You are on page 1of 2

‫العلم أساس النهضة‬

‫هواري عبدالقادر‪ -‬الجزائر‬


‫ماجستير إدارة األعمال والتنمية المستدامة‬

‫العلم أنفس ما ُ‬
‫طلب‪ ،‬وأغلى ما كُسب‪ ،‬فهو التاج الذي يميز العالم عن الجاهل‪ ،‬واألعمى عن البصير‪ ،‬وهو الذي دعت إليه‬
‫كل الشرائع السماوية وجعلته مقدسا‪ ،‬وحامله مبجال‪ ،‬فبه استطاعت أمم أن تقود العالم وتصل إلى مواقع لم‬

‫‪..‬‬ ‫تحلم بالوصول إليها‬

‫وبالعلم تزيد صلة العبد بربه‪ ،‬وتقوى معرفته له‪ ،‬من خالل فقهه ألسرار كونه‪ ،‬وبه أيضا تصح األبدان من األسقام‬
‫وتقوى‪ ،‬ويقضى على األوبئة واألمراض‪ ،‬وتقل حاالت الوفاة الناتجة عن األمراض‪ ،‬كما أن للعلم دورا أساسيا في تنظيم‬
‫حياة البشر وزيادة رفاهيتهم‪ ،‬فهو كنز ال يعرف قيمته إال من حصل عليه‪ ،‬وال يدرك أسراره إال من حرص على النهل‬
‫منه‪.‬‬
‫إن اختالف العلوم وتعددها أدى إلى كثرة المعارف التي ال يمكن لعقل بشري واحد أن يستوعبها‪ ،‬كما كان األمر لدى‬
‫أسالفنا القدامى‪ ،‬فقد كان العالم رياضيا وفيزيائيا وفيلسوفا وأديبا وفقيها وشاعرا في الوقت نفسه‪ ،‬قد يرجع ذلك إلى أن‬
‫العلوم في الماضي لم تكن بالتوسع التي هي عليه اليوم‪ ،‬حيث أصبح االختصاص الدقيق هو السائد‪ ..‬فقد يفني العالم‬
‫عمره في فقه جزء بسيط من علم معين وقد ال يلم به‪ ،‬وهو األمر الذي جعل العلوم أكثر تشعبا من ذي قبل‪ ،‬فقد ولى‬
‫عصر العلماء الموسوعيين الذين يجمعون كل العلوم السائدة في ذلك العصر‪ ،‬ونادرا ما تجد في هذه األيام عالما يجمع‬
‫تخصصين علميين أو ثالثة على األكثر؛ لتوسع المعارف في كل مجال وتشعبها‪.‬‬
‫مفارقات‬
‫من المفارقات أال نجد بين األمم التي تقود العالم والرائدة في مجال العلم أمة «اقرأ»‪ ،‬األمة التي كانت منارة العلم حينما‬
‫كانت باقي األمم في غياهب الجهل وظلماته‪ ،‬ال لشيء سوى ألنها لم تعط العلم وأهله حقهم‪ ،‬ولم تدرك أنه السبيل‬
‫الوحيد للتقدم والوصول إلى التنمية المنشودة‪.‬‬
‫وهللا إن الجبين لي ندى حين ندرس نظريات العلوم المختلفة وننسبها إلى علماء الغرب‪ ،‬بينما نجد أن جل أسس هذه‬
‫النظريات وضعها علماء مسلمون‪ ،‬عرفوا حقيقة العلم وآمنوا بها‪ ،‬وسخروا جهدهم لخدمته‪ ..‬فأصبحت مدنهم آنذاك‬
‫حواضر‬
‫علمية يأتيها طلبة العلم من كل حدب وصوب لينهلوا من معارفها‪ ،‬وما قرطبة إال مثال ناطق على ذلك‪ ،‬لكن الخلف لم‬
‫يصونوا األمانة‪ ،‬ولم يحفظوا الوديعة التي تركها سلفهم‪ ،‬فشغلوا أنفسهم بسفاسف األمور وتركوا العلم‪ ،‬وهو ما جعل‬
