شاهد تادلوك سمرز يقف بجواره‪ ،‬كما لو كان ً‬
‫وعًّل‬
‫المعسكر وهو ينظر إلى الغرب‪ ..‬فسار تادلوك نحوه‪ ،‬وابتدأ الحديث ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أستطيع أن أفهمك يا سمرز!‬
‫فاستدار سمرز نصف دورة‪ ،‬وكانت يداه ممسكتين ببندقيته‪ ،‬في حين كانت قاعدتها مرتكزة‬
‫على األرض‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أحصي المسافة‪ ،‬هذا هو كل شيء‪.‬‬
‫فأجابه تادلوك وهو يعرف أن سمرز يعرف أنه ال يفعل ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعني ذلك‪ ..‬يجب علينا أن نستمر في سيرنا‪.‬‬
‫فنظر سمرز إلى الشمس التي أصبحت في األفق الشرقي‪ ،‬وقال‪ ،‬وأمارات الجد تبدو على‬
‫وجهه‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أننا ال نستطيع أن نقطع أكثر من ثًّلثة أو أربعة أميال‪.‬‬
‫فالتقط تادلوك فكرة مما يضايقه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا على ذلك‪ ،‬إن هذا ليس وقتًا للهو والهزل‪.‬‬
‫فأجابه سمرز‪ ،‬وقد بدأ الوميض والبريق‪ ،‬الذي لمع في عينيه‪ ،‬يزول ويختفي‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أقول ذلك وال أفكر في األميال ً‬
‫بدال من مارتن‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل واحدًا ليس هو الركب كله‪.‬‬ ‫‪ -‬إن‬
‫‪ -‬لم أكن أعرف أنك تعرف ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫‪ -‬ألست أنت الكل بمفردك؟‬
‫‪ -‬أنت المرشد يا سمرز‪ ..‬وهذا هو كل شيء‪.‬‬
‫وكان تادلوك يتحدث بقصد‪ ،‬ويريد أن يثير الرجل كما لو كان يدعو لمبارزة تريحه من الشعور‬
‫الذي يطغي عليه‪ ،‬وانتظر‪ ،‬وكان السوط في قبضته يرتفع ويهبط بحدة‪.‬‬
‫وتحول سمرز لينظر بعيدًا‪ ،‬إلى النهر وإلى الجزيرة التي تقف وسطه مليئة باألشجار‬
‫واألخشاب‪ ،‬ثم قال بطريقة استهتارية جعلت تادلوك غير مستعد لسماع الباقي‪:‬‬
‫‪ -‬هذه هي جزيرة برادي‪ ..‬لقد أطلق عليها رجل‪ ،‬يدعى برادي‪ ،‬اسمه‪ ..‬كان ذلك في عام ثًّلثة‬
‫وثًّلثين‪.‬‬
‫وعادت نظرات سمرز لتستقر على تادلوك‪ ،‬فظن تادلوك أنها تمتلئ بالبرود وبالتعبير القاتل‬
‫الذي يشعر به الحيوان وهو ينتظر موته‪ ،‬ولم يكن يعرف حتى هذا الوقت مدى خطورة وأهمية‬
‫المرشد‪ ،‬لم يكن خائفًا‪ ،‬ولكنه شعر بالراحة حينما رفع سمرز بندقيته وتحرك‪ .‬وظل تادلوك في‬
‫مكانه ليراقبه وهو يبتعد‪ ..‬كانت مشية سمرز هادئة وسهلة مثل مشية الهندي‪ ،‬وكان شعره قد‬
‫ضا‪.‬‬
‫بدأ ينمو من الخلف بدرجة جعلته يشبه طريقة الهنود أي ً‬
‫حسنًا‪ ،‬إلى حيث ال رجعة‪ ..‬هذا ما فكر فيه تادلوك‪ ..‬ولعنة هللا على نظرته التي تمتلئ بالعداوة‬
‫أو مهما تكن‪ .‬إن النظرات ال تؤذي‪ ..‬إن أي إنسان يستطيع أن يتجاهل مرشدًا نصف وحشي‪.‬‬
‫كان القلق الذي يعتريه يدفعه إلى التحرك‪ ،‬فتقدم نحو الغرب تار ًكا نظره يجول في األرض‬
‫التي شملها ضوء الشمس‪ ،‬في حين كان ذهنه يعمل في مكان آخر‪ ..‬كانت أمامه آثار عربات‬
‫المهاجرين الذين نزحوا عام ‪ ١٨٤٤‬وما قبله‪ ..‬ال شك في أنهم قد واجهوا الكثير من الصعاب‬
‫ضا‪ ،‬وكان من بينهم الكثير من المتهورين والمجانين الذين ال يستطيعون القيادة‪ ،‬بل يعملون‬‫أي ً‬
‫على تعطيلها‪.‬‬
‫وشاه د عبر النهر مجموعة من الجاموس البري‪ ،‬فحاول أن يتكهن ببعد المسافة التي تسير فيها‬
‫هناك في هواء بًّلت الذي ال يمكن قياسه وتقدير مجاله‪ .‬إن مجرد االنتقال إلى الضفة األخرى‬
‫كامًّل‪ ،‬وكانت هناك مجموعة تبعد نحو نصف ميل قد تكون هدفًا‬ ‫ً‬ ‫من النهر قد يستغرق يو ًما‬
‫سديدًا للبندقية‪ ،‬أما التفاصيل فقد بقيت بعيدة خلف تًّلل الرمال وحدود النهر المائية‪ .‬فكر تادلوك‬
‫صغيرا ألن العين‬
‫ً‬ ‫وكبيرا في وقت واحد؛‬
‫ً‬ ‫صغيرا‬
‫ً‬ ‫أن هذا الهواء النقي الصافي قد جعل العالم‬
‫وكبيرا ألنه كان يبدو عظي ًما وبعيدًا‪ .‬وكانت األصوات تختلط بعواطف اإلنسان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قد لمسته‪،‬‬
‫وكانت كل ضوضاء تبدو قريبة وواضحة في الليل‪ ..‬أما في النهار‪ ،‬فإن صوت البندقية يبدو‬
‫ضعيفًا وواهنًا‪ ..‬لقد كان عال ًما غريبًا وشاذًّا‪ ..‬إنه يتطلب الحزم واإلدارة‪.‬‬
‫لقد أظهر الصفات التي يتطلبها الوضع‪ ،‬احتفظ باستمرار سير الركب‪ ،‬استطاع أن يدير بنفسه‪،‬‬
‫وبدال من ذلك دفعوا له الدين نقدًا وتجري ًحا‪ .‬خذ ً‬
‫مثًّل اليوم الذي أطلق فيه ماك‬ ‫ً‬ ‫إنهم يدينون له‪،‬‬
‫البندقية على الهندي‪ ،‬واليوم الذي تًّل الهزيمة‪ ،‬وحينما ظهر ضوء النهار قام سمرز بقيادة عدد‬
‫من الراكبين لصيد الجاموس المنطلق والمتفرق‪.‬‬
‫وهبت صباح هذا اليوم عاصفة‪ ،‬تبعها مطر عنيف طوال اليوم‪ ،‬جعل األرض تبدو كأنها قد‬
‫دهنت باألوحال‪ ،‬مما أدى إلى انغماس العربات‪ ،‬كان المطر باردًا يليه نسيم قوي الفح‪.‬‬
‫كذلك قام قادة العربات باإلسراع داخلها احتماء بها‪ ،‬ولكنهم شعروا بزيادة البرودة فخرجوا‬
‫منها وساروا في الطرقات‪ ،‬وقد ثقلت أقدامهم باألوحال‪ ،‬ولكنهم استمروا‪ ..‬كانت هذه هي‬
‫النقطة‪ ،‬وكانت النساء يقدن العربات ومعهن األطفال‪ ،‬واستمر الركب‪.‬‬
‫ظل تادلوك يقود الركب إلى الطريق منذ أن قام سمرز والرجال باكتشاف الطريق‪ ،‬ولكنه كان‬
‫يعود ليقدم قلبه ومساعدته للناس‪ ..‬استطاع أن يفعل شيئًا واحدًا؛ كان يقول ذلك نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬ي جب أن يجعل الثور يجذب العربات‪ ..‬فيضربه بسوطه؛ لتنطلق طاقته المختفية‪ ،‬لقد علم‬
‫ضا حينما حضر الوفد المكون من ستة‬ ‫الفريق أكثر من مرة شيئًا أو شيئين‪ ،‬وعلم الهنود أي ً‬
‫رجال‪ ،‬الذي لحق بالركب بعد ساعتين من بداية تحركه‪ .‬أما بيرد الذي لم يكن يستطيع الركوب‪،‬‬
‫فقد علمه كيف يمتطي الخيل ليرسله الستطًّلع أوامر الرجال وإبًّلغها لتادلوك‪.‬‬
‫منتشرا في األوحال‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫لم يكن الركب في حالة تتيح له بإقامة دائرة ومعسكر؛ إذ إنه كان‬
‫السير بطيئًا للغاية ألي مناورة سريعة من هذا النوع‪ ..‬وكان هناك تل يرتفع في اليمين‪ ،‬في‬
‫حين كانت هناك أشجار كثيفة في الشمال‪.‬‬
‫وردت جميع هذه االعتبارات على ذهن تادلوك‪ ،‬في الوقت الذي جاء إليه بيرد لينقل إليه‬
‫الرسالة‪ ،‬وذلك في اللحظة الذي بدأ يراهم فيها بوضوح‪ ،‬ويعرف ما يجب أن يفعله‪.‬‬
‫فأصدر أمره ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬قدم السًّلح إلى النساء‪ ..‬تعال أنت وويللي بروور والواعظ إلى المؤخرة ببنادقكم‪.‬‬
‫وشعر بأن الوقت قد حان إلظهار قيادته الحقيقية فقال‪:‬‬
‫‪ -‬كم هنديًّا؟‬
‫‪ -‬شاهدتهم فقط‪.‬‬
‫‪ -‬كم يبعدون؟‬
‫‪ -‬إنهم قريبون‪.‬‬
‫‪ -‬افعل ما آمرك وأخبرك به‪.‬‬
‫ثم قفز تادلوك فوق جواده‪ ،‬وأسرع نحو الخط األمامي تار ًكا بيرد يتبعه‪ ،‬ووضع يده أمام‬
‫ناظريه‪ ،‬وأخذ يدقق النظر فيما وراء األفق‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن يشاهد شيئًا أو أي هندي بعد؛‬
‫لقد ضلوا طريقهم وسط الغابات أو بسبب الضباب‪.‬‬
‫ثم حول ناظريه إلى العربات‪ ،‬فاستطاع أن يرى الوجوه البيضاء‪ ..‬وجوه النساء‪ ،‬ووجوه‬
‫األطفال التي تعكس الخوف والرعب‪ ..‬ووجه زوجته المليئة بالحيرة والفضول‪ ،‬وكان يأمل أن‬
‫يجدوا الشجاعة الكافية لمواجهة مثل هذا الموقف‪.‬‬
‫وعلى مسافة مائة ياردة من مؤخرة آخر عربة في الركب‪ ،‬استطاع أن يكتشف وجود ستة‬
‫هنود يسيرون ببطء‪ ،‬فأبطأ جواده وسار نحوهم‪ ..‬كان هؤالء هم كل ما استطاع أن يراه‪ ..‬ستة‬
‫من «الكوز»‪ ،‬عرف من منظرهم ومًّلمحهم التي غيرتها األمطار أنهم قد فوجئوا بهذا الطقس‪،‬‬
‫وأن أجسادهم قد أخذت ترتعد من البرد‪ ،‬وكان زعيمهم النحيف يلتف في بطانية‪ .‬واستطاع‬
‫تادلوك أن يلمح طرف بندقية يخرج من البطانية وجز ًءا من القوس والسهام‪ .‬وظل يفكر فيما‬
‫عساهم يفعلون‪ ،‬وهو في طريقه إليهم‪ ،‬حتى جذبوا جيادهم ووقفوا ساكنين‪.‬‬
‫وتقدم تادلوك إليهم وهو يحاول أن يجعل وجهه يبدو صار ًما مثل وجوههم‪ ،‬وكان بعظمة في‬
‫عا من صراع اإلرادات‪ ،‬ثم سأل‬
‫كبريائه‪ ،‬وبالتحدي ال الخوف‪ ..‬وأصبح يعتبر هذا األمر نو ً‬
‫الزعيم‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدون؟‬
‫ومضى وقت طويل قبل أن يجيب‪ ..‬ولم يتصور أنه قد استقبل في حياته من قبل مثل هذا‬
‫االستقبال‪ ..‬وكانوا ينتظرون أن يتحدث الخطيب‪ ،‬ويستقبلهم بحفاوة كما هي العادة‪ .‬وتحدث‬
‫زعيم «الكوز» فقال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قتلتم أحد الهنود‪.‬‬
‫ثم أشار بأصبعه إلى الخلف‪ ،‬حيث أسقط ماك الهندي من فوق الشجرة‪.‬‬
‫فأجاب تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬لقد قتلنا الهندي‪ ..‬لقد سرق الهندي؛ لذلك قتل الهندي‪.‬‬
‫‪ -‬الهندي ال يسرق‪.‬‬
‫‪ -‬الهندي سرق‪ ،‬لذلك سقط ميتًا‪.‬‬
‫‪ -‬الهندي يحب ويقبل الهدايا‪.‬‬
‫‪ -‬ليست هناك هدايا‪.‬‬
‫فرأى تادلوك األفكار تنعكس من أعينهم‪ ..‬رأى ما افترض أن يكون خيبة أمل ناشئة من رفضه‬
‫تقديم الهدايا إلصًّلح الخطأ الذي ارتكب‪ .‬أصبح الوقت مناسبًا بمعرفته‪ ،‬أصبح الخطر ً‬
‫ماثًّل‪،‬‬
‫ولكنه لم يشعر بأي خوف‪ ،‬فنظر تادلوك إلى تابعي الهندي فرآهم يعانون من سوء التغذية‪،‬‬
‫ويضعون على أجسادهم خرقًا ممزقة بالية‪ ،‬لذلك شعر بالقوة تتدفق في جسده‪ ،‬قوة تجعله يقف‬
‫في وجههم ويأمل في تحطيمهم‪.‬‬
‫كان يبدو أنه يستطيع بضربة واحدة من يده أن يبيدهم من األرض‪.‬‬
‫واستطاع أن يلتقط نظرات الزعيم‪ ،‬وقال تادلوك وهو على ثقة من نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬انصرفوا‪.‬‬
‫ثم حرك بندقيته وقال‪:‬‬
‫‪ -‬انصرفوا‪.‬‬
‫وتقدم بجواده خطوة واحدة‪.‬‬
‫كان واض ًحا أنه سيد الموقف‪ ،‬وبعد فترة تحولوا وهم يعدون‪ ،‬وكانت أمارات األلم والحرج‬
‫تبدو عليهم‪ ،‬ثم انطلقوا عائدين كما جاءوا‪ ،‬فجلس تادلوك منتصبًا‪ ،‬وشعر بأنه بقوته وعزيمته‬
‫استطاع أن يكسب هذه الجولة‪ ،‬وأن يشيعهم حتى اختفوا عن األنظار‪.‬‬
‫وعاد إلى تأكيد ضرورة مواصلة الركب للنساء‪ ،‬ثم تقابل بعد ذلك مع راكبي الجياد وأخبرهم‬
‫بما حدث‪ ،‬وكيف أن الوقت ليس مناسبًا للبقاء وإقامة معسكر‪ ..‬أمطار‪ ،‬وأوحال‪ ،‬وهنود‪،‬‬
‫سائرا طوال مسافة طيبة‪ ،‬ربما ثمانية أميال أو عشرة‪ ،‬وهو‬‫ً‬ ‫وماشية مبعثرة‪ ..‬وال يزال الركب‬
‫أمر يعكس كيف يمكن أن تؤدي اإلدارة الطيبة إلى مثل هذه النتائج‪ .‬لم يبالغ في أعماله‪ ،‬على‬
‫الرغم من أنه استمع إلى النساء وهن يخبرن الرجال بموقفه‪ .‬كان ذلك أكثر من مجرد واجب‬
‫القائد نحو فريقه‪ ،‬إنه سوف يقف الموقف نفسه مرة أخرى‪ ،‬على الرغم من اعتراضات سمرز‬
‫على ذلك‪ ،‬وهو الذي يقول‪« :‬لقد سارت األمور طيبة في هذه المرة‪ ،‬ولكن ال تحاول هذا أبدًا‬
‫مع البونيز أو السيوكس»‪.‬‬
‫وأعلن تادلوك في هذه الليلة أنه يجب على حراس الماشية أن يتيقظوا الليلة‪ ،‬وقد جاءت هذه‬
‫الفكرة خوفًا من قيام الهنود بهجوم مفاجئ يؤدي إلى الهزيمة واالنهيار‪ ..‬وال شك في أن الهنود‬
‫يفدون فجأة ويغيرون فجأة‪ ..‬ألم يستطع رجال الركب العثور على الماشية جميعها ما عدا واحدة‬
‫فقط‪ ..‬ألم يستطيعوا معرفة مكان أحد اللصوص؟ لم يستطع تادلوك أن يخفي شعوره نحو ماك‬
‫بسبب سلوكه‪ ..‬لم يهتم بهذا الهندي الذي قُتل‪ ،‬ولكنه كان قلقًا بسبب النتائج المحتملة‪ ..‬بدأ‬
‫الرجال يتنبهون للخطر المتوقع حدوثه‪ ..‬كانوا يعرفون أن الخطر سوف يقع‪.‬‬
‫ولكن اآلن حين قال إن مجرد وجود رجل مريض ال يبرر التأخير‪ ،‬وأن مجرد وجود مارتن‬
‫فوق سرير داخل عربة سوف يؤدي إلى تحسن حاله‪ ،‬وقف الجميع ضده‪ ،‬وضرب تادلوك مرة‬
‫أخرى األعشاب بسوطه بعنف‪.‬‬
‫وذكر نفسه أن الوقت قد حان الجتماع المجلس‪ ..‬ولكنه وقف دقيقة طويلة مكانه ال يتحرك بل‬
‫يحرك سوطه فوق األعشاب‪ ..‬وشاهد مرة أخرى وهو يقتنع بأن بعض النساء األخريات قد‬
‫انضممن إلى مجموعة من النساء الموجودة بالقرب من حافة النهر‪ .‬وكان أحد الرجال قد أشعل‬
‫النيران لهن‪ ،‬في حين أخذت المياه تغلي في القدور وترسل البخار عاليًا في الجو الذي كان‬
‫حتى تلك الساعة مشبعًا بالرطوبة من الليل‪ .‬أما في الجنوب‪ ،‬فقد كانت الحيوانات ترعى وهي‬
‫متفرقة‪ ..‬وشاهد ثًّلثة رجال يأتون عبر النهر مسرعين فوق الرمال‪ ،‬واستطاع أن يميزهم‬
‫واحدًا تلو اآلخر ‪ -‬سمرز‪ ،‬وجورهام‪ ،‬والغًّلم براوني إيفانز‪ ..‬كان قد اعتقد أنهم ذاهبون لصيد‬
‫الجاموس البري الذي يرعى في الشمال‪.‬‬
‫وضايقه أن يشعر بأنهم ذاهبون لصيد الجاموس الذي يرعى في منطقة بعيدة عن خط سير‬
‫قرارا نهائيًّا حتى ال يتحرك الركب قبل أن‬
‫ً‬ ‫الركب‪ .‬كان يبدو أنهم يعملون قبل أن يتخذ المجلس‬
‫يحضروا‪ .‬ومن الممكن تحقيق العمل السريع استنادًا إلى التنظيم السليم‪ ،‬وإلى مقدار فهم هؤالء‬
‫الناس لمعنى الكلمة‪.‬‬
‫كان يلقي اللوم على سمرز بصفة خاصة‪ ..‬ليس من أجل هذا الخطأ البسيط فقط‪ ..‬كان يشعر‬
‫تأثيرا سيئًا باستقًّلله‪ .‬وعدم احترامه للسلطة‪ .‬وكان سمرز يعرف‬ ‫ً‬ ‫بأن سمرز يؤثر على الركب‬
‫حذرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫وخبيرا بشؤون الصيد‪ .‬ومكتشفًا‬
‫ً‬ ‫الممرات التي يجب سلوكها‪ ،‬لذلك كان مرشدًا قويًّا‪،‬‬
‫ظا‪ ..‬كان له كل هذه الصفات جميعها‪ ..‬وكان على تادلوك أن يعترف بذلك أمام‬ ‫سا يق ً‬
‫وحار ً‬
‫ً‬
‫رجًّل محبوبًا‬ ‫نفسه‪ ..‬ولكنه كان في الوقت نفسه صعب الخضوع لإلدارة أو التأثر بها‪ ..‬وكان‬
‫لمعرفته بدقائق وخبايا الهنود‪ .‬وفنونهم وطريقة سلوكهم‪.‬‬
‫وحينما كان تادلوك يتجه نحو المجلس كان يرغب في قرارة نفسه وباستياء أنه يود أن يختفي‬
‫سمرز بمواقفه وعصيانه لألوامر‪ .‬اقترح سمرز على طول «ليتل بلو» أن يربط الجياد في‬
‫أغصان األشجار‪ ،‬وليس في جذوعها‪ ،‬وكان يقول في ذلك أن هذه العملية تمنع الجياد من كسر‬
‫اللجام والهرب‪ .‬واستطاع سمرز أن يجذب نحوه أنثى الجاموس بعد أن قام بتقليد صوت عجل‬
‫ً‬
‫مجاال للحياة حتى تستطيع أن تقطع المسافة إلى‬ ‫صغير‪ ،‬ثم أطلق رمحه فيها تار ًكا فيها‬
‫المعسكر‪ .‬وكان يقلق من الدماء التي تنزفها قبل أن يكون قد وصل هناك‪ .‬ومن غير سمرز‬
‫ضا لقرني أنثى الجاموس البري الوحشية التي أصابها في‬ ‫يجرؤ على أن يجعل جوادًا معر ً‬
‫مقتل؟ كان سمرز يستطيع أن يواجه الثيران والبغال والخيول‪ ..‬كان يشعر بأنه يلعب لعبة طيبة‬
‫من لعب الهنود والمياه‪ ..‬وكان يستطيع أن يطلق أسرع طلقات البندقية‪.‬‬
‫وكانت الطريقة‪ ،‬التي جعلت العربات تقف بها في الليل في صورة دائرة‪ ،‬بسيطة وفعالة على‬
‫الرغم من أنه كان ينقصها الطابع العسكري‪ .‬وكان يعتقد أنه من األفضل لتادلوك أن ينتهج‬
‫الوسيلة التي سبق أن تحدث بشأنها من تقسيم القافلة إلى أقسام يقود ًّ‬
‫كًّل منها أحد األفراد الذي‬
‫يجب أن يتولى تشكيل مربع كامل‪.‬‬
‫وكان يعترف بأن الطريقة التي وضعها سمرز ال تزال طيبة‪ ..‬عليه اللعنة‪ .‬إنه ال يزال كفئًا‬
‫لألعمال الطيبة ‪-‬على الرغم من أنه يسلك سلو ًكا طيبًا‪ ،‬إذا وجهت إليه أي إهانة‪ -‬وهو مستقل‬
‫في تفكيره مثل الخنزير الذي يقف فوق الثلج‪ .‬لماذا ال يستطيع أي رجل ذي نظرة بعيدة‪ ،‬وخبرة‬
‫واسعة‪ ،‬أن يمتلك مثل هذه الحكمة البرية الشيطانية؟ إن أي ميزة مهما تكن صغيرة من هذه‬
‫الحكمة‪ ،‬كافية لزيادة االعتراف بالقيادة والزعامة‪.‬‬
‫كان رجال المجلس اآلخرون ينتظرون على مسافة خمسين ياردة أو ما يعادل ذلك من العربات‪.‬‬
‫وكان تادلوك يقوم بمراجعتهم ‪-‬إيفانز‪ -‬فيرمان‪ -‬ماك‪ -‬بروور‪ -‬ودورتي‪ ،‬ثم جلس بجانبهم وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حال مارتن؟‬
‫أجابه بروور بلهجته األلمانية العنيفة‪:‬‬
‫‪ -‬حالته سيئة‪ .‬إنه سيموت من غير شك‪.‬‬
‫‪ -‬إنه قوي البنيان‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إن زوجتي تقوم برعايته ومراقبته‪ ،‬مع األخ ويذربي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫فهز تادلوك رأسه‪ ،‬وظهرت عليه عًّلمات التفكير في المجلس أكثر من تفكيره في مارتن‬
‫نفسه‪ ،‬والتفكير في المشكلة التي أعطاها أهمية كبرى أكثر من أهميتها الحقيقية ألنها كانت‬
‫تعتبر تحديًا لسلطته‪ .‬كان يتمنى لو كان قد استطاع اقتراح التأجيل‪ ،‬ولكن ال يزال الوقت مناسبًا‬
‫بعد ‪ -‬إنه يستطيع أن يعتمد على بروور‪ ،‬وماك‪ ،‬وفيرمان‪ ،‬وهو يكون معهم غالبية‪ ،‬ثم قال‬
‫وهو ينظر إلى الشمس‪:‬‬
‫‪ -‬نستطيع أن نقطع عشرة أميال أو نحو ذلك‪ .‬إن كل ميل له حسابه في تقديرنا‪.‬‬
‫ولكنهم لم يجيبوا‪ .‬وكان بروور يجلس وساقاه بعضهما فوق بعض ويهز رأسه‪.‬‬
‫وقال دورتي بلهجة تميل إلى التقرب‪:‬‬
‫‪ -‬إن مارتن بعيد عن تفكيره اآلن‪.‬‬
‫فأمسك تادلوك به وهو مندهش كما سبق له االندهاش من قبل من أن هذا اإليرلندي ‪-‬أحد رجال‬
‫الجبال والتًّلل‪ -‬يعارضه‪ .‬هل سبق له االستماع إلى بعض النقد غير الحذر عن قيادته؟‬
‫وأضاف إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنه ينادي المسيح فقط وأتباعه‪« ..‬إني أصلي لك»‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ال يعني أنه قد أبعده عن تفكيره‪.‬‬
‫فقال دورتي‪:‬‬
‫‪ -‬لم يسبق له أن كان رجل صًّلة من قبل‪.‬‬
‫كان تادلوك يشعر بأن وجوههم تبدو كما لو كانت قد تحجرت‪ .‬أخذ يدرسهم‪ ،‬ثم جعل نظره‬
‫يتحول متج ًها إلى المعسكر حيث وقفت العربات ساكنة‪ ،‬في حين كانت النساء يصطففن في‬
‫طوابير للقيام بأعمال الغسيل ويجرين من عربة ألخرى‪ .‬وشاهد الخيمة التي وضعت لمارتن‬
‫إليوائه‪ ،‬في حين يقف ويذربي بجوارها‪ ،‬وكان رداؤه الذي تغطيه األتربة يبدو كما لو كان‬
‫ضا أو حزينًا احترا ًما للمرض‪ .‬كان األطفال والنساء يتحركون بجوار العربات‪ ،‬في حين‬‫مري ً‬
‫كانت النيران تخبو بعد أن أوفت بغرضها‪ ،‬ثم مرت عينا تادلوك بالرجال األربعة الذين كانوا‬
‫يرقدون بجوار عربة باتش؛ كان أحدهم ينبش في األرض بسكينة‪ .‬وفي هذه اللحظة اعتقد أنه‬
‫سمع صوت مارتن‪ ،‬ربما ينادي المسيح‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫قرارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬يجب أن نتخذ‬
‫لم يرد وا عليه‪ ،‬بل انتظروا وهم ينظرون إلى الشمس وأدركوا أنه من الممكن أن يصبح الجو‬
‫دافئًا اليوم ومضيئًا بالشمس الساطعة‪ ،‬ثم لمح نظرات إيفانز فقال له‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت راغب في التمسك بقرار المجلس؟‬
‫‪ -‬هل أنت كذلك؟‬
‫‪ -‬بالطبع‪.‬‬
‫ثم بدأ تادلوك يلتفت إلى الباقين‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬يجب علينا أن نتذكر أن الحيلة التي يجب أن نتبعها هي االستمرار في التحرك‪ ،‬سوف يكون‬
‫طويًّل وشاقًّا قبل أن نصل إلى أوريجون على أي حال‪.‬‬
‫ً‬ ‫الطريق أمامنا‬
‫رفع إيفانز يده إلى وجهه ليحك وجنتيه كما لو كان هذا الحك يساعده على التفكير‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬فلن يتأثر وضعنا إذا تأخرنا‬ ‫‪ -‬إنني ال أنكر ما تقوله يا تادلوك‪ ،‬ولكننا قطعنا شو ً‬
‫طا‬
‫يو ًما أو يومين‪.‬‬
‫‪ -‬سوف نعوض التأخيرات السابقة‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪.‬‬
‫‪ -‬إننا ال نستطيع أن نتجنب التأخير‪.‬‬
‫غير إيفانز من وضعه على األرض‪ ،‬وحينما تحدث كان ينظر إلى اآلخرين‪:‬‬
‫‪ -‬ال يبدو لي أنه يجب أن ننحني لضربات كل إنسان‪ .‬إن الطريق الذي أحدده يجب أن ننتهي‬
‫منه قبل أن يمضي الوقت‪.‬‬
‫فقال ماك‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نسير بسرعة تعادل نصف سرعة خيول السباق يا أرفين‪ .‬هل نشأت على أن تكون سبَّاقًا؟‬
‫فرد بروور ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬يجب أن تكون في المقدمة‪.‬‬
‫وتحدث تادلوك وهو ينظر إلى ماك بحدة‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم يقم أي إنسان بدفع الركب اآلن‪ ،‬فإن هذا الركب سوف يتخلف في المؤخرة بأسره‪.‬‬
‫فرد فيرمان ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إذا مرض أحدنا فيجب على الركب أن يتوقف بعض الشيء‪.‬‬
‫لذلك كان الجميع يقفون متعارضين‪ .‬وظن تادلوك أن الجميع يعارضونه ما عدا األلماني الذي‬
‫يصعب زحزحته‪ .‬لقد قام بقيادتهم‪ ،‬وعمل من أجلهم‪ ،‬وقام بتنظيمهم وتوجيههم‪ ،‬ودفعهم إلى‬
‫األمام ‪-‬ولكنهم يقفون اآلن ضده‪ -‬جميعهم‪َ ،‬أو لم يكونوا كذلك؟ حينما أصبح األمر معلقًا‬
‫بالقرار‪ ،‬هل كان هناك أي أمل في أن ينحاز ماك وفيرمان إلى جانبه؟‬
‫لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬دعنا ندلي بأصواتنا‪ .‬هل تؤيد يا ماك أنت وفيرمان اقتراحي؟‬
‫أجاب ماك بلهجة قاطعة‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫فاختفت االبتسامة من وجه تادلوك‪ ،‬وهز فيرمان رأسه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫وأعاد ماك رفضه‪ ،‬في حين استمر فيرمان يهز رأسه عًّلمة على الرفض أي ً‬
‫وألقى إيفانز بقطعة من الروث إلى كلبه الرمادي العجوز الذي كان ينبش في حفرة بجواره‪،‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه من الواجب علينا االنتظار يا تادلوك‪.‬‬
‫شعر تادلوك بالدماء حارة في وجهه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫قرارا أحمق‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬الجميع يعارضون رأيي‪ .‬إنكم تتخذون‬
‫وتحدث ماك بصوت هادئ رزين‪:‬‬
‫‪ -‬أود أن أخبركم بشيء آخر‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬سيكون هناك اجتماع الليلة‪.‬‬
‫‪ -‬اجتماع؟‬
‫جميع أفراد الركب‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪ -‬أال تستطيعون التكهن؟‬
‫‪ -‬هل هي لعبة تكهن؟‬
‫‪ -‬إنهم سيعزلونك يا إيرفين‪.‬‬
‫‪ -‬إنك كاذب‪.‬‬
‫اعتذارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬سوف انتظر ألسمع منك‬
‫بدأت كلمات ماك بمعناها وعمقها تأتي ببطء إلى تادلوك‪ ..‬لقد كانت تعني طرده وإعادة انتخاب‬
‫رئيس جديد‪ .‬استطاع تادلوك أن يدرك كيف تطورت األمور ‪-‬لقد عرف أن باتش‪ ،‬اإلنسان‬
‫الصلب الرأي الذي جاء من نيو إنجلند‪ ،‬قد اتحد مع دورتي‪ ،‬وجورهام‪ .‬وكاربنتر‪ ،‬لمعارضته‬
‫والتًّلعب به وبقيادته غير الشعبية‪ ،‬فجعلوا هذه المشكلة البسيطة شيئًا ضخ ًما‪ ،‬ولكنه على‬
‫الرغم من ذلك قال لماك‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أعرف ما يدور هناك‪ ،‬وسوف أستطيع المحافظة على وضعي يا ماك‪.‬‬
‫فتساءل ماك‪:‬‬
‫‪ -‬أال تستطيع أن تدرك أن األمر ليس كذلك؟‬
‫‪ -‬إنني أدرك‪ .‬لقد أسميتك غبيًّا‪ .‬وكان هذا صحي ًحا‪.‬‬
‫فرد اإليرلندي ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن العالم كله غبي بالنسبة لك‪ .‬إني غبي‪ .‬وهذا حسن‪ .‬ولكن ليس األمر كذلك يا إيرفين‪ .‬وإنما‬
‫هو الجو الذي تحيط به نفسك‪ ،‬وهو درجة التحمل التي فاضت وزادت على حدها‪.‬‬
‫وأضاف دورتي‪:‬‬
‫‪ -‬إنها حيواناتك وعدم وجود ما يكفي من الرجال لرعايتها هي التي عطلت سير الركب‪ ..‬وأنت‬
‫تطالب دائ ًما بزيادة سرعة الركب‪ .‬وإنها لقيادتك السقيمة هي التي أقلقتنا‪.‬‬
‫فقال تادلوك لماك‪:‬‬
‫‪ -‬هل تقول إنني قد أسقمتكم؟‬
‫‪ -‬أين تقف اآلن إذن؟ يجب أن يجري انتخاب آخر هنا لتصحيح الوضع‪.‬‬
‫‪ -‬أين تقف اآلن يا فيرمان؟‬
‫فأجاب فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬إنني هنا‪ ،‬في الموقف نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬إنك ال تستطيع أن تذهب بعيدًا اآلن‪.‬‬
‫فقال دورتي‪:‬‬
‫‪ -‬أخبره يا بروور‪.‬‬
‫فشرح األلماني‪:‬‬
‫‪ -‬إنني معك وكذلك ماك بي‪ ،‬ولكننا ال نكفي‪.‬‬
‫كان األمر واض ًحا وجليًّا‪ ..‬إذن لقد تآمر الجميع عليه‪ ،‬ويجب عليه أن يتنازل عن القيادة أو‬
‫يتعرض لإلهانة والتحقير بطرده حين أخذ األصوات‪ .‬إن بروور ال يكذب عليه‪« :‬هل هذه هي‬
‫التحيات وألفاظ الشكر التي ينالها اإلنسان لما يسديه‪ ،‬لقد عملت وخاطرت برقبتي»‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪ ،‬في حين كان ماك يهز برأسه موافقًا على كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا هو ما جعل األمر صعبًا يا تادلوك‪.‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أقسم هذا الركب جزأين عندي القليل من األصدقاء‪.‬‬
‫عا من اللهب الحارق‪:‬‬
‫فقال إيفانز بكلمات اعتبرها نو ً‬
‫‪ -‬إنك تخسرهم بمرور الوقت‪.‬‬
‫فاندفع تادلوك نحو قدميه وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬إلى الجحيم أنتم جميعًا!‬
‫ولم يهدأ إال بعد أن كان قد قطع بضع خطوات بعيدًا‪ ،‬ثم التفت خلفه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني مستقيل‪.‬‬
‫اتجه تادلوك بعد ذلك إلى عربته التي توجد في المقدمة وأخبر زوجته‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تركت القيادة اآلن‪.‬‬
‫كانت تجلس فوق صندوق تحاول إصًّلح زوجين من السراويل كانا قد قطعا في أثناء ركوبه‬
‫فوق العربة‪ ،‬فنظرت إليه من غير أن تنبس بأي كلمة‪ .‬واستمر يقول كما لو كان يريح نفسه‬
‫ويرضيها بهذا االعتراف‪:‬‬
‫‪ -‬كان علي أن أستقيل أو أن أُطرد‪.‬‬
‫ولكنها بقيت من غير أن تتكلم‪ .‬لقد تعلمت من خًّلل السنوات العشر من زواجها أن تعرف‬
‫الكثير منه عن طريق تعبيرات وجهه ً‬
‫بدال من االستفسار منه والتدخل في عمله‪ .‬إن كل ما يريد‬
‫ً‬
‫سؤاال حتى ينقشع غضبه وتنتهي‬ ‫أن تعرفه هي يقوم بإخبارها‪ .‬وانتظرها عساها تلقي عليه‬
‫ثورته‪.‬‬
‫ولما توقف عن الحديث قالت له‪:‬‬
‫‪ -‬إن مارتن يزداد سو ًءا‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن هذا هو خطئي‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أقول أنه خطأ أي إنسان‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وكانوا سيشعرون‬
‫‪ -‬إذا كنا قد مضينا في سيرنا‪ ،‬فإن كل إنسان كان سيوجه االتهام إل َّ‬
‫بالسرور لذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أشعر بالسرور الستقالتك‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنت مسرورة حقًّا؟‬
‫‪ -‬إنك تقبل هذا األمر بصعوبة‪.‬‬
‫فقطب جبينه وترك ذراعيه بجانبيه‪ .‬لقد كانت هي الشخص الوحيد الذي عرف ما بذله من‬
‫جهد‪ ،‬ولكنها تريثت لحظة كما لو كانت تفكر فيه وفي استقالته‪ ،‬ولكن حينما تحدثت كانت تقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن مارتن يعتمد عليك‪ .‬وأعتقد أنك الصديق الوحيد له‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعرف أي شيء أستطيع أن أفعله له‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪ .‬ولكن‪..‬‬
‫ً‬
‫إنجيًّل قدي ًما فسأله تادلوك‪.‬‬ ‫ثم اتجه إلى خيمة مارتن‪ .‬وكان األخ ويذربي خارجها يمسك في يده‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫‪ -‬كنت أصلي‪ .‬فينفذ هللا مشيئته‪.‬‬
‫‪ -‬هل سمعت صلواته‪.‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬اآلن‪.‬‬
‫أدخل تادلوك رأسه داخل الخيمة‪ ،‬فشاهد مارتن راقدًا على ظهره وفمه مفتوح وعيناه متكورتان‬
‫ومفتوحتان‪ .‬وأخذ تادلوك ينصت فسمع تنفسه الخفيف السريع‪ ،‬فتقهقر إلى الوراء حين شعوره‬
‫ورؤيته لصوت ورائحة المرض‪ .‬لم يكن هنا شيء يستطيع أن يفعله‪ .‬ماذا كانوا يظنونه؟ طبيبًا؟‬
‫وقال ويذربي‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه قد رأى الضوء‪.‬‬
‫‪ -‬هل هذا بفعل شربة الملح؟‬
‫فأومأ ويذربي برأسه‪ ،‬وعاد تادلوك إلى عربته‪ ،‬وبعد ذلك قضي يو ًما مؤل ًما وقاسيًا؛ إذ طاف‬
‫بذهنه كل ما حدث‪ ،‬وما واجهه من تجارب في كل مرة‪ ،‬وما القاه من غضب‪ ،‬فشاهد مارتن‬
‫وحيدًا في زيارته الثانية فاقد الوعي‪ .‬شعر تادلوك بأن هناك شيئًا يستطيع أن يفعله‪ .‬شيئًا ال‬
‫ينتقده عليه أحد‪ ..‬القيام بتطهير مارتن‪.‬‬
‫عا يتسم بالفوضى دخلت فيه النساء‬ ‫كان اجتماع الرجال في المساء كما توقعه ‪-‬كان اجتما ً‬
‫واألطفال‪ .‬وقد أصيب تادلوك بالدهشة التامة حينما تم انتخاب إيفانز مكانه ً‬
‫بدال من باتش الذي‬
‫كان يتوقع انتخابه‪ .‬كان يستطيع أن يقسم بأن باتش كان متأرج ًحا بالنسبة لمصلحته الخاصة‪.‬‬
‫أما إيفانز فقد كان أمينًا في نشاطه‪ ،‬لذلك فوجئ حينما رشحه ماك للقيادة‪ .‬وتحول إيفانز برأسه‬
‫بعد ذلك إلى زوجته‪ ،‬وأعلن أنه ال يصلح لهذا المنصب‪ .‬وكان تادلوك يجلس على مسافة‬
‫قصيرة تكفي لسماعه ما يدور في االجتماع الذي لم يكن راضيًا عنه‪ ،‬وكان ينظر في الوقت‬
‫تعبيرا ال يستطيع أن يصفه ‪-‬نظرة أمومة‪،‬‬‫ً‬ ‫نفسه إلى وجه مسز إيفانز‪ ،‬كان يعتري وجهها‬
‫واهتمام‪ ،‬وكبرياء‪ ،‬وعزم وتأكد‪ ،‬وطموح‪ -‬لم يكن يعرف أي من هذه الصفات تعكس هذه‬
‫النظرة‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك استراح لهذه النظرة‪ ،‬وشعر بأنها نظرة طيبة محبوبة‪ .‬كان‬
‫تفكيره اآلخر يتركز فقط في ضخامة حجم الرجال‪ ،‬وغباوتهم‪ ،‬وصًّلبتهم‪ ،‬وعنفهم‪.‬‬
‫وجاء شيء آخر إلى ذاكرته حينما جلس في عربته يطويه الظًّلم بعد أن تأجل االجتماع‪ ،‬لقد‬
‫كان هذا االجتماع يعكس الفوضى البرلمانية التي سمح بقيامها‪ ،‬لقد ظهرت بوادر الفوضى‬
‫ضا للترشيح كان تورلي يدخن غليونه‪ ،‬ويتحدث في‬ ‫العامة‪ ،‬وفي حين كان اسم إيفانز معرو ً‬
‫موضوع آخر‪ ،‬وتركه باتش يستمر في حديثه بصوت عال ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نعود إلى الوراء‪ ..‬سوف أعود أنا وزوجتي وأوالدي من حيث أتينا بحق موسى‪.‬‬
‫وصاحت مسز تورلي من بين صفوف النساء‪:‬‬
‫‪ -‬آمين‪ .‬آمين‪.‬‬
‫وسمع تادلوك صيحتها الهستيرية بعد ذلك‪ ،‬ثم أعقبتها صيحات النساء‪.‬‬
‫واستمر تورلي يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نعود أدراجنا إلى ميراميك؛ بعد أن رأينا هذا الركب ال ينتظر اآلخرين‪ ،‬وبعد أن رأينا‬
‫كل فرد فيه يتصف بالفردية واالنطوائية‪ .‬إننا نرحب بمن ينضم إلينا‪.‬‬
‫فتساءل باتش‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا عن سمرز؟‬
‫كان سمرز يقف بجوار باتش‪ ،‬ورد على ذلك بكلمة واحدة‪:‬‬
‫‪ -‬خطر‪.‬‬
‫بدأ الصمت يطغي على الجميع ما عدا صيحات مسز تورلي‪ ،‬وحطم باتش الصمت بسؤاله‪:‬‬
‫‪ -‬هل يرغب أي إنسان آخر في العودة؟‬
‫ثم صمت لحظة وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬بيرد؟‬
‫أدرك تادلوك‪ ،‬الذي كان يشعر بمرارة في قرارة نفسه وبقيمة اإلدارة الحازمة‪ ،‬اللعبة التي‬
‫لعبها باتش يطلب رأي بيرد وااللتزام بشيء‪.‬‬
‫قال بيرد إنه سيبقى‪:‬‬
‫واستمر باتش يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل يود أي إنسان أن ينقسم عن الركب؟ نود أن نعرف ذلك اآلن‪.‬‬
‫لم يتحول لينظر إلى تادلوك‪ ،‬ولكن غيره تحول للنظر إليه‪ .‬وظل تادلوك يحدق النظر في‬
‫الجميع بصمت ومن غير أن يتحرك‪ .‬هل يترك الركب؟ كيف يستطيع ذلك‪ ،‬إنه تهديد قوي‪،‬‬
‫من يجرؤ على الذهاب معه؟ ربما بروور‪ ،‬وماك بي‪ ،‬ومارتن‪ ،‬إذا قدر له أن يعيش‪ .‬مجموعة‬
‫يؤسف لها ليس معها ما يكفي من الثيران‪ ،‬وبعضهم يذهب على قدميه‪ ،‬لذلك جلس صامت ًا‪،‬‬
‫وكان يود أن يقفز ويصيح بأعلى صوته بأنه يرغب في ذلك ولكنه ال يستطيع تنفيذه‪ .‬ألم يقم‬
‫بأحسن وأفضل األعمال‪ -‬لماذا يحاولون تحطيمه اآلن؟ كان يشعر في قرارة نفسه بأنه يود أن‬
‫يرفع السوط في يده وينهال به على الجميع‪.‬‬
‫سا في مكانه من غير حراك‪ ،‬بعد انفضاض االجتماع‪ ،‬فترة طويلة‪ ..‬كان‬ ‫استمر تادلوك جال ً‬
‫يرى الناس وال يراهم‪ ،‬وكان يعرف أن زوجته قد ذهبت إلى مكان ما‪ ،‬فتعجب كيف تستطيع‬
‫أن تختلط بهؤالء الذين أساءوا معاملته‪.‬‬
‫هدأ المعسكر وظهر سكون الليل وصمته‪ .‬ولم تكن هناك سوى همهمات األصوات القادمة من‬
‫خيمة مارتن التي ثبتت في الطرف اآلخر من الركب بجوار المياه‪.‬‬
‫وأخذت النيران تخبو واحدة تلو األخرى وظهرت النجوم تشع ضو ًءا باردًا بعد اختفاء الشمس‪.‬‬
‫كان تادلوك يستطيع أن يرى األفق في الجنوب‪ ،‬وفي هذه اللحظة سمع صراخ أحد األطفال‬
‫قاد ًما من إحدى الخيام‪.‬‬
‫كان تادلوك يحاول أن يبحث لنفسه عن حل لوضعه‪ ..‬لقد ترك أعماله في «بوريا» ليحاول‬
‫استخدام جميع طاقاته وإمكانياته في ميادين أخرى كبرى‪ ،‬ولكنه يغلب على أمره بوساطة‬
‫بعض المهاجرين المهلهلين‪ .‬كان يعتقد أنه يستطيع أن يصبح حاك ًما في يوم من األيام إلحدى‬
‫األراضي أو لوالية من الواليات‪.‬‬
‫ولكن ماذا حدث له اآلن؟ ما الذي يغريه اآلن بعد أن هزمه هؤالء الرجال ذوي الرؤوس‬
‫الصلبة؟ تكساس؟ هل يستطيع الذهاب إلى تكساس؟ لقد ذكر ذلك أمامه في الربيع الماضي‬
‫وقيل له إن تكساس بحاجة إلى حاكم‪ ،‬وأعضاء مجلس شيوخ‪ ،‬ونواب‪ .‬هل يذهب إلى‬
‫كاليفورنيا؟ يقول البعض إن كاليفورنيا مكان أفضل بكثير من أوريجون‪ .‬إنها تمنح الكثير من‬
‫الفرص‪ ،‬وهي بحاجة إلى الرجال‪.‬‬
‫شعر بيد امرأته فوق كتفه وهي تقول له‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن تأوي اآلن إلى فراشك يا إيرفين‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف متي يحين الوقت للنوم‪ .‬ولست بحاجة ألن تخبريني متى أذهب إلى الفراش‪.‬‬
‫‪ -‬إن الوقت متأخر يا إيرفين‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا بشأن ذلك؟ يجب أن أذهب لرؤية مارتن‪.‬‬
‫‪ -‬لقد كنت هناك اآلن‪ ..‬ال يوجد ما تستطيع أن تفعله اآلن أكثر من ذلك‪ ،‬إنهم يقدمون له‬
‫«الموستاردة» اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬اذهب إلى فراشك اآلن‪.‬‬
‫وانتظر لحظات قًّلئل؛ لكي يؤكد وجوده‪ ،‬ثم نهض واقفًا واتجه إلى خيمته ليخلع مًّلبسه وقبعته‬
‫وحذاءه‪ .‬تكساس؟ كاليفورنيا؟ كانوا يحتاجون إلى الرجال‪ .‬يحتاجون إلى الزعماء والقادة‪.‬‬
‫ثم خطا بضع خطوات إلى الخارج وهو عاري القدمين‪ ،‬والتقط سوطه الذي كان قد نسيه فوق‬
‫األرض ووضعه في العربة‪ ،‬ثم عاد مرة أخرى إلى الخيمة ليرقد على فراشه بجوار زوجته‪.‬‬
‫كان على وشك النوم بعد وقت طويل أمضاه من غير نوم‪ ،‬حينما جاءه ويذربي وأخبره بأن‬
‫مارتن قد مات‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الثالث عشر‬
‫وضع إيفانز النير فوق أحد ثيرانه وربط الحبال وتحدث إلى زميله وهو ممسك بطرفي النير‪،‬‬
‫في حين كان الحيوان اآلخر يخطو داخل المكان وكانت أظًّلفه تصدر صوتًا بمًّلمستها‬
‫األرض‪ .‬كان يشعر بالرضاء وهو يرى مجموعة من الحيوانات المدربة حتى يمكن أن يختصر‬
‫الوقت ويبتعد عن المشكًّلت‪.‬‬
‫وحينما أعد عدته نظر في الساعة التي استعارها من ماك‪ ،‬كانت الساعة تشير إلى السابعة إال‬
‫الثلث‪ .‬سيكون مستعدًّا في الوقت المناسب‪ ،‬كما يحدد القائد‪ .‬لم تكن جميع الخيام قد جمعت بعد‬
‫وال حتى العربات نفسها قد ُح ِملت بعد‪ .‬كان بعض الرجال الموجودين داخل الدائرة التي يوجد‬
‫بها قد بدءوا ينشغلون بالثيران التي ستتولى سحب العربات‪ ،‬في حين كان هناك رجال آخرون‬
‫ينزعون الخيام ويجمعونها ثم يرفعونها إلى عرباتهم‪ .‬كان الجميع يعمل بسرعة فائقة‪ ،‬وكانت‬
‫النساء يجمعن أواني اإلفطار ويبقين داخل العربات يساعدن في ترتيب وتنظيم حمولة العربات‪.‬‬
‫كان إيفانز يعتقد أن هذا الصباح يمتلئ بالقلق‪ ،‬وأن الشعور السائد هو شعور الرهبة والقلق‬
‫حينما كان الركب يستعد للتحرك‪ ،‬وحينما كان الرجال يتركون أماكنهم وكانوا يتحدثون‬
‫ضا بسبب تعبهن وإنهاكهن وشعورهن‬ ‫بأصوات حادة‪ ،‬كانت النساء يجبنهم بأصوات حادة أي ً‬
‫بثقل األيام‪ ،‬وكان الصغار يصيحون ويلهون في حين كانت أصوات الصناديق تعلو وتتزايد‬
‫وهي ترتفع إلى العربات‪ ،‬وفي الوقت نفسه كانت أصوات البعوض تتزايد وترتفع وتكون‬
‫ضبابة صغيرة حول كل رأس‪ ،‬وأسفل العربات‪.‬‬
‫انحنى إيفانز فوق كلبه «روك» وربت على رأسه ثم انتصب وتنفس بصوت عميق‪ .‬كان للهواء‬
‫طعم خاص‪ ..‬طعم حاد‪ ،‬وطعم المشروبات الروحية‪ ..‬كان يشعر بكل ما حوله طيبًا وحسنًا‪،‬‬
‫لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يوم طيب يا بيكي‪.‬‬
‫وكان ينظر بين العربات حيث كانت زوجته تعمل‪ ،‬وكانت قد أغلقت الصندوق الذي يضم‬
‫األواني والقدور وأدوات الطعام‪ ،‬وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬كم أتمنى أن ينقشع هذا البعوض ويبتعد عنا‪.‬‬
‫كثيرا بمجرد أن نتحرك؛ إذ ليس من الصعب ابتعاده بعد أن يتغير‬
‫ً‬ ‫‪ -‬لن يبقى هذا البعوض‬
‫الهواء‪.‬‬
‫كان الجو باردًا‪ ،‬ولكن الشمس كانت قد بدأت تنشط وتوزع حرارتها‪ ،‬واستطاع أن يرى في‬
‫اتجاه الشمس «كورت هاوس روك» وهي صخرة تبدو ضخمة‪ ،‬في حين كان الجانب القريب‬
‫منها تغلفه الظًّلل وتقع على جانبها «تشيمني روك» وهي صخرة رفيعة تقف شامخة‪ .‬وفي‬
‫كثيرا من‬
‫مثل هذا المكان الذي يرى فيه اإلنسان الكثير من الجمال والخيال‪ ،‬يستطيع أن يرى ً‬
‫األلوان‪ ..‬األلوان القرمزية‪ ،‬واأللوان الرمادية والصفراء‪ ،‬بسبب حواجز الرمال‪ .‬وكانت‬
‫الشمس ترسل أشعتها الصفراء‪ ،‬في حين كانت السماء تبدو زرقاء صافية لدرجة تؤذي العين‪،‬‬
‫ولم يكن يوجد في السماء بأسرها أي أثر للسحب في أي مكان‪ .‬وقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬لم أشعر في حياتي بالثقة مثلما أشعر اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنت متأكد؟‬
‫‪ -‬من كل شيء‪.‬‬
‫ثم تقدم إلى األمام‪ ،‬ورفع الصندوق الذي يحتوي على أواني الطهو ليضعه في العربة‪ ،‬ثم سحب‬
‫غطاء العربة فوقها وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لم يبق أي شيء سوى ربط وحزم العربة‪.‬‬
‫وتراجع إلى حيث توجد الحظيرة‪ ،‬وعبر إلى الثيران وربطها جميعًا‪ ،‬ثم نظر حوله ليرى ما‬
‫إذا كان هناك من يتطلب المساعدة‪ ،‬وتوجه بعد ذلك إلى حيث يقف هيج وفيرمان يتصارعان‬
‫مع ثور صغير جامح‪ ،‬كانا قد وضعها ً‬
‫حبًّل في قرنيه‪ ،‬وكان هيج يحاول أن يجره مع فيرمان‪،‬‬
‫ثم أمسكا عن عملهما بمجرد أن رأيا إيفانز قاد ًما‪.‬‬
‫ابتسم هيج في وجه إيفانز وهو يتراجع والحبل في يده‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫ثورا شقيًّا مثل هذا الثور‪.‬‬
‫‪ -‬لم أر في حياتي ً‬
‫‪ -‬لماذا لم تقوما بتقييد قدميه حين سحبه ووقف ثورته؟‬
‫فأجاب هيج‪:‬‬
‫ضا‪ ..‬إنني أراهن بأنني سوف أستطيع تقييده‪.‬‬
‫‪ -‬سوف نفعل ذلك‪ ،‬ولكني أكره القيام بهذا العمل أي ً‬
‫وكان يمسك بالحبل في يده ثم تولى ربطه في العربة‪ ،‬وبذلك منع الثور من الهروب‪ .‬وضرب‬
‫إيفانز بيده على فخذ الثور فاندفع إلى األمام ً‬
‫قليًّل بعد أن استطاع هيج ربطه‪.‬‬
‫قال فيرمان وأفكاره تدور في هذا االتجاه‪:‬‬
‫‪ -‬إنني خجل من العمل الطيب في هذا المجال‪.‬‬
‫وحاول أن يبعد البعوض عن طريقه بيده‪ ،‬في حين كانت األظًّلف واألقدام تغوص في الرمال‪،‬‬
‫ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬هذه منطقة ملعونة‪.‬‬
‫‪ -‬إنها بالنسبة لنا جميعًا‪ ،‬لقد كانت األظًّلف واألقدام تزداد قوة وعنفًا كلما تقدمت في الطريق‪.‬‬
‫وسار إيفانز في طريقه إلى األمام‪ ،‬في حين كان ديك سمرز يضع أمتعته فوق زوجين من‬
‫ضا‪ ،‬وكان ويذربي يقف بجواره‪ ،‬ويبدو عليه كما لو كان يرغب‬
‫الخيل‪ ،‬وأمتعة األخ ويذربي أي ً‬
‫في تقديم المساعدة إذا كان يعرف كيف يفعل ذلك‪ .‬كان إيفانز يتحدث إليهم‪ ،‬األمر الذي جعل‬
‫ماك يبدي تجهمه‪ ،‬وجعل ويذربي يومئ برأسه‪.‬‬
‫وقال ديك‪ ،‬وهو يحاول ربط لجام جواد آخر بسرج جواده‪ ،‬ثم أخذ الحبل في يده‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنتم مستعدون؟ أعتقد أننا سوف نسير في الطريق على خير وجه‪ ،‬ولكني أعتقد أنه من‬
‫األفضل أن أربط هذا الحبل بعربتك مرة أخرى‪ .‬هل أستطيع القيام بذلك؟‬
‫كان يبدو أن كل فرد أصبح على استعداد‪ ،‬حتى آل ماك بي‪ ،‬الذين لم يكونوا على استعداد في‬
‫قادرا ما لم يستطع تجميع الرجال في ليلة معينة‬
‫أي لحظة‪ .‬كان إيفانز يشعر بأنه لن يكون قائدًا ً‬
‫لمعرفة ما يدور في أذهانهم‪ ،‬ولسماع أي اعتراضات‪ ،‬ومعالجة أخطار بداية التحرك‪ .‬كان قد‬
‫أخبر ماك بفكرته‪ ،‬لذلك قام ماك بمساعدته في سؤال الرجال اآلن عن هذا الوضع‪ ..‬فإذا تأخر‬
‫أي إنسان‪ ،‬فإنه يفقد مكانه في خطة السير‪ ،‬ويجب عليه نتيجة لذلك أن يسير في المؤخرة‪ .‬كان‬
‫الجميع يعتقدون أنها خطة ماك نفسه‪ ،‬لذلك لم يتأخر أي إنسان‪ ،‬ولكن كان إيفانز يشعر بالقليل‬
‫من الذنب بأنه اغتصب هذه القيادة‪ ،‬وشعر بوخز ضميره من هذا االجتماع المهلهل الذي اتسم‬
‫بالمكر‪.‬‬
‫قال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬كيف تسير األمور معك؟‬
‫أخرجت مسز ماك بي رأسها من مؤخرة العربة وحيته تحية الصباح الطيبة‪ ،‬وكان هناك ثًّلثة‬
‫أطفال من أبنائهم يطاردون بعضهم البعض‪ ،‬ويدورون حول بعضهم البعض‪ ،‬ثم يتوقفون حين‬
‫طا‪ .‬لم يشاهد إيفانز «ميرسي» في هذا المكان‪،‬‬‫مشاهدة إيفانز من بين شعورهم التي لم تر مش ً‬
‫وتساءل ماك بي ً‬
‫قائًّل‪ ،‬وهو يبدي استعداده للتحرك‪ ،‬وتنفرج لحيته عن ابتسامة طفيفة‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا ننتظر اآلن؟‬
‫فنظر إيفانز في ساعة يده‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن الوقت قد حان‪.‬‬
‫وأخذ يدور بنظره بين العربات‪ ،‬فرأى جواده يرعى وبعض الماشية الطليقة التي ترعى‬
‫األعشاب النابتة في األرض‪ ،‬وأخبره ماك بي‪ ،‬كما لو كان هناك شيء هام يدور بذهنه‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أنوي التحدث إليك‪.‬‬
‫‪ -‬حول ماذا؟ هي هي مسألة شخصية؟‬
‫‪ -‬لقد كانت شخصية‪.‬‬
‫لم يعجب إيفانز بهذا التفكير‪ ،‬ولكنه رد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬في أي لحظة؟‬
‫وتوجه بعد ذلك إلى عربته وانضم إلى بقية الفريق‪ ،‬فرأى ربيكا ونظر إلى ساعته‪ ،‬لم يكن‬
‫أمامه سوى بضع دقائق‪ ،‬وكان سمرز قد ربط جواده بالعربة التي سوف تحطم الدائرة وتبتدئ‬
‫ال مسير‪ .‬كان الوقت قد أزف للبدء في السير‪ ،‬امتطى كل من سمرز‪ ،‬وشيلدز‪ ،‬وكاربنتر‪،‬‬
‫وبروور‪ ،‬صهوات جيادهم بجانب سمرز الذي كان يقود الركب‪ ،‬أمسك سمرز بنفيره الفضي‪،‬‬
‫وسأل إيفانز تادلوك عما إذا كان يرغب في إصدار أمره إلى سمرز بنفخ النفير‪ ،‬كما كان يفعل‬
‫وهو قائد لهذا الركب‪ ،‬وكان يظن أن هذا الموقف من جانبه سوف يقابل بالشكر من جانب‬
‫تادلوك‪ .‬وعلى أي حال وافق تادلوك على القيام بهذه العملية‪ ،‬على الرغم من أن إيفانز قد الم‬
‫نفسه على دعوة تادلوك للقيام بهذا العمل‪ ،‬وهو القائد الجديد‪.‬‬
‫نظر تادلوك إلى إيفانز وهو يرفع يده‪ ،‬ثم أصدر النفير صوته‪ ،‬فصاح الرجال في الركب‪،‬‬
‫وارتفعت السياط لتنهال على الثيران التي تندفع في السير‪ ،‬وارتفعت األتربة وأصوات دوران‬
‫العجًّلت‪ ،‬وهي متجهة في طريقها إلى أوريجون‪.‬‬
‫كان مكان إيفانز في مؤخرة الركب‪ ،‬وكان يخرج في بعض األحيان عن طابور الركب ليشرف‬
‫على األعضاء‪ ،‬ويشاهد سمرز ورجال الخيل والعربات وهي تشق طريقها في اتجاه خط‬
‫السير‪ ..‬يستطيع الركب أن يكون سريعًا حتى يكون بعيدًا‪ ،‬وفي مأمن من الهنود‪.‬‬
‫وال شك في أن الهنود كانوا يستطيعون خلق الشر إذا رغبوا في ذلك‪ ،‬على الرغم من أنه لم‬
‫يكن يعتقد في تلك اللحظة أنهم يستطيعون القيام بذلك‪ ،‬بعد أن مر بهم بعض الجنود الذين‬
‫يطلقون على أنفسهم لفظ «الدراجون»‪ ،‬والذين كان يقودهم الكولونيل كيرني‪ ،‬الذي قال إن‬
‫هدف هذه المجموعة هو إثارة الرعب والخوف في قلب الهنود‪ ،‬وتحذيرهم بترك المهاجرين‬
‫وشأنهم‪ .‬كانت هناك مجموعة من ثًّلثمائة رجل أو نحو ذلك‪ ،‬وذلك باإلضافة إلى عدد من‬
‫العربات ومدفعي عربة‪ ،‬وعدد من األبقار والغنم التي تسير بالخلف‪ ،‬وكان الجميع مسرعين‬
‫حتى يستطيعوا الوصول إلى «الرامي» ثم االتجاه بعد ذلك إلى «ساوث باس» حيث يعودون‬
‫مرة أخرى‪ .‬كان إيفانز يراقبهم جميعًا وهم يمرون بهامتهم الطويلة الشامخة وهم يثيرون‬
‫األتربة خلفهم‪ ،‬لذلك شعر بأن قيادته أصبحت أكثر سهولة وسًّلسة‪.‬‬
‫سيرا حسنًا‪ ،‬وكان الناس في حالة معنوية طيبة ما عدا بعض‬ ‫ً‬ ‫كانت بقية األمور تسير‬
‫«اإلسهال» الذي أصاب الناس بسبب مياه «بًّلت» أو بسبب تناول الكثير من اللحوم الطازجة‪.‬‬
‫استطاع الركب أن يمر بساوث بًّلت‪ ،‬وزيادة أو مضاعفة سرعة العربات على حسب نصيحة‬
‫سمرز للمرور فوق الرمال بسرعة كبيرة‪ .‬كانوا قد ساروا في طريق شاطئ الشمال‪ ،‬ثم‬
‫انحرفوا للعبور إلى «آش هولو» و«نورث فورك»‪ ،‬كان مكانًا طيبًا للذكرى ‪-‬آش هولو‪ -‬كانت‬
‫هناك ظًّلل وكانت هناك ينابيع مياه باردة وعشب طيب‪ ،‬واستطاعت العربات أن تمر بهذا‬
‫الطريق متجهة إلى أسفل التًّلل من غير أي إصابات‪.‬‬
‫استطاع الركب أن يصل إلى كورث هاوس روك والقلعة في الوقت المحدد‪ ،‬وعسكروا في‬
‫الوادي هناك‪ ،‬وشعر الناس بأنهم يجب أن يحتفلوا بذلك؛ ألنهم شعروا بأنهم أصبحوا في المكان‬
‫المناسب لهم‪ ،‬أو أنهم أصبحوا قريبين من المكان الذي سيتخذونه موطنًا لهم‪ .‬كان االحتفال‬
‫بسي ً‬
‫طا وهادئًا‪ ،‬وكان ويذربي يقوم بالخدمات‪.‬‬
‫كانت عائلة تورلي تسير خلف الركب‪ ،‬وتنتشر بعربتها القديمة‪ ،‬والعدد القليل من الماشية‪ ،‬وهم‬
‫يرفضون السير مع الركب‪ ،‬ولكن ال يسلكون طريقًا آخر‪ .‬كانت عيون مستر ومسز تورلي‬
‫وطفليهما النحيفين تتطلع إلى مسز ماك ومسز تادلوك وربيكا بالشكر واالمتنان‪ ،‬بعد أن قدمن‬
‫إليهم بعض الدقيق والحلوى‪ ،‬وإذا استطاع أي إنسان سماع ما تردده العائلة‪ ،‬لظن أن هذا‬
‫الركب يعاملها معاملة سيئة وخاطئة‪ .‬لم يكن األمر كذلك‪ ،‬ولكن لم يكن بينهم من يشعر بالراحة‬
‫والهدوء‪.‬‬
‫ظل إيفانز يدور برأسه مثل اآلخرين حين استمرار الركب في السير‪ ،‬ولمس مدى بعد الشقة‬
‫بين الركب وبين عائلة تورلي التي أخذت تتخلف شيئًا فشيئًا عن الركب‪ ،‬وبعد كل ما حدث‬
‫كانت عائلة تورلي مستمرة في التحرك واالبتعاد تاركة وراءها القليل من األتربة‪ ،‬وظلت‬
‫المسافة تتسع حتى ابتلعتهم‪ ،‬وحاول إيفانز أن يحدد مكان هذه العائلة‪ ،‬ولكنه لم يستطع‪ ،‬وإنما‬
‫شاهد بقعة بعيدة في األفق تتحرك ببطء‪ .‬لم يكن بعيدًا وعميقًا في ذنبه‪ ،‬ولكنه شعر بالراحة‬
‫حينما شاهد ويذربي يصلي لهذه العائلة‪ ،‬ويطلب من هللا أن يحميها من الهنود ومن العواصف‬
‫والحوادث‪ ،‬وأن يحرسها هللا ويحمي أغنامها ويضفي عليها السرور‪.‬‬
‫كان ويذربي قد استودع مارتن ربه قبل ذلك بقليل‪ ،‬في حين كان إيفانز وسمرز وتادلوك قد‬
‫حفروا القبر في صمت‪ ،‬وكان كل فرد يفكر تفكيره الخاص‪ ،‬ولما انتهوا جميعًا من الحفر‬
‫ضا‪ ،‬لم يكن‬
‫وضعوا مارتن فيه‪ ،‬وجاء ويذربي وأخذ يتلو من الكتاب الديني من سفر التكوين أي ً‬
‫هناك «كفن» أو صندوق خشب‪ ،‬وإنما اكتفوا بلفه في قطعة قماش وإهالة الرمال فوقه وحوله‪،‬‬
‫ثم تولى ديك إحراق بعض مسحوق البارود فوق القبر‪ ،‬وقال إن هذه الطريقة سوف تجعل من‬
‫قبرا مفقودًا ال يمكن‬
‫المستحيل على الذئاب والهنود العثور على جثة مارتن‪ .‬وكان هذا القبر‪ً ..‬‬
‫العثور عليه بعد تحرك الركب‪ ،‬ولن يعرف أي إنسان أو حيوان أن في هذا المكان يرقد رجل‬
‫‪-‬ر جل ذو عينين يبدو فيهما الغباء‪ ،‬وذو كتفين مقوستين‪ ،‬ويحمل على كاهليه الكثير من‬
‫المشكًّلت‪ ..‬كان يتجه إلى أوريجون وأصابه المرض في الطريق‪ ،‬ثم أخذ يصيح مستنجدًا‬
‫بالمسيح ثم يموت‪.‬‬
‫كان إيفانز قد فكر ً‬
‫قليًّل في حلق لحية مارتن‪ ،‬وكانت ربيكا تقول‪ :‬إنه يجب إتمام ذلك؛ إذ من‬
‫الواجب أن يذهب الرجل إلى القبر وهو حسن الهيئة‪ ،‬لذلك قاموا بإزالة هذه اللحية‪ ،‬ووضع‬
‫أفضل ثياب مارتن عليه التي جعلته يبدو في مظهر طيب‪.‬‬
‫بدأ الركب يشق طريقه مرة أخرى‪ ،‬وكان إيفانز يشعر بهبوط في تفكيره وبضآلة في وضعه‬
‫الجديد كقائد لهذا الركب‪ ،‬كما لو كان ال يرغب فيه‪ .‬وكان ديك يسير على طول الطريق بجانبه‬
‫مسرورا بصحبة وصداقة ديك‪ ،‬لذلك كان يعتمد عليه‪،‬‬
‫ً‬ ‫وهو يمتطي صهوة جواده‪ .‬كان إيفانز‬
‫وكان يشعر بالقوة في داخل نفسه بسبب قوة ديك‪ ،‬وربما أظهر هذا الوضع أن إيفانز ال يمكن‬
‫أن يناسبه منصب الكابتن لهذا الركب؛ ربما يكون هذا المنصب يتطلب ضرورة كون صاحبه‬
‫ضخ ًما قوي البنيان حتى يستطيع أن يقف بمفرده ال يرغب في أي مساعدة من أي إنسان إال‬
‫مساعدات المرشدين والنصائح الخاصة بعبور الطرق ومراقبة الهنود‪ ،‬ولم يكن هذا ما يتصف‬
‫به إيفانز نفسه‪ ،‬ولم يكن يرغب هو نفسه في أن يصبح زعي ًما وقائدًا‪ ،‬لذلك كان يجب عليه أن‬
‫يعتمد على ديك‪ ،‬وحينما تواجهه بعض الصعاب والمشكًّلت العويصة يلجأ إلى دعوة المجلس‬
‫لًّلنعقاد لكي تكون هناك آراء مبلورة قاطعة في هذه الصعاب‪ .‬ولكنه على الرغم من ذلك كان‬
‫يشعر بعدم الراحة والقلق حينما يقوم بأداء أي عمل؛ إذ يجب على القائد أن يكون أكثر من‬
‫مجرد شخص يعتمد على شخص آخر أو يرتكن على دعوة المجلس للبحث في األمور‬
‫والمشكًّلت‪ .‬كان يجب عليه أن يقدم الثقة إلى الشعب ويعمل على تشجيعه‪ ،‬وكان يجب عليه‬
‫أن يوالي رعايته وعنايته بين وقت ووقت‪ ،‬وأن يرى ما إذا كان الركب في حاجة إلى أي شيء‬
‫سواء رضي بذلك أو لم يرض؛ حتى ال يفشل الركب‪ .‬كان يتمنى أن يقوم فقط بمراقبة ورعاية‬
‫شؤون عائلته‪.‬‬
‫رفع إيفانز يده إلى أنفه ليمسح عنه األتربة‪ ،‬ثم إلى عينيه وجبهته ليزيح العرق‪ .‬كان الوادي‬
‫عا جديدة من النباتات الشوكية التي اعتاد سمرز أن‬ ‫عميقًا وضيقًا‪ ،‬وكان المسافر يشاهد أنوا ً‬
‫يسميها باسم «الحراب اإلسبانية»‪ ،‬كما اعتاد ويذربي أن يطلق عليها اسم «إبرة آدم»‪ ،‬أما‬
‫الزهور فلم يكن عنده اسم معين يطلقه عليها‪ ،‬وكان بعضها مخروطي الشكل أو أقحوانيًّا أو ذا‬
‫لون قرمزي أو أبيض أو أصفر‪ ،‬وكانت النساء واألطفال يقطفون الكثير منها إذا كان اليوم‬
‫نظرا النتشار «الحية ذات األجراس» إذا‬
‫طيبًا‪ ،‬وكان يجب عليهم أن يكونوا على حذر شديد؛ ً‬
‫كان من حسن حظ أي إنسان أن يفلت من عضتها‪ ،‬كان مجرد التفكير فيها يقلق المجموعة‬
‫ضا‪ ،‬وجعلته يشعر بزيادة العبء والحمل عليه‪.‬‬ ‫ويقلقه أي ً‬
‫كان كل شيء يبدو أمامه كما لو كان الجميع قد أولوه ثقتهم ومستقبلهم‪ ،‬وكانوا ينتظرون منه‬
‫أن يوالي رعايتهم والعناية بهم‪ ،‬وأن يمر بهم ليحييهم تحية الصباح‪ .‬كان هناك رجل فيرمان‪-‬‬
‫بوتر‪ ،‬ورجل ماك‪ -‬موسى‪ -‬وكذلك شيلدز‪ ،‬وكاربنتر وأنسيكو وديفيز وورث‪ ،‬كانوا قد أدلوا‬
‫بأصواتهم في جانبه‪ ،‬أو لم يكونوا ‪-‬بأقل تقدير‪ -‬ضده‪ ،‬لذلك قرر بينه وبين نفسه أن يتعرف‬
‫ونظرا ألن هؤالء لم يكن من السهل مقابلتهم‪ ،‬لذلك كان يجب عليه أن يذهب إليهم بنفسه‪،‬‬
‫ً‬ ‫بهم‪.‬‬
‫ويجب على كل قائد أن يعرف كل رجل في الركب حتى أصغر فرد فيه‪.‬‬
‫نظر إيفانز خلفه فرأى ربيكا وقد نزلت من العربة وسارت بجانبها‪ ،‬فأخذ يرمقها‪ ،‬كانت تبدو‬
‫نحيفة أكثر من قبل‪ ،‬ولكن لم يكن يبدو عليها أي أثر لإلرهاق أو الملل‪ ،‬ولم يكن يعرف متى‬
‫رأى أثر الحياة في وجهها من قبل مثل اآلن‪.‬‬
‫عاد مرة أخرى لمسح أنفه ثم أدخل أصبعه السبابة في أنفه‪ ،‬واعتقد أنه سوف يصل إلى‬
‫أوريجون وبعض رمال «بًّلت» معلقة به‪ ،‬إن بعض المياه الرملية ال تستطيع أن تزيل هذه‬
‫الرمال العالقة‪.‬‬
‫وعلى أي حال لم تكن الرياح قوية في ذلك اليوم‪ ،‬وكانت األتربة تندفع إلى أعلى ثم تتساقط‬
‫مرة أخرى ببطء لتستقر‪ ،‬وكانت الشمس ترسل أشعتها المناسبة‪ ،‬وكانت دافئة تبعث الدفء‬
‫والراحة في النفس‪ ،‬في حين كانت بعض السحب القليلة البيضاء تنتشر متفرقة في السماء‪،‬‬
‫وكان البعوض قد بدأ ينقشع كما لو كان يستريح من حصار الليل‪.‬‬
‫كانت عربات تادلوك تدور في المقدمة‪ ،‬وكان تادلوك يسير بجانبها وهو ال يزال مرتديًا معطفه‬
‫الكثير الجيوب الذي كان قد ارتداه في الصباح المبكر‪ ..‬كان يسير في خط مستقيم دائري‪ ،‬وكان‬
‫إيفانز يشعر في قرارة نفسه بالراحة بمجرد التفكير‪ ،‬في حين كان ملتز ًما جانب الرقابة الذاتية‬
‫بدال من السير حول الركب لمراقبة أي خلل أو خطأ بين المجموعة كلها‪ ،‬وكان يتحدث بلهجة‬ ‫ً‬
‫ودية كافية‪ ،‬على الرغم من أن االبتسامة لم تكن تطرق شفتيه‪ ،‬وكان قد اتفق مع بروور‪ ،‬بعد‬
‫وفاة مارتن‪ ،‬على أن يساعده وينحي مسز تادلوك جانبًا إلى العربة الثانية‪.‬‬
‫ضا‬
‫كان إيفانز يصيح في الركب بالتقدم‪ ،‬وكان صوت العربات المندفعة أو التي تخوض أر ً‬
‫كلها رمال تسمح بين حين وحين‪ ،‬فكان يأمر رجله «هيج» بالقيام بإصًّلح ما يختل منها‪.‬‬
‫وكان من المتوقع أن يجد الجميع أدوات وآالت وإطارات من الحديد في «الرامي» أو يقوم‬
‫أي فرد بإصًّلح إطاراته ومًّلءمتها مع عجًّلت عربته‪ .‬كان النظام الذي يتبعه هيج‪ ،‬حتى تلك‬
‫اللحظة حين القيام بعملية اإلصًّلح‪ ،‬نظا ًما سلي ًما‪ ،‬وكان الجميع قد اتفقوا على شراء بعض‬
‫المؤمن من «األراضي» مثل الدقيق واللحوم «المدخنة» وغيرها‪ ،‬في حين كان البعض قد‬
‫اتفق على شراء أو بيع بعض الثيران الهزيلة التي يمتلكونها‪ .‬ولكن كم هي المسافة إلى‬
‫«الرامي»؟ كم تبعد عن تشيمني روك على حسب ما قاله ديك؟ ستون ً‬
‫ميًّل أو نحو ذلك؟ لذلك‬
‫إذا استمر الركب في سيره الحثيث فإنه سوف يصل في أربعة أيام أو خمسة‪ .‬كانت التًّلل قد‬
‫بدأت ترتفع في اليسار وبطريقة غير منتظمة لتتجه‪ ،‬كما اعتقد إيفانز‪ ،‬إلى «سكوت بلوفز»‪،‬‬
‫وفي هذه األثناء شاهد عن قرب ستة من الخيول البرية ترعى في أعشاب األرض وتقف‬
‫شامخة الرؤوس‪.‬‬
‫وفي حين كان إيفانز يقوم بمراقبة ما حوله‪ ،‬جاء إليه ماك بي من عمود األبقار‪ ،‬وكانت لحيته‬
‫تبدو رمادية اللون بسبب األتربة والرمال‪ ،‬فبصق على األرض ثم ابتسم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن الماشية تسير على خير ما يرام‪ ،‬وسأعود لمراقبتها ورعايتها‪.‬‬
‫تعبيرا صادقًا عن المسؤولية ودرجة القيادة‪ ،‬لذلك شعر‬
‫ً‬ ‫تقريرا فهمه إيفانز على أنه يعبر‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫بالراحة حين سماعه‪ ،‬أو بالطريقة التي عبر بها عنه‪.‬‬
‫ترجل ماك بي عن جواده‪ ،‬وسار بجوار إيفانز وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يوم جميل معتدل‪.‬‬
‫فرد إيفانز‪ ،‬من غير أي تفكير في السبب‪ ،‬إلى أن قال بعد‪ ،‬وهو يتحول إلى «روك» العجوز‬
‫الذي كان يتعقبه‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يوم جميل لكل فرد‪.‬‬
‫وكان يتعجب في تلك اللحظة مما إذا كان السبب الوحيد الذي جعله ال يتحدث إلى ماك بي‪ ،‬هو‬
‫أن ماك بي كان يرغب في قتل كلبه‪ ،‬ولكنه تأكد أن ذلك لم يكن السبب‪ ،‬فإنه لم يكن ليذهب إلى‬
‫قذرا ال يعمل على تغيير هيئته أو حتى هيئة زوجته‪،‬‬ ‫ماك بي على الرغم من ذلك‪ ،‬فقد كان ً‬
‫ولكنهما كانا قد أنجبا ابنة جميلة ورقيقة وهي «ميرسي» وكان على إيفانز أن يعترف بأنها لم‬
‫تكن جميلة بما فيه الكفاية فحسب‪ ،‬ولكنها كانت فتاة دمثة الخلق ورقيقة المعشر‪ .‬كان يشعر‬
‫بالراحة في رؤيتها‪ ،‬لذلك كان يتنهد بالراحة حينما ال يرى براوني يتعقبه‪ ،‬وقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أخبرت زوجتي اليوم بأننا سوف نحقق ذلك بمشيئة هللا‪ ،‬مع أنني لم أكن أعرف في حقيقة‬
‫األمر حقيقة الوضع لفترة معينة‪.‬‬
‫حاول إيفانز أن يتذكر كيف يبدو وجه ماك بي تحت لحيته ‪-‬ربما‪ -‬ف َّكان يخيفان‪ ،‬وشفتان‬
‫متدليتان‪ ،‬كان يبدو نحيفًا‪ ،‬ومع ذلك كانت تبدو عليه الجدية‪ ،‬جدية وقوة‪ .‬صاح ماك بي مقطبًا‪،‬‬
‫وقد ظهرت أسنانه مكسورة وقذرة أكثر مما يستطيع اإلنسان أن يعتقد‪:‬‬
‫‪ -‬أجل يا سيدي سوف نقوم بذلك‪.‬‬
‫عرف إيفانز ذلك وهو يرقبه ويستمع إليه‪ ،‬كان هذا كًّلم واضح عبر عنه ماك بي بابتساماته‬
‫ورأسه‪ .‬كان ماك بي يعني التعبير عن إعجابه بالقائد‪ ،‬كان يرغب في أهمية‪ ..‬ظًّلل األهمية‪،‬‬
‫كان عنده بعض الشيء ليقوله‪ ،‬ولكن إيفانز قال‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نعرف أننا نستطيع تحقيق ذلك دائ ًما‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما يجب أن يكون‪ ،‬وعلى أي حال لقد حققنا ذلك اآلن‪.‬‬
‫لم يجبه إيفانز‪ ،‬كان يعرف ما كان يجب أن يفعله‪ ،‬وكان يشعر بأنه يجب أن يخبر ماك بي‪،‬‬
‫بأن يذهب إلى جهنم‪ ،‬ولكن ذلك كان شيئًا يصعب قوله‪ ،‬وكان يشعر بحاجة لصفع الفم الذي‬
‫يتحدث أمامه‪ ،‬لذلك لم تكن كلمات المدح لتضله‪ ،‬بل كان يكره أن يتحدث بروح الصداقة‪ ،‬حتى‬
‫مظهرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ولو كانت هذه الصداقة‬
‫وقال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أود أن أخبرك بأنني ال أحمل أي شعور عنيف أو كراهية ضد الكلب أو أي من الكًّلب‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬ونحن ال نشعر بذلك أي ً‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬كانت زوجتي تقول لي اليوم إنك قد خلقت لتكون قائدًا‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعرف أنني لم أعمل أو أسع من أجلها‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل بالطبع‪.‬‬
‫تحول إيفانز إليه وتحدث إليه بقوة وتأكيد‪ ،‬وكان يبدو غير راض عما يجب أن يقوله‪:‬‬
‫‪ -‬ماك بي‪ ،‬من األفضل لك أن تظل مؤيدًا لتادلوك‪.‬‬
‫أغلق ماك بي فمه المفتوح‪ ،‬وشاهد إيفانز في عينيه الرماديتين الغائرتين لمحة سريعة من‬
‫لمحات الكراهية والحقد‪.‬‬
‫‪ -‬أوه‪ ،‬بالطبع سوف أفعل ذلك‪.‬‬
‫ثم سار في طريقه في صمت لفترة وهو يقود جواده‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنني يجب أن أعود إلى الخلف‪.‬‬
‫وامتطى صهوة جواده وعاد به‪.‬‬
