You are on page 1of 586

‫]‪[Type text‬‬

‫صريح البيان في الر ّد على َم ْن خالف القرءان‬


‫تأليف‬
‫خادم ِعلم الحديث الشريف‬
‫الشي ُخ عبد هللا ال َهرري‬
‫المعروف بالحبشي غفر هللا لهُ ولوال َديه‬
‫الطبعة الرابعة‬
‫‪1434‬هـ ‪2013 -‬ر‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬


‫مقدمة الناشر‬
‫الحمد هلل الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عو ًجا قيّ ًما لينذر‬
‫أجرا‬
‫شر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم ً‬ ‫سا شديدًا من لدنه ويب ّ‬
‫بأ ً‬
‫حسنًا‪ ،‬والصالة والسالم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين‬
‫الطاهرين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫سحوا في المجا ِل ِس‬ ‫يقول هللا تعالى‪{ :‬يا أيُّها الذينَ ءا َمنوا إذا قي َل لَ ُك ْم ت َ َف َّ‬
‫ش ُزوا يَ ْرفَعِ هللاُ الذينَ ءا َمنوا ِمنكم والذينَ‬ ‫سحِ هللاُ لَ ُكم وإذا قي َل ا ْن ُ‬ ‫فا ْف َ‬
‫س ُحوا يَ ْف َ‬
‫خبير} [سورة المجادلة‪.]11/‬‬ ‫ٌ‬ ‫ت وهللاُ بما تع َملونَ‬ ‫درجا ٍ‬ ‫العلم َ‬
‫َ‬ ‫أُوتُوا‬
‫فهذا كتاب "صريح البيان في الر ّد على من خالف القرءان" للعالمة‬
‫الفقيه المحدّث الشيخ عبد هللا الهرري المعروف بالحبشي‪ ،‬نتقدّم به لطالب‬
‫العلم الكرام ءاملين أن يكونَ هذا الكتاب وأمثاله من كتب العلم دعامة‬
‫التلوث بضالل المضلّين وحمايته من أهل‬
‫ّ‬ ‫حقيقية لصون هذا الدين من‬
‫ال ِب َدع والزندقة‪.‬‬
‫وتتميز هذه الطبعة بزيادة فوائد كثيرة مهمة عن الطبعات السابقة‪.‬‬
‫ونسأل هللا أن يوفقنا إلى الثبات على طريق الهداية والسداد‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫نبذة مختصرة في ترجمة المؤلّف‬

‫‪ -‬اسمه ومولده‪:‬‬
‫هو العالم الجليل قدوة المحقّقين وعمدة المدقّقين صدر العلماء‬
‫العاملين‪ ،‬اإلمام المحدث التقي الزاهد والفاضل العابد صاحب‬
‫المواهب الجليلة الشيخ أبو عبد الرحمن عبد هللا بن مح َّمد بن يوسف‬
‫شيبي (‪ )1‬العبدري (‪ )2‬القرشي نسبًا‬ ‫ابن عبد هللا بن جامع ال َّ‬
‫الهرري (‪ )3‬موطنًا المعروف بالحبشي‪.‬‬
‫‪ -‬مولده ونشأته‪:‬‬
‫ُو ِل َد في مدينة هرر حوالي سنة ‪1328‬هـ‪1910-‬ر‪ ،‬ونشأ في بي ٍ‬
‫ت‬
‫استظهارا وترتيالً‬
‫ً‬ ‫متواضع محبًّا لل ِعلم وألهله فحفظ القرءان الكريم‬
‫وإتقانًا وهو قريب العاشرة من عمره في أحد كتاتيب باب السالم في‬
‫هرر‪ ،‬وأقرأه والده كتاب "المقدمة الحضرمية في فقه السادة‬
‫الشافعية" لعبد هللا بافضل الحضرمي الشافعي‪ ،‬وكتاب "المختصر‬
‫الصغير فيما ال بد لكل مسلم من معرفته" وهو كتاب مشهور في‬
‫بب إليه العلم فأخذ عن بعض علماء بلده وما جاورها‪،‬‬ ‫بالده‪ ،‬ثم ُح َ‬
‫وعكف على االغتراف من بحور العلم فحفظ عددًا من المتون في‬
‫بنو شيبة بطن من عبد الدار من قريش وهم حجبة الكعبة المعروفون‬ ‫(‪)1‬‬
‫ببني شيبة إلى اآلن‪ ،‬انتهت إليهم من قبل جدهم عبد الدار حيث ابتاع‬
‫ي مفاتيح الكعبة من أبي غبشان الخزاعي‪ ،‬وقد جعلها النبي‬ ‫أبوه قص ّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم في عقبهم‪ .‬انظر سبائك الذهب (ص‪.)68/‬‬
‫بنو عبد الدار بطن من قصي بن كالب ج ّد النبي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫(‪)2‬‬
‫الرابع‪ .‬انظر سبائك الذهب (ص‪.)68/‬‬
‫تقد مدينة هرر في المنطقة الداخلية األفريقية‪ ،‬يحدها من الشرق‬ ‫(‪)3‬‬
‫جمهورية الصومال‪ ،‬ومن الغرب الحبشة‪ ،‬ومن الجنوب كينيا‪ ،‬ومن‬
‫الشمال الشرقي جمهورية جيبوتي‪ ،‬وقد احتلت الصومال وقسمت إلى‬
‫خمسة أجزاء‪ ،‬فكان إقليم الصومال الغربي (هرر) من نصيب الحبشة‬
‫وذلك سنة ‪1304‬هـ‪1887-‬ر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مختلف العلوم الشرعية‪.‬‬


‫‪ -‬رحالته‪:‬‬
‫يكتف رضي هللا عنه بعلماء بلدته وما جاورها بل جال في‬ ‫ِ‬ ‫لم‬
‫أنحاء الحبشة ودخل أطراف الصومال مثل هركيسا لطلب العلم‬
‫وسماعه من أهله وله في ذلك رحالت عديدة القى فيها المشاق‬
‫والمصاعب‪ ،‬غير أنه كان ال يأبه لها بل كلما سمع بعا ِلم ش ّد رحاله‬
‫إليه ليستفيد منه وهذه عادة السلف الصالح‪ ،‬وساعده ذكاؤه وحافظته‬
‫العجيبة على التع ّمق في الفقه الشافعي وأصوله ومعرفة وجوه‬
‫الخالف فيه‪ ،‬وكذا الشأن في الفقه المالكي والحنفي والحنبلي‪ ،‬ثم‬
‫أولى علم الحديث اهتمامه رواية ودراية فحفظ الكتب الستة وغيرها‬
‫بأسانيدها وأجيز بالفتوى ورواية الحديث وهو دون الثامنة عشرة‬
‫حتى صار يُشار إليه باأليدي والبنان ويُقصد وتش ّد الرحال إليه من‬
‫أقطار الحبشة والصومال حتى صار على الحقيقة مفتيًا لبلده هرر‬
‫وما جاورها‪.‬‬
‫ثم رحل إلى مكة المكرمة بعد أن كثر تقتيل العلماء وذلك حوالي‬
‫فتعرف على عدد من علمائها كالشيخ العا ِلم‬ ‫ّ‬ ‫سنة ‪1369‬هـ‪1949-‬ر‬
‫السيّد علوي المالكي‪ ،‬والشيخ السيد أمين الكتبي‪ ،‬والشيخ محمد‬
‫ياسين الفاداني‪ ،‬والشيخ حسن مشاط وغيرهم وربطته بهم صداقة‬
‫وطيدة‪ ،‬وحضر على الشيخ محمد العربي التبّان‪ ،‬واتصل بالشيخ‬
‫عبد الغفور األفغاني النقشبندي فأخذ منه الطريقة النقشبندية‪.‬‬
‫ورحل بعدها إلى المدينة المنورة واتصل بعدد من علمائها منهم‬
‫الشيخ المحدث محمد بن علي أعظم الصديقي البكري الهندي األصل‬
‫ثم المدني الحنفي وأجازه‪ ،‬واجتمع بالشيخ المحدث إبراهيم الختني‬
‫تلميذ المحدث عبد القادر شلبي وحصلت بينهما صداقة ومودة‪ ،‬ثم‬
‫الزم مكتبة عارف حكمت والمكتبة المحمودية مطالعًا منقبًا بين‬
‫مجاورا مدة من‬
‫ً‬ ‫األسفار الخطيّة مغترفًا من مناهلها فبقي في المدينة‬
‫الزمن‪.‬‬
‫ثم رحل إلى بيت المقدس حوالي سنة ‪1370‬هـ‪1950-‬ر ومنه‬
‫تو ّجه إلى دمشق فاستقبله أهلها بالترحاب ال سيما بعد وفاة محدّثها‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بدر الدين الحسني رحمه هللا‪ ،‬ثم سكن في جامع القطاط في محلة‬
‫القيمرية وأخذ صيته في االنتشار فتردّد عليه مشايخ الشام وطلبتها‬
‫وأقروا‬
‫ُّ‬ ‫وتعرف على علمائها واستفادوا منه وشهدوا له بالفضل‬ ‫ّ‬
‫بعلمه واشتهر في الديار الشامية "بخليفة الشيخ بدر الدين الحسني"‬
‫و"بمحدث الديار الشامية"‪ ،‬ثم تنقل في بالد الشام بين دمشق‬
‫وبيروت وحمص وحماه وحلب وغيرها من المدن السورية واللبنانية‬
‫ءاخرا في بيروت‪.‬‬
‫ً‬ ‫إلى أن استقر‬
‫‪ -‬مشايخه‪:‬‬
‫‪ -1‬هرر ونواحيها‪:‬‬
‫أخذ عن والده محمد بن يوسف‪ ،‬وعن كبير (‪ )1‬علي شريف‬
‫ظا وتجويدًا وترتيالً‪ ،‬وعن العالم النحرير الشيخ‬‫القرءان الكريم حف ً‬
‫الولي محمد بن عبد السالم الهرري الفقه الشافعي والنحو‪ ،‬وقرأ‬
‫على الشيخ محمد بن عمر جامع الهرري علم التوحيد والفقه‬
‫الشافعي والنحو‪ ،‬وأخذ عن الشيخ إبراهيم بن أبي الغيث الهرري‬
‫كتاب "عمدة السالك وعدة الناسك"‪ ،‬وعن الشيخ الصالح أحمد‬
‫الضرير الملقب بالبصير النحو والصرف والبالغة‪ ،‬والشيخ محمد‬
‫بن علي البلبليتي الشافعي علم الفلك والميقات‪.‬‬
‫‪ -2‬غربي الحبشة‪:‬‬
‫أخذ في ِج َّمه عن الشيخ بشرى كاروكي علم العروض والقوافي‪،‬‬
‫والشيخ محمد شريف الهديي الحبشي كتاب "كشف النقاب عن‬
‫مخدرات ملحة اإلعراب"‪ ،‬وحضر عليه في التفسير‪ ،‬وقرأ على‬
‫الشيخ عبد الرحمن بن عبد هللا الحبشي صحيح مسلم وسنن النسائي‬
‫كما قرأ عليه مواضع من صحيح ابن حبان والسنن الكبرى للبيهقي‬
‫كتاب‬
‫َ‬ ‫ثم أجازه بسائر مروياته‪ ،‬وقرأ على الشيخ يونس كواركي‬
‫"فتح الجواد في شرح اإلرشاد البن المقري" للشيخ أحمد بن حجر‬
‫وغيره‪.‬‬
‫َ‬ ‫الهيتمي الشافعي‪،‬‬
‫_______________‬
‫معناها في بالد الحبشة "الشيخ العالم"‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫‪ -3‬شمالي الحبشة‪:‬‬
‫ارتحل إلى رايّه وهي تبعد عن هرر نحو ألف كيلومتر فقرأ على‬
‫مفتي الحبشة الشيخ محمد سراج الجبرتي سنن أبي داود وابن ماجه‬
‫وغير ذلك ثم أجازه بسائر مروياته‪ ،‬ودخل قرية كدو فأخذ عن‬
‫الشيخ الصالح القارئ أبي هدية الحاج كبير أحمد بن عبد الرحمن‬
‫إدريس الحسني القراءات وسنن الترمذي والبخاري وأجازه‪ ،‬ثم دخل‬
‫أديس أبابا فأخذ عن الشيخ داود الجبرتي القارئ شرح الجزرية‬
‫لزكريا األنصاري وقراءة عاصم وأبي عمرو ونافع‪.‬‬
‫‪ -4‬المدينة المنورة‪:‬‬
‫اجتمع في المدينة بالشيخ محمد بن علي أعظم الصديقي البكري‬
‫الهندي األصل ثم المدني الحنفي وقرأ عليه وأجازه‪ ،‬وحضر على‬
‫الشيخ محمد العربي التبان المكي المالكي في المسجد الحرام عند‬
‫باب الزيادة‪.‬‬
‫‪ -5‬بالد الشام‪:‬‬
‫قرأ على الشيخ المقرئ محمود فايز الديرعطاني نزيل دمشق‬
‫وجامع القراءات السبع القرءان برواية حفص على وجه قصر‬
‫المنفصل في المدرسة الكاملية وذلك لما سكن صاحب الترجمة‬
‫دمشق‪ ،‬وأجازه الشيخ محمد الباقر بن محمد بن عبد الكبير الكتاني‬
‫ضا من مسند‬ ‫نزيل دمشق‪ ،‬وسمع الموطأ واألربعين العجلونية وبع ً‬
‫أحمد من الشيخ محمد العربي العزوزي الفاسي نزيل بيروت‬
‫وأجازه‪ ،‬وتردد على الشيخ محمد توفيق الهبري البيروتي وسمع من‬
‫ضا من األربعين العجلونية وأجازه بها‪.‬‬
‫لفظه بع ً‬
‫‪ -‬تدريسه‪:‬‬
‫مبكرا على الطالب الذين ربما‬
‫ً‬ ‫شرع رضي هللا عنه يُلقي الدروس‬
‫كانوا أكبر منه سنًّا فجمع بين التعلُّم والتعليم في ءان واحد‪ ،‬وانفرد‬
‫بتفوقه على أقرانه في معرفة تراجم‬ ‫في أرجاء الحبشة والصومال ّ‬
‫رجال الحديث وطبقاتهم وحفظ المتون والتب ّحر في علوم السنة‬
‫واللغة والتفسير والفرائض وغير ذلك‪ ،‬حتى أنه لم يترك عل ًما من‬
‫العلوم اإلسالمية المعروفة إال درسه وله فيه باعٌ‪ ،‬وربما تكلّم في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫علم فيظن سامعه أنه اقتصر عليه في األحكام وكذا سائر العلوم على‬
‫أنه إذا ُحدّث بما يعرف أنصت إنصات المستفيد‪ ،‬فهو كما قال‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫وتراهُ يُصغي للحديث بسمعه *** وبقلبه ولعله أدرى به‬
‫‪ -‬الثناء عليه‪:‬‬
‫أثنى عليه العديد من علماء وفقهاء الشام منهم‪ :‬الشيخ ّ‬
‫عز الدين‬
‫الخزنوي الشافعي النقشبندي من الجزيرة شمالي سوريا‪ ،‬والشيخ‬
‫عبد الرزاق الحلبي إمام ومدير المسجد األموي بدمشق‪ ،‬والشيخ أبو‬
‫مال رمضان البوطي‪ ،‬والشيخ أبو‬ ‫سليمان سهيل الزبيبي‪ ،‬والشيخ ّ‬
‫اليسر عابدين مفتي سوريا‪ ،‬والشيخ عبد الكريم الرفاعي‪ ،‬والشيخ‬
‫معرة النعمان‬
‫سعيد طناطرة الدمشقي‪ ،‬والشيخ أحمد الحصري شيخ ّ‬
‫ومدير معهدها الشرعي‪ ،‬والشيخ عبد هللا سراج الحلبي‪ ،‬والشيخ‬
‫محمد مراد الحلبي‪ ،‬والشيخ صهيب الشامي مدير أوقاف حلب‪،‬‬
‫قراء حمص‪ ،‬والشيخ أبو‬ ‫والشيخ عبد العزيز عيون السود شيخ ّ‬
‫السعود الحمصي‪ ،‬والشيخ فايز الديرعطاني نزيل دمشق وجامع‬
‫القراءات السبع فيها‪ ،‬والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت الدمشقي‪،‬‬
‫والدكتور الحلواني شيخ القراء في سوريا‪ ،‬والشيخ أحمد الحارون‬
‫الدمشقي الولي الصالح‪ ،‬والشيخ طاهر الكيالي الحمصي‪ ،‬والشيخ‬
‫صالح كيوان الدمشقي‪ ،‬والشيخ عباس الجويجاتي الدمشقي‪ ،‬ومفتى‬
‫محافظة إدلب الشيخ محمد ثابت الكيالي‪ ،‬ومفتي الرقة الشيخ محمد‬
‫السيد أحمد‪ ،‬والشيخ نوح القضاه من األردن وغيرهم خلق كثير‪.‬‬
‫وكذلك أثنى عليه الشيخ عثمان سراج الدين سليل الشيخ عالء‬
‫الدين شيخ النقشبندية في وقته‪ ،‬وقد حصلت بينهما مراسالت علمية‬
‫المدرس في جامع الكيالنية‬
‫ّ‬ ‫وأخوية‪ ،‬والشيخ عبد الكريم البياري‬
‫ببغداد‪ ،‬والشيخ محمد زاهد اإلسالمبولي‪ ،‬والشيخ محمود الحنفي من‬
‫مشاهير مشايخ األتراك العاملين اآلن بتلك الديار‪ ،‬والشيخان عبد هللا‬
‫وعبد العزيز الغماري محدّثا الديار المغربية‪ ،‬والشيخ محمد ياسين‬
‫الفداني المكي شيخ الحديث واإلسناد بدار العلوم الدينية بمكة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المكرمة‪ ،‬والشيخ محمود الطش مفتي أزمير‪ ،‬والشيخ المحدث حبيب‬


‫الرحمن األعظم والشيخ محمد زكريا الكاندهلوي الهنديان‪ ،‬والمحدث‬
‫إبراهيم ال ُختني وغيرهم خلق كثير‪.‬‬
‫أخذ اإلجازة بالطريقة الرفاعية من الشيخ محمد علي الحريري‬
‫الدمشقي‪ ،‬والخالفة من الشيخ عبد الرحمن السبسبي الحموي والشيخ‬
‫طاهر الكيالي الحمصي‪ ،‬واإلجازة بالطريقة القادرية من الشيخ‬
‫الطيب الدمشقي‪ ،‬والخالفة من الشيخ أحمد البدوي السوداني‬
‫المكاشفي والشيخ أحمد العربيني والشيخ المعمر علي مرتضى‬
‫الديروي الباكستاني‪ ،‬وأخذ الطريقة الشاذلية من الشيخ أحمد‬
‫البصير‪ ،‬والنقشبندية من الشيخ عبد الغفور األفغاني النقشبندي‬
‫والخالفة من الشيخ المعمر علي مرتضى الديروي الباكستاني‬
‫رحمهم هللا تعالى‪ ،‬كما أخذ الخالفة بالطريقة الجشتية والسهروردية‬
‫من االخير‪.‬‬
‫‪ -‬دخوله بيروت‪:‬‬
‫دخل أول مرة بيروت حوالي سنة ‪1370‬هـ‪1950-‬ر فاستضافه‬
‫كبار مشايخها أمثال القاضي محي الدين العجوز‪ ،‬والشيخ المستشار‬
‫محمد الشريف‪ ،‬واجتمع في بيته بمفتي عكار الشيخ بهاء الدين‬
‫الكيالني وسأل الشيخ في علم الحديث واستفاد منه‪ .‬واجتمع بالشيخ‬
‫عبد الوهاب البوتاري إمام جامع البسطا الفوقا‪ ،‬والشيخ أحمد‬
‫اسكندراني إمام ومؤذن جامع برج أبي حيدر والزموه واستفادوا‬
‫منه‪ ،‬ثم اجتمع بالشيخ توفيق الهبري رحمه هللا وعنده كان يجتمع‬
‫بأعيان بيروت‪ ،‬وبالشيخ عبد الرحمن المجذوب واستفادا منه‪،‬‬
‫وبالشيخ مختار العاليلي رحمه هللا أمين الفتوى السابق الذي أق ّر‬
‫بفضله وسعة علمه وهيَّأ له اإلقامة على كفالة دار الفتوى في بيروت‬
‫خطي منه‪.‬‬ ‫ليتنقّل بين مساجدها مقي ًما الحلقات العلمية وذلك بإذن ّ‬
‫وفي سنة ‪1389‬هـ‪1969-‬ر وبطلب من مدير األزهر في لبنان‬
‫ءانذاك ألقى محاضرة في التوحيد في ّ‬
‫طالب األزهر‪.‬‬
‫‪ -‬تصانيفه وءاثاره‪:‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫شغله إصالح عقائد الناس ومحاربة أهل اإللحاد وقمع فتن أهل‬
‫التفرغ للتأليف والتصنيف‪ ،‬ورغم ذلك أع َّد‬
‫ّ‬ ‫البدع واألّهواء عن‬
‫ءاثارا ومؤلفات قيّمة كثيرة نذكر منها‪:‬‬
‫ً‬
‫‪ -1‬القرءان وعلومه‬
‫‪ -1‬كتاب الد ُُّّر النضيد في أحكام التجويد‪ُ ،‬‬
‫طبه‪.‬‬
‫‪ -2‬علم التوحيد‬
‫‪-2‬نصيحة الطالب‪ ،‬وهي منظومة رجزية في االعتقاد مع ذكر بعض‬
‫الفوائد العلمية والنصائح تقع في ستين بيتًا تقريبًا‪ ،‬خ‪.‬‬
‫طبع مرات عديدة‪.‬‬ ‫‪ -3‬الصراط المستقيم في التوحيد‪ُ ،‬‬
‫‪ -4‬الدليل القويم على الصراط المستقيم في التوحيد‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫‪ -5‬المطالب الوفية شرح العقيدة النسفية‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫سنية بشرح العقيدة الطحاوية‪ ،‬طبع‪.‬‬‫‪ -6‬إظهار العقيدة ال ُّ‬
‫‪ -7‬الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫‪ -8‬صريح البيان في الر ّد على من خالف القرءان‪ ،‬وهو هذا الكتاب‬
‫الذي بين أيدينا‪.‬‬
‫‪ -9‬المقاالت السنيّة في كشف ضالالت أحمد بن تيمية‪ ،‬والكتاب في‬
‫جزئين األول في أشهر المسائل التي خالف فيها ابن تيمية إجماع‬
‫األمة في أصول الدين والثاني في المسائل التي خالف فيها إجماع‬
‫األمة في الفروع وقد طبع الجزء األول والثاني قيد الطبع‪.‬‬
‫شرح الصفات الثالث عشرة الواجبة هلل‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-10‬‬
‫العقيدة المنجية وهي رسالة صغيرة أمالها في مجلس واحد‪،‬‬ ‫‪-11‬‬
‫طبع‪.‬‬
‫التحذير الشرعي الواجب‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-12‬‬
‫رسالة في بطالن دعوى أولية النور المحمدي‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-13‬‬
‫رسالة في الرد على قول البعض إن الرسول يعلم كل شئ‬ ‫‪-14‬‬
‫يعلمه هللا‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫الغارة اإليمانية في رد مفاسد التحريرية‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-15‬‬
‫الدرة البهية في حل ألفاظ العقيدة الطحاوية‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-16‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صفوة الكالم في صفة الكالم‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-17‬‬


‫رسالة في تنزه كالم هللا عن الحرف والصوت واللغة‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-18‬‬
‫التعاون على النهي عن المنكر‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-19‬‬
‫‪-3‬علم الحديث‬
‫شرح ألفية السيوطي في مصطلح الحديث‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-20‬‬
‫طبع‪ .‬ر ّد‬ ‫التعقُّب الحثيث على من طعن فيما ص ّح من الحديث‪ُ ،‬‬ ‫‪-21‬‬
‫فيه على األلباني وفنّد أقواله باألدلة الحديثية الباهرة حتى قال عنه‬
‫محدّث الديار المغربية الشيخ عبد هللا الغماري رحمه هللا "وهو ر ّد‬
‫جيّد متقن"‪.‬‬
‫نصرة التعقب الحثيث على من طعن فيما ص ّح من الحديث‪،‬‬ ‫‪-22‬‬
‫طبع‪.‬‬
‫الروائح الزكية في مولد خير البرية‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-23‬‬
‫شرح البيقونية في المصطلح‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-24‬‬
‫رسالة في حد الحافظ‪ ،‬خ‪ ،‬وهي رسالة أمالها في مجلس‬ ‫‪-25‬‬
‫واحد‪.‬‬
‫جزء من أحاديث نص الحفاظ على صحتها وحسنها‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-26‬‬
‫أسانيد الكتب السبعة في الحديث الشريف‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-27‬‬
‫أسانيد كتب الحديثية العشرة‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-28‬‬
‫األربعون الهررية‪ ،‬وهو أربعون حديثًا من أربعين كتابًا من‬ ‫‪-29‬‬
‫كتب الحديث مشروحة‪ ،‬خ‪.‬‬
‫‪ 4‬الفقه وتعلقاته‬
‫مختصر عبد هللا الهرري الكافر بعلم الدين الضروري على‬ ‫‪-30‬‬
‫مذهب اإلمام الشافعي رضي هللا عنه‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-31‬‬
‫شرح ألفية ّ‬
‫الزبد في الفقه الشافعي‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-32‬‬
‫شرح متن أبي شجاع في الفقه الشافعي‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-33‬‬
‫شرح متن العشماوية في الفقه المالكي‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-34‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫شرح التنبيه لإلمام الشيرازي في الفقه الشافعي‪ ،‬لم يكمل‪.‬‬ ‫‪-35‬‬


‫شرح منهم الطالب للشيخ زكريا األنصاري في الفقه‬ ‫‪-36‬‬
‫الشافعي‪ ،‬لم يكمل‪.‬‬
‫سلَّم التوفيق إلى محبة هللا على التحقيق للشيخ عبد‬ ‫شرح كتاب ُ‬ ‫‪-37‬‬
‫هللا باعلوي‪ ،‬خ‪.‬‬
‫مختصر عبد هللا الهرري الكافل بعلم الدين الضروري على‬ ‫‪-38‬‬
‫مذهب اإلمام مالك رضي هللا عنه‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫مختصر عبد هللا الهرري الكافل بعلم الدين الضروري على‬ ‫‪-39‬‬
‫مذهب اإلمام أبي حنيفة رضي هللا عنه‪ ،‬طبع‪.‬‬
‫عمدة الراغب في مختصر بغية الطالب‪ ،‬طبع‪.‬‬ ‫‪-40‬‬
‫‪-5‬اللغة العربية‬
‫شرح متممة اآلجرومية في النحو‪ ،‬لم يكمل‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-41‬‬
‫شرح منظومة الصبان في العروض‪ ،‬خ‪.‬‬ ‫‪-42‬‬
‫‪ -‬سيرته وشمائله‪:‬‬
‫الشيخ عبد هللا الهرري شديد الورع‪ ،‬متواضع‪ ،‬صاحب عبادة‪،‬‬
‫كثير الذكر‪ ،‬يشتغل بالعلم والذكر معًا‪ ،‬زاهد طيّب السريرة‪ ،‬شفوق‬
‫على الفقراء والمساكين‪ ،‬كثير البر واإلحسان‪ ،‬ال تكاد تجد له لحظة‬
‫عارف‬‫إال وهو يشغلها بقراءة أو ذكر أو تدريس أو وعظ وإرشاد‪ِ ،‬‬
‫سنّة‪ ،‬حاضر الذهن قوي الح ّجة ساطع‬ ‫سك بالكتاب وال ُّ‬
‫باهلل‪ ،‬متم ّ‬
‫الدليل‪ ،‬حكيم يضع األمور في مواضعها‪ ،‬شديد النكير على من‬
‫خالف الشرع‪ ،‬ذو ه ّمة عالية في األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر ال يخاف في هللا لومة الئم حتى هابه أهل البدع والضالل‬
‫وحسدوه ورموه باألكاذيب واالفتراءات بقصد تنفير الناس منه لكن‬
‫هللا يدافع عن الذين ءامنوا‪.‬‬
‫‪ -‬وفاته‪:‬‬
‫اشت ّد عليه المرض فألزمه الفراش بضعة أشهر حتى توفاه هللا‬
‫تعالى فجر يوم الثالثاء في الثاني من شهر رمضان سنة ‪1429‬هـ‬
‫الموافق الثاني من شهر أيلول سنة ‪2008‬ر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذا ما كان من خالصة ترجمته الجليلة‪ ،‬ولو أردنا بسطها لكلَّت‬


‫صحف ولكن فيما ذكرناه كفاية يُستدل به كما‬ ‫األقالم عنها وضاقت ال ُّ‬
‫ي الكتاب‪.‬‬‫يُستد ّل بالعنوان على ما هو في ط ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مقدمةُ المؤلف‬
‫قا َل الفقيه المحدّث الشيخ عبد هللا الهرري‪:‬‬
‫الحم ُد هلل ربّ العالمين‪ ،‬وصلى هللاُ على سيدنا محمد وعلى ءال ِه وصحبِ ِه‬
‫الطيبينَ الطاهرين وسلّم‪.‬‬
‫للناس تَأ ُمرونَ‬
‫ِ‬ ‫فإن هللا تعالى يقول‪ُ { :‬ك ْنت ُ ْم َخي َْر أ َّم ٍة أ ُ ْخ ِر َج ْ‬
‫ت‬ ‫وبعد‪ّ ،‬‬
‫عن ال ُمنكر} [سورة ءال عمران‪.]110/‬‬ ‫بالمعروف وت َ ْن َه ْونَ ِ‬
‫ِ‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬م ْن رأى منكُم ُم ً‬
‫نكرا فليُغيّر ُه بيد ِه‬ ‫ويقول النب ّ‬
‫أضعف اإليمان" رواهُ‬ ‫ُ‬ ‫يستط ْع فب ِلسا ِن ِه ْ‬
‫فإن لم يستطع فبقلب ِه وذلكَ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫فإن لم‬
‫مسلم‪.‬‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى‬
‫ِ‬ ‫األمر‬
‫ِ‬ ‫الكريم دعانا إلى‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫فإن الشر َ‬
‫إبطا ِل الباط ِل وإحقاق الحق‪ ،‬ولقد كث ُ َر ال ُمفتونَ اليوم في الدين بفتاوى ما‬
‫تأليف‬
‫ِ‬ ‫لذلك كانَ ال بُ ّد من‬
‫َ‬ ‫االنحراف وامتدّ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أنز َل هللاُ بها من سلطان‪ ،‬وزا َد‬
‫الحق من الباط ِل والصحيحِ من الزائف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لبيان‬
‫ِ‬ ‫مؤلَّف‬
‫ثبت عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أنهُ حذَّ َر م ّمن َّ‬
‫غش في‬ ‫وقد َ‬
‫يعيشان بين‬
‫ِ‬ ‫ضا أنهُ قال في رجلَين كانا‬
‫الطعام (‪ ،)1‬وثبت عنهُ أي ً‬
‫فان من ديننا شيئ ًا" (‪.)2‬‬ ‫أظن فالنًا وفالنًا ِ‬
‫يعر ِ‬ ‫المسلمين‪" :‬ما ُّ‬

‫وإذا كان الرسول صلى هللا عليه وسلم قال للخطيب الذي قال‪َ " :‬م ْن يُطعِ‬
‫الخطيب أنت" (‪)3‬‬
‫ُ‬ ‫بئس‬
‫يعصهما فقد غوى"‪َ " :‬‬ ‫هللا ورسوله فقد رش َد و َم ْن ِ‬
‫وذلك ألنه جمع بين هللا والرسول بضمير واحد‪ ،‬فقال له‪" :‬قل‪ :‬ومن يعص‬
‫هللا ورسوله" فلم يسكت عن هذا األمر الخفيف الذي ليس فيه كفر‬
‫يحرف الدين وينشر ذلك بين الناس‪ ،‬فهذا‬ ‫وإشراك‪ ،‬فكيف يسكت عمن ّ‬
‫أجدر بالتحذير والتنفير‬
‫____________________‬
‫رواه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب قول النبي صلى هللا عليه‬ ‫(‪)1‬‬
‫فليس منا"‪.‬‬
‫َ‬ ‫وسلم‪" :‬من غ ّ‬
‫شنا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫رواه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما يجو ُز من الظن‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الجمعة‪ :‬باب تخفيف الصالة‬ ‫(‪)3‬‬
‫والخطبة‪.‬‬

‫منه‪.‬‬
‫المحرم ِة إنَّما‬
‫ّ‬ ‫لبعض ال ُمنحرفين في هذا الكتاب من الغيب ِة‬ ‫ِ‬ ‫وليس ذِكرنا‬
‫َ‬
‫أن فاطمةَ بنت قيس قالت لرسول هللا‬ ‫ثبت ّ‬ ‫ب‪ ،‬فق ْد َ‬
‫التحذير الواج ِ‬
‫ِ‬ ‫هو من‬ ‫َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يا رسول هللا إنه خطبني معاوية وأبو جهم"‪ ،‬فقال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أما أبو جهم فال يضع العصا عن عات ِقه‪،‬‬
‫صعلوكٌ ال ما َل له‪ ،‬ان ِكحي أسامة" (‪ .)1‬فإذا كان الرسول‬ ‫وأما معاوية ف ُ‬
‫ين السببين‪،‬‬‫حذَّ َر فاطمةَ منهما وذكرهما في خل ِف ِهما بما يكرهان له َذ ِ‬
‫بأمر النفقة‪ ،‬والثاني‪ّ :‬‬
‫أن‬ ‫الفقر ال يقوم بحاجتها ِ‬ ‫أحدهما‪َ :‬ك ْون معاوية شدي َد ِ‬
‫ناس ادّعوا العلم وغشوا الناس وجعلوا‬ ‫فكيف أ ُ ٌ‬
‫َ‬ ‫كثر ضرب النساء‪.‬‬ ‫أبا جهم يُ ُ‬
‫أمام جمعٍ وقال له‪" :‬لقد‬ ‫الكفر إسال ًما‪ .‬ولهذا حذَّ َر الشافعي من حفص الفرد َ‬
‫معاص ِر ِه حرام بن عثمان –وكان يروي‬ ‫ِ‬ ‫كفرت باهلل العظيم" (‪ .)2‬وقال في‬
‫َ‬
‫الحديث ويكذب‪" :-‬الروايةُ عن حرام حرام"‪ .‬وقد جرح اإلمام مالك في‬
‫ومعاص ِره محمد بن إسحاق صاحب كتاب المغازي فقال فيه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫بلديّه‬
‫"كذّاب"‪ .‬وقال اإلمام أحمد‪" :‬الواقدي ركن الكذب"‪.‬‬
‫ضا إذا غلط‪ ،‬حتى إن إمام‬
‫تغليط بعضهم بع ً‬
‫ِ‬ ‫الفقهاء على‬
‫ِ‬ ‫وقد جرت عادة ُ‬
‫ط أباهُ في غير مسألة‪ ،‬وأبوه من كبار أصحاب الوجوه في‬ ‫الحرمين غلّ َ‬
‫ت‬
‫ذكر ذلك في طبقا ِ‬
‫مذهب اإلمام الشافعي‪ ،‬وهي الطبقة التي تلي الشافعي‪َ ،‬‬
‫الشافعية منقوالً من مختصر األسدي (‪.)3‬‬
‫والغرض من ذلك كله حفظ الشريعة‪ ،‬ألنهُ لوال تجنّب الرواة الذين ال‬
‫ُ‬
‫ع الدين‪.‬‬
‫يستحقون أن يُروى عنهم لضا َ‬
‫_____________________‬
‫رواه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الطالق‪ :‬باب المطلقة ثالثًا ال نفقة لها‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ورواه أحمد في مسنده (‪.)412/6‬‬
‫مناقب الشافعي للبيهقي (‪.)407/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬هذا الكتاب مخطوط‪.‬‬

‫ث ّم اعلم ّ‬
‫أن العمدة َ عند أهل الجرح والتعديل (‪ )1‬كالم المعاصر في‬
‫معاص ِره‪ ،‬أما قول بعض الناس‪ :‬ال يقبل قول العلماء المتعاصرين بعضهم‬
‫ِ‬
‫في بعض‪ ،‬فهو مردو ٌد ّ‬
‫ألن المعتمد في الجرح والتعديل معاصر الراوي‪،‬‬
‫فإنه إن لم يقبل قول الثقة الذي عرف خبر الراوي وعرف حاله فز ّكاه أو‬
‫جرحه فكيف يكون كالم َم ْن بعد عصره مقبوالً‪ ،‬وقد قال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬ليس الخبر كالعيان" (‪.)2‬‬
‫معاصره‬
‫ِ‬ ‫ومن أين يُعرف حال الراوي فيُزكى أو يُجرح إذا لم يؤخذ من‬
‫الذي خالطه واجتمع به‪.‬‬
‫فيا للعجب كيف راجت هذه المقالة الشنيعة عند أولئك‪ ،‬وأشنع منها قول‪:‬‬
‫"إن العلماء يغار بعضهم من بعض كالتيوس"‪.‬‬
‫______________________‬
‫الرواة وتعديلهم‬
‫علم الجرح والتعديل‪" :‬هو علم يبحث فيه عن جرح ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫بألفاظ مخصوصة‪ ،‬وعن مراتب تلك األلفاظ‪ .‬وهذا العلم من فروع علم‬
‫رجال الحديث‪ ،‬والكالم في الرجال جر ًحا وتعديالً ثابت عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ثم عن كثير من الصحابة والتابعين و َمن بعدهم‪،‬‬
‫عا وصونًا للشريعة‪ .‬وكما جاز الجرح في الشهود جاز في‬ ‫جوزَ ذلك تور ً‬‫َّ‬
‫الرواة‪ .‬والتثبّت في أمر الدين أولى من التثبّت في الحقوق واألموال‪،‬‬‫ّ‬
‫فلهذا افترضوا على أنفسهم الكالم في ذلك‪ .‬وأول َمن جمع في ذلك اإلمام‬
‫ي‬
‫يحيى بن سعيد بن القطان‪ ،‬وتكلم فيه بعده تالمذته يحيى بن معين‪ ،‬وعل ّ‬
‫بن المديني‪ ،‬وأحمد بن حنبل‪ ،‬وعمرو بن علي الفالس‪ ،‬وتالمذتهم كأبي‬
‫زرعة الدمشقي‪ ،‬وأبي حاتم‪ ،‬والبخاري‪ ،‬ومسلم‪ ،‬والجوزجاني‪ ،‬والنسائي‪،‬‬
‫وابن خزيمة‪ ،‬والترمذي‪ ،‬والدوالبي‪ ،‬وابن عدي‪ ،‬واألزدي‪ ،‬والدارقطني‪،‬‬
‫والحاكم وغيرهم‪ .‬وقد صنّفت فيه مصنفات عديدة من أشهرها كتاب‬
‫الجرح والتعديل للرازي‪ ،‬ولسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقالني"‪.‬‬
‫أخرجه اإلمام أحمد في مسنده (‪ ،)271/215/1‬وأخرجه البزار كما في كشف‬ ‫(‪)2‬‬
‫األستار (‪ ،)111/1‬والطبراني في الكبير (‪ )54/12‬واألوسط كما في مجمع‬
‫الزوائد (‪ ،)321/1‬قال الهيثمي‪ :‬ورجاله رجال الصحيح‪ ،‬وأخرجه الحاكم في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المستدرك (‪ ،)321/2‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‬
‫وأق ّره الذهبي‪ ،‬وأخرجه ابن حبان في صحيحه انظر اإلحسان (‪.)33 ،32/8‬‬

‫بيان‬
‫أهمية علم التوحيد‬

‫إن العلم باهلل تعالى وصفاته أج ّل العلوم وأعالها وأوجبها وأوالها‪،‬‬


‫ي صلى هللا‬ ‫حص النب ّ‬‫ّ‬ ‫ويسمى علم األصول وعلم التوحيد وعلم العقيدة‪ ،‬وقد‬
‫عليه وسلم نفسه بالترقّي في هذا العلم فقال‪" :‬أنا أعلمكم باهلل وأخشاكم له"‬
‫(‪ )1‬فكان هذا العلم أه ّم العلوم تحصيالً وأحقّها تبجيالً وتعظي ًما‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫{فا ْعلَ ْم أنَّهُ ال إلهَ إال هللاُ واست َ ْغ ِف ْر ِل َذنبِ َك} [سورة محمد‪ ]19/‬قد َّم األمر‬
‫بمعرفة التوحيد على األمر باالستغفار لتعلّق التوحيد بعلم األصول‪ ،‬وتعلّق‬
‫االستغفار بعلم الفروع‪.‬‬
‫ضا مع أدلته العقلية والنقلية من الكتاب والسنّة علم‬ ‫ويسمى هذا العلم أي ً‬
‫الكالم‪ ،‬والسبب في تسميته بهذا االسم كثرة المخالفين فيه من المنتسبين إلى‬
‫ألن أشهر‬ ‫ّ‬
‫الحق‪ ،‬وقيل ّ‬ ‫اإلسالم وطول الكالم فيه من أهل السنة لتقرير‬
‫الخالفات فيه مسألة كالم هللا تعالى أنه قديم – وهو الحق‪ -‬أو حادث‪.‬‬
‫فالحشوية قالت‪ :‬كالمه صوت وحرف‪ ،‬حتى بالغ بعضهم فقال‪ :‬إن هذا‬
‫الصوت أزلي قديم‪ ،‬وإن أشكال الحروف التي في المصحف أزلية قديمة‪،‬‬
‫فخرجوا عن دائرة العقل‪ ،‬وقالت طائفة أخرى‪ :‬إن هللا تعالى متكلّ ٌم بمعنى‬
‫خالق الكالم في غيره كالشجرة التي سمع عندها موسى كالم هللا‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫أنه‬
‫قام بذات هللا كالم هو صفة من صفاته وهم المعتزلة قبّحهم هللا‪.‬‬ ‫بمعنى أنهُ َ‬
‫ليس حرفًا وال صوتًا‬ ‫ي َ‬ ‫بكالم ذاتي أزلي أبد ّ‬
‫ٍ‬ ‫وقال أهل السنة‪ :‬إن هللا متكلّم‬
‫باختالف اللغات‪.‬‬
‫ِ‬ ‫يختلف‬
‫ُ‬ ‫وال‬
‫__________‬
‫بوب البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب قول النبي صلى هللا عليه‬ ‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫وسلم‪" :‬أنا أعلمكم باهلل"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وموضوع علم الكالم هو النظر أي االستدالل بخلق هللا تعالى إلثبات‬


‫المستخرج منها البراهين‪،‬‬
‫َ‬ ‫وجوده وصفاته الكمالية وبالنصوص الشرعية‬
‫وهو على قانون اإلسالم ال على أصول الفالسفة‪ّ ،‬‬
‫ألن الفالسفة لهم كالم‬
‫في ذلك يُعرف عندهم باإللهيات‪ ،‬وعلماء التوحيد ال يتكلمون في حق هللا‬
‫وفي حق المالئكة وفي ذلك اعتمادًا على مجرد النظر بالعقل‪ ،‬بل يتكلمون‬
‫في ذلك من باب االستشهاد بالعقل على صحة ما جاء عن رسول هللا صلى‬
‫ليس أصالً للدين‪،‬‬‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فالعقل عند علماء التوحيد شاه ٌد للشرع َ‬
‫وأما الفالسفة فجعلوه أصالً من غير التفا ٍ‬
‫ت إلى ما جاء عن األنبياء‪ ،‬فال‬
‫يتقيّدون بالجمع بين النظر العقلي وبين ما جاء عن األنبياء‪ ،‬على أن النظر‬
‫العقلي السليم ال يخرج ع ّما جاء به الشرع وال يتناقض معه‪.‬‬
‫حث هللاُ عبا َدهُ في القرءان على النظر في ملكوت ِه لمعرفة جبروته‬ ‫وقد ّ‬
‫ت واألرض} [سورة‬ ‫سموا ِ‬ ‫ت ال َّ‬‫ظروا في َملَكو ِ‬‫فقال تعالى‪{ :‬أ َ َولَ ْم يَ ْن ُ‬
‫ق وفي أنفُ ِس ِهم حتى‬
‫سنُري ِه ْم ءاياتِنا في اآلفا ِ‬
‫األعراف‪ ]185/‬وقال تعالى‪َ { :‬‬
‫الحق} [سورة فصلت‪.]53/‬‬ ‫ُّ‬ ‫َيتَبَيَّنَ ل ُهم أنَّهُ‬
‫فإن قيل‪ :‬لم ينقل أنه صلى هللا عليه وسلم علّم أحدًا من أصحابه هذا‬
‫العلم‪ ،‬وال عن أحد من أصحابه أنه تعلم أو علّم غيره‪ ،‬وإنما حدث هذا العلم‬
‫بعد انقراضهم بزمان‪ ،‬فلو كان هذا العلم مه ًما في الدين لكان أولى به‬
‫الصحابة والتابعون‪.‬‬
‫عني بهذا المقال أنهم لم يعلموا ذات هللا وصفاته وتوحيده‬ ‫قلنا‪ :‬إن ُ‬
‫أقروا بذلك تقليدًا‪،‬‬ ‫وتنزيهه وحقية رسوله وصحة معجزاته بداللة العقل بل ّ‬
‫عز وج َّل في كتابه على‬ ‫فهو بعيد من القول شني ٌع من الكالم‪ ،‬وقد ر ّد هللا ّ‬
‫من قلّ َد أباهُ في عبادةِ األصنام بقوله‪{ :‬إنَّا َو َج ْدنا ءابا َءنا على أ َّم ٍة وإنَّا على‬
‫ءاثار ِهم ُم ْقتَدون} [سورة الزخرف‪ ]23/‬أي أن أولئك اقتدوا بآبائهم في‬ ‫ِ‬
‫إشراكهم بغير دليل يقول على صحة ذلك الدين‪ ،‬وهذا يفهم منه أن علم‬
‫الدليل مطلوب‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال أبو حنيفة رضي هللا عنه جوابًا على القائلين‪ِ :‬ل َم تتكلمون بعلم الكالم‬
‫والصحابة لم يتكلموا فيه‪" :‬إنما مثلهم كأناس ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلم‬
‫يحتاجوا إلى إبراز السالح‪ ،‬ومثلنا كأناس بحضرتهم من يقاتلهم فاحتاجوا‬
‫إلى إبراز السالح"‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وإن أريد أن الصحابة لم يتلفظوا بهذه العبارات المصطلحة عند أهل هذه‬
‫الصناعة نحو‪ :‬الجوهر والعرض‪ ،‬والجائز والمحال‪ ،‬والحدث وال ِقدم‪ ،‬فهذا‬
‫سلَ ٌم به‪ ،‬لكننا نعارض هذا بمثله في سائر العلوم‪ ،‬فإنه لم ينقل عن النبي‬
‫ُم َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم وال عن أصحابه التلفّظ بالناسخ والمنسوخ‪ ،‬والمجمل‬
‫والمتشابه‪ ،‬وغيرها كما هو المستعمل عند أهل التفسير‪ .‬وال بالقياس‬
‫واالستحسان‪ ،‬والمعارضة والمناقضة‪ ،‬والطرد والشرط‪ ،‬والسبب والعلة‬
‫وغيرها كما هو المستعمل عند الفقهاء‪ ،‬وال بالجرح والتعديل‪ ،‬واآلحاد‬
‫والمشهور والمتواتر والصحيح والغريب وغير ذلك كما هو المستعمل عند‬
‫أهل الحديث‪ .‬فهل لقائل أن يقول يجب رفض هذه العلوم لهذه العلّة‪ ،‬على‬
‫تمس‬
‫ّ‬ ‫أنه في عصر النبي صلى هللا عليه وسلم لم تظهر األهواء والبدع فلم‬
‫الحاجة إلى الدخول في التفاصيل واالصطالحات‪.‬‬
‫متوفرا بينهم أكثر ممن جاء‬
‫ً‬ ‫وهذا العلم أصله كان موجودًا بين الصحابة‬
‫بعدهم‪ ،‬والكالم فيه بالرد على أهل البدع بدأ في عصر الصحابة‪ ،‬فقد ر ّد‬
‫ابن عباس وابن عمر على المعتزلة‪ ،‬ومن التابعين ر ّد عليهم عمر بن عبد‬
‫كرم هللا‬
‫العزيز والحسن بن محمد ابن حنيفة وغيرهما‪ .‬وقد قطع علي ّ‬
‫وأقام الحجة على أربعين رجالً‬
‫َ‬ ‫وجهه الخوارج بالحجة وقطع دهريًّا (‪)1‬‬
‫ب‪ ،‬وقطع الحبر ابن عباس رضي هللا‬ ‫طنَ ٍ‬‫من اليهود المجسمة بكالم نفيس ُم ْ‬
‫ضا‪ ،‬وقطع إياس بن معاوية القاضي القدرية‪،‬‬ ‫عنهما الخوارج بالحجة أي ً‬
‫وقطع الخليفة عمر بن عبد العزيز أصحاب ش َْو َذب الخارجي‪ ،‬وألّف رسالة‬
‫في الرد على المعتزلة وهي رسالة وجيزة‪ ،‬وقطع ربيعةُ الرأي شي ُخ اإلمام‬
‫مالك َغيالنَ بن مسلم أبا مروان القدري‪.‬‬
‫_______________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الدهرية هم القائلون بأن هذا العالم وجد صدفة أو بفعل الطبيعة وأنه ليس‬ ‫(‪)1‬‬
‫له خالق‪.‬‬

‫وكذلك اشتغل بهذا العلم الحسن البصري وهو من أكابر التابعين‪.‬‬


‫فإن قيل‪ :‬روى البيهقي (‪ )1‬بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال‪:‬‬
‫"تف ّكروا في كل شئ وال تفكروا في ذات هللا" فهو منه ّ‬
‫ي عنه‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن النهي ورد في التفكر في الخالق مع االمر بالتفكر في‬
‫ت‬
‫ت السموا ِ‬‫الخلق‪ ،‬فإنه يوجب النظر وإعمال الفكر والتأ ّمل في ملكو ِ‬
‫واألرض ليستدل بذلك على وجود الصانع‪ ،‬وعلى أنه ال يشبه شيئًا من‬
‫خلقه‪ ،‬ومن لم يعرف الخالق من المخلوق كيف يعمل بهذا األثر الصحيح‪.‬‬
‫وقد أمر القرءان بتعلّم األدلة على العقائد اإلسالمية على وجوده تعالى‬
‫وعلى ثبوت العلم له والقدرة والمشيئة والوحدانية إلى غير ذلك‪ .‬ولم يطعن‬
‫إمام معتبر في هذا العالم الذي هو مقصد أهل السنة والجماعة من السلف‬
‫والخلف‪.‬‬
‫وما يُروى عن الشافعي أنه قال‪" :‬ألن يلقى هللا العب ُد بكل ذنب ما عدا‬
‫خير له من أن يلقاه بعلم الكالم" بهذا اللفظ فهو غير ثابت عنه‪،‬‬ ‫الشرك ٌ‬
‫واللفظ الثابت عنه هو‪" :‬ألن يلقى هللا َّ‬
‫عز وج َّل العب ُد بكل ذنب ما خال‬
‫الشرك خير له من أن يلقاه بش ٍئ من هذه األهواء" (‪ .)2‬واألهوا ُء جمع‬
‫هوى وهو ما مالت إليه نفوس المبتدعة الخارجين عما كان عليه السلف‪،‬‬
‫أي ما تعلق به البدعيون في االعتقاد كالخوارج والمعتزلة والمرجئة‬
‫والنجارية وغيرهم‪ ،‬وهم االثنتان والسبعون فرقة كما ورد في الحديث‬
‫ستفترق على ثالث وسبعين‪ ،‬ثنتان وسبعون في‬ ‫ُ‬ ‫المشهور‪" :‬وإن هذه الملة‬
‫النار‪ ،‬وواحدة في الجنة وهي الجماعة" رواه أبو داود (‪ ،)3‬فليس كالم‬
‫الشافعي على إطالقه‪ ،‬إنما هو في المبتدعة القدرية وغيرهم الذين جانبوا‬
‫األهواء الفاسدة‪ ،‬وأما الكالم‬
‫ِ‬ ‫نصوص الشريعة كتابًا وسنةً وتع ّمقوا في‬
‫___________________‬
‫أخرجه البيهقي في األسماء والصفات (ص‪.)420/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أخرجه طرقه ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص‪.)337/‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب شرح السنّة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫الموافق للكتاب والسنّة الموضح لحقائق الشريعة عند ظهور الفتنة فهو‬
‫محمود عند العلماء قاطبة لم يذ ّمه الشافعي‪ ،‬وقد كان الشافعي رضي هللا‬
‫ناظر ِب ْش ًرا المريسي وحف ً‬
‫صا الفرد فقطعهما‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عنه يحسنه ويفهمه وقد‬
‫قال اإلمام الحافظ ابن عساكر في كتابة الذي ألّفه في الدفاعِ عن اإلمام‬
‫األشعري وبيّن فيه كذب من افترى عليه ما نصه (‪" :)1‬والكال ُم المذموم‬
‫كالم أصحاب األهوية وما يخرفه أرباب البدع ال ُم ْردية‪ ،‬فأما الكالم الموافق‬
‫للكتاب والسنة الموضح لحقائق األصول عند ظهور الفتنة فهو محمو ٌد عند‬
‫العلماء ومن يعلمه‪ ،‬وقد كان الشافعي يحسنه ويفهم‪ ،‬وقد تكلم مع غير واحد‬
‫ممن ابتدع‪ ،‬وأقام الحجة عليه حتى انقطع" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقال الربيع بن سليمان‪" :‬حضرت الشافعي وحدّثني أبو شعيب إال أني‬
‫أعلم أنه حضر عبد هللا بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص‬
‫الفرد وكان الشافعي يسميه المنفرد‪ ،‬فسأل حفص عبد هللا بن عبد الحكم‬
‫فقال‪ :‬ما تقول في القرءان‪ ،‬فأبى أن يجيبه فسأل يوسف بن عمرو فلم‬
‫يجبه‪ ،‬وكالهما أشار إلى الشافعي‪ ،‬فسأل الشافعي فاحت ّج عليه الشافعي‪،‬‬
‫فطالت فيه المناظرة فقام الشافعي بالحجة عليه ّ‬
‫بأن القرءان كالم هللا غير‬
‫صا الفرد في المسجد بعدُ‪،‬‬ ‫مخلوق‪ ،‬وكفّر حف ً‬
‫صا الفرد قال الربيع‪ :‬فلقيت حف ً‬
‫ي قتلي" (‪ .)2‬ا‪.‬هـ‪.‬‬ ‫فقال‪ :‬أراد الشافع ّ‬

‫____________‬
‫(‪ )1‬تبيين كذب المفتري (ص‪.)339/‬‬
‫(‪ )2‬مناقب الشافعي للرازي (ص‪ ،)195-194/‬األسماء والصفات‬
‫(ص‪ ،)252/‬تبيين كذب المفتري (ص‪ ،)340-339/‬مناقب‬
‫الشافعي للبيهقي (‪.)455/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فإن قيل‪ :‬قد ذ ّم علم الكالم جماعةٌ من السلف (‪ ،)1‬فروي عن الشعبي‬


‫أنه قال (‪" :)2‬من طلب الدين بالكالم تزندق‪ ،‬ومن طلب المال بالكيمياء‬
‫أفلس (‪ ،)3‬ومن طلب غريب الحديث كذب (‪ .")4‬وروي مثله عن اإلمام‬
‫مالك‪ ،‬والقاضي أبي يوسف (‪ )5‬صاحب اإلمام أبي حنيفة‪.‬‬
‫___________________‬
‫صلوه في العقائد من‬ ‫المراد بالكالم كالم أهل البدع أي ما أ ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫معتزلة وخوارج ومشبهة ومرجئة وغيرهم ّ‬
‫ألن هذا ليس مبنيًا‬
‫أولئك‬
‫َ‬ ‫على موافقة الكتاب والسنة بل بُني على ما يوافق ءاراء‬
‫وليس علم الكالم الذي رتبه أبو الحسن األشعري وأبو منصور‬ ‫َ‬
‫الماتريدي ألن هذا موافق لما كانَ عليه من قبلهما من األئمة‬
‫كأبي حنيفة ومالك والشافعي وليس مخالفًا إنما انفرد هذان‬
‫بتوسيع بيان وجوه الداللة المستمدة من الكتاب والسنة وذلك‬
‫الكالم هو الذي ذمه الشافعي انتهى من المؤلف‪.‬‬
‫تبيين كذب المفتري (ص‪.)333/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المراد بالكيمياء الذي هو تمويه وصرف مال طمعًا في الحصول‬ ‫(‪)3‬‬
‫على المال الغزير بال تعب ألن هؤالء يشتغلون للحصول على‬
‫كثيرا حتى يفلسوا من غير أن ينالوا ما كانوا‬ ‫ذلك فيبذلون ماالً ً‬
‫يطمعون به‪ ،‬انتهى من المؤلف‪.‬‬
‫الحديث الذي ال يعرفه الثقات من طلبه يقع في الكذب‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫تبيين كذب المفتري (ص‪.)334/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلنا‪ :‬أجاب الحافظ أبو بكر البيهقي عنه بقوله (‪" :)1‬إنما يريدون وهللا‬
‫أعلم بالكالم كالم أهل البدع‪ ،‬فإن في عصرهم إنما كان يعرف بالكالم أهل‬
‫البدع‪ ،‬فأما أهل السنة فقلَّما كانوا يخوضون في الكالم حتى اضطروا إليه‬
‫بعده"‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫قال ابن عساكر (‪" :)2‬فهذا وجه في الجواب عن هذه الحكاية‪ ،‬وناهيك‬
‫بقائله أبي بكر البيهقي فقد كان من أهل الرواية والدراية‪ .‬وتحتمل وج ًها‬
‫ءاخر وهو أن يكون المراد بها أن يقتصر على علم الكالم ويترك تعلّم الفقه‬
‫الذي يتوصل به إلى معرفة الحالل والحرام‪ ،‬ويرفض العمل بما أ ُ ِم َر بفعله‬
‫في شرائع اإلسالم‪ ،‬وال يلتزم فعل ما أمر به الشارع وترك ما نهى عنه‬
‫من األحكام‪ .‬وقد بلغني عن حاتم األصم وكان من أفاضل الز ّهاد وأهل‬
‫العلم أنه قال‪ :‬الكالم أصل الدين‪ ،‬والفقه فرعه‪ ،‬والعمل ثمره‪ ،‬فمن اكتفى‬
‫بالكالم دون الفقه والعمل تزندق‪ ،‬ومن اكتفى بالعمل دون الكالم والفقه‬
‫سق‪ ،‬ومن تفنّن في األبواب‬ ‫ابتدع‪ ،‬ومن اكتفى بالفقه دون الكالم والعمل تف ّ‬
‫الوراق‪.‬‬
‫بكر ّ‬‫كلها تخلص" ا‪.‬هـ‪ .‬وقد روي مثل كالم حاتم عن أبي ٍ‬
‫قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح اإلحياء (‪" :)3‬هذه‬
‫المسائل التي تلقاها اإلمامان األشعري والماتريدي هي أصول األئمة‬
‫رحمهم هللا تعالى‪ ،‬فاألشعري بنى كتبه على مسائل من مذهب اإلمامين‬
‫مالك والشافعي أخذ ذلك بوسائط فأيدها وهذبها‪ ،‬والماتريدي كذلك أخذها‬
‫من نصوص اإلمام أبي حنيفة" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولإلمام أبي حنيفة رضي هللا عنه‪( :‬الفقه األكبر) و(الرسالة)‬
‫و(الفقه األبسط) و(العالم والمتعلّم) و(الوصية)‪ ،‬أما الوصية فقد اختلف في‬
‫كثيرا‪ ،‬فمنهم من ينكر نسبتها لإلمام مطلقًا ويزعم أنها‬
‫ً‬ ‫نسبتها إلى اإلمام‬
‫ليست من عمله‪ ،‬ومنهم من ينسبها إلى محمد بن يوسف البخاري المكنّى‬
‫بأبي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_____________‬
‫(‪)1‬و(‪ )2‬تبيين كذب المفتري البن عساكر (ص‪.)334/‬‬
‫(‪ )3‬إتحاف السادة المتقين (‪.)13/2‬‬
‫حنيفة‪ ،‬وهذا قول المعتزلة لما فيها من إبطال نصوصهم الزائغة وادعائهم‬
‫كون اإلمام منهم –أي في المعتقد‪ -‬كما في المناقب الكردرية‪.‬‬
‫سع‬‫واإلمام أبو حنيفة وصاحباه أول من تكلّم في أصول الدين بالتو ّ‬
‫وأتقنها بقواطع البراهين على رأس المائة األولى‪ ،‬وقد ذكر األستاذ عبد‬
‫ي أن أول متكلمي أهل السنة من الفقهاء أبو حنيفة والشافعي‪،‬‬ ‫القاهر البغداد ّ‬
‫ف فيه الفقه األكبر والرسالة في نصرة أهل السنّة إلى مقاتل بن سليمان‬ ‫ألّ َ‬
‫س ًما‪ ،‬وقد ناظر فرقة الخوارج والروافض‬ ‫صاحب التفسير وكانَ مج ّ‬
‫والقدرية والدهرية وكانت دعاتهم بالبصرة فسافر إليها نيفًا وعشرين مرةً‪،‬‬
‫وفضّهم باألدلة الباهرة‪ ،‬وبلغ في الكالم –أي علم التوحيد‪ -‬إلى أنه كان‬
‫المشار إليه بين األنام‪ ،‬واقتدى به تالمذته األعالم‪.‬‬
‫وفي مناقب الكردري عن خالد بن زيد العمري أنه كان أبو حنيفة وأبو‬
‫صموا بالكالم الناس أي‬‫يوسف ومحمد وزفر وحماد بن أبي حنيفة قد َخ َ‬
‫ألزموا المخالفين‪ ،‬وهم أئمة العلم‪ .‬وعن اإلمام أبي عبد هللا الصيمري أن‬
‫اإلمام أبا حنيفة كان متكلم هذه األمة في زمانه‪ ،‬وفقيههم في الحالل‬
‫والحرام‪.‬‬
‫وهذه الكتب الخمسة ليست من جمع اإلمام أبي حنيفة‪ ،‬بل الصحيح أن‬
‫هذه المسائل المذكورة في هذه الكتب من أمالي اإلمام التي أمالها على‬
‫أصحابه كح ّماد وأبي يوسف وأبي مطيع الحكم بن عبد هللا البلخي وأبي‬
‫مقاتل حفص بن سلم السمرقندي‪ ،‬فهم الذين قاموا بجمعها‪ ،‬وتلقاها عنهم‬
‫جماعة من األئمة كإسماعيل بن ح ّماد ومحمد بن مقاتل الرازي ومحمد بن‬
‫سماعة ونصير بن يحيى البلخي وشداد بن الحكم وغيرهم‪ ،‬إلى أن وصلت‬
‫باإلسناد الصحيح إلى اإلمام أبي منصور الماتريدي‪ ،‬فمن عزاها إلى اإلمام‬
‫لكون تلك المسائل من إمالئه إلى أبي مطيع البلخي وغيره‪ ،‬ومن‬
‫ِ‬ ‫ص ّح‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عزاها إلى غيره ممن هو في طبقته أو ممن هو بعدهم صح لكونها من‬


‫جمعه‪ ،‬ذكره الفقيه المحدّث اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (‪.)1‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬إتحاف السادة المتقين (‪.)14/2‬‬
‫وقال الفقيه األصولي الزركشي في تشنيف المسامع‪" :‬إن األئمة انتدبوا‬
‫للرد على أهل البدع والضالل‪ ،‬وقد صنّف الشافع ّ‬
‫ي كتاب (القياس) ر ّد فيه‬
‫على من قال بقدم العالم من الملحدين‪ ،‬وكتاب (الرد على البراهمة) وغير‬
‫ذلك‪ ،‬وأبو حنيفة كتاب (الفقه األكبر) وكتاب (العالم والمتعلّم) رد فيه على‬
‫المخالفين‪ ،‬وكذلك مالك سئل عن مسائل هذا العلم فأجاب عنها بالطريق‬
‫القويم‪ ،‬وكذلك اإلمام أحمد"‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقد صنّف سيد المحدثين في زمانه محمد بن إسماعيل البخاري‪،‬‬
‫المتوفى سنة ‪256‬هـ ‪-‬كتاب (خلق أفعال العباد)‪ ،‬وصنّف المحدث نعيم بن‬
‫حماد الخزاعي وهو من أقران اإلمام –المتوفى في حبس الواثق سنة‬
‫‪228‬هـ‪ -‬كتابًا في الر ّد على الجهمية وغيرهم‪ ،‬وصنّف المحدّث محمد بن‬
‫ضا‬
‫أسلم الطوسي –المتوفى سنة ‪242‬هـ‪ -‬وهو من أقران اإلمام أحمد أي ً‬
‫في الرد على الجهمية‪ ،‬وقد ر ّد على المعتزلة فأجاد بالتأليف ثالثة من‬
‫علماء السنة من أقران اإلمام أحمد بن حنبل‪ :‬الحارث المحاسبي‪ ،‬والحسين‬
‫الكرابيسي‪ ،‬وعبد هللا بن سعيد بن ُك ّالب –المتوفى بعد األربعين ومائتين‬
‫ضا في التصوف‪.‬‬ ‫بقليل‪ -‬ويمتاز األول بإمامته أي ً‬
‫وقد صنّف إماما أهل السنّة والجماعة في عصرهما وبعده إلى يومنا هذا‬
‫أبو الحسن األشعري وأبو منصور الماتريدي المصنفات العظيمة في الر ّد‬
‫على طوائف المبتدعة والمخالفين لإلسالم مملوءة بحجج المنقول‬
‫والمعقول‪ ،‬وامتاز األول بمناظراته العديدة للمعتزلة بالبصرة التي ف َّل (‪)1‬‬
‫بها َحدَّهم وقلل عددهم‪ .‬وكانت وفاة األشعري في سنة أربع وعشرين‬
‫وثالثمائة للهجرة‪ ،‬وتوفي الشيخ أبو منصور بعد وفاة األشعري بقليل‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وصنّف أتباعهما من بعدهما المئات من المجلدات في الر ّد على المبتدعة‬


‫والمخالفين لإلسالم بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة قطعوا بها‬
‫المعتزلة الذين هم أفحل طوائف المبتدعة‪ ،‬كما قطعوا غيرهم من المبتدعة‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬معناه كسر قوتهم‪ ،‬ف َّل القوم يفلّهم ًّ‬
‫فال هزمهم‪ ،‬هكذا في لسان‬
‫العرب (‪.)530/11‬‬
‫والدهريين والفالسفة والمن ّجمين‪ ،‬ورفعوا لواء مذهب األشعري في‬
‫الخا ِفقَيْن (‪ )1‬وأبرزهم في نشره ثالثة‪ :‬األستاذ أبو بكر بن فُورك‪ ،‬وأبو‬
‫إسحاق األسفراييني‪ ،‬والقاضي اإلمام أبو بكر الباقالني‪ ،‬فاألوالن نشراهُ‬
‫في المشرق‪ ،‬والقاضي نشره في المشرق والمغرب‪ ،‬فما جاءت المائة‬
‫الخامسة إال واألمة اإلسالمية أشعرية وماتريدية لم يشذّ عنها سوى نزر‬
‫من المعتزلة وشرذمة من المشبهة وطائفة من الخوارج‪ ،‬فال تجد عال ًما‬
‫محققًا أو فقي ًها مدققًا إال وهو أشعري أو ماتريدي‪.‬‬
‫لهو الموصوف بقول الشاعر فيهم‪:‬‬
‫وإن حال هؤالء المنكرين لعلم الكالم َ‬
‫[البسيط]‬
‫أناس ال عقو َل لهم‬
‫ٌ‬ ‫الكالم‬
‫َ‬ ‫عاب‬
‫َ‬
‫ضرر‬
‫ٍ‬ ‫وما عليه إذا عابوه من‬
‫ق طالعة‬
‫ضر الضحى في األف ِ‬
‫ما َّ‬
‫بصر‬
‫ِ‬ ‫ليس ذا‬
‫ض ْو َءها من َ‬ ‫ْ‬
‫أن ال يرى َ‬
‫فائدة مهمة‪ :‬قال الشيخ الفقيه األصولي الزركشي في كتابه تشنيف‬
‫المسامع (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قال اإلمام أبو بكر اإلسماعيلي (‪ )3‬أعاد هللا هذا‬
‫الدين بعدما ذهب يعني أكثره بأحمد بن حنبل وأبي الحسن األشعري وأبي‬
‫نعيم اإلستراباذي‪ ،‬وقال أبو إسحاق ال َم ْر َوزي‪ :‬سمعت المحاملي يقول في‬
‫أبي الحسن األشعري‪ :‬لو أتى هللا بقُراب األرض ذنوبًا رجوت أن يغفر هللا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫له لدفعه عن دينه‪ ،‬وقال ابن العربي‪ :‬كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم‬
‫حتى أظهر هللا األشعري فحجزهم في أقماع السماسم (‪ .")4‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫المشرق والمغرب‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫تشنيف المسامع (ص‪.)395/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أبو بكر اإلسماعيلي الذي مر ذكره أحد أكابر حفاظ الحديث له مستخرج على‬ ‫(‪)3‬‬
‫البخاري‪ ،‬وأصحاب المستخرجات متبحرون في حفظ الحديث‪.‬‬
‫(‪ )4‬معناه ضيّق عليهم‪ ،‬وأقماه السماسم معناه غالف السماسم‪.‬‬
‫ومثل هذا يقال في أبي منصور الماتريدي ألنه مثله قام بتقرير عقيدة‬
‫السلف باألدلة النقلية والعقلية بإيضاح واسع‪ ،‬فقد جمع هذان اإلمامان‬
‫اإلثبات مع التنزيه فليسا على التشبيه وال التعطيل ولعن هللا من يسمي‬
‫األشعري أو الماتريدي معطالً‪ ،‬فهل خالفا التنزيه الذي ذكره هللا بقوله‬
‫{ليس كمث ِل ِه شئ} [سورة الشورى‪ ]11/‬فإنهما نفيا عن هللا الجسمية وما‬‫َ‬
‫ينبني عليها‪ ،‬وهذا ذنبهما عند المشبهة كالوهابية ومن سبقهم من المشبهة‪.‬‬
‫ليس جس ًما‪ ،‬واإلمامان‬
‫فإن المشبهة قاست الخالق بالمخلوق فنفت موجودًا َ‬
‫ومن تبعهما وهم األمة المحمدية قالوا إن هللا لو كان جس ًما لكان له أمثال ال‬
‫تحصى‪.‬‬
‫وهذا هو دين هللا الذي كان عليه السلف الصالح وتلقاهُ عنهم الخلف‬
‫الصالح‪ ،‬وطريقة األشعري والماتريدي في أصول العقائد متحدة‪ .‬فالمذهب‬
‫الحق الذي كانَ عليه السلف الصالح هو ما عليه األشاعرة والماتريدية وهم‬
‫يكون هؤالء السواد األعظم على‬‫ُ‬ ‫مئات الماليين من المسلمين فكيف‬
‫والصواب أن‬
‫ُ‬ ‫ضالل‪ ،‬وتكون شرذمة هي نحو ثالثة ماليين على الحق‪،‬‬
‫وذلك من خصائص‬ ‫َ‬ ‫بأن جمهور أمت ِه ال يضلّون‬
‫الرسول عليه السالم أخبر ّ‬
‫هذه األمة‪ ،‬ويدل على ذلك ما رواه الترمذي (‪ )1‬وابن ماجه وغيرهما‪" :‬إن‬
‫هللا ال يجمع أمتي على ضاللة" وعند ابن ماجه زيادة‪" :‬فإذا رأيتم اختالفًا‬
‫فعليكم بالسواد األعظم"‪ ،‬ويقوي هذا الحديث الحديث الموقوف (‪ )2‬على‬
‫فإن هللا ال يجمع هذه األمة على‬‫أبي مسعود البدري‪" :‬وعليكم بالجماعة ّ‬
‫ضاللة" قال الحافظ ابن حجر (‪" :)3‬وإسناده حسن"‪ ،‬والحديث الموقوف‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا ثابت عنه‪" :‬ما رءاه المسلمون‬ ‫(‪ )4‬على عبد هللا بن مسعود وهو أي ً‬
‫حسنًا فهو عند هللا حسن‪ ،‬وما رءاه المسلمون قبي ًحا فهو عند هللا قبيح"‪ ،‬قال‬
‫الحافظ ابن حجر (‪" :)5‬هذا موقوف حسن"‪.‬‬
‫________________‬
‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب ما جاء في لزوم الجماعة‪ ،‬وابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب‬ ‫(‪)1‬‬
‫الفتن‪ :‬باب السواد األعظم‪ ،‬والحاكم في المستدرك (‪ 115/1‬و‪ ،)116‬وأحمد في مسنده (‪.)396/6‬‬
‫أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (ص‪.)42/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫موافقة الخبر الخبر (‪.)115/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مسند أحمد (‪ ،)379/1‬وانظر كشف األستار (‪.)81/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫موافقة الخبر الخبر (‪.)115/1‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫وفي التقرير والتحبير البن أمير الحاج الحنفي ما نصه (‪(" :)1‬ومن)‬
‫األدلة (السمعية ءاحاد تواتر منها) قدر هو (مشترك "ال تجتمع أنتي على‬
‫وجر نحوه بالعطف على‬ ‫ّ‬ ‫الخطأ" ونحوه كثير) بإضافة مشترك إلى ما بعده‬
‫ال تجتمع وكثير على أنه صفته أي القدر المشترك بين هذا الحديث وغيره‬
‫وهو عصمة األمة عن الخطأ‪ ،‬فأخرج الترمذي (‪ )2‬أن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن هللا ال يجمع أمتي" أو قال‪" :‬أمة محمد على ضاللة‬
‫شذَّ إلى النار" وقال‪ :‬غريب من هذا الوجه‪،‬‬‫ويد هللا مع الجماعة ومن شذَّ َ‬
‫وأبو نعيم في الحلية (‪ )3‬والاللكائي في السنة بلفظ‪" :‬إن هللا ال يجمع هذه‬
‫األمة على ضاللة أبدًا وإن يد هللا مع الجماعة فاتبعوا السواد األعظم ّ‬
‫فإن‬
‫َم ْن شذَّ شذَّ إلى النار" قال شيخنا الحافظ‪ :‬ورجاله رجال الصحيح إال أنه‬
‫"إن أمتي ال تجتمع على ضاللة فإذا‬ ‫معلو ٌل ثم بيّن علّته‪ ،‬وابن ماجه (‪ّ :)4‬‬
‫رأيتم االختالف فعليكم بالسواد األعظم"‪ ،‬والحاكم بلفظ (‪" :)5‬ال يجمع هللا‬
‫هذه األمة على ضاللة ويد هللا مع الجماعة" ورجاله رجال الصحيح إال‬
‫إبراهيم بن ميمون فإنهما لم يخرجا له‪ ،‬وبلفظ‪" :‬إن هللا ال يجمع جماعة‬
‫محمد على ضاللة" ثم قال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ ،‬وأحمد والطبراني‬
‫(‪ )6‬عن أبي هانئ الخ َْوالني عمن أخبره عن أبي بصرة الغفاري قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬سألتُ ربي أربعًا فأعطاني ثالثًا ومنعني‬
‫واحدة‪ ،‬سألت ربي أن ال تجتمع أمتي على ضاللة فأعطانيها" الحديث‪ ،‬قال‬
‫شيخنا الحافظ‪ :‬ورجاله رجال الصحيح إال التابعي المبهم‪ ،‬وله شاه ٌد مرسل‬
‫رجاله رجال الصحيح‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_____________‬
‫(‪ )1‬التقرير والتحبير شرح التحرير (‪ ،)85/3‬طبعة بوالق – مصر‪.‬‬
‫(‪ )2‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )3‬حلية األولياء (‪.)37/3‬‬
‫(‪)4‬و(‪ )5‬تقدم تخريجهما قبل قليل‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه أحمد في مسنده (‪ ،)396/6‬والطبراني في المعجم الكبير‬
‫(‪ ،)280/2‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪" :)263/5‬وفيه را ٍو لم يسم"‪.‬‬

‫ضا أخرجه الطبري في تفسير سورة األنعام (‪ )1‬إلى غير ذلك" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫أي ً‬
‫وال ينافي ما قررناه من أن الجمهور معصومون من الضاللة ما صح‬
‫عا إلى النبي صلى هللا عليه وسلم من قوله (‪" :)2‬ال تزال طائفة من‬ ‫مرفو ً‬
‫أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة"‪ .‬فإن هذا أريد به طائفة‬
‫متمسكة من بينهم بالدين على الكمال وال شك أن المتمسكين بالدين على‬
‫الكمال هم أقل األمة‪ ،‬وليس معنى ذلك أن أكثر المنتسبين إلى اإلسالم‬
‫يكونون ضالين من حيث العقيدة خارجين عن اإلسالم كما صرحت بذلك‬
‫الوهابية ووافقهم أبو األعلى المودودي‪ ،‬فعندهم جمهور المنتسبين لإلسالم‬
‫ليسوا على الهدى بل على الشرك‪ ،‬وقد صح (‪ )3‬أن أهل الجنة مائة‬
‫وعشرون صفًّا ثمانون من هذه األمة‪ ،‬فال يمكن أن يكون هؤالء الثمانون‬
‫ٌ‬
‫منبثق‬ ‫هذه الشرذمة الوهابية‪ ،‬وهل كانت الوهابية قبل قرنين‪ ،‬فإن معتقدها‬
‫من محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة مائتين وألف وست للهجرة وبعض‬
‫معتقداتها مأخوذ من أحمد بن تيمية المتوفى سنة سبعمائة وثمان وعشرين‬
‫للهجرة وهو شذّ عن ما كان عليه من قبله من أهل الحق بقوله‪ :‬إن جنس‬
‫ليس حادثًا إنما الحادث األفراد أي األشخاص المعينة فكل شخص‬ ‫العالم َ‬
‫وفرد عنده حادث ولكن إلى ما ال نهاية له وال ابتداء‪ ،‬فجعل العرش أزليًّا‬
‫بنوعه وجنسه بمعنى أن العرش لم يزل مع هللا ولكن عينه ليس دائ ًما بل‬
‫يتجدد كل ءان بعد عدم‪ ،‬وقد نقل ذلك عنه اإلمام جالل الدين الدَّواني وهو‬
‫]‪[Type text‬‬

‫من ثقات العلماء كما وثقهُ الحافظ السخاوي في البدر الالمع في تراجم أهل‬
‫القرن التاسع‪ ،‬ونسب إلى ابن تيمية ذلك الحافظان الجليالن المعاصران له‬
‫وهما الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي والحافظ أبو سعيد العالئي‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬جامع البيان (م‪/5‬ج‪ ،)224-223/7‬ءاية ‪( 76‬دار الفكر)‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الحاكم في المستدرك (‪.)449/4‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب صفة الجنة‪ :‬باب ما جاء في‬
‫وصف أهل الجنة‪.‬‬

‫{هو األول} [سورة‬ ‫وفيما ذهب إليه ابن تيمية تكذيب لقول هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ألن مراد هللا تعالى بأوليته األولية المطلقة ليست األولية المقيدة‬ ‫الحديد‪ّ ]3/‬‬
‫ألن ذلك ليس هلل تعالى فيه خصوصية‪ ،‬إذ الماء والعرش لهما تلك‬ ‫النسبية‪ّ ،‬‬
‫األولية النسبية‪ ،‬ألنهما أول ما خلق هللا لم يخلق هللا قبلهما شيئًا كما نطق‬
‫ئ غيره"‪ ،‬فثبت أن ابن‬ ‫بذلك الحديث الصحيح (‪" :)1‬كانَ هللا ولم يكن ش ٌ‬
‫تيمية كذّب هذا الحديث الصحيح كما كذّب اآلية المذكورة وكذّب اإلجماع‬
‫ألنه لم يقل قبله أحد من المسلمين إن نوع العالم لم يزل مع هللا أزليًا وإنما‬
‫قال بذلك متأخرو الفالسفة الذين هم على خالف رأي إرسطو‪ .‬ولم يخش‬
‫ابن تيمية من هللا حيث افترى على أئمة أهل السنة والحديث بنسبته ذلك‬
‫إليهم وال يعرف واحد منهم قال ذلك‪ ،‬لكن ابن تيمية يربأ بنفسه عن أن‬
‫يُنسب إلى موافقة رأي ال ُم ْح َدثين من الفالسفة الذين وافقهم برأيهم القائلين‬
‫بمثل مقالته‪ ،‬وليست هذه المسألة من المسائل التي يدخلها االجتهاد بل من‬
‫أخطأ فيها كفر باإلجماع‪ ،‬قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب‪" :‬إعلم‬
‫أن حكم الجواهر واألعراض كلها الحدوث فإذًا العالم كله حادث‪ ،‬وعلى‬
‫هذا إجماع المسلمين بل كل الملل ومن خالف في ذلك فهو كافر لمخالفة‬
‫اإلجماع القطعي" ا‪.‬هـ‪ .‬ذكر ذلك المحدث الحافظ اللغوي محمد مرتضى‬
‫الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين (‪.)2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب بدء الخلق‪ :‬باب ما جاء في‬
‫{وهو الذي يَب َدأوا الخلقَ ث َّم يُعي ُدهُ} [سورة‬
‫َ‬ ‫قول هللا تعالى‪:‬‬
‫الروم‪.]27/‬‬
‫(‪ )2‬إتحاف السادة المتقين (‪.)94/2‬‬

‫فائدة في بيان‬
‫علم الكالم المذموم وعلم الكالم الممدوح‬
‫قال الحافظ البيهقي في شعب اإليمان (‪ )1‬في باب القول في إيمان المقلّد‬
‫والمرتاب ما نصه‪" :‬أخبرنا أبو طاهر الفقيه‪ ،‬أنبأنا أبو بكر محمد بن‬
‫الحسين القطان‪ ،‬أنبأنا أحمد بن يوسف السلمي‪ ،‬حدثنا محمد بن يوسف‬
‫الفريابي‪ ،‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن جعفر بن برقان‪ ،‬عن عمر بن عبد العزيز‬
‫رضي هللا عنه أنه سأله رج ٌل عن شئ من األهواء فقال‪" :‬عليك بدين‬
‫األعرابي الغالم (‪ )2‬في ال ُكتَّاب َو ْالهُ عمن سواه"‪.‬‬
‫قال اإلمام البيهقي رحمه هللا‪" :‬وهذا الذي قاله عمر بن عبد العزيز قاله‬
‫غيره من السلف فإنما هو ألنهم رأوا أنه ال يحتاج إليه لتبيين ص ّحة الدين‬
‫ث مؤيدًا بال ُحجج‬ ‫في أصله‪ ،‬إذ كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إنما بُ ِع َ‬
‫المستفيض ومن بَلَغَه كافيًا في‬
‫ُ‬ ‫غها‬‫فكانت مشاهدتُها للذين شاهَدوها‪ ،‬وبال ُ‬
‫بوة معًا عن غيرها‪ ،‬ولم يأ َمنوا أن يوسع الناس في علم‬ ‫إثبات التوحيد والنُّ َّ‬
‫ويضعف رأيُه فيرتبك في بعذ‬ ‫ُ‬ ‫الكالم‪ ،‬وأن يكون فيهم َم ْن ال يكمل عقلُهُ‬
‫خر ًجا كالرجل‬ ‫شبَ ِه ال ُم ْلحدين‪ ،‬وال يستطيع منها َم َ‬
‫ضاللة الضالين و ُ‬
‫ي لم يُؤ َم ْن أن‬‫غامر قو ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الضعيف غير الماهر بالسباحة إذا وق َع في ماءٍ‬
‫يَغرق فيه‪ ،‬وال يقدر على التخلُّص منه‪ ،‬ولم يَ ْن َهوا عن علم الكالم َّ‬
‫ألن عينه‬
‫مذموم أو غير مفيد‪ ،‬وكيف يكون العلم الذي يُتوصل به إلى معرفة هللا َّ‬
‫عز‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي الصادق وبينَ ال ُمتَنبِّئ‬ ‫وج َّل وعلم صفاته ومعرفة رسله والفرق بينَ النب ّ‬
‫الكاذب عليه مذمو ًما أو مرغوبًا عنه؟ ولكنهم إلشفاقهم على الضُّعفاء لئال‬
‫ط الحليمي‬ ‫فيضلُّوا نَ َه ْوا عن االشتغال به‪ .‬ثم بس َ‬
‫يبلغوا ما يريدون منه ِ‬
‫رحمه هللا تعالى الكالم في التحريض على تعلُّمه إعدادًا ألعداء هللا ّ‬
‫عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬شعب اإليمان (‪.)95-96/1‬‬
‫(‪ )2‬معناه األعرابي الذي هو متمسك بأصول عقيدة أهل السنة ولو‬
‫ت ونتائج على طريق أهل‬ ‫كان جاهالً بما سواه من ترتيب مقدما ٍ‬
‫القياس‪ ،‬انتهى من المؤلف‪.‬‬
‫سنَّة‬ ‫وقال غيرهُ في نهيهم عن ذلك‪ :‬إنما هو ّ‬
‫ألن السلف من أهل ال ُّ‬
‫ت الرسل صلوات هللا عليهم على الوج ِه‬ ‫والجماعة كانوا يكتفون بمعجزا ِ‬
‫الذي بيّنّا‪ ،‬وإنما يشت ِغ ُل في زمانهم بعلم الكالم أه ُل األهواء‪ ،‬فكانوا يَ ْن َهونَ‬
‫إن أهل األهواء كانوا يدَّعون على‬ ‫عن االشتغال بكالم أهل األهواء‪ .‬ثم َّ‬
‫أن مذاهبهم في األصول تخالف المعقول‪ ،‬فقيَّض هللاُ تعالى‬ ‫أهل السنة َّ‬
‫جماعةً منهم لالشتغال بالنظر واالستدالل حتى تَبحروا فيه‪ ،‬وبينوا بالدالئل‬
‫توافق المعقول كما هي موافقة‬ ‫ُ‬ ‫النيرة والحجج الباهرة أن مذاهب أهل السنة‬
‫أن اإليجاب يكون بالكتاب والسنة فيما يجوز في‬ ‫لظاهر الكتاب والسنة‪ ،‬إال َّ‬
‫العقل أن يكون غير واجب دون العقل‪.‬‬
‫أخبرنا أبو عبد هللا الحافظ‪ ،‬أخبرني أحمد بن سهل‪ ،‬ثنا إبراهيم بن معقل‪،‬‬
‫ثنا َحرملة‪ ،‬ثنا ابن وهب‪ ،‬ثنا مالك أنه دخ َل يو ًما على عبد هللا بن يزيد بن‬
‫بصيرا بالكالم‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫هرمز فذكر قصة‪ ،‬ثم قال‪ :‬وكان –يعني ابن هرمز‪-‬‬
‫ير ُّد على أهل األهواء‪ ،‬وكان من أعلم الناس بما اختلفوا فيه من هذه‬ ‫ُ‬
‫األهواء" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫بطالن قول المعتزلة بخلق العبد فعله‪ ،‬وأنه كفر‬
‫بأن العبد يخلق أفعاله االختيارية أي حدثها‬ ‫يجب تكفير المعتزلة القائلين ّ‬
‫غير هللا}‬
‫ق ُ‬ ‫من العدم إلى الوجود ألنهم كذّبوا قول هللا تعالى‪{ :‬ه َْل ِم ْن خا ِل ٍ‬
‫شئ} [سورة الرعد‪]16/‬‬ ‫خالق ك ِّل ٍ‬
‫ُ‬ ‫[سورة فاطر‪ ،]3/‬وقول هللا‪{ :‬قُ ِل هللاُ‬
‫وءايات أخرى كثيرة وأحاديث عديدة‪ .‬وهؤالء المعتزلة هم القدرية الذين‬
‫س ّماهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مجوس هذه األمة‪ ،‬وهم الذين شدَّد‬
‫عليهم النكيرعبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما وغيره من أكابر الصحابة‬
‫ومن جاء بعدهم‪ .‬قال ابن عباس رضي هللا عنهما‪" :‬كالم القدرية كفر"‪،‬‬
‫دت إلى هذا‬ ‫ع َ‬ ‫وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي هللا عنه للقدري‪" :‬إن ُ‬
‫ألقطعن الذي فيه عيناك"‪ ،‬وكذلك الحسن بن علي بن أبي طالب واإلمام‬ ‫ّ‬
‫المجتهد عبد هللا بن المبارك فقد حذّر من ثور بن يزيد وعمرو بن عبيد‬
‫ف في الرد عليهم الحسن بن محمد‬ ‫الذي كان من رءوس المعتزلة‪ ،‬وقد ألّ َ‬
‫ابن الحنفية حفيد سيدنا علي بن أبي طالب‪ ،‬وكذا اإلمام الحسن البصري‪،‬‬
‫والخليفة األموي المجتهد عمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه‪ ،‬وعلى‬
‫ؤم ٌن‬‫{ولَعَ ْب ٌد ُم ِ‬
‫سئِ َل عن نكاح المعتزلة‪َ :‬‬ ‫تكفيرهم كان اإلمام مالك فقال حين ُ‬
‫خير ِم ْن ُمشركٍ } [سورة البقرة‪ ،]221/‬نقل ذلك عنه أبو بكر بن العربي‬ ‫ٌ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المالكي‪ ،‬والزركشي في شرحه على أصول ابن السبكي‪ ،‬وكذلك كفّرهم‬


‫إماما أهل السنة أبو منصور الماتريدي الحنفي‪ ،‬وأبو منصور عبد القاهر‬
‫البغدادي التميمي الشافعي شيخ األشاعرة وشيخ الحافظ البيهقي الذي قال‬
‫فيه ابن حجر الهيتمي‪" :‬اإلمام الكبير إمام أصحابنا أبو منصور البغدادي"‪.‬‬
‫وقد قال شارح إحياء علوم الدين اإلمام الفقيه المحدّث اللغوي محمد‬
‫مرتضى الزبيدي (‪" :)1‬لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير‬
‫المعتزلة" ا‪.‬هـ‪ .‬وقال الزاهد الصفّار من أكابر الحنفية‪" :‬يجب إكفار القدري‬
‫____________‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)135/2‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫–أي المعتزلي‪ -‬في قوله‪ :‬إن العبد يخلق أفعال نفسه‪ ،‬وفي قوله‪ :‬إن هللا لم‬
‫يشأ وقوع الشر" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ضا تكفيرهم اإلمام شيخ اإلسالم البلقيني‪ ،‬ور ّد عليهم اإلمام‬
‫وممن نقل أي ً‬
‫المتولي في كتابه الغنية في العقيدة وهما من أكابر أصحاب الوجوه من‬
‫الشافعية‪ ،‬واإلمام أبو الحسن شيث بن إبراهيم المالكي‪ ،‬وكذلك اإلمام ابن‬
‫التّلمساني المالكي في كتابه شرح لمع األدلة إلمام الحرمين وغيرهم‪ ،‬ولم‬
‫يصح عن إمام مجتهد كالشافعي وغيره القول بترك تكفير هذا الصنف من‬
‫المعتزلة‪.‬‬
‫تر بعدم تكفير بعض المتأخرين‬ ‫فبعد هذا ال يلتفت إلى ما يخالفه وال يغ ّ‬
‫لهم‪ ،‬فقد نقل األستاذ أبو منصور التميمي في كتابه التذكرة البغدادية وكتابه‬
‫تفسير األسماء والصفات تكفيرهم عن األئمة فقال (‪" :)1‬أصحابنا أجمعوا‬
‫على تكفير المعتزلة" (‪ ,)2‬وقوله‪" :‬أصحابنا" يعني به األشاعرة والشافعية‬
‫ألنه رأس كبير في األشاعرة الشافعية‪ ،‬وهو إما ٌم مقدّم في النقل معروف‬
‫بذلك بين الفقهاء واألصوليين والمؤرخين الذين ألّفوا في ال ِفرق‪ ،‬فمن أراد‬
‫مزيد التأكد فليطالع كتبه هذه‪ ،‬فال يُدافع نقله بكالم بعض المتأخرين‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وما يذكر من العبارات التي تفهم ترك تكفيرهم عن بعض المشاهير‬


‫كالنووي فقد يؤول بأن مراده من لم يثبت فيهم ما يقتضي تكفيرهم من‬
‫مسائلهم‪ ،‬ألن منهم من ينتسب إليهم وال يقول بجميع مقاالتهم كبشر‬
‫بشرا كان موافقهم في القول بخلق‬ ‫ي والمأمون العباسي‪ّ ،‬‬
‫فإن ً‬ ‫المريس ّ‬
‫القرءان وكفّرهم في القول بخلق األفعال‪ ،‬فال يحكم على جميع من انتسب‬
‫إلى االعتزال بحكم واحد ويحكم على كل فرد منهم بكونه ضاالً‪ ،‬فالذين ال‬
‫يعتقدون من االعتزال أصوله الكفرية إنما ينتسبون إليهم ويعتقدون بعض‬
‫المسائل األخرى كعدم رؤية المؤمنين لربهم في اآلخرة فهؤالء الذين لم‬
‫يكفّرهم من تحاشى تكفيرهم‪ .‬ومن أراد المزيد فليراجع الكتب التي ألّفت‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أصول الدين (ص‪.)343 ،342 ،337/‬‬
‫(‪ )2‬تفسير األسماء والصفات (ق‪.)191/‬‬
‫في ال ِفرق لبيان مقاالتهم وأقوال العلماء فيهم‪.‬‬
‫وقد أنكر الحافظ البلقيني في حواشي الروضة قول صاحب الروضة‬
‫بصحة القدوة بهم في الصالة قال (‪" :)1‬وقول الشافعي رضي هللا عنه‪:‬‬
‫"أقبل شهادة أهل األهواء إال الخطابية" محمو ٌل على َم ْن لم تثبت فيهم‬
‫قضية معينة تقتضي تكفيرهم‪ ،‬واستد ّل لذلك بقوله لحفص الفرد لما جادلهُ‬
‫كفرت باهلل العظيم"‪.‬‬
‫َ‬ ‫في مسئلة القول بخلق القرءان فأفحمه الشافعي‪" :‬لقد‬
‫ور ّد البلقيني تأويل قول الشافعي هذا بكفران النعمة فقال في حاشيته‬
‫على روضة الطالبين ما نصه (‪" :)2‬وقوله –يعني النووي‪ :-‬وأطلق القفال‬
‫وكثيرون من األصحاب القول بجواز االقتداء بأهل البدع‪ ،‬وأنهم ال‬
‫يكفرون‪ ،‬قال صاحب العُدة‪ :‬هو ظاهر مذهب الشافعي رضي هللا عنه‪ ،‬زاد‬
‫–أي النووي‪ -‬هذا الذي قاله القفّال وصاحب العدة هي الصحيح أو‬
‫الصواب‪ ،‬فقد قال الشافعي‪ :‬أقبل شهادة أهل األهواء إال الخطابية ألنهم‬
‫يرون الشهادة بالزور لموافقيهم‪ ،‬ولم يزل السلف والخلف على الصالة‬
‫خلف المعتزلة وغيرهم"‪ .‬قال البلقيني‪" :‬فائدة‪ :‬الصحيح أو الصواب خالف‬
‫ما قال المصنف –يعني النووي‪ -‬وقول اإلمام الشافعي رضي هللا عنه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫محمول على من ذكر عنه أنه من أهل األهواء ولم يثبت عليه قضية معينة‬
‫صا على تكفير من قال بخلق‬ ‫نص عام‪ ،‬وقد نص خا ًّ‬
‫تقتضي كفره‪ ،‬وهذا ٌّ‬
‫القرءان‪ ،‬والقول بالخاص هو المقدّم‪ ،‬وأما الصالة خلف المعتزلة فهو‬
‫محمول على ما قدمته من أنه لم يثبت عند المقتدين بهم ما يكفرهم"‪ .‬ثم قال‬
‫تأول البيهقي وغيره من أصحابنا‬ ‫البلقيني‪" :‬قوله –يعني النووي‪ -‬وقد ّ‬
‫المحققين ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء من تكفير القائل بخلق‬
‫القرءان على كفران النعم ال كفران الخروج عن الملّة"‪ .‬قال البلقيني‪:‬‬
‫"فائدة‪ :‬هذا التأويل ال يصح ألن الذي أفتى الشافعي رضي هللا عنه بكفره‬
‫بذلك هو حفص الفرد‪ ،‬وقد قال‪ :‬أراد الشافعي ضرب عنقي‪ ،‬وهذا هو الذي‬
‫الحق وبه الفتوى خالف ما قال المصنّف" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فهمه أصحابه الكبار وهو‬
‫_____________‬
‫(‪)1‬و(‪)2‬حواشي الروضة للبلقيني (‪.)83/1‬‬
‫ق‬
‫قادرا على خل ِ‬
‫فال يجوز التردد في تكفير المعتزلة القائلين بأن هللا كان ً‬
‫ً‬
‫عاجزا عنها‪،‬‬ ‫حركات العباد وسكونهم ثم ل ّما أعطاهم القدرة عليها صار‬
‫حكى ذلك غير واحد من األكابر منهم اإلمام أبو منصور الماتريدي‪،‬‬
‫واإلمام أبو منصور البغدادي‪ ،‬واإلمام أبو سعيد المتولي‪ ،‬والفقيه المالكي‬
‫شيث بن إبراهيم‪ ،‬وإمام الحرمين وغيرهم كما تقدم‪ ،‬فكيف يسوغ ترك‬
‫تكفيرهم بعد هذا الذي هو صريح في نسبة العجز إلى هللا‪.‬‬
‫قال الفقيه األصولي الزركشي في تشنيف المسامع (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وقد‬
‫نص الشافعي على قبول شهادة أهل األهواء وهو محمو ٌل على ما إذا لم‬
‫يؤ ّد إلى التكفير‪ ،‬وإال فال عبرة به" ا‪.‬هـ‪ .‬وهذا يؤكد ما قاله البلقيني في‬
‫بأن مراد الشافعي بقوله أقبل شهادة أهل األهواء‬‫حواشي روضة الطالبين ّ‬
‫إال الخطابية من لم تثبت بحقه قضية تقتضي تكفيره منهم‪ ،‬يعني كقولهم إن‬
‫قادرا على خلقها قبل أن‬
‫العبد يخلق أفعال نفسه االختيارية‪ ،‬وإن هللا كان ً‬
‫ً‬
‫عاجزا‪.‬‬ ‫يعطيهم القدرة فلما أعطاهم صار‬
‫أما حديث النبي صلى هللا عليه وسلم المشهور‪" :‬القدرية مجوس هذه‬
‫األمة" (‪ )2‬فمعناه أ ّمة الدعوة‪ ،‬وأ ّمة الدعوة تشمل الكافرين والمؤمنين‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ألن لفظ أمتي ونحوه يحمل على من اتبعه في بعض المواضع‪ ،‬وفي بعض‬
‫المواضع يطلق على من توجهت إليه دعوته فمنهم من ءامن ومنهم من‬
‫أبى‪.‬‬
‫قال اإلمام أبو منصور البغدادي السابق الذكر في كتابه التبصرة‬
‫البغدادية (‪" :)3‬اعلم أن تكفير كل زعيم من زعماء المعتزلة واجب من‬
‫وجوه‪ :‬أما واصل بن عطاء فألنه كفر في باب القدر بإثبات خالقين‬
‫ألعمالهم سوى هللا تعالى‪ ،‬وأحدث القول بالمنزلة بين المنزلتين في الفاسق‪،‬‬
‫ولهذه البدعة طرده الحسن البصري عن مجلسه"‪.‬‬
‫___________‬
‫تشنيف المسامع (ص‪.)227/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب في القدر‪ ،‬وصححه الحاكم في‬ ‫(‪)2‬‬
‫المستدرك (‪ )85/1‬ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫أصول الدين (ص‪.)337-335/‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫ثم قال‪" :‬وأما زعيمهم أبو ال ُه َذيل فإنه قال بفناء مقدورات هللا تعالى حتى‬
‫ّ‬
‫النظام فهو الذي نفى نهاية‬ ‫قادرا على شئ‪ .‬وأما زعيمهم‬ ‫ال يكون بعدها ً‬
‫الجزء‪ ،‬وأبطل بذلك إحصاء البارئ تعالى ألجزاء العالم وعلمه بكمية‬
‫أجزائه‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وزعم أن اإلنسان هو الروح وأن أحدًا ما رأى إنسانًا قط وإنما‬
‫رأى قالَبَهُ"‪ ،‬وزعم المعروف منهم بمعمر أن هللا تعالى ما خلق لونًا وال‬
‫طع ًما وال رائحة وال حرارة وال برودة‪ ،‬وال رطوبة وال يبوسة‪ ،‬وال حياة‬
‫ً‬
‫عجزا‪ ،‬وال أل ًما وال لذة‪ ،‬وال‬ ‫وال موتًا‪ ،‬وال صحة وال سق ًما‪ ،‬وال قدرة وال‬
‫شيئًا من األعراض‪ ،‬وإنما خلق األجسام فقط وخلقت األجسام األعراض‬
‫في أنفسها"‪.‬‬
‫المعتمر أن اإلنسان قد يخلق‬
‫ِ‬ ‫ثم قال‪" :‬وزعم المعروف ممنهم ببشر بن‬
‫األلوان والطعوم والروائح‪ ،‬والرؤية والسمع والبصر‪ ،‬وسائر اإلدراكات‬
‫على سبيل التولد‪ .‬وزعم الجاحظ منهم أن ال فعل لإلنسان إال اإلرادة (‪)1‬‬
‫وأن المعارف كلها ضرورية ومن لم يضطر إلى معرفة هللا لم يكن مكلفًا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وال مستحقًّا للعقاب‪ ،‬وزعم أي ً‬


‫ضا أن هللا ال يدخل أحدًا النار وإنما النار‬
‫تجذب أهلها إلى نفسها وتمسكهم فيها على التأبيد بطبعها‪ .‬وزعم ثمامة أن‬
‫المعارف ضرورية وأن عا ّمة الدهرية وسائر الكفرة يصيرون في اآلخرة‬
‫وحرم السبي واسترقاق اإلماء وقال بأن األفعال‬ ‫ّ‬ ‫ترابًا ال يعاقب واحد منهم‬
‫المتولدة ال فاعل لها‪ .‬وزعم البغداديون منهم أن هللا ال يرى شيئًا وال يسمع‬
‫شيئًا إال على معنى العلم بالمسموع والمرئي‪ ،‬وزعم الجبّائي منهم أن هللا‬
‫مطيع عباده إذا فعل مرادهم‪ ،‬وقال ابنه أبو هاشم باستحقاق العقاب والذ ّم ال‬
‫ضا بأحوال هلل تعالى ال موجودة وال معدومة وال‬ ‫على ذنب‪ ،‬وقال أي ً‬
‫معلومة وال مجهولة‪ .‬وأنواع كفرهم ال يحصيها إال هللا تعالى‪ ،‬وقد اختلف‬
‫أصحابنا فيهم‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬حكمهم حكم المجوس لقول النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬القدرية مجوس هذه األمة" ومنهم من قال‪ :‬حكمهم حكم‬
‫المرتدين" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫________‬
‫(‪ )1‬في األصل‪ :‬إرادة‪.‬‬
‫ثم قال (‪" :)1‬أجمع أصحابنا على أنه ال يح ّل أكل ذبائحهم وكيف نبيح‬
‫ذبائح َمن ال يستبيح ذبائحنا‪ ،‬وأكثر المعتزلة مع األزارقة من الخوارج‬
‫يحرمون ذبائحنا‪ .‬وقولنا فيهم أشد من قولهم فينا وال يجوز عندنا تزويج‬
‫عقد العقد فالنكاح مفسوخ"‪.‬‬‫المرأة المسلمة من واحد منهم فإن ُ‬
‫ثم قال (‪" :)2‬والمرأة منهم إن اعتقدت اعتقادهم حرم نكاحها وإن لم‬
‫تعتقد اعتقادهم لم يحرم نكاحها ألنها مسلمة بحكم دار اإلسالم‪ ،‬وقد شاهدنا‬
‫الكرامية ال يعرفون من الجسم إال اسمه وال يعرفون أن‬
‫قو ًما من عوام ّ‬
‫خواصهم يقولون بحدوث الحوادث في ذات البارئ تعالى‪ ،‬فهؤالء يحل‬
‫نكاحهم وذبائحهم والصالة عليهم‪ .‬وأجمع أصحابنا على أن أهل األهواء ال‬
‫يرثون من أهل السنة واختلفوا في ميراث السني منهم فمنهم من قطع‬
‫التوارث من الطرفين‪ ،‬وبه قال الحارث ال ُمحاسبي‪ ،‬ولذلك لم يأخذ ميراث‬
‫والده ألن والده كان قدريًّا‪ ،‬ومنهم من رأى توريث السني منهم وبناه على‬
‫قول معاذ بن جبل‪" :‬إن المسلم يرث من الكافر وإن الكافر ال يرث من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المسلم"‪ ،‬وعلى قول أبي حنيفة‪" :‬يرث السني من المبتدع الضال ما اكتسبه‬
‫قبل بدعته"‪ ،‬كما قال في المسلم يرث من المرتد ما اكتسبه قبل ردّته‬
‫ويكون كسبه بعد الردة فيئًا للمسلمين" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقال في تفسير األسماء والصفات (‪ )3‬ما نصه‪" :‬فأما أصحابنا فإنهم‬
‫وإن أجمعوا على تكفير المعتزلة والغالة من الخوارج والنجارية والجهمية‬
‫والمشبّهة‪ ،‬فقد أجازوا لعامة المسلمين معاملتهم في عقود البياعات‬
‫واإلجارات والرهون وسائر المعاوضات دون األنكحة‪ ،‬فأ ّما مناكحتهم‬
‫وموارثتهم والصالة عليهم وأكل ذبائحهم فال يحل شئ من ذلك‪ ،‬إال‬
‫الموارثة ففيها خالف بين أصحابنا فمنهم من قال مالهم ألقربائهم من‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (ص‪)341-340/‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق (ص‪.)341/‬‬
‫(‪ )3‬كتاب تفسير األسماء والصفات (ق‪.)191/‬‬
‫المسلمين ألن قطع الميراث بين المسلم والكافر إنما هو في الكافر الذي ال‬
‫سم ألهل‬ ‫يعد في الملّة‪ ،‬وألن خالف القدري والجهمي والنجاري والمج ّ‬
‫السنة والجماعة أعظم من خالف النصارى واليهود والمجوس"‪ .‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ثم قال ما نصه (‪" :)1‬وأما الكالم في طاعات المعتزلة وسائر أهل‬
‫األهواء الضالة‪ ،‬فإن أهل السنة والجماعة يجمعون على أن أهل األهواء‬
‫عز وجل مما يفعلونه من صالة‬ ‫المؤدية إلى الكفر ال يصح منهم طاعة هللا ّ‬
‫وصوم وزكاة وحج ّ‬
‫ألن هللا تعالى أمر عباده بإيقاع هذه العبادة على شرط‬
‫التقرب إلى‬
‫ّ‬ ‫مقارن كاعتقاد صحيح بالعدل والتوحيد‪ ،‬وبشرط أن يراد بها‬
‫هللا تعالى مع اعتقاد صفة اإلله على ما هو عليه‪ ،‬وال يجوز أن يقصده‬
‫بالطاعة من ال يعرفه‪ ،‬وقد بيّنّا قبل هذا أن المعتزلة وسائر أهل البدع‬
‫الضالة غير عارفين باهلل عز وجل العتقادهم فيه خالف ما هو عليه في‬
‫عدله وحكمته" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال في كتابه التبصرة البغدادية (‪ )2‬في ترتيب أئمة الفقه من أهل‬


‫السنة ما نصه‪" :‬وقد د ّمر أبو حنيفة في كتابه الذي س ّماه بالفقه األكبر على‬
‫المعتزلة ونصر فيه قول أهل السنة في خلق األفعال وفي أن االستطاعة‬
‫مع الفعل" ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫فهذه عبارات اإلمام أبي منصور فكن على ذُ ٍ‬


‫كر منها‪ ،‬وفي ضمنها فوائد‬
‫يحتاج مطالعها إلى التنبّه لها‪ ،‬منها‪:‬‬
‫*أن المعتزلة كفّار بشرط أن يكون هذا المعتزلي يعتقد أصور مقاالتهم‬
‫وهي إثبات الخلق بمعنى اإلحداث من العدم للعبد بقدرة أعطاها هللا إياها‪،‬‬
‫قادرا على خلقها قبل أن يعطيه القدرة عليها فلما أعطاه القدرة‬
‫وأنه كان ً‬
‫ً‬
‫عاجزا‪ ،‬والقول بأن هللا لم يرد ما يقع من العباد من المعاصي‬ ‫عليها صار‬
‫والمكروهات‪ ،‬إال ما يقع منهم من الحسن‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كتاب تفسير األسماء والصفات (ص‪.)194/‬‬
‫(‪ )2‬أصول الدين (ص‪.)312/‬‬
‫*ومنها كالم الشافعي بقبول شهادة أهل األهواء بالمعنى الشامل للمعتزلة‬
‫وغيرها محمول على أنه أراد من لم يقل منهم بما يؤدي إلى الكفر‪ ،‬ألنه‬
‫ليس كل منتسب إليهم يعتقد عقيدة اآلخرين‪ ،‬ألن الواحد قد ينتسب إلى‬
‫المعتزلة والكرامية وغيرهم من أهل البدع المشتملة على الكفر من غير أن‬
‫يشارك اآلخرين في تلك المسائل المؤدية إلى الكفر كما ذكر أبو منصور‬
‫سا من الكرامية ال يعرفون عقائدهم إنما يتعلقون باالسم (‪،)1‬‬
‫أنه لقي أنا ً‬
‫أناس ينتسبون إليهم وهم خالون من اعتقاد أقوالهم التي‬
‫ٌ‬ ‫وكذلك في المعتزلة‬
‫صرح به اإلمام سراج الدين البلقيني في عبارته‬‫تؤدي إلى الكفر‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫التي نقلناها من حاشيته على روضة الطالبين‪ ،‬وذلك محمل كالم بعض‬
‫الشافعيين الذي ذُكر عنهم أن المعتزلة ال يكفّرون‪ .‬فتبين بهذا أن ال عبرة‬
‫بقول من أطلق ترك تكفيرهم على غير هذا المعنى كبعض المتأخرين من‬
‫صرح بعدم تكفيرهم مع نسبة القول بخلق العبد فعله إليهم‪،‬‬
‫الشافعية حيث ّ‬
‫فإن هذا ليس من كبار أصحاب الشافعي‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫*وهنا دقيقة يجب التنبّه لها وهي أن القول بخلق القرءان كفر بالنسبة‬
‫ألناس وليس بكفر بالنسبة ألناس‪ ،‬فمن نفى ثبوت صفة الكالم هلل تعالى‬
‫ي‪ ،‬بل يعتقد أن هللا‬‫ي أبد ّ‬
‫على الوجه الالئق به‪ ،‬وهو كونه متكل ًما بكالم أزل ّ‬
‫متكل ٌم بمعنى أنه خالق الكالم في غيره‪ ،‬ويطلق مع ذلك القول بأن القرءان‬
‫مخلوق‪ ،‬فهو الذي يكفر‪ .‬وأما من يطلق هذا اللفظ ويثبت الكالم بمعنى‬
‫الصفة األزلية األبدية بمعنى أنه قائم بذات هللا‪ ،‬كقيام علمه وغيره من‬
‫صفاته بذاته‪ ،‬ويقول مع ذلك بأن القرءان يطلق على هذا الكالم الذي هو‬
‫ّ‬
‫المنزل أنه‬ ‫صفة أزلية أبدية ويطلق على اللفظ المنزل‪ ،‬ويعتقد في اللفظ‬
‫مخلوق هلل ليس من تأليف أحد من خلق هللا‪ ،‬فهذا ال يكفر وال يدخل تحت‬
‫قول الشافعي لحفص الفرد‪ :‬لقد كفرت باهلل العظيم‪ ،‬كما ال يدخل تحت ما‬
‫شهر عن كثير من األئمة أنهم قالوا‪ :‬من قال القرءان مخلوق فهو كافر‪،‬‬
‫فإنه ال يظن بإمام من أئمة الهدى أنه يعتقد أن اللفظ المنزل صفة قائمة‬
‫بذات هللا‪ ،‬ألنه يلزم من ذلك جعل ذات هللا القديم محالً للحادث‪ ،‬والذات‬
‫________‬
‫(‪ )1‬أصول الدين (ص‪.)341/‬‬

‫الذي يكون محالً للحادث حادث ال يكون قدي ًما‪ ،‬وذلك مما يجل عنه مقام‬
‫أئمة الهدى كجعفر الصادق وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم‪ ،‬ألن ذلك مما‬
‫ال يخفى بطالنه على أدنى طالب علم‪ ،‬بل وال أدنى مسلم عرف تنزيه هللا‬
‫عن مشابهة خلقه من جميع الوجوه‪.‬‬
‫وقد نقل عن اإلمام أبي حنيفة ما هو صريح فيما قلنا‪ ،‬فإنه قال في مسألة‬
‫الكالم‪" :‬ما قام بالخالق فهو غير مخلوق‪ ،‬وما قام بالخلق فهو مخلوق"‬
‫ا‪.‬هـ‪ .‬يعني بالجزء األول من هذه العبارة الكالم الذاتي القائم بذات هللا الذي‬
‫هو أزلي أبدي كسائر صفاته‪ ،‬ويعني بالجزء الثاني اللفظ المنزل‪ .‬وما نُقل‬
‫عن اإلمام أحمد من نهيه عن القول‪" :‬لفظي بالقرءان مخلوق" والقول‪:‬‬
‫"لفظي بالقرءان غير مخلوق" ينزل على أنه أراد ما ذكرنا‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫*ومنها أنه ليس كل من شهر بأنه وافق المعتزلة في مسألة معتزليًّا على‬
‫الحقيقة فيحكم عليه بحكمهم‪ ،‬وذلك كالخلفاء الثالثة من العباسيين المأمون‬
‫وتالييه‪ ،‬فإنه ال يجوز عليهم الشهادة بأنهم معتزلة ألنه لم يثبت عنهم سوى‬
‫القول بهذا اللفظ‪" :‬القرءان مخلوق"‪ ،‬والظن بهم أنهم قصدوا اللفظ المنزل‬
‫من غير نفي الكالم الذاتي‪ .‬ونظير هذا قول بعض الفقهاء في الخوارج إن‬
‫بعضهم يكفّرون وبعضهم ال يكفّرون كما ذكره الحافظ ابن حجر في شرح‬
‫البخاري في أثناء شرح األحاديث الواردة في الخوارج‪.‬‬
‫فتبصر أيها المطالع وال تكن مترددًا‪.‬‬

‫فوائد مهمة‬
‫ي وكتاب "تهذيب اآلثار" لإلمام‬ ‫*األولى‪ :‬جاء في ِكتاب "القَ َد ِر" للبيهق ّ‬
‫أن رسول هللا‬ ‫بن عمر َّ‬ ‫الطبري رحم ُهما هللا تعالى عن عب ِد هللا ِ‬ ‫جرير َّ‬
‫ٍ‬ ‫ابن‬
‫ِ‬
‫اإلسالم‬
‫ِ‬ ‫نصيب في‬
‫ٌ‬ ‫ليس ل ُهما‬
‫ت من أ َّمتي َ‬ ‫"صنفا ِ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم قال‪ِ :‬‬
‫رجئةُ" فالمعتزلةُ ه ُم القدريةُ ألنَّ ُهم جعلوا هللا والعب َد سواسيةً‬ ‫القَ َدريَّة وال ُم ِ‬
‫عز وج َّل على ما يُ ْقد ُِر علي ِه َع ْب َدهُ‪ ،‬فكأنَّ ُهم يُث ِبتونَ خا ِلقَ ِ‬
‫ين‬ ‫بنَ ْفي ِ القُدر ِة عنهُ َّ‬
‫النور وخالقًا‬
‫ُ‬ ‫للخير هو عندهم‬ ‫ِ‬ ‫ين خا ِلقًا‬
‫المجوس خا ِلقَ ِ‬
‫ُ‬ ‫أثبت‬
‫َ‬ ‫في الحقيق ِة كما‬
‫للشر هو عندهم الظال ُم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ار‪ ،‬أما المعتزلةُ‬ ‫هذين الفريقين ُكفَّ ٌ‬
‫ِ‬ ‫أن كالً من‬ ‫ُ‬
‫الحديث فيه دلي ٌل على ّ‬ ‫هذا‬
‫الكفر‬
‫ِ‬ ‫ص َل إلى ح ِ ّد‬ ‫بين حا ِلهم وهم نحو عشرينَ فرقةً منهم من َو َ‬
‫مر ُ‬‫فق ْد َّ‬
‫ذلك الح ّد بل اقتصروا على قول إن‬ ‫يصل إلى َ‬ ‫كالذينَ ذكرناهم ومنهم َم ْن لم ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫هللا ال يُرى في اآلخرةِ كما ال يُرى في الدنيا وقولهم إن مرتكب الكبيرةِ إن‬
‫مات قب َل أن يتوب ال هو مؤمن وال هو كافر لكن يُخلّ ُد في ِ‬
‫النار بال خروج‬ ‫َ‬
‫لبعض عصاة المؤمنين من األنبياء والعلماء‬ ‫ِ‬ ‫وقولهم إنه ال شفاعةَ‬
‫والشهداء‪ ،‬فمن وافقَ المعتزلة في هذا ولم يوافقهم في قولهم إن العبد يخلق‬
‫أفعاله استقالالً بقدرة أعطاهُ هللاُ إياها وال في قولهم إن هللا شاء أن يكون كل‬
‫ولكن قس ًما منهم كفروا وعصوا بغير مشيئته فال يكفر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫العباد طائعين‬
‫أن العب َد المؤمنَ‬ ‫لإلسالم كانوا يعتقدون َّ‬ ‫ِ‬ ‫وأما ال ُمرجئةُ فهم طائفةٌ انتسبوا‬
‫يضر مع‬‫ُّ‬ ‫عذاب‪ .‬قالوا ال‬ ‫ٌ‬ ‫ليس عليه‬ ‫ومات بال توب ٍة َ‬ ‫َ‬ ‫الكبائر‬
‫ِ‬ ‫مهما عم َل من‬
‫الكفر طاعة‪ ،‬قاسوا هذه على هذه فضلُّوا‬ ‫ِ‬ ‫ذنب كما ال ينف ُع مع‬
‫اإليمان ٌ‬
‫ِ‬
‫قام‬
‫الكافر مهما َ‬ ‫َ‬ ‫الكفر طاعةٌ" صحي ٌح َّ‬
‫ألن‬ ‫ِ‬ ‫ألن قولهم‪" :‬ال ينف ُع مع‬ ‫و َهلَكوا‪ّ ،‬‬
‫يضر‬
‫ُّ‬ ‫بصور أعمال الطاعة وهو على كفره ال ينتف ُع بذلك‪ ،‬وأما قولهم‪" :‬ال‬ ‫ِ‬
‫ينضر‬
‫ُّ‬ ‫كفر وضال ٌل َّ‬
‫ألن المؤمنَ‬ ‫ذنب لمن َع ِمله" فهو ٌ‬ ‫م َع اإليمان ٌ‬
‫س ُّموا بالمرجئ ِة‬ ‫التأخير‪ ،‬وإنّما ُ‬
‫ُ‬ ‫بالمعاصي التي يرتكبها‪ ،‬واإلرجا ُء معناهُ‬
‫عصوا َو ُهم‬ ‫العذاب أي لمن َ‬ ‫ُ‬ ‫ألنهم أخروا عنهم العذاب‪ ،‬أي قالوا ال يصيبهم‬
‫لعذاب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫العذاب أي ال يلحقهم ا‬ ‫َ‬ ‫اإليمان يؤ ّخ ُر عنهم‬
‫ُ‬ ‫على اإليمان‪ ،‬معناهُ‬
‫ت على غير‬ ‫والسبب في هال ِك ِهم في هذه المسئل ِة أنهم ف ِهموا بعض اآليا ِ‬ ‫ُ‬
‫ور} [سورة سبإ‪ ]17/‬فظنّوا َّ‬
‫أن‬ ‫وجهها كقوله تعالى‪{ :‬وه َْل نُ َجازي َّإال ال َكفُ َ‬
‫ذلك العذاب الذي ذُ َ‬
‫كر ال يلقاهُ إال‬ ‫أن َ‬ ‫ب‪ ،‬إنما معنى اآلية َّ‬ ‫الكافر ال يُعذَّ ُ‬
‫ِ‬ ‫غير‬
‫َ‬
‫بقي منهم أح ٌد فيما‬‫زمان ما َ‬
‫ٍ‬ ‫الكفور‪ .‬هؤالء وهلل الحم ُد كأنَّهم انقرضوا منذ‬
‫ِكر في ُكت ُ ِ‬
‫ب االعتقاد‪.‬‬ ‫نعل ُم إنما لهم ذ ٌ‬
‫تتمة‪ :‬المعتزلة يعتقدون جملة من العقائد شذُّوا فيها عن أهل السنة منها‬
‫بأن هللا ما شاء حصول المعاصي والشرور وإنما يحصل الكفر‬ ‫قولهم ّ‬
‫والمعاصي بغير مشيئة هللا‪ ،‬ومنها قولهم إن اإلنسان هو يخلق أفعاله‬
‫قادرا‬
‫ً‬ ‫االختيارية بقدرة أعطاه هللا إياها وليس هللا يخلقها يقولون إن هللا كانَ‬
‫على أن يخلق حركات العباد وسكناتهم قبل أن يعطيهم القدرة عليها فبعد أن‬
‫عاجزا‪ ،‬ومنها قولهم بنفي صفات هللا تعالى من‬ ‫ً‬ ‫أعطاهم القدرة عليها صار‬
‫علم وقدرة وحياة وبقاء وسمع وبصر وكالم فهم يقولون هللا عالم بذاته ال‬
‫بعلم‪ ،‬قادر بذاته ال بقدرة‪ ،‬حي بذاته ال بحياة وهكذا في سائر الصفات‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذه األقوال الثالثة يجب تكفيرهم بها وال يجوز أن يقال إنهم ال يكفّرون‬
‫سقون بها ويبدَّعون من غير أن يصلوا إلى ح ّد الكفر كما‬ ‫بها وإن كانوا يف َّ‬
‫قال عدد من متأخري الشافعية والحنفية فإن هؤالء المتأخرين خالفوا ما‬
‫نص عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأجمع عليه الصحابة ال يُعرف‬ ‫َّ‬
‫بينهم مخالف فيه وهذا هو قول سلف األمة فهو القول الصحيح المعتمد وما‬
‫ُ‬
‫يجوز أن يُترك ما قاله رسول هللا صلى هللا‬ ‫خالفه مردود على قائله ألنهُ ال‬
‫عليه وسلم وأجم َع عليه أصحابه بال خالفٍ لقو ٍل ُمستَحدث مخالف بل َم ْن‬
‫عا‪" :‬من أحدث في أمرنا هذا‬ ‫خالف في ذلك ينطبق عليه حديث مسلم مرفو ً‬
‫ليس منه فهو رد" ا‪.‬هـ‪.‬‬ ‫ما َ‬
‫ولذلك اعتمد المحققون من الخلف القول بتكفيرهم ولم يرتضوا قوالً‬
‫سواه‪ ،‬وإليك زيادة بيان ما قدمناه‪.‬‬

‫فأما األحاديث المرفوعة إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فمنها ما‬
‫رواهُ اإلمام أحمد في مسنده (‪ )1‬وأبو داود في سننه (‪ )2‬وابن حبان في‬
‫ي عن زيد بن ثابت عن رسول هللا صلى هللا‬ ‫في صحيحه (‪)3‬عن ابن الديلم ّ‬
‫ب أهل أرضه وسمواته لعذّبهم وهو غير ظالم‬ ‫عليه وسلم‪" :‬إن هللا لو عذَّ َ‬
‫أنفقت مثل أ ُح ٍد‬
‫َ‬ ‫خيرا لهم من أعمالهم ولو‬
‫لهم ولو َرحمهم كانت رحمته ً‬
‫أن ما أصابك لم‬ ‫ذهبًا في سبيل هللا ما قبله هللا منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم ّ‬
‫ت على غير هذا دخلت‬ ‫أخطأك لم يكن ليُصيبك ولو ِم َّ‬
‫َ‬ ‫يكن ليُخطئك وما‬
‫النار" اهـ‪.‬‬
‫عا‪" :‬القدرية مجوس هذه األمة"‬‫وروى أبو داود (‪ )4‬عن ابن عمر مرفو ً‬
‫عا كذلك "لكل أمة مجوس ومجوس‬ ‫ا‪.‬هـ وعنده (‪ )5‬من طريق حذيفة مرفو ً‬
‫مشهور يُحت ُّج به في‬
‫ٌ‬ ‫هذه األمة الذين يقولون ال قدر" ا‪.‬هـ‪ .‬وهذا الحديث‬
‫العقيدة ولذلك احت ّج به اإلمام أبو حنيفة في بعض رسائله الخمس‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_________‬
‫مسند أحمد (‪.)185/5‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب في القدر‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح ابن حبان‪ ،‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان‬ ‫(‪)3‬‬
‫(‪.)55/2‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب في القدر‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المصدر نفسه (‪.)4692‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫وعن عبد هللا بن عمر أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬صنفان‬
‫نصيب في اإلسالم القدرية والمرجئة" اهـ‪ .‬والقدرية هم‬
‫ٌ‬ ‫من أمتي ليس لهما‬
‫المعتزلة‪ .‬والحديث رواه ابن جرير الطبري وصححه (‪ .)1‬ورواه البيهقي‬
‫عا (‪.)2‬‬
‫من أكثر من طريق عن عكرمة عن ابن عباس مرفو ً‬
‫وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (‪ )3‬عن زرارة عن النبي صلى هللا‬
‫النار على ُوجو ِه ِهم ذُوقوا‬
‫{يوم يُ ْس َحبونَ في ِ‬
‫َ‬ ‫عليه وسلم أنه تال هذه اآلية‬
‫سقَر * إِنَّا ُك َّل ش ٍئ َخلَ ْقناهُ بِقَ َد ٍر} [سورة القمر‪ ]49-48/‬قال "نزلت في‬
‫س َ‬ ‫َم َّ‬
‫بقدر هللا" اهـ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أناس من أمتي يكونون في ءاخر الزمان يكذّبونَ‬ ‫ٍ‬
‫وروى أبو نعيم في تاريخ أصبهان (‪ )4‬عن أبي هريرة قال جاءت مشركو‬
‫قريش إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه‬
‫سعُ ٍر} إلى قوله { َخلَ ْقناهُ بقَ َد ٍر} اهـ‪.‬‬ ‫اآلية َّ‬
‫{إن ال ُمجرمينَ في ضال ٍل و ُ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى البيهقي (‪ )5‬عن رافع بن خديج عن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم تكفيرهم وأنهم يكونون أتباع الدجال عند ظهوره‪.‬‬
‫وهذه األحاديث كلها تدل على كفر نُفاةِ القدر القائلين ّ‬
‫بأن العب َد يفعل بغير‬
‫مشيئة هللا‪ ،‬ولهذا لم يختلف أصحاب النبي عليه الصالة والسالم في كفرهم‪.‬‬
‫وروى البيهقي في كتاب القدر (‪ )6‬باإلسناد الصحيح عن سيدنا عمر‬
‫رضي هللا عنه أن رجالً من أهل الذمة قال أمامه في الجابية "إن هللا ال‬
‫___________‬
‫تهذيب اآلثار (‪ 653/2‬و‪.)656‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)3321/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تفسير القرءان العظيم (‪.)3321/10‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تاريخ أصبهان (‪ ،328/1‬ترجمة الحسين بن حفص ال َه ْمداني)‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪ 133-132/‬و‪.)251‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)199/‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫"كذبت يا عدو هللا ولوال أنك من أهل‬


‫َ‬ ‫فغضب عمر وقال‪:‬‬
‫َ‬ ‫ض ّل أحدًا"‬
‫يُ ِ‬
‫يدخلك النار" اهـ‪.‬‬
‫َ‬ ‫عنقك هو أضلّك وهو‬
‫َ‬ ‫الذمة لضربتُ‬
‫ي رضي هللا عنه‬ ‫ضا عن سيدنا عل ّ‬ ‫وروى البيهقي في كتاب القدر (‪ )1‬أي ً‬
‫أنه قال‪" :‬إن أحدكم لن َي ْخلص اإليمان إلى قلبه حتى يستيقنَ يقينًا غير شك‬
‫ّ‬
‫أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليُصيبه ويُ ِق َّر بالقدر كله"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫ي بن كعب‬‫ي عن أب ّ‬‫وروى أحمد وأبو داود وابن حبان عن ابن الديلم ّ‬
‫وعبد هللا بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت قولهم‪" :‬لو أنفقت مثل‬
‫أح ٍد ذهبًا في سبيل هللا ما قبله هللا منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما‬
‫مت على غير هذا‬‫أصابك لم يكن ليُخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو ّ‬
‫دخلت النار" اهـ‪ .‬وقد تقدم في غير موضع‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى ابن أبي حاتم في تفسيره (‪ )2‬عن عطاء بن أبي رباح قال أتيتُ‬
‫ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له‪ :‬قد تُكلم في‬
‫القدر‪ ،‬فقال‪ :‬أوفعلوها‪ ،‬قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فوهللا ما نزلت هذه اآلية إال فيهم‬
‫مس سقر * إنَّا ك َّل ٍ‬
‫شئ خلقناهُ‬ ‫النار على وجوه ِهم ذُوقُوا َّ‬
‫{يوم يُ ْس َحبونَ في ِ‬
‫َ‬
‫بقدر} أولئك شرار هذه األمة فال تعودوا مرضاهم وال تصلّوا على موتاهم‬
‫إن رأيتُ أحدًا منهم فقأتُ عينيه بإصبع ّ‬
‫ي هاتين اهـ‪.‬‬
‫ضا قوله‪ :‬كالم القدرية كفر اهـ‪ .‬وقد تقدم‪.‬‬
‫وي عنه أي ً‬
‫ور َ‬
‫ُ‬
‫ضا بحدوث القول في القدر في‬ ‫ابن عمر رضي هللا عنهما أي ً‬ ‫وقد أ ُ ْخ ِب َر ُ‬
‫العراق على مقتضى كالم المعتزلة فقال لل ُمخ ِب ِر وكانَ يحيى بن يعمر من‬
‫أجال ِء التابعين‪ :‬أخبرهم بأني بري ٌء منهم وأنهم برءا ُء مني والذي يحلف به‬ ‫َّ‬
‫عبد هللا لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهبًا ما قُ ِب َل ذلك منه حتى يؤمنَ بالقدر‬
‫خيره وشره اهـ‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)236/‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرءان العظيم (‪.)3321/10‬‬
‫وروى البيهقي في كتاب القدر (‪ )1‬عن لبيد قال‪ :‬سألت واثلة بن‬
‫األسقع عن الصالة خلف القدري فقال‪ :‬ال تص ّل خلف القدري أما أنا لو‬
‫صليت خلفه ألعدتُ صالتي اهـ‪.‬‬
‫وروى البيهقي (‪ )2‬عن سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي هللا‬
‫عنهما أنه قال‪ :‬وهللا ما قالت القدرية بقول هللا وال بقول المالئكة وال بقول‬
‫النبيين وال بقول أهل الجنة وال بقول أهل النار وال بقول صاحبهم إبليس‬
‫اهـ‪ .‬وقد تقدم‪.‬‬
‫ي كما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وقد‬
‫وأما التابعون فمنهم ابن الديلم ّ‬
‫ذكر حديثهُ وانفًا‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ومنهم يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري‪ .‬رواه مسلم‬


‫والترمذي وغيرهما (‪ )3‬وهما سمعا حديث ابن عمر رضي هللا عنهما‬
‫المذكور ءانفًا‪.‬‬
‫وعمر بن عبد العزيز رضي هللا عنهما‬
‫ُ‬ ‫ومنهم أبو سهيل ع ُّم اإلمام مالك‬
‫فقد روى البيهقي في القدر (‪ )4‬عن أبي سهيل أنه قال‪ :‬كنت أمشي مع‬
‫عمر بن عبد العزيز فاستشارني في القدرية فقلت‪ :‬أرى أن تستتيبهم فإن‬
‫تابوا وإال عرضتهم على السيف‪ ،‬فقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬وذلك رأيي‪،‬‬
‫قال مالك‪ :‬وذلك رأيي اهـ‪.‬‬
‫___________‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)245/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)238-237/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب بيان اإليمان واإلسالم (‪،)8‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سنن الترمذي‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب ما جاء في وصف جبريل‬
‫للنبي صلى هللا عليه وسلم اإليمان واإلسالم‪ ،‬سنن أبي داود‪:‬‬
‫كتاب السنة‪ :‬باب في القدر‪.‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)257/‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫ولعمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه رسالة مشهورة في الرد على‬
‫القدرية‪ ،‬رواها أبو نعيم (‪ )1‬وغيره‪.‬‬
‫ومنهم التابعي الجليل محمد بن سيرين‪ ،‬فقد روى البيهقي (‪ )2‬عنه أنه‬
‫قال‪ :‬إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في ءايات هللا فال أدري من‬
‫هم اهـ‪.‬‬
‫ومنهم الحسن البصري فقد روى ابن عساكر في تاريخه (‪ )3‬عن‬
‫ب بالقدر فقد كذّب بالحق‬
‫عاصم قال سمعت الحسن البصري يقول‪ :‬من كذَّ َ‬
‫إن هللا تبارك وتعالى قدّر خلقًا وقدر أجالً وقدّر بال ًء وقدر مصيبة وقدّر‬
‫معافاة فمن كذَّ َ‬
‫ب بالقدر فقد كذب بالقرءان ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي عب َد الملك بن مروان بدماء القدرية كما ذكره اإلمام عبد‬ ‫وأفتى ُّ‬
‫الزهر ُّ‬
‫القاهر التميمي في أصول الدين (‪.)4‬‬
‫ولعنهم سالم بن عبد هللا بن عمر رضي هللا عنه كما روى البيهقي (‪)5‬‬
‫عن عكرمة بن عمار أنه قال سمعت سالم بن عبد هللا يلعن القدرية اهـ‪.‬‬
‫صر َح جماعة كبيرة منهم اإلمام مالك بن أنس فقد‬
‫ومن أتباع التابعين َّ‬
‫روى البيهقي (‪ )6‬عن إسحاق بن محمد الفروي أنه قال سئل مالك عن‬
‫شركٍ } [سورة البقرة‪.]221/‬‬‫خير من ُم ِ‬ ‫تزويج القدري فقال‪{ :‬ولَ َع ْب ٌد ِ‬
‫مؤم ٌن ٌ‬
‫صرح في بعض رسائله وقد قال‪ :‬الكالم‬ ‫ومنهم اإلمام أبو حنيفة كما ّ‬
‫بيننا وبين القدرية في حرفين يقال لهم‪ :‬هل َع ِل َم هللا ما يكون من العباد قبل‬
‫_________‬
‫حلية األولياء (‪.)346/5‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)253/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تاريخ مدينة دمشق (‪.)378/6‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أصول الدين (ص‪.)307/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)251/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)260-259/‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫أن يفعلوا‪ ،‬فإن قالوا ال كفروا ألنهم ج َّهلوا ربَّهم‪ ،‬وإن قالوا َع ِل َم يقال لهم‪:‬‬
‫هل شاء خالف ما َع ِل َمه‪ ،‬فإن قالوا نعم كفروا ألنهم قالوا شاء أن يكونَ‬
‫جاهالً‪ ،‬وإن قالوا ال رجعوا إلى قولنا ا‪.‬هـ‪ .‬ولذلك قال اإلمام الشافعي‬
‫رضي هللا عنه‪ :‬القدري إذا سلّم العلم ُخ ِ‬
‫ص َم ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫كفرت‬
‫َ‬ ‫صا الفرد من رؤوس المعتزلة وقال له‪ :‬لقد‬
‫ي حف ً‬ ‫وقد كفَّ َر الشافع ُّ‬
‫باهلل العظيم اهـ‪ .‬رواه البيهقي في مناقب الشافعي (‪.)1‬‬
‫فمعروف مشهور عنه رواه عد ٌد منهم‬
‫ٌ‬ ‫وأما تكفير أحمد بن حنبل لهم‬
‫البيهقي وابن الجوزي وغيرهما‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى البيهقي في األسماء والصفات تكفير أبي حنيفة وأبي يوسف لهم‬
‫بل قال أبو يوسف فيهم‪ :‬إنهم زنادقة اهـ‪.‬‬
‫ومنهم سفيان الثوري كما روى البيهقي عن أحمد بن يونس أنه قال‬
‫سمعت رجالً يقول لسفيان الثوري‪ :‬إن لنا إما ًما قدريًّا قال‪ :‬ال تق ِدّموه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ليس لنا إمام غيره‪ ،‬قال‪ :‬ال تق ّدِموه اهـ‪.‬‬
‫ومنهم سفيان بن عيينة‪ ،‬روى البيهقي (‪ )2‬عن أيوب بن حسان أنه قال‬
‫سئ َل ابن عيينة عن القدرية فقال‪ :‬يا ابن أخي قالت القدرية ما لم يق ِل هللا‬
‫عز وجل وال المالئكة وال أهل الجنة وال أهل النار وال ما قال أخوهم‬ ‫ّ‬
‫إبليس‪ ...‬إلخ اهـ‪.‬‬
‫ي زين العابدين كما روى البيهقي (‪ )3‬عن‬ ‫ومنهم محمد الباقر بن عل ّ‬
‫[حرب بن سريج] البزار قال قلت لمحمد بن علي‪ :‬يا أبا جعفر ّ‬
‫إن لما إما ًما‬
‫يقول في هذا القدر‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن الفارسي انظر كل صالة صليتها خلفه‬
‫فأعدها‪ ،‬إخوان اليهود والنصارى قاتلهم هللا أنّى يُؤفكون ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي (‪.)407/1‬‬
‫(‪ )2‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)261/‬‬
‫(‪ )3‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)254/‬‬
‫ومنهم اإلمام المجتهد أبو عمرو األوزاعي فإنه كفَّر غيالن القدري وقال‬
‫لهشام بن عبد الملك‪ :‬يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اهـ رواه بن عساكر‬
‫في تاريخ دمشق بروايات عدة (‪.)1‬‬
‫ومنهم الحافظ يحيى بن سعيد القطان فقد روى أبو نعيم في تاريخ‬
‫أصبهان (‪ )2‬عن سعيد بن عيسى ال ُكزبري يقول سمعتُ يحيى بن سعيد‬
‫القطان يقول‪ :‬شيئان ما يخالج قلبي فيهما شك تكفير القدرية وتحريم النبيذ‬
‫ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ومنهم إبراهيم بن طهمان كما روى البيهقي (‪ )3‬عن الحسن بن عيسى [نا‬
‫ح ّماد بن قيراط] قال سمعت إبراهيم بن طهمان يقول‪ :‬الجهمية والقدرية‬
‫كفار ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫فهذه أقوال أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وبينهم فقهاؤهم‬
‫ي وابن مسعود وحذيفة وزيد بن ثابت وابن عمر‬ ‫ي وأب ّ‬
‫عمر وعل ٌّ‬
‫ُ‬ ‫وعلماؤهم‬
‫ي واحد‪،‬‬‫وابن عباس مجمعة على تكفير القدرية لم يخالفهم في ذلك صحاب ّ‬
‫ومعهم على هذا مشاهير علماء التابعين كابن سيرين وعمر بن عبد العزيز‬
‫والحسن البصري وابن شهاب الزهري‪ ،‬وتبعهم على ذلك أتباع التابعين‬
‫وبينهم المجتهدون أصحاب المذاهب المشهورة المتبوعة مالك وأبو حنيفة‬
‫عيينة‪ ،‬ومع‬‫واألوزاعي والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وسفيان بن ُ‬
‫ي والحسين والباقر رضوان هللا عليهم فكيف بعد‬ ‫هؤالء كلهم أهل البيت عل ّ‬
‫هذا كله يجرؤ بعض المتأخرين على الزعم بأن القول المعتمد تركُ تكفير‬
‫المعتزلة القائلين بخلق العبد ألعماله وبنفي صفات هللا تعالى وبأي لسان‬
‫يزعم منتسب إلى اإلسالم بأن القول بعدم تكفيرهم الذي يخالف األحاديث‬
‫الصريحة وإجماع الصحابة وأقوال أئمة المجتهدين من التابعين وأتباعهم‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬تاريخ مدينة دمشق (‪.)209/48‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ أصبهان (‪ ،382/1‬ترجمة سعيد بن عثمان الكربزي)‪.‬‬
‫(‪ )3‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)262/‬‬
‫هو القول المعتمد‪ .‬وإذا كان هؤالء كلهم أخطأوا الصواب ولم يفرقوا بين‬
‫فم ْن أين عرفوا هم‬
‫الكفر واإليمان على ما يقتضيه كالم هؤالء المتأخرين ِ‬
‫الصواب بزعمهم في المسئلة ومن أي طريق بلغهم حكمها‪.‬‬
‫بل الحق ما جاء به سيدنا محمد عليه الصالة والسالم والصواب ما‬
‫أجمع عليه الصحابة وقاله الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد واألوزاعي‬
‫وغيرهم من المجتهدين‪ ،‬وأما ما خالف ذلك مما قاله بعض من جاء بعد‬
‫ي أو الشربيني أو األشخر ممن يُ َع ّد في‬
‫هؤالء بمئات من السنين كالباجور ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األصول والفروع كاألطفال بالنسبة لهؤالء األساطين فيُضرب به عرض‬


‫الحائط وال يقام له وزن‪.‬‬
‫ولذلك لم يعتبر أئمة الخلف ومحققوهم هذا الرأي الشاذ بل جزموا بكفر‬
‫المعتزلة ونقل اإلمام أبو منصور التميمي البغدادي كفرهم عن األئمة في‬
‫كتابه أصول الدين‪ ،‬وقال في تفسير األسماء والصفات‪ :‬أجمع أصحابنا –‬
‫أي أئمة األشاعرة والشافعية‪ -‬على تكفير المعتزلة اهـ‪.‬‬
‫وكفَّرهم إمام الهدى أبو منصور الماتريدي في كتابه التوحيد وعليه‬
‫جرى أئمة الحنفية‪ .‬قال الزبيدي في شرح اإلحياء (‪ :)1‬إن مشايخ ما وراء‬
‫نص على ذلك منهم نجم‬‫النهر لم يتوقفوا عن تكفير المعتزلة اهـ‪ ،.‬وممن ّ‬
‫الدين منكوبرس شارح الطحاوية‪.‬‬
‫ي من أصول اإليمان القدر من‬ ‫وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالك ّ‬
‫كذّب به فقد كفر‪ .‬نص عليه مالك فإنه سئل عن نكاح القدرية فقال‪{ :‬ولَعَ ْب ٌد‬
‫شركٍ ولو أ ْع َجبَ ُكم} ا‪.‬هـ‪.‬‬ ‫ؤم ٌن ٌ‬
‫خير من ُم ِ‬ ‫ُم ِ‬
‫وكفَّرهم الفقيه اللغوي شيث بن إبراهيم المالكي وألّف في الر ّد عليهم‬
‫كتاب "حز الغالصم وإفحام المخاصم" وهو مطبوع‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬إتحاف السادة المتقين (‪.)135/2‬‬
‫وسئل الجنيد رضي هللا عنه عن التوحيد فقال‪ :‬اليقين‪ ،‬ثم استفسر عن‬
‫مكون لشئ من األشياء من األعيان واألعمال خالق لها‬‫معناه فقال‪ :‬إنه ال ّ‬
‫إال هللا تعالى اهـ‪.‬‬
‫ي هللا السيد عبد القادر الجيالني في كتاب الغنية‬
‫ي ول ّ‬‫وقال الفقيه الحنبل ّ‬
‫له‪ :‬تبًّا لهم –أي للقدرية‪ -‬وهم مجوس هذه األمة جعلوا هلل شركاء ونسبوه‬
‫إلى العجز وأن يجري في ملكه ما ال يدخل في قدرته وإرادته‪ ،‬تعالى هللا‬
‫كبيرا اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫علوا‬
‫عن ذلك ًّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وكفَّرهم أبو حامد األسفراييني من أصحاب الوجوه بين الشافعية ولم‬


‫يصحح الصالة خلفهم‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني الشافعي في األنساب (‪)1‬‬
‫في ترجمة الكعبي المعتزلي وقد َكفَ َرت المعتزلة قبله بقولها إن الشرور‬
‫واقعة من العباد بخالف إرادة هللا ّ‬
‫عز وجل ومشيئته ا‪.‬هـ‪ .‬ثم قال فزاد أبو‬
‫عز وجل إرادة وال مشيئة على‬ ‫القاسم الكعبي في الكفر فزعم أنه ليس هلل ّ‬
‫الحقيقة اهـ‪.‬‬
‫ونقل النووي في الروضة (‪ )2‬عن الحنفية تكفير من قال أنا أفعل بغير‬
‫مشيئة هللا وأقرهم عليه اهـ‪.‬‬
‫وسبق نقل ما ذكره البلقيني في هذه المسئلة وردّه على من ص ّحح‬
‫الصالة خلفهم‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬األنساب (‪.)80/5‬‬
‫(‪ )2‬روضة الطالبين (‪)66/10‬‬

‫فتلخص مما تقدم أن القول الصحيح المعتمد الذي ال يجوز العدول عنه‬
‫هو تكفير المعتزلة بكل مسئلة من المسائل الثالث المذكورة ءانفًا‪ ،‬وهلل ُّ‬
‫در‬
‫ي القائل فيما رواه البيهقي (‪ )1‬عن أبي يعلى حمزة بن‬ ‫أبي القاسم العلو ّ‬
‫محمد العلوي يقول سمعت أبا القاسم عبد الرحمن بن محمد بن القاسم‬
‫الحسني وما رأيت علويًا –أي من ذرية سيدنا علي‪ -‬أفضل منه زهدًا‬
‫وعبادة يقول‪ :‬المعتزلة قَ َع َدة ُ الخوارج عجزوا عن قتال الناس بالسيوف‬
‫فقعدوا للناس يقاتلونهم بألسنتهم أو تجاهدونهم أو كما قال اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي رضي هللا عنه‬ ‫*الثانية‪ :‬روى البيهقي (‪ )2‬رحمه هللا تعالى عن سيدنا عل ٍّ‬
‫غير ٍّ‬
‫شك‬ ‫اإليمان إلى قلب ِه حتى يَ ْستَي ِقنَ يقينًا َ‬
‫ُ‬ ‫ص‬ ‫"إن أح َد ُكم لَ ْن يَ ْخلُ َ‬
‫أنه قال‪َّ :‬‬
‫بالقدر كل ِه"‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أن ما أصابهُ لم يَ ُكن ليُخطئهُ وما أخطأهُ لم يكن ليُصيبهُ‪ ،‬ويُ ِق ُّر‬ ‫َّ‬
‫ببعض‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫القدر وي ْكفُ َر‬
‫ِ‬ ‫يجوز أن يُؤمنَ ببعض‬ ‫ُ‬ ‫أي ال‬
‫ي رضي هللا عنه أنه ال يت ُّم اإليمان في قلب‬ ‫ومعنى هذا األثر عن سيدنا عل ّ‬
‫شك أي حتى يعتقد اعتقادًا جاز ًما ال يخالجه‬ ‫أحدكم حتي يستيقن يقينًا غير ّ‬
‫الرزق أو المصائل أو غير‬ ‫شك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه إن كان من ّ‬ ‫ٌّ‬
‫ويقر بالقدر كلّه‪ ،‬معناه ال يجوز أن‬
‫َّ‬ ‫ذلك وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه‬
‫يجب على ك ّل مسلم أن يؤمن بأن ك َّل‬ ‫ُ‬ ‫ببعض بل‬
‫ٍ‬ ‫يؤمن ببعض القدر ويكفر‬
‫يسر حل ٍو أو‬
‫عسر أو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫شر ضالل ٍة أو هدى‬
‫خير أو ّ‬‫ما يجري في الكون من ٍ‬
‫وكونه‬‫ذلك بخلق هللا ومشيئته حدث وكان ولوال أن هللا تعالى شاءه َّ‬ ‫مر ك ُّل َ‬ ‫ٍّ‬
‫وخلقه ما حصل‪.‬‬
‫ب‬
‫عمر بنَ الخطا ِ‬
‫َ‬ ‫ضا باإلسنا ِد الصحيح َّ‬
‫أن‬ ‫*الثالثة‪ :‬روى البيهقي (‪ )3‬أي ً‬
‫فقام خطيبًا ف َح ِم َد هللا وأثنى عليه ثم‬
‫أرض من الشام‪َ -‬‬ ‫ٌ‬ ‫كانَ بالجابية –وهي‬
‫كافر‬
‫هادي له"‪ ،‬وكان عندهُ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ض َّل لهُ و َم ْن يُ ْ‬
‫ض ِل ْل فال‬ ‫قال‪َ " :‬م ْن يه ِد هللا فال ُم ِ‬
‫_________‬
‫(‪ )1‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)264/‬‬
‫(‪ )2‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)236/‬‬
‫(‪ )3‬المنتقى من كتاب القضاء والقدر (ص‪.)199/‬‬
‫العجم من أه ِل الذ ّمة فقال بِلُغَتِ ِه‪َّ :‬‬
‫"إن هللا ال يُض ُّل أحدًا"‪ ،‬فقا َل‬ ‫ِ‬ ‫كفار‬
‫من ِ‬
‫مر للترجمان‪" :‬ماذا يقول"؟ قال‪ :‬إنه يقول‪َّ :‬‬
‫إن هللا ال يُض ُّل أحدًا‪ ،‬فقال‬ ‫ع ُ‬
‫ُ‬
‫ضلَّ َك‬
‫هو أ َ‬‫نقك َ‬
‫ع َ‬ ‫لضربتُ ُ‬‫َ‬ ‫أنك من أهل الذمة‬ ‫عدو هللا ولوال َ‬ ‫عمر‪" :‬ك َذ َ‬
‫بت يا َّ‬
‫دخلك النار إن شاء"‪.‬‬
‫َ‬ ‫وهو يُ‬
‫كفر وضال ٌل وهو‬ ‫أن هذا االعتقاد ٌ‬ ‫ومعنى كالم عمر رضي هللا عنه ّ‬
‫ض ُّل أحدًا أي أن اإلنسانَ يض ُّل بمشيئت ِه ال بمشيئ ِة هللا‪،‬‬ ‫اعتقا ُد ّ‬
‫أن هللا ال يُ ِ‬
‫يخلق هذه الضاللةَ َ‬
‫ليس هللا خالقَها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وأن العب َد هو‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كفر َك هذا‬ ‫تموت على َ‬ ‫َ‬ ‫ومعنى قول سيدنا عمر‪" :‬إن شا َء" أي إن شا َء أن‬
‫{و َم ْن يَ ْه ِد هللاُ فما‬‫ال بُ َّد من دخو ِل َك النار‪ .‬وقد احت َّج سيدنا عمر بهذه اآلية‪َ :‬‬
‫أن الذي شا َء هللا له في األز ِل أن‬ ‫ض ّل} [سورة الزمر‪ ]37/‬ومعناهُ ّ‬ ‫لهُ ِم ْن ُم ِ‬
‫هادي لهُ} [سورة‬ ‫َ‬ ‫يكون ُمهتديًا ال أحد يجعلهُ ضاالً‪َ { ،‬م ْن يُ ْ‬
‫ض ِل ِل هللاُ فال‬
‫هادي له‪ ،‬أي ال أحد‬ ‫َ‬ ‫األعراف‪ ]186/‬أي و َمن شا َء هللا أن يكونَ ضاالً فال‬
‫يهديه وال أحد يجعلهُ مهتديًا‪ .‬وهذا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن َذ َر‬
‫يرت َ َك‬
‫ع ِش َ‬ ‫الوحي عمالً بقول هللا تعالى‪{ :‬وأَنذ ِْر َ‬ ‫ُ‬ ‫قو َمهُ َّأول ما نز َل عليه‬
‫أناس‬
‫ٌ‬ ‫الكفر ثم اهتدى به‬ ‫ِ‬ ‫األ ْق َربين} [سورة الشعراء‪ ]214/‬أي ح ِ ّذرهم من‬
‫ب وغيره فإنهم لم يهتدوا‪،‬‬ ‫أناس حتى من أقار ِب ِه كأبي له ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ولم يهت ِد به‬
‫وأولئك الذينَ اهتدوا اهتدوا‪ ،‬فما هو‬ ‫َ‬ ‫والرسو ُل بلَّغهم دعوته لكن لم يهتدوا‪،‬‬
‫لذلك أن‬
‫الموجب َ‬ ‫ُ‬ ‫هؤالء وال يهتدي هؤالء؟‬ ‫ِ‬ ‫يهتدي‬
‫َ‬ ‫لذلك أي ألن‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫الموج ُ‬
‫ِ‬
‫يهتدي‬
‫َ‬ ‫يهتدي هؤالء بمحم ٍد ولم يشأ أن‬ ‫َ‬ ‫هللا تبارك وتعالى شا َء في األز ِل أن‬
‫اآلخرونَ تنفَّذت مشيئةُ هللا في الفريقين‪.‬‬
‫ص هؤالء بأن ينساقوا إلى‬ ‫ص َ‬‫الكفر والمعاصي لكن خ َّ‬
‫َ‬ ‫يكرهُ‬
‫وهللا تعالى َ‬
‫باختيارهم إلى ال ُهدى‪ ،‬هذا معنى‬
‫ِ‬ ‫أولئك بأن ينساقوا‬
‫َ‬ ‫صص‬‫الضالل‪ ،‬كما خ َّ‬
‫المشيئة‪.‬‬

‫الزهري ّ‬
‫أن‬ ‫ي عن ع ّمه ّ‬ ‫ابن أخي ُّ‬
‫الزهر ّ‬ ‫ظ أبو نُعيم (‪ )1‬عن ِ‬ ‫وروى الحاف ُ‬
‫بن ربيعةَ التي منها هذه األبياتُ ‪،‬‬‫ب كانَ يحبُّ قصيدة َ لبي ِد ِ‬
‫عمر بنَ الخطا ِ‬
‫َ‬
‫عجب بها لما فيها من الفوائ ِد الجليلة‪:‬‬
‫عمر يُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وهي من بحر الرم ِل وقد كانَ‬
‫َ‬
‫وبإذن هللا َريْثي و َع َج ْل‬
‫ِ‬ ‫خير نَفَ ْل ***‬ ‫َّ‬
‫إن تقوى ربّنــــــا ُ‬
‫الخير ما شا َء فَ ْ‬
‫عل‬ ‫ُ‬ ‫أحمـــــــــــــ ُد هللا فال نِ َّد لهُ *** بيَ َدي ِه‬
‫ناعم البا ِل و َم ْن شا َء أ َ‬
‫ضل‬ ‫َ‬ ‫الخير اهتدى ***‬
‫ِ‬ ‫َم ْن هداهُ ُ‬
‫سبُ َل‬
‫خير نفَل"‪ ،‬أي ُ‬
‫خير ما يُعطاه اإلنسان‪.‬‬ ‫ومعنى قو ِله‪َّ :‬‬
‫"إن تقوى ربّنا ُ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫خير ما يؤتاهُ‬
‫أن تقوى هللا ُ‬‫خير نفل" أي َّ‬ ‫فقوله‪" :‬إن تقوى ربّنا ُ‬
‫اللسان لكنها ثقيلةٌ في العم ِل‬
‫ِ‬ ‫وخير ما يُعطاهُ‪ ،‬والتقوى كلمةٌ خفيفةٌ على‬
‫ُ‬
‫أمر‬
‫حر َم عليهم‪ ،‬وهذا ٌ‬ ‫واجتناب ما َّ‬
‫ُ‬ ‫افترض هللا على العبا ِد‬
‫َ‬ ‫ألنها أدا ُء ما‬
‫ثقي ٌل‪.‬‬
‫ئ وال‬ ‫ومعنى قوله‪" :‬وبإذن هللاِ َريْثي و َع َجل"‪ ،‬أي أنهُ ال يُبط ُ‬
‫ئ ُمب ِْط ٌ‬
‫ع‬
‫ع إال بمشيئ ِة هللا وبإذن ِه‪ ،‬أي أنه ال يبطئ مبطئ وال يُسر ُ‬ ‫ع ُم ْس ِر ٌ‬
‫يُسر ُ‬
‫نشيط في العم ِل إال بمشيئ ِة هللا وإذنه‪ ،‬أي أن هللا تبارك وتعالى هو الذي‬ ‫ٌ‬
‫يخلق في ِه الكس َل والتَّواني‬
‫ُ‬ ‫ط للخير‪ ،‬وهو الذي‬ ‫يخلق في العب ِد القوة َ والنشا َ‬ ‫ُ‬
‫ق ك ٌّل بخل ِ‬
‫ق هللا‬ ‫يحصالن من الخل ِ‬
‫ِ‬ ‫والشر اللذين‬
‫َّ‬ ‫الخير‬
‫َ‬ ‫عن الخير‪ ،‬أي ّ‬
‫أن‬
‫تعالى ومشيئته‪.‬‬
‫أما معنى قوله‪" :‬أح َم ُد هللا فال نِ َّد لهُ"‪ ،‬أي ال ِمثْ َل له‪.‬‬
‫خير ومالكُ‬ ‫والشر‪ ،‬أي أن هللا تعالى مالكُ ال ِ‬ ‫ُّ‬ ‫الخير"‪ ،‬أي‬
‫ُ‬ ‫وقوله‪" :‬بيديه‬
‫ليس العبا ُد يخلقونهُ‬ ‫والشر من أعما ِل العبا ِد إال هللا‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫للخير‬
‫ِ‬ ‫الشر ال خالقَ‬
‫ّ‬
‫النور‬
‫ُ‬ ‫يخلقان ذلك كما قالت المانويَّةُ وهم قو ٌم يقولون‪:‬‬
‫ِ‬ ‫النور وال الظلمةُ‬
‫ٌ‬ ‫وال‬
‫الخير وعن الظلم ِة‬
‫ُ‬ ‫فحدث عن النور‬ ‫َ‬ ‫أزليان ثم تمازجا‬
‫ِ‬ ‫قديمان‬
‫ِ‬ ‫والظلمةُ‬
‫الشاعر في قوله‪:‬‬
‫ُ‬ ‫الشر وقد كذبهم المتنبي‬ ‫ُّ‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬حلية األولياء (‪.)369/3‬‬
‫أن المانَويَّةَ ت ْكذ ُ‬
‫ِب‬ ‫عندي من ي ٍد *** ت ُ َخب ُّر َّ‬
‫َ‬ ‫لظالم اللي ِل‬
‫ِ‬ ‫وكم‬
‫الشر‬
‫ّ‬ ‫الخير دونَ‬
‫ِ‬ ‫اقتصر لبي ُد بن ربيعة رضي هللا عنه على ذ ِ‬
‫ِكر‬ ‫َ‬ ‫وإنما‬
‫خالق‬‫ُ‬ ‫أن هللا‬ ‫ّ‬
‫الحق ّ‬ ‫الشر ألنهُ معلو ٌم عن َد أهل‬‫ّ‬ ‫ذكر‬
‫الخير عن ِ‬ ‫ِ‬ ‫بذكر‬
‫ِ‬ ‫اكتفا ًء‬
‫فإيمان المؤمنينَ وطاعاتُهم و ُك ُ‬
‫فر‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الحق‪،‬‬ ‫والشر وعلى هذا اتفقَ أه ُل‬ ‫ّ‬ ‫الخير‬
‫ِ‬
‫ق‬‫الخير اإليمانَ والطاعةَ بخل ِ‬ ‫َ‬ ‫ق هللا تعالى ومشيئتِ ِه‪ ،‬إال أن‬ ‫الكافرين ك ٌّل بخل ِ‬
‫ق هللا يحص ُل من‬‫والمعاصي بخل ِ‬
‫َ‬ ‫والشر أي الكفر‬‫َّ‬ ‫هللا ومشيئت ِه ورضاهُ‪،‬‬
‫العبا ِد ال برضاهُ بل نها ُهم عن ذلك‪ ،‬وهو هللا سبحانه وتعالى فعَّا ٌل لما يُري ُد‬
‫كيف‬
‫َ‬ ‫ق كالذي يقو ُل‬ ‫ق على الخل ِ‬ ‫قياس الخال ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يجوز‬ ‫ال يُسأ ُل عما يفعلُ‪ .‬وال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قاس الخالقَ‬
‫الشر‪ ،‬فقد َ‬‫ّ‬ ‫الشر فينا ثم يحاسبنا في اآلخرةِ على‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يكون خالق‬
‫بالتسليم هلل فمن سلَّ َم هللِ‬
‫ِ‬ ‫وذلك ضال ٌل بعيدٌ‪ ،‬ال يت ُّم ُ‬
‫أمر الدين إال‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫على الخل ِ‬
‫فاعترض لم يَسلَم‪.‬‬
‫َ‬ ‫التسليم له‬
‫َ‬ ‫ترك‬
‫س ِل َم‪ ،‬ومن َ‬
‫ِكر‬‫اقتصر على ذ ِ‬ ‫َ‬ ‫الخير}‬
‫ُ‬ ‫ِك‬ ‫أليس هللا تبارك وتعالى قال‪{ :‬بيد َ‬ ‫َ‬ ‫فإن قي َل‬
‫خالق الخير والشر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يجوز أن يُقا َل إنهُ‬ ‫ُ‬ ‫فكيف‬
‫َ‬ ‫والشر‬
‫ُّ‬ ‫الخير ولم يَقُل‬‫ِ‬
‫خالق ك ّل‬
‫ُ‬ ‫القرءان ما يفي ُد أن هللا تعالى‬ ‫ِ‬ ‫فالجواب‪ :‬في مواض َع أخرى من‬
‫تبارك وتعالى لنبيّه محمدٍ‪{ :‬قُ ِل‬ ‫َ‬ ‫والشر قال هللا‬
‫َّ‬ ‫الخير‬
‫َ‬ ‫ئ يشم ُل‬ ‫ش ٍئ‪ ،‬والش ُ‬
‫الملك ِم َّمن تشاء} [سورة ءال‬ ‫َ‬ ‫مالك ال ُم ْل ِك تُؤتي ال ُم ْل َك َمن تشا ُء وت َ ْن ِز ُ‬
‫ع‬ ‫َ‬ ‫الله َّم‬
‫ُ‬
‫خالق‬ ‫لك َم ْن تشاء} أنهُ َ‬
‫هو‬ ‫عمران‪ ]26/‬ف َع ِلمنا من قوله تعالى‪{ :‬تُؤتي ال ُم َ‬
‫للملوك الكفرةِ كفرعونَ‬ ‫ِ‬ ‫والشر ألنهُ هو الذي ءاتى أي أعطى ال ُم َ‬
‫لك‬ ‫ّ‬ ‫الخير‬
‫ِ‬
‫الخير في‬ ‫ِ‬ ‫الشر مع‬ ‫ّ‬ ‫ذكر‬
‫ترك ِ‬ ‫فليس في ِ‬ ‫َ‬ ‫والملوك المؤمنينَ كذي القرنين‪،‬‬ ‫ِ‬
‫للشر‪ ،‬وهذا‬ ‫ّ‬ ‫ليس خالقًا‬ ‫أن هللا تعالى َ‬ ‫الخير} دلي ٌل على ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِك‬
‫قوله تعالى‪{ :‬بيد َ‬
‫بذكر ما يقابله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫للعلم ل ِه‬
‫ِ‬ ‫الشئ‬
‫ِ‬ ‫ذكر‬
‫ترك ِ‬ ‫البيان يُس ّمى االكتفاء أي َ‬ ‫ِ‬ ‫علماء‬
‫ِ‬ ‫عن َد‬
‫سن ٍة فمنَ هللاِ وما أصابَ َك من سيئ ٍة‬ ‫وأما قوله تعالى‪{ :‬ما أصابَ َك ِم ْن ح َ‬
‫فم ْن ن ْف ِسك} [سورة النساء‪ ]79/‬فالحسنةُ معناها هنا النعمةُ‪ ،‬والسيئةُ هنا‬ ‫ِ‬
‫معناها المصيبةُ والبليّةُ‪ ،‬فمعنى اآلية‪{ :‬ما أصابَ َك من حسن ٍة فمنَ هللا} أي ما‬
‫أصابَ َك من نعم ٍة فمن فض ِل هللا عليك {وما أصابَ َك من سيئ ٍة فمن نف ِسك}‬
‫نجازيك‬
‫َ‬ ‫الشر عملتَها‬‫ّ‬ ‫عملك‪ ،‬أعما ُل‬‫َ‬ ‫جزاء‬
‫ِ‬ ‫أي وما أصاب َك من مصيب ٍة فمن‬
‫اإلنسان تخلُ ُق‬
‫ُ‬ ‫أنت أيها‬
‫أنك َ‬ ‫وليس المعنى َ‬ ‫َ‬ ‫ب والباليا‪،‬‬ ‫بها بهذه المصائ ِ‬
‫الشر وهللا خالقهما‬ ‫ّ‬ ‫ويكتسب‬
‫ُ‬ ‫الخير‬
‫َ‬ ‫يكتسب‬
‫ُ‬ ‫الشر‪ ،‬فالعب ُد ال يخلُ ُق شيئًا لكن‬ ‫َّ‬
‫ءاخر لآلية‬
‫ُ‬ ‫تقرير‬
‫ٌ‬ ‫معروف عند كثيرين‪ ،‬وهنا َك‬ ‫ٌ‬ ‫التقرير‬
‫ُ‬ ‫في العبد‪ .‬وهذا‬
‫السابق وهو أن معنى قوله تعالى‪{ :‬ما‬ ‫ُ‬ ‫التقرير‬
‫ُ‬ ‫ينبغي أن يُؤ ّخ َذ ب ِه ويُ َ‬
‫ترك‬
‫ي عن ال ُمشركينَ بتقدير محذوفٍ وهو‪" :‬يقولون أو‬ ‫سنةٍ} محك ٌّ‬ ‫من َح َ‬ ‫أصابَ َك ْ‬
‫التقدير‪ :‬يقولونَ أو قالوا لمحم ٍد ما أصابَ َك من حسن ٍة أي نعم ٍة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فيكون‬ ‫قالوا"‬
‫شؤمك‪،‬‬
‫َ‬ ‫أصابك من سيئ ٍة أو مصيب ٍة فمنك يا محم ُد أي من‬ ‫َ‬ ‫فمنَ هللا وما‬
‫فإن فيه إشكاالً‪ ،‬وقد قال هذا‬ ‫بخالف األو ِل ّ‬
‫ِ‬ ‫التقرير خا ٍل عن اإلشكا ِل‬ ‫ُ‬ ‫وهذا‬
‫ي‪.‬‬
‫ي الحنف ُّ‬ ‫ي والقونو ُّ‬ ‫ي الشافع ُّ‬ ‫التقرير علما ُء منهم السيوط ُّ‬ ‫َ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫س َرابي َل‬ ‫االكتفاء كقول ِه تعالى‪َ { :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِكر الخَير من باب‬ ‫اقتصر على ذ ِ‬ ‫َ‬ ‫وإنَّما‬
‫األمرين‬
‫َ‬ ‫ألن السرابي َل تقي من‬ ‫الحر} [سورة النحل‪ ،]81/‬أي والبرد َّ‬ ‫َّ‬ ‫ت َ ِقي ُك ُم‬
‫ب البالغ ِة‬ ‫أسلوب من أسالي ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ب يقا ُل لهُ‬
‫الحر فقط‪ ،‬وهذا في لغة العر ِ‬ ‫ّ‬ ‫ليس منَ‬ ‫َ‬
‫الداخلَ ِ‬
‫ين‬ ‫ِ‬ ‫ين‬ ‫لغاء وهو أن يُذ َك َر أح ُد ال َّ‬
‫ش ْيئ َ ِ‬ ‫الفصحاء البُ ِ‬
‫ِ‬ ‫باللغ ِة العربي ِة عن َد‬
‫ِك‬
‫اآلخر كما في قوله تعالى‪ِ { :‬ب َيد َ‬ ‫ِ‬ ‫حكم واح ٍد اكتفا ًء بأحدِهما عن ِ‬
‫ذكر‬ ‫تحت ٍ‬ ‫َ‬
‫فليس المعنى أنهُ‬ ‫َ‬ ‫شئ قدير} [سورة ءال عمران‪،]26/‬‬ ‫الخير إنَّ َك على ك ِّل ٍ‬ ‫ُ‬
‫الشر‪ ،‬وكما في قوله تعالى‪{ :‬و َج َع َل‬ ‫ّ‬ ‫قادرا على‬ ‫وليس ً‬ ‫َ‬ ‫الخير فقط‬ ‫ِ‬ ‫قادر على‬ ‫ٌ‬
‫س ُكم} [سورة النحل‪ ]81/‬السرابي ُل‬ ‫الحر وسرابي َل تَقي ُكم بأ َ‬ ‫َّ‬ ‫ل ُك ْم سرابي َل ت َ ِقي ُك ُم‬
‫ب هذه تقي من‬ ‫س في الحر ِ‬ ‫ع التي تُل َب ُ‬ ‫فقمصان الحدي ِد الدُّرو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القمصان‪،‬‬ ‫هي‬
‫يمتن علينا بأنه خلقَ لنا هذا وهذا‪ ،‬خلقَ لنا سرابي َل تقينا‬ ‫ُّ‬ ‫السالح‪ ،‬هللاُ تعالى‬
‫س ُكم أي‬ ‫عا من حدي ٍد تقيكم بأ َ‬ ‫الحر أي والبر َد وسرابي َل أي قمصانًا أي أدرا ً‬ ‫َّ‬
‫السالح‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬ما شا َء فعل"‪ ،‬أي ما أرا َد هللاُ حصولَهُ ال بُ َّد أن يح ُ‬
‫ص َل وما أرا َد‬
‫صلُ‪.‬‬
‫أن ال يحص َل فال يح ُ‬
‫الخير اهتَدى"‪ ،‬أي من شا َء هللاُ لهُ أن يكونَ على‬
‫ِ‬ ‫سبُ َل‬
‫وقو ِل ِه‪" :‬من هداهُ ُ‬
‫المستقيم اهت َدى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الصراط الصحيحِ‬
‫ِ‬
‫وقو ِل ِه‪" :‬نا ِع َم البا ِل" أي ُمط َم ِئ َّن البال‪.‬‬
‫ضلَّهُ‪ ،‬معناهُ‬
‫ض َّل"‪ ،‬أي َم ْن شا َء لهُ أن يكونَ ضاالً أ َ‬ ‫وقو ِل ِه‪" :‬و َم ْن شا َء أ َ‬
‫الخير أي من شا َء لهُ في األز ِل أن‬
‫ِ‬ ‫سبُ َل‬
‫أن هللا تبارك وتعالى من هداهُ ُ‬ ‫َّ‬
‫ستقيم فال بُ َّد أن يكونَ ُمهتديًا أي على دين هللا‬
‫الصراط ال ُم ِ‬
‫ِ‬ ‫يكونَ ُم ْهتَديًا على‬
‫تبارك وتعالى وعلى تقواهُ‪.‬‬
‫لإليمان باهللِ تعالى وبما جا َء عن‬
‫ِ‬ ‫َّ‬
‫طمئن البا ِل‬‫وقو ِل ِه‪" :‬نا ِع َم البال" أي ُم‬
‫رسو ِل ِه‪.‬‬
‫تبارك وتعالى من شا َء في األز ِل أن‬ ‫َ‬ ‫هللا‬
‫وقوله‪" :‬ومن شا َء أضل" أي أن َ‬
‫يكونَ ضاالً أضلَّهُ‪ ،‬أي خلقَ فيه الضالل‪ ،‬وهذا الكال ُم من أصول العقائ ِد‬
‫بإحسان‪ .‬ف َم ْن شا َء هللا له الهدايةَ ال بُ َّد‬
‫ٍ‬ ‫التي كانَ عليها الصحابةُ ومن ت َ ِب َع ُهم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مجبورا‪ ،‬وأما َم ْن‬ ‫ً‬ ‫باختيار ِه ال‬


‫ِ‬ ‫يهتدي‪ ،‬هللاُ يُل ِه ُمهُ اإليمانَ والتُّقى فيهتدي‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫ذلك أي أن يكونَ ضاالً‬ ‫خالف َ‬‫ِ‬ ‫شا َء هللاُ تعالى في األز ِل أن يكونَ على‬
‫الكفر‪ .‬ف ِل َما‬
‫َ‬ ‫فيختار هذا العب ُد‬
‫ُ‬ ‫كافرا أضلَّهُ هللاُ تبارك وتعالى أي جعلهُ ً‬
‫كافرا‪،‬‬ ‫ً‬
‫ب‬‫بهن عمر بن الخطا ِ‬ ‫ب َّ‬ ‫الخالص كانَ يُ ْع َج ُ‬
‫ِ‬ ‫ت من التوحي ِد‬ ‫في هذ ِه األبيا ِ‬
‫العلم في أصو ِل العقيد ِة‪.‬‬ ‫جواهر ِ‬‫ِ‬ ‫َّ‬
‫فإنهن من‬ ‫رضي هللا عنهُ فلتُحفظ‬
‫الشر" فلتُح َذر وليُ َحذّر‬
‫ّ‬ ‫بعض الناس‪" :‬هللا ما خلقَ‬
‫ُ‬ ‫التفات إلى ما يقولُهُ‬
‫َ‬ ‫وال‬
‫الخير وال‬
‫َ‬ ‫والشر ولكن يحبُّ‬
‫ّ‬ ‫الخير‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫خالق‬ ‫فيجب تعلي ُم األطفا ِل ّ‬
‫أن هللا‬ ‫ُ‬ ‫منها‪،‬‬
‫الشر‪ ،‬وهللا ال يُ ْسأ ُل عما يفعل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يحبُّ‬
‫س ِئ َل عن القدر‪:‬‬
‫ي (‪ )1‬أنه قا َل حينَ ُ‬
‫ي عن الشافع ّ‬
‫*الرابعة‪ :‬روى البيهق ُّ‬
‫ئت كانَ وإن لم أشأ *** وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن‬
‫ما ِش َ‬
‫العلم يجري الفتى وال ُم ّ‬
‫سن‬ ‫ِ‬ ‫علمت *** ففي‬
‫َ‬ ‫خلقت العبا َد على ما‬
‫َ‬
‫أعنت وذا لم ت ُ ِع ْن‬
‫َ‬ ‫خذلت *** وهذا‬
‫َ‬ ‫على ذا َمنَ ْن َ‬
‫ت وهذا‬
‫ي ومنهم سعي ٌد *** وهذا قبي ٌح وهذا حسن‬
‫فمنهم شق ٌّ‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي (‪.)109/2 ،412-413/1‬‬

‫بن سليمانَ رضي هللا عنه وهو‬ ‫ي الربي ُع ُ‬ ‫هذه األبياتُ رواها عن الشافع ّ‬
‫القدر في هذه‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫س َر الشافع ُّ‬
‫اإلمام الشافعي رضي هللا عنه‪ ،‬وقد ف َّ‬ ‫ِ‬ ‫من روا ِة‬
‫سط‬
‫للقدر على وج ِه ال َب ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإلمام الشافعي‬ ‫ِ‬ ‫تفسير من‬
‫ٌ‬ ‫ت بالمشيئة‪ ،‬وهو‬ ‫األبيا ِ‬
‫ف بمشيئ ٍة أزلي ٍة أبدي ٍة ال‬ ‫ص ٌ‬ ‫وحاصلُهُ أن هللا تبارك وتعالى ُمت َّ ِ‬
‫ِ‬ ‫سعِ‪،‬‬ ‫والتَّو ُّ‬
‫قصان‪ ،‬وجع َل للعبا ِد مشيئةً‬ ‫ُ‬ ‫كسائر صفات ِه‪ ،‬ال يطرأ ُ عليها الزيادة ُ والنُّ‬
‫ِ‬ ‫تتغير‬
‫ُ‬
‫حادثةً تقب ُل التغيُّر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫شئت"‪ ،‬أي‬ ‫َ‬ ‫ي رضي هللا عنه مخاطبًا هلل تبارك وتعالى‪" :‬ما‬ ‫يقو ُل الشافع ُّ‬
‫يا ربنا "كان" أي ما سبقت به مشيئت َ َك في األز ِل ال ب َّد أن يوج َد "وإن لم‬
‫ألن مشيئةَ هللاِ نافِذة ٌ ال تتغي ُّر‪،‬‬
‫أشأ" أي وإن لم أشأ أنا أي أنا العب ُد حصولَهُ‪َّ ،‬‬
‫والمعنى أن مشيئةَ العب ِد تابعةٌ لمشيئ ِة هللا فهي مخلوقةٌ حادثةٌ‪ ،‬فك ُّل مشيئ ٍة‬
‫ألن هللا تعالى شا َء في األز ِل أن نشا َء‬ ‫في العبا ِد حصلت فإنما حصلت فينا ّ‬
‫ذت مشيئةُ هللا تعالى فينا أن نشا َء‪ ،‬ثم مرادُنا الذي تعلّقت به مشيئتُنا ال‬ ‫فتنَفَّ ْ‬
‫ص ُل إال أن يشا َء هللا حصو َل هذا المرا ِد وتحقُّقَهُ‬ ‫يح ُ‬
‫ت هللا‬
‫ئ من ُمرادا ِ‬ ‫فمشيئةُ هللا نافذة ٌ ال محالَة ألنه لو كانَ ال يتحقَّ ُق ش ٌ‬
‫ُ‬
‫والعجز‬ ‫ً‬
‫عجزا‬ ‫تعالى أي مما شا َء هللا تعالى أن يتحقَّقَ ويحص َل لكانَ ذلك‬
‫شأن اإلل ِه أن تكونَ مشيئتُهُ نافذة ً في ك ّل‬ ‫ألن من ِ‬ ‫مستحي ٌل على هللا‪ّ ،‬‬
‫ف‪ ،‬أي ال ب َّد‬ ‫خصائص اإلل ِه أن تكونَ مشيئتُهُ نافذة ً ال تَتَخَلَّ ُ‬
‫ِ‬ ‫المرادات‪ ،‬من‬
‫عا نفاذُ مشيئ ِة‬ ‫فيجب عقالً وشر ً‬ ‫ُ‬ ‫أن يحص َل ما شاء هللا دخولَهُ في الوجودِ‪،‬‬
‫هللا تبارك وتعالى أي تحقُّ ُق مقتضاها‪.‬‬
‫قا َل رضي هللا عنه‪" :‬وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن" معناهُ إن أنا شئتُ‬
‫أنت يا ربي لم تشأ حصولّهُ بمشيئتِ َك‬ ‫شئ بمشيئتي الحادث ِة إن َ‬ ‫حصو َل ٍ‬
‫ف وأما مشيئةُ العب ِد‬ ‫ألن مشيئةَ هللا أزليةٌ نافذة ٌ ال تَتَخلَّ ُ‬
‫األزلية ال يحصل‪ّ ،‬‬
‫غير ناف ٍذ أي منها ما يتحقَّ ُق ومنها ما‬ ‫هو نافذٌ ومنها ما هو ُ‬ ‫فحادثةٌ‪ ،‬منها ما َ‬
‫ال يتحقق‪.‬‬
‫علمت"‪ ،‬معناهُ أن هللا‬
‫َ‬ ‫"خلقت العباد على ما‬
‫َ‬ ‫ومعنى قوله رضي هللا عنه‪:‬‬
‫علم ِه‬
‫ب ما سبقَ في ِ‬ ‫العدم إلى الوجو ِد على حس ِ‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يبرز من‬ ‫تبارك وتعالى‬
‫العلم في ّ‬
‫حق هللا تعالى‬ ‫ِ‬ ‫ألن تَخَلُّ َ‬
‫ف‬ ‫ي‪ّ ،‬‬‫خالف علمه األزل ّ‬
‫ِ‬ ‫ي ال على‬ ‫األزل ّ‬
‫يجب تنزيهُ هللا عنه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُمستحي ٌل‬
‫سن"‪ ،‬في هذا الكالم‬ ‫العلم يجري الفتى وال ُم ّ‬
‫ِ‬ ‫وقوله رضي هللا عنه‪" :‬ففي‬
‫سن أي العجوز ك ٌّل س ْعيُهُ‬ ‫عي الفتى أي الشابّ وال ُم ّ‬
‫س َ‬ ‫حكمةٌ كبيرةٌ‪ ،‬أي أن َ‬
‫علم هللا‪ ،‬هذا الفتى الذي هو ذو‬ ‫يخر ُج عن ِ‬‫علم هللا تبارك وتعالى أي ال ُ‬ ‫في ِ‬
‫عجز وضعفٍ ك ٌّل منهما ال يحص ُل‬ ‫ٍ‬ ‫سن الذي هو ذو‬ ‫قو ٍة ونشاطٍ ‪ ،‬وهذا ال ُم ُّ‬
‫ت إلى على‬ ‫ت والنوايا والقصو ِد واإلدراكا ِ‬
‫سكنا ِ‬
‫ت وال َّ‬ ‫ئ منه من الحركا ِ‬ ‫ش ٌ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ب‬ ‫يجريان أي يتقلَّ ِ‬