‫غيرنا من األمم تسيطر عليه‪ ،‬وتصل به إلى أعلى المراتب‪ ،‬بل وحاولوا الخروج من أقطار السموات واألرض الكتشاف‬
‫غياهب الكون؛ ألنهم عرفوا الحقيقة التي لم ندركها بعد‪.‬‬
‫نحن اليوم نملك جيوشا هائلة من العلماء والباحثين في كل المجاالت‪ ،‬وال ننكر أن هناك من يتحكمون بمجال تخصصهم‬
‫تحكما مميزا‪ ،‬لكن تطالعنا الصحف والتقارير يوميا بوصول فرق من الخبراء إلى نظريات جديدة‪ ..‬وكذا اكتشاف‬
‫مجموع ة من الباحثين لحقيقة علمية ما‪ ،‬كل هذه التقارير والنظريات والحقائق تغيب عنها لمسة أمتنا‪ ،‬فال نجد أثرا السم‬
‫عالم مسلم إال نادرا‪.‬‬
‫لألسف تعجز هذه األعداد الهائلة من العلماء والباحثين عن مجاراة التطور العلمي الحاصل‪ ،‬ووضع بصمة اإلسالم عليه‪..‬‬
‫ال ندري لماذا؟ هل هو نقص اإلمكانات المادية واالعتمادات المالية؟ ال بالتأكيد؛ فاإلمكانات المادية المتوفرة لدى‬
‫أمتنا ربما ال تملكها أمم أخرى‪ ،‬فما هو السبب إذن؟! هل يرجع إلى تركيبة خاصة في عقولهم؟ ال‪ ،‬فكل عقول البشر‬
‫سواء‪ ،‬بل عقولنا نحن أكبر وأوعى‪ ،‬كيف ال وهي التي تتشبع بتعاليم اإلسالم‪ ،‬ونور القرآن الذي فيه شفاء للصدور‪.‬‬
‫التحكم في العلوم‬
‫بالتحليل الدقيق ألسباب تأخرنا في التحكم في العلوم نجد أن هناك أسبابا عدة أوصلتنا إلى ما نحن عليه‪ ..‬لعل أهمها‬
‫هشاشة القاعدة التعليمية لدينا‪ ،‬فنحن ال نبني أجياال تقوى على حمل المشعل في المستقبل؛ ألننا ال نضع أرضية تعليمية‬
‫صلبة في السنوات األولى لألجيال الصاعدة‪ ،‬فجل منظوماتنا التربوية مستوردة أو مسطرة دون أهداف من قبل أشخاص‬
‫ناقصي الخبرة‪ ،‬فالبد أن يكون التعليم اإلعدادي واألساسي مدروسا‪ ،‬ومناهجه مضبوطة وفقا لمتطلبات نهضة األمة‪،‬‬
‫وذلك بتسطير أهداف معينة‪ ،‬على رأسها إخراج جيل من العلماء والقادة القادرين على التحكم في مجاالت تخصصهم‪،‬‬
‫دون اللجوء إلى خبرات أجنبية‪ ،‬وهو ما سيعيد لنا أمجادنا‪ ،‬ويجعلنا أمة تحترم العلم والعلماء‪.‬‬
‫السبب اآلخر‪ :‬هو عدم احترام البحث العلمي‪ ،‬ويتجلى ذلك من خالل الميزانيات الزهيدة الموجهة له‪ ،‬وكذا الرواتب‬
‫المتدنية التي يتقاضاها الباحثون‪ ،‬مما جعل عدد الباحثين يقل بدل أن يزيد‪ ،‬على عكس ما يحدث في الدول المتقدمة‪،‬‬
‫فعلى‬
‫سبيل المثال عدد الباحثين في شركة سامسونج الكورية وحدها يساوي ضعف عدد الباحثين في كل الدول العربية‬
‫مجتمعة‪ ،‬ولنا أن نتصور ذلك‪ ،‬فالبد من إصالح الخلل بتسخير موارد مادية ومالية ترقى لجعله قطاعا مهما في الدولة‪،‬‬
‫وتسطير برامج البحث بما يتوافق ومتطلبات األمة‪ ،‬والرقابة على مشاريع البحث واستثمار النتائج المتوصل إليها‪ ،‬وعدم‬
