Professional Documents
Culture Documents
النهضة الحقيقية للأمة
النهضة الحقيقية للأمة
إن تطلع اإلنسان لتحسين أحواله واالرتقاء بها نحو األفضل أمر طبعي يكاد يكون مجبوالً عليه ،ولذلك
فليس من المستغرب أن نجد بني البشر يتنافسون فيما بينهم في مجاالت الحياة المختلفة ،سواء كان هذا
التنافس على مستوى األفراد أو الجماعات أو األمم .ويزداد تطلع المرء لهذا االرتقاء عندما تكون حاله
سيئة أو غير مرضية ،ويشتد األمر عليه عندما تكون هذه الحال طارئة؛ فيعاني الضعف بعد القوة ،والفقر
بعد الغنى ،والذل بعد العز ،فعندها تتحرق نفسه وتتشوف الستعادة ما كان من قوة وغنى وعز؛ وهذا هو
سبب ما نجده في كثير من بالد المسلمين من صيحات تتعالى داعية إلى النهضة من الركود ،والقيام من
السبات العميق.
إن كثيرا ً من هذه الدعوات -لألسف -تنظر إلى األمور بمنظار ضيق ،وتقيس األشياء بمقياس مادي بحت،
فهي تدعو إلى النهوض في مجال الصناعة والزراعة والعمران وبناء األبدان ،وتغفل ما وراء ذلك مما ال
غنى عنه لإلنسان .وهذا مفهوم خاطئ ،فمهما قيل عن تقدم أوروبا وأمريكا وحضارة الشرق والغرب فإن
هذا فيه شيء من التزوير ،نعم قد حصلوا على شيء من التقدم في مجال الدنيا كبير ،أما العز المتكامل في
أمر الدين والدنيا فلهذه األمة فقط ،ألن غيرها إما على دين محرف أو شرك وكفر باهلل ،وأي عز وأي
نهضة وأي مجد لناس ال يؤمنون باهلل؟
ش َر ِبكَ لَ َ
شدِيدٌ (ِ )12إنَّهُ ُه َو يُ ْب ِد ُ
ئ َويُ ِعيدُ ()13 لقد بين هللا عز وجل زيف هذا العز لمن تدبر قوله{ ِ :إ َّن َب ْ
ط َ
ِيث ْال ُجنُو ِد ()17 ور ْال َودُودُ ( )14ذُو ْالعَ ْر ِش ْال َم ِجيدُ ( )15فَعَّا ٌل ِل َما ي ُِريدُ ( )16ه َْل أَتَاكَ َحد ُ
َو ُه َو ْالغَفُ ُ
ع ْونَ َوث َ ُمودَ[ }البروج ،]18-12 :فقد بلغ هؤالء من القوة في الدنيا والتمكن من أسبابها ما يزال بعضه فِ ْر َ
شاهدا ً عليه حتى اليوم ،فأين ذهب كل ذلك؟!
لذا ،فعندما ندعو إلى نهضة األمة ،فإننا ال ندعو إلى ما قد يتردد في األذهان مما تتناقله الصحف ووسائل
اإلعالم ،لكننا ندعو إلى النهضة الحقيقية ،الشاملة لشؤون الدين والدنيا؛ نهضة تبني الحياة الدنيا بكل
مقومات العمران ،لكنها ال تغفل عمارة الجنان.
إن حال أمتنا اليوم ال تخفى على أحد ،فمن بعد العز والقوة والمنعة ،صارت إلى الذل والضعف والهوان،
وبعد أن كانت تقود األمم وتسوقها ،صارت في ذيل الركب وتراجعت وتأخرت مكانتها؛ تكالبت عليها
األمم كما تتكالب األكلة على قصعتها ،فمزقت أوصالها ،ونهبت خيراتها ،وشردت وقتلت كثيرا ً من
أبنائها.
ومن كان يظن أن تبديل هذه الحال يكون باألخذ بأسباب التقدم المادي فحسب فهو واهم ،فإن مصدر عز
سو ِل ِه َو ِل ْل ُمؤْ ِمنِينَ َولَ ِك َّن ْال ُمنَافِقِينَ َال
هذه األمة هو تمسكها بدينها ال غير ،قال تعالى{ َ :و ِ َّّلِلِ ْال ِع َّزة ُ َو ِل َر ُ
َي ْعلَ ُمونَ [ }المنافقون]8 :؛ أما المؤمنون فقد علموا ذلك ووعوه ،وعبر عنه أميرهم الفاروق رضي هللا عنه
بقوله" :إنا كنا أذل قوم فأعزنا هللا باإلسالم ،فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا هللا به أذلنا هللا" ()1؛
والتاريخ خير شاهد على ذلك ،فلما تمسك المسلمون األوائل بعرى هذا الدين فتح هللا لهم البالد وقلوب
العباد ،ودانت لهم األمم ،وأتتهم األرزاق من كل حدب وصوب ،وأعزهم هللا وجعلهم سادة وقادة ،وحققت
األمة -في وقت قصير -نهضة مادية ال يكاد يسمع بمثلها ،فلما بدأ تمسك المسلمين بهذا الدين يضعف شيئا ً
فشيئا ً بدأ عقد األمور يفلت من بين أيديهم بحسب ذلك ،حتى آلت األمور إلى ما آلت إليه اليوم.
