Professional Documents
Culture Documents
Telegram Network
«المكتبة النصية»
قام بتحويل كتاب (الطريق إلى الغرب)
لـ (أ .ب .جوتري)
الي صيغة نصية:
(فريق الكتب النادرة)
من مصر:
(شمس الحياة)
(ماجدة علي)
(هشام حسني)
()A.Awakeel
(م .محمد خضر)
(ماجد حنّا)
(محمد مصطفي كمال)
(مروة جمال)
(هشام حسني)
من السعودية:
(د .طارق التميمي)
(زينه)
(نجاح السبيعي)
(أريج محمد)
(خالد مريع)
)(The-Inspired
الراشدي)
ّ قصي
ّ (ن .أبو
من الكويت:
(منصور التميمي)
من لبنان:
(حسن العاملي)
(أحمد لحاف)
من سلطنه عمان:
(معالي)
من الجزائر:
(سعدي إلياس)
من سوريا:
(هادي إبراهيم)
(حذيفة ُمحمد)
(رنا وليد)
(محمد المقداد)
من العراق:
(سماهر)
(علي الشمري)
(آيات علي)
من اليمن:
(عبد هللا الحبابي)
من المغرب:
(رشيد تاديست)
OCR:
(طارق دردوري)
(منصور التميمي)
مراجعه وتنسيق:
العاملي)
ّ (حسن
غالف الطبعة العربية االولى
1949
رواية
الفصل الرابع
تراجعت العربة بمؤخرتها إلى مدخل الباب ،وكانت ممتلئة ،ولكنها ال تستطيع أن تستوعب ما
بقي في المنزل .وكان قد تم حزم األواني واألوعية وشحنها وأدوات السرير واألطباق ،وقد
ُوضعت وضعًا دقيقًا في براميل ،وكذلك تم حزم المًّلبس وبعض قطع األثاث ،وهي األشياء
التي يجب وضعها داخل وأسفل غطاء العربة.
كثيرا ،قبل أن يغلقوا الباب ويخرجوا
ً لم يكن هناك الكثير مما يتطلب العمل السريع ،ليس
تاركين بيت إيفانز ألسرة أخرى .وقد حاولت ربيكا أن تحث الرجال بكل مرح وسرعة على
إنهاء أعمالهم ،وكانت تتحرك هنا وهناك لتجد منشفة قد نسيتها أو تجد ملعقة مختفية ،كما كانت
تقوم بعملية مسح دقيقة للكوخ .وكانت العربة الثانية قد شحنت باألغذية والمحاريث وأدوات
الزراعة وحجر الطحن والسندان ،وبعض األدوات األخرى التي رأى ليجي أنها الزمة له لشق
طريقه في الحياة في أوريجون .وبعد أن قاما بإتمام إخًّلء «الجرن» وأخذا في تصفية المنزل،
سأل براوني:
-ماذا بعد يا ماما؟
فأجابه ليجي:
-ال يهم اآلن ما قمنا بتحميله حتى اآلن ،إذ سوف نتعاون حين االلتقاء.
وكانت مسز إيفانز تعتقد أنها مثل الرجال تشعر بشعورهم نفسه وتحزن كامرأة تهجر منزلها
وتودعه .إن البيت الذي تعيش فيه المرأة فترة طويلة ،وتكون قد لمست كل زاوية من زواياه،
ووطئت قدماها كل ركن من أركان أرضه ،يظل في ذاكرتها ويراود مخيلتها ً
ليًّل ونها ًرا ،فهي
تتذكر الميًّلد والموت ،والصغار ،واألحاديث السارة التي تدور بين الذين يتزوجون حديثًا.
لذلك قالت ،وهي تراقب ًّ
كًّل من ليجي وبراوني بعد أن خًّل البيت وأصبح يشمله الفراغ
والصمت:
ضا.
-تستطيع أن تأخذ الصندوق الخشبي أي ً
كان ليجي قد قام ببناء كل زاوية وألصق كل خشبة فيه ،وكانت زوجته أو هو نفسه قد قامت
أو قام بوضع لمسة الجمال األخيرة ،لذلك فقد كان كل شيء هناك يحمل طابعهما الخاص .لقد
جاءا صغيرين وشاهدا السنوات تمر ولمسا الشقاء والسعادة ،وكان يبدو أن المنزل قد شاركهما
في أوقاتهما وشعورهما ،وأن الحزن قد خيم عليه بعد أن خلت حجراته ،وأصبح جز ًءا من
الذكرى ،يخشى مجيء الغرباء.
وفي الخارج كان رجالها يقفون وهم يتحدثون بأصوات عالية ويفكرون في كيفية ترتيب األشياء
في الخارج داخل العربة ،وجاء صوت ليجي إليها قويًّا مليئًا بالرغبة والشعور بالتقدم إلى
األمام ،وهو شعور لم يحس به منذ سنوات مضت ،وكان كل شيء يسير على ما يرام ،وهذا
ما أقنعت نفسها به ،كما كان الركب على استعداد كامل للتحرك مهما يكن الوضع صعبًا .وال
شك في أن أوريجون تناسب هذه المغامرة ،فكل ما يحتاجه ليجي نفسه -وبراوني فيما بعد -هو
وجود فرصة أفضل من الفرصة الموجودة في ميسوري والجرأة الكافية ،وإيجاد ما رسمته له
مخيلته ،وهذا هو الشيء الذي كانت زوجته على ثقة من الحصول عليه ،لذلك كانت سعيدة
سعادة تامة؛ ألن ليجي قام بتنفيذ فكرته المفاجئة بالذهاب إلى أوريجون.
قامت الزوجة بإزالة القاذورات واألتربة من فوق الباب ،ثم نزعت مًّلبس التنظيف بعد أن
أصبح كل شيء في العربة ،كل شيء ،وأصبح ال يوجد في البيت سوى الفراغ ،الفراغ وفرشاة
األتربة ،وعًّلمات األتربة التي كانت تحاول إزالتها ،والوحدة الصامتة.
وتردد صوت براوني في الحجرات الصامتة الميتة ،في الحجرة التي ُو ِلد فيها والتي رقد فيها
وهو طفل ...في مهده الصغير الذي صنعه له ليجي:
عنك أنتِ؟
-أولد روكي (الكلب) على استعداد اآلن يا ماما .ماذا ِ
ونزل ليجي من فوق العربة ،ودخل المنزل ليلقي نظرة ويقول:
ضا!
ت على كل شيء ،ما لم تكوني راغبة في شحن المنزل نفسه أي ً
أنك حصل ِ
-يبدو ِ
-أرجو أن نستطيع ذلك.
وقال وهو يضع يده فوق كتفها ،ثم يتركه ويعود:
-وأنا كذلك يا بيكي ،هل أنت مستعدة اآلن؟
وتبعته إلى الخارج حيث توجد أشعة شمس الصباح المشرقة:
-سوف أتبعك حينما أضع القبعة فوق رأسي.
وتحدث إليها براوني ً
قائًّل:
-أخبرني «بابا» بأنني أستطيع أن أقود القطيع إلى األمام ،وأنت وهو تقودان الفريق.
فقالت:
-حسنًا .ثم أضافت:
-انتظر لحظة.
ً
طويًّل ،وألقت وعادت مرة أخرى إلى الداخل ،كما لو كانت قد نسيت الشخص الذي خدمهم
النظرة األخيرة الطويلة ...نظرة الوداع األخير .وأخذت تستنشق الهواء الذي سوف تهجره،
لفترة دقيقة طويلة أو دقيقتين ،وأطلقت لخيالها العنان ،ثم عادت إلى حيث يوجد الجميع لتجد
مكانها.
-أسرعي يا «ماما».
ورفعت رأسها وسارت بعد أن تثبتت من أن المزالج ،الذي أحكمت وضعه وسبق أن استخدمته
عددًا من المرات ،قد أحكم هذه المرة وأغلق الدار التي تركتها ،متجهة إلى المكان الذي وقع
عليه اختيار الجميع.
الفصل الخامس
كان ليجي إيفانز قد جلس في أحد األيام فوق جذع شجرة يتحدث ،ويستعيد ما سبق أن تحدث
به الناس من لغات ولهجات غير معروفة ..تذكر كل ذلك في هذا المكان الذي يطلق عليه اسم
«االلتقاء» حيث يتم انتخاب الضباط والقيام بالتفتيش على األشياء قبل البدء في السير .كانت
األصوات تصم اآلذان ،فالنساء يثرثرن ،والرجال يرعون البغال والثيران ويتحدثون في
جماعات صغيرة ،والصغار يصيحون ،والكًّلب تنبح ،والبغال تصهل بين لحظة وأخرى،
واألبقار تخور ،لذلك لم تستطع العين أن تستريح ،في حين ظل الناس يقومون بدق الخيام،
ودفع األبقار والماشية إلى الحظائر ،وتفريغ العربات التي جاءت من إندبندس أو «ويست
بورت» ،وبدأ األطفال ينطلقون بين العربات المغطاة باألقمشة البيضاء ،ويقفزن فوق أوتاد
الخيام أو يتمرغون وسط الحشائش المليئة باألتربة .وبين حين وحين تظهر عربة جديدة عليها
عًّلمة ميسوري الزرقاء ،وما تكاد تقف حتى يندفع الرجال واألطفال والنساء منها ،ويتجه
الرجال على الفور إلى العمل على وضع الماشية داخل حظيرة لها.
وكان األخ ويذربي يتحرك وسط الناس ،ويتوقف حينما يكون عليه أن يستمع ،ويظهر الجد
على وجهه الكبير على أساس ما سبق أن عرفه من إيفانز .وكان إيفانز يستمع إلى األصوات
المزعجة ،في حين كان صوت ويذربي يطغي على جميع هذه األصوات .وكان يبدو أنه يُعد
إللقاء موعظة في هذه الليلة حول «رب واحد ،وعقيدة واحدة ،ومعمودية واحدة» .وكان األخ
ويذربي يرغب في إلقاء موعظته كما يسميها ،وفي ذلك الوقت كان هناك بغل يتحرك بعربته
ويقترب ثم يقف ليرفع ذيله ،األمر الذي جعل ويذربي يتوقف عن كًّلمه وهو مضطرب ،وبعد
أن يتولى إلقاء موعظته سوف يقوم بإمرار قبعته على الحاضرين وهو يقول« :إن الرب يحب
المحسن الودود» ،وقد اعتقد إيفانز أن هذا هو أحد أسباب قيامه بإلقاء مواعظه باستمرار ،وهو
أنه لم يكن يمتلك شيئًا ،فإذا كان األمر كذلك ،وكان بقاؤه يتوقف على درجة احتياجه إلى المال
بعد كل موعظة مثل أي عمل تجاري أو زراعي ،فإنه قد يغادر المكان بعد أن يكتفي ،ولكنه
كان يحتاج إلى المال لكي يعمل عمل الرب ،وربما فعل ذلك ،ولم يستطع أن يستمع إليه ،وكان
يشك في أن الرب قد اختاره لكي ينشر «الكلمة».
وقف إيفانز بقدمه على مقدمة العربة ،وبدأ يراقب ويستمع ،ثم الحظ كلبة متخايلة تجري
ويجري وراءها معظم كًّلب المعسكر ومعها روك العجوز ،ورفع كل من هذه الكًّلب رجليه،
وكان كل واحد وراء اآلخر ،بجوار شجيرة ضعيفة ،ك ٌّل يأمل في اندفاعه أن يصل إلى هدفه
حتى ولو كان أقل القليل ،والكل يشعر بأن الرب قد عينه هو وحده واختاره لذلك.
وكان تادلوك السياسي يجول ،مثل األخ ويذربي ،حول المكان ،على الرغم من أنه لم يكن
هنالك إنسان ينافسه في االنتخابات ،فقد كان محدثًا لبقًا ،وحمل معه كتاب المرشد ألوريجون؛
ليظهر أنه يعرف أكثر من غيره ،ما عدا -ربما -ديك سمرز الذي يعرف كيف يسلك الطريق
إلى الغرب.
وحينما كانت الشمس تميل إلى المغيب ،بدأت الرياح الخفيفة تصفر وتهز األعشاب ،وبدأت
األصوات الموجودة داخل المعسكر تزداد حدة وخشونة ،مثل أصوات اإلوز الذي يثيره أي
ميًّل أو أكثر ً
قليًّل غربي مدينة إندبندس شيء .وعلى الرغم من أنهم كانوا على بعد عشرين ً
وأنهم لم يشاهدوا أي هندي ما عدا بعض «الشونيز» و«الكوز» الذين تراهم غالبًا في ميسوري
أو تراهم في أي وقت ،فإن هذا األمر أدى إلى شعور بعض الناس بالخوف ،كما لو كانوا قد
فقدوا كل أمل في األمن ،وكما لو كانوا يواجهون أعداء لم يشاهدوهم أو يعرفوهم من قبل.
وكانت هناك مسز تورلي ،التي ظلت تتحدث وتنظر حولها كما لو كانت تنتظر أضخم هندي
ُولد حتى اآلن ،أما مسز ماك بي فقد كانت تعيش في رعب ،وظلت تطالب بالعودة إلى أوهايو،
في حين كان ماك بي نفسه يبحث عن مكان يخفي فيه خوفه وضآلته .وكان هناك غيرها -لم
يكن إيفانز يعرف كم عددهم -وإنما كانوا يشعرون بالقلق ،وكان هذا القلق أو الرعب ينعكس
على وجوههم ،وبخاصة حينما يتجه تفكيرهم نحو «بًّلت» و«بونيس» والتًّلل السوداء
و«السيوكس».
كانت ربيكا جالسة في ظل العربة وتهز بطبق أمام وجهها؛ لتجلب الهواء لعدم وجود ما هو
أفضل من ذلك ،وذلك على الرغم من أن شهر أبريل لم يكن قد انتهى بعد ،وكان براوني يقف
بعيدًا يرقب الماشية مع هيج الذي استأجره فيرمان ،وعدد آخر من الرجال ومن الشباب الذين
ليست لهم عائًّلت .وأنت ال تستطيع أن تظن متى يقوم «الكوز» بالهجوم على خيولهم أو
أبقارهم ،أو باالستيًّلء على دواجنهم أو مخزونهم من الغذاء ،إنك ال ترغب مطلقًا في وقوع
مثل هذا الهجوم لنهب المخزون.
وكان إيفانز يراقب ربيكا ،وبعد فترة وجيزة تبادل الحديث معها فقال:
-إنني ال أشعر بأننا قد بدأنا بالفعل ،إن الطريق الذي يسلكه الجميع يجعلنا نشعر بأننا مساقون
إلى مكان معين داخل الجبال.
فردت عليه ربيكا ،وهي ما زالت مستمرة في هز الطبق أمام وجهها:
-كنت مثل اآلن أقوم بإعداد المكان القديم الستقبال الجميع.
وكان يبدو أن األمر أصبح غريبًا بالنسبة له؛ ألنها أطلقت لفظ «المكان القديم» على المزرعة،
ولم يمض على تركه وعلى مصافحة الشخص الذي اشتراه لنفسه ودفع مبلغ أربعمائة دوالر
عدًّا ونقدًا له ،سوى وقت ضئيل ،ولم يكن قد غادر هذا «المكان القديم» إال منذ برهات ليمر
بطريقه إلى األعشاب الخضراء وأوراق الطباق النائمة في أحواضها .وكان قد ألقى النظرة
األخيرة على حقل الذرة حيث ظهرت البشائر األولى له ،وعلى «الكابين» الذي تعرف فيها
بربيكا تعرفًا حقيقيًّا وأنجبا فيها براوني .أما اآلن فلم يعد هذا المكان سوى المكان القديم ...وهذا
ً
عزيزا منه ومن ربيكا ما جعله يشعر بشيء من الحزن حين مغادرته له كما لو كان جز ًءا
وبراوني قد تُرك إلى األبد .وإذا استطاع أن يغتنم بعض الوقت ويعبر منطقة «الكوز» ثم
وأخيرا «بًّلت» فإنه سوف يشعر باألمان واالطمئنان ،وكان قد شاهد من ً منطقة «ليتل بلو»
قبل مدى اتساع الهضاب والغابات ،لدرجة أنه شعر بأن هذا الطريق سوف يكون عظي ًما
ً
وطويًّل ،ثم عبور صحراء مفتوحة إلى «بًّلت» حيث أوريجون ،ومجال الحياة الجديدة .إن
أوريجون قطعة من أمريكا ..هل تراهن على ذلك ..سوف يتولى هو واآلخرون احتًّلل
أوريجون .وماذا سوف يستطيع اإلنجليز فعله بعد ذلك؟ وشعر في قرارة نفسه بأنه رجل من
أوريجون منذ زمن طويل.
ثم سأل زوجته:
-هل تشعرين بتحسن اآلن يا بيكي؟ أقصد بشأن االستمرار؟
شا ،ويبدو دافئًا خاليا من آثار الدموع في ذلك الوقت ،فقد
وجعلته يبتسم ،فقد كان وجهها بشو ً
كانت تصيح منذ لحظة حينما تركت المكان القديم ،ثم وجهت وجهها تجاه الغرب ،ولم تعد
تنظر خلفها ،ولم يكن إيفانز يعرف معرفة تامة أو يشعر بماذا يعني تنازل امرأة عن بيتها الذي
رتبت حياتها فيه ،قد ترفض المرأة التحرك ومغادرة مكانها األول؛ ألن ذلك يعني التخلي عن
ظهورها الصفراء (يقصد بها وقت الزواج) .وهو ،على الرغم من ذلك ،يفهم ربيكا من زوايا
كثيرة ،فهي سوف تقوم بالرحلة من غير أي تذمر أو شكوى ،وسوف يكون حديثها مر ًحا كما
سوف تقوم بتنفيذ أعمال تجيدها بيديها.
وأجابته على قوله:
-إنني على خير ما يرام يا ليجي ،فاألزمة تعم الجميع ...ولماذا تسألني؟ هل غيرت رأيك؟
لك ولي.
-ال ..الكل سيذهب إلى أوريجون التي سوف تكون ِ
وكان صوتها يبدو ناع ًما حين قالت:
-إنك أكبر مغفل يا ليجي.
وكان يعرف ماذا تعني ،لقد كانت تعني أن الوقت لم يحن بعد لكي يحني رأسه ألوريجون،
ويشعر بتحسن لتحقيق هدفه .لقد شعر بأن هذا االتجاه غريب.
وقالت:
-هالو ،هذا هو ديك.
وشاهد إيفانز ،ديك سمرز ،وهو يجول ،ويبدو كأنه شيء ،وهو يلبس سرواله وقميصه المعلم،
ً
رجًّل يسترعي كما شاهد شعره الفضي وقامته الطويلة وذراعيه وساقيه القويتين ،لقد كان
األنظار؛ إذ إنه يختلف عن أي إنسان آخر .وكان إيفانز يعرف أنه يختلف عن هؤالء الذين
يتبعون قافلة سانتافيه ،وعن المكسيكيين الذين يرتدون مًّلبسهم حبًّا في الظهور ..لم يكن هناك
حب ظهور في ديك ،بل كان هو نفسه دون أي تغيير .وتحدثت إليه ربيكا ،وهي تنظر إلى
فراش الكبش الذي يضعه فوق كتفيه:
-أعتقد أنك قد تخلصت من جميع شحوماتك!
-أعتقد أنني قد وصلت إلى درجة كافية من التخلص.
-هل هي الشمس التي فعلت ذلك بك يا ديك؟
فتحدث إيفانز ،وقال وهو يشير إلى العربات والخيام والناس واألحاديث والخيل والثيران وكل
شيء.
-إنها الوجبات الغذائية ،هناك بعض الناس الذين سيعودون من حيث أتوا.
وتحول سمرز إلى غليونه ،فأخذ يملؤه بالطباق وهو يقول:
-إن األمر سوف ينجلي عما قريب.
فقال إيفانز:
-إن تادلوك يشبه الضفدع الكبير.
-إنه يبدو كذلك ،لقد بدأ بداية قوية ال يستطيع أي إنسان آخر أن ينافسه فيها.
-ربما سوف يصبح قائدًا مناسبًا.
وهز سمرز رأسه ،كما لو كان ال يوافق على هذا الرأي ،وقال:
-يجب أن نراقبه بدقة.
ً
طويًّل من غليونه ،في حين أخذت عيناه الرماديتان تجوبان فيما حوله. سا
وجذب نف ً
وقال إيفانز:
-إنه يريد أن يقتل جميع الكًّلب حتى كلبي العجوز -روكي.
واستمر سمرز يدخن.
وقال إيفانز مرة أخرى ،وهو يضع كلماته في صورة أسئلة:
-ه ذا هو ما سمعته ..ولكنه لن يستطيع أن يظهر على المكشوف ..ال أعتقد أنه سيفعل ذلك؛
ألنه سوف يكلفه الكثير من األصوات.
ثم استطرد ً
قائًّل:
-إنهم يقولون إن الكًّلب ال تستطيع أن تقدم على مثل هذا العمل ،أليس كذلك؟ وهم يقولون
إنهم سوف يقدموننا إلى الهنود.
ونظر سمرز إلى ربيكا وظهرت ابتسامة شاحبة على وجهه ،وقال:
-إنهم يصنعون لح ًما طيبًا إذا كان عندهم ما يكفي من الطعام.
-آه.
-السيكوس يأكلون الكًّلب الصغيرة ،وقد أكلت أنا منها ،وهي تشبه لحم الخنزير.
فسأله إيفانز:
-هل أنت واثق يا ديك؟ وهل يجب أن نتولى قتل الكًّلب؟
-أنت الذي سوف تدفع الثمن.
-أعرف معرفة تامة ،ولكن هل تعتقد أنه يجب علينا فعل ذلك؟
-إن الكلب يستطيع أن يذهب حيث تستطيع البقرة.
-لم أفكر هذا التفكير من قبل.
-إنهم لن يتركوننا على أي حال ،بل سوف يقيمون الحراسة علينا.
وصمت سمرز لحظة ،ثم استمر في حديثه ً
قائًّل:
-من الصعب جدًّا التسلل إلى معسكر الهنود للتجسس عليها من أجل الكًّلب.
-إن تادلوك ال يعرف شيئ ًا عن ذلك ،يجب أن نخبره ونحثه.
ثم أخرج إيفانز غليونه من جيبه ،وأخذ يحشوه ،ولكنه سمع صوت بوق ينادي الرجال للحضور
إلى االنتخابات .وذهب كل من إيفانز وسمرز إلى مركز المعسكر حيث اجتمع الرجال،
واستطاع إيفانز أن يشاهد ،وهو في طريقه ،صفًّا من الكًّلب مرة أخرى يتبعه غًّلم صغير
أبيض اللون نحيف للغاية ،وسمع إيفانز صوتًا يناديه ً
قائًّل:
-تودي ..عد يا تود.
وكان هذا الصوت هو صوت مسز فيرمان الطويلة القامة المليئة األرداف الخفيفة الشعر
الصافية العينين مثل المياه ،وخرجت لتمسك الغًّلم من يده .واجتمع كل شخص في المعسكر
من أجل االنتخابات ،وكان الرجال يقفون في األمام يمضغون ويبصقون ،في حين كانت النساء
واقفات في الخلف ،ومعهن الصغيرات ،مصغيات لما يدور .وبعد أن تم انتخاب تادلوك قائدًا
مؤقتًا للقافلة ،أعلن أتباع النظام في هذا االجتماع ،ثم وقف فوق قطعة عالية من الخشب وألقى
بملعقة على طبق من الصفيح لكي يسود السكون ،ولما ساد السكون أرجاء المكان بدأ يتحدث،
مستديرا ،لذلك
ً في حين التف الواقفون حول المنصة التي يقف عليها .وكان كل شيء يحيط به
ظن إيفانز أن األوجه أصبحت مستديرة ،وكذلك األجساد وطريقة الوقوف .وكان يتعجب هو
ضا ،واعترف لنفسه بأن تادلوك قد خلق من مستديرا مثل اآلخرين أي ً
ً نفسه من أنه قد يكون
واحمرارا ،وفكيه القويين
ً نفسه شخصيته ،وكذلك من أسنانه البيضاء ووجهه الممتلئ حيوية
رجًّل يسترعيً وجذور شعر ذقنه ،وعينيه الجريئتين ،وذراعيه وساقيه القويتين ،لقد كان
األنظار؛ إذ إنه يختلف ،ولكن القلق كان يعتري إيفانز من أن تادلوك قد ال يكون كذلك ،ولم
تفكيرا سيئًا بشأن هذا الفريق.
ً يكن يرغب في أن يفكر
وكان تادلوك يقول:
-رفقائي ..إن عندي سببًا كافيًا لًّلعتقاد بأننا سوف نكون أول من يذهب إلى أي مكان؛ ألن
قطارات سانت جو ،لن تسير قبل عدة أيام ،لذلك يبدو لي أننا سوف نكون أول من يدخل
بعرباته ،وأول من يهرب من غبار وأتربة الصحراء ،لنجد الحشائش لحيواناتنا ،وأن نكون
أول من يصل إلى ويًّلميت.
وكان البعض يصيح استحسانًا لكلماته ،فيصمت لحظة ليمنحهم وقتًا كافيًا لًّلستحسان ،وحينما
ينتهون يكون هناك البعض ممن ال يزالون يصيحون قائلين:
« -الرئيس ..السيد الرئيس».
ووقف األخ ويذربي بجواره ،وهو يضع فوق كتفيه معطفه األسود ،على الرغم من أنه يشعر
بازدياد الحرارة ،وارتفع صوته يقول:
-إننا لم نؤد الصًّلة ..إننا لم نفتتح الحديث بالصًّلة.
فقال أحد األفراد الذين يقفون خلف ويذربي:
-اجلس من أجل المسيح.
وأجابه صوت آخر:
-أستطيع أن أتذكر ما قاله والدي في موعظة يوم األحد من أننا لن نستطيع أبدًا عبور
المسيسبي.
وكان هناك غيرهم من الرجال الذين يهمهمون ،أما النساء فكن -كما الحظ إيفانز وهو ينظر
من حوله -يهززن رؤوسهن معتقدات أن ويذربي كان على حق .ولكن تادلوك لم يهتز ،وإنما
قال:
-إنني آسف أيها األخ ويذربي ،كان ذلك خطأ مني ،هل تتفضل بالقيام بالصًّلة؟
ضا ،ثم رفع يديه شيئًا فشيئًا وطلب من الرب أن يكون ثم أحنى رأسه ،فأحنى ويذربي رأسه أي ً
ً
طويًّل ومحفوفًا بالمخاطر ،ولكنهم رحي ًما بالمذنبين الضعفاء ،وقال إنهم عرفوا أن الطريق كان
وضعوا ثقتهم فيه ..إننا نسجد لك؛ لتحمينا من العوامل والعناصر والوحوش والمرض
والحوادث؛ ولكي تمنحنا القوة في هذه الرحلة ،وتجعل قلوبنا عامرة بك مهما يمر بنا ..ولتجعلنا
شكورين لنعمتك وفضلك ،ولتقودنا إلى معرفة عظمتك ولتجعل المذنب يتوب إليك ،والمخطئ
يرى نتيجة شروره ،والزاني والزانية يفهمان ذنبهما حتى ال يعودا إلى مثل هذا العمل ..إننا
نسجد لك لكي تسبغ علينا من حكمتك الروحية ،ولتجعلنا جميعًا مسيحيين ..بارك الرب في
األطفال الصغار الذين قال عنهم المسيح دعهم يدخلون في رحابي ..وليمسك الرب العاصفة
حتى ال تأتي على جهودنا ،وليمنحنا الرب خيرات األرض ..اجعلنا نهابك ،وننشد لك أهزوجة
المدح األبدي ..آمين ،آمين.
ً
طويًّل يكفي ألن تنتقل فيه نملة من قدم ديك استغرقت كلمة ويذربي في التحدث إلى الرب وقتًا
سمرز إلى رأسه من غير احتساب المرتفعات والمنخفضات والرحًّلت الفرعية ،وضًّلل
الطريق الذي يمتلئ بحراب العشب .وأخذ إيفانز يلقي بنظره إلى سمرز ،في الوقت الذي كانت
الموعظة مستمرة ،فرأى رأسه ينحني وعينيه تحملقان في فضاء بعيد ،وتعجب من أن يكون
سمرز يؤمن باهلل ،ولكن ذلك ال يخلق أي اختًّلف؛ إن أي إله يستحق الركوع له سوف يعرف
عا طالبًا البركة والمغفرة.
أن ديك سمرز رجل طيب الخلق حتى ولو لم يقم بإحناء رأسه خشو ً
ولم يكن إيفانز يعتقد أن سمرز يطلب أو يرجو ،في يوم من األيام ،أحدًا حتى ولو كان هللا نفسه.
ولما انتهى ويذربي من موعظته ،قال تادلوك:
-عندنا قواعد وأحكام يجب أن نتبعها ،كما يجب أن نقيم تنظي ًما لنا.
وأخيرا تساءل تادلوك
ً وجاء صوت يهتف ،فحاول تادلوك أن يسكته بيده ،ولكنه لم يصمت،
ً
قائًّل:
-ماذا دهاك يا تورلي؟
أخيرا من التًّلل في ميراميك،
ً وتحرك إيفانز ليرى تورلي الذي كان قد اندمج في الركب
وكانت الكلمات تخرج عالية وسريعة من فمه الضيق.
-يبدو لي ألول مرة أن أول شيء يفكر فيه اإلنسان هو :هل نرغب في االستمرار أو االنتظار
لبعضهم ،الذين ليسوا على استعداد بعد؟ توجد هناك قاطرة لهؤالء ،أليس هناك رجال ناضجون
على حسب ما أرى؟ أين سنتلقي بالبونيز ،والسيوكس؟ هناك سيل من الناس سوف يتدفق علينا
بالمئات ،وقد قال الدكتور وولش القادم من إنديانا إننا نستطيع أن ننضم إليه ،لقد أخبرني بذلك
بنفسه ،ولكني أقول دعنا ننتظره ،ولتكن مائة عربة على طول الطريق.
فصاح تادلوك:
-سكون .نظام.
وظل يدق على الطبل ،وازداد صوته حدة بتوقف الضوضاء الشديدة ،واستمر يقول:
-لقد بحث ذلك الوضع بحثًا تا ًّما ،وكل فرد نضم إلى هذه المجموعة يعرف معرفة تامة أننا
مبكرا؛ لكي نكون أول الداخلين .ومجموعتنا كبيرة بما فيه الكفاية؛ أربع
ً نزمع البدء في الرحيل
ً
رجًّل مسلحين. وعشرون عربة ونحو ثًّلثين
ورفع يده ليشير إلى ديك سمرز ويقول:
-اسألوا ديك سمرز هناك ،إنه يعرف ،وسوف يخبركم بأنه من الممكن أن تكون القافلة كبيرة..
كبيرة لدرجة تصبح حركتها وسيرها بطيئين وصعبين.
ثم نظر إلى تورلي ،واستمر يقول:
-أي إنسان يخاف يستطيع أن يبقى ،ولكننا سوف نستمر في طريقنا ..لقد انتهينا من ذلك.
وسكت تورلي ،ولكن كانت هناك أصوات أخرى تصيح ،واستطاع أن يميز إيفانز صوتًا منها،
كان صوت مسز تورلي الذي يعرفه معرفة تامة.
وكان تادلوك قد انشغل ،لذلك سأل كما لو كان ال يعرف:
-هل اللجنة على استعداد إلعداد البيان؟
أجابه ماك:
-أجل ..إنها على استعداد.
ثم تقدم إلى األمام ،وعلى وجهه أمارات التفكير ،وقال:
-إن لجنتكم توصي بأن يتم انتخاب تادلوك قائدًا لهذه القافلة ،وشارلز فيرمان مساعدًا له،
وهنري شيلدز قائدًا لحرس المؤن ،على أن يعمل كل منهم حتى نهاية الرحلة.
وقام شخص من إلينوي من أصل ألماني ،يُدعى بروور ،بحركة للموافقة على هذه التوصية،
وقام هنري ماك بي بمساندة هذه الحركة.
وأتى تادلوك بحركة كما لو كان يهم بالنزول من فوق منصته ،وأخذ يقول:
-هل يرغب أي فرد في تولي الرياسة؟ إن ذلك ليس من حقي.
ولكن الصيحات تزايدت لتقول:
-استمر حيث أنت.
فأعاد تادلوك قدمه إلى المنصة مرة أخرى ،وقال:
-حسنًا .هل هو إجماع؟
ازداد الهتاف والتصفيق.
-أشكركم .أشكركم جمي ًعا ،سوف أبذل قصارى جهدي ..هل هناك تقرير آخر؟
ً
مركزا وكان هناك تقرير آخر قام ماك بقراءته ،وكان إيفانز يستمع نصف استماع؛ إذ لم يكن
انتباهه ..نوصي بنقل غير القادرين ،على القطار الذاهب إلى أوريجون ..ونوصي بإقامة
مجلس للحكم يتكون من ستة أشخاص من المنتخبين ،ونوصي بدفع ضريبة لتغطية النفقات،
بما في ذلك مبلغ مائتي دوالر نفقات المرشد ..ونوصي بعدم تناول المشروبات الروحية إال
لألغراض الطبية ..ونطلب عربات تستطيع أن تحمل أزيد من طاقتها بمقدار الربع ،وفريقًا
للسحب يزيد بمقدار الربع ..القتل للقاتل ..الجلد تسع وثًّلثون جلدة للسرقة وتسع وثًّلثون جلدة
للزنا (كلمات رنانة ألشياء بسيطة) يحدد المجلس العقوبة بالنسبة للكلمات النابية ..يوصي
المجلس بأن يتحرك الركب في الساعة السابعة صبا ًحا كل يوم ،ويسير بمعدل يتردد بين عشرة
وخمسة عشر ً
ميًّل في اليوم.
وكانت قائمة طويلة جعلت سمرز يتحرك في مكانه ويبدي ضيقه ،كما تحولت أنظار إيفانز
إلى كل من ماك ،وفيرمان ،وماك بي ،وبروور ،ثم إلى فتاة بعيدة عن الرجال هي «ميرسي
ماك بي» التي كانت ترتدي قبعة عريضة حمراء ،وتقف زائغة البصر بوجه شاحب ،كما لو
صغيرا استمع إلى أصوات كثيرة وضوضاء ،وكان الحزن والفراغ يبدوان على ً جروا
ً كانت
وجهها ،ولكن مجرد النظر إليها كان يوحي بأنها تحاول البحث عن رجل معين .إنك تستطيع
أن تعرف ما تريده من الحيوانات وتعرف كيف توجهها ،ولكنك ال تستطيع أن تدخل في أعماق
تحذيرا
ً النفس البشرية لتعرف ما يدور فيها ..تسع وثًّلثون جلدة للزاني والزانية؟ كان هذا
موج ًها من جميع الرجال المتزوجين إلى العزاب الذين سوف يشتركون في الرحلة.
وكان األخ ويذربي يرغب في إضافة شيء معين لهذه القائمة ،فطالب المجموعة باتباع
« القانون الخلقي واألدبي الذي وضعه هللا في صدر كل إنسان» .وظهرت ابتسامة صغيرة
ضا،
على وجه تادلوك ..كان يعرف أكثر مما يدفعه إلى الضحك ،ولكنه عرف كيف يبتسم أي ً
وأنه من األفضل منح الواعظ فرصة عمل ما يرغب فيه.
أما الرجل الذي كان يقف خلف إيفانز ،فقد همهم ً
قائًّل:
-أ خرسوا هذا الرجل الثرثار ،هل يريد أن يضع القوانين ،وأال يكون هناك شيء دون أن
يتدخل فيه؟
وعاد ماك إلى تًّلوة المزيد ..نطلب ونحتاج إمدادات بالكميات التالية ..مائتا رطل من الدقيق
ً
رطًّل من ً
رطًّل من المواد الغذائية ،وخمسون لكل شخص ما عدا األطفال ..خمسة وسبعون
اللحم ،تعيين ثًّلثة مراقبين لإلشراف على العربات واإلمدادات ..هل الجميع موافقون على هذا
التقرير؟ نعم..
وكان صوت إيفانز في الخلف يقول:
-إن كل هذا يؤكد ويحدد رأي الواعظ.
وكان إيفانز يعتقد أن هذه القواعد ال تكفي؛ إذ لم تتضمن شيئًا عن الماشية وكم عدد الرؤوس
كبيرا من الماشية،
التي سوف تدفع العربات وتسير في الركب .وكان تادلوك نفسه يمتلك عددًا ً
ً
عادال ..في أن يتولى الرجل القيادة ألنه يمتلك أكثر من وبقرة أو بقرتين للحلب .لم يكن ذلك
غيره ،وكانت عنده فكرة ألن يتحدث ،ولكن تادلوك قال في هذه اللحظة:
-س وف يتم عمل الكثير من األشياء كلما توغلنا في المسير ،أما الشيء الضروري اآلن فهو
التنظيم السريع حتى يمكن أن نخطو أول خطوة.
وكانت كلماته تحمل الكثير من المنطق ،لذلك وجد إيفانز نفسه يشعر بشيء من الذنب ،ولم
ً
رجًّل من الرجال يكن هناك أي سبب للشك في تادلوك إذا اعتاد اإلنسان على طريقته ،فقد كان
الذين يحبون تركيز األشياء في أيديهم ،ولم تكن هناك أي غضاضة في ذلك .كان تادلوك قد
أخبر سمرز في الليلة السابقة قبل الجنازة أنه يجب أن يكون هناك من يتحمل المسؤولية ،كان
تا دلوك على حق باستثناء فكرته السخيفة الخاصة بالكًّلب ،ولم يقل أي إنسان أي شيء حتى
اآلن عن الكًّلب.
-أي عمل آخر؟
وجاءت الحركة التالية من ماك بي نفسه ،الذي طالب بترك الكًّلب أو قتلها .وبعد أن شاهده
إيفانز يتحدث بكلمات جدية وقوية ،كان يعرف أن ماك يعني ما يقول ،وكان يعرف جيدًا أنه
سوف يقدم أكبر كلب لهذه العملية ً
دليًّل على صدقه.
-هل هناك مؤيد ثان؟
لقد كان بروور -رجل إلينوي األلماني األصل -هو الثاني في تأييد منع الكًّلب من استمرار
السفر ،ومنعها من دخول أوريجون؛ ألنها سوف تكون إشارة تدل الهنود على مكان المجموعة.
وأخذت األلسنة تهتف بكلمتي نعم ..ال ..ال ..نعم ،ثم دق تادلوك على وعاء ً
قائًّل:
-دعنا نحتكم في ذلك.
فتحدث نحو ستة أشخاص كل منهم بعد اآلخر محاولين رفع أصواتهم بشأن هذه المناقشة التي
تدور بقوة -ماك بي ،فيرمان ،وبروور مرة أخرى ،ويانكي يطلق عليه اسم باتش ،وإيفانز
نفسه .قال ماك بي:
-أ جل .اقتلوا الكًّلب ..إنها لم تكن صالحة ألي فرد ،وإنما كانت تقف حجر عثرة في طريق
التقدم.
وقال فيرمان:
-دع كل رجل يفعل ما يرغب أن يفعله ..إن مثل هذا العمل ليس من اختصاص المجموعة.
فصاح إيفانز ً
قائًّل:
-اسألوا ديك سمرز .اسألوا ديك ،فهو يعرف أكثر من أي فرد آخر.
وزاد الصياح ،فقالت مجموعة من األشخاص:
-حسنًا ..دعوا سمرز يتحدث.
وكان يبدو على سمرز أنه غير راض عن التحدث أمام مجموعة من الناس ..ثم أخذ يعبث في
سرواله الجلدي وهو يقول:
-إنني ال أ ود أن أستغل االختًّلفات ،ولكني أعتقد أن هناك بعض الكًّلب التي يجب التخلص
منها ،وهناك البعض اآلخر الذي يجب اإلبقاء عليه ..وعلى أي حال فإن الكلب الذي يموت ال
يعتبر خسارة إال لصاحبه.
كان هذا هو تفكير إيفانز نفسه ..لقد كان الناس يتساءلون ويؤكدون أن الكلب لن يستطيع تحمل
الرحلة ،وهذا سبب كاف يجب أن يقبله كل فرد.
واستمر سمرز يقول:
-سوف تخبر الكًّلب هذا المعسكر عما يفعله الهنود قريبًا جدًّا ،وربما أسرع مما نتوقع .أما
بالنسبة لي ،فإنني أرغب في وقوع أزمات ومشكًّلت مع الهنود ما عدا بعض الشحاذة ،وقليل
من السرقات .والهنود عادة ال يرغبون في االصطدام بمجموعة كبيرة مثل هذه المجموعة.
وفي هذه األثناء كان تادلوك يمر بيده على فكه ،في حين دخل من قطع الحديث مرة أخرى،
وبعد فترة وجيزة طرق الطبق مرة أخرى وقال:
كثيرا في المضايقات التي سوف تسببها الكًّلب ..سوف تخلق ضوضاء مخيفة، ً -إنني أفكر
وسوف تعوق تحركات الركب ،سوف تسقط تحت األقدام والعجًّلت في الصباح ،وتؤذي
نفسها ،أو تفقد أو تتسبب في التأخير ..إنني خائف ..وعلى أي حال دعنا نأخذ األصوات.
إنك ال تستطيع أن تكون واثقًا من شيء عن طريق األصوات -أي جانب سوف يفوز ،ولكن
بعد أن طالب تادلوك برفع األيدي الموافقة وأحصاها بدقة قال:
-لقد تم تنفيذ أخذ األصوات ،وتمت الموافقة.
ولكنه لم يقل من الذي سوف يتولى تنفيذ القتل ومتى ،وصمم إيفانز على أن يكون بينه وبين
أمرا معينًا؛ لذلك أصبح األمر يقلقه ويحيره ،وأخذ يربط
الشخص الذي سوف يأتي لقتل روك ً
بين األشياء بطرقه السلمية.
وبينما يفكر في هذا كله ،استمر تادلوك في إجراءات انتخاب المجلس وتعيين المراقبين ..ولم
عضوا
ً تكن مفاجأة كبرى إليفانز حينما سمع اسمه يتردد في القائمتين ..لقد انتخبه الجمهور
في المجلس وعينه تادلوك مراقبًا .وكان كل ما يرمي إليه تادلوك هو أن يجذب كل فرد في
المجموعة للعمل بجانبه؛ ألنه كان يهدف إلى استغًّلل كل طاقة فيهم لنجاح المهمة.
وعلى أي حال ،أصبح كل شيء معدًّا وتا ًّما ،وتلفت إيفانز حوله فشاهد براوني يمتطي بغله،
ثم نظر إلى البراري الممتدة حيث ترعى الحيوانات ،فرأى البغال والخيول تقفز هنا وهناك،
ورأى الثيران تستريح في أمان ،فعرف كما يعرف معرفة تامة أنه من الممكن االعتماد على
براوني.
سا فوق البغل بهدوء وعيناه مثبتتان بعزم ،وتأمل
ثم عادت نظراته إلى براوني ..كان الغًّلم جال ً
رجًّل قوي الشكيمة يمكن أن يركز ثقته فيه في المستقبل .وقبل أن يستديرً إيفانز ابنه فرأى فيه
برأسه ،عرف ما شاهده براوني ..إنها الفتاة ميرسي ماك بي ذات الوجه الحزين ،لقد كان
يراقب وجهها وقبعتها الحمراء ،والثديين الصغيرين البارزين في صدرها داخل الثوب
الفضفاض.
وحملق فيها إيفانز لفترة وجيزة ،ثم عاد إلى النظر إلى ولده ،لقد كان االثنان في عمر متقارب،
وكان يبدو عليهما أنهما قد بلغا السابعة عشرة ،وكانت النظرة التي تبدو على وجه إيفانز تشبه
النظرة التي وجهها ماك إلى الفتاة ألول مرة ..لقد كانت تشبهها ،ولكنها تختلف في جوهرها؛
إذ كانت تتصف باللطف والرقة وعدم الخبرة واإلدراك ،ال تفكر فيما هو السرور فقط أو ربما
مطلقًا ،وإنما في الوداعة والرقة والجمال والسعادة ..إنه شعور ينبض من أعماق القلب.
وتحول إيفانز بنظره بعد ذلك ،ولعن نفسه؛ إذ كان يبني أشياء في مخيلته ال يوجد لها أساس
ً
طويًّل في األيام الغابرة ،ومرت مسحة من السعادة من الوجود ،أو من شعوره الذي ظل يراوده
أمام ناظريه ،وقال لنفسه لنزوجه ولنجعله يقول لهنري ماك بي «أبي» ولمسز ماك بي
«والدتي» ،ولنجعلهم في أيدينا بقية حياتنا؛ حتى تصبح الحياة سهلة ..وألبعده عن الزنا حتى
ال يتعرض للجلدات التسع والثًّلثين.
الفصل السادس
ظن ديك سمرز أن هؤالء الرجال يختلفون عن رجال الجبال ،وأنهم ال يستطيعون التمتع
بالحياة كما يمكن أن يكون ،ولكنهم يرغبون أن يجعلوا منها شيئًا يذكر ،كما لو كانوا يستطيعون
أخذها وتشكيلها بالطريقة التي يرغبون فيها .إنهم ال يتحدثون عن البيرة أو الويسكي أو نساء
وفتيات الهنود ،وكذلك ال ينغمسون في الجو ،وإنما يتحدثون عن المحصوالت والمياه
واألعمال ،ولم يًّلحظوا الشمس وهي تسطع بضوئها ،أو أوراق األشجار الحائلة إال على طول
الطريق ،وكان من الممكن أن ينظروا إلى الوراء فيما بعد ويتعجب كل منهم لما حدث ،بعد أن
مرت األشياء بهم من غير أن يهتموا بها أو يلتفتوا إليها .وقد يتذكرون الصباح في المعسكر
والدخان يرتفع ،وأشعة الشمس تخترق حجب الضباب الكثيف ،والهواء الشديد .إنهم يأملون
في الحصول على أفضل ما في اليوم ،ولكن اإلنسان الذي ينظر إلى الخلف يشعر بالشعور
نفسه ،ولم تكن هناك أي وسيلة بعد ذلك إلضاعة الوقت.
وعلى مسافة قليلة من المعسكر جلس سمرز القرفصاء فوق األرض وأخذ يعبث بعصاه في
ترابها ،وكان كلما نظر إلى األمام شاهد بعض المفتشين اآلخرين وهم يقومون بين لحظة
ولحظة بجولة لمشاهدة ما إذا كان كل شيء على ما يرام طبقًا لألحكام الموضوعة .وكانت
بعض النسوة يقمن بإعداد العشاء ،أما هؤالء الًّلئي ال يمتلكن مواقد ،فقد قمن بإشعال النار في
كبيرا ،وكانت الدموع تتساقط من أعينهن بسبب األدخنة بعض األخشاب وصنعن منها موقدًا ً
المتصاعدة من النيران ومن األغذية .واختفت الحرارة بعد ذلك باختفاء الشمس ،وكانت الماشية
قد صعدت على السفوح لترعى في حين خيم على المعسكر صمت عميق .وكان الصغار
يشعرون بالجوع وهم يلعبون ويلهون ،وفي الوقت نفسه كان الكبار من الرجال مشغولين
باإلعداد للبدء في التحرك غدًا .وبدأت النسوة ينصرفن بعيدًا عن النيران ،وكانت أصوات
الخفافيش وطيور الليل تصدر من بين األشجار بطريقة مزعجة.
وأدت صيحات عصفور الليل إلى تنبيه «ماتي» التي كانت ترقد فوق القاذورات وهي ترتعد
من البرد ،واستمرت في رقدتها الطويلة من غير أن تتحرك ،وذلك على الرغم من أن األخ
تفكيرا آخر؛ لقد فتح أبواب السماء في مراسيم الجنازة وأدخل الروح إلى
ً ويذربي كان يفكر
الداخل في محبة هللا ،وكان من الجميل التفكير على هذا النحو تار ًكا الرأس يستريح والقلب
يتوقف إلى األبد .ما الذي قام ويذربي بقراءته بالفعل؟ «الرحمة والسًّلم عليك من الرب..
أبانا ..ومن المسيح» قال ويذربي إن هذه الكلمات قد أخذها من الدعوات؛ ألنه مؤمن بها.
وكان سمرز يأمل أن يعرف ويذربي من أجل ماتي ما كان يتحدث بشأنه .إن لها الحق في
الراحة األبدية واالبتعاد عن الحمى واآلالم ،ولكن كل شيء كان ضد الجمال؛ إذ ماتت ،ولم
تبق سوى الذكرى العطرة ،وأال يدع قلبه يتحطم بالمشكًّلت.
ولم يكن سمرز يعتقد أن قلبه مليء بالمشكًّلت مثل اآلخرين؛ إذ إنه رجل جبال ،أو يجب أن
يكون هكذا ،وقد قام بالتجوال والترحال مع الصيادين الذين لم يفكروا في يوم من األيام في
األرض أو األخشاب ،أو في القيام بحيل الكتساب األموال ،ولكنهم استمروا يو ًما بعد يوم
يأخذون ما يأتيهم في الصباح كأمر طيب في حد ذاته ،وأن الغد فيه من الوقت ما يكفي للتفكير
فيما سيأتي به الغد .كانت هذه هي فلسفة سمرز التي شعر بها ،ولكن العوامل المحركة كانت
تختلف ..لقد كانوا يرحلون للوصول إلى بعض األماكن ما دامت الحياة تنبض في أجسادهم،
ولكنهم كانوا محرومين من فرصة النوم في الفراش الدافئ مع امرأة ،أو التفكير فيما سوف
يكون عليه األمر فيما بعد .وكانوا يقولون دائ ًما :هل من الممكن زراعة البراري بالمحصوالت؟
إن األرض التي ال تنمو فيها شجرة لن ينمو فيها أي شيء ..إن الشيء الذي يعمل عادة هو
قطع األشجار وزراعة المنطقة المحيطة بجذوع هذه األشجار .وكان سمرز يعتقد أن هذه
األرض على طول «بير» أو «بويز» التي يلعب فيها األوالد الصغار يمكن أن تستخدم في
الزراعة .كان الرجال من ذوي األسر الذين يقيمون مع زوجاتهم ويتمتعون بالحياة مع أوالدهم،
ولذلك كانوا ينظرون إلى إقامة مزارع ومدارس وحكومة ،وتنظيم الحياة على أسس وقواعد.
ثم وقف بقدميه فوق الحشائش المتربة مثل ليجي إيفانز ،الذي كان يتوجه إليه اآلن وعلى وجهه
نصف ابتسامة ،بينما يتبع كلبه روك قدميه ،وكان يتحدث مثل ليجي عن البًّلد -الواليات
المتحدة األمريكية -التي تمتد من المحيط إلى المحيط اآلخر ،وبدأت األفكار تزداد وتتزاحم في
ذهن ليجي ،لذلك لم يكن يجد أي مبرر للقول بإعطاء أوريجون للبريطانيين .كان والده يحارب
اإلنجليز ،في حين كان البانكي (األمريكيون) يديرون ظهورهم ،كما لو كانوا يرغبون في ترك
المكان لإلنجليز متجهين إلى بًّلد أخرى.
ولم يكن ليجي رجل حرب ،ولكنه كان رجل صداقة وود ،يقلل من شأنه أمام الغير مثلما يفعل
الرجال األقوياء في بعض األحيان ،كما لو كانوا يشعرون بالذنب؛ ألنهم حصلوا على أفضل
ما يريدون ،وكان كل ما يرمي إليه هو أن يجعل األمريكيين يستقرون في البًّلد ويجعلونها
ضا؛ إذ لم يكن يرغب أو يميل إلى إضاعة الوقت لكي أمريكية ،ولم يكن ليجي شبه اآلخرين أي ً
يستطيع أن يصل إلى الهدف .وكان سمرز يظن أن إيفانز سوف يذهب إلى الغرب لمجرد
الترفيه ،كما كان هو نفسه يأمل في ذلك ،وذلك باإلضافة إلى ما يسمونه بالوطنية ،أو بأي
شيء آخر .وكانت روح االستكانة ال تزال بعيدة في ليجي نفسه؛ ألنه كان يسعى إلى فتح آفاق
جديدة ومراعٍ أخرى .كان هذا هو أفضل سبب وكانت فرصة ضئيلة أن يجد الناس أنفسهم
أثرياء وفي وضع أفضل ،بمجرد أن يستقروا في أوريجون.
كثيرا ال يقترب من القواعد التي وضعتً كان إيفانز ينظر إلى ما سلبه سمرز ،ولم يكن شيئًا
بشأنها األحكام -بطانية ،وجلد جاموسة يكفيان لتغطية صندوق ويسكي ،وبعض اللحم المجفف
والقهوة والطباق ،وقدر صغير ،وسكينتان وبندقيتان تكفي إحداهما إلسقاط أي طائر ،وكان
ضا من الخرز األزرق واألبيض ،وشص لصيد األسماك ،وبعض عنده بعض أمتعة الهنود أي ً
الطباق ،وبعض األلوان الحمراء البراقة ،فإذا جمعت جميع مسروقاته ،فإنها ال تكفي حمولة
زوجين من الخيل ،وعلى الرغم من ذلك فقد كانت أكثر مما يحتاجه ،وكان يستطيع أن ينتقل
من مكانه من غير إفطار ،وليس معه أي شيء ،سواء بندقيته أو الخيل التي يمتطيها ،ويستطيع
أن يعود إلى مكانه وقت الغداء من غير خيله.
وفي هذا قال:
كثيرا يا ليجي؟
-أليس هذا األمر ً
-ال.
-ال أحتاج إلى الكثير من األشياء.
-لست أنت ..أعتقد ذلك.
-لم أر في حياتي مجموعة ذات مسروقات كثيرة ،إنها ليست الطريقة التي اعتدنا السفر بها.
-أصبحت األمور تختلف.
-لقد سافرت الكثير من األميال من غير أن يكون معي شيء آكله.
واستطاع سمرز أن يشعر بأن إيفانز قد تضايق ً
قليًّل في داخل نفسه؛ إذ وقع بين الصداقة
واإلحساس الصريح ،وبين القواعد التي كان يجب أن يتبعها .وكان هذا هو الشيء الذي يحبه
سمرز ويميل إليه في إيفانز نفسه ،إن ما شعر به كان يستحق التنفيذ؛ ألنه كان يرغب في عمل
ً
رجًّل يعتمد عليه ،وكانت هذه األشياء سخيفة بما فيه الكفاية. الصواب ،لقد كان
ورفع إيفانز طرف الغطاء الهندي ،فأظهر برميل الويسكي الصغير لألنظار.
فقال سمرز:
-إن القواعد واللوائح جميلة ،ولكني ال أعتقد أنها تناسبني .أال تستطيع أن تنساني يا ليجي؟
قليًّل ،ثم عبس في وجه سمرز ً
قليًّل ،وقال: وهز إيفانز رأسه ً
-إ نني لن أضايق نفسي بك يا ديك ،فأنا أعرفك معرفة تامة ،ويبدو عليك أنك رجل سكير.
ابتعد يا روك لعنة هللا عليك ،ال تندس هكذا.
-إنني رجل سكير ..ربما ترغب أنت في بعضها.
-ربما« ..خل» طيب.
-إنه أفضل من أنواع التفاح ،كنت أقول دائ ًما إن الشعير أفضل بكثير من التفاح.
وفي هذه اللحظة انطلقت طلقة بندقية في الجو من الطرف اآلخر من المعسكر ،حيث ال
يستطيعون مشاهدة أي شيء ،فنظر إيفانز إلى روك ،وقال:
شعورا عميقًا
ً -إن ذلك الملعون ماك بي قد بدأ في تنفيذ القرار ،إنه قاتل الكًّلب .إنني أشعر
بشأنه.
-ماذا تنوي أن تفعل؟
-كل ما أعرفه هو أنه لن يقوم بإطًّلق النيران على روك ،ارقد يا فتى.
وأخذ يمر بيده على فكه واستمر يقول:
-إن ماك بي ال يمتلك ما يكفي من الغذاء وغيره.
-هل تعني أن ماك بي ليس إنسانًا مناسبًا في هذه المجموعة؟
فهز إيفانز رأسه وقال:
-لقد شبع تادلوك ،وكذلك ماك؛ لذلك فإنهما لن يعودا ..أليس معك نقود يا ديك؟ إنك لن تستطيع
دفع الضرائب ،وأعتقد أن ذلك سوف يكلفك الكثير.
-ال يهم ذلك .ولذلك لماذا يقوم كل من ماك وتادلوك بتقديم المساعدة؟
فهز إيفانز كتفيه ،وقال:
-إنني أراهن بأن ماك بي من المتسلقين ،وعندنا هنا أحكام خاصة بالمتسلقين ،وأراهن بأنه
يمتلك أكثر مما تمتلك أنت.
-ال توجد هناك طريقة الكتشاف ذلك إال إرسال رجل إلى أوهايو الكتشاف هذا الوضع.
-ال ..إنه يقول إنه نظيف نظافة تامة.
-إن له ابنة لطيفة حسنة المظهر.
-لطيفة لدرجة جد مملة.
-هل يقلقك ذلك؟
ي.
-ال ..إن النساء ال يثرن القلق ف َّ
وتردد صدى صوت البندقية مرة أخرى ،ورأى ماك بي في تلك اللحظة والبندقية تدخن في
يده ،ومن خلفه اندفع كلب أسود إلى ظهره ،وبدأ الكلب ينبح نبا ًحا مخيفًا ..نباح اآلالم القاتلة،
وبدأ ماك بي يزحف ويحاول الوقوف ،ويهدئ من نفسه ،في حين أخذ نباح الكلب يتضاءل
كبيرا في يده،
ً حجرا
ً ً
متناوال حتى أصبح شبي ًها بالصفير ،ثم وقف ماك بي واتجه إلى الكلب
وكان الكلب ينظر إليه كمن يطلب مساعدة وعونًا ،ولكن ماك بي أخذ يدق بالحجر رأس الكلب.
وفي هذه األثناء خرج غًّلم صغير يجري وهو يصيح في حين تعدو خلفه امرأة ،وصاحت
المرأة بماك بي في حين انحنى الغًّلم على كلبه ،فقال ماك بي شيئًا ما ،وتحول عائدًا تجاه
إيفانز وسمرز ،كما لو كان عمله على غاية من األهمية مما يتطلب اإلنصات.
ووقف روك على قدميه األماميتين ،فنهره إيفانز وقال:
-ارقد يا شقي.
ووقف ماك بي ليشحن بندقيته ،وشاهدهما ،ولكنه استمر في مشيته ،وكان وجهه جادًّا مثل
البومة.
ثم قال إليفانز:
-يجب أن تتخلص من هذا الكلب الراقد هناك ،وإال فسوف أضطر إلى إطًّلق النار عليه.
-إنك لن تقوم بإطًّلق النار على كلبي يا ماك بي.
-إنها اللوائح.
-لعنة هللا على اللوائح.
-إنني معين لتنفيذ هذه اللوائح ..تخلص من الكلب ،وإال اضطررت إلى قتله.
رجًّل بطيئًا في تصرفه ،لذلك لم يغضب ً
كثيرا من هذا القول .وكان سمرز يعرف ً كان إيفانز
كيف يرد على مثل هذا الموقف ،إذ غالبًا ما يقوم بتصيد الكلمات ،وكان رده على ذلك هو:
-اقتل أنت كلبي يا ماك بي ،وسوف تدفع ثمن ذلك.
فبصق فوق الحشائش وقال:
-ليس هناك أي مخرج من اللوائح.
-إنني سوف أنسحب من هذه المجموعة وآخذ معي هؤالء الذين يمتلكون كًّلبًا ..أخبر تادلوك
بذلك.
وكان سمرز يقول في نفسه :امنح بعض الرجال بندقية وشيئًا من السلطة ،وسوف تراهم
يقومون بتنفيذ األوامر بعنجهية وغباوة ،لذلك أجاب ماك:
-قل له أنت بنفسك ..إن عندي عم ًًّل يجب أن أتمه.
-لقد أخبرتك أنت ..ال تمس روك.
ووقف إيفانز بجانب ماك ،وكان يبدو ضخ ًما بجواره على الرغم من أنه ظل على حكمته
ووقاره ،كما لو كان قد خجل من طول قامته وضخامته ،وكان يبدو في مظهره أنه يخشى
ارتكاب الخطأ ،ثم سأل سمرز إيفانز ً
قائًّل:
-ليجي ،لماذا ال تطرقه حتى يتساوى في الحجم؟
-أعتقد أنني يجب أن أفعل ذلك.
خطرا في تلك اللحظة؛ ألنه يمتلك بندقية في يده،
ً وكان ما فهمه إيفانز هو أن ماك بي قد يكون
واألهمية في صدره.
وانتصب سمرز وقال:
-اقسم يا ماك بي أنني ال أعرف لماذا لم يقتلك أي إنسان حتى اآلن؟
فاستعد ماك بي ببندقيته واستدارت حدقتا عينيه أكثر من قبل ،وقال بحدة:
-إنها اللوائح ويجب أن أقوم بواجبي.
قال إيفانز:
-أخبر تادلوك بما قلته.
ً
تحوال في وجه ماك بي ،وشاهد فوهة البندقية ال توجه إليه ،وإنما أخذت تدور وشاهد سمرز
بطريقة عصبية ،وكان يبدو على وجه ماك بي الرعب والخوف ،ولكن غروره جعله يتمسك
بموقفه.
تأثرا يحول ماك بي عن رأيه فقال:
واضطر سمرز أن يجعل من صوته ً
-انظر يا ماك بي ..إننا ال نتصيد المشكًّلت ..انظر إلى هذا الكلب العجوز..
ثم أشار إلى روك.
ً
سهًّل ،فتحول ماك بي برأسه ،وبقفزة واحدة وضربة مفاجئة باليد استطاع سمرز كان األمر
أن ينتزع البندقية بعيدًا ،فسقط ماك بي نصف سقطة ،وحاول أن يتشبث بالبندقية ،ولكنه فشل،
وقام على قدميه ،وخطا خطوة إلى الوراء ،واستطاع سمرز أن يرى آثار ورائحة الخمر في
فمه ،وصاح ماك بي في صوت عال يشبه صوت النساء:
-إنك لن تتخلص من هذه البندقية!
-اذهب وأخبر تادلوك كما طلب منك ليجي إيفانز.
فرد ماك بي وهو يسرع إلى وسط المعسكر وينظر خلفه من فوق كتفه:
-حسنًا ،سوف أخبره.
قال إيفانز:
-علينا أن نراقبه اآلن.
-أجل.
-لم يكن هناك أي سبب يجعلك تندفع لفعل ذلك ..لم أكن أقدم على هذا العمل بنفسي ،ولكن قد
أفعله بطريقة ليست بهذه السرعة.
-بالتأكيد ،لقد قمت بالعمل فجأة ،اعتقدت أن الكلب األسود طلب مني أن أثأر له.
ً
محاوال وصمت إيفانز وظن سمرز أنه ال يرغب في أن يتحدث عن ماك بي ،لذلك قال سمرز
تغيير موضوع الحديث:
-ماذا عن صاحب طلب الرحمة والغفران؟
-من؟
-ويذربي.
-ماذا بشأنه؟
-إنه على أحسن حال بما سرقه.
فهز إيفانز برأسه الكبير وقال:
-إ نه لم يحصل على أي شيء يا ديك سوى زوجين من الخيل ،وربما وجبتين من الغذاء،
ويجب أن أخبره.
-هل تتحدث إليه؟
-ل قد قال إنه سوف يذهب إليها بمفرده إذا لم يستمر الركب .هللا وهو فقط ،يجب أن أتحدث
إليه.
-اترك فرصة لماك بي ليتحدث إلى تادلوك.
وكانت عينا سمرز تجوالن في خًّلل المعسكر بأسره ،فشاهد مجموعة من الرجال وماك بي
وسطهم .فنظر إيفانز إلى الشمس وقال:
-حسنًا .أعتقد أن الوقت مناسب اآلن.
وأخذ االثنان يدخنان غليونيهما ،ثم نهضا متجهين إلى المجموعة ،وأخبر إيفانز سمرز ً
قائًّل:
-إن بيكي تدعوك لتناول العشاء معنا.
-أستطيع أن أدبر شؤوني.
-ليس على حسب طريقة بيكي ..فهي تقول إنك ال تحصل على الغذاء المناسب ،لذلك يجب أن
تحضر لتناول طعامك معنا بصفة منتظمة.
-إن هذا كرم أخًّلق منها ،وأنت كذلك .سوف أرى ما إذا كانت هناك لحوم في الوعاء.
وصاح إيفانز وهو ينظر إلى بندقيتين يحملهما سمرز:
-هل استخدمت بندقية ماك بي؟
فقال سمرز وهو يستعيد ذاكرته:
-لعنة هللا على هذا الواعظ إذا لم يتناول أجرة قداس وجناز ماتي.
-هنا يا روك .أعتقد أنه يستطيع أن يرفع قبعته دائ ًما ليتلقى فيها النقود ،إنه يلقي بمواعظه من
أجرا ،وهو يقول إن الوعظ شيء والقداس الجنائزي شيء آخر. رأسه وال يتلقى ً
-عليه اللعنة.
ومر االثنان بجوار النيران التي كانت موقدة للطهي وبين الخيام والعربات ،وكان إيفانز منتب ًها
لمراقبة كلبه الذي يتعقب قدميه ،وسوف يخلو المعسكر طبقًا للخطة بعد أن تسير العربات
واحدة في إثر األخرى ،وتُربط الثيران بالسًّلسل في العربات التي تستطيع أن تكون دائرة
متشابكة لمواجهة أي هجوم من جانب الهنود.
كان تادلوك قد عقد محكمة -تستطيع أن تسميها كذلك -وطالب المفتشين بتقديم تقاريرهم ،وكان
يستمع إلى مًّلحظاتهم ،ويدون ما يسمع من أرقام في ورقة أمامه .وكان فيرمان وماك بجانبيه
وذلك باإلضافة إلى بعض الرجال الذين أحاطوا به؛ األخ ويذربي ،بروور ،وهيجنز ،وأسماء
أخرى كان سمرز يحاول أن يتعلمها مثل :جورهام ،وكاربنتر ،وبيرد ،ودورتي ،وباتش،
وهولدريدج ،ومارتن ،وكانوا يشكلون مجموعة ال بأس بها ما عدا واحدًا أو اثنين فقط مثل
ماك بي .اتجه سمرز إلى ماك وسلمه بندقيته ثم عاد مرة أخرى.
كانت الشمس قد بدأت تظهر في كبد السماء ككرة حمراء ،في حين كانت هناك رياح خفيفة
قادمة من الغرب تشعل النيران الموقدة وتزيد لهيبها ،األمر الذي استرعى نظر سمرز حينما
أخذ يدور ببصره فيما حوله ليرى النساء وقد التففن في شبه دائرة لًّلبتعاد عن الدخان.
واستطاع أن يسمع األصوات األولى للخنافس والصراصير ومختلف الهوام والديدان الطائرة،
ضا.
وبدأت ضفادع األشجار تصدر نقيقها بأصوات ثابتة وصوت طائر الليل أي ً
ونظر تادلوك في ورقة أمامه ،ثم رأى إيفانز وسمرز ،وقال:
-إنني مسرور بمجيئكما ..إننا ال نود أن نخلق مشكًّلت بسبب الكًّلب.
فرد سمرز ً
قائًّل:
-لم تكن هناك مشكًّلت بمعنى الكلمة.
-س وف أتولى وقف العمل بالقاعدة الخاصة بالكًّلب بموافقة كل فرد هنا ،إلى أن نستطيع أن
عا آخر في أي مكان آخر يصل إليه الركب .هل هذا يكفي؟ نعقد اجتما ً
أجاب إيفانز:
-إن هذا يكفي ،إذا عملت على تعديل القاعدة.
فرد تادلوك ،بعد فترة من الصمت:
-إ ن هذا يتوقف على رأي الركب ..ولكني أعتقد أن هذا يكفي ..وال يرغب أي فرد في أن
ينقسم الركب بسبب مثل هذه األشياء التافهة.
كان الرجال يهزون رؤوسهم أو يصدرون أصواتًا تأييدًا لكلمات تادلوك ،ثم تحدث ماك بي
بصوت مرتفع:
-إن هذا يًّلئمني ..إنني ال أتقاضى مكافأة عن مثل هذا العمل.
ضا ،وهو السماح ببقاء الكًّلب بعد
وما كان تادلوك يرغب في قوله ،كان سمرز يفكر فيه أي ً
ذلك ،وكان واض ًحا أن مثل هذا الموضوع لن يُبحث مرة أخرى.
وقال تادلوك موج ًها الحديث إلى إيفانز:
-هل انتهيت من تفتيشك؟
-انتهى كل شيء.
-حسنًا ،ماذا وراءك؟
-ك ل شيء على خير ما يرام .ومعي هنا األرقام ما عدا -حسنًا -عجز األخ ويذربيً ..
عفوا
ً
عجزا في إمداداته. أنت تعرف أن األخ ويذربي يعاني
وأدار ويذربي وجهه إلى تادلوك ،فسأله تادلوك ً
قائًّل:
-هل هذا صحيح يا ويذربي؟
-نعم من الناحية المادية.
-أنت تعرف اللوائح.
-سوف أذهب سواء كنت أملك أو ال أملك ،وسواء بكم أو من غيركم.
-لن أكون جافًّا معك.
-إن الرب سوف يقدم لي معونته.
فقال هيج -رجل فيرمان:
-حينما يمنحك الرب الغذاء ،اطلب لي منه زو ًجا جديدًا من السراويل ..هًّل فعلت ذلك من
أجلي؟
ثم أشار إلى السروال الممزق الذي يرتديه.
فعقص تادلوك حاجبيه ،كما لو كان هذا الوقت ال يصلح للمزاح وقال:
-إن وضع ثقتك في هللا شيء جميل ،ولكن الثقة لن تمنحك حق المرور مع هذه المجموعة.
وكان صوت تادلوك حادًّا كما لو كان قد مل قراءة وسماع األرقام والتقارير ،وأراد أن ينهي
كل جدال حول مثل هذه الموضوعات .وكانت عينا ويذربي الباهتتان تناقش عيني تادلوك
السوداوين في صمت ،ثم قال في النهاية:
-إنني لم أعش حتى عامي الرابع والستين من غير أن أعرف أن هللا سوف يمنحني.
وكان الرجال اآلخرون يقفون في صمت وهدوء ،وظن سمرز أن غالبيتهم يشعرون بالعطف
تجاه هذا الواعظ ،ولكنه كان يعرف في الوقت نفسه أن جداله كان سخيفًا .وتحدث تادلوك بعد
ذلك ،كما لو كان يحدث ً
طفًّل يحاول أن يظهر له المنطق ،فقال:
-أال ترى أيها األخ ويذربي أننا ال نستطيع أن نمنحك هذه الفرصة لصالحك وصالحنا معًا..
ضا ،ولكني ال أومن بأنه يوافق على التهور والًّلمباالة..
إنني أؤمن باهلل أي ً
-إنه يريد من اإلنسان أن يساعد نفسه.
فوافق الرجال على ذلك ،وبصق بعضهم على األرض وظلوا يهزون رؤوسهم وينقلون
أبصارهم بين ويذربي وتادلوك جيئة وذهابًا.
واستمر تادلوك يقول:
-إنني لن أكون قائدًا من أي نوع إذا أذنت لك بالذهاب؛ ألنني أكون بذلك قد دعوتك لمواجهة
الصعاب والمشكًّلت.
وكانت نظرات ويذربي ال تزال ثابتة على وجه تادلوك ،وقال وهو ساهم:
-لقد قال المسيح« :ليكن عندكم قدر من اإليمان».
ولكن تادلوك رد عليه بقوة ً
قائًّل:
-إنها ليست مسألة إيمان ،ولكنها مسألة عقل ومنطق.
-إنني أنا الذي سوف أغامر وأواجه الصعاب ،ولستم أنتم.
عا ،يجب
-إننا ال نستطيع أن نأذن ألي رجل بالسفر لنفسه ،وال نستطيع أن نتركك تموت جو ً
إذن أن نقتسم مؤننا مهما تكن صغيرة ،وإذا ضعفت أو مرضت ،فلن نستطيع أن نهجرك.
وكان تادلوك يتحدث ويقف ً
قليًّل تار ًكا له الوقت الكافي لكي يقر رأيه على شيء ،ثم استمر
يقول:
-يجب أن نعمل على المحافظة على األخ.
فقال ويذربي:
-سوف أذهب.
مضطرا إلى القول بأنك
ًّ -يا أهلل! ولكن ليس معنا ..إنك لن تستمع إلى العقل ،لذلك أجد نفسي
لن تأتي معنا .هل فهمت؟
فنظر ويذربي حوله يبحث وسط الوجوه عن مشكلته لعله يهتدي إلى حل ،ولكن ِظل تادلوك
كان مخي ًما على الجميع ،وشعر كما لو كان قد توصل إلى اإلجابة ،لذلك أحنى رأسه وقال
بهدوء:
-إنني أشعر أن الرب يناديني ..سوف أذهب بمفردي.
-إننا ال نستطيع أن نمنعك من فعل ذلك ،ولكن يجب أن تفهم أننا ال نتحمل أي مسؤولية.
وصاح عصفور الليل القابع وسط ظًّلل األشجار.
وسمع سمرز نفسه وهو يصيح:
-انتظر يا تادلوك ..سوف أصحبه معي.
-ماذا تعني؟
-سوف أرعى مصالحه ..وال تهتموا بشأنه.
ونظر تادلوك إلى إيفانز ً
قائًّل:
-إنك مفتش هذا القسم ،هل يستطيع سمرز أن يكفي اثنين؟
-إ ذا قال ديك إنه سوف يتواله ويأخذه معه ،فإنه سوف يفعل ذلك ،وال شأن ألي فرد آخر
بالتدخل.
-إن هذا ليس هو الموضوع.
فقاطع سمرز الحديث ً
قائًّل:
-قلت إنني سوف أتولى أمره .أال يكفي ذلك؟
فقال فيرمان:
-إن هذا يكفي بالنسبة لي.
وتحول ويذربي إلى سمرز وقد زال عنه القلق ،كما لو كان قد رأى يدي هللا ممدودتين إلنقاذه،
وقال:
-بارك هللا فيك أيها األخ سمرز ،لقد قلت إن هللا سوف يمدني بالعون.
وهمهم هيج ً
قائًّل:
-وأين هو السروال؟
ظا! واع ً
ظا كان وكان سمرز يتعجب لنفسه بعد ذلك ،حينما جلس عند عائلة إيفانز ..يساند واع ً
كبيرا بلحية كبيرة يمتطي أقرب السحب ،وممس ًكا بالصاعقة في يدً ً
رجًّل يظن أن الرب كان
وبالرحمة في اليد األخرى .وقال بصوت مرتفع:
-ال تخبرني بما سوف يفعله الناس.
***
الفصل السابع
كانت العًّلمات المميزة للرحلة هي دفع وجذب وشد وإدارة العجًّلت ،وأكل األتربة واألوحال..
عليها اللعنة ،والسباحة في نهر من العرق ،والتجمد من البرد في الليل ،والعمل تحت الشمس،
واالستمرار في التحرك ،ومراقبة المخزون من اإلمدادات ،وتثبيت العربات ،وتفريغ
الحموالت وإعادة الحموالت ،والنوم كالموتى ،في حين كانت العجًّلت تدور من غير توقف
إلى فوق وإلى أسفل ..ادفع ،اجذب ،شد ،وأدر العجًّلت ..لعنة هللا على البق والحشرات ،ولعنة
هللا على المسافة ،وعلى مجاري المياه العميقة واألشجار ..فلنستمر في المسير ..مرحبًا
بأوريجون.
وفي الليل يغط الجميع في نومهم ،ومن بينهم من يشعر بالدفء مع زوجته ،ولكنهم ال يهتمون
بذلك وإن كانوا يعرفونه ،وإنما يهتمون بما يشعرون به من كراهية ،والعضًّلت المفتولة
تذوب ..دع عقلك يتوقف ..دع النساء يحضرن مثل الفتاة ميرسي ماك بي ..دع النوم يطغي
على الجميع حتى يستريحوا من عناء التعب الذي حل بهم.
لم يتحدث كيرتس ماك إلى أرماندا مثلما يتحدث أي رجل إلى زوجته ،أو يشجعها على أن
تتحدث إليه ..لم يفعل ذلك في هذه األيام ،ولم يكن هناك أي أمل في أن يفعل ذلك في المستقبل.
إنهم يقولون ما يجب أن يقولوه ..وهي تقوم في بعض األحيان بتنفيذ بعض األشياء حتى ولو
كانت منغمسة في األتربة واألوحال ،وكذلك لو كان الطقس غير مناسب ،وكان يجيبها دائ ًما
إجابات مقتضبة ليرى األلم في وجهها وليلتذ بذلك على طول الطريق.
وكان يقول لنفسه إن هذا هو كل شيء ما دامت القافلة تسير في طريقها إلى «ليتل بلو» ،وما
دام التوتر يكمن في داخل نفسه ..إنه لن يندب حظه بعد اآلن مرة أخرى ..دعها تنقذ نفسها ،أو
لتذهب إلى الجحيم ،إنه لن يستجدي كما سبق أن استجداها في تلك الليلة التي عبروا فيها
«الكوز».
كان الربيع يبدو في نسمات الهواء ،وكانت أصوات طيور الليل تتردد خارج الخيمة ،في حين
تلعب النسمات بقماش الخيمة ..وكان يرغب فيها في هذه الليلة مثلما رغب فيها مرات كثيرة
من قبل ،ولكنها قالت له:
-ال يا كيرتس ..أرجوك.
-لقد مضت مدة طويلة.
ثم تدفع يده التي تجوس في جسدها وتقول له:
-أرجوك.
ِ -ل َم ال؟
-إنني خائفة.
-خائفة؟
-نعم.
-من ماذا؟
-أنت تعرف.
-إنك لم تصلي إلى هذه المرحلة حتى اآلن.
-ربما أصل إليها ،ثم نحتاج إلى طبيب أو أي شيء آخر.
-إنك تستخدمين ذلك دائ ًما كعذر.
ولكنها لم تجب على ذلك.
-إنك لم ترغبي أبدًا في ذلك.
-أعرف أنك تعتقد هذا.
-ه ل تعرفين أن مثل هذا المسلك ال يليق بأي سيدة ..هل السيدة المحترمة ال ترغب في ذلك؟
-كيرتس!
-عودي إلى موطنك ،إنك ال ترغبين في ذلك أبدًا ،ولن يستمر األمر معي على هذا الحال.
-ليس هذا بصحيح.
-إنها أقرب إلى الحقيقة على أي حال.
ثم صمت لفترة طويلة ،ثم اندفع والرغبة المفاجئة تبدو في كلماته:
أرجوك يا أرماندا ،إنني جد آسف ..اآلن من فضلك.
ِ -
-ال أستطيع.
أرجوك.
ِ ً
طويًّل.. صبورا ..ولكنني ال أستطيع أن أستمر على هذا الحال
ً -لقد كنت
-ال أستطيع ..إني خائفة.
ثم بدت نهاية الحديث في كًّلمه حين قال:
-هل تعنين أن هذا الوضع ليس دائ ًما ،وإنما سيكون في خًّلل فترة سفرنا فقط؟
-ال أعرف.
إنك سوف تهجرين نصف الزوجة التي كانت عزيزة عندي ،أليس كذلك؟
-يا إلهي! ِ
فأجابت بصوت ضئيل:
-ال أستطيع ذلك يا كيرتس.
أنك ال ترغبين.
ت تعنين ِ
-أن ِ
فأخذت تبكي ،وكان النشيج يهزها ،في حين كان هو يرغب فيها أكثر من أي فترة مضت ،كان
يريد أن يضع خديها الدافئتين المبتلتين على خديه ،وأن يبلل شفتيه بشفتيها ،وأن يشعر بجسدها
يخضع لجسده ،ولكنها لم تكن ترغب في ذلك.
ولو كان هناك رجل آخر ألجبرها وأخضعها لسلطانه ،وأهمل موافقتها أو اعتراضها ..إن
الزوجة ال تي ليست عندها رغبة أمامها واجب آخر ..ولكنه لم يفعل أي شيء ،ليس كيرتس
ماك هو الذي يفعل ذلك ،وقد جاء من مدينة «بافالو» من أعمال نيويورك حيث تربى على
ً
حائًّل بيني وبينها ال أفهمه! وأدى هذا النعومة والرقة .كان يقول في نفسه إن هناك شيئًا يقف
القول إلى زيادة جنون ه ..لماذا وضع هللا الجمال في وجه المرأة ،ومنحها الصدر الجميل
والفخذين الممتلئتين الجذابتين ،ثم تمنع دفئها؟
وقال:
-إذا كنت زوجة صالحة حقًّا لبقيت في بافالو.
ولكنها لم ترد عليه ،أو تحاول الرد.
ً
محاوال البدء من جديد في الغرب؟ -لماذا تظنين أنني قد تركت عملي
فبقيت صامتة ،ولكنه استمر يقول:
-لكي أبتعد عن إثارة األعصاب ،وإبعاد األشياء عن ذهني وتفكيري.
كثيرا.
-إنك تبالغ ً
-كان هذا هو لب الموضوع وأعماقه.
وكانت إجابتها أشبه بالصراخ والبكاء ،ولكنه استمر يقول:
-إن ما تريدينه زو ًجا لك هو راهب ملعون.
فبكت وهي تقول:
ضا ،وأمامنا الكثير الذي يجب أن نعيش من
-لماذا تقول هذه األشياء؟ نحن نحب بعضنا بع ً
أجله.
فأجابها ،وقد كره نفسه ليس بسبب الكذبة التي ذكرها ،وإنما بسبب الضعف الذي اعتراه وجعله
يكذب:
سؤالك مرة أخرى.
ِ -لن أعاود
لقد قال هذا الشيء نفسه من قبل ،ثم يعود إليه ،فينسى توبته ،وينسى غضبه ،وبخاصة حينما
تحدثه عن الحب وتًّلطفه على السرير حتى ينام .لقد طلب منها الصفح ووجه اللوم إلى نفسه
بسبب مثل هذه الليالي ..كيرتس ماك الشاب الناعم ،الضعيف ،المتأرجح ،والعاطفي ،ولكن هل
هناك خطأ مع العاطفة؟ إن مكمن الخطأ فيه هو أنه ال يستطيع أن يكبح جماح نفسه ،وكان
خفيف الروح ،يعتمد على الهبة أو الرفض ألي معروف ،لذلك قال لها:
إنك تدفعينني إلى النساء األخريات.
ِ -
-إنني ال أعني ذلك يا كيرتس.
ضا.
-إنني ال أستطيع أن أنظر إليهن ،وأظل أفكر ،سوف أجد امرأة أخرى أي ً
-هل هذا ما تريده؟
إنك ال ترغبين في...
-ماذا تهتمين من أجله؟ ِ
-هل هذا ما تريده؟
-أريد ..يا للسماء ..كان يجب أن تتزوجي قائد سفينة.
وكان يرقد فوق السرير ويسمع نحيبها ويحس ببهجة قوية باهتزاز جسدها .وصمم بينه وبين
صا ،ولكنها جعلت ذلك مس ً
تحيًّل، نفسه على أن يجد له امرأة أخرى ..كان يريد أن يكون مخل ً
لذلك سوف يلقي جميع القيود جانبًا ،وسوف يخرج من هدوئه ووقاره .لقد كان الناس يميلون
إلى أبويه وهما يحاضرانه عن ارتكاب الذنوب وعن الخطيئة ،إن بعض الناس مثل الوعاظ،
كاألخ ويذربي ،يعظون ضد الشر والخطيئة ،ويحددون العقاب بعدد معين من الجلدات في
ً
رجًّل حالة الزنا ،لذلك يخشى كل شخص من االفتضاح ومن العقاب ،ولكن لنفرض أن هناك
ليس عنده ما يمنعه من ارتكاب الزنا ،فما الوضع ،مثل حال ماك؟ سوف يجد لنفسه امرأة..
سوف يتخلى عن األخًّلق والمبادئ الخلقية التي تأصلت في ذاته.
لقد أقسم أمام نفسه على أن يقاوم المبادئ التي قد تنحيه عن هذا التفكير ،وأن يقتل في نفسه
الضمير الذي يحاول أن يكبت فيه روح الرجولة .وكان طائر الليل ال يزال يصيح في الخارج،
كما كانت النسمات تداعب أطراف الخيمة .وفي هذه األثناء سمع صهيل أحد الجياد ،وخوار
إحدى األبقار ،واستطاعت أذناه أن تلتقط صوت اندفاع وهمهمة «الكوز».
كانوا قط استطاعوا عبور النهر في ذلك اليوم والتحرك إلى جزء مكشوف من البراري يقع
على طول ضفة الغدير ،وأخذ يسترجع في ذهنه ما مر به من مناظر ..كانوا قد صمموا على
صنع عوامة؛ ألن معظم أجزاء الركب كانت ضعيفة ،كما أخبرهم ديك سمرز بالقيام بذلك
وهو يقودهم عبر النهر .لقد شاهد ديك سمرز في ذلك الوقت يركب بجسارة عبر النهر ليكتشف
ممرا فيه ،وشاهد العربات تندفع وسط المياه ،والثيران تشق عباب هذه المياه ،وكانت العربات
ًّ
الخفيفة ،مثل عربته ،سهلة الحركة في أثناء العبور ،وقد استمع عدد من هنود «الكوز» إلى
هذه الحركة فهرعوا إلى الضفة مثل الماعز ليشاهدوا ما يدور في المياه ،وهم يضعون
العباءات والريش ،والزينة ،والمًّلبس الشاذة واأللوان .وتم نقل النساء واألطفال ،والكثير من
المؤن فوق العوامة بعد أن تم رفع جميع هذه األشياء وهؤالء األشخاص من العربات ليخف
وزنها وتخف حركتها تبعًا لذلك ،وقد عاون الهنود في هذه العملية وساهموا في إتمام خوض
المياه بنجاح ،لذلك قدمت لهم هدايا من الخرز والطباق وبعض المًّلبس القديمة.