‫بان على حس ِ‬ ‫ِ‬ ‫العلم‬
‫ِ‬ ‫ي‪ ،‬ك ٌّل منهما في‬‫علم هللا األزل ّ‬
‫ب ِ‬ ‫حس ِ‬
‫ويتصرفان‬
‫ِ‬ ‫ي‬‫علم هللا األزل ّ‬
‫ب ِ‬ ‫ويعمالن على حس ِ‬
‫ِ‬ ‫مشيئ ِة هللا األزلي ِة‪،‬‬
‫ي‪.‬‬
‫علم هللا األزل ّ‬
‫ب ِ‬ ‫ويسعيان على حس ِ‬
‫ِ‬
‫مننت علي ِه أي‬
‫َ‬ ‫لت" أي هذا‬‫ت وهذا خ َذ َ‬ ‫قال رضي هللا عنه‪" :‬على ذا َمنَ ْن َ‬
‫القدر في اإليمان‪ ،‬ومعنى توفيق هللا‬
‫ِ‬ ‫ع ّلو‬
‫لإليمان وال ُهدى والصالحِ و ُ‬ ‫ِ‬ ‫وفَّقتَهُ‬
‫الخير‪ ،‬ومعنى‪" :‬وهذا‬
‫ِ‬ ‫يصرف قدرتهُ واختيارهُ إلى‬ ‫ُ‬ ‫لعبد ِه أي يجعلهُ‬
‫َّ‬
‫الحق‪ ،‬ومعنى خذالن هللا‬ ‫للحق ولم يقبل‬‫ّ‬ ‫خذلت"‪ ،‬أي وهذا ما وفَّقتَهُ فلم يهت ِد‬
‫للشر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يصرف قدرتهُ واختيارهُ‬ ‫ُ‬ ‫لعب ِد ِه أي يجعلهُ‬
‫أعنت وذا لم ت ُ ِعن" أي هذا أ َعنتهُ على‬
‫َ‬ ‫قال رضي هللا عنه‪" :‬وهذا‬
‫واآلخر ما أعنتهُ على ما يُرضيك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫رضيك‪،‬‬
‫َ‬ ‫األعما ِل التي ت ُ‬
‫يعين على‬ ‫ُ‬ ‫أعنت وذا لم ت ُ ِعن" أن هللا ال‬ ‫َ‬ ‫وليس معنى قول الشافعي‪" :‬وهذا‬
‫الخير فقط‪ ،‬فأه ُل السن ِة ُمتَّفقونَ على أن هللا هو‬ ‫ِ‬ ‫الشر وإنما يُ ُ‬
‫عين على‬ ‫ّ‬
‫التمكين أي أن هللا هو‬ ‫ُ‬ ‫الشر‪ ،‬واإلعانةُ‬‫ّ‬ ‫عين على‬‫الخير وهو ال ُم ُ‬
‫ِ‬ ‫عين على‬ ‫ال ُم ُ‬
‫بذلك إما ُم‬
‫َ‬ ‫صر َح‬
‫الشر‪ّ ،‬‬‫ّ‬ ‫الذي يُ َم ِ ّك ُن العب َد لفع ِل الخير وهو الذي يُم ّكنه لفعل‬
‫واألمير‬
‫ُ‬ ‫الباقر النقشبندي‬
‫ُ‬ ‫الحر َمين وأبو سعيد المتولي قبلَهُ والشي ُخ محم ُد‬
‫ي‬
‫الحق الضرور َّ‬ ‫َّ‬ ‫ي صاحب المجموع وقد َج ِه َل هذا االعتقا َد‬ ‫الكبير المالك ُّ‬ ‫ُ‬
‫بعض جهل ِة النقشبندي ِة في هذا العصر‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ي ومنهم سعيدٌ‪ ،‬وهذا قبيح وهذا حسن"‬ ‫قال رضي هللا عنه‪" :‬فمنهم شق ٌّ‬
‫المعنى ّ‬
‫أن َمن شا َء هللاُ له أن يكونَ شقيًّا أي من أهل العذاب األليم كان‬
‫قيم كان كذلك‪.‬‬
‫النعيم الم ِ‬
‫ِ‬ ‫كذلك‪ ،‬و َمن شا َء هللاُ لهُ أن يكونَ سعيدًا من أهل‬
‫ُ‬
‫التعليق وإنما‬ ‫ثابت ال يُغَي َُّر وال يدخلُهُ‬
‫ٌ‬ ‫قاء والسعادةِ‬
‫ش ِ‬ ‫وليُعلَم ّ‬
‫أن كتاب ال َّ‬
‫ق والمصيب ِة‪.‬‬‫الذي يُغَي َُّر ما كانَ من نح ِو الرز ِ‬
‫األشياء التي هي مما سوى السعادة والشقاوة‪ّ ،‬‬
‫ألن‬ ‫ِ‬ ‫فالدعا ُء ينف ُع في‬
‫ألن السعادة َ هي الموت على‬ ‫التعليق ّ‬
‫ُ‬ ‫ئ ال يدخلهُ‬ ‫السعادة َ والشقاوة َ هذا ش ٌ‬
‫اإليمان والشقاوة َ هي الموتُ على الكفر‪ ،‬فمن َع ِل َم هللا أنه يموتُ على‬ ‫ِ‬
‫الكفر ال يتب َّد ُل ذلك‪ .‬فكال‬
‫ِ‬ ‫اإليمان ال يتب َّد ُل ذلك‪ ،‬ومن َع ِلمهُ يموتُ على‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كفر أو‬
‫إيمان إلى ٍ‬
‫ٍ‬ ‫كتب له ولو سبقَ له التنقل من‬
‫الفريقين يُخت ُم له على ما َ‬
‫إيمان مرات عديدة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫كفر إلى‬
‫من ٍ‬
‫صحف‬
‫ِ‬ ‫ب في‬ ‫التعليق بأن يكونَ ُكتِ َ‬‫ُ‬ ‫أما السعادة ُ الدُّنيويّةُ تتبَ َّد ُل وقد يدخلُها‬
‫بر وال َدي ِه يَنا ُل كذا‬ ‫المالئك ِة إن دعا بكذا أو تص َّدقَ بكذا أو وص َل َر ِح َمهُ أو َّ‬
‫ت الواسعِ‬ ‫وإن لم يفعل ذلك ال ينا ُل الشئ‪ .‬السعادة ُ الدنيويةُ هي كالبي ِ‬
‫األمور األربعةُ‬
‫ُ‬ ‫والجار الصالحِ‪ ،‬هذه‬
‫ِ‬ ‫ب الهنيء والزوج ِة الصالحة‬ ‫والمر َك ِ‬
‫ظ ضيا ُء‬ ‫ث الذي رواهُ الحاف ُ‬ ‫ذلك في الحدي ِ‬
‫هي من السعادةِ الدنيوي ِة كما جا َء َ‬
‫ي‪.‬‬‫الدين المقدس ّ‬
‫ِ‬
‫ض ُّل َم ْن يشا ُء ويهدي من يشا ُء}‬ ‫الضمير في قول ِه تعالى‪{ :‬يُ ِ‬ ‫َ‬ ‫فتبيَّنَ بهذا َّ‬
‫أن‬
‫[سورة النحل‪ ]93/‬يعو ُد إلى هللا ال إلى العبد كما زعمت القدريّةُ بدلي ِل قوله‬
‫ض ُّل بها َم ْن تشا ُء‬ ‫هي إال فِتْنَت ُ َك ت ُ ِ‬ ‫{إن َ‬ ‫إخبارا عن سيدنا موسى‪ْ :‬‬ ‫ً‬ ‫تعالى‬
‫أن موسى عليه‬ ‫وتهدي َم ْن تشا ُء} [سورة األعراف‪ ]155/‬ومعنى اآلية ّ‬
‫كالم هللا األزلي‬ ‫ت ربّه أي لمناجاة هللا أي لسماع ِ‬ ‫ذهب لميقا ِ‬ ‫َ‬ ‫السالم لما‬
‫قوم ِه أخاهُ هارونَ وكانَ نبيًّا‪ ،‬ثم قضى أربعين ليلةً ثم عا َد إليهم‬ ‫ف على ِ‬ ‫خلَّ َ‬
‫البحر‬
‫َ‬ ‫وذلك بعد أن اجتازَ بهم‬ ‫َ‬ ‫ضا منهم‬ ‫فوج َد ُهم قد عبدوا العج َل إال بع ً‬
‫ق‬‫البحر اثنَي عشر فرقًا كل فر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫انفالق‬ ‫ورأوا هذه المعجزة الكبيرة َ وهي‬
‫ي‬‫شخص يُقا ُل لهُ موسى السامر ّ‬ ‫ٌ‬ ‫كالجب ِل العظيم وأنقذهم من فرعون‪ ،‬فتنهم‬
‫فرس جبريل‪،‬‬ ‫حافر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب ووض َع فيه شيئًا من ِ‬
‫أثر‬ ‫غ لهم عجالً من ذه ٍ‬ ‫فقد صا َ‬
‫فرس‪ ،‬هذا‬ ‫البحر كانَ جبري ُل على ٍ‬ ‫َ‬ ‫يخوض‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫فرعون أن‬ ‫ألنه عندما أراد‬
‫فرس جبريل فأخ َذ منهُ شيئًا ووضعهُ في هذا العج ِل‬ ‫موقف ِ‬ ‫َ‬ ‫الخبيث رأى‬‫ُ‬
‫ي‬‫يخور كالعج ِل الحقيق ّ‬ ‫ُ‬ ‫فصار‬
‫َ‬ ‫ب فأحيا هللا تعالى هذا العج َل‬ ‫المصو ِر من ذه ٍ‬ ‫َّ‬
‫ي‪ :‬هذا إل ُه ُكم وإلهُ موسى‪ ،‬حملهم على‬ ‫خلقَ هللا فيه الحياة َ‪ ،‬فقا َل لهم السامر ّ‬
‫بذلك‬
‫َ‬ ‫عبادةِ هذا العج ِل فَفُتِنوا فعبدوا هذا العجل‪ ،‬فلما أُخبِ َر سيدنا موسى‬
‫ي فقال له سيدنا‬ ‫ظا شديدًا‪ ،‬ثم أخ َذ هذا السامر ّ‬ ‫هؤالء اغتيا ً‬ ‫ِ‬ ‫ظ على‬ ‫اغتا َ‬
‫ت علي ِه عا ِكفًا لَنُ ْح ِرقَنَّهُ ث ُ َّم لَنَ ْن ِسفَنَّهُ في اليَ ِ ّم‬ ‫ظ ْل َ‬
‫ظ ْر إلى إل ِه َك الذي َ‬ ‫موسى‪{ :‬وا ْن ُ‬
‫نَ ْسفًا} [سورة طه‪.]97/‬‬
‫للتضرعِ إلى هللا‬
‫ُّ‬ ‫صا ليأخ َذهم‬
‫قوم ِه سبعينَ شخ ً‬
‫وجر َد من ِ‬
‫ّ‬ ‫اختار موسى‬
‫َ‬ ‫ثم‬
‫عا إلى‬
‫متضر ً‬
‫ِّ‬ ‫األرض‪ ،‬فقال موسى‬
‫ُ‬ ‫َّ‬
‫اهتزت بهم‬ ‫الرجفةُ أي‬
‫تعالى فأخذتهم َّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫{واختار موسى قو َمهُ سبعينَ رجالً ِلميقاتِنا فل َّما أ َخ َذت ُه ُم الرجفةُ قا َل ر ّ ِ‬


‫ب‬ ‫َ‬ ‫هللا‪:‬‬
‫هي إال‬ ‫إن َ‬ ‫ئت أ ْهلَكنا ُهم ِمن قب ُل وإي َ‬
‫َّاي أت ُ ْه ِل ُكنا بما فع َل ال ُّ‬
‫سفها ُء ِمنَّا ْ‬ ‫لو ِش َ‬
‫أنت وليُّنا فا ْغ ِف ْر لنا وار َح ْمنا‬
‫ض ُّل بها َم ْن تشا ُء وتهدي َم ْن تشا ُء َ‬ ‫فِتْنَت ُ َك ت ُ ِ‬
‫سنةً وفي اآلخرةِ إنَّا ُه ْدنا‬ ‫خير الغافرين* واكتُبْ لنا في هذ ِه الدُّنيا َح َ‬ ‫وأنت ُ‬ ‫َ‬
‫إليك} [سورة األعراف‪.]156-155/‬‬ ‫َ‬
‫ٌ‬
‫امتحان‬ ‫ث بقومي من عبادتهم العج َل فِتْنَت ُ َك أي‬
‫معناهُ هذا األمر الذي َح َد َ‬
‫أضللت بها‬
‫َ‬ ‫ض ُّل بها َم ْن تشا ُء وتهدي من تشا ُء أي يا ربي‬ ‫وابتال ٌء منك‪ ،‬ت ُ ِ‬
‫ْت قس ًما‪.‬‬ ‫قس ًما وهدي َ‬
‫أناس يدّعون العلم فقالوا في قوله تعالى‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫وقد ض َّل عن معنى هذه اآلية‬
‫ض ُّل هللاُ َم ْن يشا ُء} [سورة المدثر‪ ]31/‬أي إن شا َء العبد الضاللة‬
‫{كذلك يُ ِ‬
‫َ‬
‫يضلّهُ هللا‪ ،‬ألنهم يعتقدونَ أن هللا ما شا َء ضاللة من ضل إنما هم شاءوا‬
‫وهللا شا َء لهم الهداية‪ ،‬فجعلوا مشيئة هللا مغلوبة حيث إنها لم تتنفذ على‬
‫غالب غير‬
‫ٌ‬ ‫هللا مغلوبًا‪ ،‬وهللا‬
‫قولهم ومشيئة العبد فجعلوها نافذة فجعلوا َ‬
‫تنقيص هلل تعالى فليعلموا ذلك‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫مغلوب‪ .‬وعقيدتهم هذه‬
‫ومن هؤالء في هذا العصر فرقة نبغت في دمشق وهم جماعة أمين‬
‫شيخو‪ ،‬كان ال يحسن العربية وال علم الدين انتسب للطريقة النقشبندية على‬
‫يد شيخ صالح ولم يسبق له تعلم علم العقيدة وال األحكام إنما كان شرطيًّا‬
‫أناس جها ٌل لم يتلقوا علم الدين وإن كان‬
‫ٌ‬ ‫أيام االحتالل الفرنسي فتبعه‬
‫بعضهم تلقى العلوم العصرية فضلوا وأضلوا‪ ،‬منهم رج ٌل يقال له عبد‬
‫تفسيرا فصار يفسر‬
‫ً‬ ‫الهادي الباني ومنهم رجل من ءال الخطيب عمل‬
‫ءايات المشيئة بهذا االعتقاد الفاسد‪.‬‬
‫رسالةٌ مه َّمةٌ في الر ّد على المعتزل ِة‬
‫ي بن أبي طالب رضي هللا‬ ‫ي عن سيدنا الحسين بن عل ّ‬ ‫روى البيهق ُّ‬
‫عنه أنه قال‪ :‬وهللا ما قالت القدريةُ بقو ِل هللا وال بقو ِل المالئك ِة وال بقول‬
‫النار وال بقول صاح ِبهم إبليس‪ ،‬فقا ُل‬ ‫النّبيّينَ وال بقو ِل الجن ِة وال بقو ِل أه ِل ِ‬
‫عوا‬ ‫س ُرهُ لنا يا ابن رسول هللا‪ ،‬فقال‪" :‬قال هللا َّ‬
‫عز وج ّل‪{ :‬وهللاُ يَ ْد ُ‬ ‫الناس‪ :‬تُفَ ّ‬
‫الم ويَهدي َم ْن يشا ُء} [سورة يونس‪ .]25/‬فالمعتزلةُ خالفوا هللا‬ ‫س ِ‬‫دار ال َّ‬‫إلى ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ت وعملّها‬ ‫تعالى في قول ِه هذا ألنهم قالوا والعياذ باهلل العب ُد خلقَ الحسنا ِ‬
‫وليس إدخاله للعبا ِد الجنّة فضالً‬ ‫َ‬ ‫ضا على هللا أن يدخلهُ الجنة‪،‬‬ ‫فصار فر ً‬‫َ‬
‫يون للعبا ِد ألنّهم خلقوا هذه الحسنات فهو‬ ‫منه‪ ،‬معناهُ على زعمهم َّ‬
‫أن هللا م ْد ٌ‬
‫والصواب أن هللا تعالى فضالً منه يُدخ ُل المؤمنينَ‬ ‫ُ‬ ‫ُملزَ ٌم بأن يدخلهم الجنة‪،‬‬
‫الخير وهو الذي خلقَ‬ ‫ِ‬ ‫الجنةَ ألنه هو الذي خلقهم وهو الذي ْأل َه َم ُهم أعما َل‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫وهو الذي خلقَ فيهم العق َل الذي ميّزوا به بينَ‬ ‫فيهم هذه الجوار َح َ‬
‫والحسن والقبيح‪ ،‬وهو الذي خلقَ هذه الجنة‪ ،‬فإدخا ُل الصالحينَ‬ ‫ِ‬ ‫والباط ِل‬
‫ُّ‬
‫الممتن عليهم‪،‬‬ ‫ضا على هللا‪ ،‬ليسوا ممتنينَ على هللا بل هو‬ ‫ليس فر ً‬‫الجنةَ َ‬
‫رك وتعالى ل ّما‬ ‫كذلك هللا تبا َ‬
‫َ‬ ‫هذا معنى كالم سيدنا الحسين رضي هللا عنه‪،‬‬
‫قال {ويهدي َمن يشا ُء} أف َه َمنا أنهُ ال يهتدي أح ٌد إال بمشيئتِ ِه األزلية‪،‬‬
‫والمعتزلةُ ينفونَ عن هللا الصفات‪ ،‬عندهم هللا تعالى ال يُقا ُل لهُ إرادة ٌ لهُ عل ٌم‬
‫قادر بذاتِ ِه عال ٌم بذات ِه وأحيانًا‬‫بصر له كال ٌم‪ ،‬وإنما يقولونَ هو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫له سم ٌع له‬
‫بعلم وقدرةٍ‪ ،‬خالفوا اآلية بأكثر من وج ٍه كما‬ ‫قادر لذات ِه ال ٍ‬ ‫يقولونَ عال ٌم لذات ِه ٌ‬
‫رضي هللا عنه‪.‬‬
‫َ‬ ‫قا َل سيدنا الحسين‬
‫وقد خالفت المعتزلة اآلية {وما تشاءونَ إال أن يشا َء هللاُ ربُّ العالمين}‬
‫والشرور‪،‬‬
‫َ‬ ‫المعاصي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫نخلق‬ ‫[سورة التكوير‪ ،]29/‬ألنهم قالوا نحن بإرادتنا‬
‫أن العبا َد ال تحص ُل منهم‬‫تصرف في ذلك‪ ،‬وهللا أخبرنا َّ‬
‫ٌ‬ ‫قالوا هللا ما له‬
‫مشيئةٌ إال أن يشا َء هللا في األز ِل أن يشاؤوا‪ ،‬فالمعتزلةُ خالفوا اآلية‪.‬‬
‫سنُ ْق ِرئ ُ َك فال تنسى* إال ما شا َء هللاُ إنهُ يعل ُم‬‫وخالفوا قو َل هللا تعالى‪َ { :‬‬
‫ضا فيها دلي ٌل على َّ‬
‫أن‬ ‫ال َج ْه َر وما يخفى} [سورة األعلى‪ .]7-6/‬فهذه اآلية أي ً‬
‫ألن هللا تعالى أخبرنا عن سيدنا محم ٍد‬ ‫ق بمشيئ ِة هللا‪ّ ،‬‬ ‫ب من الخَل ِ‬ ‫أعمال القلو ِ‬
‫أنهُ ينسى إن شا َء هللا نسيانَهُ‪ ،‬أ ّما ما لم يشإ هللا تعالى أن ينسى شيئًا م ّما‬
‫أنزل عليه من القرءان ال ينسى‪ ،‬ففي قوله‪{ :‬إال ما شا َء هللاُ} دلي ٌل على َّ‬
‫أن‬
‫ث أبي هريرة‪:‬‬ ‫الرحمن كما ور َد في حدي ِ‬‫ِ‬ ‫القلب ما بين إصبعين من أصابعِ‬ ‫َ‬
‫ب واحدٍ"‬ ‫"إن قلوب بني ءادم كلها بين إصبعين من أصابعِ الرحمن كقل ٍ‬ ‫ّ‬
‫لهؤالء‬
‫ِ‬ ‫كيف يشا ُء‪ ،‬فما‬‫َ‬ ‫ف فيها هو يقلّبها‬ ‫المتصر ُ‬
‫ِّ‬ ‫رواه مسلم‪ ،‬ومعناهُ هو‬
‫إن العب َد هو‬ ‫القلوب هو يقلّبها يقولونَ َّ‬
‫َ‬ ‫التائهينَ بعد أن أخبرنا هللا تعالى َّ‬
‫أن‬
‫الباب م ّمن‬ ‫َ‬ ‫وأو ُل من فت َح هذا‬
‫يخلق أفعا َل نفسه ِه مشيئتهُ وحركاته وسكناته‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أناس‬
‫ٌ‬ ‫السلف‬
‫ِ‬ ‫أيام‬
‫كثيرا من الناس‪ ،‬كانَ في ِ‬ ‫ً‬ ‫اإلسالم المعتزلةُ فأضلّوا‬
‫َ‬ ‫يدّعي‬
‫الظاهر أحوالُهم حسنةٌ طيبةٌ فَتَنَ ُهم رج ٌل من المعتزلة فضلّوا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫بحس ِ‬
‫سبحان ََك ال ِع ْل َم لنا إال‬
‫وأ ّما مخالفت ُ ُهم للمالئك ِة فقد قالت المالئكةُ‪{ :‬قالوا ُ‬
‫أنت تخلقهُ يا هللا‪،‬‬ ‫ما علَّمتنا} [سورة البقرة‪ .]32/‬معناه العل ُم الذي فيما َ‬
‫ُ‬
‫تكون إال بمشيئ ِة هللا وخل ِق ِه‪ ،‬أ ّما‬ ‫سائر أعمالنا الباطنيّة والظاهرية ال‬ ‫ُ‬ ‫وكذلك‬
‫المعتزلةُ قالوا علو ُمنا وإدراكاتنا ُ‬
‫نحن نخلُقُها‪.‬‬
‫يكون لنا أن نعو َد فيها إال أن‬‫ُ‬ ‫وأ ّما ُمخالفتهم للنبيّينَ فقد قال النبيّون‪{ :‬وما‬
‫مقام‬
‫أنبياء هللا تعالى قال في ِ‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬
‫ُ‬ ‫يشا َء هللاُ ربُّنا} [سورة األعراف‪]89/‬‬
‫ليس لنا أن نعو َد في ِملَّ ِت ُكم‪ ،‬معناهُ ُ‬
‫نحن‬ ‫نحن َ‬ ‫ئ منَ المشركينَ وأعما ِلهم ُ‬ ‫الت َّ َب ُّر ِ‬
‫أنقَ َذنا هللاُ من أن نكونَ في ِملّتِكم‪ ،‬أي حمانا هللا من أن ند ُخ َل فيها ونعتقدها‬
‫كما أنتم تعتقدونها‪{ ،‬إال أن يشا َء هللا ربُّنا} معناهُ أ ّما لو شا َء هللا تعالى في‬
‫األز ِل أن نتَّب َعكم لَت َ ِبعنا ُكم‪ ،‬لكن ما شا َء ذلك فال نتبعكم‪.‬‬
‫أردْتُ‬
‫إن َ‬‫وقال تعالى حكايةً عن نوح عليه السالم‪{ :‬وال يَنفَعُ ُكم نُصحي ْ‬
‫أثبت‬
‫َ‬ ‫ص َح ل ُك ْم إن كانَ هللاُ يري ُد أن يُ ْغوي ُكم} [سورة هود‪ ]34/‬هنا نو ٌح‬
‫أن أ ْن َ‬
‫ْ‬
‫ت‬
‫أن الطاعا ِ‬‫خيرها وشرها‪ ،‬أي َّ‬ ‫هلل تبارك وتعالى المشيئةَ ألعما ِل العبا ِد ِ‬
‫وأن معاصيهم تحصل بمشيئ ِت ِه‪.‬‬ ‫من عبا ِد ِه تحص ُل بمشيئ ِت ِه َّ‬

‫وأما ُمخالفتهم ألهل الجن ِة فأه ُل الجن ِة قالوا‪{ :‬وما ُكنَّا ِلنَ ْهت َ َ‬
‫دي لوال ْ‬
‫أن‬
‫بأن هذه األعمال الصالحة التي‬ ‫هدانا هللاُ} [سورة األعراف‪ .]43/‬اعترفوا َّ‬
‫ليس إال بمشيئ ِة هللا وخل ِق ِه فيهم‪ ،‬ولوال ّ‬
‫أن هللا‬ ‫المقيم َ‬
‫َ‬ ‫النعيم‬
‫َ‬ ‫استحقوا بها هذا‬
‫خلقَ فيهم ذلك ما دخلوا هذه الجنةَ وال نالوا هذا النعيم‪ .‬ال ُمعتزلةُ خالفت‬
‫ضا‬
‫صار على هللا فر ً‬ ‫َ‬ ‫فلذلك‬
‫َ‬ ‫نحن خلَقنا إيماننا وأعمالنا الصالحة‬ ‫فقالت ُ‬
‫الز ًما أن يُثيبنا‪.‬‬
‫وأما ُمخالفتُهم ألهل النار فقد قال أه ُل النار‪{ :‬قالوا ربَّنا َغلَ َب ْ‬
‫ت علينا‬
‫ِش ْق َوتُنا} [سورة المؤمنون‪.]106/‬‬
‫وأ ّما مخالفتهم إلبليس فقد قال أخوهم إبليس‪{ :‬قا َل فَبِما أ َ ْغ َو ْيتَني َأل ْقعُ َد َّن‬
‫ط َك المستقيم} [سورة األعراف‪ ،]16/‬فمعنى كالم إبليس يا ربّ‬ ‫لهم صرا َ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي الغوايةَ أي أن أض َّل باختياري ضلَلتُ ‪ ،‬أنا‬ ‫كتبت عل َّ‬‫َ‬ ‫ألنّ َك أغويتني أي‬
‫ألخر َج ُهم وأب ِعدهم منه‪ ،‬هذا إبليس‬
‫ِ‬ ‫المستقيم أي‬
‫َ‬ ‫ط َك‬‫أقع ُد لبني ءادم صرا َ‬
‫ُ‬
‫خالق الغَواي ِة والضالل ِة فيمن‬ ‫عرف َّ‬
‫أن هللا هو‬ ‫َ‬ ‫صار أفقهَ من المعتزل ِة ألنهُ‬
‫َ‬
‫ضلّوا من عبا ِد هللا‪ ،‬وأنهم ليسوا مستقلين عن مشيئ ِة هللا وتخليق ِه أي ال‬
‫ذلك الذي‬‫يعلمونَ شيئًا من غير أن تس ِبقَ مشيئةٌ من هللا في األز ِل في َ‬
‫يحص ُل منهم‪.‬‬
‫ي عن سفيانَ بن عيينةَ الذي هو من األئم ِة‬ ‫الكالم رواهُ البيهق ُّ‬
‫ِ‬ ‫ومث ُل هذا‬
‫وغيرهُ عنهم أحاديث نبوية باألسانيد ألنهُ‬
‫ُ‬ ‫ي‬
‫المجتهدين الذين أخذ الشافع ُّ‬
‫كانَ محدثًا َ‬
‫أكبر سنًّا من الشافعي‪.‬‬

‫بيان‬
‫التأويل في القرءان والحديث‬
‫مات ُه َّن أ ُّم‬
‫ءايات ُم ْح َك ٌ‬
‫ٌ‬ ‫تاب منهُ‬ ‫عليك ال ِك َ‬
‫َ‬ ‫قال هللا تعالى‪ُ { :‬ه َو الذي أنزَ َل‬
‫ب وأُخ َُر ُمتَشَا ِب ٌ‬
‫هات فأ َّما الذينَ في قُلوبِ ِهم زَ ْي ٌغ فَ َيت َّ ِبعونَ ما تشا َبهَ منهُ‬ ‫الكتا ِ‬
‫ابتغا َء ال ِفتن ِة وابتِغا َء تأوي ِل ِه وما يعل ُم تأويلَهُ إال هللاُ والرا ِسخونَ في ْ‬
‫العل ِم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يقولونَ ءا َمنَّا ب ِه ُك ٌّل ِم ْن عن ِد ربِّنا وما يَذَّ َّك ُر إال أولُواْ األلبا ِ‬
‫ب} [سورة ءال‬
‫عمران‪.]7/‬‬
‫حكمات ّ‬
‫هن أ ّم‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ءايات ُم‬ ‫أخبرنا هللا تعالى في هذه اآلي ِة ّ‬
‫أن القرءان فيه‬
‫ت‬ ‫ٌ‬
‫ءايات ُمتشابهات تر ّد لفهمها إلى اآليا ِ‬ ‫الكتاب أي أصل الكتاب‪ ،‬وأن فيه‬
‫ال ُمحكمات‪.‬‬
‫واآلياتُ المحكمة‪ :‬هي ما ال يحتم ُل من التأويل بحسب وضعِ اللغة إال‬
‫رف بوضوح المعنى ال ُمرا ُد منه كقوله تعالى‪{ :‬لي َ‬
‫ْس‬ ‫ع َ‬‫وج ًها واحدًا‪ ،‬أو ما ُ‬
‫ئ} [سورة الشورى‪ ]11/‬وقوله‪{ :‬ول ْم َي ُكن لهُ ُكفُ ًوا أحدٌ} [سورة‬ ‫َك ِمث ِل ِه ش ٌ‬
‫س ِميًّا} [سورة مريم‪.]65/‬‬ ‫{هل ت َ ْعلَ ُم لهُ َ‬
‫اإلخالص‪ ]4/‬وقو ِل ِه‪ْ :‬‬
‫وأما ال ُمتشابه‪ :‬فهو ما لم تتضح داللته‪ ،‬أو يحتمل أو ُج ًها عديدة واحتي َج‬
‫العرش‬
‫ِ‬ ‫{الر ُ‬
‫حمن على‬ ‫النظر لحمله على الوجه المطابق‪ ،‬كقوله تعالى‪َّ :‬‬ ‫ِ‬ ‫إلى‬
‫استوى} [سورة طه‪.]5/‬‬
‫{والرا ِسخونَ في ال ِع ْل ِم} [سورة ءال عمران‪ ]7/‬يحتم ُل أن‬
‫َّ‬ ‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫يكونَ ابتدا ًء‪ ،‬ويحتمل أن يكون معطوفًا على لفظ الجاللة‪ ،‬فعلى األول‬
‫استأثر هللا بعلم ِه كوجبة القيامة وخروج الدجال ونحو‬
‫َ‬ ‫المراد بالمتشابه ما‬
‫ذلك‪ ،‬فإنه ال يعلم متى وقوع ذلك أحد إال هللا‪ ،‬وعلى الثاني‪ :‬المراد‬
‫بالمتشابه ما لم تتضح داللته من اآليات أو يحتمل أوج ًها عديدة من حيث‬
‫اللغة مع الحاجة إلى إعما ِل الفكر ليحمل على الوج ِه ال ُمطابق كآية‪:‬‬
‫العرش استوى} [سورة طه‪ ،]5/‬فعلى هذا القول يكون‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫{الرحمن على‬
‫الراسخون في العلم داخلينَ في االستثناء‪ ،‬ويؤيد هذا ما رواه مجاهد عن‬

‫ابن عباس أنه قال‪" :‬أنا ممن يعلم تأويله" (‪.)1‬‬


‫قال القشيري في التذكرة الشرقية (‪" :)2‬وأما قول هللا ّ‬
‫عز وجل‪{ :‬وما يعل ُم‬
‫تأويلَهُ إال هللاُ} [سورة ءال عمران‪ ]7/‬إنما يري ُد ب ِه وقت قيام الساعة‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫المشركين سألوا النبي صلى هللا عليه وسلم عن الساعة أيّان ُمرساها ومتى‬
‫األمور إال هللا‬
‫ِ‬ ‫عواقب‬
‫َ‬ ‫فليس يعل ُم‬
‫َ‬ ‫وقوعها‪ ،‬فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يوم يأتي تأويلُهُ} [سورة‬


‫ظرونَ إال تأويلَهُ َ‬ ‫{هل يَ ْن ُ‬
‫عز وجل ولهذا قال‪ْ :‬‬ ‫ّ‬
‫األعراف‪ ]53/‬أي هل ينظرون إال قيام الساعة‪ .‬وكيف يسوغ لقائل أن‬
‫ق إلى معرفته وال يعلم تأويله‬ ‫يقول في كتاب هللا تعالى ما ال سبيل لمخلو ٍ‬
‫إال هللا‪ ،‬أليس هذا من أعظم القدح في النبوات‪ ،‬وأن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات هللا تعالى‪ ،‬ودعا الخلق إلى علم ما‬
‫ي ُمبين} [سورة الشعراء‪ ]195/‬فإذًا‬ ‫سان عرب ٍّ‬
‫ال يعلم‪ ،‬أليس هللا يقول‪ِ { :‬ب ِل ٍ‬
‫ي ُمبين} إذ لم‬‫{بلسان عرب ٍّ‬
‫ٍ‬ ‫على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال‪:‬‬
‫يكن معلو ًما عندهم‪ ،‬وإال فأين هذا البيان‪ ،‬وإذا كان بلغة العرب فكيف‬
‫يدَّعي أنه مما ال تعلمه العرب لما كان ذلك الشئ عربيًّا‪ ،‬فما قول في مقال‬
‫مآله إلى تكذيب الرب سبحانه‪.‬‬
‫ثم كان النبي صلى هللا عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة هللا تعالى‪ ،‬فلو‬
‫كانَ في كالمه وفيما يلقي ِه إلى أمت ِه شئ ال يعلم تأويله إال هللا تعالى‪ ،‬لكان‬
‫للقوم أن يقولوا بيّن لنا أوالً من تدعونا إليه وما الذي تقول‪ ،‬فإن اإليمان بما‬
‫ال يعلم أصله غير متأت‪ ،‬ونسبة النبي صلى هللا عليه وسلم إلى أنه دعا إلى‬
‫رب موصوف بصفات ال تعقل أمر عظيم ال يتخيله مسلم‪ ،‬فإن الجهل‬
‫بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف‪ ،‬والغرض أن يستبين من معه‬
‫ُم ْس َكةٌ من العقل (‪)3‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬الدر المنثور (‪ ،)152/2‬زاد المسير (‪.)354/1‬‬
‫(‪ )2‬ذكر ذلك الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة‬
‫المتقين (‪.)110/2‬‬
‫(‪ )3‬أي شئ من العقل‪.‬‬

‫أن قول من يقول‪" :‬استواؤه صفة ذاتية ال يعقل معناها‪ ،‬واليد صفة ذاتية ال‬
‫يعقل معناها‪ ،‬والقدّم صفة ذاتية ال يعقل معناها" تمويه ضمنه تكييف‬
‫وتشبيه ودعاء إلى الجهل‪ ،‬وقد وضح الحق لذي عينين‪ ،‬وليت شعري هذا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الذي ينكر التأويل يطرد هذا اإلنكار في كل شئ وفي كل ءاية أم يقنع‬


‫بترك التأويل في صفات هللا تعالى‪.‬‬
‫فإن امتنع من التأويل أصالً فقد أبطل الشريعة والعلوم‪ ،‬إذ ما ممن ءاية‬
‫وخبر إال ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكالم –إال ما كان نحو قوله‬
‫ألن ث َ َّم‬
‫وهو بك ِّل ش ٍئ علي ٌم} [سورة األنعام‪َّ -]101/‬‬
‫شئ َ‬‫تعالى‪{ :‬وخلقَ ك َّل ٍ‬
‫أشياء ال ب ّد من تأويلها (‪ )1‬ال خالف بين العقالء فيه إال الملحدة الذين‬
‫قصدهم التعطيل للشرائع‪ ،‬واالعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من‬
‫التمسك بالشرع بزعمه‪.‬‬
‫وإن قال‪ :‬يجوز التأويل على الجملة إال فيما يتعلق باهلل وبصفاته فال تأويل‬
‫أن ما يتعلق بغير هللا تعالى يجب أن يعلم وما‬ ‫فيه‪ .‬فهذا مصير منه إلى ّ‬
‫يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه (‪ ،)2‬وهذا ال يرضى به مسلم‪،‬‬
‫وسر األمر أن هؤالء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه‬ ‫ّ‬
‫غير أنهم يُ َد ِلّسون (‪ )3‬ويقولون‪ :‬له يد ال كاأليدي وقدم ال كاألقدام واستواء‬
‫بالذات ال كما نعقل فيما بيننا‪ .‬فليقل المحقق هذا كالم ال بد من استبيان‬
‫(‪ ،)4‬قولكم نجري األمر على الظاهر وال يعقل معناه تناقض‪ ،‬إن أجريت‬
‫ق}‬‫ف عن سا ٍ‬‫{يوم يَ ْك ِش ُ‬
‫َ‬ ‫على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى‪:‬‬
‫________________‬
‫كقوله تعالى عن الريح‪{ :‬ت ُ َد ِ ّم ُر ك َّل ش ٍئ} [سورة األحقاف‪]25/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فهذه الريح لم تدمر السموات واألرض والجنة وجهنم إنما د ّمرت‬
‫أشياء مخصوصة‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫أي البعد عنه‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أي يمو ّهون‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫كذا في األصل ووجه الكالم ال بد من استبيانه‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫[سورة القلم‪ )1( ]42/‬هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم‬
‫والعصب والمخ‪ ،‬فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت باإلقرار بهذه األعضاء‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تركت‬
‫َ‬ ‫ألست قد‬
‫َ‬ ‫فهو الكفر‪ ،‬وإن لم يمكنك األخذ بها فأين األخذ بالظاهر‪،‬‬
‫الظاهر وعلمت تقدس الربّ تعالى عما يوهم الظاهر‪ ،‬فكيف يكون أخذًا‬
‫بالظاهر؟ وإن قال الخصم‪ :‬هذه الظواهر ال معنى لها أصالً‪ ،‬فهو حكم بأنها‬
‫ملغاة‪ ،‬وما كان في إبالغها إلينا فائدة وهي ه َدر (‪ )2‬وهذا محال‪ ،‬وفي لغة‬
‫العرب ما شئت من التجوز (‪ )3‬والتوسع في الخطاب‪ ،‬وكانوا يعرفون‬
‫موارد الكالم ويفهمون المقاصد‪ ،‬فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه‬
‫بالعربية‪ ،‬ومن أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق (‪ ،)4‬وقد‬
‫والرا ِسخونَ في العلم} [سورة ءال عمران‪:]7/‬‬ ‫قيل {وما يعل ُم تأويلَهُ إال هللاُ َّ‬
‫ضا يعلمونه ويقولون ءامنّا به‪ .‬فإن‬
‫فكأنه قال‪ :‬والراسخون في العلم أي ً‬
‫اإليمان بالشئ إنما يتصور بعد العلم‪ ،‬أما ما ال يعلم فاإليمان به غير متأت‬
‫(‪ )5‬ولهذا قال ابن عباس‪" :‬أنا من الراسخين في العلم" (‪ )6‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫أي عن شدة شديدة وهول شديد‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أي ال قيمة لها وال اعتبار‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أي ارتكاب المجاز في الخطاب‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أي هان عليه أن يعرف من أين تعرف الحقائق‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أي غير ممكن‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫أي المتمكنين في العلم‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫فتبين أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل‪ ،‬وهو محجوج‬
‫بقوله صلى هللا عليه وسلم البن عباس‪" :‬الله ّم علّمه الحكمة وتأويل الكتاب"‬
‫(‪.)1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫هذا وقد ش ّد َد الحافظ ابن الجوزي الفقيه الحنبلي وهو حرب على حنابلة‬
‫النكير والتشني َع على من يمنع‬
‫َ‬ ‫المجسمة وما أكثرهم في كتابه "المجالس"‬
‫سع القول في ذلك‪ ،‬فمما ورد فيه (‪" :)2‬وكيف يمكن أن يقال إن‬ ‫التأويل وو ّ‬
‫السلف ما استعملوا التأويل وقد ورد في الصحيح عن سيد الكونين صلى‬
‫هللا عليه وسلم أنهُ قدّم له ابن عباس وضوءه فقال‪" :‬من فعل هذا" فقال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬أن يا رسول هللا‪ ،‬فقال‪" :‬الله ّم فقّههُ في الدين وعلّمه التأويل" فال يخلو‬
‫إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه‪ ،‬فال ب ّد أن تقول أراد الدعاء‬
‫محظورا لكان هذا دعا ًء عليه ال له‪ .‬ثم‬‫ً‬ ‫له ال دعا ًء عليه‪ ،‬ولو كان التأويل‬
‫فليس بصحيح‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ليس ُمستجابًا‬
‫أقول‪ :‬ال يخلو إما أن تقول‪ :‬إن دعاء الرسول َ‬
‫وإن قلت‪ :‬إنه مستجاب فقد تركت مذهبك‪ ،‬وقولك‪ :‬إنهم ما كانوا يقولون‬
‫العلم‬
‫ِ‬ ‫بالتأويل‪ ،‬وكيف وهللا يقول‪{ :‬وما يعل ُم تأويلَهُ إال هللاُ والرا ِسخونَ في‬
‫يقولونَ ءامنَّا به} [سورة ءال عمران‪ ]7/‬وقال‪{ :‬الم} [سورة البقرة‪ ]1/‬أنا‬
‫هللا أعلم‪ ،‬و{كهيعص} [سورة مريم‪ ]1/‬الكاف من كافي‪ ،‬والهاء من هادي‪،‬‬
‫والياء من حكيم‪ ،‬والعين من عليم‪ ،‬والصاد من صادق‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫المتشابه" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬المقدمة‪ :‬فضل ابن عباس رضي هللا‬
‫عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬كتاب المجالس البن الجوزي (ص‪.)13/‬‬

‫ٌ‬
‫ءايات‬ ‫الكتاب منهُ‬
‫َ‬ ‫عليك‬
‫َ‬ ‫{هو الذي أنز َل‬
‫توجيه‪ :‬القراءتين في ءاية َ‬
‫ب وأُخ َُر ُمتَشابهات} [سورة ءال عمران‪ ]7/‬إلى قوله‬
‫مات ُه َّن أ ُّم الكتا ِ‬
‫ُم ْح َك ٌ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تعالى‪{ :‬وما يعل ُم تأويلَهُ إال هللاُ والرا ِسخونَ في ال ِع ْل ِم} فبقراءة الوقف على‬
‫لفظ الجاللة واالبتداء بما بعده يكون المعنى‪ :‬الغيب الذي لم يجعل هللا سبيالً‬
‫للخلق إلى علمه كوجبة الساعة وما شابهها‪ ،‬وأما بقراءة الوقف على‬
‫أن هللا يعلم تأويل اآليات المتشابهات‬ ‫يكون المعنى‪ّ :‬‬
‫ُ‬ ‫{والرا ِسخونَ في العلم}‬
‫والراسخون يعلمونه وذلك فيما ليس من نحو وجبة القيامة ونحوها‪ ،‬فهذا‬
‫الذي يعلمه هللا تعالى ويعلمه الراسخون في العلم‪ ،‬وعلى هذا التوجيه ينتظم‬
‫ذهب إلى التأويل التفصيلي‬ ‫َ‬ ‫المعنى ويزول اإلشكال‪ ،‬وبهذا حجةٌ لصح ِة َمن‬
‫{و ِلت ُ ْ‬
‫صنَ َع على‬ ‫لآليات المتشابهات كتأويل العين المذكورة في قوله تعالى َ‬
‫عيني} [سورة طه‪ ،]39/‬وأمثاله‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫ثبوت التأويل التفصيلي عن السلف‬


‫]‪[Type text‬‬

‫ضا عن غير واح ٍد من‬


‫التأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أي ً‬
‫أئمة السلف وأكابرهم كابن عباس من الصحابة‪ ،‬ومجاهد تلميذ ابن عباس‬
‫من التابعين‪ ،‬واإلمام أحمد ممن جاء بعدهم‪ ،‬وكذلك البخاري وغيره‪.‬‬
‫أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (‪" :)1‬وأما‬
‫ق} [سورة‬ ‫{يوم ي ْك ِش ُ‬
‫ف عن سا ٍ‬ ‫َ‬ ‫الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى‪:‬‬
‫القلم‪ ]42/‬قال‪ :‬عن شدة من األمر‪ ،‬والعرب تقول قامت الحرب على ساق‬
‫إذا اشتدت‪ ،‬ومنه‪:‬‬
‫سن أصحابك ضرب األعناق *** وقامت الحرب بنا على ْ‬
‫ساق‬ ‫قد ّ‬
‫وجاء عن أبي موسى األشعري في تفسيرها‪ :‬عن نور عظيم‪ ،‬قال ابن‬
‫فورك‪ :‬معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد واأللطاف‪ ،‬وقال ال ُم َهلَّب‪ :‬كشف‬
‫الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة‪ ،‬وقال الخطابي (‪ :)2‬تهيب كثير من‬
‫الشيوخ الخوض في معنى الساق‪ ،‬ومعنى قول ابن عباس أن هللا يكشف‬
‫عن قدرته التي تظهر بها الشدة‪ ،‬وأسند البيهقي (‪ )3‬األثر المذكور عن ابن‬
‫عباس بسندين كل منهما حسن وزاد‪ :‬إذا خفي عليكم شئ من القرءان‬
‫فابتغوه من الشعر‪ ،‬وذكر الرجز المشار إليه‪ ،‬وأنشد الخطابي في إطالق‬
‫الساق على األمر الشديد‪:‬‬
‫شفَ ْ‬
‫ت عن ساقِها" ا‪.‬هـ‪.‬‬ ‫في سن ٍة ق ْد َك َ‬
‫وأما مجاهد فقد قال الحافظ البيهقي (‪" :)4‬وأخبرنا أبو عبد هللا الحافظ‬
‫وأبو بكر القاضي قاال‪ :‬ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب‪ ،‬حدثنا الحسن بن‬
‫علي بن عفان‪ ،‬ثنا أبو أسامة‪ ،‬عن النضر‪ ،‬عن مجاهد في قوله ّ‬
‫عز وجل‪:‬‬
‫___________‬
‫فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪ )428/13‬و(‪.)664/8‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫األسماء والصفات للبيهقي (ص‪.)345/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫األسماء والصفات (ص‪.)309/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫{فأ ْينَ َما ت ُ ّولُّوا فَث َ َّم وجهُ هللا} [سورة البقرة‪ ]115/‬قال‪ :‬قبلة هللا‪ ،‬فأينما كنت‬
‫ّ‬
‫توجهن إال إليها" ا‪.‬هـ‪.‬‬ ‫في شرق أو غرب فال‬
‫وأما اإلمام أحمد‪ :‬فقد روى البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم‪ ،‬عن أبي‬
‫تأول قول هللا تعالى‪:‬‬
‫عمرو بن السماك‪ ،‬عن حنبل أن أحمد بن حنبل ّ‬
‫{وجا َء رب َُّك} (‪[ )1‬سورة الفجر‪ ]22/‬أنه جا َء ثوابه‪ .‬ثم قال البيهقي‪" :‬وهذا‬
‫إسناد ال غبار عليه"‪ ،‬نقل ذلك ابن كثير في تاريخه (‪.)2‬‬
‫وفي رواية أخرجها البيهقي في كتاب مناقب أحمد تأويل‪{ :‬وجا َء رب َُّك}‬
‫بمجيء ثوابه‪ ،‬ثم قال البيهقي‪ :‬وهذا إسناد ال غبار عليه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫[سورة الفجر‪]22/‬‬
‫قال البيهقي في مناقب أحمد (‪" :)3‬أنبأنا الحاكم‪ ،‬قال حدثنا أبو عمرو بن‬
‫السماك‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا حنبل بن إسحاق‪ ،‬قال‪ :‬سمعت علي أبا عبد هللا –يعني‬
‫نوظر في دار أمير المؤمنين‪-‬‬ ‫َ‬ ‫ي يومئ ٍذ –يعني يوم‬‫أحمد‪ -‬يقول‪ :‬احتجوا عل ّ‬
‫فقالوا تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم‪ :‬إنما‬
‫هو الثواب قال هللا تعالى‪{ :‬وجا َء رب َُّك} [سورة الفجر‪ ]22/‬إنما يأتي قدرته‬
‫وإنما القرءان أمثال ومواعظ‪.‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬وفيه دلي ٌل على أنه كان ال يعتقد في المجيء الذي ورد به‬
‫الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقاالً من مكان إلى مكان كمجيء‬
‫ذوات األجسام ونزولها‪ ،‬وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته‪ ،‬فإنهم‬
‫____________‬
‫ص ّح التأويل التفصيلي عن اإلمام أحمد فقد ثبت عنه أنه قال في قوله تعالى‪{ :‬وجا َء ربُّكَ }‬ ‫(‪)1‬‬
‫جاءت قدرته‪ ،‬صحح سنده الحافظ البيهقي‪ ،‬أي األمور العظيمة التي خلقها هللا تعالى ليوم‬
‫القيامة هذه األمور هي أثر القدرة وهي بقدرة هللا تأتي حين يحضر الملك أي المالئكة‬
‫صفو ًفا لعظم ذلك اليوم حتى يحيطوا باإلنس والجن وال أحد يستطيع أن يخرج من هذا‬
‫المكان إال بسلطان أي بإذن من هللا وحجة فتظهر في ذلك اليوم أمور عظيمة‪ ،‬جهنم التي‬
‫مسافتها بعيدة تحت األرض السابعة سبعون ألفًا من المالئكة يجرونها أي يجرون جز ًءا‬
‫منها وكل ملك بيده سلسلة مربوطة بجهنم يجرونها ليراها الناس وهم في الموقف ثم تر ُّد‬
‫إلى مكانها‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫البداية والنهاية (‪.)327/10‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر تعليق الزاهر الكوثري على السيف الصقيل لإلمام السبكي (ص‪.)121-120/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫لما زعموا أن القرءان لو كان كالم هللا وصفة من صفات ذاته لم يجز‬
‫عليه المجيء واإلتيان‪ ،‬فأجابهم أبو عبد هللا بأنه إنما يجيء ثواب قراءته‬
‫التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وهذا دليل على أن اإلمام أحمد رضي هللا عنه ما كان يحمل ءايات‬
‫الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أن هللا متحيّز في مكان أو أن له‬
‫حركة وسكونًا وانتقاالً من علو إلى سفل على ظواهرها‪ ،‬كما يحملها‬
‫ابن تيمية وأتباعه فيثبتون اعتقادًا التحيّز هلل في المكان والجسمية‬
‫ظا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون هلل عن‬ ‫ويقولون لف ً‬
‫مشابهة المخلوق‪ ،‬فتارة يقولون بال كيف كما قالت األئمة وتارة يقولون‬
‫على ما يليق باهلل‪ .‬نقول‪ :‬لو كان اإلمام أحمد يعتقد في هللا الحركة‬
‫والسكون واالنتقال لترك اآلية على ظاهرها وحملها على المجيء‬
‫بمعنى التنقل من علو إلى سفل كمجيء المالئكة وما فاه بهذا التأويل‪.‬‬
‫وقد روى البيهقي في األسماء والصفات (‪ )1‬عن أبي الحسن المقرئ‬
‫قال‪" :‬أنا أبو عمرو الصفار‪ ،‬ثنا أبو عوانة‪ ،‬ثنا أبو الحسن الميموني‬
‫ي يو ًما أبو عبد هللا أحمد بن حنبل فقال‪ :‬ادخل‪ ،‬فدخلت‬ ‫قال‪ :‬خرج إل ّ‬
‫ي شئ كانوا يحتجون‬ ‫منزله فقلت‪ :‬أخبرني عما كنت فيه مع القوم وبأ ّ‬
‫سرونها‪ ،‬هم احتجوا بقوله‪:‬‬ ‫عليك؟ قال‪ :‬بأشياء من القرءان يتأولونها ويف ّ‬
‫ذكر من ربِّ ِهم ُم ْح ّدثٍ} [سورة األنبياء‪ ]2/‬قال‪ :‬قلت‪ :‬قد‬ ‫من ٍ‬ ‫{ما يأتي ِهم ْ‬
‫ث ال الذكر نفسه هو ال ُم ْح َد ُ‬
‫ث‪.‬‬ ‫يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو ال ُم ْح َد ُ‬
‫قلت –أي قال البيهقي‪ :-‬والذي يدل على صحة تأويل أحمد بن حنبل‬
‫رحمه هللا ما حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك‪ ،‬أنا عبد هللا بن‬
‫جعفر‪ ،‬ثنا يونس بن حبيب‪ ،‬ثنا أبو داود‪ ،‬ثنا شعبة‪ ،‬عن عاصم‪ ،‬عن‬
‫أبي وائل عن عبد هللا‪ .‬هو ابن مسعود رضي هللا عنه قال‪" :‬أتيت‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬األسماء والصفات (ص‪.)235/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي فأخذني ما قَد َُم‬


‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فسلمتُ عليه فلم ير ّد عل ّ‬
‫ي شئ‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا‬ ‫وما حدّث‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا أحدث ف َّ‬
‫"إن هللا عز وجل يحدث لنبيّه من أمره ما شاء‪ ،‬وإن مما أحدث‬ ‫عليه وسلم‪ّ :‬‬
‫أال تكلموا في الصالة" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ضا التأويل عن اإلمام مالك فقد نقل الزرقاني (‪ )1‬عن أبي بكر‬ ‫وورد أي ً‬
‫ابن العربي أنه قال في حديث‪" :‬ينزل ربنا"‪" :‬النزول راجع إلى أفعاله ال‬
‫إلى ذاته‪ ،‬بل ذلك عبارة ٌ عن َملَ ِك ِه الذي ينز ُل بأمره ونهيه‪ .‬فالنزول حس ّ‬
‫ي‬
‫صفة الملك المبعوث بذلك‪ ،‬أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل‪ ،‬فسمى ذلك‬
‫نزوالً عن مرتبة إلى مرتبة‪ ،‬فهي عربية صحيحة" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (‪" :)2‬وقال ابن العربي‪ :‬حكي‬
‫عن المبتدعة ر ّد هذه األحاديث‪ ،‬وعن السلف إمرارها‪ ،‬وعن قوم تأويلها‬
‫وبه أقول‪ .‬فأما قوله‪ :‬ينزل فهو راجع إلى أفعاله ال إلى ذاته‪ ،‬بل ذلك عبارة‬
‫عن َملَ ِك ِه الذي ينزل بأمره ونهيه‪ ،‬والنزول كما يكون في األجسام يكون‬
‫في المعاني‪ ،‬فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة ال َملَك المبعوث‬
‫بذلك‪ ،‬وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك‬
‫نزوالً عن مرتبة إلى مرتبة‪ ،‬فهي عربية صحيحة انتهى‪ .‬والحاصل أنه‬
‫تأوله بوجهين‪ :‬إما بأن المعنى ينزل أمره أو ال َملَك بأمره‪ ،‬وإما بأنه‬
‫ّ‬
‫التلطف بالداعين واإلجابة لهم ونحوه" ا‪.‬هـ‪ .‬كالم الحافظ‪،‬‬‫ّ‬ ‫استعارة بمعنى‬
‫وكذا حكي عن مالك أنه ّأولهُ بنزول رحمته كما يقال فعل الم ِلك كذا أي‬
‫أتباعه بأمره‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬شرح الزرقاني على الموطأ (‪ ،)35/2‬وانظر شرح الترمذي‬
‫(‪.)236/2‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)30/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا (‪ )1‬عن أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين‬ ‫وروى الحافظ البيهقي أي ً‬
‫السلمي‪ ،‬قال‪" :‬أنا أبو الحسن محمد بن محمود المروزي الفقيه‪ ،‬ثنا أبو عبد‬
‫هللا محمد بن علي الحافظ‪ ،‬ثنا أبو موسى محمد بن المثنى‪ ،‬حدثني سعيد بن‬
‫نوح‪ ،‬ثنا علي بن الحسن بن شقيق‪ ،‬ثنا عبد هللا بن موسى الضبي‪ ،‬ثنا‬
‫{وهو‬
‫َ‬ ‫عز وجل‪:‬‬ ‫معدان العابد قال‪ :‬سألت سفيان الثوري عن قول هللا ّ‬
‫م َع ُكم} [سورة الحديد‪ ]4/‬قال‪ :‬علمه" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاري (‪ )2‬عند قوله تعالى‪{ :‬ك ُّل ش ٍئ ها ِل ٌك إال وجههُ}‬
‫[سورة القصص‪ ]88/‬قال البخاري‪" :‬إال ملكه‪ .‬ويقال‪ :‬إال ما أُري َد به وجهُ‬
‫هللا" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫"أن رجالً أتى النبي صلى هللا‬ ‫وفيه (‪ )3‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‪ّ :‬‬
‫عليه وسلم فبعث إلى نسائه‪ ،‬فقلن‪ :‬ما معنا إال الماء‪ ،‬فقال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬من يضم" أو‪" :‬يضيف هذا"؟ فقال رجل من األنصار‪ :‬أنا‪.‬‬
‫فانطلق به إلى امرأته فقال‪ :‬أكرمي ضيف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫فقالت‪ :‬ما عندنا إال قوت صبياني‪ .‬فقال‪ :‬هيئي طعامك وأصبحي سراجك‬
‫ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء‪ ،‬فهيأت طعامها وأصبحت سراجها‬ ‫ّ‬
‫ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته‪ ،‬فجعال يُريانِه أنهما‬ ‫ّ‬
‫يأكالن فباتا طاويين‪ ،‬فلما أصبح غدا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫فقال‪" :‬ضحك هللا الليلة" أو‪" :‬عجب من فعالكما"‪ .‬فأنزل هللا‪{ :‬ويُؤثِرونَ‬
‫فأولئك ُه ُم‬
‫َ‬ ‫ولو كانَ بِ ِهم خَصاصةٌ (‪ )4‬و َمن يُوقَ ُ‬
‫ش َّح نف ِس ِه‬ ‫على أنفُ ِسهم ْ‬
‫ال ُمف ِلحون} [سورو الحشر‪ ،]9/‬قال ابن حجر (‪" :)5‬ونسبة الضحك‬
‫والتع ّجب إلى هللا مجازية والمراد بهما الرضا بصنيعهما" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫_____________________‬
‫األسماء والصفات (ص‪.)430/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬باب تفسير سورة القصص‪ ،‬في فاتحته‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب قول هللا عز وجل‪{ :‬ويُؤثِرونَ على أنفسهم‬ ‫(‪)3‬‬
‫ش َّح نفسه فأولئكَ ه ُم ال ُمفلحون} [سورة الحشر‪.]9/‬‬ ‫ولو كان بهم َخصاصةٌ و َمن يُو َ‬
‫ق ُ‬
‫{ويؤثرون على أنفسهم} أي بأموالهم ومنازلهم {ولو كان بهم خصاصة} أي فقر وحاجة فبيّن‬ ‫(‪)4‬‬
‫هللا أن إيثارهم لم يكن عن غنى‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)120/7‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأول البخاري الضحك الوارد في الحديث بالرحمة نقل ذلك عنه‬


‫ّ‬
‫الخطابي (‪ )1‬فقال‪" :‬وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على‬
‫معنى الرحمة وهو قريب وتأويله على معنى الرضا أقرب" (‪ .)2‬ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫{ءاخذٌ ِب ِ‬
‫ناصيَتِها} [سورة هود‪ ]56/‬بقوله‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫وأو َل البخاري (‪ )3‬اآلية‬
‫َّ‬
‫سلطانه" اهـ‪.‬‬
‫"أي في ُملكه و ُ‬

‫_________________‬
‫(‪ )1‬األسماء والصفات (ص‪.)470/‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)40/6‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬باب قوله تعالى‪{ :‬وكانَ عرشهُ‬
‫على الماء} [سورة هود‪ ،]7/‬فتح الباري (‪.)352/8‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تفسير بعض اآليات واألحاديث المتشايهة‬


‫العرش ا ْستوى}‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫{الرحمن على‬ ‫من اآليات المتشابهات قول هللا تعالى‪:‬‬
‫[سورة طه‪ ]5/‬فهذه اآلية السلف لم يشتغلوا بتأويلها بتعيين خاص‪ ،‬إنما‬
‫قالوا استوى استوا ًء به مع تنزيهه عن صفات الحوادث‪ ،‬ونفوا الكيفية عن‬
‫سئ َل عن االستواء‪:‬‬
‫هللا تعالى‪ ،‬وما يروى عن اإلمام مالك أنه قال حين ُ‬
‫"االستواء معلوم والكيفية مجهولة" فلم يص ّح عنه‪ ،‬وإنم الصحيح الذي رواه‬
‫البيهقي (‪ )1‬في األسماء والصفات من طريق عبد هللا بن وهب ويحيى ابن‬
‫يحيى قال‪" :‬أخبرنا أبو عبد هللا‪ ،‬أخبرني احمد بن محمد بن إسماعيل بن‬
‫مهران‪ ،‬ثنا أبي‪ ،‬حدثنا أبو الربيع ابن أخي ِرشدين بن سعد‪ ،‬قال‪ :‬سمعت‬
‫عبد هللا بن وهب يقول‪ :‬كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال‪ :‬يا أيا عبد‬
‫هللا‪ ،‬الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال‪ :‬فأطرق مالك وأخذته‬
‫ضا ُء (‪ )2‬ثم رفع رأسه فقال‪ :‬الرحمن على العرش استوى كما وصف‬ ‫الر َح َ‬
‫ُّ‬
‫نفسه‪ ،‬وال يُقال كيف وكيف عنه مرفوع‪ ،‬وأنت رجل سوء صاحب بدعة‬
‫أخرجوه‪ ،‬قال‪ :‬فأ ُ ِ‬
‫خرج الرجل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد بن الحارث الفقيه األصفهاني‪ ،‬أنا أبو‬
‫محمد عبد هللا بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ‪ ،‬ثنا أبو‬
‫جعفر بن زَ ي َْرك البزي‪ ،‬قال‪ :‬سمعت محمد بن عمرو بن النضر‬
‫النيسابوري يقول‪ :‬سمعت يحيى بن يحيى يقول‪ :‬كنا عند مالك بن أنس‬
‫فجاء رجل فقال‪ :‬يا أبا عبد هللا‪ ،‬الرحمن على العرش استوى فكيف‬
‫الرحضاء‪ ،‬ثم قال‪" :‬االستواء‬‫استوى؟ قال‪ :‬فأطرق مالك رأسه حتى عاله ُّ‬
‫غير مجهول‪ ،‬والكيف غير معقول‪ ،‬واإليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه‬
‫ضا عن‬ ‫عا"‪ .‬فأمر به أن يخرج‪ .‬وروي ذلك أي ً‬‫بدعة‪ ،‬وما أراك إال ُمبتد ً‬
‫ربيعة بن أبي عبد الرحمن أستاذ‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬األسماء والصفات (ص‪.)408/‬‬
‫وكثيرا ما يستعمل في‬
‫ً‬ ‫(‪ )2‬الرحضاء‪ :‬هو عرق يغسل الجلد لكثرته‪،‬‬
‫عرق الحمى والمرض‪ .‬النهاية (‪.)208/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مالك بن أنس رضي هللا تعالى عنهما"‪ .‬ا‪.‬هـ‪ .‬وأنا تلك الرواية التي‬
‫تنسب لمالك فليس لها إسناد صحيح‪ ،‬وإنما يلهج بها المشبهة ألنها‬
‫كيف لكن ال‬
‫ٌ‬ ‫وافقت هواهم الذي هو التشبيه‪ ،‬ألن اعتقادهم أن استواءه‬
‫نعلمه‪ ،‬وهذا إثبات للكيف ال تنزيهٌ هلل عن الكيف‪.‬‬
‫أما الخلف فقد اشتغلوا بتأويله وتعيين معنى لالستواء فقالوا‪ :‬االستواء‬
‫معناه القهر والغلبة واالستيالء‪ .‬وتفسير االستواء باالستيالء ال يقتضي‬
‫ألن المراد به القهر وقد وصف هللا تبارك وتعالى نفسه بأنه القاهر‬ ‫المغالبة ّ‬
‫{وهو القا ِه ُر فوقَ عبا ِد ِه} [سورة األنعام‪ ،]18/‬وقد أشار‬
‫َ‬ ‫فوق عباده قال‪:‬‬
‫إلى ذلك الفقيه المحدث الحافظ اللغوي تقي الدين علي بن عبد الكافي‬
‫السبكي الذي قال فيه الذهبي‪:‬‬
‫البر التقي‬
‫ل َي ْهنَ المنبر األموي لما *** عالهُ الحاك ُم ُّ‬
‫شيو ُخ العصر أحفظهم جميعًا *** وأخطبهم وأقضاهم علي‬
‫قال (‪ )1‬ما نصه‪" :‬فالم ْقدم على هذا التأويل –أي على تفسير االستواء‬
‫محذورا وال وصف هللا بما ال يجوز عليه" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫باالستيالء‪ -‬لم يرتكب‬
‫سرها القشيري أبو نصر فقال (‪" :)2‬ولو أشعر ما قلنا توهم‬ ‫وبذلك ف ّ‬
‫الخبير} [سورة‬
‫ُ‬ ‫وهو الحكي ُم‬
‫القاهر فوقَ عبا ِد ِه َ‬
‫ُ‬ ‫{وهو‬
‫َ‬ ‫غلبته ألشعر قوله‪:‬‬
‫مقهورا قبل خلق العباد‪ ،‬هيهات إذ‬
‫ً‬ ‫ضا حتى يقال كان‬‫األنعام‪ ]18/‬بذلك أي ً‬
‫لم يكن للعباد وجود قبل خلقه إياهم‪ ،‬بل لو كان األمر على ما توهمه الجهلة‬
‫من أنه استواء بالذات ألشهر ذلك بالتغيير واعوجاج سابق على وقت‬
‫االستواء‪ ،‬فإن البارئ تعالى كان موجودًا قبل العرش‪ ،‬ومن أنصف علم أن‬
‫قول من يقول العرش بالرب استوى (‪ )3‬أمثل من قول من يقول‪ :‬الرب‬
‫_____________‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)107/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)108-109/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫العرب بالرب استوى معناه العرش بإيجاد هللا تعالى ت َّم أما استوى هللا بالعرش ال يصح ألنه‬ ‫(‪)3‬‬
‫يُشعر بالنقص والنقص على هللا مستحيل‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بالعرش استوى‪ .‬فالرب إذًا موصوف بالعلو وفوقية الرتبة والعظمة ّ‬


‫منزه‬
‫عن الكون في المكان وعن المحاذاة" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬نبغت (‪ )1‬نابغة من الرعاع لوال استنزالهم للعوام بما‬
‫يقرب من أفهامهم ويتصور في أوهامهم ألجللت هذا الكتاب عن تلطيخه‬
‫بذكرهم‪ ،‬يقولون نحن نأخذ بالظاهر ونجري اآليات الموهمة تشبي ًها‬
‫وعضوا على الظاهر وال يجوز أن نطرق‬ ‫ً‬ ‫واألخبار المقتضية حدًّا‬
‫التأويل إلى شئ من ذلك‪ ،‬ويتمسكون بقول هللا تعالى‪{ :‬وما يعل ُم تأويلهُ‬
‫أضر على‬ ‫ّ‬ ‫إال هللا} [سورة ءال عمران‪ ]7/‬وهؤالء والذي أرواحنا بيده‬
‫اإلسالم من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة األوثان‪ ،‬ألن ضالالت‬
‫الكفار ظاهرة يتجنبها المسلمون وهؤالء أتوا الدين والعوام من طريق‬
‫يغتر به المستضعفون‪ ،‬فأوحوا إلى أوليائهم بهذه البدع وأحلّوا في‬ ‫ّ‬
‫قلوبهم وصف المعبود سبحانه باألعضاء والجوارح والركوب والنزول‬
‫واالتكاء واالستلقاء واالستواء بالذات والتردد في الجهات‪ ،‬فمن أصغى‬
‫إلى ظاهرهم يبادر بوهمه إلى تخيّل المحسوسات فاعتقد الفضائح فسال‬
‫به السيل وهو ال يدري" ا‪.‬هـ‪.‬‬

‫____________‬

‫(‪ )1‬نبغت أي ظهرت‪ ،‬والرعاع السفهاء‪.‬‬


‫]‪[Type text‬‬

‫تنبيه‪ :‬ليحذر من تمويه الوهابية وتلبيسهم بقولهم نحن نثبت هلل ما أثبت‬
‫لنفسه وهو أثبت لنفسه االستواء على العرش‪ ،‬يريدون باستواء هللا استواء‬
‫األجسام‪ ،‬يقال لهم‪ :‬االستواء الذي أثبته القرءان ليس االستواء الذي أنتم‬
‫ألن كلمة استوى ليست‬ ‫تريدونه بل هللا أراد باالستواء معنى الئقًا به‪ّ ،‬‬
‫معان في لغة العرب عديدة بعض معانيه من‬ ‫ٍ‬ ‫مرادفةً لجلس‪ ،‬بل استوى لها‬
‫صفات المخلوقين كالجلوس واالستقرار‪ ،‬ومنها ما هو الئق باهلل تعالى‬
‫كاالستيالء والقهر‪ ،‬فمن اللغويين الذين فسروا االستواء المذكور في اآلية‬
‫ائر َذ ِوي التمييز (‪ ،)1‬واإلمام‬
‫باالستيالء صاحب القاموس في كتابه بص َ‬
‫المجتهد الفقيه الحافظ اللغوي تقي الدين السبكي (‪ ،)2‬والمحدث الحافظ‬
‫الفقيه خاتم اللغويين محمد مرتضى الزبيدي (‪ )3‬كما تقدم‪.‬‬
‫وأما اآليات واألحاديث التي يوهم ظاهرها أن هللا في السماء أو هو فوق‬
‫السماء بالمسافة فال ب ّد من تأويلها وإخراجها عن ظواهرها أي ً‬
‫ضا‪ ،‬كآية‪:‬‬
‫{ َءأ َ ِم ْنتُم َم ْن في السماء} [سورة الملك‪ ]16/‬فيقال المراد بمن في السماء‪:‬‬
‫المالئكة‪ ،‬وقد مال الحافظ العراقي إلى ذلك في تفسير حديث‪" :‬ارحموا من‬

‫_____________‬
‫(‪ )1‬بصائر ذوي التمييز (‪.)107/2‬‬
‫(‪ )2‬وقد وصفه ألنه لغوي تلميذه المؤرخ صالح الدين الصفدي في‬
‫تأليفه أعيان العصر (‪ ،)419/3‬ونقله الزبيدي في اإلتحاف‬
‫(‪.)107/2‬‬
‫(‪ )3‬انظر البحث في إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين‬
‫(‪.)112-106/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫في األرض يرحمكم من في السماء" (‪ ،)1‬فقد روى باإلسناد إلى عبد هللا‬
‫بن عمرو بن العاص عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪" :‬الراحمون‬
‫يرحمهم الرحيم ارحموا أهل األرض يرحمكم أهل السماء (‪ )3( ")2‬قال‪:‬‬
‫"واست ُ ِد َّل بهذه الرواية‪" :‬أهل السماء" على أن المراد بقوله‪" :‬من في‬
‫السماء‪ :‬المالئكة" ا‪.‬هـ‪ .‬ألن خير ما يفسر الوارد بالوارد كما نص على‬
‫ذلك الحافظ العراقي في ألفيته قال‪[ :‬رجز]‬
‫بالدخان البن صائد‬
‫ِ‬ ‫وخير ما فسرتَه بالوارد *** كالدُّخ‬
‫ُ‬
‫{ءأمنتُم َم ْن في‬
‫ِ‬ ‫فهذه الرواية لهذا الحديث تبين المراد بقوله تعالى‪:‬‬
‫السماء} [سورة الملك‪ ،]16/‬فمن في اآلية واقعة على المالئكة ألن المالئكة‬
‫قادرون أن يخسفوا بأولئك المشركين األرض‪ ،‬فلو أُمروا لفعلوا‪ ،‬وقادرون‬
‫على ما ذكر في اآلية التالية لها وهو إرسال الحاصب أي الريح الشديدة‬
‫بأمر هللا تعالى‪.‬‬
‫وكذلك يقال في الحديث الذي رواه مسلم (‪" :)4‬والذي نفسي بيده ما من‬
‫رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إال كان الذي في السماء ساخ ً‬
‫طا‬
‫ضا على المالئكة بدليل الرواية الثانية‬
‫عليها حتى يرضى عنها" فيحمل أي ً‬
‫الصحيحة التي رواها ابن حبان وغيره (‪ ،)5‬والتي هي أشهر من هذه‬
‫وهي‪" :‬لعنتها المالئكة حتى تصبح"‪.‬‬
‫____________‬
‫البر والصلة‪ :‬باب ما جاء في رحمة المسلمين‪.‬‬‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫ارحموا من في األرض أي بإرشادهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التي هي سبب‬ ‫(‪)2‬‬
‫إلنقاذهم من النار وبإطعام جائعهم وكسوة عاريهم ونحو ذلك‪ .‬وأما قوله‪" :‬يرحمكم أهل‬
‫السماء" فأهل السماء هم المالئكة وهم يرحمون من في األرض أي أن هللا يأمرهم بمدد خير‬
‫وبركة ويحفظوهم على حسب ما يأمرهم هللا تعالى‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫انظر المجلس السادس والثمانين من أمالي العراقي (ص‪.)77/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫انظر صحيح مسلم كتاب النكاح‪ :‬باب تحريم امتناعها من فراش زوجها‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫انظر صحيح مسلم كتاب النكاح‪ :‬باب تحريم امتناعها من فراش زوجها‪ .‬وترتيب صحيح ابن‬ ‫(‪)5‬‬
‫حبان (‪ )187/6‬كتاب النكاح‪ :‬باب معاشرة الزوجين‪ ،‬ذكر لعن المرأة التي لم تجب زوجها إلى‬
‫ما دعاها إليه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فإن قيل‪ :‬قد ورد حديث (‪ )1‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه أنه قال‪:‬‬
‫هللا يأ ُم ُر ُكم أن ت ُ َؤدُّوا‬
‫{إن َ‬‫رأيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقرأ‪َّ :‬‬
‫هللا كانَ سميعًا‬ ‫ت إلى أهلها} [سورة النساء‪ ]58/‬إلى قوله تعالى‪َّ :‬‬
‫{إن َ‬ ‫األمانا ِ‬
‫بصيرا} [سورة النساء‪ ]58/‬ويضع أصبعيه قال ابن يونس أحد رواته‪:‬‬ ‫ً‬
‫وضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه‪.‬‬
‫فالجواب ما قال البيهقي‪" :‬قلت‪ :‬والمراد باإلشارة المروية في هذا الخبر‬
‫تحقيق الوصف هلل عز وجل بالسمع والبصر‪ ،‬فأشار إلى محلي السمع‬
‫والبصر منا إلثبات صفة السمع والبصر هلل تعالى كما يقال قبض فالن‬
‫على مال فالن ويشار باليد على معنى أنه حاز ماله‪ ،‬وأفاد هذا الخبر أنه‬
‫سميع بصير له سمع وبصر ال على معنى أنه عليم‪ ،‬إذ لو كان بمعنى العلم‬
‫ألشار في تحقيقه إلى القلب ألنه محل العلوم منا‪ ،‬وليس في الخبر إثبات‬
‫كبيرا" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫علوا‬
‫الجارحة‪ ،‬تعالى هللا عن شبه المخلوقين ً‬
‫وأما حديث الطبراني (‪" :)2‬وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي‬
‫سبعين ألفًا ال حساب عليهم وال عذاب مع كل واحد سبعين ألفًا وثالل‬
‫ت من حثيات ربي عز وجل" فقد أعلّه الحافظ ابن حجر في الفتح‬ ‫َحثَيَا ٍ‬
‫باالختالف في سنده (‪ ،)3‬وكذا الحافظ البيهقي (‪.)4‬‬
‫وأما ما ورد عن مجاهد في تفسير المقام المحمود بأنه إجالس هللا للنبي‬
‫معه على عرشه فليس فيه حجة قال بعض الحفاظ‪ :‬أما رفع ذلك إلى النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم فباطل‪ ،‬وكذا ما ورد عن عائشة‪ ،‬قال الحافظ ابن‬
‫الجوزي (‪" :)5‬قلت‪ :‬هذا حديث مكذوب ال يصح عن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم" اهـ‪ .‬وأما ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هالل أحد‬
‫صغار التابعين أنه بلغه أن المقام‬
‫___________‬
‫أخرجه البيهقي في األسماء والصفات (ص‪.)179/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪.)129-130/8‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فتح الباري (‪.)346/11‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫األسماء والصفات (ص‪.)330-329/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )5‬دفع شبه التشبيه‪ :‬الحديث (‪.)39‬‬


‫المحمود أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يكون يوم القيامة بين الجبار‬
‫ضا فإنه مرسل (‪،)1‬‬ ‫وبين جبريل فيغبطه بذلك أهل الجمع فال حجة فيه أي ً‬
‫وكذلك أخرجه الطبري عن عبد هللا بن سالم أن محمدًا يوم القيامة على‬
‫كرسي الرب بين يدي الرب‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬الجواب يكفي لعدم إثبات صورة هلل بهذه المرويات أن الصفة عند‬
‫العلماء ال تثبت بقول صحابي أو تابعي إنما تثبت الصفة هلل بالكتاب‬
‫واألحاديث المرفوعة الصحاح‪ ،‬فهذه القاعدة تريح من تكلف الجواب عن‬
‫بعض ما يروى عن أفراد الصحابة والتابعين‪.‬‬
‫وقال الحافظ البيهقي في كتاب االسماء والصفات (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قال‬
‫الشيخ رضي هللا عنه‪ :‬المحبة والبغض والكراهية عند بعض أصحابنا من‬
‫صفات الفعل‪ ،‬فالمحبة عنده بمعنى المدح به بإكرام مكتسبه‪ ،‬والبغض‬
‫والكراهية بمعنى الذم له بإهانة مكتسبه‪ ،‬فإن كان المدح والذم بالقول فقولُهُ‬
‫كالمه وكالمه من صفات ذاته" اهـ‪.‬‬
‫وقال (‪ )3‬ما نصه‪" :‬فمعنى قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال ينظر إليهم"‬
‫أي ال يرحمهم‪ ،‬والنظر من هللا تعالى لعباده في هذا الموضع رحمته لهم‬
‫ي نظر هللا إليك أي‬
‫رأفته بهم وعائدته عليهم فمن ذلك قول القائل‪ :‬انظر إل َّ‬
‫ارحمني رحمك هللا" اهـ‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)400/8‬‬
‫(‪ )2‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)501/‬‬
‫(‪ )3‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)481/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يتوضأ‬
‫أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه ثم يأتي المسجد ال يريد إال الصالة فيه إال‬
‫تبشبش هللا به كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته" (‪ .)2‬قال أبو الحسن ابن‬
‫المهدي قوله‪" :‬تبشبش هللا" بمعنى رضي هللا‪ ،‬وللعرب استعارات في‬
‫َوف} [سورة‬
‫باس الجوعِ والخ ِ‬ ‫الكالم‪ ،‬أال ترى إلى قوله‪{ :‬فأ َذاقَها هللاُ ِل َ‬
‫النحل‪ ]112/‬بمعنى االختبار وإن كان أصل الذوق بالفم‪ ،‬والعرب تقول‬
‫تعرف واختبر‪ ،‬واركب الفرس وذقه‪ ،‬قال‬ ‫ناظر فالنًا وذق ما عنده أي ّ‬
‫ضا في‬
‫الشيخ‪ :‬وقد مضى في حديث أبي الدرداء‪" :‬يستبشر"‪ ،‬وروي ذلك أي ً‬
‫حديث أبي ذر ومعناه يرضى أفعالهم ويقبل نيتهم فيها وهللا أعلم" اهـ‪.‬‬

‫"ّلَلُ أفرح" معناه أرضى‬


‫وقال (‪ )3‬ما نصه‪" :‬قال أبو سليمان‪ :‬فيها قوله‪َّ َ :‬‬
‫بالتوبة وأقبل لها‪ .‬والفرح الذي يتعارفه الناس من نعوت بني ءادم غير‬
‫جائز على هللا عز وجل إنما معناه الرضا" اهـ‪.‬‬
‫ب وإن أسند إلى هللا‬ ‫وقال (‪ )4‬ما نصه‪" :‬قال أبو زكريا الفراء‪ :‬ال َع َج ُ‬
‫تعالى فليس معناهُ من هللا كمعناه من العبارد‪ ،‬أال ترى أنه قال" {فَيَ ْسخَرونَ‬
‫س ِخ َر هللاُ من ُهم} [سورة التوبة‪ ]79/‬وليس السخري من هللا كمعناه من‬ ‫من ُهم َ‬
‫ئ بِ ِهم} [سورة البقرة‪ ]15/‬ليس ذلك من هللا‬ ‫العباد وكذلك قوله‪{ :‬هللاُ يَ ْست َ ِ‬
‫هز ُ‬
‫ً‬
‫جائزا ألن‬ ‫كمعناه من العباد‪ ،‬وفي هذا بيان الكسر لقول شريح وإن كان‬
‫عجبت يا محمد ويسخرون هم‪ ،‬فهذا وجه النصب‪ .‬قال‬ ‫َ‬ ‫المفسرين قالوا‪ :‬بل‬
‫ْت‬ ‫الشيخ‪ :‬وتمام ما قال الفراء في قول غيره وهو أن قوله‪ْ :‬‬
‫{بل َع ِجب َ‬
‫ويَ ْسخَرون} بالرفع أي جازيتهم على عجبهم ألن هللا سبحانه وتعالى أخبر‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)478/‬‬
‫ضا أبو داود الطيالسي في مسنده (ص‪ ،)307/‬وابن حبان‬
‫(‪ )2‬رواه أي ً‬
‫في صحيحه انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)67/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)477/‬‬


‫(‪ )4‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)475/‬‬

‫عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق فقال‪{ :‬و َع ِجبوا أن جا َء ُهم ُم ْنذ ٌِر}‬
‫جاب} [سورة‬ ‫ع ٌ‬ ‫ئ ُ‬
‫{إن هذا لش ٌ‬‫ضا أنهم قالوا‪َّ :‬‬
‫[سورة ص‪ ]4/‬فأخبر عنهم أي ً‬
‫ْت} [سورة الصافات‪ ]12/‬أي بل جازيت‬ ‫ص‪ ]5/‬فقال تعالى‪َ { :‬ب ْل َع ِجب َ‬
‫إن قُل مضمر فيه ومعناه قل يا محمد بل عجبتُ أنا‬ ‫على التعجب‪ ،‬وقد قيل ّ‬
‫من قدرة هللا‪ ،‬واألول أصح‪.‬‬
‫ب بمعنى الرضا في مثل ما مضى من قصة اإليثار‬ ‫وقد يكون ال َع َج ُ‬
‫ب بمعنى وقوع ذلك العمل عند هللا‬
‫وحديث االستغفار‪ ،‬وقد يكون العَ َج ُ‬
‫عظي ًما" اهـ‪.‬‬
‫وقال البيهقي (‪ )1‬في الكالم على حديث مما ضحكت يا رسول هللا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"من ضحك رب العالمين" ما نصه‪" :‬فأما المتقدمون من أصحابنا فإنهم‬
‫فهموا من هذه األحاديث ما وقع الترغيب فيه من هذه األعمال وما وقع‬
‫الخبر عنه من فضل هللا سبحانه‪ ،‬ولم يشتغلوا بتفسير الضحك مع اعتقادهم‬
‫أن هللا ليس بذي جوارح ومخارج‪ ،‬وأنه ال يجوز وصفه بكشر األسنان‬
‫كبيرا" اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫علوا‬
‫شبَ ِه المخلوقين ًّ‬
‫وفغر الفم‪ ،‬تعالى هللا عن َ‬
‫وقال (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قال أبو الحسن‪ :‬فمعنى قول النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬يضحك هللا" أي يبين ويبدي من فضله ونعمه ما يكون جزا ًء‬
‫لعبده"‪.‬‬
‫وقال ما نصه (‪" :)3‬وأخبرما أبو عبد هللا الحافظ قال سمعت أبا محمد‬
‫أحم َد بن عبد هللا المزني يقول‪ :‬حديث النزول قد ثبت عن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم من وجوه صحيحة وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)474/‬‬
‫(‪ )2‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)473/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)456/‬‬

‫صفًّا} [سورة الفجر‪ ]22/‬والمجيء‬ ‫تعالى‪{ :‬وجا َء رب َُّك وال َملَكُ صفًّا َ‬
‫والنزول صفتان منفيتان عن هللا تعالى من طريق الحركة واالنتقال من‬
‫حال إلى حال بل هما صفتان من صفات هللا تعالى بال تشبيه" اهـ‪.‬‬
‫وقال (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وهللا تعالى ال يوصف بالحركة ألن الحركة‬
‫والسكون يتعاقبان في محل واحد‪ ،‬وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من‬
‫يجوز أن يوصف بالسكون‪ ،‬وكالهما من أعراض الحدث وأوصاف‬
‫المخلوقين‪ ،‬وهللا تبارك وتعالى متعا ٍل عنهما ليس كمثله شئ" اهـ‪.‬‬
‫َمام ونُ ِ ّز َل المالئكةُ‬
‫شقَّ ُق السما ُء بالغ ِ‬
‫{ويوم ت َ َ‬
‫َ‬ ‫وقال (‪ )2‬في قوله تعالى‪:‬‬
‫تنزيالُ} [سورة الفرقان‪ ]25/‬ما نصه‪" :‬قلت‪ :‬فصح بهذا التفسير أن الغمام‬
‫إنما هو مكان المالئكة ومركبهم وأن هللا تعالى ال مكان له وال مركب‪ .‬وأما‬
‫اإلتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن األشعري رضي هللا عنه‪ :‬يحدث‬
‫هللا تعالى يوم القيامة فعالً يسميه إتيانًا ومجيئًا ال بأن يتحرك أو ينتقل‪ ،‬فإن‬
‫الحركة والسكون واالستقرار من صفات األجسام‪ ،‬وهللا تعالى أح ٌد صم ٌد‬
‫ليس كمثله شئ‪.‬‬
‫َ‬
‫س ْق ُ‬
‫ف‬ ‫وهذا كقوله عز وجل‪{ :‬فأتى هللاُ بُ ْنيانَ ُهم منَ القوا ِع ِد فخ ََّر عليه ُم ال َّ‬
‫حيث ال يشعُرون} [سورة النحل‪ ]26/‬ولم يرد‬ ‫ُ‬ ‫العذاب من‬
‫ُ‬ ‫من فوق ِه ْم وأتاهُ ُم‬
‫وخر‬
‫َّ‬ ‫به إتيانًا من حيث النقلة وإنما أراد إحداث الفعل الذي به خرب بنيانهم‬
‫عليهم السقف من فوقهم‪ ،‬فس ّمى ذلك الفعل إتيانًا‪ .‬وهكذا قال في أخبار‬
‫النزول إن المراد به فعل يحدثه هللا عز وجل في سماء الدنيا كل ليلة يسميه‬
‫نزوالً بال حركة وال نقلة‪ ،‬تعالى هللا عن صفات المخلوقين" اهـ‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)454/‬‬
‫(‪ )2‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)448/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قال أبو سليمان الخطابي رحمه هللا‪ :‬قوله‪" :‬فإن هللا‬
‫تعالى قِبَ َل وجهه" تأويله أن القبلة التي أمره هللا تعالى بالتوجه إليها للصالة‬
‫قبل وجهه فليصنها عن النخامة" اهـ‪.‬‬
‫فإن قيل كيف يصح تأويل حديث‪" :‬ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا‬
‫فيقول هل من داعٍ فأستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل‬
‫فأعطيه" برواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري التي رواها النسائي‬
‫وصححها عبد الحق ولفظها‪" :‬إن هللا يمهل حتى يمضي شطر الليل األول‬
‫ثم يأمر مناديًا" إلى ءاخره مع أن في الرواية المشهورة‪" :‬أن هللا يقول هل‬
‫فأستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له وهل من سائل فأعطيه"‬ ‫َ‬ ‫من داعٍ‬
‫فكيف ينسجم هذا مع القول بأن المالئكة هم الذين ينزلون بأمر هللا؟‬
‫فالجواب‪ :‬أن يحمل على أن الملك ينادي مبلغًا عن هللا ال على أنه يقول عن‬
‫نفسه تلك الكلمات‪ ،‬فيكون هذا كالذي ورد في الصحيحين في حديث‬
‫المعراج وهو قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬فلما جاوزت نادى منا ٍد أمضيت‬
‫فريضتي وخففت عن عبادي" وكما أن هذا المنادي يقول هذا ُمبلّغًا عن هللا‬
‫ألنه ال يجوز أن يقال عن الملك إنه يعبر عن نفسه بهذا الكالم‪ ،‬وكذلك‬
‫األلفاظ التي وردت في حديث النزول على الرواية المشهورة ال يقوله‬
‫الملك على معنى أنه هو الذي يجيب ويغفر ويعطي‪ ،‬فيكون المعنى في‬
‫حديث النزول على الرواية المشهورة‪ :‬إن ربكم يقول هل من داعٍ فيستجاب‬
‫له هل من مستغفر فيغفر له وهل من سائل فأعطيه‪ ،‬وحديث المعراج يكون‬
‫معناه إن المنادي وهو الملك قال قال هللا تعالى‪ :‬أمضيت فريضتي وخففت‬
‫عن عبادي‪ ،‬ونقول‪ :‬كما صح ذاك صح هذا‪ .‬والشأن في تنزيل األلفاظ‬
‫على المعاني التي جرت عليها أساليب العرب في لغتهم من المجاز‬
‫سن ٍة فمنَ هللا وما‬ ‫والكناية‪ ،‬ولهذا شاهد في قوله تعالى‪{ :‬ما أصابَ َك ْ‬
‫من َح َ‬
‫صابك من سيئ ٍة فمن نف ِسك} [سورة النساء‪ ]79/‬فإن المعنى ال يستقيم إال‬ ‫َ‬ ‫أً‬
‫بالتأويل بأن يقدر "وقالوا" أي المشركون أو "يقولون" ألنهم كانوا يقولون‬
‫ما يحصل من رخاء ونعمة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫________‬
‫(‪ )1‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)465/‬‬
‫فمن هللا وما كان من جدب وقحط فمن شؤم محمد‪ .‬ألن الحق الذي يجب‬
‫اعتقاده أن الخير أي الرخاء والسيئة أي القحط والمصائب كالهما بتقدير‬
‫هللا ومشيئته وخلقه كما قال قبل هذه اآلية‪{ :‬قُ ْل ُك ٌّل ْ‬
‫من عن ِد هللا} [سورة‬
‫النساء‪ ]78/‬فكما أنه ال ب ّد من تقدير "يقولون" أو "قالوا" كذلك ال ب ّد في‬
‫حديث النزول من تأويل ينزل ربنا بنزول المالئكة بأمر هللا وندائهم بأمر‬
‫هللا بما ذكر‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف عاب على المنافقين والمشركين قولهم‪{ :‬وإن ت ُ ِ‬
‫ص ْب ُهم‬
‫ِك}‬‫ص ْب ُهم سيئةٌ يقولوا هذ ِه من عند َ‬
‫وإن ت ُ ْ‬ ‫سنةٌ يقولوا هذ ِه ْ‬
‫من عن ِد هللاِ ْ‬ ‫ح َ‬
‫[سورة النساء‪ ]78/‬ورد عليهم ذلك بقوله‪{ :‬قُ ْل ُك ٌّل من عن ِد هللا} [سورة‬
‫النساء‪ ]78/‬ثم قال بعد ذلك‪{ :‬ما أصابَ َك من حسن ٍة فمنَ هللاِ وما أصابَ َك من‬
‫سيئ ٍة فمن نف ِس َك} [سورة النساء‪ ]79/‬أخبره بعين قولهم المردود عليهم‪.‬‬
‫هؤالء‬
‫ِ‬ ‫ضا‪ ،‬وفيه إضمار تقديره‪{ :‬فما ِل‬
‫قلنا‪ :‬إن الثاني حكاية قولهم أي ً‬
‫القوم ال يَكادونَ يَفقَهونَ حديثًا} [سورة النساء‪ ]78/‬فيقولون‪{ :‬ما أصابَ َك}‬
‫ِ‬
‫[سورة النساء‪ ]79/‬اآلية‪.‬‬
‫قال الحافظ (‪ )1‬البيهقي ما نصه‪" :‬قلت‪ :‬وهو كما روي في حديث‬
‫ءاخر‪" :‬سبحان الذي في السماء عرشه‪ ،‬سبحان الذي في األرض موطئه"‬
‫وإنما أراد ءاثار قدرته‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وأخبرنا أبو عبد هللا الحافظ أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس‪،‬‬
‫قال‪ :‬سمعت عثمان بن سعيد الدارامي يقول‪ :‬سمعت علي بن المديني يقول‬
‫في حديث خولة رضي هللا عنها عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن ءاخر‬
‫بوجٍ" (‪ )2‬قال سفيان –يعني ابن عيينة‪ -‬فسره فقال‪ :‬إنما هو ءاخر‬
‫وطأة ّ‬
‫خيل هللا بوج‪ ،‬قال‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)462/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬وفي لسان العرب (‪ )197/1‬في الحديث‪َّ :‬‬


‫"إن ءاخر وطأةٍ وطئها‬
‫هللا بوجٍ" أراد بالوطأة غزوة الطائف ألنها كانت ءاخر غزواته‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫الدارمي‪ :‬والوج مدينة الطائف‪ .‬قلت الوج وا ٍد بالطائف كما قال ابن مهدي‪،‬‬
‫ضا تسمة و ًّجا كما قال‬
‫وهو من حصنها قريب‪ .‬وكانت مدينة الطائف أي ً‬
‫الدارمي" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪ )1‬ما نصه‪" :‬باب ما جاء في قوله عز وجل‪َّ :‬‬
‫{إن رب ََّك‬
‫لَ ِب ِ‬
‫المرصادِ} [سورة الفجر‪ ]14/‬أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن‬
‫محمد بن يحيى‪ ،‬أنا أبو الحسن أحمد بن محمد الطرائفي‪ ،‬ثنا عثمان بن‬
‫سعيد‪ ،‬ثنا عبد هللا بن صالح‪ ،‬عن معاوية بن صالح‪ ،‬عن علي بن أبي‬
‫ربك ل ِبالمرصاد}‬ ‫طلحة عن ابن عباس رضي هللا عنهما في قوله‪َّ :‬‬
‫{إن َ‬
‫يقول‪ :‬يسمع ويرى" اهـ‪.‬‬
‫وقال (‪ )2‬ما نصه‪" :‬باب ما جاء في إثبات الوجه صفة ال من حيث‬
‫الصورة لورود خبر الصادق به" اهـ‪.‬‬
‫فائدة‪ :‬األصل الذي يبنى عليه إثبات قدم صفات هللا تعالى هو اإلجماع‬
‫القطعي‪ ،‬قال السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب‪" :‬إعلم أن حكم الجواهر‬
‫واألعراض كلها الحدوث فإذًا العالم كله حادث‪ ،‬وعلى هذا إجماع المسلمين‬
‫بل كل الملل ومن خالف في هذا فهو كافر لمخالفة اإلجماع القطعي" اهـ‪،.‬‬
‫انظر إتحاف السادة المتقين (‪ ،)3‬فال مخلص من مخالفة هذا اإلجماع إال‬
‫بالتأويل اإلجمالي أو التفصيلي‪.‬‬

‫___________‬
‫(‪ )1‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)431/‬‬
‫(‪ )2‬كتاب األسماء والصفات (ص‪.)301/‬‬
‫(‪ )3‬إتحاف السادة المتقين (‪.)94/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قواعد نافعة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ما ذكره الحافظ الفقيه البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه ونصه‪:‬‬
‫"والثانية‪ :‬ال تثبت الصفة هلل بقول صحابي أو تابعي إال لما صح من‬
‫االحاديث النبوية المرفوعة المتفق على توثيق رواتها‪ ،‬فال يحتج بالضعيف‬
‫وال بالمختلف في توثيق رواته حتى لو ورد إسنا ٌد فيه ُمختلَف فيه وجاء‬
‫ضدُه فال يُحت َ ُّج به" اهـ‪.‬‬
‫حديث ءاخر يَ ْع ِ‬
‫خبرا‬
‫ضا (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وإذا روى الثقة المأمون ً‬ ‫الثانية‪ :‬قال فيه أي ً‬
‫متّصل اإلسناد ُر ّد بأمور‪ :‬أحدها‪ :‬أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطالنه‬
‫بمجوزات العقول وأ ّما بخالف العقول فال‪ ،‬والثاني‪ :‬أن‬
‫ّ‬ ‫ألن الشرع إنما َي ِر ُد‬
‫يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه ال أصل له أو منسوخ‪،‬‬
‫والثالث‪ :‬أن يخالف اإلجماع فيستدل على أنه منسوخ أو ال أصل له‪ ،‬ألنه‬
‫ال يجوز أن يكون صحي ًحا غير منسوخ وتجمع األمة على خالفه" انتهى‪.‬‬
‫النص‬
‫ّ‬ ‫الثالثة‪ :‬ذكر علماء الحديث أن الحديث إذا خالف صريح العقل أو‬
‫القرءاني أو الحديث المتواتر ولم َيقبل تأويالً فهو باط ٌل‪ ،‬وذكره الفقهاء‬
‫واألصوليون في كتب أًصول الفقه كتاج الدين السبكي في جمع الجوامع‬
‫وغيره‪.‬‬
‫قال أبو سليمان الخطابي (‪" :)2‬ال تثبت هلل صفة إال بالكتاب أو خبر‬
‫مقطوع له بصحته يستند إلى أصل في الكتاب أو في السنة المقطوع على‬
‫صحتها‪ ،‬وما بخالف ذلك فالواجب التوقف عن اطالق ذلك ويتأول على ما‬
‫يليق بمعاني األصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم من نفي التشبيه"‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬الفقيه والمتفقه (ص‪.)132/‬‬
‫(‪ )2‬األسماء والصفات (ص‪.)336-335/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ثم قال‪" :‬وذكر األصابع لم يوجد في شئ من الكتاب وال من السنة التي‬


‫شرطها في الثبوت ما وصفناه"‪ ،‬وليس معنى اليد في الصفات بمعنى‬
‫الجارحة حتى يتوهم بثبوتها األصابع بل هو توقيف شرعي أطلقنا االسم‬
‫فيه على ما جاء به الكتاب من غير تكييف وال تشبيه" اهـ‪.‬‬
‫أما الحديث المعروف بحديث الجارية الذي رواه مسلم (‪ )1‬أن رجالً‬
‫جاء إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فسأله عن جارية له‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬
‫رسول هللا أفال أعتقها‪ ،‬قال‪" :‬ائتني لها" فأتاه بها فقال لها‪" :‬أين هللا"‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫في السماء‪ ،‬قال‪" :‬من أنا"‪ ،‬قالت‪" :‬أنت رسول هللا"‪ ،‬قال‪" :‬أعتقها فإنها‬
‫مؤمنة"‪ .‬فليس معناه أن هللا يسكن السماء كما توهم بهض الجهلة بل معناه‬
‫أن هللا عالي القدر جدًّا‪ .‬وهذا يوافق اللغة قال النابغة الجعدي (‪:)2‬‬
‫بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا *** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا‬
‫ثم إن رواية مسلم طعن فيها العلماء باالضطراب سندًا ومتنًا ألمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬االضطراب ألنه روي بلفظ رواه ابن حبان (‪ )3‬في صحيحه عن‬
‫الشريد بن سويد الثقفي قال‪ :‬قلت يا رسول هللا‪ :‬إن أمي أوصت أن نعتق‬
‫عنها رقبة وعندي جارية سوداء‪ ،‬قال‪" :‬ادع بها" فجاءت فقال‪" :‬من ربك"‬
‫قالت‪ :‬هللا‪ ،‬قال‪" :‬من أنا"‪ ،‬قالت‪ :‬رسول هللا‪ ،‬قال‪" :‬أعتقها فإنها مؤمنة"‪،‬‬
‫ورواه البيهقي بلفظ (‪" :)4‬من ربك"‪ ،‬فأشارت إلى السماء بإصبعها‪،‬‬
‫____________________‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب المساجد ومواضع الصالة‪ :‬باب تحريم‬ ‫(‪)1‬‬
‫الكالم في الصالة ونسخ ما كان من إباحته‪.‬‬
‫ضا‬
‫انظر تاج العروس (‪ )374/3‬مادة ( ظ هـ ر)‪ ،‬وانظر أي ً‬ ‫(‪)2‬‬
‫لسان العرب (‪ )520/4‬مادة (ظ هـ ر)‪.‬‬
‫اإلحسان (‪ 206/1‬و‪.)256/6‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (‪.)388/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروي بلفظ (‪" :)1‬من ربك" قالت‪ :‬هللا ربي‪ ،‬قال‪" :‬فما دينك" قالت‪:‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬قال‪" :‬فمن أنا" قالت‪ :‬أنت رسول هللا‪ ،‬قال‪" :‬أعتقها"‪ .‬وروي بلفظ‬
‫عند مالك (‪" :)2‬أتشهدين أن ال إله إال هللا"‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪" :‬أتشهدين أني‬
‫رسول هللا"‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪" :‬أتوقنين بالبعث بعد الموت"‪ ،‬قالت‪ :‬نعم‪،‬‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أعتقها"‪.‬‬
‫فرواية مالك هي الصحيحة التي توافق األصول لكونها جاءت على‬
‫الجادة إال أنه ليس فيها‪" :‬فإنها مؤمنة"‪ ،‬فترجح على رواية مسلم ألنها في‬
‫معنى الحديث المشهور (‪" :)3‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن ال إله‬
‫إال هللا"الحديث‪ ،‬وفي معنى الحديث الذي رواه النسائي في السنن الكبرى‬
‫(‪ )4‬عن أنس رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم دخل على‬
‫غالم من اليهود وهو مريض فقال له‪" :‬أسلم"‪ .‬فنظر إلى أبيه فقال له أبوه‪:‬‬
‫أطع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فقال‪ :‬أشهد أن ال إله إال هللا وأن‬
‫محمدًا رسول هللا‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬الحمد هلل الذي‬
‫أنقذه بي من النار"‪.‬‬
‫_____________‬
‫السنن الكبرى (‪.)388/7‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه مالك في الموطأ‪ :‬كتاب العتاقة والوالء‪ :‬باب ما يجوز‬ ‫(‪)2‬‬
‫في الرقاب الواجبة‪.‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب ْ‬
‫{فإن تابوا‬ ‫(‪)3‬‬
‫وأقاموا الصالة َ وءاتوا الزكاة َ فخَلُّوا سبيلَ ُهم} [سورة‬
‫التوبة‪ ،]5/‬ومسلم في صحيحه‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب األمر‬
‫بقتال الناس حتى يقولوا ال إله إال هللا محمد رسول هللا‪.‬‬
‫السنن الكبرى (‪.)173/5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واألمر الثاني‪ :‬أن رواية‪" :‬أين هللا" مخالفة لألصول ألن من أصول‬
‫الشريعة أن الشخص ال يُح َك ُم له بقول هللا في السماء باإلسالم ألنها ليست‬
‫ٌ‬
‫مشترك بين اليهود والنصارى وغيرهم‬ ‫كلمة التوحيد‪ ،‬وألن هذا القو َل‬
‫وإنما األصل المعروف في شريعة هللا ما جاء في الحديث المشهور المتقدم‬
‫ذكره‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف تكون رواية مسلم "أين هللا‪ ،‬فقالت‪ :‬في السماء" إلى‬
‫ءاخره‪ ،‬مردودة ٌ مع رواية مسلم له وك ّل ما رواه مسل ٌم موسو ٌم بالصحة‪،‬‬
‫أن عددًا من أحاديث مسلم ردَّها علماء الحديث‪.‬‬ ‫فالجواب‪ّ :‬‬
‫ُ‬
‫ساكن السماء كما تو ّهم‬
‫ُ‬ ‫ولو ص ّح حديث الجارية لم يكن معناه ّ‬
‫أن هللا‬
‫بعض الجهلة بل لكان معناه أن هللا عالي القَ ْد ِر جدًّا وعلى هذا المعنى َّ‬
‫أقر‬
‫بعض أهل السنة بصحة رواية مسلم هذه وحملوها على خالف الظاهر‪،‬‬
‫وحملها المشبهة على ظاهرها فضلّوا‪ ،‬وال ينجيهم من الضالل قولهم إننا‬
‫نحمل كلمة في السماء بمعنى أنه فوق العرش ألنه بقولهم ذلك أثبتوا له‬
‫مثالً وهو الكتاب الذي كتب هللا فيه‪" :‬إن رحمتي سبقت غضبي" وهو فوق‬
‫العرش فيكونون أثبتوا المماثلة بين هللا وبين ذلك الكتاب ألنهم جعلوا هللا‬
‫{ليس‬
‫َ‬ ‫مستقرين فوق العرش فيكونون كذبوا قول هللا تعالى‪:‬‬‫ِّ‬ ‫وذلك الكتاب‬
‫ئ}‪.‬‬‫كمثل ِه ش ٌ‬
‫وعلى اعتقادهم هذا يلزم أن يكون هللا محاذيًا للعرش بقدر العرش أو‬
‫أوسع منه أو أصغر وأن يكون مربعًا كما أن العرش مربع إن قالوا بقول‬
‫ابن تيمية إنه مأل العرش‪ ،‬وكل ما جرى عليه التقدير حادث محتاج إلى من‬
‫قدار} [سورة‬ ‫جعله على ذلك المقدار قال تعالى‪{ :‬وك ُّل ٍ‬
‫شئ عن َدهُ بِ ِم ٍ‬
‫الرعد‪.]8/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الحافظ الفقيه اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (‪" :)1‬من جعل هللا‬
‫ُمقَد ًَّرا بمقدار كفر" أي ألنه جعله ذا كمية وحجم والحجم والكمية من‬
‫موجبات الحدوث‪ ،‬وهل عرفنا أن الشمس حادثة مخلوقة من جهة العقل إال‬
‫ألن لها حج ًما‪ ،‬ولو كان هلل حج ٌم لكان مثالً للشمس في الحجمية ولو كان‬
‫كذلك ما كان يستحق األلوهية كما أن الشمس ال تستحق األلوهية‪ .‬فلو‬
‫طالب عابد الشمس هؤالء المشبهة بدليل عقلي على استحقاق هللا األلوهية‬
‫وعدم استحقاق الشمس األلوهية لم يكن عندهم دليل‪ ،‬وغاية ما يستطيعون‬
‫خالق ك ِّل ش ٍئ} [سورة الزمر‪ ]62/‬فإن قالوا‬
‫ُ‬ ‫أن يقولوا قال هللا تعالى‪{ :‬هللاُ‬
‫ذلك لعابد الشمس يقول لهم عابد الشمس أنا ال أؤمن بكتابكم أعطوني دليالً‬
‫عقليًّا على أن الشمس ال تستحق األلوهية فهنا ينقطعون‪ .‬وكون ذلك الكتاب‬
‫فوق العرش ثابت أخرج حديثه البخاري وغيره‪ ،‬ولفظ البخاري ومسلم‬
‫(‪" :)2‬لما قضى هللا الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن‬
‫رحمتي سبقت غضبي"‪ ،‬وفي رواية عند مسلم (‪" :)3‬لما قضى هللا الخلق‬
‫كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي"‪.‬‬
‫ولفظ رواية ابن حبان (‪" :)4‬لما خلق هللا الخلق كتب في كتابه يكتبه على‬
‫نفسه وهو مرفوع فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي"‪.‬‬
‫______________‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)109/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬أول كتاب بدء الخلق‪ ،‬وكتاب‬ ‫(‪)2‬‬
‫التوحيد‪ :‬باب وكان عرشه على الماء‪ ،‬وباب قوله تعالى‪{ :‬ي ْعلَمونَ *‬
‫سلين} [سورة الصافات‪،]171-170/‬‬ ‫ت ك ِل َمتُنا لعبادنا ال ُمر َ‬
‫ولقَ ْد سبَقَ ْ‬
‫ٌ‬
‫قرءان مجيدٌ* في لوحٍ محفوظٍ } [سورة‬ ‫هو‬ ‫وباب قوله تعالى‪ْ :‬‬
‫{بل َ‬
‫البروج‪ ،]22-21/‬وأخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب التوبة‪ :‬باب‬
‫في سعة رحمة هللا تعالى وأنها سبقت غضبه‪.‬‬
‫المرجع السابق‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫انظر اإلحسان (‪.)5/8‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فإن حاول محاول أن يؤول فوق بمعنى دون قيل له هذا التأويل ال يجوز‬
‫إال بدليل وال دليل على لزوم التأويل في هذا الحديث‪ ،‬كيف وقد قال بعض‬
‫العلماء‪ :‬إن اللوح المحفوظ فوق العرش ألنه لم يرد نص صريح بأنه فوق‬
‫العرش وال بأنه تحت العرش فبقي األمر على االحتمال أي احتمال أن‬
‫اللوح المحفوظ فوق العرش واحتمال أنه تحت العرش فعلى قول إنه فوق‬
‫العرش يكون المشبّه قد جعل اللوح المحفوظ معادالً هلل أي أن يكون هللا‬
‫بمحاذاة قسم من العرش واللوح بمحاذاة قسم من العرش‪ ،‬وهذا تشبيه له‬
‫بخلقه ألن محاذاة شئ لشئ من صفات المخلوق‪.‬‬
‫ومما يدل على أن ذلك الكتاب فوق العرش فوقية حقيقية ال تحتمل‬
‫التأويل الحديث الذي رواه النسائي (‪" :)1‬إن هللا كتب كتابًا قبل خلق‬
‫السموات واألرض بألفي سنة وقال إبراهيم‪ :‬بألفي عام‪ ،‬فهو عنده على‬
‫العرش" الحديث‪ .‬وكذلك ينافي تأويل "فوق" في الحديث بمعنى تحت‬
‫رواية ابن حبان التي فيها‪" :‬مرفوع فوق العرش" ورواية النسائب التي‬
‫فيها‪" :‬على العرش" فثبت أن الموجود فوق العرش هو هذا الكتاب‪ ،‬وبطل‬
‫قولهم أن فوق العرش ال مكان‪.‬‬
‫وأما معنى "عنده" المذكور في الحديث فهو للتشريف كما في قوله‬
‫ق عن َد مليكٍ ُمقتَد ٍِر} [سورة القمر‪ ]55/‬وقد أثبت‬ ‫تعالى‪{ :‬في َم ْق َع ِد ِ‬
‫ص ْد ٍ‬
‫اللغويون أن عند تأتي لغير التحيّز والمكان‪ ،‬فكلمة عند في هذا الحديث‬
‫لتشريف ذلك المكان الذي فيه الكتاب‪ ،‬وسبحان هللا والحمد هلل رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫وقال الحافظ المحدث ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي‬
‫ما نصه (‪" :)2‬وقوله –أي النبي‪" -‬فهو عنده فوق العرش" ال بد من تأويل‬
‫ظاهر لفظة "عنده" ألن معناها حضرة الشئ وهللا تعالى منزه عن‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬السنن الكبرى (‪ ،)240/6‬وعمل اليوم والليلة (ص‪.)436/‬‬
‫(‪ )2‬طرح التثريب‪ :‬كتاب القضاء والدعاوى‪ :‬باب تسجيل الحاكم‬
‫على نفسه (‪.)84/8‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫االستقرار والتحيّز والجهة‪ ،‬فالعندية ليست من حضرة المكان بل من‬


‫ّ‬
‫معظم عنده" اهـ‪.‬‬ ‫حضرة الشرف أي وضع ذلك الكتاب في محل‬
‫طرنا عليها حجارة ً من سجي ٍل َمنضودٍ} [سورة‬‫{وأم َ‬
‫ْ‬ ‫وكذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫هود‪ ]82/‬إنما تدل عند في هذه اآلية أن ذلك بعلم هللا وليس المعنى أن تلك‬
‫الحجارة مجاورة هلل تعالى في المكان‪ ،‬فمن يحتج بمجرد كلمة عند إلثبات‬
‫المكان هلل ومجاورته شيئًا من خلقه فهو من أجهل الجاهلين‪ .‬وهل يقل عاق ٌل‬
‫إن تلك الحجارة التي أنزلها هللا على أولئك الكفرة نزلت من العرش إليهم‪.‬‬
‫والحاصل أن عند تأتي للمكان والزمان وبمعنى الحكم‪ ،‬يقال هذا عند هللا‬
‫أفضل من هذا‪ .‬قال المفسر النحوي اللغوي الزجاج في تفسيره (‪ )1‬ما‬
‫الغمام}‬
‫ِ‬ ‫وعز‪{ :‬هل َينظرونَ إال أن يأتي ُه ُم هللاُ في ُ‬
‫ظلَ ٍل منَ‬ ‫ّ‬ ‫نصه‪" :‬قوله جل‬
‫[سورة البقرة‪ .]210/‬قال أهل اللغة‪ :‬معناه يأتيه ُم اللهى بما وعدهم من‬
‫حيث لم يحت َ ِسبوا} [سورة‬ ‫ُ‬ ‫العذاب والحساب كما قال‪{ :‬فأتا ُه ُم هللاُ من‬
‫الحشر‪ ،]2/‬أي أتاهم بخذالنه إياهم" اهـ‪.‬‬
‫وقول الوهابية إن هذه اآلية تنفي عن هللا المشابهة فيما يعرفه الناس ال‬
‫تنفي المماثلة المطلقة فهذا تحكم محض‪ ،‬ألنه تقييد للنص بال دليل‪.‬‬
‫أما من أخذ حديث الجارية المتقدم على ظاهره ومنع التأويل فيقال له‪:‬‬
‫ماذا تفعل بحديث أبي موسى األشعري (‪ )2‬الذي هو أصح إسنادًا من‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرءان‪ ،‬مخطوط في مكتبة كوبريلي‪/‬استانبول‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الذكر والدعاء والقربة‬
‫واالستغفار‪ :‬باب استحباب خفض الصوت بالذكر‪ ،‬والبخاري‬
‫بنحوه في كتاب المغازي‪ :‬باب غزوة خيبر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫حديث الجارية وهو‪" :‬أيها الناس اربعوا على أنفسكم (‪ )1‬إنكم ليس تدعون‬
‫أص ّم وال غائبًا‪ ،‬إنكم تدعون سميعًا قريبًا‪ ،‬والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم‬
‫من عنق راحلة أحدكم (‪ ،")2‬فإن أخذ بظاهر هذا الحديث انتقض عليه‬
‫أؤول حديث الجارية‪ ،‬كان‬
‫أؤول هذا الحديث وال ّ‬ ‫مذهبه للتناقض‪ ،‬وإن قال‪ّ :‬‬
‫هذا تحك ًما‪.‬‬
‫وإثبات المكان هلل يقتضي إثبات الجهة التي نفاها علماء اإلسالم عن هللا‬
‫تعالى سلفهم وخلفهم كما قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه المسمى "العقيدة‬
‫الطحاوية" والذي ذكر فيه أنه بيان عقيدة أهل السنة والجماعة‪" :‬ال تحويه‬
‫ّ‬
‫الست كسائر المبتدعات"‪.‬‬ ‫الجهاتُ‬
‫فتبين أن نفي تحيّز هللا في جهة هو عقيدة السلف‪ ،‬ألن الطحاوي من‬
‫السلف وقد بيّن أن هذا معتقد أبي حنيفة وصاحبيه الذين ماتوا في القرن‬
‫الثاني خاصة ومعتقد أهل السنة عامة‪.‬‬
‫وأما حديث النزول الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما‪ ،‬ولفظ‬
‫البخاري‪ :‬حدثنا عبد هللا بن مسلمة‪ ،‬عن مالك‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن أبي‬
‫سلمة وأبي عبد هللا األغر‪ ،‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء‬
‫الدنيا حين يبقى ثلث الليل اآلخر يقول‪ :‬من يدعوني فأستجيب له ومن‬
‫يسألني فأعطيه‬
‫_____________‬
‫كثيرا فإن هللا‬
‫ً‬ ‫(‪ )1‬هونوا على أنفسكم وال تُجهدوها برفع الصوت‬
‫يسمعكم وال يخفى عليه شئ‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي أعلم بالعبد من نفسه وهو مطلع على أحوال عباده ال يخفى‬
‫عليه شئ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ومن يستغفرني فأغفر له" (‪ ،)1‬فال يجوز أن يحمل على ظاهره إلثبات‬
‫النزول من علو إلى سفل في حق هللا تعالى‪ .‬قال النووي في شرحه على‬
‫صحيح مسلم (‪" :)2‬هذا الحديث من أحاديث الصفات‪ ،‬وفيه مذهبان‬
‫مشهوران للعلماء‪ :‬أحدهما‪ :‬وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين‬
‫أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق باهلل تعالى وأن ظاهرها المتعارف في‬
‫حقنا غير مراد‪ ،‬وال يتكلم في تأويله مع اعتقاد تنزيه هللا تعالى عن صفات‬
‫المخلوق وعن االنتقال والحركات وسائر سمات الخلق‪ ،‬والثاني‪ :‬مذهب‬
‫أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك واألوزاعي‬
‫أنها تتأول على ما يليق بها بحسب مواطنها‪ ،‬فعلى هذا تأولوا هذا الحديث‬
‫تأويلين أحدهما‪ :‬تأويل مالك بن أنس وغيره‪ ،‬معناه تنزل رحمته وأمره‬
‫ومالئكته‪ ،‬كما يقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره‪ ،‬والثاني‪ :‬أنه‬
‫على االستعارة ومعناه اإلقبال على الداعين باإلجابة واللطف" اهـ‪.‬‬
‫ويبطل ما ذهبت إليه المشبهة من اعتقاد نزول هللا بذاته إلى السماء الدنيا‬
‫أن بعض رواة البخاري ضبطوا كلمة (ينزل) بضم الياء وكسر الزاي‪،‬‬
‫صرح به في حديث أبي هريرة‬ ‫فيكون المعنى نزول ال َملَك بأمر هللا الذي ّ‬
‫وأبي سعيد من أن هللا أمر ملَ ًكا بأن ينزل فينادي‪ ،‬فتبين أن المشبهة ليس‬
‫لها حجة في هذا الحديث‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري في صحيحه كتاب الصالة‪ :‬باب الدعاء والصالة‬
‫من ءاخر الليل‪ ،‬ورواه مسلم في صحيحه كتاب صالة المسافرين‬
‫وقصرها‪ :‬باب الترغيب في الدعاء والذكر في ءاخر الليل‬
‫واإلجابة فيه‪.‬‬
‫(‪ )2‬شرح صحيح مسلم النووي (‪.)36/6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال القرطبي في تفسير سورة ءال عمران عند قوله تعالى‪:‬‬


‫{وال ُم ْست َ ْغ ِفرونَ باألسحار} [سورة ءال عمران‪ ]17/‬بعد ذكره حديث‬
‫النزول وما قيل فيه ما نصه (‪" :)1‬وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب‬
‫مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي هللا عنهما قاال‪ :‬قال‬ ‫ً‬ ‫النسائي‬
‫عز وج َّل يُمهل حتى يمضى شطر‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن هللا َّ‬
‫مستغفر‬
‫ٍ‬ ‫يستجاب له‪ ،‬هل من‬
‫ُ‬ ‫الليل األول ثم يأمر مناديًا فيقول‪ :‬هل من داعٍ‬
‫يُغفر له‪ ،‬هل من سائل يُعطى" صححه أبو محمد عبد الحق‪ ،‬وهو يرفع‬
‫اإلشكال ويوضح كل احتمال وأن األول من باب حذف المضاف‪ ،‬أي ينزل‬
‫ملك ربنا فيقول‪ .‬وقد روي ينزل بضم الياء وهو يبين ما ذكرناه" اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه (‪" :)2‬استدل به من‬
‫أثبت الجهة وقال هي جهة العلو‪ ،‬وأنكر ذلك الجمهور ألن القول بذلك‬
‫يفضي إلى التحيّز تعالى هللا عن ذلك‪ ،‬وقد اختلف في معنى النزول على‬
‫أقوال" اهـ‪ ،‬ثم قال‪" :‬وقد حكى أبو بكر بن فورك أن بعض المشايخ ضبطه‬
‫بضم أوله على حذف المفعول أي ينزل مل ًكا"‪ ،‬ويقويه ما رواه النسائي من‬
‫األغر عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي هللا عنهما بلفظ‪" :‬إن هللا‬
‫ّ‬ ‫طريق‬
‫يمهل حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر مناديًا يقول‪ :‬هل من داع فيستجاب‬
‫له" الحديث‪ ،‬وفي حديث عثمان بن أبي العاص‪" :‬يُنادي مناد هل من داع‬
‫يستجاب له" الحديث‪ ،‬قال القرطبي‪ :‬وبهذا يرتفع اإلشكال" اهـ‪.‬‬
‫قال بدر الدين بن جماعة في كتابه إيضاح الدليل في قطع حجج أهل‬
‫التعطيل ما نصه (‪" :)3‬اعلم أن النزول الذي هو االنتقال من علو إلى سفل‬
‫ال يجوز حمل الحديث عليه‪ ،‬لوجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬النزول من صفات األجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثالثة أجسام‪:‬‬
‫منتقل‪ ،‬ومنتقل عنه‪ ،‬ومنتقل إليه‪ ،‬وذلك على هللا تعالى محال‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)39/4‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)30/3‬‬
‫(‪ )3‬إيضاح الدليل (ص‪.)164/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الثاني‪ :‬لو كان النزول لذاته حقيقة لتجددت له كل يوم وليلة حركات‬
‫عديدة تستوعب الليل كله‪ ،‬وتنقالت كثيرة‪ ،‬ألن ثلث الليل يتجدد على أهل‬
‫ونهارا‬
‫ً‬ ‫األرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا‪ ،‬فيلزم انتقاله في السماء الدنيا ليالً‬
‫من قوم إلى قوم‪ ،‬وعوده إلى العرش في كل لحظة على قولهم‪ ،‬ونزوله‬
‫فيها إلى سماء الدنيا‪ ،‬وال يقول ذلك ذو لب وتحصيل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن القائل بأنه فوق العرس‪ ،‬وأنه مأله كيف تسعه سماء الدنيا‪،‬‬
‫وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فالة‪ ،‬فيلزم عليه أحد أمرين‪ ،‬إما‬
‫اتساع سماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه‪ ،‬أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك‬
‫حتى تسعه‪ ،‬ونحن نقطع بانتفاء األمرين" اهـ‪.‬‬
‫فاآليات واألحاديث الموهم ظاهرها تشبيه هللا بخلقه ال ب ّد من تأويلها‬
‫على معنى الئق باهلل عز وجل أو االمتناع عن التأويل واعتقاد تنزيه هللا‬
‫عن صفات الحدوث والمخلوقين‪.‬‬
‫فائدة مهمة‪:‬‬
‫إن الشرع إنما ثبت بالعقل‪ ،‬فال يتصور وروده بما يكذب العقل فإنه‬
‫شاهده‪ ،‬فلو أتى بذلك لبطل الشرع والعقل معًا‪ ،‬إذا تقرر هذا فنقول‪ :‬كل‬
‫لفظ يرد من الشرع في الذات واألسماء والصفات مما يوهم خالف العقل‬
‫متواترا أو ءاحادًا‪ ،‬فإن كان ءاحادًا وهو نص ال‬
‫ً‬ ‫فال يخلو إما أن يكون‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫يحتمل التأويل قطعنا بتكذيب ناقله أو سهوه أو غلطه‪ ،‬وإن كان‬
‫صا ال‬‫متواترا فال يتصور أن يكون ن ًّ‬
‫ً‬ ‫فالظاهر منه غير مراد‪ ،‬وإن كان‬
‫ظاهرا أو محتمالً‪ ،‬فحينئذ نقول االحتمال‬
‫ً‬ ‫يحتمل التأويل‪ ،‬فال بُ َّد أن يكون‬
‫واحد تعين أنه المراد بحكم الحال‪ ،‬وإن بقي احتماالن فصاعدًا فال يخلو إما‬
‫أن يدل قاطع على تعيين واحد منها أو ال‪ ،‬فإن د َّل عليه‪ ،‬وإن لم يدل قاطع‬
‫بالظن واالجتهاد؟ اختلف فيه‪ ،‬فمذهب السلف عدم‬ ‫ّ‬ ‫على التعيين فهل يعين‬
‫التعيين خشية اإللحاد‪.‬‬
‫إبطال شبهة‪ :‬فإن قالوا جميع ما ذكرتموه تأويل والتأويل ممنوع منه قلنا‪:‬‬
‫{وهو َم َع ُكم أينَ ما ُك ْنتُم} [سورة الحديد‪ ]4/‬وقوله‬
‫َ‬ ‫قد أولتم قوله تعالى‪:‬‬
‫يكون ِمن نَّجوى ثالث ٍة إال َ‬
‫هو رابِعُ ُهم} [سورة المجادلة‪]7/‬‬ ‫ُ‬ ‫تعالى‪{ :‬ما‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اآلية‪ ،‬وقوله عليه السالم (‪" :)1‬إن قلوب بني ءادم كلها بين إصبعين من‬
‫أصابع الرحمن" (‪ ،)2‬وقوله عليه السالم (‪" :)3‬الحجر األسود يمين هللا‬
‫في األرض" فحملتم المعية في اآليتين على معية العلم واإلحاطة والمشاهدة‬
‫كما قال تعالى لموسى وأخيه هارون {إنني َمعَ ُكما أسم ُع وأرى} [سورة‬
‫طه‪ ،]46/‬وحملتم الحديث األول على معنى يقلبه كيف يشاء"‪ ،‬وحملتم قوله‬
‫عليه السالم‪" :‬الحجر األسود يمين هللا في األرض" (‪ )4‬أي محل عهده‬
‫الذي أخذ به الميثاق على بني ءادم‪ ،‬فإن صح منكم تأويل ذلك لمخالفته‬
‫العقل فيجب تأويل جميع ما تمسكتم به مما ذكرنا ونحوه‪ ،‬كذلك قالوا‪ :‬إنما‬
‫ّأولنا ذلك ألنه خالف ضرورة العقل وما صرتم إليه يحتاج إلى نظر العقل‬
‫وهو حرام وبدعة‪ ،‬قلنا‪ :‬ال بد من االعتراف بصدق نظر العقل وإال لم‬
‫يثبت لكم شرعٌ تُسندون إليه شيئًا من المعارف واألحكام‪ ،‬فإن قالوا‪ :‬قال هللا‬
‫تعالى‪{ :‬وما يعل ُم تأويلَهُ إال هللا} قلنا‪ :‬فقد قال تعالى‪{ :‬والرا ِسخونَ في ال ِعلم}‬
‫فإن قالوا‪ :‬يجب الوقوف على قوله‪{ :‬إال هللاُ} وتكون الواو لالستئناف‬
‫وليست عاطفة‪ ،‬وحظ الراسخين في العلم اإليمان به‪ ،‬قلنا‪ :‬اإليمان به‬
‫واجب على عموم المؤمنين فال يبقى لوصفهم بالرسوخ في العلم وأنهم‬ ‫ٌ‬
‫أولو األلباب فائدة بل الراسخ في العلم ذو اللب يعلم من المتشابه الوجه‬
‫الذي شابه به الباطل فينفيه والوجه الذي شابه به الحق فيثبته كقوله تعالى‪:‬‬
‫{ونَفَ ْختُ في ِه من روحي} [سورة الحجر‪ ]29/‬مترد ٌد بين البعضية وهو‬
‫باطل وبين إضافة التشريف والتعظيم وهو حق فيعيّنه له‪.‬‬
‫_____________________‬
‫أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب القدر‪ :‬باب تصريف هللا تعالى‬ ‫(‪)1‬‬
‫القلوب كيف شاء‪ ،‬وأحمد في مسنده (‪ ،)168/2‬والحاكم في‬
‫المستدرك (‪.)288/2‬‬
‫أي أن هللا يتصرف بقلوب عباده كما يشاء من غير أن يلحقه‬ ‫(‪)2‬‬
‫تعب ومشقة‪.‬‬
‫أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (‪.)328/6‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ضعيف ما له صحة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فوائد مهمة في دفع شبه المشبهة‪:‬‬


‫*األولى‪ :‬لو فرضت مناظرة بين المجسم كالوهابي الذي يثبت الحد والكمية‬
‫والحجم هلل وبين عابد الشمس‪ ،‬فقال الوهابي لعابد الشمس‪ :‬أنت دينك باطل‬
‫ألنك تعبد غير هللا وأنا ديني هو الصحيح‪ ،‬فقال له عابد الشمس‪ :‬أنا‬
‫معبودي شئ محسوس تعترف بوجوده ويعترف كل الناس بوجوده‬
‫وتعترف بعظم نفعه لألبدان وللنبات وللشجر ولألرض وللهواء وللماء‪ ،‬أما‬
‫معبودك الذي أنت تقول هو هللا شئ ليس بمرئي لي وال لك‪ ،‬إنما أنت‬
‫تتوهم أن شيئًا موجودًا فوق العرش إلهك الذي تزعمه فكيف يكون ديني‬
‫باطالً ودينك حقًّا‪ ،‬فإن قال الوهابي‪ :‬ألن هللا قال في القرءان {أفي هللاِ ٌّ‬
‫شك}‬
‫[سورة إبراهيم‪ ]10/‬قال عابد الشمس‪ :‬أنا ال أؤمن بكتابك أعطني دليالً‬
‫حسيًّا يشهد به الحس أو دليالً عقليًّا‪ ،‬انقطع الوهابي المجسم عن اإلجابة‬
‫أمام هذا المشرك عابد الشمس‪.‬‬
‫*الثانية‪ :‬ولو فرضت هذه المناظرة بينه وبين مسلم ّ‬
‫منزه هلل عن الكمية‬
‫والح ّد ألجابه بقوله‪ :‬إن معبودي موجود ال كالموجودات ليس له كمية وال‬
‫ح َّد فهو الذي ال يحتاج إلى خالق يوجده وال إلى مخصص خصصه بل هو‬
‫منزه عن ذلك‪ ،‬وأما معبودك الذي هو الشمس فله كمية وح ّد فيحتاج إلى‬
‫من جعله على هذا الح ّد والك ّمية والشكل فال يصلح أن يكون إل ًها‪ ،‬بل الذي‬
‫جعله على هذا الح ّد والكمية هو الذي يصلح أن يكون إل ًها معبودًا‪ ،‬والحق‬
‫يقضي بأن الشئ الذي له حد ال بد له من حا ٍ ّد َح َّدهُ بذلك الحد‪ ،‬فيكون السنّي‬
‫المنزه عن الح ّد والجسمية غلب عابد الشمس وأفحمه‪ ،‬وبهذا الدليل العقلي‬
‫ينكسر عابد الشمس وينقطع‪ ،‬فالحمد هلل الذي وفق أهل السنة لمعرفة الدليل‬
‫{ليس كمثله شئ}‬‫َ‬ ‫العقلي والنقلي المتعاضدين‪ ،‬والنقلي هو قوله تعالى‪:‬‬
‫[سورة الشورى‪ ]11/‬فإنه ينفي عن هللا الجسمية والتحيز وكل صفات‬
‫الجسمية وهلل الحمد على هذه النعمة‪.‬‬
‫*الثالثة‪ :‬قد سبق في هذا الكتاب أن حديث‪" :‬ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء‬
‫الدنيا" الحديث‪ ،‬المراد به نزول المالئكة بأمره تعالى ليبلغوا عنه أنه وعد‬
‫]‪[Type text‬‬

‫من يدعوه باالستجابة ومن يستغفره بالمغفرة ومن يسأله باإلعطاء‪ .‬قال ابن‬
‫تيمية في شرح هذا الحديث في كتابه شرح حديث النزول وغيره (‪ )1‬بأن‬
‫هللا ينزل إلى السماء الدنيا وال يخلو منه العرش‪ ،‬فهذا من أسخف القول‪،‬‬
‫كيف يجعل النزول نزوالً من العرش إلى السماء الدنيا من غير أن يخلو‬
‫منه العرش‪ ،‬وهذا مصداق قول الحافظ أبي زرعة العراقي (‪ )1‬فيه إن‬
‫علمه أكبر من عقله‪.‬‬
‫*الرابعة‪ :‬قولهم‪ :‬قال مالك رضي هللا عنه‪" :‬االستواء معلوم والكيفية‬
‫مجهولة" أو "والكيف مجهول"‪ ،‬يريدون بذلك أن استواء هللا جلوس على‬
‫العرش لكن ال نعرف كيفية ذلك الجلوس‪ .‬والجواب على ذلك‪ :‬روي عن‬
‫اإلمام مالك صيغتان األولى وهي الثابتة عنه باإلسناد "استوى كما وصف‬
‫والكيف‬
‫ُ‬ ‫سهُ وال يقال كيف وكيف عنه مرفوع"‪ ،‬والثانية "االستواء معلوم‬ ‫نف َ‬
‫غير معقول"‪ ،‬ومعنى "والكيف غير معقول" أي أن هللا ال يقب ُل أن يكون له‬
‫كيف أي هيئة من الهيئات‪ ،‬وليس معناه أن استوا َءهُ هو الجلوس لكن ال‬
‫تُعرف كيفية جلوسه وهذا الذي تريده الوهابية وغيرهم من المجسمة‪.‬‬
‫ي عن مالك‬ ‫*الخامسة‪ :‬إيرادُهم كلمة "بال كيف" على غير المعنى الذي ُر ِو َ‬
‫والليث بن سعد واألوزاعي وسفيان الثوري رضي هللا عنهم بأنهم كانوا‬
‫يقولون في بعض النصوص التي ظواهرها إثبات الجسمية أو صفات‬
‫ارووا اللفظ‬‫"أمروها كما جاءت بال كيف"‪ ،‬أي ْ‬ ‫ُّ‬ ‫الجسمية كحديث النزول‪:‬‬
‫وال تعتقدوا تلك الظواهر التي هي من صفات الجسم‪ ،‬فاألئمة مرادهم نفي‬
‫ليس معانيها الجسمية‬ ‫الجسمية وصفاتِها عن هللا أي أن هذه النصوص َ‬
‫{ليس كمثله شئ}‪ ،‬وأرا َد األئمةُ ر َّد تلك‬
‫َ‬ ‫وصفاتها عن نفسه بقوله‪:‬‬
‫النصوص إلى هذه اآلية المحكمة‪ ،‬أما الوهابية فيريدون بذلك إثبات الكيف‬
‫هلل لكن يموهون على الناس بقولهم إن هذه النصوص محمولة على‬
‫ت الجسمية لكن ال نعرف كيفية تلك الكيفية‪.‬‬ ‫الجسمية وصفا ِ‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬شرح حديث النزول (ص‪ ،)66/‬والمنهاج (‪.)262/1‬‬
‫(‪ )2‬األجوبة المرضية (ص‪.)93-92/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جلوس لكن ال كجلوسنا‬


‫ٌ‬ ‫*السادسة‪ :‬قولهم إن استواء هللا على العرش‬
‫ويَستشهدون لذلك بقول بعض األئمة "هلل وجه ال كوجوهنا وي ٌد ال كأيدينا‬
‫وعين ال كأعيننا"‪ .‬والجواب عنها‪ :‬أن الجلوس في لغة العرب ال يكون إال‬
‫من صفات األجسام‪ ،‬فالعرب ال تطلق الجلوس إلى على اتصال جسم بجسم‬
‫نصف أعلى ونصف أسفل‪ ،‬وليس‬ ‫ٌ‬ ‫على أن يكون أحد الجسمين له نصفان‬
‫للجلوس في لغة العرب معنّى إال هذا‪ ،‬وهم –أي الوهابية‪ -‬في هذا أثبتوا‬
‫وبعض صفا ِتها وال يجوز ذلك على هللا ألنه لو كان كذلك لكان‬ ‫َ‬ ‫الجسمية هلل‬
‫له أمثال ال تحصى‪ ،‬فالجلوس يشترك فيه اإلنسان والجن والمالئكة والبقر‬
‫والكلب والقرد والحشرات وإن اختلفت صفات الجلوس‪ ,‬ويقال لهم‪ :‬أما‬
‫الوجه واليد والعين فليست كذلك فإن الوجه في لغة العرب يُطلق على‬
‫الجسم وعلى غير الجسم‪ ،‬والوجه بمعنى الجسم هو هذا الجزء الذي هو‬
‫ت األرواح‪ .‬وأما معنى الوجه الذي هو‬ ‫مركب في ابن ءادم وفي سائر ذوا ِ‬
‫غير هذا الجزء في لغة العرب فمنه ال ُملك كما فسر سفيان الثوري في‬
‫تفسيره (‪ )1‬والبخاري في جامعه قوله تعالى‪{ :‬ك ُّل ش ٌ‬
‫ئ ها ِل ٌك إال ْ‬
‫وج َههُ}‬
‫[سورة القصص‪ ]88/‬قاال‪ :‬إال ملكه (‪ ،)2‬ويطلق الوجه إذا أضيف إلى هللا‬
‫يقرب إلى هللا من األعمال كالصالة والصيام وسائر األعمال‬ ‫بمعنى ما ّ‬
‫الجرم الكثيف‬ ‫الصالحة‪ .‬ويطلق على الذاتِ‪ ،‬والذاتُ بالنسبة إلى المخلوقين ِ‬
‫أو اللطيف كحجم اإلنسان وحجم النور والريح هذا معنى الذات في‬
‫المخلوق‪ ،‬أما الذات إذا أضيف إلى هللا فمعناه حقيقته ال بمعنى الحجم‬
‫الكثيف أو اللطيف‪.‬‬
‫وقد روى ابن حبان في صحيحه (‪ )3‬من حديث ابن مسعود أن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان‬
‫(‪ ،)4‬وأقرب ما تكون المرأة من وجه هللا إذا كانت في قعر بيتها"‪ ،‬فالوجه‬
‫هنا ليس له‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرءان الكريم (ص‪.)194/‬‬
‫(‪ )2‬أي إال سلطانه‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح ابن حبان‪ ،‬انظر اإلحسان بترتيب ابن حبان (‪.)446/7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )4‬أي يهتم بها ليفتن بها‪.‬‬


‫معنى إال الطاعة فال يفسر هنا بالذات أي ذات هللا الذي هو حقيقة ال يشبه‬
‫الحقائق‪ ،‬والحديث صححه ابن حبان والحافظ أبو الحسن بن القطان في‬
‫كتاب النظر (‪ .)1‬وال يتجرأ الوهابية أن يفسروا الوجه هنا بالذات‪ .‬وأما‬
‫غير‬
‫معان منها ما هو أجرا ٌم وأجسام ومنها ما هو ُ‬‫ٍ‬ ‫اليد فلها في لغة العرب‬
‫األجرام‪ ،‬فاليد تأتي بمعنى الجارحة التي هي مركبة في اإلنسان وفي‬
‫الجرم كالقوة‪ ،‬وتأتي بمعنى العهد‪ .‬وأما العين‬‫البهائم‪ ،‬وتأتي بمعنى في ِ‬
‫فتطلق في لغة العرب على الجرم كعين اإلنسان والحيوانات‪ ،‬وتطلق على‬
‫الذهَب‪ ،‬وتطلق على الجاسوس‪ ،‬وتطلق على الماء النّابع‪ ،‬وتطلق بمعنى‬
‫ُ‬
‫الفرق بين الجلوس وبين الوجه واليد والعين‪.‬‬ ‫الحفظ‪ .‬وبهذا بانَ‬
‫فلما كانت هذه األلفاظ الثالثة واردة في القرءان مضافة إلى هللا كان لها‬
‫معان غير الجسم وصفات الجسم‪ ،‬فأراد أبو حنيفة وغيره من الذين أطلقوا‬ ‫ٍ‬
‫هذه العبارة "هلل وجهٌ ال كوجوهنا وي ٌد ال كأيدينا وعين ال كأعيننا" معاني‬
‫هذه األلفاظ الثالثة التي هي غير الجسم وال هي صفة جسم مما يليق باهلل‬
‫والحفظ كما قال ال ُمفسرون في تفسير قو ِل هللا تعالى‪:‬‬
‫كالقوة والملك والذات ِ‬
‫صنَ َع على عيني} [سورة طه‪ ]39/‬قالوا‪ :‬على حفظي‪.‬‬ ‫{و ِلت ُ ْ‬
‫ولهم –أي الوهابية‪ -‬تمويهٌ ءاخر وهو قولهم‪" :‬نثبت هلل ما أثبت لنفسه‬
‫وننفي عنه ما نفى عن نفسه"‪ ،‬يقال لهم‪ :‬أنتم على عكس الحقيقة تثبتون هلل‬
‫الجسمية وصفاتها والحركة والسكون والتحيز في جهة واحدة أو مكان‬
‫كمثل ِه شئ} [سورة‬
‫{ليس ِ‬
‫َ‬ ‫واحد وهذا شئ نفاهُ هللا عن نفسه بقوله‪:‬‬
‫العرش استوى}‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫{الرحمن على‬ ‫الشورى‪ ]11/‬تدّعون أن قوله تعالى‪:‬‬
‫[سورة طه‪ ]5/‬أنه جلوس على العرش والجلوس صفةٌ لإلنسان والجن‬
‫تنقيص‬
‫ٌ‬ ‫والمالئكة والبقر وسائر البهائم والكالب والقرود والحشرات وهذا‬
‫هلل تعالى‪ ،‬أما الذي تنفونه وهو تفسير االستواء بالقهر فهو شئ أثبته هللا‬
‫ار} [سورة الرعد‪ .]16/‬لذلك جرت عادة‬ ‫الواح ُد القَ َّه ُ‬
‫ِ‬ ‫{وهو‬
‫َ‬ ‫لنفسه بقوله‪:‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬النظر في أحكام النظر (ص‪.)138/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المسلمين أن يس ّموا أوالدهم عبد القاهر ولم يس ّم أح ٌد من المسلمين عبد‬


‫الجالس‪ .‬ويقال لهم‪ :‬أثبت هللا لنفسه االستواء الذي يليق به وهو القهر‬
‫وبمعناه االستيالء وقد قال شارح القاموس وأبو القاسم األصبهاني اللغوي‬
‫ّي بِعَلى كانَ معناه‬
‫ع ِد َ‬
‫المشهور في مفردات القرءان إن االستواء إذا ُ‬
‫االستيالء (‪ ،)1‬وال معنى لقول ابن األعرابي ان االستيالء ال يكون إال عن‬
‫سبق مغالبة‪ ،‬فإنكم تركتم االستواء الالئق هلل تعالى وعمدتم إلى االستواء‬
‫الذي هو ال يليق به وهو الجلوس‪.‬‬
‫وأش ّد شبهة لهم قولهم إنه يلزم من نفي التحيّز في المكان عن هللا تعالى‬
‫كالتحيز في جهة فوق نفي لوجوده تعالى‪ ،‬يقال لهم‪ :‬ليس من شرط الوجود‬
‫التحيز في المكان ألن هللا تبارك وتعالى كان قبل المكان والزمان والجهات‬
‫واألجرام الكثيفة واللطيفة‪ ،‬وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬كان‬
‫هللا ولم يكن شئ غيره" فأفهمنا أن هللا تعالى كان قبل المكان والزمان‬
‫والنور والظالم والجهات‪ ،‬فإذا صح وجوده قبل هؤالء وقبل كل مخلوق‬
‫ص ّح وجو ُدهُ ال تحيّز في جهة ومكان بعد وجود الخلق‪ .‬وهذا الحديث الذي‬
‫{هو األولُ} [سورة الحديد‪]3/‬‬‫تفسير لقول هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ٌ‬ ‫رواه البخاري وغيره‬
‫باألولية المطلقة فال أول على اإلطالق إال هللا‪ ،‬أما‬
‫ّ‬ ‫فقد وصف ربنا نفسه‬
‫أوليّة بعض المخلوقات بالنسبة لبعض فهي أوليّة نسبيّة‪ .‬وأنتم أيها المجسمة‬
‫متحيزا في جهة‬‫ً‬ ‫لما حصرتم الموجود فيما يتصوره الوهم وهو ما يكون‬
‫ومكان‪ ،‬فهذا قياس منكم للخالق بالمخلوق‪ ،‬ألن المخلوق لما كان ال يخرج‬
‫عن كونه ِجر ًما كثيفًا أو لطيفًا أو صفة تابعة للجرم كالحركة والسكون‬
‫قطعتم بعدم صحة وجود ما ليس كذلك‪ ،‬فبهذا التقرير بطلت شب َهتهم‬
‫وتمويههم‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬بصائر ذوي التمييز (‪ ،)107/2‬مفردات القرءان (ص‪.)251/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واعلموا أن أصل مصيبتكم هو أنكم جعلتم هللا ِجر ًما فقلتم‪ :‬ال يصح وجود‬
‫هللا بال تحيّز في جهة ولم تقبل نفوسكم وجود ما ليس بمتحيّز وهو هللا‬
‫{ليس كمثله شئ} [سورة‬ ‫َ‬ ‫المثل بقوله‬
‫تعالى الذي نفى عن نفسسه ِ‬
‫الشورى‪ ]11/‬وخرجتم عما توارد عليه السلف والخلف وهو قولهم‪" :‬مهما‬
‫تصورت ببالك فاهلل بخالف ذلك" قال هذه العبارة اإلمام أحمد بن حنبل‬
‫واإلمام الزاهد الناسك ذو النون المصري وهما كانا متعاصرين‪ ،‬وبمعناه‬
‫عبارة الشافعي المشهورة‪" :‬من انتهض لمعرفة مدبره فانتهى إلى َموجود‬
‫فكرهُ فهو مشبّه"‪ ،‬وأنتم يا معشر المشبهة معتقدكم أن هللا ِجر ٌم‬
‫ينتهي إليه ُ‬
‫حتى قال بعضهم إنه جرم بقدر العرش من الجوانب األربعة‪ ،‬وقال بعضكم‬
‫إنه بصورة إنسان طوله سبعة أشبار بشبر نفسه‪ ،‬وزعيمكم ابن تيمية مرة‬
‫قال إنه بقدر العرش ال َيفضل منه شئ بل يزيد‪ ،‬ومرة قال أنه جالس على‬
‫الكرسي وقد أخلى موضعًا لمحمد ليُقعده فيه‪ ،‬واألول من هذين القولين في‬
‫كتابه المنهاج (‪ )1‬والثاني في الفتاوى (‪ )2‬وكتابه المسمى كتاب العرش‬
‫الذي اطلع عليه اإلمام المفسر النحوي اللغوي أبو حيان األندلسي (‪،)3‬‬
‫وقال الحافظ أبو سعيد العالئي شيخ مشايخ الحافظ ابن حجر العسقالني إن‬
‫ابن تيمية قال إنه بقدر العرش ال أصغر وال أكبر (‪ .)4‬وقول الوهابية إن‬
‫الفطرة في كل إنسان تقتضي بأن هللا متحيز بجهة الفوق أي العرش‬
‫منقوض بشواهد الوجود ألن من الناس من يعتقدون أن هذه السماء الدنيا‬
‫التي لونها الخضرة الخفيفة هي هللا‪ ،‬ومن الناس من يعتقد أن هللا كتلة‬
‫نورانية حتى إنه ظهر من بعض الناس المنتسبين لإلسالم أن هللا في مكة‬
‫والمدينة‪ ،‬وبعض المشبهة قالوا بأنه في إحدى السموات السبع‪ ،‬ومنهم من‬
‫بلغت به الوقاحة وهو أحد مشبهة الحنابلة ألف كتابًا‬
‫_________________‬
‫المنهاج (‪.)260-261/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الفتاوى (‪.)374/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫النهر الماد‪ :‬تفسير ءاية الكرسي‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ذخائر القصر (ص‪.)33-32/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫رتّبه هكذا‪ :‬باب اليدين باب العين ثم باب كذا ثم باب كذا إلى أن قال باب‬
‫ي هؤالء على‬ ‫الفرج لم يرد فيه شئ‪ ،‬فيقال للوهابية‪ :‬يا معشر المشبهة أ ّ‬
‫الفطرة التي تزعمون أن اإلنسان إذا ُخلّي وطبعه يجزم أن هللا متحيّز في‬
‫السماء‪ ،‬وما هي الفطرة التي خلق هللا عليها البشر التي هي الصواب‬
‫والحق؟ إنما الفطرة هي ما وافق العقل والدليل العقلي ووافق التنزيه عن‬
‫الجسمية وصفا ِتها وعوارضها‪ ،‬وهذا ما فهمه جمهور علماء الطوائف‬ ‫ِ‬
‫المنتسبة إلى اإلسالم‪.‬‬
‫العلو الوارد وصف هللا تعالى به فنذكر ما قاله اإلمام أبو منصور‬ ‫ّ‬ ‫وأما‬
‫البغدادي في تفسير األسماء والصفات (‪ )1‬ما نصه‪" :‬والوجه الثالث أن‬
‫يكون العلو بمعنى الغلبة‪ ،‬قال هللا عز وجل‪{ :‬وأنتُم األ ْعلَون} [سورة ءال‬
‫عمران‪ ]139/‬أي الغالبون ألعدائكم‪ ،‬يقال منه‪ :‬علوت قرني أي غلبته‪،‬‬
‫{إن فرعونَ عال في األرض} [سورة القصص‪]4/‬‬ ‫ومنه قوله عز وجل‪َّ :‬‬
‫أي غلب وتكبّر وطغى‪ ،‬ومنه قوله عز وجل‪{ :‬وأَن ال ت َ ْعلوا على ْ‬
‫هللا‬
‫ي وأْتوني‬ ‫[سورة الدخان‪ ]19/‬أي ال تتكبّروا‪ ،‬وكذلك قوله‪َّ :‬‬
‫{أال ت َ ْعلوا عل َّ‬
‫ُمسلمين} [سورة النمل‪ ]31/‬أي ال تتكبروا‪ .‬فإذا كان مأخوذًا من العلو‬
‫ي أنه ليس فوقه أحد‪ ،‬وليس معناه أنه‬ ‫فمعنى وصف هللا عز وجل بأنه عل ٌّ‬
‫في مكان دون مكان‪ ،‬وإن كانَ مأخو َذا من ارتفاع الشأن فهو سبحانه أرفع‬
‫شأنًا من أن نشبّه به شيئًا" اهـ‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬تفسير األسماء والصفات (ق‪.)151/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فائدة مهمة‬
‫شبهة شديدة فرعوها على نفي وجو ِد غير متحيز في جهة وهي‬ ‫للمشبهة ُ‬
‫قولهم‪ :‬إن القول بأن هللا تعالى موجود ال هو داخ َل العالم وال هو خار َجه‬
‫نفي لوجود هللا‪ ،‬وهذه الشبهة يبطلها أن هللا تعالى ليس بجرم صغير وال‬
‫فيص ُّح وجوده من غير أن يكون داخل العالم وال خارجه‪ ،‬وقد قرر‬ ‫كبير‪ِ ،‬‬
‫ذلك جهابذة العلماء من مشاهير علماء المذاهب األربعة‪ ،‬بل هذا هو معتقد‬
‫{ليس‬
‫َ‬ ‫األشاعرة والماتريدية وهم مطبقون على ذلك‪ ،‬وقد د ّل قوله تعالى‪:‬‬
‫كمث ِل ِه شئ} على التنزيه وأن هللا ال يشبه شيئًا من خلقه بوجه من الوجوه‬
‫ومن جميع الوجوه التي هي من معاني الخلق كاالتصاف بالحدوث‬
‫والحركة والسكون واالجتماع واالفتراق‪ ،‬واالتصاف بالمكان واالتصال‬
‫ألن كل هذه الصفات من معاني الخلق‪ ،‬فال يصح‬ ‫بالعالم واالنفصال عنه ّ‬
‫صرح الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (‪ )1‬بأن هللا ال‬ ‫أن يتصف هللا بها‪ ،‬وقد ّ‬
‫يجوز عليه االتصال بالعالم واالنفصال عنه ونص عبارته بعد كالم‪" :‬فإن‬
‫قيل نفي الجهات يحيل وجوده‪ ،‬قلنا‪ :‬إن كان الموجود يقبل االتصال‬
‫واالنفصال فقد صدقت‪ ،‬فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي النقيض‬
‫نقر بما ال يدخل تحت الفهم‪ ،‬قلنا‪ :‬إن‬ ‫بمحال‪ .‬فإن قيل‪ :‬أنتم تلزموننا بأن ّ‬
‫والتصور فإن الخالق ال يدخل تحت ذلك إذ ليس‬ ‫ّ‬ ‫أردت بالفهم التخيل‬
‫بمحس وال يدخل تحت ذلك إال جسم له لون وقدر‪ ،‬فإن الخيال قد أنس‬
‫بالمبصرات فهو ال يتوهم شيئًا إال على وفق ما رءاه‪ ،‬ألن الوهم من نتائج‬
‫الحس‪ ،‬وإن أردت أنه ال يعلم بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل ألن العقل‬‫ّ‬
‫مضطر إلى التصديق بموجب الدليل‪ ،‬واعلم أنك لم تجد إال جس ًما أو‬
‫ضا وعلمت تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك‬ ‫عر ً‬
‫متحيزا أو متنقالً" اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫فينبغي أن يصرفك عن كونه‬
‫وقال ابن حجر الهيتمي (‪ )2‬بعد كالم ما نصه‪" :‬ومن ثم قال الغزالي‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬الباز األشهب (ص‪.)59/‬‬
‫(‪ )2‬اإلعالم بقواطع اإلسالم بهامش الزواجر (‪.)43-44/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫معناه أن مصحح االتصال واالنفصال الجسمية والتحيّز وهو محال –على‬


‫البارئ‪ -‬فانفك عن الضدين‪ ،‬كما أن الجماد ال هو عالم وال جاهل‪ ،‬ألن‬
‫مصحح العلم هو الحياة فإذا انتفت الحياة انتفى الضدّان" اهـ‪.‬‬
‫قال النووي في روضة الطالبين (‪ )1‬نقالً عن المتولي‪" :‬أو أثبت ما هو‬
‫منفي عنه –أي هللا‪ -‬باإلجماع كاأللوان أو أثبت له االتصال واالنفصال‬
‫كافرا" اهـ‪ .‬والمتولي من أصحاب الوجوه من الشافعية‪.‬‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫وقال صاحب كتاب الدُّر الثمين والمورد المعين العالمة الحبر الشيخ‬
‫محمد بن أحمد ميارة المالكي (‪ )2‬ما نصه‪:‬‬
‫"سئل اإلمام العالم أبو عبد هللا سيدي محمد بن جالل هل يقال المولى‬
‫تبارك وتعالى ال داخل العالم وال خارج العالم؟ فأجاب السائل‪ :‬هكذا نسمعه‬
‫من بعض شيوخنا‪ ،‬واعترضه بعضهم بأن هذا رفع للنقيضين‪ ،‬وقال بعض‬
‫فقهائنا في هذه المسألة هو الكل أي الذي قام به كل شئ‪ ،‬وزعم أنه لإلمام‬
‫الغزالي‪ ،‬وأجاب بعضهم بأن هذا السؤال معضل وال يجوز السؤال عنه‪،‬‬
‫وزعم ابن مقالش هكذا أجاب عنه في شرحه على الرسالة‪ ،‬وأجاب بأنا‬
‫نقول ذلك ونجزم به ونعتقد أنه ال داخل العالم وال خارج العالم‪ ،‬العجز عن‬
‫اإلدراك إدراك لقيام الدالئل الواضحة على ذلك عقالً ونقالً‪ ،‬أما النقل‬
‫وهو‬
‫ئ َ‬ ‫{ليس كمثل ِه ش ٌ‬
‫َ‬ ‫فالكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬وأما الكتاب فقوله تعالى‪:‬‬
‫البصير} فلو كان في العالم أو خار ًجا عنه لكان مماثالً وبيان‬
‫ُ‬ ‫السمي ُع‬
‫المالزمة واضح‪ ،‬أما في األول فألنه إن كان فيه صار من جنسه فيجب له‬
‫ما وجب له‪ ،‬وأما في الثاني فألنه إن كان خار ًجا لزم إما اتصاله وإما‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬روضة الطالبين (‪.)64/10‬‬
‫(‪ )2‬الدر الثمين (ص‪.)25-24/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫انفصاله‪ ،‬وانفصاله إما بمسافة متناهية أو غير متناهية‪ ،‬وذلك كله يؤدي‬
‫الفتقاره إلى مخصص‪.‬‬
‫وأما السنة فقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬كان هللا وال شئ معه"‪.‬‬
‫وأما اإلجماع فأجمع أهل الحق قاطبة على أن هللا تعالى ال جهة له فال‬
‫فوق وال تحت وال يمين وال شكال وال أمام وال خلف‪.‬‬
‫وأما العقل فقد اتضح لك اتضا ًحا كليًّا مما مر في بيان المالزمة في قوله‬
‫تعالى‪{ :‬ليس كمثله شئ}‪ ،‬واالعتراض بأنه رفع للنقيضين ساقط ألن‬
‫التناقض إنما يعتبر حيث يتصف المحل بأحد النقيضين ويتواردان عليه‪،‬‬
‫وأما حيث ال يصح تواردهما على المحل وال يمكن االتصاف بأحدهما فال‬
‫تناقض‪ ،‬كما يقال مثالً "الحائط ال أعمى وال بصير" فال تناقض لصدق‬
‫ضا ال‬
‫النقيضين فيه لعدم قبوله لهما على البدلية‪ ،‬وكما يقال في البارئ أي ً‬
‫فوق وال تحت وقس على ذلك‪ ،‬وقول من قال إنه الكل زاع ًما أنه للغزالي‬
‫فقضية تنحو منحى الفلسفة أخذ بها بعض المتصوفة‪ ،‬وذلك بعيد من اللفظ‪،‬‬
‫وما أجاب به بعضهم بأنه معضل ال يجوز السؤال عنه ليس كما زعم‬
‫لوضوح الدليل على ذلك‪ ،‬وإن صح ذلك عن ابن مقالش فال يلتفت إليه في‬
‫هذا لعدم إتقانه طريق المتكلمين إذ كثير من الفقهاء ليس له خبرة به فضالً‬
‫عن إتقانه" اهـ‪.‬‬
‫ضا من الحنفية –أي أنه تعالى ليس داخل العالم وال‬
‫وذكر ذلك أي ً‬
‫خارجه‪ -‬شيخ المتكلمين على لسان أهل السنة أبو المعين النسفي (‪،)1‬‬
‫واإلمام القونوي‪ ،‬والعالمة البياضي (‪ )2‬وغيرهم من مشاهيرهم‪.‬‬
‫أقول‪ :‬إذا تبين هذا فال يهولَنَّ َك شبهة المجسمة ليصرفوك عن التنزيه إلى‬
‫التشبيه بقولهم‪ :‬ال يفهم وجوده تعالى بال مكان وال كمية وال اتصال‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬تبصرة األدلة (‪.)176-177/1‬‬
‫(‪ )2‬إشارات المرام (ص‪.)198-197/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وانفصال عن العالم‪ .‬فيقال لهم‪ :‬من المخلوق ما يجب اإليمان بوجوده وال‬
‫يفهم بالتصور مع أن العقل يثبته وهو الوقت الذي لم يكن فيه النور‬
‫والظالم فإنهما حادثان أوجدهما هللا بعد أن لم يكونا موجودين قال هللا‬
‫ت والنور} [سورة األنعام‪ ]1/‬فيجب علينا اعتقاد‬ ‫تعالى‪{ :‬و َجعَ َل ُّ‬
‫الظلُما ِ‬
‫أنهما لم يكونا في بعض ما مضى من الزمن لم يكن هذا وال هذا‪ ،‬فال‬
‫يتصور عقل اإلنسان وجود وقت لم يكن فيه نور وال ظالم‪ ،‬فإذا ص ّح هذا‬
‫فكيف ال يصح وجود هللا بال كمية أي ح ّد وال مكان وال جهة من الجهات‬
‫وال اتصال بالعالم وال انفصال عنه بل اإليمان بصحة هذا أولى ألن ذاك‬
‫{ليس كمثله شئ}‪.‬‬
‫َ‬ ‫في المخلوق وهذا في الخالق الذي قال عن نفسه‪:‬‬
‫فائدة أخرى في إثبات إطالق الوجه مضافًا إلى هللا على غير معنى الجسم‬
‫روى الترمذي (‪ )1‬في سننه عن عبد هللا عن النبي‪ :‬قال‪" :‬المرأة عورة‬
‫فإذا خرجت استشرفها الشيطان"‪ ،‬وروى ّ‬
‫البزار بزيادة‪" :‬وأقرب ما تكون‬
‫من وجه ربها وهي في قعر بيتها (‪ ،")2‬قال الحافظ أبو الحسن بن القطان‬
‫في كتاب النظر (‪" :)3‬وهوصحيح"‪.‬‬
‫فإن الوجه هنا متعين لمعنى الطاعة وفي هذا إثبات جهل المشبهة الذين‬
‫يحملون الوجه الوارد مضافًا إلى هللا على الجزء المعروف من ابن ءادم‬
‫وغيره‪ ،‬وفي هذا تأييد لترجيح تفسير الوجه الوارد في قول هللا تعالى‪ُ { :‬ك ُّل‬
‫هالك إال وج َههُ} [سورة القصص‪ ]88/‬بما يتقرب به إلى هللا وهي‬‫ٌ‬ ‫شئ‬
‫ٍ‬
‫ضا ابن حبان (‪ )4‬بلفظين‪ ،‬فما الذي دعا‬‫الطاعات‪ ،‬وروى الحديث أي ً‬
‫الوهابية لفهم الوجه بمعنى الجسم مع تركهم للمعنى الذي ورد في السنة‬
‫للوجه المضاف إلى هللا تعالى بالطاعة‪ ،‬فبهذا يكونون مثل بيان بن سمعان‬
‫ٌ‬
‫هالك إال وجهه} إن العالم‬ ‫التميمي الذي قال في قول هللا تعالى‪{ :‬ك ُّل ٍ‬
‫شئ‬
‫___________________‬
‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب الرضاع‪ :‬باب (‪.)18‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫معناه مطلوب من المرأة أن تالزم البيت‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫النظر في أحكام النظر (ص‪.)138/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)446/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يفنى كله ألنه شئ وهللا شئ فيفنى لكن باستثناء وجهه‪ ،‬فالوهابية وهؤالء‬
‫من أصل واحد وهو التجسيم‪ ،‬ومصيبتهم الكبرى أنهم ال يفهمون موجودًا‬
‫غير جسم فلذلك يستفرغون جهدهم في جعل هللا جس ًما متصفًا بصفات‬
‫{ليس كمثله شئ}‬
‫َ‬ ‫الجسم‪ ،‬فكيف يدعي هؤالء أنهم عرفوا قول هللا تعالى‪:‬‬
‫وءامنوا به‪ ،‬فلو عرفوا ذلك وءامنوا به لما جعلوه جس ًما ألن العالم أعيان‬
‫وصفات قائمة به كالحركة والسكون‪.‬‬
‫فائدة مهمة في تنزيه هللا تعالى عن المكان والحد‬
‫وقال اإلمام أبو القاسم األنصاري النيسابوري شارح كتاب اإلرشاد إلمام‬
‫الحرمين (‪ )1‬بعد كالم في االستدالل على نفي التحيز في الجهة عن هللا‬
‫تعالى ما نصه‪" :‬ثم نقول سبيل التوصل إلى درك المعلومات األدلة دون‬
‫وربّ أمر يتوصل العقل إلى ثبوته مع تقاعد الوهم عنه‪ ،‬وكيف‬ ‫األوهام‪ُ ،‬‬
‫يدرك العقل موجودًا يحاذي العرش مع استحالة أن يكون مثل العرش في‬
‫القدر أو دونه أو أكبر منه‪ ،‬وهذا حكم كل مختص بجهة‪ .‬ثم نقول الجوهر‬
‫الفرد (‪ )2‬ال يتصور في الوهم وهو معقول بالدليل‪ ،‬وكذلك الوقت الواحد‬
‫واألزل واألبد‪ ،‬وكذلك الروح عند من يقول إنه جسم‪ ،‬ومن أراد تصوير‬
‫األرض والسماء مثالً في نفسه فال يتصور له إال بعضها‪ ،‬وكذلك تصوير‬
‫ما ال نهاية له من معلومات هللا تعالى ومقدوراته‪ ،‬فإذا زالت األوهام عن‬
‫كثير من الموجودات فكيف يُ ْ‬
‫طلَ ُ‬
‫ب بها القديم سبحانه الذي ال تشبهه‬
‫المخلوقات فهو سبحانه ال يتصور في الوهم فإنه ال يتصور إال صورة وال‬
‫{ليس كمثله شئ} ومن ال مثل له ال يتمثل‬‫َ‬ ‫يُتَقَد َُّر إال ُمقَد ٌَّر‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫في الوهم‪ ،‬فمن عرفه عرفه بنعت جالله بأدلة العقول وهي األفعال الدالة‬
‫ربك ال ُمنتَهى}‪ :‬إليه‬ ‫َّ‬
‫{وأن إلى َ‬ ‫عليه وعلى صفاته‪ ،‬وقد قيل في قوله تعالى‪:‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬شرح اإلرشاد (ق‪ ،)59-58/‬مخطوط‪.‬‬
‫(‪ )2‬الجوهر الفرد هو الجزء الذي ال يتجزأ لتناهيه في القلة وسمي‬
‫جوهرا ألن الجسم يتركب من جوهرين فردين فأكثر‪.‬‬ ‫ً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫انتهى فكر من تف َّكر هذا قول أبي بن كعب وعبد الرحمن بن أ ْنعُم‪ ،‬وروى‬
‫ي بن كعب عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال فكرة في الرب" وروى‬ ‫أب ّ‬
‫أنس أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إذا ذكر هللا تعالى فانتهوا"‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫"تفكروا في الخلق وال تفكروا في الخالق"‪.‬‬
‫فإن قيل كيف يعقل موجود قائم بالنفس ليس بداخل العالم وال خارج منه‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬عرفتم استحالة ذلك ضرورة أم داللة‪ ،‬وقد أوضحنا معنى مباينته‬
‫عنه‪ .‬قلنا –أي على زعمكم‪ :-‬خلقه على مقدار نفسه أو أكبر منه أو أصغر‬
‫أو فوق نفسه أو تحته‪.‬‬
‫ثم نقول‪ :‬حروف الظروف إنما تستعمل في األجرام المحدودة (‪)1‬‬
‫وكذلك الدخول والخروج من هذا القبيل وكذلك المماسة والمباينة‪ ،‬وقد‬
‫أجبنا عن المباينة‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬كيف يرى باألبصار من ال يتحيز وال يقوم بالمتحيز‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬الرؤية عندنا ال تقتضي جهة وال مقابلة وإنما تقتضي تعيين‬
‫المرئي‪ ،‬وبهذا يتميز عن العلم فإن العلم يتعلق بالمعدوم وبالمعلوم على‬
‫تقديرا‪ ،‬وكذلك ال يقتضي اتصال شعاع بالمرئي فهي كالعلم أو في‬‫ً‬ ‫الجملة‬
‫معناه‪.‬‬
‫المدرك‪.‬‬
‫َ‬ ‫فإن قيل‪ :‬ألستم تقولون اإلدراك يقتضي نفس‬
‫قلنا‪ :‬ال يقتضى تعينه وال تحديده‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬كيف يُدرك وجود اإلله سبحانه‪.‬‬
‫_________‬
‫(‪ )1‬أي على وجه الحقيقة‪ ،‬إن استُعملت على وجه المجاز فإنها‬
‫تُستعمل على المجاز كقوله تعالى {أفي هللا شك} [سورة‬
‫إبراهيم‪ ،]10/‬أو يكون مراد المؤلف أن حروف الظروف ال‬
‫تستعمل على معنى الظرفية في حق هللا تعالى إنما تستعمل على‬
‫هذا المعنى في حق األجرام‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلنا‪ :‬ال كيفية لألزلي وال حيث لهُ وكذلك ال كيفية لصفاته‪ ،‬وال سبيل لنا‬
‫اليوم إلى اإلخبار عن كيفية إدراكه وال إلى العلم بكيفية إدراكه وكما أن‬
‫األكمه الذي ال يبصر األلوان إذا سئل عن الميْز بين السواد والبياض‬
‫واإلخبار عن كيفيتهما فال جواب له‪ ،‬كذلك نعلم أن من ال جهة له ال يشار‬
‫إليه بالجهة‪ .‬فإن قالوا‪ :‬من أبصر شيئًا يمكنه التمييز بين رؤيته لنفسه وبين‬
‫رؤيته ما يراه‪ ،‬فإذا رأيتم اإلله سبحانه كيف تميزون بين المرئيين‪ ،‬قلنا‪:‬‬
‫من ال جهة له ال يشار إليه بالجهة ومن ال مثل له ال إيضاح له بالمثال‪،‬‬
‫ومن ال أ ْشكا َل له فال أشكال فيه‪.‬‬
‫ثم نقول لهم‪ :‬أنتم إذا رأيتم اإلله كيف تميّزون بينه وبين العرش وهو‬
‫دونه سبحانه بالرؤية‪ ،‬أتميزون بينهما بالشكل والصورة أم باللون والهيئة‪،‬‬
‫طه أن يكون في مقابلة الرائي‪ ،‬وكيف يَرى‬ ‫ومن أصلكم أن المرئي شر ُ‬
‫القديم سبحانه نفسه‪ ،‬وكيف يرى الكائنات مع استتار بعضها ببعض فال‬
‫يرى على هذا األصل بطون األشياء‪ ،‬وهذا خالف ما عليه المسلمون‪ ،‬وإذا‬
‫كان العرش دونه فال يَحجبه عنّا حالة الرؤية‪ ،‬قال األستاذ أبو إسحاق‪ :‬من‬
‫غيره –أي في حال رؤيته للحق‪ -‬فاندفع‬‫رأى هللا تعالى فال َيرى معه َ‬
‫السؤال على هذا الجواب" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال ما نصه‪" :‬فصل في نفي الحد والنهاية‬
‫اعلم أن القديم سبحانه ال يتناهى في ذاته على معنى نفي الجهة والحد‬
‫عنه‪ ،‬وال يتناهى في وجوده على معنى نفي األولية عنه فإنه أزلي أبدي‬
‫صمدي‪ ،‬وكذلك صفات ذاته ال تتناهى في ذاتها ووجودها ومتعلّقاتها إن‬
‫كان لها تعلُّ ٌق‪ ،‬ومعنى قولنا‪ :‬ال تتناهى في الذات قيامها بذات ال نهاية له‬
‫وال ح َّد وال منقط َع وال حيث‪ ،‬وقولنا ال تتناهى في الوجود إشارة إلى‬
‫ت والمقدورات‬ ‫أزليتها ووجوب بقائها وأنها متعلقة بما ال يتناهى كالمعلوما ِ‬
‫والمخبرات"‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وأما الجوهر فهو متنا ٍه في الوجود والذات ألنه ال يشغل إال‬
‫حيزا له حكم النهاية وهو حادث له مفتتح ويجوز عدمهُ‪ .‬والعرض متناه في‬ ‫ً‬
‫الذات من حيث الحكم على معنى أنه ال ينبسط على محلين‪ ،‬ومتنا ٍه في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الوجود على معنى أنه ال يبقى زمانين‪ ،‬ويتناهى في تعلّقه فإنه ال يتعلق‬
‫بأكثر من واحد‪.‬‬
‫أما المجسمة فإنهم أثبتوا للقديم سبحانه الحد والنهاية‪ ،‬فمنهم من أثبت له‬
‫النهايات من ست جهات‪ ،‬ومنهم من أثبتها من جهة واحدة وهي جهة تحت‪،‬‬
‫ومنهم من ال يطلق عليه النهاية‪ .‬واختلفوا في لفظ المحدود فمنهم من أثبته‬
‫ومنهم من منعه وأثبت الحد‪ ،‬وقد بيّنا أن إثبات النهاية من جهة واحدة‬
‫توجب إثباتها من جميع الجهات وألن النهاية واالنقطاع من الجهة الواحدة‬
‫تقدح في العظمة‪ ،‬بدليل أنه لو لم يتناه لكان أعظم مما كان‪ ،‬فلما تناهى فقد‬
‫صغُ َر‪ ،‬ويجب نفي الصغر عنه كما وجب إثبات العظمة له‪ ،‬يوضح ما قلناه‬ ‫َ‬
‫أنهم قالوا إنما منعنا كونه وسط العالم ألنه يوجب اتصافه بالصغر‪ ،‬فإثبات‬
‫النهاية من جانب يفضي إلى النهاية من جميع الجوانب‪ ،‬فقد تحقق إذًا بنفي‬
‫النهاية والحد عنه استحالة االتصال واالنفصال والمحاذاة عليه الستحالة‬
‫الحجمية وال ُجث َّ ِة عليه‪ ،‬بل هو عظيم الذات النتفاء النهايات والصغر عنه ال‬
‫شبَحٍ" اهـ‪.‬‬
‫ل َجسا َم ٍة وال لصورةٍ و َ‬
‫ثم قال‪" :‬فصل في معنى العظمة والعلو والكبرياء والفوقية‪ :‬أجمع‬
‫المسلمون على أن هللا تعالى عظيم وأعظم من كل عظيم‪ ،‬ومعنى العظمة‬
‫والعلو والعزة والرفعة‪ ،‬والفوقية واحد وهو استحقاق نعوت المخلوقين‪،‬‬
‫وتنزهه عن سمات المحدثين وعن الحاجة والنقص‪ ،‬واتصافُهُ بصفات‬
‫اإللهية كالقدرة الشاملة للمقدورات‪ ،‬واإلرادة النافذة في المراداتِ‪ ،‬والعلم‬
‫المحيط بجميع المعلومات‪ ،‬والجود البسيط‪ ،‬والرحمة الواسعة‪ ،‬والنعمة‬
‫َّ‬
‫والط ْول العميم والوجه واليد‬ ‫السابغة‪ ،‬والسمع والبصر والقول القديم‪،‬‬
‫والبقاء والمجد" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن عقيدة الحلول واالتحاد‬
‫عقيدة كفرية مخالفة لإلسالم‬
‫تساهل بعض الناس واستحلوا النطق بكلمات الكفر في غير محله‬
‫وادعوا أن لها تأويالً‪ ،‬ومن أمثلة ذلك ما ادعاه بعض جهلة المتصوفة أن‬
‫هذا البيت الذي ينشده بعض أدعياء الشاذلية وغيرهم في حضرة الذكر‬
‫وهو قولهم‪:‬‬
‫فما في الوجود سوى واحد *** ولكن تكثر لما صفا‬
‫فقال بعض هؤالء‪ :‬إن تأويله أن هللا تكثَّر بصفاته‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬هذا تأويل بعيد وفيه زيادة في الكفر ألن هذا البيت فيه نسبة التغير‬
‫إلى هللا تعالى وهذا كفر‪ ،‬ونسبة حدوث الصفاء في ذاته تعالى كفر‪ ،‬ونسبة‬
‫التكثر إلى هللا تعالى كفر‪ ،‬وهللا تعالى مستحيل عليه التغير فهو تعالى ذاته‬
‫أزلي وصفاته أزلية بأزلية الذات‪ ،‬وال يوصف هللا بالصفاء وال بالكدر ألن‬
‫هذه أوصاف الخلق‪.‬‬
‫وعلى كل تقدير ال يجوز إثبات صفة هلل لم ترد في الكتاب والسنة حتى‬
‫بقول صحابي ال تثبت كما قال الفقيه الحافظ أبو بكر الخطيب في كتابه‬
‫"الفقيه والمتفقه" فكيف تثبت بغيره‪.‬‬
‫وهذا البيت موجود في بعض الكتب وفي الديوان المنسوب للشيخ عبد‬
‫الغني النابلسي رضي هللا عنه وال نراه صحي ًحا عنه بل نرى أنه مدسوس‬
‫عليه ومفترى كما دُس على الشيخ محي الدين بن عربي رضي هللا عنه‬
‫كما قال صاحب "المعروضات المزبورة" الحنفي‪" :‬قد تيقنا أن اليهود دسوا‬
‫عليه" وهذا الظن هو الالئق به وبأمثاله‪.‬‬
‫وليعلم أن كتاب "الفتوحات المكية" يحتوي على كلمات كثيرة من الكفر‬
‫ي الدين العراقي في‬
‫الصريح الذي ال تأويل له كما قال المحدث الحافظ ول ُّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫رسالة له سماها "األجوبة المرضية" (‪ ،)1‬وكذا كتاب "فصوص الحكم"‬


‫وبعض غيرهما من مؤلفات الشيخ محي الدين بن عربي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وأما الشيخ محي الدين بن عربي رضي هللا عنه فاعتقادنا فيه أنه من‬
‫العلماء الصالحين والصوفية الصادقين الزاهدين‪ ،‬ترجمه الحافظ ابن حجر‬
‫في لسان الميزان (‪ )2‬وذكر أنه اعت َّد به حفاظ عصره كابن النجار وغيره‪.‬‬
‫المذكورين مما هو مدسوس عليه مما ليس من‬
‫َ‬ ‫وأكثر ما في كتابيه‬
‫كالمه كلمات الوحدة المطلقة ففي كتابه "الفتوحات المكية" ما يخالف ذلم‬
‫فإن فيها ذم عقيدة الوحدة المطلقة وذم عقيدة الحلول‪.‬‬
‫فمما فيه إلبطال الوحدة المطلقة والحلول قوله في كتاب األسرار من‬
‫"الفتوحات المكية" ونص عبارته‪" :‬ما قال باالتحاد إال أهل اإللحاد‪ ،‬ومن‬
‫قال بالحلول فدينه معلول" اهـ‪.‬‬
‫فبعد هاتين العبارتين الصريحتين في إبطال عقيدة الوحدة المطلقة‬
‫صدَّق على الشيخ محي الدين رضي هللا عنه‬ ‫وعقيدة الحلول ال يجوز أن يُ َ‬
‫ما في بعض المواضع األخرى من هذا النوع‪.‬‬
‫وقد حضرتُ مجلس الشيخ الولي أحمد الحارون الدمشقي رحمه هللا‬
‫وكان معروفًا في بلده دمشق بالكشف فسألته عن عبارة نسبها بعض الناس‬
‫إلى الشيخ ابن عربي الفتوحات المكية فقال الشيخ أحمد‪" :‬هذا الشيخ ما له‬
‫حق في أن يذكر هذا‪ ،‬الفتوحات المكية فيها دس كثير" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬األجوبة المرضية‪ ،‬مخطوط (ق‪.)172/‬‬
‫(‪ )2‬لسان الميزان (‪.)353/5‬‬

‫وقد قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رضي هللا عنه في كتابه "لطائف‬
‫المنن واألخالق" ما يؤيد ما ذكرناه ونصه (‪" :)1‬وقد نقل الشيخ محي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الدين بن عربي في الفتوحات المكية إجماع المحققين على أن من شرط‬


‫الكامل أن ال يكون عنده شطح عن ظاهر الشريعة أبدًا بل يرى أن من‬
‫َّ‬
‫الحق ويُبطل ويَعم َل على الخروج من خالف العلماء‬ ‫الواجب عليه أن يُ ِح َّق‬
‫ما أمكن‪ .‬انتهى‪ .‬هذا لفظه بحروفه ومن تأمله وفهمه عرف أن جميع‬
‫المواضع التي فيها شط ٌح في كتبه مدسوسة عليه ال سيما كتاب "الفتوحات‬
‫المكية" فإنه وضعه حال كماله بيقين‪ ،‬وقد فرغ منه قبيل موته بنحو ثالث‬
‫سنين‪ ،‬وبقرينة ما قاله في "الفتوحات المكية" في مواضع كثيرة من أن‬
‫ضا في‬‫الشطح كله رعونة نفس ال يصدر قط من محقق‪ ،‬وبقرينة قوله أي ً‬
‫مواضع‪ :‬من أراد أن ال يض َّل فال َيرم ميزان الشريعة من يده طرفة عين‬
‫ونهارا عند كل قول وفعل واعتقاد انتهى" انتهى كالم‬
‫ً‬ ‫بل يستصحبها ليالً‬
‫الشعراني‪.‬‬
‫ثم قال الشيخ الشعراني في "لطائف المنن" ما نصه (‪" :)2‬وليُح َذر أي ً‬
‫ضا‬
‫من مطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي رضي هللا تعالى عنه لعلو‬
‫مراقيها ولما فيها من الكالم المدسوس على الشيخ ال سيما الفصوص‬
‫والفتوحات المكية‪ ،‬فقد أخبرني الشيخ أبو طاهر عن شيخه عن الشيخ بدر‬
‫الدين بن جماعة أنه كان يقول‪ :‬جميع ما في كتب الشيخ محي الدين من‬
‫األمور المخالفة لكالم العلماء فهو مدسوس عليه‪ ،‬وكذلك كان يقول الشيخ‬
‫مجد الدين صاحب القاموس في اللغة‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬لطائف المنن واألخالق (ص‪.)390/‬‬
‫(‪ )2‬لطائف المنن واألخالق (ص‪.)394/‬‬

‫قلتُ ‪ :‬وقد اختصرتُ الفتوحات المكية وحذفتُ منها كل ما يخالف ظاهر‬


‫الشريعة فلما أخبرت بأنهم دسوا في كتب الشيخ ما يوهم الحلول واالتحاد‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي الشيخ شمس الدين المدني بنسخة الفتوحات التي قابلها على خط‬‫ور َد عل َّ‬
‫الشيخ بقونية فلم أجد فيها شيئًا من ذلك الذي حذفته ففرحت بذلك غاية‬
‫الفرح فالحمد هلل على ذلك" انتهى كالم الشعراني‪.‬‬
‫وقال الشيخ أبو الهدى الصيادي ما نصه (‪" :)1‬والكثر من هذه الفرقة‬
‫قام قائمهم وقعد قاعدهم منهم ًكا بمطالعة كتب الشيخ محي الدين بن عربي‬
‫طاب مرقده‪ ،‬وال بدع فكتب الشيخ َكث ُ َرت فيها الدسائس من قِبَ ِل ذوي الزيغ‬
‫والبهتان وعصائب الشيطان‪ ،‬وهذا الذي يطيب القول به لمن يريد براءة‬
‫لك ب ِه علم}‬
‫ليس َ‬
‫ف ما َ‬‫الذمة من القطع بما لم يعلم وهللا تعالى قال‪{ :‬وال ت َ ْق ُ‬
‫[سورة اإلسراء‪ ،]36/‬وقد نسبوا أعني الدساسين للشيخ ما ال يصح ال عقالً‬
‫عا‪ ،‬وال ينطبق على حكمة نظرية وال يوافق صحاح القواعد‬ ‫وال شر ً‬
‫العرفانية" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال بعد كالم ما نصه (‪" :)2‬والحق يقال‪ :‬الذي عليه أهل الورع من‬
‫علماء الدين أنه ال يحكم على ابن عربي رحمه هللا نفسه بشئ ألنا لسنا‬
‫على يقين من صدور مثل هذه الكلمات منه وال من استمراره عليه إلى‬
‫وفاته‪ ،‬ولكنا نحكم على مثل هذا الكالم بأنه كفر" اهـ‪.‬‬
‫وقال صاحب "المعروضات المزبورة" أحد الفقهاء الحنفية المشهورين‪:‬‬
‫"تيقنا أن اليهود دسوا عليه في فصوص الحكم" اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا الكالم المنسوب للشيخ محي الدين ليس من دين هللا وهو‬
‫منافٍ للتوحيد الذي هو أصل الدين وأصل التصوف اإلسالمي‪ ،‬فما هذا‬
‫الكالم إال زندقةً وهو كفر صريح ال تأويل له‪ ،‬وهو دس على الشيخ محي‬
‫الدين بن عربي رضي هللا عنه فهو ال يتفوه بمثل هذا الكالم‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مراحل السالكين (ص‪.)61/‬‬
‫(‪ )2‬مراحل السالكين (ص‪.)69/‬‬
‫المنافي للتوحيد ولعقيدة المسلمين‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد وقع الشطح والغلو من كثير من المنتسبين للطرق الصوفية ال سيما‬