‫وكان يخبر نفسه أكثر من ذي قبل بأنه يجب أن يظل متنب ًها لهذا الرجل‪ ،‬ليس من أجل أي عمل‬
‫معين مكشوف‪ ،‬وإنما من أجل القيام بأي حيلة خاطئة‪ .‬وظل إيفانز يرقبه‪ ،‬ورأى ربيكا تبتسم‬
‫له ابتسامة اإلدراك لما يدور بخلده‪ ،‬في حين كان روك العجوز يجري بينهما‪ .‬كان يجب عليه‬
‫إذن أن يطلب من براوني أن يركز مراقبته على ممتلكاته‪ ،‬كما لو كان يفعل ذلك من أجل نفسه‪،‬‬
‫وكان من الصعب االعتقاد بأنه يوجد بعض األفراد الذين يستطيعون القيام بأعمال من هذا‬
‫النوع إلى أن يثبت ذلك باألدلة‪.‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬
‫كان كل شيء تنعكس عليه أشعة شمس ما بعد الظهر يبدو أبيض‪ ،‬ابتداء من االنحدار حتى‬
‫القًّلع الجنوبية الشرقية‪ ،‬باستثناء ظًّلل األشجار التي تسقط عبر هذه الحواجز‪ .‬كانت الخيام‪،‬‬
‫التي كان هنود السيوكس قد أقاموها وتنتشر أسفل المكان‪ ،‬تبدو بيضاء أو ملطخة بالسواد على‬
‫حسب عمرها‪ .‬كانت هناك حركة الرجال والنساء يغدون ويروحون‪ ،‬وكان األطفال يلعبون‬
‫والكًّلب تقفز وتشم األرض بحثًا عن أي صيد أو بقايا طعام‪ ،‬وبدأت الخيول تصهل بعد أن‬
‫ازدادت برودة الجو بعد الظهر‪.‬‬
‫ربط سمرز جواده وأخذ يراقب الوضع ويفكر في كيفية تغير األمور وتبدلها‪ ،‬كانت هذه البقاع‬
‫صغيرة مثله نفسه حينما شاهدها ألول مرة‪ ،‬صغيرة وبرية مثله ال تبدو على مًّلمحها آثار‬
‫التفكير والسنين‪ ،‬ولم يكن بها أي مركز أو نساء من الهنود يستجدين بعض المًّلبس‪ ،‬بل كان‬
‫هناك فقط الجاموس البري والغزالن والعشب الطويل الذي يتموج في قاع الرامي‪ .‬كانت‬
‫الرياح تصفر وكان صوتها أشبه بالفراغ في مكان لم تطأه أقدام بيضاء من قبل‪ .‬إن أي رجل‬
‫مستكين في ردائه يشعر بالوحدة والقوة‪ ،‬يستطيع أن يسأل نفسه‪ :‬من أين تهب هذه الرياح؟‬
‫أما اآلن فًّل توجد أبقار أو جاموس بري على مسافة خمسين ً‬
‫ميًّل أو حتى غزالن‪ ،‬فلم يبق‬
‫منها سوى القليل جدًّا‪ ،‬وكانت الرياح قد حملت أصداء الكًّلم وطرقات المعاول والمطارق‬
‫وأصوات البغال ورائحة الحياة إلى أسفل السقف‪ .‬إن المكان البعيد الذي يقع عند رقبة‬
‫«الرامي» و«بًّلت» هو «فورت بًّلت» التي أنشئت بعد أن قام سمرز بترك الجبال‪ ،‬وكانت‬
‫هناك «فورت الرامي» أو «وليام» على حسب ما يطلقون عليها‪ ،‬ولكنها مع ذلك قد تغيرت‪.‬‬
‫جاء التغيير بتغيير آخر تذكر ذلك من الستة والثًّلثين‪ -‬أو هل كانت سبعة وثًّلثين؟‪ -‬حينما‬
‫كانت أشجار القطن تنتشر في هذه األرجاء‪ .‬أما اآلن فقد أصبح كل شيء أبيض اللون في قمته‬
‫مثل القلعة‪ ،‬في حين كانت تجارة جلود الجاموس البري التي يقوم بها رجل الجبال وهي التجارة‬
‫التي لم تُمس‪.‬‬
‫أما فيما وراء التًّلل السوداء «بًّلك هيلز» التي ترتفع بعيدًا‪ ،‬فقد كانت الظًّلل السوداء تغطيها‬
‫بسبب وجود عدد من أشجار الصنوبر المتناثرة التي ترتفع شامخة عند «قمة الرامي»‪ ،‬أما‬
‫بعيدًا عن النظر‪ ،‬فقد كانت هناك «ريد بتس»‪ ،‬و«سويت ووتر»‪« ،‬وسوذرن باس» و«جرين»‬
‫حيث قضى سنواته األولى في صيد الغزالن يظن أن هناك أسرابًا كثيرة منها سوف تأتي إليه‬
‫طائعة وصاغرة‪ ،‬وكانت «بوبو آجي» تقع في الطرف القريب من الممر من ناحية الشمال‪.‬‬
‫أخذ يشكل كلمات «بوبو آجي» بشفتيه‪ ،‬ويتذكر صوت المياه المندفعة من الغدير الذي يطلق‬
‫عليه اسم «آشيا» ‪( ،‬بوبو آشيا) صوت السائل‪ ..‬والفتاة الدافئة التي كانت تقف بجوار الغدير‪،‬‬
‫وكانت تبتسم وهو يحاول أن يتمرن على كيفية نطق هذه الكلمات‪ ،‬لقد نسي اسمها‪ ،‬وقد أصبحت‬
‫اآلن ميتة أو امرأة كبرى‪ ،‬واندثرت معها ضحكاتها‪ .‬وهل تتذكر السكين الطويل الذي رقد‬
‫معها؟ لم يستطع أن يستعيد تذكر وجهها‪ ،‬كل ما تذكره هو دفؤها وفخذاها الصغيرتان النحيفتان‪.‬‬
‫كانوا يسيرون على طول «بوبو آجي» والمياه التي تتدفق بيضاء بسرعة‪ ،‬واألشجار الباسقة‬
‫الخضراء التي ترتفع شامخة‪ ،‬وجبال الرياح التي تقف شامخة ولم تعرف مصائد من قبل‪.‬‬
‫كان يجب عليه أن يعود إلى الركب اآلن‪ ،‬ولكنه ظل فترة أطول صامتًا حينما استيقظت الذكرى‬
‫وأصبحت حقيقة مرئية‪« .‬الرامي»‪ ..‬إنها المدخل إلى هذه الجبال‪ ،‬ويجب على كل إنسان أن‬
‫يركز عينيه ويظ ل في حالة انتباه تام لكل ما حوله‪ ،‬وظل يراقب طريق الجاموس البري وهو‬
‫يضع البندقية على كتفه‪ ،‬كان الخطر ال يزال كامنًا‪ ،‬الخطر من «البونيز» و«السيوكس»‪،‬‬
‫وربما «بًّلك فيت» فيما بعد‪ .‬ولكن هذا الموضوع كان ذا أثر مختلف‪ ،‬كان األطفال والنساء‬
‫يمرحون تحت أشعة الشمس‪ ،‬وكان يبدو عليهم المرح والشعور باألمن‪.‬‬
‫ترك نفسه يسرح بتفكيره في ميسوري‪ ،‬وكم عدد الجبال الكبيرة القابعة هناك‪ .‬كان قد قام بذبح‬
‫الكثير من الخنازير‪ ،‬وجمع المحصوالت وقيادة الثيران والبغال ومحاصرتها في «ماني»‪،‬‬
‫ووقف تفكيره حول الغزالن والوعول‪ ،‬وأغمض عينيه ليفتحهما؛ لكي يجد أمامه بعض نساء‬
‫الهنود الًّلئي وقفن أمامه ثم اختفين بعد ذلك‪ ..‬إن «بوبو آشيا» تشبه المياه الجارية‪.‬‬
‫كان في قرارة نفسه رجل جبال‪ ،‬وسوف يظل هكذا بقية حياته حتى إذا قام بحرث أرضه‬
‫وتربية الخنازير مرة أخرى‪ ،‬ولم يكن هناك أي مكان في هذه األيام لوجود رجل الجبال‪ ،‬وبعد‬
‫عدة سنوات سوف يقوم بعض الرجال برحًّلت صيد‪ ،‬في حين كان الجاموس البري يزداد‬
‫نحافة‪ ،‬وكان كل ثًّلثة عجول صغيرة تسقط لمقتل بقرة واحدة‪ ،‬لذلك فإن سكان البرية والجبال‬
‫سوف يعيشون في المستقبل على لحوم الخنازير وهم ال يعرفون طعم الدهنيات ولحم األفخاذ‪،‬‬
‫ضا مدى قوة شكيمة وبطش العدو من «الريز» أو «البًّلك فيت»‪.‬‬ ‫وال يعرفون أي ً‬
‫جلس سمرز فوق األرض وأخذ يستعيد في ذاكرته األشياء القديمة التي كان يقتنصها‪ ،‬وشعر‬
‫بلذة في إنعاش ذاكرته‪ ،‬كما شعر بقلبه يقفز نحو الجبال أو المناطق الخضراء أو النهر‪ ،‬حيث‬
‫ترك ذكريات حافلة هناك‪ ،‬وحيث نصب شراكه للحيوانات وقام بالقنص هناك‪ .‬كان يود في‬
‫هذه اللحظة أن يستعيد شبابه ويجدد حيويته بالجري خلف الوعول البرية ووسط غدران المياه‪،‬‬
‫ووراء نساء الهنود والمخاطر‪ ،‬هل كانت جميع هذه األشياء مجرد أسماء لألوقات الصغيرة؟‬
‫هز سمرز نفسه‪ ،‬من األفضل أن يستغل ما تبقى أحسن استغًّلل‪ ،‬ولم يكن هناك في داخل نفسه‬
‫أي شعور باألسف‪ .‬عاد إلى امتطاء صهوة جواده‪ ،‬ثم اتجه إلى الخلف مرة أخرى إلى حيث‬
‫الركب‪.‬‬
‫قالت ربيكا إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أستطيع أن أنتظر وصولنا إلى القلعة‪.‬‬
‫ثم خطت إلى األمام حتى تستطيع أن تسير بجوار ليجي تاركة الثيران التي تجر العربة تسير‬
‫خلفها بنفسها‪.‬‬
‫وقال ليجي‪ ،‬كما لو كان قد أدرك ما تعنيه زوجته‪:‬‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬ولكننا سوف نكون هناك على الفور‪.‬‬ ‫‪ -‬إن الطريق ال يزال‬
‫‪ -‬كم من الوقت سنمكث هناك؟‬
‫‪ -‬لن نحتاج إلى وقت طويل‪ ،‬ربما كان يو ًما ونصف يوم أو يومين‪ ..‬يجب أن نستمر في طريقنا‪.‬‬
‫‪ -‬أليست «الرامي» في منتصف الطريق يا ليجي؟‬
‫‪ -‬اآلن يا بيكي‪ ،‬إننا على أمل أن نصل إليها في الحال‪.‬‬
‫‪ -‬كم تبعد؟‬
‫‪ -‬يقول ديك إنها قد تزيد على ستمائة ميل‪.‬‬
‫‪ -‬وكم تبعد المسافة منها حتى نهاية المطاف؟‬
‫‪ -‬ربما ألف وثًّلثمائة ميل‪.‬‬
‫‪ -‬إنها أسوأ مسافة‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫ً‬
‫متواصًّل من غليونه غير المشتعل‪ ،‬وكان المرح‬ ‫سا‬
‫لم يجبها على ذلك‪ ،‬وإنما أخذ يجذب نف ً‬
‫يبدو على وجهه وهو يرقب العربات وهي تسير إلى األمام‪ ،‬ثم أخذ ينظر خلفه بين حين وحين؛‬
‫لكي يستوثق من أن كل شيء يسير في طريقه السليم‪ .‬كان الركب قد قطع جز ًءا من النهر‬
‫وسار فوق أعشاب طويلة تدوسها عجًّلت العربات‪ .‬كانت مجموعة الركب تلهب ظهور‬
‫الثيران والخيول بالسياط والعصي‪ ،‬كلما راودت أذهانهم فكرة الوصول إلى الرامي‪ .‬ولكن لم‬
‫تكن الثيران تهتم بذلك‪ ،‬ولم يكن يهتم أي ثور هزيل منهك جائع بالضربات التي تنهال عليه‪.‬‬
‫وهنا قالت ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أننا يجب أن ننتظر وقتًا أطول حتى ال تنفق الماشية‪.‬‬
‫ولكن ليجي استمر واض ًعا غليونه في فمه وهز رأسه‪ ،‬فتنهدت في داخل نفسها‪ ،‬وهي تظن أنه‬
‫من األفضل البقاء في القلعة بقية حياتها؛ لتقوم باألعمال المليئة باألوساخ والدخان والتعب‬
‫والدموع في األعين والقدمين الملطختين باألوحال واألتربة نتيجة للجلوس فوق األرض‪ ،‬لن‬
‫تشعر هناك بالحصى في حذائها‪ ،‬ثم قال لها ليجي‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نتقدم تقد ًما حسنًا‪.‬‬
‫فأجابته‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬حسنًا‪.‬‬
‫شعورا وموقفًا غير عادي‪ ،‬وحتى ليجي نفسه‪ ،‬كان يبدو قلقًا‪،‬‬
‫ً‬ ‫كانت تعتقد أن الرجال يبدون‬
‫على الرغم من أن بعض السرور الحقيقي والبسيط كان يبدو على وجهه وحركاته وعضًّلته‬
‫وطريقة سير ودوران العجًّلت‪ ،‬فكلما زاد عدد األميال التي يقطعونها ارتفعت معها روحهم‬
‫المعنوية‪ ،‬كما لو لم يكن هناك أي أمل في حياتهم سوى ترك آثار خلفهم‪ ،‬ولم يكن أحدهم يهتم‬
‫بتناول طعامه مخلو ً‬
‫طا بالرمال‪.‬‬
‫كانت تعرف أنهم يرغبون في الوصول إلى أوريجون سالمين بأي وسيلة‪ ،‬وكانت تعرف أنه‬
‫يجب عليهم أن يستمروا في رحلتهم‪ ،‬ولكنها لم تكن لتهتم بالتعب وبالليل وبمضي النهار‬
‫وبالسرور‪ ،‬كانت تشعر بالتعب واإلنهاك في المساء وبالحزن القليل المخلوط بالتعب‪ ،‬ولم تكن‬
‫ترغب في التفكير في الغد‪ ،‬وكانت تتعجب مما إذا كانت أوريجون كما تصورتها أو رسمتها‬
‫في مخيلتها‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬لذلك أخذ يسير وسط األتربة كما لو كان‬
‫وكان إيفانز يميل إلى وجود الشمس والرياح أي ً‬
‫قد استبعدها من تفكيره‪ ،‬أما زوجته فقد رأت أن الشمس أصبحت قاسية في بعض األحيان ‪-‬‬
‫ضا أن الرياح قد أصبحت جافة‪ ،‬وكرهت معها خشونة‬ ‫قاسية بشعاعها وبريقها‪ -‬ووجدت أي ً‬
‫حبات الرمال التي تقبع داخل الحذاء‪.‬‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو ديك‪.‬‬
‫وكان سمرز يقف مرتديًا معطفًا من جلد الغزالن ويحرك الركب وهو يسير في طريقه‪ ،‬لم تكن‬
‫لتستطيع أن تميز التعبيرات على وجهه؛ ألن الشمس كانت تعكس أشعة مباشرة على عينيها‪،‬‬
‫مرارا بسبب‬
‫ما لم تقم بإنزال قبعتها فوق جبهتها‪ ،‬كانت تعرف أن وجهها وبشرتها قد ازدادا اح ً‬
‫فعل حرارة الشمس‪ ،‬وأصبح وجهها يبدو فيه الجفاف حتى أصبح شبي ًها بوجه الرجال أكثر‬
‫منه بوجه النساء‪ .‬كانت ترغب في أن تصبح أشبه بالنساء بعد أن زاد حجمها في الضخامة‪،‬‬
‫وكانت تميل إلى أن تزيد نظافة ونعومة‪ ،‬وأن تكون حسنة الملبس‪ ،‬ليس أمام ليجي فحسب‪،‬‬
‫ضا كامرأة حتى تستطيع أن تشعر بأنوثتها وبمكانتها الطبيعية‪.‬‬
‫وإنما أمام نفسها أي ً‬
‫كانت تفكر في الشيء الذي سوف تفعله حين وصولها إلى القلعة‪ ،‬وهو تسخين المياه‬
‫ضا‪..‬‬
‫واالستحمام‪ ،‬والتخلص من اآلالم التي تصيب عظامها‪ ،‬ثم أخذت تفكر فيما مضى وولى أي ً‬
‫في ميسوري والبيت العتيق‪ ،‬والبرودة المنعشة‪ ،‬وزبدة األلبان والخبز‪ .‬أخذت تفكر في ظًّلل‬
‫األشجار وفاكهتها والدوالب واألطباق والمًّلبس وأواني الطهو والرائحة التي تتصاعد من‬
‫األطعمة حين الطهو‪ ..‬كان لها بيت في ميسوري‪ ،‬مكان ال يزال قائ ًما حتى اآلن له مدخل‬
‫ونوافذ‪ ،‬كانت تعرف ما شاهدته من تًّلل وأشجار وانحناءة السماء الزرقاء وراء األفق‪..‬‬
‫وحينما كانت تشعر بالتعب واإلرهاق كانت تجد مكانًا للراحة‪.‬‬
‫كان هذا هو الشهر الذي كانت تعرف أنها تشعر فيه بالراحة الجسمانية‪ ،‬ولكنها ال تستطيع‬
‫ضا‪ .‬صممت بينها وبين نفسها أال تذهب بعيدًا عن «الرامي» سواء أكان معها‬ ‫تحقيق ذلك أي ً‬
‫ليجي وبراوني أم لم يكونا معها‪ ،‬كانت تود أن تبقى هنا في هذه البراري وتترك الركب يشق‬
‫طريقه وسط الرياح والشمس الحارقة واألتربة‪.‬‬
‫وقفت في مكانها‪ ،‬لم تكن ترغب في أن يشاهدها ليجي ويرى آثار الشمس على بشرتها ووجهها‪،‬‬
‫ثم ظلت ترقبه وهو يسير إلى األمام‪ ،‬في حين كان فريقها قد وصل إليها‪ ،‬وشعرت بأنها سوف‬
‫تسير في الركب‪ ،‬لذلك أخذت تقول لنفسها إن ليجي سوف يستمر في ذهابه وتحركه إلى‬
‫أوريجون‪ ،‬وأنه ال يفكر بأن هناك أي شيء يدور في ذهنها سوى أنها ترغب في مراقبة‬
‫عربتها‪.‬‬
‫أدارت رأسها بعيدًا عن الشمس‪ ،‬وكانت تراقب قدمها وهي تخطو إلى األمام‪ ،‬وفي هذه األثناء‬
‫ً‬
‫متمهًّل‪ ،‬ثم أخذ يحتك بها وينظر في وجهها‪ ،‬ثم سمعت صوت‬ ‫جاء إليها الكلب «روك» يسير‬
‫سمرز وكان يمتطي جواده ويدور حول الركب وهو يتحدث إلى ليجي ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن الرامي فورك ليست مرتفعة إلى هذا الحد‪ ،‬لذلك فإن أفضل مكان لنصب الخيام وإقامة‬
‫المعسكر هو غرب القلعة‪.‬‬
‫فهز ليجي رأسه عًّلمة اإليجاب‪ ،‬واستمر سمرز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يجب عليك أن تطلب معاونيك لمحادثتهم يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ .‬ولكن من يكون؟‬
‫‪ -‬سمعت في مكان ما أنه جيم بوردو‪ .‬كيف حالك اآلن يا مسز إيفانز؟ ألم يمت روك بعد‪ .‬أوه‪،‬‬
‫إنه ال يزال قويًّا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد جاء لتوه فقط‪ ،‬إنني متساهلة‪.‬‬
‫‪ -‬إنه سريع‪ ،‬سوف أسير في طريقي يا ليجي‪.‬‬
‫كانت العربات التي تسير في المقدمة تختفي عن األنظار في منحدر ظنت ربيكا أنه يؤدي إلى‬
‫«الرامي»‪ ،‬كان يبدو أن عجًّلت هذه العربات تغوص في األرض وتتًّلشى الواحدة تلو‬
‫األخرى بقاعها وبقمتها البيضاء‪.‬‬
‫أخذ ليجي يصيح في ثيرانه بمجرد أو وصل إلى قمة التل‪ ،‬واتجهت إليه ربيكا فشاهدت الركب‬
‫ً‬
‫ظًّلال متموجة عرفت فيها «فورت الرامي»‪ ،‬التي كانت تبدو‬ ‫ينحدر إلى أسفل‪ ،‬حيث شاهدت‬
‫بيضاء تحوطها أشجار تتموج ظًّللها فوق األعشاب‪ ،‬لذلك قالت‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن أعتقد أبدًا أنني سأكون مسرورة إلى هذا الحد حينما أشاهد مبنى‪.‬‬
‫‪ -‬إنها فورت الرامي بالتأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بسبب كونها قلعة‪ ،‬وإنما ألنها مبنى فحسب‪.‬‬
‫‪ -‬إنها فورت الرامي على أي حال‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعتقد أن عندهم مقاعد هناك يا ليجي؟ مقاعد حقيقية‪.‬‬
‫كان هناك بريق في عينيه‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫قليًّل‪ ،‬ودق بقدميه فوق األرض وأخذ يغني ً‬
‫قائًّل‪:‬‬ ‫ثم توقف ً‬
‫‪« -‬إلى بحر الباسفيك البعيد»‪.‬‬
‫‪ -‬هل ستذهبين‪ ،‬هل ستذهبين أيتها الفتاة العجوز‪ ،‬معي؟‬
‫فردت قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أود فقط أن أستريح فوق مقعد فقط‪.‬‬
‫لم تعتقد ميرسي أنها كانت سعيدة من قبل بهذه الدرجة‪ ،‬كان للموسيقى أجنحة انتقلت بها‪ ،‬وكان‬
‫ً‬
‫جميًّل مرغوبًا فيه‪ ،‬في حين كانت النجوم تتألأل في السماء كأنما تنظر إلى أسفل‬ ‫الليل يبدو‬
‫لتبتسم لميرسي ماك بي‪ ،‬لذلك أدركت في هذه اللحظة أن والدها كان على حق‪ .‬سوف يختلف‬
‫كل شيء في أوريجون‪ ،‬سيكون المستر ماك مرتديًا قميصه األبيض وفوق كميه العالقان‬
‫السوداوان‪ .‬وقد انتهت المشكًّلت من األمس‪ ،‬وهل عرفت كم من المرات فكرت فيك؟ وأنا‬
‫أعرف أنه يجب أال أفعل ذلك‪ ،‬وأبحث عنك وسط خط السير الطويل المليء باألتربة‪ .‬هل‬
‫اقترحت شيئًا يا سيدي؟‬
‫كانت الموسيقى خارجها‪ ،‬والموسيقى داخلها‪ ،‬وكانت أحاديث الغناء تعتلج في صدرها وال‬
‫تستطيع أن تطلقها بسبب خجلها‪ ،‬ولشعورها بأن ذلك من أسرارها الخاصة‪ .‬كان الليل الهادئ‬
‫ينشر السكون في جميع األرجاء‪ ،‬وكانت النيران الكبيرة تضيء األجواء‪ ،‬وتظهر النيران في‬
‫أعين الهنود الذين يلتفون في حلقة‪ .‬كانت الموسيقى قد شقت طريقها إليها ‪ -‬صوت براوني‬
‫إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬لقد حان الوقت لكي تتعلمي‪ ..‬إن الوقت مناسب‪ .‬دعي الموسيقى تحرك قدميك‪.‬‬
‫بدأت ميرسي ترقص رقصة «السوينج»‪ ،‬فتقدمت خطوة ووضعت اليد فوق اليد‪ ،‬وشاهدت‬
‫هيج وهو يدقق النظر في النجوم؛ ليقرأ طالع ميرسي ماك بي الصغيرة التي بدأت تنضم إلى‬
‫المجموعة‪ ،‬وبدأت تطلق بعض الكلمات من فيها‪.‬‬
‫بدأت تراقب األعين‪ ،‬وتراقب النجوم‪ ،‬وتراقب الليلة المرغوب فيها‪ .‬كانت ميرسي ترتدي ثوبًا‬
‫به ياقة مقلوبة‪ ،‬وكانت قدماها في حذاءين كانا مل ًكا لمسز بروور التي كانت ترغب في‬
‫مساعدتها في يوم من األيام‪ .‬تستطيع ميرسي أن ترقص‪ ..‬وكانت خير رفيق وراقصة‪ ..‬إنني‬
‫أعلن أنني لم أر مثلها من قبل‪.‬‬
‫كانت األذرع مرتبطة بعضها ببعض أكثر مما كان يتطلبه الوضع‪ ،‬وكانت األيدي تضغط‬
‫بعضها على بعض‪ ،‬وكان الرجال يًّلحظون ذلك‪ ..‬رجال ذوو أهمية كبرى‪ ،‬ووجوه المعة‬
‫حليقة وماشية ضخمة سمينة‪ ..‬كان الرجال قد الحظوا الوضع وليس الغلمان‪ ،‬على الرغم من‬
‫ضا‪ ،‬وعلى الرغم من أنهم كانوا يخشون النظر‬
‫أن هؤالء الغلمان قد بدأوا يراقبون الوضع أي ً‬
‫في ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫جميًّل‪ ،‬في حين كان يقف المستر بوتر وهو يمضغ‪ ،‬ويقف‬ ‫صا‬
‫كان المستر بيرد يرقص رق ً‬
‫فيرمان ومعه رفيقة ممتازة في الرقص‪ .‬واستمر الرقص «والدو‪-‬سي‪-‬دو‪ ،‬والسوينج»‪ ،‬في‬
‫حين كانت النجوم تبتسم وتزدحم في كبد السماء‪.‬‬
‫وفجأة توقفت الموسيقى وتوقف معها هيج تار ًكا زميلته‪ ،‬وانحنى لها وهو يبتسم‪ ،‬فابتسمت ردًّا‬
‫صا غير معدود في المجموعة‪ .‬وتحدث المستر ماك بصوت خافت‬ ‫عليه‪ ،‬مع أنه كان يعتبر شخ ً‬
‫في أذنها‪ ،‬في حين كانت البقية من الناس تتحرك‪ ..‬هل ترغب في أن تسير في جولة؟ وهل‬
‫توافق على مقابلته بعيدًا عن منطقة النيران حيث يوجد المعسكر؟ كان على وجهه شبه ابتسامة‬
‫صغيرا‪ .‬لقد كانت ليلة جميلة‪ ،‬وقد ظل يتحدث إليها‬
‫ً‬ ‫حينما تحول جعلته يبدو كما لو كان غًّل ًما‬
‫سا بين األصوات التي ترتفع جانبًا‪ .‬لن تبتدئ الموسيقى لفترة ضئيلة‪ ،‬وذلك في الوقت الذي‬ ‫هام ً‬
‫أصبحت فيه الرفيقات منهكات وينعكس التعب عليهن‪ ،‬فهل توافق على السير في جولة‬
‫قصيرة؟‬
‫اعتقدت في داخل نفسها أنها توافق‪ ،‬في حين كان قلبها في حالة سكون ينتظر إجابتها خوفًا من‬
‫الموافقة‪ ،‬وأكثر خوفًا من الرفض‪ ،‬كان من األفضل لها أن تسير معه بحذر‪ ،‬وأن تتحدث إليه‬
‫بدقة‪ ،‬وال تفكر بشأن حلقات الشعر التي يجب أن تطرحها إلى الخلف‪.‬‬
‫كانت تومئ برأسها إليه‪ ،‬في حين كانت ترقبه وهو ينسل من بين الموجودين‪ .‬كان عليها أن‬
‫ثيرا‪،‬‬
‫تصمم على شيء وتقرر اتخاذ وضع معين‪ ،‬وكان يبدو عليها أنها ال تستطيع أن تنتظر ك ً‬
‫وشعرت بالدماء الحارة تندفع إلى رأسها‪ ،‬وبأنفاسها تتًّلحق بسرعة‪ ،‬وبكل كيانها وهي تقول‬
‫سوف أحضر‪ ،‬سوف أحضر‪ ،‬قلت بأنني سأكون هناك يا مستر ماك‪ .‬أرجوك‪ ،‬سأكون هناك‪.‬‬
‫أوقفها براوني إيفانز عند نهاية التجمع‪ ،‬كما لو كان عندها وقت له وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كنت ستعودين إلى المعسكر‪ ،‬فإنني أرى من األفضل أن أذهب لمرافقتك وحراستك؛ حتى‬
‫ال يمسك أي سوء‪.‬‬
‫وكان وجهه الذي يبدو فيه الطفولة يبدو منزع ًجا وهو ينطق هذه الكلمات التي كان تبدو كما لو‬
‫كانت قد جاءت إلى لسانه بالقوة‪ ،‬فنظرت إليه وعرفت فجأة الحالة التي يشعر بها وشعرت‬
‫بب عض السرور‪ ،‬وكانت على استعداد للسير معه‪ ،‬إال أنها شاهدت في عينيه نظرات عارية‬
‫متواضعة تصرخ بما يشعر به نحوها‪ ،‬هزتها مسحة من الحزن‪ ،‬لذلك قالت له بلطف‪:‬‬
‫‪ -‬سوف أكون على ما يرام يا براوني‪.‬‬
‫ثم اندفعت في الظًّلم لكي تلتقي بالمستر ماك وهي تتذكر وجهه الذي ظهر فيه بريق البهجة‬
‫بعد أن تحدث إليها‪ .‬وقال المستر ماك بلطف كما لو كان ال يعتقد أنها قد جاءت‪:‬‬
‫‪ -‬هل حضرت؟‬
‫ومد يده لتلمس مرفقها‪ ،‬وليقودها خارج المعسكر نحو الغدير‪ ،‬حيث ينقطع مرور الناس‪،‬‬
‫واستمر يقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬ليلة لطيفة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫قالت باقتضاب‪ ،‬وكان حلقها مليئًا بالنبضات والتنفس السريع‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ .‬أليس من الخطير أن نكون هنا بالخارج؟‬
‫سا‪.‬‬
‫‪ -‬إننا لسنا قريبين من القلعة‪ ،‬وعلى أي حال فإنني أحمل معي مسد ً‬
‫سار بجانبها ويده ممسكة بمرفقها‪ ،‬ثم أمسك بذراعها‪ ،‬ثم انحدر بيده إلى يدها‪ ،‬وأخذ يتلمس‬
‫أصابعها وراحة يدها‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك تظنيني أبلغ المليون عا ًما يا ميرسي؟‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أشعر بأنني صغير السن على أي حال‪ ،‬الليلة‪ ،‬ربما صغير مثلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعرف أي شيء يا مستر ماك‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحد يعرف‪.‬‬
‫كانت هناك شجرة تقف سوداء على حافة النهر‪ ،‬فأوقف ميرسي عندها‪ ،‬وقال لها بلهجة تبدو‬
‫غاضبة في طياتها‪:‬‬
‫‪ -‬ال أحد يرغب أن يعرف‪.‬‬
‫وردد النهر صوت همهمتهما‪ ،‬واشترك في ذلك نسيم خفيف كان يحرك أوراق األشجار‪ ،‬وفي‬
‫هذه األثناء عادت الموسيقى إلى العزف وكان صوتها يأتي من مكان بعيد‪ ،‬في حين كانت‬
‫النيران البعيدة تبدو كنجوم متأللئة‪ ،‬بأضواء باهتة وبنيران مشتعلة على األرض‪ ،‬ثم كرر قوله‪:‬‬
‫‪ -‬ال أحد يود أن يعرف‪.‬‬
‫ثم ترك يده وجذبها نحوه‪ ،‬فصاحت بصوت يكاد ال يسمع‪ ،‬في حين كان فمه يقترب من فمها‬
‫في نهم‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذا عمل سليم يا مستر ماك؟ هل هذا يأتي منك؟ إنك أكبر مني‪ ..‬أنت تعرف‪ ،‬عندي‬
‫شعور بأنه عمل غير الئق‪ ..‬إنه عمل يجب أال يأتي منك‪ ،‬ولكنك قلت إن أحدًا ال يعرف‪.‬‬
‫شعرت باألرض تكاد تميد من تحتها‪ ،‬وبأيد تبحث عنها كبيرة وحكيمة‪ ،‬وعزيزة عليها‪،‬‬
‫وشعرت بأن الموسيقى والرقص قد أخذا يتًّلشيان في ثورة الدم التي تندفع في جسدها‪ ،‬وفي‬
‫ضباب النجوم التي تسري مع نبضات قلبها‪ ،‬واآلالم التي تنتشر في جسدها‪ ...‬اآلالم النهمة‪..‬‬
‫أصبحت تشعر بأن كل شيء قد تاه عنها؛ فقدت الموسيقى والسماء إال هذا‪ ،‬إال هذا‪ ،‬إال هذا‪،‬‬
‫وأثرا من‬
‫ً‬ ‫أخذت النجوم تدور في السماء‪ ،‬ثم تنفجر لتخرج من السماء تاركة وراءها ً‬
‫ذيًّل‬
‫النيران والضوء‪.‬‬
‫لم تكن ترغب في أي شيء بعد ذلك سوى البكاء‪ ،‬ال شيء سوى أن ترقد وتبكي‪ ،‬في حين‬
‫أخذت األصوات والموسيقى والليل تعود جميعها مرة أخرى‪ .‬شعرت بيديه تمسكان بها‬
‫وترجوانها أن تجلس‪ ،‬ثم بصوته يقول لها برنة مليئة بالبؤس والحزن أثرت فيها‪:‬‬
‫‪ -‬إنني آسف يا ميرسي‪ ..‬إن الرجل أحمق في كثير من األحيان‪.‬‬
‫فهمست قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ال تأسف‪ ..‬إن األمر سوف يكون أسوأ لو أبديت أسفك‪.‬‬
‫‪ -‬إنك فتاة عزيزة‪.‬‬
‫فأحنت رأسها له‪ ،‬ثم أسندته عليه كأنما لتطلب الرقة والراحة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أعرف أن ذلك لم يكن صوابًا‪ ،‬إنني الملوم على ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إن من الشجاعة أن تقول ذلك‪ ،‬ولكن لم يكن من الًّلئق بك أن تفعل ذلك‪.‬‬
‫ازدادت ذراعاه إحاطة بها‪ ،‬ثم أجابها‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أستطيع أن أحب‪ ،‬هل تدركين ذلك يا ميرسي‪ ،‬يجب أال أحب؟‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪.‬‬
‫ثم جلست بعد أن شعرت بأنها أسندت رأسها إليه فترة طويلة‪ ،‬وأخذت األسئلة تدور في رأسها‪،‬‬
‫وكان صوتها يمتزج بالخوف حينما سألته قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬هل سينتج عن ذلك أي شيء يا مستر ماك؟‬
‫فأجابها بسرعة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعتقد ذلك‪ ،‬إنني على ثقة بأن شيئًا ما لن يحدث‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنت متأكد؟‬
‫‪ -‬تمام التأكد‪.‬‬
‫‪ -‬لم يقم أي إنسان في حياتي بلمسي سواك‪.‬‬
‫‪ -‬سوف تكونين على خير حال‪ ..‬إنني على ثقة من ذلك‪.‬‬
‫ثم سحب ذراعه التي يضعها حول كتفيها‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن نعود ثانية‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لم أعد أهتم بالرقص من اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬سأتبعك ألتحقق من سًّلمتك حتى تصلين إلى خيمتك‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أشعر بالرغبة في عمل أي شيء سوى الجلوس بجوارك‪.‬‬
‫فأعاد ذراعه إلى كتفيها‪ ،‬وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أال نبقى فترة أطول من ذلك‪.‬‬
‫فنهضت واقفة‪ ،‬وأخذت تصلح من ردائها ذي الياقة المقلوبة‪ ،‬ثم أسندت رأسها إلى صدره‬
‫وأمسكت بقميصه في يدها بشدة‪ ،‬فقال لها وذراعاه تخاصرانها وتحيطان بها‪:‬‬
‫‪ -‬ميرسي‪ ..‬يا صغيرتي‪.‬‬
‫ضا خلقت من لهجته صورة طبيعية جعلتها‬
‫كان هناك بؤس في صوته‪ ،‬وبداية شيء آخر أي ً‬
‫تشعر باألمن والراحة‪ ،‬واستمر يقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬إنني مجنون‪ ،‬وال أصلح لك يا ميرسي‪ ،‬قولي كًّل‪ ..‬قولي كًّل من أجل صالحك‪ .‬ولكننا نستطيع‬
‫ضا مساء غد‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫أن نرى بعضنا بع ً‬
‫كانت هناك قوة في دقات طبول الهنود التي أثارت األخ ويذربي‪ ،‬كان يعتقد أن الشيطان والشر‬
‫ينتظران ويراقبان الراقصين منتظرين الفرصة للعمل الشرير؛ ألن ضربة العصا فوق الجلد‬
‫عا من الدعوة للعنف والعواطف السوداء‬ ‫الجاف تصبح أكثر قسوة وعنفًا‪ .‬أصبح ذلك نو ً‬
‫والخطيئة وعبادة األوثان‪ ،‬التي يقترحها الراقصون تقليدًا لحركات الجاموس البري‪.‬‬
‫لم يكن الضوء قد اختفى بعد من السماء‪ ،‬على الرغم من أن الشمس كانت قد اختفت‪ ،‬ولم‬
‫يستطع أن يقوم بجولته وهو يشاهد قفز ورقص الشباب من الهنود الذين كانوا قد لفوا أجسادهم‬
‫في مًّلبس من جلود الجاموس البري التي ظلت قرونها بها‪ .‬كان هؤالء الشبان يقفزون‬
‫ويصيحون ويزحفون على أنغام الطبول ودقاتها‪ ،‬كان ويذربي قد شعر بخيبة األمل وهو يقف‬
‫مع أفراد الركب يراقبون هذه الحركات‪ ،‬من هذه الوحشية البسيطة‪ ،‬ومن عجائب العالم‪.‬‬
‫كان قد شعر بتحسن قبل ذلك‪ ،‬بعد أن كان قد قدم خدمات إلى السيوكس عند ظًّلل إحدى‬
‫الغابات الصغيرة‪ ،‬لم يكن هذا المكان بيتًا من بيوت هللا حيث يكون عمله أكثر فعالية يساعده‬
‫في ذلك إغًّلق المكان‪ ،‬وتعود على مظاهر الزوار‪ ،‬بل كان المكان شاسع األطراف تظلله‬
‫السماء‪ ،‬ال تحدده جدران‪ ،‬أو مديح أو يوجد به إنجيل‪ .‬شعر كأنه نبي يصيح وينشر دعوته‬
‫وسط البرية‪ ،‬كان اجتماعيًّا طيبًا‪.‬‬
‫كان ديك سمرز قد حضر هذا االجتماع بناء على طلب لترجمة األسئلة واإلجابات التي كان‬
‫ويذربي قد تكهن بها من قبل‪ ،‬وأخذ يستمع باهتمام كأي هندي‪ ،‬ما عدا ابتسامة طفيفة كانت‬
‫تعلو شفتيه بين حين وحين لتظهر المكر والكذب في عينيه الرماديتين‪ .‬كان سمرز إنسانًا ال‬
‫دينيًّا‪ ..‬طيبًا في معشره‪ ،‬ولكنه ال يهتم بالدين‪ ،‬بل يعتقد بأن له آراءه الخاصة بهذا الشأن‪ .‬وكان‬
‫ويذربي يرفض هذا االعتقاد؛ إذ كانت هناك معرفة واحدة فقط هي معرفة حب هللا‪ .‬كان عطوفًا‬
‫وطيبًا وكري ًما‪ ،‬وكفئًا كما يجب أن يكون مرشد أي ركب‪ ،‬وقد تذكر ويذربي أن يشكر هللا دائ ًما‬
‫إلرساله هذا المذنب بينهم‪ ،‬كان يبدو له دائ ًما أنه لو استطاع أن يجعل سمرز يلمس ذلك ويعرفه‪،‬‬
‫الستطاع أن يحقق أعمال وأمجاد السماء‪.‬‬
‫انتهى من عمله وصًّلته‪ ،‬وذكر سمرز وطلب منه أن يوجه هذا السؤال‪ :‬هل يرغب السيوكس‬
‫في أن يتعلموا الطريق إلى هللا؟ هل يرغبون في الخًّلص؟ فتحدث سمرز إلى الهنود بلغتهم‬
‫وبإشاراتهم‪ ،‬فهز جميع السيوكس رؤوسهم ‪-‬النساء والرجال على السواء‪ -‬ثم نهض زعيم كبير‬
‫السن في النهاية‪ ،‬واستخدم اإلشارة نفسها‪ ،‬وكان يقف بعزم وحزم وكرامة جعلت ويذربي‬
‫يحسده‪ ،‬ثم سأل سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا قال أيها األخ سمرز؟‬
‫‪ -‬إنه شيء مغاير‪ ..‬إنهم يرغبون في تعلم طب وأدوية الرجل األبيض‪.‬‬
‫طب ودواء! أخذ ويذربي يفكر‪ ..‬طب ودواء؟ كانت عنده فكرة في لحظة للتحدث أو لتأنيب‬
‫الزعيم لعدم إدراكه أو اهتمامه بالمقدسات‪ ،‬ثم فجأة أدرك أن الزعيم على حق‪ ..‬إن طريق‬
‫الرب هو الدواء‪ ..‬الدواء لعًّلج الروح المعذبة لذلك صمم في قرارة نفسه على استخدام هذا‬
‫التفسير والشرح في مجتمعات الرجل األبيض‪.‬‬
‫واستمر يسأل‪:‬‬
‫ضا يا أخ سمرز؟‬
‫‪ -‬ماذا أي ً‬
‫‪ -‬إنه يقول إنهم يعتقدون أن كتاب هللا سوف يحفظ اللحوم في أماكنها ويساعدهم ضد أعدائهم‪.‬‬
‫‪ -‬سوف ينقذ أرواحهم الفانية‪ ..‬أخبرهم بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أ ليست هناك أي كلمة أو عًّلمة تشير إلى الروح أعرفها أنا؟ هل أستطيع أن أقول إنها‬
‫الظًّلل؟‬
‫‪ -‬ال توجد كلمة أخرى للروح‪.‬‬
‫وأخذ ينظر إلى الوجوه بشغف وإلى المًّلبس الخشنة التي يرتدونها وآثار الفقر التي تبدو عليهم‪.‬‬
‫واعتقد ويذربي أن أجسادهم وأرواحهم فقيرة بالشكر هلل وباالعتراف بجميله وعطفه‪ ،‬لذلك‬
‫شعر بالحزن المفاجئ العميق لهؤالء القطيع البسيط من البشر‪ ،‬وشعر بالمحبة تطغي على‬
‫كيانه وبالعطف‪ ،‬مثلما يشعر الرب نفسه حينما يرى المخلوقات الضعيفة البائسة في األرض‪،‬‬
‫فأخذ يتمتم ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنهم قد عانوا الكثير من اآلالم‪ ،‬أرجوك يا إلهي‪ ..‬إنني أصلي لك‪ ..‬إنهم بشر لم تسنح لهم‬
‫الفرصة لمعرفتك‪ ..‬أسبغ رحمتك عليهم‪ ،‬واجعلهم مسيحيين‪ ،‬وامنع عنهم الشر واإللحاد‬
‫بمشيئتك‪ ..‬إنهم أطفالك البسطاء‪.‬‬
‫كان هذا الدعاء يملؤه أحيانًا بالحب‪ ،‬وأحيانًا بعدم الصبر الخاطئ من أن هللا قد زاد من عذابه‬
‫للرجل األبيض الذي يعرف الحق والعدل ويميز بين الخير والشر والخطيئة‪ ،‬ثم يختار الشراب‬
‫واإللحاد وارتكاب المعاصي الجسدية‪ ،‬لتكن لهم مكافأتهم على إيمانهم‪ .‬وأخذ يدرس الوجوه‬
‫التي أخذت تتطلع فيه‪ ،‬ثم طلب من الرب‪:‬‬
‫‪ -‬د عني ال أتعجل في حكمي يا رب؛ ألن ذلك من أجل حبك وعبادتك واجتناب غضبك‪ ..‬إن‬
‫روحك القوية قد علمتنا الصبر والسلوان‪ ،‬فامنحني القوة على القيام بعملك بتواضع وبإدراك‪،‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫وامنحني الطاقة على تحمل اآلالم الطويلة أي ً‬
‫حضر إليه الهنود‪ ،‬بعد األسئلة واإلجابات‪ ،‬واحدًا بعد اآلخر يهزون يده‪ ،‬ولم يكن قد شعر من‬
‫قبل في حياته بمثل الثقة واالعتزاز الذي يشعر به اآلن‪ .‬أما اآلن فقد ورد إلى ذهنه المحاربون‬
‫صغار السن الذين يحملون السهام والرماح‪ ،‬والذين يحاولون تقليد الحيوانات والوحوش‪ ،‬كان‬
‫بعضهم يغني أغنيات شيطانية على دقات الطبول‪ ،‬في حين كان الرجال البيض يشجعونهم‬
‫على ذلك وهم يلتفون حولهم‪ ،‬وقال أحدهم ممن يقفون في الخلف‪:‬‬
‫‪ -‬إن هؤالء الهنود يسحرون بمظهرهم‪.‬‬
‫وكان ويذربي مصم ًما على أن هذا العمل نوع من األعمال البائسة‪ ،‬في حين كان عدم التشجيع‬
‫يحيط به من كل جانب‪ ،‬فعلى الرغم من عظمة هللا التي تحيط بالجميع‪ ،‬ومن الدالئل التي تشير‬
‫إلى قوته في الليل فوق رؤوس العباد‪ ،‬لم يستطع الهنود أن يجدوا أي شيء أفضل من القيام‬
‫خيرا من الوقوف لمشاهدة هؤالء الهنود والتمتع‬‫باألعمال الوحشية‪ ،‬ولم يجد الرجال البيض ً‬
‫بمظهرهم‪ .‬كان قد سمع من قبل أن شركة الفراء األمريكية تستخدم المشروبات الروحية في‬
‫تجارتها‪ ،‬لذلك اشتم رائحة الويسكي البغيض‪.‬‬
‫توقف الرقص‪ ،‬وبدأ رقص آخر‪ ..‬رقص الكلب هذه المرة‪ ،‬فأخذ ويذربي يرقب المنظر فترة‬
‫قصيرة‪ ،‬ثم ابتعد وهو ممسك باإلنجيل الذي كان قوته ومأمنه‪.‬‬
‫سا في المناطق البعيدة عن أضواء ولهب النيران‪،‬‬ ‫كان الليل قد أرخى سدوله‪ ،‬وكان الظًّلم دام ً‬
‫وكان ويذربي قد شعر باليأس‪ ،‬وأخذ يتذكر أيام ضعفه‪ ،‬ويتذكر أن إيمانه باهلل وحده هو الذي‬
‫جعل روحه تسيطر على جسده‪ .‬ويتذكر أن من دالئل حكمة هللا الًّلنهائية أنه كلما ازدادت‬
‫حرارة الدماء في الجسد‪ ،‬ازدادت معها انتصارات الحق واإليمان‪ ..‬إذا استطاع فقط أن‬
‫يسترعي نظر الرجل األبيض واألحمر إلى ذلك‪ .‬كان يعرف الطريق إلى الخًّلص‪ ،‬أما اآلن‬
‫وفي هذه اللحظة فهو يشعر بانهيار بسبب معرفته بالخطيئة‪ ،‬وضخامة واجبه‪ ،‬كان هللا قد طلب‬
‫منه أن يذهب إلى أبعد من ذلك‪ ،‬وكان يطيع ذلك‪ ،‬أما اآلن فإنه يشعر بانهيار بسبب ضعفه‪..‬‬
‫فليغفر هللا له بسبب تردده‪ ..‬وليمنح هللا قوة ولهيبًا لكلماته؛ حتى يستطيع اإلنسان الشرير أن‬
‫يرى قبس النور الحي‪.‬‬
‫شكورا لربه حينما قرأ في النجوم برهان القوة اإللهية ودوام وجود هللا‪ ،‬إنه الرب الحقيقي‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫وغفورا‪ ،‬فإذا بحث اإلنسان الطيب في قلبه لشعر‬‫ً‬ ‫كان هللا قريبًا ومجيبًا للدعوات وللصلوات‬
‫بوجود هللا‪.‬‬
‫كان على يمين ويذربي إنسان تحرك ثم توقف‪ ،‬كما لو كان يحاول أن يتجنب االجتماع‪ ،‬فأوقفه‬
‫ويذربي وناداه‪:‬‬
‫‪ -‬من هناك؟‬
‫فأجابه هذا الشخص وهو يسير نحوه‪:‬‬
‫‪ -‬ماك‪ .‬أسعدت مساء أيها األخ ويذربي‪.‬‬
‫‪ -‬أسعدت مساء‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أراقب الرقص!‬
‫‪ -‬إني أرى أن في أعمالهم عدوانًا على هللا‪.‬‬
‫‪ -‬أال يوافق الرب على ذلك؟‬
‫‪ -‬هل تمزح بشأن هللا؟‬
‫‪ -‬كًّل‪ .‬إنني أتساءل فقط‪.‬‬
‫‪ -‬ليكن عندك إيمان‪ .‬إن ذلك هو جواب الشك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ليس بالنسبة لما هو موجود بالفعل‪.‬‬
‫أضافت هذه الكلمات واللهجة المزيد من انهيار ويذربي‪ ،‬ولكنه قال‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نؤمن بما هو قائم‪.‬‬
‫‪ -‬مهما يكن هذا الشيء؟‬
‫‪ -‬مهما يكن‪ .‬إننا ال نستطيع أن ندرك دائ ًما ماهية الرب؛ ألن عظمته أبعد من أن نستطيع‬
‫إدراكها بسهولة‪.‬‬
‫‪ -‬لم أكن أعرف أنك صاحب مذهب‪.‬‬
‫‪ -‬لقد كنت كذلك‪.‬‬
‫ثم هز ويذربي رأسه‪ ،‬وظهر عليه األسف العميق والشعور بعدم الدقة والضيق والقلق‪ ،‬بسبب‬
‫رفض هذه الحقيقة األبدية‪ ،‬ثم استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ليكن عندك اإليمان‪ ..‬إن األسف والصعوبات واإلغراء‪ ..‬كلها اختبارات لإلنسان‪.‬‬
‫ابتسم ماك‪ ،‬ثم ضحك ضحكة قصيرة فيها خبث‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬كل شيء سيئ هو من أفعالنا وأخطائنا‪ ،‬وكل شيء طيب هو من فعل هللا‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تتحدث كما لو كنت ملحدًا‪.‬‬
‫‪ -‬إنها كلمة خفيفة بالنسبة لي‪.‬‬
‫وكان ويذربي متعبًا لدرجة لم يكن مستعدًّا معها لًّلستمرار في المناقشة‪ ،‬ويشعر بالضيق‬
‫لدرجة جعلته ال يقدم اإلجابات المطلوبة‪ ،‬ولكنه قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنك ستعود إلى أصحاب المذاهب مرة أخرى‪ ،‬سأصلي لك لكي تعود إليهم‪.‬‬
‫‪ -‬م ن األفضل أن تصلي لجميع من في الركب أيها األخ ويذربي‪ ،‬لقد ذكروا لي اآلن المنطقة‬
‫ضا‪.‬‬
‫التالية تعج بالجاموس البري لدرجة سيكون الركب معها في خطر‪ ،‬وسيكون هناك هنود أي ً‬
‫‪ -‬إنني أصلي دائ ًما للجميع‪ ،‬ولكني سوف أصلي لك صًّلة خاصة‪ ،‬إنك ستعود إلى إيمانك‪.‬‬
‫فقال ماك‪:‬‬
‫‪ -‬إذا نجح المؤمن في إيمانه‪ ،‬فإنه يستمر في إيمانه‪ ،‬أما إذا لم ينجح فإنه يهجر إيمانه‪.‬‬
‫‪ -‬ربما أنت على صواب‪.‬‬
‫‪ -‬أسعدت مساء يا ماك‪.‬‬
‫ثم قام ويذربي في خيمته بأداء صًّلة أخرى‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ « -‬إنني أضع نفسي بين يديك يا رب‪ ،‬فامنحني القوة والحكمة لكي أوصل رسالتك‪ ،‬وساعدني‬
‫مع هؤالء اآلثمين والمخطئين والمتوحشين والمتشككين‪ ،‬مثل األخ ماك‪ ،‬حتى يستطيعوا أن‬
‫يشاهدوا ويلمسوا عظمة وقوة أعمالك ليسجدوا لك ويعبدوك‪ .‬امنحني المقدرة على معرفة كل‬
‫شيء صواب‪ ،‬وارع ركبنا الصغير‪ ،‬إنني أصلي لك أن ترعانا حتى نصل إلى أوريجون‪..‬‬
‫آمين»‪.‬‬
‫وجاءت إلى سمعه في هدوء الليل وسكونه أصوات ضربات الطبول التي ترقص عليها الكًّلب‪.‬‬
‫الفصل الخامس عشر‬
‫شاهد إيفانز أمامه مًّليين من الجاموس البري عن يمينه وعن يساره‪ ،‬وأمامه وخلفه‪ ،‬تسد منافذ‬
‫جميع الطرق في هذه المنطقة لتمنع الركب من شق طريقه‪ ،‬وهي تثير األتربة الكثيفة لدرجة‬
‫كونت معها سحبًا كثيفة من الغبار‪ .‬لن يستطيع أي إنسان أن يحصي هذه األعداد الكبيرة حتى‬
‫ولو قضى كل عمره في هذا الحصر‪ ،‬كما لن يستطيع أن يصور الهدير المخيف الذي يصدر‬
‫عن تحرك هذه األعداد الزاحفة‪ ..‬كانت الثيران واألبقار والعجول تصيح بأصوات مختلفة‬
‫مزعجة وتندمج جميعها فيما يمكن أن يسمى بهدير مخيف‪.‬‬
‫ولم يكن إيفانز ليستطيع أن يثق بوجود األرض أسفل هذه الجحافل الضخمة ما لم يكن قد‬
‫استطاع مشاهدة «رد بوتس» التي ترتفع عارية فوق كتفه أو المستنقعات الجافة الممتلئة‬
‫باألمًّلح‪ .‬لم يفزع الجاموس البري من الركب‪ ،‬ولكنه تفرق جانبًا ربما بسبب الرغبة في البحث‬
‫عن عشب أو تجنبًا للعربات‪ ،‬وفي هذا المجال قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني كنت أسميك أكبر كاذب لو كنت قد أخبرتني بذلك يا ديك؟‬
‫وقبل أن يجيبه ديك على ذلك‪ ،‬أخذ يلتفت إلى الوراء لمتابعة الركب الذي كان يمتد نحو نصف‬
‫ميل إلى الخلف‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬الوافر من اللحوم‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬واألعشاب هنا وافرة أي ً‬
‫وقال ديك وضوء األمل ينعكس لحظة في عينيه‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬لقد كنت تطلب دائ ًما مثل هذه المناظر‪.‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا على هذه األراضي‪ ..‬مناطق ال يوجد بها جاموس مطلقًا‪ ،‬ومناطق يتكدس بها لدرجة‬
‫مخيفة‪ ،‬أال توجد مناطق معتدلة؟‬
‫‪ -‬وذلك باإلضافة إلى الذئاب!‬
‫الذئاب التي تقطع مسافات طويلة في مجموعات‪ ،‬مثل الكًّلب الذكور التي تسعى جماعات‬
‫صغيرا أو جاموسة بطيئة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عجًّل‬ ‫وراء كلبة أنثى‪ ،‬وعيونها مصفرة وألسنتها مبتلة وهي ترقب‬
‫عجوزا؛ لكي تنقض عليها‪ .‬أخذ إيفانز ينظر حوله ليرى ويتصور جماعات‬ ‫ً‬ ‫الحركة أو‬
‫الجاموس البري والذئاب واألعشاب والعظام والجماجم والحجارة والحية ذات األجراس التي‬
‫تقفز وراء هذه المجموعات‪.‬‬
‫منظرا وحشيًّا قويًّا وغنيًّا بالمتناقضات‬
‫ً‬ ‫لم يتصور إيفانز مطلقًا أن يشاهد مثل هذا المنظر‪ ،‬كان‬
‫لدرجة تجعل العينين تتعبان وتتألمان‪ ،‬كانت المناظر البعيدة تقترب بحدة كما لو كانت من‬
‫خًّلل منظار‪.‬‬
‫شعر مرة أخرى بالعظمة والضآلة معًا‪ ،‬والوحشية وثراء البرية‪ ،‬وشاهد الركب يجري خلفه‬
‫كالرياح‪ ،‬فأخذ يتحدث بفخر وكبرياء‪ .‬كان ركبه هو الركب الوحيد الذي يسير في المقدمة‪،‬‬
‫كانت المواقد تنتشر على طول الطريق من «الرامي» وكذلك الحجارة وقطع األثاث التي‬
‫كانت تسقط من العربات التي تتسلق القمم العالية‪ ،‬أو تدور في أماكن تقطعها مياه كثيفة‪ ،‬لذلك‬
‫قال ديك عن هذا الجزء من الرحلة إنه أصعب وأقصى جزء في الرحلة إلى الشرق‪.‬‬
‫كانت الرحلة أكثر تنظي ًما من ناحية العمل والنظام والمخزون‪ ،‬وأكثر ً‬
‫تعقًّل‪ ،‬واستعدادًا لمواجهة‬
‫الخطر‪ .‬لم يعد الهنود يخيفون الناس بعد ذلك أو يرونهم غير مستعدين‪ ،‬وكان الجميع يعدون‬
‫أنفسهم بالبنادق واألدرعة والفؤوس‪.‬‬
‫لم يأخذ إيفانز في اعتباره الكثير من التحسينات بعد أن عرف أن المجموعة قد تعلمت الكثير‬
‫من تجارب السفر‪ ،‬من غير أي اعتبار لوضعه كقائد‪ ،‬ولكنه ال يزال يشعر براحة في هذا‬
‫الوضع وبسبب الروح العامة‪ ،‬حتى تادلوك نفسه‪ ،‬قد اختط لنفسه طريقًا يشبه الطريق نفسه‬
‫الذي سبق اتباعه من قبل‪.‬‬
‫دخل ديك يحطم تفكير إيفانز ليقول له‪:‬‬
‫‪ -‬يجب الثبات أمام عاصفة الغرب‪.‬‬
‫كثيرا بالسحب التي ترتفع فوق التًّلل‪:‬‬
‫لم يكن إيفانز حتى هذه اللحظة قد اهتم ً‬
‫‪ -‬هذه هي الطريقة التي تهب بها العواصف هنا؟‬
‫‪ -‬ال نستطيع أن نقول ذلك دائ ًما‪ ،‬اعتادوا أن يقولوا في «الرامي» إن رياح الشرق تأتي دائ ًما‬
‫باألمطار‪.‬‬
‫حذرا مرة أخرى من اندفاع الجاموس البري وسط هذا السكون العميق‪.‬‬
‫كان إيفانز ً‬
‫أمرا طيبًا ‪-‬سقوط هذه األمطار‪ -‬إذا كان ما أتذكره صحي ًحا‪.‬‬
‫‪ -‬لن يكون ذلك ً‬
‫‪ -‬هل هذا يعني أننا يجب أن نعسكر هنا سريعًا؟‬
‫‪ -‬إنني أرى أن هذا المكان نظيف ويصلح لذلك‪ ،‬ويؤدي بنا إلى الرامي وإلى ما بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أال تميل إليه يا ديك؟‬
‫‪ -‬إنه يجعلني أتذكر األيام الخوالي‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن أال تميل إليه؟‬
‫‪ -‬كنا في أحد أيام الشتاء في منطقة «باودر» فأشعلنا النيران إلبعاد الحيوانات والحشرات عن‬
‫المعسكر‪.‬‬
‫‪ -‬أ عتقد أنني فهمت اآلن‪ ،‬ولكني أفكر في عدم وجود األعشاب والهنود الذين يجب أن يكونوا‬
‫بالقرب منا مع عدد كبير من الماشية‪.‬‬
‫ً‬
‫وعوال وحيوانات تجفل يا ليجي‪.‬‬ ‫‪ -‬ألم تشاهد‬
‫كًّل لم يشاهد إيفانز في حياته جفول الحيوانات بسبب خوفها‪ ،‬ولكنه استطاع أن يتصور ذلك‬
‫حينما لمس احتمال هبوب عاصفة هوجاء‪ ،‬وحينما شاهد مستويات المنحدرات التي تقف عليها‬
‫الحيوانات لدرجة تخفي معها معالمها‪ .‬استطاع أن يشعر بينه وبين نفسه أنه قد يصحو في الليل‬
‫على صوت رعد وزلزال في األرض‪ ،‬وشعر بأنه يجب أن يقفز في هذه اللحظة والفزع يملؤه‬
‫والتفكير في ربيكا وبراوني والباقين يشله‪ ،‬وكذلك العجز التام مثلما يحدث في األحًّلم‬
‫المزعجة‪ ،‬فحينما يصدر صوت الرعد يشعر باندفاع الرؤوس إلى األمام تدوس بأقدامها كل‬
‫شيء يقابلها‪ ،‬لذلك قفز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ال أود أن أشعر بمجرد هذه الفكرة‪.‬‬
‫فرد عليه ديك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ولكني ال أفكر في أي شيء بشأنها‪ ،‬فماذا عن النساء واألوالد؟‬
‫‪ -‬هل يشعرون بالخجل من مثل هذا الركب؟‬
‫هز ديك رأسه ولم يجب باإليجاب أو النفي‪ ،‬وظل ينظر تجاه الغرب حيث كانت الشمس تميل‬
‫إلى الغرب في ثًّلثة أرباع اليوم‪ ،‬ثم انحرف في منتصف الطريق مرة أخرى وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬إن األبقار تبدو اآلن على أحسن وجه‪ ،‬وكذلك الخيول‪.‬‬
‫فقال إيفانز وهو يتحدث عما يدور في خلده ثانية‪:‬‬
‫‪ -‬إن مظهر عجول الجاموس البري يبدو مضح ًكا‪ ،‬أال تعتقد أنها سوف تقفز لتندمج وسط‬
‫األبقار؟‬
‫‪ -‬إ نني أقول في بعض األحيان أن ما يجب أن تراقبه هو حيواناتك وماشيتك وال تتبعها‬
‫بالجاموس‪.‬‬
‫‪ -‬عندي بعض الرجال الذين يسيرون بالخلف للحراسة‪ ،‬أعتقد أنني يجب أن أذهب إلى الخلف‬
‫لمراقبة األوضاع بنفسي‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كان عندنا ملح كاف‪ ،‬فإننا نستطيع أن نقوم بوضع الماشية اآلن في حظيرتها‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أن عندهم ما يكفي من الملح البري الذي ينتشر في المكان‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما فيه الكفاية‪ ،‬أنت تعرف ذلك‪.‬‬
‫ولم يتحدثا أكثر من ذلك إلى أن وصًّل إلى ما فعلته الشمس بالبحيرة‪ .‬كان تفكيرهما واحدًا‪ ،‬في‬
‫حين كان إيفانز يفترض هذا الوضع وأعينهما مركزة على الماشية والسحب الغربية التي‬
‫تزحف بطيئة‪ .‬كانت البحيرة عبارة عن بؤر من المياه الضحلة تحيطها قطع بيضاء من الملح‬
‫ينتشر فوقها‪ .‬نزل ديك من فوق جواده‪ ،‬واندفع نحو الملح وغرس أصبعه فيه وتذوقه وهز‬
‫رأسه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنه ملح نقي سام‪.‬‬
‫‪ -‬سوف نضع عل ًما هنا حتى ال تقترب القافلة من هذا المكان؛ إذ قد تندفع الماشية بسبب عطشها‪.‬‬
‫ثم سارا بعيدًا عن المياه وأخذا يراقبان الركب وهو يسير‪ ،‬ثم قال ديك يحدِث إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أعرف أن هذه البحيرة غير صالحة؛ إذ إن المياه التي ال تنمو فيها سوى طحالب معينة‬
‫تعتبر ميا ًها غير صالحة لًّلستعمال‪.‬‬
‫استمرا في سيرهما مسافة تقرب من ساعة يدفعان أمامهما الجاموس البري على كل الجانبين‬
‫من خط السير‪ ،‬كما كان الراعي يقوم بقيادة الماشية أمامه‪ ،‬ولم تكن هناك نهاية أمامهما‪ ..‬ال‬
‫نهاية ألعداد األبقار والعجول والثيران المقاتلة وسحب األتربة التي تعمي األعين‪ ،‬واألصوات‬
‫المزعجة التي تتعب األذن‪ ،‬وبعد ذلك تساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين يؤدي بنا هذا المكان؟‬
‫فأجابه ديك‪:‬‬
‫‪ -‬تمهل يا إيفانز‪ ،‬إنني ال أعرف؛ إذ لم يضع رجال الجبال أسماء لهذه األماكن سوى أسماء‬
‫كل غدير وبؤرة أو االثنين معًا‪.‬‬
‫فأغلق إيفانز فمه بعد أن شعر بأن ديك ال يرغب في الحديث‪ ،‬وأخذ يرقب السحب الكثيفة‬
‫المتكاثفة في الطبقات العليا‪ ..‬كانت سحبًا متراكمة بطريقة قبيحة تبدو كأنها قد توقفت كأنها ال‬
‫تعرف أين تذهب‪ ،‬وحينما نظر إليها خرج منها حزام مضيء وامض وسريع‪ ،‬فنهض ديك‬
‫سا وأشار بأصبعه ثم قال‪:‬‬ ‫متحم ً‬
‫‪ -‬إنني أعتقد أن هذه هي التي نبحث عنها‪.‬‬
‫واستطاع إيفانز ‪ -‬على الرغم من األتربة الكثيفة والحفرات العميقة والعًّلمات البيضاء التي‬
‫تبدو في ظهور الجاموس البري‪ -‬أن يدرك األمر إدرا ًكا تا ًّما‪ ،‬فاستمر في ركبه وهو يفكر ‪-‬‬
‫معسكرا في الحال‪ ..‬ثم يهجر بعد ذلك إذا كان الحظ حليفهم‪..‬‬‫ً‬ ‫مكان ال اسم له ينتظر أن يكون‬
‫إنه مكان يشبه عشرات األماكن األخرى مليء باألشياء والتًّلل والفجوات والحفرات ‪-‬على‬
‫طول الطريق المؤدي إلى مدينة «إندبندس»‪ .‬كان من الصعب أن يحافظ على النظام‪ ،‬كما كان‬
‫ضا معرفة المكان الذي سبقت اإلقامة فيه في الليلة البارحة‪ ،‬والليلة التي سبقتها‪،‬‬
‫من الصعب أي ً‬
‫كانت جميع المراكز قد فقدت آثارها في تيار تطورات اليوم إلى األبد‪ ،‬وكانت األميال قد طوتها‬
‫على طول سهول «بًّلت» التي تختلط بالتًّلل الواقعة غربي «الرامي»‪ ،‬وكذلك «ألكو»‬
‫و«بيج بلو» و«ليتل بلو» و«بًّلت» و«آش هاللو» و«كورت هاوس روك» و«هورس‬
‫كريك» و«الرامي» و«بيج إسبرنج» و«دير كريك» و«نورث بًّلت»‪ ،‬وكذلك األماكن التي‬
‫تقع بينها جميعًا‪ ،‬وكانت هناك بجانب ذلك مراكز ال أسماء لها‪ ،‬وأميال غير معروفة على طول‬
‫ضفتي النهر وفي المناطق التي يقام فيها المعسكر‪ .‬استطاع إيفانز أن يستخرج كل ذلك من‬
‫ذاكرته الواحدة تلو األخرى‪ ،‬وكان كل ما يشغل ذهنه هو زحف العجًّلت يو ًما بعد اآلخر‪،‬‬
‫واألتربة المتطايرة والحرارة والرياح واألمطار واألوحال وعودة إلى تورلي‪ ،‬وصياح مارتن‬
‫من أجل المغفرة والرحمة‪.‬‬
‫كانت حياته تبدو من قبل مثل أي حياة أخرى‪ ،‬وكان كل ما استطاع أن يفعله هو الكشف عن‬
‫الطريق الذي يسير فيه الركب ودفع الماشية إلى السير‪ ،‬كان هذا هو النشاط الوحيد الذي مارسه‬
‫في طريقه إلى الغرب‪.‬‬
‫وكان ذلك مناسبًا له وطيبًا وصال ًحا‪ ،‬ما عدا بعض الصعوبات البسيطة التي كانت تواجهه‪.‬‬
‫كان بعض الجاموس البري يقف وسط ينبوع من المياه أو حوله متأهبًا للهرب‪ ،‬عندما جاءت‬
‫جحافل من الماشية للشرب وتبريد أجسادها‪ ،‬ثم ابتعادها بسرعة سعيًا وراء األعشاب‪ .‬أرخى‬
‫ديك لجام جواده وأزاح قبعته ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ثم نظر إلى فوهة بندقيته وقال‪:‬‬
‫‪ -‬نستطيع أن نسقط اآلن بقرة أو اثنتين حينما تقترب منا‪.‬‬
‫ثم سار ببطء وحذر شديدين ليعطي إيفانز الفرصة إلعداد وتغطية بندقيته‪ ،‬ثم أعمل مهمزيه‬
‫ضا‪.‬‬
‫في جواده الذي اندفع راك ً‬
‫منتظرا حدوث شيء‪ ،‬ثم تحول‬ ‫ً‬ ‫وقف الجاموس البري لحظة واحدة ساكنًا وهو على حذر شديد‬
‫فجأة واندفع هاربًا بسرعة مخيفة‪ ،‬وخرج الجاموس الذي كان يقف داخل المياه واندفع هاربًا‬
‫في الخلف‪ ،‬وأطلق ديك بندقيته فأصابت بقرة كانت تقف على بعد يقل عن عشر ياردات من‬
‫الينبوع‪ .‬أما إيفانز فقد كان أكثر بطئًا في طلقته‪ ،‬ولكنها كانت طلقة صائبة‪ ،‬وقعت البقرة على‬
‫مؤخرتها وح اولت أن تنهض مرة أخرى لتلحق بالقطيع الهارب‪ ،‬ولكنها فشلت وعادت إلى‬
‫التعثر والسقوط على مؤخرتها‪ ،‬وارتمت البقرة األخرى على جانبها‪ ،‬وقد حدث هذا المنظر‬
‫أمام أعين ذئبين جائعين كانا يقفان على ربوة مرتفعة ً‬
‫قليًّل‪.‬‬
‫قام إيفانز بذبح البقرتين وسلخهما‪ ،‬في حين كان ديك يقف خلفه ينظر إلى الينبوع وهو ممسك‬
‫بلجامي الجوادين بيد واحدة‪ ،‬وممسك البندقية بيده األخرى مستعدًا إلطًّلقها على الذئبين ‪-‬‬
‫اللذين كانا يتربصان بعيدًا‪ -‬إذا أظهرا شجاعة كافية للهجوم على اللحوم‪.‬‬
‫مثيرا فيها األتربة والقاذورات‪ ،‬األمر‬
‫ً‬ ‫كان الجاموس البري يندفع داخل المياه ويخوض فيها‬
‫الذي جعل إيفانز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬لن تكون صالحة للشرب بعد اآلن يا ديك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنها تصلح لشرب األبقار‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أقوم بتنقية بعضها‪ ،‬هناك بعض المياه الجارية التي تصلح لذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أراهن بأنها سوف تؤدي إلى نمو شعر اإلنسان‪ ،‬إن لم تقتله‪.‬‬
‫فقال ديك وهو يخفض من العصا التي أمسك بها‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقول؟ لقد شربت من بؤرات قذرة تمرغت فيها الماشية ولم تنق مطلقًا‪.‬‬
‫‪ -‬ل م أقل إنك لم تكن على حق‪ ،‬ولكن ذلك يدفعني إلى الرغبة في اختيار طريق اليسار الذي‬
‫يسير بمحاذاة النهر‪.‬‬
‫‪ -‬سوف تجد هناك الوضع نفسه‪ ،‬ولن تستطيع أن تهرب هناك من األوحال والرمال وروث‬
‫الحيوانات‪ ،‬أما هنا فتوجد المياه العذبة الصالحة التي ال توجد بها سموم يا ليجي!‬
‫أخذ ديك يدرس نوع التربة حتى يستطيع أن يرسم دائرته الخاصة‪ ،‬وحينما وصل إليه الركب‪،‬‬
‫امتطى جواده وقاد العربة األمامية في شبه دائرة حتى استطاع أن يكون حلقة كاملة‪.‬‬
‫وظل إيفانز واقفًا بالقرب من البقرتين‪ ،‬حتى ال يقترب الذئبان منهما‪ ..‬ستكون هذه الليلة مزعجة‬
‫وقاسية بسبب توقع عواء الذئاب وهروب الجاموس الجاموس البري‪ ،‬إذا لم يكن هناك شيء‬
‫عا من النيران القائمة في‬
‫آخر‪ .‬كانت الشمس تنحدر وتتبعها نهايات السحب المتكاثفة خالقة نو ً‬
‫هذا األفق البعيد‪.‬‬
‫ثم جاء ديك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سأساعدك في تقطيع اللحوم‪.‬‬
‫فهز إيفانز برأسه‪ ،‬وقاد جواده إلى حيث تقف عائلته‪ ،‬ثم ربطه في إحدى العجًّلت‪ ،‬ثم توجه‬
‫إلى براوني وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك يا بني؟‬
‫كان جميع أفراد الركب ملتفين داخل المعسكر ومشغولين بثيرانهم‪ ،‬في حين كان األطفال‬
‫يقومون بحمل بعض األواني‪ ،‬وكان بعض الرجال ينقلون بعض المؤن‪ .‬وشعر إيفانز في هذه‬
‫اللحظة بأن المعسكر أصبح هادئًا بطريقة غير متوقعة‪ ،‬كما شعر بأنه قد فقد نفسه في المسافة‬
‫الطويلة وفي قسوة األرض‪ ،‬لذلك تساءل‪:‬‬
‫‪ -‬أين روك؟‬
‫فأجابه براوني‪:‬‬
‫‪ -‬وضعته داخل العربة بعد أن تناول وجبته من اللحم‪.‬‬
‫نزلت ربيكا من العربة الثانية وقالت‪:‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬إن منظر هذه الماشية يسر ً‬
‫فأجابها براوني ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬كان يجب أن أضحك لذلك‪ ،‬تخشى والدتي أن تسير‪.‬‬
‫فردت عليه‪:‬‬
‫‪ -‬لست خائفة‪ ،‬ولكني أشعر برغبة في مراقبتها‪ ..‬عندي بعض الفضول‪ ..‬هناك بعض األمًّلح‬
‫التي ستبلي حذاءك‪.‬‬
‫وتنهدت بعمق‪ .‬وكان إيفانز يدرك بفخر أنها ال تعني هذا الكًّلم وهي تقف بجواره‪ ،‬لذلك‬
‫استرسلت تقول‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن أشعر بأمل في حياتي بالتخلص من هذا الهدير المخيف الذي يصم اآلذان‪.‬‬
‫فقال لها إيفانز‪ ،‬وهو مستمر في حل وثاق الثيران‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن ألحظ ذلك إال بصعوبة‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا! ألم تسمع هذا الهدير؟‬
‫‪ -‬ليس مع أفراد يتحدثون الكثير‪.‬‬
‫ثم نظر إليها وأخذ يرمقها‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وكان مندفعًا‬
‫وأخذ يعمل بسرعة‪ ،‬على أمل أن يكون اآلخرون يفعلون الشيء نفسه أي ً‬
‫بسبب الخوف من حلول الظًّلم‪ ،‬والشعور بثقل السحب التي تحمل األمطار خلفه‪ ،‬ثم التفت‬
‫إلى براوني وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬خ ذ الماشية لسقيها واتركها لترعى‪ ..‬هذه هي أفضل وسيلة‪ ،‬وهذا الطريق هو أحسنها‪.‬‬
‫وأشار بإبهامه‪ ،‬ثم استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ع د بها حين الغروب‪ ،‬وضعها بجوار الخيل داخل الحظيرة وال تهتم بحلبها؛ ألن األبقار ال‬
‫تقدم إال النذر اليسير من األلبان‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أمتطي الجواد يا والدي‪.‬‬
‫ثم حل وثاق الجواد وامتطاه وهو يسوق الماشية أمامه‪.‬‬
‫وتحدثت ربيكا في صيغة ال تحمل معنى السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت قلق يا ليجي؟‬
‫‪ -‬كًّل‪ ..‬شيء تافه يسير‪ ..‬سأعود في لحظة‪.‬‬
‫وتركها ليدور حول العربات يتحدث لمن يراه‪ ،‬ويربت على كل جواد يقابله قبل ابتعاده للحراسة‬
‫أو للرعي‪ ،‬ويترك الثيران الممتازة للرعي داخل الحظيرة مع الخيول‪ ،‬وقد خرج البعض لوضع‬
‫األعشاب داخل هذه الحظائر‪ ،‬وخرج البعض اآلخر لتقطيع األخشاب من أجل النيران‪ ،‬ربما‬
‫يندفع الجاموس البري ويهرب‪ .‬كان الرجال يومئون برؤوسهم وال يوجهون إليه أي سؤال‪،‬‬
‫على الرغم من أن األفكار كانت تراوده وتدفعه إلى الحركة والتحدث مثل تادلوك‪ ،‬ثم جاءت‬
‫الخيول التي كانت ترعى واصطفت في طابور‪ ،‬وبدأت تدخل في الحظيرة لتحتل المكان الخالي‬
‫المتبقي‪ ،‬فقال لقائد هذا القطيع ما سبق قوله للباقين‪:‬‬
‫كثيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬بوتر‪ ،‬اطلب من حراس األبقار أن يزحفوا بها تجاه الجنوب‪ ،‬ولكن على أال يقتربوا‬
‫سنجعلها ترعى منعزلة عن الثيران‪.‬‬
‫ثم أوقف انعواج اندفاع المياه واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف يكون هناك ما يكفي من المياه‪.‬‬
‫وذهب إلى الجمع وأشعل النيران لربيكا‪ ،‬ثم تناول معوله وأخذ يحطم به شجيرة‪ ،‬حيث لحق به‬
‫عدد من الرجال كانوا قد عادوا لتوهم من رعي الحيوانات‪ ،‬ومدوا أيديهم اللتقاط قطع األخشاب‬
‫العائمة فوق سطح المياه‪ ،‬وتحطيم الكبير منها إلى قطع صغيرة‪.‬‬
‫ذهب هولدريدج للعمل بالقرب من إيفانز‪ ،‬ثم قال وهو يرتكز للحظة على معوله‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن هناك توقعًا لهبوب الرياح والعواصف‪.‬‬
‫وكانت هذه الكلمات تبدو سوداء مثل وجهه الذي خرج من الظًّلم‪ ،‬فرد عليه إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ربما ال يحدث ذلك؛ إذ لن تتحرك السحب بسهولة لفترة ساعة أو أكثر بأقل تقدير‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ال يوجد عندنا الخشب الكافي لمواجهة ذلك‪ ،‬ولن تحترق األغصان الخضراء‪.‬‬
‫وعاد هولدريدج إلى التلويح بمعوله‪ ،‬واستمرا في صمتهما لحظات إلى أن مر بهما ديك‪،‬‬
‫وكانت آثار الدماء بسبب الذبح تلطخ سرواله الجلدي‪ ،‬اعتقد إيفانز أن ديك قد قام بسلخ جلود‬
‫الجاموس‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬أ عتقد أنه من األفضل إشعال النيران في الشمال والجنوب والشرق والغرب على مسافة ال‬
‫تقل عن ربع ميل‪.‬‬
‫فهز ديك فكيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا يبدو األمر‪.‬‬
‫‪ -‬أي الطرق سيسلكون يا ديك؟‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أخبرك‪ ،‬ربما من الشمال؛ إذ إنهم يسيرون من اتجاه الشمال‪.‬‬
‫‪ -‬إن ماشيتي توجد بالجنوب‪ ،‬في مسافة تبعد عن إمكانية وضع النيران‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أؤكد أن ذلك يخلق اختًّلفًا‪ ،‬مهما يكن وضعها اآلن‪ ،‬ولكنها سوف تندفع من‬
‫غير شك إذا فعلت ذلك بقية الحيوانات‪.‬‬
‫‪ -‬سوف نشعل النار الكبرى إذن في الجنوب‪ ،‬وإذا كان عندنا ما يكفي من الوقت فسنقوم باقتًّلع‬
‫بعض الحطب إلشعال النيران حتى يمكن أن تكفي هذه األخشاب إلشعال نار كافية‪.‬‬
‫فتدخل هولدريدج ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬نحن بحاجة إلى عربة لحمل هذا الحطب‪ ،‬عندي هذه العربة التي تستطيع أن تنقل مواد الطهو‬
‫إلى خارج نطاق الدائرة‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬ابحث عن فريق لنقل األخشاب معك إلى هنا‪.‬‬
‫ثم قال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬سأرى ما إذا كان من الممكن طلب بعض الملح‪.‬‬
‫وبدأ إيفانز مرة أخرى في تقطيع األخشاب حينما حضر إليه هولدريدج ومعه العربة‪ ،‬فساعده‬
‫إيفانز في نقل األخشاب بداخلها‪ ،‬واالنتقال إلى أماكن األخشاب األخرى‪ ،‬ثم جلس بجواره بعد‬
‫ذلك وهما في طريقهما إلى األماكن التي يجب أن تُشعل فيها النيران‪ .‬كانا يقطعان األخشاب‬
‫رجًّل عند كل مكان خصص إلشعال النيران به‪ ،‬ثم وقف‬ ‫ً‬ ‫حينما يذهبان‪ ،‬وكان إيفانز يضع‬
‫بنفسه في موقع الجنوب وقال‪:‬‬
‫‪ -‬خذ من المساعدة قدر ما تستطيع واحمل معك البنادق؛ إذ إن إطًّلق النار قد يحولهم بعيدًا‬
‫عنك‪.‬‬
‫وأخذ يدرس السماء واألرض‪ ..‬األرض التي تقبع حمراء أسفل هذه السماء‪ ،‬والقطيع الذي ال‬