وأخذ ماك اآلن -كما سبق -ينظر إلى النساء ويضع احتمال الفوز بها -جوديث فيرمان -إنها
فتاة طويلة شاحبة ،ولكنها جميلة ذات كبرياء وردفين عريضين ،ثم مسز باتش الصغيرة
القادمة من نيو إنجلند التي قد تخفي شيئًا من حقيقتها ،ومسز تادلوك الهادئة التي قد يصبح من
ضا ،وربيكا إيفانز السيدة االجتماعية ذات النكتة الحاضرة التي
الممكن جذبها بطريقة هادئة أي ً
يشبه شكلها شكل حزمة من البرسيم ،ومسز بروور التي أنجبت عشر أطفال حتى اآلن ويبدو
عليها ذلك.
وأبقى أفضلهن جميعًا إلى النهاية ،ثم ترك ميرسي ماك بي تأتي أمام ناظريه ،إن شعرها أسود
فاحم ،وبشرتها بيضاء وثدييها صغيران وفمها دقيق وعينيها مليئتان بالفصاحة ،وهي تمتاز
بهذا الحزن الذي يشبه الجوع ،أو الجوع الذي يشبه الحزن ،إنها ال تعرف شيئًا عن أي شيء،
ولكن من الممكن تعليمها.
ولم يستطع أن ينظر إلى أرماندا كما قد ينظر إليها أي رجل آخر ..إنه يستطيع أن يصفها ،فهو
يستطيع أن يقول إنها مقبولة ،متوسطة الطول ،وأن جسمها بديع التكوين ،ووجهها بيضاوي
وعينيها واسعتان وتميًّلن إلى االخضرار ..ولكنه لم يستطع أن يراها كما يراها أي رجل آخر.
هل ينظر إليها أي رجل نظرة مختلفة إذا عرف أنها باردة؟
وهل األخريات باردات؟ وهل يواجه الرجال اآلخرون مثل هذه الصعوبات ويصعدون إلى
أسرتهم وهم يشعرون بالجوع والمرارة؟ وهل النساء -يشبهن مسز بروور -مطيعات
وخاضعات اللتزاماتهن؟ «ال تشته امرأة غيرك» ولكنه ترك فكرة امتًّلك إحداهن تراوده
وتسيطر عليه ..أن يمتلك واحدة منهن ممن ترغب بشغف وحدة ورقة ولطف في اإليواء س ًّرا
إلى سرير معه ،أو على طول الضفة الخضراء التي تكسوها طبقة من العشب األخضر
الكثيف ..برقة ولطف ..هذه هي الكلمة ،ربما هي الكلمة التي يرغب فيها الرجل وال يرغب
في أي شيء آخر ..إنها الرقة واللطف ..إن «أرماندا» لم تكن رقيقة أو لطيفة أبدًا ،ولم تتصف
بهذه الصفة أبدًا ..أنت تعرف أنها تحبك بسبب أشياء ال يمكن الكشف عنها ،وبسبب بعض
األعمال نصف الكاملة ،وبسبب الشعور الذي أبديته بطريقة غير مباشرة ،وبسبب الرعاية
التي أبديتها من غير تحفظ ..لعن هللا كل ذلك؛ ألنه ال يكفي.
وأبعد تف كيره عنها ،وعاد مرة أخرى إلى النهر ليراقب كيفية العبور ..لقد عبرت النساء
والعربات والمؤن ،أما الماشية وبقية أنواع المخزونات فقد توقفت عند بداية الضفة ،وكان
يقودها ديك سمرز ويدفعها الخيالة من البيض والحمر ،واندفع القائد إلى المياه ،وتبعه
اآلخرون ،أما اآلن فإنهم يسبحون في خط يسير مع اتجاه تيار المياه.
كان هذا العبور أسهل عبور من نوعه؛ إذ لم يفقد أي حيوان أو برميل أو صندوق أو جوال،
باستثناء بعض األشياء الصغيرة التي بدأ «الكوز» في التقاطها ..كان من النوع الذي يجعل
اإلنسان ينتعش باألمل والفرح والرغبة في زوجته.
و زأر ماك في سريره وتحرك إلى نهايته ،ثم سحب الغطاء من فوق زوجته ،وقال لنفسه وهو
يقفز من سريره ويرتدي سرواله بعد أن عجز عن النوم في تلك الليلة:
-ال فائدة من الرشح والبكاء.
وأخذ يجول حول الخيام التي تقع داخل الحلقة التي صنعتها العربات .وكان يشعر بالخيول وال
يراها بسبب صهيلها .وكان المعسكر ساكنًا ما عدا بعض الهمهمات الخافتة التي كانت تصدر
بين حين وحين .أو التنفس البطيء الصعب لرجل كان يستلقي على ظهره .أو شخير البعض،
أو صياح طفل يحلم حل ًما مزع ًجا .وكانت النيران قد انطفأت ،في حين كانت النجوم تشع
ضوءها الكبير على الفضاء وتضيء قمم العربات التي كان يلفها الظًّلم .وفجأة سمع صوت
صادرا من أحد الهنود ..لقد سمع قبل ذلك بعض
ً عواء ذئب في مكان ما ،أو ربما كان صوتًا
الهنود يقلدون الذئاب ،أو يرتدون فراء الذئاب ،وهم يقومون بسرقة بعض المخازن ..لذلك
سحب بندقيته وأمسك بها في يده.
وقال أحد األشخاص:
أهًّل ..اصمت ً
قليًّل. ً -
وعرف فيه سمرز نفسه من شبحه األبيض ومن السروال الجلدي الذي يرتديه ،وكان يجلس
في بقعة مكشوفة يستطيع أن يقوم بالمراقبة منها:
-ألم تنم بعد؟
-لقد نمت بما فيه الكفاية ..ما يكفيني بقية حياتي على ما أعتقد.
-لقد شاهدت الزراع وهم يستيقظون مبكرين أو متأخرين.
-ال شيء يعادل اتباع بغل إلراحة العقل.
وقد تصور ماك أن سمرز لم ينل ما يكفيه من الراحة هذه الليلة .وفي حين كان يتحدث ،ظل
يستمع ويراقب ما حوله كأن هذه المحادثة لم تؤثر عليه إال من السطح فقط.
وسأل ماك:
-هل تتوقع مشكًّلت؟
-ربما ال ..هؤالء «الكوز» الفقراء ..إنهم جائعون ومعرضون للبرد ،وهم يقومون بسرقة
أشياء تافهة بالنسبة ألي هندي.
فقال ماك:
-لعنة هللا على الضوضاء.
وشعر بدهشة بسيطة حينما أجابه سمرز.
-إنهم يشقون طريقهم كما نشق نحن طريقنا ،وأعتقد أننا نشكل ضوضاء كبرى بالنسبة لهم.
فأجابه ماك وهو يستخدم لهجة تأكيدية:
-ال أكاد أرى ذلك ..ويجب عليهم أن يتعلموا.
وانتظر ماك ،ولكن إجابة سمرز كانت مقتضبة:
-أعتقد ذلك.
-سوف أذهب أللقي نظرة على الماشية.
كانت األعشاب جديدة وناعمة تحت وطأة القدم لدرجة أنه يستطيع أن يسير بهدوء تام مثلما
يسير الهندي نفسه .كان يجب أن تكون الماشية في اتجاه الشمال بعيدًا عن النهر ،لذلك اتجه
مسترشدًا بالقطب الشمالي ،وبعد لحظة شاهد حركة فنادى :من هناك؟ واتجه إلى حيث هذه
الحركة ليجد الغًّلم براوني إيفانز الذي كان قد استأجره ليساعده في مراقبة الماشية .وقال له:
-هل كل شيء على ما يرام؟
-إن الماشية حيوانات هادئة.
وأخذ ماك يحدق النظر بعيدًا في الظًّلم ،فشاهد الماشية واقفة على المنحدرات وتساءل ً
قائًّل:
-إنني في دهشة ..لماذا تسلك هذا المسلك؟
-إنني أشتم رائحة الهنود .على ما أعتقد.
-هل هناك أي عًّلمة تدل على الهنود؟
-ليس بعد ،إلى أن يقلدوا الذئاب.
-إن الوقت قد حان لتغيير الرقابة ،أليس كذلك؟
-ال يزال هناك بعض الوقت.
-من بالخارج؟
-هولدريدج ،وماك بي ،وباتش واقفون مع الماشية .إن سمرز يريد حراسة قوية هذه الليلة.
-هذا هو عين الصواب.
-يقول سمرز إن الهنود يسرقون وهم في صورة الذئاب.
-يجب أن تنتبه انتبا ًها تا ًّما.
-لقد قال إنه شاهدهم .ولكن ربما يقوم الكوز بذلك ..إذ تخلو أمعاؤهم من الغذاء اآلن.
-استمر أنت في المراقبة كما كنت.
-بالتأكيد ..يقول ديك إن أفضل طريقة الكتشاف «الكوز» هو الرقابة الشديدة والسليمة .هذه
هي ديًّلوير.
-ديًّلوير؟
-ولكن يجب أن تُبقي عينيك متفتحتين «للبونيز» أنفسهم.
-هل يعرف سمرز كل شيء؟
فقال الغًّلم:
-لماذا؟ أعتقد أنه ال يعرف شيئًا ،ولكنه يعرف مخازن األشياء.
حذرا من أن يقول:
ضا .ولكنه كان ً
كان ماك يميل إلى سمرز وإلى براوني أي ً
-إنك قد تعتقد من الحديث الذي دار بيننا أنه ال يوجد أي إنسان له شعور مثل سمرز.
ولم يرد براوني .ولكنه ظل ساكنًا ،وكان ماك يعرف أنه قد استاء من ذلك كما كان يرغب في
ذلك .وفي هذه اللحظة سقط أحد الشهب ،وتساءل براوني وهو فرح:
-هل تعتقد أن هذا الشهاب قد سقط في أوريجون يا مستر ماك؟
وقبل أن يستطيع ماك اإلجابة ،سمع صوت طلقة بندقية في الطرف اآلخر البعيد من المرعى،
وأخذ صوتها يتًّلشى شيئًا فشيئًا حتى ساد السكون .ورفع براوني بندقيته وهو يصيح:
-هنود ..هنود.
-أنصت.
وما سمعه ماك كان صرخات تأتي من المعسكر عبر الظًّلم ..وسمع اصطدام سًّلسل الثيران
وأصوات الجري والكر والفر .وجاء صوت طلقة أخرى وسط الظًّلم لتطغي على األصوات
جميعها .وكانت الماشية قد بدأت تقفز على أقدامها ..فاستطاع ماك أن يرى بعضها وهي
تتصارع وسط ظًّلم الليل ،في حين كان تنفسها العميق وأصواتها تغطي على السكون
والهدوء ،وبدأت الماشية الواقفة هناك في الحافة األخرى تندفع.
وفي هذه األثناء ارتفع صوت ليجي إيفانز صائ ًحا:
-براوني؟ أين أنت يا براوني؟
-إنني هنا يا والدي.
فاندفع إيفانز وخلفه بعض الرجال .ثم صدرت طلقة أخرى جديدة .وسمع ماك صوت البندقية
ثم أصوات الحوافر ..وكانت رقعة الظًّلم تتزايد وتنتشر.
وصاح البعض ً
قائًّل:
-لعنة هللا عليهم إنهم يذهبون.
-الخيل .إلى الخيل.
-ال .ال يمكن قيادتها.
وعرف ماك فيه صوت سمرز.
-أوقف الخيل ..الحق بها .لقد أخبرتك.
وبدأ الطابور الطويل من الحيوانات الهاربة يختفي ويتًّلشى.
-ال .انتظر.
ووقف سمرز خلف ماك .وقال:
-هنود ..هل رأيت هنودًا؟
فأجاب ماك:
-كًّل ...ثم انبرى براوني يقول:
-لقد كانت الماشية في قلق.
كثيرا لدرجة أنها
ً ولم يستطع ماك أن يرى الماشية اآلن ،فقد كانت أصوات أظًّلفها تبتعد
أصبحت كدقات الطبل البعيدة .ثم سمع أصوات الحراس اآلخرين فجأة.
فسألهم سمرز ً
قائًّل:
-هل هم هنود؟
فأجاب ماك بي.
-أجل.
-هل أنت متأكد؟
فأجاب باتش:
-كًّل.
ثم أضاف هولدريدج:
-لقد شاهدت أحدهم ..كان هنديًّا أو ذئبًا.
فصاح تادلوك:
-امتطوا خيولكم.
-قفوا.
عا؟
-ماذا دهاك يا سمرز؟ هل تريد أن تعرقل وتعطل اجتما ً
ولم يجبه سمرز .ولكن إيفانز تولى ذلك ً
قائًّل:
-اترك األمر لديك.
-إن سمرز ليس القائد هنا .امتطوا جيادكم.
ثم تحدث سمرز بصوت كان ماك يميل إليه ولكنه يقاومه.
-ال تنسوا أنفسكم.
-إنني ال أنسى هذه الماشية.
وتحدث باتش بلهجة معتدلة ً
قائًّل:
-إنك تمتلك معظمها.
-لعنة هللا عليها .ما صلة ذلك بها؟ هل تريد أن تفقد ماشيتك؟
وكان الرجال قد تجمعوا ،وحاول نحو ستة أفراد منهم أن يتحدثوا ،ولكن كلمات سمرز كانت
أقوى منها.
-إن القواعد واللوائح تنص على أنني أنا الذي أتولى دعوة مجلس الحرب.
فتحول إليه تادلوك ،وقال:
-ادعه إذن.
وتحدث ماك من غير أقل تفكير ،وعرف بعد أنه قد خرج عن طوره وأبدى رغبة عنيفة
للحرب.
-فلتسقط اللوائح ،إذا لم تكن تعمل على تنفيذ أي عمل.
فتقدم سمرز نحوه وقال بهدوء لدرجة جعلت الكل يصغي إليه:
-ماك ،من الممكن أن يكون «البونيز» هم الذين قاموا بذلك ،ثم إنني ال أرغب في إرسال
شباب يافع في الليل حتى ولو كان لمواجهة «الكوز».
ثم صمت لحظة كما لو كان يرغب في تثبيت كلماته في األعماق ،واستمر بعد ذلك يقول:
-سوف تستطيعون استعادة المزيد من الماشية أكثر مما تستطيعون اآلن حينما يتضح النهار.
واستمر سمرز يدور بوجهه للتحدث إلى الجميع وهو يقول:
سا للحرب .ولكن عليكم جميعًا أن تراقبوا العربات.
أكون مجل ً
-سوف ِ
ولم يقل أي شيء أكثر من ذلك ،ثم اختفى مثل الظًّلل .وبعد لحظة شاهده ماك يشبه الشبح
الذي يتحرك في الظًّلم ،ثم يفقد أثره في الفراغ والظًّلم القاتم .وبعد دقيقة واحدة سمع ماك
عضوا محاربًا..
ً الحديث يدور ،ولكنه لم يستطع أن ينتظر ليسمع القرار ..لذلك قرر أن يكون
الشاب اليافع المحارب ،ثم قفز فوق جواده مثل المسعور ،ربما ليواجه الهنود ويقاتلهم ،وبذلك
يستهلك قواه في شيء آخر غير المرأة ..وقد وجد هذا الرجل اللذة والسرور في أن يكون
مجنونًا – ولكنه لم يستطع أبدًا أن يشرح ألرماندا كيف كان ذلك ..وإذا كان قد فعل ذلك ،فإنه
لن يؤدي إلى تغيير الوضع ..ليس مع أرماندا
خرجت بعض النساء لًّللتقاء به وتحذيره وإلقاء األسئلة عليه ،وأمسكن باللجام ودرن حوله
لمواجهته وإثنائه عن رأيه ،ولكنه رد ً
قائًّل:
-إن كل شيء على ما يرام ..لقد قلت إن كل شيء على ما يرام.
وكانت هناك أخريات ينتظرن لمعرفة ما صمم عليه ،ولكنه استمر يقول:
-إن كل شيء على ما يرام.
واستمر في طريقه ينظر إليهن ،ويكرههن ألنهن جميعًا نساء .وكانت مسز تورلي تصيح:
-لقد كنت أعرف أننا يجب أال نأتي ..لقد كنت أعرف ذلك!
وقفز ماك بجواده فوق مقدمة إحدى العربات وانطلق في طريقه .كانت النيران قد تزايدت
وبدأت تتراقص في أعين الخيل ،التي كانت تقف رافعة الرأس غير مستقرة في وضعها نتيجة
للشعور بالقلق.
وكان ماك قد عاد واقترب من عربته ليأخذ سرجه على جواده ،وحينما دار بجواده شاهد
أرماندا التي قالت:
-ماذا تنوي أن تفعل يا كيرتس؟
-أتصيد بعض الهنود.
فبدا وجهها شاحبًا وبدأ صوتها يتهدج ويبدو فيه األسف وقالت:
-بمفردك؟
وحينما لم تجده يجاوبها استمرت تقول:
-إنك ال تعرف الهنود يا كيرتس.
فرد عليها ،وهو يضع قدمه في المهماز:
-إنني سأعرفهم حينما أرى واحدًا.
-لن تذهب.
-لن أذهب .آه.
-أرجوك.
أرجوك ..أرجوك ..من أجل رجائها سوف تمتلك ما كان يمتلكه.
وأدار جواده وانطلق .وسمعها تقول:
حذرا ،وأن ترعى نفسك.
-أرجوك أن تكون ً
وتحقق بعد ذلك أنه قام بعمله الجديد لكي يدخل األلم والحزن على نفسها .ولم يكن يهتم بذلك.
وتعثر الجواد بمجرد أن لكزه في جانبيه في الظًّلم ،ثم نهض الجواد وسار على غير هدى
حتى وصل إلى النهر ،فخفض من رأسه ،وظل يشرب ثم رفع رأسه مرة أخرى وهزه بقوة
وصهل مرتين.
وكان الظًّلم هنا كثيفًا بسبب كثرة األشجار التي كان يشعر بضرباتها في كتفيه ورأسه ..وكان
النهر نفسه يرقد في بحر شامل من الظًّلم مثل الظًّلم المنتشر على بُعد كبير ..أما في السماء
فقد كان هناك نجم براق يشع ضو ًءا متحر ًكا ،فنظر إلى أعلى ليرى النجم نفسه في السماء،
وأخذت كلمات اإلنجيل تدور في رأسه :حينما شاهدوا النجم ،ابتهجوا ،وزادت بهجتهم
وسرورهم قوة ...واستطاع أن يتذكر هذه الكلمات التي كان يقرؤها وهو طفل .وفعلت هذه
الكلمات به فعل السحر ،فدفعته إلى التحرك على هدى كلمات الكنيسة التي تركت هذه اآلثار
فيه .وجذب جواده بعيدًا عن المياه ،وسار به وسط األشجار في االتجاه الذي يتذكر أن الماشية
قد اتجهت إليه .ولم يحدث أي شيء ،وأضاءت السماء ضو ًءا خافتًا نتيجة لسقوط أحد الشهب،
فعوت الذئاب ،وتعثر الجواد ،وبدأ يصهل بشدة وخوف ..دعه يصهل ..دعه يعمل ..دعه ينشط
قلبه ورئتيه ..انهض ..سوف تحتج أرماندا ،إنها تعتقد في ضرورة مًّلطفة الحيوان ومعاملتها
بالطيبة ..انهض.
وكان بعيدًا عن مركز المجموعة عندما سمع طلقة بندقية خافتة آتية من مكان المعسكر فجذب
جواده ليوقفه ،ثم قفز عليه وبدأ يفكر في الهنود قبل أن يجمع شتات تفكيره ،ويفكر في المعسكر،
وفي أرماندا التي تقف من غير حمايته .وخطر له أن الساعة قد قاربت الرابعة ،وأن الحراس
قد قاموا بإشعال النيران تمهيدًا لرحلة اليوم ،فلكز جواده لكي يقفز.
لم يحدث أي شيء ..واستمر راكبًا مسافة ميل آخر ،ثم اتجه مرة أخرى يعبر الطريق إلى
المعسكر ..وجاءت ومضة خاطفة في السماء أضاءت معالم الطريق أمامه ،فرأى نفسه يقف
على صخرة عالية وسط النهر نفسه ..وشعر أن مكان المعسكر وراءه ،لذلك بدأ من جديد.
وكان قريبًا جدًّا لدرجة أنه استطاع أن يسمع األصداء الرفيعة في وقت سوف ينبلج فيه الفجر..
ورأى الهندي في صورة الشجرة فظنه في بداية األمر زنجيًّا أو ربما حية ..فاقترب منه وشاهد
سا عاريًا ،وهنديًّا يلتف ببطانية حول الكتفين يقف لمراقبة المعسكر من المرتفع البسيط..رأ ً
كان يراقب فقط.
سا ،وقد يكون معه قوس ورماح يخفيها فأوقف ماك جواده .ولم يكن الهندي يمتلك بندقية أو قو ً
في مكان ما .ولكن ماك لم يشاهد شيئًا ..قد تكون في طيات البطانية التي يلتف فيها .ونزل ماك
من فوق جواده وربطه ،ثم سار ببطء وهدوء ،وبدأ يشعر بالدماء الحارة تدفعه فتنهد ببطء،
وابتلع لعابه.
وكان يستطيع أن يحكم تصويبه من هذا المكان :كل ما عليه أن يرفع البندقية ويصوبها إلى
الهدف ثم يطلقها ،وال يمكن أن يخيب تصويبه أبدًا ..ونظر حوله ليرى ما إذا كان هناك هنود
آخرون ..ولكنه لم ير شيئًا ..وأخذ يسترق السمع ،ولكنه لم يسمع شيئًا ..بل كان يسمع أصوات
النساء وهن يطهين لإلفطار من بعيد ،وأصوات الرجال وهم يتجمعون.
وكانت الدماء قد بدأت تندفع حارة في جسده ورئتيه للعمل السريع ،وكان يعرف أنه لن يخيب
في إطًّلقه النيران ..كانت البندقية مشحونة ،وكانت العيون مركزة .وكان اإلصبع على الزناد،
ولم يكن هناك سوي الضغط وينتهي كل شيء .وتحول الهندي والتفت حوله ..كان وجهه قويًّا
ومنتب ًها .وكانت عيناه تجريان نحو منطقته ،وشاهدهما ماك وهما تقتربان منه ثم تتركزان عليه
بصورة تمتلئ بالفزع والرعب بمجرد النظرة األولى ..فصاح ..وصاحت العينان والوجه معًا
كأنما ليقوال« :أرجوك ..أرجوك» من غير أن يستطيع النطق بهاتين الكلمتين.
وسقط الهندي في اللحظة التي سمع فيها صوت البندقية ..لم يصرخ أو يهرب ،وإنما ظل معلقًا
لفترة صغيرة ووجهه الشاحب يرنو إليه ثم سقط على األرض.
أخذ ماك يعدو ..كان قد تحقق من أن الهندي قد مات وسقط تغطيه البطانية ووجهه يتطلع إلى
ً
رجًّل نحيفًا به الكثير من الندبات وعًّلمات الجوع« ..الكوز» الذي السماء .وفمه مفتوح -كان
طلب الرحمة ،وجاءه الرد ،وال يستطيع أن يسأل العفو والرحمة مرة أخرى أو أن ينتقل.
وانتظر ماك فترة دقيقة طويلة؛ شعر بأن المعسكر قد سكت ،ثم بدأت الضوضاء تسوده بعد أن
استمعت إلى طلقة بندقيته ،وشعر ماك باإلنهاك والتعب يحل عليه وهو يراقب ،وشعر بالوحدة
تزحف إليه ..وشعر بأنه يود أن يتحدث إلى أرماندا من غير أي مبرر
***
دفع وشد وجذب ،وإدارة العجًّلت ،وأكل األتربة واألوحال ..عليها اللعنة ،والسباحة في نهر
من العرق ،والتجمد من البرد في الليل ،والعمل تحت الشمس ،واالستمرار في التحرك.
***
الفصل الثامن
كان «الكوز» خلفهم ،وكان كل من «الوكاروسا» و«الكوز» واأللوان الثقيلة والخفيفة -
و«البيج بلو» يوجدون في الذاكرة فقط كلما توغل الركب في أسفل التًّلل ،وفي خًّلل األشجار
-كل منهم قد أدى الكثير من بذل الجهود والعرق والوقت ،وفقد األشياء.
وبعد أن يكونوا قد مروا بمرحلة معينة بنجاح ،تظل هذه المرحلة قائمة في الذاكرة ..لقد كانوا
يضعون عًّلماتهم في أماكن ال توجد بها آثار عًّلمات ،لذلك كانت ذكراهم تظل باقية بعد أن
مستقرا جديدًا ..وقد سمعت ربيكا إيفانز أصوات
ًّ تكون هذه المجموعة قد استطاعت أن تجد لها
األطفال وهم يبكون ،في حين كانت لفحات النسيم الرطب تضرب وجهها ،وشمت رائحة
الدخان والقهوة ،وشاهدت العربات تقف بيضاء في الشمس المتأخرة.
استطاعت في هذه اللحظة أن تنتهز الفرصة وتتحدث إلى ليجي وبراوني ،بعد أن تم سحب
العربات في مجموعات وربطها بعضها ببعض بوساطة سًّلسل الثيران ،واستطاع هؤالء أن
يجتمعوا معًا ليتحدثوا عن بيوتهم الجديدة ،أو ربما عن بيتهم القديم .وسوف يدهش ليجي حول
كيفية سريان األوضاع في ميسوري.
ضا ،ليس بشأن المحصول أو الماشية ،وإنما بشأن البئر التي تنتج مياهاوسوف تدهش ربيكا أي ً
عذبة أكثر عذوبة من مياه النهر نفسه ..كانت تفكر في أختها الموجودة في نيو مدريد ،وأختها
الصغيرة التي لم تستطع أن تصورها في ذهنها سوى الصورة التي رسمت لها وهي ما زالت
صغيرة ..كانت ترتدي دائ ًما المًّلبس الجديدة المصنوعة من أجود األقمشة التي قامت الوالدة
طا لعقص شعرها به. بإعدادها في عيد ميًّلدها السادس ،وقامت ربيكا بإهدائها شري ً
واستمرت أماكن إقامة المعسكر ليلة أمس والليلة السابقة لها كما هي ،وشعر الجميع كأنهم في
بيوتهم بالفعل ،وكان على العربات أن تقطع مسافات أخرى طويلة ،كما كان على المجموعات
أن تلتقي وتتبادل الحديث في ذكرى األيام الخوالي الحلوة التي عاشوها في المكان القديم،
وروح الصداقة التي سادتهم ،ولم يكونوا يعرفون أي شيء عن األيام التالية ،ولكن الذكريات
الجميلة جعلتهم يشعرون بالدفء.
وصاحت ربيكا «هوو» في الثيران ،ثم جذبت معطفها القديم حول رقبتها ..كانت تسير بجوار
العربة وهي تشعر بالتعب والمرارة ..لم تكن ترغب في أن تركب المخاطر ..كانت تشعر
بالقشعريرة وباآلالم فوق جلدها.
وكان ليجي يسبقها ويلتفت إليها بين حين وحين ليبتسم ثم ليعود إلى فريقه ..وكان روك يتحرك
وراءه ويتبعه ،كان هذا هو حاله والكلب معه ..إذ كان يتبع ليجي أو براوني غالبية الوقت كما
لو كان يسير وراء قائده.
حاولت ربيكا أن تطرد عنها األفكار التي تراودها عن الماضي ..كان رجلها وابنها سعيدين
وهذا يكفي ..كانوا يمضون وقتًا طيبًا .وهذا ما قاله ديك سمرز أي ً
ضا -من أنه ال توجد هناك
مشكًّلت تقف في طريقهم -ولم تكن هناك مشكًّلت سوى مشكلة الهندي الذي أطلق عليه ماك
الرصاص دون أي سبب ،ومسألة «الكوز» الذين حضروا للتحدث بشأن إطًّلق النيران ،مع
تادلوك ..استطاع الرجال أن يعثروا على الماشية ماعدا واحدة منها فقط ..وكان تعليق ديك
على ذلك هو أن الحيوان يجفل ويرتعد حين رؤية منظر الهندي.
قامت ربيكا بقيادة العربة الثانية ،على الرغم من أن براوني كان يتولى ذلك في بعض األحيان..
ومن الممكن الثقة في بعض األحيان بالثيران؛ إذ كان الطريق مفتو ًحا ،وكانت جياد سمرز
مربوطة في الخلف ،وكانت ربيكا تركز نظرها ،سواء راكبة أو مترجلة ،على زوجها ليجي،
ضا ،على الرغم من أنه كان يختفي بين الفينة واألخرى للكشف عن وبراوني ،وديك سمرز أي ً
طا ..ويحضر معه بعض البط الهنود ،أو تحديد معالم الطريق ،أو الصيد .وكان يمأل المكان نشا ً
والحمام ،وبعض الطيور األخرى ..لقد استطاع أن يأتي بصيد ثمين اآلن؛ لقد استطاع في الليلة
البارحة أن يحضر معه ديكين روميين وشيئًا غريبًا أطلق عليه اسم عنزة برية ،ولكن البعض
ضا ،وكانت تعتقد أنه قد قال إنها وعل ،لقد جعل األواني تمتلئ ،أوانيهم وأواني ويذربي أي ً
مضى وقت طويل قبل أن يستطيع األخ ويذربي أن يتناول غذا ًء دس ًما ،لذلك كانت موعظته
تتسم هذه المرة بالقوة ضد السفر في يوم السبت ،ولكنهم ظلوا يسيرون في هذا اليوم.
ً
رجًّل طيبًا ،وكان ليجي زوجها كذلك ،وهو أمر بدأ كل أفراد المجموعة في معرفته. وكان ديك
كان ليجي قوي الجسد ،وطيبًا في أخًّلقه ،وكانت روحه هي أفضل أرواح الجميع ..هادئة
ضا ،ويضرب بسوطه في الفضاء بين حين وحين، وطيبة .كانت تراه أمامها يقود عربة ثقيلة أي ً
وكان يقدم المساعدة إلى الجميع ،ويدفع العربات وهي تمر عبر األنهر واألوحال ،ويخرج
كثيرا ،وال بصوت عال ،مثله في ذلك ًّ
ومبتًّل بالماء أو العرق ،وكان ال يتحدث ً موحل المًّلبس
مثل تادلوك ..ولكنه كان يساهم بنصيبه ،بل بأكثر منه في النشاط والعمل.
كان يراوني يعود معظم األوقات باألبقار ،وكانت تشاهده في بعض األحيان حينما كان الركب
ً
خجوال يتسلق مرتفعًا ،وتلوح له دائ ًما ،فكان يرد عليها بحركة صغيرة ،وكان حتى ذلك الوقت
في إظهار عواطفه ألنه ال يزال غًّل ًما ..ولكنه مع ذلك كان يقوم بأعمال الرجال ..ال يحتاج
سا التي أحضرها معه ليجي ،ولكنه كان قد أجرها لماك إلى معونة لمراقبة الخمسة عشر رأ ً
سا أو أكثر حتى يستطيع أن يكسب شيئًا .وكانت ربيكا تعتقد أن ماك الذي كان يملك أربعين رأ ً
ال يستطيع أن يجذب إليه أي صديق مخلص.
وضربت ربيكا أقرب ثور إليها بالعصا التي كانت تحملها ..كانت تريد أن تكون قريبة من
ليجي ،وكانت تترك الفريق يبتعد عنها ً
قليًّل ،ولكن ازداد تيار الهواء واهتزاز جسدها وهبوط
روحها المعنوية جعلها تندفع إلى االقتراب من ليجي .وعند منطقة «ليتل بلو» كانت األتربة
تغطي وجوههم ،ثم هطلت األمطار بعد ذلك لتغسل ذلك كله .كانت العربات التي في المؤخرة
محملة باألتربة التي تغطيها باستمرار.
أخذت ربيكا تنظر حولها لتدرس طبيعة األرض المحيطة ،لقد بدأ الركب يدخل منطقة مختلفة
تمام االختًّلف ..غابات وتًّلل ً
أوال ،ثم براري ثانيًا مثل تلك التي تقع في الطرف القريب من
جبال روكي ،ثم غابات مرة ثانية وصخور جيرية وتًّلل عالية على طول «بيج فيرموليون»،
وأصبحت هذه المنطقة تبدو كأنها قد تفتحت؛ إذ تستطيع العين أن تجول إلى أبعد ما يمكن،
وكانت األشجار متباعدة تجعل من السهل المرور بينها ..إنك ال تستطيع أن تتحدث عن ذلك،
ولكن الصباح سوف يؤكد ذلك مرة أخرى.
كانت الرياح ،التي تهب ،ال تشبه تلك الرياح التي كانت تهب في المقر القديم ..كانت ثابتة
وأكثر قوة ..تأتي بشدة من الغرب كأنما ال توجد أمامها أي نهاية ..وكانت الرياح تكفي لثني
األشجار أو اإلطاحة بها ،كما كانت تصفر فوق التًّلل العارية ،وتتجه بسرعة نحو الشقوق
ونحو الفراغ في السهل كما لو كانت ترغب في دفع الركب ..وعلى الرغم من ذلك ،فقد قال
الناس إنها شيء ال يذكر ..انتظر حتى نصل إلى أبعد من ذلك ..ولكنها كانت كافية ..كانت أكثر
من كافية.
كانت مسرورة حينما توقف الركب ،لذلك تنفست الصعداء وأخذت تمر بيدها على كتفها وتحكه
بقوة ،ولم تعبأ بمن يكون قد رآها ،ثم واصلت السير إلى ليجي قبل أن يصمم على الذهاب
لرؤية ما وقع ،وقال:
-راقبي الماشيةَّ ..
هًّل فعلت ذلك يا بيكي.
-انتظر يا ليجي ،يجب أال تقوم بكل العمل بنفسك ..هل نستطيع أن نتحدث ولو ً
قليًّل؟
فاعترض في بداية األمر ،وكانت تعرف ذلك ،ثم نظر إليها ،وقال:
بك؟
-لماذا؟ هل هناك أشياء تريدينها .ماذا ِ
-أريد أن أتحدث إليك فقط ،هذا هو كل شيء.
-تتحدثين في ماذا؟
-مجرد حديث.
-إنك لست على حالتك الطبيعية يا بيكي ..أراهن على أنك متعبة.
-إنني على ما يرام.
-لماذا ال تركبين ً
بدال من السير؟
-إنني على ما يرام ..إنها الرياح وال شيء غيرها.
-هل تشغل ذهنك؟
ً -
قليًّل.
-ليس هناك ما يشغلك ..إن األمور سوف تتحسن ..فكري في هدوء ،وأنت ترين أشياء جميلة.
ثقي بنفسك ً
قليًّل ،وسوف ترين أن كل شيء على ما يرام.
-هذه الرياح التي تهب باستمرار.
-كنت أقول لنفسي إن هذا يوم جميل للسفر.
ولكنها لم تجب عليه ،وإنما خطت بعض خطوات ،ودارت دورة كاملة لتتحدث إلى ليجي
وظهرها للهواء القوي .كانت تعرف أنها امرأة قوية ،ولكنها تحتاج اآلن إلى قوته هو ،لذلك
قالت له:
سيرا حسنًا ومؤكدًا يا ليجي؟
-هل تعتقد أن األمور سوف تسير ً
فرد عليها ً
قائًّل:
-تناولي بعض الدهنيات يا حبيبتي ،وال تطلقي العنان لمخاوفك .هل تسمعينني؟
واستخدم لف ً
ظا قلما استخدمه معها وهو «حبيبتي»؛ ألنه كان يشعر بأنها بحاجة إليه.
وكانت تسمع بعض األصوات من خلفها ،لذلك استدارت لترى تادلوك قاد ًما فوق ظهر جواده.
وتحدث وهو يقفز واقفًا ً
قائًّل:
-سوف نحبس هنا ونحاصر.
فأجاب ليجي ً
قائًّل:
-حسنًا.
-ي قول سمرز :إن هذه هي فرصتنا األخيرة للحصول على أخشاب للجرارات ومقدمات
العربات ،وسوف أفترض أن هذا الوضع هو الصحيح.
-ديك يعرف معرفة تامة.
وقال تادلوك ،كما لو كان يغالطهم في ذلك:
ضا ..يقلن إنهن يرغبن في القيام بغسل بعض المًّلبس
-إن بعض النساء يرغبن في التوقف أي ً
وتنظيف األواني هنا.
-هل األمر كذلك؟
-إنني أكره هذه التعطًّلت التي ال نهاية لها.
-سوف نحتاج إلى بعض المحاور ومقدمات العربات قبل أن نبتدئ من جديد.
فقال تادلوك:
-أعتقد ذلك ..لكن هذا األمر ممل للغاية.
وحينما امتطى جواده صاح ليجي ً
قائًّل:
-هذا هو تادلوك.
-قوي وكبير أليس كذلك؟
-هل تنادونني؟
-أنت في جانبه.
فأومأ ليجي بطرف عينيه ،كأنما ليقول نعم.
-لم أقل أنني مستعد للقيام بذلك اآلن.
-هناك البعض الذين هم على استعداد ..مثل باتش ،وجورهام ،ودورتي -كما سمعت ،أليس
كذلك يا ليجي؟
واستمر ليجي يومئ برأسه ً
قائًّل:
-إ ن هذا ليس من شأني ..ولكنهم يقولون إنه يتحدث بسرعة ..إن السبب في ذلك هو أن ماشيته
هي التي تتسبب في البطء ..وبخاصة لعدم وجود أحد معه يعاونه ،ماعدا مارتن وماك بي
لبعض الوقت فقط.
-أليسوا على حق في ذلك؟
فتحدث ليجي من غير أي حماس ،ولكنه كان يزن الكلمات في ذهنه:
-أجل ..فما دام القائد باقيًا ..فسوف يزداد نفوذه ،وسوف يحاول العمل بقوة .إن هذا ليس مكانًا
يسهل العمل فيه حيث يوجد البعض من الراغبين في اإلسراع والبعض اآلخر يرغب في
العودة ،والبعض الثالث يخشى الهنود ،والبعض الرابع يأسف لهذه الحالة ،والبعض الخامس
يقف على الحياد.
-إنه لن يفقد الرحلة يا ليجي.
-إن المسألة هي من هو األفضل؟
-أنت األفضل .هل أنت مجنونة؟
-أنا!
وتقلص وجهه وظهرت عليه سمات االنزعاج.
-إنك لم تعط نفسك حقها أبدًا بالنسبة لما تستطيع أن تفعله حقيقة.
وقبل أن يحري جوابًا كان الركب قد بدأ يتحرك ،وبدأت تسمع أصوات المدارات ،وشاهدت
مقدمات العربات تتأرجح ،ثم سألها ليجي:
ت على ما يرام اآلن يا بيكي؟
-هل أن ِ
-ماذا تقول؟ .ليس بي شيء.
ثم سارت إلى الخلف وتلفتت حولها والرياح تصفر في أذنيها ،وتحدثت إلى فريقها .كانت
تعرف أنها على ما يرام ،وكانت تعرف أن ليجي يستطيع أن يعمل بالقليل من الدفع ،ولكنها
لن تفكر في ذلك ،إنها تفكر اآلن في المعسكر .وبعد أن أنهت عملية الغسيل ،وإعداد العشاء،
طا من الراحة ..ولكن ليجي وبراوني سوف استطاعت أن تستريح ،وأن تدع نفسها لتنال قس ً
يتحدثان فترة بسيطة حول هذه األرض التي ال تضم مأوى أو مسكنًا ،وحول المسكن الجديد
الذي سوف يمتلكونه ليحميهم من الرياح.
ثم قامت بضم ذراعيها إلى صدرها لتدفئهما وتدفئ صدرها وتستريح ..إن أي امرأة تمتلك مثل
صدرها تخشى أن تقف لتعمل في طرقات أوريجون.
الفصل التاسع
وقف تادلوك بجوار عربته وقال بحدة ،وهو ينظر إلى أسفل:
-مارتن ..أنت يا مارتن!
خطرا ما قد وقع ..لم يكن مارتن قد آوى
ً ثم انتصب في وقفته ينتظر اإلجابة ،وهو يعتقد أن
إلى فراش طوال شهر من السير في الطريق ،بعد أن أطلق الحراس طلقات الساعة الرابعة.
-مارتن.
كان الفجر قد بدأ ينبلج في الشرق بعيدًا في وادي بًّلت الضحل ،في حين كانت مياه النهر
تتألق هنا وهناك وتعكس األضواء ..وكان الليل حتى ذلك الوقت ينشر ظًّلمه على الكون ،ولم
يكن يقشع هذا الظًّلم سوى بعض النيران القليلة التي بدأ بعض الناس في إشعالها ،وبدأت
رائحة دخان المعسكر تتسرب إلى األنوف.
-مارتن!
لم يستطع أن يحاول البحث عن الرجل ،ولم يستطع أن يرى سوى جزء من غطاء العربة الذي
اعتاد مارتن أن يستخدمه كغطاء ،أو أن يصنع منه خيمة على حسب نوع الليلة؛ معتدلة أو
مليئة بالعواصف.
فتقدم تادلوك وأمسك بيده طرف الغطاء ،ثم جذبه وصاح ً
قائًّل:
-ما الذي يحدث هنا؟
فتحرك الجسد النائم ،ثم اعتدل وجلس ،وجاء صوته ليقول:
-إنني مريض ..يا إلهي!
سريرا في إحدى العربات.
ً -اخرج من هنا إذن ..يجب أن نعد لك
ولكن تادلوك لم يتلق أي رد ،وظن أن مارتن يفكر في هذا األمر ،ويسأل نفسه بضعف ع َّم إذا
قادرا على الوقوف اليوم ،ثم صاح تادلوك في ضيق حاد:
كان ً
-لقد كنت سلي ًما الليلة البارحة ،وأخذت دورك في الحراسة!
ثم رفع السوط الذي في يده وضرب به األرض ولعن الحظ ،لقد وصلوا اآلن إلى جزيرة برادي
بعيدًا بما فيه الكفاية عن منطقة بًّلت ..كان الطريق صال ًحا ومليئًا بالجاموس البري ،وكان
ضا! بدأت الشكوك تساوره مرة أخرى ،في حين كان جوه حسنًا ،واآلن يسقط أحد الرجال مري ً
الفجر يزحف في طريقه إلى نور الصباح ،وبدأ الشك يتزايد باضطراد بأن مارتن يدعي
المرض أكثر مما هو عليه في حقيقة األمر ..إن بعض الناس قد يبالغون في وعكة بسيطة،
وبخاصة إذا كانوا سيتحولون أو يرغبون في االبتعاد عن المشكًّلت والصعاب التي قد
يواجهونها ب سبب الهنود ،ولم يكن الركب يرغب في الوقوف وإقامة معسكر ،ولكن بعض
األفراد ،مثل تورلي وزوجته ،وبيرد ،قد بدأوا يصيحون.
مخاطر! سوف ال يواجهون إال القليل منها ،لقد هزموا ،إن ماك يشبه المجنون ،هذا ما أخبره
به تادلوك بعد أن أطلق نيرانه على الهندي المسكين ..فقام وفد من «الكوز» بالمطالبة بالقاتل،
ولكن تادلوك استطاع أن يعالج الوضع بحكمة؛ إذ قام بتقديم لفائف من التبغ وبعض المأكوالت
والمًّلبس واألشياء األخرى ،أما بقية الرحلة فلم يشاهدوا فيها بعد أي أثر «للبونيز» أو
«الشيين» أو «السيوكس» ..لقد عبروا جميع الطرق في سًّلم وأمان ،ولم يتعرض أي إنسان
حتى اآلن للمرض أو يشعر بآالم في المعدة أو الرأس أو غير ذلك ،ثم قال تادلوك ،وهو يدور
حول الدائرة ويسير:
سريرا مثبتًا ،عليك أن تزحف خار ًجا من هنا.
ً -سوف نحضر لك
ورفع سوطه حينما كان بعض األفراد يتحدثون إليه ،كانت جميع عرباته محملة ومعبأة كلها،
لذلك كان يجب عليه ،إذا رغب في وضع سرير بداخله ،أن يفرغ جز ًءا من الشحنة ،ولكنه
سوف يتشاور مع ماك بشأنها .ومر في أول األمر بعائلة إيفانز ،ووقف لحظة يومئ برأسه
إليفانز ولزوجته ولديك سمرز ،ثم ضمن أن ابن إيفانز يقوم من غير شك بجمع بعض األشياء.
وقال إيفانز وهو ينتفض:
عا شيئًا ما.
-إن هذا الصباح يبدو الذ ً
-عندنا رجل مريض.
-من؟
-مارتن.
-ماذا يؤلمه؟
فهز تادلوك كتفيه ،في حين تساءل إيفانز:
-ما مدى مرضه؟
ثم استمر تادلوك يهز كتفيه ويقول:
-سوف أقوم بإحضار سرير.
فانتزع سمرز غليونه من فمه وأزاحه جانبًا ،ونفث سحابة من الدخان حوله ،ولكن هذا العمل
ضايق تادلوك؛ ألنه كان من نوع الرجال الذين يميلون في أي وقت للبحث في موضوع
المرض ،كان يبحث الكلمات لكي يستطيع أن يصف سمرز بها ،هل هو غير منظم ،أو
فوضوي؟ تعود على العيش من غير هدف مثل الوحشيين؟
لذلك وجه حديثه إلى سمرز قا ً
ئًّل:
-سوف نسير في الوقت المحدد ،نحن ال نستطيع أن نتوقف بسبب رجل واحد فقط.
كانت مسز إيفانز تنظف األوعية التي كانوا يتناولون إفطارهم فيها ،ثم التفتت إلى زوجها
وقالت:
-ليجي ..من األفضل أن نلقي نظرة.
فنظر إليها سمرز بعينيه الرماديتين اللتين تبدوان بيضاوين في ضوء الفجر ،لتعبرا عن موافقته
واهتمامه.
ثم قال تادلوك:
-حسنًا ،تستطيع أن ترى بنفسك.
فأجاب إيفانز بلطف:
-أوه ..هاه.
ثم وقف ،وكان ظله يبدو ضخ ًما بجانب بقية الظًّلل التي كانت تتجه إلى الغرب ،وشعر تادلوك
بنفاد صبره حياله ،كما يشعر بالنسبة ألي طفل .كان إيفانز بطيء الحركة في التوجه إلى مكان
مارتن ،وكان كفئًا ولكن من غير قوة ..ووجد تادلوك نفسه يندهش ويتساءل ع َّم إذا كان هذا
الرجل قد فقد أعصابه في يوم من األيام ،وما إذا كان قد وصل إلى قرار من غير أي توجيه
من زوجته أو من سمرز ،ثم قال يخاطبه:
-تعال إذن.
ضا ،وهناك تساءلت مسز إيفانز قائلة:
فدق سمرز على مؤخرة غليونه ونهض أي ً
-أال تعتقد أنه من األفضل أن تصحب معك بعض األدوية يا ليجي؟
فأومأ إيفانز برأسه وذهب إلى مؤخرة العربة ،وبعد فترة بدت طويلة لتادلوك ،عاد ومعه
صندوق صغير.
ظاهرا ،وكان شعره منفو ً
شا ولحيته نامية، ً كان مارتن يرقد كما كان من قبل ،ما عدا أنه أصبح
ويبدو الشحوب في وجهه النحيف .وانحنى الثًّلثة كدجاجات ثًّلث -كما يظن تادلوك -حينما
شاهدوا «بقة» غريبة.
فسأله سمرز:
-ماذا بك؟
فأمر تادلوك:
-اخرج يا مارتن ،لن نستطيع أن نشرف عليك ونعالجك وأنت في هذا الوضع ،يجب أن
نضعك فوق سرير أو محفة؛ لننقلك إلى عربة من العربات.
ففتح مارتن عينيه وأخذ يحملق في الطرف المغطى من العربة ،ثم لعق فمه بلسانه ،وقال:
-يا رب.
احمرارا ،وأن عينيه قد عكستا الحمى ،ولكن تادلوك
ً رأى تادلوك أن وجه مارتن قد ازداد
استطاع أن يقول بجهد:
-تعال يا رجل ..إنك ال تستطيع أن تبقى حيث أنت.
فقال سمرز:
-أعتقد أنه يعرف أكثر منك.
وفي الوقت الذي كان تادلوك يتحدث فيه ،تحرك مارتن ،وقال:
-سوف أتولى ذلك.
فنهض على أربع وخرج من أسفل الغطاء وهو يزحف ،وحينما خرج رقد مرة أخرى.
فقال إيفانز:
-إنه يبدو في حالة سيئة.
فرد عليه تادلوك ً
قائًّل:
-لن يشعر بأي سوء إذا نقل إلى داخل عربة.
فركع سمرز وساعد مارتن ،ثم وضع راحته فوق جبينه ،وقال:
-تمهل ،ال تخش شيئًا.
ثم وجه حديثه إلى تادلوك وإيفانز ،فقال:
-ربما تكون حمى المعسكر.
-ماذا؟
-حمى المعسكر؟ أال يوجد اسم آخر لها؟
فقال مارتن:
-يا إلهي!
ثم أغمض عينيه ،فنظر إليه سمرز وهز رأسه ،وكان بعض األفراد من المعسكر قد بدأوا
يتدفقون بسبب منظر الرجال الثًّلثة الذين يحيطون بآخر يرقد فوق األرض ،وقال أحدهم:
-ماذا هناك؟
وشعر تادلوك بوجودهم خلفه ،ولكنه لم يتحول أو ينطق .كان يرغب في أن يبتعدوا؛ ألنهم
سوف يعبرون عن آرائهم .كان البعض يرغب في الذهاب واالبتعاد ،وكان البعض اآلخر
يرغب في البقاء ،والبعض الثالث ال يعرف هل ينصرف أو يبقى ليعالج الرجل ،وكانت النتيجة
أن ظل الوضع مائعًا ال نهاية له حينما كان لزا ًما عليهم أن ينقلوا مارتن إلى العربة للبدء في
السير .وفي هذا الوضع أجاب إيفانز عن أسئلتهم ً
قائًّل:
-إنها حمى المعسكر.
فسأله صوت نسائي:
-هل هي معدية؟
فرد تادلوك بعنف ً
قائًّل:
-كًّل.
وفتح مارتن عينيه وانتقل بهما بين مختلف الوجوه ،كما لو كان يأمل أن يجد في وجوههم إجابة
لمشكلته وللمحنة التي يعيش فيها .وأخذ تادلوك يدور في مكانه ،وصاح:
-اذهبوا واستعدوا؛ ألننا سوف نتحرك في خًّلل دقائق ..إيفانز ،هًّل أخذت جز ًءا مما أحمله
حتى أستطيع إعداد السرير ،سوف نتولى تمريضه واإلشراف على ذلك ،ثم نسير في طريقنا.
فرد إيفانز ً
قائًّل:
-أعرف ذلك يا تادلوك.
-تعرف ماذا؟
-أعرف ما يجب أن تفعله.
-إنني هنا القائد ،وإنني أنا الذي أتحمل المسؤولية.
وجاء صوت جاف من خلف تادلوك ،عرف فيه صوت باتش ،وهو يقول:
-سوف نشترك جميعًا ،أنت تعرف ذلك يا تادلوك ،وكذلك يشترك جميع الرجال الذين
تستأجرهم.
-من قال إننا لن نفعل ذلك؟ إننا سنكون جميعًا حينما يتم نقله إلى العربة.
فتحدث إيفانز ً
قائًّل:
-إن هذا ليس ما يعنيه باتش.
وأمسك تادلوك بالكلمات التي كادت تخرج من بين شفتيه ليقول ..األغبياء! أيها األغبياء إنكم
تعملون اآلن كما لو كنتم تقضون وقت فراغ ،ونظر إليهم واحدًا تلو اآلخر -إيفانز ،ثم سمرز،
ثم باتش -يحاول أن يخ ضعهم لسيطرته ،ولكنه قرأ في أعينهم صًّلبة في الرأي وغباوة،
سا ،بضع كلمات أخرى وأصبح يعتقد أن األمور تتطور لتصبح مشكلة ،أصبح الموقف حسا ً
خطرا وتتعرض قيادة الركب لهزة ..فإذا ً ويتم وضع الخطوط .أما اآلن فإن السلطة تواجه
خضع لهم فإنه يكون انهزم أمامهم .وشعر بحركة بجانبه ،فتحول ليرى مسز ماك بي ،وكانت
امرأة ضئيلة الجسم تلبس مًّلبس ممزقة مثل الساحرات ،وقد جاءت لتقول:
-إن دوا ًء يهوديًّا ..إنه يصلح ألي شيء.
فأزاحها جانبًا وهو يقول:
-حسنًا ..إيفانز تول أنت تمريضه وعًّلجه.
فقال إيفانز بلهجة جعلت تادلوك يشعر بالدهشة بسببها:
-إ ن ما أريد أن أفعله هو أن أرى كل فرد يفعل الشيء المناسب ويراعيه ،يجب أن نرعى
مارتن ،لن أستطيع أن أضعه طوال الرحلة في عربة مغلقة.
-هل ترغب في أن أقرب منك مؤخرة العربة؟
ضا.
-إن كل ما أريده هو أن أرى رعاية كاملة بشؤون مارتن ،أو أي فرد آخر يسقط مري ً
فأمسك تادلوك نفسه ،وحول الحديث ً
قائًّل:
كبيرا في األعشاب بسبب الجاموس البري ،سوف أكون قصير النظر إذا
ً صا
-إن هناك نق ً
تركت مجموعات أخرى تسبقنا.
فرد عليه سمرز ً
قائًّل:
-لسنا األوائل على أي حال ،فهناك البعض ممن يتقدموننا.
-ح فنة قليلة إذا كان هناك مثلهم حقيقة بالقليل من المؤمن والمعدات ،ولكن هل بسبب وجود
من يسبقنا ،يجب أن نترك البعض اآلخر ليتقدمنا ويسبقنا؟
كان سمرز يمسك فم الغليون بأسنانه ،وتحدث بجانبه من فمه ببطء ليقول:
-إن حمى المعسكر تؤلم العظام بصورة بشعة.
فقال باتش:
-إنني أوافق على البقاء هنا إلى أن نشعر بأن مارتن قد تحسن.
وهنا سمع تادلوك همهمة الموافقة من جانب الجمهور الذين يزيد وقت مناقشتهم ،كانت عيون
الجميع مركزة عليه في صورة اتهام ،حينما شعر الجميع بأن هذا الموقف هو لصالح الركب
بأسره .إن النظام هو الشيء الذي يقوم عليه أساس السلوك ،وقت معين للنهوض ،ووقت للسفر،
ووقت للنوم ،ونظام لقطع مسافات معينة في اليوم ،كل رجل يؤدي واجبه اليومي المحدد ،كل
فرد ينفذ أوامر السلطة ،بهذه الطريقة سوف يصلون إلى أوريجون بسًّلم وبسرعة ،وسوف
يستطيعون سباق أي مجموعة أخرى ،ولكن هؤالء الرجال ال يفضلون النظام أو التنظيم ،إنهم
ال يستحقون القيادة التي قدمها لهم.
وبدأت أعصابه تثور لهذا التفكير ،لذلك قال:
-سوف نتحرك ،هل تسمعونني؟ إنني أقول إننا سوف نتحرك.
ولكنهم لم يتحركوا ،بل ظلوا ساكنين ينظرون إليه بغباوة وصًّلبة رأي ،إلى أن قال إيفانز:
-أنت تعرف يا تادلوك ،كما نعرف نحن ،أن هذا األمر يحتاج إلى عقد المجلس.
-المجلس؟
-دع المجلس يقرر ..ليرى ما إذا كنا نتفق أو ال نتفق.
-يا إلهي!
-وفي الوقت نفسه لن أتحرك من مكاني.
وأضاف باتش ً
قائًّل ،ووراءه همهمة الموافقة مرة أخرى:
-وأنا كذلك.
كان يبدو أن تادلوك يلعنهم لو أن في يده مسألة اإلشراف على المجلس ..كان بروور ،وماك،
وفيرمان يقفون بجانبه مؤيدين ..سوف يفقد الركب الوقت الذي سوف يستغرقه االجتماع وهو
أمر يؤسف له ،ولكن قد ال تبدي هذه الرؤوس أي استعداد للتفاهم ومناقشة أوامره ،لذلك قال
وهو يضحك منهم:
-ابقوا حيث أنتم إذن ..سوف نتحدث ونحن في طريقنا إلى أوريجون.
وتقدم إيفانز إلى جانب الرجل المريض ،فأخبره تادلوك:
-أمامك وقت كاف ..ال داعي للعجلة ،إننا سوف نذهب فقط إلى حيث توجد مدينة أوريجون.
ثم أضاف ً
قائًّل:
-سوف يجتمع المجلس في خًّلل ساعة.
وأخذ يراقب الذين عينوا أنفسهم بأنفسهم فترة بسيطة في حين ينقلون مارتن فوق سرير مناسب
داخل خيمة ،ويتشاورون فيما بينهم على أن «شربة الملح» هي خير دواء لذلك ..كان هناك
كثيرون ممن يرغبون في تقديم المساعدة من أدوية تقوية الدم ،أو بلسم الحياة ،أو الملينات ،أو
غير ذلك من العقاقير.
وبعد ذلك تركهم تادلوك ليناقش الموضوع مع ماك وفيرمان قبل عقد المجلس ..كان قد قرر
عدم عقد المجلس على أساس أنه من المستحيل عقد هذا المجلس الخاص في هذا العراء ..وكان
يعرف أن أي اجتماع بأشخاص معينين بصفة فردية في هذا المكان المكشوف سوف يثير
عا من المؤامرة ،ولكنه قرر أن يجتمع بفيرمان وماك على الرغم من الشكوك بأن هناك نو ً
ذلك ،ووضع ماك بي للرقابة.
وحينما سأله ذلك خرج بكل ثقة ،وسوطه في يده يضرب به األعشاب بقوة وهو يشعر بعظمة
وتقدم ..وكان هناك على حافة النهر خمس أو ست من النساء يغسلن المًّلبس في المياه الرملية،
كانت اثنتان منهن تمتلكان لوحين من الخشب ،في حين كانت األخريات يعصرن مًّلبسهن بين
أيديهن ،أما القطع الكبيرة فيضربنها فوق إحدى الصخور التي نشأت من شيء يعرفه هللا .كان
هناك بعض الرجال ،الذين لم يحضروا موقف مارتن ،يتحدثون ،في حين كان األطفال يعدون
بينهم ..كان تادلوك يعرف معرفة تامة أنهم يتحدثون عنه وعن مارتن ،وع َّم يجب فعله ،حسنًا
إنه يستطيع أن يخبرهم بذلك.
ً
عجوزا ،في الطرف األعلى من وبعد ذلك شاهد تادلوك سمرز يقف بجواره ،كما لو كان ً
وعًّل
المعسكر وهو ينظر إلى الغرب ..فسار تادلوك نحوه ،وابتدأ الحديث ً
قائًّل:
-إنني ال أستطيع أن أفهمك يا سمرز!
فاستدار سمرز نصف دورة ،وكانت يداه ممسكتين ببندقيته ،في حين كانت قاعدتها مرتكزة
على األرض.
-إنني أحصي المسافة ،هذا هو كل شيء.
فأجابه تادلوك وهو يعرف أن سمرز يعرف أنه ال يفعل ذلك.
-إنني ال أعني ذلك ..يجب علينا أن نستمر في سيرنا.
فنظر سمرز إلى الشمس التي أصبحت في األفق الشرقي ،وقال ،وأمارات الجد تبدو على
وجهه:
-أعتقد أننا ال نستطيع أن نقطع أكثر من ثًّلثة أو أربعة أميال.
فالتقط تادلوك فكرة مما يضايقه ،وقال:
-لعنة هللا على ذلك ،إن هذا ليس وقتًا للهو والهزل.
فأجابه سمرز ،وقد بدأ الوميض والبريق ،الذي لمع في عينيه ،يزول ويختفي:
-إنني ال أقول ذلك وال أفكر في األميال ً
بدال من مارتن.
ً
رجًّل واحدًا ليس هو الركب كله. -إن
-لم أكن أعرف أنك تعرف ذلك.
-ماذا تعني؟
-ألست أنت الكل بمفردك؟
-أنت المرشد يا سمرز ..وهذا هو كل شيء.
وكان تادلوك يتحدث بقصد ،ويريد أن يثير الرجل كما لو كان يدعو لمبارزة تريحه من الشعور
الذي يطغي عليه ،وانتظر ،وكان السوط في قبضته يرتفع ويهبط بحدة.
وتحول سمرز لينظر بعيدًا ،إلى النهر وإلى الجزيرة التي تقف وسطه مليئة باألشجار
واألخشاب ،ثم قال بطريقة استهتارية جعلت تادلوك غير مستعد لسماع الباقي:
-هذه هي جزيرة برادي ..لقد أطلق عليها رجل ،يدعى برادي ،اسمه ..كان ذلك في عام ثًّلثة
وثًّلثين.
وعادت نظرات سمرز لتستقر على تادلوك ،فظن تادلوك أنها تمتلئ بالبرود وبالتعبير القاتل
الذي يشعر به الحيوان وهو ينتظر موته ،ولم يكن يعرف حتى هذا الوقت مدى خطورة وأهمية
المرشد ،لم يكن خائفًا ،ولكنه شعر بالراحة حينما رفع سمرز بندقيته وتحرك .وظل تادلوك في
مكانه ليراقبه وهو يبتعد ..كانت مشية سمرز هادئة وسهلة مثل مشية الهندي ،وكان شعره قد
ضا.
بدأ ينمو من الخلف بدرجة جعلته يشبه طريقة الهنود أي ً
حسنًا ،إلى حيث ال رجعة ..هذا ما فكر فيه تادلوك ..ولعنة هللا على نظرته التي تمتلئ بالعداوة
أو مهما تكن .إن النظرات ال تؤذي ..إن أي إنسان يستطيع أن يتجاهل مرشدًا نصف وحشي.
كان القلق الذي يعتريه يدفعه إلى التحرك ،فتقدم نحو الغرب تار ًكا نظره يجول في األرض
التي شملها ضوء الشمس ،في حين كان ذهنه يعمل في مكان آخر ..كانت أمامه آثار عربات
المهاجرين الذين نزحوا عام ١٨٤٤وما قبله ..ال شك في أنهم قد واجهوا الكثير من الصعاب
ضا ،وكان من بينهم الكثير من المتهورين والمجانين الذين ال يستطيعون القيادة ،بل يعملونأي ً
على تعطيلها.
وشاه د عبر النهر مجموعة من الجاموس البري ،فحاول أن يتكهن ببعد المسافة التي تسير فيها
هناك في هواء بًّلت الذي ال يمكن قياسه وتقدير مجاله .إن مجرد االنتقال إلى الضفة األخرى
كامًّل ،وكانت هناك مجموعة تبعد نحو نصف ميل قد تكون هدفًا ً من النهر قد يستغرق يو ًما
سديدًا للبندقية ،أما التفاصيل فقد بقيت بعيدة خلف تًّلل الرمال وحدود النهر المائية .فكر تادلوك
صغيرا ألن العين
ً وكبيرا في وقت واحد؛
ً صغيرا
ً أن هذا الهواء النقي الصافي قد جعل العالم
وكبيرا ألنه كان يبدو عظي ًما وبعيدًا .وكانت األصوات تختلط بعواطف اإلنسان، ً قد لمسته،
وكانت كل ضوضاء تبدو قريبة وواضحة في الليل ..أما في النهار ،فإن صوت البندقية يبدو
ضعيفًا وواهنًا ..لقد كان عال ًما غريبًا وشاذًّا ..إنه يتطلب الحزم واإلدارة.
لقد أظهر الصفات التي يتطلبها الوضع ،احتفظ باستمرار سير الركب ،استطاع أن يدير بنفسه،
وبدال من ذلك دفعوا له الدين نقدًا وتجري ًحا .خذ ً
مثًّل اليوم الذي أطلق فيه ماك ً إنهم يدينون له،
البندقية على الهندي ،واليوم الذي تًّل الهزيمة ،وحينما ظهر ضوء النهار قام سمرز بقيادة عدد
من الراكبين لصيد الجاموس المنطلق والمتفرق.
وهبت صباح هذا اليوم عاصفة ،تبعها مطر عنيف طوال اليوم ،جعل األرض تبدو كأنها قد
دهنت باألوحال ،مما أدى إلى انغماس العربات ،كان المطر باردًا يليه نسيم قوي الفح.
كذلك قام قادة العربات باإلسراع داخلها احتماء بها ،ولكنهم شعروا بزيادة البرودة فخرجوا
منها وساروا في الطرقات ،وقد ثقلت أقدامهم باألوحال ،ولكنهم استمروا ..كانت هذه هي
النقطة ،وكانت النساء يقدن العربات ومعهن األطفال ،واستمر الركب.
ظل تادلوك يقود الركب إلى الطريق منذ أن قام سمرز والرجال باكتشاف الطريق ،ولكنه كان
يعود ليقدم قلبه ومساعدته للناس ..استطاع أن يفعل شيئًا واحدًا؛ كان يقول ذلك نفسه.
-ي جب أن يجعل الثور يجذب العربات ..فيضربه بسوطه؛ لتنطلق طاقته المختفية ،لقد علم
ضا حينما حضر الوفد المكون من ستة الفريق أكثر من مرة شيئًا أو شيئين ،وعلم الهنود أي ً
رجال ،الذي لحق بالركب بعد ساعتين من بداية تحركه .أما بيرد الذي لم يكن يستطيع الركوب،
فقد علمه كيف يمتطي الخيل ليرسله الستطًّلع أوامر الرجال وإبًّلغها لتادلوك.
منتشرا في األوحال ،وكان
ً لم يكن الركب في حالة تتيح له بإقامة دائرة ومعسكر؛ إذ إنه كان
السير بطيئًا للغاية ألي مناورة سريعة من هذا النوع ..وكان هناك تل يرتفع في اليمين ،في
حين كانت هناك أشجار كثيفة في الشمال.
وردت جميع هذه االعتبارات على ذهن تادلوك ،في الوقت الذي جاء إليه بيرد لينقل إليه
الرسالة ،وذلك في اللحظة الذي بدأ يراهم فيها بوضوح ،ويعرف ما يجب أن يفعله.
فأصدر أمره ً
قائًّل:
-قدم السًّلح إلى النساء ..تعال أنت وويللي بروور والواعظ إلى المؤخرة ببنادقكم.
وشعر بأن الوقت قد حان إلظهار قيادته الحقيقية فقال:
-كم هنديًّا؟
-شاهدتهم فقط.
-كم يبعدون؟
-إنهم قريبون.
-افعل ما آمرك وأخبرك به.
ثم قفز تادلوك فوق جواده ،وأسرع نحو الخط األمامي تار ًكا بيرد يتبعه ،ووضع يده أمام
ناظريه ،وأخذ يدقق النظر فيما وراء األفق ،ولكنه لم يستطع أن يشاهد شيئًا أو أي هندي بعد؛
لقد ضلوا طريقهم وسط الغابات أو بسبب الضباب.
ثم حول ناظريه إلى العربات ،فاستطاع أن يرى الوجوه البيضاء ..وجوه النساء ،ووجوه
األطفال التي تعكس الخوف والرعب ..ووجه زوجته المليئة بالحيرة والفضول ،وكان يأمل أن
يجدوا الشجاعة الكافية لمواجهة مثل هذا الموقف.
وعلى مسافة مائة ياردة من مؤخرة آخر عربة في الركب ،استطاع أن يكتشف وجود ستة
هنود يسيرون ببطء ،فأبطأ جواده وسار نحوهم ..كان هؤالء هم كل ما استطاع أن يراه ..ستة
من «الكوز» ،عرف من منظرهم ومًّلمحهم التي غيرتها األمطار أنهم قد فوجئوا بهذا الطقس،
وأن أجسادهم قد أخذت ترتعد من البرد ،وكان زعيمهم النحيف يلتف في بطانية .واستطاع
تادلوك أن يلمح طرف بندقية يخرج من البطانية وجز ًءا من القوس والسهام .وظل يفكر فيما
عساهم يفعلون ،وهو في طريقه إليهم ،حتى جذبوا جيادهم ووقفوا ساكنين.
وتقدم تادلوك إليهم وهو يحاول أن يجعل وجهه يبدو صار ًما مثل وجوههم ،وكان بعظمة في
عا من صراع اإلرادات ،ثم سأل
كبريائه ،وبالتحدي ال الخوف ..وأصبح يعتبر هذا األمر نو ً
الزعيم:
-ماذا تريدون؟
ومضى وقت طويل قبل أن يجيب ..ولم يتصور أنه قد استقبل في حياته من قبل مثل هذا
االستقبال ..وكانوا ينتظرون أن يتحدث الخطيب ،ويستقبلهم بحفاوة كما هي العادة .وتحدث
زعيم «الكوز» فقال:
-لقد قتلتم أحد الهنود.
ثم أشار بأصبعه إلى الخلف ،حيث أسقط ماك الهندي من فوق الشجرة.
فأجاب تادلوك:
-نعم ،لقد قتلنا الهندي ..لقد سرق الهندي؛ لذلك قتل الهندي.
-الهندي ال يسرق.
-الهندي سرق ،لذلك سقط ميتًا.
-الهندي يحب ويقبل الهدايا.
-ليست هناك هدايا.
فرأى تادلوك األفكار تنعكس من أعينهم ..رأى ما افترض أن يكون خيبة أمل ناشئة من رفضه
تقديم الهدايا إلصًّلح الخطأ الذي ارتكب .أصبح الوقت مناسبًا بمعرفته ،أصبح الخطر ً
ماثًّل،
ولكنه لم يشعر بأي خوف ،فنظر تادلوك إلى تابعي الهندي فرآهم يعانون من سوء التغذية،
ويضعون على أجسادهم خرقًا ممزقة بالية ،لذلك شعر بالقوة تتدفق في جسده ،قوة تجعله يقف
في وجههم ويأمل في تحطيمهم.
كان يبدو أنه يستطيع بضربة واحدة من يده أن يبيدهم من األرض.
واستطاع أن يلتقط نظرات الزعيم ،وقال تادلوك وهو على ثقة من نفسه:
-انصرفوا.
ثم حرك بندقيته وقال:
-انصرفوا.
وتقدم بجواده خطوة واحدة.
كان واض ًحا أنه سيد الموقف ،وبعد فترة تحولوا وهم يعدون ،وكانت أمارات األلم والحرج
تبدو عليهم ،ثم انطلقوا عائدين كما جاءوا ،فجلس تادلوك منتصبًا ،وشعر بأنه بقوته وعزيمته
استطاع أن يكسب هذه الجولة ،وأن يشيعهم حتى اختفوا عن األنظار.
وعاد إلى تأكيد ضرورة مواصلة الركب للنساء ،ثم تقابل بعد ذلك مع راكبي الجياد وأخبرهم
بما حدث ،وكيف أن الوقت ليس مناسبًا للبقاء وإقامة معسكر ..أمطار ،وأوحال ،وهنود،
سائرا طوال مسافة طيبة ،ربما ثمانية أميال أو عشرة ،وهوً وماشية مبعثرة ..وال يزال الركب
أمر يعكس كيف يمكن أن تؤدي اإلدارة الطيبة إلى مثل هذه النتائج .لم يبالغ في أعماله ،على
الرغم من أنه استمع إلى النساء وهن يخبرن الرجال بموقفه .كان ذلك أكثر من مجرد واجب
القائد نحو فريقه ،إنه سوف يقف الموقف نفسه مرة أخرى ،على الرغم من اعتراضات سمرز
على ذلك ،وهو الذي يقول« :لقد سارت األمور طيبة في هذه المرة ،ولكن ال تحاول هذا أبدًا
مع البونيز أو السيوكس».
وأعلن تادلوك في هذه الليلة أنه يجب على حراس الماشية أن يتيقظوا الليلة ،وقد جاءت هذه
الفكرة خوفًا من قيام الهنود بهجوم مفاجئ يؤدي إلى الهزيمة واالنهيار ..وال شك في أن الهنود
يفدون فجأة ويغيرون فجأة ..ألم يستطع رجال الركب العثور على الماشية جميعها ما عدا واحدة
فقط ..ألم يستطيعوا معرفة مكان أحد اللصوص؟ لم يستطع تادلوك أن يخفي شعوره نحو ماك
بسبب سلوكه ..لم يهتم بهذا الهندي الذي قُتل ،ولكنه كان قلقًا بسبب النتائج المحتملة ..بدأ
الرجال يتنبهون للخطر المتوقع حدوثه ..كانوا يعرفون أن الخطر سوف يقع.
ولكن اآلن حين قال إن مجرد وجود رجل مريض ال يبرر التأخير ،وأن مجرد وجود مارتن
فوق سرير داخل عربة سوف يؤدي إلى تحسن حاله ،وقف الجميع ضده ،وضرب تادلوك مرة
أخرى األعشاب بسوطه بعنف.
وذكر نفسه أن الوقت قد حان الجتماع المجلس ..ولكنه وقف دقيقة طويلة مكانه ال يتحرك بل
يحرك سوطه فوق األعشاب ..وشاهد مرة أخرى وهو يقتنع بأن بعض النساء األخريات قد
انضممن إلى مجموعة من النساء الموجودة بالقرب من حافة النهر .وكان أحد الرجال قد أشعل
النيران لهن ،في حين أخذت المياه تغلي في القدور وترسل البخار عاليًا في الجو الذي كان
حتى تلك الساعة مشبعًا بالرطوبة من الليل .أما في الجنوب ،فقد كانت الحيوانات ترعى وهي
متفرقة ..وشاهد ثًّلثة رجال يأتون عبر النهر مسرعين فوق الرمال ،واستطاع أن يميزهم
واحدًا تلو اآلخر -سمرز ،وجورهام ،والغًّلم براوني إيفانز ..كان قد اعتقد أنهم ذاهبون لصيد
الجاموس البري الذي يرعى في الشمال.
وضايقه أن يشعر بأنهم ذاهبون لصيد الجاموس الذي يرعى في منطقة بعيدة عن خط سير
قرارا نهائيًّا حتى ال يتحرك الركب قبل أن
ً الركب .كان يبدو أنهم يعملون قبل أن يتخذ المجلس
يحضروا .ومن الممكن تحقيق العمل السريع استنادًا إلى التنظيم السليم ،وإلى مقدار فهم هؤالء
الناس لمعنى الكلمة.
كان يلقي اللوم على سمرز بصفة خاصة ..ليس من أجل هذا الخطأ البسيط فقط ..كان يشعر
تأثيرا سيئًا باستقًّلله .وعدم احترامه للسلطة .وكان سمرز يعرف ً بأن سمرز يؤثر على الركب
حذرا،
ً وخبيرا بشؤون الصيد .ومكتشفًا
ً الممرات التي يجب سلوكها ،لذلك كان مرشدًا قويًّا،
ظا ..كان له كل هذه الصفات جميعها ..وكان على تادلوك أن يعترف بذلك أمام سا يق ً
وحار ً
ً
رجًّل محبوبًا نفسه ..ولكنه كان في الوقت نفسه صعب الخضوع لإلدارة أو التأثر بها ..وكان
لمعرفته بدقائق وخبايا الهنود .وفنونهم وطريقة سلوكهم.
وحينما كان تادلوك يتجه نحو المجلس كان يرغب في قرارة نفسه وباستياء أنه يود أن يختفي
سمرز بمواقفه وعصيانه لألوامر .اقترح سمرز على طول «ليتل بلو» أن يربط الجياد في
أغصان األشجار ،وليس في جذوعها ،وكان يقول في ذلك أن هذه العملية تمنع الجياد من كسر
اللجام والهرب .واستطاع سمرز أن يجذب نحوه أنثى الجاموس بعد أن قام بتقليد صوت عجل
ً
مجاال للحياة حتى تستطيع أن تقطع المسافة إلى صغير ،ثم أطلق رمحه فيها تار ًكا فيها
المعسكر .وكان يقلق من الدماء التي تنزفها قبل أن يكون قد وصل هناك .ومن غير سمرز
ضا لقرني أنثى الجاموس البري الوحشية التي أصابها في يجرؤ على أن يجعل جوادًا معر ً
مقتل؟ كان سمرز يستطيع أن يواجه الثيران والبغال والخيول ..كان يشعر بأنه يلعب لعبة طيبة
من لعب الهنود والمياه ..وكان يستطيع أن يطلق أسرع طلقات البندقية.
وكانت الطريقة ،التي جعلت العربات تقف بها في الليل في صورة دائرة ،بسيطة وفعالة على
الرغم من أنه كان ينقصها الطابع العسكري .وكان يعتقد أنه من األفضل لتادلوك أن ينتهج
الوسيلة التي سبق أن تحدث بشأنها من تقسيم القافلة إلى أقسام يقود ًّ
كًّل منها أحد األفراد الذي
يجب أن يتولى تشكيل مربع كامل.
وكان يعترف بأن الطريقة التي وضعها سمرز ال تزال طيبة ..عليه اللعنة .إنه ال يزال كفئًا
لألعمال الطيبة -على الرغم من أنه يسلك سلو ًكا طيبًا ،إذا وجهت إليه أي إهانة -وهو مستقل
في تفكيره مثل الخنزير الذي يقف فوق الثلج .لماذا ال يستطيع أي رجل ذي نظرة بعيدة ،وخبرة
واسعة ،أن يمتلك مثل هذه الحكمة البرية الشيطانية؟ إن أي ميزة مهما تكن صغيرة من هذه
الحكمة ،كافية لزيادة االعتراف بالقيادة والزعامة.
كان رجال المجلس اآلخرون ينتظرون على مسافة خمسين ياردة أو ما يعادل ذلك من العربات.
وكان تادلوك يقوم بمراجعتهم -إيفانز -فيرمان -ماك -بروور -ودورتي ،ثم جلس بجانبهم وقال:
-كيف حال مارتن؟
أجابه بروور بلهجته األلمانية العنيفة:
-حالته سيئة .إنه سيموت من غير شك.
-إنه قوي البنيان.
فقال إيفانز:
-إن زوجتي تقوم برعايته ومراقبته ،مع األخ ويذربي ،وغيرها.
فهز تادلوك رأسه ،وظهرت عليه عًّلمات التفكير في المجلس أكثر من تفكيره في مارتن
نفسه ،والتفكير في المشكلة التي أعطاها أهمية كبرى أكثر من أهميتها الحقيقية ألنها كانت
تعتبر تحديًا لسلطته .كان يتمنى لو كان قد استطاع اقتراح التأجيل ،ولكن ال يزال الوقت مناسبًا
بعد -إنه يستطيع أن يعتمد على بروور ،وماك ،وفيرمان ،وهو يكون معهم غالبية ،ثم قال
وهو ينظر إلى الشمس:
-نستطيع أن نقطع عشرة أميال أو نحو ذلك .إن كل ميل له حسابه في تقديرنا.
ولكنهم لم يجيبوا .وكان بروور يجلس وساقاه بعضهما فوق بعض ويهز رأسه.
وقال دورتي بلهجة تميل إلى التقرب:
-إن مارتن بعيد عن تفكيره اآلن.
فأمسك تادلوك به وهو مندهش كما سبق له االندهاش من قبل من أن هذا اإليرلندي -أحد رجال
الجبال والتًّلل -يعارضه .هل سبق له االستماع إلى بعض النقد غير الحذر عن قيادته؟
وأضاف إيفانز:
-إنه ينادي المسيح فقط وأتباعه« ..إني أصلي لك».
-هذا ال يعني أنه قد أبعده عن تفكيره.
فقال دورتي:
-لم يسبق له أن كان رجل صًّلة من قبل.
كان تادلوك يشعر بأن وجوههم تبدو كما لو كانت قد تحجرت .أخذ يدرسهم ،ثم جعل نظره
يتحول متج ًها إلى المعسكر حيث وقفت العربات ساكنة ،في حين كانت النساء يصطففن في
طوابير للقيام بأعمال الغسيل ويجرين من عربة ألخرى .وشاهد الخيمة التي وضعت لمارتن
إليوائه ،في حين يقف ويذربي بجوارها ،وكان رداؤه الذي تغطيه األتربة يبدو كما لو كان
ضا أو حزينًا احترا ًما للمرض .كان األطفال والنساء يتحركون بجوار العربات ،في حينمري ً
كانت النيران تخبو بعد أن أوفت بغرضها ،ثم مرت عينا تادلوك بالرجال األربعة الذين كانوا
يرقدون بجوار عربة باتش؛ كان أحدهم ينبش في األرض بسكينة .وفي هذه اللحظة اعتقد أنه
سمع صوت مارتن ،ربما ينادي المسيح ،لذلك قال:
قرارا.
ً -حسنًا ،يجب أن نتخذ
لم يرد وا عليه ،بل انتظروا وهم ينظرون إلى الشمس وأدركوا أنه من الممكن أن يصبح الجو
دافئًا اليوم ومضيئًا بالشمس الساطعة ،ثم لمح نظرات إيفانز فقال له:
-هل أنت راغب في التمسك بقرار المجلس؟
-هل أنت كذلك؟
-بالطبع.
ثم بدأ تادلوك يلتفت إلى الباقين ،وقال:
-يجب علينا أن نتذكر أن الحيلة التي يجب أن نتبعها هي االستمرار في التحرك ،سوف يكون
طويًّل وشاقًّا قبل أن نصل إلى أوريجون على أي حال.
ً الطريق أمامنا
رفع إيفانز يده إلى وجهه ليحك وجنتيه كما لو كان هذا الحك يساعده على التفكير ،ثم قال:
ً
طويًّل ،فلن يتأثر وضعنا إذا تأخرنا -إنني ال أنكر ما تقوله يا تادلوك ،ولكننا قطعنا شو ً
طا
يو ًما أو يومين.
-سوف نعوض التأخيرات السابقة.
-ربما.
-إننا ال نستطيع أن نتجنب التأخير.
غير إيفانز من وضعه على األرض ،وحينما تحدث كان ينظر إلى اآلخرين:
-ال يبدو لي أنه يجب أن ننحني لضربات كل إنسان .إن الطريق الذي أحدده يجب أن ننتهي
منه قبل أن يمضي الوقت.
فقال ماك:
-إننا نسير بسرعة تعادل نصف سرعة خيول السباق يا أرفين .هل نشأت على أن تكون سبَّاقًا؟
فرد بروور ً
قائًّل:
-أجل ،يجب أن تكون في المقدمة.
وتحدث تادلوك وهو ينظر إلى ماك بحدة:
-إذا لم يقم أي إنسان بدفع الركب اآلن ،فإن هذا الركب سوف يتخلف في المؤخرة بأسره.
فرد فيرمان ً
قائًّل:
-إذا مرض أحدنا فيجب على الركب أن يتوقف بعض الشيء.
لذلك كان الجميع يقفون متعارضين .وظن تادلوك أن الجميع يعارضونه ما عدا األلماني الذي
يصعب زحزحته .لقد قام بقيادتهم ،وعمل من أجلهم ،وقام بتنظيمهم وتوجيههم ،ودفعهم إلى
األمام -ولكنهم يقفون اآلن ضده -جميعهمَ ،أو لم يكونوا كذلك؟ حينما أصبح األمر معلقًا
بالقرار ،هل كان هناك أي أمل في أن ينحاز ماك وفيرمان إلى جانبه؟
لذلك قال:
-دعنا ندلي بأصواتنا .هل تؤيد يا ماك أنت وفيرمان اقتراحي؟
أجاب ماك بلهجة قاطعة.
-كًّل.
فاختفت االبتسامة من وجه تادلوك ،وهز فيرمان رأسه ً
قائًّل:
-كًّل.
ضا.
وأعاد ماك رفضه ،في حين استمر فيرمان يهز رأسه عًّلمة على الرفض أي ً
وألقى إيفانز بقطعة من الروث إلى كلبه الرمادي العجوز الذي كان ينبش في حفرة بجواره،
ثم قال:
-أعتقد أنه من الواجب علينا االنتظار يا تادلوك.
شعر تادلوك بالدماء حارة في وجهه ،فقال:
قرارا أحمق.
ً -الجميع يعارضون رأيي .إنكم تتخذون
وتحدث ماك بصوت هادئ رزين:
-أود أن أخبركم بشيء آخر.
-ماذا؟
-سيكون هناك اجتماع الليلة.
-اجتماع؟
جميع أفراد الركب.
-لماذا؟
-أال تستطيعون التكهن؟
-هل هي لعبة تكهن؟
-إنهم سيعزلونك يا إيرفين.
-إنك كاذب.
اعتذارا.
ً -سوف انتظر ألسمع منك
بدأت كلمات ماك بمعناها وعمقها تأتي ببطء إلى تادلوك ..لقد كانت تعني طرده وإعادة انتخاب
رئيس جديد .استطاع تادلوك أن يدرك كيف تطورت األمور -لقد عرف أن باتش ،اإلنسان
الصلب الرأي الذي جاء من نيو إنجلند ،قد اتحد مع دورتي ،وجورهام .وكاربنتر ،لمعارضته
والتًّلعب به وبقيادته غير الشعبية ،فجعلوا هذه المشكلة البسيطة شيئًا ضخ ًما ،ولكنه على
الرغم من ذلك قال لماك:
-سوف أعرف ما يدور هناك ،وسوف أستطيع المحافظة على وضعي يا ماك.
فتساءل ماك:
-أال تستطيع أن تدرك أن األمر ليس كذلك؟
-إنني أدرك .لقد أسميتك غبيًّا .وكان هذا صحي ًحا.
فرد اإليرلندي ً
قائًّل:
-إن العالم كله غبي بالنسبة لك .إني غبي .وهذا حسن .ولكن ليس األمر كذلك يا إيرفين .وإنما
هو الجو الذي تحيط به نفسك ،وهو درجة التحمل التي فاضت وزادت على حدها.
وأضاف دورتي:
-إنها حيواناتك وعدم وجود ما يكفي من الرجال لرعايتها هي التي عطلت سير الركب ..وأنت
تطالب دائ ًما بزيادة سرعة الركب .وإنها لقيادتك السقيمة هي التي أقلقتنا.
فقال تادلوك لماك:
-هل تقول إنني قد أسقمتكم؟
-أين تقف اآلن إذن؟ يجب أن يجري انتخاب آخر هنا لتصحيح الوضع.
-أين تقف اآلن يا فيرمان؟
فأجاب فيرمان:
-إنني هنا ،في الموقف نفسه.
-إنك ال تستطيع أن تذهب بعيدًا اآلن.
فقال دورتي:
-أخبره يا بروور.