‫في عصرنا هذا فاعتقدوا اعتقادات كفرية وتلفظوا بأقوال شنيعة وهم‬
‫يظنون أنهم يتكلمون باألسرار التي تخفى على مخالفيهم وأنهم على مرتبة‬
‫ومقام عا ٍل والواقع أنهم ينطبق عليهم قول هللا تعالى‪{ :‬قُ ْل ْ‬
‫هل نُنَبِّئ ُ ُكم‬
‫سبونَ أنهم‬ ‫باألخسرينَ أعماالً * الذينَ ض َّل َ‬
‫س ْعيُ ُهم في الحيا ِة الدُّنيا و ُه ْم َي ْح َ‬
‫صنعًا} [سورة الكهف‪.]104-103/‬‬ ‫يُ ْح ِسنونَ ُ‬
‫والعجب كيف ينتسبون إلى التصوف اإلسالمي وهم ضد الصوفية ألن‬
‫التصوف اإلسالمي ما ذهب إليه الجنيد وأمثاله وهو موافق للنصوص‬
‫كمثل ِه شئ}‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬قُ ْل َ‬
‫هو هللاُ أح ٌد *‬ ‫{ليس ِ‬
‫َ‬ ‫القرءانية كقوله تعالى‪:‬‬
‫ص َم ُد * ل ْم يَ ِل ْد ول ْم يُولَ ْد} [سورة اإلخالص‪ ،]3-2-1/‬فإن هذا صريح‬
‫هللاُ ال َّ‬
‫عا عن غيره‪ ،‬فهؤالء القائلون بالوحدة‬ ‫في أن هللا ليس أصالً لغيره وال فر ً‬
‫والحلول مصادمون لهذا النص وغيره‪ ،‬فكفرهم أسمج الكفر وأشنعه‪.‬‬
‫ضا لسيد الطائفة الصوفية اإلمام الجنيد بن‬‫وهؤالء األدعياء مخلفون أي ً‬
‫محمد البغدادي رضي هللا عنه فقد قال‪" :‬التوحيد إفراد القديم من المح َدث"‪،‬‬
‫فقول اإلمام الجنيد في واد وهؤالء الجهلة الذي يقولون مرة بعبارات‬
‫الوحدة ومرة بعبارات الحلول أي حلول هللا في خلقه في وا ٍد ءاخر‪ ،‬فما‬
‫أبعد ما بين الواديين‪.‬‬
‫وقد تجرأ بعضهم فقال‪" :‬وقد ألف السادة الصوفية نفعنا هللا بهم الكتب‬
‫والرسائل في إثبات وحدة الوجود وأقاموا األدلة النقلية والعقلية على‬
‫إثباتها" اهـ‪.‬‬
‫الجواب‪ :‬هذا الكالم مردود ألن الصوفية الذين على نهج اإلما الجنيد‬
‫البغدادي رضي هللا عنه ردوا هذه العقيدة الفاسدة قال السيد أبو العلمين‬
‫اإلمام أحمد الرفاعي رضي هللا عنه‪" :‬إياك والقو َل بالوحدة فإنه من‬
‫ضا ما نصه‪" :‬لفظتان ثُلمتان في الدين‪ :‬القول بالوحدة‪،‬‬ ‫األباطيل"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫ُ‬
‫المجاوز ح َّد التحدث بالنعمة"‪ ،‬وذم الشيخ محي الدين بن عربي‬ ‫والشطح‬
‫رضي هللا عنه في كتابه "الفتوحات" عقيدة وحدة الوجود وعقيدة الحلول‬
‫وقال قوالً شديدًا في ذك هاتين العقيدتين ونصه‪" :‬من قال بالحلول فدينه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫معلول‪ ،‬وما قال باالتحاد إال أهل اإللحاد"‪ ،‬فكيف بعد هذا يقول هذا المؤلف‬
‫إن هذا قول السادة الصوفية‪ ،‬وكيف يتجرأ أن ينسب إليهم ما هو ضد‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫قال الشيخ أبو الهدى الصيادي الرفاعي في كتابه مراحل السالكين ما‬
‫نصه (‪" :)1‬ومن أشرف مراتب الصبر مرتبة الصبر عن الكالم في الذات‬
‫والصفات والوقوف مع ظواهر النصوص في العموم والخصوص‪ ،‬فكم‬
‫زلق بمثل هذا الكالم زالق وكم فارق بالخوض فيه للحق مفارق‪ ،‬نعق‬
‫ناعقهم فتدرج والعياذ باهلل تعالى إلى القول بوحدة الوجود المطلقة واندفع‬
‫مع تلك المزلقة‪ ،‬وزعم أن علوم أهل هللا تعالى هي عبارة عن هذه األغالط‬
‫السقيمة والكلمات الذميمة‪ ،‬وقفى ما لم يعلم وأراد أن يصعد إلى السطح‬
‫سلَّم‪ ،‬وتكلم بما سكت عنه األنبياء والمرسلون‪ ،‬وتباعد عن الخوض‬ ‫بغير ُ‬
‫به اآلل والصحابة والوارثون والصديقون والمقربون‪ ،‬حتى صار والعياذ‬
‫باهلل ملعبة الشيطان‪ ،‬وخبط عقله خابط النقصان‪ ،‬واخترع من مخيلته لقلقة‬
‫ف الكلم عن مواضعه‪،‬‬ ‫وحر َ‬
‫َّ‬ ‫الزور والبهتان‪ ،‬ووقف مع إبليس في مراتعه‪،‬‬
‫وهدم جدران الحقيقة‪ ،‬وسلك من طرق الزندقة واإللحاد أسوء طريقة‪،‬‬
‫وادعى الوصلة ولكن إلى النار وبئس القرار‪ ،‬وفارق منهاج السلف‬
‫األخيار‪.‬‬
‫وقد أ َّدبَنا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وبلغنا األحكام كلها‪ ،‬وتركنا‬
‫على محجة بيضاء ليلها كنهارها‪ ،‬ولم يأت في كتاب هللا وال في سنة‬
‫رسوله عليه الصالة والسالم ما يشير لهذه األغاليظ التي وضعها واضعها‬
‫حتى زلق والعياذ باهلل فجعل الخلق عين الخالق والمرزوق هو الرازق‪،‬‬
‫وخلط وغلط ولم يكتف حتى زعم أن زندقته هي الطريقة ال ُمثلى والمحجة‬
‫مبرورا‬
‫ً‬ ‫مشكورا واإللحاد طريقًا‬
‫ً‬ ‫الموصلة إلى [هللا]‪ ،‬وجعل الكفر سعيًا‬
‫نورا‪.‬‬
‫وظلمة الباطل ً‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬مراحل السالكين (ص‪.)60/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والكثير من هذه الفرقة قام قائمهم وقعد قاعدهم منهم ًكا بمطالعة كتب‬
‫الشيخ محي الدين بن عربي طاب مرقده‪ ،‬وال بدع فكتب الشيخ َكث ُ َرت فيها‬
‫الدسائس من قِبَ ِل ذوي الزيغ والبهتان وعصائب الشيطان‪ ،‬وهذا الذي‬
‫يطيب القول به لمن يريد براءة الذمة من القطع بما لم يعلم وهللا تعالى قال‪:‬‬
‫لك ب ِه عل ٌم} [سورة اإلسراء‪.]36/‬‬
‫ليس َ‬ ‫{وال ت َ ْق ُ‬
‫ف ما َ‬
‫وقد نسبوا أعني الدساسين للشيخ ما ال يصح ال عقالً وال شر ً‬
‫عا‪ ،‬وال‬
‫ينطبق على حكمة نظرية وال يوافق صحاح القواعد العرفانية‪ ،‬حتى تجرد‬
‫لرد كالمه أمة من العلماء وبعضهم ظنًّا بل جز ًما بأن كل ذلك من كالمه‬
‫أفتوا بتكفيره وقالوا فيه ما ال يقال‪ ،‬وحكموا عليه بذلك فيما ظهر لهم بقوله‬
‫الذي ال نشك في دسه عليه" انتهى كالم الصيادي‪ ،‬ثم ساق بعد ذلك جملة‬
‫من أقوالهم الكفرية الشنيعة التي تشمئز لها النفوس وتنفر منها القلوب‪.‬‬
‫ثم قال بعد ذلك ما نصه‪" :‬أليست ه َذياناتهم هذه ودسائسهم على الشيخ‬
‫وأمثاله كلّها إلحادًا وزندقة وإبطاالً لجميع الشرائع وإفسادًا في دين اإلسالم‪،‬‬
‫ت األنبياء وشرائعهم وثبوت الجنة والنار‬ ‫ألنه معلوم بالبَداه ِة أن ثبوت ذوا ِ‬
‫والثواب والعقاب في دار الجزاء إنما يُبتنى على ثبوت الحقائق في‬
‫الخارج‪ ،‬وإذا انتفى ثبوتها فيه انتفى ثبوتُ ذوات األنبياء عليهم السالم‬
‫وغيرهم من األمور المذكورة بالضرورة فال يتأتّى حينئ ٍذ إثبات رسول‬
‫ومرسل إليه فيلزم من ذلك بطالن جميع األمور الدينية والتكاليف‬
‫الشرعية‪.‬‬
‫وأما القول بإقرار األديان وادّعاء اإليمان بالرسل تست ُّ ًرا وتلبي ً‬
‫سا مع نفي‬
‫ظاهر‬
‫ٌ‬ ‫فتناقض‬
‫ٌ‬ ‫الحقائق وسلب الوجود عن األشياء المستلزم إبطا َل الشرائع‬
‫باهر بل هو عين الزندقة واإللحاد المنافيين للشرائع واألديان فانظر‬ ‫ٌ‬ ‫ومحا ٌل‬
‫كنت أهالً لإلنصاف‪.‬‬
‫ف إن َ‬ ‫ص ْ‬ ‫وأ ْن ِ‬
‫فلما عجزوا عن إقامة البرهان وسوق األدلة إلى إثبات المرام بهتوا‬
‫وتحصنوا مع ارتكاب أنواع المحاالت الفظيعة في ترويج تلك األباطيل‬
‫الشنيعة بادعاء الكشف والعيان كما قال سعد الدين التفتازاني رحمه هللا في‬
‫رسالته‪ ،‬ويروجون تلك السفسطة النافية لدين اإلسالم ولزوم األحكام‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بإحالتها على الكشف ويتفوهون بأن درجة الكشف وراء طور العقل وأنت‬
‫خبير بأن مرتبة الكشف نيل ما ليس له العقل ينال ال نيل ما هو ببديهة‬
‫العقل محال‪ ،‬وال ينبغي أن يتوهم أن ذلك من قبيل ما ليس له العقل ينال بل‬
‫هو مستحيل وللعقل في إبطاله تمكن ومجال‪.‬‬
‫ثم إن ما يناله الكشف وال يناله العقل عبارة عندهم عن الممكن الذي‬
‫الطريق إليه العيان دون البرهان ال المحال الممتنع الوجود في األعيان إذ‬
‫الكشف ال يجعل الممتنع متصفًا باإلمكان موجودًا في األعيان" اهـ‪.‬‬
‫لمسلم أن‬
‫ٍ‬ ‫ضا في موضع ءاخر من تلك الرسالة‪ :‬فكيف يحل‬ ‫وقال أي ً‬
‫يسمي بالتوصف هذه الزندقة وأولئك الكفرة الزنادقة بالمتصوفة‪ ،‬بل‬
‫التصوف في لسان القوم عبارة عن التخلق باألخالق النبوية والتمسك‬
‫بقوائم الشريعة المطهرة المحمدية في العلمية والعملية ال عن عقيدة‬
‫المعطلة والسوفسطائية والدهرية‪.‬‬
‫ومما يزيد لضالل أولئك الملحدين كشفًا وإيضا ًحا ولحال أولئك المبطلين‬
‫هت ًكا وافتضا ًحا أنهم يجمعون في إثبات تلك الزندقة الملعونة بين إقامة‬
‫الحجة والبرهان وبين ادعاء ظهورها عليهم بالكشف والعيان مع أنه من‬
‫المعلوم عند أهل العرفان أن التعبير عن المعلوم بالكشف والعيان ليس في‬
‫حيز اإلمكان لقصور العبارة عن بيان هذه الحال وتعذر الكشف عنها‬
‫بالمقال فال يمكن إيداعه في الكتب والرسائل فضالً عن إثباته بالحجج‬
‫والدالئل وناهيك ببديهة العقل الحاكمة على بطالن زندقتهم التي أصولها‬
‫المكابرات وفروعها الضالالت والمحاالت التي لم يسمع بمثلها من الكفرة‬
‫األقدمين ال من المجوس وال من المشركين‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫وكما قال السيد الشريف في حاشية التجريد‪ :‬ذهب جماعة من الصوفية‬
‫إلى أن ليس في الواقع إال ذات واحدة وهي حقيقة وجود ولها تقيدات بقيود‬
‫ظن موجودات متمايزة فيتوهم من ذلك‬ ‫اعتبارية بحسب ذلك تتراءى أي ت ُ َ‬
‫تعدد حقيقي وليس كذلك بل الكل حقيقة واحدة كالبحر في توجه فيتوهم‬
‫الصغير الذي ال يعقل أن ذلك المرتفع والمنخفض غير الماء‪ ،‬أما العاقل‬
‫فال يخفى عليه أن ليس في الوجود سوى هللا تعالى‪ ،‬وأن هذه الصور‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المرئية والكثرة المشهودة أمور اعتبارية وخياالت وهمية ليس لها حقيقة‬
‫الحق‪ ،‬أقول‪ :‬هذا خروج عن طور العقل َّ‬
‫فإن بداهيته شاهدة‬ ‫ّ‬ ‫مغايرة لحقيقة‬
‫بتعدد الموجودات تع ُّددًا حقيقيًا وأنه ذوات وحقائق مختلفة بالحقيقة دون‬
‫االعتبار فقط‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ضا قال في شرح المواقف‪ :‬إن حقائق الموجودات متخالفة بالضرورة‬ ‫وأي ً‬
‫وما يقال من أن الك ّل ذات واحدة متعددة بحسب األوصاف ال غير‬
‫فالمتقيدون بطور العقل يعدُّونه مكابرة ال يُلتفت إليها‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪ :‬قال أصحاب الذوق الوهمي‪" :‬إذا تعارض الكشف وظاهر‬
‫الكشف ألن الخبر ليس كالمعاينة"‪ ،‬ولم يدروا أن أخبار هللا‬
‫َ‬ ‫الشرع قدمنا‬
‫ورسوله فوق مرتبة عيان الخلق فكيف بالكشف الذي هو مح ُّل اللَّبس‪.‬‬
‫وقال اإلمام الطحاوي رحمه هللا‪ :‬إن العلم علمان‪ :‬علم في الخلق موجود‬
‫وعلم في الخلق مفقود‪ ،‬فإنكار العلم الموجود كفر وادعاء العلم المفقود‬
‫كفر‪ ،‬وال يثبت اإليمان إال بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود‬
‫انتهى‪.‬‬
‫أراد بالعلم المفقود علم القدر والغيب الذي طواه هللا تعالى عن أنامه‬
‫علم الشريعة أصولها وفروعها‬ ‫ونهاهم عن مرامه‪ ،‬وأراد بالعلم الموجود َ‬
‫فمن أنكر شيئًا مما جاء به الرسل كان من الكافرين‪ ،‬وكذا من ادعى َ‬
‫علم‬
‫الغيب‪.‬‬
‫ضا قال شارح عقيدة الطحاوي‪ :‬وهذا القول الذي هو ظاهر الفساد قد‬ ‫وأي ً‬
‫قضى بقوم إلى القول بالحلول واالتحاد وهو أقبح من كفر النصارى في‬
‫صوهُ بالمسيح من الكائنات وهؤالء ع ُّموا جميع‬
‫االعتقاد‪ ،‬فإن النصارى خ ُّ‬
‫الكائنات‪ .‬ومن فروع هذه التوحيد عندهم والعياذ باهلل أن فرعون وقو َمه‬
‫كاملو اإليمان عارفون باهلل تعالى على التحقيق واإليقان‪ ،‬ومن فروعه أنه‬
‫ال فرق بين في التحريم والتحليل بين األم واالخت واألجنبية‪ ،‬وال فرق‬
‫بين الماء والخمر والزنى والنكاح فك ٌّل من ٍ‬
‫عين واحدة بل هو العين‬
‫الواحدة‪ ،‬ومن فروعه أن األنبياء ضيَّقوا على الناس‪ ،‬تعالى هللا عما يقول‬
‫كبيرا‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫ً‬ ‫علوا‬
‫الظالمون ًّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كأنه أشار إلى أقوال دست على الشيخ محي الدين من أنه قال في‬
‫الفصوص‪" :‬من ادعى األلوهية فهو صادق في دعواه"‪ ،‬ومن أنه أباح‬
‫المكث للجنب والحائض في المسجد‪ ،‬وأنه يقول بقدم العالم‪ ،‬ومن أنه قال‪:‬‬
‫"ضيق ابن أبي كبشة أمر الدنيا على الموحدين"‪ ،‬وأن فرعون خرج من‬
‫مطهرا كما نقل ذلك عماد الدين بن كثير بسنده عن العالمة‬‫ً‬ ‫طاهرا‬
‫ً‬ ‫الدنيا‬
‫تقي الدين السبكي عن شيخ اإلسالم ابن دقيق العيد القائل في ءاخر عمره‪:‬‬
‫"لي أربعون سنة ما تكلمت بكلمة إال وأعددت لها جوابًا بين يدي هللا‬
‫تعالى"‪ ،‬قال اإلمام الجزري رحمه هللا بعد كالم‪" :‬وبالجملة فالذي أقوله‬
‫وأعتقده وسمعته ممن أثق به من شيوخي الذين هم حجة بيني وبين هللا‬
‫تعالى أن من ص ّح عنه هذا الكالم وأمثاله مما يخالف الشرع المطهر وقاله‬
‫وهو في عقله ومات وهو معتقد ظاهره فهو أنجس من اليهود والنصارى‬
‫فإنهم ال يستحلون أن يقولوا ذلك‪ ،‬وال يلتفت إلى قول من قال إن هذا الكالم‬
‫يؤول بما يوافق أحكام اإلسالم فإنه غلط‬‫المخالف لظاهر المرام ينبغي أن َّ‬
‫من قائله وكيف يؤول قولهم‪:‬‬
‫الرب حق والعبد حق *** يا ليت شعري من المكلف‬
‫وقولهم‪" :‬ما عرف هللا إال المعطلة والمجسمة ألن هللا تعالى يقول‪{ :‬ليس‬
‫البصير} دليل المجسمة"‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫{وهو السمي ُع‬
‫َ‬ ‫كمثله شئ} فهذا دليل المعطلة‪،‬‬
‫ضى رب َُّك َّأال‬ ‫وقولهم‪ :‬ما عبد من عبد إال هللا ألن هللا تعالى يقول‪{ :‬وق َ‬
‫ت َ ْعبُدوا إال إيَّاه} [سورة اإلسراء‪ ،]23/‬وقولهم في فرعون‪{ :‬فأ َخ ْذناهُ و ُجنُو َدهُ‬
‫كيف كانَ عاقِبةُ الظالمينَ * و َجعَ ْلنا ُهم أئِ َّمةً يَ ْدعُونَ‬
‫َ‬ ‫ظ ْر‬‫اليم فا ْن ُ‬
‫فنَبَ ْذناهُم في ِ ّ‬
‫ويوم‬
‫َ‬ ‫صرون* وأتْبَ ْعنا ُهم في هذ ِه الدنيا لَ ْعنَةً‬‫ويوم القيام ِة ال يُ ْن َ‬‫َ‬ ‫النار‬
‫إلى ِ‬
‫القيام ِة ُهم منَ ال َم ْقبوحينَ } [سورة القصص‪ .]42-41-40/‬ثم إنما يؤول‬
‫كالم المعصوم‪ ،‬ولو فتح باب تأويل كل كالم ظاهر الكفر لم يكن في‬
‫األرض كافر‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫والحق يقال‪ :‬الذي عليه أهل الورع من علماء الدين أنه ال يحكم على‬
‫ابن عربي رحمه هللا نفسه بشئ ألنا لسنا على يقين من صدور مثل هذه‬
‫الكلمات منه وال من استمراره عليه إلى وفاته‪ ،‬ولكنا نحكم على مثل هذا‬
‫الكالم بأنه كفر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد تجرأ بعضهم فقال‪ :‬هذه الكلمات من اصطالحات الصوفية توافقوا‬


‫على ألفاظ وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها‪ ،‬فأجاب بعض‬
‫الفضالء عن تلبيس هذا الملبس بقوله‪" :‬إن أراد هذا المغفل بالصوفية‬
‫الصوفية الحقيقية المسلمين التالعين للكتاب والسنة فزور وبهتان ألنهم إنما‬
‫اصطلحوا على ألفاظ مطابقة في تفسيرها لقواعد اإلسالم وأحكام الشرع‬
‫غير مخالفة لشئ منها على ما هو في البرهان المؤيد والرسالة القشيرية‬
‫ونحوهما‪.‬‬
‫وإن أراد بالصوفية هؤالء المالحدة فإننا قد اطلعنا على اصطالحاتهم‬
‫المخالفة لقواعد اإلسالم بل لقواعد جميع الملل واألديان‪ ،‬واختبرنا مذهبهم‬
‫حقيقة االختبار فكله فاسد وإلى الوهم والخيال راجع وعائد‪ ،‬والسادة‬
‫الصوفية أهل المراتب العلية هم كما قال الشرف المقري رحمه هللا تعالى‪:‬‬
‫على الحق كانوا ليس فيهم لوحدة *** وال لحلول الحق ذكر لذاكر‬
‫ويا ليت شعري هل يجوز ألحد أن يصطلح على ما يخالف الشرع‬
‫واللغة ويوجب كفر صاحبه ويصير سببًا لفتح باب الشر والفساد لسائر‬
‫المالحدة والزنادقة المبطلين‪ ،‬فويل ثم ويل لمن يدعي العلم ويُظهر الفضل‬
‫فينخدع ويغتر بمثل هذه الشبهات الركيكة الوهمية والتلبيسات اإللحادية‬
‫الزندقية‪ ،‬ولم يفرق بينهما وبين االصطالحات اإلسالمية"‪.‬‬
‫وقال بعضهم‪" :‬إن كالمهم شبيه بالمتشابه في الكتاب والسنة من حمله‬
‫على ظاهره كفر وله معنى سوى المعنى المتعارف"‪ ،‬وقال بعض العلماء‬
‫في جوابه‪" :‬بأن المتشابه هو الكالم الذي فيه اشتباه الطرفين يشبه المردود‬
‫بظاهره ويحتمل المقبول بتأويل مطابق لظاهره وهذا ال يتأتى في ظاهر‬
‫عباراتهم بل هي نص صريح في أن الحق هو الوجود المطلق وأن العالم‬
‫ضا هل يجوز ألحد غير الشارع أن يتكلم بكلمات‬ ‫صورته وهويته‪ ،‬وأي ً‬
‫متشابهة مخالفة للشرع (‪ )1‬ويداوم عليها ويكتبها في الكتب ويدونها في‬
‫الزبر ويحرض الناس على قبولها والعمل بها كال ال يجوز ذلك لغير‬
‫الشارع صلى هللا عليه وسلم أبدًا‪ .‬وال تغتر أيها المحب بقول من يقول‪" :‬إن‬
‫هذه الكلمات من أمور القلب" فذلك جهل أو عناد ألن األلفاظ قوالب‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المعاني وموضوعة لها‪ ،‬والمعاني إنما تؤخذ من األلفاظ وإال لما ثبت كفر‬
‫أحد وال إيمانه مع أن العلماء والعقالء اجتمعوا على أن مذاهب الرجال‬
‫تعرف من كالمهم في كتبهم وإال فقد فُ ِق َد األمن من كل شئ"‪.‬‬
‫قال سعد الدين التفتازاني رحمه هللا تعالى‪" :‬صرف الكالم عن ظاهره‬
‫وجواز تأويله وحمله على المجاز إنما يُحكى إذا لم يصرح المتكلم أن‬
‫مقصوده حقيقة الكالم ولم يقم على إثباتها البرهان‪ ،‬فعند التصريح وإقامة‬
‫الدليل على إثبات مفهومه الصريح يصير محك ًما في إفادة الحقيقة غير قاب ٍل‬
‫للتأويل وحمله على المجاز‪ ،‬وذلك كتصريح المالحدة الوجودية بأن هللا‬
‫تعالى هو الموجود المطلق المنبسط في الظاهر‪ ،‬ثم تلفيقهم المغالطة في‬
‫صورة البرهان على إثباته ثم تفريعهم عليه بأن كل من عبد األصنام فقد‬
‫عبج هللا وكل من ادعى األلوهية فهو صادق في دعواه فلذلك بعد ما صار‬
‫محك ًما بالتصريح وإقامة الدليل ال يقبل التجوز والتأويل‪.‬‬
‫وبهذا يظهر لك بطالن ما يقوله الذابون عن هؤالء المالحدة أن ليس‬
‫مراد الوجودية ما تفهمه العامة بل لهم تأويل ال يفهمه إال الخاصة" انتهى‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أي من حيث الظاهر‪.‬‬

‫وقولهم‪" :‬لعل له تأويالً" عين الفساد في الدين أن يتكلم شخص بكالم هو‬
‫كفر وإلحاد في ملة اإلسالم ويرغب فيه ويدعو إليه ثم يقال‪" :‬لعل له تأويالً‬
‫عند أهل الباطن" وهل باطن دين اإلسالم يخالف ظاهره‪.‬‬
‫فإن قالوا‪" :‬كالهما حق"‪ ،‬يقال لهم‪ :‬هذا مخالف لقوله تعالى‪{ :‬فماذا بع َد‬
‫ق إال الضاللُ} [سورة يونس‪.]32/‬‬ ‫الح ّ ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا مخالف إلجماع المسلمين أن الحق واحد في االعتقادات التي‬‫وأي ً‬


‫يكفر مخالف الحق فيها‪ ،‬ولهذا أجمع أهل زمان الحالج على قتله مع أن‬
‫كالمه أقرب إلى إمكان التأويل من كالم غيره‪.‬‬
‫وقولهم‪" :‬صدور ذلك عنهم يكون في حال السكر والغيبة وهم غير‬
‫مؤاخذين ألنهم غير مكلفين في ذلك الحال"‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬قد تقرر أن صدور مثل كلمة أو كلمتين أو نحو ذلك حال‬
‫السكر والشطح قد يمكن ال تأليف كتاب وتأسيس قواعد وتفريع فروع مبنية‬
‫عليها وترتيب مقدمات وبراهين بزعمهم كتأسيس أن الحق سبحانه هو‬
‫الوجود المطلق الظاهر في صورة الموجودات وأن الموجودات عينه‬
‫مسلم يح ُّل له أن يسمع‬
‫ٍ‬ ‫وهويته‪ ،‬ثم تفريع أن ّمن عبد شيئًا فإنما عبَ َد هللا فأ ّ‬
‫ي‬
‫مثل هذا ثم يقول‪" :‬لعل له تأويالً" أو "لعله قاله القائل حال سكره" أو أن‬
‫يعتقد أن القوم أهل هللا يقولون أو يعتقدون مثل هذا الكالم وحاشاهم بل هم‬
‫مبرؤون من كل ذلك وقائل ذلك هالك‪.‬‬ ‫َّ‬
‫فالحاصل أن القائلين بالوحدة المطلقة لهم اعتقا ٌد خارج عن الشرع‬
‫مصرحون بذلك‪ ،‬ويقولون إن متابعة العقل ِحجاب وكذلك العلم‬ ‫ِّ‬ ‫والعقل وهم‬
‫االستداللي وإنما ينال العلم الذي يدَّعونه بالذوق ال بتقليد األنبياء وال‬
‫ببراهين العلماء يريد بذلك قائلهم ان نظر العقل قاصر على إدراك األمور‬
‫ضا قاصرة عنه ألنه ال يمكن الوصول إليها‬ ‫كما هو َحقُّها‪ ،‬فكذلك األخبار أي ً‬
‫إال بالذوق ال بالوحي فلذلك ألسنة األنبياء والرسل قاصرة عنها‪ ،‬فلم يبق‬
‫العلم الكامل واإلدراك التام إال في التجلي والكشف‪ ،‬فهذا إنكار لجميع‬
‫الشرائع وصريح في عدم قبولها كما قال كثير من الوجودية‪ُ " :‬ك َّمل األولياء‬
‫يأخذون العلم من المعدن الذي أخذ منه األنبياء والرسل من ذلك المعدن‬
‫الرواة واألسانيد ليس بعلم"‪ ،‬وهذا هو الضالل‬ ‫فالعلم الذي أخذ بواسطة ُّ‬
‫البعيد والعصيان الذي ما عليه من مزيد‪.‬‬
‫وصرح بعض الفضالء أن هذه الضاللة المستحيلة في العقول سرت في‬
‫جماعة من المسلمين نشأول في االبتداء على الزهد والخلوة والعبادة فلما‬
‫حصلوا من ذلك على شئ صفت أرواحهم وانكشفت لهم ما كانت الشواغل‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الشهوانية مانعة من انكشافه‪ ،‬وقد طرق أسماعهم من خرافات رهبان‬


‫النصارى أنه إذا دخل روح القدس في شئ نطق بالحكمة وظهر له أسرار‬
‫ما في هذا العالم مع تشوف النفوس إلى المقاصد العلية فذهبوا إلى هذه‬
‫المقالة السخيفة‪ ،‬فمنهم من صرح باالتحاد على المعنى الذي قالته الرهبان‬
‫وزادوا عليهم ولم يقتصروه على المسيح كما ذهبت إليه غالة الروافض في‬
‫سيدنا اإلمام علي رضي هللا تعالى عنه من الحلول‪ ،‬ولهم في ذلك كلمات‬
‫يعسر تأويل كلها لمن يريد االعتذار عنهم بل منها ما ال يقبل التأويل‪.‬‬
‫ولهم في التأويل خلط وخبط كلما أرادوا أن يقربوا من المعقول ازدادوا‬
‫بُعدًا حتى إنهم استنبطوا قضية حلت لهم الراحة وقنعوا في مغالطة‬
‫الضرورة بالمغيب وهي أن ما هم فيه يزعمون وراء طور العقل وأنه يفهم‬
‫أن التكليف في أمر‬‫بالوجدان وال يقدر على اإليضاح به اللسان والحال َّ‬
‫الوسع والوسع هو الوسع العقلي ال غير‪ ،‬وهللا‬ ‫الدين لم يجئ إال بمقدار ُ‬
‫سا إال ُو ْسعَها} [سورة البقرة‪ ]286/‬أي طاقتها‬ ‫تعالى قال‪{ :‬ال يُ َك ِلّ ُ‬
‫ف هللاُ نف ً‬
‫ووسع عقلها‪ ،‬والنبي صلى هللا عليه وسلم لم يمتحن األمة إال بما تعي به‬
‫العقول‪ ،‬فعلى هذا ما كان وراء طور العقل لم يكن من الدين‪ ،‬وهذه أحكام‬
‫الدين التي يجب اعتقادها دائرة على محور العقل وال يضر بعض األحكام‬
‫عدم وصول بعض العقول لفهمها ولحقائق أسرار الشرع فيها بل الغاية من‬
‫هذا المعنى أن العقول لفهمها ولحقائق أسرار الشرع فيها بل الغاية من هذا‬
‫المعنى أن العقول الكاملة أعني عقالء العلماء العاملين وأهل ال ِعرفان‬
‫واليقين محيطة بفهم حقائق األحكام المعتقدة‪ ،‬وذلك قال شيخنا شيخ مشايخ‬
‫اإلسالم القطب الغوث األكبر اإلمام السيد أحمد الرفاعي رضي هللا عنه‬
‫وعنا به‪" :‬كل دين لم يحط بالعقل فليس بدين وكل عقل لم يحط بالدين‬
‫فليس بعقل" أي ليس بعقل كامل‪ ،‬وقد أوردنا في هذا المقصد كلمات‬
‫العلماء األعالم احتجا ًجا على قواصر األفهام كي ال يزعم أحدهم أن قولنا‬
‫محض انتصار لمذهبنا في طريقتنا العلية الرفاعية بالرد على الوجودية‪.‬‬
‫ومن كالم علماء الدين رضي هللا عنهم تعلم أيها المحب صحة مذهب‬
‫السادة الرفاعية أنصار السنة السنية فتمسك بهديهم وسر بطريقهم وخذ‬
‫بقولهم ودع شقاشق أهل الوحدة المطلقة فإنها عين الزندقة‪ ،‬وال ت ُ ِ ّ‬
‫فرط وال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فرط‪ ،‬وبرئ القول الذين اشتهروا بالصالح والعرفان من نسبة األقوال‬ ‫تُ ِ‬
‫المكفرة إليهم وحملها عليهم‪ ،‬وقل بدسها في كتبهم وعلى ألسنتهم فقد وضع‬
‫الوضاعون على لسان الشارع المأمون صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وتحقق‬
‫عا للعلماء العاملين أكابر الدين‪،‬‬
‫بظاهر الشرع الشريف‪ ،‬واعمل به اتبا ً‬
‫ودع ما يريبك إلى ما ال يريبك‪ ،‬وقف مع السنة‪ ،‬وتباعد عن الفتنة‪ ،‬واهجر‬
‫المارقين والضالين‪ ،‬واندمج في الصالحين الصادقين‪ ،‬وأن هللا لمع‬
‫المتقين"‪ ،‬انتهى كالم الصيادي‪.‬‬
‫الوهدات‬‫وقال في نفس الكتاب ما نصه (‪" :)1‬وأزلق الناس في هذه َ‬
‫زمر المتشيخة من الفقاء والصوفية الذين انبعثوا مع هفوات ءارائهم‬
‫وأعجبتهم طقطقة النعال حولهم وكثرة المعتقدين والطالب فوسوس لهم‬
‫الشيطان وخدعهم فأحدثوا في المذاهب والطرق الشريفة ما لم يقل به‬
‫السلف‪ ،‬يريدون بذلك زيادة استمالة الناس من العامة‪ ،‬وها هم بين ظهراني‬
‫األمة يكذبون على هللا ويفترون على رسوله صلى هللا عليه وسلم وهللا‬
‫تعالى قال‪{ :‬و َم ْن أظلَ ُم ِم َّم ِن افترى على هللاِ ك ِذبًا} [سورة العنكبوت‪،]68/‬‬
‫يخوضون في الدين ويغشون المسلمين ويأتون بالعجب العجاب من‬
‫المعتقدات الفاسدة والبضائع الخبيثة الكاسدة‪ ،‬ويُبيحون المحرمات‬
‫ويُحرفون معاني األخبار واآليات‪ ،‬ويفسرون كالم هللا بآرائهم‪ ،‬ويجذبون‬
‫جماهير العامة من بحبوحة صحتهم إلى وهدة دائهم‪ ،‬يتكلمون بالحلول‬
‫واالتحاد‪ ،‬ويثبتون في األرض الفساد واإللحاد‪ ،‬ويكثرون من الشطحات‬
‫والدعاوى العريضة والترهات‪،‬‬

‫(‪ )1‬مراحل السالكين (ص‪.)51/‬‬


‫فمثل أولئك عصابة الخدعة والمكر والفرار منهم يجب كما يجب الفرار‬
‫من المجذوم" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال في نفس الكتاب ما نصه (‪" :)1‬قال إمام الطريق سيدنا الغوث‬
‫األكبر الرفاعي‪" :‬أقرب الناس إلى الزندقة المتصوفة المشغولون عن‬
‫العبادات بالخوض في الكالم على الذات والصفات" اهـ‪ ،‬ثم قال‪" :‬وقال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫رضي هللا عنه‪" :‬قل لمدعي الوحدة المطلقة أنت محوز عن غيرك بجهتك‬
‫ومكانك وهو منزه عن الجهة والمكان‪ ،‬وأنت محاط بثوبك وهو بكل شئ‬
‫مسو ٌر بالعجز في كل شئ وهو على كل شئ قدير‪ ،‬فكذب‬ ‫محيط‪ ،‬وأنت َّ‬
‫وهمك كما كذبك وجودك لتدخل في أعداد المؤمنين الصادقين‪ ،‬فكل ما‬
‫يطرأ عليه الحدث من جانب فهو حادث‪ ،‬فاتق هللا ّ‬
‫ونزه ربك فإن التوحيد‬
‫إفراد القدم عن الحديث" اهـ‪.‬‬
‫وقد أورد أبو الهدى الصيادي قبل هذا الكالم في كتابه هذا أبياتًا َّأولها‪:‬‬
‫طريقة الغوث الكبير األمجد *** أحمد نسل المصطفى رب اليد‬
‫طريقة السنة والكتاب *** واآلل أهل الحق واألصحاب‬
‫ثم قال فيها‪:‬‬
‫طريقة القول برد الشطح *** واألخذ ما بين الورى بالنصح‬
‫طريقة البعد عن اإللحاد *** مثل حلول ساء واتحاد‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مراحل السالكين (ص‪.)78/‬‬

‫ضا في كتابه‪" :‬الطريقة الرفاعية" ما نصه (‪" :)1‬الطريقة‬ ‫وقال أي ً‬


‫الرفاعين رد القول بالوحدة المطلقة والحلول بل ورد الشطحات والدعاوى‬
‫العريضة التي ال يقول بها الشرع وال يرتضيها العقل"‪ ،‬ثم قال‪" :‬وحيث إن‬
‫القول بالوحدة المطلقة والحلول يؤدي إلى الكفر والعياذ باهلل تعالى‪،‬‬
‫والشطحات العريضة تؤدي إلى الفتنة وتزلق بقدم الرجل إلى النار‬
‫فاجتنابها واجب‪ ،‬وتركها ضربة الزب‪ ،‬وكل ذلك من طريق شيخنا اإلمام‬
‫السيد أحمد الرفاعي الحسيني رضي هللا عنه وعنا به‪ ،‬وبهذا أمر أتباعه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأشياعه وحث على ذلك أصحابه وأحزابه‪ ،‬وقد أوضح كل ذلك في كتابه‬
‫"البرهان المؤيد" وفي الكثير من مجالسه الشريفة ومقوالته المنيفة وتناقلها‬
‫أتباعه بطنًا بعد بطن وجيالً بعد جيل" اهـ‪.‬‬
‫وقال في كتابه "الكوكب الدري" ما نصه (‪" :)2‬خاتمة استطرادية‪ :‬من‬
‫قال‪ :‬أنا هللا‪ ،‬أو ما في الوجود إال هللا‪ ،‬أو ال موجود إال هللا‪ ،‬أو الكل هو هللا‪،‬‬
‫أو نحو ذلك فإن كان عاقالً صاحيًا في قيد التكليف فال خالف بين المسلمين‬
‫جميعًا في كفره لمخالفته نص القرءان إذ يلزم حينئذ نفي الخالق والمخلوق‬
‫سل إليه والجنة والنار للزوم االتحاد من هذا القول‪ ،‬وهو‬ ‫والرسول والمر َ‬
‫زلال والعياذ باهلل من الذين قالوا بالحلول واالتحاد وقد خصصوهما‬ ‫أشد ً‬
‫بسيدنا عيسى فقط عليه الصالة والسالم بخالف من قال ما تقدم فإنه يلزم‬
‫من قوله الشمول لكل الموجودات‪ ،‬وبهذا صرح بعضهم فقال‪:‬‬
‫وما الكلب والخنزير إال إلهنا *** وما هللا إال راهب في كنيسة‬
‫وهذا كفر وضالل تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم‪ ،‬وأما إن كان‬
‫قائل ما تقدم غائبًا عن شعوره مغ ًمى عليه فقد سقط عنه التكليف فال يكفر‬
‫عا‪ ،‬كما أنه ال يجوز تقليده مطلقًا‪ ،‬وال ريب‬
‫حينئذ وال يؤاخذ شر ً‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬الطريقة الرفاعية (ص‪.)15/‬‬
‫(‪ )2‬الكوكب الدري في شرح بيت القطب الكبير (ص‪.)12-11/‬‬
‫أن التفوه بمثل ذلك من كل عاقل مكلف يغضب هللا ورسوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫واعلم أن أهل الطريق الحق ال ينحرفون في األقوال واألفعال عن ظاهر‬
‫الشرع‪ ،‬وكفى بالشرع والشارع قدوة وإما ًما والسالم" انتهى كالم‬
‫الصيادي‪.‬‬
‫ولتأييد ما ذكرناه نورد ما ذكره الحافظ السيوطي الذي جمع بين علم‬
‫الشريعة والتصوف في رسالته "تنزيه االعتقاد عن الحلول واالتحاد" (‪)1‬‬
‫ونص عبارته‪" :‬وما زالت العلماء ومحققو الصوفية يبينون بطالن القوم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بالحلول واالتحاد وينبهون على فساده ويحذرون من ضالله" اهـ‪ ،‬ثم ساق‬
‫السيوطي جملة من أقوال األئمة في ذلك نورد بعضها‪:‬‬
‫"قال اإلمام فخر الدين الرازي في كتاب "المحصل في أصول الدين"‪:‬‬
‫مسئلة‪ :‬البارئ تعالى ال يتحد بغيره ألنه حال االتحاد –يعني على زعمهم‪-‬‬
‫إن بقيا موجودين فهما اثنان ال واحد"‪.‬‬
‫"وقال اإلمام أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي الكبير في مناظرة‬
‫ناظرها لبعض الحلوليين‪ :‬ال ينفع التنزيه مع القول باالتحاد والحلول فإن‬
‫دعوى التنزيه مع ذلك إلحاد‪ ،‬وكيف يصح توحيد مع اعتقاد أنه سبحانه حل‬
‫في البشر"‪.‬‬
‫"وقال القاضي عياض المالكي في الشفا ما معناه‪ :‬أجمع المسلمون على‬
‫كفر أصحاب الحلول ومن ادعى حلول البارئ سبحانه في أحد األشخاص‬
‫كقول بعض المتصوفة والباطنية"‪.‬‬
‫"وقال الشيخ عز الدين بن عبد السالم في قواعده الكبرى‪ :‬ومن زعم أن‬
‫اإلله يحل في شئ من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر"‪.‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬الحاوي للفتاوي (‪.)130-137/2‬‬

‫"وقال صاحب كتاب "نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول‬
‫واالتحاد"‪ :‬حدثني الشيخ كمال الدين المراغي قال‪ :‬اجتمعت بالشيخ أبي‬
‫العباس المرسي تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي وفاوضته في‬
‫هؤالء االتحادية فوجدته شديد اإلنكار عليهم والنهي عن طريقهم وقال‪:‬‬
‫أتكون الصنعة هي الصانع"‪.‬‬
‫ثم قال صاحب نهج الرشاد‪" :‬وما زال عباد هللا الصالحون من أهل العلم‬
‫واإليمان ينكرون حال هؤالء االتحادية‪ ،‬قال الشيخ سعد الدين التفتازاني‬
‫]‪[Type text‬‬

‫في شرح المقاصد‪ :‬ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن‬
‫في السلوك وخاض معظم لجة الوصول فربما يحل هللا فيه تعالى هللا عما‬
‫كبيرا كالنار في الجمر بحيث ال تمايز أو يتحد به‬
‫ً‬ ‫علوا‬
‫يقول الظالمون ً‬
‫بحيث ال أثنينية وال تغاير وصح –على زعمهم‪ -‬أن يقول‪ :‬هو أنا وأنا هو‪،‬‬
‫قال التفتازاني‪ :‬وفساد الرأيين غني عن البيان"‪.‬‬
‫وذكر الحافظ أبو نعيم األصبهاني في أول كتابه حلية األولياء أنه جمع‬
‫فيه أسامي جماعة من أعالم المحققين من الصوفية وأئمتهم من قرن‬
‫الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم وذلك لما انتشر في األمصار في‬
‫كل قطر المنتسبون إليهم من الفسقة الفجار والمباحية والحلولية الكفار‪.‬‬
‫ي قال "أنا هللا" وال ينافي ذلك‬ ‫تنبيه‪ :‬قال العز بن عبد السالم‪" :‬يُ َّ‬
‫عزر ول ٌّ‬
‫واليته ألنه غير معصوم" يعني أن الولي إذا قال بلسانه في حال ارتفاع‬
‫التكليف عنه ذلك لغيبة عقله يُعزر ألنه ينكف عن قوله بالتعزير‪ ،‬ألن‬
‫التعزير يؤثر في المجنون كما تؤثر العقوبة بالضرب في البهائم‪ ،‬ولم يُرد‬
‫أن الولي يتكلم بكلمة الكفر في حال صحوه بإرادة ألن الولي معصوم عن‬
‫أن يتكلم بكفر ما دام بحالة التكليف كما دل على ذلك الحديث القدسي (‪)1‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الرقاق‪ :‬باب التواضع‪.‬‬

‫ي عبدي بشئ أحب‬ ‫"من عادى لي وليًّا فقد ءاذنته بالحرب وما تقرب إل ّ‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه فإذا‬
‫إلي مما افترضته عليه وال يزال عبدي يتقرب إل ّ‬
‫أحببته كنت سمعه الذي يسمع به" الحديث‪ ،‬وفي رواية‪" :‬ويكون من‬
‫أوليائي وأصفيائي" (‪.)1‬‬
‫وليحذر العاقل من هؤالء المتصوفة الذي ال يراعون الشريعة‪ ،‬ومن‬
‫عادتهم أنهم إذا عارضهم معارض فيما يخالفون فيه الشرع يقولون‪" :‬أنتم‬
‫أهل الظاهر ونحن أهل الباطن ال نتفق" فيقال لهؤالء الجهلة‪ :‬هللا تعالى ما‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جعل شريعتين شريعة للمتصوفة وشريعة للمتمسكين بشرعه بل ال يصل‬


‫متصوف إلى الوالية إال بالتمسك بشرع هللا ثم بعد الوالية يزداد تمس ًكا‬
‫بالشريعة فعندئذ يستحق العلم اللدني‪ ،‬أما من لم يتمسك بالشريعة على‬
‫التمام فحرام عليه العلم اللدني‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬أليس قال هللا تعالى‪{ :‬واتَّقُوا هللاَ ويُ َع ِلّ ُم ُك ُم هللاُ} [سورة‬
‫البقرة‪ ]282/‬قيل لهم‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬واتقوا هللا} معناه أدوا كل الفرائض‬
‫واجتنبوا كل المحرمات فهذا الذي يُعلمه هللا العلم اللدني أما بدون ذلك‬
‫عا أن يعطيه هللا تعالى العلم اللدني‪.‬‬ ‫مستحيل شر ً‬
‫وهؤالء ابتعدوا من نصوص الشريعة كل البعد قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم (‪" :)2‬كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"‪ ،‬أي كل أمر ال يوافق‬
‫شريعتنا فهو مردود عند هللا تعالى‪ ،‬فما أبعدهم من سيرة سيد الطائفة‬
‫الصوفية الجنيد بن محمد البغدادي رضي هللا عنه فقد قال‪" :‬الطريق إلى‬
‫هللا مسدودة إال على المقتفين ءاثار رسول هللا"‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬عزاهل الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪ )345/11‬للطبراني‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب األقضية‪ :‬باب نقض األحكام‬
‫الباطلة ورد محدثات األمور‪.‬‬

‫س ِلّمين لهم فلذلك قال‬


‫وما أشد تلبيس هؤالس على الناس وما أكثر ال ُم َ‬
‫الجنيد رضي هللا عنه للحالج‪" :‬لقد فتحت في اإلسالم ثغرة ال يسدها إال‬
‫رأسك" فتحققت فراسة الجنيد فيه فإنه قتل فخفت فتنته ألنه كان له طائفة‬
‫كانوا يسمون الحالجية زاغوا عن الحق وانحرفوا‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫االجتهاد وشروطه‬
‫االجتهاد هو استخراج األحكام التي لم يرد فيها نص صريح ال يحتمل‬
‫إال معنى واحدًا من الكتاب والسنة‪ ،‬فالمجتهد هو من له أهلية ذلك بأن‬
‫يكون عال ًما باألحكام في كتاب هللا‪ ،‬وبناسخه ومنسوخه‪ ،‬وعا ّمه وخاصه‪،‬‬
‫ومطلقه ومقيده وغير ذلك‪ ،‬ويستدل على ما احتمل التأويل بالسنة‬
‫وباإلجماع‪ ،‬فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب‪ ،‬فإن لم يكن فبالقياس‬
‫على في السنة‪ ،‬فإن لم يكن فبالقياس على ما اتفق عليه السلف وإجماع‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الناس ولم يعرف له مخالف‪ .‬وال يجوز القول في شئ من العلم إال من هذه‬
‫األوجه‪ ،‬وال يكون صال ًحا ألن يقيس حتى يكون عال ًما بما مضى قبله من‬
‫السنن وأقوال السلف وإجماع الناس واختالف العلماء ولسان العرب‪،‬‬
‫ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات‪ ،‬وال يعجل ويسمع ممن خالفه‬
‫ليتنبه بذلك على غفل ٍة إن كانت‪ ،‬وأن يبلغ غاية جهده‪ ،‬وينصف من نفسه‬
‫حتى يعرف من أين قال ما قال‪ .‬وتشترط العدالة وهي السالمة من الكبائر‬
‫ومن المداومة على الصغائر وهي أن تغلب على حسناته من حيث العدد‪.‬‬
‫ويشترط فوق ذلك شرط هو ركن عظيم في االجتهاد وهو فقه النفس‪ ،‬أي‬
‫قوة الفهم واإلدراك‪.‬‬
‫اختالف المجتهدين‬
‫االختالف على وجهين‪:‬‬
‫األول‪ :‬االختالف في المنصوص عليه‪ ،‬وال يح ّل االختالف فيه‬
‫كالصلوات المفروضات وتحريم الزنى واللواط وغير ذلك‪ ،‬فمن علم‬
‫بالنص ثم خالف في ذلك فقد كذب هللا تعالى ورسوله في خبرهما فيحكم‬
‫أمرا معلو ًما من الدين‬
‫بكفره‪ ،‬ومن خالف ولم يعلم بالنص ولم ينكر ً‬
‫وحل البيع‬
‫بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس وتحريم الزنى واللواط ِ‬
‫فال يكفر‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬االختالف في غير المنصوص عليه والمجمع عليه ويسوغ فيه‬
‫االجتهاد كاختالف بعض الصحابة في بعض المسائل‪ ،‬فقد اختلف اجتهاد‬
‫أبي بكر عن اجتهاد علي وزيد بن ثابت في مسئلة توريث اإلخوة مع الجدّ‪،‬‬
‫مس المرأة األجنبية‬
‫وكذلك اختالف الشافعي وأبي حنيفة في مسئلة نقص ّ‬
‫بال حائل الوضوء‪.‬‬
‫المقلّد‪:‬‬
‫وأما المقلد فهو الذي لم يصل إلى تلك المرتبة بل يعمل بما قال‬
‫المجتهدون كالشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والدليل على أن المسلمين على هاتين المرتبتين قوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬نض ََّر (‪ )1‬هللا امرأ سمع مقالتي فوعاها (‪ ،)1‬فربَّ حامل فقه ال‬
‫"فربَّ حامل فقه ال فقه له"‪ .‬وفي‬
‫فقه له" (‪ .)2‬والشاهد في الحديث قوله‪ُ :‬‬
‫رواية‪:‬‬
‫_______________‬
‫دعا له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بحسن وجهه يوم القيامة وبالسالمة من الكآبة‬ ‫(‪)1‬‬
‫التي تحصل من أهوال يوم القيامة ألن يوم القيامة يوم األهوال العظام والشدائد‬
‫الجسام‪ ،‬الرسول دعا بذلك لمن حفظ حديثه فأداه كما سمعه من غير تحريف‪ ،‬انتهى‬
‫مؤلفه‪.‬‬
‫معنى ذلك أن من الناس من يسمعون حديث الرسول ويكون حظهم الرواية فقط لما‬ ‫(‪)2‬‬
‫سمعوه ويكون فهمهم أق َّل من فهم من يبلّغه هذا السامع يستطيع من قوة قريحته أن‬
‫يستخرج منه أحكا ًما ومسائل ويسمى هذا االستنباط والذي سمع ليس عنده هذه‬
‫القريحة القوية إنما يفهم المعنى الذي هو قريب من اللفظ‪ ،‬فمن هنا يعلم أن بعض‬
‫الصحابة يكون أقل فه ًما ممن يسمع منهم أحاديث رسول هللا‪ ،‬ومعنى الحديث أن‬
‫الذين ال يستطيعون أن يستخرجوا الفقه من الحديث أكثر من الذين يستطيعون وهذا‬
‫كثيرا" ويكفي شاهدًا لذلك أن أكثر المحدثين‬
‫ً‬ ‫"ربَّ للتكثير‬
‫موافق لقول النحويين ُ‬
‫والحفاظ مقلدون لألئمة األربعة‪.‬‬
‫أخرجه الطبراني في الكبير (‪ )49/17‬من حديث عمير بن قتادة الليثي‪ :‬قال‬ ‫(‪)3‬‬
‫الهيثمي في مجمع الزوائد (‪" :)138/1‬ورجاله موثقون إال أني لم أر من ذكر‬
‫محمد بن نصر شيخ الطبراني"‪.‬‬

‫"مبلّغ أوعى من سامع" (‪ )1‬فإنه يفهمنا أن من الناس َم ْن حظه الرواية‬


‫فقط‪ ،‬وليس عنده مقدرة على فهم ما يتضمنه الحديث من المعاني‪ ،‬وفي لفظ‬
‫"فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" (‪.)2‬‬
‫لهذا الحديث‪ُ :‬‬
‫وهذا المجتهد هو مورد قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إذا حكم الحاكم‬
‫فاجتهد ثم أصاب فله أجران‪ ،‬وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (‪ )3‬وإنما‬
‫خص رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في هذا الحديث الحاكم بالذكر ألنه‬
‫ّ‬
‫أحوج إلى االجتهاد من غيره‪ ،‬فقد مضى مجتهدون في السلف حاكمون‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي وعمر بن‬
‫ي والحسن بن عل ّ‬
‫كالخلفاء الستة أبي بكر وعمر وعثمان وعل ّ‬
‫عبد العزيز‪ ،‬وكابن سريج القاضي‪ .‬ومضى مجتهدون غير حاكمين‬
‫كالشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم‪.‬‬
‫_________________‬
‫ّ‬
‫الحث‬ ‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في جامعه‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب ما جاء في‬
‫على تبليغ السماع‪ ،‬من حديث عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه‬
‫وقال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ .‬وأخرجه ابن حبان في صحيحه‬
‫كما في ترتيب صحيح ابن حبان البن بلبان (‪.)143/1‬‬
‫(‪ )2‬وهي رواية الطبراني والترمذي وابن حبان‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب االعتصام بالكتاب والسنة‪:‬‬
‫باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ‪ ،‬وأخرجه مسلم في‬
‫صحيحه‪ :‬كتاب األقضية‪ :‬باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب‬
‫أو أخطأ‪ ،‬كالهما من حديث عمرو بن العاص رضي هللا عنه‪.‬‬

‫والمراد بالحاكم هنا المجتهد‪ ،‬قال النووي في شرح مسلم (‪ )1‬ما نصه‪:‬‬
‫"قال العلماء‪ :‬أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل‬
‫للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته وإن أخطأ فله‬
‫أجر باجتهاده‪.‬وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد‪ .‬قالوا‪:‬‬
‫فأما من ليس بأهل للحكم فال يحل له الحكم فإن حكم فال أجر له‪ ،‬بل هو‬
‫ءاثم وال ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم ال‪ ،‬ألن إصابته اتفاقية ليست‬
‫صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق‬
‫الصواب أم ال‪ ،‬وهي مردودة كلها وال يعذر في شئ من ذلك" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬شرح صحيح مسلم (‪.)13-14/12‬‬

‫وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )1‬ما نصه‪" :‬هكذا وقع في الحديث‬
‫بدأ بالحكم قبل االجتهاد‪ ،‬واألمر بالعكس فإن االجتهاد يتقدم الحكم إذ ال‬
‫يجوز الحكم قبل االجتهاد اتفاقًا" اهـ‪.‬‬
‫وقد ع َّد علماء الحديث الذين ألَّفوا في كتب مصطلح الحديث المفتين (‪)2‬‬
‫في الصحابة أق َّل من عشرة (‪ ،)3‬فإذا كان األمر في الصحابة هكذا فمن‬
‫أين يصح لكل مسلم يستطيع أن يقرأ القرءان ويطالع في بعض الكتب أن‬
‫يقول‪" :‬أولئك رجال ونحن رجال فليس علينا أن نقلّدهم"‪ ،‬وقد ثبت أن أكثر‬
‫السلف كانوا غير مجتهدين‪ ،‬بل كانوا مقلدين للمجتهدين منهم‪ .‬ففي صحيح‬
‫أجيرا لرجل فزنى بامرأته فسأل أبوه فقيل له‪:‬‬
‫ً‬ ‫البخاري (‪ )4‬أن رجالً كانَ‬
‫ّ‬
‫إن على ابنك مائة شاة وأمة‪ ،‬ثم سأل أهل العلم فقالوا له‪ :‬إنما على ابنك‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬فجاء إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم مع زوج‬
‫أجيرا) على هذا‬
‫ً‬ ‫المرأة فقال‪ :‬يا رسول هللا إن ابني هذا كان عسيفًا (أي‬
‫وزنى بامرأته فقال لي ناس‪ :‬على ابنك الرجم ففديت ابني منه بمائة من‬
‫الغنم ووليدة‪ ،‬ثم سألت أهل العلم فقالوا‪ :‬إنما على ابنك جلد مائة وتغريب‬
‫َّ‬
‫"ألقضين بينكما بكتاب هللا‪ ،‬أ ّما‬ ‫عام‪ .‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫الوليدة والغنم فر ّد عليه‪ ،‬وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام"‪ .‬فهذا الرجل‬
‫سا من الصحابة فأخطؤوا الصواب‪ ،‬ثم أفتاه‬ ‫مع كونه من الصحابة سأل أنا ً‬
‫الرسو ُل بما يوافق ما قاله أولئك العلماء من الصحابة‪.‬‬
‫________________‬
‫فتح الباري (‪.)319/13‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر علوم الحديث البن الصالح (ص‪ ،)297-296/‬وتدريب‬ ‫(‪)2‬‬
‫الراوي للسيوطي (‪.)218-219/2‬‬
‫وقال بعض العلماء نحو مائتين منهم بلغ رتبة االجتهاد وهذا‬ ‫(‪)3‬‬
‫القول هو األصح‪.‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب األحكام‪ :‬باب هل يجوز‬ ‫(‪)4‬‬
‫للحاكم أن يبعث رجالً وحده للنظر في األمور‪ ،‬من حديث أبي‬
‫هريرة وزيد بن خالد الجهني‪.‬‬
‫فإذا كان الرسول أفهمنا أن بعض من كانوا يسمعون منه الحديث ليس‬
‫لهم فقه أي مقدرة على استخراج األحكام من حديثه‪ ،‬وإنما حظهم أن يرووا‬
‫عنه ما سمعوه مع كونهم يفهمون اللغة العربية الفصحى‪ ،‬فما بال هؤالء‬
‫الغوغاء الذين يتجرءون على قول "أولئك رجال ونحن رجال" ويعنون‬
‫بقولهم‪" :‬أولئك رجال" المجتهدين كاألئمة األربعة‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى ما أخرجه أبو داود (‪ )1‬من قصة الرجل الذي كانت‬
‫برأسه ش ّجة فأجنب في ليلة باردة فاستفتى من معه‪ ،‬فقالوا له‪ :‬اغتسل‪،‬‬
‫فاغتسل فمات‪ ،‬فأخبر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬قتلوه قتلهم‬
‫هللا" فإنه لو كان االجتهاد يصح من مطلق المسلمين لما ذ ّم رسول هللا‬
‫هؤالء الذين أفتوه وليسوا من أهل الفتوى‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ثم وظيفة المجتهد التي هي خاصة له القياس (‪ )2‬أي أن يعتبر ما لم يرد‬


‫نص لشبه بينهما‪ .‬فالحذر الحذر من الذين يحثُّون‬‫نص بما ورد فيه ٌّ‬ ‫فيه ٌّ‬
‫أتباعهم على االجتهاد مع كونهم وكون متبوعيهم بعيدين عن هذه الرتبة‪،‬‬
‫فهؤالء يخربون ويدعون أتباعهم إلى التخريب في أمور الدين‪ ،‬وشبيه‬
‫تعودوا في مجالسهم أن يوزعوا على الحاضرين تفسير ءاية‬ ‫بهؤالء أناس ّ‬
‫أو حديث ثم يبدي ك ٌّل رأيه مع أنه لم يسبق لهم تل ّق معتبر من أفواه‬
‫العلماء‪ .‬وهؤالء المدّعون شذّوا عن علماء األصول ألن علماء األصول‬
‫ضا‪.‬‬‫قالوا‪ :‬القياس وظيفة المجتهد‪ ،‬وخالفوا علماء الحديث أي ً‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب في المجروح‬
‫يتيمم‪ ،‬من حديث جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫(‪ )2‬القياس هو إلحاق الفرع الذي هو غير منصوص عليه باألصل‬
‫الذي هو منصوص عليه ومثال ذلك ورد في القرءان تحريم‬
‫صا لكن لم يرد ال تضربهما ال تجرحهما‬‫التأفيف باألبوين ن ً‬
‫بحديدة إلى ءاخر ما هنالك من هذه التفاصيل فهذه من طريق‬
‫القياس تلحق باألصل المنصوص عليه وهو تحريم التأفيف‪.‬‬
‫فاالجتهاد مشروع ألهله وليس لكل فرد من أفراد المسلمين وإال لضاع‬
‫ي‪[ :‬البسيط]‬ ‫الدين‪ ،‬والفوضى ال تليق بالدين قال األ ْف َوهُ ْ‬
‫األو ِد ُّ‬
‫الناس فوضى ال سراة َ (‪ )1‬ل ُهم ** وال سراة َ إذا جهالُ ُهم سادوا‬
‫ُ‬ ‫ال يصل ُح‬
‫وروى البخاري (‪ )2‬عن عمر رضي هللا عنه أنه قال‪" :‬تفقّهوا قبل أن‬
‫تسودوا"‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد قيّض هللا تعالى لخدمة دينه علماء أمناء متقين ورعين‪ ،‬وأمر‬
‫بالرجوع إليهم في أمر دينهم فقال‪{ :‬فَ ْسئَلوا أه َل ال ِذّ ْك ِر ْ‬
‫إن ُكنتُم ال تعلَمون}‬
‫[سورة النحل‪ ]43/‬ومن هؤالء أصحاب المذاهب األربعة الشافعي ومالك‬
‫وأبو حنيفة وأحمد‪ .‬ثم لم يشترط هؤالء وغيرهم من المجتهدين على الذين‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يريدون اتباع مذاهبهم معرفة الدليل وطريق االستنباط‪ ،‬كما أن الصحابة لم‬
‫يكونوا ملتزمين بذكر الدليل عند االفتاء‪.‬‬
‫قال الزركشي في تشنيف المسامع (‪ )3‬ممزو ًجا بالمتن ما نصه‪" :‬وقال‬
‫–أي ابن دقيق العيد‪ -‬في خطبة شرح اإللمام‪ :‬واألرض ال تخلو من قائم هلل‬
‫بالحجة‪ ،‬واألمة الشريفة ال بد فيها من سالك إلى الحق على واضح المحجة‬
‫(‪ )4‬إلى أن يأتي أمر هللا في أشراط الساعة الكبرى ويتتابع بعده ما ال يبقى‬
‫معه إلى قدوم األخرى‪ ،‬ومراده باألشراط الكبرى طلوع الشمس من‬
‫مغربها مثالً ونحوه‪ ،‬وقد يوجه ما اختاره من أنه ال يخلو الزمان عن‬
‫مجتهد لئال يلزم اجتماع األمة على ترك االجتهاد الذي هو فرض على‬
‫الكفاية‪ ،‬وله أن يحمل الحديث السابق "حتى إذا لم يبق" على ما قبل ذلك‪،‬‬
‫عز المجتهد في هذه‬‫وقال والده العالمة مجد الدين في كتابه تلقيح األفهام‪ّ :‬‬
‫______________‬
‫السراة هم أهل الفهم الذين يصلحون للقيادة‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب االغتباط في العلم‬ ‫(‪)2‬‬
‫والحكمة‪.‬‬
‫تشنيف المسامع (‪.)616/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أي الطريق‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫األعصار وليس ذلك لتعذر حصول ءالة االجتهاد بل إلعراض الناس في‬
‫اشتغالهم عن الطريق المفضية إلى ذلك" اهـ‪.‬‬
‫التحول والتلفيق‪:‬‬
‫التحول من مذهب آلخر فيجوز إذا لم يؤد إلى مخالفة اإلجماع‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫وأما‬
‫لم يؤد إلى عمل اتفق المجتهدون على عدم جوازه‪.‬‬
‫وأما تتبع رخص المذاهب فيجوز ال على االطالق‪ ،‬بل ال بد من مراعاة‬
‫ما اعتبره المجتهدون في المسألة التي وقع التقليد فيها مما يتوقف عليه‬
‫تركيب من اجتهادين لم يجزه‬
‫ٌ‬ ‫صحتها كي ال يقع في حكم مسئلة واحدة‬
‫واح ٌد من المجتهدين‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والمعتمد أن تتبع الرخض ليس بفسق كما قال بعض الشافعية وغيرهم‬
‫صرح بذلك ابن أمير الحاج الحنفي تلميذ الحافظ ابن حجر وغيره‪ ،‬بل‬ ‫وقد ّ‬
‫هو القول الراجح الموافق للحديث الذي أخرجه البخاري‪" :‬ما خيَّر رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم بين أمرين قط إال أخذ أيسرهما ما لم يكن إث ًما"‬
‫ضا‪" :‬كان رسول هللا يحب ما يخفف عن أ ّمته"‬ ‫(‪ )1‬وحديث البخاري أي ً‬
‫(‪.)2‬‬
‫جوزوه أجازوا لمن كان‬‫جوزه بعض ومنعه بعض‪ ،‬فالذين ّ‬ ‫والتلفيق ّ‬
‫متوضئًا على مذهب أبي حنيفة وضو ًءا صحي ًحا ثم لمس امرأة أجنبية أن‬
‫يصلي على مذهب الشافعي‪ ،‬وقد قال العلماء‪ :‬إن ترك التلفيق أحسن‬
‫خرو ًجا من الخالف‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب قول النبي صلى‬
‫سروا"‪.‬‬
‫سروا وال تع ّ‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬ي ّ‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬أبواب مواقيت‬
‫الصالة‪ :‬باب ما يُصلى بعد العصر من الفوائت ونحوها‪.‬‬

‫فائدة‪ :‬من كتاب التقرير والتحبير البن أمير الحاج في بيان جواز تقليد‬
‫المجتهد واالنتقال إلى مجتهد ءاخر وتتبع الرخص‪ ،‬وأن العامي ال مذهب‬
‫له وال يجب عليه التزام مذهب على الدوام بل يجوز له االنتقال عنه إلى‬
‫مذهب ءاخر‪ ،‬قال ممزو ًجا بالمتن ما نصه (‪:)1‬‬
‫"مسئلة‪ :‬ال يرجع المقلد فيما قلّد المجتهد فيه أي عمل به اتفاقًا‪ ،‬ذكرة‬
‫اآلمدي وابن الحاجب‪ ،‬لكن قال الزركشي‪ :‬وليس كما قاال‪ ،‬ففي كالم‬
‫ضا‪ ،‬وكيف يمتنع إذا اعتقد‬ ‫غيرهما ما يقتضي جريان الخالف بعد العمل أي ً‬
‫صحته‪ ،‬لكن وجه ما قااله أنه بالتزامه مذهب إمام مكلّف به ما لم يظهر له‬
‫غيره والعامي ال يظهر له‪ ،‬بخالف المجتهد حيث ينتقل من أمارة إلى أمارة‬
‫صل بعضهم فقال‪ :‬التقليد بعد العمل إن كان من‬ ‫من عالمة إلى عالمة‪ ،‬وف ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الوجوب إلى اإلباحة ليترك كالحنفي يقلّد في الوتر‪ ،‬أو من الحظر إلى‬
‫اإلباحة ليفعل (‪ )2‬كالشافعي يقلّد في أن النكاح بغير ولي جائز‪ ،‬والفعل‬
‫والترك ال ينافي اإلباحة واعتقاد الوجوب أو التحريم خارج عن العمل‬
‫وحاصل قبله‪ ،‬فال معنى للقول بأن العمل فيها مانع من التقليد‪ ،‬وإن كان‬
‫بالعكس فإن كان يعتقد اإلباحة يقلّد في الوجوب أو التحريم فالقول بالمنع‬
‫أبعد‪ ،‬وليس في العامي إال هذه األقسام‪ ،‬نعم المفتي على مذهب إمام إذا‬
‫أفتى بكون الشئ واجبًا أو مبا ًحا أو حرا ًما ليس له أن يقلد ويفتي بخالفه‬
‫ألنه حينئذ محض تشهي كذا اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬والتوجيه المذكور ساقط فإن المسئلة موضوعة في العامي الذي لم‬
‫يلتزم مذهبًا معينًا كما يفصح به لفظ اآلمدي‪ ،‬ثم ذكرهما بعد ذلك ما لو‬
‫التزم مذهبًا معينًا على أن االلتزام غير الزم على الصحيح كما ستعلم‪ ،‬وقد‬
‫صا بحالة‬
‫قال اإلمام صالح الدين العالئي‪ :‬ثم ال بد وأن يكون ذلك مخص ً‬
‫الورع واالحتياط إذ ال يمنع فقيه من الرجوع في مثل ذلك‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬التقرير والتحبير (‪.)350-354/3‬‬
‫(‪ )2‬في األصل‪" :‬ليترك"‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد قدمنا في فصل التعارض أن مشايخنا قالوا في القياسين إذا‬
‫تعارضا واحتيج إلى العمل يجب التحري فيهما‪ ،‬فإذا وقع في قلبه أن‬
‫الصواب أحدهما يجب العمل به‪ ،‬وإذا عمل به ليس له أن يعمل باآلخر إال‬
‫أن يظهر خطأ األول وصواب اآلخر فحينئذ يعمل بالثاني‪ ،‬أما إذا لم يظهر‬
‫خطأ األول فال يجوز له العمل بالثاني ألنه لما تحرى ووقع تحريه على أن‬
‫الصواب أحدهما وعمل به وصح العمل حكم بصحة ذلك القياس وأن الحق‬
‫ظاهرا مما لم يرتفع ذلك‬
‫ً‬ ‫ظاهرا‪ ،‬وببطالن اآلخر وأن الحق ليس معه‬
‫ً‬ ‫معه‬
‫بدليل سوى ما كان موجودًا عند العمل به ال يكون له أن يصير إلى العمل‬
‫باآلخر‪ ،‬فعلى قياس هذا إذا تعارض قوال مجتهدين يجب التحري فيهما فإذا‬
‫وقع في قلبه أن الصواب أحدهما يجب العمل به وإذا عمل به ليس له أن‬
‫يعمل باآلخر إال إذا ظهر خطأ األول‪ ،‬ألن تعارض أقوال المجتهدين‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بالنسبة إلى المقلد كتعارض األقيسة بالنسبة إلى المجتهد‪ ،‬وستسمع عنهم‬
‫ضا ما يشدّه‪ .‬وهللا سبحانه أعلم‪.‬‬
‫أي ً‬
‫وهل يقلّد غيره أي غير من قلده ّأوال في شئ في غيره أي غير ذلك‬
‫الشئ‪ ،‬كأن يعمل ّأوالً في مسئلة بقول أبي حنيفة وثانيًا في أخرى بقول‬
‫مجتهد ءاخر‪ ،‬المختار كما ذكر اآلمدي وابن الحاجب نعم للقطع باالستقراء‬
‫جرا كانوا‬ ‫التام بأنهم أي المستفتين في كل عصر من زمن الصحابة وعلم ً‬
‫يستفتون مرة واحدًا ومرة غيره غير ملتزمين مفتيًا واحدًا وشاع وتكرر‬
‫ولم ينكر‪ ،‬وهذا إذا لم يلتزم مذهبًا معينًا فلو التزم مذهبًا معينًا كأبي حنيفة‬
‫أو الشافعي فهل يلزمه االستمرا عليه فال يعدل عنه في مسئلة من المسائل‬
‫فقيل‪ :‬يلزم ألنه بالتزامه يصير ملز ًما به كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة‬
‫معينة‪ ،‬وألنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء‬
‫بموجب اعتقاده‪ ،‬وقيل ال يلزم وهو األصح كما في الرافعي وغيره ألن‬
‫التزامه غير ملزم إذ ال واجب إال ما أوجبه هللا ورسوله‪ ،‬ولم يوجب هللا‬
‫وال رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من األمة فيقلده‬
‫في دينه في كل ما يأتي ويذر دون غيره‪ ،‬على أن ابن حزم قال‪ :‬أجمعوا‬
‫ت تقليد رجل فال يحكم وال يفتي إال بقوله‪.‬‬ ‫على أنه ال يحل لحاكم وال مف ٍ‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقد انطوت القرون الفاضلة على عدم القول بذلك‪ ،‬بل ال يصح للعامي‬
‫مذهب ولو تمذهب به‪ ،‬ألن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدالل‬
‫وبصر بالمذاهب على حسبه‪ ،‬أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب‬
‫وعرف فتاوى إمامه وأقواله‪ ،‬وأما من لم يتأهل لذلك البتة بل قال أنا حنفي‬
‫أو شافعي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول‪ ،‬كما لو قال أنا فقيه أو‬
‫نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله‪ ،‬يوضحه أن قائله يزعم أنه‬
‫متبع لذلك اإلمام سالك طريقه في العلم والمعرفة واالستدالل‪ ،‬فأما مع‬
‫جهله وبعده جدًا عن سيرة اإلمام وعلمه بطريقه فكيف يصح له االنتساب‬
‫إليه إال بالدعوى المجردة والقول الفارغ من المعنى‪ ،‬كذا ذكره فاضل‬
‫متأخر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلت‪ :‬ولو شاححه مشاحح (‪ )1‬في أن قائل أنا حنفي مثالً لم يرد له أنه‬
‫متبع ألبي حنيفة في جميع هذا المذكور بل متبعه في الموافقة فيما أدى إليه‬
‫اجتهاده عمالً واعتقادًا فسيظهر جوابه مما يذكره قريبًا‪.‬‬
‫صرح به الفقهاء في مشهور‬ ‫ثم قال اإلمام صالح الدين العالئي‪ :‬والذي ّ‬
‫كتبهم جواز االنتقال في ءاحاد المسائل والعمل فيها بخالف مذهب إمامه‬
‫الذي يقلد مذهبه إذا لم يكن ذلك على وجه التتبع للرخص‪ ،‬وشبّهوا ذلك‬
‫باألعمى الذي اشتبهت عليه أواني ماء وثياب تنجس بعضها‪ ،‬إذا قلنا ليس‬
‫بصيرا يجتهد فإنه يجوز أن يقلد في األواني واحدًا‬ ‫ً‬ ‫له أن يجتهد فيها بل يقلد‬
‫وفي الثياب ءاخر وال منع من ذلك‪ ،‬وقيل‪ :‬كمن لم يلتزم‪ ،‬إن عمل بحكم‬
‫تقليدًا لمجتهد ال يرجع عنه‪ ،‬أي عن ذلك الحكم‪ ،‬وفي غيره أي غير ما‬
‫عمل به تقليدًا لمجتهد له تقليد غيره من المجتهدين‪ ،‬قال السبكي‪ :‬وهو‬
‫األعدل‪ ،‬وقال المصنف‪ :‬وهو الغالب على الظن لعدم ما يوجبه أي اتباعه‬
‫عا‪ ،‬بل الدليل الشرعي اقتضى العمل بقول المجتهد‬ ‫فيما لم يعمل به شر ً‬
‫الذكر إن ُكنتُم ال‬
‫ِ‬ ‫وتقليده فيه فيما احتاج إليه وهو قوله تعالى‪{ :‬فَ ْسئلوا أه َل‬
‫تعلمون} [سورة النحل‪ ]43/‬والسؤال إنما يتحقق عند طلب حكم الحادثة‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬أي جادله مجادل‪.‬‬
‫المعينة‪ ،‬وحينئذ إذا ثبت عنده قول المجتهد وجب عمله به‪ ،‬والتزامه لم‬
‫يثبت من السمع اعتباره ملز ًما‪ ،‬كمن التزم كذا لفالن من غير أن يكون‬
‫لفالن عليه ذلك ال يحكم عليه به إنما ذلك في الذر هلل تعالى‪ ،‬وال فرق في‬
‫ذلك بين أن يلتزم بلفظه كما في النذر‪ ،‬أو بقلبه وعزمه على أن قول القائل‬
‫مثالً‪ :‬قلّدت فالنًا فيما أفتى به من المسائل تعليق التقليد أو الوعد به ذكره‬
‫المصنف وقال‪ :‬ويتخرج منه أي من كونه كمن لم يلتزم جواز اتباعه‬
‫رخص المذاهب أي أخذه من كل منها ما هو األهون فيما يقع من المسائل‪،‬‬
‫وال يمنع منه مانع شرعي إذ لإلنسان أن يسلك األخف عليه إذا كان له إليه‬
‫ضا‪ :‬والغالب أن مثل هذه إلزامات‬ ‫سبيل بأن لم يكم عمل بآخر فيه‪ ،‬وقال أي ً‬
‫منهم لكف الناس عن تتبع الرخص وإال أخذ العامي في كل مسئلة بقول‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أخف عليه‪ ،‬وأنا ال أدري ما يمنع هذا من العقل‬


‫ّ‬ ‫مجتهد قوله [الذي هو]‬
‫مسوغ‬
‫والسمع وكون اإلنسان يتبع ما هو أخف على نفسه من قول مجتهد َّ‬
‫له االجتهاد ما علمت من الشرع ذ ّمه عليه‪ ،‬وكان صلى هللا عليه وسلم‬
‫يحب ما خفّف عليهم كما قدمنا في فصل الترجيح أن البخاري أخرجه عن‬
‫عائشة بلفظ‪ :‬عنهم‪ ،‬وفي لفظ‪ :‬ما يخفف عنهم أن أ ّمته وذكرنا ثمة عدة‬
‫البر من‬ ‫[مر] عن ابن عبد ّ‬ ‫أحاديث صحيحة دالة على ذلك‪ .‬قلت‪ :‬لكن ما ّ‬
‫عا إن صح احتاج إلى جواب‪،‬‬ ‫أنه ال يجوز للعامي تتبع الرخص إجما ً‬
‫ويمكن أن يقال ال نسلّم صحة دعوى اإلجماع إذ في تفسيق المتتبع‬
‫للرخص عن أحمد روايتان‪ ،‬وحمل القاضي أبو يعلى الرواية المفسقة على‬
‫متأول وال مقلد‪ ،‬وذكر بعض الحنابلة إن قوي دليل أو كان عاميًّا ال‬
‫غير ّ‬
‫يفسق‪ ،‬وفي روضة النووي وأصلها عن حكاية الحناطي وغيره عن ابن‬
‫أبي هريرة أنه ال يفسق له‪ ،‬ثم لعله محمول على نحو ما يجتمع له من ذلك‬
‫ما لم يقل بمجموعه مجتهد كما أشار إليه بقوله‪ :‬وقيده أي جواز تقليد غيره‬
‫متأخر وهو العالمة القرافي بأن ال يترتب عليه أي تقليد غيره ما يمنعانه‬
‫أي يجتمع على بطالنه كالهما‪ ،‬فمن قلّد الشافعي في عدم فرضية الدلك‬
‫لألعضاء المغسولة في الوضوء والغسل‪ ،‬ومال ًكا في عدم نقض اللمس بال‬
‫شهوة للوضوء‪ ،‬فتوضأ ولمس بال شهوة وصلى إن كان الوضوء بدلكٍ‬
‫صحت صالته عند مالك وإال إن كان بال ذلك بطلت عندهما أي مالك‬
‫والشافعي‪.‬‬
‫وقال الروياني‪ :‬يجوز تقليد المذاهب االنتقال إليها بثالثة شروط‪ :‬أن ال‬
‫يجمع بينها على صورة تخالف اإلجماع‪ ،‬كمن تزوج بغير صداق وال ولي‬
‫وال شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد‪ ،‬وأن يعتقد فيمن يقلده الفضل‬
‫بوصول أخباره إليه وال يقلد أميًّا في عماية‪ ،‬وأال يتتبع رخص المذاهب‪.‬‬
‫وتعقب القرافي هذا بأنه إن أراد بالرخص ما ينقض فيه قضاء القاضي‬
‫وهو أربعة‪ :‬ما خالف اإلجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فهو‬
‫نقره قبل‬
‫حسن متعيّن‪ ،‬فإن ما ال نقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن ال ّ‬
‫ذلك‪ ،‬وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلّف كيفما كان يلزمه أن‬
‫يكون من قلّد مال ًكا في المياه واألرواث وترك األلفاظ في العقود مخالفًا‬
‫لتقوى هللا وليس كذلك‪ ،‬وتعقب األول بأن الجمع المذكور ليس بضائر فإن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مال ًكا مثالً لم يقل إن من قلّد الشافعي في عدم الصداق إن نكاحه باطل‪ ،‬وإال‬
‫لزم أن تكون أنكحة الشافعية عنده باطلة‪ ،‬ولم يقل الشافعي إن من قلّد مال ًكا‬
‫في عدم الشهود إن نكاحه باطل وإال لزم أن تكون أنكحة المالكية بال شهود‬
‫عنده باطلة‪ .‬قلت‪ :‬لكن في هذا التوجيه نظر غير خافٍ ‪ ،‬ووافق ابن دقيق‬
‫الرو َياني على اشتراط أن ال يجتمع في صورة يقع اإلجماع على‬ ‫العيد ُّ‬
‫بطالنها‪ ،‬وأبدل بالشرط الثالث بأن ال يكون ما قلد فيه مما ينقض فيه الحكم‬
‫لو وقع‪ .‬واقتصر الشيخ عز الدين بن عبد السالم على اشتراط هذا وقال‬
‫وإن كان المأخذان متقاربين جاز‪.‬‬
‫والشرط الثاني انشراح صدره للتقليد المذكور وعدم اعتقاده لكونه‬
‫متالعبًا بالدين متساهالً فيه‪ ،‬ودليل هذا الشرط قوله صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"واإلثم ما حاك في الصدر"‪ .‬فهذا تصريح بأن ما حاك في النفس ففعله إثم‪.‬‬
‫اهـ‪ .‬قلت‪ :‬أما عدم اعتقاد كونه متالعبًا بالدين متساهالً فيه فال بد منه‪ ،‬وأنا‬
‫ضا وهو‬‫انشراح صدره للتقليد فليس على إطالقه‪ ،‬كما أن الحديث كذلك أي ً‬
‫يطلع عليه الناس" في‬ ‫بلفظ‪" :‬اإلثم ما حاك في نفسك وكرهت أن ّ‬

‫صحيح مسلم (‪ ،)1‬وبلفظ‪" :‬واإلثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن‬


‫أفتاك الناس وأفتوك" في مسند أحمد (‪ ،)2‬فقد قال الحافظ المتقن ابن رجب‬
‫مشيرا إليه باللفظ األول‪ :‬إنه إشارة إلى أن اإلثم‬
‫ً‬ ‫في الكالم على هذا الحديث‬
‫ما أثّر في الصدر حر ًجا وضيقًا وقلقًا واضطرابًا فلم ينشرح له الصدر‪،‬‬
‫ومع هذا فهو عند الناس مستنكر بحيث ينكرونه عند اطالعهم عليه‪ ،‬وهذا‬
‫أعلى مراتب معرفة اإلثم عند االشتباه وهو ما استنكره الناس فاعله وغير‬
‫فاعله‪ ،‬ومن هذا المعنى قول ابن مسعود‪" :‬ما رءاه المؤمنون حسنًا فهو‬
‫ومشيرا إليه‬
‫ً‬ ‫عند هللا حسن وما رءاه المؤمنون قبي ًحا فهو عند هللا قبيح"‪،‬‬
‫باللفظ الثاني يعني ما حاك في صدر اإلنسان فهو إثم وإن أفتاه غيره بأنه‬
‫مستنكرا عند فاعله دون‬
‫ً‬ ‫ليس بإثم فهذه مرتبة ثانية وهو أن يكون الشئ‬
‫ضا إث ًما‪ ،‬وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح‬ ‫غيره وقد جعله أي ً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صدره باإليمان وكان المفتي له يفتي بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير‬
‫دليل شرعي‪ ،‬فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي فالواجبب على‬
‫المستفتي الرجوع إليه وإن لم ينشرح له صدره‪ ،‬وهذا كالرخض الشرعية‬
‫مثل الفطر في السفر والمرض وقصر الصالة ونحو ذلك مما ال ينشرح به‬
‫صدر كثير من الجهال فهذا ال عبرة به‪ .‬وقد كان النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم أحيانًا يأمر أصحابه بما ال ينشرح به صدر بعضهم فيمتنعون من‬
‫فعله فيغضب من ذلك‪ ،‬كما أمرهم بنحر هديهم والتحلل من عمرة الحديبية‬
‫فكرهوه‪ ،‬وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه وتعلى أن من‬
‫أتاه منهم يرده إليهم‪ .‬وفي الجملة فما ورد النص به فليس للمؤمن إال طاعة‬
‫ؤمن ٍة إذا قضى هللاُ‬
‫ؤم ٍن وال ُم ِ‬
‫هللا ورسوله كما قال تعالى‪{ :‬وما كانَ ل ُم ِ‬
‫أمر ِهم} [سورة األحزاب‪]36/‬‬ ‫الخيرة ُ من ِ‬ ‫ورسولُهُ ً‬
‫أمرا أن يكونَ ل ُه ُم ِ‬
‫وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا فإن ما شرعه هللا ورسوله‬
‫يجب الرضا‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ :‬باب‬
‫تفسير البر واإلثم‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أحمد في مسنده (‪.)228/4‬‬
‫ؤمنونَ حتى‬ ‫ور ِب َّك ال يُ ِ‬
‫واإليمان به والتسليم له كما قال تعالى‪{ :‬فال َ‬
‫ْت‬ ‫ش َج َر بينَ ُه ْم ث َّم ال َي ِجدوا في أنفُ ِس ِهم َحر ًجا ِم َّما قَ َ‬
‫ضي َ‬ ‫يُ َح ِ ّك َ‬
‫موك فيما َ‬
‫س ِلّموا ت َ ْسلي ًما} [سورة النساء‪ ]65/‬وأما ما ليس فيه نص عن هللا ورسوله‬ ‫وي ُ َ‬
‫وال عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف األمة فإذا وقع في نفس المؤمن‬
‫المطمئن قلبه باإليمان المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شئ‬
‫وحاك في صدره لشبهة موجودة ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إال من‬
‫يخبر عن رأيه وهو ممن ال يوثق بعلمه وبدينه بل هو معروف باتباع‬
‫الهوى فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره وإن أفتاه هؤالء المفتون‬
‫وقد نص اإلمام أحمد على مثل هذا اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بقي هل بمجرد وقوع صحة جواب المفتي وحقيته في نفس المستفتي‬


‫يلزمه العمل به‪ ،‬فذهب ابن السمعاني إلى أن أولى األوجه أنه يلزمه‪،‬‬
‫وتعقبه ابن الصالح بأنه لم يجده لغيره‪ ،‬قلت‪ :‬وما ذكره ابن السمعاني‬
‫موافق لما في شرح الزاهدي على مختصر القدوري وعن أبي أحمد‬
‫العياضي العبرة بما يعتقده المستفتي فكل ما اعتقده من مذهب حل له األخذ‬
‫به ديانة ولم يحل له خالفه اهـ‪ .‬وما في رعاية الحنابلة‪ :‬وال يكفيه من لم‬
‫تسكن نفسه إليه‪ ،‬وفي أصول ابن مفلح‪ :‬األشهر يلزمه إن ظنه حقًا وإن لم‬
‫يجد مفتيًا ءاخر لزمه كما لو حكم به حاكم اهـ‪ .‬يعني وال يتوقف ذلك على‬
‫صرح به ابن الصالح وذكر أنه‬ ‫التزامه وال سكون نفسه إلى صحته كما ّ‬
‫الذي تقتضيه القواعد‪ ،‬وشيخنا المصنف رحمه هللا على أنه ال يشترط ذلك‬
‫ال فيما إذا وجد غيره وال فيما إذا لم يوجد كما أسلفنا ذلك عنه في ذيل‬
‫مسئلة إفتاء غير المجتهد‪ ،‬حتى قال لو استفتى فقيهين أعني مجتهدين‬
‫فاختلفا عليه فاألولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما‪ ،‬وعندي أنه لو أخذ‬
‫بقول الذي ال يميل إليه جاز‪ ،‬ألن ميله وعدمه سواء والجواب تقليد مجتهد‬
‫وقد فعل أصاب ذلك المجتهد أو أخطأ اهـ‪ .‬لكن عليه أن يقال ما قدمناه من‬
‫أن القياس على تعارض األقيسة بالنسبة إلى المجتهد يقتضي وجوب‬
‫التحري على المستفتي والعمل بما يقع في قلبه أنه الصواب فيحتاج العدول‬
‫عنه إلى الجواز بدونه إلى جواب‪.‬‬
‫ثم في غير ما كتاب من الكتب المذهبية المعتبرة أن المستفتي إن أمضى‬
‫قول المفتي لزمه وإال فال‪ ،‬حتى قالوال إذا لم يكن الرجل فقي ًها فاستفتى‬
‫فقي ًها فأفتاه بحالل أو حرام ولم يعزم على ذلك حتى أفتاه فقيه ءاخر بخالفه‬
‫فأخذ بقوله وأمضاه لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ويرجع إلى ما أفتاه‬
‫به األول ألنه ال يجوز له نقص ما أمضاه مجتهدًا كان أو مقلدًا ألن المقلّد‬
‫متعبد بالتقليد كما أن المجتهد متعبد باالجتهاد‪ ،‬ثم كما لم يجز للمجتهد نقض‬
‫ما أمضاه فكذا ال يجوز للمقلد ألن اتصال اإلمضاء بمنزلة اتصال القضاء‬
‫واتصال القضاء يمنع النقض فكذا اتصال اإلمضاء‪ .‬هذا وذكر اإلمام‬
‫العالئي أنه قد يرجح القول باالنتقال في أحد صورتين‪ :‬إحداهما إذا كان‬
‫مذهب غير إمامه يقتضي تشديدًا عليه أو أخذًا باالحتياط‪ ،‬كما إذا حلف‬
‫بالطالق الثالث على فعل شئ ثم فعله ناسيًا أو جاهالً أنه المحلوف عليه‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وكان مذهب إمامه الذي يقلّده يقتضي عدم الحنث بذلك‪ ،‬فأقام مع زوجته‬
‫عامالً به ثم ت َ َح َّر َج منه لقول من أوقع الطالق في هذه الصورة فإنه يستحب‬
‫له األخذ باالحتياط والتزام الحنث‪ ،‬ولذلك قال أصحابنا إن القصر في سفر‬
‫جاوز ثالثة أيام أفضل من اإلتمام‪ ،‬واإلتمام فيما إذا كان أقل من ذلك‬
‫طا للخالف في ذلك‪ .‬والثانية إذا رأى للقول المخالف لمذهب‬ ‫أفضل احتيا ً‬
‫إمامه دليالً صحي ًحا من الحديث ولم يجد في مذهب إمامه جوابًا قويًا عنه‬
‫ضا راج ًحا عليه‪ ،‬إذ المكلف مأمور باتباع النبي صلى هللا عليه‬ ‫وال معار ً‬
‫وسلم فيما شرعه فال وجه لمنعه من تقليد من قال بذلك من المجتهدين‬
‫محافظة على مذهل التزم تقليده اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا موافق لما أسلفناه عن اإلمام أحمد والقدوري وعليه مشى‬
‫طائفة من العلماء منهم ابن الصالح وابن حمدان‪ .‬وهللا سبحانه أعلم‪.‬‬
‫تكملة‪ :‬نقل اإلمام في البرهان إجماع المحققين على منع العوام من تقليد‬
‫أعيان الصحابة بل من بعدهم أي بل قال‪ :‬بل عليهم أن يتبعوا مذاهب‬
‫ودونوا ألنهم أوضحوا طرف النظر وهذبوا‬ ‫األئمة الذي سبروا ووضعوا ّ‬
‫المسائل وبيّنوها وجمعوها‪ ،‬بخالف مجتهدي الصحابة فإنهم لم يعتنوا‬
‫بتهذيب مسائل االجتهاد ولم يقرروا ألنفسهم أصوال تفي بأحكام الحوادث‬
‫قدرا‪ ،‬وقد روى أبو نعيم في الحلية أن محمد بن‬ ‫كلها وإال فهو أعظم وأج ّل ً‬
‫سيرين سئل عن مسئلة فأحسن فيها الجواب‪ ،‬فقال له السائل ما معناه ما‬
‫كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا‪ ،‬فقال محمد‪ :‬لو أردنا فقههم لما أدركته‬
‫عقولنا‪ .‬وعلى هذا أي على أن عليهم أن يقلّدوا األئمة المذكورين لهذا‬
‫الوجه ما ذكر بعض المتأخرين وهو ابن الصالح منع تقليد غير األئمة‬
‫األربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم هللا النضباط مذاهبهم‬
‫وتقييد مطلق مسائلهم وتخصيص عمومها وتحرير شروطها إلى غير ذلك‪،‬‬
‫ولم يُ ْد َر مثله أي هذا الشئ في غيرهم من المجتهدين اآلن النقراض‬
‫أتباعهم‪.‬‬
‫وحاصل هذا أنه امتنع تقليد غير هؤالء األئمة لتعذر نقل حقيقة مذهبهم‬
‫وعدم ثبوته حق الثبوت ال ألنه ال يقلد‪ ،‬ومن ثمة قال الشيخ عز الدين بن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عبد السالم‪ :‬ال خالف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق ثبوت مذهب‬
‫عن واحد منهم جاز تقليده وفاقًا وإال فال‪.‬‬
‫ضا‪ :‬إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من األحكام لم‬ ‫وقال أي ً‬
‫يجز مخالفته إال بدليل أوضح من دليله‪ ،‬هذا وقد تعقب بعضهم أصل الوجه‬
‫لهذا بأنه ال يلزم من سير هؤالء كما ذكر وجوب تقليدهم ألن من بعدهم‬
‫جمع وسبر‪ ،‬كذلك لم يكن أكثر وال يلزم وجوب اتباعهم بل الزظاهر في‬
‫تعليله في العوام أنهم لو كلفوا تقليد الصحابي لكان فيه من المشقة عليهم‬
‫ضا كما قال ابن المنيّر‬
‫من تعطيل معايشهم وغير ذلك ما ال يخفى‪ ،‬وأي ً‬
‫يتطرق إلى مذاهب الصحابة احتماالت ال يتمكن العامي معها من التقليد‪،‬‬
‫ثم قد يكون اإلسناد إلى الصحابي ال على شروط الصحة‪ ،‬وقد يكون‬
‫اإلجماع انعقد بعد ذلك القول على قول ءاخر‪ ،‬ويمكن أن تكون واقعة‬
‫العامي ليست الواقعة التي أفتى فيها الصحابي وهو ظان أنها هي ألن‬
‫طا‪ ،‬وبالجملة‬ ‫تنزيل الوقائع على الوقائع من أدق وجوه الفقه وأكثرها غل ً‬
‫القول بأن العامي ال يتأهل لتقليد الصحابة قريب من القول بأنه ال يتأهل‬
‫للعمل بأدلة الشرع إما ألن قوله حجة فهو ملحق بقول الشارع وإما ألنه في‬
‫علو المرتبة يكاد يكون حجة‪ ،‬فامتناع تقليده لعلو قدره ال لنزوله فال جرم‬
‫أن قال المصنف‪ :‬وهو أي هذا المذكور صحيح بهذا االعتبار‪ ،‬وإال فمعلوم‬
‫مدون وأنه ال يلزم أحدًا أن يتمذهبب‬‫أنه ال يشترط أن يكون للمجتهد مذهب ّ‬
‫بمذهب أحد األئمة بحيث يأخذ بأقواله كلها ويدع أقوال غيره كما قدمناه‬
‫بأبلغ من هذا‪ ،‬ومن قال القرافي‪ :‬انعقد اإلجماع على أن من أسلم فله أن‬
‫يقلد من شاء من العلماء بغير حجر‪ ،‬وأجمع الصحابة رضي هللا عنهم أن‬
‫من استفتى أبا بكر أو عمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن‬
‫جبل وغيرهما ويعمل بقولهما من غير نكير‪ ،‬فمن ادعى دفع هذين‬
‫اإلجماعين فعليه الدليل‪.‬‬
‫هذا وقد تكلم أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم‪ ،‬قال ابن المنير‪ :‬وأحق ما‬
‫يقال في ذلك ما قالت أم الكلمة عن بنيها‪ :‬ثكلتهم (‪ )1‬إن كنت أعلم أيهم‬
‫أفضل هم كالحلقة المفرغة ال يدرى أي طرفاها‪ ،‬فما من واحد منهم إذا‬
‫تجرد النظر إلى خصائصه إال ويفنى الزمان لناشرها دون استيعابها‪ ،‬وهذا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سبب هجوم المفضلين على التعيين فإنه لغلبة ذلك على المفضل لم يبق فيه‬
‫فضلة لتفضيل غيره عليه‪ ،‬وإلى ضيق األذهان عن استيعاب خصائص‬
‫أكبر‬
‫هي ُ‬ ‫المفضلين جاءت اإلشارة بقوله تعالى‪{ :‬وما نُريهم من ءاي ٍة إال َ‬
‫من أُختِها} [سورة الزخرف‪ ،]48/‬ويريد وهللا أعلم أن كل ءاية إذا جرد‬ ‫ْ‬
‫النظر إليها قال الناظر هي أكبر اآليات وإال فما يتصور في ءايتين أن‬
‫يكون كل منهما أكبر من األخرى بكل اعتبار وإال لتناقض األفضلية‬
‫والمفضولية‪ ،‬والحاصل أن هؤالء األربعة انخرقت بهم العادة على معنى‬
‫الكرامة عناية من هللا تعالى بهم إذا قيست أحوالهم بأحوال أقرانهم‪ ،‬ثم‬
‫اشتهار مذاهبهم في سائر األقطار واجتماع القلوب على األخذ بها دون ما‬
‫سواها إال قليالً على ممر األعصار مما يشهد بصالح طويتهم وجميل‬
‫سريرتهم ومضاعفة مثوبتهم ورفعة درجتهم‪ ،‬تغمدهم هللا تعالى برحمته‬
‫وأعلى مقامهم في بحبوحة جنته وحشرنا معهم في زمرة نبينا محمد‬
‫وعترته وصحابته وأدخلنا بصحبتهم دار كرامته" انتهى ما قاله ابن أمير‬
‫الحاج‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬أي فقدتهم‪( ،‬لسان العرب‪.)88/11 ،‬‬

‫بيان‬
‫حكم ساب النبي‬
‫وأنه كافر باإلجماع‬
‫اعلم أن سبّ النبي صلى هللا عليه وسلم وانتقاصه كفر‪ ،‬ويكون صاحبه‬
‫كافرا خار ًجا من دين اإلسالم باإلجماع‪ ،‬ويقتل بعد استتابته أي الطلب منه‬
‫ً‬
‫الرجوع عن ذلك والدخول في دين اإلسالم بالشهادتين إن لم يتب‪ ،‬فإن تاب‬
‫ودخل في اإلسالم فال يقتل عند بعض العلماء ويقتل عند ءاخرين‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يشك في ذلك أنه يكفر‪ ،‬قال هللا‬ ‫ّ‬ ‫كفرا أو‬ ‫وحكم َمن ينكر كون سبّ النبي ً‬
‫هللا عد ٌُّو‬
‫فإن َ‬‫وجبري َل وميكا َل َّ‬ ‫س ِل ِه ِ‬ ‫ور ُ‬‫تعالى‪َ { :‬م ْن كانَ عد ًُّوا هللِ ومالئِ َكتِ ِه ُ‬
‫س ْألت َ ُهم لَيَقُولُ َّن إنَّما ُكنَّا‬
‫للكافرين} [سورة البقرة‪ ]98/‬وقال هللا تعالى‪{ :‬ولَئِن َ‬
‫ونلعب قُ ْل أباهللِ وءاياتِ ِه ورسو ِل ِه ُك ْنتُم ت ْست َ ْه ِزءونَ * ال ت َ ْعتَذِروا ق ْد‬
‫ُ‬ ‫نخوض‬
‫ُ‬
‫َكفَ ْرتُم بع َد إيما ِن ُكم} [سورة التوبة‪.]66-65/‬‬
‫وغيره (‪ )1‬عن عكرمة قال‪ :‬ثنا ابن عباس أن‬ ‫ُ‬ ‫روى أبو داود في سننه‬
‫أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى هللا عليه وسلم وتقع فيه‪ ،‬فينهاها فال‬
‫تنتهي ويزجرها فال تنزجر‪ ،‬قال‪ :‬فلما كانت ذات ليل ٍة جعلت تقع في النبي‬
‫الم ْغ َول (‪ )2‬فوضعه في بطنها واتكأ‬‫صلى هللا عليه وسلم وتشتمه‪ ،‬فأخذ ِ‬
‫عليها فقتلها‪ ،‬فوقع بين رجليها طفل‪ ،‬فلطخت ما هناك بالدم‪ ،‬فلما أصبح‬
‫ذُكر ذلك للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فجمع الناس فقال‪" :‬أنشد هللا رجالً‬
‫فعل ما فعل لي عليه حق إال قام"‪ ،‬قال‪ :‬فقام األعمى يتخطى الناس وهو‬
‫يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬رواه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الحدود‪ :‬باب الحكم فيمن سب‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والبيهقي في السنن الكبرى (‪.)60/7‬‬
‫الم ْغ َول‪ :‬حديدة تجعل في السوط فيكون لها غالفًا‪ ،‬وقيل‪ :‬هو‬
‫(‪ِ )2‬‬
‫سيف دقيق يشدّه الفاتك على وسطه ليغتال به الناس‪ ،‬كذا في‬
‫لسان العرب‪.‬‬
‫أنا صاحبها‪ ،‬كانت تشتمك وتقع فيك‪ ،‬فأنهاها فال تنتهي‪ ،‬وأزجرها فال‬
‫تنزجر‪ ،‬ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين‪ ،‬وكانت بي رفيقة‪ ،‬فلما كان البارحة‬
‫الم ْغ َول فوضعته في بطنها واتكأت عليها‬
‫جعلت تشتمك وتقع فيك‪ ،‬فأخذت ِ‬
‫حتى قتلتها‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أال اشهدوا أن دمها ه َدر"‬
‫(‪ )1‬اهـ‪.‬‬
‫وفي شرح روض الطالب (‪ )2‬لزكريا األنصاري الشافعي في معرض‬
‫ما يكفّر ما نصه‪" :‬أو كذّب نبيًّا في ّ‬
‫نبوته أو غيرها‪ ،‬أو جحد ءاية من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المصحف مجمعًا عليها أي على ثبوتها أو زاد فيه كلمة معتقدًا أنها منه‪ ،‬أو‬
‫استخف بنبي بسبّ أو غيره" اهـ‪.‬‬
‫وفي تبصرة الحكام في أصول األقضية ومناهج األحكام (‪ )3‬للقاضي‬
‫برهان الدين إبراهيم بن فرحون المالكي ما نصه‪" :‬فصل‪ :‬وكذلك الحكم في‬
‫سبّ األنبياء عليهم السالم (أي أنه من الكفر) قال القاضي عياض‪َ :‬من سبَّ‬
‫صا في نفسه أو نسبه أو‬ ‫النبي صلى هللا عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نق ً‬
‫عرض به أو شبّهه بشئ على طريق السبّ‬ ‫دينه أو خصل ٍة من خصاله‪ ،‬أو َّ‬
‫الغض منه والعيب له فهو سابّ ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واالزدراء عليه أو النقص لشأنه أو‬
‫مضرة له أو‬
‫ّ‬ ‫تلوي ًحا كان أو تصري ًحا‪ ،‬وكذلك من لعنه أو َدعا عليه أو تمنّى‬
‫نسب إليه ما ال يليق بمنصبه على طريق الذ ّم‪ ،‬أو عبث في جهته العزيزة‬
‫بسخف من الكالم أو بشئ مما جرى من البالء والمحنة عليه‪ ،‬أو غمصه‬
‫(‪ )4‬بشئ من العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه‪ ،‬قُتِل‪ .‬وهذا كله‬
‫إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدُن الصحابة رضوان هللا‬
‫_______________‬
‫أي ال قيمة له‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أسنى المطالب شرح روض الطالب‪ ،‬كتاب الردة (‪.)117/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر هامش كتاب فتح العلي المالك على مذهب اإلماام مالك‬ ‫(‪)3‬‬
‫لمحمد عليش المالكي‪.)285/2( ،‬‬
‫غمصه‪ :‬أي احتقره وعابه وتهاون بحقه‪ ،‬كذا في القاموس مادة‬ ‫(‪)4‬‬
‫(غ م ص)‪.‬‬
‫عليهم إلى هلّم ًّ‬
‫جرا‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫الدر المختار على متن تنوير األبصار (‪ )1‬في مذهب أبي‬ ‫وفي كتاب ّ‬
‫حنيفة في باب حكم سابّ األنبياء ما نصه‪" :‬والكافر بسبّ نبي من األنبياء‬
‫فإنه يقتل حدًّا وال تقبل توبته (‪ )2‬مطلقًا‪ ،‬ولو سبّ هللا تعالى قبلت ألنه حق‬
‫هللا تعالى‪ ،‬واألول حق ال يزول بالتوبة‪ ،‬و َمن شك في عذابه وكفره كفر"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي ر ّد المحتار على الدر المختار البن عابدين (‪ )3‬الحنفي ما نصه‪:‬‬


‫ي)‬ ‫"قال ابن سحنون المالكي‪ :‬أجمع المسلمون على َّ‬
‫أن شاتمه (أي شاتم النب ّ‬
‫كافر وحكمه القتل و َمن شك في عذابه وكفره كفر" (‪ )4‬اهـ‪.‬‬
‫ضا (‪" :)5‬أقول ورأيتُ في كتاب الخَراج ألبي يوسف ما نصه‪:‬‬ ‫ثم قال أي ً‬
‫وأيّما رجل مسلم سبّ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أو كذبه أو عابه أو‬
‫صه فقد كفر باهلل تعالى وبانت منه امرأته‪ ،‬فإن تاب وإال قتل‪ ،‬وكذلك‬ ‫تنق ّ‬
‫المرأة إال أن أبا حنيفة قال‪ :‬ال تقتل المرأة وتجبر على اإلسالم" اهـ‪.‬‬
‫________________‬
‫انظر هامش رد المحتار على الدر المختار البن عابدين‬ ‫(‪)1‬‬
‫(‪.)290/3‬‬
‫المراد بعدم قبول توبته عدم إعفائه من القتل‪ ،‬وليس المراد أنه ال‬ ‫(‪)2‬‬
‫يصح دخوله في اإلسالم بل إن أقلع عن الكفر وتش ّهد ص ّح دخوله‬
‫في اإلسالم باإلجماع‪.‬‬
‫رد المحتار على الدر المختار (‪.)290/3‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مجموعة رسائل ابن عابدين‪ :‬الرسالة الخامسة‪.)316/1 :‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫رد المحتار على الدر المختار (‪.)291/3‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫كفرا وقد ترك النبي صلى هللا عليه وسلم‬


‫ي ً‬ ‫فإن قيل‪ :‬كيف يكون سبّ النب ّ‬
‫قتل الرجل الذي قال له‪" :‬اعدل إنك ال تعدل"‪.‬‬
‫فالجواب‪ّ :‬‬
‫أن الرسول صلى هللا عليه وسلم لم يترك قتله ألنه لم يكفر‬
‫وإنما لمصلحة أخرى‪ ،‬أما الحديث فقد رواه البخاري بهذا اللفظ (‪:)1‬‬
‫الزهري‪ ،‬عن‬ ‫"حدثنا عبد هللا بن محمد‪ ،‬حدّثنا هشام‪ ،‬أخبرنا معمر‪ ،‬عن ُّ‬
‫أبي سلمة‪ ،‬عن أبي سعيد قال‪ :‬بينا النبي صلى هللا عليه وسلم يقسم جاء عبد‬
‫هللا بن ذي ال ُخ َوي ِ‬
‫ْصرة التميمي فقال‪ :‬اعدل يا رسول هللا‪ ،‬فقال‪" :‬ويلك‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ومن يعدل إذا لم أعدل" قال عمر بن الخطاب‪ :‬دعني أضرب عنقه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صالته مع صالته وصيامه مع صيامه‪،‬‬
‫يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية‪ ،‬ينظر في قِذَذِه فال يوجد فيه‬
‫شئ‪ ،‬ثم ينظر في نصله فال يوجد فيه شئ‪ ،‬ثم ينظر في رصافه فال يوجد‬
‫الفرث والدم‪،‬‬
‫فيه شئ‪ ،‬ثم ينظر في نضيّه فال يوجد فيه شئ‪ ،‬قد سبق ْ‬
‫ءايتهم رجل إحدى يديه"‪ ،‬أو قال‪" :‬ثدييه مثل ثدي المرأة"‪ ،‬أو قال‪" :‬مثل‬
‫ض َعة ت َد ْر َد ُر‪ ،‬يخرجون على حين فُرق ٍة من الناس"‪ ،‬قال أبو سعيد أشهد‬ ‫ال َب ْ‬
‫سمعت من النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأشهد أن عليًّا قتلهم وأنا معه‪،‬‬
‫جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صلى هللا عليه وسلم‪ .‬قال‪ :‬فنزلت‬
‫{وم ْن ُهم َمن َي ْل ِم ُز َك في ال َّ‬
‫ص َدقاتِ} [سورة التوبة‪ "]58/‬اهـ‪.‬‬ ‫فيه‪ِ :‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر العسقالني (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قوله‪ :‬قال عمر بن‬
‫الخطاب‪ :‬يا رسول هللا ائذن لي فأضرب عنقه‪ ،‬في رواية شعيب ويونس‬
‫"فقال" بزيادة فاء‪ ،‬وقال‪ :‬ائذن لي فيه فأضرب عنقه‪ ،‬وفي رواية‬
‫األوزاعي‪ :‬فألضرب بزيادة الم‪ ،‬وفي حديث عبد هللا بن عمرو من طريق‬
‫مقسم عنه‪ :‬فقال عمر‪ :‬يا رسو ّل هللا أال أقوم عليه فأضرب عنقه‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب استتابة المرتدين‪ :‬باب من‬
‫ترك قتال الخوارج للتألف وأن ال ينفر الناس عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)293/12‬‬

‫وقد تقدم في المغازي من رواية عبد الرحمن بن أبي نُ ْعم عن أبي سعيد في‬
‫هذا الحديث‪ :‬فسأله رجل أظنه خالد بن الوليد قَتَلَهٌ‪ .‬وفي رواية مسلم (‪:)1‬‬
‫فقال خالد بن الوليد بالجزم‪ ،‬وقد ذكرت وجه الجمع بينهما في أواخر‬
‫وأن كالًّ منهما سأل‪.‬‬
‫المغازي‪ّ ،‬‬
‫ثم رأيت عند مسلم من طريق جرير عن عمارة بن القعقاع بسنده‪ ،‬فيه‪:‬‬
‫أضرب عنقه؟ قال‪" :‬ال"‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫فقام عمر بن الخطاب فقال‪ :‬يا رسول هللا أال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أدبر‪ ،‬فقام إليه خالد بن الوليد سيف هللا فقال‪ :‬يا رسول هللا أضرب عنقه؟‬
‫أن كالًّ منهما سأل‪ ،‬وقد استشكل سؤال خالد في‬
‫قال‪" :‬ال"‪ .‬فهذا نص في ّ‬
‫ذلك‪ ،‬ألن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها‪ ،‬والذهب‬
‫المقسوم أرسله علي من اليمن كما في صدر حديث ابن أبي نعم عن أبي‬
‫سعيدٍ‪ ،‬ويُجاب بأن عليًّا لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة‪،‬‬
‫فأرسل علي الذهب فحضر خالد قسمته‪ .‬وأما حديث عبد هللا بن عمرو فإنه‬
‫بالج ْعرانَ ِة (‪ )2‬من غنائم حنين‪ ،‬والسائل في قتله عمر‬
‫في قصة قسم وقع ِ‬
‫بن الخطاب جز ًما‪ ،‬وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد كما مضى‬
‫قريبًا‪.‬‬
‫ذر‪ ،‬وفي‬
‫قوله‪ :‬قال‪" :‬دعه"‪ ،‬في رواية شعيب‪ :‬فقال له‪" :‬دعه" كذا ألبي ّ‬
‫رواية األوزاعي‪ :‬فقال‪" :‬ال"‪ ،‬وزاد أفلح بن عبد هللا في روايته‪ :‬فقال‪" :‬ما‬
‫أنا بالذي أقتل أصحابي"‪.‬‬
‫قوله‪" :‬فإن له أصحابًا"‪ ،‬هذا ظاهره أن ترك األمر بقتله بسبب أن له‬
‫أصحابًا بالصفة المذكورة‪ ،‬وهذا ال يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من‬
‫مواجهة النبي صلى هللا عليه وسلم بما واجهه‪ ،‬فيحتمل أن يكون لمصلحة‬
‫التألّف كما فهمه البخاري‪ ،‬ألنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار‬
‫اإلسالم‪،‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب ذكر الخوارج وصفاته‪.‬‬
‫(‪ )2‬ماء بين الطائف ومكة‪ ،‬وهي إلى مكة أقرب‪ ،‬معجم البلدان‬
‫(‪.)142/2‬‬
‫تنفيرا عن دخول غيرهم في اإلسالم‪ ،‬ويؤيده‬
‫ً‬ ‫فلو أذن في قتلهم لكان ذلك‬
‫رواية أفلح ولها شواهد‪ ،‬ووقع في رواية أفلح‪" :‬سيخرج أناس يقولون مثل‬
‫قوله" انتهى كالم ابن حجر‪.‬‬
‫ثم إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أمر بقتله بعد ذلك ففي "الفتح"‬
‫(‪ )1‬ما نصه‪:‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫"تنبيه‪ :‬جاء عن أبي سعيد ال ُخدري قصة أخرى تتعلق بالخوارج فيها ما‬
‫يخالف هذه الرواية‪ ،‬وذلك فيما أخرجه أحمد (‪ )2‬بسند جيد عن أبي سعيد‪،‬‬
‫قال‪ :‬جاء أبو بكر إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا‪،‬‬
‫إني مررت بوادي كذا فإذا رجل حسن الهيئة متخشع يصلي فيه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"اذهب إليه فاقتله"‪ ،‬قال‪ :‬فذهب إليه أبو بكر فلما رءاه يصلي َكره أن يقتله‪،‬‬
‫فرجع‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم لعمر‪" :‬اذهب فاقتله"‪ ،‬فذهب فرءاه‬
‫على تلك الحالة فرجع‪ ،‬فقال‪" :‬يا علي اذهب إليه فاقتله"‪ ،‬فذهب علي فلم‬
‫"إن هذا وأصحابه يقرءون القرءان ال‬ ‫يره فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ّ :‬‬
‫يمرق السهم من الرمية (‪ ،)4‬ثم‬ ‫يجاوز تراقيهم (‪ )3‬يمرقون من الدين كما ُ‬
‫ال يعودون فيه‪ ،‬فاقتلوهم هم شر البرية"‪ ،‬وله شواهد من حديث جابر‬
‫أخرجه أبو يعلى (‪ )5‬ورجاله ثقات‪ ،‬ويمكن الجمع بأن يكون هذا الرجل‬
‫هو األول‪ ،‬وكانت قصته هذه الثانية متراخية عن األولى‪ ،‬وأذن صلى هللا‬
‫عليه وسلم في قتله بعد أن منع منه لزوال عل ِة المنع وهي التألّف‪ ،‬فكأنه‬
‫ي عن الصالة على َمن ينسب إلى‬ ‫استغنى عنه بعد انتشار اإلسالم كما نه ّ‬
‫النفاق بعد أن كان يجري عليهم أحكان اإلسالم قبل ذلك‪.‬‬
‫_________________‬
‫فتح الباري (‪.)298-299/12‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مسند أحمد (‪.)15/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الترقوة‪ :‬العظم الذي بين ثُغرة النحر والعاتق‪ ،‬مختار الصحاح‬ ‫(‪)3‬‬
‫(ص‪.)32/‬‬
‫الرمية هي الطريدة التي يرميها الصائد (لسان العرب‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪.)336/14‬‬
‫مسند أبو يعلى (‪.)150/4‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫وكأن أبا بكر وعمر تمسكا بالنهي األول عن قتل المصلّين‪ ،‬وحمال‬
‫األمر هنا على قيد أن ال يكون ال يصلّي (‪ ،)1‬فلذلك علّال عدم القتل‬
‫بوجود الصالة أو غلّبا جانب النهي‪ .‬ثم وجدتُ في مغازي األموي من‬
‫مرسل الشعبي في نحو أصل القصة‪ :‬ثم دعا رجاالً فأعطاهم‪ ،‬فقام رجل‬
‫فقال‪ :‬إنك لتقسم وما نرى عدالً‪ ،‬قال‪" :‬إذًا ال يعدل أح ٌد بعدي"‪ ،‬ثم دعا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أبا بكر فقال‪" :‬اذهب فاقتله"‪ ،‬فذهب فلم يجده‪ ،‬فقال‪" :‬لو قتلته لرجوت‬
‫أن يكون أولهم وءاخرهم"‪ .‬فهذا يؤيد الجمع الذي ذكرته لما يدل عليه‬
‫"إثم" من التراخي‪ .‬وهللا أعلم" اهـ‪.‬‬

‫(‪ )1‬كذا في األصل‪ ،‬ولعل الصواب‪" :‬على أن ال يكون يصلي"‪.‬‬

‫بيان‬
‫كيف يؤخذ علم الدين‬
‫وأن العلم بالتعلم ال بالمطالعة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اعلم أنه يجب على كل مكلّف أن يتعلم من علم الدين ً‬


‫قدرا ال يستغني‬
‫عنه كل فرد من المكلّفين‪ ،‬وهو ينقسم إلى علم العقيدة وعلم األحكام‪.‬‬
‫فمن الواجب على المكلّف معرفته واعتقاده من أمور العقيدة‪ :‬اإليمان‬
‫باهلل وبما جاء عن هللا‪ ،‬واإليمان برسول هللا وبما جاء عن رسول هللا‪،‬‬
‫كمعرفة الشهادتين وصفات هللا الواجب معرفتها وتنزيهه تعالى ع ّما ال يليق‬
‫به ونحو ذلك‪ ،‬وتصديق الرسول محمد بكل ما جاء به عن هللا من أخبار‬
‫األمم السابقة واألشياء التي تحصل في البرزخ ويوم القيامة أو تحليل شئ‬
‫أو تحريمه ونحو ذلك‪ ،‬ومعرفة األشياء التي تخرج من اإلسالم كأنواع‬
‫الكفر كي يجتنبه‪ .‬ومن الواجب معرفته من األحكام‪ :‬معرفة أحكام الصالة‬
‫من شروط وأركان ومبطالت والطهارة ونحو ذلك‪.‬‬
‫وهذه األمور ال تؤخذ بالمطالعة من الكتب‪ ،‬ألنه قد يكون في هذه الكتب‬
‫دس وافتراء على الدين‪ ،‬أو قد يفهم منها أشياء على‬ ‫التي يطالعها الشخص ٌّ‬
‫خالف ما هي عليه عند السلف والخلف على ما تناقلوه جي ٌل عن جيل من‬
‫األ ّمة فيؤدي عبادة فاسدة‪ ،‬أو يقع في تشبيه هللا بخلقه والتمثيل والكفر‬
‫والضالل‪ .‬وعلى ك ّل فليس ذلك سبيل التعلم الذي نَ َهجه السلف والخلف‪،‬‬
‫قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي أحد كبار المحدّثين‪" :‬ال يؤخذ العلم‬
‫إال من أفواه العلماء"‪.‬‬
‫إذًا ال ب ّد من تعلّم أمور الدين من عارف ثقة يكون أخذ عن ثقة وهكذا‬
‫إلى الصحابة‪ ،‬قال بعض السلف‪" :‬الذي يأخذ الحديث من الكتب يسمى‬
‫ص َحفيًّا والذي يأخذ القرءان من المصحف يس ّمى ُمص َحفيًّا وال يس ّمى‬
‫َ‬

‫قارئًا"‪ ،‬وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من يرد هللا به ً‬
‫خيرا يفقهه‬
‫في الدين‪ ،‬إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه" (‪.)1‬‬
‫العلم ٌ‬
‫دين فانظروا‬ ‫َ‬ ‫وروى مسلم (‪ )2‬عن ابن سيرين أنه قال‪" :‬إن هذا‬
‫ع ّمن تأخذون دينكم"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مخالف للشرع فعلى السامع أن ينبهه عن خطئه‬ ‫ٌ‬ ‫سمع من عالم كال ٌم‬ ‫ولو ُ‬
‫يجر إلى مفسدة أعظم فقد قال هللا تبارك وتعالى‪ُ { :‬ك ْنتُم‬ ‫إن كان تنبيهه ال ّ‬
‫عن ال ُمنكر ويُؤمنونَ‬ ‫بالمعروف وت َ ْن َهونَ ِ‬
‫ِ‬ ‫للناس تأمرونَ‬
‫ِ‬ ‫خير أم ٍة أ ُ ْخ ِر َج ْ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫باهلل} [سورة ءال عمران‪ ،]110/‬فقد مدح هللا تبارك وتعالى أمة النبي‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم بهذه الصفة‪ .‬وإن العالم التقي الناصح للناس‬
‫الشفيق على دينه الورع الذي يخاف هللا إذا أخطأ فبُيّن له خطؤه ولو أمام‬
‫جمع من الناس يعود عنه ويبيّن للناس ذلك‪.‬‬
‫فقد أخرج سعيد بن منصور (‪ )3‬والبيهقي (‪ )4‬عن الشعبي قال‪" :‬خطب‬
‫عمر بن الخطاب فحمد هللا تعالى وأثنى عليه وقال‪ :‬أال ال تغالوا في صداق‬
‫النساء! فإنه ال يبلغني عن أحد ساق أكثر من شئ ساقه رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم أو سيق إليه إال جعلت فضل ذلك في بيت المال‪ ،‬ثم نزل‬
‫فعرضت له امرأة من قريش فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين أكتاب هللا تعالى‬
‫_________________‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب العلم قبل القول‬ ‫(‪)1‬‬
‫والعمل‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬المقدمة‪ :‬باب بيان أن اإلسناد من الدين‪ ،‬وأن‬ ‫(‪)2‬‬
‫الرواية ال تكون إال عن الثقات‪ ،‬وأن جرح الرواة بما هو فيهم‬
‫جائز بل واجب وأنه ليس من الغيبة المحرمة‪ ،‬بل من الذبّ عن‬
‫الشريعة المكرمة‪.‬‬
‫سنن سعيد بن منصور‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب ما جاء في الصداق‪،‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫(‪.)167-166/1‬‬
‫سنن البيهقي‪ :‬كتاب الصداق‪ :‬باب ال وقت في الصداق كثر أو ق ّل‬ ‫(‪)4‬‬
‫(‪.)233/7‬‬
‫أحق أن يتّبع أو قولك؟ قال‪ :‬بل كتاب هللا تعالى‪ ،‬فما ذاك؟ قالت‪ :‬نهيت‬ ‫ّ‬
‫الناس ءانفًا أن يغالوا في صداق النساء‪ ،‬وهللا تعالى يقول في كتابه‪:‬‬
‫طارا فال تأخذوا منهُ شيئًا} [سورة النساء‪ ]20/‬فقال‬
‫{و َءات َ ْيت ُ ُهم إحدا ُه َّن قِ ْن ً‬
‫عمر‪ :‬كل أحد أفقه من عمر –مرتين أو ثالثًا‪ -‬ثم رجع إلى المنبر فقال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫للناس‪ :‬إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صداق النساء أال فليفعل رجل من‬
‫ماله ما بدا له"‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح اإلحياء (‪ )1‬ما‬
‫نصه‪(" :‬واستماع العلم النافع) في دينه ودنياه و(في األخرة أفضل من‬
‫اشتغاله بالنوافل) من الصلوات‪( ،‬فقد روى أبو ذر) جندب بن جنادة رضي‬
‫هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم (إن حضور مجلس علم أفضل من‬
‫صالة ألف ركعة)‪ .‬وفي خبر ءاخر‪" :‬ألن يتعلم أحدكم بابًا من العلم أو‬
‫يعلمه خير له من صالة ألف ركعة" (‪ )2‬قيل‪ :‬يا رسول هللا ومن قراءة‬
‫ضا؟ قال‪" :‬وهل ينفع قراءة القرءان إال بعلم"‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫القرءان أي ً‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬اتحاف السادة المتقين (‪.)277/3‬‬
‫(‪ )2‬أي من النوافل‪.‬‬

‫بيان‬
‫أي العلوم أولى تحصيالً‬
‫وأنه معرفة هللا ورسوله‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ؤمنينَ‬ ‫قال هللا تعالى‪{ :‬فا ْعلَ ْم أنهُ ال إلهَ إال هللاُ وا ْست َ ْغ ْف ْر ِل َذ َ‬
‫نبك ولل ُم ِ‬
‫ؤمنات} [سورة محمد‪ ،]19/‬هذه الجملة من القرءان فيها إشارة إلى‬ ‫وال ُم ِ‬
‫عل َمين‪ :‬علم التوحيد بقوله‪{ :‬فا ْعلَ ْم أنهُ ال إلهَ إال هللاُ} [سورة محمد‪]19/‬‬
‫ؤمنات} [سورة‬ ‫وعلم الفروع بقوله‪{ :‬واست َ ْغ ِف ْر لذن ِب َك وللمؤمنينَ وال ُم ِ‬
‫محمد‪ ،]19/‬وقد قدّم هللا تعالى ما فيه إشارة إلى علم التوحيد على ما فيه‬
‫إشارة إلى علم الفروع‪ ،‬فعلمنا من ذلك أنه أولى من علم الفروع وهو‬
‫خص رسول هللا صلى هللا‬ ‫ّ‬ ‫أفضل العلوم وأعالها وأشرفها وأوالها‪ ،‬وقد‬
‫عليه وسلم نفسه بالتّرقّي في هذا العلم فقال‪" :‬فوهللا إني ألعلمكم باهلل‬
‫وأشدّكم له خشية" رواه البخاري (‪.)1‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سئ َل‬
‫ي العمل أفضل فقال‪" :‬إيمان باهلل ورسوله" (‪ ،)2‬ألن األعمال الصالحة ال‬ ‫أ ُّ‬
‫تقبل بدون اإليمان باهلل ورسوله‪.‬‬
‫وروى مسلم (‪ )3‬عن عائشة أنها قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ابن ُجدعان‬
‫كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين‪ ،‬فهل ذاك نافعه؟ قال‪" :‬ال‬
‫ينفعه‪ ،‬إنه لم يقل يو ًما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين"‪ ،‬فاعتبر رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم عمل عبد هللا بن جدعان من التصدق على‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب من لم يواجه الناس بالعتاب‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب من قال إن اإليمان هو‬
‫العمل‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب الدليل على أن من مات على‬
‫الكفر ال ينفعه عمل‪.‬‬
‫المحتاجين وصلة الرحم وغير ذلك غير نافع له ألنه لم يكن يؤمن باهلل‪.‬‬
‫وكان عبد هللا مفسدًا في مكة فطرده أبوه‪ ،‬قال له لست ابني‪ ،‬فكره الحياة‬
‫فذهب إلى جبل فوجد شقًا فقال لع َل في هذا ثعبانًا يقتلني‪ ،‬فوجد ثعبانًا عيناه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تلمعان فظنه ثعبانًا حقيقيًّا فاقترب فوجده ثعبانًا من ذهب إال عيناه من لؤلؤ‪،‬‬
‫فطمع في الحياة‪.‬‬
‫صا طواالً مدفونين وفوقهم لوح كتب عليه "صاح على‬ ‫هو رأى أشخا ً‬
‫ْت أو سمعت براعٍ ر ّد في الضرع ما جرى في الحالب" ومرادهم كما‬ ‫َري َ‬
‫أن اإلنسان ال يستطيع أن يرد الحليب إلى الضرع بعد ما خرج منه كذلك‬
‫نحن ال نستطيع أن نعود إلى الدنيا بعد خروجنا منها‪.‬‬
‫وقال الغزالي‪" :‬ال تصح العبادة إال بعد معرفة المعبود"‪ ،‬أي أن من لم‬
‫يعرف هللا تعالى بل يشبّهه بخلقه بالضوء أو غيره‪ ،‬أو اعتقد أنه ساكن في‬
‫السماء أو أنه جالس على العرش أو وصفه بصفة من صفات البشر‪ ،‬فهذا‬
‫عبادته تكون لشئ توهمه في مخيلته فيكون مشر ًكا باهلل‪ ،‬فال تصح عبادته‪.‬‬
‫وروى ابن ماجه (‪ )1‬عن جندب بن عبد هللا قال‪ُ " :‬كنّا مع النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلّمنا اإليمان قبل أن نتعلم القرءان‪،‬‬
‫ثم تعلمنا القرءان فازددنا به إيمانًا"‪.‬‬
‫وقال الشافعي رضي هللا عنه (‪" :)2‬أحكمنا ذاك قبل هذا"‪ ،‬أي أتقنّا علم‬
‫التوحيد قبل فروع الفقه‪.‬‬
‫وقال أبو حنيفة في الفقه األبسط‪" :‬اعلم أن الفقه في الدين أفضل من‬
‫الفقه في األحكام‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجه‪ :‬المقدمة‪ :‬باب في اإليمان‪ ،‬وقال الحافظ‬
‫البوصيري‪ :‬إسناد هذا الحديث صحيح‪ ،‬رجاله ثقات‪.‬‬
‫(‪ )2‬ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (ص‪ ،)342/‬وأخرجه‬
‫البيهقي في مناقب الشافعي (‪.)457/1‬‬
‫ضا‪" :‬أصل التوحيد وما يص ّح االعتقاد عليه وما يتعلق‬ ‫وقال أي ً‬
‫باالعتقاديات هو الفقه األكبر"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال اإلمام أبو الحسن األشعري‪" :‬أو ما يجي على العبد العلم باهلل‬
‫ورسوله ودينه"‪.‬‬
‫ومما يجب معرفته على كل مكلّف ثالث عشرة صفة هلل تعالى وهي‪:‬‬
‫والوحدانية‪ ،‬والبقاء‪ ،‬والقيام بالنفس‪ ،‬والمخالفة للحوادث‪،‬‬
‫الوجود‪ ،‬وال ِقدم‪َ ،‬‬
‫والقدرة‪ ،‬واإلرادة‪ ،‬والعلم‪ ،‬والحياة‪ ،‬والسمع‪ ،‬والبصر‪ ،‬والكالم‪ .‬ذكر ذلك‬
‫عبد المجيد الشرنوبي (‪ ،)1‬والفضالي (‪ ،)2‬وقبلهما صاحب السنوسية (‪)3‬‬
‫وأبو بكر الدمياطي (‪ )4‬المشهور بالسيد البكري في كتابه "إعانة‬
‫الطالبين"‪ ،‬والبيجوري صاحب "شرح جوهرة التوحيد"‪ ،‬وأحمد المرزوقي‬
‫صاحب "عقيدة العوام"‪ ،‬وغيرهم كثير‪.‬‬

‫ثم إنه ألهمية هذا العلم ألَّ َ‬


‫ف العالم المتكلم الفقيه محمد بن هبة هللا المكي‬
‫رسالة س ّماها "حدائق الفصول" في علم الكالم والتي اشتهرت فيما بعد‬
‫باسم "قصيدة أو عقيدة ابن مكي"‪ ،‬وقد أهداها للسلطان يوسف صالح الدين‬
‫رحمه هللا فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصبيان في المدارس‪ ،‬فقرر‬
‫تدريس هذه القصيدة في المدارس فسميت لذلك بالعقيدة الصالحية‪ ،‬وقد‬
‫كان صالح الدين عال ًما فقي ًها شافعيًا له إلمام بعلم الحديث يحضر مجالس‬
‫المحدثين وله رواية عنهم‪ ،‬حفظ التنبيه في الفقه الشافعي‪.‬‬
‫______________________‬
‫عبد المجيد الشرنوبي في شرح تائية السلوك (ص‪ 60/‬و‪.)135‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الفضالي في شرحه للعقيدة السنوسية‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫السنوسي في عقيدته المسماة العقيدة السنوسية‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫إعانة الطالبين (‪.)25/1‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وفي الفتاوى البزازية (‪ )1‬ما نصه‪" :‬تعليم صفة الخالق موالنا ج ّل‬
‫جالله للناس وبيان خصائص مذهب أهل السنة والجماعة من أهم األمور‪،‬‬
‫وعلى الذين تصدوا للوعظ أن يلقنوا الناس في مجالسهم على منابرهم ذلك‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ؤمنين} [سورة الذاريات‪]55/‬‬ ‫فإن الذِّكرى ت ْنفَ ُع ال ُم ِ‬


‫{و َذ ِ ّك ْر َّ‬
‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫وعلى الذين يؤمون في المساجد أن يعلموا جماعتهم شرائط الصالة‬
‫عا‬
‫وشرائع اإلسالم وخصائص مذاهب الحق‪ ،‬وإذا علموا في جماعتهم مبتد ً‬
‫أرشدوه وإن كان داعيًا إلى بدعته منعوه‪ ،‬وإن لم يقدروا رفعوا األمر إلى‬
‫الحكام حتى يجعلوه عن البلدة إن لم يمتنع‪ .‬وعلى العالم إذا علم من قاض‬
‫ظن منه ذلك أن يعلم الناس‬‫أو من ءاخر يدعو الناس إلى خالف السنة أو ّ‬
‫بأنه ال يجوز اتباعه وال األخذ عنه‪ ،‬فعسى يخلط في أثناء الحق باطالً‬
‫يعتقده العوام حقًّا ويعسر إزالته" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪" :)2‬ومن اعتقد الحالل حرا ًما أو على العكس يكفر" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬قال اإلمام الزاهد الصفار‪ :‬ال يستثني مؤمن في إيمانه فإن ابن‬
‫عمر رضي هللا عنهما أخرج شاة ليذبح فمر به رجل فقال‪ :‬أمؤمن أنت؟‬
‫فقال‪ :‬نعم إن شاء هللا تعالى‪ ،‬فقال‪ :‬ال يذبح نسكي من يشك في إيمانه‪ ،‬ومر‬
‫به ءاخر وقال‪ :‬أنا مؤمن‪ ،‬فأمره بالذبح فلم ير من يستثني في إيمانه أهالً‬
‫للذبح‪ ،‬وقال الزاهد‪ :‬يجب إكفار القدرية –أي المعتزلة‪ -‬في نفيهم كون‬
‫الشر بخلق هللا تعالى وفي دعواهم أن كل فاعل خالق فعل نفسه‪ ،‬ويجب‬
‫إكفار ال َكيْسانية في إجازتهم البّداء على هللا تعالى" اهـ‪ .‬ثم قال‪" :‬وأحكام‬
‫هؤالء أحكام المرتدين" اهـ‪ ،‬ثم قال‪" :‬ويجب إكفار الخوارج في إكفارهم‬
‫جميع األمة سواهم" اهـ‪.‬‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬الفتاوى البزازية (‪.)320/6‬‬
‫(‪ )2‬الفتاوى البزازية (‪.)321/6‬‬

‫قال الحافظ أبو زرعة العراقي في الغيث الهامع ممزو ًجا بالمتن ما صنه‬
‫(‪" :)1‬ص‪ :‬وان المرء يقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء هللا خوفًا من سوء الخاتمة‬
‫والعياذ باهلل ال ش ًكا في الحال‪ .‬ش‪ :‬جواز ذلك هو قول أكثر السلف وحكي‬
‫عن ابن عمر وابن مسعود رضي هللا عنهما وبه قال الشافعية والمالكية‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والحنابلة واألشعري والمحدثون وزاد بعضهم على ذلك فأوجبه‪ .‬ومنعه أبو‬
‫كفر" اهـ‪ ,‬ثم قال‪:‬‬
‫حنيفة وطائفة وقالوا‪ :‬هو شك والشك في اإليمان ٌ‬
‫"وأجيب عن شبهة من جعل ذلك ش ًكا بأجوبة أحدها أنه إنما يقال ذلك خوفًا‬
‫من سوء الخاتمة ألن األعمال معتبرة بها كما أن الصائم ال يصح الحكم‬
‫عليه بالصوم إال ءاخر النهار فلو طرأ الفطر في أثنائه لم يكن صائ ًما‪ ،‬وقد‬
‫حكي عن ابن مسعود أنه قيل له إن فالنًا يقول أنا مؤمن وال يستثني فقال‪:‬‬
‫قولوا له أهو في الجنة فقال‪ :‬هللا أعلم فقال‪ :‬فهال وكلت األولى كما وكلت‬
‫الثانية‪ .‬والعجب من مخالفة أبي حنيفة لذلك وقال به من الحنفية الماتريدي"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال العالمة البياضي (‪ )2‬الحنفي ما نصه‪" :‬الثانية‪ :‬وجوب بيان مذهب‬
‫أهل السنة ليعرف أهلها ويحب من اتصف به من المسترشدين‪ ،‬ورد‬
‫مذاهب المخالفين ليجتنب عنها كل أحد ويبغض الزائغين‪ ،‬فقد قال مشايخنا‬
‫رحمهم هللا تعالى‪ :‬تعليم صفة اإليمان للناس وبيان خصائل أهل السنة‬
‫والجماعة من أهم األمور‪ ،‬وألّف السلف فيها تآليف كثيرة كما في سير‬
‫الذخيرة والتتارخانية‪ ،‬وأشار إليه بقوله‪ :‬إذا مال إلى الحق وعرف أهله‬
‫كان لهم وليًّا" اهـ‪.‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬الغيث الهامع (‪.)990/3‬‬
‫(‪ )2‬إشارات المرام (ص‪.)38/‬‬

‫بيان‬
‫اإليمان واإلسالم والردة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عا تصديق مخصوص‪ ،‬وهو‬ ‫اعلم أن اإليمان لغة التصديق‪ ،‬وشر ً‬


‫التصديق بما جاء به النبي صلى هللا عليه وسلم‪ .‬واإلسالم لغة االنقياد‪،‬‬
‫عا انقيا ٌد مخصوص‪ ،‬وهو االنقياد لما جاء به النبي صلى هللا عليه‬‫وشر ً‬
‫وسلم بالنطق بالشهادتين‪.‬‬
‫واإلسالم واإليمان متالزمان ال يُقبل أحدهما بدون اآلخر‪ ،‬وإن كانا‬
‫مختلفين من حيث معنياهما األصليان‪ ،‬فقد قال أبو حنيفة رضي هللا عنه في‬
‫الفقه األكبر‪" :‬ال يكون إيمان بال إسالم وال إسالم بال إيمان فهما كالظهر‬
‫مع البطن" اهـ‪ .‬فكما أن الظهر ال ينفصل عن البطن مع أنهما مختلفان‬
‫فكذلك اإليمان ال ينفص ُل عن اإلسالم واإلسالم ال ينفصل عن اإليمان‪ ،‬ف َمن‬
‫ءامن بما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم وصدّق ذلك بالنطق‬
‫بالشهادتين بلسانه فهو مسلم مؤمن‪ ،‬إن مات على ذلك ال بُ َّد أن يدخل‬
‫الجنة‪.‬‬
‫األعراب ءا َمنَّا قُل ل ْم ت ُ ِ‬
‫ؤمنوا ولكن قولوا‬ ‫ُ‬ ‫وأ ّما قول هللا عز وجل‪" :‬قالَ ِ‬
‫ت‬
‫اإليمان في قُلو ِب ُكم} [سورة الحجرات‪ ]14/‬فالمراد‬ ‫ُ‬ ‫أ ْسلَ ْمنا ولَ َّما ي ْد ُخ ِل‬
‫ي‪ ،‬حيث ّ‬
‫إن هؤالء‬ ‫بأسلمنا فيه اإلسالم اللغوي الذي هو االنقياد ال الشرع ُّ‬
‫األعراب كانوا يظهرون للناس أنهم يحبّون الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ي‪.‬‬‫وأنهم منقادون له خوفًا من القتل وفي قلوبهم كره النب ّ‬
‫قال أبو حيان (‪ )1‬في تفسير قوله تعالى‪{ :‬ولكن قولوا أ ْسلَمنا} [سورة‬
‫الحجرات‪ ]14/‬ما نصه‪" :‬فهو اللفظ الصادق من أقوالهم وهو االنقياد‬
‫ظاهرا" اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫واالستسالم‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬تفسير النهر الماد (مجلد ‪ -3‬القسم الثاني ص‪.)982/‬‬

‫وقال القرطبي (‪" :)1‬ومعنى {ولكن قولوا أ ْسلَمنا} [سورة‬


‫الحجرات‪ :]14/‬أي استسلمنا خوف القتل والسبي وهذه صفى المنافقين"‬
‫]‪[Type text‬‬

‫غير‬
‫اهـ‪ .‬فليس في هذه اآلية أن هؤالء األعراب كانوا مسلمين حقيقة َ‬
‫مؤمنين‪.‬‬
‫وما جاء في الحديث وفيه‪" :‬ال يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تَبَعًا لما‬
‫جئتُ به" (‪ ،)2‬و‪" :‬ال يؤمن أحدكم حتى يحبّ ألخيه ما يحبّ لنفسه" (‪)3‬‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫والحديث الذي رواه أبو هريرة رضي هللا عنه َّ‬
‫وسلم قال‪" :‬فوالذي نفسي بيده ال يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من‬
‫والده وولده" (‪ ،)4‬ونحو هذا ليس المرا ُد به نفي أصل اإليمان عنه‪ ،‬بل‬
‫عا كامالً‪.‬‬‫ي اتبا ً‬
‫المراد نفي اإليمان الكامل الذي يكون به متبعًا للنب ّ‬
‫قال الحافظ ابن حجر (‪ )5‬في الفتح في هذا الحديث األخير ما نصه‪:‬‬
‫"قوله‪" :‬ال يؤمن" أي إيمانًا كامالً" اهـ‪.‬‬
‫وقال النووي في شرح مسلم (‪ )6‬ما نصه‪" :‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"ال يؤمن أحدُكم حتى يحب ألخيه" أو قال‪" :‬لجاره ما يحبّ لنفسه"‪ .‬هكذا‬
‫هو في مسلم ألخيه أو لجاره على الشك‪ ،‬وكذا هو في مسند عبد‬
‫_______________‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)348/16‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫قال النووي في األربعين‪ :‬حديث حسن صحيح رويناه في كتاب‬ ‫(‪)2‬‬
‫الحجة بإسناد صحيح‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب الدليل على أن من خصال‬ ‫(‪)3‬‬
‫اإليمان أن يحب ألخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب حبّ الرسول صلى هللا عليه‬ ‫(‪)4‬‬
‫وسلم من اإليمان‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)58/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫شرح صحيح مسلم (‪.)16/2‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫ابن حميد على الشك‪ ،‬وهو في البخاري وغيره‪" :‬ألخيه" من غير شك‪ ،‬قال‬
‫العلماء رحمهم هللا‪ :‬معناه ال يؤمن اإليمان التام‪ ،‬وإال فأصل اإليمان يحصل‬
‫لمن لم يكن بهذه الصفة‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ٌ‬
‫فالن مسلم ولكنه ليس بمؤمن أو العكس‪ ،‬بل يقال فالن‬ ‫فلذلك ال يُقال‬
‫كامل اإليمان أو ناقص اإليمان ألن اإليمان يزيد وينقص‪ ،‬ف َمن ءامن باهلل‬
‫ورسوله وأدّى الواجبات واجتنب المحرمات فهذا مسلم مؤمن وإيمانه‬
‫كامل‪ ،‬و َمن ترك بعض الواجبات كالصلوات الخمس أو ارتكب بعض‬
‫المحرمات كأكل الربا وشرب الخمر فهذا مسلم مؤمن وإيمانه ناقص‪.‬‬ ‫ّ‬
‫قال النووي في شرح مسلم (‪ )1‬باب بيان نقصان اإليمان بالمعاصي ما‬
‫نصه‪" :‬في الباب قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يزني الزاني حتى يزني‬
‫وهو مؤمن‪ ،‬وال يسرق السارق حتى يسرق وهو مؤمن‪ ،‬وال يشرب الخمر‬
‫حين يشربها وهو مؤمن" الحديث‪ ،‬وفي رواية‪" :‬وال يغ ّل أحدكم حين يَغُل‬
‫وهو مؤمن"‪ ،‬وفي رواية‪" :‬والتوبة معروضة بعد"‪ ،‬هذا الحديث م ّما‬
‫إن معناه ال‬ ‫اختلف العلماء في معناه‪ ،‬فالقول الصحيح الذي قاله المحققون ّ‬
‫يفعل هذه المعاصي وهو كامل اإليمان‪ ،‬وهذا من األلفاظ التي تطلق على‬
‫نفي الشئ ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال‪ :‬ال علم إال ما نفع‪ ،‬و‪ :‬ال مال‬
‫تأولناه على ما ذكرناه لحديث‬ ‫إال اإلبل‪ .‬و‪ :‬ال عيش إال عيش اآلخرة‪ ،‬وإنما ّ‬
‫أبي ذر وغيره‪ّ " :‬من قال ال إله إال هللا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"‪،‬‬
‫عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى هللا عليه‬ ‫وحديث ُ‬
‫وسلم على أن ال يسرقوا وال يزنوا وال يعصوا في معروف إلى ءاخره‪ ،‬ثم‬
‫قال لهم صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ف َمن وفى منكم فأجره على هللا‪ ،‬و َمن فعل‬
‫شيئًا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفّارته‪ ،‬و َمن فعل ولم يعاقب فهو إلى‬
‫هللا تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه"‪ ،‬فهذان الحديثان مع نظائرهما‬
‫ويغفر‬
‫ُ‬ ‫شرك ب ِه‬
‫يغفر أن يُ َ‬
‫ُ‬ ‫{إن هللاَ ال‬ ‫في الصحيح مع قول هللا ّ‬
‫عز وجل‪َّ :‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪.)41-42/2‬‬
‫ذلك لمن يشا ُء} [سورة النساء‪ ،]48/‬مع إجماع أهل الحق على ّ‬
‫أن‬ ‫ما دونَ َ‬
‫الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك ال‬
‫يكفرون بذلك‪ ،‬بل هو مؤمنون ناقصو اإليمان إن تابوا سقطت عقوبتهم‪،‬‬
‫مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة فإن شاء هللا تعالى عفا‬
‫ّ‬ ‫وإن ماتوا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عنهم وأدخلهم الجنّة أوالً‪ ،‬وإن شاء عذّبهم ثم أدخلهم الجنة‪ ،‬وكل هذه‬
‫األدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه‪ ،‬ثم ّ‬
‫إن هذا التأويل ظاهر‬
‫سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير" انتهى كالم النووي‪.‬‬
‫بم ينتفي اسم اإليمان عم المؤمن‬
‫َ‬
‫ليعلم أنه ال يزول اسم اإليمان واإلسالم عن المؤمن إال بالردة التي هي‬
‫كافرا‪ ،‬وال يجوز مناداته بالمسلم وال‬
‫ً‬ ‫أفحش أنواع الكفر‪ ،‬ويسمى عندئ ٍذ‬
‫بالمؤمن كما فعل الشافعي فإنه قال لحفص الفرد بعدما ناقشه في مسئلة‬
‫الكالم‪" :‬لقد كفرت باهلل العظيم" ففي مناقب الشافعي للبيهقي (‪ )1‬ما نصه‪:‬‬
‫"عن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال‪ :‬سمعت الربيع يقول لما كلّم الشافعي‬
‫صا الفرد فقال حفص‪ :‬القرءان مخلوق‪ ،‬قال الشافعي‪ :‬كفرت‬ ‫رحمه هللا حف ً‬
‫باهلل العظيم" اهـ‪.‬‬
‫كذلك كفّر عدد من المجتهدين الحجاج بن يوسف الثقفي كما ذكر ذلك‬
‫الحافظ العسقالني في تهذيب التهذيب في ترجمة الحجاج (‪ ،)2‬ومن جملة‬
‫ي الدين محمدًا الباجربقي لزندقته وإلحاده‪،‬‬ ‫الذين كفّروه القاضي المالك ُّ‬
‫ي تق َّ‬
‫وكان والده من العلماء األجالء كما في القاموس مع شرحه (‪.)3‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي‪ ،‬البيهقي (‪.)407/1‬‬
‫(‪ )2‬تهذيب التهذيب (‪.)210-213/2‬‬
‫(‪ )3‬تاج العروس‪ ،‬فصل الباء من باب القاف‪.)283/6( ،‬‬

‫وفي حديث البخاري (‪" :)1‬من بدّل دينه فاقتلوه" دليل على جواز تكفير‬
‫تكفيرا له بالتعيين‪.‬‬
‫ً‬ ‫المعيّن ألن المرتد ل ّما يقتل يكون ذلك‬
‫نص قرءاني أو حديثي‬‫وكذلك لعن الكافر المعيّن جائز وإن لم يرد ّ‬
‫صحيح بموته على الكفر‪ ،‬لما رواه ابن حبان (‪ )2‬في صحيحه عن ابن‬
‫عمر أنه سمع النبي صلى هللا عليه وسلم قال في صالة الفجر حين رفع‬
‫رأسه من الركوع‪" :‬ربنا لك الحمد" في الركعة اآلخرة‪ ،‬ثم قال‪" :‬اللهم العن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األمر‬
‫ِ‬ ‫لك منَ‬
‫{ليس َ‬
‫َ‬ ‫فالنًا وفالنًا"‪ ،‬دعا على أناس من المنافقين فأنزل هللا‪:‬‬
‫يتوب علي ِهم أو يُعَ ِذّبَ ُهم فإنَّ ُهم ظا ِلمون} [سورة ءال عمران‪]128/‬‬
‫َ‬ ‫ئ أو‬
‫ش ٌ‬
‫ففيه دليل على جواز لعن الكافر المعيّن الذي لم يعلم موته على الكفر‪ ،‬ألن‬
‫هؤالء أسلموا فيما بعد‪ ،‬فكان لعن الرسول لهم من غير أن يعلم عاقبتهم‪.‬‬

‫______________‬
‫سير‪ :‬باب ال‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الجهاد وال ِ ّ‬
‫يعذّب بعذاب هللا‪ ،‬وفي كتاب استتابة المرتدين‪ :‬باب حكم المرتد‬
‫{وأمر ُهم‬
‫ُ‬ ‫والمرتدة‪ ،‬وفي كتاب االعتصام‪ :‬باب قول هللا تعالى‪:‬‬
‫شورى} [سورة الشورى‪.]38/‬‬ ‫ُ‬
‫(‪ )2‬اإلحسان بترتيب ابن حبان (‪.)221/3‬‬

‫الردة وأقسامها المجمع عليها‬

‫الردة تنقسم إلى ثالثة أقسام‪ :‬أفعا ٌل وأقوا ٌل واعتقادات كما اتّفق على ذلك‬
‫أهل المذاهب األربعة‪ :‬الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وما است َد ّل به أه ُل الحق على أن الكفر ثالثةُ أقسام ءايات منها قوله‬
‫إسالم ِهم}‬
‫ِ‬ ‫فر و َكفروا بعد‬ ‫تعالى‪{ :‬يَ ْح ِلفونَ باهللِ ما قالوا ولَقَ ْد قالوا كلمةَ ال ُك ِ‬
‫ي‪ ،‬وقوله تعالى‪:‬‬ ‫[سورة التوبة‪ ]74/‬فهذه اآلية يفهم منها أن الكفر منه قول ٌّ‬
‫{إنَّما المؤمنونَ الذينَ ءامنوا باهللِ ورسول ِه ث َّم ل ْم يَرتابوا} [سورة‬
‫االرتياب‬
‫َ‬ ‫ي ألن‬ ‫الكفر منه اعتقاد ٌّ‬
‫َ‬ ‫الحجرات‪ ]15/‬فهذه اآلية يُفهم منها أن‬
‫للقمر}‬
‫ِ‬ ‫للشمس وال‬
‫ِ‬ ‫يكون بالقلب‪ ،‬وقوله تعالى‪{ :‬ال ت َ ْس ُجدوا‬ ‫ُ‬ ‫أي الشك‬
‫ي‪ ،‬وهذه المسئلة إجماعيةٌ‬ ‫الكفر منه فعل ٌّ‬
‫َ‬ ‫[سورة فصلت‪ ]37/‬يُفهم منه أن‬
‫ب األربعة‪.‬‬ ‫اتفقَ عليها علما ُء المذاه ِ‬
‫كفر ولو لم يقترن به اعتقا ٌد‬ ‫ي ٌ‬ ‫فالكفر القول ُّ‬
‫ُ‬ ‫كفر بمفر ِد ِه‬ ‫وك ٌّل من الثالث ِة ٌ‬
‫الصدر به‬ ‫ِ‬ ‫كفر ولو لم يقترن به اعتقا ٌد وانشرا ُح‬ ‫ي ٌ‬ ‫والكفر الفعل ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وال فع ٌل‪،‬‬
‫كفر ولو لم يقترن به قو ٌل وال فع ٌل‪ .‬وإنما‬ ‫والكفر االعتقادي ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وال قول‪،‬‬
‫الكفر بالقت ِل‬
‫ِ‬ ‫كر ِه على قو ِل‬ ‫الصدر في ال ُم َ‬ ‫ِ‬ ‫ي انشرا ُح‬ ‫ط للقو ِل الكفر ّ‬ ‫يُشتر ُ‬
‫يكفر ِل ُمج َّر ِد القول بعد أن أكرهَ إال أن يشر َح‬ ‫ُ‬ ‫كرهُ هو الذي ال‬ ‫ونح ِو ِه‪ .‬فال ُم َ‬
‫الكفر إن قال‬ ‫ِ‬ ‫يكفر‪ ،‬ألن المسلم المكره على قو ِل‬ ‫ُ‬ ‫صدرهُ بما يقولُهُ فعندئ ٍذ‬ ‫َ‬
‫الكفار وقلبهُ غير منشرح بما يقوله فال‬ ‫ُ‬ ‫كلمة الكفر إلنقا ِذ نفسه مما هد َدهُ به‬
‫صدرهُ بقو ِل الكفر‬ ‫َ‬ ‫خاط ُرهُ بعد اإلكرا ِه فشر َح‬ ‫ِ‬ ‫بكفر ِه‪ ،‬وأما إن تغي ََّر‬ ‫يُح َك ُم ِ‬
‫كفَ َر‪ ،‬وهذا معنى قول هللا تعالى‪َ { :‬من َكفَ َر باهلل من بع ِد إيما ِن ِه إال َم ْن أ ُ ْك ِرهَ‬
‫غضب من هللاِ‬ ‫ٌ‬ ‫صدرا فعلَ ْي ِهم‬
‫ً‬ ‫فر‬ ‫ولكن َم ْن شر َح بال ُك ِ‬ ‫ْ‬ ‫وقلبُهُ ُمط َم ِئ ٌّن باإليمان‬
‫ي الذي‬ ‫عذاب عظي ٌم} [سورة النحل‪ ]106/‬فألغى هذا الحكم الشرع ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ول ُهم‬
‫العصر‬
‫ِ‬ ‫أشخاص من أه ِل هذا‬ ‫ٌ‬ ‫اتفقَ علي ِه علما ُء اإلسالم وجاءت به اآلية‬
‫أحدهم سيد سابق في كتابه فقه السنة وحسن قاطرجي وشخص من ءال‬
‫ي من ءال اإلدلبي‪.‬‬ ‫وشخص سور ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ب سماه "دعاة ال قضاة"‬ ‫هضيبي في كتا ٍ‬
‫الخلفاء‬
‫ِ‬ ‫ام المسلمين من‬ ‫حرفوا شرع هللا وخالفوا ح َّك َ‬ ‫فليحذر هؤالء فهؤالء َّ‬
‫الكفر والردةِ عند‬ ‫ِ‬ ‫تكلم بكلم ِة‬‫نوابهم فإنهم لك يكونوا يقولون الشخص الذي َ‬ ‫و ّ‬
‫الكفر بل‬ ‫ِ‬ ‫قلت من قول‬ ‫صدرك بما َ‬ ‫َ‬ ‫كنت شار ًحا‬ ‫للحكم عليه هل َ‬ ‫ِ‬ ‫تقديمه إليهم‬
‫بمجرد اعترافه أو شهادةِ شاه َدين عليه بأنه‬ ‫ّ‬ ‫حكم الردة‬ ‫كانوا يجرونَ عليه َ‬
‫كتب التواريخ اإلسالمية تشه ُد بذلك في‬ ‫ُ‬ ‫قال كلمة كذا من الكفر‪ .‬وهذه‬
‫الوقائع التي ذكرت فيها كواقع ِة قتل الحالج فإنه أُصد َِر عليه حكم الردة‬
‫الحق أي أنا هللا ونح ِو ذلك من كلمات الردة‪ ،‬فأصدر القاضي أبو‬ ‫ُّ‬ ‫لقوله أنا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عمر المالكي في بغداد أيام الخليفة ال ُمقتدر باهلل حك ًما عليه فقطعت يداهُ‬
‫حرقَت جثتهُ ثم ذُ َّر رما ُدهُ في دِجلة‪ ،‬وهذا‬ ‫ورجالهُ ثم قطعت رقبته ثم أ ُ ِ‬
‫ّ‬
‫بالحالجية‪ .‬وكان‬ ‫عرفوا‬ ‫ع أتباعه ألنه كان له أتباع ُ‬ ‫التشدي ُد عليه ليرت ِد َ‬
‫س فيه بما ءا َل إلي ِه‬‫اإلما ُم ال ُجنيد رضي هللا عنه سي ُد الطائفة الصوفية تَفَ َّر َ‬
‫س َك"‪.‬‬ ‫اإلسالم ثغرة ً ال يسدُّها إال رأ ُ‬
‫ِ‬ ‫ت في‬‫فتح َ‬
‫أمرهُ ألنه قال للحالج‪" :‬لقد ْ‬ ‫ُ‬
‫وجهلةُ المتصوف ِة خالفوا سيد الصوفية ال ُجنيد فصاروا ي َه ّونون َ‬
‫أمر‬
‫ت الردة ممن ينتسب إلى التصوف فال يكفّرون أحدًا منهم لقو ِل‬ ‫ق بكلما ِ‬‫النط ِ‬
‫الحق‪ ،‬أو قال إن الرسول صلى هللا عليه وسلم يعل ُم جمي َع ما‬ ‫ُّ‬ ‫أنا هللا أو أنا‬
‫يعلمه هللا‪ ،‬أو إن هللا يَ ُح ّل في األشخاص‪ ،‬أو إن هللا كان واحدًا ثم صار‬
‫كثيرا فيزعمون أن العالم أجزا ٌء منَ هللا‪.‬‬‫ً‬
‫وأولئك في وا ٍد‬
‫َ‬ ‫فهؤالء في وا ٍد‬
‫ِ‬ ‫أما الصوفيةُ الحقيقيونَ فهم بريئونَ منهم‪،‬‬
‫ءاخر‪ .‬بل قال اإلمام الجنيد رضي هللا عنه‪ :‬لو كنت حاك ًما لضربت عنق‬
‫من سمعته يقول ال موجود إال هللا‪.‬‬
‫هؤالء أعني جهلة المتصوفة أن يقولوا إذا نُ ِق َل عن أحدِهم‬ ‫ِ‬ ‫ومن شأن‬
‫ق هللا‬ ‫"يؤول" ولو كانت مما ال يقبل التأويل وهؤالء من أبع ِد خل ِ‬ ‫َّ‬ ‫كلمة كفر‬
‫اإلسالم متفقونَ على أن التأوي َل البعي َد ال يُقب ُل‬
‫ِ‬ ‫عن علم الدين‪ ،‬فإن علما َء‬
‫حبيب ُ‬
‫بن ربيع‬ ‫ُ‬ ‫الكبير‬
‫ُ‬ ‫إنما التأويل يُق َب ُل إذا كان قريبًا قال ذلك اإلما ُم‬
‫ي الدين السبكي‪ ،‬ونُ ِق َل‬ ‫ي والشيخ اإلمام تق ُّ‬ ‫ي وإمام الحر َمين الشافع ُّ‬ ‫المالك ُّ‬
‫ب أبي حنيفة‪.‬‬ ‫معنى هذا عن اإلمام محمد بن الحسن الشيباني صاح ِ‬
‫وإننا نورد لتأييد كالمنا بعض نصوص أهل المذاهب األربعة قال ابن‬
‫حجر الهيتمي الشافعي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬ثم كفر المسلم أي قطعه لإلسالم إما‬
‫أن يكون بنيّة بالقلب حاالً أو مآالً‪ ،‬وإن قصد الكفر وغيره على السواء‪.‬‬
‫تأثير لما يجري في‬
‫َ‬ ‫وكذا إن تردد بأن جرى شك ينافي الجزم بالنية‪ ،‬وال‬
‫الفكر من غير اختيار‪ ،‬أو تعم ِد فعل ولو بقلبه استهزا ًء أو جحودًا‪ ،‬أو تعم ِد‬
‫قول باعتقاد لذلك الفعل أو القول أي معه أو مع عناد من الفاعل أو القائل‬
‫كالتعرض لسبّ هللا أو رسوله"‬
‫َ‬ ‫أو مع استهزاء أي استخفاف منهما ظاهر‬
‫اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال النووي في روضة الطالبين (‪ )2‬ما نصه‪" :‬الردة‪ :‬وهي قطع‬


‫اإلسالم‪ ،‬ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر وتارة بالفعل‪ ،‬وتحصل‬
‫الردة بالقول الذي هو كفر سواء صدر عن اعتقاد أو عناد أو استهزاء"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫َّ‬
‫للحطاب المالكي (‪ )3‬ما نصه‪" :‬الردة كفر‬ ‫وفي كتاب مواهب الجليل‬
‫المسلم بصريح لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه" اهـ‪.‬‬
‫وفي منح الجليل للشيخ محمد عليش المالكي (‪ )4‬ما نصه‪" :‬وسواء كفر‬
‫(أي المرتد) بقول صريح في الكفر كقوله‪ :‬كفرت باهلل أو برسول هللا أو‬
‫بالقراءن‪ ،‬أو‪ :‬اإلله اثنان أو ثالثة‪ ،‬أو‪ :‬العُزَ ُ‬
‫ير ابن هللا‪ ،‬أو بلفظ يقتضيه أي‬
‫يستلزم اللفظ للكفر استلزا ًما بيّنًا كجحد مشروعية شئ مجمع عليه معلوم‬
‫من الدين بالضرورة‪ ،‬فإنه يستلزم تكذيب القرءان أو الرسول‪ ،‬وكاعتقاد‬
‫جسمية هللا أو تحيّزه" اهـ‪.‬‬
‫___________________‬
‫فتح الجواد بشرح اإلرشاد (‪.)298/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫روضة الطالبين‪ :‬كتاب الردة (‪.)64/10‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مواهب الجليل شرح مختصر خليل (‪.)279/6‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫منح الجليل شرح مختصر خليل (‪.)205/9‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وقال الفقيه ابن عابدين الحنفي في ر ّد المحتار على ّ‬


‫الدر المختار (‪ )1‬ما‬
‫نصه‪" :‬قوله‪ :‬وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان‪ ،‬هذا بالنسبة إلى‬
‫الظاهر الذي يحكم به الحاكم‪ ،‬وإال فقد تكون بدونه كما لو عرض له اعتقاد‬
‫باطل أو نوى أن يكفر بعد حين" اهـ‪.‬‬
‫وقال تاج الدين السبكي في طبقاته (‪ )2‬ما نصه‪" :‬وال خالف عند‬
‫األشعري وأصحابه بل وسائر المسلمين أن من تلفظ بالكفر أو فعل أفعال‬
‫الكفر أنه كافر باهلل العظيم مخلد في النار وإن عرف بقلبه" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي شرح منتهى اإلرادات للبهوتي الحنبلي (‪ )3‬ما نصه‪" :‬باب حكم‬
‫بار ُكم فتَنقَ ِلبوا‬
‫المرتد‪ :‬وهو لغة الراجع قال تعالى‪{ :‬وال ت َ ْرتَدُّوا على أ ْد ِ‬
‫مميزا بنطق أو‬ ‫ً‬ ‫عا َمن كفر ولو كان‬ ‫خا ِسرين} [سورة المائدة‪ ]21/‬وشر ً‬
‫عا ولو كانَ هازالً بعد إسالمه" اهـ‪.‬‬ ‫اعتقاد أو فعل أو شك طو ً‬
‫أن المذاهب األربعة متفقة على هذا التقسيم أي تقسيم‬‫فتبيّن لك مما ذكرنا ّ‬
‫الكفر إلى أنواعه الثالثة‪ :‬الكفر القولي والكفر الفعلي والكفر االعتقادي‪،‬‬
‫وعلى هذا التقسيم كان مفتي والية بيروت األسبق الشيخ عبد الباسط‬
‫الفاخوري فإنه يقول في كتابه الكفاية لذوي العناية (‪ )4‬في أحكام الردة‬
‫والعياذ باهلل تعالى ما نصه‪" :‬وهي قطع مكلف مختار اإلسالم ولو امرأة‬
‫بنية كفر أو فعل مكفر أو قول مكفر‪ ،‬سواء قاله استهزاء أو اعتقادًا أو‬
‫عنادًا" اهـ‪.‬‬
‫وكذلك جاء هذا التقسيم في كتب تعليم الواجبات الدينية الصادرة من‬
‫مكتب التوجيه واإلرشاد باليمن ألّفها واطلع عليها مائة شيخ من األزهر‬
‫________________________‬
‫رد المحتار على الدر المختار‪ ،‬باب المرتد (‪.)283/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫طبقات الشافعية (‪.)91/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫شرح منتهى اإلرادات‪ ،‬باب حكم المرتد (‪.)386/3‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الكفاية لذوي العناية‪ ،‬الفصل األول في أحكام الردة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫واليمن ففيها ما نصه (‪" :)1‬الردة هي الكفر بعد اإليمان بقول أو فعل أو‬
‫اعتقاد وقد سبق بيان ذلك في الكتاب األول (اإليمان)" اهـ‪ .‬وساق أسماء‬
‫المشايخ الذين راجعوا الكتاب‪.‬‬
‫وكل نوع من هذه األنواع الثالثة يخرج من اإلسالم بمفرده ولو لم ينضم‬
‫إليه النوع اآلخر‪ .‬فيحصل باالعتقاد المكفّر لو لم يصحبه قول أو فعل‪ ،‬ففي‬
‫الفتاوى المهدية للشيخ محمد العباسي الحنفي (‪ )2‬ما نصه‪" :‬سئل في رجل‬
‫كافرا وإن لم‬
‫ً‬ ‫تجر على لسانه كلمة لكنه اعتقد بقلبه ما يُكفّر هل يكون‬
‫لم ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يتلفظ‪ ،‬أو يتوقف كفره على اجتماع القول واالعتقاد بالقلب أجاب‪ :‬ال‬
‫يتوقف كفره على اجتماع القول مع االعتقاد في القلب بل إذا اعتقد بقلبه ما‬
‫كافرا كما أنه لو جرى على لسانه كلمةُ الكفر فإنه يحكم بكفره‬
‫ً‬ ‫يكفّر يكون‬
‫الدر وحواشيه من الردّة أن ركن الردة إجراء كلمة الكفر على‬‫ظاهرا‪ ،‬ففي َ‬
‫ً‬
‫لسانه وهذا بالنسبة إلى الظاهر الذي يحكم به الحاكم‪ ،‬وإال فقد تكون بدونه‬
‫كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوى أن يكفر بعد حين‪ .‬وهللا تعالى أعلم"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وال يشترط للوقوع في الكفر انشراح الصدر باإلجماع‪ ،‬فقد قال مال علي‬
‫القاري (‪ )3‬في شرحه على الفقه األكبر لإلمام أبي حنيفة ما نصه‪" :‬ففي‬
‫حاوي الفتاوى‪َ :‬من كفر باللسان وقلبه مطمئن باإليمان فهو كافر وليس‬
‫بمؤمن عند هللا‪ .‬انتهى‪ .‬وهو معلوم من مفهوم قوله تعالى‪َ { :‬م ْن َ‬
‫كفر باهللِ‬
‫بالكفر‬
‫ِ‬ ‫باإليمان ولكن َم ْن شر َح‬
‫ِ‬ ‫ٌّ‬
‫طمئن‬ ‫من بع ِد إيمانِ ِه إال َم ْن أ ُ ِ‬
‫كرهَ وقلبُهُ ُم‬
‫غضب من هللاِ} [سورة النحل‪ "]106/‬اهـ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫صدرا فعليهم‬ ‫ً‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬انظر باب الردة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الفتاوى المهدية‪ ،‬باب التعزير والردة‪ ،‬وح ّد القذف والبغاة‬
‫(‪.)27/2‬‬
‫(‪ )3‬شرح الفقه األكبر (ص‪.)165/‬‬

‫صهُ (‪" :)1‬قلتُ ‪ :‬وم ّمن َجنَ َح إلى بعض هذا‬ ‫قال الحافظ ابن حجر ما ن ُّ‬
‫أحاديث الباب –يعني أحاديث‬‫َ‬ ‫ي في تهذيبه فقا َل بع َد أن سر َد‬
‫البحث الطبر ُّ‬
‫الخوارج‪ :-‬فيه الر ُّد على قو ِل من قال ال يخرج أحد من اإلسالم من أه ِل‬
‫ال ِقبل ِة بعد استحقاق ِه حكمه إال بقصد الخروج منه عال ًما فإنهُ ُمبطل لقوله في‬
‫الحديث‪" :‬يقولون الحق ويقرءون القرءان ويَ ْم ُرقونَ من اإلسالم وال‬
‫يتعلقون منه بشئ" ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحالل دماء المسلمين‬
‫تأولوه من ءاي القرءان على غير المراد منه‪،‬‬ ‫وأموالهم إال بخطأ منهم فيما ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ثم أخرج بسند صحيح عن ابن عباس وذكر عنده الخوارج وما يلقون عند‬
‫قراءة القرءان فقال‪ :‬يؤمنون بمحكمه ويه ِلكون عند متشابهه" اهـ‪.‬‬
‫أن من المسلمين من يخرج من الدين من‬ ‫ثم قال ما نصه (‪" :)2‬وفيه ّ‬
‫غير أن يقصد الخروج منه ومن غير أن يختار دينًا على دين اإلسالم‪ ،‬وأن‬
‫شر الفرق المبتدعة من األ ّمة المحمدية ومن اليهود والنصارى‪،‬‬ ‫الخوارج ّ‬
‫قلت‪ :‬واألخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقًا وفيه منقبة عظيمة لعمر‬
‫لشدته في الدين‪ ،‬وفيه أنه ال يكتفى في التعديل بظاهر الحال ولو بلغ‬
‫شف والورع حتى يختبر باطن‬ ‫المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتق ّ‬
‫حاله" اهـ‪.‬‬
‫وكذلك ال يشترط عدم الغضب‪ ،‬فمن تلفظ بلفظ الكفر غاضبًا عامدًا أي‬
‫بغير سبق لسان‪ ،‬كفر قال النووي في روضة الطالبين ما نصه (‪" :)3‬ولو‬
‫ألست‬
‫َ‬ ‫غضب على ولده أو غالمه فضربه ضربًا شديدًا‪ ،‬فقال له رجل‪:‬‬
‫مسل ًما؟! فقال‪ :‬ال‪ ،‬متعمدًا كفر" اهـ‪.‬‬
‫_____________________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)300/12‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)301-302/12‬‬
‫(‪ )3‬انظر روضة الطالبين (‪.)68/10‬‬

‫وفي الفتاوى الهندية ما نصه (‪" :)1‬وإذا قيل لرجل‪ :‬أال تخشى هللا‪ ،‬فقال‬
‫كافرا‪ .‬كذا في فتاوى قاضيخان" اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫في حالة الغضب‪ :‬ال‪ ،‬يصير‬
‫وهذا فيه الر ّد على ما ذكره سيد سابق في كتابه الذي س ّماه فقه السنة‬
‫(‪ )2‬ونصه‪" :‬إن المسلم ال يعتبر خار ًجا عن اإلسالم وال يحكم عليه بالردة‬
‫إال إذا انشرح صدره بالكفر واطمأن قلبه به ودخل فيه بالفعل لقول هللا‬
‫صدرا} ‪ "....‬اهـ ألن اآلية هي في المكره‬
‫ً‬ ‫بالكفر‬
‫ِ‬ ‫{ولكن َم ْن شر َح‬
‫ْ‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ليست عامة له ولغيره‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فاهلل تعالى أفهمنا بهذه اآلية حكمين في المكره أولهما‪ :‬أن المكره على‬
‫صدرهُ بالكفر أنه معذور ال‬
‫ُ‬ ‫الكفر إن كان قلبه مطمئنًا باإليمان ولم ينشرح‬
‫يحكم عليه بالكفر‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن المكره إذا شر َح صدره بالكفر ُحكم عليه بالكفر‪ ،‬فخالف هذا‬
‫سيد سابق وتبعه حسن قاطرجي اللبناني فقاال‪ :‬ال يحكم على من يقول‬
‫كلمات الردة بالكفر إال أن يختار على دين اإلسالم دينًا غيره ويشرح‬
‫عطال حكم هذه اآلية وخرجا عن إجماع‬ ‫صدره به ويعتقده‪ ،‬فهما بذلك َّ‬
‫المسلمين‪.‬‬

‫________________________‬
‫(‪ )1‬انظر الفتاوى الهندية (‪.)261/2‬‬
‫(‪ )2‬انظر باب الردة في كتابه (‪.)453/2‬‬

‫أمثلة لبعض ألفاظ الردة‬

‫*ومن جملة ما يخرج المسلم من اإلسالم سبُّ هللا باإلجماع كما في الشفا‬
‫للقاضي عياض (‪ ،)1‬فقد قال ما نصه‪" :‬ال خالف َّ‬
‫أن سابَّ هللا تعالى من‬
‫كافر حال ُل الدَّم" اهـ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫المسلمين‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عا كالقدرة والعلم‪ ،‬وذلك‬ ‫*ونفي صفة من صفاته الواجبة له إجما ً‬


‫باإلجماع‪ .‬وأما ما رواه يونس بن عبد األعلى عن الشافعي أن هلل أسماء‬
‫سع أحدًا ردّها و َمن خالف بعد ثبوت الح ّجة عليه فقد كفر‪.‬‬ ‫وصفات ال يَ َ‬
‫وأ ّما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ألن علم ذلك ال يدرك بالعقل وال‬
‫الر ِويّة والفكر‪ .‬فمراده بذلك أن صفات هللا قسمان‪ :‬قسم يدرك ثبوته هلل‬ ‫َّ‬
‫بالعقل كالصفات الثالث عشرة‪ :‬القدرة واإلرادة والسمع والبصر والعلم‬
‫والكالم والحياة والوجود وال ِق َدم والوحدانية والمخالفة للحوادث والقيام‬
‫والر ِوية والفكر‪ ،‬فالقسم‬
‫َّ‬ ‫بالنفس والبقاء‪ ،‬والقسم الثاني ما ال يدرك بالعقل‬
‫األول يكفّر جاحده‪ ،‬والقسم الثاني ال يكفّر جاحده قبل العلم بالحجة ألنه‬
‫والروية والفكر"‪ ،‬وليس مراد‬ ‫َّ‬ ‫يتعلق بالسمع بدليل قوله "ال يدرك بالعقل‬
‫الشافعي بقوله "يعذر بالجهل" ما كان من تلك الصفات الثالث عشرة‪ ،‬فإنه‬
‫يدرك ثبوته هلل بالعقل والسمع‪ ،‬ف ّمن جهل شيئًا منها فنفى فال عذر له فإنها‬
‫شرط لأللوهية قال الحافظ ابن الجوزي‪َ " :‬من نفى قدرة هللا على كل شئ‬
‫كافر باالتفاق" أي بال خالف‪.‬‬
‫فإذا عرف هذا َع ِل َم فساد قول بعض المدّعين للعلم إن الشافعي نفى الكفر‬
‫ع ّمن جهل صفات هللا على وجه يشمل الجهل بقدرة هللا على كل شئ والعلم‬
‫بكل شئ وسائر الصفات الثالث عشرة‪ ،‬فإن هذا تخليط وجهل فظيع‪ ،‬فال‬
‫يهولنّك أيّها الطالب للحق تمويه الجاهل الذي يزعم أن من جحد قدرة هللا‬
‫معذورا إن كان جاهالً‪،‬‬
‫ً‬ ‫على كل شئ وعلمه بكل شئ ال يكفّر بل يكون‬
‫فنص الشافعي ير ّد ما زعمه‪ ،‬فإن كالم الشافعي يبيّن أن مراده األسماء‬
‫ّ‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى (‪.)270/2‬‬
‫والصفات التي ال يستد ّل على ثبوتها هلل بالعقل إال بالنقل‪ .‬فإن العقل لو لم‬
‫يرد نص بذلك يدرك ثبوت القدرة الشاملة هلل والعلم الشامل واإلرادة‬
‫الشاملة ووجوب السمع والبصر له على ما يليق به‪ ،‬وهكذا بقية الصفات‬
‫الثالث عشرة‪ ،‬أما الوجه واليد والعين ونحوها مما ورد في النص إطالقه‬
‫على هللا على أنها صفات ال جوارح فإن ذلك ال يدرك بالعقل‪ .‬ولنضرب‬
‫لذلك مثالً‪ :‬شخص سمع إضافة اليد والعين إلى هللا تعالى فأنكر ألنه لم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يسمع بأن النص ورد بذلك فإنه ال يُكفّر بل يُعلّم أن هذا مما ورد به النص‪،‬‬
‫فإن أنكر بعد علمه بورود النص في ذلك كفر‪ ،‬وكذلك ّمن أنكر أن المؤمن‬
‫من أسماء هللا ألنه لم يعلم في القرءان تسمية هللا بذلك فال يكفر بل يقال له‬
‫هو الملكُ‬ ‫{هو هللاُ الذي ال إلهَ إال َ‬
‫عا تسميته به في قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫هذا ورد شر ً‬
‫المؤمن} [سورة الحشر‪ .]23/‬فهل يعتقد ذو فهم في الشافعي‬ ‫ُ‬ ‫القُد ُ‬
‫ُّوس السال ُم‬
‫أنه ال يُ َك ِفّ ُر َمن نفى صفة من تلك الصفات الثالث عشرة التي يد ّل العقل‬
‫صا الفرد ألنه ال يثبت هلل الكالم الذاتي الذي هو أحد‬ ‫عليها وقد كفَّ َر حف ً‬
‫معنيي القرءان ويُطلق القول بمخلوقية القرءان مع ذلك‪ ،‬فقد قال الشافعي‬
‫رضي هللا عنه لحفص بعدما ناظره‪" :‬لقد كفرت باهلل العظيم" كما سبق‪،‬‬
‫فكيف ينسب للشافعي بعد هذا أنه ال يكفّر َمن نفى قدرة هللا أو علمه أو‬
‫صرات أو صفة الوحدانية أو صفة ال ِق َدم‬ ‫سمعه للمسموعات أو بصره لل ُم ْب َ‬
‫أو نحو ذلك‪ ،‬وأنه يقول إن كان جاهالً يعذر على وجه اإلطالق‪.‬‬
‫وقد ر ّد ابن الجوزي قول ابن قتيبة (‪" :)1‬قد يغلط في بعض الصفات‬
‫قوم من المسلمين فال يكفّرون بذلك"‪ ،‬فقال‪" :‬جحده صفة القدرة كفر اتفاقًا"‬
‫اهـ‪ .‬يعني –ابن قتيبة‪ -‬بذلك قصة الرجل الذي قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم فيه‪" :‬كان رجل يسرف على نفسه‪ ،‬فلما حضره‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)523/6‬‬
‫مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح‪،‬‬ ‫الموت قال لبنيه‪ :‬إذا أنا ّ‬
‫ي ليعذبني عذابًا ما عذّبه أحدًا" (‪ ،)1‬حيث ظن ابن‬ ‫فوهللا لئن قدر هللا عل ّ‬
‫قتيبة أن هذا الرجل شك في قدرة هللا عليه‪ ،‬قال ابن الجوزي‪" :‬جحده صفة‬
‫ي"‪ ،‬أي ضيّق‪ ،‬فهي‬ ‫القدرة كفر اتفاقًا"‪ ،‬وإنما معنى قوله‪" :‬لئن قدر هللا عل ّ‬
‫كقوله تعالى‪{ :‬و َمن قُد َِر علي ِه ِر ْزقُهُ} [سورة الطالق‪ ]7/‬أي ضيّق‪ ،‬وأما‬
‫قوله‪" :‬لعلّي أض ّل هللا" كما في رواية لهذا الحديث فمعناه لعلي أفوته‪ ،‬ولع ّل‬
‫هذا الرجل قال ذلك من شدة جوعه وخوفه كما غلط ذلك اآلخر فقال‪ :‬أنت‬
‫ي‬‫ي" بتشديد الدال‪ ،‬أي قدّر عل ّ‬ ‫عبدي وأنا ربّك‪ ،‬أو يكون قوله‪" :‬لئن قدر عل ّ‬
‫أن يعذبني ليعذبني‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر (‪" :)2‬وأظهر األقوال أنه قال ذلك في حال دهشته‬
‫وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله"‪ .‬وتتمة الحديث المذكور‪" :‬فلما مات‬
‫فعل به ذلك فأمر هللا األرض فقال‪ :‬اجمعي ما فيك منه‪ ،‬ففَعَلَ ْ‬
‫ت فإذا هو قائم‬
‫فقال‪ :‬ما حملك على ما صنعت؟ قال‪ :‬يا ربّ خشيتك‪ ،‬فغفر له"‪ .‬والحديث‬
‫أخرجه البخاري وغيره‪ ،‬وأخرجه ابن حبان (‪ )3‬بلفظ‪" :‬توفي رجل كان‬
‫نبا ً‬
‫شا فقال لولده‪ :‬أحرقوني" اهـ‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب األنبياء‪ :‬الباب األخير‪ ،‬صحيح‬
‫مسلم‪ :‬كتاب التوبة‪ :‬باب في سعة رحمة هللا تعالى وأنها‬
‫سبقت غضبه‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)523/6‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن حبان في صحيحه‪ :‬كتاب الرقاق‪ ،‬انظر‬
‫اإلحسان (‪.)22/2‬‬

‫وقال النووي (‪" :)1‬اختلفت العلماء في تأويل هذا الحديث فقالت طائفة‪:‬‬
‫ّ‬
‫الشاك في قدرة هللا‬ ‫ال يص ّح حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة هللا‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫تعالى كافر‪ ،‬وقد قال في ءاخر الحديث إنه إنما فعل هذا من خشية هللا‬
‫تعالى والكافر ال يخشى هللا تعالى وال يُغفر له‪ ،‬قال هؤالء‪ :‬فيكون له‬
‫ي العذاب أي قضاه يقال منه قدر‬ ‫تأويالن أحدهما‪ّ :‬‬
‫أن معناه لئن قدر عل ّ‬
‫بالتخفيف وقدّر بالتشديد بمعنى واحد‪ ،‬والثاني‪ :‬أن قدر هنا بمعنى ضيق‬
‫ي قال هللا تعالى‪{ :‬فقَ َد َر علي ِه ِر ْزقَهُ} [سورة الفجر‪ .]16/‬وهو أحد‬‫عل ّ‬
‫ظ َّن أن لن نَ ْقد َِر علي ِه} [سورة األنبياء‪.]87/‬‬
‫األقوال في قوله تعالى‪{ :‬ف َ‬
‫وقالت طائفة‪ :‬اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط‬
‫لكالمه وال قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها بل قاله في حالة غلب عليه فيها‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الدهش والخوف وشدة الجزع‪ ،‬بحيث ذهب تيقّظه وتدبر ما يقوله‪ ،‬فصار‬
‫في معنى الغافل والنّاسي‪ ،‬وهذه الحالة ال يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل‬
‫اآلخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته‪ :‬أنت عبدي وأنا ربك فلم‬
‫يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو" انتهى كالم النووي‪.‬‬
‫فإذا عرف هذا علم أنه ال يعذر أحد في نفي القدرة عن هللا ونحوها من‬
‫صفاته بسبب الجهل مهما بلغ الجهل بصاحبه‪ .‬وكن على ذُ ْك ٍر واستحضار‬
‫ِلنَ ْق ِل ابن الجوزي اإلجماع‪ ،‬والشافعي يج ّل مقامه عن أن يخرج من‬
‫اإلجماع‪.‬‬
‫*ومن الكفر قول المعتزلة‪ :‬هللا قادر بذاته ال بقدرة عالم بذاته ال بعلم‪،‬‬
‫قادرا وعال ًما‪ .‬وقول بعضهم الذي هو مختلف فيه‪:‬‬ ‫ألنه يلزم منه نفي كونه ً‬
‫الزم المذهب ليس بمذهب شرطه أن ال يكون الالزم بيّنًا كما ذكره ابن‬

‫_____________________‬
‫(‪ )1‬شرح صحيح مسلم (‪.)71/17‬‬
‫الحاجب في أصوله وغيره (‪ ،)1‬ففي هذه الحال أي حال كون الالزم بيّنًا‬
‫يكون مذهبًا على القولين أي عند الذين قالوا الزم المذهب ليس مذهبًا وعند‬
‫الذين قالوا الزم المذهب مذهب‪ ،‬فقول المعتزلي َّ‬
‫إن هللا قادر بذاته على‬
‫قادرا من باب الالزم‬‫ً‬ ‫الممكنات العقلية ال بقدرة يلزم من ذلك نفي كونه‬
‫البيّن‪.‬‬
‫مر في باب مفصالً‪ -‬أو‬ ‫ضا سبّ النبي –كما ّ‬ ‫*ومن جملة المكفّرات أي ً‬
‫غيره من األنبياء واالستهزاء بهم وتكذيبهم كنفي اآلخرة والثواب والعقاب‬
‫بعض المفتونين‬
‫ُ‬ ‫والبعث والجنة والنار والخلود فيهما‪ ،‬وال عبرة بما قاله‬
‫من َّ‬
‫أن النار تفنى محت ًجا بقوله تعالى‪{ :‬البِثينَ فيها أحقابًا* ال يّذوقونَ فيها‬
‫بردًا وال شَرابًا} [سورة النبإ‪ ،]24-23/‬قال‪ :‬واألحقاب جمع ُح ْقب وهو‬ ‫ْ‬
‫ثمانون عا ًما‪ ،‬وجمع تكسير على وزن أفعال‪ ،‬وهو من أبنية جموع القلّة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫التي تكون لثالثة وما فوقها إلى العشرة‪ ،‬وهذا شطح كبير ألنه مخالف‬
‫للنصوص الصريحة في بقاء النار منها بقوله تعالى‪َّ :‬‬
‫{إن هللاَ لعنَ الكافرينَ‬
‫نصيرا} [سورة‬‫ً‬ ‫يجدونَ وليًّا وال‬
‫سعيرا* خالدينَ فيها أبدًا ال ِ‬
‫ً‬ ‫وأع َّد ل ُهم‬
‫إن معنى {البِثينَ فيها أحقابًا} أي‬ ‫األحزاب‪ ]65-64/‬وغيره‪ ،‬فيتعين القول ّ‬
‫أحقابًا ال نهاية لها‪ ،‬وهو من باب استعمال بعض أبنية جمع القلّة بمعنى‬
‫جمع الكثرة‪.‬‬
‫ب ثمانون‬ ‫الفراء‪ :-‬ال ُح ْق ُ‬
‫ففي كتاب لسان العرب (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قال –أي ّ‬
‫سنة‪ ،‬والسنةُ ثالثمائة وستون يو ًما‪ ،‬اليو ُم منها ألف سنة من عدد الدنيا‪،‬‬
‫قال‪ :‬وليس هذا مما يد ُّل على غاية كما يظن بعض الناس‪ ،‬وإنما يدل على‬
‫الغاية التوقيت‪ ،‬خمسةُ أحقاب أو عشرة‪ ،‬والمعنى أنهم يلبّثون فيها أحقابًا‬
‫حقب ءاخر‪ ،‬وقال الزجاج‪ :‬المعنى أنهم يلبثون فيها‬ ‫ٌ‬ ‫كلّما مضى ح ْقب تَبِعَهُ‬
‫أحقابًا ال يذوقون في األحقاب بردًا وال شرابًا‪ ،‬وهم خالدون في النار أبدًا‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬انظر هامش الفروق للقرافي (‪.)147/1‬‬
‫(‪ )2‬لسان العرب مادة (ح ق ب) (‪.)326/1‬‬