‫يزال يرعى بجوار الغدران التي يجري فيها القليل من الماء‪ ،‬ثم استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعتقد أن الوقت قد حان إلشعال النيران بعد‪ ،‬عندنا ما يكفي من الوقت لتناول الطعام‪.‬‬
‫ثم ذهب إيفانز إلى العربة‪ ،‬وشارك ديك في العشاء الذي أعدته ربيكا وتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬هل تناول براوني طعامه؟‬
‫‪ -‬حضر وأخذ مضغة واحدة ثم عاد إلى الماشية‪ .‬إن الغًّلم يعمل بجد يا ليجي‪.‬‬
‫ي أن أذهب إلى الحراس‬‫‪ -‬ال أستطيع أن أفعل أي شيء هذه الليلة‪ ،‬فكل إنسان يعمل‪ ،‬ويجب عل َّ‬
‫إلخبارهم بعدم االلتصاق بأماكنهم إذا بدأ الجاموس في االندفاع‪ ،‬وسنثبت خيامنا فيما بعد‪.‬‬
‫ثم وضع طبقه جانبًا ونهض واقفًا و هو يحدث نفسه بأنه من األفضل أن يحمل المزيد من‬
‫البارود‪ ،‬ومسدس «كولت» ذي الطلقات الست الذي لم يكن ليهتم بحمله من قبل‪ ،‬كان المسدس‬
‫محشوا بالطلقات‪ ،‬ولكن صمام أمنه كان مغلقًا‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ولما وصل ابتدره ديك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لقد وجدت بعض الملح هنا وهناك‪.‬‬
‫وجلس القرفصاء فوق األرض بالقرب من الوعاء واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ولكني أعرف أنه لن يفيد بشيء‪.‬‬
‫وبينما هو يتحدث إذ هبت عاصفة خفيفة هزت الجالسين جميعًا‪ ،‬وقالت ربيكا‪ ،‬وهي تمرر‬
‫بعض البسكويت الذي صنعته بنفسها في الفرن الهولندي‪:‬‬
‫‪ -‬هذه الرياح!‬
‫وكان إيفانز يعرف أنها لم تكن تفكر في الرياح‪ ،‬وإنما في العاصفة التي قد تهب‪ ،‬وفي اندفاع‬
‫الجاموس‪ ،‬وفي وجود براوني في الخارج مع الماشية‪ .‬لم يكن ليستطيع أن يدلل براوني بعد‬
‫ذلك‪ ،‬وبخاصة بعد أن كبر ودخل مرحلة الرجولة‪ ،‬وأصبح يطلب الفرصة للمساواة مع الباقين‪.‬‬
‫وعادت الرياح تندفع نحوهم مرة أخرى‪ ،‬لذلك قال ديك وكان يبدو على وجهه أنه ينتظر شيئًا‪:‬‬
‫‪ -‬إنها قادمة يا ليجي‪.‬‬
‫نهض إيفانز فجأة والقلق يعتريه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬سأذهب لإلشراف على الرجال‪.‬‬
‫وتناولت الرياح الكلمات من فمه وأطاحت بها‪ ،‬ولكنه استطاع أن يسمع هدير أصوات الجاموس‬
‫البعيدة التي أخذت تقترب‪ ،‬كان الضوء األحمر ال يزال واض ًحا فوق األرض‪ ،‬ثم ظهرت معها‬
‫ومضات لهب النيران التي أشعلت وسط الظًّلم‪ ،‬وفي هذه األثناء ومض بريق خاطف في‬
‫السماء في اتجاه الغرب‪ ،‬وسمع قصف الرعد بعد ذلك‪ ،‬وحين مروره شاهد جز ًءا من الدائرة‬
‫التي عقدها ويذربي لتقديم الخدمات‪ ،‬على الرغم من عدم وجود ما يكفي من المستمعين‪ ،‬وقد‬
‫نقلت الرياح جز ًءا من كلماته‪:‬‬
‫‪ -‬لنضع ثقتنا في هللا‪ ،‬فهو الذي يحكم األرض والبحار والجبال والقبائل الوحشية والحيوانات‬
‫الضارية والعواصف ويتحكم فيها‪.‬‬
‫‪ -‬باتش‪ ،‬بروور‪ ،‬تادلوك‪ ،‬أنسيكو‪ ،‬اذهبوا جميعًا إلى النيران‪.‬‬
‫وفجأة أصبح العالم كله خاضعًا لرحمة الرياح وعنفها‪ ،‬وضاعت الصيحات هباء‪ ،‬وأخذت‬
‫الرمال تنتقل لتمأل الحلق وتسده‪ ،‬ولكن إيفانز استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ماك‪ ،‬جورهام‪.‬‬
‫وانهمرت األمطار من السحب فأطفأت النيران وجعلت المكان يبدو مظل ًما‪ ،‬وكل ما استطاع‬
‫إيفانز أن يراه هو عدة شرارات دفعتها الرياح من النيران المشتعلة داخل المعسكر‪ ،‬واستمر‬
‫يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬فيرمان‪ ،‬باتش‪ ،‬أسرع هنا‪.‬‬
‫ولم يكن يعرف متى بدأ يجري‪ ،‬كان يجري نحو الجنوب‪ ،‬وكانت رذاذات مياه المطر تبلل‬
‫جانبًا من وجهه‪ ،‬وكان قصف الرعد يصم اآلذان وينير الطريق أمامه‪.‬‬
‫عا لها ليحميها من بلل مياه األمطار‪ ،‬ثم‬
‫جمع بعض األخشاب من األكوام‪ ،‬وجعل جسده در ً‬
‫وضع فوقها بعض البارود‪ ،‬وتقدم باتش بمشعله ليوقد النار في هذه األخشاب التي أخذت تضيء‬
‫بسبب البارود‪ ،‬ومد باتش يده في جيبه ليخرج حفنة من البارود ليزيد من اشتعال البارود‪،‬‬
‫ولكن النيران بدأت تتضاءل بسبب فعل الرياح‪ ،‬ولكنها استمرت متجهة بألسنتها تجاه الشرق‪.‬‬
‫وأخذ إيفانز يعدو مرة أخرى نحو الجنوب‪ ،‬وهو ينحني للرياح حتى ال تطيح به بعيدًا وهو‬
‫يصيح‪:‬‬
‫ي يا براوني‪.‬‬
‫‪ -‬استمر في تغذية النيران‪ ،‬سأتجه إلى الرعاة‪ ،‬أسرع إل َّ‬
‫وكان يصيح كما لو كانت صيحاته تجد آذانًا صاغية أو تصل البنه‪.‬‬
‫كان يجب عليه أن يدرك أهمية إحضار جواد وقيادته على حسب تفكيره بحثًا عن مكان براوني‪،‬‬
‫وسمع في هذه األثناء انفجار أصوات ذهبت مع الرياح‪ ،‬وأصواتًا أخرى تشبه أصوات عواء‬
‫الذئاب‪ ،‬ودق الطبول‪ ،‬فأبطأ في سيره ليحادث نفسه‪ ،‬وشعر بأن هذه اللحظة هي بداية اهتزاز‬
‫العالم‪ ،‬فأخذ يعدو بسرعة مرة أخرى‪ ،‬ويصيح في اتجاه الرياح ووسط دقات الطبول وأظًّلف‬
‫الجاموس الهادرة‪.‬‬
‫‪ -‬براوني‪ ،‬يا حراس‪ ،‬أسرعوا‪.‬‬
‫وازداد الصوت والهدير اقترابًا‪ ،‬وشاهد حزا ًما وضَّاء يشق عنان السماء‪ ،‬رأى مع ضوئه‬
‫جحافل وقطيع الماشية تندفع نحوه يدفعها الجاموس البري الذي يجري خلفها‪ ،‬تعثر في سيره‬
‫وسقط فوق األرض‪ ،‬ولكنه أسرع فنهض‪ ،‬وشعر بأن النهاية لبراوني وربيكا قد اقتربت‪ ،‬وأن‬
‫ضا بأنه ال حاجة به للبحث والجري من أجل االقتراب من‬ ‫آماله قد انتهت وتحطمت‪ ..‬وشعر أي ً‬
‫الثيران ليحتمي بها‪ ،‬وأنه ليس هناك أي وقت أو فائدة من وراء إعادة شحن البندقية‪ ،‬بل عليه‬
‫أن يبقى ليشاهد نهايته تحت أظًّلف هذه الماشية‪ ،‬أو أن ينجو بحياته ويتجه سال ًما ليقول مرحبًا‬
‫بك يا أوريجون‪.‬‬
‫شلت األصوات المخيفة كل تفكيره وشعوره‪ ،‬لم يكن هناك أي شعور سوى الصوت المروع‬
‫والضوضاء المزعجة‪ ،‬والرعد الذي يهز األرض ويحطم القلوب‪ ..‬الرعد الخفي الذي يرسله‬
‫هللا من وراء ظًّلم الليل‪.‬‬
‫شعر في هذه اللحظة باقتراب أول حيوان منه‪ ،‬ولمس درجة ذعرها وتشتتها‪ ،‬فأخذ يلهث مثلما‬
‫تلهث هي نفسها‪ ،‬وتجمدت أطرافه و ُ‬
‫ش َّل تفكيره من هول المفاجأة‪.‬‬
‫وأضاء النور المكان مرة أخرى‪ ،‬فشاهد الماشية تتدفق عن يمينه وفي أعقابها تندفع جحافل‬
‫الجاموس إلى نهاية البصر‪ ،‬وشعر بأن هذه الجحافل قد تضل طريقها إلى داخل الحظيرة‪.‬‬
‫وعرف أن أمامه فرصة اآلن‪ ...‬إنه يستطيع أن يدفعها إلى اتجاه النيران اآلن‪ ،‬وكان جسده‬
‫يهتز بقوة ويرتجف‪ ،‬وكان وجه براوني يبث في عقله النيران ويدفعه إلى االهتزاز‪ .‬وبعد‬
‫مرور فترة قصيرة شعر بأن كل شيء قد انتهى‪ ،‬وأن الجحافل الضخمة التي كانت تهز األرض‬
‫قد أخذت تخف‪ ،‬في حين أخذ وقع أظًّلف هذه الحيوانات يقل بالتدريج‪ ،‬وبدأت نسائم الرياح‬
‫تخف ويخف معها رذاذ المطر المنهمر‪ ،‬وشاهد خلف هذه الحيوانات نيران باتش‪ ،‬ثم نيران‬
‫المعسكر خلفها‪ ،‬وعاد إليه شعور اليأس والخوف على وحيده‪ ،‬فاندفع يصيح بصوت حزين‪:‬‬
‫‪ -‬براوني‪ .‬أين أنت يا براوني؟‬
‫لم يأته أي جواب أو رد‪ ،‬وسمع باتش يناديه‪ ،‬ولكنه استمر في جريه وبحثه ومناداته البنه‪.‬‬
‫وكان يبحث عن أي ظل يجري خلفه عله يكون ظل وحيده‪ ،‬واستمر بذلك يصيح مناديًا إياه‪:‬‬
‫‪ -‬أين أنت يا براوني؟‬
‫لم يشعر بوجود باتش بجانبه‪ ،‬إال حين قام باتش بإمساكه من ذراعه وهو يقول له‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن تعود يا إيفانز‪ ..‬إذا لم يكن قد عاد إلى المعسكر‪ ،‬فسنجمع نحن جميع الرجال‬
‫ونخرج للبحث عنه‪.‬‬
‫فسحب يده بقوة ويأس وخوف من التحدث‪ ،‬ولكن باتش عاد يقول له بلطف‪:‬‬
‫‪ -‬ربما يكون بالمعسكر اآلن‪ ،‬من يدري؟‬
‫فترك إيفانز أمر قيادته لباتش‪ ،‬ولم يشعر باألمطار الخفيفة واألضواء التي تظهر في اتجاه‬
‫الشرق‪ ،‬بل كان يفكر في كيفية مواجهة ربيكا‪.‬‬
‫كانت أصوات األظًّلف قد خفت لدرجة كبيرة‪ ،‬ربما بسبب األوحال‪ ،‬ولكنها كانت بعيدة على‬
‫أي حال‪ .‬وفي هذه األثناء صاح باتش‪:‬‬
‫‪ -‬من هناك؟‬
‫وجاءه صوت ديك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أهذا أنت يا باتش؟‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬أجل‪.‬‬
‫‪ -‬ألم تر إيفانز؟‬
‫‪ -‬إنه معي‪.‬‬
‫‪ -‬بابا‪ ،‬هل أنت بخير يا والدي؟‬
‫جاء صوت الغًّلم يشق حجم الظًّلم‪ ،‬وكان هذا الصوت قمة األمل الذي انتظره إيفانز‪ ،‬فهزته‬
‫المفاجأة وجعلته ينشج بصوت مسموع‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬كنت خائفًا عليك يا بني‪.‬‬
‫‪ -‬أ خبرت والدتك بأنك قد تكون خرجت للبحث عني‪ ،‬وكان ديك قد حضر ووقف معنا نحن‬
‫أمرا مضح ًكا‪.‬‬
‫الرعاة‪ ،‬وحينما اندفعت العاصفة ركبنا جيادنا بأسرع ما يمكن وكان ذلك ً‬
‫شعر إيفانز بالتعب فجأة‪ ،‬بعد أن استراح ً‬
‫قليًّل من االنهيار الذي كان سيصيبه‪:‬‬
‫‪ -‬هل كان في ذلك شيء من الضحك؟‬
‫إذن فإن ديك هو الذي لعب دور اإلنقاذ مرة أخرى‪ ،‬في حين كان هو يتعثر في سيره وبحثه‬
‫عن ابنه‪.‬‬
‫وتحدث باتش بهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬لو لم يقم إيفانز بتوزيع نظام الرعي والنيران‪ ،‬النهار المعسكر وتشتت الركب‪.‬‬
‫فرد ديك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تعتمد دائ ًما على ليجي‪.‬‬
‫واستمر ديك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ل قد أخذنا إلى منتصف الطريقة لمراقبة الماشية‪ ،‬وقادنا إلى نهاية طيبة كان من الممكن أن‬
‫ضا‪.‬‬
‫تنتهي بضياع هذه الماشية وضياع األرواح أي ً‬
‫***‬
‫الفصل السادس عشر‬
‫اعتدلت جوديث فيرمان في وقفتها وأخذت تضغط بيديها حول خصرها وجانبيها؛ لكي تقلل‬
‫من اآلالم التي تنتشر في ظهرها‪ ،‬ثم تنهدت وقالت وهي تنظر إلى «إندبندس روك» حيث كان‬
‫بعض الرجال يتسلقونها لتسمية بعض األماكن بأسمائهم‪.‬‬
‫‪ -‬تودي‪ ،‬ابق حيث أنت بجوار الركب‪.‬‬
‫أمرا غاية في الصعوبة‪ ،‬ولكن لم يكن ذلك يقلقها‪ ،‬بل كان الشعور بعدم‬
‫كان السير والركوب ً‬
‫الراحة والقلق هما اللذان يحركانها في فراشها باستمرار‪ .‬كانت تود أن تترك هذه األفكار‬
‫وراءها‪ ،‬وقد يجد شارلز أن في ذلك ما يدفعه إلى التساؤل ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت بخير يا جودي؟‬
‫فتعود إلى حالتها الطبيعية أو تتظاهر بذلك‪ ،‬وتؤكد له أنه ال يوجد شيء يقلقها أو يؤرقها‪.‬‬
‫ولم تكن هي الوحيدة التي تعيش في هذا التيار أو التي وجدت شجاعة في ذلك‪ ،‬كانت هناك‬
‫مسز بروور‪ ،‬التي قبلت ظروفها‪ ،‬والتي قد تقبل مجيء الفصول‪ ،‬وكذلك مسز باتش التي لم‬
‫يكن عندها الكثير لتقوله‪ ،‬ومسز بيرد التي كانت تبتسم لجميع الظروف‪ ،‬ويراودها األمل مرة‬
‫بعد أخرى بأنها سوف تمتلك مرة أخرى مأوى مناسبًا لإلقامة فيه‪ .‬وربما يكون هناك غيرهن‬
‫من الًّلئي يخفين أسرارهن‪ ..‬فهناك ً‬
‫مثًّل مسز ماك بعينيها الخضراوين العميقتين وشكلها‬
‫الجميل‪.‬‬
‫أفكارا تؤكد أن هذا اليوم كان يوم راحة‬
‫ً‬ ‫وكانت األسئلة تراود الجميع وتذهب مرة أخرى تاركة‬
‫ولعب بالنسبة للجميع ما عدا النساء‪ .‬كان الرجال والغلمان يتسلقون الصخور‪ ،‬في حين كان‬
‫األطفال والثيران تلهو في القاع الشرقي من الوادي‪ ،‬وأمامهم فرصة إلراحة أقدامهم‪.‬‬
‫كان شارلز قد ركب مع ديك سمرز وليجي إيفانز حينما ذهبا ليقوما باستكشاف المكان والعودة‪،‬‬
‫ومعهما بعض لحوم الجاموس من أجل االحتفال باليوم الرابع من يوليو الذي سيقوم تادلوك فيه‬
‫بإلقاء خطاب بهذه المناسبة‪.‬‬
‫كانت ترحب بالبقاء في هذا اليوم داخل المعسكر‪ ،‬سواء أكان هناك عمل أم لم يكن‪ .‬ماذا يهم‬
‫إذا لحق بهم الركب الذي يليهم؟ وماذا يهم إذا استمروا في السير في ذلك اليوم؟ إنه ركب‬
‫صغير معه القليل من المؤن‪ ..‬لذلك فليسرع أو ليتسابق‪ ،‬أو ليقطع األميال المتبقية حتى تنتهي‬
‫المتاعب واآلالم‪.‬‬
‫كانت تقف شامخة‪ ،‬في حين أن اآلالم التي كانت في ظهرها قد أخذت تقل بالتدريج‪ ،‬وظنت‬
‫جوديث أن الركب بأسره يحتاج إلى فترة راحة‪ ،‬على الرغم من أنه لم يمض وقت طويل منذ‬
‫أن قطع الطريق من بًّلت إلى هذا المكان‪ .‬كان إيفانز قد أمر معظم الرجال بامتطاء جيادهم‪،‬‬
‫في حين أمر القليل منهم بالبقاء للحراسة داخل المعسكر وإصًّلح العربات التي تعطلت أو التي‬
‫أصابها العطب‪ ،‬في حين كان غالبية النساء يقمن بالطهو وغسل المًّلبس وتنظيف أنفسهن‬
‫بالمياه الباردة‪ .‬واستطاع الرعاة أن يعثروا على جزء من القطيع الذي جاء بنفسه لينضم مرة‬
‫أخرى إلى الركب‪ ،‬وكان قد ظل هناك جزء لم يتم العثور عليه يبلغ العشرين من بينها ثًّلث‬
‫يمتلكها شارلز نفسه‪.‬‬
‫كثيرا من المياه يا تود‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقترب ً‬
‫مظهرا طيبًا‪ ،‬على الرغم من أنها لم تكن جز ًءا من‬
‫ً‬ ‫قالت لنفسها إن مجرد مظهر الكسل يعتبر‬
‫هذا الكسل‪ .‬كانت العربات تصطف الواحدة تلو األخرى‪ ،‬في حين كانت الماشية والخيول‬
‫ترعى بكسل‪ ،‬وجلس الرعاة بالقرب منها يراقبونها تاركين كل شيء يسير على طبيعته‪،‬‬
‫والنسيم ينعشهم ويبث فيهم روح التجديد‪ .‬كانت تشعر في تلك اللحظة بثقل العبء‪ ،‬ولكن هل‬
‫كانت بقية النساء يشعرن بعبء األشياء وباألعمال اليومية التي يجب أن تتكرر باستمرار؟‬
‫مسز تادلوك؟ ومسز دورتي؟ ومسز جورهام؟ ومسز ماك بي؟ وربيكا؟ ولكن هل يشعرن‬
‫ضا في القلق الذي يظهر في الجو العام؟‬
‫جميعًا بهذا العبء؟ وهل يشتركن أي ً‬
‫كانت تعرف أنها تشعر باألسف لنفسها‪ ،‬ولكنها لم تكن لتهتم بهذا الوضع‪ ،‬وانحنت وأخذت‬
‫صا على لوح من الخشب أمامها‪ ،‬وطلبت من تود أن يبقى بجوارها في أثناء قيامها‬ ‫تغسل قمي ً‬
‫ضا‬
‫بغسل مًّلبسها ومًّلبس تود الداخلية‪ ،‬والمًّلبس األخرى؛ لكي ترتديها ويرتديها تود أي ً‬
‫عا بعد أسبوع‪ ،‬وهما في طريقهما إلى أوريجون‪ ،‬أو حتى نهاية حياتهما‪ .‬وتوقفت لحظة‬ ‫أسبو ً‬
‫لتفكر في اآلالم التي تقاسيها أكثر من غيرها‪ ،‬وكانت تعرف أنها بعد أن تنتهي من الغسل‬
‫والتنظيف يجب أن تقوم بأشغال اإلبرة أو ببعض األعمال اليدوية‪.‬‬
‫منعت بعض الدموع التي كانت تترقرق في عينيها بعد شعورها بعدم الصبر‪ .‬كان العمل هو‬
‫العمل بالنسبة لكل فرد‪ ،‬وكانت تعمل باستمرار أو ترغب في العمل‪ ،‬ولكنها شعرت باإلنهاك‬
‫والتعب‪.‬‬
‫رفع تود وجهه إليها وكانت عيناه ترنو زرقاوين إلى عينيها‪ ،‬في حين كان فمه ووجنتاه مثل‬
‫فم ووجنتي الطفل‪.‬‬
‫‪ -‬أال أستطيع أن أذهب يا والدتي؟‬
‫‪ -‬بعد فترة‪ ..‬انتظر هنا ً‬
‫قليًّل‪.‬‬
‫وفي حين كانت تتحدث إليه‪ ،‬جاءت ربيكا إيفانز من الخط األمامي وقالت‪:‬‬
‫عليك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -‬لقد انتهيت من جميع أعمالي وجئت لمساعدتك‪ ،‬إن التعب يبدو‬
‫وبدأت يداها تعمًّلن‪ ،‬وكان ذلك يبدو لجوديث أن ربيكا من نوع النساء الًّلئي يصلحن لمثل‬
‫هذا الركب‪ ،‬كانت سمينة وقوية وتصلح للعمل القاسي من غير وجل أو خوف‪ ،‬فإذا مرت‬
‫سحابة من الرعب والخوف واإلنهاك بها‪ ،‬فلن يستطيع أي إنسان معرفة ذلك‪ ،‬وإذا أثرت فيها‬
‫رحلة األميال الطويلة‪ ،‬فلن تترك ذلك ليبدو عليها أو ليعرفه أي إنسان‪.‬‬
‫األميال والمسافات‪ ..‬كانت هي األعداء الحقيقية وليس الهنود‪ ،‬أو العبور‪ ،‬أو الطقس‪ ،‬أو العطش‬
‫أو السهول‪ ،‬أو الجبال‪ ..‬بل المسافات والفراغ واإلرهاق الذي تتسبب فيه المسافات‪ ،‬واألميال‬
‫أمياال في أعقابها‪ ،‬وكذلك مستويات األرض والهضاب والمنخفضات التي كانت‬ ‫ً‬ ‫التي تجر‬
‫تعطل سير الركب وتهزه‪ .‬ولم تكن هناك نهاية كذلك‪ ،‬أو وسائل لتقصير المسافة‪ ..‬كان النهار‬
‫والليل متعاقبين‪ ،‬ومتشابهين من غير أي تغيير‪ .‬كانت هناك تًّلل وسحب وسماء أبعد من أن‬
‫يستطيع اإلنسان الوصول إليها جميعًا‪ ،‬وكانت تتعجب في بعض األحيان من صًّلبة رأي‬
‫الرجال وجنونهم وشجاعتهم‪ ..‬إن اليوم الذي يلي اليوم سوف يقربهم من أوريجون‪.‬‬
‫وقالت لربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬إن المسافة تبدو بعيدة‪.‬‬
‫فأجابتها ربيكا‪ ،‬وهي تقوم بوضع المًّلبس النظيفة داخل سلة‪:‬‬
‫كثيرا في بُعد المسافة‪ ،‬بل فكري في اليوم الذي نعيش‬
‫‪ -‬حتى ولو كان األمر كذلك؟ ال تفكري ً‬
‫فيه فقط‪.‬‬
‫‪ -‬ونفكر في قطعة من المًّلبس الداخلية في وقت واحد‪ ،‬وفي قميص‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬إنك تشعرين بالقلق والملل يا جودي‪.‬‬
‫شعرت جوديث بحاجة ملحة للبكاء والجلوس على األرض‪ ،‬والشعور بالخجل والرغبة في‬
‫الصياح والهياج‪ .‬حولت وجهها نحو تودي الذي كان يعبث في األرض بعصا‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬كم أود أن أصبح مثلك يا ربيكا!‬
‫‪ -‬مثلي أنا؟‬
‫‪ -‬إن األمور تبدو كما لو كانت ال تقلقك أو تضايقك‪.‬‬
‫‪ -‬ولم أشعر بانهيار أو بحزن أو بأي شخص آخر؟‬
‫‪ -‬هل األمر كذلك؟‬
‫‪ -‬أحيانًا أسير بحذر وببطء‪.‬‬
‫‪ -‬ال أحد يعرف ذلك‪.‬‬
‫خرج تنفس ربيكا بطريقة تشبه االنفجار الضئيل‪ ،‬واستمرت تقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال تظني مطلقًا أن ما تشعرين به ال يشعر به اآلخرون بين حين وحين‪ .‬إنني أفكر في بعض‬
‫األحيان‪ ،‬ثم أفكر في االبن الطيب الذي عندي‪ ،‬وزوجي‪ ،‬وأشعر بأنني يجب أن أشكر هللا على‬
‫ً‬
‫رجًّل طيبًا يا جودي‪.‬‬ ‫ما منحني إياه‪ ،‬وقد منحك هللا‬
‫ومفكرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رجًّل طيبًا‬ ‫وافقت جوديث على ذلك‪ ،‬وهزت رأسها عًّلمة الموافقة‪ .‬كان شارلز‬
‫وطمو ًحا ومنتب ًها وعنيفًا بالطريقة التي كان عليها إيفانز نفسه‪ .‬وفكرت في أن تمنحه وقتًا لكي‬
‫يستعيد قدرته كرجل عمل‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرف لماذا أنا مغتمة وأشعر بالضيق‪.‬‬
‫‪ -‬إننا نشعر بالشعور نفسه جميعًا‪.‬‬
‫أجابت ربيكا هذه اإلجابة وهي ال تزال مشغولة‪ ،‬ثم استمرت تقول‪:‬‬
‫ً‬
‫ضئيًّل اآلن معي؛ إذ إنني تعودت على هذا األمر‪ .‬إن األمر يختلف‬ ‫‪ -‬ولكن األمر يبدو لك‬
‫بالطبع معي‪ ،‬ربما قد تشعر المرأة بالمرض والضعف‪ ،‬ومع ذلك فهي تستمر في الحمل‬
‫والوالدة حتى يمكن أن تكون أسرة بطفلها‪.‬‬
‫‪ -‬ربما كان األمر كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إن المرأة ليست مقطوعة مثل الرجل‪ ،‬وليست مغامرة أو مندفعة‪ ،‬وإنما ترغب دائ ًما في‬
‫ضا‪.‬‬
‫البقاء و االستقرار‪ ،‬ولكننا ال نزال نتبعهم إلى كل مكان‪ ،‬ونحن مسرورات بذلك أي ً‬
‫ثم ضحكت ربيكا من قلبها وهي تضع بقية المًّلبس داخل السلة‪ .‬كانت جوديث تظن أنها‬
‫تتصف بالرجولة أكثر من أي امرأة أخرى‪ ،‬فعندها وجه عريض مثل زوجها‪ ،‬وشارب خفيف‬
‫فوق شفتها العليا التي جعلتها الشمس تبدو سوداء‪ ،‬واسترسلت ربيكا تقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن ابنك صغير لدرجة يشبه معها السنجاب‪.‬‬
‫‪ -‬نحن نعرف أنه شفى من الحمى‪.‬‬
‫لذلك كان يجب أن تتمتع بذلك‪ ،‬وكان يجب أن تشدو وتغني ترحيبًا بهذه المنطقة الخام المرتفعة‪،‬‬
‫ورائحة أخشاب (القويسة) التي قال عنها ديك سمرز إنها نوع من الدواء‪ .‬كان يجب أن تكون‬
‫سعيدة بعودة الصحة إلى ابنها‪ ،‬الذي يحمل وجه األطفال‪ ،‬ولكن آالم الماضي ظلت تؤرقها‪..‬‬
‫كانت تشعر بقوة ورغبة ودافع من أجل التقهقر والعودة‪ ،‬والهرب إلى الزراعة في كنتاكي‪..‬‬
‫والذهاب إلى والدتها التي تعيش عيشة كريمة في لكسنجتون‪ ،‬وزيارة أختها التي تعيش في‬
‫هدوء وسًّلم وسعادة في فيكسبورج‪ .‬كانت تأمل في أن تصل خطاباتها التي تركتها في فورت‬
‫الرامي إلى وجهتها التي حددتها‪.‬‬
‫واستمرت ربيكا تقول‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬إنه في صحة جيدة على أي حال‪.‬‬
‫رفع تود رأسه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أال أستطيع أن أذهب أللعب مع بقية األوالد يا والدتي؟ إنهم يلعبون!‬
‫هكذا كانوا‪ ،‬كانت هناك مجموعة بالقرب من النهر تلطم المياه الضحلة‪ ،‬وكان هناك بعض‬
‫الكبار الذين يراقبون هذا الوضع‪ ،‬في حين كانت هناك مجموعة أخرى تسير حول السياج‬
‫الخشبي‪ ،‬وهناك بعض الصرخات والصياح والضحك‪ .‬وهنا قالت جوديث‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نخوض الطريق اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬أود أن ألعب اآلن‪.‬‬
‫ًّ‬
‫وممًّل‪.‬‬ ‫‪ -‬أعرف يا بني‪ .‬إن الوضع أصبح متعبًا‬
‫تساءل وجه ربيكا عما يمنعها من األذن له بالذهاب واللعب‪.‬‬
‫فأجابتها‪:‬‬
‫ضا لفترة طويلة‪.‬‬
‫ضا‪ ..‬مري ً‬
‫‪ -‬أعتقد أنني شديدة الحذر‪ ،‬ولكنه كان مري ً‬
‫ثم وجهت حديثها إلى تود‪ ،‬واستمرت تقول‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا عن كعك األوحال؟‬
‫‪ -‬إنني أشعر بالسأم والملل من عدم عمل أي شيء يا والدتي!‬
‫‪ -‬ماذا عن كعك األوحال؟‬
‫وجهت إليه هذا السؤال وهي تفكر؛ كيف يخلق ضياع الوقت روح السأم والمرارة في نفس‬
‫الطفل؟ وتذكرت فترة صباها‪ ،‬وكيف كانت الساعات تمر قاسية‪ ،‬ووضعت نفسها في مكانه‬
‫وأخذت تتصور دوران العجًّلت الًّلنهائية‪ ،‬والشمس الحارقة التي ال تتحرك وسط السماء‬
‫الصافية‪ ،‬وكذلك األيام التي كانت تمر بطيئة‪ ،‬وشعرت في نفسها بأن ابنها يود أن يسألها‪ :‬كم‬
‫تبعد المسافة إلى ساوث باس يا والدتي؟ وكم من الوقت سيمضي حتى نتوقف؟ وكم نبعد اآلن‬
‫عن أوريجون؟ ال نستطيع أن نفعل أي شيء سوى االنتظار‪ ..‬انتظار الوقت الذي سيمضي‪.‬‬
‫أما اآلن‪ ..‬حينما شعر برغبة في أن يلعب‪ ،‬نجد أن عًّلمات الخوف الذي ال مبرر له قد ظهرت‬
‫عليها‪ ،‬ونجدها ال ترغب في أن يبتعد عنها‪ .‬ومدت يدها لتلتقط إناء وتتجه به إلى المياه‪ ،‬وتقول‪:‬‬
‫‪ -‬سأذهب إلى المياه يا تود‪.‬‬
‫ضا منها وقالت‪:‬‬
‫ووصلت إلى المياه وأحضرت بع ً‬
‫‪ -‬ها هي ذي المياه‪ .‬اصنع لنفسك كع ًكا من األوحال‪.‬‬
‫ثم انحنت عليه لتقبله‪ ،‬وترى على وجهه عًّلمات االحتجاج‪.‬‬
‫انتهين جميعًا من عمليات الغسل‪ ،‬وبقي عليهن نشر المًّلبس في الهواء لكي تجف‪ ،‬لذلك وجهت‬
‫جوديث حديثها إلى ربيكا قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬كان عظي ًما منك أن تساعديني‪ ،‬تستطيعين الذهاب اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬ستصبح األمور على خير ما يرام‪ ،‬وسنصل قريبًا إلى ويًّلميت‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لست قلقة بهذا الشأن‪ ..‬إنني مجرد‪ ..‬ال أعرف‪ ..‬إنني مجرد سخيفة‪.‬‬
‫‪ -‬إن ما يأتي في العادة ليس قريبًا أو سيئًا حتى نخشاه ونرهبه‪ .‬تذكري ذلك‪.‬‬
‫ثم ابتسمت ربيكا وجففت المياه من يديها‪ ،‬وأخذت تبتعد لتجمع أشياءها‪ ،‬ثم سارت في طريقها‬
‫واثقة من نفسها‪ ،‬في حين كانت بقية النساء يجمعن أدواتهن للعودة إلى خيامهن‪.‬‬
‫كانت جوديث ترفع سلتها‪ ،‬حينما مر بها هيج وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬أسعدت صبا ًحا‪ ..‬كيف حالك يا بني؟‬
‫ومد يده ليداعب تودي بأصابعه‪ ،‬فرد عليه تود‪:‬‬
‫‪ -‬إن والدتي تمنعني من اللعب‪.‬‬
‫‪ -‬ل ماذا؟ إنها سوف توافق على ذلك اآلن‪ ،‬سنقوم نحن االثنين ببناء قلعة‪ ،‬أحضر هذا الفرع‬
‫الخشبي الموجود هناك‪.‬‬
‫وضعت جوديث السلة فوق األرض‪ ،‬ورحبت بهيج‪ ،‬ثم قالت له‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أعتقد أنك عند الصخرة؟‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫‪ -‬لكي تحضر السمك بالطبع‪.‬‬
‫‪ -‬أنا ال أفعل ذلك‪.‬‬
‫وتنهد بصوت مسموع‪ ،‬ثم وضع الفرع الخشبي وبعض العصي‪ ،‬وكان تود يراقبه‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا؟‬
‫فقطب جبينه‪ ،‬ورد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أقول إنني ال أعرف الكتابة‪.‬‬
‫‪ -‬أوه!‬
‫‪ -‬ولكن ليس هذا هو السبب‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو إذن؟‬
‫بدأ التفكير يشع في ناظريه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا المكان يضع عًّلماته على اإلنسان‪ ،‬والعًّلمة هي أنه ال يعرف من يكون وما حجمه‬
‫في هذا الكون وهذا المكان نفسه‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أفهم ما تعني‪.‬‬
‫‪ -‬إنه يقوم بوضع عًّلمته على هذه المنطقة مثلما يفعلون اآلن على هذه الصخرة‪ ،‬ثم يستطيع‬
‫أن يقول لنفسه بعد ذلك‪ :‬إن هذا يخصني‪ ..‬إن اسمي محفور على الصخور‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫‪ -‬ا نتظر يا بني‪ ،‬لقد نسينا أن نترك فتحة للباب أو المدخل‪ ..‬إن ما أريد أن أخبر والدتك به هو‬
‫أن تفكيري بسيط‪ ،‬وأنني لن أقوم بعد ذلك بحفر اسمي؛ ألنني أو غيري لن نكون واثقين‪ ،‬فيما‬
‫بعد‪ ،‬أن االسم الذي ُحفر فوق هذه الصخرة هو اسمي أنا‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أعتقد أنهم يحفرون أسماءهم لكي يراها غيرهم من الناس‪.‬‬
‫‪ -‬إ نني ال أرى أن حفر االسم وسط ضياع مفقودة سيكون له أثر كبير في حياة الفرد‪ .‬واآلن يا‬
‫بني لنضع مدفعًا بداخل القلعة إلبعاد الهنود عنها‪.‬‬
‫‪ -‬أال يكتبون أسماءهم حتى يراها غيرهم من الناس؟‬
‫‪ -‬إ ن الناس الذين يعرفونني يعرفون اسمي‪ ،‬والذين ال يعرفونني ال يهتمون بذلك‪ ،‬وإال كان‬
‫ذلك محاولة لفرض اسمي على غيري‪.‬‬
‫‪ -‬إنك تفكر في أشياء مسلية يا هيج‪.‬‬
‫‪ -‬من منا ال يفكر في ذلك؟‬
‫ً‬
‫معقوال ومنطقيًّا كما‬ ‫من منا ال يفكر؟ كان هذا هو الشعور بالقلق وعدم الراحة‪ ،‬هل كان األمر‬
‫ذكر هيج نفسه؟‬
‫‪ -‬على أي حال إننا نشعر بالسرور التام لكونك معنا يا هيج‪.‬‬
‫‪ -‬إ نه شعوري نفسه بوجودي هنا‪ .‬تود‪ ،‬هناك قلعة ممتازة لك‪ ،‬ابعدها عن األخطار‪ .‬هل‬
‫سمعتني؟‬
‫سحب ساقيه من أسفله‪ ،‬ثم انتصب واقفًا‪ ،‬والتقطت جوديث سلتها أي ً‬
‫ضا‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬ا ستمر في لعبة القلعة يا تود في حين أقوم أنا بإنهاء أعمالي‪ ،‬ثم نستطيع أن نخوض المياه‬
‫معًا بعد ذلك‪.‬‬
‫ثم ذهبت إلى الحبل الذي كان مشدودًا بين شجرتين‪ ،‬ووضعت السلة فوق األرض وأخذت‬
‫تعلق المًّلبس المغسولة فوق الحبل‪ ،‬وانتهت من تعليق آخر قطعة من المًّلبس والتفتت لتتحدث‬
‫إلى تود‪ ،‬ولكنه كان قد ذهب واختفى‪.‬‬
‫صنع القًّلع وكعك‬
‫لم يكن يقصد الهرب‪ ،‬ولكنه كان يرغب في التحرك جانبًا‪ ،‬بعد أن تعب من ُ‬
‫األوحال والبقاء في مكان واحد‪ ،‬ابتعد ً‬
‫قليًّل عن المغسل ليجري نحو بقعة ممتلئة باألعشاب‬
‫الجافة‪ ،‬وشاهد في سيره أرنبًا برية تنظر إليه‪ ،‬ثم تندفع جارية‪ ،‬فجرى خلفها‪ ،‬ولكنه لم يستطع‬
‫اللحاق بها‪ ،‬ثم انحنى فوق األرض ليلتقط بعض الحجارة الصغيرة ليقذف بها هذا الحيوان‬
‫الصغير الذي أخذ يعدو بسرعة مبتعدًا‪ .‬وجذبته روح المطاردة وحماستها فاندفع خلفه‪ ،‬ولكنه‬
‫فقده بعد فترة قصيرة‪ ،‬وأخذ ينظر حوله باحثًا عن والدته‪ ،‬ولكنه كان قد فقد أثرها وابتعد عنها‪،‬‬
‫ليجد نفسه في أرض شاسعة األطراف خلف عربة دخل نصفها في تربة األرض‪ ،‬ولم يستطع‬
‫أطفاال‪ ،‬على الرغم من أن أصوات صياحهم‬ ‫ً‬ ‫أن يرى أي رجل أو امرأة‪ ،‬بل لم يستطع أن يرى‬
‫تصل إليه‪.‬‬
‫شعر بالفراغ خلفه ويحيط به‪ ،‬فأخذ يتراجع من حيث جاء باحثًا عن األمن بين ذراعي والدته‪،‬‬
‫والقبًّلت الحارة التي ترسلها من شفتيها‪ ،‬ثم سمع صوت «جندب» يقرض األعشاب‪ ،‬وسمع‬
‫صوت رنين يأتي من مكان ما خلف مجموعة من الصخور‪ ،‬وتحقق من صدور هذا الصوت‪،‬‬
‫فتوقف عن الجري‪ ،‬وانحرف تجاه هذه المجموعة‪ ،‬وانحنى لينظر بين الصخور الصغيرة وسط‬
‫صغيرا‪ ،‬يشبه وجه رجل‪ ،‬ينظر إليه‪ ،‬وف ًما مفلط ًحا‬
‫ً‬ ‫األعشاب الجافة بفعل الشمس ليرى وج ًها‬
‫صغيرا يخرج بسرعة ثم يدخل فجأة‪.‬‬
‫ً‬ ‫وعينين متحجرتين‪ ،‬وفتحتين لألنف ولسانًا أحمر‬
‫وجه رجل صغير جدًّا‪ ،‬وجه أفعى‪ ،‬وجه الحية ذات األجراس ملتفة حول نفسها داخل الصخور‬
‫المتربة‪ ،‬وكان ذيلها يهتز بقوة‪ .‬لم يستطع أن يجري بعد الصدمة التي تلقاها‪ ،‬وهي أنه عرف‬
‫ً‬
‫مشلوال وقد تصبب منه عرق الخوف‪ ،‬وتسمر في مكانه وعيناه مسلطتان‬ ‫حقيقتها‪ ،‬بل وقف‬
‫على ذيلها الذي بدأت تخفي وجهها في وسطه‪ ،‬ولم يعد يظهر من وجهها سوى لسانها الذي‬
‫محمرا‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫كان يخرج‬
‫‪ -‬تودي‪ ،‬أوه‪ ،‬تودي‪.‬‬
‫وحينما بدأ يتحرك في مكانه شعر بعضة تصيب ساقه وبوخز إبر‪ ،‬ثم رأى الحية تنسحب‬
‫بسرعة أمامه‪ .‬وقف ليجي إيفانز حينما أحاط هو ومن معه بصخرة «إندبندس روك» واستطاع‬
‫بوقفته هذه أن يرى منظر المعسكر‪:‬‬
‫‪ -‬ها هو ذا المعسكر يرقد سال ًما‪.‬‬
‫كان ديك سمرز‪ ،‬وشارلز فيرمان يجلسان فوق سرجيهما وينظران إلى السهل الذي تغطيه‬
‫عربات لمسافة تقرب من نصف ميل‪ ،‬كان معهم أربعة من الخيول تحمل على ظهورها لحو ًما‪،‬‬
‫لذلك قال إيفانز وهو ممسك بلجامي زوجين من الخيل يسيران خلفه‪:‬‬
‫‪ -‬عندنا حمولة طيبة من اللحوم‪.‬‬
‫فرد عليه ديك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن الحظ يسير في جانبنا حتى اآلن‪.‬‬
‫فتساءل فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني يا ديك؟ هل هناك القليل من المرض؟‬
‫‪ -‬الهنود‪ ،‬إننا لم نر سوى القليل جدًّا من الهنود‪.‬‬
‫فأجاب إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ال يزال أمامنا متسع من الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬إن المناطق عبر الجبال هي مناطق أكثر أمنًا‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ال يوجد بها جاموس بري‪.‬‬
‫‪ -‬القليل‪ ،‬يجب أن نجفف بعض اللحوم غدًا أو اليوم الذي يليه‪ .‬ليجي إنني أفكر‪ ..‬يبدو أن هناك‬
‫حادثًا في المعسكر‪.‬‬
‫وفي حين كان يتحدث كان ديك ينظر إلى المعسكر‪ ،‬وكان إيفانز نفسه يتطلع إليه وإلى الشمس‬
‫ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬لقد عدنا في الوقت المناسب لسماع تادلوك في حديثه عن يوم االستقًّلل كما وعدنا‪.‬‬
‫تادلوك الذي ظل يطالب بضرورة إلقاء خطاب في اليوم الرابع من يوليو عند الصخرة‪ ،‬ثم‬
‫ظهر بعد ذلك بمظهر من يود أال يلقي مثل هذا الخطاب‪ ،‬ولكنه سوف يلقيه ما داموا يطلبون‬
‫ً‬
‫رجًّل نه ًما لألهمية التي ظل يبحث عنها ويطاردها‪.‬‬ ‫منه ذلك‪ .‬كان‬
‫وخرج تادلوك من ذهن إيفانز حينما عاد األخير ليتطلع إلى وجه ديك مرة أخرى ويتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك يا ديك؟‬
‫وأخذ يتابع نظر ديك إلى المعسكر‪ ،‬كانت العربات تستقر في سًّلم وتحيط بالخيام‪ ،‬وكان‬
‫الماشية ترعى في اتجاه الشرق على طول النهر حيث وضع اثنان من الحراس‪ ،‬فأجابه ديك‪:‬‬
‫‪ -‬ال شيء‪ ..‬ال أستطيع أن أرى أي إنسان في هذا الجانب من الحظيرة‪.‬‬
‫‪ -‬إنهم بجوار النهر‪.‬‬
‫فقطب ديك جبينه‪ ،‬ووجد إيفانز نفسه يتوه في موجة من التعجب كما كان يفعل من قبل‪ ،‬بسبب‬
‫طريقة ديك‪ ،‬ثم قال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬هناك بعض األمور تجري في الطرف اآلخر‪.‬‬
‫فدقق إيفانز نظره ليجد بعض األشخاص الذين يتحركون بسرعة خاطفة بين األماكن الخالية‬
‫التي توجد بين الخيام‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ربما يقوم األخ ويذربي بإلقاء بعض مواعظه‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪.‬‬
‫‪ -‬عرباتي في مكانها هناك لم تتغير‪.‬‬
‫وانعكست هذه الحركات غير الطبيعية على وجه فيرمان‪ ،‬ثم قال ديك وهو يقود جواديه‪:‬‬
‫‪ -‬دعنا نشق طريقنا‪.‬‬
‫امتطى إيفانز جواده ولكزه بقدميه وسار متج ًها صوب المعسكر وهو ممسك باللجام بيده‬
‫ويصيح‪:‬‬
‫‪ -‬لنتجه إلى المعسكر بسرعة‪.‬‬
‫كانت اللحوم تهتز فوق ظهور الخيل وهي تجري متجهة إلى المعسكر‪ ،‬وكان إيفانز يعتقد أن‬
‫تجمهرا عند خيمة فيرمان‪.‬‬
‫ً‬ ‫ديك على حق‪ ،‬وذلك كلما اقتربوا من الخيام ليشاهدوا‬
‫فنادى إيفانز أول رجل قابله‪ ،‬وكان هيج بالمصادفة‪ ،‬فسأله‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا هناك؟‬
‫كان وجه هيج يبدو ممتقعًا تكسوه صفرة تشبه صفرة الموت‪ ،‬وكانت الكلمات تخرج من فمه‬
‫متقطعة لتقول‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أصيب الغًّلم بعضة ثعبان‪.‬‬
‫‪ -‬تود؟‬
‫‪ -‬عضة حية األجراس‪.‬‬
‫‪ -‬يا إلهي! متى؟‬
‫‪ -‬في منتصف النهار‪.‬‬
‫‪ -‬ديك‪.‬‬
‫كان صوت هيج يشبه الهمسات وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو إنه سيرحل عنا‪.‬‬
‫‪ -‬ديك‪ ..‬هل سمعت؟‬
‫قال ديك وهو يهز رأسه‪:‬‬
‫‪ -‬أجل لقد سمعت‪.‬‬
‫اندفعوا جريًا إلى الخيمة حيث يقف األخ ويذربي منحنيًا‪ ،‬وانحنى إيفانز ليشق طريقه داخل‬
‫الخيمة‪ ،‬فشاهد ربيكا تجلس على األرض بجوار الفراش وفي يدها وعاء‪ .‬لم تتكلم وإنما تركت‬
‫عينيها تتحدثان‪ ،‬ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني‪ ..‬لقد سمعنا لتونا‪.‬‬
‫كان الغًّلم يرقد فوق سريره على األرض‪ ،‬وعليه غطاء ال يظهر منه شيء سوى شكله الذي‬
‫رسمته بطانيته‪ ،‬وكان وجهه يبدو شاحبًا فوق وسادة صغيرة ونظيفة‪ ،‬كما أن عينيه كانتا نصف‬
‫مغلقتين‪.‬‬
‫نقل إيفانز ناظريه من الغًّلم إلى جوديث فيرمان التي كانت جالسة على مقربة من ربيكا‬
‫ممسكة بيد الغًّلم في راحتيها ثم سألها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حاله اآلن؟‬
‫وظل فيرمان يروح ويغدو حول المكان‪ ،‬وكان يركع بجوار زوجته وهو يحملق في تود‪ ،‬كما‬
‫لو كان قد أصيب بالصمت‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬باهلل عليكم جميعًا‪ ،‬هل نظل هكذا صامتين ال نفعل شيئًا؟‬
‫فنظر إليه الغًّلم بضعف ووهن وغمغم بشيء جعل والدته تحني رأسها نحوه لسماع صوته‪.‬‬
‫ثم التقطت منشفة من أحد األركان المجاورة لها وأخذت تجفف جبهته وفمه بها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هل تريد شرابًا آخر يا تودي؟ هل تريد شرابًا آخر؟‬
‫فنادى إيفانز على ديك‪:‬‬
‫‪ -‬ديك‪.‬‬
‫وكان ديك يقف بالخارج‪ ،‬ثم اندفع داخل الخيمة بمجرد سماعه النداء‪ ،‬وسقط نظره على‬
‫الفراش‪ ،‬ثم تحدث إليه إيفانز‪:‬‬
‫ضا يا شارلز‪.‬‬
‫‪ -‬يحسن بنا أن نبحث عن وسيلة أي ً‬
‫فقال فيرمان بصوت منخفض‪ ،‬كما لو كان يطلب الصفح لعمل غير مهذب ارتكبه من قبل‪:‬‬
‫‪ -‬كان باردًا‪ ،‬لقد أخبر والدته بأنه يشعر بالبرد‪.‬‬
‫ثم أعاد الغطاء وهو ينظر إلى وجوههم المتطلعة‪ .‬انكمش إيفانز في نفسه مما رآه؛ إذ انتفخت‬
‫ساق الغًّلم وظهرت بعض البقع السوداء بظهور بعض مناطق الدم التي تسممت‪.‬‬
‫وانحنى فيرمان ليفحص ساق الغًّلم‪ ،‬وليشاهد فيها آثار العضة‪ .‬وكان بعض األشخاص قد‬
‫قاموا بربط الساق وجرح مكان العضة‪ .‬وأصاب الجميع الصمت بسبب هول الموقف‪ ،‬ولم‬
‫يقطع حبل الصمت سوى قول ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قام المستر بيرد بكي مكان العضة ووضع ملح البارود فوقه‪ ..‬هذا هو كل ما نعرفه‪.‬‬
‫فقالت جوديث فيرمان بصوت ال يزيد على الهمس‪:‬‬
‫‪ -‬أال تعرفون شيئًا؟‬
‫لم تكن قد تحدثت من قبل‪ ،‬فنظر إلى وجهها وكان هناك الكثير مما يكفي من المشكًّلت‪ ،‬وكانت‬
‫الدعوات والصلوات تتردد في صوتها الذي ال يستطيع أن يقول الحقيقة‪ .‬وحاول إيفانز أن‬
‫يتصيد أكذوبة حول الوضع‪ ،‬ولكن ديك انبرى يتساءل في هذه اللحظة‪:‬‬
‫‪ -‬هل امتص أحدكم السم من ساقه؟‬
‫فهزت رأسها ببطء عًّلمة النفي‪ ،‬وظهرت عليها عًّلمات الذنب لعدم تفكيرها في عملية‬
‫االمتصاص‪ .‬ولم يستطع إيفانز أن ينظر إليها أكثر من ذلك‪ ،‬لم يستطع أن يقف ليشاهد اهتزاز‬
‫األمل وسيطرة اليأس‪ ،‬فانحرف بناظريه إلى ربيكا التي كانت تجلس صامتة وتعكس القوة في‬
‫صمتها‪ .‬وشعر بأن النساء يقاسين الكثير ويتحملن اآلالم والهزات النفسية ويدركن األمور‬
‫أفضل من إدراك الرجل في هذا الشأن‪ ..‬فالرجل في الحزن والموت ليس سوى طفل ‪-‬كما كان‬
‫هو نفسه حين يجب أن يعتمد على أمومة ربيكا‪.‬‬
‫تحرك الغًّلم وعيناه نصف مفتوحتين‪ ،‬واهتز في مرقده‪ ،‬ثم أخذ يتقيأ وربيكا تتلقى القيء في‬
‫اإلناء الذي تحمله‪ ،‬في حين كانت جوديث تنحني فوقه لتجفف فمه‪ ،‬ثم أخذ الغًّلم يصيح بصوت‬
‫ضعيف ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يؤلمني يا والدتي!‬
‫فقال إيفانز وهو يحاول أن يجد بارقة أمل في لهجته‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يتكلم بلهجة واضحة‪.‬‬
‫وقالت جوديث ووجهها ال يبكي‪ ،‬إن عينيها الزرقاوين المنهكتين الذابلتين هما اللتان تبكيان‬
‫تاركتين خطين من الدموع على وجنتيها‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف يا عزيزي‪ ،‬أعرف‪ .‬هل تريد شرابًا؟‬
‫لم يجبها الغًّلم‪ ،‬وإنما عاد إلى مرقده‪ ،‬وأغلق جفنيه‪ .‬وبدأ إيفانز يشعر بالخوف والرهبة وهو‬
‫يرى زرقة الموت أسفل عيني الغًّلم وفوق صدغيه‪ ،‬وأخذ يستمع إلى تنفس تود‪.‬‬
‫بكى فيرمان مرة أخرى وصاح‪ ،‬كما لو كان هذا الوضع من خطأ الجميع‪:‬‬
‫‪ -‬هل نقف ننتظر النهاية؟‬
‫فقال إيفانز وهو يخطو نحو باب الخيمة‪:‬‬
‫‪ -‬هدئ من روعك يا شارلز‪ ..‬لتقم إحداكن أيتها النساء بغلي بعض اللبن‪ ..‬حافظ على الهدوء‬
‫بقدر اإلمكان يا ديك‪.‬‬
‫كان األخ ويذربي يقف عند مدخل الخيمة‪ ،‬لذلك قال حينما شاهد إيفانز‪:‬‬
‫ي‪.‬‬
‫‪ -‬إنني موجود هنا إذا احتجتم إل َّ‬
‫شكرا لك‪ ..‬تعال يا ديك‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫ثم قاد ديك إلى أحد األركان بعيدًا عن الجمهور‪ ،‬الذي كان قد انقسم إلى حلقات وهم يتحدثون‬
‫داخل حجرة المريض‪ ،‬وقال ديك وبصوته رنة العجز‪:‬‬
‫‪ -‬ال شيء يمكن فعله اآلن يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬أال نجعل جوديث تعتقد أن كل شيء قد فعله هللا‪.‬‬
‫أخذ ديك يفكر ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ثم أجاب بصوت أكثر رقة‪:‬‬
‫‪ -‬إنك طيب الخلق يا ليجي‪ ..‬هناك بعض الجذور التي يؤكد السيوكس أنها تشفي من السم‪،‬‬
‫كثيرا‪ .‬سأتولى البحث عن بعض منها‪.‬‬
‫ولكن هذا أمر يجب أال يعتد به ً‬
‫عاد إيفانز إلى حيث ينتظر الجميع‪ ،‬وشعر بيد فوق كتفه‪ ،‬وسمع صوت مسز ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬إذا استطعنا أن نعثر على ضفدعة من ذات البقع السوداء‪ ،‬فإن ذلك سيوصلنا إلى نتيجة‪.‬‬
‫‪ -‬ضفدعة؟‬
‫‪ -‬نضعها فوق مكان العضة‪ ،‬فإذا لم تعش فإنها تكون قد امتصت السم في جسدها‪ ،‬ونأت بغيرها‬
‫لنواصل عملية امتصاص السم‪.‬‬
‫فقال لها وهو يبعد كتفه عن قبضة يدها ويدخل الخيمة‪:‬‬
‫‪ -‬اذهبي وابحثي عن ضفدعة‪ ،‬لقد ذهب ديك للحصول على دواء بري‪ ،‬وسنقوم بعملية‬
‫االمتصاص إلى أن تأتينا المساعدة‪.‬‬
‫التقت عينا فيرمان بعينيه‪ ،‬ثم قال له وهو يعيد البطانية مكانها‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫‪ -‬سنقوم بمحاولة جدية يا شارلز‪.‬‬
‫فأحنى فيرمان رأسه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنه ابني‪.‬‬
‫لم يتحرك الغًّلم‪ ،‬كان يرقد ساكنًا بساقه الرفيعة واألخرى المتورمة التي ستقتله‪ ،‬فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬سنضع فوقها الجذور ومزي ًجا من محلول اللبن ودواء هذه الجذور؛ إلنهاء هذا التسمم‪.‬‬
‫كانت جوديث تربت على اليد التي وضعتها في راحتيها وتقول لنفسها‪ ،‬كما لو كانت تتمنى‬
‫أمنية بعيدة المنال وتطلب فرصة جديدة له‪:‬‬
‫‪ -‬لم ينل قسطه من المرح‪.‬‬
‫كانت الدموع تنهمر من مقلتيها من غير أن تبدو على وجهها آثار البكاء‪ ،‬واستمرت تقول‪:‬‬
‫ضا بما فيه الكفاية‪.‬‬
‫‪ -‬كان مري ً‬
‫رفع فيرمان رأسه‪ ،‬وبصق على األرض‪ ،‬ثم انحنى مرة أخرى‪.‬‬
‫في حين استمرت جوديث تقول كما لو كانت تجلس بمفردها‪:‬‬
‫‪ -‬ك ان يجب أن ألعب معه هذا الصباح‪ ،‬كان يجب أن أعرف سبب شعوره بالتعب والقلق من‬
‫عدم قيامه بأي شيء‪.‬‬
‫فسألتها ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك‪ ..‬ال تلقي اللوم على نفسك‪ ..‬ال تلقي اللوم على نفسك أبدًا‪ ..‬إنك لست ملومة على ذلك‪.‬‬
‫كان إيفانز يتمنى أن تنفجر جوديث في البكاء‪ ،‬حتى تفرج عن نفسها كما فعلت بعض النساء‪.‬‬
‫وجاء ديك ومعه إناء به بعض اللبن الساخن وبعض الجذور المغلية في اليد األخرى‪ ،‬وجلس‬
‫عند مدخل الخيمة‪ ،‬ثم وضع أحد الجذور في فمه‪ ،‬وحينما أتم مضغها بصقها في يده‪ ،‬وأخذ‬
‫مضغة أخرى وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬اهدأ ً‬
‫حاال يا شارلز‪.‬‬
‫التفت فيرمان وهو يمسح فمه الذي كان حوله بعض آثار مسحوق‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ما هذا؟‬
‫فتحرك ديك وهو يمضغ بعض الجذور ويمسك في يده البعض اآلخر‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬جذور يستخدمها السيوكس‪.‬‬
‫فتساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬هل عندك خرقة أو قطعة من القماش؟‬
‫تناولت جوديث المنشفة التي كانت بجوارها ومدت يدها بها إليه‪ ،‬فتناولها وذهب إلى القدر‬
‫وغمس المنشفة في اللبن الساخن‪ ،‬ورفعها بعد ذلك‪ ،‬ثم وضعها فوق الساق وسحب البطانية‬
‫مرة أخرى‪ .‬وتساءل فيرمان ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل يمكن أن يساعد الويسكي في هذا الوضع؟‬
‫هز ديك رأسه وهو يجلس القرفصاء ووجهه ال يفصح عن شيء سوى صبر االنتظار‪ ،‬وجلس‬
‫ضا وهو يحيط يديه برقبته‪ ،‬وظل الجميع يرقبون الوضع‪ ،‬وكان الوقت يمر بطيئًا كأنه‬
‫إيفانز أي ً‬
‫مستمرا في مضغ الجذور‪ ،‬ويقوم إيفانز بغمس المنشفة في اللبن‬
‫ًّ‬ ‫دهر طويل‪ ،‬في حين كان ديك‬
‫الساخن الذي ظلت مسز ماك تحضره‪.‬‬
‫وجاءت من الخارج أصوات همهمات صامتة‪ .‬وجاء صوت جوديث من األعماق السحيقة‬
‫رويدًا رويدًا وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كان كل أملنا وقوتنا في الذهاب إلى أوريجون‪.‬‬
‫فاندفع فيرمان صائ ًحا‪.‬‬
‫‪ -‬كان‪..‬‬
‫‪ -‬أعني هو أملنا يا شارلز‪ .‬أملنا اآلن‪.‬‬
‫وأخذ إيفانز يحملق في يديه‪ ،‬ثم صاحت‪ ،‬وصرخت‪ ..‬صرخة لم يستطع أن يتحملها‪ ،‬وشاهد‬
‫المادة السميكة المريضة تخرج من جفني الغًّلم المغلقتين‪ ،‬فعرف أن الغًّلم يحتضر ويموت‪.‬‬
‫فنهض واقفًا واندفع إلى الخارج‪ ،‬وهو يبصق على األرض ويجيب عن كل سؤال يُوجه إليه‪:‬‬
‫‪ -‬أسوأ ما يكون‪.‬‬
‫ووجد األخ ويذربي‪ ،‬فطلب منه أن يدخل‪ ،‬شعر في بعض األحيان أنه يجب أن يشكر هللا على‬
‫وجود الوعاظ في مثل هذه المناسبات‪.‬‬
‫الفصل السابع عشر‬
‫كان اليوم جافًّا ودافئًا‪ ،‬وعاصفًا‪ ،‬لدرجة أن اإلنسان يقوم بلعق شفتيه بسبب الجفاف والحرارة‪،‬‬
‫وبسبب البخر الذي يتصاعد من جسده‪ .‬لم يكن بالسماء سوى بعض السحب الخفيفة التي تسير‬
‫في اتجاه الشرق؛ لذلك شعر إيفانز بلفحة الشمس في ظهره‪ ،‬وشعر بأن لهيب هذه الشمس‬
‫سوف يلهب األعين‪ ،‬وأن الرياح الساخنة التي ستهب من الغرب ستحرق بشرة الوجه‪ .‬وفكر‬
‫في أن شفاه بيرد المتشققة لن تتحسن في ذلك اليوم‪.‬‬
‫منتظرا األخ ويذربي للبدء في المسير‪ .‬كان ويذربي يضع معطفه وقبعته‬
‫ً‬ ‫وقف مع الباقين‬
‫واإلنجيل تحت إبطه‪ ،‬وكان معه القماش الخاص بلف تود فيرمان «والنعش» الذي سيحتويه‪.‬‬
‫لم يكن إيفانز يعرف سبب انتظار ويذربي‪ ،‬ما لم يكن ذلك من أجل السير مباشرة من مكانه‪.‬‬
‫وحينما تردد صدى الصوت العميق‪ ،‬عاد إيفانز بذاكرته إلى األمس وتذكر قسم ربيكا بأنها لم‬
‫شا» طيبًا‪ ،‬أفضل بكثير مما سبق صنعه‬ ‫تعد بحاجة إلى هذا الصندوق (النعش)‪ ،‬لقد كان «نع ً‬
‫في ميسوري‪ .‬وشع ر براحة في ذهنه وهو الذي قام بصنعه‪ ،‬وشعر بعض الوقت بأنه قد نسي‬
‫الحزن في قيامه بإعداد الصندوق وطرقه‪ ،‬وشعر بأن الشعور الذي يجتاحه اآلن يجتاح ديك‬
‫ضا‪ ،‬الذي كان قد ذهب مع باتش وفيرمان الختيار بقعة لحفر القبر‪ .‬وقام هو وباتش بحفر‬ ‫أي ً‬
‫القبر إلى عمق كبير؛ حتى ال تستطيع الذئاب الوصول إليه‪ ،‬ثم أهيلت عليه األتربة والقاذورات‬
‫حتى تغطيه‪.‬‬
‫رفع إيفانز رأسه‪ ،‬أما األخ ويذربي فقد كان يتلو صًّلته ويقول إن الرب يعمل بطرقه الغامضة‬
‫الخاصة ‪-‬التي تعبر عن الحقيقة الواضحة‪ -‬وحاول إيفانز أن يتتبع آثار كلمات ويذربي‪ ،‬ولكن‬
‫ذهنه كان يبتعد‪ ،‬ويسأل عدة أسئلة ويستعيد الكثير من الصور واألشياء التي شاهدها‪ .‬كانت‬
‫ربيكا ومسز بروور قد قامتا بغسل الجسد الصغير ولفه في القماش ثم نقله إلى الصندوق‪،‬‬
‫وجلستا طوال الليل بجوار الجثمان‪ .‬وفي الصباح وفد أفراد الركب يقدمون اللحوم والخبز‬
‫والحلوى ووسائل الراحة لفيرمان وزوجته اللذين كانا قد جلسا في هدوء مطلق والحزن يخيم‬
‫وأخيرا تحدثت ربيكا إلى جوديث طالبة منها أن تذهب لتغفو ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ولكن جوديث لم‬ ‫ً‬ ‫عليهما‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬واعتقد إيفانز أنها ستنام‪.‬‬
‫تبق ً‬
‫كانت ليلة طويلة وقاسية‪ ،‬فقد كان كل شيء هادئًا باستثناء عواء الذئاب البعيدة‪ ،‬وكان النسيم‬
‫الرفيق يأتي بين حين وحين ليسمع همسات الموت فيبتعد بعيدًا عن هذا المكان‪ ،‬ولكن نسمات‬
‫الوقت والمسافة واألشياء التي كانت موجودة كانت تردد صداها في كل مكان‪ .‬كان الجميع‬
‫يسمعون جوديث تنتحب باكية فقيدها ويشعرون بالرثاء لها‪ .‬وكان إيفانز يتألم أشد اآلالم بهذا‬
‫الحزن الذي اكتسح المكان‪ ،‬ولكن كان من الواجب حصر هذا الحزن داخل الخيمة حتى ال‬
‫يتسرب إلى جميع أفراد الركب‪ ،‬فيؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها‪« - .‬فلينم قلبك مستري ًحا‪..‬‬
‫ضا‪ ..‬يوجد في دار الرب العديد من الجنان والقصور»‪.‬‬ ‫إنك تؤمن باهلل‪ ،‬فلتؤمن بي أي ً‬
‫قصور! لماذا يهتم غًّلم صغير بأي قصر؟ لقد كان صدر أمه الحنون هو أفضل وأحسن قصر‬
‫له‪ ،‬ولكن هللا يعمل بطرقه الغامضة الخاصة‪ .‬اتركها هلل‪ ،‬لم يكن هناك أي صوت‪ ،‬اترك كل‬
‫شيء هلل‪.‬‬
‫شعر إيفانز بالحزن المتعب‪ ،‬وبقوة ربيكا التي كانت تقف بجانبه‪ ،‬ويديها تضمهما إلى صدرها‪،‬‬
‫وكانت عيناها منتفختين وتعكسان البؤس‪ ،‬واألرق واإلجهاد‪ ،‬وظن في هذه اللحظة أنها تفكر‬
‫نظرا‬
‫مركزا على براوني؛ ً‬ ‫ً‬ ‫في وليدها الثاني الذي توفي بعد عام من المرض‪ ،‬وترك أملهما‬
‫ألن ربيكا لن تنجب بعد ذلك‪.‬‬
‫كان براوني يقف بالطرف اآلخر‪ ،‬وكانت تبدو في نظراته الدهشة من تطور األحداث؛ كيف‬
‫ً‬
‫وجميًّل في الحياة‪،‬‬ ‫يمكن اإلنسان أن يشرح البنه الصغير الذي يتوقع أن يرى كل شيء طيبًا‬
‫كل شيء عن الحياة اليومية إلى األبد؟ إنه يستطيع أن يقول إن ذلك كان إرادة هللا‪ ،‬التي ربما‬
‫تكون ذلك ‪-‬ولكن هذا األمر قد يبدو كما لو كان يقول‪ :‬إنه ال يفهم وال يدرك األمور‪ ،‬التي ال‬
‫يدر كها بالفعل‪ .‬وعلى هذا الوضع يمكن القول بأنه يشعر بجهل األمر وال يصلح أن يكون أبًا‬
‫يستطيع أن يفسر كل وسائل طرق الحياة‪ ،‬والوفاة‪.‬‬
‫كان األخ ويذربي حتى ذلك الوقت يؤدي صًّلته‪ ..‬دعهم يتقبلون مشيئتك وإرادتك‪ ..‬دعهم‬
‫يحصلون على الراحة ويستمدون القوة منك‪ .‬والحب منك‪.‬‬
‫انح نى فيرمان أمام إيفانز بالقرب من التابوت ألداء صًّلته‪ ،‬وكان هؤالء األشخاص يبعدون‬
‫ً‬
‫قليًّل عن الناس الذين كانوا ينسحبون والحزن واأللم يعتصرهم‪ .‬وفي الوقت الذي كان إيفانز‬
‫يراقبهم فيه وهم ينسحبون‪ ،‬كانت جوديث تنكمش في نفسها وتطلق صياحها‪.‬‬
‫كانت الصًّلة هي خاتمة اإلجراءات باستثناء أهزوجة صغيرة ‪ -‬من التراب إلى التراب‪ .‬وأخذ‬
‫إيفانز يفكر في هذا الوضع‪ ،‬في حين كان األخ ويذربي يرفع رأسه ويشير بيده ويصيح بصوت‬
‫قوي‪ ،‬كأنما منحه الشعور بالحزن قوة تفوق قوته العادية‪:‬‬
‫‪ -‬لقد خلق هللا كل شيء‪ ..‬وهذا هو الخير‪ ..‬ولكن لتنزل لعنة هللا على األفعى وعلى سمها‪.‬‬
‫الكتاب المقدس؟ هل كانت لعنة آدم مقدسة؟ أو أن هناك ً‬
‫قوال بأن الناس يعتقدون أن األفعى‬
‫تزحف من جحرها وتموت؟ لم يكن هذا هو ما يهم المجموعة؛ إذ إن األفعى قتلت حين قذفها‬
‫براوني بالحجارة‪ ،‬وقد يكون شخص آخر قد قام بذلك‪ .‬كان براوني قد أمسك بالمجراف في‬
‫يده حين سمع بأخبار تود وظل يضرب به بعض األفاعي ذوات األجراس‪ ،‬ثم أحضرها ميتة‬
‫في هذا المجراف‪ .‬وهز إيفانز رأسه له كأنما يقول له إن قتله هذه األفاعي هو أول عمل يفعله‪.‬‬
‫وكان هناك المزيد من الصًّلة بعد هذه اللعنة‪ ،‬والكثير من االنحناءات والمزيد من طلب الراحة؛‬
‫ألن هللا يعرف طريق الصواب‪ ،‬وألنه يعرف أن طريق الخطأ سوف يتًّلشى ويختفي‪ ،‬لم يمتنع‬
‫ويذربي حتى في موعظة الجناز من تجفيف عرقه مرة أو مرتين‪.‬‬
‫ثم أنشدت أهزوجة‪« :‬لقد ولى اليوم وأدبر» وهي أهزوجة ينشدها الصغار حين الدفن‪ ،‬فقام‬
‫ويذربي بنظمها وترديدها بصوت يعكس السنين‪ ،‬ثم اشتركت معه بقية األصوات‪ .‬كان الوهن‬
‫والضعف يبدوان على الواقفين بجوار الصخرة وعلى المنطقة التي يقفون فيها‪ ،‬وعلى‬
‫الجاموس البري الذي يرعى‪ ،‬وعلى النسيم الذي يأتي من أماكن غير محدودة متج ًها إلى أماكن‬
‫أخرى غير محدودة‪:‬‬
‫ذهب اليوم وأدبر‪..‬‬
‫وظهرت ظًّلل المساء‪..‬‬
‫فهل نستطيع جميعًا أن نتذكر‪..‬‬
‫ليلة الموت التي تزحف علينا؟‬
‫وضعنا مًّلبسنا جانبًا‪..‬‬
‫لنستريح على فراشنا‪..‬‬
‫فالموت سينزع عنا قريبًا مًّلبسنا‪..‬‬
‫وكل ما نمتلك هنا‪..‬‬
‫امنحنا األمن هذه الليلة يا إلهي‪..‬‬
‫وأبعد عنا مخاوفنا‪..‬‬
‫ولتحرسنا المًّلئكة ونحن نيام‪..‬‬
‫إلى أن تبدو أضواء الصباح‪.‬‬
‫سار إيفانز ومعه سمرز وباتش وماك وهم يحملون الصندوق‪ ،‬ثم أنزلوه في الحفرة بالحبال‪،‬‬
‫وانحنى ويذربي فوق األرض ليلتقط بعض األتربة ويرشها فوق النعش ويتلو «من التراب إلى‬
‫التراب» فانهارت جوديث مرة أخرى‪.‬‬
‫انصرف الجمهور بعد ذلك ليعودوا إلى عرباتهم استعدادًا للمسير‪ ،‬وظل إيفانز وديك يهيًّلن‬
‫األتربة فوق القبر‪ ،‬ويحمًّلن ما تبقى من قاذورات إلى النهر‪ ،‬ثم قال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬إن هللا لطيف بعباده‪ ،‬وهو يعكس رحمته بطرقه الخاصة‪.‬‬
‫ثم أخذ يهز قطعة القماش التي بيده ليزيل عنها األتربة‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك يجب أن تؤمن بالسماء كلية أو تتركها‪.‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تؤمن به‪ .‬إن هذا الطفل ال يهتم بأي شيء‪.‬‬
‫ولما استمع إيفانز إلى حديث ديك‪ ،‬شعر بأن هناك شيئًا لم يكن يعرفه من قبل‪ ،‬كان لطيفًا وجافًّا‬
‫معًا‪ ،‬وكلتا الصفتين توضحان بعضهما البعض إذا فكرت فيهما معًا‪.‬‬
‫وضع ديك قطعة القماش فوق ذراعه وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ا ستمر‪ ..‬امنحني بعض الوقت لكي أقوم بإعداد القبر بطريقة ال تسمح لعين أي هندي أن‬
‫تلتقطه‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬ولكن دعني أحمل عنك هذا القماش‪.‬‬
‫ثم اتجه إيفانز إلى المعسكر‪ ،‬وفي منتصف الطريق شاهد براوني يحضر لمقابلته‪.‬‬
‫فقال له براوني وهو ال يزال على بعد نحو ست خطوات منه‪:‬‬
‫‪ -‬بابا؟‬
‫‪ -‬ماذا بك يا بني؟‬
‫‪ -‬لقد قمت بفك الخيمة وبنقل جميع األمتعة إلى العربات وربط الثيران بها‪.‬‬
‫‪ -‬أفعلت ذلك؟‬
‫‪ -‬وهذا ليس دوري مع الماشية‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني؟‬
‫‪ -‬هل أستطيع أن أبقى ألقوم بحفر اسمي فوق الصخور؟‬
‫‪ -‬كان عندك األمس بأسره يا براوني‪.‬‬
‫‪ -‬ليس كله؛ إذ كنت أقوم بالحراسة‪ ،‬وقتلت أفاعي وقمت بأشياء أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬هذا عمل ليس آمنًا‪.‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا والدي‪ ..‬إن به ما يكفي من األمن‪ ..‬وستراقبني طوال الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا فكرت فجأة في حفر اسمك على الصخر؟‬
‫‪ -‬هذا ما طرأ بي اآلن يا والدي‪.‬‬
‫كان إيفانز يًّلحظ أن براوني ال يود أن تلتقي عيناه بعيني والده‪ ،‬وكان الغًّلم ممس ًكا بشيء ما‬
‫في يده في الخلف‪ ..‬إن فكرة سخيفة مثل هذه الفكرة تجعل اإلنسان يشك في قيام غًّلم بها‪،‬‬
‫ولكنه ابتسم لبراوني الذي كان ينتظر كلمته‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنك تقوم بعمل رجل يا بني‪ ،‬وأعتقد أنك تستطيع أن تقرر ذلك بنفسك‪ ...‬وعليك أن تسرع‪،‬‬
‫إنني ال أهتم بالزمن الذي أتركك فيه وحيدًا‪.‬‬
‫فقال براوني وهو يظهر سروره السريع‪:‬‬
‫شكرا لك يا والدي‪ ..‬سوف أنتظر تحرككم‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬احترس من الهنود‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫ثم اتجه إيفانز بعد ذلك إلى خيمة فيرمان‪ ..‬كانت الخيمة الوحيدة الباقية من غير إزالة بعد‪،‬‬
‫وكان فريق فيرمان نفسه هو الفريق الوحيد الذي لم يستعد بعد‪ ،‬فوقف إيفانز عند المدخل‪ ،‬ثم‬
‫ولج الخيمة حيث شاهد جوديث جالسة فوق الفراش وقد غطت وجهها بيديها‪ ،‬في حين كان‬
‫فيرمان واقفًا ال حركة فيه‪.‬‬
‫‪ -‬أليست بيكي هنا؟‬
‫فلم يجبه فيرمان‪ ،‬لذلك استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع أن أساعدك يا شارلز؟‬
‫ومرت لحظة أخرى قبل أن يجيب فيرمان‪.‬‬
‫‪ -‬ستعود مرة أخرى‪ ،‬سأتولى إعداد كل شيء بنفسي‪.‬‬
‫‪ -‬أستطيع أن أقوم بإعداد فريقك اآلن‪ ..‬جميع حاجاتي على استعداد‪.‬‬
‫وسمع إيفانز صوت انتحاب جوديث وسط الصمت العميق‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل سأتولى ذلك بنفسي‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن نتحرك اآلن يا شارلز‪ ..‬أنت تعرف أننا يجب أن نتحرك‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بعد‪ ..‬أرجوك‪.‬‬
‫جاء الصوت من فم يملؤه البكاء وتخنقه العبرات‪ ،‬ووجه تغطيه اليدان‪ ،‬كان صوت جوديث‬
‫الذي استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال نستطيع أن نتركه بعد‪ ،‬أال تلمس ذلك بنفسك! ال نستطيع أن نتركه‪.‬‬
‫ثم انفجر فيرمان يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ونحن ال نعرف أين يرقد‪ ..‬ولن نعرف أبدًا أين يرقد‪.‬‬
‫ثم قالت جوديث‪ ،‬وهي تتحدث إلى القبر‪:‬‬
‫‪ -‬تودي‪ ..‬تودي أيها المسكين‪.‬‬
‫كان صوت فيرمان جافًّا وقاسيًا حين قال‪:‬‬
‫‪ -‬أال ترى؟ أال تستطيع أن تدرك؟‬
‫رأى إيفانز أن األمر سيكون طيبًا بعد أن أدرك كل شيء‪ ،‬وشاهد ديك سمرز يومئ برأسه‬
‫ضا‪ ،‬بعد أن أصبح داخل الخيمة‪ ،‬وتقدم في صمت بوجه صامت حزين‪ ،‬وبعد أن ذهب من‬ ‫أي ً‬
‫عينيه الوميض والبرق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬إننا رهن إشارتك دائ ًما يا سيدتي في أي وقت‪.‬‬
‫الفصل الثامن عشر‬
‫قاد سمرز الركب‪ ،‬وبدأت العربات تدور في طريقها‪ ،‬وكان فيرمان قد قام بإعداد فريقه للمسير‪،‬‬
‫في حين كان الرعاة يصيحون ويصفرون في الخلف وهم يمتطون جيادهم وسط الحيوانات‪،‬‬
‫التي كانت تقضم آخر مضغة لها في هذا المرعى‪ ،‬ثم بدأت الماشية في التحرك والتجمع في‬
‫القطاع الواقع بين «إندبندس روك» و«سويت ووتر»‪.‬‬
‫امتطى براوني جواده وأخذ يراقب الركب وهو يستعد للتحرك‪ ،‬ثم اندفع إلى األمام حتى وصل‬
‫إلى نهاية الركب وساعد في دفع طابور األبقار‪ ،‬وأخذ يحرك يده للركاب وهو يسير إلى‬
‫المنحدر الموجود في الجهة الغربية من الصخرة التي يستطيع أي إنسان أن يتسلقها‪ ،‬مع‬
‫ضرورة االنتباه إلى المنحدرات التي قد تؤدي إلى كسر العظام وتحطيمها‪.‬‬
‫وهبط من فوق جواده الذي ربطه في جذع شجرة‪ ،‬وكان يأمل أن يحقق ذلك بعيدًا عن طنين‬
‫الذباب‪ ،‬وكانت الشمس قد أصبحت قاسية بالنسبة ليوم عمل‪ ،‬كان هناك بعض الذباب األصفر‬
‫أو الرمادي ذي العيون البارزة والظهر الًّلمع‪ ،‬وكانت له أجنحة بيضاء جعلت الماشية تجفل‬
‫وتندفع كالمجنونة‪ ،‬كانت هذه الحشرات الطائرة قد نمت داخل مستنقعات األنهار‪.‬‬
‫وضع براوني بندقيته فوق الصخرة‪ ،‬ثم أسند معوله ومطرقته‪ ،‬ثم وقف فوق الصخرة‪ ،‬وأخذ‬
‫ينفض يديه فوق سرواله‪ ،‬ثم يلتقط مطرقته ومعوله وبندقيته‪ ،‬وكان يعتقد أنه لن يكون بحاجة‬
‫للبندقية‪ ،‬بل كانت ستعوقه‪ ،‬لذلك قرر أن يتركها‪.‬‬
‫وخطرا‪ ،‬أكثر من الخطورة نفسها‪ ،‬وتوقف في اندفاعه حينما تذكر قول‬
‫ً‬ ‫أمرا صعبًا‬
‫كان التسلق ً‬
‫ديك سمرز‪« :‬إن خير وسيلة لتسلق أصعب وأقسى األماكن هو السير والتسلق بحذر‪ ،‬خطوة‬
‫حذرة تليها خطوة أخرى‪ ،‬وهكذا‪ »..‬أخذ يتطلع حوله‪ ،‬ثم جلس وهو ال يزال ممس ًكا بالمطرقة‬
‫والمعول‪.‬‬
‫كان الركب قد استعد لًّلتجاه نحو بوابة الشيطان «ديفيل جيت» التي لم تكن بوابة في حقيقة‬
‫األمر‪ ،‬وإنما مجرد فراغ في صخرة أو في مرتفع الجبل‪ .‬ركب ديك سمرز في المقدمة كالعادة‪،‬‬
‫وسار ببطء‪ ،‬تار ًكا مسافة معينة بينه وبين العربة األولى‪ .‬وجد ديك أن األمر سهل‪ ،‬وكان‬
‫سرواله يميزه‪ ،‬وهو ممسك ببندقيته ويسير بتؤدة‪ .‬أما المرافقون له فقد كانوا أقل ثباتًا مثل‬
‫بوتر‪ ،‬ودافيز وورث‪ ،‬وأنسيكو‪ ..‬الذين كانوا قد اعتادو الرعي‪ ،‬ويتوقعون القليل من المزاح‬
‫والهزل وهم يبحثون عن الجاموس البري؛ لكي يحصلوا على اللحوم الًّلزمة للركب لتجفيفها‬
‫صغيرا يسبح‬
‫ً‬ ‫قبل عبور الممر‪ ..‬شاهد براوني الجاموس يقف بعيدًا عن الركب‪ ،‬كان قطيعًا‬
‫في شمس الصباح‪.‬‬
‫كانت العربات تسير متأرجحة في الطريق المعوج بسبب مرور العجًّلت فوق بعض‬
‫األحطاب‪ .‬كان دورتي وعربته الحمراء تسير في المقدمة تتبعها عربتا فيرمان ثم والدته‬
‫ووالده‪ ،‬ثم هولدريدج أو جورهام‪ ،‬وتادلوك‪ .‬جرى براوني بناظريه على طول الركب في‬
‫سيره‪ ،‬ولم تكن هناك أي وسيلة لكي يهرب بروور وحاشيته عن ناظريه‪ .‬وكان بيرد ودورتي‬
‫ضا‪.‬‬
‫يسيران ووراءهما عدد من األطفال‪ ،‬وماك بي أي ً‬
‫أغلق براوني عينيه وأخذ يفكر‪ ،‬إنه يعرف عربة ماك بي ألن «ميرسي» كانت تقودها‪ ،‬كان‬
‫ضا ويشعر بجسدها الصغير القوي‪ ،‬ووجهها‬ ‫يراها من هذه المسافة وهي مرتدية ثوبًا فضفا ً‬
