Professional Documents
Culture Documents
العلم أساس النهضة
العلم أساس النهضة
العلم أنفس ما ُ
طلب ،وأغلى ما كُسب ،فهو التاج الذي يميز العالم عن الجاهل ،واألعمى عن البصير ،وهو الذي دعت إليه
كل الشرائع السماوية وجعلته مقدسا ،وحامله مبجال ،فبه استطاعت أمم أن تقود العالم وتصل إلى مواقع لم
وبالعلم تزيد صلة العبد بربه ،وتقوى معرفته له ،من خالل فقهه ألسرار كونه ،وبه أيضا تصح األبدان من األسقام
وتقوى ،ويقضى على األوبئة واألمراض ،وتقل حاالت الوفاة الناتجة عن األمراض ،كما أن للعلم دورا أساسيا في تنظيم
حياة البشر وزيادة رفاهيتهم ،فهو كنز ال يعرف قيمته إال من حصل عليه ،وال يدرك أسراره إال من حرص على النهل
منه.
إن اختالف العلوم وتعددها أدى إلى كثرة المعارف التي ال يمكن لعقل بشري واحد أن يستوعبها ،كما كان األمر لدى
أسالفنا القدامى ،فقد كان العالم رياضيا وفيزيائيا وفيلسوفا وأديبا وفقيها وشاعرا في الوقت نفسه ،قد يرجع ذلك إلى أن
العلوم في الماضي لم تكن بالتوسع التي هي عليه اليوم ،حيث أصبح االختصاص الدقيق هو السائد ..فقد يفني العالم
عمره في فقه جزء بسيط من علم معين وقد ال يلم به ،وهو األمر الذي جعل العلوم أكثر تشعبا من ذي قبل ،فقد ولى
عصر العلماء الموسوعيين الذين يجمعون كل العلوم السائدة في ذلك العصر ،ونادرا ما تجد في هذه األيام عالما يجمع
تخصصين علميين أو ثالثة على األكثر؛ لتوسع المعارف في كل مجال وتشعبها.
مفارقات
من المفارقات أال نجد بين األمم التي تقود العالم والرائدة في مجال العلم أمة «اقرأ» ،األمة التي كانت منارة العلم حينما
كانت باقي األمم في غياهب الجهل وظلماته ،ال لشيء سوى ألنها لم تعط العلم وأهله حقهم ،ولم تدرك أنه السبيل
الوحيد للتقدم والوصول إلى التنمية المنشودة.
وهللا إن الجبين لي ندى حين ندرس نظريات العلوم المختلفة وننسبها إلى علماء الغرب ،بينما نجد أن جل أسس هذه
النظريات وضعها علماء مسلمون ،عرفوا حقيقة العلم وآمنوا بها ،وسخروا جهدهم لخدمته ..فأصبحت مدنهم آنذاك
حواضر
علمية يأتيها طلبة العلم من كل حدب وصوب لينهلوا من معارفها ،وما قرطبة إال مثال ناطق على ذلك ،لكن الخلف لم
يصونوا األمانة ،ولم يحفظوا الوديعة التي تركها سلفهم ،فشغلوا أنفسهم بسفاسف األمور وتركوا العلم ،وهو ما جعل
غيرنا من األمم تسيطر عليه ،وتصل به إلى أعلى المراتب ،بل وحاولوا الخروج من أقطار السموات واألرض الكتشاف
غياهب الكون؛ ألنهم عرفوا الحقيقة التي لم ندركها بعد.
نحن اليوم نملك جيوشا هائلة من العلماء والباحثين في كل المجاالت ،وال ننكر أن هناك من يتحكمون بمجال تخصصهم
تحكما مميزا ،لكن تطالعنا الصحف والتقارير يوميا بوصول فرق من الخبراء إلى نظريات جديدة ..وكذا اكتشاف
مجموع ة من الباحثين لحقيقة علمية ما ،كل هذه التقارير والنظريات والحقائق تغيب عنها لمسة أمتنا ،فال نجد أثرا السم
عالم مسلم إال نادرا.
لألسف تعجز هذه األعداد الهائلة من العلماء والباحثين عن مجاراة التطور العلمي الحاصل ،ووضع بصمة اإلسالم عليه..
ال ندري لماذا؟ هل هو نقص اإلمكانات المادية واالعتمادات المالية؟ ال بالتأكيد؛ فاإلمكانات المادية المتوفرة لدى
أمتنا ربما ال تملكها أمم أخرى ،فما هو السبب إذن؟! هل يرجع إلى تركيبة خاصة في عقولهم؟ ال ،فكل عقول البشر
سواء ،بل عقولنا نحن أكبر وأوعى ،كيف ال وهي التي تتشبع بتعاليم اإلسالم ،ونور القرآن الذي فيه شفاء للصدور.