‫كما قال هللا ّ‬


‫عز وجل" اهـ‪.‬‬
‫نبوته كموسى وعيسى‬ ‫نبوة نبي ّ مجمع على ّ‬ ‫ضا إنكار ّ‬
‫*ومن الكفر أي ً‬
‫نبوة ءادم فقد اتفق المسلمون‬
‫وإبراهيم وءادم عليهم الصالة والسالم‪ ،‬أما ّ‬
‫عليها وأجمعوا‪ ،‬ونقل إجماعهم أبو منصور التميمي البغدادي المتوفى سنة‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫‪ 429‬هجرية في موضعين من كتابه فقال ما نصه (‪" :)1‬أجمع‬
‫التواريخ من المسلمين على ّ‬
‫أن عدد األنبياء عليهم السالم مائة ألف وأربعة‬
‫وعشرون ألفًا كما وردت به األخبار الصحيحة ّأولهم أبونا ءادم عليه‬
‫السالم وءاخرهم نبيّنا محمد صلى هللا عليه وسلم" اهـ‪.‬‬
‫وقال في موضع ءاخر (‪" :)2‬أجمع المسلمون وأهل الكتاب على أن ّأول‬
‫َمن أرسل من الناس ءادم عليه السالم" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي الحديث (‪ )3‬عن أبي سعيد ال ُخدري قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬أنا سيّ ُد ول ِد ءادم يوم القيامة وبيدي لواء الحمد وال فخر‪ ،‬وما‬
‫ي يومئذ ءادم فَ َمن سواه إال تحت لوائي‪ ،‬وأنا ّأول َمن ت َ ْنش َّق عنه‬‫من نب ّ‬
‫األرض وال فخر" اهـ‪.‬‬
‫نبوته فهو في الفتاوى الهندية (‪ )4‬ففيها ما نصه‪" :‬عن‬ ‫وأما تكفير منكر ّ‬
‫ي أم ال‪ ،‬يكفر‬ ‫جعفر فيمن يقول‪ :‬ءامنتُ بجميع أنبيائه وال أعلم َّ‬
‫أن ءادم نب ٌّ‬
‫كذا في العتابية" اهـ‪.‬‬
‫_________________‬
‫أصول الدين (ص‪.)157/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أصول الدين (ص‪.)159/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه الترمذي‪ :‬في كتاب المناقب‪ :‬باب في فضل النبي‬ ‫(‪)3‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم وقال عقبه‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫الفتاوى الهندية (‪.)263/2‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وقال مال علي القاري في الفقه األكبر (‪ )1‬ما نصه‪" :‬واألنبياء عليهم‬
‫الصالة والسالم كلّهم أي جميعهم الشامل لرسلهم ومشاهيرهم وغيرهم‬
‫أولهم ءادم عليه الصالة والسالم على ما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع األمة‬
‫كفرا" اهـ‪.‬‬ ‫فما نُقل عن بعض من إنكار ّ‬
‫نبوته يكون ً‬
‫ق إ ْذ قَ َّربا قُربانًا‬ ‫وفي قول هللا تعالى‪{ :‬واتْ ُل علي ِه ْم نَ َبأ َ ا ْبنَى ءا َد َم بالح ّ ِ‬
‫اآلخر قا َل أل ْقتُلَنَّ َك قا َل إنَّما َيتَقَبَّ ُل هللاُ منَ‬
‫ِ‬ ‫من أحدِهما ول ْم يُتَقَب َّْل منَ‬ ‫فَتُقُ ِبّ َل ْ‬
‫إليك ِأل ْقتُلَ َك إ ِنّي‬
‫َ‬ ‫ي َي َد َك ِلت َ ْقتُلَني ما أنا ْ بباسِطٍ يَد َ‬
‫ِي‬ ‫طت إل َّ‬ ‫س َ‬‫ال ُمتَّقينَ * لَئِن بَ َ‬
‫هللا ربَّ العالمينَ * إني أري ُد أن تَبُوأ َ بإثمي وإثْ ِم َك} [سورة‬ ‫أخاف َ‬ ‫ُ‬
‫المائدة‪ ]29-28-27/‬اآلية دليل على رسالة ءادم‪ ،‬وأن أبناءه كانوا على‬
‫نفس ظل ًما‬‫ٌ‬ ‫شريعة أنزلت على أبيهم‪ ،‬وفي حديث البخاري (‪" :)2‬ال تُقتل‬
‫ضا ألنه لو لم يكن‬ ‫األول ِك ْف ٌل (‪ )3‬من دمها"‪ ،‬دليل أي ً‬ ‫إال كان على ابن ءادم ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مرسالً إلى أبنائه لم يكونوا مكلفين‪ ،‬فلم يكن يكتب على ابن ءادم األول‬
‫ذنب‪.‬‬
‫وقد أخبر هللا تبارك وتعالى في كتابه بفضل البشر‪ ،‬ولو كان أولهم ءادم‬
‫وأبناؤه عائشين بغير شريعة يعلمون بها لكانوا كالبهائم ليس لهم الفضل‬
‫الذي ناله أبوهم بإسجاد المالئكة له‪.‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬انظر الفقه األكبر (ص‪.)56/‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب قول‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يُعذّب الميت ببعض بكاء أهله‬
‫عليه" إذا كان النوح من سنّته‪ .‬أي إذا كان أوصى بأن‬
‫ينوحوا عليه بعد موته أما مجرد البكاء على الميت فال بأس‬
‫به إن كان ّ‬
‫تحزنًا على الميت وقد ثبت أن رسول هللا بكى‬
‫عند موت ابنه إبراهيم‪.‬‬
‫(‪ )3‬الكفل بالكسر‪ :‬الحظ والنصيب‪.‬‬

‫وروى ابن حبان في صحيحه (‪ )1‬قال‪" :‬أخبرنا محمد بن عمر بن‬


‫يوسف‪ ،‬حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه‪ ،‬حدثنا أبو توبة‪ ،‬حدثنا‬
‫معاوية بن سالم‪ ،‬عن أخيه زيد بن سالم قال‪ :‬سمعت أبا سالم قال‪ :‬سمعت‬
‫أبا أمامة أن رجالً قال‪ :‬يا رسول هللا أنبيًّا كان ءادم؟ قال‪" :‬نعم مكلّم"‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فكم كان بينه وبين نوح؟ قال‪" :‬عشرة قرون"‪.‬‬
‫ذر أنه قال‪" :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا كم األنبياء؟ قال‪:‬‬ ‫وفيه (‪ )2‬عن أبي ّ‬
‫"مائة ألف وعشرون ألفًا" قلت‪ :‬يا رسول هللا كم الرسل من ذلك؟ قال‪:‬‬
‫غفيرا" قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا من كان ّأولهم؟‬
‫ً‬ ‫"ثالثمائة وثالثة عشر ج ًّما‬
‫قال‪" :‬ءادم" قلت‪ :‬يا رسول هللا أنبي مرسل؟ قال‪" :‬نعم‪ ،‬خلقه هللا بيده ونفخ‬
‫فيه من روحه وكلمه قبالً" (‪ .)3‬رواه ابن حبان وصححه‪ ،‬وكالم من تكلّم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ساني أحد رواة هذا الحديث ال يضر‬ ‫في إبراهيم بن هشام بن يحيى الغ ّ‬
‫تصحيحه‪ ،‬ألن ابن حبان ذكره في كتابه الثقات (‪.)4‬‬
‫مطوالً‬
‫ّ‬ ‫ورواه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (‪ )5‬في عدة مواضع‬
‫ومختصرا وعزاه إلسحاق لن راهويه (‪.)6‬‬
‫ً‬ ‫وعزاه لمحمد بن أبي عمر‪،‬‬
‫____________‬
‫انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)24/8‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)287-289/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ضا‬
‫أي ليس بواسطة ملك وعلى هذا التفسير يكون ءادم أي ً‬ ‫(‪)3‬‬
‫سمع كالم هللا الذاتي‪.‬‬
‫كتاب الثقات (‪.)79/8‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المطالب العالية (‪.)114/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫المطالب العالية (‪.)269/3‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذا الحديث في شرح البخاري عازيًا (‪ )1‬له‬
‫البن حبان مع ذكر أن ابن حبان ص ّححه ولم ينتقده لكون ذلك الراوي‬
‫المختلف فيه وجد لحديثه شواهد‪ ،‬وكثير من األحاديث يكون في إسنادها‬
‫من هو مختلف في توثيقه ويوجد لحديثه شاهد فيقوى بالشاهد (‪.)2‬‬
‫وقال في موضع ءاخر (‪" :)3‬قوله {إنَّا ْأو َحينا َ‬
‫إليك} اآلية‪ ،‬قيل‪ :‬قدّم ذكر‬
‫نوح فيها ألنه أول نبي أرسل (‪ )4‬أو أول نبي عوقب قومه‪ ،‬فال يرد كون‬
‫ءادم أول األنبياء مطلقًا كما سيأتي بسط القول في ذلك في الكالم على‬
‫حديث الشفاعة" اهـ‪.‬‬
‫ويحتم كونه رسوالً أن النبي غير الرسول يكون تابعًا لرسوله قبله ولم‬
‫يكن قبل ءادم بشر حتى يكون فيهم رسول وءادم نبيًّا تابعًا له‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_______________‬
‫فتح الباري (‪.)361/6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫قال الشيخ المحدث حبيب الرحمن األعظمي الهندي في‬ ‫(‪)2‬‬
‫تعليقه على هذا الحديث قال البوصيري‪" :‬رواه الطيالسي‬
‫وابن أبي شيبة وابن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو‬
‫مختصرا وابن حبان فذكره‬
‫ً‬ ‫يعلى وأحمد والحارث فذكره‬
‫بزيادة طويلة جدًا"‪ .‬اهـ‪ .‬انظر تعليق الشيخ حبيب الرحمن‬
‫على المطالب العالية البن حجر العسقالني (‪.)114/3‬‬
‫فتح الباري (‪.)9/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أي إلى الكفار‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أما حديث البخاري (‪ )1‬الذي فيه أن الناس يأتون نو ًحا يوم القيامة‬
‫فيقولون‪ :‬أنت ّأول الرسل إلى أهل األرض فمعناه أنه أول رسول أُرسل‬
‫إلى قبائل متعددة ألن من كان قبله لم يكونوا كذلك‪ ،‬د ّل على ذلك كلمة "إلى‬
‫أهل األرض"‪.‬‬
‫ومن الدليل على رسالة ءادم أنه أح ّل له أن يزوج بنيه من بناته الذكر‬
‫من هذا البطن من األنثى من البطن اآلخر‪ ،‬ثم نسخ هذا الحكم بموته‪ .‬ولوال‬
‫أن فعل ءادم الذي فعله من تزويج بنيه من بناته بوحي أوحي إليه ألنه‬
‫رسول من هللا لكان ذلك التصرف تصرفًا باطالً ولكان ذلك كتسافد الحمير‪،‬‬
‫ولكان البشر األول ال نسب لهم شرعي بل كانوا أبناء زنى‪ ،‬وذلك منافٍ‬
‫لكرامة ءادم عند هللا‪ ،‬فنفي رسالة ءادم على اإلطالق تكذيب للدين فهو‬
‫كفر‪ ،‬فهو كإنكار نبوته الذي نقل اإلجماع على أنه كفر غير واحد منهم ابن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫حزم فقد ذكر‪ :‬إن المخالف في ذلك متّفق على كفره وذلك في كتابه مراتب‬
‫اإلجماع (‪.)2‬‬
‫وينطبق هذا الحكم على بعض الوهابية كأبي بكر الجزائري مؤلف كتاب‬
‫منهاج المسلم وكتاب عقيدة المسلم‪ ،‬وتسمية هذين الكتابين بهذين االسمين‬
‫تحريف للحقيقة‪ ،‬فهذان الكتابان جديران بأن يسميا بضد ذلك فيقال في‬
‫األول‪ :‬ضد منهاج المسلم وفي الثاني‪ :‬ضد عقيدة المسلم‪.‬‬
‫*ومن الكفر اعتقاد جواز نبوة أحد بعد نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫لما فيه من تكذيب للقرءان والسنة وإجماع المسلمين المعلوم بين علمائهم‬
‫وعوامهم‪ ،‬أما القرءان فقوله تعالى‪{ :‬ولكن رسو َل هللاِ وخَات َ َم النّبيِّن} [سورة‬
‫األحزاب‪]40/‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب أحاديث األنبياء‪ :‬باب‬
‫قوم ِه} [سورة‬
‫سلنا نو ًحا إلى ِ‬ ‫قول هللا عز وجل‪{ :‬ولق ْد ْ‬
‫أر َ‬
‫هود‪.]25/‬‬
‫(‪ )2‬مراتب اإلجماع (ص‪.)173/‬‬
‫ي"‬‫أما السنة فقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬وأنا العاقب الذي ليس بعده نب ّ‬
‫أخرجه البخاري وغيره (‪ .)1‬ومخالفة القاديانية أتباع غالم أحمد القادياني‬
‫الباكستاني الذي ادّعى النبوة لهذا‪ ،‬وتأويلهم للخاتم بمعنى الزينة كفر‪ ،‬وهذا‬
‫غالم أحمد قال عن نفسه إنه نبي رسول‪ ،‬وقال إنها نبوة تجديدية‪ ،‬وقال إنها‬
‫نبوة ظلية أي تحت ظل محمد‪ ،‬ثم المسلمون قاموا ليقتلوه أول ما دعل إلى‬
‫اإليمان بأنه نبي فاحتمى باإلنكليز‪ ،‬فشرطوا عليه أن يعطل حركة الجهاد‬
‫في الهند كلها‪ ،‬فقال فيما ادعى إنه وحي من هللا‪" :‬يحب علينا شكر الدولة‬
‫البريطانية ألنهم أحسنوا إلينا بأنواع االمتنان‪ ،‬وهل جزاء اإلحسان إال‬
‫اإلحسان‪ ،‬وحرام علينا وعلى جميع المسلمين محاربة اإلنكليز"‪ ،‬فوفى‬
‫بالشرط الذي طلبوا منه‪ ،‬ثم قام مقامه بعض ذريته لتلك الدعوة‪ .‬ومن جملة‬
‫تمويهاتهم أنهم يقولون‪ :‬معنى "ال نبي بعدي" المذكور في الحديث ال نبي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ءاخر في حال حياتي‪ ،‬وهذا تحريف للحديث‪ ،‬بل معناه أنا ءاخر النبيين ال‬
‫يأتي بعدي نبي إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ويصدق هذا الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (‪ )2‬فإنه صلى هللا عليه‬
‫بي النَّبيون"‪ .‬وهذا يزيد معنى وخاتم النبيين وضو ًحا أنه‬
‫وسلم قال‪" :‬و ُختِ َم َ‬
‫ي بعده‪ ،‬وكذلك قوله صلى هللا‬ ‫بمعنى ءاخرهم أي بمعنى اآلخر الذي ال نب ّ‬
‫عليه وسلم لعلي رضي هللا عنه عند السفر إلى تبوك‪" :‬أما ترضى أن تكونَ‬
‫ي بعدي"‪،‬‬‫منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنه ال نب ّ‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب ما جاء‬
‫في أسماء رسول هللا‪ ،‬ومسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الفضائل‪:‬‬
‫باب في أسمائه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والترمذي في سننه‪:‬‬
‫كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء في أسماء النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وأحمد في مسنده (‪.)80/4‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬أول كتاب المساجد ومواضع‬
‫الصالة‪.‬‬

‫رواه البخاري (‪ ،)1‬وقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لم يبق من النبوة إال‬
‫المبشرات" قالوا‪ :‬وما المبشرات؟ قال‪" :‬الرؤيا الصالحة"‪ .‬رواه البخاري‬
‫ضا بقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لو كان بعدي‬ ‫(‪ .)2‬وهذا التمويه يُر ّد أي ً‬
‫نبي لكان عمر" رواه الترمذي (‪ ،)3‬وبالحديث الذي فيه إخبار النبي أنه‬
‫سيأتي بعده كذّابون كل منهم يزعم أنه رسول هللا‪ ،‬فغالم أحمد داخل في‬
‫هؤالء ألن الرسول ذكر أنهم ثالثون ولم يدّع في حياة رسول هللا النبوة إال‬
‫األسود العنسي ومسيلمة الكذّاب‪.‬‬
‫*ومن الكفر الفعلي كتابة الفاتحة بالبول ولو كان لغرض االستشفاء‪ ،‬وما‬
‫يوجد في حاشية ابن عابدين نقالً عن صاحب الهداية من أنه يجوز كتابة‬
‫الفاتحة بالدم على الجبهة لمن رعف وكذلك بالبول إن علم فيه شفاء‪ ،‬فهو‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مردود‪ ،‬وهو مجرد رأي لبعض الحنفية لم ينقل عن صاحب المذهب أبي‬
‫حنيفة وال عن أحد من كبار أصحابه‪ ،‬ومستبعد أن يكون من كالم ابن‬
‫عابدين ألنه ذكر في ثَبته أنه ال يجوز كتابة القرءان بالدم فقال فيه (‪ )4‬ما‬
‫ضا مما يكتب للرعاف على جبهة‬ ‫نصه‪" :‬ومنها ما رأيته بخطه أي ً‬
‫أرض ا ْبلَعي ما َء ِك ويا سما ُء أ ْق ِلعي َو ِغ َ‬
‫يض الما ُء‬ ‫ُ‬ ‫المرعوف‪{ :‬وقي َل يا‬
‫األمر} [سورة هود‪ .]44/‬وال يجوز كتابتها بدم الرعاف كما يفعله‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫وقُ ِ‬
‫ض َ‬
‫بعض الجهال ألن الدم نجس فال يجوز أن يكتب به كالم هللا تعالى" اهـ‪.‬‬
‫فليحذر هذا النقل الذي في الحاشية فإن مذهب الحنفي بريء منها‪ ،‬فوبالها‬
‫على من قالها ومن اتبعها أو صدقها‪.‬‬
‫__________________‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب مناقب‬ ‫(‪)1‬‬
‫علي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب التعبير‪ :‬باب‬ ‫(‪)2‬‬
‫المبشرات‪.‬‬
‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب في مناقب‬ ‫(‪)3‬‬
‫عمر بن الخطاب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫عقود الآللي (ص‪.)187/‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫فورا إلى اإلسالم‬


‫فائدة مهمة‪ :‬ويجب على من وقعت منه ردّة أن يعود ً‬
‫بالشهادتين واإلقالع ع ّما وقعت به الردة‪ ،‬وال يكفي للدخول في اإلسالم‬
‫قول أستغفر هللا بدل الشهادتين‪ ،‬ويدل على ذلك ما رواه ابن حبان (‪ )1‬عن‬
‫عمران بن حصين قال‪ :‬أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رجل فقال‪ :‬يا‬
‫المطلب خير لقومه منك كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت‬ ‫ّ‬ ‫محمد‪ ،‬عبد‬
‫تنحرهم فقال له ما شاء هللا (‪ ،)2‬فلما أراد أن ينصرف قال‪ :‬ما أقول قال‪:‬‬
‫"قل اللهم قني شر نفسي واعزم لي على رشد أمري" فانطلق الرجل ولم‬
‫يكن أسلم‪ ،‬وقال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إني أتيتك فقلت علمني‬
‫فقلت‪ :‬قل اللهم قني شر نفسي واعزم لي على رشد أمري (‪ ،)3‬فما أقول‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اآلن حين أسلمت‪ ،‬قال‪" :‬قل اللهم قني شر نفسي واعزم لي على رشد‬
‫أمري‪ ،‬اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما‬
‫كافرا لم يأمره‬ ‫ً‬ ‫جهلت"‪ .‬والدليل فيه أن الرسول لما جاءه هذا الرجل‬
‫باالستغفار باللسان ألنه ال ينفعه وهو على كفره‪ ،‬ثم لما جاءه وقد أسلم‬
‫أمره باالستغفار‪ ،‬وأما قوله تعالى حكاية عن نوح‪{ :‬فَقُلتُ ا ْست َ ْغ ِفروا ربَّ ُكم‬
‫ارا} [سورة نوح‪ ]10/‬فمعناه‪ :‬اطلبوا المغفرة من هللا بالدخول‬ ‫إنهُ كانَ غفَّ ً‬
‫في اإلسالم‪ ،‬وليس االستغفار اللساني المجرد عن الدخول في اإلسالم أي‬
‫اإليمان باهلل ونبي ذلك الوقت وهو نوح‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)128/2‬‬
‫(‪ )2‬أي رد عليه‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي دلّني على ما فيه خيري وصالحي ويسر لي أحسن شئ‬
‫لنفسي‪.‬‬

‫وروى هذا الحديث أحمد والنسائي (‪ )1‬عن عمران بن حصين‪ ،‬عن أبيه‬
‫قال‪" :‬أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رجل فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬عبد‬
‫المطلب خير لقومك منك كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت تنحرهم قال‪:‬‬
‫فقال ما شاء هللا‪ ،‬فلما أراد أن ينصرف قال‪ :‬ما أقول قال‪" :‬قل اللهم قني‬
‫شر نفسي واعزم لي على رشد أمري" فانطلق ولم يكن أسلم‪ .‬ثم أنه أسلم‬
‫فقال‪ :‬يا رسول هللا إني كنت أتيتك فقلت علمني فقلت‪" :‬قل‪ :‬الله ّم قني شر‬
‫نفسي واعزم لي على رشد أمري" فما أقول اآلن حين أسلمت؟ قال‪" :‬قل‪:‬‬
‫اللهم قني شر نفسي واعزم لي على رشد أمري‪ ،‬الله ّم اغفر لي ما أسررت‬
‫وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما علمت وما جهلت"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أخبرنا أبو جعفر بن أبي سريج الرازي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني محمد بن سعيد‬
‫وهو ابن سابق القزويني‪ ،‬قال‪ :‬ثنا عمرو وهو ابن أبي قيس‪ ،‬عن منصور‪،‬‬
‫عن ربعي بن حراش‪ ،‬عن عمران بن حصين‪ ،‬عن أبيه أنه أتى رسول هللا‬
‫خيرا لقومك منك‪،‬‬‫ً‬ ‫صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا محمد كان عبد المطلب‬
‫كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت تنحرهم‪ ،‬فقال له ما شاء هللا أن يقول‪ ،‬ثم‬
‫قال له‪" :‬قل اللهم قني شر نفسي واعزم لي على رشد أمري"‪ ،‬ثم أتاه وهو‬
‫مسلم فقال‪ :‬قلت لي ما قلت فكيف أقول اآلن وأنا مسلم؟ قال‪" :‬قل‪ :‬اللهم‬
‫اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما جهلت"‪.‬‬
‫أخبرني زكريا بن يحيى‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا زكريا هو ابن أبي زائدة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫حدثنا منصور بن المعتمر‪ ،‬قال‪ :‬حدثني ربعي بن حراش‪ ،‬عن عمران بن‬
‫حصين‪ ،‬قال‪ :‬جاء حصين إلى النبي صلى هللا عليه وسلم قبل أن يسلك‬
‫خيرا لقومك منك كان يطعمهم الكبد‬ ‫ً‬ ‫فقال‪ :‬يا محمد كان عبد المطلب‬
‫والسنام وأنت تنحرهم‪ ،‬فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما شاء هللا‬
‫أن يقول‪ ،‬ثم إن حصينًا قال‪ :‬يا محمد ماذا تأمرني أن أقول؟ قال‪" :‬تقول‪:‬‬
‫شر نفسي وأسألك أن تعزم‬
‫اللهم إني أعوذ بك من ّ‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد في مسنده (‪ ،)444/4‬والنسائي في عمل‬
‫اليوم والليلة (ص‪.)549-547/‬‬

‫لي على رشد أمري"‪ .‬ثم إن حصينًا أسلم بعد ثم أتى النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬إني كنت سألتك المرة األولى وإني أقول اآلن ما تأمرني أن‬
‫أقول؟ قال‪" :‬قل اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما‬
‫جهلت وما علمت" اهـ‪ .‬ورواية ابن حبان ليس فيها تسمية الرجل حصينًا‬
‫(‪.)1‬‬
‫فتبين بهذا صحة ما قلت في تأليف لي أن المرتد إذا قال أستغفر هللا قبل‬
‫أن يتشهد ال يزداد إال ذنبًا‪ ،‬ألن معناه اللهم اغفر لي وأنا كافر بك‪ ،‬وذلك‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مراغمة للدين فيكون ذلك منه زيادة كفر‪ .‬واستغفار إبراهيم ألبيه الذي كان‬
‫كافرا وهو على كفره معناه أنه يطلب من هللا المغفرة بالدخول في اإلسالم‬ ‫ً‬
‫ألن اإلسالم كفارة الكفر‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬قُ ْل للَّذينَ َكفَروا إن يَ ْنتَهوا يُ ْغفَ ْر‬
‫ف} [سورة األنفال‪ ،]38/‬وعلى ذلك يحمل قول رسول هللا‬ ‫لهم ما ق ْد سلَ َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم في حق أبي طالب حين عرض عليه اإلسالم فأبى‪:‬‬
‫كافرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ي أنك تموت‬ ‫"ألستغفرن لك ما لم أنه عنك" (‪ )2‬أي ما لم يوح هللا إل َّ‬
‫كثيرا من الناس يقعون في الردة بسب هللا أو‬ ‫ً‬ ‫فهذه المسئلة من المهمات ألن‬
‫غير ذلك ثم يقولون أستغفر هللا أستغفر هللا من دون أن يقولوا الشهادتين‪،‬‬
‫كفرا‪ ،‬وهذا كثير في بعض‬ ‫وهؤالء ال ينفعهم قول أستغفر هللا بل يزيدهم ً‬
‫البالد‪ ،‬فلينبهوا وليعلموا الصواب‪ ،‬وإلى هللا المرجع والمآب‪ .‬وكان رجل‬
‫ممن‬
‫_______________‬
‫المعول وعليها اعتمادنا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫(‪ )1‬وعلى روايته‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب إذا قال‬
‫المشرك عند الموت ال إله إال هللا‪ ،‬وأخرجه مسلم في‬
‫صحيحه‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب الدليل على صحة إسالم من‬
‫حضره الموت ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫وأحمد في مسنده ‪ ،433/5‬والحاكم في المستدرك‬
‫‪.336/2‬‬

‫ينتسب إلى العلم قد رأى في تأليفي "الصراط المستقيم" هذه المسئلة فقال‪:‬‬
‫هذا غير صحيح كيف ال يجوز لمن وقع في الردة أن يقول أستغفر هللا قبل‬
‫استنكارا شديدًا‪ ،‬ثم وجهت إليه من يورد‬
‫ً‬ ‫دخوله في اإلسالم‪ ،‬فاستنكر ذلك‬
‫عليه هذا الحديث‪ ،‬وال أدري هل رجع عن رأيه أم ال‪.‬‬
‫وأما المجمع عليه فجحده فيه تفصيل ذكر الزركشي في تشنيف المسامع‬
‫ممزو ًجا بالمتن فقال ما نصه (‪(" :)1‬ص) خاتمة جاحد المجمع عليه‬
‫المعلوم من الدين بالضرورة كافر قطعًا وكذا المشهور المنصوص في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األصح وفي غير المنصوص تردد وال نُ َك ِفّ ُر جاحد الخفي ولو منصو ً‬
‫صا‬
‫(ش) من جحد مجمعًا عليه فله أحوال أحدها‪ :‬أن يكون ذلك المجمع عليه‬
‫معلو ًما من الدين بالضرورة كأركان اإلسالم فهو كافر قطعًا‪ ،‬وليس كفره‬
‫من حيث أنه مجمع عليه بل بجحده ما اشترك الخلق في معرفته‪ ،‬وألنه‬
‫صار بخالفه جاحدًا لصدق الرسول‪ ،‬واعلم أنه قد يستشكل قولهم المعلوم‬
‫من الدين بالضرورة فإنه ليس في األحكام الشرعية على قاعدة األشعرية‬
‫شئ يعلم كونه حك ًما شرعيًّا إال بدليل‪ .‬وجوابه‪ :‬أنها ثبتت بأعظم دليل وإنما‬
‫سميت ضرورية في الدين من حيث أشبهت العلوم الضرورية في عدم‬
‫تطرق الشك إليها واستواء الخواص والعوام في دركها"‪.‬‬
‫ثم قال الثالثة‪" :‬أن يكون خفيًّا ال يعرفه إال الخواص كفساد الحج بالوطء‬
‫قبل الوقوف‪ ،‬وتوريث بنت االبن السدس مع بنت الصلب‪ ،‬فإذا اعتقد‬
‫المعتقد في شئ من هذا أنه خالف إجماع العلماء لم نُكفّرهُ لكن يحكم‬
‫بضالله وخطئه‪ ،‬وال فرق في هذا القسم بين المنصوص عليه وغيره‬
‫الشتراك الكل في الخفاء وال نَعلَ ُم فيه خالف" اهـ‪.‬‬

‫(‪ )1‬تشنيف المسامع (ص‪.)235/‬‬

‫تنبيه مهم‬
‫في تحريم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات‬
‫بمغفرة جميع الذنوب‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الشوبري في تجريجه حاشية الرملي الكبير ما نصه (‪" :)1‬وجزم‬


‫ابن عبد السالم في األمالي والغزالي بتحريم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات‬
‫بمغفرة جميع الذنوب وبعدم دخولهم النار‪ ،‬ألنا نقطع بخبر هللا تعالى وخبر‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن فيهم من يدخل النار‪ .‬وأما الدعاء‬
‫ب ا ْغ ِف ْر لي و ِلوا ِل َد َّ‬
‫ي و ِل َم ْن‬ ‫{ر ّ ِ‬
‫بالمغفرة في قوله تعالى حكاية عن نوح‪َ :‬‬
‫ؤمنات} [سورة نوح‪ ]28/‬ونحو ذلك فإنه‬ ‫دخ َل بيتي ُمؤمنًا ولل ُمؤمنينَ وال ُم ِ‬
‫ورد بصيغة (‪ )2‬الفعل في سياق اإلثبات‪ ،‬وذلك ال يقتضي العموم ألن‬
‫األفعال نكرات (‪،)3‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬انظر هامش روض الطالب (‪.)256/1‬‬
‫(‪ )2‬الفعل نكرة يُسند إلى غيره فال يقال جاء فقط بل جاء فالن‬
‫فيسند الفعل إلى الذي جاء فال يفهم من دعاء نوح الدعاء‬
‫لهم بمغفرة جميع الذنوب‪.‬‬
‫(‪ )3‬ومن الكالم الفاسد قول بعضهم اللهم أجرنا وأجر والدِينا‬
‫وجميع المسلمين والمسلمات من النار فإن هذا معارض‬
‫لحديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يخرج قوم من‬
‫النار بشفاعة محمد" ومعارض لقول هللا تعالى‪َّ :‬‬
‫{إن الذينَ‬
‫نارا‬
‫طونِهم ً‬ ‫ظ ْل ًما إنَّما يأ ُكلُونَ في بُ ُ‬
‫يأ ُكلونَ أموا َل اليَتامى ُ‬
‫سعيرا} [سورة النساء‪ ]10/‬أي سيدخلون نار‬ ‫ً‬ ‫صلَونَ‬
‫سيَ ْ‬
‫و َ‬
‫جهنم‪ ،‬أما حديث "من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كان له‬
‫بكل مؤمن ومؤمنة حسنة" فليس فيه الدعاء للمؤمنين‬
‫لبعض‬
‫ٍ‬ ‫والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب وإنما معناه اغفر‬
‫ولبعض بعض ذنوبهم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جميع ذنوبهم‬

‫ولجواز قصد معهود خاص وهو أهل زمانه مثالً" اهـ‪.‬‬


‫وكذا ذكر الرملي في شرح المنهاج (‪ )1‬وابن عابدين الحنفي في حاشيته‬
‫(‪ ،)2‬فليس معنى اآلية اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذا الدعاء فيه ر ّد للنصوص‪ ،‬ور ّد النصوص كفر كما قال النسفي في‬
‫عقيدته المشهورة‪ ،‬وقد قال أبو جعفر الطحاوي‪" :‬واألمن واإلياس ينقالن‬
‫عن ملة اإلسالم"‪ ،‬وهذه عقيدة المرجئة‪ ،‬وهم من الكافرين من أهل األهواء‬
‫يضر مع اإلسالم ذنب كما ال تنفع مع الكفر حسنة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وذلك لقولهم ال‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (‪.)304/2‬‬
‫(‪ )2‬حاشية رد المحتار (‪.)522/1‬‬

‫بيان‬
‫أن هللا هو معين المؤمن‬
‫على إيمانه والكافر على كفره‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اعلم أن قول بعض العوام‪" :‬كل واحد على دينه هللا يُعينه" يُحكم على‬
‫قائله بحسب ما يفهمه من المعنى‪ ،‬فإن أرا َد الدعاء للمؤمن أن يعينَهُ هللا‬
‫على اإليمان وللكافر بأن يعينه على كفره كفر‪ ،‬ألنه حينئ ٍذ يكون رضي‬
‫بأن هللا هو الذي أعانَ المؤمن على إيمانه‬ ‫اإلخبار َّ‬
‫َ‬ ‫بالكفر‪ ،‬وأ ّما إن أرا َد‬
‫ألن التعبير بإعانة المؤمن‬ ‫وهو الذي أعانَ الكافر على كفره فال يُ َكفَّر‪َّ ،‬‬
‫غير واح ٍد من العلماء‪.‬‬
‫صرح به ُ‬ ‫على إيمانه والكافر على كفره ّ‬
‫الدر المختار‪ :‬إذا س ّمى عند‬
‫ففي حاشية الصفتي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وفي ّ‬
‫ذبح الشاة المسروقة ال تؤكل على األصح ألنه مرتد حينئذ‪ ،‬وإنّما َ‬
‫حكم‬
‫ألن التبرك واالستعانة باسم الشئ ال تتصور إال فيما فيه إذنه‬ ‫بكفر ِه َّ‬
‫راض بذلك‪ ،‬إذا اعتقد ذلك كفر‪ ،‬أفاده‬ ‫ٍ‬ ‫ورضاه‪ ،‬فإذا فعل ذلك يقتضي َّ‬
‫أن هللا‬
‫ي‪ .‬قال شيخنا األمير (‪ :)2‬وهذا مردو ٌد ألن اإلنسانَ يستعين باهلل في‬ ‫الخادم ّ‬
‫ُ‬
‫المعين له على الخير والشر" اهـ‪.‬‬ ‫جميع شهواته ألنَّهُ‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬حاشية الصفتي على شرح ابن تركي على العشماوية‬
‫المعروفة باسم حاشية سنية وتحقيقات بهية (ص‪.)3/‬‬
‫(‪ )2‬حاشية األمير (‪.)7/1‬‬

‫وذكر الشيخ محمد المكي المالكي في كتابه تهذيب الفروق (‪ )1‬ما نصه‪:‬‬
‫"ويؤيده ما في ءاخر صيد الدر المختار‪ :‬ورأيت بخط ثقة‪ :‬سرق شاة‬
‫فوجد صاحبها هل تؤكل؟ األصح ال‪ ،‬لكفره بتسميته على‬ ‫فذبحها بتسمي ٍة ُ‬
‫الحرام القطعي بال تملك وال إذن‪ .‬اهـ‪ .‬وإن كان مذهبنا منع علة التكفير إذا‬
‫لم يتهاون ولم يستحل فإنه المعين على الخير والشر" اهـ‪.‬‬
‫وقال إمام الحرمين الجويني الشافعي في كتابه اإلرشاد (‪ )2‬ما نصه‪:‬‬
‫"ث ّم السلف الصالحون كما سألوا هللا تعالى اإليمان‪ ،‬كذلك سألوه أن يجن َبهم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الكفر‪ ،‬والقدرة على اإليمان قدرة على الكفر على أصول المعتزلة‪ ،‬فلئن‬
‫فيجب أن يكون معينًا على‬
‫ُ‬ ‫كان الربُّ معينًا على اإليمان بخل ِ‬
‫ق القدرة عليه‬
‫ق القدرة عليه" اهـ‪.‬‬
‫فر بخل ِ‬
‫الك ِ‬
‫وقال الشيخ محمد عرفة الدسوقي (‪ )3‬المالكي في بيانه اإلعانة ما نصه‪:‬‬
‫"قوله وباهلل تعالى أستعين أي وأستعين باهلل تعالى على تأليف هذا الشرح‬
‫ي القدرة على‬‫أي أطلب منه اإلعانة على تأليفه أي أطلب منه أن يخلق ف َّ‬
‫ذلك"اهـ‪.‬‬
‫وقال أبو عبد هللا محمد الطالب بن حمدون بن الحاج المالكي ما نصه‬
‫(‪" :)4‬وإنما طلبت معونته تعالى ألن من أعانه هللا تيسرت مطالبه ونجحت‬
‫مآربه‪ ،‬ومن لم يعنه لم يحصل على طائل وإن ك َّد في دهر طائل" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫انظر هامش الفروق (‪.)146-147/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫اإلرشاد إلى قواطع األدلة في أصول االعتقاد (ص‪.)179/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (‪.)6/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫حاشية محمد الطالب على شرح ميارة (ص‪.)14/‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وأما اإلمام فخر الدين الرازي فقال في كتابه محصل أفكار المتقدمين‬
‫ضا فإنه‬
‫والمتأخرين (‪ )1‬في معرض ردّه على بعض الغالة ما نصه‪" :‬وأي ً‬
‫تعالى يعين الكفرة على المسلمين ويم ّكنهم من قتل أوليائه" اهـ‪.‬‬
‫فليس مرادهم باإلعانة هنا الرضا والمحبّة كما َو ِه َم بعض الناس إنما‬
‫معناهُ التمكين واإلقدار‪ ،‬وهللا تعالى هو الذي يم ّكن العبد من عمل الخير‬
‫وعمل الشر‪ ،‬ألنه هو الذي خلقَ لسان وفؤاد وجوارح المؤمن والكافر‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فلوال هللا أعطى المؤمنَ القدرة على اإليمان لم يؤمن‪ ،‬ولوال أنه أعطى‬
‫الكافر القدرة على الكفر لم يكفر‪.‬‬
‫وتفسير اإلعانة بالتمكين واإلقدار موافق ومنسجم مع قول هللا تعالى‪:‬‬
‫ض َح َك‬ ‫جورها وت َ ْقواها} [سورة الشمس‪ .]8/‬وقوله‪{ :‬وأنهُ َ‬
‫هو أ ْ‬ ‫ْ‬
‫{فأل َه َمها فُ َ‬
‫وأ ْب َكى} [سورة النجم‪.]43/‬‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء‬
‫والمتقدمين (ص‪.)311/‬‬

‫بيان‬
‫حكم من يتلفظ بلفظ الكفر‬
‫بغير سبق لسان‬
‫وأنه يخرج من اإلسالم‬
‫إن كان غير مكره بالقتل ونحوه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اعلم أن األلفاظ قسمان‪ :‬صريح ليس له إال وجه واحد‪ ،‬وظاهر يحتمل‬
‫معنيين أحدهما أقرب من اآلخر أو هما متساويان‪ ،‬ف َمن نطق بالكفر‬
‫الصريح وهو عامد أي بغير سبق اللسان وغير مكره وعال ٌم بمعنى اللفظ‬
‫فهذا يكفر سواء كان نطقه من باب السبّ هلل أو للرسول أو لغيره من‬
‫األنبياء أو المالئكة أو سبّ شريعة اإلسالم‪ ،‬أو من باب إنكار ما علم من‬
‫الدين بالضرورة‪ ،‬وال يدخله التأويل ألنه لو كان يدخله التأويل لتعطل‬
‫ظ َمن يشاء بما يشاء من الصريح ثم يقول كالمي‬ ‫تطبيق أحكام الردة وتلفّ َ‬
‫له تأويل‪ ،‬وهذا باب من الفوضى كبير‪ ،‬فال ينظر بعد كون اللفظ صري ًحا‬
‫إلى قصد الشخص وال إلى معرفته بحكم تلك الكلمة أنها تخرج من‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫أما أن الصريح ال يؤول‪ ،‬فقد ذكر ذلك غير واحد من األصوليين‪ ،‬كما‬
‫وأقرهم على ذلك‪ ،‬ففي كتاب نهاية‬ ‫ّ‬ ‫نقل ذلك عنهم إمام الحرمين الجويني‬
‫المحتاج (‪ )1‬ما نصه‪" :‬ونقل اإلمام (‪ )2‬عن األصوليين أن إضمار‬
‫التورية أي فيما ال يحتملها كما هو واضح ال يفيد‪ ،‬فيكفر باطنًا أي ً‬
‫ضا‬
‫لحصول التهاون منه" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج‪ ،‬كتاب الردة (‪.)394/7‬‬
‫(‪ )2‬أي إمام الحرمين الجويني‪.‬‬

‫ي قُل ِل َمن‬
‫وفي تفسير القرطبي (‪ )1‬عند تفسير قوله تعالى‪{ :‬يا أيُّها النَّب ُّ‬
‫في أيدي ُكم منَ األ ْسرى} [سورة األنفال‪ ]70/‬إلى ءاخر اآلية ما نصه‪" :‬قال‬
‫علماؤنا إن تكلم الكافر باإليمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمةً لم‬
‫كافرا‪ ،‬إال ما كان من‬ ‫ً‬ ‫يكن مؤمنًا‪ ،‬وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان‬
‫الوسوسة التي ال يقدر على دفعها فإن هللا قد عفا عنها وأسقطها" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سألت َ ُهم لَيَقُولُ َّن إنَّما ُكنَّا‬


‫ضا (‪ )2‬عند شرح قوله تعالى‪{ :‬ولَئِن َ‬ ‫وقال أي ً‬
‫ونلعب قُ ْل أباهللِ وءاياتِ ِه ورسو ِل ِه ُك ْنت ُ ْم ت َ ْستَهزءون} [سورة‬
‫ُ‬ ‫َخوض‬
‫ُ‬ ‫ن‬
‫التوبة‪ ]65/‬ما نصه‪" :‬قال القاضي أبو بكر بن العربي‪ :‬ال يخلو أن يكون‬
‫ما قالوه من ذلك جدًّا أو هزالً‪ ،‬وهو كيفما كان كفر‪ ،‬فإن الهزل بالكفر كفر‬
‫ال خالف فيه بين األمة" اهـ‪.‬‬
‫وقال اإلمام حبيب بن الربيع (‪ )3‬وهو أحد كبار المالكية المتوسطين بين‬
‫المتقدمين منهم والمتأخرين‪ ،‬وهو من أصحاب الوجوه الذين يستخرجون‬
‫األحكام باالستنباط من نصوص اإلمام مالك رضي هللا عنه‪" :‬ادّعاء‬
‫التأويل في لفظ صراح ال يقبل" اهـ‪.‬‬
‫وفي الفتاوى الهندية (‪ )4‬ما نصه‪" :‬رجل كفر بلسانه طائعًا وقلبه‬
‫كافرا وال يكون عند هللا مؤمنًا‪ ،‬كذا في فتاوى‬
‫ً‬ ‫مطمئن باإليمان يكون‬
‫قاضيخان" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)55/8‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)197/8‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫شرح الشفا بتعريف حقوق المصطفى (‪ .)378/4‬وانظر‬ ‫(‪)3‬‬
‫ضا إكفار الملحدين في ضروريات الدين للمحدث محمد‬‫أي ً‬
‫أنور شاه الكشميري (ص‪.)90/‬‬
‫الفتاوى الهندية (‪.)283/2‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وأما َمن نطق بكالم له معنيان أحدهما كفري واآلخر ليس بكفري فهذا‬
‫إذا لم يرد المعنى الكفري فال يكفر‪ ،‬مثال ذلك أن يقول الشخص‪ :‬هذا خير‬
‫من هللا إذا رأى نعمة‪ ،‬كأن رأى عال ًما جليالً تقيًّا ناص ًحا للناس شفوقًا‬
‫عليهم‪ ،‬فإنه إن أراد أنه خير من عند هللا فال يكفر وال بأس بذلك‪ ،‬وهذا فهم‬
‫َمن ينطق بها غالبًا‪ ،‬وإن أراد به أن ذلك العالم هو أفضل من هللا فيكفر‪.‬‬
‫ضا أن يقول الشخص‪ :‬تُكره الصالة على النبي‪ ،‬فإن هذا اللفظ‬ ‫ومثاله أي ً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يحتمل من حيث اللغة أن قول اللهم ص ّل على محمد مكروه وهذا كفر‪،‬‬
‫ويحتمل أن الصالة الشرعية مكروهة على األرض المرتفعة المحدودبة‪،‬‬
‫كفرا ولو قال‪:‬‬
‫ألن النبي يطلق على األرض المرتفعة المحدودبة فال يكون ً‬
‫تُكره الصالة على النبي محمد كفر ً‬
‫كفرا صري ًحا ال يقبل التأويل لتعيُّن‬
‫المعنى األول‪.‬‬
‫ثم إن الكفر الصريح يُخرج قائله من اإلسالم‪ ،‬سواء كان الشخص عال ًما‬
‫بالحكم أم ال‪ ،‬فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي (‪ )1‬عن أبي هريرة‬
‫وأقر الحافظ ابن حجر تحسينه‪ ،‬أنه صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن‬ ‫ّ‬ ‫سنه‪،‬‬
‫وح ّ‬
‫سا" أنه ال يشترط أن‬‫سا يهوي بها بأ ً‬
‫الرجل ليتكلم بالكلمة ال يرى بها بأ ً‬
‫يكون الشخص عال ًما بحكم تلك الكلمة أنها تخرج من اإلسالم‪ .‬وروى‬
‫ضا بلفظ‪" :‬إن‬
‫البخاري (‪ )2‬ومسلم (‪ )3‬هذا الحديث عن أبي هريرة أي ً‬
‫العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق‬
‫والمغرب"‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬سنن الترمذي‪ :‬كتاب الزهد‪ :‬باب فيمن تكلم بكلمة يُضحك‬
‫بها الناس‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب الرقاق‪ :‬باب حفظ اللسان‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب الزهد والرقائق‪ :‬باب التكلم بالكلمة‬
‫يهوي بها في النار‪.‬‬

‫ف ِكال الحديثين معناه أن العبد قد يتكلم بالكلمة الخبيثة المخرجة من‬


‫اإلسالم وهو ال يعرف أنها تخرج من اإلسالم بل وال يرى أنها معصية‪،‬‬
‫وهذه المسافة المذكورة في الحديث نهاية قعر جهنم كما جاء في مسلم (‪)1‬‬
‫عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ُ " :‬كنّا مع رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم إذ سمعنا وجبةً (‪ )2‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أتدرون ما‬
‫]‪[Type text‬‬

‫هذا؟" قلنا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪" :‬هذا حجر ُرمي به في النار منذ سبعين‬
‫خريفًا فهو يهوي في النار اآلن حتى انتهى إلى قعرها"‪.‬‬
‫يعول على أي خالف‬ ‫فبعد هذا البيان الصريح من صاحب الشرع ال ّ‬
‫يخالفه‪ ،‬فقد قال اإلمام المجتهد أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر‪" :‬إذا‬
‫جاء الخبر ارتفع النظر" اهـ‪ .‬ومعناه إذا ثبت الحديث بطل االجتهاد‬
‫والرأي‪.‬‬
‫مال علي القاري في شرح الفقه األكبر ما نصه (‪" :)3‬قال‬ ‫وقال َّ‬
‫راض‬
‫ٍ‬ ‫القونوي‪ :‬ولو تلفّظ بكلمة الكفر طائ ًعا غير معتقد له يكفر ألنه‬
‫بمباشرته وإن لم يرض بحكمه كالهازل به فإنه يكفر وإن لم يرض بحكمه‬
‫وال يُعذر بالجهل" اهـ‪.‬‬
‫فالقول بالتكفير هو القول الصحيح الذي عليه الجمهور الموافق‬
‫للنصوص الشرعية الصحيحة‪ ،‬وأما من خالف هذا فليس من أصحاب‬
‫الوجوه أهل التخريج وليس من المحققين‪ ،‬واعتبار أي قول ممن ينسب إلى‬
‫العلم إن خالف الصواب يؤدي إلى الفوضى‪ ،‬ودين هللا يُ َّ‬
‫نزه عن الفوضى‪.‬‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها‪ :‬باب في‬
‫حر جهنم وبُعد قعرها وما تأخذ من المعذّبين‪.‬‬
‫شدة ّ‬
‫(‪ )2‬الوجبة بفتح الواو والموحدة بينهما جيم ساكنة‪ :‬اله َّدة وهي‬
‫شدة صوت وقع الشئ الثقيل‪.‬‬
‫(‪ )3‬شرح الفقه األكبر (ص‪.)163/‬‬
‫فمن قال إنه يعذر بجهله فقوله غير معتبر فاسد ألن العبرة بالدليل‪،‬‬
‫وقائل هذا القول لم يأخذ كالمه هذا من أصول أئمة المذاهب‪ ،‬ولم ينقل عن‬
‫أحد من ح ّكام المسلمين الذين كانوا يحكمون بالردة على من تلفّظوا باأللفاظ‬
‫الكفرية ثم يجرون عليهم الحكم بالقتل أنهم كانوا يقولون للواحد من أولئك‬
‫األشخاص هل كنت عال ًما بالحكم أن هذا الكالم كفر أم ال‪ ،‬بل كانوا‬
‫يطبقون عليه حكم الردة بمجرد اعترافه أو شهادة عدلين‪ ،‬فهذا القول‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مخالف لإلجماع الفعلي فال يعطى أدنى التفات‪ ،‬هللا يعصمنا من الزلل‬
‫المؤدي إلى مثل هذا الشذوذ‪ .‬فلتحذف تلك المقالة التي يفهم منها المطالع‬
‫الذي ال بصيرة له التعميم واإلطالق أي توهم أن اإلنسان يعذر في كل‬
‫نص القاضي‬‫كلمة كفرية إن كان يجهل أنها كفر‪ ،‬وهذا هدم للدين‪ ،‬وقد ّ‬
‫عياض وابن حجر وغيرهما على أنه ال يعذر بالجهل في الكفر‪.‬‬
‫وكذلك طوائف عديدة خرجوا من اإلسالم وهم يزعمون أنهم مسلمون‪،‬‬
‫الحق أنهم كفّار مع‬
‫ّ‬ ‫وكفرهم الذي كفروا به صريح ال يتردد اثنان من أهل‬
‫ظنهم بأنفسهم أنهم مسلمون‪ ،‬وهم طوائف عدة ذكروا بالتفصيل في كتب‬
‫الفرق‪ ،‬كالحالجية زعيمهم الحالج الذي كان يكتب ألحدهم من الرحمن‬
‫الرحيم إلى فالن بن فالن‪ ،‬ويعتبرون ذلك حقًّا كما ذكر الحافظ أبو بكر‬
‫الخطيب البغدادي في ترجمة الحالج في تاريخ بغداد‪ ،‬ونقلوا عنه ألفاظ‬
‫ي حظ في اإلسالم ألمثال هؤالء‪ .‬فيلزم‬ ‫الوحدة المطلقة معتقدين بها‪ ،‬فأ ّ‬
‫أن كل هؤالء الفرق لم يخرجوا من اإلسالم‪،‬‬ ‫المتقولين ّ‬
‫ّ‬ ‫على قول هؤالء‬
‫ألنهم لم يقصدوا الخروج منه إلى دين غيره‪ ،‬وإنما اجتهدوا فأخطئوا كما‬
‫زعم سيّد سابق في كتابه فقه السنة (‪.)1‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬يقول سيد سابق‪" :‬إن المسلم ال يعتبر خار ًجا من اإلسالم‪،‬‬
‫وال يحكم عليه بالردة‪ ،‬إال إذا انشرح صدره بالكفر‪،‬‬
‫واطمأن قلبه به" من باب الردة‪.)453/2( ،‬‬

‫قال اإلمام تقي الدين السبكي في فتاويه (‪ )1‬بعد ذكره لحديث‪" :‬من قال‬
‫ألخيه المسلم يا كافر فقد باء بها أحدهما‪ ،‬ومن رمى رجالً بالكفر أو قال‪:‬‬
‫عدو هللا‪ ،‬وليس كذلك إال حار (‪ )2‬عليه" ما نصه‪" :‬أقول‪ :‬هذا الحديث‬
‫الصحيح الذي ذكرته قائم على الحكم على مكفّر هؤالء المؤمنين بالكفر‬
‫وإن كان المك ِفّر معتقدًا –أي لإلسالم‪ -‬كاعتقاد الساجد للصنم أو ملقي‬
‫المصحف في القاذورات ونحوه‪ ،‬ال ينجيه اعتقاده لإلسالم من الحكم‬
‫بكفره" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأما بعض الحنفية المنقول عنهم خالف هذا ممن هم ليسوا من أهل‬
‫التخريج بل هم من المتأخرين الذين ال ينظر إليهم في اإلجماع والخالف‪،‬‬
‫وال يؤخذ بقولهم إال أن يكونوا نقلوا عن اإلمام أو أصحاب الوجوه في‬
‫المذهب فال عبرة برأيهم هذا‪ ،‬فمنهم من قال مخالفًا لإلجماع‪" :‬إنه ال يجوز‬
‫يتزوج من ليس حسنيًا أو حسينيًا َمن هي حسنية أو حسينية إال إذا خشي‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫عليها مفسدة" قلنا‪ :‬إن الصحابة أجمعوا على تصويب عمر بن الخطاب في‬
‫تزوجه ابنة علي الشريفة أم كلثوم‪ ،‬وقال بعضهم م ّمن هو أعلى منه مرتبة‬ ‫ّ‬
‫في العلم إنه يجوز األكل في رمضان إلى طلوع الشمس‪ ،‬وهناك من قال‬
‫بجواز وطء الجارية المملوكة بإباحة مالكها لغيره‪ ،‬فهل ينظل إلى مثل هذا‬
‫الخالف أم يقال هو خالف كالعدم‪ .‬فال يدفع قول هؤالء قول المجتهدين‬
‫المنوط بهم اإلجماع واالختالف‪ ،‬كما قال أبو بكر الخطيب البغدادي في‬
‫كتابه الفقيه والمتفقه‪ ،‬فللعلماء مراتب واآلراء واألقوال مراتب‪ ،‬وليس كل‬
‫العلماء في مرتبة واحدة‪ ،‬فمن كان أسير التقليد في غير محله تاه في‬
‫الحيرة‪.‬‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬فتاوى السبكي (‪.)570/2‬‬
‫(‪ )2‬أي رجع عليه‪.‬‬

‫ويكفي في رد هذا أنه مخالف لما قال اإلمام المجتهد محمد بن الحسن‬
‫(‪ )1‬فيمن قال لمن رءاه على معصية ظاهرة أال تخاف هللا فقال‪ :‬ال أخافه‪،‬‬
‫كفر وال يمكن تأويله اهـ‪ .‬ولو كان جهل الشخص بحكم الكلمة أنها ردة‬
‫عذرا لترك تكفيره ولم يقل هذا‪.‬‬
‫ً‬
‫قال الحافظ تقي الدين السبكي في فتاويه‪" :‬وال ينجيهم –أي الخوارج‪-‬‬
‫اعتقاد اإلسالم إجماالً والعمل بالواجبات عن الحكم بكفرهم كما ال ينجي‬
‫الساجد للصنم ذلك" نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪ ،)2‬ثم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال ابن حجر في الفتح ما نصه (‪" :)3‬قلت وممن جنح إلى بعض هذا‬
‫البحث الطبري في تهذيبه‪ ،‬فقال بعد أن سرد أحاديث الباب –يعني أحاديث‬
‫الخوارج‪ :-‬فيه رد على قول من قال‪ :‬ال يخرج أحد من اإلسالم من أهل‬
‫القبلة بعد استحقاقه حكمه إال بقصد الخروج منه عال ًما‪ ،‬فإنه مبطل لقوله‬
‫في الحديث‪" :‬يقولون الحق ويقرءون القرءان ويمرقون من اإلسالم وال‬
‫يتعلقون منه بشئ"‪ ،‬ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحالل دماء المسلمين‬
‫تأولوه من ءاي القرءان على غير المراد منه"‬‫وأموالهم إال بخطأ منهم فيما ّ‬
‫اهـ‪.‬‬
‫ضا (‪" :)4‬وفيه أن من المسلمين َمن يخرج من الدين من غير أن‬ ‫وقال أي ً‬
‫يقصد الخروج منه‪ ،‬ومن غير أن يختار دينًا على دين اإلسالم‪ ،‬وأن‬
‫شر الفرق المبتدعة من األمة المحمدية ومن اليهود والنصارى‪.‬‬ ‫الخوارج ّ‬
‫قلت‪ :‬واألخير مبني على القول بتكفيرهم مطلقًا‪ ،‬وفيه منقبة عظيمة لهمر‬
‫لشدّته في الدين‪ ،‬وفيه أنه ال يكتفي في التعديل بظاهر الحال ولو بلغ‬
‫المشهود بتعديله الغاية في العبادة والتقشف والورع حتى يختبر باطن‬
‫حاله" اهـ‪.‬‬
‫___________________‬
‫انظر الفتاوى الهندية (‪.)261/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فتح الباري (‪.)300/12‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فتح الباري (‪.)300/12‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫فتح الباري (‪.)300-302/12‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫ثم قال الحافظ (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قوله‪ :‬وقول هللا تعالى‪{ :‬إال َم ْن أ ُ ِ‬
‫كرهَ وقلبُهُ‬
‫ط َمئِ ٌّن باإليمان} [سورة النحل‪ ]106/‬وساق إلى {عظيم} وهو وعيد شديد‬ ‫ُم ْ‬
‫مختارا‪ ،‬وأما من أكره على ذلك هو معذور باآلية ألن االستثناء‬ ‫ً‬ ‫لمن ارت ّد‬
‫من اإلثبات نفي فيقتضي أن ال يدخل الذي أكره على الكفر تحت الوعيد‪،‬‬
‫والمشهور أن اآلية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر كما جاء من طريق‬
‫عمارا فعذبوه‬
‫ً‬ ‫أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال‪ :‬أخذ المشركون‬
‫حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكى ذلك إلى النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فقال له‪" :‬كيف تجد قلبك"؟ قال‪ :‬مطمئنًا باإليمان‪ ،‬قال‪" :‬فإن عادوا فعد"‬
‫(‪ ،)2‬وهو مرسل ورجاله ثقات‪ ،‬أخرجه الطبري وقبله عبد الرزاق‪ ،‬وعنه‬
‫عبد بن حميد‪ ،‬وأخرجه البيهقي من هذا الوجه فزاد في السند فقال عن أبي‬
‫ضا‪ ،‬وأخرج الطبري‬ ‫عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه وهو مرسل أي ً‬
‫ضا من طريق عطية العوفي عن ابن عباس نحوه مطوالً وفي سنده‬ ‫أي ً‬
‫عمارا وأباه وأمه وصهيبًا وبالالً وخبَّابًا‬
‫ً‬ ‫ضعف‪ ،‬وفيه أن المشركين عذبوا‬
‫وسال ًما مولى أبي حذيفة فمات ياسر وامرأته في العذاب وصبر اآلخرون‪،‬‬
‫وفي رواية مجاهد عن ابن عباس عند ابن المنذر أن الصحابة لما هاجروا‬
‫وعمارا فأطاعهم عمار وأبى‬
‫ً‬ ‫إلى المدينة أخذ المشركون خبابًا وبالالً‬
‫اآلخرون فعذبوهما‪ ،‬وأخرجه الفاكهي من مرسل زيد بن أسلم‪ ،‬وأن ذلك‬
‫عمارا فسألوه‬‫ً‬ ‫وقع من عمار عند بيعة األنصار في ال َعقَبة وأن الكفار أخذوا‬
‫عن النبي صلى هللا عليه وسلم فجحدهم خبره فأرادوا أن يعذبوه فقال هو‬
‫يكفر بمحمد وبما جاء به فأعجبهم وأطلقوه‪ ،‬فجاء إلى النبي صلى هللا عليه‬
‫ضا‪.‬‬
‫وسلم فذكر نحوه‪ ،‬وفي سنده ضعف أي ً‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)312-313/12‬‬
‫(‪ )2‬معناه إن أجبروك فما عليك شئ‪.‬‬

‫وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن سيرين أن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم لقي عمار بن ياسر وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عنه ويقول‪:‬‬
‫"أخذك المشركون فغطوك في الماء حتى قلت لهم كذا‪ ،‬إن عادوا فعد"‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬وهذه المراسيل تقوى بعضها ببعض‪ ،‬وقد‬ ‫ورجاله ثقات مع إرساله أي ً‬
‫أخرج ابن أبي حاتم من طريق مسلم األعور وهو ضعيف‪ ،‬عن مجاهد‪،‬‬
‫عمارا حتى قال لهم كال ًما تقيَّة‬
‫ً‬ ‫عن ابن عباس قال‪" :‬عذب المشركون‬
‫فاشتد عليه‪ ،‬الحديث‪ ،‬وقد أخرج الطبري من طريق علي بن أبي طلحة‪،‬‬
‫عن ابن عباس في قوله {إال َم ْن ِ‬
‫أكرهَ وقلبُهُ ُمطمئِ ٌّن باإليمان}‪ ،‬قال‪ :‬أخبر‬
‫]‪[Type text‬‬

‫هللا أن من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من هللا وأما من أكره بلسانه وخالفه‬
‫قلبه باإليمان لينجو بذلك من عدوه فال حرج عليه إن هللا إنما يأخذ العباد‬
‫بما عقدت عليه قلوبهم‪ .‬قلت‪ :‬وعلى هذا فاالستثناء مقدم من قوله {فعليهم‬
‫غضب} كأنه قيل فعليهم غضب من هللا إال من أكره ألن الكفر يكون‬‫ٌ‬
‫بالقول والفعل من غير اعتقاد‪ ،‬وقد يكون باعتقاد فاستثني األول وهو‬
‫المكره" اهـ‪.‬‬
‫ونقل الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي (‪ )1‬عن اإلمالء على‬
‫مشكالت اإلحياء‪" :‬ومن كذّب بقدرة هللا تعالى وبما أوجد بها فقد كفر ولو‬
‫لم يقصد الكفر‪ ،‬فإن أكثر اليهود والنصارى وسائر النحل ما قصدت الكفر‬
‫إال بظنها بأنفسها وهي كفار بال ريب‪ ،‬وهذا وجه واضح قريب وال يلتفت‬
‫إلى ما مال إليه بعض من ال يعرف وجوه التأويل وال يعقل كالم أولي‬
‫الحكم وال الراسخين في العلم" اهـ‪.‬‬
‫وقال تقي الدين السبكي (‪ )2‬وهو ممن قيل ببلوغه درجة االجتهاد‪" :‬إن‬
‫إنكار القطعي كفر‪ ،‬وال يشترط أن يعلم ذلك المنكر قطعيته ثم ينكر فيكون‬
‫كافرا على ما يتوهمه الخائلون (‪ ،)3‬بل يشترط قطعيته في‬
‫ً‬ ‫بذلك‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬إتحاف السادة المتقين (‪.)393/9‬‬
‫(‪ )2‬إكفار الملحدين (ص‪.)33/‬‬
‫(‪ )3‬أي الظانون‪.‬‬
‫الواقع" اهـ‪.‬‬
‫وما أشاعه بعض الناس كسيد سابق عن مالك وبعض عن أبي حنيفة من‬
‫أنه إذا كان في المسئلة تسعة وتسعون وج ًها بالتكفير ووجه واحد بترك‬
‫التكفير فينبغي للمفتي ترك التكفير‪ ،‬ليس له مستند‪ ،‬والمذكور في بعض‬
‫كتب الحنفية أن ذلك في اختالف الروايات أي عن اإلمام أو عن صاحبيه‪،‬‬
‫أن الرواية هي ما كان عن صاحب المذهب‪ ،‬ثم‬ ‫ألن في االصطالح الفقهي َّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫من المعلوم عند الفقهاء أنه ال عبرة بكل خالف إال خالف له حظ من النظر‬
‫كما قال القائل‪:‬‬
‫معتبرا *** إال خالف له حظ من النظر‬
‫ً‬ ‫وليس كل خالف جاء‬
‫وإال لجاز للشخص أن يأك ّل ويشرب في رمضان إلى طلوع الشمس‬
‫ضا األخذ بقول َمن قال‪ :‬يجوز‬
‫لوجود من قال به من المتقدمين‪ ،‬ولص ّح أي ً‬
‫وطء الجارية المملوكة بإباحة مالكها لغيره‪ ،‬وكال األمرين ال شئ‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫ظان أن هذا من‬ ‫المعلوم أنه ال عبرة بالخالف بعد اإلجماع‪ ،‬فال يظن‬
‫المسائل التي اختلف فيها‪.‬‬
‫معان‬
‫ٍ‬ ‫أقول‪ :‬المقرر في كتب الحنفية أن من تكلم بكلمة لها وجوه أي‬
‫بعضها يقتضي الكفر وبعضها ال يقتضيه‪ ،‬حكم عليه بالوجه الذي ال‬
‫يقتضي الكفر‪ ،‬إال إذا قال أردت الوجه اآلخر فليس للمفتي حينئ ٍذ أن يفتي‬
‫بالتكفير وأنه تبين منه امرأته‪ .‬ومثّل بعضهم لذلك بمن قال‪" :‬ال أريد‬
‫الصالة" قال‪ :‬فإن أراد أنه ال يريد الصالة ألنه قد صلى فال يكفر‪ ،‬وكذلك‬
‫ضا‪ ،‬وإن قال ال‬ ‫إن أراد ال أصلي لقول من قال له ص ّل يال فال فال يكفر أي ً‬
‫ضا‪ ،‬وإن أراد ال أصلي ألنها غير‬ ‫أريد الصالة ألنه متكاسل فال يكفر أي ً‬
‫ي على وجه اإلنكار لفرضيتها كفر‪ ،‬وعزا بعض الحنفية هذا إلى‬ ‫واجبة عل َّ‬
‫اإلمام محمد بن الحسن صاحب اإلمام أبي حنيفة رضي هللا عنهما‪.‬‬
‫أقول‪ :‬من جعل هذا األمر مطلقًا فأراد أنه ال يكفر الشخص إذا تلفظ‬
‫بألفاظ الكفر فقال واحد هذا كفر وقال ءاخر ليس بكفر وكان القائلون‬
‫بتكفيره عددهم تسعة وتسعون وكان القائل بعدم تكفيره واحدًا إنه يؤخذ‬
‫بقول الواحد مع كون الكلمة المختلف فيها ال تحتمل إال معنى كفريًّا واحدًا‬
‫فقد افترى على دين هللا وخرج من اإلجماع‪.‬‬
‫وقد ذكر مال علي القاري في شرح الفقه األكبر ما نصه (‪" :)1‬وقد‬
‫ذكروا أن المسئلة المتعلقة بالكفر إذا كان لها تسعة وتسعون احتماالً للكفر‬
‫واحتما ٌل واح ٌد في نفيه فاألولى للمفتي والقاضي أن يعمل باالحتمال النافي"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫هذا هو المعروف الثابت عند الفقهاء وقد نقل معناه عن محمد بن الحسن‬
‫في لفظ يحتمل أربعة معاني‪ ،‬وأما ما يقال إنه إذا كان في المسئلة تسعة‬
‫وتسعون قوالً بالتكفير وقول واحد بتركه أخذ بالقول الواحد فال أصل له‬
‫عن مالك وال عن أبي حنيفة وال عن واحد من األئمة‪.‬‬

‫_________________‬
‫(‪ )1‬شرح الفقه األكبر (ص‪.)162/‬‬

‫بيان‬
‫الفرق بين الرسول والنبي‬

‫يشترك الرسول والنبي في الوحي‪ ،‬فك ٌّل قد أوحى هللا إليه بشرع يعمل به‬
‫لتبليغه للناس‪ ،‬غير أن الرسول يوحي إليه بنسخ بعض شرع من قبله أي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بنسخ بعض األحكام التي كانت في زمن الرسول الذي قبله‪ ،‬أو بشرع جديد‬
‫أي بأحكام لم تنزل على من قبله من األنبياء‪ ،‬أما النبي غير الرسول فإنه‬
‫يوحى إليه ليبلغ شرع الرسول الذي قبله‪ .‬وقد خفي هذا على كثير من‬
‫الناس فغلطوا في هذا التعريف وادعوا أن النبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر‬
‫بتبليغه‪ ،‬وهذا الكالم ال يليق بمقام النبوة‪ ،‬فإن كل أنبياء هللا مأمورون‬
‫بالتبليغ‪ ،‬وكلهم أدّوا ما أُمروا به‪.‬‬
‫قال المفسر ناصر الدين البيضاوي في تفسيره (‪ )1‬ما نصه‪" :‬الرسول‬
‫من بعثه هللا بشريعة مجدّدة يدعو الناس إليها‪ ،‬والنبي يعمه ومن بعثه‬
‫لتقري شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى‬
‫عليهم السالم"‪.‬‬
‫وقال العالمة كمال الدين البياضي الحنفي في إشارات المرام (‪ )2‬ما‬
‫نصه‪" :‬فالنبي إنسان بعثه هللا لتبليغ ما أوحي إليه‪ ،‬وكذا الرسول‪ ،‬فهو‬
‫المراد هنا‪ ،‬ولذا اقتصر على األنبياء" اهـ‪ ،‬وقال في موضع ءاخر من‬
‫كتابه المذكور (‪" :)3‬الثالثة‪ :‬أن الرسول من جاء بشرع مبتد ٍإ‪ ،‬والنبي من‬
‫لم يأت به وإن أمر باإلبالغ كما في شرح التأويالت الماتريدية"‪ ،‬إلى أن‬
‫وصرح به البيضاوي في سورة الحج" اهـ‪.‬‬‫ّ‬ ‫قال‪" :‬واختاره المحققون‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬أنوار التنزيل وأسرار التأويل (‪.)57/4‬‬
‫(‪ )2‬إشارات المرام من عبارات اإلمام (ص‪.)311/‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق (ص‪.)333/‬‬
‫وقال عصرينا الحافظ أحمد الغماري (‪ )1‬ما نصه‪" :‬الفرق بين النبي‬
‫والرسول دقيق وقد خفي على كثير من الناس‪ ،‬والمشهور في كتب‬
‫المتكلمين في الفرق بينهما أن الرسول إنسان أوحي إليه بشرع وأمر‬
‫بتبليغه‪ ،‬والنبي إنسان أوحي إليه بشرع فلم يؤمر بتبليغه‪ ،‬وهذا كالم جاهل‬
‫سلنا ِم ْن‬
‫أر َ‬
‫بالسنة واألخبار بل وبصريح القرءان‪ ،‬فإن قول هللا تعالى‪{ :‬وما ْ‬
‫الشيطان في أ ُ ْمنِيَّتِ ِه" [سورة‬
‫ُ‬ ‫ي إال إذا ت َ َمنَّى ْألقى‬‫قب ِل َك من رسو ٍل وال نب ٍّ‬
‫الحج‪ ]52/‬صريح في إرسالهما حقًّا‪ ،‬وكذلك قول النبي صلى هللا عليه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وسلم‪" :‬وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافر" (‪،)2‬‬
‫واألخبار واألحاديث التي فيها فأوحى هللا إلى نبي من أنبيائه أن قل لفالن‬
‫العابد أو للملك الفالني أو للقرية الفالنية ال تكاد تنحصر وهذا هو‬
‫اإلرسال‪ ،‬والذي عندنا أن الرسول يفارق النبي في ثالثة أمور"‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫"الثالثة‪ :‬أن الرسول يبعث بشريعة مستقلة والنبي يبعث بتقرير شريعة من‬
‫قبله" اهـ‪.‬‬
‫ي}‬ ‫سلنا في قري ٍة من نب ٍّ‬ ‫ضا على ذلك قو ُل هللا تعالى‪{ :‬وما ْ‬
‫أر َ‬ ‫ومما يدل أي ً‬
‫[سورة األعراف‪ ]94/‬اآلية أليس هذا اإلرسال المذكور في هذه اآلية هو‬
‫إرسال تبليغ ودعوة إلى عبادة هللا سبحانه وتعالى‪ ،‬وكيف يوفق بين هذه‬
‫اآلية وبين قولهم‪" :‬إن النبي أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه"؟ وهللا‬
‫َذير إال قا َل ُمتْ َرفُوها إنَّا بِما أ ُ ْر ِس ْلتُم ب ِه‬
‫سلنا في قري ٍة من ن ٍ‬
‫أر َ‬
‫تعالى قال‪{ :‬وما ْ‬
‫األولينَ *‬‫ي في َّ‬ ‫سلنا من نب ٍّ‬ ‫{و َك ْم ْ‬
‫أر َ‬ ‫كافرون} [سورة سبإ‪ ،]34/‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫ي إال كانوا ب ِه يَ ْست َ ْه ِز ُءون} [سورة الزخرف‪ ،]7-6/‬نسأل‬ ‫وما يَأتي ِهم من نب ٍّ‬
‫هللا تعالى التوفيق من الزلل إنه على كل شئ قدير‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬جؤنة العطار (ص‪.)41-40/‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب قول النبي‬
‫وطهورا"‪.‬‬
‫ً‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬جعلت لي األرض مسجدًا‬

‫قال المناوي في مقدمة فيض القدير (‪ )1‬ما نصه‪" :‬والرسول والنبي‬


‫طال فيما بينهما من النسبة الكالم‪ ،‬والمحققون كما قال ابن الهمام كالعضد‬
‫والتفتازاني والشريف الجرجاني على ترادفهما ال فارق إال الكتاب"‪ ،‬ثم‬
‫قال‪" :‬وقال في المقاصد‪ :‬النبي إنسان بعثه هللا لتبليغ ما أوحي إليه‪ ،‬قال‬
‫وكذا الرسول‪ ،‬قال الكمال بن أبي شريف‪ :‬هذا ينبئ عن اختياره للقول‬
‫بترادفهما‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي شرح العقائد بعد ما ذكر أنه ال يقتصر على عدد في تسمية األنبياء‬
‫ما نصه‪ :‬وكلهم كانوا مبلغين عن هللا تعالى ألن هذا معنى النبوة والرسالة‪،‬‬
‫قال الكمال بن أبي شريف‪ :‬هذا مبني على أن الرسول والنبي بمعنى واحد‪.‬‬
‫وقال اإلمام الرازي في تفسيره‪ :‬وال معنى للنبوة والرسالة إال أن يشهد‬
‫على هللا أنه شرع هذا الحكم‪ ،‬وفي المواقف وشرحه في السمعيات‪ :‬النبي‬
‫من قال له هللا تعالى أرسلتك إلى قوم كذا أو إلى الناس جميعًا أو بلغهم‬
‫عني أو نحوه‪ ،‬وال يشترط في اإلرسال شرط‪.‬‬
‫وفيه في شرح الديباجة‪ :‬الرسول نبي معه كتاب‪ ،‬والنبي غير الرسول‬
‫من ال كتاب معه بل أمر بمتابعة شرع من قبله كيوشع‪ .‬قال المولى خسرو‪:‬‬
‫تبع –يعني الشريف‪ -‬صاحب الكشاف في تفسير الرسول‪ ،‬واعتراضه بأنه‬
‫ال يوافق المنقول في عدد الرسل والكتب إذ الكتب نحو مائة والرسل أكثر‬
‫مأمورا بالدعوة إلى‬
‫ً‬ ‫من ثالثمائة مدفوع بأن مراده بمن معه كتاب أن يكون‬
‫شريعة كتاب سواء أنزل على نفسه أو على نبي ءاخر‪ .‬قال‪ :‬واألقرب أن‬
‫الرسول من أنزل عليه كتاب أو أمر بحكم لم يكن قبله وإن لم ينزل عليه‬
‫كتاب‪ ،‬والنبي أعم لما في ذلك من النقص عما أورد على األول من أنه‬
‫يلزم عليه أن يكون من بعث بدون كتاب وال متابعة من قبله خار ًجا عن‬
‫النبي والرسول معًا‪ ،‬اللهم إال أن يقال إنه ال وجود لمثله‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬فيض القدير (‪.)15-16/1‬‬

‫وقال الشيباني في شرح الفقه األكبر‪ :‬الرسول من بعث بشرع مجدد‪،‬‬


‫والنبي يعمه ومن بعث بتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين بين‬
‫موسى وعيسى‪ ،‬ومن ثم شبَّه النبي صلى هللا عليه وسلم علماء أمته بهم"‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وقال الصفوي‪ :‬اختار بعض المحققين أن الرسول نبي أتاه ال َملَك‬
‫وقيل جبريل بوحي ال نوم وال إلهام‪ ،‬والنبي أعم‪ ،‬واعترض بعدم شموله‬
‫لما لم يكن بواسطة كما هو ظاهر المنقول في موسى قبل نزول الملك عليه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ورفعه بأنه يصدق عليه أنه أتاه في وقت ال ينجع إذ يلزم أن يكون النبي‬
‫قبل البعثة رسوالً حقيقة وال قائل به‪.‬‬
‫وقد أفاد ما قرره المحققان التفتازاني والجرجاني أن مجرد اإليحاء ال‬
‫يقتضي النبوة‪ ،‬إنما المقتضي لها إيحاء بشرع وتكليف خاص‪ ،‬فخرج من‬
‫بعث لتكميل نفسه كزيد بن نفيل‪ ،‬ومن ثم قبل ونعم ما قيل‪ :‬يعتقد كثير أن‬
‫النبوة مجرد الوحي وهو باطل وإال لزم نبوة نحو مريم وءاسية‪ ،‬والتزامه‬
‫شاذ‪.‬‬
‫وما أورد على التفتازاني من أن قوله‪ :‬النبي من بعث لتبليغ ما أوحي‬
‫إليه أنه ال يشمل المبعوث إليه لتبليغ ما أوحي لغيره كما في بني إسرائيل‪.‬‬
‫أجيب بأنه مأمور بتبليغ ذلك وهو مما أوحي إليه‪ ،‬أو أن شرع غيره‬
‫المشير إليه فيما أوحى إليه في الجملة‪.‬‬
‫ومن هذه النقول الالمعة والمباحث الجامعة عرف صحة عزو العالمة‬
‫ابن الهمام القول بالترادف إلى المحققين وأن اإلمام الشهاب ابن حجر قد‬
‫انحرف هنا عن صوب الصواب حيث حكم على من زعم االتحاد بالغلط‪،‬‬
‫ونسب الكمال بن الهمام إلى االسترواح في نقله والسقط‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن الذي‬
‫في كالم أئمة األصوليين خالف االتحاد‪ ،‬قال‪ :‬رأي المحققين خالف‬
‫هؤالء‪ ،‬فإن أراد أن محققي أئمة األصوليين خالف العضد والتفتازاني‬
‫صل‪ ،‬وإن‬ ‫والجرجاني وأن هؤالء ليسوا بمحقّقين فهذا شئ ال يقوله مح ّ‬
‫أرادهم فهذه نصوصهم قد تليت عليك‪ ،‬ولسنا ننازعه في أن المشهور بين‬
‫الفقهاء ما ذكره الحليمي من التغاير وأن الفارق األمر بالتبليغ إنما المالم‬
‫في إقدامه على تغليط ذلك المحقق ونسبته إلى الغفول عن كالم المحققين‬
‫من رأس القلم"‪ .‬انتهى كالم المناوي‪.‬‬
‫وقال اإلمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في‬
‫أصول الدين (‪ )1‬ما نصه‪" :‬والفرق بينهما –أي النبي والرسول‪ -‬أن النبي‬
‫من أتاه الوحي من هللا عز وجل ونزل عليه الملك بالوحي‪ ،‬والرسول من‬
‫يأتي بشرع على االبتداء أو ينسخ بعض أحكام شريعة قبله"‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال القونوي النسفي في القالئد شرح العقيدة الطحاوية (‪ )2‬ما نصه‪:‬‬


‫"والفرق بين النبي والرسول من بعثه هللا تعالى إلى قوم وأنزل عليه كتابًا‬
‫أو لم ينزل لكن أمره بحكم لم يكن ذلك الحكم في دين الرسول الذي كان‬
‫قبله‪ ،‬والنبي من لم ينزل عليه كتابًا ولم يأمره بحكم جديد بل أمره بأن‬
‫يدعو الناس إلى دين الرسول الذي كان قبله" اهـ‪.‬‬
‫ي إال إذا‬‫سلنا ِمن قَ ْب ِل َك من رسو ٍل وال نب ٍّ‬
‫فائدة‪ :‬قال هللا تعالى‪{ :‬وما أر َ‬
‫سلنا}‪ ،‬ثم في اآلية {من‬ ‫ت َ َمنَّى} [سورة الحج‪ ]52/‬اآلية‪ ،‬فاهلل تعالى قال‪ْ :‬‬
‫{أر َ‬
‫رسول وال نبي } إطالق اإلرسال على النبي والرسول ويكفي هذا دليالً‬
‫مأمورا‬
‫ً‬ ‫على أن النبي يبلغ وعلى بطالن قول من يقول إن النبي ليس‬
‫بالتبليغ‪ .‬ثم ال معنى لإلرسال بدون األمر بالتبليغ‪ ،‬فالرسول والنبي كالهما‬
‫مأموران بالتبليغ إنما الفرق بينهما بما سوى ذلك كالذي ذكره اإلمام عبد‬
‫القاهر بن طاهر التميمي الذي قال فيه ابن حجر الهيتمي‪" :‬اإلمام الكبير‬
‫إمام أصحابنا"‪ ،‬وهذا الذي كان عليه المتقدمون فال عبرة بالرأي الذي ذكره‬
‫بعض المتأخرين المخالف للنص ولما قاله المتقدمون‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬أصول الدين (ص‪.)154/‬‬
‫(‪ )2‬القالئد شرح العقائد (ص‪.)83/‬‬

‫بيان‬
‫تبرئة يوسف عليه السالم من اله ّم بالفاحشة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اعلم أن األنبياء عليهم السالم تجب لهم العصمة من الكفر ومن المعصية‬
‫سة ودناءة وكذا كل ما ال يليق بمنصبهم‬ ‫الكبيرة وكذا الصغيرة التي فيها ِخ َّ‬
‫قبل النبوة وبعدها‪ .‬وأما وصف القرءان ليوسف عليه السالم باله ّم فليس فيه‬
‫دليل على همه بالفاحشة‪ ،‬والمقرر عند العلماء أن ظاهر اآلية إذا كان‬
‫يحتمل وجو ًها من التفسير منها ما يوافق الحق ومنها ما يخالفه يحمل على‬
‫المعنى الذي ليس فيه محظور وال يبطله نقل وال عقل‪ ،‬لذا فإن القول بأن‬
‫سيدنا يوسف عليه السالم ه ّم بالزنا بامرأة العزيز أي قصد ذلك فهو كفر‬
‫ألن فيه طعنًا وقد ًحا بنبي من أنبياء هللا‪ ،‬وهي دعوى باطلة بالنقل والعقل‪.‬‬
‫فإذا كان األمر كذلك يحمل اله ُّم إما على أنه ه َّم بدفعها عنه وإما على أنه‬
‫لم يحصل منه ه ّم البتة على ما سيأتي بيانه بإذن هللا تعالى‪ ،‬فنقول وباهلل‬
‫التوفيق‪:‬‬
‫{وراو َدتْهُ} أي طلبت امرأة العزيز واسمها زليخا وهي‬ ‫َ‬ ‫قوله تعالى‪:‬‬
‫{هو} أي سيدنا يوسف {في بيتِها} أي بمصر {عن نف ِس ِه} أي أن‬ ‫{التي} كان َ‬
‫يواقعها بأن يعمل معها ما يفعله الرجل مع زوجته‪ ،‬فأبى ورفض {وغَلَّقَ ِ‬
‫ت‬
‫لك} أي قالت له‪َ :‬هلُ َّم وأقبل وتعا َل {قا َل} أي ر ّد عليها‬ ‫ْت َ‬ ‫ت َهي َ‬‫األبواب وقالَ ْ‬
‫َ‬
‫سيدنا يوسف عليه السالم بقوله { َم َعا َذ هللا} أي أعوذ باهلل وأعتصم به وألجأ‬
‫سنَ‬ ‫إنكارا لما طلبت منه ثم قال‪{ :‬إنَّهُ َر ِبّي ْ‬
‫أح َ‬ ‫ً‬ ‫إليه فيما دعوتني إليه‪ ،‬قاله‬
‫واي} وفيه وجهان‪:‬‬ ‫َمثْ َ‬
‫أحدهما‪ :‬أنه أراد العزيز‪ ،‬قاله مجاهد وغيره‪ ،‬أي هو الذي اشتراني‬
‫وأحسن مثواي أي أحسن منزلتي وأكرمني وائتمنني فال أخونه في أهله‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن الضمير في {إنهُ} يعود إلى هللا تعالى‪ ،‬قاله أبو حيان‬
‫والزجاج‪ ،‬أي أن هللا خالقي توالني في طول مقامي ونجاني من الجب‪ .‬أما‬
‫معنى قوله تعالى‪{ :‬ال يُ ْف ِل ُح َّ‬
‫الظا ِلمون} أي ال ينجح من ظلَم ففعل ما ليس له‬
‫فعله وجازى اإلحسان بالسوء‪.‬‬
‫قال المفسر أبو حيان في "النهر الماد" (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وما أحسن هذا‬
‫التنصل من الوقوع في السوء استعاذ َّأوالً باهلل الذي بيده العصمة وملكوت‬
‫كل شئ ثم نبّه على أن إحسان هللا إليه ال يناسب أن يُجازى بالسوء‪ ،‬ثم نفى‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الفالح عن الظالمن وهو الظفر والفوز بالبغية‪ ،‬فال يناسب أن أكون ظال ًما‬
‫أضع الشئ غير موضعه" اهـ‪.‬‬
‫{ولقَ ْد َه َّم ْ‬
‫ت ب ِه} أي قصدت وأرادت وعزمت امرأة العزيز على‬
‫المعصية والزنا‪.‬‬
‫وأما تفسير اآلية {و َه َّم بها لوال أن رءا بُرهانَ ر ِبّ ِه} [سورة يوسف‪]24/‬‬
‫فاعلم أن أحسن ما قيل في تفسيرها‪ :‬إن جواب لوال محذوف يدل عليه ما‬
‫قبله أي لوال أن رأى برهام ربه له ّم بها فلم يحصل منه ه ٌّم بالزنا ألن هللا‬
‫أراه برهانه‪ .‬وقال بعض المفسرين من أهل الحق إن معنى وه ّم بها أي ه ّم‬
‫بدفعها‪.‬‬
‫ومعنى {لوال أن رءا بُرهانَ ربِّ ِه} أن هللا أعلمهُ البرهان أنك يا يوسف لو‬
‫دفعتها لقالت لزوجها دفعني ليجبرني على الفاحشة فلم يدفعها بل أدار لها‬
‫ظهره ذاهبًا فشقت قميصه من خلف فكان الدليل عليها‪.‬‬
‫أما ما يروى من أن يوسف ه ّم بالزنا وأنه ح ّل إزاره وجلس منها مجلس‬
‫الرجل من زوجته فإن هذا باطل ال يليق بنبي من أنبياء هللا تعالى‪ ،‬قال‬
‫الحق أنا ْ‬
‫ُّ‬ ‫ص‬‫ص َح َ‬
‫العزيز اآلنَ َح ْ‬
‫ِ‬ ‫ت ْامرأة ُ‬ ‫تعالى في براءة يوسف {قال ِ‬
‫صادِقين} [سورة يوسف‪.]51/‬‬ ‫راو ْدتُهُ عن نف ِس ِه وإنَّهُ لَ ِمنَ ال َّ‬
‫َ‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬النهر الماد (‪.)113/2‬‬

‫قال ابن الجوزي في تفسيره (‪" :)1‬وال يصح ما يروى عن المفسرين‬


‫أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل‪ ،‬فإنه لو كان هذا دل على العزم‬
‫واألنبياء معصومون من العزم على الزنا" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال فخر الدين الرازي في تفسيره (‪" :)2‬إن يوسف عليه السالم كان‬
‫بريئًا عن العمل الباطل واله ّم المحرم‪ ،‬وهذا قول المحققين من المفسرين‬
‫والمتكلمين وبه نقول وعند نذب" اهـ‪.‬‬
‫وقال المفسر اللغوي أبو حيان األندلسي في تفسيره (‪" :)3‬الذي نقوله‪:‬‬
‫إن يوسف عليه الصالة والسالم لم يقع منه ه ّم بها البتة‪ ،‬بل هو منفي‬
‫ت لوال أن عصمك هللا" اهـ‪.‬‬ ‫لوجود رؤية البرهان كما تقول‪ :‬قار ْف َ‬
‫قلنا‪ :‬هذا هو الحق الذي يجب المصير إليه واعتقاده والذب عنه فإن‬
‫األنبياء عليهم الصالة والسالم منزهون عن الهم المحرم ومن تسلط‬
‫الشيطان على قلوبهم فال يحصل منهم اله ّم بالزنا وال إرادة ذلك والقصد‬
‫على فعله‪.‬‬
‫ف عنهُ ال ُّ‬
‫سو َء} أي اإلثم أو‬ ‫ص ِر َ‬
‫{كذلك} أي كذلك أيناه البرهان { ِلنَ ْ‬
‫َ‬
‫{م ْن‬
‫مقدمات الفحشاء {والفحشا َء} أي الزنا {إنهُ} أي يوسف عليه السالم ِ‬
‫عبادِنا ال ُمخلَصين} أي الذين أخلصهم هللا لرسالته أي طهرهم واختارهم‬
‫واصطفاهم للنبوة‪.‬‬
‫الباب} يعني يوسف والمرأة تسابقا إلى الباب كل واحد منهما‬
‫َ‬ ‫{وا ْستَبَقَا‬
‫يريد أن يسبق صاحبه‪ ،‬وأراد يوسف أن يسبق ليفتح ويخرج وأرادت هي‬
‫إن سبقت إمساك الباب لئال يخرج فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته‬
‫{من ُدبُ ٍر} أي من خلفه ألنه كان هو‬ ‫َّت قَمي َ‬
‫صهُ} أي قطعته وشقته ِ‬ ‫{وقَد ْ‬
‫َ‬
‫األسبق إلى الباب وهي الطالبة له ْ‬
‫{وألفَيَا} أي وجدا وصادفا‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬زاد المسير (‪.)205/4‬‬
‫(‪ )2‬التفسير الكبير (‪.)118/18‬‬
‫(‪ )3‬النهر الماد (‪.)114/2‬‬
‫ب} أي عند الباب‪ ،‬فلما رأت زوجها طلبت‬ ‫س ِيّ َدها} أي زوجها {لَ َدا البا ِ‬
‫{ َ‬
‫وج ًها للحيلة وكادت –من الكيد‪ -‬فـ{قالَ ْ‬
‫ت ما جزا ُء َم ْن أرا َد بأه ِل َك سو ًءا}‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عذاب ألي ٌم} أي مؤلم بأن‬


‫ٌ‬ ‫{أو‬ ‫يعني الفاحشة َّ‬
‫{إال أن يُ ْس َجنَ } أي يحبس ْ‬
‫يضرب‪.‬‬
‫راو َدتني عن‬ ‫{هي َ‬ ‫َ‬ ‫تبرئًا مما رمته به من الخيانة‬‫{قا َل} أي سيدنا يوسف ّ‬
‫من أه ِلها} أي حكم‬ ‫ش ِه َد شا ِه ٌد ْ‬
‫نفسي} أي هي طلبت مني الفاحشة وأبيتُ {و َ‬
‫وهو منَ‬‫ت َ‬ ‫صهُ قُ َّد من قُبُ ٍل} أي من قدام {فَ َ‬
‫ص َدقَ ْ‬ ‫{إن كانَ قمي ُ‬ ‫حاكم من أهلها ْ‬
‫وهو من‬
‫ت َ‬ ‫صهُ قُ َّد من ُدبُ ٍر} أي من خلف {فَ َك َذبَ ْ‬ ‫الكاذبينَ * ْ‬
‫وإن كانَ قمي ُ‬
‫صهُ قُ َّد من ُدبُ ٍر قا َل} يعني قال لها‬ ‫صادِقين * فل َّما رءا} أي زوجها {قَمي َ‬ ‫ال َّ‬
‫{من َك ْي ِد ُك َّن} يعني من حيلكن ومكركن َّ‬
‫{إن‬ ‫زوجها {إنهُ} يعني هذا الصنيع ْ‬
‫ّ‬
‫فتنتهن‪.‬‬ ‫َك ْي َد ُك َّن عظي ٌم} وذلك لعظم‬
‫ض َع ْن هذا} أي اكتمه‬ ‫ف} يعني قال له زوجها‪ :‬يا يوسف {أع ِْر ْ‬ ‫س ُ‬
‫{يُو ُ‬
‫وال تخبر به أحدًا لئال يشيع‪ ،‬ثم قال لزوجته {وا ْست َ ْغ ِفري ِل َذن ِب ِك} أي توبي‬
‫الخاطئينَ } يعني من المذنبين‪ .‬قال المفسرون‪ :‬ثم‬ ‫ِ‬ ‫من ذنبك {إنَّ ِك ُكن ِ‬
‫ت منَ‬
‫شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدّث بذلك النساء‪.‬‬
‫يتبيّن من سياق اآليات أن يوسف عليه السالم بريء من قصد الزنا واله ّم‬
‫بفعله‪ ،‬ويستدل لذلك بأمور منها‪:‬‬
‫والفحشا َء}‪ ،‬قال الفخر‬
‫ْ‬ ‫ف عنهُ السو َء‬
‫ص ِر َ‬
‫{كذلك ِلنَ ْ‬
‫َ‬ ‫‪ -‬قوله تعالى‪:‬‬
‫الرازي (‪" :)1‬ذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة‬
‫عنه" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬التفسير الكبير (‪.)118/18‬‬

‫ضا (‪" :)1‬إن األنبياء عليهم السالم متى صدرت منهم زلة أو‬‫‪ -‬وقال أي ً‬
‫هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ولو كان يوسف عليه السالم أقدم ها هنا على هذه الكبيرة لكان من‬
‫المحال أن ال يتبعها بالتوبة واالستغفار‪ ،‬ولو أتى بالتوبة لحكى هللا‬
‫تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شئ من‬
‫ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب وال معصية" اهـ‪.‬‬
‫ضا (‪" :)2‬واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة‪ :‬يوسف‬ ‫‪ -‬وقال أي ً‬
‫عليه السالم وتلك المرأة وزوجها والنسوة والشهود‪ ،‬ورب العالمين‬
‫ضا عن المعصية‪،‬‬ ‫أقر ببراءته أي ً‬ ‫شهد ببراءته عن الذنب‪ ،‬وإبليس ّ‬
‫وإذا كان األمر كذلك فحينئ ٍذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب‪.‬‬
‫أما بيان أن يوسف عليه السالم ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله‬
‫ب‬
‫{ر ّ ِ‬‫راو َدتني عن نفسي} وقوله عليه السالم َ‬ ‫{هي َ‬ ‫َ‬ ‫عليه السالم‬
‫ي ِم َّما ي ْدعونَني إليه}‪ .‬وأما بيان أن المرأة اعترفت‬ ‫جن أ َحبُّ إل َّ‬ ‫س ُ‬ ‫ال ِ ّ‬
‫ضا‬
‫ص َم} وأي ً‬ ‫راو ْدتُهُ ْ‬
‫عن نَف ِس ِه فا ْست َ ْع َ‬ ‫بذلك فألنها قالت للنسوة‪{ :‬ولق ْد َ‬
‫راو ْدتُهُ عن نف ِس ِه وإنَّهُ لَ ِمنَ‬‫الحق أنا ْ َ‬
‫ُّ‬ ‫ص‬‫ص َح َ‬ ‫قالت‪{ :‬اآلنَ ح ْ‬
‫أقر بذلك فهو قوله‪{ :‬إنهُ ِمن‬ ‫صادِقين}‪ .‬وأما بيان أن زوج المرأة ّ‬ ‫ال َّ‬
‫عن هذا واست َ ْغ ِفري لذَنبِ ِك}‪.‬‬ ‫ض ْ‬ ‫ف أع َْر َ‬ ‫س ُ‬ ‫إن ك ْي َد ُك َّن عظيم* يو ُ‬ ‫َك ْي ِد ُك َّن َّ‬
‫صهُ قُ َّد‬ ‫إن كانَ قمي ُ‬ ‫ش ِه َد شا ِه ٌد من أه ِلها ْ‬‫وأما الشهود فقوله تعالى‪{ :‬و َ‬
‫وهو منَ ال ُم َكذِبين}‪ .‬وأما شهادة هللا تعالى بذلك‬ ‫ت َ‬ ‫من قُبُ ٍل ف َ‬
‫ص َدقَ ْ‬
‫من عبادِنا‬ ‫ف عنهُ السو َء والفحشا َء إنَّهُ ْ‬ ‫ص ِر َ‬‫لك ِلنَ ْ‬ ‫فقوله‪َ { :‬ك َذ َ‬
‫ال ُم ْخلَصين}‪ .‬فقد شهد هللا تعالى في هذه اآلية على طهارته أربع‬
‫َصرف عنهُ السو َء} والالم للتأكيد والمبالغة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫مرات‪ :‬أولها قوله‪ِ { :‬لن‬
‫والثاني قوله‪{ :‬والفحشا َء} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء‪.‬‬
‫الرحمن الذينَ‬
‫ِ‬ ‫والثالث قوله‪{ :‬إنَّهُ من عبادِنا} مع أنه قال‪{ :‬وعبا ُد‬
‫طبَ ُه ُم الجاهلونَ قالوا سال ًما}‬ ‫األرض ه َْونًا وإذا خا َ‬
‫ِ‬ ‫يمشونَ على‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬التفسير الكبير (‪.)119/18‬‬
‫(‪ )2‬التفسير الكبير (‪.)119/18‬‬
‫[سورة الفرقان‪ .]63/‬والرابع قوله‪{ :‬ال ُمخلَصين} وفيه قراءتين‪ :‬تارة باسم‬
‫الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه ءاتيًا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بالطاعات والقربات مع صفة اإلخالص‪ ،‬ووروده باسم المفعول يدل على‬


‫أن هللا تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه‪ ،‬وعلى كال الوجهين فإنه من أدل‬
‫األلفاظ على كونه منز ًها عما أضافوه إليه‪ .‬وأما بيان أن إبليس أقر‬
‫بطهارته فألنه قال‪{ :‬فَبِ ِع َّزتِ َك أل ُ ْغ ِويَنَّ ُه ْم أجمعينَ * إال ِعبا َد َك م ْن ُه ُم‬
‫فأقر ألنه ال يمكنه إغواء المخلصين‬ ‫ال ُمخلَصين} [سورة ص‪ّ ]83-82/‬‬
‫ويوسف من المخلصين لقوله تعالى‪{ :‬إنهُ من عبادِنا ال ُمخلَصين} فكان هذا‬
‫إقرار من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى" اهـ‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ضا (‪" :)1‬إال أنّا نقول‪ :‬إن قوله {وه َّم بها} ال يمكن حمله على‬
‫وقال أي ً‬
‫ظاهره ألن تعليق اله ّم بذات المرأة محال ألن اله ّم من جنس القصد‬
‫والقصد ال يتعلق بالذوات الباقية‪ ،‬فثبت أنه ال بد من إضماء فعل‬
‫مخصوص يجعل متعلق ذلك اله ّم وذلك الفعل غير مذكور‪ ،‬فهم زعموا أن‬
‫ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها‪ ،‬ونحن نضمر شيئًا ءاخر يغاير ما‬
‫ذكروه‪ ،‬وبيانه من وجوه‪ :‬األول‪ :‬المراد أنه عليه السالم ه ّم بدفعها عن‬
‫نفسه ومنعها عن ذلك القبيح ألن اله ّم هو القصد فوجب أن يحمل في حق‬
‫كل أحد على القصد الذي يليق به‪ ،‬فالالئق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة‬
‫والتنعم والتمتع‪ ،‬والالئق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر‬
‫العاصي عن معصيته وإلى األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬يقال‪:‬‬
‫هممت بفالن أي بضربه ودفعه‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬فعلى هذا التقدير ال يبقى لقوله‪{ :‬لوال أن رءا بُرهانَ ربِّه}‬
‫فائدة‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين‪ :‬األول‪ :‬أنه تعالى أعلم‬
‫يوسف عليه السالم أنه لو ه ّم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬التفسير الكبير (‪.)120-121/18‬‬
‫بقتله‪ ،‬فأعلمه هللا تعالى أن االمتناع من ضربها أولى صونًا للنفس عن‬
‫الهالك‪ ،‬والثاني‪ :‬أنه عليه السالم لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فكان يتمزق ثوبه من قدام‪ ،‬وكان في علم هللا تعالى أن الشاهد يشهد بأن‬
‫ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن‪ ،‬ولو كان ثوبه ممزقًا من‬
‫خلف لكانت المرأة هي الخائنة‪ ،‬فاهلل تعالى أعلمه بهذا المعنى‪ ،‬فال جرم لم‬
‫يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى عنها حتى صارت شهادة الشاهد حجة له‬
‫على براءته عن المعصية" انتهى باختصار‪.‬‬
‫ونزههم عنها‪،‬‬ ‫فيتلخص مما ذكرناه أن هللا عصم األنبياء عن الرذائل ّ‬
‫ويوسف عليه السالم لم يشتهها لنفسه وال أراد أن يواقعها ولم يه ّم بذلك‪،‬‬
‫هذا هو الالئق بالنبي وهذا ما نعتقده وهو اعتقاد المسلمين‪.‬‬

‫بيان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أن أول مخلوقات هللا الماء‬


‫وفيه الر ّد على َمن يقول "محمد أول مخلوقات هللا"‬

‫قراء‬
‫من المفاسد التي انتشرت بين بعض العوام ما درج عليه بعض ّ‬
‫المولد النبوي الشريف وبعض المؤذّنين من قولهم‪ :‬إن محمدًا ّأول‬
‫"أول ما‬
‫المخلوقات‪ ،‬وما ذاك إال النتشار حديث جابر الموضوع بينهم‪ّ :‬‬
‫خلق هللا نور نبيّك يا جابر" وفيما يلي نورد ردّنا باألدلة الشافية‪:‬‬
‫ي} [سورة األنبياء‪،]30/‬‬ ‫الماء ُك َّل ٍ‬
‫شئ ح ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫قال هللا تعالى‪ :‬و َج َعلنا منَ‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬ ‫وروى البخاري (‪ )1‬والبيهقي (‪ّ )2‬‬
‫"كان هللا ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء"‪.‬‬
‫وروى ابن حبان (‪ )3‬من حديث أبي هريرة قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا إني‬
‫وقرت عيني فأنبئني عن كل شئ‪ ،‬قال‪" :‬كل شئ‬ ‫إذا رأيتك طابت نفسي ّ‬
‫خلق من الماء"‪.‬‬
‫"إن هللا لم يخلق شيئًا مما‬
‫سدّي (‪ )4‬في تفسيره بأسانيد متعددة‪ّ :‬‬
‫وروى ال ُّ‬
‫خلق من الماء"‪.‬‬
‫نص على ّ‬
‫أن الماء والعرش هما ّأول خلق هللا‪،‬‬ ‫ففي الحديث األول‪ّ ،‬‬
‫________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب بدء الخلق‪ :‬باب ما جاء في قوله تعالى‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ُ‬
‫أهون عليه} [سورة‬ ‫{وهو الذي يَ ْب َدؤا الخلقَ ث َّم يُعي ُدهُ َ‬
‫وهو‬ ‫َ‬
‫الروم‪.]27/‬‬
‫األسماء والصفات (‪.)364/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬فصل في قيام الليل‪ ،‬راجع‬ ‫(‪)3‬‬
‫اإلحسان (‪.)115/4‬‬
‫فتح الباري (‪.)289/6‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وأما ّ‬
‫أن الماء قبل العرش فهو مأخوذ من الحديثين التاليين‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قال الطيبي‪ :‬هو‬
‫فصل مستقل ألن القديم من لم يسبقه شئ‪ ،‬ولم يعارضه في األولية‪ ،‬لكن‬
‫أشار بقوله‪" :‬وكان عرشه على الماء" إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا‬
‫العالم لكونهما خلقا قبل خلق السموات واألرض ولم يكن تحت العرش إذ‬
‫ذاك إال الماء" اهـ‪.‬‬
‫الرزاق (‪ )2‬عن قَتادة في شرح قوله تعالى‪{ :‬وكانَ‬
‫وفي تفسير عبد ّ‬
‫عر ُ‬
‫شهُ على الماء} [سورة هود‪ ]7/‬ما نصه‪" :‬هذا بدء خلقه قبل أن يخلق‬
‫السموات واألرض"‪.‬‬
‫وأخرج ابن جرير (‪ )3‬عن مجاهد رضي هللا عنه في قوله‪{ :‬وكانَ‬
‫عرشهُ على الماء} [سورة هود‪ ]7/‬قال‪" :‬قبل أن يخلق شيئًا"‪.‬‬
‫"أول ما خلق هللا‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ّ :‬‬
‫تعالى نور نبيّك يا جابر‪ ،‬خلقه هللا من نوره قبل األشياء"‪ ،‬فالجواب‪ :‬أنه‬
‫يكفي في ر ّد هذا الحديث كونه مخالفًا لألحاديث الثالثة الصحيحة السابقة‪،‬‬
‫وأما عزو هذا الحديث للبيهقي فغير صحيح‪ ،‬إنما ينسب إلى مصنّف عبد‬
‫الرزاق‪ ،‬وال وجود له في مصنّفه بل الموجود في تفسير عبد الرزاق عكس‬
‫هذا‪ ،‬فقد ذكر فيه ّ‬
‫أن أول المخلوقات وجودًا الماء كما تقدم‪.‬‬
‫وقال الحافظ السيوطي (‪ )4‬في الحاوي‪" :‬ليس له –أي حديث جابر‪-‬‬
‫إسناد يُعتمد عليه" اهـ‪.‬‬
‫____________‬
‫فتح الباري (‪.)289/6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫تفسير عبد الرزاق (‪.)301/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تفسير الطبري (‪ ،)4/12‬والدر المنثور (‪.)4/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الحاوي للفتاوى (‪.)325/1‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫صرح الحافظ السيوطي في‬


‫قلت‪ :‬وهو حديث موضوع جز ًما‪ ،‬وقد ّ‬
‫شرحه على الترمذي ّ‬
‫أن حديث أولية النور المحمدي لم يثبت‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد ذكر عصريّنا الشيخ عبد هللا الغماري محدّث المغرب (‪ )1‬أن عزو‬
‫هذا الحديث الموضوع إلى مصنّف عبد الرزاق خطأ ألنه ال يوجد في‬
‫مصنفه‪ ،‬وال جامعه وال تفسيره‪ ،‬واألمر كما قال‪.‬‬
‫أن محدّث عصره الحافظ أحمد بن الصديق الغماري (‪ )2‬حكم عليه‬ ‫كما ّ‬
‫بأن هذا الحديث ركيك ومعانيه منكرة‪ ،‬قلت‪ :‬واألمر كما‬ ‫بالوضع محت ًجا ّ‬
‫قال‪ ،‬ولو لم يكن فيه إال هذه العبارة‪" :‬خلقه هللا من نوره قبل األشياء"‬
‫لكفى ذلك ركاكة‪ ،‬ألنه مشكل غاية اإلشكال‪ ،‬ألنه إن ُح ِم َل ضمير من نوره‬
‫على معنى نور مخلوق هلل كان ذلك نقيض المدعى ألنه على هذا الوجه‬
‫األول ليس نور محمد بل نو محمد ثاني المخلوقات‪،‬‬ ‫يكون ذلك النور هو ّ‬
‫وإن ُح ِمل على إضافة الجزء للكل كان األمر أفظع وأقب َح ألنّه يكون إثبات‬
‫نور هو جزء هلل تعالى‪ ،‬فيؤدي ذلك إلى أن هللا مركب والقول بالتركيب في‬
‫ألن فيه نسبة الحدوث إلى هللا تعالى‪ ،‬وبعد هذه‬‫ذات هللا من أبشع الكفر ّ‬
‫الجملة من هذا الحديث المكذوب ركاكات بشعة يردّها الذوق السليم وال‬
‫يقبلها‪ ،‬ثم هناك علّة أخرى وهي االضطراب في ألفاظه‪ ،‬ألن بعض الذين‬
‫أوردوه في مؤلفاتهم رووه بشكل وءاخرون رووه بشكل ءاخر‪ ،‬فإذا نُ ِظ َر‬
‫إلى لفظ الزرقاني ثم لفظ الصاوي لوجد فرق كبير‪ .‬ثم الركاكة دليل‬
‫الوضع كما قال علماء الحديث ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم ال يتكلم‬
‫بكالم ركيك المعنى‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر (ص‪.)43/‬‬
‫(‪ )2‬المغير على األحاديث الموضوعة في الجامع الصغير (ص‪.)4/‬‬

‫"أول ما خلق هللا العقل" فليس له طريق يثبت كما قال‬


‫وأما حديث‪ّ :‬‬
‫الحافظ ابن حجر (‪ ،)1‬ففي كتاب إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي‪ :‬أما حديث عائشة‬ ‫الدين لمرتضى الزبيدي (‪ )2‬ما نصه‪" :‬ثم قال العراق ّ‬
‫فرواه أبو نعيم في الحلية (‪ )3‬قال‪ :‬أخبرنا أبو بكر عبد هللا بن يحيى بن‬
‫معاوية الطلحي بإفادة الدارقطني عن سهل بن المرزبان بن محمد التميمي‬
‫عيينة عن منصور عن الزهري‬ ‫عن عبد هللا بن الزبير ال ُحميدي عن ابن ُ‬
‫عن عروة عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫"أول ما خلق هللا العقل" فذكر الحديث‪ ،‬هكذا أورده في ترجمة‬ ‫وسلم‪ّ :‬‬
‫شك ّ‬
‫أن هذا‬ ‫مذكورا بالضعف‪ ،‬وال ّ‬‫ً‬ ‫سفيان بن عيينة ولم أجد في إسناده أحدًا‬
‫مركب على هذا اإلسناد وال أدري م ّمن وقع ذلك‪ ،‬والحديث منكر‪ .‬قلت‪:‬‬
‫الحلية قالت عائشة‪ :‬حدّثني رسول هللا صلى‬ ‫ولفظ حديث عائشة على ما في ِ‬
‫أن ّأول ما خلق هللا العقل‪ ،‬قال‪ :‬أقبل فأقبل‪ ،‬ثم قال له‪ :‬أدبر‬‫هللا عليه وسلم ّ‬
‫فأدبر ثم قال‪ :‬ما خلقت شيئًا أحسن منك‪ ،‬بك ءاخذ وبك أعطي‪ .‬قال أبو‬
‫نعيم‪ :‬غريب من حديث سفيان ومنصور والزهري ال أعلم له راويًا عن‬
‫سا (‪ )4‬فيه"‪ .‬انتهت عبارة الحافظ محمد‬ ‫الحميدي إال سهالً‪ ،‬وأراه واه ً‬
‫مرتضى الزبيدي‪.‬‬
‫وقال الحافظ العراقي في المغني (‪ )5‬بعد إيراده هذا الحديث‪" :‬رواه‬
‫الطبراني في األوسط من حديث أبي أمامة‪ ،‬وأبو نعيم من حديث عائشة‬
‫بإسنادين ضعيفين" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫فتح الباري (‪.)289/6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين (‪.)453-454/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حلية األولياء وطبقات األصفياء (‪.)318/7‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫كذا عند الزبيدي والذي في الحلية‪" :‬واه ًما فيه"‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المغني عن حمل األسفار (‪.)48/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أما حديث أولية القلم قال الحافظ ابن حجر (‪ )1‬في الجواب عنه ما‬
‫نصه‪" :‬فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء‬
‫والعرش‪ ،‬أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة‪ ،‬أي أنه قيل اكتب أو ما‬
‫خلق‪ ،‬وأما حديث‪" :‬أول ما خلق هللا العقل"‪ ،‬فليس له طريق ثبت وعلى‬
‫تقدير ثبوته فهذا التقدير األخير هو تأويله وهللا أعلم" اهـ‪.‬‬
‫وأما قول ابن حجر الهيتمي في شرح األربعين النووية‪" :‬أما أولية القلم‬
‫نسبية وأما أولية النور المحمدي فهي مطلقة" اهـ‪ ،‬فهذا التأويل مخالف‬
‫أن الضعف إذا خالف الحديث‬ ‫للحديث الصحيح‪ ،‬ومخالف للقاعدة الحديثية ّ‬
‫الثابت فال حاجة إلى التأويل‪ ،‬بل يعمل بالثابت ويترك الضعيف‪ ،‬وذلك‬
‫مقرر في كتب المصطلح وفي كتب األصول‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس قال الرسولُ‪" :‬كنتُ ّأول النبيين في الخلق وءاخرهم في‬
‫ضا‪" :‬كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين"‪ ،‬و"كنت نبيًّا وال‬
‫البعث"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫ماء وال طين"‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن الحديث األول ضعيف (‪ )2‬كما نقل ذلك العلماء‪ ،‬وفيه بقية‬
‫بن الوليد وهو مدلّس‪ ،‬وسعيد بن بشير وهو ضعيف‪ ،‬ث ّم لو ص ّح لم يكن فيه‬
‫ق هللا وإنما فيه أنه ّأول األنبياء‪ ،‬ومعلو ٌم أن البشر أولهم ءادم‬
‫أنه أول خل ِ‬
‫الذي هو ءاخر الخلق باعتبار أجناس المخلوقات‪.‬‬

‫____________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)289/6‬‬
‫(‪ )2‬انظر سنى المطالب (ص‪ ،)242/‬والمقاصد الحسنة‬
‫(ص‪ ،)520/‬وكشف الخفا (‪.)169-170/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأما الثاني والثالث فال أصل لهما (‪ ،)1‬وال حاجة لتأويل قوله تعالى‪:‬‬
‫يٍ} [سورة األنبياء‪ ]30/‬والحديث صحيح‬ ‫الماء ك َّل ٍ‬
‫شئ ح ّ‬ ‫ِ‬ ‫{و َجعلنا من‬
‫َ‬
‫لخبر وا ٍه ضعيف أو موضوع ال أصل له‪ ،‬كما فعل ذلك بعض المتصوفة‬
‫إن لآلية معنًى مجازيًا‪.‬‬
‫حيث َّأول اآلية بحديث جابر السابق الذكر قال‪ّ :‬‬
‫أما حديث ميسرة الفجر أنه قال‪ :‬يا رسو َل هللا متى كنت نبيًّا‪ ،‬قال‪" :‬كنتُ‬
‫نبيًّا وءادم بين الروح والجسد"‪ ،‬فهو حديث صحيح رواهُ أحمد في مسنده‬
‫ضا‪:‬‬
‫(‪ ،)2‬وقال الحافظ الهيثمي (‪ )3‬بعد عزوه ألحمد وللطبراني (‪ )4‬أي ً‬
‫"ورجاله رجال الصحيح"‪ .‬وأما معناه فال يد ّل على ّأوليته صلى هللا عليه‬
‫مشهورا‬
‫ً‬ ‫أن الرسول كان‬‫وسلم بالنسبة لجميع الخلق‪ ،‬وإنما يد ّل على ّ‬
‫تكو ُن جس ِد ءادم‬
‫ت الذي لم يتم ُّ‬‫بوصف الرسالة بين المالئك ِة في الوق ِ‬
‫بدخو ِل الروح فيه‪.‬‬
‫وقد أخرج أحمد (‪ )5‬والحاكم (‪ )6‬والبيهقي (‪ )7‬في الدالئل عن‬
‫العرباض بن سارية رضي هللا عنه قال‪ :‬سمعتُ رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم يقول‪" :‬إني عبد هللا في أ ّم الكتاب لخات ُم النبيّين‪ ،‬وإن ءادم لمنجدل‬
‫في طينته‬
‫_______________‬
‫التذكرة في األحاديث المشهورة (ص‪ ،)172/‬والمقاصد الحسنة‬ ‫(‪)1‬‬
‫(ص‪ ،)522/‬وتمييز الطيب من الخبيث (ص‪ ،)126/‬وكشف‬
‫الخفا (‪ ،)173/2‬وتنزيه الشريعة (‪ ،)341/1‬واألسرار‬
‫المرفوعة (ص‪ ،)178/‬وتذكرة الموضوعات (ص‪ ،)86/‬وأسنى‬
‫المطالب (ص‪ ،)243/‬ومرشد الحائر (ص‪.)49/‬‬
‫مسند أحمد (‪.)59/5‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مجمع الزوائد (‪.)223/8‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المعجم الكبير (‪.)353/20‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مسند أحمد (‪.)127-128/4‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫مستدرك الحاكم (‪.)600/2‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫دالئل النبوة (‪.)80-83/1‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫‪ ."...‬قال البيهقي (‪" :)1‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إني عبد هللا وخاتم‬
‫النبيين وإن ءادم لمنجدل في طينته"‪ ،‬يريد به أنه كان كذلك في قضاء هللا‬
‫وأول األنبياء صلوات هللا عليهم" اهـ‪.‬‬
‫وتقديره قبل أن يكون أبو البشر ّ‬
‫يقول عصريّنا الشيخ عبد هللا الغماري في رسالته "مرشد الحائر" (‪:)2‬‬
‫"وما يوجد في بعض كتب المولد النبوي من أحاديث ال خطام لها وال زمام‬
‫هي من الغلو الذي نهى هللا ورسوله عنه‪ ،‬فال يعتمد على تلك الكتب وال‬
‫يقبل االعتذار عنها بأنها في الفضائل‪ ،‬ألن الفضائل يتساهل فيها برواية‬
‫ي‬
‫عا‪ ،‬والنب ّ‬‫الضعيف‪ ،‬أما الحديث المكذوب فال يقبل في الفضائل إجما ً‬
‫يقول‪َ " :‬من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين‪،)3( "..‬‬
‫ي صلى‬ ‫ي فليتبوأ مقعده من النار" (‪ ،)4‬وفضل النب ّ‬‫ويقول‪ّ " :‬من كذب عل ّ‬
‫هللا عليه وسلم ثابت في القرءان الكريم واألحاديث الصحيحة وهو في غنًى‬
‫ع ّما يقال فيه من الكذب والغلو‪ "...‬اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬دالئل النبوة (‪.)81/1‬‬
‫(‪ )2‬مرشد الحائر (ص‪ 49/‬و‪.)50‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬المقدمة‪ :‬باب وجوب الرواية عن‬
‫الثقات وترك الكذّابين والتحذير من الكذب على رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬والترمذي في سننه‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب ما جاء‬
‫فيمن روى حديث ًا وهو يرى أنه كذب‪ ،‬وابن ماجه في سننه‪:‬‬
‫المقدمة‪ :‬باب من حدّث عن رسول هللا حديثًا وهو يرى أنه كذب‪.‬‬
‫روي من طرق عديدة منها ما أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬في كتاب‬ ‫(‪)4‬‬
‫العلم‪ :‬باب إثم من كذب على النبي‪ ،‬وكتاب األدب‪ :‬باب من سمى بأسماء‬
‫األنبياء‪ ،‬ومسلم في المقدمة‪ :‬باب تغليظ الكذب على رسول هللا‪ ،‬وأبو داود‬
‫في سننه‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب في التشديد في الكذب على رسول هللا‪،‬‬
‫والترمذي في سننه‪ :‬كتاب العلم‪ :‬باب ما جاء في تعظيم الكذب على‬
‫رسول هللا‪ ،‬وباب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل‪ ،‬وكتاب الفتن‪،‬‬
‫وابن ماجه في سننه‪ :‬المقدمة‪ :‬باب التغليظ في تع ّمد الكذب على رسول‬
‫هللا‪ ،‬وأحمد في مسنده في مواضع عديدة عن رواة عدة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فائدة مهمة‪:‬‬
‫سؤال موجه إلى هؤالء القائلين بأن الرسو َل هو أول خلق هللا‪ ،‬يقال لهم‪:‬‬
‫ألستم تعتقدون أن إبليس ُخلق قبل ءادم؟ فيقولون‪ :‬بلى للنص الوارد في‬
‫وم} [سورة‬‫س ُم ِ‬ ‫{والجان خلَقناهُ من قب ُل من ِ‬
‫نار ال َّ‬ ‫َّ‬ ‫القرءان وهو قوله تعالى‪:‬‬
‫سب ُْق إبليس ءادم عليه السالم بالخلق يقتضي‬ ‫الحجر‪ ]27/‬فيقال لهم‪ :‬وهل َ‬
‫أفضليته؟ فال شك أنهم ال يقولون إن ذلك يقتضي أفضلية إبليس فيقال لهم‪:‬‬
‫لماذا تتشبثون بقولكم "الرسول أو ُل خلق هللا" وأي طائل تحت قولكم هذا؟!‪.‬‬
‫ضا ال معنى لقول هؤالء‪ :‬إن الحديث الضعيف اإلسناد إذا تلقته األمة‬ ‫أي ً‬
‫بالقبول يكون صحي ًحا لغيره كما ادعاه بعض من كتب في هذه المسألة من‬
‫الهند وحديث أولية النور كذلك‪ ،‬فيقال لهم‪ :‬هذا ال ينطبق على هذا الحديث‬
‫ي إمام من األئمة‬ ‫الموضوع ألن مرادهم باألمة المجتهدون‪ ،‬فاذكروا لنا أ ّ‬
‫المجتهدين األربعة وغيرهم قال بذلك‪ ،‬فإن كان عندكم نص فأظهروه‪ ،‬وهل‬
‫تستطيعون أن تثبتوا ذلك عن أحد من أصحاب األئمة األربعة الذين تلقوا‬
‫عن هؤالء‪ ،‬كل ما في األمر أنكم وجدتم هذا الكالم الذي تقولونه من كالم‬
‫بعض المتأخرين مثل الزرقاني وابن حجر الهيتمي والقسطالني الذي هو‬
‫من أهل القرن العاشر وأشباههم ومن جاء بعد هؤالء مثل يوسف النبهاني‬
‫الذي هو من أهل القرن الرابع عشر والعجلوني وأبي بكر األشخر‬
‫وأمثالهم‪ ،‬فكيف تدَّعون أن هذا مما تلقته األمة بالقبول؟!‪.‬‬
‫ومن سواهم ممن تحتجون بكالمهم متأخر عن ابن حجر الهيتمي‪.‬‬
‫إنما الذي ذكره العلماء في كتب الحديث أن الحديث الضعيف إذا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تلقته األمة بالقبول يكون صحي ًحا لغيره مثل الحديث (‪" :)1‬البحر هو‬
‫الطهور ماؤه الحل ميتته"‪ ،‬وحديث (‪ )2‬النهي عن بيع الكالئ بالكالئ‪،‬‬
‫هذان الحديثان أئمة السلف من الفقهاء والمحدثين ومن تبعهم من الحفاظ‬
‫والفقهاء الذين جاءوا بعدهم قالوا بصحة هذين الحديثين ألن األمة تلقتهما‬
‫أن جميع المجتهدين عملوا بهما مع ضعف إسناديهما فأين ما‬ ‫بالقبول‪ ،‬أي َّ‬
‫تدعون من هذا؟!‪.‬‬
‫أما الحافظ ابن حجر العسقالني فإنه لم يتعرض لما تقولونه بل صرح‬
‫بما يُفهم من حديث‪" :‬كان هللا ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء"‬
‫بما يدل عليه الحديث‪.‬‬
‫وأما عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف فهو متقدم‪ ،‬فالثابت عنه ما‬
‫في تفسيره من أولية الماء والعرش‪ ،‬ثم من شأن عبد الرزاق في مؤلفاته أن‬
‫يورد الحديث من غير أن يصححه‪ ،‬فكتابه المصنف والجامع ال يتعرض‬
‫فيهما للحكم على األحاديث التي يذكرها بقول‪" :‬صحي ٌح أو حسن أو‬
‫أن حديث جابر ذكره في مصنفه فلم يصححه ولم‬ ‫ضعيف"‪ ،‬فلو ثبت َّ‬
‫يحسنه‪ ،‬فهل يقول ذو إلمام بعلم الحديث بأن مجرد ذكر المحدث لحديث في‬
‫تأليفه أنه صحيح‪ ،‬ال يقول هذا من مارس علم الحديث دراية‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب الوضوء بماء‬
‫البحر‪ ،‬والترمذي في سننه‪ :‬أبواب الطهارة‪ :‬باب ما جاء في ماء‬
‫البحر أنه طهور‪ ،‬وابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب الطهارة وسننها‪:‬‬
‫باب الوضوء بماء البحر‪ ،‬والحاكم في المستدرك ‪ ،140/1‬وابن‬
‫خزيمة في صحيحه ‪ 59/1‬كلهم من طريق مالك‪ ،‬وصححه‬
‫الترمذي والحاكم وابن خزيمة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الدارقطني في سننه ‪ ،71/3‬والبيهقي في سننه ‪،290/5‬‬
‫والحاكم في المستدرك ‪ 57/2‬وقال‪ :‬حديث صحيح على شرط‬
‫مسلم ولم يخرجاه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد ادعى بعض المتعصبين لحديث أولية النور أنه وجد نسخة من‬
‫أثر منذ نحو خمس عشرة‬
‫المصنف فيها ذكر هذا الحديث ولم يُعرف لها ٌ‬
‫سنة منذ قالها هذا الرجل‪.‬‬
‫فكيف ساغ لهم أن يحتجوا بحديث "أول ما خلق هللا تعالى نور نبيك يا‬
‫جابر" الذي لم يصححه أحد من الحفاظ‪.‬‬
‫على أن ابن حجر الهيتمي لما أورده في كتابه "شرح األربعين النووية"‬
‫أن أحدًا من الحفاظ صحح حديث أولية النور المحمدي إنما قال عن‬ ‫لم ينقل َّ‬
‫أن ما ارتضاه من ِق َب ِل نفسه وحاول تقوية رأيه بتأويل حديث‬ ‫نفسه َّ‬
‫الترمذي‪" :‬إن أول ما خلق هللا تعالى القلم"‪ ،‬وهذا الحديث صححه‬
‫الترمذي‪ ،‬لكن ابن حجر الهيتمي َّأول هذا الحديث فقال‪" :‬أولية القلم نسبية‬
‫وأولية النور المحمدي حقيقية"‪ ،‬وكان الذي يليق به أن ال يتكلف هذا‬
‫ألن تأويل النصوص الثابتة ال يصار إليه إال لدليل عقلي أو نقلي‬‫التأويل َّ‬
‫ثابت وهنا ال يوجد واحد منهما‪.‬‬
‫وأما دعوى بعض الذين كتبوا في تأييد هذا الحديث َّ‬
‫أن السيوطي ما‬
‫ضعفه إنما ضعّف إسناده فال ينافي ذلك ثبوته في نفسه من جه ٍة أخرى‪،‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن عبارته في قوت المغتذي تأبى ذلك َّ‬
‫ألن عبارته فيه وهذا‬
‫فأضاف نفي‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حديث أولية النور المحمدي فال يثبت" اهـ‪،‬‬ ‫نصها‪" :‬وأما‬
‫الثبوت إلى الحديث نفسه‪ ،‬فهذا حكم على الحديث بالضعف ولم يذكر‬
‫اإلسناد‪.‬‬
‫دليل وضع حديث جابر‪:‬‬
‫هذا الحديث فيه ثالث علل على أنه موضوع‪:‬‬
‫أن النور المحمدي أول المخلوقات على‬ ‫نص في َّ‬ ‫األولى‪َّ :‬‬
‫أن َّأوله وهو ٌّ‬
‫اإلطالق‪ ،‬ثم الجملة التي بعده وهي "خلقه هللا تعالى من نوره قبل األشياء"‪،‬‬
‫الم ْلك إلى المالك كان‬
‫فإن قُدّرت هذه اإلضافة التي في كلمة نوره إضافةَ ِ‬
‫نور محمد‬
‫نور خلقه هللا تعالى ثم خلق منه َ‬
‫أن أول المخلوقات ٌ‬ ‫المعنى َّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫"نور محم ٍد أول المخلوقات‬


‫ُ‬ ‫ضا ألوله فال يص ُّح على هذا قو ُل‬
‫فيكون هذا نق ً‬
‫على اإلطالق"‪.‬‬
‫وأما إن قُدّرت هذه اإلضافة إضافةَ الصفة إلى الموصوف فالبَليّةُ أش ُّد‬
‫أن نور محمد جز ٌء من هللا وهذا‬ ‫وأكبر ألنه يكون المعنى على هذا التقدير َّ‬
‫ُ‬
‫ألن من عقيدة أهل السنة أن هللا تعالى لم‬ ‫هو الشرك األكبر والكفر األشنع‪َّ ،‬‬
‫ليس مركبًا وأنه ليس شيئًا‬ ‫شئ غيره وأنه َ‬ ‫يَ ْن َح َّل منه شئ وال يَ ْن َح ُّل هو من ٍ‬
‫له أجزاء وإنما الجزء للمخلوقات‪ ،‬وقد ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي‬
‫رضي هللا عنه أن من اعتقد أن هللا انح َّل منه شئ أو انح َّل من شئ فهو‬
‫وأن من اعتقد أنه نور يتصوره العقل فهو كافر‪،‬‬ ‫كافر وإن زعم أنه مسلم ّ‬
‫فاعتقاد أن الرسول جز ٌء من نور هو من ذات هللا كاعتقاد النصارى َّ‬
‫أن‬
‫المسيح رو ٌح هو جز ٌء من هللا‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬وهذا الحديث‬
‫ينقض بعضه بع ً‬
‫ُ‬ ‫ومن المعلوم َّ‬
‫أن كالم الرسول ال‬
‫الجملة الثانية منه تنقض األولى‪ ،‬فالرسول منزهٌ عن أن ينطق بمثله‪ ،‬فبهذا‬
‫أن أول المخلوقات على اإلطالق‬ ‫سقط االحتجاج بهذا الحديث على دعوى ّ‬
‫نور محمدٍ‪.‬‬
‫ُ‬
‫الثانية‪ :‬قد حكم المحدث الحافظ أبو الفضل أحمد الغماري المغربي على‬
‫هذا الحديث بأنه موضوع كما قدمنا‪ ،‬واستدل بما قرره علماء الحديث أن‬
‫عا وذلك ظاهر لمن تأمل في ألفاظه‪.‬‬
‫الركاكة في الحديث دليل كونه موضو ً‬
‫الثالثة‪ :‬من جملة ألفاظه ما نقله سليمان الجمل في شرحه على الشمائل‬
‫عن سعد الدين التفتازاني في شرح بردة المديح عند قوله‪:‬‬
‫بهم‬
‫وكل ءاي أتى الرسل الكرام بها *** فإنما اتصلت من نوره ِ‬
‫وهذا نص عبارته (‪" :)1‬عن جابر بن عبد هللا األنصاري قال‪:‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬بلغة السالك ألقرب المسالك للصاوي (‪.)537/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سألت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن أول شئ خلقه هللا فقال‪ :‬هو‬
‫نور نبيك يا جابر خلقه هللا ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شر‪ ،‬فحين‬
‫خلقه أقامه قدامه في مقام القرب اثني عشر ألف سنة ثم جعله أربعة أقسام‪،‬‬
‫فخلق العرش من قسم والكرسي من قسم وحملة العرش وخزنة الكرسي‬
‫من قسم‪ ،‬وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثني عشر ألف سنة ثم جعله‬
‫أربعة أقسام‪ ،‬فخلق القلم من قسم والروح من قسم والجنة من قسم وأقام‬
‫القسم الرابع في مقام الخوف اثني عشر ألف سنة‪ ،‬ثم جعله أربعة أجزاء‬
‫فخلق المالئكة من جزء وخلق الشمس من جزء وخلق القمر والكواكب من‬
‫جزء وأقام الجزء الرابع في مقام الرجاء اثني عشر ألف سنة‪ ،‬ثم جعله‬
‫أربعة أجزاء فخلق العقل من جزء والحلم والعلم من جزء والعصمة‬
‫والتوفيق من جزء وأقام الجزء الرابع في مقام الحياء اثني عشر ألف سنة‪،‬‬
‫ثم نظر إليه فترشح ذلك النور عرقًا فقطرت منه مائة ألف وعشرون ألفًا‬
‫وأربعة ءاالف قطرة فخلق هللا تعالى من كل قطرة روح نبي أو رسول‪ ،‬ثم‬
‫تنفست أرواح األنبياء فخلق هللا من أنفاسهم نور أرواح األولياء والسعداء‬
‫والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة‪ ،‬فالعرش والكرسي من‬
‫نوري‪ ،‬والكروبيون والروحانيون من المالئكة من نوري‪ ،‬ومالئكة‬
‫السموات السبع من نوري‪ ،‬والجنة وما فيها من النعيم من نوري‪ ،‬والشمس‬
‫والقمر والكواكب من نوري‪ ،‬والعقل والعلم والتوفيق من نوري‪ ،‬وأرواح‬
‫األنبياء والرسل من نوري‪ ،‬والشهداء والسعداء والصالحون من نتائج‬
‫نوري‪ ،‬ثم خلق هللا اثني عشر حجابًا فأقام النور وهو الجزء الرابع من‬
‫حجاب ألف سنة وهي مقامات العبودية وهي حجاب الكرامة والسعادة‬
‫والرؤية والرحمة والرأفة والحلم والعلم والوقار والسكينة والصبر والصدق‬
‫واليقين فعبد هللا ذلك النور في كل حجاب ألف سنة‪ ،‬فلما خرج النور من‬
‫الحجب ر َّكبه هللا في األرض فكان يضيء‪ ،‬وركب فيه النور في جبينه ثم‬
‫انتقل منه إلى شيث ولده‪ ،‬وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وصل‬
‫إلى صلب عبد هللا بن عبد المطلب ومنه إلى زوجه أمي ءامنة‪ ،‬ثم أخرجني‬
‫إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين ورحمة للعالمين وقائد الغر‬
‫المحجلين هكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واللفظ الذي ساقه العجلوني ونسبه إلى مصنف عبد الرزاق وهذا نصه‪:‬‬
‫"عن جابر بن عبد هللا قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا بأبي أنت وأمي أخبرني عن‬
‫أول شئ خلقه هللا قبل األشياء قال‪ :‬يا جابر إن هللا تعالى قد خلق قبل‬
‫األنبياء نور نبيك من نوره فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء هللا ولم‬
‫يكن في ذلك الوقت لو ٌح وال قل ٌم وال جنةٌ وال ٌ‬
‫نار وال ٌ‬
‫ملك وال سما ٌء وال‬
‫إنس‪ ،‬فلما أراد هللا تعالى أن يخلق‬‫جن وال ٌ‬‫قمر وال ٌّ‬
‫شمس وال ٌ‬‫ٌ‬ ‫أرض وال‬
‫ٌ‬
‫الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء األول القلم ومن الثاني‬
‫اللوح ومن الثالث العرش‪ ،‬ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من‬
‫األول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي المالئكة‪ ،‬ثم قسم‬
‫الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من األول السموات ومن الثاني األرضين‬
‫ومن الثالث الجنة والنار‪ ،‬ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من‬
‫األول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة باهلل‬
‫تعالى ومن الثالث نور أنفسهم وهو التوحيد ال إله إال هللا محم ٌد رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم" اهـ‪.‬‬
‫وبين الروايتين المنقولتين اختالف كبير فظاهر هذا اضطراب‬
‫واالضطراب من موجبات الضعف‪.‬‬
‫ثم إن اإلسناد الذي ذكر لهذا الحديث منقطع بين إسحاق بن إبراهيم‬
‫ال َّدبّري وعبد الرزاق‪ ،‬فقد ظهر بذلك أن فيه ثالث علل‪ :‬االضطراب‪،‬‬
‫وانقطاع اإلسناد‪ ،‬والركاكة‪ ،‬والركاكة من عالمات الوضع كما قرره علماء‬
‫الحديث في كتب المصطلح‪.‬‬
‫وأخيرا نقول لهؤالء وأمثالهم‪َّ :‬‬
‫إن األفضلية ليست األسبقية في الوجود‬ ‫ً‬
‫بل األفضلية بتفضيل هللا‪ ،‬فاهلل تعالى يفضّل ما شاء من خلقه على ما شاء‪،‬‬
‫فاهلل تعالى جعل سيدنا محمدًا أفض َل خلقه على اإلطالق وأكثرهم بركة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫معنى العبادة ّ‬
‫وأن مجرد‬
‫سل واالستغاثة والنداء‬
‫التو ّ‬
‫ليس شركًا‪،‬‬
‫وطلب ما لم تجر به العادة َ‬
‫التبرك بآثار النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫ّ‬ ‫وكذلك‬

‫اعلم أنه ال دليل حقيقي يد ّل على عدم جواز التوسل باألنبياء واألولياء‬
‫في حال الغيبة أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير هللا‪ ،‬ألنه ليس‬
‫ي أو ميّت‪ ،‬وال مجرد االستغاثة بغير هللا‪،‬‬ ‫عبادة لغير هللا مجرد النداء لح ّ‬
‫تجر به العادة بين‬
‫للتبرك‪ ،‬وال مجرد طلب ما لم ِ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬‫وال مجرد قصد قبر ول ّ‬
‫الناس‪ ،‬وال مجرد صيغة االستعانة بغير هللا تعالى‪ ،‬أي ليس ذلك شر ًكا‪،‬‬
‫ألنه ال ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين‪ ،‬ألن العبادة عندهم الطاعة‬
‫مع الخضوع‪ ،‬قال اللغوي (‪ )1‬الزجاج وهو من أشهرهم‪" :‬قوله عز وجل‬
‫{إيَّاك نعبُدُ} معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا طريق‬
‫معبّد إذا كان ُمذلالً بكثرة الوطء‪ ،‬و ُمعبّ ٌد إذا كان مطليًا بالقطران‪ ،‬فمعنى‬
‫{إياك نعبد}‪ :‬نُطيع الطاعة التي يخضع معها" اهـ‪ .‬ونقل هذا عنه اللغوي‬
‫الفراء‪ ،‬وقال بعضهم‪:‬‬
‫األزهري (‪ )2‬وهو من كبارهم‪ ،‬وقال مثلهما ّ‬
‫"العبادة أقصى غاية الخشوع والخضوع"‪ ،‬وقال بعض‪" :‬نهاية التذلل" كما‬
‫يفهم ذلك من كالم شارح القاموس محمد مرتضى الزبيدي خاتمة اللغويين‪،‬‬
‫وهذا الذي يستقيم لغةً وعرفًا‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرءان للزجاج‪.‬‬
‫(‪ )2‬تهذيب اللغة (‪.)234/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وليس مجرد التذلل عبادة لغير هللا وإال لكفر ك ّل َمن يتذلل للملوك‬
‫والعظماء‪ ،‬وقد ثبت أن معاذ بن جبل لما قَد َِم من الشام سجد لرسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال له الرسول‪" :‬ما هذا"؟ فقال‪ :‬يا رسول هللا إني‬
‫رأيت أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم‪ ،‬وأنت أولى بذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ءامرا أحدًا أن يسج َد ألح ٍد ألمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها" (‪،)1‬‬ ‫ً‬ ‫"لو كنتُ‬
‫ولم يقل له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كفرت‪ ،‬وال قال له أشركت مع‬
‫ي مظهر كبير من مظاهر التذلل‪ .‬وعن عائشة أن رسول هللا‬ ‫أن سجوده للنب ّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين واألنصار فجاء بعير‬
‫فسجد له فقال أصحابه‪ :‬يا رسول هللا سجد لك البهائم والشجر ونحن أحق‬
‫أن نسجد لك فقال‪ :‬اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم" رواه أحمد (‪ )2‬وإسناده‬
‫جيد‪.‬‬
‫فهؤالء الذين يكفّرون الشخص ألنه قصد قبر الرسول أو غيره من‬
‫للتبرك فهم جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون‪ ،‬ألن‬‫ّ‬ ‫األولياء‬
‫ي‪ ،‬وليس معنى الزيارة‬‫المسلمين سلفًا وخلفًا لم يزالوا يزورون قبر النب ّ‬
‫للتبرك أن الرسول يخلق لهم البركة‪ ،‬بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق هللا‬
‫لهم البركة بزيارتهم لقبره‪.‬‬
‫والدليل على جواز ما قدمنا ما أخرجه البزار (‪ )3‬من حديث عبد هللا بن‬
‫عبّاس عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن هلل مالئكة سيّاحين في‬
‫األرض سوى ال َحفَظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم‬
‫عرجة بأرض فالة فلينادِ‪ :‬أعينوا عباد هللا"‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البيهقي في سننه (‪ )291-292/7‬وأخرجه ابن ماجه في‬
‫سننه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب حق الزوج على المرأة‪ ،‬وقال الحافظ‬
‫البوصيري في المصباح (‪ :)324/1‬رواه ابن حبان في‬
‫صحيحه‪ ،‬وقال السندي‪ :‬كأنه يريد أنه صحيح اإلسناد‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وانظر اإلحسان (‪.)186-187/6‬‬
‫(‪ )2‬مسند أحمد (‪.)76/6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬كشف األستار عن زوائد البزار (‪.)34/4‬‬


‫قال الحافظ الهيثمي(‪" :)1‬رواه الطبراني ورجاله ثقات"‪ ،‬وحسنه الحافظ‬
‫عا –أي أنه من قول الرسول‪ -‬وأخرجه الحافظ‬ ‫ابن حجر في أماليه مرفو ً‬
‫عز وج ّل مالئكة سوى‬‫البيهقي (‪ )2‬موقوفًا على ابن عباس بلفظ‪" :‬إن هلل ّ‬
‫الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض‬
‫فالة فلينادِ‪ :‬أعينوا عباد هللا يرحمكم هللا تعالى"‪ .‬والرواية األولى تقوي ما‬
‫ورد بمعناها من بعض الروايات التي في إسنادها ضعف‪ ،‬وقد تقرر عند‬
‫علماء الحديث أن الضعيف يعمل به في فضائل األعمال والدعوات‬
‫والتفسير‪ ،‬كما ذكر الحافظ البيهقي في المدخل‪.‬‬
‫ضا بإسناد صحيح عن مالك الدار –وكان خازن‬ ‫وروى البيهقي (‪ )3‬أي ً‬
‫عمر‪ -‬قال‪" :‬أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل إلى قبر النبي‬
‫ق ألمتك فإنهم قد هلكوا‪ ،‬فأتاه‬
‫صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا استس ِ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في المنام فقال‪ :‬إيت عمر فأقرئه مني‬
‫السالم وأخبره أنهم يسقون وقل له‪ :‬عليك بالكيس الكيس (‪ ،)4‬فأتى الرجل‬
‫فأخبر عمر فقال‪" :‬يا ربّ ما ءالوا إال ما عجزت (‪ ")5‬اهـ‪.‬‬
‫ي قد‬
‫وهذا الرجل هو بالل بن الحارث المزني الصحابي‪ ،‬فهذا الصحاب ُّ‬
‫قصد قبر الرسول للتبرك فلم ينكر عليه عمر وال غيره‪.‬‬
‫_____________‬
‫مجمع الزوائد (‪.)132/10‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شعب اإليمان (‪.)445/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫دالئل النبوة (‪ ،)47/7‬وانظر البداية والنهاية (‪،)91-92/7‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تاريخ مدينة دمشق (‪ 345/44‬و‪.)489/56‬‬
‫أي باالجتهاد بالسعي لخدمة األمة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أي ال أقصر إال ما عجزتُ عنه أي سأفعل ما في ُوسعي لخدمة‬ ‫(‪)5‬‬
‫األمة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وروى ابن أبي‬
‫شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح الس ّمان عن مالك (‪ )2‬الدار قال‪:‬‬
‫أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا استسق ألمتك فإنهم قد هلكوا‪ ،‬فأُتي الرجل في‬
‫ت عمر‪ ...‬الحديث‪ .‬وقد روى سيف في الفتوح أن الذي‬ ‫المنام فقيل له‪ :‬ائ ِ‬
‫رأى المنام المذكور هو بالل بن الحارث المزني أحد الصحابة" اهـ‪.‬‬
‫عس المدينة ذات ليلة‬
‫وقال ابن كثير (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وقد روينا أن عمر َّ‬
‫الناس في منازلهم على‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يتحدث‬ ‫عام الرمادة فلم يجد أحدًا يضحكُ ‪ ،‬وال‬
‫ير سائالً يسأل‪ ،‬فسأل عن سبب ذلك فقيل له‪ :‬يا أمير المؤمنين‬ ‫العادة‪ ،‬ولم ّ‬
‫إن السؤَّا َل سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال‪ ،‬والناس في ه ّم وضيق فهم ال‬ ‫َّ‬
‫يتحدثون وال يضحكون‪ .‬فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه‬
‫أل ّمة محمد‪ ،‬وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن يا غوثاه أل ّمة محمد‪،‬‬
‫فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُ ّر وسائر األطعمات‪،‬‬
‫ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدّة ومن جدّة إلى مكة‪ .‬وهذا األثر‬
‫جيّد اإلسناد" اهـ‪ .‬وهذا فيه الر ُّد على ابن تيمية لقوله إنه ال يجوز التوسل‬
‫ي الحاضر‪ ،‬فهذا عمر بن الخطاب استغاث بأبي موسى وعمرو بن‬ ‫إال بالح ّ‬
‫العاص وهما غائبان‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪.)495-496/2‬‬
‫(‪ )2‬قول بعض الوهابية إن مالك الدار مجهول يرده أن عمر ال يتخذ‬
‫خازنًا إال خازنًا ثقة ومحاولتهم لتضعيف هذا الحديث بعدما‬
‫لغو ال يلتفت إليه‪ ،‬وقال الحافظ الخليلي‬
‫صححه الحافظ ابن حجر ٌ‬
‫في كتابه عن مالك الدار متفق عليه‪.‬‬
‫(‪ )3‬البداية والنهاية (‪.)90/7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سيف بن عمر‪ ،‬عن سهل بن‬ ‫ُ‬ ‫ثم يقول في الصحيفة التي تليها‪" :‬وقال‬
‫يوسف السلمي‪ ،‬عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال‪ :‬كان عام الرمادة‬
‫وأول سنة ثماني عشرة أصاب أهل المدينة وما‬ ‫في ءاخر سنة سبع عشرة ّ‬
‫حولها جوع فهلك كثير من الناس حتى جعلت الوحش تأوي إلى اإلنس‪،‬‬
‫وعمر كالمحصور عن أهل األمصار حتى أقبل بالل بن‬ ‫ُ‬ ‫فكان الناس بذلك‬
‫الحارث المزني فاستأذن على عمر فقال‪ :‬أنا رسو ُل رسول هللا إليك‪ ،‬يقول‬
‫زلت على ذلك‬ ‫َ‬ ‫سا‪ ،‬وما‬
‫لك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لقد عهدتك كيّ ً‬
‫فما شأنك"‪ .‬قال‪ :‬متى رأيت هذا؟ قال‪ :‬البارحة‪ ،‬فخرج فنادى في النّاس‬
‫قام فقال‪ :‬أيُّها الناس أنشدكم هللا هل‬ ‫الصالة جامعة‪ ،‬فصلّى بهم ركعتين ث ّم َ‬
‫إن بالالً بن الحارث‬ ‫تعلمون منّي ً‬
‫أمرا غيره خير منه فقالوا‪ :‬الله ّم ال‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫يزعم ذيْت وذَيْت (‪ .)1‬قالوا‪ :‬صدق بالل فاستغث باهلل ث َّم بالمسلمين‪ ،‬فبعث‬
‫محصورا‪ ،‬فقال عمر‪ :‬هللا أكبر‪ ،‬بلغ البال ُء م َّدتَه‬
‫ً‬ ‫عمر عن ذلك‬‫ُ‬ ‫إليهم وكان‬
‫فانكشف‪ ،‬ما أُذن لقوم في الطلب إال وقد رفع عنهم األذى والبالء‪ .‬وكتب‬
‫إلى أمراء األمصار أن أغيثوا أهل المدينة و َمن حولها‪ ،‬فإنه قد بلغ جهدهم‪،‬‬
‫وأخرج الناس إلى االستسقاء‪ ،‬فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب‬
‫إياك نعبد وإياك‬ ‫ماشيًا‪ ،‬فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال‪ :‬اللهم َ‬
‫وارض عنا‪ ،‬ثم انصرف‪ ،‬فما بلغوا‬ ‫َ‬ ‫نستعين‪ ،‬اللهم اغفر لنا وارحمنا‬
‫المنازل راجعين حتى خاضوا الغدران‪.‬‬
‫سيف عن مبشر بن الفضيل‪ ،‬عن جبير بن صخر‪ ،‬عن عاصم‬ ‫ٌ‬ ‫ثم روى‬
‫بن عمر بن الخطاب أن رجالً من مزينة عام الرمادة سأله أهلُه أن يذبح‬
‫حمر‬
‫ٌ‬ ‫فيهن شئ‪ ،‬فألحوا عليه فذبح شاة ً فإذا عظامها‬‫ّ‬ ‫لهم شاة ً فقال‪ :‬ليس‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫فقال‪ :‬يا مح ّمداه‪ .‬فل ّما أمسى أ ُ ِر َ‬
‫ي في المنام َّ‬
‫وسلم يقول له‪" :‬أبشر بالحياة‪ ،‬ائت عمر فأقرئه مني السالم وقل له‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫ي العه ِد شدي َد العق ِد فالكيس الكيس يا عمر"‪ ،‬فجاء حتى أتى‬ ‫عهدي بك وف ّ‬
‫باب عمر فقال لغالمه‪ :‬استأذن لرسول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬ ‫َ‬
‫فأتى عمر‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬معناه كيت وكيت‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فأخبرهُ‪ ،‬ففزع ث ّم صعد عمر المنبر فقال للناس‪ :‬أنشدكم هللا الذي هداكم‬
‫لإلسالم هل رأيتم مني شيئًا تكرهونه؟ فقالوا‪ :‬اللهم ال‪ ،‬وع َّم ذاك؟ فأخبرهم‬
‫بقول المزني –وهو بالل بن الحارث‪ -‬ففطنوا ولم يفطن‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنما‬
‫ق بنا‪ ،‬فنادى في الناس فخطب فأوجز ث َّم‬ ‫االستسقاء فاستس ِ‬
‫ِ‬ ‫استبطأك في‬
‫أنصارنا وعجز عنّا حولنا‬ ‫ُ‬ ‫ت عنّا‬
‫صلى ركعتين فأوجز ث َّم قال‪ :‬اللهم عجزَ ْ‬
‫وقوتنا وعجزت عنّا أنفسنا‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك‪ ،‬اللهم اسقنا وأحي ِ‬
‫العبا َد والبال َد‪.‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البيهقي‪ :‬أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر‬
‫الفارسي قاال‪ :‬حدّثنا أبو عمرو بن مطر‪ ،‬حدّثنا إبراهيم بن علي الذهلي‪،‬‬
‫حدثنا يحيى بن يحيى‪ ،‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح عن‬
‫الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رج ٌل‬ ‫َ‬ ‫أصاب‬
‫َ‬ ‫مالك الدار قال‪:‬‬
‫إلى قبر النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا استسق أل ّمتك فإنهم‬
‫قد هلكوا‪ ،‬فأتاهُ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في المنام فقال‪" :‬ائت عمر‬
‫فأقرئهُ مني السالم وأخبرهم أنهم ُمسقون وقل له‪ :‬عليك بالكيس الكيس"‪،‬‬
‫فأتى الرجل فأخبر عمر فقال‪" :‬يا رب ما ءالوا إال ما عجزت عنه" هذا‬
‫إسناد صحيح"‪ .‬انتهى كالم ابن كثير‪ .‬وهذا إقرار منه بصحة هذا الحديث‬
‫من الحافظ ابن كثير‪.‬‬
‫قال الحافظ ولي الدين العراقي (‪ )1‬في شرح حديث‪ :‬أن موسى قال‪:‬‬
‫رب أدنني من األرض المقدسة رمية بحجر وأن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬وهللا لو أني عنده ألريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب‬
‫األحمر" ما نصه‪" :‬وفيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتهم والقيام‬
‫بحقها‪ ،‬وقد ذكر النبي صلى هللا عليه وسلم لقبر السيد موسى عليه السالم‬
‫عالمة هي موجودة في قبر مشهور عند الناس اآلن بأنه قبره‪ ،‬والظاهر أن‬
‫الموضع المذكور هو الذي أشار إليه النبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقد د ّل‬
‫على ذلك حكايات ومنامات‪ ،‬وقال الحافظ الضياء‪ :‬حدثني الشيخ‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬طرح التثريب (‪.)303/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سالم التل قال‪ :‬ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند هذا القبر‪ ،‬وحدثني‬
‫الشيخ عبد هللا بن يونس المعروف باألرمني أنه زار هذا القبر وأنه نام‬
‫فرأى في منامه قبة عنده وفيها شخص أسمر فسلم عليه وقال له‪ :‬أنت‬
‫موسى كليم هللا‪ ،‬أو قال‪ :‬نبي هللا‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقلت‪ :‬قل لي شيئًا‪ ،‬فأومأ إلي‬
‫بأربع أصابع ووصف طولهن‪ ،‬فانتبهت فلم أدر ما قال‪ ،‬فأخبرت الشيخ‬
‫ذياال بذلك فقال‪ :‬يولد لك أربعة أوالد‪ ،‬فقلت‪ :‬أنا قد تزوجت امرأة فلم‬
‫أقربها‪ ،‬فقال‪ :‬تكون غير هذه‪ ،‬فتزوجت أخرى فولدت لي أربعة أوالد"‬
‫انتهى‪.‬‬
‫وابن تيمية هو ّأول من منع التوسل بالنبي عليه السالم كما ذكر ذلك‬
‫سقام (‪ )1‬ونص عبارته‪" :‬اعلم أنه‬ ‫الفقيه علي السبكي في كتابه شفاء ال َّ‬
‫يجوز ويحسن التوسل واالستعانة والتشفّع بالنبي صلى هللا عليه وسلم إلى‬
‫ُ‬
‫وجواز ذلك و ُح ْسنُهُ من األمور المعلومة لكل ذي دين‬ ‫ربّه سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫المعروفة من فعل األنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء‬
‫والعوام من المسلمين‪ ،‬ولم ينكر أحد ذلك من أهل األديان وال سمع به في‬
‫زمن من األزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم في ذلك بكالم يلبس فيه على‬
‫الضعفاء األغمار‪ ،‬وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر األعصار‪ "...‬اهـ‪.‬‬
‫قال بعض أهل العصر في كالم له في الرد على ابن تيمية (‪" :)2‬فَ َ‬
‫س ْعيُهُ‬
‫–يعني ابن تيمية‪ -‬في منع الناس من زيارته صلى هللا عليه وسلم يدل على‬
‫ضغين ٍة كامن ٍة فيه نحو الرسول‪ ،‬وكيف يتصور اإلشراك بسبب الزيارة‬
‫والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقّه عليه السالم أنه عبده‬
‫ورسوله وينطقون بذلك في صلواتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على‬
‫أق ّل تقدير إدام ٍة لذكرى ذلك‪ ،‬ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في‬
‫كل شؤونهم ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬شفاء السقام (ص‪.)160/‬‬
‫(‪ )2‬السيف الصقيل (ص‪.)181-179/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫منهم بدعة في شئ‪ ،‬ولم يعدّوهم في يوم من األيام مشركين بسبب الزيارة‬
‫سل‪ ،‬وكيف وقد أنقذهم هللا من الشرك وأدخل قلوبهم اإليمان‪ ،‬وأول‬ ‫أو التو ّ‬
‫من رماهم باإلشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد‬
‫استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس‪ ،‬ولم يخف ابن تيمية من‬
‫هللا في رواية ع ّد السفر لزيارة النبي صلى هللا عليه وسلم سفر معصية ال‬
‫تقصر فيه الصالة عن اإلمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي‪ ،‬وحاشاه عن ذلك‬
‫–راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته لزيارة المصطفى صلى هللا‬
‫سل به كما هو مذهب الحنابلة‪ -‬وإنما قوله بذلك في السفر‬ ‫عليه وسلم والتو ّ‬
‫إلى المشاهد المعروفة بالعراق لما قارن ذلك من البدع في عهده وفي‬
‫نظره‪ ،‬وإليك نص عبارته في التذكرة المحفوظة بظاهرية دمشق‪ :‬فصل‪:‬‬
‫ويستحب له قدوم مدينة الرسول صلوات هللا عليه فيأتي مسجده فيقول عند‬
‫دخوله‪ :‬بسم هللا الله ّم ص ّل على محمد وعلى ءال محمد‪ ،‬وافتح لي أبواب‬
‫رحمتك‪ ،‬وكف عني أبواب عذابك‪ ،‬الحمد هلل الذي بلغ بنا هذا المشهد‬
‫وجعلنا لذلك أهالً‪ ،‬الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬إلى أن قال‪ :‬واجعل القبر تلقاء‬
‫وجهك وقم مما يلي المنبر وقل‪ :‬السالم عليك أيها النبي ورحمة هللا‬
‫وبركاته‪ ،‬الله ّم ص ّل على محمد وعلى ءال محمد إلى ءاخر ما تقوله في‬
‫التشهد األخير‪ ،‬ثم تقول‪ :‬اللهم أعط محمدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة‬
‫الرفيعة والمقام المحمود الذي وعدته‪ ،‬الله ّم ص ّل على روحه في األرواح‬
‫وجسده في األجساد كما بلّغ رساالتك وتال ءاياتك وصدع بأمرك حتى أتاه‬
‫{ولو أنَّ ُه ْم إذ‬
‫اليقين‪ ،‬الله ّم إنك قلت في كتابك لنبيّك صلى هللا عليه وسلم‪ْ :‬‬
‫توابًا‬
‫هللا َّ‬‫هللا واست َ ْغفَ َر ل ُه ُم الرسو ُل لَ َوجدوا َ‬
‫وك فاست َ ْغ ِفروا َ‬ ‫ظلَموا أ ْنفُ َ‬
‫س ُهم جا ُء َ‬ ‫َ‬
‫مستغفرا فأسألك أن‬‫ً‬ ‫رحي ًما} [سورة النساء‪ ]64/‬وإني قد أتيت نبيّك تائبًا‬
‫توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته‪ ،‬الله ّم إني أتوجه إليك‬
‫ي الرحمة‪ ،‬يا رسول هللا إني أتوجه بك إلى‬ ‫بنبيّك صلى هللا عليه وسلم نب ّ‬
‫ربي ليغفر لي ذنوبي‪ ،‬الله ّم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي‪ ،‬الله ّم‬
‫اجعل محمدًا ّأول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم األولين واآلخرين‪ ،‬الله ّم‬
‫كما ءامنا به ولم نره وصدقناه ولم نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته‬
‫وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربًا صافيًا رويًّا سائغًا هنيًا ال نظمأ بعده‬
‫أبدًا‪ ،‬غير خزايا وال ناكثين وال مارقين وال مغضوبًا علينا وال ضالّين‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واجعلنا من أهل شفاعته‪ .‬ثم تقدم عن يمينك فقل‪ :‬السالم عليك يا أبا بكر‬
‫الصدّيق‪ ،‬السالم عليك يا عمر الفاروق‪ ،‬الله ّم اجزهما عن نبيهما وعن‬
‫سبَقونا باإليمان} [سورة‬
‫خيرا‪{ ،‬ربَّنا اغ ِف ْر لنا وإلخوانِنا الذينَ َ‬
‫اإلسالم ً‬
‫الحشر‪ ]10/‬اآلية‪ .‬وتصلي بين القبر والمنبر في الروضة‪ ،‬وإن أحببت‬
‫تس ّمح بالمنبر وبالحنانة وهو الجذع الذي كان يخطب عليه صلى هللا عليه‬
‫حن إليه كحنين الناقة‪ .‬وتأتي مسجد قباء فتصلي ألن‬ ‫وسلم فلما اعتزل عنه ّ‬
‫ت قبور‬‫النبي صلى هللا عليه وسلم كان يقصده فيصلي فيه‪ ،‬وإن أمكنك فأ ِ‬
‫الشهداء وزرهم وأ ْك ِثر من الدعاء في تلك المشاهد حتى كأنك إلى مواقفهم‪،‬‬
‫واصنع عند الخروج ما صنعت عند الدخول" اهـ‪.‬‬
‫وابن عقيل هذا من أساطين الحنابلة قال ابن تيمية عن كتابه عمدة األدلة‬
‫له إنه من الكتب المعتمدة في المذهب‪ ،‬ويقال عن كتابه المسمى بالفنون إنه‬
‫في ثمانمائة مجلد‪.‬‬
‫ضا على جواز التوسل باألنبياء والصالحين حديث أبي‬ ‫ومن الدليل أي ً‬
‫وغيره‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سنه الحافظ ابن حجر في نتائج األفكار (‪)1‬‬‫سعيد الخدري الذي ح ّ‬
‫قال‪" :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إذا خرج الرجل من بيته إلى‬
‫الصالة فقال‪ :‬الله ّم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا‪ ،‬فإني‬
‫بطرا وال ريا ًء وال سمعة‪ ،‬خرجت اتقاء سخطك وابتغاء‬ ‫أشرا وال ً‬‫لم أخرج ً‬
‫مرضاتك‪ ،‬أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي‪ ،‬إنه ال يغفر‬
‫الذنوب إال أنت‪ ،‬و ّكل هللا به سبعين ألف ملك يستغفرون له‪ ،‬وأقبل هللا عليه‬
‫بوجهه حتى يقضي صالته"‪.‬‬
‫قال الحافظ الخطيب البغدادي (‪ )2‬وهو الذي قيل فيه‪ :‬إن المؤلفين في‬
‫كتب الحديث دراية عيال على كتبه‪ ،‬ما نصه‪" :‬أخبرنا القاضي أبو محمد‬
‫الحسن بن الحسين بن محمد بن رامين األسترباذي‪ ،‬قال‪ :‬أنبأنا أحمد بن‬
‫جعفر بن حمدان القطيعي قال‪ :‬سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬نتائج األفكار في تخريج أحاديث األذكار‪( .‬مخطوط)‪.‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ بغداد (‪.)122-125/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الخالل يقول‪ :‬ما ه ّمني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر فتوسلت به إال‬
‫سهل هللا تعالى لي ما أحبّ ‪.‬‬
‫سلَمي‬
‫الحيري قال‪ :‬أنبأنا محمد بن الحسين ال ُّ‬
‫أخبرنا إسماعيل بن أحمد ِ‬
‫قال‪ :‬سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول‪ :‬سمعت أبا علي الصفار يقول‪:‬‬
‫سمعت إبراهيم الحربي يقول‪ :‬قبر معروف الترياق الم ّج ّرب‪.‬‬
‫أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي قال‪ :‬نبأنا أبو الفضل عبيد‬
‫هللا بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قال‪ :‬سمعت أبي يقول‪ :‬قبر معروف‬
‫هو‬
‫مجرب لقضاء الحوائج‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه من قرأ عنده مائة مرة {قل َ‬‫ّ‬ ‫الكرخي‬
‫هللاُ أحدٌ} [سورة اإلخالص‪ ]1/‬وسأل هللا تعالى ما يريد قضى هللا له حاجته‪.‬‬
‫حدثنا أبو عبد هللا محمد بن علي بن عبد هللا الصوري قال‪ :‬سمعت أبا‬
‫الحسين محمد بن أحمد بن جميع يقول‪ :‬سمعت أبا عبد هللا بن المحاملي‬
‫يقول‪ :‬أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة‪ ،‬ما قصده مهموم إال‬
‫فرج هللا ه ّمه‪.‬‬
‫ّ‬
‫أخبرنا القاضي أبو عبد هللا الحسين بن علي بن محمد الصيمري قال‪:‬‬
‫أنبأنا عمر بن إبراهيم المقري قال‪ :‬نبأنا مكرم بن أحمد قال‪ :‬نبأنا عمر بن‬
‫إسحاق بن إبراهيم قال‪ :‬نبأنا علي بن ميمون قال‪ :‬سمعت الشافعي يقول‪:‬‬
‫زائرا‪ -‬فإذا‬
‫ً‬ ‫ألتبرك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم –يعني‬
‫ّ‬ ‫إني‬
‫عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت هللا تعالى‬
‫الحاجة عنده‪ ،‬فما تبعد عني حتى تقضى‪.‬‬
‫ضا جماعة من أهل الفضل‪ ،‬وعند المصلى‬ ‫ومقبرة باب البردان فيها أي ً‬
‫المرسوم بصالة العيد كان قبر يعرف بقبر النذور ويقال‪ :‬إن المدفون فيه‬
‫يتبرك الناس بزيارته‪،‬‬
‫رجل من ولد علي بن أبي طالب رضي هللا عنه ّ‬
‫ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته‪.‬‬
‫حدّثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال‪ :‬حدثني أبي‬
‫سا بحضرة عضد الدولة ونحن مخيمون بالقرب من مصلى‬ ‫قال‪ :‬كنت جال ً‬
‫األعياد في الجانب الشرقي من مدينة السالم نريد الخروج معه إلى همذان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫في أول يوم نزل المعسكر‪ ،‬فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور‬
‫فقال لي‪ :‬ما هذا البناء؟ فقلت‪ :‬هذا مشهد النذور‪ ،‬ولم أقل قبر لعلمي بطيرته‬
‫من دون هذا‪ ،‬واستحسن اللفظة وقال‪ :‬قد علمت أنه قبر النذور‪ ،‬وإنما‬
‫أردت شرح أمره‪ ،‬فقلت‪ :‬هذا يقال إنه قبر عبيد هللا بن محمد بن عمر بن‬
‫علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه قبر عبيد هللا بن محمد‬
‫وإن بعض الخلفاء أراد قتله خفيًّا‪ ،‬فجعلت‬ ‫بن عمر بن علي بن أبي طالب‪ّ ،‬‬
‫سيّؤ عليها وهو ال يعلم‪ ،‬فوقع فيها وأهيل عليه التراب حيًّا‪،‬‬ ‫له هناك ُز ْب َيةً و ُ‬
‫وإنما شهر بقبر النذور ألنه ما يكاد ينذر له نذر (‪ )1‬إال صح وبلغ الناذر‬
‫مرارا ولزمني النذر‬
‫ً‬ ‫ما يريد ولزمه الوفاء بالنذر‪ ،‬وأنا أحد من نذر له‬
‫فوفيت به‪ ،‬فلم يتقبّل هذا القول وتكلّم بما د ّل أن هذا إنما يقع منه اليسير‬
‫اتفاقًا‪ ،‬فيتسوق العوام بأضعافه‪ ،‬ويسيرون األحاديث الباطلة فيه‪ ،‬فأمسكت‪،‬‬
‫فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا استدعاني في غدوة‬
‫يوم وقال‪ :‬اركب معي إلى مشهد النذور‪ ،‬فركبت وركب في نفر من‬
‫حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع‪ ،‬فدخله وزار القبر وصلى عنده‬
‫ركعتين سجد بعدهما سجدة أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد‪ ،‬ثم ركبنا‬
‫معه إلى خيمته وأقمنا فيها أيا ًما‪ ،‬ثم رحل ورحلنا معه يريد همذان‪ ،‬فبلغناها‬
‫شهورا‪ ،‬فلما كان بعد ذلك استدعاني وقال لي‪ :‬ألست تذكر‬ ‫ً‬ ‫وأقمنا فيها معه‬
‫ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد فقلت‪ :‬بلى‪ ،‬فقال‪ :‬إني خاطبتك‬
‫في معناه بدون ما كان في نفسي اعتمادًا إلحسان عشرتك‪ ،‬والذي كان في‬
‫نفسي في الحقيقة أن جميع ما يقال فيه كذب‪ ،‬فلما كان بعد ذلك بمديدة‬
‫طرقني أمر خشيت أن يقع ويتم‪ ،‬وأعملت فكري في االحتيال لزواله ولو‬
‫بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري‪ ،‬فلم أجد لذلك فيه مذهبًا‪،‬‬
‫فذكرت ما أخبرتني به في النذر لقبر النذور‪،‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬معنى النذر هنا أنه ينذر التصدق لوجه هللا عن صاحب القبر ال‬
‫أنه ينذر للقبر أو لصاحبه‪.‬‬
‫أجرب ذلك‪ ،‬فنذرت إن كفاني هللا تعالى ذلك األمر أن أحمل‬
‫لم ال ّ‬
‫فقلت‪َ :‬‬
‫إلى صندوق هذا المشهد عشرة ءاالف درهم صحا ًحا‪ ،‬فلما كان اليوم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جاءتني األخبار بكفايتي ذلك األمر‪ ،‬فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن‬
‫يوسف –يعني كاتبه‪ -‬أن يكتب إلى أبي الريان وكان خليفته ببغداد يحملها‬
‫حاضرا‪ ،‬فقال له عبد العزيز‪:‬‬
‫ً‬ ‫إلى المشهد‪ ،‬ثم التفت إلى عبد العزيز وكان‬
‫قد كتبت بذلك ونفذ الكتاب" اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر (‪" :)1‬حدثني الشيخ الصالح األصيل‬
‫أبو عبد هللا محمد بن محمد بن عمر [ابن] الصفار اإلسفرايني أن قبر أبي‬
‫ومتبرك الخلق" اهـ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫زار العالم‬
‫عوانة بإسفراين (‪َ )2‬م ُ‬
‫وفي هذا مع ما حصل من بالل بن الحارث من قصد قبر الرسول‬
‫للتبرك واالستعانة به بيان لما كان عليه السلف والخلف من قصد قبور‬
‫األنبياء والصالحين للتبرك‪ ،‬وأنهم كانوا يرون ذلك عمالً حسنًا‪ ،‬وفي ذلك‬
‫نقض زعم ابن تيمية وابن قيّم الجوزية أن زيارة القبر للتبرك شرك‪ ،‬وفي‬
‫ضا بيان واضح أن هذا كان عمل المسلمين بال نكير‪ ،‬إنما التشويش‬ ‫ذلك أي ً‬
‫على المتبركين جاء من ابن تيمية وأتباعه‪ ،‬ولو تتبعنا شواهد ذلك من كتب‬
‫المحدثين وغيرهم لطال الكالم جدًا‪ ،‬وهذا الحافظ ابن عساكر كان شسخ‬
‫بر الشام كله‪.‬‬
‫المحدثين في عصره في ّ‬
‫وقد قال اإلما ُم مالك للخليفة المنصور لما ح ّج وزار قبر النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم وسأل مال ًكا قائالً‪" :‬يا أبا عبد هللا أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل‬
‫ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ قال‪َ :‬‬
‫ووسيلة أبيك ءادم عليه السالم إلى هللا تعالى؟ بل استقبله واستشفع به‬
‫فيشفعه هللا"‪ .‬ذكره القاضي عياض في الشفا (‪ )3‬وساقه بإسناد صحيح‪،‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬وفيات األعيان (‪.)394/6‬‬
‫(‪ )2‬بُليدة حصينة من نواحي نيسابور‪ ،‬معجم البلدان (‪.)177/1‬‬
‫(‪ )3‬الشفا بتعريف حقوق المصطفى (‪.)92-93/2‬‬
‫والسيد السمهودي في خالصة الوفا‪ ،‬والقسطالني في المواهب اللدنية‪،‬‬
‫وابن حجر الهيتمي في الجوهر المنظم‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد روى البيهقي في دالئل النبوة (‪ :)1‬عن عمر رضي هللا عنه قال‪:‬‬
‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لما اقترف ءادم الخطيئة قال‪ :‬يا رب‬
‫بحق محمد إال ما غفرت لي‪ ،‬فقال هللا عز وجل‪ :‬يا ءادم كيف‬ ‫ّ‬ ‫أسألك‬
‫ي من‬‫عرفت محمدًا ولم أخلقه‪ ،‬قال‪ :‬ألنك يا ربّ لما خلقتني بيدك ونفخت ف ّ‬
‫روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا‪ :‬ال إله إال هللا محمد‬
‫رسول هللا‪ ،‬فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إال أحبّ الخلق إليك" الحديث‪،‬‬
‫ورواه الحاكم (‪ )2‬وصححه‪ ،‬ووصفه السبكي بأنه جيد (‪ ،)3‬وأخرجه‬
‫الطبراني في األوسط (‪ )4‬والصغير (‪.)5‬‬
‫وروى البخاري في كتاب األدب المفرد (‪ )6‬عن عبد الرحمن بن سعد‬
‫قال‪" :‬خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل‪ :‬اذكر أحبّ الناس إليك فقال‪ :‬يا‬
‫محمدُ‪ ،‬فذهب خدر رجله" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب الحكايات المنثورة للحافظ الضياء المقدسي الحنبلي‪ ،‬أنه سمع‬
‫الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول‪ :‬إنه خرج في عضده شئ يشبه‬
‫ال ُّد َّمل فأعيته مداواته‪ ،‬ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه‪،‬‬
‫وهذا الكتاب بخط الحافظ المذكور محفوظ بظاهرية دمشق‪.‬‬
‫_________‬
‫دالئل النبوة (‪.)489/5‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب التاريخ (‪.)615/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر شفاء األسقام (ص‪.)163/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )253/8‬وقال‪ :‬وفيه من لم‬ ‫(‪)4‬‬
‫أعرفهم‪.‬‬
‫المعجم الصغير (ص‪.)355/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫األدب المفرد (ص‪.)324/‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وأخرج أحمد في المسند (‪ )1‬بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر (‪)2‬‬
‫أن الحارث بن حسان البكري قال لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أعوذ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫باهلل ورسوله أن أكون كوافد عاد"‪ .‬ولفظ الحديث كما في مسند أحمد‪ :‬حدثنا‬
‫عبد هللا حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب قال حدثني أبو المنذر سالم بن‬
‫سليمان النحوي قال ثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث‬
‫بن يزيد البكري (‪ )3‬قال‪ :‬خرجت أشكو العالء بن الحضرمي إلى رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فمررت بالربذة (‪ )4‬فإذا عجوز من بني تميم‬
‫ُمنقطع بها‪ ،‬فقالت لي‪ :‬يا عبد هللا إن لي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫حاجة فهل أنت مبلغي إليه‪ ،‬قال‪ :‬فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص‬
‫بأهله‪ ،‬وإذا راية سوداء تخفق وبالل متقلّد السيف بين يدي رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فقلت‪ :‬ما شأن الناس‪ ،‬قالوا‪ :‬يريد أن يبعث عمرو بن‬
‫العاص وج ًها‪ ،‬قال‪ :‬فجلست‪ ،‬قال‪ :‬فدخل منزله أو قال‪ :‬رحله‪ ،‬فاستأذنت‬
‫عليه فأذن لي فدخلت فسلّمت‪ ،‬فقال‪ :‬هل كان بينكم وبين بني تميم شئ‪،‬‬
‫قال‪ :‬فقلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وكانت لنا الدبرة (‪ )5‬عليهم‪ ،‬ومررت بعجوز من‬
‫بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك‪ ،‬وهذا هي بالباب‪ ،‬فأذن لها‬
‫ً‬
‫حاجزا‬ ‫فدخلت‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم‬
‫فاجعل الدهناء (‪ ،)6‬فحميت العجوز واستوفزت (‪ )7‬قالت‪ :‬يا رسول هللا‬
‫فإلى أين‬
‫_____________‬
‫مسند أحمد (‪.)481-482/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فتح الباري (‪.)579/8‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سان البكري ويسمة الحارث بن يزيد البكري كما‬ ‫الحارث بن ح ّ‬ ‫(‪)3‬‬
‫في اإلصابة للحافظ ابن حجر العسقالني اإلصابة (‪.)277/1‬‬
‫هيي قرية كانت عامرة ٌ في صدر اإلسالم وبها قبر أبي ذر‬ ‫(‪)4‬‬
‫الغفاري وجماعة من الصحابة‪ .‬وهي عن المدينة في جهة الشرق‬
‫(معجم البلدان ‪.)24/3‬‬
‫أي الغلبة‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫أرض في جزيرة العرب (معجم البلدان ‪.)493/2‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫أي جلست جلوس المستوفز كالذي يجلس على أصابع قدميه وركبتيه بشكل يكون قريبا من القيام‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تضطر مضرك (‪)1‬؟ قال‪ :‬قلت إنما مثلي ما قال األول‪ :‬معزاء حملت‬
‫حتفها‪ ،‬حملت هذه وال أشعر أنها كانت لي خص ًما‪ ،‬أعوذ باهلل ورسوله أن‬
‫أكون كوافد عاد‪ ،‬قال‪" :‬هيه وما وافد عاد"؟ ‪-‬وهو أعلم بالحديث منه ولكن‬
‫يستطعمه (‪ -)2‬قلت‪ :‬إن عادًا قحطوا (‪ )3‬فبعثوا وافدًا لهم يقال له قيل‪،‬‬
‫شهرا يسقيه وتغنيه جاريتان يقال لهما‬‫ً‬ ‫فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده‬‫ّ‬
‫الجرادتان‪ ،‬فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة فنادى‪ :‬الله ّم إنك تعلم‬
‫أني لم أجئ إلى مريض فأداويه وال إلى أسير فأفاديه‪ ،‬اللهم اسق عادًا ما‬
‫كنت تسقيه‪ ،‬فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر‪ ،‬فأومأ إلى سحابة‬
‫منها سوداء فنودي منها‪ :‬خذها رمادًا رمددًا (‪ )4‬ال تبقي من عاد أحدًا‪،‬‬
‫قال‪ :‬فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إال قدر ما يجري في خاتمي هذا‬
‫حتى هلكوا‪ .‬قال أبو وائل‪ :‬وصدق‪ ،‬قال‪ :‬فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا‬
‫وافدًا لهم قالوا‪ :‬ال تكن كوافد عاد" اهـ‪.‬‬
‫فماذا يقول هؤالء الجاعلون التوسل بالنبي شر ًكا في إيراد أحمد بن‬
‫مقررا للشرك أم ماذا يقولون؟‬
‫ً‬ ‫حنبل لهذا الحديث أيجعلونه‬
‫قال ابن الحاج المالكي المعروف بإنكاره للبدع في كتابه المدخل (‪ )5‬ما‬
‫نصه‪" :‬فالتوسل به عليه الصالة والسالم هو محل حط أحمال األوزار‬
‫وأثقال الذنوب والخطايا ألن بركة شفاعته عليه الصالة والسالم وعظمها‬
‫عند ربه ال يتعاظمها ذنب‪ ،‬إذ إنها أعظم من الجميع‪ ،‬فليستبشر من زاره‬
‫ويلجأ إلى هللا تعالى بشفاعة نبيه عليه الصالة‬
‫______________‬
‫معناه إلى من تلجأ مضرك أي أبناء قبيلتك التي أنت منها‪،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫تستعطفه‪.‬‬
‫أي يريده أن يظهر معرفته‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أي انقطع عنهم المطر‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مطرا بل تحمل‬
‫ً‬ ‫معناه هذه السحابة ال رحمةً لكم فيها ال تحمل‬ ‫(‪)4‬‬
‫هالككم‪.‬‬
‫المدخل (‪.)259-260/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والسالم َم ْن لم يزره‪ ،‬اللهم ال تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك‪ .‬ءامين يا‬


‫رب العالمين‪.‬‬
‫{ولو‬
‫ومن اعتقد خالف هذا فهو المحروم‪ ،‬ألم يسمع قول هللا عز وجل‪ْ :‬‬
‫هللا واست َ ْغفَ َر له ُم الرسو ُل لوجدوا‬
‫وك فاست َ ْغفَروا َ‬
‫س ُهم جا ُء َ‬ ‫أنَّ ُهم إذ َّ‬
‫ظلموا أنفُ َ‬
‫سل به‬‫توابًا رحي ًما} [سورة النساء‪ .]64/‬فمن جاءه ووقف ببابه وتو ّ‬ ‫هللا َّ‬
‫َ‬
‫منزه عن ُخ ْلف الميعاد وقد وعد‬ ‫وجد هللا توابًا رحي ًما‪ ،‬ألن هللا عز وجل ّ‬
‫سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه‪ ،‬فهذا ال‬
‫يشك فيه وال يرتاب إال جاحد للدين معاند هلل ولرسوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬نعوذ باهلل من الحرمان" انتهى كالم ابن الحاج‪.‬‬
‫وأخرج الطبراني في معجميه الكبير (‪ )1‬والصغير (‪ )2‬عن عثمان بن‬
‫ُحنيف أن رجالً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان‬
‫ال يلتفت إليه وال ينظر في حاجته‪ ،‬فلقي عثمان بن ُحنَيف فشكى ذلك إليه‬
‫فقال له عثمان بن حنيف‪ :‬ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فص ّل فيه‬
‫ي الرحمة‪ ،‬يا‬ ‫بنبيك محم ٍد نب ّ‬
‫َ‬ ‫أسألك وأتوجهُ َ‬
‫إليك‬ ‫َ‬ ‫ركعتين ثم قل‪" :‬اللهم إني‬
‫بك إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي" وتذكر حاجتك‬ ‫محم ُد إني أتوجهُ َ‬
‫ي حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى‬ ‫ورح إل ّ‬
‫اب حتى أخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان‬ ‫البو ُ‬
‫عثمان بن عفان‪ ،‬فجاء ّ‬
‫فأجلسه معه على الطنفسة‪ ،‬وقال‪ :‬ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم‬
‫قال له‪ :‬ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة وقال له‪ :‬ما كان لك‬
‫حاجة فأتنا‪ ،‬ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن ُحنيف فقال له‪:‬‬
‫ي‪،‬‬‫ي حتى كلّمتَه ف ّ‬ ‫خيرا ما كان ينظر في حاجتي وال يلتفت إل ّ‬‫جزاك هللا ً‬
‫فقال عثمان بن حنيف‪ :‬وهللا ما كلّمته ولكن شهدت رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬أو تصبر" فقال‪ :‬يا رسول هللا إنه ليس لي قائد‬
‫________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير (‪.)17-18/9‬‬
‫(‪ )2‬المعجم الصغير (ص‪.)201-201/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ت الميضأة فتوضأ ثم ص ّل ركعتين ثم ادع‬ ‫ي‪ ،‬فقال له النبي‪" :‬ائ ِ‬ ‫وقد ّ‬