‫الذي ال يبتسم‪ ،‬وعينيها اللتين تتحدثان‪ .‬تذكر في هذه اللحظة صوتها في تلك الليلة في الرامي‬
‫وكلماتها التي قالتها‪:‬‬
‫‪ -‬سأكون على أحسن حال يا براوني‪.‬‬
‫وتذكر نغمتها الطيبة الرقيقة‪ ،‬وتساءل عما إذا كان غيره قد سمع صوتها بالحًّلوة نفسها‬
‫والطراوة التي سمعها ولمست شغاف قلبه‪ .‬ديفيز وورث؟ هيج؟ بوتر؟ موسى؟ أي واحد من‬
‫الرجال اآلخرين؟ أو ربما المتزوجين منهم مثل ماك الذي يشعر بتقديره واحترامه لرقته ولطفه‬
‫مع عائلته؟ كًّل‪ ،‬كان شعوره وحده هو الذي يدفعه لذلك‪ ،‬وكان قد امتنع عن القيام بأي عمل أو‬
‫انتظارا للفرصة التي يستطيع فيها التحدث إليها‪.‬‬
‫ً‬ ‫تصرف‬
‫كانت الخيول والبغال تتبع العربات التي يقودها هيج‪ ،‬وويلي بروور‪ ،‬وتسير خلفها الماشية في‬
‫جماعات‪ ،‬في حين كان جورهام‪ ،‬وماك بي‪ ،‬وشيلدز‪ ،‬وباتش يراقبونها‪ .‬عبر جميعهم النهر‬
‫الذي يؤدي إلى البوابة‪.‬‬
‫وجاءت األتربة خلفهم لتغطي بقية الطريق من الخلف‪ ،‬وتدفعها الرياح إلى األمام‪ .‬كانت منطقة‬
‫غريبة حيث تندفع الرياح مثل اندفاع السحب الكثيفة في السماء‪.‬‬
‫كان على وشك التسلق مرة أخرى‪ ،‬حينما شاهد كلبًا يقفز بعيدًا عن الركب‪ ..‬لقد كان «روك»‬
‫الذي أخذ يعدو فوق الشجيرات الصغيرة الذي جاء إليه ليرى ما إذا كانت األمور تسير معه‬
‫سيرا حسنًا‪ ،‬فقال له وهو يصيح وسط الرياح‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هنا يا روك‪ .‬هنا أيها الولد‪.‬‬
‫ثم مال إليه ً‬
‫قليًّل وهو يناوشه‪:‬‬
‫‪ -‬إنني هنا‪ ،‬لقد جئت لمقابلتك مثلما أتيت أنت لمقابلتي‪.‬‬
‫كان روك قد جاء إليه عبر النهر‪ ،‬فأخذ ينفض عنه ما علق من مياه وأتربة‪ ،‬ويحك رأسه بقدمه‪،‬‬
‫ويلمس راحة براوني بأنفه البارد‪:‬‬
‫‪ -‬ال يوجد أمامي أي عمل لكي تسرع‪ .‬أال تعرف ذلك؟ ولكني أعتقد أنك قد عرفت أنني قد‬
‫تضايقت من الوحدة‪ ،‬لذلك أتيت أنت لتزيل عني هذه الوحدة‪.‬‬
‫كانت هذه الكلمات تبدو ضعيفة بسبب قوة الرياح وبُعد المسافة‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن أقوم اآلن بجميع عمليات التسلق‪ .‬هل تستطيع أن تقوم بذلك أيها الغًّلم؟‬
‫ثم تقدم بضع خطوات إلى األمام ونادى روك الذي رفع رأسه ً‬
‫قليًّل وظهر التفكير العميق يبدو‬
‫في عينيه الزرقاوين‪ ،‬ثم تقهقر ً‬
‫قليًّل وتحفز للوثوب‪ ،‬ثم اندفع إلى األمام بقوة‪ ،‬وتعلق بصخرة‬
‫أسرع مما يستطيع أي إنسان أن يفعل‪.‬‬
‫طائرا؟ ليس معك أي شيء تحمله‪ ،‬تذكر هذا‪ ،‬ال مطرقة وال معول‪،‬‬
‫ً‬ ‫‪-‬م ً‬
‫هًّل يا روك‪ .‬هل تظنني‬
‫بل أنت بمفردك‪.‬‬
‫ظل براوني يتسلق بناء على نصيحة ديك‪ ،‬وكان روك يتبعه بقفزات صغيرة ليلحق به أو‬
‫ليسبقه‪ ،‬ثم يتوقف ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ووجهه يتساءل‪ :‬لماذا يسير بطيئًا هكذا‪ .‬وبعد ذلك ظل يعدو كما لو‬
‫كان واثقًا من الطريق نفسه‪.‬‬
‫واجه براوني الشمس عند القمة‪ ،‬وكانت ترتفع في كسل وسط السماء الزرقاء حتى إنه ال يمكن‬
‫وصف درجة هذه الزرقة‪ ،‬وكانت تبدو كما لو كانت ساكنة أو مستقرة في مكانها‪ .‬كانت األسماء‬
‫قليلة في هذا المكان‪ ..‬محفورة‪ ،‬أو مجرد خدشات سطحية في الصخر‪ ،‬أو مكتوبة باللونين‬
‫األحمر واألسود‪ .‬كان معظم الرجال قد اختاروا قاعدة الصخور في الشمال والجنوب حيث‬
‫يستطيعون الوقوف فوق صناديق أو فوق األرض عند كتابة هذه األسماء‪.‬‬
‫وأخيرا وجد المكان الذي يناسبه‪ ،‬والذي يشبه حافة قدح الشاي‪ ،‬وال توجد به آثار الفرشاة أو‬
‫ً‬
‫المطرقة‪ .‬وقبل أن يجلس ليبدأ عمله‪ ،‬وقف يتطلع حوله والرياح تلفح رأسه‪ .‬كان يرى من هذا‬
‫المكان قمم األماكن البعيدة وحافتها‪ ،‬في حين أنه لم يستطع مشاهدة أماكن أخرى بسبب احتجابها‬
‫وراء أماكن بعيدة ومرتفعة؛ لم يستطع ً‬
‫مثًّل أن يشاهد صخرة نيللي القديمة التي تكافح الذباب‪،‬‬
‫كما لم يستطع أن يرى الركب وهو يزحف‪ ،‬أو حتى مكان المعسكر السابق أو قبر تود‪ .‬كانت‬
‫هناك بعض الصخور والرياح وبعض األصوات البعيدة‪.‬‬
‫مر بإبهامه فوق حافة المطرقة التي سيحفر اسمه بها‪ ،‬كان هذا هو الطريق السليم‪ ..‬سيضع‬
‫أوال ثم اسمه‪ ،‬واليوم والشهر والعام‪ ،‬ثم يضعها جميعًا داخل إطار حتى يمكن أن تضم‬‫اسمها ً‬
‫هذه الصخرة اسميهما م ًعا إلى األبد‪.‬‬
‫كانت تضايقه منذ وقت بعيد‪ ،‬ولكن اهتمامه بها بدأ من فترة مضت! آه‪ ..‬لقد كان حل ًما يا‬
‫براوني‪ ..‬كان تحقيقًا لشيء معين‪ ..‬وهكذا يعودان زو ًجا وزوجة ليتسلقا هذه الصخرة‪ ،‬وليريها‬
‫ما سبق أن كتبه‪ ،‬وهو يقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬ها هي ذي أمامك‪ ..‬لقد حفرتها في عام خمسة وأربعين‪.‬‬
‫فتقبله‪ ،‬واللطف والرقة يبدوان في عينيها‪ ،‬وهي تضحك من قلبها وتقول‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف أنك فعلت ذلك يا براوني‪ ..‬إني أعرف دائ ًما أنك قد فعلت ذلك‪ ،‬ولكني أود أن أعرف‬
‫كيف كنت تهتم بي؟‬
‫كانت عملية حفر حرف واحد تستغرق وقتًا أكثر مما يظنه اإلنسان‪ .‬لم تكن ضربات المطرقة‬
‫أثرا أبيض ضعيفًا‪ ،‬إلى أن شعر بالتعب في يده وفي المطرقة‬‫على «األزميل» ال تترك إال ً‬
‫وأخيرا رأى أنه يجب أن يضرب ضربات قوية‪.‬‬‫ً‬ ‫نفسها‪،‬‬
‫كان روك يقفز وراء بعض الطيور أو عصفور الدوري أو ما شابه ذلك‪ ،‬ثم يعود ليرقد مرة‬
‫أخرى ورأسه بين يديه ويتثاءب‪.‬‬
‫ً‬
‫طويًّل‪.‬‬ ‫‪ -‬انتظر ً‬
‫قليًّل يا فتى‪ ،‬لن يستغرق األمر وقتًا‬
‫ً‬
‫جميًّل‪ ..‬ثم بدأ يعمل في آخر الحروف بعد أن‬ ‫استطاع أن يخط اسمها أول األمر‪ ..‬كان األمر‬
‫ثبت ذراعه لكي تكون عنده قوة أخرى جديدة‪ ،‬وهو يفكر فيما عسى أن يظنه رجال الركب إذا‬
‫عرفوا سره‪ .‬كانوا سيبتسمون فيما بينهم‪ ،‬أو يتندرون بذلك‪ ،‬كما لو كان شعوره ليس سوى‬
‫عبث أطفال ليس فيه شيء من الجدية‪ .‬إنه لن يسمح لهم بمعرفة ذلك‪ ،‬ولن يسمح حتى لوالده‬
‫أو والدته بمعرفته إلى أن يحين الوقت المناسب لذلك‪ ،‬حين يختلف الوضع‪ ،‬ثم يستطيعان‬
‫مشاهدة ذلك واالستهزاء به والضحك منه‪ ،‬ثم وجه حديثه إلى الكلب‪:‬‬
‫‪ -‬أنا وأنت ف قط اللذان نعرف هذا السر يا روك‪ .‬هل تعتقد أن ذلك تصرف سليم من جانبي‪.‬‬
‫أليس كذلك؟‬
‫بصبص روك بذيله‪ ،‬وأخذ يهزه ببطء ردًّا على هذا السؤال‪.‬‬
‫هو وحده وروك والطيور الصغيرة‪ ،‬والشمس المترقبة‪ ،‬وربما ميرسي نفسها بحدس المرأة‪،‬‬
‫أو ربما إذا صممت هي وبعض النساء على المجيء لكتابة اسمها أو بمفردها لنقش اسميهما‬
‫معًا‪.‬‬
‫كان يود أن يكتب اسم جورج براون إيفانز‪ ،‬ولكنه قرر أن يخط االسم التالي ميرسي ماك بي‪-‬‬
‫براوني إيفانز‪ ٢ :‬من يوليو عام ‪ ،١٨٤٥‬وأخذ يعمل بأزميله ومطرقته مرات ومرات‪ ،‬في حين‬
‫كانت الشمس ترتفع جميلة في كبد السماء‪.‬‬
‫وقبل أن يتم عمله‪ ،‬نهض روك على قدميه األماميتين متج ًها بنظره إلى الجنوب وهمهم بصوت‬
‫مغلق‪ ،‬ويشم بصوت مسموع في الرياح‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تشم يا فتى؟ حيوان؟ أو شيء يشبه ذلك؟‬
‫لم يكن هناك شيء أمام عينيه سوى ما كان موجودًا من قبل‪ ،‬ولكن الشيء الذي يكون روك قد‬
‫ضا‪ .‬وجلس وهو على ثقة تامة بأن أنفه على حق‪.‬‬‫شمه يستطيع أن يشمه بنفسه أي ً‬
‫وأخذ يدق بمط رقته مرة أخرى‪ ،‬وانتهى اآلن من كل شيء‪ ،‬ثم جلس يستريح فترة طويلة‬
‫ويجفف عرقه‪ ،‬وبدأ ينهض بعد ذلك وهو يتحدث إلى روك ويقول له إن النحت تم على خير‬
‫ما يرام‪ .‬وطلب منه أن يتجها إلى الركب‪ ،‬ولكن الكلب بصبص بذيله ورفع رأسه وتقدم خطوات‬
‫وأخذ يهمهم ويشمشم بحثًا وراء ما شك أنفه فيه‪.‬‬
‫‪ -‬ما الذي تهدف إليه يا روك؟ هل تحاول إخافتي؟ هل أصبحت قطة خائفة؟‬
‫وبدأ براوني ينصت بدقة فسمع صوتًا بعيدًا‪ ..‬فوضع اإلزميل والمطرقة في يده‪ ،‬وتقدم خطوات‬
‫صغيرة‪ ،‬وبدأ ينزل من فوق الربوة وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هيا بنا أيها العجوز األبله!‬
‫نظر روك إلى أسفل‪ ،‬ثم عاد إلى مكانه وهو يشمشم ويهمهم بصوت مسموع‪ ،‬ثم ترك المكان‬
‫مرة أخرى وبدأ يهبط مرة أخرى‪ ،‬ووصل إلى مكان البندقية‪ .‬ولم يبق أمام براوني سوى دقيقة‬
‫واحدة وينضم إلى الركب‪ .‬أما روك فقد بدأ الجفاف يظهر في نباحه‪ .‬وفي هذه اللحظة عرف‬
‫سبب زمجرة الكلب؛ إذ شاهد الهنود يتسلقون من سويت ووتر‪ ،‬وكانت وجوههم مرفوعة تتطلع‬
‫إليه‪ ،‬فتجمدت أوصاله‪ ،‬وأصابه الدوار‪ ،‬في حين قفز روك وأخذ يعدو‪.‬‬
‫استطاع أن يستدير ليرى أفواههم وهي مفتوحة حين رؤيته‪ ،‬ويرى أذرعتهم تتحرك لتمسك‬
‫بالقوس‪ .‬كان يستطيع أن يجري ويقفز أو أن ينال رم ًحا في ظهره‪ ،‬لم يكن يفصل بينه وبين‬
‫جواده نيللي سوى قفزة طويلة يمكن أن تكسر ساقه فيها‪ ،‬أو أن يلحق به الهنود قبل أن يستطيع‬
‫أن يمتطي جواده‪ .‬وخرج صوته من غير وعي يصيح‪:‬‬
‫ي يا روك‪.‬‬
‫‪ -‬عد إل َّ‬
‫حاول أن يرفع ذراعه كما كان هيج أو بوتر يفعًّلن‪ ،‬ثم أخذ يهبط الهضبة وهو يكافح الخوف‬
‫الذي سيطر عليه وبدأ في مًّلمحه‪ ،‬وكان يتمنى أن تظل يداه ثابتتين‪ ،‬وقدماه مرتكزتين في‬
‫مكانهما‪ ،‬وفي هذه اللحظة نطق لسانه بلفظ‪:‬‬
‫‪ -‬هاللو‪.‬‬
‫بقي عليه خطوة بينه وبين جواده ليمتطيه ويجري هاربًا‪ ،‬ولكن الهنود كانوا قد أوقفوا جيادهم‬
‫بجوار جواده نيللي ووجوههم السمراء تتطلع إلى أعلى‪ ،‬وكانت عيونهم الضيقة تتطلع بمكر‪.‬‬
‫كانت نيللي (جواده) تحاول أن تتحرر من قيدها‪ ،‬فأخذت تشد نفسها‪ .‬وفي هذه األثناء قام أحد‬
‫الهنود بقذفها بحجر كبير‪ ،‬فوقفت ترتعش لحظة من أثر الضربة التي أصابت رأسها‪ ،‬في حين‬
‫أخذ ينزع عنها سرجها‪.‬‬
‫ثم صاح أحدهم وتًّله آخر‪ ،‬وأصبح الجميع يصيحون ويتحركون ويحركون معهم أقواسهم‬
‫ويرفعون رماحهم‪ ،‬وهم يتجهون إليه‪ ،‬في حين كانت الرياح تخفض من ارتفاع الريش الذي‬
‫كان يغطي رؤوسهم‪ .‬نقل الهندي‪ ،‬المخطط الوجه‪ ،‬السرج الذي كان فوق نيللي إلى جواده‪.‬‬
‫لم يكن أمامه أي فرصة لًّلختيار أمام الرماح واألقواس التي يوجهها الهنود إليه‪ .‬كان عقله‬
‫وجسده يبتعدان بعيدًا‪ ،‬وكان الخوف الذي طغى عليه يبدو كحلم‪ ،‬وجاءت أمام عينيه صورة‬
‫أكثر من عشرين هنديًّا عارين إال من بعض الجلود والريش‪ ،‬ورجل واحد عار وال يرتدي‬
‫سوى نعال من جلد الغزال‪ ،‬ويضع بعض الصدف حول أذنيه‪ ،‬وكان هناك عدد من الخيول‬
‫والبغال اآلسفة لهذا الموقف‪ ،‬وبعض الكًّلب التي وقفت متأهبة ومتحفزة حين رؤية روك‪.‬‬
‫أخذ براوني يهبط في طريقه إليهم‪ ،‬واألذرع تمتد إليه واألصوات تصيح فيه‪ ،‬واألعين تتطلع‬
‫إليه‪ ،‬ولكنه صاح بصوت ال أثر للخوف فيه وهو يحاول أن يكون قويًّا‪:‬‬
‫‪ -‬هأنذا يا أصدقائي‪.‬‬
‫نزع قبعته من فوق رأسه‪ ،‬ومزق قميصه‪ ،‬وشعر أنه ال فائدة من الكفاح‪ ..‬يستطيع فقط أن‬
‫يتقهقر ويحاول أن يسلك مثل الرجل الكامل غير الخائف‪ ،‬في الوقت الذي كانوا يسحبون‬
‫رماحهم ويوجهونها إليه‪.‬‬
‫استطاع أن يميز صوت روك الضخم وسط أصوات الهنود وصراخهم‪ ،‬وعرف أنه أصيب‬
‫بأذى في عراكه مع كًّلب الوولف الهندية‪ .‬هبط روك إلى أسفل وأخذ يدور إلى األمام والخلف‪،‬‬
‫ً‬
‫محاوال االبتعاد عن بقية الكًّلب‪ ،‬ثم عاد ليقف أسفل‬ ‫ويكشر عن أنيابه ويصيح صياحه المروع‬
‫حزمة من األحزمة‪ ،‬وكان يبدو كأنه كان قد خرج لتوه من الغرق في المياه‪ ،‬ثم أخذ ينتفض‬
‫ً‬
‫قليًّل إلزالة ما علق به‪ ،‬ووقف بعد ذلك استعدادًا ألي ٍ‬
‫تحد بكبرياء وعظمة‪.‬‬
‫مقدرا له أن يموت؛ إذ كان هناك الكثير من األسنان‪ ،‬وكان التحدي أكبر من أن يستطيع‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫مواجهته‪ ..‬كان سيموت من غير أي وجل أو هرب أو طلب للرحمة أو حتى للمساعدة التي له‬
‫الحق فيها‪ ..‬كان سيموت مأسوفًا عليه‪ ،‬في حين كان الهنود الوجلون يقفون ليشاهدوا ما يدور‬
‫بعد أن أوقفوا كل دعاباتهم‪.‬‬
‫شعر براوني بثقل في جيبه‪ ،‬وعرف فجأة أنها المطرقة التي لم تؤخذ منه بعد‪ ،‬فأخرجها وهو‬
‫يؤرجحها ويصيح من غير أن ينبس بأي كلمة ويضرب بها رؤوس الكًّلب‪ .‬لم يستغرق هذا‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬ولم يبق من كًّلب الهنود سوى اثنين فقط وليا أدبارهما قبل‬ ‫العمل منه ومن روك وقتًا‬
‫أن يصابا بأي أذى‪ ،‬فركع براوني بجوار روك فوجد أن إصابته رديئة للغاية‪ ،‬فأمره بأن يقف‬
‫خلفه بعد أن شاهد الهنود يقبلون عليه‪.‬‬
‫أمسك بالمطرقة بقوة وهو يعتقد أنهم قد أتوا لقتل روك‪ ،‬ولكنهم أشاروا إليه‪ ،‬وأخذوا يهمهمون‬
‫ويهزون رؤوسهم كما لو كانوا يقدرون شجاعته‪ .‬ومرت دقيقة شعر براوني بعدها بتهليل‬
‫وترحيب‪.‬‬
‫وكان هذا مجرد مقدمة تحولوا بعدها إليه وأمسكوا بيده لينزعوا منه المطرقة ويسوقونه أمامهم‪،‬‬
‫وهو يصيح في روك أن يبتعد‪ .‬كان هناك رجًّلن يقفان خلفه رافعين رماحهما‪ ،‬وبدأ اآلخرون‬
‫يتحدثون بأصوات أكثر هدو ًءا عن ذي قبل‪ ،‬ثم اختلطوا أمامه وهم يلوحون بأسلحتهم‪ ،‬باستثناء‬
‫الشخص الذي كان يخطط وجهه والذي كان قد ذهب لقتل الكًّلب التي أصبحت عاجزة‪.‬‬
‫ولما عاد إلى الجمع كان صوته أكثر قوة وعنفًا‪ ،‬فاندفع الجميع نحو براوني وهم يشهرون‬
‫رماحهم وبندقية قصيرة وأخرى طويلة‪ ،‬كما لو كانوا ينوون قتله في الحال‪ ،‬ولكنهم أحاطوا‬
‫به‪ ،‬فشعر بالقسوة في أعينهم‪ ،‬ولكنه جلس بهدوء وهو يحاول التغلب على مخاوفه‪ .‬كان جميع‬
‫الهنود يصيحون ويرقصون وهم يشهرون رماحهم استعدادًا إلطًّلقها‪ ،‬في حين كان قلب‬
‫براوني يدق بعنف‪ ،‬على الرغم من أنه كان يبدو هادئًا‪ ،‬ال أثر للخوف عليه‪ .‬كان التوتر يبدو‬
‫وينعكس على وجوههم وأعينهم المتعطشة للدماء وعًّلمات الحرب‪ ،‬وكان هناك رجل هندي‬
‫كبير السن ذو أنف مثل منقار الصقور وعينين مثل عيني الصقر‪ ،‬تحدث إلى الهنود الثًّلثة‬
‫كأنه يؤنبهم ويبعدهم عن براوني‪ ،‬ولكن وجهه لم يكن يعكس الطيبة التي لم تكن موجودة على‬
‫أي وجه من الوجوه‪ ..‬اعتقد أنه يستطيع أن يسمع المزيد أو يراقب الوضع أو يمتنع عن إظهار‬
‫مخاوفه‪ .‬ومضت ساعات وهم يلوحون بما في أيديهم ويندفعون نحوه‪.‬‬
‫كانت الشمس قد بدأت تنحرف فوق رؤوسهم متجهة نحو الغرب ومستقرها‪ ،‬وكان الركب‬
‫يسير في مكان ما‪ ،‬في حين كان شعبه يفكر في المعسكر‪ ،‬وفي العشاء‪ ،‬وفي الراحة‪ .‬وفي هذا‬
‫الوقت امتطى ديك جواده للبحث عن أخشاب وماء‪ ،‬وكان من المتوقع أن يكون والده ووالدته‬
‫في غاية القلق بشأنه؛ ألنهما لم يشاهداه بينهما‪.‬‬
‫وفي هذه األثناء شعر براوني بالبكاء ينفجر داخل نفسه‪ ،‬فأخذ يكتمه في حلقه‪ ،‬وقال في نفسه‪:‬‬
‫ألدع الساق التي ترغب في الهروب أن تقفز‪ ،‬وألدع الذراع التي ترغب في الصراع أن‬
‫تصارع‪ ،‬والصدر ليتلقى روحه‪.‬‬
‫وبينما كان متأرج ًحا بين الجلوس والقيام بالعمل؛ إذ مات الصياح الذي كان الهنود يصدرونه‬
‫وتحولت الرؤوس وإشارات األيدي‪ ..‬لقد كان ديك سمرز الذي كان قد جاء تلبية لصًّلة أو‬
‫دعاء‪ ..‬ديك سمرز الكبير‪ ..‬جاء يقفز بجواده متج ًها إلى حيث يقف الهنود كاشفًا عن رأسه‬
‫وشعره الفضي الذي يلمع في ضوء الشمس‪ .‬لم يكن ديك يخشى شيئًا أو هنديًّا أو أمة بأسرها‪،‬‬
‫لقد جاء لينقذه ويحرره من أسره‪ ..‬وتوقفت وأخرست همهمات الهنود‪ ،‬بينما صاح ديك صيحة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫أوقف ديك جواده‪ ،‬ثم تركه يسير ببطء ليقترب من مكان التجمع‪ ،‬ثم التقط بندقيته وأعدها‬
‫لًّلنطًّلق‪ ،‬وأخرج غليونه وتظاهر بأنه يحشوه بالطباق‪ ،‬واستمر في سير جواده ببطء إلى أن‬
‫أصبح على مسافة عشرين خطوة‪ ،‬فشد اللجام ليوقف جواده‪.‬‬
‫لم يكن يبدو عليه أنه على عجل في حديثه‪ ،‬وكانت عيناه تجريان حول الهنود تفحصهم بدقة‪،‬‬
‫ثم تتطلع إلى الصخرة التي تقف عن يمينه‪ ،‬كان صوته أجش‪ ،‬وبدأت يداه تتحركان بسرعة‪،‬‬
‫ثم تطلع بسرعة إلى براوني‪ ،‬وأخذ يتحدث بلغة هندية‪ ،‬واختتمها بكلمة وجهها إلى براوني‪:‬‬
‫‪ -‬ال تنزعج يا بني‪ ،‬إنني أقوم بالحديث عن دواء‪.‬‬
‫أجابه الهندي ذو الوجه الذي يشبه الصقر وهو يشير بيديه ويصيح مثلما كان يفعل ديك سواء‬
‫بسواء‪ ،‬وكانت البندقية القصيرة مرفوعة في يد الهندي الصغير السن ويهزها‪ .‬أخذ براوني‬
‫يتسلل بهدوء من غير أن يفطن إليه حراسه‪.‬‬
‫وتحدث ديك مرة أخرى‪ ،‬فترة كانت تبدو طويلة‪ ،‬وهو يشكل بيده بعض األشكال ويتحرك فوق‬
‫صهوة جواده‪ ،‬ثم يشير بأصبعه إلى حيث يجب أن يكون الركب‪ ،‬فاعتقد براوني أن هذه هي‬
‫طريقته في الحديث‪ ،‬فأجابه ذو الوجه الذي يشبه وجه الصقر إجابة قصيرة‪ ،‬ثم رد عليه ديك‬
‫بدوره‪ ،‬ثم مرت فترة صمت حتى حطمه الهندي الخائف لكي يناقش الوضع‪ ،‬على الرغم من‬
‫موقف ديك‪ .‬شجع هذا الوضع الزميلين اآلخرين اللذين أسرعا بمساندة الرجل ذي وجه الصقر‪،‬‬
‫وكانت ألسنتهم تجري بكلمات كثيرة‪.‬‬
‫وعاد ديك إلى حديثه القصير‪ ،‬في حين كانت أعين الهنود تراقبه وتراقب بندقيته‪ ،‬فدوت بندقيته‬
‫وانطلقت رصاصة منها لتصيب بعض الطيور التي تسقط على الفور ودماؤها فوق الصخور‪،‬‬
‫طائرا آخر يسقط‪ ،‬ثم عادوا إلى النظر إلى‬
‫ً‬ ‫فرفع الهنود أيديهم إلى أفواههم والتقطت أعينهم‬
‫ديك‪.‬‬
‫وعاد ديك إلى التحدث باللغة الهندية ليتلقى إجابة هادئة‪ ،‬ثم قال لبراوني‪:‬‬
‫‪ -‬أسرع يا بني‪ ،‬اقفز فوق جوادك‪ ..‬نيللي‪.‬‬
‫‪ -‬لقد استولوا على بندقيتي وسرجي‪.‬‬
‫‪ -‬اتركهما لهم واحمد هللا على أن أبقوا على جلدك وشعرك‪.‬‬
‫لم يعترض أي هندي على براوني حينما قام بفك لجام نيللي وامتطى صهوتها‪ ،‬وهو ينادي‬
‫روك‪ .‬كانوا يراقبونه في صمت‪ ،‬ثم ذهبوا إلى جيادهم التي كانت قد اتجهت إلى ضفة النهر‬
‫لترعى‪.‬‬
‫سار براوني في محاذاة ديك‪ ،‬في حين امتطى ذو الوجه الصقري والشخصان اآلخران خيولهم‪،‬‬
‫وسار باقي األفراد خلفهم بهدوء ما عدا بعض الهمهمات‪ ،‬ثم قال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬إن هؤالء السود من السيوكس أو التيتون الذين نشئوا في أصلهم من السيوكس‪.‬‬
‫‪ -‬ديك؟‬
‫‪ -‬يوجد المعسكر في مكان قريب من هنا‪ ،‬لقد كانوا في هذا المكان منذ لحظات‪.‬‬
‫‪ -‬ديك؟‬
‫‪ -‬تكلم يا غًّلم‪.‬‬
‫‪ -‬إنني جد شاكر لجميلك‪ ،‬أعتقد أنك تدرك ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لم يكن ذلك شيئًا يذكر‪.‬‬
‫‪ -‬ديك؟‬
‫‪ -‬إن هذا الطفل يستمع‪.‬‬
‫‪ -‬لم يكن هناك أي أمل أمامي يا ديك‪.‬‬
‫‪ -‬كيف كان ذلك؟‬
‫‪ -‬إنني أشعر براحة حين أخبرك بأنني أخجل من نفسي‪ ،‬كنت خائفًا للغاية‪.‬‬
‫وضع ديك يده فوق ركبة براوني وهو يًّلطفه‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك يا بني‪ ،‬كل إنسان تأتي عليه لحظة خوف ورهبة‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بالدرجة التي شعرت بها‪.‬‬
‫‪ -‬لقد رأيتك تتسلل لتضرب هذا الهندي وتبعده عن موضعه إذا لزم األمر‪.‬‬
‫أخذ ديك ينظر حوله‪ ،‬ليس كما يبدو من أجل التأكد من أنه ال يوجد أي إنسان يتبعهما من‬
‫الخلف‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تأخذ حذرك من هؤالء السود؛ إذ قل أن يحترم السيوكس آراء زعمائهم‪.‬‬
‫‪ -‬كيف تستطيع أن تفعل ذلك يا ديك؟‬
‫وقبل ان يجيبه ديك عن سؤاله‪ ،‬كان هو والزعيم يتبادالن الكلمات‪.‬‬
‫‪ -‬سألتهم قبل أي شيء‪ ،‬هل شاهدوا كبار رجال الحرب والمقاتلين‪ ،‬أعني كيرني ورجاله‪.‬‬
‫‪ -‬هل رأوهم بالفعل؟‬
‫فهز ديك رأسه‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ثم أخبرتهم بأننا نتحدث باللهجة نفسها‪ ،‬وأننا نقتل أي واحد من أعدائهم إذا تقابلنا معه وخاصة‬
‫«بًّلك فيت»‪ ،‬وقلت لهم إن عندنا بعض األتربة الحمراء التي يطلون وجوههم بها‪ ،‬وبعض‬
‫الكميات من مياه النار (أقصد بها الويسكي) المصنوعة من الخشب المنقوع؛ لهذا السبب ابتعدوا‬
‫وانصرفوا بصفة مؤقتة‪.‬‬
‫وأخذ ديك يتحدث إلى الهنديين اآلخرين اللذين كانا يواجهانه‪ ،‬بثقة وراحة تامة‪ ،‬كما لو كان‬
‫يتحادث مع صديق قديم‪ .‬ووصلوا إلى النهر فتركوا جيادهم تشرب من مياهه‪ ،‬ثم اصطفوا بعد‬
‫ذلك في وجه الشمس الذهبية‪ ،‬ولم يكن براوني قد الحظ حتى هذه اللحظة أن الرياح قد بدأت‬
‫تخف وتتًّلشى وتنتهي‪ .‬كان األمر يبدو مثل الرياح التي تهب قوية وبطريقة جنونية‪ ،‬ثم تهدأ‬
‫قليًّل‪ ،‬ولكن في حالة نفسية طيبة‪ .‬خاطبه ديك ً‬
‫قائًّل إنه تصرف‬ ‫وتنتهي بسًّلم وتتركه متعبًا ً‬
‫بحكمة وعقل‪ ،‬فكل إنسان يصاب بالذعر والرعب في أول مواجهة له لمثل هذا الوضع‪.‬‬
‫وقال براوني ردًّا عليه‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن أنظر إليك لكي تطلق النار‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل سوف يقفون موقفًا صار ًما إذا‬ ‫‪ -‬لم يكن كيرني لطيفًا معهم‪ ،‬وقلت لهم إن معي ثًّلثين‬
‫أصابك أي مكروه‪ ،‬وكل منهم يستطيع أن يطلق النار ويصيب الهدف بدقة مثلي سواء بسواء‪.‬‬
‫وكان ذلك حينما أطلقت بندقيتي على الطائر‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا كان يحدث لو أنك لم تستطع إصابة الطائر؟‬
‫امتقع وجه ديك‪ ،‬وقطب جبينه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ك انت الخطوة التالية هي أن أقول كم أنا مسرور بمًّلقاة المسيح‪ ،‬ثم أصافح صديقي براوني‬
‫إيفانز‪.‬‬
‫وتًّلشت االبتسامة من وجهه‪ ،‬تاركة وراءها أثر الدعابة الطيبة‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك ال تنظر إلى هذه البندقية يا براوني‪ ،‬إنها بندقيتي الثانية‪ ،‬وبها ماسورتان انطلقتا‬
‫في وقت واحد لتصيب الطائر وال تترك فرصة لضياع الهدف‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل التاسع عشر‬
‫مبكرا قبل أن تدب الحياة في المعسكر‪ ،‬وجلس بهدوء وهو يشعر بأن كل شيء‬ ‫ً‬ ‫استيقظ إيفانز‬
‫على ما يرام‪ ،‬وبأنه بحاجة إلى بعض الراحة بعد تعب أمس الطويل‪ ،‬وليستريح من معرفته‬
‫بأن براوني عاد سال ًما إلى المعسكر‪ ،‬على الرغم من اصطدامه بالسيوكس‪ ،‬وكان يعتقد أنه إذا‬
‫دقق السمع الستطاع أن يسمع صوت تنفس براوني وهو يغط في نومه فوق سرير تحت السماء‬
‫بالقرب من الخيمة‪.‬‬
‫وبينما كان يصغي؛ إذ جاءه صوت تحرك خفيف عرف فيه صوت تحرك روك الذي نهض‬
‫مبكرا ليرى ما يسفر عنه الصباح‪ .‬كان الظًّلم مخي ًما داخل الخيمة‪ ،‬لدرجة أنه لم يعرف أن‬
‫ً‬
‫ربيكا تنام بجواره إال باهتزاز جسدها حينما تتنفس‪ .‬كان من المفروض أن يكون هناك ظًّلم‬
‫ضا‪ ،‬وكانت أسرار الليل ال تزال باقية كما هي؛ ألن الشمس لم تكن قد أشرقت بعد‬‫بالخارج أي ً‬
‫لتنهي هذا الظًّلم‪.‬‬
‫ترك عضًّلته ترتخي طلبًا للراحة‪ ،‬وبدأ يترك الثقة تغمره‪ ،‬واألمل يتضاعف في نفسه‪ ،‬والثقة‬
‫في رحلة أوريجون وفي الجميع‪ .‬سوف يواجهون المزيد من المشكًّلت؛ إذ ال تزال أمامهم‬
‫أصعب مرحلة من الرحلة‪ ،‬وعليهم أن يتسلقوا أقصى أنواع الصخور والمرتفعات ويعبروا‬
‫األنهر الكبرى‪ ،‬األمر الذي يتطلب المزيد من القوة والهدف‪.‬‬
‫ولكنه كان يشعر باطمئنان؛ ألن جميع األمور قد سارت حتى اآلن في طريق سليم‪ .‬من الممكن‬
‫أن يتغير اإلنسان في يوم أو حتى في ساعة بسبب فقدانه األمل وهبوط معنوياته‪ .‬كان باألمس‬
‫يرغب في إنهاء الرحلة بعد أن غلبه اليأس واعتصره القلق‪..‬‬
‫كان يود أن يعود إلى حياته القديمة في ميسوري‪ ،‬لم يستطع أن يبقى ساكنًا من غير البحث عن‬
‫براوني‪ ،‬على الرغم من أنه كان يعرف أن ربيكا ترمقه وتراقبه من مجلسها في العربة الثانية‬
‫والخوف يطغي عليها ويشل تفكيرها‪ .‬كانت صخرة «إندبندس» قد تًّلشت بعد أن عبر الركب‬
‫البوابة‪ ،‬ولم يكن هناك شيء يثير االنتباه في اتجاه الشرق سوى البقعة المرتفعة التي وصلوا‬
‫عند مقاطع الجبال التي كان يفصلها سويت ووتر‪ .‬كان يستطيع أن يرقب كل ما حولهم في‬
‫المناطق السهلة والمرتفعة‪ ،‬والسهل الذي تكسوه الشجيرات الصغيرة‪ ،‬واستطاع أن يلمح‬
‫«سبلت روك» على مسافة بعيدة‪.‬‬
‫كان يشعر بالقلق واالنزعاج‪ ،‬ماذا يمكن أن يكون قد حدث له؟ كان الوقت مناسبًا لكي يعود‬
‫براوني‪ ،‬ولكنه لم يعد؛ إذ أصبح من المقدر أن يكون قد حفر أسماء جميع أسماء الركب األحياء‬
‫واألموات على السواء‪.‬‬
‫ترك الخوف والرعب جانبًا‪ ،‬على الرغم من أنهما كانا يسيطران عليه ‪-‬إن األفاعي ذات‬
‫األجراس تنتشر في كل مكان‪ ،‬وهي على استعداد ألن تصيب حتى أي جواد‪.‬‬
‫ولكنه أخذ يحدث نفسه بأن هذا الوهم قد سيطر عليه بعد حادث تود ووفاته‪ ،‬ومع ذلك فإن‬
‫المخاوف سيطرت عليه‪ ،‬لذلك كان من الواجب أن يذهب مع سمرز ويأخذ معه بعض‬
‫قادرا أن يواجه‬
‫األشخاص‪ ،‬مع أن سمرز رفض هذه الفكرة‪ .‬كيف يستطيع سمرز مهما يكن ً‬
‫مجموعة من السيوكس؟ كان يجب أن يبعد مؤقتًا فكرة الوصول إلى أوريجون‪ ..‬إن أوريجون‬
‫ال تعني أي شيء من غير براوني‪ ،‬كما أنها ال تعني أي شيء بالنسبة لفيرمان بعد أن فقد تود‪.‬‬
‫كانت األشكال التي ظهرت أمامه مثل «سبلت روك» تبدو خطيرة وصعبة وعارية‪ ،‬قرمزية‬
‫تحذيرا بعدم السير أكثر من ذلك‪ ..‬أين يكون الغًّلم اآلن؟‬
‫ً‬ ‫اللون أسفل أشعة الشمس‪ ..‬قد تكون‬
‫نفض عن نفسه هذا التفكير النسائي‪ ..‬كانت تبدو عليه المرارة ويشعر بحرج موقفه بالنسبة‬
‫لبراوني والركب نفسه والمنطقة بأسرها‪ ،‬والعمل بأسره‪ .‬كانت ميسوري أفضل بكثير من هذا‬
‫الوضع‪ ..‬ميسوري والعمل الممكن الذي ال يختلط به القلق‪.‬‬
‫عاد مرة أخرى وتحدث مع ربيكا وهي على الفراش ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنني سأعود من حيث أتينا مرة أخرى‪ ،‬ما دمت تشعرين بالضيق والعصبية‪.‬‬
‫‪ -‬إنك أنت العصبي‪.‬‬
‫فأجابها وهو ينحني‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ .‬لست عصبيًّا‪.‬‬
‫‪ -‬ال ترقد يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أرقد‪ ..‬ولكنه سيكون على أحسن حال‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أصلي هلل أن يكون ذلك صحي ًحا‪ .‬هل تستطيع أن تأخذ معك بعض الرجال‪.‬‬
‫‪ -‬آه‪.‬‬
‫‪ -‬هًّل فعلت ذلك يا ليجي؟‬
‫‪ -‬أ عتقد ذلك‪ ،‬وأنت تشعرين هكذا بالعجز التام؟ عليك أن تقودي الركب في طريقه‪ ،‬في حين‬
‫أتولى أنا البحث عن الغًّلم‪.‬‬
‫خرج ونادى بعض الرجال وربط الثيران في عربته وحياها‪ ،‬ثم حمل بندقيته وخرج‪.‬‬
‫‪ -‬هل ستأخذ أحدًا معك يا ليجي؟‬
‫‪ -‬ال تقلقي نفسك بهذا الشأن‪ .‬عليك فقط أن تراقبي فريقك‪.‬‬
‫استمر في سيره متوقعًا أن يستعير جوادًا من أحد أفراد الركب‪ ،‬ولما وصل إلى منتصف سيره‬
‫شاهد بعض الرؤوس ترتفع وسط الماشية وعرف فيها بعض الهنود‪ .‬لم يتحقق من ذلك‪ ،‬لذلك‬
‫انتظر والهلع يتملكه ويسيطر عليه‪ ،‬وشاهد شخصين يختلفان عنهما يسيران في الوسط‪ ،‬كان‬
‫أحدهما يشبه سمرز الذي كانت عيناه تشعان قوة‪.‬‬
‫عرف ما يجب أن يفعله أي قائد في مثل هذه األوضاع‪ ،‬لذلك صاح ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬بوتر‪ .‬أحضر جوادك‪ .‬أسرع‪.‬‬
‫ثم قفز فوق الجواد وهو يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬هنود! اجمع الرجال ليدفعوا خيولهم داخل الحظيرة‪.‬‬
‫وأخذ يعدو نحو مقدمة الركب وهو يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬هنود! لنتحرك‪.‬‬
‫وبينما يقفز بجواده مطالبًا الركب بالتحرك‪ ،‬كان يواجه أمامه ميا ًها تحاصر الركب‪ ،‬لذلك حاول‬
‫تحويل الركب للسير على طول ضفة النهر وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬ليجمع كل منكم حاجاته‪ ،‬وليبق الناس بالداخل‪ ،‬سأقوم بدراسة الوضع‪.‬‬
‫دار بجواده حول المكان‪ ،‬وحول عرباته الخاصة وهو يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬بيكي‪ ،‬لقد شاهدت ديك وبراوني‪ ..‬أعتقد أنهما يبدوان على أحسن حال‪.‬‬
‫ولم ينتظر إجابتها‪ ،‬فلكز جواده وهو يستمع إلى احتجاجها لركوبه بمفرده‪ ،‬كان الرجال قد‬
‫اقتربوا من الماشية ليدفعوها إلى داخل الحظيرة وهم يتسابقون في دفعها إلى الداخل‪ ،‬وكان‬
‫إيفانز يصيح بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬ديفيز وورث‪ ،‬أدخل الخيول في الداخل‪ ،‬خذ معك اآلخرين‪ ،‬عندك ما يكفيك من الوقت‪.‬‬
‫كان القادمون هم الهنود بالفعل‪ ،‬ومعهم ديك وبراوني‪ ..‬كان براوني بالفعل وخلفه يركض‬
‫روك‪ ..‬واستمر الركب حتى وصل ديك فأوقف جواده وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬أيها الزمًّلء‪ ،‬أيها القائد‪ ،‬ال خوف من السيوكس‪.‬‬
‫ازدحم فم إيفانز بالكلمات‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن ينطق غير بضع منها هي‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنتم بخير؟ هل هم مسالمون؟‬
‫‪ -‬لن يمسوكم بأدنى أذى‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا أفعل يا ديك؟‬
‫‪ -‬أخرج غليونك وتظاهر بأنك تعبئه‪ ،‬هذه هي عًّلمة السًّلم‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫‪ -‬س أتولى أنا إقامة المعسكر وتجميع األفراد في دائرة للتحدث؛ إذ إن هناك قرية هندية قريبة‬
‫من هذا المكان؛ ألننا ال نستطيع أن نواجه قبيلة بأكملها‪.‬‬
‫‪ -‬دعهم يحضرون هنا يا براوني‪.‬‬
‫‪ -‬إنهم يرغبون في القيام بتبادل تجاري‪.‬‬
‫لم يستطع إيفانز أن يتوقف عن القول‪ ،‬حين نظر في وجوه السيوكس السوداء واألقواس‬
‫والرماح في أيديهم وعيونهم الضيقة وشعورهم المجعدة‪.‬‬
‫‪ -‬لقد أخبرتك يا بني بأن تصرفك سيكون محفوفًا بالمخاطر‪.‬‬
‫فقال له ديك‪:‬‬
‫‪ -‬اختر بعض الرجال لكي يجلسوا للتدخين مع هؤالء السود‪ ،‬ولكن ابعدهم عن المعسكر‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫‪ -‬ال يوجد أدنى خطر في هذا اآلن يا ليجي؛ ما دمنا نأخذ جانب الحذر في ذلك‪ .‬اترك بعض‬
‫الرماة عن قرب منهم؛ إذ يجب أال نأتمن رغبة الهندي في االنتقام حتى نكون في أمان‪.‬‬
‫تحدث ديك إلى الهنود الذين أخذوا يتحدثون فيما بينهم‪ ،‬وهم يجولون بأبصارهم ويتجهون إلى‬
‫إيفانز‪ ،‬كما لو كانوا يحاولون التحقق من أنه صديق أو عدو‪ ،‬ثم انسحبوا متجهين نحو النهر‬
‫في بقعة تبعد حتى منتصف الطريق بين المعسكر والنهر‪.‬‬
‫لم ينتظر إيفانز حتى يصلوا إلى هذا المكان‪ ،‬بل امتطى جواده متج ًها إلى حظيرة الحيوانات‪،‬‬
‫وأخبر ربيكا بأن كل شيء يسير على ما يرام‪ ،‬ثم بدأ يلقي بتوجيهاته وتعليماته‪:‬‬
‫‪ -‬كل شيء يسير على ما يرام‪ ،‬وسوف أقوم بإبدال بعض الخرز لبراوني‪ ،‬استريحي اآلن وال‬
‫تقلقي‪ ..‬ليس عندي وقت كاف للحديث‪.‬‬
‫كًّل من باتش وبيرد وكاربنتر وماك وجورهام‪ ،‬وهو نفسه من أجل التدخين‪ ،‬ثم نادى‬‫ثم نادى ًّ‬
‫بعد تفكير قصير على تادلوك الذي يستطيع أن يؤذي ببندقيته أكثر من إيذائه بالتدخين‪ .‬كان‬
‫االختيار مناسبًا بعد أن قرر إبقاء أفضل الرماة بجانب الحظيرة مثل دورتي وهيج وشيلدز‪.‬‬
‫وحضر الهنود على الفور يقودهم ديك‪ ،‬وكانوا يتطلعون بحذر إلى المجموعة التي ستجلس‬
‫معهم‪ ،‬وأوقفهم ديك على بُعد عشرين ياردة من المعسكر حيث التقى بهم إيفانز وبقية المدخنين‪،‬‬
‫فقال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬اجلسوا في نصف دائرة‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل‬ ‫وجلس أفراد الركب في نصف دائرة‪ ،‬وجلس الهنود في النصف اآلخر من الدائرة ما عدا‬
‫واحدًا فقط منهم ظل يقف لحراسة متاعهم وممتلكاتهم‪ .‬واختار إيفانز مكانًا بجوار ابنه براوني‪،‬‬
‫وسأله وهو يجلس‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك يا بني؟‬
‫‪ -‬لقد استولوا على بندقيتي وسرجي‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أعرف أنني يجب أال أتركك تذهب إلى الصخرة لعمل سخيف‪.‬‬
‫كان صوت إيفانز حادًّا‪ ،‬ثم استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ال بأس اآلن؛ ما دمت عدت سال ًما‪.‬‬
‫فتكلم ديك من جانب‪:‬‬
‫‪ -‬لقد انتهى الموضوع يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬ي بدو لي أن الوقت مناسب اآلن لمطالبتهم بإعادة السرج والبندقية قبل أن ندخل في حديث‬
‫معهم‪.‬‬
‫فرد عليه ديك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنك على حق‪ ،‬لقد غاب ذلك عن ذهني‪.‬‬
‫ثم تحدث إلى الهندي الكبير السن الذي يبدو عليه أنه زعيم المجموعة من هيئته ومن تصرفات‬
‫اآلخرين‪ ،‬ثم نهض أحد الشباب السيوكس واقفًا واتجه إلى معسكرهم‪.‬‬
‫وانتظر الجميع عودته في صمت‪ ،‬وكان إيفانز ينظر بين حين وحين ليستوثق من رجاله في‬
‫حالة استعداد ألي طارئ عند الحظيرة‪ ،‬وشاهد األقواس والرماح بجانب أقدام السيوكس على‬
‫حسب ما سبق أن ذكره سمرز‪.‬‬
‫ً‬
‫حامًّل السرج والبندقية ووضعهما أمام الزعيم‪ ،‬ثم ذهب ليجلس في مكانه‪،‬‬ ‫عاد الهندي الشاب‬
‫وأشار الزعيم بيده‪ ،‬ثم تحدث إلى ديك الذي قام بالتقاط األشياء المسروقة‪ .‬كان السرج قد شق‬
‫بسكين‪.‬‬
‫ظل الزعيم يتحدث بصوت مسموع ويحرك يديه‪ ،‬وبشيء من العنف وبنوع من الدبلوماسية‪،‬‬
‫ً‬
‫طويًّل في‬ ‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬على الرغم من أن ديك لم يستغرق وقتًا‬ ‫وكان األمر يبدو كأنه قد تحدث وقتًا‬
‫ترجمة هذه الكلمات‪ .‬قال ديك إن قلوب الهنود صافية وطيبة‪ .‬قالوا إن البًّلد بًّلدهم‪ ،‬ولكنهم‬
‫يتركون إخوانهم البيض يمرون ويتركونهم يقتلون الجاموس سعيًا وراء اللحوم ويرهبونها‪،‬‬
‫األمر الذي جعل الهنود يذهبون إلى أماكن بعيدة للصيد‪ ،‬في حين أن صغارهم يتضورون‬
‫عا في مساكنهم‪ .‬إن الرجل األبيض يقدم الهدايا من البارود والمساحيق والرصاص والخرز‬ ‫جو ً‬
‫وألوان الوجه‪ ..‬هذا أمر طيب‪ ..‬ليمر الرجل األبيض في سًّلم مع أنه يخلق هذه المشاكل‪.‬‬
‫عرف إيفانز أن الدور قد حل عليه ليتحدث كقائد لهذا الركب نيابة عنه‪ ،‬وبينما هو يفكر إذ قال‬
‫له ديك‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرهم بأي شيء يا ليجي‪ ،‬وسأقوم بترجمته إلى الهندية‪ .‬قل لهم إنك صديق‪ ،‬ولكن ذراعك‬
‫قوي إذا تطلب األمر‪ ،‬وأن عندك بعض الهدايا التي تقدمها لهم لتظهر لهم أنك صديق ودود‬
‫لهم‪ .‬أخبرهم بأننا نمر فقط من هذا الطريق وال نقصد اإلقامة به‪ ،‬وعبر عن شكرك إلعادتهم‬
‫براوني من غير أي أذى‪.‬‬
‫جعل إيفانز صوته يخرج بقوة‪ ،‬في حين كانت ذراعاه تعمًّلن‪ .‬كان الرجال البيض يتجهون‬
‫إلى المياه الكبرى في الغرب حيث كان آباؤهم يقيمون ويمتلكون‪ .‬إنهم قد جاءوا كأصدقاء كما‬
‫يجب أن يعرف السيوكس هذا؛ ألنهم أحضروا معهم أوالدهم وزوجاتهم‪ .‬إن الرجال ال يأخذون‬
‫معهم أطفالهم وزوجاتهم في حرب‪ ،‬لذلك فهم يمثلون ركبًا مسال ًما‪ ،‬ولكنه ركب قوي مستعد‬
‫للكفاح إذا لزم األمر‪ ،‬وقد أحضروا معهم هدايا للهنود‪ ،‬وبعض الحلي لزوجاتهم‪ ،‬وهم‬
‫مسرورون بالتدخين مع أصدقائهم السيوكس‪.‬‬
‫ظل ديك يقوم بعملية الترجمة بين الطرفين‪ ،‬ثم وجه حديثه بعد ذلك إلى براوني قائ ًًّل‪:‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تمرر عليهم اآلن الخرز ثم الطباق‪ ،‬وقد وعدتهم بالقليل من الويسكي يا ليجي‪،‬‬
‫وكان وعدي جادًّا‪ ،‬أرجو تحقيقه‪.‬‬
‫ثم ذهب إلى الحظيرة وعاد ومعه مشعل ودلو وقدح من الصفيح وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أال يكفي أن يوضع فيه الويسكي؟ أنا أقوم بسقيهم‪ ،‬وعليك أنت يا براوني أن تقدم الخرز إلى‬
‫الزعيم‪ ،‬وكذلك بعض األلوان الحمراء‪.‬‬
‫وتحدث تادلوك ليقول الكلمات نفسها التي ذكرها بقية الرجال البيض فقال‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن الويسكي يعتبر ً‬
‫عمًّل سيئًا‪.‬‬
‫‪ -‬هل األمر كذلك؟‬
‫‪ -‬هل تعتقد أن مجرد وعد سيبقيهم عند وعدهم‪ ،‬وال ينحرفون نحو الوحشية؟‬
‫وكل ما استطاع ديك أن يقوله‪:‬‬
‫‪ -‬ولكنه يكفي إلبعادهم عن الشر‪.‬‬
‫ثم أخذ ينقل الدلو بين الهنود بنفسه‪ ،‬وشرب الهنود الذين أصدروا أصواتًا تشبه أصوات الخيول‪،‬‬
‫ثم أخذوا ينظرون في الدلو بعد أن نضبت الخمر منه‪.‬‬
‫عا من حجر هندي وله ساق طويلة‪ ،‬وأخذ‬ ‫وأخرج ديك غليونه من جيبه‪ ،‬كان غليونًا مصنو ً‬
‫يشير بساق الغليون في اتجاه الشمال‪ ،‬ثم الجنوب ثم الغرب ثم الشرق‪ ،‬ثم إلى أعلى‪ ،‬ثم إلى‬
‫أسفل قبل أن يسلمها إلى إيفانز ويقول‪:‬‬
‫‪ -‬ابتدئ بالتجوال حول المكان يا ليجي‪.‬‬
‫كان كل شيء يسير هادئًا‪ ،‬فقد نهض الهنود واقفين واتجهوا إلى جيادهم‪ ،‬بعد أن دخنوا ثًّلث‬
‫أو أربع مرات من غليون ديك‪ ،‬ثم تناول ديك قطعًا ضخمة من اللحوم من التي قاموا بصيدها‬
‫وسلمها لهؤالء الهنود‪ ،‬وبعد فترة كانت النيران موقدة في الظًّلم بالقرب من النهر حيث أقام‬
‫الركب معسكره‪ ،‬وكان بعض األفراد يغدون ويروحون بين حين وحين لحراسة المعسكر‪.‬‬
‫وأخيرا رقد إيفانز في مرقده‪ ..‬القائد‪ ،‬المزارع‪ ،‬المتحدث‪ ..‬إنه ليجي إيفانز الذي لم يكن يرغب‬
‫ً‬
‫في الخطابة والحديث‪ ،‬وال يرغب في إظهار نفسه‪ ،‬بل كان يترك هذا األمر لتادلوك ليسمعه‬
‫وليراه‪ ..‬جعله هذا األمر يبدو مضح ًكا‪ ،‬وشعر بالسرور والثقة في هذه الخطابة‪ ،‬وكذلك القوة‪..‬‬
‫إن األوضاع تخلق الرجال من رغباتهم‪.‬‬
‫ضا؛ مثل لوائح هذا الركب‪ .‬لم يتحدث أي إنسان عن‬‫غيرت األمور من شأن الركب ووضعه أي ً‬
‫الويسكي الذي قدمه ديك‪ .‬اللوائح؟ إنك ً‬
‫قليًّل ما تفكر فيها‪ ،‬جعلتهم يصوتون في االنتخابات ثم‬
‫جعلتهم يكذبون‪ .‬ال ويسكي‪ ،‬ال كذب‪ ،‬ال جلد‪ ،‬وعقاب للزنا والفحشاء‪ ،‬القانون الخلقي‪ .‬كان‬
‫الركب خلقيًّا بما فيه الكفاية‪ ،‬ربما خدمت اللوائح أغراضها وبخاصة بالنسبة لغير المتزوجين؛‬
‫ونظرا ألنه لم تكن هناك أي انحرافات‪ ،‬فلم يكن هناك أي داع لتنفيذ العقوبات الواردة في‬ ‫ً‬
‫اللوائح‪ .‬شعر بالسرور والراحة فترة قصيرة‪ ،‬ولم يكن هناك داع الستخدام السوط‪ ،‬وشعر‬
‫بالراحة التامة وبرغبة في أن يضع يده بلطف فوق ربيكا زوجته‪ ،‬ولكنه لم يرغب في إيقاظها‪.‬‬
‫أيقظته من غفوته طلقة بندقية‪ ،‬فقام يهز ربيكا ويقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬حان الوقت لكي تنهضي‪.‬‬
‫ضا من نومه‪ ،‬ونهض ليلحق باآلخرين وليشرف على الحيوانات‪ ،‬فقال له‬
‫واستيقظ براوني أي ً‬
‫إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬عم صبا ًحا يا براوني‪ ..‬هل نمت بما فيه الكفاية يا بني؟‬
‫كانت الشمس قد بدأت تظهر بوضوح واستطاع أن يشاهد الطريق الذي أقام فيه الهنود‪ ،‬ولكن‬
‫لم يكن هناك أي أثر للهنود‪ ،‬بل كانوا قد اختفوا‪ .‬وبينما كان يفكر في هذا الوضع‪ ،‬إذ جاءه‬
‫تادلوك ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا على هؤالء الشياطين‪ ،‬لقد سرقوا زوجين من الخيل من عندي‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫‪ -‬كان الجوادان نحيفين‪ ،‬مما دفعني إلى تركهما خارج الحظيرة للرعي‪.‬‬
‫‪ -‬لذلك قاموا بسرقتهما؟‬
‫‪ -‬أقسم بأنني سمعتهم وهم يسرقون‪.‬‬
‫‪ -‬لعنة هللا عليهم‪ .‬هالو ديك‪.‬‬
‫كان ديك قد حضر في هذه اللحظة‪ ،‬ولم يشعر به إيفانز إال حينما التقت عيناه بعينيه‪:‬‬
‫‪ -‬لقد فقد تادلوك جوادين سرقهما الهنود‪.‬‬
‫فسأل ديك تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬اثنان فقط؟‬
‫‪ -‬أجل‪.‬‬
‫‪ -‬كان تركهما في الخارج مغامرة ومخاطرة‪.‬‬
‫عا‪.‬‬
‫‪ -‬لم أستطع أن أتركهما يموتان جو ً‬
‫‪ -‬تركهما عظا ًما خير من تركهما للسرقة‪.‬‬
‫فسأل تادلوك إيفانز عما ينوي فعله‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوي فعله اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬نتناول طعامنا‪ ،‬ثم يتحرك الركب‪.‬‬
‫‪ -‬أال تساعدني في استعادة الجوادين؟‬
‫‪ -‬إنهما ال يستحقان المغامرة يا تادلوك‪.‬‬
‫‪ -‬وخاصة أنهما ليسا ملكك الخاص‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬عليك اللعنة أيها الرجل‪ ،‬لقد كنت على وشك الرحيل حينما كان مارتن يموت‪.‬‬
‫‪ -‬كان األمر يختلف عن اآلن‪ ،‬لم نستطع مساعدته‪ ،‬ولكننا نستطيع أن نلقن هؤالء الشياطين‬
‫سا ال ينسونه‪.‬‬
‫الحمر در ً‬
‫فرد عليه ديك ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ابتعد عن السيوكس في هذه األراضي‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لم تتوقف عن التفكير في ابنك يا إيفانز‪ ،‬وهو الذي تسبب في هذه الخسارة‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟‬
‫‪ -‬لقد أوقعنا في هذه المشكلة‪.‬‬
‫أيقظت هذه الكلمات إيفانز؛ إذ لم يكن قد نظر إلى هذه األمور هذه النظرة‪ ،‬كما لم ينظر إليها‬
‫ضا‪ ،‬وشعر بأن هذا االتجاه قد يقلقه‪،‬‬
‫أي إنسان هكذا سوى تادلوك نفسه‪ ،‬وربما المحامون أي ً‬
‫لذلك انبرى يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إ نني ال أقبل منك هذا القول وال أتفق معك فيه‪ ،‬ولكني على استعداد لتركه للمجلس للفصل‬
‫فيه‪ ،‬فإذا قرر المجلس شيئًا ضدي فإني سوف أعوضك عن خسارتك‪ .‬فلم يرض تادلوك بذلك‪.‬‬
‫لذلك انبرى ديك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬دعه يذهب إلى الجحيم يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أهدف إلى فعل الحق والصواب‪.‬‬
‫فاندفع صوت تادلوك في غضب عارم‪ ،‬كما لو كان كل ما حدث له قد تجمع وتأزم في هذه‬
‫اللحظة‪.‬‬
‫‪ -‬ولكنك لن تقتفي أثر هؤالء الهنود؟‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أقتل هنديًّا أو اثنين قبل أ ن تنتهي هذه الرحلة‪.‬‬
‫‪ -‬ال معنى للقتل‪ ..‬إن ذلك هو الخطأ بعينه‪.‬‬
‫‪ -‬واحد مثل اآلخر‪.‬‬
‫‪ -‬لقد اتهمت ماك بارتكاب خطأ بقتله هنديًّا من «الكوز»‪.‬‬
‫‪ -‬ال أود أن تقوم أنت بتقدير الظروف التي كانت تختلف‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬تادلوك‪ .‬إنني رجل مسالم‪ ،‬وأقسم باهلل‪ ،‬إن األمر ليس صعبًا في دق عنقك‪.‬‬
‫‪ -‬إنها الحقيقة التي تكدرك‪.‬‬
‫‪ -‬ربما كان األمر كذلك‪ ،‬ولكننا لن نتعقب الهنود اليوم‪ ،‬وإذا كنت ترغب في السير معنا فيجب‬
‫أن تستعد من اآلن‪.‬‬
‫فبصق تادلوك على األرض وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنك القائد‪.‬‬
‫‪ -‬هذا هو ما أخبروني به‪.‬‬
‫ارتد تادلوك على عقبيه وسار بعيدًا‪ ،‬وشاهد إيفانز ربيكا وهي تراقبه‪ ،‬وكانت واقفة تذكي‬
‫النيران بأخشاب‪ ،‬وتعجب كيف تستطيع أن تسمعه مع بُعد المسافة بينهما‪.‬‬
‫فقال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬هذه هي الطريقة يا ليجي‪ ..‬تأهب دائ ًما لمواجهة أي أسود‪ ،‬ولكن يتطلب منك األمر دقة‬
‫وحز ًما‪.‬‬
‫‪ -‬هل األمر كذلك؟‬
‫‪ -‬يجب أن تكون حاز ًما‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أفكر في أنه ربما يقع جزء من اللوم على براوني‪.‬‬
‫‪ -‬هكذا تعتقد أيها المسيحي‪ ،‬إنه ليس الخيل‪ ،‬ليس الخيل بمفردها‪ ..‬ال يمكن أن يسير األمر هكذا‬
‫بسبب زوجين من الخيل‪ ..‬سيأتي اليوم الذي ستواجهه فيه يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ما زلت أقول‪ :‬إنني لن أفعل ذلك‪.‬‬
‫الفصل العشرون‬
‫كانت ضفتا «هاي سويت ووتر» مزدهرة بالزهور في اتجاه الممر الجنوبي‪ ..‬وكانت البراعم‬
‫تشير إلى الطريق إلى أوريجون‪ ،‬وسانديز بيج‪ ،‬وليتل‪ .‬وكانت المنطقة الخضراء التي أطلق‬
‫عليها الصيادون اسم البراري ‪ -‬أو سيدز‪-‬كي‪-‬دي وعرفت قبل ذلك باسم النهر اإلسباني التي‬
‫يحيط بها وتنتشر فيها الشجيرات الصغيرة‪ .‬أما قمم المنطقة فتكسوها الثلوج التي تقف في وجه‬
‫الرياح وحيدة وشامخة‪ ،‬كما اعتقدها ديك سمرز حينما شاهدها ألول مرة وعليها ندبة‪ .‬وال شك‬
‫أن الندبات واآلثار التي تتركها عجًّلت العربات تترك أعماقها فوق سطح األرض‪ .‬كانت‬
‫صخرة «الوندز» ترتفع عارية وشامخة في وجه الشمس تتحمل جميع العوامل التي تنتشر‬
‫بانتشار الغسق‪ ،‬والتي تخفي الوديان العالية حيث كان سمرز ينصب فخاخه وهو الذي يخفي‬
‫خجله من اختفاء كًّلب الماء‪ ،‬على الرغم من كثرتها ووفرتها في يوم من األيام في تلك‬
‫المنطقة‪.‬‬
‫وكان إذا حاول استنشاق الهواء‪ ،‬اشتم رائحة دخان يتصاعد من شواء األفاعي‪ ،‬وشاهد نيرانًا‬
‫صغيرة يجلس أمامها جيم ديكنز وبون كاديل‪ ،‬في حين كانت اللحوم تفوح منها رائحة الشواء‪.‬‬
‫وكان إذا ما أخذ يستمع إلى ما حوله وجد واستمع إلى أصوات هرمة تصيح فيما بينها وأصوات‬
‫صغيرة تضحك من األعماق غنية بالقوة‪ ،‬وتصيح بأصوات تعلو أصوات سباق الخيل الذي‬
‫ينظمه الهنود‪ ،‬وكذلك األصوات السهلة العميقة التي تصدرها نساء الهنود‪ .‬كان الدخان يتصاعد‬
‫من المعسكر في «هيابيل» و«هيابيك» وتنعكس ظًّللها فوق األعشاب الخضراء وفوق الجياد‬
‫التي ترعى في فترات الصباح‪ ،‬في حين كانت الذئاب البيضاء تعوي في الليل‪ ،‬في الوقت الذي‬
‫كان الجميع يجلسون وعلى أكتافهم البطاطين البيضاء‪ ،‬وهم يستعدون للصيد‪.‬‬
‫مات ديكنز‪ ..‬واختفى كوديل‪ ،‬ولم يتبق من بقية رجال الجبال الذين كانوا ينتشرون في المكان‬
‫كثيرا في رؤيتهم‪ ،‬وعلى وجوههم آثار السنين‪ ،‬في حين كان‬ ‫سوى حفنة قليلة‪ .‬لم يكن يرغب ً‬
‫هو يعود إلزكاء النيران بواسطة بعض الويسكي‪ ..‬كان ذلك منذ زمن مضى وانتهى‪ ،‬كان رجل‬
‫الجبال إذا قدر له أن يعيش مثل جو ووكر الذي التقى به في أثناء سير الركب قد تغير لدرجة‬
‫وقادرا‪ ،‬ولكنه كان كئيبًا‬
‫ً‬ ‫لم يستطع معها سمرز أن يعرفه‪ ،‬وكان على الرغم من ذلك قويًّا‬
‫وحزينًا ألن عالمه قد ولى وأدبر‪ ،‬كما هو الحال مع توم فيتز باتريك‪ ،‬الذي سيقابلونه وهو يقود‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫قافلة الكولونيل كيرني عائدًا من معركة‪ .‬لم يكن توم أحد األشخاص الذين يتعلقون‬
‫بمشاعرهم‪ ،‬ولكن وجهه كان يعكس الكثير من الذكريات‪.‬‬
‫لم يكن سمرز يشعر حتى تلك الفترة بالراحة؛ ألن المنطقة الخضراء الشاسعة األطراف كانت‬
‫ً‬
‫أحماال خفيفة‪ .‬فهل تستطيع العربات‬ ‫صعبة حتى بالنسبة للصيادين والخيول التي ال تحمل إال‬
‫والثيران أن تشق طريقها؟ أو الزارعون أو سكان المدن والنساء واألطفال الذين لم يتعودوا‬
‫ذلك؟‬
‫ق طع ديك بعد ذلك تفكيره في الذكريات القديمة‪ ،‬وأخذ يتأمل في األميال األربعين الجرداء‬
‫الجافة التي سيقطعها الركب قبل أن يصل إلى المنطقة الخضراء‪ ..‬كانت الرياح تعصف بما‬
‫حارا وجافًّا لدرجة تجعل اإلنسان يصاب بضربة‬
‫حوله وتصفع وجهه بقوة‪ ،‬وكان النهار يبدو ًّ‬
‫شمس‪ ،‬أما الليل فهو بارد وقارس؛ ألن ذلك كان طبيعة جو الصحراء‪ ،‬ولكن كان كل ما يهم‬
‫هو المياه في تلك المنطقة أو الرغبة فيها‪ ..‬لم تكن هناك أي جرعة في أي مكان ألي إنسان أو‬
‫حتى حيوان‪.‬‬
‫قال سمرز أمام المجلس الذي جمعه إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أعرف‪ ..‬وأعتقد أننا نستطيع أن نثابر في هذا الطريق ونتحمل‪ ،‬على الرغم من صعوبته‬
‫وقسوته‪.‬‬
‫فسأل ماك‪:‬‬
‫‪ -‬وإذا لم نستطع؟‬
‫‪ -‬ال تقل ذلك‪ ..‬لن يكون هنا أي عجز في تحقيق ذلك‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إن األمر يبدو سيئ ًا على ما أعتقد‪ ،‬أكثر من أي وضع سابق؟‬
‫‪ -‬ليس هناك احتمال آخر‪.‬‬
‫ً‬
‫محتمًّل أن نواجهه فيما مضى؟‬ ‫‪ -‬هل هو أسوأ مما كان‬
‫‪ -‬هناك الكثير من الصعوبات التي سوف نواجهها يا ليجي بعد عبورنا فورت هول‪.‬‬
‫‪ -‬إن الوقت قد حان لكي نذوق قسوة جهنم‪.‬‬
‫وافق تادلوك على ذلك بقوله‪:‬‬
‫‪ -‬إننا ال نقوم بهذه الرحلة من أجل الترفيه والمتعة‪ ..‬ربما نستطيع أن نفوق الركب الذي سبقنا‬
‫ونتخطاه‪.‬‬
‫حارا في النهار‪ ،‬سنجد أنفسنا مضطرين للسير ً‬
‫ليًّل‪.‬‬ ‫‪ -‬إذا كان الجو ًّ‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إننا ال نرهب أو نخشى الليل والظًّلم يا ديك‪.‬‬
‫لذلك قرر الجميع العمل على تخفيض المسافة بعمل جريء‪ ،‬وكان سمرز يشعر بالقليل من‬
‫القلق؛ ألنهم لم يكونوا يعرفون هول وقسوة وبشاعة الرحلة في هذه المرحلة‪.‬‬
‫كانوا قد عبروا «ليتل ساندي» من غير أي شعور بالقسوة‪ ،‬واتجهوا بعد ذلك نحو «بيج ساندي»‬
‫بعد أن مألوا جميع أوانيهم والبراميل بالمياه‪ ،‬وانتظروا حتى تًّلشت الحرارة من الجو‬
‫وانتشرت البرودة‪ ،‬بعد أن اختفت الشمس أو كادت‪ .‬في الساعة الرابعة على حسب توقيت‬
‫ساعة إيفانز قام سمرز بقيادة الركب في طريقه‪.‬‬
‫قام الجميع بالسير في طريقهم طوال الليل يدوسون فوق الشجيرات الصغيرة‪ ،‬ويعبرون قاع‬
‫البحيرات القديمة ويجرون فوق الحصى والرمال‪ ،‬وكانت األتربة ترتفع عالية لتغطي‬
‫أجسادهم‪ ،‬في حين كان القمر يرتفع عاليًا في السماء‪ ،‬ثم تعب من مراقبة الركب فمال إلى‬
‫مرقده ليغيب بضوئه عن األرض‪ ،‬وليتركها سوداء قاتمة بسبب ظًّلم الليل تار ًكا سمرز‬
‫يتعجب مما إذا كان يستطيع أن يشق طريقه السليم بوساطة أحاسيسه وانفعاالته فحسب‪.‬‬
‫ولما أشرقت الشمس وأرسلت أشعتها فوق الصحراء توقف الركب وترك الجميع ماشيتهم ق ً‬
‫ليًّل‬
‫طا من الراحة وليغوصوا‬ ‫ليتناولوا إفطارهم من اللحم المجفف والخبز الجاف ولينالوا قس ً‬
‫بأقدامهم في الرمال طلبًا للراحة‪ ..‬كان هذا جز ًءا من برنامج الراحة‪ ،‬وكانت الشمس تزداد حدة‬
‫من خلفهم ومن أمامهم لتجعل المسافة أمامهم تبدو كما لو كانت ترقص‪.‬‬
‫لم يتذكر في حياته أنه شاهد مثل هذا اليوم‪ ،‬وتذكر سمرز أنه لم يشاهد مثل هذه الحرارة‬
‫ً‬
‫وأمياال للصيد وعاد‪ ،‬ثم ركب وعاد‪ ،‬ولكنه لم ير‬ ‫ً‬
‫أمياال‬ ‫والقسوة من قبل‪ .‬كان قد ركب من قبل‬
‫في حياته مثل هذا اليوم‪ .‬وكان في داخل نفسه يحث نفسه على استمرار السير‪ ..‬االستمرار في‬
‫السير‪ ..‬أو الموت‪ ..‬السير من أجل الوصول إلى «جرين»‪ ..‬السير وسط األتربة والرمال‬
‫المتصاعدة‪ ،‬بغض النظر عن اإلرهاق الذي يصيب الثيران‪.‬‬
‫يسارا أو يمينًا‪ ،‬أو في الطريق المباشر؟ وكيف‬
‫ً‬ ‫ثم أخذ سمرز يفكر‪ ،‬يفكر بعمق وقوة؛ هل يسير‬
‫يسارا‪ ..‬لقد كان‬
‫ً‬ ‫كان هذا الحال منذ فترة مضت؟ ال يمكن أن يخطئ‪ ،‬ولكن كيف حالها اآلن؟‬
‫هذا هو الطريق‪ ،‬فليوجه الركب إلى االتجاه نحو اليسار‪.‬‬
‫كانت ابنة ماك بي تبدو مريضة‪ ،‬تظهر على وجهها الشاحب قطرات العرق وهي جالسة بجوار‬
‫العربة‪ ..‬انهضي أيتها الفتاة‪ ،‬واركبي العربة‪ .‬هل تريدين أن تصابي بضربة شمس؟‬
‫أما وجه هنري ماك بي فقد غطته الرمال واللحية‪ ،‬كما غطت الرمال المتحركة وجوه اآلخرين‬
‫التي تتصبب عرقًا‪ ،‬في حين كانت تدفقات الدم تظهر فوق الوجنتين‪ ،‬ويظهر الفراغ التام في‬
‫أعين النساء الباحثة عن قطعة أو جزء من الظًّلل‪ ،‬ثم سقط ثور من غير أن يجيب على‬
‫السوط‪ .‬وكانت عيناه كبيرتين وحزينتين‪ .‬اقتله‪ ،‬اقتله رحمة به‪ ،‬وجاء غيره ليحل محله‪ ..‬إن‬
‫ثورا واحدًا ال يعد يا بروور في هذا الركب‪ ..‬لنستمر في سيرنا إلى «جرين»‪.‬‬
‫ً‬
‫شعر فيرمان بقسوة الجو ولهيبه‪ ،‬فنام في عربته‪ ،‬في حين كانت امرأته تصيح‪ .‬وظهر الجفاف‬
‫على جلد وبشرة وجهي كل من دورتي وبيرد‪ ،‬وتشققت الشفاه اآلن! أبدل الثيران التي أحنت‬
‫سيرا حثيثًا أيتها النساء‪ ..‬ألستن ترغبن‬
‫رؤوسها وهي تسير طالبة الماء لتروي ظمأها‪ ..‬سرن ً‬
‫في الوصول إلى أوريجون؟ صل لنا أيها األخ ويذربي‪ ،‬وال تعترض على إرادة مشيئة هللا‪.‬‬
‫عرف سمرز أن هذا الركب قوي في هدفه وعزمه‪ ،‬على الرغم من ضعفه الجسدي‪ .‬وكانت‬
‫ربيكا إيفانز تسير قوية ومشدودة تبدو كأنثى الفرس‪ ،‬في حين كان ليجي يساعد اآلخرين بقدر‬
‫طاقته‪ ،‬ويشجعهم‪ ،‬في حين كانت الرمال تغطي وجنتيه العريضتين‪ ..‬وكان كل من باتش‬
‫وشيلدز وتادلوك يلعنونه‪ .‬وكانت الرمال واألتربة تغطي نساءهم ورعاة األبقار‪ .‬وكانت‬
‫جوديث فيرمان تقود عربتها والدموع تنهمر وتغرق وجهها بأكمله‪ .‬وكانت زوجة ماك تخطو‪،‬‬
‫وعيناها تتجهان نحو الغرب‪ ،‬خطوات ثابتة‪ .‬كما كان دورتي يسير وعًّلمات المرض تبدو‬
‫عليه‪.‬‬
‫ركب قوي‪ ..‬قوي لماذا؟ من أجل أوريجون واألسماك والمزارع والقمح واألغنام‪ ،‬وتكوين‬
‫أمة‪ .‬كان الكل يدفع الركب بكل قوته‪ ،‬وكان ليجي يقوم بعمله كالثور‪ ،‬وكان ماك وتادلوك‬
‫وبروور وباتش وشيلدز يدفعون عرباتهم وماشيتهم بكل جبروتهم‪ ..‬كان كل شيء يتطلب‬
‫المزيد من الدفع إلى األمام‪ ..‬ليجي هذه هي بحق اإلله‪.‬‬
‫كانت هذه هي «جرين» بظًّللها ومراعيها‪ ،‬ولكنها كانت حتى ذلك الوقت تبعد مسافة ستة‬
‫أميال‪ ،‬وكان أمام الركب االنحدار إلى قاع الوادي‪ ،‬ولكن مجرد رؤيته كان يشبه احتساء‬
‫الويسكي مضاعفًا مما ألهب الوجنات‪ ،‬وأثار االبتسامات‪ ،‬وعلت األصوات والهمسات‬
‫والضحكات‪ .‬كيف تشبه يا سمرز وما هي؟ هل هي تشانس؟ كان لهذه الكلمات أثرها الكبير‬
‫مما أدى إلى خروج النساء واألطفال ووقوف الجميع للتحدث وانتهاء الفترة العصيبة القاسية‬
‫واآلالم التي كانت تبدو على كل وجه‪.‬‬
‫أخذت العربات تنحدر بحذر شديد‪ ،‬وحينما هبطت جميعها‪ ،‬وجه سمرز حديثه إلى إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ليجي إن هذه الماشية سوف تهرب بمجرد أن تشم المياه‪ ،‬لذلك من األفضل أن تندفع العربات‬
‫والماشية إلى مكان الرعي مباشرة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعني بقولك هذا يا ديك؟‬
‫‪ -‬أ عتقد أنه من األفضل أن نقود الماشية للرعي في بداية األمر‪ ،‬ثم نوجهها على أجزاء إلى‬
‫أماكن الشرب‪ ،‬حتى يكون عندنا الوقت الكافي لتنظيم العربات‪.‬‬
‫شكرا يا ديك‪ ،‬لوال وجودك معي اآلن‪ ،‬ألصبحت أفشل قائد اآلن‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬إنني ال أرى أي غبار عليك‪.‬‬
‫‪ -‬إن المياه الباردة ال تصلح فوق األجساد الساخنة‪.‬‬
‫‪ -‬ال مفر منها‪.‬‬
‫‪ -‬س أقوم بدفع الثيران والخيل‪ ،‬وإطًّلق سراحها في أي مكان ال تهرب منه‪ ،‬وإنما لتنهمك في‬
‫الري‪ .‬ولكن ماذا عن الهنود؟‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬ال تشغل بالك بذلك ً‬
‫خرجت هذه الكلمات كما لو كان سمرز يعرف ذلك‪ ،‬وليس هناك أدنى شك في أن مجرد ظهور‬
‫المياه أمام الماشية سيجعلها تصاب بالجنون وتندفع إليها‪ ،‬وكان هناك ثور يشم األرض بأنفه‪.‬‬
‫وبعد مرور فترة كان اليوم قد أوشك على االنتهاء‪ ،‬فقام الرجال‪ ،‬الذين ظلت فيهم بقية من قوة‪،‬‬
‫بقيادة العربات إلى أماكن معينة تمهيدًا إلقامة المعسكر‪ ،‬ولم يكن قد مات من الثيران سوى‬
‫واحد فقط بسبب العطش الشديد‪ ،‬ولم تكن هناك أي عربة قد فقدت أو مات أي إنسان‪ ،‬أما الذين‬
‫أصابهم المرض فقد شفوا بأسرع ما يمكن حتى شارلز فيرمان نفسه‪.‬‬
‫كانت العوازل قد أصبحت خلفهم اآلن‪ ،‬واعتقد سمرز أنه يستطيع أن يعذب نفسه أكثر من ذلك‬
‫بالعودة بذاكرته إلى األيام التي انقضت‪ ،‬وحاول أن يبعد عن ذهنه هذا التفكير بالحديث مع‬
‫األخ ويذربي الذي كان يركب بجانبه‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫كثيرا عن «بير»‪ ،‬لذلك سوف نصل إليها قبل حلول الظًّلم بوقت قصير‪.‬‬
‫‪ -‬إننا ال نبعد ً‬
‫فاستدار ويذربي بوجهه الضامر النحيف يقول لسمرز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني في غاية العجب من ذاكرتك القوية! إنك تتذكر كل تل وانحناءة وطريق هناك‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وهأنذا مرة أخرى‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن أكون كذلك؛ إذ إني جلت في هذه المنطقة ً‬
‫‪ -‬ولكني ما زلت أتعجب لذلك؛ إذ يوجد الكثير من األماكن الشبيهة بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنها تبدو كما كانت من قبل‪ .‬وحينما كان يجيب ويذربي عن سؤاله كان يعتقد أن األرض‬
‫نفسها هي التي ال تتغير‪ .‬كانت الجبال تقف كما هي تتطلع إلى الزهور التي تنبت في األرض‪،‬‬
‫وتتطلع إلى الرجال والناس الذين يجيئون ويذهبون‪ ..‬الهنود ً‬
‫أوال‪ ،‬ثم الصيادون الذين كانوا‬
‫أخيرا الراغبون في إنشاء أماكن جديدة لإلقامة‪ ..‬صيادو‬
‫ً‬ ‫يشقون طرقهم‪ ،‬ويغامرون بالوحدة‪ ،‬ثم‬
‫المستقبل والباحثون عن الثروة‪ ،‬ثم قال ويذربي وكان يحملق بناظريه بعيدًا‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ما زلت أفكر كيف تختلف هذه األرض عن إندياني؟‬
‫‪ -‬أو ميسوري‪.‬‬
‫كثيرا؛ ألنها كانت تشكل أحد أعماق الذاكرة‪ .‬كان الطريق‬
‫لم تكن ميسوري ترد إلى ذهن سمرز ً‬
‫المائي األول الذي أطلق عليه المهاجرون األوائل اسم «باسفيك سبرنجز» و«سانديز» و‬
‫«جرين» ولمحات من قمم «يونيتاه» التي تشبه السحب الثلجية حيث تقبع «براونز هول»‪..‬‬
‫كانت تبدو كما لو لم تقم ميسوري من قبل أو «ماتي» والحمى التي تنتشر فيها‪ .‬كانت هذه هي‬
‫أيام االستسًّلم‪ ،‬والشعور بالهرم والكبر؛ ألن عالمه قد كبر‪ ،‬لم يشعر اآلن بأنه قد كبر في السن‬
‫وهرم‪ ،‬بل كان هذا الشعور في عقله وذهنه فقط‪ ،‬وبالتطلع إلى الجبال‪ ..‬كان يبلغ التاسعة‬
‫واألربعين‪ ،‬ولكن أطرافه كانت قوية‪ ،‬وكان نظره حادًّا ويستطيع أن يتجاوب مع النساء‪ ..‬كان‬
‫التفكير وحده هو الذي يجعله يشعر بالكبر‪ ،‬ومعرفته بأنه قد عاش فترة من الزمن في هذه‬
‫البقاع‪ .‬إنه يستطيع أن يزرع في أوريجون كما سبق أن ذكر ليجي؛ إذا كان الوضع يستحق‬
‫مثل هذه المحاولة‪ ،‬إذا لم يكن قد عرف من قبل «بوبو آجي»‪ ..‬كان يعيش في الوقت الحالي‬
‫وفي الماضي‪ ..‬يسر للحديث مع الناس‪ ،‬وإلسداء النصائح‪ ،‬والهزل مع براوني أو ليجي‪ ،‬وكان‬
‫ويذربي ينحدر بجواده الذي استمر يجري نحو «مودي فورك» في اتجاه وادي «بير»‬
‫األخضر‪ ،‬األمر الذي جعله يصيح مشدو ًها وهو يحدق في هذه الخضرة‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ..‬في عظمتك وقدرتك‪.‬‬
‫‪ -‬إنها رائعة بما فيه الكفاية‪.‬‬
‫هز ويذربي رأسه ببطء وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني لم أكن ألصدق هذا المنظر‪ ،‬وال أستطيع أن أصدقه بسهولة اآلن وأنا أشاهده‪.‬‬
‫‪ -‬إنها بعض من كثير‪.‬‬
‫«نهر بير» الذي تحيط به األشجار وبعض أشجار التوت‪ ،‬والذي ينساب بهدوء عبر أرض‬
