You are on page 1of 3

‫النهضة الحقيقية لألمة‬

‫ناصر بن سليمان العمر‬

‫إن تطلع اإلنسان لتحسين أحواله واالرتقاء بها نحو األفضل أمر طبعي يكاد يكون مجبوالً عليه‪ ،‬ولذلك‬
‫فليس من المستغرب أن نجد بني البشر يتنافسون فيما بينهم في مجاالت الحياة المختلفة‪ ،‬سواء كان هذا‬
‫التنافس على مستوى األفراد أو الجماعات أو األمم‪ .‬ويزداد تطلع المرء لهذا االرتقاء عندما تكون حاله‬
‫سيئة أو غير مرضية‪ ،‬ويشتد األمر عليه عندما تكون هذه الحال طارئة؛ فيعاني الضعف بعد القوة‪ ،‬والفقر‬
‫بعد الغنى‪ ،‬والذل بعد العز‪ ،‬فعندها تتحرق نفسه وتتشوف الستعادة ما كان من قوة وغنى وعز؛ وهذا هو‬
‫سبب ما نجده في كثير من بالد المسلمين من صيحات تتعالى داعية إلى النهضة من الركود‪ ،‬والقيام من‬
‫السبات العميق‪.‬‬

‫إن كثيرا ً من هذه الدعوات ‪-‬لألسف‪ -‬تنظر إلى األمور بمنظار ضيق‪ ،‬وتقيس األشياء بمقياس مادي بحت‪،‬‬
‫فهي تدعو إلى النهوض في مجال الصناعة والزراعة والعمران وبناء األبدان‪ ،‬وتغفل ما وراء ذلك مما ال‬
‫غنى عنه لإلنسان‪ .‬وهذا مفهوم خاطئ‪ ،‬فمهما قيل عن تقدم أوروبا وأمريكا وحضارة الشرق والغرب فإن‬
‫هذا فيه شيء من التزوير‪ ،‬نعم قد حصلوا على شيء من التقدم في مجال الدنيا كبير‪ ،‬أما العز المتكامل في‬
‫أمر الدين والدنيا فلهذه األمة فقط‪ ،‬ألن غيرها إما على دين محرف أو شرك وكفر باهلل‪ ،‬وأي عز وأي‬
‫نهضة وأي مجد لناس ال يؤمنون باهلل؟‬

‫ش َر ِبكَ لَ َ‬
‫شدِيدٌ (‪ِ )12‬إنَّهُ ُه َو يُ ْب ِد ُ‬
‫ئ َويُ ِعيدُ (‪)13‬‬ ‫لقد بين هللا عز وجل زيف هذا العز لمن تدبر قوله{ ‪ِ :‬إ َّن َب ْ‬
‫ط َ‬
‫ِيث ْال ُجنُو ِد (‪)17‬‬ ‫ور ْال َودُودُ (‪ )14‬ذُو ْالعَ ْر ِش ْال َم ِجيدُ (‪ )15‬فَعَّا ٌل ِل َما ي ُِريدُ (‪ )16‬ه َْل أَتَاكَ َحد ُ‬
‫َو ُه َو ْالغَفُ ُ‬
‫ع ْونَ َوث َ ُمودَ[ }البروج‪ ،]18-12 :‬فقد بلغ هؤالء من القوة في الدنيا والتمكن من أسبابها ما يزال بعضه‬ ‫فِ ْر َ‬
‫شاهدا ً عليه حتى اليوم‪ ،‬فأين ذهب كل ذلك؟!‬

‫لذا‪ ،‬فعندما ندعو إلى نهضة األمة‪ ،‬فإننا ال ندعو إلى ما قد يتردد في األذهان مما تتناقله الصحف ووسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬لكننا ندعو إلى النهضة الحقيقية‪ ،‬الشاملة لشؤون الدين والدنيا؛ نهضة تبني الحياة الدنيا بكل‬
‫مقومات العمران‪ ،‬لكنها ال تغفل عمارة الجنان‪.‬‬