‫شق عل ّ‬
‫بهذه الدعوات"‪ ،‬قال عثمان بن حنيف‪ :‬فوهللا ما تفرقنا وال طال بنا الحديث‬
‫ضر قط‪ .‬قال الطبراني‪ :‬والحديث‬ ‫حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ٌّ‬
‫صحيح‪.‬‬
‫سل بالنبي صلى هللا عليه وسلم في غير‬ ‫ففيه دليل على أن األعمى تو ّ‬
‫حضرته‪ ،‬بل ذهب إلى الميضأة فتوضأ وصلّى ودعا باللفظ الذي علمه‬
‫رسول هللا‪ ،‬ثم دخل على النبي صلى هللا عليه وسلم والنبي لم يفارق مجلسه‬
‫لقول راوي الحديث عثمان بن ُحنيف‪ :‬فوهللا ما تفرقنا وال طال بنا المجلس‬
‫ضر قط (‪.)1‬‬‫حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ٌّ‬
‫فإن قيل‪ :‬إن الطبراني لم يصحح بقوله‪" :‬والحديث صحيح" إال األصل‬
‫عا‪ ،‬وأ ّما ما حصل بين‬
‫ي واألعمى ويسمى مرفو ً‬ ‫وهو ما حصل بين النب ّ‬
‫عثمان بن ُحنيف وذلك الرجل فال يسمى حديثًا ألنه حصل بعد النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم وإنما يس ّمى موقوفًا‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن علماء الحديث يطلقون الحديث على المرفوع والموقوف‪،‬‬
‫نص على ذلك غير واحد منهم كابن حجر العسقالني (‪ )2‬وابن‬‫وقد ّ‬
‫الصالح (‪ ،)3‬ففي كتاب فتاوى الرملي (‪ )4‬ما نصه‪" :‬سئل عن تعريف‬
‫األثر فأجاب‪ :‬إن تعريف األثر عند المحدثين هو الحديث سواء أكان‬
‫عا أو موقوفًا وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف" اهـ‪ .‬فدعوى‬
‫مرفو ً‬
‫األلباني وبعض تالمذته وحملهم قول الطبراني‪" :‬والحديث صحيح" على‬
‫ما حصل لألعمى مع رسول هللا دون ما حصل للرجل مع عثمان بن‬
‫ُحنيف دعوى باطلة مخالفة لقواعد االصطالح‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير للطبراني (‪ ،)17-18/9‬والمعجم الصغير‬
‫(ص‪ .)202-201/‬قال الطبراني‪ :‬والحديث صحيح‪.‬‬
‫(‪ )2‬تدريب الراوي (‪.)42/1‬‬
‫(‪ )3‬مقدمة ابن الصالح في علوم الحديث (ص‪.)23/‬‬
‫فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى البن حجر الهيتمي (‪.)371/4‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال المناوي (‪ )1‬في حديث‪" :‬اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد‬
‫مقصورا على‬
‫ً‬ ‫نبي الرحمة" ما نصه‪" :‬قال ابن عبد السالم‪ :‬ينبغي كونه‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم وأن ال يقسم على هللا بغيره من األنبياء‬
‫خص به‪ ،‬قال‬ ‫ّ‬ ‫والمالئكة واألولياء ألنهم ليسوا في درجته‪ ،‬وأن يكون مما‬
‫السبكي‪ :‬يحسن التوسل واالستعانة والتشفع بالنبي إلى ربه‪ ،‬ولم ينكر ذلك‬
‫أحد من السلف وال الخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن‬
‫الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم قبله وصار بين أهل اإلسالم ُمثْلَةً"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫ضا ما رواه البخاري (‪ )2‬ومسلم (‪)3‬‬ ‫ومما يدل على جواز التوسل أي ً‬
‫عن أبي عبد الرحمن عبد هللا بن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما قال‪:‬‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬انطلق ثالثة من نفر ممن‬
‫كان قبلكم حتى أواهم المبيت في غار فدخلوه‪ ،‬فانحدرت صخرة من الجبل‬
‫فسدّت عليهم الغار‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنه ال ينجيكم من هذه الصخرة إال أن تدعوا هللا‬
‫بصالح أعمالكم‪ ،‬قال رجل منهم‪ :‬الله ّم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت‬
‫ال أغبق قلبهما أهالً وال ماالً‪ ،‬فنأى بي طلب الشجر يو ًما ولم أرح عليهما‬
‫حتى ناما‪ ،‬فحلبت لهما غبوقهما (‪ )4‬فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما‬
‫ي أنتظر استيقاظهما‬‫وأن أَغبق قبلهما أهالً أو ماالً‪ ،‬فلبثت والقدح على يد َّ‬
‫حتى برق الفجر والصبية يتضاغون (‪ )5‬عند قدمي‪ ،‬فاستيقظا فشربا‬
‫غبوقهما‪ ،‬اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك‬
‫___________‬
‫فيض القدير (‪.)134/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب البيوع‪ :‬باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير‬ ‫(‪)2‬‬
‫إذنه فرضي‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب الذكر والدعاء والتوبة واالستغفار‪ :‬باب‬ ‫(‪)3‬‬
‫قصة أصحاب الغار الثالثة‪ ،‬والتوسل بصالح األعمال‪.‬‬
‫الغَبوق‪ :‬الطعام الذي يكون في النصف األخير من النهار كالذي‬ ‫(‪)4‬‬
‫يؤكل العصر‪.‬‬
‫يتباكون (لسان العرب ‪.)485/14‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ففرج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة‪ ،‬فانفرجت شيئًا ال يستطيعون‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫جائزا فكيف ال‬ ‫الخروج منه"‪ ،‬الحديث‪ .‬فإذا كان التوسل بالعمل الصالح‬
‫يص ّح بالذوات الفاضلة كذوات األنبياء‪ ،‬فهذا يكفي دليالً لو لم يكن دليل‬
‫سواه للتوسل باألنبياء واألولياء‪.‬‬
‫ضا في كتاب اإلنصاف (‪ )1‬تحت عنوان‬ ‫وذكر المرداوي الحنبلي أي ً‬
‫فوائد ما نصه‪" :‬ومنها –أي ومن الفوائد‪ -‬يجوز التوسل بالرجل الصالح‬
‫على الصحيح من المذهب وقيل يستحب" اهـ‪ .‬فماذا يقول هؤالء عن‬
‫قرر أن التوسل بالنبي بعد موته سنةٌ على رأي‪،‬‬ ‫المذهب الحنبلي الذي ّ‬
‫وجائز فقط على رأي فهل يكفرون الحنابلة؟ وما معنى اعتزاز هؤالء‬
‫بأحمد مع أن أحمد في وا ٍد وهم في وا ٍد ءاخر؟ وقد قال اإلمام أحمد‬
‫للمروالروذي (‪" :)2‬يتوسل –أي الداعي عند القحط وقلة المطر أو‬
‫ُّ‬
‫انقطاعه‪ -‬بالنبي صلى هللا عليه وسلم في دعائه" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب إتحاف السادة المتقين (‪ )3‬شرح إحياء علوم الدين ما نصه‪:‬‬
‫سليم المدني أبو عبد هللا‪ ،‬وقيل أبو الحارث القرشي‬
‫"وكان صفوان بن ُ‬
‫سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال‬ ‫الزهري الفقيه العابد وأبوه ُ‬
‫أحمد‪ :‬هو يُستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره‪ ،‬وقال مرة‪ :‬هو‬
‫ثقة من خيار عباد هللا الصالحين‪ ،‬قال الواقدي وغيره مات سنة مائة‬
‫واثنتين وثالثين عن اثنتين وسبعين سنة" اهـ‪ .‬أي أنه توفي قبل أن يولد‬
‫اإلمام أحمد‪ .‬فهذا أحمد لم يقل يستسقى بدعائه كما يقول ابن تيمية إن‬
‫التوسل بدعاء الشخص ال بذاته وال بذكره‪ ،‬بل جعل أحمد ذكره سببًا لنزول‬
‫المطر‪ ،‬فمن أين تحريم ابن تيمية للتوسل بالذوات الفاضلة؟‬
‫_________‬
‫(‪ )1‬اإلنصاف (‪.)456/2‬‬
‫(‪ )2‬اإلنصاف (‪.)456/2‬‬
‫(‪ )3‬إتحاف السادة المتقين (‪.)130/10‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي فتاوى شمس الدين الرملي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬سئل ع ّما يقع من العامة من‬
‫قولهم عند الشدائد‪ :‬يا شيخ فالن‪ ،‬يا رسول هللا‪ ،‬ونحو ذلك من االستغاثة‬
‫باألنبياء والمرسلين واألولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم ال؟‬
‫وهل للرسل واألنبياء واألولياء والصالحين والمشايخ إغاثةٌ بعد موتهم؟‬
‫وماذا ير ّجح ذلك؟‬
‫فأجاب‪ :‬بأن االستغاثة باألنبياء والمرسلين واألولياء والعلماء والصالحين‬
‫جائزة‪ ،‬وللرسل واألنبياء واألولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم‪ ،‬ألن‬
‫معجزة األنبياء وكرامات األولياء ال تنقطع بموتهم‪ ،‬أما األنبياء فألنهم‬
‫أحياء في قبورهم يصلّون ويح ّجون كما وردت به األخبار‪ ،‬وتكون اإلغاثة‬
‫منهم معجزة لهم‪ ،‬وأما األولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع‬
‫من األولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها هللا تعالى‬
‫بسببهم" اهـ‪ ،‬أما قوله‪" :‬ويحجون" فإنه لم يثبت في السنة‪.‬‬
‫قال نور الدين مال القاري في شرح المشكاة ما نصه‪" :‬قال شيخ مشايخنا‬
‫عالمة العلماء المتبحرين شمس الدين بن الجزري في مقدمة شرحه‬
‫للمصابيح المسمى بتصحيح المصابيح‪ :‬إني زرت قبره بنيسابور –يعني‬
‫مسلم بن الحجاج القشيري‪ -‬وقرأت بعض صحيحه على سبيل التي ّمن‬
‫والتبرك عند قبره ورأيت ءاثار البركة ورجاء اإلجابة في ترتبه"‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال المحدث ابن رشيد ال ِف ْهري في كتابه إفادة النصيح في ترجمة‬
‫المحدث أبي محمد ال َح ْجري ما نصه (‪" :)2‬قال الحفاظ أبو عبد هللا‬
‫القضاعي في تكملته‪" :‬قال شيخنا أبو الربيع بن سالم وقرأته عليه‪:‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى البن حجر الهيتمي‬
‫(‪.)382/4‬‬
‫(‪ )2‬إفادة النصيح بالتعريف بسند الجامع الصحيح (ص‪.)93-92/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صادف وقت وفاته –أي الحجري‪ -‬وأخبرني الناقد أبو بكر محمد بن حسن‬
‫الزهري قال‪ :‬لما جيء‬ ‫اللخمي الحبيشي قال‪ :‬أخبرني أبو بكر بن ُمحرز ّ‬
‫بابن عبيد هللا الحجري ليدفن استسقى الناس على قبره وكانوا قد قحطوا‬
‫قال‪ :‬فما تم السابع حتى خضنا الوحل الشديد‪ .‬وأخبرني أبو بكر قال‪:‬‬
‫أخبرني أبو بكر قال‪ :‬شاهدت كرامات شيخنا أبي محمد الحجري عند دفنه‬
‫امرأة الذت بنعشه وكانت تستحاض فقال‪ :‬أسألك اللهم بحرمة هذا الرجل‬
‫أن ترفع عني هذا األمر حتى أصلي في المسجد مع الناس قال‪ :‬ف ُحكي لي‬
‫شفيت‪ .‬قلت‪ :‬وحكاية المرأة المستحاضة مشهورة نقلها غير‬ ‫بعد ذلك أنها ُ‬
‫واحد من الثقات"‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس في حديث "إذا مات اإلنسان انقطع عمله إال من ثالث"‬
‫داللة على أن الميت ال ينفع غيره‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أنه ليس في الحديث الذي رواه ابن حبان (‪" :)1‬إذا مات‬
‫اإلنسان انقطع عمله إال من ثالث‪ :‬صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد‬
‫صالح يدعو له" داللة على أن الميت ال ينفع غيره‪ ،‬إذ إن الحديث نفى‬
‫استمرار العمل التكليفي الذي يتجدد به للميت ثواب‪ ،‬أما أن ينفع غيره فغير‬
‫ممنوع بدليل أن سيدنا موسى صلى هللا عليه وسلم قال لمحمد عليه الصالة‬
‫س ْل ربك التخفيف" (‪ ،)2‬وهذا نفع‬ ‫والسالم في حديث المعراج‪" :‬ارجع ف َ‬
‫كبير أل ّمة محمد كان بعد موت موسى بسنين عديدة‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان‪ ،‬فصل في الموت وما يتعلق به من راحة‬
‫المؤمن وبشراه وروحه وعمله والثناء عليه‪ ،‬انظر اإلحسان‬
‫(‪.)9/5‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب اإلسراء برسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي ما يد ُّل على‬
‫سل عمر بالعباس (‪ )1‬بعد موت النب ّ‬‫فإن قيل‪ :‬أليس في تو ّ‬
‫سل بالنبي بعد موته‪.‬‬
‫أنه ال يتو ّ‬
‫فالجواب‪ :‬أن توسل عمر بالعباس بعد موت النبي ليس ألن الرسول قد‬
‫مات بل كان ألجل رعاية حق قرابته من النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بدليل‬
‫قول العباس حين قدّمه عمر‪" :‬الله ّم إن القوم تو ّجهوا بي إليك لمكاني من‬
‫نبيك"‪ ،‬روى هذا األثر الزبير بن ب ّكار‪.‬‬
‫ضا أن عمر رضي هللا عنه خطب الناس فقال‪:‬‬ ‫وروى الحاكم (‪ )2‬أي ً‬
‫إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى‬ ‫"أيها الناس َّ‬
‫ويبر قسمه‪ ،‬فاقتدوا أيها الناس برسول هللا‬
‫ّ‬ ‫الولد لوالده‪ّ ،‬‬
‫يعظمه ويف ّخمه‬
‫صلى هللا عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى هللا فيما نزل‬
‫بكم"‪ ،‬وهذا يوضّح سبب توسل عمر بالعباس‪.‬‬
‫ضا فإن ترك الشئ ال يدل على منعه كما هو مقرر في كتب‬ ‫وأي ً‬
‫األصول‪ ،‬فترك عمر للتوسل بالنبي صلى هللا عليه وسلم ال داللة فيه أصالً‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم‬‫ي الحاضر‪ ،‬وقد ترك النب ًّ‬‫على منع التوسل إال بالح ّ‬
‫كثيرا من المباحات فهل د ّل تركه لها على حرمتها؟‬
‫ً‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب ذكر العباس بن‬
‫عبد المطلب‪.‬‬
‫(‪ )2‬مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪ )334/3‬من حديث‬
‫داود بن عطاء المدني عن زيد بن أسلم عن ابن عمر‪ .‬قال‬
‫الذهبي في التلخيص‪ :‬هو في جزء البانياسي بعلو‪ ،‬وصح نحوه‬
‫من حديث أنس‪ ،‬فأما داود فمتروك‪ .‬قلت‪ :‬تابعه عليه هشام بن‬
‫سعد أخرجه البالذري من طريقه عن زيد بن أسلم عن أبيه عن‬
‫عمر‪ ،‬انظر الفتح (‪.)497/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد أراد سيدنا عمر بفعله ذلك أن يبيّن التوسل بغير النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم من أهل الصالح م ّمن ترجى بركته‪ ،‬ولذا قال الحافظ في الفتح‬
‫(‪ )1‬عقب هذه القصة ما نصه‪" :‬ويستفاد من قصة العباس استحباب‬
‫االستشفاع بأهل الخير والصالح وأهل بيت النبوة" اهـ‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي (‪" )2‬إذا سألت‬
‫فاسأل هللا وإذا استعنت فاستعن باهلل" ما يد ّل على عدم جواز التوسل بغير‬
‫هللا؟‬
‫سل يسأل هللا‪،‬‬ ‫فالجواب‪ :‬أن هذا ليس فيه معارضة ما ذكرنا إذ إن المتو ّ‬
‫والحديث ليس معناه ال تسأل غير هللا وال تستعن بغير هللا‪ ،‬إنما معناه أن‬
‫األولى بأن يُسأل ويُستعان به هو هللا تعالى‪ ،‬ونظير ذلك قوله صلى هللا‬
‫ي" رواه ابن‬ ‫عليه وسلم‪" :‬ال تصاحب إال مؤمنًا‪ ،‬وال يأكل طعامك إال تق ّ‬
‫حبان (‪ ،)3‬فكما ال يفهم من هذا الحديث عدم جواز صحبة غير المؤمن‬
‫ي وإنما يفهم منه أن األولى بالصحبة المؤمن‬ ‫وعدم جواز إطعام غير التق ّ‬
‫وباإلطعام التقي‪ ،‬كذلك حديث ابن عباس ال يفهم منه إال األولوية‪ ،‬كما أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لم يقل ال تسأل غير هللا وال تستعن بغير‬
‫هللا‪ ،‬أليس هناك فرق بين أن يُقال‪ :‬ال تسأل غير هللا وبين أن يُقال‪ :‬إذا‬
‫سألت فاسأل هللا؟‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)497/2‬‬
‫(‪ )2‬جامع الترمذي‪ :‬كتاب صفة القيامة والرقائق والورع‪ :‬باب‬
‫(‪ .)59‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫(‪ )3‬صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب البر واإلحسان‪ :‬باب الصحبة‬
‫والمجالسة‪ ،‬راجع اإلحسان (‪ ،383/1‬و‪.)385‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر في قصائده المسماة النيرات السبع‪:‬‬


‫يا سيّ َد الر ْس ِل الذي ِم ْنها ُجهُ *** َحا ٍو كما َل الفَ ْ‬
‫ض ِل والتهذيب‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫بك يتّقي *** أهوا َل يوم الدين والتعذي ِ‬
‫ب‬ ‫فا ْشفَ ْع لماد ِِح َك الذي ّ‬

‫مدح َك نظ ُم ك ِّل غري ِ‬


‫ب‬ ‫ي في *** مأهو ِل ِ‬
‫ي األثر ّ‬
‫بن عل ّ‬
‫فألحم َد ِ‬
‫ب‬
‫خير طبي ِ‬
‫قام وأنت ُ‬
‫س ِ‬ ‫ضناهُ زا َد وذن َبهُ *** أص ُل ال َّ‬ ‫ق ْد ص َّح ّ‬
‫أن َ‬
‫ثم قال في قصيدة أخرى‪:‬‬
‫صفَا (‪)1‬‬
‫فيك ق ْد ُر ِ‬ ‫يا سيدي يا رسو َل هللا ق ْد ش َُرفَ ْ‬
‫ت *** قصائدي بمديحٍ َ‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫الناس وج ًها ُمشرقًا َوقَفا‬
‫ِ‬ ‫مذنب َك ِل ٌ‬
‫ف (‪ ** )2‬يا أحسنَ‬ ‫ٌ‬ ‫ِك عب ٌد‬
‫ب جود َ‬
‫ببا ِ‬
‫من خوفِ ِه َج ْفنُهُ الهامي لقد َذ َرفا‬
‫عن زَ لَ ٍل *** ْ‬
‫العفو ْ‬
‫َ‬ ‫بِ ُك ْم تو َّ‬
‫س َل ير ُجو‬
‫صفا‬
‫فاض عذبًا طيّبًا و َ‬
‫َ‬ ‫وإن ي ُك ْن نسبةٌ يُعزى إلى َح َج ٍر *** ف َ‬
‫طالما‬ ‫ْ‬
‫ثم قال في قصيدة أخرى‪:‬‬
‫َف تَفنيدا‬ ‫صدَحْ بمدحِ المصطفى واص َد ْع ب ِه *** َ‬
‫قلب الحسو ِد وال تخ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫عشت فيه سعيدا‬
‫َ‬ ‫وتعيش مهما‬
‫ُ‬ ‫واسأل ب ِه ت ُ ْع َ‬
‫ط ال ُمنى ***‬ ‫ْ‬ ‫واقص ْد لهُ‬
‫ِ‬
‫األنام ْ‬
‫ومن لجا لجنابِ ِه *** ال بِ ْد َ‬
‫ع أن أضحى به َم ْسعودا‬ ‫ِ‬ ‫خير‬
‫ُ‬
‫ثم قال في قصيدة أخرى‪:‬‬

‫__________‬
‫(‪ )1‬أي نظما‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬أي مولع بك (مختار الصحاح ص‪.)240/‬‬


‫ب وناقِ ُل‬
‫نص الكتا ِ‬ ‫ٌ‬
‫ناطق ُّ‬ ‫األشعار فيه ومد ُحهُ *** به‬
‫ُ‬ ‫فما تبلُ ُغ‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫هناك وسائ ُل‬
‫َ‬ ‫سلتُ الهنا ُء بمدح ِه *** ألني ُم ْست َ ْج ٍد‬ ‫ولي ْ‬
‫إن تو َّ‬
‫ثم قال في قصيدة أخرى‪:‬‬
‫وإن أ ْقنُ ْ‬
‫ط ف َح ْمد َُك لي رجائي‬ ‫سروري *** ْ‬
‫أحزَ ْن فم ْد ُح َك لي ُ‬ ‫ْ‬
‫فإن ْ‬
‫ثم قال في قصيدة أخرى‪:‬‬

‫أشرف خ َْل ِق ِه *** وأسماهُ إذ س ّماهُ في الذّ ِ‬


‫كر أحمدا‬ ‫َ‬ ‫ي براهُ هللا‬
‫نب ٌّ‬
‫ُ‬
‫الليث في العدا‬ ‫َف ِم ْن َ‬
‫سطاه إنهُ‬ ‫ُ‬
‫الغيث في الندى *** وخ ْ‬ ‫فر ٌج نَداهُ إنهُ‬
‫َ‬
‫ثم قال في قصيدة أخرى‪:‬‬
‫جاء‬ ‫فباب محم ٍد ُ‬
‫باب الر ِ‬ ‫ُ‬ ‫نفس ***‬
‫العصيان ٌ‬
‫ِ‬ ‫ت منَ‬ ‫وإن قَن ْ‬
‫َط ْ‬ ‫ْ‬
‫وذكر الحافظ السخاوي (‪ )1‬أن الشمس محمد بن علي القوصي الشافعي‬
‫أرسل معه رسالة ليقرأها السخاوي لسيد المرسلين لكن لم يتفق للسخاوي‬
‫تبليغها إال بعد موته جاء فيها‪:‬‬
‫بفوز أالقِ ِه‬
‫ٍ‬ ‫عسى تبلُ ُغ اآلما ُل منهُ بنظرةٍ *** إل َّ‬
‫ي فإن يفعل‬
‫_________‬
‫(‪ )1‬وجيز الكالم في الذيل على دول اإلسالم (‪.)777/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فائدة في بيان جواز نداء النبي بعد وفاته‬

‫تقدم أن البخاري ذكر في كتابه األدب المفرد جواز نداء النبي بعد موته‬
‫ضا ابن‬
‫بيا محمد وذلك خالف معتقد الوهابية فإنه عندهم شرك‪ ،‬وأورده أي ً‬
‫السني في كتابه عمل اليوم والليلة (‪ ،)1‬ونص البخاري في كتابه المذكور‪:‬‬
‫"باب ما يقول الرجل إذا خدرت رجله‪ :‬حدثنا أبو نعيم‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا‬
‫سفيان‪ ،‬عن أبي إسحاق‪ ،‬عن عبد الرحمن بن سعد قال‪ :‬خدرت رجل ابن‬
‫عمر فقال له رجل‪ :‬اذكر أحب الناس إليك؟ فقال‪ :‬يا محمد" اهـ‪ .‬وأورده‬
‫ابن تيمية في كتابه المشهور الكلم الطيب (‪ )2‬ونص عبارته‪:‬‬
‫"فصل في الرجل إذا خدرت رجله (‪:)3‬‬
‫عن الهيثم بن حنش قال‪ :‬كنا عند عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما‬
‫فخدرت رجله فقاله له رجل‪ :‬اذكر أحب الناس إليك‪ ،‬فقال‪ :‬يا محمد فكأنما‬
‫نشط من عقال" اهـ‪.‬‬
‫القراء ابن الجزري في كتابيه‪ :‬الحصن الحصين‬ ‫وذكره الحافظ شيخ ّ‬
‫ضا في كتابه "تحفة الذاكرين"‬
‫وعدة الحصن الحصين‪ ،‬وذكره الشوكاني أي ً‬
‫ضا ابن الجعد (‪.)5‬‬‫(‪ )4‬وهو غير مطعون به عندهم‪ ،‬ورواه أي ً‬
‫__________‬
‫أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص‪.)73-72/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الكلم الطيب (ص‪.)73/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الخدر مرض مثل الشلل وليس التنميل‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تحفة الذاكرين (ص‪.)267/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مسند ابن الجعد (ص‪.)369/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذا الذي حصل من عبد هللا بن عمر استغاثة برسول هللا بلفظ يا‬
‫محمد‪ ،‬وذلك عند الوهابية كفر أي االستغاثة به صلى هللا عليه وسلم بعد‬
‫موته‪ ،‬فماذا تفعل الوهابية أيرجعون عن رأيهم من تكفير من ينادي يا‬
‫محمد أم يتبرءون من ابن تيمية في هذه القضية وهو الملقب عندهم شيخ‬
‫اإلسالم‪ ،‬فيا لها من فضيحة عليهم وهو إمامهم الذي أخذ منه ابن عبد‬
‫الوهاب بعض أفكاره التي خالف بها المسلمين‪ ،‬وهم في هذه المسئلة على‬
‫موجب عقيدتهم يكونون كفّروا ابن تيمية ألنه استحسن ما هو شرك عندهم‪.‬‬
‫ولو قال أحدهم‪ :‬ابن تيمية رواه من طريق را ٍو مختلف فيه‪ ،‬يقال لهم‪:‬‬
‫مجرد إيراده لهذا في هذا الكتاب دليل على أنه استحسنه إن فُ ِر َ‬
‫ض أنه يراهُ‬
‫ض أنه يراه غير ذلك‪ ،‬ألن الذي يورد الباطل في كتابه وال‬ ‫صحي ًحا وإن فُ ِر َ‬
‫يحذّر منه فهو داعٍ إلى ذلك الشئ‪ ،‬ومحاولة األلباني لتضعيف هذا األثر ال‬
‫عبرة بها‪ ،‬ألن األلباني محروم من الحفظ الذي هو شرط التصحيح‬
‫والتضعيف عند أهل الحديث وقد اعترف في بعض المجالس بأنه ليس‬
‫محدّث حفظ بل قال‪ :‬أنا محدث كتاب‪ ،‬وذلك بعد أن سأله محام سوري‪ :‬يا‬
‫أستاذ أنت محدث‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال له‪ :‬أتسرد لي عشرة أحاديث بأسانيدها‪،‬‬
‫فأجابه األلباني‪ :‬ال‪ ،‬أنا محدث كتاب‪ ،‬فأجابه المحامي‪ :‬إذن أنا أستطيع أن‬
‫أفعل ذلك‪ .‬فخجله‪ ،‬فليعلم هو ومقلدوه أن تصحيحهم وتضعيفهم لغو في‬
‫قانون أهل الحديث وال اعتبار له‪ ،‬فليتوبوا إلى هللا‪ ،‬فإن كان الرياء ساقهم‬
‫إلى ذلك فالرياء من الكبائر‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬قال بعض نفاة التوسل‪ :‬قد كفانا أبو حنيفة رضي هللا عنه المؤنة‬
‫في إبطال التوسل حيث قال‪ :‬أكره أن يقال‪ :‬أسألك بحق فالن‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن أهل المذهب الحنفي قالوا في تعليل ذلك إن مراد اإلمام أن‬
‫هذا اللفظ يوهم أن على هللا حقًّا لغيره الز ًما له كما ذكر ذلك ابن عابدين‬
‫في رد المحتار (‪ ،)1‬فيقال إنه كره هذا اللفظ فقط‪ ،‬ولم يقل إني أكره‬
‫التوسل باألنبياء واألولياء إلى هللا حتى يحت ّج بأبي حنيفة في منع‬
‫__________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الدر المختار (‪.)274/5‬‬


‫(‪ )1‬رد المحتار على ّ‬
‫التوسل على اإلطالق إن كان بهذا اللفظ وإن كان بغيره كأسألك بجاه فالن‬
‫أو بحرمة فالن‪ ،‬فلو كان مراد أبي حنيفة تحريم التوسل على اإلطالق‬
‫بجميع صوره لكان أهل مذهبه يفهمون ذلك وتجنّبوا التوسل على اإلطالق‪،‬‬
‫بل هم يتوسلون كغيرهم ال يختلف في ذلك علماؤهم وعوامهم‪ .‬ويقال على‬
‫فرض ثبوت ذلك عن أبي حنيفة ليس فيه حجة على منع قول المتوسل‪:‬‬
‫أسألك يا هللا بحق رسول هللا‪ ،‬أو نحو ذلك لثبوت هذا اللفظ في حديث ابن‬
‫ماجه وأحمد وغيرهما (‪َ " :)1‬من قال إذا خرج إلى المسجد‪ :‬اللهم إني‬
‫ّ‬
‫وبحق ممشاي هذا‪ "...‬الحديث‪ ،‬فإن الحديث‬ ‫أسألك بحق السائلين عليك‬
‫سنه الحافظ ابن حجر في أماليه (‪ )2‬كما تقدم‪ ،‬وكذا الحافظ الدمياطي‬ ‫ح ّ‬
‫(‪ ،)3‬والحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ الحافظ المنذري (‪ ،)4‬والحافظ‬
‫العراقي (‪.)5‬‬
‫وأما ما يروى عن أبي يوسف أنه قال‪" :‬ال يدعى هللا بغيره"‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أنه ال ح ّجة في ذلك ألنه مصادم للنص الثابت كحديث الثالثة‬
‫الذين أووا إلى الغار‪ ،‬فنزلت صخرة من الجبل فسدّت فم الغار‪ ،‬فدعا ك ٌّل‬
‫من الثالثة بصالح عمله‪ ،‬فانفرجت الصخرة عنهم فخرجوا من الغار‪ ،‬وقد‬
‫تقدم‪ ،‬رواه البخاري في صحيحه وغيره (‪.)6‬‬
‫___________‬
‫أخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب المساجد والجماعات‪ :‬باب‬ ‫(‪)1‬‬
‫المشي إلى الصالة عن أبي سعيد الخدري‪ ،‬وأحمد في مسنده‬
‫(‪ )21/3‬عنه‪ ،‬والطبراني في الدعاء (‪ ،)990/2‬والبيهقي في‬
‫الدعوات (‪.)47/1‬‬
‫نتائج األفكار (‪.)272/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح (ص‪.)472-471/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الترغيب والترهيب (‪.)273/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المغني عن حمل األسفار (‪.)289/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫تقدم تخريجه‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مسئلة‪ :‬إن احت ّج مانعو التوسل باألموات بقولهم‪ :‬إنهم ال يسمعون وكذلك‬
‫ي الغائب‪ ،‬فال معنى للتوسل بهم بأن يقال‪ :‬يا رسول هللا أغثني‪ ،‬أو‪:‬‬‫الح ّ‬
‫أتوجه بك إلى هللا ليقضي لي حاجتي‪ ،‬ألنه ال يسمع‪ ،‬وأما الحي الحاضر‬
‫فيسمع‪.‬‬
‫عا وال عقالً من أن يسمع النبي أو الولي كالم‬ ‫فيجاب بأنه ال مانع شر ً‬
‫من يتوسل به وهو في القبر‪ ،‬أ ّما النبي فألنه حي أحياه هللا بعد موته كما‬
‫ثبت من حديث أنس عن رسول هللا أنه قال‪" :‬األنبياء أحياء في قبورهم‬
‫يصلون" صححه البيهقي في جزء حياة األنبياء (‪ ،)1‬وأورده الحافظ ابن‬
‫حجر على أنه ثابت في فتح الباري (‪ )2‬وذلك لما التزمه أن ما يذكره من‬
‫األحاديث شر ًحا أو تتمة لحديث في متن البخاري فهو صحيح أو حسن‪،‬‬
‫ذكر ذلك في مقدمة الفتح (‪ .)3‬وألنه ثبت حديث‪" :‬ما من رجل مسلم يمر‬
‫بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه‪ ،‬إال عرفه ور ّد عليه‬
‫السالم"‪ .‬صححه الحافظ عبد الحق اإلشبيلي (‪.)4‬‬
‫وأما الغائب الحي فإنه يدل على صحة سماعه خطاب من يناديه من‬
‫بعيد قصة عمر رضي هللا عنه في ندائه جيشه الذي بأرض العجم بقوله‪ :‬يا‬
‫سارية الجبل الجبل فسمعه سارية بن ُزنَين‪ ،‬وكان سارية قائد الجيش‬
‫فانحاز بجيشه إلى الجبل فانتصروا‪ ،‬صححها الحافظ الدمياطي في جزء‬
‫ألّفه لهذه القصة‪ ،‬ووافقه الحافظ السيوطي على ذلك وحسنها الحافظ ابن‬
‫حجر في اإلصابة (‪ )5‬وأوردها الحافظ الزبيدي في شرح‬
‫__________‬
‫حياة األنبياء بعد وفاتهم رقم‪.15/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فتح الباري (‪.)487/6‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مقدمة فتح الباري (ص‪.)4/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪ ،)365/10‬فيض القدير (‪،)487/5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫العاقبة (ص‪.)118/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )5‬اإلصابة في تمييز الصحابة (‪ ،)2/2‬وانظر أسد الغابة‬


‫(‪.)244/2‬‬
‫القاموس (‪ )1‬وقد أفرد القطب الحلبي لطرقه جز ًءا ووثق رجال هذا‬
‫الطريق (‪.)2‬‬
‫ومن الدليل على صحة سماع الغائب النداء من بعيد ما رواه الفاكهي أن‬
‫ابن عباس قال‪" :‬قام إبراهيم على الحجر فقال‪ :‬يا أيّها الناس كتب عليكم‬
‫الحج فأسمع من في أصالب اآلباء وأرحام النساء فأجابه من ءامن ومن‬
‫سبق في علم هللا أنه يحج إلى يوم القيامة‪ :‬لبيك اللهم لبيك"‪ ،‬صححه الحافظ‬
‫ابن حجر (‪.)3‬‬
‫وهذا الذي ثبت عن ابن عباس مما ال يقال بالرأي إال بالتوقيف وهو مما‬
‫الناس‬
‫ِ‬ ‫عرف وانتشر عند المفسرين لمعنى قول هللا تعالى‪{ :‬وأ َ ِذّ ْن في‬
‫بالح ّجِ} [سورة الحج‪ ،]27/‬فما أبعد عن الحق من يقول من هؤالء نفاة‬
‫التوسل عن األنبياء واألولياء بعد موتهم إنهم كالجماد وقد بلغ بعضهم في‬
‫الوقاحة إلى أن قال‪ :‬النبي ال ينفع بعد موته‪ ،‬ومنهم من يقول لقاصد زيارة‬
‫الرسول ما تفعل بالعظم الرميم‪ ،‬حمانا هللا تعالى من صنيع هؤالء الذين‬
‫ض ّل سعيُهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‪ ،‬يزعمون أنهم بهذا يكونون‬
‫أقوى من غيرهم في توحيد هللا‪ ،‬وكفاهم خزيًا اعتقادهم في الرسول أنه‬
‫عظم رميم لم يبق له إحساس وال شعور‪.‬‬
‫وفي األلفاظ الواردة في السالم على أهل القبور داللة على سماع أهل‬
‫القبور لسالم الزائرين‪ ،‬وذلك في نحو قول الزائر‪" :‬السال ُم عليكم يا أهل‬
‫يغفر هللا لنا ولكم‪ ،‬أنتم سلفُنا ونحن باألثر" (‪ )4‬أخرجه الترمذي‬
‫ُ‬ ‫القبور‪،‬‬
‫دار‬
‫وحسنه‪ ،‬وما ورد في صحيح مسلم بلفظ‪" :‬السالم عليكم َ‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬تاج العروس في شرح القاموس فصل السين من باب الواو‬
‫والياء‪.‬‬
‫(‪ )2‬كشف الخفا (‪.)515/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬فتح الباري (‪.)406/3‬‬


‫(‪ )4‬جامع الترمذي‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب ما يقول الرجل إذا دخل‬
‫المقابر‪.‬‬
‫قوم مؤمنين" (‪ )1‬إلى ءاخره‪ ،‬فوال صحة سماع الميت لم يكن لهذا‬
‫أنت‬
‫الخطاب معنى وال حجة وال استدالل نفاة التوسل بقول هللا تعالى‪{ :‬وما َ‬
‫القبور} [سورة فاطر‪ ]22/‬فإنه مؤول ال يحمل على الظاهر‬
‫ِ‬ ‫بِ ُم ْس ِمعٍ َم ْن في‬
‫توفيقًا بينه وبين ما ورد من األحاديث التي ذكرناها‪ ،‬والمراد به تشبيه‬
‫الكفار بمن في القبور في عدم انتفاعهم بكالمه وهم أحياء‪.‬‬
‫ومما يؤيد صحة سماع الموتى ما رواه البخاري (‪ )2‬أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قام على القليب –قليب بدر‪ -‬وفيه قتلى المشركين‪،‬‬
‫فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء ءابائهم‪" :‬يا فالن بن فالم ويا فالم بن‬
‫فالن"‪ ،‬قال‪" :‬فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا‪ ،‬فهل وجدتم ما وعد ربكم‬
‫حقًّا (‪ .")3‬قال‪ :‬فقال عمر‪ :‬يا رسول هللا ما تُكل ُم من أجساد ال أرواح بها‪،‬‬
‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع‬
‫ضا عن أنس عن النبي (‪ )4‬صلى هللا‬ ‫لما أقول منهم"‪ .‬وروى البخاري أي ً‬
‫عليه وسلم‪" :‬إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع‬
‫ي هو أفهم منكم ومن سائر الخلق بمعاني‬ ‫قرع نعالهم"‪ .‬فيقال للنفاة‪ :‬النب ّ‬
‫كتاب هللا‪ ،‬فبعد هذا فقد انتسف تمويه ابن تيمية بقوله‪ :‬ال يجوز التوسل إال‬
‫بالحي الحاضر‪.‬‬
‫وروى الترمذي (‪ )5‬في سننه أن رجالً ضرب خباءه (‪ )6‬ليالً‬

‫_______‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب ما يقال عند دخول القبور‬ ‫(‪)1‬‬
‫والدعاء ألهلها‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب المغازي‪ :‬باب قتل أبي جهل‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫هم لم يجيبوه وإنما سألّهم ليزدادوا خزيًا‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب ما جاء في عذاب القبر‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )5‬جامع الترمذي‪ :‬كتاب فضائل القرءان‪ :‬باب ما جاء في فضل‬


‫سورة الملك‪.‬‬
‫(‪ )6‬ما يعمل من وبر أو صوف وقد يكون من شعر والجميع أخبيةٌ‬
‫ويكون على عمودين أو ثالثة وما فوق ذلك فهو بيت‪( ،‬المصباح‬
‫المنير ص‪.)62/‬‬
‫على قبر فسمع من القبر قراءة تبارك الذي بيده الملك إلى ءاخرها‪ ،‬فلما‬
‫أصبح ذكر ذلك لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬هي المانعة هي‬
‫المنجية"‪ .‬حسنه السيوطي (‪.)1‬‬
‫فإذا كان من على وجه األرض عند القبر يسمع قراءة صاحب القبر‪،‬‬
‫فأي مانع من أن يسمع صاحب القبر كالم من على وجه األرض ولو كان‬
‫في مسافة بعيدة من صاحب القبر بالنسبة لعباد هللا الذين منحهم هللا‬
‫الكرامات‪.‬‬

‫___________‬
‫(‪ )1‬الجامع الصغير (‪ )56/2‬بنحوه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫التبرك بآثار النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫يتبركون بآثار النبي صلى هللا‬


‫اعلم أن الصحابة رضوان هللا عليهم كانوا ّ‬
‫عليه وسلم في حياته وبعد مماته‪ ،‬وال زال المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا‬
‫على ذلك‪ ،‬وجواز هذا األمر يعرف من فعل النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫سم شعره حين حلق في حجة الوداع‬ ‫وذلك أنه صلى هللا عليه وسلم ق ّ‬
‫وأظفاره‪.‬‬
‫أما اقتسام الشعر فأخرجه البخاري (‪ )1‬ومسلم (‪ )2‬من حديث أنس‬
‫وأحمد (‪ )3‬من حديث عبد هللا بن زيد‪ ،‬ففي لفظ مسلم قال‪ :‬لما رمى صلى‬
‫هللا عليه وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق‪ ،‬ناول الحالق شقّه األيمن فحلق‪،‬‬
‫ّ‬
‫الشق األيسر فقال‪" :‬احلق"‪،‬‬ ‫ثم دعا أبا طلحة األنصاري فأعطاه‪ ،‬ثم ناوله‬
‫فحلق فأعطاه أبا طلحة فقال‪" :‬اقسمه بين الناس"‪.‬‬
‫فوزعه الشعرة والشعرتين بين‬‫بالشق األيمن ّ‬
‫ّ‬ ‫وفي رواية لمسلم‪ :‬فبدأ‬
‫الناس ثم قال باأليسر –أي فّعّ ّل‪ -‬فصنع مثل ذلك‪ ،‬ثم قال‪" :‬ههنا أبو‬
‫طلحة"‪ ،‬فدفعه إلى أبي طلحة‪.‬‬
‫ضا أنه عليه الصالة والسالم قال للحالق‪" :‬ها"‬
‫وفي رواية مسلم أي ً‬
‫وأشار بيده إلى الجانب األيمن هكذا فقسم شعره بين من يليه‪ ،‬ثم أشار إلى‬
‫الحالق إلى الجانب األيسر فحلقه فأعطاه أم سليم اهـ‪.‬‬
‫___________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الوضوء‪ :‬باب الماء الذي‬


‫يغسل به شعر اإلنسان‪.‬‬
‫سنّة يوم‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب بيان أن ال ُّ‬
‫النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق واالبتداء في الحلق بالجانب‬
‫األيمن من رأس المحلوق‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أحمد في مسنده (‪ ،)42/4‬وقال الحافظ الهيثمي في مجمع‬
‫الزوائد (‪" :)19/4‬رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"‪.‬‬

‫ضا بين الناس الذين يلونه‪ ،‬وأعطى‬ ‫فمعنى الحديث أنه ّ‬


‫وزع بنفسه بع ً‬
‫التبرك‬
‫ّ‬ ‫ضا أم سليم ففيه‬
‫ضا ألبي طلحة ليوزعه في سائرهم‪ ،‬وأعطى بع ً‬ ‫بع ً‬
‫بآثار رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ألن الشعر ال يؤكل إنما يستعمل في‬
‫غير األكل‪ ،‬فأرشد الرسول أمته إلى التبرك بآثاره كلها حتى بُصاقه‪ ،‬وكان‬
‫أحدهم أخذ شعرة واآلخر أخذ شعرتين‪ ،‬وما قسمه إال ليتبركوا به فكانوا‬
‫يتبركون به في حياته وبعد وفاته‪ ،‬حتى إنهم كانوا يغمسونه في الماء‬
‫فيسقون هذا الماء بعض المرضى تبر ًكا برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وهذا الحديث في البخاري (‪ )1‬ومسلم (‪ )2‬وأبي داود (‪.)3‬‬
‫وقد ص ّح أنه صلى هللا عليه وسلم بصقَ في ِفي الطفل المعتوه‪ ،‬وكان‬
‫يعتريه الشيطان كل يوم مرتين وقال‪" :‬اخرج يا عدو هللا أنا رسول هللا"‬
‫رواه الحاكم (‪.)4‬‬
‫ليتبركوا به وليستشفوا إلى هللا بما هو‬
‫ّ‬ ‫سم صلى هللا عليه وسلم شعره‬ ‫فق ّ‬
‫ويتقربوا بذلك إليه وليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم‪ ،‬ثم تبع‬
‫ّ‬ ‫منه‬
‫التبرك بآثاره صلى هللا عليه وسلم َمن أسعده هللا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الصحابة في خطتهم في‬
‫وتوارد ذلك الخلف عن السلف‪ ،‬فلو كان التبرك به في حال الحياة فقط لبيّن‬
‫ذلك‪.‬‬
‫شعرا‬
‫ً‬ ‫وخالد بن الوليد رضي هللا عنه كانت له قلنسوة وضع في طيّها‬
‫الجعرانة‪ ،‬وهي‬
‫من ناصية رسول هللا أي مقدّم رأسه لما حلق في عمرة ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_____________‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الوضوء‪ :‬باب الماء الذي‬ ‫(‪)1‬‬
‫يغسل به شعر اإلنسان‪.‬‬
‫سنّة يوم النحر أن‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب بيان أن ال ُّ‬ ‫(‪)2‬‬
‫يرمي ثم ينحر ثم يحلق‪ ،‬واالبتداء في الحلق في الجانب األيمن‬
‫من رأس المحلوق‪.‬‬
‫سنن أبي داود‪ ،‬كتاب المناسك‪ :‬باب الحلق والتقصير‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه الحاكم في المستدرك‪ :‬كتاب التاريخ‪ :‬باب اجتماع‬ ‫(‪)4‬‬
‫الشجرتين بأمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (‪،)618/2‬‬
‫وأقره الذهبي في تلخيصه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وصححه‬
‫يتبرك بها في غزواته‪ .‬روى‬ ‫أرض بعد مكة إلى جهة الطائف‪ ،‬فكان يلبسها ّ‬
‫ذلك الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (‪ )1‬عن خالد بن الوليد أنه قال‪:‬‬
‫"اعتمرنا مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في عمرة اعتمرها فحلق‬
‫شعره‪ ،‬فسبقت إلى الناصية‪ ،‬فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة‪،‬‬
‫فما وجهت في وجه إال فتح لي" اهـ‪ .‬وعزاه الحافظ ألبي يعلى‪.‬‬
‫وقال ابن كثير في البداية والنهاية عند ذكره محنة اإلمام أحمد ما نصه‬
‫(‪" :)2‬قال أحمد‪ :‬فعند ذلك قال –يعني المعتصم‪ -‬لي‪ :‬لعنك هللا‪ ،‬طمعت‬
‫فيك أن تجيبني فلم تجبني‪ ،‬ثم قال‪ :‬خذوه واخلعوه واسحبوه‪ .‬قال أحمد‪:‬‬
‫فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين (‪ )3‬والسياط وأنا أنظر‪ ،‬وكان‬
‫معي شعرات من شعر النبي صلى هللا عليه وسلم مصرورة في ثوبي‪،‬‬
‫فجردوني منه وصرت بين العقابين" اهـ‪.‬‬
‫_________‬
‫(‪ )1‬انظر المطالب العالية (‪ ،)90/4‬ورواه الطبراني (‪)104/4‬‬
‫والحاكم في المستدرك (‪ ،)338/3‬وابن عساكر في تاريخ مدينة‬
‫دمشق (‪ .)246/16‬قال الشيخ المحدث حبيب الرحمن األعظمي‬
‫في المطالب في تعليقه على الحديث‪" :‬كذا في األصلين‪ ،‬وفي‬
‫اإلتحاف‪ :‬فما وجهته في وجه إال فتح له‪ ،‬وفي الزوائد‪ :‬فلم أشهد‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قتاالً وهي معي إال رزقت النصرة‪ .‬قال البوصيري‪" :‬رواه أبو‬
‫يعلى بسند صحيح"‪ ،‬وقال الهيثني‪" :‬رواه الطبراني وأبو يعلى‬
‫(‪ )139/13‬بنحوه ورجالهما رجال الصحيح" وبقية كالم‬
‫الهيثمي‪" :‬وجعفر سمع من جماعة من الصحابة فال أدري من‬
‫خالد أم ال"‪.)349/9( ،‬‬
‫(‪ )2‬انظر البداية والنهاية (‪.)334/10‬‬
‫(‪ )3‬هما اللذان يتوليان التعذيب‪.‬‬

‫وأما األظفار فأخرج اإلمام أحمد في مسند (‪ )1‬أن النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم قلّم أظفاره وقسمها بين الناس‪.‬‬
‫أما جبّته صلى هللا عليه وسلم فقد أخرج مسلم في الصحيح (‪ )2‬عن عبد‬
‫س ٍة‬ ‫هللا بن كيسان مولى أسماء بنت أبي بكر قال‪" :‬اخرجت إلينا جبّة َ‬
‫ط َيا ِل َ‬
‫كسروانية لها لبُنةُ ديباجٍ وفرجيها مكفوفين بالديباج (‪ ،)3‬فقالت‪ :‬هذه كانت‬
‫عند عائشة حتى قُبضت‪ ،‬فلما قبضت قبضتها‪ ،‬وكان النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم يلبسها‪ ،‬فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها"‪ .‬وفي رواية "نغسلها‬
‫للمريض منّا يستشفي بها"‪.‬‬
‫وعن حنظلة بن ِحذَيم قال‪ :‬وفدت مع جدي إلى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا إن لي بنين ذوي لحى وغيرهم هذا أصغرهم‪،‬‬
‫فأدناني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ومسح رأسي وقال‪" :‬بارك هللا‬
‫فيك"‪ ،‬قال الذّيال‪ :‬فلقد رأيت حنظلة يؤتى الرجل الوارم وجهه أو الشاة‬
‫كف رسول هللا صلى هللا‬
‫الوارم ضرعها فيقول‪" :‬بسم هللا على موضع ّ‬
‫عليه وسلم فيمسحه‬

‫___________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أحمد في مسنده (‪ )42/4‬من حديث عبد هللا بن‬
‫زيد بن عبد ربه صاحب األذان‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وقال الحافظ الهيثمي في المجمع (‪ )19/3‬بعد عزوه ألحمد‪:‬‬
‫"ورجاله رجال الصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اللباس والزينة‪ :‬باب تحريم استعمال إناء‬
‫الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على‬
‫الرجال‪ ،‬وإباحته للنساء‪ ،‬وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزج‬
‫على أربع أصابع‪.‬‬
‫(‪ )3‬كذا وقع في جميع النسخ "وفرجيها مكفوفين"‪.‬‬

‫فيذهب الورم"‪ .‬رواه الطبراني في األوسط والكبير وأحمد في المسند (‪،)1‬‬


‫وقال الحافظ الهيثمي (‪" :)2‬ورجال أحمد ثقات"‪.‬‬
‫سا يُخبَ ُر بمكاني فأدخل عليه فآخذ بيديه‬
‫وعن ثابت قال‪ :‬كنت إذا أتيت أن ً‬
‫ستا رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫فأقبّلهما وأقول‪ :‬بأبي هاتان اليدان اللتان م ّ‬
‫وسلم‪ ،‬وأقبّل عينيه وأقول‪ :‬بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ .‬رواه أبو يعلى (‪.)3‬‬
‫وهذا سيدنا أبو أيوب األنصاري رضي هللا عنه الذي هو أحد مشاهير‬
‫الصحابة والذي هو أول من نزل الرسول عنده لما هاجر من مكة إلى‬
‫المدينة‪ ،‬جاء ذات يوم إلى قبر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فوضع‬
‫وجهه على قبر النبي تبر ًكا وشوقًا‪ ،‬روى ذلك اإلمام أحمد بن داود بن أبي‬
‫صالح قال‪ :‬أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب فقال‪ :‬نعم جئت‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ولم ءات الحجر‪ ،‬سمعت رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم يقول‪" :‬ال تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا‬
‫وليه غير أهله"‪ .‬رواه أحمد (‪ )4‬والطبراني في الكبير (‪ )5‬واألوسط (‪.)6‬‬
‫___________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )16/4‬بنحوه‪ ،‬وأحمد في‬ ‫(‪)1‬‬


‫مسنده (‪ )67-68/5‬في حديث طويل‪.‬‬
‫مجمع الزوائد (‪.)408/9‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه أبو يعلى في مسنده (‪ .)211/6‬وقال الحافظ الهيثمي في‬ ‫(‪)3‬‬
‫المجمع (‪" :)325/9‬رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح‪،‬‬
‫غير عبد هللا بن أبي بكر المقدمي وهو ثقة"‪.‬‬
‫أخرجه أحمد في مسنده (‪.)422/5‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المعجم الكبير (‪ ،)189/4‬وأخرجه الحاكم في المستدرك‬ ‫(‪)5‬‬
‫(‪ .)515/4‬وصححه ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫مجمع الزوائد (‪.)245/5‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وعن حكيمة بنت أميمة‪ ،‬عن أمها قالت‪" :‬كان للنبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫قدح من َعيْدان يبول فيه ويضعه تحت سريره‪ ،‬فقام فطلبه فلم يجده فسأل‪:‬‬
‫"أين القدح"؟ قالوا‪ :‬شربته برة خادم أم سلمة التي قدمت معها من أرض‬
‫الحبشة‪ ،‬فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬فقد احتظرت من النار بحظار"‬
‫(‪ )1‬رواه الطبراني (‪ )2‬ورجاله رجال الصحيح غير عبد هللا بن أحمد بن‬
‫حنبل وحكيمة وهما ثقتان‪.‬‬
‫وأخرج البخاري (‪ )3‬من حديث سهل بن سعد رضي هللا عنه قال‪:‬‬
‫جاءت امرأة ببردة‪ ،‬قال‪ :‬أتدرون ما البردة؟ فقيل له‪ :‬نعم هي الشملة‬
‫منسوج في حاشيتها قالت‪ :‬يا رسول هللا إني نسجت هذه بيدي أكسوكها‪،‬‬
‫إزاره فقال‬
‫ُ‬ ‫فأخذها النبي صلى هللا عليه وسلم محتا ًجا إليها فخرج إلينا وإنها‬
‫سنيها‪ ،‬فقال‪" :‬نعم"‪ ،‬فجلس النبي صلى هللا‬ ‫رجل من القوم‪ :‬يا رسول هللا أ ُ ْك ُ‬
‫عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه‪ ،‬فقال له القوم‪ :‬ما‬
‫أحسنت‪ ،‬سألتها إياه لقد علمت أنه ال يرد سائالً‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬وهللا ما سألته‬
‫إال لتكون كفني يوم أموت‪ ،‬قال سهل‪ :‬فكانت كفنه‪.‬‬
‫ضا في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة‪ ،‬عن أبيه قال‪:‬‬ ‫وأخرج (‪ )4‬أي ً‬
‫أتيت النبي صلى هللا عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم ورأيت بالالً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أخذ َوضوء النبي صلى هللا عليه وسلم والناس يبتدرون الوضوء فمن‬
‫أصاب منه شيئًا تمسح به ومن لم يصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه‪.‬‬
‫___________‬
‫ظار و َحظار ومعناه سيحول‬
‫كل ما حال بينك وبين شئ فهو ِح ٌ‬ ‫(‪)1‬‬
‫بينها وبين النار حجاب‪.‬‬
‫أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪.)205-206/24‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب البيوع‪ :‬باب ذكر النساج‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب القبر الحمراء‬ ‫(‪)4‬‬
‫من أدم‪.‬‬

‫وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (‪ )1‬عن أبي مودودة قال‪ :‬حدثني يزيد‬
‫نفرا من أصحاب النبي صلى هللا عليه‬
‫بن عبد الملك بن قسيط قال‪" :‬رأيت ً‬
‫وسلم إذا خال لهم المسجد قاموا إلى ر ّمانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا‪،‬‬
‫قال‪ :‬ورأيت يزيد يفعل ذلك" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب سؤاالت عبد هللا بن أحمد بن حنبل ألحمد (‪ )2‬قال‪" :‬سألت‬
‫مس القبر"‪،‬‬
‫مس الرجل ر ّمانة المنبر يقصد التبرك‪ ،‬وكذلك عن ّ‬‫أبي عن ّ‬
‫فقال‪" :‬ال بأس بذلك" اهـ‪.‬‬
‫يمس‬
‫ّ‬ ‫وفي كتاب الهلل ومعرفة الرجال ما نصه (‪" :)3‬سألته عن الرجل‬
‫سه ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك‬‫منبر النبي صلى هللا عليه وسلم ويتبرك بم ّ‬
‫ّ‬
‫وعز فقال‪ :‬ال بأس بذلك" اهـ‪.‬‬ ‫أونحو هذا يريد بذلك التقرب إلى هللا جل‬
‫وفي كتاب غاية المنتهى للشيخ مرعي الحنبلي ما نصه (‪" :)4‬وال بأس‬
‫سن فعل ما يخفف عن الميت‬ ‫بلمس قبر بيد ال سيما من تُرجى بركته‪ ،‬و ُ‬
‫ولو بجعل َجريدة رطبة في القبر وذكر وقراءة عنده‪.‬‬
‫وتستحب قراءة بمقبرة وكل قربة فعلها مسلم وجعل بالنية فال اعتبار‬
‫باللفظ ثوابها أو بعضه لمسلم حي أو ميت جار وينفعه ذلك بحصول الثواب‬
‫له وإهداء القرب مستحب حتى للرسول صلى هللا عليه وسلم من تطوع‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وواجب تدخله نيابة كحج أو ال كصالة ودعاء واستغفار وصدقة وأضحية‬


‫وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها"‪.‬‬
‫وروى ابن الجوزي في مناقب أحمد (‪ )5‬باإلسناد المتصل إلى عبد هللا‬
‫بن أحمد بن حنبل قال‪" :‬رأيت أبي –يعني أحمد بن حنبل‪ -‬يأخذ‬
‫__________‬
‫مس قبر النبي (‪.)121/4‬‬
‫مصنف ابن أبي شيبة‪ ،‬باب ّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر كشاف القناع (‪.)150/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫العلل ألحمد بن حنبل (‪.)492/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫غاية المنتهى (‪.)259-260/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مناقب أحمد بن حنبل (ص‪.)187-186/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫شعرة من شعر النبي صلى هللا عليه وسلم فيضعها على فيه ويقبلها‪،‬‬
‫وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه‪ ،‬ويغمسها في الماء ثم يشربه‬
‫يستشفي به‪ ،‬ورأيته قد أخذ قصعة النبي صلى هللا عليه وسلم فغسلها في‬
‫جبّ الماء ثم شرب فيها‪ "....‬اهـ‪.‬‬
‫وروى ابن حبان في صحيحه (‪ )1‬تحت باب‪" :‬ذكر إباحة التبرك‬
‫بوضوء الصالحين من أهل العلم إذا كانوا متّبعين لسنن المصطفى صلى‬
‫هللا عليه وسلم عن ابن أبي ُج َحيفة‪ ،‬عن أبيه قال‪ :‬رأيت رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم في قبة حمراء ورأيت بالالً أخرج َوضوءه فرأيت الناس‬
‫يبتدرون وضوءه يتمسحون" اهـ‪.‬‬
‫وفيه (‪ )2‬عن جابر بن عبد هللا أنه قال‪" :‬جاءني النبي صلى هللا عليه‬
‫ي‬
‫وسلم يعودني وأنا مريض ال أعقل‪ ،‬فتوضأ وصب من وضوئه عل ّ‬
‫فعقلت" اهـ‪.‬‬
‫وروى ابن حبان وغيره (‪ )3‬عن نافع قال‪" :‬كان ابن عمر يتتبع ءاثار‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وكل منزل نزله رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ينزل فيه‪ ،‬فنزل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تحت شجرة فكان‬
‫ابن عمر يجيء بالماء فيصبه في أصل الشجرة كي ال تيبس"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وال يعارض هذا بما جاء عن أبيه أنه أمر بقطع شجرة بيعة الرضوان‬
‫وذلك لمعنى قصده رضي هللا عنه وهو خوف أن يعبدها بعص الناس‬
‫بمرور الزمان‪ ،‬وفعل ابنه هذا فيه إثبات التبرك بآثار رسول هللا وهو أمر‬
‫حسن لذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة‬
‫___________________‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان‪ ،)282/2( :‬ورواه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب‬ ‫(‪)1‬‬
‫الوضوء‪ :‬باب استعمال فضل وضوء الناس‪.‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)281/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪ ،)104/9‬مسند الحميدي (‪ .)293/2‬وانظر‬ ‫(‪)3‬‬
‫مفصالً المواضع التي كان يتتبعها ابن عمر رضي هللا عنه‪ :‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب‬
‫الصالة‪ :‬باب المسجد التي على طرف المدينة‪.‬‬

‫وغيرهم‪ ،‬فال تعارض بين األثرين أثر عمر وأثر ابنه رضي هللا عنهما‪،‬‬
‫وإن خالف في ذلك الوهابية لمعنى في أنفسهم وهو ترك تعظيم الرسول‪،‬‬
‫فإنهم يرون تعظيم الرسول بالتبرك بآثاره شعبة من شعب الشرك‪ ،‬وما أبعد‬
‫هذا الظن عما كان عليه الصحابة رضي هللا عنهم‪.‬‬
‫قال النووي في شرح مسلم ما نصه (‪" :)1‬قوله‪ :‬اتخذ رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم خات ًما من ورق فكان في يده ثم كان في يد أبي بكر ثم كان‬
‫في يد عمر ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس نقشه محمد‬
‫رسول هللا" فيه التبرك بآثار الصالحين ولبس لباسهم وجواز لبس الخاتم‬
‫وأن النبي صلى هللا عليه وسلم لم يورث إذ لو ورث لدفع الخاتم إلى ورثته‬
‫بل كان الخاتم والقدح والسالح ونحوها من ءاثاره الضرورية صدقة‬
‫للمسلمين يصرفها والي األمر حيث رأى من المصالح‪ ،‬فجعل القدح عند‬
‫أنس إكرا ًما له لخدمته ومن أراد التبرك به لم يمنعه وجعل باقي األثاث‬
‫عند ناس معروفين" اهـ‪.‬‬
‫فائدة مهمة‪ :‬أقول وعلى هللا االعتماد‪ :‬ليس للوهابية جواب عما جاء في‬
‫حديث األعمى الذي جاء رسو َل هللا فطلب منه أن يدعو له بأن يرد هللا‬
‫بصره‪ ،‬من قوله عليه الصالة والسالم له‪" :‬إيت الميضأة فتوضأ ثم ص ّل‬
‫ركعتين‪ ،‬ثم قال‪ :‬اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة‪ ،‬يا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫محمد إني أتوجه بك إلى ربي" إلى ءاخره‪ ،‬فإن الحديث يفيد ضد عقيدتهم‬
‫يفيد أن الرسول علَّم األعمى التوسل به بلفظ فيه يا محمد في غير حضرته‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ألنه عليه السالم ال يجوز نداؤه مشافهة يا محمد‪،‬‬
‫للنهي الذي ورد في القرءان عن ذلك‪ ،‬وقد بيّن راوي الحديث الذي حضر‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم حين علّم األعمى أن توسل األعمى باللفظ الذي‬
‫علّمه الرسول كان في غير حضرة الرسول ألن فيه قوله‪ :‬فوهللا ما ّ‬
‫تفرقنا‬
‫وال طال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر‪ ،‬وهذا النداء‬
‫معروف عند الوهابية أنه شرك وكفر‪ ،‬هذه عقيدتهم تكفير من ينادي‬
‫الرسول بهذا‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬شرح صحيح مسلم (‪.)67/14‬‬
‫اللفظ ومن ينادي غيره من نبي أو ولي كقول‪ :‬يا عبد القادر‪.‬‬
‫علم‬ ‫ّ‬
‫ظان أن األعمى قرأ هذا التوسل في وجه رسول هللا لما ُ‬ ‫ّ‬
‫يظن‬ ‫وال‬
‫من ثبوت النهي عن ذلك‪ ،‬وهذا دليل على ضيق دائرة اطالعهم وأن‬
‫تسميتهم ألنفسهم سلفيين خالف الواقع والحقيقة‪.‬‬
‫ثم من العجب العُجاب أنهم في هذا خالفوا زعيمهم األول ابن تيمية الذيي‬
‫أخذ منه ابن عبد الوهاب بمطالعة كتبه‪ ،‬فإنه ذكر في كتابه الكلم الطيب‬
‫قول عبد هللا بن عمر رضي هللا عنهما لما خدرت رجله‪" :‬يا محمد"‬
‫مستحسنًا لذلك‪ ،‬فهم من غير أن يشعروا يكونون كفّروا ابن تيمية‪ ،‬ألن‬
‫مستحسن الشرك مشرك‪ ،‬فابن تيمية استحسن هذا أي قول‪ :‬يا محمد‪ ،‬لمن‬
‫خدرت رجله اقتدا ًء بالبخاري وغيره من المحدثين من المتقدمين‬
‫والمتأخرين‪ ،‬ألن هذا األثر كما تقدم أورده من المتأخرين الحافظ ابن‬
‫الجزري في كتابيه اللذين ألّفهما في األذكار‪ :‬الحصن الحصين من كالم‬
‫ع ّدةِ الحصن الحصين‪ ،‬ثم الشوكاني الذي كان‬ ‫سيد المرسلين‪ ،‬ومختصره ُ‬
‫في قرن محمد بن عبد الوهاب القرن الثاني عشر وافق ابن الجزري‬
‫واتبعه في استحسانه لذلك في شرحه لعدة الحصن الحصين‪ .‬فإن محمد بن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عبد الوهاب توفي في أوائل القرن الثالث عشر‪ ،‬وهذا الكتاب الكلم الطيب‬
‫من تآليف ابن تيمية المشهورة‪ ،‬توجد منه نسخ خطية ومطبوعة‪.‬‬
‫ضا من ابن تيمية الذي ذكر حديث ابن عمر الذي هو‬ ‫أقول‪ :‬والعجب أي ً‬
‫توسل واستغاثة بالرسول بعد موته صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أنه قال في كتابه‬
‫التوسل والوسيلة (‪" :)1‬ال يجوز التوسل إال بالحي الحاضر" فسبحان‬
‫مصرف القلوب يصرفها كيف يشاء‪.‬‬
‫ّ‬

‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الكتاب (ص‪.)154/‬‬

‫قلت‪ :‬ويرده حديث الشفاعة الذي رواه البخاري عن ابن عمر بلفظ (‪:)1‬‬
‫"إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف األذن فبينما هم كذلك استغاثوا‬
‫بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضى بين الخلق" الحديث‪ ،‬فإذا كانت‬
‫االستغاثة جائزة في اآلخرة فما المانع أن تكون جائزة في الدنيا‪.‬‬
‫وتبين أن انتسابكم أيها الوهابية إلى السلف دعوى كاذبة وكذلك تسميتكم‬
‫محمد بن عبد الوهاب شيخ اإلسالم كتسميتكم ابن تيمية شيخ اإلسالم‪ ،‬وهذا‬
‫تناقض منكم‪ ،‬والحقيقة أن تسميتكم لكل منهما شيخ اإلسالم وضع للكلمة‬
‫في غير محلها‪ ،‬كيف يصح أن يكون قول‪" :‬يا محمد" شر ًكا مع قول ءاخر‬
‫إنه شئ حسن‪ ،‬وال يخفى على ذي عقل أن إيراد ابن تيمية قول من خدرت‬
‫رجله‪" :‬يا محمد" مستحسنًا لذلك يكون على مقتضى عقيدتكم دعوة للشرك‬
‫مع أنه هو قدوتكم في تجسيم البارئ أي إثبات الح ّد هلل تعالى وإثبات‬
‫األعضاء والحركة والسكون‪ ،‬وكل ذلك عند العقالء المنزهين تشبيه للخالق‬
‫بالمخلوق‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب من سأل الناس‬
‫تكثرا‪.‬‬
‫ً‬

‫طريق سهل لكسر الوهابية‬

‫يقال لهم‪ :‬أنتم دينكم جديد أنشأه محمد بن عبد الوهاب بدليل أن المسلمين‬
‫يحرم قول‪" :‬يا محمد" قبل ابن عبد الوهاب‪ ،‬حتى الذي‬ ‫ما كان أحد منهم ّ‬
‫محمد بن عبد الوهاب يسميه شيخ اإلسالم وهو ابن تيمية يُ ِق ُّر قول "يا‬
‫محمد" عند الضيق لمن أصابه في رجله خدر‪ ،‬فهو يقول مطلوب أن يقول‬
‫الذي أصابه َخ َد ٌر في رجله –أي مرض في رجله تتعطل حركتها وليس‬
‫هذا المسمى بالتنميل‪" -‬يا محمد" ويستدل بعبد هللا بن عمر رضي هللا عنه‬
‫فإنه كان أصابه خدر في رجله فقيل له‪ :‬اذكر أحب الناس إليك فقال‪" :‬يا‬
‫محمد" فتعافى‪.‬‬
‫ويقال للوهابية‪ :‬ابن تيمية الذي تسمونه شيخ اإلسالم أجاز هذا وأنتم‬
‫كفرا؟! حتى ابن تيمية برئ منكم في هذه المسئلة‪ ،‬فكيف تدّعون‬ ‫تسمونه ً‬
‫أنكم على دين اإلسالم ولستم على دين اإلسالم‪ ،‬وأنتم كفَّرتم األمة‪ ،‬واألمة‬
‫حرم هذا‪ ،‬ومن‬‫لم يكن فيهم خالف في جواز قول "يا محمد" فأنتم أول من َّ‬
‫كفّر األمة فهو الكافر ألن األمة ال تزال على اإلسالم فقد روى البخاري‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬لن يزال أمر هذه األمة مستقي ًما‬
‫حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر هللا‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬ابن تيمية ما قال هذا‪ ،‬يقال لهم‪" :‬يَش َه ُد عليكم كتابه "الكلم‬
‫الطيب"‪ ،‬والعلماء الذين ترجموا البن تيمية ذكروا هذا الكتاب في أسماء‬
‫معاصرا البن تيمية ويتردد عليه‬‫ً‬ ‫كتبه ومنهم صالح الدين الصفدي وكان‬
‫فقد ذكر أن هذا الكتاب من تأليف ابن تيمية‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب االعتصام بالكتاب والسنة‪:‬‬
‫باب قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال تزوال طائفة من أمتى‬
‫ظاهرين على الحق" وهم أهل العلم‪.‬‬

‫ثم زعيمكم األخير األلباني اعترف وقال‪ :‬هذا الكتاب ثابت البن تيمية‬
‫وعمل عليه تعليقًا لكنه قال‪ :‬إن إسناد قول ابن عمر "يا محمد" ل ّما خد َِرت‬
‫رجله ضعيف‪ ،‬وهذا ال يعكر علينا ألنه ثبت أن ابن تيمية أورده وقال‪:‬‬
‫الرجل إذا خدرت" وسمى الكتاب "الكلم الطيب" (‪ ،)1‬ولو‬ ‫"فصل في ِ ّ‬
‫فُرض أن إسناده ضعيف لكن ثبت أن ابن تيمية أجاز هذا‪ ،‬فمن الذي يكفُ ُر‬
‫أهو الذي تسمونه شيخ اإلسالم أم أنتم؟! ألنكم كفرتموه ُحك ًما وإن لم‬
‫َ‬
‫تشعروا‪ ،‬هنا ال يتجرأون أن يقولوا ابن تيمية كافر وال يقولون عن أنفسهم‬
‫نحن كفار‪ ،‬نقول‪ :‬إذن أنتم دينكم جديد‪ ،‬كفَّرتم المسلمين من أيام الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم إلى أيامنا‪ ،‬ومن حيث المعنى كفَّرتم ابن تيمية ألنه‬
‫الرجل ومن استحسن الكفر فهو كافر‪،‬‬ ‫استحسن قول "يا محمد" عند خدر ّ‬
‫فهل لكم من جواب؟ هذه تكسر ظهورهم‪.‬‬
‫على أن قول األلباني ليس حجة ألنه ليس أهالً للتضعيف والتصحيح‬
‫ألنه محروم من الحفظ فهو ليس حاف ً‬
‫ظا باعترافه فال يحفظ عشرة أحاديث‬
‫بأسانيدها‪ ،‬فإنه قال عن نفسه‪" :‬أنا محدّث كتاب لستُ محدّث حفظ"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ولو قال أحدهم‪ :‬ابن تيمية رواه من طريق مختلف فيه يقال لهم‪ :‬مجرد‬
‫إيراده لهذا في هذا الكتاب دليل على أنه استحسنه إن فُ ِرض أنه يراه‬
‫رض أنه يراه غير صحيح‪ ،‬ألن الذي يورد الباطل في كتابه‬ ‫صحي ًحا وإن فُ َ‬
‫وال يُحذّ ُِر منه فهو داع إلى ذلك الشئ‪.‬‬
‫سني والبخاري في كتاب "األدب‬ ‫وهذه القصة رواها الحافظ ابن ال ُّ‬
‫المفرد" (‪ )2‬بإسناد ءاخر غير إسناد ابن السني‪ ،‬ورواها الحافظ الكبير‬
‫إبراهيم الحربي الذي كان يُشبَّه باإلمام أحمد بن حنبل في العلم والورع‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬الكلم الطيب (ص‪.)73/‬‬
‫(‪ )2‬عمل اليوم والليلة (ص‪ ،)73-72/‬األدب المفرد (ص‪.)324/‬‬

‫ضا‪ ،‬ورواها‬‫في كتابه "غريب الحديث" (‪ )1‬بغير إسناد ابن السني أي ً‬


‫الحافظ النووي (‪ ،)2‬والحافظ ابن الجزري في كتابه "الحصن الحصين"‬
‫وكتابه " ِعدة الحصن الحصين" (‪ ،)3‬ورواها الشوكاني (‪ )4‬الذي هو‬
‫يوافقكم في بعض األشياء وهو غير مطعون فيه عندكم‪ ،‬فيا وهابية أين‬
‫المفر‪ ،‬ويا لها من فضيحة عليكم وابن تيمية هو إمامكم الذي أخذ ابن عبد‬
‫الوهاب بعض أفكاره التي خالف فيها المسلمين من كتبه؟‪.‬‬
‫فإن قلتم‪ :‬نحن على صواب وابن تيمية استحل الشرك والكفر‪ ،‬قلنا‪ :‬قد‬
‫غيره من ضالالته‪ ،‬وتكونون اعترفتم‬‫كفّرتم ركنكم في عقيدة التشبيه وفي ِ‬
‫بأنكم متبعون لرجل كافر تحتجون بكالمه في كثير من عقائدكم‪ ،‬فقد‬
‫كفر بسببه وهو قوله‪ :‬إن كالم هللا ومشيئته حادث‬
‫اتبعتموه في قوله الذي َ‬
‫األفراد قديم النوع أي الجنس‪ ،‬وقوله‪ :‬إن جنس العالم أزلي مع هللا ليس‬
‫مخلوقًا‪ ،‬في هذا الكفر هو ركنكم فقد تبعتموه وجعلتموه قدوة لكم فيما خالف‬
‫فيه الحق وخالفتموه فيما وافق فيه الصواب وهو جواز االستغاثة بالرسول‬
‫عند الضيق بقول‪" :‬يا محمد"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي سلفي أنكر قول "يا محمد" عند‬ ‫ثم إنكم كاذبون في دعوى السلفية‪ ،‬أ ّ‬
‫الضيق؟ فتسميتكم أنفسكم بهذا االسم حرام ألنها توهم أنكم على عقيدة‬
‫السلف وأنتم لستم على عقيدة السلف وال الخلف‪ ،‬أنتم تدينون دينًا جديدًا‪،‬‬
‫ألن قول "يا محمد" لالستغاثة جائز عند السلف والخلف في حياة الرسول‬
‫وبعده باالتفاق‪ ،‬وإنما ُح ّرم نداؤه صلى هللا عليه وسلم "يا محمد" في وجهه‬
‫بعض ُكن‬
‫ُعاء ِ‬‫في حياته بعد نزول اآلية {ال ت َ ْج َعلوا دُعا َء الرسو ِل بينَ ُكم كد ِ‬
‫ضا} [سورة النور‪ ،]63/‬وكان سبب تحريم ذلك أن قو ًما ُجفاة نا َدوه من‬ ‫بع ً‬
‫فحرم هللا تعالى ذلك في وجهه تشريفًا‬ ‫وراه ُح ُجراته‪" :‬يا محمد اخرج إلينا" َّ‬
‫له‪.‬‬
‫__________‬
‫غريب الحديث (‪.)673-674/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫األذكار (ص‪.)321/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫عدة الحصن الحصين (ص‪.)105/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تحفة الذاكرين (ص‪.)267/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وكان توسل األعمى الذي طلب من الرسول أن يدعو له بالشفاء فعلَّمه‬
‫الرسول أن يقول‪" :‬اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا‬
‫عز وجل في حاجتي" خار َج حضرة‬ ‫محمد إني أتوجه بك إلى ربي ّ‬
‫الرسول ألنه قال له‪" :‬ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه‬
‫الدعوات" (‪ )1‬فذهب الرجل فتوضأ وصلّى ركعتين ودعا بهذا التوسل ثم‬
‫رجع إلى الرسول صلى هللا عليه وسلم وقد أبصر‪ ،‬وهذا دعاء في حضرة‬
‫الرسول في حياته عليه السالم‪ ،‬وأنتم قد تبعتم ابن تيمية فيما قاله في كتابه‬
‫"التوسل والوسيلة" إنه ال يجوز التوسل إال بالحي الحاضر‪ ،‬لكن بهذه‬
‫االستغاثة التي استحسنها ابن تيمية والتي هي استغاثة به صلى هللا عليه‬
‫وكفرا فما أتْ َو َهكم عن الحق‪.‬‬
‫ً‬ ‫وسلم بعد وفاته خالفتموه وجعلتم ذلك شر ًكا‬
‫ضا في الرد عليهم في قولهم بإثبات التحيّز هلل في العرش‪:‬‬
‫ويقال أي ً‬
‫"الر ُجل إذا كان قائ ًما المسافة من رأسه إلى العرش أقرب أم لو كان‬
‫َّ‬
‫ساجدًا؟ فيقولون‪ :‬أقرب إذا كان قائ ًما فيقال لهم‪ :‬أنتم جعلتم العرش ً‬
‫حيزا هلل‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ض عليكم ما زعمتموه فقد روى‬ ‫وحديث الرسول صلى هللا عليه وسلم ينقُ ُ‬
‫مسلم أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال (‪" :)2‬أقرب ما يكون العبد من ربه‬
‫وهو ساجد فأكثروا الدعاء" وأنتم تقولون‪" :‬التأويل تعطيل" أي نفي لوجود‬
‫هللا وصفاته فعلى قولكم ِمن َمنعِ التأويل انتقض عليكم معتقدكم‪ ،‬أما نحن‬
‫العرش استوى} [سورة‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫لرحمن على‬ ‫أهل السنة نؤول قول هللا تعالى‪{ :‬ا‬
‫طه‪ ]5/‬ونؤول كل ءاية أو حديث ظاهره أن هللا متحيز في الجهة والمكان‬
‫ي صفة من صفات الخلق‬ ‫أو أن له أعضاء أو حدَّا أو حركة وانتقاالً أو أ ّ‬
‫تأويالً إجماليًا أو تأويالً تفصيليًا كما ثبت ذلك عن السلف وتبعهم الخلف‪،‬‬
‫ونقول‪ :‬ليس المراد ظواهرها بل المراد بها معان تليق باهلل‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ ،)17-18/9‬والمعجم‬
‫الصغير (ص‪ )202-201/‬وقال‪" :‬والحديث صحيح"‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب ما يقال في‬
‫الركوع والسجود‪.‬‬
‫تعالى كما قال بعضهم‪" :‬بال كيف وال تشبيه"‪ .‬ويعني أهل السنة بقولهم‪:‬‬
‫"بال كيف" أن هذه اآليات واألحاديث ليس المراد بها الجسمية ولوازمها‪،‬‬
‫هذا مراد السلف والخلف من أهل السنة بقولهم‪" :‬بال كيف" ليس مرادهم‬
‫ظا "بال كيف" وتعتقدون الكيْف‪.‬‬‫تموهون على الناس فتقولون لف ً‬
‫كما ّ‬
‫وأما التأويل التفصيلي فقد ثبت عن السلف وإن كانوا لم يكثروا منه فقد‬
‫ثبت عن اإلمام أحمد بن حنبل تأوي ُل المجيء الذي ذُكر في هذه اآلية‬
‫{وجا َء رب َُّك} [سورة الفجر‪ ]22/‬أنه قال (‪" :)1‬جاء ثوابه"‪ ،‬وروي عنه أنه‬
‫قال‪" :‬جاء أمره" وأنتم قلتم‪ :‬إن مجيء هللا بالنزول الحسي باالنتقال من‬
‫العرش إلى األرض كما أن المالئكة ينزلون نزوالً حسيًا باالنتقال من‬
‫أماكنهم العلوية إلى األرض يوم القيامة‪ ،‬ولو كان اإلمام أحمد يعتقد‬
‫اعتقادكم ما َّأول اآلية بل أقرها على الظاهر كما أنتم تفسرون‪ .‬وهذا‬
‫التأويل من اإلمام أحمد ثابت صححه البيهقي في كتابه مناقب اإلمام أحمد‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫{يوم يُ ْكش ُ‬
‫َف عن‬ ‫َ‬ ‫وكذلك ثبت عن السلف تفسير الساق المذكور في ءاية‬
‫ق} [سورة القلم‪ ]42/‬بأن الساق هي الشدة الشديدة (‪ ،)2‬وأنتم جعلتم‬
‫سا ٍ‬
‫عضوا كما أن لإلنسان عضو الساق‪ ،‬فأين أنتم من تنزيه هللا عن‬
‫ً‬ ‫الساق‬
‫مشابهة الخلق‪ ،‬فظهر أن انتسابكم إلى اإلمام أحمد انتساب كاذب‪.‬‬
‫والبخاري ذكر في جامعه تأويلين آليتين‪َّ ،‬أول ءاية‪{ :‬ك ُّل ش ٍئ ها ِل ٌك‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬البداية والنهاية (‪ ،)327/10‬قال البيهقي‪" :‬هذا إسناد ال غبار‬
‫عليه‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪ ،)428/13‬األسماء والصفات (ص‪.)345/‬‬

‫إال وج َههُ} [سورة القصص‪َّ ]88/‬أول الوجهَ بال ُملك (‪ ،)1‬وكذلك ذكر‬
‫سفيان الثوري في تفسيره (‪ ،)2‬والموضع الثاني الذي َّأول البخاري فيه‬
‫بناصيَ ِتها} َّأولها بال ُملك والسلطان (‪ ،)3‬ما َّأول كما أنتم‬
‫ِ‬ ‫{ءاخذٌ‬
‫ِ‬ ‫ءاية‬
‫تعتقدون بمعنى المس‪ ،‬وظاهر اآلية أن هللا يقبض بناصية كل دابة وهذا‬
‫المس من صفات الخلق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫س ألن‬
‫س أو يُ َم َّ‬
‫تشبيه ألنه ال يجوز على هللا أن َي َم َّ‬
‫أما حديث مسلم هذا فنؤوله ونقول‪ :‬القُرب في هذا الحديث ال يراد به‬
‫القُرب المسافي‪ ،‬وكذلك في كل حديث وءاية ظا ِه ُرهُ أن هللا متحيّز في جهة‬
‫فوق يؤول وال يُحمل على الظاهر‪ ،‬فأين أنتم من قولكم‪" :‬التأويل تعطيل"‪،‬‬
‫ومن قولكم‪" :‬التأويل إلحاد"‪.‬‬
‫ويُقال لهم‪ :‬حديث مسلم هذا إن لم تحملوه على الظاهر بل َّأولتموه فقد‬
‫ناقضتم أنفسكم فإنكم تقولون‪" :‬التأويل تعطيل" ثم تفعلونه فتؤولون‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬التفسير‪ :‬أول باب تفسير سورة القصص‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرءان الكريم (ص‪.)194/‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬سورة هود‪ :‬باب قوله‪{ :‬وكانَ‬
‫عر ُ‬
‫شهُ على الماء} [سورة هود‪.]7/‬‬
‫منع الوهابية لبس الحروز التي فيها‬
‫ءايات من القرءان أو ذِكر هللا‬

‫العجب العجاب أن الوهابية يمنعون من هذه التعاويذ والحروز التي ليس‬


‫فيها إال شئ من القرءان أو ذكر هللا ويقطعونها من أعناق من يحملها‬
‫قائلين‪ :‬هذا شرك‪ ،‬وقد يضربونه‪ ،‬فبماذا يحكمون على عبد هللا بن عمرو‬
‫بن العاص وغيره من الصحابة الذين كانوا يعلقون هذه على أعناق أطفالهم‬
‫الذين لم يبلغوا‪ ،‬أيحكمون عليهم بالشرك‪ ،‬وماذا يقولون في أحمد بن حنبل‬
‫الذي سمح بها‪ ،‬وماذا يقولون في اإلمام المجتهد ابن المنذر‪ .‬كفاهم خزيًا أن‬
‫يعتبروا ما كان عليه السلف شر ًكا‪.‬‬
‫روى الحافظ ابن حجر في األمالي (‪ )1‬عن محمد بن يحيى بن حبان –‬
‫بفتح المهملة وتشديد الموحدة‪ -‬وهو األنصاري أن خالد بن الوليد كان يأرق‬
‫من الليل‪ ،‬فذكر ذلك للنبي صلى هللا عليه وسلم فأمره أن يتعوذ بكلمات هللا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫التا ّمة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن‬
‫يحضرون‪ .‬قال‪ :‬هذا مرسل صحيح اإلسناد أخرجه ابن السني‪.‬‬
‫وروى عن محمد بن يحيى بن حبان أن الوليد بن الوليد بن المغيرة شكا‬
‫إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حديث نفس يجده فقال‪" :‬إذا أويت إلى‬
‫فراشك فقل‪ :‬أعوذ بكلمات هللا التّا ّمة" فذكره سواء وزاد في ءاخره‪:‬‬
‫يضرك شئ حتى تصبح"‪ ،‬قال‪ :‬وهذا مرسل صحيح‬ ‫ّ‬ ‫"فوالذي نفسي بيده ال‬
‫اإلسناد أخرجه البغوي‪.‬‬
‫وعن عمرو بن شعيب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جده قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا‬
‫ّ‬
‫نقولهن عند النوم من الفزع‪ ،‬وفي‬ ‫عليه وعلى ءاله وسلّم يعلّمنا كلمات‬
‫رواية إسماعيل‪" :‬إذا فزع أحدكم فليقل‪ :‬أعوذ بكلمات هللا التّا ّمة من غضبه‬
‫وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون"‪،‬‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬نتائج األفكار (ص‪ ،)104-103/‬مخطوط‪.‬‬
‫وكان عبد هللا بن عمرو يعلّمها من بلغ من بنيه أن يقولها عند نومه ومن لم‬
‫يبلغ كتبها ثم علّقها في عنقه‪ .‬قال الحافظ‪ :‬هذا حديث حسن أخرجه‬
‫الترمذي (‪ )1‬عن علي بن ُح ْج ٍر‪ ،‬عن إسماعيل بن عباس‪ ،‬وأخرجه‬
‫النسائي (‪ )2‬عن عمرو بن علي الفالس‪ ،‬عن يزيد بن هارون اهـ‪.‬‬
‫وروى ابن أبي الدنيا (‪ )3‬عن حجاج قال‪ :‬أخبرني من رأى سعيد بن‬
‫جبير يكتب التعاويذ للناس‪ ،‬والرجل الغير مسمى جاء مصر ًحا به في‬
‫رواية البيهقي (‪ )4‬أنه فضيل‪.‬‬
‫الرقى والتمائم والت ّ َو َلة‬ ‫وأما الحديث الذي رواه أبو داود (‪ّ :)5‬‬
‫"إن ُّ‬
‫شرك"‪ ،‬فليس معناه التمائم والتعاويذ التي فيها قرءان أو ذكر هللا لكن‬
‫حرفت الحديث‪ ،‬والتمائم معروف معناه في اللغة وهي الخرز‬ ‫الوهابية ّ‬
‫الرقى التي قال الرسول‬ ‫كانت الجاهلية تضعها على أعناق الغلمان‪ ،‬كما ّ‬
‫أن ُّ‬
‫الرقى‬
‫إنها شرك هي ُرقى الجاهلية وما كان في معناها‪ ،‬وليس المراد بها ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫التي فعلها الرسول وغيره من الصحابة‪ .‬فانظروا أيها المسلمون كيف‬


‫يحرفون الكلم عن مواضعه‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفي كتاب مسائل اإلمام أحمد ألبي داود السجستاني (‪ )6‬ما نصه‪:‬‬
‫"أخبرنا أبو بكر‪ ،‬قال حدثنا أبو داود‪ ،‬قال‪ :‬رأيت على ابن ألحمد وهو‬
‫_____________‬
‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب الدعوات‪ :‬باب ‪ ،94‬وأحمد في‬ ‫(‪)1‬‬
‫مسنده (‪.)181/2‬‬
‫أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة‪ :‬باب ما يقول من يفزع في‬ ‫(‪)2‬‬
‫منامه‪.‬‬
‫كتاب العيال (ص‪.)144/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫السنن الكبرى (‪.)351/9‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الطب‪ :‬باب في تعليق التمائم‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫انظر الكتاب (ص‪.)260/‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫صغير تميمة (‪ )1‬في رقبته من أديم‪ .‬أخبرنا أبو بكر‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا أبو داود‪،‬‬
‫سمعت أحمد سئل عن الرجل يكتب القرءان في شئ ثم يغسله ويشربه؟‬
‫قال‪ :‬أرجو أن ال يكون به بأس‪ .‬قال أبو داود‪ :‬سمعت أحمد قيل له‪ :‬يكتبه‬
‫في شئ ثم يغسله فيغتسل به؟ قال‪ :‬لم أسمع فيه بشئ" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب معرفة العلل وأحكان الرجال (‪ )2‬عن عبد هللا بن أحمد بن‬
‫حنبل قال‪" :‬حدثني أبي‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أخبرني إسماعيل بن أبي خالد‪ ،‬عن فراس‪ ،‬عن الشعبي قال‪ :‬ال بأس‬
‫بالتعويذ من القرءان يعلق على اإلنسان" اهـ‪.‬‬
‫وقال عبد هللا بن أحمد (‪" :)3‬رأيت أبي يكتب التعاويذ للذي يصرع‬
‫وللحمى ألهله وقراباته‪ ،‬ويكتب للمرأة إذا عسر عليها الوالدة في جام أو‬
‫شئ نظيف‪ ،‬ويكتب حديث ابن عباس‪ ،‬إال أنه كان يفعل ذلك عند‬
‫________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫حرزا وال يعني بالتميمة التي هي خرزات التي ثبت النهي‬ ‫ً‬ ‫(‪ )1‬أي‬
‫عنها بقوله عليه السالم‪" :‬إن الرقى والتمائم والتولة شرك"‪ .‬فال‬
‫تغفل أيها الناظر‪ .‬وتلك التمائم التي نهى الرسول عنها ألنه كانت‬
‫الجاهلية يعلقونها على أعناقهم يعتقدون أنها بطبعها تحفظ من‬
‫العين ونحوها من دون اعتقاد أنها تنفع بإذن هللا ولهذا االعتقاد‬
‫سماها الرسول شر ًكا كما أنه ذكر الرقى في هذا الحديث ألن‬
‫الرقى منها ما هي شركية ومنها ما هي شرعية فرقى الجاهلية‬
‫التي جعلها الرسول شر ًكا كان فيها دعوة الشياطين والطواغيت‬
‫ومعلوم أن كل قبيلة من العرب كان لها طاغوت وهو شيطان‬
‫ينزل على رجل منهم فيتكلم على لسانه فكانوا يعبدونه‪ .‬وأما‬
‫الرقى الشرعية فقد فعلها الرسول وعلمها أصحابه وأما التمائم‬
‫فإن المسلمين من عهد الصحابة كانوا يستعملونها للحفظ من‬
‫العين ونحوها بتعليقها وتتضمن شيئًا من القرءان أو ذكر هللا‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر الكتاب (ص‪.)279-278/‬‬
‫(‪ )3‬انظر كتاب مسائل اإلمام أحمد البنه عبد هللا (ص‪.)447/‬‬
‫يعوذ في الماء‬
‫وقوع البالء‪ ،‬ولم أره يفعل هذا قبل وقوع البالء‪ ،‬ورأيته ّ‬
‫ويُشربه المريض‪ ،‬ويصب على رأسه منه‪ ،‬ورأيت أبي يأخذ من شعر‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم فيضعها على فيه يقبّلها‪ ،‬وأحسب أني قد رأيته‬
‫يضعها على رأسه أو عينه‪ ،‬فغمسها في الماء ثم شربه يستشفي به‪ ،‬ورأيته‬
‫قد أخذ قصعة النبي صلى هللا عليه وسلم بعث بها إليه أبو يعقوب بن‬
‫سليمان بن جعفر فغسلها في جب الماء ثم شرب فيها‪ ،‬ورأيته غير مرة‬
‫يشرب من ماء زمزم يستشفي به ويمسح به يديه ووجهه" اهـ‪.‬‬
‫وفي مصنف ابن أبي شيبة ما نصه (‪" :)1‬حدثنا أبو بكر قال‪ :‬حدثنا‬
‫علي بن مسهر‪ ،‬عن ابن أبي ليلى عن الحكم‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن‬
‫عباس قال‪ :‬إذا عسر على المرأة ولدها‪ ،‬فيكتب هاتين اآليتين والكلمات في‬
‫صحفة ثم تغسل فتسقى منها "بسم هللا ال إله إال هو الحليم الكريم‪ ،‬سبحان‬
‫يوم َي َرونها ل ْم ْيلبَثوا‬
‫هللا ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم‪{ ،‬كأنَّ ُه ْم َ‬
‫يوم يرونَ ما يُو َعدونَ‬ ‫ضحاها} [سورة النازعات‪{ ،]46/‬كأنَّ ُهم َ‬ ‫إال َع ِشيَّةً أو ُ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ل ْم يلبَثوا إال ساعةً من ٍ‬


‫نهار بال ٌ‬
‫غ} [سورة األحقاف‪{ ]35/‬ف َه ْل يُ ْهلَكُ إال‬
‫القو ُم الفا ِسقون} [سورة األحقاف‪ "]35/‬اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن المنذر في األوسط (‪" :)2‬ورخص بعض من كان في‬
‫عصرنا للجنب والحائض في مس المصحف ولبس التعويذ ومس الدراهم‬
‫والدنانير التي فيها ذكر هللا تعالى على غير طهارة‪ ،‬وقال معنى قوله‪{ :‬ال‬
‫ط َّهرون} [سورة الواقعة‪ ]79/‬المالئكة‪ ،‬كذلك قال أنس وابن‬ ‫سهُ إال ال ُم َ‬
‫يَ َم ُّ‬
‫سهُ إال‬
‫جبير ومجاهد والضحاك وأبو العالية‪ ،‬وقال‪ :‬وقوله {ال يم ُّ‬
‫سه‪ ،‬واحتج بحديث‬ ‫ط َّهرون} خبر بضم السين ولو كان نهيًا لقال ال يم َّ‬ ‫ال ُم َ‬
‫أبي هريرة وحذيفة عن النبي عليه السالم أنه قال‪" :‬المؤمن ال‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬انظر الكتاب (‪.)39-40/5‬‬
‫(‪ )2‬انظر كتاب األوسط في السنن واإلجماع واالختالف (‪-103/1‬‬
‫‪.)104‬‬
‫ينجس" واألكثر من أهل العلم على القول األول‪ ،‬وقد روينا عن ابن جبير‬
‫أنه بال ثم توضأ وضوءه إال رجليه ثم أخذ المصحف‪ .‬وروي عن الحسن‬
‫سا أن يمس الدراهم على غير وضوء يقوالن‬ ‫وقتادة أنهما كانا ال يريان بأ ً‬
‫جبلوا على ذلك‪ .‬واحتجت هذه الفرقة بقول النبي عليه السالم لعائشة‪:‬‬
‫أعطني الخمرة‪ ،‬قالت‪ :‬إني حائض‪ ،‬قال‪" :‬إن حيضتك ليست في يدك"‪،‬‬
‫وبقول عائشة‪ :‬كنت أغسل رأس النبي عليه السالم وأنا حائض‪ ،‬قال‪ :‬وفي‬
‫هذا دليل على أن الحائض ال تنجس ما تمس إذ ليس جميع بدنها بنجس‪،‬‬
‫ولما ثبت أن بدنها غير نجس إال الفرج ثبت أن النجس في الفرج لكون الدم‬
‫فيه‪ ،‬وسائر البدن طاهر" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب اآلداب الشرعية (‪ )1‬لشمس الدين بن مفلح الحنبلي ما نصه‪:‬‬
‫"قال المروزي‪ :‬شكت امرأة إلى أبي عبد هللا أنها مستوحشة في بيت‬
‫وحدها فكتب لها رقعة بخطه بسم هللا وفاتحة الكتاب والمعوذتين وءاية‬
‫ي أبو عبد هللا من الحمى‪ :‬بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫الكرسي وقال كتب إل ّ‬
‫بردًا وسال ًما على إبراهيم}‬
‫نار كوني ْ‬
‫بسم هللا وباهلل ومحمد رسول هللا {يا ُ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫[سورة األنبياء‪ ]69/‬اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب‬


‫وقوتك وجبروتك إله الحق ءامين‪ ،‬وقال‪ :‬وقال صالح‬ ‫هذا الكتاب بحولك ّ‬
‫ربما اعتللت فيأخذ أبي قد ًحا فيه ماء فيقرأ عليه ويقول لي اشرب منه‬
‫واغسل وجهك ويديك‪ .‬ونقل عبد هللا أنه رأى أباه يعوذ في الماء ويقرأ‬
‫عليه ويشربه ويصبّ على نفسه منه‪ ،‬قال عبد هللا ورأيته غير مرة يشرب‬
‫ماء زمزم فيستشفي به ويمسح به يديه ووجهه وقال يوسف بن موسى‪ :‬إن‬
‫أبا عبد هللا كان يؤتى بالكوز ونحن بالمسجد فيقرأ عليه ويعوذ‪ .‬قال أحمد‬
‫يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولدها في جام أبيض أوشئ نظيف بسم هللا‬
‫الرحمن الرحيم ال إله إال هللا الحليم الكريم سبحان هللا رب العرش العظيم‬
‫الحمد هلل رب العالمين {كأنَّ ُهم َ‬
‫يوم‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬انظر اآلداب الشرعية (‪ .)476/2‬وشمس الدين بن مفلح كان‬
‫أعرف الناس بمسائل ابن تيمية التي انفرد بها‪ ،‬توفي سنة ‪763‬‬
‫هـ‪.‬‬
‫غ} [سورة األحقاف‪]35/‬‬ ‫َي َرونَ ما يُو َعدونَ ل ْم يَ ْل َبثوا إال ساعةً من ٍ‬
‫نهار بال ٌ‬
‫ضحاها} [سورة النازعات‪ ]46/‬ثم‬ ‫يوم يرونَها لم يل َبثوا إال عشيةً أو ُ‬‫{كأنهم َ‬
‫تسقى منه وينضح ما بقي على صدرها‪ ،‬وروى أحمد هذا الكالم عن ابن‬
‫عباس ورفعه ابن السني في عمل اليوم والليلة" اهـ‪.‬‬
‫وروى البيهقي في السنن الكبرى (‪ )1‬عن عقبة بن عامر الجهني رضي‬
‫هللا عنه قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬من علق تميمة‬
‫فال أتم هللا له‪ ،‬ومن علّق ودعة فال ودع هللا له" قال البيهقي‪ :‬وهذا أي ً‬
‫ضا‬
‫يرجع معناه إلى ما قال أبو عبيد‪ ،‬وقد يحتمل أن يكون ذلك وما أشبهه من‬
‫النهي والكراهية فيمن تعلقها وهو يرى تمام العافية وزوال العلة منها على‬
‫ما كان أهل الجاهلية يصنعون‪ ،‬فأما من تعلقها متبر ًكا بذكر هللا تعالى فيها‬
‫وهو يعلم أن ال كاشف إال هللا وال دافع عنه سواه فال بأس بها إن شاء هللا‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬أخبرنا أبو عبد هللا الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قاال‪ :‬ثنا أبو‬
‫العباس محمد بن يعقوب‪ ،‬ثنا هارون بن سليمان‪ ،‬ثنا عبد الرحمن بن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مهدي‪ ،‬عن عبد هللا بن المبارك‪ ،‬عن طلحة بن أبي سعيد‪ ،‬عن بكير بن عبد‬
‫هللا بن األشج‪ ،‬عن القاسم بن محمد‪ ،‬عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬ليس‬
‫التميمة ما يعلق قبل البالء‪ ،‬إنما التميمة ما يعلق بعد البالء ليدفع به‬
‫المقادير‪ .‬ورواه عبدان عن ابن المبارك وقال في متنه إنها قالت‪ :‬التمائم ما‬
‫علق قبل نزول البالء‪ ،‬وما علق بعد نزول البالء فليس بتميمة‪ .‬أنبأنيه أبو‬
‫عبد هللا إجازة أخبرني الحسن بن حليم أنبأ أبو الموجه أنبأ عبدان أنبأ عبد‬
‫هللا فذكره –وهذا أصح‪.-‬‬
‫أخبرنا أبو زكريا وأبو بكر بن الحسن قاال‪ :‬ثنا أبو العباس األصم‪ ،‬ثنا‬
‫بحر ابن نصر‪ ،‬ثنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني عمرو بن الحارث‪ ،‬عن بكير بن‬
‫عبد هللا‪ ،‬عن القاسم بن محمد‪ ،‬عن عائشة زوج النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫أنها قالت‪ :‬ليست بتميمة ما علّق بعد أن يقع البالء‪– .‬وهذا يدل على صحة‬
‫رواية عبدان‪-‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬السنن الكبرى (‪.)350-351/9‬‬
‫أخبرنا أبو عبد هللا الحافظ وأبو عبد الرحمن السلمي من أصله وأبو بكر‬
‫القاضي وأبو سعيد بن أبي عمرو‪ ،‬قالوا‪ :‬ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب‪،‬‬
‫ثنا محمد بن سنان‪ ،‬ثنا عثمان بن عمر‪ ،‬أنبأ أبو عامر الخراز‪ ،‬عن الحسن‪،‬‬
‫عن عمران بن حصين رضي هللا عنه أنه دخل على النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم وفي عنقه حلقة من صفر فقال‪" :‬ما هذه؟" قال‪ :‬من الواهنة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫سك أن توكل إليها‪ ،‬انبذها عنك"‪.‬‬
‫"أي ّ‬
‫أخبرنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي‪ ،‬ثنا أبو‬
‫الوليد حسان بن محمد الفقيه‪ ،‬ثنا إبراهيم بن علي‪ ،‬ثنا يحيى بن يحيى‪ ،‬أنبأ‬
‫وكيع‪ ،‬عن ابن أبي ليلى‪ ،‬عن أخيه‪ ،‬عن عبد هللا بن عكيم رضي هللا عنه‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من تعلق عالقة وكل إليها"‪.‬‬
‫أخبرنا أبو عبد هللا الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو‪ ،‬قاال‪ :‬ثنا أبو‬
‫العباس‪ ،‬ثنا هارون‪ ،‬ثنا عبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واقع بن سحبان‪ ،‬عن أسير بن جابر قال‪ :‬قال عبد هللا رضي هللا عنه‪ :‬من‬
‫تعلّق شيئًا وكل إليه‪ .‬قال‪ :‬وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬عن جرير بن‬
‫حازم قال‪ :‬سمعت الحسن قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من‬
‫تعلق شيئًا وكل إليه"‪ .‬قال‪ :‬وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن‬
‫الحجاج‪ ،‬عن فضيل أن سعيد بن جبير كان يكتب البنه المعاذة‪ ،‬قال وسألت‬
‫عطاء فقال‪ :‬ما كنا نكرهها إال شيئًا جاءنا من قبلكم‪.‬‬
‫أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن قاال‪ :‬ثنا أبو‬
‫العباس األصم‪ ،‬ثما بحر بن نصر‪ ،‬ثنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني نافع بن يزيد أنه‬
‫سأل يحيى بن سعيد عن الرقى وتعليق الكتب فقال‪ :‬كان سعيد بن المسيّب‬
‫يأمر بتعليق القرءان وقال‪ :‬ال بأس به‪.‬‬
‫قال الشيخ –أي البيهقي‪ -‬رحمه هللا‪ :‬وهذا كله يرجع إلى ما قلنا من أنه‬
‫إن رقى بما ال يعرف أو على ما كان من أهل الجاهلية من إضافة العافية‬
‫إلى الرقى لم يجز‪ ،‬وإن رقى بكتاب هللا أو بما يعرف من ذكر هللا متبر ًكا‬
‫به وهو يرى نزول الشفاء من هللا تعالى فال بأس به‪ .‬وباهلل التوفيق" اهـ‪.‬‬
‫أخيرا ما قاله الحافظ المؤرخ ابن طولون من التبرك بأسماء أهل‬
‫ً‬ ‫ولنذكر‬
‫الكهف في كتابه ذخائر القصر (‪ )1‬في ترجمة محمد بن إبراهيم بن عمر‬
‫بن إبراهيم بن مفلح الراميني األصل الصالحي الدمشقي الحنبلي ما نصه‪:‬‬
‫"وأنشدته ما وجدته بخط العالمة شهاب الدين بن ح ّجي الدمشقي‪ ،‬ما‬
‫أخبرنا به عنه أبو الفتح محمد بن محمد المزي‪ ،‬قال‪ :‬أخبرنا قاضي القضاة‬
‫جمال الدين أبو اليمن محمد بن أبي بكر المراغي المدني بمنزله بها يوم‬
‫األحد الثامن والعشرين من صفر سنة ثمانمائة وخمس عشرة في أسماء‬
‫أصحاب الكهف وأجاز لي روايته عنه وجميع ما يجوز له روايته (شعر)‪:‬‬
‫لف‬ ‫الكهف *** هم سبعةٌ إحفظ ِ‬
‫بغير ُخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يا َمن يَرو ُم ع َّد أهل‬
‫المشهور منها نظمي ْه‬
‫ِ‬ ‫الخلف جرى التسمي ْه *** فخذ على‬
‫ُ‬ ‫وإنما‬
‫ُم َكسلَمين تلوه أمليخا *** و َم َر ُ‬
‫طونِس شاع ُك ْن ُمصيخا‬
‫سازَ ُمونِ ْ‬
‫س فاضبطنه واستقن‬ ‫وبعده يا صاح يَ ْنيُونِ ْ‬
‫س ُرقِم *** و َ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫س فاستمع *** كذاك َك ْش ِفيطط يليه فاتبع‬


‫وبعده َدوان ََوانِ ْ‬
‫طمير *** ثامنهم هذا هو المشهور‬
‫ُ‬ ‫وكلبهم شاع اسمه قِ‬
‫فأول األسماء إن كتبته *** بخرقة ثم إذا نَبَذته‬
‫وسط الحريق أخمدت نيرانه *** في الوقت قد قالوا أتى برهانه‬
‫ق‬
‫والثاني إن كتبته وألقي *** في البحر يسكن هيجه بصد ِ‬
‫وإن يعلق ثالث األسماء *** بفخذ المسافر المشاء‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬انظر ذخائر القصر (ص‪ )97/‬مخطوط‪.‬‬

‫يعي ما دام عليه أبدا *** ولو سعى باألرض في طول المدا‬
‫لم َ‬
‫ضا يجعل *** في المال للحفظ كما قد نقلوا‬
‫ويكتب الرابع أي ً‬
‫وعلق الخامس بعد كتبه *** على الذي يحم وانفعه به‬
‫ً‬
‫حرزا على ذي الجيش في الهيجاء‬ ‫يا صاح واجعل سادس األسماء ***‬
‫والسابع اكتبه في اإلناء *** علقه واسقه لالصطفاء‬
‫وقال بعض العلماء نفعها *** لستة أشياء جل وقعها‬
‫فعد منها طلبًا وهربًا *** وللحريق مثل ما قد كتبا‬
‫ضا ترقم *** في المهد تحت رأسه وترسم‬
‫ولبكاء الطفل أي ً‬
‫ض َر ٌ‬
‫بان ُح َّمى *** فاحفظ هديت ضبط هذا نظما" اهـ‪.‬‬ ‫كذا صداع َ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ً‬
‫حرزا‪،‬‬ ‫ومن وحشية الوهابية أنهم يصولون ويضربون من رأوه يلبس‬
‫حتى إن غال ًما في بيروت كاد بعض الوهابية أن يخنقه من أجل هذا‪.‬‬

‫بيان‬
‫أنواع البدعة وحكمها‬

‫حدث على غير مثال سابق‪ ،‬وفي الشرع المحدث‬ ‫أن البدعة لغة ما أ ُ َ‬
‫اعلم ّ‬
‫ينص عليه القرءان وال جاء في السنّة‪ .‬قال ابن العربي‪" :‬ليست‬
‫َّ‬ ‫الذي لم‬
‫البدعة والمحدث مذمومين للفظ بدعة ومحدث وال معنييهما‪ ،‬وإنما يذم من‬
‫البدعة ما يخالف السنة‪ ،‬ويذ ّم من المحدثات ما دعا إلى الضاللة" اهـ‪.‬‬
‫أقسام البدعة‬
‫والبدعة تنقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫بدعة ضاللة‪ :‬وهي المحدثة المخالفة للقرءان والسنة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وبدعة هدى‪ :‬وهي المحدثة الموافقة للقرءان والسنة‪.‬‬


‫روى الحافظ البيهقي (‪ )1‬بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي‬
‫رضي هللا عنه قال‪" :‬المحدثات من األمور ضربان‪ :‬أحدهما ما أحدث مما‬
‫عا‪ ،‬فهذه البدعة الضاللة‪ ،‬والثانية‪ :‬ما‬
‫أثرا أو إجما ً‬
‫يخالف كتابًا أو سنة أو ً‬
‫ُ‬
‫أحدث من الخير ال خالف فيه لواحد من هذا‪ ،‬وهذه محدثة غير مذمومة"‬
‫اهـ‪ ،‬وقال الشافعي‪" :‬البدعة بدعتان‪ :‬محمودة ومذمومة‪ ،‬فما وافق السنة‬
‫فهو محمود وما خالفها فهو مذموم" (‪ )2‬اهـ‪.‬‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي (‪.)469/1‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)253/13‬‬

‫وقال النووي في كتاب تهذيب األسماء واللغات (‪ )1‬ما نصه‪" :‬البدعة‬


‫بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة‪ .‬قال اإلمام الشيخ المجمع على‬
‫إمامته وجاللته وتم ّكنه في أنواع العلوم وبراعته أبو محمد عبد العزيز بن‬
‫عبد السالم رحمه هللا ورضي عنه في ءاخر كتاب القواعد‪" :‬البدعة‬
‫ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة‪ .‬قال‪ :‬والطريق في‬ ‫ّ‬ ‫منقسمة إلى واجبة‬
‫ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة‪ ،‬فإن دخلت في قواعد اإليجاب‬
‫فمحرمة‪ ،‬أو الندب فمندوبة‪ ،‬أو المكروه‬
‫ّ‬ ‫فهي واجبة‪ ،‬أو في قواعد التحريم‬
‫فمكروهة‪ ،‬أو المباح فمباحة"‪ .‬انتهى كالم النووي‪.‬‬
‫وقال الفقيه ابن عابدين الحنفي في ر ّد المحتار (‪ )2‬ما نصه‪" :‬فقد تكون‬
‫البدعة واجبة كنصب األدلة على أهل ال ِفرق الضالّة‪ ،‬وتعلّم النحو المفهم‬
‫للكتاب والسنة‪ ،‬ومندوبة كإحداث نحو رباط ومدرسة‪ ،‬وكل إحسان لم يكن‬
‫سع بلذيذ‬
‫في الصدر األول‪ ،‬ومكروهة كزخرفة المساجد‪ ،‬ومباحة كالتو ّ‬
‫المآكل والمشارب والثياب" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذا التقسيم مفهوم من حديث البخاري (‪ )3‬ومسلم (‪ )4‬عن عائشة‬


‫َ‬
‫أحدث في‬ ‫رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬من‬
‫أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"‪ .‬ورواه مسلم (‪ )5‬بلفظ ءاخر وهو‪" :‬من‬
‫_____________‬
‫تهذيب األسماء واللغات‪ ،‬مادة (ب د ع)‪.)22/3( ،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ر ّد المحتار على الدر المختار (‪.)376/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الصلح‪ :‬باب إذا اصطلحوا على صلح‬ ‫(‪)3‬‬
‫جور فالصلح مردود‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب األقضية‪ :‬باب نقض األحكام الباطلة ور ّد‬ ‫(‪)4‬‬
‫محدثات األمور‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬التخريج السابق‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫عمل عمالً ليس عليه أمرنا فهو رد"‪ .‬فأفهم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫بقوله‪" :‬ما ليس منه" أن المحدث إنما يكون ردًّا أي مردودًا إذا كان على‬
‫خالف الشريعة وأن المحدّث الموافق للشريعة ليس مردودًا‪.‬‬
‫ب الذينَ ات َّ َبعُوهُ‬ ‫قال هللا تبارك وتعالى في كتابه العزيز‪{ :‬و َج َعلنا في قُلو ِ‬
‫ضوان هللاِ}‬‫ِ‬ ‫ور ْهبانيةً ا ْبت َ َدعوها ما َكتَبْناها علي ِه ْم إال ا ْب ِتغا َء ِر‬
‫ور ْحمةً َ‬
‫رأفةً َ‬
‫[سورة الحديد‪ .]27/‬فهذه اآلية يستد ّل بها على البدعة الحسنة‪ ،‬ألن معناها‬
‫مدح الذين كانوا مسلمين مؤمنين من أ ّمة عيسى متبعين له عليه السالم‬
‫باإليمان والتوحيد‪ ،‬فاهلل تعالى مدحهم ألنهم كانوا أهل رأفة ورحمة وألنهم‬
‫ابتدعوا رهبانية‪ ،‬والرهبانية هي االنقطاع عن الشهوات‪ ،‬حتى إنهم انقطعوا‬
‫تجردهم للعبادة‪ .‬فمعنى قوله تعالى‪{ :‬ما ًكتبناها‬ ‫عن الزواج رغبة في ّ‬
‫عليهم} [سورة الحديد‪ ]27/‬أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا‬
‫ينص لهم عليه‬ ‫َّ‬ ‫التقرب إلى هللا‪ ،‬فاهلل تعالى مدحهم على ما ابتدعوا مما لم‬ ‫ّ‬
‫في اإلنجيل وال قال لهم المسيح بنص منه‪ ،‬إنما هم أرادوا المبالغة في‬
‫والتجرد بترك االنشغال بالزواج ونفقة الزوجة واألهل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫طاعة هللا تعالى‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فكانوا يبنون الصوامع أي بيوتًا خفيفة من طين أو من غير ذلك على‬


‫المواضع المنعزلة عن البلد ليتجردوا للعبادة‪.‬‬
‫وهاك أحاديث وأقوال العلماء التي تد ُّل على هذا‪:‬‬
‫ي‬
‫منها ما رواه مسلم (‪ )1‬في صحيحه من حديث جرير بن عبد هللا البَ َجل ّ‬
‫سن في‬ ‫رضي هللا عنه أنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬من ّ‬
‫__________‬
‫ّ‬
‫الحث على الصدقة ولو بشق‬ ‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب‬
‫تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار‪ .‬وكتاب العلم‪ :‬باب من‬
‫سن في اإلسالم سنّة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو‬ ‫ّ‬
‫ضاللة‪ ،‬شرح صحيح مسلم للنووي (‪.)226/16‬‬

‫وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص‬


‫ُ‬ ‫اإلسالم سنّة حسنةً فله أجرها‬
‫سن في اإلسالم سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر‬
‫من أجورهم شئ‪ ،‬ومن ّ‬
‫من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ"‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاري (‪ )1‬في كتاب صالة التراويح ما نصه‪" :‬قال ابن‬
‫شهاب‪" :‬فتوفي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم والناس على ذلك"‪ ،‬قال‬
‫الحافظ ابن حجر (‪" :)2‬أي على ترك الجماعة في التراويح"‪ .‬ث َّم قال ابن‬
‫وصدرا‬
‫ً‬ ‫شهاب في تتمة كالمه‪" :‬ثم كان األمر على ذلك في خالفة أبي بكر‬
‫ضا (‪ )3‬تتمي ًما لهذه‬
‫من خالفة عمر رضي هللا عنه"‪ .‬وفي البخاري أي ً‬
‫الحادثة عن عبد الرحمن بن عب ٍد القاري أنه قال‪" :‬خرجت مع عمر بن‬
‫الخطاب رضي هللا عنه ليلة في رمضان إلى المسجد‪ ،‬فإذا الناس أوزاع‬
‫متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصالته الرهط (‪،)4‬‬
‫فقال عمر‪ :‬إني أرى لو جمعت هؤالء على قارئ واحد لكان أمثل‪ ،‬ثم عزم‬
‫ي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون‬ ‫فجمعهم على أُب ّ‬
‫عم البدعة هذه"‪ .‬اهـ‪ .‬وفي الموطأ (‪ )5‬بلفظ‪:‬‬‫بصالة قارئهم‪ ،‬قال عمر‪ :‬نِ َ‬
‫"نعمت البدعة هذه" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عم البدعة" في بعض‬


‫قال الحافظ ابن حجر (‪" :)6‬قوله‪ :‬قال عمر‪ :‬نِ َ‬
‫______________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب صالة التراويح‪ :‬باب فضل من قام‬ ‫(‪)1‬‬
‫رمضان‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)252/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب صالة التراويح‪ :‬باب فضل من قام‬ ‫(‪)3‬‬
‫رمضان‪.‬‬
‫الرهط ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة (المصباح‬ ‫(‪)4‬‬
‫المنير ص‪.)92/‬‬
‫الموطأ‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب بدء قيام ليالي رمضان (‪.)217/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫فتح الباري (‪.)253/4‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫الروايات‪ :‬نعمت البدعة بزيادة التاء‪ .‬والبدعة أصلها ما أحدث على غير‬
‫مثال سابق‪ ،‬وتطلق في الشرع في مقابل السنّة فتكون مذمومة‪ ،‬والتحقيق‬
‫أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة‪ ،‬وإن كانت‬
‫مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة‪ ،‬وإال فهي من قسم‬
‫المباح وقد تنقسم إلى األحكام الخمسة" اهـ‪ .‬ومراده باألحكام الخمسة‪:‬‬
‫الفرض والمندوب والمباح والمكروه والحرام‪.‬‬
‫وأخرجه البخاري (‪ )1‬في صحيحه‪" :‬عن ِرفاعة بن رافع ُّ‬
‫الز َرقي قال‪:‬‬
‫كنّا يو ًما نصلي وراء النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فلما رفع رأسه من‬
‫الركعة قال‪" :‬سمع هللا لمن حمده" قال رجل وراءه‪ :‬ربنا ولك الحم ُد حمدًا‬
‫كثيرا طيبًا مبار ًكا فيه‪ ،‬فلما انصرف قال‪" :‬من المتكلّم" قال‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ً‬
‫"رأيت بضعة وثالثين مل ًكا يبتدرونها أيّهم يكتبها أول"‪.‬‬
‫قال ابن حجر (‪ )2‬في الفتح في شرح هذا الحديث‪" :‬واستدل به على‬
‫جواز إحداث ذكر في الصالة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى أبو داود (‪ )3‬في سننه عن عبد هللا بن عمر أنه كان يزيد في‬
‫التش ّهد‪" :‬وحده ال شريك له"‪ ،‬ويقول‪ :‬أنا زدتها‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال النووي في روضة الطالبين (‪ )4‬في دعاء القنوت ما نصه‪" :‬هذا‬
‫هو المروي عن النبي صلى هللا عليه وسلم وزاد العلماء فيه‪" :‬وال ّ‬
‫يعز من‬
‫عاديت" قبل‪" :‬تباركت وتعاليت" وبعده‪" :‬فلك الحمد على ما قضيت‬
‫أستغفرك وأتوب إليك"‪ .‬قلت‪ :‬قال أصحابنا‪ :‬ال بأس بهذه الزيادة‪ .‬وقال أبو‬
‫ي وءاخرون‪" :‬مستحبة"‪ .‬انتهى كالم النووي‪.‬‬ ‫حامد والبَ ْن َدنِيج ُّ‬
‫________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب األذان‪ :‬باب فضل‪ :‬الله ّم ربّنا لك الحمد‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فتح الباري (‪.)287/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب التشهد‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫روضة الطالبين (‪.)253-254/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في الفتح ما نصه (‪" :)1‬وقد جاء عنه –أي عن‬
‫ابن عمر‪ -‬الجزم بكونها محدثة –أي صالة الضحى‪ -‬فروى سعيد بن‬
‫منصور بإسناد صحيح عن مجاهد عن ابن عمر أنه قال‪ :‬إنها محدثة وإنها‬
‫لمن أحسن ما أحدثوا‪ ،‬وسيأتي في أول أبواب العمرة من وجه ءاخر عن‬
‫مجاهد قال‪" :‬دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد هللا بن عمر‬
‫جالس إلى حجرة عائشة وإذا ناس يصلون الضحى‪ ،‬فسألناه عن صالتهم‬
‫فقال‪ :‬بدعة‪ .‬وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن الحكم بن األعرج عن‬
‫األعرج قال‪ :‬سألت ابن عمر عن صالة الضحى فقال‪ :‬بدعة ونعمت‬
‫البدعة‪ .‬وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن سالم عن أبيه قال‪ :‬لقد قتل‬
‫عثمان وما أحد يسبحها‪ ،‬وما أحدث الناس شيئًا أحب إلي منها" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)52/3‬‬

‫بدعة الهدى‬

‫*سن خبيب ركعتين عند القتل‬


‫ومما يد ّل على أنه ليس كل ما أحدث بعد رسول هللا أو في حياته مما لم‬
‫ينص عليه بدعة ضاللة إحداث خبيب بن عدي ركعتين عندما قُ ِدّم للقتل‪،‬‬
‫ّ‬
‫كما جاء ذلك في صحيح البخاري (‪ ،)1‬ففيه ما نصه‪:‬‬
‫"حدّثني إبراهيم بن موسى‪ ،‬أخبرنا هشام بن يوسف‪ ،‬عن َم ْع َمر‪ ،‬عن‬
‫ي‪ ،‬عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي‪ ،‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‬ ‫ُّ‬
‫الزهر ّ‬
‫قال‪ :‬بعث النبي صلى هللا عليه وسلم سريةً عينًا (‪ )2‬وأ ّمر عليهم عاصم‬
‫بن ثابت –وهو ج ّد عاصم بن عمر بن الخطاب‪ -‬فانطلقوا حتى إذا كانوا‬
‫ي من ُهذيل يقال لهم بنو ِلحيان فتبعوهم بقريب‬‫ع ْسفان ومكة ذُ ِكروا لح ّ‬
‫بين ُ‬
‫من مائة رام‪ ،‬فاقتصروا ءاثارهم حتى أتوا منزالً نزلوه فوجدوا فيه نوى‬
‫تزودوه من المدينة فقالوا‪ :‬هذا تمر يثرب‪ ،‬فتبعوا ءاثارهم حتى‬ ‫تمر ّ‬
‫لحقوهم‪ ،‬فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فَ ْدفَد (‪ ،)3‬وجاء القوم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فأحاطوا بهم فقالوا‪ :‬لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن ال نقتل منكم‬
‫رجالً‪ .‬فقال عاصم‪ :‬أما أنا فال أنزل في ذ ّمة كافر الله ّم أخبر عنّا نبيّك‪،‬‬
‫فقاتلوهم حتى قتلوا عاص ًما في سبعة نفر بالنبل‪ ،‬وبقي‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب المغازي‪ :‬باب غزوة الرجيع‬
‫ورعْل و َذكوان وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم‬ ‫ِ‬
‫بن ثابت وخبيب وأصحابه‪.‬‬
‫(‪ )2‬العين الطليعة والطليعة القوم يبعثون أمام الجيش يتعرفون‬
‫طلع العدد أي جنده‪.‬‬
‫(‪ )3‬فدفد‪ :‬مفازة‪.‬‬

‫ط ْوهم العهد والميثاق‪ ،‬فلما أعطوهم العهد‬‫خبيب وزيد ورجل ءاخر فأع َ‬
‫والميثاق نزلوا إليهم‪ ،‬فلما استمكنوا منهم حلّوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها‪،‬‬
‫فجرروه‬‫فقال الرجل الثالث الذي معهما هذا أول الغدر‪ ،‬فأبى أن يصحبهم ّ‬
‫وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه‪ ،‬وانطلقوا بخبيب وزيد حتى‬
‫خبيب‬
‫ٌ‬ ‫باعوهما بمكة‪ ،‬فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل‪ ،‬وكان‬
‫أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله استعار‬ ‫ً‬ ‫هو قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم‬
‫موسى من بعض بنات الحارث ليستح ّد بها فأعارته‪ ،‬قالت‪ :‬فغفلت عن‬
‫صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه‪ ،‬فلما رأيته فزعت فزعة‬
‫عرف ذاك منّي وفي يده الموسى فقال‪ :‬أتخشين أن أقتله؟ ما كنت ألفعل‬
‫خيرا من خبيب‪ ،‬لقد‬ ‫قط ً‬‫أسيرا ّ‬
‫ً‬ ‫ذاك إن شاء هللا‪ ،‬وكانت تقول‪ :‬ما رأيت‬
‫ف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة‪ ،‬وإنه لموثق في الحديد‬ ‫رأيته يأكل من قِ ْ‬
‫ط ِ‬
‫وما كان إال رزقًا رزقه هللا‪ ،‬فخرجوا به من الحرم ليقتلوه‪ ،‬فقال‪ :‬دعوني‬
‫أصلي ركعتين‪ ،‬ثم انصرف إليهم فقال‪ :‬لوال أن تروا أن ما بي جزع من‬
‫الموت لزدت‪ ،‬فكان ّأول َمن ّ‬
‫سن الركعتين عند القتل هو‪ ،‬ثم قال‪ :‬الله ّم‬
‫أحصهم عددًا‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫فلستُ أبالي حينَ أ ُ ْقت َ ُل ُمسل ًما *** على أ ّ‬


‫ي شقَ كان هلل مصرعي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بارك على ْأوصا ِل ِشل ٍو(‪َ )1‬م َم َّزعِ‬ ‫ت اإلل ِه ْ‬


‫وإن يَشَأ * يُ ْ‬ ‫وذلك في ذا ِ‬
‫عقبة بن الحارث فقتله‪ .‬وبعثت‬ ‫ثم قال بعد ذلك‪ :‬يا محمد ثم قام إليه ُ‬
‫قريش إلى عاصم ليُؤتوا بشئ من جسده يعرفونه‪ ،‬وكان عاصم قتل عظي ًما‬
‫الظلَّ ِة من ال َّدبْر فحمتْهُ من‬
‫من عظائمهم يوم بدر‪ ،‬فبعث هللا عليه مثل ُّ‬
‫رسلهم‪ ،‬فلم يقدروا منه على شئ" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬شلو اإلنسان جسده بعد البِلى‪.‬‬

‫*نقط يحيى بن يعمر المصاحف‬


‫ضا على ذلك أن الصحابة الذي كتبوا الوحي الذي أماله‬ ‫ومما يد ّل أي ً‬
‫عليهم الرسول‪ ،‬كانوا يكتبون الباء والتاء ونحوهما بال نقط‪ ،‬ثم عثمان بن‬
‫عفّان لما كتب ستة مصاحف وأرسل ببعضها إلى اآلفاق إلى البصرة وم ّكة‬
‫وغيرهما واستبقى عنده نسخة كانت غير منقوطة‪ .‬وإنما ّأول َمن نقط‬
‫المصاحف رجل من التابعين من أهل العلم والفضل والتقوى‪ ،‬يقال له يحيى‬
‫بن يعمر‪.‬‬
‫ففي كتاب المصاحف البن داود السجستاني (‪ )1‬ما نصه‪" :‬حدّثنا عبد‬
‫ي‪ ،‬حدثنا أحمد بن نصر بن مالك‪،‬‬ ‫هللا‪ ،‬حدّثنا محمد بن عبد هللا المخزوم ّ‬
‫حدثنا الحسين بن الوليد‪ ،‬عن هارون بن موسى قال‪ّ :‬أول من نقط‬
‫المصاحف يحيى بن يعمر" اهـ‪ .‬وكان قبل ذلك يكتب بال نقط‪ ،‬فلما فعل هذا‬
‫لم ينكر العلماء عليه ذلك‪ ،‬مع أن الرسول ما أمر بنقط المصحف‪ ،‬فمن قال‬
‫كل شئ لم يُفعل في عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بدعة ضاللة فليبدأ‬
‫بكشط النقط من المصاحف حتى ابن تيمية زعيمهم ذكر في فتاويه ما نصه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪" :)2‬قيل‪ :‬يكره ذلك ألنه بدعة‪ ،‬وقيل‪ :‬يكره للحاجة إليه‪ ،‬وقيل‪ :‬يكره‬
‫النقط دون الشكل لبيان اإلعراب‪ ،‬والصحيح أنه ال بأس به" اهـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬كتاب المصاحف (ص‪.)158/‬‬
‫(‪ )2‬فتاوى ابن تيمية (‪.)402/3‬‬

‫*زيادة عثمان رضي هللا عنه أذانًا ثانيًا يوم الجمعة‬


‫روى البخاري (‪ )1‬في صحيحه قال‪" :‬حدثنا ءادم قال‪ :‬حدثنا ابن أبي‬
‫ذئب‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬عن السائب بن يزيد قال‪ :‬كان النداء يوم الجمعة ّأولُه‬
‫إذا جلس اإلمام على المنبر‪ ،‬على عهد النبي صلى هللا عليه وسلم وأبي بكر‬
‫وعمر رضي هللا عنهما‪ ،‬فلما كان عثمان رضي هللا عنه وكثر الناس زا َد‬
‫الثالث على َّ‬
‫الز ْوراء (‪.")2‬‬ ‫َ‬ ‫الندا َء‬
‫قال الحافظ في شرح هذا الحديث (‪" :)3‬وله في رواية وكيع عن ابن‬
‫أبي ذئب‪ :‬كان األذان على عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأبي بكر‬
‫وعمر أذانين يوم الجمعة‪ ،‬قال ابن خزيمة‪ :‬قوله‪" :‬أذانين" يريد األذان‬
‫واإلقامة‪ ،‬يعني تغليبًا‪ ،‬أو الشتراكهما في اإلعالم كما تقدّم في أبواب‬
‫األذان" اهـ‪.‬‬
‫ث َّم يقول (‪" :)4‬قوله‪ :‬زاد النداء الثالث" في رواية وكيع عن ابن أبي‬
‫ي من هذا الوجه‪ ،‬وال مق ّد ًما‬
‫ذئب فأمر عثمان باألذان األول‪ ،‬ونحوه للشافع ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫على األذان واإلقامة يس ّمى أوالً‪ ،‬ولفظ رواية عقيل اآلتية بعد بابين‪ّ :‬‬
‫"أن‬
‫ضا متوجه بالنظر إلى األذان‬
‫التأذين بالثاني أمر به عثمان" وتسميته ثانيًا أي ً‬
‫ي ال اإلقامة" اهـ‪.‬‬
‫الحقيق ّ‬
‫وهذه بدعة أحدثها عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬فهل يقتصر هؤالء الذين‬
‫يقولون ال تكون بدعة إال بدعة ضاللة على أذان واحد يوم الجمعة كما كان‬
‫األمر أيام رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أم يؤذنون أذانَين كما فعل‬
‫عثمان‪ ،‬فما هذا التناقض بين فعلهم وقولهم‪.‬‬
‫___________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجمعة‪ :‬باب األذان يوم الجمعة‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫َّ‬
‫الز ْوراء‪ :‬مكان بالمدينة‪ ،‬معجم البلدان (‪.)156/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فتح الباري (‪.)393/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫فتح الباري (‪.)394/2‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫*االحتفال بمولد النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬


‫ومن البدع الحسنة االحتفال بمولد الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فهذا‬
‫ي وال فيما يليه‪ ،‬إنّما أحدث في أوائل الستمائة‬ ‫العمل لم يكن في عهد النب ّ‬
‫عا يقال له‬
‫للهجرة‪ ،‬وأول َمن أحدثه ملك إربل‪ ،‬وكان عال ًما تقيًّا شجا ً‬
‫كثيرا من العلماء فيهم من أهل الحديث والصوفية‬ ‫ً‬ ‫ال ُم َ‬
‫ظفَّر‪ ،‬وجمع لهذا‬
‫الصادقين‪ ،‬فاستحسن ذلك العمل العلماء في مشارق األرض ومغاربها منهم‬
‫ي‪ ،‬وكذلك الحافظ‬ ‫الحافظ ابن حجر العسقالني وتليمذه الحافظ السخاو ّ‬
‫السيوطي‪.‬‬
‫أن عمل المولد حدث بعد القرون‬ ‫فقد ذكر الحافظ السخاوي في فتاويه َّ‬
‫الثالثة‪ ،‬ثم ال زال أهل اإلسالم من سائر األقطار في المدن الكبار يعملون‬
‫المولد ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات‪ ،‬ويعتنون بقراءة مولده الكريم‬
‫ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وللحافظ السيوطي (‪ )1‬رسالة س ّماها "حسن المقصد في عمل المولد"‬


‫قال‪" :‬فقد وقع السؤال عن عمل المولد النبوي في شهر ربيع األول ما‬
‫ثاب فاعله أم‬
‫حكمه من حيث الشرع‪ ،‬وهل هو محمود أن مذموم‪ ،‬وهل يُ ُ‬
‫أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما‬ ‫ال؟ والجواب عندي َّ‬
‫ي وما وقع في‬ ‫سر من القرءان ورواية األخبار الواردة في مبدإ أمر النب ّ‬ ‫تي ّ‬
‫مولده من اآليات‪ ،‬ث ّم يم ّد لهم ِسماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة‬
‫على ذلك هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم‬
‫ي وإظهار الفرح واالستبشار بمولده الشريف صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬ ‫قدر النب ّ‬
‫وأول َمن أحدث ذلك صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبري بن‬
‫زيد الدين بن بكتكين أحد الملوك األمجاد والكبراء واألجواد‪ ،‬وكان له‬
‫ءاثار حسنة وهو الذي ع َّمر الجامع الجامع المظفري بسفح قاسيون" اهـ‪.‬‬

‫_____________‬
‫(‪ )1‬الحاوي للفتاوى (‪.)189-197/1‬‬

‫وقد سئل الحافظ السخاوي عن عمل المولد فقال ما نصه (‪:)1‬‬


‫‪ -‬سئلت عن أصل المولد الشريف‪.‬‬
‫فأجبت‪ :‬لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثالثة‬
‫الفاضلة‪ ،‬وإنما حدث بعد‪ ،‬ثم ما زال أهل اإلسالم في سائر األقطار‬
‫والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده صلى هللا عليه وسلم وشرف‬
‫وكرم يعملون الوالئم البديعة المشتملة على األمور البهجة الرفيعة‪،‬‬
‫ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات‪ ،‬ويظهرون السرور‪ ،‬ويزيدون‬
‫في المبرات بل يعتنون بقراءة مولده الكريم وتظهر عليهم من بركاته‬
‫كل فضل عميم بحيث كان مما ُجرب قاله اإلمام شمس الدين بن‬
‫الجزري‪ :‬ومن خواصه أنه أمان تام في ذلك العام ويسوى ب َعجل حينئذ‬
‫بما ينبغي ويرام‪ ،‬وأكثرهم بذلك عناية أهل مصر والشام‪ ،‬ولسلطان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مصر في تلك الليلة من العام أعظم عام‪ ،‬قال‪ :‬ولقد حضرت في سنة‬
‫خمس وثمانين وسبعمائة ليلة مولد عند الملك الظاهر برقوق –رحمه‬
‫هللا‪ -‬بقلعة الجبل فرأيت ما هالني فيه‪ ،‬حرزت ما أنفق في تلك الليلة‬
‫على القراء والحاضرين من الوعاظ والمنشدين وغيرهم بنحو عشرة‬
‫ءاالف مثقال من الذهب العين ما بين خلع ومطعوم ومشروب ومشموم‬
‫سا وعشرين جوقة من‬ ‫وشموع وغير ذلك وعددت في ذلك المجلس خم ً‬
‫القراء الصبيان ولم ينزل واحد منهم إال بنحو عشرين ِخلعة من‬
‫السلطان واألمراء يعني من الخلع الفاخرة البهية‪ ،‬ثم لم يزل ملوك‬
‫مصر خدام الحرمين الشريفين ممن وفقهم هللا لهدم كثير من ‪)2( ...‬‬
‫ونظروا في أمر رعيتهم كالوالد لولده وأشهروا أنفسهم بالعدل وأسعفهم‬
‫المولى بجنده ومدده كالملك السعيد الشهير الظاهر أبي سعيد جقمق‬
‫ويعتنون ويتوجهون طريق سنته بحيث إنه‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬األجوبة المرضية (‪.)1116-1120/3‬‬
‫(‪ )2‬بياض في األصل بمقدار كلمتين‪.‬‬
‫ثبت حرف القراء في أيام تتعين للرفادة على ثالثين فذكروا بكل جميل‬
‫وكفوا من المهمات كل عريض طويل‪ ،‬وأما ملوك األندلس والمغرب فلهم‬
‫فيه ليلة يسير بها الركبان يجمع فيها أئمة العلماء من كل مكان ويعلو بها‬
‫بين أهل الكفر به اإليمان وأهله بمكة فيتوجهون إلى المكان المتواتر بين‬
‫الناس أنه محل مولده وهو في سوق الليل رجاء بلوغ كل منهم بذلك‬
‫لقصده‪ ،‬ويزيد اهتمامهم به على يوم العيد حتى لم يتخلف عنه أحد من‬
‫صالح وال طالح ومقل وسعيد‪ ،‬وكان للملك المظفر صاحب إربل كذلك فيها‬
‫أتم عناية واهتما ًما بشأنه‪ ،‬جاوز الغاية‪ ،‬أثنى عليه به العالمة أبو شامة أحد‬
‫شيوخ النووي الفائق في االستقامة في كتاب الباعث على إنكار البدع‬
‫والحوادث وقال‪ :‬مثل هذا الحسن يتقرب إليه ويشكر فاعله ويثنى عليه"‪.‬‬
‫ثم قال الحافظ ما نصه‪" :‬قلت‪ :‬بل خرج شيخنا شيخ مشايخ اإلسالم‬
‫خاتمة األئمة األعالم فعله على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أنه صلى هللا عليه وسلم دخل المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء‪،‬‬
‫فسألهم فقالوا‪ :‬هو يوم أغرق هللا سبحانه وتعالى فيه فرعون ون ّجى موسى‬
‫عز وج َّل‪ ،‬فقال (‪ )1‬صلى هللا عليه‬ ‫شكرا هلل َّ‬
‫ً‬ ‫عليه السالم‪ ،‬فنحن نصومه‬
‫أحق بموسى عليه السالم منكم‪ ،‬فصامه وأمر بصيامه"‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫وسلم‪" :‬فأنا ّ‬
‫"إن عشت إلى قابل‪ "...‬الحديث‪ .‬قال شيخنا‪ :‬فيستفاد منه فعله الشكر هلل‬
‫تعالى على ما َم َّن به في يوم معيّن من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك‬
‫في نظير ذلك اليوم من كل سنة‪ ،‬والشكر هلل تعالى يحصل بأنواع العبادة‪،‬‬
‫كالسجود والصيام والتالوة‪ ،‬وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم في ذلك اليوم‪ ،‬وعلى هذا ينبغي أن يقتصر فيه على ما‬
‫يفهم الشكر هلل تعالى من نحو ما ذكر‪ ،‬أما ما يتبعه من السماع واللهو‬
‫وغيرهما فينبغي أن يقال‪ :‬ما كان من ذلك مبا ًحا بحيث يعين السرور بذلك‬
‫اليوم فال بأس بإلحاقه‪ ،‬ومهما كان حرا ًما أو مكرو ًها فيمنع‪ ،‬وكذا ما كان‬
‫خالف األولى‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب الصوم‪ :‬باب صيام يوم عاشوراء‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ولما كان الزاهد القدوة المعمر أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن‬
‫بن إبراهيم بن جماعة بالمدينة النبوية كان يعمل طعا ًما في المولد النبوي‬
‫ويطعم الناس ويقول‪ :‬لو تمكنت عملت بطول الشهر كل يوم مولدًا انتهى‪.‬‬
‫وألجل ما انضم إليه من المناكير أطال ابن الحاج في مدخله (‪ )1‬في‬
‫تقبيح فعله ومنع الظاهر َجقمق رحمه هللا من فعله بِ ِطنتداء (‪.)2‬‬
‫قال شيخنا‪ :‬ثم ينبغي أن يتحرى اليوم بعينه وإن كان ولد ليالً فليقع‬
‫نهارا فبما يناسبه كالصيام‪،‬‬
‫الشكر بما يناسب الليل كاإلطعام وإن كان ولد ً‬
‫وال بد أن يكون ذلك اليوم من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتى يطابق قصة‬
‫موسى عليه السالم في يوم عاشوراء ومن لم يالحظ ذلك ال يبالي بعمل‬
‫المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما‬
‫فيه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلت‪ :‬كان مولده الشريف على األصح ليلة االثنين الثاني عشر من شهر‬
‫ربيع األول‪ ،‬وقيل‪ :‬لليلتين خلتا منه‪ ،‬وقيل‪ :‬لثمان‪ ،‬وقيل‪ :‬لعشر وقيل غير‬
‫ذلك‪ ،‬وحينئذ فال بأس بفعل الخير في هذه األيام والليالي على حسب‬
‫االستطاعة بل يحسن في أيام الشهر كلها ولياليه‪.‬‬
‫وأما قراءة المولد فينبغي أن يقتصر منه على ما أورده أئمة الحديث في‬
‫تصانيفهم المختصة به كالمورد الهني للعراقي‪ ،‬وقد حدثتُ به في المحل‬
‫المشار إليه بمكة‪ ،‬وغير المختصة به بل ذكر ضمنًا كدالئل النبوة للبيهقي‪،‬‬
‫ي بالروضة النبوية ألن أكثر ما بأيدي الوعاظ منه كذب‬ ‫وقد ختم عل َّ‬
‫واختالق‪ ،‬بل لم يزالوا يولدون فيه ما هو أقبح وأسمج مما ال تحل روايته‬
‫وال سماعه‪ ،‬بل يجب على من علم بطالنه إنكاره األمر بترك قراءته على‬
‫أنه ال ضرورة إلى‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬المدخل البن الحاج (‪.)229/2‬‬
‫(‪ )2‬تعرف اليوم بـ"طنطا" بمصر‪.‬‬
‫سياق ذكر المولد‪ ،‬بل يكتفي بالتالوة واإلطعام والصدقة‪ ،‬وإنشاد شئ من‬
‫المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل لآلخرة‬
‫وهللا يهدي من يشاء" اهـ‪.‬‬

‫*الجهر بالصالة على النبي صلى هللا عليه وسلم بعد األذان‬
‫الجهر بالصالة على النبي صلى هللا عليه وسلم بعد األذان‪ ،‬وحدث‬
‫ُ‬ ‫ومنها‬
‫هذا بعد سنة سبعمائة‪ ،‬وكانوا قبل ذلك ال يجهرون بها‪.‬‬
‫قال الحافظ السيوطي في الوسائل في مسامرة األوائل (‪ )1‬ما نصه‪:‬‬
‫"أول ما زيد "الصالة والسالم" بعد كل أذان في المنارة في زمن السلطان‬
‫ي بن األشرف شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن‬ ‫حاج ّ‬
‫المنصور ِ‬
‫المنصور قالوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي وذلك في شعبان سنة‬
‫إحدى وتسعين وسبعمائة‪ ،‬وكان حدث قبل ذلك في أيام السلطان صالح‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الدين بن أيوب أن يقال في كل ليلة قبل أذان الفجر بمصر والشام‪" :‬السالم‬
‫على رسول هللا" واستمر ذلك إلى سنة سبع وستين وسبعمائة فزيد بأمر‬
‫المحتسب صالح الدين الب َّرلُّسي أن يقال‪" :‬الصالة والسالم عليك يا رسول‬
‫هللا" ثم جعل في عقب كل أذان سنة إحدى وتسعين" اهـ‪.‬‬
‫قال الحطاب المالكي في كتابه مواهب الجليل ما نصه‪" :‬وقال السخاوي‬
‫في القول البديع (‪ :)2‬أحدث المؤذنون الصالة والسالم على رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم عقب األذان للفرائض الخمس إال الصبح والجمعة‬
‫فإنهم يقدمون ذلك قبل األذان وإال المغرب فال يفعلونه لضيق وقتها‪ ،‬وكان‬
‫ابتداء حدوثه في أيام الناصر صالح الدين‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬الوسائل في مسامرة األوائل (ص‪.)14/‬‬
‫(‪ )2‬انظر مواهب الجليل للحطاب المالكي (‪ ،)430/1‬والقول‬
‫البديع (ص‪.)196/‬‬
‫يوسف بن أيوب وبأمره وذكر بعضهم أن أمر الصالح بن أيوب بذلك كان‬
‫في أذان العشاء ليلة الجمعة‪ ،‬ثم إن بعض الفقراء زعم أنه رأى رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وأمره أن يقول للمحتسب أن يأمر المؤذنين أن يصلّوا‬
‫فسر المحتسب بهذه الرؤيا فأمر بذلك واستمر إلى‬ ‫عليه عقب كل أذان‪ّ ،‬‬
‫يومنا هذا‪ .‬وقد اختلف في ذلك هل هو مستحب أو مكروه أو بدعة أو‬
‫مشروع‪ ،‬واستد ّل لألول بقوله تعالى‪{ :‬وا ْف َعلوا ال َخي َْر} [سورة الحج‪،]77/‬‬
‫ومعلوم أن الصالة والسالم من أج ّل القرب ال سيما وقد تواترت األخبار‬
‫الحث على ذلك مع ما جاء في فضل الدعاء عقبه والثلث األخير‬ ‫ّ‬ ‫على‬
‫وقرب الفجر‪ ،‬والصواب أنه بدعة حسنة وفاعله بحسب نيّته" اهـ‪.‬‬
‫ويكفي في إثبات كون الجهر بالصالة على النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫بدعة مستحبة عقب األذان قوله عليه الصالة والسالم‪" :‬إذا سمعتم المؤذن‬
‫ي" (‪ )1‬وقوله عليه الصالة والسالم‪" :‬من‬ ‫فقولوا مثلما يقول‪ ،‬ثم صلّوا عل ّ‬
‫ي" أخرجه الحافظ السخاوي في كتابه "القول البديع في‬ ‫ذكرني فليص ّل عل َّ‬
‫الصالة على النبي الشفيع" وغيره (‪ ،)2‬فيؤخذ من ذلك أن المؤذن‬
‫]‪[Type text‬‬

‫س ّر‬‫والمستمع كالهما مطلوب منه الصالة على النبي‪ ،‬وهذا يحصل بال ّ‬
‫والجهر‪ .‬فإن قال قائل‪ :‬لم ينقل عن مؤذني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫سرا‪ ،‬وليس‬ ‫أنهم جهروا بالصالة عليه‪ ،‬قلنا‪ :‬لم يقل النبي ال تصلّوا عل َّ‬
‫ي إال ًّ‬
‫كل ما لم يفعل عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حرا ًما أو مكرو ًها‪ ،‬إنما‬
‫األمر في ذلك يتوقف على ورود نهي بنص أو استنباط من مجتهد من‬
‫المجتهدين كمالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ممن جاء بعدهم‬
‫من المجتهدين الذين هم مستوفو الشروط كالحافظ ابن المنذر وابن جرير‬
‫ممن‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب استحباب‬
‫القول مثل قول المؤذن لمن سمعه إلخ‪...‬‬
‫(‪ )2‬القول البديع (ص‪ ،)110/‬وأبو يعلى في مسنده (‪،)75/7‬‬
‫و(‪ )354/6‬بلفظ المتن‪.‬‬
‫لهم القياس أي قياس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص‪ ،‬والجهر‬
‫بالصالة على النبي عقب األذان توارد عليه المسلمون منذ قرون فاعتبروه‬
‫العلماء من محدثين وفقهاء بدعة مستحبة منهم الحافظ السخاوي والسيوطي‬
‫كما تقدم‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬بعض الناس يقولون‪" :‬اللهم صلي بالياء" وهذا غلط فاحش ينبغي‬
‫التنبه منه‪ ،‬يقول العالم العالمة طه بن عمر بن طه بن عمر السقاف‬
‫الحضرمي المتوفى سنة ‪ 1063‬هـ في كتابه المجموع لمهمات المسائل من‬
‫الفروع ما نصه‪" :‬وقال عبد هللا بن عمر‪ :‬من قال في تشهده اللهم صلّي‬
‫بالياء لم يجزه ولو جاهالً أو ناسيًا‪ ،‬بل العامد العالم بالعربية يكفر به ألنه‬
‫ضا فيمن قال‪ :‬السالم‬‫خطاب المؤنث‪ ،‬وأفتى عبد هللا بن عمر الحضرمي أي ً‬
‫من عليكم بزيادة "من" عامدًا بطلت صالته‪ ،‬أو ناسيًا أو جاهالً فال‪ ،‬لكن ال‬
‫يجزيه" اهـ‪.‬‬
‫*كتابه (صلى هللا عليه وسلم) عند كتابة اسم النبي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي ذلك‬
‫ومنها كتابة صلى هللا عليه وسلم عند كتابة اسمه‪ ،‬ولم يكتب النب ّ‬
‫في رسائله التي أرسل بها إلى الملوك والرؤساء‪ ،‬وإنما كان يكتب من‬
‫مح ّمد رسول هللا إلى فالن‪.‬‬
‫*الطرق التي أحدثها بعض الصالحين‬
‫ومنها الطرق التي أحدثها بعض أهل هللا كالرفاعية والقادرية وغيرها‬
‫وهي نحو أربعين‪ ،‬فهذه الطرق أصلها بدع حسنة‪ ،‬ولكن شذّ بعض‬
‫المنتسبين إليها وهذا ال يقدح في أصلها‪.‬‬
‫بدعة الضاللة‬
‫والبدعة على نوعين‪ :‬بدعة تتعلق بأصول الدين وبدعة تتعلق بفروعه‪.‬‬
‫فأما البدعة التي تتعلق بأصول الدين‪ ،‬فهي التي حدثت في العقائد وهي‬
‫مخالفة لما كان عليه الصحابة في المعتقد‪ ،‬وأمثلتها كثيرة منها‪:‬‬
‫*بدعة إنكار القدر‪ :‬وأول من أظهرها معبد الجهني (‪ )1‬بالبصرة‪ ،‬كما في‬
‫صحيح مسلم (‪ )2‬عن يحيى بن يعمر ويس ّمى هؤالء القدرية (‪،)3‬‬
‫أن هللا لم يق ّدِر أفعال العباد االختيارية ولم يخلقها وإنَّما هي بخلق‬
‫فيزعمون َّ‬
‫العباد‪ ،‬ومنهم َمن يزعم أن هللا قدّر الخير ولم يقدّر الشر‪ ،‬ويزعمون َّ‬
‫أن‬
‫المرتكب للكبيرة ليس بمؤمن وال كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين‪،‬‬
‫وينكرون الشفاعة في العصاة‪ ،‬ورؤية هللا تعالى في الجنة‪.‬‬
‫*بدعة الجهمية‪ :‬ويس ّمون الجبرية أتباع جهم بن صفوان (‪ )4‬يقولون‪َّ :‬‬
‫إن‬
‫العب َد مجبور في أفعاله ال اختيار له‪ ،‬وإنما هو كالريشة المعلّقة في الهواء‬
‫يأخذها َيمنة وي ْسرة‪.‬‬
‫ي رضي هللا عنه‪،‬‬
‫*بدعة الخوارج (‪ :)5‬الذين خرجوا على سيدنا عل ّ‬
‫ويكفّرون مرتكب الكبيرة‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬راجع ما تُك ِلّ َم فيه‪ :‬التبصير في الدين (ص‪ ،)21/‬تهذيب‬
‫التهذيب (‪.)225/10‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صحيح مسلم‪ ،‬أول كتاب اإليمان‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫راجع في مقاالتهم وفرقهم‪ :‬التبصير في الدين (ص‪63/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫و‪.)95‬‬
‫راجع في شأنه وفرقته التبصير في الدين (ص‪ ،)107/‬الفرق‬ ‫(‪)4‬‬
‫بين الفرق (ص‪ ،)211/‬الملل وال ِنحل (‪.)86/1‬‬
‫راجع في مقاالتهم وفرقهم‪ :‬التبصير في الدين (ص‪45/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫و‪.)62‬‬

‫أول لها‪ :‬وهي مخالفة لصريح العقل والنقل‪.‬‬


‫*بدعة القول بحوادث ال ّ‬
‫*بدعة القول بعدم جواز التوسل باألنبياء والصالحين بعد وفاتهم‪ ،‬أو في‬
‫حياتهم في غير حضرتهم‪ :‬وأول من أحدثها أحمد بن عبد الحليم بن تيمية‬
‫الحراني‪ ،‬توفي سنة ‪728‬هـ‪.‬‬
‫وأما البدعة التي تتعلق بالفروع فهي المنقسمة التقسيم المذكور ءانفًا‪.‬‬
‫البدع السيئة العملية‪:‬‬
‫ومن البدع السيئة العملية‪:‬‬
‫*كتابة (ص) بعد كتابة اسم النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأسوأ منها‬
‫وأقبح (صلعم)‪.‬‬
‫*ومنها تي ّمم بعض الناس على السجاد والوسائد التي ليس عليها غباء‬
‫التراب‪.‬‬
‫*ومنها تحريف اسم هللا‪ ،‬كما يحصل من كثير من المنتسبين إلى الطرق‪،‬‬
‫َّ‬
‫فإن بعضهم يبدءون بـ"هللا" ث َّم إما أن يحذفوا األلف التي بين الالم والهاء‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فينطقون بها بال مدّ‪ ،‬وإما أن يحذفوا الهاء نفسها فيقولون "الال"‪ ،‬ومنهم َمن‬
‫يقول "ءاه" وهو لفظ موضوع للتو ّجع والشكاية بإجماع أهل اللغة‪ ،‬قال‬
‫عز ذكره على‬‫الخليل بن أحمد‪" :‬ال تطرح األلف من االسم‪ ،‬إنما هو هللا ّ‬
‫التمام" (‪ ،)1‬وقد أفردنا هذه المسألة في هذا الكتاب بالرد‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فيما رواه أبو داود‬
‫عن العرباض بن سارية (‪" :)2‬وإيّاكم ومحدثات األمور َّ‬
‫فإن ك ّل محدثة‬
‫بدعة وكل بدعة ضاللة"‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬لسان العرب (‪ ،)467/13‬مادة (ا ل هـ)‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن أبي داود‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب في لزوم السنّة‪.‬‬
‫أن هذا الحديث لفظه عام ومعناه مخصوص بدليل األحاديث‬ ‫فالجواب‪َّ :‬‬
‫السابق ذكرها فيقال‪ :‬إن مراد النبي صلى هللا عليه وسلم ما أحدث وكان‬
‫على خالف الكتاب أو السنّة أو اإلجماع أو األثر‪.‬‬
‫وفي شرح النووي لصحيح مسلم (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ :‬وكل بدعة ضاللة" هذا عام مخصوص والمراد به غالب البدع اهـ‪.‬‬
‫ومحرمة ومكروهة‬ ‫ّ‬ ‫سم البدعة إلى خمسة أقسام‪ :‬واجبة ومندوبة‬ ‫ثم ق ّ‬
‫أن الحديث من العام‬‫ع ِل َم َّ‬
‫ف ما ذكرته ُ‬ ‫ع ِر َ‬
‫ومباحة‪ .‬وقال‪" :‬فإذا ُ‬
‫المخصوص‪ ،‬وكذا ما أشبه من األحاديث الواردة‪ ،‬ويؤيد ما قلناه قول عمر‬
‫بن الخطاب رضي هللا عنه في التراويح‪" :‬نعمت البدعة"‪ .‬وال يمنع من‬
‫صا قوله‪" :‬كل بدعة" مؤكدًا بكل‪ ،‬بل يدخله‬ ‫كون الحديث عا ًّما مخصو ً‬
‫التخصيص مع ذلك كقوله تعالى‪{ :‬ت َ َد ِ ّم ُر ك َّل ش ٍئ} [سورة األحقاف‪"]25/‬‬
‫اهـ‪ .‬ومعناه تدمر الريح ك ّل شئ مرت عليه من رجال عا ٍد وأموالها‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬شرح صحيح مسلم‪ :‬كتاب الجمعة (‪.)154/6‬‬

‫بيان‬
‫أن الشفاعة حق ألهل الكبائر‬
‫من المسلمين‬

‫معنى الشفاعة والدليل عليها‪:‬‬


‫اعلم أن الشفاعة هي طلب الخير من الغير للغير‪ ،‬وهي ثابتة بنص‬
‫القرءان والحديث قال هللا تبارك وتعالى‪َ { :‬م ْن ذا الذي ي ْشفَ ُع عن َدهُ إال بإ ْذ ِن ِه}‬
‫ارتَضى} [سورة‬ ‫[سورة البقرة‪ ،]255/‬وقال تعالى‪{ :‬وال يَ ْشفَعونَ إال ِل َم ِن ْ‬
‫زار قبري وجبت له‬ ‫األنبياء‪ ،]28/‬وقال صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬من َ‬
‫شفاعتي" رواه الدارقطني (‪.)1‬‬
‫وروى مسلم (‪ )2‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫ي دعوة مستجابة فَتَعَ َّج َل ك ُّل نب ّ‬
‫ي دعوتَهُ وإني‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لكل نب ّ‬
‫اختبأتُ دعوتي شفاعة ألمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء هللا َمن مات من‬
‫أ ّمتي ال يشرك باهلل شيئًا"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى الحاكم في المستدرك (‪ )3‬عن عوف بن مالك‪" :‬أن رسول هللا‬


‫وعوف بن مالك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫َ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم نادى معاذ بن جبل وأبا عبيدة‬
‫فقلنا‪ :‬نعم‪ ،‬فأقبل إلينا فخرجنا ال نسأله عن شئ وال يخبرنا حتى قعد على‬
‫فراشه‪ ،‬فقال‪" :‬أتدري ما خيّرني ربّي الليلة؟" فقلنا‪ :‬هللا ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"فإنه خيّرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت‬
‫الشفاعة"‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا رسول هللا ا ْد ُ‬
‫ع هللا أن يجلعنا‬
‫_______________‬
‫سنن الدارقطني‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب المواقيت (‪.)278/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب اختباء النبي صلى هللا عليه وسلم دعوة الشفاعة ألمته‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب اإليمان (‪ )66/1‬وقال‪ :‬هذا حديث صحيح على شرط مسلم‪ ،‬فقد احتج‬ ‫(‪)3‬‬
‫بسليم بن عامر وأما سائر‬
‫رواته فمتفق عليهم ولم يخرجاه‪.‬‬

‫يجعلنا من أهلها‪ ،‬قال‪" :‬هي لكل مسلم" اهـ‪.‬‬


‫المحتاجون للشفاعة‪:‬‬
‫المحتاجون لشفاعة النبي صلى هللا عليه وسلم هم أهل الكبائر فقط‪ ،‬لقوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬شفاعني ألهل الكبائر من أ ّمتي" معناه هم الذين‬
‫يحتاجون إليها‪ ،‬رواه أبو داود (‪ )1‬والترمذي (‪ )2‬وابن ماجه (‪ )3‬وأحمد‬
‫(‪ )4‬وابن حبان (‪ )5‬والحاكم (‪ )6‬والطبراني (‪ )7‬والخطيب (‪.)8‬‬
‫وروى ابن ماجه (‪ )9‬عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬خيّرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف‬
‫أ ّمتي الجنة فاخترت الشفاعة ألنها أع ّم وأكفى‪ ،‬أترونها للمتقين‪ ،‬ال‪ ،‬ولكنها‬
‫ّ‬
‫الخطائين المتلوثين"‪ .‬قال الحافظ البوصيري (‪ :)10‬إسناده‬ ‫للمذنبين‬
‫صحيح‪.‬‬
‫وقد قال الحافظ ابن حجر في الفتح (‪ )11‬ما نصه‪" :‬وقال ابن الجوزي‪:‬‬
‫وهذا من حسن تصرفه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ألنه جعل الدعوة فيما ينبغي‪،‬‬
‫ومن كثرة كرمه‬
‫______________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬سنن أبي داود‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب الشفاعة‪.‬‬


‫(‪ )2‬جامع الترمذي‪ :‬كتاب صفة القيامة والرقائق والورع‪ :‬باب ما‬
‫جاء في الشفاعة‪.‬‬
‫(‪ )3‬سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب الوهد‪ :‬باب ذكر القيامة‪.‬‬
‫(‪ )4‬مسند أحمد (‪.)213/3‬‬
‫(‪ )5‬صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب التاريخ‪ :‬باب الحوض والشفاعة‪ ،‬انظر‬
‫اإلحسان (‪.)131/8‬‬
‫(‪ )6‬مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب التفسير (‪.)382/2‬‬
‫(‪ )7‬المعجم الكبير (‪.)258/1‬‬
‫(‪ )8‬تاريخ بغداد (‪.)11/8‬‬
‫(‪ )9‬سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب الزهد‪ :‬باب ذكر الشفاعة‪.‬‬
‫(‪ )10‬مصباح الزجاجة في زائد ابن ماجه (‪.)356/2‬‬
‫(‪ )11‬فتح الباري (‪.)97/11‬‬
‫ألنه ءاثر أمته على نفسه‪ ،‬ومن صحة نظره ألنه جعلها للمذنبين من أ ّمته‬
‫لكونهم أحوج إليها من الطائعين" اهـ‪.‬‬
‫أما األتقياء واألولياء والشهداء فال حاجة لهم للشفاعة كما يعلم من‬
‫النصوص الصحيحة الواضحة‪ ،‬بل إنه ثبت في أحاديث كثيرة صحيحة‬
‫أنهم هم أهل شفاع ٍة لغيرهم‪ ،‬فقد روى ابن ماجه (‪ )1‬عن رسول هللا صلى‬
‫ست خصال‪ :‬يغفر له في ّأول دُفعة من‬ ‫هللا عليه وسلم‪" :‬للشهيد عند هللا ُّ‬
‫القبر‪ ،‬ويأمن من الفزع‬‫دمه‪ ،‬ويُرى مقعدهُ من الجن ِة‪ ،‬ويُجار من عذاب ِ‬
‫األكبر‪ ،‬ويُ َحلّى ُحلّة اإليمان‪ ،‬ويُزَ ّو ُج من الحور العين‪ ،‬ويُ َ‬
‫شفّ ُع في سبعينَ‬
‫إنسانًا من أقاربه"‪.‬‬
‫والشفاعة تكون على نوعين‪:‬‬
‫‪ -1‬شفاعة للمسلمين العصاة بعد دخولهم النار إلخراجهم منها قبل أن‬
‫تنتهي المدة التي يستحقونها‪.‬‬
‫‪ -2‬وشفاعة ل َمن استحقوا دخول النار من عصاة المسلمين بذنوبهم‬
‫فينقذهم هللا من النار بهذه الشفاعة قبل دخولها‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أما الكفار فال أحد يشفع لهم قال تعالى‪{ :‬وال يَ ْشفَعونَ إال ِل َم ِن ارتضى}‬
‫مات على اإليمان‪ .‬وقال تعالى‬ ‫[سورة األنبياء‪ ]28/‬أي ال يشفعون إال ل َمن َ‬
‫إخبارا عن أصحاب اليمين من أهل الجن ِة أنهم يسألون الكفار وهم في‬ ‫ً‬
‫ص ِلّينَ * ول ْم نَكُ نُ ْ‬
‫ط ِع ُم‬ ‫سقَ َر* قالوا ل ْم نَكُ منَ ال ُم َ‬ ‫سلَ َك ُك ْم في َ‬ ‫النار‪{ :‬ما َ‬
‫بيوم الدين* حتى أتانا‬ ‫ب ِ‬ ‫َخوض م َع الخا ِئضينَ * و ُكنَّا نُ َك ِ ّذ ُ‬
‫ُ‬ ‫الم ْسكين* و ُكنَّا ن‬
‫ِ‬
‫شافعينَ } [سورة المدثر‪-46-45-44-43-42/‬‬ ‫قين* فما ت َ ْنفَعُ ُه ْم شفاعةُ ال َّ‬
‫الي ُ‬
‫‪ ،]48-47‬وليس في قوله تعالى‪{ :‬شفاعةُ الشافعين} [سورة المدثر‪]48/‬‬
‫إثبات لحصول الشفاعة لهم وأنها ت ُ َردُّ‪ ،‬بل المعنى أنه ال شفاعةَ لهم‪ ،‬وهذا‬
‫مفهوم من النفي‪ ،‬وهذا ضرب من البالغ ِة معروف‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب الجهاد‪ :‬باب فضل الشهادة في سبيل هللا‪.‬‬
‫سأ ْكتُبُها للذينَ يَتَّقون} [سورة‬ ‫ت ُك َّل ٍ‬
‫شئ فَ َ‬ ‫{و َرحمتي َو ِسعَ ْ‬
‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫األعراف‪ ،]156/‬فرحمة هللا و ِسعَت في الدنيا كل مؤمن وكافر‪ ،‬لكنها في‬
‫اآلخرة خاصة لمن اتّقى الشرك وسائر أنواع الكفر‪.‬‬
‫ضوا علينا منَ‬ ‫أصحاب الجن ِة ْ‬
‫أن أفِي ُ‬ ‫َ‬ ‫النار‬
‫أصحاب ِ‬‫ُ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬ونَادى‬
‫حر َم ُهما على الكافرينَ } [سورة‬
‫هللا َّ‬
‫إن َ‬ ‫الماء ْأو ِم َّما َرزَ قَ ُك ُم هللاُ قالوا َّ‬
‫ِ‬
‫حرم على الكافرين الرزق النافع والماء ال ُمروي‬ ‫األعراف‪ ،]50/‬أي أن هللا ّ‬
‫أعظم حقوق هللا على عباده وهو توحيده‬ ‫َ‬ ‫في اآلخرة‪ ،‬وذلك ألنهم أضاعوا‬
‫أن الكافر ال يرحمه هللا وال أحد يشفع له‪.‬‬ ‫تعالى‪ .‬فتبيّن لنا َّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن لفظ "ءاه" ليس من أسماء هللا‬

‫اعلم أن هللا وصف نفسه بأن له األسماء الدالة على الكمال فقال ّ‬
‫عز‬
‫عوهُ بها وذَروا الذينَ يُ ْل ِحدونَ في أسمائِ ِه}‬ ‫وج َّل‪{ :‬وهللِ األسما ُء ال ُحسنى فَا ْد ُ‬
‫عوا فلهُ األسما ُء ال ُحسنى}‬ ‫[سورة األعراف‪ ،]180/‬وقال تعالى‪{ :‬أيًّا َّما ت َ ْد ُ‬
‫هو عا ِل ُم‬
‫{هو هللاُ الذي ال إلهَ إال َ‬ ‫[سورة اإلسراء‪ ،]110/‬وقال تعالى‪َ :‬‬
‫هو ُه َو الملكُ‬ ‫هو هللاُ الذي ال إلهَ إال َ‬ ‫الرحمن الرحي ُم* َ‬ ‫ُ‬ ‫هو‬
‫ب والشهاد ِة َ‬ ‫الغي ِ‬
‫َّار ال ُمت َ َك ِب ُّر ُ‬
‫سبحانَ هللاِ َع َّما‬ ‫ُ‬
‫العزيز ال َجب ُ‬ ‫يم ُن‬ ‫القُد ُ‬
‫ُّوس السال ُم ال ُمؤْ ِم ُن ال ُم َه ِ‬
‫ص ّ ِو ُر لهُ األسما ُء ال ُحسنى} [سورة‬ ‫البار ُ‬
‫ئ ال ُم َ‬ ‫الخالق ِ‬ ‫ُ‬ ‫هو هللاُ‬
‫شركون* َ‬ ‫يُ ِ‬
‫الحشر‪ ،]24-23-22/‬والحسنى أي الدالة على الكمال‪ ،‬فال يجوز أن يكون‬
‫اسم من أسماء هللا تعالى داالً على خالف الكمال‪ ،‬فلذلك ال يجوز تسمية هللا‬
‫بـ"ءاه" ألنه يدل على العجز والشكاية والتوجع وما كان كذلك يستحيل أن‬
‫يكون اس ًما هلل تعالى‪.‬‬
‫قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في "شرح القاموس" (‪)1‬‬
‫وأوتاه‪،‬‬
‫وءاووه‪ ،‬وءاهٍ‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وأو‪،‬‬
‫وأو ِه‪ّ ،‬‬ ‫بعد أن ع َّد من ألفاظ األنين‪َّ :‬‬
‫"أوه‪ ،‬وءا ِه‪ّ ،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وءاويّاه"‪ ،‬ثم قال‪" :‬فهن اثنتان وعشرون لغة‪ ،‬كل ذلك كلمة تقال عند‬
‫الشكاية أو التوجع والتحزن" اهـ‪.‬‬
‫ولم يرد في حديث صحيح وال حسن أن ءاه اسم من أسماء هللا تعالى‪،‬‬
‫وإنما الذي ورد ما رواه الديلمي في "مسند الفردوس" (‪ )2‬والرافعي في‬
‫"تاريخ قزوين" أن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬دخل علينا رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وعندنا مريض يئن فقلنا له‪ :‬اسكت فقد جاء النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال النبي‪" :‬دعوه يئن‪ ،‬فإن األنين اسم من أسماء هللا‬
‫تعالى يستريح إليه العليل"‪ ،‬وهو حديث‬
‫_____________‬
‫تاج العروس (‪.)376-377/9‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مسند الفردوس (‪ )431/5‬بلفظ‪" :‬يا حميراء أما شعرت أن األنين اسم من أسماء هللا تعالى‬ ‫(‪)2‬‬
‫يستريح به المريض"‪.‬‬

‫موضوع أي مكذوب على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقد حكم‬
‫بوضعه الحافظ أحمد بن الصديق الغُماري في كتابه "المغير على الجامع‬
‫ضا الديلمي من طريق الطبراني‬ ‫الصغير" فقال ما نصه (‪" :)1‬أخرجه أي ً‬
‫وفيه محمد بن أيوب بن سويد الرملي وهو متهم بوضع الحديث" اهـ‪،‬‬
‫وأفرد له رسالة مستقلة في بيان وضعه‪.‬‬
‫وقال الحافظ الغماري في كتابه "المداوي لعلل المناوي" ما نصه (‪:)2‬‬
‫"محمد بن أيوب بن سويد قال ابن حبان (‪ :)3‬ال تحل الرواية عنه وال‬
‫االحتجاج به يروي عن أبيه األشياء الموضوعة كان أبو زرعة يقول‪:‬‬
‫رأيته أدخل في كتب أبيه أشياء موضوعة بخط طري وكان يحدث بها اهـ‪،‬‬
‫فالحديث موضوع" انتهى كالم الغماري‪.‬‬
‫وقال المناوي في شرح الجامع الصغير ما نصه (‪" :)4‬لكن هذا لم يرد‬
‫فيه حديث صحيح وال حسن وأسماؤه تعالى توقيفية" اهـ‪.‬‬
‫وأما قول العزيزي (‪ )5‬شارح "الجامع الصغير" عند إيراد السيوطي‬
‫(‪ )6‬هذا الحديث‪" :‬قال الشيخ‪ :‬حديث حسن لغيره" اهـ‪ ،‬فال معنى له ألن‬
‫شيخ العزيزي هو محمد حجازي الشعراني ال ذِكر له وال للعزيزي في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫طبقات المحدثين فضالً عن الحفاظ‪ ،‬إذ التصحيح والتحسين من شأن‬


‫الحافظ كما هو معلوم عند أهل الحديث‪ ،‬قال الحافظ السيوطي في ألفيته‪:‬‬
‫وخذه حيث حافظ عليه نص *** أو من مصنف بجمعه يُخص‬
‫___________‬
‫المغير على األحاديث الموضوعة في الجامع الصغير (ص‪-62/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫‪.)63‬‬
‫المداوي لعلل المناوي (‪.)36/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المجرحين (‪.)299/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫فيض القدير (‪.)533/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫السراج المنير شرح الجامع الصغير (‪.)287/2‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫الجامع الصغير (‪.)651/1‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫أي إن نص على صحته حافظ أو ذكره في كتاب اشترط أن ال يذكر فيه إال‬
‫الصحيح كسعيد بن السكن فإنه ألف كتابًا اشترط أنه ال يذكر فيه إال‬
‫الصحيح وسماه "السنن الصحاح"‪ ،‬كيف وكتاب "الجامع الصغير" ليس من‬
‫هذا القبيل‪ ،‬ففيه الكثير من الصحيح والكثير من الحسن والكثير من‬
‫الضعيف وفيه من الموضوع قليل كما في شأن حديث‪" :‬دعوه يئن"‪.‬‬
‫قال عصريّنا المحدث عبد هللا الغماري المغربي ما نصه (‪" :)1‬وهذا‬
‫الحديث رواه الرافعي في تاريخ قزوين والديلمي في مسند الفردوس عن‬
‫عائشة بإسناد فيه را ٍو كذاب‪ ،‬فهو حديث واه نازل عن درجة االحتجاج‬
‫بالمرة‪ .‬ولقد غلط العزيزي في شرح الجامع الصغير حيث ادعى أنه حسن‬
‫لغيره مع أن عمدته في التصحيح والتحسين غالبًا –وهو المناوي‪ -‬لم‬
‫يحسنه أصالً ال في شرحه الكبير وال الصغير وال حسنه الحافظ السيوطي‬
‫الذي هو عمدتهم جميعًا‪ ،‬وكيف يستطيه أن يحسنه وفي سنده كذاب كما‬
‫ذكرنا" اهـ‪.‬‬
‫ثم إن علماء اللغة لم يذكر واحد منهم أن واحدًا من ألفاظ األنين اسم من‬
‫أسماء هللا‪ ،‬وكذا علماء الفقه بل قال بعضهم‪ :‬إن أنين المريض مكروه‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وتعقبه بعضهم وهو النووي وقال‪ :‬اشتغاله بالذكر أولى‪ ،‬وهي مسئلة‬
‫مشهورة بين الفقهاء ومع ذلك لم يقل أحد منهم أن "ءاه" من أسماء هللا‪،‬‬
‫والعجب كيف أن الذين يعملون بزعمهم حضرة ذِكر عند وقوفهم وقيامهم‬
‫متماسكين باأليدي واهتزازهم مع التثني والتكسر اختاروا لفظ "ءاه" من‬
‫بين تلك الكلمات العديدة!!!‬
‫والمذكور في الحديث المكذوب على رسول هللا لفظ األنين وليس لفظ‬
‫"ءاه" فمقتضى احتجاجهم بهذا الحديث الموضوع أن يكون لفظ‪ :‬ءاه‪،‬‬
‫وءاووه‪ ،‬و ّأوتاه وغيرها من ألفاظ األنين وهي نحو عشرين ذكرها الحافظ‬‫ُ‬
‫محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس فيلزم على كالمهم أن تكون كل‬
‫تلك الكلمات اس ًما من أسماء هللا ومن تلك الكلمات "ءاوه"‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مجلة اإلسالم – العدد‪( ،35/‬ص‪.)31/‬‬
‫و"أوتاه" وال يذكرون ذلك فكيف اختاروا من بينها "ءاه" وقالوا عنها اس ًما‬
‫من أسماء هللا‪ ،‬وهذا الحديث الموضوع الذي يحتجون به لم ينص على لفظ‬
‫من ألفاظ األنين التي هي اثنتان وعشرون كلمة‪ ،‬فما هذا التحكم؟! فبأي‬
‫حجة اختاروا "ءاه" من بين تلك الكلمات‪ ،‬فليس لهم مستند إال الهوى‪،‬‬
‫فتبين أن مستندهم أوهى من بيت العنكبوت‪.‬‬
‫ضا بما ثبت عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪:‬‬ ‫ويرد على هؤالء أي ً‬
‫"إن هللا يحب العطاس ويكره التثاؤب‪ ،‬فإذا تثاءب أحدُكم فال يقل‪ :‬ءاه‪ ،‬ءاه‪،‬‬
‫فإن الشيطان يضحك منه"‪ ،‬أو قال‪" :‬يلعب منه" رواه الترمذي (‪،)1‬‬
‫والحافظ المجتهد ابن المنذر وابن خزيمة (‪ )2‬واللفظ له‪.‬‬
‫ويكفي دليالً أي ً‬
‫ضا على عدم كونه اس ًما هلل اتفاق الفقهاء من أهل المذاهب‬
‫األربعة على أن األنين يبطل الصالة‪.‬‬
‫وقد أفتى شيخ األزهر الشيخ سليم البشري المالكي (‪( )3‬ت ‪1335‬هـ)‬
‫بتحريم الذكر بهذا اللفظ وحضور المجلس الذي يذكر فيه هذا اللفظ على‬
‫الوجه المتعارف عندهم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عز وجل‪َّ :‬‬


‫{إن‬ ‫وقد ظن بعض جهلة المتصوفة أن معنى "أواه" في قوله ّ‬
‫إبراهيم َأل َ َّواهٌ حلي ٌم} [سورة التوبة‪ ]114/‬أن إبراهيم كان يذكر بآه وهذا‬
‫َ‬
‫غير صحيح‪ ،‬فإن األواه من يُظهر خشية هللا تعالى كما ذكر‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء إن هللا يحب‬
‫العطاس ويكره التثاؤب‪ ،‬وصححه‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه ابن خزيمة في صحيحه‪ :‬أبواب األفعال المكروهة في‬
‫الصالة‪ :‬باب الزجر عن قول المتثائب في الصالة هاه وما‬
‫أشبهه‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر "مختصر كتاب أعذب المسالك المحمدية إلى منهج السادة‬
‫الصوفية" للشيخ محمود خطاب السبكي (ص‪.)429-422/‬‬

‫الراغب األصفهاني في المفردات (‪ ،)1‬وقد ص ّح عن ابن مسعود رضي‬


‫هللا عنه أنه قال‪" :‬األواه‪ :‬الرحيم" رواه ابن أبي حاتم (‪ )2‬بإسناد حسن‪.‬‬
‫فعلم من ذلك أنه ال يجوز الذِّكر بلفظ "ءاه"‪ ،‬فمن أراد أن يذكر هللا تعالى‬
‫فليذكره بما هو ثابت في القرءان والسنة النبوية الشريفة‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫عوهُ بها و َذروا الذينَ يُ ْل ِحدونَ في أسما ِئ ِه} [سورة‬
‫{وهللِ األسما ُء ال ُح ْسنى فا ْد ُ‬
‫األعراف‪.]180/‬‬
‫تنبيه‪ :‬قال اإلمام أبو الحسن األشعري رضي هللا عنه‪" :‬ال يجوز تسمية‬
‫هللا إال بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة" اهـ‪ ،‬وقال أبو بكر الباقالني‬
‫تلميذ تلميذ األشعري‪" :‬ما أطلق هللا على نفسه أطلقناه عليه وما ال فال" اهـ‪.‬‬
‫وهذا ليس من الطريقة الشاذلية بل شئ أحدثه شاذلية فاس كما قال شيخ‬
‫الشاذلية في المدينة المنورة الشيخ ظافر المدني رحمه هللا تعالى في رسالة‬
‫له فقال‪" :‬إن االشتغال بآه من فعل شاذلية فاس" اهـ‪.‬‬
‫فتبين أن الطريقة الشاذلية بريئة من هذا‪ ،‬ومن نسبه إلى الشيخ أبي‬
‫الحسن الشاذلي رضي هللا عنه فقد افترى عليه‪ ،‬وقد قال بعض هؤالء من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أهل دمشق إن "ءاه" أقرب للفتوح من "هللا"‪ ،‬وءاخر من هؤالء يقول لما‬
‫يقيمون هذه الحضرة‪" :‬اليوم حصل تجلي" وهو عاق الوالدين ووالده كان‬
‫وليًّا‪ ،‬كان يقول لوالده‪" :‬أ ُ َك ِ ّ‬
‫س ُر رأسك"‪ ،‬فمن أين لهذا المدعي وأمثاله‬
‫التجلي وهذا ينطبق عليه قول الشاعر‪:‬‬
‫فساد كبير عالم متهتك *** وأكبر منه جاهل متنسك‬
‫فماذا بقي للمتشبثين بهذا الرأي الفاسد بهد هذا إال العناد‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬المفردات في غريب القرءان (ص‪.)32/‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرءان البن أبي حاتم (‪ )1896/6‬وحسنه الحافظ في‬
‫"الفتح" (‪.)389/6‬‬

‫بيان‬
‫أن الفاتحة ال يجوز كتابتها بالبول‬
‫كفر‬
‫وأنه ٌ‬

‫اعلم أن القرءان الكريم واجب تعظيمه‪ ،‬ومن تعظيمه احترام ءاياته بأن‬
‫تحقيرا واستخفافًا بها‪ ،‬وهو ردة ٌ‬
‫ً‬ ‫ال تُكتب بشئ نجس كالبول فإن في ذلك‬
‫جوزَ ذلك معتمدًا على ما في حاشية‬ ‫والعياذ باهلل تعالى‪ ،‬وقد شذ وهلك من َّ‬
‫دس على المؤلف‪.‬‬‫ابن عابدين مما نعتقد أنه ٌّ‬
‫ونص ما في الحاشية المسماة "رد المحتار" (‪" :)1‬وفي "الخانية" في‬
‫معنى قوله عليه الصالة والسالم‪" :‬إن هللا لم يجعل شفاءكم فيما حرم‬
‫عليكم" كما رواه البخاري (‪ )2‬أن ما فيه شفاء ال بأس به‪ ،‬كما يحل الخمر‬
‫للعطشان في الضرورة وكذا اختاره صاحب "الهداية" في "التجنيس"‬
‫فقال‪ :‬لو رعف فكتب الفاتحة بالدم على جبهته وأنفه جاز لالستشفاء‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا إن علم فيه شفاء ال بأس به لكن لم ينقل‪ ،‬وهذا ألن الحرمة‬
‫وبالبول أي ً‬
‫ساقطة عند االستشفاء كحل الخمر والميتة للعطشان والجائع" اهـ‪.‬‬
‫وتفنيد ذلك بأن يقال‪ :‬يرد هذا ما جاء في كتاب "عقود الآللي في‬
‫األسانيد العوالي" البن عابدين نفسه ونص العبارة (‪" :)3‬ومنها ما رأيته‬
‫ضا مما يكتب للرعاف على‬ ‫بخطه –يعني الشيخ محمد شاكر العقَّاد‪ -‬أي ً‬
‫أرض ا ْبلَعي ما َء ِك ويا سما ُء أ ْق ِلعي َو ِغ َ‬
‫يض‬ ‫ُ‬ ‫جبهة المرعوف‪{ :‬وقي َل يا‬
‫األمر} [سورة هود‪ ]44/‬وال يجوز كتابتها بدم‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫الما ُء وقُ ِ‬
‫ض َ‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬رد المحتار على الدر المختار (‪.)210/1‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب األشربة‪ :‬باب شراب‬
‫الحلواء والعسل‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر الكتاب (ص‪.)187/‬‬
‫الرعاف كما يفعله بعض الجهال ألن الدم نجس فال يجوز أن يكتب به كالم‬
‫هللا تعالى" اهـ‪.‬‬
‫ُ‬
‫والالئق بالشيخ ابن عابدين ما نقله‬ ‫هذا ما في الحاشية نقلناه نقالً حرفيًا‬
‫عن شيخه وهو الشيخ محمد شاكر العقّاد وهو الموافق لقول هللا تعالى‪:‬‬
‫{و َمن يُ َع ِ ّ‬
‫ظ ْم شَعا ِئ َر هللاِ فإنَّها ِم ْن تَقوى القُلوب} [سورة الحج‪ ،]32/‬فال‬
‫يجوز العمل بما في الحاشية من أنه يجوز كتابة الفاتحة بالدم وبالبول إن‬
‫علم منه شفاء‪ ،‬فما أبعد هذه المسئلة مما أفتى به الشيخ محمد عليش‬
‫المالكي وهو من أهل القرن الثالث عشر كابن عابدين قال في فتاويه‬
‫المسماة "فتح العلي المالك" ما نصه (‪" :)1‬ما قولكم في َب ّل موضع الخاتم‬
‫بالريق وفيه اسم هللا تعالى فأجبته بما نصه‪" :‬الحمد هلل والصالة والسالم‬
‫على رسول هللا‪ :‬ال يجوز وهو كفر وإن اعتيد" اهـ‪ ،‬فلينظر البعد الشاسع‬
‫بين المقالتين‪ ،‬وكان الشيخ محمد عليش مفتي الديار المصرية توفي سنة‬
‫تسع وتسعين بعد مائتين وألف وكان تولى وظيفة اإلفتاء في الديار‬
‫المصرية سنة سبعين ومائتين وألف وله من التآليف أربع وثالثون مؤلفًا‪،‬‬
‫إال أنه ال يوافق على الحكم بالردة لمجرد فعل ذلك‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا ما جاء في الحاشية نفسها نقالً عن‬ ‫ومما يرد ما في الحاشية أي ً‬


‫"فتاوى" ابن حجر الهيتمي الشافعي ونص العبارة (‪" :)2‬وقد أفتى ابن‬
‫الصالح بأنه ال يجوز أن يكتب على الكفن يس والكهف ونحوهما خوفًا من‬
‫صديد الميت‪ ،‬والقياس المذكور ممنوع ألن القصد ث َ َّم التمييز (‪ )3‬وهنا‬
‫التبرك‪ ،‬فاألسماء المعظمة باقية على حالها فال يجوز تعريضها للنجاسة‪.‬‬
‫والقول بأنه يطلب فعله مردود ألن مثل ذلك ال يحتج به إال إذا ص ّح عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم طلب ذلك وليس كذلك اهـ‪ .‬وقدمنا قبيل باب‬
‫المياه‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬انظر الكتاب (‪.)361/2‬‬
‫(‪ )2‬رد المحتار على الدر المختار (‪.)246-247/2‬‬
‫(‪ )3‬كذا في النسخة المطبوعة‪ ،‬والصواب‪" :‬الشفاء" بدل التمييز‪.‬‬
‫عن "الفتح" أنه تكره كتابة القرءان وأسماء هللا تعالى على الدراهم‬
‫والمحاريب والجدران وما يفرش‪ ،‬وما ذاك إال الحترامه وخشية وطئه‬
‫ونحوه مما فيه إهانة‪ ،‬فالمنع هنا باألولى ما لم يثبت عن المجتهد أو ينقل‬
‫شين عن "فوائد" الشرجي أن‬ ‫ثابت فتأمل‪ .‬نعم نقل بعض المح ّ‬
‫ٌ‬ ‫فيه حديث‬
‫مما يكتب على جبهة الميت بغير مدا ٍد باألصبع المسبحة‪ :‬بسم هللا الرحمن‬
‫الرحيم‪ ،‬وعلى الصدر‪ :‬ال إله إال هللا محمد رسول هللا وذلك بعد الغسل قبل‬
‫التكفين" انتهى كالم ابن عابدين‪.‬‬
‫أقول‪ :‬كل هذا يؤيد تزييف القول بأنه يجوز كتابة الفاتحة بالدم والبول‪،‬‬
‫فوجب التحذير من تلك المقالة‪ ،‬وال يبعد أن تكون هذه المقالة مدسوسةً‬
‫على ابن عابدين‪ ،‬ويحتمل أن يكون أوردها ابن عابدين مع تزييفها فأسقط‬
‫بعض الناسخين التزييف ونقلها بدون تزييف فال يجوز نسبتها إلى ابن‬
‫عابدين‪.‬‬
‫فالويل ثم الويل لمن يعتقد أو يقول بجواز كتابة الفاتحة بل ءاية من‬
‫القرءان الكريم بالبول فإن ذلك ردة مخرجة من الدين‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫تحريم اإلعانة على المعصية‬

‫اعلم أن هللا تعالى واجب طاعته فيما أمر به ونهى عنه‪ ،‬ومن ذلك قوله‬
‫دوان}‬ ‫تعالى‪{ :‬وت َ َع َاونوا على ال ِب ِّر والتقوى وال ت َ َعاونوا على ِ‬
‫اإلثم والعُ ِ‬
‫[سورة المائدة‪ ،]2/‬واإلثم هو المعصية الصغيرة والكبيرة‪ ،‬فاآلية دليل‬
‫لتحريم معاونة شخص لشخص في معصية هللا كائنة ما كانت‪ ،‬سواء أعان‬
‫كافرا‪ .‬فيحرم على الشخص بيع الشئ الحالل الطاهر على من‬ ‫ً‬ ‫مسل ًما أو‬
‫يعلم أنه يريد أن يعصي به كالعنب لمن يريده للخمر ألن في ذلك إعانة له‬
‫على فعل المحرم‪ ،‬روى الترمذي (‪ )1‬واللفظ له‪ ،‬وأبو داود (‪ )2‬وابن‬
‫ماجه (‪ )3‬وأحمد (‪ )4‬والحاكم (‪ )5‬وغيرهم أن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم لعن في الخمر عشرة‪" :‬عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها‬
‫والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وءاكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له"‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫س العنب أيام‬
‫وأصرح منه في التحريم قوله عليه الصالة والسالم‪" :‬من َحبَ َ‬
‫خمرا فقد تق َّحم على بصيرة"‪.‬‬
‫ً‬ ‫القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه‬
‫___________‬
‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب البيوع‪ :‬باب النهي أن يتخذ‬ ‫(‪)1‬‬
‫الخمر خالًّ‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب األشربة‪ :‬باب في العنب يعصر‬ ‫(‪)2‬‬
‫للخمر‪.‬‬
‫أخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب األشربة‪ :‬باب لعنت الخمرة‬ ‫(‪)3‬‬
‫على عشرة أوجه‪.‬‬
‫أخرجه أحمد في مسنده (‪.)97/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أخرجه الحاكم في "المستدرك" (‪ )144-145/4‬وصححه‬ ‫(‪)5‬‬
‫ووافقه الذهبي على تصحيحه‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر (‪" :)1‬رواه الطبراني في "األوسط" (‪ )7‬بإسناد‬