فشرح األلماني:
-إنني معك وكذلك ماك بي ،ولكننا ال نكفي.
كان األمر واض ًحا وجليًّا ..إذن لقد تآمر الجميع عليه ،ويجب عليه أن يتنازل عن القيادة أو
يتعرض لإلهانة والتحقير بطرده حين أخذ األصوات .إن بروور ال يكذب عليه« :هل هذه هي
التحيات وألفاظ الشكر التي ينالها اإلنسان لما يسديه ،لقد عملت وخاطرت برقبتي».
فقال إيفانز ،في حين كان ماك يهز برأسه موافقًا على كلماته:
-إن هذا هو ما جعل األمر صعبًا يا تادلوك.
-أستطيع أن أقسم هذا الركب جزأين عندي القليل من األصدقاء.
عا من اللهب الحارق:
فقال إيفانز بكلمات اعتبرها نو ً
-إنك تخسرهم بمرور الوقت.
فاندفع تادلوك نحو قدميه وصاح:
-إلى الجحيم أنتم جميعًا!
ولم يهدأ إال بعد أن كان قد قطع بضع خطوات بعيدًا ،ثم التفت خلفه وقال:
-إنني مستقيل.
اتجه تادلوك بعد ذلك إلى عربته التي توجد في المقدمة وأخبر زوجته:
-لقد تركت القيادة اآلن.
كانت تجلس فوق صندوق تحاول إصًّلح زوجين من السراويل كانا قد قطعا في أثناء ركوبه
فوق العربة ،فنظرت إليه من غير أن تنبس بأي كلمة .واستمر يقول كما لو كان يريح نفسه
ويرضيها بهذا االعتراف:
-كان علي أن أستقيل أو أن أُطرد.
ولكنها بقيت من غير أن تتكلم .لقد تعلمت من خًّلل السنوات العشر من زواجها أن تعرف
الكثير منه عن طريق تعبيرات وجهه ً
بدال من االستفسار منه والتدخل في عمله .إن كل ما يريد
ً
سؤاال حتى ينقشع غضبه وتنتهي أن تعرفه هي يقوم بإخبارها .وانتظرها عساها تلقي عليه
ثورته.
ولما توقف عن الحديث قالت له:
-إن مارتن يزداد سو ًءا.
-أعتقد أن هذا هو خطئي.
-إنني ال أقول أنه خطأ أي إنسان.
ي ،وكانوا سيشعرون
-إذا كنا قد مضينا في سيرنا ،فإن كل إنسان كان سيوجه االتهام إل َّ
بالسرور لذلك.
-إنني أشعر بالسرور الستقالتك.
-هل أنت مسرورة حقًّا؟
-إنك تقبل هذا األمر بصعوبة.
فقطب جبينه وترك ذراعيه بجانبيه .لقد كانت هي الشخص الوحيد الذي عرف ما بذله من
جهد ،ولكنها تريثت لحظة كما لو كانت تفكر فيه وفي استقالته ،ولكن حينما تحدثت كانت تقول:
-إن مارتن يعتمد عليك .وأعتقد أنك الصديق الوحيد له.
-إنني ال أعرف أي شيء أستطيع أن أفعله له.
-أعرف ذلك .ولكن..
ً
إنجيًّل قدي ًما فسأله تادلوك. ثم اتجه إلى خيمة مارتن .وكان األخ ويذربي خارجها يمسك في يده
-حسنًا!
-كنت أصلي .فينفذ هللا مشيئته.
-هل سمعت صلواته.
-أجل ..اآلن.
أدخل تادلوك رأسه داخل الخيمة ،فشاهد مارتن راقدًا على ظهره وفمه مفتوح وعيناه متكورتان
ومفتوحتان .وأخذ تادلوك ينصت فسمع تنفسه الخفيف السريع ،فتقهقر إلى الوراء حين شعوره
ورؤيته لصوت ورائحة المرض .لم يكن هنا شيء يستطيع أن يفعله .ماذا كانوا يظنونه؟ طبيبًا؟
وقال ويذربي:
-أعتقد أنه قد رأى الضوء.
-هل هذا بفعل شربة الملح؟
فأومأ ويذربي برأسه ،وعاد تادلوك إلى عربته ،وبعد ذلك قضي يو ًما مؤل ًما وقاسيًا؛ إذ طاف
بذهنه كل ما حدث ،وما واجهه من تجارب في كل مرة ،وما القاه من غضب ،فشاهد مارتن
وحيدًا في زيارته الثانية فاقد الوعي .شعر تادلوك بأن هناك شيئًا يستطيع أن يفعله .شيئًا ال
ينتقده عليه أحد ..القيام بتطهير مارتن.
عا يتسم بالفوضى دخلت فيه النساء كان اجتماع الرجال في المساء كما توقعه -كان اجتما ً
واألطفال .وقد أصيب تادلوك بالدهشة التامة حينما تم انتخاب إيفانز مكانه ً
بدال من باتش الذي
كان يتوقع انتخابه .كان يستطيع أن يقسم بأن باتش كان متأرج ًحا بالنسبة لمصلحته الخاصة.
أما إيفانز فقد كان أمينًا في نشاطه ،لذلك فوجئ حينما رشحه ماك للقيادة .وتحول إيفانز برأسه
بعد ذلك إلى زوجته ،وأعلن أنه ال يصلح لهذا المنصب .وكان تادلوك يجلس على مسافة
قصيرة تكفي لسماعه ما يدور في االجتماع الذي لم يكن راضيًا عنه ،وكان ينظر في الوقت
تعبيرا ال يستطيع أن يصفه -نظرة أمومة،ً نفسه إلى وجه مسز إيفانز ،كان يعتري وجهها
واهتمام ،وكبرياء ،وعزم وتأكد ،وطموح -لم يكن يعرف أي من هذه الصفات تعكس هذه
النظرة ،وعلى الرغم من ذلك استراح لهذه النظرة ،وشعر بأنها نظرة طيبة محبوبة .كان
تفكيره اآلخر يتركز فقط في ضخامة حجم الرجال ،وغباوتهم ،وصًّلبتهم ،وعنفهم.
وجاء شيء آخر إلى ذاكرته حينما جلس في عربته يطويه الظًّلم بعد أن تأجل االجتماع ،لقد
كان هذا االجتماع يعكس الفوضى البرلمانية التي سمح بقيامها ،لقد ظهرت بوادر الفوضى
ضا للترشيح كان تورلي يدخن غليونه ،ويتحدث في العامة ،وفي حين كان اسم إيفانز معرو ً
موضوع آخر ،وتركه باتش يستمر في حديثه بصوت عال ليقول:
-إننا نعود إلى الوراء ..سوف أعود أنا وزوجتي وأوالدي من حيث أتينا بحق موسى.
وصاحت مسز تورلي من بين صفوف النساء:
-آمين .آمين.
وسمع تادلوك صيحتها الهستيرية بعد ذلك ،ثم أعقبتها صيحات النساء.
واستمر تورلي يقول:
-سوف نعود أدراجنا إلى ميراميك؛ بعد أن رأينا هذا الركب ال ينتظر اآلخرين ،وبعد أن رأينا
كل فرد فيه يتصف بالفردية واالنطوائية .إننا نرحب بمن ينضم إلينا.
فتساءل باتش:
-وماذا عن سمرز؟
كان سمرز يقف بجوار باتش ،ورد على ذلك بكلمة واحدة:
-خطر.
بدأ الصمت يطغي على الجميع ما عدا صيحات مسز تورلي ،وحطم باتش الصمت بسؤاله:
-هل يرغب أي إنسان آخر في العودة؟
ثم صمت لحظة وصاح:
-بيرد؟
أدرك تادلوك ،الذي كان يشعر بمرارة في قرارة نفسه وبقيمة اإلدارة الحازمة ،اللعبة التي
لعبها باتش يطلب رأي بيرد وااللتزام بشيء.
قال بيرد إنه سيبقى:
واستمر باتش يقول:
-هل يود أي إنسان أن ينقسم عن الركب؟ نود أن نعرف ذلك اآلن.
لم يتحول لينظر إلى تادلوك ،ولكن غيره تحول للنظر إليه .وظل تادلوك يحدق النظر في
الجميع بصمت ومن غير أن يتحرك .هل يترك الركب؟ كيف يستطيع ذلك ،إنه تهديد قوي،
من يجرؤ على الذهاب معه؟ ربما بروور ،وماك بي ،ومارتن ،إذا قدر له أن يعيش .مجموعة
يؤسف لها ليس معها ما يكفي من الثيران ،وبعضهم يذهب على قدميه ،لذلك جلس صامت ًا،
وكان يود أن يقفز ويصيح بأعلى صوته بأنه يرغب في ذلك ولكنه ال يستطيع تنفيذه .ألم يقم
بأحسن وأفضل األعمال -لماذا يحاولون تحطيمه اآلن؟ كان يشعر في قرارة نفسه بأنه يود أن
يرفع السوط في يده وينهال به على الجميع.
سا في مكانه من غير حراك ،بعد انفضاض االجتماع ،فترة طويلة ..كان استمر تادلوك جال ً
يرى الناس وال يراهم ،وكان يعرف أن زوجته قد ذهبت إلى مكان ما ،فتعجب كيف تستطيع
أن تختلط بهؤالء الذين أساءوا معاملته.
هدأ المعسكر وظهر سكون الليل وصمته .ولم تكن هناك سوى همهمات األصوات القادمة من
خيمة مارتن التي ثبتت في الطرف اآلخر من الركب بجوار المياه.
وأخذت النيران تخبو واحدة تلو األخرى وظهرت النجوم تشع ضو ًءا باردًا بعد اختفاء الشمس.
كان تادلوك يستطيع أن يرى األفق في الجنوب ،وفي هذه اللحظة سمع صراخ أحد األطفال
قاد ًما من إحدى الخيام.
كان تادلوك يحاول أن يبحث لنفسه عن حل لوضعه ..لقد ترك أعماله في «بوريا» ليحاول
استخدام جميع طاقاته وإمكانياته في ميادين أخرى كبرى ،ولكنه يغلب على أمره بوساطة
بعض المهاجرين المهلهلين .كان يعتقد أنه يستطيع أن يصبح حاك ًما في يوم من األيام إلحدى
األراضي أو لوالية من الواليات.
ولكن ماذا حدث له اآلن؟ ما الذي يغريه اآلن بعد أن هزمه هؤالء الرجال ذوي الرؤوس
الصلبة؟ تكساس؟ هل يستطيع الذهاب إلى تكساس؟ لقد ذكر ذلك أمامه في الربيع الماضي
وقيل له إن تكساس بحاجة إلى حاكم ،وأعضاء مجلس شيوخ ،ونواب .هل يذهب إلى
كاليفورنيا؟ يقول البعض إن كاليفورنيا مكان أفضل بكثير من أوريجون .إنها تمنح الكثير من
الفرص ،وهي بحاجة إلى الرجال.
شعر بيد امرأته فوق كتفه وهي تقول له:
-من األفضل أن تأوي اآلن إلى فراشك يا إيرفين:
-أعرف متي يحين الوقت للنوم .ولست بحاجة ألن تخبريني متى أذهب إلى الفراش.
-إن الوقت متأخر يا إيرفين.
-ماذا بشأن ذلك؟ يجب أن أذهب لرؤية مارتن.
-لقد كنت هناك اآلن ..ال يوجد ما تستطيع أن تفعله اآلن أكثر من ذلك ،إنهم يقدمون له
«الموستاردة» اآلن.
-اذهب إلى فراشك اآلن.
وانتظر لحظات قًّلئل؛ لكي يؤكد وجوده ،ثم نهض واقفًا واتجه إلى خيمته ليخلع مًّلبسه وقبعته
وحذاءه .تكساس؟ كاليفورنيا؟ كانوا يحتاجون إلى الرجال .يحتاجون إلى الزعماء والقادة.
ثم خطا بضع خطوات إلى الخارج وهو عاري القدمين ،والتقط سوطه الذي كان قد نسيه فوق
األرض ووضعه في العربة ،ثم عاد مرة أخرى إلى الخيمة ليرقد على فراشه بجوار زوجته.
كان على وشك النوم بعد وقت طويل أمضاه من غير نوم ،حينما جاءه ويذربي وأخبره بأن
مارتن قد مات.
***
الفصل الثالث عشر
وضع إيفانز النير فوق أحد ثيرانه وربط الحبال وتحدث إلى زميله وهو ممسك بطرفي النير،
في حين كان الحيوان اآلخر يخطو داخل المكان وكانت أظًّلفه تصدر صوتًا بمًّلمستها
األرض .كان يشعر بالرضاء وهو يرى مجموعة من الحيوانات المدربة حتى يمكن أن يختصر
الوقت ويبتعد عن المشكًّلت.
وحينما أعد عدته نظر في الساعة التي استعارها من ماك ،كانت الساعة تشير إلى السابعة إال
الثلث .سيكون مستعدًّا في الوقت المناسب ،كما يحدد القائد .لم تكن جميع الخيام قد جمعت بعد
وال حتى العربات نفسها قد ُح ِملت بعد .كان بعض الرجال الموجودين داخل الدائرة التي يوجد
بها قد بدءوا ينشغلون بالثيران التي ستتولى سحب العربات ،في حين كان هناك رجال آخرون
ينزعون الخيام ويجمعونها ثم يرفعونها إلى عرباتهم .كان الجميع يعمل بسرعة فائقة ،وكانت
النساء يجمعن أواني اإلفطار ويبقين داخل العربات يساعدن في ترتيب وتنظيم حمولة العربات.
كان إيفانز يعتقد أن هذا الصباح يمتلئ بالقلق ،وأن الشعور السائد هو شعور الرهبة والقلق
حينما كان الركب يستعد للتحرك ،وحينما كان الرجال يتركون أماكنهم وكانوا يتحدثون
ضا بسبب تعبهن وإنهاكهن وشعورهن بأصوات حادة ،كانت النساء يجبنهم بأصوات حادة أي ً
بثقل األيام ،وكان الصغار يصيحون ويلهون في حين كانت أصوات الصناديق تعلو وتتزايد
وهي ترتفع إلى العربات ،وفي الوقت نفسه كانت أصوات البعوض تتزايد وترتفع وتكون
ضبابة صغيرة حول كل رأس ،وأسفل العربات.
انحنى إيفانز فوق كلبه «روك» وربت على رأسه ثم انتصب وتنفس بصوت عميق .كان للهواء
طعم خاص ..طعم حاد ،وطعم المشروبات الروحية ..كان يشعر بكل ما حوله طيبًا وحسنًا،
لذلك قال:
-إنه يوم طيب يا بيكي.
وكان ينظر بين العربات حيث كانت زوجته تعمل ،وكانت قد أغلقت الصندوق الذي يضم
األواني والقدور وأدوات الطعام ،وقالت له:
-كم أتمنى أن ينقشع هذا البعوض ويبتعد عنا.
كثيرا بمجرد أن نتحرك؛ إذ ليس من الصعب ابتعاده بعد أن يتغير
ً -لن يبقى هذا البعوض
الهواء.
كان الجو باردًا ،ولكن الشمس كانت قد بدأت تنشط وتوزع حرارتها ،واستطاع أن يرى في
اتجاه الشمس «كورت هاوس روك» وهي صخرة تبدو ضخمة ،في حين كان الجانب القريب
منها تغلفه الظًّلل وتقع على جانبها «تشيمني روك» وهي صخرة رفيعة تقف شامخة .وفي
كثيرا من
مثل هذا المكان الذي يرى فيه اإلنسان الكثير من الجمال والخيال ،يستطيع أن يرى ً
األلوان ..األلوان القرمزية ،واأللوان الرمادية والصفراء ،بسبب حواجز الرمال .وكانت
الشمس ترسل أشعتها الصفراء ،في حين كانت السماء تبدو زرقاء صافية لدرجة تؤذي العين،
ولم يكن يوجد في السماء بأسرها أي أثر للسحب في أي مكان .وقال إيفانز:
-لم أشعر في حياتي بالثقة مثلما أشعر اآلن.
-هل أنت متأكد؟
-من كل شيء.
ثم تقدم إلى األمام ،ورفع الصندوق الذي يحتوي على أواني الطهو ليضعه في العربة ،ثم سحب
غطاء العربة فوقها وهو يقول:
-لم يبق أي شيء سوى ربط وحزم العربة.
وتراجع إلى حيث توجد الحظيرة ،وعبر إلى الثيران وربطها جميعًا ،ثم نظر حوله ليرى ما
إذا كان هناك من يتطلب المساعدة ،وتوجه بعد ذلك إلى حيث يقف هيج وفيرمان يتصارعان
مع ثور صغير جامح ،كانا قد وضعها ً
حبًّل في قرنيه ،وكان هيج يحاول أن يجره مع فيرمان،
ثم أمسكا عن عملهما بمجرد أن رأيا إيفانز قاد ًما.
ابتسم هيج في وجه إيفانز وهو يتراجع والحبل في يده ،وهو يقول:
ثورا شقيًّا مثل هذا الثور.
-لم أر في حياتي ً
-لماذا لم تقوما بتقييد قدميه حين سحبه ووقف ثورته؟
فأجاب هيج:
ضا ..إنني أراهن بأنني سوف أستطيع تقييده.
-سوف نفعل ذلك ،ولكني أكره القيام بهذا العمل أي ً
وكان يمسك بالحبل في يده ثم تولى ربطه في العربة ،وبذلك منع الثور من الهروب .وضرب
إيفانز بيده على فخذ الثور فاندفع إلى األمام ً
قليًّل بعد أن استطاع هيج ربطه.
قال فيرمان وأفكاره تدور في هذا االتجاه:
-إنني خجل من العمل الطيب في هذا المجال.
وحاول أن يبعد البعوض عن طريقه بيده ،في حين كانت األظًّلف واألقدام تغوص في الرمال،
ويقول:
-هذه منطقة ملعونة.
-إنها بالنسبة لنا جميعًا ،لقد كانت األظًّلف واألقدام تزداد قوة وعنفًا كلما تقدمت في الطريق.
وسار إيفانز في طريقه إلى األمام ،في حين كان ديك سمرز يضع أمتعته فوق زوجين من
ضا ،وكان ويذربي يقف بجواره ،ويبدو عليه كما لو كان يرغب
الخيل ،وأمتعة األخ ويذربي أي ً
في تقديم المساعدة إذا كان يعرف كيف يفعل ذلك .كان إيفانز يتحدث إليهم ،األمر الذي جعل
ماك يبدي تجهمه ،وجعل ويذربي يومئ برأسه.
وقال ديك ،وهو يحاول ربط لجام جواد آخر بسرج جواده ،ثم أخذ الحبل في يده:
-هل أنتم مستعدون؟ أعتقد أننا سوف نسير في الطريق على خير وجه ،ولكني أعتقد أنه من
األفضل أن أربط هذا الحبل بعربتك مرة أخرى .هل أستطيع القيام بذلك؟
كان يبدو أن كل فرد أصبح على استعداد ،حتى آل ماك بي ،الذين لم يكونوا على استعداد في
قادرا ما لم يستطع تجميع الرجال في ليلة معينة
أي لحظة .كان إيفانز يشعر بأنه لن يكون قائدًا ً
لمعرفة ما يدور في أذهانهم ،ولسماع أي اعتراضات ،ومعالجة أخطار بداية التحرك .كان قد
أخبر ماك بفكرته ،لذلك قام ماك بمساعدته في سؤال الرجال اآلن عن هذا الوضع ..فإذا تأخر
أي إنسان ،فإنه يفقد مكانه في خطة السير ،ويجب عليه نتيجة لذلك أن يسير في المؤخرة .كان
الجميع يعتقدون أنها خطة ماك نفسه ،لذلك لم يتأخر أي إنسان ،ولكن كان إيفانز يشعر بالقليل
من الذنب بأنه اغتصب هذه القيادة ،وشعر بوخز ضميره من هذا االجتماع المهلهل الذي اتسم
بالمكر.
قال ماك بي:
-كيف تسير األمور معك؟
أخرجت مسز ماك بي رأسها من مؤخرة العربة وحيته تحية الصباح الطيبة ،وكان هناك ثًّلثة
أطفال من أبنائهم يطاردون بعضهم البعض ،ويدورون حول بعضهم البعض ،ثم يتوقفون حين
طا .لم يشاهد إيفانز «ميرسي» في هذا المكان،مشاهدة إيفانز من بين شعورهم التي لم تر مش ً
وتساءل ماك بي ً
قائًّل ،وهو يبدي استعداده للتحرك ،وتنفرج لحيته عن ابتسامة طفيفة:
-ماذا ننتظر اآلن؟
فنظر إيفانز في ساعة يده ،وقال:
-إن الوقت قد حان.
وأخذ يدور بنظره بين العربات ،فرأى جواده يرعى وبعض الماشية الطليقة التي ترعى
األعشاب النابتة في األرض ،وأخبره ماك بي ،كما لو كان هناك شيء هام يدور بذهنه:
-كنت أنوي التحدث إليك.
-حول ماذا؟ هي هي مسألة شخصية؟
-لقد كانت شخصية.
لم يعجب إيفانز بهذا التفكير ،ولكنه رد ً
قائًّل:
-في أي لحظة؟
وتوجه بعد ذلك إلى عربته وانضم إلى بقية الفريق ،فرأى ربيكا ونظر إلى ساعته ،لم يكن
أمامه سوى بضع دقائق ،وكان سمرز قد ربط جواده بالعربة التي سوف تحطم الدائرة وتبتدئ
ال مسير .كان الوقت قد أزف للبدء في السير ،امتطى كل من سمرز ،وشيلدز ،وكاربنتر،
وبروور ،صهوات جيادهم بجانب سمرز الذي كان يقود الركب ،أمسك سمرز بنفيره الفضي،
وسأل إيفانز تادلوك عما إذا كان يرغب في إصدار أمره إلى سمرز بنفخ النفير ،كما كان يفعل
وهو قائد لهذا الركب ،وكان يظن أن هذا الموقف من جانبه سوف يقابل بالشكر من جانب
تادلوك .وعلى أي حال وافق تادلوك على القيام بهذه العملية ،على الرغم من أن إيفانز قد الم
نفسه على دعوة تادلوك للقيام بهذا العمل ،وهو القائد الجديد.
نظر تادلوك إلى إيفانز وهو يرفع يده ،ثم أصدر النفير صوته ،فصاح الرجال في الركب،
وارتفعت السياط لتنهال على الثيران التي تندفع في السير ،وارتفعت األتربة وأصوات دوران
العجًّلت ،وهي متجهة في طريقها إلى أوريجون.
كان مكان إيفانز في مؤخرة الركب ،وكان يخرج في بعض األحيان عن طابور الركب ليشرف
على األعضاء ،ويشاهد سمرز ورجال الخيل والعربات وهي تشق طريقها في اتجاه خط
السير ..يستطيع الركب أن يكون سريعًا حتى يكون بعيدًا ،وفي مأمن من الهنود.
وال شك في أن الهنود كانوا يستطيعون خلق الشر إذا رغبوا في ذلك ،على الرغم من أنه لم
يكن يعتقد في تلك اللحظة أنهم يستطيعون القيام بذلك ،بعد أن مر بهم بعض الجنود الذين
يطلقون على أنفسهم لفظ «الدراجون» ،والذين كان يقودهم الكولونيل كيرني ،الذي قال إن
هدف هذه المجموعة هو إثارة الرعب والخوف في قلب الهنود ،وتحذيرهم بترك المهاجرين
وشأنهم .كانت هناك مجموعة من ثًّلثمائة رجل أو نحو ذلك ،وذلك باإلضافة إلى عدد من
العربات ومدفعي عربة ،وعدد من األبقار والغنم التي تسير بالخلف ،وكان الجميع مسرعين
حتى يستطيعوا الوصول إلى «الرامي» ثم االتجاه بعد ذلك إلى «ساوث باس» حيث يعودون
مرة أخرى .كان إيفانز يراقبهم جميعًا وهم يمرون بهامتهم الطويلة الشامخة وهم يثيرون
األتربة خلفهم ،لذلك شعر بأن قيادته أصبحت أكثر سهولة وسًّلسة.
سيرا حسنًا ،وكان الناس في حالة معنوية طيبة ما عدا بعض ً كانت بقية األمور تسير
«اإلسهال» الذي أصاب الناس بسبب مياه «بًّلت» أو بسبب تناول الكثير من اللحوم الطازجة.
استطاع الركب أن يمر بساوث بًّلت ،وزيادة أو مضاعفة سرعة العربات على حسب نصيحة
سمرز للمرور فوق الرمال بسرعة كبيرة .كانوا قد ساروا في طريق شاطئ الشمال ،ثم
انحرفوا للعبور إلى «آش هولو» و«نورث فورك» ،كان مكانًا طيبًا للذكرى -آش هولو -كانت
هناك ظًّلل وكانت هناك ينابيع مياه باردة وعشب طيب ،واستطاعت العربات أن تمر بهذا
الطريق متجهة إلى أسفل التًّلل من غير أي إصابات.
استطاع الركب أن يصل إلى كورث هاوس روك والقلعة في الوقت المحدد ،وعسكروا في
الوادي هناك ،وشعر الناس بأنهم يجب أن يحتفلوا بذلك؛ ألنهم شعروا بأنهم أصبحوا في المكان
المناسب لهم ،أو أنهم أصبحوا قريبين من المكان الذي سيتخذونه موطنًا لهم .كان االحتفال
بسي ً
طا وهادئًا ،وكان ويذربي يقوم بالخدمات.
كانت عائلة تورلي تسير خلف الركب ،وتنتشر بعربتها القديمة ،والعدد القليل من الماشية ،وهم
يرفضون السير مع الركب ،ولكن ال يسلكون طريقًا آخر .كانت عيون مستر ومسز تورلي
وطفليهما النحيفين تتطلع إلى مسز ماك ومسز تادلوك وربيكا بالشكر واالمتنان ،بعد أن قدمن
إليهم بعض الدقيق والحلوى ،وإذا استطاع أي إنسان سماع ما تردده العائلة ،لظن أن هذا
الركب يعاملها معاملة سيئة وخاطئة .لم يكن األمر كذلك ،ولكن لم يكن بينهم من يشعر بالراحة
والهدوء.
ظل إيفانز يدور برأسه مثل اآلخرين حين استمرار الركب في السير ،ولمس مدى بعد الشقة
بين الركب وبين عائلة تورلي التي أخذت تتخلف شيئًا فشيئًا عن الركب ،وبعد كل ما حدث
كانت عائلة تورلي مستمرة في التحرك واالبتعاد تاركة وراءها القليل من األتربة ،وظلت
المسافة تتسع حتى ابتلعتهم ،وحاول إيفانز أن يحدد مكان هذه العائلة ،ولكنه لم يستطع ،وإنما
شاهد بقعة بعيدة في األفق تتحرك ببطء .لم يكن بعيدًا وعميقًا في ذنبه ،ولكنه شعر بالراحة
حينما شاهد ويذربي يصلي لهذه العائلة ،ويطلب من هللا أن يحميها من الهنود ومن العواصف
والحوادث ،وأن يحرسها هللا ويحمي أغنامها ويضفي عليها السرور.
كان ويذربي قد استودع مارتن ربه قبل ذلك بقليل ،في حين كان إيفانز وسمرز وتادلوك قد
حفروا القبر في صمت ،وكان كل فرد يفكر تفكيره الخاص ،ولما انتهوا جميعًا من الحفر
ضا ،لم يكن
وضعوا مارتن فيه ،وجاء ويذربي وأخذ يتلو من الكتاب الديني من سفر التكوين أي ً
هناك «كفن» أو صندوق خشب ،وإنما اكتفوا بلفه في قطعة قماش وإهالة الرمال فوقه وحوله،
ثم تولى ديك إحراق بعض مسحوق البارود فوق القبر ،وقال إن هذه الطريقة سوف تجعل من
قبرا مفقودًا ال يمكن
المستحيل على الذئاب والهنود العثور على جثة مارتن .وكان هذا القبرً ..
العثور عليه بعد تحرك الركب ،ولن يعرف أي إنسان أو حيوان أن في هذا المكان يرقد رجل
-ر جل ذو عينين يبدو فيهما الغباء ،وذو كتفين مقوستين ،ويحمل على كاهليه الكثير من
المشكًّلت ..كان يتجه إلى أوريجون وأصابه المرض في الطريق ،ثم أخذ يصيح مستنجدًا
بالمسيح ثم يموت.
كان إيفانز قد فكر ً
قليًّل في حلق لحية مارتن ،وكانت ربيكا تقول :إنه يجب إتمام ذلك؛ إذ من
الواجب أن يذهب الرجل إلى القبر وهو حسن الهيئة ،لذلك قاموا بإزالة هذه اللحية ،ووضع
أفضل ثياب مارتن عليه التي جعلته يبدو في مظهر طيب.
بدأ الركب يشق طريقه مرة أخرى ،وكان إيفانز يشعر بهبوط في تفكيره وبضآلة في وضعه
الجديد كقائد لهذا الركب ،كما لو كان ال يرغب فيه .وكان ديك يسير على طول الطريق بجانبه
مسرورا بصحبة وصداقة ديك ،لذلك كان يعتمد عليه،
ً وهو يمتطي صهوة جواده .كان إيفانز
وكان يشعر بالقوة في داخل نفسه بسبب قوة ديك ،وربما أظهر هذا الوضع أن إيفانز ال يمكن
أن يناسبه منصب الكابتن لهذا الركب؛ ربما يكون هذا المنصب يتطلب ضرورة كون صاحبه
ضخ ًما قوي البنيان حتى يستطيع أن يقف بمفرده ال يرغب في أي مساعدة من أي إنسان إال
مساعدات المرشدين والنصائح الخاصة بعبور الطرق ومراقبة الهنود ،ولم يكن هذا ما يتصف
به إيفانز نفسه ،ولم يكن يرغب هو نفسه في أن يصبح زعي ًما وقائدًا ،لذلك كان يجب عليه أن
يعتمد على ديك ،وحينما تواجهه بعض الصعاب والمشكًّلت العويصة يلجأ إلى دعوة المجلس
لًّلنعقاد لكي تكون هناك آراء مبلورة قاطعة في هذه الصعاب .ولكنه على الرغم من ذلك كان
يشعر بعدم الراحة والقلق حينما يقوم بأداء أي عمل؛ إذ يجب على القائد أن يكون أكثر من
مجرد شخص يعتمد على شخص آخر أو يرتكن على دعوة المجلس للبحث في األمور
والمشكًّلت .كان يجب عليه أن يقدم الثقة إلى الشعب ويعمل على تشجيعه ،وكان يجب عليه
أن يوالي رعايته وعنايته بين وقت ووقت ،وأن يرى ما إذا كان الركب في حاجة إلى أي شيء
سواء رضي بذلك أو لم يرض؛ حتى ال يفشل الركب .كان يتمنى أن يقوم فقط بمراقبة ورعاية
شؤون عائلته.
رفع إيفانز يده إلى أنفه ليمسح عنه األتربة ،ثم إلى عينيه وجبهته ليزيح العرق .كان الوادي
عا جديدة من النباتات الشوكية التي اعتاد سمرز أن عميقًا وضيقًا ،وكان المسافر يشاهد أنوا ً
يسميها باسم «الحراب اإلسبانية» ،كما اعتاد ويذربي أن يطلق عليها اسم «إبرة آدم» ،أما
الزهور فلم يكن عنده اسم معين يطلقه عليها ،وكان بعضها مخروطي الشكل أو أقحوانيًّا أو ذا
لون قرمزي أو أبيض أو أصفر ،وكانت النساء واألطفال يقطفون الكثير منها إذا كان اليوم
نظرا النتشار «الحية ذات األجراس» إذا
طيبًا ،وكان يجب عليهم أن يكونوا على حذر شديد؛ ً
كان من حسن حظ أي إنسان أن يفلت من عضتها ،كان مجرد التفكير فيها يقلق المجموعة
ضا ،وجعلته يشعر بزيادة العبء والحمل عليه. ويقلقه أي ً
كان كل شيء يبدو أمامه كما لو كان الجميع قد أولوه ثقتهم ومستقبلهم ،وكانوا ينتظرون منه
أن يوالي رعايتهم والعناية بهم ،وأن يمر بهم ليحييهم تحية الصباح .كان هناك رجل فيرمان-
بوتر ،ورجل ماك -موسى -وكذلك شيلدز ،وكاربنتر وأنسيكو وديفيز وورث ،كانوا قد أدلوا
بأصواتهم في جانبه ،أو لم يكونوا -بأقل تقدير -ضده ،لذلك قرر بينه وبين نفسه أن يتعرف
ونظرا ألن هؤالء لم يكن من السهل مقابلتهم ،لذلك كان يجب عليه أن يذهب إليهم بنفسه،
ً بهم.
ويجب على كل قائد أن يعرف كل رجل في الركب حتى أصغر فرد فيه.
نظر إيفانز خلفه فرأى ربيكا وقد نزلت من العربة وسارت بجانبها ،فأخذ يرمقها ،كانت تبدو
نحيفة أكثر من قبل ،ولكن لم يكن يبدو عليها أي أثر لإلرهاق أو الملل ،ولم يكن يعرف متى
رأى أثر الحياة في وجهها من قبل مثل اآلن.
عاد مرة أخرى لمسح أنفه ثم أدخل أصبعه السبابة في أنفه ،واعتقد أنه سوف يصل إلى
أوريجون وبعض رمال «بًّلت» معلقة به ،إن بعض المياه الرملية ال تستطيع أن تزيل هذه
الرمال العالقة.
وعلى أي حال لم تكن الرياح قوية في ذلك اليوم ،وكانت األتربة تندفع إلى أعلى ثم تتساقط
مرة أخرى ببطء لتستقر ،وكانت الشمس ترسل أشعتها المناسبة ،وكانت دافئة تبعث الدفء
والراحة في النفس ،في حين كانت بعض السحب القليلة البيضاء تنتشر متفرقة في السماء،
وكان البعوض قد بدأ ينقشع كما لو كان يستريح من حصار الليل.
كانت عربات تادلوك تدور في المقدمة ،وكان تادلوك يسير بجانبها وهو ال يزال مرتديًا معطفه
الكثير الجيوب الذي كان قد ارتداه في الصباح المبكر ..كان يسير في خط مستقيم دائري ،وكان
إيفانز يشعر في قرارة نفسه بالراحة بمجرد التفكير ،في حين كان ملتز ًما جانب الرقابة الذاتية
بدال من السير حول الركب لمراقبة أي خلل أو خطأ بين المجموعة كلها ،وكان يتحدث بلهجة ً
ودية كافية ،على الرغم من أن االبتسامة لم تكن تطرق شفتيه ،وكان قد اتفق مع بروور ،بعد
وفاة مارتن ،على أن يساعده وينحي مسز تادلوك جانبًا إلى العربة الثانية.
ضا
كان إيفانز يصيح في الركب بالتقدم ،وكان صوت العربات المندفعة أو التي تخوض أر ً
كلها رمال تسمح بين حين وحين ،فكان يأمر رجله «هيج» بالقيام بإصًّلح ما يختل منها.
وكان من المتوقع أن يجد الجميع أدوات وآالت وإطارات من الحديد في «الرامي» أو يقوم
أي فرد بإصًّلح إطاراته ومًّلءمتها مع عجًّلت عربته .كان النظام الذي يتبعه هيج ،حتى تلك
اللحظة حين القيام بعملية اإلصًّلح ،نظا ًما سلي ًما ،وكان الجميع قد اتفقوا على شراء بعض
المؤمن من «األراضي» مثل الدقيق واللحوم «المدخنة» وغيرها ،في حين كان البعض قد
اتفق على شراء أو بيع بعض الثيران الهزيلة التي يمتلكونها .ولكن كم هي المسافة إلى
«الرامي»؟ كم تبعد عن تشيمني روك على حسب ما قاله ديك؟ ستون ً
ميًّل أو نحو ذلك؟ لذلك
إذا استمر الركب في سيره الحثيث فإنه سوف يصل في أربعة أيام أو خمسة .كانت التًّلل قد
بدأت ترتفع في اليسار وبطريقة غير منتظمة لتتجه ،كما اعتقد إيفانز ،إلى «سكوت بلوفز»،
وفي هذه األثناء شاهد عن قرب ستة من الخيول البرية ترعى في أعشاب األرض وتقف
شامخة الرؤوس.
وفي حين كان إيفانز يقوم بمراقبة ما حوله ،جاء إليه ماك بي من عمود األبقار ،وكانت لحيته
تبدو رمادية اللون بسبب األتربة والرمال ،فبصق على األرض ثم ابتسم ،وقال:
-إن الماشية تسير على خير ما يرام ،وسأعود لمراقبتها ورعايتها.
تعبيرا صادقًا عن المسؤولية ودرجة القيادة ،لذلك شعر
ً تقريرا فهمه إيفانز على أنه يعبر
ً كان
بالراحة حين سماعه ،أو بالطريقة التي عبر بها عنه.
ترجل ماك بي عن جواده ،وسار بجوار إيفانز وهو يقول:
-إنه يوم جميل معتدل.
فرد إيفانز ،من غير أي تفكير في السبب ،إلى أن قال بعد ،وهو يتحول إلى «روك» العجوز
الذي كان يتعقبه:
-إنه يوم جميل لكل فرد.
وكان يتعجب في تلك اللحظة مما إذا كان السبب الوحيد الذي جعله ال يتحدث إلى ماك بي ،هو
أن ماك بي كان يرغب في قتل كلبه ،ولكنه تأكد أن ذلك لم يكن السبب ،فإنه لم يكن ليذهب إلى
قذرا ال يعمل على تغيير هيئته أو حتى هيئة زوجته، ماك بي على الرغم من ذلك ،فقد كان ً
ولكنهما كانا قد أنجبا ابنة جميلة ورقيقة وهي «ميرسي» وكان على إيفانز أن يعترف بأنها لم
تكن جميلة بما فيه الكفاية فحسب ،ولكنها كانت فتاة دمثة الخلق ورقيقة المعشر .كان يشعر
بالراحة في رؤيتها ،لذلك كان يتنهد بالراحة حينما ال يرى براوني يتعقبه ،وقال إيفانز:
-لقد أخبرت زوجتي اليوم بأننا سوف نحقق ذلك بمشيئة هللا ،مع أنني لم أكن أعرف في حقيقة
األمر حقيقة الوضع لفترة معينة.
حاول إيفانز أن يتذكر كيف يبدو وجه ماك بي تحت لحيته -ربما -ف َّكان يخيفان ،وشفتان
متدليتان ،كان يبدو نحيفًا ،ومع ذلك كانت تبدو عليه الجدية ،جدية وقوة .صاح ماك بي مقطبًا،
وقد ظهرت أسنانه مكسورة وقذرة أكثر مما يستطيع اإلنسان أن يعتقد:
-أجل يا سيدي سوف نقوم بذلك.
عرف إيفانز ذلك وهو يرقبه ويستمع إليه ،كان هذا كًّلم واضح عبر عنه ماك بي بابتساماته
ورأسه .كان ماك بي يعني التعبير عن إعجابه بالقائد ،كان يرغب في أهمية ..ظًّلل األهمية،
كان عنده بعض الشيء ليقوله ،ولكن إيفانز قال:
-إننا نعرف أننا نستطيع تحقيق ذلك دائ ًما.
-هذا ما يجب أن يكون ،وعلى أي حال لقد حققنا ذلك اآلن.
لم يجبه إيفانز ،كان يعرف ما كان يجب أن يفعله ،وكان يشعر بأنه يجب أن يخبر ماك بي،
بأن يذهب إلى جهنم ،ولكن ذلك كان شيئًا يصعب قوله ،وكان يشعر بحاجة لصفع الفم الذي
يتحدث أمامه ،لذلك لم تكن كلمات المدح لتضله ،بل كان يكره أن يتحدث بروح الصداقة ،حتى
مظهرا.
ً ولو كانت هذه الصداقة
وقال ماك بي:
-كنت أود أن أخبرك بأنني ال أحمل أي شعور عنيف أو كراهية ضد الكلب أو أي من الكًّلب.
-حسنًا ،ونحن ال نشعر بذلك أي ً
ضا.
-كانت زوجتي تقول لي اليوم إنك قد خلقت لتكون قائدًا.
-أنت تعرف أنني لم أعمل أو أسع من أجلها.
-كًّل بالطبع.
تحول إيفانز إليه وتحدث إليه بقوة وتأكيد ،وكان يبدو غير راض عما يجب أن يقوله:
-ماك بي ،من األفضل لك أن تظل مؤيدًا لتادلوك.
أغلق ماك بي فمه المفتوح ،وشاهد إيفانز في عينيه الرماديتين الغائرتين لمحة سريعة من
لمحات الكراهية والحقد.
-أوه ،بالطبع سوف أفعل ذلك.
ثم سار في طريقه في صمت لفترة وهو يقود جواده ،ثم قال:
-أعتقد أنني يجب أن أعود إلى الخلف.
وامتطى صهوة جواده وعاد به.
وكان يخبر نفسه أكثر من ذي قبل بأنه يجب أن يظل متنب ًها لهذا الرجل ،ليس من أجل أي عمل
معين مكشوف ،وإنما من أجل القيام بأي حيلة خاطئة .وظل إيفانز يرقبه ،ورأى ربيكا تبتسم
له ابتسامة اإلدراك لما يدور بخلده ،في حين كان روك العجوز يجري بينهما .كان يجب عليه
إذن أن يطلب من براوني أن يركز مراقبته على ممتلكاته ،كما لو كان يفعل ذلك من أجل نفسه،
وكان من الصعب االعتقاد بأنه يوجد بعض األفراد الذين يستطيعون القيام بأعمال من هذا
النوع إلى أن يثبت ذلك باألدلة.
الفصل الرابع عشر
كان كل شيء تنعكس عليه أشعة شمس ما بعد الظهر يبدو أبيض ،ابتداء من االنحدار حتى
القًّلع الجنوبية الشرقية ،باستثناء ظًّلل األشجار التي تسقط عبر هذه الحواجز .كانت الخيام،
التي كان هنود السيوكس قد أقاموها وتنتشر أسفل المكان ،تبدو بيضاء أو ملطخة بالسواد على
حسب عمرها .كانت هناك حركة الرجال والنساء يغدون ويروحون ،وكان األطفال يلعبون
والكًّلب تقفز وتشم األرض بحثًا عن أي صيد أو بقايا طعام ،وبدأت الخيول تصهل بعد أن
ازدادت برودة الجو بعد الظهر.
ربط سمرز جواده وأخذ يراقب الوضع ويفكر في كيفية تغير األمور وتبدلها ،كانت هذه البقاع
صغيرة مثله نفسه حينما شاهدها ألول مرة ،صغيرة وبرية مثله ال تبدو على مًّلمحها آثار
التفكير والسنين ،ولم يكن بها أي مركز أو نساء من الهنود يستجدين بعض المًّلبس ،بل كان
هناك فقط الجاموس البري والغزالن والعشب الطويل الذي يتموج في قاع الرامي .كانت
الرياح تصفر وكان صوتها أشبه بالفراغ في مكان لم تطأه أقدام بيضاء من قبل .إن أي رجل
مستكين في ردائه يشعر بالوحدة والقوة ،يستطيع أن يسأل نفسه :من أين تهب هذه الرياح؟
أما اآلن فًّل توجد أبقار أو جاموس بري على مسافة خمسين ً
ميًّل أو حتى غزالن ،فلم يبق
منها سوى القليل جدًّا ،وكانت الرياح قد حملت أصداء الكًّلم وطرقات المعاول والمطارق
وأصوات البغال ورائحة الحياة إلى أسفل السقف .إن المكان البعيد الذي يقع عند رقبة
«الرامي» و«بًّلت» هو «فورت بًّلت» التي أنشئت بعد أن قام سمرز بترك الجبال ،وكانت
هناك «فورت الرامي» أو «وليام» على حسب ما يطلقون عليها ،ولكنها مع ذلك قد تغيرت.
جاء التغيير بتغيير آخر تذكر ذلك من الستة والثًّلثين -أو هل كانت سبعة وثًّلثين؟ -حينما
كانت أشجار القطن تنتشر في هذه األرجاء .أما اآلن فقد أصبح كل شيء أبيض اللون في قمته
مثل القلعة ،في حين كانت تجارة جلود الجاموس البري التي يقوم بها رجل الجبال وهي التجارة
التي لم تُمس.
أما فيما وراء التًّلل السوداء «بًّلك هيلز» التي ترتفع بعيدًا ،فقد كانت الظًّلل السوداء تغطيها
بسبب وجود عدد من أشجار الصنوبر المتناثرة التي ترتفع شامخة عند «قمة الرامي» ،أما
بعيدًا عن النظر ،فقد كانت هناك «ريد بتس» ،و«سويت ووتر»« ،وسوذرن باس» و«جرين»
حيث قضى سنواته األولى في صيد الغزالن يظن أن هناك أسرابًا كثيرة منها سوف تأتي إليه
طائعة وصاغرة ،وكانت «بوبو آجي» تقع في الطرف القريب من الممر من ناحية الشمال.
أخذ يشكل كلمات «بوبو آجي» بشفتيه ،ويتذكر صوت المياه المندفعة من الغدير الذي يطلق
عليه اسم «آشيا» ( ،بوبو آشيا) صوت السائل ..والفتاة الدافئة التي كانت تقف بجوار الغدير،
وكانت تبتسم وهو يحاول أن يتمرن على كيفية نطق هذه الكلمات ،لقد نسي اسمها ،وقد أصبحت
اآلن ميتة أو امرأة كبرى ،واندثرت معها ضحكاتها .وهل تتذكر السكين الطويل الذي رقد
معها؟ لم يستطع أن يستعيد تذكر وجهها ،كل ما تذكره هو دفؤها وفخذاها الصغيرتان النحيفتان.
كانوا يسيرون على طول «بوبو آجي» والمياه التي تتدفق بيضاء بسرعة ،واألشجار الباسقة
الخضراء التي ترتفع شامخة ،وجبال الرياح التي تقف شامخة ولم تعرف مصائد من قبل.
كان يجب عليه أن يعود إلى الركب اآلن ،ولكنه ظل فترة أطول صامتًا حينما استيقظت الذكرى
وأصبحت حقيقة مرئية« .الرامي» ..إنها المدخل إلى هذه الجبال ،ويجب على كل إنسان أن
يركز عينيه ويظ ل في حالة انتباه تام لكل ما حوله ،وظل يراقب طريق الجاموس البري وهو
يضع البندقية على كتفه ،كان الخطر ال يزال كامنًا ،الخطر من «البونيز» و«السيوكس»،
وربما «بًّلك فيت» فيما بعد .ولكن هذا الموضوع كان ذا أثر مختلف ،كان األطفال والنساء
يمرحون تحت أشعة الشمس ،وكان يبدو عليهم المرح والشعور باألمن.
ترك نفسه يسرح بتفكيره في ميسوري ،وكم عدد الجبال الكبيرة القابعة هناك .كان قد قام بذبح
الكثير من الخنازير ،وجمع المحصوالت وقيادة الثيران والبغال ومحاصرتها في «ماني»،
ووقف تفكيره حول الغزالن والوعول ،وأغمض عينيه ليفتحهما؛ لكي يجد أمامه بعض نساء
الهنود الًّلئي وقفن أمامه ثم اختفين بعد ذلك ..إن «بوبو آشيا» تشبه المياه الجارية.
كان في قرارة نفسه رجل جبال ،وسوف يظل هكذا بقية حياته حتى إذا قام بحرث أرضه
وتربية الخنازير مرة أخرى ،ولم يكن هناك أي مكان في هذه األيام لوجود رجل الجبال ،وبعد
عدة سنوات سوف يقوم بعض الرجال برحًّلت صيد ،في حين كان الجاموس البري يزداد
نحافة ،وكان كل ثًّلثة عجول صغيرة تسقط لمقتل بقرة واحدة ،لذلك فإن سكان البرية والجبال
سوف يعيشون في المستقبل على لحوم الخنازير وهم ال يعرفون طعم الدهنيات ولحم األفخاذ،
ضا مدى قوة شكيمة وبطش العدو من «الريز» أو «البًّلك فيت». وال يعرفون أي ً
جلس سمرز فوق األرض وأخذ يستعيد في ذاكرته األشياء القديمة التي كان يقتنصها ،وشعر
بلذة في إنعاش ذاكرته ،كما شعر بقلبه يقفز نحو الجبال أو المناطق الخضراء أو النهر ،حيث
ترك ذكريات حافلة هناك ،وحيث نصب شراكه للحيوانات وقام بالقنص هناك .كان يود في
هذه اللحظة أن يستعيد شبابه ويجدد حيويته بالجري خلف الوعول البرية ووسط غدران المياه،
ووراء نساء الهنود والمخاطر ،هل كانت جميع هذه األشياء مجرد أسماء لألوقات الصغيرة؟
هز سمرز نفسه ،من األفضل أن يستغل ما تبقى أحسن استغًّلل ،ولم يكن هناك في داخل نفسه
أي شعور باألسف .عاد إلى امتطاء صهوة جواده ،ثم اتجه إلى الخلف مرة أخرى إلى حيث
الركب.
قالت ربيكا إيفانز:
-إنني ال أستطيع أن أنتظر وصولنا إلى القلعة.
ثم خطت إلى األمام حتى تستطيع أن تسير بجوار ليجي تاركة الثيران التي تجر العربة تسير
خلفها بنفسها.
وقال ليجي ،كما لو كان قد أدرك ما تعنيه زوجته:
ً
طويًّل ،ولكننا سوف نكون هناك على الفور. -إن الطريق ال يزال
-كم من الوقت سنمكث هناك؟
-لن نحتاج إلى وقت طويل ،ربما كان يو ًما ونصف يوم أو يومين ..يجب أن نستمر في طريقنا.
-أليست «الرامي» في منتصف الطريق يا ليجي؟
-اآلن يا بيكي ،إننا على أمل أن نصل إليها في الحال.
-كم تبعد؟
-يقول ديك إنها قد تزيد على ستمائة ميل.
-وكم تبعد المسافة منها حتى نهاية المطاف؟
-ربما ألف وثًّلثمائة ميل.
-إنها أسوأ مسافة .أليس كذلك؟
ً
متواصًّل من غليونه غير المشتعل ،وكان المرح سا
لم يجبها على ذلك ،وإنما أخذ يجذب نف ً
يبدو على وجهه وهو يرقب العربات وهي تسير إلى األمام ،ثم أخذ ينظر خلفه بين حين وحين؛
لكي يستوثق من أن كل شيء يسير في طريقه السليم .كان الركب قد قطع جز ًءا من النهر
وسار فوق أعشاب طويلة تدوسها عجًّلت العربات .كانت مجموعة الركب تلهب ظهور
الثيران والخيول بالسياط والعصي ،كلما راودت أذهانهم فكرة الوصول إلى الرامي .ولكن لم
تكن الثيران تهتم بذلك ،ولم يكن يهتم أي ثور هزيل منهك جائع بالضربات التي تنهال عليه.
وهنا قالت ربيكا:
-يبدو أننا يجب أن ننتظر وقتًا أطول حتى ال تنفق الماشية.
ولكن ليجي استمر واض ًعا غليونه في فمه وهز رأسه ،فتنهدت في داخل نفسها ،وهي تظن أنه
من األفضل البقاء في القلعة بقية حياتها؛ لتقوم باألعمال المليئة باألوساخ والدخان والتعب
والدموع في األعين والقدمين الملطختين باألوحال واألتربة نتيجة للجلوس فوق األرض ،لن
تشعر هناك بالحصى في حذائها ،ثم قال لها ليجي:
-إننا نتقدم تقد ًما حسنًا.
فأجابته:
-أجل ..حسنًا.
شعورا وموقفًا غير عادي ،وحتى ليجي نفسه ،كان يبدو قلقًا،
ً كانت تعتقد أن الرجال يبدون
على الرغم من أن بعض السرور الحقيقي والبسيط كان يبدو على وجهه وحركاته وعضًّلته
وطريقة سير ودوران العجًّلت ،فكلما زاد عدد األميال التي يقطعونها ارتفعت معها روحهم
المعنوية ،كما لو لم يكن هناك أي أمل في حياتهم سوى ترك آثار خلفهم ،ولم يكن أحدهم يهتم
بتناول طعامه مخلو ً
طا بالرمال.
كانت تعرف أنهم يرغبون في الوصول إلى أوريجون سالمين بأي وسيلة ،وكانت تعرف أنه
يجب عليهم أن يستمروا في رحلتهم ،ولكنها لم تكن لتهتم بالتعب وبالليل وبمضي النهار
وبالسرور ،كانت تشعر بالتعب واإلنهاك في المساء وبالحزن القليل المخلوط بالتعب ،ولم تكن
ترغب في التفكير في الغد ،وكانت تتعجب مما إذا كانت أوريجون كما تصورتها أو رسمتها
في مخيلتها.
ضا ،لذلك أخذ يسير وسط األتربة كما لو كان
وكان إيفانز يميل إلى وجود الشمس والرياح أي ً
قد استبعدها من تفكيره ،أما زوجته فقد رأت أن الشمس أصبحت قاسية في بعض األحيان -
ضا أن الرياح قد أصبحت جافة ،وكرهت معها خشونة قاسية بشعاعها وبريقها -ووجدت أي ً
حبات الرمال التي تقبع داخل الحذاء.
وقال:
-هذا هو ديك.
وكان سمرز يقف مرتديًا معطفًا من جلد الغزالن ويحرك الركب وهو يسير في طريقه ،لم تكن
لتستطيع أن تميز التعبيرات على وجهه؛ ألن الشمس كانت تعكس أشعة مباشرة على عينيها،
مرارا بسبب
ما لم تقم بإنزال قبعتها فوق جبهتها ،كانت تعرف أن وجهها وبشرتها قد ازدادا اح ً
فعل حرارة الشمس ،وأصبح وجهها يبدو فيه الجفاف حتى أصبح شبي ًها بوجه الرجال أكثر
منه بوجه النساء .كانت ترغب في أن تصبح أشبه بالنساء بعد أن زاد حجمها في الضخامة،
وكانت تميل إلى أن تزيد نظافة ونعومة ،وأن تكون حسنة الملبس ،ليس أمام ليجي فحسب،
ضا كامرأة حتى تستطيع أن تشعر بأنوثتها وبمكانتها الطبيعية.
وإنما أمام نفسها أي ً
كانت تفكر في الشيء الذي سوف تفعله حين وصولها إلى القلعة ،وهو تسخين المياه
ضا..
واالستحمام ،والتخلص من اآلالم التي تصيب عظامها ،ثم أخذت تفكر فيما مضى وولى أي ً
في ميسوري والبيت العتيق ،والبرودة المنعشة ،وزبدة األلبان والخبز .أخذت تفكر في ظًّلل
األشجار وفاكهتها والدوالب واألطباق والمًّلبس وأواني الطهو والرائحة التي تتصاعد من
األطعمة حين الطهو ..كان لها بيت في ميسوري ،مكان ال يزال قائ ًما حتى اآلن له مدخل
ونوافذ ،كانت تعرف ما شاهدته من تًّلل وأشجار وانحناءة السماء الزرقاء وراء األفق..
وحينما كانت تشعر بالتعب واإلرهاق كانت تجد مكانًا للراحة.
كان هذا هو الشهر الذي كانت تعرف أنها تشعر فيه بالراحة الجسمانية ،ولكنها ال تستطيع
ضا .صممت بينها وبين نفسها أال تذهب بعيدًا عن «الرامي» سواء أكان معها تحقيق ذلك أي ً
ليجي وبراوني أم لم يكونا معها ،كانت تود أن تبقى هنا في هذه البراري وتترك الركب يشق
طريقه وسط الرياح والشمس الحارقة واألتربة.
وقفت في مكانها ،لم تكن ترغب في أن يشاهدها ليجي ويرى آثار الشمس على بشرتها ووجهها،
ثم ظلت ترقبه وهو يسير إلى األمام ،في حين كان فريقها قد وصل إليها ،وشعرت بأنها سوف
تسير في الركب ،لذلك أخذت تقول لنفسها إن ليجي سوف يستمر في ذهابه وتحركه إلى
أوريجون ،وأنه ال يفكر بأن هناك أي شيء يدور في ذهنها سوى أنها ترغب في مراقبة
عربتها.
أدارت رأسها بعيدًا عن الشمس ،وكانت تراقب قدمها وهي تخطو إلى األمام ،وفي هذه األثناء
ً
متمهًّل ،ثم أخذ يحتك بها وينظر في وجهها ،ثم سمعت صوت جاء إليها الكلب «روك» يسير
سمرز وكان يمتطي جواده ويدور حول الركب وهو يتحدث إلى ليجي ويقول:
-إن الرامي فورك ليست مرتفعة إلى هذا الحد ،لذلك فإن أفضل مكان لنصب الخيام وإقامة
المعسكر هو غرب القلعة.
فهز ليجي رأسه عًّلمة اإليجاب ،واستمر سمرز يقول:
-يجب عليك أن تطلب معاونيك لمحادثتهم يا ليجي.
-بالتأكيد .ولكن من يكون؟
-سمعت في مكان ما أنه جيم بوردو .كيف حالك اآلن يا مسز إيفانز؟ ألم يمت روك بعد .أوه،
إنه ال يزال قويًّا.
-لقد جاء لتوه فقط ،إنني متساهلة.
-إنه سريع ،سوف أسير في طريقي يا ليجي.
كانت العربات التي تسير في المقدمة تختفي عن األنظار في منحدر ظنت ربيكا أنه يؤدي إلى
«الرامي» ،كان يبدو أن عجًّلت هذه العربات تغوص في األرض وتتًّلشى الواحدة تلو
األخرى بقاعها وبقمتها البيضاء.
أخذ ليجي يصيح في ثيرانه بمجرد أو وصل إلى قمة التل ،واتجهت إليه ربيكا فشاهدت الركب
ً
ظًّلال متموجة عرفت فيها «فورت الرامي» ،التي كانت تبدو ينحدر إلى أسفل ،حيث شاهدت
بيضاء تحوطها أشجار تتموج ظًّللها فوق األعشاب ،لذلك قالت:
-لم أكن أعتقد أبدًا أنني سأكون مسرورة إلى هذا الحد حينما أشاهد مبنى.
-إنها فورت الرامي بالتأكيد.
-ليس بسبب كونها قلعة ،وإنما ألنها مبنى فحسب.
-إنها فورت الرامي على أي حال.
-هل تعتقد أن عندهم مقاعد هناك يا ليجي؟ مقاعد حقيقية.
كان هناك بريق في عينيه ،لذلك قال:
-بالتأكيد.
قليًّل ،ودق بقدميه فوق األرض وأخذ يغني ً
قائًّل: ثم توقف ً
« -إلى بحر الباسفيك البعيد».
-هل ستذهبين ،هل ستذهبين أيتها الفتاة العجوز ،معي؟
فردت قائلة:
-أود فقط أن أستريح فوق مقعد فقط.
لم تعتقد ميرسي أنها كانت سعيدة من قبل بهذه الدرجة ،كان للموسيقى أجنحة انتقلت بها ،وكان
ً
جميًّل مرغوبًا فيه ،في حين كانت النجوم تتألأل في السماء كأنما تنظر إلى أسفل الليل يبدو
لتبتسم لميرسي ماك بي ،لذلك أدركت في هذه اللحظة أن والدها كان على حق .سوف يختلف
كل شيء في أوريجون ،سيكون المستر ماك مرتديًا قميصه األبيض وفوق كميه العالقان
السوداوان .وقد انتهت المشكًّلت من األمس ،وهل عرفت كم من المرات فكرت فيك؟ وأنا
أعرف أنه يجب أال أفعل ذلك ،وأبحث عنك وسط خط السير الطويل المليء باألتربة .هل
اقترحت شيئًا يا سيدي؟
كانت الموسيقى خارجها ،والموسيقى داخلها ،وكانت أحاديث الغناء تعتلج في صدرها وال
تستطيع أن تطلقها بسبب خجلها ،ولشعورها بأن ذلك من أسرارها الخاصة .كان الليل الهادئ
ينشر السكون في جميع األرجاء ،وكانت النيران الكبيرة تضيء األجواء ،وتظهر النيران في
أعين الهنود الذين يلتفون في حلقة .كانت الموسيقى قد شقت طريقها إليها -صوت براوني
إيفانز:
-لقد حان الوقت لكي تتعلمي ..إن الوقت مناسب .دعي الموسيقى تحرك قدميك.
بدأت ميرسي ترقص رقصة «السوينج» ،فتقدمت خطوة ووضعت اليد فوق اليد ،وشاهدت
هيج وهو يدقق النظر في النجوم؛ ليقرأ طالع ميرسي ماك بي الصغيرة التي بدأت تنضم إلى
المجموعة ،وبدأت تطلق بعض الكلمات من فيها.
بدأت تراقب األعين ،وتراقب النجوم ،وتراقب الليلة المرغوب فيها .كانت ميرسي ترتدي ثوبًا
به ياقة مقلوبة ،وكانت قدماها في حذاءين كانا مل ًكا لمسز بروور التي كانت ترغب في
مساعدتها في يوم من األيام .تستطيع ميرسي أن ترقص ..وكانت خير رفيق وراقصة ..إنني
أعلن أنني لم أر مثلها من قبل.
كانت األذرع مرتبطة بعضها ببعض أكثر مما كان يتطلبه الوضع ،وكانت األيدي تضغط
بعضها على بعض ،وكان الرجال يًّلحظون ذلك ..رجال ذوو أهمية كبرى ،ووجوه المعة
حليقة وماشية ضخمة سمينة ..كان الرجال قد الحظوا الوضع وليس الغلمان ،على الرغم من
ضا ،وعلى الرغم من أنهم كانوا يخشون النظر
أن هؤالء الغلمان قد بدأوا يراقبون الوضع أي ً
في ذلك.
ً
جميًّل ،في حين كان يقف المستر بوتر وهو يمضغ ،ويقف صا
كان المستر بيرد يرقص رق ً
فيرمان ومعه رفيقة ممتازة في الرقص .واستمر الرقص «والدو-سي-دو ،والسوينج» ،في
حين كانت النجوم تبتسم وتزدحم في كبد السماء.
وفجأة توقفت الموسيقى وتوقف معها هيج تار ًكا زميلته ،وانحنى لها وهو يبتسم ،فابتسمت ردًّا
صا غير معدود في المجموعة .وتحدث المستر ماك بصوت خافت عليه ،مع أنه كان يعتبر شخ ً
في أذنها ،في حين كانت البقية من الناس تتحرك ..هل ترغب في أن تسير في جولة؟ وهل
توافق على مقابلته بعيدًا عن منطقة النيران حيث يوجد المعسكر؟ كان على وجهه شبه ابتسامة
صغيرا .لقد كانت ليلة جميلة ،وقد ظل يتحدث إليها
ً حينما تحول جعلته يبدو كما لو كان غًّل ًما
سا بين األصوات التي ترتفع جانبًا .لن تبتدئ الموسيقى لفترة ضئيلة ،وذلك في الوقت الذي هام ً
أصبحت فيه الرفيقات منهكات وينعكس التعب عليهن ،فهل توافق على السير في جولة
قصيرة؟
اعتقدت في داخل نفسها أنها توافق ،في حين كان قلبها في حالة سكون ينتظر إجابتها خوفًا من
الموافقة ،وأكثر خوفًا من الرفض ،كان من األفضل لها أن تسير معه بحذر ،وأن تتحدث إليه
بدقة ،وال تفكر بشأن حلقات الشعر التي يجب أن تطرحها إلى الخلف.
كانت تومئ برأسها إليه ،في حين كانت ترقبه وهو ينسل من بين الموجودين .كان عليها أن
ثيرا،
تصمم على شيء وتقرر اتخاذ وضع معين ،وكان يبدو عليها أنها ال تستطيع أن تنتظر ك ً
وشعرت بالدماء الحارة تندفع إلى رأسها ،وبأنفاسها تتًّلحق بسرعة ،وبكل كيانها وهي تقول
سوف أحضر ،سوف أحضر ،قلت بأنني سأكون هناك يا مستر ماك .أرجوك ،سأكون هناك.
أوقفها براوني إيفانز عند نهاية التجمع ،كما لو كان عندها وقت له وقال لها:
-إذا كنت ستعودين إلى المعسكر ،فإنني أرى من األفضل أن أذهب لمرافقتك وحراستك؛ حتى
ال يمسك أي سوء.
وكان وجهه الذي يبدو فيه الطفولة يبدو منزع ًجا وهو ينطق هذه الكلمات التي كان تبدو كما لو
كانت قد جاءت إلى لسانه بالقوة ،فنظرت إليه وعرفت فجأة الحالة التي يشعر بها وشعرت
بب عض السرور ،وكانت على استعداد للسير معه ،إال أنها شاهدت في عينيه نظرات عارية
متواضعة تصرخ بما يشعر به نحوها ،هزتها مسحة من الحزن ،لذلك قالت له بلطف:
-سوف أكون على ما يرام يا براوني.
ثم اندفعت في الظًّلم لكي تلتقي بالمستر ماك وهي تتذكر وجهه الذي ظهر فيه بريق البهجة
بعد أن تحدث إليها .وقال المستر ماك بلطف كما لو كان ال يعتقد أنها قد جاءت:
-هل حضرت؟
ومد يده لتلمس مرفقها ،وليقودها خارج المعسكر نحو الغدير ،حيث ينقطع مرور الناس،
واستمر يقول لها:
-ليلة لطيفة ،أليس كذلك؟
قالت باقتضاب ،وكان حلقها مليئًا بالنبضات والتنفس السريع:
-أجل .أليس من الخطير أن نكون هنا بالخارج؟
سا.
-إننا لسنا قريبين من القلعة ،وعلى أي حال فإنني أحمل معي مسد ً
سار بجانبها ويده ممسكة بمرفقها ،ثم أمسك بذراعها ،ثم انحدر بيده إلى يدها ،وأخذ يتلمس
أصابعها وراحة يدها.
-أعتقد أنك تظنيني أبلغ المليون عا ًما يا ميرسي؟
-كًّل.
-إنني أشعر بأنني صغير السن على أي حال ،الليلة ،ربما صغير مثلك.
-إنني ال أعرف أي شيء يا مستر ماك.
-ال أحد يعرف.
كانت هناك شجرة تقف سوداء على حافة النهر ،فأوقف ميرسي عندها ،وقال لها بلهجة تبدو
غاضبة في طياتها:
-ال أحد يرغب أن يعرف.
وردد النهر صوت همهمتهما ،واشترك في ذلك نسيم خفيف كان يحرك أوراق األشجار ،وفي
هذه األثناء عادت الموسيقى إلى العزف وكان صوتها يأتي من مكان بعيد ،في حين كانت
النيران البعيدة تبدو كنجوم متأللئة ،بأضواء باهتة وبنيران مشتعلة على األرض ،ثم كرر قوله:
-ال أحد يود أن يعرف.
ثم ترك يده وجذبها نحوه ،فصاحت بصوت يكاد ال يسمع ،في حين كان فمه يقترب من فمها
في نهم:
-هل هذا عمل سليم يا مستر ماك؟ هل هذا يأتي منك؟ إنك أكبر مني ..أنت تعرف ،عندي
شعور بأنه عمل غير الئق ..إنه عمل يجب أال يأتي منك ،ولكنك قلت إن أحدًا ال يعرف.
شعرت باألرض تكاد تميد من تحتها ،وبأيد تبحث عنها كبيرة وحكيمة ،وعزيزة عليها،
وشعرت بأن الموسيقى والرقص قد أخذا يتًّلشيان في ثورة الدم التي تندفع في جسدها ،وفي
ضباب النجوم التي تسري مع نبضات قلبها ،واآلالم التي تنتشر في جسدها ...اآلالم النهمة..
أصبحت تشعر بأن كل شيء قد تاه عنها؛ فقدت الموسيقى والسماء إال هذا ،إال هذا ،إال هذا،
وأثرا من
ً أخذت النجوم تدور في السماء ،ثم تنفجر لتخرج من السماء تاركة وراءها ً
ذيًّل
النيران والضوء.
لم تكن ترغب في أي شيء بعد ذلك سوى البكاء ،ال شيء سوى أن ترقد وتبكي ،في حين
أخذت األصوات والموسيقى والليل تعود جميعها مرة أخرى .شعرت بيديه تمسكان بها
وترجوانها أن تجلس ،ثم بصوته يقول لها برنة مليئة بالبؤس والحزن أثرت فيها:
-إنني آسف يا ميرسي ..إن الرجل أحمق في كثير من األحيان.
فهمست قائلة:
-ال تأسف ..إن األمر سوف يكون أسوأ لو أبديت أسفك.
-إنك فتاة عزيزة.
فأحنت رأسها له ،ثم أسندته عليه كأنما لتطلب الرقة والراحة ،وقال:
-إنني أعرف أن ذلك لم يكن صوابًا ،إنني الملوم على ذلك.
-إن من الشجاعة أن تقول ذلك ،ولكن لم يكن من الًّلئق بك أن تفعل ذلك.
ازدادت ذراعاه إحاطة بها ،ثم أجابها:
-إنني ال أستطيع أن أحب ،هل تدركين ذلك يا ميرسي ،يجب أال أحب؟
-أعرف ذلك.
ثم جلست بعد أن شعرت بأنها أسندت رأسها إليه فترة طويلة ،وأخذت األسئلة تدور في رأسها،
وكان صوتها يمتزج بالخوف حينما سألته قائلة:
-هل سينتج عن ذلك أي شيء يا مستر ماك؟
فأجابها بسرعة:
-ال أعتقد ذلك ،إنني على ثقة بأن شيئًا ما لن يحدث.
-هل أنت متأكد؟
-تمام التأكد.
-لم يقم أي إنسان في حياتي بلمسي سواك.
-سوف تكونين على خير حال ..إنني على ثقة من ذلك.
ثم سحب ذراعه التي يضعها حول كتفيها ،واستمر يقول:
-من األفضل أن نعود ثانية.
-إنني لم أعد أهتم بالرقص من اآلن.
-سأتبعك ألتحقق من سًّلمتك حتى تصلين إلى خيمتك.
-إنني ال أشعر بالرغبة في عمل أي شيء سوى الجلوس بجوارك.
فأعاد ذراعه إلى كتفيها ،وقال لها:
-من األفضل أال نبقى فترة أطول من ذلك.
فنهضت واقفة ،وأخذت تصلح من ردائها ذي الياقة المقلوبة ،ثم أسندت رأسها إلى صدره
وأمسكت بقميصه في يدها بشدة ،فقال لها وذراعاه تخاصرانها وتحيطان بها:
-ميرسي ..يا صغيرتي.
ضا خلقت من لهجته صورة طبيعية جعلتها
كان هناك بؤس في صوته ،وبداية شيء آخر أي ً
تشعر باألمن والراحة ،واستمر يقول لها:
-إنني مجنون ،وال أصلح لك يا ميرسي ،قولي كًّل ..قولي كًّل من أجل صالحك .ولكننا نستطيع
ضا مساء غد ،أليس كذلك؟
أن نرى بعضنا بع ً
كانت هناك قوة في دقات طبول الهنود التي أثارت األخ ويذربي ،كان يعتقد أن الشيطان والشر
ينتظران ويراقبان الراقصين منتظرين الفرصة للعمل الشرير؛ ألن ضربة العصا فوق الجلد
عا من الدعوة للعنف والعواطف السوداء الجاف تصبح أكثر قسوة وعنفًا .أصبح ذلك نو ً
والخطيئة وعبادة األوثان ،التي يقترحها الراقصون تقليدًا لحركات الجاموس البري.
لم يكن الضوء قد اختفى بعد من السماء ،على الرغم من أن الشمس كانت قد اختفت ،ولم
يستطع أن يقوم بجولته وهو يشاهد قفز ورقص الشباب من الهنود الذين كانوا قد لفوا أجسادهم
في مًّلبس من جلود الجاموس البري التي ظلت قرونها بها .كان هؤالء الشبان يقفزون
ويصيحون ويزحفون على أنغام الطبول ودقاتها ،كان ويذربي قد شعر بخيبة األمل وهو يقف
مع أفراد الركب يراقبون هذه الحركات ،من هذه الوحشية البسيطة ،ومن عجائب العالم.
كان قد شعر بتحسن قبل ذلك ،بعد أن كان قد قدم خدمات إلى السيوكس عند ظًّلل إحدى
الغابات الصغيرة ،لم يكن هذا المكان بيتًا من بيوت هللا حيث يكون عمله أكثر فعالية يساعده
في ذلك إغًّلق المكان ،وتعود على مظاهر الزوار ،بل كان المكان شاسع األطراف تظلله
السماء ،ال تحدده جدران ،أو مديح أو يوجد به إنجيل .شعر كأنه نبي يصيح وينشر دعوته
وسط البرية ،كان اجتماعيًّا طيبًا.
كان ديك سمرز قد حضر هذا االجتماع بناء على طلب لترجمة األسئلة واإلجابات التي كان
ويذربي قد تكهن بها من قبل ،وأخذ يستمع باهتمام كأي هندي ،ما عدا ابتسامة طفيفة كانت
تعلو شفتيه بين حين وحين لتظهر المكر والكذب في عينيه الرماديتين .كان سمرز إنسانًا ال
دينيًّا ..طيبًا في معشره ،ولكنه ال يهتم بالدين ،بل يعتقد بأن له آراءه الخاصة بهذا الشأن .وكان
ويذربي يرفض هذا االعتقاد؛ إذ كانت هناك معرفة واحدة فقط هي معرفة حب هللا .كان عطوفًا
وطيبًا وكري ًما ،وكفئًا كما يجب أن يكون مرشد أي ركب ،وقد تذكر ويذربي أن يشكر هللا دائ ًما
إلرساله هذا المذنب بينهم ،كان يبدو له دائ ًما أنه لو استطاع أن يجعل سمرز يلمس ذلك ويعرفه،
الستطاع أن يحقق أعمال وأمجاد السماء.
انتهى من عمله وصًّلته ،وذكر سمرز وطلب منه أن يوجه هذا السؤال :هل يرغب السيوكس
في أن يتعلموا الطريق إلى هللا؟ هل يرغبون في الخًّلص؟ فتحدث سمرز إلى الهنود بلغتهم
وبإشاراتهم ،فهز جميع السيوكس رؤوسهم -النساء والرجال على السواء -ثم نهض زعيم كبير
السن في النهاية ،واستخدم اإلشارة نفسها ،وكان يقف بعزم وحزم وكرامة جعلت ويذربي
يحسده ،ثم سأل سمرز:
-ماذا قال أيها األخ سمرز؟
-إنه شيء مغاير ..إنهم يرغبون في تعلم طب وأدوية الرجل األبيض.
طب ودواء! أخذ ويذربي يفكر ..طب ودواء؟ كانت عنده فكرة في لحظة للتحدث أو لتأنيب
الزعيم لعدم إدراكه أو اهتمامه بالمقدسات ،ثم فجأة أدرك أن الزعيم على حق ..إن طريق
الرب هو الدواء ..الدواء لعًّلج الروح المعذبة لذلك صمم في قرارة نفسه على استخدام هذا
التفسير والشرح في مجتمعات الرجل األبيض.
واستمر يسأل:
ضا يا أخ سمرز؟
-ماذا أي ً
-إنه يقول إنهم يعتقدون أن كتاب هللا سوف يحفظ اللحوم في أماكنها ويساعدهم ضد أعدائهم.
-سوف ينقذ أرواحهم الفانية ..أخبرهم بذلك.
-أ ليست هناك أي كلمة أو عًّلمة تشير إلى الروح أعرفها أنا؟ هل أستطيع أن أقول إنها
الظًّلل؟
-ال توجد كلمة أخرى للروح.
وأخذ ينظر إلى الوجوه بشغف وإلى المًّلبس الخشنة التي يرتدونها وآثار الفقر التي تبدو عليهم.
واعتقد ويذربي أن أجسادهم وأرواحهم فقيرة بالشكر هلل وباالعتراف بجميله وعطفه ،لذلك
شعر بالحزن المفاجئ العميق لهؤالء القطيع البسيط من البشر ،وشعر بالمحبة تطغي على
كيانه وبالعطف ،مثلما يشعر الرب نفسه حينما يرى المخلوقات الضعيفة البائسة في األرض،
فأخذ يتمتم ً
قائًّل:
-إنهم قد عانوا الكثير من اآلالم ،أرجوك يا إلهي ..إنني أصلي لك ..إنهم بشر لم تسنح لهم
الفرصة لمعرفتك ..أسبغ رحمتك عليهم ،واجعلهم مسيحيين ،وامنع عنهم الشر واإللحاد
بمشيئتك ..إنهم أطفالك البسطاء.
كان هذا الدعاء يملؤه أحيانًا بالحب ،وأحيانًا بعدم الصبر الخاطئ من أن هللا قد زاد من عذابه
للرجل األبيض الذي يعرف الحق والعدل ويميز بين الخير والشر والخطيئة ،ثم يختار الشراب
واإللحاد وارتكاب المعاصي الجسدية ،لتكن لهم مكافأتهم على إيمانهم .وأخذ يدرس الوجوه
التي أخذت تتطلع فيه ،ثم طلب من الرب:
-د عني ال أتعجل في حكمي يا رب؛ ألن ذلك من أجل حبك وعبادتك واجتناب غضبك ..إن
روحك القوية قد علمتنا الصبر والسلوان ،فامنحني القوة على القيام بعملك بتواضع وبإدراك،
ضا.
وامنحني الطاقة على تحمل اآلالم الطويلة أي ً
حضر إليه الهنود ،بعد األسئلة واإلجابات ،واحدًا بعد اآلخر يهزون يده ،ولم يكن قد شعر من
قبل في حياته بمثل الثقة واالعتزاز الذي يشعر به اآلن .أما اآلن فقد ورد إلى ذهنه المحاربون
صغار السن الذين يحملون السهام والرماح ،والذين يحاولون تقليد الحيوانات والوحوش ،كان
بعضهم يغني أغنيات شيطانية على دقات الطبول ،في حين كان الرجال البيض يشجعونهم
على ذلك وهم يلتفون حولهم ،وقال أحدهم ممن يقفون في الخلف:
-إن هؤالء الهنود يسحرون بمظهرهم.
وكان ويذربي مصم ًما على أن هذا العمل نوع من األعمال البائسة ،في حين كان عدم التشجيع
يحيط به من كل جانب ،فعلى الرغم من عظمة هللا التي تحيط بالجميع ،ومن الدالئل التي تشير
إلى قوته في الليل فوق رؤوس العباد ،لم يستطع الهنود أن يجدوا أي شيء أفضل من القيام
خيرا من الوقوف لمشاهدة هؤالء الهنود والتمتعباألعمال الوحشية ،ولم يجد الرجال البيض ً
بمظهرهم .كان قد سمع من قبل أن شركة الفراء األمريكية تستخدم المشروبات الروحية في
تجارتها ،لذلك اشتم رائحة الويسكي البغيض.
توقف الرقص ،وبدأ رقص آخر ..رقص الكلب هذه المرة ،فأخذ ويذربي يرقب المنظر فترة
قصيرة ،ثم ابتعد وهو ممسك باإلنجيل الذي كان قوته ومأمنه.
سا في المناطق البعيدة عن أضواء ولهب النيران، كان الليل قد أرخى سدوله ،وكان الظًّلم دام ً
وكان ويذربي قد شعر باليأس ،وأخذ يتذكر أيام ضعفه ،ويتذكر أن إيمانه باهلل وحده هو الذي
جعل روحه تسيطر على جسده .ويتذكر أن من دالئل حكمة هللا الًّلنهائية أنه كلما ازدادت
حرارة الدماء في الجسد ،ازدادت معها انتصارات الحق واإليمان ..إذا استطاع فقط أن
يسترعي نظر الرجل األبيض واألحمر إلى ذلك .كان يعرف الطريق إلى الخًّلص ،أما اآلن
وفي هذه اللحظة فهو يشعر بانهيار بسبب معرفته بالخطيئة ،وضخامة واجبه ،كان هللا قد طلب
منه أن يذهب إلى أبعد من ذلك ،وكان يطيع ذلك ،أما اآلن فإنه يشعر بانهيار بسبب ضعفه..
فليغفر هللا له بسبب تردده ..وليمنح هللا قوة ولهيبًا لكلماته؛ حتى يستطيع اإلنسان الشرير أن
يرى قبس النور الحي.
شكورا لربه حينما قرأ في النجوم برهان القوة اإللهية ودوام وجود هللا ،إنه الرب الحقيقي.
ً كان
وغفورا ،فإذا بحث اإلنسان الطيب في قلبه لشعرً كان هللا قريبًا ومجيبًا للدعوات وللصلوات
بوجود هللا.
كان على يمين ويذربي إنسان تحرك ثم توقف ،كما لو كان يحاول أن يتجنب االجتماع ،فأوقفه
ويذربي وناداه:
-من هناك؟
فأجابه هذا الشخص وهو يسير نحوه:
-ماك .أسعدت مساء أيها األخ ويذربي.
-أسعدت مساء.
-كنت أراقب الرقص!
-إني أرى أن في أعمالهم عدوانًا على هللا.
-أال يوافق الرب على ذلك؟
-هل تمزح بشأن هللا؟
-كًّل .إنني أتساءل فقط.
-ليكن عندك إيمان .إن ذلك هو جواب الشك.
-ولكن ليس بالنسبة لما هو موجود بالفعل.
أضافت هذه الكلمات واللهجة المزيد من انهيار ويذربي ،ولكنه قال:
-يجب أن نؤمن بما هو قائم.
-مهما يكن هذا الشيء؟
-مهما يكن .إننا ال نستطيع أن ندرك دائ ًما ماهية الرب؛ ألن عظمته أبعد من أن نستطيع
إدراكها بسهولة.
-لم أكن أعرف أنك صاحب مذهب.
-لقد كنت كذلك.
ثم هز ويذربي رأسه ،وظهر عليه األسف العميق والشعور بعدم الدقة والضيق والقلق ،بسبب
رفض هذه الحقيقة األبدية ،ثم استمر يقول:
-ليكن عندك اإليمان ..إن األسف والصعوبات واإلغراء ..كلها اختبارات لإلنسان.
ابتسم ماك ،ثم ضحك ضحكة قصيرة فيها خبث ،ثم قال:
-كل شيء سيئ هو من أفعالنا وأخطائنا ،وكل شيء طيب هو من فعل هللا.
-إنك تتحدث كما لو كنت ملحدًا.
-إنها كلمة خفيفة بالنسبة لي.
وكان ويذربي متعبًا لدرجة لم يكن مستعدًّا معها لًّلستمرار في المناقشة ،ويشعر بالضيق
لدرجة جعلته ال يقدم اإلجابات المطلوبة ،ولكنه قال:
-إنك ستعود إلى أصحاب المذاهب مرة أخرى ،سأصلي لك لكي تعود إليهم.
-م ن األفضل أن تصلي لجميع من في الركب أيها األخ ويذربي ،لقد ذكروا لي اآلن المنطقة
ضا.
التالية تعج بالجاموس البري لدرجة سيكون الركب معها في خطر ،وسيكون هناك هنود أي ً
-إنني أصلي دائ ًما للجميع ،ولكني سوف أصلي لك صًّلة خاصة ،إنك ستعود إلى إيمانك.
فقال ماك:
-إذا نجح المؤمن في إيمانه ،فإنه يستمر في إيمانه ،أما إذا لم ينجح فإنه يهجر إيمانه.
-ربما أنت على صواب.
-أسعدت مساء يا ماك.
ثم قام ويذربي في خيمته بأداء صًّلة أخرى ،وقال:
« -إنني أضع نفسي بين يديك يا رب ،فامنحني القوة والحكمة لكي أوصل رسالتك ،وساعدني
مع هؤالء اآلثمين والمخطئين والمتوحشين والمتشككين ،مثل األخ ماك ،حتى يستطيعوا أن
يشاهدوا ويلمسوا عظمة وقوة أعمالك ليسجدوا لك ويعبدوك .امنحني المقدرة على معرفة كل
شيء صواب ،وارع ركبنا الصغير ،إنني أصلي لك أن ترعانا حتى نصل إلى أوريجون..
آمين».
وجاءت إلى سمعه في هدوء الليل وسكونه أصوات ضربات الطبول التي ترقص عليها الكًّلب.
الفصل الخامس عشر
شاهد إيفانز أمامه مًّليين من الجاموس البري عن يمينه وعن يساره ،وأمامه وخلفه ،تسد منافذ
جميع الطرق في هذه المنطقة لتمنع الركب من شق طريقه ،وهي تثير األتربة الكثيفة لدرجة
كونت معها سحبًا كثيفة من الغبار .لن يستطيع أي إنسان أن يحصي هذه األعداد الكبيرة حتى
ولو قضى كل عمره في هذا الحصر ،كما لن يستطيع أن يصور الهدير المخيف الذي يصدر
عن تحرك هذه األعداد الزاحفة ..كانت الثيران واألبقار والعجول تصيح بأصوات مختلفة
مزعجة وتندمج جميعها فيما يمكن أن يسمى بهدير مخيف.
ولم يكن إيفانز ليستطيع أن يثق بوجود األرض أسفل هذه الجحافل الضخمة ما لم يكن قد
استطاع مشاهدة «رد بوتس» التي ترتفع عارية فوق كتفه أو المستنقعات الجافة الممتلئة
باألمًّلح .لم يفزع الجاموس البري من الركب ،ولكنه تفرق جانبًا ربما بسبب الرغبة في البحث
عن عشب أو تجنبًا للعربات ،وفي هذا المجال قال إيفانز:
-إنني كنت أسميك أكبر كاذب لو كنت قد أخبرتني بذلك يا ديك؟
وقبل أن يجيبه ديك على ذلك ،أخذ يلتفت إلى الوراء لمتابعة الركب الذي كان يمتد نحو نصف
ميل إلى الخلف ،ثم قال:
-الوافر من اللحوم ،أليس كذلك؟
ضا.
-واألعشاب هنا وافرة أي ً
وقال ديك وضوء األمل ينعكس لحظة في عينيه:
-حسنًا ،لقد كنت تطلب دائ ًما مثل هذه المناظر.
-لعنة هللا على هذه األراضي ..مناطق ال يوجد بها جاموس مطلقًا ،ومناطق يتكدس بها لدرجة
مخيفة ،أال توجد مناطق معتدلة؟
-وذلك باإلضافة إلى الذئاب!