‫إن حال أمتنا اليوم ال تخفى على أحد‪ ،‬فمن بعد العز والقوة والمنعة‪ ،‬صارت إلى الذل والضعف والهوان‪،‬‬
‫وبعد أن كانت تقود األمم وتسوقها‪ ،‬صارت في ذيل الركب وتراجعت وتأخرت مكانتها؛ تكالبت عليها‬
‫األمم كما تتكالب األكلة على قصعتها‪ ،‬فمزقت أوصالها‪ ،‬ونهبت خيراتها‪ ،‬وشردت وقتلت كثيرا ً من‬
‫أبنائها‪.‬‬

‫ومن كان يظن أن تبديل هذه الحال يكون باألخذ بأسباب التقدم المادي فحسب فهو واهم‪ ،‬فإن مصدر عز‬
‫سو ِل ِه َو ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ َولَ ِك َّن ْال ُمنَافِقِينَ َال‬
‫هذه األمة هو تمسكها بدينها ال غير‪ ،‬قال تعالى{ ‪َ :‬و ِ َّّلِلِ ْال ِع َّزة ُ َو ِل َر ُ‬
‫َي ْعلَ ُمونَ [ }المنافقون‪]8 :‬؛ أما المؤمنون فقد علموا ذلك ووعوه‪ ،‬وعبر عنه أميرهم الفاروق رضي هللا عنه‬
‫بقوله" ‪:‬إنا كنا أذل قوم فأعزنا هللا باإلسالم‪ ،‬فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا هللا به أذلنا هللا" (‪)1‬؛‬
‫والتاريخ خير شاهد على ذلك‪ ،‬فلما تمسك المسلمون األوائل بعرى هذا الدين فتح هللا لهم البالد وقلوب‬
‫العباد‪ ،‬ودانت لهم األمم‪ ،‬وأتتهم األرزاق من كل حدب وصوب‪ ،‬وأعزهم هللا وجعلهم سادة وقادة‪ ،‬وحققت‬
‫األمة ‪-‬في وقت قصير‪ -‬نهضة مادية ال يكاد يسمع بمثلها‪ ،‬فلما بدأ تمسك المسلمين بهذا الدين يضعف شيئا ً‬
‫فشيئا ً بدأ عقد األمور يفلت من بين أيديهم بحسب ذلك‪ ،‬حتى آلت األمور إلى ما آلت إليه اليوم‪.‬‬

‫إننا ال يمكن بحال أن نغفل جانب الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها من أسباب النهضة المادية‪ ،‬فإغفال‬
‫األسباب ليس من الدين في شيء‪ ،‬لكننا ال نقبل في المقابل أن تكون هذه األسباب هي أساس نهضتنا‬
‫ألمور؛ أولها أن الواقع يشهد أنها ال يمكن أن تكون كذلك‪ ،‬فقبل أكثر من عشرين سنة كان الخبراء يقولون‬
‫إن الفجوة بيننا وبين الغرب تقدر بمائة سنة وهي آخذة في االزدياد بسبب سرعة تطورهم وبطء سيرنا‪،‬‬
‫فالركون إلى هذه األسباب والمقاييس المادية وحدها كفيل ببعث روح اليأس والهزيمة وفقدان األمل‪،‬‬
‫والثاني أن التاريخ يشهد أن الفرق المادي بين أمتنا في صدر اإلسالم وبين أعدائها كان كالفرق بيننا وبين‬
‫أمم الشرق والغرب اليوم‪ ،‬يزيد قليالً أو ينقص قليالً‪ ،‬حيث كانت تلك األمم تنظر للعرب كأمة فقيرة‬
‫ضعيفة متخلفة‪ ،‬وما هي إال سنوات قالئل حتى استلمت هذه األمة راية قيادة البشرية كلها‪ ،‬ولم يكن ذلك‬
‫بمنافسة غيرها في األسباب المادية ابتداء‪ ،‬وإنما بالتمسك بعرى هذا الدين ثم األخذ باألسباب المادية‪،‬‬
‫وثالثها أن هللا سبحانه وتعالى بين بما ال لبس فيه وال خفاء أن حجر الزاوية في القيادة والريادة‬
‫ت‬‫صا ِل َحا ِ‬ ‫ع ِملُوا ال َّ‬ ‫َّللاُ الَّذِينَ آ َ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َ‬
‫عدَ َّ‬‫واالستخالف إنما هو التمسك بهذا الدين‪ ،‬قال تعالى{ ‪َ :‬و َ‬
‫ضى لَ ُه ْم َولَيُبَ ِدلَنَّ ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِد‬‫ارت َ َ‬‫ف الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َولَيُ َم ِكن ََّن لَ ُه ْم دِينَ ُه ُم الَّذِي ْ‬ ‫لَيَ ْست َ ْخ ِلفَنَّ ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ‬
‫ض َك َما ا ْست َْخلَ َ‬
‫ش ْيئًا َو َم ْن َكفَ َر بَ ْعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ ُه ُم ْالفَا ِسقُونَ [ }النور‪،]55 :‬‬ ‫خ َْوفِ ِه ْم أ َ ْمنًا يَ ْعبُد ُونَنِي َال يُ ْش ِر ُكونَ بِي َ‬
‫فجعل اإليمان هو األساس ثم العمل الصالح‪ ،‬ويدخل في العمل الصالح األخذ بأسباب االستخالف المادية‪.‬‬