‫حسن"‪ ،‬ورواه البيهقي (‪ )3‬بلفظ‪" :‬من حبس العنب زمن القطاف حتى‬
‫خمرا فقد تقدم النار‬
‫ً‬ ‫يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يعلم أنه يتخذه‬
‫على بصيرة"‪.‬‬
‫قال ابن رشد المالكي (‪" :)4‬قال أصبغ‪" :‬ال يبيع الرجل عنبه لمن‬
‫خمرا‪ ،‬ال يحل ذلك وال المعاونة عليه" اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫يعصره‬
‫وقال الحافظ الفقيه اللغوي محمد مرتضى الزبيدي الحنفي في شرح‬
‫اإلحياء (‪ )5‬ممزو ًجا بالمتن ما نصه‪(" :‬فهو كبيع العنب ممن يعلم)‬
‫عا (و) فيه (إعانة‬
‫ويتحقق منه (أنه يتخذ منه الخمر وذلك محظور) شر ً‬
‫على الشر) وترخيص لطرقه (ومشاركة فيه) فهو شريك للعاصر في‬
‫الوزر‪ ،‬وكل معين لمبتدع أو عاص فهو شريكه في بدعته ومعصيته" اهـ‪.‬‬
‫وقال في موضع ءاخر (‪( :)6‬إن علم أنهم يعصون هللا به فذلك حرام)‬
‫وبيعه منهم إعانة على المعصية واإلعانة عليها معصية (كبيع العنب من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫خمرا‪ ،‬وهذا ال خالف فيه (وإنما الخالف في‬


‫ً‬ ‫الخمار) الذي يعصره‬
‫الصحة) هل يصح هذا البيع أو يبطل أو يفسد" اهـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫بلوغ المرام (ص‪.)199/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المعجم األوسط (‪.)448/5‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر "شعب اإليمان" (‪.)17/5‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫البيان والتحصيل (‪.)562/18‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)482/5‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)149/6‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وقال الشيخ ظفر أحمد التهانوي في "إعالء السنن" (‪" :)1‬فما في بعض‬
‫الروايات عنه –أي عن أبي حنيفة‪ -‬من الجواز محمول على صحة البيع‬
‫قضاء‪ ،‬وكذا ما روى عنه أنه ال بأس بإجارة الدار ممن يتخذها كنيسة أو‬
‫بيعة‪ ،‬معناه صحتها قضاء وإن األجرة تحل للمؤجر وال نزاع في كراهتها‬
‫ديانة‪ ،‬فافهم‪ .‬فإن القول بجوازها مطلقًا مخالف لحديث (‪ )2‬بريدة المذكور‬
‫في المتن‪ ،‬فال بد من القول بكراهة أمثال هذه العقود ديانة‪ ،‬والذي أدين هللا‬
‫به أن أبا حنيفة اإلمام لم ينف الكراهة ديانة قط‪ ،‬وإنما قال بصحة العقد‬
‫قضاء فقد" اهـ‪ ،‬ومراده بالكراهة أي أنه حرام‪.‬‬
‫صا على الكفر فاألبوان الكافران‬
‫ومما يحرم اإلعانة عليه أن يعين شخ ً‬
‫ال يجوز البنهما أن يعينهما على الكفر‪ ،‬فإن حملهما إلى الكنيسة فإن ذلك‬
‫معاونة لهما على الكفر‪ ،‬وكذلك ال يجوز حمل الزوج المسلم للزوجة‬
‫النصرانية إلى الكنيسة لتؤدي شعائرهم فإن ذلك معاونة لها على الكفر‪،‬‬
‫ي‬
‫وقد قال الفقهاء من المذاهب األربعة وغيرها‪ :‬إن المساعدة على الكفر أل ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كفر‪ ،‬فمن استحل ذلك فقد كفر ألن تحليل ذلك مصادم لشريعة‬
‫شخس كان ٌ‬‫ٍ‬
‫هللا وتكذيب للرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬إن الكفار غير مكلفين بالفروع‪.‬‬
‫فيقال له‪" :‬قال صاحب "جمع الجوامع" (‪" :)3‬وهي مفروضة في تكليف‬
‫الكافر بالفروع‪ ،‬والصحيح وقوعه خالفًا ألبي حامد اإلسفراييني وأكثر‬
‫الحنفية مطلقًا‪ ،‬ولقوم في األوامر فقط واآلخرين فيما عدا المرتد" اهـ‪ ،‬قال‬
‫الشارح الفقيه األصولي الزركشي (‪" :)4‬ذهب األئمة الثالثة إلى أنهم‬
‫مخاطبون بها مطلقًا في األوامر والنواهي وخالف الحنفية‬
‫______________‬
‫إعالء السنن (‪.)439/17‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫يعني حديث‪" :‬من حبس العنب أيام القطاف"‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر "جمع الجوامع" (ص‪.)130/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تشنيف المسامع (‪.)287-288/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وساعدهم الشيخ أبو حامد األسفراييني منا وحكاه األستاذ أبو إسحاق في‬
‫أصوله قوالً للشافعي‪ ،‬والثالث أن النواهي متعلقة بهم دون األوامر إلمكان‬
‫االنتهاء مع الكفر بخالف المأمور فإن شرطه القربة ونقله صاحب‬
‫"اللباب" من الحنفية عن أصحابهم‪ ،‬وأغرب الشيخ صدر الدين بن الوكيل‬
‫في كتاب "النظائر" فحكى عن بعض األصحاب عكس هذه المذاهب وتابعه‬
‫العالئي في القواعد وهذا ال يعرف بل قال الشيخ أبو حامد األسفراييني في‬
‫كتابه في األصول وصاحبه البندنيجي في باب قسم الصدقات من تعليقه إن‬
‫الخالف في تكليفهم باألوامر وأما المعاصي فمنهيون عنها بال خالف بين‬
‫المسلمين"‪ ،‬انتهت عبارة الزركشي في كتابه "تشنيف المسامع"‪.‬‬
‫فانظر إلى قوله‪" :‬وأما المعاصي فينهون عنها بال خالف بين المسلمين"‬
‫فهذا نقل يُفهمنا على أن اإلجماع على ذلك وما عزي إلى "العتبية" عن‬
‫معتبرا‪ ،‬واألمر كما قال القائل‪:‬‬
‫ً‬ ‫مالك مما يخالف هذا فهو ليس‬
‫معتبرا *** إال خالف له حظ من النّظر‬
‫ً‬ ‫وليس ك ّل خالف جاء‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فقد نقل عن بعض مجتهدي السلف إباحة وطء الجارية بطريق القرض‬
‫وكذلك نقل عن بعض غيره إباحة األكل في رمضان إلى طلوع الشمس‪،‬‬
‫فهذا الذي نقل عن مالك أن الكفار ليسوا مخاطبين بالنهي عن المعاصي‬
‫مثل ذلك فهو كالعدم ومن يتعلق به في إثبات مدعاه فهو كالغريق الذي‬
‫يتعلق بالغثاء‪ ،‬فمن استحل مساعدة المسلم للكافر في وصوله إلى الكنيسة‬
‫ليؤدي كفره فقد كذب هللا ورسوله فهو الكافر‪ ،‬وأما النقل عن "العتبية" فال‬
‫عبرة به عند أهل المذهب فإن الصحيح عند األئمة الثالثة أن الكفار‬
‫مخاطبون في أمور الشريعة في األمر والنهي‪ ،‬وهذا الذي عزاه ابن‬
‫الحاجب في أصوله إلى المحققين‪ ،‬كذلك شهاب الدين القرافي وأبو القاسم‬
‫المالكي المعروف بابن الشاط وكذلك السيد علي بن محمد المالكي المكي‬
‫وهؤالء الثالثة مالكيون ك ٌّل صرح بأن الصحيح في المذهب المالكي أن‬
‫الكفار مخاطبون بفروع الشريعة مطلقًا أي في األوامر والنواهي وكذلك‬
‫صرح بذلك ابن التلمساني المالكي في كتابه في األصول‪.‬‬
‫وأما المسألة المعروفة عند المالكية بأن الرجل المسلم ال يمنع زوجته‬
‫الذمية الكافرة من الذهاب إلى الكنيسة فهي مسألة غير مسألة دعوى جواز‬
‫مساعدتها على نحو حملها في السيارة إلى الكنيسة لغرض عمل دينها من‬
‫عبادتها الفاسدة التي هي إشراك باهلل تعالى فالقائل بجواز هذا هو الكافر‬
‫الذي ال خالف في كفره على أن المقرر في المذاهب الثالثة أن الزوج يمنع‬
‫زوجته الذمية‪.‬‬
‫هذا كالمهم في الذمية أما غير الذمية فإن المالكية ال يقولون بترك منعها‬
‫من الذهاب إلى الكنيسة فمن يزعم أن ءاية {وال تَعَ َاونوا على اإلثْ ِم‬
‫وان} حكمها مقصور على المسلمين فمعنى كالمه أنه يجوز إعانة‬ ‫والعُ ْد ِ‬
‫الكافر على كل معصية على الزنا وشرب الخمر والسرقة إلى غير ذلك‬
‫وكفى هذا الرأي الذي يؤدي إلى هذا خزيًا وضالالً‪ ،‬ويكفي للمناقشة لمن‬
‫يجوز نقل الكافر ليؤدي عمل الكفر أن يحصر على مضمون هذه اآلية بأن‬ ‫ّ‬
‫يقال له‪ :‬تعترف بأن ذهابها إلى الكنيسة ألمور دينها معصية أم ال؟ فإن‬
‫أقر على نفسه‬ ‫قال‪ :‬ليس معصية فقد كفر بذلك‪ ،‬وإن قال إنه معصية فقد َّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بأنه على خالف الصواب‪ ،‬ويقال له‪ :‬ليس بعد بيان هللا تعالى بيان‪ ،‬القرءان‬
‫كفانا المؤنة‪.‬‬
‫قال اإلمام الشافعي رضي هللا عنه في أكبر كتبه كتاب "األم" (‪ )1‬ما‬
‫نصه‪" :‬وله –أي الزوج المسلم‪ -‬منعها –أي زوجته الكافرة الذمية‪ -‬من‬
‫الكنيسة والخروج إلى األعياد وغير ذلك مما تريد الخروج إليه‪ ،‬إذا كان له‬
‫منع المسلمة إتيان المسجد وهو حق كان له في النصرانية منع إتيان‬
‫الكنيسة ألنه باطل" اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة الحنبلي في "المغني" ما نصه (‪" :)2‬فصل‪ :‬قال أحمد‬
‫في الرجل له المرأة النصرانية‪ :‬ال يأذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب‬
‫إلى بيعة وله أن يمنعها ذلك" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬كتاب األم (‪.)8/5‬‬
‫(‪ )2‬المغني (‪.)624/10‬‬
‫وفي كتاب "الفتاوى الهندية" في الفقه الحنفي ما نصه (‪" :)1‬ثم إذا‬
‫تزوج المسلم الكتابية فله منعها من الخروج إلى البيعة والكنيسة كذا في‬
‫السراج الوهاج" اهـ‪.‬‬
‫فقد بان من مجموع األدلة المذكورة للمنصف في هذه المسألة من تحريم‬
‫مساعدة الزوجة الكافرة على الذهاب إلى كنيستها لمعصية هللا أن ذلك‬
‫قطعي التحريم وإنكار ذلك تكذيب هلل ورسوله‪ ،‬فإن كان هذا الوعيد الشديد‬
‫خمرا ألن فيه إعانة على معصية فما بالك‬
‫ً‬ ‫في حديث بيع العنب لمن يتخذه‬
‫فيمن يعين على الكفر‪.‬‬
‫وأما مسألة التكفير بإعانة شخص على معصية فهي مسألة مستقلة وإن‬
‫كانت تلتقي مع هذه المسألة في بعض صورها وتحصيل القول فيها إن‬
‫إعانة الشخص على عمر الكفر كفر كما قال اإلمام أبو الحسن األشعري‬
‫في المسلم الذي بنى كنيسة‪" :‬إن إرادة الكفر كفر" فمن قصد بإيصال هذه‬
‫الكافرة إلى كنيستها أن تؤدي شعارها الكفري كالتصليب أمام المذبح إذا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫حاذته فقد كفر وكذلك إذا فعلت ما بعد ذلك من شعار الكفر وعبادتهم‬
‫وصالتهم‪ ،‬وأما من لم يخطر له ذلك إال مجرد المساعدة على بناء الكنيسة‬
‫أو حمل المرأة الكافرة إلى الكنيسة فال يكفَّر لكن المعصية حاصلة قطعًا‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬الفتاوى الهندية (‪.)281/1‬‬

‫بيان‬
‫أن صالة أحد عن أحد غير جائزة‬
‫وأنه ال يُدفع عن تلك الصلوات مال‬

‫فرض هللا تعالى على كل مسلم مكلّف خمس صلوات في اليوم والليلة‬
‫كانت على المؤمنينَ ِكتابًا َم ْوقُوتًا} [سورة‬
‫ْ‬ ‫فقال تعالى‪َّ :‬‬
‫{إن الصالة َ‬
‫النساء‪ ،]103/‬وقال تعالى‪{ :‬وأقيموا الصالة} [سورة النساء‪ ]77/‬أي‬
‫حافظوا عليها‪ ،‬واألخبار النبوية في ذلك كثيرة‪ ،‬فمن تركها كلها أو بعضها‬
‫استحق العذاب يوم القيامة‪ ،‬ومن مات وعليه صالة كان تركها في الدنيا‬
‫تهاونًا وكسالً ال تبرأ ذمته وال تسقط عنه وال تصلى عنه وال يُدفع عن تلك‬
‫الصلوات ما ٌل‪ ،‬ويدل على ذلك حديث أنس بن مالك رضي هللا عنه أن‬
‫نسي صالة فليُصلها إذا ذكرها ال‬ ‫َ‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا قال‪ :‬قال نبي هللا صلى هللا عليه‬


‫كفارة لها إال ذلك"‪ ،‬وفي رواية عنه أي ً‬
‫وسلم‪" :‬من نسي صالة أو نام عنها فكفّارتها أن يصليها إذا ذكرها" رواهما‬
‫مسلم (‪.)1‬‬
‫قال ابن حبان في صحيحه بعد أن روى هذا الحديث ما نصه (‪" :)2‬في‬
‫قوله‪" :‬فليصلها إذا ذكرها ال كفارة لها إال ذلك" دليل على أن الصالة لو‬
‫أداها عنه غيره لم يجز عنه‪ ،‬إذ المصطفى صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال‬
‫كفارة لها إال ذلك" يريد إال أن يصليها إذا ذكرها‪.‬‬
‫وفيه دلي ٌل على أن الميت إذا مات وعليه صلوات لم يقدر على أدائها في‬
‫علته لم يجز أن يُعطى الفقراء عن تلك الصلوات الحنطة وال غيرها من‬
‫سائر األطعمة واألشياء" اهـ‪.‬‬
‫_________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب المساجد ومواضع الصالة‪ :‬باب‬
‫قضاء الصالة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر "اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان" (‪ )147/4‬البن بلبان‪.‬‬
‫وقال الشيخ زكريا األنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" ممزو ًجا‬
‫بالمتن ما نصه (‪(" :)1‬ولو مات وعليه صالة أو اعتكاف لم يقض ولم يفد)‬
‫عنه لعدم ورودهما‪ ،‬بل نقل القاضي عياض اإلجماع على أنه ال يُصلى‬
‫عنه" اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ منصور البُهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" ممزو ًجا بالمتن‬
‫ما نصه (‪(" :)2‬وأما صالة الفرض فال تفعل عنه) ذكر القاضي عياض‬
‫عا أنه ال يصلى عنه فائتة" اهـ‪.‬‬
‫إجما ً‬
‫فتبين بهذا أن ما يفعله بعض أهالي نواحي ماردين من إخراج قمح أو‬
‫نحوه يوزع للفقراء عن الشخص الذي توفي وعليه صلوات لم يؤدها في‬
‫حال حياته‪ ،‬ويقولون‪" :‬هذا بدل الصالة التي لم يؤدها في حياته" ويفهمون‬
‫بذلك أن ذلك كفارة فهو باطل وهو خالف الحديث الذي فيه‪" :‬ال كفارة لها‬
‫إال ذلك"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬أسنى المطالب (‪.)428/1‬‬
‫(‪ )2‬كشاف القناع عن متن اإلقناع (‪.)336/2‬‬

‫بيان‬
‫أن مصارف الزكاة ال تع ّم كل عمل خيري‬

‫عز وجل‪{ :‬إنَّما ال َّ‬


‫ص َدقاتُ‬ ‫فرض هللا تعالى الزكاة و َبيَّن مصارفها بقوله ّ‬
‫والغارمينَ‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫الرقا ِ‬‫والعاملينَ عليها وال ُم َؤلَّف ِة قُلوبُ ُهم وفي ِ ّ‬
‫ِ‬ ‫والمساكين‬
‫ِ‬ ‫للفُقَ ِ‬
‫راء‬
‫وابن السبي ِل فريضةً ِمنَ هللاِ وهللاُ علي ٌم حكي ٌم} [سورة‬ ‫ِ‬ ‫وفي سبي ِل هللاِ‬
‫التوبة‪ ،]60/‬فيجب صرفها إلى هؤالء األصناف الثمانية كما دلت اآلية‬
‫على ذلك‪ ،‬فلفظة‪{ :‬إنما} تفيد الحصر‪ ،‬قال الرازي في تفسيره (‪" :)1‬إن‬
‫كلمة "إنما" مركبة من "إن" و"ما"‪ ،‬وكلمة "إن" لإلثبات وكلمة "ما" للنفي‪،‬‬
‫فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم‪ ،‬فوجب أن يفيد ثبوت‬
‫المذكور وعدم ما يغايره" اهـ‪ ،‬وكذا ذكر المفسر الخازن في تفسيره (‪.)2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال المفسر اللغوي أبو حيان في تفسيره "النهر الماد" (‪" :)3‬ولفظة‬
‫"إنما" إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها‪ ،‬وإن لم توضع‬
‫للحصر فالحصر مستفاد من األوصاف‪ ،‬إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي‬
‫التعليل به والتعليل بالشئ يقتضي االقتصار عليه‪ ،‬والظاهر أن مصرف‬
‫الصدقات هؤالء األصناف‪ ،‬والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير فتكون‬
‫الفقراء غير المساكين‪.‬‬
‫والمراد بقوله تعالى {وفي سبيل هللا} الغزاة المتطوعون بالجهاد بأن لم‬
‫يكن لهم سهم في ديوان المرتزقة من الفيء يعطون ما يحتاجونه للجهاد‬
‫ولو كانوا أغنياء إعانةً لهم على الغزو‪ ،‬والمرتزقةُ هم األجناد المرصودون‬
‫في الديوان للجهاد سموا بذلك ألنهم أرصدوا نفوسهم للذبّ عن الدين‬
‫وطلب الرزق من ماله تعالى‪ ،‬وأما المتطوعون بالغزو إذا‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬التفسير الكبير (م‪/8‬ج‪/16‬ص‪.)107‬‬
‫(‪ )2‬لباب التأويل في معاني التنزيل (م‪/2‬ج‪/3‬ص‪.)109‬‬
‫(‪ )3‬النهر الماد (‪.)980/1‬‬
‫ن ِشطوا فهم المرادون بسبيل هللا فيعطون من الزكاة من سهم في سبيل هللا‪،‬‬
‫وأما المرتزقة فلهم األخماس األربعة من الفيء‪.‬‬
‫وال يجوز وال يجزئ صرف الزكاة لغير األصناف الثمانية المذكورين‬
‫في ءاية براءة‪.‬‬
‫أن زكاته‬‫فمن دفع زكاته لبناء المساجد والمستشفيات والمدارس فليَعلم َّ‬
‫ما ص َّحت فيجب عليه إعادة الدفع لل ُمستح ِقّين‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫النار يوم‬
‫ُ‬ ‫بغير ح ّ ٍ‬
‫ق فلهم‬ ‫يتخوضون (‪ )1‬في مال هللا ِ‬ ‫َّ‬ ‫"إن رجاالً‬
‫عليه وسلم‪َّ :‬‬
‫القيامة" رواه البخاري في الصحيح (‪.)2‬‬
‫أن الذي يأخذ الزكاة وليس هو من المستحقين‬ ‫فيفهم من هذا الحديث َّ‬
‫النار يوم القيامة‪ ،‬وكذلك الذي يأكل مال‬
‫ُ‬ ‫الذين ذكرهم هللا في القرءان له‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الوقف اإلسالمي بغير ح ّ ٍ‬


‫ق أي بغير الوجه الشرعي الذي بيَّنه الفقهاء في‬
‫النار يوم القيامة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كتبهم فله‬
‫وخير مما عدا‬ ‫ٌ‬ ‫والدليل على أنه ال يجوز دفع الزكاة لكل ما هو ِب ٌّر‬
‫األصناف الثمانية وأن المراد بقوله تعالى‪{ :‬وفي سبي ِل هللا} ليس كل أنواع‬
‫البر واإلحسان من بناء مسج ٍد ومدرس ٍة ومستشفى ونحو ذلك هو قول‬ ‫ّ‬
‫ي وال‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وقد َذ َك َر الزكاة‪" :‬إنَّها ال تح ُّل لغن ٍّ‬
‫ي" (‪ ،)3‬وقوله صلى هللا عليه وسلم لرجلين جاءا يسأالنه‬ ‫لذي ِم َّرةٍ سو ّ‬
‫يٍ‬
‫ي وال لقو ّ‬ ‫الزكاة وكانا قويين‪" :‬إن شئتما أعطيتُكما وليس فيها ٌّ‬
‫حق لغن ٍّ‬
‫مكتسب" (‪،)4‬‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬أي يتصرفون‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب فرض الخمس‪ :‬باب قول هللا‬
‫تعالى‪{ :‬فَأ َ َّن هللِ ُخ ُم َ‬
‫سهُ وللرسو ِل} [سورة األنفال‪.]41/‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب من يعطي من‬
‫الصدقة وحد الغني‪ ،‬والترمذي في سننه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب ما‬
‫جاء من ال تحل له الصدقة‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب من يعطي من الصدقة وحد‬ ‫(‪)4‬‬
‫الغني‪.‬‬

‫فحرم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بهذين الحديثين الزكاة على من يملكُ‬ ‫َّ‬
‫ماالً يُغنيه أي يكفيه لحاجاته وعلى من له قوة ٌ على العمل الذي يكفيه‬
‫لحاجاته األصلية‪ ،‬فدلَّنا حديث النبي صلى هللا عليه وسلم وهو ال ُم َبي ُّن لما‬
‫البر ال كلّها وهو الجهاد ويدخل في ذلك‬ ‫أنزل هللا في كتابه بعض أعمال ّ‬
‫يقل َّ‬
‫إن كلمة {وفي سبي ِل هللا} تع ُّم ك َّل مشروع‬ ‫الحج عند اإلمام أحمد‪ ،‬ولم ْ‬
‫خيري أح ٌد من األئم ِة المجتهدين إنَّما ذلك ذكره بعض الحنفية من‬
‫المتأ ّخرين ممن ليس من أصحاب أبي حنيفة الذي هم مجتهدون فحرا ٌم أن‬
‫يؤخذ بقول هذا العا ِلم‪ ،‬وهذا القول مخالف لكثير من متون الحنفية وشرحها‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المصرح فيها بأن الزكاة ال تصرف لبناء مسجد وسقاية وإصالح طرق‬
‫ونحوها لعدم التمليك وكذا ال تصرف إلى تكفين ميت‪ ،‬فليراجعها من شاء‪.‬‬
‫فليُ َحذَّر من هؤالء الذين يَل ُّمون هذه األموال باسم المستشفى أو بناء‬
‫جامع أو بناء مدرس ٍة من الزكوات هؤالء حرا ٌم عليهم وحرا ٌم على الذين‬
‫ي ٍ يدخل في قوله تعالى‪{ :‬وفي سبيل‬ ‫يعطونهم ألنه لو كان كل عمل خير ّ‬
‫ي‬ ‫ي وال لقو ٍّ‬ ‫هللا} [سورة التوبة‪ ]60/‬ما قال الرسول‪" :‬ليس فيها ٌّ‬
‫حق لغن ّ‬
‫ُمكتسب"‪.‬‬
‫ي‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إن المراد بقوله تعالى‪{ :‬وفي سبي ِل هللا} كل عمل خير ّ‬
‫قلنا‪ :‬هذا خالف ما فهمه علماء اإلسالم في تفسير هذه اآلية‪ ،‬فإنهم‬
‫فسروها بالغزاة‪.‬‬
‫قال اإلمام مالك صاحب المذهب‪" :‬سبل هللا كثيرة‪ ،‬ولكني ال أعلم خالفًا‬
‫في أن المراد بسبيل هللا ها هنا الغ َْزو" اهـ‪ ،‬ذكر القاضي أبو بكر بن‬
‫العربي في أحكامه (‪.)1‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬أحكام القرءان (‪.)969/2‬‬

‫وقال البدر العيني الحنفي في "عمدة القاري" (‪" :)1‬قال ابن المنذر في‬
‫"اإلشراف"‪ :‬قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد‪" :‬سبيل هللا" هو الغازي"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال اإلمام المجتهد محمد بن الحسن في الموطإ بعد أن ساق حديث‬
‫ي إال‬ ‫عا‪" :‬ال تحل الصدقة لغن ّ‬
‫عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفو ً‬
‫لخمسة‪ :‬لغاز في سبيل هللا" الحديث‪" :‬وبهذا نأخذ‪ ،‬والغازي في سبيل هللا‬
‫إذا كان له عنها غنى يقدر بغناه على الغزو لم يستحب له أن يأخذ منها‬
‫شيئًا" اهـ‪ ،‬نقله الكوثري في مقاالته (‪.)2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال النووي الشافعي في "شرح المهذب" ما نصه (‪{" :)3‬وفي سبي ِل‬
‫هللا} فإن المراد به بعضهم وهم المتطوعون الذين ال حق لهم في الديوان‬
‫ولم يذكروا باسمهم الخاص" اهـ‪.‬‬
‫ضا‪" :‬واحتج أصحابنا بأن المفهوم في االستعمال المتبادر‬‫وقال (‪ )4‬أي ً‬
‫إلى األفهام أن سبيل هللا تعالى هو الغزو‪ ،‬وأكثر ما جاء في القرءان العزيز‬
‫ضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل‬ ‫كذلك‪ .‬واحتج األصحاب أي ً‬
‫الغارمين‪" :‬ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة" فذكر منهم الغازي‪ ،‬وليس في‬
‫األصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إال الذين نعطيهم من سهم سبيل‬
‫هللا تعالى" اهـ‪.‬‬
‫____________‬
‫عمدة القاري في شرح صحيح البخاري (م‪/5‬ج‪/9‬ص‪.)44‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مقاالت الكوثري (ص‪.)221/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)201/6‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)212/6‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وقال اإلمام الشافعي صاحب المذهب في أكبر كتبه كتاب "األم" ما نصه‬
‫(‪" :)1‬ينبغي لوالي الصدقة أن يبدأ فيأمر بأن يكتب أهل السهمان‬
‫ويوضعون مواضعهم ويحصى كل أهل صنف منهم على حدتهم‪ ،‬فيحصي‬
‫أسماء الفقراء والمساكين وأسماء الغارمين وابن السبيل والمكاتبين وأسماء‬
‫الغزاة" اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه "المغني" ما نصه (‪" :)2‬هذا الصنف‬
‫السابع من أهل الزكاة‪ ،‬وال خالف في استحقاقهم وبقاء حكمهم‪ ،‬وال خالف‬
‫في أنهم الغزاة في سبيل هللا ألن سبيل هللا عند اإلطالق الغزو" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ولو أردنا استقصاء النقل لطال بنا المقال‪ ،‬وما ذكرناه كفاية‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬يُحمل {وفي سبيل هللا} على المعنى اللغوي ليشمل كل وجوه‬
‫البر‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬يرد ذلك بوجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬باإلجماع الذي نقله ابن قدامة على أن المراد باآلية الغزاة‪ ،‬وهذا‬
‫النقل مؤيَّد باتفاق أهل التفسير وعلماء الفقه على هذا المعنى‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬قال ابن األثير في "النهاية" ما نصه (‪" :)3‬السبيل في األصل‪:‬‬
‫الطريق‪ ،‬ويذ َّكر ويؤنَّث والتأنيث فيها أغلب‪ .‬وسبيل هللا عام على كل عمل‬
‫س ِل َك به طريق التقرب إلى هللا تعالى بأداء الفرائض والنوافل‬
‫خالص ُ‬
‫وأنواع التطوعات‪ ،‬وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار‬
‫لكثرة االستعمال كأنه مقصور عليه" اهـ‪ ،‬وكذا‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬األم (‪ )63/2‬باختصار‪.‬‬
‫(‪ )2‬المغني (‪.)435/6‬‬
‫(‪ )3‬النهاية في غريب الحديث (‪.)338-339/2‬‬

‫نقله ابن منظور في "لسان العرب" (‪.)1‬‬


‫وقال اللغوي الفيوزابادي في "القاموس" ما نصه(‪" :)2‬السبيل‪ :‬الطريق‬
‫وما وضح منه‪{ ،‬وأن ِفقوا في سبيل هللا} [سورة البقرة‪ ]195/‬أي الجهاد‪،‬‬
‫وكل ما أمر هللا به من الخير واستعماله في الجهاد أكثر" اهـ‪.‬‬
‫وقال الفقيه اللغوي الحافظ محمد مرتضى الحنفي في "شرح القاموس"‬
‫ما نصه (‪" :)3‬وقوله {وفي سبيل هللا} أريد به الذي يريد الغزو وال يجد ما‬
‫يبلغه مغزاه فيعطى من سهمه" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الثالث‪ :‬إن شمول {سبيل هللا} بالمعنى اللغوي لوجوه البر في غير ءاية‬
‫مصارف الزكاة الواردة بصيغة الحصر ال مانع من قبوله إذا كان هناك‬
‫صارف عن الحقيقة الشرعية كأن يكون الكالم في صدقات النفل ونحو‬
‫ذلك من اآليات التي معها من القرائن ما يعين أن المراد منها اإلطالق‬
‫اللغوي فإذ ذاك يحمل {سبيل هللا} على وجوه البر مطلقًا‪ ،‬وإذا خلت من‬
‫ي وفي مصارف الزكاة مع‬ ‫ي والحقيق ّ‬
‫تلك القرائن تحمل على المعنى الشرع ّ‬
‫ذلك حديث أبي سعيد الخدري يبين المراد بسبيل هللا وهو الغزو كما سبق‪،‬‬
‫فال َمعدِل عنه أصالً هنا‪.‬‬
‫ثم األصناف الثمانية متباينة ال تتداخل إال إذا ُو ِجد صارف عن هذا‬
‫التباين‪ ،‬فعند حمل السبيل هنا على خالف رأي الجماعة يصحل بينها‬
‫تداخل ألن السبيل بمعنى وجوه البر يشمل إعطاء الفقير قس ً‬
‫طا من الزكاة‬
‫والتصدق على المسكين بقسط منها واستخالص الرقاب من الرق أو األسر‬
‫وإنقاذ الغارم من الدَّين ومعاونة ابن السبيل‪ ،‬فالجماعة أجروا لفظ السبيل‬
‫على المعنى الشرعي المبين بالحديث المتبادر إلى أفهام المتخاطبين كما‬
‫هو شأن الحقيقة الشرعية‪ ،‬وأما المعنى اللغوي الشامل‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬لسان العرب‪ :‬مادة س ب ل (‪.)320/11‬‬
‫(‪ )2‬القاموس المحيط‪ :‬مادة س ب ل (ص‪.)1308/‬‬
‫(‪ )3‬تاج العروس‪ :‬مادة س ب ل (‪.)366/7‬‬
‫ألنواع البر فينافيه لزوم التباين بينها‪ ،‬وهذا يبعده على أن تكون مرادًا لو‬
‫كان هذا المعنى مدلوالً حقيقيًّا للسبيل هنا‪.‬‬
‫فالحقيقة الشرعية إذًا هي المتبادرة إلى األفهام في تخاطب أهل الشريعة‪،‬‬
‫والحقيقة اللغوي ال تكون متبادرة إلى أفهامهم‪ ،‬فإرادة المعنى اللغوي من‬
‫اللفظ المشتهر في معنى شرعي يكون في حاجة إلى قرينة صارفة عن‬
‫الحقيقة الشرعية‪ ،‬ولو قلنا على سبيل الفرض أن احتمال {سبيل هللا} في‬
‫مصارف الزكاة للمعنيين لكان حديث أبي سعيد الخدري مبينًا لإلجمال‪،‬‬
‫فتعيّن حمله على الغ َْزو‪ ،‬قاله الكوثري في مقاالته (‪.)1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الرابع‪ :‬حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال تحل الصدقة لغني إال لخمسة‪:‬‬
‫لغاز في سبيل هللا‪ ،‬أو لعامل عليها‪ ،‬أو لغارم‪ ،‬أو لرجل اشتراها بماله‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬
‫لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهداها المسكين للغني"‬
‫رواه أبو داود (‪ )2‬وابن ماجه (‪.)3‬‬
‫قال النووي في "شرح المهذب" ما نصه (‪" :)4‬هذا حديث حسن أو‬
‫صحيح"‪ ،‬ثم استدل به على أن المراد باآلية الغزاة فقال ما نصه (‪:)5‬‬
‫"وليس في األصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إال الذين نعطيهم من‬
‫سهم سبيل هللا تعالى" اهـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫مقاالت الكوثري (ص‪.)223-222/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب من يجوز له أخذ‬ ‫(‪)2‬‬
‫الصدقة وهو غني‪.‬‬
‫أخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب من تحل له‬ ‫(‪)3‬‬
‫الصدقة‪.‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)206/6‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)212/6‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫فإن قيل‪ :‬قال الرازي في تفسيره (‪" :)1‬واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله‬
‫{وفي سبيل هللا} ال يوجب القصر على كل الغزاة‪ ،‬فلهذا المعنى نقل القفال‬
‫في تفسيره عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع‬
‫وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد ألن قوله‪:‬‬
‫{وفي سبيل هللا} عا ٌّم في الكل" اهـ‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬هذا النقل ال اعتبار له فهو كالعدم‪ ،‬وهو مخالف لإلجماع الذي نقلناه‬
‫عن مالك وابن قدامة‪ ،‬ورده الكوثري بقوله (‪" :)2‬وأما ما حكاه الفخر‬
‫الرازي عن القفال الشاشي من عزو القول بشمول {وفي سبيل هللا} لوجوه‬
‫البر إلى مجهول من الفقهاء على خالف رأي الجماعة فشأنه شأن رواية‬
‫المجاهيل واآلراء التالفة للمجاهيل‪ ،‬على أنه ال رأي يؤخذ به ضد اإلجماع‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الذي حكيناه عن مالك مع العلم بأن الرازي ليس من رجال تمحيص‬


‫الروايات" اهـ‪.‬‬
‫وكذلك رده الخازن في تفسيره (‪ )3‬فقال‪" :‬وقال بعضهم إن اللفظ عام‬
‫فال يجوز قصره على الغزاة فقط‪ ،‬ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم‬
‫سبيل هللا إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور‬
‫والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك‪ ،‬قال‪ :‬ألن قوله {وفي سبيل هللا}‬
‫عام في الكل فال يختص بصنف دون غيره‪ ،‬والقول األول هو الصحيح‬
‫إلجماع الجمهور عليه" اهـ‪ ،‬ومراده باألول أي تفسير اآلية بالغزاة‪ ،‬فهذا‬
‫من الخازن رد لما نقله القفال عمن لم يُس ّم من الفقهاء‪.‬‬
‫قال اإلمام مالك في "المدونة" ما نصه (‪" :)4‬ال تجزئه أن يعطي من‬
‫زكاته في كفن ميت ألن الصدقة إنما هي للفقراء والمساكين ومن س ّمى هللا‪،‬‬
‫فليس لألموات وال لبنيان المساجد" اهـ‪.‬‬
‫____________‬
‫التفسير الكبير (‪.)115/16‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مقاالت الكوثري (ص‪.)212/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫لباب التأويل (م‪/2‬ج‪/3‬ص‪.)113‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المدونة (‪.)258/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وبعد هذا البيان يُعلم أنه ال يجوز دفع شئ من أموال الزكاة لكل عمل‬
‫خيري وال يجوز جمعها باسم بناء جامع أو مستشفى وما أشبه ذلك‪ ،‬فالحذر‬
‫الحذر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن ُحلي النساء جائز ّ‬
‫لهن باإلجماع‬

‫تنطع األبياني فحرم على المرأة أن تلبس الذهب المحلق (‪ )1‬ويعني‬


‫بذلك الخاتم والسوار والسلسلة من الذهب ويتبجح بتفاخره بهذا ألنه في‬
‫نفسه يرى مقولة الوهابية‪" :‬هم رجال ونحن رجال"‪ ،‬كأنه ما سمع بحديث‬
‫رسول هللا عن الذهب‪" :‬وحل إلناثهم" (‪ ،)2‬ولم يسمع باإلجماع الذي نقله‬
‫الحافظ البيهقي وغيره (‪.)3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فنقول له‪ :‬هذا الكالم فيه مخالفة إلجماع المسلمين الذي نقله الحافظ‬
‫البيهقي في سننه بعد أن أورد عدة أحاديث في ذلك تحت باب عنوانه‪:‬‬
‫"باب سياق أخبار تدل على إباحته للنساء" ومنها حديث أبي موسى‬
‫األشعري رضي هللا عنه قال‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬الحرير‬
‫والذهب حرام على ذكور أمتي ِح ٌّل إلناثهم" قال الحافظ البيهقي‪" :‬فهذه‬
‫األخبار أي في اإلباحة وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب‬
‫للنساء‪ ،‬واستدللنا بحصول اإلجماع على إباحته لهن على نسخ األخبار‬
‫الدالة على تحريمه فيهن خاصة" اهـ‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬على نسخ األخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة" فيه إبطال‬
‫لقول األلباني‪" :‬ألحاديث خاصة وردت فيهن"‪.‬‬
‫ضا النووي الشافعي في كتابه المجموع ونص‬
‫ونقل اإلجماع أي ً‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬كما في كتابه "ءاداب الزفاف" (ص‪.)132/‬‬
‫(‪ )2‬أي إناث األمة‪ ،‬رواه الترمذي‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب ما جاء في‬
‫الحرير والذهب‪.‬‬
‫(‪ )3‬السنن الكبرى (‪ ،)142/4‬المجموع للنووي (‪ ،)442/4‬فتح‬
‫الباري (‪.)317/10‬‬
‫عبارته (‪" :)1‬يجوز للنساء لبس الحرير والتحلي بالفضة وبالذهب‬
‫باإلجماع لألحاديث الصحيحة" اهـ‪.‬‬
‫ضا نقله خاتمة الحفاظ الحافظ أحمد بن حجر العسقالني في كتابه فتح‬‫وأي ً‬
‫الباري شرح صحيح البخاري ونص عبارته (‪" :)2‬وإذا تقرر هذا فالنهي‬
‫عن خاتم الذهب أو التختم به مختص بالرجال دون النساء فقد نُقل اإلجماع‬
‫على إباحته للنساء‪ ،‬قلت‪ :‬وقد أخرج ابن أبي شيبة (‪ )3‬من حديث عائشة‬
‫أن النجاشي أهدى للنبي صلى هللا عليه وسلم حلية فيها خاتم من ذهب‬
‫فأخذه وأنه ل ُمعرض عنه ثم دعا أمامة بنت ابنته –يعني زينب‪ -‬فقال‪:‬‬
‫"تحلي به" انتهى كالم العسقالني‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا أخرجه البيهقي في سننه (‪.)4‬‬


‫قلت‪ :‬والحديث أي ً‬
‫ضا إلكيا هراسي نقله عنه القرطبي في تفسيره ونص‬ ‫ونقل اإلجماع أي ً‬
‫عبارته (‪" :)5‬قال مجاهد‪ :‬رخص للنساء في الذهب والحرير وقرأ هذه‬
‫غير‬
‫صام ُ‬‫الخ ِ‬ ‫الح ْليَ ِة َ‬
‫وهو في ِ‬ ‫اآلية –أي قرأ قوله تعالى {أ َ َو َمن يُنَ َّ‬
‫ش ُؤ في ِ‬
‫بين} [سورة الزخرف‪.-]18/‬‬ ‫ُم ٍ‬
‫قال إلكيا‪ :‬فيه داللة على إباحة ال ُحلي للنساء‪ ،‬واإلجماع منعقد عليه‬
‫واألخبار فيه ال تحصى" اهـ‪.‬‬
‫صاص الحنفي في أحكام القرءان تحت "فصل‬‫ضا أبو بكر الج َّ‬
‫ونقل أي ً‬
‫إباحة لبس الحلي للنساء" ونص عبارته (‪" :)6‬األخبار الواردة‬
‫_____________‬
‫انظر الكتاب (‪.)442/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر الكتاب (‪.)317/10‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مصنف ابن أبي شيبة (‪.)194/5‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫انظر الكتاب (‪.)141/4‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫انظر الكتاب (‪.)71-72/16‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫انظر الكتاب (‪ )575/3‬طبعة دار الفكر‪-‬بيروت‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫في إباحته للنساء عن النبي صلى هللا عليه وسلم والصحابة أظهر وأشهر‬
‫ضا ظاهرة في إباحته للنساء‪ ،‬وقد‬
‫من أخبار الحظر‪ ،‬وداللة اآلية أي ً‬
‫استفاض لبس الحلي للنساء منذ لدن النبي صلى هللا عليه وسلم والصحابة‬
‫إلى يومنا هذا من غير نكير من أحد عليهن‪ ،‬ومثل ذلك ال يُعترض عليه‬
‫بأخبار اآلحاد" اهـ‪.‬‬
‫ضا في كتابه المذكور ما نصه (‪" :)1‬قال أبو العالية‬
‫ونقل الجصاص أي ً‬
‫ومجاهد‪ :‬رخص للنساء في الذهب" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فبعد هذا تبين أن فتوى األلباني شيطانية مخالفة للحديث النبوي الشريف‬
‫وإلجماع هذه األمة‪ ،‬وال يستغرب صدور مثل هذه الفتوى منه فإنه الذي‬
‫حرم الوضوء بأكثر من مد وحرم االغتسال بأكثر من خمسة أمداد‪ ،‬فعلى‬ ‫َّ‬
‫مذهبه الباطل يا ويل الذين يزيدون على ذلك فهم عنده ءاثمون ضالون‬
‫ففيما ذهب إليه تضييق لدين هللا الواسع وحرج عظيم وهللا تعالى يقول‪:‬‬
‫الدين ْ‬
‫من َح َرجٍ} [سورة الحج‪.]78/‬‬ ‫ِ‬ ‫{وما َج َع َل علَ ْي ُك ْم في‬

‫__________‬
‫(‪ )1‬انظر الكتاب (‪.)575/3‬‬

‫بيان‬
‫علي‬
‫ّ‬ ‫حكم القتال الذي حصل بين اإلمام‬
‫ومعاوية وأن معاوية ومن معه بغوا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫هللا وأطيعُوا الرسو َل وأ ُ ْولي‬


‫أطيعوا َ‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬يا أيُّها الذينَ ءا َمنوا ِ‬
‫األمر ِمن ُكم} [سورة النساء‪.]59/‬‬ ‫ِ‬
‫وروى مسلم في صحيحه (‪ )1‬عن أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه‬
‫فمات مات ميتة‬‫َ‬ ‫وسلم أنه قال‪َ " :‬من خرج من الطاع ِة وفارقَ الجماعةَ‬
‫ضا أنه جاء عبد هللا بن عمر إلى عبد هللا بن مطيع‬ ‫جاهلية"‪ ،‬وفيه (‪ )2‬أي ً‬
‫حين كان من أمر ال َح َّرة ما كان زمن يزيد بن معاوية‪ ،‬فقال‪ :‬اطرحوا ألبي‬
‫عبد الرحمن وسادة‪ ،‬فقال‪" :‬إني لم ءاتك ألجلس أتيتك ألحدّثك حديثًا‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقوله‪ ،‬سمعت رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم يقول‪َ " :‬من خلع يدًا من طاعة لقي هللا يوم القيامة ال ُح َّجة له‪،‬‬
‫وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"‪.‬‬
‫َ‬ ‫و َمن مات‬
‫وروى ابن حبان في صحيحه (‪ )3‬عن عرفجة بن صريح األشجعي‬
‫قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬سيكون بعدي هنات‬
‫وهنات (‪ ،)4‬فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق بين أمة محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلم وأمرهم‬
‫________‬
‫(‪ )1‬و(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإلمارة‪ :‬باب وجوب مالزمة جماعة‬
‫المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال‪ .‬وتحريم الخروج على‬
‫الطاعة ومفارقة الجماعة‪.‬‬
‫(‪)3‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)51/7‬‬
‫(‪ )4‬أي أشياء قبيحة‪.‬‬

‫جمي ٌع فاقتلوه كائنًا َمن كان‪ ،‬فإن يد هللا مع الجماعة‪ ،‬وإن الشيطان مع من‬
‫فارق الجماعة يرتكض"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وعن البراء بن عازب رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم"‪ ،‬قالوا‪ :‬بلى‪،‬‬
‫قال‪" :‬ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه"‪ .‬قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال فأخذ‬
‫ي مواله الله ّم وا ِل َمن وااله وعا ِد َمن‬
‫بيد علي فقال‪َ " :‬من كنت مواله فعل ّ‬
‫عاداه"‪ .‬رواه اإلمام أحمد بن حنبل في المسند (‪.)1‬‬
‫ي بغاة‪:‬‬
‫الخارجون على اإلمام عل ّ‬
‫ي‬
‫ليعلم أن الذين قاتلوا عليًّا خرجوا عن طاعة اإلمام‪ ،‬وهو أي سيدنا عل ّ‬
‫مأمورا بقتال َمن خرج عليه‪ ،‬فقد روى ّ‬
‫البزار (‪ )2‬والطبراني (‪ )3‬أنه‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫قال‪" :‬أُمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين" (‪.)4‬‬
‫__________‬
‫مسند أحمد (‪.)281/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫كشف األستار عن زوائد البزار (‪.)92/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أورده الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )238/7‬وقال‪ :‬رواه‬ ‫(‪)3‬‬
‫البزار والطبراني في األوسط وأحد إسنادي البزار رجاله رجال‬
‫الصحيح غير الربيع بن سعيد‪ ،‬ووثقه ابن حبان‪ .‬اهـ‪ .‬انظر‬
‫الثقات البن حبّان (‪.)297/7‬‬
‫كانت معركة الجمل بين سيدنا علي رضي هللا عنه و َمن معه‬ ‫(‪)4‬‬
‫وجماعة تح ّمسوا للمطالبة بدم عثمان فيهم طلحة بن عبيد هللا‬
‫العوام وعائشة زوج رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬ ‫والزبير بن َّ‬
‫وكانت خرجت من المدينة بعدما بويع سيدنا علي رضي هللا عنه‬
‫بالخالفة إلى مكة للحج‪ ،‬ثم التقت بأناس متحمسين للمطالبة بدم‬
‫عثمان رضي هللا عنه فح ّمسوها فخرجت معهم‪ ،‬ث ّم وصلت إلى‬
‫ب فقالت‪ :‬ما اسم هذه األرض‪ ،‬فقيل‬ ‫أرض سمعت فيها نباح كال ٍ‬‫ٍ‬
‫لها‪ :‬الحوأب‪ ،‬فقالت‪ :‬ما أظنني إال راجعة‪ ،‬فقيل لها‪ :‬تذهبين معنا‪،‬‬
‫هللا يصلح بك بين المسلمين‪ ،‬فقالت‪ :‬ما أظنني إال راجعة فإني‬
‫سمعت =‬
‫______________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كن صاحبة الجمل األدبب‬ ‫= رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬أيّت ُ ّ‬
‫الحوأب انظري يا عائشة أن ال‬ ‫تنبح عليها كالب‬
‫فأصروا عليها فذهبت معهم لإلصالح ولم تذهب للقتال‬ ‫ّ‬ ‫تكوني أنت"‬
‫ي ث ّم حصل ما حصل من القتال‬ ‫فوصلت إلى البصرة حيث معسكر عل ّ‬
‫فكسرهم علي وقُتل جمل عائشة وكان أعطاها إياه شخص من المطالبين‬
‫بدم عثمان اشتراه بأربعمائة دينار‪ ،‬ثم أعادهت سيدنا علي الخليفة الراشد‪.‬‬
‫وكانت وقعة الجمل سنة ست وثالثين في جمادى اآلخرة‪.‬‬
‫ثم دعا علي رضي هللا عنه معاوية و َمن معه من أهل الشام إلى البيعة‬
‫فرفضوا‪ ،‬فخرج يريدهم فبلغ ذلك معاوية فخرج فيمن معه من أهل الشام‪،‬‬
‫والتقوا في صفين في صفر سنة سبع وثالثين فافتتلوا فقتل ع ّمار بن ياسر‬
‫أحس أهل‬
‫َّ‬ ‫وخزيمة بن ثابت وأبو عمرة المازني وكانوا مع علي‪ ،‬فلما‬
‫الشام باقتراب هزيمتهم رفعوا المصاحف يدعون بزعمهم إلى ما فيه مكيدة‬
‫من عمرو بن العاص أشار بذلك على معاوية ومن معه‪ ،‬ف ُح ْك َم الحكمان‬
‫وكان حكم علي أبا موسى األشعري وحكم معاوية عمرو بن العاص فاتفقا‬
‫على أن يخلع ك ّل منهما صاحبه ثم قدّم عند التحكيم عمرو أبا موسى فتكلم‬
‫فأقر معاوية وبايع له‪ ،‬فتفرق الناس على هذا‪ .‬وأما‬ ‫فخلع عليًّا وتكلم عمرو ّ‬
‫الخوارج فخرجت على سيدنا علي وكانوا أوالً يقاتلون معه معاوية‪،‬‬
‫حكم إال هللا‪ ،‬وعسكروا بحروراء فبذلك س ّموا‬ ‫وكفّروا سيدنا عليًا وقالوا‪ :‬ال َ‬
‫الحرورية‪ ،‬فبعث إليهم علي عبد هللا بن عباس وغيره فخاصمهم وحا ّجهم‬
‫فرجع منهم قو ٌم كثير وثبت قوم على رأيهم‪ ،‬وساروا إلى النهروان‬
‫ي فقتلهم‬‫ت فسار إليهم عل ّ‬ ‫األر ّ‬
‫فعرضوا للسبيل وقتلوا عبد هللا بن خباب بن َ‬
‫بالنهروان وقُتل منهم ذو الثدية سنة ثمان وثالثين‪.‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر العسقالني في كتابه التلخيص الحبير (‪ )1‬ما نصه‪:‬‬
‫أن أهل الجمل وصفّين والنهروان بغاة" هو‬
‫"قوله –أي الرافعي‪" :-‬ثبت ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي‪" :‬أُمرتُ بقتال الناكثين والقاسطين‬


‫كما قال‪ ،‬ويد ّل عليه حديث عل ّ‬
‫والمارقين" رواه النسائي في الخصائص‪ ،‬والبزار (‪ ،)2‬والطبراني (‪،)3‬‬
‫والناكثين أهل الجمل ألنهم نكثوا بيعته‪ ،‬والقاسطين أهل الشام ألنهم جاروا‬
‫عن الحق في عدم مبايعته‪ ،‬والمارقين أهل النهروان لثبوت الخبر الصحيح‬
‫فيهم أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" اهـ‪.‬‬
‫وروى البيهقي (‪ )4‬في كتاب االعتقاد بإسناده المتصل إلى محمد بن‬
‫إسحاق وهو ابن خزيمة قال‪" :‬وك ّل َمن نازع أمير المؤمنين عل ّ‬
‫ي بن أبي‬
‫طالب في إمارته فهو باغٍ‪ ،‬على هذا عهدت مشايخنا وبه قال ابن إدريس –‬
‫يعني الشافعي‪ -‬رحمه هللا" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب أحكام القرءان للجصاص الحنفي تحت باب قتال أهل البغير‬
‫ما نصه (‪:)5‬‬
‫ي بن أبي طالب رضي هللا عنه الفئة الباغية بالسيف‬ ‫ضا قاتل عل ّ‬
‫"وأي ً‬
‫ع ِل َم مكانهم‪ ،‬وكانَ ُم ِحقًّا في‬
‫ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد ُ‬
‫عها‪ ،‬وقال‬ ‫قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إال الفئة الباغير التي قابلته وأتْبا ُ‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم لعمار‪" :‬ت َ ْقتُلُ َك الفئةُ الباغيةُ"‪ ،‬وهذا خبر مقبول‬
‫من طريق التواتر‪ ،‬حتى إن معاوية لم يقدر على َج ْح ِد ِه لما قال له عبد هللا‬
‫بن عمر‪ ،‬فقال‪ :‬إنما قتله من جاء به فطرحه بين أ ِسنَّ ِتنا‪ ،‬رواه أهل الكوفة‬
‫وأهل البصرة وأهل‬
‫______________‬
‫التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير‪ ،‬كتاب‬ ‫(‪)1‬‬
‫اإلمامة وقتال البغاة (‪.)44/4‬‬
‫كشف األستار (‪.)92/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه الطبراني في األوسط كما عزاه الحافظ الهيثني له في‬ ‫(‪)3‬‬
‫المجمع (‪.)238/7‬‬
‫االعتقاد والهداية (ص‪.)248/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أحكام القرءان (‪.)531-533/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الحجاز وأهل الشام‪ ،‬وهو َعلَ ٌم من أعالم النبوة‪ ،‬ألنه خبر عن َغ ْي ٍ‬


‫ب ال يُعل ُم‬
‫عالم الغيوب" اهـ‪.‬‬ ‫إال من جهة َّ‬

‫ي جماعة من أصحاب النبي صلى هللا‬ ‫ثم قال‪" :‬فإن قيل‪ :‬قد جلس عن عل ّ‬
‫عليه وسلم منهم سعد‪ ،‬ومحمد بن سلمة‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وابن عمر‪ .‬قيل‬
‫له‪ :‬لم يقعدوا عنه ألنهم لم يَ َروا قتال الفئة الباغية‪ ،‬وجائز أن يكون قعودهم‬
‫عنه ألنهم رأوا اإلمام مكتفيًا بمن معه مستغنيًا عنهم بأصحابه‪ ،‬فاستجازوا‬
‫القعود عنه لذلك‪ ،‬أال ترى أنهم قد قعدوا عن قتال الخوارج ال على أنهم لم‬
‫يروا قتالهم واجبًا لكنه لما وجدوا من َكفَا ُهم قَتْ َل الخوارج استغنوا عن‬
‫مباشرة قتالهم؟‪.‬‬
‫كون فِتْنَةٌ‬
‫ست َ ُ‬
‫فإن احتجوا بما ُروي عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪َ " :‬‬
‫القائم" (‪ )1‬قيل له‪ :‬إنما‬
‫ِ‬ ‫القائ ُم فيها َخي ٌْر منَ الماشي والقاع ُد فيها ٌ‬
‫خير منَ‬
‫أراد به الفتنة التي يقتتل الناس فيها على طلب الدنيا وعلى جهة العصبية‬
‫وال َحميّة من غير قتال مع إمام تجب طاعته‪ ،‬فأما إذا ثبت أن إحدى الفئتين‬
‫واجب مع اإلمام ومع من‬
‫ٌ‬ ‫باغية واألخرى عادلة مع اإلمام فإن قتال الباغية‬
‫قاتلهم محتسبًا في قتالهم‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬قال النبي صلى هللا عليه وسلم ألسامة بن زيد (‪" :)2‬قَتَلَتْهُ‬
‫مرارا‪ ،‬فوجب أن ال يقات َ َل من‬
‫ً‬ ‫وهو ق ْد قا َل ال إله إال هللا!" إنما يردد ذلك‬
‫َ‬
‫قال ال إله إال هللا وال يُقتل‪.‬‬
‫قيل له‪ :‬ألنهم كانوا يقاتلون وهم مشركون حتى يقولوا‪ :‬ال إله إال هللا‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب تكون فتنة القاعد‬
‫فيها خير من القائم‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الديات‪ :‬باب قول هللا تعالى‪:‬‬
‫الناس جميعًا} [سورة المائدة‪.]32/‬‬
‫َ‬ ‫أحياها فَ َكأنَّما ْ‬
‫أحيا‬ ‫{و َم ْن ْ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الناس حتى يقولوا ال‬ ‫َ‬ ‫كما قال صلى هللا عليه وسلم (‪" :)1‬أ ُ ِم ْرتُ أن أُقاتِ َل‬
‫صموا مني دِما َء ُهم وأموالَ ُهم إال بِ َح ِقّها"‪ ،‬فكانوا إذا‬ ‫إله إال هللا‪ ،‬فإذا قالُوها َع َ‬
‫أعطوا كلمة التوحيد أجابوا إلى ما دُعوا إليه من خلع األصنام واعتقاد‬
‫التوحيد‪ ،‬ونظير ذلك أن يرجع البغاة إلى الحق فيزول عنهم القتال‪ ،‬ألنهم‬
‫إنما يقاتلون على إقامتهم على قتال أهل العدل‪ ،‬فمنى كفّوا عن القتال تُرك‬
‫قتالهم‪ ،‬كما يُقات ُل المشركون على إظهار اإلسالم فمتى أظهروه زال عنهم‪،‬‬
‫طاع الطريق والمحارين يقاتَلونَ ويُ ْقتَلون مع قولهم ال إله إال‬ ‫أال ترى أن قُ َّ‬
‫هللا؟‪.‬‬

‫__________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب االعتصام بالكتاب والسنة‪:‬‬
‫ورى بينَ ُهم} [سورة‬
‫ش َ‬‫باب قول هللا تعالى‪{ :‬وأ َ ْم ُر ُه ْم ُ‬
‫الشورى‪.]38/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫باب ما يبدأ به أهل البغي‬

‫تان منَ المؤمنينَ ا ْقتَتَلوا فأ َ ْ‬


‫ص ِلحوا بينَ ُهما}‬ ‫قال هللا تعالى‪{ :‬وإن طائِفَ ِ‬
‫[سورة الحجرات‪ ]9/‬قال أبو بكر‪ :‬أمر هللا عند ظهور القتال منهم‬
‫باإلصالح بينهما‪ ،‬وهو أن يدعوا إلى الصالح والحق وما يوجبه الكتاب‬
‫َت إحدا ُهما على‬ ‫والسنة والرجوع عن البغي‪ .‬وقوله تعالى‪{ :‬فإن َبغ ْ‬
‫األخرى} [سورة الحجرات‪ ]9/‬يعني وهللا أعلم‪ :‬إن رجعت إحداهما إلى‬
‫الحق وأرادت الصالح وأقامت األخرى على َب ْغيها وامتنعت من الرجوع‬
‫فقا ِتلُوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر هللا‪ .‬فأمر تعالى بالدعاء إلى الحق قبل‬
‫ي بن أبي طالب كرم هللا‬ ‫القتال‪ ،‬ثم إن أ َبت الرجوع قوتلت‪ ،‬وكذا فعل عل ّ‬
‫وجهه بدأ بدعاء الفئة الباغية إلى الحق واحتج عليهم‪ ،‬فلما أبوا القبول‬
‫قاتلهم" انتهى كالم الجصاص‪.‬‬
‫أن الشافعي أخذ مسائل البغاة من قتال علي رضي هللا عنه‪ ،‬ففي‬ ‫واعلم َّ‬
‫كتاب مناقب الشافعي للبيهقي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قال يحيى‪ :‬إني نظرت في‬
‫كتابه –يعني الشافعي‪ -‬في قتال أهل البغي فإذا قد احت ّج من ّأوله إلى ءاخره‬
‫بعلي بن أبي طالب"‪ .‬اهـ‪ ،‬أي بقتال علي ألهل البغي‪.‬‬
‫وفي فتح الجواد (‪ )2‬البن حجر الهيتمي الشافعي ما نصه‪" :‬وقد قال‬
‫الشافعي رضي هللا عنه‪ :‬أخذت أحكام البغاة من قتال علي لمعاوية" اهـ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي (‪.)451/1‬‬
‫(‪ )2‬فتح الجواد بشرح اإلرشاد‪ ،‬باب في البغاة وأحكامهم (‪.)295/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ذكر ندم بعض ّمن لم يشارك عليًّا في القتال‪:‬‬


‫وقد ورد عن بعض م ّمن هم من أكابر الصحابة م ّمن قاتلوا عليًّا وم ّمن‬
‫لم ينصروه في قتاله الرجوع عن ذلك‪ .‬فقد ص ّح عن ابن عمر أنه ندم لعدم‬
‫ي‪ ،‬قال القرطبي في التذكرة (‪" :)1‬وربما ندم بعضهم‬ ‫خروجه للقتال مع عل ّ‬
‫على ترك ذلك كعبد هللا بن عمر فإنه ندم على تخلّفه عن نصرة علي بن‬
‫أبي طالب رضي هللا عنه فقال عند موته‪" :‬ما ءاسى على شئ ما ءاسى‬
‫على تركي قتال الفئ ِة الباغية" يعني فئة معاوية‪ ،‬وهذا هو الصحيح أن الفئة‬
‫الباغية إذا علم منها البغي قوتلت" اهـ‪.‬‬
‫ي رضي‬ ‫وقال صاحب العقد الثمين (‪" :)2‬وقد ندم على التخلّف عن عل ّ‬
‫هللا عنه في حروبه غير واحد من كبار السلف‪ ،‬كما روي من وجوه عن‬
‫حبيب بن أبي ثابت عن ابن عمر قال‪" :‬ما ءاسى على شئ إال أني لم أقاتل‬
‫ي أهل الفئة الباغية" اهـ‪.‬‬
‫مع أهلي مع عل ّ‬
‫وقال الشعبي (‪" :)3‬ما مات مسروق حتى تاب إلى هللا تعالى عن تخلّفه‬
‫ي" اهـ‪.‬‬
‫عن القتال مع عل ّ‬
‫قال ابن عبد البر بعد ذكره لهذين األثرين (‪" :)4‬ولهذه األخبار طرق‬
‫صحاح قد ذكرناها في موضعها" اهـ‪.‬‬
‫وأخرج الحاكم (‪ )5‬وصححه البيهقي (‪ )6‬عن عبد هللا بن عمر‬
‫___________‬
‫التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة (ص‪ ،)637/‬وأسد‬ ‫(‪)1‬‬
‫الغابة في معرفة الصحابة (‪.)33/4‬‬
‫العقد الثمين (‪.)195/6‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أسد الغابة في معرفة الصحابة (‪.)33/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫االستيعاب في معرفة الصحابة (‪.)53/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ :‬كتاب التفسير (‪.)463/2‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫السنن الكبرى‪ ،‬كتاب قتال أهل البغي (‪.)172/8‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫رضي هللا عنهما أنه قال‪" :‬ما وجدت في نفسي من شئ من أمر هذه اآلية‬
‫–يعني {وإن طائفتان} [سورة الحجرات‪ -]9/‬إال ما وجدت في نفسي أني لم‬
‫أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني هللا تعالى"‪ ،‬قال الحاكم‪" :‬هذا حديث‬
‫صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي‪.‬‬
‫ندم طلحة وعائشة الزبير رضي هللا عنهم‪:‬‬
‫ذكر الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (‪ )1‬أن صاحبي علي رضي‬
‫هللا عنه عبد هللا بن الكواء وابن عباد سأاله عن طلحة والزبير قاال‪:‬‬
‫"فأخبرنا عن ُملك (‪ )2‬هذين الرجلين (يعنيان طلحة والزبير) صاحباك في‬
‫الهجرة وصاحباك في بيعة الرضوان وصاحباك في المشورة‪ :‬فقال‪:‬‬
‫بايعاني بالمدينة وخالفاني بالبصرة"‪ .‬اهـ‪ .‬وعزاه إلسحاق بن راهويه‪ ،‬قال‬
‫الحافظ البوصيري (‪" :)3‬رواه إسحاق بسند صحيح" اهـ‪.‬‬
‫ي عن أبيه‬ ‫وروى الحاكم في المستدرك (‪ )4‬عن ِرفاعة بن إياس الضَّب ّ‬
‫ي يوم الجمل فبَعث إلى طلحة بن عبيد هللا أن‬ ‫عن جده قال‪" :‬كنّا مع عل ّ‬
‫القني‪ ،‬فأتاه طلحةُ فقال‪ :‬نشدتك هللا هل سمعت رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وءاله وسلّم يقول‪َ " :‬من كنت مواله فعل ّ‬
‫ي مواله الله ّم وا ِل َمن وااله وعا ِد‬
‫َمن عاداه"‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ف ِل َم تقاتلني؟ قال‪ :‬لم أذكر‪ ،‬قال‪ :‬فانصرف‬
‫طلحة"‪ .‬اهـ‪ .‬ثم قلته وهو منصرف مروان بن الحكم‪ ،‬وكان في حزبه كما‬
‫ذكر الحاكم (‪ )5‬في‬
‫_____________‬
‫انظر المطالب العالية‪ ،‬باب قتال أهل البغي (‪.)296/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫كذا في األصل‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫إتحاف الخيرة المهرة (‪.)218/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)371/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)371/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المستدرك‪ ،‬وصاحب العقد الثمين (‪ ،)1‬وابن سعد (‪ )2‬في الطبقات‬


‫وغيرهم‪ .‬وروى الحديث الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (‪.)3‬‬
‫وذكر الباقالني في كتاب تمهيد األوائل (‪" :)4‬أن طلحة قال لشاب من‬
‫عسكر عليّوهو يجوز بنفسه‪" :‬امدد يدك أبايعك ألمير المؤمنين" اهـ‪ .‬كما‬
‫ذكر الحاكم (‪ )5‬في المستدرك عن ثور بن َم ْجزَ أة قال‪" :‬مررت بطلحة بن‬
‫عبيد هللا يوم الجمل وهو صريع في ءاخر رمق فوقفت عليه فرفع رأسه‬
‫فقال‪ :‬إني ألرى وجه رجل كأنه القمر ممن أنت‪ ،‬فقلت‪ :‬من أصحاب أمير‬
‫المؤمنين علي فقال‪ :‬ابسط يدك أبايعك فبسطت يدي وبايعني ففاضت نفسه‬
‫فأتيت عليًّا فأخبرته بقول طلحة فقال‪ :‬هللا أكبر‪ ،‬هللا أكبر‪ ،‬صدق رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وءاله وسلم‪ ،‬أبى هللا أن يدخل طلحة الجنة إال وبيعتي في‬
‫عنقه" اهـ‪.‬‬
‫قال إسماعيل بن أبي خالد‪ ،‬عن قيس بن أبي حازم‪" :‬كان مروان مع‬
‫طلحة والزبير يوم الجمل فلما شبّت الحرب قال‪ :‬ال أطلب بثأري بعد اليوم‬
‫فرمى طلحة بسهم فأصاب ركبته فمات منه" (‪)6‬اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬قلت‪ :‬قال ابن سعد (‪ )7‬أخبرني َمن سمع أبا َجناب الكلبي‬
‫يقول‪ :‬حدّثني شيخ من كلب قال‪ :‬سمعت عبد الملك بن مروان يقول‪ :‬لوال‬
‫أن أمير المؤمنين مروان أخبرني أنه قتل طلحة ما تركت أحدًا من‬
‫________‬
‫العقد الثمين (‪.)69/5‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الطبقات الكبرى (‪.)222/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر المطالب العالية (‪ ،)65/4‬قال المحدّث حبيب الرحمن‬ ‫(‪)3‬‬
‫األعظمي‪ :‬وفي مجمع الزوائد (‪ :)107/9‬وزاد الراوون بعد‬
‫"وال من وااله"‪" :‬وعا ِد َمن عاداه"‪ .‬رواه أحمد ورجاله ثقات‪.‬‬
‫تمهيد األوائل (ص‪.)552/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)373/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫تهذيب التهذيب (‪ ،)20/5‬تهذيب الكمال (‪.)422/13‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)223/3‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ولد طلحة إال قتلته بعثمان‪ ،‬وقال الحميدي في النوادر عن سفيان بن عيينة‪،‬‬
‫عن عبد الملك بن مروان‪ ،‬قال‪ :‬دخل موسى بن طلحة على الوليد فقال له‬
‫أن مروان‬‫أن أبي أخبرني َّ‬
‫ي قط إال هممت بقتلك لوال َّ‬ ‫الوليد‪ :‬ما دخلت عل َّ‬
‫البر (‪ :)1‬ال تختلف العلماء الثقات في‬
‫ع َم َر بن عبد ّ‬
‫قتل طلحة‪ ،‬وقال أبو ُ‬
‫أن مروان قتل طلحة" اهـ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وروى ابن سعد في الطبقات (‪ )2‬ست روايات يثبت بها أن مروان هو‬
‫قاتل طلحة‪.‬‬
‫ضا ند ُم عائشة رضي هللا عنها على ما فعلت‪ ،‬وهو أنها مكثت‬ ‫وثبت أي ً‬
‫في المعسكر الذي كان ض ّد عل ّ‬
‫ي مع كونها لم تخرج بنيّة قتاله ولم تقاتله‪.‬‬
‫قال الباقِالني (‪ )3‬في كتاب تمهيد األوائل ما نصه‪" :‬ومنهم َمن يقول‬
‫إنهم تابوا من ذلك‪ ،‬ويستدل برجوع الزبير وندم عائشة إذا ذكروا لها يوم‬
‫"و ِددْتُ أن لو كان لي عشرون‬ ‫الجمل وبكائها حتّى تَبُ َّل خمارها وقولها‪َ :‬‬
‫ولدًا من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث‬
‫يوم الجمل"‪ ،‬وقولها‪" :‬لقد‬ ‫بن هشام وأني ث َ ِك ْلت ُ ُهم (‪ )4‬ولم يكن ما كان منّي َ‬
‫البعير مثل اللُّ َّجة (‪.")5‬‬
‫ِ‬ ‫أحدقت بي يوم الجمل األسنّةُ حتى صرتُ على‬
‫ي وهو يجود بنفسه‪" :‬امدد يدك أبايعك‬ ‫ب من عسكر عل ّ‬ ‫وأن طلحة قال لشا ٍ‬ ‫َّ‬
‫يا أمير المؤمنين"‪ ،‬وما هذا نحوه‪ ،‬والمعتمد عندهم في ذلك قول النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬عشرة من قريش في الجنة" وع ّد فيهم طلحة‬
‫والزبير‪ ،‬قالوا‪ :‬ولم يكن ليخبر بذلك إال عن علم منه بأنهما سيتوبان مما‬
‫أحدثاه ويوافيان بالندم واإلقالع" اهـ‪ .‬وذكر مثله الحافظ البيهقي في كتاب‬
‫_________‬
‫االستيعاب في أسماء األصحاب (‪.)213/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)222/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تمهيد األوائل (ص‪.)552/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أي فقدتهم‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫لجة البحر الموج المرتفع‪ ،‬واألسنة الرماح‪ ،‬انتهى من المؤلف‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫دالئل النبوة (‪.)1‬‬


‫ريب أن عائشة ندمت ندامة‬ ‫َ‬ ‫وقال الحافظ الذهبي في سيره (‪" :)2‬وال‬
‫أن األمر‬‫كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل وما ظنت ّ‬
‫{وقَ ْرنَ في‬
‫يبلغ ما بلغ‪ ،‬فعن عمارة بن عمير ع ّمن سمع عائشة إذا قرأت‪َ :‬‬
‫بُيُوتِ ُك َّن} [سورة األحزاب‪ ]33/‬بكت حتى تَبُ َّل خمارها" اهـ‪.‬‬
‫وذكر مثل ذلك القرطبي (‪ )3‬وأبو حيان في تفسيره (‪ ،)4‬قال‪" :‬وكانت‬
‫ي} [سورة‬‫عائشة إذا قرأت هذه اآلية –يعني ءاية {يا نسا َء النَّب ّ‬
‫األحزاب‪ -]32/‬بكت حتى تب ّل خمارها‪ ،‬تتذكر خروجها أيام الجمل تطلب‬
‫بدم عثمان" اهـ‪.‬‬
‫وروى البيهقي في دالئل النبوة (‪ )5‬ما نصه‪" :‬عن أم سلمة رضي هللا‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم خروج بعض نسائه أ ّمهات‬ ‫عنها قالت‪ :‬ذكر النب ُّ‬
‫المؤمنين فضحكت عائشة فقال‪" :‬انظري يا حميراء أن ال تكوني أنت"‪ ،‬ث ّم‬
‫ي إن وليت من أمرها شيئًا فارفُق بها" اهـ‪.‬‬
‫ي فقال‪" :‬يا عل ُّ‬ ‫التفت إلى عل ّ‬
‫وفيه (‪ )6‬بسنده عن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشة قالت‪:‬‬
‫"لوددت أني ّ‬
‫مت وكنت نسيًا منسيًّا" اهـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫دالئل النبوة (‪.)411-412/6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سير الذهبي (‪.)177/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)180/14‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تفسير البحر المحيط (‪.)230/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫دالئل النبوة (‪.)411/6‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫دالئل النبوة (‪ .)412/6‬وراجع تاريخ بغداد (‪،)185/9‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫والمستدرك (‪.)119/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ّ‬
‫كلهن وليات‪.‬‬ ‫قلت (‪ :)1‬نساء النبي‬
‫ضا عن‬‫وروى البخاري (‪ )2‬وأحمد (‪ )3‬والبيهقي (‪ )4‬في الدالئل أي ً‬
‫عمارا والحسن إلى الكوفة‬
‫ً‬ ‫ي‬
‫الحكم قال‪ :‬سمعت أبا وائل قال‪ :‬لما بعث عل ّ‬
‫ليستنفرهم خطب ع ّمار فقال‪ :‬إني ألعلم أنها زوجته –يعني زوجة النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في الدنيا واآلخرة ولكن هللا ابتالكم لتتبعوه أو إياها‪.‬‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وروى ابن سعد في الطبقات (‪ )5‬بسنده قال‪" :‬أخبرنا الفضل بن ُد َكيْن‪،‬‬
‫حدثنا عيسى بن دينار قال‪ :‬سألت أبا جعفر عن عائشة فقال‪ :‬استغفر هللا‬
‫حجرا يا‬
‫ً‬ ‫لها‪ ،‬أما علمت ما كانت تقول‪ :‬يا ليتني كنت شجرة ً يا ليتني كنت‬
‫ليتني كنت َم َدرةً‪ ،‬قلت‪ :‬وما ذاك منها‪ ،‬قال‪ :‬توبة" اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح اإلحياء (‪ )6‬ما‬
‫نصه‪" :‬قال محمود بن محمد‪ :‬حدثنا الميمون‪ ،‬حدثنا سريج بن يونس‪ ،‬حدثنا‬
‫إسماعيل بن مجالد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن الشعبي قال‪ :‬حضرت عائشة رضي هللا‬
‫عنها فقالت‪ :‬إني قد أحدثت بعد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حدثًا وال‬
‫أدري ما حالي عنده‪ ،‬فال تدفنوني معه فإني أكره أن أجاور رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم وال أدري ما حالي عنده‪ ،‬ثم دعت بخرقة من قميص‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالت‪ :‬ضعوا هذه على صدري وادفنوها‬
‫معي لعلي أنجو بها من عذاب القبر" انتهى كالم الزبيدي‪.‬‬
‫________‬
‫القائل هو الشيخ الهرري مؤلف هذا الكتاب‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب فضل عائشة‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مسند أحمد (‪.)265/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫دالئل النبوة (‪.)412/6‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)59/8‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)333/10‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلت (‪ :)1‬ال تعني به الخوف من دخول النار إنما تعني به ما دون ذلك‬
‫من الصفات التي هي خالف صفات الكمال‪ ،‬وصفات الكمال بعضها فوق‬
‫ئ من عذاب القبر لكن ال تتخيّل أن‬
‫بعض‪ ،‬يجوز أن تتخيّل أن يصيبها ش ٌ‬
‫يصيبها عذاب اآلخرة‪.‬‬
‫وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (‪ )2‬بإسناده عن عائشة أنها قالت‪:‬‬
‫"وددت أني كنت غصنًا رطبًا ولم أسر مسيري هذا"‪.‬‬
‫وروى ابن سعد (‪ )3‬أن عائشة رضي هللا عنها قالت عند وفاتها‪" :‬إني‬
‫قد أحدثت بعد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فادفنوني مع أزواج النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم"‪.‬‬
‫أما عن ندم الزبير رضي هللا عنه‪ ،‬فقد روى الحاكم في المستدرك (‪)4‬‬
‫ي للزبير‪" :‬أما تذكر يوم كنتب أنا وأنت‬
‫عن قيس بن أبي حازم قال‪ :‬قال عل ّ‬
‫سقيف ِة قوم من األنصار فقال لك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬‫في َ‬
‫"أتحبه"؟ فقلت‪ :‬ما يمنعني؟ قال‪" :‬أما إنك ستخرج عليه وتقاتله وأنت ظالم"‬
‫قال‪ :‬فرجع الزبير" اهـ‪.‬‬
‫وفي رواية للحاكم (‪ )5‬أن عليًّا قال له‪" :‬أنشدك هللا هل سمعت رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬تقاتله وأنت له ظالم"‪ ،‬فقال‪ :‬لم أذكر‪ ،‬ثم‬
‫مضى الزبير منصرفًا" اهـ‪.‬‬
‫ورواه أبو يعلى (‪ )6‬بنحوه "قال علي للزبير‪ :‬أنشدك هللا أسمعت رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬إنك تقاتل وأنت ظالم لي"؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ولم‬
‫أذكر إال في موقفي هذا‪ ،‬ثم انصرف"‪.‬‬
‫____________‬
‫القائل هو الشيخ الهرري مؤلف هذا الكتاب‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مصنف ابن أبي شيبة (‪.)544/7‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)74/8‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫و(‪ )5‬مستدرك الحاكم‪ :‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)366/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫(‪)6‬أخرجه أبو يعلى في مسنده (‪.)30/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال صاحب العقد الثمين (‪" :)1‬وكان الزبير رضي هللا عنه قد انصرف‬
‫عن القتال ناد ًما" اهـ‪.‬‬
‫وذكر الحاكم (‪ )2‬أنه لما انصرف الزبير يوم الجمل قتله ابن ُجر ُموز‪،‬‬
‫ي لآلذن لما استأذن قاتل الزبير بالدخول عليه ومعه رأس الزبير‪:‬‬‫فقال عل ّ‬
‫ابن صفية بالنار" اهـ‪ .‬ورواه ابن سعد (‪ )3‬في الطبقات بنحوه‪،‬‬
‫شر قاتل ِ‬ ‫"ب ّ‬
‫وصححه الحافظ ابن حجر (‪.)4‬‬
‫وقال اإلمام أبو منصور البغدادي (‪ )5‬في كتابه الفرق بين الفرق ما‬
‫ي‬
‫ي في وقته‪ ،‬وقالوا بتصويب عل ّ‬ ‫نصه‪" :‬وقالوا –أي أهل السنة‪ -‬بإمامة عل ّ‬
‫في حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان‪ ،‬وقالوا بأن طلحة والزبير تابا‬
‫ي‪ ،‬لكن الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع‬ ‫ورجعا عن قتال عل ّ‬
‫صرف ِه من الحرب‪ ،‬وطلحة لما ه ّم باالنصراف رماه مروان بن‬ ‫بعد ُم ْن َ‬
‫الحكم وكان من أصحاب الجمل بسهم فقتله" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وقالوا‪ :‬إن عائشة رضي هللا عنها قصدت اإلصالح بين‬
‫الفريقين‪ ،‬فغلبها بنو ضبّة واألزد على رأيها‪ ،‬وقاتلوا عليًّا دون إذنها حتى‬
‫كان من األمر ما كان" اهـ‪.‬‬
‫_______‬
‫العقدالثمين (‪.)437/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ :‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)367/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)110-111/3‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫اإلصابة في تمييز الصحابة (‪.)545/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫الفرق بين الفرق (ص‪ 350/‬و‪ )351‬باب بيان األصول التي‬ ‫(‪)5‬‬
‫اجتمع عليها أهل السنة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال في أصول الدين (‪ )1‬ما نصه‪" :‬أجمع أصحابنا على أن عليًّا‬


‫رضي هللا عنه كان مصيبًا في قتال أصحاب الجمل‪ ،‬وفي قتال أصحاب‬
‫معاوية بصفّين‪ ،‬وقالوا في الذين قاتلوه بالبصرة‪ :‬إنهم كانوا على الخطإ‪،‬‬
‫وقالوا في عائشة وفي طلحة والزبير‪ :‬إنهم أخطؤوا ولم يفسقوا‪ ،‬ألن عائشة‬
‫قصدت اإلصالح بين الفريقين فغلبها بنو ضبّة وبنو األزد على رأيها‪،‬‬
‫ي يوم‬ ‫فقاتلوا عليًّا فهم الذين فسقوا دونها‪ .‬وأما الزبير فإنه لما كلّمه عل ّ‬
‫الجمل عرف أنه على الحق فترك قتاله وهرب من المعركة راجعًا إلى‬
‫ي‬
‫مكة‪ ،‬فأدركه عمرو بن جرموز بوادي السباع فقتله وحمل رأسه إلى عل ّ‬
‫ي بالنار‪ .‬وأما طلحة فإنه لما رأى القتال بين الفريقين ه ّم‬ ‫شره عل ّ‬ ‫فب ّ‬
‫بالرجوع إلى مكة فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله‪ ،‬فهؤالء الثالثة‬
‫سقة‪ ،‬وأما‬ ‫بريئون من الفسق‪ ،‬والباقون من أتباعهم الذين قاتلوا عليًّا ف َ‬
‫أصحاب معاوية فإنهم بغوا‪ ،‬وس ّماهم النبي صلى هللا عليه وسلم بغاة ً في‬
‫قوله لع ّمار‪" :‬تقتلك الفئة الباغية" ولم يكفروا بهذا البغي" اهـ‪.‬‬
‫وقال اإلمام عبد القاهر الجرجاني (‪ )2‬في كتاب اإلمامة‪" :‬وأجمع فقهاء‬
‫الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم مالك والشافعي وأبو‬
‫كرم هللا‬ ‫حنيفة واألوزاعي والجمهور األعظم من المتكلمين على ّ‬
‫أن عليًّا ّ‬
‫مصيب في قتاله ألهل صفين‪ ،‬كما قالوا بإصابته في قتال أصحاب‬‫ٌ‬ ‫وجهه‬
‫ضا بأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له ولكن ال يجوز تكفيرهم‬
‫الجمل وقالوا أي ً‬
‫ببغيهم" اهـ‪.‬‬
‫__________‬
‫(‪ )1‬أصول الدين (ص‪.)290-289/‬‬
‫(‪ )2‬نقل ذلك القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة‬
‫(ص‪.)626/‬‬

‫بيان خروج عبد هللا بن عمرو بن العاص‪:‬‬


‫]‪[Type text‬‬

‫روى ابن عبد البر (‪ )1‬في مسألة خروج عبد هللا بن عمرو مع الذين‬
‫كانوا ضد علي بن أبي طالب بسنده قال‪" :‬قال عبد هللا بن عمرو‪ :‬ما لي‬
‫ولصفين‪ ،‬ما لي ولقتال المسلمين‪ ،‬وهللا لوددت أني مت قبل هذا بعشر‬
‫سنين‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أما وهللا ما ضربت فيها بسيف وال طعنت برمح وال‬
‫رميت بسهم‪ ،‬ولوددت أني لم أحضر شيئًا منها‪ ،‬وأستغفر هللا من ذلك‬
‫وأتوب إليه‪ ،‬إال أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ فندم ندامة شديدة على‬
‫قتاله مع معاوية وجعل يستغفر هللا ويتوب إليه" انتهى‪.‬‬
‫وروى أحمد في مسنده عن حنظلة بن خويلد العنبري قال (‪" :)2‬بينما‬
‫أنا عند معاوية إذ جاءه رجالن يختصمان في رأس ع ّمار‪ ،‬يقول كل واحد‬
‫منهما‪ :‬أنا قتلته‪ ،‬فقال عبد هللا –أي ابن عمرو بن العاص‪ِ :-‬ليَ ِطبْ به‬
‫سا لصاحبه (‪ )3‬فإني سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬ ‫أحدكما نف ً‬
‫يقول‪" :‬تقتلهُ الفئة الباغية" فقال معاوية‪ :‬أال تغني عنّا مجنونك يا عمرو فما‬
‫بالك معنا‪ ،‬قال ابن عمرو‪ :‬إن أبي شكاني إلى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫"أطع أباك ما دام حيًّا وال تعصه" فأنا معكم‬
‫وسلم فقال لي رسول هللا‪ِ :‬‬
‫ولست أقاتل" اهـ‪.‬‬
‫وليُعلم أن خروج عبد هللا لم يكن في محله وال يدخل تحت قول النبي‬
‫ي إنما أمره‬
‫صلى هللا عليه وسلم له‪" :‬أطع أباك" (‪ )4‬إذ من المعلوم أن النب ّ‬
‫بطاعة أبيه‬
‫________‬
‫االستذكار (‪ ،)340-341/2‬ونحوه في العقد الثمين (‪.)227/5‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مسند أحمد (‪ ،)206/2‬قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد‬ ‫(‪)2‬‬
‫(‪" :)247/7‬رواه أحمد ورجاله ثقات"‪ ،‬وصححه الحافظ‬
‫البوصيري في إتحاف الخيرة (‪.)15/8‬‬
‫هذا انتقا ٌد ومعناه إن أنت تنازلت له أو هو تنازل لك فبئس ما‬ ‫(‪)3‬‬
‫عملتما‪ ،‬انتهى من المؤلف‪.‬‬
‫أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (‪-239/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪.)240‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي في قتال معاوية واجبةً إذ كان هو‬ ‫فيما ال معصية فيه‪ ،‬وكانت طاعة عل ّ‬
‫الخليفة الراشد الواجب طاعتُه كما تقدّم‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬يا أيُّها الذينَ‬
‫األمر ِم ْن ُكم} [سورة النساء‪]59/‬‬
‫ِ‬ ‫ءامنوا أطيعُوا هللاَ وأطيعوا الرسو َل وأُو ِلي‬
‫وقد قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال طاعة لمخلوق في معصية الخالق" رواه‬
‫أحمد (‪.)1‬‬
‫ي كان الخليفة الراشد من أولي األمر‪ ،‬وأن‬ ‫فيُعل ُم مما تقدم ّ‬
‫أن سيّدنا عل ّ‬
‫َم ْن خر َج عليه وقاتله وقع في المعصية والظلم‪ ،‬وأنه وجب عليه التوبة‬
‫والرجوع عن ذلك‪.‬‬
‫زيادة في تفصيل في قتال معاوية لعلي‪:‬‬
‫ي هو خروج عن طاعة اإلمام كما سبق وذكرنا فيكون‬ ‫قتال معاوية لعل ّ‬
‫بذلك مرتكبًا للكبيرة‪ ،‬فقد روى البخاري (‪ )2‬حديث‪" :‬وي َح ع ّمار تقتلُهُ الفئةُ‬
‫الباغية" في موضعين األول في كتاب الصالة في باب التعاون في بناء‬
‫المساجد بلفظ‪" :‬ويح ع ّمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنّة ويدعونَهُ‬
‫إلى النار"‪ ،‬ورواهُ في كتاب الجهاد والسير بلفظ‪" :‬ويح ع ّمار تقتله الفئة‬
‫ضا ابن حبان‬ ‫الباغية‪ ،‬عمار يدعوهم إلى هللا ويدعونه إلى النار"‪ ،‬ورواه أي ً‬
‫في صحيحه (‪ ،)3‬وقال عمار بعد أن قال له الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ذلك‪" :‬أعوذ باهلل من الفتن"‪ .‬وهذا القدر‪" :‬ويح عمار تقتله الفئة الباغية" من‬
‫الحديث متواتر‪ ،‬ذكر ذلك الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى (‪)4‬‬
‫وغيره كالمناوي في شرحه على الجامع‬
‫________________‬
‫مسند أحمد (‪ 94/1‬و‪ 129‬و‪ 131‬و‪ )409‬و(‪ 426/4‬و‪427‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫و‪ )432‬و(‪ 66/5‬و‪ 67‬و‪.)70‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب التعاون في بناء المساجد‪،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وكتاب الجهاد والسير‪ :‬باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل هللا‪.‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)105-106/9‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الخصائص الكبرى (‪.)140/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الصغير المسمى بفيض القدير (‪.)1‬‬


‫وروى ابن حبان (‪ )2‬عن أم سلمة قالت‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ضا عن أبي سعيد الخدري‬ ‫عمارا الفئة الباغية"‪ ،‬وفيه (‪ )3‬أي ً‬
‫ً‬ ‫وسلم‪" :‬تقتل‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ويح ابن سميّة تقتله الفئة الباغية‬
‫يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"‪ ،‬ورواية الطبراني فيها زيادة وهي‪:‬‬
‫"ويح عمار تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الحق" (‪ .)4‬إنك لن تموت حتى‬
‫تقتلك الفئة الباغية الناكبة عن الحق‪.‬‬

‫ي كانَ داعيًا إلى الجنّة بقتاله مع عل ّ‬


‫ي‪،‬‬ ‫فع ّمار الذي كان في جيش عل ّ‬
‫ي دعاة ٌ إلى النار‪.‬‬
‫ي داعٍ إلى الجن ِة بطريق األولى والمقاتلون لعل ّ‬
‫فعل ٌّ‬
‫ولقد قال ع ّمار بن ياسر لما سمع بعض الناس يقولون كفر أهل الشام –‬
‫كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا"‬
‫ي‪" :-‬ال تقولوا َ‬‫أي المقاتلون لعل ّ‬
‫رواه البيهقي (‪ )5‬وابن أبي شيبة (‪.)6‬‬
‫مرة قال‪ :‬سمعت عبد هللا بن سلمة يقول‪" :‬رأيت عمار‬ ‫وروى عمرو بن ّ‬
‫بن ياسر يوم صفين شي ًخا طواالً أخذ الحربة بيده ويده تر ُ‬
‫عدُ‪ ،‬فقال‪" :‬والذي‬
‫نفسي بيده لقد قاتلت بهذه مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ثالث مرات‬
‫وهذه الرابعة‪ ،‬ثم قال‪ :‬والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا‬
‫____________‬
‫فيض القدير (‪ ،)366/6‬وانظر الآللئ للزبيدي (ص‪-222/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫‪.)223‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪ )260/8‬و(‪.)105/9‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)105/9‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪ ،)178/7‬وقال الحافظ الهيثمي في مجمع‬ ‫(‪)4‬‬
‫الزوائد (‪" :)297/9‬وفيه مسلم بن كيسان األعور وهو ضعيف"‪.‬‬
‫السنن الكبرى‪ ،‬كتاب قتال أهل البغي‪ :‬باب الدليل على أن الفئة‬ ‫(‪)5‬‬
‫الباغية ال تخرج بالبغي عن تسمية اإلسالم (‪.)174/8‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )6‬مصنف ابن أبي شيبة (‪.)547/7‬‬


‫ّ‬
‫الحق وهم على الباطل"‪ ،‬أخرجه ُ‬
‫ابن‬ ‫ش َعفات (‪َ )1‬ه َجر لعرفت أنّا على‬
‫َ‬
‫سعد في الطبقات (‪ )2‬والحاكم (‪ )3‬وصححه‪.‬‬
‫وفي رواية ألبي داود الطيالسي (‪ )4‬وأبي يعلى (‪ )5‬وأحمد (‪:)6‬‬
‫"لعرفت أن مصلحينا على الحق وأنهم على الضاللة"‪ ،‬قال الحافظ‬
‫البوصيري (‪" :)7‬رواه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى وأحمد بن حنبل بسند‬
‫صحيح" اهـ‪.‬‬
‫مصيب في قوله‪ ،‬وهو أح ُد السابقين‬ ‫ٌ‬ ‫ارا رضي هللا عنه‬ ‫أن ع ّم ً‬‫شك َّ‬
‫وال ّ‬
‫األولين من المهاجرين الذين أخبر هللا أنه رضي عنهم ورضوا عنه في‬ ‫ّ‬
‫األنصار والذينَ اتَّبَعُو ُهم‬
‫ِ‬ ‫هاجرينَ و‬
‫األولونَ منَ ال ُم ِ‬
‫سابِقونَ َّ‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬وال َّ‬
‫ضوا عنهُ} [سورة التوبة‪ ،]100/‬وهو الذي‬ ‫ور ُ‬ ‫رضي هللاُ عن ُهم َ‬
‫َ‬ ‫بإحسان‬
‫ٍ‬
‫قال فيه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ملئ ع ّمار إيمانًا إلى مشاشه" أي‬
‫إلى رءوس عظامه‪ .‬رواه النسائي وغيره (‪.)8‬‬
‫وروى ابن ماجه (‪ )9‬عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول هللا‬
‫ع ِرض عليه أمران إال اختار األرشد‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ع ّمار ما ُ‬
‫منهما"‪.‬‬
‫_______________‬
‫عاف يريد به رأس جبل من‬
‫شعفه كل شئ أعاله‪ ،‬وجمعها ِش ٌ‬ ‫(‪)1‬‬
‫الجبال‪ ،‬النهاية في غريب الحديث (‪.)481/2‬‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)256/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪ 384/3‬و‪.)392‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مسند الطيالسي (ص‪.)89/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مسند أبي يعلى (‪.)185/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫مسند أحمد (‪.)319/4‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫إتحاف الخيرة المهرة (‪.)14/8‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )8‬سنن النسائي‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب تفاضل أهل اإليمان‪ ،‬المستدرك‬
‫للحاكم (‪.)392/3‬‬
‫(‪ )9‬سنن ابن ماجه‪ :‬المقدمة‪ :‬باب فضل ع ّمار بن ياسر‪.‬‬
‫وغيره (‪ )1‬عن خالد بن الوليد قال‪" :‬كان‬ ‫ُ‬ ‫وأخرج ابن حبان في صحيحه‬
‫بيني وبين عمار بن ياسر كالم فانطلق عمار يشكو إلى رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬قال فجعل خالد ال يزيده إال ِغ ْل َ‬
‫ظةً ورسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم ساكت‪ ،‬قال‪ :‬فبكى عمار وقال‪ :‬يا رسول هللا أال تسمعه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫عمارا‬
‫ً‬ ‫ي رأسه وقال‪" :‬من عادى‬ ‫فرفع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إل َّ‬
‫ضهُ هللا"‪ ،‬قال فخرجت فما كان شئ أحب إلي من‬ ‫ضهُ أبغ َ‬
‫عاداهُ هللا ومن أبغَ َ‬
‫رضا عمار فلقيته فرضي"‪.‬‬
‫ي بغاة ءاثمون‪:‬‬
‫المقاتلون لعل ّ‬
‫ثم إن وصف النبي لمعاوية وفئته الذين قاتلوا عليًّا بالبغي صري ٌح في‬
‫أنهم ءاثمون‪ ،‬ألن البغي إذا أطلق في مقام الذ ّم ال يكون إال بمعنى التعدّي‬
‫الذي هو ظلم‪ ،‬ف ّمن زعم أن الوصف بالبغي ال يستلزم الوقوع في المعصية‬
‫فقد خالف مفهوم الكلمة من حيث اللغة‪.‬‬
‫قال العالمة اللغوي ابن منظور في لسان العرب ما نصه (‪" :)2‬والبغي‪:‬‬
‫التعدي‪ ،‬وبَغَى الرجل علينا بغيًا‪َ :‬ع َدل عن الحق واستطال" اهـ‪.‬‬
‫بر‪ ،‬والبغي‪ :‬الظلم والفساد" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وقال األزهري‪ :‬معناه ال ِك ُ‬
‫ثم قال‪" :‬والفئة الباغية‪ :‬هي الظالمة الخارجة عن طاعة اإلمام العادل‪،‬‬
‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم لعمار‪" :‬ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫قال القاضي عياض المالكي في مشارق األنوار ما نصه (‪" :)3‬قوله‪:‬‬
‫(تقتله فئة باغية) من البغي وهو الظلم" اهـ‪.‬‬
‫____________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪ ،)106/9‬ومسند أحمد‬


‫(‪ ،)89/4‬والمستدرك للحاكم (‪.)390/3‬‬
‫(‪ )2‬لسان العرب (‪.)78/14‬‬
‫(‪ )3‬مشارق األنوار على صحاح اآلثار (‪.)98/1‬‬

‫أما البغي بمعنى الطلب فهو متع ٍد بنفسه يقال‪ :‬بغيت الشئ طلبته‪ ،‬والبغي‬
‫الجر تصريفه بغى يبغي يقال‪ :‬بغى فالن على‬ ‫ّ‬ ‫الالزم الذي يتعدّى بحرف‬
‫فالن يبغي فهو باغ‪ .‬ومثال المتعدّي في القرءان قوله تعالى‪َ { :‬ي ْبغُونَ ُك ُم‬
‫ال ِفتْنَةَ} [سورة التوبة‪ ،]47/‬وهذا البغي المتعدي ورد للذ ّم‪ ،‬ويأتي المزيد‬
‫ضالً منَ هللاِ َو ِرضوانًا} [سورة‬ ‫ضا قال تعالى‪َ { :‬ي ْبتَغُونَ فَ ْ‬
‫منه للمدح أي ً‬
‫الفتح‪ ،]29/‬وورد بلفظ المصدر في القرءان في قوله تعالى‪{ :‬إال ابتغا َء‬
‫وج ِه ر ِبّ ِه األعلى} [سورة الليل‪ ،]20/‬أما البغي بمعنى التعدّي فقد ورد في‬
‫َت إحدا ُهما على األخرى فَقَاتِلوا التي تبْغي} [سورة‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬فإن َبغ ْ‬
‫الحجرات‪ ،]9/‬وقد بيّن القرءان أن البغي الالزم معناه التعدّي والخروج‬
‫أمر هللا} [سورة الحجرات‪ ،]9/‬ألن‬ ‫عن طاعة هللا لقوله‪{ :‬حتّى ت َ ِفئ إلى ِ‬
‫أمر هللا هو طاعة اإلمام‪ ،‬ف َمن قال‪ :‬إن قول النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬ ‫َ‬
‫ي ومعاوية‬ ‫"تقتله الفئة الباغية" ليس فيه ذم‪ ،‬فهو مخالف لما كان عليه عل ّ‬
‫كالهما ألن ُكالً منهما اتّهم اآلخر بأن هذا الحديث فيه ودفعه عن نفسه‬
‫(‪ ،)1‬وما ذاك إال لما فيه من ذم لتلك الفئة‪.‬‬
‫وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (‪ )2‬فقال ما نصه‪" :‬حدثنا هُشَي ٌم‪ ،‬عن‬
‫طائفتان منَ المؤمنينَ‬
‫ِ‬ ‫جويبر‪ ،‬عن الضحاك (‪ )3‬في قوله تعالى‪{ :‬وإن‬
‫ا ْقتَتَلوا فأ ْ‬
‫ص ِلحوا بين ُهما فإن ْ‬
‫بغت إحدا ُهما على األخرى فقاتِلوا التي تبغي‬
‫أمر هللا} [سورة الحجرات‪ ،]9/‬قال‪ :‬بالسيف‪ ،‬قلت‪ :‬فما‬ ‫حتى ت َ ِفئ إلى ِ‬
‫قتالهم؟ قال‪ :‬شهداء مرزوقون‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬فما حال األخرى أهل البغي َمن‬
‫قتل منهم؟ قال‪ :‬إلى النار" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬انظر مسند أبي يعلى (‪.)123-124/13‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬مصنف ابن أبي شيبة (‪.)549/7‬‬


‫(‪ )3‬الضحاك بن مزاحم الهاللي وثّقه أحمد بن حنبل‪ ،‬وأبو زرعة‪،‬‬
‫ويحيى بن معينـ وقال سفيان الثوري‪" :‬خذوا التفسير عن أربعة‪:‬‬
‫سعيد بن جبير‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وعكرمة‪ ،‬والضحاك"‪ .‬راجع تهذيب‬
‫للمزي (‪ 290/13‬و‪.)291‬‬ ‫الكمال ّ‬
‫وقال القطربي (‪ )1‬في حديث "ويح عمار"‪" :‬وهو –أي هذا الحديث‪-‬‬
‫من أثبت االحاديث كما تقدم‪ ،‬ولما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده‬
‫قال‪ :‬إنما قتله من أخرجه‪ ،‬ولو كان حديثًا فيه ّ‬
‫شك لردَّه معاوية وأنكره‬
‫كرم هللا وجهه بأن‬
‫وزوره‪ ،‬وقد أجاب علي بن أبي طالب ّ‬ ‫وأكذب ناقله ّ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذًا قلت حمزة حين أخرجه‪ ،‬قال ابن دِحية‪:‬‬
‫وهذا من علي إلزام مفحم ال جواب عنه وحجة ال اعتراض عليها" انتهى‬
‫كالم القرطبي‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه (‪" :)2‬ود َّل حديث‪:‬‬
‫عمارا الفئة الباغية" على أن عليًّا كان المصيب في تلك الحرب ألن‬
‫ً‬ ‫"تقتل‬
‫أصحاب معاوية قتلوه‪ ،‬وقد أخرج البزار بسند جيد عن زيد بن وهب قال‪:‬‬
‫"كنا عند حذيفة فقال‪ :‬كيف أنتم وقد خرج أهل دينكم يضرب بعضهم وجوه‬
‫بعض بالسيف‪ ،‬قالوا‪ :‬فما تأمرنا‪ ،‬قال‪ :‬انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر‬
‫علي فالزموها فإنها على الحق"‪.‬‬
‫وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيد عن الزهري قال‪ :‬لما بلغ معاوية‬
‫ي على أهل الجمل دعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه أهل الشام‪،‬‬ ‫غلبة عل ّ‬
‫ي فالتقيا بصفين"‪ ،‬وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد‬ ‫فسار إليه عل ّ‬
‫شيوخ البخاري في كتاب صفين في تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم‬
‫الخوالني أنه قال لمعاوية‪" :‬أنت تنازع عليًّا في الخالفة َأو أنت مثله؟‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ال‪ ،‬وإني ألعلم أنه أفضل مني وأحق باألمر‪ ،‬ولكن ألستم تعلمون أن عثمان‬
‫قُتل مظلو ًما وأنا ابن عمه ووليه أطلب ِ‬
‫بدمه‪ ،‬فأتوا عليًّا فقولوا له يدفع لنا‬
‫قتلة عثمان‪ ،‬فأتوه فكلموه فقال‪ :‬يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي‪ ،‬فامتنع‬
‫معاوية‪ ،‬فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين‪ ،‬وسار‬
‫معاوية حتى نزل هناك وذلك في ذي الحجة سنة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫____________‬
‫(‪ )1‬التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة (ص‪.)627/‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)543/1‬‬

‫ست وثالثين‪ ،‬فتراسلوا فلم يتم لهم أمر‪ ،‬فوقع القتال إلى أن قتل من‬
‫الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه نحو سبعين ألفًا‪ ،‬وقيل‪ :‬كانوا‬
‫أكثر من ذلك" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال الحافظ‪" :‬وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي الرضا‬
‫سره أن يكتنفه الحور العين فليتقدم‬
‫عمارا يوم صفين يقول‪" :‬من َّ‬‫ً‬ ‫سمعت‬
‫بين الصفين محتسبًا"‪ ،‬ومن طريق زياد بن الحارث‪ :‬كنت إلى جنب عمار‬
‫فقال رجل‪ :‬كفر أهل الشام‪ ،‬فقال عمار‪ :‬ال تقولوا ذلك‪ ،‬نبينا واحد‪ ،‬ولكنهم‬
‫الحق فح َّق علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا" اهـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫قوم حادوا عن‬
‫وقال القرطبي في تفسيره ما نصه (‪" :)1‬فتقرر عند علماء المسلمين‬
‫وثبت بدليل الدين أن عليًّا رضي هللا عنه كان إما ًما‪ ،‬وأن كل من خرج‬
‫عليه باغٍ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح‪ ،‬ألن‬
‫عثمان رضي هللا عنه قُتل والصحابة بُرءاء من دمه‪ ،‬ألنه منع من قتال من‬
‫ثار عليه وقال‪ :‬ال أكون ّأول من خلف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في‬
‫أمته بالقتل‪ ،‬فصبر على البالء‪ ،‬واستسلم للمحنة وفدى بنفسه األمة‪ .‬ثم لم‬
‫سدى‪ ،‬فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر‬ ‫يمكن ترك الناس ُ‬
‫كرم هللا وجهه أحق بها وأهلها‪ ،‬فقبلها‬
‫ي ّ‬‫في الشورى وتدافعوها‪ ،‬وكان عل ّ‬
‫حوطة على األمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل‪ ،‬أو يتخرق أمرها‬
‫إلى ما ال يتحصل‪ ،‬فربما تغيّر الدين وانقض عمود اإلسالم‪ .‬فلما بويع له‬
‫طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قَتَلة عثمان وأخذ القود منهم‪،‬‬
‫ي رضي هللا عنه‪ :‬ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه‪.‬‬ ‫فقال لهم عل ّ‬
‫فقالوا‪ :‬ال تستحق بيعةً وقتلة عثمان معك تراهم صبا ًحا ومساء‪ .‬فكان عل ّ‬
‫ي‬
‫وأصوب قيالً‪ ،‬ألن عليًّا لو تعاطى القود منهم لتعصبت‬
‫َ‬ ‫في ذلك أس َّد رأيًا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫لهم قبائل وصارت حربًا ثالثة‪ ،‬فانتظر بهم أن يستوثق األمر وتنعقد البيعة‪،‬‬
‫ويقع الطلب من األولياء في‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬تفسير القرطبي (‪.)318/1‬‬
‫مجلس الحكم‪ ،‬فيجري القضاء بالحق‪.‬‬
‫وال خالف بين األمة أنه يجوز لإلمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى‬
‫إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة‪ .‬وكذلك جرى لطلحة والزبير‪ ،‬فإنهما ما خلعا‬
‫عليًّا من والية وال اعترضا عليه في ديانة‪ ،‬وإنما رأيا أن البداءة بقتل‬
‫أصحاب عثمان أولى" ا‪.‬هـ‪.‬‬
‫وقال مال علي القاري في شرح المشكاة ما نصه (‪(" :)1‬تقتلك الفئة‬
‫الباغية) أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان‪ ،‬قال‬
‫الطيبي‪ :‬ترحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيهما عمار من قبل الفئة الباغية‬
‫عمارا‬
‫ً‬ ‫يريد به معاوية وقومه فإنه قتل يوم صفين‪ ،‬وقال ابن الملك‪ :‬اعلم أن‬
‫عمارا كان في‬
‫ً‬ ‫قتله معاوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث ألن‬
‫ي وهو المستحق لإلمامة فامتنعوا عن بيعته‪ ،‬وحكي أن معاوية‬ ‫عسكر عل ّ‬
‫كان يؤول معنى الحديث ويقول‪ :‬نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان وهذا كما‬
‫ترى تحريف إذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا ألنه صلى هللا عليه وسلم‬
‫ذلك الحديث في إظهار فضيلة عمار وذم قاتله ألنه جاء في طريق ويح‪،‬‬
‫قلت‪ :‬ويح كلمة تقال لمن وقع في هلكة ال يستحقها فيترحم عليه ويرثى له‬
‫بخالف ويل فإنها كلمة عقوبة تقال للذي يستحقها وال يترحم عليه‪ ،‬هذا‬
‫عا‪:‬‬ ‫وفي الجامع الصغير برواية اإلمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد مرفو ً‬
‫"ويح ع ّمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وهذا‬
‫المتبادر من البغي المطلق في الكتاب‬ ‫ِ‬ ‫كالنص الصريح في المعنى الصحيح‬
‫شاء وال ُم ْن َك ِر والبَ ْغيِ} [سورة‬ ‫كما في قوله تعالى‪{ :‬ويَ ْنهى ِ‬
‫عن الفَ ْح ِ‬
‫َت إحدا ُهما على األخرى} [سورة‬ ‫النحل‪ ]90/‬وقوله سبحانه‪{ :‬فإن بَغ ْ‬
‫الحجرات‪ ]9/‬فإطالق اللفظ الشرعي على إرادة المعنى اللغوي عدول عن‬
‫العدل وميل إلى الظلم الذي هو وضع الشئ في غير موضعه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والحاصل أن البغي بحسب المعنى الشرعي واإلطالق العرفي‬


‫_____________‬
‫(‪ )1‬مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (‪.)447/5‬‬
‫عموم معنى الطلب اللغوي إلى طلب الشر الخاص بالخروج المنهي‪ ،‬فال‬
‫يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان وهو عثمان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ي وفئته‬
‫وقد حكي عن معاوية تأويل أقبح من هذا حيث قال‪ :‬إنما قتله عل ّ‬
‫حيث حمله على القتال وصار سببًا لقلته في المآل‪ ،‬فقيل له في الجواب‪:‬‬
‫فإذن قاتل حمزة هو النبي صلى هللا عليه وسلم حيث كان باعثًا له على لك‬
‫وهللا سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين‪ .‬والحاصل أن هذا‬
‫الحديث فيه معجزات ثالث إحداها أنه سيقتل وثانيها أنه مظلوم وثالثها أن‬
‫قاتله باغ من البغاة والكل صدق وحق" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪" :)1‬قلت‪ :‬فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه بإطاعته‬
‫الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخالفة المنيفة فتبين بهذا أنه كان في‬
‫متسترا بدم عثمان مراعيًا مرائيًا فجاء هذا‬
‫ً‬ ‫الباطن باغيًا وفي الظاهر‬
‫مسطورا‬
‫ً‬ ‫الحديث عليه ناعيًا وعن عمله ناهيًا‪ ،‬لكن كان ذلك في الكتاب‬
‫مهجورا‪ ،‬فرحم هللا من أنصف ولم‬‫ً‬ ‫فصار عنده كل من القرءان والحديث‬
‫يتعصب ولم يتعسف وتولى االقتصاد في االعتقاد لئال يقع في جانبي سبيل‬
‫الرشاد من الرفض والنصب بأن يحب جميع اآلل والصحب" اهـ‪.‬‬
‫وقال المناوي في شرح الجامع الصغير ما نصه (‪(" :)2‬ويح عمار) ابن‬
‫ياسر (تقتله الفئة الباغية) قال البيضاوي‪ :‬يريد به معاوية وقومه (يدعوهم‬
‫إلى الجنة) أي إلى سببها وهو طاعة اإلمام الحق (ويدعونه إلى) سبب‬
‫(النار) وهو عصيانه ومقاتلته وقد وقع ذلك يوم صفين دعاهم فيه إلى‬
‫اإلمام ودعوه إلى النار وقتلوه" اهـ‪.‬‬
‫وقال في موضع ءاخر من شرحه على الجامع الصغير ما نصه (‪:)3‬‬
‫__________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬المرجع السابق (‪.)447-448/5‬‬


‫(‪ )2‬التيسير بشرح الجامع الصغير (‪.)483/2‬‬
‫(‪ )3‬فيض القدير (‪.)365-366/6‬‬
‫"(ويح عمار) بالجر على اإلضافة وهو ابن ياسر (تقتله الفئة الباغية) قال‬
‫القاضي في شرح المصابيح‪ :‬يريد به معاوية وقومه اهـ‪ .‬وهذا صريح في‬
‫ي‬‫عمارا في وقعة صفين وأن الحق مع عل ّ‬ ‫ً‬ ‫بغي طائفة معاوية الذين قتلوا‬
‫وهو من األخبار بالمغيبات (يدعوهم) أي عمار يدعو الفئة وهم أصحاب‬
‫معاوية الذين قتلوه بوقعة صفين في الزمان المستقبل (إلى الجنة) أي إلى‬
‫سببها وهو طاعة اإلمام الحق (ويدعونه إلى) سبب (النار) وهو عصيانه‬
‫ومقاتلته‪ .‬قالوا وقد وقع ذلك في يوم صفين دعاهم فيه إلى اإلمام الحق‬
‫ودعوه إلى النار وقتلوه فهو معجزة للمصطفى وعلم من أعالم نبوته" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال المناوي بعد ذلك ما نصه‪(" :‬تتمة) في الروض األنف أن رجالً‬
‫قال لعمر رضي هللا تعالى عنه‪ :‬رأيت الليلة كأن الشمس والقمر يقتتالن‬
‫ومع كل نجوم قال عمر‪ :‬مع أيهما كنت؟ قال‪ :‬مع القمر قال‪ :‬كنت مع اآلية‬
‫الممحوة اذهب وال تعمل لي عمالً أبدًا فعزله فقتل يوم صفين مع معاوية‬
‫واسمه حابس بن سعد" اهـ‪.‬‬
‫وقال مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري ما نصه (‪" :)1‬على أن‬
‫معشر أهل الحق من أهل السنة والجماعة يعتقدون أن معاوية كان مخطئًا‬
‫ي بن أبي طالب لسبق البيعة والخالفة له رضي‬ ‫بغى على اإلمام الحق عل ّ‬
‫هللا عنه وهو مصيب بمحاربة معاوية وأصحابه بحكم قتال أهل البغي من‬
‫المسلمين ولذا لم يعاملهم معاملة المرتدين وال الكافرين‪ ،‬وأن عائشة‬
‫وطلحة والزبير رضي هللا عنهم قد رجعوا عن خطئهم بخروجهم متأسفين‬
‫والندم توبة من الخطيئة‪ ،‬فاتبع الحق وال تتبع الهوى فيضلك عن سبيل هللا‬
‫وهللا أعلم" اهـ‪.‬‬

‫(‪ )1‬تحفة األنام (ص‪.)67/‬‬


‫]‪[Type text‬‬

‫وقد نقل الفقيه المتكلم ابن فورك في كتاب مقاالت األشعري كالم أبي‬
‫الحسن األشعري في أمر المخالفين لعلي بن أبي طالب رضي هللا عنه‬
‫فقال ما نصه (‪" :)1‬وكان –أي األشعري‪ -‬يقول في أمر الخارجين عليه‬
‫والمنكرين إلمامته إنهم كانوا على الخطإ فيما فعلوا‪ ،‬ولم يكن لهم أن يفعلوا‬
‫ما فعلوا من إنكار إمامته والخروج عليه‪ .‬وكان يقول في أمر عائشة‬
‫رضي هللا تعالى عنها إنها إنما قصدت الخروج طلبًا لإلصالح بين‬
‫الطائفتين بها للتوسط في أمرهما‪ ،‬فأما طلحة والزبير فإنهما خرجا عليه‬
‫وكانا في ذلك متأولين مجتهدين يريان ذلك صوابًا بنوع من االجتهاد‪ ،‬وإن‬
‫ذلك كان منهما خطأ وإنهما رجعا عن ذلك وندما وأظهرا التوبة وماتا‬
‫تائبين مما عمال‪ .‬وكذلك كان يقول في حرب معاوية إنه كان باجتهاد منه‬
‫ومنكرا وبغيًا على معنى أنه خروج عن إمام‬
‫ً‬ ‫وإن ذلك كان خطأ وباطالً‬
‫مغفورا للخبر الثابت‬
‫ً‬ ‫عادل‪ ،‬فأ ّما خطأ طلحة والزبير فكان يقول إنه وقع‬
‫ي أنه حكم لهما بالجنة فيما روي في خبر بشارة عشرة من أصحابه‬ ‫عن النب ّ‬
‫بالجنة فذكر فيهم طلحة والزبير‪ ،‬وأما خطأ من لم يبشره رسول هللا صلى‬
‫مجوز غفرانه والعفو عنه" اهـ‪.‬‬
‫هللا عليه وسلم بالجنة في أمره فإنه ّ‬
‫وهذا نص صريح من شيخ أهل السنّة أبي الحسن األشعري بأن كل‬
‫مقاتليه عصوا‪ ،‬وأن طلحة والزبير تابا من ذلك جز ًما‪ ،‬وأما اآلخرون فهم‬
‫تحت المشيئة يجوز أن يغفر هللا لمن شاء منهم‪ .‬فبعد هذا ال يسوغ ألشعري‬
‫غير ءاثمين مع االعتراف‬‫أن يخالف كالم اإلمام فيقول‪ :‬إن معاوية وجيشه ُ‬
‫بأنهم بغاة‪ ،‬وأ ّما من قال إنهم مأجورون فأبعد من الحق‪.‬‬
‫وليعلم أن ما ذكر في بعض كتب األشاعرة كالغزالي مما يخالف كالم‬
‫األشعري مردود ال يلتفت إليه‪.‬‬
‫وفي تعبير اإلمام األشعري عن حرب معاوية بأنه باطل ومنكر وبغي‬
‫الحكم بأن ذلك معصية‪ .‬وكالمه هذا بعيد من كالم أولئك الذين قالوا إن‬
‫عمل هؤالء الذين قاتلوا عليًّا يدخل تحت حديث‪" :‬إذا اجتهد الحاكم فأصاب‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_______________‬
‫(‪ )1‬مجرد مقاالت األشعري البن فورك (ص‪.)188-187/‬‬
‫نص عليه‬
‫فله أجران‪ ،‬وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"‪ .‬ألن االجتهاد الذي ّ‬
‫الحديث هو االجتهاد الذي يكون فيما لم يرد فيه نص صريح‪ ،‬ومسئلة‬
‫مقاتلة اإلمام الرشيد كعلي معلوم حرمتها من عدة أحاديث كحديث‪" :‬من‬
‫كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من‬
‫شبرا فمات عليه إال مات ميتة جاهلية" رواه مسلم وغيره‪.‬‬
‫السلطان ً‬
‫قال الفقيه األصولي بدر الدين الزركشي بعد كالم في شرحه على جمع‬
‫ي وكل من خرج على من‬ ‫الجوامع (‪" :)1‬هذا مع القطع بتخطئة مقاتلي عل ّ‬
‫اتفق على إمامته‪ ،‬لكن التخطئة ال تبلغ إلى حد التفسيق عند القاضي أبي‬
‫بكر‪ ،‬وقالت الشيعة بالتفسيق‪ ،‬ونسبه اآلمدي ألكثر أصحابنا" اهـ‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬أصحابنا" يعني به األشاعرة‪.‬‬
‫وال نعتقد نحن أن الصحابي منهم فسق فسقًا يمنع قبول روايته للحديث‪،‬‬
‫بل نعتقد أنهم كغيرهم ءاثمون بال استثناء‪ ،‬والدليل عليه حديث النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم للزبير رضي هللا عنه‪" :‬إنك لتقاتلنه وأنت ظالم له" رواه‬
‫ينف‬
‫الحاكم وصححه ووافقه الذهبي‪ ،‬واألشعري في عبارته المذكورة لم ِ‬
‫مغفورا بكونهما‬
‫ً‬ ‫اإلثم عن الذين قاتلوا عليًّا بل قال‪ :‬إثم طلحة والزبير وقع‬
‫شرين بالجنة بالتعيين‪ ،‬وقال عن خطأ غيرهما إنه مجوز غفرانه‬ ‫من المب ّ‬
‫والعفو عنه‪.‬‬
‫فتبيّن أن تعبيره بالخطأ ليس معناه أنهما لم يعصيا إنما مراده أن إثمهما‬
‫صادرا عن خطإ في الرأي‪ ،‬ومثل هذا ال يدخل تحت حديث‪" :‬وضع‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (‪ )2‬ألن هذا الخطأ‬
‫المذكور في هذا الحديث المراد به ما حصل بال إرادة من فاعله كالذي‬
‫ينطق بالقول المحرم الكفر وغيره عن سبق لسان‪ ،‬والفعل‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬تشنيف المسامع (‪.)842/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬السنن الكبرى (‪.)84/6‬‬


‫الذي يكون على هذا الوجه كفعل من أراد أن يرمي إلى صيد فأصاب‬
‫سمهه إنسانًا مسل ًما مؤمنًا فقتله‪ .‬كما أن هذا ال يدخل تحت حديث‪" :‬إذا‬
‫اجتهد الحاكم‪ "...‬المتقدم ذكره‪ ،‬يمنع من ذلك قوله عليه الصالة والسالم‬
‫للزبير‪" :‬وأنت ظالم له"‪ ،‬وال يخفى على القارئ أن الخطأ في عبارات‬
‫العلماء يقع على معنيين‪ :‬أحدهما مخالفة الصواب إن كان مما يؤدي إلى‬
‫معصية أو إلى ما دونها‪ ،‬والثاني ما يحصل من اإلنسان من قول أو فعل‬
‫بال إرادة كالذي حصل من الرجل الذي أض ّل دابته ثم وجدها فقال‪" :‬اللهم‬
‫أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح فسبق لسانه إلى ما لم يرده‪.‬‬
‫فالخطأ الذي أورده اإلمام األشعري من القسم األول‪ ،‬أراد أن هؤالء‬
‫عصوا بدليل قوله في طلحة والزبير‪" :‬إنهما تابا"‪ ،‬فال يشتبه عليك األمر يا‬
‫طالب العلم‪ .‬وال ينبغي أن يفهم من كالم األشعري من تعبيره بالخطإ في‬
‫أمر معاوية أنه كان حصل منه ذلك باجتهاد كاجتهاد األئمة في استخراج‬
‫المسائل من الكتاب والسنة على حسب أفهامهم‪ ،‬وذلك ألن سيدنا عليًّا‬
‫رضي هللا عنه قال‪" :‬إن بني أمية يقاتلونني يزعمون أني قتلت عثمان‪،‬‬
‫س ْرهَد في مسنده (‪ )1‬كما‬ ‫وكذبوا إنما يريدون ال ُملك" رواه مسدَّد بن ُم َ‬
‫سيأتي‪ ،‬وكذلك قال سيدنا ع ّمار بن ياسر رضي هللا عنهما عن معاوية إن‬
‫همه كان الدنيا ودعواه إلى األخذ بدم عثمان إنما هو اتخذها ذريعة‬
‫للوصول إلى الملك‪ ،‬ذكر ذلك الحافظ المجتهد ابن جرير الطبري كما‬
‫سأتي‪.‬‬
‫ودعوى أن معاوية حصل منه ذلك على طريق االجتهاد المعروف بين‬
‫األئمة تخيّ ٌل لما هو مخالف للواقع‪ ،‬ويؤيد ذلك أنه لو كان اإلمام األشعري‬
‫أراد بقوله إن معاوية اجتهد ذلك االجتهاد الذي رفعت المؤاخذة عن‬
‫مجوز الغفران‪ ،‬وهذا ظاهر لمن‬‫المخطئ فيه لم يقل إن ما حصل منهم ّ‬
‫يفهم العبارات‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬عزاه له الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (‪.)293/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال المؤرخ ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب (‪ )1‬عند ذكر‬
‫ي‪ -‬وبغي‬ ‫وقعة صفّين ما نصه‪" :‬واإلجماع منعقد على إمامته –أي عل ّ‬
‫الطائفة األخرى وال يجوز تكفيرهم كسائر البغاة‪ ،‬واستد ّل أهل السنة‬
‫ي بدالئل أظهرها وأثبتها قوله صلى هللا‬ ‫والجماعة على ترجيح جانب عل ّ‬
‫عليه وسلم لعمار بن ياسر‪" :‬تقتلك الفئة الباغية" وهي حديث ثابت‪ .‬ولما‬
‫ي‪ :‬إذًا قتل رسول هللا‬‫بلغ معاوية ذلك قال‪ :‬إنما قتله من أخرجه‪ ،‬فقال عل ٌّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم حمزة ألنه أخرجه (‪ ،)2‬وهو إلزام ال جواب عنه‬
‫وحجة ال اعتراض عليها‪ ،‬وكان شبهة معاوية ومن معه الطلب بدم عثمان‪،‬‬
‫عا الدخول في البيعة ث َّم الطلب من وجوهه‬‫وكان الواجب عليهم شر ً‬
‫الشرعية" اهـ‪.‬‬
‫وهذا من معاوية بحسب الظاهر ال بحسب الباطن‪ ،‬أ ّما من ناحية جماعته‬
‫فقد يكونون على ظن أنهم على حق‪ .‬وإنما قلنا ذلك لما سبق من أن عليًّا‬
‫قال‪" :‬إنّما يريدون الملك"‪.‬‬
‫ويؤيد قول علي رضي هللا عنه ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‬
‫(‪.)3‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬شذرات الذهب (‪.)45/1‬‬
‫(‪ )2‬عن عبد هللا بن الحارث أن عمرو بن العاص قال لمعاوية‪" :‬يا‬
‫أمير المؤمنين" أما سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‬
‫لحريص على الجهاد‪ ،‬وإنك‬
‫ٌ‬ ‫حين كان يبني المسجد لع ّمار‪" :‬إنك‬
‫لمن أهل الجنة‪ ،‬ولتقتلنك الفئة الباغية" قال‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪ :‬فلم‬
‫قتلتموه‪ ،‬قال‪ :‬وهللا ما تزال تدحض في بولك‪ ،‬أنحن قتلناه! إنما‬
‫قتله الذي جاء به"‪ .‬اهـ‪ .‬انظر مجمع الفوائد وأعذب الموارد‬
‫(‪.)539/2‬‬
‫(‪ )3‬مسند الطيالسي (ص‪.)117-116/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال القرطبي (‪" :)1‬واإلجماع منعقد على أن طائفة اإلمام طائفة عدل‬
‫واألخرى طائفة بغي‪ ،‬ومعلوم َّ‬
‫أن عليًّا رضي هللا عنه كان اإلمام" اهـ‪.‬‬
‫وأخرج البزار (‪ )2‬بسند جيد عن زيد بن وهب قال‪" :‬بينما نحن حول‬
‫حذيفة إذ قال‪ :‬كيف أنتم وقد خرج أهل بيت نبيّكم فرقتين يضرب بعضكم‬
‫وجوه بعض بالسيف‪ ،‬فقلنا‪ :‬يا أبا عبد هللا وإن ذلك لكائن‪ ،‬فقال بعض‬
‫أصحابه‪ :‬يا أبا عبد هللا فكيف نصنع إن أدركنا ذلك الزمان‪ ،‬قال‪ :‬انظروا‬
‫ي رضي هللا عنه فالزموها فإنها على الهدى"‬ ‫الفرقة التي تدعو إلى أمر عل ّ‬
‫اهـ‪ .‬ومعنى هذا أن األخرى على الباطل‪.‬‬
‫مراد معاوية من القتال‪:‬‬
‫ثم ليعلم أن معاوية كان قصده من هذا القتال الدنيا‪ ،‬فلقد كان به الطمع‬
‫في الملك وفرط الغرام في الرئاسة‪ ،‬فلما وصل إلى الخالفة وصار ملك‬
‫كف عن المطالبة بدم عثمان وهو ما اتخذه حجة‬ ‫مصر وغيرها تحت يده ّ‬
‫ي وقتاله وأكثر المتهمين من أهل مصر والكوفة والبصرة‬ ‫للخروج على عل ّ‬
‫كلهم تحت حكمه وغلبته كما ذكر القرطبي في التذكرة (‪.)3‬‬
‫سفينة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬ ‫روى أبو داود في سننه (‪ )4‬عن َ‬
‫عليه وسلم‪" :‬خالفة النبوة ثالثون سنة ثم يؤتي هللا ال ُم ْلك" أو‪" :‬ملكه َمن‬
‫يشاء"‪.‬‬
‫______________‬
‫التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة (ص‪.)626/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫البزار (‪ ،)97/4‬قال الحافظ‬‫انظر كشف األستار عن زوائد ّ‬ ‫(‪)2‬‬
‫الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ " :)236/7‬رواه البزار‪ ،‬ورجاله‬
‫ثقات"‪.‬‬
‫التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة (ص‪.)622/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سنة‪ :‬باب في الخلفاء‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب ال ُّ‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عشرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫قال سعيد‪ :‬قال لي سفينة‪" :‬أمسك عليك أبا بكر سنتين‪ ،‬وعمر‬
‫وعثمان اثنتي عشرة‪ ،‬وعليًّا كذا‪ ،‬قال سعيد‪ :‬قلت لسفينة‪ :‬إن هؤالء‬
‫يزعمون أن عليًّا عليه السالم لم يكن بخليفة‪ ،‬قال‪ :‬كذبت أ ْستَاه بني الزرقاء‬
‫يعني مروان" اهـ‪.‬‬
‫ضا الحاكم (‪ )1‬والبيهقي بنحوه (‪ )2‬وذكر أن‬
‫وروى هذا الحديث أي ً‬
‫خالفة علي كانت ست سنوات‪.‬‬
‫وروى أحمد (‪ )3‬في المسند والبيهقي (‪ )4‬والطيالسي (‪ )5‬واللفظ ألحمد‬
‫عن حذيفة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬تكون النبوة فيكم ما‬
‫شاء هللا أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ ،‬ثم تكون خالفة على منهاج‬
‫النبوة فتكون ما شاء هللا أن تكون‪ ،‬ثم يرفعها إذا شاء هللا أن يرفعها ثم‬
‫ضا" (‪ .)6‬أي ظلو ًما‪.‬‬ ‫تكون مل ًكا عاضًّا‪ "...‬الحديث‪ ،‬وفي رواية‪" :‬عضو ً‬
‫سنه‪ ،‬وأبو نعيم‬
‫ضا الترمذي (‪ )7‬وح ّ‬‫وحديث أبي داود المتقدم أخرجه أي ً‬
‫(‪ )8‬بنحوه عن سفينة قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬خالفة‬
‫النبوة"‪ ،‬وعند أحمد بلفظ‪" :‬الخالفة ثالثون عا ًما ثم يكون بعد ذلك الملك"‬
‫(‪.)9‬‬
‫____________‬
‫مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪)145/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫دالئل النبوة (‪ 341/6‬و‪.)342‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مسند أحمد (‪.)273/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫دالئل النبوة (‪.)340-342/6‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مسند أبي داود الطيالسي (ص‪ 31/‬و‪.)117-116‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫هي رواية البيهقي (‪ )340/6‬والطيالسي (ص‪.)31/‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫جامع الترمذي‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب ما جاء في الخالفة‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫ذكر أخبار أصبهان (‪.)245/1‬‬ ‫(‪)8‬‬
‫مسند أحمد (‪.)220/5‬‬ ‫(‪)9‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأخرج البيهقي (‪ )1‬عن أبي بكرة قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا‬
‫لك َمن يشاء"‪،‬‬
‫عليه وسلم يقول‪" :‬خالفة النبوة ثالثون عا ًما ثم يؤتي هللا ال ُم َ‬
‫فقال معاوية‪" :‬قد رضينا بال ُملك"‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪ )2‬ما نصه‪" :‬وقد ذكر يحيى ابن‬
‫سليمان ال ُج ْعفي‪ ،‬أحد شيوخ البخاري في "كتاب صفين" في تأليفه بسند‬
‫جيد‪ ،‬عن أبي مسلم الخوالني أنه قال لمعاوية‪" :‬أنت تنازع عليًّا في الخالفة‬
‫ُّ‬
‫وأحق باألمر‪ ،‬ولكن‬ ‫أنت ِمثْلُهُ؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬وإني ألعلم أنه أفضل مني‬
‫َأو َ‬
‫ألستم تعلمون ّ‬
‫أن عثمان قتل مظلو ًما‪ ،‬وأنا ابن ع ّمه ووليّه أطلب بدمه‪،‬‬
‫فأتوا عليًّا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان‪ .‬فأتوه فكلموه فقال‪ :‬يدخل في البيعة‬
‫ي في الجيوش من العراق حتى نزل‬ ‫ي فامتنع معاوية‪ ،‬فسار عل ّ‬‫ويحاكمهم إل ّ‬
‫بصفّين" اهـ‪.‬‬
‫وروى مسدد (‪ )3‬في مسنده عن عبد هللا بن أبي سفيان أن عليًّا قال‪" :‬إن‬
‫بني أمية يقاتلونني‪ ،‬يزعمون أني قتلت عثمان وكذبوا إنما يريدون الملك‪،‬‬
‫ولو أعلم أن يذهب ما في قلوبهم أني أحلف لهم عند المقام وهللا ما قتلت‬
‫عثمان وال أمرت بقتله لفعلت‪ ،‬ولكن إنما يريدون ال ُملك‪ ،‬وإني ألرجو أن‬
‫ُور ِهم ْ‬
‫من‬ ‫{ونَزَ عْنا ما في صد ِ‬ ‫أكون أنا وعثمان م ّمن قال هللا ّ‬
‫عز وجل‪َ :‬‬
‫ِغ ٍّل} [سورة الحجر‪ ]47/‬اآلية‪ ،‬وروى نحوه سعيد بن منصور في سننه‬
‫(‪.)4‬‬
‫قال ابن كثير في البداية والنهاية (‪ )5‬ما نصه‪" :‬وهذا مقتل ع ّمار بن‬
‫ياسر رضي هللا عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام‪.‬‬
‫سر ما أخبر به الرسول صلى هللا عليه وسلم من أنه‬ ‫وبان وظهر بذلك ّ‬
‫تقتله الفئة‬
‫__________‬
‫دالئل النبوة (‪.)342/6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فتح الباري (‪.)86/13‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (‪.)293/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سنن سعيد بن منصور (‪.)335-336/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )5‬البداية والنهاية (‪.)276/7‬‬


‫ّ‬
‫محق وأن معاوية باغ‪ ،‬وما في ذلك من دالئل‬ ‫الباغية‪ ،‬وبان بذلك أن عليًّا‬
‫النبوة" اهـ‪.‬‬
‫قال ابن األثير في الكامل (‪ )1‬نقالً عن ع ّمار بن ياسر رضي هللا عنه‬
‫أنه قال يوم صفين‪" :‬من يبتغي رضوان هللا ربّه وال يرجع إلى مال وال‬
‫ولد؟ فأتاه عصابة فقال‪ :‬اقصدوا بنا هؤالء القوم الذين يطلبون دم عثمان‪،‬‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫وهللا ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبّوها وعلموا أن‬
‫إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها‪ ،‬ولم يكن لهم سابقة‬
‫يستحقون بها طاعة الناس والوالية عليهم‪ ،‬فخدعوا أتباعهم بأن قالوا‪:‬‬
‫إمامنا قُتل مظلو ًما‪ ،‬ليكونوا بذلك جبابرة ملو ًكا‪ ،‬فبلغوا ما ترون‪ ،‬فلوال هذه‬
‫نصرت‪ ،‬وإن تجعل‬
‫َ‬ ‫ما تبعهم من الناس رجالن‪ .‬اللهم إن تنصرنا فطالما‬
‫لهم األمر فادّخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب األليم" اهـ‪.‬‬
‫ومما يدل على ما قدمنا أن معاوية سعى قبل موته في استخالف ابنه‬
‫يزيد‪ ،‬وذلك مع وجود من هو أهل لتلك الخالفة من الصحابة كالحسين بن‬
‫علي وابن الزبير فليراجع ما ذكره الحافظ ابن حجر في ذلك (‪.)2‬‬
‫قال الطبري في تاريخه (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وكان عهده –أي معاوية‪ -‬الذي‬
‫عهد ما ذكر هشام بن محمد‪ ،‬عن أبي مخنف قال‪ :‬حدثني عبد الملك بن‬
‫نوفل بن مساحق بن عبد هللا بن مخرمة أن معاوية بما مرض مرضته التي‬
‫هلك فيها دعا يزيد ابنه فقال‪ :‬يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال‪،‬‬
‫ووطأت لك األشياء‪ ،‬وذلّلت لك األعداء وأخضعت لك أعناق العرب‪،‬‬
‫أتخوف أن ينازعك هذا األمر الذي‬ ‫ّ‬ ‫وجمعت لك من جمع واحد‪ ،‬وإني ال‬
‫استتبّ لك إال أربعة نفر من قريش‪ :‬الحسين بن علي وعبد هللا بن عمر‬
‫وعبد هللا بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر‪ .‬فأما عبد هللا‬
‫________‬
‫(‪ )1‬الكامل في التاريخ (‪.)308-309/3‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)576-577/8‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬تاريخ األمم والملوك (‪.)260/3‬‬


‫بن عمر فرجل قد وقذته العبادة (‪ )1‬وإذا لم يبق أحد غيره بايعك‪ ،‬وأما‬
‫الحسين بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك‬
‫سة وحقًّا عظي ًما‪ ،‬وأما ابن أبي بكر‬
‫فظفرت به فاصفح عنه فإن له رح ًما ما ّ‬
‫فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئًا صنع مثلهم ليس له ه ّمة إال في النساء‬
‫واللهو‪ .‬وأ ّما الذي يجثم لك جثوم األسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا‬
‫أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك فقدرت عليه ّ‬
‫فقطعه‬
‫إربًا إربًا" اهـ‪ .‬وفي رواية أخرى أن يزيد كان غائبًا فأوصى له بذلك‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر العسقالني في المطالب العالية بزوائد المسانيد‬
‫الثمانية (‪ )2‬ما نصه‪" :‬محمد بن سيرين قال‪ :‬لما أراد معاوية أن يستخلف‬
‫ي َم ْن شاء‪ ،‬قال‪ :‬فوفد إليه عمرو بن‬ ‫يزيد بعث إلى عامل المدينة أن ْأوفِد إل َّ‬
‫ي قال‪ :‬يا أمير المؤمنين‬ ‫حزم األنصاري يستأذن‪ .‬فقال‪ :‬ما جاء بهم إل ّ‬
‫ي فأعطيه ما سأله‬ ‫يطلب معروفك فقال معاوية‪ :‬إن كان صادقًا فليكتب إل ّ‬
‫وال أراه‪ ،‬قال‪ :‬فخرج إليه الحاجب فقال‪ :‬ما حاجتك اكتب ما شئت‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫حجب عنه‪ ،‬أ ُ ِحبُّ أن ألقاهُ‬
‫ُ‬ ‫سبحان هللا أجيء إلى باب أمير المؤمنين فأ ُ‬
‫فأكلمه‪ ،‬فقال معاوية للحاجب‪ :‬عده يوم كذا وكذا‪ ،‬فإذا صلّى الغداة فليجئ‪،‬‬
‫قال‪ :‬فلما صلّى معاوية الغداة أمر بسريره فجعل في اإليوان ثم يخرج‬
‫الناس عنه فلم يكن عنده أحد إال كرسي وض َع لعمرو‪ ،‬فجاء عمرو فاستأذن‬
‫فأذن له فسلّم عليه ثم جلس على الكرسي فقال له معاوية‪ :‬حاجتك؟ قال‪:‬‬
‫فحمد هللا وأثنى عليه ثم قال‪ :‬لعمري لقد أصبح يزيد بن معاوية واسط‬
‫الحسب في قريش غنيًّا عن المال غنيًّا عن كل خير وإني سمعت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬إن هللا تعالى لم يسترع عبدًا رعية إال وهو‬
‫سائله عنها يوم القيامة كيف صنع فيها" وإني أ َذ ّكرك هللا يا معاوية في أ ّمة‬
‫محمد صلى هللا عليه وسلم من تستخلف عليها قال‪ :‬فأخذ‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬أي غلبت عليه‪.‬‬
‫(‪ )2‬المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (‪.)327/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ربو ونفس في غداة قَ ٍ ّر (‪ )1‬حتى عرق وجعل يمسح العرق عن‬ ‫معاوية ٌ‬
‫وجهه مليًّا ثم أفاق فحمد هللا وأثنى عليه ثم قال‪ :‬أما بعد فإنك امرؤ ناصح‬
‫قلت برأيك بالغًا ما بلغ‪ ،‬وإنه لم يبق إال ابني وأبناؤهم فابني ّ‬
‫أحق من‬
‫أبنائهم‪ ،‬حاجتك؟ قال‪ :‬ما لي حاجة‪ ،‬قال‪ :‬قم‪ ،‬فقال له أخوه‪ :‬إنما جئنا من‬
‫المدينة نضرب أكبادها من أجل كلمات‪ ،‬قال‪ :‬ما جئت إال للكلمات‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فأمر لهم بجوائزهم وأمر لعمرو بمثلها‪" .‬ألبي يعلى" (‪ )2‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابن حجر العسقالني في فتح الباري (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وأخرج‬
‫أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء‪ :‬سمعت أشياخ‬
‫أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له‪ :‬إن لك من‬
‫أهل المدينة يو ًما فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته‪،‬‬
‫فلما ولي يزيد وفد عليه عبد هللا بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم‪،‬‬
‫فحرض الناس على يزيد وعابه ودعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه‪ ،‬فبلغ‬ ‫فرجع ّ‬
‫يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة‪ ،‬فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة‪،‬‬
‫فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم‪ ،‬فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة‬
‫أن بني حارثة أدخلوا قو ًما من الشاميين من جانب الخندق‪،‬‬ ‫التكبير وذلك ّ‬
‫فترك أهل المدينة القتال ودخلوا المدينة خوفًا على أهلهم‪ ،‬فكانت الهزيمة‬
‫وقتل َمن قتل‪ ،‬وبايع مسلم الناس على أنهم خ ََو ٌل ليزيد يحكم في دمائهم‬
‫وأموالهم وأهلهم بما شاء" اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وفي سند الطبري المتقدم أبي مخنف وهو متكلم فيه‪ ،‬والعمدة في‬
‫نقلنا على الروايات الصحيحة الثابتة التي أوردها الحافظ ابن حجر‪.‬‬
‫___________‬
‫(‪ )1‬أي في غداة باردة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو يعلى في مسنده (‪ ،)121-123/13‬وقال الحافظ‬
‫الهيثمي في المجمع (‪" :)248-249/7‬رواه أبو يعلى ورجاله‬
‫رجال الصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتح الباري (‪.)70-71/13‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫نننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن‬
‫ننننننننننننننننننننننننننننت‪ 0‬وروى مسلم و‪-‬‬
‫ح‪/////////////////////////////////////////////////////////////////////////////‬‬
‫‪///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////‬‬
‫‪///////////////////////////////////////////////////////////////////////////////‬‬
‫‪+////////////////////////////‬وبن حبان (‪ )1‬في صحيحه واللفظ له قال‪:‬‬
‫"أخبرنا أبو خليفة قال‪ :‬حدثنا محمد بن كثير قال‪ :‬حدثنا سفيان عن‬
‫األعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال‪:‬‬
‫سمعت عبد هللا بن عمرو يحدّث في ظل الكعبة قال‪ :‬كنّا مع رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم في سفر فمنّا َمن ينتضل ومنّا َمن هو في جشره‬
‫ومنّا َمن يصلح خباءه‪ ،‬إذ نودي بالصالة جامعة فاجتمعنا فإذا رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يخطب يقول‪" :‬لم يكن قبلي نبي إال كان حقًّا على‬
‫هللا أن يد ّل أ ّمته على ما هو خير لهم ويُنذرهم ما يعلم أنه شر لهم‪ ،‬وإن‬
‫هذه األمة ُجعلت عافيتُها في أولها‪ ،‬وسيصيب ءاخرها بالء فتجيء فتنة‪،‬‬
‫فيقول المؤمن هذه مهلكتي ث ّم تجيء فيقول هذه مهلكتي ث ّم تنكشف‪ ،‬ف ّمن‬
‫أحبّ منكم أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيّته وهو يؤمن‬
‫ت إلى الناس الذي يحبّ أن يؤتى إليه‪ ،‬و َمن بايع‬ ‫باهلل واليوم اآلخر وليأ ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫إما ًما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع" قال‪ :‬قلت‪ :‬هذا‬
‫ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا ونهريق دماءنا وقال هللا‪{ :‬يا‬
‫أيُّها الذينَ ءامنوا ال تأ ُكلوا أموالَ ُكم بَ ْينَ ُكم بالباط ِل} [سورة النساء‪،]29/‬‬
‫س ُكم} [سورة النساء‪ ]29/‬قال‪ :‬ث ّم سكت ساعة ثم‬ ‫وقال‪{ :‬وال ت َ ْقت ُلوا أ ْنفُ َ‬
‫قال‪ :‬أطعه في طاعة هللا واعصه في معصية هللا" اهـ‪ ،‬ورواه أبو داود‬
‫مختصرا (‪.)2‬‬ ‫ً‬
‫وقال الطبري (‪" :)3‬وحدّثنا محمد بن بشار قال‪ :‬حدثنا عبد الرحمن‬
‫قال‪ :‬حدثنا سفيان عن األعمش‪ ،‬عن أبي وائل قال‪ :‬كنت مع مسروق‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب األمارة‪ :‬باب وجوب الوفاء‬
‫ببيعة الخلفاء األول فاألول‪ .‬ترتيب صحيح ابن حبان‪ :‬باب البيان‬
‫بأن عند وقع الفتن على المرء محبة غيره ما يحبه لنفسه‬
‫(‪.)578/7‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الفتن والمالحم‪ :‬باب ذكر الفتن‬
‫ودالئلها‪.‬‬
‫(‪ )3‬تهذيب اآلثار‪ ،‬مسند علي (ص‪.)241/‬‬
‫فمرت عليه سفينة فيها أصنام ذهب وفضة بعث بها معاوية‬ ‫بالسلسلة‪ّ ،‬‬
‫إلى الهند تُباع‪ ،‬فقال مسروق (‪ :)1‬لو أعلم أنهم يقتلوني َّ‬
‫لغرقتها ولكني‬
‫أخشى الفتنة" اهـ‪.‬‬
‫قال القرطبي في كتابه التذكرة (‪ )2‬ما نصه‪" :‬روى ابن وهب عن‬
‫جهارا وال يستقر فيها‪،‬‬
‫ً‬ ‫مالك قال‪ :‬تهجر األرض التي يصنع فيها المنكر‬
‫واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن‬
‫خرجه أهل الصحيح"‬ ‫بالرباء فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها‪ّ .‬‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وعن بحير‪ ،‬عن خالد قال‪" :‬وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن‬
‫األسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أن الحسن بن علي توفي؟ فر ّجع المقدام‪،‬‬ ‫فقال معاوية للمقدام‪ :‬أعلمت ّ‬
‫فقال له رجل‪ :‬أتراها مصيبة؟ قال له‪ :‬و ِل َم ال أراها مصيبة وقد وضعه‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في حجره فقال‪" :‬هذا منّي وحسين من‬
‫ي"‪ ،‬فقال األسدي‪ :‬جمرة أطفأها هللا ّ‬
‫عز وجل‪ ،‬قال‪ :‬فقال المقدام‪ :‬أما‬ ‫عل ّ‬
‫أنا فال أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره ثم قال‪ :‬يا معاوية إن‬
‫أنا ص َدقت فصدّقني‪ ،‬وإن أنا كذبت فكذبني‪ ،‬قال‪ :‬افعل‪ ،‬قال‪ :‬فأنشدك‬
‫باهلل هل سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نهى عن لبس الذهب؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فأنشدك باهلل هل تعلم أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫نهى عن لُبس الحرير؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فأنشدك باهلل هل تعلم أن رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم نهى عن لُبس جلود السباع والركوب عليها؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فوهللا لقد رأيت هذا كله في بيتك يا معاوية‪ ،‬فقال معاوية‪:‬‬
‫أنجو منك يا مقدام"‪ .‬رواهُ أبو داود في السنن (‪.)3‬‬
‫َ‬ ‫قد علمتُ أني لن‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬هو مسروق بن األجدع من المجتهدين ومن الثقات الكبار‪.‬‬
‫(‪ )2‬التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة (ص‪.)612/‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب في جلود النمور‬
‫والسباع‪.‬‬
‫وروى الحاكم في المستدرك (‪ )1‬من طريق إسماعيل بن عليّة‪ ،‬عن‬
‫"أن زيادًا أطال الخطبة‪ ،‬فقال ُحجر بن‬ ‫سان‪ ،‬عن ابن سيرين َّ‬
‫هشام بن ح ّ‬
‫عدي‪ :‬الصالة‪ ،‬فمضى في خطبته‪ ،‬فقال له‪ :‬الصالة‪ ،‬وضرب بيده إلى‬
‫الحصى وضرب الناس بأيديهم إلى الحصى‪ ،‬فنزل فصلّى ث ّم كتب فيه‬
‫ي فَسرحه إليه فلما قَد َِم عليه‬
‫سرح به إل ّ‬
‫إلى معاوية‪ ،‬فكتب معاوية أن ّ‬
‫قال‪ :‬السالم عليك يا أمير المؤمنين قال‪ :‬وأمير المؤمنين أما إني ال‬
‫أقيلك وال أستقيلك (‪ ،)2‬فأمر بقتله‪ ،‬فلما انطلقوا به طلب منهم أن يأذنوا‬
‫له فيصلي ركعتين فأذنوا له فصلّى ركعتين ثم قال‪ :‬ال تطلقوا عنّي‬
‫حديدًا وال تغسلوا عنّي د ًما وادفنوني في ثيابي فإني مخاصم‪ ،‬قال‪ :‬فقتل‬
‫(‪ ")3‬اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫البر (‪ )4‬في االستيعاب في معرفة األصحاب ما نصه‪:‬‬ ‫قال ابن عبد ّ‬


‫ضا عن ابن سيرين أنه‬ ‫"كان ُحجر من فضالء الصحابة"‪ .‬ثم روى أي ً‬
‫ّ‬
‫"صالهما ُخبيب و ُحجر وهما‬ ‫سئل عن الركعتين عند القتل قال‪:‬‬ ‫كان إذا ُ‬
‫ضا‪" :‬قال أحمد‪ :‬قلت ليحيى بن سليمان‪ :‬أبلغ ََك ّ‬
‫أن‬ ‫فاضالن"‪ .‬ثم قال أي ً‬
‫حجرا كان مستجاب الدعوة‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬وكان من أفاضل أصحاب النبي‬ ‫ً‬
‫صلى هللا عليه وسلم" اهـ‪.‬‬
‫قال الذهبي في سيره ما نصه (‪" :)5‬ابن أبي أُويس‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬
‫عبادة بن الصامت عن ابن عمه عبادة بن‬ ‫الوليد بن داود بن محمد بن ُ‬
‫خطيب‬
‫ٌ‬ ‫عبادة بن الصامت مع معاوية‪ ،‬فأذَّنَ يو ًما فقام‬
‫الوليد‪ ،‬قال‪ :‬كان ُ‬

‫مستدرك الحاكم (‪.)469-479/3‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫معناه ال أصفح عنك‪ ،‬وأستقيلك تأكيد لقوله ال أقيلك انتهى من‬ ‫(‪)2‬‬
‫المؤلف‪.‬‬
‫ضا البداية‬
‫الكامل في التاريخ (‪ 472/3‬و‪ ،)482‬وانظر أي ً‬ ‫(‪)3‬‬
‫والنهاية (‪ 53/8‬و‪.)54‬‬
‫االستيعاب في معرفة األصحاب (‪ 356/1‬و‪.)358‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫سير األعالم (‪.)7/2‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫عبادة بتراب في يده فحثاه (‪ )1‬في فم‬ ‫يمدح معاوية ويُثني عليه‪ ،‬فقام ُ‬
‫الخطيب‪ ،‬فغضب معاويةُ‪ ،‬فقال له عبادة‪ :‬إنك لم تكن معنا حين باي ْعنا‬
‫سمع والطاعة في َم ْنش َِطنا‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالعقبة على ال َّ‬
‫نقوم‬
‫َ‬ ‫ع األمر أهلَه‪ ،‬وأن‬ ‫س ِلنا وأَث َ َرة َعلَيْنا (‪ ،)2‬وأال تُناز َ‬
‫و َم ْك َر ِهنا و َم ْك َ‬
‫نخاف في هللا لومة الئم‪ .‬وقال رسول هللا صلى هللا‬ ‫ُ‬ ‫حيث كنا ال‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫بالحق‬
‫التراب" اهـ‪.‬‬
‫َ‬ ‫عليه وسلم‪" :‬إذا رأيتُم ال َم َّداحينَ ‪ ،‬فاحثوا في أفوا ِههم‬
‫ونقل الحافظ ابن حجر (‪ )3‬أن معاوية أرسل بُسر بم أرطأة إلى‬
‫ي رضي هللا عنه ليوقع بهم‪ ،‬ففعل‬‫اليمن لينظر من كان في طاعة عل ّ‬
‫بمكة والمدينة واليمن أفعاالً قبيحة‪ ،‬وهذه سيرته المتواترة من إيذاء من‬
‫كان مع علي رضي هللا عنه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وما يروى في معاوية من الفضائل فإنه لم يص ّح منه شئ‪ ،‬فقد قال‬


‫الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري (‪" :)4‬تنبيه‪ :‬عبَّر البخاري في‬
‫هذه الترجمة بقوله "ذكر" ولم يقل فضيلة وال منقبة لكون الفضيلة ال‬
‫تؤخذ من حديث الباب‪ ،‬ألن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة‬
‫دالة على الفضل الكثير‪ ،‬وقد صنّف ابن أبي عاصم جز ًءا في مناقبه‬
‫وكذلك أبو عمر غالم ثعلب وأبو بكر النقاش‪ ،‬وأورد ابن الجوزي في‬
‫الموضوعات (‪ )5‬بعض األحاديث التي ذكروها ث ّم ساق عن إسحاق بن‬
‫راهويه –شيخ البخاري‪ -‬أنه قال‪ :‬لم يص ّح في فضائل معاوية شئ‪ ،‬فهذه‬
‫النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادًا على قول‬
‫شيخه‪.‬‬
‫ضا (‪ )6‬من طريق عبد هللا بن أحمد بن‬
‫وأخرج ابن الجوزي أي ً‬

‫في األصل‪ :‬فحشاه‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫معناه لو كنا مظلومين‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫تهذيب التهذيب (‪.)435-436/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫فتح الباري (‪.)104/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫و(‪ )6‬الموضوعات (‪ ،)24/2‬الآللئ المصنوعة (‪.)424/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫ي ومعاوية؟ فأطرق ث ّم قال‪ :‬اعلم ّ‬
‫أن‬ ‫حنبل‪ :‬سألتُ أبي ما تقول في عل ّ‬
‫عليًّا كان كثير األعداء‪ ،‬ففتش أعداؤه له عيبًا فلم يجدوا‪ ،‬فعمدوا إلى‬
‫ي‪ ،‬فأشار بهذا إلى ما اختلقوه‬ ‫رج ٍل قد حاربه فأطروه كيادًا منهم لعل ّ‬
‫لمعاوية من الفضائل مما ال أصل له‪ .‬وقد ور َد في فضائل معاوية‬
‫أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق اإلسناد‪ ،‬وبذلك جزم‬
‫إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما وهللا أعلم" اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقوله‪" :‬ليس فيها ما يصح" معناه ليس فيها ما هو صحيح وال‬
‫حسن وليس كما ادّعى بعض األدعياء أنه لم ينف أن يكون فيها حسن‬
‫متمرس إال جاهل بصناعة الحديث‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وهذا ال يقوله‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال المؤرخ عبد الحي بن العماد الحنبلي (‪ )1‬في ترجمة النسائي ما‬
‫نصه‪" :‬قال ابن خلكان (‪ :)2‬قال محمد بن إسحاق األصبهاني‪ :‬سمعت‬
‫إن أبا عبد الرحمن فارق مصر في ءاخر‬ ‫مشايخنا بمصر يقولون‪ّ :‬‬
‫عمره وخرج إلى دمشق‪ ،‬فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال‪:‬‬
‫سا برأس حتى يفضّل‪ ،‬وفي رواية‪ :‬ما‬ ‫أما يرضى معاوية أن يخرج رأ ً‬
‫أعرف له فضيلة إال‪" :‬ال أشبع هللا بطنه" (‪ )3‬وكان يتشيع‪ ،‬فما زالوا‬
‫ٌ‬
‫مدفون‬ ‫فتوفي بها وهو‬
‫َ‬ ‫يدافعونه في خصيتيه وداسوه ث َّم ُح َم َل إلى مكة‬
‫بين الصفا والمروة‪ .‬وقال الحافظ أبو نعيم األصبهاني‪ :‬لما داسوه‬
‫بدمشق مات بسبب ذلك الدّوس فهو مقتول‪ ،‬وكان صنّف كتاب‬
‫الخصائص في فضل اإلمام علي بن أبي طالب رضي هللا عنه وأهل‬
‫البيت‪ ،‬وأكثر روايته فيه عن اإلمام أحمد بن حنبل رضي هللا عنه فقيل‬
‫له‪ :‬أال صنّفت في فضل الصحابة رضي هللا عنهم كتابًا‪ ،‬فقال‪ :‬دخلت‬
‫ي كثير فأردت أن يهديهم هللا بهذا الكتاب‪،‬‬ ‫دمشق والمنحرف عن عل ّ‬
‫_______________________‬
‫(‪ )1‬شذرات الذهب (‪.)240-241/2‬‬
‫(‪ )2‬وفيات األعيان (‪.)77/1‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب البر والصلة واآلداب‪ :‬با من لعنه النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم أو سبّه أو دعا عليه‪.‬‬
‫إما ًما في الحديث ثقة ثبتًا حاف ً‬
‫ظا" انتهى كالم ابن العماد‪.‬‬
‫وذكر الذهبي في تذكرة الحفّاظ في ترجمة النسائي (‪ )1‬أنه قال‪:‬‬
‫"دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنّفت كتاب الخصائص‬
‫رجوت أن يهديهم هللا‪ ،‬ثم أنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له‪:‬‬
‫ي شئ أخرج؟ حديث‪" :‬اللهم ال تشبع‬ ‫أال تخرج فضائل معاوية؟ فقال‪ :‬أ ّ‬
‫بطنه"‪ .‬فسكت السائل"‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وأ ّما اتّهامهم له بالتشيّع فليس صحي ًحا إذ إنهم اتهموه بذلك لقوله‪ :‬لم‬
‫يص ّح في فضائل معاوية إال‪" :‬ال أشبع هللا بطنه"‪ ،‬وألنه ألّف في فضل‬
‫ي ولم يصنف في مناقب غيره بالتخصيص‪ ،‬والصواب أنه إنّما قال‪:‬‬ ‫عل ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫لم يص ّح في فضائل معاوية إال‪" :‬ال أشبع هللا بطنه" َّ‬


‫ألن الحقيقة هي‬
‫هذه‪ ،‬وليس هو ّأول قائل لهذا بل سبقه إلى هذا كما سبق وذكرنا شيخ‬
‫البخاري إسحاق بن راهويه‪ ،‬وهو إنما صنّف في مناقب عل ّ‬
‫ي ولم‬
‫يصنّف في مناقب غيره بالتخصيص لما بَيَّنهُ بقوله‪" :‬دخلت دمشق‬
‫ي بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن‬ ‫والمنحرف عن عل ّ‬
‫يهديهم هللا"‪.‬‬
‫معتبرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫بيان أن قتال معاوية لإلمام علي ليس اجتهادًا‬
‫ي يدخل في باب االجتهاد؟‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس قتال معاوية لعل ّ‬
‫فالجواب‪ :‬أن االجتهاد ال يكون مع النص القرءاني أو الحديثي وال‬
‫ي فيه مخالفة للنص الحديثي‪ ،‬فال‬
‫مع اجماع العلماء‪ ،‬وقتال معاوية لعل ّ‬
‫أمرا اجتهادًا مقبوالً‪.‬‬
‫يكون هذا ً‬
‫ففي الحديث الصحيح‪" :‬ويح ع ّمار تقتله الفئة الباغية‪ ،‬يدعوهم إلى‬
‫الجنة ويدعونه إلى النار"‪ ،‬داللة على أن الرسول س ّماهم فئة باغية‪.‬‬
‫وقد روى هذا الحديث أربعةٌ وعشرون صحابيًّا منهم معاوية وعمرو‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬تذكرة الحفاظ (‪.)699/2‬‬
‫ابن العاص‪.‬‬
‫عمارا الفئة الباغية"‬
‫ً‬ ‫قال الحافظ ابن حجر (‪" :)1‬روى حديث‪" :‬تقتل‬
‫جماعة من الصحابة منهم قتادة بن النعمان كما تقدم وأ ّم سلمة عند‬
‫مسلم‪ ،‬وأبو هريرة عند الترمذي‪ ،‬وعبد هللا بن عمرو بن العاص عند‬
‫النسائي‪ ،‬وعثمان بن عفان‪ ،‬وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن‬
‫سر وع ّمار نفسه وكلها عند‬ ‫ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليَ َ‬
‫الطبراني وغيره‪ ،‬وغالب طرقها صحيحة أو حسنة‪ ،‬وفيه عن جماعة‬
‫ءاخرين يطول عدّهم‪ ،‬وفي هذا الحديث علم من أعالم النبوة وفضيلة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي ور ّد على النواصب الزاعمين أن عليًّا لم يكن‬‫ظاهرة لع ّمار وعل ّ‬


‫مصيبًا في حروبه" اهـ‪.‬‬
‫فكيف يكون بعد هذا اجتهاد مع النص؟!‬
‫ومن الشطح الذي وقع فيه بعض الفقهاء أنهم بعد ذكرهم لهذا الحديث‬
‫يقولون‪ :‬إن عليًّا اجتهد فأصاب فله أجران‪ ،‬وإن معاوية اجتهد فأخطأ‬
‫أجر كما قال صاحب كتاب الزبد‪:‬‬
‫فله ٌ‬
‫وما جرى بين الصحاب نسكت *** عنه وأجر االجتهاد نثبت‬

‫وقال اللَّقَّان ُّ‬


‫ي‪:‬‬
‫خضت فيه واجتنبْ دا َء ال َحس ْد‬
‫َ‬ ‫التشاجر الذي ور ْد *** ْ‬
‫إن‬ ‫َ‬ ‫وأو ِل‬
‫ِّ‬
‫وعمارا رضي هللا‬
‫ً‬ ‫أقول‪ :‬المنصف المتأ ّمل في األمر ال يشك أن عليًّا‬
‫عنهما أعرف بحقيقة معاوية في قتاله أمير المؤمنين‪ ،‬والعجيب كيف أن‬
‫صاحب الزبد يذكر ذاك البيت مع أنه ذكر في نفس الكتاب بيتًا ءاخر‬
‫وهو‪:‬‬
‫ولم يجز في غير محض الكفر *** خروجنا على ولي األمر‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)543/1‬‬
‫فالعجب العجاب كيف ساغ هؤالء اجتماع المعصية واألجر فهو جمع‬
‫بين أمرين متناقضين وهو تحريمه الخروج على ولي األمر وهو حق‬
‫مجمع عليه وإثباته األجر لذلك العدد أعني معاوية ومن معه في‬
‫خروجهم على ولي االمر وهو علي رضي هللا عنه‪ ،‬وأي اجتهاد هذا‬
‫خالف اإلجماع وأدى إلى قتل ألوف من المسلمين فيهم من هم من خيار‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم‪.‬‬
‫أن معاوية لم يكن مجتهدًا في قتاله وإنما كان يريد‬ ‫فتبين بما مضى ّ‬
‫ارا رضي هللا عنهما أعرف‬ ‫شك ّ‬
‫أن عليًّا وع ّم ً‬ ‫الوصول للملك‪ ،‬وال ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بحقيقة معاوية من كثير من المؤلفين الذين يقولون اجتهد فأخطأ فال‬


‫ظن في غير محلّه‪ ،‬وكيف يص ّح قولهم وقد جاء في‬ ‫تحسين ّ‬
‫ُ‬ ‫يأثم‪ .‬وهذا‬
‫الصحيح "من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه‪ ،‬فإنه ليس أحد من‬
‫شبرا فمات عليه إال مات ميتة جاهلية" (‪،)1‬‬
‫الناس خرج من السلطان ً‬
‫لقي هللا يوم القيامة ال حجة له‪،‬‬
‫ضا‪َ " :‬من خلع يدًا من طاع ٍة َ‬
‫وص ّح أي ً‬
‫و َمن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" (‪ ،)2‬فالجزء الثاني‬
‫من الحديث ينطبق على كل من قاتل عليًّا ولم يتب من ذلك‪.‬‬
‫هذا مع ما قدمنا من قول ع ّمار بن ياسر الذي رواه البيهقي‪" :‬ال‬
‫تقولوا كفر أهل الشام ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا" وفي رواية ابن أبي‬
‫ّ‬
‫فحق علينا أن نقاتلهم‬ ‫شيبة (‪" :)3‬ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق‬
‫حتى يرجعوا إليه"‪.‬‬
‫________________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب قول النبي صلى‬
‫أمورا تنكرونها"‪ ،‬ومسلم في‬
‫ً‬ ‫هللا عليه وسلم‪" :‬سترون بعدي‬
‫صحيحه‪ :‬كتاب اإلمارة‪ :‬باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين‬
‫عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة‬
‫ومفارقة الجماعة‪.‬‬
‫(‪ )2‬السنن الكبرى (‪.)174/8‬‬
‫(‪ )3‬مصنف ابن أبي شيبة‪ :‬كتاب الجمل (‪.)547/7‬‬
‫أقول‪ :‬وال يخفى على مثل عمار أن المجتهد إذا أخطأ في اجتهاده ال‬
‫يقول عنه مجته ٌد ءاخر فسق وظلم‪.‬‬
‫وفي الحديث الذي رواه الحاكم (‪ )1‬عن تراجع الزبير عن قتال علي‬
‫بعدما ذ ّكره بكالم النبي‪" :‬لتقاتلنه وأنت ظالم له"‪ ،‬دليل واضح على ّ‬
‫أن‬
‫الذين قاتلوا عليًّا ال يقال فيهم اجتهدوا فال إثم عليهم‪ ،‬ألنه لو كان األمر‬
‫معذورا غير مأثوم لمخالفته عليًّا‬
‫ً‬ ‫كذلك لكان الزبير أولى بأن يكون‬
‫األولين وأحد العشرة‬‫بنكث العهد أي عهد البيعة‪ ،‬وهو أحد السابقين ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المبشرين بالجنة‪ ،‬فإذا كان أمر الزبير هكذا أي أنه أثم بخروجه على‬
‫ي فما بال معاوية‪ .‬وهذا يد ّل على أن االجتهاد ال يكون مع النص‪.‬‬
‫عل ّ‬
‫فكيف يص ّح أن يقال عن معاوية وجيشه إنهم مأجورون غير ءاثمين‬
‫مع وصف الرسول لمعاوية وجيشه بأنهم دعاة إلى النار بقوله‪:‬‬
‫"يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف يجوز تسمية جيش معاوية بغاة أو كيف يقال إنهم‬
‫صوا وفيهم صحابة وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال‬
‫َع َ‬
‫ضا‪" :‬إذا ذكر أصحابي فأمسكوا"‪.‬‬
‫تسبوا أصحابي"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫فالجواب‪ :‬أن حديث مسلم‪" :‬ال تسبّوا أصحابي ال تسبّوا أصحابي‬
‫فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك م َّد أحدهم‬
‫وال نصيفه" (‪ ،)2‬هو في طائفة خاصة من الصحابة ألن المخاطبين‬
‫صحابة والمتكلّم عنهم صحابة فلما قال‪" :‬أحدكم" علم أن الذين حذّر من‬
‫إيذائهم وسبّهمم غير الذين كانوا معه عند ذكر الحديث‪ ،‬وإال لزم اتحاد‬
‫المخاطب والمتكلّم عنه‪ ،‬وهذا كالم ركيك ال يصدر من أفصح خلق هللا‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)366/3‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب تحريم سبّ الصحابة‬
‫رضي هللا عنهم‪ ،‬والبخاري‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب قول‬
‫النبي‪" :‬لو كنت متخذًا خليالً"‪.‬‬
‫ويبيّن ذلك سبب الحديث وهو أن خالد بن الوليد سبّ عبد الرحمن بن‬
‫عوف‪ ،‬فمعنى الحديث أن خالدًا أو غيره من الذين ليس لهم تلك السابقية‬
‫في الفضل بينهم وبين من كان من أهلها كعبد الرحمن بن عوف هذا‬
‫الفرق العظيم وهو أن ُم َّد أحد هؤالء أفضل عند هللا من أن يتصدّق‬
‫اآلخرون بمثل جبل أحد ذهبًا‪ .‬و َمن ّ‬
‫ظن أن هذا لعموم الصحابة فقد‬
‫ضا ابن حبان في‬
‫جهل الحقيقة وخبط خبط عشواء‪ .‬وروى الحديث أي ً‬
‫صحيحه وغيره (‪.)1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فيعلم من هذا أنه لم يكن مراد النبي بقوله‪" :‬أصحابي" جميع أصحابه‬
‫ضا منهم وإنما مراده َمن كان مثل عبد الرحمن بن‬ ‫ألنه كان يخاطب بع ً‬
‫األولين من المهاجرين‬
‫ي بن أبي طالب من السابقين ّ‬ ‫عوف وعل ّ‬
‫األولين من األنصار وهؤالء ال يدخل فيهم خالد بن الوليد‬
‫والسابقين ّ‬
‫الذي س ّماه النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬سيف هللا" وال معاوية بن أبي‬
‫سفيان‪.‬‬
‫إن الذي لم يطبّق هذا الحديث هو معاوية فقد ثبت وص ّح عنه أنه‬ ‫ثم ّ‬
‫ي‪ ،‬فقد روى مسلم في صحيحه (‪ )2‬ما نصه‪" :‬عن‬ ‫كان يأمر بسبّ عل ّ‬
‫عامر بن سعد بن أبي وقاص‪ ،‬عن أبيه قال‪ :‬أمر معاوية بن أبي سفيان‬
‫ّ‬
‫قالهن‬ ‫سعدًا فقال‪ :‬ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟ فقال‪ :‬أ ّما ما ذكرت ثالثًا‬
‫ّ‬
‫منهن‬ ‫سبَّهُ أل َ ْن تكونَ لي واحدة ً‬ ‫له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ْ‬
‫فلن أ ُ‬
‫مر النَّعَ ِم سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول له‬ ‫ي من ُح ِ‬
‫أحبُّ إل َّ‬
‫وقد خلَّفه في بعض مغازيه فقال له علي‪ :‬يا رسول هللا خلّفتني مع‬
‫النساء والصبيان؟ فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أما ترضى‬
‫أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إال أنه ال نبوة‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ ،‬انظر اإلحسان‬
‫(‪ ،)188/9‬ورواه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب السنة‪ :‬باب في النهي‬
‫عن سب أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والترمذي في‬
‫سننه‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب (‪ ،)59‬والحاكم في المستدرك‬
‫(‪.)487/2‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب في فضائل علي بن‬
‫أبي طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫"ألعطين الراية رجالً يحبّ هللا‬
‫ّ‬ ‫بعدي"‪ .‬وسمعته يقول يوم خيبر‪:‬‬
‫ورسولَهُ ويحبّه هللا ورسولُهُ"‪ ،‬قال‪ :‬فتطاولنا لها فقال‪" :‬ادعوا لي عليًّا"‬
‫أر َم َد فبصقَ في عينه ودفع الراية إليه‪ ،‬ففتح هللا عليه‪ .‬ولما‬ ‫فأُتي به ْ‬
‫نزلت هذه اآلية‪{ :‬فَقُ ْل ت َ َعالَوا نَ ْد ُ‬
‫ع أبْنا َءنا وأبْنا َء ُكم} [سورة ءال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عمران‪ ]61/‬دعا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا‬
‫ضا النسائي (‪.)1‬‬ ‫وحسينًا فقال‪" :‬الله ّم هؤالء أهلي" اهـ‪ ،‬ورواه أي ً‬
‫ضا بلفظ (‪" :)2‬قدم معاوية في بعض حجاته فدخل‬ ‫ورواه ابن ماجه أي ً‬
‫عليه سعد فذكروا عليًّا فنال منه فغضب سعد وقال‪ :‬تقول هذا لرجل‬
‫ي‬‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬من كنتُ مواله فعل ّ‬
‫مواله" وسمعته يقول‪" :‬أنت مني بمنزلة هارون من موسى إال أنه ال‬
‫نبي بعدي"‪ ،‬وسمعته يقول‪" :‬ألعطين الراية اليوم رجالً يحب هللا‬
‫ورسوله"‪.‬‬
‫فالذي يسبّ عليًّا ويبغضه وال يحبّه يكون مرتكبًا كبيرة وأية كبيرة‬
‫فقد روى النسائي (‪ )3‬والحاكم (‪ )4‬حديث‪َ " :‬م ْن سبّ عليًّا فقد سبّني"‬
‫(‪ ،)5‬ورواه مسلم (‪ )6‬والترمذي (‪)7‬‬
‫__________‬
‫خصائص اإلمام علي (ص‪ 23/‬و‪.)58‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ :‬المقدمة‪ :‬باب فضل علي بن أبي طالب رضي هللا‬ ‫(‪)2‬‬
‫عنه‪.‬‬
‫خصائص اإلمام علي (ص‪.)56/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المستدرك (‪.)121/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫معناه كأنه سبني كأنه ءاذاني‪ ،‬إلى هذا الح ّد الرسول عليه الصالة‬ ‫(‪)5‬‬
‫عظم أمر علي رضي هللا عنه‪.‬‬‫والسالم ّ‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب الدليل على أن حبّ األنصار‬ ‫(‪)6‬‬
‫وعلي رضي هللا عنهم من اإليمان وعالماته‪ ،‬وبغضهم من‬
‫عالمات النفاق‪.‬‬
‫جامع الترمذي‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬مناقب علي بن أبي طالب رضي‬ ‫(‪)7‬‬
‫هللا عنه‪.‬‬
‫والنسائي (‪ )1‬وأبو نعيم في الحلية (‪ )2‬وأحمد (‪ )3‬والخطيب البغدادي‬
‫(‪ )4‬وءاخرون أن عليًا رضي هللا عنه قال‪" :‬والذي فلق الحبة وبرأ‬
‫ي أن ال يحبني إال مؤمن وال يبغضني‬ ‫النسمة‪ ،‬إنه لعهد النبي األمي إل ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫إال منافق" اهـ‪ .‬وعن أم سلمة رفعته (‪" :)5‬ال يحب عليًّا منافق وال‬
‫يبغضه مؤمن"‪.‬‬
‫وكذلك كان الحال في عهد خلفاء بني أمية بعد معاوية من االمر‬
‫ي إذا استثني التابعي الجليل عمر بن عبد العزيز‪ ،‬فإنه هو الذي‬ ‫بسبّ عل ّ‬
‫سبّ على المنابر كذا في تاريخ‬‫ي بعد أن كان يُ َ‬
‫منع سبّ سيدنا عل ّ‬
‫الخلفاء (‪ )6‬للسيوطي وفي كتاب مناقب عمر بن عبد العزيز البن‬
‫الجوزي‪.‬‬

‫وأ ّما الذي يقول‪ :‬إن الذين قاتلوا عليًّا بغاة ٌ أو يقول في مقاتلي عل ّ‬
‫ي‬
‫من أهل صفّين دعاة إلى النار أو إنهم عصوا‪ ،‬فال يع ّد واقعًا في‬
‫المحظور الذي ينهى عنه النبي بقوله‪" :‬ال تسبّوا أصحابي" فإن النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم هو الذي س ّمى َمن قاتل عليًّا في وقعة صفين بغاة‬
‫وهو الذي قال فيهم دُعاة إلى النار‪ ،‬فليعلم ذلك‪.‬‬

‫__________________‬
‫سنن النسائي‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب عالمة المنافق‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫حلية األولياء وطبقات األصفياء (‪.)185/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مسند أحمد (‪.)292/6‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تاريخ بغداد (‪.)426/14‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫انظر جمع الفوائد وأعذب الموارد (‪.)517/2‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫تاريخ الخلفاء (ص‪.)243/‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وأما حديث "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا" فهو ضعيف (‪ )1‬وال يُعارض‬
‫حديث عمار المتواتر بمثل هذا‪ ،‬ومعناه‪ :‬أمسكوا ع ّما ال يجوز ذكرهم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫به‪ ،‬ولو لم يكن كذلك لما قال ع ّمار بن ياسر فيهم تلك المقالة التي‬
‫رواها البيهقي وابن أبي شيبة والتي سبق ذكرها وفيها أنه قال في أهل‬
‫الشام‪" :‬فسقوا أو ظلموا" يعني الذين قاتلوا عليًّا‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس في قول ع ّمار بن ياسر في أهل الشام تعارض مع‬
‫الحديث الذي رواه الحاكم "فال تسبوا أهل الشام وسبّوا ظلمتهم ّ‬
‫فإن فيهم‬
‫األبدال" (‪.)2‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن مراد ع ّمار بن ياسر ليس جميع أهل الشام بل مراده‬
‫معاوية وجيشه‪ ،‬وهم ليس فيهم من هو بهذه الصفة‪ ،‬على ّ‬
‫أن هذا‬
‫عا‪.‬‬ ‫الحديث لم يصح مرفو ً‬
‫فإن قيل‪ :‬أليس اتفق المحدثون على ّ‬
‫أن الصحابة عدول‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن المحدّثين قالوا بعدالة الصحابة في الرواية ّ‬
‫ألن الواحد‬
‫منهم ال يكذب على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ال على معنى أنهم‬
‫كلهم أتقياء‬
‫____________________________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير (‪ )96/2‬و(‪ ،)244/10‬وقال المناوي في فيض‬
‫القدير (‪ :)348/1‬قال العراقي في سنده‪ :‬ضعيف‪ ،‬انظر تخريج‬
‫اإلحياء (‪ ،)117/4‬وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (‪-202/7‬‬
‫‪" :)203‬وفيه يزيد بن ربيعة وهو ضعيف"‪ ،‬وقال عن رواية‬
‫أخرى للطبراني‪" :‬وفيه مسهر بن عبد الملك‪ ،‬وثقه ابن حبان‬
‫وغيره وفيه خالف‪ ،‬وبقية رجاله رجال الصحيح"‪ ،‬وقال ابن‬
‫رجل‪" :‬روي من وجوه في أسانيدها كلها مقال"‪ ،‬وأورده ابن‬
‫عدي في الكامل (‪ )6/2172/6‬وأعلّه بمحمد بن الفضل بن‬
‫عطية وقال‪" :‬وعامة حديثه ال يتابعه الثقات عليه" اهـ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الحاكم في المستدرك (‪.)553/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صالحون‪ ،‬فقد ص ّح في الحديث الذي رواه أحمد (‪ )1‬وابن حبان (‪)2‬‬


‫صفة لما مات فوجدوا في‬ ‫أن الرسول قال في رجل من أهل ال ُّ‬‫وغيرهما ّ‬
‫شملته دينارين فذكروا ذلك للني صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬كيّتان"‬
‫ْ‬
‫وفضل أهل الصفة معروف‪ ،‬فهذا إلخفائه دينارين عن الناس وإظهار‬
‫الفاقة قال الرسول فيه ما قال‪ ،‬ومع ذلك فله فضل باعتبار أنه من أهل‬
‫الصفة‪.‬‬
‫ولم يقل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ال يقع أح ٌد من أصحابي في‬
‫ذنب وال يعذب أح ٌد منهم في قبره‪ ،‬بل جاء في الحديث الصحيح ما يد ُّل‬
‫وغيره أنه قال في خادم له‬
‫ُ‬ ‫على خالف هذا‪ ،‬فقد روى البخاري (‪)3‬‬
‫ي في بعض غزواته‪" :‬إنه في النار"‪ ،‬وكان‬ ‫كان موكالً إليه ثَقَ ُل (‪ )4‬النب ّ‬
‫قد غ ّل شملة أخذها من الغنيمة ثم أصابه سهم فقتله‪ .‬وكان فيهم من‬
‫شرب الخمر مرات عديدة ث ّم أقيم عليه الح ّد كل مرة‪ ،‬وكان فيهم َمن‬
‫أقيم عليه ح ُّد الزنى‪.‬‬
‫وهذا المحدود في شرب الخمر روى حديثه البخاري (‪ ،)5‬حتى لعنه‬
‫بعض الصحابة من كثرة ما يؤتى به ليُقام عليه الح ُّد فقال الرسول‪" :‬ال‬
‫تلعنوه"‪ ،‬وهناك غير هذا مما ص ّح من الحديث في هذا المعنى‪ ،‬فكيف‬
‫يقال مع كل هذا إن معنى قول بعض َمن ألّف في المصطلح "الصحابة‬
‫العدول" إنهم يعنون العدالة المطلقة‪ ،‬وهذا يؤدي إلى إبطال تلك‬
‫األحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫_______________________‬
‫مسند أحمد (‪.)457/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب الوعيد لمانع الزكاة‪ ،‬انظر‬ ‫(‪)2‬‬
‫اإلحسان (‪.)109/5‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجهاد‪ :‬باب القليل من الغلول‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الثقل بفتحتين متاع المسافر وحشمه‪ ،‬مختار الصحاب (ص‪.)36/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الحدود‪ :‬باب ما يكره في لعن شارب‬ ‫(‪)5‬‬
‫الخمرة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقد روى البخاري (‪ )1‬ومسلم (‪ )2‬وأبو داود (‪ )3‬والترمذي (‪)4‬‬


‫"مر رسول هللا على قبرين فقال‪" :‬إنهما‬
‫والنسائي (‪ )5‬عن ابن عباس‪َّ :‬‬
‫ليعذبان وما يعذبان في كبير إثم"‪ ،‬قال‪" :‬بلى أما أحدُهما فكان يمشي‬
‫النميمة وأما اآلخر فكان ال يستتر من البول"‪ ،‬ثم دعا بعسيب رطب‬
‫فشقّه اثنين فغرس على هذا واحدًا وعلى هذا واحدًا ثم قال‪" :‬لعلّه يخفف‬
‫عنهما ما لم ييبسا"‪ ،‬وصاحبا هذين القبرين كانا مسلمين يعلم ذلك من‬
‫بعض روايات الحديث‪.‬‬
‫قال ابن حجر العسقالني بعدما ذكر رواية البخاري لهذا الحديث ما‬
‫نصه (‪" :)6‬وأما حديث الباب فالظاهر من مجموع طرقه أنهما كانا‬
‫"مر بقبرين جديدين" فانتفى كونهما‬‫مسلمين ففي رواية ابن ماجه (‪ّ :)7‬‬
‫في الجاهلية‪ ،‬وفي حديث أبي أمامة عند أحمد (‪ )8‬أنه صلى هللا عليه‬
‫مر بالبقيع‪ :‬فقال‪" :‬من دفنتم ههنا"؟ فهذا يدل على أنهما كانا‬
‫وسلم َّ‬
‫مسلمين‪ ،‬ألن البقيع مقبرة المسلمين والخطاب للمسلمين مع جريان‬
‫ويقوي كونهما كانا مسلمين‬
‫العادة بأن كل فريق يتواله َمن هو منهم‪ّ ،‬‬
‫____________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب عذاب القبر في الغيبة‬ ‫(‪)1‬‬
‫والبول‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب الدليل على نجاسة البول‬ ‫(‪)2‬‬
‫ووجوب االستبراء منه‪.‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب االستبراء من البول‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫جامع الترمذي‪ :‬كتاب أبواب الطهارة‪ :‬باب ما جاء في التشديد في‬ ‫(‪)4‬‬
‫البول‪.‬‬
‫ّ‬
‫التنزه عن البول‪.‬‬ ‫سنن النسائي‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب‬ ‫(‪)5‬‬
‫فتح الباري (‪.)321/1‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫أخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب الطهارة وسننها‪ :‬باب التشديد‬ ‫(‪)7‬‬
‫في البول‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )8‬أخرجه أحمد في مسنده (‪.)266/5‬‬