‫قاسية‪ ،‬لم يكن قد أطلق عليه هذا االسم تلقائيًّا‪ ،‬وإنما أوجد إله ويذربي بعض الدببة بجواره‬
‫(بير تعني الدب باإلنجليزية)‪ ..‬دببة بيضاء وسوداء تعيش على النمل واألسماك والتوت‪ ،‬وال‬
‫تعرف مطلقًا معنى الخوف‪ ..‬كان سمرز قد قام في يوم من األيام بنصب فخاخه في هذا المكان‪،‬‬
‫وكان قد أطلق رصاصة على أحد الدببة الذي اقترب منه ولطمه بيده‪ ،‬ثم سقط فوقه بجثته‬
‫الضخمة مما جعل سمرز يستل خنجره ويعمل به في رقبة الدب‪ ،‬ولكنه اكتشف بعد ذلك أن‬
‫وخر‬
‫َّ‬ ‫الدب قد مات بعد أن اخترقت الرصاصة قلبه وفتحت فيه فجوة كبيرة تدفقت منها الدماء‬
‫صريعًا بسببها‪.‬‬
‫وهناك قال سمرز لويذربي‪:‬‬
‫‪ -‬م ن األفضل أن ننتظر قدوم الركب‪ ،‬ويجب أن نحدد الزاوية التي يجب أن يسلكها الركب في‬
‫المنحدر لدفع الماشية بعيدًا عن العيون‪ ،‬التي تبدو كأنها سامة‪ .‬أعتقد أنها من صنع هللا نفسه‪.‬‬
‫وجاءت سحابة لتغطي وجه ويذربي ولتجعله يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنها هنا لغرض معين يا أخي سمرز‪ ،‬قد تعرف ذلك بنفسك‪.‬‬
‫‪ -‬لغرض قتل الحيوانات؟‬
‫‪ -‬إن هذه ليست حكمة هللا‪.‬‬
‫‪ -‬إن ما أشك فيه حقيقة هو هل هناك عيون حقيقة هنا؟‬
‫أحنى ويذربي رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أرجو أن تستطيع أن ترى بنفسك يا سمرز‪ ،‬إنك أفضل من أن تفقد نفسك وطريقك‪.‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن تحافظ على جهودك من أجل مواجهة الهنود‪ ..‬إن هناك الكثير منهم من الذين‬
‫يحتاجون إلى قوتك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن هل تعتقد أنه ال فائدة من ذلك؟‬
‫‪ -‬ال تعد لقول مثل هذا الكًّلم‪ ،‬إنهم أقوياء باألدوية‪.‬‬
‫‪ -‬أدوية! إنني أستمع إلى كلمة دواء باستمرار‪ ،‬كما لو كان الرب وطريقة الخًّلص ليسا سوى‬
‫خرافة من الخرافات‪.‬‬
‫‪ -‬ربما تستطيع أن تعلمهم أن صليبًا واحدًا يضم قوة أكثر من حقيبة كاملة من الدواء‪.‬‬
‫تنهد ويذربي وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إن استخفافك يجعلني حزينًا‪ ،‬ويؤدي إلى غضب الرب أي ً‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أقصد تسفيه آرائك‪ ..‬إن اتجاهك سليم‪ ،‬أما بالنسبة للرب‪ ،‬فليس هناك أي داع لكي‬
‫يقف بيننا‪.‬‬
‫وقبل أن ينطق ويذربي‪ ،‬كان الركب يتحرك‪ ،‬وعلى رأسه ماك بي‪ ،‬الذي استعان بكلمة هللا‪،‬‬
‫وهو يتقدم نحوهما لينظر إلى أعماق الوادي‪ ،‬في حين كانت يده تجوس في لحيته وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنه واد طيب‪.‬‬
‫شاهد سمرز العربات وهي تنحدر في أماكن سليمة‪ ،‬فعاد متج ًها نحو الرعاة ليساعدهم في‬
‫توجيه سير الماشية‪ ،‬في حين كان يفكر في ويذربي وفي أفكاره‪ .‬فهل كان هناك نظام إلدارة‬
‫دفة شؤون األمور‪ ..‬كانت الحوادث القديمة تمر أمام عينيه ضئيلة مثل الهنود‪ ،‬أو صيادي‬
‫حيوانات الفراء‪ ،‬والباحثين عن المزارع‪ ..‬ماذا بعد؟ هل كان هذا جدول من المياه يجري في‬
‫مكان ما؟ كان النهر يمتلئ بالتوت المتساقط وبكًّلب البحر وبعض أنواع األسماك‪ ،‬ثم قال‬
‫سمرز لبراوني‪:‬‬
‫‪ -‬أسماك كثيرة كبيرة في النهر تسير جماعات‪.‬‬
‫ثم استمر في سيره متج ًها إلى إيفانز الذي رفع وجهه العريض واالبتسامة تعلو شفتيه‪ ،‬كما لو‬
‫أخبارا طيبة‪:‬‬
‫ً‬ ‫منتظرا‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫‪ -‬أستطيع أن أومن بأوريجون اآلن يا ديك‪.‬‬
‫‪ -‬جميلة‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬أفضل ما يمكن أن يكون‪ ،‬ولكننا نستطيع أن نحقق أهدافنا من غير هذا البعوض‪ .‬ستقوم بيكي‬
‫بإعداد فطيرة بالتوت وبعض الخضراوات‪.‬‬
‫ضا بعض أنواع البصل البري‪ ،‬إذا كنت ترغب في ذلك‪ .‬وأعتقد أننا‬
‫‪ -‬هذا حسن‪ ،‬ويوجد هنا أي ً‬
‫نستطيع أن نذهب عدة أميال أكثر من ذلك إلى «فورك سميث»‬
‫المجاورة «لبير» على الرغم من أن هناك هضبة بينهما‪.‬‬
‫فهز إيفانز رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أقسم ي ا ديك بأنني قد سئمت حرث األرض‪ ،‬ولكني على استعداد للقيام بهذا العمل اآلن في‬
‫هذه األرض‪.‬‬
‫‪ -‬أجل إن األمر كذلك‪.‬‬
‫تقدم سمرز على ماك بي ومر به‪ ،‬بعد أن ترك ويذربي يسير مع الركب سبب تعب عظامه‬
‫العتيقة من مشقة الرحلة‪ .‬كان جو النهار قد أخذ يبرد‪ ،‬أو ربما كان ذلك بسبب الوادي نفسه‪،‬‬
‫في حين كانت الشمس تبدو ذهبية وهي تميل نحو الغرب‪ .‬واستمر في سيره حتى وصل إلى‬
‫وادي «بير» الحقيقي‪ ،‬ثم استمر في سيره متج ًها إلى «فورك سميث» فشاهد قرية هندية هناك‬
‫اعتقد أنها قرية «سينكس» أي األفاعي‪ ،‬وهم من أفراد «الشوشون» األصدقاء الذين عاش‬
‫معهم وتاجر معهم منذ فترة مضت‪ .‬كان الشحوب من مميزات أفراد «الشوشون» كما كانت‬
‫نساؤهم يبدو عليهن وعلى أعينهم جفاف وقسوة حياة الجبال‪.‬‬
‫هبط من فوق جواده وربط اللجام في شجرة وتقدم ليستوثق من أن هذه القرية هي قرية‬
‫«سينكس» وليست «بانوك» أو «كراو» أو «بًّلك فوت» الذين كانوا أبعد المسافرين‬
‫والمغامرين‪ .‬كانت قرية «سينكس» بالفعل‪ ،‬واستدار في هذا العراء الكبير وغليونه في يده‪،‬‬
‫في الوقت التي أخذت الكًّلب تنبح فيه‪ ،‬واستدارت الوجوه لترى‪ ،‬وشاهد أحد الرجال ينهض‬
‫واقفًا ويتجه نحو سمرز‪ ..‬لقد كان هو «وايت هوك» نفسه‪ ..‬كانت السنون قد خطت آثارها‬
‫عليه فغيرت بعض مًّلمحه‪.‬‬
‫وصاح وايت هوك‪:‬‬
‫‪ -‬من حسن الطالع أن أراك مرة أخرى يا أخي الصديق‪.‬‬
‫وكانت صيحة مفاجئة تشبه صيحات األطفال أطلقها وايت هوك بسرعة‪ ،‬وجاء على إثرها‬
‫مندفعًا‪ ،‬في حين كان سمرز يترجل من فوق جواده‪ ،‬وهو يصيح مادًّا يديه‪:‬‬
‫‪ -‬أيها الصياد الكبير‪ ..‬ظننتك قد ذهبت إلى أرض األرواح‪.‬‬
‫كان على سمرز أن يلتقط ويختار بعض الكلمات التي اعتاد استعمالها بكل سهولة‪:‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد خرجت عدة مرات و تغيبت ً‬
‫كان سمرز يعرف أن «الشوشون» هم أكثر الهنود صداقة وودًّا بالطرق البسيطة‪ ،‬وموثوقًا‬
‫بهم‪ ،‬على الرغم من أنهم يسرقون مثل غيرهم من الهنود‪ ..‬وشاهد الشباب واألطفال والنساء‬
‫هذا المنظر‪ ،‬في حين كانت النساء ينظرن من جحورهن‪ ،‬وقفزت الكًّلب وهي تصيح كما لو‬
‫كانت ترحب بالسًّلم‪ ،‬ثم قال وايت هوك‪:‬‬
‫‪ -‬يوجد لحم في بيتي‪ ،‬ورداء ترتديه لتنام به‪.‬‬
‫‪ -‬و ايت هوك إنك رجل طيب‪ ..‬إنني أقود الكثيرين من الرجال البيض وزوجاتهم في اتجاه‬
‫المياه الكبرى‪.‬‬
‫ضا؟‬
‫‪ -‬وامرأتك أي ً‬
‫‪ -‬لقد ماتت زوجتي‪.‬‬
‫‪ -‬أوه! هذا شيء سيئ‪ ..‬إنه لمن األمور السيئة أن يصبح الرجل من غير امرأة‪.‬‬
‫‪ -‬إنه شيء سيئ بالفعل‪ ،‬ولكن ما زلت أنت تمارس الصيد في جرين ولويس ريفرز؟‬
‫ضا بعبور الجبال سعيًا وراء الجاموس البري حيث اعتاد «بًّلك فيت» الحرب‬ ‫‪ -‬ونقوم أي ً‬
‫كثيرا‪ ..‬لقد أصبحوا قلة ال يعتد بهم‪.‬‬
‫والمقاتلة‪ ..‬إنهم ال يقاتلون اآلن ً‬
‫فهز سمرز برأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬بسبب المرض الكبير‪.‬‬
‫فقالت وايت هوك مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬إنك أخي‪.‬‬
‫وقبل أن يستطيع سمرز اإلجابة‪ ،‬صاح وايت هوك مناديًا فتاة صغيرة ذات عينين مثل عيني‬
‫الغزال‪:‬‬
‫‪ -‬سأقدم لك زوجة‪.‬‬
‫وخرجت فتاة ذات جسم مرتفع ومستدير تحت مًّلبسها الفضفاضة‪ ،‬واستمر وايت هوك يقول‬
‫موج ًها حديثه إلى الفتاة‪:‬‬
‫‪ -‬ستكونين زوجة أكبر صياد ما دام يدخن معنا‪.‬‬
‫لم تتكلم أو حتى تومئ برأسها‪ ،‬ولكن نظرة الرغبة كانت تبدو في وجهها‪ ،‬كما لو كان ديك‬
‫سمرز العجوز شيئًا تحت مًّلبسه‪ ..‬ربما كان كذلك من قبل‪ ،‬ولكن عًّلمات الزمن قد جعلته‬
‫يشك في نفسه‪ ..‬قال في نفسه إن هذه الشكوك هي شكوك السنين وشكوك الذات‪ ..‬وشكوك‬
‫أهمية الحياة والرغبة فيها والهدف في األشياء‪ ..‬إنه شك العمر‪ ،‬أما صغار السن فهم ال يشكون‬
‫في شيء‪.‬‬
‫ثم رد عليه سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إنك كريم الخلق‪ ..‬وال أعرف ماذا أفعل؛ إذ مضى عليك زمن طويل منذ آخر مرة كنت أقيم‬
‫فيها مع الشوشون‪ ،‬لقد مضى زمن طويل‪ ،‬وال أعرف ماذا أفعل؛ إذا أصبحت أدويتي ضعيفة‪.‬‬
‫‪ -‬تعال ودخن معنا‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن أقود مجموعة الرجل األبيض‪ ،‬وبعد ذلك سأحضر إليك للتدخين‪ ..‬هل يسرك أن نقيم‬
‫المعسكر عند المياه في األمام؟‬
‫‪ -‬أخبر اإلخوة البيض بأن يحضروا هنا لكي ندخن ونقوم ببعض أعمال التجارة وتقديم الهدايا‪.‬‬
‫أخذت الشمس تميل نحو الغروب وراء التًّلل تاركة ضو ًءا قويًّا في السماء‪ ،‬في حين كانت‬
‫العربات قد توقفت ودقت الخيام‪ ،‬واجتمع الهنود مع الرجال البيض‪ ،‬ثم أخذ الغليون الكبير يمر‬
‫بين ا لجميع‪ ،‬وانتقلت البضائع والهدايا بين األيدي‪ ،‬في حين كانت ضوضاء الحركة‬
‫واالجتماعات تتزايد‪ ،‬وأخذ الليل يرخي سدوله بلطف‪ ،‬كما أخذ ضوء شمس الغروب يخفت‬
‫ويتًّلشى‪ ،‬ثم ظهر القمر بعد ذلك ليتضاءل بجانب ضوء النيران المشتعلة‪ ،‬وكان ضوءه الفضي‬
‫ينتشر في كل مكان‪ ،‬فاستطاع سمرز أن يشاهد كل شيء بوضوح‪ -‬وجوه الذين يدخنون من‬
‫الرجال‪ ،‬وخطوط جذوع األشجار التي ترتفع شامخة‪ ،‬وبيوت الهنود واألعشاب المرتفعة‪.‬‬
‫كان الرجال يدخنون بهدوء من البيض والهنود‪ ،‬وهم يتحدثون بعض الكلمات المتقطعة القليلة‪.‬‬
‫كان إيفانز يجلس معه ومعهما باتش‪ ،‬وجورهام وكاربنتر ودورتي ووايت هوك وستة من‬
‫رجاله‪ .‬أجل لقد كان الصيد ثمينًا ألن الغزالن واألغنام واأليائل واألسماك كانت وافرة‪ .‬كان‬
‫وايت هوك يراقب «الشوشون» بنفسه حتى ال يقوموا بسرقة أصدقائهم‪ ،‬لذلك وضع بعض‬
‫ضا‪.‬‬
‫جنوده لمراقبة ذلك أي ً‬
‫كم تبعد المسافة حتى فورت هول؟ وكم هي المسافة وعدد الليالي حتى البيت البريطاني يا‬
‫وايت هوك؟ لم يكن هناك أي تيار هوائي أو تنفسي‪ ..‬وكانت النيران قد خمدت ولم يبق منها‬
‫سوى بعض بصيصها‪ ،‬ولم تكن هناك أي أصوات سوى طنين البعوض‪ ،‬وبعض الكلمات‬
‫الضعيفة الهامسة التي كانت تصدر بين حين وحين‪ .‬كان األطفال قد ذهبوا إلى الفراش‪ ،‬في‬
‫حين كانت النساء ينتظرن أوبة الرجال‪ ،‬وبقية الكًّلب صامتة‪ ،‬ولم يظهر أي أثر أو صوت‬
‫بعد للذئاب‪ ،‬أو بنات آوي‪ ..‬كان الوضع يبدو كما لو كانت األرض والسماء تستمتعان‪ ،‬في حين‬
‫كانت األسئلة تدور في ذهن سمرز‪.‬‬
‫لماذا يتساءل ً‬
‫بدال من القيام بعمل فعلي؟ إنه ال يؤمن بالخطيئة التي يؤمن بها الواعظ‪ .‬لقد جاء‬
‫الرجل والمرأة لغرض محدد مثل ذكور وإناث أي نوع من الحيوانات‪ ..‬وقد فعل ما كان يرغب‬
‫فعله‪ ،‬وحصل على ما كان يرغب فيه‪ ،‬ونسي كل شيء ما عدا بعض التفكير الذي يراوده بين‬
‫حين وحين بشأن بعض الحيوانات التي يربيها ويكون قد نسيها‪ ..‬ولكنه قد يشعر بالخجل من‬
‫التفكير في مثل هذا األمر الذي يخجل الرجل األبيض‪ ،‬وال يخجل الهندي الذي يترك أخاه‬
‫يختار امرأة‪ ..‬كانوا على حق في معتقداتهم‪ ،‬مثلما كان ويذربي على حق في معتقداته‪ ..‬إن‬
‫رجل الجبال يأخذ ما يجد ويطرح األسئلة بعيدة عنه‪.‬‬
‫ولكنه ظل يسائل نفسه‪ ..‬وكان يعرف أن الذي يتساءل في نفسه هو العمر نفسه؛ ألن ديك سمرز‬
‫سا ما يراه أمامه ويقتنع به‪ ..‬كانت المسألة مسألة السن وليست مسألة‬
‫الشاب كان يندفع وينفذ رأ ً‬
‫عجوزا أحمق يفكر في أن يلحق بالماضي بالزواج من‬ ‫ً‬ ‫العمل الصواب والحق‪ ،‬ولكنه كان‬
‫هندية‪ ..‬وأن يجد ما فقد منه‪ ..‬الروح العالية تحت الثوب في جسد امرأة ثرثارة‪ ،‬ولكن صغيرة‬
‫السن ورقيقة ومليئة بالدفء له‪ .‬كان يعرف اإلجابة‪ ..‬يستطيع أن يغطيها وأن ينام على ظهره‪،‬‬
‫ويتحقق من أنه ال فائدة إال من الحمى التي ماتت اآلن في دقيقة‪ ،‬واعتقد أنها ستدور برأسه‬
‫حتى يستريح وينتهي من هذا التفكير‪ ،‬ولكنه ظل يسيطر عليه‪ ..‬يسيطر عليه سيطرة كاملة‪.‬‬
‫صفيرا بفعل أجنحة‪ ،‬ثم جاء إليه فجأة اسمها‪ ..‬اسمها هي التي ستكون معه‬
‫ً‬ ‫سمع فوق رأسه‬
‫على ضفتي «بوبو آجي» كانت «بروكن وينج» أي الجناح المسكور التي استطاع أن يسمعها‬
‫من «الكراو» األنثى ذات الجناح المكسور‪.‬‬
‫هبت ن سمة بسيطة بثت الروح قليلة في النيران الخامدة أدت إلى احمرار الرماد‪ ،‬فنهضت‬
‫الكًّلب الهندية على الفور وهي تتطلع إلى السماء‪ .‬واعتقد أن هناك ما يدعو النيران إلى العودة‬
‫إلى االشتعال‪ ،‬إذا استطاعت ذلك‪ ،‬وأن من حق الكًّلب أن تتطلع إلى ضوء القمر‪.‬‬
‫فنهض واقفًا‪ ،‬وسأله إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تشم يا ديك؟‬
‫‪ -‬هل أشم شيئًا؟ إنني أشعر بشعور طيب فحسب‪ ،‬على ما أعتقد‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الحادي والعشرون‬
‫كان ليجي إيفانز يركز جز ًءا من تفكيره في الصيد‪ ،‬في حين كان جز ًءا آخر يسرح بعيدًا فيما‬
‫سبق أن شاهده وفعله وشعر به منذ أن غادر إندبندس في بداية الربيع‪ ،‬وبقي جزء من هذا‬
‫التفكير يجول حول «بيج تمبر» حيث أقام الركب معسكره؛ حتى يمكن أن يستريح الجميع‬
‫ويستعدوا لبقية األميال التالية‪ .‬كان يبدو أنه ال يستطيع أن يتخلص من التفكير في الركب‪ ،‬كان‬
‫يحاول‪ ،‬ويتعب نفسه بالتفكير في حالة العربات‪ ،‬وقوة الثيران‪ ،‬وفي حالة فيرمان وأحزانه‪،‬‬
‫وفي الصعوبات التي ال تزال تكمن في الطريق وفي كولومبيا الكبرى‪ ،‬والسرعات الخطيرة‬
‫التي سمع عنها‪ .‬وكلما ابتعد عن الركب‪ ،‬مثل حاله اآلن‪ ،‬كان ينتابه شعور بأن هناك حاجة‬
‫إليه؛ إذ إن كونه قائدًا لهذا الركب يلقي عليه عبئًا بأنه ال يستطيع أن يترك الركب من غير أن‬
‫يشعر بالذنب‪.‬‬
‫امتطى إيفانز صهوة نيللي متج ًها إلى أسفل الوادي وهو ينظر إلى البراري‪ ،‬وإلى الشجيرات‬
‫واألعشاب بحثًا عن آثار الوعول أو األيائل‪ ،‬أو حتى غنم الجبال‪ ..‬كان ذلك ألن الركب كان‬
‫بحاجة ملحة للحوم‪ ،‬وال يقع العبء على سمرز‪ ..‬كان يرغب في هذه اللحظة في الخروج ولو‬
‫لحظة بسيطة والتحرر من القيادة ليستنشق نسيم التحرر من القيود‪ ..‬لم يستطع أن ينفذ غالبية‬
‫األشياء التي فكر في عملها في إندبندس‪ ،‬ولكنه استطاع أن يطلق النار على زوجين من‬
‫كبيرا هائ ًجا‪ ،‬كما استطاع أن يصطاد و ً‬
‫عًّل‪ ..‬كان‬ ‫ثورا ً‬‫الجاموس البري في بًّلت‪ ،‬كان أحدهما ً‬
‫هذا هو كل شيء؛ إذ لم يستطع أن يصيد األسماك في «بير» وكان يعتقد أنه سيتمتع ببعض‬
‫ساعات من الترفيه‪ ،‬ولكن لم تكن عنده فكرة في هذا الشأن‪ ..‬كان الواجب يثقل عليه‪ ،‬من غير‬
‫أي سبب عادي اآلن‪.‬‬
‫سيرا طيبًا؛ إذ لم تكن هنا حتى حالة واحدة من المرض أو الحمى‪ ،‬أو‬
‫كان كل شيء يسير ً‬
‫المشكًّلت‪ ،‬ولم يصب أي فرد بأي أذى في حادث أو على أيدي الهنود‪ .‬كان الركب يتكاسل‬
‫على طول طريق «بير» ولكن لهدف معين؛ لتقوية الخيول والماشية وبخاصة الثيران التي‬
‫قال عنها إيفانز إنها وسيلة إلعدادها لمواجهة أحجار الصحراء المرتفعة فوق «سينكس» كانوا‬
‫قد عبروا «بير» مرتين لكي يدوروا حول الجبل الذي يقف في وجه الشرق ويضيف عدة أميال‬
‫نهرا بطيئًا وهادئًا ترتفع على ضفتيه أشجار كثيرة يمكن‬
‫أخرى إلى الطريق‪ ،‬كان نهر «بير» ً‬
‫قطعها ووضعها فوق النهر كجسر لمرور العربات فوقها إذا احتاج األمر لذلك‪ .‬كان يأمل أن‬
‫يستمر الهدوء في «سينكس» وهو يعرف أن ذلك أمر لن يحدث‪.‬‬
‫كان يخبر نفسه للمرة العاشرة أو العشرين بأن الركب يسير في حالة طيبة‪ ،‬وكان يشعر بأن‬
‫له الحق في القيام بالصيد‪ ،‬ولكن كان يشعر بأنه سيعود خالي الوفاض‪ .‬وكان أفراد الركب على‬
‫عًّلقة حسنة مع الهنود‪ ،‬على الرغم من أن أفراد قبيلة «السينكس» كانوا سريعي الحركة في‬
‫سرقة األواني والمًّلبس‪ ،‬بما في ذلك الكثير من المعاطف التي كان تادلوك يرغب في ارتدائها‪،‬‬
‫فهاج تادلوك لهذا الوضع‪ ،‬وزاد هياجه بعد أن فشل وايت هوك في إكراه رجاله على إعادة‬
‫المسروقات‪ ،‬ولكنه أكد أن وايت هوك يستطيع أن يجبر رجاله على رد المسروقات إذا رغب‬
‫في ذلك‪ .‬وقال إن وايت هوك قد يأخذ المعطف لنفسه‪ ،‬ولكن إيفانز لم يكن يعتقد ذلك‪ ،‬بل اعتقد‬
‫أن وايت هوك قد حاول وقف السرقات والعثور على األشياء المسروقة‪ .‬كان األمر يبدو كما‬
‫لو كانت الكلمات ال تجدي لوقف السرقة‪ ،‬كما كان من الصعب جدًّا محاولة تادلوك الذي كان‬
‫يعتقد أن وظيفة القائد والرئيس هي إخضاع األتباع للطاعة‪.‬‬
‫عاد إيفانز إلى مكانه ليجلس أمام النيران وبجواره ديك الذي كانت الخمر قد لعبت برأسه وحلت‬
‫عقدة لسانه‪ ،‬وأخرجت الذكريات من مكمنها‪ .‬شعر بأنه دخيل وغريب على ديك نفسه؛ ألنه‬
‫كان يوجد جانب في ديك لم يعرف عنه شيئًا‪ ..‬لقد ظهر جزء من حياة ديك الغامضة في حديثه‬
‫الغريب الذي ظل يردد فيه «هل تتذكر الوقت الذي أغار فيه «الكراو» على مخازن الركب‬
‫السرية‪ ،‬يا سمرز‪ .‬لقد كنت أنت الذي تقوم بإعداد األدوية‪ ،‬وعدت بالفراء وزوجة أنيقة المظهر‬
‫حتى قدميها؟ ال يمكن أن أصور مثل هذا الوضع على حقيقته‪ ..‬من النادر يا سمرز أن ترى‬
‫زوجة الهندي وهي تقوم بجمع التوت‪ ،‬أو تساعد في سرقة أمتعتنا‪ ،‬ولكن هذا حدث بالفعل‬
‫اآلن؟ لقد كنت وحيدًا‪ ..‬أتذكر هذه الهندية التي التقيت بها عند سيسكاوي عام ستة وعشرين أو‬
‫ثمانية وعشرين أو نحو ذلك! لقد أخذت منها الكثير وأعطيتها أفضل ما عندي»‪.‬‬
‫وبعد أن استمع إلى كل هذا‪ ،‬وشاهد الجانب الذي لم يعرفه من ديك‪ ،‬تحدث إيفانز إلى نفسه‬
‫ً‬
‫قائًّل إن سمرز يهز يده مع الرجل الذي كان هو نفسه من قبل‪ ،‬وحين تناول الطعام كان سمرز‬
‫يجلس صامتًا أكثر من أي فترة مضت من قبل‪ ،‬ال يحاول أن يمزح مع براوني أو يضايق‬
‫ربيكا‪ .‬فقال إيفانز في نفسه إن ديك يعيش اآلن في عالمه الذي مضى وولى‪ ،‬ولكنه سيخرج‬
‫سريعًا من هذا التفكير‪ ،‬وسرعان ما يشعر بلمسة الخسارة‪ .‬جذب إيفانز فرسه نيللي من رأسها‬
‫سا في مكانه تار ًكا رأسه يميل‪،‬‬
‫وهو يعتقد أنه لن يستطيع الحصول على اللحوم إذا ظل جال ً‬
‫ولكنه بدأ يشاهد حركة عند الطرف اآلخر من التل‪ ،‬كانت هذه الحركة صادرة من «أيل» يشبه‬
‫صغيرا‪ ،‬ولكنه يقف على مسافة ال يمكن إصابته منها برصاصة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ثورا‬
‫ً‬
‫ربط نيللي من لجامها‪ ،‬وأخذ يدور حول المكان متخفيًا حتى وصل إلى مكان شجرة سحب إليها‬
‫نيللي وربطها فيها‪ ،‬ثم أخذ يتلصص بعينيه وسار على قدميه بحذر وهو يتمنى أن يستطيع‬
‫الصيد مثل ديك الذي كان يسير من غير أي صوت مثل األيل وسط األعشاب واألفعى التي‬
‫تتثنى في الرمال‪.‬‬
‫قفز األيل إلى األمام ثم سقط مصطد ًما بالشجيرة‪ ،‬فذهب إيفانز إليه وذبحه‪ ،‬ثم عاد إلى نيللي‬
‫وهو يحمله‪ ،‬وبعد ذلك قاد نيللي إلى المعسكر وهو يلتفت خلفه بين حين وحين ليرى ما إذا كان‬
‫عا في مكانه فوق ظهر نيللي‪ ،‬ولم تكن نيللي تشعر بأي تغيير‪ ،‬وهي تخطو في‬ ‫األيل موضو ً‬
‫طريقها‪ ،‬ولكن إيفانز ردد ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ووه‪ ..‬ال تخشي شيئًا يا نيللي‪ ،‬لن يعضك هذا األيل‪.‬‬
‫ً‬
‫معقوال بالنسبة لها؛ إذ كان هناك مكان آخر لجلوسه بجانبه‪.‬‬ ‫كان هذا الحمل‬
‫لم يكن وقت العشاء قد حان بعد‪ ،‬على الرغم من أن الجبال كانت قد حجبت الشمس حينما بدأ‬
‫منظرا طيبًا‪ ،‬وكان يظن وهو يقترب منه أن العربات قد ركنت‬
‫ً‬ ‫يرى بناظريه المعسكر‪ .‬كان‬
‫إلى الراحة والهدوء‪ ،‬وأن النظرات تتجه إلى الشرق‪ ،‬وأن الخيام قد أوقدت نيرانها‪ .‬وهبت‬
‫عليه نسمة باردة قادمة من المعسكر‪ ،‬فذكره منظر المعسكر بأنه جائع‪ ،‬وتمنى في هذه اللحظة‬
‫أن تكون بيكي قد أعدت له بعض المسلوقات كما وعدته‪ ،‬مثل البصل وغيره‪.‬‬
‫كان على مسافة صيحة واحدة فقط من المعسكر‪ ،‬قبل أن يشاهد الرجال وهم يتجمعون بالقرب‬
‫من النهر‪ ،‬فشعر فترة وجيزة بالقلق‪ ..‬كان هناك ثمانية أو عشرة من الرجال الذين يتجمعون‬
‫بالقرب من شجرة ترتفع أغصانها فوق الرؤوس‪ ،‬واستطاع أن يميز بين هؤالء تادلوك‪ ،‬واألخ‬
‫ويذربي‪ ،‬بروور‪ ،‬وماك بي‪ .‬لم يحاول أن يميز األشخاص بعد ذلك؛ ألنه شاهد أحد الهنود‬
‫معهم ويداه خلف ظهره‪ ،‬وقد نزع رباط الجبهة عنه‪ ،‬وكان بروور يرفع بندقيته عليه‪ ،‬وكان‬
‫كل من ويذربي وتادلوك يناقشانه‪ ،‬في الوقت الذي كان تادلوك ممس ًكا بحبل في يده‪.‬‬
‫تجلت الحقيقة واضحة أمام إيفانز في ذلك الوقت‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن يصدق بسهولة ما يدور‬
‫هناك‪ ،‬فنظر إلى العربات ليرى عًّلمات اليوم‪ ،‬ولكنه لم يشاهد أي إنسان سوى مسز بروور‬
‫تدفع أبناءها بعيدًا عن األنظار‪ ،‬ولم يستطع أن يشاهد غيرها إلى أن تحولت عيناه إلى الخيمة‬
‫ليرى الرؤوس تطل منها‪ ،‬فترك لجام نيللي يسقط من يده‪.‬‬
‫لم يلحظ أحد من الواقفين قدومه إلى أن تحدث ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوون أن تفعلوا؟‬
‫تحول تادلوك‪ ،‬وكان الحبل في يده‪ ،‬وظهر عدم الرضى السريع على وجهه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬عندك الكثير من المراقبين‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫ضا ليقول وهو يشير بأصبعه نحو تادلوك‪:‬‬
‫وتحول ويذربي أي ً‬
‫‪ -‬إنهم سيقومون بشنق أحد الرجال‪ ،‬إنني أحذرك أيها األخ تادلوك‪ ،‬إنك سوف تخرق الوصايا‪،‬‬
‫وسوف تقع الخطيئة على كتفيك أنت فقط‪.‬‬
‫‪ -‬إذا كانت هذه خطيئة فهي تقع علينا جميعًا‪.‬‬
‫فانبرى ماك بي يقول‪:‬‬
‫‪ -‬نستطيع أن نتحمل وزر ذلك‪ ..‬ماذا ترغب أن تفعل بهذا اللص؟ أخبرنا؟‬
‫‪ -‬ال تقتل‪.‬‬
‫‪ -‬هل نتناقش باستمرار مع هذا الواعظ؟‬
‫خرج هذا السؤال من فم دورتي وحرارة الحماس تضفي قوة العنف على لهجته اإليرلندية‪.‬‬
‫فهز تادلوك بيده نحو ويذربي‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬اذهب بعيدًا‪ ،‬لقد قمت بواجبك‪ ،‬اذهب بعيدًا اآلن‪.‬‬
‫كان الهندي يقف هادئًا‪ ،‬في حين كانت عيناه زائغتان في الوقت الذي كان الجدال يدور بين‬
‫هؤالء األفراد‪ ،‬وكانت عيناه تنتقًّلن من واحد آلخر‪ .‬لم يكن سوى غًّلم‪ ،‬واعتقد إيفانز أن عمر‬
‫هذا الغًّلم الهندي لم يكن ليزيد على عمر براوني‪ ..‬وكان يقف عاريًا إال من قطعة من الجلد‬
‫تغطي الجزء األسفل من جسده‪ ،‬وكان يقف متعاظ ًما والريش فوق رأسه‪ ،‬وهو يحاول أن يخفي‬
‫هلعه من الموت؛ إذ كان الموت ينعكس في وجهه‪ ،‬في حين كانت الوجوه الهرمة الكالحة تتطلع‬
‫إليه‪.‬‬
‫وتساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا سرق هذا الغًّلم؟‬
‫‪ -‬الكثير‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا سرق؟‬
‫‪ -‬لعنة هللا عليه‪ ،‬لقد كان يرتدي معطفي ً‬
‫أوال‪ ،‬وشاهده شيلدز ثانيًا وهو يطارد أحد جيادنا‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ال يؤدي إلى شنق إنسان‪.‬‬
‫سهًّل وبسي ً‬
‫طا إذا لم تكن حاجاتك قد سرقتك‪.‬‬ ‫‪ -‬إنه بالنسبة لنا‪ ..‬إنك تجد األمر ً‬
‫‪ -‬لقد قلت لك من قبل إنني على استعداد لمنحك مقابل الجياد الضائعة‪ ،‬إذا قرر المجلس ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬المجلس!‬
‫‪ -‬كيف لم يستطيع شيلدز أن يطلق الرصاص عليه‪.‬‬
‫بصق دورتي فوق األرض وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنه تاجر‪ ..‬هذا الشيلدز‪ ..‬كان عنده لباسان من جلد الجاموس وبعض األسماك‪ ،‬ولكن لم تكن‬
‫عنده بندقية‪.‬‬
‫فقال شيلدز‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قبضت عليه على أي حال‪.‬‬
‫فتحدث تادلوك موج ًها كًّلمه إلى إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ه ذه هي الطريقة السليمة‪ ..‬إننا نسير في الطريق القانوني‪ ..‬لقد قمنا بقيده وتركناه يتأرجح‬
‫هكذا‪ ،‬وهكذا سوف يعرف هؤالء اللصوص ما هو قانون الرجل األبيض‪.‬‬
‫‪ -‬قانون؟‬
‫فقال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬لننته من هذا الوضع‪.‬‬
‫فأجاب تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬لقد اجتمعنا‪ ،‬وأصدرنا قرارنا‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬هؤالء الذين استطعنا أن نجمعهم‪ ،‬فالبعض كان يقوم بصيد األسماك والبعض اآلخر بالقنص‪.‬‬
‫‪ -‬ألم تبذل أي جهد لتجميعهم‪ ،‬فربما كانوا يعترضون على قرارك‪ .‬هل فعلت ذلك؟‬
‫‪ -‬عثرنا على من استطعنا أن نجده‪ ،‬هًّل تفضلت بإفساح الطريق لي‪ ،‬فإن هذا سوف يساعد ما‬
‫يلي من ركب في المستقبل‪ ..‬أنت تعرف ذلك جيدًا‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنك ال تهتم بهم‪.‬‬
‫وأضاف ويذربي وهو يعبث بأصابعه‪:‬‬
‫‪ -‬أو حتى بالوصايا‪.‬‬
‫‪ -‬إ ننا نهتم بالعدالة‪ ..‬لم يكن هناك سوى صوتين‪ ،‬باإلضافة إلى ويذربي‪ ،‬معارضين‪ ،‬هما صوتا‬
‫بيرد وفيرمان‪.‬‬
‫وكان تادلوك قد فرغ من إعداد الحبل الذي بيده كمشنقة‪ ،‬ثم استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم تكن معدتكم تهضم هذه العدالة‪ ،‬فلتبعدوا مثلما فعل غيركم‪ ..‬أفسحوا الطريق‪.‬‬
‫كان الهندي يقف هادئًا وعيناه متجهتان إلى األمام‪ ،‬ويداه مقيدتان خلفه‪ ،‬وهو ما تحقق منه‬
‫إيفانز فجأة‪.‬‬
‫وقبل أن يتوقف عن التفكير سأل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أين سمرز؟‬
‫فأجاب تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬خرج مع أصدقاء الجبال‪ ..‬ولكن ماذا يهم؟ إنه لن يغير من الوضع‪.‬‬
‫ولم يكن هولدريدج قد تحدث من قبل‪ ،‬ولكنه تحدث في ذلك الوقت ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إننا قد نستطيع السير مسافات طويلة من غيره‪.‬‬
‫فأجاب بروور‪ ،‬وهو يتحدث ألول مرة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل نستطيع أن نفعل ذلك‪ ..‬أجل‪.‬‬
‫فأخذ الجميع ينظرون فترة دقيقة إلى إيفانز‪ ،‬وقرأ في أعينهم موقفه الضعيف‪ ،‬وسمع نفسه وهو‬
‫يردد مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬أين سمرز؟‬
‫ثم جالت نظرا ته بعيدة عنه‪ ،‬وأخذ يبحث في األرض‪ ،‬ثم ارتفعت إلى ويذربي الذي كان يقف‬
‫بالقرب منه كما لو كان يؤدي الصًّلة‪ ،‬ثم انتقل ببصره إلى قدمي الهندي وأخذ يرتفع ليرى‬
‫جسد الغًّلم النحيف القذر غير المهتز‪ ،‬الذي كان يواجه الموت؛ ألنه قام بعمل ما تدرب على‬
‫فعله منذ والدته‪ ،‬فاجتاحته موجة من الغضب أدت إلى انفجاره في ثورة عارمة‪:‬‬
‫‪ -‬كًّل‪ ،‬لن تفعلوا ذلك بحق هللا‪.‬‬
‫كان هناك تعطش للدماء في الوجوه‪ ،‬تعطش للدماء مثل الذي رآه في وجوه السيوكس‪ ،‬والشعور‬
‫بخيبة األمل‪ ،‬والحقد‪ ،‬وعدم الرغبة في فعل الخير تنعكس في وجه تادلوك وماك بي‪ ،‬وتجمع‬
‫هذا الشعور لكي يكون من السهل قتل الغًّلم‪.‬‬
‫‪ -‬ألق الحبل من يدك يا تادلوك‪.‬‬
‫فزادت قبضة تادلوك على الحبل‪ ،‬وتقدم إيفانز خطوة تلتها أخرى وهو يرمق دورتي بنظرة‬
‫صارمة حينما حاول أن يقف بينه وبين تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قلت ألق الحبل من يدك‪ ،‬الباقون ال دخل لهم بهذا الوضع ألنه بيني وبين تادلوك‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل من‬ ‫ألقى تادلوك بالحبل بعيدًا‪ ،‬وابتعد ً‬
‫قليًّل ليدور في شبه دائرة‪ ..‬لم يسبق إليفانز أن لطم‬
‫قبل‪ ..‬لم يحاول منذ أن بلغ مرحلة الرجولة أن تشاجر مع رجل آخر‪ .‬أما اآلن وبعد أن شاهد‬
‫يدي تادلوك مرتفعتين والغضب يعلو وجهه‪ ،‬لم يشعر بأنه هو الذي يتأرجح يمنة ويسرة‪ ،‬وإنما‬
‫شخص آخر غيره بعيدًا عن جميع مشاعره‪.‬‬
‫تركه هذا التأرجح مكشوفًا أمام تادلوك الذي انتهز الفرصة وضرب ضربتين قصيرتين‬
‫وقويتين من رجل يعرف كيف يستخدم قبضتيه‪ .‬وظل إيفانز يتأرجح‪ ،‬فشعر بثقل الضربات‬
‫كالمطرقة من يدين خبيرتين‪ ،‬هزته هذه الضربات التي سقطت خفيفة على جمجمته وجعلته‬
‫يشعر بالقليل من الدوار في أفكاره وخطواته‪ ،‬وكان يعرف أنه يصارع من غير هدف محدد‪،‬‬
‫وبأنه يطير في الهواء‪ ،‬في حين تتأرجح قدماه أسفله‪ .‬لم تكن قوته كافية له‪ ،‬وكانت حركته‬
‫بطيئة ال تكفي لمواجهة مثل هذا الرجل المدرب‪ ،‬لذلك تعرض وجهه للمزيد من اللطمات‪،‬‬
‫والضربات السريعة التي أخذت تنهال فوق فكيه ووجنتيه‪ ..‬وسمع في هذه اللحظة أصواتًا حوله‬
‫من الرجال الذين تجمعوا ومن بعض النساء ومن زوجته‪ ،‬وكان يشعر بالقوة في نفسه تتولد‬
‫من جديد‪ ،‬لقد كان على حق‪ ،‬ومع ذلك أصابته اللطمات والضربات‪ ،‬ولكنه تحامل على نفسه‬
‫وتحمل هذ ه اآلالم من أجل بيكي زوجته‪ ،‬وابنه براوني‪ ،‬ومن أجل ما يعرف أنه الحق‪.‬‬
‫كان يقف‪ ،‬ويستطيع أن يواجه أكثر من ذلك‪ ،‬وشعر بأن قبضتي تادلوك قد شحنتا بالكهرباء‪،‬‬
‫ً‬
‫طويًّل أمام ضربات تادلوك‪ ،‬ولكن كان فم تادلوك تائ ًها‬ ‫لذلك شعر بأنه ال يستطيع أن يستمر‬
‫وسط الدماء التي تدفقت منه ومن وجهه‪ ،‬وكان العرق يتصبب منه‪ ،‬في حين كانت عيناه‬
‫تتأرجحان تائهتين‪.‬‬
‫ضا؛ لكي يحاول أن‬‫وأخيرا وجدت القبضة الوحشية مكانها لتنطلق في وجه تادلوك ولتلقيه أر ً‬
‫ً‬
‫يقوم مستندًا على مرفقه‪ ،‬ثم تلحقه ضربة أخرى لترقده فوق األرض لكي يحاول مرة ثانية أن‬
‫ينهض على مرفقه‪ ،‬ليجد ضربة ثالثة تسقط فوق فكه‪.‬‬
‫لم يستطع تادلوك أن يواجه هذا السيل المتًّلحق من الضربات‪ ،‬فرقد على األرض فوق ظهره‬
‫من غير أن يبدي حرا ًكا‪ ،‬وكانت عيناه نصف مفتوحتين‪.‬‬
‫ثم تنفس إيفانز وأخذ ينظر حوله في الدائرة المحيطة به‪ ..‬إلى بروور‪ ،‬وهولدريدج‪ ،‬ودورتي‪،‬‬
‫والباقين‪ ،‬ثم توجه إلى الهندي وحل وثاقه‪ ،‬ولم يشاهد الهندي وهو يختفي من وراء الشجرة؛‬
‫ألن ربيكا كانت قد تعلقت بذراعه في هذه اللحظة‪.‬‬
‫‪ -‬هيا بنا يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬إن وجهك مليء بالدماء‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ال يهم‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أعالجه لك‪ ..‬هيا بنا‪.‬‬
‫مستقرا؛ أصبحت األشجار‬
‫ًّ‬ ‫وقف غير متأكد من موقفه فترة قصيرة‪ ،‬ولكن العالم حوله أصبح‬
‫ثابتة في أماكنها بجوار النهر‪ ،‬في حين كان الواقفون ينسحبون الواحد بعد اآلخر‪ ،‬ولم يكن‬
‫وجه ربيكا واض ًحا له وضو ًحا تا ًّما‪ ،‬ولكنه كان وج ًها به عينان تشعان كبرياء وعزة‪ ،‬وشاهد‬
‫مسز تادلوك وهي تنحني فوق رجلها‪ ،‬وويذربي ينحني معها‪ ،‬في حين كان بقية الرجال يرقبون‬
‫هذا الوضع ويتساءلون‪ ..‬وفي هذه اللحظة صهلت نيللي وكان األيل فوق ظهرها‪.‬‬
‫مات الغضب فيه وتًّلشى‪ ،‬ثم صاح في الرجال‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نذهب لرؤية تادلوك ً‬
‫أوال‪ ..‬إنني لم أكن أنوي إيذائه‪.‬‬
‫لم يكن من السهل ضرب رجل قوي وإسقاطه‪ ..‬وقد ترك هذا الشجار جر ًحا عميقًا في وجه‬
‫إيفانز أعمق من العيون التي تحيط بها الهالة السوداء والشفاه المجروحة‪ ،‬ولكن ظل أمامه أن‬
‫يختار‪ ،‬فاختار هذا الوضع وصمم عليه‪ ،‬األمر الذي جعله سيد الموقف والرجل القوي‪.‬‬
‫وحينما عاد ديك إلى المعسكر‪ ،‬قال واألسى يبدو في عينيه الرماديتين‪:‬‬
‫‪ -‬سمعت أنك قمت بما يجب أن يتم يا ليجي‪.‬‬
‫ولكن لم يكن إيفانز بحاجة لسماع كلمات ديك‪ ،‬لكي يشعر بقوة الحق والصواب‪.‬‬
‫الفصل الثاني والعشرون‬
‫حينما كان األطفال يصيحون حول ميرسي ماك بي‪ ،‬قامت بغمس قدح في مياه تغلي‪ ،‬ثم حركت‬
‫ملعقة من السكر بداخلها وناولتها لتوم بيرد‪ ،‬وقد ذكرتها رشفاته بشفتيه الرقيقتين من حافة‬
‫القدح‪ ،‬بفم السمكة‪.‬‬
‫كانت دوللي بروور قد سبقت الباقيات وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬إن الدور هو دوري‪ ،‬أليس كذلك يا ميرسي؟‬
‫‪ -‬كًّل‪ ،‬إنه ليس دورك‪ ،‬بل دوري أنا‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قلت أنا الرابعة‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل ليس كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬هل األمر كذلك؟‬
‫‪ -‬أسرع يا توم‪.‬‬
‫كان الجميع يصيحون فيها ويدفعونها ويطالبونها بدورهم‪ ،‬وهم أبناء بيرد‪ ،‬وبروور‪ ،‬ودورتي‪،‬‬
‫وهاري جورهام‪ ،‬وأخواتها كل منهم يطالب ببعض مياه الصودا التي تضع بها بعض السكر‬
‫فوارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫الذي قدمته مسز تادلوك‪ ،‬ومسز ماك‪ ،‬لكي يكون مشروبًا‬
‫وقالت ميرسي‪:‬‬
‫‪ -‬انتظروا لحظة واحدة بحق اآللهة‪ ،‬سوف تحصلون جميعكم على نصيبكم‪.‬‬
‫ثم أخذت تغمر القدح في المشروب من غير أن تفكر في طعمه ومذاقه؛ ألن التفكير كان يثير‬
‫معدتها مثلما يحدث حينما تشم رائحة شواء لحم الخنزير أو البصل‪.‬‬
‫واستمرت تقول‪:‬‬
‫‪ -‬سأقوم بالتوزيع من األصغر إلى األكبر‪ ،‬هذا هو العدل بنفسه‪.‬‬
‫صمت الجميع لحظة واحدة‪ ،‬ثم سمعت مرة أخرى أصوات الهمهمة‪ ،‬وأصوات قادمة من اتجاه‬
‫النهر تشبه صوت باخرة كانت قد سمعتها وشاهدتها في أوهايو‪ ،‬وكانت قد ظلت تستمع إليها‬
‫طوال الليل‪ ،‬وتستمع إلى أصوات حفيف األشجار بفعل الرياح‪.‬‬
‫وأخيرا قالت‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ها هو ذا نصيبك يا دوللي‪.‬‬
‫كان الركب قد نصب معسكره في مكان قريب من النهر‪ ،‬لذلك كانت تستطيع مشاهدة النساء‬
‫وهن يجئن ويذهبن استعدادًا إلشعال النيران في األفران الهولندية؛ لخبز بعض الخبز بعد مزج‬
‫الدقيق بالمياه التي حصلن عليها من العين؛ إذ تضم هذه البقعة الكثير من عيون المياه‪ ..‬كانت‬
‫ضا تمنح الحياة‪ ..‬المياه تندفع إلى أعلى‪.‬‬
‫كما لو أنها أر ً‬
‫‪ -‬حسنًا يا بيلي‪ ،‬دوري هو التالي‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬سيأتي دوري بعدك أي ً‬
‫كان الرجال قد خرجوا للقنص‪ ،‬أو الصيد‪ ،‬في أعالي النهر‪ ،‬أو مراقبة الحيوانات عبر نهر‬
‫«بير» حيث توجد مراعٍ وافرة‪ ،‬لم تكن تستطيع مشاهدة أي فرد سوى براوني فقط‪ ،‬الذي كان‬
‫يجول بين العربات والخيام‪ ،‬كما لو كان قد فقد صحبته‪.‬‬
‫‪ -‬هذا دوري اآلن يا ميرسي‪.‬‬
‫كانت مسرورة بهؤالء األطفال وبصياحهم واندفاعهم‪ ،‬وشعورها بأن ذهنها مشغول ويديها‬
‫مشغولتان‪ ،‬وردت على مسز بروور حينما حضرت إليها من المعسكر وهي ترفع ابنها‬
‫الصغير بين يديها‪.‬‬
‫‪ -‬إنني على ما يرام‪.‬‬
‫‪ -‬إنك ال تستطيعين أن تضيعي الكثير من الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬انتظري حتى يذوب السكر‪.‬‬
‫وقفت مسز بروور ساكنة وصامتة؛ إذ لم تكن ترغب في الجلوس‪ ،‬ثم قادت ميرسي األطفال‬
‫بعد ذلك إلى المعسكر بعد أن انتهى السكر‪ ،‬وأخذت تراقب هؤالء األطفال وهم يبتعدون داخل‬
‫المعسكر وترتفع منهم أصوات االحتجاجات‪ ،‬وجلست تعبث في القدح بأصابعها‪ ،‬في حين‬
‫كانت األصوات تتًّلشى تدريجيًّا‪ ،‬وتستمع إلى صوت ارتطام المياه التي تجري في النهر‪،‬‬
‫وكانت الشمس قد انحدرت نحو المغيب خلف التًّلل العالية لتنشر الظًّلم في أنحاء المكان‪.‬‬
‫أحنت رأسها من ثقل الشعور بالمرض والتفكير‪ ،‬وهي تحدث نفسها بأن هذا ليس حالها‪ ..‬إنها‬
‫ليست كذلك‪ ،‬وال يمكن أن تكون كذلك‪ ،‬وكان عليها أن تنظر بعهد ذلك إلى ماضيها؛ لتفكر في‬
‫مدى الحزن والبؤس الذي كانت تعيش فيه من قبل‪ ،‬ولم تضحك من هذا الماضي ألن مخاوفها‬
‫كانت مخاوف أطفال‪ ،‬ولم يكن هناك أي داع لذلك‪ .‬حاولت أن تضع نفسها في وضعها الحالي‬
‫ووضع المستقبل‪ ،‬ولكنها كانت تجلس يعلوها الخجل والحزن‪ ،‬وكانت تبدو كما لو كانت‬
‫شخصين في وقت واحد؛ الشخصية المرحة الطليقة‪ ،‬واألخرى الخائفة‪ ..‬لماذا؟ ألنها كانت قد‬
‫درست نفسها أكثر من اثنتي عشرة مرة حينما كانت جالسة بجوار شجرة أو داخل خيمة‪ ،‬كانت‬
‫تنظر إلى حالها وتشعر به‪ ،‬ولم يكن بها أي شيء خاطئ‪ ..‬كانت نحيفة وطويلة كسابق عهدها‪،‬‬
‫لذلك لم يكن بها أي خطأ‪ ..‬وشعرت في هذه اللحظة بشيء من الشجاعة والراحة‪ ،‬وال شك أن‬
‫األمور تتطور إلى ما هو أحسن‪ ..‬ال حاجة لعبور أي من الجسور للوصول إلى األحسن‬
‫والصواب‪ ،‬ولم تظهر الجسور والحواجز مطلقًا إال في الذهن الذي بناها‪ ،‬ثم تحولت معدتها‬
‫وأصيبت بالمرض‪.‬‬
‫اهتز القدح في يدها فوضعته فوق األرض وأخذت تتطلع إلى أصابعها المرتعشة‪ ،‬وهي تحاول‬
‫أن تبعد الخوف عنها وتسيطر على يديها وساقيها ورأسها‪.‬‬
‫كانت والدتها ستصيح فيها قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ل قد أخبرتك بأن تبتعدي عن الرجال‪ ،‬ألم أخبرك بذلك؟ ولكن كًّل إنك تعرفين أفضل مني‪،‬‬
‫وهذه هي النتيجة‪ .‬بحق اإلله! إني ال أعرف ما يدور بنفسك؟‬
‫مجهوال لها‪ ،‬ولكنه قد يذهب إلى مستر ماك ويسوي الموضوع‬ ‫ً‬ ‫وكان ما سيفعله والدها أو يقوله‬
‫وهو سعيد مقابل جواد أو ثور‪ ،‬كما لو كان هذا هو ثمنها‪ .‬ماذا لو استطاعت أن تتحدث إلى‬
‫مستر ماك‪ ،‬وتضع رأسها فوق صدره وتبكي عليه لتشرح وضعها‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن يشق‬
‫طريقه ليراها مرة أخرى سوى مرة واحدة بعد الرامي‪ ..‬وهي فترة تبدو بعيدة‪ ،‬وتبدو كأنها‬
‫حافة األحًّلم‪ .‬ولم تكن تعتقد أنها حقيقة قد وقعت إال بعد أن تألمت معدتها ومضى الوقت‬
‫سريعًا‪ ،‬ولكنه معها بخيالها‪ ..‬كانت تنام معه بخيالها وتنهض معه وتسير معه في الليل ويداها‬
‫تدفعان خصلة الشعر المتدلية فوق الجبين إلى الوراء‪ .‬لم يكن الجوع هو جوع الجسد بالنسبة‬
‫له‪ ،‬ولن يكون كذلك مطلقًا‪ ،‬وإنما كانت الرغبة في العثور على القوة والرقة فيه وردهما إليه‪.‬‬
‫كانت ترقبه في المعسكر‪ ،‬وطوال سير الركب نفسه‪ ،‬وتدقق النظر في وجهه المقطب وخطواته‬
‫السريعة‪ ،‬وتدل حركاتها على أنها كانت تراقبه بالفعل‪ ،‬وحينما كانت أعينهم تلتقي في بعض‬
‫األحيان كان يبتسم لها أو يحييها‪ ،‬وكانت تتعجب حينما تراه أو تلمس فيه سلو ًكا عاديًّا‪ ،‬أال‬
‫يتذكرها؟ هل ال يزال يطوي السر بين ضلوعه‪ ،‬ويعتز به؟ هل كان يناديها أو يطلبها في داخل‬
‫نفسه؟‬
‫آلمتها معدتها مرة أخرى‪ ،‬فنقلها األلم إلى حاضرها وإلى آالمها‪ ،‬وإلى صوت يدعوها في‬
‫قرارة نفسها للصًّلة‪ ..‬أوه‪ ،‬يا ربي‪ ،‬عسى أال يكون األمر كذلك‪ ..‬أرجوك يا ربي أن تساعدني‬
‫وتغفر لي خطيئتي‪ ،‬وامنحني القوة لكي أتحدث إلى مستر ماك‪ .‬وأرجوك يا إلهي‪ ..‬إنني أصلي‬
‫لك حتى ال يقع هذا األمر‪.‬‬
‫وتحدث صوت‪ ،‬وكان صوت براوني يقول‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك يا ميرسي‪ ،‬لماذا تصيحين وتبكين؟‬
‫مدت يدها بسرعة لتزيل بعض قطرات الدموع من عينيها‪ ،‬ولتتظاهر بالدوار‪ ،‬واتجهت‬
‫للجلوس ولتقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنها هذه المياه الفوارة التي خلقت الدموع في عيني‪ ،‬إنها هذه المياه الفوارة التي كنت أشربها‪.‬‬
‫فقال لها بعد أن شاهدت قدميه الملطختين‪ ،‬وظهرت عليها الحيرة كما لو كانت ال تعرف ماذا‬
‫يفعل‪:‬‬
‫‪ -‬أوه! هل هناك أي اعتراض إذا جلست بجانبك؟‬
‫‪ -‬كنت أزمع الذهاب‪.‬‬
‫‪ -‬أود أال تفعلي ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ال تستطيع أن تجلس‪.‬‬
‫فجلس فوق األرض وقال‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أود أن أجد أي إنسان أتحدث معه‪.‬‬
‫فقالت‪:‬‬
‫‪ -‬هناك آخرون غيري بجانبي‪.‬‬
‫وطرحت الخوف عنها الذي غشيها‪ ،‬ولم تعد تشعر إال بثقل في قلبها‪ ،‬ثم قال لها‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن أتحدث أنا إليك ً‬
‫بدال من شخص آخر أستطيع أن أذكر اسمه‪ .‬إنه مكان جميل‪.‬‬
‫أليس كذلك؟ ألن تذهبي إلى ينابيع «بير»؟‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫‪ -‬يقول والدي إن مذاق مياهها يشبه مذاق «البيرة» المعتقة‪.‬‬
‫‪ -‬ال أعرف ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لقد جربتها مرة واحدة‪ ،‬فقلبت معدتي معها‪.‬‬
‫ولما لم تنبس ببنت شفة‪ ،‬استمر يتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ال نأخذ نحن االثنان جولة في هذا الطريق؟‬
‫‪ -‬عندي عمل يجب أن أؤديه‪.‬‬
‫‪ -‬سوف أقوم لك به‪.‬‬
‫كان الخوف قد اقترب منها‪ ،‬وجفت عيناها‪ ،‬ثم فتحتهما ورفعت ناظريها لترى وجهه‪ ،‬كان‬
‫وج ًها يكسوه شعر أصفر كالرمال‪ ،‬وبه بعض «النمش» ونظرة ال يمكن أن ترى ما بداخلها‪،‬‬
‫وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬كم أود أن تسيري معي‪.‬‬
‫ي بعض المتاعب‪.‬‬
‫‪ -‬وأترك العمل يذهب؟ إن ذلك سيجر عل َّ‬
‫وحاولت أن تجعل لهجتها خفيفة‪ ،‬فخرجت الكلمات التالية منه كما تخرج المياه مندفعة من‬
‫ينبوع‪ ،‬وكما لو كان يحاول أن يبني آماله على ذلك‪:‬‬
‫ت سيدة نفسك؟‬
‫ت أن ِ‬
‫‪ -‬ألس ِ‬
‫واندفعت الدماء حارة إلى وجهه الذي غطته بعض بقع «النمش»‪.‬‬
‫وردت عليه قبل أن تفكر في اإلجابة‪:‬‬
‫‪ -‬إنني متدينة مثلما يفعل المتدينون‪.‬‬
‫‪ -‬المتدينون يفعلون الصواب دائ ًما‪.‬‬
‫‪ -‬إنك ال تعرف أي شيء عني يا براوني‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنني أعرف‪ .‬هل ترغبين في السير؟‬
‫اعتقدت أن عينيه كانتا تشبهان إلى حد ما عيني الكلب العجوز «روك» الذي جاء يجري خلفه‬
‫ليجلس بجانبه ويراقبها‪ ،‬أو يحملق فيها‪ ،‬وكان الرجاء يبدو في هاتين العينين‪ ،‬ولكنها قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أبقى بعد اآلن‪.‬‬
‫ضا وغير متأكد من موقفه‪ ،‬فوقفت‬‫لم يقدم لها يده مثلما فعل المستر ماك‪ ،‬ولكنه وقف ممتع ً‬
‫على قدميها وشعرت فجأة بأنها أصبحت قريبة منه وتحت أمره؛ ألنها كانت تقف وحيدة في‬
‫هذا المكان‪ ،‬وهو الذي امتدحها‪ ،‬فهل يمتدحها على الرغم من أي عامل آخر؟ كانت تسائل‬
‫نفسها وهي تنتظر ابتعاد الدار عنها؛ هل يفعل ذلك إذا كان يعرف حقيقتها؟‬
‫مشيا نحو النهر بعيدًا عن صوت الباخرة النهرية وهديرها‪ ،‬ليصًّل إلى ينابيع «بير» وحاول‬
‫أن يتذوقها‪ ،‬ثم جلسا بعد ذلك خلف حجر أبيض مخروطي الشكل حيث توقفت المياه عن‬
‫الجريان‪ ،‬كانت طبقة القشرة البيضاء التي أظهرتها المياه تلمع في ضوء الشمس‪ ،‬وتبدو أكثر‬
‫ضا‪ ،‬في حين كانت الشمس تختفي تدريجيًّا وراء التًّلل‪ ،‬ثم سألها‪:‬‬
‫بيا ً‬
‫‪ -‬ألم تفكري بعد فيما عسى أن تفعليه بعد وصولك إلى أوريجون؟‬
‫‪ -‬االستمرار في مساعدة والدتي فحسب‪.‬‬
‫‪ -‬أعني بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لم أفكر في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أن هناك مجموعة من األشياء‪ ..‬إنني أرغب في العمل بجد لكي أمتلك مزرعة‪ ،‬وليكون‬
‫عندي ما يكفي من الوقت لصيد األسماك والقنص‪.‬‬
‫مال على ظهره ً‬
‫قليًّل ووضع يديه خلفه ليستند عليهما‪ ،‬ثم قال لها‪:‬‬
‫‪ -‬مجموعة من األشياء‪ ،‬أود أن أعرف عنك أنت ً‬
‫مثًّل‪.‬‬
‫كثيرا يا براوني‪.‬‬
‫‪ -‬لم أفكر في ذلك ً‬
‫ثم ش عرت باألسف بعد ذلك لما قالته؛ ألن الكلمات كانت جارحة‪ ،‬على الرغم من أنها كانت‬
‫تعبيرا صادقًا لما تشعر به وتعرفه‪ ،‬ولكنه أجابها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬هل األمر كذلك؟ ليتني أستطيع أن أخبرك‪.‬‬
‫إنها لن تدفعه أو تقوده لكي يحل عقدة لسانه ويخبرها‪ ..‬لم تكن ترغب فيه وحتى لو كانت كذلك‪،‬‬
‫فإنها لن تكون على حق في ذلك‪ ..‬ليس معها الحق ‪-‬ثم بدأ الخوف يسري في جسدها مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وتماسكت نفسها‪ ،‬ثم توقفت متثاقلة وخائفة‪ ،‬وكانت ترغب في أن تجري على غير‬
‫هدى إلى أي مكان تختفي وراءه أو تبكي فيه وتنتحب فوق األرض‪ ،‬ولكن براوني انبرى‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أبلغ الثامنة عشرة من عمري يا ميرسي‪.‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن أذهب‪.‬‬
‫‪ -‬لقد تزوج والدي وهو أصغر مني‪.‬‬
‫ضا على سرها‪.‬‬
‫بقيت على صمتها‪ ،‬والخوف يسيطر عليها وهي تسيطر أي ً‬
‫‪ -‬أعتقد أنك تعرفين ما قلت اآلن وتدركينه‪.‬‬
‫وبعد أن انتهى من تصريحه تحول إليها‪ ،‬وكان وجهه وعيناه يعكسان األمانة والتواضع‬
‫ورغبته‪:‬‬
‫‪ -‬إ ذا لم أشعر بأنك تشعرين بما أشعر به‪ ،‬فلن يقف أمامي أي شيء في أوريجون أو أي مكان‬
‫آخر‪.‬‬
‫كان يجب أن تقول له‪ ،‬كًّل يا براوني‪ ،‬ال تتحدث مثل هذا الحديث‪ ،‬ولكن وجهه كان يواجهها‪،‬‬
‫وكانت الدموع تغطي وتغسل عينيها‪ ،‬وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬إنني لست على استعداد للتفكير في ذلك يا براوني‪ ،‬وال أستطيع أن أفكر فيه؛ ألنني أعرف‬
‫حينما أشعر بنفس شعورك‪ ،‬ولكني أشكرك على أي حال‪.‬‬
‫لم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء‪ ..‬بدأ البكاء عميقًا في نفسها‪ ،‬ثم ارتفع وخرج كما لو كان‬
‫انفجارا‪ ،‬فوضعت يديها فوق وجهها‪ ،‬وشعرت بذراعه وهو يلتف حول كتفها‪:‬‬ ‫ً‬
‫‪ -‬لماذا؟ من الخطأ أخذ األمور هكذا سريعًا يا ميرسي‪ ..‬ال يجب أن تبكي؛ ألني طلبت أو أرغب‬
‫أن أتزوجك‪.‬‬
‫وسحب يده خلف ظهرها في حنان ورقة‪ ،‬واستمر على هدوئه وصمته‪ ،‬كما لو كان يعرف أنها‬
‫يجب أن تبكي‪ ،‬على الرغم من أنه كان يجهل السبب‪.‬‬
‫ثم أخذت تجفف دموعها‪ ،‬وانحنت لكي تستخدم طرف ثوبها‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن أقصد أن أسلك هذا المسلك السخيف‪.‬‬
‫‪ -‬إنك ال تستطيعين أن تسلكي سلو ًكا سخيفًا بالنسبة لي يا مرسي‪.‬‬
‫ثم وضع يده أسفل ذقنها‪ ،‬ورفع رأسها وأدارها إليه‪ ،‬كان هناك اهتما كبير في وجهه والكثير‬
‫من األسئلة‪ ،‬والرقة والطيبة‪ ،‬ثم انحنى فجأة وقبل وجنتها‪ ،‬لم تكن قبلته عن جوع أو نهم‪ ،‬وإنما‬
‫عن عناية ورعاية‪ ،‬وتمنيات طيبة‪ ،‬ثم قال وهو يبعد يده ويسحب ذراعه من خلف ظهرها‪:‬‬
‫عنك هذا الحزن‪ ..‬سأقوم بأي عمل‪ ..‬بعمل‬‫‪ -‬إنك تبدين حزينة‪ ،‬أود أن أقوم بأي عمل أ ُ ْذ ِهب به ِ‬
‫أي شيء‪.‬‬
‫فردت عليه قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬إنك كريم وطيب يا براوني‪ ،‬إنني أعرف أنك كريم وطيب‪ ،‬مهما يحدث‪.‬‬
‫ثم نهضت ألنها تعرف أنها ال تستطيع الحديث من غير أن ينهمر المزيد من الدموع‪ ،‬وعاد‬
‫االثنان إلى المعسكر وهما ال يتحدثان إال ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ولما اقتربا من المعسكر‪ ،‬قال لها‪:‬‬
‫‪ -‬أرجو أال تكون هذه المرة األخيرة فيها في جولة معك؟‬
‫فأجابته وهي تبتعد عنه وتتجه نحو عربة عائلتها‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرف‪.‬‬
‫ثم سمعت صوت والدها وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أقسم لك يا امرأة‪ ،‬أسرعي بإحضار المأكوالت‪ ،‬إن هذه األراضي تجعل اإلنسان شر ًها‪.‬‬
‫ً‬
‫ظًّلال في الظًّلم حتى يعتقد الناس الذين ينظرون إليها‬ ‫انتظرت في الظًّلم‪ ..‬جعلت من نفسها‬
‫أنها شجرة أو ظًّلل سحابة تمر أسفل نجم‪ ،‬على الرغم من أن النجوم كانت مختفية في بعدها‬
‫السحيق‪ ،‬في حين كان القمر سيظهر بعد ذلك بقليل‪ .‬وفي هذه األثناء هب نسيم بسيط فوق‬
‫األرض ولمس قدميها‪ ،‬ثم استمر في طريقه يهمس بأسرار الليل؛ ليجعلها تهتز خوفًا‪ ،‬ليس‬
‫بسبب البرد‪ ،‬وإنما بسبب الخوف من انكشاف السر‪.‬‬
‫انتقلت إليها أصوات أفراد المعسكر وهم يهمون بالذهاب إلى الفراش‪.‬‬
‫‪ -‬صوت مسز بيرد المتعبة وهي تصيح في صغارها‪ ،‬وصوت أحاديث الرجال وهمسهم إلى‬
‫النساء قبل أن يهدأوا إلى سكون الليل‪ ،‬واختلطت هذه األصوات مع أصوات المياه‪،‬‬
‫والحيوانات‪ ،‬وصوت عجل صغير ُو ِلدَ حديثًا ويحمله جورهام في عربته‪.‬‬
‫كانت تجلس وحيدة مع هذه األصوات‪ ،‬لم تكن شيئًا سوى أذن تستمتع للصوت‪ ،‬وكان من‬
‫الممكن أن تفقد نفسها إذا فقدت أذنها‪ ،‬وأن تصبح ال شيء سوى ذكرى عابرة في أذهان الناس‪.‬‬
‫جذبت «ياقة» معطفها حول رقبتها‪ ،‬وطلبت من نفسها أن تبقى وتنتظر‪ ..‬تنتظر حتى تنتهي‬
‫آخر جولة في المعسكر قبل أن يأوي الجميع إلى الفراش‪ .‬وفجأة جاءها كلب من غير أن تراه‪،‬‬
‫أخذ يشم في راحة يدها‪ ،‬ولكن الهدوء كان يسيطر عليها‪ ،‬وكانت تعرف أنه روك‪ ،‬لذلك أبقته‬
‫معها وهي في انتظارها‪ .‬عرفته حينما تقدمت إلى األمام‪ ،‬عرفته من ظله النحيف الواضح الذي‬
‫ينعكس على ظًّلل الليل‪ ،‬وتًّلشت الشجاعة منها‪ ،‬وارتعشت ساقاها‪ ،‬فحاولت الهروب‪ ،‬ولكنها‬
‫قالت في نفسها إنه سوف يذهب إلى عمله قبل أن يعرف أنها تقف في مكمنها‪ .‬وكان عليها أن‬
‫تبقى في مكانها أو تزحف في الظًّلم إليه من غير خجل‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬مستر ماك‪ ..‬مستر ماك‪.‬‬
‫وسمعت صوتها‪ ،‬ولم يكن أكثر من همسات ضائعة‪.‬‬
‫‪ -‬من أنت؟ ماذا هناك؟ أوه! هاللو‪.‬‬
‫ثم خفض من صوته‪ ،‬وردت عليه قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا ميرسي ماك بي‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف اآلن‪ .‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬مستر ماك‪..‬‬
‫حضر إليها‪ ..‬ولم يجبها‪ ،‬وحاولت في ظًّلم الليل أن تبحث عن وجهه‪ ،‬فشاهدت وجنته‪ ،‬ومقلتي‬
‫عينيه في ضوء النجوم‪.‬‬
‫‪ -‬مستر ماك‪..‬‬
‫‪ -‬لقد جئت في وقت متأخر!‬
‫‪ -‬ال تعتقد أنني أستطيع أن أنام‪.‬‬
‫‪ -‬إنه يوم مناسب للنوم‪.‬‬
‫‪ -‬مستر ماك!‬
‫‪ -‬أجل‪.‬‬
‫‪ -‬هل نستطيع أن نذهب بعيدًا ولو ً‬
‫قليًّل؛ لكي نتحدث؟‬
‫تناول ذراعها بيده‪ ،‬وقادها بعيدًا عن المعسكر من غير أن يتحدث أو يجيبها‪ ،‬واتجها إلى‬
‫الينبوع‪ ،‬ثم قال لها‪:‬‬
‫‪ -‬كان يبدو أنه من األفضل أال أحاول رؤيتك يا ميرسي‪.‬‬
‫‪ -‬لم أكن ألحاول رؤيتك‪ ،‬ولكن ‪-‬لكن‪..-‬‬
‫‪ -‬ماذا بك‪.‬‬
‫‪ -‬إنني خائفة‪ .‬جد خائفة يا مستر ماك‪.‬‬
‫فازداد صوته حدة وهو يتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬خائفة؟‬
‫أومأت برأسها فقط بعد أن شعرت من لهجته بأنه يلقي اللوم عليها‪.‬‬
‫‪ -‬من ماذا؟‬
‫‪ -‬أنت تعرف‪.‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ .‬إنه مجرد خيالك‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أحاول أن أخبرك بذلك بنفسي‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫‪ -‬أخبرك بأال تفعل هذا األمر كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أصدق ذلك يا ميرسي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا لو كان السيئ هو األسوأ؟‬
‫‪ -‬لن يكون األمر كذلك‪ .‬إنني واثق أنه لن يكون كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن إذا حدث وسار هكذا؟‬
‫‪ -‬ماذا أستطيع أن أفعل؟ أنت قد تعرفين أي شيء أستطيع أن أفعله‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تعتقد أنني أستطيع أن أفعل؟‬
‫‪ -‬أعتقد ال شيء سوى العودة إلى المعسكر‪.‬‬
‫‪ -‬أال ترى أنني ال أستطيع أن أفعل أي شيء؟‬
‫‪ -‬إنني ال أود أن أخلق لك المشكًّلت‪.‬‬
‫‪ -‬تسبب لي المشكًّلت؟‬
‫‪ -‬لم أكن أعني أنني أرغب في ذلك‪.‬‬
‫ثم بدأ صوته ينخفض فجأة ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني آسف يا ميرسي‪ ،‬ال أود فقط‪ ..‬ال أعرف ماذا أعمل‪.‬‬
‫‪ -‬ال شيء ألبتة؟‬
‫‪ -‬ال شيء سوى االنتظار ألرى‪.‬‬
‫فأجابته‪ ،‬وشعرت بالغرامة في ثبات صوتها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد فعلت ذلك‪.‬‬
‫جاء صوتها رقيقًا وثابتًا وقويًّا ال ينحني للدموع‪ ،‬وفي حين كانت تتعجب لهذا الوضع سألها‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تفكري في الزواج يا ميرسي؟‬
‫‪ -‬بمن؟‬
‫‪ -‬حسنًا ‪ -‬ألي إنسان؟‬
‫‪ -‬وال أراك مطلقًا؟‬
‫‪ -‬ال أعرف‪.‬‬
‫خرج منها صوتها لتقول‪:‬‬
‫‪ -‬يبدو أن الحديث لن يفيد‪ ..‬ربما تكون زوجتك في انتظارك‪.‬‬
‫صاح بقوة ولين في وقت واحد‪ ،‬حتى تشعر بالبؤس الذي يعيش فيه‪:‬‬
‫‪ -‬إنني آسف يا ميرسي‪ ..‬كل ما أستطيع أن أقوله هو إنني آسف‪.‬‬
‫ثم تركها من غير أن يلمسها‪ ،‬ومن غير أن يقبلها القبلة التي كانت تنتظر أن يمنحها إياها؛ لكي‬
‫تشعرها بالراحة واالستكانة‪ ..‬ولكنها عرفت اآلن‪ ،‬وهزتها هذه المعرفة وجعلتها ترتعش‬
‫وتشعر بالوحدة‪ ..‬شعرت بأنه كان يرغب فيها فترة معينة من الزمن‪ ،‬وألنه كان بحاجة إلى‬
‫جسدها‪ ،‬ولكنه لن يعود إليها مرة أخرى‪.‬‬
‫عادت إليها األصوات مرة أخرى‪ ..‬النهر وهو يشكو‪ ،‬وصوت الباخرة النهرية وطائر الليل‬
‫وهو يصيح‪ ،‬في حين كان القمر قد بدأ ينشر أضواءه‪ ..‬وأخذت تستمتع‪ ،‬ثم أحست بأنها قد‬
‫أخطأت بصد فتى مثل براوني‪.‬‬
‫لم يذهب كيرتس ماك مباشرة إلى خيمته‪ ،‬بل ترك ميرسي واتجه في طريق ملتو وهو يعتقد‬
‫أن أرماندا زوجته لم تنم بعد‪ ،‬لذلك أخذ يجول في الوادي‪ ،‬في حين كان ذهنه يستعرض الوقائع‬
‫من غير أي حركة منه‪.‬‬
‫كانت التًّلل تقف شامخة أمامه وترتفع حتى السماء‪ ،‬وكان كلما اقترب من المياه‪ ،‬شاهدها‬
‫تجري باضطراب تحت ضوء القمر الفضي الذي يظهرها وسط الظًّلم‪ .‬لم يكن هناك أي شيء‬
‫يستطيع أن يفعله‪ ،‬ال شيء سوى االنتظار‪ ،‬ال شيء سوى العودة إلى خيمته مثلما قالت الفتاة‬
‫حينما كانت في حالة غضب وخرجت الكلمات منها عنيفة‪ ،‬كانت قد أجابته بشجاعة وكبرياء‬
‫مجروحة بطريقة جعلته ال يقدر على جمع شتات أفكاره‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد ال يوجد طريق أمامك سوى العودة إلى المعسكر‪.‬‬
‫لم تبك‪ ،‬ولم تلمه‪ ،‬ولم تهدده‪ ،‬وإنما سألته بتواضع‪ ،‬وأجابته بطريقة ما‪ ،‬بعد أن تركته بشجاعة‬
‫وكرامة‪ .‬شعر بأنه يكره نفسه وهو يفكر فيها‪ ،‬وأنه يكره رده على حاجتها واقتراحه الرخيص‬
‫بأن تتزوج‪ .‬كان من الممكن أن يمنحها شيئًا من القوة‪ ،‬وكان يستطيع أن يبث الثقة في نفسها‬
‫ويؤكد لها ميوله‪ ،‬وكان يستطيع ‪-‬بأقل تقدير‪ -‬أن يظهر لها عواطفه ورقته‪ ،‬ولكن إلى أي نهاية‬
‫وأي هدف يقوده هذا السلوك؟ ماذا يكون عليه الوضع حين استمرار وتعقيد أي موقف يكون‬
‫مستحيًّل من قبل؟ هل يمنحها ً‬
‫آماال زائفة؟‬ ‫ً‬
‫كان يشعر بالذنب وباإلثم‪ ،‬لذلك لم يستطع أن يسيطر على نفسه وعلى حاله‪ ،‬ولكنه ظل يشعر‬
‫بإثمه‪ ..‬واستمر هذا الشعور معه حتى بعد أن وجد له مبرراته‪ ..‬يستطيع اإلنسان أن ينكر وجود‬
‫هللا حين شعوره بالتضارب في معتقداته‪ ،‬وإيمانه به‪ ،‬ولكنه يظل مؤمنًا بوجود قوة وراء جميع‬
‫الحقائق القائمة‪ ..‬شعر بأنه ارتكب المعصية على الرغم من أنه كان يعرف أنه يرتكبها‪ ،‬ولكنه‬
‫وعد نفسه بينه وبين نفسه بأن يعمل الخير‪ ..‬وشعر بأن هذه الطريقة قد أراحته كثي ًرا كما كان‬
‫يجد الراحة في العمل الشاق وفي صبره غير العادي مع أرماندا بعد أن قتل الهندي من قبيلة‬
‫«الكو»‪.‬‬
‫كان من الطبيعي بعد أن استطاع أن يدرك ويفهم أنه من األفضل تصفية الخًّلفات مع زوجته‪،‬‬
‫وأن سوء الفهم غالبًا ما ينشأ بين األزواج‪ ،‬لذلك يجب أن يعالج مثل هذه األمور بحكمة ورزانة‪.‬‬
‫بدال من التجوال من غير هدف‬‫طا؛ إذا كان قد عالجه بجانب من الحكمة‪ً ،‬‬‫سهًّل وبسي ً‬
‫كان األمر ً‬
‫سا وهو يرقد بجوار أرماندا في الفراش‪.‬‬
‫كاألعمى‪ ،‬كان قد ظل مبقيًا على صوته حبي ً‬
‫‪ -‬كم أود أن تكوني‪ ..‬وكم أود أن تستطيعي‪ ..‬يا أرماندا‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬وكم أود ذلك أي ً‬
‫‪ -‬إنني أدرك مخاوفك‪ ،‬ولكن األمر ليس مجرد مخاوف‪ ..‬األمر ليس مجرد الحمل فقط‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف أن جز ًءا من الرفض هو االستياء وعدم الرغبة‪ ،‬وأدرك ذلك إدرا ًكا تا ًّما أي ً‬
‫ضا‪ ،‬وال‬
‫يوجد أي إنسان يرغب في إجابة طلبه مباشرة‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعرفين ذلك؟‬
‫‪ -‬أعرف أن هناك شيئًا في الطريق‪ .‬أشعر فقط بأنني ال أستطيع‪.‬‬
‫‪ -‬دائ ًما؟‬
‫‪ -‬ليس دائ ًما‪ ،‬أنت تعرف ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أال تشعرين بالرغبة مطلقًا؟‬
‫لم تجبه عن سؤاله‪ ،‬وشعر بجفوتها فوق الفراش‪ ،‬وعرف أن طريق األسئلة كان يسير في‬
‫الطريق الخاطئ‪ ،‬وجاءت الكلمات القديمة الحارة على لسانه‪ ،‬ولكنه أغلق فمه عليها‪ ،‬وحول‬
‫تفكيره إلى «الكو» وإلى نفسه‪ ،‬وعن أرماندا والشعور بأنه أجنبي غريب عليها وهو بجانبها‪.‬‬
‫وهذا السلوك الذي ال تغيره‪ .‬كان هذا الوضع يجرح إحساسه ويمس كيانه‪ ،‬ولكنه قال في نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬نستطيع أن ننتظر‪ .‬ربما‪ ،‬إذا انتظرنا فقط‪.‬‬
‫وتقلب في فراشه‪ ،‬ثم قالت أرماندا له‪:‬‬
‫‪ -‬كم أود أن أستطيع أن أفعل ذلك يا كيرتس‪.‬‬
‫فقال لها وقد أدرك فجأة أنها صادقة‪:‬‬
‫‪ -‬ل قد كنت على خطأ‪ ..‬لقد زرعت فكرة الطلب في رأسك‪ ،‬إذا عاودت ذلك فسيكون بطريقة‬
‫مختلفة‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك يا كيرتس؟‬
‫‪ -‬ر بما إذا حاولنا محاولة أخرى‪ ..‬أستطيع أن أجعلك تلمسين كيف أحتاجك‪ ..‬ليس روحك أو‬
‫جسدك فحسب‪ ،‬وإنما بأسرك‪ .‬ولن أطلبك ولكني سوف أحاول أن أجعلك تعرفين أنني بحاجة‬
‫ي‪ ،‬وإنني ال أستطيع أن أوقف طلبي‬ ‫إلى مساعدتك‪ ،‬وأنك تستطيعين تقديم المساعدة إل َّ‬
‫لمساعدتك‪ ..‬أعتقد أن هذا هو ما أعنيه‪ .‬طاب مساؤك يا أرماندا‪.‬‬
‫رقدت في مكانها من غير حركة فترة طويلة‪ ،‬ثم مدت ذراعها ولفته حوله بصورة أقرب إلى‬
‫الخجل‪ ،‬ثم وجدت يدها في يده مطالبة إياه باالنقًّلب نحوها‪.‬‬
‫لم يكن أحمق‪ ،‬لذلك أخذ يذكر نفسه اآلن بأن يفكر في أن مشاكلهما قد أصبحت وشيكة االنتهاء‪،‬‬
‫كان االختًّلف عظي ًما بين رغبتيهما لدرجة تسمح بوقوع المعجزة‪ ،‬ولكنهما كانا قد وضعا‬
‫أقدامهما في بداية السلم‪ ..‬كانا في طريقهما إلى تكييف وضعيهما‪ ..‬كل منهما يحاول أن يبقي‬
‫في ذهنه وضع اآلخر‪ ..‬وشعر بأنه قد وصل إلى مراده‪ ،‬فعرف أنه يحب زوجته أكثر من أي‬
‫امرأة أخرى‪.‬‬
‫وهكذا يجب أن يكون الوضع في عالم هللا‪ ،‬وأعتقد أنه من الضروري وقوع حادث بينهما‪ ،‬لم‬
‫يكن في تقديره لألشياء أن تستمر سعادته‪.‬‬
‫وتفسيرا إذا استمرت‬
‫ً‬ ‫كثيرا في تحركه أن يقدم توضي ًحا‬
‫توقف واستدار‪ ..‬وكان عليه إذا تأخر ً‬