الذئاب التي تقطع مسافات طويلة في مجموعات ،مثل الكًّلب الذكور التي تسعى جماعات
صغيرا أو جاموسة بطيئة
ً ً
عجًّل وراء كلبة أنثى ،وعيونها مصفرة وألسنتها مبتلة وهي ترقب
عجوزا؛ لكي تنقض عليها .أخذ إيفانز ينظر حوله ليرى ويتصور جماعات ً الحركة أو
الجاموس البري والذئاب واألعشاب والعظام والجماجم والحجارة والحية ذات األجراس التي
تقفز وراء هذه المجموعات.
منظرا وحشيًّا قويًّا وغنيًّا بالمتناقضات
ً لم يتصور إيفانز مطلقًا أن يشاهد مثل هذا المنظر ،كان
لدرجة تجعل العينين تتعبان وتتألمان ،كانت المناظر البعيدة تقترب بحدة كما لو كانت من
خًّلل منظار.
شعر مرة أخرى بالعظمة والضآلة معًا ،والوحشية وثراء البرية ،وشاهد الركب يجري خلفه
كالرياح ،فأخذ يتحدث بفخر وكبرياء .كان ركبه هو الركب الوحيد الذي يسير في المقدمة،
كانت المواقد تنتشر على طول الطريق من «الرامي» وكذلك الحجارة وقطع األثاث التي
كانت تسقط من العربات التي تتسلق القمم العالية ،أو تدور في أماكن تقطعها مياه كثيفة ،لذلك
قال ديك عن هذا الجزء من الرحلة إنه أصعب وأقصى جزء في الرحلة إلى الشرق.
كانت الرحلة أكثر تنظي ًما من ناحية العمل والنظام والمخزون ،وأكثر ً
تعقًّل ،واستعدادًا لمواجهة
الخطر .لم يعد الهنود يخيفون الناس بعد ذلك أو يرونهم غير مستعدين ،وكان الجميع يعدون
أنفسهم بالبنادق واألدرعة والفؤوس.
لم يأخذ إيفانز في اعتباره الكثير من التحسينات بعد أن عرف أن المجموعة قد تعلمت الكثير
من تجارب السفر ،من غير أي اعتبار لوضعه كقائد ،ولكنه ال يزال يشعر براحة في هذا
الوضع وبسبب الروح العامة ،حتى تادلوك نفسه ،قد اختط لنفسه طريقًا يشبه الطريق نفسه
الذي سبق اتباعه من قبل.
دخل ديك يحطم تفكير إيفانز ليقول له:
-يجب الثبات أمام عاصفة الغرب.
كثيرا بالسحب التي ترتفع فوق التًّلل:
لم يكن إيفانز حتى هذه اللحظة قد اهتم ً
-هذه هي الطريقة التي تهب بها العواصف هنا؟
-ال نستطيع أن نقول ذلك دائ ًما ،اعتادوا أن يقولوا في «الرامي» إن رياح الشرق تأتي دائ ًما
باألمطار.
حذرا مرة أخرى من اندفاع الجاموس البري وسط هذا السكون العميق.
كان إيفانز ً
أمرا طيبًا -سقوط هذه األمطار -إذا كان ما أتذكره صحي ًحا.
-لن يكون ذلك ً
-هل هذا يعني أننا يجب أن نعسكر هنا سريعًا؟
-إنني أرى أن هذا المكان نظيف ويصلح لذلك ،ويؤدي بنا إلى الرامي وإلى ما بعد ذلك.
-أال تميل إليه يا ديك؟
-إنه يجعلني أتذكر األيام الخوالي.
-ولكن أال تميل إليه؟
-كنا في أحد أيام الشتاء في منطقة «باودر» فأشعلنا النيران إلبعاد الحيوانات والحشرات عن
المعسكر.
-أ عتقد أنني فهمت اآلن ،ولكني أفكر في عدم وجود األعشاب والهنود الذين يجب أن يكونوا
بالقرب منا مع عدد كبير من الماشية.
ً
وعوال وحيوانات تجفل يا ليجي. -ألم تشاهد
كًّل لم يشاهد إيفانز في حياته جفول الحيوانات بسبب خوفها ،ولكنه استطاع أن يتصور ذلك
حينما لمس احتمال هبوب عاصفة هوجاء ،وحينما شاهد مستويات المنحدرات التي تقف عليها
الحيوانات لدرجة تخفي معها معالمها .استطاع أن يشعر بينه وبين نفسه أنه قد يصحو في الليل
على صوت رعد وزلزال في األرض ،وشعر بأنه يجب أن يقفز في هذه اللحظة والفزع يملؤه
والتفكير في ربيكا وبراوني والباقين يشله ،وكذلك العجز التام مثلما يحدث في األحًّلم
المزعجة ،فحينما يصدر صوت الرعد يشعر باندفاع الرؤوس إلى األمام تدوس بأقدامها كل
شيء يقابلها ،لذلك قفز ً
قائًّل:
-ال أود أن أشعر بمجرد هذه الفكرة.
فرد عليه ديك ً
قائًّل:
-ولكني ال أفكر في أي شيء بشأنها ،فماذا عن النساء واألوالد؟
-هل يشعرون بالخجل من مثل هذا الركب؟
هز ديك رأسه ولم يجب باإليجاب أو النفي ،وظل ينظر تجاه الغرب حيث كانت الشمس تميل
إلى الغرب في ثًّلثة أرباع اليوم ،ثم انحرف في منتصف الطريق مرة أخرى وصاح:
-إن األبقار تبدو اآلن على أحسن وجه ،وكذلك الخيول.
فقال إيفانز وهو يتحدث عما يدور في خلده ثانية:
-إن مظهر عجول الجاموس البري يبدو مضح ًكا ،أال تعتقد أنها سوف تقفز لتندمج وسط
األبقار؟
-إ نني أقول في بعض األحيان أن ما يجب أن تراقبه هو حيواناتك وماشيتك وال تتبعها
بالجاموس.
-عندي بعض الرجال الذين يسيرون بالخلف للحراسة ،أعتقد أنني يجب أن أذهب إلى الخلف
لمراقبة األوضاع بنفسي.
-إذا كان عندنا ملح كاف ،فإننا نستطيع أن نقوم بوضع الماشية اآلن في حظيرتها.
-يبدو أن عندهم ما يكفي من الملح البري الذي ينتشر في المكان.
-هذا ما فيه الكفاية ،أنت تعرف ذلك.
ولم يتحدثا أكثر من ذلك إلى أن وصًّل إلى ما فعلته الشمس بالبحيرة .كان تفكيرهما واحدًا ،في
حين كان إيفانز يفترض هذا الوضع وأعينهما مركزة على الماشية والسحب الغربية التي
تزحف بطيئة .كانت البحيرة عبارة عن بؤر من المياه الضحلة تحيطها قطع بيضاء من الملح
ينتشر فوقها .نزل ديك من فوق جواده ،واندفع نحو الملح وغرس أصبعه فيه وتذوقه وهز
رأسه ً
قائًّل:
-إنه ملح نقي سام.
-سوف نضع عل ًما هنا حتى ال تقترب القافلة من هذا المكان؛ إذ قد تندفع الماشية بسبب عطشها.
ثم سارا بعيدًا عن المياه وأخذا يراقبان الركب وهو يسير ،ثم قال ديك يحدِث إيفانز:
-كنت أعرف أن هذه البحيرة غير صالحة؛ إذ إن المياه التي ال تنمو فيها سوى طحالب معينة
تعتبر ميا ًها غير صالحة لًّلستعمال.
استمرا في سيرهما مسافة تقرب من ساعة يدفعان أمامهما الجاموس البري على كل الجانبين
من خط السير ،كما كان الراعي يقوم بقيادة الماشية أمامه ،ولم تكن هناك نهاية أمامهما ..ال
نهاية ألعداد األبقار والعجول والثيران المقاتلة وسحب األتربة التي تعمي األعين ،واألصوات
المزعجة التي تتعب األذن ،وبعد ذلك تساءل إيفانز:
-إلى أين يؤدي بنا هذا المكان؟
فأجابه ديك:
-تمهل يا إيفانز ،إنني ال أعرف؛ إذ لم يضع رجال الجبال أسماء لهذه األماكن سوى أسماء
كل غدير وبؤرة أو االثنين معًا.
فأغلق إيفانز فمه بعد أن شعر بأن ديك ال يرغب في الحديث ،وأخذ يرقب السحب الكثيفة
المتكاثفة في الطبقات العليا ..كانت سحبًا متراكمة بطريقة قبيحة تبدو كأنها قد توقفت كأنها ال
تعرف أين تذهب ،وحينما نظر إليها خرج منها حزام مضيء وامض وسريع ،فنهض ديك
سا وأشار بأصبعه ثم قال: متحم ً
-إنني أعتقد أن هذه هي التي نبحث عنها.
واستطاع إيفانز -على الرغم من األتربة الكثيفة والحفرات العميقة والعًّلمات البيضاء التي
تبدو في ظهور الجاموس البري -أن يدرك األمر إدرا ًكا تا ًّما ،فاستمر في ركبه وهو يفكر -
معسكرا في الحال ..ثم يهجر بعد ذلك إذا كان الحظ حليفهم..ً مكان ال اسم له ينتظر أن يكون
إنه مكان يشبه عشرات األماكن األخرى مليء باألشياء والتًّلل والفجوات والحفرات -على
طول الطريق المؤدي إلى مدينة «إندبندس» .كان من الصعب أن يحافظ على النظام ،كما كان
ضا معرفة المكان الذي سبقت اإلقامة فيه في الليلة البارحة ،والليلة التي سبقتها،
من الصعب أي ً
كانت جميع المراكز قد فقدت آثارها في تيار تطورات اليوم إلى األبد ،وكانت األميال قد طوتها
على طول سهول «بًّلت» التي تختلط بالتًّلل الواقعة غربي «الرامي» ،وكذلك «ألكو»
و«بيج بلو» و«ليتل بلو» و«بًّلت» و«آش هاللو» و«كورت هاوس روك» و«هورس
كريك» و«الرامي» و«بيج إسبرنج» و«دير كريك» و«نورث بًّلت» ،وكذلك األماكن التي
تقع بينها جميعًا ،وكانت هناك بجانب ذلك مراكز ال أسماء لها ،وأميال غير معروفة على طول
ضفتي النهر وفي المناطق التي يقام فيها المعسكر .استطاع إيفانز أن يستخرج كل ذلك من
ذاكرته الواحدة تلو األخرى ،وكان كل ما يشغل ذهنه هو زحف العجًّلت يو ًما بعد اآلخر،
واألتربة المتطايرة والحرارة والرياح واألمطار واألوحال وعودة إلى تورلي ،وصياح مارتن
من أجل المغفرة والرحمة.
كانت حياته تبدو من قبل مثل أي حياة أخرى ،وكان كل ما استطاع أن يفعله هو الكشف عن
الطريق الذي يسير فيه الركب ودفع الماشية إلى السير ،كان هذا هو النشاط الوحيد الذي مارسه
في طريقه إلى الغرب.
وكان ذلك مناسبًا له وطيبًا وصال ًحا ،ما عدا بعض الصعوبات البسيطة التي كانت تواجهه.
كان بعض الجاموس البري يقف وسط ينبوع من المياه أو حوله متأهبًا للهرب ،عندما جاءت
جحافل من الماشية للشرب وتبريد أجسادها ،ثم ابتعادها بسرعة سعيًا وراء األعشاب .أرخى
ديك لجام جواده وأزاح قبعته ً
قليًّل ،ثم نظر إلى فوهة بندقيته وقال:
-نستطيع أن نسقط اآلن بقرة أو اثنتين حينما تقترب منا.
ثم سار ببطء وحذر شديدين ليعطي إيفانز الفرصة إلعداد وتغطية بندقيته ،ثم أعمل مهمزيه
ضا.
في جواده الذي اندفع راك ً
منتظرا حدوث شيء ،ثم تحول ً وقف الجاموس البري لحظة واحدة ساكنًا وهو على حذر شديد
فجأة واندفع هاربًا بسرعة مخيفة ،وخرج الجاموس الذي كان يقف داخل المياه واندفع هاربًا
في الخلف ،وأطلق ديك بندقيته فأصابت بقرة كانت تقف على بعد يقل عن عشر ياردات من
الينبوع .أما إيفانز فقد كان أكثر بطئًا في طلقته ،ولكنها كانت طلقة صائبة ،وقعت البقرة على
مؤخرتها وح اولت أن تنهض مرة أخرى لتلحق بالقطيع الهارب ،ولكنها فشلت وعادت إلى
التعثر والسقوط على مؤخرتها ،وارتمت البقرة األخرى على جانبها ،وقد حدث هذا المنظر
أمام أعين ذئبين جائعين كانا يقفان على ربوة مرتفعة ً
قليًّل.
قام إيفانز بذبح البقرتين وسلخهما ،في حين كان ديك يقف خلفه ينظر إلى الينبوع وهو ممسك
بلجامي الجوادين بيد واحدة ،وممسك البندقية بيده األخرى مستعدًا إلطًّلقها على الذئبين -
اللذين كانا يتربصان بعيدًا -إذا أظهرا شجاعة كافية للهجوم على اللحوم.
مثيرا فيها األتربة والقاذورات ،األمر
ً كان الجاموس البري يندفع داخل المياه ويخوض فيها
الذي جعل إيفانز يقول:
-لن تكون صالحة للشرب بعد اآلن يا ديك.
-ولكنها تصلح لشرب األبقار.
-سوف أقوم بتنقية بعضها ،هناك بعض المياه الجارية التي تصلح لذلك.
-أعتقد ذلك.
-أراهن بأنها سوف تؤدي إلى نمو شعر اإلنسان ،إن لم تقتله.
فقال ديك وهو يخفض من العصا التي أمسك بها:
-ماذا تقول؟ لقد شربت من بؤرات قذرة تمرغت فيها الماشية ولم تنق مطلقًا.
-ل م أقل إنك لم تكن على حق ،ولكن ذلك يدفعني إلى الرغبة في اختيار طريق اليسار الذي
يسير بمحاذاة النهر.
-سوف تجد هناك الوضع نفسه ،ولن تستطيع أن تهرب هناك من األوحال والرمال وروث
الحيوانات ،أما هنا فتوجد المياه العذبة الصالحة التي ال توجد بها سموم يا ليجي!
أخذ ديك يدرس نوع التربة حتى يستطيع أن يرسم دائرته الخاصة ،وحينما وصل إليه الركب،
امتطى جواده وقاد العربة األمامية في شبه دائرة حتى استطاع أن يكون حلقة كاملة.
وظل إيفانز واقفًا بالقرب من البقرتين ،حتى ال يقترب الذئبان منهما ..ستكون هذه الليلة مزعجة
وقاسية بسبب توقع عواء الذئاب وهروب الجاموس الجاموس البري ،إذا لم يكن هناك شيء
عا من النيران القائمة في
آخر .كانت الشمس تنحدر وتتبعها نهايات السحب المتكاثفة خالقة نو ً
هذا األفق البعيد.
ثم جاء ديك يقول:
-سأساعدك في تقطيع اللحوم.
فهز إيفانز برأسه ،وقاد جواده إلى حيث تقف عائلته ،ثم ربطه في إحدى العجًّلت ،ثم توجه
إلى براوني وقال:
-كيف حالك يا بني؟
كان جميع أفراد الركب ملتفين داخل المعسكر ومشغولين بثيرانهم ،في حين كان األطفال
يقومون بحمل بعض األواني ،وكان بعض الرجال ينقلون بعض المؤن .وشعر إيفانز في هذه
اللحظة بأن المعسكر أصبح هادئًا بطريقة غير متوقعة ،كما شعر بأنه قد فقد نفسه في المسافة
الطويلة وفي قسوة األرض ،لذلك تساءل:
-أين روك؟
فأجابه براوني:
-وضعته داخل العربة بعد أن تناول وجبته من اللحم.
نزلت ربيكا من العربة الثانية وقالت:
كثيرا.
-إن منظر هذه الماشية يسر ً
فأجابها براوني ً
قائًّل:
-كان يجب أن أضحك لذلك ،تخشى والدتي أن تسير.
فردت عليه:
-لست خائفة ،ولكني أشعر برغبة في مراقبتها ..عندي بعض الفضول ..هناك بعض األمًّلح
التي ستبلي حذاءك.
وتنهدت بعمق .وكان إيفانز يدرك بفخر أنها ال تعني هذا الكًّلم وهي تقف بجواره ،لذلك
استرسلت تقول:
-لم أكن أشعر بأمل في حياتي بالتخلص من هذا الهدير المخيف الذي يصم اآلذان.
فقال لها إيفانز ،وهو مستمر في حل وثاق الثيران:
-لم أكن ألحظ ذلك إال بصعوبة.
-هكذا! ألم تسمع هذا الهدير؟
-ليس مع أفراد يتحدثون الكثير.
ثم نظر إليها وأخذ يرمقها.
ضا ،وكان مندفعًا
وأخذ يعمل بسرعة ،على أمل أن يكون اآلخرون يفعلون الشيء نفسه أي ً
بسبب الخوف من حلول الظًّلم ،والشعور بثقل السحب التي تحمل األمطار خلفه ،ثم التفت
إلى براوني وقال له:
-خ ذ الماشية لسقيها واتركها لترعى ..هذه هي أفضل وسيلة ،وهذا الطريق هو أحسنها.
وأشار بإبهامه ،ثم استمر يقول:
-ع د بها حين الغروب ،وضعها بجوار الخيل داخل الحظيرة وال تهتم بحلبها؛ ألن األبقار ال
تقدم إال النذر اليسير من األلبان.
-سوف أمتطي الجواد يا والدي.
ثم حل وثاق الجواد وامتطاه وهو يسوق الماشية أمامه.
وتحدثت ربيكا في صيغة ال تحمل معنى السؤال:
-هل أنت قلق يا ليجي؟
-كًّل ..شيء تافه يسير ..سأعود في لحظة.
وتركها ليدور حول العربات يتحدث لمن يراه ،ويربت على كل جواد يقابله قبل ابتعاده للحراسة
أو للرعي ،ويترك الثيران الممتازة للرعي داخل الحظيرة مع الخيول ،وقد خرج البعض لوضع
األعشاب داخل هذه الحظائر ،وخرج البعض اآلخر لتقطيع األخشاب من أجل النيران ،ربما
يندفع الجاموس البري ويهرب .كان الرجال يومئون برؤوسهم وال يوجهون إليه أي سؤال،
على الرغم من أن األفكار كانت تراوده وتدفعه إلى الحركة والتحدث مثل تادلوك ،ثم جاءت
الخيول التي كانت ترعى واصطفت في طابور ،وبدأت تدخل في الحظيرة لتحتل المكان الخالي
المتبقي ،فقال لقائد هذا القطيع ما سبق قوله للباقين:
كثيرا،
ً -بوتر ،اطلب من حراس األبقار أن يزحفوا بها تجاه الجنوب ،ولكن على أال يقتربوا
سنجعلها ترعى منعزلة عن الثيران.
ثم أوقف انعواج اندفاع المياه واستمر يقول:
-سوف يكون هناك ما يكفي من المياه.
وذهب إلى الجمع وأشعل النيران لربيكا ،ثم تناول معوله وأخذ يحطم به شجيرة ،حيث لحق به
عدد من الرجال كانوا قد عادوا لتوهم من رعي الحيوانات ،ومدوا أيديهم اللتقاط قطع األخشاب
العائمة فوق سطح المياه ،وتحطيم الكبير منها إلى قطع صغيرة.
ذهب هولدريدج للعمل بالقرب من إيفانز ،ثم قال وهو يرتكز للحظة على معوله:
-أعتقد أن هناك توقعًا لهبوب الرياح والعواصف.
وكانت هذه الكلمات تبدو سوداء مثل وجهه الذي خرج من الظًّلم ،فرد عليه إيفانز:
-ربما ال يحدث ذلك؛ إذ لن تتحرك السحب بسهولة لفترة ساعة أو أكثر بأقل تقدير.
-ولكن ال يوجد عندنا الخشب الكافي لمواجهة ذلك ،ولن تحترق األغصان الخضراء.
وعاد هولدريدج إلى التلويح بمعوله ،واستمرا في صمتهما لحظات إلى أن مر بهما ديك،
وكانت آثار الدماء بسبب الذبح تلطخ سرواله الجلدي ،اعتقد إيفانز أن ديك قد قام بسلخ جلود
الجاموس ،لذلك قال:
-أ عتقد أنه من األفضل إشعال النيران في الشمال والجنوب والشرق والغرب على مسافة ال
تقل عن ربع ميل.
فهز ديك فكيه ،وقال:
-حسنًا.
-هكذا يبدو األمر.
-أي الطرق سيسلكون يا ديك؟
-ال أستطيع أن أخبرك ،ربما من الشمال؛ إذ إنهم يسيرون من اتجاه الشمال.
-إن ماشيتي توجد بالجنوب ،في مسافة تبعد عن إمكانية وضع النيران.
-ال أستطيع أن أؤكد أن ذلك يخلق اختًّلفًا ،مهما يكن وضعها اآلن ،ولكنها سوف تندفع من
غير شك إذا فعلت ذلك بقية الحيوانات.
-سوف نشعل النار الكبرى إذن في الجنوب ،وإذا كان عندنا ما يكفي من الوقت فسنقوم باقتًّلع
بعض الحطب إلشعال النيران حتى يمكن أن تكفي هذه األخشاب إلشعال نار كافية.
فتدخل هولدريدج ً
قائًّل:
-نحن بحاجة إلى عربة لحمل هذا الحطب ،عندي هذه العربة التي تستطيع أن تنقل مواد الطهو
إلى خارج نطاق الدائرة.
-حسنًا ،ابحث عن فريق لنقل األخشاب معك إلى هنا.
ثم قال ديك:
-سأرى ما إذا كان من الممكن طلب بعض الملح.
وبدأ إيفانز مرة أخرى في تقطيع األخشاب حينما حضر إليه هولدريدج ومعه العربة ،فساعده
إيفانز في نقل األخشاب بداخلها ،واالنتقال إلى أماكن األخشاب األخرى ،ثم جلس بجواره بعد
ذلك وهما في طريقهما إلى األماكن التي يجب أن تُشعل فيها النيران .كانا يقطعان األخشاب
رجًّل عند كل مكان خصص إلشعال النيران به ،ثم وقف ً حينما يذهبان ،وكان إيفانز يضع
بنفسه في موقع الجنوب وقال:
-خذ من المساعدة قدر ما تستطيع واحمل معك البنادق؛ إذ إن إطًّلق النار قد يحولهم بعيدًا
عنك.
وأخذ يدرس السماء واألرض ..األرض التي تقبع حمراء أسفل هذه السماء ،والقطيع الذي ال
يزال يرعى بجوار الغدران التي يجري فيها القليل من الماء ،ثم استمر يقول:
-ال أعتقد أن الوقت قد حان إلشعال النيران بعد ،عندنا ما يكفي من الوقت لتناول الطعام.
ثم ذهب إيفانز إلى العربة ،وشارك ديك في العشاء الذي أعدته ربيكا وتساءل:
-هل تناول براوني طعامه؟
-حضر وأخذ مضغة واحدة ثم عاد إلى الماشية .إن الغًّلم يعمل بجد يا ليجي.
ي أن أذهب إلى الحراس -ال أستطيع أن أفعل أي شيء هذه الليلة ،فكل إنسان يعمل ،ويجب عل َّ
إلخبارهم بعدم االلتصاق بأماكنهم إذا بدأ الجاموس في االندفاع ،وسنثبت خيامنا فيما بعد.
ثم وضع طبقه جانبًا ونهض واقفًا و هو يحدث نفسه بأنه من األفضل أن يحمل المزيد من
البارود ،ومسدس «كولت» ذي الطلقات الست الذي لم يكن ليهتم بحمله من قبل ،كان المسدس
محشوا بالطلقات ،ولكن صمام أمنه كان مغلقًا.
ًّ
ولما وصل ابتدره ديك ً
قائًّل:
-لقد وجدت بعض الملح هنا وهناك.
وجلس القرفصاء فوق األرض بالقرب من الوعاء واستمر يقول:
-ولكني أعرف أنه لن يفيد بشيء.
وبينما هو يتحدث إذ هبت عاصفة خفيفة هزت الجالسين جميعًا ،وقالت ربيكا ،وهي تمرر
بعض البسكويت الذي صنعته بنفسها في الفرن الهولندي:
-هذه الرياح!
وكان إيفانز يعرف أنها لم تكن تفكر في الرياح ،وإنما في العاصفة التي قد تهب ،وفي اندفاع
الجاموس ،وفي وجود براوني في الخارج مع الماشية .لم يكن ليستطيع أن يدلل براوني بعد
ذلك ،وبخاصة بعد أن كبر ودخل مرحلة الرجولة ،وأصبح يطلب الفرصة للمساواة مع الباقين.
وعادت الرياح تندفع نحوهم مرة أخرى ،لذلك قال ديك وكان يبدو على وجهه أنه ينتظر شيئًا:
-إنها قادمة يا ليجي.
نهض إيفانز فجأة والقلق يعتريه ،وقال:
-سأذهب لإلشراف على الرجال.
وتناولت الرياح الكلمات من فمه وأطاحت بها ،ولكنه استطاع أن يسمع هدير أصوات الجاموس
البعيدة التي أخذت تقترب ،كان الضوء األحمر ال يزال واض ًحا فوق األرض ،ثم ظهرت معها
ومضات لهب النيران التي أشعلت وسط الظًّلم ،وفي هذه األثناء ومض بريق خاطف في
السماء في اتجاه الغرب ،وسمع قصف الرعد بعد ذلك ،وحين مروره شاهد جز ًءا من الدائرة
التي عقدها ويذربي لتقديم الخدمات ،على الرغم من عدم وجود ما يكفي من المستمعين ،وقد
نقلت الرياح جز ًءا من كلماته:
-لنضع ثقتنا في هللا ،فهو الذي يحكم األرض والبحار والجبال والقبائل الوحشية والحيوانات
الضارية والعواصف ويتحكم فيها.
-باتش ،بروور ،تادلوك ،أنسيكو ،اذهبوا جميعًا إلى النيران.
وفجأة أصبح العالم كله خاضعًا لرحمة الرياح وعنفها ،وضاعت الصيحات هباء ،وأخذت
الرمال تنتقل لتمأل الحلق وتسده ،ولكن إيفانز استمر يقول:
-ماك ،جورهام.
وانهمرت األمطار من السحب فأطفأت النيران وجعلت المكان يبدو مظل ًما ،وكل ما استطاع
إيفانز أن يراه هو عدة شرارات دفعتها الرياح من النيران المشتعلة داخل المعسكر ،واستمر
يصيح:
-فيرمان ،باتش ،أسرع هنا.
ولم يكن يعرف متى بدأ يجري ،كان يجري نحو الجنوب ،وكانت رذاذات مياه المطر تبلل
جانبًا من وجهه ،وكان قصف الرعد يصم اآلذان وينير الطريق أمامه.
عا لها ليحميها من بلل مياه األمطار ،ثم
جمع بعض األخشاب من األكوام ،وجعل جسده در ً
وضع فوقها بعض البارود ،وتقدم باتش بمشعله ليوقد النار في هذه األخشاب التي أخذت تضيء
بسبب البارود ،ومد باتش يده في جيبه ليخرج حفنة من البارود ليزيد من اشتعال البارود،
ولكن النيران بدأت تتضاءل بسبب فعل الرياح ،ولكنها استمرت متجهة بألسنتها تجاه الشرق.
وأخذ إيفانز يعدو مرة أخرى نحو الجنوب ،وهو ينحني للرياح حتى ال تطيح به بعيدًا وهو
يصيح:
ي يا براوني.
-استمر في تغذية النيران ،سأتجه إلى الرعاة ،أسرع إل َّ
وكان يصيح كما لو كانت صيحاته تجد آذانًا صاغية أو تصل البنه.
كان يجب عليه أن يدرك أهمية إحضار جواد وقيادته على حسب تفكيره بحثًا عن مكان براوني،
وسمع في هذه األثناء انفجار أصوات ذهبت مع الرياح ،وأصواتًا أخرى تشبه أصوات عواء
الذئاب ،ودق الطبول ،فأبطأ في سيره ليحادث نفسه ،وشعر بأن هذه اللحظة هي بداية اهتزاز
العالم ،فأخذ يعدو بسرعة مرة أخرى ،ويصيح في اتجاه الرياح ووسط دقات الطبول وأظًّلف
الجاموس الهادرة.
-براوني ،يا حراس ،أسرعوا.
وازداد الصوت والهدير اقترابًا ،وشاهد حزا ًما وضَّاء يشق عنان السماء ،رأى مع ضوئه
جحافل وقطيع الماشية تندفع نحوه يدفعها الجاموس البري الذي يجري خلفها ،تعثر في سيره
وسقط فوق األرض ،ولكنه أسرع فنهض ،وشعر بأن النهاية لبراوني وربيكا قد اقتربت ،وأن
ضا بأنه ال حاجة به للبحث والجري من أجل االقتراب من آماله قد انتهت وتحطمت ..وشعر أي ً
الثيران ليحتمي بها ،وأنه ليس هناك أي وقت أو فائدة من وراء إعادة شحن البندقية ،بل عليه
أن يبقى ليشاهد نهايته تحت أظًّلف هذه الماشية ،أو أن ينجو بحياته ويتجه سال ًما ليقول مرحبًا
بك يا أوريجون.
شلت األصوات المخيفة كل تفكيره وشعوره ،لم يكن هناك أي شعور سوى الصوت المروع
والضوضاء المزعجة ،والرعد الذي يهز األرض ويحطم القلوب ..الرعد الخفي الذي يرسله
هللا من وراء ظًّلم الليل.
شعر في هذه اللحظة باقتراب أول حيوان منه ،ولمس درجة ذعرها وتشتتها ،فأخذ يلهث مثلما
تلهث هي نفسها ،وتجمدت أطرافه و ُ
ش َّل تفكيره من هول المفاجأة.
وأضاء النور المكان مرة أخرى ،فشاهد الماشية تتدفق عن يمينه وفي أعقابها تندفع جحافل
الجاموس إلى نهاية البصر ،وشعر بأن هذه الجحافل قد تضل طريقها إلى داخل الحظيرة.
وعرف أن أمامه فرصة اآلن ...إنه يستطيع أن يدفعها إلى اتجاه النيران اآلن ،وكان جسده
يهتز بقوة ويرتجف ،وكان وجه براوني يبث في عقله النيران ويدفعه إلى االهتزاز .وبعد
مرور فترة قصيرة شعر بأن كل شيء قد انتهى ،وأن الجحافل الضخمة التي كانت تهز األرض
قد أخذت تخف ،في حين أخذ وقع أظًّلف هذه الحيوانات يقل بالتدريج ،وبدأت نسائم الرياح
تخف ويخف معها رذاذ المطر المنهمر ،وشاهد خلف هذه الحيوانات نيران باتش ،ثم نيران
المعسكر خلفها ،وعاد إليه شعور اليأس والخوف على وحيده ،فاندفع يصيح بصوت حزين:
-براوني .أين أنت يا براوني؟
لم يأته أي جواب أو رد ،وسمع باتش يناديه ،ولكنه استمر في جريه وبحثه ومناداته البنه.
وكان يبحث عن أي ظل يجري خلفه عله يكون ظل وحيده ،واستمر بذلك يصيح مناديًا إياه:
-أين أنت يا براوني؟
لم يشعر بوجود باتش بجانبه ،إال حين قام باتش بإمساكه من ذراعه وهو يقول له:
-من األفضل أن تعود يا إيفانز ..إذا لم يكن قد عاد إلى المعسكر ،فسنجمع نحن جميع الرجال
ونخرج للبحث عنه.
فسحب يده بقوة ويأس وخوف من التحدث ،ولكن باتش عاد يقول له بلطف:
-ربما يكون بالمعسكر اآلن ،من يدري؟
فترك إيفانز أمر قيادته لباتش ،ولم يشعر باألمطار الخفيفة واألضواء التي تظهر في اتجاه
الشرق ،بل كان يفكر في كيفية مواجهة ربيكا.
كانت أصوات األظًّلف قد خفت لدرجة كبيرة ،ربما بسبب األوحال ،ولكنها كانت بعيدة على
أي حال .وفي هذه األثناء صاح باتش:
-من هناك؟
وجاءه صوت ديك يقول:
-أهذا أنت يا باتش؟
-حسنًا .أجل.
-ألم تر إيفانز؟
-إنه معي.
-بابا ،هل أنت بخير يا والدي؟
جاء صوت الغًّلم يشق حجم الظًّلم ،وكان هذا الصوت قمة األمل الذي انتظره إيفانز ،فهزته
المفاجأة وجعلته ينشج بصوت مسموع ،ويقول:
-كنت خائفًا عليك يا بني.
-أ خبرت والدتك بأنك قد تكون خرجت للبحث عني ،وكان ديك قد حضر ووقف معنا نحن
أمرا مضح ًكا.
الرعاة ،وحينما اندفعت العاصفة ركبنا جيادنا بأسرع ما يمكن وكان ذلك ً
شعر إيفانز بالتعب فجأة ،بعد أن استراح ً
قليًّل من االنهيار الذي كان سيصيبه:
-هل كان في ذلك شيء من الضحك؟
إذن فإن ديك هو الذي لعب دور اإلنقاذ مرة أخرى ،في حين كان هو يتعثر في سيره وبحثه
عن ابنه.
وتحدث باتش بهدوء:
-لو لم يقم إيفانز بتوزيع نظام الرعي والنيران ،النهار المعسكر وتشتت الركب.
فرد ديك ً
قائًّل:
-تستطيع أن تعتمد دائ ًما على ليجي.
واستمر ديك يقول:
-ل قد أخذنا إلى منتصف الطريقة لمراقبة الماشية ،وقادنا إلى نهاية طيبة كان من الممكن أن
ضا.
تنتهي بضياع هذه الماشية وضياع األرواح أي ً
***
الفصل السادس عشر
اعتدلت جوديث فيرمان في وقفتها وأخذت تضغط بيديها حول خصرها وجانبيها؛ لكي تقلل
من اآلالم التي تنتشر في ظهرها ،ثم تنهدت وقالت وهي تنظر إلى «إندبندس روك» حيث كان
بعض الرجال يتسلقونها لتسمية بعض األماكن بأسمائهم.
-تودي ،ابق حيث أنت بجوار الركب.
أمرا غاية في الصعوبة ،ولكن لم يكن ذلك يقلقها ،بل كان الشعور بعدم
كان السير والركوب ً
الراحة والقلق هما اللذان يحركانها في فراشها باستمرار .كانت تود أن تترك هذه األفكار
وراءها ،وقد يجد شارلز أن في ذلك ما يدفعه إلى التساؤل ً
قائًّل:
-هل أنت بخير يا جودي؟
فتعود إلى حالتها الطبيعية أو تتظاهر بذلك ،وتؤكد له أنه ال يوجد شيء يقلقها أو يؤرقها.
ولم تكن هي الوحيدة التي تعيش في هذا التيار أو التي وجدت شجاعة في ذلك ،كانت هناك
مسز بروور ،التي قبلت ظروفها ،والتي قد تقبل مجيء الفصول ،وكذلك مسز باتش التي لم
يكن عندها الكثير لتقوله ،ومسز بيرد التي كانت تبتسم لجميع الظروف ،ويراودها األمل مرة
بعد أخرى بأنها سوف تمتلك مرة أخرى مأوى مناسبًا لإلقامة فيه .وربما يكون هناك غيرهن
من الًّلئي يخفين أسرارهن ..فهناك ً
مثًّل مسز ماك بعينيها الخضراوين العميقتين وشكلها
الجميل.
أفكارا تؤكد أن هذا اليوم كان يوم راحة
ً وكانت األسئلة تراود الجميع وتذهب مرة أخرى تاركة
ولعب بالنسبة للجميع ما عدا النساء .كان الرجال والغلمان يتسلقون الصخور ،في حين كان
األطفال والثيران تلهو في القاع الشرقي من الوادي ،وأمامهم فرصة إلراحة أقدامهم.
كان شارلز قد ركب مع ديك سمرز وليجي إيفانز حينما ذهبا ليقوما باستكشاف المكان والعودة،
ومعهما بعض لحوم الجاموس من أجل االحتفال باليوم الرابع من يوليو الذي سيقوم تادلوك فيه
بإلقاء خطاب بهذه المناسبة.
كانت ترحب بالبقاء في هذا اليوم داخل المعسكر ،سواء أكان هناك عمل أم لم يكن .ماذا يهم
إذا لحق بهم الركب الذي يليهم؟ وماذا يهم إذا استمروا في السير في ذلك اليوم؟ إنه ركب
صغير معه القليل من المؤن ..لذلك فليسرع أو ليتسابق ،أو ليقطع األميال المتبقية حتى تنتهي
المتاعب واآلالم.
كانت تقف شامخة ،في حين أن اآلالم التي كانت في ظهرها قد أخذت تقل بالتدريج ،وظنت
جوديث أن الركب بأسره يحتاج إلى فترة راحة ،على الرغم من أنه لم يمض وقت طويل منذ
أن قطع الطريق من بًّلت إلى هذا المكان .كان إيفانز قد أمر معظم الرجال بامتطاء جيادهم،
في حين أمر القليل منهم بالبقاء للحراسة داخل المعسكر وإصًّلح العربات التي تعطلت أو التي
أصابها العطب ،في حين كان غالبية النساء يقمن بالطهو وغسل المًّلبس وتنظيف أنفسهن
بالمياه الباردة .واستطاع الرعاة أن يعثروا على جزء من القطيع الذي جاء بنفسه لينضم مرة
أخرى إلى الركب ،وكان قد ظل هناك جزء لم يتم العثور عليه يبلغ العشرين من بينها ثًّلث
يمتلكها شارلز نفسه.
كثيرا من المياه يا تود.
-ال تقترب ً
مظهرا طيبًا ،على الرغم من أنها لم تكن جز ًءا من
ً قالت لنفسها إن مجرد مظهر الكسل يعتبر
هذا الكسل .كانت العربات تصطف الواحدة تلو األخرى ،في حين كانت الماشية والخيول
ترعى بكسل ،وجلس الرعاة بالقرب منها يراقبونها تاركين كل شيء يسير على طبيعته،
والنسيم ينعشهم ويبث فيهم روح التجديد .كانت تشعر في تلك اللحظة بثقل العبء ،ولكن هل
كانت بقية النساء يشعرن بعبء األشياء وباألعمال اليومية التي يجب أن تتكرر باستمرار؟
مسز تادلوك؟ ومسز دورتي؟ ومسز جورهام؟ ومسز ماك بي؟ وربيكا؟ ولكن هل يشعرن
ضا في القلق الذي يظهر في الجو العام؟
جميعًا بهذا العبء؟ وهل يشتركن أي ً
كانت تعرف أنها تشعر باألسف لنفسها ،ولكنها لم تكن لتهتم بهذا الوضع ،وانحنت وأخذت
صا على لوح من الخشب أمامها ،وطلبت من تود أن يبقى بجوارها في أثناء قيامها تغسل قمي ً
ضا
بغسل مًّلبسها ومًّلبس تود الداخلية ،والمًّلبس األخرى؛ لكي ترتديها ويرتديها تود أي ً
عا بعد أسبوع ،وهما في طريقهما إلى أوريجون ،أو حتى نهاية حياتهما .وتوقفت لحظة أسبو ً
لتفكر في اآلالم التي تقاسيها أكثر من غيرها ،وكانت تعرف أنها بعد أن تنتهي من الغسل
والتنظيف يجب أن تقوم بأشغال اإلبرة أو ببعض األعمال اليدوية.
منعت بعض الدموع التي كانت تترقرق في عينيها بعد شعورها بعدم الصبر .كان العمل هو
العمل بالنسبة لكل فرد ،وكانت تعمل باستمرار أو ترغب في العمل ،ولكنها شعرت باإلنهاك
والتعب.
رفع تود وجهه إليها وكانت عيناه ترنو زرقاوين إلى عينيها ،في حين كان فمه ووجنتاه مثل
فم ووجنتي الطفل.
-أال أستطيع أن أذهب يا والدتي؟
-بعد فترة ..انتظر هنا ً
قليًّل.
وفي حين كانت تتحدث إليه ،جاءت ربيكا إيفانز من الخط األمامي وقالت:
عليك.
ِ -لقد انتهيت من جميع أعمالي وجئت لمساعدتك ،إن التعب يبدو
وبدأت يداها تعمًّلن ،وكان ذلك يبدو لجوديث أن ربيكا من نوع النساء الًّلئي يصلحن لمثل
هذا الركب ،كانت سمينة وقوية وتصلح للعمل القاسي من غير وجل أو خوف ،فإذا مرت
سحابة من الرعب والخوف واإلنهاك بها ،فلن يستطيع أي إنسان معرفة ذلك ،وإذا أثرت فيها
رحلة األميال الطويلة ،فلن تترك ذلك ليبدو عليها أو ليعرفه أي إنسان.
األميال والمسافات ..كانت هي األعداء الحقيقية وليس الهنود ،أو العبور ،أو الطقس ،أو العطش
أو السهول ،أو الجبال ..بل المسافات والفراغ واإلرهاق الذي تتسبب فيه المسافات ،واألميال
أمياال في أعقابها ،وكذلك مستويات األرض والهضاب والمنخفضات التي كانت ً التي تجر
تعطل سير الركب وتهزه .ولم تكن هناك نهاية كذلك ،أو وسائل لتقصير المسافة ..كان النهار
والليل متعاقبين ،ومتشابهين من غير أي تغيير .كانت هناك تًّلل وسحب وسماء أبعد من أن
يستطيع اإلنسان الوصول إليها جميعًا ،وكانت تتعجب في بعض األحيان من صًّلبة رأي
الرجال وجنونهم وشجاعتهم ..إن اليوم الذي يلي اليوم سوف يقربهم من أوريجون.
وقالت لربيكا:
-إن المسافة تبدو بعيدة.
فأجابتها ربيكا ،وهي تقوم بوضع المًّلبس النظيفة داخل سلة:
كثيرا في بُعد المسافة ،بل فكري في اليوم الذي نعيش
-حتى ولو كان األمر كذلك؟ ال تفكري ً
فيه فقط.
-ونفكر في قطعة من المًّلبس الداخلية في وقت واحد ،وفي قميص ،أليس كذلك؟
-إنك تشعرين بالقلق والملل يا جودي.
شعرت جوديث بحاجة ملحة للبكاء والجلوس على األرض ،والشعور بالخجل والرغبة في
الصياح والهياج .حولت وجهها نحو تودي الذي كان يعبث في األرض بعصا ،ثم قالت:
-كم أود أن أصبح مثلك يا ربيكا!
-مثلي أنا؟
-إن األمور تبدو كما لو كانت ال تقلقك أو تضايقك.
-ولم أشعر بانهيار أو بحزن أو بأي شخص آخر؟
-هل األمر كذلك؟
-أحيانًا أسير بحذر وببطء.
-ال أحد يعرف ذلك.
خرج تنفس ربيكا بطريقة تشبه االنفجار الضئيل ،واستمرت تقول:
-ال تظني مطلقًا أن ما تشعرين به ال يشعر به اآلخرون بين حين وحين .إنني أفكر في بعض
األحيان ،ثم أفكر في االبن الطيب الذي عندي ،وزوجي ،وأشعر بأنني يجب أن أشكر هللا على
ً
رجًّل طيبًا يا جودي. ما منحني إياه ،وقد منحك هللا
ومفكرا،
ً ً
رجًّل طيبًا وافقت جوديث على ذلك ،وهزت رأسها عًّلمة الموافقة .كان شارلز
وطمو ًحا ومنتب ًها وعنيفًا بالطريقة التي كان عليها إيفانز نفسه .وفكرت في أن تمنحه وقتًا لكي
يستعيد قدرته كرجل عمل ،ثم قالت:
-ال أعرف لماذا أنا مغتمة وأشعر بالضيق.
-إننا نشعر بالشعور نفسه جميعًا.
أجابت ربيكا هذه اإلجابة وهي ال تزال مشغولة ،ثم استمرت تقول:
ً
ضئيًّل اآلن معي؛ إذ إنني تعودت على هذا األمر .إن األمر يختلف -ولكن األمر يبدو لك
بالطبع معي ،ربما قد تشعر المرأة بالمرض والضعف ،ومع ذلك فهي تستمر في الحمل
والوالدة حتى يمكن أن تكون أسرة بطفلها.
-ربما كان األمر كذلك.
-إن المرأة ليست مقطوعة مثل الرجل ،وليست مغامرة أو مندفعة ،وإنما ترغب دائ ًما في
ضا.
البقاء و االستقرار ،ولكننا ال نزال نتبعهم إلى كل مكان ،ونحن مسرورات بذلك أي ً
ثم ضحكت ربيكا من قلبها وهي تضع بقية المًّلبس داخل السلة .كانت جوديث تظن أنها
تتصف بالرجولة أكثر من أي امرأة أخرى ،فعندها وجه عريض مثل زوجها ،وشارب خفيف
فوق شفتها العليا التي جعلتها الشمس تبدو سوداء ،واسترسلت ربيكا تقول:
-إن ابنك صغير لدرجة يشبه معها السنجاب.
-نحن نعرف أنه شفى من الحمى.
لذلك كان يجب أن تتمتع بذلك ،وكان يجب أن تشدو وتغني ترحيبًا بهذه المنطقة الخام المرتفعة،
ورائحة أخشاب (القويسة) التي قال عنها ديك سمرز إنها نوع من الدواء .كان يجب أن تكون
سعيدة بعودة الصحة إلى ابنها ،الذي يحمل وجه األطفال ،ولكن آالم الماضي ظلت تؤرقها..
كانت تشعر بقوة ورغبة ودافع من أجل التقهقر والعودة ،والهرب إلى الزراعة في كنتاكي..
والذهاب إلى والدتها التي تعيش عيشة كريمة في لكسنجتون ،وزيارة أختها التي تعيش في
هدوء وسًّلم وسعادة في فيكسبورج .كانت تأمل في أن تصل خطاباتها التي تركتها في فورت
الرامي إلى وجهتها التي حددتها.
واستمرت ربيكا تقول:
-أجل ..إنه في صحة جيدة على أي حال.
رفع تود رأسه ،وقال:
-أال أستطيع أن أذهب أللعب مع بقية األوالد يا والدتي؟ إنهم يلعبون!
هكذا كانوا ،كانت هناك مجموعة بالقرب من النهر تلطم المياه الضحلة ،وكان هناك بعض
الكبار الذين يراقبون هذا الوضع ،في حين كانت هناك مجموعة أخرى تسير حول السياج
الخشبي ،وهناك بعض الصرخات والصياح والضحك .وهنا قالت جوديث:
-سوف نخوض الطريق اآلن.
-أود أن ألعب اآلن.
ًّ
وممًّل. -أعرف يا بني .إن الوضع أصبح متعبًا
تساءل وجه ربيكا عما يمنعها من األذن له بالذهاب واللعب.
فأجابتها:
ضا لفترة طويلة.
ضا ..مري ً
-أعتقد أنني شديدة الحذر ،ولكنه كان مري ً
ثم وجهت حديثها إلى تود ،واستمرت تقول:
-ماذا عن كعك األوحال؟
-إنني أشعر بالسأم والملل من عدم عمل أي شيء يا والدتي!
-ماذا عن كعك األوحال؟
وجهت إليه هذا السؤال وهي تفكر؛ كيف يخلق ضياع الوقت روح السأم والمرارة في نفس
الطفل؟ وتذكرت فترة صباها ،وكيف كانت الساعات تمر قاسية ،ووضعت نفسها في مكانه
وأخذت تتصور دوران العجًّلت الًّلنهائية ،والشمس الحارقة التي ال تتحرك وسط السماء
الصافية ،وكذلك األيام التي كانت تمر بطيئة ،وشعرت في نفسها بأن ابنها يود أن يسألها :كم
تبعد المسافة إلى ساوث باس يا والدتي؟ وكم من الوقت سيمضي حتى نتوقف؟ وكم نبعد اآلن
عن أوريجون؟ ال نستطيع أن نفعل أي شيء سوى االنتظار ..انتظار الوقت الذي سيمضي.
أما اآلن ..حينما شعر برغبة في أن يلعب ،نجد أن عًّلمات الخوف الذي ال مبرر له قد ظهرت
عليها ،ونجدها ال ترغب في أن يبتعد عنها .ومدت يدها لتلتقط إناء وتتجه به إلى المياه ،وتقول:
-سأذهب إلى المياه يا تود.
ضا منها وقالت:
ووصلت إلى المياه وأحضرت بع ً
-ها هي ذي المياه .اصنع لنفسك كع ًكا من األوحال.
ثم انحنت عليه لتقبله ،وترى على وجهه عًّلمات االحتجاج.
انتهين جميعًا من عمليات الغسل ،وبقي عليهن نشر المًّلبس في الهواء لكي تجف ،لذلك وجهت
جوديث حديثها إلى ربيكا قائلة:
-كان عظي ًما منك أن تساعديني ،تستطيعين الذهاب اآلن.
-ستصبح األمور على خير ما يرام ،وسنصل قريبًا إلى ويًّلميت.
-إنني لست قلقة بهذا الشأن ..إنني مجرد ..ال أعرف ..إنني مجرد سخيفة.
-إن ما يأتي في العادة ليس قريبًا أو سيئًا حتى نخشاه ونرهبه .تذكري ذلك.
ثم ابتسمت ربيكا وجففت المياه من يديها ،وأخذت تبتعد لتجمع أشياءها ،ثم سارت في طريقها
واثقة من نفسها ،في حين كانت بقية النساء يجمعن أدواتهن للعودة إلى خيامهن.
كانت جوديث ترفع سلتها ،حينما مر بها هيج وقال لها:
-أسعدت صبا ًحا ..كيف حالك يا بني؟
ومد يده ليداعب تودي بأصابعه ،فرد عليه تود:
-إن والدتي تمنعني من اللعب.
-ل ماذا؟ إنها سوف توافق على ذلك اآلن ،سنقوم نحن االثنين ببناء قلعة ،أحضر هذا الفرع
الخشبي الموجود هناك.
وضعت جوديث السلة فوق األرض ،ورحبت بهيج ،ثم قالت له:
-كنت أعتقد أنك عند الصخرة؟
-لماذا؟
-لكي تحضر السمك بالطبع.
-أنا ال أفعل ذلك.
وتنهد بصوت مسموع ،ثم وضع الفرع الخشبي وبعض العصي ،وكان تود يراقبه.
-لماذا؟
فقطب جبينه ،ورد ً
قائًّل:
-أستطيع أن أقول إنني ال أعرف الكتابة.
-أوه!
-ولكن ليس هذا هو السبب.
-ما هو إذن؟
بدأ التفكير يشع في ناظريه وهو يقول:
-إن هذا المكان يضع عًّلماته على اإلنسان ،والعًّلمة هي أنه ال يعرف من يكون وما حجمه
في هذا الكون وهذا المكان نفسه.
-إنني ال أفهم ما تعني.
-إنه يقوم بوضع عًّلمته على هذه المنطقة مثلما يفعلون اآلن على هذه الصخرة ،ثم يستطيع
أن يقول لنفسه بعد ذلك :إن هذا يخصني ..إن اسمي محفور على الصخور.
-حسنًا!
-ا نتظر يا بني ،لقد نسينا أن نترك فتحة للباب أو المدخل ..إن ما أريد أن أخبر والدتك به هو
أن تفكيري بسيط ،وأنني لن أقوم بعد ذلك بحفر اسمي؛ ألنني أو غيري لن نكون واثقين ،فيما
بعد ،أن االسم الذي ُحفر فوق هذه الصخرة هو اسمي أنا.
-كنت أعتقد أنهم يحفرون أسماءهم لكي يراها غيرهم من الناس.
-إ نني ال أرى أن حفر االسم وسط ضياع مفقودة سيكون له أثر كبير في حياة الفرد .واآلن يا
بني لنضع مدفعًا بداخل القلعة إلبعاد الهنود عنها.
-أال يكتبون أسماءهم حتى يراها غيرهم من الناس؟
-إ ن الناس الذين يعرفونني يعرفون اسمي ،والذين ال يعرفونني ال يهتمون بذلك ،وإال كان
ذلك محاولة لفرض اسمي على غيري.
-إنك تفكر في أشياء مسلية يا هيج.
-من منا ال يفكر في ذلك؟
ً
معقوال ومنطقيًّا كما من منا ال يفكر؟ كان هذا هو الشعور بالقلق وعدم الراحة ،هل كان األمر
ذكر هيج نفسه؟
-على أي حال إننا نشعر بالسرور التام لكونك معنا يا هيج.
-إ نه شعوري نفسه بوجودي هنا .تود ،هناك قلعة ممتازة لك ،ابعدها عن األخطار .هل
سمعتني؟
سحب ساقيه من أسفله ،ثم انتصب واقفًا ،والتقطت جوديث سلتها أي ً
ضا ،وهي تقول:
-ا ستمر في لعبة القلعة يا تود في حين أقوم أنا بإنهاء أعمالي ،ثم نستطيع أن نخوض المياه
معًا بعد ذلك.
ثم ذهبت إلى الحبل الذي كان مشدودًا بين شجرتين ،ووضعت السلة فوق األرض وأخذت
تعلق المًّلبس المغسولة فوق الحبل ،وانتهت من تعليق آخر قطعة من المًّلبس والتفتت لتتحدث
إلى تود ،ولكنه كان قد ذهب واختفى.
صنع القًّلع وكعك
لم يكن يقصد الهرب ،ولكنه كان يرغب في التحرك جانبًا ،بعد أن تعب من ُ
األوحال والبقاء في مكان واحد ،ابتعد ً
قليًّل عن المغسل ليجري نحو بقعة ممتلئة باألعشاب
الجافة ،وشاهد في سيره أرنبًا برية تنظر إليه ،ثم تندفع جارية ،فجرى خلفها ،ولكنه لم يستطع
اللحاق بها ،ثم انحنى فوق األرض ليلتقط بعض الحجارة الصغيرة ليقذف بها هذا الحيوان
الصغير الذي أخذ يعدو بسرعة مبتعدًا .وجذبته روح المطاردة وحماستها فاندفع خلفه ،ولكنه
فقده بعد فترة قصيرة ،وأخذ ينظر حوله باحثًا عن والدته ،ولكنه كان قد فقد أثرها وابتعد عنها،
ليجد نفسه في أرض شاسعة األطراف خلف عربة دخل نصفها في تربة األرض ،ولم يستطع
أطفاال ،على الرغم من أن أصوات صياحهم ً أن يرى أي رجل أو امرأة ،بل لم يستطع أن يرى
تصل إليه.
شعر بالفراغ خلفه ويحيط به ،فأخذ يتراجع من حيث جاء باحثًا عن األمن بين ذراعي والدته،
والقبًّلت الحارة التي ترسلها من شفتيها ،ثم سمع صوت «جندب» يقرض األعشاب ،وسمع
صوت رنين يأتي من مكان ما خلف مجموعة من الصخور ،وتحقق من صدور هذا الصوت،
فتوقف عن الجري ،وانحرف تجاه هذه المجموعة ،وانحنى لينظر بين الصخور الصغيرة وسط
صغيرا ،يشبه وجه رجل ،ينظر إليه ،وف ًما مفلط ًحا
ً األعشاب الجافة بفعل الشمس ليرى وج ًها
صغيرا يخرج بسرعة ثم يدخل فجأة.
ً وعينين متحجرتين ،وفتحتين لألنف ولسانًا أحمر
وجه رجل صغير جدًّا ،وجه أفعى ،وجه الحية ذات األجراس ملتفة حول نفسها داخل الصخور
المتربة ،وكان ذيلها يهتز بقوة .لم يستطع أن يجري بعد الصدمة التي تلقاها ،وهي أنه عرف
ً
مشلوال وقد تصبب منه عرق الخوف ،وتسمر في مكانه وعيناه مسلطتان حقيقتها ،بل وقف
على ذيلها الذي بدأت تخفي وجهها في وسطه ،ولم يعد يظهر من وجهها سوى لسانها الذي
محمرا.
ًّ كان يخرج
-تودي ،أوه ،تودي.
وحينما بدأ يتحرك في مكانه شعر بعضة تصيب ساقه وبوخز إبر ،ثم رأى الحية تنسحب
بسرعة أمامه .وقف ليجي إيفانز حينما أحاط هو ومن معه بصخرة «إندبندس روك» واستطاع
بوقفته هذه أن يرى منظر المعسكر:
-ها هو ذا المعسكر يرقد سال ًما.
كان ديك سمرز ،وشارلز فيرمان يجلسان فوق سرجيهما وينظران إلى السهل الذي تغطيه
عربات لمسافة تقرب من نصف ميل ،كان معهم أربعة من الخيول تحمل على ظهورها لحو ًما،
لذلك قال إيفانز وهو ممسك بلجامي زوجين من الخيل يسيران خلفه:
-عندنا حمولة طيبة من اللحوم.
فرد عليه ديك ً
قائًّل:
-إن الحظ يسير في جانبنا حتى اآلن.
فتساءل فيرمان:
-ماذا تعني يا ديك؟ هل هناك القليل من المرض؟
-الهنود ،إننا لم نر سوى القليل جدًّا من الهنود.
فأجاب إيفانز:
-ال يزال أمامنا متسع من الوقت.
-إن المناطق عبر الجبال هي مناطق أكثر أمنًا.
-ولكن ال يوجد بها جاموس بري.
-القليل ،يجب أن نجفف بعض اللحوم غدًا أو اليوم الذي يليه .ليجي إنني أفكر ..يبدو أن هناك
حادثًا في المعسكر.
وفي حين كان يتحدث كان ديك ينظر إلى المعسكر ،وكان إيفانز نفسه يتطلع إليه وإلى الشمس
ويقول:
-لقد عدنا في الوقت المناسب لسماع تادلوك في حديثه عن يوم االستقًّلل كما وعدنا.
تادلوك الذي ظل يطالب بضرورة إلقاء خطاب في اليوم الرابع من يوليو عند الصخرة ،ثم
ظهر بعد ذلك بمظهر من يود أال يلقي مثل هذا الخطاب ،ولكنه سوف يلقيه ما داموا يطلبون
ً
رجًّل نه ًما لألهمية التي ظل يبحث عنها ويطاردها. منه ذلك .كان
وخرج تادلوك من ذهن إيفانز حينما عاد األخير ليتطلع إلى وجه ديك مرة أخرى ويتساءل:
-ماذا هناك يا ديك؟
وأخذ يتابع نظر ديك إلى المعسكر ،كانت العربات تستقر في سًّلم وتحيط بالخيام ،وكان
الماشية ترعى في اتجاه الشرق على طول النهر حيث وضع اثنان من الحراس ،فأجابه ديك:
-ال شيء ..ال أستطيع أن أرى أي إنسان في هذا الجانب من الحظيرة.
-إنهم بجوار النهر.
فقطب ديك جبينه ،ووجد إيفانز نفسه يتوه في موجة من التعجب كما كان يفعل من قبل ،بسبب
طريقة ديك ،ثم قال ديك:
-هناك بعض األمور تجري في الطرف اآلخر.
فدقق إيفانز نظره ليجد بعض األشخاص الذين يتحركون بسرعة خاطفة بين األماكن الخالية
التي توجد بين الخيام ،ثم قال:
-ربما يقوم األخ ويذربي بإلقاء بعض مواعظه.
-ربما.
-عرباتي في مكانها هناك لم تتغير.
وانعكست هذه الحركات غير الطبيعية على وجه فيرمان ،ثم قال ديك وهو يقود جواديه:
-دعنا نشق طريقنا.
امتطى إيفانز جواده ولكزه بقدميه وسار متج ًها صوب المعسكر وهو ممسك باللجام بيده
ويصيح:
-لنتجه إلى المعسكر بسرعة.
كانت اللحوم تهتز فوق ظهور الخيل وهي تجري متجهة إلى المعسكر ،وكان إيفانز يعتقد أن
تجمهرا عند خيمة فيرمان.
ً ديك على حق ،وذلك كلما اقتربوا من الخيام ليشاهدوا
فنادى إيفانز أول رجل قابله ،وكان هيج بالمصادفة ،فسأله:
-ماذا هناك؟
كان وجه هيج يبدو ممتقعًا تكسوه صفرة تشبه صفرة الموت ،وكانت الكلمات تخرج من فمه
متقطعة لتقول:
-لقد أصيب الغًّلم بعضة ثعبان.
-تود؟
-عضة حية األجراس.
-يا إلهي! متى؟
-في منتصف النهار.
-ديك.
كان صوت هيج يشبه الهمسات وهو يقول:
-يبدو إنه سيرحل عنا.
-ديك ..هل سمعت؟
قال ديك وهو يهز رأسه:
-أجل لقد سمعت.
اندفعوا جريًا إلى الخيمة حيث يقف األخ ويذربي منحنيًا ،وانحنى إيفانز ليشق طريقه داخل
الخيمة ،فشاهد ربيكا تجلس على األرض بجوار الفراش وفي يدها وعاء .لم تتكلم وإنما تركت
عينيها تتحدثان ،ثم قال إيفانز:
-إنني ..لقد سمعنا لتونا.
كان الغًّلم يرقد فوق سريره على األرض ،وعليه غطاء ال يظهر منه شيء سوى شكله الذي
رسمته بطانيته ،وكان وجهه يبدو شاحبًا فوق وسادة صغيرة ونظيفة ،كما أن عينيه كانتا نصف
مغلقتين.
نقل إيفانز ناظريه من الغًّلم إلى جوديث فيرمان التي كانت جالسة على مقربة من ربيكا
ممسكة بيد الغًّلم في راحتيها ثم سألها:
-كيف حاله اآلن؟
وظل فيرمان يروح ويغدو حول المكان ،وكان يركع بجوار زوجته وهو يحملق في تود ،كما
لو كان قد أصيب بالصمت ،ثم قال:
-باهلل عليكم جميعًا ،هل نظل هكذا صامتين ال نفعل شيئًا؟
فنظر إليه الغًّلم بضعف ووهن وغمغم بشيء جعل والدته تحني رأسها نحوه لسماع صوته.
ثم التقطت منشفة من أحد األركان المجاورة لها وأخذت تجفف جبهته وفمه بها ،وقالت:
-هل تريد شرابًا آخر يا تودي؟ هل تريد شرابًا آخر؟
فنادى إيفانز على ديك:
-ديك.
وكان ديك يقف بالخارج ،ثم اندفع داخل الخيمة بمجرد سماعه النداء ،وسقط نظره على
الفراش ،ثم تحدث إليه إيفانز:
ضا يا شارلز.
-يحسن بنا أن نبحث عن وسيلة أي ً
فقال فيرمان بصوت منخفض ،كما لو كان يطلب الصفح لعمل غير مهذب ارتكبه من قبل:
-كان باردًا ،لقد أخبر والدته بأنه يشعر بالبرد.
ثم أعاد الغطاء وهو ينظر إلى وجوههم المتطلعة .انكمش إيفانز في نفسه مما رآه؛ إذ انتفخت
ساق الغًّلم وظهرت بعض البقع السوداء بظهور بعض مناطق الدم التي تسممت.
وانحنى فيرمان ليفحص ساق الغًّلم ،وليشاهد فيها آثار العضة .وكان بعض األشخاص قد
قاموا بربط الساق وجرح مكان العضة .وأصاب الجميع الصمت بسبب هول الموقف ،ولم
يقطع حبل الصمت سوى قول ربيكا:
-لقد قام المستر بيرد بكي مكان العضة ووضع ملح البارود فوقه ..هذا هو كل ما نعرفه.
فقالت جوديث فيرمان بصوت ال يزيد على الهمس:
-أال تعرفون شيئًا؟
لم تكن قد تحدثت من قبل ،فنظر إلى وجهها وكان هناك الكثير مما يكفي من المشكًّلت ،وكانت
الدعوات والصلوات تتردد في صوتها الذي ال يستطيع أن يقول الحقيقة .وحاول إيفانز أن
يتصيد أكذوبة حول الوضع ،ولكن ديك انبرى يتساءل في هذه اللحظة:
-هل امتص أحدكم السم من ساقه؟
فهزت رأسها ببطء عًّلمة النفي ،وظهرت عليها عًّلمات الذنب لعدم تفكيرها في عملية
االمتصاص .ولم يستطع إيفانز أن ينظر إليها أكثر من ذلك ،لم يستطع أن يقف ليشاهد اهتزاز
األمل وسيطرة اليأس ،فانحرف بناظريه إلى ربيكا التي كانت تجلس صامتة وتعكس القوة في
صمتها .وشعر بأن النساء يقاسين الكثير ويتحملن اآلالم والهزات النفسية ويدركن األمور
أفضل من إدراك الرجل في هذا الشأن ..فالرجل في الحزن والموت ليس سوى طفل -كما كان
هو نفسه حين يجب أن يعتمد على أمومة ربيكا.
تحرك الغًّلم وعيناه نصف مفتوحتين ،واهتز في مرقده ،ثم أخذ يتقيأ وربيكا تتلقى القيء في
اإلناء الذي تحمله ،في حين كانت جوديث تنحني فوقه لتجفف فمه ،ثم أخذ الغًّلم يصيح بصوت
ضعيف ً
قائًّل:
-إنه يؤلمني يا والدتي!
فقال إيفانز وهو يحاول أن يجد بارقة أمل في لهجته:
-إنه يتكلم بلهجة واضحة.
وقالت جوديث ووجهها ال يبكي ،إن عينيها الزرقاوين المنهكتين الذابلتين هما اللتان تبكيان
تاركتين خطين من الدموع على وجنتيها:
-أعرف يا عزيزي ،أعرف .هل تريد شرابًا؟
لم يجبها الغًّلم ،وإنما عاد إلى مرقده ،وأغلق جفنيه .وبدأ إيفانز يشعر بالخوف والرهبة وهو
يرى زرقة الموت أسفل عيني الغًّلم وفوق صدغيه ،وأخذ يستمع إلى تنفس تود.
بكى فيرمان مرة أخرى وصاح ،كما لو كان هذا الوضع من خطأ الجميع:
-هل نقف ننتظر النهاية؟
فقال إيفانز وهو يخطو نحو باب الخيمة:
-هدئ من روعك يا شارلز ..لتقم إحداكن أيتها النساء بغلي بعض اللبن ..حافظ على الهدوء
بقدر اإلمكان يا ديك.
كان األخ ويذربي يقف عند مدخل الخيمة ،لذلك قال حينما شاهد إيفانز:
ي.
-إنني موجود هنا إذا احتجتم إل َّ
شكرا لك ..تعال يا ديك.
ً -
ثم قاد ديك إلى أحد األركان بعيدًا عن الجمهور ،الذي كان قد انقسم إلى حلقات وهم يتحدثون
داخل حجرة المريض ،وقال ديك وبصوته رنة العجز:
-ال شيء يمكن فعله اآلن يا ليجي.
-أال نجعل جوديث تعتقد أن كل شيء قد فعله هللا.
أخذ ديك يفكر ً
قليًّل ،ثم أجاب بصوت أكثر رقة:
-إنك طيب الخلق يا ليجي ..هناك بعض الجذور التي يؤكد السيوكس أنها تشفي من السم،
كثيرا .سأتولى البحث عن بعض منها.
ولكن هذا أمر يجب أال يعتد به ً
عاد إيفانز إلى حيث ينتظر الجميع ،وشعر بيد فوق كتفه ،وسمع صوت مسز ماك بي:
-إذا استطعنا أن نعثر على ضفدعة من ذات البقع السوداء ،فإن ذلك سيوصلنا إلى نتيجة.
-ضفدعة؟
-نضعها فوق مكان العضة ،فإذا لم تعش فإنها تكون قد امتصت السم في جسدها ،ونأت بغيرها
لنواصل عملية امتصاص السم.
فقال لها وهو يبعد كتفه عن قبضة يدها ويدخل الخيمة:
-اذهبي وابحثي عن ضفدعة ،لقد ذهب ديك للحصول على دواء بري ،وسنقوم بعملية
االمتصاص إلى أن تأتينا المساعدة.
التقت عينا فيرمان بعينيه ،ثم قال له وهو يعيد البطانية مكانها:
-حسنًا.
-سنقوم بمحاولة جدية يا شارلز.
فأحنى فيرمان رأسه وهو يقول:
-إنه ابني.
لم يتحرك الغًّلم ،كان يرقد ساكنًا بساقه الرفيعة واألخرى المتورمة التي ستقتله ،فقال إيفانز:
-سنضع فوقها الجذور ومزي ًجا من محلول اللبن ودواء هذه الجذور؛ إلنهاء هذا التسمم.
كانت جوديث تربت على اليد التي وضعتها في راحتيها وتقول لنفسها ،كما لو كانت تتمنى
أمنية بعيدة المنال وتطلب فرصة جديدة له:
-لم ينل قسطه من المرح.
كانت الدموع تنهمر من مقلتيها من غير أن تبدو على وجهها آثار البكاء ،واستمرت تقول:
ضا بما فيه الكفاية.
-كان مري ً
رفع فيرمان رأسه ،وبصق على األرض ،ثم انحنى مرة أخرى.
في حين استمرت جوديث تقول كما لو كانت تجلس بمفردها:
-ك ان يجب أن ألعب معه هذا الصباح ،كان يجب أن أعرف سبب شعوره بالتعب والقلق من
عدم قيامه بأي شيء.
فسألتها ربيكا:
-أرجوك ..ال تلقي اللوم على نفسك ..ال تلقي اللوم على نفسك أبدًا ..إنك لست ملومة على ذلك.
كان إيفانز يتمنى أن تنفجر جوديث في البكاء ،حتى تفرج عن نفسها كما فعلت بعض النساء.
وجاء ديك ومعه إناء به بعض اللبن الساخن وبعض الجذور المغلية في اليد األخرى ،وجلس
عند مدخل الخيمة ،ثم وضع أحد الجذور في فمه ،وحينما أتم مضغها بصقها في يده ،وأخذ
مضغة أخرى وهو يقول:
-اهدأ ً
حاال يا شارلز.
التفت فيرمان وهو يمسح فمه الذي كان حوله بعض آثار مسحوق ،وقال:
-ما هذا؟
فتحرك ديك وهو يمضغ بعض الجذور ويمسك في يده البعض اآلخر ،وقال:
-جذور يستخدمها السيوكس.
فتساءل إيفانز:
-هل عندك خرقة أو قطعة من القماش؟
تناولت جوديث المنشفة التي كانت بجوارها ومدت يدها بها إليه ،فتناولها وذهب إلى القدر
وغمس المنشفة في اللبن الساخن ،ورفعها بعد ذلك ،ثم وضعها فوق الساق وسحب البطانية
مرة أخرى .وتساءل فيرمان ً
قائًّل:
-هل يمكن أن يساعد الويسكي في هذا الوضع؟
هز ديك رأسه وهو يجلس القرفصاء ووجهه ال يفصح عن شيء سوى صبر االنتظار ،وجلس
ضا وهو يحيط يديه برقبته ،وظل الجميع يرقبون الوضع ،وكان الوقت يمر بطيئًا كأنه
إيفانز أي ً
مستمرا في مضغ الجذور ،ويقوم إيفانز بغمس المنشفة في اللبن
ًّ دهر طويل ،في حين كان ديك
الساخن الذي ظلت مسز ماك تحضره.
وجاءت من الخارج أصوات همهمات صامتة .وجاء صوت جوديث من األعماق السحيقة
رويدًا رويدًا وهي تقول:
-لقد كان كل أملنا وقوتنا في الذهاب إلى أوريجون.
فاندفع فيرمان صائ ًحا.
-كان..
-أعني هو أملنا يا شارلز .أملنا اآلن.
وأخذ إيفانز يحملق في يديه ،ثم صاحت ،وصرخت ..صرخة لم يستطع أن يتحملها ،وشاهد
المادة السميكة المريضة تخرج من جفني الغًّلم المغلقتين ،فعرف أن الغًّلم يحتضر ويموت.
فنهض واقفًا واندفع إلى الخارج ،وهو يبصق على األرض ويجيب عن كل سؤال يُوجه إليه:
-أسوأ ما يكون.
ووجد األخ ويذربي ،فطلب منه أن يدخل ،شعر في بعض األحيان أنه يجب أن يشكر هللا على
وجود الوعاظ في مثل هذه المناسبات.
الفصل السابع عشر
كان اليوم جافًّا ودافئًا ،وعاصفًا ،لدرجة أن اإلنسان يقوم بلعق شفتيه بسبب الجفاف والحرارة،
وبسبب البخر الذي يتصاعد من جسده .لم يكن بالسماء سوى بعض السحب الخفيفة التي تسير
في اتجاه الشرق؛ لذلك شعر إيفانز بلفحة الشمس في ظهره ،وشعر بأن لهيب هذه الشمس
سوف يلهب األعين ،وأن الرياح الساخنة التي ستهب من الغرب ستحرق بشرة الوجه .وفكر
في أن شفاه بيرد المتشققة لن تتحسن في ذلك اليوم.
منتظرا األخ ويذربي للبدء في المسير .كان ويذربي يضع معطفه وقبعته
ً وقف مع الباقين
واإلنجيل تحت إبطه ،وكان معه القماش الخاص بلف تود فيرمان «والنعش» الذي سيحتويه.
لم يكن إيفانز يعرف سبب انتظار ويذربي ،ما لم يكن ذلك من أجل السير مباشرة من مكانه.
وحينما تردد صدى الصوت العميق ،عاد إيفانز بذاكرته إلى األمس وتذكر قسم ربيكا بأنها لم
شا» طيبًا ،أفضل بكثير مما سبق صنعه تعد بحاجة إلى هذا الصندوق (النعش) ،لقد كان «نع ً
في ميسوري .وشع ر براحة في ذهنه وهو الذي قام بصنعه ،وشعر بعض الوقت بأنه قد نسي
الحزن في قيامه بإعداد الصندوق وطرقه ،وشعر بأن الشعور الذي يجتاحه اآلن يجتاح ديك
ضا ،الذي كان قد ذهب مع باتش وفيرمان الختيار بقعة لحفر القبر .وقام هو وباتش بحفر أي ً
القبر إلى عمق كبير؛ حتى ال تستطيع الذئاب الوصول إليه ،ثم أهيلت عليه األتربة والقاذورات
حتى تغطيه.
رفع إيفانز رأسه ،أما األخ ويذربي فقد كان يتلو صًّلته ويقول إن الرب يعمل بطرقه الغامضة
الخاصة -التي تعبر عن الحقيقة الواضحة -وحاول إيفانز أن يتتبع آثار كلمات ويذربي ،ولكن
ذهنه كان يبتعد ،ويسأل عدة أسئلة ويستعيد الكثير من الصور واألشياء التي شاهدها .كانت
ربيكا ومسز بروور قد قامتا بغسل الجسد الصغير ولفه في القماش ثم نقله إلى الصندوق،
وجلستا طوال الليل بجوار الجثمان .وفي الصباح وفد أفراد الركب يقدمون اللحوم والخبز
والحلوى ووسائل الراحة لفيرمان وزوجته اللذين كانا قد جلسا في هدوء مطلق والحزن يخيم
وأخيرا تحدثت ربيكا إلى جوديث طالبة منها أن تذهب لتغفو ً
قليًّل ،ولكن جوديث لم ً عليهما.
كثيرا ،واعتقد إيفانز أنها ستنام.
تبق ً
كانت ليلة طويلة وقاسية ،فقد كان كل شيء هادئًا باستثناء عواء الذئاب البعيدة ،وكان النسيم
الرفيق يأتي بين حين وحين ليسمع همسات الموت فيبتعد بعيدًا عن هذا المكان ،ولكن نسمات
الوقت والمسافة واألشياء التي كانت موجودة كانت تردد صداها في كل مكان .كان الجميع
يسمعون جوديث تنتحب باكية فقيدها ويشعرون بالرثاء لها .وكان إيفانز يتألم أشد اآلالم بهذا
الحزن الذي اكتسح المكان ،ولكن كان من الواجب حصر هذا الحزن داخل الخيمة حتى ال
يتسرب إلى جميع أفراد الركب ،فيؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها« - .فلينم قلبك مستري ًحا..
ضا ..يوجد في دار الرب العديد من الجنان والقصور». إنك تؤمن باهلل ،فلتؤمن بي أي ً
قصور! لماذا يهتم غًّلم صغير بأي قصر؟ لقد كان صدر أمه الحنون هو أفضل وأحسن قصر
له ،ولكن هللا يعمل بطرقه الغامضة الخاصة .اتركها هلل ،لم يكن هناك أي صوت ،اترك كل
شيء هلل.
شعر إيفانز بالحزن المتعب ،وبقوة ربيكا التي كانت تقف بجانبه ،ويديها تضمهما إلى صدرها،
وكانت عيناها منتفختين وتعكسان البؤس ،واألرق واإلجهاد ،وظن في هذه اللحظة أنها تفكر
نظرا
مركزا على براوني؛ ً ً في وليدها الثاني الذي توفي بعد عام من المرض ،وترك أملهما
ألن ربيكا لن تنجب بعد ذلك.
كان براوني يقف بالطرف اآلخر ،وكانت تبدو في نظراته الدهشة من تطور األحداث؛ كيف
ً
وجميًّل في الحياة، يمكن اإلنسان أن يشرح البنه الصغير الذي يتوقع أن يرى كل شيء طيبًا
كل شيء عن الحياة اليومية إلى األبد؟ إنه يستطيع أن يقول إن ذلك كان إرادة هللا ،التي ربما
تكون ذلك -ولكن هذا األمر قد يبدو كما لو كان يقول :إنه ال يفهم وال يدرك األمور ،التي ال
يدر كها بالفعل .وعلى هذا الوضع يمكن القول بأنه يشعر بجهل األمر وال يصلح أن يكون أبًا
يستطيع أن يفسر كل وسائل طرق الحياة ،والوفاة.
كان األخ ويذربي حتى ذلك الوقت يؤدي صًّلته ..دعهم يتقبلون مشيئتك وإرادتك ..دعهم
يحصلون على الراحة ويستمدون القوة منك .والحب منك.
انح نى فيرمان أمام إيفانز بالقرب من التابوت ألداء صًّلته ،وكان هؤالء األشخاص يبعدون
ً
قليًّل عن الناس الذين كانوا ينسحبون والحزن واأللم يعتصرهم .وفي الوقت الذي كان إيفانز
يراقبهم فيه وهم ينسحبون ،كانت جوديث تنكمش في نفسها وتطلق صياحها.
كانت الصًّلة هي خاتمة اإلجراءات باستثناء أهزوجة صغيرة -من التراب إلى التراب .وأخذ
إيفانز يفكر في هذا الوضع ،في حين كان األخ ويذربي يرفع رأسه ويشير بيده ويصيح بصوت
قوي ،كأنما منحه الشعور بالحزن قوة تفوق قوته العادية:
-لقد خلق هللا كل شيء ..وهذا هو الخير ..ولكن لتنزل لعنة هللا على األفعى وعلى سمها.
الكتاب المقدس؟ هل كانت لعنة آدم مقدسة؟ أو أن هناك ً
قوال بأن الناس يعتقدون أن األفعى
تزحف من جحرها وتموت؟ لم يكن هذا هو ما يهم المجموعة؛ إذ إن األفعى قتلت حين قذفها
براوني بالحجارة ،وقد يكون شخص آخر قد قام بذلك .كان براوني قد أمسك بالمجراف في
يده حين سمع بأخبار تود وظل يضرب به بعض األفاعي ذوات األجراس ،ثم أحضرها ميتة
في هذا المجراف .وهز إيفانز رأسه له كأنما يقول له إن قتله هذه األفاعي هو أول عمل يفعله.
وكان هناك المزيد من الصًّلة بعد هذه اللعنة ،والكثير من االنحناءات والمزيد من طلب الراحة؛
ألن هللا يعرف طريق الصواب ،وألنه يعرف أن طريق الخطأ سوف يتًّلشى ويختفي ،لم يمتنع
ويذربي حتى في موعظة الجناز من تجفيف عرقه مرة أو مرتين.
ثم أنشدت أهزوجة« :لقد ولى اليوم وأدبر» وهي أهزوجة ينشدها الصغار حين الدفن ،فقام
ويذربي بنظمها وترديدها بصوت يعكس السنين ،ثم اشتركت معه بقية األصوات .كان الوهن
والضعف يبدوان على الواقفين بجوار الصخرة وعلى المنطقة التي يقفون فيها ،وعلى
الجاموس البري الذي يرعى ،وعلى النسيم الذي يأتي من أماكن غير محدودة متج ًها إلى أماكن
أخرى غير محدودة:
ذهب اليوم وأدبر..
وظهرت ظًّلل المساء..
فهل نستطيع جميعًا أن نتذكر..
ليلة الموت التي تزحف علينا؟
وضعنا مًّلبسنا جانبًا..
لنستريح على فراشنا..
فالموت سينزع عنا قريبًا مًّلبسنا..
وكل ما نمتلك هنا..
امنحنا األمن هذه الليلة يا إلهي..
وأبعد عنا مخاوفنا..
ولتحرسنا المًّلئكة ونحن نيام..
إلى أن تبدو أضواء الصباح.
سار إيفانز ومعه سمرز وباتش وماك وهم يحملون الصندوق ،ثم أنزلوه في الحفرة بالحبال،
وانحنى ويذربي فوق األرض ليلتقط بعض األتربة ويرشها فوق النعش ويتلو «من التراب إلى
التراب» فانهارت جوديث مرة أخرى.
انصرف الجمهور بعد ذلك ليعودوا إلى عرباتهم استعدادًا للمسير ،وظل إيفانز وديك يهيًّلن
األتربة فوق القبر ،ويحمًّلن ما تبقى من قاذورات إلى النهر ،ثم قال ديك:
-إن هللا لطيف بعباده ،وهو يعكس رحمته بطرقه الخاصة.
ثم أخذ يهز قطعة القماش التي بيده ليزيل عنها األتربة.
-أعتقد أنك يجب أن تؤمن بالسماء كلية أو تتركها.
-تستطيع أن تؤمن به .إن هذا الطفل ال يهتم بأي شيء.
ولما استمع إيفانز إلى حديث ديك ،شعر بأن هناك شيئًا لم يكن يعرفه من قبل ،كان لطيفًا وجافًّا
معًا ،وكلتا الصفتين توضحان بعضهما البعض إذا فكرت فيهما معًا.
وضع ديك قطعة القماش فوق ذراعه وهو يقول:
-ا ستمر ..امنحني بعض الوقت لكي أقوم بإعداد القبر بطريقة ال تسمح لعين أي هندي أن
تلتقطه.
-حسنًا ،ولكن دعني أحمل عنك هذا القماش.
ثم اتجه إيفانز إلى المعسكر ،وفي منتصف الطريق شاهد براوني يحضر لمقابلته.
فقال له براوني وهو ال يزال على بعد نحو ست خطوات منه:
-بابا؟
-ماذا بك يا بني؟
-لقد قمت بفك الخيمة وبنقل جميع األمتعة إلى العربات وربط الثيران بها.
-أفعلت ذلك؟
-وهذا ليس دوري مع الماشية.
-ماذا تعني؟
-هل أستطيع أن أبقى ألقوم بحفر اسمي فوق الصخور؟
-كان عندك األمس بأسره يا براوني.
-ليس كله؛ إذ كنت أقوم بالحراسة ،وقتلت أفاعي وقمت بأشياء أخرى.
-هذا عمل ليس آمنًا.
-أرجوك يا والدي ..إن به ما يكفي من األمن ..وستراقبني طوال الوقت.
-لماذا فكرت فجأة في حفر اسمك على الصخر؟
-هذا ما طرأ بي اآلن يا والدي.
كان إيفانز يًّلحظ أن براوني ال يود أن تلتقي عيناه بعيني والده ،وكان الغًّلم ممس ًكا بشيء ما
في يده في الخلف ..إن فكرة سخيفة مثل هذه الفكرة تجعل اإلنسان يشك في قيام غًّلم بها،
ولكنه ابتسم لبراوني الذي كان ينتظر كلمته ،ثم قال:
-إنك تقوم بعمل رجل يا بني ،وأعتقد أنك تستطيع أن تقرر ذلك بنفسك ...وعليك أن تسرع،
إنني ال أهتم بالزمن الذي أتركك فيه وحيدًا.
فقال براوني وهو يظهر سروره السريع:
شكرا لك يا والدي ..سوف أنتظر تحرككم.
ً -
-احترس من الهنود.
-بالتأكيد.
ثم اتجه إيفانز بعد ذلك إلى خيمة فيرمان ..كانت الخيمة الوحيدة الباقية من غير إزالة بعد،
وكان فريق فيرمان نفسه هو الفريق الوحيد الذي لم يستعد بعد ،فوقف إيفانز عند المدخل ،ثم
ولج الخيمة حيث شاهد جوديث جالسة فوق الفراش وقد غطت وجهها بيديها ،في حين كان
فيرمان واقفًا ال حركة فيه.
-أليست بيكي هنا؟
فلم يجبه فيرمان ،لذلك استمر يقول:
-هل أستطيع أن أساعدك يا شارلز؟
ومرت لحظة أخرى قبل أن يجيب فيرمان.
-ستعود مرة أخرى ،سأتولى إعداد كل شيء بنفسي.
-أستطيع أن أقوم بإعداد فريقك اآلن ..جميع حاجاتي على استعداد.
وسمع إيفانز صوت انتحاب جوديث وسط الصمت العميق.
-كًّل سأتولى ذلك بنفسي.
-يجب أن نتحرك اآلن يا شارلز ..أنت تعرف أننا يجب أن نتحرك.
-أعرف ذلك.
-ليس بعد ..أرجوك.
جاء الصوت من فم يملؤه البكاء وتخنقه العبرات ،ووجه تغطيه اليدان ،كان صوت جوديث
الذي استمر يقول:
-ال نستطيع أن نتركه بعد ،أال تلمس ذلك بنفسك! ال نستطيع أن نتركه.
ثم انفجر فيرمان يقول:
-ونحن ال نعرف أين يرقد ..ولن نعرف أبدًا أين يرقد.
ثم قالت جوديث ،وهي تتحدث إلى القبر:
-تودي ..تودي أيها المسكين.