‫إن النهضة التي ندعو إليها هي النهضة التي تعيد لألمة مجدها وعزها‪ ،‬كالذي كان يوم نظر‬
‫الخليفة هارون الرشيدرحمه هللا لسحابة وقال‪ :‬أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك؛ ألنها إما أن‬
‫تمطر في بالد المسلمين أو في بالد تدفع الجزية للمسلمين‪ .‬وكالذي كان يوم رفض نقفور ملك الروم أن‬
‫يؤدي له الجزية وطالبه بما كان أخذه ممن قبله فأرسل له رسالة مقتضبة‪" :‬بسم هللا الرحمن الرحيم‪ ،‬من‬
‫هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة‪ ،‬والجواب ما تراه دون ما‬
‫تسمعه‪ ،‬والسالم" (‪ ،)2‬فأرسل له جيشا ً عظيما ً وقاتله حتى طلب الصلح مع أداء الجزية‪ ،‬فال مجامالت‬
‫دبلوماسية وال تذلل‪.‬‬

‫إننا ندعو لهذه النهضة والعزة ونحن على ثقة أنها ستكون‪ ،‬ال عن رجم بالغيب‪ ،‬بل إيمانا ً وتصديقا ً‬
‫بموعود هللا على لسان رسوله عليه السالم في كثير من األحاديث‪ ،‬مثل قوله صلى هللا عليه وسلم« ‪:‬ال‬
‫يبقى على ظهر األرض بيت مدر وال وبر إال أدخله هللا كلمة اإلسالم بعز عزيز أو ذل ذليل‪ ،‬إما يعزهم‬
‫هللا عز وجل فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها)‪ ،»(3‬وقوله« ‪:‬إن هللا زوى لي األرض فرأيت‬
‫مشارقها ومغاربها‪ ،‬وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)‪» (4‬؛ ومع هذا اليقين فإنني على يقين آخر‬
‫من كون هذه الريادة لن تأتي األمة على طبق من ذهب بينما هي الهية غافلة غارقة في البطالة!!‪ ،‬بل ال‬
‫بد من األخذ باألسباب والتوكل على هللا‪ ،‬فيا ليت قومنا يعلمون‪.‬‬
‫_______________‬

‫)‪(1‬رواه الحاكم في المستدرك ‪ ،)207( 130/1‬وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‪ ،‬ووافقه‬
‫الذهبي‪.‬‬

‫)‪(2‬الكامل في التاريخ البن األثير ‪.107/3‬‬

‫)‪(3‬مسند اإلمام أحمد بن حنبل ‪ ،)23865( 4/6‬قال األرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬

‫)‪(4‬سنن الترمذي ‪ ،)2176( 472/4‬وصححه األلباني‪.‬‬

You might also like