إننا ال يمكن بحال أن نغفل جانب الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها من أسباب النهضة المادية ،فإغفال
األسباب ليس من الدين في شيء ،لكننا ال نقبل في المقابل أن تكون هذه األسباب هي أساس نهضتنا
ألمور؛ أولها أن الواقع يشهد أنها ال يمكن أن تكون كذلك ،فقبل أكثر من عشرين سنة كان الخبراء يقولون
إن الفجوة بيننا وبين الغرب تقدر بمائة سنة وهي آخذة في االزدياد بسبب سرعة تطورهم وبطء سيرنا،
فالركون إلى هذه األسباب والمقاييس المادية وحدها كفيل ببعث روح اليأس والهزيمة وفقدان األمل،
والثاني أن التاريخ يشهد أن الفرق المادي بين أمتنا في صدر اإلسالم وبين أعدائها كان كالفرق بيننا وبين
أمم الشرق والغرب اليوم ،يزيد قليالً أو ينقص قليالً ،حيث كانت تلك األمم تنظر للعرب كأمة فقيرة
ضعيفة متخلفة ،وما هي إال سنوات قالئل حتى استلمت هذه األمة راية قيادة البشرية كلها ،ولم يكن ذلك
بمنافسة غيرها في األسباب المادية ابتداء ،وإنما بالتمسك بعرى هذا الدين ثم األخذ باألسباب المادية،
وثالثها أن هللا سبحانه وتعالى بين بما ال لبس فيه وال خفاء أن حجر الزاوية في القيادة والريادة
تصا ِل َحا ِ ع ِملُوا ال َّ َّللاُ الَّذِينَ آ َ َمنُوا ِم ْن ُك ْم َو َ
عدَ َّواالستخالف إنما هو التمسك بهذا الدين ،قال تعالى{ َ :و َ
ضى لَ ُه ْم َولَيُبَ ِدلَنَّ ُه ْم ِم ْن بَ ْع ِدارت َ َف الَّذِينَ ِم ْن قَ ْب ِل ِه ْم َولَيُ َم ِكن ََّن لَ ُه ْم دِينَ ُه ُم الَّذِي ْ لَيَ ْست َ ْخ ِلفَنَّ ُه ْم فِي ْاأل َ ْر ِ
ض َك َما ا ْست َْخلَ َ
ش ْيئًا َو َم ْن َكفَ َر بَ ْعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ ُه ُم ْالفَا ِسقُونَ [ }النور،]55 : خ َْوفِ ِه ْم أ َ ْمنًا يَ ْعبُد ُونَنِي َال يُ ْش ِر ُكونَ بِي َ
فجعل اإليمان هو األساس ثم العمل الصالح ،ويدخل في العمل الصالح األخذ بأسباب االستخالف المادية.
إن النهضة التي ندعو إليها هي النهضة التي تعيد لألمة مجدها وعزها ،كالذي كان يوم نظر
الخليفة هارون الرشيدرحمه هللا لسحابة وقال :أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك؛ ألنها إما أن
تمطر في بالد المسلمين أو في بالد تدفع الجزية للمسلمين .وكالذي كان يوم رفض نقفور ملك الروم أن
يؤدي له الجزية وطالبه بما كان أخذه ممن قبله فأرسل له رسالة مقتضبة" :بسم هللا الرحمن الرحيم ،من
هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ،والجواب ما تراه دون ما
تسمعه ،والسالم" ( ،)2فأرسل له جيشا ً عظيما ً وقاتله حتى طلب الصلح مع أداء الجزية ،فال مجامالت
دبلوماسية وال تذلل.
إننا ندعو لهذه النهضة والعزة ونحن على ثقة أنها ستكون ،ال عن رجم بالغيب ،بل إيمانا ً وتصديقا ً
بموعود هللا على لسان رسوله عليه السالم في كثير من األحاديث ،مثل قوله صلى هللا عليه وسلم« :ال
يبقى على ظهر األرض بيت مدر وال وبر إال أدخله هللا كلمة اإلسالم بعز عزيز أو ذل ذليل ،إما يعزهم
هللا عز وجل فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها) ،»(3وقوله« :إن هللا زوى لي األرض فرأيت
مشارقها ومغاربها ،وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)» (4؛ ومع هذا اليقين فإنني على يقين آخر
من كون هذه الريادة لن تأتي األمة على طبق من ذهب بينما هي الهية غافلة غارقة في البطالة!! ،بل ال
بد من األخذ باألسباب والتوكل على هللا ،فيا ليت قومنا يعلمون.
_______________
)(1رواه الحاكم في المستدرك ،)207( 130/1وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ،ووافقه
الذهبي.