كان صوت فيرمان جافًّا وقاسيًا حين قال:
-أال ترى؟ أال تستطيع أن تدرك؟
رأى إيفانز أن األمر سيكون طيبًا بعد أن أدرك كل شيء ،وشاهد ديك سمرز يومئ برأسه
ضا ،بعد أن أصبح داخل الخيمة ،وتقدم في صمت بوجه صامت حزين ،وبعد أن ذهب من أي ً
عينيه الوميض والبرق ،قال:
-إننا رهن إشارتك دائ ًما يا سيدتي في أي وقت.
الفصل الثامن عشر
قاد سمرز الركب ،وبدأت العربات تدور في طريقها ،وكان فيرمان قد قام بإعداد فريقه للمسير،
في حين كان الرعاة يصيحون ويصفرون في الخلف وهم يمتطون جيادهم وسط الحيوانات،
التي كانت تقضم آخر مضغة لها في هذا المرعى ،ثم بدأت الماشية في التحرك والتجمع في
القطاع الواقع بين «إندبندس روك» و«سويت ووتر».
امتطى براوني جواده وأخذ يراقب الركب وهو يستعد للتحرك ،ثم اندفع إلى األمام حتى وصل
إلى نهاية الركب وساعد في دفع طابور األبقار ،وأخذ يحرك يده للركاب وهو يسير إلى
المنحدر الموجود في الجهة الغربية من الصخرة التي يستطيع أي إنسان أن يتسلقها ،مع
ضرورة االنتباه إلى المنحدرات التي قد تؤدي إلى كسر العظام وتحطيمها.
وهبط من فوق جواده الذي ربطه في جذع شجرة ،وكان يأمل أن يحقق ذلك بعيدًا عن طنين
الذباب ،وكانت الشمس قد أصبحت قاسية بالنسبة ليوم عمل ،كان هناك بعض الذباب األصفر
أو الرمادي ذي العيون البارزة والظهر الًّلمع ،وكانت له أجنحة بيضاء جعلت الماشية تجفل
وتندفع كالمجنونة ،كانت هذه الحشرات الطائرة قد نمت داخل مستنقعات األنهار.
وضع براوني بندقيته فوق الصخرة ،ثم أسند معوله ومطرقته ،ثم وقف فوق الصخرة ،وأخذ
ينفض يديه فوق سرواله ،ثم يلتقط مطرقته ومعوله وبندقيته ،وكان يعتقد أنه لن يكون بحاجة
للبندقية ،بل كانت ستعوقه ،لذلك قرر أن يتركها.
وخطرا ،أكثر من الخطورة نفسها ،وتوقف في اندفاعه حينما تذكر قول
ً أمرا صعبًا
كان التسلق ً
ديك سمرز« :إن خير وسيلة لتسلق أصعب وأقسى األماكن هو السير والتسلق بحذر ،خطوة
حذرة تليها خطوة أخرى ،وهكذا »..أخذ يتطلع حوله ،ثم جلس وهو ال يزال ممس ًكا بالمطرقة
والمعول.
كان الركب قد استعد لًّلتجاه نحو بوابة الشيطان «ديفيل جيت» التي لم تكن بوابة في حقيقة
األمر ،وإنما مجرد فراغ في صخرة أو في مرتفع الجبل .ركب ديك سمرز في المقدمة كالعادة،
وسار ببطء ،تار ًكا مسافة معينة بينه وبين العربة األولى .وجد ديك أن األمر سهل ،وكان
سرواله يميزه ،وهو ممسك ببندقيته ويسير بتؤدة .أما المرافقون له فقد كانوا أقل ثباتًا مثل
بوتر ،ودافيز وورث ،وأنسيكو ..الذين كانوا قد اعتادو الرعي ،ويتوقعون القليل من المزاح
والهزل وهم يبحثون عن الجاموس البري؛ لكي يحصلوا على اللحوم الًّلزمة للركب لتجفيفها
صغيرا يسبح
ً قبل عبور الممر ..شاهد براوني الجاموس يقف بعيدًا عن الركب ،كان قطيعًا
في شمس الصباح.
كانت العربات تسير متأرجحة في الطريق المعوج بسبب مرور العجًّلت فوق بعض
األحطاب .كان دورتي وعربته الحمراء تسير في المقدمة تتبعها عربتا فيرمان ثم والدته
ووالده ،ثم هولدريدج أو جورهام ،وتادلوك .جرى براوني بناظريه على طول الركب في
سيره ،ولم تكن هناك أي وسيلة لكي يهرب بروور وحاشيته عن ناظريه .وكان بيرد ودورتي
ضا.
يسيران ووراءهما عدد من األطفال ،وماك بي أي ً
أغلق براوني عينيه وأخذ يفكر ،إنه يعرف عربة ماك بي ألن «ميرسي» كانت تقودها ،كان
ضا ويشعر بجسدها الصغير القوي ،ووجهها يراها من هذه المسافة وهي مرتدية ثوبًا فضفا ً
الذي ال يبتسم ،وعينيها اللتين تتحدثان .تذكر في هذه اللحظة صوتها في تلك الليلة في الرامي
وكلماتها التي قالتها:
-سأكون على أحسن حال يا براوني.
وتذكر نغمتها الطيبة الرقيقة ،وتساءل عما إذا كان غيره قد سمع صوتها بالحًّلوة نفسها
والطراوة التي سمعها ولمست شغاف قلبه .ديفيز وورث؟ هيج؟ بوتر؟ موسى؟ أي واحد من
الرجال اآلخرين؟ أو ربما المتزوجين منهم مثل ماك الذي يشعر بتقديره واحترامه لرقته ولطفه
مع عائلته؟ كًّل ،كان شعوره وحده هو الذي يدفعه لذلك ،وكان قد امتنع عن القيام بأي عمل أو
انتظارا للفرصة التي يستطيع فيها التحدث إليها.
ً تصرف
كانت الخيول والبغال تتبع العربات التي يقودها هيج ،وويلي بروور ،وتسير خلفها الماشية في
جماعات ،في حين كان جورهام ،وماك بي ،وشيلدز ،وباتش يراقبونها .عبر جميعهم النهر
الذي يؤدي إلى البوابة.
وجاءت األتربة خلفهم لتغطي بقية الطريق من الخلف ،وتدفعها الرياح إلى األمام .كانت منطقة
غريبة حيث تندفع الرياح مثل اندفاع السحب الكثيفة في السماء.
كان على وشك التسلق مرة أخرى ،حينما شاهد كلبًا يقفز بعيدًا عن الركب ..لقد كان «روك»
الذي أخذ يعدو فوق الشجيرات الصغيرة الذي جاء إليه ليرى ما إذا كانت األمور تسير معه
سيرا حسنًا ،فقال له وهو يصيح وسط الرياح:
ً
-هنا يا روك .هنا أيها الولد.
ثم مال إليه ً
قليًّل وهو يناوشه:
-إنني هنا ،لقد جئت لمقابلتك مثلما أتيت أنت لمقابلتي.
كان روك قد جاء إليه عبر النهر ،فأخذ ينفض عنه ما علق من مياه وأتربة ،ويحك رأسه بقدمه،
ويلمس راحة براوني بأنفه البارد:
-ال يوجد أمامي أي عمل لكي تسرع .أال تعرف ذلك؟ ولكني أعتقد أنك قد عرفت أنني قد
تضايقت من الوحدة ،لذلك أتيت أنت لتزيل عني هذه الوحدة.
كانت هذه الكلمات تبدو ضعيفة بسبب قوة الرياح وبُعد المسافة.
-يجب أن أقوم اآلن بجميع عمليات التسلق .هل تستطيع أن تقوم بذلك أيها الغًّلم؟
ثم تقدم بضع خطوات إلى األمام ونادى روك الذي رفع رأسه ً
قليًّل وظهر التفكير العميق يبدو
في عينيه الزرقاوين ،ثم تقهقر ً
قليًّل وتحفز للوثوب ،ثم اندفع إلى األمام بقوة ،وتعلق بصخرة
أسرع مما يستطيع أي إنسان أن يفعل.
طائرا؟ ليس معك أي شيء تحمله ،تذكر هذا ،ال مطرقة وال معول،
ً -م ً
هًّل يا روك .هل تظنني
بل أنت بمفردك.
ظل براوني يتسلق بناء على نصيحة ديك ،وكان روك يتبعه بقفزات صغيرة ليلحق به أو
ليسبقه ،ثم يتوقف ً
قليًّل ،ووجهه يتساءل :لماذا يسير بطيئًا هكذا .وبعد ذلك ظل يعدو كما لو
كان واثقًا من الطريق نفسه.
واجه براوني الشمس عند القمة ،وكانت ترتفع في كسل وسط السماء الزرقاء حتى إنه ال يمكن
وصف درجة هذه الزرقة ،وكانت تبدو كما لو كانت ساكنة أو مستقرة في مكانها .كانت األسماء
قليلة في هذا المكان ..محفورة ،أو مجرد خدشات سطحية في الصخر ،أو مكتوبة باللونين
األحمر واألسود .كان معظم الرجال قد اختاروا قاعدة الصخور في الشمال والجنوب حيث
يستطيعون الوقوف فوق صناديق أو فوق األرض عند كتابة هذه األسماء.
وأخيرا وجد المكان الذي يناسبه ،والذي يشبه حافة قدح الشاي ،وال توجد به آثار الفرشاة أو
ً
المطرقة .وقبل أن يجلس ليبدأ عمله ،وقف يتطلع حوله والرياح تلفح رأسه .كان يرى من هذا
المكان قمم األماكن البعيدة وحافتها ،في حين أنه لم يستطع مشاهدة أماكن أخرى بسبب احتجابها
وراء أماكن بعيدة ومرتفعة؛ لم يستطع ً
مثًّل أن يشاهد صخرة نيللي القديمة التي تكافح الذباب،
كما لم يستطع أن يرى الركب وهو يزحف ،أو حتى مكان المعسكر السابق أو قبر تود .كانت
هناك بعض الصخور والرياح وبعض األصوات البعيدة.
مر بإبهامه فوق حافة المطرقة التي سيحفر اسمه بها ،كان هذا هو الطريق السليم ..سيضع
أوال ثم اسمه ،واليوم والشهر والعام ،ثم يضعها جميعًا داخل إطار حتى يمكن أن تضماسمها ً
هذه الصخرة اسميهما م ًعا إلى األبد.
كانت تضايقه منذ وقت بعيد ،ولكن اهتمامه بها بدأ من فترة مضت! آه ..لقد كان حل ًما يا
براوني ..كان تحقيقًا لشيء معين ..وهكذا يعودان زو ًجا وزوجة ليتسلقا هذه الصخرة ،وليريها
ما سبق أن كتبه ،وهو يقول لها:
-ها هي ذي أمامك ..لقد حفرتها في عام خمسة وأربعين.
فتقبله ،واللطف والرقة يبدوان في عينيها ،وهي تضحك من قلبها وتقول:
-أعرف أنك فعلت ذلك يا براوني ..إني أعرف دائ ًما أنك قد فعلت ذلك ،ولكني أود أن أعرف
كيف كنت تهتم بي؟
كانت عملية حفر حرف واحد تستغرق وقتًا أكثر مما يظنه اإلنسان .لم تكن ضربات المطرقة
أثرا أبيض ضعيفًا ،إلى أن شعر بالتعب في يده وفي المطرقةعلى «األزميل» ال تترك إال ً
وأخيرا رأى أنه يجب أن يضرب ضربات قوية.ً نفسها،
كان روك يقفز وراء بعض الطيور أو عصفور الدوري أو ما شابه ذلك ،ثم يعود ليرقد مرة
أخرى ورأسه بين يديه ويتثاءب.
ً
طويًّل. -انتظر ً
قليًّل يا فتى ،لن يستغرق األمر وقتًا
ً
جميًّل ..ثم بدأ يعمل في آخر الحروف بعد أن استطاع أن يخط اسمها أول األمر ..كان األمر
ثبت ذراعه لكي تكون عنده قوة أخرى جديدة ،وهو يفكر فيما عسى أن يظنه رجال الركب إذا
عرفوا سره .كانوا سيبتسمون فيما بينهم ،أو يتندرون بذلك ،كما لو كان شعوره ليس سوى
عبث أطفال ليس فيه شيء من الجدية .إنه لن يسمح لهم بمعرفة ذلك ،ولن يسمح حتى لوالده
أو والدته بمعرفته إلى أن يحين الوقت المناسب لذلك ،حين يختلف الوضع ،ثم يستطيعان
مشاهدة ذلك واالستهزاء به والضحك منه ،ثم وجه حديثه إلى الكلب:
-أنا وأنت ف قط اللذان نعرف هذا السر يا روك .هل تعتقد أن ذلك تصرف سليم من جانبي.
أليس كذلك؟
بصبص روك بذيله ،وأخذ يهزه ببطء ردًّا على هذا السؤال.
هو وحده وروك والطيور الصغيرة ،والشمس المترقبة ،وربما ميرسي نفسها بحدس المرأة،
أو ربما إذا صممت هي وبعض النساء على المجيء لكتابة اسمها أو بمفردها لنقش اسميهما
معًا.
كان يود أن يكتب اسم جورج براون إيفانز ،ولكنه قرر أن يخط االسم التالي ميرسي ماك بي-
براوني إيفانز ٢ :من يوليو عام ،١٨٤٥وأخذ يعمل بأزميله ومطرقته مرات ومرات ،في حين
كانت الشمس ترتفع جميلة في كبد السماء.
وقبل أن يتم عمله ،نهض روك على قدميه األماميتين متج ًها بنظره إلى الجنوب وهمهم بصوت
مغلق ،ويشم بصوت مسموع في الرياح.
-ماذا تشم يا فتى؟ حيوان؟ أو شيء يشبه ذلك؟
لم يكن هناك شيء أمام عينيه سوى ما كان موجودًا من قبل ،ولكن الشيء الذي يكون روك قد
ضا .وجلس وهو على ثقة تامة بأن أنفه على حق.شمه يستطيع أن يشمه بنفسه أي ً
وأخذ يدق بمط رقته مرة أخرى ،وانتهى اآلن من كل شيء ،ثم جلس يستريح فترة طويلة
ويجفف عرقه ،وبدأ ينهض بعد ذلك وهو يتحدث إلى روك ويقول له إن النحت تم على خير
ما يرام .وطلب منه أن يتجها إلى الركب ،ولكن الكلب بصبص بذيله ورفع رأسه وتقدم خطوات
وأخذ يهمهم ويشمشم بحثًا وراء ما شك أنفه فيه.
-ما الذي تهدف إليه يا روك؟ هل تحاول إخافتي؟ هل أصبحت قطة خائفة؟
وبدأ براوني ينصت بدقة فسمع صوتًا بعيدًا ..فوضع اإلزميل والمطرقة في يده ،وتقدم خطوات
صغيرة ،وبدأ ينزل من فوق الربوة وهو يقول:
-هيا بنا أيها العجوز األبله!
نظر روك إلى أسفل ،ثم عاد إلى مكانه وهو يشمشم ويهمهم بصوت مسموع ،ثم ترك المكان
مرة أخرى وبدأ يهبط مرة أخرى ،ووصل إلى مكان البندقية .ولم يبق أمام براوني سوى دقيقة
واحدة وينضم إلى الركب .أما روك فقد بدأ الجفاف يظهر في نباحه .وفي هذه اللحظة عرف
سبب زمجرة الكلب؛ إذ شاهد الهنود يتسلقون من سويت ووتر ،وكانت وجوههم مرفوعة تتطلع
إليه ،فتجمدت أوصاله ،وأصابه الدوار ،في حين قفز روك وأخذ يعدو.
استطاع أن يستدير ليرى أفواههم وهي مفتوحة حين رؤيته ،ويرى أذرعتهم تتحرك لتمسك
بالقوس .كان يستطيع أن يجري ويقفز أو أن ينال رم ًحا في ظهره ،لم يكن يفصل بينه وبين
جواده نيللي سوى قفزة طويلة يمكن أن تكسر ساقه فيها ،أو أن يلحق به الهنود قبل أن يستطيع
أن يمتطي جواده .وخرج صوته من غير وعي يصيح:
ي يا روك.
-عد إل َّ
حاول أن يرفع ذراعه كما كان هيج أو بوتر يفعًّلن ،ثم أخذ يهبط الهضبة وهو يكافح الخوف
الذي سيطر عليه وبدأ في مًّلمحه ،وكان يتمنى أن تظل يداه ثابتتين ،وقدماه مرتكزتين في
مكانهما ،وفي هذه اللحظة نطق لسانه بلفظ:
-هاللو.
بقي عليه خطوة بينه وبين جواده ليمتطيه ويجري هاربًا ،ولكن الهنود كانوا قد أوقفوا جيادهم
بجوار جواده نيللي ووجوههم السمراء تتطلع إلى أعلى ،وكانت عيونهم الضيقة تتطلع بمكر.
كانت نيللي (جواده) تحاول أن تتحرر من قيدها ،فأخذت تشد نفسها .وفي هذه األثناء قام أحد
الهنود بقذفها بحجر كبير ،فوقفت ترتعش لحظة من أثر الضربة التي أصابت رأسها ،في حين
أخذ ينزع عنها سرجها.
ثم صاح أحدهم وتًّله آخر ،وأصبح الجميع يصيحون ويتحركون ويحركون معهم أقواسهم
ويرفعون رماحهم ،وهم يتجهون إليه ،في حين كانت الرياح تخفض من ارتفاع الريش الذي
كان يغطي رؤوسهم .نقل الهندي ،المخطط الوجه ،السرج الذي كان فوق نيللي إلى جواده.
لم يكن أمامه أي فرصة لًّلختيار أمام الرماح واألقواس التي يوجهها الهنود إليه .كان عقله
وجسده يبتعدان بعيدًا ،وكان الخوف الذي طغى عليه يبدو كحلم ،وجاءت أمام عينيه صورة
أكثر من عشرين هنديًّا عارين إال من بعض الجلود والريش ،ورجل واحد عار وال يرتدي
سوى نعال من جلد الغزال ،ويضع بعض الصدف حول أذنيه ،وكان هناك عدد من الخيول
والبغال اآلسفة لهذا الموقف ،وبعض الكًّلب التي وقفت متأهبة ومتحفزة حين رؤية روك.
أخذ براوني يهبط في طريقه إليهم ،واألذرع تمتد إليه واألصوات تصيح فيه ،واألعين تتطلع
إليه ،ولكنه صاح بصوت ال أثر للخوف فيه وهو يحاول أن يكون قويًّا:
-هأنذا يا أصدقائي.
نزع قبعته من فوق رأسه ،ومزق قميصه ،وشعر أنه ال فائدة من الكفاح ..يستطيع فقط أن
يتقهقر ويحاول أن يسلك مثل الرجل الكامل غير الخائف ،في الوقت الذي كانوا يسحبون
رماحهم ويوجهونها إليه.
استطاع أن يميز صوت روك الضخم وسط أصوات الهنود وصراخهم ،وعرف أنه أصيب
بأذى في عراكه مع كًّلب الوولف الهندية .هبط روك إلى أسفل وأخذ يدور إلى األمام والخلف،
ً
محاوال االبتعاد عن بقية الكًّلب ،ثم عاد ليقف أسفل ويكشر عن أنيابه ويصيح صياحه المروع
حزمة من األحزمة ،وكان يبدو كأنه كان قد خرج لتوه من الغرق في المياه ،ثم أخذ ينتفض
ً
قليًّل إلزالة ما علق به ،ووقف بعد ذلك استعدادًا ألي ٍ
تحد بكبرياء وعظمة.
مقدرا له أن يموت؛ إذ كان هناك الكثير من األسنان ،وكان التحدي أكبر من أن يستطيع
ً كان
مواجهته ..كان سيموت من غير أي وجل أو هرب أو طلب للرحمة أو حتى للمساعدة التي له
الحق فيها ..كان سيموت مأسوفًا عليه ،في حين كان الهنود الوجلون يقفون ليشاهدوا ما يدور
بعد أن أوقفوا كل دعاباتهم.
شعر براوني بثقل في جيبه ،وعرف فجأة أنها المطرقة التي لم تؤخذ منه بعد ،فأخرجها وهو
يؤرجحها ويصيح من غير أن ينبس بأي كلمة ويضرب بها رؤوس الكًّلب .لم يستغرق هذا
ً
طويًّل ،ولم يبق من كًّلب الهنود سوى اثنين فقط وليا أدبارهما قبل العمل منه ومن روك وقتًا
أن يصابا بأي أذى ،فركع براوني بجوار روك فوجد أن إصابته رديئة للغاية ،فأمره بأن يقف
خلفه بعد أن شاهد الهنود يقبلون عليه.
أمسك بالمطرقة بقوة وهو يعتقد أنهم قد أتوا لقتل روك ،ولكنهم أشاروا إليه ،وأخذوا يهمهمون
ويهزون رؤوسهم كما لو كانوا يقدرون شجاعته .ومرت دقيقة شعر براوني بعدها بتهليل
وترحيب.
وكان هذا مجرد مقدمة تحولوا بعدها إليه وأمسكوا بيده لينزعوا منه المطرقة ويسوقونه أمامهم،
وهو يصيح في روك أن يبتعد .كان هناك رجًّلن يقفان خلفه رافعين رماحهما ،وبدأ اآلخرون
يتحدثون بأصوات أكثر هدو ًءا عن ذي قبل ،ثم اختلطوا أمامه وهم يلوحون بأسلحتهم ،باستثناء
الشخص الذي كان يخطط وجهه والذي كان قد ذهب لقتل الكًّلب التي أصبحت عاجزة.
ولما عاد إلى الجمع كان صوته أكثر قوة وعنفًا ،فاندفع الجميع نحو براوني وهم يشهرون
رماحهم وبندقية قصيرة وأخرى طويلة ،كما لو كانوا ينوون قتله في الحال ،ولكنهم أحاطوا
به ،فشعر بالقسوة في أعينهم ،ولكنه جلس بهدوء وهو يحاول التغلب على مخاوفه .كان جميع
الهنود يصيحون ويرقصون وهم يشهرون رماحهم استعدادًا إلطًّلقها ،في حين كان قلب
براوني يدق بعنف ،على الرغم من أنه كان يبدو هادئًا ،ال أثر للخوف عليه .كان التوتر يبدو
وينعكس على وجوههم وأعينهم المتعطشة للدماء وعًّلمات الحرب ،وكان هناك رجل هندي
كبير السن ذو أنف مثل منقار الصقور وعينين مثل عيني الصقر ،تحدث إلى الهنود الثًّلثة
كأنه يؤنبهم ويبعدهم عن براوني ،ولكن وجهه لم يكن يعكس الطيبة التي لم تكن موجودة على
أي وجه من الوجوه ..اعتقد أنه يستطيع أن يسمع المزيد أو يراقب الوضع أو يمتنع عن إظهار
مخاوفه .ومضت ساعات وهم يلوحون بما في أيديهم ويندفعون نحوه.
كانت الشمس قد بدأت تنحرف فوق رؤوسهم متجهة نحو الغرب ومستقرها ،وكان الركب
يسير في مكان ما ،في حين كان شعبه يفكر في المعسكر ،وفي العشاء ،وفي الراحة .وفي هذا
الوقت امتطى ديك جواده للبحث عن أخشاب وماء ،وكان من المتوقع أن يكون والده ووالدته
في غاية القلق بشأنه؛ ألنهما لم يشاهداه بينهما.
وفي هذه األثناء شعر براوني بالبكاء ينفجر داخل نفسه ،فأخذ يكتمه في حلقه ،وقال في نفسه:
ألدع الساق التي ترغب في الهروب أن تقفز ،وألدع الذراع التي ترغب في الصراع أن
تصارع ،والصدر ليتلقى روحه.
وبينما كان متأرج ًحا بين الجلوس والقيام بالعمل؛ إذ مات الصياح الذي كان الهنود يصدرونه
وتحولت الرؤوس وإشارات األيدي ..لقد كان ديك سمرز الذي كان قد جاء تلبية لصًّلة أو
دعاء ..ديك سمرز الكبير ..جاء يقفز بجواده متج ًها إلى حيث يقف الهنود كاشفًا عن رأسه
وشعره الفضي الذي يلمع في ضوء الشمس .لم يكن ديك يخشى شيئًا أو هنديًّا أو أمة بأسرها،
لقد جاء لينقذه ويحرره من أسره ..وتوقفت وأخرست همهمات الهنود ،بينما صاح ديك صيحة
واحدة.
أوقف ديك جواده ،ثم تركه يسير ببطء ليقترب من مكان التجمع ،ثم التقط بندقيته وأعدها
لًّلنطًّلق ،وأخرج غليونه وتظاهر بأنه يحشوه بالطباق ،واستمر في سير جواده ببطء إلى أن
أصبح على مسافة عشرين خطوة ،فشد اللجام ليوقف جواده.
لم يكن يبدو عليه أنه على عجل في حديثه ،وكانت عيناه تجريان حول الهنود تفحصهم بدقة،
ثم تتطلع إلى الصخرة التي تقف عن يمينه ،كان صوته أجش ،وبدأت يداه تتحركان بسرعة،
ثم تطلع بسرعة إلى براوني ،وأخذ يتحدث بلغة هندية ،واختتمها بكلمة وجهها إلى براوني:
-ال تنزعج يا بني ،إنني أقوم بالحديث عن دواء.
أجابه الهندي ذو الوجه الذي يشبه الصقر وهو يشير بيديه ويصيح مثلما كان يفعل ديك سواء
بسواء ،وكانت البندقية القصيرة مرفوعة في يد الهندي الصغير السن ويهزها .أخذ براوني
يتسلل بهدوء من غير أن يفطن إليه حراسه.
وتحدث ديك مرة أخرى ،فترة كانت تبدو طويلة ،وهو يشكل بيده بعض األشكال ويتحرك فوق
صهوة جواده ،ثم يشير بأصبعه إلى حيث يجب أن يكون الركب ،فاعتقد براوني أن هذه هي
طريقته في الحديث ،فأجابه ذو الوجه الذي يشبه وجه الصقر إجابة قصيرة ،ثم رد عليه ديك
بدوره ،ثم مرت فترة صمت حتى حطمه الهندي الخائف لكي يناقش الوضع ،على الرغم من
موقف ديك .شجع هذا الوضع الزميلين اآلخرين اللذين أسرعا بمساندة الرجل ذي وجه الصقر،
وكانت ألسنتهم تجري بكلمات كثيرة.
وعاد ديك إلى حديثه القصير ،في حين كانت أعين الهنود تراقبه وتراقب بندقيته ،فدوت بندقيته
وانطلقت رصاصة منها لتصيب بعض الطيور التي تسقط على الفور ودماؤها فوق الصخور،
طائرا آخر يسقط ،ثم عادوا إلى النظر إلى
ً فرفع الهنود أيديهم إلى أفواههم والتقطت أعينهم
ديك.
وعاد ديك إلى التحدث باللغة الهندية ليتلقى إجابة هادئة ،ثم قال لبراوني:
-أسرع يا بني ،اقفز فوق جوادك ..نيللي.
-لقد استولوا على بندقيتي وسرجي.
-اتركهما لهم واحمد هللا على أن أبقوا على جلدك وشعرك.
لم يعترض أي هندي على براوني حينما قام بفك لجام نيللي وامتطى صهوتها ،وهو ينادي
روك .كانوا يراقبونه في صمت ،ثم ذهبوا إلى جيادهم التي كانت قد اتجهت إلى ضفة النهر
لترعى.
سار براوني في محاذاة ديك ،في حين امتطى ذو الوجه الصقري والشخصان اآلخران خيولهم،
وسار باقي األفراد خلفهم بهدوء ما عدا بعض الهمهمات ،ثم قال ديك:
-إن هؤالء السود من السيوكس أو التيتون الذين نشئوا في أصلهم من السيوكس.
-ديك؟
-يوجد المعسكر في مكان قريب من هنا ،لقد كانوا في هذا المكان منذ لحظات.
-ديك؟
-تكلم يا غًّلم.
-إنني جد شاكر لجميلك ،أعتقد أنك تدرك ذلك.
-لم يكن ذلك شيئًا يذكر.
-ديك؟
-إن هذا الطفل يستمع.
-لم يكن هناك أي أمل أمامي يا ديك.
-كيف كان ذلك؟
-إنني أشعر براحة حين أخبرك بأنني أخجل من نفسي ،كنت خائفًا للغاية.
وضع ديك يده فوق ركبة براوني وهو يًّلطفه ،ويقول:
-ال عليك يا بني ،كل إنسان تأتي عليه لحظة خوف ورهبة.
-ليس بالدرجة التي شعرت بها.
-لقد رأيتك تتسلل لتضرب هذا الهندي وتبعده عن موضعه إذا لزم األمر.
أخذ ديك ينظر حوله ،ليس كما يبدو من أجل التأكد من أنه ال يوجد أي إنسان يتبعهما من
الخلف:
-يجب أن تأخذ حذرك من هؤالء السود؛ إذ قل أن يحترم السيوكس آراء زعمائهم.
-كيف تستطيع أن تفعل ذلك يا ديك؟
وقبل ان يجيبه ديك عن سؤاله ،كان هو والزعيم يتبادالن الكلمات.
-سألتهم قبل أي شيء ،هل شاهدوا كبار رجال الحرب والمقاتلين ،أعني كيرني ورجاله.
-هل رأوهم بالفعل؟
فهز ديك رأسه ،واستمر يقول:
-ثم أخبرتهم بأننا نتحدث باللهجة نفسها ،وأننا نقتل أي واحد من أعدائهم إذا تقابلنا معه وخاصة
«بًّلك فيت» ،وقلت لهم إن عندنا بعض األتربة الحمراء التي يطلون وجوههم بها ،وبعض
الكميات من مياه النار (أقصد بها الويسكي) المصنوعة من الخشب المنقوع؛ لهذا السبب ابتعدوا
وانصرفوا بصفة مؤقتة.
وأخذ ديك يتحدث إلى الهنديين اآلخرين اللذين كانا يواجهانه ،بثقة وراحة تامة ،كما لو كان
يتحادث مع صديق قديم .ووصلوا إلى النهر فتركوا جيادهم تشرب من مياهه ،ثم اصطفوا بعد
ذلك في وجه الشمس الذهبية ،ولم يكن براوني قد الحظ حتى هذه اللحظة أن الرياح قد بدأت
تخف وتتًّلشى وتنتهي .كان األمر يبدو مثل الرياح التي تهب قوية وبطريقة جنونية ،ثم تهدأ
قليًّل ،ولكن في حالة نفسية طيبة .خاطبه ديك ً
قائًّل إنه تصرف وتنتهي بسًّلم وتتركه متعبًا ً
بحكمة وعقل ،فكل إنسان يصاب بالذعر والرعب في أول مواجهة له لمثل هذا الوضع.
وقال براوني ردًّا عليه:
-لم أكن أنظر إليك لكي تطلق النار.
ً
رجًّل سوف يقفون موقفًا صار ًما إذا -لم يكن كيرني لطيفًا معهم ،وقلت لهم إن معي ثًّلثين
أصابك أي مكروه ،وكل منهم يستطيع أن يطلق النار ويصيب الهدف بدقة مثلي سواء بسواء.
وكان ذلك حينما أطلقت بندقيتي على الطائر.
-ماذا كان يحدث لو أنك لم تستطع إصابة الطائر؟
امتقع وجه ديك ،وقطب جبينه ،ثم قال:
-ك انت الخطوة التالية هي أن أقول كم أنا مسرور بمًّلقاة المسيح ،ثم أصافح صديقي براوني
إيفانز.
وتًّلشت االبتسامة من وجهه ،تاركة وراءها أثر الدعابة الطيبة ،واستمر يقول:
-أعتقد أنك ال تنظر إلى هذه البندقية يا براوني ،إنها بندقيتي الثانية ،وبها ماسورتان انطلقتا
في وقت واحد لتصيب الطائر وال تترك فرصة لضياع الهدف.
***
الفصل التاسع عشر
مبكرا قبل أن تدب الحياة في المعسكر ،وجلس بهدوء وهو يشعر بأن كل شيء ً استيقظ إيفانز
على ما يرام ،وبأنه بحاجة إلى بعض الراحة بعد تعب أمس الطويل ،وليستريح من معرفته
بأن براوني عاد سال ًما إلى المعسكر ،على الرغم من اصطدامه بالسيوكس ،وكان يعتقد أنه إذا
دقق السمع الستطاع أن يسمع صوت تنفس براوني وهو يغط في نومه فوق سرير تحت السماء
بالقرب من الخيمة.
وبينما كان يصغي؛ إذ جاءه صوت تحرك خفيف عرف فيه صوت تحرك روك الذي نهض
مبكرا ليرى ما يسفر عنه الصباح .كان الظًّلم مخي ًما داخل الخيمة ،لدرجة أنه لم يعرف أن
ً
ربيكا تنام بجواره إال باهتزاز جسدها حينما تتنفس .كان من المفروض أن يكون هناك ظًّلم
ضا ،وكانت أسرار الليل ال تزال باقية كما هي؛ ألن الشمس لم تكن قد أشرقت بعدبالخارج أي ً
لتنهي هذا الظًّلم.
ترك عضًّلته ترتخي طلبًا للراحة ،وبدأ يترك الثقة تغمره ،واألمل يتضاعف في نفسه ،والثقة
في رحلة أوريجون وفي الجميع .سوف يواجهون المزيد من المشكًّلت؛ إذ ال تزال أمامهم
أصعب مرحلة من الرحلة ،وعليهم أن يتسلقوا أقصى أنواع الصخور والمرتفعات ويعبروا
األنهر الكبرى ،األمر الذي يتطلب المزيد من القوة والهدف.
ولكنه كان يشعر باطمئنان؛ ألن جميع األمور قد سارت حتى اآلن في طريق سليم .من الممكن
أن يتغير اإلنسان في يوم أو حتى في ساعة بسبب فقدانه األمل وهبوط معنوياته .كان باألمس
يرغب في إنهاء الرحلة بعد أن غلبه اليأس واعتصره القلق..
كان يود أن يعود إلى حياته القديمة في ميسوري ،لم يستطع أن يبقى ساكنًا من غير البحث عن
براوني ،على الرغم من أنه كان يعرف أن ربيكا ترمقه وتراقبه من مجلسها في العربة الثانية
والخوف يطغي عليها ويشل تفكيرها .كانت صخرة «إندبندس» قد تًّلشت بعد أن عبر الركب
البوابة ،ولم يكن هناك شيء يثير االنتباه في اتجاه الشرق سوى البقعة المرتفعة التي وصلوا
عند مقاطع الجبال التي كان يفصلها سويت ووتر .كان يستطيع أن يرقب كل ما حولهم في
المناطق السهلة والمرتفعة ،والسهل الذي تكسوه الشجيرات الصغيرة ،واستطاع أن يلمح
«سبلت روك» على مسافة بعيدة.
كان يشعر بالقلق واالنزعاج ،ماذا يمكن أن يكون قد حدث له؟ كان الوقت مناسبًا لكي يعود
براوني ،ولكنه لم يعد؛ إذ أصبح من المقدر أن يكون قد حفر أسماء جميع أسماء الركب األحياء
واألموات على السواء.
ترك الخوف والرعب جانبًا ،على الرغم من أنهما كانا يسيطران عليه -إن األفاعي ذات
األجراس تنتشر في كل مكان ،وهي على استعداد ألن تصيب حتى أي جواد.
ولكنه أخذ يحدث نفسه بأن هذا الوهم قد سيطر عليه بعد حادث تود ووفاته ،ومع ذلك فإن
المخاوف سيطرت عليه ،لذلك كان من الواجب أن يذهب مع سمرز ويأخذ معه بعض
قادرا أن يواجه
األشخاص ،مع أن سمرز رفض هذه الفكرة .كيف يستطيع سمرز مهما يكن ً
مجموعة من السيوكس؟ كان يجب أن يبعد مؤقتًا فكرة الوصول إلى أوريجون ..إن أوريجون
ال تعني أي شيء من غير براوني ،كما أنها ال تعني أي شيء بالنسبة لفيرمان بعد أن فقد تود.
كانت األشكال التي ظهرت أمامه مثل «سبلت روك» تبدو خطيرة وصعبة وعارية ،قرمزية
تحذيرا بعدم السير أكثر من ذلك ..أين يكون الغًّلم اآلن؟
ً اللون أسفل أشعة الشمس ..قد تكون
نفض عن نفسه هذا التفكير النسائي ..كانت تبدو عليه المرارة ويشعر بحرج موقفه بالنسبة
لبراوني والركب نفسه والمنطقة بأسرها ،والعمل بأسره .كانت ميسوري أفضل بكثير من هذا
الوضع ..ميسوري والعمل الممكن الذي ال يختلط به القلق.
عاد مرة أخرى وتحدث مع ربيكا وهي على الفراش ً
قائًّل:
-إنني سأعود من حيث أتينا مرة أخرى ،ما دمت تشعرين بالضيق والعصبية.
-إنك أنت العصبي.
فأجابها وهو ينحني:
-ال .لست عصبيًّا.
-ال ترقد يا ليجي.
-إنني ال أرقد ..ولكنه سيكون على أحسن حال.
-إنني أصلي هلل أن يكون ذلك صحي ًحا .هل تستطيع أن تأخذ معك بعض الرجال.
-آه.
-هًّل فعلت ذلك يا ليجي؟
-أ عتقد ذلك ،وأنت تشعرين هكذا بالعجز التام؟ عليك أن تقودي الركب في طريقه ،في حين
أتولى أنا البحث عن الغًّلم.
خرج ونادى بعض الرجال وربط الثيران في عربته وحياها ،ثم حمل بندقيته وخرج.
-هل ستأخذ أحدًا معك يا ليجي؟
-ال تقلقي نفسك بهذا الشأن .عليك فقط أن تراقبي فريقك.
استمر في سيره متوقعًا أن يستعير جوادًا من أحد أفراد الركب ،ولما وصل إلى منتصف سيره
شاهد بعض الرؤوس ترتفع وسط الماشية وعرف فيها بعض الهنود .لم يتحقق من ذلك ،لذلك
انتظر والهلع يتملكه ويسيطر عليه ،وشاهد شخصين يختلفان عنهما يسيران في الوسط ،كان
أحدهما يشبه سمرز الذي كانت عيناه تشعان قوة.
عرف ما يجب أن يفعله أي قائد في مثل هذه األوضاع ،لذلك صاح ً
قائًّل:
-بوتر .أحضر جوادك .أسرع.
ثم قفز فوق الجواد وهو يصيح:
-هنود! اجمع الرجال ليدفعوا خيولهم داخل الحظيرة.
وأخذ يعدو نحو مقدمة الركب وهو يصيح:
-هنود! لنتحرك.
وبينما يقفز بجواده مطالبًا الركب بالتحرك ،كان يواجه أمامه ميا ًها تحاصر الركب ،لذلك حاول
تحويل الركب للسير على طول ضفة النهر وصاح:
-ليجمع كل منكم حاجاته ،وليبق الناس بالداخل ،سأقوم بدراسة الوضع.
دار بجواده حول المكان ،وحول عرباته الخاصة وهو يصيح:
-بيكي ،لقد شاهدت ديك وبراوني ..أعتقد أنهما يبدوان على أحسن حال.
ولم ينتظر إجابتها ،فلكز جواده وهو يستمع إلى احتجاجها لركوبه بمفرده ،كان الرجال قد
اقتربوا من الماشية ليدفعوها إلى داخل الحظيرة وهم يتسابقون في دفعها إلى الداخل ،وكان
إيفانز يصيح بغضب:
-ديفيز وورث ،أدخل الخيول في الداخل ،خذ معك اآلخرين ،عندك ما يكفيك من الوقت.
كان القادمون هم الهنود بالفعل ،ومعهم ديك وبراوني ..كان براوني بالفعل وخلفه يركض
روك ..واستمر الركب حتى وصل ديك فأوقف جواده وصاح:
-أيها الزمًّلء ،أيها القائد ،ال خوف من السيوكس.
ازدحم فم إيفانز بالكلمات ،ولكنه لم يستطع أن ينطق غير بضع منها هي:
-هل أنتم بخير؟ هل هم مسالمون؟
-لن يمسوكم بأدنى أذى.
-ماذا أفعل يا ديك؟
-أخرج غليونك وتظاهر بأنك تعبئه ،هذه هي عًّلمة السًّلم.
-حسنًا.
-س أتولى أنا إقامة المعسكر وتجميع األفراد في دائرة للتحدث؛ إذ إن هناك قرية هندية قريبة
من هذا المكان؛ ألننا ال نستطيع أن نواجه قبيلة بأكملها.
-دعهم يحضرون هنا يا براوني.
-إنهم يرغبون في القيام بتبادل تجاري.
لم يستطع إيفانز أن يتوقف عن القول ،حين نظر في وجوه السيوكس السوداء واألقواس
والرماح في أيديهم وعيونهم الضيقة وشعورهم المجعدة.
-لقد أخبرتك يا بني بأن تصرفك سيكون محفوفًا بالمخاطر.
فقال له ديك:
-اختر بعض الرجال لكي يجلسوا للتدخين مع هؤالء السود ،ولكن ابعدهم عن المعسكر.
-حسنًا.
-ال يوجد أدنى خطر في هذا اآلن يا ليجي؛ ما دمنا نأخذ جانب الحذر في ذلك .اترك بعض
الرماة عن قرب منهم؛ إذ يجب أال نأتمن رغبة الهندي في االنتقام حتى نكون في أمان.
تحدث ديك إلى الهنود الذين أخذوا يتحدثون فيما بينهم ،وهم يجولون بأبصارهم ويتجهون إلى
إيفانز ،كما لو كانوا يحاولون التحقق من أنه صديق أو عدو ،ثم انسحبوا متجهين نحو النهر
في بقعة تبعد حتى منتصف الطريق بين المعسكر والنهر.
لم ينتظر إيفانز حتى يصلوا إلى هذا المكان ،بل امتطى جواده متج ًها إلى حظيرة الحيوانات،
وأخبر ربيكا بأن كل شيء يسير على ما يرام ،ثم بدأ يلقي بتوجيهاته وتعليماته:
-كل شيء يسير على ما يرام ،وسوف أقوم بإبدال بعض الخرز لبراوني ،استريحي اآلن وال
تقلقي ..ليس عندي وقت كاف للحديث.
كًّل من باتش وبيرد وكاربنتر وماك وجورهام ،وهو نفسه من أجل التدخين ،ثم نادىثم نادى ًّ
بعد تفكير قصير على تادلوك الذي يستطيع أن يؤذي ببندقيته أكثر من إيذائه بالتدخين .كان
االختيار مناسبًا بعد أن قرر إبقاء أفضل الرماة بجانب الحظيرة مثل دورتي وهيج وشيلدز.
وحضر الهنود على الفور يقودهم ديك ،وكانوا يتطلعون بحذر إلى المجموعة التي ستجلس
معهم ،وأوقفهم ديك على بُعد عشرين ياردة من المعسكر حيث التقى بهم إيفانز وبقية المدخنين،
فقال ديك:
-اجلسوا في نصف دائرة.
ً
رجًّل وجلس أفراد الركب في نصف دائرة ،وجلس الهنود في النصف اآلخر من الدائرة ما عدا
واحدًا فقط منهم ظل يقف لحراسة متاعهم وممتلكاتهم .واختار إيفانز مكانًا بجوار ابنه براوني،
وسأله وهو يجلس:
-كيف حالك يا بني؟
-لقد استولوا على بندقيتي وسرجي.
-كنت أعرف أنني يجب أال أتركك تذهب إلى الصخرة لعمل سخيف.
كان صوت إيفانز حادًّا ،ثم استمر يقول:
-ولكن ال بأس اآلن؛ ما دمت عدت سال ًما.
فتكلم ديك من جانب:
-لقد انتهى الموضوع يا ليجي.
-ي بدو لي أن الوقت مناسب اآلن لمطالبتهم بإعادة السرج والبندقية قبل أن ندخل في حديث
معهم.
فرد عليه ديك ً
قائًّل:
-إنك على حق ،لقد غاب ذلك عن ذهني.
ثم تحدث إلى الهندي الكبير السن الذي يبدو عليه أنه زعيم المجموعة من هيئته ومن تصرفات
اآلخرين ،ثم نهض أحد الشباب السيوكس واقفًا واتجه إلى معسكرهم.
وانتظر الجميع عودته في صمت ،وكان إيفانز ينظر بين حين وحين ليستوثق من رجاله في
حالة استعداد ألي طارئ عند الحظيرة ،وشاهد األقواس والرماح بجانب أقدام السيوكس على
حسب ما سبق أن ذكره سمرز.
ً
حامًّل السرج والبندقية ووضعهما أمام الزعيم ،ثم ذهب ليجلس في مكانه، عاد الهندي الشاب
وأشار الزعيم بيده ،ثم تحدث إلى ديك الذي قام بالتقاط األشياء المسروقة .كان السرج قد شق
بسكين.
ظل الزعيم يتحدث بصوت مسموع ويحرك يديه ،وبشيء من العنف وبنوع من الدبلوماسية،
ً
طويًّل في ً
طويًّل ،على الرغم من أن ديك لم يستغرق وقتًا وكان األمر يبدو كأنه قد تحدث وقتًا
ترجمة هذه الكلمات .قال ديك إن قلوب الهنود صافية وطيبة .قالوا إن البًّلد بًّلدهم ،ولكنهم
يتركون إخوانهم البيض يمرون ويتركونهم يقتلون الجاموس سعيًا وراء اللحوم ويرهبونها،
األمر الذي جعل الهنود يذهبون إلى أماكن بعيدة للصيد ،في حين أن صغارهم يتضورون
عا في مساكنهم .إن الرجل األبيض يقدم الهدايا من البارود والمساحيق والرصاص والخرز جو ً
وألوان الوجه ..هذا أمر طيب ..ليمر الرجل األبيض في سًّلم مع أنه يخلق هذه المشاكل.
عرف إيفانز أن الدور قد حل عليه ليتحدث كقائد لهذا الركب نيابة عنه ،وبينما هو يفكر إذ قال
له ديك:
-أخبرهم بأي شيء يا ليجي ،وسأقوم بترجمته إلى الهندية .قل لهم إنك صديق ،ولكن ذراعك
قوي إذا تطلب األمر ،وأن عندك بعض الهدايا التي تقدمها لهم لتظهر لهم أنك صديق ودود
لهم .أخبرهم بأننا نمر فقط من هذا الطريق وال نقصد اإلقامة به ،وعبر عن شكرك إلعادتهم
براوني من غير أي أذى.
جعل إيفانز صوته يخرج بقوة ،في حين كانت ذراعاه تعمًّلن .كان الرجال البيض يتجهون
إلى المياه الكبرى في الغرب حيث كان آباؤهم يقيمون ويمتلكون .إنهم قد جاءوا كأصدقاء كما
يجب أن يعرف السيوكس هذا؛ ألنهم أحضروا معهم أوالدهم وزوجاتهم .إن الرجال ال يأخذون
معهم أطفالهم وزوجاتهم في حرب ،لذلك فهم يمثلون ركبًا مسال ًما ،ولكنه ركب قوي مستعد
للكفاح إذا لزم األمر ،وقد أحضروا معهم هدايا للهنود ،وبعض الحلي لزوجاتهم ،وهم
مسرورون بالتدخين مع أصدقائهم السيوكس.
ظل ديك يقوم بعملية الترجمة بين الطرفين ،ثم وجه حديثه بعد ذلك إلى براوني قائ ًًّل:
-تستطيع أن تمرر عليهم اآلن الخرز ثم الطباق ،وقد وعدتهم بالقليل من الويسكي يا ليجي،
وكان وعدي جادًّا ،أرجو تحقيقه.
ثم ذهب إلى الحظيرة وعاد ومعه مشعل ودلو وقدح من الصفيح وقال:
-أال يكفي أن يوضع فيه الويسكي؟ أنا أقوم بسقيهم ،وعليك أنت يا براوني أن تقدم الخرز إلى
الزعيم ،وكذلك بعض األلوان الحمراء.
وتحدث تادلوك ليقول الكلمات نفسها التي ذكرها بقية الرجال البيض فقال:
-أعتقد أن الويسكي يعتبر ً
عمًّل سيئًا.
-هل األمر كذلك؟
-هل تعتقد أن مجرد وعد سيبقيهم عند وعدهم ،وال ينحرفون نحو الوحشية؟
وكل ما استطاع ديك أن يقوله:
-ولكنه يكفي إلبعادهم عن الشر.
ثم أخذ ينقل الدلو بين الهنود بنفسه ،وشرب الهنود الذين أصدروا أصواتًا تشبه أصوات الخيول،
ثم أخذوا ينظرون في الدلو بعد أن نضبت الخمر منه.
عا من حجر هندي وله ساق طويلة ،وأخذ وأخرج ديك غليونه من جيبه ،كان غليونًا مصنو ً
يشير بساق الغليون في اتجاه الشمال ،ثم الجنوب ثم الغرب ثم الشرق ،ثم إلى أعلى ،ثم إلى
أسفل قبل أن يسلمها إلى إيفانز ويقول:
-ابتدئ بالتجوال حول المكان يا ليجي.
كان كل شيء يسير هادئًا ،فقد نهض الهنود واقفين واتجهوا إلى جيادهم ،بعد أن دخنوا ثًّلث
أو أربع مرات من غليون ديك ،ثم تناول ديك قطعًا ضخمة من اللحوم من التي قاموا بصيدها
وسلمها لهؤالء الهنود ،وبعد فترة كانت النيران موقدة في الظًّلم بالقرب من النهر حيث أقام
الركب معسكره ،وكان بعض األفراد يغدون ويروحون بين حين وحين لحراسة المعسكر.
وأخيرا رقد إيفانز في مرقده ..القائد ،المزارع ،المتحدث ..إنه ليجي إيفانز الذي لم يكن يرغب
ً
في الخطابة والحديث ،وال يرغب في إظهار نفسه ،بل كان يترك هذا األمر لتادلوك ليسمعه
وليراه ..جعله هذا األمر يبدو مضح ًكا ،وشعر بالسرور والثقة في هذه الخطابة ،وكذلك القوة..
إن األوضاع تخلق الرجال من رغباتهم.
ضا؛ مثل لوائح هذا الركب .لم يتحدث أي إنسان عنغيرت األمور من شأن الركب ووضعه أي ً
الويسكي الذي قدمه ديك .اللوائح؟ إنك ً
قليًّل ما تفكر فيها ،جعلتهم يصوتون في االنتخابات ثم
جعلتهم يكذبون .ال ويسكي ،ال كذب ،ال جلد ،وعقاب للزنا والفحشاء ،القانون الخلقي .كان
الركب خلقيًّا بما فيه الكفاية ،ربما خدمت اللوائح أغراضها وبخاصة بالنسبة لغير المتزوجين؛
ونظرا ألنه لم تكن هناك أي انحرافات ،فلم يكن هناك أي داع لتنفيذ العقوبات الواردة في ً
اللوائح .شعر بالسرور والراحة فترة قصيرة ،ولم يكن هناك داع الستخدام السوط ،وشعر
بالراحة التامة وبرغبة في أن يضع يده بلطف فوق ربيكا زوجته ،ولكنه لم يرغب في إيقاظها.
أيقظته من غفوته طلقة بندقية ،فقام يهز ربيكا ويقول لها:
-حان الوقت لكي تنهضي.
ضا من نومه ،ونهض ليلحق باآلخرين وليشرف على الحيوانات ،فقال له
واستيقظ براوني أي ً
إيفانز:
-عم صبا ًحا يا براوني ..هل نمت بما فيه الكفاية يا بني؟
كانت الشمس قد بدأت تظهر بوضوح واستطاع أن يشاهد الطريق الذي أقام فيه الهنود ،ولكن
لم يكن هناك أي أثر للهنود ،بل كانوا قد اختفوا .وبينما كان يفكر في هذا الوضع ،إذ جاءه
تادلوك ليقول:
-لعنة هللا على هؤالء الشياطين ،لقد سرقوا زوجين من الخيل من عندي.
-كًّل.
-كان الجوادان نحيفين ،مما دفعني إلى تركهما خارج الحظيرة للرعي.
-لذلك قاموا بسرقتهما؟
-أقسم بأنني سمعتهم وهم يسرقون.
-لعنة هللا عليهم .هالو ديك.
كان ديك قد حضر في هذه اللحظة ،ولم يشعر به إيفانز إال حينما التقت عيناه بعينيه:
-لقد فقد تادلوك جوادين سرقهما الهنود.
فسأل ديك تادلوك:
-اثنان فقط؟
-أجل.
-كان تركهما في الخارج مغامرة ومخاطرة.
عا.
-لم أستطع أن أتركهما يموتان جو ً
-تركهما عظا ًما خير من تركهما للسرقة.
فسأل تادلوك إيفانز عما ينوي فعله:
-ماذا تنوي فعله اآلن.
-نتناول طعامنا ،ثم يتحرك الركب.
-أال تساعدني في استعادة الجوادين؟
-إنهما ال يستحقان المغامرة يا تادلوك.
-وخاصة أنهما ليسا ملكك الخاص.
فقال إيفانز:
-عليك اللعنة أيها الرجل ،لقد كنت على وشك الرحيل حينما كان مارتن يموت.
-كان األمر يختلف عن اآلن ،لم نستطع مساعدته ،ولكننا نستطيع أن نلقن هؤالء الشياطين
سا ال ينسونه.
الحمر در ً
فرد عليه ديك ً
قائًّل:
-ابتعد عن السيوكس في هذه األراضي.
-إنك لم تتوقف عن التفكير في ابنك يا إيفانز ،وهو الذي تسبب في هذه الخسارة.
-كيف ذلك؟
-لقد أوقعنا في هذه المشكلة.
أيقظت هذه الكلمات إيفانز؛ إذ لم يكن قد نظر إلى هذه األمور هذه النظرة ،كما لم ينظر إليها
ضا ،وشعر بأن هذا االتجاه قد يقلقه،
أي إنسان هكذا سوى تادلوك نفسه ،وربما المحامون أي ً
لذلك انبرى يقول:
-إ نني ال أقبل منك هذا القول وال أتفق معك فيه ،ولكني على استعداد لتركه للمجلس للفصل
فيه ،فإذا قرر المجلس شيئًا ضدي فإني سوف أعوضك عن خسارتك .فلم يرض تادلوك بذلك.
لذلك انبرى ديك يقول:
-دعه يذهب إلى الجحيم يا ليجي.
-إنني أهدف إلى فعل الحق والصواب.
فاندفع صوت تادلوك في غضب عارم ،كما لو كان كل ما حدث له قد تجمع وتأزم في هذه
اللحظة.
-ولكنك لن تقتفي أثر هؤالء الهنود؟
-كًّل.
-سوف أقتل هنديًّا أو اثنين قبل أ ن تنتهي هذه الرحلة.
-ال معنى للقتل ..إن ذلك هو الخطأ بعينه.
-واحد مثل اآلخر.
-لقد اتهمت ماك بارتكاب خطأ بقتله هنديًّا من «الكوز».
-ال أود أن تقوم أنت بتقدير الظروف التي كانت تختلف.
فقال إيفانز:
-تادلوك .إنني رجل مسالم ،وأقسم باهلل ،إن األمر ليس صعبًا في دق عنقك.
-إنها الحقيقة التي تكدرك.
-ربما كان األمر كذلك ،ولكننا لن نتعقب الهنود اليوم ،وإذا كنت ترغب في السير معنا فيجب
أن تستعد من اآلن.
فبصق تادلوك على األرض وقال:
-إنك القائد.
-هذا هو ما أخبروني به.
ارتد تادلوك على عقبيه وسار بعيدًا ،وشاهد إيفانز ربيكا وهي تراقبه ،وكانت واقفة تذكي
النيران بأخشاب ،وتعجب كيف تستطيع أن تسمعه مع بُعد المسافة بينهما.
فقال ديك:
-هذه هي الطريقة يا ليجي ..تأهب دائ ًما لمواجهة أي أسود ،ولكن يتطلب منك األمر دقة
وحز ًما.
-هل األمر كذلك؟
-يجب أن تكون حاز ًما.
-إنني أفكر في أنه ربما يقع جزء من اللوم على براوني.
-هكذا تعتقد أيها المسيحي ،إنه ليس الخيل ،ليس الخيل بمفردها ..ال يمكن أن يسير األمر هكذا
بسبب زوجين من الخيل ..سيأتي اليوم الذي ستواجهه فيه يا ليجي.
-إنني ما زلت أقول :إنني لن أفعل ذلك.
الفصل العشرون
كانت ضفتا «هاي سويت ووتر» مزدهرة بالزهور في اتجاه الممر الجنوبي ..وكانت البراعم
تشير إلى الطريق إلى أوريجون ،وسانديز بيج ،وليتل .وكانت المنطقة الخضراء التي أطلق
عليها الصيادون اسم البراري -أو سيدز-كي-دي وعرفت قبل ذلك باسم النهر اإلسباني التي
يحيط بها وتنتشر فيها الشجيرات الصغيرة .أما قمم المنطقة فتكسوها الثلوج التي تقف في وجه
الرياح وحيدة وشامخة ،كما اعتقدها ديك سمرز حينما شاهدها ألول مرة وعليها ندبة .وال شك
أن الندبات واآلثار التي تتركها عجًّلت العربات تترك أعماقها فوق سطح األرض .كانت
صخرة «الوندز» ترتفع عارية وشامخة في وجه الشمس تتحمل جميع العوامل التي تنتشر
بانتشار الغسق ،والتي تخفي الوديان العالية حيث كان سمرز ينصب فخاخه وهو الذي يخفي
خجله من اختفاء كًّلب الماء ،على الرغم من كثرتها ووفرتها في يوم من األيام في تلك
المنطقة.
وكان إذا حاول استنشاق الهواء ،اشتم رائحة دخان يتصاعد من شواء األفاعي ،وشاهد نيرانًا
صغيرة يجلس أمامها جيم ديكنز وبون كاديل ،في حين كانت اللحوم تفوح منها رائحة الشواء.
وكان إذا ما أخذ يستمع إلى ما حوله وجد واستمع إلى أصوات هرمة تصيح فيما بينها وأصوات
صغيرة تضحك من األعماق غنية بالقوة ،وتصيح بأصوات تعلو أصوات سباق الخيل الذي
ينظمه الهنود ،وكذلك األصوات السهلة العميقة التي تصدرها نساء الهنود .كان الدخان يتصاعد
من المعسكر في «هيابيل» و«هيابيك» وتنعكس ظًّللها فوق األعشاب الخضراء وفوق الجياد
التي ترعى في فترات الصباح ،في حين كانت الذئاب البيضاء تعوي في الليل ،في الوقت الذي
كان الجميع يجلسون وعلى أكتافهم البطاطين البيضاء ،وهم يستعدون للصيد.
مات ديكنز ..واختفى كوديل ،ولم يتبق من بقية رجال الجبال الذين كانوا ينتشرون في المكان
كثيرا في رؤيتهم ،وعلى وجوههم آثار السنين ،في حين كان سوى حفنة قليلة .لم يكن يرغب ً
هو يعود إلزكاء النيران بواسطة بعض الويسكي ..كان ذلك منذ زمن مضى وانتهى ،كان رجل
الجبال إذا قدر له أن يعيش مثل جو ووكر الذي التقى به في أثناء سير الركب قد تغير لدرجة
وقادرا ،ولكنه كان كئيبًا
ً لم يستطع معها سمرز أن يعرفه ،وكان على الرغم من ذلك قويًّا
وحزينًا ألن عالمه قد ولى وأدبر ،كما هو الحال مع توم فيتز باتريك ،الذي سيقابلونه وهو يقود
كثيرا
ً قافلة الكولونيل كيرني عائدًا من معركة .لم يكن توم أحد األشخاص الذين يتعلقون
بمشاعرهم ،ولكن وجهه كان يعكس الكثير من الذكريات.
لم يكن سمرز يشعر حتى تلك الفترة بالراحة؛ ألن المنطقة الخضراء الشاسعة األطراف كانت
ً
أحماال خفيفة .فهل تستطيع العربات صعبة حتى بالنسبة للصيادين والخيول التي ال تحمل إال
والثيران أن تشق طريقها؟ أو الزارعون أو سكان المدن والنساء واألطفال الذين لم يتعودوا
ذلك؟
ق طع ديك بعد ذلك تفكيره في الذكريات القديمة ،وأخذ يتأمل في األميال األربعين الجرداء
الجافة التي سيقطعها الركب قبل أن يصل إلى المنطقة الخضراء ..كانت الرياح تعصف بما
حارا وجافًّا لدرجة تجعل اإلنسان يصاب بضربة
حوله وتصفع وجهه بقوة ،وكان النهار يبدو ًّ
شمس ،أما الليل فهو بارد وقارس؛ ألن ذلك كان طبيعة جو الصحراء ،ولكن كان كل ما يهم
هو المياه في تلك المنطقة أو الرغبة فيها ..لم تكن هناك أي جرعة في أي مكان ألي إنسان أو
حتى حيوان.
قال سمرز أمام المجلس الذي جمعه إيفانز:
-أعرف ..وأعتقد أننا نستطيع أن نثابر في هذا الطريق ونتحمل ،على الرغم من صعوبته
وقسوته.
فسأل ماك:
-وإذا لم نستطع؟
-ال تقل ذلك ..لن يكون هنا أي عجز في تحقيق ذلك.
فقال إيفانز:
-إن األمر يبدو سيئ ًا على ما أعتقد ،أكثر من أي وضع سابق؟
-ليس هناك احتمال آخر.
ً
محتمًّل أن نواجهه فيما مضى؟ -هل هو أسوأ مما كان
-هناك الكثير من الصعوبات التي سوف نواجهها يا ليجي بعد عبورنا فورت هول.
-إن الوقت قد حان لكي نذوق قسوة جهنم.
وافق تادلوك على ذلك بقوله:
-إننا ال نقوم بهذه الرحلة من أجل الترفيه والمتعة ..ربما نستطيع أن نفوق الركب الذي سبقنا
ونتخطاه.
حارا في النهار ،سنجد أنفسنا مضطرين للسير ً
ليًّل. -إذا كان الجو ًّ
فقال إيفانز:
-إننا ال نرهب أو نخشى الليل والظًّلم يا ديك.
لذلك قرر الجميع العمل على تخفيض المسافة بعمل جريء ،وكان سمرز يشعر بالقليل من
القلق؛ ألنهم لم يكونوا يعرفون هول وقسوة وبشاعة الرحلة في هذه المرحلة.
كانوا قد عبروا «ليتل ساندي» من غير أي شعور بالقسوة ،واتجهوا بعد ذلك نحو «بيج ساندي»
بعد أن مألوا جميع أوانيهم والبراميل بالمياه ،وانتظروا حتى تًّلشت الحرارة من الجو
وانتشرت البرودة ،بعد أن اختفت الشمس أو كادت .في الساعة الرابعة على حسب توقيت
ساعة إيفانز قام سمرز بقيادة الركب في طريقه.
قام الجميع بالسير في طريقهم طوال الليل يدوسون فوق الشجيرات الصغيرة ،ويعبرون قاع
البحيرات القديمة ويجرون فوق الحصى والرمال ،وكانت األتربة ترتفع عالية لتغطي
أجسادهم ،في حين كان القمر يرتفع عاليًا في السماء ،ثم تعب من مراقبة الركب فمال إلى
مرقده ليغيب بضوئه عن األرض ،وليتركها سوداء قاتمة بسبب ظًّلم الليل تار ًكا سمرز
يتعجب مما إذا كان يستطيع أن يشق طريقه السليم بوساطة أحاسيسه وانفعاالته فحسب.
ولما أشرقت الشمس وأرسلت أشعتها فوق الصحراء توقف الركب وترك الجميع ماشيتهم ق ً
ليًّل
طا من الراحة وليغوصوا ليتناولوا إفطارهم من اللحم المجفف والخبز الجاف ولينالوا قس ً
بأقدامهم في الرمال طلبًا للراحة ..كان هذا جز ًءا من برنامج الراحة ،وكانت الشمس تزداد حدة
من خلفهم ومن أمامهم لتجعل المسافة أمامهم تبدو كما لو كانت ترقص.
لم يتذكر في حياته أنه شاهد مثل هذا اليوم ،وتذكر سمرز أنه لم يشاهد مثل هذه الحرارة
ً
وأمياال للصيد وعاد ،ثم ركب وعاد ،ولكنه لم ير ً
أمياال والقسوة من قبل .كان قد ركب من قبل
في حياته مثل هذا اليوم .وكان في داخل نفسه يحث نفسه على استمرار السير ..االستمرار في
السير ..أو الموت ..السير من أجل الوصول إلى «جرين» ..السير وسط األتربة والرمال
المتصاعدة ،بغض النظر عن اإلرهاق الذي يصيب الثيران.
يسارا أو يمينًا ،أو في الطريق المباشر؟ وكيف
ً ثم أخذ سمرز يفكر ،يفكر بعمق وقوة؛ هل يسير
يسارا ..لقد كان
ً كان هذا الحال منذ فترة مضت؟ ال يمكن أن يخطئ ،ولكن كيف حالها اآلن؟
هذا هو الطريق ،فليوجه الركب إلى االتجاه نحو اليسار.
كانت ابنة ماك بي تبدو مريضة ،تظهر على وجهها الشاحب قطرات العرق وهي جالسة بجوار
العربة ..انهضي أيتها الفتاة ،واركبي العربة .هل تريدين أن تصابي بضربة شمس؟
أما وجه هنري ماك بي فقد غطته الرمال واللحية ،كما غطت الرمال المتحركة وجوه اآلخرين
التي تتصبب عرقًا ،في حين كانت تدفقات الدم تظهر فوق الوجنتين ،ويظهر الفراغ التام في
أعين النساء الباحثة عن قطعة أو جزء من الظًّلل ،ثم سقط ثور من غير أن يجيب على
السوط .وكانت عيناه كبيرتين وحزينتين .اقتله ،اقتله رحمة به ،وجاء غيره ليحل محله ..إن
ثورا واحدًا ال يعد يا بروور في هذا الركب ..لنستمر في سيرنا إلى «جرين».
ً
شعر فيرمان بقسوة الجو ولهيبه ،فنام في عربته ،في حين كانت امرأته تصيح .وظهر الجفاف
على جلد وبشرة وجهي كل من دورتي وبيرد ،وتشققت الشفاه اآلن! أبدل الثيران التي أحنت
سيرا حثيثًا أيتها النساء ..ألستن ترغبن
رؤوسها وهي تسير طالبة الماء لتروي ظمأها ..سرن ً
في الوصول إلى أوريجون؟ صل لنا أيها األخ ويذربي ،وال تعترض على إرادة مشيئة هللا.
عرف سمرز أن هذا الركب قوي في هدفه وعزمه ،على الرغم من ضعفه الجسدي .وكانت
ربيكا إيفانز تسير قوية ومشدودة تبدو كأنثى الفرس ،في حين كان ليجي يساعد اآلخرين بقدر
طاقته ،ويشجعهم ،في حين كانت الرمال تغطي وجنتيه العريضتين ..وكان كل من باتش
وشيلدز وتادلوك يلعنونه .وكانت الرمال واألتربة تغطي نساءهم ورعاة األبقار .وكانت
جوديث فيرمان تقود عربتها والدموع تنهمر وتغرق وجهها بأكمله .وكانت زوجة ماك تخطو،
وعيناها تتجهان نحو الغرب ،خطوات ثابتة .كما كان دورتي يسير وعًّلمات المرض تبدو
عليه.
ركب قوي ..قوي لماذا؟ من أجل أوريجون واألسماك والمزارع والقمح واألغنام ،وتكوين
أمة .كان الكل يدفع الركب بكل قوته ،وكان ليجي يقوم بعمله كالثور ،وكان ماك وتادلوك
وبروور وباتش وشيلدز يدفعون عرباتهم وماشيتهم بكل جبروتهم ..كان كل شيء يتطلب
المزيد من الدفع إلى األمام ..ليجي هذه هي بحق اإلله.
كانت هذه هي «جرين» بظًّللها ومراعيها ،ولكنها كانت حتى ذلك الوقت تبعد مسافة ستة
أميال ،وكان أمام الركب االنحدار إلى قاع الوادي ،ولكن مجرد رؤيته كان يشبه احتساء
الويسكي مضاعفًا مما ألهب الوجنات ،وأثار االبتسامات ،وعلت األصوات والهمسات
والضحكات .كيف تشبه يا سمرز وما هي؟ هل هي تشانس؟ كان لهذه الكلمات أثرها الكبير
مما أدى إلى خروج النساء واألطفال ووقوف الجميع للتحدث وانتهاء الفترة العصيبة القاسية
واآلالم التي كانت تبدو على كل وجه.
أخذت العربات تنحدر بحذر شديد ،وحينما هبطت جميعها ،وجه سمرز حديثه إلى إيفانز ً
قائًّل:
-ليجي إن هذه الماشية سوف تهرب بمجرد أن تشم المياه ،لذلك من األفضل أن تندفع العربات
والماشية إلى مكان الرعي مباشرة.
-ماذا تعني بقولك هذا يا ديك؟
-أ عتقد أنه من األفضل أن نقود الماشية للرعي في بداية األمر ،ثم نوجهها على أجزاء إلى
أماكن الشرب ،حتى يكون عندنا الوقت الكافي لتنظيم العربات.
شكرا يا ديك ،لوال وجودك معي اآلن ،ألصبحت أفشل قائد اآلن .أليس كذلك؟
ً -
-إنني ال أرى أي غبار عليك.
-إن المياه الباردة ال تصلح فوق األجساد الساخنة.
-ال مفر منها.
-س أقوم بدفع الثيران والخيل ،وإطًّلق سراحها في أي مكان ال تهرب منه ،وإنما لتنهمك في
الري .ولكن ماذا عن الهنود؟
كثيرا.
-ال تشغل بالك بذلك ً
خرجت هذه الكلمات كما لو كان سمرز يعرف ذلك ،وليس هناك أدنى شك في أن مجرد ظهور
المياه أمام الماشية سيجعلها تصاب بالجنون وتندفع إليها ،وكان هناك ثور يشم األرض بأنفه.
وبعد مرور فترة كان اليوم قد أوشك على االنتهاء ،فقام الرجال ،الذين ظلت فيهم بقية من قوة،
بقيادة العربات إلى أماكن معينة تمهيدًا إلقامة المعسكر ،ولم يكن قد مات من الثيران سوى
واحد فقط بسبب العطش الشديد ،ولم تكن هناك أي عربة قد فقدت أو مات أي إنسان ،أما الذين
أصابهم المرض فقد شفوا بأسرع ما يمكن حتى شارلز فيرمان نفسه.
كانت العوازل قد أصبحت خلفهم اآلن ،واعتقد سمرز أنه يستطيع أن يعذب نفسه أكثر من ذلك
بالعودة بذاكرته إلى األيام التي انقضت ،وحاول أن يبعد عن ذهنه هذا التفكير بالحديث مع
األخ ويذربي الذي كان يركب بجانبه ،لذلك قال:
كثيرا عن «بير» ،لذلك سوف نصل إليها قبل حلول الظًّلم بوقت قصير.
-إننا ال نبعد ً
فاستدار ويذربي بوجهه الضامر النحيف يقول لسمرز:
-إنني في غاية العجب من ذاكرتك القوية! إنك تتذكر كل تل وانحناءة وطريق هناك.
كثيرا ،وهأنذا مرة أخرى.
-يجب أن أكون كذلك؛ إذ إني جلت في هذه المنطقة ً
-ولكني ما زلت أتعجب لذلك؛ إذ يوجد الكثير من األماكن الشبيهة بذلك.
-إنها تبدو كما كانت من قبل .وحينما كان يجيب ويذربي عن سؤاله كان يعتقد أن األرض
نفسها هي التي ال تتغير .كانت الجبال تقف كما هي تتطلع إلى الزهور التي تنبت في األرض،
وتتطلع إلى الرجال والناس الذين يجيئون ويذهبون ..الهنود ً
أوال ،ثم الصيادون الذين كانوا
أخيرا الراغبون في إنشاء أماكن جديدة لإلقامة ..صيادو
ً يشقون طرقهم ،ويغامرون بالوحدة ،ثم
المستقبل والباحثون عن الثروة ،ثم قال ويذربي وكان يحملق بناظريه بعيدًا:
-إنني ما زلت أفكر كيف تختلف هذه األرض عن إندياني؟
-أو ميسوري.
كثيرا؛ ألنها كانت تشكل أحد أعماق الذاكرة .كان الطريق
لم تكن ميسوري ترد إلى ذهن سمرز ً
المائي األول الذي أطلق عليه المهاجرون األوائل اسم «باسفيك سبرنجز» و«سانديز» و
«جرين» ولمحات من قمم «يونيتاه» التي تشبه السحب الثلجية حيث تقبع «براونز هول»..
كانت تبدو كما لو لم تقم ميسوري من قبل أو «ماتي» والحمى التي تنتشر فيها .كانت هذه هي
أيام االستسًّلم ،والشعور بالهرم والكبر؛ ألن عالمه قد كبر ،لم يشعر اآلن بأنه قد كبر في السن
وهرم ،بل كان هذا الشعور في عقله وذهنه فقط ،وبالتطلع إلى الجبال ..كان يبلغ التاسعة
واألربعين ،ولكن أطرافه كانت قوية ،وكان نظره حادًّا ويستطيع أن يتجاوب مع النساء ..كان
التفكير وحده هو الذي يجعله يشعر بالكبر ،ومعرفته بأنه قد عاش فترة من الزمن في هذه
البقاع .إنه يستطيع أن يزرع في أوريجون كما سبق أن ذكر ليجي؛ إذا كان الوضع يستحق
مثل هذه المحاولة ،إذا لم يكن قد عرف من قبل «بوبو آجي» ..كان يعيش في الوقت الحالي
وفي الماضي ..يسر للحديث مع الناس ،وإلسداء النصائح ،والهزل مع براوني أو ليجي ،وكان
ويذربي ينحدر بجواده الذي استمر يجري نحو «مودي فورك» في اتجاه وادي «بير»
األخضر ،األمر الذي جعله يصيح مشدو ًها وهو يحدق في هذه الخضرة:
-يا إلهي ..في عظمتك وقدرتك.
-إنها رائعة بما فيه الكفاية.
هز ويذربي رأسه ببطء وقال:
-إنني لم أكن ألصدق هذا المنظر ،وال أستطيع أن أصدقه بسهولة اآلن وأنا أشاهده.
-إنها بعض من كثير.
«نهر بير» الذي تحيط به األشجار وبعض أشجار التوت ،والذي ينساب بهدوء عبر أرض
قاسية ،لم يكن قد أطلق عليه هذا االسم تلقائيًّا ،وإنما أوجد إله ويذربي بعض الدببة بجواره
(بير تعني الدب باإلنجليزية) ..دببة بيضاء وسوداء تعيش على النمل واألسماك والتوت ،وال
تعرف مطلقًا معنى الخوف ..كان سمرز قد قام في يوم من األيام بنصب فخاخه في هذا المكان،
وكان قد أطلق رصاصة على أحد الدببة الذي اقترب منه ولطمه بيده ،ثم سقط فوقه بجثته
الضخمة مما جعل سمرز يستل خنجره ويعمل به في رقبة الدب ،ولكنه اكتشف بعد ذلك أن
وخر
َّ الدب قد مات بعد أن اخترقت الرصاصة قلبه وفتحت فيه فجوة كبيرة تدفقت منها الدماء
صريعًا بسببها.
وهناك قال سمرز لويذربي:
-م ن األفضل أن ننتظر قدوم الركب ،ويجب أن نحدد الزاوية التي يجب أن يسلكها الركب في
المنحدر لدفع الماشية بعيدًا عن العيون ،التي تبدو كأنها سامة .أعتقد أنها من صنع هللا نفسه.
وجاءت سحابة لتغطي وجه ويذربي ولتجعله يقول:
-إنها هنا لغرض معين يا أخي سمرز ،قد تعرف ذلك بنفسك.
-لغرض قتل الحيوانات؟
-إن هذه ليست حكمة هللا.
-إن ما أشك فيه حقيقة هو هل هناك عيون حقيقة هنا؟
أحنى ويذربي رأسه وقال:
-أرجو أن تستطيع أن ترى بنفسك يا سمرز ،إنك أفضل من أن تفقد نفسك وطريقك.
-من األفضل أن تحافظ على جهودك من أجل مواجهة الهنود ..إن هناك الكثير منهم من الذين
يحتاجون إلى قوتك.
-ولكن هل تعتقد أنه ال فائدة من ذلك؟
-ال تعد لقول مثل هذا الكًّلم ،إنهم أقوياء باألدوية.
-أدوية! إنني أستمع إلى كلمة دواء باستمرار ،كما لو كان الرب وطريقة الخًّلص ليسا سوى
خرافة من الخرافات.
-ربما تستطيع أن تعلمهم أن صليبًا واحدًا يضم قوة أكثر من حقيبة كاملة من الدواء.
تنهد ويذربي وقال:
-إن استخفافك يجعلني حزينًا ،ويؤدي إلى غضب الرب أي ً
ضا.
-إنني ال أقصد تسفيه آرائك ..إن اتجاهك سليم ،أما بالنسبة للرب ،فليس هناك أي داع لكي
يقف بيننا.
وقبل أن ينطق ويذربي ،كان الركب يتحرك ،وعلى رأسه ماك بي ،الذي استعان بكلمة هللا،
وهو يتقدم نحوهما لينظر إلى أعماق الوادي ،في حين كانت يده تجوس في لحيته وهو يقول:
-إنه واد طيب.
شاهد سمرز العربات وهي تنحدر في أماكن سليمة ،فعاد متج ًها نحو الرعاة ليساعدهم في
توجيه سير الماشية ،في حين كان يفكر في ويذربي وفي أفكاره .فهل كان هناك نظام إلدارة
دفة شؤون األمور ..كانت الحوادث القديمة تمر أمام عينيه ضئيلة مثل الهنود ،أو صيادي
حيوانات الفراء ،والباحثين عن المزارع ..ماذا بعد؟ هل كان هذا جدول من المياه يجري في
مكان ما؟ كان النهر يمتلئ بالتوت المتساقط وبكًّلب البحر وبعض أنواع األسماك ،ثم قال
سمرز لبراوني:
-أسماك كثيرة كبيرة في النهر تسير جماعات.
ثم استمر في سيره متج ًها إلى إيفانز الذي رفع وجهه العريض واالبتسامة تعلو شفتيه ،كما لو
أخبارا طيبة:
ً منتظرا
ً كان
-أستطيع أن أومن بأوريجون اآلن يا ديك.
-جميلة .أليس كذلك؟
-أفضل ما يمكن أن يكون ،ولكننا نستطيع أن نحقق أهدافنا من غير هذا البعوض .ستقوم بيكي
بإعداد فطيرة بالتوت وبعض الخضراوات.
ضا بعض أنواع البصل البري ،إذا كنت ترغب في ذلك .وأعتقد أننا
-هذا حسن ،ويوجد هنا أي ً
نستطيع أن نذهب عدة أميال أكثر من ذلك إلى «فورك سميث»
المجاورة «لبير» على الرغم من أن هناك هضبة بينهما.
فهز إيفانز رأسه وقال:
-أقسم ي ا ديك بأنني قد سئمت حرث األرض ،ولكني على استعداد للقيام بهذا العمل اآلن في
هذه األرض.
-أجل إن األمر كذلك.
تقدم سمرز على ماك بي ومر به ،بعد أن ترك ويذربي يسير مع الركب سبب تعب عظامه
العتيقة من مشقة الرحلة .كان جو النهار قد أخذ يبرد ،أو ربما كان ذلك بسبب الوادي نفسه،
في حين كانت الشمس تبدو ذهبية وهي تميل نحو الغرب .واستمر في سيره حتى وصل إلى
وادي «بير» الحقيقي ،ثم استمر في سيره متج ًها إلى «فورك سميث» فشاهد قرية هندية هناك
اعتقد أنها قرية «سينكس» أي األفاعي ،وهم من أفراد «الشوشون» األصدقاء الذين عاش
معهم وتاجر معهم منذ فترة مضت .كان الشحوب من مميزات أفراد «الشوشون» كما كانت
نساؤهم يبدو عليهن وعلى أعينهم جفاف وقسوة حياة الجبال.
هبط من فوق جواده وربط اللجام في شجرة وتقدم ليستوثق من أن هذه القرية هي قرية
«سينكس» وليست «بانوك» أو «كراو» أو «بًّلك فوت» الذين كانوا أبعد المسافرين
والمغامرين .كانت قرية «سينكس» بالفعل ،واستدار في هذا العراء الكبير وغليونه في يده،
في الوقت التي أخذت الكًّلب تنبح فيه ،واستدارت الوجوه لترى ،وشاهد أحد الرجال ينهض
واقفًا ويتجه نحو سمرز ..لقد كان هو «وايت هوك» نفسه ..كانت السنون قد خطت آثارها
عليه فغيرت بعض مًّلمحه.
وصاح وايت هوك:
-من حسن الطالع أن أراك مرة أخرى يا أخي الصديق.
وكانت صيحة مفاجئة تشبه صيحات األطفال أطلقها وايت هوك بسرعة ،وجاء على إثرها
مندفعًا ،في حين كان سمرز يترجل من فوق جواده ،وهو يصيح مادًّا يديه:
-أيها الصياد الكبير ..ظننتك قد ذهبت إلى أرض األرواح.
كان على سمرز أن يلتقط ويختار بعض الكلمات التي اعتاد استعمالها بكل سهولة:
كثيرا.
-لقد خرجت عدة مرات و تغيبت ً
كان سمرز يعرف أن «الشوشون» هم أكثر الهنود صداقة وودًّا بالطرق البسيطة ،وموثوقًا
بهم ،على الرغم من أنهم يسرقون مثل غيرهم من الهنود ..وشاهد الشباب واألطفال والنساء
هذا المنظر ،في حين كانت النساء ينظرن من جحورهن ،وقفزت الكًّلب وهي تصيح كما لو
كانت ترحب بالسًّلم ،ثم قال وايت هوك:
-يوجد لحم في بيتي ،ورداء ترتديه لتنام به.
-و ايت هوك إنك رجل طيب ..إنني أقود الكثيرين من الرجال البيض وزوجاتهم في اتجاه
المياه الكبرى.
ضا؟
-وامرأتك أي ً
-لقد ماتت زوجتي.
-أوه! هذا شيء سيئ ..إنه لمن األمور السيئة أن يصبح الرجل من غير امرأة.
-إنه شيء سيئ بالفعل ،ولكن ما زلت أنت تمارس الصيد في جرين ولويس ريفرز؟
ضا بعبور الجبال سعيًا وراء الجاموس البري حيث اعتاد «بًّلك فيت» الحرب -ونقوم أي ً
كثيرا ..لقد أصبحوا قلة ال يعتد بهم.
والمقاتلة ..إنهم ال يقاتلون اآلن ً
فهز سمرز برأسه وقال:
-بسبب المرض الكبير.
فقالت وايت هوك مرة أخرى:
-إنك أخي.
وقبل أن يستطيع سمرز اإلجابة ،صاح وايت هوك مناديًا فتاة صغيرة ذات عينين مثل عيني
الغزال:
-سأقدم لك زوجة.
وخرجت فتاة ذات جسم مرتفع ومستدير تحت مًّلبسها الفضفاضة ،واستمر وايت هوك يقول
موج ًها حديثه إلى الفتاة:
-ستكونين زوجة أكبر صياد ما دام يدخن معنا.
لم تتكلم أو حتى تومئ برأسها ،ولكن نظرة الرغبة كانت تبدو في وجهها ،كما لو كان ديك
سمرز العجوز شيئًا تحت مًّلبسه ..ربما كان كذلك من قبل ،ولكن عًّلمات الزمن قد جعلته
يشك في نفسه ..قال في نفسه إن هذه الشكوك هي شكوك السنين وشكوك الذات ..وشكوك
أهمية الحياة والرغبة فيها والهدف في األشياء ..إنه شك العمر ،أما صغار السن فهم ال يشكون
في شيء.
ثم رد عليه سمرز ً
قائًّل:
-إنك كريم الخلق ..وال أعرف ماذا أفعل؛ إذ مضى عليك زمن طويل منذ آخر مرة كنت أقيم
فيها مع الشوشون ،لقد مضى زمن طويل ،وال أعرف ماذا أفعل؛ إذا أصبحت أدويتي ضعيفة.
-تعال ودخن معنا.
-يجب أن أقود مجموعة الرجل األبيض ،وبعد ذلك سأحضر إليك للتدخين ..هل يسرك أن نقيم
المعسكر عند المياه في األمام؟
-أخبر اإلخوة البيض بأن يحضروا هنا لكي ندخن ونقوم ببعض أعمال التجارة وتقديم الهدايا.
أخذت الشمس تميل نحو الغروب وراء التًّلل تاركة ضو ًءا قويًّا في السماء ،في حين كانت
العربات قد توقفت ودقت الخيام ،واجتمع الهنود مع الرجال البيض ،ثم أخذ الغليون الكبير يمر
بين ا لجميع ،وانتقلت البضائع والهدايا بين األيدي ،في حين كانت ضوضاء الحركة
واالجتماعات تتزايد ،وأخذ الليل يرخي سدوله بلطف ،كما أخذ ضوء شمس الغروب يخفت
ويتًّلشى ،ثم ظهر القمر بعد ذلك ليتضاءل بجانب ضوء النيران المشتعلة ،وكان ضوءه الفضي
ينتشر في كل مكان ،فاستطاع سمرز أن يشاهد كل شيء بوضوح -وجوه الذين يدخنون من
الرجال ،وخطوط جذوع األشجار التي ترتفع شامخة ،وبيوت الهنود واألعشاب المرتفعة.
كان الرجال يدخنون بهدوء من البيض والهنود ،وهم يتحدثون بعض الكلمات المتقطعة القليلة.
كان إيفانز يجلس معه ومعهما باتش ،وجورهام وكاربنتر ودورتي ووايت هوك وستة من
رجاله .أجل لقد كان الصيد ثمينًا ألن الغزالن واألغنام واأليائل واألسماك كانت وافرة .كان
وايت هوك يراقب «الشوشون» بنفسه حتى ال يقوموا بسرقة أصدقائهم ،لذلك وضع بعض
ضا.