‫طويًّل في يقظتها‪ .‬كان يعرف أن الخوف هو الذي يسيطر على بقية مشاعره‪ ،‬ليس‬ ‫ً‬ ‫أرماندا‬
‫الخوف من الضرب بالسوط والفضيحة‪ ،‬أو من أن تعرف أرماندا‪ ،‬ولكن الخوف من فقدها‪ .‬لم‬
‫يكن قد عرف حتى اآلن ماذا كانت تعني بالنسبة له‪.‬‬
‫لذلك استوثق أن ضيقه وآالمه كانت لنفسه‪ ،‬وليست لميرسي نفسها‪ ،‬وهو يسير بقدمين ثقيلتين‬
‫تحت ضوء القمر‪ ،‬كان يتصور أنها فتاة طفلة وحامل ووحيدة‪ ،‬لذلك شعر بالهموم تسيطر عليه‪.‬‬
‫كانت هذه هي نظرته لألوضاع‪ ،‬ورغبته في االحتفاظ بذاته وكيانه‪ .‬ولكن األمر كان بشعًا‬
‫وقبي ًحا‪ ..‬لذلك أخذ يطلب العفو والمغفرة والتوبة‪ .‬ماذا كان سيحدث إذا لم يهتم بذاته؟ هل كان‬
‫يشعر باألسف للعمل الذي أقدم عليه وال يعرف نتائجه؟ حاول أن يعالج هذا السؤال بكل أمانة‬
‫ودقة‪ ،‬ولكنه لم يستطع أن يصل إلى إجابة كافية‪ ،‬ثم اعتقد أنه لن يأسف لما يحدث إذا لم يلحق‬
‫بميرسي أي أذى‪ ،‬أي أذى أبعد من الحمل‪ ..‬أي حمل أو فضيحة‪ ،‬أو شعور بوخز الضمير‪ ،‬أو‬
‫استخدامها كأداة هدم‪ ..‬ولن يأسف حتى لعدم إخًّلصه لزوجته؛ ألنه لن يكون هناك سبب لذلك‪.‬‬
‫كانت األفكار تلح عليه وتراوده ليسأل عما إذا كان هناك إله ‪-‬وهل كان اإلنسان صدوقًا وأمينًا‬
‫مع اإلنسان؟ شاهد الفتاة مرة أخرى‪ ،‬تقف ضئيلة وشجاعة‪ ،‬شامخة بعزتها وكرامتها في‬
‫حطامها‪ .‬وعرف ما يجب أن تكون عليه إجابته‪ .‬لقد قال‪ :‬يا إلهي! ثم هز نفسه وأسرع في‬
‫خطاه ووصل إلى خيمته‪ ،‬ثم دلف إليها وأتاه صوت أرماندا في الظًّلم لتقول له‪:‬‬
‫‪ -‬كدت أذهب إلى النوم يا كيرتس‪.‬‬
‫‪ -‬إنها ليلة عظيمة‪.‬‬
‫ثم جلس وأخذ يخلع حذاءيه‪.‬‬
‫عرف أنه كان من الطبيعي أن تنتظره هذه الليلة؛ ألن كثرة العمل والشؤون التي شغلت كل‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ..‬كان راقدًا بًّل نوم حتى بعد أن استغرقت أرماندا في‬ ‫وقت النهار أبعدته عنها وقتًا‬
‫نومها بوقت طويل‪ ..‬وأخذ يستمع إلى خرير مياه النهر وإلى أصوات طيور الليل‪ ،‬وكان يسائل‬
‫نفسه عما إذا كانت ميرسي ماك بي‪ ،‬التي تبلغ الخامسة أو السادسة عشرة من عمرها‪ ،‬ترقد‬
‫بًّل نوم اآلن بسبب أحًّلم العذارى أو بسبب الخوف‪ ،‬أو أنها قد استغرقت في النوم؟ وتعجب‬
‫ضا ع َّم إذا كان «الكو»‪ ،‬الذي قتله من قبل‪ ،‬سعيدًا في حياته أو في صيده أو لم يكن كذلك‪.‬‬
‫أي ً‬
‫وعرف شيئًا واحدًا‪ ..‬أنه مهما يحدث‪ ،‬ومهما يكن‪ ،‬وما دام فيه رمق من الحياة‪ ،‬فإنه سيظل‬
‫يحمل وزر اإلثم‪.‬‬
‫الفصل الثالث والعشرون‬
‫قال رجل الجبال العجوز‪:‬‬
‫‪ -‬سيكون أمامكم وقت للترفيه على ما أعتقد‪ ..‬لقد سلك هذا الهندي هذا الطريق‪ ،‬وأعتقد أنه‬
‫سيكون هناك أمر ما‪ .‬هذا هو الوضع‪.‬‬
‫اعتقد ليجي إيفانز أنه يبلغ من عمره عمر هذا التل نفسه ‪-‬لنقل مائة عام أو نحو ذلك‪ -‬ثم جلس‬
‫فوق األرض بسهولة‪ ،‬كما لو كان ال يحتاج إلى مقعد يسند إليه ظهره‪ .‬كان اسمه هو جرينوود‪-‬‬
‫ك اليب‪ ،‬وكان يبدو أخضر مثله مثل الشجرة العجوز التي ال تزال تنبت فيها أوراق األشجار‪.‬‬
‫‪ -‬ألست على صواب يا كابتن؟‬
‫كان هناك ثمانية أو عشرة منهم في ساحة «فورت هول» خارج البيوت المصنوعة من الطوب‬
‫اللبن التي كان الكابتن جرانت يستخدمها كمكتب ومنزل له‪ .‬كانت الساحة سابحة في الظًّلم؛‬
‫ألن الشمس كانت قد اختفت وراء حوائط القلعة‪ ،‬وبدأ الشعور بالليل يظهر بعد ذلك‪.‬‬
‫كان الكابتن جرانت هو الشخص الوحيد الذي يقف‪ ،‬وكان يبدو أضخم مما كان عليه من قبل‪،‬‬
‫وكان قد كتب لفظ إنجلترا في كل مكان‪ ،‬في حين كان يمشط لحيته بيده‪ ،‬ثم أجاب بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬لم تحاول شركة خليج هدسون أن تنقل أي ركب‪.‬‬
‫فسأله جورهام‪:‬‬
‫‪ -‬ولماذا‪:‬‬
‫فانتفض الكابتن وعبر عن حركته بالكثير من الكلمات‪ ،‬ثم سأله إيفانز نفسه ع َّم إذا كان على‬
‫استعداد لعدم الميل إلى هذا الرجل لمجرد أنه إنجليزي‪ ،‬لقد كان حسنًا بما فيه الكفاية لجميع‬
‫أفراد الركب أكثر مما تستطيع أن تتوقعه من أي إنجليزي ملعون‪ .‬كان يرحب بالركب وينحاز‬
‫معه ويحقق رب ًحا منه‪ ..‬كنت تستطيع أن تشتري منه الدقيق الذي ينقله بالباخرة أو بالجياد من‬
‫دوالرا لكل مائة‪ ،‬أو مقابل ما يتردد بين خمسة عشر‬ ‫ً‬ ‫معسكرات أوريجون مقابل عشرين‬
‫وخمسة وعشرين إذا كان النقل عن طريق الجياد‪ ،‬وإذا لم يكن معك ما يكفي من مال‪ ،‬فإنه كان‬
‫يتناول مقابل ذلك بعض الثيران الطليقة‪ ،‬ويسمح بدين يتردد بين خمسة دوالرات وعشرين‬
‫رجًّل طيبًا أو غير طيب‪ ،‬فإنه كان إنجليزيًّا ال يرغب في أن يقوم‬‫ً‬ ‫دوالرا‪ ،‬لذلك سواء كان‬
‫ً‬
‫األمريكيون باحتًّلل أوريجون‪ ..‬كان هذا هو السبب‪ ،‬لذلك كان ما يجب أن يقوله بشأن الركب‬
‫يجب أن يقابل بفتور وبرود‪.‬‬
‫ثم قال الرجل العجوز وهو يخرج غليونه من جيبه وينظر حوله‪:‬‬
‫‪ -‬سوف يصل بعضكم وربما بعض العربات‪ ،‬وليس من المحتمل أن يصل الركب بأسره‪ ،‬ولكن‬
‫البعض سوف يصل وسيكون عندكم الكثير من التسلية والهزل‪.‬‬
‫فسأله تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك؟‬
‫‪ -‬لماذا! انظر خلفك لترى الجوع والعطش لتتذكر‪ ،‬إذا استطعت أن تعيش لتتذكر‪.‬‬
‫فرد إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قطعنا الطريق السابق على أحسن حال‪.‬‬
‫‪ -‬لقد فعلت ذلك بالتأكيد يا بني‪ ،‬ولكن ال تغتر؛ إذ يقول هذا األسود‪ :‬إن لحية أغسطس ال تستقر‬
‫استقرارا تا ًّما‪ ،‬وهذا أنت اآلن‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫فقال جرينوود وهو يقف‪ ،‬في حين كانت شفتاه العجوزان ممسكتين بالغليون وتبقيانه في حالة‬
‫اشتعال مستمر‪:‬‬
‫‪ -‬كلما فكر هذا األسود زادت رغباته في مواصلة سيره‪ ..‬إن الطريق إلى كاليفورنيا ليس لعبة‬
‫خطيرة بحق اإلله‪ ،‬ال توجد بها أشياء الختبار اإلنسان‪ ،‬وال يوجد بها شيء يستطيع اإلنسان‬
‫أن يتذكره إال السير السهل‪.‬‬
‫كان قد دخن غليونه‪ ،‬ثم أخذ ينفض الرماد منه حتى يمكن أن يعيد تدخينه من غير أن يشعله‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ثم انبرى يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إلى كاليفورنيا في القريب العاجل‪ ،‬ولكن هذا األسود يجب أن يوضح هذا الطريق‪ ..‬وقد قلت‬
‫إنني سوف أسلك هذا الطريق‪.‬‬
‫كان سمرز يجلس بهدوء وعلى ركن من فمه شبه ابتسامة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كان هذا الغًّلم يقف بجوار «بيج سولت سي» أي البحر المالح الكبير‪ ..‬ويبدو أن هذا‬
‫المكان قد وضح في ذهنه‪.‬‬
‫فأجابه جرينوود كما لو كان لم يدرك ما يعني‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت متأكد؟‬
‫وظهرت أمارات التفكير الجدي على وجه باتش‪ ،‬الذي انبرى يتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا ينتجون في كاليفورنيا؟‬
‫‪ -‬ال شيء‪ ..‬ال شيء سوى ما تنتجه األرض وما يتغذى على األعشاب‪ ..‬إنها بًّلد رقيقة مليئة‬
‫بالشمس والطقس الجميل‪ ،‬ولكنها ال تشبه أوريجون‪.‬‬
‫فانبرى تادلوك يقول‪ ،‬وهو يخط بعصا صغيرة في يده فوق األرض‪:‬‬
‫‪ -‬دعنا نتحدث حديثًا جديًّا‪ ،‬لماذا تظن أننا لن نستطيع مواصلة السير إلى ويلماتي؟‬
‫فمد جرينوود ذراعيه وبسط يديه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ه ل قال هذا األسود هذا الكًّلم اآلن؟ لقد قلت إن بعضكم سوف يصل بالفعل‪ .‬أماكم ضعف‬
‫ما القيتموه في «سنيك» ولكنكم سوف تواجهون المشكًّلت مثلما واجهها «ويث» وديك عام‬
‫أربعة وثًّلثين أو نحو ذلك‪ ..‬و«سنيك» ليست مجرد عبور مياه النهر‪ ،‬حتى ولو تأكدتم أنتم من‬
‫ذلك ورأيتموها من هنا‪ ،‬ولكنكم سوف تستمرون ‪ -‬غالبيتكم وبعض العربات‪ -‬وسيكون هذا‬
‫األمر مدعاة للضحك والهزل‪ ..‬هناك الكثير من العربات التي تباع في مدينة أوريجون على ما‬
‫أعتقد‪ ،‬فما رأيك يا كابتن؟‬
‫‪ -‬سأترك العربات هنا‪.‬‬
‫فسأله جورهام‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تذهب عربات من قبل؟‬
‫فأجابه جرينوود‪:‬‬
‫‪ -‬بعضها‪.‬‬
‫ثم قال تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرنا بالمزيد من مرحك‪.‬‬
‫ي من كاذب إذا لم أقل لكم إنكم سوف تمضون أيا ًما‬
‫‪ -‬لم يعد عندي الكثير‪ ..‬ولكن لعنة هللا عل َّ‬
‫من غير القدرة على المسير ومن غير غذاء أو شراب إلنسان أو حيوان‪ ،‬ثم تصلون بعد ذلك‬
‫إلى منحدر منخفض ال تستطيع قدم أن تطأه منذ شروق الشمس إلى غروبها‪.‬‬
‫أخذ إيفانز يفكر فيما سمعه‪ ،‬وفي حين أنه يفكر على هذا النحو‪ ،‬شم دخانًا يتصاعد من نيران‬
‫ضا في‬
‫الطهو التي أخذت تخمد داخل البناء المقام في المناطق المحيطة‪ .‬كانت النيران تخمد أي ً‬
‫المعسكر الذي كان ينتشر في جنوب وغرب القلعة لمسافة نصف ميل‪ ،‬وكان على ربيكا أن‬
‫مبكرا‪ ،‬في حين كان براوني يراقب‬‫ً‬ ‫تنظف جميع أوانيها؛ ألن المعسكر كان قد تناول طعامه‬
‫«السينكس» اللصوص األصدقاء‪ .‬كانت هناك بعض الروائح األخرى في هذا المكان؛ رائحة‬
‫شواء لحم وسمك‪ ،‬ورائحة طباق‪ ،‬ثم راحة لبن كان قد ُحلب في وعاء كبير‪ ،‬وذكره بمدينة‬
‫«إندبندس» وبيته‪ ،‬وبحظيرة البقر‪ ،‬وبنهر ميسوري الذي يسير بالقرب منه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إننا نعرف بعض األشياء عن األنهار‪.‬‬
‫فأجابه جرينوود‪:‬‬
‫‪ -‬ب التأكيد يا بني‪ ..‬أعتقد أنه ميسوري أو المسيسبي‪ ..‬إنها مياه طيبة‪ ،‬لقد ذكرتني بها‪ .‬ماذا تنوي‬
‫أن تفعل بماشيتك؟‬
‫‪ -‬سآخذها معي‪.‬‬
‫‪ -‬ثم ماذا بعد نهر سنيك‪ ،‬أو «لويس» كما نسميه في بعض األحيان؟ تأتي إلى الجفاف‪ ،‬وهنا‬
‫يظهر الهزل‪ ،‬يمكنك أن تقول إنك شاهدت جفاف حلقها وسقوطها وشاهدت الصخور السوداء‪..‬‬
‫إنها مجرد رؤية‪ ..‬ولكنك سوف ترى ما يفوقها‪.‬‬
‫أخذ إيفانز يحملق من رجل آلخر‪ ،‬وهو يتساءل ع َّم إذا كان الجميع يشعرون بشعوره نفسه‬
‫واهتمامه بهذا الجد الذي جاب الجبال‪ .‬كان الركب قد انتهى باألمس فقط من تعب شاق عبر‬
‫أخيرا إلى هذا الوادي‬
‫ً‬ ‫الصخور السوداء واألتربة السوداء من هذا الجانب من «بير» ثم وصلوا‬
‫وشاهدوا المياه واألشجار واألعشاب وبعض الغزالن‪ .‬ولم يعتقد أن هناك من يرغب في‬
‫التحرك مرة أخرى‪ ،‬وخاصة بعد أن عبر جرينوود بكلماته عن الصعوبات‪.‬‬
‫قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنك تعرف كل شيء يا ميك‪ ..‬إنه يقسم بأنه قد عرف طريقًا أفضل إلى أوريجون‪،‬‬
‫وذلك بجوار نهر ماكهور‪ .‬إنه يقول إن هذا الطريق سوف يختصر مسافة مائة وخمسين م ً‬
‫يًّل‬
‫أو أكثر‪.‬‬
‫هز الكابتن جرانت برأسه موافقًا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ترك ستيف ميك الركب الذي كان يرشده‪ ،‬وأسرع هنا ليلحق بركب آخر‪ ،‬إنني أتعجب من‬
‫أنكم لم تشاهدوه وهو يمر بكم‪ .‬هل التقيتم به؟ وماذا قلتم له؟‬
‫‪ -‬أخبرنا بأن معنا سمرز‪.‬‬
‫فقال الكابتن جرانت‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ .‬إنني ال أهتم بمحاولة قيادة هذا الركب‪ ،‬أليس كذلك يا سمرز؟‬
‫هز ديك رأسه بالنفي‪ ،‬وشعر إيفانز بالسرور من هذه الحركة‪ .‬كان سمرز هولنديًّا يعرف‬
‫أوريجون على حقيقتها‪ ،‬لذلك كان يستطيع أن يواجه أي إنسان ويتحدث معه‪ .‬ولكن حين ال‬
‫يتحدث‪ ،‬كان اآلخر يبدو كما لو كان ال يستطيع ذلك؛ ألن الكلمات التي ذكرت كانت حقيقية‬
‫وحكيمة أكثر مما يستطيع أن يقوله بنفسه‪ ،‬ثم تساءل سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬من الذي يدفع لك أجرك يا كاليب؟‬
‫فأجاب جرينوود‪ ،‬وهو يرمق سمرز بطرف عينه‪:‬‬
‫‪ -‬أما بالنسبة للحمى اآلن‪ ،‬فإن هناك من يقول بأن الحمى تنتشر في المنطقة السفلى من النهر‪،‬‬
‫ضا من هذا‪ ،‬ولكن ليس بالقدر الذي يدعيه‪ ،‬ال يوجد الكثير‪ ،‬وإال فإني ال‬
‫وهذا الفتى يعرف بع ً‬
‫أستطيع أن أميز بين األبيض والهندي‪ .‬إنك تقول‪ :‬إنك سوف تقود ماشيتك إلى هدفك يا إيفانز؟‬
‫كان الكابتن جرانت قد دخل‪ ،‬وخرج وفي يده جرة صغيرة ومعه بعض األقداح ليصب فيها‬
‫بعض الويسكي الممتاز الذي يفوق هيتشكوك المعتق‪ ،‬الذي كان يبيعه في إندبندس‪ ،‬ثم قام‬
‫الكابتن بإمرار األقداح بنظام‪ ،‬لذلك تستطيع أن تقول إن اإلنجليز يتميزون بالخلق والنظام‬
‫ويميلون إليه‪.‬‬
‫لم يكن إيفانز يدرك لماذا بقي ماك بي على هدوئه وصمته هذه الفترة‪ ،‬ما لم يكن ذلك بسبب‬
‫تادلوك نفسه‪ ،‬ولكنه مد يده ليأخذ قدح الويسكي وليقذف بما فيه داخل جوفه‪ ،‬ثم يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي! لم أكن أتصور أنني أتجه إلى الغرب لكي أواجه الصعوبات‪ ،‬وأعيش عيشة صعبة‬
‫قاسية‪ ،‬لقد عشت هذه الحياة من قبل بما فيه الكفاية‪ .‬فأخبره جرينوود ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫سا‪.‬‬
‫‪ -‬ال تدع هذا الفتى يخيفك‪ ،‬فلم يعد أمامك سوى ثمانمائة ميل فقط‪ ..‬اهدأ نف ً‬
‫جلس جرانت بجانب اآلخرين‪ ،‬وأخذ يهز رأسه اإلنجليزي الكبير‪ ،‬ثم يقول‪:‬‬
‫‪ -‬الجوع والحمى‪ ..‬إنني لم أتوقف عن التفكير‪.‬‬
‫واستمر جرينوود يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أ ما بالنسبة للماشية‪ ،‬فإنك تستطيع أن تقيم لها حظائر حينما تصل هناك‪ ،‬فهناك الكثير من‬
‫الماشية التي نقلت من كاليفورنيا إلى أوريجون‪.‬‬
‫كان األسف يبدو على وجه األخ ويذربي‪ ..‬اعتقد إيفانز أنه أسف يمتزج بلعنة ما قد سمعه‪،‬‬
‫ولكنه تمنى أن يقف للصًّلة في العراء ً‬
‫بدال من أن يسمع جرينوود يقول‪:‬‬
‫‪ -‬تذكر أننا بين يدي هللا‪.‬‬
‫ثم سأل تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك أسواق في كاليفورنيا؟‬
‫‪ -‬إذا أردت أن تتحدث عن كاليفورنيا‪ ،‬فليس هناك أي متاعب بشأن األسواق؛ أسواق ثابتة‪..‬‬
‫دوالرا واحدًا‪ ،‬والذرة تساوي نصف دوالر‪ ،‬أما رأس الغنم فهو يساوي‬
‫ً‬ ‫القمح يساوي هناك‬
‫دوالرا واحدًا أو دوالرين‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬من الذي يشتري؟‬
‫‪ -‬ش ركة خليج هدسون‪ ،‬ثم تنقلها إلى الموانئ‪ ،‬مثل ميناء سان فرانسيسكو‪ ،‬حيث تشاهد الكثير‬
‫من السفن التي تفرغ حمولتها‪ ،‬أو التي تحمل حموالت من التي وجدت في أوريجون‪.‬‬
‫ثم سأله سمرز مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬مع من تعمل يا كاليب؟‬
‫ً‬
‫سؤاال آخر قبل أن يتحول جرينوود لإلجابة على ديك‪:‬‬ ‫فوجه تادلوك‬
‫‪ -‬أعتقد أنهم بحاجة إلى رجال في كاليفورنيا؟‬
‫أخذ جرينوود يدرس تادلوك بعينيه اللتين تحيط بهما السنون واأليام‪ ،‬في حين كان إيفانز يراقبه‬
‫بدوره؛ ليرى أنه عاقل وماكر يعرف كيف يلعب بتادلوك‪ .‬شعر بالسرور فجأة ألن جرينوود‬
‫لم يكن مع الركب أمس‪ ،‬وإنما ظهر اليوم في مكان ما وقت رحلته للقنص‪ ..‬هل يمنحه وقتًا‬
‫كافيًا لكي يجر جميع األشخاص إلى كاليفورنيا وخاصة النساء‪.‬‬
‫ثم أجاب جرينوود على تادلوك بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬إ نها بحاجة إلى الرجال األكفاء فقط‪ ،‬وليس أي فرد‪ ،‬فهناك الكثير من األفراد في كل مكان‪،‬‬
‫ضا في أوريجون‪.‬‬ ‫ولكن الرجال األكفاء هم المرغوب فيهم مثلما هو مرغوب فيهم أي ً‬
‫‪ -‬ماذا عن المكسيكيين؟‬
‫‪ -‬هؤالء اإلسبان؟ إنهم أكفاء‪ ..‬لقد تركوا وراءهم مًّلبسهم السوداء‪ ،‬وأصبحوا يشبهون‬
‫اإليرلنديين‪ .‬إنني أبحث عن الرجال البيض لكي يغزوا كاليفورنيا‪.‬‬
‫فرد عليه إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬لهذا السبب تلح علينا وتحاول جذبنا‪.‬‬
‫مد الرجل العجوز يديه كما لو كان يحاول إظهار نفسه وعقله‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنك تقرأ آرائي خطأ يا بني‪ ..‬ألم أقل لك إن أوريجون هي مكان طيب؟ ولكن إذا أشرنا إلى‬
‫ً‬
‫ممتازا‪ ..‬هذا الفتى ال يعتقد أنكم سوف تصلون إلى‬ ‫كاليفورنيا فإن ذلك ال يعني أنها ليست مكانًا‬
‫أوريجون لمجرد أن تكونوا بريطانيين؟‬
‫اعتقد إيفانز أن السؤال كان في محله وأنه كان صادقًا‪ ،‬ولكن الكابتن جرانت عاد وحرك‬
‫الكلمات‪:‬‬
‫‪ -‬هناك أشياء أسوأ من كونك رعية بريطانية‪.‬‬
‫فقال جرينوود‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا الكًّلم ال يهاجم أي إنسان يا كابتن‪ ،‬فإن كل إنسان ينتمي إلى أمته‪.‬‬
‫ثم سأل دورتي بعد أن هزته كلمات الرجل العجوز‪:‬‬
‫‪ -‬وما هو الخطأ بالنسبة لإليرلندي؟‬
‫‪ -‬ال شيء ألبتة‪.‬‬
‫فسأل تادلوك‪:‬‬
‫‪ -‬وسوف تقوم بقيادة الركب إلى ساكرامنتو؟‬
‫كان إيفانز يعرف من قبل أن عقله يعمل‪ ،‬وأنه كان على حق‪ ،‬فليدع تادلوك يذهب‪ ،‬ولكنه لن‬
‫ضا ومعه عائلته‪،‬‬
‫يستطيع أن يعطل سير الركب الذي نزعت منه قيادته‪ .‬وليدع ماك بي يذهب أي ً‬
‫وميرسي التي أصبح براوني يدور حولها‪ ،‬وليدع بروور ورأسه الجامد يذهب‪ .‬إن الركب لم‬
‫يعد بحاجة ألعداد أو ألمن أكثر اآلن‪.‬‬
‫حك جرينوود العجوز يديه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬إنني ال أعرف كيف تسميه ركبًا‪ ،‬هذا السيد يمتلك عربة‪ ،‬وعصاه تشير إلى الطريق‪.‬‬
‫أعتقد أنني سوف أنتظر يو ًما أو اثني عشر يو ًما ألرى ما إذا كان الركب أو المجموعات التي‬
‫ي‪ .‬هناك بعض الطيور التي سبق أن وافقت من قبل‪.‬‬ ‫تليكم وتسير في أتربتكم ستنضم إل َّ‬
‫فأخبره إيفانز ً‬
‫قائًّل‪ ،‬وهو ينظر حوله ليرى مدى تأثير كلماته على الوجوه التي تحيط به‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ما زلت متمس ًكا بأوريجون‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ ..‬إنني ال ألومك‪ ..‬إنك كبير وقوي وسمين‪ ،‬وأراهن بأنك ستصل إلى هدفك الذي ربما‬
‫تعجب به‪ ..‬أعرف ذلك‪ .‬أما بالنسبة للضعفاء فإنني أقول لهم إن كاليفورنيا أفضل بكثير؛ ألن‬
‫طريقها أقصر وأسهل‪ .‬ويبدو أنه لم يمت أي إنسان وهو في طريقه إليها‪.‬‬
‫فرد سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫ي اللعنة إذا كنت أصدق هذا‪ ،‬ماذا سمعت عن لويس وكًّلرك وهما يتحدثان ألمهما؟‬
‫‪ -‬عل َّ‬
‫ضحك جرينوود ضحكة بسيطة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنك لست مخطئًا إلى حد كبير ‪ -‬أيها الشاب الصغير‪ .‬ولكن ال تدخل ذلك في ذهنك‪ .‬إنك ال‬
‫نهرا يا ديك‪ ،‬وكذلك كولومبيا‪ ،‬ولن يتجمد أي إنسان بعد ذلك بسبب‬
‫تقول إن «سنيك» ليس ً‬
‫عدم وجود اللحم أو المياه‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل‪ .‬ولكن من يدفع لك يا كاليب؟‬
‫‪ -‬إنني مسرور ألن أسمعك تسأل هذا السؤال‪ ،‬إنه سؤال أمين وصادق يستحق إجابة صادقة‬
‫وأمينة‪ ..‬إنه الكابتن جون سوتر‪ ،‬الذي يوجد في وادي ساكرمنتو ‪-‬إنه يعتقد أن هناك بعض‬
‫األشخاص الذين قد يرغبون في السير في ركبه‪ -‬ال أن يذهبوا إلى أوريجون‪ .‬وهو يقول في‬
‫ذلك «كاليب» ها هي ذي قطعة صغيرة من المال لكبر سنك‪ .‬ولماذا ال تذهب إلى هول‪ ،‬لترشد‬
‫أي فريق بائس يسير في الطريق؟ سوف أجد بعض الناس الطيبين ليرحبوا بي‪.‬‬
‫فقال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أخبره بأننا نشكره‪ ،‬وأن الذين جاءوا إلى أوريجون سوف يذهبون إليها‪.‬‬
‫هز باتش رأسه عًّلمة الموافقة على هذا الكًّلم وانضم إليه دورتي‪ ،‬وماك‪ ،‬وجورهام‪،‬‬
‫وويذربي‪ ،‬وفهم منهم أنهم قد ارتبطوا بأوريجون مثله سواء بسواء‪ .‬لم يكن يعرف سبب ذلك؛‬
‫هل كان ذلك ألنهم كانوا يرغبون في إحناء رقابهم؟ أو ألنهم كانوا ال يثقون في جرينوود وعدم‬
‫الميل إلى الكابتن جرانت بسبب كونه بريطانيًّا؟ أو ألن فكرة التغيير لم تجد ً‬
‫قبوال في أنفسهم؟‬
‫إن األمر ال يهم اآلن‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أننا سنتمكن من إتمام الرحلة‪.‬‬
‫كان صوت الكابتن جرانت يعكس االستسًّلم وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنكم معشر األمريكيين تقومون بتنفيذ ما تصممون عليه على ما أعتقد‪.‬‬
‫‪ -‬نستطيع أن نحاول‪.‬‬
‫فسأل جرينوود‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوون أن تفعلوا بهذه الماشية؟‬
‫‪ -‬نجعلها تسبح‪ .‬ألم أخبرك بذلك؟ نجعلها تسبح في دالس‪.‬‬
‫وقف سمرز‪ ،‬وشاهد إيفانز ابنه براوني وهو يدخل القلعة‪ ،‬ويقف بعيدًا عن الدائرة‪ .‬اعتقد أنه‬
‫رأى بعض المشكًّلت تنعكس في وجه الغًّلم‪ ،‬ولكن الغًّلم أخبره بأن الظًّلل التي كانت تكسو‬
‫وجهه كانت بفعل بعض الظًّلل المنعكسة‪ ،‬ثم قال له‪:‬‬
‫‪ -‬هل تريدني يا بني؟‬
‫‪ -‬كًّل‪ .‬وإنما يوجد هناك شيء أود أن أخبرك به يا ديك‪.‬‬
‫وقبل أن يذهب سمرز إلى براوني ويسير معه ليختفيا وراء البوابة الكبيرة‪ ،‬التفت إلى جرينوود‬
‫وصاح فيه‪:‬‬
‫‪ -‬كاليب‪ ..‬إن بقول كاليفورنيا تساعدك على توجيه ضربة‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الرابع والعشرون‬
‫كان براوني ينتظر بجوار البوابة وعيناه المتحفزتان حزينتان‪ ،‬وسار سمرز ومن خلفه براوني‬
‫وفي أعقابه الكلب‪ ،‬لذلك تساءل سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذا كلبك أو كلب أبيك؟‬
‫ولما لم يجبه براوني استمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أو ربما كلب ميرسي ماك بي‪ .‬إنني أراه يلتف حولها‪ ..‬أين هذا الذي يرغب في رؤيتي؟‬
‫واستمر براوني في صمته خارج القلعة‪ ،‬في حين استمر سمرز في حديثه يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أين تقول؟‬
‫‪ -‬ديك‪.‬‬
‫‪ -‬أوه ‪ -‬هاه‪.‬‬
‫وقف براوني فجأة ورفع ناظريه إلى سمرز ثم أرخاهما في اتجاه األرض وتساءل‪:‬‬
‫‪ -‬هل عندك ما يكفي من الوقت للتحدث معي؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد يا بني‪ .‬الكثير من الوقت‪ ..‬فلن يتحرك الركب قبل غد‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه ال يوجد عندي ما يضايقك‪.‬‬
‫‪ -‬هل عثرت على رفيق تحبه ويضايقك‪ .‬أفصح عن هدفك‪.‬‬
‫حاول براوني أن يخرج كلمة أو كلمتين من شفتيه‪ ،‬ولكنه لم يخرج صوتًا‪ ،‬ولم يكن سمرز قد‬
‫الحظ حتى تلك اللحظة القلق الذي يعتري وجهه‪ ،‬لذلك قال موج ًها حديثه لبراوني‪:‬‬
‫‪ -‬هذا المكان ال يصلح للحديث على ما أعتقد؛ ألنه مكان مفتوح‪ .‬دعنا نذهب إلى مكان آخر‪.‬‬
‫فهز براوني رأسه عًّلمة الموافقة‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أستطيع أن أتحدث بسهولة إال إذا كنت قريبًا من مياه أو شجرة‪ ..‬النهر ليس بعيدًا من‬
‫هنا‪.‬‬
‫اعتقد سمرز أن الغًّلم قد يرغب في االنتقال من مكانه‪ ،‬ولكنه لم يفعل ذلك‪ ،‬وإنما أحنى رأسه‬
‫كما لو كان ذلك من الثقل الذي تحمله‪ .‬ربما كان يرغب في انتظار حلول الظًّلم الذي كان قد‬
‫بدأ يرخي سدوله على جميع البًّلد‪ ..‬تخرج الكلمات بعض األحيان سهلة حينما ال يستطيع‬
‫اإلنسان مشاهدة الفم الذي ينطق بهذه الكلمات‪ ،‬ومرا بعد ذلك بأحد بيوت «الشوشون» حيث‬
‫كانت امرأة هندية تقف لمراقبتهما‪ ..‬كما لو كانت النظرات هي كل ما فيها من حياة‪ ،‬وخرج‬
‫من حولها كلبان أخذا ينبحان ويجريان‪ ،‬ولكن إجابة واحدة من روك أوقفتهما عند حدهما‪.‬‬
‫ثم قال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني جد مسرور لمجيئك وطلبي‪ ..‬لقد شعرت بالتعب والملل من سماع حديث جرينوود عن‬
‫هذا وذاك‪ ..‬كما لو كان ال يوجد سوى الطيور والحيوانات التي تستطيع أن تشق طريقها إلى‬
‫ويًّلميت‪.‬‬
‫فسأل براوني من غير أي اهتمام‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذا ما كان يتحدث عنه؟‬
‫‪ -‬تقريبًا‪ ،‬ويقوم كاليب ببث أفكاره بين بعض رجالنا‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه ال يوجد أي شيء يخيفك أو يمنعك‪ .‬أليس كذلك يا ديك؟‬
‫‪ -‬الكثير من األشياء‪ .‬ولكن‪ ..‬ما عدا جرينوود‪.‬‬
‫استطاعا أن يصًّل إلى ضفة النهر فجلسا‪ ،‬والتقط براوني غصن شجرة جافًّا وقذف به في‬
‫المياه‪ ،‬فشاهده لحظة ثم طواه الظًّلم الذي خيم على مياه النهر‪ ،‬ثم انبرى‬
‫يقول لسمرز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني‪ ،‬أفكر في الزواج‪.‬‬
‫وخرجت الكلمات قوية وبها معنى التصميم والعزم‪ ،‬ورد عليه سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬ال يوجد خطأ في ذلك‪.‬‬
‫كان الليل قد خيم عل ى كل شبر في المنطقة‪ ،‬ولكن سمرز استطاع أن يرى في هذه اللحظة‬
‫البياض القليل الذي يعكسه وجه براوني‪ ،‬وكذلك هيكل جسمه العام وكتفيه ورأسه الذي ال‬
‫يستقر في مكان واحد‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعرف إجابة لذلك‪.‬‬
‫اعتقد سمرز أن خير تصرف في هذا الموقف هو الصمت القليل‪ ،‬ولكن براوني استمر يقول‬
‫له‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعرف إنسانًا أستطيع أن أحدثه في هذا األمر سواك‪.‬‬
‫منتظرا‪ ،‬وشعر بجفاف الموقف‪ ،‬لذلك انبرى‬
‫ً‬ ‫التقط سمرز عودًا من العشب‪ ،‬وأخذ يلوح به بيده‬
‫يقول‪:‬‬
‫ً‬
‫مقبوال أستطيع التحدث على أساسه في هذا الشأن لك أو ألي إنسان آخر‪،‬‬ ‫مبررا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬ربما ال أجد‬
‫ولكني أجد أنه من الضروري أن أتحدث‪.‬‬
‫سا لدرجة تساوت فيها المياه واألرض‪ ،‬وخرج روك في هذه األثناء‬ ‫كان الظًّلم قد أصبح دام ً‬
‫أثرا فوق الحشائش‪.‬‬ ‫من الظًّلم‪ ،‬وأخذ يشم حوله‪ ،‬ثم ابتعد ً‬
‫قليًّل وهو يتبع ً‬
‫‪ -‬هذا ال يخرجنا عن الموضوع يا ديك‪.‬‬
‫‪ -‬نسيت أن أخبرك‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لم أكن ألخبرك لوال ثقتي بأنك ستساعدني في الوصول إلى جواب لسؤالي‪.‬‬
‫‪ -‬قد ترغب في اإلجابة باإليجاب أو النفي‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬هناك أشياء أخرى‪.‬‬
‫إجابة‪ ..‬أخذ سمرز يفكر وهو ينتظر‪ ،‬في حين كان براوني يرغب في اإلجابة‪ ..‬الناس جميعًا‬
‫يرغبون في اإلجابة الكاملة والنهائية‪ ..‬اإلجابة الدائمة‪ .‬كان ذهنه يتتبع الفكرة‪ ..‬إن ما يبدو‬
‫حقيقيًّا وصحي ًحا اليوم يتغير في الغد‪ ،‬فالوضع يتوقف على ما يطرأ من جديد وعلى الزمن‬
‫والحوادث؛ العقل واألحشاء يذهبان معًا‪ ..‬العقل واألحشاء وحرارة الجسد واألحًّلم‪ .‬كان العقل‬
‫هو القوة المحركة للتفكير والتصرف‪.‬‬
‫‪ -‬لنفترض يا ديك‪..‬؟‬
‫‪ -‬مجرد افتراض‪.‬‬
‫ً‬
‫رجًّل يهدف للزواج منها إذا وافقت؟‬ ‫‪ -‬لنفترض أن هناك فتاة‪ ،‬وأن هناك‬
‫منتظرا االنطًّلق والكلمات التي يطلقها براوني بحذر‪.‬‬
‫ً‬ ‫أمسك سمرز لسانه مرة أخرى‬
‫‪ -‬ولنفترض أنه اكتشف شيئًا يتعلق بها؟‬
‫‪ -‬إنني أنصت وأتتبعك‪.‬‬
‫‪ -‬وربما ترزق بطفل؟‬
‫‪ -‬أحاول أن أجد من هو أب هذا الطفل‪ ،‬هل وجدته؟‬
‫‪ -‬منها‪ ،‬ولكنها ال تعرف ما إذا كانت تهتم به أو ال تهتم‪ ،‬ولكن يجب أن تتزوج بأي إنسان؟‬
‫استطاع سمرز أن يلمح صرخة مكتومة في صدر الغًّلم الذي يحاول أن يبدو هادئًا‪ ..‬كانت‬
‫صرخة األلم‪ ..‬صرخة عدم اإلدراك‪ ..‬صرخة طلب الغوث والعون‪ ..‬صرخة تطلب اإلجابة‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا عن الرجل الذي فعل ذلك يا براوني؟‬
‫‪ -‬سأقتله‪ ..‬أقسم بأني سأقتله‪.‬‬
‫‪ -‬هدئ من روعك يا غًّلم‪.‬‬
‫‪ -‬أو أن أخبر الركب؛ ألراه يجلد من أجل فعلته‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫مهًّل‪.‬‬
‫‪ -‬هل تظن أنني ال أستطيع ذلك؟‬
‫‪ -‬أعتقد أنك لن تقدم على ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا أفعل يا ديك؟‬
‫‪ -‬اكتشف كل شيء اآلن‪ ..‬إنني أعرفها‪ ..‬ولكني ال أعرف الرجل‪.‬‬
‫‪ -‬إنه ماك‪.‬‬
‫‪ -‬لم يكن من حقي أن أسألك يا براوني‪ .‬إن معرفته لن تجدي ً‬
‫فتيًّل‪ ،‬ولن تغير من األوضاع‪..‬‬
‫دعنا نفكر اآلن‪.‬‬
‫أخذ سمرز يبحث في ذهنه ع َّم يمكن أن يكون صوابًا‪ .‬حاول أن يضع نفسه موضع براوني‪..‬‬
‫حاول أن يضع نفسه كما كان على حقيقته من قبل‪ ،‬وليس اآلن بعد أن عصرته األيام والحياة‪.‬‬
‫إنك ال تستطيع أن تخبر الغًّلم بمدى تفاهة األشياء وقلة األمور التي تهمنا‪ ..‬إنك ال تستطيع أن‬
‫تخبر الغًّلم بأن الزمن واأليام كفيلة بمحو صدماتنا في الحياة إذا نظر إلى الخلف استطاع أن‬
‫يجد إنسانًا يرغب في الضحك‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يضحك‪ ..‬الكل يحلم باألحًّلم‪ ،‬ويأمل‬
‫باآلمال‪ ،‬ويشعر باآلالم‪ ،‬ولكن السنين واأليام تغطي كل ذلك وتدفنه في حيز الذكريات‪ ،‬فإذا‬
‫حاول اإلنسان نبشها لخرج بعظام ال يكسوها اللحم‪ ،‬تشبه تلك العظام التي دفنها الكلب من غير‬
‫أن يترك بها أي خير‪.‬‬
‫إنها القواعد واللوائح التي يخلقها اإلنسان ويحطمها ويتألم منها ومن تحطيمها‪ ،‬مثل تلك القواعد‬
‫ضد الطبيعة التي ينكرها الحيوان‪ .‬مثل القاعدة الخاصة بعدم إمكانية نوم فتاة مع رجل في‬
‫كبيرا‬
‫ً‬ ‫وخطيرا اآلن‪ ..‬ولكن كم يبدو‬
‫ً‬ ‫كبيرا‬
‫ً‬ ‫فراش إال إذا قال رجل الدين آمين‪ .‬إن األمر يبدو‬
‫في عيني براوني حينما تمحو األيام هذا الحادث من ذاكرته؟ كيف يبدو ماك في ذلك الحين؟‬
‫إن الرجل هو الرجل بطبيعته‪ ،‬وبمعرفته لنفسه في السر‪ ،‬ما لم يكن عنده إيمان بالدين أكثر من‬
‫اإليمان العادي‪ .‬حينما تواتيه الفرصة يغتنمها‪ ،‬وهو ال يفكر أنه قد يرتكب ً‬
‫عمًّل سخيفًا‪ ..‬كانت‬
‫الرقة والوداعة تبدوان على الغًّلم وهو يفكر في األشياء الطيبة التي فاتته‪.‬‬
‫وبعد ذلك قال سمرز وهو يحطم الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬لم يكن من الضروري أن تخبرك يا براوني‪.‬‬
‫لم يكن من الضروري؟ ماذا تعلم الرجل الناضج؟ إن األحًّلم تكمن في داخل نفسية الغًّلم الذي‬
‫يبدو كالغصن األخضر يمتلئ بالطيبة والسعادة والحب والصدق الًّلنهائيين‪ ،‬والمعاني‬
‫الصحيحة‪ ..‬فإذا فقدها اإلنسان‪ ،‬فإنه يفقد شيئًا طيبًا‪ ،‬وتختفي من ذلك طبيعته الكريمة؛ لذلك دع‬
‫األحًّلم كما هي‪ ،‬وليبق سمرز على حال الغًّلم‪ ،‬ليتركه يفعل ما يريد‪ ،‬وليترك الحياة تفعل ما‬
‫قذرا يقوم به أي رجل‪ ،‬ثم كرر ما قاله مرة أخرى‪:‬‬ ‫يعن لها‪ ..‬لقد كانت هذه الفعلة ً‬
‫عمًّل ً‬
‫‪ -‬لم يكن من الضروري أن تخبرك‪.‬‬
‫‪ -‬كنت أقول لنفسي كم هي أمينة وصادقة معي‪.‬‬
‫‪ -‬كانت تستطيع أن تعوضك عما صدمتك به‪ً ،‬‬
‫بدال من قولها ال أعرف‪.‬‬
‫‪ -‬ربما لن تستطيع أن تفعل ذلك بعد اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أشك في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أليس األمر كذلك يا ديك؟‬
‫وكانت الرغبة تبدو في صوت الغًّلم‪ ،‬واستمر ديك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬وال شيء‪ ..‬اليسير‪.‬‬
‫وغاص صوت الغًّلم وصار يتحدث كما لو كان يهمس‪:‬‬
‫‪ -‬حتى ولو كان األمر كذلك؟ إنني ال أعرف أن اإلنسان يرغب في شيء أقل مما كان يتوقعه‪.‬‬
‫أجاب سمرز على هذا القول‪ ..‬كًّل‪ ،‬إن اإلنسان ال يرغب في شيء أقل مما كان يأمله ويتوقعه‪،‬‬
‫ولكن عليه أن يلتقطه‪ .‬ربما كان ذلك في الدرس األكبر الذي تلقاه في حياته‪ ،‬وربما يكون ذلك‬
‫كل ما تعلمه وكل ما استطاع أي إنسان أن يتعلمه‪.‬‬
‫‪ -‬هل تستطيع أن تواصل عًّلقتك معها يا براوني؟‬
‫‪ -‬ال أشعر برغبة في ذلك‪ ،‬وال أشعر بميل للقيام بهذا فقط‪ ..‬فقط‪.‬‬
‫فقال سمرز وهو يعرف أن هذا هو جوابه‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذا ردك إذن؟‬
‫كان رأيه واض ًحا وقريبًا من ذهنه أكثر من أي يوم مضى‪ ..‬كان قد صمم على ذلك من قبل‪،‬‬
‫ولكنه كان يحب أن يمر من هذا الطريق ويؤكده‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ذلك يا ديك؟‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ .‬خذها‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعني ما تقول؟‬
‫‪ -‬وال تلمها مطلقًا على ما سبق أن اقترفت‪ .‬اترك ذلك بعيدًا عن ذهنك‪ ،‬ستكون زوجة طيبة‬
‫ووفية‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعتقد أنها طيبة الخلق؟ هل تعتقد ذلك يا ديك؟‬
‫كان الغًّلم يرغب في بث الثقة في نفسه‪ ،‬لذلك حاول سمرز أن يبعث فيه هذه الثقة حين قال‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي! لماذا تسأل هذا السؤال السخيف؟ إنها طيبة المعشر‪ .‬وكل ما هناك أنها لم تًّلق‬
‫الرعاية الكافية والمعاملة الطيبة من والدها أو والدتها‪ ،‬وربما زلت قدمها هكذا؛ ألنها لم تجد‬
‫من يداعبها أو يعاملها برقة‪ .‬اترك كل شيء وانسه‪ ،‬وخذها واعتبر نفسك محظو ً‬
‫ظا‪.‬‬
‫‪ -‬ديك‪...‬؟‬
‫خرجت هذه الكلمة قوية معبرة من براوني‪ ،‬في حين تحرك سمرز لينهض وهو متأثر بالنغمة‬
‫التي أطلقها هذا الغًّلم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو كل شيء‪ .‬دعنا نذهب اآلن‪ ،‬وانس ما حدثتني عنه اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لست ً‬
‫طفًّل‪ ..‬إن ما قلته هو الصواب‪.‬‬
‫‪ -‬دعنا نذهب‪.‬‬
‫‪ -‬وما رأيك إذا كانت سترزق بطفل؟‬
‫‪ -‬ليس من الصعب أن تأخذها بطفلها‪ ،‬بغض النظر عمن يكون أب هذا الطفل‪.‬‬
‫نهض براوني واقفًا على قدميه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ي أن أخبر والدي بأني سأتزوج‪.‬‬
‫‪ -‬يجب عل َّ‬
‫ً‬
‫وعادال‪.‬‬ ‫ً‬
‫عاقًّل‬ ‫تفكيرا‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إن ليجي إنسان حكيم وعاقل‪ ،‬ويفكر‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪ ..‬إني جد شاكر لك يا ديك‪.‬‬
‫‪ -‬ال يوجد مبرر لذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تعال هنا يا روك‪ .‬أين ذهب هذا الكلب؟‬
‫‪ -‬إنه يدور وراء شيء معين هنا‪.‬‬
‫‪ -‬ربما ليرى ميرسي‪.‬‬
‫وحين عودتهما‪ ،‬أخذ سمرز يفكر كيف يمكن لإلنسان أن يضطرب‪ ..‬كان ذلك شيئًا سيئًا وهو‬
‫سمت تحت عينيها‪..‬‬ ‫يعرفه على أنه سيئ‪ ،‬ولكنه تذكر وجه الفتاة الحزين والخطوط التي ر ُ‬
‫استطاع أن يدرك األمر‪ ..‬أما مع ماك‪ ،‬فلم يكن يعرف كيف وصل األمر معه‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الخامس والعشرون‬
‫أعمل ليجي إيفانز مهمازيه في جواده لكي يتقدم الركب الذي كان يستعد للتحرك‪ .‬كانت جميع‬
‫العربات قد أُصلحت وأُعدت‪ .‬ثار الحديث بين الجميع‪ ،‬وتم الزواج‪ ،‬فلنتحرك إذن‪ ،‬ولنبتدئ في‬
‫السير‪ ،‬لقد حان وقت التحرك‪ ،‬ال يمكن أن يضيع كل اليوم في حفل زفاف‪ ،‬والبحث عن كلب‬
‫تائه‪ ،‬سوف يتساقط البرد في أوريجون قبل أن تعرفه‪ ..‬فلنشق طريقنا‪ ،‬مستر ومسز جورج‬
‫براون إيفانز‪.‬‬
‫كان يجلس فوق السرج‪ ،‬ثم أعمل مهمازيه في نيللي مرة أخرى‪ .‬كان اليوم يبدو كال ًحا‪ ،‬تهب‬
‫فيه الرياح الباردة‪ ،‬وربما تتساقط فيه األمطار قبل الليل‪ ..‬قطرات صغيرة من المياه تختلف‬
‫عن انهمار األمطار‪ .‬إنه يوم مناسب للزواج‪ ،‬لزواج واحد على أي حال‪ ..‬يوم مناسب لًّلرتباط‬
‫بأحد أفراد عائلة ماك بي‪ .‬لم يكن هناك أي وقت آخر للتفكير في شيء آخر‪ ،‬كان قد تم حلب‬
‫األبقار‪ ،‬لذلك كان التفكير يتركز حول الركب‪ ،‬وحول حياة المستقبل‪ ،‬والبيت الذي سوف يبنيه‬
‫ويشيده‪ ،‬أو كاليفورنيا واألشخاص الذين وقفوا بجانب جرينوود للسير معه إلى كاليفورنيا ‪-‬‬
‫تادلوك‪ ،‬وبروور‪ ،‬وديفزوور‪ .‬وجاء ماك بي إلى تفكيره مرة أخرى‪ ،‬والد زوجته هنري ماك‬
‫ضا‪ ،‬كان هناك شيء واحد فقط يجب أن يسويه مع أفراد ماك بي‪ .‬لم تكن‬ ‫بي‪ ،‬وزوجته أي ً‬
‫مدرارا في صورة أمطار‪.‬‬
‫ً‬ ‫الصورة سوداء‪ ،‬كان هناك تكتل السحب التي يبدو أنها ستنهمر‬
‫كان قد استطاع أن يحول اتجاه ماك بي حينما حاول األخير أن يغير اتجاهه األساسي إلى‬
‫كاليفورنيا‪ ،‬وذلك قبل الزواج مباشرة‪ ،‬لذلك قال ماك بي‪:‬‬
‫‪ -‬ال يمكن أن أقول ماذا سيحدث‪.‬‬
‫كان هناك بريق في عينيه قرأ فيه إيفانز الرغبة في إصدار األوامر بتحرك الركب‪.‬‬
‫فنظر إيفانز خلفه ليرى الركب قد اصطف في النهاية‪ ،‬في حين كان ديك سمرز يقف على‬
‫رأس الركب‪ ،‬وهو يدرك أن اإلنسان قد يرغب في أن يكون وحيدًا مع نفسه ليخلو بنفسه‬
‫وبآالمه‪.‬‬
‫ولم يعتقد أن ماك بي كان يشعر باآلالم‪ ،‬بل كان يرحب باألخبار المفاجئة الخاصة ببراوني‬
‫والفتاة؛ ألن ذلك كان يعني نقص فم عنده‪ ،‬على الرغم من أنه قد يقول إن ميرسي كانت تكسب‬
‫عيشها؛ كانت تساعد في إعداد الوجبات الغذائية‪ ،‬وترعى األطفال‪ ،‬وتقود العربة‪ .‬كان أبواها‬
‫يميًّلن إلى االرتباط بعائلة ترفع أنفها عاليًا‪.‬‬
‫قليًّل من فوق رأسه‪ ،‬ووقف يهز كتفه في اتجاه الريح‪ ،‬إن ما لم يستطع أن‬‫أزاح إيفانز القبعة ً‬
‫يفعله لن يستطيع أن يفعله‪ ..‬اترك ذلك جانبًا‪ ،‬وانس براوني‪ ،‬والليلة السابقة ومناقشاته التي‬
‫انتهت إلى ال شيء‪.‬‬
‫قال في نفسه من غير أن يصدق‪:‬‬
‫‪ -‬زواج؟!‬
‫كان براوني ينتظر في الظًّلم عند البوابة‪ ،‬بعد انتهاء الحديث مع جرينوود‪ ،‬وجره إلى القول‬
‫وإخباره‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا هو ما أهدف إلى تحقيقه يا والدي‪.‬‬
‫‪ -‬تتزوج‪ .‬متى؟‬
‫‪ -‬غدًا صبا ًحا‪.‬‬
‫‪ -‬بمن؟‬
‫‪ -‬أنت تعرف‪ ،‬بميرسي‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬اآلن ‪ -‬انتظر‪ ،‬انظر يا بني‪ ،‬إن هذا أمر ال يتقرر فجأة ومرة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬لقد قررت نهائيًّا‪.‬‬
‫لم يسبق لبراوني أن تحدث معه بمثل هذا الحديث‪ ،‬ولم يسبق له أن وقف هذا الموقف بصوت‬
‫يعكس صًّلبة الرأي‪ .‬وجد إيفانز نفسه يتمنى لو كان هناك ضوء يستطيع به أن يرى وجه‬
‫ضا؛ إذ لم يكونا في الظًّلم سوى صوتين‪ .‬واهتز إيفانز لما ورد في‬
‫الغًّلم‪ ،‬وأن يراه الغًّلم أي ً‬
‫ذهنه‪:‬‬
‫‪ -‬هؤالء آل ماك بي ‪ -‬هنري العجوز‪ ،‬اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لن أتزوجه هو‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما تعتقده أنت‪.‬‬
‫‪ -‬هذا أمر ال يهم على أي حال‪.‬‬
‫‪ -‬هل تحدثت إليه؟‬
‫‪ -‬ليس بعد‪.‬‬
‫‪ -‬أو الفتاة؟‬
‫‪ -‬إنها تنتظر‪.‬‬
‫‪ -‬إنها تعرف أن أبويها سيذهبان إلى كاليفورنيا‪ .‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬هذا ال يهم‪ ،‬ولكني لن أتزوج هنري العجوز كما قلت‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لم تبلغ سوى السابعة عشرة من العمر‪.‬‬
‫‪ -‬إن سني أكبر من السن التي تزوجت فيها‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك فقد كان زواجك موفقًا‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أننا نستطيع أن نوقع ورقة‪ ..‬وها هو ذا األخ ويذربي‪.‬‬
‫كان األمر يبدو إليفانز أن كل شيء يقوله ينعكس ضده‪ ..‬حاول أن يكبح جماح غضبه بعد‬
‫عجزه ويأسه‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬ولكن انتظر حتى نصل إلى أوريجون‪ ،‬فإذا ظللت تشعر بالشعور نفسه‪ ،‬فسوف نحقق‬
‫لك غرضك‪.‬‬
‫‪ -‬م ا لم أتزوجها اآلن‪ ،‬فلن تذهب معنا إلى أوريجون؛ ألن عائلتها كما قلت لن تذهب‪ .‬وعلى‬
‫ضا‪.‬‬
‫أي حال ال أرغب في االنتظار‪ ،‬وال هي أي ً‬
‫‪ -‬هل تحدثت مع ديك؟ لقد شاهدتك تخرج معه‪.‬‬
‫‪ -‬ال تعتقد أنه هو الذي دفعني إلى ذلك يا والدي‪ .‬كان األمر قد انتهى‪.‬‬
‫‪ -‬كيف تعرف أن هذه الفتاة هي ما تريده؟ إنك لم تعرفها إال من خًّلل أوقات النهار‪.‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا والدي‪ ،‬ال تقل شيئًا عنها‪ ،‬إنني أعرف أنها طيبة السلوك‪ ،‬وأكثر من ذلك‪ .‬إنك ال‬
‫تستطيع أن تتقبلها بسبب عائلتها‪.‬‬
‫‪ -‬القطط هي التي تلد قط ً‬
‫طا‪.‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا والدي‪.‬‬
‫‪ -‬هذا هو الوضع‪.‬‬
‫‪ -‬ال تقل شيئًا يقف بيني وبينك‪.‬‬
‫فسأله إيفانز السؤال الذي لم يكن ليسأله‪ ،‬إذا كان عنده من الوقت ما يكفي للتفكير‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعني أنك تفضلها علي؟ وعلى والدتك؟‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬ولكنها كانت إجابة جافة عنيفة‪:‬‬ ‫أخذت اإلجابة وقتًا‬
‫‪ -‬إذا لم يكن أمامي مجال لًّلختيار‪.‬‬
‫ظل إيفانز على صمته بعد ذلك‪ ،‬وحاول أن يتمسك بأي تفكير طيب من األفكار التي ظلت‬
‫تدور في رأسه‪ ..‬تفكير يكفي لكي يعيد الغًّلم نظره في هذا األمر‪ .‬وفي حين هو يحاول ذلك‪،‬‬
‫كان الغضب قد تًّلشى منه‪ ،‬ولم يترك سوى بقايا ورماد‪ ،‬ثم انبرى يقول‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تتحدث إلى والدتك يا براوني‪ ..‬إنك تدين لها بالكثير‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن أرى ميرسي‪.‬‬
‫‪ -‬إنك ال تعني أنك ال ترغب في الحديث مع والدتك؟‬
‫‪ -‬ليس األمر كذلك‪ ،‬إذا كنت أرغب أو ال أرغب‪ -‬ولكني سأتحدث إليها‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه لن يكون هناك شيء يحولك عن هدفك؟‬
‫‪ -‬إنني آسف يا والدي‪ ،‬وآسف أن يزعجك هذا الوضع‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أفكر إال فيك‪.‬‬
‫‪ -‬إذن ال تنزعج‪ .‬إنني أفعل ما أريد أن أفعله‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أشعر بأنك واثق من هذا‪.‬‬
‫‪ -‬إنني واثق وثوقًا تا ًّما‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنهيت الوضع مع ويذربي‪.‬‬
‫‪ -‬ليس بعد‪.‬‬
‫‪ -‬وليس عندك خيمة أو أي شيء من هذا النوع؟‬
‫‪ -‬نستطيع أن ننام في الخارج أو أسفل عربة‪.‬‬
‫‪ -‬تتزوج حديثًا ثم تنام أسفل عربة؟‬
‫‪ -‬حسنًا‪.‬‬
‫وجد إيفانز نفسه يسرع بالقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪.‬‬
‫وذلك بعد أن عرف أن الغًّلم غارق حتى الموت في هذا الزواج‪.‬‬
‫‪ -‬سوف نجد وسيلة ما‪.‬‬
‫‪ -‬إذا لم يكن هناك ما يعوقك فسأتولى شراء خيمة‪.‬‬
‫‪ -‬والدي!‬
‫ً‬
‫رجًّل اآلن‪ ،‬وإنني لم ألمس ذلك إال اآلن‪ ،‬بل كنت أتذكر أيام طفولتك‪.‬‬ ‫‪ -‬أعتقد أنك أصبحت‬
‫سوف أقوم بمحادثة ويذربي‪ ،‬إذا ظللت متمس ًكا برأيك في الصباح‪.‬‬
‫ثم أخذ إيفانز يبتعد رويدًا بأقدام متثاقلة‪ ،‬ثم سأل‪:‬‬
‫‪ -‬أين ذهب روك؟‬
‫‪ -‬ذهب إلى مكان ما ال أعرفه‪.‬‬
‫أخذ إيفانز يستعيد ما ذكره فرأى أنه لم يكن يستطيع أن يقول أفضل من ذلك؛ إذ لم تكن هناك‬
‫كلمة واحدة تستطيع أن توقف سير هذا الزواج‪ ..‬ال كلمة وال طريقة أو حتى سبب‪ .‬لن يمكن‬
‫استعادة الغًّلم بعد أن صمم على رأيه وعزم على تنفيذه‪.‬‬
‫حاول إيفانز أن يلتفت حوله ليبحث عن روك‪ ،‬ولكن كل ما استطاع أن يراه لم يكن سوى‬
‫األعشاب التي تهزها الرياح‪ .‬كان مدر ًكا أن روك سوف يلحق بالركب في أي وقت‪ ،‬وكان‬
‫حتى هذه اللحظة قد وصل إلى درجة من الحرارة تكفي لدفعه إلى تحريك الركب من الليل‬
‫حتى انتهاء القمر واختفائه‪ .‬إنه ال يستطيع أن يطلب من الركب االنتظار حتى ظهور الكلب‬
‫المختفي حتى ولو كان هذا الكلب هو روك نفسه‪.‬‬
‫كانت ربيكا قد تلقت األخبار بهدوء‪ ،‬كما لو كانت قد توقعت حدوثها‪ ،‬ولكنها لم تحدثه أو تؤنبه‬
‫ً‬
‫طويًّل‪ ،‬في حين كان بعيدًا؛‬ ‫أو أن تطلب من براوني االنتظار‪ ،‬ثم عادت إلى الحديث معه وقتًا‬
‫وأخيرا ذهب إلى فراشه‪،‬‬
‫ً‬ ‫ألنه لم يكن يثق في نفسه إذا تحدث مرة أخرى في هذا الموضوع‪.‬‬
‫وسمع أصواتًا تتحدث هامسة خارج الخيمة‪ ،‬لم تتحدث ربيكا مباشرة حينما عادت إلى الخيمة‪،‬‬
‫بل أخذت تخلع مًّلبسها‪ ،‬ثم رقدت في الفراش واضعة يدها فوق كتفه وهي تعرف بطريقة ما‬
‫أنه لم ينم بعد‪ ،‬ثم همست في أذنه حتى ال يسمعها براوني‪:‬‬
‫‪ -‬ربما تكون هذه الطريقة غير التي كنا نأمل فيها يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬وهي ليست الطريقة التي أرغب فيها‪.‬‬
‫‪ -‬ربما يتغير الوضع‪ ،‬ولكن يجب أن تمسك نفسك يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬أخبرته بأنه كان أبله أو سكران‪ ،‬ولكنه كان على ما يرام‪.‬‬
‫صغيرا‪ ،‬هل تتذكر ذلك يا ليجي؟‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إنني أتذكرك وأنت ال تزال‬
‫‪ -‬لقد حصلت على امرأة حقيقية صادقة‪.‬‬
‫‪ -‬ربما يستطيع هو كذلك‪ ،‬إنها فتاة طيبة المعشر‪ ..‬ال تحكم على هذه األمور بسرعة‪.‬‬
‫‪ -‬يبدو أنك قد أصبحت تعتقدين أن األمر سيصير طيبًا‪.‬‬
‫وأخذت يدها تًّلطفه وتقول له‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نأخذ األمور على عًّلتها‪ ،‬ونطورها إلى األحسن واألفضل‪ ،‬ويجب أن تكون لطيفًا‬
‫معها‪ .‬وكل ما أقنعه هو أنه كان على ثقة تامة بأنها حسنة الخلق وكريمة المعشر‪ ،‬لذلك قال‪:‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬سأكون كذلك‪ ،‬إذا تركنا الحديث في هذا الشأن الليلة‪ ..‬إنني متعب‪ ،‬وأشعر بدوار أي ً‬
‫وجاء الصباح‪ ،‬ولكن بمجيئه ظهر التفكير عليها واالهتمام بما ستلبسه الفتاة‪ .‬كانت النساء يبدين‬
‫غريبات في بعض األحيان حتى بيكي نفسها‪ ..‬واستطاعت الفتاة أن ترتدي ثيابًا مناسبة‪،‬‬
‫ً‬
‫وجميًّل‪..‬‬ ‫وزوجين من األحذية الجيدة‪ ،‬وعقصت شعرها بطريقة جعلت وجهها يبدو نحيفًا‪،‬‬
‫ً‬
‫جماال من قبل‪ ..‬لم يكن هناك مجال إلنكار جمال الفتاة‪.‬‬ ‫أكثر‬
‫واستطاع ويذربي أن يتمم الحيلة بسرعة‪ ،‬وهو يعرف أن الركب يجب أن يتحرك‪ ..‬كان‬
‫ويذربي يشعر بالسعادة لحضور حفل زواج‪ ،‬ربما ألن هذا الحفل يعتبر عكس الجنازات الذي‬
‫كان عليه أن يعظ فيها‪ ،‬وألنه يعد بالحياة الجميلة ً‬
‫بدال من الحديث عن نهايتها‪ .‬كيف تسير‬
‫األمور؟ إن ما يربطه هللا ال يفرقه إنسان؟‬
‫كانت صورة الزفاف تقف في ذهن إيفانز وهو يرتدي مًّلبسه‪ ،‬وكان الرجال والنساء يتجمعون‬
‫في ساحة «فورت هول» حتى يمكن أن يكونوا في مأمن‪ ،‬ومعهم بعض الهنود الذين يتعجبون‬
‫من دواء الرجل األبيض‪ .‬وكان براوني يقف شام ًخا‪ ،‬في حين كانت الفتاة تبدو شاحبة‪ ،‬كان‬
‫ويذربي يسأل ع َّم إذا كان هناك من يعترض‪ ،‬وإال فليسكت إلى األبد‪ ،‬فبكت زوجة ماك بي‬
‫وأخذت الدموع تمأل مقلتيها‪ ،‬أما ماك بي فقد كان يعمل كرجل ذي أهمية‪.‬‬
‫كان الركب يمتلئ بالصداقة والمحبة باستثناء واحد أو اثنين‪ ،‬لذلك تمنى الجميع السعادة للرجل‬
‫وعروسه‪ .‬انتظر حتى نصل أوريجون‪ ،‬ونحن نعدك بإعداد منزل دافئ‪ .‬وحاول ماك نفسه أن‬
‫يقدم له زوجين من الثيران كهدية للزواج‪ ،‬ولكن براوني رفضها بطريقة غير مهذبة‪ ،‬كما لو‬
‫كانت الهدية تظهره بمظهر العجز عن إحضار مثلها‪.‬‬
‫هكذا تم كل شيء‪ ،‬وكان الشتاء يبدو في الجو أو مقدماته‪ ..‬وبمرور الوقت سيكون الركب قد‬
‫منزال‪ .‬أخذ يتصور نفسه في هذا المنزل‪،‬‬‫ً‬ ‫وصل إلى أوريجون‪ ،‬ويستطيع أن يقيم له ولعروسه‬
‫وهو يجلس بداخله‪ ،‬والمدفأة مشتعلة وفي الخارج يسمع صوت المطر والثلوج وهي تنهمر‬
‫وتطرق الجدار الخارجي للمنزل‪ ،‬يتخيل نفسه وهو يجلس ومعه بيكي‪ ،‬ومسز جورج براون‬
‫إيفانز التي كانت ميرسي ماك بي في يوم من األيام‪ .‬هل تتذكر آل ماك بي؟ كانت هناك رائحة‬
‫الشواء مما جعل روك يبدو جائعًا‪ ،‬وكذلك رائحة الطهو الجميلة‪ ،‬والخبز‪ .‬يا له من منزل جميل‬
‫هذا الذي أقمنا فيه أيها الغًّلم؟ هل تتذكر تلك الرياح التي كانت تسمع حول «فورت هول»؟‬
‫هل تتذكر كيف كان الجو هناك؟ إن هذا الوقت يبدو حقيقيًّا‪ ،‬آه!‬
‫أخذ إ يفانز ينظر حوله في األشياء التي تقع بعيدة واحدة بواحدة‪ ،‬ولكن ما شاهده كان روك‬
‫نفسه‪ ..‬عاد روك إلى بيته‪ ،‬وكان ما شاهده هو روك وهو يحمل على كاهله السنين الطويلة‬
‫والحكمة التي تبدت في سلوكه وانحنائه تحت األقدام‪.‬‬
‫نزل إيفانز من فوق جواده‪ ،‬وأخذ يتلمس الكلب فرأى آثار جرح في قدمه‪ ،‬وضربات حول فمه‬
‫أدت إلى نزيف الدماء بغزارة‪ ..‬أثار هذا المنظر ثائرته‪ ،‬وأخذ يتذكر هل يمكن أن يفعل تادلوك‬
‫ذلك‪ ..‬كًّل‪ ،‬إن تادلوك رجل ال يفعل ذلك‪ .‬ثم أدرك بعد ذلك أن ماك بي هو الشخص الوحيد‬
‫الذي فعل به هذا‪ ،‬وترك عليه اآلثار لكي يعرفه بأنه قد انتقم لإلهانة التي لحقت به فيما مضى‬
‫حينما كان يهم بقتله على حسب األوامر‪ .‬واعتقد ماك بي أن الفرصة قد سنحت له ألنه سيترك‬
‫الركب متج ًها إلى كاليفورنيا‪ ،‬فانتهز فرصة انتظاره لميرسي من مكان ما‪ ،‬وقام بضربته‬
‫بمطرقة أو هراوة‪ ،‬وظن أن الكلب قد مات‪ ،‬فحمله بعيدًا وألقاه فوق األرض في منطقة ال يمكن‬
‫العثور عليه فيها‪ ،‬ثم عاد وهو يبتسم ابتسامة التشفي‪ ،‬وهو واثق من أن إيفانز لن يوقف الركب‬
‫للبحث عن كلبه‪.‬‬
‫«ال يمكن أن يعبر عما حدث»‪ .‬اعتقد إيفانز أن ماك بي يحاول االعتذار هذا الصباح‪ ،‬وربما‬
‫مغايرا‪ ،‬إذا عرف مسألة الزواج في هذا الوقت‪ .‬ماذا يمكن‬
‫ً‬ ‫يحاول القول بأنه كان يسلك سلو ًكا‬
‫فعله اآلن؟ هل يذهب للقتال؟ وهل يذهب ليضرب هذا الوجه ‪-‬وجه ماك بي الذي تحيط به‬
‫األشجار؟ هل ينتقم لروك العجوز الذي لم يرتكب أي ذنب ضده؟ هل يقاتل ويعلن األمر بأسره‬
‫أمام الجميع؟ ولكن ماذا يحدث بالنسبة لبراوني وعروسه الشابة؟ إن براوني لن يلومها لعمل‬
‫قام به والدها‪ ،‬ولكن هل من الواجب إخطارهما بهذا الحادث حتى يعرفا ما حدث لروك‪ ،‬وسبب‬
‫أي قتال قد ينشأ بين أبويهما‪.‬‬
‫انتصب إيفانز واقفًا‪ ،‬وكان الركب قد زحف متًّلصقًا‪ ،‬وكان هناك شيء واحد يجب فعله‪ ،‬شيء‬
‫ضعيف‪ ،‬ولكنه مقنع‪ ..‬يجب أال يعرف براوني أو ميرسي أو حتى بيكي أو أي إنسان آخر غيره‬
‫وهنري فقط‪.‬‬
‫أحضر جواده ووقف بينه وبين الركب‪ ،‬ثم نقل جسد روك فوق الجواد وهو يحاول إخفاءه بعيدًا‬
‫عن حملقة األعين‪ .‬كان بجوار النهر مجموعة من األشجار الكثيفة وسار بجوارها حتى وصل‬
‫إلى مكان بعيد ثم أنزل روك‪ ،‬وقال له بصوت عال‪ :‬أعرف أنك تدرك ذلك يا روك! ولم يكن‬
‫يهتم بمدى سخافة الكلمات التي صاح بها‪ ،‬ثم نظر بعد ذلك إلى الخلف‪ ،‬فرأى أن روك لم يكن‬
‫يبدو مستري ًحا في رقدته‪ ،‬فعاد إليه وأمسك بساقه ومدها لكي تزيد راحته‪.‬‬
‫كانت الرياح تهب خارج هذه الغابات وتحمل معها رذاذ مياه األمطار‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل السادس والعشرون‬
‫كان األمر يبدو إليفانز اآلن أن اليوم ال يختلف عن سابقه‪ ،‬وأن جميع األيام تسير من سيئ إلى‬
‫ً‬
‫وعمًّل‬ ‫سا مرة أخرى‬ ‫سا وريا ًحا‪ً ،‬‬
‫وليًّل وشم ً‬ ‫أسوأ‪ ..‬كانت كلها ً‬
‫عمًّل وقلقًا وتعبًا‪ ،‬وأتربة وشم ً‬
‫آخر‪ .‬حاول أن يصفر ويترنم بأمله القديم‪ ،‬ولكن النغم اختفى من فمه‪ ،‬كانت آماله قد طحنت‬
‫تحت العجًّلت التي تسير بقوة‪ ..‬وفقد قوته في المرتفعات واألعماق ليختفي وراء المسافات‬
‫الطويلة‪ ..‬كان ضباب اليأس قد غشي األعين وكانت األذن مليئة بشكوى العجًّلت والصناديق‬
‫الصامتة‪ ..‬ثمانية أميال‪ ،‬ثم خمسة عشر‪ ،‬ثم ثمانية‪ ،‬ثم ثًّلثة وعشرون‪ ..‬إن األمر ال يهم‪ .‬إن‬
‫هذه األرض المؤسفة ال نهاية لها‪.‬‬
‫يوم بعد يوم‪ ،‬وأتربة وراء أتربة‪ ،‬وتسلق‪ ،‬وهبوط‪ ،‬ودوران والرمال ترتفع‪ ،‬والعجًّلت تدوس‬
‫على شجيرات «القويسة» التي تفوح رائحتها الجميلة بعد ذلك‪ .‬أين هو العشب؟ أين المياه؟ من‬
‫الصعب ضم الماشية وحراستها في مثل هذه األماكن في الليل‪ .‬كانت الوجوه كالحة‪ ،‬والعيون‬
‫خالية من التعبير‪ ،‬والعقول تفكر فيما قد يحدث حين عبور نهر سنيك‪ ،‬فإن النساء واألطفال‬
‫يستطيعون عبوره‪ ،‬أما الرجال فيقومون بدفع العربات والماشية وحراسة مجموعات من‬
‫الصعب مراقبتها‪.‬‬
‫إنها أرض قاسية‪ ..‬أرض التشققات والنيران‪ ،‬والغليان‪ ..‬إنها أول أرض خلقها هللا عند تكوين‬
‫العالم‪ ..‬تضم الكثير من ثعابين األجراس واألرانب الجبلية‪ ،‬ونبات الصبار‪ ..‬إنها أرض الفقر‬
‫والسموم‪ ،‬فهل تقع أوريجون خلفها حقيقة؟ توجد جبال قريبة وأخرى بعيدة‪ ،‬وثالثة ال تراها‬
‫العين‪ ،‬منحدرات ومرتفعات ال يستطيع أي خبير في ركوب الخيل أن يسير فيها؛ ألنها تتطلب‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫التسلق والهبوط‪ .‬ثمانية أميال‪ ..‬عشرون‪ ،‬واثنا عشر وال يزال األمر ال يهم ً‬
‫كان إيفانز يعرف أن هذا الوقت سيمر بهدوء‪ ،‬وكان على حق وهو يحاول االتجاه إلى‬
‫أوريجون‪ ..‬كان على حاله هكذا طوال الطريق‪ ،‬وكان هذا الطريق يشحن ذهنه‪ ،‬ولكن كان‬
‫عليه أن يفرغ آماله في العرق‪ .‬لم يكن يستطيع أن يراقب األماكن التي يجب أن يسلكها الركب‪،‬‬
‫غا في خطته؛ ألن روك كان يتقدم الركب ليستكشف الطريق‪،‬‬ ‫وكان موت روك قد خلق فرا ً‬
‫وكذلك خلق له زواج براوني‪ ..‬لماذا ينظر إلى هذا الزواج هذه النظرة‪ ،‬على الرغم من أنه لم‬
‫يكن يرفع يده من فوق بيكي حينما تزوجا ويضحكان معًا ويمرحان‪ .‬ال يوجد أي سبب يدعو‬
‫للنظر إلى األمور اآلن نظرة الجد والخطورة‪ ،‬على الرغم من موت الكلب‪ ..‬إن هذا الوقت هو‬
‫وقت المرح؛ ألن المرح يؤدي إلى العمل‪.‬‬
‫لم يكن يعتقد وهو في القلعة أن الطريق سيكون صعبًا وقاسيًا‪ ،‬واستمر ال يؤمن بما قاله‬
‫جرينوود لفترة يومين متاليين‪ ،‬في حين كان الركب يشق طريقه عبر «بورت نويف» متج ًها‬
‫إلى «أمريكان فولز» أي المساقط األمريكية‪ ..‬حيث توجد ينابيع مائية فوق المساقط وجزيرة‬
‫من الحشائش واألعشاب‪ ،‬ولكنه تذكر بعد ذلك أن المناطق العشبية التي كانت تحيط بالقلعة‬
‫كانت تظهر في المناطق الصحراوية الرملية‪ ،‬وفي السهول‪ .‬وكان نهر سنيك يسير عميقًا في‬
‫هذه المنطقة‪ .‬وفي اليوم التالي واأليام التي تلته أظهر له عقله ما لم يكن يستطيع أن يراه‪.‬‬
‫واستمرت األيام‪ ،‬يو ًما بعد يوم‪ ،‬والرمال والصخور كما هي ال تتغير وكذلك شجيرات‬
‫«القويسة» ذات الرائحة الجميلة‪ ،‬ولم يكن يراوده أي شعور بالذهاب إلى أي مكان‪ ،‬لذلك كان‬
‫يشعر بأن الركب يسير في مكان ال يتحرك منه‪ ،‬على الرغم من تحرك العجًّلت‪ ..‬كان يتمنى‬
‫ظهور المياه والخضرة‪ .‬وعاد ذهنه إلى الوراء‪ ..‬إلى «رافت»‪ ،‬وإلى الركب الذاهب إلى‬
‫كاليفورنيا والذي يمر بواد ضحل‪ .‬اآلن يبتدئ ركب جرينوود‪ ،‬وتادلوك‪ ،‬ورجالهما في االتجاه‬
‫نحو الجنوب‪ ..‬كانت أفكار المياه واألعشاب تسيطر على أفكاره ألن لسانه كان قد جف وراودته‬
‫فكرة طيبة‪.‬‬
‫كان األمر الذي يقلق اإلنسان هو العطش والضعف‪ ،‬وجوع الماشية والخيول وأفراد الركب‪.‬‬
‫أخذ يقود الركب وهو يحاول العثور على تجمعات للشجيرات واألعشاب‪ ،‬ولما لم يجد أي‬
‫شيء منها‪ ،‬كان الجميع ينظرون إليه بعيون راجية مترقبة‪ ،‬كما لو كانوا يسألونه عن توجيههم‪،‬‬
‫وقد انهارت معنوياتهم وقواهم أكثر من انهيار الحيوانات‪ ..‬شعر الجميع برغبة في الوقوف أو‬
‫الرقود بما تبقى من حياتهم‪ ..‬وهم يعتقدون أنهم قد اغتنموا أقل فرصة للمعجزة‪.‬‬
‫كان الرجال والنساء يحاولون جهدهم االعتقاد بأنهم أصبحوا قريبين من المياه والعشب‪ ،‬لذلك‬
‫عا في سيرهم‪ ،‬وشعروا لفترة وجيزة بأنهم قد وصلوا إلى المعجزة‪ ،‬حتى‬ ‫كانوا يزدادون إسرا ً‬
‫وصلوا مرة أ خرى إلى منطقة صحراوية وصخرية‪ ..‬كان هذا هو حالهم حين وصولهم إلى‬
‫وافرا‪ ،‬وكذلك عند «سالمون فولز» على الرغم‬
‫ً‬ ‫«سولومون فولزكريك» حيث كان كل شيء‬
‫من أن األعشاب والوقود كانا قليلين عند المساقط‪ .‬وكان عند الهنود هناك أسماك السالمون‬
‫الطازجة والفطائر المصنوعة بالتوت التي كانوا يقايضونها مقابل المًّلبس‪ ،‬والمساحيق‪،‬‬
‫والسكاكين‪ ،‬وشص الصيد‪ ..‬وخاصة الشص الذي تذكر ديك أن يحضر منه الكثير‪ ..‬كانت‬
‫اللحوم الطازجة جيدة المذاق والطعم‪ ،‬وكذلك سمك السالمون‪ ..‬وخاصة بعد مرور أيام كثيرة‬
‫لم يتذوقوا فيها األطعمة الطازجة‪.‬‬
‫وبعد أن رأى إيفانز مس اقط سالمون والهنود‪ ،‬عرف لماذا تحدث سمرز بصوت منخفض عن‬
‫القبائل آكلة األسماك‪ ..‬كانت هذه القبائل صديقة وكثيرة الحديث وهزلية في بعض األحيان‪،‬‬
‫ولكن تفكيرهم كتفكير األطفال‪ ،‬وكانت القذارة تبدو على مًّلبسهم‪ ،‬بل إنهم يقفون عراة في‬
‫بعض األحيان إال من بعض فراء األرانب‪ ..‬وهم يأكلون أي شيء؛ السحالي‪ ،‬والقنافذ‪ ،‬وربما‬
‫الصراصير‪ .‬وكانوا يعيشون في أكواخ من األعشاب وأخشاب الصفصاف التي تؤخذ من‬
‫األشجار التي تقف في نصف دائرة‪ ،‬ذكرته هذه األكواخ بعشش الطيور التي كانت تنتشر على‬
‫طول الطريق‪ ،‬فيما عدا أن هذه الطيور كانت تقوم بالبناء أدق من هؤالء الهنود‪.‬‬
‫كان المعسكر على حالة طيبة على أي حال‪ ..‬أو أنه ‪-‬بأقل تقدير‪ -‬لم يكن رديئًا بغض النظر‬
‫عن قلة وجود األعشاب واألخشاب التي يأسف لها الهنود‪ .‬ال شك في أن تغيير الطعام يساعد‬
‫الركب على المثابرة واالستمرار في العمل الشاق‪ ،‬كما تبرهن عليه الحياة اإلنسانية في هذه‬
‫كثيرا في شمال سنيك‪ ،‬هؤالء الناس شيئًا جديدًا في‬
‫ً‬ ‫البًّلد‪ ،‬وقد منحت الينابيع التي تنفجر‬
‫حياتهم يتحدثون عنه‪ ،‬ينبوع بعد ينبوع‪ ،‬ومياه تتدفق إلى النهر‪ ،‬وتندفع إلى األمام‪ ،‬مما جعل‬
‫سمرز يطلق عليها اسم «تشاتس»‪.‬‬
‫بدأ المزيد من الرمال يظهر فيما بعد‪ ،‬والمزيد من شجيرات القويسة‪ ،‬والمزيد من الصخور‪،‬‬
‫والمزيد من عدم وجود األعشاب أو المياه‪ ،‬والمزيد من استهًّلك المؤن‪ .‬كانوا في طريقهم‬
‫للسير في جهنم هذه‪ ..‬في حين كان إيفانز يخبر نفسه بأنه إذا استطاع أي ركب أن يصل إلى‬
‫أوريجون‪ ،‬فإن هذا الركب سيستطيع أن يصل إليها؛ إذ يوجد فيه أفضل الرجال‪ ،‬وأفضل‬
‫المرشدين الذين عرفهم‪ ..‬تموينه ضعيف ولكنه ليس بالدرجة السيئة التي قد تقل عن أي ركب‬
‫يأتي فيما بعد‪ .‬كان الجميع يرتبطون بعضهم ببعض على حسب اعتقاد إيفانز‪ ،‬حينما كان يراقب‬
‫ديك وهو يظهر أمام عينيه من بين جرف عال‪ ..‬كان جميع أفراد الركب يتبعونه‪ ،‬وكان كل‬
‫فرد يرتبط باآلخر حتى يصلوا عبر سنيك وغيره من األماكن إلى أوريجون سالمين‪.‬‬
‫استمر سمرز في طريقه وهو يقول‪:‬‬
‫منحدرا إلى‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إننا نستطيع أن نحقق الوصول من غير حبال أو أي شيء آخر‪ ،‬الجرف ليس‬
‫هذه الدرجة من السوء‪.‬‬
‫صاح إيفانز في باتش الذي كانت عربتاه في المقدمة ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬قف‪.‬‬
‫ثم رفع ذراعه إلصدار أوامره إلى بقية العربات التي تأتي في الخلف بالوقوف‪ ،‬فالتصقت‬