التحكم في العلوم
بالتحليل الدقيق ألسباب تأخرنا في التحكم في العلوم نجد أن هناك أسبابا عدة أوصلتنا إلى ما نحن عليه ..لعل أهمها
هشاشة القاعدة التعليمية لدينا ،فنحن ال نبني أجياال تقوى على حمل المشعل في المستقبل؛ ألننا ال نضع أرضية تعليمية
صلبة في السنوات األولى لألجيال الصاعدة ،فجل منظوماتنا التربوية مستوردة أو مسطرة دون أهداف من قبل أشخاص
ناقصي الخبرة ،فالبد أن يكون التعليم اإلعدادي واألساسي مدروسا ،ومناهجه مضبوطة وفقا لمتطلبات نهضة األمة،
وذلك بتسطير أهداف معينة ،على رأسها إخراج جيل من العلماء والقادة القادرين على التحكم في مجاالت تخصصهم،
دون اللجوء إلى خبرات أجنبية ،وهو ما سيعيد لنا أمجادنا ،ويجعلنا أمة تحترم العلم والعلماء.
السبب اآلخر :هو عدم احترام البحث العلمي ،ويتجلى ذلك من خالل الميزانيات الزهيدة الموجهة له ،وكذا الرواتب
المتدنية التي يتقاضاها الباحثون ،مما جعل عدد الباحثين يقل بدل أن يزيد ،على عكس ما يحدث في الدول المتقدمة،
فعلى
سبيل المثال عدد الباحثين في شركة سامسونج الكورية وحدها يساوي ضعف عدد الباحثين في كل الدول العربية
مجتمعة ،ولنا أن نتصور ذلك ،فالبد من إصالح الخلل بتسخير موارد مادية ومالية ترقى لجعله قطاعا مهما في الدولة،
وتسطير برامج البحث بما يتوافق ومتطلبات األمة ،والرقابة على مشاريع البحث واستثمار النتائج المتوصل إليها ،وعدم
جعلها حبيسة األدراج.
تبجيل العلماء
من جانب آخر البد من إعادة االعتبار للعلم بتكريم وتبجيل العلماء ،فالمالحظ اليوم أن المكانة التي يحظى بها المغنون
والفنانون والرياضيون لدينا أكبر بكثير من مكانة العلماء ،فنجد الفرق بين عدد المغنين وعدد العلماء المعروفين لدى
أفراد المجتمع فرقا شاسعا ،فأصبح طموح الناشئة هو الشهرة واالقتداء بالمغنين والرياضيين وجعلهم قدوة لهم بدال من
العلماء ،الذين ال يكادون يجدون ما يسدون بهم رمقهم في المجتمع ،هذا لألسف هو واقعنا ..فكيف لنا بالحديث عن
التنمية والتقدم ونحن ال نحمل من العلم إال اسمه؟! فكما قال الشاعر:
ترجو النجاة وال تسلك مسالكها
إن السفينة ال تمشي على اليبس
فالمراد ال ينال بالتمني ،والهدف ال يبلغ إال بالجد والعمل.
باإلضافة إلى ما سبق ،البد أن يدرك كل فرد في األمة أنه مسؤول عن صناعة النهضة التي ال تتم إال بالعلم ،فإذا كان هذا
الفرد من أصحاب العلم -سواء كان عالما أو متعلما -وجب عليه اإلخالص في عمله ،والعمل على تحقيق ما يراه
غيره مستحيال؛ ألن علماء الغرب انطلقوا من قاعدة أن ال مستحيل مع العلم ،ووصلوا إلى تحقيق الصعب..
فكلما كان الهدف بعيدا كانت النتائج المحققة أفضل ،أما إذا كان الفرد من العامة فعليه احترام أهل العلم وتبجيلهم،
وإعطاؤهم المكانة التي يستحقونها؛ حتى يتمكنوا من اإلبداع والتميز ،والوصول إلى الهدف األسمى ..أال وهو نهضة
األمة.
العلم والدين عند غير المسلمين
اعترف كالفين كوليدج رئيس الواليات المتحدة في إحدى خطبه بعجز القوانين الوضعية عن تقرير الفضيلة وحسن
التعامل بين الناس ،وقال :إن البشر مهما بلغوا من التقدم في األنظمة البد لهم في سعادتهم الدنيوية من االعتماد على
الدين.
قالت الكاتبة الفرنسية المعروفة مدام فالنتين دي سان بوان :إن الغرب يتقدم بسرعة هائلة ،ولكن ال يمكن للنفس الدينية
والنسمة المقدسة أن تسود العالم ،وتلدا له العجائب :الفضيلة والنبوغ إال إذا اتحد العلم والدين بعد أن فرقت بينهما
القرون الوسطى.
فأنا أجاهر بأنه ال يمكنني أن أبقى أسيرة التقدم المادي أو أسيرة كتلة الماديين في الغرب؛ ألنني موقنة بأن العالم في
حاجة إلى صرخات ترجعه إلى الرشد ،وتنير أمامه السبيل الموصل إلى الحقائق الخالدة أكثر من حاجته إلى األمور
المادية الزائلة.