جنوده لمراقبة ذلك أي ً
كم تبعد المسافة حتى فورت هول؟ وكم هي المسافة وعدد الليالي حتى البيت البريطاني يا
وايت هوك؟ لم يكن هناك أي تيار هوائي أو تنفسي ..وكانت النيران قد خمدت ولم يبق منها
سوى بعض بصيصها ،ولم تكن هناك أي أصوات سوى طنين البعوض ،وبعض الكلمات
الضعيفة الهامسة التي كانت تصدر بين حين وحين .كان األطفال قد ذهبوا إلى الفراش ،في
حين كانت النساء ينتظرن أوبة الرجال ،وبقية الكًّلب صامتة ،ولم يظهر أي أثر أو صوت
بعد للذئاب ،أو بنات آوي ..كان الوضع يبدو كما لو كانت األرض والسماء تستمتعان ،في حين
كانت األسئلة تدور في ذهن سمرز.
لماذا يتساءل ً
بدال من القيام بعمل فعلي؟ إنه ال يؤمن بالخطيئة التي يؤمن بها الواعظ .لقد جاء
الرجل والمرأة لغرض محدد مثل ذكور وإناث أي نوع من الحيوانات ..وقد فعل ما كان يرغب
فعله ،وحصل على ما كان يرغب فيه ،ونسي كل شيء ما عدا بعض التفكير الذي يراوده بين
حين وحين بشأن بعض الحيوانات التي يربيها ويكون قد نسيها ..ولكنه قد يشعر بالخجل من
التفكير في مثل هذا األمر الذي يخجل الرجل األبيض ،وال يخجل الهندي الذي يترك أخاه
يختار امرأة ..كانوا على حق في معتقداتهم ،مثلما كان ويذربي على حق في معتقداته ..إن
رجل الجبال يأخذ ما يجد ويطرح األسئلة بعيدة عنه.
ولكنه ظل يسائل نفسه ..وكان يعرف أن الذي يتساءل في نفسه هو العمر نفسه؛ ألن ديك سمرز
سا ما يراه أمامه ويقتنع به ..كانت المسألة مسألة السن وليست مسألة
الشاب كان يندفع وينفذ رأ ً
عجوزا أحمق يفكر في أن يلحق بالماضي بالزواج من ً العمل الصواب والحق ،ولكنه كان
هندية ..وأن يجد ما فقد منه ..الروح العالية تحت الثوب في جسد امرأة ثرثارة ،ولكن صغيرة
السن ورقيقة ومليئة بالدفء له .كان يعرف اإلجابة ..يستطيع أن يغطيها وأن ينام على ظهره،
ويتحقق من أنه ال فائدة إال من الحمى التي ماتت اآلن في دقيقة ،واعتقد أنها ستدور برأسه
حتى يستريح وينتهي من هذا التفكير ،ولكنه ظل يسيطر عليه ..يسيطر عليه سيطرة كاملة.
صفيرا بفعل أجنحة ،ثم جاء إليه فجأة اسمها ..اسمها هي التي ستكون معه
ً سمع فوق رأسه
على ضفتي «بوبو آجي» كانت «بروكن وينج» أي الجناح المسكور التي استطاع أن يسمعها
من «الكراو» األنثى ذات الجناح المكسور.
هبت ن سمة بسيطة بثت الروح قليلة في النيران الخامدة أدت إلى احمرار الرماد ،فنهضت
الكًّلب الهندية على الفور وهي تتطلع إلى السماء .واعتقد أن هناك ما يدعو النيران إلى العودة
إلى االشتعال ،إذا استطاعت ذلك ،وأن من حق الكًّلب أن تتطلع إلى ضوء القمر.
فنهض واقفًا ،وسأله إيفانز:
-ماذا تشم يا ديك؟
-هل أشم شيئًا؟ إنني أشعر بشعور طيب فحسب ،على ما أعتقد.
***
الفصل الحادي والعشرون
كان ليجي إيفانز يركز جز ًءا من تفكيره في الصيد ،في حين كان جز ًءا آخر يسرح بعيدًا فيما
سبق أن شاهده وفعله وشعر به منذ أن غادر إندبندس في بداية الربيع ،وبقي جزء من هذا
التفكير يجول حول «بيج تمبر» حيث أقام الركب معسكره؛ حتى يمكن أن يستريح الجميع
ويستعدوا لبقية األميال التالية .كان يبدو أنه ال يستطيع أن يتخلص من التفكير في الركب ،كان
يحاول ،ويتعب نفسه بالتفكير في حالة العربات ،وقوة الثيران ،وفي حالة فيرمان وأحزانه،
وفي الصعوبات التي ال تزال تكمن في الطريق وفي كولومبيا الكبرى ،والسرعات الخطيرة
التي سمع عنها .وكلما ابتعد عن الركب ،مثل حاله اآلن ،كان ينتابه شعور بأن هناك حاجة
إليه؛ إذ إن كونه قائدًا لهذا الركب يلقي عليه عبئًا بأنه ال يستطيع أن يترك الركب من غير أن
يشعر بالذنب.
امتطى إيفانز صهوة نيللي متج ًها إلى أسفل الوادي وهو ينظر إلى البراري ،وإلى الشجيرات
واألعشاب بحثًا عن آثار الوعول أو األيائل ،أو حتى غنم الجبال ..كان ذلك ألن الركب كان
بحاجة ملحة للحوم ،وال يقع العبء على سمرز ..كان يرغب في هذه اللحظة في الخروج ولو
لحظة بسيطة والتحرر من القيادة ليستنشق نسيم التحرر من القيود ..لم يستطع أن ينفذ غالبية
األشياء التي فكر في عملها في إندبندس ،ولكنه استطاع أن يطلق النار على زوجين من
كبيرا هائ ًجا ،كما استطاع أن يصطاد و ً
عًّل ..كان ثورا ًالجاموس البري في بًّلت ،كان أحدهما ً
هذا هو كل شيء؛ إذ لم يستطع أن يصيد األسماك في «بير» وكان يعتقد أنه سيتمتع ببعض
ساعات من الترفيه ،ولكن لم تكن عنده فكرة في هذا الشأن ..كان الواجب يثقل عليه ،من غير
أي سبب عادي اآلن.
سيرا طيبًا؛ إذ لم تكن هنا حتى حالة واحدة من المرض أو الحمى ،أو
كان كل شيء يسير ً
المشكًّلت ،ولم يصب أي فرد بأي أذى في حادث أو على أيدي الهنود .كان الركب يتكاسل
على طول طريق «بير» ولكن لهدف معين؛ لتقوية الخيول والماشية وبخاصة الثيران التي
قال عنها إيفانز إنها وسيلة إلعدادها لمواجهة أحجار الصحراء المرتفعة فوق «سينكس» كانوا
قد عبروا «بير» مرتين لكي يدوروا حول الجبل الذي يقف في وجه الشرق ويضيف عدة أميال
نهرا بطيئًا وهادئًا ترتفع على ضفتيه أشجار كثيرة يمكن
أخرى إلى الطريق ،كان نهر «بير» ً
قطعها ووضعها فوق النهر كجسر لمرور العربات فوقها إذا احتاج األمر لذلك .كان يأمل أن
يستمر الهدوء في «سينكس» وهو يعرف أن ذلك أمر لن يحدث.
كان يخبر نفسه للمرة العاشرة أو العشرين بأن الركب يسير في حالة طيبة ،وكان يشعر بأن
له الحق في القيام بالصيد ،ولكن كان يشعر بأنه سيعود خالي الوفاض .وكان أفراد الركب على
عًّلقة حسنة مع الهنود ،على الرغم من أن أفراد قبيلة «السينكس» كانوا سريعي الحركة في
سرقة األواني والمًّلبس ،بما في ذلك الكثير من المعاطف التي كان تادلوك يرغب في ارتدائها،
فهاج تادلوك لهذا الوضع ،وزاد هياجه بعد أن فشل وايت هوك في إكراه رجاله على إعادة
المسروقات ،ولكنه أكد أن وايت هوك يستطيع أن يجبر رجاله على رد المسروقات إذا رغب
في ذلك .وقال إن وايت هوك قد يأخذ المعطف لنفسه ،ولكن إيفانز لم يكن يعتقد ذلك ،بل اعتقد
أن وايت هوك قد حاول وقف السرقات والعثور على األشياء المسروقة .كان األمر يبدو كما
لو كانت الكلمات ال تجدي لوقف السرقة ،كما كان من الصعب جدًّا محاولة تادلوك الذي كان
يعتقد أن وظيفة القائد والرئيس هي إخضاع األتباع للطاعة.
عاد إيفانز إلى مكانه ليجلس أمام النيران وبجواره ديك الذي كانت الخمر قد لعبت برأسه وحلت
عقدة لسانه ،وأخرجت الذكريات من مكمنها .شعر بأنه دخيل وغريب على ديك نفسه؛ ألنه
كان يوجد جانب في ديك لم يعرف عنه شيئًا ..لقد ظهر جزء من حياة ديك الغامضة في حديثه
الغريب الذي ظل يردد فيه «هل تتذكر الوقت الذي أغار فيه «الكراو» على مخازن الركب
السرية ،يا سمرز .لقد كنت أنت الذي تقوم بإعداد األدوية ،وعدت بالفراء وزوجة أنيقة المظهر
حتى قدميها؟ ال يمكن أن أصور مثل هذا الوضع على حقيقته ..من النادر يا سمرز أن ترى
زوجة الهندي وهي تقوم بجمع التوت ،أو تساعد في سرقة أمتعتنا ،ولكن هذا حدث بالفعل
اآلن؟ لقد كنت وحيدًا ..أتذكر هذه الهندية التي التقيت بها عند سيسكاوي عام ستة وعشرين أو
ثمانية وعشرين أو نحو ذلك! لقد أخذت منها الكثير وأعطيتها أفضل ما عندي».
وبعد أن استمع إلى كل هذا ،وشاهد الجانب الذي لم يعرفه من ديك ،تحدث إيفانز إلى نفسه
ً
قائًّل إن سمرز يهز يده مع الرجل الذي كان هو نفسه من قبل ،وحين تناول الطعام كان سمرز
يجلس صامتًا أكثر من أي فترة مضت من قبل ،ال يحاول أن يمزح مع براوني أو يضايق
ربيكا .فقال إيفانز في نفسه إن ديك يعيش اآلن في عالمه الذي مضى وولى ،ولكنه سيخرج
سريعًا من هذا التفكير ،وسرعان ما يشعر بلمسة الخسارة .جذب إيفانز فرسه نيللي من رأسها
سا في مكانه تار ًكا رأسه يميل،
وهو يعتقد أنه لن يستطيع الحصول على اللحوم إذا ظل جال ً
ولكنه بدأ يشاهد حركة عند الطرف اآلخر من التل ،كانت هذه الحركة صادرة من «أيل» يشبه
صغيرا ،ولكنه يقف على مسافة ال يمكن إصابته منها برصاصة.
ً ثورا
ً
ربط نيللي من لجامها ،وأخذ يدور حول المكان متخفيًا حتى وصل إلى مكان شجرة سحب إليها
نيللي وربطها فيها ،ثم أخذ يتلصص بعينيه وسار على قدميه بحذر وهو يتمنى أن يستطيع
الصيد مثل ديك الذي كان يسير من غير أي صوت مثل األيل وسط األعشاب واألفعى التي
تتثنى في الرمال.
قفز األيل إلى األمام ثم سقط مصطد ًما بالشجيرة ،فذهب إيفانز إليه وذبحه ،ثم عاد إلى نيللي
وهو يحمله ،وبعد ذلك قاد نيللي إلى المعسكر وهو يلتفت خلفه بين حين وحين ليرى ما إذا كان
عا في مكانه فوق ظهر نيللي ،ولم تكن نيللي تشعر بأي تغيير ،وهي تخطو في األيل موضو ً
طريقها ،ولكن إيفانز ردد ً
قائًّل:
-ووه ..ال تخشي شيئًا يا نيللي ،لن يعضك هذا األيل.
ً
معقوال بالنسبة لها؛ إذ كان هناك مكان آخر لجلوسه بجانبه. كان هذا الحمل
لم يكن وقت العشاء قد حان بعد ،على الرغم من أن الجبال كانت قد حجبت الشمس حينما بدأ
منظرا طيبًا ،وكان يظن وهو يقترب منه أن العربات قد ركنت
ً يرى بناظريه المعسكر .كان
إلى الراحة والهدوء ،وأن النظرات تتجه إلى الشرق ،وأن الخيام قد أوقدت نيرانها .وهبت
عليه نسمة باردة قادمة من المعسكر ،فذكره منظر المعسكر بأنه جائع ،وتمنى في هذه اللحظة
أن تكون بيكي قد أعدت له بعض المسلوقات كما وعدته ،مثل البصل وغيره.
كان على مسافة صيحة واحدة فقط من المعسكر ،قبل أن يشاهد الرجال وهم يتجمعون بالقرب
من النهر ،فشعر فترة وجيزة بالقلق ..كان هناك ثمانية أو عشرة من الرجال الذين يتجمعون
بالقرب من شجرة ترتفع أغصانها فوق الرؤوس ،واستطاع أن يميز بين هؤالء تادلوك ،واألخ
ويذربي ،بروور ،وماك بي .لم يحاول أن يميز األشخاص بعد ذلك؛ ألنه شاهد أحد الهنود
معهم ويداه خلف ظهره ،وقد نزع رباط الجبهة عنه ،وكان بروور يرفع بندقيته عليه ،وكان
كل من ويذربي وتادلوك يناقشانه ،في الوقت الذي كان تادلوك ممس ًكا بحبل في يده.
تجلت الحقيقة واضحة أمام إيفانز في ذلك الوقت ،ولكنه لم يستطع أن يصدق بسهولة ما يدور
هناك ،فنظر إلى العربات ليرى عًّلمات اليوم ،ولكنه لم يشاهد أي إنسان سوى مسز بروور
تدفع أبناءها بعيدًا عن األنظار ،ولم يستطع أن يشاهد غيرها إلى أن تحولت عيناه إلى الخيمة
ليرى الرؤوس تطل منها ،فترك لجام نيللي يسقط من يده.
لم يلحظ أحد من الواقفين قدومه إلى أن تحدث ً
قائًّل:
-ماذا تنوون أن تفعلوا؟
تحول تادلوك ،وكان الحبل في يده ،وظهر عدم الرضى السريع على وجهه وقال:
-عندك الكثير من المراقبين .أليس كذلك؟
ضا ليقول وهو يشير بأصبعه نحو تادلوك:
وتحول ويذربي أي ً
-إنهم سيقومون بشنق أحد الرجال ،إنني أحذرك أيها األخ تادلوك ،إنك سوف تخرق الوصايا،
وسوف تقع الخطيئة على كتفيك أنت فقط.
-إذا كانت هذه خطيئة فهي تقع علينا جميعًا.
فانبرى ماك بي يقول:
-نستطيع أن نتحمل وزر ذلك ..ماذا ترغب أن تفعل بهذا اللص؟ أخبرنا؟
-ال تقتل.
-هل نتناقش باستمرار مع هذا الواعظ؟
خرج هذا السؤال من فم دورتي وحرارة الحماس تضفي قوة العنف على لهجته اإليرلندية.
فهز تادلوك بيده نحو ويذربي ،وقال له:
-اذهب بعيدًا ،لقد قمت بواجبك ،اذهب بعيدًا اآلن.
كان الهندي يقف هادئًا ،في حين كانت عيناه زائغتان في الوقت الذي كان الجدال يدور بين
هؤالء األفراد ،وكانت عيناه تنتقًّلن من واحد آلخر .لم يكن سوى غًّلم ،واعتقد إيفانز أن عمر
هذا الغًّلم الهندي لم يكن ليزيد على عمر براوني ..وكان يقف عاريًا إال من قطعة من الجلد
تغطي الجزء األسفل من جسده ،وكان يقف متعاظ ًما والريش فوق رأسه ،وهو يحاول أن يخفي
هلعه من الموت؛ إذ كان الموت ينعكس في وجهه ،في حين كانت الوجوه الهرمة الكالحة تتطلع
إليه.
وتساءل إيفانز:
-ماذا سرق هذا الغًّلم؟
-الكثير.
-ماذا سرق؟
-لعنة هللا عليه ،لقد كان يرتدي معطفي ً
أوال ،وشاهده شيلدز ثانيًا وهو يطارد أحد جيادنا.
-هذا ال يؤدي إلى شنق إنسان.
سهًّل وبسي ً
طا إذا لم تكن حاجاتك قد سرقتك. -إنه بالنسبة لنا ..إنك تجد األمر ً
-لقد قلت لك من قبل إنني على استعداد لمنحك مقابل الجياد الضائعة ،إذا قرر المجلس ذلك.
-المجلس!
-كيف لم يستطيع شيلدز أن يطلق الرصاص عليه.
بصق دورتي فوق األرض وقال:
-إنه تاجر ..هذا الشيلدز ..كان عنده لباسان من جلد الجاموس وبعض األسماك ،ولكن لم تكن
عنده بندقية.
فقال شيلدز:
-لقد قبضت عليه على أي حال.
فتحدث تادلوك موج ًها كًّلمه إلى إيفانز:
-ه ذه هي الطريقة السليمة ..إننا نسير في الطريق القانوني ..لقد قمنا بقيده وتركناه يتأرجح
هكذا ،وهكذا سوف يعرف هؤالء اللصوص ما هو قانون الرجل األبيض.
-قانون؟
فقال ماك بي:
-لننته من هذا الوضع.
فأجاب تادلوك:
-لقد اجتمعنا ،وأصدرنا قرارنا.
-من؟
-هؤالء الذين استطعنا أن نجمعهم ،فالبعض كان يقوم بصيد األسماك والبعض اآلخر بالقنص.
-ألم تبذل أي جهد لتجميعهم ،فربما كانوا يعترضون على قرارك .هل فعلت ذلك؟
-عثرنا على من استطعنا أن نجده ،هًّل تفضلت بإفساح الطريق لي ،فإن هذا سوف يساعد ما
يلي من ركب في المستقبل ..أنت تعرف ذلك جيدًا.
فقال إيفانز:
-إنك ال تهتم بهم.
وأضاف ويذربي وهو يعبث بأصابعه:
-أو حتى بالوصايا.
-إ ننا نهتم بالعدالة ..لم يكن هناك سوى صوتين ،باإلضافة إلى ويذربي ،معارضين ،هما صوتا
بيرد وفيرمان.
وكان تادلوك قد فرغ من إعداد الحبل الذي بيده كمشنقة ،ثم استمر يقول:
-إذا لم تكن معدتكم تهضم هذه العدالة ،فلتبعدوا مثلما فعل غيركم ..أفسحوا الطريق.
كان الهندي يقف هادئًا وعيناه متجهتان إلى األمام ،ويداه مقيدتان خلفه ،وهو ما تحقق منه
إيفانز فجأة.
وقبل أن يتوقف عن التفكير سأل إيفانز:
-أين سمرز؟
فأجاب تادلوك:
-خرج مع أصدقاء الجبال ..ولكن ماذا يهم؟ إنه لن يغير من الوضع.
ولم يكن هولدريدج قد تحدث من قبل ،ولكنه تحدث في ذلك الوقت ً
قائًّل:
-إننا قد نستطيع السير مسافات طويلة من غيره.
فأجاب بروور ،وهو يتحدث ألول مرة:
-أجل نستطيع أن نفعل ذلك ..أجل.
فأخذ الجميع ينظرون فترة دقيقة إلى إيفانز ،وقرأ في أعينهم موقفه الضعيف ،وسمع نفسه وهو
يردد مرة أخرى:
-أين سمرز؟
ثم جالت نظرا ته بعيدة عنه ،وأخذ يبحث في األرض ،ثم ارتفعت إلى ويذربي الذي كان يقف
بالقرب منه كما لو كان يؤدي الصًّلة ،ثم انتقل ببصره إلى قدمي الهندي وأخذ يرتفع ليرى
جسد الغًّلم النحيف القذر غير المهتز ،الذي كان يواجه الموت؛ ألنه قام بعمل ما تدرب على
فعله منذ والدته ،فاجتاحته موجة من الغضب أدت إلى انفجاره في ثورة عارمة:
-كًّل ،لن تفعلوا ذلك بحق هللا.
كان هناك تعطش للدماء في الوجوه ،تعطش للدماء مثل الذي رآه في وجوه السيوكس ،والشعور
بخيبة األمل ،والحقد ،وعدم الرغبة في فعل الخير تنعكس في وجه تادلوك وماك بي ،وتجمع
هذا الشعور لكي يكون من السهل قتل الغًّلم.
-ألق الحبل من يدك يا تادلوك.
فزادت قبضة تادلوك على الحبل ،وتقدم إيفانز خطوة تلتها أخرى وهو يرمق دورتي بنظرة
صارمة حينما حاول أن يقف بينه وبين تادلوك:
-لقد قلت ألق الحبل من يدك ،الباقون ال دخل لهم بهذا الوضع ألنه بيني وبين تادلوك.
ً
رجًّل من ألقى تادلوك بالحبل بعيدًا ،وابتعد ً
قليًّل ليدور في شبه دائرة ..لم يسبق إليفانز أن لطم
قبل ..لم يحاول منذ أن بلغ مرحلة الرجولة أن تشاجر مع رجل آخر .أما اآلن وبعد أن شاهد
يدي تادلوك مرتفعتين والغضب يعلو وجهه ،لم يشعر بأنه هو الذي يتأرجح يمنة ويسرة ،وإنما
شخص آخر غيره بعيدًا عن جميع مشاعره.
تركه هذا التأرجح مكشوفًا أمام تادلوك الذي انتهز الفرصة وضرب ضربتين قصيرتين
وقويتين من رجل يعرف كيف يستخدم قبضتيه .وظل إيفانز يتأرجح ،فشعر بثقل الضربات
كالمطرقة من يدين خبيرتين ،هزته هذه الضربات التي سقطت خفيفة على جمجمته وجعلته
يشعر بالقليل من الدوار في أفكاره وخطواته ،وكان يعرف أنه يصارع من غير هدف محدد،
وبأنه يطير في الهواء ،في حين تتأرجح قدماه أسفله .لم تكن قوته كافية له ،وكانت حركته
بطيئة ال تكفي لمواجهة مثل هذا الرجل المدرب ،لذلك تعرض وجهه للمزيد من اللطمات،
والضربات السريعة التي أخذت تنهال فوق فكيه ووجنتيه ..وسمع في هذه اللحظة أصواتًا حوله
من الرجال الذين تجمعوا ومن بعض النساء ومن زوجته ،وكان يشعر بالقوة في نفسه تتولد
من جديد ،لقد كان على حق ،ومع ذلك أصابته اللطمات والضربات ،ولكنه تحامل على نفسه
وتحمل هذ ه اآلالم من أجل بيكي زوجته ،وابنه براوني ،ومن أجل ما يعرف أنه الحق.
كان يقف ،ويستطيع أن يواجه أكثر من ذلك ،وشعر بأن قبضتي تادلوك قد شحنتا بالكهرباء،
ً
طويًّل أمام ضربات تادلوك ،ولكن كان فم تادلوك تائ ًها لذلك شعر بأنه ال يستطيع أن يستمر
وسط الدماء التي تدفقت منه ومن وجهه ،وكان العرق يتصبب منه ،في حين كانت عيناه
تتأرجحان تائهتين.
ضا؛ لكي يحاول أنوأخيرا وجدت القبضة الوحشية مكانها لتنطلق في وجه تادلوك ولتلقيه أر ً
ً
يقوم مستندًا على مرفقه ،ثم تلحقه ضربة أخرى لترقده فوق األرض لكي يحاول مرة ثانية أن
ينهض على مرفقه ،ليجد ضربة ثالثة تسقط فوق فكه.
لم يستطع تادلوك أن يواجه هذا السيل المتًّلحق من الضربات ،فرقد على األرض فوق ظهره
من غير أن يبدي حرا ًكا ،وكانت عيناه نصف مفتوحتين.
ثم تنفس إيفانز وأخذ ينظر حوله في الدائرة المحيطة به ..إلى بروور ،وهولدريدج ،ودورتي،
والباقين ،ثم توجه إلى الهندي وحل وثاقه ،ولم يشاهد الهندي وهو يختفي من وراء الشجرة؛
ألن ربيكا كانت قد تعلقت بذراعه في هذه اللحظة.
-هيا بنا يا ليجي.
-ماذا؟
-إن وجهك مليء بالدماء.
-هذا ال يهم.
-سوف أعالجه لك ..هيا بنا.
مستقرا؛ أصبحت األشجار
ًّ وقف غير متأكد من موقفه فترة قصيرة ،ولكن العالم حوله أصبح
ثابتة في أماكنها بجوار النهر ،في حين كان الواقفون ينسحبون الواحد بعد اآلخر ،ولم يكن
وجه ربيكا واض ًحا له وضو ًحا تا ًّما ،ولكنه كان وج ًها به عينان تشعان كبرياء وعزة ،وشاهد
مسز تادلوك وهي تنحني فوق رجلها ،وويذربي ينحني معها ،في حين كان بقية الرجال يرقبون
هذا الوضع ويتساءلون ..وفي هذه اللحظة صهلت نيللي وكان األيل فوق ظهرها.
مات الغضب فيه وتًّلشى ،ثم صاح في الرجال:
-يجب أن نذهب لرؤية تادلوك ً
أوال ..إنني لم أكن أنوي إيذائه.
لم يكن من السهل ضرب رجل قوي وإسقاطه ..وقد ترك هذا الشجار جر ًحا عميقًا في وجه
إيفانز أعمق من العيون التي تحيط بها الهالة السوداء والشفاه المجروحة ،ولكن ظل أمامه أن
يختار ،فاختار هذا الوضع وصمم عليه ،األمر الذي جعله سيد الموقف والرجل القوي.
وحينما عاد ديك إلى المعسكر ،قال واألسى يبدو في عينيه الرماديتين:
-سمعت أنك قمت بما يجب أن يتم يا ليجي.
ولكن لم يكن إيفانز بحاجة لسماع كلمات ديك ،لكي يشعر بقوة الحق والصواب.
الفصل الثاني والعشرون
حينما كان األطفال يصيحون حول ميرسي ماك بي ،قامت بغمس قدح في مياه تغلي ،ثم حركت
ملعقة من السكر بداخلها وناولتها لتوم بيرد ،وقد ذكرتها رشفاته بشفتيه الرقيقتين من حافة
القدح ،بفم السمكة.
كانت دوللي بروور قد سبقت الباقيات وقالت:
-إن الدور هو دوري ،أليس كذلك يا ميرسي؟
-كًّل ،إنه ليس دورك ،بل دوري أنا.
-لقد قلت أنا الرابعة.
-كًّل ليس كذلك.
-هل األمر كذلك؟
-أسرع يا توم.
كان الجميع يصيحون فيها ويدفعونها ويطالبونها بدورهم ،وهم أبناء بيرد ،وبروور ،ودورتي،
وهاري جورهام ،وأخواتها كل منهم يطالب ببعض مياه الصودا التي تضع بها بعض السكر
فوارا.
ً الذي قدمته مسز تادلوك ،ومسز ماك ،لكي يكون مشروبًا
وقالت ميرسي:
-انتظروا لحظة واحدة بحق اآللهة ،سوف تحصلون جميعكم على نصيبكم.
ثم أخذت تغمر القدح في المشروب من غير أن تفكر في طعمه ومذاقه؛ ألن التفكير كان يثير
معدتها مثلما يحدث حينما تشم رائحة شواء لحم الخنزير أو البصل.
واستمرت تقول:
-سأقوم بالتوزيع من األصغر إلى األكبر ،هذا هو العدل بنفسه.
صمت الجميع لحظة واحدة ،ثم سمعت مرة أخرى أصوات الهمهمة ،وأصوات قادمة من اتجاه
النهر تشبه صوت باخرة كانت قد سمعتها وشاهدتها في أوهايو ،وكانت قد ظلت تستمع إليها
طوال الليل ،وتستمع إلى أصوات حفيف األشجار بفعل الرياح.
وأخيرا قالت:
ً
-ها هو ذا نصيبك يا دوللي.
كان الركب قد نصب معسكره في مكان قريب من النهر ،لذلك كانت تستطيع مشاهدة النساء
وهن يجئن ويذهبن استعدادًا إلشعال النيران في األفران الهولندية؛ لخبز بعض الخبز بعد مزج
الدقيق بالمياه التي حصلن عليها من العين؛ إذ تضم هذه البقعة الكثير من عيون المياه ..كانت
ضا تمنح الحياة ..المياه تندفع إلى أعلى.
كما لو أنها أر ً
-حسنًا يا بيلي ،دوري هو التالي.
ضا.
-سيأتي دوري بعدك أي ً
كان الرجال قد خرجوا للقنص ،أو الصيد ،في أعالي النهر ،أو مراقبة الحيوانات عبر نهر
«بير» حيث توجد مراعٍ وافرة ،لم تكن تستطيع مشاهدة أي فرد سوى براوني فقط ،الذي كان
يجول بين العربات والخيام ،كما لو كان قد فقد صحبته.
-هذا دوري اآلن يا ميرسي.
كانت مسرورة بهؤالء األطفال وبصياحهم واندفاعهم ،وشعورها بأن ذهنها مشغول ويديها
مشغولتان ،وردت على مسز بروور حينما حضرت إليها من المعسكر وهي ترفع ابنها
الصغير بين يديها.
-إنني على ما يرام.
-إنك ال تستطيعين أن تضيعي الكثير من الوقت.
-انتظري حتى يذوب السكر.
وقفت مسز بروور ساكنة وصامتة؛ إذ لم تكن ترغب في الجلوس ،ثم قادت ميرسي األطفال
بعد ذلك إلى المعسكر بعد أن انتهى السكر ،وأخذت تراقب هؤالء األطفال وهم يبتعدون داخل
المعسكر وترتفع منهم أصوات االحتجاجات ،وجلست تعبث في القدح بأصابعها ،في حين
كانت األصوات تتًّلشى تدريجيًّا ،وتستمع إلى صوت ارتطام المياه التي تجري في النهر،
وكانت الشمس قد انحدرت نحو المغيب خلف التًّلل العالية لتنشر الظًّلم في أنحاء المكان.
أحنت رأسها من ثقل الشعور بالمرض والتفكير ،وهي تحدث نفسها بأن هذا ليس حالها ..إنها
ليست كذلك ،وال يمكن أن تكون كذلك ،وكان عليها أن تنظر بعهد ذلك إلى ماضيها؛ لتفكر في
مدى الحزن والبؤس الذي كانت تعيش فيه من قبل ،ولم تضحك من هذا الماضي ألن مخاوفها
كانت مخاوف أطفال ،ولم يكن هناك أي داع لذلك .حاولت أن تضع نفسها في وضعها الحالي
ووضع المستقبل ،ولكنها كانت تجلس يعلوها الخجل والحزن ،وكانت تبدو كما لو كانت
شخصين في وقت واحد؛ الشخصية المرحة الطليقة ،واألخرى الخائفة ..لماذا؟ ألنها كانت قد
درست نفسها أكثر من اثنتي عشرة مرة حينما كانت جالسة بجوار شجرة أو داخل خيمة ،كانت
تنظر إلى حالها وتشعر به ،ولم يكن بها أي شيء خاطئ ..كانت نحيفة وطويلة كسابق عهدها،
لذلك لم يكن بها أي خطأ ..وشعرت في هذه اللحظة بشيء من الشجاعة والراحة ،وال شك أن
األمور تتطور إلى ما هو أحسن ..ال حاجة لعبور أي من الجسور للوصول إلى األحسن
والصواب ،ولم تظهر الجسور والحواجز مطلقًا إال في الذهن الذي بناها ،ثم تحولت معدتها
وأصيبت بالمرض.
اهتز القدح في يدها فوضعته فوق األرض وأخذت تتطلع إلى أصابعها المرتعشة ،وهي تحاول
أن تبعد الخوف عنها وتسيطر على يديها وساقيها ورأسها.
كانت والدتها ستصيح فيها قائلة:
-ل قد أخبرتك بأن تبتعدي عن الرجال ،ألم أخبرك بذلك؟ ولكن كًّل إنك تعرفين أفضل مني،
وهذه هي النتيجة .بحق اإلله! إني ال أعرف ما يدور بنفسك؟
مجهوال لها ،ولكنه قد يذهب إلى مستر ماك ويسوي الموضوع ً وكان ما سيفعله والدها أو يقوله
وهو سعيد مقابل جواد أو ثور ،كما لو كان هذا هو ثمنها .ماذا لو استطاعت أن تتحدث إلى
مستر ماك ،وتضع رأسها فوق صدره وتبكي عليه لتشرح وضعها ،ولكنه لم يستطع أن يشق
طريقه ليراها مرة أخرى سوى مرة واحدة بعد الرامي ..وهي فترة تبدو بعيدة ،وتبدو كأنها
حافة األحًّلم .ولم تكن تعتقد أنها حقيقة قد وقعت إال بعد أن تألمت معدتها ومضى الوقت
سريعًا ،ولكنه معها بخيالها ..كانت تنام معه بخيالها وتنهض معه وتسير معه في الليل ويداها
تدفعان خصلة الشعر المتدلية فوق الجبين إلى الوراء .لم يكن الجوع هو جوع الجسد بالنسبة
له ،ولن يكون كذلك مطلقًا ،وإنما كانت الرغبة في العثور على القوة والرقة فيه وردهما إليه.
كانت ترقبه في المعسكر ،وطوال سير الركب نفسه ،وتدقق النظر في وجهه المقطب وخطواته
السريعة ،وتدل حركاتها على أنها كانت تراقبه بالفعل ،وحينما كانت أعينهم تلتقي في بعض
األحيان كان يبتسم لها أو يحييها ،وكانت تتعجب حينما تراه أو تلمس فيه سلو ًكا عاديًّا ،أال
يتذكرها؟ هل ال يزال يطوي السر بين ضلوعه ،ويعتز به؟ هل كان يناديها أو يطلبها في داخل
نفسه؟
آلمتها معدتها مرة أخرى ،فنقلها األلم إلى حاضرها وإلى آالمها ،وإلى صوت يدعوها في
قرارة نفسها للصًّلة ..أوه ،يا ربي ،عسى أال يكون األمر كذلك ..أرجوك يا ربي أن تساعدني
وتغفر لي خطيئتي ،وامنحني القوة لكي أتحدث إلى مستر ماك .وأرجوك يا إلهي ..إنني أصلي
لك حتى ال يقع هذا األمر.
وتحدث صوت ،وكان صوت براوني يقول:
-كيف حالك يا ميرسي ،لماذا تصيحين وتبكين؟
مدت يدها بسرعة لتزيل بعض قطرات الدموع من عينيها ،ولتتظاهر بالدوار ،واتجهت
للجلوس ولتقول:
-إنها هذه المياه الفوارة التي خلقت الدموع في عيني ،إنها هذه المياه الفوارة التي كنت أشربها.
فقال لها بعد أن شاهدت قدميه الملطختين ،وظهرت عليها الحيرة كما لو كانت ال تعرف ماذا
يفعل:
-أوه! هل هناك أي اعتراض إذا جلست بجانبك؟
-كنت أزمع الذهاب.
-أود أال تفعلي ذلك.
-ولكن ال تستطيع أن تجلس.
فجلس فوق األرض وقال:
-كنت أود أن أجد أي إنسان أتحدث معه.
فقالت:
-هناك آخرون غيري بجانبي.
وطرحت الخوف عنها الذي غشيها ،ولم تعد تشعر إال بثقل في قلبها ،ثم قال لها:
-من األفضل أن أتحدث أنا إليك ً
بدال من شخص آخر أستطيع أن أذكر اسمه .إنه مكان جميل.
أليس كذلك؟ ألن تذهبي إلى ينابيع «بير»؟
-كًّل.
-يقول والدي إن مذاق مياهها يشبه مذاق «البيرة» المعتقة.
-ال أعرف ذلك.
-لقد جربتها مرة واحدة ،فقلبت معدتي معها.
ولما لم تنبس ببنت شفة ،استمر يتساءل:
-لماذا ال نأخذ نحن االثنان جولة في هذا الطريق؟
-عندي عمل يجب أن أؤديه.
-سوف أقوم لك به.
كان الخوف قد اقترب منها ،وجفت عيناها ،ثم فتحتهما ورفعت ناظريها لترى وجهه ،كان
وج ًها يكسوه شعر أصفر كالرمال ،وبه بعض «النمش» ونظرة ال يمكن أن ترى ما بداخلها،
وقال لها:
-كم أود أن تسيري معي.
ي بعض المتاعب.
-وأترك العمل يذهب؟ إن ذلك سيجر عل َّ
وحاولت أن تجعل لهجتها خفيفة ،فخرجت الكلمات التالية منه كما تخرج المياه مندفعة من
ينبوع ،وكما لو كان يحاول أن يبني آماله على ذلك:
ت سيدة نفسك؟
ت أن ِ
-ألس ِ
واندفعت الدماء حارة إلى وجهه الذي غطته بعض بقع «النمش».
وردت عليه قبل أن تفكر في اإلجابة:
-إنني متدينة مثلما يفعل المتدينون.
-المتدينون يفعلون الصواب دائ ًما.
-إنك ال تعرف أي شيء عني يا براوني.
-أعتقد أنني أعرف .هل ترغبين في السير؟
اعتقدت أن عينيه كانتا تشبهان إلى حد ما عيني الكلب العجوز «روك» الذي جاء يجري خلفه
ليجلس بجانبه ويراقبها ،أو يحملق فيها ،وكان الرجاء يبدو في هاتين العينين ،ولكنها قالت:
-ال أستطيع أن أبقى بعد اآلن.
ضا وغير متأكد من موقفه ،فوقفتلم يقدم لها يده مثلما فعل المستر ماك ،ولكنه وقف ممتع ً
على قدميها وشعرت فجأة بأنها أصبحت قريبة منه وتحت أمره؛ ألنها كانت تقف وحيدة في
هذا المكان ،وهو الذي امتدحها ،فهل يمتدحها على الرغم من أي عامل آخر؟ كانت تسائل
نفسها وهي تنتظر ابتعاد الدار عنها؛ هل يفعل ذلك إذا كان يعرف حقيقتها؟
مشيا نحو النهر بعيدًا عن صوت الباخرة النهرية وهديرها ،ليصًّل إلى ينابيع «بير» وحاول
أن يتذوقها ،ثم جلسا بعد ذلك خلف حجر أبيض مخروطي الشكل حيث توقفت المياه عن
الجريان ،كانت طبقة القشرة البيضاء التي أظهرتها المياه تلمع في ضوء الشمس ،وتبدو أكثر
ضا ،في حين كانت الشمس تختفي تدريجيًّا وراء التًّلل ،ثم سألها:
بيا ً
-ألم تفكري بعد فيما عسى أن تفعليه بعد وصولك إلى أوريجون؟
-االستمرار في مساعدة والدتي فحسب.
-أعني بعد ذلك.
-لم أفكر في ذلك.
-أعتقد أن هناك مجموعة من األشياء ..إنني أرغب في العمل بجد لكي أمتلك مزرعة ،وليكون
عندي ما يكفي من الوقت لصيد األسماك والقنص.
مال على ظهره ً
قليًّل ووضع يديه خلفه ليستند عليهما ،ثم قال لها:
-مجموعة من األشياء ،أود أن أعرف عنك أنت ً
مثًّل.
كثيرا يا براوني.
-لم أفكر في ذلك ً
ثم ش عرت باألسف بعد ذلك لما قالته؛ ألن الكلمات كانت جارحة ،على الرغم من أنها كانت
تعبيرا صادقًا لما تشعر به وتعرفه ،ولكنه أجابها:
ً
-هل األمر كذلك؟ ليتني أستطيع أن أخبرك.
إنها لن تدفعه أو تقوده لكي يحل عقدة لسانه ويخبرها ..لم تكن ترغب فيه وحتى لو كانت كذلك،
فإنها لن تكون على حق في ذلك ..ليس معها الحق -ثم بدأ الخوف يسري في جسدها مرة
أخرى ،وتماسكت نفسها ،ثم توقفت متثاقلة وخائفة ،وكانت ترغب في أن تجري على غير
هدى إلى أي مكان تختفي وراءه أو تبكي فيه وتنتحب فوق األرض ،ولكن براوني انبرى
يقول:
-إنني أبلغ الثامنة عشرة من عمري يا ميرسي.
-من األفضل أن أذهب.
-لقد تزوج والدي وهو أصغر مني.
ضا على سرها.
بقيت على صمتها ،والخوف يسيطر عليها وهي تسيطر أي ً
-أعتقد أنك تعرفين ما قلت اآلن وتدركينه.
وبعد أن انتهى من تصريحه تحول إليها ،وكان وجهه وعيناه يعكسان األمانة والتواضع
ورغبته:
-إ ذا لم أشعر بأنك تشعرين بما أشعر به ،فلن يقف أمامي أي شيء في أوريجون أو أي مكان
آخر.
كان يجب أن تقول له ،كًّل يا براوني ،ال تتحدث مثل هذا الحديث ،ولكن وجهه كان يواجهها،
وكانت الدموع تغطي وتغسل عينيها ،وقالت له:
-إنني لست على استعداد للتفكير في ذلك يا براوني ،وال أستطيع أن أفكر فيه؛ ألنني أعرف
حينما أشعر بنفس شعورك ،ولكني أشكرك على أي حال.
لم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء ..بدأ البكاء عميقًا في نفسها ،ثم ارتفع وخرج كما لو كان
انفجارا ،فوضعت يديها فوق وجهها ،وشعرت بذراعه وهو يلتف حول كتفها: ً
-لماذا؟ من الخطأ أخذ األمور هكذا سريعًا يا ميرسي ..ال يجب أن تبكي؛ ألني طلبت أو أرغب
أن أتزوجك.
وسحب يده خلف ظهرها في حنان ورقة ،واستمر على هدوئه وصمته ،كما لو كان يعرف أنها
يجب أن تبكي ،على الرغم من أنه كان يجهل السبب.
ثم أخذت تجفف دموعها ،وانحنت لكي تستخدم طرف ثوبها ،ثم قالت:
-لم أكن أقصد أن أسلك هذا المسلك السخيف.
-إنك ال تستطيعين أن تسلكي سلو ًكا سخيفًا بالنسبة لي يا مرسي.
ثم وضع يده أسفل ذقنها ،ورفع رأسها وأدارها إليه ،كان هناك اهتما كبير في وجهه والكثير
من األسئلة ،والرقة والطيبة ،ثم انحنى فجأة وقبل وجنتها ،لم تكن قبلته عن جوع أو نهم ،وإنما
عن عناية ورعاية ،وتمنيات طيبة ،ثم قال وهو يبعد يده ويسحب ذراعه من خلف ظهرها:
عنك هذا الحزن ..سأقوم بأي عمل ..بعمل -إنك تبدين حزينة ،أود أن أقوم بأي عمل أ ُ ْذ ِهب به ِ
أي شيء.
فردت عليه قائلة:
-إنك كريم وطيب يا براوني ،إنني أعرف أنك كريم وطيب ،مهما يحدث.
ثم نهضت ألنها تعرف أنها ال تستطيع الحديث من غير أن ينهمر المزيد من الدموع ،وعاد
االثنان إلى المعسكر وهما ال يتحدثان إال ً
قليًّل ،ولما اقتربا من المعسكر ،قال لها:
-أرجو أال تكون هذه المرة األخيرة فيها في جولة معك؟
فأجابته وهي تبتعد عنه وتتجه نحو عربة عائلتها:
-ال أعرف.
ثم سمعت صوت والدها وهو يقول:
-أقسم لك يا امرأة ،أسرعي بإحضار المأكوالت ،إن هذه األراضي تجعل اإلنسان شر ًها.
ً
ظًّلال في الظًّلم حتى يعتقد الناس الذين ينظرون إليها انتظرت في الظًّلم ..جعلت من نفسها
أنها شجرة أو ظًّلل سحابة تمر أسفل نجم ،على الرغم من أن النجوم كانت مختفية في بعدها
السحيق ،في حين كان القمر سيظهر بعد ذلك بقليل .وفي هذه األثناء هب نسيم بسيط فوق
األرض ولمس قدميها ،ثم استمر في طريقه يهمس بأسرار الليل؛ ليجعلها تهتز خوفًا ،ليس
بسبب البرد ،وإنما بسبب الخوف من انكشاف السر.
انتقلت إليها أصوات أفراد المعسكر وهم يهمون بالذهاب إلى الفراش.
-صوت مسز بيرد المتعبة وهي تصيح في صغارها ،وصوت أحاديث الرجال وهمسهم إلى
النساء قبل أن يهدأوا إلى سكون الليل ،واختلطت هذه األصوات مع أصوات المياه،
والحيوانات ،وصوت عجل صغير ُو ِلدَ حديثًا ويحمله جورهام في عربته.
كانت تجلس وحيدة مع هذه األصوات ،لم تكن شيئًا سوى أذن تستمتع للصوت ،وكان من
الممكن أن تفقد نفسها إذا فقدت أذنها ،وأن تصبح ال شيء سوى ذكرى عابرة في أذهان الناس.
جذبت «ياقة» معطفها حول رقبتها ،وطلبت من نفسها أن تبقى وتنتظر ..تنتظر حتى تنتهي
آخر جولة في المعسكر قبل أن يأوي الجميع إلى الفراش .وفجأة جاءها كلب من غير أن تراه،
أخذ يشم في راحة يدها ،ولكن الهدوء كان يسيطر عليها ،وكانت تعرف أنه روك ،لذلك أبقته
معها وهي في انتظارها .عرفته حينما تقدمت إلى األمام ،عرفته من ظله النحيف الواضح الذي
ينعكس على ظًّلل الليل ،وتًّلشت الشجاعة منها ،وارتعشت ساقاها ،فحاولت الهروب ،ولكنها
قالت في نفسها إنه سوف يذهب إلى عمله قبل أن يعرف أنها تقف في مكمنها .وكان عليها أن
تبقى في مكانها أو تزحف في الظًّلم إليه من غير خجل ،ثم قالت:
-مستر ماك ..مستر ماك.
وسمعت صوتها ،ولم يكن أكثر من همسات ضائعة.
-من أنت؟ ماذا هناك؟ أوه! هاللو.
ثم خفض من صوته ،وردت عليه قائلة:
-أنا ميرسي ماك بي.
-أعرف اآلن .كيف حالك؟
-مستر ماك..
حضر إليها ..ولم يجبها ،وحاولت في ظًّلم الليل أن تبحث عن وجهه ،فشاهدت وجنته ،ومقلتي
عينيه في ضوء النجوم.
-مستر ماك..
-لقد جئت في وقت متأخر!
-ال تعتقد أنني أستطيع أن أنام.
-إنه يوم مناسب للنوم.
-مستر ماك!
-أجل.
-هل نستطيع أن نذهب بعيدًا ولو ً
قليًّل؛ لكي نتحدث؟
تناول ذراعها بيده ،وقادها بعيدًا عن المعسكر من غير أن يتحدث أو يجيبها ،واتجها إلى
الينبوع ،ثم قال لها:
-كان يبدو أنه من األفضل أال أحاول رؤيتك يا ميرسي.
-لم أكن ألحاول رؤيتك ،ولكن -لكن..-
-ماذا بك.
-إنني خائفة .جد خائفة يا مستر ماك.
فازداد صوته حدة وهو يتساءل:
-خائفة؟
أومأت برأسها فقط بعد أن شعرت من لهجته بأنه يلقي اللوم عليها.
-من ماذا؟
-أنت تعرف.
-يا إلهي .إنه مجرد خيالك.
-كنت أحاول أن أخبرك بذلك بنفسي.
-حسنًا!
-أخبرك بأال تفعل هذا األمر كذلك.
-ال أستطيع أن أصدق ذلك يا ميرسي.
-ماذا لو كان السيئ هو األسوأ؟
-لن يكون األمر كذلك .إنني واثق أنه لن يكون كذلك.
-ولكن إذا حدث وسار هكذا؟
-ماذا أستطيع أن أفعل؟ أنت قد تعرفين أي شيء أستطيع أن أفعله.
-ماذا تعتقد أنني أستطيع أن أفعل؟
-أعتقد ال شيء سوى العودة إلى المعسكر.
-أال ترى أنني ال أستطيع أن أفعل أي شيء؟
-إنني ال أود أن أخلق لك المشكًّلت.
-تسبب لي المشكًّلت؟
-لم أكن أعني أنني أرغب في ذلك.
ثم بدأ صوته ينخفض فجأة ليقول:
-إنني آسف يا ميرسي ،ال أود فقط ..ال أعرف ماذا أعمل.
-ال شيء ألبتة؟
-ال شيء سوى االنتظار ألرى.
فأجابته ،وشعرت بالغرامة في ثبات صوتها:
-لقد فعلت ذلك.
جاء صوتها رقيقًا وثابتًا وقويًّا ال ينحني للدموع ،وفي حين كانت تتعجب لهذا الوضع سألها:
-ألم تفكري في الزواج يا ميرسي؟
-بمن؟
-حسنًا -ألي إنسان؟
-وال أراك مطلقًا؟
-ال أعرف.
خرج منها صوتها لتقول:
-يبدو أن الحديث لن يفيد ..ربما تكون زوجتك في انتظارك.
صاح بقوة ولين في وقت واحد ،حتى تشعر بالبؤس الذي يعيش فيه:
-إنني آسف يا ميرسي ..كل ما أستطيع أن أقوله هو إنني آسف.
ثم تركها من غير أن يلمسها ،ومن غير أن يقبلها القبلة التي كانت تنتظر أن يمنحها إياها؛ لكي
تشعرها بالراحة واالستكانة ..ولكنها عرفت اآلن ،وهزتها هذه المعرفة وجعلتها ترتعش
وتشعر بالوحدة ..شعرت بأنه كان يرغب فيها فترة معينة من الزمن ،وألنه كان بحاجة إلى
جسدها ،ولكنه لن يعود إليها مرة أخرى.
عادت إليها األصوات مرة أخرى ..النهر وهو يشكو ،وصوت الباخرة النهرية وطائر الليل
وهو يصيح ،في حين كان القمر قد بدأ ينشر أضواءه ..وأخذت تستمتع ،ثم أحست بأنها قد
أخطأت بصد فتى مثل براوني.
لم يذهب كيرتس ماك مباشرة إلى خيمته ،بل ترك ميرسي واتجه في طريق ملتو وهو يعتقد
أن أرماندا زوجته لم تنم بعد ،لذلك أخذ يجول في الوادي ،في حين كان ذهنه يستعرض الوقائع
من غير أي حركة منه.
كانت التًّلل تقف شامخة أمامه وترتفع حتى السماء ،وكان كلما اقترب من المياه ،شاهدها
تجري باضطراب تحت ضوء القمر الفضي الذي يظهرها وسط الظًّلم .لم يكن هناك أي شيء
يستطيع أن يفعله ،ال شيء سوى االنتظار ،ال شيء سوى العودة إلى خيمته مثلما قالت الفتاة
حينما كانت في حالة غضب وخرجت الكلمات منها عنيفة ،كانت قد أجابته بشجاعة وكبرياء
مجروحة بطريقة جعلته ال يقدر على جمع شتات أفكاره.
-أعتقد ال يوجد طريق أمامك سوى العودة إلى المعسكر.
لم تبك ،ولم تلمه ،ولم تهدده ،وإنما سألته بتواضع ،وأجابته بطريقة ما ،بعد أن تركته بشجاعة
وكرامة .شعر بأنه يكره نفسه وهو يفكر فيها ،وأنه يكره رده على حاجتها واقتراحه الرخيص
بأن تتزوج .كان من الممكن أن يمنحها شيئًا من القوة ،وكان يستطيع أن يبث الثقة في نفسها
ويؤكد لها ميوله ،وكان يستطيع -بأقل تقدير -أن يظهر لها عواطفه ورقته ،ولكن إلى أي نهاية
وأي هدف يقوده هذا السلوك؟ ماذا يكون عليه الوضع حين استمرار وتعقيد أي موقف يكون
مستحيًّل من قبل؟ هل يمنحها ً
آماال زائفة؟ ً
كان يشعر بالذنب وباإلثم ،لذلك لم يستطع أن يسيطر على نفسه وعلى حاله ،ولكنه ظل يشعر
بإثمه ..واستمر هذا الشعور معه حتى بعد أن وجد له مبرراته ..يستطيع اإلنسان أن ينكر وجود
هللا حين شعوره بالتضارب في معتقداته ،وإيمانه به ،ولكنه يظل مؤمنًا بوجود قوة وراء جميع
الحقائق القائمة ..شعر بأنه ارتكب المعصية على الرغم من أنه كان يعرف أنه يرتكبها ،ولكنه
وعد نفسه بينه وبين نفسه بأن يعمل الخير ..وشعر بأن هذه الطريقة قد أراحته كثي ًرا كما كان
يجد الراحة في العمل الشاق وفي صبره غير العادي مع أرماندا بعد أن قتل الهندي من قبيلة
«الكو».
كان من الطبيعي بعد أن استطاع أن يدرك ويفهم أنه من األفضل تصفية الخًّلفات مع زوجته،
وأن سوء الفهم غالبًا ما ينشأ بين األزواج ،لذلك يجب أن يعالج مثل هذه األمور بحكمة ورزانة.
بدال من التجوال من غير هدفطا؛ إذا كان قد عالجه بجانب من الحكمةً ،سهًّل وبسي ً
كان األمر ً
سا وهو يرقد بجوار أرماندا في الفراش.
كاألعمى ،كان قد ظل مبقيًا على صوته حبي ً
-كم أود أن تكوني ..وكم أود أن تستطيعي ..يا أرماندا.
ضا.
-وكم أود ذلك أي ً
-إنني أدرك مخاوفك ،ولكن األمر ليس مجرد مخاوف ..األمر ليس مجرد الحمل فقط.
-كًّل.
-أعرف أن جز ًءا من الرفض هو االستياء وعدم الرغبة ،وأدرك ذلك إدرا ًكا تا ًّما أي ً
ضا ،وال
يوجد أي إنسان يرغب في إجابة طلبه مباشرة.
-كًّل.
-هل تعرفين ذلك؟
-أعرف أن هناك شيئًا في الطريق .أشعر فقط بأنني ال أستطيع.
-دائ ًما؟
-ليس دائ ًما ،أنت تعرف ذلك.
-أال تشعرين بالرغبة مطلقًا؟
لم تجبه عن سؤاله ،وشعر بجفوتها فوق الفراش ،وعرف أن طريق األسئلة كان يسير في
الطريق الخاطئ ،وجاءت الكلمات القديمة الحارة على لسانه ،ولكنه أغلق فمه عليها ،وحول
تفكيره إلى «الكو» وإلى نفسه ،وعن أرماندا والشعور بأنه أجنبي غريب عليها وهو بجانبها.
وهذا السلوك الذي ال تغيره .كان هذا الوضع يجرح إحساسه ويمس كيانه ،ولكنه قال في نفسه:
-نستطيع أن ننتظر .ربما ،إذا انتظرنا فقط.
وتقلب في فراشه ،ثم قالت أرماندا له:
-كم أود أن أستطيع أن أفعل ذلك يا كيرتس.
فقال لها وقد أدرك فجأة أنها صادقة:
-ل قد كنت على خطأ ..لقد زرعت فكرة الطلب في رأسك ،إذا عاودت ذلك فسيكون بطريقة
مختلفة.
-كيف ذلك يا كيرتس؟
-ر بما إذا حاولنا محاولة أخرى ..أستطيع أن أجعلك تلمسين كيف أحتاجك ..ليس روحك أو
جسدك فحسب ،وإنما بأسرك .ولن أطلبك ولكني سوف أحاول أن أجعلك تعرفين أنني بحاجة
ي ،وإنني ال أستطيع أن أوقف طلبي إلى مساعدتك ،وأنك تستطيعين تقديم المساعدة إل َّ
لمساعدتك ..أعتقد أن هذا هو ما أعنيه .طاب مساؤك يا أرماندا.
رقدت في مكانها من غير حركة فترة طويلة ،ثم مدت ذراعها ولفته حوله بصورة أقرب إلى
الخجل ،ثم وجدت يدها في يده مطالبة إياه باالنقًّلب نحوها.
لم يكن أحمق ،لذلك أخذ يذكر نفسه اآلن بأن يفكر في أن مشاكلهما قد أصبحت وشيكة االنتهاء،
كان االختًّلف عظي ًما بين رغبتيهما لدرجة تسمح بوقوع المعجزة ،ولكنهما كانا قد وضعا
أقدامهما في بداية السلم ..كانا في طريقهما إلى تكييف وضعيهما ..كل منهما يحاول أن يبقي
في ذهنه وضع اآلخر ..وشعر بأنه قد وصل إلى مراده ،فعرف أنه يحب زوجته أكثر من أي
امرأة أخرى.
وهكذا يجب أن يكون الوضع في عالم هللا ،وأعتقد أنه من الضروري وقوع حادث بينهما ،لم
يكن في تقديره لألشياء أن تستمر سعادته.
وتفسيرا إذا استمرت
ً كثيرا في تحركه أن يقدم توضي ًحا
توقف واستدار ..وكان عليه إذا تأخر ً
طويًّل في يقظتها .كان يعرف أن الخوف هو الذي يسيطر على بقية مشاعره ،ليس ً أرماندا
الخوف من الضرب بالسوط والفضيحة ،أو من أن تعرف أرماندا ،ولكن الخوف من فقدها .لم
يكن قد عرف حتى اآلن ماذا كانت تعني بالنسبة له.
لذلك استوثق أن ضيقه وآالمه كانت لنفسه ،وليست لميرسي نفسها ،وهو يسير بقدمين ثقيلتين
تحت ضوء القمر ،كان يتصور أنها فتاة طفلة وحامل ووحيدة ،لذلك شعر بالهموم تسيطر عليه.
كانت هذه هي نظرته لألوضاع ،ورغبته في االحتفاظ بذاته وكيانه .ولكن األمر كان بشعًا
وقبي ًحا ..لذلك أخذ يطلب العفو والمغفرة والتوبة .ماذا كان سيحدث إذا لم يهتم بذاته؟ هل كان
يشعر باألسف للعمل الذي أقدم عليه وال يعرف نتائجه؟ حاول أن يعالج هذا السؤال بكل أمانة
ودقة ،ولكنه لم يستطع أن يصل إلى إجابة كافية ،ثم اعتقد أنه لن يأسف لما يحدث إذا لم يلحق
بميرسي أي أذى ،أي أذى أبعد من الحمل ..أي حمل أو فضيحة ،أو شعور بوخز الضمير ،أو
استخدامها كأداة هدم ..ولن يأسف حتى لعدم إخًّلصه لزوجته؛ ألنه لن يكون هناك سبب لذلك.
كانت األفكار تلح عليه وتراوده ليسأل عما إذا كان هناك إله -وهل كان اإلنسان صدوقًا وأمينًا
مع اإلنسان؟ شاهد الفتاة مرة أخرى ،تقف ضئيلة وشجاعة ،شامخة بعزتها وكرامتها في
حطامها .وعرف ما يجب أن تكون عليه إجابته .لقد قال :يا إلهي! ثم هز نفسه وأسرع في
خطاه ووصل إلى خيمته ،ثم دلف إليها وأتاه صوت أرماندا في الظًّلم لتقول له:
-كدت أذهب إلى النوم يا كيرتس.
-إنها ليلة عظيمة.
ثم جلس وأخذ يخلع حذاءيه.
عرف أنه كان من الطبيعي أن تنتظره هذه الليلة؛ ألن كثرة العمل والشؤون التي شغلت كل
ً
طويًّل ..كان راقدًا بًّل نوم حتى بعد أن استغرقت أرماندا في وقت النهار أبعدته عنها وقتًا
نومها بوقت طويل ..وأخذ يستمع إلى خرير مياه النهر وإلى أصوات طيور الليل ،وكان يسائل
نفسه عما إذا كانت ميرسي ماك بي ،التي تبلغ الخامسة أو السادسة عشرة من عمرها ،ترقد
بًّل نوم اآلن بسبب أحًّلم العذارى أو بسبب الخوف ،أو أنها قد استغرقت في النوم؟ وتعجب
ضا ع َّم إذا كان «الكو» ،الذي قتله من قبل ،سعيدًا في حياته أو في صيده أو لم يكن كذلك.
أي ً
وعرف شيئًا واحدًا ..أنه مهما يحدث ،ومهما يكن ،وما دام فيه رمق من الحياة ،فإنه سيظل
يحمل وزر اإلثم.
الفصل الثالث والعشرون
قال رجل الجبال العجوز:
-سيكون أمامكم وقت للترفيه على ما أعتقد ..لقد سلك هذا الهندي هذا الطريق ،وأعتقد أنه
سيكون هناك أمر ما .هذا هو الوضع.
اعتقد ليجي إيفانز أنه يبلغ من عمره عمر هذا التل نفسه -لنقل مائة عام أو نحو ذلك -ثم جلس
فوق األرض بسهولة ،كما لو كان ال يحتاج إلى مقعد يسند إليه ظهره .كان اسمه هو جرينوود-
ك اليب ،وكان يبدو أخضر مثله مثل الشجرة العجوز التي ال تزال تنبت فيها أوراق األشجار.
-ألست على صواب يا كابتن؟
كان هناك ثمانية أو عشرة منهم في ساحة «فورت هول» خارج البيوت المصنوعة من الطوب
اللبن التي كان الكابتن جرانت يستخدمها كمكتب ومنزل له .كانت الساحة سابحة في الظًّلم؛
ألن الشمس كانت قد اختفت وراء حوائط القلعة ،وبدأ الشعور بالليل يظهر بعد ذلك.
كان الكابتن جرانت هو الشخص الوحيد الذي يقف ،وكان يبدو أضخم مما كان عليه من قبل،
وكان قد كتب لفظ إنجلترا في كل مكان ،في حين كان يمشط لحيته بيده ،ثم أجاب بعد ذلك:
-لم تحاول شركة خليج هدسون أن تنقل أي ركب.
فسأله جورهام:
-ولماذا:
فانتفض الكابتن وعبر عن حركته بالكثير من الكلمات ،ثم سأله إيفانز نفسه ع َّم إذا كان على
استعداد لعدم الميل إلى هذا الرجل لمجرد أنه إنجليزي ،لقد كان حسنًا بما فيه الكفاية لجميع
أفراد الركب أكثر مما تستطيع أن تتوقعه من أي إنجليزي ملعون .كان يرحب بالركب وينحاز
معه ويحقق رب ًحا منه ..كنت تستطيع أن تشتري منه الدقيق الذي ينقله بالباخرة أو بالجياد من
دوالرا لكل مائة ،أو مقابل ما يتردد بين خمسة عشر ً معسكرات أوريجون مقابل عشرين
وخمسة وعشرين إذا كان النقل عن طريق الجياد ،وإذا لم يكن معك ما يكفي من مال ،فإنه كان
يتناول مقابل ذلك بعض الثيران الطليقة ،ويسمح بدين يتردد بين خمسة دوالرات وعشرين
رجًّل طيبًا أو غير طيب ،فإنه كان إنجليزيًّا ال يرغب في أن يقومً دوالرا ،لذلك سواء كان
ً
األمريكيون باحتًّلل أوريجون ..كان هذا هو السبب ،لذلك كان ما يجب أن يقوله بشأن الركب
يجب أن يقابل بفتور وبرود.
ثم قال الرجل العجوز وهو يخرج غليونه من جيبه وينظر حوله:
-سوف يصل بعضكم وربما بعض العربات ،وليس من المحتمل أن يصل الركب بأسره ،ولكن
البعض سوف يصل وسيكون عندكم الكثير من التسلية والهزل.
فسأله تادلوك:
-كيف ذلك؟
-لماذا! انظر خلفك لترى الجوع والعطش لتتذكر ،إذا استطعت أن تعيش لتتذكر.
فرد إيفانز ً
قائًّل:
-لقد قطعنا الطريق السابق على أحسن حال.
-لقد فعلت ذلك بالتأكيد يا بني ،ولكن ال تغتر؛ إذ يقول هذا األسود :إن لحية أغسطس ال تستقر
استقرارا تا ًّما ،وهذا أنت اآلن.
ً
-حسنًا!
فقال جرينوود وهو يقف ،في حين كانت شفتاه العجوزان ممسكتين بالغليون وتبقيانه في حالة
اشتعال مستمر:
-كلما فكر هذا األسود زادت رغباته في مواصلة سيره ..إن الطريق إلى كاليفورنيا ليس لعبة
خطيرة بحق اإلله ،ال توجد بها أشياء الختبار اإلنسان ،وال يوجد بها شيء يستطيع اإلنسان
أن يتذكره إال السير السهل.
كان قد دخن غليونه ،ثم أخذ ينفض الرماد منه حتى يمكن أن يعيد تدخينه من غير أن يشعله
مرة أخرى ،ثم انبرى يقول:
-إلى كاليفورنيا في القريب العاجل ،ولكن هذا األسود يجب أن يوضح هذا الطريق ..وقد قلت
إنني سوف أسلك هذا الطريق.
كان سمرز يجلس بهدوء وعلى ركن من فمه شبه ابتسامة ،وقال:
-لقد كان هذا الغًّلم يقف بجوار «بيج سولت سي» أي البحر المالح الكبير ..ويبدو أن هذا
المكان قد وضح في ذهنه.
فأجابه جرينوود كما لو كان لم يدرك ما يعني:
-هل أنت متأكد؟
وظهرت أمارات التفكير الجدي على وجه باتش ،الذي انبرى يتساءل:
-ماذا ينتجون في كاليفورنيا؟
-ال شيء ..ال شيء سوى ما تنتجه األرض وما يتغذى على األعشاب ..إنها بًّلد رقيقة مليئة
بالشمس والطقس الجميل ،ولكنها ال تشبه أوريجون.
فانبرى تادلوك يقول ،وهو يخط بعصا صغيرة في يده فوق األرض:
-دعنا نتحدث حديثًا جديًّا ،لماذا تظن أننا لن نستطيع مواصلة السير إلى ويلماتي؟
فمد جرينوود ذراعيه وبسط يديه ،وقال:
-ه ل قال هذا األسود هذا الكًّلم اآلن؟ لقد قلت إن بعضكم سوف يصل بالفعل .أماكم ضعف
ما القيتموه في «سنيك» ولكنكم سوف تواجهون المشكًّلت مثلما واجهها «ويث» وديك عام
أربعة وثًّلثين أو نحو ذلك ..و«سنيك» ليست مجرد عبور مياه النهر ،حتى ولو تأكدتم أنتم من
ذلك ورأيتموها من هنا ،ولكنكم سوف تستمرون -غالبيتكم وبعض العربات -وسيكون هذا
األمر مدعاة للضحك والهزل ..هناك الكثير من العربات التي تباع في مدينة أوريجون على ما
أعتقد ،فما رأيك يا كابتن؟
-سأترك العربات هنا.
فسأله جورهام:
-ألم تذهب عربات من قبل؟
فأجابه جرينوود:
-بعضها.
ثم قال تادلوك:
-أخبرنا بالمزيد من مرحك.
ي من كاذب إذا لم أقل لكم إنكم سوف تمضون أيا ًما
-لم يعد عندي الكثير ..ولكن لعنة هللا عل َّ
من غير القدرة على المسير ومن غير غذاء أو شراب إلنسان أو حيوان ،ثم تصلون بعد ذلك
إلى منحدر منخفض ال تستطيع قدم أن تطأه منذ شروق الشمس إلى غروبها.
أخذ إيفانز يفكر فيما سمعه ،وفي حين أنه يفكر على هذا النحو ،شم دخانًا يتصاعد من نيران
ضا في
الطهو التي أخذت تخمد داخل البناء المقام في المناطق المحيطة .كانت النيران تخمد أي ً
المعسكر الذي كان ينتشر في جنوب وغرب القلعة لمسافة نصف ميل ،وكان على ربيكا أن
مبكرا ،في حين كان براوني يراقبً تنظف جميع أوانيها؛ ألن المعسكر كان قد تناول طعامه
«السينكس» اللصوص األصدقاء .كانت هناك بعض الروائح األخرى في هذا المكان؛ رائحة
شواء لحم وسمك ،ورائحة طباق ،ثم راحة لبن كان قد ُحلب في وعاء كبير ،وذكره بمدينة
«إندبندس» وبيته ،وبحظيرة البقر ،وبنهر ميسوري الذي يسير بالقرب منه ،ثم قال:
-إننا نعرف بعض األشياء عن األنهار.
فأجابه جرينوود:
-ب التأكيد يا بني ..أعتقد أنه ميسوري أو المسيسبي ..إنها مياه طيبة ،لقد ذكرتني بها .ماذا تنوي
أن تفعل بماشيتك؟
-سآخذها معي.
-ثم ماذا بعد نهر سنيك ،أو «لويس» كما نسميه في بعض األحيان؟ تأتي إلى الجفاف ،وهنا
يظهر الهزل ،يمكنك أن تقول إنك شاهدت جفاف حلقها وسقوطها وشاهدت الصخور السوداء..
إنها مجرد رؤية ..ولكنك سوف ترى ما يفوقها.
أخذ إيفانز يحملق من رجل آلخر ،وهو يتساءل ع َّم إذا كان الجميع يشعرون بشعوره نفسه
واهتمامه بهذا الجد الذي جاب الجبال .كان الركب قد انتهى باألمس فقط من تعب شاق عبر
أخيرا إلى هذا الوادي
ً الصخور السوداء واألتربة السوداء من هذا الجانب من «بير» ثم وصلوا
وشاهدوا المياه واألشجار واألعشاب وبعض الغزالن .ولم يعتقد أن هناك من يرغب في
التحرك مرة أخرى ،وخاصة بعد أن عبر جرينوود بكلماته عن الصعوبات.
قال إيفانز:
-أعتقد أنك تعرف كل شيء يا ميك ..إنه يقسم بأنه قد عرف طريقًا أفضل إلى أوريجون،
وذلك بجوار نهر ماكهور .إنه يقول إن هذا الطريق سوف يختصر مسافة مائة وخمسين م ً
يًّل
أو أكثر.
هز الكابتن جرانت برأسه موافقًا ،ثم قال:
-ترك ستيف ميك الركب الذي كان يرشده ،وأسرع هنا ليلحق بركب آخر ،إنني أتعجب من
أنكم لم تشاهدوه وهو يمر بكم .هل التقيتم به؟ وماذا قلتم له؟
-أخبرنا بأن معنا سمرز.
فقال الكابتن جرانت:
-حسنًا .إنني ال أهتم بمحاولة قيادة هذا الركب ،أليس كذلك يا سمرز؟
هز ديك رأسه بالنفي ،وشعر إيفانز بالسرور من هذه الحركة .كان سمرز هولنديًّا يعرف
أوريجون على حقيقتها ،لذلك كان يستطيع أن يواجه أي إنسان ويتحدث معه .ولكن حين ال
يتحدث ،كان اآلخر يبدو كما لو كان ال يستطيع ذلك؛ ألن الكلمات التي ذكرت كانت حقيقية
وحكيمة أكثر مما يستطيع أن يقوله بنفسه ،ثم تساءل سمرز:
-من الذي يدفع لك أجرك يا كاليب؟
فأجاب جرينوود ،وهو يرمق سمرز بطرف عينه:
-أما بالنسبة للحمى اآلن ،فإن هناك من يقول بأن الحمى تنتشر في المنطقة السفلى من النهر،
ضا من هذا ،ولكن ليس بالقدر الذي يدعيه ،ال يوجد الكثير ،وإال فإني ال
وهذا الفتى يعرف بع ً
أستطيع أن أميز بين األبيض والهندي .إنك تقول :إنك سوف تقود ماشيتك إلى هدفك يا إيفانز؟
كان الكابتن جرانت قد دخل ،وخرج وفي يده جرة صغيرة ومعه بعض األقداح ليصب فيها
بعض الويسكي الممتاز الذي يفوق هيتشكوك المعتق ،الذي كان يبيعه في إندبندس ،ثم قام
الكابتن بإمرار األقداح بنظام ،لذلك تستطيع أن تقول إن اإلنجليز يتميزون بالخلق والنظام
ويميلون إليه.
لم يكن إيفانز يدرك لماذا بقي ماك بي على هدوئه وصمته هذه الفترة ،ما لم يكن ذلك بسبب
تادلوك نفسه ،ولكنه مد يده ليأخذ قدح الويسكي وليقذف بما فيه داخل جوفه ،ثم يقول:
-يا إلهي! لم أكن أتصور أنني أتجه إلى الغرب لكي أواجه الصعوبات ،وأعيش عيشة صعبة
قاسية ،لقد عشت هذه الحياة من قبل بما فيه الكفاية .فأخبره جرينوود ً
قائًّل:
سا.
-ال تدع هذا الفتى يخيفك ،فلم يعد أمامك سوى ثمانمائة ميل فقط ..اهدأ نف ً
جلس جرانت بجانب اآلخرين ،وأخذ يهز رأسه اإلنجليزي الكبير ،ثم يقول:
-الجوع والحمى ..إنني لم أتوقف عن التفكير.
واستمر جرينوود يقول:
-أ ما بالنسبة للماشية ،فإنك تستطيع أن تقيم لها حظائر حينما تصل هناك ،فهناك الكثير من
الماشية التي نقلت من كاليفورنيا إلى أوريجون.
كان األسف يبدو على وجه األخ ويذربي ..اعتقد إيفانز أنه أسف يمتزج بلعنة ما قد سمعه،
ولكنه تمنى أن يقف للصًّلة في العراء ً
بدال من أن يسمع جرينوود يقول:
-تذكر أننا بين يدي هللا.
ثم سأل تادلوك:
-هل هناك أسواق في كاليفورنيا؟
-إذا أردت أن تتحدث عن كاليفورنيا ،فليس هناك أي متاعب بشأن األسواق؛ أسواق ثابتة..
دوالرا واحدًا ،والذرة تساوي نصف دوالر ،أما رأس الغنم فهو يساوي
ً القمح يساوي هناك
دوالرا واحدًا أو دوالرين.
ً
-من الذي يشتري؟
-ش ركة خليج هدسون ،ثم تنقلها إلى الموانئ ،مثل ميناء سان فرانسيسكو ،حيث تشاهد الكثير
من السفن التي تفرغ حمولتها ،أو التي تحمل حموالت من التي وجدت في أوريجون.
ثم سأله سمرز مرة أخرى:
-مع من تعمل يا كاليب؟
ً
سؤاال آخر قبل أن يتحول جرينوود لإلجابة على ديك: فوجه تادلوك
-أعتقد أنهم بحاجة إلى رجال في كاليفورنيا؟
أخذ جرينوود يدرس تادلوك بعينيه اللتين تحيط بهما السنون واأليام ،في حين كان إيفانز يراقبه
بدوره؛ ليرى أنه عاقل وماكر يعرف كيف يلعب بتادلوك .شعر بالسرور فجأة ألن جرينوود
لم يكن مع الركب أمس ،وإنما ظهر اليوم في مكان ما وقت رحلته للقنص ..هل يمنحه وقتًا
كافيًا لكي يجر جميع األشخاص إلى كاليفورنيا وخاصة النساء.
ثم أجاب جرينوود على تادلوك بعد ذلك:
-إ نها بحاجة إلى الرجال األكفاء فقط ،وليس أي فرد ،فهناك الكثير من األفراد في كل مكان،
ضا في أوريجون. ولكن الرجال األكفاء هم المرغوب فيهم مثلما هو مرغوب فيهم أي ً
-ماذا عن المكسيكيين؟
-هؤالء اإلسبان؟ إنهم أكفاء ..لقد تركوا وراءهم مًّلبسهم السوداء ،وأصبحوا يشبهون
اإليرلنديين .إنني أبحث عن الرجال البيض لكي يغزوا كاليفورنيا.
فرد عليه إيفانز:
-لهذا السبب تلح علينا وتحاول جذبنا.
مد الرجل العجوز يديه كما لو كان يحاول إظهار نفسه وعقله ،ثم قال:
-إنك تقرأ آرائي خطأ يا بني ..ألم أقل لك إن أوريجون هي مكان طيب؟ ولكن إذا أشرنا إلى
ً
ممتازا ..هذا الفتى ال يعتقد أنكم سوف تصلون إلى كاليفورنيا فإن ذلك ال يعني أنها ليست مكانًا
أوريجون لمجرد أن تكونوا بريطانيين؟
اعتقد إيفانز أن السؤال كان في محله وأنه كان صادقًا ،ولكن الكابتن جرانت عاد وحرك
الكلمات:
-هناك أشياء أسوأ من كونك رعية بريطانية.
فقال جرينوود:
-إن هذا الكًّلم ال يهاجم أي إنسان يا كابتن ،فإن كل إنسان ينتمي إلى أمته.
ثم سأل دورتي بعد أن هزته كلمات الرجل العجوز:
-وما هو الخطأ بالنسبة لإليرلندي؟
-ال شيء ألبتة.
فسأل تادلوك:
-وسوف تقوم بقيادة الركب إلى ساكرامنتو؟
كان إيفانز يعرف من قبل أن عقله يعمل ،وأنه كان على حق ،فليدع تادلوك يذهب ،ولكنه لن
ضا ومعه عائلته،
يستطيع أن يعطل سير الركب الذي نزعت منه قيادته .وليدع ماك بي يذهب أي ً
وميرسي التي أصبح براوني يدور حولها ،وليدع بروور ورأسه الجامد يذهب .إن الركب لم
يعد بحاجة ألعداد أو ألمن أكثر اآلن.
حك جرينوود العجوز يديه ،وقال:
-حسنًا ،إنني ال أعرف كيف تسميه ركبًا ،هذا السيد يمتلك عربة ،وعصاه تشير إلى الطريق.
أعتقد أنني سوف أنتظر يو ًما أو اثني عشر يو ًما ألرى ما إذا كان الركب أو المجموعات التي
ي .هناك بعض الطيور التي سبق أن وافقت من قبل. تليكم وتسير في أتربتكم ستنضم إل َّ
فأخبره إيفانز ً
قائًّل ،وهو ينظر حوله ليرى مدى تأثير كلماته على الوجوه التي تحيط به:
-إنني ما زلت متمس ًكا بأوريجون.
-بالتأكيد ..إنني ال ألومك ..إنك كبير وقوي وسمين ،وأراهن بأنك ستصل إلى هدفك الذي ربما
تعجب به ..أعرف ذلك .أما بالنسبة للضعفاء فإنني أقول لهم إن كاليفورنيا أفضل بكثير؛ ألن
طريقها أقصر وأسهل .ويبدو أنه لم يمت أي إنسان وهو في طريقه إليها.
فرد سمرز ً
قائًّل:
ي اللعنة إذا كنت أصدق هذا ،ماذا سمعت عن لويس وكًّلرك وهما يتحدثان ألمهما؟
-عل َّ
ضحك جرينوود ضحكة بسيطة ،ثم قال:
-إنك لست مخطئًا إلى حد كبير -أيها الشاب الصغير .ولكن ال تدخل ذلك في ذهنك .إنك ال
نهرا يا ديك ،وكذلك كولومبيا ،ولن يتجمد أي إنسان بعد ذلك بسبب
تقول إن «سنيك» ليس ً
عدم وجود اللحم أو المياه.
-كًّل .ولكن من يدفع لك يا كاليب؟
-إنني مسرور ألن أسمعك تسأل هذا السؤال ،إنه سؤال أمين وصادق يستحق إجابة صادقة
وأمينة ..إنه الكابتن جون سوتر ،الذي يوجد في وادي ساكرمنتو -إنه يعتقد أن هناك بعض
األشخاص الذين قد يرغبون في السير في ركبه -ال أن يذهبوا إلى أوريجون .وهو يقول في
ذلك «كاليب» ها هي ذي قطعة صغيرة من المال لكبر سنك .ولماذا ال تذهب إلى هول ،لترشد
أي فريق بائس يسير في الطريق؟ سوف أجد بعض الناس الطيبين ليرحبوا بي.
فقال إيفانز:
-أخبره بأننا نشكره ،وأن الذين جاءوا إلى أوريجون سوف يذهبون إليها.
هز باتش رأسه عًّلمة الموافقة على هذا الكًّلم وانضم إليه دورتي ،وماك ،وجورهام،
وويذربي ،وفهم منهم أنهم قد ارتبطوا بأوريجون مثله سواء بسواء .لم يكن يعرف سبب ذلك؛
هل كان ذلك ألنهم كانوا يرغبون في إحناء رقابهم؟ أو ألنهم كانوا ال يثقون في جرينوود وعدم
الميل إلى الكابتن جرانت بسبب كونه بريطانيًّا؟ أو ألن فكرة التغيير لم تجد ً
قبوال في أنفسهم؟
إن األمر ال يهم اآلن ،لذلك قال:
-أعتقد أننا سنتمكن من إتمام الرحلة.
كان صوت الكابتن جرانت يعكس االستسًّلم وهو يقول:
-إنكم معشر األمريكيين تقومون بتنفيذ ما تصممون عليه على ما أعتقد.
-نستطيع أن نحاول.
فسأل جرينوود:
-ماذا تنوون أن تفعلوا بهذه الماشية؟
-نجعلها تسبح .ألم أخبرك بذلك؟ نجعلها تسبح في دالس.
وقف سمرز ،وشاهد إيفانز ابنه براوني وهو يدخل القلعة ،ويقف بعيدًا عن الدائرة .اعتقد أنه
رأى بعض المشكًّلت تنعكس في وجه الغًّلم ،ولكن الغًّلم أخبره بأن الظًّلل التي كانت تكسو
وجهه كانت بفعل بعض الظًّلل المنعكسة ،ثم قال له:
-هل تريدني يا بني؟
-كًّل .وإنما يوجد هناك شيء أود أن أخبرك به يا ديك.
وقبل أن يذهب سمرز إلى براوني ويسير معه ليختفيا وراء البوابة الكبيرة ،التفت إلى جرينوود
وصاح فيه:
-كاليب ..إن بقول كاليفورنيا تساعدك على توجيه ضربة.
***
الفصل الرابع والعشرون
كان براوني ينتظر بجوار البوابة وعيناه المتحفزتان حزينتان ،وسار سمرز ومن خلفه براوني
وفي أعقابه الكلب ،لذلك تساءل سمرز ً
قائًّل:
-هل هذا كلبك أو كلب أبيك؟
ولما لم يجبه براوني استمر يقول:
-أو ربما كلب ميرسي ماك بي .إنني أراه يلتف حولها ..أين هذا الذي يرغب في رؤيتي؟
واستمر براوني في صمته خارج القلعة ،في حين استمر سمرز في حديثه يقول:
-أين تقول؟
-ديك.
-أوه -هاه.
وقف براوني فجأة ورفع ناظريه إلى سمرز ثم أرخاهما في اتجاه األرض وتساءل:
-هل عندك ما يكفي من الوقت للتحدث معي؟
-بالتأكيد يا بني .الكثير من الوقت ..فلن يتحرك الركب قبل غد.
-أعتقد أنه ال يوجد عندي ما يضايقك.
-هل عثرت على رفيق تحبه ويضايقك .أفصح عن هدفك.
حاول براوني أن يخرج كلمة أو كلمتين من شفتيه ،ولكنه لم يخرج صوتًا ،ولم يكن سمرز قد
الحظ حتى تلك اللحظة القلق الذي يعتري وجهه ،لذلك قال موج ًها حديثه لبراوني:
-هذا المكان ال يصلح للحديث على ما أعتقد؛ ألنه مكان مفتوح .دعنا نذهب إلى مكان آخر.
فهز براوني رأسه عًّلمة الموافقة.
-إنني ال أستطيع أن أتحدث بسهولة إال إذا كنت قريبًا من مياه أو شجرة ..النهر ليس بعيدًا من
هنا.
اعتقد سمرز أن الغًّلم قد يرغب في االنتقال من مكانه ،ولكنه لم يفعل ذلك ،وإنما أحنى رأسه
كما لو كان ذلك من الثقل الذي تحمله .ربما كان يرغب في انتظار حلول الظًّلم الذي كان قد
بدأ يرخي سدوله على جميع البًّلد ..تخرج الكلمات بعض األحيان سهلة حينما ال يستطيع
اإلنسان مشاهدة الفم الذي ينطق بهذه الكلمات ،ومرا بعد ذلك بأحد بيوت «الشوشون» حيث
كانت امرأة هندية تقف لمراقبتهما ..كما لو كانت النظرات هي كل ما فيها من حياة ،وخرج
من حولها كلبان أخذا ينبحان ويجريان ،ولكن إجابة واحدة من روك أوقفتهما عند حدهما.
ثم قال سمرز:
-إنني جد مسرور لمجيئك وطلبي ..لقد شعرت بالتعب والملل من سماع حديث جرينوود عن
هذا وذاك ..كما لو كان ال يوجد سوى الطيور والحيوانات التي تستطيع أن تشق طريقها إلى
ويًّلميت.
فسأل براوني من غير أي اهتمام:
-هل هذا ما كان يتحدث عنه؟
-تقريبًا ،ويقوم كاليب ببث أفكاره بين بعض رجالنا.
-أعتقد أنه ال يوجد أي شيء يخيفك أو يمنعك .أليس كذلك يا ديك؟
-الكثير من األشياء .ولكن ..ما عدا جرينوود.
استطاعا أن يصًّل إلى ضفة النهر فجلسا ،والتقط براوني غصن شجرة جافًّا وقذف به في
المياه ،فشاهده لحظة ثم طواه الظًّلم الذي خيم على مياه النهر ،ثم انبرى
يقول لسمرز:
-إنني ،أفكر في الزواج.
وخرجت الكلمات قوية وبها معنى التصميم والعزم ،ورد عليه سمرز:
-ال يوجد خطأ في ذلك.
كان الليل قد خيم عل ى كل شبر في المنطقة ،ولكن سمرز استطاع أن يرى في هذه اللحظة
البياض القليل الذي يعكسه وجه براوني ،وكذلك هيكل جسمه العام وكتفيه ورأسه الذي ال
يستقر في مكان واحد.
-إنني ال أعرف إجابة لذلك.
اعتقد سمرز أن خير تصرف في هذا الموقف هو الصمت القليل ،ولكن براوني استمر يقول
له:
-إنني ال أعرف إنسانًا أستطيع أن أحدثه في هذا األمر سواك.
منتظرا ،وشعر بجفاف الموقف ،لذلك انبرى
ً التقط سمرز عودًا من العشب ،وأخذ يلوح به بيده
يقول:
ً
مقبوال أستطيع التحدث على أساسه في هذا الشأن لك أو ألي إنسان آخر، مبررا
ً -ربما ال أجد
ولكني أجد أنه من الضروري أن أتحدث.