‫رواية أبي بكرة عند أحمد (‪ )1‬والطبراني بإسناد صحيح‪" :‬يعذّبان وما‬
‫يعذّبان في كبير"‪ ،‬و‪" :‬بلى وما يعذّبان إال في الغيبة والبول" فهذا‬
‫عذّب على ترك أحكام‬ ‫الحصر ينفي كونهما كانا كافرين ألن الكافر وإن ُ‬
‫اإلسالم فإنه يعذّب مع ذلك على الكفر بال خالف" اهـ‪ ،‬ولو كانا كافرين‬
‫لما قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬لعلّه يخفف عنهما"‪.‬‬
‫وروى البخاري في صحيحه (‪ )2‬عن أبي وائل قال‪ :‬قال عبد هللا‪:‬‬
‫ّ‬
‫رفعن‬ ‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أنا فَ َر ُ‬
‫ط ُكم (‪ )3‬على الحوض ليُ‬
‫ي رجا ٌل منكم حتى إذا أهويت ألناولّ ُه ُم ْ‬
‫اخت ُ ِلجوا دوني (‪ ،)4‬فأقول‪ :‬أي‬ ‫إل ّ‬
‫ربّ أصحابي‪ ،‬يقول‪ :‬ال تدري ما أحدثوا بعدك"‪.‬‬
‫قال عصريّنا الشيخ عبد هللا الغماري (‪ )5‬ردًّا على َمن قال إن هذا‬
‫الحديث من المتشابه الذي ال يعلم معناه ما نصه‪" :‬ث ّم إني استغربت منك‬
‫ع ّد الحديث من المتشابه الذي ال يعلم معناه‪ ،‬مع أننا نجزم بأنه في‬
‫الحق وخرج عليه وفعل األفاعيل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫معاوية وأصحابه م ّمن حارب اإلمام‬
‫ولذلك كان الشافعي يقول‪ :‬ال ألوم أستاذنا مال ًكا على شئ إال على ذكره‬
‫حديث الحوض في الموطإ وهذه من َرهَنات األئمة األكابر رضي هللا‬
‫فإن ما حدّث به رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ال يُالم أح ٌد على‬ ‫عنهم َّ‬
‫ض ِييعه‪ ،‬والمقصود أن الشافعي فهم ّ‬
‫أن‬ ‫روايته بل يُالم على تركه وت َ ْ‬
‫الحديث في معاوية‬
‫_______________________‬
‫ضا أبو داود الطيالسي‬
‫(‪ )1‬أخرجه أحمد في مسنده (‪ ،)39/5‬ورواه أي ً‬
‫في مسنده (ص‪.)117/‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب ما جاء في قوله تعالى‪:‬‬
‫صة} [سورة‬ ‫{واتَّقوا فِتنةً ال ت ُ ِ‬
‫صيبَ َّن الذينَ ظلَموا من ُكم خا ّ‬
‫األنفال‪ ]25/‬وما كان النبي يحذر من الفتن‪.‬‬
‫(‪ )3‬أي متقدمكم إليه‪ ،‬النهاية في غريب الحديث (‪ )434/3‬أي‬
‫سابقكم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )4‬معناه أُبعدوا عني‪ ،‬انتهى المؤلف‪.‬‬


‫(‪ )5‬نهاية اآلمال في صحة شرح حديث عرض األعمال (ص‪.)7/‬‬
‫وأصحابه ال في المرتدين" انتهى‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا الحديث صحيح وهو في المرتدين وليس في أهل صفين‪،‬‬
‫أما الخوارج فإنه ينطبق عليهم‪.‬‬
‫وأما حديث "ستكون ألصحابي زلة يغفرها هللا لهم" فهذا حديث غير‬
‫ثابت (‪ )1‬وال يحتج به لالدّعاء بأن معاوية و َمن معه كانوا غير ءاثمين‬
‫بقتالهم‪ ،‬ألنه لو كان ثابتًا ويدخل فيه معاوية لد ّل على أنه عصلى ألنه‬
‫حينئذ يكون قوله‪" :‬يغفرها هللا لهم" دلي ٌل على أنه أذنب‪ ،‬فاالحتجاج بهذا‬
‫الحديث لمعاوية يفسد القول بأنه وجماعته مأجورون‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬كيف يص ُّح أن يقال في معاوية إنه بغى هو وجماعته‪ ،‬وقد‬
‫ص ّح أنه من كتبة الوحي؟ فالجواب‪ :‬أن ذلك ال يقتضي أن يكون تقيًّا‬
‫اطالع له على ما ص ّح من الحديث وما‬ ‫صال ًحا‪ ،‬وهذا ال يقوله إال َمن ال ّ‬
‫قال علماء السيرة فهاك ما قال الحافظ العراقي في ألفيّته التي ألّفها في‬
‫السيرة في باب ذكر ُكتَّا ِب ِه صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫وارت َ َّد ك ٌّل منه ُم وا ْنقَلبوا‬
‫وذكروا ثالثة قد كتبوا *** ْ‬
‫وءاخر أ ُ ْب ِه َم لم يس َّم لي‬
‫ٌ‬ ‫ابن َخ َ‬
‫ط ِل ***‬ ‫س ْرحٍ م َع ِ‬ ‫ُ‬
‫ابن أبي َ‬
‫ولم يعُ ْد منهم إلى الدين سوى *** ابن أبي َ‬
‫س ْرحٍ وباقيهم غوى‬
‫يصرح في أن ثالثة م ّمن كتبوا لرسول هللا‬
‫ّ‬ ‫فهذا الحافظ العراقي‬
‫صلى هللا عليه وسلم ارتدّوا‪ ،‬اثنان منهم ماتا على الكفر وواح ٌد رجع‬
‫إلى اإلسالم فالذي رجع إلى اإلسالم هو ابن أبي سرح واللذان ماتا‬
‫على الكفر أحدهما ابن خطل واآلخر لم يس ّم ولكن ذكر قصته أنس بن‬
‫مالك روى ذلك مسلم وابن حبان‪.‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن عدي في الكامل (‪.)394/6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪)2‬‬
‫ففي صحيح ابن حبان (‪ )1‬عن أنس قال‪" :‬كان رجل يكتب للنبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم ث ّم ارت ّد عن اإلسالم فلحق بالمشركين‪ ،‬ثم مات فبلغ‬
‫ذلك النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬إن األرض لم تقبله"‪ ،‬قال‪ :‬فقال‬
‫أبو طلحة‪ :‬فأتيت تلك األرض التي مات فيها وقد علمت أن الذي قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كما قال فوجدته منبوذًا‪ ،‬فقلت‪ :‬ما شأن‬
‫هذا؟ فقالوا‪ :‬دفناه فلم تقبله األرض" اهـ‪ ،‬وذكر مثل ذلك ابن سيّد الناس‬
‫في كتابه عيون األثر (‪ )2‬باب كتّابه صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وروى مسلم في صحيحه (‪ )3‬عن أنس بن مالك قال‪" :‬كان منّا رج ٌل‬
‫من بني النجار قد قرأ البقرة وءال عمران‪ ،‬وكان يكتب لرسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فرفعوه قالوا‪ :‬هذا كان يكتب لمحمد فأُعجبوا به‪ ،‬فما لبث أن قصم هللا‬
‫عنقه فيهم‪ ،‬فحفروا له فواروه فأصبحت األرض قد نبذته على وجههها‪،‬‬
‫ثم عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت األرض قد نبذته على وجهها‪ ،‬ثم‬
‫عادوا فحفروا له فواروه فأصبحت األرض قد نبذته على وجهها‪،‬‬
‫فتركوه منبوذًا" اهـ‪.‬‬
‫فإن كان الشخص ال يكون معصو ًما من الكفر لمجرد أنه كان من‬
‫َكت َ َب ِة الوحي‪ ،‬فكيف يكون معصو ًما مما هو دون الكفر‪.‬‬
‫ي‪ ،‬وهو أحد‬‫فقد ثبت أن معاوية كما سبق وذكرنا كان يأمر بسبّ عل ّ‬
‫األولين من المهاجرين واألنصار وأحد العشرة المب ّ‬
‫شرين‬ ‫السابقين ّ‬
‫"سباب المسلم فسوق‬
‫ُ‬ ‫بالجنة‪ ،‬وقد قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫وقتاله كفر" (‪.)4‬‬
‫________________________‬
‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان‪ ،‬كتاب الرقائق‪ ،‬باب قراءة القرءان‪ ،‬انظر‬
‫اإلحسان (‪.)62/2‬‬
‫(‪ )2‬عيون األثر (‪ 395/2‬و‪.)396‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬صحيح مسلم‪ّ :‬أول كتاب صفات المنافقين وأحكامهم‪.‬‬


‫(‪ )4‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب بيان قول النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"‪.‬‬
‫ي‪َ " :‬م ْن سبَّ عليًّا فقد سبّني"‪ ،‬الحديث رواه أحمد‬ ‫وقال في ّ‬
‫حق عل ّ‬
‫(‪ )1‬والحاكم وغيرهما (‪.)2‬‬
‫يظن أن كل فرد من أفراد الصحابة تقي ولي كأنه‬ ‫ّ‬ ‫والحاصل ّ‬
‫أن الذي‬
‫ليس عنده خبر بأحوال َمن صحب رسول هللا‪ ،‬وليس له إلمام بالحديث‬
‫لك ب ِه‬
‫ليس َ‬
‫ف ما َ‬ ‫خيرا له‪ ،‬وقد قال هللا‪{ :‬وال ت َ ْق ُ‬
‫فلو سكت عن ذلك كان ً‬
‫عل ٌم} [سورة اإلسراء‪ .]36/‬وليس هذا من حبّ الصحابة الذي أمرنا‬
‫بحبّهم ألنه ليس معنى ذلك التسوية بينهم‪ ،‬فقد صح عنه صلى هللا عليه‬
‫وسلم أنه قال‪" :‬ما أظن فالنًا وفالنًا يعرفان من ديننا شيئًا" رواه‬
‫البخاري (‪.)3‬‬
‫فائدة مهمة‪ :‬قال الحافظ أحمد الغماري في كتابه "جؤنة العطار" (‪)4‬‬
‫ما نصه‪" :‬نقل الذهبي في (التاريخ) (‪ )5‬عن اإلمام مالك أنه قال‪" :‬إن‬
‫سنة‪ ،‬وكان يخرج إلى مصاله ُجعل عليه‬ ‫معاوية نتف الشيب كذا وكذا َ‬
‫وذلك من الكبر" اهـ‪ .‬وهذا يُكذّب ما نُقل عنه من قوله‪ :‬غبار حافر‬
‫فرس معاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وربما نقل بعضهم هذا‬
‫عن ابن المبارك وكله كذب‪ ،‬وإذا وصف مالك معاوية بالكبر وهو يعلم‬
‫الحديث الصحيح‪" :‬ال يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل‬
‫من كبر" المخرج في صحيح مسلم (‪ )6‬فال يجوز أن يقول ذلك في‬
‫عمر بن عبد العزيز" انتهة كالم الغماري‪.‬‬
‫وبعض الناس إذا رأوا هذا البيان واإليضاح الذي أوردناه والذي هو‬
‫الموافق للحق يقولون‪ :‬هذا الكالم ال ينبغي إطالع العامة عليه‪ ،‬هذا‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬مسند أحمد (‪.)323/6‬‬
‫(‪ )2‬المستدرك (‪ ،)121/3‬وخصائص اإلمام علي (ص‪.)56/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما يجوز من الظن‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬


‫جؤنة العطار (ص‪.)50/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أورده بنحوه في سير األعالم (‪.)155/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب تحريم الكبر‬ ‫(‪)6‬‬
‫وبيانه بلفظ‪" :‬مثقال ذرة من كبر"‪.‬‬
‫للخصوص فقط‪ .‬يقال لهم‪ :‬المحدّثون فيما مضى ما كانوا حين يقرءون‬
‫كتب الحديث بما فيها حديث‪" :‬ويح ع ّمار" يخصصون الكبار والخواص‬
‫جهرا ويُسمع الكبار‬‫ً‬ ‫باإلسماع دون الصغار‪ ،‬بل كان المحدّث يقرأ‬
‫والصغار‪ ،‬وقد كان من عادة أهل الحديث في الماضي إحضار الصغار‬
‫مجالسهم مع الكبار‪ ،‬حتى إنهم كانوا يحضرون أبناء الخمس سنوات‪.‬‬
‫دونت في كتب الحديث لتدفن بل لتعلَّم للكبير‬‫فهذه األحاديث ما ّ‬
‫والصغير‪ ،‬فأي عيب في معرفة الحق للصغير والكبير؟‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬ادعى بعض الجهلة أننا نسب معاوية والصحابة وهذا غير‬
‫صحيح إنما األمر أننا نبين حقيقة ما جرى بين علي رضي هللا عنه‬
‫ومعاوية وذلك بإيراد األدلة واألحاديث‪ ،‬فكيف بعد هذا يرموننا بأننا‬
‫نشتم معاوية وتغافلوا عن أمر وهو أن معاوية هو الذي كان يأمر بسب‬
‫علي بن أبي طالب رضي هللا عنه الخليفة الراشد‪ ،‬وابن عم رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وزوج ابنته فاطمة الزهراء رضي هللا عنها‪،‬‬
‫وأحد العشرة المبشرين بالجنة‪ ،‬ورابع الخلفاء الراشدين‪ ،‬وأحد السابقين‬
‫األولين‪ ،‬وفضائله كثيرة ومناقبه شهيرة‪ ،‬ألم يكن معاوية يأمر بسب‬
‫علي على المنابر وسرت هذه البدعة القبيحة مدة بعده إلى أن جاء‬
‫الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي هللا عنه فأبطلها‪ ،‬ألم يأمر معاوية‬
‫سعد بن أبي وقاص رضي هللا عنه بسب علي‪ ،‬سبحان هللا الجهل يُعمي‬
‫ويُصم‪.‬‬
‫خاتمة‪ :‬قال الحافظ البيهقي ما نصه (‪" :)1‬وفي كل هذا داللة على أن‬
‫الشافعي رحمه هللا كان يعتقد في علي رضي هللا عنه أنه كان محقًّا في‬
‫قتال من خرج عليه‪ ،‬وأن معاوية ومن قاتله لم يخرجوا بالبغي من‬
‫اإليمان ألن هللا تعالى سمى الطائفتين جميعًا مؤمنين‪ ،‬واآلية عامة‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وجرى علي رضي هللا عنه في قتالهم مجرى قتال اإلمام العادل من‬
‫خرج من طاعته من المؤمنين‪ ،‬وسار بسيرته في قتالهم‪ ،‬وقصد به‬
‫_______________________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي (‪.)447/1‬‬

‫حملهم على الرجوع إلى الطاعة كما قال هللا تعالى‪{ :‬فقَا ِتلوا التي تبْغي‬
‫أمر هللا} [سورة الحجرات‪ "]9/‬اهـ‪.‬‬
‫ئ إلى ِ‬‫حتى ت َ ِف َ‬
‫وهذا صريح في أن الحافظ البيهقي ما رفع عن معاوية في قتاله لعلي‬
‫ما سوى الكفر‪ ،‬نفى عنه الكفر فقط وأثبت ما دونه من المعاصي‪.‬‬
‫ضا ما نصه (‪" :)1‬ثم وال بد من أن يُعتقد‬‫ثم قال الحافظ البيهقي أي ً‬
‫كونه محقًّا في قتالهم‪ ،‬وإذا كان هو محقًّا في قتالهم كان خصمه مخطئًا‬
‫في قتاله والخروج عليه‪ ،‬غير أنه لم يخرج في بغيه من اإلسالم كما‬
‫حكينا عن الشافعي رحمة هللا عليه في متابعته عليًّا في سيرته في قتالهم‬
‫وتسميته الطائفتين جميعًا مسلمين" اهـ‪.‬‬
‫بعد هذا يقال لهؤالء الذين ينتسبون إلى اإلمامين األشعري والشافعي‬
‫ثم يقولون في معاوية إنه اجتهد وله أجر واحد مقابل أجرين لعلي‪ :‬أنتم‬
‫مخالفون إلمامكم في العقيدة أبي الحسن األشعري وإمامكم في الفقه‬
‫اإلمام الشافعي‪ ،‬ففيقوا من سباتكم العميق وتوغلكم في الغفلة عن الحق‬
‫إلى الصواب‪ ،‬هذه نصيحة المسلم للمسلم‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬مناقب الشافعي (‪.)449/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن حديث "ومن مات وليس في عنقه‬
‫بيعة مات ميتة جاهلية" هو فيمن يترك‬
‫اإلمام بالخروج عن طاعته‬
‫إن الذي يكون في زمن ليس فيه خليفة كهذا‬ ‫يقول حزب التحرير َّ‬
‫الزمن إذا مات تكون ميتته ميتة جاهلية‪ ،‬مع إيهامهم أن ذلك لمن لم‬
‫يتكلم معهم في أمر الخليفة كما هم يتكلمون بألسنتهم‪.‬‬
‫يقال لهم‪ :‬هذا الحديث رواه مسلم (‪ )1‬عن ابن عمر‪ ،‬عن نبي هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم بلفظ‪َ " :‬من خلع يدًا من طاعة لقي هللا يوم القيامة ال‬
‫حجة له‪ ،‬و َمن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"‪ .‬وهم‬
‫يذكرون منه للناس الجملة األخيرة يكررون‪" :‬من مات وليس في عنقه‬
‫بيعة مات ميتة جاهلية"‪.‬‬
‫ومعنى الحديث ليس كما يزعمون إنما معناه ّ‬
‫أن الذي يترك اإلمام‬
‫ي إذا مات وهو على تلك‬ ‫بالخروج عن طاعته كالذين خرجوا على عل ّ‬
‫الحال تكون ميتته ميتة جاهلية (‪ ،)2‬كما يد ّل على ذلك حديث مسلم (‪)3‬‬
‫عن ابن عباس‪ ،‬عن النبي‪َ " :‬من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه‪ ،‬فإنه‬
‫شبرا فمات عليه إال مات ميتة‬
‫ليس أحد من الناس خرج من السلطان ً‬
‫جاهلية"‪.‬‬
‫ي‪" :‬فمات عليه" فإنه صري ٌح في ّ‬
‫أن‬ ‫فلتنظر التحريرية إلى قول النب ّ‬
‫الذي يموت ميتة جاهلية وهو الذي يأتيه الموت وهو متمرد على‬
‫]‪[Type text‬‬

‫___________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب اإلمارة‪ :‬باب وجوب مالزمة‬
‫جماعة المسلمين عند ظهور الفتن‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫(‪ )2‬أي كميتة الجاهلية وليس المعنى أنه كفر‪.‬‬
‫(‪ )3‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫السلطان أي واإلمام قائم‪ ،‬ويد ّل عليه أي ً‬
‫ضا حديث أبي هريرة أنه عليه‬
‫الصالة والسالم قال‪َ " :‬من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات‬
‫ميتة جاهلية" (‪.)1‬‬
‫ُ‬
‫الحديث الحديث‪ ،‬فاألحاديث الثالثة‪ :‬حديث عبد هللا‬ ‫سر به‬‫وخير ما يف ّ‬
‫بن عمر‪ ،‬وحديث عبد هللا بن عباس‪ ،‬وحديث أبي هريرة ك ٌّل يعني أن‬
‫الذي يموت متمردًا عن طاعة الخليفة مع قيام الخليفة هو الذي يموت‬
‫ميتة جاهلية‪ ،‬ليس الذي يموت ميتة جاهلية المسلم الذي يموت في زمن‬
‫ليس فيه جماعة وال إمام أي جماعة المسلمين مع إمامهم‪ ،‬بدليل حديث‬
‫حذيفة بن اليمان الذي رواه البخاري ومسلم أن حذيفة قال‪ :‬قلت‪ :‬يا‬
‫رسول هللا فإن لم يكن لهم جماعة وال إمام‪ ،‬قال‪" :‬فاعتزل تلك الفرق‬
‫كلها ولو أن تعض على أصل شجرة (‪ )2‬حتى يدركك الموت وأنت‬
‫على ذلك" (‪.)3‬‬
‫تموهون به على‬‫فيجب التوفيق بين حديث عبد هللا بن عمر الذي أنتم ّ‬
‫الناس وبين حديث حذيفة‪ ،‬ألن كال الحديثين صحيح‪ ،‬وحديث حذيفة‬
‫أص ّح منه ألنه اتّفق على إخراجه البخاري ومسلم بما ذكرنا حيث لم‬
‫يقل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لحذيفة فأنتم في ذلك الوقت َم ْن مات‬
‫منكم قبل نصب الخليفة فميتته جاهلية‪ ،‬فمن أين لكم يا تحريريون هذا‬
‫التحريف لحديث رسول هللا؟! فارجعوا للحق‪.‬‬
‫______________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإلمارة‪ :‬باب وجوب مالزمة جماعة‬


‫المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على‬
‫الطاعة ومفارقة الجماعة‪.‬‬
‫(‪ )2‬معناه لو لم تجد مهربًا إال هذا فافعل هذا‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الفتن‪ :‬باب كيف األمر إن لم‬
‫تكن جماعة‪ ،‬وأخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب اإلمارة‪ :‬باب‬
‫وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن‪.‬‬

‫ث َّم هذا الكالم يرجع عليكم ألنكم كأنكم تقولون اآلن إذا مات أحدنا‬
‫فميتته جاهلية ال يعو ُد على المسلمين‪ ،‬ومحاولتكم تطبيق حديث عبد هللا‬
‫بن عمر على المسلمين في هذا الوقت محاولة صعبة‪ ،‬فاتقوا هللا‪ ،‬فما‬
‫ذنب المسلمين في هذا الوقت الذي ال يستطيعون فيه أن ينصبوا خليفة‬
‫سا إال ُو ْس َعها} [سورة‬ ‫وهللا تبارك وتعالى قد قال‪{ :‬ال يُ َك ِلّ ُ‬
‫ف هللاُ نف ً‬
‫البقرة‪ ]286/‬فماذا ينفعكم معاندتكم للحق؟‬
‫ثم في قولكم هذا تأثيم األمة اإلسالمية اليوم ولم تُخرجوا منها سوى‬
‫جماعتكم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫في النهي عن الغلو في الدين‬
‫ثبت النهي عن الغلو في الدين في القرءان والسنة‪ ،‬أما القرءان فقوله‬
‫تعالى‪{ :‬قُ ْل يا أه َل الكتا ِ‬
‫ب ال ت َ ْغلوا في دِينِ ُكم} [سورة المائدة‪ ،]77/‬وأما‬
‫السنة فما رواه النسائي (‪ )1‬أن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫"وإيّاكم والغلو في الدين‪ ،‬فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"‪.‬‬
‫والغلو هو الزيادة عن الحد المأمور به‪ ،‬فقد أمرنا أن نعظم األنبياء‬
‫واألولياء لكن ال يجوز أن ترفع األنبياء فوق منزلتهم كوصفهم بصفات‬
‫الربوبية‪ ،‬فقد بلغ الغلو في بعض الناس إلى أن قال‪ :‬إن الرسول يعلم‬
‫{وهو بك ِّل ش ٍئ‬
‫َ‬ ‫كل الغيب‪ ،‬وهذا كفر ألنه ر ٌّد للنصوص‪ ،‬قال هللا تعالى‪:‬‬
‫علي ٌم} [سورة الحديد‪ ]3/‬فلو كان الرسول يعلم كل شئ ما قال هللا تعالى‬
‫شئ عليم}‪.‬‬ ‫{وهو بك ِّل ٍ‬
‫َ‬ ‫عن نفسه‪:‬‬
‫ومن الغلو قول بعضهم في الرسول‪ :‬ربي خلق طه من نور‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫أما جسده صلى هللا عليه وسلم فهو خلق من نطفة أبويه لقول هللا تعالى‪:‬‬
‫ش ٌر ِمثْلُ ُكم} [سورة الكهف‪ ]110/‬وأما روحه فلم ير ْد في‬
‫{قُ ْل إنَّما أنا ْ َب َ‬
‫ذلك أنه خلق من كذا ال في القرءان وال في الحديث الصحيح‪ ،‬فليس لنا‬
‫أن نقول إنه خلق من نور ألنه قول بال علم‪ ،‬وقد نهينا عن ذلك‪ ،‬قال هللا‬
‫لك ب ِه عل ٌم} [سورة اإلسراء‪ ،]36/‬والصواب‬
‫ليس َ‬
‫ف ما َ‬ ‫تعالى‪{ :‬وال ت َ ْق ُ‬
‫(‪ )2‬في ذلك أن يقال إنه خلق من الماء إما بغير واسطة أو بواسطة بينه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وبين الماء يعلم هللا ما تلك الواسطة‪ .‬وأما حديث‪ :‬أول ما خلق هللا تعالى‬
‫نور نبيك يا جابر‪ ،‬خلقه هللا من نوره قبل األشياء‪ ،‬فهو ركيك كما قدمنا‪،‬‬
‫والركاكة في الحديث دليل الوضع أي دليل على أنه مكذوب على‬
‫الرسول‪ ،‬وأما‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه النسائي في سننه‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب التقاط الحصى‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر التفصيل في البحث المتقدم في هذا الكتاب (ص‪.)150/‬‬

‫نسبة هذا الحديث إلى مصنف عبد الرزاق فال أصل لها‪ ،‬ألن عبد‬
‫الرزاق ذكر في تفسيره أن بدء الخلق الماء‪.‬‬
‫وقد وقفت على رسالة ألّفها بعض المغاربة مخطوطة لم تطبع فيها‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم أطلعه هللا تعالى على جميع علمه‪ ،‬وهذا‬ ‫أن النب ّ‬
‫مصادمة للنصوص كقوله تعالى‪{ :‬قُل ال ْأم ِلكُ لنَفسي نَ ْفعًا وال َ‬
‫ض ًّرا إال‬
‫سني‬
‫الخير وما َم َّ‬
‫ِ‬ ‫الغيب ال ْست َ ْكث َ ْرتُ منَ‬
‫َ‬ ‫ولو ُكنتُ أعل ُم‬
‫ما شا َء هللاُ ْ‬
‫سوء} [سورة األعراف‪ ،]188/‬وقد أخبرنا رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫ال ُّ‬
‫وسلم عن الخضر أنه قال لموسى‪" :‬يا موسى ما نقص علمي وعلمك‬
‫من علم هللا إال مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر"‪ ،‬رواه‬
‫البخاري (‪.)1‬‬
‫وأما الغلو في األولياء فهو كوصفهم بأوصاف النبوة‪ ،‬وقد وقع لبعض‬
‫األولياء من بالد الحبشة من بعض مادحيه في قصيدة بلغتهم ما معناه‪:‬‬
‫ي‪ِ -‬مثْل هللا‪ .‬ومثل ذلك ما نسبه‬
‫إنه –أي ذلك الولي وهو أبو محمد الدَّا ِو ُّ‬
‫بعض المادحين للشيخ عبد القادر الجيالني رضي هللا عنه في قصيدة‬
‫مكذوبة عليه من أنه قال‪:‬‬
‫ولو أنني ألقيت سري على لظى *** ألُط ِفئ ِ‬
‫ت النيران من عظم برهاني‬
‫وهذا رد للنصوص ألن هللا تبارك وتعالى أخبرنا أن النار باقية ال‬
‫تفنى لقوله‪{ :‬خالدينَ فيها} [سورة البينة‪ ]6/‬فال يجوز على الشيخ عبد‬
‫]‪[Type text‬‬

‫القادر الجيالني أن يقول إنه يمكنه أن يطفئ النار بسره لو ألقاه عليها‪.‬‬
‫ضا من أنه قال‪:‬‬
‫ومثله ما نسب إليه في تلك القصيدة أي ً‬
‫فنادمني ربي حقيقًا وناداني‬
‫ألن معنى المنادمة المحادثة على الشراب كشرب الخمر‪ ،‬فإن الشربة‬
‫يتنادمون فيما بينهم لينشطوا على شربها‪ .‬ومن ذلك ما في كتاب‬
‫الفيوضات الربانية في مآثر الطريقة القادرية من أنه قال‪:‬‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب حديث الخضر مع‬
‫موسى عليهما السالم‪.‬‬
‫كل قطب يطوف بالبيت سبعًا *** وأنا البيت طائف بخيامي‬
‫وفي هذا الكتاب كلما يقال لها الغوثية فيها أن هللا تعالى قال لسيدنا‬
‫عبد القادر يا غوث األعظم أكل الفقراء أكلي وشربهم شربي إلى غير‬
‫ذلك من كلمات كثيرة بشعة‪ .‬والذي نعتقده أن الشيخ عبد القادر الجيالني‬
‫رضي هللا عنه بريء من مثل هذه األقوال‪ ،‬فقد كان عال ًما فقي ًها زاهدًا‪،‬‬
‫وقد نص الحافظ ابن حجر العسقالني (‪ )1‬وغيره أن الشطنوفي مؤلف‬
‫بهجة األسرار في مناقب الغوث الجليل الجيالني ذكر في البهجة‬
‫المذكورة ما ال يصح إسناده للشيخ الجيالني رضي هللا عنه‪.‬‬
‫ومن الغلو ما ت َ َع َّو َدهُ جماعة شيخ في الصومال مشهور عندهم من‬
‫سما ذي الجالل‬‫ترديدهم هذه الكلمة‪ :‬إن لشيخي تسعة وتسعين اس ًما َك ُ‬
‫في استجابة الدعاء‪ ،‬وهذه تشبيه للشيخ باهلل تعالى (‪ )2‬وهذا كان واقعًا‬
‫في تلك البالد قبل خمسين سنة‪.‬‬
‫ومن الغلو القبيح ظن بعض جهلة المتصوفة أن الشيخ من المشايخ‬
‫كالشيخ عبد القادر الجيالني وغيره من مشايخ الطريقة يُجل عن الخطإ‬
‫وهذا مخالف للحديث ولكالم الصوفية‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أما الحديث فقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ما من أحد إال يؤخذ من‬
‫قوله ويترك غير رسول هللا" رواه الحافظ الطبراني في المعجم الكبير‬
‫عا بإسناد حسن (‪.)4‬‬
‫(‪ )3‬عن ابن عباس رضي هللا عنهما مرفو ً‬
‫____________________‬
‫انظر الدرر الكامنة (‪ ،)216/4‬وطبقات القراء للجزري‬ ‫(‪)1‬‬
‫(‪ ،)585/1‬والطريقة الرفاعية ألبي الهدى الصيادي (ص‪.)16/‬‬
‫وذلك مشهور في ناحية أوغادين‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المعجم الكبير (‪ ،)339/11‬قال الهيثمي في مجمع الزوائد‬ ‫(‪)3‬‬
‫(‪" :)179/1‬ورجاله موثوقون"‪.‬‬
‫المغني عن حمل األسفار (‪.)45/1‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أما كالم الصوفية فقول الشيخ عبد القادر الجيالني رضي هللا عنه‪:‬‬
‫"إذا علم المريد من الشيخ خطئًا فلينبهه‪ ،‬فإن رجع فذاك األمر وإال‬
‫فليترك خطأه وليتبع الشرع"‪ ،‬قال ذلك في كتاب أدب المريد‪ ،‬وقال‬
‫س ِلّم للقوم أحوالهم ما‬
‫سيدنا أبو العلمين أحمد الرفاعي رضي هللا عنه‪َ " :‬‬
‫لم يخالفوا الشرع فإذا خالفوا فكن مع الشرع" اهـ‪.‬‬
‫وليحذر العاقل من هؤالء المتصوفة الذين ال يراعون الشريعة‪ ،‬ومن‬
‫عادتهم أنهم إذا عارضهم معارض فيما يخالفون فيه الشرع يقولون‪:‬‬
‫"أنتم أهل الظاهر ونحن أهل الباطن ال نتفق" فيقال لهؤالء الجهلة‪ :‬هللا‬
‫تعالى ما جعل شريعتين شريعة للمتصوفة وشريعة للمتمسكين بشرعه‬
‫بل ال يصل متصوف إال بكمال التمسك بالشريعة‪ ،‬وال يصل متصوف‬
‫إلى الوالية إال بالتمسك بشرع هللا ثم بعد الوالية يزداد تمس ًكا بالشريعة‬
‫فعندئذ يستحق العلم اللدني‪ ،‬أما من لم يتمسك بالشريعة على التمام‬
‫فحرام عليه العلم اللدني‪.‬‬
‫فإن قالوا‪ :‬أليس قال هللا تعالى‪{ :‬واتَّقوا هللاَ ويُعَ ِلّ ُم ُك ُم هللاُ} [سورة‬
‫البقرة‪ ]282/‬قيل لهم‪ :‬قوله تعالى‪{ :‬واتقوا هللا} معناه أدوا كل الفرائض‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واجتنبوا كل المحرمات فهذا الذي يُعلمه هللا العلم اللدني أما بدون ذلك‬
‫عا أن يعطيه هللا تعالى العلم اللدني‪.‬‬
‫مستحيل شر ً‬
‫وهؤالء ابتعدوا من نصوص الشريعة كل البعد قال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم (‪" :)1‬كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"‪ ،‬أي كل أمر ال‬
‫يوافق شريعتنا فهو مردود عند هللا تعالى‪ ،‬فما أبعدهم من سيرة سيد‬
‫الطائفة الصوفية الجنيد بن محمد البغدادي رضي هللا عنه فقد قال‪:‬‬
‫"الطريق إلى هللا مسدودة إال على المقتفين ءاثار رسول هللا"‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب األقضية‪ :‬باب نقض األحكام‬
‫الباطلة ورد محدثات األمور‪.‬‬

‫بيان‬
‫حكم االنتفاع بأجزاء بني ءادم‬
‫قال الفقهاء‪ :‬ال يجوز االنتفاع بأجزاء بني ءادم كشعره‪ ،‬فالمرأة ال‬
‫يجوز أن تصل شعرها بشعر ءادمي ذكر أو أنثى‪ ،‬لحديث لَعن الواصلة‬
‫والمستوصلة الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (‪ ،)1‬وكذلك غير‬
‫الشعر‪.‬‬
‫قال الشيخ زكريا األنصاري في شرحه على روض ابن المقري‬
‫ممزو ًجا مع المتن ما نصه (‪:)2‬‬
‫"(فرع‪ :‬وصل الشعر) من اآلدمي (بشعر نجس أو شعر ءادمي‬
‫حرام) مطلقًا للخبر السابق (‪ )3‬وللتغرير وللتعرض للتُّه َمة‪ ،‬وألنه في‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬سورة الحشر‪ :‬باب‪:‬‬
‫{وما ءاتا ُك ُم الرسو ُل فَ ُخذوهُ} [سورة الحشر‪ ،]7/‬وكتاب اللباس‪:‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫باب الوصل في الشعر‪ ،‬وباب الموصولة‪ ،‬ومسلم في صحيحه‪:‬‬


‫كتاب اللباس والزينة‪ :‬باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة‬
‫والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات‬
‫والمغيرات خلق هللا‪ ،‬والترمذي في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما‬
‫جاء في الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة‪ ،‬والنسائي‬
‫في سننه‪ :‬كتاب الزينة‪ :‬باب المستوصلة‪ ،‬وابن ماجه في سننه‪:‬‬
‫كتاب النكاح‪ :‬باب الواصلة والواشمة‪ ،‬والبيهقي في سننه‬
‫(‪.)426/2‬‬
‫(‪ )2‬شرح روض الطالب (‪.)173/1‬‬
‫(‪ )3‬يعني األحاديث التي تذكر أن هللا لعن الواصلة والمستوصلة‬
‫والواشمة والمستوشمة والواشرة والمستوشرة والنامصة‬
‫والمنتمصة‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫األول مستعمل للنجس العيني في بدنه كاالدهان بنجس واالمتشاط بعاج‬
‫(‪ )1‬مع رطوبة‪ ،‬وأما في الثاني ألنه يحرم االنتفاع به وبسائر أجزاء‬
‫اآلدمي لكرامته‪( ،‬وكذا شعر غيرهما)"‪.‬‬
‫ثم قال‪(" :‬و) يحرم (تجعيده) أي الشعر (ووشر األسنان) أي تحديدها‬
‫وترقيقها للتغرير وللتعرض للتُّهمة فيهما وللخبر السابق في الثاني‪،‬‬
‫(والخضاب بالسواد) لخبر‪" :‬يكون قوم يخضبون في ءاخر الزمان‬
‫بالسواد كحواصل الحمام ال يريحون رائحة الجنة" رواه أبو داود‬
‫وغيره (‪( ،)2‬وتحمير الوجه) بالحناء أو نحوه‪( ،‬وتطريف األصابع) به‬
‫مع السواد للتعرض للتُّهمة (إال بإذن زوج أو سيد) لها في جميع ما ذكر‬
‫(‪.")3‬‬
‫ثم قال‪(" :‬ويحرم) على المرأة (التنميص) فعالً أو سؤاالً لخبر‬
‫الصحيحين السابق إال بإذن زوج أو سيد (وهو األخذ من شعر الوجه‬
‫والحاجب) للحسن" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ثم قال‪" :‬وخرج بالمرأة الرجل والخنثى فيحرم عليهما الخضاب إال‬
‫لعذر كما سيأتي في باب العقيقة مع زيادة‪( ،‬وال بأس بتصفيف شعرها)‬
‫كشعر الناصية واألصداغ" انتهى كالم األنصاري‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬ما ذكره الشيخ من تحريم التجعيد ووشر األسنان والخضاب‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬يعني عاج الفيل ال عاج السمك‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الترجل‪ :‬باب ما جاء في‬
‫خضاب السواد‪.‬‬
‫(‪ )3‬يعني أن التجعيد والوشر وتحمير الوجه وتطريف األصابع يجوز‬
‫ضا بتزينها وقد أذن لها فيه‪،‬‬
‫كل بإذن الزوج أو السيد ألن لها غر ً‬
‫وخالف في التحقيق في الوصل والوشر فألحقهما بالوشم في المنع‬
‫مطلقًا‪.‬‬

‫بالسواد وتحمير الوجه وتطريف األصابع وأنه يجوز بإذن زوج أو سيد‬
‫لم يتعرض له الحنابلة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حكم الضرب على الدف‬
‫وأنه جائز‬
‫روى البخاري في صحيحه (‪ )1‬عن عائشة أنها زفّت امرأة ً إلى‬
‫رج ٍل من األنصار‪ ،‬فقال نبي هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يا عائشة ما‬
‫لهو فإن األنصار يعجبهم اللهو"‪.‬‬
‫كان معكم ٌ‬
‫قال الحافظ ابن حجر العسقالني في شرحه (‪" :)2‬في رواية شريك‪،‬‬
‫فقال‪" :‬فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدّف وتغني؟" قلت‪ :‬تقول ماذا؟‬
‫قال‪" :‬تقول‪:‬‬
‫أتيناكم أتيناكم *** فحيّانا وحيّاكم (‪)3‬‬
‫ولوال الذهب األحمر *** ما حلّت بواديكم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ولوال الحنطة السمرا *** ُء ما سمنت عذاريكم"‬


‫وروى أبو داود (‪ )4‬في سننه أن امرأة أتت النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم فقالت‪" :‬يا رسول هللا إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدّف‬
‫بنذرك"‪ ،‬قالت‪ :‬إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا –‬‫(‪ ،)5‬قال‪" :‬أَوفي ِ‬
‫مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية‪ -‬قال‪" :‬لصنم"؟ قالت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫"لوثن"؟ قالت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪" :‬أوفي بنذرك"‪.‬‬
‫___________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب النسوة الالتي يهدين المرأة‬ ‫(‪)1‬‬
‫إلى زوجها ودعائهن بالبركة‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)226/9‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وفي رواية‪ :‬فحيّونا نحيّيكم‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب األيمان والنذور‪ :‬باب ما يؤمر به من وفاء‬ ‫(‪)4‬‬
‫النذر‪.‬‬
‫أي أمامك‪ ،‬انتهى من المؤلف‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫وروى الترمذي (‪ )1‬وابن حبان (‪" :)2‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫لما رجع المدينة من بعض مغازيه جاءته جارية سوداء‪ ،‬فقالت‪ :‬يا‬
‫رسول هللا إني نذرت إن ردّك هللا سال ًما أن أضرب بين يديك بالدّف‪،‬‬
‫ت نذرت فأوفي بنذرك"‪.‬‬ ‫فقال له‪" :‬إن كن ِ‬
‫وأما َمن قال جوازه خاص بالنساء فقوله مردود‪ ،‬ألن إباحته عامة‬
‫للرجال والنساء‪ ،‬والتخصيص بالنساء ال يشهد له العرف وال الشرع‪،‬‬
‫بر‬
‫ألن أهل اليمن مشهور عندهم أن الرجال يضربون به‪ ،‬وكذلك أهل ّ‬
‫الشام الصوفية‪ ،‬وأهل الذكر دأبُهم‪.‬‬
‫قال الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي (‪ )3‬في رد ذلك ما نصه‪:‬‬
‫"الجواب (الحمد هلل) قد روى مسلم رحمه هللا في صحيحه من حديث‬
‫أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي هللا عنها في‬
‫حديثها الطويل الذي قالت فيه‪" :‬دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جواري األنصار تغنيان بما تقاولت به األنصار يوم بعاث (‪ ،)4‬قالت‪:‬‬


‫وليستا بمغنيتين‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬أبمزمار الشيطان في بيت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬يا أبا بكر‪ ،‬إن لكل قوم عيدًا‪ ،‬وهذا عيدنا"‪ ،‬وفي حديث أبي‬
‫معاوية عن هشام بهذا اإلسناد "جاريتان يلعبان بدف"‪.‬‬
‫___________‬
‫جامع الترمذي‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب في مناقب عمر بن الخطاب‬ ‫(‪)1‬‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح غريب‪.‬‬
‫صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب النذور‪ :‬باب ذكر الخبر الدال على إباحة‬ ‫(‪)2‬‬
‫قضاء الناذر نذره إذا لم يكن بمحرم عليه‪ ،‬انظر "اإلحسان"‬
‫(‪ 286/6‬و‪.)287‬‬
‫قضاء األرب في أسئلة حلب (ص‪.)201-196/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫هو من أيام األوس والخزرج بين المبعث والهجرة وكان الظفر‬ ‫(‪)4‬‬
‫لألوس‪.‬‬

‫ورواه النسائي ورسول هللا صلى هللا عليه وسلم مسجى بثوبه فكشف‬
‫عن وجهه فقال‪" :‬دعهما يا أبا بكر إنها أيام عيد"‪ ،‬هي أيام منى ورسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم يومئذ بالمدينة‪ ،‬فضرب الجاريتان بالدف عند‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو يسمع"‪.‬‬
‫وقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬دعهما يا أبا بكر" من أقوى دليل على‬
‫حل الضرب بالدف‪ ،‬ولهذا نحن نوافق من صحح حلّه مطلقًا في العرس‬
‫والختان وغيرهما‪ .‬والجمهور لم يفرقوا بين الرجال والنساء‪ ،‬وفرق‬
‫الحليمي ضعيف ألن األدلة ال تقتضيه‪.‬‬
‫أما حل ضرب النساء له فمتحقق‪ ،‬وكذا سماع الرجال كذلك‪ ،‬كما‬
‫صح في هذه األحاديث‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأما ضرب الرجال فاألصل اشتراك الذكور واإلناث في األحكام‪،‬‬


‫إال ما ورد الشرع فيه بالفرق‪ ،‬ولم يرد هنا في ذلك شئ‪ ،‬وليس ذلك مما‬
‫يختص بالنساء حتى يقال إنه يحرم على الرجال التشبيه بهن فبقي على‬
‫العموم‪.‬‬
‫وقد روى‪" :‬أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف"‪.‬‬
‫فلو صح لكان فيه حجة ألن "اضربوا" خطاب للذكور‪ ،‬لكن الحديث‬
‫ضعيف (‪.)1‬‬
‫ومذهب أحمد‪ :‬الفرق في االستحباب ال في الجواز على المشهور‬
‫عندهم" اهـ‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬ليعلم أن الجارية في اللغة‪ :‬الفتاة ُ ح ّرة كانت أو أمة‪ ،‬وما يظنه‬
‫هن طفالت توهم‬‫بعض الناس من أنه خاص باإلماء أو بالبنات الالتي ّ‬
‫فاسد وجهل باللغة‪.‬‬

‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)226/9‬‬

‫قال الغزالي في إحياء علوم الدين (‪ )1‬ما نصه‪" :‬العارض الثاني في‬
‫اآللة بأن تكون من شعائر أهل الشرب أو المخنثين وهي المزامير‬
‫واألوتار وطبل الكوبة فهذه ثالثة أنواع ممنوعة وما عدا ذلك يبقى على‬
‫أصل اإلباحة كالدّف وإن كان فيه الجالجل وكالطبل والشاهين"‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وسكت الحافظ محمد مرتضى الزبير في شرحه على اإلحياء على ذلك‪.‬‬
‫كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع البن حجر‬ ‫وفي كتاب ّ‬
‫الهيتمي (‪ ،)2‬ما نصه‪" :‬قال الشيخان –أي الرافعي والنووي رحمهما‬
‫ّف فهو فيما إذا لم يكن فيه جالجل‪ ،‬فإن كانت فيه‬
‫هللا‪ :-‬حيث أبحنا الد ّ‬
‫فاألصح حلّه أي ً‬
‫ضا" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي الفتاوى الكبرى البن حجر الهيتمي (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وقد رقص‬
‫ويقرهم على‬‫ّ‬ ‫الحبشة في المسجد وهو صلى هللا عليه وسلم ينظرهم‬
‫ذلك‪ .‬وفي الترمذي (‪ )4‬وسنن ابن ماجه (‪ )5‬عن عائشة رضي هللا‬
‫تعالى عنها أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬أعلنوا هذا النكاح‬
‫بالدف"‪ ،‬وفيه إيماء إلى جواز‬
‫ّ‬ ‫وافعلوه في المساجد واضربوا عليه‬
‫الدف في المساجد ألجل ذلك فعلى تسليمه يقاس به غيره"‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ضرب‬
‫انتهى كالم ابن حجر‪.‬‬
‫وقال في كتاب فتح الجواد بشرح اإلرشاد (‪ )6‬ما نصه‪" :‬ويبا ُح‬
‫الدف وإن كان فيه نحو جالجل‪ ،‬لرجل وامرأةٍ ولو بال سبب" اهـ‪.‬‬
‫_________________‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)502/6‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر هامش الزواجر عن اقتراف الكبائر البن حجر الهيتمي‬ ‫(‪)2‬‬
‫(‪.)81/1‬‬
‫الفتاوى الكبرى (‪.)356/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫جامع الترمذي‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب ما جاء في إعالن النكاح‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب إعالن النكاح‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫فتح الجواد بشرح اإلرشاد (‪.)406/2‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫بيان‬
‫جواز تقبيل يد الرجل الصالح‬
‫والقيام للداخل المسلم‬
‫مر مستَحبٌّ‬
‫ي الصالح أ ٌ‬
‫ي والغن ّ‬
‫اعلم أن تقبيل يد الصالح والحاكم التق ّ‬
‫وءاثار وردت عن النبي والصحابة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫يحبّه هللا‪ ،‬ويدل على ذلك أحاديث‬
‫أما الحديث فما رواه الترمذي (‪ )1‬وغيره َّ‬
‫أن رجلين من اليهود قاال‬
‫فيما بينهما‪ :‬تعا َل بنا إلى هذا النبي صلى هللا عليه وسلم لنسأله عن تسع‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ت التي أنزلها هللا على موسى‪ ،‬وكان قص ُدهما تعجيزه ألنّه أ ّم ّ‬


‫ي‪،‬‬ ‫ءايا ٍ‬
‫فل ّما بيّن لهما دُهشا وقبّال يديه ورجليه‪ .‬وهذا الحديث قال فيه الترمذي‪:‬‬
‫"حديث حسن صحيح"‪.‬‬
‫وروى أبو الشيخ وابن مردويه (‪ )2‬عن كعب بن مالك رضي هللا‬
‫ي صلى هللا عليه‬
‫تبارك وتعالى عنه قال‪" :‬ل ّما نزلت توبتي أتيت النب ّ‬
‫وسلم فقبّلت يديه وركبتيه"‪.‬‬
‫ي بن أبي طالب‬ ‫وروى البخاري (‪ )3‬في كتاب األدب المفرد َّ‬
‫أن عل َّ‬
‫رضي هللا عنه قبّل ي ّد العباس ورجليه‪ ،‬مع َّ‬
‫أن عليًّا أفضل منه درجة‬
‫لكن من أجل أنّه ع ّمه وأنه صالح قبّل له يدّه ورجليه‪.‬‬
‫كذلك عبد هللا بن عباس رضي هللا عنه وكان من صغار الصحابة‬
‫ل ّما توفي الرسول صلى هللا عليه وسلم صار يذهب إلى بعضهم ليتعلّم‬
‫يذهب‬
‫ُ‬ ‫منهم‪ ،‬وكان‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬جامع الترمذي‪ :‬كتاب االستئذان‪ :‬باب ما جاء في قبلة اليد‬
‫والرجل‪ ،‬وكتاب التفسير‪ :‬باب ومن سورة بني إسرائيل‪.‬‬
‫سير‪ :‬باب تأويل قول هللا ج ّل ثناؤه‪:‬‬‫والنسائي في الكبرى‪ :‬كتاب ال ّ‬
‫ت ب ِيّنات} [سورة اإلسراء‪.]101/‬‬ ‫{ولق ْد ءاتَيْنا موسى تِ ْس َع ءايا ٍ‬
‫(‪ )2‬الدر المنثور (‪.)314/4‬‬
‫(‪ )3‬البخاري‪ :‬األدب المفرد‪ ،‬باب تقبيل الرجل (ص‪.)328/‬‬
‫إلى زيد بن ثابت الذي كان أكثر الصحابة كتابةً للوحي‪ ،‬ل ّما خرج من‬
‫بيته ذات يوم أمسك عبد هللا بن عباس له ركاب الدابة أي المحل الذي‬
‫راكب الداب ِة ِرجلهُ‪ ،‬فقبَّل زي ُد بن ثابت يد عبد هللا بن عباس‬
‫ُ‬ ‫يضع فيه‬
‫ألنه من ءا ِل بيت النبي صلى هللا عليه وسلم وقال‪" :‬هكذا نفعل بأه ِل‬
‫ت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم"‪ ،‬مع أنه أكبر من عبد هللا بن‬ ‫بي ِ‬
‫عباس‪ .‬رواهُ الحافظ أبو بكر بن المقري في جزء تقبيل اليد‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى ابن سعد في طبقاته (‪ )1‬بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد‬


‫العراقي قال‪" :‬أتينا سلمة بن األكوع بالربذة فـأخرج إلينا يده ضخمة‬
‫كأنها خف البعير قال‪ :‬بايعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بيدي هذه‪،‬‬
‫فأخذنا يده فقبلناها" اهـ‪.‬‬
‫ي ويقول له‪" :‬ولو أذنت لي‬ ‫وص ّح ّ‬
‫أن مسل ًما كانَ يُقبّل يد البخار ّ‬
‫لقبّلتُ رجلك" (‪.)2‬‬
‫وفي كتاب التلخيص الحبير للعسقالني (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وفي تقبيل اليد‬
‫ُ‬
‫حديث ابن‬ ‫ُ‬
‫أحاديث جمعها أبو بكر بن المقري في جزء جمعناهُ‪ ،‬منها‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم فقبّلنا يده‬
‫عمر في قص ٍة قال‪ :‬فدنونا من النب ّ‬
‫َ‬
‫ورجله"‪ ،‬رواه أبو داود (‪.)4‬‬
‫ي لصاحبه اذهب بنا‬ ‫سال قال‪" :‬قال يهود ٌّ‬‫ع ّ‬
‫ومنها حديث صفوان بن َ‬
‫ي"‪،‬‬‫إلى هذا النبي" الحديث وفيه‪" :‬فقبّال يده ورجله وقاال‪ :‬نشهد أنك نب ّ‬
‫_________________‬
‫طبقات ابن سعد (‪.)229/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫التقييد لمعرفة السنن واألسانيد (ص‪.)33/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير (‪.)93/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الجهاد‪ :‬باب في التولي يوم‬ ‫(‪)4‬‬
‫الزحف‪ .‬وكتاب األدب‪ :‬باب في قبلة اليد‪.‬‬

‫ي (‪.)1‬‬
‫أصحاب السنن بإسناد قو ّ‬
‫ُ‬ ‫رواهُ‬
‫ومنها حديث الزارع أنه كان في وفد عبد القيس قال‪" :‬فجعلنا نتبادر‬
‫من رواحلنا فنقبّل ي َد النبي صلى هللا عليه وسلم" الحديث‪ ،‬رواه أبو داود‬
‫(‪.)2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي حديث اإلفك عن عائشة قالت‪" :‬قال لي أبو بكر‪ :‬قومي فقبّلي‬
‫رأسه" (‪.)3‬‬
‫وفي السنن الثالثة (‪ )4‬عن عائشة قال‪" :‬ما رأيتُ أحدًا كان أشبه سمتًا‬
‫وهديًا و َدالً (‪ )5‬برسول هللا من فاطمة‪ ،‬وكان إذا دخلت عليه قام إليها‬
‫فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه‪ ،‬وكانت إذا دخل عليها قامت إليه‬
‫فأخذت بيده فقبّلته‪ ،‬وأجلسته في مجلسها" انتهى كالم الحافظ ابن حجر‬
‫________________‬
‫أخرجه الترمذي في جامعه كتاب التفسير‪ :‬باب تفسير سورة بني‬ ‫(‪)1‬‬
‫إسرائيل‪ ،‬وكتاب االستئذان‪ :‬باب ما جاء في قبلة اليد والرجل‪،‬‬
‫وقال‪ :‬حسن صحيح‪ .‬وأخرجه النسائي في السنن الكبرى‪ :‬كتاب‬
‫سيَر‪ ،‬باب تأويل قول هللا ج ّل ثناؤه‪{ :‬ولق ْد ءاتَينا موسى تس َع‬
‫ال ّ‬
‫ءايات}‪ .‬وكتاب تحريم الدم من السنن الصغرى‪ :‬باب السحر‪.‬‬
‫وأخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب الرجل يقبّل يد‬
‫الرجل‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب في قبلة الرجل‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه الطبراني في الكبير (‪.)108-114/23‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء في القيام‪،‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫وأخرجه الترمذي في جامعه‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب فضل فاطمة‬
‫بنت محمد صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وقال‪ :‬حسن غريب من هذا‬
‫الوجه‪ .‬وأخرجه النسائي في السنن الكبرى‪ :‬كتاب المناقب‪ :‬باب‬
‫مناقب فاطمة رضي هللا عنها بنت محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وفي كتاب عشرة النساء (‪ :)301/2‬باب قبلة ذي محرم وفي‬
‫باب مصافحة ذي محرم‪.‬‬
‫سمتًا أي هيئة‪ ،‬ودالً أي ُخلقًا‪ ،‬انتهى من المؤلف‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫العسقالني‪.‬‬
‫ضا إثبات جواز القيام للداخل إذا كان على وجه اإلكرام ال‬
‫وفي هذا أي ً‬
‫على وجه التعاظم‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأما حديث أحمد والترمذي (‪ )1‬عن أنس‪" :‬أنهم كانوا إذا رأوه لم‬
‫يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك" فليس فيه دليل الكراهية‪ ،‬ألنه‬
‫متأول على أنه عليه السالم كان يخاف أن يفرض عليهم فكانت كراهيته‬ ‫ّ‬
‫لذلك شفقةً عليهم‪ ،‬ألنه كان يحب التخفيف على أمتّه‪ ،‬وقد ص ّح أنه عليه‬
‫الصالة والسالم كان يحب العمل بالشئ ويتركه للتخفيف على أ ّمته‪.‬‬
‫وأما ما رواهُ أبو داود والترمذي (‪ )2‬أنه عليه الصالة والسالم قال‪:‬‬
‫الرجال قيا ًما فليتبوأ مقعده من النار"‪ ،‬فهو القيام‬
‫"من أحبّ أن يتمثل له ّ‬
‫الذي كان يقومه الروم والفرس لملوكهم‪ ،‬كانوا إذا دخل ملوكهم المجلس‬
‫يقومون فيتمثلون أي فيظلون قائمين إلى أن يخرج الملك من المجلس‪،‬‬
‫وذلك معنى التمثّل لغة‪.‬‬
‫أما ما يذكره محمد عمر الداعوق أحد زعماء حزب سيد قطب في‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫لبنان في كتابه ندوات األسر (‪ )3‬من َّ‬
‫أن النب َّ‬
‫اجتذب يده من يد رجل‬

‫______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء في كراهية‬
‫قيام الرجل للرجل‪ ،‬وأحمد في مسنده (‪.)132/3‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب في قيام الرجل‬
‫للرجل‪ ،‬وأخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء‬
‫في كراهية قيام الرجل للرجل‪ ،‬وقال‪ :‬هذا حديث حسن‪.‬‬
‫(‪ )3‬انظر الكتاب (ص‪.)264/‬‬

‫أرا َد أن يقبلها‪ ،‬فهو عند أهل الحديث شديد الضعف (‪ )1‬أورده في كتابه‬
‫هذا مقبّ ًحا لتقبيل اليد على اإلطالق‪ ،‬فما باله ترك االحاديث الصحيحة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واعتمد هذا الحديث الذي ليس له أصل من الصحة‪ ،‬وهكذا يفعل الجهل‬
‫بأهله‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن حبان في كتاب الضعفاء (‪ ،)51/2‬والطبراني في‬
‫األوسط كما في مجمع الزوائد (‪ ،)122/5‬وقال الحافظ الهيثمي‪:‬‬
‫"وفيه يوسف بن زياد البصري وهو ضعيف"‪ ،‬وأورده السيوطي‬
‫في الجامع الصغير (‪ )91/2‬ورمز له بالضعف‪ ،‬وقال المنّاوي‬
‫في فيض القدير (‪ )188/4‬ما نصه‪ ...." :‬قال الحافظ الزين‬
‫العراقي وابن حجر‪ :‬سنده ضعيف‪ ،‬وقال السخاوي‪ :‬ضعيف جدًّا‪،‬‬
‫بل بالغ ابن الجوزي فحكم بوضعه‪ ،‬وقال‪ :‬فيه يوسف بن زياد‬
‫عن عبد الرحمن اإلفريقي‪ "....‬راجع الموضوعات (‪-46/3‬‬
‫‪.)47‬‬

‫بيان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أن عورة المرأة أمام الرجل األجنبي‬


‫جميع بدنها سوى وجهها وكفيها‬
‫اعلم أن عورة المرأة أمام الرجل األجنبي جميع بدنها سوى وجهها‬
‫وكفّيها‪ ،‬فيجوز لها أن تخرج من بيتها كاشفة وجهها إجما ً‬
‫عا‪.‬‬
‫وقد نقل هذا اإلجماع ابن حجر الهيتمي في كتابيه الفتاوى الكبرى‬
‫وحاشية شرح اإليضاح على مناسك الحج للنووي‪.‬‬
‫في األول (‪" :)1‬وحاصل مذهبنا أن إمام الحرمين نقل اإلجماع على‬
‫غض البصر" اهـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جواز خروج المرأة سافرة الوجه وعلى الرجال‬
‫وقال في الثاني‪" :‬إنه يجوز لها كشف وجهها إجما ًعا وعلى الرجال‬
‫غض البصر‪ ،‬وال ينافيه اإلجماع على أنها تؤمر بستره ألنه ال يلزم من‬
‫ُّ‬
‫أمرها بذلك للمصلحة العامة وجوبه" اهـ‪.‬‬
‫وقال في موضع ءاخر (‪ )3‬فيه‪" :‬قوله –أي النووي‪ :-‬أو احتاجت‬
‫المرأة إلى ستر وجهها‪ ،‬ينبغي أن يكون من حاجتها لذلك ما إذا خافت‬
‫يجر لفتنة‪ ،‬وإن قلنا ال يجب عليها ستر وجهها في‬ ‫من نَ َ‬
‫ظ ٍر إليها ّ‬
‫ُّ‬
‫الط ُرقات كما هو مقرر في محله" اهـ‪.‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬الفتاوى الكبرى (‪.)199/1‬‬
‫(‪ )2‬حاشية شرح اإليضاح في مناسك الحج (ص‪.)276/‬‬
‫(‪ )3‬المرجع السابق (ص‪.)178/‬‬

‫وقال زكريا األنصاري في شرح الروض (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وما نقله‬


‫اإلمام من االتفاق على منع النساء أي منع الوالة ّ‬
‫لهن مما ذكر –أي من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الخروج سافرات‪ -‬ال ينافي ما نقله القاضي عياض عن العلماء أنه ال‬
‫يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها وإنما ذلك سنّة وعلى الرجال‬
‫ْصار ِه ْم}‬ ‫غض البصر عنهن لقوله تعالى‪{ :‬قُ ْل لل ُم ِ‬
‫ؤمنينَ يَغُضُّوا ِم ْن أب ِ‬ ‫ّ‬
‫[سورة النور‪ ]30/‬اآلية‪ ،‬ألن منعهن من ذلك ال ألن الستر واجب‬
‫عليهن في ذاته بل ألنه سنّة وفيه مصلحة عامة وفي تركه إخالل‬ ‫ّ‬
‫بالمروءة كاإلصغاء من الرجل لصوتها فإنه جائز عند أمن الفتنة‪،‬‬
‫وصوتها ليس بعورة على األصح (‪ )2‬في األصل" اهـ‪.‬‬
‫وقال اإلمام المجتهد ابن جرير الطبري في تفسيره (‪ )3‬ما نصه‪:‬‬
‫"حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن أبي عدي وعبد األعلى عن سعيد عن قتادة‬
‫ظهر ِم ْنها} قال‪ :‬الوجه‬
‫َ‬ ‫عن الحسن في قوله‪{ :‬وال يُبْدينَ ِز ْينَت َ ُه َّن إال َما‬
‫ي بذلك‬‫عنِ َ‬
‫والثياب‪ ،‬وأولى األقوال في ذلك بالصواب قول من قال‪ُ :‬‬
‫الوجه والكفان‪ ،‬يدخل في ذلك إذا كانَ كذلك‪ :‬الكحل والخاتم والسوار‬
‫والخضاب‪ .‬وإنما قلنا ذلك أولى األقوال في ذلك بالتأويل إلجماع الجميع‬
‫على أن على ك ّل مص ّل أن يستر عورته في صالته‪ ،‬وأن للمرأة أن‬
‫تكشف وجهها وكفّيها في صالتها‪ ،‬وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من‬
‫بدنها إال ما روي عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه‬
‫عا كان معلو ًما‬ ‫من ذراعها إلى قدر النصف‪ ،‬فإذا كان من جميعهم إجما ً‬
‫بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة‪ ،‬كذلك للرجال‪ ،‬ألن ما‬
‫لم يكن عورة فغير حرام إظهاره وإذا كان لها إظهار ذلك كانَ معلو ًما‬
‫ظ َه َر منها}‪ ،‬ألن ك ّل ذلك‬‫أنه مما استثناه هللا تعالى ذكره بقوله‪{ :‬إال ما َ‬
‫ظاهر منها‪.‬‬
‫_______________________‬
‫(‪ )1‬انظر شرح روض الطالب (‪.)110/3‬‬
‫(‪ )2‬الصواب أن يقال على الصحيح‪.‬‬
‫(‪ )3‬جامع البيان في تفسير القرءان (‪.)54/9‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫{و ْليَض ِْربْنَ بِ ُخ ْم ِر ِه َّن على ُجيُوبِ ِه َّن} يقول تعالى ذِكره‪:‬‬
‫وقوله‪َ :‬‬
‫مر ِه َّن} وهي جمع ِخمار‪{ ،‬على ُجيُوبِ ِه ّن} ليسترن بذلك‬ ‫ْ‬
‫{وليَض ِْربنَ بِ ُخ ِ‬
‫شعورهن وأعناقهن وقرطهن‪.‬‬
‫وقد جاء عن ابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير وعطاء وغيرهم‬
‫سروا قوله تعالى‪{ :‬وال يُبْدينَ ِزينَت َ ُه َّن إال ما َ‬
‫ظ َه َر ِمنها} [سورة‬ ‫أنّهم ف ّ‬
‫النور‪ ]31/‬بالوجه والكفّين‪ ،‬قال الشيح البكري الدمياطي ما نصه (‪:)1‬‬
‫"قال ابن عباس وعائشة‪ :‬هو الوجه والكفان‪ ،‬وألنهما لو كانا عورة في‬
‫العبادات لما وجب كشفهما في اإلحرام‪ ،‬وألن الحاجة تدعو إلى‬
‫إبرازهما"‪.‬‬
‫وهذا هو الصحيح الذي تُؤيّده األدلة كحديث المرأة الخثعمية الذي‬
‫أخرجه البخاري (‪ )2‬ومسلم (‪ )3‬ومالك (‪ )4‬وأبو داود (‪ )5‬والنسائي‬
‫(‪ )6‬والدارمي (‪ )7‬وأحمد (‪ )8‬من طريق عبد هللا بن عباس قال‪:‬‬
‫"جاءت امرأة خثعمية غداة العيد‪ ،‬فسألت رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫كبيرا ال‬
‫ً‬ ‫وسلم بقولها‪ :‬يا رسول هللا إن فريضة الحج أدركت أبي شي ًخا‬
‫يستطيع أن يثبت على الراحلة‪ ،‬أفأح ّج عنه؟ قال‪" :‬ح ّجي عنه"‪ ،‬قال ابن‬
‫____________________‬
‫حاشية إعانة الطالبين (‪.)113/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب وجوب الحج وفضله‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم‬ ‫(‪)3‬‬
‫ونحوهما أو للموت‪.‬‬
‫موطأ مالك‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب الحج عمن ال يستطيع أن يثبت‬ ‫(‪)4‬‬
‫على الراحلة‪.‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب الرجل يح ّج عن غيره‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫سنن النسائي‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب حج المرأة على الرجل‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫سنن الدارمي‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب في الحج عن الحي (‪-39/2‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫‪.)40‬‬
‫مسند أحمد (‪.)213/1‬‬ ‫(‪)8‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عباس‪ :‬وكانت شابّة وضيئة‪ ،‬فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه ُحسنها‪،‬‬
‫فلوى رسول هللا عنق الفضل"‪ .‬وعند الترمذي من حديث علي (‪:)1‬‬
‫لم لويت عنق ابن ع ّمك؟ فقال‪" :‬رأيت شابًّا‬
‫"قال العبّاس‪ :‬يا رسول هللا َ‬
‫وشابة فلم ءامن الشيطان عليهما"‪ ،‬قال ابن عباس‪ :‬وكان ذلك بعد ءاية‬
‫الحجاب‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ولفظ البخاري (‪ )2‬عن عبد هللا بن عباس قال‪ :‬أردف رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز‬
‫راحلته‪ ،‬وكان الفضل رجالً وضيئًا‪ ،‬فوقف النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫للناس يفتيهم‪ ،‬وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها‪ ،‬فالتفت النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم والفضل ينظر إليها‪ ،‬فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل‬
‫فعدل وجهه عن النظر إليها‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في شرحه ما نصه (‪" :)3‬قال ابن بطال‪ :‬في‬
‫بغض البصر خشية الفتنة‪ ،‬ومقتضاه أنه إذا أمنت الفتنة‬
‫ّ‬ ‫الحديث األمر‬
‫يحول وجه الفضل‬ ‫لم يمتنع‪ ،‬قال‪ :‬ويؤيده أنه صلى هللا عليه وسلم لم ّ‬
‫حتى أدمن النظر إليها إلعجابه بها فخشي الفتنة عليه‪ ،‬قال‪ :‬وفيه مغالبة‬
‫طباع البشر البن ءادم وضعفه عما ر ّكب فيه من الميل إلى النساء‬
‫ّ‬
‫عليهن من‬ ‫واإلعجاب بهن‪ .‬وفيه دليل على أن نساء المؤمنين ليس‬
‫الحجاب ما يلزم أزواج النبي صلى هللا عليه وسلم إذ لو لزم جميع‬
‫النساء ألمر النبي الخثعمية باالستتار ولما صرف وجه الفضل‪ .‬قال‪:‬‬
‫ضا إلجماعهم على أن‬ ‫وفيه دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فر ً‬
‫للمرأة أن تُبدي وجهها في الصالة ولو رءاه الغرباء‪ ،‬وأن قوله‪{ :‬قُل‬
‫للمؤمنين يَغُضُّوا من أبصارهم} [سورة‬
‫_______________________‬
‫(‪ )1‬جامع الترمذي‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب ما جاء أن عرفة كلها موقف‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬انظر صحيح البخاري‪ ،‬كتاب االستئذان‪ ،‬باب قول هللا تعالى‪{ :‬يا‬
‫غير بُيُوتِ ُك ْم} [سورة النور‪]27/‬‬
‫أيُّها الذينَ ءامنوا ال ت َ ْد ُخلوا بُيُوتًا َ‬
‫اآلية‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتح الباري (‪.)10/11‬‬
‫النور‪ ]30/‬على الوجوب في غير الوجه‪ .‬قلت‪ :‬وفي استدالله بقصة‬
‫الخثعمية لما ادعاه نظر ألنها كانت محرمة" اهـ‪.‬‬
‫ب الحافظ لكالم ابن بطال مدفوع ألنه كان يمكنها أن تجمع‬ ‫أقول‪ :‬تعقّ ُ‬
‫بين المصلحتين مصلحة اإلحرام ومصلحة تغطية الوجه بأن تجافي‬
‫سه وجهها‪ ،‬كما جاء ذلك عن أ ّمهات المؤمنين‬ ‫الساتر بشئ يمنع من َم ّ‬
‫ّ‬
‫وجوههن فإذا‬ ‫س َد ْلنَ على‬
‫كن إذا حا َذينَ الركب َ‬ ‫أنهن ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سفرهن للح ّج‬ ‫في‬
‫جاوزنَ رفعن الساتر كما رواه أبو داود (‪ )1‬وابن أبي شيبة (‪)2‬‬
‫وغيرهما‪ ،‬فلو كان سكوته صلى هللا عليه وسلم عن أمر الخثعمية‬
‫بتغطية وجهها ألجل إحرامها ألمرها بسدل الساتر على وجهها مع‬
‫مجافاته حتى ال يلتصق بالوجه لكنه لم يأمرها‪ ،‬ولما لم يأمر المرأة‬
‫الخثعمية بتغطية وجهها في ذلك الجمع الكبير الذي أخبر جابر في‬
‫ي من المدينة أن الناس كانوا‬ ‫وصف ما كان من الح ّجاج عندما خرج النب ّ‬
‫م ّد البصر في جوانبه األربعة أمامه وخلفه ويمينه وشماله (‪ ،)3‬علم من‬
‫ذلك عدم وجوبه‪ ،‬ولو كان واجبًا ألمرها بذلك‪ .‬فتبيّن بما ذكرنا أن‬
‫ي على كشف الخثعمية وجهها كان ألجل‬ ‫دعوى بعض أن سكوت النب ّ‬
‫اإلحرام دعوى فاسدة ال عبرة بها‪ .‬فسكوته صلى هللا عليه وسلم دليل‬
‫ظاهر على أن وجه المرأة من غير أ ّمهات المؤمنين يجوز كشفه في‬
‫الطرق ونحوها‪ ،‬ألن هذه الخثعمية كانت عند الرمي وذلك الموضع‬
‫كثيرا التالصق بين الرجال‬ ‫ً‬ ‫يكثر فيه اجتماع الح ّجاج حتى إنه يحصل‬
‫والنساء من شدة الزحمة بال تع ّمد‪.‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب في المحرمة‬
‫تغطي وجهها‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (‪ )284/3‬كتاب الحج‪ :‬باب‬


‫في المحرم يغطي وجهه‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الحج‪ :‬باب حجة النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأبو داود في سننه‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب صفة حجة‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم كالهما عن جابر بن عبد هللا‪.‬‬
‫ضا البخاري في كتاب الحج (‪ )1‬عن عبد هللا بن‬‫وروى الحديث أي ً‬
‫عباس رضي هللا عنهما قال‪" :‬كان الفضل رديف رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم‪ ،‬وجعل الفضل ينظر إليها وتنظر‬
‫إليه‪ ،‬فجعل النبي صلى هللا عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق‬
‫اآلخر‪ ،‬فقالت‪ :‬يا رسول هللا إن فريضة هللا على عباده في الحج أدركت‬
‫كبيرا ال يثبت على الراحلة‪ ،‬أفأحج عنه؟ قال‪" :‬نعم"‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫أبي شي ًخا‬
‫في حجة الوداع" اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر (‪" :)2‬قوله‪ :‬فجاءته امرأة من خَثعم –بفتح‬
‫المعجمة وسكون المثلثة‪ -‬قبيلة مشهورة‪ ،‬قوله‪ :‬فجعل الفضل ينظر‬
‫إليها‪ ،‬في رواية شعيب‪ :‬وكان الفضل رجالً وضيئًا أي جميالً وأقبلت‬
‫امرأة من خثعم وضيئة‪ ،‬فطفق الفضل ينظر إليه وأعجبه حسنها‪ .‬قوله‪:‬‬
‫يصرف وجه الفضل‪ ،‬في رواية شعيب‪ :‬فالتفت النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم والفضل ينظر إليها‪ ،‬فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل فدفع وجهه‬
‫ي‪ :‬فلوى عنق‬ ‫عن النظر إليها‪ ،‬وهذا هو المراد بقوله في حديث عل ّ‬
‫الفضل‪ .‬ووقع في رواية الطبري في حديث علي‪ :‬وكان الفضل غال ًما‬
‫الشق صرف رسول هللا صلى هللا‬ ‫ّ‬ ‫جميالً فإذا جاءت الجارية من هذا‬
‫الشق اآلخر‪ ،‬فإذا جاءت إلى الشق اآلخر‬ ‫ّ‬ ‫عليه وسلم وجه الفضل إلى‬
‫صرف وجهه عنه‪ ،‬وقال في ءاخره‪" :‬رأيت غال ًما َح َدثًا وجارية َح َدثة‬
‫فخشيتُ أن يدخل بينهما الشيطان" اهـ‪.‬‬
‫وفي هذا الحديث داللة على رجحان جواز كشف المرأة وجهها مع‬
‫خوف الفتنة‪ ،‬وهذا ما قاله شارح مختصر خليل محمد عليش المالكي‬
‫في كتاب الصالة‪ ،‬ومحل الدليل في الحديث قوله عليه السالم‪" :‬رأيتُ‬
‫غال ًما َح َدثًا وجارية َح َدثة فخشيتُ أن يدخ َل بينهما الشيطان"‪ ،‬ومقابله ما‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ذكره بعض الشافعية من المتأخرين كالشيخ زكريا األنصاري والرملي‪،‬‬


‫وهذه الرواية التي عزاها الحافظ للطبري صحيحة أو حسنة عند ابن‬
‫حجر ألنه التزم في المقدمة أن ما يورده من األحاديث مما هو شرح‬
‫لرواية‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)67-68/4‬‬
‫البخاري أو زيادة عليها فهو صحيح أو حسن‪.‬‬
‫قال صاحب المبسوط الحنفي (‪" :)1‬ث ّم ال شك أنه يُباح النظر إلى‬
‫ثيابها وال يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها وكفّيها" اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ الزبيدي في "اإلتحاف" ما نصه (‪ :)2‬فإذا خرجت ل ُمه ّم‬
‫فينبغي أن تخرج تفلة غير مظهرة للزينة وال البسة ثياب التباهي وال‬
‫تغض بصرها عن الرجال وال تزاحمهم‬ ‫ّ‬ ‫مختالة في مشيها‪ ،‬وعليها أن‬
‫في السكك‪ ،‬ولسنا نقول إن وجه الرجل في حقها عورة كوجه المرأة في‬
‫حقه بل هو كوجه الصبي األمرد وهو الذي ال نبات بعارضيه في حق‬
‫الرجل‪ ،‬فيحرم النظر إليه عند خوف الفتنة إذا كان بشهوة فقط‪ ،‬فإن لم‬
‫تكن هناك شهوة وال خاف فتنة فال يحرم النظر إليه‪ ،‬وهذا اختيار‬
‫المصنف –يعني الغزالي‪ -‬وإن خاف من النظر الوقوع في الشهوة‬
‫تحرزا من الفتنة‪ ،‬وقال صاحب التقريب‬ ‫ً‬ ‫فوجهان قال أكثرهم‪ :‬يحرم‬
‫واختاره اإلمام –أي إمام الحرمين الجويني‪ -‬إنه ال يحرم‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد عليش المالكي في شرح مختصر خليل (‪)3‬‬
‫ممزو ًجا بالمتن‪" :‬و(هي) –أي العورة‪ -‬من حرة (مع) رجل (أجنبي)‬
‫ظهرا وبطنًا‪ ،‬فالوجه والكفان‬
‫ً‬ ‫مسلم جميع جسدها (غير الوجه والكفين)‬
‫ليسا عورة فيجوز لها كشفهما لألجنبي وله نظرهما إن لم تخش الفتنة‪،‬‬
‫فإن خيفت الفتنة به فقال ابن مرزوق‪ :‬مشهور المذهب وجوب سترهما‪،‬‬
‫غض بصره" اهـ‪.‬‬‫ّ‬ ‫وقال عياض‪ :‬ال يجب سترهما ويجب عليه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والراجح عدم اشتراط أمن الفتنة لما في حديث الخثعمية السابق‬


‫الذكر من أن الرسول عليه الصالة والسالم قال للعباس‪" :‬رأيتُ غال ًما‬
‫ح َدثًا وجارية ح َدثة فخشيت أن يدخل بينهما الشيطان"‪.‬‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬المبسوط (‪.)153/10‬‬
‫(‪ )2‬انظر االتحاف (‪.)363-364/5‬‬
‫(‪ )3‬منح الجليل شرح مختصر خليل (‪.)222/1‬‬
‫فال حجة في قول بعض المتأخرين ممن ليسوا من أهل الوجوه إنما هم‬
‫نقلة إن ستر الوجه في هذا الزمن واجب على المرأة دفعًا للفتنة ال ألنه‬
‫عورة ألمرين‪ ،‬أحدهما أن هذا القول أي اشتراط أمن الفتنة منها أو عليها‬
‫لعدم وجوب ستر الوجه كما زعمه بعض الشافعية وهو مذكور في شرح‬
‫المهذب وشرح روض الطالب وشرح الرملي على منهاج الطالبين‪ ،‬ليس‬
‫منقوالً عن إمام كالشافعي أو غيره من األئمة وال هو منقول عن أصحاب‬
‫الوجوه في المذهب‪ .‬وكيفما كان األمر فالصحيح ما وافق النص‪ .‬والمراد‬
‫بالفتنة في هذه المسألة الداعي إلى جماع أو خلوة أو نحوهما كما صرح‬
‫بذلك زكريا األنصاري (‪.)1‬‬
‫عا من حديث ابن عباس‬ ‫ويشهد لما قدمنا ما رواه ابن حبان (‪ )2‬مرفو ً‬
‫قال‪ :‬كانت تصلي خلف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم امرأة حسناء من‬
‫أحسن النّاس‪ ،‬فكان بعض القوم يتقدم في الصف األول لئال يراها‪،‬‬
‫ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر‪ ،‬فكان إذا ركع نظر من‬
‫تحت إبطه‪ ،‬فأنزل هللا في شأنها‪{ :‬ولَقَ ْد َع ِل ْمنا ال ُم ْست َ ْقدِمينَ ِمن ُكم ولق ْد َع ِل ْمنا‬
‫ئخرينَ } [سورة الحجر‪ ،]24/‬فالشاهد فيه أن الرسول لم يقل لتلك‬ ‫ال ُم ْست َ ِ‬
‫المرأة الحسناء انقبعي في بيتك أو تعالي مغطية وجهك‪ ،‬فلما لم يقل ذلك‬
‫علمنا أن خوف الفتنة ال يناط به الحكم‪ .‬ثم اإلجماع الذي انعقد على أنه‬
‫يجوز للمرأة كشف وجهها وعلى الرجال غض البصر ال ينتقض حكمه‬
‫برأي بعض المتأخرين‪ ،‬وهذا االجماع قد نقله ابن حجر الهيتمي الشافعي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫في حاشية اإليضاح وغيره بعد نقل القاضي عياض المالكي لذلك‪ ،‬قد أسفر‬
‫الصبح لذي َعينين‪.‬‬
‫قال اإلمام ابن حبيب أحد كبار المالكية ومن مشاهير متقدميهم من أهل‬
‫القرن الثاني‪" :‬شهدتُ المدينة والجارية بارعة الجمال تخرج سافرة"‪،‬‬
‫والجارية لغة‪ :‬الفتاة حرة كانت أو أمة‪ ،‬وإذا أريد من دون البلوغ من‬
‫البنات قيل جارية صغيرة أو جويرية‪ ،‬هكذا عرف الجارية صاحب لسان‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬انظر شرح روض الطالب لزكريا األنصاري (‪.)110/3‬‬
‫(‪ )2‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)309/1‬‬
‫وغيرهما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫العرب وصاحب القاموس‬
‫وأما ما في بعض كتب الشافعية ككتاب للشيخ زكريا األنصاري وشمس‬
‫الدين الرملي من تحريم خروج المرأة إذا خشيت فتنة منها أو عليها ولو‬
‫بإذن الولي أوسيد األمة أو الزوج فهذا ال يقوم عليه دليل‪ ،‬وهو ليس منقوالً‬
‫وال أقيم عليه دليل ألن خشية الفتنة كانت في الصدر األول ومع ذلك ما‬
‫ورد النص في تحريم الخروج مع خشية الفتنة‪ ،‬فقد روى مسلم في‬
‫صحيحه وغيره (‪ )1‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬فما بال أقوام‬
‫إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس" (‪ )2‬ففيه دليل على أنه‬
‫كان في ذلك الزمان أناس يتتبعون النساء للفاحشة‪ ،‬ومع ذلك ما أصدر‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الحكم بتحريم خروج النساء سافرات‬
‫الوجوه‪ ،‬ويؤكذ ذلك ما تقدّم من قول ابن حبيب المالكي المشهور‪.‬‬
‫ضا أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنهما سمع في بعض‬‫وقد ثبت أي ً‬
‫الليالي امرأة تقول‪[ :‬البسيط]‬
‫هل من سبيل إلى خمر فأشربّها *** أو من سبيل إلى نصر بن حجاج‬
‫نصرا خوفًا عليه من فتنة النساء به من فرط جماله‪ ،‬ولم‬
‫ً‬ ‫فنفى عمر‬
‫يصدر حك ًما بتحريم خروجه كاشفًا وجهه خشية فتنة النساء به‪ ،‬ففيما قدمنا‬
‫داللة ظاهرة على أن افتتان الرجال بالنساء كان موجودًا في ذلك العصر‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا‪ ،‬وقصة نصر بن حجاج هذه صححها الحافظ ابن‬ ‫بل والنساء بالرجال أي ً‬
‫حجر (‪ )3‬وعزاها إلى ابن سعد (‪ )4‬والخرائطي‪.‬‬
‫________________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الحدود‪ :‬باب من اعترف على‬
‫نفسه بالزنى‪ ،‬والحاكم في المستدرك (‪.)362/4‬‬
‫(‪ )2‬يعني يشتاقون للزنى‪ ،‬أي ولهم ول ٌع بالنساء والجماع‪ ،‬انتهى من‬
‫المؤلف‪.‬‬
‫ت‬
‫للمؤمنا ِ‬
‫ِ‬ ‫قال الفخر الرازي (‪ )3‬في تفسير قول هللا تعالى‪{ :‬وقُ ْل‬
‫أبصار ِه ّن} [سورة النور‪ ]31/‬إلى ءاخر اآلية ما نصه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫يَ ْغ ُ‬
‫ضضْنَ ِم ْن‬
‫ظهر منها} [سورة‬ ‫َ‬ ‫"اختلفوا في المراد من قوله تعالى‪{ :‬إال ما‬
‫النور‪ ،]31/‬أما الذين حملوا الزينة على الخلقة‪ ،‬فقال القفّال‪ :‬معنى اآلية‬
‫إال ما يظهره اإلنسان في العادة الجارية‪ ،‬وذلك في‬

‫ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة‬
‫ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة‬
‫ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةض‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬اإلصابة في تمييز الصحابة (‪.)579/3‬‬


‫(‪ )4‬طبقات ابن سعد (‪.)216/3‬‬
‫ضا في حديث‪" :‬احتجبا منه" خطابًا لزوجتيه حين دخل ابن‬ ‫وال يقال أي ً‬
‫مختص بأزواج‬
‫ٌّ‬ ‫أم مكتوم دليل على أن وجه المرأة يجب ستره‪ ،‬فإن ذلك‬
‫النبي كما قال أبو داود في سننه جمعًا بينه وبين حديث فاطمة بنت قيس‪،‬‬
‫الذي فيه أنه عليه الصالة والسالم قال لها‪" :‬اعتدّي في بيت ابن أ ّم مكتوم‬
‫ففرق رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده"‪ّ ،‬‬
‫غيرهن‪ ،‬ألنه سمح لفاطمة بنت قيس أن تضع ثيابها‬‫ّ‬ ‫وسلم بين نسائه وبين‬
‫عند هذا االعمى الذي قال لزوجتيه‪" :‬احتجبا منه"‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وهذا جمع‬
‫حسن‪ ،‬وبه جمع المنذري في حواشيه واستحسنه شيخنا" اهـ‪.‬‬
‫وحديث فاطمة بنت قيس رواه مسلم (‪ )2‬وغيره‪ ،‬أ ّما حديث "احتجبا‬
‫منه"‪ ،‬أخرجه أبو داود (‪ )3‬في سننه‪ ،‬وهو مختلف في صحته كما ذكر‬
‫الحافظ ابن حجر (‪ ،)4‬فال يجوز إلغاء حديث فاطمة بنت قيس من أجل‬
‫حديث‪" :‬احتجبا منه"‪ ،‬ألن ذلك مخالف للقاعدة األصولية والحديثية من أنه‬
‫إذا تعارض حديثان ُجمع بينهما ما أمكن الجمع‪ ،‬والجمع هنا بين الحديثين‬
‫ممكن بما قررنا‪ .‬وقد تقرر هذا الحكم عند األصوليين والمحدثين‪.‬‬
‫أما الحديث الذي رواه أبو داود (‪ )5‬أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم وقال‪" :‬يا‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬التلخيص الحبير (‪.)148/3‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الطالق‪ :‬باب المطلقة ثالثًا ال‬
‫نفقه لها‪ ،‬والبيهقي في السنن (‪.)177-178/7‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب في قوله عز وجل‪:‬‬
‫أبصار ِه ّن} [سورة النور‪ ،]31/‬قال‬
‫ِ‬ ‫ضضْنَ من‬‫ت َي ْغ ُ‬
‫للمؤمنا ِ‬
‫ِ‬ ‫{وقُ ْل‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أبو داود‪ :‬هذا ألزواج النبي خاصة‪ ،‬أال ترى إلى اعتداد فاطمة‬
‫بنت قيس عند ابن أم مكتوم؟ قد قال النبي لفاطمة بنت قيس‪:‬‬
‫"اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده"‪.‬‬
‫(‪ )4‬فتح الباري (‪.)550/1‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب فيما تبدي المرأة‬
‫من زينتها‬

‫أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يُرى منها إال هذا‬
‫وهذا" وأشار إلى وجهه وكفّيه‪ ،‬فهو مشهور بين الفقهاء –يعني اصطال ًحا‪-‬‬
‫وإن كان في سنده كالم (‪.)1‬‬
‫قال الفخر الرازي (‪ )2‬في تفسير قول هللا تعالى‪{ :‬وقُ ْل لل ُم ِ‬
‫ؤمنات‬
‫أبصار ِه َّن} [سورة النور‪ ]31/‬إلى ءاخر اآلية ما نصه‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ضضْنَ ْ‬
‫من‬ ‫يَ ْغ ُ‬
‫ظهر ِم ْنها} [سورة النور‪،]31/‬‬ ‫َ‬ ‫"اختلفوا في المراد من قوله تعالى‪{ :‬إال ما‬
‫أما الذين حملوا الزينة على الخلقة‪ ،‬فقال القفّال‪ :‬معنى اآلية إال ما يظهره‬
‫اإلنسان في العادة الجارية‪ ،‬وذلك في النساء الوجه والكفّان‪ ،‬وفي الرجل‬
‫األطراف من الوجه واليدين والرجلين‪ ،‬فأُمروا بستر ما ال تؤدي الضرورة‬
‫إلى كشفه ور ّخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدّت الضرورة إلى‬
‫إظهاره‪ ،‬إذ كانت شرائع اإلسالم حنيفية سهلة سمحة‪ ،‬ولما كان ظهور‬
‫الوجه والكفّين كالضروري ال َج َرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة" اهـ‪،‬‬
‫وهذا نقل لإلجماع من القفال وإقرار له عليه من الرازي‪.‬‬
‫وقال النووي في روضة الطالبين (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وأما المرأة فإن كانت‬
‫حرة فجميع بدها عورة إال الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين"‬
‫ّ‬
‫اهـ‪ .‬والكوع‪ :‬هو طرف الزند الذي يلي اإلبهام‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال الشيخ زكريا األنصاري في شرح الروض (‪ )4‬ممزو ًجا بالمتن ما‬
‫نصه‪(" :‬وعورة الحرة في الصالة وعند األجنبي) ولو خارجها (جميع‬
‫ظهرا وبطنًا إلى الكوعين" اهـ‪.‬‬
‫ً‬ ‫بدنها إال الوجه والكفين)‬

‫______________‬
‫نصب الراية (‪.)299/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫التفسير الكبير (‪.)206-207/23‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫روضة الطالبين (‪.)283/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪.)176/1‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وفي حاشية الرملي على شرح الروض لألنصاري (‪ )1‬الشافعي ما‬


‫نصه‪(" :‬قوله‪ :‬ألنهما مظنة الفتنة –أي الوجه والكفين‪ )-‬وألنهما لو كانا‬
‫عورة لما وجب كشفهما في اإلحرام" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب بحر المذهب ألبي المحاسن الروياني الشافعي ما نصه‬
‫(‪" :)2‬فرع‪ :‬يكره للمرأة أن تنتقب في الصالة ألن الوجه من المرأة‬
‫ليس بعورة فهي كالرجل يكره له أن يصلي متلث ًما" اهـ‪.‬‬
‫أما ما يتعلق بلبس الثوب الضيق للمرأة الساتر للون البشرة فهو‬
‫مكروه قال الروياني الشافعي في البحر (‪ )3‬ما نصه‪" :‬قال بعض‬
‫أصحابنا‪ :‬تجوز الصالة في الثوب الواصف للون‪ ،‬وكذا ذكره القفّال‬
‫زمانًا وأُلزم عليه فسا ُد صال ِة العريان في الماء الصافي فرجع عن ذلك‬
‫ولو كان الثوب صفيقًا يستر لونها جازت الصالة فيه‪ ،‬وإن وصف حجم‬
‫األعضاء والجسد من األليتين أو الفخذين أو الذكر‪ ،‬ألنه ما من ثوب إال‬
‫ويصف ذلك" اهـ‪.‬‬
‫وقد نقل شمس الدين الرملي (‪ )4‬في كتابه نهاية المحتاج أن ابن‬
‫عباس وعائشة قاال في قوله تعالى‪{ :‬وال يُبْدينَ ِزينَت َ ُه َّن إال ما َ‬
‫ظ َه َر‬
‫منها} [سورة النور‪ :]31/‬هو الوجه والكفّان‪ ،‬وأن الساتر للعورة شرطه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أن يكون يمنع إدراك لون البشرة‪ ،‬وإن حكى حجمها كسروال ضيق‬
‫ولكنه مكروه للمرأة وخالف األولى للرجل" اهـ‪.‬‬
‫ضا عن ابن عباس وغيره الشيخ زكريا األنصاري في‬
‫ونقل ذلك أي ً‬
‫شرح روض الطالب (‪.)5‬‬
‫______________‬
‫حاشية الرملي على شرح الروض (‪.)176/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫البحر المذهب كتاب الصالة (ق‪.)122/‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫البحر المذهب‪ ،‬كتاب الصالة (ق‪.)116/‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (‪.)6/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪.)176/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫وقال الشيخ البكري الدمياطي ممزو ًجا بالمتن ما نصه (‪(" :)1‬قوله‪:‬‬
‫ويكفي ما يحكي لحجم األعضاء) أي ويكفي جرم يدرك الناس منه قدر‬
‫األعضاء كسراويل ضيقة و(قوله‪ :‬لكنه خالف األولى) أي للرجل وأما‬
‫المرأة والخنثى فيكره لهما" اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد عليش المالكي في منح الجليل (‪ )2‬ممزو ًجا‬
‫بالمتن‪" :‬و ُك ٍرهَ –بضم فكسر‪ -‬لباس ُم َح ِ ّد ٌد –بض ّم الميم وفتح الحاء‬
‫المهملة وكسر الدال ُمثَقَّلةً‪ -‬أي مظهر ح ّد العورة لرقته أو ضيقه‬
‫وإحاطته أو باحتزام عليه ولو بغير صالة‪ ،‬إلخالله بالمروءة ومخالفته‬
‫ي السلف" اهـ‪.‬‬ ‫لز ّ‬
‫وقال الباجي المالكي في شرح الموطإ ما نصه (‪" :)3‬ويكره الرقيق‬
‫الصفيق من الثياب ألنه يلصق بالجسد فيبدو حجم ما تحته وفيه بعض‬
‫الوصف لما تحته" اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ البهوتي الحنبلي في كشاف القناع (‪ )4‬ما نصه‪(" :‬ويكره‬
‫لبس ما يصف البشرة) أي مع ستر العورة بما يكفي في الستر لما تقدم‬
‫أول الباب‪ ،‬ويأتي (للرجل والمرأة ولو في بيتها) نص عليه (إن رءاها‬
‫غير زوج أو سيد تحل له)‪ ،‬قال في المستوعب‪ :‬يكره للرجل والمرأة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫لبس الرقيق من الثياب وهو ما يصف البشرة غير العورة‪ ،‬وال يكره‬
‫ذلك للمرأة إذا كان ال يراها إال زوجها ومالكها‪ ،‬وصحح معناه في‬
‫الرعاية‪ ،‬وظاهر ما قدمه في شرح المنتهى يكره مطلقًا" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫حاشية إعانة الطالبين (‪.)113/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫منح الجليل شرح مختصر خليل (‪.)226/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المنتقى شرح الموطإ (‪.)251/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫كشاف القناع (‪.)278/1‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫ثم قال (‪(" :)1‬ويكره للنساء لبس ما يصف اللين والخشونة والحجم)‬
‫لما روي عن أسامة بن زيد قال‪ :‬كساني الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫قِيطيةً كثيفة كانت مما أهدى له دحيةُ الكلبي فكسوتها امرأتي‪ ،‬فقال‬
‫تلبس ال ِقبطية" (‪ )2‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‬‫ُ‬ ‫لك ال‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ما َ‬
‫كسوتها امرأتي‪ ،‬فقال‪" :‬مرها فلتجعل تحتها ِغاللةً فإني أخاف أن‬
‫حجم عظامها" رواه أحمد (‪( )3‬ويحرم عليهن لبس العصائب‬ ‫َ‬ ‫تصف‬
‫الكبار التي يتشبهن بلبسها بالرجال) لحديث أبي هريرة قال‪ :‬قال‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‪" :‬صنفان من أهل النار لم أر ُهما بعدُ‪،‬‬
‫ّ‬
‫رءوسهن أمثا ُل أس ِنم ِة‬ ‫ٌ‬
‫مميالت (‪ )4‬على‬ ‫ٌ‬
‫مائالت‬ ‫ٌ‬
‫عاريات‬ ‫ٌ‬
‫كاسيات‬ ‫نسا ٌء‬
‫البُخت (‪ )5‬المائلة ال يرين الجنة وال يجدن ريحها" رواه مسلم (‪.)6‬‬
‫اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬كشاف القناع (‪.)278/1‬‬
‫(‪ )2‬القبطية ثياب من كتّان رقيقة‪ ،‬بكسر القاف تنسب للقبط الذين في‬
‫مصر‪.‬‬
‫(‪ )3‬مسند أحمد (‪.)205/5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سر الحديث‬‫(‪ )4‬أي يلبسن ثيابًا ال تستر جميع العورة‪ ،‬وبعضهم ف ّ‬


‫بالالتي يلبسن الثوب الرقيق الذي يصف لون الجلد مع كونهن‬
‫مائالت –أي عن طاعة هللا‪ -‬مميالت –أي يملن غيرهن عن‬
‫طاعة هللا‪ -‬رؤوسهن أمثال أسنمة البخت المائلة أي يرفعن‬
‫رؤوسهن ليعجب بهن الناس ترفع شعرها إلى فوق حتى توهم‬
‫الناس أن شعرها وافر ويمشين مشية خاصة تميزن بها عن‬
‫غيرهن وهذا حصل في بعض ما مضى من الزمن في بغداد‬
‫وغيرها‪ ،‬انتهى مؤلفه‪.‬‬
‫ب وهي اإلبل‬ ‫معر ٌ‬
‫(‪ )5‬البخت والبختية دخيل في العربية أعجمي َّ‬
‫الخراسانية‪( ،‬لسان العرب ‪.)9/2‬‬
‫(‪ )6‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب اللباس والزينة‪ :‬باب النساء‬
‫الكاسيات العاريات المائالت المميالت‪.‬‬

‫صه‪(" :‬و) يكره (شد الوسط) بفتح السين (بما يشبه‬ ‫ضا ما ن ّ‬
‫وفيه (‪ )1‬أي ً‬
‫شد الزنار) بضم أوله‪ ،‬لنهي النبي صلى هللا عليه وسلم عن التشبه بأهل‬
‫الكتاب‪ ،‬رواه أبو داود‪( .‬ولو) كان شد الوسط بما يشبه الزنار (في غير‬
‫صالة ألنه يكره التشبه بالكفار كل وقت) لما تقدم (قال الشيخ (‪:)2‬‬
‫عا) لما تقدم (وقال (‪ :)3‬ولما‬ ‫التشبه بهم) أي الكفار (منهي عنه إجما ً‬
‫صارت العمامة الصفراء أو الزرقاء من شعارهم حرم لبسها)‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫(ويكره شد وسطه على القميص ألنه من زي اليهود) نقله حرب‪.‬‬
‫وظاهر ما قدمه في اإلنصاف‪ :‬ال يكره (وال بأس به) أي بشد الوسط‬
‫اء) ألنه من عادة‬ ‫بمئزر أو حبل أو نحوه مما ال يشبه الزنار (على القَ َب ِ‬
‫المسلمين قاله القاضي‪ .‬وقال ابن تميم‪ :‬ال بأس بشد القباء في السفر على‬
‫غيره‪ ،‬نصل عليه‪ ،‬واقتصر عليه‪ ،‬قاله في اإلنصاف‪ .‬و(قال ابن عقيل‪:‬‬
‫يكره الشد بالحياصة) وهو رواية حكاها في المبدع وغيره‪ ،‬وظاهره أن‬
‫المقدَّم ال يكره (ويستحب) شد الوسط (بما ال يشبه الزنار) وفعله ابن‬
‫ومن َ‬
‫طقَ ٍة‬ ‫عمر‪ ،‬قاله المجد في شرحه‪ ،‬وقال‪ :‬نص عليه‪ ،‬للخبر (كمنديل ِ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ونحوها ألنه أستر للعورة) قال ابن تميم‪ :‬إال أن يشده لعمل الدنيا فيكره‬
‫(ويكره المرأة شد وسطها في الصالة ولو بغير ما يشبه الزنار) ألن‬
‫ذلك يبين به حجم عجيزتها (‪ )4‬والمطلوب ستر ذلك‪ ،‬ومفهوم كالمه‬
‫أنه ال يكره لها شد وسطها خارج الصالة بما ال يشبه شد الزنار‪ ،‬قال‬
‫في حاشية التنقيح‪ :‬ألن شد المرأة وسطها معهود في زمن النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم وقبله كما صح أن هاجر أم إسماعيل اتخذت ِمن َ‬
‫طقًا‪،‬‬
‫وكان ألسماء بنت أبي بكر نطاقان‪ .‬وأطلق في المبدع والتنقيح والمنتهى‬
‫أنه يكره لها‬
‫_______________‬
‫كشاف القناع (‪.)276/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ويعني بقوله "قاله الشيخ" ابن تيمية‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وهذا من االنفرادات التي شذَّ بها ابن تيمية‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫إذا كان هذا مكرو ًها غير محرم مع أنه يبين حجم العجيزة أي‬ ‫(‪)4‬‬
‫الدبر فماذا يكون غيره؟!‬
‫شد وسطها (وتقدّم‪ :‬ال تضم) المرأة (ثيابها) حال قيامها ألنه َي ُ‬
‫بين فيه‬
‫تقاطيع بدنها فيشبه الحزام" انتهى كالم البهوتي‪.‬‬
‫ومعلوم أن الكراهة عند الشافعية والحنابلة والمالكية في اصطالحهم‬
‫كراهة التنزيه‪ ،‬فهذه نُقُو ٌل صريحة بعدم حرمة لبس الضيق على النساء‬
‫في الصالة وخارجها‪ .‬ولينظر في قوله فيما مر "يبين فيه تقاطيع بدنها"‬
‫ما أصرحه في المراد‪ ،‬فإن تقاطع بدنها ما خصه بالدبر وال بالصدر بل‬
‫عم الجميع‪ ،‬فمن يقطع بتحريم لبس الضيق على النساء فماذا يفعل بهذه‬
‫النقول‪ ،‬فعل يقول رأيي هو الصواب وما سواه باطل‪ ،‬وليعلم أنه قد‬
‫خالف القاعدة المقررة في المذاهب األربعة‪" :‬ال ينكر المختلف فيه إنما‬
‫ينكر المجمع عليه إال أن يكون فاعله يرى تحريمه"‪.‬‬
‫وقال الشيخ عبد القادر الرافعي مفتي الديار المصرية في التحرير‬
‫المختار لرد المحتار ما نصه (‪(" :)1‬قوله‪ :‬وعلى هذا ال يحل النظر‬
‫إلى عورة‪ ...‬الخ) فيه أن ما نقله إنما هو في النظر إلى المرأة وعليها‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كذلك للفرق الظاهر بينهما‪ ،‬وتخصيصهم الحكم المذكور بها يفيد أنه‬
‫صا‬
‫ليس كالمرأة فيه‪ ،‬وعلى ما قاله ال يخفى ما فيه من الحرج خصو ً‬
‫في زماننا المعتاد فيه لبس الثياب اإلفرنجية للكثير من أصناف الناس‬
‫مما يصف ما تحتها‪ ،‬والظاهر إبقاء ما نقله الشارح على عمومه في‬
‫حق الرجل‪ .‬ورأيت في شرح المنتهى الحنبلي (‪ )2‬ما نصه‪ :‬ويجب‬
‫ستر عورة بما ال يصف البشرة أي لونها ألن الستر إنما يحصل بذلك‬
‫ال أن ال يصف حجم العضو ألنه ال يمكن التحرز عنه" اهـ‪.‬‬
‫وقال زكريا األنصاري في كتابه أسنى المطالب شرح روض الطالب‬
‫يضرها بهد سترها اللون أن تحكي الحجم‪ ،‬لكنه للمرأة‬
‫ّ‬ ‫(‪" :)3‬وال‬
‫مكروه وللرجل خالف األولى قاله الماوردي وغيره" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬انظر الكتاب (‪.)307/2‬‬
‫(‪ )2‬شرح منتهى اإلرادات (‪.)141/1‬‬
‫(‪ )3‬أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪.)176/1‬‬
‫وذكر مثل هذا ابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم (‪ ،)1‬والنووي‬
‫في شرح المجموع (‪.)2‬‬
‫وقال اإلمام عالء الدين المرداوي الحنبلي في كتابه اإلنصاف (‪:)3‬‬
‫يضر‪ ،‬قال‬
‫ّ‬ ‫"فأما إن كان –أي الساتر‪ -‬يستر اللون ويصف الخلقة لم‬
‫نص عليه –أي‬
‫يضر إذا وصف التقاطيع وال بأس بذلك‪َّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫األصحاب‪ :‬ال‬
‫أحمد‪ -‬لمشقة االحتراز" اهـ‪.‬‬
‫ضا (‪" :)4‬فأما المرأة فيكره الش ّد فوق ثيابها لئال يحكي‬
‫وقال فيه أي ً‬
‫حجم أعضائها وبدنها‪ .‬انتهى‪ .‬قال ابن تميم وغيره‪ :‬ويكره للمرأة في‬
‫الصالة ش ّد وسطها بمنديل ومنطقة ونحوهما" اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح اإلحياء ما نصه‬
‫(‪" :)5‬وعورة الحرة ما سوى الوجه والكفين ظاهرهما وباطنهما من‬
‫رءوس األصابع إلى الكوعين" ثم قال‪" :‬وشرط الساتر ما منع إدراك‬
‫]‪[Type text‬‬

‫لون البشرة ال حجمها فال يكفي ثوب رقيق وال مهلهل ال يمنع إدراك‬
‫اللون‪ ،‬وال زجاج يحكي اللون ألن مقصود الستر ال يحصل بذلك‪ ،‬أما‬
‫إدراك الحجم فال يضر لكنه للمرأة مكروه وللرجل خالف األولى‪ ،‬قاله‬
‫الماوردي وغيره" اهـ‪.‬‬
‫وروى ابن حبان في صحيحه (‪ :)6‬عن سهل بن سعد قال‪" :‬كن‬
‫النساء يؤمرن في عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في الصالة أن ال‬
‫يرفعن رءوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من األرض من ضيق‬
‫الثياب"‪.‬‬
‫_________________‬
‫المنهاج القويم (‪.)186/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المجموع (‪.)170/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف (‪.)449/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المرجع السابق (‪.)471/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫إتحاف السادة المتقين (‪.)134/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫انظر كتاب اإلحسان (‪.)317/3‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫فيتبين بعدما ذكرنا أن عورة المرأة جميع بدنها سوى وجهها وكفّيها‪،‬‬
‫فض البصر‪،‬‬
‫وأنه يجوز لها كشف الوجه والكفين‪ ،‬وأن على الرجال ّ‬
‫واألحسن أن تسترهما‪ ،‬وأن ما تستعمله المرأة لستر عورتها إن حكى‬
‫الحجم وأظهر اللون ال يكفي‪ ،‬وإن حكى الحجم وستر اللون فهو كافٍ‬
‫سا ال يحكي شيئًا من‬
‫مع الكراهة‪ ،‬ألن المرأة ال تقدر على أن تلبس لبا ً‬
‫عورتها على اإلطالق‪ ،‬واألحسن أن تلبس ما كان أوسع كالجلباب‪،‬‬
‫والكراهية في المذاهب الثالثة مذهب الشافعي ومالك وأحمد هي‬
‫الكراهية التنزيهية أي ما ال عقاب على فعله وفي تركه ثواب‪.‬‬
‫فإن قال قائل‪ :‬قول الفقهاء‪ :‬يكفي ما ستر اللون ولو حكى الجسم‬
‫كسروال ضيق مع الكراهة للمرأة وهو خالف األولى للرجل إنما هو‬
‫في الصالة فقط ال في خارجها‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلنا‪ :‬ذلك باطل مردود لقول ابن حجر الهيتمي وغيره بأن الحكم ال‬
‫يختلف بين حال الصالة وخارج الصالة كما قدمنا‪ .‬قال ابن حجر‬
‫الهيتمي في شرحه المسمى بالمنهاج القويم (‪ )1‬ممزو ًجا بالمتن ما‬
‫سا‬
‫نصه‪(" :‬وشرط الساتر) في الصالة وخارجها أن يشمل المستور لب ً‬
‫ونحوه مع ستر اللون فيكفي (ما يمنع) إدراك (لون البشرة ولو) حكى‬
‫الجسم كسروال ضيق لكنه للمرأة مكروه وخالف األولى للرجل" اهـ‪.‬‬
‫وقد توراد نصوص الشافعية والحنابلة والمالكية في هذه المسئلة في‬
‫أن لبس الضيق للمرأة مكروه وخالف األولى للرجل‪ .‬فليس للحنفي‬
‫الذي اعتمد على قول بعض المتأخرين منهم للكراهة التحريمية للبس‬
‫الضيق الذي يصف حجم العورة في حق الرجال والنساء اإلنكار على‬
‫من يلبسه للقاعدة السابقة المتفق عليها‪" :‬ال ينكر المختلف فيه وإنما‬
‫ينكر المجمع عليه إال أن يكون فاعله يرى تحريمه"‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬المنهاج القويم (‪)186/1‬‬

‫وأما حكم النظر إلى وجه االمرد غير الملتحي فقد ذكر اإلمام الحافظ‬
‫المجتهد ابن القطان ما نصه (‪" :)1‬أنه يحرم في موطن باإلجماع‪،‬‬
‫ويجوز في موطن باإلجماع‪ ،‬ويختلف فيه في موطن‪.‬‬
‫فاألول‪ :‬هو أن يقصد بالنظر إليه التلذذ وإمتاع حاسة البصر‬
‫ضا لجلب الهوى‪ ،‬وولوع النفس الموقع له‬ ‫بمحاسنه‪ ،‬بحيث يكون متعر ً‬
‫في االفتتان‪ .‬هذا مما ال خالف في تحريم النظر إليه بل يحرم باإلجماع‬
‫أن يقصد إلى ذلك‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬هو أن ينظر إليه غير قاصد اللذة‪ ،‬وهو مع ذلك ءامن من‬
‫الفتنة‪ ،‬فهذان شرطان‪ :‬عدم قصد االلتذاذ‪ ،‬وعدم خوف االفتتان‪ .‬فهذا ال‬
‫خالف فيه أنه ال إثم عليه في هذا النظر الواقع منه في هذا الموطن‪،‬‬
‫ويكون حينئذ بنظره إليه بمثابة من ليس له أرب في النساء من الرجال‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يجوز له من النظر إليهم ما يجوز لذلك من النظر إليهن‪ ،‬على ما سنبين‬


‫إن شاء هللا تعالى في باب نظر الرجال إلى النساء‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬هو أن يتوفر له أحد هذين الشرطين دون اآلخر‪ ،‬وذلك أن‬
‫يفوته قصد االلتذاذ فينظر ال بقصد االلتذاذ‪ ،‬فهذا أحد شرطي الجواز"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫قال بعض العلماء‪ :‬وكتاب ابن القطان أحسن ما ألّف في بيان مسائل‬
‫اإلجماع والخالف‪ .‬ومعنى قوله‪" :‬أن يتوفر له أحد هذين الشرطين دون‬
‫اآلخر" أي أنهم اختلفوا فيما إذا كان انتفى قصد اللذة بالنظر إلى األمرد‬
‫ولم يحصل األمن من الفتنة‪ .‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وبما مر من النقول يعلم انتقاض قول بعض المتأخرين من أهل‬
‫القرن الثاني عشر ونحوه إنه يجب ستر المرأة وجهها ال ألنه عورة بل‬
‫دفعًا للفتنة‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬النظر في أحكام النظر (ص‪.)272/‬‬

‫فائدة‪ :‬ذكر الفقهاء الذين ألفوا في قواعد الفقه كالسيوطي‪ ،‬والحافظ‬


‫أبي سعيد العالئي شيخ الحافظ العراقي وغيره‪ ،‬قاعدة من قواعدهم‬
‫وهي‪" :‬درء المفاسد ُمقَ َّد ٌم على جلب المصالح"‪ ،‬واحتج بهذه القاعدة‬
‫بعض المتهورين في هذا العصر لتحريم كشف المرأة وجهها ولم يدر‬
‫أن جواز الكشف مسئلة إجماعية نقلها القاضي عياض المالكي ونقلها‬
‫ابن حجر الهيتمي الشافعي عن جمع كما تقدم‪ ،‬فهذا المتهور خالف‬
‫اإلجماع واستدل بالقاعدة في غير محلها‪ ،‬ألن هذه القاعدة ليست كلية‬
‫بل هي أغلبية كما ذكر ذلك الحافظ أبو سعيد العالئي الشافعي في‬
‫قواعده الفقهية‪ ،‬على أن ابن حجر قال إن هذه القاعدة ال تنطبق إذا كان‬
‫هناك مفسدة مت َ َو ّهمة مع تحقق المصلحة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذا ال ِغ ُّر حمل القاعدة على غير وجهها فقال ما قال‪ ،‬فهو وإن كان‬
‫احتج بما وجد في بعض كتب المتأخرين من الحنفية من أن وجه المرأة‬
‫ليس عورة ولكن يجب ستره دفعًا للفتنة‪ ،‬فقوله يُر ّد بما صح عنه عليه‬
‫الصالة والسالم أنه لم يأمر المرأة الخثعمية بتغطية وجهها لما سألته‬
‫عند الجمرة غداة العيد عن مسئلة في الحج‪ ،‬وكانت شابة وضيئة وكان‬
‫الفضل خلف النبي فجعل الفضل ينظر إليها أعجبه حسنها‪ ،‬وجعلت هي‬
‫سترا على وجهك مع‬ ‫تنظر إليه أعجبها حسنه‪ ،‬حيث لم يقل لها اسدلي ً‬
‫المجافاة من أجل إحرامك مع حصول الفتنة أي من غير أن يلصق‬
‫الستر بوجهك فإن ذلك جائز للمحرمة‪ .‬وقد قال العباس للرسول‪ :‬يا‬
‫رسول هللا لم لويت عنق ابن عمك فقال‪" :‬لقد رأيت شابًا وشابة حدثة فلم‬
‫ءامن الشيطان عليهما"‪.‬‬
‫فتبين مما ذكر من اإلجماع وهذا الحديث المذكور أنه ال يبنى حكم‬
‫كثيرا من الناس تحصل لهم فتنة بالنظر إلى‬
‫ً‬ ‫عام على األفراد لمجرد أن‬
‫وجه المرأة‪ ،‬إنما يبنى وجوب غض البصر على من يخشى االفتتان وال‬
‫يجعل حكمهُ ساريًا على جميع المكلفين‪.‬‬

‫بيان‬
‫كيفية استقبال القبلة في الصالة‬
‫ليعلم أن استقبال القبلة من شروط الصالة‪ ،‬إما يقينًا لمن أمكنه علم‬
‫القبلة بأن كان بحضرة البيت أو بم ّكة وال حائل بينه وبين الكعبة مثالً‪،‬‬
‫علم أي مشاهدة‪ ،‬فإن فقد ذلك اجتهد بدليل‬ ‫وإال أخذ بقول ثقة يخبر عن ٍ‬
‫ت نعش‬‫من أدلة القبلة وهي كثيرة‪ ،‬ومنها القطب وهو نجم من بنا ِ‬
‫الصغرى بين الفَ ْرقَ َدين وال َج ْدي‪ ،‬ويختلف باختالف األقاليم‪ ،‬ففي العراق‬
‫يجعله المصلّي خلف أذنه اليمنى‪ ،‬وفي مصر خلف اليسرى‪ ،‬وفي الشام‬
‫وراءه وقيل ينحرف بدمشق وما قاربها إلى الشرق قليالً‪ ،‬فمن كان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جنوب الكعبة جعله بين عينيه ومن كان في شمالها جعله خلف ظهره‪،‬‬
‫و َمن كان شرقي الكعبة فقبلته إلى الغرب‪ ،‬و َمن كان غربيها فقبلته إلى‬
‫الشرق‪ .‬وال يلتفت إلى ما يخالف هذا‪ ،‬فإن بعض الباحثين عن اتجاه‬
‫القبلة تركوا هذا األمر المقرر في كتب العلماء وتبعوا أهواءهم وادعوا‬
‫أن أهل أمريكا الشمالية يتجهون إلى الشمال الشرقي‪ ،‬وهؤالء‬
‫موجودون في كندا والواليات المتحدة األميركية فإن مكة تقع منهم بين‬
‫الجنوب والشرق‪.‬‬
‫ويدل على أن قبلتهم إلى الجنوب الشرقي إجماع أهل اإلسالم على‬
‫أن أهل المغرب يتوجهون إلى المشرق وأهل المشرق يتوجهون إلى‬
‫المغرب‪ ،‬وأهل الشمال يتوجهون إلى الجنوب‪ ،‬وأهل الجنوب يتوجهون‬
‫وغيره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إلى الشمال‪ .‬وقد نقل ذلك الرافعي (‪ )1‬عن أبي حنيفة‬
‫وفي كتاب ابن عابدين الحنفي (‪" :)2‬ثم اعلم أنه ذكر في المعراج‬
‫عن شيخه أن جهة الكعبة هي الجانب الذي إذا توجه إليه اإلنسان يكون‬
‫مسامتًا للكعبة‪ ،‬أو هوائها تحقيقًا أو تقريبًا‪ ،‬ومعنى التحقيق‪ :‬أنه لو‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬انظر فتح العزيز شرح الوجيز (‪.)242/3‬‬
‫(‪ )2‬ر ّد المحتار على ّ‬
‫الدر المختار (‪.)287/1‬‬
‫مارا على‬‫فرض خط من تلقاء وجهه على زاوية قائمة إلى األفق يكون ًّ‬
‫الكعبة أو هوائها‪ ،‬ومعنى التقريب‪ :‬أن يكون منحرفًا عنها أو عن هوائها‬
‫بما ال تزول به المقابلة بالكلية بأن يبقى شئ من سطح الوجه مسامتًا لها‬
‫أو لهوائها‪ .‬وبيانه أن المقابلة في مسافة قريبة تزول بانتقال قليل من‬
‫اليمين أو الشمال مناسب لها‪ ،‬وفي البعيدة ال تزول إال بانتقال كثير‬
‫مناسب لها‪ ،‬فإنه لو قابل إنسان ءاخر في مسافة ذراع مثالً تزول تلك‬
‫المقابلة بانتقال أحدهما يمينًا بذراع‪ ،‬وإذا وقعت بقدر ميل أو فرسخ ال‬
‫طا‬‫تزول إال بمائة ذراع أو نحوها‪ ،‬ولما بعدت مكة عن ديارنا بُعدًا مفر ً‬
‫تتحقق المقابلة إليها في مواضع كثيرة في مسافة بعيدة‪ ،‬فلو فرضنا ًّ‬
‫خطا‬
‫من تلقاء وجه مستقبِل الكعبة على التحقيق في هذه البالء ثم فرضنا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫خطا ءاخر يقطعه على زاويتين قائمتين من جانب يمين المستقبل‬ ‫ًّ‬
‫وشماله‪ ،‬ال تزول تلك المقابلة والتو ّجه باالنتقال إلى اليمين والشمال‬
‫على ذلك الخط بفراسخ كثيرة‪ ،‬فلذا وضع العلماء القبلة في بالد قريبة‬
‫على ِس ْمت واحد‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ونقله في الفتح والبحر وغيرهما‪ ،‬وشروح ال ُم ْنيَة وغيرها‪ ،‬وذكره ابن‬
‫الهمام في زاد الفقير وعبارة الدرر هكذا‪ :‬وجهتها أن يصل الخط‬
‫المار بالكعبة على استقامة بحيث‬‫ّ‬ ‫الخارج من جبين المصلّي إلى الخط‬
‫يحصل قائمتان‪ ،‬أو نقول هو أن تقع الكعبة فيما بين ّ‬
‫خطين يلتقيان في‬
‫الدماغ فيخرجان إلى العينين كساقَي مثلث‪ ،‬كذا قال النحرير التفتازاني‬
‫في شرح الكشاف‪ .‬فيعلم منه أنه لو انحرف عن العين انحرافًا ال تزول‬
‫منه المقابلة بالكلية جاز‪ ،‬ويؤيده ما قال في الظهيرية‪ :‬إذا تيامن أو‬
‫تياسر تجوز‪ ،‬ألن وجه اإلنسان مقوس‪ ،‬ألن عند التيامن أو التياسر‬
‫يكون أحد جوانبه إلى القبلة"‪ .‬انتهى كالم ابن عابدين‪.‬‬
‫وقوله في الدرر‪ :‬على استقامة متعلق بقوله يصل‪ ،‬ألنه لو وصل إليه‬
‫معو ًّجا لم تحصل قائمتان بل تكون إحداهما حادّة واألخرى منفرجة كما‬
‫مارا على المصلى على ما‬ ‫بيّنّا‪ .‬ثم إنه في المعراج جعل الخط الثاني ًّ‬
‫مارا على الكعبة"‪ .‬اهـ‪ .‬وهذا‬
‫المتبادر من عبارته‪ ،‬وفي الدرر جعله ًّ‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫ال يتم ألهل كندا والواليات المتحدة إال إذا اتجهوا إلى الجنوب الشرقي‪.‬‬
‫وعلى هذا شيخ األزهر بمصر فقد ورد إليه السؤال عن اتجاه‬
‫القبلة في كندا من بعض ساكنيها المسلمين فقال ما نصه‪" :‬وبإعادة‬
‫النظر فيما كتب في موضوع اتجاه القبلة في كندا‪ ،‬تقضي القواعد‬
‫الشرعية بأن االتجاه الصحيح للقبلة في هذا الموضع هو اتجاه الجنوب‬
‫الشرقي‪ ،‬فإنه االمتداد الصحيح لخط القبلة من الموقع الذي فيه المسجد‪،‬‬
‫فأما قصر خط الشمال الشرقي فذلك يستخدم في السير إليها ال في‬
‫اتخاذه قبلة"‪ .‬انتهى نص فتوى شيخ األزهر (‪.)1‬‬
‫و َمن كانَ ُمستطيعًا لالجتهاد ال يقلّد‪ ،‬ومن عجز عن االجتهاد فإنه يُقلّد‬
‫ثقة عارفًا‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال النووي (‪ )2‬في كتابه منهاج الطالبين في بحث القبلة‪" :‬و َمن‬
‫يخبر‬
‫ُ‬ ‫أمكنهُ علم القبلة َح ُر َم عليه التقليد واالجتهاد‪ ،‬وإال أخذ بقول ثق ٍة‬
‫عن علم‪ ،‬فإن فقد وأمكن االجتها ُد ح ُر َم التقليد"‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬و َم ْن عجزَ عن االجتهاد وتعلُّ ِم األدلّة كأعمى قلّد ثقة عارفًا"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫فليتعلّم الشخص أدلّة القبلة ثم يطبّق ما سبق ذكره من كالم النووي‪.‬‬
‫وأما األدوات المستحدثة لالستدالل بها على جهة القبلة‪ ،‬فإنها إن كانت‬
‫مبنية على ما سبق وذكرنا‪ ،‬فإنه يجوز االعتماد عليها وإال فال‪.‬‬
‫ثم إن المسلمين منذ قدموا إلى بالد أمريكا الشمالية من نحو مائة سنة‬
‫تقريبًا قاموا بأداء صلواتهم متوجهين إلى جهة الجنوب الشرقي وذلك‬
‫أن كندا والواليات المتحدة األمريكية تقعان إلى شمال غرب مكة‬
‫المكرمة كما ال يختلف في ذلك اثنان فوجب بنا ًء على ذلك أن يتوجه‬
‫المصلي فيهما إلى الجنوب الشرقي‪ ،‬ولذلك بُنِيَت المساج ُد ومحاريبُها‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬الفتوى الصادرة من مكتب شيخ األزهر بمصر بتاريخ‬
‫(‪.)1994/2/7‬‬
‫(‪ )2‬منهاج الطالبين (ص‪.)9/‬‬
‫إلى الجنوب الشرقي ودُفن موتى المسلمين في تلك البالد ُم َو َّجهينَ إلى‬
‫تلك الجهة وما زالت مقابر المسلمين القديمة وبعض مساجدها القديمة‬
‫في تلك السواحل الشرقية والغربية شاهدة على ذلك‪ ،‬لكن منذ نحو‬
‫ثالثين سنة نشر رجل باكستاني يقال له عبد هللا األبدالي كتابًا ادّعى فيه‬
‫أن القبلة لمسلمي أمريكا الشمالية هي الشمال الشرقي ولم يعتمد في هذا‬
‫ي أو نق ٍل عن الفقهاء بل هو باعترافه خا ٍل عن المعرفة‬ ‫على علم شرع ّ‬
‫وعار عنها فتلقف دعواه أناس من حزب اإلخوان ثم تبعهم‬ ‫ٍ‬ ‫بعلوم الدين‬
‫الوهابية وسعوا في نشرها وبنوا محاريب المساجد والمصليات الجديدة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كثير من الناس ودفنوا أكثر‬


‫على ما يوافقها حتى أفسدوا صلوات ٍ‬
‫الموتى إلى غير القبلة‪.‬‬
‫نص الفقهاء ومنهم اإلمام أبو حنيفة رحمه هللا على‬
‫وإذا قيل لهم‪ :‬قد َّ‬
‫أن أهل المشرق قبلتهم المغرب وأهل الشمال قبلتهم الجنوب فمن كان‬
‫ي قالوا‪ :‬الفقهاء الماضون‬ ‫ي فقبلتهم إلى الجنوب الشرق ّ‬
‫في الشمال الغرب ّ‬
‫لم يكن عندهم من المعرفة بأمور الفلك ما عندنا وال كان عندهم من‬
‫اآلالت كما نملك فال يلزمنا اتباعهم‪ ،‬بل قال بعضهم‪ :‬لئن كان الصحابة‬
‫والتابعون ومن جاء بعدهم قد أخطئوا في هذا األمر فال يلزمنا اتباع‬
‫خطئهم‪ ،‬فأبئس به من رجل ومن قول فقد ضلل األمة جمعاء بمن فيهم‬
‫صحابة رسول هللا عليه الصالة والسالم وادعى أنه عرف ما جهلوه‬
‫وأصاب فيما أخطئوا فيه جميعًا وكفى بهذا ضالالً‪.‬‬
‫وعمدة هؤالء في قولهم هذا أن الرجل إذا انطلق من أمريكا الشمالية‬
‫حول اتجاهه إلى الشرق ثم بعد‬ ‫ي ثم بعد مدة ّ‬ ‫في اتجاه الشمال الشرق ّ‬
‫ذلك حوله إلى الجنوب الشرقي إلى مكة تكون طريقه هذه أقصر‬
‫والمسافة التي يقطعها من أمريكا الشمالية إلى مكة أقل مما يحتاجه الذي‬
‫يسلك اتجاه الجنوب الشرقي طول الوقت هكذا قالوا‪ ،‬ولم يسبقهم إلى‬
‫جعل قصر المسافة هو العمدة في تحديد القبلة فقيه معتبر وال وافقهم‬
‫على هذه القاعدة المبتدعة فقه معاصر‪ ،‬كيف وقد قال ربنا تبارك‬
‫فولُّوا ُو ُجو َه ُك ْم ش ْ‬
‫َط َرهُ} [سورة البقرة‪]150/‬‬ ‫{وحيب ما ُك ْنتُم َ‬
‫ُ‬ ‫وتعالى‪:‬‬
‫ي رحمه هللا تعالى الشطر بالجهة وبذلك فسره َمن قبله من‬ ‫س َر الشافع ّ‬
‫وف َّ‬
‫العلماء ومن بعده بل ال يفهم من هذه الكلمة إلى هذا المعنى‪ ،‬وهذا‬
‫المعنى هو الذي ذكره علماء اللغة كالزجاج وغيره‪ .‬وقد انعقد اإلجماع‬
‫ي على النصوص القولية واألفعال النبوية على أن العبرة بالجهة ال‬ ‫المبن ّ‬
‫بقصر المسافة وطولها كيف والمسلمون من أيام رسول هللا عليه الصالة‬
‫والسالم وبناء على القواعد التي علَّمهم إياها كانوا ينظرون لتحديد القبلة‬
‫في صلواتهم ومحاريبهم إلى موقعهم من الكعبة فإن كانوا شمالها‬
‫اتجهوا جنوبًا أو جنوببها اتجهوا شماالً أو شرقها اتجهوا غربًا أو غربها‬
‫اتجهوا شرقًا أو إلى الشمال الغربي منها اتجهوا إلى الجنوب الشرقي‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهكذا‪ ،‬وكثير من المساجد القديمة ما زال قائ ًما في البالد القريبة من‬
‫مكة والبعيدة منها كبالد المغرب العربي واألندلس وبالد العجم يشهد‬
‫فضالً عن نصوص الشرع وأقوال أهل العلم على ذلك ولم يقل فقيه‬
‫متقدم قد تعالوا نُقيس المسافة من بلدنا إلى مكة ونعتبر ذلك في الطرق‬
‫المتعددة ثم نعتمد أقصرها لتحديد القبلة اهـ‪ ،‬فال يجوز لنا أن نتخلى عن‬
‫ي هللا عليه الصالة والسالم وتناقلها الصحابة‬ ‫سسها نب ّ‬
‫القاعدة التي أ ّ‬
‫والتابعون وأئمة المسلمون لنتبع قاعدة مبتدعة ما أنزل هللا بها من‬
‫سلطان وإنما ابتدعها من لم يمارس الفقه في الدين ال أصوالً وال فرو ً‬
‫عا‬
‫ي جاد الحق في هذا‬ ‫ولذلك لما سئل شيخ االزهر السابق جاد الحق عل ّ‬
‫األمر أجاب بأنه ال عبرة بقصر المسافة وطولها وإنما العبرة بالجهة‬
‫ي‪ ،‬وقد اشتهر‬ ‫ولذلك فالقبلة في شمال أمريكا هي إلى الجنوب الشرق ّ‬
‫طبع وانتشر‪.‬‬‫جوابه هذا و ُ‬

‫والعجيب كيف استجاز هؤالء االغمار االدّعاء بأن قبلة أهل شمال‬
‫أمريكا هي إلى الشمال الشرقي مع إقرارهم بأن أمريكا الشمالية هي‬
‫كما يدل اسمها إلى شمال الكعبة وعلى هذا كل الجغرافيين ال ُم ْح َدثين‬
‫ضا ولم يخالف في ذلك واحد منهم وكل الخرائط التي رسموها‬ ‫أي ً‬
‫لألرض سواء كانت مسقطة على مسطح أو كرة أو مخروط تبين ذلك‬
‫ال تشذ منها واحدة‪ ،‬فهؤالء الجهلة جعلوا القبلة في أمريكا الشمالية‬
‫كالقبلة في البرازيل واألرجنتين وغيرها من بالد أمريكا الجنوبية‬
‫الواقعة إلى جنوب الكعبة فإنا هلل وإنا إليه راجعون‪.‬‬
‫فالواجب مكافحة هذا المنكر وتعليم أهل تلك البالد االعتماد على‬
‫القواعد الشرعية دون أقوال الجهلة بعلم الدين ّ‬
‫وأن أه ّل الربع الشمالي‬
‫الغربي ومنهم أهل كندا والواليات المتحدة األمريكية قبلتهم إلى الجنوب‬
‫الشرقي على ما نص عليه أهل الفقه‪ ،‬وقد بيّن النووي رحمه هللا على‬
‫أنه ال يجوز استفتاء الجاهل بعلم الدين وال الفاسق ولو كان عال ًما اهـ‬
‫ي‬
‫ي المالكي رحمه هللا على أن أمر القبلة شأن فقه ّ‬ ‫ونص الوانشريس ّ‬
‫ي يُرج ُع فيه إلى قواعد الشريعة وال تجعل اآلالت حاكمة فيه على‬ ‫دين ّ‬
‫تلك القواعد‪ ،‬ومثله قال خير الدين الرملي الشافعي وغيره‪ ،‬وال شك في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صواب كالمه رحمه هللا إذ ال يرضى مو ّحد أن يجعل القاعدة المبتدعة‬


‫ت مقدَّمةً في االعتبار على القواعد‬
‫المستنبطة من مقاييس ءال ٍة أو ءاال ٍ‬
‫الشرعية والتعاليم النبوية بل من هداه هللا يستعمل اآلالت الصحيحة‬
‫والمقاييس الصائبة لنصرة الشرع وعلى وفق ما أمر به ال لمعارضته‪،‬‬
‫وهللا تعالى أعلم وهو الموفق للصواب‪.‬‬
‫حرف اتجاه القبلة إلى الشمال الشرقي قد‬ ‫تتمة‪ :‬تَبَيَّنَ مما تقدّم ّ‬
‫أن من َّ‬
‫خالفوا نص القرءان وخالفوا إجماع علماء اإلسالم وال يستغرب هذا‬
‫منهم إذ هم اتبعوا سيد قطب في تكفير البشرية جمعاء فإنّهم كفّروا‬
‫قر‬
‫الحاكم إذا حكم بحكم واحد بالقانون على خالف القرءان ولو كان يُ ُّ‬
‫أن حكم الشرع هو الصحيح‪ ،‬وكفَّروا الرعية حتى المؤذنين والفالحين‬
‫ورعاة الغنم ألنهم لم يثوروا على الحكام فلم يبق بزعمهم مسلم إال هم‬
‫فتبعوا الخوارج البيهسية في اعتقادهم ثم زادوا عليهم بمخالفة اإلجماع‬
‫ضا فالخوارج القدماء لم يخالفوا فيها وأما خوارج سيد‬ ‫في مسئلة القبلة أي ً‬
‫قطب فخالفوا في مسئلة القبلة حتى إخوانهم الخوارج السابقين‪.‬‬
‫والعجيب أن بعضهم يصلّون في بيوتهم إلى االتجاه الصحيح للقبلة‬
‫أي إلى الجنوب الشرقي وأما في مراكزهم التي يقصدونها للصالة‬
‫والتي بعضها مساجد فيصلون إلى الشمال الشرقي فإذا قيل لهم في ذلك‬
‫قالوا‪ :‬نريد موافقة الجماعة وهل معنى الجماعة التي وردت في الحديث‬
‫لزومهم ما ذهب إليه هؤالء من الفهم المخطئ إنما الجماعة الذين ذُكروا‬
‫في حديث‪" :‬ثالث ال يَ ِغ ُّل بهن قلب مسلم‪ :‬إخالص العمل هلل‪ ،‬ومناصحة‬
‫أولي األمر‪ ،‬ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط َمن وراءهم" هم إجماع‬
‫علماء اإلسالم‪ .‬والحديث صحيح رواه ابن حبان (‪.)1‬‬
‫ويؤيد هذا المعنى ما ثبت (‪ )2‬عن ابن مسعود صاحب رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ّ‬
‫إن هللا أجار أمة محمد صلى هللا عليه وسلم من أن‬
‫يجتمعوا على ضاللة‪.‬‬
‫فائدة مهمة‪:‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح إحياء علوم‬


‫الدين ما نصه (‪(" :)3‬ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر وهو علم القبلة‬
‫واألوقات) وقد صنف العلماء في كل منهما كتبًا مختصة بمعرفتهما‬
‫ضا واجب في الحضر) ألن معرفة األوقات أكيدة لتصحيح‬ ‫(وذلك أي ً‬
‫العبادات واستقبال القبلة شرط لصحة الفريضة إال في شدة الخوف‬
‫ضا إال في شدة الخوف والسفر المباح كما تقدم‪،‬‬ ‫وشرط لصحة النافلة أي ً‬
‫والعاجز كالمريض ال يجد من يوجهه والربوط على خشبة يصلي حيت‬
‫توجه (ولكن في الحضر) يجد (من يكفيه من محراب) من محاريب‬
‫المساجد المشهورة (متفق عليه) وأصل المحراب صدر المجلس‬
‫والغرفة والمراد هنا محراب المسجد وهو الموضع الذي يقف فيه اإلمام‬
‫للصالة (يغنيه عن طلب القبلة و) عن (مؤذن) عارف (يراعي الوقت)‬
‫ويحافظ عليه (فيغنيه عن طلب علم الوقت و) أما (المسافر) فإنه (قد‬
‫تشتبه عليه القبلة) لعدم محراب (وقد يلتبس عليه الوقت) لعدم مؤذن‬
‫(فال بد له من علم أدلة القبلة والمواقيت) قدر ما يعرف به القبلة‬
‫ومواقيت الصالة‪ ،‬قال الرافعي‪ :‬وأما التمكن من أدلة القبلة فينبني على‬
‫أن تعلمها فرض كفاية أم عين واألصح فرض عين‪ ،‬قال النووي‪:‬‬
‫سفرا ففرض عين لعموم حاجة‬ ‫المختار ما قاله غيره أنه إن أراد ً‬
‫المسافر إليها وكثرة االشتباه عليه وإال ففرض كفاية إذ لم ينقل أن النبي‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)35/2‬‬
‫(‪ )2‬انظر الفقيه والمتفقه (‪ )167/1‬للخطيب البغدادي‪.‬‬
‫(‪ )3‬اتحاف السادة المتقين (‪.)438-440/6‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم ثم السلف ألزموا ءاحاد الناس بذلك بخالف أركان‬
‫الصالة وشروطها وهللا أعلم‪.‬‬
‫قال الرافعي‪ :‬فإن قلنا ليس بفرض عين صلى بالتقليد وال يقضي‬
‫كاألعمى‪ ،‬وإن قلنا‪ :‬فرض عين لم يجز التقليد فإن قلد قضى لتقصيره‬
‫وإن ضاق الوقت عن التعلم فهو كالعالم إذا تحير وفيه خالف‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(أما أدلة القبلة فهي ثالثة أقسام أرضية كاالستدالل بالجبال والقرى‬
‫واألنهار‪ ،‬أو هوائية كاالستدالل بالرياح) األربع (شمالها وجنوبها‬
‫وصباها ودبورها) فالشمال تأتي من ناحية الشام وهي حارة في الصيف‬
‫بارح والجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية والصبا تأتي من مشرق‬
‫ضا والدبور تأتي من ناحية المغرب وهو أضعفها‬ ‫الشمس وهي القبول أي ً‬
‫الختالفها كما قاله النووي (أو سماوية وهي النجوم) وهي أقواها (فأما‬
‫األرضية والهوائية فتختلف باختالف البالد) واألقطار (فرب طريف فيه‬
‫جبل مرتفع) أو أكمة عالية (يعلن أنه على يمين المستقبل أو شماله أو‬
‫ورائه أو قدامه فليعلم ذلك وليفهمه‪ .‬وكذلك الرياح قد تدل في بعض‬
‫البالد) دون بعضها (فليتفهم ذلك ولسنا نقدر على استقصاء ذلك إذ لكل‬
‫بلد وإقليم حكم ءاخر) فالضبط فيه ال يخلو من العسر (أما السماوية‬
‫فأدلتها تنقسم إلى نهارية وإلى ليلية أما النهارية فكالشمس فال بد أن‬
‫يراعي قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أين تقع منه أهي‬
‫بين الجنبين ميالً أكثر من ذلك فإن الشمس ال تعدو في البالد الشمالية)‬
‫وهي ناحية الشام (هذه المواقع فإذا حفظ ذلك فمهما عرف الزوال بدليله‬
‫الذي سنذكره عرف القبلة به) ال محالة‪.‬‬
‫(وكذلك يراعي مواقع الشمي منه وقت العصر فإنه في هذين الوقتين‬
‫ضا لما كان يختلف في البالد فليس‬
‫يحتاج إلى القبلة بالضرورة وهذا أي ً‬
‫يمكن استقصاؤه) وفي نسخة استيفاؤه‪.‬‬
‫(وأما القبلة وقت المغرب فإنها تدرك بموضع الغروب وذلك أن‬
‫تحفظ أن الشمس تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو‬
‫ضا تعرف القبلة للعشاء األخيرة وبمشرق الشمس تعرف‬ ‫قفاه وبالشفق أي ً‬
‫القبلة لصالة الصبح فكأن الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس‬
‫ولكن يختلف ذلك باختالف الشتاء والصيف فإن المشارق والمغارب‬
‫ب} [سورة‬ ‫ق وال َمغَار ِ‬
‫َار ِ‬
‫ب ال َمش ِ‬
‫كثيرة) كما يرشد إليه قوله تعالى‪{ :‬بِ َر ّ ِ‬
‫المعارج‪( ]40/‬وإن كانت محصورة في جهتين) كما يرشده إليه قوله‬
‫غر َبين} [سورة الرحمن‪ ]17/‬فال بد من‬ ‫تعالى‪{ :‬ربُّ ال َم ْش ِرقَ ِ‬
‫ين وربُّ ال َم ِ‬
‫ضا (ولكن قد يصلي المغرب والعشاء بعد غيبوبة الشفق فال‬ ‫تعلم ذلك أي ً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫يمكنه أن يستدل على القبلة به فعليه أن يراعي موضع القطب) بالضم‬


‫(وهو الكوكب) الصغير (الذي يقال له الجدي) وفي تعبيره هذا مسامحة‬
‫فإن الذي عرفه غيره من علماء هذا الفن أنه نجم صغير في بنات نعش‬
‫الصغرى بين الفرقدين والجدي وهو (كالثابت ال تظهر حركته عن‬
‫ي قطبًا تشبي ًها له بقطب الرحى (وذلك إما أن يكون‬ ‫س ّم َ‬
‫موضعه) ولذلك ُ‬
‫على قفا المستقبل أو على منكبه األيسر) أو خلف أذنه اليمنى (في البالد‬
‫الشمالية من مكة) كالكوفة وبغداد وهمدان وقزوين وطبرستان وجرجان‬
‫وما واالها (وفي البالد الجنوبية كاليمن وما وراءها فيقع في مقابلة‬
‫المستقبل فليعلم ذلك وما عرفه) حالة كونه (في بلده فليعمل عليه في‬
‫الطريق كله) إذا سافر (إال إذا طال السفر) وامت ّد بأن يكون المقصد‬
‫بعيدًا كأن يتوجه الشامي إلى اليمن مثالً أو بالعكس (فالمسافة إن بعدت‬
‫اختلف موقع الشمس) في وسط النهار (و) كذا اختلف (موضع القطب‬
‫وموضع المشارق والمغارب إال أن ينتهي في أثناء سفره إلى بالد‬
‫فينبغي أن يسأل أهل المصر) وفي نسخة أهل البصيرة (أو يراقب هذه‬
‫الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك)" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال ما نصه (‪(" :)1‬فإذا فهم معنى العين والجهة فأقول‪ :‬الذي‬
‫يصح عندنا في الفتوى أن المطلوب) باالجتهاد (العين إن كانت الكعبة‬
‫مما يمكن رؤيتها) وهو أظهر القولين واتفق العراقيون على تصحيحه‬
‫كما تقدم (وإن كان يحتاج إلى االستدالل عليها) باألدلة (لتعذر رؤيتها)‬
‫بأن حال بينه وبينها حائل أصلي كالجبل أو طارئ كالبناء (فيكفي‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬إتحاف السادة المتقين (‪.)445/4‬‬
‫استقبال الجهة)" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن إخراج الحروف من مخارجها‬
‫في الصالة شرط لصحة الصالة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أن هللا تعالى جعل للصالة أركانًا وشرو ً‬


‫طا ال تص ُّح الصالة ُ‬ ‫اعلم ّ‬
‫بدونها‪ ،‬ومن هذه األركان الفاتحة‪ ،‬فقد قال عليه الصالة والسالم‪" :‬ال‬
‫وغيره‪ ،‬فال بُ ّد‬
‫ُ‬ ‫صالة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" رواه الترمذي (‪)1‬‬
‫لقرءاة الفاتحة في الصالة من اإلتيان بالبسملة وهي قول بسم هللا‬
‫ترك واحدة‬ ‫الرحمن الرحيم‪ ،‬والتشديدات وهي أربع عشرة شدّة‪ ،‬ف َمن َ‬
‫منها لم تص ّح فاتحته كأن قال‪ :‬إياك بتخفيف الياء بدل {إيّاك} بتشديدها‪،‬‬
‫أو قال مالك يوم الدين بتخفيف الدال بدل تشديدها ونحو ذلك‪ ،‬وال بد من‬
‫المواالة وذلك بأن ال يفصل بين شئ منها وما بعده فصالً طويالً أو‬
‫قصيرا بنيّة قطع الصالة‪ ،‬وكذا الترتيب أي اإلتيان بها على نظمها‬
‫ً‬
‫المعروف‪ ،‬وإخراج الحروف من مخارجها‪.‬‬
‫وهذا األمر االخير ال ب ّد من االعتناء به كي يُقرأ القرءان على حسب‬
‫ما أنزل‪ ،‬فال يبدل القارئ الذا َل زايًا فيقرأ‪{ :‬الذينَ } بالزاي بدل الذال‪،‬‬
‫عين} بالطاء بدل التاء‪ ،‬وال‪{ :‬المستَقيم} بالكاف بدل القاف وال‬ ‫وال‪{ :‬نست َ ُ‬
‫بحرف بين القاف والكاف‪ ،‬وال الضاد داالً مفخمة في‪{ :‬وال الض َِّالّين}‪.‬‬
‫كثيرا من‬
‫ً‬ ‫وأولى الحروف عناية بإخراجها من مخرجها الصاد‪ّ ،‬‬
‫فإن‬
‫النّاس يأتون بها بين الصاد والسين ال هي صا ٌد محضة وال هي ٌ‬
‫سين‬
‫محضة‪ ،‬وهي حرف إطباق واستعالء وهمس وإصمات ورخاوة‬
‫نص على ذلك غير‬ ‫وصفير‪ ،‬ويشاركها في الصفير الزاي والسين‪ ،‬كما ّ‬
‫واحد من علماء التجويد‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬جامع الترمذي‪ :‬أبواب الصالة‪ :‬باب ما جاء في القراءة خلف‬
‫اإلمام‪.‬‬

‫قال شمس الدين بن الجزري (‪ )1‬في كتابه التمهيد في علوم التجويد‬


‫ما نصه‪" :‬الثاني عشر حروف الصفير وهي ثالثة‪ :‬الصاد والزاي‬
‫والسين‪ ،‬س ّميت بذلك ألن الصوت يخرج معها عند النطق بها يشبه‬
‫]‪[Type text‬‬

‫القوة‪ ،‬والصا ُد أقواها لإلطباق‬


‫الصفير‪ ،‬فالصفير من عالمات ّ‬
‫واالستعالء اللذين فيها‪ ،‬والزاي تليها لجهر فيها‪ ،‬والسين أضعفها لهمس‬
‫فيها" اهـ‪.‬‬
‫قال زكريا األنصاري الشافعي (‪ )2‬وهو أخذ علوم القراءة من شمس‬
‫"صفيرها أي حروف‬ ‫ُ‬ ‫الدين بن الجزري في شرح الجزرية ما نصه‪:‬‬
‫الصفير‪ ،‬صا ٌد ُمهملة وزاي وسين مهملة‪ ،‬س ّميت بذلك لصوت يخرج‬
‫معها بصفير يشبه صفير الطائر‪ ،‬وفيها ألجل صفيرها قوة‪ ،‬وأقواها في‬
‫ذلك الصاد لإلطباق واالستعالء‪ ،‬وتليها الزاي للجهر‪ ،‬ث ّم السين" اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن الحاجب (‪ )3‬في الشافية‪" :‬وحروف الصفير ما يُصفَ ُر بها‬
‫وهي‪ :‬الصا ُد والزاي والسين" اهـ‪.‬‬
‫وقال النووي في المجموع (‪ )4‬نقالً عن اإلمام أبي محمد الجويني‬
‫بعض‬
‫َ‬ ‫صه‪" :‬ولو أخر َج‬ ‫عبد هللا بن يوسف والد إمام الحرمين ما ن ّ‬
‫نستعين تُشبهُ التا ُء الدا َل‪ ،‬أو الصاد‬
‫ُ‬ ‫غير مخرجه بأن يقول‬ ‫الحروف من ِ‬
‫ِ‬
‫بسين محضة بل بينهما‪ ،‬فإن كان ال يمكنهُ التعلّم‬ ‫ٍ‬ ‫ال بصاد محضة وال‬
‫ص ّحت صالته‪ ،‬وإن أمكنه وجب التعلّم ويلز ُمهُ قضا ُء ك ّل صالة في‬
‫التفريط في التعلَم هذا حكم الفاتحة" اهـ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫زمن‬
‫ِ‬
‫____________‬
‫التمهيد في علوم التجويد (ص‪.)100/‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الدقائق المحكمة في شرح المقدمة الجزرية في علم التجويد‪ ،‬باب‬ ‫(‪)2‬‬
‫حروف الصفير والقلقلة (ص‪.)41/‬‬
‫شرح شافية ابن الحاجب (‪.)258/3‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)393/3‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وقال ابن مالك رحمه هللا وهو إما ٌم في اللغة والقراءة والنحو في‬
‫ع‬
‫تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد (‪ )1‬ما نصه‪" :‬لهذه الحروف فرو ٌ‬
‫تُست َ ُ‬
‫حسن وهي‪ :‬الهمزة المس ّهلة والغُنّة ومخرجها الخيشوم‪ ،‬وألفا اإلمالة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والتفخيم‪ ،‬والشين كالجيم‪ ،‬والصاد كالزاي‪ ،‬وفروع تستقبح وهي‪ :‬كاف‬


‫كجيم وبالعكس‪ ،‬وجيم كشين‪ ،‬وصاد كسين‪ ،‬وطا ٌء كتاء‪ ،‬وظا ٌء كثاء‪،‬‬
‫وبا ٌء كفاء‪ ،‬وضا ٌد ضعيفة" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد‪ ،‬باب مخارج الحروف‬
‫(ص‪.)320/‬‬

‫بيان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كيف يثبت صيام رمضان‬


‫في الشرع‬
‫اعلم أنه يجب صوم رمضان بأحد أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬رؤية هالل رمضان بعد اليوم التاسع والعشرين من شعبان‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬استكمال شعبان ثالثين يو ًما لقوله عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته‪ ،‬فإن ُ‬
‫غ َّم عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثالثين‬
‫يو ًما" (‪.)1‬‬
‫ساب والمنجمين فال يعتمد عليه في إثبات رمضان وذلك‬
‫وأما قول الح ّ‬
‫في المذاهب األربعة‪ ،‬وهاك نصوصهم‪:‬‬
‫ففي كتاب أسنى المطالب شرح روض الطالب لزكريا األنصاري (‪)2‬‬
‫الشافعي ما نصه‪" :‬وال عبرة بالمنجم –أي بقوله‪ -‬فال يجب به الصوم وال‬
‫يجوز‪ ،‬والمراد بآية‪{ :‬وبالنَّ ْج ِم ُه ْم َي ْهتَدون} {سورة النحل‪ ]16/‬االهتداء في‬
‫أدلّة القبلة وفي السفر" اهـ‪.‬‬

‫______________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتابب الصوم‪ :‬باب قول النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬إذا رأيتم الهالل فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا"‪،‬‬
‫وأخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الصيام‪ :‬باب وجوب صوم‬
‫رمضان لرؤية الهالل والفطر لرؤية الهالل وأنه إذا غ ّم في ّأوله‬
‫وءاخره أكملت عدّة الشهر ثالثين يو ًما‪,‬‬
‫(‪ )2‬أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪)410/1‬‬

‫وفي كتاب ر ّد المحتار على ّ‬


‫الدر المختار البن عابدين (‪ )1‬الحنفي ما‬
‫نصه‪" :‬وال عبرة بقول المؤقتين‪ ،‬أي في وجوب الصوم على الناس‪ ،‬بل‬
‫]‪[Type text‬‬

‫في المعراج ال يعتبر قولهم باإلجماع‪ ،‬وال يجوز للمن ّجم أن يعمل‬
‫بحساب نفسه"‪ .‬ثم قال‪" :‬ووجه ما قلناه ّ‬
‫أن الشارع لم يعتمد الحساب بل‬
‫الشهر هكذا‬
‫ُ‬ ‫ألغاه بال ُكلّية بقوله‪" :‬إنّا أمة أمية ال نكتب وال نحسب‪،‬‬
‫وهكذا" (‪ )2‬اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب الشرح الكبير للدردير في مذهب اإلمام مالك ما نصه‬
‫(‪" :)3‬ال يثبت رمضان بمنجم أي بقوله في حق غيره وال في حق‬
‫نفسه" اهـ‪.‬‬
‫صه‪" :‬قوله‪ :‬ال‬‫وفي حاشيته (‪ )4‬لشمس الدين الشيخ محمد عرفة ما ن ّ‬
‫بمن ّجم وهو الذي يحسب قوس الهالل هل يظهر تلك الليلة أو ال‪،‬‬
‫وظاهره أنه ال يثبت بقول المن ّجم ولو وقع في القلب صدقه" اهـ‪.‬‬
‫شاف القناع عن متن اإلقناع (‪ )5‬في مذهب اإلمام أحمد‬ ‫وفي كتاب ك ّ‬
‫ي‬
‫صوم يوم الثالثين من شعبان بال مستند شرع ّ‬‫َ‬ ‫ما نصه‪" :‬وإن نواه أي‬
‫من رؤية هالله أو إكمال شعبان أو حيلولة غيم أو قتر ونحوه كأن‬
‫صامه لحساب ونجوم ولو كثرت إصابتهما أو مع صح ٍو فبانَ منه لم‬
‫عا" اهـ‪.‬‬
‫يعول عليه شر ً‬
‫يجزئه صومه لعدم استناده لما ّ‬
‫______________‬
‫ر ّد المحتار على الدر المختار (‪.)100/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الصوم‪ :‬باب قول النبي صلى هللا عليه‬ ‫(‪)2‬‬
‫وسلم‪" :‬ال نكتب وال نحسب"‪ ،‬وأخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب‬
‫الصيام‪ :‬باب وجوب صوم رمضان برؤية الهالل والفطر لرؤية‬
‫الهالل وأنه إذا غ ّم في أوله وءاخره أكملت عدّة الشهر ثالثين‬
‫يو ًما‪.‬‬
‫الشرح الكبير (‪.)469/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫حاشية الدسوقي (‪.)469/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫كشاف القناع عن متن اإلقناع (‪.)302/2‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فائدة‪ :‬قال الفقهاء‪ :‬يجب ترائي الهالل لكل شهر أي أنه فرض كفاية‪،‬‬
‫وقد أغفل هذا في كثير من البالد وذلك ألنه يتعلق به أحكام شرعية كال ِعدّة‪،‬‬
‫ومعرفة استكمال شهر شعبان ثالثين يو ًما‪ ،‬وتعليق الطالق‪ ،‬إلى غير ذلك‬
‫من األحكام‪ ،‬فإن العبرة في هذه األشياء باألشهر القمرية وكذلك الحكم‬
‫بالبلوغ بالسن المعو ُل في ذلك على السنين القمرية‪ ،‬وإغفال هذا األمر غفلة‬
‫شنيعة‪.‬‬
‫عا أن صيام رمضان يثبت برؤية هالل الشهر‪ ،‬ثم‬ ‫ومن المقرر شر ً‬
‫اختلف األئمة هل ثبوت الرؤية في بلد يلزم حكمه ويعم سائر النواحي من‬
‫دون اشتراط اتحاد المطلع‪ ،‬فمذهب الشافعي رضي هللا عنه أن رؤية‬
‫الهالل في بلد ال يعم حكمها إال في البالد التي توافق بلد الرؤية في المطالع‬
‫أي اتفاق شروق الشمس وغروبها‪ ،‬ومذهب أبي حنيفة ومالك خالف ذلك‪،‬‬
‫فهاك‬
‫َ‬ ‫وللمالكية بسط في هذه المسئلة‪ ،‬وها نحن ننقل عن بعض مؤلفاتهم‪،‬‬
‫نص صاحب المنح السامية للنوازل الفقهية ألبي عبد هللا المهدي الوزاني‬ ‫َّ‬
‫العمراني وإن كان فيه طول وتوسع‪" :‬نوازل الصيام (‪)1‬‬
‫الحمد هلل كما ينبغي لجالله حمدًا يليق بعظيم سلطانه‪ ،‬والصالة والسالم‬
‫على سيدنا وموالنا مح ّمد وءاله والرضا عن أصحابه وجميع أتباعه‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فقد وقفت في هذه األيام على جواب قيل‪ :‬إن مؤلفه من السودان‪،‬‬
‫مض َّمنه الرد على اإلمام ابن ِسراج القائل‪ :‬إن الهالل يثبت بإيقاد النار‪،‬‬
‫وعلى العالمة األوحد اإلمام الرباني أبي عبد هللا سيدي مح ّمد الرهوني‬
‫ضا بالبارود‪ ،‬وعلى مفتي الديار المصرية المحقق‬ ‫الوزاني القائل بثبوته أي ً‬
‫ضا بالتلغراف‪ ،‬زاع ًما هذا المجيب أن‬‫سيدي محمد عليش القائل بثبوته أي ً‬
‫الشرع حصر ثبوت هالل رمضان وغيره في ثالثة أساب وهي‪ :‬رؤية‬
‫العدلين أو المستفيضة‪ ،‬وكمال شعبان‪ ،‬ونقل العدل‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬النوازل الصغرى (‪.)251-261/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الواحد ثبوته عند القاضي‪ ،‬قال‪ :‬فال يجوز إحداث سبب رابع لثبوته وهو ما‬
‫طا خبط‬ ‫قاله هؤالء األئمة الثالثة رضي هللا عنهم‪ .‬ولما رأيته في ذلك خاب ً‬
‫عشواء وراكبًا ظهر ناقة عمياء‪ ،‬وأنه لم يصل إلى فهم كالمهم وال ش َّم‬
‫ي ردُّه بالتصريح ال بالتلويح‪ ،‬وبالحجج القاطعة‬‫رائحة لمرادهم‪ ،‬تعيَّن عل َّ‬
‫والنقل الصحيح ال بالمجازفة والكالم القبيح‪ ،‬لئال يغتر به ضعفة العقول أو‬
‫يطول الزمان ويُعتقد أنه من الشرع المنقول‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬وهللا المستعان وعليه التكالن‪:‬‬
‫ال زيادة في تلك األمور الثالثة على ما ثبت في الحديث وكالم الفقهاء‪،‬‬
‫بل إذا كانت العادة أن إيقاد النار والبارود وتلغراف ال تكون إال إذا ثبت‬
‫الشهر ثبوتًا محققًا وكانت العادة مطردة بذلك بحيث ال تتخلف أصالً فإن‬
‫الشهر يثبت بذلك كما يثبت بكتاب القاضي وهي من باب النقل كما قاله‬
‫الشيخ الرهوني ونصه‪ :‬إخراج البارود كإيقاد النار‪ ،‬وكل منهما راجع‬
‫لإلخبار برؤية الهالل ال خارج عنه‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وتحقيق ذلك أن أهل ذلك المحل أي محل البارود والنار وتلغراف ثبت‬
‫عندهم الشهر بموجبه وال إشكال‪ ،‬ولما أرادوا نقله لغيرهم بسرعة كي‬
‫يعزموا على الصوم ليالً أو يصبحوا بنية اإلفطار وتعذر النقل إليهم‬
‫بالرسول سرعة‪ ،‬أنابوا تلك األشياء عنه لسرعتها‪ ،‬فتلك األمور الثالثة إنما‬
‫هي من باب النقل لما ثبت‪ ،‬وحين كان الواحد كافيًا في النقل هنا فتلك‬
‫ضا بل أحرى منه ألنها قد تفيد القطع‪ ،‬بخالف‬ ‫األمور الثالثة كافية فيه أي ً‬
‫نقل الواحد فال يفيده‪ ،‬قال الزرقاني على قول المختصر‪( :‬وع َّم إن نُ ِق َل بهما‬
‫عنهما ال يمنفرد) ما نصه‪ :‬أخرج من رؤية عدلين قوله ال يمنفرد فال يثبت‬
‫الصوم وال الفطر برؤيته ولو خليفة أو قاضيًا أو مثل عمر بن عبد العزيز‪،‬‬
‫ثم قال بعد كالم‪ :‬وليس أي قوله (ال بمنفرد) مخر ًجا من قوله‪( :‬وع َّم إن‬
‫نقل بهما)‪ ،‬ألن نقل الواحد عن االستفاضة أو ثبوتًا عند حاكم أو عن حكمه‬
‫معتبر‪ ،‬فيعُم بمحل ال يعتنى فيه بأمر الهالل‪ ،‬وكذا بما يعتنى فيه به لكأ ْه ِله‬
‫وكذا لغيرهم على المعتمد‪ .‬وأما نقل الواحد عن رؤية الشاهدين أو أحدهما‬
‫فال يعتبر مطلقًا‪ ،‬فاألقسام ثالثة‪ ،‬والمراد بأهله زوجته‪ ،‬وأدخلت الكاف‬
‫ابنته البكر والخادم واألجير ومن في عياله‪ ،‬وأما من تلزمه نفقته وليس في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا‬
‫عياله بل في محل ءاخر ال يعد من منزله فالظاهر أنه من عياله أي ً‬
‫إلطالقه عليه لغة كما هو عموم قول القاموس‪ :‬وعاله كفاه ومانَه‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫فرع‪ :‬خبر الحاكم بما ثبت عنده يلزم به الصوم وليس هو من خبر‬
‫العدل‪ .‬قف عليه‪ .‬وفي حواشي الشيخ الرهوني بالمحل المذكور ما نصه‪:‬‬
‫تتمة‪ :‬في المعيار‪ ،‬سئل ابن ِسراج عن إضرام الناي من قرية إلى أخرى‬
‫إعال ًما بالهالل‪ ،‬فأجاب‪ :‬النار توقد عالمة على رؤية العالل حسبما ذكر إذا‬
‫كان حصل ألهل القرية ثقة من أهل القرية األخرى أنهم ال يوقدون النار‬
‫إال إذا رأوا الهالل َبنَوا عليه وإال فال‪ ،‬قاله ابن ِسراج اهـ‪ .‬وقال ابن غازي‬
‫في تكميله ما نصه‪ :‬سئل أبو محمد عن قرى بالبادية يقول بعضهم لبعض‪:‬‬
‫إذا رأيتم الهالل فنيروا لنا فرءاه بعضهم فنيروا فأصبح أصحابهم صيا ًما‬
‫سا على قول‬ ‫لذلك ثم ثبت فهم يصح صومهم؟ فقال‪ :‬صومهم صحيح‪ ،‬قيا ً‬
‫ئي‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم أن الهالل قد ُر َ‬
‫ومثله للوانوغي‪ ،‬وذكر الحطاب مثله عن المش َدالي هنا‪ ،‬وقال عقبه ما‬
‫نصه‪ :‬قلت‪ :‬أما إذا كان يعلم أن المحل الذي فيه النار يعلم به أهل ذلك‬
‫البلد‪ ،‬ويعلم أنهم ال يم ِ ّكنون من جعل النار فيه إال إذا ثبت الهالل عند‬
‫القاضي أو برؤية مستفيضة‪ ،‬فالظاهر أنه ليس من باب نقل الواحد‪ .‬ومما‬
‫جرت به العادة أنه ال يوقد القناديل في رءوس المنابر إال بعد ثبوت‬
‫الهالل‪ ،‬فمن كان بعيدًا أو جاء بليل رأى ذلك‪ ،‬فالظاهر أن هذا يلزمه‬
‫الصوم بال خالف‪ ،‬فتأمله وهللا أعلم‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن هنا يعلم حكم نازلة نزلت فوقع السؤال عنها وهي أن بعض‬
‫البالد جرت عادتهم بإخراج البارود عند رؤيتهم هالل رمضان أو هالل‬
‫شوال‪ ،‬هل يصومون ويفطرون بذلك أم ال؟‬
‫فأجاب بعض أهل العصر م َّمن ينتمي للعلم وليس من أهله أنه ال عبرة‬
‫بذلك مطلقًا‪ ،‬مستدالً بقول المرشد المعين‪ :‬ويَثْبُتُ الشهر برؤية الهالل‪،‬‬
‫وبما يوافقه من بعض كالم أهل المذهب قائالً‪ :‬وإخراج البارود خارج عن‬
‫ذلك فال عبرة به‪ ،‬وهو قصور وجهل عظيم‪ ،‬إذ إخراج البارود كإيقاد‬
‫]‪[Type text‬‬

‫النار‪ ،‬وكل منهما راجع لإلخبار برؤية الهالل ال خارج عنه‪ ،‬فإن توفر في‬
‫عمل به وإال فال‪ ،‬وهللا أعلم اهـ‪.‬‬
‫إخراج الباروج ما تقدم في إيقاد النار ِ‬
‫وفي نوازل الشيخ عليش أن السؤال وقع لفقهاء الشام سنة إحدى وثمانين‬
‫من القرن الثالث عشر عن هذه المسألة أي ضرب تلغراف من إسكندرية‬
‫مثالً إلى مصر بأن الهالل ثبتت رؤيته عند قاضي إسكندرية‪ ،‬هل يجب‬
‫بذلك الصوم أو اإلفطار أم ال؟ فاختلفوا فيها فأفتى مفتيه بثبوته بذلك وحكم‬
‫قاضيه‪ ،‬وأفتى بعض فقهائه بأنه ال يثبت به‪.‬‬
‫وحجة األول القياس على سماع المدفع ورؤية النار‪ ،‬وأن بعض حواشي‬
‫التنوير استظهر أنه يلزم أهل القرى الصوم واإلفطار بذلك‪ ،‬وعلّله بأنه‬
‫عالمة ظاهرة تفيد غلبة الظن بثبوت الهالل عند القاضي‪ ،‬وأن غلبة الظن‬
‫حجة موجبة للعمل كما صرحوا به‪ ،‬وأن احتمال كون ذلك لغير رمضان‬
‫بعيد‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ثم رفعت هذه الفتوى إلى الشيخ عليش المصري رحمه هللا تعالى فأقرها‬
‫وأيّدها بأن سالطين المسلمين وضعوا تلغراف لتبليغ األخبار من البالد‬
‫معتبرا في ذلك‪،‬‬
‫ً‬ ‫البعيدة في مدة يسيرة واستغنوا به عن السعاة فصار قانونًا‬
‫ضا بكالم الحطاب المتقدم‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وأيّدها أي ً‬
‫قلت‪ :‬ما قاله هؤالء األئمة صحيح ال غبار عليه‪ ،‬وما قاله هذا المخالف‬
‫باطل ال دليل عليه‪ ،‬وذلك أن المسلمين متفقون في أقطار األرض كلها وفي‬
‫جميع القرى واألمصار بأسرها على ثبوت رمضان وعلى وجوب تبييت‬
‫الصوم بمجرد سماع صوت النفير‪ ،‬فكل من سمعه من أهل البلد أو ما‬
‫قاربها ليلة العيد أو ليلة رمضان‪ ،‬يتحقق بثبوت الشهر فيبيت على نية‬
‫الصوم أو اإلفطار‪ ،‬وإن لم يتحقق ثبوته لدى القاضي من جهة أخرى بل‬
‫يعتمدون على مجرد صوت النفير أو على صوت المدفع إن كانت عادتهم‬
‫ذلك وال خالف فيه بين المسلمين‪ ،‬فكما جاز االعتماد على النفير أو المدفع‬
‫في ثبوت الهالل وفي وجوب تبييت الصوم لمن هو داخل البلد أو في قربه‬
‫يجو لمن بعُ َد عنه االعتماد على النار أو البارود‪ ،‬وأحرى التلغراف‪ ،‬ألنه‬
‫بمنزلة الكالم مشافهة‪ ،‬وهذا ضروري ال ينكره إال جهول كما قاله الشيخ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الرهوني‪ ،‬وذلك ألن هذا من شهادة العادة ومن االعتماد على القرائن‪،‬‬
‫والقرينةُ تفيد اليقين في مواطن من الشرع كما قاله الشهاب القرافي‪ .‬وقد‬
‫نص العلماء على أن الحكم بالقرينة معمول به وأخذوه من قوله تعالى‪:‬‬
‫ب} [سورة يوسف‪ ]18/‬اآلية‪.‬‬ ‫{و َجاءو على قَ ِم ِ‬
‫يص ِه ب َد ٍم َك ِذ ٍ‬
‫ونقل شارح الالمية عن الحافظ الوانشريسي أنه يجب اعتبار القرائن‬
‫المحتفة بالنازلة والنظر إليها‪ ،‬ومثله ألبي علي بن رحال في شرحه‬
‫وحواشيه‪ ،‬قال في حواشيه بعد أن تكلم على اعتبار القرائن في األحكام ما‬
‫سة سادسة في اإلنسان‪،‬‬ ‫نصه‪ :‬قال حجة اإلسالم الغزالي‪ :‬إن القرينة حا َّ‬
‫قال‪ :‬وصدق رحمه هللا تعالى ونفعنا به وبعلومه ءامين اهـ‪.‬‬
‫وفي المختصر‪" :‬وإن قامت قرينة فعليها" ومثله في مختصر ابن عرفة‬
‫وغيره‪ .‬المقري‪ :‬اختلفوا في العادة‪ ،‬هل هي كالشاهد أو كالشاهدين‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ومثله في المعيار عن العبدوسي‪.‬‬
‫وقال ابن فرحون في التبصرة‪ :‬جاء العمل بالقرائن في مسائل‪:‬‬
‫األولى‪ :‬أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء الرجل المرأة إذا أهديت له‬
‫ليلة الزفاف وإن لم يشهد عدالن من الرجال أن هذه فالنة بنت فالن التي‬
‫عقد عليه وإن لم يستنطق النساء أنها هي‪ ،‬اعتمادًا على القرينة الظاهرة‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن الناس قدي ًما وحديثًا لم يزالوا يعتمدون على قول الصبيان‬
‫واإلماء المرسل معهم الهدايا وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أقوالهم ويأكلون‬
‫الطعام المرسل به‪ ،‬ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك مقبول‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أنهم يعتبرون إ ْذنَ الصبيان في الدخول إلى المنزل اهـ‪.‬‬
‫و ِلن ِشر إلى بعض كالم هذا المجيب وتتبعه باختصار‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫زعم أن إيقاد النار والبارود وتلغراف ال يثبت به الهالل من تسعة أوجه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن الشرع وضع لثبوت الهالل ثالثة أسباب فقط وهي التي‬
‫قدمناها عنه واستدل لذلك فقال‪ :‬أما النص على ثبوته بالرؤية أو كمال العدة‬
‫ثالثين‪ ،‬فحديث ابن عمر أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬ال‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تصوموا حتى تروا الهالل وال تفطروا حتى تروه‪ ،‬فإن ُ‬


‫غ ّم عليكم فاقدروا‬
‫له" رواه مالك في الموطإ (‪ ،)1‬وأما النص على ثبوته بعدلين فحديث أبي‬
‫دواد (‪ )2‬والنسائي (‪ )3‬أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن شهد‬
‫عدالن فصوموا وأفطروا وانس ُكوا"‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬وأنا النص على ثبوته بنقل الواحد العدل لثبوته عند القاضي‬
‫فحديث ابن عباس (‪ )4‬رضي هللا عنهما أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫لما ثبت عنده الهالل برؤية األعرابي‪ ،‬أمر بالالً أن يؤذّن في الناس بأن‬
‫يصوموا غدًا‪ ،‬وبالل إنما هو ناق ٌل واحد لثبوت الهالل عنه صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫____________‬
‫أخرجه مالك في الموطإ‪ :‬كتاب الصيام‪ :‬باب ما جاء في رؤية‬ ‫(‪)1‬‬
‫الهالل للصوم والفطر في رمضان‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود بنحوه في سننه‪ :‬كتاب الصيام‪ :‬باب شهادة‬ ‫(‪)2‬‬
‫رجلين على رؤية هالل شوال‪.‬‬
‫أخرجه النسائي في سننه‪ :‬كتاب الصيام‪ :‬باب قبول شهادة الرجل‬ ‫(‪)3‬‬
‫الواحد على هالل شهر رمضان وذكر االختالف فيه على سفيان‬
‫في حديث سماك بلفظ‪" :‬فإن شهد شاهدان فصوموا وافطروا"‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الصيام‪ :‬باب في شهادة الواحد‬ ‫(‪)4‬‬
‫على رؤية هالل رمضان‪ ،‬والترمذي في سننه‪ :‬كتاب الصوم‪:‬‬
‫باب ما جاء في الصوم بالشهادة‪ ،‬والنسائي في سننه‪ :‬كتاب‬
‫الصيام‪ :‬باب قبول شهادة الرجل الواحد على هالل شهر‬
‫رمضان‪ ،‬وابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب الصيام‪ :‬باب ما جاء في‬
‫الشهادة على رؤية الهالل‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلت‪ :‬وهذا كالم بلغ الغاية في السقوط‪.‬‬


‫أما ّأوالً‪ :‬فإنه زعم أن أسبابه محصورة في ثالثة فقط‪ ،‬وهو بنفسه نقل‬
‫ثبوته عند النبي صلى هللا عليه وسلم برؤية األعرابي فقط زيادة عليها‪،‬‬
‫فتكون األسباب أربعة ال ثالثة فقط‪ ،‬فهذا تناقض ظاهر ال يصدر من‬
‫أصاغر الولدان‪ ،‬وهو وحده كاف في بطالن هذا الجواب‪ ،‬ألنه مبني على‬
‫الحصر في ثالثة‪.‬‬
‫وأما ثانيًا‪ :‬فإنه لم يذكر مخرج هذا الحديث أصالً‪ ،‬مع أنه ال يص ّح له‬
‫االحتجاج بالحديث حتى يكون صحي ًحا‪ ،‬وعلى تقدير صحته عن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم حتى يثبت أنه غير منسوخ وأنه ال معارض له‪ ،‬ولذا‬
‫قال في المعيار‪ :‬نص األئمة المحققون من علمائنا رضي هللا عنهم‬
‫المقلّد الصرف مثلي ومثل من اشتملت عليه هذه‬
‫ِ‬ ‫وأرضاهم على أن‬
‫األوراق من األصحاب‪ ،‬وأكبر منا طبقة وأعلى منزلة وأطول يدًا ممنوع‬
‫من االستدالل بالحديث وبأقوال الصحابة رضي هللا عنهم‪ ،‬بل ذلك عندهم‬
‫من األوليات‪.‬‬
‫ثم قال المجيب‪ :‬فإحداث سبب رابع إليجاب الصوم واإلفطار من حيث‬
‫إنه مناسب ألحد هذه األسباب باستلزامه له أو داللته عليه يوجب إبطال‬
‫هذه النصوص ونسخها بال ناسخ‪ ،‬وذلك ال يقبل كما نص عليه القرافي في‬
‫الفرق األول من فروقه‪ ،‬ورد على من قال‪ :‬إن المخبر عن رؤية الهالل‬
‫سا على المؤذن‪.‬‬‫أشبه بالراوي من المؤذن فينبغي أن يقبل فيه الواحد قيا ً‬
‫لكن رده القرافي بأن العمل به يستلزم إبطال النص الصريح وهو قوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إذا شهد عدالن فصوموا وأفطروا وانسكوا"‪.‬‬
‫فاشترط صلى هللا عليه وسلم عدلين في وجوب الصوم‪ ،‬ومع تصريح‬
‫صاحب الشرع باشتراط عدلين ال يلزمنا بالعدل الواحد شئ‪ ،‬إذ ال يسمع‬
‫االستدالل بالمناسب في إبطال النصوص الصريحة اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬أما زع ُمهُ أن هذا سبب رابع محدث وأنه مقيس على الثالثة‪ ،‬التي‬
‫ذكرها‪ ،‬فليس كما قال بل ليس برابع وال مقيس على الثالثة‪ ،‬وذلك ألن‬
‫الشهر ثبت رؤيته بعدلين‪ ،‬ونُ ِقل لغيرهم بالبارود وإيقاد النار وتلغراف‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وحيث كانت العادة أن هذه األمور ال تفعل إال بعد ثبوت الشهر بالرؤية‬
‫كانت كافية في النقل ألن العادة المستمرة بمنزلة عدلين كما قاله في العمل‬
‫الفاسي‪:‬‬
‫مشتهرا كشاهدين ءات‬
‫ً‬ ‫والمتقرر من العادات ***‬
‫وفي المعيار من جواب لسيدي عبد هللا العبدوسي أن العادة المستمرة‬
‫تنزل منزلة شاهدين‪ ،‬قال‪ :‬وإنه لَ َحسن من القول‪ .‬اهـ‪ .‬فهذا الوجه على‬
‫التحقيق داخل في رؤية العدلين‪ ،‬ألن مستنده هو رؤيتهما فهو مما يشمله‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال تصوموا حتى تروا الهالل‪ "...‬الحديث‪ .‬وأما‬
‫زعمه أن إحداث هذا السبب يوجب إبطال النصوص ونسخها بال ناسخ‬
‫فغير صحيح‪ ،‬إذ على تسليم أنه زائد عليها ال يوجب إبطالها وال نسخها‪،‬‬
‫وما أظن هذا يخفى على أحد‪.‬‬
‫وأما ما نسبه للقرافي فلم يقله‪ ،‬ونصه في الفرق األول بعد أن ذكر الفرق‬
‫بين الرواية والشهادة بالعموم في الرواية والخصوص في الشهادة هو قوله‪:‬‬
‫الخبر ثالثة أقسام‪ ،‬رواية محضة كاألحاديث النبوية‪ ،‬وشهادة محضة‬
‫كإخبار الشهود عن الحقوق على المعينين عند الحاكم‪ ،‬ومركب من الرواية‬
‫والشهادة وله صور‪ :‬إحداها اإلخبار عن رؤية هالل رمضان من جهة أن‬
‫الصوم ال يختص بشخص معين بل عام على جميع المصر أو أهل اآلفاق‬
‫على الخالف في أنه هل يشترط في كل قوم رؤيتهم أم ال‪ ،‬فهو من هذا‬
‫الوجه رواية لعدم االختصاص بمعيَّن‪ ،‬وشهادة من جهة أشخاص بهذا العام‬
‫وبهذا القرن دون ما قبله وما بعده‪.‬‬
‫ثم قال بعد كالم‪ :‬والمؤذن مخبر عن أوقات السبب وهو أوقات الصالة‬
‫فإنها أسبابها إلى أن قال‪ :‬وهو حجة حسنة للشافعية في االكتفاء في هالل‬
‫رمضان بالواحد‪ ،‬ألنها أي رؤيته إخبار عن سبب جزئي يعم سائر البالد‪،‬‬
‫واألذان خاص بأهل المصر وتلغراف ال يعم سائر األقطار‪ ،‬فهو أولى‬
‫باعتبار شائبة الشهادة‪ ،‬بخالف هالل رمضان ع ّممه المالكية والحنفية في‬
‫جميع أهل األرض‪ ،‬فالمخبر عن رؤية الهالل على قاعدة المالكية أشبع‬
‫سا على المؤذن بطريق‬ ‫بالرواية من المؤذن‪ ،‬فينبغي أن يقبل الواحد فيه قيا ً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األولى لوجود العموم في الهالل‪ .‬وهنا إشكال على المالكية في التفرقة بين‬
‫المؤذن يقبل فيه الواحد وبين المخبر عن هالل رمضان ال يقبل فيه الواحد‪،‬‬
‫فإن قلت‪ :‬إن الجواب عنه أن المعاني الكلية قد يستثنى منها بعض أفرادها‬
‫بالسمع‪ ،‬وقد ورد الحديث الصحيح بقوله عليه السالم‪" :‬إذا شهد عدالن‬
‫فصوموا وأفطروا وانسكوا"‪ ،‬فاشترط عدلين في وجوب الصوم‪ ،‬ومع‬
‫تصريح صاحب الشرع باشتراط عدلين ال يلزمنا بالعدل الواحد شئ‪ ،‬وال‬
‫يسمع االستدالل بالمناسبات في إبطال النصوص الصريحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا بحث حسن‪ ،‬غير أن الجواب عنه أنه يدل بمفهومه ال‬
‫بمنطوقه‪ ،‬فإن منطوقه أن الشاهدين يجب عندهما‪ ،‬ومفهومه أن أحدهما ال‬
‫يكفي من جهة مفهوم الشرط‪ .‬وإذا كان االستدالل به من جهة المفهوم‬
‫فنقول‪ :‬القياس الجلي مقدَّم على منطوق اللفظ على أحد القولين لمالك‬
‫وغيره من العلماء فينبغي أن يقدم على المفهوم‪ .‬اهـ‪ .‬فأنت ترى القرافي‬
‫سا على المؤذن‪ ،‬وأجاب عن الحديث‬ ‫انفصل على ثبوت الهالل بواحد قيا ً‬
‫بأنه إنما يدل على عدم ثبوته بالواحد من جهة المفهوم‪ ،‬وقياس األحرى‬
‫مقدم عليه اتفاقًا‪ ،‬وهذا المجيب عكس ذلك‪ ،‬فانظر ما الحامل له على ذلك‪،‬‬
‫وكذا نسبته البن الشاط أنه سلم ذلك وأيّده بأن الشارع إذا نصب دليالً معينًا‬
‫ضا‪ ،‬إذ ليس في ابن الشاط ما نسبه له‬ ‫لحكم فال يجوز تَع ّدِيه‪ .‬اهـ‪ .‬باطلة أي ً‬
‫ونصه‪ :‬قلت‪ :‬والذي يقوى في النظر أن مسألة الهالل حكمها حكم الرواية‬
‫ضا‪ ،‬وإنما هي من‬ ‫في االكتفاء بالواحد وليست رواية حقيقية وال شهادة أي ً‬
‫نوع ءاخر من أنواع الخبر عن وجود سبب من أسباب األحكام الشرعية‪.‬‬
‫انتهى منه بلفظه‪ .‬ثم ذكر أي المجيب بقية األوجه الثمانية‪ ،‬وكلها من نمط‬
‫هذا الوجه أو أقبح منه بحيث ال ينبغي نسخها لعدم فائدتها‪ ،‬ولذلك أضربنا‬
‫عنها‪ ،‬ثم قال‪ :‬فإن قال قائل‪ :‬إن ضرب التلغراف أو المدفع أو إيقاد النار‬
‫يستلزم أن يكون عن إذن القاضي وعدول المصر الذي ثبت فيه الهالل‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬ال يستلزمه استلزا ًما قطعيًّا‪ ،‬بل يحتمل أن يكون عن إذن من ذُ ِكر‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكون من غير إذن منه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وهذا أي احتمال كونه عن غير إذن منهم باطل‪ ،‬إذ الفرض في‬
‫كالمهم حسبما تقدم أن ذلك عادة مطردة ال تتخلف‪ ،‬وإال فال عبرة به‪ ،‬فهذا‬
‫]‪[Type text‬‬

‫االحتمال الثاني الذي زاده خرج عن موضوع كالمهم‪ ،‬ثم قال‪ :‬ونفس‬
‫عا وال عقالً وال عادة‪،‬‬
‫تلغراف وما معه جماد‪ ،‬والجماد ال يعد شاهدًا شر ً‬
‫وضرب الضارب له وإيقاد النار فعل قطعًا ال قول‪ ،‬والشهادة أو الرواية‬
‫في عرف الشرع قول قطعًا ال فعل‪ ،‬والضارب لما ذكر وموقد النار‬
‫مجهول وذلك ال تقبل شهادته وال روايته قطعًا‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬إذ المبلغ في الحقيقة هو الجماعة‬‫قلت‪ :‬وهذا من نمط ما قبله أي ً‬
‫الذين ثبت عندهم رؤية الهالل أو القاضي الذي ثبت عنده رؤيته بواسطة‬
‫تلغراف أو البارود أو إيقاد النار‪ ،‬فهذه األمور إنما هي ءالة للتبليغ ال أنها‬
‫ينادي في‬
‫َ‬ ‫هي المبلغ كما توهمه‪ ،‬نظيره أمره صلى هللا عليه وسلم لبالل أن‬
‫الناس بالصوم‪ ،‬فهو صلى هللا عليه وسلم المبلغ لهم بواسطة بالل‪ ،‬ثم‬
‫عا بالقول غير صحيح‪ ،‬لما تقدم نقله عن نظم العمل‬ ‫تخصيصه الشهادة شر ً‬
‫ب‬‫الفاسي وعن اإلمام العبدوسي أن العادة المستمرة بمنزلة شاهدين‪َ ،‬و ُكت ُ ُ‬
‫الفقهاء طافحة بأن كل من شهد له العرف فالقول قوله والرهن شاهد في‬
‫قدر الدين وغير ذلك مما ال يخفى على المبتدئين‪.‬‬
‫ثم قال في فتوى ابن سراج والرهوني‪ :‬إنهما باطلتان لمصادمتها‬
‫للنصوص القطعية‪ ،‬ألن الشارع صلى هللا عليه وسلم علق إيجاب الصوم‬
‫أو الفطر بصيغة الحصر على رؤية الهالل أو كمال العدة ثالثين‪ ،‬فمن‬
‫أثبته برؤية النار أو بسماع صوت المدفع فقد صادم النص برأيه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل فتواهما بذلك صحيحة‪ ،‬وليس فيها مصادمة للنص‪ ،‬ألن النار‬
‫والبارود كالهما عالمة على رؤية الهالل‪ ،‬فليس فيهما خروج عن النص‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬وقد ورد هذا النص‪ ،‬أي حديث ابن عمر المتقدم عن الشارع صلى‬
‫هللا عليه وسلم بالمدينة‪ ،‬وقرى العوالي والبوادي محدقة بها‪ ،‬وما أوقد لهم‬
‫نارا وال أقام لهم صوتًا‪ ،‬بل الوارد عنه أنه إذا ثبت الهالل أمر بالالً أن‬
‫ً‬
‫ينادي في الناس بالصوم‪.‬‬
‫َ‬
‫ينادي في الناس بالصوم هو‬
‫َ‬ ‫قلت‪ :‬أمره صلى هللا عليه وسلم لبالل أن‬
‫الحجة لهؤالء األئمة‪ ،‬فإنهم يقولون‪ :‬إذا ثبت الهالل فإنه ينادى بثبوته على‬
‫من كان قريبًا بآلة يسمعها وعلى من بعُ َد بالبارود أو النار أو تلغراف‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وكأنه يعتقد أن كل شئ لم يكن في وقت النبي صلى هللا عليه وسلم وأ ُ ْحد َ‬
‫ِث‬
‫بعده حرام ال يعتد به كيفما كان‪ ،‬وذلك عراقة في الجهل والغباوة‪ ،‬بل كل‬
‫سنَّة فهو حق‪ ،‬لقوله عليه السالم (‪" :)1‬من َ‬
‫س َّن سنة‬ ‫ُم ْح َدث لم يصادم ُ‬
‫حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها‪ "...‬الحديث‪ .‬فأخبر صلى هللا عليه‬
‫أحدث سنّة حسنة‪ ،‬وذلك يدل أنها مطلوبة‪ ،‬إذ ال يثاب إال‬‫َ‬ ‫وسلم بثواب من‬
‫على مطلوب‪ ،‬وسماها حسنة والقبيح ال يسمى بها‪ .‬وقد أحدث الصحابة‬
‫أمورا كثيرة ال تنحصر بالعد‪ ،‬منها تغيير‬ ‫ً‬ ‫واألئمة َبعده صلى هللا عليه وسلم‬
‫عثمان رضي هللا عنه النداء يوم الجمعة وزيادته في المؤذنين حتى كانوا‬
‫أربعة‪ ،‬ومنها زيادته هو وعمر رضي هللا عنهما في مسجده صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ومنها صالة التراويح التي أحدثها عمر‪ ،‬وتغيير عثمان لها بعد ذلك‪،‬‬
‫ومنها تزويق المساجد أفتى به ابن مرزوق‪ ،‬وجرى به عمل فاس‪ ،‬وقال‬
‫فيه ناظمه‪:‬‬
‫ب بالذّهب والتزويق *** في ال ُكتْ ِ‬
‫ب والم ْسجد والتَّوثيق‬ ‫وال َكتْ ُ‬
‫تح ِلية القبْر وك ْسوة الحرير *** للصالحين و َمصابي ُح تنير‬
‫ت أَذِنَ هللاُ أن ت ُ ْرفَ َع}‬
‫قال القرطبي (‪ )2‬في تفسير قوله تعالى‪{ :‬في بُيُو ٍ‬
‫[سورة النور‪ :]36/‬وروي عن عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪ ،‬أنه بنى‬
‫مسجد النبي صلى هللا عليه وسلم بالساج (‪ .)3‬وعن أبي حنيفة‪ :‬ال بأس‬
‫بنقش المساجد بماء الذهب‪ .‬وعن عمر بن عبد العزيز أنه نقش مسجد النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم وبالغ في عمارته وتزويقه‪ ،‬وذلك في واليته قبل‬
‫خالفته‪ .‬اهـ‪ .‬ومنها نقط المصحف واأللواح وضبطهما‪ ،‬ومنها االجتماع‬
‫للذكر‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الزكاة‪ :‬باب الحث على الصدقة‬
‫وال بشق تمرة‪.‬‬
‫(‪ )2‬الجامع ألحكام القرءان (‪.)267/12‬‬
‫(‪ )3‬الساج ضرب من الشجر‪ ،‬مختار الصحاح (ص‪.)134/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والدعاء يوم عرفة أو غيره من المواسم‪ ،‬ومنها الدعاء عقب الصلوات‪.‬‬