‫جعلها حبيسة األدراج‪.‬‬
‫تبجيل العلماء‬
‫من جانب آخر البد من إعادة االعتبار للعلم بتكريم وتبجيل العلماء‪ ،‬فالمالحظ اليوم أن المكانة التي يحظى بها المغنون‬
‫والفنانون والرياضيون لدينا أكبر بكثير من مكانة العلماء‪ ،‬فنجد الفرق بين عدد المغنين وعدد العلماء المعروفين لدى‬
‫أفراد المجتمع فرقا شاسعا‪ ،‬فأصبح طموح الناشئة هو الشهرة واالقتداء بالمغنين والرياضيين وجعلهم قدوة لهم بدال من‬
‫العلماء‪ ،‬الذين ال يكادون يجدون ما يسدون بهم رمقهم في المجتمع‪ ،‬هذا لألسف هو واقعنا‪ ..‬فكيف لنا بالحديث عن‬
‫التنمية والتقدم ونحن ال نحمل من العلم إال اسمه؟! فكما قال الشاعر‪:‬‬
‫ترجو النجاة وال تسلك مسالكها‬
‫إن السفينة ال تمشي على اليبس‬
‫فالمراد ال ينال بالتمني‪ ،‬والهدف ال يبلغ إال بالجد والعمل‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ما سبق‪ ،‬البد أن يدرك كل فرد في األمة أنه مسؤول عن صناعة النهضة التي ال تتم إال بالعلم‪ ،‬فإذا كان هذا‬
‫الفرد من أصحاب العلم‪ -‬سواء كان عالما أو متعلما‪ -‬وجب عليه اإلخالص في عمله‪ ،‬والعمل على تحقيق ما يراه‬
‫غيره مستحيال؛ ألن علماء الغرب انطلقوا من قاعدة أن ال مستحيل مع العلم‪ ،‬ووصلوا إلى تحقيق الصعب‪..‬‬
‫فكلما كان الهدف بعيدا كانت النتائج المحققة أفضل‪ ،‬أما إذا كان الفرد من العامة فعليه احترام أهل العلم وتبجيلهم‪،‬‬
‫وإعطاؤهم المكانة التي يستحقونها؛ حتى يتمكنوا من اإلبداع والتميز‪ ،‬والوصول إلى الهدف األسمى‪ ..‬أال وهو نهضة‬
‫األمة‪.‬‬
‫العلم والدين عند غير المسلمين‬
‫اعترف كالفين كوليدج رئيس الواليات المتحدة في إحدى خطبه بعجز القوانين الوضعية عن تقرير الفضيلة وحسن‬
‫التعامل بين الناس‪ ،‬وقال‪ :‬إن البشر مهما بلغوا من التقدم في األنظمة البد لهم في سعادتهم الدنيوية من االعتماد على‬
‫الدين‪.‬‬
‫قالت الكاتبة الفرنسية المعروفة مدام فالنتين دي سان بوان‪ :‬إن الغرب يتقدم بسرعة هائلة‪ ،‬ولكن ال يمكن للنفس الدينية‬
‫والنسمة المقدسة أن تسود العالم‪ ،‬وتلدا له العجائب‪ :‬الفضيلة والنبوغ إال إذا اتحد العلم والدين بعد أن فرقت بينهما‬
‫القرون الوسطى‪.‬‬
‫فأنا أجاهر بأنه ال يمكنني أن أبقى أسيرة التقدم المادي أو أسيرة كتلة الماديين في الغرب؛ ألنني موقنة بأن العالم في‬
‫حاجة إلى صرخات ترجعه إلى الرشد‪ ،‬وتنير أمامه السبيل الموصل إلى الحقائق الخالدة أكثر من حاجته إلى األمور‬
‫المادية الزائلة‪.‬‬

You might also like