سا لدرجة تساوت فيها المياه واألرض ،وخرج روك في هذه األثناء كان الظًّلم قد أصبح دام ً
أثرا فوق الحشائش. من الظًّلم ،وأخذ يشم حوله ،ثم ابتعد ً
قليًّل وهو يتبع ً
-هذا ال يخرجنا عن الموضوع يا ديك.
-نسيت أن أخبرك.
-إنني لم أكن ألخبرك لوال ثقتي بأنك ستساعدني في الوصول إلى جواب لسؤالي.
-قد ترغب في اإلجابة باإليجاب أو النفي .أليس كذلك؟
-هناك أشياء أخرى.
إجابة ..أخذ سمرز يفكر وهو ينتظر ،في حين كان براوني يرغب في اإلجابة ..الناس جميعًا
يرغبون في اإلجابة الكاملة والنهائية ..اإلجابة الدائمة .كان ذهنه يتتبع الفكرة ..إن ما يبدو
حقيقيًّا وصحي ًحا اليوم يتغير في الغد ،فالوضع يتوقف على ما يطرأ من جديد وعلى الزمن
والحوادث؛ العقل واألحشاء يذهبان معًا ..العقل واألحشاء وحرارة الجسد واألحًّلم .كان العقل
هو القوة المحركة للتفكير والتصرف.
-لنفترض يا ديك..؟
-مجرد افتراض.
ً
رجًّل يهدف للزواج منها إذا وافقت؟ -لنفترض أن هناك فتاة ،وأن هناك
منتظرا االنطًّلق والكلمات التي يطلقها براوني بحذر.
ً أمسك سمرز لسانه مرة أخرى
-ولنفترض أنه اكتشف شيئًا يتعلق بها؟
-إنني أنصت وأتتبعك.
-وربما ترزق بطفل؟
-أحاول أن أجد من هو أب هذا الطفل ،هل وجدته؟
-منها ،ولكنها ال تعرف ما إذا كانت تهتم به أو ال تهتم ،ولكن يجب أن تتزوج بأي إنسان؟
استطاع سمرز أن يلمح صرخة مكتومة في صدر الغًّلم الذي يحاول أن يبدو هادئًا ..كانت
صرخة األلم ..صرخة عدم اإلدراك ..صرخة طلب الغوث والعون ..صرخة تطلب اإلجابة.
-ماذا عن الرجل الذي فعل ذلك يا براوني؟
-سأقتله ..أقسم بأني سأقتله.
-هدئ من روعك يا غًّلم.
-أو أن أخبر الركب؛ ألراه يجلد من أجل فعلته.
ً -
مهًّل.
-هل تظن أنني ال أستطيع ذلك؟
-أعتقد أنك لن تقدم على ذلك.
-ماذا أفعل يا ديك؟
-اكتشف كل شيء اآلن ..إنني أعرفها ..ولكني ال أعرف الرجل.
-إنه ماك.
-لم يكن من حقي أن أسألك يا براوني .إن معرفته لن تجدي ً
فتيًّل ،ولن تغير من األوضاع..
دعنا نفكر اآلن.
أخذ سمرز يبحث في ذهنه ع َّم يمكن أن يكون صوابًا .حاول أن يضع نفسه موضع براوني..
حاول أن يضع نفسه كما كان على حقيقته من قبل ،وليس اآلن بعد أن عصرته األيام والحياة.
إنك ال تستطيع أن تخبر الغًّلم بمدى تفاهة األشياء وقلة األمور التي تهمنا ..إنك ال تستطيع أن
تخبر الغًّلم بأن الزمن واأليام كفيلة بمحو صدماتنا في الحياة إذا نظر إلى الخلف استطاع أن
يجد إنسانًا يرغب في الضحك ،ولكنه ال يستطيع أن يضحك ..الكل يحلم باألحًّلم ،ويأمل
باآلمال ،ويشعر باآلالم ،ولكن السنين واأليام تغطي كل ذلك وتدفنه في حيز الذكريات ،فإذا
حاول اإلنسان نبشها لخرج بعظام ال يكسوها اللحم ،تشبه تلك العظام التي دفنها الكلب من غير
أن يترك بها أي خير.
إنها القواعد واللوائح التي يخلقها اإلنسان ويحطمها ويتألم منها ومن تحطيمها ،مثل تلك القواعد
ضد الطبيعة التي ينكرها الحيوان .مثل القاعدة الخاصة بعدم إمكانية نوم فتاة مع رجل في
كبيرا
ً وخطيرا اآلن ..ولكن كم يبدو
ً كبيرا
ً فراش إال إذا قال رجل الدين آمين .إن األمر يبدو
في عيني براوني حينما تمحو األيام هذا الحادث من ذاكرته؟ كيف يبدو ماك في ذلك الحين؟
إن الرجل هو الرجل بطبيعته ،وبمعرفته لنفسه في السر ،ما لم يكن عنده إيمان بالدين أكثر من
اإليمان العادي .حينما تواتيه الفرصة يغتنمها ،وهو ال يفكر أنه قد يرتكب ً
عمًّل سخيفًا ..كانت
الرقة والوداعة تبدوان على الغًّلم وهو يفكر في األشياء الطيبة التي فاتته.
وبعد ذلك قال سمرز وهو يحطم الصمت:
-لم يكن من الضروري أن تخبرك يا براوني.
لم يكن من الضروري؟ ماذا تعلم الرجل الناضج؟ إن األحًّلم تكمن في داخل نفسية الغًّلم الذي
يبدو كالغصن األخضر يمتلئ بالطيبة والسعادة والحب والصدق الًّلنهائيين ،والمعاني
الصحيحة ..فإذا فقدها اإلنسان ،فإنه يفقد شيئًا طيبًا ،وتختفي من ذلك طبيعته الكريمة؛ لذلك دع
األحًّلم كما هي ،وليبق سمرز على حال الغًّلم ،ليتركه يفعل ما يريد ،وليترك الحياة تفعل ما
قذرا يقوم به أي رجل ،ثم كرر ما قاله مرة أخرى: يعن لها ..لقد كانت هذه الفعلة ً
عمًّل ً
-لم يكن من الضروري أن تخبرك.
-كنت أقول لنفسي كم هي أمينة وصادقة معي.
-كانت تستطيع أن تعوضك عما صدمتك بهً ،
بدال من قولها ال أعرف.
-ربما لن تستطيع أن تفعل ذلك بعد اآلن.
-إنني ال أشك في ذلك.
-أليس األمر كذلك يا ديك؟
وكانت الرغبة تبدو في صوت الغًّلم ،واستمر ديك يقول:
-وال شيء ..اليسير.
وغاص صوت الغًّلم وصار يتحدث كما لو كان يهمس:
-حتى ولو كان األمر كذلك؟ إنني ال أعرف أن اإلنسان يرغب في شيء أقل مما كان يتوقعه.
أجاب سمرز على هذا القول ..كًّل ،إن اإلنسان ال يرغب في شيء أقل مما كان يأمله ويتوقعه،
ولكن عليه أن يلتقطه .ربما كان ذلك في الدرس األكبر الذي تلقاه في حياته ،وربما يكون ذلك
كل ما تعلمه وكل ما استطاع أي إنسان أن يتعلمه.
-هل تستطيع أن تواصل عًّلقتك معها يا براوني؟
-ال أشعر برغبة في ذلك ،وال أشعر بميل للقيام بهذا فقط ..فقط.
فقال سمرز وهو يعرف أن هذا هو جوابه:
-هل هذا ردك إذن؟
كان رأيه واض ًحا وقريبًا من ذهنه أكثر من أي يوم مضى ..كان قد صمم على ذلك من قبل،
ولكنه كان يحب أن يمر من هذا الطريق ويؤكده.
-كيف ذلك يا ديك؟
-يا إلهي .خذها.
-هل تعني ما تقول؟
-وال تلمها مطلقًا على ما سبق أن اقترفت .اترك ذلك بعيدًا عن ذهنك ،ستكون زوجة طيبة
ووفية.
-هل تعتقد أنها طيبة الخلق؟ هل تعتقد ذلك يا ديك؟
كان الغًّلم يرغب في بث الثقة في نفسه ،لذلك حاول سمرز أن يبعث فيه هذه الثقة حين قال:
-يا إلهي! لماذا تسأل هذا السؤال السخيف؟ إنها طيبة المعشر .وكل ما هناك أنها لم تًّلق
الرعاية الكافية والمعاملة الطيبة من والدها أو والدتها ،وربما زلت قدمها هكذا؛ ألنها لم تجد
من يداعبها أو يعاملها برقة .اترك كل شيء وانسه ،وخذها واعتبر نفسك محظو ً
ظا.
-ديك...؟
خرجت هذه الكلمة قوية معبرة من براوني ،في حين تحرك سمرز لينهض وهو متأثر بالنغمة
التي أطلقها هذا الغًّلم ،وقال:
-هذا هو كل شيء .دعنا نذهب اآلن ،وانس ما حدثتني عنه اآلن.
-إنني لست ً
طفًّل ..إن ما قلته هو الصواب.
-دعنا نذهب.
-وما رأيك إذا كانت سترزق بطفل؟
-ليس من الصعب أن تأخذها بطفلها ،بغض النظر عمن يكون أب هذا الطفل.
نهض براوني واقفًا على قدميه ،ثم قال:
ي أن أخبر والدي بأني سأتزوج.
-يجب عل َّ
ً
وعادال. ً
عاقًّل تفكيرا
ً -إن ليجي إنسان حكيم وعاقل ،ويفكر
-أعرف ذلك ..إني جد شاكر لك يا ديك.
-ال يوجد مبرر لذلك.
-تعال هنا يا روك .أين ذهب هذا الكلب؟
-إنه يدور وراء شيء معين هنا.
-ربما ليرى ميرسي.
وحين عودتهما ،أخذ سمرز يفكر كيف يمكن لإلنسان أن يضطرب ..كان ذلك شيئًا سيئًا وهو
سمت تحت عينيها.. يعرفه على أنه سيئ ،ولكنه تذكر وجه الفتاة الحزين والخطوط التي ر ُ
استطاع أن يدرك األمر ..أما مع ماك ،فلم يكن يعرف كيف وصل األمر معه.
***
الفصل الخامس والعشرون
أعمل ليجي إيفانز مهمازيه في جواده لكي يتقدم الركب الذي كان يستعد للتحرك .كانت جميع
العربات قد أُصلحت وأُعدت .ثار الحديث بين الجميع ،وتم الزواج ،فلنتحرك إذن ،ولنبتدئ في
السير ،لقد حان وقت التحرك ،ال يمكن أن يضيع كل اليوم في حفل زفاف ،والبحث عن كلب
تائه ،سوف يتساقط البرد في أوريجون قبل أن تعرفه ..فلنشق طريقنا ،مستر ومسز جورج
براون إيفانز.
كان يجلس فوق السرج ،ثم أعمل مهمازيه في نيللي مرة أخرى .كان اليوم يبدو كال ًحا ،تهب
فيه الرياح الباردة ،وربما تتساقط فيه األمطار قبل الليل ..قطرات صغيرة من المياه تختلف
عن انهمار األمطار .إنه يوم مناسب للزواج ،لزواج واحد على أي حال ..يوم مناسب لًّلرتباط
بأحد أفراد عائلة ماك بي .لم يكن هناك أي وقت آخر للتفكير في شيء آخر ،كان قد تم حلب
األبقار ،لذلك كان التفكير يتركز حول الركب ،وحول حياة المستقبل ،والبيت الذي سوف يبنيه
ويشيده ،أو كاليفورنيا واألشخاص الذين وقفوا بجانب جرينوود للسير معه إلى كاليفورنيا -
تادلوك ،وبروور ،وديفزوور .وجاء ماك بي إلى تفكيره مرة أخرى ،والد زوجته هنري ماك
ضا ،كان هناك شيء واحد فقط يجب أن يسويه مع أفراد ماك بي .لم تكن بي ،وزوجته أي ً
مدرارا في صورة أمطار.
ً الصورة سوداء ،كان هناك تكتل السحب التي يبدو أنها ستنهمر
كان قد استطاع أن يحول اتجاه ماك بي حينما حاول األخير أن يغير اتجاهه األساسي إلى
كاليفورنيا ،وذلك قبل الزواج مباشرة ،لذلك قال ماك بي:
-ال يمكن أن أقول ماذا سيحدث.
كان هناك بريق في عينيه قرأ فيه إيفانز الرغبة في إصدار األوامر بتحرك الركب.
فنظر إيفانز خلفه ليرى الركب قد اصطف في النهاية ،في حين كان ديك سمرز يقف على
رأس الركب ،وهو يدرك أن اإلنسان قد يرغب في أن يكون وحيدًا مع نفسه ليخلو بنفسه
وبآالمه.
ولم يعتقد أن ماك بي كان يشعر باآلالم ،بل كان يرحب باألخبار المفاجئة الخاصة ببراوني
والفتاة؛ ألن ذلك كان يعني نقص فم عنده ،على الرغم من أنه قد يقول إن ميرسي كانت تكسب
عيشها؛ كانت تساعد في إعداد الوجبات الغذائية ،وترعى األطفال ،وتقود العربة .كان أبواها
يميًّلن إلى االرتباط بعائلة ترفع أنفها عاليًا.
قليًّل من فوق رأسه ،ووقف يهز كتفه في اتجاه الريح ،إن ما لم يستطع أنأزاح إيفانز القبعة ً
يفعله لن يستطيع أن يفعله ..اترك ذلك جانبًا ،وانس براوني ،والليلة السابقة ومناقشاته التي
انتهت إلى ال شيء.
قال في نفسه من غير أن يصدق:
-زواج؟!
كان براوني ينتظر في الظًّلم عند البوابة ،بعد انتهاء الحديث مع جرينوود ،وجره إلى القول
وإخباره:
-إن هذا هو ما أهدف إلى تحقيقه يا والدي.
-تتزوج .متى؟
-غدًا صبا ًحا.
-بمن؟
-أنت تعرف ،بميرسي.
-حسنًا ،اآلن -انتظر ،انظر يا بني ،إن هذا أمر ال يتقرر فجأة ومرة واحدة.
-لقد قررت نهائيًّا.
لم يسبق لبراوني أن تحدث معه بمثل هذا الحديث ،ولم يسبق له أن وقف هذا الموقف بصوت
يعكس صًّلبة الرأي .وجد إيفانز نفسه يتمنى لو كان هناك ضوء يستطيع به أن يرى وجه
ضا؛ إذ لم يكونا في الظًّلم سوى صوتين .واهتز إيفانز لما ورد في
الغًّلم ،وأن يراه الغًّلم أي ً
ذهنه:
-هؤالء آل ماك بي -هنري العجوز ،اآلن.
-إنني لن أتزوجه هو.
-هذا ما تعتقده أنت.
-هذا أمر ال يهم على أي حال.
-هل تحدثت إليه؟
-ليس بعد.
-أو الفتاة؟
-إنها تنتظر.
-إنها تعرف أن أبويها سيذهبان إلى كاليفورنيا .أليس كذلك؟
-هذا ال يهم ،ولكني لن أتزوج هنري العجوز كما قلت.
-إنك لم تبلغ سوى السابعة عشرة من العمر.
-إن سني أكبر من السن التي تزوجت فيها ،وعلى الرغم من ذلك فقد كان زواجك موفقًا.
-أعتقد أننا نستطيع أن نوقع ورقة ..وها هو ذا األخ ويذربي.
كان األمر يبدو إليفانز أن كل شيء يقوله ينعكس ضده ..حاول أن يكبح جماح غضبه بعد
عجزه ويأسه.
-حسنًا ،ولكن انتظر حتى نصل إلى أوريجون ،فإذا ظللت تشعر بالشعور نفسه ،فسوف نحقق
لك غرضك.
-م ا لم أتزوجها اآلن ،فلن تذهب معنا إلى أوريجون؛ ألن عائلتها كما قلت لن تذهب .وعلى
ضا.
أي حال ال أرغب في االنتظار ،وال هي أي ً
-هل تحدثت مع ديك؟ لقد شاهدتك تخرج معه.
-ال تعتقد أنه هو الذي دفعني إلى ذلك يا والدي .كان األمر قد انتهى.
-كيف تعرف أن هذه الفتاة هي ما تريده؟ إنك لم تعرفها إال من خًّلل أوقات النهار.
-أرجوك يا والدي ،ال تقل شيئًا عنها ،إنني أعرف أنها طيبة السلوك ،وأكثر من ذلك .إنك ال
تستطيع أن تتقبلها بسبب عائلتها.
-القطط هي التي تلد قط ً
طا.
-أرجوك يا والدي.
-هذا هو الوضع.
-ال تقل شيئًا يقف بيني وبينك.
فسأله إيفانز السؤال الذي لم يكن ليسأله ،إذا كان عنده من الوقت ما يكفي للتفكير:
-هل تعني أنك تفضلها علي؟ وعلى والدتك؟
ً
طويًّل ،ولكنها كانت إجابة جافة عنيفة: أخذت اإلجابة وقتًا
-إذا لم يكن أمامي مجال لًّلختيار.
ظل إيفانز على صمته بعد ذلك ،وحاول أن يتمسك بأي تفكير طيب من األفكار التي ظلت
تدور في رأسه ..تفكير يكفي لكي يعيد الغًّلم نظره في هذا األمر .وفي حين هو يحاول ذلك،
كان الغضب قد تًّلشى منه ،ولم يترك سوى بقايا ورماد ،ثم انبرى يقول:
-يجب أن تتحدث إلى والدتك يا براوني ..إنك تدين لها بالكثير.
-يجب أن أرى ميرسي.
-إنك ال تعني أنك ال ترغب في الحديث مع والدتك؟
-ليس األمر كذلك ،إذا كنت أرغب أو ال أرغب -ولكني سأتحدث إليها.
-أعتقد أنه لن يكون هناك شيء يحولك عن هدفك؟
-إنني آسف يا والدي ،وآسف أن يزعجك هذا الوضع.
-إنني ال أفكر إال فيك.
-إذن ال تنزعج .إنني أفعل ما أريد أن أفعله.
-إنني ال أشعر بأنك واثق من هذا.
-إنني واثق وثوقًا تا ًّما.
-هل أنهيت الوضع مع ويذربي.
-ليس بعد.
-وليس عندك خيمة أو أي شيء من هذا النوع؟
-نستطيع أن ننام في الخارج أو أسفل عربة.
-تتزوج حديثًا ثم تنام أسفل عربة؟
-حسنًا.
وجد إيفانز نفسه يسرع بالقول:
-ال عليك.
وذلك بعد أن عرف أن الغًّلم غارق حتى الموت في هذا الزواج.
-سوف نجد وسيلة ما.
-إذا لم يكن هناك ما يعوقك فسأتولى شراء خيمة.
-والدي!
ً
رجًّل اآلن ،وإنني لم ألمس ذلك إال اآلن ،بل كنت أتذكر أيام طفولتك. -أعتقد أنك أصبحت
سوف أقوم بمحادثة ويذربي ،إذا ظللت متمس ًكا برأيك في الصباح.
ثم أخذ إيفانز يبتعد رويدًا بأقدام متثاقلة ،ثم سأل:
-أين ذهب روك؟
-ذهب إلى مكان ما ال أعرفه.
أخذ إيفانز يستعيد ما ذكره فرأى أنه لم يكن يستطيع أن يقول أفضل من ذلك؛ إذ لم تكن هناك
كلمة واحدة تستطيع أن توقف سير هذا الزواج ..ال كلمة وال طريقة أو حتى سبب .لن يمكن
استعادة الغًّلم بعد أن صمم على رأيه وعزم على تنفيذه.
حاول إيفانز أن يلتفت حوله ليبحث عن روك ،ولكن كل ما استطاع أن يراه لم يكن سوى
األعشاب التي تهزها الرياح .كان مدر ًكا أن روك سوف يلحق بالركب في أي وقت ،وكان
حتى هذه اللحظة قد وصل إلى درجة من الحرارة تكفي لدفعه إلى تحريك الركب من الليل
حتى انتهاء القمر واختفائه .إنه ال يستطيع أن يطلب من الركب االنتظار حتى ظهور الكلب
المختفي حتى ولو كان هذا الكلب هو روك نفسه.
كانت ربيكا قد تلقت األخبار بهدوء ،كما لو كانت قد توقعت حدوثها ،ولكنها لم تحدثه أو تؤنبه
ً
طويًّل ،في حين كان بعيدًا؛ أو أن تطلب من براوني االنتظار ،ثم عادت إلى الحديث معه وقتًا
وأخيرا ذهب إلى فراشه،
ً ألنه لم يكن يثق في نفسه إذا تحدث مرة أخرى في هذا الموضوع.
وسمع أصواتًا تتحدث هامسة خارج الخيمة ،لم تتحدث ربيكا مباشرة حينما عادت إلى الخيمة،
بل أخذت تخلع مًّلبسها ،ثم رقدت في الفراش واضعة يدها فوق كتفه وهي تعرف بطريقة ما
أنه لم ينم بعد ،ثم همست في أذنه حتى ال يسمعها براوني:
-ربما تكون هذه الطريقة غير التي كنا نأمل فيها يا ليجي.
-وهي ليست الطريقة التي أرغب فيها.
-ربما يتغير الوضع ،ولكن يجب أن تمسك نفسك يا ليجي.
-أخبرته بأنه كان أبله أو سكران ،ولكنه كان على ما يرام.
صغيرا ،هل تتذكر ذلك يا ليجي؟
ً -إنني أتذكرك وأنت ال تزال
-لقد حصلت على امرأة حقيقية صادقة.
-ربما يستطيع هو كذلك ،إنها فتاة طيبة المعشر ..ال تحكم على هذه األمور بسرعة.
-يبدو أنك قد أصبحت تعتقدين أن األمر سيصير طيبًا.
وأخذت يدها تًّلطفه وتقول له:
-يجب أن نأخذ األمور على عًّلتها ،ونطورها إلى األحسن واألفضل ،ويجب أن تكون لطيفًا
معها .وكل ما أقنعه هو أنه كان على ثقة تامة بأنها حسنة الخلق وكريمة المعشر ،لذلك قال:
ضا.
-سأكون كذلك ،إذا تركنا الحديث في هذا الشأن الليلة ..إنني متعب ،وأشعر بدوار أي ً
وجاء الصباح ،ولكن بمجيئه ظهر التفكير عليها واالهتمام بما ستلبسه الفتاة .كانت النساء يبدين
غريبات في بعض األحيان حتى بيكي نفسها ..واستطاعت الفتاة أن ترتدي ثيابًا مناسبة،
ً
وجميًّل.. وزوجين من األحذية الجيدة ،وعقصت شعرها بطريقة جعلت وجهها يبدو نحيفًا،
ً
جماال من قبل ..لم يكن هناك مجال إلنكار جمال الفتاة. أكثر
واستطاع ويذربي أن يتمم الحيلة بسرعة ،وهو يعرف أن الركب يجب أن يتحرك ..كان
ويذربي يشعر بالسعادة لحضور حفل زواج ،ربما ألن هذا الحفل يعتبر عكس الجنازات الذي
كان عليه أن يعظ فيها ،وألنه يعد بالحياة الجميلة ً
بدال من الحديث عن نهايتها .كيف تسير
األمور؟ إن ما يربطه هللا ال يفرقه إنسان؟
كانت صورة الزفاف تقف في ذهن إيفانز وهو يرتدي مًّلبسه ،وكان الرجال والنساء يتجمعون
في ساحة «فورت هول» حتى يمكن أن يكونوا في مأمن ،ومعهم بعض الهنود الذين يتعجبون
من دواء الرجل األبيض .وكان براوني يقف شام ًخا ،في حين كانت الفتاة تبدو شاحبة ،كان
ويذربي يسأل ع َّم إذا كان هناك من يعترض ،وإال فليسكت إلى األبد ،فبكت زوجة ماك بي
وأخذت الدموع تمأل مقلتيها ،أما ماك بي فقد كان يعمل كرجل ذي أهمية.
كان الركب يمتلئ بالصداقة والمحبة باستثناء واحد أو اثنين ،لذلك تمنى الجميع السعادة للرجل
وعروسه .انتظر حتى نصل أوريجون ،ونحن نعدك بإعداد منزل دافئ .وحاول ماك نفسه أن
يقدم له زوجين من الثيران كهدية للزواج ،ولكن براوني رفضها بطريقة غير مهذبة ،كما لو
كانت الهدية تظهره بمظهر العجز عن إحضار مثلها.
هكذا تم كل شيء ،وكان الشتاء يبدو في الجو أو مقدماته ..وبمرور الوقت سيكون الركب قد
منزال .أخذ يتصور نفسه في هذا المنزل،ً وصل إلى أوريجون ،ويستطيع أن يقيم له ولعروسه
وهو يجلس بداخله ،والمدفأة مشتعلة وفي الخارج يسمع صوت المطر والثلوج وهي تنهمر
وتطرق الجدار الخارجي للمنزل ،يتخيل نفسه وهو يجلس ومعه بيكي ،ومسز جورج براون
إيفانز التي كانت ميرسي ماك بي في يوم من األيام .هل تتذكر آل ماك بي؟ كانت هناك رائحة
الشواء مما جعل روك يبدو جائعًا ،وكذلك رائحة الطهو الجميلة ،والخبز .يا له من منزل جميل
هذا الذي أقمنا فيه أيها الغًّلم؟ هل تتذكر تلك الرياح التي كانت تسمع حول «فورت هول»؟
هل تتذكر كيف كان الجو هناك؟ إن هذا الوقت يبدو حقيقيًّا ،آه!
أخذ إ يفانز ينظر حوله في األشياء التي تقع بعيدة واحدة بواحدة ،ولكن ما شاهده كان روك
نفسه ..عاد روك إلى بيته ،وكان ما شاهده هو روك وهو يحمل على كاهله السنين الطويلة
والحكمة التي تبدت في سلوكه وانحنائه تحت األقدام.
نزل إيفانز من فوق جواده ،وأخذ يتلمس الكلب فرأى آثار جرح في قدمه ،وضربات حول فمه
أدت إلى نزيف الدماء بغزارة ..أثار هذا المنظر ثائرته ،وأخذ يتذكر هل يمكن أن يفعل تادلوك
ذلك ..كًّل ،إن تادلوك رجل ال يفعل ذلك .ثم أدرك بعد ذلك أن ماك بي هو الشخص الوحيد
الذي فعل به هذا ،وترك عليه اآلثار لكي يعرفه بأنه قد انتقم لإلهانة التي لحقت به فيما مضى
حينما كان يهم بقتله على حسب األوامر .واعتقد ماك بي أن الفرصة قد سنحت له ألنه سيترك
الركب متج ًها إلى كاليفورنيا ،فانتهز فرصة انتظاره لميرسي من مكان ما ،وقام بضربته
بمطرقة أو هراوة ،وظن أن الكلب قد مات ،فحمله بعيدًا وألقاه فوق األرض في منطقة ال يمكن
العثور عليه فيها ،ثم عاد وهو يبتسم ابتسامة التشفي ،وهو واثق من أن إيفانز لن يوقف الركب
للبحث عن كلبه.
«ال يمكن أن يعبر عما حدث» .اعتقد إيفانز أن ماك بي يحاول االعتذار هذا الصباح ،وربما
مغايرا ،إذا عرف مسألة الزواج في هذا الوقت .ماذا يمكن
ً يحاول القول بأنه كان يسلك سلو ًكا
فعله اآلن؟ هل يذهب للقتال؟ وهل يذهب ليضرب هذا الوجه -وجه ماك بي الذي تحيط به
األشجار؟ هل ينتقم لروك العجوز الذي لم يرتكب أي ذنب ضده؟ هل يقاتل ويعلن األمر بأسره
أمام الجميع؟ ولكن ماذا يحدث بالنسبة لبراوني وعروسه الشابة؟ إن براوني لن يلومها لعمل
قام به والدها ،ولكن هل من الواجب إخطارهما بهذا الحادث حتى يعرفا ما حدث لروك ،وسبب
أي قتال قد ينشأ بين أبويهما.
انتصب إيفانز واقفًا ،وكان الركب قد زحف متًّلصقًا ،وكان هناك شيء واحد يجب فعله ،شيء
ضعيف ،ولكنه مقنع ..يجب أال يعرف براوني أو ميرسي أو حتى بيكي أو أي إنسان آخر غيره
وهنري فقط.
أحضر جواده ووقف بينه وبين الركب ،ثم نقل جسد روك فوق الجواد وهو يحاول إخفاءه بعيدًا
عن حملقة األعين .كان بجوار النهر مجموعة من األشجار الكثيفة وسار بجوارها حتى وصل
إلى مكان بعيد ثم أنزل روك ،وقال له بصوت عال :أعرف أنك تدرك ذلك يا روك! ولم يكن
يهتم بمدى سخافة الكلمات التي صاح بها ،ثم نظر بعد ذلك إلى الخلف ،فرأى أن روك لم يكن
يبدو مستري ًحا في رقدته ،فعاد إليه وأمسك بساقه ومدها لكي تزيد راحته.
كانت الرياح تهب خارج هذه الغابات وتحمل معها رذاذ مياه األمطار.
***
الفصل السادس والعشرون
كان األمر يبدو إليفانز اآلن أن اليوم ال يختلف عن سابقه ،وأن جميع األيام تسير من سيئ إلى
ً
وعمًّل سا مرة أخرى سا وريا ًحاً ،
وليًّل وشم ً أسوأ ..كانت كلها ً
عمًّل وقلقًا وتعبًا ،وأتربة وشم ً
آخر .حاول أن يصفر ويترنم بأمله القديم ،ولكن النغم اختفى من فمه ،كانت آماله قد طحنت
تحت العجًّلت التي تسير بقوة ..وفقد قوته في المرتفعات واألعماق ليختفي وراء المسافات
الطويلة ..كان ضباب اليأس قد غشي األعين وكانت األذن مليئة بشكوى العجًّلت والصناديق
الصامتة ..ثمانية أميال ،ثم خمسة عشر ،ثم ثمانية ،ثم ثًّلثة وعشرون ..إن األمر ال يهم .إن
هذه األرض المؤسفة ال نهاية لها.
يوم بعد يوم ،وأتربة وراء أتربة ،وتسلق ،وهبوط ،ودوران والرمال ترتفع ،والعجًّلت تدوس
على شجيرات «القويسة» التي تفوح رائحتها الجميلة بعد ذلك .أين هو العشب؟ أين المياه؟ من
الصعب ضم الماشية وحراستها في مثل هذه األماكن في الليل .كانت الوجوه كالحة ،والعيون
خالية من التعبير ،والعقول تفكر فيما قد يحدث حين عبور نهر سنيك ،فإن النساء واألطفال
يستطيعون عبوره ،أما الرجال فيقومون بدفع العربات والماشية وحراسة مجموعات من
الصعب مراقبتها.
إنها أرض قاسية ..أرض التشققات والنيران ،والغليان ..إنها أول أرض خلقها هللا عند تكوين
العالم ..تضم الكثير من ثعابين األجراس واألرانب الجبلية ،ونبات الصبار ..إنها أرض الفقر
والسموم ،فهل تقع أوريجون خلفها حقيقة؟ توجد جبال قريبة وأخرى بعيدة ،وثالثة ال تراها
العين ،منحدرات ومرتفعات ال يستطيع أي خبير في ركوب الخيل أن يسير فيها؛ ألنها تتطلب
كثيرا.
التسلق والهبوط .ثمانية أميال ..عشرون ،واثنا عشر وال يزال األمر ال يهم ً
كان إيفانز يعرف أن هذا الوقت سيمر بهدوء ،وكان على حق وهو يحاول االتجاه إلى
أوريجون ..كان على حاله هكذا طوال الطريق ،وكان هذا الطريق يشحن ذهنه ،ولكن كان
عليه أن يفرغ آماله في العرق .لم يكن يستطيع أن يراقب األماكن التي يجب أن يسلكها الركب،
غا في خطته؛ ألن روك كان يتقدم الركب ليستكشف الطريق، وكان موت روك قد خلق فرا ً
وكذلك خلق له زواج براوني ..لماذا ينظر إلى هذا الزواج هذه النظرة ،على الرغم من أنه لم
يكن يرفع يده من فوق بيكي حينما تزوجا ويضحكان معًا ويمرحان .ال يوجد أي سبب يدعو
للنظر إلى األمور اآلن نظرة الجد والخطورة ،على الرغم من موت الكلب ..إن هذا الوقت هو
وقت المرح؛ ألن المرح يؤدي إلى العمل.
لم يكن يعتقد وهو في القلعة أن الطريق سيكون صعبًا وقاسيًا ،واستمر ال يؤمن بما قاله
جرينوود لفترة يومين متاليين ،في حين كان الركب يشق طريقه عبر «بورت نويف» متج ًها
إلى «أمريكان فولز» أي المساقط األمريكية ..حيث توجد ينابيع مائية فوق المساقط وجزيرة
من الحشائش واألعشاب ،ولكنه تذكر بعد ذلك أن المناطق العشبية التي كانت تحيط بالقلعة
كانت تظهر في المناطق الصحراوية الرملية ،وفي السهول .وكان نهر سنيك يسير عميقًا في
هذه المنطقة .وفي اليوم التالي واأليام التي تلته أظهر له عقله ما لم يكن يستطيع أن يراه.
واستمرت األيام ،يو ًما بعد يوم ،والرمال والصخور كما هي ال تتغير وكذلك شجيرات
«القويسة» ذات الرائحة الجميلة ،ولم يكن يراوده أي شعور بالذهاب إلى أي مكان ،لذلك كان
يشعر بأن الركب يسير في مكان ال يتحرك منه ،على الرغم من تحرك العجًّلت ..كان يتمنى
ظهور المياه والخضرة .وعاد ذهنه إلى الوراء ..إلى «رافت» ،وإلى الركب الذاهب إلى
كاليفورنيا والذي يمر بواد ضحل .اآلن يبتدئ ركب جرينوود ،وتادلوك ،ورجالهما في االتجاه
نحو الجنوب ..كانت أفكار المياه واألعشاب تسيطر على أفكاره ألن لسانه كان قد جف وراودته
فكرة طيبة.
كان األمر الذي يقلق اإلنسان هو العطش والضعف ،وجوع الماشية والخيول وأفراد الركب.
أخذ يقود الركب وهو يحاول العثور على تجمعات للشجيرات واألعشاب ،ولما لم يجد أي
شيء منها ،كان الجميع ينظرون إليه بعيون راجية مترقبة ،كما لو كانوا يسألونه عن توجيههم،
وقد انهارت معنوياتهم وقواهم أكثر من انهيار الحيوانات ..شعر الجميع برغبة في الوقوف أو
الرقود بما تبقى من حياتهم ..وهم يعتقدون أنهم قد اغتنموا أقل فرصة للمعجزة.
كان الرجال والنساء يحاولون جهدهم االعتقاد بأنهم أصبحوا قريبين من المياه والعشب ،لذلك
عا في سيرهم ،وشعروا لفترة وجيزة بأنهم قد وصلوا إلى المعجزة ،حتى كانوا يزدادون إسرا ً
وصلوا مرة أ خرى إلى منطقة صحراوية وصخرية ..كان هذا هو حالهم حين وصولهم إلى
وافرا ،وكذلك عند «سالمون فولز» على الرغم
ً «سولومون فولزكريك» حيث كان كل شيء
من أن األعشاب والوقود كانا قليلين عند المساقط .وكان عند الهنود هناك أسماك السالمون
الطازجة والفطائر المصنوعة بالتوت التي كانوا يقايضونها مقابل المًّلبس ،والمساحيق،
والسكاكين ،وشص الصيد ..وخاصة الشص الذي تذكر ديك أن يحضر منه الكثير ..كانت
اللحوم الطازجة جيدة المذاق والطعم ،وكذلك سمك السالمون ..وخاصة بعد مرور أيام كثيرة
لم يتذوقوا فيها األطعمة الطازجة.
وبعد أن رأى إيفانز مس اقط سالمون والهنود ،عرف لماذا تحدث سمرز بصوت منخفض عن
القبائل آكلة األسماك ..كانت هذه القبائل صديقة وكثيرة الحديث وهزلية في بعض األحيان،
ولكن تفكيرهم كتفكير األطفال ،وكانت القذارة تبدو على مًّلبسهم ،بل إنهم يقفون عراة في
بعض األحيان إال من بعض فراء األرانب ..وهم يأكلون أي شيء؛ السحالي ،والقنافذ ،وربما
الصراصير .وكانوا يعيشون في أكواخ من األعشاب وأخشاب الصفصاف التي تؤخذ من
األشجار التي تقف في نصف دائرة ،ذكرته هذه األكواخ بعشش الطيور التي كانت تنتشر على
طول الطريق ،فيما عدا أن هذه الطيور كانت تقوم بالبناء أدق من هؤالء الهنود.
كان المعسكر على حالة طيبة على أي حال ..أو أنه -بأقل تقدير -لم يكن رديئًا بغض النظر
عن قلة وجود األعشاب واألخشاب التي يأسف لها الهنود .ال شك في أن تغيير الطعام يساعد
الركب على المثابرة واالستمرار في العمل الشاق ،كما تبرهن عليه الحياة اإلنسانية في هذه
كثيرا في شمال سنيك ،هؤالء الناس شيئًا جديدًا في
ً البًّلد ،وقد منحت الينابيع التي تنفجر
حياتهم يتحدثون عنه ،ينبوع بعد ينبوع ،ومياه تتدفق إلى النهر ،وتندفع إلى األمام ،مما جعل
سمرز يطلق عليها اسم «تشاتس».
بدأ المزيد من الرمال يظهر فيما بعد ،والمزيد من شجيرات القويسة ،والمزيد من الصخور،
والمزيد من عدم وجود األعشاب أو المياه ،والمزيد من استهًّلك المؤن .كانوا في طريقهم
للسير في جهنم هذه ..في حين كان إيفانز يخبر نفسه بأنه إذا استطاع أي ركب أن يصل إلى
أوريجون ،فإن هذا الركب سيستطيع أن يصل إليها؛ إذ يوجد فيه أفضل الرجال ،وأفضل
المرشدين الذين عرفهم ..تموينه ضعيف ولكنه ليس بالدرجة السيئة التي قد تقل عن أي ركب
يأتي فيما بعد .كان الجميع يرتبطون بعضهم ببعض على حسب اعتقاد إيفانز ،حينما كان يراقب
ديك وهو يظهر أمام عينيه من بين جرف عال ..كان جميع أفراد الركب يتبعونه ،وكان كل
فرد يرتبط باآلخر حتى يصلوا عبر سنيك وغيره من األماكن إلى أوريجون سالمين.
استمر سمرز في طريقه وهو يقول:
منحدرا إلى
ً -إننا نستطيع أن نحقق الوصول من غير حبال أو أي شيء آخر ،الجرف ليس
هذه الدرجة من السوء.
صاح إيفانز في باتش الذي كانت عربتاه في المقدمة ً
قائًّل:
-قف.
ثم رفع ذراعه إلصدار أوامره إلى بقية العربات التي تأتي في الخلف بالوقوف ،فالتصقت
العربات بعضها ببعض ثم توقفت ،وتوقفت الثيران من تلقاء نفسها ،ثم قال إيفانز لسمرز:
-ربما يكون من األفضل لنا أن ندلي بحبل للعربة األولى ،ثم يسير البعض استعدادًا ألي
طوارئ.
فهز سمرز برأسه عًّلمة اإليجاب ،ثم واجه إيفانز بعد ذلك طابور الركب ،ثم صاح:
-على الجميع أن يخرجوا.
وأخذ كل فرد يردد هذه الكلمات ،ثم انتظر وراقب الوضع حتى نزل كل فرد من الركب ،وكان
آخرهم هي مسز بيرد نفسها التي تتحرك ببطء بسبب طفلها ،وأخذ إيفانز ينتقل ويتحرك وسط
أقرب الرجال إليه ..فجاء إليه كل من ماك ،وفيرمان ،وكاربنتر ،واألخ ويذربي ،وكانت األتربة
تكسوهم ،ثم قال إيفانز:
-يعتقد سمرز أننا نستطيع أن نهبط بسًّلمة ،ولكن على كل منا أن ينزل بنفسه مع عربة القيادة
ليرى كيف تسير وتهبط ،ونستطيع أن نوقفها إذا كانت ستندفع.
وتبعه الجميع إلى رأس الطابور ،حيث كان باتش يقف مع مجموعته ومع سمرز منتظرين
القيام بالمحاولة .وقام أحد األشخاص بربط حبل بمؤخرة محور العربة ،وكانت مسز باتش
تقف في الخلف مع المجموعة الثانية وهي هادئة ،كما كانت عادتها من قبل ،ثم قال إيفانز:
-حسنًا يا ديك ،عليك أن تساعد األخ ويذربي.
فقال ويذربي:
ِ -ل َم ال؟
كما لم تكن هناك إجابة أخرى غير ذلك ،وال حتى السنين األربع والستين من عمره.
أعمل باتش سوطه في الثيران ،وبدأت العربة تسير لكي تقود الباقين .كان الطريق ط ً
ويًّل
منحدرا لدرجة خطيرة .كانت درجة الخطورة تتوقف على حمولة ً ومنحدرا ،ولكن لم يكن
ً
العربة .استطاع باتش أن يصل إلى القاع من غير أي مساعدة تذكر في حقيقة األمر ،وعلى
الرغم من ذلك فقد كان من الحكمة إرسال رجال مع كل عربة.
طويًّل وجهدًا ضخ ًما ،ولكنها نجحت من غير أي حادث ،ثم جاء ً استغرقت هذه الخطة وقتًا
خطرا
ً دور القطيع الذي كان يرغب في الجري نحو المياه ،لذلك لم يكن هذا الهبوط ثم العبور
في نهر سنيك ،على الرغم من وجود جزيرتين تقفان في وسط المياه تعترضان الطريق.
قال إيفانز لسمرز وبقية الرجال الذين اصطفوا على طول ضفة نهر سنيك:
-إن الطريق طويل للعبور والتيار سريع ،ولكن ال يبدو أن المياه عميقة.
فأجابه سمرز ً
قائًّل:
-إن المياه هنا صافية لدرجة يبدو فيها القاع ،وكأنه قريب من سطح المياه.
-كم يبلغ عمقه؟
ثم أخذ إيفانز يحملق في سمرز الذي كان يجلس فوق جواده ،ويبدو عليه التفكير ،ثم قال سمرز:
-ليس عميقًا ً
كثيرا ..النظر إلى عمق المياه ليس الوسيلة المثالية ،ولكننا سنعبره على أي حال.
وشاهد إيفانز الشمس وهي تنحدر ً
قليًّل ،ثم قال:
-ديك ،يوجد الكثير من الشعب فوق هذه الجزر.
-الكثير.
ضا:
وتحدث إيفانز مع اآلخرين وإلى سمرز أي ً
-لندفع الماشية إلى هذه الجزر ،ثم نجمعها في الصباح ،حتى تتناول ما يكفيها من الغذاء
والراحة.
وكان بيرد هو أول من يجيبه:
-آمين ،لهذا!
استطاع إيفانز أن يرى ظل التحذير في وجهه الصغير الذي ال يظهر أي نضج ،فتعجب كيف
يبتدئ مثل هذا الرجل هذا الحديث ،ولكن سمرز عجل بقوله:
-إنها فكرة صائبة.
ووافق الجميع.
-ل نجتمع في شبه دائرة ،مع أنه قد ال تكون هناك ضرورة لذلك ،ولندفع الماشية إلى هذه
المنطقة العشبية.
وفي الوقت الذي كان فيه إيفانز وبراوني يقومان بتحرير الماشية من قيودها ،أخذ إيفانز يفكر
مرة أخرى في بيرد وفي اإلحراج الذي سببه له ،كما لو كان ضعف بيرد يقع على كتفه .من
ً
رجًّل حاذقًا ذكيًّا مثل بعض الرجال الذين عرفهم ال الضروري أن يكون بيرد في فراشه
يتصفون بالرجولة ،لذلك شعر بأنه مسؤول عنه ،على الرغم من أنه تذكر ما سبق أن أخبره
به ماك ،والمناقشة التي تمت بين بيرد وتادلوك من قبل في «فورت هول» بشأن كاليفورنيا
التي قال فيها بيرد:
-س وف أستمر في سيري مع إيفانز وسمرز ..فإذا استطاع أي إنسان توصيل أي ركب إلى
وجهته ،فإن هذين السيدين سوف يفعًّلن ذلك.
كان إيفانز يؤمن بأن هذا النوع من الحديث يشبه أحاديث النساء؛ ألن صحة أو عدم صحة هذه
اإلجابة تلقي عبئًا كبي ًرا عليه.
وضع إيفانز النير فوق األرض وأطلق ماشيته ،ثم تقدم إلى األمام ً
قليًّل ليشاهد زوجة ابنه
تتطلع إليه ،فسألها وهو يحاول أن يبتسم:
-هل أنت متعبة؟
فردت عليه بشبح ابتسامة:
-إنني على خير ما يرام.
***
منتشرا هنا في هذه البقعة ،مع أن الضوء
ً مبكرا ،وكان الظًّلم حتى ذلك الوقت
ً نهض إيفانز
قد بدأ يلوح في السماء ،فوقف خارج خيمته وأخذ ينظر إلى المياه التي رأى فيها مجرد سائل
يعكس الغباوة من غير ضوء الشمس أو القمر أو حتى النجوم ..وصل إليه صوت خريرها
ضا .كانت الدماء تندفع في جسده ببطء بعدالذي ظل يسمعه طوال الليل حتى في أحًّلمه أي ً
فترة راحة ونوم ،وكان ذهنه خاليًا من األخطار ..لقد عبروا النهر حتى آخر دجاجة وديك
معهم.
سار في طريقه نحو الماء ،لم يكن يستطيع أن يشاهد قاع النهر ،ولكنه شاهد جسدًا أسود
يتحرك ،ربما تكون إحدى األبقار التي تتجه للرعي .كانوا قد قادوا الماشية إلى هذا المكان
فأخذت تسبح في المياه ،ثم ترعى األعشاب وتستريح بعد ذلك ،ثم شاهد إيفانز بعد ذلك لونًا
أحمر في السماء في اتجاه الشرق تمهيدًا لظهور الشمس ،وقيام أفراد الركب بالنهوض من
النوم وتناول إفطارهم ،وفك الخيام ووضعها داخل العربات ،ودفع الماشية والحيوانات في
طريق الركب.
كانت العربات على استعداد باستثناء الحموالت التي كانت قد أفرغت منها عند نصب
المعسكر ،وكان الرجال على حسب تعليمات ونصيحة سمرز ،قد توجهوا إلى الغابة باألمس
للقنص ،ولكنهم لم يستطيعوا غير اقتناص شيء قليل جدًّا .وتحدث إيفانز مع سمرز ق ً
ائًّل:
-إن هذه األعمدة من الخشب لن تستطيع تعويم أي عربة.
-ال تهدف أو تعمل على تعويم العربات يا ليجي ،ليس هنا.
-كًّل؟ لماذا؟
-الجزر هنا قوي ،لذلك فإن تعويم العربات قد يسحبها ويجرفها إلى مكان بعيد.
-وماذا في ذلك؟
-إن ما تريده هو أن تظل العجًّلت ثابتة فوق قاع صلب ،سنربط األخشاب بقمة صندوق
العربة ليمكن أن تطفو بها.
ولكن لم يكن هناك ما يكفي من األخشاب لتنفيذ هذه الخطة .كان الرجال يجمعون قطعًا صغيرة
من األخشاب من هنا وهناك ،ثم وضعوا ما وجدوه من أخشاب في قاع العربات.
ثم تحول إيفانز بعد ذلك بعيدًا عن النهر ،بعد أن سمع أصواتًا في المعسكر ،ثم شاهد سمرز
وهو فوق جواده ،في حين كانت العربات خلفه تنقسم إلى نوع ظاهر وآخر غير ظاهر بسبب
الظًّلم ،ثم تساءل سمرز:
-هل استطعت أن تجمع ما يكفي يا ليجي؟ وهل أنت مستعد؟
-بالتأكيد ،كل شيء معد للعبور ،ثم نفكر بعد ذلك في العبور الثاني.
-العبور الثاني ليس سيئًا ،إنه بالقرب من «بواز» حيث يمكن طلب المعونة هناك إذا تطلب
األمر ذلك.
واستمر سمرز يقول بعد ذلك وعيناه تبتسمان وتدرسان وجه إيفانز:
-ألم تنم بما فيه الكفاية؟
-بالتأكيد.
-توجد وسائل كافية لمواجهة الحوادث يا ليجي ..ولكن إذا وقع أي حادث ،فلن يلومك أي
إنسان.
-أعرف ذلك.
فأجابه سمرز وهو يحملق فيما وراء النهر:
ً
ممتازا على ما أعتقد ،ولكن هذا األمر -تعرف ذلك ولكنك ال تشعر به ،هذا هو ما يجعلك قائدًا
صعب بالنسبة للقناصة.
ثم التقت عيناه بعيني إيفانز ،واستمر يقول:
-أ قسم لك يا ليجي ،إنني لم أفكر منذ ميسوري بأنك ستقوم بدور الدجاجة األم من ناحية
الرعاية.
ضا.
-ولم أكن أعرف أنا ذلك أي ً
-من األفضل أن تضع أربعة من النير في كل عربة ،وستة في بعض العربات األخرى.
-هذا يعني احتمال استخدام أي مجموعة مرتين أو أكثر.
هز سمرز رأسه وقال:
-مع أقوى الماشية.
-إنني أدرك اآلن.
-و أعتقد يا ليجي أننا بحاجة إلى راكب في كل جانب من جانبي النهر ،رجل يمسك بحبل
مربوط في الثور الذي يقود العربة القريبة منه.
-أ ما الرجل عند الطرف اآلخر فيمسك بمحراك على ما أعتقد ألن هذا الجانب هو الجانب
الخطير!
-وال شك في أن الطريق إلى الطرف اآلخر سيكون صعبًا يحتاج إلى حرص شديد ..دع الذين
يعرفون السباحة يركبون في هذه األماكن يا ليجي.
-هذا عمل يناسبني إذن.
فأجابه وهو يهز برأسه:
-إنك سمكة ،ولكن من الصعب االنتصار على هيج ،لقد رأيته في «بير».
-سأطلب منه ذلك.
قاد سمرز جواده وهو يقول:
-أعتقد أنني يجب أن أقوم باالكتشافات؛ ألرى كيف نستطيع أن نسلك الطريق ونعبره.
شاهد إيفانز الجواد وهو يقترب من النهر ،ثم يغوص في المياه وهو غير راغب في هذا ،ولكنه
عاجز تحت يديه القوية ،ويحاول أن يجد موطئًا لقدميه في قاع النهر حين ترتفع المياه من
حوله ،ثم كان عليه أن يسبح في مكان معين ،ووجد ديك نفسه يقف حتى ال يبتل بالمياه ،ثم
خرج مندفعًا إلى أقرب جزيرة ،فأخذ ديك ينظر حوله ،ثم اتجه بعد ذلك إلى المعسكر ،كان
أمامه عمل آخر يجب أن يفعله بعد أن قام ديك بعمله.
كانت الشمس قد ارتفعت فوق التًّلل في الوقت الذي كان الركب قد أصبح مستعدًّا فيه ،وكان
إيفانز قد أعد عربته ووضعها في أول طابور الركب ،وربط ستة من النير في العربة الكبرى
وأربعة في الصغرى وهو على اعتقاد تام بأنه يجب أن يجرب الخطر األول بنفسه ،ثم اصطفت
العربات األخرى خلف عربتيه استعدادًا للمسير ،وكان الناس يقفون بجوار عرباتهم ،أو
يراقبون الطريق اآلخر من النهر ،ويتحدثون ً
قليًّل ع َّم سيتم في الساعات التالية.
كان إيفانز يجلس فوق جواده بالقرب من عربته األولى ،ويتلفت إلى ما حوله وهو في مكانه،
فالتقت عيناه بعيني براوني الذي كان يجلس داخل العربة الكبرى وبجواره ميرسي ،فاتجه
بجواده نحوهما ثم توقف وقال لهما:
-إ نني ما زلت غير راض عن ركوبكما هنا ،سوف أحاول ذلك بنفسي قبل أن تنطلقا أيها
الشابان.
فأجابه براوني:
-ل قد ناقشنا ذلك لتونا اآلن يا والدي ..دعنا نكون أول العابرين ،إنني وميرسي لسنا خائفين...
يجب أن نمر بهذه المرحلة بعض الوقت.
-من األفضل أن تكون المحاولة فيما بعد ،بعد أن نرى هذه المحاولة ،إذا كان على الجميع أن
ينتظروا ،فيجب عليك أن تعود بالعربات لنقلهم بها ،ثًّلث مرات.
ضرب إيفانز طرف اللجام في راحة يده ،وهو يزن الكًّلم الذي سمعه بعد أن عرف أن
اختيارهما قد تحدد .من الصعب إخافة الشباب ألنهم يعتقدون أنهم يعيشون إلى األبد ،وهم
يعتقدون أن الخطر هو سبب قوتهم .كان ذلك واض ًحا في وجهيهما ،وكانت اإلثارة بادية عليهما،
وتتناسب مع رجل وعروسه الجديدة.
أخذت نظراته تجول في اتجاه العربة الثانية حيث كانت تجلس بيكي قلقة ،ولكنها كانت تقنع
نفسها كما لو كانت تخبر نفسها بأن هناك شيئًا يجب أن تواجهه ،ثم وجه حديثه إلى الزوجين:
-لم أكسب أي جدال في حياتي ..اتبعا طريق ديك اآلن.
وتذكر اآلن أنه لم يضع مهمازيه ،فاتجه إلى العربة الثانية والتقط منها المهمازين ،ثم قال
موج ًها حديثه إلى بيكي:
-هل ستقومين بهذه المغامرة يا بيكي؟ إذا حققتها فستصلين إلى أوريجون.
كانت عيناها جادتين وهي تقول له:
-اعتن بنفسك يا ليجي ،وخذ حذرك يا ليجي ..إنني أخاف عليك مثل أي شخص.
فرفع المهمازين في يده وأكد أنه سيفعل ذلك ،ثم استدار ،وكان الجميع في انتظاره ،في حين
كان هيج ممس ًكا بالحبل الذي يربط به الثور ،وديك يشق طريقه في قيادة العربة األولى.
عا:
ثم قال لديك وهو يشاهده يلتفت خلفه ليرى بيرد يأتي مسر ً
-أعتقد أن الطريق أصبح واض ًحا.
قال بيرد:
-إيفانز ،إنني قلق بشأن األطفال.
-سيكونون على خير ما يرام.
-أعرف ،ولكن هل تفترض أنك تستطيع أن تنقلهم؟
-في أول التحركات؟
-إن عرباتك هي أصلح العربات ،ومجموعتك أقوى المجموعات.
-تستطيع أن تستخدم ثيراني.
ضا.
-عندي عربة واحدة فقط أي ً
فأجابه إيفانز وهو يتذكر كيف تحطمت عربته الثانية في «جرين»:
كبيرا. -إنها تستطيع أن تحمل ً
حمًّل ً
فقال بيرد كما لو كان يرغب في أن يفكر أن هناك بعض األشياء األخرى التي يعرفها:
-ولكني ال أعرف القيادة معرفة تامة.
-ال تتول أنت القيادة ،بل اجلس فقط.
-ال يزال..
-لماذا ال تنتظر حتى نجرب العبور األول؟
-أو أن يذهب األطفال في عربتك.
قال ذلك ببساطة.
وشعر إيفانز مرة أخرى باإليمان النسائي في حديثه ،ولكنه شعر بالثقة وبالطاعة في لهجته،
لذلك قال له:
-أحضرهم إذا رغبت في ذلك.
كان لبيرد تسعة أطفال غير الطفل الذي ال يزال في الطريق ..وكان جيف هو أول أبنائه ويبلغ
الثانية عشرة ،وهو عريض الوجه مثل والده ..ارتقى هذا الطفل عربة براوني ،وتناول من
والده األشياء التي سلمها له ،ثم ارتقى ثًّلثة آخرون وراءه ،وبقي اآلخرون في انتظار عربة
بيكي ،قال إيفانز بعد ذلك:
-هل أنتم مستعدون؟
فرد سمرز موج ًها حديثه إلى براوني:
-لنتقدم يا صديقي.
ثم أعمل مهمازيه في جواده ،واندفع براوني وراءه ،ثم أخذت الثيران تشق طريقها في المياه
ببطء ،وهي تحملق فيما أمامها من مياه كما لو كانت تحسب لنفسها فرصة النجاح ..كان التيار
المائي يأتي عكس سير جواد ديك.
هنا يوجد أعمق جزء من المياه من ضفة النهر حتى أقرب جزيرة ..إنها أعمقها ،ولكنها ليست
تيارا أو أخطرها .كانت المياه ترتفع بسرعة فوق سيقان القادة حتى وسطهم ..وكان
أسرعها ً
إيفانز يسير بجواده قريبًا من العربة حتى يمكن أن يعمل بسرعة إذا حدث أي حادث.
أخذت الجزيرة تقترب وسط المياه الغزيرة ،كما لو كانت تسبح إليهم ،وأخذت الثيران ترتفع
فوق الجزيرة وتسحب خلفها العربة.
وقال إيفانز لبراوني والعربة تتوقف:
-كيف كان ذلك؟
فأجابه بلهجة تتصف بالروح العالية:
-يجب أن نعوم مثل البط.
-راقبهم بعد ذلك لترى.
كانت الجزيرة الثانية قريبة من األولى حيث قادهم ديك إليها.
وفي هذه اللحظة قال سمرز لهيج وإيفانز:
-إن الرحلة التالية هي أصعبها ،وتستطيع أن ترى ذلك.
ثم رفع صوته إلى براوني:
-إن المياه هنا ثقيلة ،ولكنها ليست عميقة ،كما يعرف بعض الذين عبروها ،ولكن يجب علينا
أن نعبرها ،وأن نظل فوق هذه المياه .إن ما يقلقني هو أن والدك سيقوم باالغتسال ..إنه يسبح
مثل سمك السالمون سواء بسواء.
وبدأ الركب يعبر المياه واحدًا وراء اآلخر ثم الماشية حتى استطاعت العربات والماشية أن
تصل إلى الضفة األخرى بسًّلم .وبعد ذلك مال إيفانز على هيج بعد أن وصل قادة العربات
إلى الضفة الثانية وقال له:
-لقد وصلنا بإرادة هللا ،أجل وصلنا.
ولم يجبه هيج؛ إذ لم يكن بحاجة لذلك ،فقد أجاب تقطيب وجهه على ذلك.
-ديك ،لقد حققنا العبور بسًّلم.
-أجل لقد فعلنا ذلك.
ثم قال براوني ،وهو ال يزال يجلس فوق مقعد العربة:
-أجل إنه المرح ..لقد كان العبور مجرد مرح.
-ارفع األشياء التي وضعت داخل العربة للمحافظة على توازنها في المياه ،وعليك يا براوني
أنت وميرسي أن ترعيا األطفال ،ال نريدهم أن يكونوا تحت األقدام.
فتساءل براوني:
-أال تريد أن تنقل كل مجموعة إلى مجموعتها األصلية؟
-بعد اآلن ..اتركهم يستريحون ً
قليًّل ،إذ سنقوم بعبور آخر على ما أعتقد قبل أن نعيد الوضع
إلى حالته الطبيعية.
وبعد ذلك تحدث إيفانز إلى نفسه ،فقال إن حديث األمس كان على حق لم يكن هناك أي شيء
خطرا ،ولكن وجود ديك في القيادة وهيج في الركوب لم ً يغير من الوضع ..كان العبور يبدو
ينتجا أي خطر ،بل عبر الجميع النهر وقت الظهر أو بعد ذلك بقليل .ثم عاد إيفانز بعد ذلك
وأبدل جواده ،وامتطى نيللي ً
بدال منه ،ثم سأل بيرد:
-هل أنت على استعداد يا بيرد؟
-مستعد.
-لم يكن هناك أي شيء نعمله سوى االستقرار.
-إنني جد شاكر لك ،وأشعر بأن األطفال سيكونون في أمان معك.
-العفو .هل قلت إنك مستعد؟
فأومأ بيرد برأسه ،وكانت امرأته تفعل الشيء نفسه ..كان إيفانز يخيل إليه وهو ينظر إلى
زوجة بيرد أنها تشبه الحمامة ،ولكنه أخذ يعتقد اآلن أنها أصبحت تشبه البطة ..لقد عبرت
المياه وكادت تغرق فيها ،فأخذت تصيح:
-ليجي ..ليجي.
األمر الذي جعله يسرع إليها مع أن صوتها كان قد ضاع في أول األمر وسط الصياح ،وأسرع
عدد كبير من األفراد وراءه ،وكذلك بيرد الذي كان يصيح:
-روث .روث.
فرد عليه إيفانز ً
قائًّل:
-ال يمكن أن تكون قد ماتت ..إنها لم تغرق.
-روث!
فانبرى ديك يقول:
ً -
مهًّل.
ثم قلب مسز بيرد ورفعها من وسطها ورأسها متجهة إلى األرض ليفرغ المياه التي ابتلعتها
في جوفها ،وجاءت بيكي في هذه اللحظة وهي تعنفه بناظريها؛ ألنه لم يستطع أن يعرف ماذا
يفعل ،وقالت له:
-هل أنت بخير يا ليجي؟
-على خير ما يرام.
وقف الجميع صامتين ،في حين كان سمرز يستخدم طريقته الخاصة مع مسز بيرد ،ثم قال:
-إنها تعود إلى الحياة اآلن ..أستطيع أن أشعر بالحياة تدب في أوصالها.
ثم أدارها مرة أخرى ،ليراها الجميع وهي تفتح عينيها ،فانحنى عليها بيرد ليجذب رداءها حتى
يغطي فخذيها ويسألها:
-هل أنت بخير اآلن يا روث؟
لم تجبه على الفور ..كانت عيناها منتفختين مبتلتين ،وأخذتا تنتقًّلن من وجه آلخر ،كما لو
كانت تتساءل ع َّم كان يحدث والناس يحملقون فيها هكذا.
كانت قد أصبحت على خير حال ما عدا صياحها ،ولكنها نهضت واقفة بسرعة ،وساعدها في
ذلك كل من بيرد واألخ ويذربي ،وتركتهما يقودانها إلى العربات ،ثم قالت بيكي بعد ذلك:
-يجب أن تجعلوها تستريح ً
قليًّل.
ثم تبعتهم لتضع بطانية فوقها وسارت معها بعض النساء.
فقال سمرز بعد ذلك إليفانز:
-ما أضعف الطريق الذي اخترته بالذهاب إلى أوريجون.
وكانت ابتسامته تقول شيئًا آخر.
-ما الخسارة؟
-ليس عندي وقت يكفي إلحصائها.
فهز رأسه كما لو كان ال يستطيع أن يصدق هذا القول ،ثم قال:
-إنني ال أعتقد ذلك سوى أن هناك تشققًا في اللسان.
-ليست ماشية؟
-أعرف ذلك ،ولكن يجب جذب هذه العربة قبل أن تجنح.
-ماذا يفعل بيرد؟
-ركب جواده وابتعد.
-إنني أتعجب ..ماذا يوقف العربة اآلن؟
-ال تزال المجموعة ممسكة بها.
عاد بيرد في هذه اللحظة من بين العربات ،وتساءل إيفانز حينما سمع ما يقال:
-هل هناك أي خطأ؟
-كًّل ،أعتقد أنها على خير ما يرام اآلن ،نسيت أن أوفيك حقك من الشكر؛ لذلك أتيت ألشكرك
اآلن.
-ال عليك ،وكل ما حدث هو أنني أعرف كيف أسبح.
-ال أستطيع أن أنسى هذا العمل من جانبك ،وأود أن تعرف أنت ذلك.
ولما لم يستطع إيفانز أن يفكر في أي شيء أكثر من ذلك ليقوله ،عاد بيرد مرة أخرى من حيث
أتى .فقال سمرز وهو يراقبه ينسحب:
-إنه رفيق يثير الضحك ،ولكني أعتقد أنك ستنال المزيد من الشكر يا ليجي.
ولكن إيفانز استدار ،وابتعد ،وهو يقول« :سنقيم المعسكر هنا؛ ألن هناك الكثير من األشياء
الًّلزمة إلصًّلح العربات وإشعال النيران .فهل تعتقدون جميعًا أنه المكان المناسب؟».
كانت رؤوس تقول نعم ،وأضاف سمرز يقول:
-وسوف يمد ه ذا المكان الماشية بالمزيد من األعشاب والغذاء؛ ألن طريق المستقبل لن يقل
صعوبة وقسوة.
كانت عينا إيفانز قد اتسعتا لمراقبة ما حوله ،على الرغم من التعب واإلنهاك اللذين شعر بهما
بعد عبور نهر سنيك ،وإصًّلح عربة بيرد ،وتجفيف حاجاته ورعاية مسز بيرد حتى تشعر
ً
محاوال أن يطرد من ذهنه صورة بتحسن .وكان يرقد في ذلك الوقت فوق سريره ويتقلب فيه
المياه التي طغت على رداء مسز بيرد وكادت تغرقها ،ثم شعر بكلمات ربيكا التي رددتها من
قبل ،والتعبيرات التي انعكست على وجهها:
-إنني ال أرضى بك ً
بديًّل يا ليجي ،حتى ولو باثني عشر من نوع بيرد ..عليك أن تتذكر ذلك،
وتذكر بالفعل ذلك.
وشعر بالمياه تغلي من حوله.
هب نسيم خفيف في خارج الخيمة ،فاختلط صوت هذا النسيم بصوت خرير المياه ،وشعر بأنه
لو استمع إلى هذا الصوت لتمثل أمامه صوت روك العجوز وشبحه الذي سيستمر معه حتى
أوريجون .أخذ النسيم يهب بصورة قوية ليهز الخيمة ،واستطاع إيفانز أن يتصور النجوم فوق
ضا أنها ترقص في المياه.
رأسه داخل الخيمة؛ ألن الليلة كانت صافية من الغيوم ،وتصور أي ً
ونقل إليه تيار الهواء صوت أقدام تسير ،وصوتًا يناديه:
-إيفانز ،أيها القائد.
-من؟
-بيرد.
خيرا.
ً -
-زوجتي.
-ماذا بها؟
فتوقفت ربيكا عن شخيرها ،وشعر إيفانز بأنها تستمتع إلى ما يقوله بيرد.
-أعتقد أنها في طريق الميًّلد ..على الرغم من أن الوقت لم يحن بعد.
-بيكي.
فردت عليه بصوت مرتفع:
-أجل ،إنني أستمع ،سأحضر إليك ً
حاال يا مستر بيرد.
أرجوك.
ِ -
فرد عليه إيفانز:
-سنكون عندك في الحال.
ثم قالت لهما بيكي وهي تنهض من فراشها:
-يجب أن تشعًّل النار اآلن.
وسمع إيفانز صوت أقدام بيرد وهي تبتعد ،ثم قفز من فراشه والتقط مًّلبسه وصاح يحدث
زوجته وهي ترتدي مًّلبسها:
-ما مدة الحمل التي قضتها؟
-إنها في الشهر السادس اآلن ..إنها فترة ال تكفي لكي يولد الطفل حيًّا.
-ربما جاء ذلك نتيجة الرعب الذي عاشته حينما كادت تغرق ،أو ربما تكون قد أصيبت
بنزيف.
-إنها كان تعمل وتجهد نفسها باستمرار لفترات طويلة.
-إنها لم تذكر أنها قد صدمت في شيء.
-ابحث عن شمعة يا ليجي ..توجد هناك شمعتان أو أكثر في الصندوق.
وجد الشمع ،لذلك سار معها إلى خيمة بيرد بعد أن أشعل الشمعة من النيران التي كانت موقدة.
استطاع أن يرى داخل الخيمة أشبا ًحا في بداية األمر ،ثم شاهد عددًا من األسرة ،وعيون طفلين
تعلقا به ..كانت خيمة كبيرة ،ويجب أن تكون كذلك وبها أربعة أسرة ،كانت مسز بيرد ترقد
وبجوارها أصغر أوالدها ،في حين كان بيرد يقف بجوارها ،ثم همست في أذن ربيكا ،ثم وضع
إيفانز الشمعة الموقدة فوق أحد األواني المقلوبة.
كانت ربيكا قد ركعت بجوار الفراش ،ثم أحنت رأسها بجوار إيفانز ،وقالت له:
-ا ذهب باألطفال إلى الخارج يا ليجي ،وتستطيع أن تنقل بعضهم إلى فراشنا أو فراش ماك أو
فيرمان أو باتش.
فقال بيرد:
-انهضوا يا أطفال .انهضوا .إليزابيث ،ماما مريضة ،ال حاجة بك ألن ترتدي مًّلبسك.
هرع األطفال بعيدًا عن فراشهم ،وكان يبدو إليفانز أن األطفال يدركون الوضع من غير أن
يخبرهم أي إنسان ،ولما غادروا الخيمة أخذوا يتطلعون خلفهم ،ولم يتحدث أي منهم ،وشاهد
إيفانز ربيكا وهي تنقل أصغر األطفال ،الذي كان يرقد بجوار أمه إلى سرير آخر من األسرة
الخالية.
درا مليئًا
واستطاع إيفانز وبيرد أن يضعا األطفال في مكان ،ثم عادا إلذكاء النار وليضعا ق ً
سا أكثر مما توقعه إيفانز ،وربما تكون النيران هي التي بالماء فوقها .كان ظًّلم الليل دام ً
أظهرت ما يبعد عنها بمظهر الظًّلم الدامس.
وبينما كان بيرد يذكي النار ،ذهب إيفانز إلى الخيمة ودخلها ،ثم وقف وقال:
-لقد أعددنا كل شيء ،وقدرين من المياه المغلية ،هل هناك شيء آخر يا بيكي؟ سوف تحضر
ت بحاجة إليهن.
إليك مسز ماك ،ومسز باتش ،ومسز فيرمان ،إذا كن ِ
وبينما هو يتحدث ظهر التشنج على وجه مسز بيرد واهتز جسدها أسفل الغطاء ،فهزت رأسها
بالموافقة ،وأمنت على ما سبق أن ذكره بيرد.
مرت أزمة التشنج تاركة الوجه متعبًا ومرهقًا ،ثم فتحت مسز بيرد عينيها ..فتحتهما بطريقة
تشبه األموات فالتقيتا بعيني إيفانز .لم ير إيفانز فيهما عيني مسز بيرد أو أي سيدة أخرى،
وإنما شاهد فيهما ربيكا وبراوني ،وميرسي ،وجميع أفراد الركب ..شاهد كل شخص ،شاهد
نفسه ،شاهد النظرات المجروحة المتواضعة القلقة المليئة باألمل التي تعتبر النظرة الحقيقية
لإلنسان.
خرج إيفانز فالتقى بمسز ماك ،وشاهد مسز فيرمان تقف بجوار النيران التي تشتعل بجوار
الخيمة ،وهي تطهو حساء لكي تقدمه لمسز بيرد ،وكانت األبخرة تتصاعد من القدور التي
وضعت فوق النيران .كان بيرد يضع المزيد من الخشب فوق النار ،حين حملق في وجه إيفانز
كما لو كان يود أن يسأله عن الحالة ..ولكن إيفانز لم يستطع أن يفكر في شيء يستحق أن يقول
عنه أي شيء ،جلس بجوار النار حتى يخفف عن الرجل بصحبته.
كان ينظر إليها على أنها حمامة ،ثم تغيرت النظرة إلى بطة ،ثم إلى دجاجة ..إنها امرأة لطيفة
مثل اللبن ،لم تكن عندها قوة لتثبت نفسها في أذهان اآلخرين ،حتى التأوهات ،والصراخ الذي
صدر منها وجعل بيرد ينتصب على قدميه واقفًا ،كان يخرج ضعيفًا؛ إذا كانت األمور تسير
في طريقها السليم ،فمن يستطيع أن يطلق عليها اس ًما بعد عشر سنوات من اآلن؟ ماذا كان
اسمها؟ كانوا يقولون ،أنت تعرف هذه المرأة الهادئة الصغيرة؟
ولكن منذ لحظة نظر في عينيها ثم نظر في األرض وعرف أنها كانت صادقة معهُ .و ِلدَ الطفل
ميتًا على حسب ما قالته ربيكا قبل أن ترسل السماء من الشرق تحذيرها بساعة أو ساعتين،
فقاموا بدفن الطفل ،ولم يطلقوا عليه أي اسم ،وإنما اكتفوا بقيام ويذربي بتًّلوة الصًّلة .وبعد
ذلك قاموا بإعداد فراش خاص لمسز بيرد استعدادًا للتحرك لًّلتجاه نحو «بلوز» .كان اليوم
هو الخامس عشر من أغسطس ،فمن يستطيع أن يقول إن الثلج كان يتساقط في هذه اآلونة في
«بواز»؟
***
الفصل السابع والعشرون
قال إيفانز وهو يفتتح جلسة المجلس:
-يجب أن نحدد األمور اآلن.
سا مختلفًا بعد ذهاب بروور وتادلوك سعيًا وراء كاليفورنيا ،وانتخاب باتش وشيلدز كان مجل ً
تغييرا إلى األحسن على حسب اعتقاد كيرتس ماك .لم يكن إيفانز على عجل ً مكانهما ،وكان
في إجراءات المجلس ،وكان قد أخرج سكينه الرفيع ليقلم بها أظفاره ،واستطاع ماك أن يرى
أسفل قميصه عضًّلته المفتولة ..فشعر ماك بشيء من الحسد والغيرة ،بأن هذا الرجل يستطيع
بكل ثقة أن يشق طريقه إلى أوريجون ،ويستطيع أن يقود أي منظمة في البًّلد ..كان ر ً
جًّل
حقيقيًّا ،يرغب في السلم والتواضع .لم يكن المستقبل الذي يشع منه هو الذي يثير حسده ،وإنما
رجولته القوية ،والنظرة إلى مًّلمحه وأخًّلقه المسالمة التي تجذب الناس إليه .ال يوجد بداخله
ضعف ،أو صراع خفي .كان ماك يتعجب ،أال توجد أخطاء ،أو ثقة مهزوزة؟ هل يعرف
الدوافع غير القانونية؟ هل يصحو ً
ليًّل ليحاول الهروب من المحاكمة؟
أبعد ماك ناظريه عن الوجه العريض ،وكانت السماء مليئة بالسحب ،ولكن لم يكن هناك أي
خطر من سقوط أمطار ..واستطاع أن يرى نقطة وضَّاءة وسط السحاب المتجه إلى الغرب،
وعرف أنها ال بد أن تكون الشمس.
فقال شيلدز:
-إن أول شيء يجب تقريره هو الخروج من هذه القلعة ..الصبر.
جلسوا بعيدًا عن دائرة الركب قريبًا من النهر ..كانت القلعة تقع بعيدًا ،ولكنهم كانوا قد ظلوا
يشمون رائحة السمك الطازج والفاسد والجاف ،وكذلك أوراق الشجر المتطايرة الكثيفة
المحيطة بنهر سنيك.
واستمر شيلدز يقول:
-ل م أستطع أن أنام باألمس بسبب رائحة السمك والمياه واألسماك التي تقفز وترتطم بالمياه..
سمك في األذن ،وسمك في األنف ،وسمك في الطباق الذي تمضغه ،يا إلهي! إنه أسوأ شيء
شاهدناه.
وافق ماك في قرارة نفسه على أن قلعة «بواز» هي أسوأ ما شاهدوه ،في حين اشترك اآلخرون
مع شيلدز في الحديث عن الرائحة ،وكان إيفانز يقول:
-سوف نترك هذا المكان غدًا بعد أن نتمم العمليات التجارية ،لقد حصلت على كمية كبيرة من
السمك المجفف تكاد تكفيني طول حياتي.
فقال باتش:
مسرورا إذا غادرنا سنيك ،لتأخذه إنجلترا.
ً -سأكون
حول إيفانز الحديث إلى مجال األعمال:
-إن العمل الكبير هو ماذا نستطيع أن نفعل بالماشية؟ كما يقول جرينوود ،ماذا نفعل بالماشية؟
كانت كلماته تبدو لماك كما لو كانت قطرات من المياه تسقط في بركة من المياه الهادئة ،لذلك
تحول اهتمامه إليهم وبدأ يتجه إلى األراضي والليالي التي قضاها هنا ،والليالي التي تلت ذلك
في «سودا سبرنجز» ،وخيبة أمل الفتاة ،و«فورت هول» ،والزواج ورفض براوني قبول
هدية الثيران التي لم تكن في حقيقة األمر هدية ،وإنما كانت صفقة لخلق هدنة بينهما.
وفي هذه األثناء قال باتش:
-أ عتقد أننا نستطيع أن نقود الماشية بسهولة؛ ألن الركب من دالس حتى ويًّلميت لن يكون
أسوأ مما سبق.
فسأله إيفانز:
-من يكون «نحن»؟
-حسنًا ،أحدنا ،أو بعضنا.
-ال توجد أي مجموعة للحديث عنها ..تذكر ذلك ،يجب أن تبحث عما يخصك ،وال أحد يعرف
الطريق معرفة تامة سوى سمرز .فسأل شيلدز إيفانز:
-ولكن ما الخطأ بالنسبة لسمرز؟
-لقد قال إنه سبق له القيادة.
-حسنًا!
-ال تعتقد أننا يجب أن نتركه يفعل ذلك.
فسأل دورتي:
-ولماذا؟
-إننا ندفع له لكي يوصلنا إلى دالس ،ولم ندفع له المزيد ،وقد فعل أكثر مما طلبنا منه.
وتدخل ماك في المحادثة ً
قائًّل:
-ال شيء يقف في وجه عقد اتفاق جديد ،نستطيع أن نقدم له المزيد من المال.
فأجاب إيفانز بسرعة وبهدوء:
-وهل كل فرد مستعد هنا مثلك؟
كانت هذه الكلمات تبدو كمجرد محاولة لجر الباقين ،لذلك قال ماك:
مسرورا إذا دفعت له نيابة عن الجميع.
ً -سأدفع له عن نفسي ،وسأكون
عاد إيفانز يتحدث مرة أخرى بهدوء ،في حين شاهد ماك في عينيه الرد على قوله:
-ال داعي ألن تقوم أنت بذلك.
فتساءل ماك ،وهو يعرف من قبل:
ِ -ل َم ال؟
سا أو حتى باتش أو اعتقد إيفانز أن الباقين ال يقلون عنه في المقدرة على الدفع ،إذا لم يكن مفل ً
عا من اإلحسان لن يقبله حتى بيرد الفقير ،أو شيلدز، فيرمان ،واعتقد أن هذا العرض يعتبر نو ً
أو دورتي.
اعتقد ماك فجأة أن كل شيء يقوله مصيره الرفض ..الرفض دائ ًما ،براوني يرفض ،وإيفانز
يرفض ،والمجلس يرفض ..كما لو كان وضعه يعتبر جريمة ،وكما لو كان قد أُب ِعد عن الركب
عزل عنه ..كًّل ،لن يسمحوا له بأن يفعل ما يريد أن يفعله.
أو ُ
فأجاب إيفانز:
-نحن ال نهتم.
-إذا لم تسمحوا لي بالدفع ،فليس هناك أي غبار على ذلك ،يمكنكم أن تصبحوا مدينين لي حتى
تتحسن أحوالكم.
وقبل أن يكمل حديثه ،ظهر أمامهم هندي عاري القدمين والجسد يحمل في يده سمكة ،في حين
كانت يده األخرى تحك فروة رأسه ،ولكن إيفانز هز رأسه عًّلمة الرفض وأبعده ً
قائًّل:
-ال نريد تجارة اآلن ،ربما فيما بعد.
ثم أعطى الهندي حفنة من الطباق لكي يتخلص منه ،ووجه حديثه بعد ذلك إلى ماك.
-هذه خطوة طيبة منك ..ولكن دعنا نرى إذا كانت هناك طريقة أخرى.
ثم سأل شيلدز ً
قائًّل:
-هل يريد سمرز أن يتولى قيادة الماشية عبر الطريق؟
فرد إيفانز وكان هادئًا لفترة قصيرة ،كما لو كانت الكلمات ال تعني ربط سمرز:
ً
شماال نحو «واال ،واال». -ليس من أجل نفسه ،ولكننا نستطيع كما ترغبون جميعًا أن نتجه
فقال باتش:
-أميال إضافية.
فهز إيفانز برأسه ً
قائًّل:
-و لكن ربما تستهلك القلعة مدخراتنا الغذائية والحيوانية ،وتصدر إلينا األوامر باإلتجار مع
فورت فانكوفر .لقد سمعت أنهم فعلوا ذلك من قبل.
فسأل فيرمان:
-و لكننا ال نستطيع أن نتحقق من ذلك ،أو من أنهم سيفعلون الشيء نفسه مرة أخرى؟
-ليس بالتأكيد ،ولكن الرجل الموجود هنا في «بواز» ما اسمه؟ كريجي -كريجي قال إنهم
ربما يفعلون ذلك.
فقال باتش:
-إذن يجب أن نقوم بالرحلة النهرية عن طريق واال واال ،إن هذه الرحلة تتطلب المزيد من
ضا ثمن إيجار الزوارق والهنود ..نقود ،أو حلي غير قيمة ،ولم تعد معنا حلي من هذا
المال أي ً
النوع.
فأخبره إيفانز:
-إنني أكره الخضوع لإلنجليز بعد اآلن.
-إنهم قوم طيبون ،كرماء.
-إنني لم أقل إنهم لم يكونوا كذلك ،على الرغم من أنني الحظت أنهم ال يتركون أي شيء يمر
من غير أن يستفيدوا منه في تجارتهم .إن النقطة المهمة هنا هي أن هذه األرض ليست أرضهم.
اهتزت الرؤوس جميعًا بالموافقة على هذه الكلمات ،ثم أعقب ذلك فترة صمت بعد أن أصبحت
المشكلة واضحة وضو ًحا تا ًّما مثل نبات الصبار .اختاروا بعد ذلك االتجاه إلى «واال واال»
وفرصة االقتراض على ماشيتهم ،ووافقوا كذلك على ترك ديك سمرز في دالس سواء دفعوا
له أو لم يدفعوا ،لكي يقود الماشية فوق األرض .فأكد ديك أنه يذهب من غير مقابل ،ولكن
المجلس كان مترددًا ،كما لو كان ينتظر ردًّا سحريًّا .ثم تحدث إيفانز بعد ذلك وسط الصمت
والسكون:
-إ نكم تعرفون أن األبقار لم تستطع سلوك الطريق بصورة مرضية؛ إذ فقد الكثير منها على
طول الطريق.
فقال شيلدز:
-إنني أكره أن أفكر في المزيد من الصعوبات.
-إن األيام األخيرة السابقة لوصولنا إلى نهر «بواز» كادت تقتلني يا إلهي.
فأضاف دورتي.
-إنها كادت تحطم كل إنسان ،ثم أرسل إلينا هللا بعد ذلك هذا النهر وهذه األشجار.
فتساءل باتش:
-ولكن ماذا بشأن الرجال غير المتزوجين؟
-من؟
-أنتم تعرفون :هيجنز ،وبوتر ،وأنسيكو ،وموسى.
فتساءل إيفانز:
-ماذا بشأنهم؟
-إنهم ذاهبون إلى مدينة أوريجون ،أليس كذلك؟
فقال فيرمان:
-هذا هو االتفاق مع رجالي.
فأضاف ماك:
ضا على ما أعتقد.
-وموسى ،وأنسيكو أي ً
-أال يستطيعون قيادة الماشية ودفعها إلى األمام؟
فأجاب إيفانز ً
قائًّل:
-ح ينما تكون الرحلة صعبة ،يكون من السهل أن يترك وراءهم الماشية إذا لم يكونوا من
جلدك .من الممكن أن نضع خطة حتى ال يقوم هؤالء ً
مثًّل باالستيًّلء على الماشية ألنفسهم.
وأخذ ينقل السكين من يد ألخرى .وفي هذه اللحظة قال قبل أن يتضح كًّلمه في ذهنه:
-سأذهب.
فتساءل إيفانز:
-تذهب؟
-سأذهب.
-إنني ال أطالب أي فرد بالذهاب.
-عندي الكثير من الماشية؛ لذلك من األفضل أن أرعاها بنفسي.
-ماذا بشأن زوجتك؟
-إن هذا يتوقف ...أليس من الممكن أن يسير الركب بأسره عبر األراضي؟
-ليس بوساطة عربات ..إذ يعتقد ديك أن الطريق ال يصلح للعربات.
-على ظهور الخيل إذن ،على أن يقوم بعضكم بنقل المتاع عبر النهر ،وإذا لم يكن معنا رفقاء
فتستطيع أرماندا أن تذهب معكم.
فأجاب إيفانز ببطء وهو ينتزع من األرض ساق عشب:
-تستطيع بالطبع.
وجد ماك نفسه يتحدث بلهجة الطوارئ ،كما لو كان هناك سبب في ذهنه يدفعه إلى الضغط
عليهم لقبول رأيه:
-ماذا تقولون إذن؟
كانت وجوههم تفكر وعقولهم تعمل بسرعة ..هل يقولون «نعم» أو «ال»؟
ثم قال إيفانز:
-أليس من األفضل أن تسألها؟
-لن تمتنع عن قبول رأيي.
فقال شيلدز بصوت منخفض ،كما لو كان قد أحرج بسبب هذا التعليق:
-هذا جميل منك.
وأخذ إيفانز ينقل ناظريه من وجه آلخر:
-ماذا تقولون؟
لم يتحدثوا على الفور ،بل ظلوا يراقبون الوضع .واستطاع ماك أن يفهم الجواب ...فكر من
غير أي غضاضة ..فكر وهو يدرك إدرا ًكا تا ًّما أنهم إذا لم يأخذوا نقوده ،فإنهم سيأخذون منه
ضا ،لذلك قال فيرمان
تعبه وعرقه ووقته .وكان هذا هو الحق والصواب بالنسبة لهم وله أي ً
موج ًها حديثه إلى إيفانز:
-إنه كرم كبير منه ...إذا قام بذلك؟
فانتصب ماك واقفًا في حين كان اآلخرون يهزون رؤوسهم:
-إذن انتهى الوضع ..سأبحث عن العزاب لكي نتوجه معًا إلى الطريق.