‫العربات بعضها ببعض ثم توقفت‪ ،‬وتوقفت الثيران من تلقاء نفسها‪ ،‬ثم قال إيفانز لسمرز‪:‬‬
‫‪ -‬ربما يكون من األفضل لنا أن ندلي بحبل للعربة األولى‪ ،‬ثم يسير البعض استعدادًا ألي‬
‫طوارئ‪.‬‬
‫فهز سمرز برأسه عًّلمة اإليجاب‪ ،‬ثم واجه إيفانز بعد ذلك طابور الركب‪ ،‬ثم صاح‪:‬‬
‫‪ -‬على الجميع أن يخرجوا‪.‬‬
‫وأخذ كل فرد يردد هذه الكلمات‪ ،‬ثم انتظر وراقب الوضع حتى نزل كل فرد من الركب‪ ،‬وكان‬
‫آخرهم هي مسز بيرد نفسها التي تتحرك ببطء بسبب طفلها‪ ،‬وأخذ إيفانز ينتقل ويتحرك وسط‬
‫أقرب الرجال إليه‪ ..‬فجاء إليه كل من ماك‪ ،‬وفيرمان‪ ،‬وكاربنتر‪ ،‬واألخ ويذربي‪ ،‬وكانت األتربة‬
‫تكسوهم‪ ،‬ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬يعتقد سمرز أننا نستطيع أن نهبط بسًّلمة‪ ،‬ولكن على كل منا أن ينزل بنفسه مع عربة القيادة‬
‫ليرى كيف تسير وتهبط‪ ،‬ونستطيع أن نوقفها إذا كانت ستندفع‪.‬‬
‫وتبعه الجميع إلى رأس الطابور‪ ،‬حيث كان باتش يقف مع مجموعته ومع سمرز منتظرين‬
‫القيام بالمحاولة‪ .‬وقام أحد األشخاص بربط حبل بمؤخرة محور العربة‪ ،‬وكانت مسز باتش‬
‫تقف في الخلف مع المجموعة الثانية وهي هادئة‪ ،‬كما كانت عادتها من قبل‪ ،‬ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا يا ديك‪ ،‬عليك أن تساعد األخ ويذربي‪.‬‬
‫فقال ويذربي‪:‬‬
‫‪ِ -‬ل َم ال؟‬
‫كما لم تكن هناك إجابة أخرى غير ذلك‪ ،‬وال حتى السنين األربع والستين من عمره‪.‬‬
‫أعمل باتش سوطه في الثيران‪ ،‬وبدأت العربة تسير لكي تقود الباقين‪ .‬كان الطريق ط ً‬
‫ويًّل‬
‫منحدرا لدرجة خطيرة‪ .‬كانت درجة الخطورة تتوقف على حمولة‬ ‫ً‬ ‫ومنحدرا‪ ،‬ولكن لم يكن‬
‫ً‬
‫العربة‪ .‬استطاع باتش أن يصل إلى القاع من غير أي مساعدة تذكر في حقيقة األمر‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من ذلك فقد كان من الحكمة إرسال رجال مع كل عربة‪.‬‬
‫طويًّل وجهدًا ضخ ًما‪ ،‬ولكنها نجحت من غير أي حادث‪ ،‬ثم جاء‬ ‫ً‬ ‫استغرقت هذه الخطة وقتًا‬
‫خطرا‬
‫ً‬ ‫دور القطيع الذي كان يرغب في الجري نحو المياه‪ ،‬لذلك لم يكن هذا الهبوط ثم العبور‬
‫في نهر سنيك‪ ،‬على الرغم من وجود جزيرتين تقفان في وسط المياه تعترضان الطريق‪.‬‬
‫قال إيفانز لسمرز وبقية الرجال الذين اصطفوا على طول ضفة نهر سنيك‪:‬‬
‫‪ -‬إن الطريق طويل للعبور والتيار سريع‪ ،‬ولكن ال يبدو أن المياه عميقة‪.‬‬
‫فأجابه سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن المياه هنا صافية لدرجة يبدو فيها القاع‪ ،‬وكأنه قريب من سطح المياه‪.‬‬
‫‪ -‬كم يبلغ عمقه؟‬
‫ثم أخذ إيفانز يحملق في سمرز الذي كان يجلس فوق جواده‪ ،‬ويبدو عليه التفكير‪ ،‬ثم قال سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬ليس عميقًا ً‬
‫كثيرا‪ ..‬النظر إلى عمق المياه ليس الوسيلة المثالية‪ ،‬ولكننا سنعبره على أي حال‪.‬‬
‫وشاهد إيفانز الشمس وهي تنحدر ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬ديك‪ ،‬يوجد الكثير من الشعب فوق هذه الجزر‪.‬‬
‫‪ -‬الكثير‪.‬‬
‫ضا‪:‬‬
‫وتحدث إيفانز مع اآلخرين وإلى سمرز أي ً‬
‫‪ -‬لندفع الماشية إلى هذه الجزر‪ ،‬ثم نجمعها في الصباح‪ ،‬حتى تتناول ما يكفيها من الغذاء‬
‫والراحة‪.‬‬
‫وكان بيرد هو أول من يجيبه‪:‬‬
‫‪ -‬آمين‪ ،‬لهذا!‬
‫استطاع إيفانز أن يرى ظل التحذير في وجهه الصغير الذي ال يظهر أي نضج‪ ،‬فتعجب كيف‬
‫يبتدئ مثل هذا الرجل هذا الحديث‪ ،‬ولكن سمرز عجل بقوله‪:‬‬
‫‪ -‬إنها فكرة صائبة‪.‬‬
‫ووافق الجميع‪.‬‬
‫‪ -‬ل نجتمع في شبه دائرة‪ ،‬مع أنه قد ال تكون هناك ضرورة لذلك‪ ،‬ولندفع الماشية إلى هذه‬
‫المنطقة العشبية‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي كان فيه إيفانز وبراوني يقومان بتحرير الماشية من قيودها‪ ،‬أخذ إيفانز يفكر‬
‫مرة أخرى في بيرد وفي اإلحراج الذي سببه له‪ ،‬كما لو كان ضعف بيرد يقع على كتفه‪ .‬من‬
‫ً‬
‫رجًّل حاذقًا ذكيًّا مثل بعض الرجال الذين عرفهم ال‬ ‫الضروري أن يكون بيرد في فراشه‬
‫يتصفون بالرجولة‪ ،‬لذلك شعر بأنه مسؤول عنه‪ ،‬على الرغم من أنه تذكر ما سبق أن أخبره‬
‫به ماك‪ ،‬والمناقشة التي تمت بين بيرد وتادلوك من قبل في «فورت هول» بشأن كاليفورنيا‬
‫التي قال فيها بيرد‪:‬‬
‫‪ -‬س وف أستمر في سيري مع إيفانز وسمرز‪ ..‬فإذا استطاع أي إنسان توصيل أي ركب إلى‬
‫وجهته‪ ،‬فإن هذين السيدين سوف يفعًّلن ذلك‪.‬‬
‫كان إيفانز يؤمن بأن هذا النوع من الحديث يشبه أحاديث النساء؛ ألن صحة أو عدم صحة هذه‬
‫اإلجابة تلقي عبئًا كبي ًرا عليه‪.‬‬
‫وضع إيفانز النير فوق األرض وأطلق ماشيته‪ ،‬ثم تقدم إلى األمام ً‬
‫قليًّل ليشاهد زوجة ابنه‬
‫تتطلع إليه‪ ،‬فسألها وهو يحاول أن يبتسم‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت متعبة؟‬
‫فردت عليه بشبح ابتسامة‪:‬‬
‫‪ -‬إنني على خير ما يرام‪.‬‬
‫***‬
‫منتشرا هنا في هذه البقعة‪ ،‬مع أن الضوء‬
‫ً‬ ‫مبكرا‪ ،‬وكان الظًّلم حتى ذلك الوقت‬
‫ً‬ ‫نهض إيفانز‬
‫قد بدأ يلوح في السماء‪ ،‬فوقف خارج خيمته وأخذ ينظر إلى المياه التي رأى فيها مجرد سائل‬
‫يعكس الغباوة من غير ضوء الشمس أو القمر أو حتى النجوم‪ ..‬وصل إليه صوت خريرها‬
‫ضا‪ .‬كانت الدماء تندفع في جسده ببطء بعد‬‫الذي ظل يسمعه طوال الليل حتى في أحًّلمه أي ً‬
‫فترة راحة ونوم‪ ،‬وكان ذهنه خاليًا من األخطار‪ ..‬لقد عبروا النهر حتى آخر دجاجة وديك‬
‫معهم‪.‬‬
‫سار في طريقه نحو الماء‪ ،‬لم يكن يستطيع أن يشاهد قاع النهر‪ ،‬ولكنه شاهد جسدًا أسود‬
‫يتحرك‪ ،‬ربما تكون إحدى األبقار التي تتجه للرعي‪ .‬كانوا قد قادوا الماشية إلى هذا المكان‬
‫فأخذت تسبح في المياه‪ ،‬ثم ترعى األعشاب وتستريح بعد ذلك‪ ،‬ثم شاهد إيفانز بعد ذلك لونًا‬
‫أحمر في السماء في اتجاه الشرق تمهيدًا لظهور الشمس‪ ،‬وقيام أفراد الركب بالنهوض من‬
‫النوم وتناول إفطارهم‪ ،‬وفك الخيام ووضعها داخل العربات‪ ،‬ودفع الماشية والحيوانات في‬
‫طريق الركب‪.‬‬
‫كانت العربات على استعداد باستثناء الحموالت التي كانت قد أفرغت منها عند نصب‬
‫المعسكر‪ ،‬وكان الرجال على حسب تعليمات ونصيحة سمرز‪ ،‬قد توجهوا إلى الغابة باألمس‬
‫للقنص‪ ،‬ولكنهم لم يستطيعوا غير اقتناص شيء قليل جدًّا‪ .‬وتحدث إيفانز مع سمرز ق ً‬
‫ائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذه األعمدة من الخشب لن تستطيع تعويم أي عربة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تهدف أو تعمل على تعويم العربات يا ليجي‪ ،‬ليس هنا‪.‬‬
‫‪ -‬كًّل؟ لماذا؟‬
‫‪ -‬الجزر هنا قوي‪ ،‬لذلك فإن تعويم العربات قد يسحبها ويجرفها إلى مكان بعيد‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا في ذلك؟‬
‫‪ -‬إن ما تريده هو أن تظل العجًّلت ثابتة فوق قاع صلب‪ ،‬سنربط األخشاب بقمة صندوق‬
‫العربة ليمكن أن تطفو بها‪.‬‬
‫ولكن لم يكن هناك ما يكفي من األخشاب لتنفيذ هذه الخطة‪ .‬كان الرجال يجمعون قطعًا صغيرة‬
‫من األخشاب من هنا وهناك‪ ،‬ثم وضعوا ما وجدوه من أخشاب في قاع العربات‪.‬‬
‫ثم تحول إيفانز بعد ذلك بعيدًا عن النهر‪ ،‬بعد أن سمع أصواتًا في المعسكر‪ ،‬ثم شاهد سمرز‬
‫وهو فوق جواده‪ ،‬في حين كانت العربات خلفه تنقسم إلى نوع ظاهر وآخر غير ظاهر بسبب‬
‫الظًّلم‪ ،‬ثم تساءل سمرز‪:‬‬
‫‪ -‬هل استطعت أن تجمع ما يكفي يا ليجي؟ وهل أنت مستعد؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪ ،‬كل شيء معد للعبور‪ ،‬ثم نفكر بعد ذلك في العبور الثاني‪.‬‬
‫‪ -‬العبور الثاني ليس سيئًا‪ ،‬إنه بالقرب من «بواز» حيث يمكن طلب المعونة هناك إذا تطلب‬
‫األمر ذلك‪.‬‬
‫واستمر سمرز يقول بعد ذلك وعيناه تبتسمان وتدرسان وجه إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ألم تنم بما فيه الكفاية؟‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫‪ -‬توجد وسائل كافية لمواجهة الحوادث يا ليجي‪ ..‬ولكن إذا وقع أي حادث‪ ،‬فلن يلومك أي‬
‫إنسان‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪.‬‬
‫فأجابه سمرز وهو يحملق فيما وراء النهر‪:‬‬
‫ً‬
‫ممتازا على ما أعتقد‪ ،‬ولكن هذا األمر‬ ‫‪ -‬تعرف ذلك ولكنك ال تشعر به‪ ،‬هذا هو ما يجعلك قائدًا‬
‫صعب بالنسبة للقناصة‪.‬‬
‫ثم التقت عيناه بعيني إيفانز‪ ،‬واستمر يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أ قسم لك يا ليجي‪ ،‬إنني لم أفكر منذ ميسوري بأنك ستقوم بدور الدجاجة األم من ناحية‬
‫الرعاية‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬ولم أكن أعرف أنا ذلك أي ً‬
‫‪ -‬من األفضل أن تضع أربعة من النير في كل عربة‪ ،‬وستة في بعض العربات األخرى‪.‬‬
‫‪ -‬هذا يعني احتمال استخدام أي مجموعة مرتين أو أكثر‪.‬‬
‫هز سمرز رأسه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬مع أقوى الماشية‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أدرك اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬و أعتقد يا ليجي أننا بحاجة إلى راكب في كل جانب من جانبي النهر‪ ،‬رجل يمسك بحبل‬
‫مربوط في الثور الذي يقود العربة القريبة منه‪.‬‬
‫‪ -‬أ ما الرجل عند الطرف اآلخر فيمسك بمحراك على ما أعتقد ألن هذا الجانب هو الجانب‬
‫الخطير!‬
‫‪ -‬وال شك في أن الطريق إلى الطرف اآلخر سيكون صعبًا يحتاج إلى حرص شديد‪ ..‬دع الذين‬
‫يعرفون السباحة يركبون في هذه األماكن يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬هذا عمل يناسبني إذن‪.‬‬
‫فأجابه وهو يهز برأسه‪:‬‬
‫‪ -‬إنك سمكة‪ ،‬ولكن من الصعب االنتصار على هيج‪ ،‬لقد رأيته في «بير»‪.‬‬
‫‪ -‬سأطلب منه ذلك‪.‬‬
‫قاد سمرز جواده وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنني يجب أن أقوم باالكتشافات؛ ألرى كيف نستطيع أن نسلك الطريق ونعبره‪.‬‬
‫شاهد إيفانز الجواد وهو يقترب من النهر‪ ،‬ثم يغوص في المياه وهو غير راغب في هذا‪ ،‬ولكنه‬
‫عاجز تحت يديه القوية‪ ،‬ويحاول أن يجد موطئًا لقدميه في قاع النهر حين ترتفع المياه من‬
‫حوله‪ ،‬ثم كان عليه أن يسبح في مكان معين‪ ،‬ووجد ديك نفسه يقف حتى ال يبتل بالمياه‪ ،‬ثم‬
‫خرج مندفعًا إلى أقرب جزيرة‪ ،‬فأخذ ديك ينظر حوله‪ ،‬ثم اتجه بعد ذلك إلى المعسكر‪ ،‬كان‬
‫أمامه عمل آخر يجب أن يفعله بعد أن قام ديك بعمله‪.‬‬
‫كانت الشمس قد ارتفعت فوق التًّلل في الوقت الذي كان الركب قد أصبح مستعدًّا فيه‪ ،‬وكان‬
‫إيفانز قد أعد عربته ووضعها في أول طابور الركب‪ ،‬وربط ستة من النير في العربة الكبرى‬
‫وأربعة في الصغرى وهو على اعتقاد تام بأنه يجب أن يجرب الخطر األول بنفسه‪ ،‬ثم اصطفت‬
‫العربات األخرى خلف عربتيه استعدادًا للمسير‪ ،‬وكان الناس يقفون بجوار عرباتهم‪ ،‬أو‬
‫يراقبون الطريق اآلخر من النهر‪ ،‬ويتحدثون ً‬
‫قليًّل ع َّم سيتم في الساعات التالية‪.‬‬
‫كان إيفانز يجلس فوق جواده بالقرب من عربته األولى‪ ،‬ويتلفت إلى ما حوله وهو في مكانه‪،‬‬
‫فالتقت عيناه بعيني براوني الذي كان يجلس داخل العربة الكبرى وبجواره ميرسي‪ ،‬فاتجه‬
‫بجواده نحوهما ثم توقف وقال لهما‪:‬‬
‫‪ -‬إ نني ما زلت غير راض عن ركوبكما هنا‪ ،‬سوف أحاول ذلك بنفسي قبل أن تنطلقا أيها‬
‫الشابان‪.‬‬
‫فأجابه براوني‪:‬‬
‫‪ -‬ل قد ناقشنا ذلك لتونا اآلن يا والدي‪ ..‬دعنا نكون أول العابرين‪ ،‬إنني وميرسي لسنا خائفين‪...‬‬
‫يجب أن نمر بهذه المرحلة بعض الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن تكون المحاولة فيما بعد‪ ،‬بعد أن نرى هذه المحاولة‪ ،‬إذا كان على الجميع أن‬
‫ينتظروا‪ ،‬فيجب عليك أن تعود بالعربات لنقلهم بها‪ ،‬ثًّلث مرات‪.‬‬
‫ضرب إيفانز طرف اللجام في راحة يده‪ ،‬وهو يزن الكًّلم الذي سمعه بعد أن عرف أن‬
‫اختيارهما قد تحدد‪ .‬من الصعب إخافة الشباب ألنهم يعتقدون أنهم يعيشون إلى األبد‪ ،‬وهم‬
‫يعتقدون أن الخطر هو سبب قوتهم‪ .‬كان ذلك واض ًحا في وجهيهما‪ ،‬وكانت اإلثارة بادية عليهما‪،‬‬
‫وتتناسب مع رجل وعروسه الجديدة‪.‬‬
‫أخذت نظراته تجول في اتجاه العربة الثانية حيث كانت تجلس بيكي قلقة‪ ،‬ولكنها كانت تقنع‬
‫نفسها كما لو كانت تخبر نفسها بأن هناك شيئًا يجب أن تواجهه‪ ،‬ثم وجه حديثه إلى الزوجين‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكسب أي جدال في حياتي‪ ..‬اتبعا طريق ديك اآلن‪.‬‬
‫وتذكر اآلن أنه لم يضع مهمازيه‪ ،‬فاتجه إلى العربة الثانية والتقط منها المهمازين‪ ،‬ثم قال‬
‫موج ًها حديثه إلى بيكي‪:‬‬
‫‪ -‬هل ستقومين بهذه المغامرة يا بيكي؟ إذا حققتها فستصلين إلى أوريجون‪.‬‬
‫كانت عيناها جادتين وهي تقول له‪:‬‬
‫‪ -‬اعتن بنفسك يا ليجي‪ ،‬وخذ حذرك يا ليجي‪ ..‬إنني أخاف عليك مثل أي شخص‪.‬‬
‫فرفع المهمازين في يده وأكد أنه سيفعل ذلك‪ ،‬ثم استدار‪ ،‬وكان الجميع في انتظاره‪ ،‬في حين‬
‫كان هيج ممس ًكا بالحبل الذي يربط به الثور‪ ،‬وديك يشق طريقه في قيادة العربة األولى‪.‬‬
‫عا‪:‬‬
‫ثم قال لديك وهو يشاهده يلتفت خلفه ليرى بيرد يأتي مسر ً‬
‫‪ -‬أعتقد أن الطريق أصبح واض ًحا‪.‬‬
‫قال بيرد‪:‬‬
‫‪ -‬إيفانز‪ ،‬إنني قلق بشأن األطفال‪.‬‬
‫‪ -‬سيكونون على خير ما يرام‪.‬‬
‫‪ -‬أعرف‪ ،‬ولكن هل تفترض أنك تستطيع أن تنقلهم؟‬
‫‪ -‬في أول التحركات؟‬
‫‪ -‬إن عرباتك هي أصلح العربات‪ ،‬ومجموعتك أقوى المجموعات‪.‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تستخدم ثيراني‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬عندي عربة واحدة فقط أي ً‬
‫فأجابه إيفانز وهو يتذكر كيف تحطمت عربته الثانية في «جرين»‪:‬‬
‫كبيرا‪.‬‬ ‫‪ -‬إنها تستطيع أن تحمل ً‬
‫حمًّل ً‬
‫فقال بيرد كما لو كان يرغب في أن يفكر أن هناك بعض األشياء األخرى التي يعرفها‪:‬‬
‫‪ -‬ولكني ال أعرف القيادة معرفة تامة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تتول أنت القيادة‪ ،‬بل اجلس فقط‪.‬‬
‫‪ -‬ال يزال‪..‬‬
‫‪ -‬لماذا ال تنتظر حتى نجرب العبور األول؟‬
‫‪ -‬أو أن يذهب األطفال في عربتك‪.‬‬
‫قال ذلك ببساطة‪.‬‬
‫وشعر إيفانز مرة أخرى باإليمان النسائي في حديثه‪ ،‬ولكنه شعر بالثقة وبالطاعة في لهجته‪،‬‬
‫لذلك قال له‪:‬‬
‫‪ -‬أحضرهم إذا رغبت في ذلك‪.‬‬
‫كان لبيرد تسعة أطفال غير الطفل الذي ال يزال في الطريق‪ ..‬وكان جيف هو أول أبنائه ويبلغ‬
‫الثانية عشرة‪ ،‬وهو عريض الوجه مثل والده‪ ..‬ارتقى هذا الطفل عربة براوني‪ ،‬وتناول من‬
‫والده األشياء التي سلمها له‪ ،‬ثم ارتقى ثًّلثة آخرون وراءه‪ ،‬وبقي اآلخرون في انتظار عربة‬
‫بيكي‪ ،‬قال إيفانز بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنتم مستعدون؟‬
‫فرد سمرز موج ًها حديثه إلى براوني‪:‬‬
‫‪ -‬لنتقدم يا صديقي‪.‬‬
‫ثم أعمل مهمازيه في جواده‪ ،‬واندفع براوني وراءه‪ ،‬ثم أخذت الثيران تشق طريقها في المياه‬
‫ببطء‪ ،‬وهي تحملق فيما أمامها من مياه كما لو كانت تحسب لنفسها فرصة النجاح‪ ..‬كان التيار‬
‫المائي يأتي عكس سير جواد ديك‪.‬‬
‫هنا يوجد أعمق جزء من المياه من ضفة النهر حتى أقرب جزيرة‪ ..‬إنها أعمقها‪ ،‬ولكنها ليست‬
‫تيارا أو أخطرها‪ .‬كانت المياه ترتفع بسرعة فوق سيقان القادة حتى وسطهم‪ ..‬وكان‬
‫أسرعها ً‬
‫إيفانز يسير بجواده قريبًا من العربة حتى يمكن أن يعمل بسرعة إذا حدث أي حادث‪.‬‬
‫أخذت الجزيرة تقترب وسط المياه الغزيرة‪ ،‬كما لو كانت تسبح إليهم‪ ،‬وأخذت الثيران ترتفع‬
‫فوق الجزيرة وتسحب خلفها العربة‪.‬‬
‫وقال إيفانز لبراوني والعربة تتوقف‪:‬‬
‫‪ -‬كيف كان ذلك؟‬
‫فأجابه بلهجة تتصف بالروح العالية‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نعوم مثل البط‪.‬‬
‫‪ -‬راقبهم بعد ذلك لترى‪.‬‬
‫كانت الجزيرة الثانية قريبة من األولى حيث قادهم ديك إليها‪.‬‬
‫وفي هذه اللحظة قال سمرز لهيج وإيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إن الرحلة التالية هي أصعبها‪ ،‬وتستطيع أن ترى ذلك‪.‬‬
‫ثم رفع صوته إلى براوني‪:‬‬
‫‪ -‬إن المياه هنا ثقيلة‪ ،‬ولكنها ليست عميقة‪ ،‬كما يعرف بعض الذين عبروها‪ ،‬ولكن يجب علينا‬
‫أن نعبرها‪ ،‬وأن نظل فوق هذه المياه‪ .‬إن ما يقلقني هو أن والدك سيقوم باالغتسال‪ ..‬إنه يسبح‬
‫مثل سمك السالمون سواء بسواء‪.‬‬
‫وبدأ الركب يعبر المياه واحدًا وراء اآلخر ثم الماشية حتى استطاعت العربات والماشية أن‬
‫تصل إلى الضفة األخرى بسًّلم‪ .‬وبعد ذلك مال إيفانز على هيج بعد أن وصل قادة العربات‬
‫إلى الضفة الثانية وقال له‪:‬‬
‫‪-‬لقد وصلنا بإرادة هللا‪ ،‬أجل وصلنا‪.‬‬
‫ولم يجبه هيج؛ إذ لم يكن بحاجة لذلك‪ ،‬فقد أجاب تقطيب وجهه على ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ديك‪ ،‬لقد حققنا العبور بسًّلم‪.‬‬
‫‪ -‬أجل لقد فعلنا ذلك‪.‬‬
‫ثم قال براوني‪ ،‬وهو ال يزال يجلس فوق مقعد العربة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل إنه المرح‪ ..‬لقد كان العبور مجرد مرح‪.‬‬
‫‪ -‬ارفع األشياء التي وضعت داخل العربة للمحافظة على توازنها في المياه‪ ،‬وعليك يا براوني‬
‫أنت وميرسي أن ترعيا األطفال‪ ،‬ال نريدهم أن يكونوا تحت األقدام‪.‬‬
‫فتساءل براوني‪:‬‬
‫‪ -‬أال تريد أن تنقل كل مجموعة إلى مجموعتها األصلية؟‬
‫‪ -‬بعد اآلن‪ ..‬اتركهم يستريحون ً‬
‫قليًّل‪ ،‬إذ سنقوم بعبور آخر على ما أعتقد قبل أن نعيد الوضع‬
‫إلى حالته الطبيعية‪.‬‬
‫وبعد ذلك تحدث إيفانز إلى نفسه‪ ،‬فقال إن حديث األمس كان على حق لم يكن هناك أي شيء‬
‫خطرا‪ ،‬ولكن وجود ديك في القيادة وهيج في الركوب لم‬ ‫ً‬ ‫يغير من الوضع‪ ..‬كان العبور يبدو‬
‫ينتجا أي خطر‪ ،‬بل عبر الجميع النهر وقت الظهر أو بعد ذلك بقليل‪ .‬ثم عاد إيفانز بعد ذلك‬
‫وأبدل جواده‪ ،‬وامتطى نيللي ً‬
‫بدال منه‪ ،‬ثم سأل بيرد‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت على استعداد يا بيرد؟‬
‫‪ -‬مستعد‪.‬‬
‫‪ -‬لم يكن هناك أي شيء نعمله سوى االستقرار‪.‬‬
‫‪ -‬إنني جد شاكر لك‪ ،‬وأشعر بأن األطفال سيكونون في أمان معك‪.‬‬
‫‪ -‬العفو‪ .‬هل قلت إنك مستعد؟‬
‫فأومأ بيرد برأسه‪ ،‬وكانت امرأته تفعل الشيء نفسه‪ ..‬كان إيفانز يخيل إليه وهو ينظر إلى‬
‫زوجة بيرد أنها تشبه الحمامة‪ ،‬ولكنه أخذ يعتقد اآلن أنها أصبحت تشبه البطة‪ ..‬لقد عبرت‬
‫المياه وكادت تغرق فيها‪ ،‬فأخذت تصيح‪:‬‬
‫‪ -‬ليجي‪ ..‬ليجي‪.‬‬
‫األمر الذي جعله يسرع إليها مع أن صوتها كان قد ضاع في أول األمر وسط الصياح‪ ،‬وأسرع‬
‫عدد كبير من األفراد وراءه‪ ،‬وكذلك بيرد الذي كان يصيح‪:‬‬
‫‪ -‬روث‪ .‬روث‪.‬‬
‫فرد عليه إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ال يمكن أن تكون قد ماتت‪ ..‬إنها لم تغرق‪.‬‬
‫‪ -‬روث!‬
‫فانبرى ديك يقول‪:‬‬
‫‪ً -‬‬
‫مهًّل‪.‬‬
‫ثم قلب مسز بيرد ورفعها من وسطها ورأسها متجهة إلى األرض ليفرغ المياه التي ابتلعتها‬
‫في جوفها‪ ،‬وجاءت بيكي في هذه اللحظة وهي تعنفه بناظريها؛ ألنه لم يستطع أن يعرف ماذا‬
‫يفعل‪ ،‬وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت بخير يا ليجي؟‬
‫‪ -‬على خير ما يرام‪.‬‬
‫وقف الجميع صامتين‪ ،‬في حين كان سمرز يستخدم طريقته الخاصة مع مسز بيرد‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنها تعود إلى الحياة اآلن‪ ..‬أستطيع أن أشعر بالحياة تدب في أوصالها‪.‬‬
‫ثم أدارها مرة أخرى‪ ،‬ليراها الجميع وهي تفتح عينيها‪ ،‬فانحنى عليها بيرد ليجذب رداءها حتى‬
‫يغطي فخذيها ويسألها‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت بخير اآلن يا روث؟‬
‫لم تجبه على الفور‪ ..‬كانت عيناها منتفختين مبتلتين‪ ،‬وأخذتا تنتقًّلن من وجه آلخر‪ ،‬كما لو‬
‫كانت تتساءل ع َّم كان يحدث والناس يحملقون فيها هكذا‪.‬‬
‫كانت قد أصبحت على خير حال ما عدا صياحها‪ ،‬ولكنها نهضت واقفة بسرعة‪ ،‬وساعدها في‬
‫ذلك كل من بيرد واألخ ويذربي‪ ،‬وتركتهما يقودانها إلى العربات‪ ،‬ثم قالت بيكي بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تجعلوها تستريح ً‬
‫قليًّل‪.‬‬
‫ثم تبعتهم لتضع بطانية فوقها وسارت معها بعض النساء‪.‬‬
‫فقال سمرز بعد ذلك إليفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ما أضعف الطريق الذي اخترته بالذهاب إلى أوريجون‪.‬‬
‫وكانت ابتسامته تقول شيئًا آخر‪.‬‬
‫‪ -‬ما الخسارة؟‬
‫‪ -‬ليس عندي وقت يكفي إلحصائها‪.‬‬
‫فهز رأسه كما لو كان ال يستطيع أن يصدق هذا القول‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعتقد ذلك سوى أن هناك تشققًا في اللسان‪.‬‬
‫‪ -‬ليست ماشية؟‬
‫‪ -‬أعرف ذلك‪ ،‬ولكن يجب جذب هذه العربة قبل أن تجنح‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا يفعل بيرد؟‬
‫‪ -‬ركب جواده وابتعد‪.‬‬
‫‪ -‬إنني أتعجب‪ ..‬ماذا يوقف العربة اآلن؟‬
‫‪ -‬ال تزال المجموعة ممسكة بها‪.‬‬
‫عاد بيرد في هذه اللحظة من بين العربات‪ ،‬وتساءل إيفانز حينما سمع ما يقال‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك أي خطأ؟‬
‫‪ -‬كًّل‪ ،‬أعتقد أنها على خير ما يرام اآلن‪ ،‬نسيت أن أوفيك حقك من الشكر؛ لذلك أتيت ألشكرك‬
‫اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬ال عليك‪ ،‬وكل ما حدث هو أنني أعرف كيف أسبح‪.‬‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن أنسى هذا العمل من جانبك‪ ،‬وأود أن تعرف أنت ذلك‪.‬‬
‫ولما لم يستطع إيفانز أن يفكر في أي شيء أكثر من ذلك ليقوله‪ ،‬عاد بيرد مرة أخرى من حيث‬
‫أتى‪ .‬فقال سمرز وهو يراقبه ينسحب‪:‬‬
‫‪ -‬إنه رفيق يثير الضحك‪ ،‬ولكني أعتقد أنك ستنال المزيد من الشكر يا ليجي‪.‬‬
‫ولكن إيفانز استدار‪ ،‬وابتعد‪ ،‬وهو يقول‪« :‬سنقيم المعسكر هنا؛ ألن هناك الكثير من األشياء‬
‫الًّلزمة إلصًّلح العربات وإشعال النيران‪ .‬فهل تعتقدون جميعًا أنه المكان المناسب؟»‪.‬‬
‫كانت رؤوس تقول نعم‪ ،‬وأضاف سمرز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬وسوف يمد ه ذا المكان الماشية بالمزيد من األعشاب والغذاء؛ ألن طريق المستقبل لن يقل‬
‫صعوبة وقسوة‪.‬‬
‫كانت عينا إيفانز قد اتسعتا لمراقبة ما حوله‪ ،‬على الرغم من التعب واإلنهاك اللذين شعر بهما‬
‫بعد عبور نهر سنيك‪ ،‬وإصًّلح عربة بيرد‪ ،‬وتجفيف حاجاته ورعاية مسز بيرد حتى تشعر‬
‫ً‬
‫محاوال أن يطرد من ذهنه صورة‬ ‫بتحسن‪ .‬وكان يرقد في ذلك الوقت فوق سريره ويتقلب فيه‬
‫المياه التي طغت على رداء مسز بيرد وكادت تغرقها‪ ،‬ثم شعر بكلمات ربيكا التي رددتها من‬
‫قبل‪ ،‬والتعبيرات التي انعكست على وجهها‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أرضى بك ً‬
‫بديًّل يا ليجي‪ ،‬حتى ولو باثني عشر من نوع بيرد‪ ..‬عليك أن تتذكر ذلك‪،‬‬
‫وتذكر بالفعل ذلك‪.‬‬
‫وشعر بالمياه تغلي من حوله‪.‬‬
‫هب نسيم خفيف في خارج الخيمة‪ ،‬فاختلط صوت هذا النسيم بصوت خرير المياه‪ ،‬وشعر بأنه‬
‫لو استمع إلى هذا الصوت لتمثل أمامه صوت روك العجوز وشبحه الذي سيستمر معه حتى‬
‫أوريجون‪ .‬أخذ النسيم يهب بصورة قوية ليهز الخيمة‪ ،‬واستطاع إيفانز أن يتصور النجوم فوق‬
‫ضا أنها ترقص في المياه‪.‬‬
‫رأسه داخل الخيمة؛ ألن الليلة كانت صافية من الغيوم‪ ،‬وتصور أي ً‬
‫ونقل إليه تيار الهواء صوت أقدام تسير‪ ،‬وصوتًا يناديه‪:‬‬
‫‪ -‬إيفانز‪ ،‬أيها القائد‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬بيرد‪.‬‬
‫خيرا‪.‬‬
‫‪ً -‬‬
‫‪ -‬زوجتي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا بها؟‬
‫فتوقفت ربيكا عن شخيرها‪ ،‬وشعر إيفانز بأنها تستمتع إلى ما يقوله بيرد‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنها في طريق الميًّلد‪ ..‬على الرغم من أن الوقت لم يحن بعد‪.‬‬
‫‪ -‬بيكي‪.‬‬
‫فردت عليه بصوت مرتفع‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬إنني أستمع‪ ،‬سأحضر إليك ً‬
‫حاال يا مستر بيرد‪.‬‬
‫أرجوك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫فرد عليه إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬سنكون عندك في الحال‪.‬‬
‫ثم قالت لهما بيكي وهي تنهض من فراشها‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن تشعًّل النار اآلن‪.‬‬
‫وسمع إيفانز صوت أقدام بيرد وهي تبتعد‪ ،‬ثم قفز من فراشه والتقط مًّلبسه وصاح يحدث‬
‫زوجته وهي ترتدي مًّلبسها‪:‬‬
‫‪ -‬ما مدة الحمل التي قضتها؟‬
‫‪ -‬إنها في الشهر السادس اآلن‪ ..‬إنها فترة ال تكفي لكي يولد الطفل حيًّا‪.‬‬
‫‪ -‬ربما جاء ذلك نتيجة الرعب الذي عاشته حينما كادت تغرق‪ ،‬أو ربما تكون قد أصيبت‬
‫بنزيف‪.‬‬
‫‪ -‬إنها كان تعمل وتجهد نفسها باستمرار لفترات طويلة‪.‬‬
‫‪ -‬إنها لم تذكر أنها قد صدمت في شيء‪.‬‬
‫‪ -‬ابحث عن شمعة يا ليجي‪ ..‬توجد هناك شمعتان أو أكثر في الصندوق‪.‬‬
‫وجد الشمع‪ ،‬لذلك سار معها إلى خيمة بيرد بعد أن أشعل الشمعة من النيران التي كانت موقدة‪.‬‬
‫استطاع أن يرى داخل الخيمة أشبا ًحا في بداية األمر‪ ،‬ثم شاهد عددًا من األسرة‪ ،‬وعيون طفلين‬
‫تعلقا به‪ ..‬كانت خيمة كبيرة‪ ،‬ويجب أن تكون كذلك وبها أربعة أسرة‪ ،‬كانت مسز بيرد ترقد‬
‫وبجوارها أصغر أوالدها‪ ،‬في حين كان بيرد يقف بجوارها‪ ،‬ثم همست في أذن ربيكا‪ ،‬ثم وضع‬
‫إيفانز الشمعة الموقدة فوق أحد األواني المقلوبة‪.‬‬
‫كانت ربيكا قد ركعت بجوار الفراش‪ ،‬ثم أحنت رأسها بجوار إيفانز‪ ،‬وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬ا ذهب باألطفال إلى الخارج يا ليجي‪ ،‬وتستطيع أن تنقل بعضهم إلى فراشنا أو فراش ماك أو‬
‫فيرمان أو باتش‪.‬‬
‫فقال بيرد‪:‬‬
‫‪ -‬انهضوا يا أطفال‪ .‬انهضوا‪ .‬إليزابيث‪ ،‬ماما مريضة‪ ،‬ال حاجة بك ألن ترتدي مًّلبسك‪.‬‬
‫هرع األطفال بعيدًا عن فراشهم‪ ،‬وكان يبدو إليفانز أن األطفال يدركون الوضع من غير أن‬
‫يخبرهم أي إنسان‪ ،‬ولما غادروا الخيمة أخذوا يتطلعون خلفهم‪ ،‬ولم يتحدث أي منهم‪ ،‬وشاهد‬
‫إيفانز ربيكا وهي تنقل أصغر األطفال‪ ،‬الذي كان يرقد بجوار أمه إلى سرير آخر من األسرة‬
‫الخالية‪.‬‬
‫درا مليئًا‬
‫واستطاع إيفانز وبيرد أن يضعا األطفال في مكان‪ ،‬ثم عادا إلذكاء النار وليضعا ق ً‬
‫سا أكثر مما توقعه إيفانز‪ ،‬وربما تكون النيران هي التي‬ ‫بالماء فوقها‪ .‬كان ظًّلم الليل دام ً‬
‫أظهرت ما يبعد عنها بمظهر الظًّلم الدامس‪.‬‬
‫وبينما كان بيرد يذكي النار‪ ،‬ذهب إيفانز إلى الخيمة ودخلها‪ ،‬ثم وقف وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أعددنا كل شيء‪ ،‬وقدرين من المياه المغلية‪ ،‬هل هناك شيء آخر يا بيكي؟ سوف تحضر‬
‫ت بحاجة إليهن‪.‬‬
‫إليك مسز ماك‪ ،‬ومسز باتش‪ ،‬ومسز فيرمان‪ ،‬إذا كن ِ‬
‫وبينما هو يتحدث ظهر التشنج على وجه مسز بيرد واهتز جسدها أسفل الغطاء‪ ،‬فهزت رأسها‬
‫بالموافقة‪ ،‬وأمنت على ما سبق أن ذكره بيرد‪.‬‬
‫مرت أزمة التشنج تاركة الوجه متعبًا ومرهقًا‪ ،‬ثم فتحت مسز بيرد عينيها‪ ..‬فتحتهما بطريقة‬
‫تشبه األموات فالتقيتا بعيني إيفانز‪ .‬لم ير إيفانز فيهما عيني مسز بيرد أو أي سيدة أخرى‪،‬‬
‫وإنما شاهد فيهما ربيكا وبراوني‪ ،‬وميرسي‪ ،‬وجميع أفراد الركب‪ ..‬شاهد كل شخص‪ ،‬شاهد‬
‫نفسه‪ ،‬شاهد النظرات المجروحة المتواضعة القلقة المليئة باألمل التي تعتبر النظرة الحقيقية‬
‫لإلنسان‪.‬‬
‫خرج إيفانز فالتقى بمسز ماك‪ ،‬وشاهد مسز فيرمان تقف بجوار النيران التي تشتعل بجوار‬
‫الخيمة‪ ،‬وهي تطهو حساء لكي تقدمه لمسز بيرد‪ ،‬وكانت األبخرة تتصاعد من القدور التي‬
‫وضعت فوق النيران‪ .‬كان بيرد يضع المزيد من الخشب فوق النار‪ ،‬حين حملق في وجه إيفانز‬
‫كما لو كان يود أن يسأله عن الحالة‪ ..‬ولكن إيفانز لم يستطع أن يفكر في شيء يستحق أن يقول‬
‫عنه أي شيء‪ ،‬جلس بجوار النار حتى يخفف عن الرجل بصحبته‪.‬‬
‫كان ينظر إليها على أنها حمامة‪ ،‬ثم تغيرت النظرة إلى بطة‪ ،‬ثم إلى دجاجة‪ ..‬إنها امرأة لطيفة‬
‫مثل اللبن‪ ،‬لم تكن عندها قوة لتثبت نفسها في أذهان اآلخرين‪ ،‬حتى التأوهات‪ ،‬والصراخ الذي‬
‫صدر منها وجعل بيرد ينتصب على قدميه واقفًا‪ ،‬كان يخرج ضعيفًا؛ إذا كانت األمور تسير‬
‫في طريقها السليم‪ ،‬فمن يستطيع أن يطلق عليها اس ًما بعد عشر سنوات من اآلن؟ ماذا كان‬
‫اسمها؟ كانوا يقولون‪ ،‬أنت تعرف هذه المرأة الهادئة الصغيرة؟‬
‫ولكن منذ لحظة نظر في عينيها ثم نظر في األرض وعرف أنها كانت صادقة معه‪ُ .‬و ِلدَ الطفل‬
‫ميتًا على حسب ما قالته ربيكا قبل أن ترسل السماء من الشرق تحذيرها بساعة أو ساعتين‪،‬‬
‫فقاموا بدفن الطفل‪ ،‬ولم يطلقوا عليه أي اسم‪ ،‬وإنما اكتفوا بقيام ويذربي بتًّلوة الصًّلة‪ .‬وبعد‬
‫ذلك قاموا بإعداد فراش خاص لمسز بيرد استعدادًا للتحرك لًّلتجاه نحو «بلوز»‪ .‬كان اليوم‬
‫هو الخامس عشر من أغسطس‪ ،‬فمن يستطيع أن يقول إن الثلج كان يتساقط في هذه اآلونة في‬
‫«بواز»؟‬
‫***‬
‫الفصل السابع والعشرون‬
‫قال إيفانز وهو يفتتح جلسة المجلس‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن نحدد األمور اآلن‪.‬‬
‫سا مختلفًا بعد ذهاب بروور وتادلوك سعيًا وراء كاليفورنيا‪ ،‬وانتخاب باتش وشيلدز‬ ‫كان مجل ً‬
‫تغييرا إلى األحسن على حسب اعتقاد كيرتس ماك‪ .‬لم يكن إيفانز على عجل‬ ‫ً‬ ‫مكانهما‪ ،‬وكان‬
‫في إجراءات المجلس‪ ،‬وكان قد أخرج سكينه الرفيع ليقلم بها أظفاره‪ ،‬واستطاع ماك أن يرى‬
‫أسفل قميصه عضًّلته المفتولة‪ ..‬فشعر ماك بشيء من الحسد والغيرة‪ ،‬بأن هذا الرجل يستطيع‬
‫بكل ثقة أن يشق طريقه إلى أوريجون‪ ،‬ويستطيع أن يقود أي منظمة في البًّلد‪ ..‬كان ر ً‬
‫جًّل‬
‫حقيقيًّا‪ ،‬يرغب في السلم والتواضع‪ .‬لم يكن المستقبل الذي يشع منه هو الذي يثير حسده‪ ،‬وإنما‬
‫رجولته القوية‪ ،‬والنظرة إلى مًّلمحه وأخًّلقه المسالمة التي تجذب الناس إليه‪ .‬ال يوجد بداخله‬
‫ضعف‪ ،‬أو صراع خفي‪ .‬كان ماك يتعجب‪ ،‬أال توجد أخطاء‪ ،‬أو ثقة مهزوزة؟ هل يعرف‬
‫الدوافع غير القانونية؟ هل يصحو ً‬
‫ليًّل ليحاول الهروب من المحاكمة؟‬
‫أبعد ماك ناظريه عن الوجه العريض‪ ،‬وكانت السماء مليئة بالسحب‪ ،‬ولكن لم يكن هناك أي‬
‫خطر من سقوط أمطار‪ ..‬واستطاع أن يرى نقطة وضَّاءة وسط السحاب المتجه إلى الغرب‪،‬‬
‫وعرف أنها ال بد أن تكون الشمس‪.‬‬
‫فقال شيلدز‪:‬‬
‫‪ -‬إن أول شيء يجب تقريره هو الخروج من هذه القلعة‪ ..‬الصبر‪.‬‬
‫جلسوا بعيدًا عن دائرة الركب قريبًا من النهر‪ ..‬كانت القلعة تقع بعيدًا‪ ،‬ولكنهم كانوا قد ظلوا‬
‫يشمون رائحة السمك الطازج والفاسد والجاف‪ ،‬وكذلك أوراق الشجر المتطايرة الكثيفة‬
‫المحيطة بنهر سنيك‪.‬‬
‫واستمر شيلدز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬ل م أستطع أن أنام باألمس بسبب رائحة السمك والمياه واألسماك التي تقفز وترتطم بالمياه‪..‬‬
‫سمك في األذن‪ ،‬وسمك في األنف‪ ،‬وسمك في الطباق الذي تمضغه‪ ،‬يا إلهي! إنه أسوأ شيء‬
‫شاهدناه‪.‬‬
‫وافق ماك في قرارة نفسه على أن قلعة «بواز» هي أسوأ ما شاهدوه‪ ،‬في حين اشترك اآلخرون‬
‫مع شيلدز في الحديث عن الرائحة‪ ،‬وكان إيفانز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬سوف نترك هذا المكان غدًا بعد أن نتمم العمليات التجارية‪ ،‬لقد حصلت على كمية كبيرة من‬
‫السمك المجفف تكاد تكفيني طول حياتي‪.‬‬
‫فقال باتش‪:‬‬
‫مسرورا إذا غادرنا سنيك‪ ،‬لتأخذه إنجلترا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬سأكون‬
‫حول إيفانز الحديث إلى مجال األعمال‪:‬‬
‫‪ -‬إن العمل الكبير هو ماذا نستطيع أن نفعل بالماشية؟ كما يقول جرينوود‪ ،‬ماذا نفعل بالماشية؟‬
‫كانت كلماته تبدو لماك كما لو كانت قطرات من المياه تسقط في بركة من المياه الهادئة‪ ،‬لذلك‬
‫تحول اهتمامه إليهم وبدأ يتجه إلى األراضي والليالي التي قضاها هنا‪ ،‬والليالي التي تلت ذلك‬
‫في «سودا سبرنجز»‪ ،‬وخيبة أمل الفتاة‪ ،‬و«فورت هول»‪ ،‬والزواج ورفض براوني قبول‬
‫هدية الثيران التي لم تكن في حقيقة األمر هدية‪ ،‬وإنما كانت صفقة لخلق هدنة بينهما‪.‬‬
‫وفي هذه األثناء قال باتش‪:‬‬
‫‪ -‬أ عتقد أننا نستطيع أن نقود الماشية بسهولة؛ ألن الركب من دالس حتى ويًّلميت لن يكون‬
‫أسوأ مما سبق‪.‬‬
‫فسأله إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬من يكون «نحن»؟‬
‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬أحدنا‪ ،‬أو بعضنا‪.‬‬
‫‪ -‬ال توجد أي مجموعة للحديث عنها‪ ..‬تذكر ذلك‪ ،‬يجب أن تبحث عما يخصك‪ ،‬وال أحد يعرف‬
‫الطريق معرفة تامة سوى سمرز‪ .‬فسأل شيلدز إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ما الخطأ بالنسبة لسمرز؟‬
‫‪ -‬لقد قال إنه سبق له القيادة‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫‪ -‬ال تعتقد أننا يجب أن نتركه يفعل ذلك‪.‬‬
‫فسأل دورتي‪:‬‬
‫‪ -‬ولماذا؟‬
‫‪ -‬إننا ندفع له لكي يوصلنا إلى دالس‪ ،‬ولم ندفع له المزيد‪ ،‬وقد فعل أكثر مما طلبنا منه‪.‬‬
‫وتدخل ماك في المحادثة ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ال شيء يقف في وجه عقد اتفاق جديد‪ ،‬نستطيع أن نقدم له المزيد من المال‪.‬‬
‫فأجاب إيفانز بسرعة وبهدوء‪:‬‬
‫‪ -‬وهل كل فرد مستعد هنا مثلك؟‬
‫كانت هذه الكلمات تبدو كمجرد محاولة لجر الباقين‪ ،‬لذلك قال ماك‪:‬‬
‫مسرورا إذا دفعت له نيابة عن الجميع‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬سأدفع له عن نفسي‪ ،‬وسأكون‬
‫عاد إيفانز يتحدث مرة أخرى بهدوء‪ ،‬في حين شاهد ماك في عينيه الرد على قوله‪:‬‬
‫‪ -‬ال داعي ألن تقوم أنت بذلك‪.‬‬
‫فتساءل ماك‪ ،‬وهو يعرف من قبل‪:‬‬
‫‪ِ -‬ل َم ال؟‬
‫سا أو حتى باتش أو‬ ‫اعتقد إيفانز أن الباقين ال يقلون عنه في المقدرة على الدفع‪ ،‬إذا لم يكن مفل ً‬
‫عا من اإلحسان لن يقبله حتى بيرد الفقير‪ ،‬أو شيلدز‪،‬‬ ‫فيرمان‪ ،‬واعتقد أن هذا العرض يعتبر نو ً‬
‫أو دورتي‪.‬‬
‫اعتقد ماك فجأة أن كل شيء يقوله مصيره الرفض‪ ..‬الرفض دائ ًما‪ ،‬براوني يرفض‪ ،‬وإيفانز‬
‫يرفض‪ ،‬والمجلس يرفض‪ ..‬كما لو كان وضعه يعتبر جريمة‪ ،‬وكما لو كان قد أُب ِعد عن الركب‬
‫عزل عنه‪ ..‬كًّل‪ ،‬لن يسمحوا له بأن يفعل ما يريد أن يفعله‪.‬‬
‫أو ُ‬
‫فأجاب إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬نحن ال نهتم‪.‬‬
‫‪ -‬إذا لم تسمحوا لي بالدفع‪ ،‬فليس هناك أي غبار على ذلك‪ ،‬يمكنكم أن تصبحوا مدينين لي حتى‬
‫تتحسن أحوالكم‪.‬‬
‫وقبل أن يكمل حديثه‪ ،‬ظهر أمامهم هندي عاري القدمين والجسد يحمل في يده سمكة‪ ،‬في حين‬
‫كانت يده األخرى تحك فروة رأسه‪ ،‬ولكن إيفانز هز رأسه عًّلمة الرفض وأبعده ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ال نريد تجارة اآلن‪ ،‬ربما فيما بعد‪.‬‬
‫ثم أعطى الهندي حفنة من الطباق لكي يتخلص منه‪ ،‬ووجه حديثه بعد ذلك إلى ماك‪.‬‬
‫‪ -‬هذه خطوة طيبة منك‪ ..‬ولكن دعنا نرى إذا كانت هناك طريقة أخرى‪.‬‬
‫ثم سأل شيلدز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل يريد سمرز أن يتولى قيادة الماشية عبر الطريق؟‬
‫فرد إيفانز وكان هادئًا لفترة قصيرة‪ ،‬كما لو كانت الكلمات ال تعني ربط سمرز‪:‬‬
‫ً‬
‫شماال نحو «واال‪ ،‬واال»‪.‬‬ ‫‪ -‬ليس من أجل نفسه‪ ،‬ولكننا نستطيع كما ترغبون جميعًا أن نتجه‬
‫فقال باتش‪:‬‬
‫‪ -‬أميال إضافية‪.‬‬
‫فهز إيفانز برأسه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬و لكن ربما تستهلك القلعة مدخراتنا الغذائية والحيوانية‪ ،‬وتصدر إلينا األوامر باإلتجار مع‬
‫فورت فانكوفر‪ .‬لقد سمعت أنهم فعلوا ذلك من قبل‪.‬‬
‫فسأل فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬و لكننا ال نستطيع أن نتحقق من ذلك‪ ،‬أو من أنهم سيفعلون الشيء نفسه مرة أخرى؟‬
‫‪ -‬ليس بالتأكيد‪ ،‬ولكن الرجل الموجود هنا في «بواز» ما اسمه؟ كريجي‪ -‬كريجي قال إنهم‬
‫ربما يفعلون ذلك‪.‬‬
‫فقال باتش‪:‬‬
‫‪ -‬إذن يجب أن نقوم بالرحلة النهرية عن طريق واال واال‪ ،‬إن هذه الرحلة تتطلب المزيد من‬
‫ضا ثمن إيجار الزوارق والهنود‪ ..‬نقود‪ ،‬أو حلي غير قيمة‪ ،‬ولم تعد معنا حلي من هذا‬
‫المال أي ً‬
‫النوع‪.‬‬
‫فأخبره إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أكره الخضوع لإلنجليز بعد اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬إنهم قوم طيبون‪ ،‬كرماء‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لم أقل إنهم لم يكونوا كذلك‪ ،‬على الرغم من أنني الحظت أنهم ال يتركون أي شيء يمر‬
‫من غير أن يستفيدوا منه في تجارتهم‪ .‬إن النقطة المهمة هنا هي أن هذه األرض ليست أرضهم‪.‬‬
‫اهتزت الرؤوس جميعًا بالموافقة على هذه الكلمات‪ ،‬ثم أعقب ذلك فترة صمت بعد أن أصبحت‬
‫المشكلة واضحة وضو ًحا تا ًّما مثل نبات الصبار‪ .‬اختاروا بعد ذلك االتجاه إلى «واال واال»‬
‫وفرصة االقتراض على ماشيتهم‪ ،‬ووافقوا كذلك على ترك ديك سمرز في دالس سواء دفعوا‬
‫له أو لم يدفعوا‪ ،‬لكي يقود الماشية فوق األرض‪ .‬فأكد ديك أنه يذهب من غير مقابل‪ ،‬ولكن‬
‫المجلس كان مترددًا‪ ،‬كما لو كان ينتظر ردًّا سحريًّا‪ .‬ثم تحدث إيفانز بعد ذلك وسط الصمت‬
‫والسكون‪:‬‬
‫‪ -‬إ نكم تعرفون أن األبقار لم تستطع سلوك الطريق بصورة مرضية؛ إذ فقد الكثير منها على‬
‫طول الطريق‪.‬‬
‫فقال شيلدز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أكره أن أفكر في المزيد من الصعوبات‪.‬‬
‫‪ -‬إن األيام األخيرة السابقة لوصولنا إلى نهر «بواز» كادت تقتلني يا إلهي‪.‬‬
‫فأضاف دورتي‪.‬‬
‫‪ -‬إنها كادت تحطم كل إنسان‪ ،‬ثم أرسل إلينا هللا بعد ذلك هذا النهر وهذه األشجار‪.‬‬
‫فتساءل باتش‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ماذا بشأن الرجال غير المتزوجين؟‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬أنتم تعرفون‪ :‬هيجنز‪ ،‬وبوتر‪ ،‬وأنسيكو‪ ،‬وموسى‪.‬‬
‫فتساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بشأنهم؟‬
‫‪ -‬إنهم ذاهبون إلى مدينة أوريجون‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫فقال فيرمان‪:‬‬
‫‪ -‬هذا هو االتفاق مع رجالي‪.‬‬
‫فأضاف ماك‪:‬‬
‫ضا على ما أعتقد‪.‬‬
‫‪ -‬وموسى‪ ،‬وأنسيكو أي ً‬
‫‪ -‬أال يستطيعون قيادة الماشية ودفعها إلى األمام؟‬
‫فأجاب إيفانز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬ح ينما تكون الرحلة صعبة‪ ،‬يكون من السهل أن يترك وراءهم الماشية إذا لم يكونوا من‬
‫جلدك‪ .‬من الممكن أن نضع خطة حتى ال يقوم هؤالء ً‬
‫مثًّل باالستيًّلء على الماشية ألنفسهم‪.‬‬
‫وأخذ ينقل السكين من يد ألخرى‪ .‬وفي هذه اللحظة قال قبل أن يتضح كًّلمه في ذهنه‪:‬‬
‫‪ -‬سأذهب‪.‬‬
‫فتساءل إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬تذهب؟‬
‫‪ -‬سأذهب‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أطالب أي فرد بالذهاب‪.‬‬
‫‪ -‬عندي الكثير من الماشية؛ لذلك من األفضل أن أرعاها بنفسي‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا بشأن زوجتك؟‬
‫‪ -‬إن هذا يتوقف‪ ...‬أليس من الممكن أن يسير الركب بأسره عبر األراضي؟‬
‫‪ -‬ليس بوساطة عربات‪ ..‬إذ يعتقد ديك أن الطريق ال يصلح للعربات‪.‬‬
‫‪ -‬على ظهور الخيل إذن‪ ،‬على أن يقوم بعضكم بنقل المتاع عبر النهر‪ ،‬وإذا لم يكن معنا رفقاء‬
‫فتستطيع أرماندا أن تذهب معكم‪.‬‬
‫فأجاب إيفانز ببطء وهو ينتزع من األرض ساق عشب‪:‬‬
‫‪ -‬تستطيع بالطبع‪.‬‬
‫وجد ماك نفسه يتحدث بلهجة الطوارئ‪ ،‬كما لو كان هناك سبب في ذهنه يدفعه إلى الضغط‬
‫عليهم لقبول رأيه‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقولون إذن؟‬
‫كانت وجوههم تفكر وعقولهم تعمل بسرعة‪ ..‬هل يقولون «نعم» أو «ال»؟‬
‫ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬أليس من األفضل أن تسألها؟‬
‫‪ -‬لن تمتنع عن قبول رأيي‪.‬‬
‫فقال شيلدز بصوت منخفض‪ ،‬كما لو كان قد أحرج بسبب هذا التعليق‪:‬‬
‫‪ -‬هذا جميل منك‪.‬‬
‫وأخذ إيفانز ينقل ناظريه من وجه آلخر‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا تقولون؟‬
‫لم يتحدثوا على الفور‪ ،‬بل ظلوا يراقبون الوضع‪ .‬واستطاع ماك أن يفهم الجواب‪ ...‬فكر من‬
‫غير أي غضاضة‪ ..‬فكر وهو يدرك إدرا ًكا تا ًّما أنهم إذا لم يأخذوا نقوده‪ ،‬فإنهم سيأخذون منه‬
‫ضا‪ ،‬لذلك قال فيرمان‬
‫تعبه وعرقه ووقته‪ .‬وكان هذا هو الحق والصواب بالنسبة لهم وله أي ً‬
‫موج ًها حديثه إلى إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬إنه كرم كبير منه‪ ...‬إذا قام بذلك؟‬
‫فانتصب ماك واقفًا في حين كان اآلخرون يهزون رؤوسهم‪:‬‬
‫‪ -‬إذن انتهى الوضع‪ ..‬سأبحث عن العزاب لكي نتوجه معًا إلى الطريق‪.‬‬
‫وبعد ذلك أخذ يفكر في وضعه وهو راقد في فراشه يستمع إلى صوت ارتطام سمك السالمون‬
‫ضا‬
‫في النهر بعد القفز عاليًا‪ .‬لم يكن يؤمن باهلل الذي يؤمن به الناس اآلخرون‪ ،‬وكان يشك أي ً‬
‫في األخًّلق والسلوك األدبي‪ .‬وهو ال يستطيع أن يحدد معنى المعصية والذنب‪ ،‬ولكنه كان‬
‫يؤمن باألمانة التي قد ينتهكها في بعض األحيان مرة أخرى‪ .‬أما بالنسبة لبقية األعمال األخرى‪،‬‬
‫فإنه يرتكبها من غير تحفظ‪ .‬لم يكن ليستطيع أن يمحو الحقائق بعيدًا‪ .‬كان الجزء الهام من‬
‫شعوره هو أن ينسى‪ ،‬ويأسف على ما حدث منه‪ ..‬من معاملته للفتاة‪ ،‬وقتله الهندي من «الكو»‪.‬‬
‫كًّل‪ ،‬لم يعتقد أن هناك مثل هذا الشعور وهذا التصرف الذي أقدم عليه‪ ..‬لقد تصرف عن جوع‪،‬‬
‫وعن خيبة أمل‪ ،‬أو عن غضب‪ .‬خرج ليقتل الهندي‪ ،‬وليغتصب ويغوي الفتاة‪ .‬فهل هو الملوم‬
‫بعد ذلك؟! أو هي الظروف التي دفعته إلى ذلك؟ إنه هو هللا الذي لم يستطع أن يوفيه حقه؟ كان‬
‫الرجل يعرف بعض الدوافع الغريبة‪ ،‬لذلك حاول أن ينسى ويترك هذا الوضع‪.‬‬
‫لم يفلح في النسيان؛ إذ ال يستطيع أي إنسان أن يفلح في النسيان إذا كانت األشباح تطارده‬
‫وتهدم إيمانه‪ ،‬وإذا كان ال يستطيع أن يسيطر على جوانحه‪ ..‬إن اآلثام تثقل كاهله‪ ..‬التوبة‪ .‬أوه‪،‬‬
‫بالتأكيد‪ ،‬التوبة‪ ..‬إنها الطريق إلى الصًّلح‪ .‬حسنًا‪ ،‬لقد بدأ الملحد‪ ،‬الذي ال يؤمن بشيء‪ ،‬يقتنع‬
‫بضرورة الذهاب وقيادة الماشية إلى الوجهة المحددة من أجل روحه الضائعة‪ .‬التوبة؟ التكفير‬
‫عما سلف؟ تقديم التعويض؟ إنها كلمات الكنيسة‪ ..‬الكلمات الجادة التي يرددها ويذربي دائ ًما‪.‬‬
‫إلى جهنم بهذه الكلمات‪ .‬لم يكن يقدم هذه الكلمات هلل أو للمسيح أو لروح القدس‪ ،‬أو حتى للركب‬
‫نفسه‪ ،‬وإنما كان يفعل ذلك من أجل نفسه‪ ..‬وكان هدفه هو إقناع نفسه وإرضاؤها بعمل يعوضه‬
‫عن آالم ذاته؛ لكي يعادل سيئاته ويمشي مرفوع الهامة‪ ،‬أمام كيرتس ماك‪ ،‬أي أمام ذاته ونفسه‪.‬‬
‫بقي هذا الشعور والوضع كما هو‪ ،‬وبقيت صًّلبة رأيه وعناده على ما هو عليه من غير تغيير‪،‬‬
‫ولم يكن يهتم في ذلك بالطريق إلى السماء‪.‬‬
‫كان على استعداد اآلن للنوم؛ إذ كان التعب قد أخذ منه مأخذه‪ ،‬ولكنه شعر قبل أن يستغرق في‬
‫نومه أنه يستطيع أن يتتبع أفكاره بشعور أقل من المرارة والقلق‪ ،‬ثم جاءت إلى أنفه رائحة‬
‫ضا بأنه يستطيع‬
‫أماندا‪ ،‬وشعر بأنفاسها اللطيفة وهي تصل إلى مسامعه برقة وهدوء‪ ،‬وشعر أي ً‬
‫أن يشاهد القطيع وهو يقطع الجبال‪ .‬ولم يعرف متى يستطيع أن يشعر بالراحة والتحسن‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الثامن والعشرون‬
‫كانت المنطقة الواقعة بين «بواز» ودالس التي يجب على الركب أن يقطعها هي نهاية التجربة‬
‫للوصول إلى أوريجون أو عدم الوصول إليها‪ .‬كانت اإلجابة مكتوبة هنا بوساطة آثار العجًّلت‬
‫التي كانت تسير ببطء‪ ..‬كان السؤال قد ظهر منذ سنوات مضت حينما فقد اإلنسان بدايته وسط‬
‫السهول‪ ،‬وبين شجيرات «القويسة»‪ ،‬ومناطق الجبال الرملية‪ .‬كان قد فقد كل ذلك في األماكن‬
‫التي عبرها‪ ،‬وفي األعمال التي تمت ويتذكرها من قبل حتى أصبحت جميع هذه األشياء حقيقية‬
‫بالنسبة له‪ ،‬ودفعته إلى أن يتساءل ع َّم إذا كانت هناك مدينة «إندبندس» أو ميسوري‪ ،‬وبقعة‬
‫كان يطلق عليها من قبل لفظ منزل في حقيقة األمر‪ ،‬أو أنها أصبحت ذكريات أو تبخرت من‬
‫ذهنه‪.‬‬
‫وكان يتساءل ع َّم إذا كانت هناك في حقيقة األمر دالس‪ ،‬أو أوريجون أو كولومبيا؟ وهل كان‬
‫هناك أي شيء خلفه أو أمامه‪ ..‬أي شيء سوى االستمرار في السير وسط األرض‪ ..‬أي شيء‬
‫في حياته غير المسافة التي يجب قطعها بالمزيد من المسافات التي يجب قطعها؟ كان كل ما‬
‫يعرفه بسببه هو هذا السير مع المجموعة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فقد انتهت شكوك األيام العصيبة‪ .‬انتهت أيام الشك‪ ..‬لم يكن إيفانز بحاجة‬
‫إلى أن يخبر نفسه بهذا الوضع‪ .‬كانت الحقيقة كبيرة وواضحة في نفسه‪ ،‬لدرجة مألت نفسه‬
‫شا‪ .‬لم يكن قد شعر بهذا الشعور منذ‬ ‫بالراحة وأرخت عضًّلته‪ ،‬وجعلت وجهه يبدو بشو ً‬
‫طفولته‪ ،‬ومنذ وجوده في مدينة سانت شارلز‪ .‬كان يجب أن يمسك نفسه من االندفاع‪ ،‬ومن‬
‫طلب أي شيء من األفراد والمجموعات ال يستطيعون أداءه‪ .‬كان يجب أن يبقى في ذهنه أنه‬
‫قد ولد ومعه قوة ال يمتلكها كثيرون غيره‪ ،‬إنهم سيصلون في القريب العاجل إلى التًّلل وإلى‬
‫نهر كولومبيا الكبير‪ .‬وفي حين كان الركب يسير كان يراقب األفراد الضعفاء‪ ،‬كان يراهم‬
‫جميعًا في مخيلته‪ ،‬يسيرون تحت الشمس وهم يصيحون ويعرقون‪ ،‬وال يشعرون إال باألمل‬
‫الذي يدفعهم إلى أرض الميعاد‪.‬‬
‫كان يمضي كل يوم يولي وينتهي واألميال التي تذوب وتتًّلشى‪« ..‬مالور» ثم «بيرتش كريك»‬
‫وأخيرا اآلن‬
‫ً‬ ‫بعد أن تركوا نهر سنيك من غير أي أسف‪ ،‬ثم «بيرنت ريفر»‪ ،‬و«باودر»‪،‬‬
‫الطريق الجاف الصعب الذي يقطعه هذا الركب للوصول إلى «جراند روندي»‪.‬‬
‫كان هناك مكان في «بيرنت ريفر»‪ ،‬هو «بروليه» اسم أسماه سمرز تحيطه بعض الجبال‬
‫المدببة التي ال يمكن أن يسير بجوارها أي إنسان‪ ..‬استطاع الركب أن يصل بعد مشقة يومين‬
‫من السير المتواصل إلى هذا المكان‪ ،‬ولم يكن أمامه سوى طلب الراحة وإقامة المعسكر‪.‬‬
‫وأبعدت الثيران بعد ذلك عن العربات حتى يمكن أن تنال قسطها من الغذاء والراحة‪ ،‬وكان‬
‫الرجال يعملون وهم يتحركون ببطء تام بعد أن نال منهم اإلجهاد والتعب مناله‪ ،‬فأخذوا ينصبون‬
‫خيامهم‪ ،‬ويشعلون النيران‪ ،‬ويترنمون ترنيمات خافتة‪ ،‬ثم أخذوا ينتظرون نساءهم وهن يطهين‬
‫طعامهم‪ ،‬في حين كان األطفال يصيحون ويمألون الفضاء بأصواتهم وهرجهم‪.‬‬
‫ولكن أيام الشك كانت قد انتهت‪ ،‬وشعر إيفانز بأنه ارتفع إلى قمة االحتفال‪ ..‬كان الركب قد‬
‫ً‬
‫أمياال أخرى عبر الصحراء والجبال‪،‬‬ ‫قطع عدة أميال من بًّلت إلى جرين إلى سنيك‪ ،‬ثم قطع‬
‫لذلك سوف يقطعون األميال الباقية بنجاح‪.‬‬
‫كان يفكر في بعض األحيان في الخسائر التي أصيب بها الركب من وفاة مارتن‪ ،‬ودفن تود‬
‫فيرمان بساقه المسمومة‪ ،‬والطفل الذي أنجبته مسز بيرد ميتًا قبل أوانه‪ ،‬وروك العجوز الذي‬
‫اعتاد أن يأتي في أعقابه باستمرار‪ .‬وفكر كذلك في بعض الخسائر األخرى مثل مشاجرته مع‬
‫تادلوك وسقوط بعض الثيران في الطريق‪ ..‬وعلى الرغم من كل ذلك‪ ،‬فإن هذه الرحلة والنتيجة‬
‫التي وصل إليها الركب كانت تستحق هذا الثمن؛ إذ ال توجد حلوى من غير نار‪ ،‬وال يمكن‬
‫الوصول إلى الحرية من غير ثمن‪ ،‬ويجب أن يكسب اإلنسان فرصة تحسين مستوى معيشته‬
‫وحياته بأي ثمن‪ ..‬وال تستطيع أي أمة أن تنمو وتزدهر ما لم يضح البعض‪ .‬لقد كان الثمن‬
‫غاليًا‪ ،‬ولكن من يستطيع أن يقول إنه كان مرتفعًا إال بالنسبة لهؤالء الذين يضنون بالقليل؟‬
‫قد يعتقد بيرد أن هذا األمر ليس صوابًا؛ ألنه واجه الكثير من الصعاب الخانقة‪ ،‬ولكن اإلنسان‬
‫يتعرض دائ ًما لألزمات؛ ألن الحياة تحمل في طياتها الخير والشر والغث والسمين‪ ،‬ومع ذلك‬
‫لم يكن ما حدث هو كل شيء؛ إذ ظل هناك المزيد مما هو أسوأ‪ .‬وفي الطريق أوقف إيفانز‬
‫مجموعته عند منطقة مزروعة بشجيرات القطن‪ ،‬وكانت الجبال تحصر بينها جدول المياه‪.‬‬
‫جفف إيفانز جبهته وقال‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أقسم يا ديك‪...‬‬
‫فقال له سمرز وهو فوق جواده‪:‬‬
‫ً‬
‫مستحيًّل‪.‬‬ ‫‪ -‬إن األمر ال يبدو‬
‫‪ -‬ال يوجد أي مكان للعبور منه من هنا؛ إذ إن قمم الجبال تبدو أنها ستدمر قمم العربات‪.‬‬
‫فهز سمرز رأسه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬استطاع غيرنا أن يمروا من هنا‪.‬‬
‫‪ -‬يجب على أفراد الركب أن يخرجوا واحدًا وراء اآلخر‪ ..‬كم كنت أتمنى أن يقوم من سبقنا‬
‫بشق طريق لمرور غيره منه‪.‬‬
‫توقف سمرز عن الحديث‪ ،‬وأخذ ينظر إلى الجبال الشامخة ذات القمم المدببة‪ ،‬ثم استمر إيفانز‬
‫يقول‪:‬‬
‫‪ -‬و حينما نمر‪ ،‬سنترك هذه التًّلل خالدة إلى األبد‪ ،‬كما هي تحطم قمم العربات‪ ،‬كما تفعل معنا‬
‫اليوم أيها الصديق‪.‬‬
‫فتحدث إليه سمرز‪ ،‬من جانب فمه‪:‬‬
‫‪ -‬هل تريد أن تعود من حيث أتينا؟‬
‫‪ -‬ليس بعد اآلن على ما أعتقد‪.‬‬
‫وبدأت العربات خلف إيفانز تستعد للتحرك‪ ،‬في حين قال لسمرز وهو يجلس في مقعده‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا المرور لن يكون ً‬
‫سهًّل‪.‬‬
‫ثم قاد إيفانز مجموعته بعربته فوق أرض جعلت العربة تقفز‪ ،‬ثم تهبط بفعل الحجارة‪ ،‬في حين‬
‫مزق غطاء قمة العربة‪ .‬وكانت الثيران تتعثر في مشيتها‪ ،‬األمر الذي جعل العربة تتأرجح كما‬
‫لو كانت مركبًا تتقاذفه أمواج البحر‪ .‬لم تكن العربة قد بنيت بطريقة تمنعها من فقد توازنها‬
‫والسقوط على جانبها‪ ،‬ولكنه استطاع أن يقود مجموعته بنجاح من هذه المنطقة الخيرة‪ ،‬ثم‬
‫ترك مجموعته التي استطاع أن يمر بها بنجاح‪ ،‬واتجه إلى المجموعات األخرى ليعطي‬
‫أوامره‪.‬‬
‫‪ -‬م ن األفضل حينما يأتي موعد تحرك مجموعة‪ ،‬أال تترك النساء أو األطفال داخل العربات‬
‫حين تتحرك‪ .‬سنحاول إمرار ثًّلث على الفور‪ .‬على الجميع أن يستعدوا‪.‬‬
‫حسنًا! كاربنتر! جورهام! هل يرغب أي فرد منكما في المساعدة؟‬
‫تقدموا بضع خطوات‪ ،‬وكانت وجوههم قد استعدت لهذا التحرك منذ الصباح‪ ،‬وضاقت أعينهم‬
‫انتظارا للصعوبة التي تواجههم اآلن تحت أشعة الشمس‪ ،‬ثم قال إيفانز‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬سنعرف كيف نتخطى هذه الصعوبة في المرة القادمة بعد التجربة األولى التي تخطيتها‪.‬‬
‫وسارت المجموعة الواحدة تلو األخرى تتخطى الصعوبات وقوى الطبيعة العنيفة‪ .‬كان نهر‬
‫كثيرا عن هذا المكان‪.‬‬
‫كولومبيا يقع بعد ذلك فيما وراء «بلوز»‪ ،‬أو ال يبعد ً‬
‫وكان الهواء يتحرك بكسل‪ ،‬فرفع إيفانز قبعته ليترك بعضه يمر فوق رأسه حتى يجف عرقه‪،‬‬
‫ثم سأل سمرز ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك المزيد من مثل هذه األماكن يا ديك؟‬
‫‪ -‬يجب أن نستعد ألسوأ منها في الليل‪ ،‬ونتحمل الصعاب‪.‬‬
‫فقال جورهام‪ ،‬وهو يرفع رأسه إلى أعلى‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أرجو أن يتحقق ذلك‪ ..‬ألم يحن الوقت لكي نتناول طعامنا اآلن؟‬
‫طابورا غير منظم وسط‬
‫ً‬ ‫كانت بعض النساء واألطفال يتبعون عربة يقودها دورتي‪ ،‬ويكونون‬
‫منحدر الجبل‪ ،‬ثم خرج إيفانز واثنان آخران معه من الطابور تاركين دورتي يسير في طريقه‬
‫المنحدر‪.‬‬
‫كانت ربيكا تسير بين بقية النساء مع جوديث فيرمان‪ ،‬وميرسي‪ ،‬ومسز جورهام‪ .‬وفي هذه‬
‫األثناء اندفعت عربة بيرد واصطدمت ثم انقلبت وتحطمت وكادت تقتل ديك وبيرد‪ ،‬لوال أن‬
‫قفز ديك بعيدًا وكذلك بيرد‪ .‬شعر إيفانز باألسف لبيرد‪ ،‬وبالحزن على ما يصيبه من سوء‬
‫باستمرار‪ ،‬وحاول أن يخفف عن بيرد‪ ،‬ولكن بيرد رد عليه ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬لست بحاجة يا إيفانز ألن تقول أي شيء‪.‬‬
‫‪ -‬سأحصل على منشار‪.‬‬
‫‪ -‬منشار؟‬
‫‪ -‬لكي أصنع لك عربة‪ ..‬سنقوم بتقسيم عربتك إلى عربتين‪.‬‬
‫‪ -‬أوه!‬
‫ضا لممتلكاتك‬
‫‪ -‬هناك بعض العربات التي تتسع لك ولعائلتك إذا رغبت في ذلك‪ ،‬وتتسع أي ً‬
‫وأبنائك الصغار‪.‬‬
‫لم يجبه بيرد‪ ،‬وإنما تحولت عيناه عن العربة إلى الجرف‪ ،‬وإلى الماشية الطليقة التي كانت‬
‫تنحدر من مرتفعات الجبال‪.‬‬
‫‪ -‬إنك لست في هذه الدرجة من السوء‪ .‬هيج يعرف كيف يصنع لك عربة من الطراز األول‪.‬‬
‫كانت نظرة بيرد ال تزال تائهة في المسافات البعيدة‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن طريق العودة طويل‪.‬‬
‫‪ -‬ب التأكيد هو كذلك‪ ،‬ولكن عندنا ما يكفي من الوقت لكي نقوم بنشر األخشاب قبل أن نتناول‬
‫طعامنا‪.‬‬
‫***‬
‫خرج ويذربي بعيدًا عن المعسكر وهو يلقي نظرة على الحلقة التي كانت تلعب أوراق اللعب‪،‬‬
‫وكان الركب بحاجة إلى راحة‪ ،‬ولكن طرق الراحة قد تختلف وتكون شريرة‪ ،‬لذلك كان من‬
‫األفضل التعب في سير الركب ً‬
‫بدال من الوقوع تحت أقدام الماشية‪ ،‬أو تحمل الجسد ألوزار‬
‫أخرى وإفساد الروح‪.‬‬
‫كانت األفعال تبدو أسوأ من الشر نفسه في هذا المكان نفسه‪ ..‬وكان الناس يطلقون عليه اسم‬
‫«جراندي روندي»‪ ،‬كانت بقعة تشبه البقعة التي عاش فيها آدم‪ ..‬الجنة التي عاش فيها فترة‬
‫من الزمن وخرج منها‪ ..‬كانت قدما ويذربي تغوصان في األعشاب الطويلة‪ ،‬وكانت العين ترى‬
‫المياه في كل مكان‪ ،‬وكذلك الحشائش والقنب‪ ،‬واألعشاب‪ ،‬وكل شيء آخر‪ ،‬كما لو كانت تحمي‬
‫المكان‪ ..‬الجبال التي ترتفع شامخة في أعنان السماء‪ ،‬توجد هنا غزالن كثيرة‪ ،‬وأيائل‪ ،‬ودببة‪،‬‬
‫وأسماك تكفي لتغذية الكثير من البشر من غير أي معجزة‪ ،‬وكان الرجال قد ظلوا يلعبون‬
‫الورق‪.‬‬
‫فكر ويذربي في التأمل‪ ..‬إنه مكان يصلح للتأمل‪ ،‬لتكريس النفس هلل‪ ،‬والمشاركة في قوته وحبه‬
‫والجمال‪ ..‬ترك روحه ترتفع بتواضعه وتسمو مع خالقها‪ ..‬يجب على اإلنسان أن يفعل ذلك‬
‫كثيرا حتى يشعر بنعمة هللا وكرمه‪ ..‬ويجب عليه أن يعترف باهلل‪ ،‬وأن يقبل مشيئته من غير‬‫ً‬
‫أي اعتراض اعترافًا بوجوده المقدس‪.‬‬
‫وبعد ذلك شاهد أمامه هنديًّا يأتي راكبًا جوادًا‪ ،‬كان هنديًّا من «الكانور» من غير شك أو من‬
‫«نيه بيرسيه»‪ .‬وهنا عرف وشعر بالدليل الحي القاسم على وجود الكثير من الهنود حول هذا‬
‫المكان‪ ،‬كانوا نظيفي المًّلبس والمظهر‪ ..‬وكانوا رجا ًال أكفاء عندهم الكثير من القمح والذرة‬
‫والخضراوات‪ ،‬ويتاجرون في الجلود مقابل المًّلبس الصوفية والقطنية والجياد الممتازة التي‬
‫يتم المقايضة عليها بالماشية‪ .‬وكانت نساؤهم متواضعات ونشيطات‪ ،‬وسعيدات بإبدال النعال‬
‫المصنوعة من جلود الغزالن بأي هدايا بسيطة‪ .‬وقد اختفت الوثنية من هذه القبائل‪ ،‬وذلك بفضل‬
‫الديانة المسيحية؛ وألن بعض الرجال الدينيين‪ ،‬مثل الدكتور ويمان‪ ،‬وسبالدنج‪ ،‬قد أنشأوا‬
‫إرساليات لنقل الحق إليهم والتعاليم الصحيحة‪ ،‬لذلك قال ويذربي للهندي‪:‬‬
‫‪ -‬أسعدت مساء‪.‬‬
‫فابتسم الهندي واقترب منه‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫‪ -‬كيف حالك؟‬
‫‪ -‬هل أنت من الكايوز؟‬
‫‪ -‬إنني مسيحي‪.‬‬
‫جاءت اإلجابة مفاجأة لويذربي‪ ،‬ولكنها كانت اإلجابة التي يرغب في سؤالها‪ ،‬لذلك قال له‪:‬‬
‫ضا ‪ -‬واعظ‪.‬‬
‫‪ -‬إنني مسيحي أي ً‬
‫فهز الهندي برأسه‪ ،‬كما لو كان يؤكد فهمه للكلمات‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬رجل طيب‪ ..‬يصلي‪.‬‬
‫‪ -‬دعنا نصلي اآلن‪ ..‬دعنا نتحدث إلى الروح القدس‪.‬‬
‫‪ -‬نصلي اآلن؟‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬نصلي اآلن!‬
‫نزل الهندي من فوق جواده‪ ،‬ثم ركع بجوار ويذربي فوق األعشاب‪ ،‬وحاول ويذربي أن يجعل‬
‫صًّلته بسيطة‪ ،‬فأخذ يردد‪:‬‬
‫شكرا يا رب على نعمائك‪ ،‬ونشكرك على منحنا الحياة والصحة والجمال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪« -‬إننا نسجد لك‬
‫ونشكرك على حبك إيانا ‪-‬الرجل األبيض والرجل األحمر‪ ،‬وكل البشر فوق األرض‪ .‬فساعدنا‬
‫يا رب على أن نكون ً‬
‫أهًّل لهذا الحب‪ ،‬وساعدنا على تنفيذ مشيئتك‪ .‬إننا نرجوك أن تساعد على‬
‫أال نقسم بآلهة أو أصنام زائفة أو نعبدها‪ ،‬أو نشرب ماء النار‪ ،‬أو نرتكب الزنا والمعاصي‪.‬‬
‫فلتنزل رحمتك علينا يا رب‪ ،‬آمين»‪.‬‬
‫فردد الهندي وراءه كلمة «آمين»‪ .‬وفي حين هو يقول ذلك‪ ،‬كان يقرأ في داخل نفسه صًّلة‬
‫أخرى طالبًا من هللا أن يمنحه القوة والحكمة لكي ينفذ مشيئته بين هؤالء الوثنيين الفقراء الذين‬
‫يقيمون في كولومبيا كما سبق أن فعل كل من ويتمان‪ ،‬وسبالدنج مع هذه القبائل‪.‬‬
‫وشع ر ويذربي باالنتعاش حينما نهض‪ ،‬وشعر بأنه قد اختير لحمل رسالة‪ ،‬وأنه أصبح قويًّا‪،‬‬
‫وأن هللا قد أظهر حكمته‪ ،‬ولكن الهندي قال له وهو يتحرك في اتجاه الركب‪:‬‬
‫‪ -‬سأذهب اآلن إلى المعسكر‪.‬‬
‫كان الرجال حتى ذلك الوقت يلعبون الورق‪ ،‬وكانوا منهمكين في لعبهم لدرجة أن أي واحد‬
‫منهم لم يلتفت ما عدا سمرز الذي كان قد شاهد مجيئهما معًا‪ .‬كان الًّلعبون يلعبون بعنف‬
‫وبصوت قوي مسموع‪ ،‬ويضربون باألوراق كما لو كانت القوة هي التي تحدد النتائج‪.‬‬
‫حاول ويذربي أن يقود ضيفه حول الركب‪ ،‬وكان يشعر بالخجل من تصرف الرجل األبيض‪،‬‬
‫ومن الخوف الذي بدا على وجه الهندي‪ .‬وامتنع الهندي عن الذهاب مع ويذربي‪ ،‬بل اكتفى بأن‬
‫يخطو في اتجاه الحلقة‪ ،‬فسار ويذربي خلفه‪ ،‬وأخذ يراقبه لفترة قصيرة‪ ،‬وشاهد عيني سمرز‬
‫المتسائلتين‪ .‬ولحسن حظ ويذربي وقف سمرز ليعلن انتهاء اللعب‪ ،‬وبدأ اآلخرون في النهوض‪،‬‬
‫واستمر سمرز يقول‪:‬‬
‫‪ -‬إن هذا أسوأ عمل تفعلونه أمام هندي طيب‪.‬‬
‫ثم ترك ناظريه يتجهان إلى ويذربي‪ ،‬كانت عيناه رماديتان تبتسمان‪ ،‬فيهما الكثير من الشك‪،‬‬