وبعد ذلك أخذ يفكر في وضعه وهو راقد في فراشه يستمع إلى صوت ارتطام سمك السالمون
ضا
في النهر بعد القفز عاليًا .لم يكن يؤمن باهلل الذي يؤمن به الناس اآلخرون ،وكان يشك أي ً
في األخًّلق والسلوك األدبي .وهو ال يستطيع أن يحدد معنى المعصية والذنب ،ولكنه كان
يؤمن باألمانة التي قد ينتهكها في بعض األحيان مرة أخرى .أما بالنسبة لبقية األعمال األخرى،
فإنه يرتكبها من غير تحفظ .لم يكن ليستطيع أن يمحو الحقائق بعيدًا .كان الجزء الهام من
شعوره هو أن ينسى ،ويأسف على ما حدث منه ..من معاملته للفتاة ،وقتله الهندي من «الكو».
كًّل ،لم يعتقد أن هناك مثل هذا الشعور وهذا التصرف الذي أقدم عليه ..لقد تصرف عن جوع،
وعن خيبة أمل ،أو عن غضب .خرج ليقتل الهندي ،وليغتصب ويغوي الفتاة .فهل هو الملوم
بعد ذلك؟! أو هي الظروف التي دفعته إلى ذلك؟ إنه هو هللا الذي لم يستطع أن يوفيه حقه؟ كان
الرجل يعرف بعض الدوافع الغريبة ،لذلك حاول أن ينسى ويترك هذا الوضع.
لم يفلح في النسيان؛ إذ ال يستطيع أي إنسان أن يفلح في النسيان إذا كانت األشباح تطارده
وتهدم إيمانه ،وإذا كان ال يستطيع أن يسيطر على جوانحه ..إن اآلثام تثقل كاهله ..التوبة .أوه،
بالتأكيد ،التوبة ..إنها الطريق إلى الصًّلح .حسنًا ،لقد بدأ الملحد ،الذي ال يؤمن بشيء ،يقتنع
بضرورة الذهاب وقيادة الماشية إلى الوجهة المحددة من أجل روحه الضائعة .التوبة؟ التكفير
عما سلف؟ تقديم التعويض؟ إنها كلمات الكنيسة ..الكلمات الجادة التي يرددها ويذربي دائ ًما.
إلى جهنم بهذه الكلمات .لم يكن يقدم هذه الكلمات هلل أو للمسيح أو لروح القدس ،أو حتى للركب
نفسه ،وإنما كان يفعل ذلك من أجل نفسه ..وكان هدفه هو إقناع نفسه وإرضاؤها بعمل يعوضه
عن آالم ذاته؛ لكي يعادل سيئاته ويمشي مرفوع الهامة ،أمام كيرتس ماك ،أي أمام ذاته ونفسه.
بقي هذا الشعور والوضع كما هو ،وبقيت صًّلبة رأيه وعناده على ما هو عليه من غير تغيير،
ولم يكن يهتم في ذلك بالطريق إلى السماء.
كان على استعداد اآلن للنوم؛ إذ كان التعب قد أخذ منه مأخذه ،ولكنه شعر قبل أن يستغرق في
نومه أنه يستطيع أن يتتبع أفكاره بشعور أقل من المرارة والقلق ،ثم جاءت إلى أنفه رائحة
ضا بأنه يستطيع
أماندا ،وشعر بأنفاسها اللطيفة وهي تصل إلى مسامعه برقة وهدوء ،وشعر أي ً
أن يشاهد القطيع وهو يقطع الجبال .ولم يعرف متى يستطيع أن يشعر بالراحة والتحسن.
***
الفصل الثامن والعشرون
كانت المنطقة الواقعة بين «بواز» ودالس التي يجب على الركب أن يقطعها هي نهاية التجربة
للوصول إلى أوريجون أو عدم الوصول إليها .كانت اإلجابة مكتوبة هنا بوساطة آثار العجًّلت
التي كانت تسير ببطء ..كان السؤال قد ظهر منذ سنوات مضت حينما فقد اإلنسان بدايته وسط
السهول ،وبين شجيرات «القويسة» ،ومناطق الجبال الرملية .كان قد فقد كل ذلك في األماكن
التي عبرها ،وفي األعمال التي تمت ويتذكرها من قبل حتى أصبحت جميع هذه األشياء حقيقية
بالنسبة له ،ودفعته إلى أن يتساءل ع َّم إذا كانت هناك مدينة «إندبندس» أو ميسوري ،وبقعة
كان يطلق عليها من قبل لفظ منزل في حقيقة األمر ،أو أنها أصبحت ذكريات أو تبخرت من
ذهنه.
وكان يتساءل ع َّم إذا كانت هناك في حقيقة األمر دالس ،أو أوريجون أو كولومبيا؟ وهل كان
هناك أي شيء خلفه أو أمامه ..أي شيء سوى االستمرار في السير وسط األرض ..أي شيء
في حياته غير المسافة التي يجب قطعها بالمزيد من المسافات التي يجب قطعها؟ كان كل ما
يعرفه بسببه هو هذا السير مع المجموعة.
وعلى الرغم من ذلك ،فقد انتهت شكوك األيام العصيبة .انتهت أيام الشك ..لم يكن إيفانز بحاجة
إلى أن يخبر نفسه بهذا الوضع .كانت الحقيقة كبيرة وواضحة في نفسه ،لدرجة مألت نفسه
شا .لم يكن قد شعر بهذا الشعور منذ بالراحة وأرخت عضًّلته ،وجعلت وجهه يبدو بشو ً
طفولته ،ومنذ وجوده في مدينة سانت شارلز .كان يجب أن يمسك نفسه من االندفاع ،ومن
طلب أي شيء من األفراد والمجموعات ال يستطيعون أداءه .كان يجب أن يبقى في ذهنه أنه
قد ولد ومعه قوة ال يمتلكها كثيرون غيره ،إنهم سيصلون في القريب العاجل إلى التًّلل وإلى
نهر كولومبيا الكبير .وفي حين كان الركب يسير كان يراقب األفراد الضعفاء ،كان يراهم
جميعًا في مخيلته ،يسيرون تحت الشمس وهم يصيحون ويعرقون ،وال يشعرون إال باألمل
الذي يدفعهم إلى أرض الميعاد.
كان يمضي كل يوم يولي وينتهي واألميال التي تذوب وتتًّلشى« ..مالور» ثم «بيرتش كريك»
وأخيرا اآلن
ً بعد أن تركوا نهر سنيك من غير أي أسف ،ثم «بيرنت ريفر» ،و«باودر»،
الطريق الجاف الصعب الذي يقطعه هذا الركب للوصول إلى «جراند روندي».
كان هناك مكان في «بيرنت ريفر» ،هو «بروليه» اسم أسماه سمرز تحيطه بعض الجبال
المدببة التي ال يمكن أن يسير بجوارها أي إنسان ..استطاع الركب أن يصل بعد مشقة يومين
من السير المتواصل إلى هذا المكان ،ولم يكن أمامه سوى طلب الراحة وإقامة المعسكر.
وأبعدت الثيران بعد ذلك عن العربات حتى يمكن أن تنال قسطها من الغذاء والراحة ،وكان
الرجال يعملون وهم يتحركون ببطء تام بعد أن نال منهم اإلجهاد والتعب مناله ،فأخذوا ينصبون
خيامهم ،ويشعلون النيران ،ويترنمون ترنيمات خافتة ،ثم أخذوا ينتظرون نساءهم وهن يطهين
طعامهم ،في حين كان األطفال يصيحون ويمألون الفضاء بأصواتهم وهرجهم.
ولكن أيام الشك كانت قد انتهت ،وشعر إيفانز بأنه ارتفع إلى قمة االحتفال ..كان الركب قد
ً
أمياال أخرى عبر الصحراء والجبال، قطع عدة أميال من بًّلت إلى جرين إلى سنيك ،ثم قطع
لذلك سوف يقطعون األميال الباقية بنجاح.
كان يفكر في بعض األحيان في الخسائر التي أصيب بها الركب من وفاة مارتن ،ودفن تود
فيرمان بساقه المسمومة ،والطفل الذي أنجبته مسز بيرد ميتًا قبل أوانه ،وروك العجوز الذي
اعتاد أن يأتي في أعقابه باستمرار .وفكر كذلك في بعض الخسائر األخرى مثل مشاجرته مع
تادلوك وسقوط بعض الثيران في الطريق ..وعلى الرغم من كل ذلك ،فإن هذه الرحلة والنتيجة
التي وصل إليها الركب كانت تستحق هذا الثمن؛ إذ ال توجد حلوى من غير نار ،وال يمكن
الوصول إلى الحرية من غير ثمن ،ويجب أن يكسب اإلنسان فرصة تحسين مستوى معيشته
وحياته بأي ثمن ..وال تستطيع أي أمة أن تنمو وتزدهر ما لم يضح البعض .لقد كان الثمن
غاليًا ،ولكن من يستطيع أن يقول إنه كان مرتفعًا إال بالنسبة لهؤالء الذين يضنون بالقليل؟
قد يعتقد بيرد أن هذا األمر ليس صوابًا؛ ألنه واجه الكثير من الصعاب الخانقة ،ولكن اإلنسان
يتعرض دائ ًما لألزمات؛ ألن الحياة تحمل في طياتها الخير والشر والغث والسمين ،ومع ذلك
لم يكن ما حدث هو كل شيء؛ إذ ظل هناك المزيد مما هو أسوأ .وفي الطريق أوقف إيفانز
مجموعته عند منطقة مزروعة بشجيرات القطن ،وكانت الجبال تحصر بينها جدول المياه.
جفف إيفانز جبهته وقال:
-إنني أقسم يا ديك...
فقال له سمرز وهو فوق جواده:
ً
مستحيًّل. -إن األمر ال يبدو
-ال يوجد أي مكان للعبور منه من هنا؛ إذ إن قمم الجبال تبدو أنها ستدمر قمم العربات.
فهز سمرز رأسه ً
قائًّل:
-استطاع غيرنا أن يمروا من هنا.
-يجب على أفراد الركب أن يخرجوا واحدًا وراء اآلخر ..كم كنت أتمنى أن يقوم من سبقنا
بشق طريق لمرور غيره منه.
توقف سمرز عن الحديث ،وأخذ ينظر إلى الجبال الشامخة ذات القمم المدببة ،ثم استمر إيفانز
يقول:
-و حينما نمر ،سنترك هذه التًّلل خالدة إلى األبد ،كما هي تحطم قمم العربات ،كما تفعل معنا
اليوم أيها الصديق.
فتحدث إليه سمرز ،من جانب فمه:
-هل تريد أن تعود من حيث أتينا؟
-ليس بعد اآلن على ما أعتقد.
وبدأت العربات خلف إيفانز تستعد للتحرك ،في حين قال لسمرز وهو يجلس في مقعده:
-إن هذا المرور لن يكون ً
سهًّل.
ثم قاد إيفانز مجموعته بعربته فوق أرض جعلت العربة تقفز ،ثم تهبط بفعل الحجارة ،في حين
مزق غطاء قمة العربة .وكانت الثيران تتعثر في مشيتها ،األمر الذي جعل العربة تتأرجح كما
لو كانت مركبًا تتقاذفه أمواج البحر .لم تكن العربة قد بنيت بطريقة تمنعها من فقد توازنها
والسقوط على جانبها ،ولكنه استطاع أن يقود مجموعته بنجاح من هذه المنطقة الخيرة ،ثم
ترك مجموعته التي استطاع أن يمر بها بنجاح ،واتجه إلى المجموعات األخرى ليعطي
أوامره.
-م ن األفضل حينما يأتي موعد تحرك مجموعة ،أال تترك النساء أو األطفال داخل العربات
حين تتحرك .سنحاول إمرار ثًّلث على الفور .على الجميع أن يستعدوا.
حسنًا! كاربنتر! جورهام! هل يرغب أي فرد منكما في المساعدة؟
تقدموا بضع خطوات ،وكانت وجوههم قد استعدت لهذا التحرك منذ الصباح ،وضاقت أعينهم
انتظارا للصعوبة التي تواجههم اآلن تحت أشعة الشمس ،ثم قال إيفانز:
ً
-سنعرف كيف نتخطى هذه الصعوبة في المرة القادمة بعد التجربة األولى التي تخطيتها.
وسارت المجموعة الواحدة تلو األخرى تتخطى الصعوبات وقوى الطبيعة العنيفة .كان نهر
كثيرا عن هذا المكان.
كولومبيا يقع بعد ذلك فيما وراء «بلوز» ،أو ال يبعد ً
وكان الهواء يتحرك بكسل ،فرفع إيفانز قبعته ليترك بعضه يمر فوق رأسه حتى يجف عرقه،
ثم سأل سمرز ً
قائًّل:
-هل هناك المزيد من مثل هذه األماكن يا ديك؟
-يجب أن نستعد ألسوأ منها في الليل ،ونتحمل الصعاب.
فقال جورهام ،وهو يرفع رأسه إلى أعلى:
-إنني أرجو أن يتحقق ذلك ..ألم يحن الوقت لكي نتناول طعامنا اآلن؟
طابورا غير منظم وسط
ً كانت بعض النساء واألطفال يتبعون عربة يقودها دورتي ،ويكونون
منحدر الجبل ،ثم خرج إيفانز واثنان آخران معه من الطابور تاركين دورتي يسير في طريقه
المنحدر.
كانت ربيكا تسير بين بقية النساء مع جوديث فيرمان ،وميرسي ،ومسز جورهام .وفي هذه
األثناء اندفعت عربة بيرد واصطدمت ثم انقلبت وتحطمت وكادت تقتل ديك وبيرد ،لوال أن
قفز ديك بعيدًا وكذلك بيرد .شعر إيفانز باألسف لبيرد ،وبالحزن على ما يصيبه من سوء
باستمرار ،وحاول أن يخفف عن بيرد ،ولكن بيرد رد عليه ً
قائًّل:
-لست بحاجة يا إيفانز ألن تقول أي شيء.
-سأحصل على منشار.
-منشار؟
-لكي أصنع لك عربة ..سنقوم بتقسيم عربتك إلى عربتين.
-أوه!
ضا لممتلكاتك
-هناك بعض العربات التي تتسع لك ولعائلتك إذا رغبت في ذلك ،وتتسع أي ً
وأبنائك الصغار.
لم يجبه بيرد ،وإنما تحولت عيناه عن العربة إلى الجرف ،وإلى الماشية الطليقة التي كانت
تنحدر من مرتفعات الجبال.
-إنك لست في هذه الدرجة من السوء .هيج يعرف كيف يصنع لك عربة من الطراز األول.
كانت نظرة بيرد ال تزال تائهة في المسافات البعيدة ،وهو يقول:
-إن طريق العودة طويل.
-ب التأكيد هو كذلك ،ولكن عندنا ما يكفي من الوقت لكي نقوم بنشر األخشاب قبل أن نتناول
طعامنا.
***
خرج ويذربي بعيدًا عن المعسكر وهو يلقي نظرة على الحلقة التي كانت تلعب أوراق اللعب،
وكان الركب بحاجة إلى راحة ،ولكن طرق الراحة قد تختلف وتكون شريرة ،لذلك كان من
األفضل التعب في سير الركب ً
بدال من الوقوع تحت أقدام الماشية ،أو تحمل الجسد ألوزار
أخرى وإفساد الروح.
كانت األفعال تبدو أسوأ من الشر نفسه في هذا المكان نفسه ..وكان الناس يطلقون عليه اسم
«جراندي روندي» ،كانت بقعة تشبه البقعة التي عاش فيها آدم ..الجنة التي عاش فيها فترة
من الزمن وخرج منها ..كانت قدما ويذربي تغوصان في األعشاب الطويلة ،وكانت العين ترى
المياه في كل مكان ،وكذلك الحشائش والقنب ،واألعشاب ،وكل شيء آخر ،كما لو كانت تحمي
المكان ..الجبال التي ترتفع شامخة في أعنان السماء ،توجد هنا غزالن كثيرة ،وأيائل ،ودببة،
وأسماك تكفي لتغذية الكثير من البشر من غير أي معجزة ،وكان الرجال قد ظلوا يلعبون
الورق.
فكر ويذربي في التأمل ..إنه مكان يصلح للتأمل ،لتكريس النفس هلل ،والمشاركة في قوته وحبه
والجمال ..ترك روحه ترتفع بتواضعه وتسمو مع خالقها ..يجب على اإلنسان أن يفعل ذلك
كثيرا حتى يشعر بنعمة هللا وكرمه ..ويجب عليه أن يعترف باهلل ،وأن يقبل مشيئته من غيرً
أي اعتراض اعترافًا بوجوده المقدس.
وبعد ذلك شاهد أمامه هنديًّا يأتي راكبًا جوادًا ،كان هنديًّا من «الكانور» من غير شك أو من
«نيه بيرسيه» .وهنا عرف وشعر بالدليل الحي القاسم على وجود الكثير من الهنود حول هذا
المكان ،كانوا نظيفي المًّلبس والمظهر ..وكانوا رجا ًال أكفاء عندهم الكثير من القمح والذرة
والخضراوات ،ويتاجرون في الجلود مقابل المًّلبس الصوفية والقطنية والجياد الممتازة التي
يتم المقايضة عليها بالماشية .وكانت نساؤهم متواضعات ونشيطات ،وسعيدات بإبدال النعال
المصنوعة من جلود الغزالن بأي هدايا بسيطة .وقد اختفت الوثنية من هذه القبائل ،وذلك بفضل
الديانة المسيحية؛ وألن بعض الرجال الدينيين ،مثل الدكتور ويمان ،وسبالدنج ،قد أنشأوا
إرساليات لنقل الحق إليهم والتعاليم الصحيحة ،لذلك قال ويذربي للهندي:
-أسعدت مساء.
فابتسم الهندي واقترب منه ،وقال له:
-كيف حالك؟
-هل أنت من الكايوز؟
-إنني مسيحي.
جاءت اإلجابة مفاجأة لويذربي ،ولكنها كانت اإلجابة التي يرغب في سؤالها ،لذلك قال له:
ضا -واعظ.
-إنني مسيحي أي ً
فهز الهندي برأسه ،كما لو كان يؤكد فهمه للكلمات ،وقال:
-رجل طيب ..يصلي.
-دعنا نصلي اآلن ..دعنا نتحدث إلى الروح القدس.
-نصلي اآلن؟
-أجل ،نصلي اآلن!
نزل الهندي من فوق جواده ،ثم ركع بجوار ويذربي فوق األعشاب ،وحاول ويذربي أن يجعل
صًّلته بسيطة ،فأخذ يردد:
شكرا يا رب على نعمائك ،ونشكرك على منحنا الحياة والصحة والجمال، ً « -إننا نسجد لك
ونشكرك على حبك إيانا -الرجل األبيض والرجل األحمر ،وكل البشر فوق األرض .فساعدنا
يا رب على أن نكون ً
أهًّل لهذا الحب ،وساعدنا على تنفيذ مشيئتك .إننا نرجوك أن تساعد على
أال نقسم بآلهة أو أصنام زائفة أو نعبدها ،أو نشرب ماء النار ،أو نرتكب الزنا والمعاصي.
فلتنزل رحمتك علينا يا رب ،آمين».
فردد الهندي وراءه كلمة «آمين» .وفي حين هو يقول ذلك ،كان يقرأ في داخل نفسه صًّلة
أخرى طالبًا من هللا أن يمنحه القوة والحكمة لكي ينفذ مشيئته بين هؤالء الوثنيين الفقراء الذين
يقيمون في كولومبيا كما سبق أن فعل كل من ويتمان ،وسبالدنج مع هذه القبائل.
وشع ر ويذربي باالنتعاش حينما نهض ،وشعر بأنه قد اختير لحمل رسالة ،وأنه أصبح قويًّا،
وأن هللا قد أظهر حكمته ،ولكن الهندي قال له وهو يتحرك في اتجاه الركب:
-سأذهب اآلن إلى المعسكر.
كان الرجال حتى ذلك الوقت يلعبون الورق ،وكانوا منهمكين في لعبهم لدرجة أن أي واحد
منهم لم يلتفت ما عدا سمرز الذي كان قد شاهد مجيئهما معًا .كان الًّلعبون يلعبون بعنف
وبصوت قوي مسموع ،ويضربون باألوراق كما لو كانت القوة هي التي تحدد النتائج.
حاول ويذربي أن يقود ضيفه حول الركب ،وكان يشعر بالخجل من تصرف الرجل األبيض،
ومن الخوف الذي بدا على وجه الهندي .وامتنع الهندي عن الذهاب مع ويذربي ،بل اكتفى بأن
يخطو في اتجاه الحلقة ،فسار ويذربي خلفه ،وأخذ يراقبه لفترة قصيرة ،وشاهد عيني سمرز
المتسائلتين .ولحسن حظ ويذربي وقف سمرز ليعلن انتهاء اللعب ،وبدأ اآلخرون في النهوض،
واستمر سمرز يقول:
-إن هذا أسوأ عمل تفعلونه أمام هندي طيب.
ثم ترك ناظريه يتجهان إلى ويذربي ،كانت عيناه رماديتان تبتسمان ،فيهما الكثير من الشك،
األمر الذي دفع ويذربي إلى مواجهتهما ،والتعجب لكلمات الهندي.
وتحرك بعيدًا حينما انتهى اللعب ،في حين أخذ دورتي يتفاوض مع الهندي على غزال .وكانت
الكلمات التي سمعها من ديك حين انتهاء اللعب تطن في أذنيه ..وشعر بأن هللا قد وضع الحق
والصدق في فم هذا الوحشي البسيط .لقد وضع هللا عظمته وقوته الغامضة في هذا الحق.
***
ترك إيفانز الركب في حالة كسل تام فترة ثًّلثة أيام في منطقة «جراندي روندي»؛ إذ إنه اعتقد
ضا أن بيرد أنه من الضروري أن يتمتع أفراد الركب والحيوانات بالراحة .وكان يرى أي ً
ضا بسبب اضطراب ضا أي ً
وزوجته يتطلبان بعض الوقت السترداد شجاعتهما ،وكان باتش مري ً
في أمعائه ،وكان يبدو في حالة ال تصلح لًّلنتقال به معها .وكانت هناك أسباب أخرى صغيرة
وكبيرة ،منها أن النساء كن يرغبن في القيام بغسل المًّلبس ،ومجيء الهندي للتجارة مع الركب
والتبادل .وكان من الممكن أن يكون الركب قد قطع عدة أميال أخرى لوال توقفه ،وركونه إلى
الكسل.
كانت األيام لطيفة وجميلة ال يبدو فيها أن المطر يميل إلى السقوط في «بلوز»؛ ألن السماء
كانت صافية ،ومع ذلك فقد كان إيفانز قلقًا ،إذ كانت األمطار والثلوج تبعد مسافة كبيرة.
ولكنه استطاع أن يرى السقوط هنا ..شاهد ذلك وسط الحشائش عند جذورها ،وأصبح من
المحتمل سقوط الثلج في الليل عند النهر ،لذلك قرر أن يسير الركب بعد فترة الراحة مباشرة.
ولم يكن السؤال الذي يراوده في ذلك الوقت هو الوصول إلى هدفه ،وإنما كان عن الوقت
الًّلزم لتشييد منزل أو مأوى يحميه ويحمي أسرته من المطر والبرد.
وبينما هم ينتظرون ،ويقومون بالقنص والصيد والتجارة مع الهنود ،إذ وصل إليهم ركب آخر
جديد بقيادة «ويلش» ،نصب خيامه على بعد نصف ميل من ركبهم ..كان هذا الركب األخير
ضا؛ إذ مات فرد واحد ،وسرق الهنود عند سنيك بعض الجياد منهم.
مليء باألسى والحزن أي ً
وكان هذا الركب يسير بسرعة كبيرة ،ومن غير توقف بسبب خفة الحمولة .لم يكن يتوقف في
طريقه إال ً
قليًّل؛ ألنه كان يزمع الوصول كأول دفعة إلى أوريجون ،على الرغم مما قاساه عند
عبور «مالور».
كثيرا ،كما لم يكن يهتم كثي ًرا بأن يكون
ً أخذ إيفانز يراقب هذا الركب ،ولم يكن يهتم بمروره
ركبه أول ركب يصل إلى أوريجون ،ولكن ما كان يهمه في حقيقة األمر هو خوفه من الركوب
األخرى التي سوف تلي وسوف تتسابق ،ومن صائدي األماكن ،واألشخاص الذين يتحملون
الكثير من المشاق والمتاعب ،والذين يتصفون بالجسارة والجرأة ،والذين ال يخشون الجبال أو
الصحراء أو الجوع أو العطش؛ لذلك فإنه إذا أغلق عينيه ،فإنه سوف يرى األتربة المتصاعدة
من الركوب المتحركة تغطي ركبه المتخلف؛ الرجال والنساء ،واألطفال ،والمحاريث وأطفال
الرضاعة واألبقار الحلوب ،والبغال ،والخيول ،والثيران ،والبذور التي ُجمعت لتزيين مداخل
المنازل ،والكتب المعدَّة للمدارس التي لم تشيد بعد .لمن تكون أوريجون إذن؟ تظهر إنجلترا
اآلن كإجابة على ذلك.
غيورا من الرجال الذين سبقوه ،ولم يكن قلقًا بشأن الثلوج التي قد
ً وعلى الرغم من أنه لم يكن
شعورا تا ًّما في
ً تتساقط في «بلوز» ،فإنه كان شغوفًا وراغبًا في اإلسراع بالسير ،وكان يشعر
قرارة نفسه بأن نهر كولومبيا الذي يتصوره أعرض بكثير من أي مجرى سابق ،ويتجه إلى
فانكوفر عند مصب فرع ويًّلميت ،فإذا استطاع أن يصل إلى هذه البقعة ،فإنه يكون قد استطاع
أن ينتهي من الرحلة بكل نجاح .كان من الممكن أن يكون الركب قد وصل إلى هدفه في هذه
اللحظة ،لوال حدوث المرض ،والوفاة والحوادث ،والعوائق ،واإلصًّلحات وفترات الراحة.
لقد كان تادلوك على حق في شيء واحد :أن اإلنسان يعطل مسيره من غير أي عذر في ذلك.
وفي الصباح تحرك الركب وتسلق منطقة «بلوز» ،واستطاع الركب في يوم واحد أن يقطع
كبيرا آخر على الرغم من
ً مسافة سبعة أو ثمانية أميال ،وفي اليوم التالي حقق الركب جهدًا
وجود منطقة جبلية ،والكثير من الحفر والصخور ،والسهول ،والغابات .وكان كل شيء يبدو
عظي ًما في منظره لدرجة تذهل كل من يراه ،وكانت الجبال تلتف حول المكان بأسره ،كما
كانت الصخور العالية ترتفع عاليًا على مسافات طويلة تمتد إلى ما بعد رؤية النظر ،وكانت
األشجار تنتشر كما لو كانت حدائق جميلة موزعة توزيعًا رائعًا .وفي هذا اليوم استطاع الركب
أن يقطع عشرة أميال وسط حدائق جميلة.
أما اليوم الثالث ،فقد كان أجمل األيام كلها ،على الرغم من أنه لم يكن أقلها قسوة ،فقد كان
الركب ينحدر في منحدرات ،في حين كان إيفانز يرفع رأسه دائ ًما ليرى ماذا يكمن خلف هذه
المنحدرات؛ ألن المسافات البعيدة كانت تبدو زرقاء وبيضاء ومهزوزة ،حيث توجد سلسلة
«كاسكاد» كملكة المرتفعات -مونت هود-
وكالملكة ذات النهرين ،وكالسحاب الثلجي الذي يمنح األمل والوعود ،ونظر إيفانز خلفه ليرى
ربيكا تنظر إليه ،فشعر بأنه ال يستطيع أن يتحدث بما يجيش به صدره .استطاع الركب أن
يقطع تسعة أميال في هذا اليوم عبر جبال «بلوز» .لم يتوقف إيفانز بعد ذلك ،وشعر بأنه ال
يستطيع أن يفعل ذلك حتى ولو رغب الركب في ذلك ،ولكن الركب لم يطلب ذلك؛ إذ كان
أفراده يرغبون في الشيء نفسه .كانوا يشعرون بقوة هائلة تدفعهم للتحرك في اتجاه «مونت
هود» ،ومونت سانت هيلين ،كما لو كانوا يرون في أعينهم لحوم الخنازير .ووصلت العربات
بعد ذلك إلى «أوماتيًّل» مندفعة من منحدرات «بلوز» لتصل إلى أرض من البراري مرة
أخرى تكسوها األعشاب والمزروعات يطلق عليها اسم منطقة «جيليد» تمتد على طول غدير
من المياه ،ويقوم هناك هنود «الكايوز» الذين يرغبون دائ ًما في إبدال سلعهم مقابل أقمشة.
نصب الركب في هذه المنطقة خيامه ،حيث فقدوا جوادًا واحدًا ،ثم انتقلوا بعد ذلك إلى «أوتيًّل»
وهم يعبرون المناطق المائية ويتسلقون المرتفعات ويندفعون فوق السهول وفوق األعشاب
الجافة ،وبجوار القمم التي تكسوها الثلوج .استطاع إيفانز في هذه اللحظة أن يرى واديًا
مفتو ًحا ..كان الوادي هو وادي كولومبيا وحوله ظًّلل المسافة البعيدة.
كان يبدو أنه ال يفكر إال في النهر الذي كان يتدفق أسفل وأعلى وحول تفكيره -كولومبيا
ودالس ،ومباني اإلرسالية هناك ،ثم مباني كل أسرة على حدة ،وحاول أن يشق طريقه إلى
النهر .ماذا يحدث لو بقيت أسرته وحيدة؟ هل يستطيع أن يتحلل من رابطته مع بيرد وفيرمان
اللذين يعتمدان عليه وعلى بيكي على الرغم من اختًّلف طرق حياتهم .راوده هذا السؤال،
ضا مثل :لماذا ال يزال براوني وفتاته يبدوان كما لو كانا ضيفين جديدين؟ إن وأسئلة أخرى أي ً
ميرسي فتاة لطيفة ،ويجب أن يكرر ذلك دائ ًما ،كما أن بيكي تقسم بها دائ ًما اآلن وتعزها .إنها
فتاة هادئة محبوبة وجميلة ،في وجهها الكثير من السماحة والدماثة أكثر من والدها.
قطع الركب عشرة أم يال أخرى وسط األعشاب الطيبة واألخشاب على طول الغدير المائي،
حيث كان يوجد الهنود من قبائل «واال واال» الذين كانوا يتجرون بالبطاطس ولحوم القنص.
كانوا من الهنود الذين يتصفون بالقذارة وال يشبهون «الكايوز» في نظافتهم ،وقد يرجع ذلك
إلى عدم إيمانهم بالمسيحية ،إذا كان ويذربي على حق في قوله هذا .وأصبحت عربة بيرد قوية
تستطيع أن تقطع المسافات الكبيرة من غير خلل ،في حين كان سمرز يدعو دائ ًما إلى أخذ
جانب الحذر من هؤالء الهنود الذين تعلوهم األوساخ؛ ألنهم ال يتورعون عن سرقة ما يقع
تحت أيديهم.
واستطاع الركب أن يصل إلى النهر حين مغيب الشمس ،والغسق ال يزال يظهر القليل من
الضوء من وراء التًّلل ..وصله بعد رحلة قاسية طويلة وسط البرية الموحشة واألراضي
مجاورا له من األعشاب والحشائش الخضراء
ً الرملية ،والمناطق العشبية .وصله ليجد شري ً
طا
وبعض أزهار عباد الشمس تقف شامخة متفتحة.
كانت هذه األرض خالية ووحيدة يمكن أن يتردد فيها الصوت ..وزاد الليل من قسوة وحدتها
وعزلتها ..إنه مكان يجعل اإلنسان يشعر بضآلته ،وبانطوائه مع ذكرياته وبابتعاده عن مناطق
الحياة والغذاء.
ولكن النهر كان يجري هنا .أخذ إيفانز يحملق فيما حوله ،فشاهد قاع النهر واض ًحا والمياه
تنساب فوقه نظيفة وصافية تبدو كالفضة المطروقة التي تنساب ممتدة لتلتقي بظًّلم الليل بعيدًا.
وكان يعرف أن مجرى النهر يضيق بعيدًا ليصل إلى المساقط بسرعة .ظل الطريق ،الذي هو
طريق النهر ،الطريق الواسع السريع ،وهو الطريق النهائي المؤدي إلى أوريجون .كان يعرف
أن الطريق هنا يؤدي إلى االستقرار ..إلى بر الحياة الدائمة.
أصابته رجفة بسيطة ،وأفاق على صوت ديك ،فأخذ يتلفت يمنة ويسرة ليرى أنه لم يكن وحده،
وتذكر كيف تركوا العربات لتقف بجوار ضفة النهر .وهناك قال ديك:
-لم يبق سوى أربعة أيام للوصول إلى دالس.
الفصل التاسع والعشرون
جلست جوديث فيرمان بجوار النهر بالقرب من بيت إرسالية يخيم عليه السًّلم بعد العنف
والقسوة التي شاهدتها في الركب .كانت تسمع هنا وهناك أصوات اآلالم الشديدة التي ترتفع
كأمواج البحر أو كالمياه التي تغلي .وكانت تعتقد أن النهر إما أن يكون حزينًا أو متأل ًما مض ًّ
طرا
ألن يقطع كل يوم رحلته إلى البحار أو مناطق ال يعرفها أحد .وكانت كل نقطة من المياه منها
تبتعد إلى األبد ..وكانت المياه تبتعد وتحمل في طياتها بعض األسماك الميتة ،وبعض زهور
عباد الشمس التي اقتلعت من أماكنها ،وزبد المياه ..وكانت الشمس في هذه اللحظة تنخفض
وتسلط أشعتها على صفحة المياه ،منتظرة وقتها المحدد لكي تتحرك إلى مستقرها.
ضا أصوات طرقات كانت األصوات تتردد خلفها وتبدو هامسة لبعد المسافة ،وجاءتها أي ً
المعاول في األخشاب لصنع بعض القوارب الستخدامها في الرحلة األخيرة إلى ويًّلميت،
ضا أصوات الرجال والهنود وصياح األطفال الذين ال يخشون اآلن الموت من وسمعت أي ً
األفاعي ذات األجراس.
وصاحت تنادي:
كثيرا.
-احترسي يا بثاني ،ال تبتعدي ً
وحاولت ابنة بيرد أن تلقي عصا صغيرة في المياه ،ثم تدور حول نفسها وشعرها الذهبي
يضيء تحت أشعة الشمس ..كانت فتاة صغيرة تبدو براءة الطفولة في عينيها ،وانحنت مرة
أخرى لتلتقط عصا أخرى وترد على نداء جوديث قائلة:
-إنني محترسة.
كانت جوديث مقتنعة في قرارة نفسها ،ولكنها كانت حزينة وقانعة ومنتظرة مثل الدجاجة التي
ترقد فوق بيضها لتدفئه حتى يفقس ويخرج منه صغار الدجاج .لم تكن عندها أي رغبة في
الحديث ،على الرغم من أن شارلز كان يجلس بجوارها ونظره مركز فوق المياه.
كانت قانعة وتشعر بالراحة ،وكانت ذكرى تود تراودها في بعض األحيان ،وهي تطهو ،أو
تقود العربة ،أو تقوم بأي عمل من األعمال التي تتطلبها الحياة ..كانت تشعر بذنبها في بعض
األحيان ،وبالرغبة في البكاء ،ثم تبدأ في حبس أحزانها ودموعها وتعود إلى طبيعتها.
كثيرا من النهر.
-أرجوك يا بث ال تقتربي ً
فردت الطفلة وهي تسرع إلى حجر جوديث:
-إنني حذرة ..أريد بعض الطعام.
-سنتناول طعامنا في وقت قريب.
شمت جوديث رائحة الطفولة في هذه الطفلة ،وذكرتها هذه الرائحة برائحة ابنها «تودي»،
فانحنت عليها لتقبل جبهتها ،وهي تقول في نفسها إنها من الممكن أن تحتل مكان تود.
ثم قال لها شارلز وهو ال يزال ينظر إلى صفحة المياه:
-يجب أن أذهب لمشاهدة القارب .إن علينا أن نشتري أو نصنع أو نستأجر القوارب التي
ستنقلنا ..ولكني أستطيع أن أقول إننا نستطيع امتًّلك بعض هذه القوارب .فأجابته وهي ال
ترغب في أن يتركها:
-لقد أتينا إلى هنا باألمس فقط.
وتساءلت في نفسها ع َّم إذا كان هو يشعر في قرارة نفسه بشعورها نفسه ،وهل هناك شخصان
يشعران دائ ًما بالشعور نفسه؟ وهل تعرف الروح ،أي روح أخرى ،على الرغم من أنهما
يشتركان في فراش واحد ،والمصير الواحد ،وعلى الرغم من أنهما يتحدثان في الليل،
ويشعران معًا بالجوع والوحدة ،ويحاوالن أن يجعًّل من جسديهما جسدًا واحدًا ،وعلى الرغم
من أن شعورها باألمومة كان يطغي عليها ويدفعها إلى تفريغ هذا الشعور في رعاية زوجها.
وفي حين هي تشعر بهذا الشعور ،قفزت بيثاني من حجرها وأسرعت بعيدًا ،ثم قال شارلز:
ً
مشغوال. -أعتقد أننا نستطيع أن ننتظر حتى الغد ،ولكن سأكون
يجب أن يشغل نفسه غدًا ..كانت األعمال تطغي على عقله وجسده دائ ًما ..لم يكن يشعر بأن
ابنه تود يرقد بعيدًا فيما وراء الجبال والوديان واألنهر والرمال والهضاب التي مروا بها ،إال
حينما يخلو لنفسه في الليل ،حين يشعر بالحياة الحقيقية تدب في أوصاله؟ لمست يدا شارلز
يديها ،فأمسكت بهما بحرارة ،ولم تتكلم .كانت تسأل نفسها :ماذا يعني الحديث سوى مجرد
ترديد األفكار؟ لماذا الكًّلم؟ ولماذا تحاول أن تقول شيئًا؟ لن تستطيع أن تعبر عن أفكارها
وشعورها في مجرد كلمات .إن ما يكمن في داخلها وفي ذاتها ال تجد ما يقابله من كلمات؛ لذلك
كان من األفضل أن تظل على صمتها ،وأن تعتمد على تدفق عواطفها وشعورها وشعوره
بحرارة العاطفة .ماذا كان الحزن؟ وماذا كان هذا األسف الطويل؟ وماذا قالت لها بيكي إيفانز
بشيء من العاطفة المخلوطة بالبساطة الشديدة؟ إن أي إنسان ال يستطيع أن يبقي على الحزن
سا في غير الترفيه
عا من الكماليات ،أو انغما ً ً
طويًّل؟ كان األمر يبدو كما لو كان الحزن نو ً وقتًا
والتمتع ،إذا قامت امرأة بمواجهة واجباتها ،كانت هذه هي القاعدة التي تحققت منها عند سماعها
قول بيكي ..القواعد التي تدفعها لًّلتجاه إلى أوريجون ،وإلى تخطي جميع الحدود ،وربما
قواعد الحياة ،ولكنها كانت تكره هذه القواعد؛ لذلك أخذت تكافح هذه القاعدة ،وهي تشعر
بالذنب في فقد تود.
ولكنها كانت قد أدت واجبها على أحسن وجه ..لقد وجدت القوة التي استمدتها من ربيكا ..فإذا
رغبت في البكاء كانت تبكي في الليل ،ثم تنهض في الصباح لتواجه أعباء اليوم ..إنها ترفض
الخضوع لهذه القاعدة ،وستقوم بجميع أعبائها وتكتم أحزانها ،على الرغم من أنها لن تفقد تود
اآلن أو إلى األبد ،ولن تشعر بغيابه .سمعت التنهيدة التي صدرت عنها ،ولم تدر أنها ستخرج
منها ،ولقد كانت تعرف أن تفكيرها يعتبر شيئًا حسا ً
سا ،وشعورها بوجود تود الدائم في خيالها
حجرا أبيض وجدته ،فقالت لها الطفلة ويدها الصغيرة ً وكيانها .جاءت بيث إليها لتقدم إليها
السمينة تضعها في راحة يدها:
-إنها قطعة حجر جميلة؟
-جميلة جدًّا.
-هل ستضعينها في منزلك؟
-سأقبلها هدية منك.
-هل أستطيع أن أحضر إليك في بعض األوقات حينما نصل إلى المكان الذي سنقيم فيه؟
-بالطبع ،ولكنك لن تعودي إلى بيتك القديم.
فشرحت لها الطفلة:
-بيتنا الجديد في أوريجون.
وسارت الطفلة في طريقها لتبحث عن المزيد من األحجار.
بيت في أوريجون! إنها ال تتصور ذلك؛ ألنه لم يشيد بعد ..بيت بعد عبور السهول الًّلنهائية،
والجبال الشامخة ،ومجاري المياه التي تنساب حزينة ..بيت! وعلى الرغم من ذلك ،كان مجرد
التفكير شيئًا في حد ذاته يصل إلى درجة الشجاعة والقوة التي دفعت هذا الركب إلى عبور
التربة والكفاح والتغلب على الصعاب والمشكًّلت .استطاعت جوديث أن تتصور البيت الذي
سيمتلكانه ،وهو عبارة عن كابينة خشبية أو منزل من القرميد ..وكان ال يهمها تكوينه أو شكله،
ولكنها كانت تتصور أن يلعب طفلها الذي ستحمله أمام الباب ..إنها تفكر اآلن في األرض التي
ستشكل مستقبلها وحياتها فيها من جديد .إن اليوم هو يوم جديد ،وغدًا سيكون يو ًما جديدًا آخر،
ً
أطفاال آخرين. وستنجب فيه
قالت لشارلز:
-إنني أشعر في بعض األحيان بأنني غير مخلصة.
-غير مخلصة؟
-أال تعرف ذلك؟
فهز رأسه ببطء وقال:
ضا.
-أجل أعرف أي ً
ضا أن ذهنه قد اتجه إلى مصالحه
وكانت تعرف أنه يعرف ويدرك ما تعني ،وكانت تعرف أي ً
التي يهدف إلى تحقيقها في أوريجون ،واألعمال التي يجب إتمامها ،والكلمات التي يجب
ترديدها.
-هييه! هذا حسن يا شارلز! أال يمكن أن يكون مناسبًا؟
-يجب أن يكون كذلك يا جودي ..يجب أن يكون كذلك ..إن األمر سيان بالنسبة لكل إنسان.
أخذت تكافح دموعها السريعة السقوط:
-إنني ال أود أن أنسى.
-لن تنسي أبدًا ،ولكن يجب علينا أن نعيش ،وأن نكافح ونجدد حياتنا.
-إنني ال أعرف في بعض األحيان ما إذا كنت أفكر في تود أو في طفل جديد.
كانت تفكر في طفل ،صبي أو فتاة ..نحيف أو سمين ،وإنما يجب أن يكون هناك تود آخر.
سيكون (تود) جديدًا مع شعور األسف والفرح ،والتذكر والنسيان ،والتعويض ،وسوف تكرس
له كل حب ،ولكنها ال تزال تبكي وتقول:
-ال يمكن ألي طفل أن يحتل مكان تود ..ال يمكن أن يحدث ذلك.
أمسكت يده بكتفها وهو يقول لها:
-ال تعذبي نفسك.
-يجب أال يحدث ذلك.
-ال تخشي شيئًا ..سيظل في ذكرانا دائ ًما ..ولكنها الحياة التي ال نستطيع أن نقاومها.
فأجابته ،وهي تحاول أن تخطئ الحقيقة التي ذكرها:
-أجل ،أعرف ذلك.
ثم رفع ناظريه إلى السماء حيث كانت إحدى السحب تسير مسرعة ،واعتقدت جوديث أنه يفكر
بأن تود يرتفع إلى هذا المكان .وتحول إليها ليقول:
-إنه يرغب منا أن نحب الطفل.
وجاءت بيثاني من حافة النهر لتقول:
-إنني جائعة.
فأجابتها:
-سنتناول غداءنا على الفور.
وقبل أن تنهض من مكانها وتضع يدها عليها برفق لتًّلطفها ،اعتقدت أنها شعرت بأول حركة
للحياة الجديدة في أحشائها.
***
استطاعت بيكا على ضوء النيران التي أوقدتها أن ترى آل فيرمان يعودان من ضفة النهر،
في حين كانت الطفلة بيث بيرد تتعلق بذراع جوديث ،فهزت يدها إليهم لتحيتهم ،وانحنت بعد
ذلك لتضع بعض قطع األخشاب الكبيرة في النيران ،ثم وجهت حديثها إلى ميرسي وهي تتعجب
كيف صدرت منها هذه الكلمات:
-إنها امرأة طيبة.
ولم تكن ميرسي من النوع الذي يذكر أنه سمع هذا المديح من قبل ،وإنما استمرت في عملها
وهي ترد قائلة:
-أجل ،إنها كذلك.
-إنها تعود اآلن إلى طبيعتها ،وال شك في أنها ستكون على خير حال حينما ترزق بالطفل.
كثيرا ،وبقي ما يدور في ذهنها من غير
خفضت ميرسي من ناظريها ،ولم تستطع أن تتحدث ً
أن يتغير .لم تكن حادة الطباع ،ولكنها كانت تشعر بالحزن يعتصرها ،فأخذت تفرغ كل همها
ثيرا
في العمل الشاق ،وكانت ال تجرؤ على الحديث الكثير .ولما لم تجدها ربيكا تتحدث ك ً
سألتها:
كثيرا على ما أعتقد .إنني ال أتحدث عن ليجي
ً -إنني أتعجب متى يعود الرجال؟ لقد تأخروا
أو ديك فقط.
لقد شاهدتهما ربيكا وهما يخرجان فوق جواديهما بعد وصول الركب إلى دالس بساعة أو
ساعتين وم عهما زوجان من الخيول يقوالن إنهما سيضعان عليهما بعض حبال الجاموس
البري ،وإنهما ذاهبان للتجارة .ولم تكن ربيكا تعرف أين سيذهبان ،وما هو هدفهما ..هل هو
التجارة؟ كم قال لها ليجي ال فائدة من التجوال حول دالس؛ إذ ال يمكن شراء أو استئجار أي
قارب.
لم تلح عليه في اإلجابة ،ولم تكن قلقة مثلما تفعل بعض النساء بسبب عدم معرفتهن بكيفية
عبور النهر ..إن ليجي سيتولى هذا األمر ،إنه يتولى كل أمر ،ويتركها تشعر بالقلق بشأن
بعض األشياء األخرى.
قالت ميرسي:
-ي جب أن يكون براوني هنا في اللحظات القادمة ..لقد شاهدت حراس الماشية يذهبون إليه
للتحدث معه.
-ل يس هناك ما يدفعهم إلى المجيء ..سمك آخر وأرز ،وخبز وبعض الحلوى ..كم كنت أرغب
في بعض الخضراوات.
كان كل شيء قد أُعد لتناول الطعام ،لقد تم تنظيف السمك وتحميره ،وغلي المياه من أجل
األرز ،وأُعد الخبز لكي يُخبز على النيران ،وكانت ربيكا مسرورة بأنه ال يزال عندها بعض
القهوة والسكر ،لذلك قالت:
-سأقوم بوضع إناء القهوة فوق النار ،وعلينا أن ننتظر ً
قليًّل.
-إنني لست متعبة أو منهكة ..سوف نحتاج إلى المزيد من المياه.
-ستشعرين بالتعب إذا كنت تعملين طوال اليوم.
اعتقدت ربيكا أن هذا المكان لم يشاهد مثل هؤالء القوم من قبل بعربات مقوسة ،ورجال
يتحدثون عن رحلة انتهت وأخرى في الطريق ،وعن األطفال الذين يلهون ويصيحون هنا
وهناك ،والنساء الًّلئي يتزاورن ،واألشخاص الجدد الذين يصلون ويسألون عن قوارب لهم،
ويسألون ماذا يفعلون؟ ويطلبون االندماج على أساس أن مناطق إقامتهم ال تبعد كثي ًرا عنهم،
كانت النساء يرتدين مًّلبس بليت وتمزقت من كثرة المشاق واالستخدام ،في حين كان الرجال
يرتدون سراويل جلدية من صنع الهنود.
وهنا انقسم الركب ،وتفككت الروابط ،واختلط كل ركب بآخر جديد ،وأصبحت كل أسرة تعرف
ضا باالبتعاد عن هؤالء الذين كانوا قريبين منها .لقد تفككت
وتشعر بأنها تقف وحدها ،وتشعر أي ً
الروابط ،وأصبحت ربيكا تعتقد أن كل أسرة ستعود في روابطها إلى ما كانت قبل الركب .لم
يعد غيرها هي وليجي وبراوني وميرسي فقط ما عدا رابطتهم بأسرتي بيرد وفيرمان التي لم
تنفصم بعد .كان في داخل ذاتهم نوع من النداء يلح عليهم هو واجبها وواجب ليجي تجاه
الضعفاء والمستضعفين.
قالت بيكي وهي تنهض:
-من الممكن وضع األرز اآلن.
ولكن ميرسي انتقلت إلى حيث كانت تقف بقدميها ،ثم وضعت األرز في المياه التي تغلي ،ثم
قالت ربيكا:
عجوزا لهذه الدرجة حتى تحاولي مساندتي وحمل األرز ً
بدال مني. ً -إنني لست
وأخذت تراقب حركة الفتاة السريعة ،وهي تشاهد االبتسامة البسيطة التي ظهرت على فيها،
فشعرت بالرقة والحنان لها .مهما يكن أبوا ميرسي ،ومهما تكن هذه الفتاة قد فعلت من قبل،
فإنها كانت شيئًا راب ًحا بالنسبة لها ..كان من الواجب قول هذا الشيء على الرغم من كل ذلك.
نظرت ربيكا نظرة إلى الفتاة زوجة ابنها ،ماذا يمكن أن تخبرها؟ لقد أصبحت ممتلئة وظهر
نضجها وأنوثتها ،ونضارة وجهها .كانت السرية والغموض يكمنان في عينيها وكانت تعرف،
وتشعر بالقلق من المعرفة.
يوليو -من أواخر يوليو إلى ٢١سبتمبر ..شهران قصيران ..مدة ال تكفي لظهور أي شيء ما
عدا -ما عدا -إن المسألة ،واالندهاش سوف يتضحان فيما بعد .كانت الوالدة ترى معاملة
صا من ميرسي ،وكانت تعتقد أن عندها اإلجابة ،وكانت تشعر بجرحه ،ثم خاصة وتصرفًا خا ًّ
ترى غضبه ومحاولة إيذاء الذي تسبب في إيذائه.
حاولت أن تهدئ من غضب وثورة ليجي الذي كان قد شعر بالضيق من غير إضافة هذا
السبب .كان تحاول أن تفاخر بميرسي ،وتحاول أن تصبح أ ًّما لها ،ولم تكن واثقة من جميع
األسباب .وكانت تتعجب في يوم من األيام كيف تشعر امرأة تجاه أخرى باإلخوة؟ زميلة وقت
الحاجة .هل كانت ميرسي في سلوكها هي ميرسي نفسها؟ هل كانت هي االعتقاد الذي يجب
االستفادة من وجوده كأحسن شيء بغض النظر عن أي شيء آخر؟ هل كانت الفرصة هي
تفكيرا
ً التي واتت براوني ليثبت رجولته قبل الزواج؟ كانت تميل إلى التفكير هكذا ،ولكنه كان
غريبًا ،ولم يكن يعرف الكثير ،إذ لم يكن جريئًا لمحاولة معرفة أي شيء ،بل كان حتى ذلك
الوقت غًّل ًما .من يكون إذن؟ من الذي كان يدور حولها قبل براوني وأخذها إلى الواعظ؟ ال
أحد ،لم تختلط بالرجال .ولم تستطع ربيكا أن تعرف من هو ذلك الذي كان يحبها ،وكان ماك
يعاملها برقة ولطف متناهيين.
قالت ميرسي:
-ها هو ذا براوني ..انظري إنه يجلس فوق جواده.
واتجه براوني إليهما وحياهما ،فحيته ميرسي ،وقالت له ربيكا:
-لم يحضر والدك ،أو ديك بعد ،لقد خرجا ،واقتربنا نحن من االنتهاء من الطهو.
ثم جاء ليجي وهي تقوم بقلي السمك وقال لها:
-ستكونين حيث ترغبين قبل أن تعرفي أين أنت ..كيف حال الكأل يا بني؟
أخبارا جديدة في داخل ذاته.
ً وكان يبتسم كأنه يحمل
-منطقة طيبة ،سوف نعود بالقطيع على الفور.
فتساءلت ربيكا:
-أين ديك؟
-لن يكون هنا قبل الصباح.
-هل تعني أنه سينام بالخارج من غير غذاء أو فراش؟
كثيرا ،لقد تعود على ذلك. مهًّلً ،
مهًّل ،هذا ال يهم ديك ً ً -
كان ليجي يشعر بالقوة ،ولما جلس الجميع لتناول الطعام ،اعتقدت ربيكا أنها بدأت تدرك األمر
من مًّلمح زوجها ،من غير أن يلفظ بأي كلمة.
ثم قال إيفانز وهو يحاول أن يقضم قطعة من السمك:
-هذا ..آل ديك.
فسألته ربيكا:
-ماذا بشأنه؟
-إنه يعرف كل شيء ،ويحدد كل شيء ..سنتحرك غدًا.
ثم توقف ً
قليًّل ،وهو يحاول أن يمزح من عًّلمات الدهشة التي بدت عليهم:
-أعتقد أنه لم يكن هناك قوارب.
-ال يوجد.
-حسنًا!
-أنت تعرفين ديك ،استطاع أن يخلق أي شيء.
فقال له براوني:
-هل استطاع أن يحصل على ما يريد يا والدي؟
-إننا سنرحل فوق القوارب معهم بطريقة ما.
ثم صمت ليجي فترة قصيرة ،تار ًكا لهم فرصة التخمين ،واستمر بعد ذلك يقول:
-أ نتم تعرفون ..يمتلك هؤالء الهنود قوارب معينة ،ولكن مقابل بعض المًّلبس؛ ألن الجو
هناك بارد في الشتاء .إنهم يفضلون المًّلبس المصنوعة من جلود الجاموس.
فتساءلت ربيكا:
-هل تزمع االنتقال عن طريق أحد هذه القوارب؟
فهز رأسه وهو يضحك:
-هذا آل ديك .إنه يريد منا أن نشغل أنفسنا قبل أن يتم االتفاق على شراء هذه القوارب الهندية.
-أقسم يا ليجي أنك ستقوم بالكثير من التملق.
-سنقوم بصنع بعض القوارب المسطحة ً
أوال حتى يمكن نقل العربات فوقها ،وربما نستطيع
عا فوقها ،ثم نكون قد وصلنا إلى مقرنا الجديد.
أن نرفع شرا ً
-ماذا بشأن الباقين؟
-ماذا؟
-آل فيرمان وبيرد؟
-هذا هو السبب الذي من أجله ذهب ديك لكي يقوم بشراء ما يكفي من القوارب الهندية .سترين
ً
أسطوال من القوارب يقف على ضفة النهر. غدًا
-هل يكفي لحاجاتنا يا ليجي؟
-لم يفكر في مثل هذا األمر سوى ديك نفسه ..ستكون عندنا حمولة ما يسمونه «كاسكاو» ،لقد
شاهدت ماك وهو يتفاوض مع الهنود.
-هناك مفاوضات تدور في جنوب «مونت هود» أحدهم -ال أتذكر اسمه -يتولى هذا األمر.
وتقول مسز ماك إنهم سوف يذهبون من هذا الطريق بالعربات إذا استطاعوا ذلك.
وبعد أن تم تبادل المعلومات واألخبار اآلن ،قام كل من ليجي وبراوني للعمل ،ونهضت ربيكا
لتحضر المزيد من الخبز لتقديمه إلى ميرسي ،وألنها كانت تشعر بضرورة إطعام أعضاء
ركابها .وبعد أن انتهى الجميع من تناول طعامهم جلسوا صامتين ،وأخذ ليجي يدخن غليونه
بعد أن أشعله بقطعة من الفحم.
كان بقية أفراد الركب قد انتهوا جميعًا من تناول طعامهم ،وأخذ الرجال يبتعدون عن النيران
ليشتركوا مع بقية الرجال ،في حين ذهبت النساء لوضع أطفالهن في الفراش ،ثم تحدث ليجي
إلى ميرسي:
-ما الذي يسكتك أنت وبراوني؟
ابتسمت له ميرسي شبه ابتسامة ،في حين رد عليه براوني ً
قائًّل:
-إن مراقبة الماشية ال تمنحك فرصة كافية للحديث.
ثم نهض ليجي واقفًا وقال:
-حسنًا يا بني ،أعتقد أنك تستطيع أن تعمل إذا لم تستطع أن تتحدث .هناك ما يكفي من الضوء
لكي تقوم بعمل في هذه العربات.
واستمرا في عملهما حتى بعد أن أرخى الليل سدوله وانتشر الظًّلم ،ثم قررا العودة مباشرة،
فاتجها إلى ناحية األصوات.
وبانتهاء عمل اليوم ،جلست ربيكا وهي تشعر بالتعب واإلنهاك .كانت ترغب في الجلوس،
وتترك أفكارها تهدأ وتذهب بعيدًا ..استطاعت أن تتذكر األيام التي مضت بعيدًا وراء األنهر
والتًّلل .وفي هذه اللحظة ظهرت نجمة باهتة تتألق في كبد السماء .وبعد فترة بسيطة جاءت
ميرسي وانحنت بجوارها ،ولم تعرف ربيكا ماذا كانت ميرسي تفعل ،ربما كانت تقوم بترتيب
وتنظيف الفراش الذي تنام عليه هي وبراوني ..لم يتكلم أي فرد منهما ،وشعرت ربيكا بأنها قد
فوجئت بهذا الصمت ،وحاولت أن ترعى عيني ميرسي في الظًّلم ،ولكنها لم تستطع أن ترى
شيئًا .شعرت بوجودها بجوارها ..ميرسي ماك بي ..ميرسي ماك بي إيفانز زوجة ابنها..
ستصبح أ ًّما ،وهو شيء ال يعرفه ليجي ما لم يخبره به أي إنسان آخر ،حتى يستطيع أن يرى
بعينيه .ولكن الرجال ليست لهم أعين يرون بها هذا الوضع.
كان هناك طفل يبكي في الخارج في الظًّلم ،وكان صوته رفيعًا ثاقبًا طغى على بقية األصوات،
فقالت ربيكا لميرسي:
ً
طويًّل للوصول إلى أوريجون! -إن رؤية الصغار تسر ،يبدو أن األمر يستغرق وقتًا
فردت ميرسي قائلة:
-ماما!
وكانت هذه هي المرة األولى التي تستخدم فيها هذا اللفظ.
فأجابتها ربيكا وقد مستها هذه الكلمة:
-أجل ،يا ميرسي.
-أعتقد أنني سأرزق بطفل.
-من يظن ذلك؟ أليس ذلك حسنًا؟
-إنني واثقة من أنني حامل.
تحولت ربيكا في الظًّلم ،فشاهدت ميرسي تحني رأسها وكتفيها وعليها عًّلمات الحزن
البسيط ،فمدت ربيكا يدها لتعدل من وضعها والعمل على راحتها ،وهي تقول:
-ال تخش شيئًا ،إن هذا أمر طيب.
شعرت بتنفس الفتاة الحار ،وسمعتها وهي تهمس:
-لقد كنت أخشى أن أخبرك.
كانت ميرسي ترقد في الفراش حينما عاد براوني ،سمعته وهو يقول لوالده مساء الخير ،وبدأ
ينزع عنه مًّلبسه ..كانت تراقبه من طرف عينها وتراه يمشي بين الخيام ويدخل الخيمة،
وشاهدته في قامته ،وشاهدت أمارات الجد تبدو على وجهه.
وحاولت أن تحييه ،ولكن التحية احتبست داخلها ،كانت تشعر بأنها تود أن تقول:
-إنني هنا ..إنني يقظة.
ولكنها لم تستطع ،بل أخذت تستمع إلى صوت مًّلبسه التي كان يخلعها ،وشعرت بأنها ال
تستطيع أن تفعل ذلك؛ ألنها كانت تشعر بأن الماضي لن يموت فيها أبدًا وجنين ماك في
أحشائها ،ثم وهما يشاهدان الطفل.
شعرت بالغطاء يرتفع ،وشعرت بنومه بجوارها وتمدده ،ثم بوضعه يده أسفل وجهه ،ولم يكن
يشعر في هذا التصرف بأنه يشترك مع فرد آخر في الفراش ،بل يشعر بالوحدة.
وكانت الليلة هادئة ،ولكنها استمرت تسمع وسط السكون تنفسات الرياح ،ورائحة الليل وبعض
حركات بعض الحيوانات الصغيرة .كانت تعرف أن براوني متيقظ ،ربما يكون فات ًحا عينيه
ً
مركزا مثلها في مشكلتهما ..لقد كان إنسانًا طيبًا ،وربيكا ،وليجي كانا في الظًّلم ،وكان عقله
ضا ،ولماذا إذن تقف بعيدًا على هامش الحياة وهي تحبس العرفان بالجميل في داخل طيبين أي ً
نفسها؟ ولماذا ال تشعر بشعور الزوجة؟
لم يكن خطؤه ا بعد الزواج على ما تعتقد ..إنما الخطأ هو ما فعلته قبل الزواج ..إنها الظًّلل
التي تحول بينها وبينه ..إنه الطفل الذي تحمله في أحشائها ،إنه ليس خطأها؟ ليس منذ زواجها؟
ألم يعد مستر ماك إلى ذهنها؟ تلك الليالي التي قضتها بجوار الرامي؟ ذلك الطريق السريع
الذي اتبعته؟ كانت األحًّلم تعود إليه في بعض األحيان لتهمس إليه بما كان بينه وبينها ،ولتدفعه
إلى إدراك الوضع.
كانت ترغب في الرجل ،ولكنها أخذت الغًّلم ،وكانت تتساءل :هل هذا الوضع هو الطريق
النهائي لألشياء؟ أذهلها أن يكون هذا هو الحال ،وبأنها ال تستحق أن تكون في هذا الوضع،
وبأن براوني رجل بمعنى الكلمة ،طيب المعشر رقيق المعاملة ،على الرغم من بعض الشدة
التي يعاملها بها أو يبديها لها في بعض األحيان.
لذلك كان من الضروري أن تشكر هللا الذي منحها إياه ،وتشكره وتشكر ليجي وربيكا والحظ
الذي جعلهم يلتقون .لم تكن تستحق أي شيء ..إنما كل ما تستحقه هو ال شيء.
ليتها تستطيع أن تتحدث إليه ،أو أن تدع نفسها تفعل ذلك ..ليتها تستطيع أن تمد يدها طالبة
الصفح ،لم تكن تستطيع أن تقسم أنه يهتم بها منذ أن أخبرته ،وأجابها بأنهما سيتزوجان على
أي حال .كان الشك فيه يشبه فقد شيء ال يمكن تقدير قيمته إال فيما بعد.
في هذه اللحظة تقلب براوني في فراشه ليتحقق من أن الغطاء ال يزال فوقها حتى رقبتها ،ومد
يده ليتلمس وجهها ورقبتها ثم يعيدها مرة أخرى إلى جانبه ،فعل ذلك وهو يعتقد أنه أدى هذا
سرا ،وكان يعتقد أنها مستغرقة في النوم ،لذلك أجابها عن سؤالها في نفسه.
األمر ًّ
لمس هذا التصرف وهذه الكلمات شغافها ،واستوعبت معنى الكلمات تما ًما ،وكانت الدموع
تنساب من مقلتيها من غير بكاء ،وحاولت أن تتنفس وتتظاهر كما لو كانت نائمة .وشعرت
ببعض الحياة تدب في أوصالها ،وبالعطف على براوني ..العطف الذي كان يجب أن تشعر به
من قبل .أخذت تبتلع لعابها بعد أن صدمتها الكلمات ..وشعرت بأن براوني كان يجب أن يأخذ
الطفل ويتبناه.
ثم قالت من غير أي تفكير أو تردد:
-براوني؟
ت مستيقظة؟
-هل أن ِ
-صحوت في هذه اللحظة فقط .براوني!
-أوه -هاه.
فهمست بالكلمات التالية:
-إنني ...إنني أتعلم كيف أرعاك.
لم يجبها مباشرة ،وبعد أن انتظرت لحظة أدركت أنه ال يستطيع ،لذلك قالت:
-أرجو أن تكون قد أدركت وعرفت.
***
الفصل الثالثون
ميًّل ،وربما بقي أربعون ً
ميًّل حتى يمكن ربما لم يبق من المسافة حتى دالس غير خمسين ً
الوصول إلى فانكوفر ،وستة أميال إلى ويًّلميت .مسح إيفانز العرق الذي تصبب فوق عينيه.
ال يوجد ما يعطل الركب ،وأخبر نفسه بأنه يسير في الطريق الصحيح ما لم يتغير الطقس ..ال
شيء سوى ركوب القوارب وانتظار الرياح والنهر .كانت مساقط «كاسكاد» تقف عائقًا في
النهاية ،وتبدو كما لو كانت ً
حقًّل من الثلوج ،وكانت المياه في المناطق األمامية هادئة وتسير
بطيئة في منطقتها النهائية.
تنفس إيفانز بعمق ،ثم رفع ذراعه ليسمح للهواء أن يدخل تحت إبطه ،وكانت الرحلة طويلة
وصعبة ،ولكنها كانت قد انتهت ،وكانت آخر حركة لعجًّلت العربات تسير في طريقها النهائي
وهي تحمل حمولتها األخيرة ،آخر أواني الطهو والمعدات .ووصل آخر قارب هندي .كان كل
فرد قد وصل في حالة جيدة -آل بيرد ،وفيرمان ،وميرسي ،وبيكي ،وبراوني ،وديك ،وذلك
باإلضافة إلى الهنود الذين استأجرهم للمعونة في حمل األشياء وتسيير دفة القوارب .وكان
الهنود يقفون عند الممر الذي يعود بهم ،وهم ينظرون حولهم والسرور يشملهم ،كما كان
يشملهم حب االستطًّلع ألعمال وحركات الرجل األبيض .وكان أحدهم يلتف بعباءة حتى
رقبته ،ويمسك عصا طويلة في يده ،في حين كانت امرأة هندية قد حضرت معهم ،وهي
عا من قش األرز المضغوط يغطي جز ًءا منها.
صا مصنو ً
صغيرة السن ترتدي قمي ً
وقال إيفانز ،وهو ينظر إلى الشمس التي كانت قد بدأت تختفي نحو الغرب:
-ن ستطيع أن نقيم المعسكر اآلن ..أعتقد أننا نستطيع أن نعيد القوارب قبل الظًّلم.
لم يذهب في هذه اللحظة للعمل حتى يفعل غيره مثله ،ولكنه أخذ يحشو غليونه ،وأحضر
صندوقًا جلس فوقه بجوار شجرة ،ثم أخذ يدخن غليونه وهو يشعر باالطمئنان والراحة ،وترك
ضا .كانت رحلة مؤكدة -تقطع فيها القوارب مسافة أربعة أميال اآلخرين يستريحون أي ً
بحموالت ثقيلة وسط مقابر الهنود ،حيث دفنت أجسادهم ووضعت فوق قبورهم تماثيل خشنة
تمثل الطيور على أشكالها والحيوانات ،والشياطين .كان ويذربي يطلق عليها لفظ األوثان ،إذا
شاهدها ،ويعنف الهنود عليها ..كان يبدو أن ويذربي قد قطع نفسه من العمل.
سا عميقًا من غليونه لكي يمرر الدخان من أنفه ،في حين كان بيرد يشعل سحب إيفانز نف ً
النيران ،وميرسي وبيكي تتحدثان عند حافة المياه حيث وقف فيرمان ينظر إلى جريان المياه.
صا قدي ًما إلى الهنود ،وكان هو الشيء الوحيد الذي ارتداه الهندي الذي
وكان بيرد قد باع قمي ً
اشتراه ،وارتداه كما لو كان هو كل ما يكفي من الملبس .وكان جيف بيرد ،االبن الصغير،
يصيح كلما شاهد الهندي يرتديه ،ولكن الهندي لم يكن يهتم بذلك؛ إذ كان شبه الطفل نفسه في
تصرفاته .وكان ديك يتحدث إلى رجلين من الهنود ،ربما كان يطلب منهما الذهاب ،وكانت
رائحة الهنود تثير االشمئزاز في النفس وتقتل فيها الرغبة في طلب الطعام.
وكان ويذربي قد أصبح جز ًءا من العمل ،وعرف ذلك بنفسه ،لذلك كان يبلغ قوته في نظراته
ومواعظه ،وخاصة حينما ودع ديك عند دالس .ولكن ديك كان قد قال له:
-من األفضل أن تأتي معنا ،سنعد لك مكانًا؟
فهز ويذربي لحيته العجوز عًّلمة النفي .وكان إيفانز ينظر إليه وهو يتحدث مع سمرز ،فاعتقد
أنه قد انكمش على نفسه حتى أصبح عظا ًما وعروقًا .كان يقف وظهره قد ازداد تقو ً
سا أكثر
من ذي قبل ،كما لو كان ثقل الذنوب والخطيئة والواجب قد رسمت خطوطها عليه .واستمر
ديك يقول:
-هناك يوجد المزيد من الوثنيين ..يبدو أنك ال تهرب من العمل.
-سأحضر فيما بعد .أود أن أقضي بعض الوقت هنا في اإلرسالية ،إنها بحاجة إلى مساعدة.
فقال ديك:
تأثيرا عميقًا.
ً -حسنًا ،يبدو أن الدين وحده هو الذي يؤثر في هؤالء الهنود
فهز ويذربي رأسه بحزن ،وقال:
-لقد قطعت الطريق ألحمل رسالة الكتابيين هنا .قد خاب ظن األخ بيركنز هنا؟
-ال أستطيع أن ألومه ،هل تلومه أنت؟
-إنني أؤدي عمل الرب ،وأشكره على ذلك.
-وهكذا أنت تقول؟
-في الوقت الحاضر بأقل تقدير.
وكان ويذربي ينظر إلى األرض؛ لكي يدرسها ،ثم رفع ناظريه وقال:
-أيها األخ سمرز!
وانتظر ديك إلى ما سيقوله بعد ذلك.
-لقد شاهدت على طول الطريق أنني أستطيع أن أجد غذاء الجسد.
-هذا حسن.
-كم أود أن أقدم لك غذاء الروح.
فمد ديك يده إلى األمام ،وشاهد إيفانز روح الصداقة في وجهه ،والميل نحو هذا الرجل الذي
ضا لمحة من التهكم وهو يقول:
كثيرا ،وشاهد أي ً
يختلف عنه ً
-سوف أبحث عنك إذا وجدتني أحتاج إلى هذا الغذاء.
وبعد أن انتهت الوداعات ،كان األسطول الصغير قد تحرك .مركب لعائلة إيفانز ،وآخر لبيرد،
وثالث لفيرمان ،وتركوا عرباتهم فوق األرض مع بعض األشخاص اآلخرين .وكان ماك من
بين األشخاص الذين سيتولون دفع هذه العربات عبر األراضي إلى منطقة االلتقاء ،في حين
ينتظر آخر ،مثل باتش ،استئجار قوارب أخرى ،ويقوم دورتي بصنع قارب له من األخشاب
التي يعمل عليها.
ودع إيفانز كل فرد منهم ،ووجد صعوبة عاطفية في هذا الوداع ،ولكنه طمأن نفسه بأنه سيراهم
فيما بعد .كان الوداع الذي سيأتي بعد ذلك هو الذي يقلقه ،ما لم يتم حديث بشأنه لوقفه .وكان
قد درس مسألة أوريجون مع ديك ،وأخبر ديك بأنه يفضل أن يحضر مثل اآلخرين لًّلستقرار.
ولكن ديك ابتسم ،وقال أشياء صغيرة لم تضف جديدًا على الموقف .أصبحوا ال يحتاجون إليه
اآلن ..لقد انتهى عمله وواجبه ،وكان من الممكن أن يتركهم عند هذا الحد.
نهض إيفانز وهو يشعر بالقلق ،وبأنه قد فقد شيئًا ،ثم نفض غليونه بعيدًا ووضعه في جيبه،
وذهب إلى القوارب الهندية لينزلها في الماء ،ويصلح سطحها ،وكان الهنود يهرولون بعيدًا
ومعهم شص لصيد األسماك أو طباق ،في حين كانت النساء يحطن بالنار التي أوقدها بيرد،
وكان اثنان من أطفال بيرد قد تسلقا شجرة ،في حين كانت جوديث فيرمان تراقب بيثاني بيرد.
كان عندهم لحم مقدد هذه الليلة ،لحم غزال اصطاده سمرز في اليوم السالف ،وكذلك بعض
الخبز والزبد ،والقهوة ،ولكن من غير سكر أو «كريم» .انقضى الليل هادئًا وناع ًما ،وكانت
الرياح الخفيفة تأتي من اتجاه النهر تحمل معها صوت خرير المياه ..أما اآلن وقد أوشكت
الرحلة على االنتهاء ،فلم يجد أي إنسان أي شيء ليقوله بعد ذلك ..حتى األطفال أنفسهم ،كانوا
كثيرا بالذهاب إلى الفراش .أما ميرسي وبراوني فقد كانا
أكثر هدو ًءا عن ذي قبل ،وال يهتمون ً
يجلسان بعيدًا ً
قليًّل عن الباقين ،وشعر إيفانز بأنهما قد زادا التصاقًا واقترابًا بعضهما من بعض.
وجلس هو نفسه صامتًا تار ًكا العنان ألفكاره ،في حين كان اآلخرون يتناقشون مع ديك.
وانتظر إيفانز حتى نهض ديك ،ثم نهض خلفه وناداه:
-ديك!
-ماذا بك يا صديقي؟
-إنها ليلة جميلة ،أليس كذلك؟
-إذا كنت تميل إلى منطقة بجوار البحر.
-ما هو العيب في المناطق البحرية؟
-ال شيء .وإنما أحب فقط البًّلد المرتفعة.
-سوف تتعود عليها .ستتعود عليها فيما بعد.
-ال أظن ذلك.
-يجب أن تحاول يا ديك؟
-أعتقد أنني لن أفعل ذلك.
-ماذا تنوي أن تفعل؟
-أعود من حيث أتيت.
-إلى إندبندس؟
-ليس هذا يا ليجي.
-متى؟
-غدًا إذا كان الجو مناسبًا.
-كيف ستعود ،وليس معك أي جواد أو أي شيء آخر؟
-معي بندقيتي ،وحجر صوان ،وقطعة من الصلب .وسوف أحصل على جواد من أي مكان.
ً
جائًّل -يا أهلل يا ديك! كم كنت أود أال يصبح األمر هكذا! إن اإلنسان ال يستطيع أن يعيش
طوال حياته.
ثم ظل ديك صامتًا لحظة واحدة ،وهو يبحث عن الكلمات في زاوية من ذهنه ،ثم قال:
-بعد لحظات سأقابل المحيط يا ليجي.
وأدرك إيفانز ماذا كان يعني بذلك ..إنه كان يعني ضياعه في محيط ال نهاية له ،لذلك قال له:
-لماذا ال تأتي معنا ،ستكون إنسانًا مه ًّما معنا ،ألست واثقًا من ذلك؟
-إنه ليس بالشيء المهم بالنسبة لي يا ليجي.
ضا.
-هناك الكثير من األراضي الحرة لك ولآلخرين أي ً
وانتظر إيفانز ً
قليًّل ،ثم أضاف ما كان يعرفه:
-من الممكن أن تصبح شخصية هامة في أوريجون.
اعتقد إيفانز أنه شاهد ابتسامة بسيطة انفرج عنها فم ديك ً
قليًّل.
-إنني ال أسعى وراء األهمية.
-ما الشيء الذي تسعى وراءه إذن؟
فتوقف ديك ً
قليًّل ،ثم أطلق إجابة حيرت إيفانز مرة أخرى:
-إنني مضطر إلى تتبع اآلثار مثل الكلب األمين.
-تستطيع أن تعيش معنا ،ونحن نرحب بك ترحيبًا مضاعفًا.
-إن هذا الطفل يعرف ذلك يا ليجي ..إنك تشق طريقك وهو طريق طيب ،ولكن طريقي يختلف.
-هذا ما تعتقده وتضعه في ذهنك.
-هذا ما يجب االعتماد عليه.
-أين ستتجه إذن؟
ً
شماال إلى منطقة «بًّلك فوت» .ال أستطيع -ربما أعود إلى بريدجر ،أو ربما إلى «بير» أو
أن أخبرك اآلن.
-سيكون هناك الجليد فوق الجبال قبل أن تستطيع عبورها.
-ربما.
-ديك ..إنك رجل مهذب ،ولكن ينقصك الشعور.
-ال تذكر هذا ،إنني أكن لك ولزوجتك ولبراوني كل تقدير وحب يا ليجي ،أليس األمر كذلك؟
وتحول سمرز جانبًا ،ثم سار في طريقه.
ولم يستطع إيفانز أن يتحدث أكثر من ذلك ،كان يبدو أنه ال يستطيع أن يفكر بعد هذا الشعور
بالخسارة ،وهو يشعر بأنه شيء مخجل أن يضيع حياته هباء .ماذا يوجد في ماضيه حتى يجذبه
إل ى العودة ،أهي الذكريات؟ أم القنص؟ أم الهنود؟ أم الجاموس البري؟ أم األراضي الخالية
والبرية؟ لم يستطع إيفانز أن يشعر بأي شعور من الحب لهذه األشياء ..إنه يحب المناطق
المفتوحة ،ولكن يجب على اإلنسان أن يبحث عن وسيلة حياته الهادئة السليمة ،وال يوجد هناك
أي شيء يعادل اآلن الحياة المنتظرة في أوريجون بعد هذا الجهد القاتل ،والوقت الذي ضيع
أو يضيع اآلن.
وحينما عاد ديك ،سأله إيفانز:
-لم أكن أقصد منك أي شيء يا ديك ،وإنما كنت أود أن أؤكد لك ضرورة كون أوريجون
أمريكية.
-سوف تحقق ذلك يا ليجي .أود أن أرى «بوبو آجي» مرة أخرى.
لم يسأله إيفانز أين توجد «بوبو آجي»؟ ولماذا يرغب في رؤيتها؟ لم يكن األمر يهمه .ماذا،
وأين ،ولماذا ،إنها مجرد كلمات تسير بجانب كلمات أخرى كان يسمعها وال يدرك معناها؛
لذلك أخبر ديك وهما يعودان إلى المعسكر:
-أراك غدًا على أي حال.
-بالتأكيد.
ولكنه لم يره بعد ذلك؛ إذ قبل أن ينهض أي فرد في المعسكر ،كان ديك قد نهض وترك
المعسكر.
كانت الجبال تقف شامخة على كًّل الجانبين عارية من أي شيء وترتفع إلى السماء الزرقاء،
في حين كان النهر العريض ،الذي تختلط فيه المياه المالحة بالعذبة بسبب ارتباطه بالمحيط،
ينحصر بين هذه الجبال ،وكانت المساقط المائية تتساقط من الحائط الجنوبي المرتفع ،وتبدو
كما لو كانت شري ً
طا رفيعًا من الثلج ،وكان الجو مشبعًا بالرطوبة بسبب البحر.
وكان الوقت يسير بطيئًا بسبب بطء هذه القوارب التي ُ
صنعت لتسير هكذا ..صباح كثير الغيوم،
وظهر واضح براق ،ومساء مليء بالغيوم ،وليا ٍل قاسية تمتلئ بالشعور بالجبال ،وبالشعور
ً
ضئيًّل أمام عظمة الظًّلم؛ أرز ،وخبز ،والمزيد بالفقدان .كان المعسكر ونيرانه يبدوان شيئًا
من األسماك ،والنوم ،وارتطام المياه بالشاطئ الضيق ،والرياح ..الرياح التي تهب من الغرب،
رياح البحر التي تواجه التيار وتدفعه ،إنها الرياح التي تحرس أوريجون ..رياح «كيب هورن»
التي تدفع القوارب إلى الشاطئ ..الرياح التي تغير من قوتها وضعفها ..التي تهدأ ،أو تعصف
لتدفع الشراع وتغرق الضفة.
كانت لمسة الفقدان ،واألسف ،والتساؤل داخل النفس عما إذا كان شاطئ األمان سيكون قريبًا،
وأفكار ديك التي دفعته إلى العودة بسبب همسة طغت على ذهنه وكيانه.
ولكن االنتظار كان يحرك الجميع ويجعل دماءهم تتراقص وتغني فرحة حينما يرون التًّلل
ً
طويًّل هذه المرة .إن والجبال تتًّلشى وتختفي ،ثم تأتي مناظر األحًّلم ،التي لن تستغرق وقتًا
صعوبات هذه الرياح والجبال هي آخر الصعوبات التي يواجهونها؛ ألن وراء ذلك سيكون
الهدوء والراحة والمستقر.
الصعوبات ،األسف ،والمغادرة! ولكن القلب ظل على استعداد ألن ينبض بقوة .كان إيفانز
يعتقد أنه لوال وجود الصعوبات لما كان للفرح طعم أو عمق في حياة اإلنسان ..كم من الوقت
طفًّل آخر؟ وكيف كان يستطيع أن يتلهف كان يتعلق ببراوني ويحبه هذا الحب ،لوال أنه فقد ً
على أوريجون ويحبها لوال هذا العرق والحزن والتعب الذي مر به على طول الطريق؟ لقد
ً
وتقبًّل لألمور ،لذلك وجد الفرح طريقه الكبير. ً
احتماال حطم الحزن القلب ،ولكنه جعله أكثر
كان يسمع في الليالي على ضفتي ويًّلميت صوت نباح روك ،فكان يميل إلى أوريجون أكثر
ضا تود فيرمان وساقه المتورمة ،وكان في بعض األحيان وأكثر ،وكان يرى في بعض الليالي أي ً
يرى انعكاسات العزم في عين حمامة ،وفي أحيان أخرى كان يتذكر ما كان يقوله ديك في أثناء
صمته:
ً -
مهًّل يا صديقي ،خذ األمور على بساطتها.
كانت الجبال تتباعد ،وكان يقول لنفسه :ليس بعد حينما كانت نظراته تجوس خًّلل هذه البقاع..
ليس بعد ..ليس بعد ،ثم بقعة حشائشية خضراء تبدو رخوة لينة تحت الشمس ..كانت هي
خطوط «فورت فانكوفر» وبجانبها باخرة ضخمة راسية ،وتمر بها وسط األشجار والغابة
المرتفعة مياه ويًّلميت.
شعر ألول مرة ،منذ أن غادر بًّلت ،بالعظمة ،قد وصل إلى نهر كولومبيا ،وبدأ األمل الكبير
يتحقق ،ثم بدأ ينظر إلى الموطن الجديد .وارتفع مد عال داخل نفسه طغى على جميع مشاعره،
جعل عينيه تمتلئان بما يشبه دموع النساء ،لدرجة أن خشي أن تلتقي أعين اآلخرين بعينيه.
هذا هو ،هذا هو الموطن الجديد ،التربة الغنية التي تنتظر المحراث ليشقها ،وتنتظر األيدي
العاملة ،وتنتظر صياح األطفال السعيدة .سيحققون كل ذلك ،وتسلقوا الجبال وغاصوا في المياه
واألنهر ،وواجهوا األخطار ،ثم أبحروا في النهار في المياه الواسعة .إنهم بناة أمة ،بناة الوطن
الجديد.
ً
متكاسًّل أخذ ينظر حوله ،فشاهد قاربي أسرتي بيرد وفيرمان يقتربان منه ،في حين كان براوني
في تجديفه ،وبيكي تحلم واألمل ينعكس في عينيها بالبيت والمستقر الجديد .أما ميرسي فقد
كانت تجلس بجوارها .قالت ربيكا إن ميرسي سترزق بطفل ..حبيبتي ميرسي إنها ستأتي بطفل
ليمأل البيت ..دم من دمه ..لقد تحرك دم من دمه من جديد.
غمز بعينه لزوجته ،وتحدث بصوت مرتفع طغى على الرعشة التي أصابت حنجرته:
-بيكي ..مرحبًا بأوريجون.
***
Contents
Telegram Network ......................................................................................................................... 1مكتبة
......................................................................................................................................... 6الطريق إلى الغرب
........................................................................................................................................................... 9تقديم
............................................................................................................................................... 10الفصل األول
.............................................................................................................................................. 26الفصل الثاني
.............................................................................................................................................. 40الفصل الثالث
.............................................................................................................................................. 50الفصل الرابع
............................................................................................................................................ 53الفصل الخامس
............................................................................................................................................ 65الفصل السادس
.............................................................................................................................................. 77الفصل السابع
.............................................................................................................................................. 91الفصل الثامن
.............................................................................................................................................. 97الفصل التاسع
........................................................................................................................................... 105الفصل العاشر
................................................................................................................................... 112الفصل الحادي عشر
..................................................................................................................................... 121الفصل الثاني عشر
..................................................................................................................................... 143الفصل الثالث عشر
..................................................................................................................................... 152الفصل الرابع عشر
.................................................................................................................................. 166الفصل الخامس عشر
................................................................................................................................... 179الفصل السادس عشر
..................................................................................................................................... 194الفصل السابع عشر
..................................................................................................................................... 200الفصل الثامن عشر
..................................................................................................................................... 210الفصل التاسع عشر
........................................................................................................................................ 220الفصل العشرون
............................................................................................................................. 231الفصل الحادي والعشرون
.............................................................................................................................. 238الفصل الثاني والعشرون
.............................................................................................................................. 251الفصل الثالث والعشرون
.............................................................................................................................. 259الفصل الرابع والعشرون
............................................................................................................................ 265الفصل الخامس والعشرون
............................................................................................................................ 272الفصل السادس والعشرون
.............................................................................................................................. 288الفصل السابع والعشرون
.............................................................................................................................. 295الفصل الثامن والعشرون
.............................................................................................................................. 304الفصل التاسع والعشرون
......................................................................................................................................... 316الفصل الثالثون