‫األمر الذي دفع ويذربي إلى مواجهتهما‪ ،‬والتعجب لكلمات الهندي‪.‬‬
‫وتحرك بعيدًا حينما انتهى اللعب‪ ،‬في حين أخذ دورتي يتفاوض مع الهندي على غزال‪ .‬وكانت‬
‫الكلمات التي سمعها من ديك حين انتهاء اللعب تطن في أذنيه‪ ..‬وشعر بأن هللا قد وضع الحق‬
‫والصدق في فم هذا الوحشي البسيط‪ .‬لقد وضع هللا عظمته وقوته الغامضة في هذا الحق‪.‬‬
‫***‬
‫ترك إيفانز الركب في حالة كسل تام فترة ثًّلثة أيام في منطقة «جراندي روندي»؛ إذ إنه اعتقد‬
‫ضا أن بيرد‬ ‫أنه من الضروري أن يتمتع أفراد الركب والحيوانات بالراحة‪ .‬وكان يرى أي ً‬
‫ضا بسبب اضطراب‬ ‫ضا أي ً‬
‫وزوجته يتطلبان بعض الوقت السترداد شجاعتهما‪ ،‬وكان باتش مري ً‬
‫في أمعائه‪ ،‬وكان يبدو في حالة ال تصلح لًّلنتقال به معها‪ .‬وكانت هناك أسباب أخرى صغيرة‬
‫وكبيرة‪ ،‬منها أن النساء كن يرغبن في القيام بغسل المًّلبس‪ ،‬ومجيء الهندي للتجارة مع الركب‬
‫والتبادل‪ .‬وكان من الممكن أن يكون الركب قد قطع عدة أميال أخرى لوال توقفه‪ ،‬وركونه إلى‬
‫الكسل‪.‬‬
‫كانت األيام لطيفة وجميلة ال يبدو فيها أن المطر يميل إلى السقوط في «بلوز»؛ ألن السماء‬
‫كانت صافية‪ ،‬ومع ذلك فقد كان إيفانز قلقًا‪ ،‬إذ كانت األمطار والثلوج تبعد مسافة كبيرة‪.‬‬
‫ولكنه استطاع أن يرى السقوط هنا‪ ..‬شاهد ذلك وسط الحشائش عند جذورها‪ ،‬وأصبح من‬
‫المحتمل سقوط الثلج في الليل عند النهر‪ ،‬لذلك قرر أن يسير الركب بعد فترة الراحة مباشرة‪.‬‬
‫ولم يكن السؤال الذي يراوده في ذلك الوقت هو الوصول إلى هدفه‪ ،‬وإنما كان عن الوقت‬
‫الًّلزم لتشييد منزل أو مأوى يحميه ويحمي أسرته من المطر والبرد‪.‬‬
‫وبينما هم ينتظرون‪ ،‬ويقومون بالقنص والصيد والتجارة مع الهنود‪ ،‬إذ وصل إليهم ركب آخر‬
‫جديد بقيادة «ويلش»‪ ،‬نصب خيامه على بعد نصف ميل من ركبهم‪ ..‬كان هذا الركب األخير‬
‫ضا؛ إذ مات فرد واحد‪ ،‬وسرق الهنود عند سنيك بعض الجياد منهم‪.‬‬
‫مليء باألسى والحزن أي ً‬
‫وكان هذا الركب يسير بسرعة كبيرة‪ ،‬ومن غير توقف بسبب خفة الحمولة‪ .‬لم يكن يتوقف في‬
‫طريقه إال ً‬
‫قليًّل؛ ألنه كان يزمع الوصول كأول دفعة إلى أوريجون‪ ،‬على الرغم مما قاساه عند‬
‫عبور «مالور»‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬كما لم يكن يهتم كثي ًرا بأن يكون‬
‫ً‬ ‫أخذ إيفانز يراقب هذا الركب‪ ،‬ولم يكن يهتم بمروره‬
‫ركبه أول ركب يصل إلى أوريجون‪ ،‬ولكن ما كان يهمه في حقيقة األمر هو خوفه من الركوب‬
‫األخرى التي سوف تلي وسوف تتسابق‪ ،‬ومن صائدي األماكن‪ ،‬واألشخاص الذين يتحملون‬
‫الكثير من المشاق والمتاعب‪ ،‬والذين يتصفون بالجسارة والجرأة‪ ،‬والذين ال يخشون الجبال أو‬
‫الصحراء أو الجوع أو العطش؛ لذلك فإنه إذا أغلق عينيه‪ ،‬فإنه سوف يرى األتربة المتصاعدة‬
‫من الركوب المتحركة تغطي ركبه المتخلف؛ الرجال والنساء‪ ،‬واألطفال‪ ،‬والمحاريث وأطفال‬
‫الرضاعة واألبقار الحلوب‪ ،‬والبغال‪ ،‬والخيول‪ ،‬والثيران‪ ،‬والبذور التي ُجمعت لتزيين مداخل‬
‫المنازل‪ ،‬والكتب المعدَّة للمدارس التي لم تشيد بعد‪ .‬لمن تكون أوريجون إذن؟ تظهر إنجلترا‬
‫اآلن كإجابة على ذلك‪.‬‬
‫غيورا من الرجال الذين سبقوه‪ ،‬ولم يكن قلقًا بشأن الثلوج التي قد‬
‫ً‬ ‫وعلى الرغم من أنه لم يكن‬
‫شعورا تا ًّما في‬
‫ً‬ ‫تتساقط في «بلوز»‪ ،‬فإنه كان شغوفًا وراغبًا في اإلسراع بالسير‪ ،‬وكان يشعر‬
‫قرارة نفسه بأن نهر كولومبيا الذي يتصوره أعرض بكثير من أي مجرى سابق‪ ،‬ويتجه إلى‬
‫فانكوفر عند مصب فرع ويًّلميت‪ ،‬فإذا استطاع أن يصل إلى هذه البقعة‪ ،‬فإنه يكون قد استطاع‬
‫أن ينتهي من الرحلة بكل نجاح‪ .‬كان من الممكن أن يكون الركب قد وصل إلى هدفه في هذه‬
‫اللحظة‪ ،‬لوال حدوث المرض‪ ،‬والوفاة والحوادث‪ ،‬والعوائق‪ ،‬واإلصًّلحات وفترات الراحة‪.‬‬
‫لقد كان تادلوك على حق في شيء واحد‪ :‬أن اإلنسان يعطل مسيره من غير أي عذر في ذلك‪.‬‬
‫وفي الصباح تحرك الركب وتسلق منطقة «بلوز»‪ ،‬واستطاع الركب في يوم واحد أن يقطع‬
‫كبيرا آخر على الرغم من‬
‫ً‬ ‫مسافة سبعة أو ثمانية أميال‪ ،‬وفي اليوم التالي حقق الركب جهدًا‬
‫وجود منطقة جبلية‪ ،‬والكثير من الحفر والصخور‪ ،‬والسهول‪ ،‬والغابات‪ .‬وكان كل شيء يبدو‬
‫عظي ًما في منظره لدرجة تذهل كل من يراه‪ ،‬وكانت الجبال تلتف حول المكان بأسره‪ ،‬كما‬
‫كانت الصخور العالية ترتفع عاليًا على مسافات طويلة تمتد إلى ما بعد رؤية النظر‪ ،‬وكانت‬
‫األشجار تنتشر كما لو كانت حدائق جميلة موزعة توزيعًا رائعًا‪ .‬وفي هذا اليوم استطاع الركب‬
‫أن يقطع عشرة أميال وسط حدائق جميلة‪.‬‬
‫أما اليوم الثالث‪ ،‬فقد كان أجمل األيام كلها‪ ،‬على الرغم من أنه لم يكن أقلها قسوة‪ ،‬فقد كان‬
‫الركب ينحدر في منحدرات‪ ،‬في حين كان إيفانز يرفع رأسه دائ ًما ليرى ماذا يكمن خلف هذه‬
‫المنحدرات؛ ألن المسافات البعيدة كانت تبدو زرقاء وبيضاء ومهزوزة‪ ،‬حيث توجد سلسلة‬
‫«كاسكاد» كملكة المرتفعات ‪-‬مونت هود‪-‬‬
‫وكالملكة ذات النهرين‪ ،‬وكالسحاب الثلجي الذي يمنح األمل والوعود‪ ،‬ونظر إيفانز خلفه ليرى‬
‫ربيكا تنظر إليه‪ ،‬فشعر بأنه ال يستطيع أن يتحدث بما يجيش به صدره‪ .‬استطاع الركب أن‬
‫يقطع تسعة أميال في هذا اليوم عبر جبال «بلوز»‪ .‬لم يتوقف إيفانز بعد ذلك‪ ،‬وشعر بأنه ال‬
‫يستطيع أن يفعل ذلك حتى ولو رغب الركب في ذلك‪ ،‬ولكن الركب لم يطلب ذلك؛ إذ كان‬
‫أفراده يرغبون في الشيء نفسه‪ .‬كانوا يشعرون بقوة هائلة تدفعهم للتحرك في اتجاه «مونت‬
‫هود»‪ ،‬ومونت سانت هيلين‪ ،‬كما لو كانوا يرون في أعينهم لحوم الخنازير‪ .‬ووصلت العربات‬
‫بعد ذلك إلى «أوماتيًّل» مندفعة من منحدرات «بلوز» لتصل إلى أرض من البراري مرة‬
‫أخرى تكسوها األعشاب والمزروعات يطلق عليها اسم منطقة «جيليد» تمتد على طول غدير‬
‫من المياه‪ ،‬ويقوم هناك هنود «الكايوز» الذين يرغبون دائ ًما في إبدال سلعهم مقابل أقمشة‪.‬‬
‫نصب الركب في هذه المنطقة خيامه‪ ،‬حيث فقدوا جوادًا واحدًا‪ ،‬ثم انتقلوا بعد ذلك إلى «أوتيًّل»‬
‫وهم يعبرون المناطق المائية ويتسلقون المرتفعات ويندفعون فوق السهول وفوق األعشاب‬
‫الجافة‪ ،‬وبجوار القمم التي تكسوها الثلوج‪ .‬استطاع إيفانز في هذه اللحظة أن يرى واديًا‬
‫مفتو ًحا‪ ..‬كان الوادي هو وادي كولومبيا وحوله ظًّلل المسافة البعيدة‪.‬‬
‫كان يبدو أنه ال يفكر إال في النهر الذي كان يتدفق أسفل وأعلى وحول تفكيره ‪ -‬كولومبيا‬
‫ودالس‪ ،‬ومباني اإلرسالية هناك‪ ،‬ثم مباني كل أسرة على حدة‪ ،‬وحاول أن يشق طريقه إلى‬
‫النهر‪ .‬ماذا يحدث لو بقيت أسرته وحيدة؟ هل يستطيع أن يتحلل من رابطته مع بيرد وفيرمان‬
‫اللذين يعتمدان عليه وعلى بيكي على الرغم من اختًّلف طرق حياتهم‪ .‬راوده هذا السؤال‪،‬‬
‫ضا مثل‪ :‬لماذا ال يزال براوني وفتاته يبدوان كما لو كانا ضيفين جديدين؟ إن‬ ‫وأسئلة أخرى أي ً‬
‫ميرسي فتاة لطيفة‪ ،‬ويجب أن يكرر ذلك دائ ًما‪ ،‬كما أن بيكي تقسم بها دائ ًما اآلن وتعزها‪ .‬إنها‬
‫فتاة هادئة محبوبة وجميلة‪ ،‬في وجهها الكثير من السماحة والدماثة أكثر من والدها‪.‬‬
‫قطع الركب عشرة أم يال أخرى وسط األعشاب الطيبة واألخشاب على طول الغدير المائي‪،‬‬
‫حيث كان يوجد الهنود من قبائل «واال واال» الذين كانوا يتجرون بالبطاطس ولحوم القنص‪.‬‬
‫كانوا من الهنود الذين يتصفون بالقذارة وال يشبهون «الكايوز» في نظافتهم‪ ،‬وقد يرجع ذلك‬
‫إلى عدم إيمانهم بالمسيحية‪ ،‬إذا كان ويذربي على حق في قوله هذا‪ .‬وأصبحت عربة بيرد قوية‬
‫تستطيع أن تقطع المسافات الكبيرة من غير خلل‪ ،‬في حين كان سمرز يدعو دائ ًما إلى أخذ‬
‫جانب الحذر من هؤالء الهنود الذين تعلوهم األوساخ؛ ألنهم ال يتورعون عن سرقة ما يقع‬
‫تحت أيديهم‪.‬‬
‫واستطاع الركب أن يصل إلى النهر حين مغيب الشمس‪ ،‬والغسق ال يزال يظهر القليل من‬
‫الضوء من وراء التًّلل‪ ..‬وصله بعد رحلة قاسية طويلة وسط البرية الموحشة واألراضي‬
‫مجاورا له من األعشاب والحشائش الخضراء‬
‫ً‬ ‫الرملية‪ ،‬والمناطق العشبية‪ .‬وصله ليجد شري ً‬
‫طا‬
‫وبعض أزهار عباد الشمس تقف شامخة متفتحة‪.‬‬
‫كانت هذه األرض خالية ووحيدة يمكن أن يتردد فيها الصوت‪ ..‬وزاد الليل من قسوة وحدتها‬
‫وعزلتها‪ ..‬إنه مكان يجعل اإلنسان يشعر بضآلته‪ ،‬وبانطوائه مع ذكرياته وبابتعاده عن مناطق‬
‫الحياة والغذاء‪.‬‬
‫ولكن النهر كان يجري هنا‪ .‬أخذ إيفانز يحملق فيما حوله‪ ،‬فشاهد قاع النهر واض ًحا والمياه‬
‫تنساب فوقه نظيفة وصافية تبدو كالفضة المطروقة التي تنساب ممتدة لتلتقي بظًّلم الليل بعيدًا‪.‬‬
‫وكان يعرف أن مجرى النهر يضيق بعيدًا ليصل إلى المساقط بسرعة‪ .‬ظل الطريق‪ ،‬الذي هو‬
‫طريق النهر‪ ،‬الطريق الواسع السريع‪ ،‬وهو الطريق النهائي المؤدي إلى أوريجون‪ .‬كان يعرف‬
‫أن الطريق هنا يؤدي إلى االستقرار‪ ..‬إلى بر الحياة الدائمة‪.‬‬
‫أصابته رجفة بسيطة‪ ،‬وأفاق على صوت ديك‪ ،‬فأخذ يتلفت يمنة ويسرة ليرى أنه لم يكن وحده‪،‬‬
‫وتذكر كيف تركوا العربات لتقف بجوار ضفة النهر‪ .‬وهناك قال ديك‪:‬‬
‫‪ -‬لم يبق سوى أربعة أيام للوصول إلى دالس‪.‬‬
‫الفصل التاسع والعشرون‬
‫جلست جوديث فيرمان بجوار النهر بالقرب من بيت إرسالية يخيم عليه السًّلم بعد العنف‬
‫والقسوة التي شاهدتها في الركب‪ .‬كانت تسمع هنا وهناك أصوات اآلالم الشديدة التي ترتفع‬
‫كأمواج البحر أو كالمياه التي تغلي‪ .‬وكانت تعتقد أن النهر إما أن يكون حزينًا أو متأل ًما مض ًّ‬
‫طرا‬
‫ألن يقطع كل يوم رحلته إلى البحار أو مناطق ال يعرفها أحد‪ .‬وكانت كل نقطة من المياه منها‬
‫تبتعد إلى األبد‪ ..‬وكانت المياه تبتعد وتحمل في طياتها بعض األسماك الميتة‪ ،‬وبعض زهور‬
‫عباد الشمس التي اقتلعت من أماكنها‪ ،‬وزبد المياه‪ ..‬وكانت الشمس في هذه اللحظة تنخفض‬
‫وتسلط أشعتها على صفحة المياه‪ ،‬منتظرة وقتها المحدد لكي تتحرك إلى مستقرها‪.‬‬
‫ضا أصوات طرقات‬ ‫كانت األصوات تتردد خلفها وتبدو هامسة لبعد المسافة‪ ،‬وجاءتها أي ً‬
‫المعاول في األخشاب لصنع بعض القوارب الستخدامها في الرحلة األخيرة إلى ويًّلميت‪،‬‬
‫ضا أصوات الرجال والهنود وصياح األطفال الذين ال يخشون اآلن الموت من‬ ‫وسمعت أي ً‬
‫األفاعي ذات األجراس‪.‬‬
‫وصاحت تنادي‪:‬‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪ -‬احترسي يا بثاني‪ ،‬ال تبتعدي ً‬
‫وحاولت ابنة بيرد أن تلقي عصا صغيرة في المياه‪ ،‬ثم تدور حول نفسها وشعرها الذهبي‬
‫يضيء تحت أشعة الشمس‪ ..‬كانت فتاة صغيرة تبدو براءة الطفولة في عينيها‪ ،‬وانحنت مرة‬
‫أخرى لتلتقط عصا أخرى وترد على نداء جوديث قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬إنني محترسة‪.‬‬
‫كانت جوديث مقتنعة في قرارة نفسها‪ ،‬ولكنها كانت حزينة وقانعة ومنتظرة مثل الدجاجة التي‬
‫ترقد فوق بيضها لتدفئه حتى يفقس ويخرج منه صغار الدجاج‪ .‬لم تكن عندها أي رغبة في‬
‫الحديث‪ ،‬على الرغم من أن شارلز كان يجلس بجوارها ونظره مركز فوق المياه‪.‬‬
‫كانت قانعة وتشعر بالراحة‪ ،‬وكانت ذكرى تود تراودها في بعض األحيان‪ ،‬وهي تطهو‪ ،‬أو‬
‫تقود العربة‪ ،‬أو تقوم بأي عمل من األعمال التي تتطلبها الحياة‪ ..‬كانت تشعر بذنبها في بعض‬
‫األحيان‪ ،‬وبالرغبة في البكاء‪ ،‬ثم تبدأ في حبس أحزانها ودموعها وتعود إلى طبيعتها‪.‬‬
‫كثيرا من النهر‪.‬‬
‫‪ -‬أرجوك يا بث ال تقتربي ً‬
‫فردت الطفلة وهي تسرع إلى حجر جوديث‪:‬‬
‫‪ -‬إنني حذرة‪ ..‬أريد بعض الطعام‪.‬‬
‫‪ -‬سنتناول طعامنا في وقت قريب‪.‬‬
‫شمت جوديث رائحة الطفولة في هذه الطفلة‪ ،‬وذكرتها هذه الرائحة برائحة ابنها «تودي»‪،‬‬
‫فانحنت عليها لتقبل جبهتها‪ ،‬وهي تقول في نفسها إنها من الممكن أن تحتل مكان تود‪.‬‬
‫ثم قال لها شارلز وهو ال يزال ينظر إلى صفحة المياه‪:‬‬
‫‪ -‬يجب أن أذهب لمشاهدة القارب‪ .‬إن علينا أن نشتري أو نصنع أو نستأجر القوارب التي‬
‫ستنقلنا‪ ..‬ولكني أستطيع أن أقول إننا نستطيع امتًّلك بعض هذه القوارب‪ .‬فأجابته وهي ال‬
‫ترغب في أن يتركها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد أتينا إلى هنا باألمس فقط‪.‬‬
‫وتساءلت في نفسها ع َّم إذا كان هو يشعر في قرارة نفسه بشعورها نفسه‪ ،‬وهل هناك شخصان‬
‫يشعران دائ ًما بالشعور نفسه؟ وهل تعرف الروح‪ ،‬أي روح أخرى‪ ،‬على الرغم من أنهما‬
‫يشتركان في فراش واحد‪ ،‬والمصير الواحد‪ ،‬وعلى الرغم من أنهما يتحدثان في الليل‪،‬‬
‫ويشعران معًا بالجوع والوحدة‪ ،‬ويحاوالن أن يجعًّل من جسديهما جسدًا واحدًا‪ ،‬وعلى الرغم‬
‫من أن شعورها باألمومة كان يطغي عليها ويدفعها إلى تفريغ هذا الشعور في رعاية زوجها‪.‬‬
‫وفي حين هي تشعر بهذا الشعور‪ ،‬قفزت بيثاني من حجرها وأسرعت بعيدًا‪ ،‬ثم قال شارلز‪:‬‬
‫ً‬
‫مشغوال‪.‬‬ ‫‪ -‬أعتقد أننا نستطيع أن ننتظر حتى الغد‪ ،‬ولكن سأكون‬
‫يجب أن يشغل نفسه غدًا‪ ..‬كانت األعمال تطغي على عقله وجسده دائ ًما‪ ..‬لم يكن يشعر بأن‬
‫ابنه تود يرقد بعيدًا فيما وراء الجبال والوديان واألنهر والرمال والهضاب التي مروا بها‪ ،‬إال‬
‫حينما يخلو لنفسه في الليل‪ ،‬حين يشعر بالحياة الحقيقية تدب في أوصاله؟ لمست يدا شارلز‬
‫يديها‪ ،‬فأمسكت بهما بحرارة‪ ،‬ولم تتكلم‪ .‬كانت تسأل نفسها‪ :‬ماذا يعني الحديث سوى مجرد‬
‫ترديد األفكار؟ لماذا الكًّلم؟ ولماذا تحاول أن تقول شيئًا؟ لن تستطيع أن تعبر عن أفكارها‬
‫وشعورها في مجرد كلمات‪ .‬إن ما يكمن في داخلها وفي ذاتها ال تجد ما يقابله من كلمات؛ لذلك‬
‫كان من األفضل أن تظل على صمتها‪ ،‬وأن تعتمد على تدفق عواطفها وشعورها وشعوره‬
‫بحرارة العاطفة‪ .‬ماذا كان الحزن؟ وماذا كان هذا األسف الطويل؟ وماذا قالت لها بيكي إيفانز‬
‫بشيء من العاطفة المخلوطة بالبساطة الشديدة؟ إن أي إنسان ال يستطيع أن يبقي على الحزن‬
‫سا في غير الترفيه‬
‫عا من الكماليات‪ ،‬أو انغما ً‬ ‫ً‬
‫طويًّل؟ كان األمر يبدو كما لو كان الحزن نو ً‬ ‫وقتًا‬
‫والتمتع‪ ،‬إذا قامت امرأة بمواجهة واجباتها‪ ،‬كانت هذه هي القاعدة التي تحققت منها عند سماعها‬
‫قول بيكي‪ ..‬القواعد التي تدفعها لًّلتجاه إلى أوريجون‪ ،‬وإلى تخطي جميع الحدود‪ ،‬وربما‬
‫قواعد الحياة‪ ،‬ولكنها كانت تكره هذه القواعد؛ لذلك أخذت تكافح هذه القاعدة‪ ،‬وهي تشعر‬
‫بالذنب في فقد تود‪.‬‬
‫ولكنها كانت قد أدت واجبها على أحسن وجه‪ ..‬لقد وجدت القوة التي استمدتها من ربيكا‪ ..‬فإذا‬
‫رغبت في البكاء كانت تبكي في الليل‪ ،‬ثم تنهض في الصباح لتواجه أعباء اليوم‪ ..‬إنها ترفض‬
‫الخضوع لهذه القاعدة‪ ،‬وستقوم بجميع أعبائها وتكتم أحزانها‪ ،‬على الرغم من أنها لن تفقد تود‬
‫اآلن أو إلى األبد‪ ،‬ولن تشعر بغيابه‪ .‬سمعت التنهيدة التي صدرت عنها‪ ،‬ولم تدر أنها ستخرج‬
‫منها‪ ،‬ولقد كانت تعرف أن تفكيرها يعتبر شيئًا حسا ً‬
‫سا‪ ،‬وشعورها بوجود تود الدائم في خيالها‬
‫حجرا أبيض وجدته‪ ،‬فقالت لها الطفلة ويدها الصغيرة‬ ‫ً‬ ‫وكيانها‪ .‬جاءت بيث إليها لتقدم إليها‬
‫السمينة تضعها في راحة يدها‪:‬‬
‫‪ -‬إنها قطعة حجر جميلة؟‬
‫‪ -‬جميلة جدًّا‪.‬‬
‫‪ -‬هل ستضعينها في منزلك؟‬
‫‪ -‬سأقبلها هدية منك‪.‬‬
‫‪ -‬هل أستطيع أن أحضر إليك في بعض األوقات حينما نصل إلى المكان الذي سنقيم فيه؟‬
‫‪ -‬بالطبع‪ ،‬ولكنك لن تعودي إلى بيتك القديم‪.‬‬
‫فشرحت لها الطفلة‪:‬‬
‫‪ -‬بيتنا الجديد في أوريجون‪.‬‬
‫وسارت الطفلة في طريقها لتبحث عن المزيد من األحجار‪.‬‬
‫بيت في أوريجون! إنها ال تتصور ذلك؛ ألنه لم يشيد بعد‪ ..‬بيت بعد عبور السهول الًّلنهائية‪،‬‬
‫والجبال الشامخة‪ ،‬ومجاري المياه التي تنساب حزينة‪ ..‬بيت! وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬كان مجرد‬
‫التفكير شيئًا في حد ذاته يصل إلى درجة الشجاعة والقوة التي دفعت هذا الركب إلى عبور‬
‫التربة والكفاح والتغلب على الصعاب والمشكًّلت‪ .‬استطاعت جوديث أن تتصور البيت الذي‬
‫سيمتلكانه‪ ،‬وهو عبارة عن كابينة خشبية أو منزل من القرميد‪ ..‬وكان ال يهمها تكوينه أو شكله‪،‬‬
‫ولكنها كانت تتصور أن يلعب طفلها الذي ستحمله أمام الباب‪ ..‬إنها تفكر اآلن في األرض التي‬
‫ستشكل مستقبلها وحياتها فيها من جديد‪ .‬إن اليوم هو يوم جديد‪ ،‬وغدًا سيكون يو ًما جديدًا آخر‪،‬‬
‫ً‬
‫أطفاال آخرين‪.‬‬ ‫وستنجب فيه‬
‫قالت لشارلز‪:‬‬
‫‪ -‬إنني أشعر في بعض األحيان بأنني غير مخلصة‪.‬‬
‫‪ -‬غير مخلصة؟‬
‫‪ -‬أال تعرف ذلك؟‬
‫فهز رأسه ببطء وقال‪:‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬أجل أعرف أي ً‬
‫ضا أن ذهنه قد اتجه إلى مصالحه‬
‫وكانت تعرف أنه يعرف ويدرك ما تعني‪ ،‬وكانت تعرف أي ً‬
‫التي يهدف إلى تحقيقها في أوريجون‪ ،‬واألعمال التي يجب إتمامها‪ ،‬والكلمات التي يجب‬
‫ترديدها‪.‬‬
‫‪ -‬هييه! هذا حسن يا شارلز! أال يمكن أن يكون مناسبًا؟‬
‫‪ -‬يجب أن يكون كذلك يا جودي‪ ..‬يجب أن يكون كذلك‪ ..‬إن األمر سيان بالنسبة لكل إنسان‪.‬‬
‫أخذت تكافح دموعها السريعة السقوط‪:‬‬
‫‪ -‬إنني ال أود أن أنسى‪.‬‬
‫‪ -‬لن تنسي أبدًا‪ ،‬ولكن يجب علينا أن نعيش‪ ،‬وأن نكافح ونجدد حياتنا‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أعرف في بعض األحيان ما إذا كنت أفكر في تود أو في طفل جديد‪.‬‬
‫كانت تفكر في طفل‪ ،‬صبي أو فتاة‪ ..‬نحيف أو سمين‪ ،‬وإنما يجب أن يكون هناك تود آخر‪.‬‬
‫سيكون (تود) جديدًا مع شعور األسف والفرح‪ ،‬والتذكر والنسيان‪ ،‬والتعويض‪ ،‬وسوف تكرس‬
‫له كل حب‪ ،‬ولكنها ال تزال تبكي وتقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال يمكن ألي طفل أن يحتل مكان تود‪ ..‬ال يمكن أن يحدث ذلك‪.‬‬
‫أمسكت يده بكتفها وهو يقول لها‪:‬‬
‫‪ -‬ال تعذبي نفسك‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أال يحدث ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ال تخشي شيئًا‪ ..‬سيظل في ذكرانا دائ ًما‪ ..‬ولكنها الحياة التي ال نستطيع أن نقاومها‪.‬‬
‫فأجابته‪ ،‬وهي تحاول أن تخطئ الحقيقة التي ذكرها‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬أعرف ذلك‪.‬‬
‫ثم رفع ناظريه إلى السماء حيث كانت إحدى السحب تسير مسرعة‪ ،‬واعتقدت جوديث أنه يفكر‬
‫بأن تود يرتفع إلى هذا المكان‪ .‬وتحول إليها ليقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنه يرغب منا أن نحب الطفل‪.‬‬
‫وجاءت بيثاني من حافة النهر لتقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني جائعة‪.‬‬
‫فأجابتها‪:‬‬
‫‪ -‬سنتناول غداءنا على الفور‪.‬‬
‫وقبل أن تنهض من مكانها وتضع يدها عليها برفق لتًّلطفها‪ ،‬اعتقدت أنها شعرت بأول حركة‬
‫للحياة الجديدة في أحشائها‪.‬‬
‫***‬
‫استطاعت بيكا على ضوء النيران التي أوقدتها أن ترى آل فيرمان يعودان من ضفة النهر‪،‬‬
‫في حين كانت الطفلة بيث بيرد تتعلق بذراع جوديث‪ ،‬فهزت يدها إليهم لتحيتهم‪ ،‬وانحنت بعد‬
‫ذلك لتضع بعض قطع األخشاب الكبيرة في النيران‪ ،‬ثم وجهت حديثها إلى ميرسي وهي تتعجب‬
‫كيف صدرت منها هذه الكلمات‪:‬‬
‫‪ -‬إنها امرأة طيبة‪.‬‬
‫ولم تكن ميرسي من النوع الذي يذكر أنه سمع هذا المديح من قبل‪ ،‬وإنما استمرت في عملها‬
‫وهي ترد قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬إنها كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنها تعود اآلن إلى طبيعتها‪ ،‬وال شك في أنها ستكون على خير حال حينما ترزق بالطفل‪.‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وبقي ما يدور في ذهنها من غير‬
‫خفضت ميرسي من ناظريها‪ ،‬ولم تستطع أن تتحدث ً‬
‫أن يتغير‪ .‬لم تكن حادة الطباع‪ ،‬ولكنها كانت تشعر بالحزن يعتصرها‪ ،‬فأخذت تفرغ كل همها‬
‫ثيرا‬
‫في العمل الشاق‪ ،‬وكانت ال تجرؤ على الحديث الكثير‪ .‬ولما لم تجدها ربيكا تتحدث ك ً‬
‫سألتها‪:‬‬
‫كثيرا على ما أعتقد‪ .‬إنني ال أتحدث عن ليجي‬
‫ً‬ ‫‪ -‬إنني أتعجب متى يعود الرجال؟ لقد تأخروا‬
‫أو ديك فقط‪.‬‬
‫لقد شاهدتهما ربيكا وهما يخرجان فوق جواديهما بعد وصول الركب إلى دالس بساعة أو‬
‫ساعتين وم عهما زوجان من الخيول يقوالن إنهما سيضعان عليهما بعض حبال الجاموس‬
‫البري‪ ،‬وإنهما ذاهبان للتجارة‪ .‬ولم تكن ربيكا تعرف أين سيذهبان‪ ،‬وما هو هدفهما‪ ..‬هل هو‬
‫التجارة؟ كم قال لها ليجي ال فائدة من التجوال حول دالس؛ إذ ال يمكن شراء أو استئجار أي‬
‫قارب‪.‬‬
‫لم تلح عليه في اإلجابة‪ ،‬ولم تكن قلقة مثلما تفعل بعض النساء بسبب عدم معرفتهن بكيفية‬
‫عبور النهر‪ ..‬إن ليجي سيتولى هذا األمر‪ ،‬إنه يتولى كل أمر‪ ،‬ويتركها تشعر بالقلق بشأن‬
‫بعض األشياء األخرى‪.‬‬
‫قالت ميرسي‪:‬‬
‫‪ -‬ي جب أن يكون براوني هنا في اللحظات القادمة‪ ..‬لقد شاهدت حراس الماشية يذهبون إليه‬
‫للتحدث معه‪.‬‬
‫‪ -‬ل يس هناك ما يدفعهم إلى المجيء‪ ..‬سمك آخر وأرز‪ ،‬وخبز وبعض الحلوى‪ ..‬كم كنت أرغب‬
‫في بعض الخضراوات‪.‬‬
‫كان كل شيء قد أُعد لتناول الطعام‪ ،‬لقد تم تنظيف السمك وتحميره‪ ،‬وغلي المياه من أجل‬
‫األرز‪ ،‬وأُعد الخبز لكي يُخبز على النيران‪ ،‬وكانت ربيكا مسرورة بأنه ال يزال عندها بعض‬
‫القهوة والسكر‪ ،‬لذلك قالت‪:‬‬
‫‪ -‬سأقوم بوضع إناء القهوة فوق النار‪ ،‬وعلينا أن ننتظر ً‬
‫قليًّل‪.‬‬
‫‪ -‬إنني لست متعبة أو منهكة‪ ..‬سوف نحتاج إلى المزيد من المياه‪.‬‬
‫‪ -‬ستشعرين بالتعب إذا كنت تعملين طوال اليوم‪.‬‬
‫اعتقدت ربيكا أن هذا المكان لم يشاهد مثل هؤالء القوم من قبل بعربات مقوسة‪ ،‬ورجال‬
‫يتحدثون عن رحلة انتهت وأخرى في الطريق‪ ،‬وعن األطفال الذين يلهون ويصيحون هنا‬
‫وهناك‪ ،‬والنساء الًّلئي يتزاورن‪ ،‬واألشخاص الجدد الذين يصلون ويسألون عن قوارب لهم‪،‬‬
‫ويسألون ماذا يفعلون؟ ويطلبون االندماج على أساس أن مناطق إقامتهم ال تبعد كثي ًرا عنهم‪،‬‬
‫كانت النساء يرتدين مًّلبس بليت وتمزقت من كثرة المشاق واالستخدام‪ ،‬في حين كان الرجال‬
‫يرتدون سراويل جلدية من صنع الهنود‪.‬‬
‫وهنا انقسم الركب‪ ،‬وتفككت الروابط‪ ،‬واختلط كل ركب بآخر جديد‪ ،‬وأصبحت كل أسرة تعرف‬
‫ضا باالبتعاد عن هؤالء الذين كانوا قريبين منها‪ .‬لقد تفككت‬
‫وتشعر بأنها تقف وحدها‪ ،‬وتشعر أي ً‬
‫الروابط‪ ،‬وأصبحت ربيكا تعتقد أن كل أسرة ستعود في روابطها إلى ما كانت قبل الركب‪ .‬لم‬
‫يعد غيرها هي وليجي وبراوني وميرسي فقط ما عدا رابطتهم بأسرتي بيرد وفيرمان التي لم‬
‫تنفصم بعد‪ .‬كان في داخل ذاتهم نوع من النداء يلح عليهم هو واجبها وواجب ليجي تجاه‬
‫الضعفاء والمستضعفين‪.‬‬
‫قالت بيكي وهي تنهض‪:‬‬
‫‪ -‬من الممكن وضع األرز اآلن‪.‬‬
‫ولكن ميرسي انتقلت إلى حيث كانت تقف بقدميها‪ ،‬ثم وضعت األرز في المياه التي تغلي‪ ،‬ثم‬
‫قالت ربيكا‪:‬‬
‫عجوزا لهذه الدرجة حتى تحاولي مساندتي وحمل األرز ً‬
‫بدال مني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫‪ -‬إنني لست‬
‫وأخذت تراقب حركة الفتاة السريعة‪ ،‬وهي تشاهد االبتسامة البسيطة التي ظهرت على فيها‪،‬‬
‫فشعرت بالرقة والحنان لها‪ .‬مهما يكن أبوا ميرسي‪ ،‬ومهما تكن هذه الفتاة قد فعلت من قبل‪،‬‬
‫فإنها كانت شيئًا راب ًحا بالنسبة لها‪ ..‬كان من الواجب قول هذا الشيء على الرغم من كل ذلك‪.‬‬
‫نظرت ربيكا نظرة إلى الفتاة زوجة ابنها‪ ،‬ماذا يمكن أن تخبرها؟ لقد أصبحت ممتلئة وظهر‬
‫نضجها وأنوثتها‪ ،‬ونضارة وجهها‪ .‬كانت السرية والغموض يكمنان في عينيها وكانت تعرف‪،‬‬
‫وتشعر بالقلق من المعرفة‪.‬‬
‫يوليو ‪ -‬من أواخر يوليو إلى ‪ ٢١‬سبتمبر‪ ..‬شهران قصيران‪ ..‬مدة ال تكفي لظهور أي شيء ما‬
‫عدا ‪ -‬ما عدا ‪ -‬إن المسألة‪ ،‬واالندهاش سوف يتضحان فيما بعد‪ .‬كانت الوالدة ترى معاملة‬
‫صا من ميرسي‪ ،‬وكانت تعتقد أن عندها اإلجابة‪ ،‬وكانت تشعر بجرحه‪ ،‬ثم‬ ‫خاصة وتصرفًا خا ًّ‬
‫ترى غضبه ومحاولة إيذاء الذي تسبب في إيذائه‪.‬‬
‫حاولت أن تهدئ من غضب وثورة ليجي الذي كان قد شعر بالضيق من غير إضافة هذا‬
‫السبب‪ .‬كان تحاول أن تفاخر بميرسي‪ ،‬وتحاول أن تصبح أ ًّما لها‪ ،‬ولم تكن واثقة من جميع‬
‫األسباب‪ .‬وكانت تتعجب في يوم من األيام كيف تشعر امرأة تجاه أخرى باإلخوة؟ زميلة وقت‬
‫الحاجة‪ .‬هل كانت ميرسي في سلوكها هي ميرسي نفسها؟ هل كانت هي االعتقاد الذي يجب‬
‫االستفادة من وجوده كأحسن شيء بغض النظر عن أي شيء آخر؟ هل كانت الفرصة هي‬
‫تفكيرا‬
‫ً‬ ‫التي واتت براوني ليثبت رجولته قبل الزواج؟ كانت تميل إلى التفكير هكذا‪ ،‬ولكنه كان‬
‫غريبًا‪ ،‬ولم يكن يعرف الكثير‪ ،‬إذ لم يكن جريئًا لمحاولة معرفة أي شيء‪ ،‬بل كان حتى ذلك‬
‫الوقت غًّل ًما‪ .‬من يكون إذن؟ من الذي كان يدور حولها قبل براوني وأخذها إلى الواعظ؟ ال‬
‫أحد‪ ،‬لم تختلط بالرجال‪ .‬ولم تستطع ربيكا أن تعرف من هو ذلك الذي كان يحبها‪ ،‬وكان ماك‬
‫يعاملها برقة ولطف متناهيين‪.‬‬
‫قالت ميرسي‪:‬‬
‫‪ -‬ها هو ذا براوني‪ ..‬انظري إنه يجلس فوق جواده‪.‬‬
‫واتجه براوني إليهما وحياهما‪ ،‬فحيته ميرسي‪ ،‬وقالت له ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬لم يحضر والدك‪ ،‬أو ديك بعد‪ ،‬لقد خرجا‪ ،‬واقتربنا نحن من االنتهاء من الطهو‪.‬‬
‫ثم جاء ليجي وهي تقوم بقلي السمك وقال لها‪:‬‬
‫‪ -‬ستكونين حيث ترغبين قبل أن تعرفي أين أنت‪ ..‬كيف حال الكأل يا بني؟‬
‫أخبارا جديدة في داخل ذاته‪.‬‬
‫ً‬ ‫وكان يبتسم كأنه يحمل‬
‫‪ -‬منطقة طيبة‪ ،‬سوف نعود بالقطيع على الفور‪.‬‬
‫فتساءلت ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬أين ديك؟‬
‫‪ -‬لن يكون هنا قبل الصباح‪.‬‬
‫‪ -‬هل تعني أنه سينام بالخارج من غير غذاء أو فراش؟‬
‫كثيرا‪ ،‬لقد تعود على ذلك‪.‬‬ ‫مهًّل‪ً ،‬‬
‫مهًّل‪ ،‬هذا ال يهم ديك ً‬ ‫‪ً -‬‬
‫كان ليجي يشعر بالقوة‪ ،‬ولما جلس الجميع لتناول الطعام‪ ،‬اعتقدت ربيكا أنها بدأت تدرك األمر‬
‫من مًّلمح زوجها‪ ،‬من غير أن يلفظ بأي كلمة‪.‬‬
‫ثم قال إيفانز وهو يحاول أن يقضم قطعة من السمك‪:‬‬
‫‪ -‬هذا‪ ..‬آل ديك‪.‬‬
‫فسألته ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا بشأنه؟‬
‫‪ -‬إنه يعرف كل شيء‪ ،‬ويحدد كل شيء‪ ..‬سنتحرك غدًا‪.‬‬
‫ثم توقف ً‬
‫قليًّل‪ ،‬وهو يحاول أن يمزح من عًّلمات الدهشة التي بدت عليهم‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنه لم يكن هناك قوارب‪.‬‬
‫‪ -‬ال يوجد‪.‬‬
‫‪ -‬حسنًا!‬
‫‪ -‬أنت تعرفين ديك‪ ،‬استطاع أن يخلق أي شيء‪.‬‬
‫فقال له براوني‪:‬‬
‫‪ -‬هل استطاع أن يحصل على ما يريد يا والدي؟‬
‫‪ -‬إننا سنرحل فوق القوارب معهم بطريقة ما‪.‬‬
‫ثم صمت ليجي فترة قصيرة‪ ،‬تار ًكا لهم فرصة التخمين‪ ،‬واستمر بعد ذلك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬أ نتم تعرفون‪ ..‬يمتلك هؤالء الهنود قوارب معينة‪ ،‬ولكن مقابل بعض المًّلبس؛ ألن الجو‬
‫هناك بارد في الشتاء‪ .‬إنهم يفضلون المًّلبس المصنوعة من جلود الجاموس‪.‬‬
‫فتساءلت ربيكا‪:‬‬
‫‪ -‬هل تزمع االنتقال عن طريق أحد هذه القوارب؟‬
‫فهز رأسه وهو يضحك‪:‬‬
‫‪ -‬هذا آل ديك‪ .‬إنه يريد منا أن نشغل أنفسنا قبل أن يتم االتفاق على شراء هذه القوارب الهندية‪.‬‬
‫‪ -‬أقسم يا ليجي أنك ستقوم بالكثير من التملق‪.‬‬
‫‪ -‬سنقوم بصنع بعض القوارب المسطحة ً‬
‫أوال حتى يمكن نقل العربات فوقها‪ ،‬وربما نستطيع‬
‫عا فوقها‪ ،‬ثم نكون قد وصلنا إلى مقرنا الجديد‪.‬‬
‫أن نرفع شرا ً‬
‫‪ -‬ماذا بشأن الباقين؟‬
‫‪ -‬ماذا؟‬
‫‪ -‬آل فيرمان وبيرد؟‬
‫‪ -‬هذا هو السبب الذي من أجله ذهب ديك لكي يقوم بشراء ما يكفي من القوارب الهندية‪ .‬سترين‬
‫ً‬
‫أسطوال من القوارب يقف على ضفة النهر‪.‬‬ ‫غدًا‬
‫‪ -‬هل يكفي لحاجاتنا يا ليجي؟‬
‫‪ -‬لم يفكر في مثل هذا األمر سوى ديك نفسه‪ ..‬ستكون عندنا حمولة ما يسمونه «كاسكاو»‪ ،‬لقد‬
‫شاهدت ماك وهو يتفاوض مع الهنود‪.‬‬
‫‪ -‬هناك مفاوضات تدور في جنوب «مونت هود» أحدهم ‪-‬ال أتذكر اسمه‪ -‬يتولى هذا األمر‪.‬‬
‫وتقول مسز ماك إنهم سوف يذهبون من هذا الطريق بالعربات إذا استطاعوا ذلك‪.‬‬
‫وبعد أن تم تبادل المعلومات واألخبار اآلن‪ ،‬قام كل من ليجي وبراوني للعمل‪ ،‬ونهضت ربيكا‬
‫لتحضر المزيد من الخبز لتقديمه إلى ميرسي‪ ،‬وألنها كانت تشعر بضرورة إطعام أعضاء‬
‫ركابها‪ .‬وبعد أن انتهى الجميع من تناول طعامهم جلسوا صامتين‪ ،‬وأخذ ليجي يدخن غليونه‬
‫بعد أن أشعله بقطعة من الفحم‪.‬‬
‫كان بقية أفراد الركب قد انتهوا جميعًا من تناول طعامهم‪ ،‬وأخذ الرجال يبتعدون عن النيران‬
‫ليشتركوا مع بقية الرجال‪ ،‬في حين ذهبت النساء لوضع أطفالهن في الفراش‪ ،‬ثم تحدث ليجي‬
‫إلى ميرسي‪:‬‬
‫‪ -‬ما الذي يسكتك أنت وبراوني؟‬
‫ابتسمت له ميرسي شبه ابتسامة‪ ،‬في حين رد عليه براوني ً‬
‫قائًّل‪:‬‬
‫‪ -‬إن مراقبة الماشية ال تمنحك فرصة كافية للحديث‪.‬‬
‫ثم نهض ليجي واقفًا وقال‪:‬‬
‫‪ -‬حسنًا يا بني‪ ،‬أعتقد أنك تستطيع أن تعمل إذا لم تستطع أن تتحدث‪ .‬هناك ما يكفي من الضوء‬
‫لكي تقوم بعمل في هذه العربات‪.‬‬
‫واستمرا في عملهما حتى بعد أن أرخى الليل سدوله وانتشر الظًّلم‪ ،‬ثم قررا العودة مباشرة‪،‬‬
‫فاتجها إلى ناحية األصوات‪.‬‬
‫وبانتهاء عمل اليوم‪ ،‬جلست ربيكا وهي تشعر بالتعب واإلنهاك‪ .‬كانت ترغب في الجلوس‪،‬‬
‫وتترك أفكارها تهدأ وتذهب بعيدًا‪ ..‬استطاعت أن تتذكر األيام التي مضت بعيدًا وراء األنهر‬
‫والتًّلل‪ .‬وفي هذه اللحظة ظهرت نجمة باهتة تتألق في كبد السماء‪ .‬وبعد فترة بسيطة جاءت‬
‫ميرسي وانحنت بجوارها‪ ،‬ولم تعرف ربيكا ماذا كانت ميرسي تفعل‪ ،‬ربما كانت تقوم بترتيب‬
‫وتنظيف الفراش الذي تنام عليه هي وبراوني‪ ..‬لم يتكلم أي فرد منهما‪ ،‬وشعرت ربيكا بأنها قد‬
‫فوجئت بهذا الصمت‪ ،‬وحاولت أن ترعى عيني ميرسي في الظًّلم‪ ،‬ولكنها لم تستطع أن ترى‬
‫شيئًا‪ .‬شعرت بوجودها بجوارها‪ ..‬ميرسي ماك بي‪ ..‬ميرسي ماك بي إيفانز زوجة ابنها‪..‬‬
‫ستصبح أ ًّما‪ ،‬وهو شيء ال يعرفه ليجي ما لم يخبره به أي إنسان آخر‪ ،‬حتى يستطيع أن يرى‬
‫بعينيه‪ .‬ولكن الرجال ليست لهم أعين يرون بها هذا الوضع‪.‬‬
‫كان هناك طفل يبكي في الخارج في الظًّلم‪ ،‬وكان صوته رفيعًا ثاقبًا طغى على بقية األصوات‪،‬‬
‫فقالت ربيكا لميرسي‪:‬‬
‫ً‬
‫طويًّل للوصول إلى أوريجون!‬ ‫‪ -‬إن رؤية الصغار تسر‪ ،‬يبدو أن األمر يستغرق وقتًا‬
‫فردت ميرسي قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬ماما!‬
‫وكانت هذه هي المرة األولى التي تستخدم فيها هذا اللفظ‪.‬‬
‫فأجابتها ربيكا وقد مستها هذه الكلمة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪ ،‬يا ميرسي‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنني سأرزق بطفل‪.‬‬
‫‪ -‬من يظن ذلك؟ أليس ذلك حسنًا؟‬
‫‪ -‬إنني واثقة من أنني حامل‪.‬‬
‫تحولت ربيكا في الظًّلم‪ ،‬فشاهدت ميرسي تحني رأسها وكتفيها وعليها عًّلمات الحزن‬
‫البسيط‪ ،‬فمدت ربيكا يدها لتعدل من وضعها والعمل على راحتها‪ ،‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬ال تخش شيئًا‪ ،‬إن هذا أمر طيب‪.‬‬
‫شعرت بتنفس الفتاة الحار‪ ،‬وسمعتها وهي تهمس‪:‬‬
‫‪ -‬لقد كنت أخشى أن أخبرك‪.‬‬
‫كانت ميرسي ترقد في الفراش حينما عاد براوني‪ ،‬سمعته وهو يقول لوالده مساء الخير‪ ،‬وبدأ‬
‫ينزع عنه مًّلبسه‪ ..‬كانت تراقبه من طرف عينها وتراه يمشي بين الخيام ويدخل الخيمة‪،‬‬
‫وشاهدته في قامته‪ ،‬وشاهدت أمارات الجد تبدو على وجهه‪.‬‬
‫وحاولت أن تحييه‪ ،‬ولكن التحية احتبست داخلها‪ ،‬كانت تشعر بأنها تود أن تقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنني هنا‪ ..‬إنني يقظة‪.‬‬
‫ولكنها لم تستطع‪ ،‬بل أخذت تستمع إلى صوت مًّلبسه التي كان يخلعها‪ ،‬وشعرت بأنها ال‬
‫تستطيع أن تفعل ذلك؛ ألنها كانت تشعر بأن الماضي لن يموت فيها أبدًا وجنين ماك في‬
‫أحشائها‪ ،‬ثم وهما يشاهدان الطفل‪.‬‬
‫شعرت بالغطاء يرتفع‪ ،‬وشعرت بنومه بجوارها وتمدده‪ ،‬ثم بوضعه يده أسفل وجهه‪ ،‬ولم يكن‬
‫يشعر في هذا التصرف بأنه يشترك مع فرد آخر في الفراش‪ ،‬بل يشعر بالوحدة‪.‬‬
‫وكانت الليلة هادئة‪ ،‬ولكنها استمرت تسمع وسط السكون تنفسات الرياح‪ ،‬ورائحة الليل وبعض‬
‫حركات بعض الحيوانات الصغيرة‪ .‬كانت تعرف أن براوني متيقظ‪ ،‬ربما يكون فات ًحا عينيه‬
‫ً‬
‫مركزا مثلها في مشكلتهما‪ ..‬لقد كان إنسانًا طيبًا‪ ،‬وربيكا‪ ،‬وليجي كانا‬ ‫في الظًّلم‪ ،‬وكان عقله‬
‫ضا‪ ،‬ولماذا إذن تقف بعيدًا على هامش الحياة وهي تحبس العرفان بالجميل في داخل‬ ‫طيبين أي ً‬
‫نفسها؟ ولماذا ال تشعر بشعور الزوجة؟‬
‫لم يكن خطؤه ا بعد الزواج على ما تعتقد‪ ..‬إنما الخطأ هو ما فعلته قبل الزواج‪ ..‬إنها الظًّلل‬
‫التي تحول بينها وبينه‪ ..‬إنه الطفل الذي تحمله في أحشائها‪ ،‬إنه ليس خطأها؟ ليس منذ زواجها؟‬
‫ألم يعد مستر ماك إلى ذهنها؟ تلك الليالي التي قضتها بجوار الرامي؟ ذلك الطريق السريع‬
‫الذي اتبعته؟ كانت األحًّلم تعود إليه في بعض األحيان لتهمس إليه بما كان بينه وبينها‪ ،‬ولتدفعه‬
‫إلى إدراك الوضع‪.‬‬
‫كانت ترغب في الرجل‪ ،‬ولكنها أخذت الغًّلم‪ ،‬وكانت تتساءل‪ :‬هل هذا الوضع هو الطريق‬
‫النهائي لألشياء؟ أذهلها أن يكون هذا هو الحال‪ ،‬وبأنها ال تستحق أن تكون في هذا الوضع‪،‬‬
‫وبأن براوني رجل بمعنى الكلمة‪ ،‬طيب المعشر رقيق المعاملة‪ ،‬على الرغم من بعض الشدة‬
‫التي يعاملها بها أو يبديها لها في بعض األحيان‪.‬‬
‫لذلك كان من الضروري أن تشكر هللا الذي منحها إياه‪ ،‬وتشكره وتشكر ليجي وربيكا والحظ‬
‫الذي جعلهم يلتقون‪ .‬لم تكن تستحق أي شيء‪ ..‬إنما كل ما تستحقه هو ال شيء‪.‬‬
‫ليتها تستطيع أن تتحدث إليه‪ ،‬أو أن تدع نفسها تفعل ذلك‪ ..‬ليتها تستطيع أن تمد يدها طالبة‬
‫الصفح‪ ،‬لم تكن تستطيع أن تقسم أنه يهتم بها منذ أن أخبرته‪ ،‬وأجابها بأنهما سيتزوجان على‬
‫أي حال‪ .‬كان الشك فيه يشبه فقد شيء ال يمكن تقدير قيمته إال فيما بعد‪.‬‬
‫في هذه اللحظة تقلب براوني في فراشه ليتحقق من أن الغطاء ال يزال فوقها حتى رقبتها‪ ،‬ومد‬
‫يده ليتلمس وجهها ورقبتها ثم يعيدها مرة أخرى إلى جانبه‪ ،‬فعل ذلك وهو يعتقد أنه أدى هذا‬
‫سرا‪ ،‬وكان يعتقد أنها مستغرقة في النوم‪ ،‬لذلك أجابها عن سؤالها في نفسه‪.‬‬
‫األمر ًّ‬
‫لمس هذا التصرف وهذه الكلمات شغافها‪ ،‬واستوعبت معنى الكلمات تما ًما‪ ،‬وكانت الدموع‬
‫تنساب من مقلتيها من غير بكاء‪ ،‬وحاولت أن تتنفس وتتظاهر كما لو كانت نائمة‪ .‬وشعرت‬
‫ببعض الحياة تدب في أوصالها‪ ،‬وبالعطف على براوني‪ ..‬العطف الذي كان يجب أن تشعر به‬
‫من قبل‪ .‬أخذت تبتلع لعابها بعد أن صدمتها الكلمات‪ ..‬وشعرت بأن براوني كان يجب أن يأخذ‬
‫الطفل ويتبناه‪.‬‬
‫ثم قالت من غير أي تفكير أو تردد‪:‬‬
‫‪ -‬براوني؟‬
‫ت مستيقظة؟‬
‫‪ -‬هل أن ِ‬
‫‪ -‬صحوت في هذه اللحظة فقط‪ .‬براوني!‬
‫‪ -‬أوه ‪ -‬هاه‪.‬‬
‫فهمست بالكلمات التالية‪:‬‬
‫‪ -‬إنني‪ ...‬إنني أتعلم كيف أرعاك‪.‬‬
‫لم يجبها مباشرة‪ ،‬وبعد أن انتظرت لحظة أدركت أنه ال يستطيع‪ ،‬لذلك قالت‪:‬‬
‫‪ -‬أرجو أن تكون قد أدركت وعرفت‪.‬‬
‫***‬
‫الفصل الثالثون‬
‫ميًّل‪ ،‬وربما بقي أربعون ً‬
‫ميًّل حتى يمكن‬ ‫ربما لم يبق من المسافة حتى دالس غير خمسين ً‬
‫الوصول إلى فانكوفر‪ ،‬وستة أميال إلى ويًّلميت‪ .‬مسح إيفانز العرق الذي تصبب فوق عينيه‪.‬‬
‫ال يوجد ما يعطل الركب‪ ،‬وأخبر نفسه بأنه يسير في الطريق الصحيح ما لم يتغير الطقس‪ ..‬ال‬
‫شيء سوى ركوب القوارب وانتظار الرياح والنهر‪ .‬كانت مساقط «كاسكاد» تقف عائقًا في‬
‫النهاية‪ ،‬وتبدو كما لو كانت ً‬
‫حقًّل من الثلوج‪ ،‬وكانت المياه في المناطق األمامية هادئة وتسير‬
‫بطيئة في منطقتها النهائية‪.‬‬
‫تنفس إيفانز بعمق‪ ،‬ثم رفع ذراعه ليسمح للهواء أن يدخل تحت إبطه‪ ،‬وكانت الرحلة طويلة‬
‫وصعبة‪ ،‬ولكنها كانت قد انتهت‪ ،‬وكانت آخر حركة لعجًّلت العربات تسير في طريقها النهائي‬
‫وهي تحمل حمولتها األخيرة‪ ،‬آخر أواني الطهو والمعدات‪ .‬ووصل آخر قارب هندي‪ .‬كان كل‬
‫فرد قد وصل في حالة جيدة ‪ -‬آل بيرد‪ ،‬وفيرمان‪ ،‬وميرسي‪ ،‬وبيكي‪ ،‬وبراوني‪ ،‬وديك‪ ،‬وذلك‬
‫باإلضافة إلى الهنود الذين استأجرهم للمعونة في حمل األشياء وتسيير دفة القوارب‪ .‬وكان‬
‫الهنود يقفون عند الممر الذي يعود بهم‪ ،‬وهم ينظرون حولهم والسرور يشملهم‪ ،‬كما كان‬
‫يشملهم حب االستطًّلع ألعمال وحركات الرجل األبيض‪ .‬وكان أحدهم يلتف بعباءة حتى‬
‫رقبته‪ ،‬ويمسك عصا طويلة في يده‪ ،‬في حين كانت امرأة هندية قد حضرت معهم‪ ،‬وهي‬
‫عا من قش األرز المضغوط يغطي جز ًءا منها‪.‬‬
‫صا مصنو ً‬
‫صغيرة السن ترتدي قمي ً‬
‫وقال إيفانز‪ ،‬وهو ينظر إلى الشمس التي كانت قد بدأت تختفي نحو الغرب‪:‬‬
‫‪ -‬ن ستطيع أن نقيم المعسكر اآلن‪ ..‬أعتقد أننا نستطيع أن نعيد القوارب قبل الظًّلم‪.‬‬
‫لم يذهب في هذه اللحظة للعمل حتى يفعل غيره مثله‪ ،‬ولكنه أخذ يحشو غليونه‪ ،‬وأحضر‬
‫صندوقًا جلس فوقه بجوار شجرة‪ ،‬ثم أخذ يدخن غليونه وهو يشعر باالطمئنان والراحة‪ ،‬وترك‬
‫ضا‪ .‬كانت رحلة مؤكدة ‪ -‬تقطع فيها القوارب مسافة أربعة أميال‬ ‫اآلخرين يستريحون أي ً‬
‫بحموالت ثقيلة وسط مقابر الهنود‪ ،‬حيث دفنت أجسادهم ووضعت فوق قبورهم تماثيل خشنة‬
‫تمثل الطيور على أشكالها والحيوانات‪ ،‬والشياطين‪ .‬كان ويذربي يطلق عليها لفظ األوثان‪ ،‬إذا‬
‫شاهدها‪ ،‬ويعنف الهنود عليها‪ ..‬كان يبدو أن ويذربي قد قطع نفسه من العمل‪.‬‬
‫سا عميقًا من غليونه لكي يمرر الدخان من أنفه‪ ،‬في حين كان بيرد يشعل‬ ‫سحب إيفانز نف ً‬
‫النيران‪ ،‬وميرسي وبيكي تتحدثان عند حافة المياه حيث وقف فيرمان ينظر إلى جريان المياه‪.‬‬
‫صا قدي ًما إلى الهنود‪ ،‬وكان هو الشيء الوحيد الذي ارتداه الهندي الذي‬
‫وكان بيرد قد باع قمي ً‬
‫اشتراه‪ ،‬وارتداه كما لو كان هو كل ما يكفي من الملبس‪ .‬وكان جيف بيرد‪ ،‬االبن الصغير‪،‬‬
‫يصيح كلما شاهد الهندي يرتديه‪ ،‬ولكن الهندي لم يكن يهتم بذلك؛ إذ كان شبه الطفل نفسه في‬
‫تصرفاته‪ .‬وكان ديك يتحدث إلى رجلين من الهنود‪ ،‬ربما كان يطلب منهما الذهاب‪ ،‬وكانت‬
‫رائحة الهنود تثير االشمئزاز في النفس وتقتل فيها الرغبة في طلب الطعام‪.‬‬
‫وكان ويذربي قد أصبح جز ًءا من العمل‪ ،‬وعرف ذلك بنفسه‪ ،‬لذلك كان يبلغ قوته في نظراته‬
‫ومواعظه‪ ،‬وخاصة حينما ودع ديك عند دالس‪ .‬ولكن ديك كان قد قال له‪:‬‬
‫‪ -‬من األفضل أن تأتي معنا‪ ،‬سنعد لك مكانًا؟‬
‫فهز ويذربي لحيته العجوز عًّلمة النفي‪ .‬وكان إيفانز ينظر إليه وهو يتحدث مع سمرز‪ ،‬فاعتقد‬
‫أنه قد انكمش على نفسه حتى أصبح عظا ًما وعروقًا‪ .‬كان يقف وظهره قد ازداد تقو ً‬
‫سا أكثر‬
‫من ذي قبل‪ ،‬كما لو كان ثقل الذنوب والخطيئة والواجب قد رسمت خطوطها عليه‪ .‬واستمر‬
‫ديك يقول‪:‬‬
‫‪ -‬هناك يوجد المزيد من الوثنيين‪ ..‬يبدو أنك ال تهرب من العمل‪.‬‬
‫‪ -‬سأحضر فيما بعد‪ .‬أود أن أقضي بعض الوقت هنا في اإلرسالية‪ ،‬إنها بحاجة إلى مساعدة‪.‬‬
‫فقال ديك‪:‬‬
‫تأثيرا عميقًا‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ -‬حسنًا‪ ،‬يبدو أن الدين وحده هو الذي يؤثر في هؤالء الهنود‬
‫فهز ويذربي رأسه بحزن‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬لقد قطعت الطريق ألحمل رسالة الكتابيين هنا‪ .‬قد خاب ظن األخ بيركنز هنا؟‬
‫‪ -‬ال أستطيع أن ألومه‪ ،‬هل تلومه أنت؟‬
‫‪ -‬إنني أؤدي عمل الرب‪ ،‬وأشكره على ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬وهكذا أنت تقول؟‬
‫‪ -‬في الوقت الحاضر بأقل تقدير‪.‬‬
‫وكان ويذربي ينظر إلى األرض؛ لكي يدرسها‪ ،‬ثم رفع ناظريه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أيها األخ سمرز!‬
‫وانتظر ديك إلى ما سيقوله بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬لقد شاهدت على طول الطريق أنني أستطيع أن أجد غذاء الجسد‪.‬‬
‫‪ -‬هذا حسن‪.‬‬
‫‪ -‬كم أود أن أقدم لك غذاء الروح‪.‬‬
‫فمد ديك يده إلى األمام‪ ،‬وشاهد إيفانز روح الصداقة في وجهه‪ ،‬والميل نحو هذا الرجل الذي‬
‫ضا لمحة من التهكم وهو يقول‪:‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وشاهد أي ً‬
‫يختلف عنه ً‬
‫‪ -‬سوف أبحث عنك إذا وجدتني أحتاج إلى هذا الغذاء‪.‬‬
‫وبعد أن انتهت الوداعات‪ ،‬كان األسطول الصغير قد تحرك‪ .‬مركب لعائلة إيفانز‪ ،‬وآخر لبيرد‪،‬‬
‫وثالث لفيرمان‪ ،‬وتركوا عرباتهم فوق األرض مع بعض األشخاص اآلخرين‪ .‬وكان ماك من‬
‫بين األشخاص الذين سيتولون دفع هذه العربات عبر األراضي إلى منطقة االلتقاء‪ ،‬في حين‬
‫ينتظر آخر‪ ،‬مثل باتش‪ ،‬استئجار قوارب أخرى‪ ،‬ويقوم دورتي بصنع قارب له من األخشاب‬
‫التي يعمل عليها‪.‬‬
‫ودع إيفانز كل فرد منهم‪ ،‬ووجد صعوبة عاطفية في هذا الوداع‪ ،‬ولكنه طمأن نفسه بأنه سيراهم‬
‫فيما بعد‪ .‬كان الوداع الذي سيأتي بعد ذلك هو الذي يقلقه‪ ،‬ما لم يتم حديث بشأنه لوقفه‪ .‬وكان‬
‫قد درس مسألة أوريجون مع ديك‪ ،‬وأخبر ديك بأنه يفضل أن يحضر مثل اآلخرين لًّلستقرار‪.‬‬
‫ولكن ديك ابتسم‪ ،‬وقال أشياء صغيرة لم تضف جديدًا على الموقف‪ .‬أصبحوا ال يحتاجون إليه‬
‫اآلن‪ ..‬لقد انتهى عمله وواجبه‪ ،‬وكان من الممكن أن يتركهم عند هذا الحد‪.‬‬
‫نهض إيفانز وهو يشعر بالقلق‪ ،‬وبأنه قد فقد شيئًا‪ ،‬ثم نفض غليونه بعيدًا ووضعه في جيبه‪،‬‬
‫وذهب إلى القوارب الهندية لينزلها في الماء‪ ،‬ويصلح سطحها‪ ،‬وكان الهنود يهرولون بعيدًا‬
‫ومعهم شص لصيد األسماك أو طباق‪ ،‬في حين كانت النساء يحطن بالنار التي أوقدها بيرد‪،‬‬
‫وكان اثنان من أطفال بيرد قد تسلقا شجرة‪ ،‬في حين كانت جوديث فيرمان تراقب بيثاني بيرد‪.‬‬
‫كان عندهم لحم مقدد هذه الليلة‪ ،‬لحم غزال اصطاده سمرز في اليوم السالف‪ ،‬وكذلك بعض‬
‫الخبز والزبد‪ ،‬والقهوة‪ ،‬ولكن من غير سكر أو «كريم»‪ .‬انقضى الليل هادئًا وناع ًما‪ ،‬وكانت‬
‫الرياح الخفيفة تأتي من اتجاه النهر تحمل معها صوت خرير المياه‪ ..‬أما اآلن وقد أوشكت‬
‫الرحلة على االنتهاء‪ ،‬فلم يجد أي إنسان أي شيء ليقوله بعد ذلك‪ ..‬حتى األطفال أنفسهم‪ ،‬كانوا‬
‫كثيرا بالذهاب إلى الفراش‪ .‬أما ميرسي وبراوني فقد كانا‬
‫أكثر هدو ًءا عن ذي قبل‪ ،‬وال يهتمون ً‬
‫يجلسان بعيدًا ً‬
‫قليًّل عن الباقين‪ ،‬وشعر إيفانز بأنهما قد زادا التصاقًا واقترابًا بعضهما من بعض‪.‬‬
‫وجلس هو نفسه صامتًا تار ًكا العنان ألفكاره‪ ،‬في حين كان اآلخرون يتناقشون مع ديك‪.‬‬
‫وانتظر إيفانز حتى نهض ديك‪ ،‬ثم نهض خلفه وناداه‪:‬‬
‫‪ -‬ديك!‬
‫‪ -‬ماذا بك يا صديقي؟‬
‫‪ -‬إنها ليلة جميلة‪ ،‬أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬إذا كنت تميل إلى منطقة بجوار البحر‪.‬‬
‫‪ -‬ما هو العيب في المناطق البحرية؟‬
‫‪ -‬ال شيء‪ .‬وإنما أحب فقط البًّلد المرتفعة‪.‬‬
‫‪ -‬سوف تتعود عليها‪ .‬ستتعود عليها فيما بعد‪.‬‬
‫‪ -‬ال أظن ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬يجب أن تحاول يا ديك؟‬
‫‪ -‬أعتقد أنني لن أفعل ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تنوي أن تفعل؟‬
‫‪ -‬أعود من حيث أتيت‪.‬‬
‫‪ -‬إلى إندبندس؟‬
‫‪ -‬ليس هذا يا ليجي‪.‬‬
‫‪ -‬متى؟‬
‫‪ -‬غدًا إذا كان الجو مناسبًا‪.‬‬
‫‪ -‬كيف ستعود‪ ،‬وليس معك أي جواد أو أي شيء آخر؟‬
‫‪ -‬معي بندقيتي‪ ،‬وحجر صوان‪ ،‬وقطعة من الصلب‪ .‬وسوف أحصل على جواد من أي مكان‪.‬‬
‫ً‬
‫جائًّل‬ ‫‪ -‬يا أهلل يا ديك! كم كنت أود أال يصبح األمر هكذا! إن اإلنسان ال يستطيع أن يعيش‬
‫طوال حياته‪.‬‬
‫ثم ظل ديك صامتًا لحظة واحدة‪ ،‬وهو يبحث عن الكلمات في زاوية من ذهنه‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬بعد لحظات سأقابل المحيط يا ليجي‪.‬‬
‫وأدرك إيفانز ماذا كان يعني بذلك‪ ..‬إنه كان يعني ضياعه في محيط ال نهاية له‪ ،‬لذلك قال له‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ال تأتي معنا‪ ،‬ستكون إنسانًا مه ًّما معنا‪ ،‬ألست واثقًا من ذلك؟‬
‫‪ -‬إنه ليس بالشيء المهم بالنسبة لي يا ليجي‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫‪ -‬هناك الكثير من األراضي الحرة لك ولآلخرين أي ً‬
‫وانتظر إيفانز ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ثم أضاف ما كان يعرفه‪:‬‬
‫‪ -‬من الممكن أن تصبح شخصية هامة في أوريجون‪.‬‬
‫اعتقد إيفانز أنه شاهد ابتسامة بسيطة انفرج عنها فم ديك ً‬
‫قليًّل‪.‬‬
‫‪ -‬إنني ال أسعى وراء األهمية‪.‬‬
‫‪ -‬ما الشيء الذي تسعى وراءه إذن؟‬
‫فتوقف ديك ً‬
‫قليًّل‪ ،‬ثم أطلق إجابة حيرت إيفانز مرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬إنني مضطر إلى تتبع اآلثار مثل الكلب األمين‪.‬‬
‫‪ -‬تستطيع أن تعيش معنا‪ ،‬ونحن نرحب بك ترحيبًا مضاعفًا‪.‬‬
‫‪ -‬إن هذا الطفل يعرف ذلك يا ليجي‪ ..‬إنك تشق طريقك وهو طريق طيب‪ ،‬ولكن طريقي يختلف‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما تعتقده وتضعه في ذهنك‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما يجب االعتماد عليه‪.‬‬
‫‪ -‬أين ستتجه إذن؟‬
‫ً‬
‫شماال إلى منطقة «بًّلك فوت»‪ .‬ال أستطيع‬ ‫‪ -‬ربما أعود إلى بريدجر‪ ،‬أو ربما إلى «بير» أو‬
‫أن أخبرك اآلن‪.‬‬
‫‪ -‬سيكون هناك الجليد فوق الجبال قبل أن تستطيع عبورها‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪.‬‬
‫‪ -‬ديك‪ ..‬إنك رجل مهذب‪ ،‬ولكن ينقصك الشعور‪.‬‬
‫‪ -‬ال تذكر هذا‪ ،‬إنني أكن لك ولزوجتك ولبراوني كل تقدير وحب يا ليجي‪ ،‬أليس األمر كذلك؟‬
‫وتحول سمرز جانبًا‪ ،‬ثم سار في طريقه‪.‬‬
‫ولم يستطع إيفانز أن يتحدث أكثر من ذلك‪ ،‬كان يبدو أنه ال يستطيع أن يفكر بعد هذا الشعور‬
‫بالخسارة‪ ،‬وهو يشعر بأنه شيء مخجل أن يضيع حياته هباء‪ .‬ماذا يوجد في ماضيه حتى يجذبه‬
‫إل ى العودة‪ ،‬أهي الذكريات؟ أم القنص؟ أم الهنود؟ أم الجاموس البري؟ أم األراضي الخالية‬
‫والبرية؟ لم يستطع إيفانز أن يشعر بأي شعور من الحب لهذه األشياء‪ ..‬إنه يحب المناطق‬
‫المفتوحة‪ ،‬ولكن يجب على اإلنسان أن يبحث عن وسيلة حياته الهادئة السليمة‪ ،‬وال يوجد هناك‬
‫أي شيء يعادل اآلن الحياة المنتظرة في أوريجون بعد هذا الجهد القاتل‪ ،‬والوقت الذي ضيع‬
‫أو يضيع اآلن‪.‬‬
‫وحينما عاد ديك‪ ،‬سأله إيفانز‪:‬‬
‫‪ -‬لم أكن أقصد منك أي شيء يا ديك‪ ،‬وإنما كنت أود أن أؤكد لك ضرورة كون أوريجون‬
‫أمريكية‪.‬‬
‫‪ -‬سوف تحقق ذلك يا ليجي‪ .‬أود أن أرى «بوبو آجي» مرة أخرى‪.‬‬
‫لم يسأله إيفانز أين توجد «بوبو آجي»؟ ولماذا يرغب في رؤيتها؟ لم يكن األمر يهمه‪ .‬ماذا‪،‬‬
‫وأين‪ ،‬ولماذا‪ ،‬إنها مجرد كلمات تسير بجانب كلمات أخرى كان يسمعها وال يدرك معناها؛‬
‫لذلك أخبر ديك وهما يعودان إلى المعسكر‪:‬‬
‫‪ -‬أراك غدًا على أي حال‪.‬‬
‫‪ -‬بالتأكيد‪.‬‬
‫ولكنه لم يره بعد ذلك؛ إذ قبل أن ينهض أي فرد في المعسكر‪ ،‬كان ديك قد نهض وترك‬
‫المعسكر‪.‬‬
‫كانت الجبال تقف شامخة على كًّل الجانبين عارية من أي شيء وترتفع إلى السماء الزرقاء‪،‬‬
‫في حين كان النهر العريض‪ ،‬الذي تختلط فيه المياه المالحة بالعذبة بسبب ارتباطه بالمحيط‪،‬‬
‫ينحصر بين هذه الجبال‪ ،‬وكانت المساقط المائية تتساقط من الحائط الجنوبي المرتفع‪ ،‬وتبدو‬
‫كما لو كانت شري ً‬
‫طا رفيعًا من الثلج‪ ،‬وكان الجو مشبعًا بالرطوبة بسبب البحر‪.‬‬
‫وكان الوقت يسير بطيئًا بسبب بطء هذه القوارب التي ُ‬
‫صنعت لتسير هكذا‪ ..‬صباح كثير الغيوم‪،‬‬
‫وظهر واضح براق‪ ،‬ومساء مليء بالغيوم‪ ،‬وليا ٍل قاسية تمتلئ بالشعور بالجبال‪ ،‬وبالشعور‬
‫ً‬
‫ضئيًّل أمام عظمة الظًّلم؛ أرز‪ ،‬وخبز‪ ،‬والمزيد‬ ‫بالفقدان‪ .‬كان المعسكر ونيرانه يبدوان شيئًا‬
‫من األسماك‪ ،‬والنوم‪ ،‬وارتطام المياه بالشاطئ الضيق‪ ،‬والرياح‪ ..‬الرياح التي تهب من الغرب‪،‬‬
‫رياح البحر التي تواجه التيار وتدفعه‪ ،‬إنها الرياح التي تحرس أوريجون‪ ..‬رياح «كيب هورن»‬
‫التي تدفع القوارب إلى الشاطئ‪ ..‬الرياح التي تغير من قوتها وضعفها‪ ..‬التي تهدأ‪ ،‬أو تعصف‬
‫لتدفع الشراع وتغرق الضفة‪.‬‬
‫كانت لمسة الفقدان‪ ،‬واألسف‪ ،‬والتساؤل داخل النفس عما إذا كان شاطئ األمان سيكون قريبًا‪،‬‬
‫وأفكار ديك التي دفعته إلى العودة بسبب همسة طغت على ذهنه وكيانه‪.‬‬
‫ولكن االنتظار كان يحرك الجميع ويجعل دماءهم تتراقص وتغني فرحة حينما يرون التًّلل‬
‫ً‬
‫طويًّل هذه المرة‪ .‬إن‬ ‫والجبال تتًّلشى وتختفي‪ ،‬ثم تأتي مناظر األحًّلم‪ ،‬التي لن تستغرق وقتًا‬
‫صعوبات هذه الرياح والجبال هي آخر الصعوبات التي يواجهونها؛ ألن وراء ذلك سيكون‬
‫الهدوء والراحة والمستقر‪.‬‬
‫الصعوبات‪ ،‬األسف‪ ،‬والمغادرة! ولكن القلب ظل على استعداد ألن ينبض بقوة‪ .‬كان إيفانز‬
‫يعتقد أنه لوال وجود الصعوبات لما كان للفرح طعم أو عمق في حياة اإلنسان‪ ..‬كم من الوقت‬
‫طفًّل آخر؟ وكيف كان يستطيع أن يتلهف‬ ‫كان يتعلق ببراوني ويحبه هذا الحب‪ ،‬لوال أنه فقد ً‬
‫على أوريجون ويحبها لوال هذا العرق والحزن والتعب الذي مر به على طول الطريق؟ لقد‬
‫ً‬
‫وتقبًّل لألمور‪ ،‬لذلك وجد الفرح طريقه الكبير‪.‬‬ ‫ً‬
‫احتماال‬ ‫حطم الحزن القلب‪ ،‬ولكنه جعله أكثر‬
‫كان يسمع في الليالي على ضفتي ويًّلميت صوت نباح روك‪ ،‬فكان يميل إلى أوريجون أكثر‬
‫ضا تود فيرمان وساقه المتورمة‪ ،‬وكان في بعض األحيان‬ ‫وأكثر‪ ،‬وكان يرى في بعض الليالي أي ً‬
‫يرى انعكاسات العزم في عين حمامة‪ ،‬وفي أحيان أخرى كان يتذكر ما كان يقوله ديك في أثناء‬
‫صمته‪:‬‬
‫‪ً -‬‬
‫مهًّل يا صديقي‪ ،‬خذ األمور على بساطتها‪.‬‬
‫كانت الجبال تتباعد‪ ،‬وكان يقول لنفسه‪ :‬ليس بعد حينما كانت نظراته تجوس خًّلل هذه البقاع‪..‬‬
‫ليس بعد‪ ..‬ليس بعد‪ ،‬ثم بقعة حشائشية خضراء تبدو رخوة لينة تحت الشمس‪ ..‬كانت هي‬
‫خطوط «فورت فانكوفر» وبجانبها باخرة ضخمة راسية‪ ،‬وتمر بها وسط األشجار والغابة‬
‫المرتفعة مياه ويًّلميت‪.‬‬
‫شعر ألول مرة‪ ،‬منذ أن غادر بًّلت‪ ،‬بالعظمة‪ ،‬قد وصل إلى نهر كولومبيا‪ ،‬وبدأ األمل الكبير‬
‫يتحقق‪ ،‬ثم بدأ ينظر إلى الموطن الجديد‪ .‬وارتفع مد عال داخل نفسه طغى على جميع مشاعره‪،‬‬
‫جعل عينيه تمتلئان بما يشبه دموع النساء‪ ،‬لدرجة أن خشي أن تلتقي أعين اآلخرين بعينيه‪.‬‬
‫هذا هو‪ ،‬هذا هو الموطن الجديد‪ ،‬التربة الغنية التي تنتظر المحراث ليشقها‪ ،‬وتنتظر األيدي‬
‫العاملة‪ ،‬وتنتظر صياح األطفال السعيدة‪ .‬سيحققون كل ذلك‪ ،‬وتسلقوا الجبال وغاصوا في المياه‬
‫واألنهر‪ ،‬وواجهوا األخطار‪ ،‬ثم أبحروا في النهار في المياه الواسعة‪ .‬إنهم بناة أمة‪ ،‬بناة الوطن‬
‫الجديد‪.‬‬
‫ً‬
‫متكاسًّل‬ ‫أخذ ينظر حوله‪ ،‬فشاهد قاربي أسرتي بيرد وفيرمان يقتربان منه‪ ،‬في حين كان براوني‬
‫في تجديفه‪ ،‬وبيكي تحلم واألمل ينعكس في عينيها بالبيت والمستقر الجديد‪ .‬أما ميرسي فقد‬
‫كانت تجلس بجوارها‪ .‬قالت ربيكا إن ميرسي سترزق بطفل‪ ..‬حبيبتي ميرسي إنها ستأتي بطفل‬
‫ليمأل البيت‪ ..‬دم من دمه‪ ..‬لقد تحرك دم من دمه من جديد‪.‬‬
‫غمز بعينه لزوجته‪ ،‬وتحدث بصوت مرتفع طغى على الرعشة التي أصابت حنجرته‪:‬‬
‫‪ -‬بيكي‪ ..‬مرحبًا بأوريجون‪.‬‬
‫***‬

‫‪Contents‬‬
‫‪Telegram Network ......................................................................................................................... 1‬مكتبة‬
‫‪ ......................................................................................................................................... 6‬الطريق إلى الغرب‬
‫‪ ........................................................................................................................................................... 9‬تقديم‬
‫‪............................................................................................................................................... 10‬الفصل األول‬
‫‪ .............................................................................................................................................. 26‬الفصل الثاني‬
‫‪ .............................................................................................................................................. 40‬الفصل الثالث‬
‫‪ .............................................................................................................................................. 50‬الفصل الرابع‬
‫‪ ............................................................................................................................................ 53‬الفصل الخامس‬
‫‪ ............................................................................................................................................ 65‬الفصل السادس‬
‫‪ .............................................................................................................................................. 77‬الفصل السابع‬
‫‪ .............................................................................................................................................. 91‬الفصل الثامن‬
‫‪ .............................................................................................................................................. 97‬الفصل التاسع‬
‫‪ ........................................................................................................................................... 105‬الفصل العاشر‬
‫‪ ................................................................................................................................... 112‬الفصل الحادي عشر‬
‫‪ ..................................................................................................................................... 121‬الفصل الثاني عشر‬
‫‪ ..................................................................................................................................... 143‬الفصل الثالث عشر‬
‫‪ ..................................................................................................................................... 152‬الفصل الرابع عشر‬
‫‪ .................................................................................................................................. 166‬الفصل الخامس عشر‬
‫‪ ................................................................................................................................... 179‬الفصل السادس عشر‬
‫‪..................................................................................................................................... 194‬الفصل السابع عشر‬
‫‪ ..................................................................................................................................... 200‬الفصل الثامن عشر‬
‫‪..................................................................................................................................... 210‬الفصل التاسع عشر‬
‫‪ ........................................................................................................................................ 220‬الفصل العشرون‬
‫‪ ............................................................................................................................. 231‬الفصل الحادي والعشرون‬
‫‪ .............................................................................................................................. 238‬الفصل الثاني والعشرون‬
‫‪ .............................................................................................................................. 251‬الفصل الثالث والعشرون‬
‫‪ .............................................................................................................................. 259‬الفصل الرابع والعشرون‬
‫‪ ............................................................................................................................ 265‬الفصل الخامس والعشرون‬
‫‪ ............................................................................................................................ 272‬الفصل السادس والعشرون‬
‫‪ .............................................................................................................................. 288‬الفصل السابع والعشرون‬
‫‪ .............................................................................................................................. 295‬الفصل الثامن والعشرون‬
‫‪ .............................................................................................................................. 304‬الفصل التاسع والعشرون‬
‫‪ ......................................................................................................................................... 316‬الفصل الثالثون‬

You might also like