‫قال ابن عرفة‪ :‬مضى عمل من يقتدى به في العلم والدين على الدعاء‬
‫بإثر الذكر الوارد إثر تمام الصالة‪ ،‬وما سمعت من ينكره إلى جاهل ال‬
‫يقتدى به‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فإن قال قائل‪ :‬إن رؤية النار وسماع صوت المدفع بمنزلة نقل‬
‫العدل ألنه يفيد غلبة الظن بثبوت الهالل عند من أوقدوا النار أو ضربوا‬
‫المدفع كما يفيد ذلك نقل العدل‪ .‬فالجواب أن غلبة الظن بثبوت الهالل ال‬
‫عبرة بها إذا حصلت بغير خصوص هذه األسباب الثالثة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما قاله غير صحيح‪.‬‬
‫أما أوالً‪ :‬فإن حصول غلبة الظن بغير الثالثة كحصولها بها ال فرق‬
‫بينهما‪ ،‬بدليل ما نقله هو بنفسه من حديث ابن عباس أن رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم لما ثبت عنده الهالل برؤية األعرابي‪ ،‬أمر بالالً أن يؤذن‬
‫في الناس بالصوم‪ .‬فهذا مبطل لحصره في الثالثة لكونه زائدًا عليها‪ ،‬وتقدَّم‬
‫في كالم القرافي وابن الشاط ترجيح ثبوته برؤية الواحد وهو مذهب‬
‫الشافعية‪ ،‬تأ َّمله‪.‬‬
‫وأما ثانيًا‪ :‬فتقدم أن كالً من البارود وإيقاد النار وتلغراف‪ ،‬داخل في‬
‫الرؤية‪ ،‬ألنه عالمة عليها ال زائد عليها‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فإن قال قائل‪ :‬إذا كانت األسباب الشرعية ال تثبت مع االحتمال‬
‫فيلزم على ذلك أن الصوم ال يجب بشهادة البينة بالرؤية أو بالثبوت عند‬
‫القاضي الحتمال كذبها‪ .‬فالجواب أن السبب هو نفس شهادة البينة وذلك‬
‫حاصل قطعًا ال احتمال فيه‪ ،‬ال نفس المشهود به الذي عليه االحتمال وهو‬
‫طلوع الهالل أو ثبوته عند القاضي‪.‬‬
‫قلت‪ :‬هذا كالم يمجه الطبع‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أما أوالً‪ :‬فإن السبب هو مجموع األمرين المتعلق والمتعلّق ال أحدهما‬


‫فقط‪ ،‬أي الشهادة بالرؤية أو بالثبوت هي نفس السبب‪ ،‬ال أن الشهادة وحدها‬
‫ط منه نشأ من‬‫هي السبب‪ ،‬إذ ال تفيد شيئًا بدون الرؤية أو الثبوت‪ ،‬فهذا َغلَ ٌ‬
‫ضا يلزم عليه أن من رءاه ال يلزمه الصوم إن لم تقع‬ ‫تحليل المركب‪ ،‬وأي ً‬
‫به شهادة عند القاضي لفقد سببه وهو باطل‪.‬‬
‫وأما ثانيًا‪ :‬فإن هذا االحتمال مصادم للنص الوارد عن الشارع صلى هللا‬
‫مر فال عبرة به‪.‬‬
‫عليه وسلم من ثبوته برؤية العدلين كما ّ‬
‫وأما ثالثًا‪ :‬فإن هذا االحتمال بعيد‪ ،‬واالحتمال البعيد أي المرجوح ُملغًى‬
‫ال أثر له‪ ،‬كما نص عليه القرافي في الفرق الحادي والسبعين‪ ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫االحتمال المرجوح ال يقدح في داللة اللفظ‪ ،‬وإال لسقطت دِاللة العمومات‬
‫كلها ِلتطرق احتمال التخصيص‪ ،‬إلى أن قال‪ :‬ذلك باطل‪ ،‬فتعين حينئذ أن‬
‫االحتمال الذي يوجب اإلجمال إنما هو االحتمال المساوي أو المقارب‪ .‬أما‬
‫المرجوح فال‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬فإن قال قائل‪ :‬إن ابن سراج عالم متقدم يجب علينا تقليده فيما‬
‫أفتى به‪ ،‬وليس لنا البحث معه‪ ،‬قلنا‪ :‬ال‪ ،‬بل يحرم علينا تقليده فيما أفتى به‬
‫معزو إلى محله‪ ،‬فحينئذ يجب علينا‬‫إال إذا أفتى بفرع مشهور في المذهب ُ‬
‫تسليم فتواه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أفتى به ابن سراج من هذا النمط‪ ،‬ألن المقرر في المذهب أن‬
‫الشهر إذا ثبتت رؤيته بعدلين ونقل لغيرهم ولو بعدل يجب على المنقول‬
‫إليهم الصوم كما تقدم في كالم الزرقاني‪ .‬وما قاله ابن سراج من هذا‬
‫النحو‪ ،‬ألن الشهر لما ثبتت رؤيته لدى القاضي أمر بتبليغه لمن بَعُ َد عن‬
‫محل الرؤية بالبارود أو بتلغراف لتعذر التبليغ لمن بَعُ َد بالكالم‪ ،‬فهذه‬
‫األشياء إنما هي نائبة عن التبليغ بالكالم للضرورة الداعية إلى ذلك‪ ،‬فهي‬
‫بمنزلة إرسال القاضي إليهم كتابًا بثبوته‪ ،‬فإذا علموه وتحققوا به فيلزمهم‬
‫الصوم‪ ،‬فهذه األشياء ككتابه‪ .‬وقد قال العلماء‪ :‬إن الداللة الفعلية أقوى من‬
‫الداللة القولية‪.‬‬
‫وفي شرح المختصر لإلمام ابن مرزوق رحمه هللا ما نصه‪:‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فائدة‪ :‬سمعت عن بعض من عاصرته من الفقهاء الصالحين أنه كان‬


‫يقول‪ :‬من احتاج إلى قتل قملة في ثوبه أو في المسجد على القول بنجاسة‬
‫طاهرا فال يضره‪ ،‬وال أدري هل‬
‫ً‬ ‫ميتتها ينوي بقتلها الذكاة ليكون جلدها‬
‫أرى ذلك منقوالً أو قاله برأيه إجراء على القواعد‪ ،‬وهو وإن كان محتمالً‬
‫لألبحاث ال بأس به‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫قال الشيخ ميارة في شرح المرشد المعين‪ ،‬نظم شيخه ابن عاشر بعد‬
‫نقله ما نصه‪ :‬فالقملة إن كانت من مباح األكل فما ذكره فيها ظاهر‪ ،‬وإن‬
‫كانت من محرمه أو مكروهه فذلك مبني على أن الذكاة تعمل في المحرم‬
‫والمكروه كالمباح‪ ،‬وهذا مراده باإلجراء على القواعد‪ .‬وهللا أعلم‪ .‬وفي هذه‬
‫الفائدة فائدة أخرى وهي جواز قول الفقيه المقلّد برأيه إجراء على القواعد‪،‬‬
‫وهذا شائع ذائع كثير في فتاوي المتأخرين ال يمكن إنكاره‪ ،‬فانظره مع ما‬
‫نص عليه غير واحد أن المق ِلد ال يفتي إال إن وجد النص في عين النازلة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقد كنت ذكرت مثل ذلك للناظم أي ابن عاشر رحمه هللا فقال لي‪:‬‬
‫العمل على جواز قول المقلّد برأيه إجراء على القواعد‪ ،‬وإال بطلت فتاوي‬
‫هؤالء المتأخرين المشحونة بها كتب األحكام‪ .‬انتهى فتأمله‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬إن قياس مفتي الشام وقاضيه والشيخ عليش لضرب تلغراف‬
‫على رؤية النار وسماع صوت المدفع في أنه يثبت به الهالل كما يثبت‬
‫برؤية النار وسماع صوت المدفع قياس فاسد ال أصل له في الشرع‪.‬‬
‫قلت‪ :‬بل هو قياس صحيح ومعناه أن الشرع لما أذن في نقل رؤية‬
‫ضا بما هو في معناه أو أقوى في الداللة‬
‫الهالل بالعدل الواحد صح نقله أي ً‬
‫منه ككتاب القاضي والتلغراف والنار والبارود‪ ،‬فهذه كلها إذا جرت العادة‬
‫بها وكانت بحيث ال تتخلف فإنه يتعين العمل بها‪ ،‬ألنها في معنى نقل العدل‬
‫الواحد أو أقوى منه‪ ،‬لما تقدم أن العادة المستمرة تنزل منزلة شاهدين‪،‬‬
‫فمرادهم بقياس تلغراف على صورة المدفع والنار أن هذه األمور كلها في‬
‫معنى النقل بالواحد‪ ،‬وأنها متساوية ال فرق بينها وهو صحيح‪.‬‬
‫وفي تأليف اإلمام ابن مرزوق الذي س ّماه (تقرير الدليل الواضح المعلوم‬
‫المقلّد هو‬
‫ِ‬ ‫على جواز النسخ في كاغد الروم) ما نصه‪ :‬القياس الممتنع على‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الذي ينشئ به حك ًما في واقعة بالقياس على أصل ثابت بالكتاب أو السنّة أو‬
‫اإلجماع‪ ،‬فإن هذا ال يكون إال للمجتهد المطلق‪ .‬وأما القياس الذي يستعمل‬
‫في إخراج جزئية من نص كلية‪ ،‬أو إلحاق مسألة بنظيرتها م ّما نص عليه‬
‫المجتهد بعد اطالع المقلّد على مأخذ إمامه فيها‪ ،‬أو المستعمل في ترجيح‬
‫قول من أقوال اإلمام في مسألة بقياسه على المدارك‪ ،‬فهذا وأشباهه من‬
‫المقلّد‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫تخريج األقوال في النظائر كما يفعله األشياخ ال يمتنع على‬
‫ثم قال‪ :‬استدالل الشيخ عليش بفتوى أبي محمد بصحة الصوم في مسألة‬
‫رؤية النار على إيجاب الصوم أو اإلفطار في مسألة التلغراف‪ ،‬استدالل‬
‫وارد في غير محله‪ ،‬فهو خطأ قطعًا لما بين المسألتين من المباينة‪ ،‬ألن‬
‫المسؤول عنه في مسألة أبي محمد صحة صوم من اعتمد في تبييت نيته‬
‫على رؤية النار ثم ثبت من الغد رؤية الهالل بالتحقيق‪ ،‬فأفتى بها أبو محمد‬
‫سا على قول ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم‬ ‫بصحة صومهم قيا ً‬
‫ي فيصبحون صائمين‪ ،‬معتمدين على قوله في‬ ‫فيخبرهم أن الهالل قد ُرئِ َ‬
‫تبييت النية‪ ،‬ثم يثبت من الغد أن الهالل رءاه عدالن البارحة‪ ،‬فسئل ابن‬
‫الماجشون هل يصح صومهم؟ فأجاب‪ :‬بأن صومهم صحيح‪ ،‬فالمسؤول‬
‫عنه في مسألة عليش هو وجوبه ال صحته‪ ،‬ف َبيْن المسألتين المباينة التامة‪،‬‬
‫فال يقيس إحداهما على االخرى إال من ال شعور له وال دراية بين الوجوب‬
‫والصحة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما زعمه من أن ابن الماجشون سئل عن صحة الصوم وأجاب‬
‫ضا‪،‬‬
‫عنه بما ذكره غير صحيح‪ ،‬بدليل كالم الحطاب المتقدم‪ ،‬ويأتي لفظه أي ً‬
‫بل ابن الماجشون إنما تكلم على لزومه بنقل الواحد فقط‪ .‬ويلزم من ذلك‬
‫صحته بعد وقوعه إذ مهما كان صومه واجبًا كان صحي ًحا‪ ،‬فلذلك استدل‬
‫أبو محمد على صحته بكالم ابن الماجشون‪ ،‬فكأنه يقول‪ :‬االعتماد على‬
‫رؤية النار كاالعتماد على نقل الواحد الذي في كالم ابن الماجشون‪ ،‬فإذا‬
‫نهارا مع االعتماد المذكور صح الصوم بالقياس على قول ابن‬‫ثبتت رؤيته ً‬
‫الماجشون المذكور‪ ،‬وهو قياس أحروي ألنه إذا كان صحي ًحا بمجرد‬
‫االعتماد على نقل الواحد فيكون صحي ًحا مع االعتماد على النار‪ ،‬وثبوته‬
‫نهارا أحرى‪.‬‬
‫بالبينة الشرعية ً‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ضا‪ ،‬إذ ال يصح‬ ‫ثم إنه على قول أبي محمد بصحة الصوم يكون واجبًا أي ً‬
‫صومه على أنه من رمضان إال إذا كان واجبًا وإال فال يصح‪ .‬وبالجملة‪،‬‬
‫مهما كان صومه واجبًا كان صحي ًحا‪ ،‬ومهما كان صحي ًحا كان واجبًا‪ ،‬فأبو‬
‫محمد استدل على صحته بكالم ابن الماجشون ويلزم منها الوجوب‪ .‬واب ُن‬
‫الماجشون تكلم عن اللزوم ويلزم منه الصحة‪ ،‬وبذلك يظهر لك أن كالم‬
‫الشيخ عليس ليس خطأ‪ ،‬فتأمله بإنصاف ال با ْع ِتساف‪.‬‬
‫ونص الحطاب‪ :‬سئل أبو محمد عن قرى البادية المتقاربة يقول بعضهم‬
‫لبعض‪ :‬إذا رأيتم الهالم فنيروا لنا‪ ،‬فرءاه بعض أهل القرى فنيروا‪ ،‬فأصبح‬
‫أصحابهم صائمين‪ ،‬ثم ثبتت رؤيته بالتحقيق‪ ،‬فهل يصح صومهم؟ قال‪:‬‬
‫سا على قول ابن الماجشون في الرجل يأتي القوم فيخبرهم أن‬ ‫نعم‪ ،‬قيا ً‬
‫دونة‪ .‬اهـ‪ .‬تأمله‪ .‬على أن تقدم‬
‫الهالل قد رئي‪ ،‬نقله المشدالي في حواشي الم َّ‬
‫لهذا المجيب‪ّ ،‬أوالً أن السيد عليش إنما أيد ما قاله بهذه الفتوى‪ ،‬ال أنه قاس‬
‫ما قاله عليها‪ ،‬كما نسبه له هنا‪ .‬وهللا أعلم بالصواب‪ .‬قاله وقيده المهدي‬
‫الوزاني لطف هللا به"‪ .‬انتهى من النوازل‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حكم الزكاة في العملة الورقية‬
‫وبيان الخالف فيه بين العلماء‬

‫اعلم أنه تجب الزكاة في النقد أي الذهب والفضة المضروب من ذلك‬


‫وغيره‪ .‬وأما غير الذهب والفضة من األثمان فال زكاة فيه عند اإلمام‬
‫الشافعي ومالك وأحمد رضي هللا عنهم‪ ،‬وتجب عند اإلمام أبي حنيفة‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬فهذه العملة المستعملة في هذا العصر ال تجب فيها الزكاة‬
‫عند الشافعي ومالك وأحمد وتجب عند أبي حنيفة ألنها تروج رواج الذهب‬
‫والفضة‪.‬‬
‫ف َمن أخذ بمذاهب األئمة الثالثة فلم يزك هذه العملة التي ال يستعملها في‬
‫التجارة فال يعترض عليه‪ ،‬و َمن أخذ بمذهب أبي حنيفة فز ّكاها أخذ‬
‫باالحتياط‪.‬‬
‫فإن اعترض معترض على االئمة المذكورين‪ ،‬قيل له‪ :‬ليس لك أن‬
‫تنكر‪ ،‬فإن مذاهبهم تلحظ أن هللا تبارك وتعالى ما ذكر في سورة براءة‬
‫وعيدًا إال فيمن منع زكاة الذهب والفضة‪ ،‬قال هللا تبارك وتعالى‪{ :‬والذينَ‬
‫أليم}‬
‫ب ٍ‬ ‫ضةَ وال يُ ْن ِفقُونَها في سبي ِل هللاِ فبَ ِ ّ‬
‫ش ْرهُم بعذا ٍ‬ ‫الذهب وال ِف َّ‬
‫َ‬ ‫يَ ْكنِزونَ‬
‫[سورة التوبة‪ ،]34/‬وهللا كان عال ًما في األزل بأنه تكون أثمان من الذهب‬
‫والفضة وغيرهما‪.‬‬
‫يعترض على االئمة المذكورين ومأخذهم هذا النص‪ ،‬فليس‬
‫ُ‬ ‫فكيف‬
‫ي أن يعترض على مذهب األئمة المذكورين‪ ،‬وال للشافعي والمالكي‬ ‫للحنف ّ‬
‫والحنبلي أن ينكروا على الحنفي‪.‬‬
‫أما َمن قلَّب هذه العملة الورقية في البيع والشراء لغرض الربح فهذا‬
‫فيقرم ما عنده ءاخر الحول فإن بلغ قيمته بأحد النقدين نصابًا أخرج‬
‫تجارة‪ّ ،‬‬
‫زكاة التجارة‪ .‬ومذهب الحنفية أن الفلوس إن كانت أثمانًا رائجة‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ش ُرنلُال ِليّ ِة (‪.)1‬‬


‫أو سلعًا للتجارة ففيها زكاة‪ ،‬كذا في ال ُّ‬
‫وفي الفتاوى الهندية (‪" :)2‬وأما الفلوس فال زكاة فيها إذا لم تكن‬
‫للتجارة‪ ،‬وإن كانت للتجارة فإن بلغت مائتين وجبت الزكاة‪ ،‬كذا في‬
‫المحيط" اهـ‪.‬‬
‫أماغير الحنفية فقد قال المالكية كما في الشرح الكبير على مختصر‬
‫ق –أي الفضة والذهب‪-‬‬‫الو ِر ِ‬
‫خليل (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وأشعر اقتصاره على َ‬
‫أنه ال زكاة في الفلوس النحاس‪ ،‬وهو المذهب" اهـ‪.‬‬
‫وفي المدونة الكبرى لإلمام مالك ما نصه (‪" :)4‬قلت‪ :‬أرأيت لو كانت‬
‫عند رجل فلوس في قيمتها مائتا درهم فحال عليها الحول ما قول مالك في‬
‫ذلك؟ قال‪ :‬ال زكاة عليه فيها وهذا مما ال اختالف فيه إال أن يكون ممن‬
‫يدير فيحمل محمل العروض" اهـ‪.‬‬
‫ي المالك (‪ )5‬على مذهب اإلمام مالك ما نصه‪" :‬ما‬ ‫وفي كتاب فتح العل ّ‬
‫قولكم في الكاغَد الذي فيه خَتم السلطان ويتعامل به كالدراهم والدنانير هل‬
‫يز ّكى زكاة العين أو ال َع َرض أو ال زكاة فيها؟‪.‬‬
‫فأجبت بما نصه‪ :‬الحمد هلل والصالة والسالم على سيدنا محمد رسول‬
‫هللا‪ ،‬ال زكاة فيه النحصارها (‪ )6‬في النَّعم وأصناف مخصوصة من‬
‫الحبوب والثمار والذهب والفضة‪ ،‬ومنها قيمة َع ْرض ال ُمدير وثمن عرض‬
‫ب لك ذلك أن الفلوس‬‫ويقر ُ‬
‫ّ‬ ‫المحتكر‪ ،‬والمذكور ليس داخالً في شئ منها‪،‬‬
‫النحاس المختومة بختم السلطان والمتعامل بها ال زكاة في‬
‫________________‬
‫ر َد المحتار على الدر المختار (‪.)32/2‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الفتاوى الهندية (‪.)179/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر هامش حاشية الدسوقي (‪.)418/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المدونة الكبرى (‪.)292/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫ي المالك على مذهب اإلمام مالك (‪.)164-165/1‬‬‫فتح العل ّ‬ ‫(‪)5‬‬
‫أي النحصار الزكاة‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عينها لخروجها عن ذلك‪ ،‬قال في المدونة‪ :‬ومن حال الحول على فلوس‬
‫فيقومها‬
‫مديرا ّ‬
‫ً‬ ‫عنده قيمتها مائتا درهم فال زكاة عليه فيها إال أن يكون‬
‫كالعروض‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وفي الطراز بعد أن ذكر عن أبي حنيفة والشافعي وجوب الزكاة في‬
‫عينها واتفاقهما على تعلقها بقيمتها وعن الشافعي قولين في إخراج عينها‪،‬‬
‫قال‪ :‬والمذهب أنها ال تجب في عينها إذ ال خالف أنه ال يعتبر وزنها وال‬
‫بر النصاب من‬‫عددها وإنما المعتبر قيمتها‪ ،‬فلو وجبت في عينها العت ُ َ‬
‫الو ِرق والذهب والحبوب‬ ‫عينها ومبلغها ال من قيمتها‪ ،‬كما في عين َ‬
‫والثمار‪ ،‬فلما انقطع تعلّقها بعينها جرت على حكم جنسها من النحاس‬
‫والحديد وشبهه‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى أعلم وصلى هللا على سيدنا محمد‬
‫ي المالك‪.‬‬
‫وءاله وسلم" انتهت عبارة فتح العل ّ‬
‫ومذهب الحنابلة كذلك‪ ،‬ففي شرح المنتهى (‪" :)1‬الفلوس ولو رائجة‬
‫عروض‪ ،‬والعُروض تجب الزكاة في قيمتها إذا بلغت نصابًا إذا ملكت بنية‬ ‫ُ‬
‫التجارة مع االستصحاب إلى تمام الحول‪ ،‬أما لو ملكها ال بنية التجارة ثم‬
‫نواها فال تصير لها" اهـ‪.‬‬
‫ومذهب الشافعية كمذهب الحنابلة والمالكية أنه ال تجب الزكاة في عين‬
‫ي الذي كان يسمى‬
‫نص على ذلك الشيخ محمد األنباب ّ‬‫العملة الورقية‪ّ ،‬‬
‫وغيرهُ نقل ذلك عنه صاحب كتاب موهبة ذي الفضل‬ ‫ُ‬ ‫الشافعي الصغير‬
‫(‪ ،)2‬واألنبابي من علماء القرن الثالث عشر الهجري تولى مشيخة األزهر‬
‫مرتين‪.‬‬

‫(‪ )1‬شرح منتهى اإلرادات (‪.)401/1‬‬


‫(‪ )2‬موهبة ذي الفضل (‪.)29/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن الربا ال يجوز من المسلم والكافر‬
‫مع تفصيل ما قاله العلماء‬

‫اعلم أن أكثر العلماء على عدم جواز الربا من مسلم أو كافر مطلقًا‪،‬‬
‫ب وكان الرابح‬
‫ي في دار حر ٍ‬ ‫بعض إذا كان بين مسلم وحرب ّ‬
‫ٌ‬ ‫وأجازه‬
‫هوالمسلم‪.‬‬
‫قال ابن عابدين (‪ )1‬في حاشيته ما نصه‪" :‬أقول‪ :‬وعلى هذا فال يح ّل‬
‫أخذ ماله بعقد فاسد بخالف المسلم المستأمن في دار الحرب فإن له أخذ‬
‫مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار" اهـ‪.‬‬
‫وفي الدر المختار ما نصه (‪" :)2‬ال تصير دار اإلسالم دار حرب إال‬
‫بأمور ثالثة‪ :‬بإجراء أحكام أهل الشرك‪ ،‬وباتصالها بدار الحرب‪ ،‬وبأن ال‬
‫ي ءامن باألمان األول" اهـ‪.‬‬
‫يبقى فيها مسلم أو ذم ّ‬
‫وقال (‪" :)3‬قوله‪" :‬ال تصير دار اإلسالم دار حرب‪ "...‬أي بأن يغلب‬
‫وأجروا أحكام‬
‫َ‬ ‫أهل الحرب على دار من دُورنا‪ ،‬أو ارت َّد أهل مصر و َغلَبوا‬
‫ض أه ُل الذم ِة العهد وتغلّبوا على دارهم‪ ،‬ففي كل هذه الصور‬‫الكفر‪ ،‬أو نَقَ َ‬
‫ال تصير دار حرب إال بهذه الشروط الثالثة‪ ،‬وقاال (‪ :)4‬بشرط واحد ال‬
‫غير وهو إظهار حكم الكفر وهو القياس (هندية)" اهـ‪.‬‬
‫وقال محمد بن الحسن‪ :‬تصير دار اإلسالم دار حرب بأن يظهر الكفّار‬
‫فيها أحكام الكفر باشتهار" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫رد المحتار على الدر المختار (‪.)249/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المرجع السابق (‪.)253/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المرجع السابق (‪.)253/3‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أي أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي كتاب اإلنصاف للمرداوي الحنبلي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وقال في‬


‫والمنور وتجريد العناية وإدراك‬
‫ّ‬ ‫والمحرر‬
‫ّ‬ ‫المستوعب في باب الجهاد‬
‫الغاية‪ :‬يجوز الربا بين المسلم والحربي الذي ال أمان بينهما‪ ،‬ونقله‬
‫الخ َرقي في دار‬
‫الميموني وقدّمه ابن عبدوس في تذكرته‪ .‬وهو ظاهر كالم ِ‬
‫الحرب حيث قال‪ :‬ومن دخل إلى أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم وال‬
‫يعاملهم بالربا" اهـ‪.‬‬
‫وقال السرخسي الحنفي في المبسوط (‪" :)2‬قال رحمه هللا‪ :‬ذُ ِك َر عن‬
‫مكحول عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال ربا بين المسلمين وبين‬
‫أهل دار الحرب في دار الحرب" (‪ ،)3‬وهذا الحديث وإن كان مرسالً‬
‫فمكحول فيه ثقة‪ ،‬والمرسل من مثله مقبول‪ ،‬وهو دليل ألبي حنيفة ومحمد‬
‫رحمهما هللا تعالى في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في‬
‫دار الحرب" اهـ‪.‬‬
‫ضا‪" :‬وكذلك لو باعهم ميتة (‪ ،)4‬أو قامرهم وأخذ منهم ماالً‬
‫ثم قال أي ً‬
‫بالقمار‪ ،‬فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما هللا تعالى" اهـ‪.‬‬
‫أن أبا بكر الصدّيق رضي هللا عنه قبل‬ ‫ثم قال‪" :‬قال محمد‪" :‬وبلغنا ّ‬
‫األرض وهُم‬
‫ِ‬ ‫الرو ُم* في أ ْدنَى‬
‫ت ُّ‬ ‫الهجرة حين أنزل هللا تعالى‪{ :‬الم * ُ‬
‫غ ِلت َ ِ‬
‫س َي ْغ ِلبُون} [سورة الروم‪ ،]3-2-1/‬قال له مشركو قريش‪:‬‬ ‫ِمن بع ِد َغلَ ِب ِهم َ‬
‫أن الروم تغلب فارس‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقالوا‪ :‬هل لك أن تخاطرنا على‬ ‫ترون ّ‬
‫ت الروم أخذت خطرنا وإن‬ ‫خطرا فإن غلَب ِ‬
‫ً‬ ‫أن نضع بيننا وبينك‬
‫__________________‬
‫اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف (‪.)52/5‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المبسوط (‪ 56/14‬و‪.)57‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أورده الزيلعي في نصب الراية (‪.)44/4‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ال يجوز بيعهم الميتة ليأكلوها فإنه إعانة على معصية‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫َغلَبت فارس أخذنا خطرك (‪ ،)1‬فخاطرهم أبو بكر رضي هللا عنه على‬
‫ذلك‪ ،‬ثم أتى النبي صلى هللا عليه وسلم وأخبره‪ ،‬فقال‪" :‬اذهب إليهم فزد في‬
‫الخطر وأبعد في األجل"‪ ،‬ففهل أبو بكر رضي هللا عنه‪ ،‬وظهرت الروم‬
‫على فارس‪ ،‬فبُعث إلى أبي بكر رضي هللا عنه أن تعالى فخذ خطرك‪،‬‬
‫فذهب وأخذه فأتى النبي صلى هللا عليه وسلم فأمره بأكله‪.‬‬
‫وهذا القمار ال يح ّل بين أهل اإلسالم‪ ،‬وقد أجازه رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم بين أبي بكر رضي هللا عنه وهو مسلم وبين مشركي قريش‬
‫ألنه كان بمكة في دار الشرك حيث ال يجري أحكام المسلمين (‪.)2‬‬
‫ولقي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ُركانة بأعلى مكة فقال له ركانة‪:‬‬
‫هل لك أن تصارعني على ثلث غنمي فقال صلوات هللا عليه‪" :‬نعم"‪،‬‬
‫وصارعه فصرعه (‪ ،)3‬الحديث (‪ )4‬إلى أن أخذ منه جميع غنمه ثم ردّها‬
‫تكر ًما‪ ،‬وهذا دليل على جواز مثله في دار الحرب بين المسلم‬
‫عليه ّ‬
‫والحربي"‪ .‬انتهى كالم السرخسي بلفظه‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد كامل الطرابلسي الحنفي في الفتاوى الكاملية ما نصه‬
‫(‪" :)5‬سئلت عن مسلم في دار حرب عامل حربيًّا بالربا فأخذ منه مبلغًا‬
‫وافرا على وجه الربا هل يحرم عليه ذلك أم ال؟‬
‫ً‬
‫فالجواب‪ :‬ال يحرم عليه ذلك عند اإلمام األعظم وصاحبه اإلمام محمد‬
‫خالفًا للثاني أبي يوسف رحم هللا تعالى الجميع‪ ،‬قال في الكنز‪ :‬وال ربا‬
‫__________________‬
‫الخطر السابق الذي يُتراهن عليه‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أي قبل الفتح‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صارعه أي باأليدي‪ ،‬وصرعه معناه غلبه‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫ضا في سننه‬
‫أخرجه البيهقي في الدالئل (‪ ،)250/6‬وأخرجه أي ً‬ ‫(‪)4‬‬
‫(‪ )18/10‬وقال‪ :‬وهو مرسل جيد‪ ،‬وقد روي بإسناد ءاخر‬
‫موصوالً إال أنه ضعيف‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫الفتاوى الكاملية في الحوادث الطرابلسية (ص‪.)94/‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بين المسلم والحربي ثمة‪ ،‬قال شارحه منال مسكين‪ :‬خالفًا ألبي يوسف‬
‫ي بأمان فباع منه‬
‫والشافعي‪ ،‬وإنما قيّد بقوله‪" :‬ثمة" ألنه لو دخل دارنا حرب ٌّ‬
‫مسلم دره ًما بدرهمين ال يجوز اتفاقًا" اهـ‪.‬‬
‫نقول‪ :‬ونحن ال نحبّذ ألنفسنا وال لغيرنا العمل بذلك‪ ،‬وإنما ننقل ما قاله‬
‫كثيرا من الناس اليوم صاروا منغمسين في الربا‬ ‫ً‬ ‫َمن قبلنا من األئمة‪ ،‬ألن‬
‫المتفق على تحريمه وهو أخذ الربا من بنوك المسلمين‪ ،‬وإذا قيل ألحدهم‬
‫توكل على هللا وضع مالك في بيتك يقول‪ :‬إن في ذلك هالكنا وال يقبل إال‬
‫الشر أهون من بعض‪ ،‬إن‬ ‫ّ‬ ‫أن يضع ماله في أحد البنوك‪ ،‬فقلنا لهم‪ :‬بعض‬
‫كان وال ب ّد أن تضعوا أموالكم في بنوك المسلمين أو في بنوك مشتركة بين‬
‫الشرين أن تضعوا‬‫ّ‬ ‫المسلمين وغيرهم في دار إسالم ودار حرب‪ ،‬فأهون‬
‫أموالكم في بنك حربي على الوجه الذي يبيحه اإلمام المجتهد محمد بن‬
‫الحسن في البالد التي لم يتحقق فيها إال ذلك الشرط الواحد‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حكم اختالط الرجال بالنساء وفيه تفصيل‬

‫اعلم أنه ال ينبغي الغلو في الدين بل يجب االعتدال‪ ،‬فال يجوز تحليل ما‬
‫حرم هللا وال تحريم ما أح ّل هللا‪ ،‬قال هللا تعالى‪{ :‬قُ ْل يا أه َل ال ِكتا ِ‬
‫ب ال ت َ ْغلوا‬ ‫ّ‬
‫في دِينِكم} [سورة المائدة‪ ،]77/‬وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم البن‬
‫عباس رضي هللا عنه في الح ّج بمزدلفة‪" :‬هات القط لي"‪ ،‬فالتقط به حصى‬
‫مثل حصى الحذف‪ ،‬قال له رسول هللا‪" :‬بأمثال هؤالء‪ ،‬وإيّاكم والغلو في‬
‫الدين‪ ،‬فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (‪.)1‬‬
‫ثم إن بعض الناس غلوا بمسألة اجتماع الرجل بالنساء في هذا الزمن في‬
‫بعض البالد فحرموا ما لم يحرم هللا وهو مجرد اجتماع الرجال بالنساء من‬
‫غير خلوة ومن غير تالصق ومن غير كون النساء كاشفات الرءوس‪،‬‬
‫وليس لهم دليل في ذلك إال اتباع الهوى‪.‬‬
‫ثم اختالط الرجال بالنساء هو على وجهين‪ ،‬وجه جائز ووجه محرم‪،‬‬
‫والوجه الجائز هو االختالط بدون تالصق باألجسام وال خلوة محرمة‪،‬‬
‫والوجه المحرم ما يكون في تالصق وتضام كما بيّن ذلك الشيخ ابن حجر‬
‫في فتاويه الكبرى والشيخ أحمد بن يحيى الوانشريسي في كتابه الذي جمع‬
‫فيه فتاوى فقهاء المغرب المسمى المعيار المعرب (‪ )2‬وكان من أهل‬
‫القرن العاشر الهجري‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه النسائي في سننه‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب التقاط الحصى‪.‬‬
‫(‪ )2‬المعيار المعرب (‪.)228/11‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وروى البخاري (‪ )1‬ومسلم (‪ )2‬والترمذي (‪ )3‬والنسائي (‪ )4‬عن أبي‬


‫هريرة رضي هللا عنه أن رجالً أتى النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فبعص إلى‬
‫نسائه‪ ،‬فقلن‪ :‬ما معنا إال الماء‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬م ْن‬
‫ض ُّم" أو‪" :‬يضيف هذا"‪ ،‬فقال رجل من األنصار‪ :‬أنا‪ ،‬فانطلق به إلى‬ ‫يَ ُ‬
‫امرأته فقال‪ :‬أكرمي ضيف رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالت‪ :‬ما عندنا‬
‫ونومي صبيانك‬ ‫إال قوت صبياني‪ ،‬فقال‪ :‬هيّئي طعامك وأصبحي سراجك ّ‬
‫ونومت صبيانها‪ ،‬ثم‬ ‫إذا أرادوا عشا ًء‪ ،‬فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ّ‬
‫قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته‪ ،‬فجعال يُريانه أنهما يأكالن فباتا‬
‫طاويين‪ ،‬فلما أصبح غدا إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬ضحك‬
‫{ويُؤْ ثِرونَ على أنفُ ِس ِهم ولَ ْو‬
‫هللا الليلة" أو‪" :‬عجب من فعالكما" فأنزل هللا‪َ :‬‬
‫فأولئك ُه ُم ال ُم ْف ِلحون} [سورة‬
‫َ‬ ‫صاصةٌ َو َمن يُوقَ ُ‬
‫ش َّح نف ِس ِه‬ ‫كانَ ِب ِهم َخ َ‬
‫الحشر‪.]9/‬‬
‫وضحك هنا بمعنى رضي وليس كضحك البشر‪ ،‬كما قال الحافظ ابن‬
‫حجر في الفتح (‪ .)5‬فهذا نص صريح صحيح في أن الصحابي جلس هو‬
‫وزوجته مع الضيف كما يجتمع األ َكلَةُ على الطعام من التقارب‪ ،‬وقد ّ‬
‫أقر‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ذلك‪.‬‬
‫________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب مناقب األنصار‪ :‬باب قول هللا عز وجل‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫{ويُؤ ِثرونَ على أنفُ ِس ِهم ولو كانَ بهم خَصاصةٌ}‪ ،‬والتفسير‪ :‬باب‬
‫تفسير‪{ :‬ويُؤثِرونَ على أنفسهم} من سورة الحشر‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب األشربة‪ :‬باب إكرام الضيف وفضل إيثاره‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬كتاب تفسير القرءان‪ :‬ومن سورة‬ ‫(‪)3‬‬
‫الحشر بنحوه‪ ،‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫سنن النسائي‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬باب قوله تعالى‪{ :‬ويُؤثِرون على‬ ‫(‪)4‬‬
‫أنفُ ِس ِهم} بنحوه‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)120/7‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫س أبو أ ً َ‬
‫س ْي ٍد‬ ‫وروى البخاري (‪ )1‬في صحيحه عن سهل قال‪" :‬لما َع َّر َ‬
‫ي‪ ،‬دعا النبي صلى هللا عليه وسلم وأصحابه فما صنع لهم طعا ًما‬ ‫الساعد ُّ‬
‫قربه إليهم إال امرأته أم أسيد" الحديث‪.‬‬‫وال ّ‬
‫قال الحافظ ابن حجر (‪" :)2‬وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها‬
‫ومن يدعوه‪ ،‬وال يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة‪ ،‬ومراعاة ما يجب‬
‫عليها من الستر‪ ،‬وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك" اهـ‪.‬‬
‫وروى اإلمام المجتهد ابن المنذر (‪ )3‬في كتابه األوسط فقال‪" :‬حدثنا‬
‫علي بن عبد العزيز قال‪ :‬ثنا حجاج قال‪ :‬نا عن ثابت وحميد عن أنس قال‪:‬‬
‫الم ْربَد ثم جلسنا إلى‬
‫قدمنا مع أبي موسى األشعري فصلى بنا العصر في ِ‬
‫مسجد الجامع فإذا المغيرة بن شعبة يصلى بالناس والرجال والنساء‬
‫مختلطون معه" اهـ‪.‬‬
‫وروى ابن حبان (‪ )4‬عن سهل بن سعد قال‪" :‬كن النساء يؤمرن في‬
‫عهد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن ال يرفعن رءوسهن حتى يأخذ‬
‫الرجال مقاعدهم من األرض من ضيق الثياب" اهـ‪.‬‬
‫ضا على أن اجتماع الرجال والنساء في‬
‫فهذان الحديثان فيهما دليل أي ً‬
‫موضع واحد جائز من غير أن يكون بين الرجال والنساء ستار ممدود‪،‬‬
‫وفيهما أن اختالط الرجال والنساء بدون تالصق جائز‪ ،‬وإنما الخلطة‬
‫المحرمة هي التالصق باألبدان‪.‬‬
‫________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب قيام المرأة على الرجال في‬ ‫(‪)1‬‬
‫العرس وخدمتهم بالنفس‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)251/9‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر كتاب األوسط (‪.)401/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)317/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي شرح النووي على المهذب (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وألن اختالط النساء‬
‫بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام" اهـ‪.‬‬
‫ويدل لقول النووي حديث ابن عباس أن الرسول قال للنساء عند‬
‫المبايعة‪" :‬إنما أنبئكن عن المعروف الذي ال تعصينني فيه أن ال تخلون‬
‫بالرجال ُو ْحدانًا وال تَنُ ْحنَ ن َْوح الجاهلية"‪ ،‬رواه الحافظ ابن جرير الطبري‪.‬‬
‫ومعنى قوله عليه السالم‪" :‬وحدانًا" أي ال تخلو المرأة الواحدة بالرجل‬
‫حرمها الرسول‪.‬‬ ‫الواحد فهذه هي الخلوة التي ّ‬
‫ونص فقهاء المالكية على أن المعصية تنتفي بالتعدد أي باختالء رجلين‬
‫مع امرأة واحدة أو امرأتين مع رجل واحد‪ ،‬وقد ذكر ذلك الشيخ زكريا‬
‫األنصاري الشافعي في شرح روض الطالب ممزو ًجا (‪ )2‬بالمتن‪" :‬يجوز‬
‫لرجل أجنبي أن يخلو بامرأتين ثقتين" اهـ‪.‬‬
‫المحرمة ال تكون مع‬
‫ّ‬ ‫وكذا ذكر محمد األمير المالكي (‪ )3‬أن الخلوة‬
‫التعدد أي ال يحرم خلوة امرأتين برجل وال خلوة رجلين بامرأة‪.‬‬
‫حرم رسول هللا خلوة رجل أجنبي بامرأة واحدة‪ ،‬وسمح في‬ ‫وإنما ّ‬
‫اجتماع رجلين أو أكثر بامرأة‪ ،‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال‬
‫يَ ْخلُ َو َّن رجل بامرأة إال كان ثالثهما الشيطان"‪ ،‬ففي هذا الحديث دليل في‬
‫قوله عليه السالم‪" :‬بامرأة" أنه إذا كانت النساء أكثر من واحدة ليس‬
‫بحرام‪ ،‬وكذلك إذا اجتمع رجالن بامرأة ليس بحرام‪ .‬هذا معنى حديث‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهذا الحديث صحيح رواه الترمذي (‪.)4‬‬
‫____________________‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)484/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫انظر شرح الروض (‪.)407/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫حاشية األمير على المجموع (‪.)215/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه الترمذي في جامعه‪ :‬كتاب الرضاع‪ :‬باب ما جاء في‬ ‫(‪)4‬‬
‫كراهية الدخول على المغيبات‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يدخلن رجل على ُمغيبة إال‬
‫ومعه رجل أو رجالن" رواه مسلم (‪ )1‬وغيره (‪ .)2‬والمغيبة هي المرأة‬
‫التي زوجها غائب‪ .‬فحرم علينا رسول هللا أن يدخل الواحد منا على هذه‬
‫المغيبة وأذن في دخول اثنين فأكثر على هذه الواحدة‪ ،‬وأخذ على النساء‬
‫عهدًا أن ال َي ْخلُون بالرجال وحدانًا أي ال تخلو واحدة بواحد‪.‬‬
‫ضا دليل على أنه إذا خلت واحدة برجلين أو أكثر‬ ‫وفي هذا الحديث أي ً‬
‫ليس حرا ًما‪ ،‬وكذلك إذا خال رجل واحد بامرأتين فأكثر‪ .‬وهذا الحكم مطلق‬
‫يشمل اجتماع الرجال بالنساء على هذا الوجه الذي د َّل الحديث على جواز ِه‬
‫إن كان االجتماع ألمر دنيوي ال معصية فيه أو ألمر ديني كتعلّم علم‬
‫الشرع أو للذكر إن كن مغطيات رءوسهن وما سوى ذلك مما هو عورة‪.‬‬
‫وحرم اجتماع النساء عند رجل لتعلّم علم الدين فالويل له‬‫ّ‬ ‫فمن خالف ذلك‬
‫حرم هذا وقد ثبت في كتب الحديث أن‬ ‫يحرم هللا‪ ،‬فكيف يُ ّ‬
‫حرم ما لم ّ‬
‫ألنه ّ‬
‫النساء كن يصلين مع رسول هللا صالة الجماعة ثم ينصرفن‪ ،‬وكن يقفن في‬
‫وصف‬
‫ّ‬ ‫صف الرجال‬‫ّ‬ ‫الصف الذي بعد صف الرجال ولم يكن يم ّد ستار بين‬
‫النساء بل كان مكشوفًا‪ ،‬وكذلك ورد في صحيح البخاري (‪ )3‬أن الرسول‬
‫كان يأمر بخروج النساء لصالة العيد إلى المصلى وهو مكان بالمدينة‬
‫قريب من المسجد‪ ،‬كانت الشابات يحضرن ليصلين العيد خلف الرسول في‬
‫ذلك المصلى والحيَّض يعتزلن المصلى ليشهدن الخير‪ ،‬ثم بعض المرات‬
‫اعتزل هو وبالل رضي هللا عنه إلى النساء فوعظهن‪ .‬وفي صحيح‬
‫ضا‪" :‬باب موعظة‬ ‫البخاري أي ً‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب السالم‪ :‬باب تحريم الخلوة‬
‫باألجنبية والدخول عليها‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه ابن حبان في صحيحه انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن‬
‫حبان (‪ ،)442/7‬وأخرجه أحمد في مسنده (‪،186 ،171/2‬‬
‫‪.)213‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب العيدين‪ :‬باب خروج النساء والحيّض إلى‬
‫المصلى‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫اإلمام النساء يوم العيد"‪.‬‬


‫ولم يزل من عادات المسلمين في البالد الكبيرة أن بعض العلماء كان‬
‫يخص النساء بدرس في جانب من المسجد وكان يفعل ذلك الشيخ طاهر‬ ‫ّ‬
‫الريّس رحمه هللا بحمص‪.‬‬
‫فاتّقوا هللا أيها المحرمون لتدريس الرجل النساء علم الدين بغير دليل‬
‫شرعي‪ ،‬واعلموا أن كالمكم الذي تقولونه يكتب عليكم‪ ،‬يقول هللا تعالى‪:‬‬
‫ِب هذا حال ٌل وهذا حرا ٌم} [سورة‬ ‫ف ْأل ِسنَت ُ ُك ُم ال َكذ َ‬ ‫{وال تَقُولوا ِلما ت َ ِ‬
‫ص ُ‬
‫رقيب َعتيدٌ}‬
‫ٌ‬ ‫من قَو ٍل إال لَ َدي ِه‬
‫ظ ْ‬‫النحل‪ ]116/‬واذكروا قوله تعالى‪{ :‬ما ْيل ِف ُ‬
‫سبوا وإلى هللا المرجع‬ ‫[سورة ق‪ ]18/‬فعليكم أن تحا ِسبوا أنفسكم قبل أن تُحا َ‬
‫والمآب‪.‬‬
‫فبعد هذا البيان للحكم الشرعي ال يجوز مخالفته من أجل العادة التي ألف‬
‫الشخص في بلده‪ ،‬ومن أقبح القبيح أن يترك الشخص أحاديث رسول هللا‬
‫الصحيحة ويتعلّق بعادة بلده‪ ،‬وهذا خالف سيرة األئمة المجتهدين الشافعي‬
‫ومالك وغيرهما‪ ،‬قال اإلمام الشافعي رضي هللا عنه‪" :‬إذا صح الحديث‬
‫فهو مذهبي"‪.‬‬
‫وقد تقد أنه جاء في صحيح مسلم‪" :‬ال يدخلن أحدكم على مغيبة إال ومعه‬
‫رجل أو رجالن"‪.‬‬
‫فإذا علم هذا علم أنه ال يجوز اإلنكار على من يجلس مع نساء أجنبيات‬
‫لتعليم الدين أو للوعظ‪ ،‬وليتّق هللا امرؤ ينكر ذلك أو يحرمه‪ ،‬كيف يقدم‬
‫على ذلك بعد هذه النصوص‪ ،‬ومن أين له أن يطلق القول بتحريم خلطة‬
‫الرجال بالنساء على غير وجهه والرسول عليه السالم يقول‪" :‬ال تخلون‬
‫بالرجال وحدانًا" أي واحدة ٌ بواحد‪ ،‬والوحدان جمع واحد‪ ،‬وفي صحيح ابن‬
‫ي بن كعب إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا‬‫حبان (‪ )1‬أنه جاء أُب ّ‬
‫رسول هللا إنه كان مني الليلة شئ في رمضان‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)110-111/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي"‪ ،‬قال‪ :‬نسوة في داري قلن‪ :‬إنا ال نقرأ القرءان‬ ‫قال‪" :‬وما ذاك يا أُب ّ‬
‫فنصلي بصالتك‪ ،‬قال‪ :‬فصليت بهن ثمان ركعات ثم أوترت‪ ،‬قال‪ :‬فكان‬
‫شبه الرضا ولم يقل شيئًا‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وروى يحيى بن يحيى عن مالك في الموطإ (‪ )1‬أنه سئل هل تأكل‬
‫المرأة مع غير ذي محرم أو مع غالمها؟ فقال مالك‪" :‬ليس بذلك بأس إذا‬
‫كان ذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال‪ ،‬قال‪ :‬وقد‬
‫تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره م ّمن تؤاكله" اهـ‪.‬‬
‫فإن احتج المانعون بالحديث الذي رواه ابن حبان (‪" :)2‬ليس للنساء‬
‫وسط الطريق"‪ ،‬فالجواب ما قاله ابن حبان عقبه‪" :‬لفظة إخبار مرادها‬
‫الزجر عن شئ مضر فيه وهو مماسة النساء الرجال في المشي إذ وسط‬
‫الطريق الغالب على الرجال سلوكه والجوانب على النساء أن يتخللن‬
‫الجوانب حذر ما يتوقع من مماستهم إياهن"‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مالك في الموطإ‪ :‬كتاب الجامع‪ :‬باب جامع ما جاء في‬
‫الطعام والشراب (ص‪.)807/‬‬
‫(‪ )2‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)447/7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حكم التعطر والزينة للمرأة‬
‫وفيه تفصيل‬

‫اعلم أن خروج المرأة متزيّنة أو متعطرة مع ستر العورة مكروه تنزي ًها‬
‫التعرض للرجال‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫دون الحرام‪ ،‬ويكون حرا ًما إذا قصدت المرأة بذلك‬
‫إذا قصدت فتنتهم‪.‬‬
‫روى ابن حبان (‪ )1‬والحاكم (‪ )2‬والنسائي (‪ )3‬والبيهقي (‪ )4‬في باب‬
‫ما يكره للنساء من الطيب‪ ،‬وأبو داود (‪ )5‬عن أبي موسى األشعري‬
‫فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية"‪.‬‬
‫عا‪" :‬أيما امرأةٍ استعطرت ّ‬
‫مرفو ً‬
‫وأخرجه الترمذي (‪ )6‬في باب ما جاء في كراهية خروج المرأة‬
‫عا‪" :‬كل عين زانيةٌ‪،‬‬‫ضا مرفو ً‬
‫متعطرة من حديث أبي موسى األشعري أي ً‬
‫فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا" يعني زانية‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫والمرأة إذا استعطرت ّ‬
‫_______________‬
‫صحيح ابن حبان‪ :‬كتاب الحدود‪ :‬باب ذكر وصف زنى األذن‬ ‫(‪)1‬‬
‫والرجل وما يعمالن مما ال يحل‪ ،‬انظر اإلحسان (‪.)301/6‬‬
‫المستدرك‪ :‬كتاب التفسير (‪.)396/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سنن النسائي‪ :‬كتاب الزينة‪ :‬باب ما يكره للنساء من الطيب‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫السنن الكبرى (‪.)246/3‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب التر ّجل‪ :‬باب ما جاء في المرأة تتطيّب‬ ‫(‪)5‬‬
‫للخروج‪.‬‬
‫جامع الترمذي‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء في كراهية خروج‬ ‫(‪)6‬‬
‫المرأة متعطرة‪ ،‬وقال الترمذي‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فهذه الرواية األخيرة مطلقة‪ ،‬ورواية‪" :‬ليجدوا ريحها" مقيّدة ومخرج‬


‫الكل واحد‪ ،‬فيحمل المطلق على المقيّد عمالً بالقاعدة التي جرى عليه‬
‫الجمهور من حمل المطلق على المقيّد تحاشيًا لما يترتب على العكس من‬
‫الخروج عن إجماع األئمة‪ ،‬فإنه لم يقل أحد منهم بحرمة خروج المرأة‬
‫متطيبة على اإلطالق‪ ،‬وهذا الحمل موافق لحديث عائشة الذي رواه أبو‬
‫داود (‪ )1‬في سننه أنها قالت‪ُ " :‬كنّا نخرج مع النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫إلى مكة فنض ّمخ جباهنا بالمسك المطيب لإلحرام‪ ،‬فإذا عرقت إحدانا سا َل‬
‫على وجهها فيراه النبي صلى هللا عليه وسلم فال ينهانا"‪ .‬والرسول ونساؤه‬
‫كانوا يُ ْح ِرمونَ بذي الحليفة وهي على بضعة أميال من المدينة‪.‬‬
‫والحديث األول رواه النسائي‪ ،‬والبيهقي في باب ما يكره للنساء من‬
‫الطيب ألنه لم يفهما منه تحريم خروج المرأة متعطرة إال الكراهة‬
‫التنزيهية‪ ،‬ألن الكراهة إذا أُط ِلقت فيُراد بها عند الشافعيين الكراهة‬
‫التنزيهية كما ذكر ذلك الشيخ أحمد بن رسالن (‪ )2‬الشافعي قال‪:‬‬
‫ف المتثا ٍل يُث َ ِ‬
‫ب‬ ‫وفاع ُل المكروه لم يُ َعذَّ ِ‬
‫ب *** بل إن ي ُك ّ‬
‫ي المذهب‪ ،‬ومثل الشافعية الحنابلة‬ ‫ومن المعلوم أن البيهقي كان شافع َّ‬
‫والمالكية فإنهم يريدون بالكراهة عند إطالقها الكراهة التنزيهية‪ ،‬أما‬
‫الحنفية فيريدون بها غالبًا ما يأثم فاعلها‪.‬‬
‫فالقائل بحرمة خروج المرأة متعطرة على اإلطالق ماذا يفعل بهذا‬
‫الحديث‪ ،‬وهو صحيح لم يضعّفه أحد من الحفّاظ‪ ،‬وال عبرة ب َمن ليس له‬
‫مرتبة الحفظ كما هو مقرر في كتب المصطلح‪.‬‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود‪ :‬كتاب المناسك‪ :‬باب ما يلبس المحرم‪.‬‬
‫(‪ )2‬متن الزبد‪ ،‬المقدمة‪( ،‬ص‪.)10/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مرت‬‫وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن خزيمة (‪ )1‬وفيه أنه ّ‬
‫بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها‪" :‬أين تريدين يا أمة الجبار؟‬
‫ت لذلك؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فارجعي فاغتسلي‪،‬‬ ‫قالت‪ :‬إلى المسجد‪ ،‬قال‪ :‬تطيب ِ‬
‫فإني سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬ال يقبل هللا من امرأى‬
‫صالة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل" فلم‬
‫يصححه أحد من الحفّاظ‪ ،‬وإن ابن خزيمة الذي أخرجه قال فيه‪" :‬إن صح‬
‫الخبر"‪ ،‬بالمعنى الشامل للصحيح والحسن ألنه ال يفرق بين الحسن‬
‫والصحيح‪.‬‬
‫أما قول ابن حجر الهيتمي (‪ )2‬بعد قول ابن خزيمة إن صح الخبر "أي‬
‫إن صح هذا الحديث وقد ص ّح" فال حجة فيه ألنه لم ينقل هذا التصحيح عن‬
‫حافظ معتبر كابن حجر العسقالني وهو أي ابن حجر الهيتمي ليس من‬
‫الحفاظ فال عبرة بقوله إذا خالف قول حافظ‪ ،‬فال يجوز الخروج عن‬
‫ظواهر تلك األحاديث أي إلغاء العمل بها كحديث عائشة الذي سبق ذكره‬
‫والذي هو أقوى إسنادًا من حديث أبي هريرة من أجل هذا الحديث الذي لم‬
‫يصححه مخ َّرجه ابن خزيمة‪ ،‬بل يجمع بينهما فيقال‪ :‬لو صح هذا الحديث‬
‫ّ‬
‫متعطرة‪ ،‬وإنما فيه أن صالتها في هذه الحال في‬ ‫فليس فيه تحريم خروجها‬
‫المسجد ال تكون مقبولة‪.‬‬
‫كثيرا من الكراهات تمنع القبول أي الثواب مع كون‬
‫ومن المعلوم أن ً‬
‫ً‬
‫جائزا وانتفاء المعصية‪ ،‬مثال ذلك ترك الخشوع في الصالة فإن‬ ‫العمل‬
‫الصالة تص ّح بدون الخشوع مع عدم المعصية والقبول أي ال ثواب فيها‪،‬‬
‫ونظير هذا الحديث حديث ابن عباس رفعه‪" :‬من سمع المنادي فلم يمنعه‬
‫من اتباعه عذر"‪ ،‬قالوا‪ :‬وما العذر؟ قال‪" :‬خوف أو مرض‪ ،‬لم‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬رواه ابن خزيمة في صحيحه (‪.)92/3‬‬
‫(‪ )2‬الزواجر عن اقتراف الكبائر (‪.)45/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تقبل منه الصالة التي صلى"‪ ،‬رواه أبو داود (‪ )1‬والحاكم (‪ )2‬والبيهقي‬
‫(‪ )3‬وغيرهم‪.‬‬
‫ووجه االستدالل بالحديث أنه كما ال يفهم منه أن كل إنسان يتخلّف عن‬
‫الحضور إلى الجماعة حيث ينادى باألذان وصلى في بيته يكون عاصيًا‪،‬‬
‫كذلك ال يقصد بحديث أبي هريرة أن التي خرجت متطيبة إلى المسجد‬
‫تكون عاصية بمجرد خروجها‪ ،‬إنما يُفهم منه أن ذهابها إلى المسجد مكروه‬
‫كما أن الذي لم يذهب إلى موضع األذان يكون بترك حضوره الجماعة‬
‫حيث األذان ينادى به قد فعل فعالً مكرو ًها‪ .‬على أن حديث أبي هريرة هذا‬
‫ليس في مطلق التطيّب بل في شدة راشحة الطيب ألن هذا معنى العصف‬
‫كما هو معروف في اللغة‪ ،‬ومن ظن أنه لمطلق ريح الطيب فهذا جهل منه‬
‫باللغة‪.‬‬
‫وأما حديث‪" :‬ال تمنعوا إماء هللا من مساجد هللا ولكن ليخرجن تفالت"‪،‬‬
‫(‪ )4‬فال يفيد إال الكراهة التنزيهية لمن تذهب إلى المسجد وهي متطيبة‪.‬‬
‫"فمرت بقوم فوجدوا ريحها"‬
‫ّ‬ ‫وأما دعوى بعض أنه في النسائي رواية‪:‬‬
‫فهو غير صحيح‪ ،‬إذ ال وجود لهذه الرواية في النسائي‪.‬‬
‫__________________‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب في التشديد في‬ ‫(‪)1‬‬
‫ترك الجماعة‪.‬‬
‫المستدرك (‪.)246/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫السنن الكبرى (‪.)75/3‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب ما جاء في خروج‬ ‫(‪)4‬‬
‫النساء إلى المسجد‪ ،‬وابن حبان في صحيحه انظر اإلحسان‬
‫(‪.)316/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ولينظر إلى ما رواه ابن أبي شيبة (‪ )1‬عن محمد بن المنكدر قال‪:‬‬
‫"زارت أسماء أختها عائشة والزبير غائب فدخل النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫فوجد ريح طيب فقال‪" :‬ما على المرأة أن تطيّب وزوجها غائب"‪ ،‬فلو كان‬
‫ذلك حرا ًما لبيّن النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫قال ابن مفلح المقدسي الحنبلي في اآلداب الشرعية ما نصه (‪:)2‬‬
‫"ويحرم خروج المرأة من بيت زوجها بال إذنه إال لضرورة أو واجب‬
‫شرعي"‪ ،‬إلى أن قال‪" :‬ويكره تطيبها لحضور مسجد أو غيره" اهـ‪.‬‬
‫ّ‬
‫متعطرة‬ ‫يحرم خروج المرأى‬
‫فيعلم مما تقدم أن ما جاء في الحديث ال ّ‬
‫التعرض للرجال‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على اإلطالق‪ ،‬وإنما يحرمه إذا قصدت‬
‫فإن قيل‪ :‬إن الالم التي في حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"فمرت بقوم ليجدوا ريحها" هي الم العاقبة وليست الم التعليل‪.‬‬
‫ّ‬
‫فالجواب‪ :‬أن هذا ال يص ّح لوجوه منها‪:‬‬
‫ضا لمقتضى ما قبلها‬ ‫األول‪ :‬أن الم العاقبة هي التي يكون ما بعدها نقي ً‬
‫(‪ ،)3‬كالتي في قوله تعالى‪ْ :‬‬
‫{فالتَقَ َ‬
‫طهُ ءا ُل فر َعونَ ِليَكونَ ل ُه ْم عد ًُّوا و َحزَ نًا}‬
‫[سورة القصص‪ ،]8/‬أي فكانب العاقبة أن كان سيدنا موسى عليه السالم‬
‫عدوا لهم وحزنًا‪ ،‬فهذه الالم ما بعدها مناقض لمقتضى ما قبلها‪ ،‬ألن ءال‬ ‫ًّ‬
‫فرعون إنما التقطوا سيدنا موسى من الي ّم ليكون لهم عونًا وينصرهم‪ ،‬ولكن‬
‫عدوا لهم وحزَ نًا‪ ،‬وهذا ال يصح في هذا الحديث ألن‬ ‫العاقبة هي أنه كان ًّ‬
‫ّ‬
‫متعطرة‪.‬‬ ‫ضا لخروج المرأة‬ ‫ظهور ريح الطيب ليس مناق ً‬
‫الثاني‪ :‬أن الالم ال تكون للعاقبة إال بطريق المجاز كما قال اإلمام ابن‬
‫السمعاني أحد مشاهير األصوليين في كتابه القواطع‪ ،‬والمجاز ال ب ّد من‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬مصنف ابن أبي شيبة‪ ،‬كتاب األدب (‪.)27/9‬‬
‫(‪ )2‬اآلداب الشرعية والمنح المرعية (‪.)390/3‬‬
‫(‪ )3‬تشنيف المسامع (‪.)540-541/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صب للرأي على‬ ‫دليل ال يصار إليه إال ألجله‪ ،‬وال دليل هنا للمجاز إال التع ّ‬
‫سمعاني أحد مشاهير األصوليين‪ ،‬نقل‬ ‫طريق التح ّكم كما قال اإلمام ابن ال ّ‬
‫ذلك عنه الفقيه األصولي بدر الدين الزركشي في بحث معاني الحروف في‬
‫تشنيف المسامع (‪.)1‬‬
‫الثالث‪ :‬أن هذا فيه إبطال الحديث الذي رواه أبو داود عن عائشة الذي‬
‫ّ‬
‫جباههن بالمسك لإلحرام‪ ،‬وقد تقدم ذكره‪.‬‬ ‫كن يضمخن‬‫فيه أن نساء النبي ّ‬
‫َو َي ِر ُد على كالم المؤولين لحديث "ليجدوا" بأنه الم العاقبة أن شم الرجال‬
‫ريحها قد ال يصل لكونها تمر بعيدة من الرجال بحيث ال يصل ريحها إليهم‬
‫ً‬
‫جائزا‪ ،‬فعل يقولون بذلك أي أنها إذا خرجت‬ ‫فيؤدي كالمهم أن يكون هذا‬
‫بحيث لم يجد الرجال ريحها فهو جائز‪.‬‬
‫فوضح أن هذه الالم هي الم التعليل كما فهم ذلك ابن رشد القرطبي من‬
‫كالم اإلمام مالك كما سيأتي‪.‬‬
‫ضا عن ابن عباس رضي هللا عنهما أن‬ ‫وروى البيهقي (‪ )2‬في سننه أي ً‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلّى ركعتين لم يص ّل قبلها‬
‫فأمرهن بالصدقة‪ ،‬فجعلت المرأة تُلقي‬
‫ّ‬ ‫وال بعدها‪ ،‬ثم أتى النساء ومعه بالل‬
‫ُخرصها وسخابها‪ ،‬قال البيهقي‪" :‬رواه البخاري في الصحيح (‪ )3‬عن أبي‬
‫الوليد‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬انظر الكواكب الدرية لألهدال‪ :‬باب إعراب الفعل‪ ،‬وشذور‬
‫الذهب البن هشام‪ :‬النواصب‪.‬‬
‫(‪ )2‬السنن الكبرى (‪.)295/3‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬في صالة العيدين‪ :‬باب الخطبة‬
‫بعد العيد‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وأخرجه مسلم (‪ )1‬عن ُ‬


‫شعبة" اهـ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهن البسات‬ ‫فهذا الحديث فيه أن هؤالء النسوة خرجن يوم العيد‬
‫عليهن‪ ،‬وال ُخ ْر ُ‬
‫ص هو حلقة الذهب‬ ‫ّ‬ ‫السخاب وهو نوع من الطيب فلم ينكر‬
‫والفضة كما في القاموس في مادة‪( :‬خ ر ص)‪ ،‬وهذا من أدلة جواز خروج‬
‫ضا‪.‬‬
‫المرأة متزينة أي ً‬
‫ضا ما رواه أحمد وغيره (‪ )2‬أن فاطمة زوج علي رضي‬ ‫ومن األدلة أي ً‬
‫هللا عنهما اكتحلت ولبست صبيغًا يعني في حجهم مع النبي فقال لها علي‪:‬‬
‫من أمرك بهذا فقالت‪ :‬رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬قال علي‪ :‬فاطلقت‬
‫شا على فاطمة مستفتيًا لرسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال رسول‬ ‫محر ً‬
‫ت"‪.‬‬‫ص َدقَ ْ‬ ‫ص َدقَ ْ‬
‫ت َ‬ ‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪َ " :‬‬
‫ضضْنَ‬ ‫ت َي ْغ ُ‬ ‫يقول القرطبي (‪ )3‬عند تفسير قوله تعالى‪{ :‬وقُل لل ُم ِ‬
‫ؤمنا ِ‬
‫ْصار ِه َّن} [سورة النور‪ ]31/‬مبينًا األقوال التي وردت في تفسيرها ما‬ ‫ِم ْن أب ِ‬
‫ّ‬
‫زينتهن‬ ‫نصه‪" :‬الثالثة‪ :‬أ َمر هللا سبحانه وتعالى النساء بأن ال يبدين‬
‫ذارا من االفتتان‪ .‬ثم‬ ‫للناظرين إال ما استثناه من الناظرين في باقي اآلية ِح ً‬
‫استثنى ما يظهر من الزينة‪ ،‬واختلف الناس في قدر ذلك فقال ابن مسعود‪:‬‬
‫ضا‬
‫ظاهر الزينة هو الثياب‪ ،‬وزاد ابن جبير‪ :‬الوجه‪ ،‬وقال سعيد بن جبير أي ً‬
‫وعطاء واألوزاعي‪ :‬الوجه والكفان والثياب‪ ،‬وقال ابن عباس وقتادة‬
‫سوار والخضاب إلى‬ ‫سور بن َمخرمة‪ :‬ظاهر الزينة هو الكحل وال ّ‬ ‫والم َ‬
‫ِ‬
‫نصف الذراع والقرطة والفَت َ ُخ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل َمن‬
‫دخل عليها من الناس‪.‬‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬في صالة العيدين‪ :‬باب ترك الصالة‬
‫قبل العيد وبعدها في المصلى‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد في مسنده (‪ ،)320-321/3‬والطبراني في المعجم‬
‫الكبير (‪.)413/22‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬الجامع ألحكام القرءان (‪.)228/12‬‬


‫الرابعة‪ :‬الزينة قسمان‪ :‬خلقية ومكتسبة‪ ،‬فالخلقية‪ :‬وجهها فإنه أصل‬
‫الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية لما فيه من المنافع وطرق العلوم‪،‬‬
‫وأما الزينة المكتسبة‪ :‬فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب‬
‫ي والكحل والخضاب" اهـ‪.‬‬ ‫والحل ّ‬
‫ثم قال‪" :‬الخامسة‪ :‬من الزينة ظاهر وباطن‪ ،‬فما ظهر فمباح أبدًا لكل‬
‫الناس من المحارم واألجانب" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪" :)1‬من فعل ذلك منهن فر ًحا بحليهن فهو مكروه‪ ،‬ومن فعل‬
‫ضا للرجال فهو حرام مذموم" اهـ‪.‬‬
‫ذلك منهن تبر ًجا وتعر ً‬
‫وفي البحر المحيط ألبي حيان األندلسي (‪ )2‬عند تفسير قوله تعالى‪:‬‬
‫أبصار ِه ّن} [سورة النور‪ ]31/‬إلى ءاخر‬
‫ِ‬ ‫ضضْنَ من‬ ‫ت َي ْغض ُ‬ ‫{وقُل لل ُم ِ‬
‫ؤمنا ِ‬
‫اآلية ما نصه‪" :‬ثم قال‪{ :‬وال يُبْدينَ ِزينَت َ ُه َّن} [سورة النور‪ ]31/‬واستثنى ما‬
‫ي أو كحل أو ِخضاب‪،‬‬ ‫ظهر من الزينة‪ ،‬والزينة ما تتزيّن به المرأة من حل ّ‬
‫ظاهرا منها كالخاتم والفَتَخة والكحل والخضاب فال بأس بإبدائه‬ ‫ً‬ ‫فما كان‬
‫لألجانب‪ ،‬وما خفي منها تبديه إال لمن استثني‪ ،‬وذكر الزينة دون مواضعها‬
‫بالتصون والتستّر‪ ،‬ألن هذه الزين واقعة على مواضع من‬ ‫ّ‬ ‫مبالغة في األمر‬
‫الجسد ال يح ّل النظر إليها لغير هؤالء‪ ،‬وهي الساق والعضد والعنق‬
‫والرأس والصدر واآلذان" اهـ‪.‬‬
‫سومح في الزينة الظاهرة ألن سترها فيه حرج‪ ،‬فإن المرأة ال‬ ‫ثم قال‪" :‬و ُ‬
‫صا‬
‫تجد بدًّا من مزاولة األشياء بيدها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصو ً‬
‫في الشهادة والمحاكمة والنكاح‪ ،‬وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور‬
‫منهن‪ ،‬وهذا معنى قوله‪{ :‬إال ما َ‬
‫ظ َه َر منها} [سورة‬ ‫ّ‬ ‫قدميها خاصة الفقيرات‬
‫والجبلَّةُ‬
‫النور‪ ]31/‬يعني إال ما جرت العادة ِ‬
‫_______________________‬
‫(‪ )1‬الجامع ألحكام القرءان (‪.)238/12‬‬
‫(‪ )2‬البحر المحيط (‪.)447/6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫على ظهوره واألصل فيه الظهور" اهـ‪.‬‬


‫وفي كتاب البيان والتحصيل (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وسئل مالك عما يكون في‬
‫أر ُجل النساء من الخالخل‪ ،‬قال‪ :‬ما هذا الذي جاء فيه الحديث‪ ،‬وتر ُكه أحبُّ‬
‫إلي من غير تحريم له‪ ،‬قال محمد بن رشد‪ :‬المعنى في هذه المسألة وهللا‬
‫سئ َل عما يجعله النسا ُء في أر ُج ِل ِه َّن من الخالخل و ُه َّن إذا‬ ‫أن مال ًكا إنما ُ‬ ‫أعل ُم َّ‬
‫ترك ذلك أحبَّ إليه من غير تحريم‪ ،‬ألن‬ ‫ت قَ ْعقَ َعتُها فرأى َ‬ ‫س ِم َع ْ‬‫مشين بها ُ‬
‫ص ْدن إلى إسماعِ ذلك‬ ‫النهي فيه من أن يَ ْق ِ‬
‫ُ‬ ‫عليهن إنما هو ما جاء‬ ‫ّ‬ ‫الذي يحرم‬
‫عز وجل‪:‬‬ ‫وإظهاره من زينتهن لمن يخطرن عليه من الرجال‪ :‬قال هللا ّ‬
‫{وال يَض ِْربْنَ بأ ْر ُج ِل ِه َّن ليُعلَ َم ما يُخ ِفينَ من ِزينَتِ ِه َّن} [سورة النور‪]31/‬‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬أيُّما‬ ‫وي من َّ‬ ‫ومن هذا المعنى ما ُر َ‬
‫فهي زانية" لعدم حرمة‬ ‫بقوم ِليَجدوا ريحها َ‬ ‫فمرت ٍ‬ ‫رت ّ‬ ‫ط ْ‬ ‫امرأةٍ ا ْستَع َ‬
‫التعرض للرجال" اهـ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫خروجها متعطرة إال إذا كانت نيّتها‬
‫وقال النووي في المجموع (‪ )2‬ما نصه‪" :‬فرع‪ :‬إذا أرادت المرأة‬
‫ضا الثياب الفاخرة" اهـ‪.‬‬
‫تمس طيبًا وكره أي ً‬
‫ّ‬ ‫حضور المسجد كره لها أن‬
‫وفي كتاب نهاية المحتاج (‪ )3‬لشمس الدين الرملي المشهور بالشافعي‬
‫الصغير ما نصه‪" :‬أما المرأة فيكره لها الطيب والزينة وفاخر الثياب عند‬
‫إرادتها حضورها" اهـ‪ ،‬أي الجماعة‪.‬‬
‫وقال زكريا األنصاري الشافعي في كتاب أسنى المطالب (‪ )4‬ممزو ًجا‬
‫بالمتن‪(" :‬ويستحب) الحضور (للعجائز) واألولى لغير ذوات الهيئات بإذن‬
‫ّ‬
‫أزواجهن‪ ،‬وعليه يحمل خبر الصحيحين عن أم عطية‪ :‬كان رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيّض في العيد‪،‬‬
‫________________‬
‫البيان والتحصيل (‪.)624-625/17‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)9/5‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (‪.)294/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪.)282/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فكن يعتزلن المصلّى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين‪،‬‬ ‫فأ ّما الحيّض ّ‬
‫والعواتق جمع عاتق وهي البنت التي بلغت‪ ،‬والخدور جمع خدر وهو‬
‫الستر‪( ،‬مبتذالت) أي البسات ثياب بِ ْذلة وهي ما يُلبسس حال الخدمة ألنها‬
‫بهن في هذا المحل‪( ،‬ويتنظفن بالماء فقط) يعني من غير طيب وال‬ ‫الالئقة ّ‬
‫مر في الجمعة‪( ،‬ويكره لذوات الهيئات والجمال)‬ ‫زينة فيكره ّ‬
‫لهن ذلك لما ّ‬
‫ّ‬
‫بيوتهن‪ ،‬وال بأس‬ ‫مر في صالة الجماعة فيصلّين في‬ ‫الحضور كما ّ‬
‫ّ‬
‫وعظتهن واحدة فال بأس" اهـ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫بجماعتهن لكن ال يخطبن فإن‬
‫وقال زكريا األنصاري في موضع ءاخر (‪ )1‬منه ما نصه‪" :‬فرع‪:‬‬
‫عجوزا أو شابة مسح وجهها بالحناء لإلحرام‬ ‫ً‬ ‫يستحب للمزوجة وغيرها‬
‫وخضب كفيها به له لتستر به ما يبرز منها‪ ،‬ألنها تؤمر بكشف الوجه وقد‬
‫ينكشف الكفّان‪ ،‬وألن الحناء من زينتها فندب قبل اإلحرام كالطيب‪ .‬وروى‬
‫شا وتسويدًا‬ ‫الدارقطني عن ابن عمر أن ذلك من السنّة تعمي ًما للكفين ال نق ً‬
‫وتطريفًا فال يُستحب شئ منها لما فيه من الزينة وإزالة الشعث المأمور به‬
‫مر‬
‫في اإلحرام‪ ،‬بل إن كانت خَلية أو لم يأذن لها حليلها حرم وإال فال كما ّ‬
‫مر ءانفًا‪ ،‬وفي‬
‫في شروط الصالة‪ ،‬ويكره لها الخضب بعد اإلحرام لما ّ‬
‫باقي االحوال أي وفي غير اإلحرام يستحب للمزوجة ألنه زينة وهي‬
‫مر في شروط الصالة ويكره لغيرها بال‬ ‫مطلوبة منها لزوجها كل وقت كما ّ‬
‫عذر لخوف الفتنة" اهـ‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد محفوظ الترمسي في موهبة ذي الفضل على شرح‬
‫ابن حجر على مقدمة بافضل عند قول ابن حجر‪" :‬ويكره بالطيب والزينة‬
‫كما يكره الحضور لذوات الهيئات ولو عجائز وللشابات" ما‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪.)472/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫نصه (‪" :)1‬قوله‪" :‬ويكره بالطيب والزينة" أي لخبر مسلم (‪" :)2‬إذا‬
‫شهدت إحداكن المسجد فال تمس طيبًا"‪ ،‬وخبر أبي داود بإسناد صحيح‬
‫(‪" :)3‬ال تمنعوا إماء هللا مساجد هللا ولكن ليخرجن وهن تفالت" بفتح‬
‫المثناة وكسر الفاء أي تاركات للطيب والزينة ولخوف المفسدة فإن لم‬
‫تحترز من الطيب أو الزينة كره لها الحضور كما تقرر" اهـ‪.‬‬
‫وقال المرداوي الحنبلي في اإلنصاف (‪ )4‬ما نصه‪" :‬وأباح ابن الجوزي‬
‫النمص وحده‪ ،‬وحمل النهي على التدليس أو أنه من شعار الفاجرات‪ ،‬وفي‬
‫الغنية وجه يجوز النمص بطلب الزوج‪ ،‬ولها حلقه –أي للمرأة حلق‬
‫نص عليهما‪ ،‬وتحسينه بتحمير ونحوه" اهـ‪.‬‬
‫وجهها‪ -‬وحفه ّ‬
‫وانظر إلى ما قال النووي في كتاب المجموع (‪ )5‬ففيه ما نصه‪" :‬وأما‬
‫ّ‬
‫حضورهن –أي إلى‬ ‫ّ‬
‫لجمالهن فيكوه‬ ‫ّ‬
‫وهن الالتي يشتهين‬ ‫ذوات الهيئات‬
‫محل صالة العيد‪ ،-‬هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الجمهور‪،‬‬
‫لهن الخروج بحال والصواب األول‪،‬‬ ‫وحكى الرافعي وج ًها أنه ال يستحب ّ‬
‫خروجهن في ثياب بذلة وال يلبسن ما يشهر ُه ّن‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وإذا خرجن استحبّ‬
‫لهن التطيّب لما ذكرناه في باب صالة‬ ‫ويستحبّ أن يتنظفن بالماء ويُكره ّ‬
‫ّ‬
‫ونحوهن‪ ،‬فأما الشابة‬ ‫الجماعة‪ ،‬هذا كلّه حكم العجائز الالتي ال يشتهين‬
‫لهن الحضور لما في ذلك من خوف الفتنة‬ ‫وذات الجمال و َمن تُشتهى فيُكره ّ‬
‫ّ‬
‫وبهن" اهـ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫عليهن‬
‫_________________‬
‫موهبة ذي الفضل (‪.)322/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب خروج النساء إلى‬ ‫(‪)2‬‬
‫المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة وأنها ال تخرج مطيبة‪.‬‬
‫أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب ما جاء في خروج‬ ‫(‪)3‬‬
‫النساء إلى المسجد‪.‬‬
‫اإلنصاف (‪.)126/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المجموع شرح المهذب (‪.)9/5‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي اإليضاح للنووي (‪ )1‬عند ذكر أنه ّ‬


‫يسن التطيّب لإلحرام ما نصه‪:‬‬
‫"وسواء فيما ذكرناه ما الطيب الرجل والمرأة" اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قوله (ولبست‬
‫عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة) وصله سعيد بن منصور من طريق‬
‫القاسم بن محمد قال‪ :‬كانت عائشة تلبس الثياب المعصفرة وهي محرمة"‬
‫إسناده صحيح‪ .‬وأخرجه البيهقي من طريق ابن أبي ُمليكة‪" :‬إن عائشة‬
‫كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة"‪ ،‬وأجاز‬
‫الجمهور لبس المعصفر للمحرم‪ .‬وعن أبي حنيفة‪ :‬العصفر طيب وفيه‬
‫الفدية‪ ،‬واحتج بأن عمر كان ينهى عن الثياب المصبغة‪ ،‬وتعقبه ابن المنذر‬
‫المورس‬
‫ّ‬ ‫بأن عمر كره ذلك لئال يقتدي به الجاهل فيظن جواز لبس‬
‫والمزعفر‪ ،‬ثم ساق له قصة مع طلحة فيها بيان ذلك‪.‬‬
‫قوله (وقالت) أي عائشة (ال تلثّم) بمثناة واحدة وتشديد المثلثة‪ :‬وهو على‬
‫حذف إحدى التاءين‪ ،‬وفي رواية أبي ذر تلتثم بسكون الالم وزيادة مثناة‬
‫بعدها أي ال تغطي شفتها بثوب‪ ،‬وقد وصله البيهقي‪ ،‬وسقط من رواية‬
‫الحموي من األصل‪ ،‬وقال سعيد بن منصور "حدثنا ُهشيم‪ ،‬حدثنا االعمش‪،‬‬
‫عن إبراهيم‪ ،‬عن األسود‪ ،‬عن عائشة قالت‪" :‬تسدل المرأة جلبابها من فوق‬
‫رأسها على وجهها"‪.‬‬
‫وفي مصنف ابن أبي شيبة عن عبد األعلى‪ ،‬عن هشام‪ ،‬عن الحسن‬
‫وعطاء قاال‪" :‬ال تلبس المحرمة القفازين والسراويل وال ت َ َب ْرقَ ُع وال تَلَث َّ ُم‪،‬‬
‫سا أو زعفرانًا" وهذا‬ ‫وتلبس ما شاءت من الثياب إال ثوبًا ينفض عليها ور ً‬
‫يشبه ما ذكر في األصل عن عائشة‪ .‬قوله (وقال جابر) أي ابن عبد هللا‬
‫الصحابي‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬اإليضاح في مناسك الحج (ص‪.)151/‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪.)405-406/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قوله (ال أرى المعصفر طيبًا) أي تطيبًا‪ ،‬وصله الشافعي ومسدد بلفظ "ال‬
‫تلبس المرأة ثياب الطيب وال أرى المعصفر طيبًا" وقد تقدم الخالف في‬
‫سا بالحلي والثوب األسود والمورد والخف‬ ‫ذلك‪ .‬قوله (ولم تر عائشة بأ ً‬
‫للمرأة) وصله البيهقي من طريق ابن باباه المكي أن امرأة سألت عائشة‪:‬‬
‫ما تلبس المرأة في إحرامها؟ قالت عائشة‪ :‬تلبس من خزها وبزها‬
‫المورد والمراد ما صبغ على لون الورد فسيأتي‬
‫ّ‬ ‫وأصباغها وحليها‪ .‬وأما‬
‫موصوالً في باب طواف النساء في ءاخر حديث عطاء عن عائشة‪ ،‬وأما‬
‫الخف فوصله ابن أبي شيبة عن ابن عمر والقاسم بن محمد والحسن‬
‫وغيرهم‪ ،‬وقال ابن المنذر‪ :‬أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله‬
‫والخفاف‪ ،‬وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها إال وجهها فتسدل عليه‬ ‫ِ‬
‫الثوب سدالً خفيفًا تستتر به عن نظر الرجال وال تخمره إال ما روي عن‬
‫فاطمة بنت المنذر قالت‪" :‬كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء‬
‫بنت أبي بكر" تعني جدتها قال‪ :‬ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدالً كما‬
‫مر بنا‬
‫جاء عن عائشة قالت‪" :‬كنا مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا ّ‬
‫ركب سدلنا الثوب على وجوهنا ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه"‬
‫انتهى‪ .‬وهذا الحديث أخرجه هو من طريق مجاهد عنها وفي إسناده‬
‫ضغف" اهـ‪.‬‬
‫وقال سيف الدين أبو بكر محمد بن أحمد الشاشي القفّال في كتاب حلية‬
‫العلماء (‪ )1‬ما نصه‪" :‬منصوص الشافعي رحمه هللا في عامة كتبه أن حكم‬
‫المرأى في استحباب التطيّب لإلحرام كحكم الرجل" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وحكى الداركي أن الشافعي رحمه هللا قال في بعض كتبه‪" :‬إنه‬
‫ً‬
‫جائزا كحضور‬ ‫ال يستحب للمرأة أن تتطيّب لإلحرام فإن فعلت ذلك كان‬
‫الجماعة" واألول أصح‪ .‬اهـ‪ .‬ومراده باألول أن استحباب التطيّب للمرأة‬
‫لإلحرام هو األصح‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬حلية األولياء في معرفة مذاهب الفقهاء (‪.)235/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ويستدل بكالم الشافعي رضي هللا عنه على جواز تطيّب المرأة لحضور‬
‫صا بالمحرمة بل جعله مطلقًا‬
‫الجماعة‪ ،‬ولم يجعل جواز التطيّب خا ًّ‬
‫للمحرمة ولمن تريد حضور الجماعة ولم يقيّد الجواز بالمحرمة‪ ،‬ومن‬
‫ت بنص عن مجتهد فيه جواز التطيب للنساء بحال اإلحرام‬ ‫ادّعى التقييد فليأ ِ‬
‫وتحريمه في غيره‪.‬‬
‫ضا ما نصه‪" :‬ويحرم على المرأة أن‬‫وقال الشاشي في الحلية (‪ )1‬أي ً‬
‫تصل شعرها بشعر نجس‪ ،‬فأ ّما إن وصلته بشعر طاهر أو ح ّمرت وجهها‬
‫سودت شعرها أو طرفت أناملها –أي استعملت الحنّاء ألطراف‬ ‫أو ّ‬
‫األصابع‪ -‬ولها زوج لم يكره وإن لم يكن لها زوج كره لما فيه من الغرور"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال إمام المالكية في عصره أبو عبد هللا محمد بن محمد بن عبد‬
‫الرحمن المغربي المعروف بال َحطاب في كتاب مواهب الجليل (‪ )2‬ما‬
‫ّ‬
‫القطان‪ :‬ولها أن تتزين للناظرين –أي للخطبة‪ -‬بل لو‬ ‫نصه‪" :‬فرع‪ :‬قال ابن‬
‫التعرض لمن يخطبها‬
‫ّ‬ ‫قيل بأنه مندوب ما كان بعيدًا‪ ،‬ولو قيل إنه يجوز لها‬
‫س ِل َمت نيّتها في قصد النكاح لم يبعد" انتهى‪.‬‬
‫إذا َ‬
‫شاف القناع (‪)3‬‬ ‫منصور الب ُهوتي الحنبلي في كتاب ك ّ‬
‫ٌ‬ ‫وقال الشيخ‬
‫والمحرم‬
‫ّ‬ ‫ممزو ًجا بالمتن ما نصه‪" :‬ولها أي المرأة حلق الوجه وحفّه ن ًّ‬
‫صا‪،‬‬
‫إنما هو نتف شعر وجهها‪ ،‬قاله في الحاشية‪ ،‬ولها تحسينه وتحميره ونحوه‬
‫من كل ما فيه تزيين له‪ ،‬ويكره حفه أي الوجه لرجل‪ ،‬نص عليه‪ ،‬وكذا‬
‫التحذيف وهو إرسال الشعر الذي بين ال ِعذار والنَّزَ َعة يكره للرجل ألن عليًّا‬
‫كرهه‪ ،‬رواه الخالل‪ ،‬ال لها أي ال يكره التحذيف لها ألنه من زينتها‪ ،‬ويكره‬
‫النقش والتكتيب والتطريف وهو الذي يكون في رءوس األصابع وهو‬
‫ع َمر‪،‬‬
‫القموع‪ ،‬رواه المروالروذي عن ُ‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء (‪.)45/2‬‬
‫(‪ )2‬مواهب الجليل شرح مختصر خليل (‪.)405/3‬‬
‫(‪ )3‬كشاف القناع من متن اإلقناع (‪.)82/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سا‬
‫وبمعناه عن عائشة وأنس وغيرهما بل تغمس يدها في الخضاب غم ً‬
‫صا" اهـ‪.‬‬
‫ن ًّ‬
‫صا يعني نص اإلمام أحم ُد على ذلك‪.‬‬
‫وقوله ن ًّ‬
‫وفي الفتاوى ّ‬
‫البزازية (‪ )1‬الحنفية ما نصه‪" :‬له والدة شابة تخرج‬
‫بالزينة إلى الوليمة والمأتم بال إذنه ولها زوج‪ ،‬ال يتمكن من منعها ما لم‬
‫يثبت عنده أنها تخرج للفساد فإن ثبت رفع األمر إلى القاضي ليمنعها" اهـ‪.‬‬
‫وهذا نص صريح عند الحنفية على جواز خروج الشابة متزيّنة ما لم‬
‫تخرج للفساد‪ .‬وهذه نصوص من المذاهب األربعة فبعد هذا ال وجه‬
‫لإلنكار‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬روى البخاري (‪ )2‬أن عائشة رضي هللا عنها قالت‪" :‬لو أدرك‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن كما ُمنعت نساء‬
‫بني إسرائيل قلت لعمرة‪َ :‬أو ُمنعن؟ قالت‪ :‬نعم"‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬ما قاله الحافظ ابن حجر العسقالني في فتح الباري ونصه‬
‫سك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقًا وفيه نظر إذ ال‬ ‫(‪" :)3‬وتم َّ‬
‫يترتب على ذلك تغير الحكم ألنها علّقته على شرط لم يوجد بناء على ظن‬
‫ظنّته فقالت‪ :‬لو رأى لمنع‪ ،‬فيقال‪ :‬عليه لم ير ولم يمنع فاستمر الحكم‪ ،‬حتى‬
‫تصرح بالمنع وإن كان كالمها يشعر بأنها كانت ترى المنع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إن عائشة لم‬
‫ضا فقد علم هللا سبحانه ما سيُحدثن فما أوحى إلى نبيه بمنعهن‪،‬ولو كان‬‫وأي ً‬
‫ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كاألسواق‬
‫ضا فاإلحداث إنما وقع من بعض النساء‬ ‫أولى‪ ،‬وأي ً‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬انظر الفتاوى البزازية‪ ،‬في هامش الفتاوى الهندية (‪.)157/4‬‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب األذان‪ :‬باب انتظار الناس قيام اإلمام‬
‫العالم‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتح الباري (‪.)350/2‬‬
‫ال من جميعهن‪ ،‬فإن تعيّن المنع فليكن لمن أحدثت" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تتمة‪ :‬التبس األمر على بعض الناس فظنوا أن هذه اآلية {وال يُبْدينَ‬
‫ِزينَت َ ُه َّن إال ِلبُعُولَتِ ِه َّن} [سورة النور‪ ]31/‬إلى ءاخر اآلية‪ ،‬يراد بها تحري ُم‬
‫الزينة على النساء في غير حضرة الزوج والمحارم النساء‪ ،‬متوهمين أن‬
‫ي فقد وضعوا اآلية في غير‬ ‫الزينة هي الزينة الظاهرة باللباس والحل ّ‬
‫موضعها‪ ،‬واألمر الصحيح أن المراد باآلية كشف الزينة الباطنة من الجسد‬
‫وهو ما سوى الوجه والكفين‪ ،‬والقدمين عند بعض األئمة‪ ،‬بخالف الزينة‬
‫للحرة‬
‫ّ‬ ‫ظهر منها} فإن هللا تعالى أباح كشف الوجه‬ ‫َ‬ ‫المستثناة في ءاية {إال ما‬
‫وغيرها لحاجة الخلق إلى ذلك‪ ،‬والحاصل أن الزينة في الموضعين بدن‬
‫المرأة‪.‬‬
‫أن حديث أبي موسى‪" :‬أيما امرأة‬ ‫مر في هذا المبحث أن ذكرنا ّ‬
‫فائدة‪ :‬قد ّ‬
‫فمرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية" صحيح لم يختلف‬ ‫خرجت مستعطرة ّ‬
‫فيه‪ ،‬وذكرنا حديث أبي هريرة أنه لقي امرأة يعصق ريحها طيبًا فقال‪ :‬إلى‬
‫أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت‪ :‬إلى المسجد‪ ،‬قال‪ :‬وتطيبت لذلك؟ قالت‪:‬‬
‫نعم‪ ،‬قال‪ :‬فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫قال‪" :‬إذا خرجت المرأة متطيبة إلى المسجد لم تقبل صالتها"‪.‬‬
‫ضا لحديث أبي موسى‪ ،‬فال‬ ‫نقول‪ :‬ال يصح أن يكون هذا الحديث معار ً‬
‫يصح أن يكون دليالً لتحريم خروج المرأة متعطرة مطلقًا من غير تقييد‬
‫مخرجه ابن‬
‫ّ‬ ‫بحالة قصدها للرجال كما هو ُمفاد حديث أبي موسى‪ ،‬ألن‬
‫خزيمة توقف عن تصحيحه لقوله‪" :‬إن صح الخبر"‪ ،‬وعلى فرض صحته‬
‫ال دليل فيه على أنها تكون عاصية بخروجها متطيبة لو لم تقصد التعرض‬
‫للرجال‪ ،‬ألنه ال يلزم من نفي قبول صالتها حرمة تطيبها على اإلطالق‬
‫قصدت بخروجها التعرض للرجال أو ال‪ ،‬وذلك نظير حديث أبي داود‬
‫الطيالسي (‪ )1‬الذي رواه جرير بن عبد هللا البَ َجلي عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬العبد اآلبق ال تقبل له صالة حتى يرجع إلى‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬مسند الطيالسي (ص‪.)93/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مواليه" فإنه ليس فيه داللة على أن عدم قبول صالته هو دليل حرمة إباقه‪،‬‬
‫وإنما حرمة إباقة أخذ من دليل ءاخر‪ ،‬فعدم قبول صالة المرأة المتطيبة‬
‫لذهابها إلى المسجد مثل عدم قبول صالة هذا العبد اآلبق فال يفهم منه أن‬
‫عدم قبول صالتها في هذه الحالة هو مستلزم لحرمة خروجها متطيبة في‬
‫التعرض للرجال‪ ،‬فال يجوز إطالق القول بأن خروج‬ ‫ّ‬ ‫غير حالة قصدها‬
‫المرأة متطيبة حرام مطلقًا اعتمادًا على هذا الحديث‪.‬‬
‫وهناك دليل ءاخر من الحديث وهو‪" :‬ثالثة ال ترفع صلواتهم فوق‬
‫شبرا‪ :‬امرأة باتت وزوجها ساخط عليها‪ ،‬وعبد ءابق‪ ،‬ورجل أ ّم‬ ‫رءوسهم ً‬
‫قو ًما وهم له كارهون" أخرجه الترمذي وابن حبان بنحوه وصححه (‪)1‬‬
‫عاص بإمامته للقوم‬
‫ٍ‬ ‫فإنه ال داللة فيه على أن الذي أ ّم قو ًما وهم له كارهون‬
‫بل فيه أن إمامته مكروهة ال ثواب فيها كما نص على ذلك الشافعية‪ ،‬فمن‬
‫أين لهؤالء أن يتسلموا منصبًا ليس لهم ويجتهدوا وهم أبعد الناس عن‬
‫منصب االجتهاد‪ ،‬وغاية أمرهم أن يتعلموا ما قاله الفقهاء ويعملوا به‪،‬‬
‫لكنهم تجاوزوا طورهم وهم يعيشون في فوضى كما قال األفوه األودي‪:‬‬
‫ال يصلح الناس فوضى ال سراة لهم *** وال سراة جهالهم سادوا‬
‫ومما يشهد لما ذكرنا حديث‪" :‬من سمع النداء فلم يُجب فال صالة له إال‬
‫ذر" رواه ابن حبان (‪ )2‬وصححه فإنه ال يفيد العصيان بترك‬ ‫ع ٍ‬
‫من ُ‬
‫الحضور إلى محل النداء في جميع الحاالت‪ ،‬وإنما يكون ذلك فيما إذا كان‬
‫تخلف عن الجمعة التي هي فرض عين أو عن غير الجمعة إذا كان يحصل‬
‫يتخلفه فقدان شعار الجماعة‪.‬‬
‫____________‬
‫(‪ )1‬أخرجه الترمذي في سننه‪ :‬أبواب الصالة‪ :‬باب ما جاء فيمن أ َّم‬
‫قو ًما وهم له كارهون‪ ،‬وابن حبان في صحيحه‪ ،‬انظر اإلحسان‬
‫(‪.)126/3‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه ابن حبان في صحيحه‪ ،‬انظر اإلحسان (‪.)253/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فتبين بهذا أن القول بأن الم‪" :‬ليجدوا ريحها" المذكورة في حديث أبي‬
‫موسى الم العاقبة كال ٌم بعيد عن الصواب‪ ،‬كيف يتجرأ طالب الحق بعد أن‬
‫يعلم أن مذهب الشافعي أن التطيّب للذكر واألنثى لإلحرام سنّة وبعد أن‬
‫سمع حديث عائشة‪" :‬كنا نخرج مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى‬
‫مكة لإلحرام فنضمخ جباهنا بالمسك المطيب‪ ،‬فإذا عرقنا سال على‬
‫وجوهنا فيرى رسول هللا ذلك فال ينهانا" على تحريم خروج المرأة متطيبة‬
‫على اإلطالق من غير تفصيل يفيده حديث أبي موسى‪.‬‬
‫صب للرأي‬
‫فنصيحتي لمن سلك هذا المسلك أن ينظر مع التجرد عن التع ّ‬
‫مر قبل من األدلة‪.‬‬
‫فيما ذكر هنا مع ما ّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن صوت المرأة ليس عورة‬
‫على القول الصحيح‬

‫المعول عليه في المذاهب األربعة في صوت المرأة أنه‬


‫ّ‬ ‫اعلم أن القول‬
‫ليس بعورة‪ ،‬وكيف يقال إنه عورة وقد ثبت في الحديث أن الرسول رخص‬
‫لجارية في الغناء عند إهداء العروس إلى زوجها‪ ،‬روى البخاري (‪ )1‬في‬
‫الصحيح عن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن عائشة رضي هللا عنها أنها‬
‫زفّت امرأة إلى رجل من األنصار فقال نبي هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يا‬
‫لهو َّ‬
‫فإن األنصار يعجبهم اللهو"‪ ،‬وفي رواية الطبراني‬ ‫عائشة ما كان معكم ٌ‬
‫(‪ )2‬عن شريك عن هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه عروة بن الزبير‪ ،‬عن عائشة‬
‫أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬فهل بعثتم معها جارية تضرب‬
‫بالدف وتغني"؟ قالت عائشة‪ :‬تقول ماذا؟ قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬تقول‪:‬‬
‫أتيناكم أتيناكم *** فحيّونا نحيّيكم‬
‫ولوا الذهب األحمر *** ما حلّت بواديكم‬
‫ولوال الحنطة السمرا ُء *** ما سمنت عذاريكم"‬
‫ورواية الطبراني هذه صحيحة ففيها زيادة كما هو ظاهر على رواية‬
‫البخاري وهي الضرب بالدف والغناء بهذه الكلمات‪ ،‬ومعنى الجارية في‬
‫اللغة الفتاة كما هو مذكور في القاموس المحيط ولسان العرب في مادة (ج‬
‫ر ي)‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب النسوة يهدين المرأة إلى‬
‫زوجها ودعائهن بالبركة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬عزاه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )289/4‬للطبراني في‬


‫المعجم األوسط‪ ،‬وراجع فتح الباري (‪.)226/9‬‬
‫ي‬
‫ضا عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪" :‬دخل عل ّ‬ ‫وروى البخاري (‪ )1‬أي ً‬
‫بغناء بعاث‪،‬‬
‫ِ‬ ‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان‬
‫وحول وجهه‪ ،‬ودخل أبو بكر فانتهرني وقال‪:‬‬‫ّ‬ ‫فاضطجع على الفراش‬
‫مزمارة الشيطان عند النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فأقبل عليه رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا"‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري (‪" :)2‬قوله‪" :‬جاريتان" زاد في‬
‫الباب الذي بعده‪" :‬من جواري األنصار" وللطبراني (‪ )3‬من حديث أم‬
‫ي أنهما كانتا‬
‫سان بن ثابت‪ ،‬وفي األربعين للسلم ّ‬
‫سلمة أن إحداهما كانت لح ّ‬
‫لعبد هللا بن سالم‪ ،‬وفي العيدين البن أبي الدنيا من طريق فُلَيح عن هشام‬
‫بن عروة‪" :‬وحمامة وصاحبتها تغنيان" وإسناده صحيح‪ ،‬ولم أقف على‬
‫تسمية األخرى ولكن يحتمل أن يكون اسم الثانية زينب‪ ،‬وقد ذكره في‬
‫كتاب النكاح" اهـ‪.‬‬
‫ضا (‪ )4‬ما نصه‪" :‬لكن عدم إنكاره صلى هللا عليه وسلم دا ٌّل‬
‫وقال أي ً‬
‫ضا‪" :‬واستد ّل به على‬‫أقره"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي ّ‬
‫جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة ألنه صلى هللا عليه‬
‫وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره" اهـ‪.‬‬
‫________________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب العيدين‪ :‬باب الحراب والذَّ َرق يوم العيد‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فتح الباري (‪.)440/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المعجم الكبير (‪.)264-265/23‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫فتح الباري (‪.)443/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الر َبيّ ُع بنت م َع ّوذ‬


‫وكذلك روى البخاري (‪ )1‬عن خالد بن ذكوان‪ :‬قالت ُ‬
‫ي فجلس على‬ ‫ي عل َّ‬ ‫بن عفراء‪ :‬جاء النبي صلى هللا عليه وسلم فدخل حين بُنِ َ‬
‫بالدف ويندبن َمن قتل‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬
‫جويريات لنا يضربن‬ ‫فراشي كمجلسك مني‪ ،‬فجعلت‬
‫إحداهن‪" :‬وفينا نبي يعلم ما في غد" فقال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫من ءابائي يوم بدر إذ قالت‬
‫"دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين" اهـ‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه (‪" :)2‬وأخرج‬
‫الطبراني في األوسط بإسناد حسن من حديث عائشة أن النبي صلى هللا‬
‫لهن و ُه َّن يغنّين‪:‬‬
‫مر بنساء من األنصار في عرس ّ‬
‫عليه وسلم َّ‬
‫وأهدى لها كب ً‬
‫شا تنحنح في المربد * وزو ُجك في النادي ويعلم ما في غد‬
‫فقال‪" :‬ال يعلم ما في غ ٍد إال هللا"‪.‬‬
‫قال ال ُمهلَّب‪" :‬في هذا الحديث إعالن النكاح بالدّف وبالغناء المباح‪ ،‬وفيه‬
‫إقبال اإلمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح" اهـ‪،‬‬
‫ضا البزار (‪.)3‬‬
‫وروى الحديث أي ً‬
‫أن النبي صلى هللا عليه‬‫وروى ابن ماجه وغيره (‪ )4‬عن أنس بن مالك ّ‬
‫ببعض المدينة فإذا هو بجوار بضربن بد ِفّ ّ‬
‫هن ويتغنين ويقلنَ ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫مر‬
‫وسلم ّ‬
‫_______________‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب ضرب الدف في النكاح‬ ‫(‪)1‬‬
‫والوليمة‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)203/9‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر كشاف األستار (‪ ،)5-6/3‬وقال الحافظ الهيثمي في المجمع‬ ‫(‪)3‬‬
‫(‪ :)129/8‬رواه البزار ورجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب الغناء والدف‪ ،‬المعجم الصغير‬ ‫(‪)4‬‬
‫(‪.)63/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫نحن جوار من بني النجار *** يا حبَّذا محم ٌد من ِ‬


‫جار‬
‫ّ‬
‫ألحبكن"‪.‬‬ ‫فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬هللا يعلم إني‬
‫قال الحافظ البوصيري‪" :‬هذا إسناد صحيح رجاله ثقات" (‪.)1‬‬
‫وقال الحافظ اللغوي محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى‬
‫في كتابه (‪ )2‬إتحاف السادة المتقين ما نصه‪" :‬قال القاضي الروياني فلو‬
‫رفعت صوتها –أي المرأة‪ -‬بالتلبية لم يحرم ألن صوتها ليس بعورة" اهـ‪.‬‬
‫وذكر الحافظ ابن حجر العسقالني (‪ )3‬في فتح الباري ما نصه‪" :‬وفي‬
‫عه‬ ‫الحديث –يعني حديث مبايعة النساء بالكالم‪ّ -‬‬
‫أن كالم األجنبية مباح سما ُ‬
‫ّ‬
‫وأن صوتها ليس بعورة" اهـ‪.‬‬
‫وذكر النووي (‪ )4‬في شرح صحيح مسلم في شرح حديث كيفية بيعة‬
‫النساء ما نصه‪" :‬وفيه أن كالم األجنبية يباح سماعه عند الحاجة ّ‬
‫وأن‬
‫صوتها ليس بعورة" اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن عابدين (‪ )5‬الحنفي ناقالً عن كتاب ال ِقنية‪" :‬ويجوز الكالم‬
‫ً‬
‫رامزا‪ :‬وفي الحديث دلي ٌل على أنهُ ال‬ ‫المباح مع امرأة أجنبية‪ ،‬وفي المجتبى‬
‫بأس بأن يُتكلم مع النساء بما ال يُحتاج إليه‪ ،‬وليس هذا من الخوض فيما ال‬
‫يعنيه" اهـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه (‪.)334/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (‪.)338/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فتح الباري (‪.)204/13‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫شرح صحيح مسلم (‪.)10/13‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫رد المحتار (‪.)236/5‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفي كتاب أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪ )1‬للشيخ زكريا‬


‫األنصاري الشافعي ما نصه‪" :‬وصوتها ليس بعورة على األصح (‪ )2‬في‬
‫األصل" اهـ‪.‬‬
‫فالحكم في صوت المرأة بعد هذا البيان أنه ليس بعورة إال ل َمن كان يتلذذ‬
‫بسماع صوتها فيحرم عليه االستماع حينئذٍ‪.‬‬
‫ض ْعنَ بالقو ِل فَيَ ْ‬
‫ط َم َع الذي في قلبِ ِه‬ ‫فإن قيل‪ :‬أليس في قوله تعالى‪{ :‬فال ت َ ْخ َ‬
‫ض} [سورة األحزاب‪ ]32/‬تحريم االستماع إلى صوت المرأة؟‬ ‫َم َر ٌ‬
‫َّ‬
‫"أمرهن‬ ‫أن األمر ليس كذلك‪ ،‬قال القرطبي (‪ )3‬في تفسيره‪:‬‬‫فالجواب‪ّ :‬‬
‫وكالمهن فصالً وال يكون‬
‫ّ‬ ‫هن جزالً‬
‫هللا –يعني نساء النبي‪ -‬أن يكون قول ّ‬
‫على وجه يظهر في القلب عالقة بما يظهر عليه من اللّين كما كانت الحال‬
‫عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كالم‬
‫ّ‬
‫فهناهن عن مثل هذا" اهـ‪.‬‬ ‫ال ُمربيات والمومسات‪،‬‬
‫وقال أبو حيان في تفسير البحر المحيط (‪{ )4‬فال ت َ ْخ َ‬
‫ض ْعنَ بالقو ِل}‬
‫[سورة األحزاب‪" :]32/‬قال ابن عباس‪" :‬ال ترخصن بالقول"‪ .‬وقال‬
‫بالرفَث"‪ .‬وقال الكلبي‪" :‬ال تكلّمن بما َيهوى المريب"‪.‬‬ ‫الحسن‪" :‬ال ت َ َكلَّ ْمنَ َّ‬
‫وقال ابن زيد‪" :‬الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل" وقيل ال ت ُ ِل َّن‬
‫خيرا ال على وجه يظهر في‬ ‫للرجال القول‪ .‬أمر تعالى أن يكون الكالم ً‬
‫القلب عالقة ما يظهر عليه من اللين كما كان الحال عليه في نساء العرب‬
‫ّ‬
‫فنهاهن عن‬ ‫من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كالم المومسات‪،‬‬
‫ذلك" اهـ‪.‬‬
‫_______________‬
‫أسنى المطالب (‪.)110/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الصواب أن يقال على الصحيح‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)177/14‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫البحر المحيط (‪.)229/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ّ‬
‫عليهن أن يتكلمن‬ ‫فيعلم من ذلك أنه ليس المراد بهذه اآلية أنه يحرم‬
‫ّ‬
‫أصواتهن‪ ،‬بل النهي عن أن يتكلمن بكالم رخيم يشبه‬ ‫بحيث يسمع الرجال‬
‫كالم المريبات المومسات أي الزانيات‪ ،‬فقد ص ّح عن عائشة رضي هللا‬
‫عنها أنها كانت تد ّرس الرجال من وراء ستار‪ ،‬ذكر الحافظ ابن حجر‬
‫العسقالني في كتابه التلخيص الحبير (‪ )1‬في تخريج أحاديث الرافعي‬
‫الكبير ما نصه‪" :‬فإنه ثابت في الصحيح أنهم كانوا يسألون عائشة عن‬
‫األحكام واألحاديث مشافهة" اهـ‪.‬‬
‫وروى الحاكم في المستدرك (‪ )2‬عن األحنف بن قيس قال‪" :‬سمعت‬
‫خطبة أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي‬
‫جرا إلى يومي هذا‪ ،‬فما سمعت الكالم‬
‫طالب رضي هللا عنهم والخلفاء هلم ّ‬
‫ي عائشة رضي هللا عنها" اهـ‪.‬‬
‫من فم مخلوق أفخم وال أحسن منه من ف ّ‬
‫وفي التفسير الكبير (‪ )3‬للفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى‪{ :‬وقُ ْل‬
‫أبصار ِه َّن} [سورة النور‪ ]31/‬اآلية ما نصه‪" :‬وفي‬
‫ِ‬ ‫ضضْنَ من‬‫ت يَ ْغ ُ‬
‫ؤمنا ِ‬
‫لل ُم ِ‬
‫ألن نساء النبي صلى هللا عليه‬‫صوتها وجهان أصحهما أنه ليس بعورة ّ‬
‫كن يروين األخبار للرجال" اهـ‪.‬‬ ‫وسلم ّ‬
‫ومنهن عائشة رضي هللا عنها كانت تحدث الرجال بحديث رسول‬ ‫َّ‬ ‫قلت‪:‬‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم وتفتيهم ولم تكن تغ ِيّر صوتها‪ ،‬وكذلك كانت تُحدّث‬
‫بعض النساء من ءال صالح الدين األيوبي حديث رسول هللا للرجال‪ ،‬ومن‬
‫راجع طبقات المحدثين والحفاظ والفقهاء لوجدها عامرة بتراجم من أخذ‬
‫عا وقراءة عن النساء‪.‬‬
‫منهم العلم سما ً‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير (‪.)140/3‬‬
‫(‪ )2‬مستدرك الحاكم‪ ،‬كتاب معرفة الصحابة (‪.)11/4‬‬
‫(‪ )3‬التفسير الكبير (‪.)207/23‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫واألفضل أن يُعلم النسا َء النسا ُء في المكان الذي يوج ُد فيه من النساء من‬
‫هن أهل للتعليم من حيث الكفاءة والثقة‪ ،‬وهللا سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬ ‫َّ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حكم األكل من اللحم الذي لم يذك‬
‫ذكاة شرعية‬

‫اعلم أن الذكاة الشرعية تكون بقطع مجرى الطعام والشراب ومجرى‬


‫النفس بما له حدّ‪ ،‬بشرط أن يكون الذابح مسل ًما أو يهوديًا أو نصرانيًّا‪ .‬فإذا‬
‫حصل هذا وكان المذبوح مأكوالً ح َّل االكل منه لمن علم‪ ،‬وأما ما كان‬
‫موته بما ال ح ّد له‪ ،‬كأن مات بسبب التردّي أو الغرق أو شئ يزهق الروح‬
‫ضا ال يح ّل أكل ما لم يعلم هل ذابحه هو‬ ‫بثقله ال بحدّه فال يح ّل أكله‪ .‬وأي ً‬
‫ممن يص ّح تذكيته أم ال‪ ،‬ألن أمر اللحم في هذا أش ّد من أمر الجبن والحلوى‬
‫ونحوهما‪ ،‬فإنه إذا شك شخص هل في الحلوى التي بين يديه أو الجبن الذي‬
‫بين يديه نجاسة جاز له األكل منه مع الشك‪ ،‬وأ ّما اللحم فال يجوز الشروع‬
‫نص على ذلك الفقهاء كابن حجر الهيتمي‬ ‫في أكله مع الشك في ذكاته كما ّ‬
‫والحافظ السيوطي من الشافعية والقرافي من المالكية وغيرهم‪ .‬بل تحريم‬
‫شك في ذلك مجمع عليه‪.‬‬ ‫اللحم الذي لم يعلم طريق حله بأن ُ‬
‫ففي الفتاوى الكبرى البن حجر الهيتمي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬وسئل نفع هللا‬
‫ببركاته عن شاة مذبوحة وجدت في محلة المسلمين ببلد كفّار وثنية وليس‬
‫فيهم مجوسي وال يهودي وال نصراني‪ ،‬فهل يح ّل أكل تلك الشاة المذبوحة‬
‫التي وجدت في تلك المحلة أم ال؟ فأجاب‪ :‬بأنه حيث كان ببلد فيه َمن يح ّل‬
‫ذبحه كمسلم أو يهودي أو نصراني‪ ،‬و َمن ال يح ّل ذبحه كمجوسي أو وثني‬
‫وشك هل ذبحها َمن يح ّل‬
‫ّ‬ ‫أو مرتد‪ ،‬ورؤي بتلك البلد شياه مذبوحة مثالً‪،‬‬
‫ذبحه لم تح ّل للشك في الذبح المبيح واألصل عدمه" اهـ‪.‬‬
‫____________________‬
‫(‪ )1‬الفتاوى الكبرى (‪ 45/1‬و‪ ،)46‬والمجموع للنووي (‪.)80/9‬‬
‫وفي األشباه والنظائر للسيوطي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬الفائدة الثانية‪ :‬قال الشيخ‬
‫أبو حامد األسفراييني‪ :‬الشك على ثالثة أضرب شك طرأ على أصل حرام‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وشك طرأ على أصل مباح‪ ،‬وشك ال يعرف أصله‪ ،‬فاألول مثل أن يجد شاة‬
‫في بلد فيها مسلمون ومجوس فال يح ّل حتى يعلم أنها ذكاة مسلم ألنها‬
‫أصلها حرام وشككنا في الذكاة المبيحة" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب التاج واإلكليل لمختصر خليل (‪ )2‬في باب الوضوء نقالً عن‬
‫شهاب الدين القرافي ما نصه‪" :‬الفرق الرابع واألربعون بين الشك في‬
‫السبب والشك في الشرط‪ ،‬وقد أشكل على جمع من الفضالء قال‪ :‬شرع‬
‫الشارع األحكام وشرع لها أسبابًا وجعل من جملة ما شرعه من األسباب‬
‫الشك‪ ،‬وهو ثالثة مجمع على اعتباره ك َمن شك في شاة المذ ّكاة والميتة‬
‫وك َمن ّ‬
‫شك في األجنبية وأخته من الرضاعة" اهـ‪.‬‬
‫شك فيه من اللحم مسئلةٌ إجماعية‪ ،‬فال التفات إلى ما‬ ‫أن تحريم ما ُ‬ ‫أي َّ‬
‫ضروا‬
‫بعض أه ِل العصر المتعالمين‪ ،‬وهؤالء ّ‬ ‫ِ‬ ‫خالف هذا اإلجماع من قول‬ ‫ُ‬ ‫يُ‬
‫اس برأيهم المخالف لإلجماع في البالد العربية وفي أوروبا وأمريكا‪،‬‬ ‫النّ َ‬
‫و َم ّوه بعضهم بإيراد حديث أخرجه البخاري (‪ )3‬على غير وجهه‪،‬‬
‫والحديث ور َد في ذبيح ِة أناس مسلمين قريبي عهد بكفر وذلك لحديث‬
‫عائشة‪" :‬أن قو ًما قالوا للنبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬إن قو ًما يأتوننا بلحم ال‬
‫كر اسم هللا عليه أم ال‪ ،‬فقال‪" :‬س ّموا عليه أنتم وكلوه"‪ ،‬قالت‪:‬‬‫ندري أذً َ‬
‫وكانوا حديثي عهد بالكفر"‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬األشباه والنظائر (ص‪.)74/‬‬
‫(‪ )2‬التاج واإلكليل لمختصر خليل بهامس كتاب مواهب الجليل شرح‬
‫مختصر خليل (‪ ،)301/1‬والفروق (‪.)225-226/1‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب الذبائح والصيد والتسمية على الصيد‪:‬‬
‫باب ذبيحة األعراب‪.‬‬

‫ومعنى الحديث أن هذه اللحوم حالل أنها مذكاة بأيدي مسلمين ولو كانوا‬
‫يضركم أنكم لم تعلموا هل س ّمى أولئك عند ذبحها أم‬
‫ّ‬ ‫بكفر‪ ،‬وال‬
‫حديثي عهد ٍ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ال‪ ،‬وس ّموا أنتم عند أكلها أي ندبًا ال وجوبًا‪ .‬ألن التسمية سنّة عند الذبح فإن‬
‫تركها الذابح حل األكل من الذبيحة‪.‬‬
‫فمن أين َم ّوه هؤالء بإيراد هذا الحديث على غير وجهه‪ ،‬فكأن هؤالء‬
‫قالوا إن الرسول أح َّل أكل ما لم يُعلم هل ذابحه مسل ٌم أم مجوسي أم بوذي‬
‫أم غير ذلك باالقتصار على التسمية عند األكل‪ ،‬وهذا لم يقلهُ عالم مسل ٌم‬
‫قط‪ ،‬فليتّقوا هللا هؤالء المتهورون‪ ،‬وليعلموا َّ‬
‫أن اإلنسانَ يُسأ ُل َ‬
‫يوم القيام ِة‬
‫عن أقوال ِه وأفعال ِه وعقائ ِد ِه‪.‬‬

‫بيان‬
‫]‪[Type text‬‬

‫حكم االستنجاء واالستبراء‬


‫وأن التلوث بالبول حرام‬

‫أن االستنجاء اختلف العلماء المجتهدون في وجوبه إذا كان بحيث‬ ‫اعلم َّ‬
‫ال يلوث نفسه بالبول قال اإلمام الشافعي إنه واجب ال تص ّح الصالة بدونه‪،‬‬
‫وقال أبو حنيفة‪ :‬هو سنّة تصح الصالة بدونه‪.‬‬
‫وأما االستبراء فإنّه سنّة لمن كان يخشى خروج بقية البول بعد‬
‫االنقطاع‪ ،‬وواجب لمن كان يخشى نزوله كي ال يتلوث به‪ ،‬ويكون ذلك‬
‫بالتنحنح والمشي وغيرهما‪.‬‬
‫وأما االستنزاه من البول وترك التض ّمخ به فإنه واجب باإلجماع لم‬
‫أن رسول‬ ‫يختلف في ذلك اثنان من المجتهدين‪ ،‬روى البيهقي (‪ )1‬وغيره َّ‬
‫"إن عا َّمة عذاب القبر من البول ّ‬
‫فتنزهوا من‬ ‫هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪َّ :‬‬
‫البول"‪.‬‬
‫وروى البخاري (‪ )2‬ومسلم (‪ )3‬وأبو داود (‪ )4‬والترمذي (‪)5‬‬
‫___________________‬
‫إثبات عذاب القبر (ص‪ ،)118/‬والمستدرك للحاكم (‪ ،)184/1‬والمعجم‬ ‫(‪)1‬‬
‫الكبير للطبراني (‪ ،)79-84/11‬والبزار انظر كشاف األستار‬
‫(‪ .)129/1‬وقال الحافظ الهيثمي في المجمع (‪" :)207/1‬وفيه أبو يحيى‬
‫القتات‪ ،‬وثّقه يحيى بن معين في رواية‪ ،‬وضعفه الباقون"‪ ،‬وقال الحافظ‬
‫في التلخيص (‪" :)106/1‬وإسناده حسن‪ ،‬ليس فيه غير ابن يحيى القتات‬
‫وفيه لين"‪ ،‬وقال الدارقطني في سننه (‪ :)128/1‬ال بأس به‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب عذاب القبر في الغيبة والبول‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب الدليل على نجاسة البول ووجوب‬ ‫(‪)3‬‬
‫االستبراء منه‪.‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب االستبراء من البول‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫جامع الترمذي‪ :‬أبواب الطهارة‪ :‬باب كا جاء في التشديد في البول‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫والنسائي (‪ )1‬وابن ماجه (‪ )2‬وأحمد (‪ )3‬عن ابن عباس رضي هللا‬


‫ي صلى هللا عليه وسلم على قبرين فقال‪" :‬إنهما ليعذبان وما‬‫مر النب ّ‬
‫عنهما‪َّ :‬‬
‫يُعذبان في كبير"‪ ،‬ثم قال‪" :‬بلى‪ ،‬أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة‪ ،‬وأما‬
‫أحدهما فكان ال يستتر من بوله"‪ ،‬ثم أخذ عودًا رطبًا فكسره باثنتين ثم غرز‬
‫كل واحد منهما على قبر ثم قال‪" :‬لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا"‪ ،‬وأخرجه‬
‫ابن ماجه (‪ )4‬وأحمد (‪ )5‬عن أبي بكرة رضي هللا عنه‪.‬‬
‫وأخرج ابن راهويه (‪ )6‬وأحمد (‪ )7‬عن أبي هريرة رضي هللا عنه‬
‫قال‪ :‬مر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على قبر فوقف عليه فدعا‬
‫بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه واألخرى عند رجليه ثم قال‪" :‬لعل هللا‬
‫أن يخفف عنه عذاب القبر ما كانت فيه نداوة"‪.‬‬
‫مر‬
‫ضا عن ابن عباس رضي هللا عنهما قال‪ّ :‬‬ ‫وأخرج البخاري (‪ )8‬أي ً‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت‬ ‫النب ّ‬
‫إنسانين يعذّبان في قبورهما فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يعذّبان وما‬
‫يعذّبان في كبير"‪ ،‬ثم قال‪" :‬بلى‪ ،‬كان أحدهما ال يستتر من بوله وكان‬
‫اآلخر يمشي بالنميمة"‪ ،‬ثم دعا بجريدة فكسرها ِكسرتين‪ ،‬فوضع على كل‬
‫لم فعلت هذا؟ قال‪" :‬لعلّه أن يخفّف‬
‫قبر منهما كسرة فقيل له‪ :‬يا رسول هللا َ‬
‫عنهما ما لم ييبسا" أو‪" :‬إلى أن ييبسا" اهـ‪.‬‬
‫________________‬
‫ّ‬
‫التنزه عن البول‪.‬‬ ‫سنن النسائي‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب‬ ‫(‪)1‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب التشديد في البول‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫مسند أحمد (‪.)255/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب الطهارة‪ :‬باب التشديد في البول‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مسند أحمد (‪ 35-36/5‬و‪ 39‬و‪.)266‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫مسند إسحاق بن راهويه (‪.)246/1‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫مسند أحمد (‪.)441/2‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب الوضوء‪ :‬باب من الكبائر أن ال يستتر‬ ‫(‪)8‬‬
‫من بوله‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال الحافظ ابن حجر (‪ )1‬في شرح هذا الحديث‪" :‬قوله‪" :‬ال يستتر" كذا‬
‫في أكثر الروايات بمثنّاتين من فوق األولى مفتوحة والثانية مكسورة‪ ،‬وفي‬
‫رواية ابن عساكر يستبرئ بموحدة ساكنة من االستبراء‪ ،‬ولمسلم وأبي داود‬
‫في حديث األعمش يستنزه بنون ساكنة بعدها زاء ث ّم هاء‪ ،‬فعلى رواية‬
‫األكثر معنى االستتار أنه ال يجعل بينه وبين بوله سترة يعني ال يتحفّظ‬
‫ّ‬
‫التنزه وهو اإلبعاد‪ ،‬وقد وقع عند‬ ‫منه‪ ،‬فتوافق رواية ال يستنزه ألنها من‬
‫أبي نعيم في المستخرج من طريق وكيع عن األعمش كان ال يتوقى وهي‬
‫سرة للمراد اهـ‪.‬‬
‫مف ّ‬
‫ثم قال‪" :‬وأ ّما رواية االستبراء فهي أبلغ في التوقّي" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪" :‬وسياق الحديث يد ّل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر‬
‫خصوصية‪ ،‬يشير إلى ما ص ّححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة‬
‫التحرز منه" اهـ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عا‪" :‬أكثر عذاب القبر من البول" أي بسبب ترك‬ ‫مرفو ً‬
‫أن في حديث أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه‪" :‬أما‬ ‫إلى أن قال‪" :‬ويؤيّده ّ‬
‫أحدهما فيعذّب في البول"‪ ،‬ومثله للطبراني عن أنس" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال ءاخر البحث‪" :‬وفيه –أي من الفوائد‪ -‬التحذير من مالبسة البول‬
‫ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب" اهـ‪.‬‬
‫وفي حاشية الشيخ أبي العباس أحمد الرملي األنصاري (‪ )2‬الشافعي ما‬
‫نصه‪" :‬قال –أي النووي‪ )3( -‬في شرح مسلم‪ :‬انغماس َمن لم يستنجِ في‬
‫الماء ليستنجي فيه إن كان الماء قليالً حرم لما فيه من تلطخه بالنجاسة‬
‫وتنجيس الماء‪ .‬انتهى‪ .‬جعل تنجيس الماء والبدن جميعًا كالتض ّمخ‬
‫بالنجاسة"‪ .‬انتهى كالم األنصاري‪.‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪.)321/318/1‬‬
‫(‪ )2‬حاشية الرملي األنصاري على شرح الروض (‪.)48/1‬‬
‫(‪ )3‬شرح صحيح مسلم (‪.)188/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وفيه (‪ )1‬ما نصه‪(" :‬قوله وال يبول قائ ًما) قال األذرعي‪ :‬الظاهر‬
‫التحريم إذا علم التلويث وال ماء أو وجده ولكن ضاق وقت الصالة أو لم‬
‫يضق وقلنا‪ :‬يحرم التضمخ بالنجاسة عبثًا" اهـ‪.‬‬
‫وفي الفتاوى الكبرى البن حجر الهيتمي (‪" :)2‬أنه سئل عن فتوى‬
‫زكريا األنصاري أنه يحرم على َمن بال ولم يستنجِ أن يطأ زوجته لما في‬
‫ذلك من التض ّمخ بالنجاسة وهو حرام فأجاب بقوله‪ :‬أ ّما ما قاله فيمن لم‬
‫يستنج فظاهر" اهـ‪.‬‬
‫أما ما ثبت من أن النبي صلى هللا عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائ ًما‬
‫(‪ )3‬فقد قال الحافظ ابن حجر (‪ )4‬ما نصه‪" :‬سباطة قوم" بضم المهملة‬
‫بعدها موحدة هي المزبلة وال ُكناسة تكون بفناء الدور مرفقًا ألهلها‪ ،‬وتكون‬
‫في الغالب سهلة ال يرت ّد فيها البول على البائل" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪" :)5‬واستدل به لمالك في الرخصة في مثل رءوس اإلبر من‬
‫البول وفيه نظر‪ ،‬ألنه صلى هللا عليه وسلم في تلك الحالة لم يصل إلى بدنه‬
‫منه شئ‪ ،‬وإلى هذا أشار ابن حبان (‪ )6‬في ذكر السبب في قيامه قال‪ :‬ألنه‬
‫لم يجد مكانًا يصلح للقعود‪ ،‬فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة كان‬
‫عاليًا‪ ،‬فأمن أن يرت ّد إليه شئ من بوله‪ ،‬وقيل َّ‬
‫ألن السباطة ِرخوة يتخللها‬
‫البول فال يرت ّد إلى البائل منه شئ" اهـ‪.‬‬
‫______________‬
‫حاشية الرملي (‪.)49/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الفتاوي الكبرى (‪.)41/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الوضوء‪ :‬باب البول قائ ًما‬ ‫(‪)3‬‬
‫وقاعدًا‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)328/1‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫المرجع السابق (‪.)330/1‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫صحيح ابن حبان‪ :‬باب ذكر الخبر الدال على صحة ما تأولنا‬ ‫(‪)6‬‬
‫قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال تبل قائ ًما" انظر اإلحسان‬
‫(‪.)348/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ي وزيد‬
‫صه‪" :‬وقد ثبت عن عمر وعل ّ‬ ‫ثم يقول في الصحيفة عينها ما ن ّ‬
‫بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قيا ًما وهو دا ٌّل على الجواز من غير كراهة إذا‬
‫ِأمنَ الرشاش" اهـ‪.‬‬
‫وقد ذكر القسطالني نحوه في شرح البخاري (‪ )1‬فقال‪" :‬إن السباطة‬
‫مرمى من تراب ُكناسة قوم من األنصار تكون بفناء الدور مرتفقًا ألهلها‪،‬‬
‫أو السباطة الكناسة نفسها وتكون في الغالب سهلة ال يرتد منها البول على‬
‫ونحوه ذكر النووي في شرح مسلم (‪.)2‬‬ ‫ّ‬ ‫البائل" اهـ‪،‬‬
‫وقال الخطابي في معالم السنن (‪" :)3‬ويكون ذلك في الغالب سهالً منثاالً‬
‫َي ُخذُّ فيه البول وال يرت ّد على البائل" اهـ‪.‬‬
‫وقال البغوي في شرح السنة (‪" :)4‬والبساطة ُملقى التراب القُمام يكون‬
‫بفناء الدار‪ ،‬ويكون في األغلب مرتفعًا عن وجه األرض ال يرت ّد البول‬
‫على البائل‪ ،‬ويكون سهالً يَ ُخذُّ فيه البول" اهـ‪.‬‬
‫ثم إنه ال يليق بمقام النبوة أن يترشش النبي بالبول بفعله ويتضمخ به‬
‫وهو المعلم ألمته أحكام الشريعة‪ .‬ومن ادّعى ذلك فقد نسب إليه ما هو بعيد‬
‫منه وليس له مرجع في ذلك إال وهمه الكاذب‪.‬‬
‫____________________‬
‫إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (‪.)527/1‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫شرح صحيح مسلم (‪.)165/3‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫معالم السنن (‪.)20/1‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫سنة (‪.)387/1‬‬
‫شرح ال ُّ‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫تقسيم المعاصي وتحريم مباشرة األجنبية‬
‫بغير جماع والمفاخذة لها‬
‫وأنها من المحرمات الصغائر‬

‫أن المعاصي تنقسم إلى قسمين‪ :‬كبائر وصغائر فأكبر الكبائر الكفر‬ ‫اعلم َّ‬
‫ألن َمن مات عليه يخلد في نار جهنم‪ ،‬وأكبر الذنوب بعد الكفر قتل النفس‬ ‫ّ‬
‫حرم هللا إال بالحق والزنى‪ ،‬ومن الكبائر بعدهما أكل الربا وأكل لحم‬ ‫التي َّ‬
‫الخنزير وشرب الخمر وترك الصالة وذنوب أخرى يزيد عددها على‬
‫الثالثين‪.‬‬
‫روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬اجتنبوا السبع الموبقات" قيل‪ :‬يا رسول هللا وما‬
‫حرم هللا إال بالحق‪،‬‬
‫هن؟ قال‪" :‬الشرك باهلل‪ ،‬والسحر‪ ،‬وقتل النفس التي ّ‬‫ّ‬
‫وأكل الربا‪ ،‬وأكل مال اليتيم‪ ،‬والتولّي يوم الزحف‪ ،‬وقذف المحصنات‬
‫الغافالت المؤمنات" (‪.)1‬‬
‫وأحسن ما يقال في تعريف الكبيرة‪ :‬الكبيرة كل ذنب أطلق عليه بنص‬
‫كتاب أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو عظيم‪ ،‬أو أخبر فيه بشدة العقاب‪ ،‬أو‬
‫علّق عليه الح ّد وشدّد النكير عليه‪.‬‬
‫وقد اختلف األقوال في تعدادها‪ ،‬فذهب بعضهم إلى أنها سبعون‬
‫وءاخرون إلى أنها أكثر من ذلك‪ ،‬حتى عدّها بعضهم أربعمائة‪ .‬وقد أوصل‬
‫عددها تاج الدين السبكي إلى خمس وثالثين من غير ادعاء حصر في ذلك‬
‫ونظم ذلك السيوطي (‪ )2‬في ثمانية أبيات فقال‪:‬‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب اإليمان‪ :‬باب بيان الكبائر وأكبرها‪.‬‬
‫(‪ )2‬األشباه والنظائر (ص‪.)386/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫س ْح ِر‬
‫ق ال ُم ْس ِك ِر ث ّم ال ّ‬ ‫الخمر *** و َم ْ‬
‫طلَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬
‫ش ْر ِ‬ ‫كالقَتْ ِل ّ‬
‫والزنى و ُ‬
‫وأمن الم ْك ِر‬
‫ِ‬ ‫ويأس رحم ٍة‬
‫ِ‬ ‫واللواط ث ّم ال ِف ْ‬
‫ط ِر ***‬ ‫ِ‬ ‫والقَ ِ‬
‫ذف‬
‫والرشوةِ والقيا َدةِ‬
‫بالزور ّ‬
‫ِ‬ ‫ب والسرق ِة والشهادةِ ***‬
‫ص ِ‬
‫والغ ْ‬
‫هار‬
‫والوزن ِظ ْ‬
‫ِ‬ ‫فرار *** ِخيان ٍة في الكي ِل‬
‫ْ‬ ‫منعِ زكا ٍة ودِياث ٍة‬
‫ْ‬
‫يمين (‪)1‬‬ ‫ْ‬
‫يمين *** فاجرةٍ على نبيّنا‬ ‫كتم شهادةٍ‬
‫نميم ٍة ِ‬
‫الر ِح ِم‬ ‫ب المسلم *** سعاي ٍة ّ ٍ‬
‫عق وقطعِ َّ‬ ‫ض ْر ِ‬
‫ص ْح ِب ِه و َ‬
‫وسبّ َ‬
‫أيتام َرأوا‬
‫تأخيرها وما ِل ٍ‬
‫ِ‬ ‫تقديم ِه الصالة َ أو ***‬
‫ِ‬ ‫َحرابَ ٍة‬
‫والربا *** والغ ِّل أو صغيرةٍ قد وا َ‬
‫ظبا‬ ‫ت ّ‬ ‫خنزير و َم ْي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وأك ِل‬
‫وقوله‪( :‬واظبا) أي مع الغلبة على الحسنات‪ ،‬وليس اإلصرار على‬
‫الصغيرة الذي يجعلها كبيرة مجرد المداومة‪ ،‬بل أن تكثر بحيث تغلب‬
‫الحسنات‪.‬‬
‫وما سوى الكفر والكبائر من الذنوب فهو من الصغائر نحو مصافحة‬
‫الرجل المرأة األجنبية بغير حائل (‪.)2‬‬
‫والتوبة واجبة من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها‪ ،‬وال يعتمد المسلم‬
‫ت ث ّم يتبعها بحسنات ويقول‪َّ :‬‬
‫{إن‬ ‫في محو ذنوبه على حسنا ِت ِه بأن بفعل سيئا ٍ‬
‫سيئات} [سورة هود‪ ،]114/‬بل ال بُ ّد من التوبة ّ‬
‫ألن‬ ‫ت يُ ْذ ِهبْنَ ال ّ‬
‫الحسنا ِ‬
‫الشخص إذا فع َل حسنةً ال يدري هل قُبلت منه أم ال‪.‬‬ ‫َ‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬ومعنى قوله‪" :‬على نبينا يمين" أي الكذب على الرسول‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظر بيان تحريم مصافحة الرجل المرأة األجنبية بال حائل من‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وهذا التقسيم والتبيين ليس المرا ُد به تشجيع الناس على المعاصي‬


‫الصغيرة‪ ،‬وإنما المرا ُد به تعلي ُم الشرع‪ ،‬وهو واجب ألن هللا ما ذكر الكبائر‬
‫يجب تعليم الناس‬ ‫ُ‬ ‫واللمم إال ليعلّم وليكون العمل على مو َجب ذلك‪ ،‬بل‬
‫أن كالً من الصغائر والكبائر له عقوبة‪ ،‬وإال لما‬ ‫الصغائر والكبائر مع بيان ّ‬
‫ذكر العلماء ذلك في كتبهم‪ ،‬فقد روى البخاري (‪ )1‬ومسلم (‪ )2‬عن ابن‬
‫أصاب من امرأة قُبلة فأتى رسول هللا‬ ‫َ‬ ‫"أن رجالً‬ ‫مسعود رضي هللا عنه‪ّ :‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم فذلك ذلك له‪ ،‬فنزلت عليه‪{ :‬وأ ِق ِم الصالة َ َ‬
‫ط َرفَي ِ النَّ ِ‬
‫هار‬
‫ذلك ذِكرى للذَّا ِكرين} [سورة‬ ‫ت َ‬ ‫ت يُ ْذ ِهبْنَ السيئا ِ‬ ‫َو ُزلَفًا منَ اللي ِل َّ‬
‫إن الحسنا ِ‬
‫هود‪ ،]114/‬قال الرجل‪ :‬ألي هذه؟ قال‪" :‬لمن عمل بها من أمتي"‪ ،‬وهذا‬
‫نص البخاري‪ ،‬ولم يكن مراد النبي صلى هللا عليه وسلم تشجيع أ ّمته على‬
‫ُ‬
‫وحي إليه‪ ،‬ولم يقل رسول هللا صلى هللا عليه‬ ‫هذه الصغيرة‪ ،‬إنّما بيّن ما أ َ‬
‫حاضرا أخفوا هذا عن الناس‪ ،‬ولو فهموا ذلك منه لما رواه‬ ‫ً‬ ‫وسلم لمن كان‬
‫عنه ابن مسعود‪ ،‬ولما رواه البخاري في صحيحه وال غيرهما من علماء‬
‫اإلسالم سلفًا وخلفًا‪.‬‬
‫فإذا علم هذا فليعلم أن الفقهاء ذكروا ّ‬
‫أن المفاخذة من المحرمات‬
‫الصغائر‪ ،‬قال ابن حجر العسقالني في فتح الباري (‪ )3‬شرح البخاري نقالً‬
‫عن أبي عبد هللا الحليمي وكان من أصحاب الوجوه في مذهب اإلمام‬
‫صه‪" :‬واألول –أي الصغائر‪ -‬كالمفاخذة مع األجنبية صغيرة"‬ ‫الشافعي ما ن ّ‬
‫اهـ‪.‬‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬باب {وأقِ ِم الصالة َ َ‬
‫ط َرفَي ِ‬
‫النهار} [سورة هود‪.]114/‬‬
‫ت يُذهِبنَ‬ ‫{إن الحسنا ِ‬ ‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب التوبة‪ :‬باب قوله تعالى‪َّ :‬‬
‫السيئات} [سورة هود‪.]114/‬‬
‫(‪ )3‬فتح الباري (‪.)184/12‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال زكريا األنصاري في شرح روض الطالب (‪ )1‬كتاب الشهادات‪:‬‬


‫للمسر فسقه واستماعه‪ ،‬وكذب ال ح ّد‬ ‫ّ‬ ‫المحرم‪ ،‬وغيبة‬
‫ّ‬ ‫"ومن الصغائر النظر‬
‫سا لهم‪،‬‬
‫ساق إينا ً‬ ‫فيه وال ضرر‪ ،‬وإشراف على بيوت الناس‪ ،‬وجلوس بين ف ّ‬
‫والتغوط مستقبالً القبلة‬
‫ّ‬ ‫واستعمال نجس في بدن أو ثوب لغير حاجة‪،‬‬
‫بشرطه‪ ،‬وكشف العورة ولو في خلوة لغير حاجة‪ .‬ومن ذلك القبلة للصائم‬
‫تحرك شهوته‪ ،‬والوصال في الصوم‪ ،‬واالستمناء‪ ،‬ومباشرة األجنبية‬ ‫التي ّ‬
‫بغير جماع" اهـ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬تحريم كشف العورة في الخلوة خاص بالسوأتين وكشف ما‬
‫سواهما في الخلوة جائو ولو لغير حاجة‪.‬‬
‫وقال النووي في كتاب روضة الطالبين (‪ )2‬ما نصه‪" :‬ومن الصغائر‪:‬‬
‫تحرك الشهوة‪ ،‬والوصال في الصوم على األصح‪،‬‬ ‫القبلة للصائم التي ّ‬
‫واالستمناء‪ ،‬وكذا مباشرة األجنبية بغير جماع‪ ،‬ووطء الزوجة المظاهر‬
‫منها قبل التكفير‪ ،‬والخلوة باألجنبية‪ ،‬ومسافرة المرأة بغير زوج وال محرم"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه (‪" :)3‬نعم يمكن أن‬
‫يرد عليه ما لو اشتغل بعمل صغيرة عن كبيرة كالقبلة والمعانقة عن الزنا"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح اإلحياء في‬
‫مبحث الصغائر ما نصه (‪" :)4‬وقد ذكر ابن حجر –أي الهيتمي‪ -‬منها –‬
‫أي الصغائر‪ -‬في شرح الشمائل جملة فقال‪ :‬هي كالغيبة في غير عالم أو‬
‫حامل قرءان‪ ،‬نعم تباح ألسباب ستة مقررة في محلها‪ ،‬وكقبلة‬
‫_____________‬
‫أسنى المطالب شرح روض الطالب (‪.)342/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫روضة الطالبين‪ :‬كتاب الشهادات (‪.)224/11‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فتح الباري (‪.)448/10‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (‪.)546-547/8‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أجنبية"‪ ،‬إلى أن قال‪" :‬والوصال في الصوم على األصح‪ ،‬واالستمناء باليد‪،‬‬


‫ومباشرة األجنبية بغير الجماع‪ ،‬ووطء الزوجة المظاهر منها قبل التكفير"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال القرطبي (‪ )1‬في تفسير قوله تعالى‪{ :‬الذينَ يَ ْجتَنِبونَ َكبائِ َر ِ‬
‫اإلثم‬
‫ش إال اللَّ َم َم} [سورة النجم‪ ]32/‬اآلية‪" :‬المسألة الثانية‪ :‬فقال‪{ :‬إال‬ ‫والفَ ِ‬
‫واح َ‬
‫الل َمم} [سورة النجم‪ ]32/‬وهي الصغائر التي ال يسلم من الوقوع فيها إال‬
‫من عصمه هللا وحفظه‪ .‬وقد اختلف في معناها‪ ،‬فقال أبو هريرة وابن‬
‫عباس والشعبي‪ :‬اللمم كل ما دون الزنى‪ ،‬وذكر مقاتل بن سليمان أن هذه‬
‫اآلية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار‪ ،‬كان له حانوت يبيع فيه‬
‫تمرا فقال لها‪ :‬إن داخل الدكان ما هو خير‬ ‫تمرا‪ ،‬فجاءته امرأة تشتري منه ً‬‫ً‬
‫من هذا‪ ،‬فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت‪ ،‬فندم نبهان‪ ،‬فأتى رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما من شئ يصنعه الرجل إال وقد‬
‫فعلته إال الجماع‪ ،‬فقال‪" :‬لعل زوجها غاز" فنزلت هذه اآلية‪ ،‬وكذا قال ابن‬
‫مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق‪ :‬إن اللمم ما دون الوطء من‬
‫القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة" اهـ‪.‬‬
‫وقال البغوي في تفسير قوله تعالى‪{ :‬الذينَ يَ ْجتَنِبونَ كبائِ َر اإل ِثم‬
‫ش إال اللَّ َم َم} [سورة النجم‪ ]32/‬اآلية ما نصه (‪" :)2‬وقال بعضهم‪:‬‬ ‫والفواح َ‬
‫ِ‬
‫هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا‪ ،‬وهذا قول‬
‫ابن مسعود‪ ،‬وأبي هريرة‪ ،‬ومسروق‪ ،‬والشعبي‪ ،‬ورواية طاوس عن ابن‬
‫عباس" اهـ‪.‬‬
‫وليعلم أن مستح ّل المفاخذة مع األجنبية كافر الستحالله ما علم من الدين‬
‫بالضرورة حرمته‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬الجامع ألحكام القرءان (‪.)106/17‬‬
‫(‪ )2‬معالم التنزيل (‪.)252-253/5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫تحريم مصافحة الرجل‬
‫المرأة األجنبية بال حائل‬

‫روى ابن حبان (‪ )1‬عن أميمة بنت رقيقة‪ ،‬وإسحاق بن راهويه (‪ )2‬عن‬
‫أسماء بنت يزيد أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إني ال أصافح‬
‫النساء"‪ ،‬والحديث صححه ابن حبان‪ ،‬وإسناد إسحاق بن راهويه قال‬
‫الحافظ ابن حجر عنه‪ :‬حسن‪.‬‬
‫وأما قول أم عطية‪" :‬بايعنا رسول هللا فقرأ علينا‪{ :‬أن ال يُ ْش ِر ْكنَ با ِ‬
‫هلل‬
‫شيئًا} [سورة الممتحنة‪ ]12/‬ونهانا عن النياحة‪ ،‬فقبضت امرأة يدها فقالت‪:‬‬
‫أسعدتني فالنة وأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫مس الجلد‬‫صا في ّ‬ ‫شيئًا فانطلقت وجعت فبايعها" يُجاب عنه بأنه ليس ن ًّ‬
‫سة‪ ،‬فتعيّن تأويله‬ ‫ّ‬
‫بأيديهن عند المبايعة بال مما ّ‬ ‫للجلد وإنما معناه ّ‬
‫كن يُشرنَ‬
‫توفيقًا بين الحديثين الثابتين‪ ،‬ألنه يتعين الجمع بين الحديثين إذا كان كل‬
‫واحد منهما ثابتًا‪ ،‬أي كان ك ّل منهما صحي ًحا أو كان أحدهما صحي ًحا‬
‫واآلخر حسنًا‪ ،‬وال يجوز إلغاء أحدهما‪.‬‬
‫______________‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن حبان في صحيحه‪ :‬كتاب السير‪ :‬باب بيعة األئمة وما‬
‫يستحب لهم‪ :‬ذكر ما يستحب لإلمام أخذ البيعة من نساء رعيته‬
‫على نفسه إذا أحبّ ذلك‪ .‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان‬
‫(‪.)41/7‬‬
‫(‪ )2‬عزاه له ابن حجر في المطالب العالية (‪ ،)208/2‬وفي المسندة‬
‫(‪ )439/5‬قال عنه‪" :‬إسناده حسن"‪.‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬سورة الممتحنة‪:‬‬
‫باب إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‪ ،‬وكتاب االحكام‪ :‬باب بيعة‬
‫النساء‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫ومما يؤيد كالمنا ما ذكره الحافظ ابن الجوزي في تفسيره ونص عبارته‬
‫(‪" :)1‬وقد صح في الحديث أن النبي صلى هللا عليه وسلم لم يصافح في‬
‫البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكالم" اهـ‪.‬‬
‫ضا قال العالمة اللغوي ابن منظور ما نصه (‪" :)2‬بايعه عليه مبايعة‪:‬‬
‫أي ً‬
‫عاهده" اهـ‪.‬‬
‫أن المبايعة كانت تقع بحائل‪ ،‬قال الحافظ في الفتح‬‫ويص ّح أن يُجاب عنه ّ‬
‫ما نصه (‪" :)3‬فقد روى أبو داود في المراسيل (‪ )4‬عن الشعبي أن النبي‬
‫طري فوضعه على يده‬ ‫تي ببرد قَ َ‬‫ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم حين بايع النساء أ َ‬
‫وقال‪" :‬ال أصافح النساء"‪ .‬وروى عبد الرزاق (‪ )5‬من طريق إبراهيم‬
‫النخعي مرسالً نحوه‪ .‬وروى سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي‬
‫حازم كذلك‪.‬‬
‫وروى ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بُكير عن قيس ابن‬
‫أبي حازم عن أبان بن صالح أنه صلى هللا عليه وسلم كان يغمس يده في‬
‫إناء فتغمس المرأة يدها فيه‪ ،‬ويحتمل التعدد" انتهى كالم الحافظ‪ ،‬أي أن‬
‫تكون المصافحة بحائل مرة‪ ،‬والمبايعة بغمس يده في الماء في إناء وغمس‬
‫المرأة المبا ِيعة يدها فيه أي مرة أخرى‪.‬‬
‫وقد قال الحافظ ابن عساكر في تاريخه دمشق بعد أن أورد قصة إسالم‬
‫عشر نسوة من قريش وأنهن أتين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وهو‬
‫باألبطح لمبايعته ما نصه (‪" :)6‬فقالت هند من بينهن‪ :‬يا رسول هللا‬
‫نماسحك‪،‬‬
‫______________________‬
‫زاد المسير (‪.)244/8‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫لسان العرب (‪.)26/8‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫فتح الباري (‪.)636-637/8‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المراسيل (ص‪.)128/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مصنف عبد الرزاق (‪.)9/6‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )6‬تاريخ مدينة دمشق‪ :‬تراجم النساء (ص‪.)451/‬‬


‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إني ال أصافح النساء إن قولي لمئة‬
‫امرأة مثل قولي المرأة واحدة"‪ .‬ويقال‪ :‬وضع على يده ثوبًا ثم مسحن على‬
‫يده يومئذ‪ .‬ويقال‪ :‬كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه ثم يرفعه إليهن‬
‫فيدخلن أيديهن فيه‪ ،‬والقول األول أثبتهما عندنا‪" :‬إني ال أصافح النساء"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫ّ‬
‫بايعهن بواسطة عمر‪،‬‬ ‫وقد اخرج الطبراني (‪ )1‬أنه صلى هللا عليه وسلم‬
‫ّ‬
‫بايعهن بم ّد يده من خارج البيت‪ ،‬وم ّد النساء‬ ‫ضا محمول على أنه‬
‫وهذا أي ً‬
‫أيد ّ‬
‫يهن من الداخل إشارة للمبايعة بدون مصافحة‪.‬‬
‫ولحديث أسماء بنت يزيد طريق ءاخر‪ ،‬وروى النسائي والطبري (‪)2‬‬
‫من طريق محمد بن المنكدر أن أُميمة بنت ُرقيقة –بضم الراء مصغر‪-‬‬
‫أخبرته أنها دخلت في نسوة تبايع فقلن يا رسول هللا‪" :‬ابسط يدك‬
‫ّ‬
‫عليكن"‪ ،‬فأخذ علينا‬ ‫نصافحك"‪ ،‬فقال‪" :‬إني ال أصافح النساء ولكن سآخذ‬
‫صين ََك في َمعروفٍ } [سورة الممتحنة‪ ]12/‬وقال‪" :‬فيما‬ ‫حتى بلغ‪{ :‬وال يَ ْع ِ‬
‫ّ‬
‫واستطعتن"‪ ،‬فقلنا‪ :‬هللا ورسوله أرحم بنا من أنفسنا‪ .‬وعند ابن حبان‪:‬‬ ‫ّ‬
‫أطقتن‬
‫"إنما قولي لمائة امرأة كقولي المرأة واحدة"‪ .‬وفي رواية الطبري زيادة‪:‬‬
‫"قالت‪ :‬وما صافح رسول هللا صلى هللا عليه وسلم منّا أحدًا"‪.‬‬
‫ضا يحيى بن سالم في تفسيره عن‬
‫وأخرج مثل رواية أبي داود أي ً‬
‫أنهن ّ‬
‫كن يأخذن بيده عند المبايعة من فوق ثوب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الشعبي‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )45/25‬عن أم عطية‪،‬‬
‫وقال في المجمع (‪" :)38/6‬رواه أحمد‪ ،‬وأبو يعلى‪ ،‬والطبراني‪،‬‬
‫ورجاله ثقات" وانظر مسند أحمد (‪ )409 ،408/6‬وأخرجه ابن‬
‫مقتصرا على النوح‪.‬‬
‫ً‬ ‫أبي شيبة في المصنف (‪)390/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه النسائي في سننه‪ :‬كتاب السير‪ :‬باب الطاعة فيما يستطيع‬
‫بتمامه‪ .‬وأخرجه في كتاب البيعة‪ :‬باب بيعة النساء‪ ،‬وأخرجه‬
‫الطبري في تفسيره (‪.)52/28‬‬
‫وفي كتاب طرح التثريب (‪ )1‬ما نصه‪" :‬قولها رضي هللا عنها‪" :‬كان‬
‫يبايع النساء بالكالم" أي فقط من غير أخذ كف وال مصافحة‪ ،‬وهو دال‬
‫على أن بيعة الرجال بأخذ الكف والمصافحة مع الكالم وهو كذلك‪ ،‬وما‬
‫ذكرته عائشة رضي هللا عنها من ذلك هو المعروف‪ ،‬وذكر بعض‬
‫المفسرين أنه عليه الصالة والسالم دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثم‬
‫غمس فيه أيديهن‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬ما صافحهن بحائل وكان على يده ثوب‬
‫قطري‪ ،‬وقيل‪ :‬كان عمر رضي هللا عنه يصافحهن عنه‪ ،‬وال يصح شئ من‬
‫أمرا ال يفعله‬
‫ذلك وال سيما األخير‪ ،‬وكيف يفعل عمر رضي هللا عنه ً‬
‫صاحب العصمة" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪ )2‬ما نصه‪" :‬وقد قال الفقهاء من أصحابنا وغيرهم إنه يحرم‬
‫مس األجنبية ولو في غير عورتها كالوجه" اهـ‪.‬‬
‫فبهذا البيان بطل تأويل التحريرية أتباع حزب التحرير ما أخرجه‬
‫ست يده يد امرأة ّ‬
‫قط في‬ ‫البخاري في الصحيح (‪ )3‬من قولها‪" :‬وهللا ما م ّ‬
‫المبايعة" بأن نفيها محمول على حسب علمها ال على الواقع‪.‬‬
‫ولفظ البخاري في صحيحه‪ :‬حدثنا إسحاق‪ ،‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن‬
‫سعد‪ ،‬حدثنا ابن أخي ابن شهاب‪ ،‬عن عمه‪ ،‬أخبرني عروة أن عائشة‬
‫رضي هللا عنها زوج النبي أخبرته أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم كان‬
‫يمتحن َمن هاجر إليه من المؤمنات بهذه اآلية بقول هللا تعالى‪{ :‬يا أيُّها‬
‫{غفور‬
‫ٌ‬ ‫ؤمناتُ يُبايِ ْعن ََك} [سورة الممتحنة‪ ،]12/‬إلى قوله‪:‬‬ ‫النَّب ُّ‬
‫ي إذا جا َء َك ال ُم ِ‬
‫أقر بهذا‬‫رحيم} [سورة الممتحنة‪ ،]12/‬قال عروة‪ :‬قالت عائشة‪ :‬ف َمن ّ‬
‫الشرط من المؤمنات قال لها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬قد بايعتك‬
‫كال ًما"‪ ،‬ال وهللا‬
‫___________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬طرح التثريب (‪.)44/7‬‬


‫(‪ )2‬طرح التثريب (‪.)45/7‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب التفسير‪ :‬بابن تفسير قول هللا تعالى‪{ :‬إذا‬
‫هاجرات} من سورة الممتحنة‪.‬‬‫جا َء ُك ُم المؤمناتُ ُم ِ‬
‫ّ‬
‫يبايعهن إال بقوله‪" :‬قد بايعتك على‬ ‫ست يده يد امرأةٍ ّ‬
‫قط في المبايعة ما‬ ‫ما م ّ‬
‫ذلك" اهـ‪.‬‬
‫ولفظ عند ابن حبان (‪ )1‬عن عائشة أنها قالت‪" :‬ما أخذ رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم على النساء قط إال بما أمره هللا ج َّل وعال‪ ،‬وما مست كفه‬
‫كف امرأة قط‪ ،‬وما كان يقول ّ‬
‫لهن إذا أخذ عليهن إال قد بايعتكن كال ًما"‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أن ما ورد في الحديث أنه م ّد‬‫ثم من الجواب على زعم حزب التحرير ّ‬
‫يده‪ ،‬ال يلزم من م ّد يده صلى هللا عليه وسلم من خارج البيت ومد ّ‬
‫ّهن‬
‫بمس اليد باليد‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أيديهن من داخل البيت ثم قال‪" :‬الله ّم اشهد"‪ ،‬المصافحةُ‬
‫ّ‬
‫فكيف يحتجون بهذا على ر ّد حديث أميمة بنت رقيقة وحديث أسماء بنت‬
‫يزيد وهو قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إني ال أصافح النساء"‪ ،‬وهذا شأن‬
‫َمن يخوض في االستدالل بالحديث لهوى في نفسه من غير أن يكون له‬
‫إلمام بالحديث‪ ،‬وكذلك قبض المرأة يدها ليس فيه تصريح بأن غيرها من‬
‫النساء صافحن بال حائل‪.‬‬
‫ومعنى اإلسعاد المتقدم ذكره في حديث أم عطية هو قيام المرأة مع‬
‫األخرى في النياحة تراسلها‪ ،‬قال الحافظ ابن حجر (‪" :)2‬وفي رواية‬
‫النسائي (‪" :)3‬قال‪ :‬فاذهبي فأسعديها" قالت‪ :‬فذهبت فأسعدتها ثم جئت‬
‫فبايعت" اهـ‪.‬‬
‫أقول‪ :‬فإن قيل النياحة ص ّحت األحاديث بالنهي عنها على وجه التحريم‬
‫ي لما‬‫فهي من الكبائر‪ ،‬فما وجه الجمع بين ذلك وبين أن المرأة قالت للنب ّ‬
‫قبضت يدها‪" :‬أسعدتني فالنة أريد أن أجزيها"‪ ،‬فلم يقل النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم شيئًا‪ ،‬فالجواب‪ :‬أنه يفهم مما ورد في الحديث من تعدّد األلفاظ‬
‫___________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬صحيح ابن حبان‪ ،‬انظر اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان‬
‫(‪.)441/7‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري (‪.)638/8‬‬
‫(‪ )3‬سنن النسائي‪ :‬كتاب البيعة‪ :‬باب بيعة النساء‪.‬‬
‫والطرق أن النياحة كانت مباحة ثم كرهت كراهة تنزيه ثم تحري ًما‪ ،‬فبهذا‬
‫ذهب اإلشكال‪.‬‬
‫ضا حديث‪" :‬ألن يطعن أحدكم‬ ‫ويد ّل على تحريم المصافحة لألجنبية أي ً‬
‫يمس امرأة ال تح ّل له" رواه‬
‫ّ‬ ‫خير له من أن‬
‫في رأسه بمخيط من حديد ٌ‬
‫الطبراني (‪ )1‬وحسنه الحافظ ابن حجر‪.‬‬
‫الجس باليد ونحوها ليس الجماع كما زعمت‬
‫ّ‬ ‫المس في الحديث معناه‬
‫ّ‬ ‫ثم‬
‫التحريرية ألن راوي الحديث مقعل بن يسار فهم من الحديث خالف ما‬
‫المس ابن أبي شيبة في‬
‫ّ‬ ‫تدّعيه التحريرية‪ ،‬ذكر أثره ذلك المبيّن لمعنى‬
‫المصنف (‪.)2‬‬
‫المس بالجماع مجاز وال يعدل إلى المجاز إال بدليل عقلي‬‫ّ‬ ‫ثم إن تفسير‬
‫أو نقلي بشرط أن يكون العقلي قطعيًّا والنقلي ثابتًا‪ ،‬وفي غير ذلك تأويل‬
‫النص من الحقيقة إلى المجاز عبث بالنص كما ذكر األصوليون من‬
‫ً‬
‫مجازا في معنى الجماع ال‬ ‫المس‬
‫ّ‬ ‫الشافعية والحنفية وغيرهم‪ ،‬وأما كون‬
‫حقيقة فقد ذكره خاتمة اللغويين الحافظ محمد مرتضى الزبيدي في شرحه‬
‫المس على الجماع إنه من االستعارة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫على القاموس قال (‪ )3‬في إطالق‬
‫وذلك في مادة (م س س)‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ ،)212/20‬وقال الحافظ‬
‫الهيثمي في المجمع (‪" :)326/4‬ورجاله رجال الصحيح"‪ ،‬وقال‬
‫المنذري في الترغيب والترهيب (‪" :)39/3‬رواه الطبراني‬
‫والبيهقي ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح"‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (‪.)341/4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬تاج العروس (‪.)247-248/4‬‬

‫ضا قولكم يا تحريرية بجواز مصافحة الرجل المرأة األجنبية بال‬ ‫وأي ً‬
‫حائل اجتهاد على خالف النص فقد أخبر عليه الصالة والسالم أن العين‬
‫تزني واليد تزني‪ ،‬روى مسلم (‪ )1‬أنه صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬فالعينان‬
‫زناهما النظر"‪ ،‬وقال‪" :‬واليد زناها البطش"‪ .‬والبطش هو اإلمساك باليد‬
‫ألن البطش له معنيان في اللغة‪ :‬أحدهما األخذ بعنف والثاني عمل اليد‪ .‬قال‬ ‫ّ‬
‫الفيّومي اللغوي في المصباح (‪" :)2‬بطشت اليد‪ :‬عملت"‪ ،‬والمراد بالبطش‬
‫الوارد في حديث‪" :‬وزنى اليد البطش" هو اإلمساك باليد بمصافحة أو غمز‬
‫لشئ من بدنها للتلذّذ واالستمتاع بها‪ ،‬أو لغير ذلك بدون حائل‪ ،‬فلو لم يرد‬
‫نص شرعي إال هذا لكفى‪ ،‬فال جواب لكم عن هذا الحديث‪ ،‬ولو كان مراد‬
‫رسول هللا بالبطش هنا الجماع لم يقل بعد ذلك‪" :‬والفرج يصدق ذلك أو‬
‫يكذبه"‪ .‬فالمسألة ظاهرة ليس فيها خفاء‪ ،‬فلم يبق للتحريرية إال المكابرة‪.‬‬

‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب القدر‪ :‬باب قدّر على ابن ءادم حظه من‬
‫الزنى وغيره‪.‬‬
‫(‪ )2‬المصباح المنير (ص‪ )51/‬مادة (ب ط ش)‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حكم تشبّه الرجال بالنساء‬
‫وأن ذلك حرام‬

‫روى البخاري (‪ )1‬عن عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما قال‪" :‬لعن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبّهات‬
‫من النساء بالرجال"‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (‪ )2‬في شرح هذا الحديث‪" :‬قال‬
‫الطبري‪ :‬المعنى ال يجوز للرجال التشبّه بالنساء في اللباس والزينة التي‬
‫تختص بالنساء وال العكس"‪.‬‬
‫ّ‬
‫ثم قال‪" :‬وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع هللا به ما ملخصه‪:‬‬
‫"ظاهر اللفظ الزجر عن التشبّه في كل شئ‪ ،‬لكن عرف من األدلة األخرى‬
‫ي وبعض الصفات والحركات ونحوها ال التشبّه‬ ‫َّ‬
‫أن المراد التشبه في الز ّ‬
‫في أمور الخير"‪ .‬انتهى كالم ابن حجر‪.‬‬
‫وأخرج أبو داود (‪ )3‬في سننه عن أبي هريرة وأحمد في مسنده (‪)4‬‬
‫والحاكم (‪ )5‬وقال‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪" :‬لعن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم الرجل يلبس ِلبسة المرأة والمرأة َ ت َ ْلبَس لبسة الرجل"‪.‬‬
‫وعن ابن أبي ُملَيكة قال‪" :‬قيل لعائشة رضي هللا عنها َّ‬
‫إن امرأة تلبس‬
‫_________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب المتشبهين بالنساء‬ ‫(‪)1‬‬


‫والمتشبهات بالرجال‪.‬‬
‫فتح الباري شرح صحيح البخاري (‪.)332/10‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫سنن أبي داود‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب لباس النساء‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مسند أحمد (‪.)325/2‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مستدرك الحاكم (‪.)194/4‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫الر ُجلة من النساء"‪،‬‬
‫النعل فقالت‪" :‬لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم َّ‬
‫رواه أبو داود (‪.)1‬‬
‫مرت على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬ ‫وعند الطبراني (‪َّ )2‬‬
‫أن امرأة ّ‬
‫ي‪" :‬لعن هللا المتشبّهات من النساء بالرجال والمتشبّهين من الرجال‬
‫فقال النب ّ‬
‫بالنساء"‪.‬‬
‫قال النووي في روضة الطالبين ما نصه‪" :‬يحرم على الرجال لبس ما‬
‫تلبس المرأة والعكس" اهـ‪.‬‬
‫وفي كتاب اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف على مذهب اإلمام‬
‫أحمد بن حنبل للمرداوي (‪ )3‬ما نصه‪" :‬هذه المسألة وهي تشبّه الرجل‬
‫بالمرأة والمرأة بالرجل في اللباس وغيره يحرم على الصحيح من المذهب"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫فيُعلم مما تقدّم أنه ال يجوز للمرأة أن تتشبّه بالرجال ولو في لبس‬
‫أحذيتهم أي الخاصة بهم‪ ،‬وأنه ال يشترط لكون ذلك حرا ًما أن تقصد المرأة‬
‫التشبه بالرجال أو أن يقصد الرجل التشبّه بالنساء‪ ،‬فليس المراد بحديث ابن‬
‫عباس‪" :‬لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المتشبّهين من الرجال بالنساء‬
‫والمتشبهات من النساء بالرجال" وما أشبه من األحاديث التي فيها لفظ‬
‫التشبّه أن يقصد الرجل والمرأة التشبه بدليل الحديث السابق ذكره‪ ،‬والذي‬
‫أخرجه أبو داود وغيره وهو‪" :‬لعن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم الرجل‬
‫يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل"‪ ،‬ولم يقل الفقهاء إنه يحرم‬
‫على‬
‫]‪[Type text‬‬

‫__________________‬
‫(‪ )1‬سنن أبي داود‪ :‬كتاب اللباس‪ :‬باب لباس النساء‪.‬‬
‫(‪ )2‬عزاه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (‪ )103/8‬للطبراني في‬
‫المعجم األوسط (‪ )389-390/4‬عن ابن عباس رضي هللا‬
‫عنهما وقال‪" :‬رواه عن شيخه علي بن سعد الرازي وهو ليّن‪،‬‬
‫وبقية رجاله ثقات"‪.‬‬
‫(‪ )3‬اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف (‪.)152/3‬‬
‫المرأة أن تلبس لبسة الرجل إن قصدت التشبّه وإال فال يحرم‪ ،‬كما يتبين لك‬
‫مما سبق ذكره‪ ،‬وأ ّما ما كان مشتر ًكا بين الرجال والنساء فيجوز للرجل‬
‫سهُ كبعض أنواع األحذية واأللبسة‪.‬‬‫والمرأة لُب ُ‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫حد العورة بالنسبة للرجل‬

‫اعلم أن هذه المسألة من المسائل التي اختلف فيها العلماء‪ ،‬فقال الشافعي‬
‫سرته وركبته‪ ،‬وقال الحافظ المجتهد‬ ‫وكثير غيره إن عورة الرجل ما بين ّ‬
‫محمد بن جرير الطبري والتابعي الجليل عطاء بن أبي رباح الذي قال عنه‬
‫أبو حنيفة‪ :‬ما رأيت أفقه منه‪ ،‬ومالك في قوله له وكذلك أحمد بن حنبل في‬
‫قول له‪ :‬إن عورته السوأتان فقط‪ ،‬روى عن أحمد ذلك ُمهنّا أحد كبار‬
‫الثقات اآلخذين عنه‪ .‬ولهم الحديث الذي رواه البخاري (‪ )1‬وأحمد (‪)2‬‬
‫س َر اإلزار‬ ‫عن أنس بن مالك‪َّ :‬‬
‫أن النبي صلى هللا عليه وسلم يوم خيبر َح َ‬
‫عن فخذه‪ ،‬قال أنس‪ :‬حتى إني ألنظر إلى بياض فخذ نبي هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪.‬‬
‫وروى مسلم وغيره (‪ )3‬أن عائشة قالت‪" :‬كان رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم مضطجعًا في بيتي كاشفًا فخذيه أو ساقيه‪ ،‬فاستأذن أبو بكر‬
‫فأذن له وهو على تلك الحال فتحدّث‪ ،‬ث ّم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك‬
‫وسوى‬ ‫ّ‬ ‫فتحدّث‪ ،‬ث ّم استأذن عثمان فجلس رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫ش له ولم‬ ‫ثيابه‪ ،‬فدخل فتحدّث‪ ،‬فلما خرج قالت عائشة‪ :‬دخل أبو بكر فلم تهت َ ّ‬
‫وسويت‬
‫ّ‬ ‫تهتش له ولم تبا ِله ث ّم دخل عثمان فجلست‬
‫ّ‬ ‫تباله‪ ،‬ثم دخل عمر فلم‬
‫ثيابك‪ ،‬فقال‪" :‬أال أستحي من رجل تستحي منه المالئكة" اهـ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قال البخاري‪" :‬ويُروى عن ابن عباس و َج ْرهَد ومحمد بن جحش عن‬


‫س َر النبي‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم "الفخذ عورة" وقال أنس بن مالك‪ :‬ح َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم عن فخذه‪،‬‬
‫________________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب ما يذكر في الفخذ‪.‬‬
‫(‪ )2‬مسند أحمد (‪.)102/3‬‬
‫(‪ )3‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب في فضائل عثمان‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬صحيح ابن حبان انظر اإلحسان بترتيب صحيح‬
‫ابن حبان (‪.)28/9‬‬
‫وحديث أنس أسند‪ ،‬وحديث جرهد أحوط" اهـ‪.‬‬
‫قوله‪" :‬ويُروى" للتضعيف ألنه صيغة تمريض‪ ،‬وقوله‪" :‬أحوط" قال‬
‫ضا (‪" :)2‬وأما حديث‬
‫الحافظ في الفتح (‪" :)1‬أي للدين"‪ ،‬وقال الحافظ أي ً‬
‫جرهد فإنه حديث مضطرب جدًّا" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال (‪ )3‬ما نصه‪" :‬وقوله‪" :‬وحديث أنس أسند" أي أصح إسنادًا" اهـ‪.‬‬
‫وروى البخاري في صحيحه (‪ )4‬أن أنس بن مالك أتى ثابت بن قيس‬
‫وقد حسر عن فخذيه وهو يتحنّط‪ ،‬الحديث‪ ،‬قال الحافظ ابن حجر (‪:)5‬‬
‫"واستدل به على أن الفخذ ليس عورة" اهـ‪.‬‬
‫فليس لمن رأى رجالً ءاخذًا بهذا القول عامالً به أن يعترض عليه كما‬
‫يعترض على فاعل المعصية‪ ،‬إذ أنه لم يرتكب معصية بأخذه بقولهم‪ ،‬ولكن‬
‫سرتك وركبتك‪ ،‬وأما أن ينكر‬ ‫خير لك أن تستر ما بين ّ‬
‫يجوز أن يقو َل له ٌ‬
‫عليه فهو ممنوع‪ ،‬والذي ينكر هو جاهل بالقاعدة المتفق عليها‪" :‬ال ينكر‬
‫الشخص يعتقد فيه‬
‫ُ‬ ‫المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه" (‪ ،)6‬إال إذا كان‬
‫حرمته‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬فتح الباري (‪.)479/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تغليق التعليق (‪.)209/2‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫تغليق التعليق (‪.)213/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب الجهاد‪ :‬باب التحنط عند‬ ‫(‪)4‬‬
‫القتال‪.‬‬
‫فتح الباري (‪.)52/6‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫األشباه والنظائر (ص‪.)158/‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وقال النووي (‪ )1‬في المجموع ما نصه‪" :‬وقال داود ومحمد بن جرير‬


‫وحكاه في التتمة عن عطاء‪ :‬عورته (أي الرجل) الفرجان فقط" اهـ‪.‬‬
‫وقد أفتى ابن حجر الهيتمي في فتاويه في عامل فخذه في حال عمله‬
‫بالسكوت عنه‪ ،‬قال ألن الفخذ يجوز كشفه في أحد قولي مالك وأحمد‪.‬‬
‫وفي كتاب اإلنصاف للمرداوي الحنبلي (‪ )2‬عند ذكر عورة الرجل ما‬
‫نصه‪" :‬وعنه –أي عن أحمد‪ -‬أنها الفرجان‪ ،‬اختاره المجد في شرحه‪،‬‬
‫وصاحب مجمع البحرين والفائق‪ .‬قال في الفروع‪ :‬وهي أظهر‪ ،‬وقدَّمه ابن‬
‫ضا فيه"‬ ‫رزين في شرحه وقال‪ :‬وهي أظهر وإليها مي ُل صاحب النظم أي ً‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال اإلمام مالك (‪ :)3‬إن من صلى وفخذه مكشوفة فال إعادة عليه‪.‬‬
‫وفي فتاوى الشيخ عز الدين بن عبد السالم المالكي (‪ )4‬أنه سئل عن‬
‫الرجل يدخل الحمام فيجلس بمعزل عن الناس‪ ،‬إال أنه يعرف بالعادة أنه‬
‫يكون معه في الحمام من هو كاشف لعورته هل يجوز له حضوره على‬
‫هذه الحال أم ال؟ فأجاب‪" :‬يجوز له حضور الحمام‪ ،‬فإن قدر على اإلنكار‬
‫مأجورا على إنكاره‪ ،‬وإن عجز عن اإلنكار كره بقلبه فيكون‬
‫ً‬ ‫أنكر ويكون‬
‫مأجورا على كراهته‪ ،‬ويحفظ بصره عن العورات ما استطاع‪ ،‬وال يلزم‬ ‫ً‬
‫اإلنكار إال في السوأتين‪ ،‬ألن العلماء رحمهم هللا تعالى اختلفوا في قدر‬
‫العورة‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬ال عورة إال السوأتين‪ ،‬فال يجوز اإلنكار على من‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلّد بعض أقوال العلماء إال أن يكون فاعل ذلك معتقدًا لتحريمه فينكر عليه‬
‫حينئذٍ‪ ،‬وما زال الناس يقلّدون العلماء في‬
‫_______________‬
‫المجموع شرح المهذب للنووي (‪.)169/3‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف (‪.)449/1‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫التاج واإلكليل لمختصر خليل‪ ،‬انظر هامش مواهب الجليل‬ ‫(‪)3‬‬
‫(‪.)498/1‬‬
‫فتاوى الشيخ عز الدين بن عبد السالم (ص‪.)52-51/‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مسائل الخالف وال ينكر عليهم" اهـ‪.‬‬
‫فال يجوز للشافعي أن ينكر على المالكي فيما يعتق ُد الشافعي تحريمه‬
‫والمالكي تحليله‪ ،‬وكذلك سائر مذاهب العلماء‪ ،‬اللهم إال أن يكون ذلك‬
‫المذهب بعيد المأخذ بحيث يجب نقضه فينكر حينئ ٍذ على الذاهب إليه وعلى‬
‫من يقلّده‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فائدة في بيان حكم منكر المجمع عليه‬

‫قال الفقيه األصولي بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع (‪ )1‬ما‬


‫نصه‪(" :‬ص) خاتمة‪ :‬جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر‬
‫قطعًا‪ ،‬وكذا المشهور المنصوص في األصح‪ ،‬وفي غير المنصوص تردد‪،‬‬
‫صا‪( .‬ش) من جحد مجمعًا عليه فله‬‫وال نكفر جاحد الخفي ولو منصو ً‬
‫أحوال‪:‬‬
‫*إحداها‪ :‬أن يكون ذلك المجمع عليه معلو ًما من الدين بالضرورة‬
‫كأركان اإلسالم فهو كافر قطعًا‪ ،‬وليس كفره من حيث إنه مجمع عليه بل‬
‫لجحده ما اشترك الخلق في معرفته‪ ،‬وألنه صار بخالفه جاحدًا لصدق‬
‫الرسول‪ .‬واعلم أنه قد يستشكل قولهم المعلوم من الدين بالضرورة‪ ،‬فإنه‬
‫ليس في األحكام الشرعية على قاعدة األشعرية شئ يعلم كونه حك ًما شرعيًّا‬
‫إال بدليل‪ ،‬وجوابه أنها ثبتت بأعظم دليل‪ ،‬وإنما سميت ضرورية في الدين‬
‫من حيث أشبهت العلوم الضرورية في عدن تطرق الشك إليها واستواء‬
‫الخواص والعوام في دركها" اهـ‪.‬‬
‫ثم قال‪ * " :‬الثالثة‪ :‬أن يكون خفيًّا ال يعرفه إال الخواص كفساد الحج‬
‫بالوطء قبل الوقوف‪ ،‬وتوريث بنت االبن السدس مع بنت الصلب‪ ،‬فإذا‬
‫اعتقد المعتقد في شئ من هذا أنه خالف إجماع العلماء لم نكفره لكن يحكم‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بضالله وخطئه‪ ،‬وال فرق في هذا القسم بين المنصوص عليه وغيره‬
‫الشتراك الكل في الخفاء وال نعلم فيه خالف" اهـ‪.‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬تشنيف المسامع (‪.)147-149/3‬‬

‫قال الحافظ الفقيه أبو زرعة العراقي في نكته ما نصه (‪" :)1‬نقل اإلمام‬
‫في الشامل في أصول الدين عن القاضي أبي بكر أنهم أجمعوا على عدم‬
‫الوجوب ولم يخالفه فيه وإنما ينكر المجمع إال أن يرى الفاعل تحريمه"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫سير (‪ )2‬ممزو ًجا‬ ‫قال زكريا األنصاري في شرح الروض في كتاب ال ّ‬
‫بالمتن ما نصه‪" :‬وال ينكر العالم إال مجمعًا عليه أي على إنكاره ال ما‬
‫اختلف فيه إال أن يرى الفاعل تحريمه" اهـ‪.‬‬
‫وفي هامشه ألبي العباس الرملي نقالً عن عز الدين بن عبد السالم قال‪:‬‬
‫"من أتى شيئًا مختلفًا في تحريمه معتقدًا تحريمه وجب اإلنكار عليه‪ ،‬وإن‬
‫اعتقد تحليله لم يجز اإلنكار عليه إال أن يكون مأخذ المحلل ضعيفًا تنتقض‬
‫األحكام بمثله لبطالنه في الشرع وال ينقض إال لكونه باطالً‪ ،‬وذلك كمن‬
‫يطأ جارية باإلباحة معتقدًا لمذهب عطاء فيجب عليه اإلنكار وإن لم يعتقد‬
‫تحري ًما وال تحليالً أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ وال إنكار" انتهى كالم‬
‫أبي العباس الرملي‪.‬‬
‫وبذلك صرح الماوردي في األحكام السلطانية‪ ،‬ومثل هذا في سائر‬
‫شروح منهاج الطالبين وشرح منهج الطالب‪ ،‬وكذلك في الفتاوى الكبرى‬
‫البن حجر‪ ،‬وفي كتاب األنوار ألعمال األبرار‪ ،‬وكذلك في كثير من كتب‬
‫كالحطاب شارح مختصر خليل المسمى بمواهب الجليل‪ ،‬وفي‬ ‫ّ‬ ‫المالكية‬
‫شرح الخر ِشي على مختصر خليل‪ ،‬وفي الشرح المسمى منح الجليل‪،‬‬
‫وكذلك في كثير من كتب الحنابلة وكتب الحنفية كالدر المختار‪ ،‬وكذلك في‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كتاب القواعد للحافظ الفقيه األصولي أبي سعيد العالئي الشافعي‪ ،‬وكذلك‬
‫في‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬نكت الفتاوى (ق‪ ،)69/‬مخطوط‪.‬‬
‫(‪ )2‬شرح الروض (‪.)180/4‬‬

‫كتاب األشباه والنظائر للسيوطي (‪.)1‬‬


‫قال الشيخ زكريا في شرح روض الطالب ممزو ًجا بالمتن ما نصه (‪:)2‬‬
‫ب على جهى النصيحة إلى الخروج من الخالف برفق فحسن‬ ‫"لكن إن نَ َد َ‬
‫إن لم يقع في خالف ءاخر وترك أي وفي ترك سنة ثابتة التفاق العلماء‬
‫على استحباب الخروج من الخالف حينئذ‪ .‬وليس للمحتسب (‪ )3‬المجتهد أو‬
‫مر ولم يزل الخالف بين‬ ‫المقلّد كما فهم باألولى حمل الناس على مذهبه لما ّ‬
‫الصحابة والتابعين في الفروع وال ينكر أحد على غيره مجتهدًا فيه‪ ،‬وإنما‬
‫سا جليًّا" اهـ‪.‬‬
‫عا أو قيا ً‬
‫صا أو إجما ً‬
‫ينكرون ما خالف ن ًّ‬
‫وقال الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه (‪ )4‬عن سفيان‬
‫الثوري ما نصه‪" :‬ما اختلف فيه الفقهاء فال أنهى أحدًا من إخواني أن يأخذ‬
‫به" اهـ‪.‬‬
‫أما القاعدة‪" :‬ال ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المتفق عليه إال أن يكون‬
‫فاعله يرى تحريمه"‪ ،‬ذكرها األصوليون في كتبهم‪ ،‬وكذا الفقهاء كما تقدم‪.‬‬
‫لخف الخالف والتشويش‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ولو تعامل الناس على موجب هذه القاعدة‬
‫كالتشويش الذي يحصل من بعض الناس على بعض بغير حق‪ .‬اللهم إال أن‬
‫يكون الخالف بعد انعقاد اإلجماع فال عبرة به كالخالف في وقوع الطالق‬
‫الثالث بلفظ واحد ثالثًا ألن اإلجماع انعقد في عهد عمر‪ ،‬وما حصل بعد‬
‫ذلك فال معنى له‬
‫______________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األشباه والنظائر (ص‪.)158/‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫شرح الروض (‪.)180/4‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المحتسب الذي عيّنه الخليفة لألمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫(‪)3‬‬
‫المنكر‪ ،‬يدور بين الناس‪.‬‬
‫الفقيه والمتفقه‪ :‬باب القول فيمن يسوغ له التقليد ومن ال‬ ‫(‪)4‬‬
‫يسوغ‪.‬‬
‫كما ذكر الحافظ ابن حجر‪ ،‬ومن خالف هذا فهو منابذ لإلجماع‪ ،‬ذكر ذلك‬
‫في شرحه فتح الباري في كتاب الطالق‪.‬‬
‫ويدخل في هذا الخالف الذي يشوش به بعض الناس في مسئلة كشف‬
‫الفخذ للرجل فإن هذا ال يعت ّد به عند المحصلين‪ ،‬فقد أفتى ابن حجر الهيتمي‬
‫في فتاويه في سؤال صورته رجل يعمل وهو كاشف فخذه فأجاب ال ينكر‬
‫عليه ألن ذلك أحد القولين لمالك وأحمد‪ ،‬ومن ال يراعي هذه القاعدة فمأنه‬
‫ينكر المذاهب كلها إال المذهب الذي يتقلده‪ .‬وهذا مخالف بما جرى عليه‬
‫عرض عليه أن‬ ‫السلف فقد قال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز حين ُ‬
‫يجمع الناس على مذهب واحد‪" :‬دعوا الناس على ما هم عليه"‪ ،‬وكان هو‬
‫أميرا للمؤمنين مجتهدًا مطلقًا كغيره من المجتهدين‪ ،‬فما لهؤالء‬
‫مع كونه ً‬
‫الذين ال يتقنون مذهبًا واحدًا هم يقلدونه ينكرون على الناس ما خالف رأيهم‬
‫كأنه عمل معصية كبيرة متفقًا عليها‪ ،‬فليحاسب هؤالء أنفسهم قبل أن‬
‫يحاسبوا‪ .‬وإلى هللا المرجع والمآب‪.‬‬
‫ويؤيد ما ذكرناه ما جاء في كتاب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (‪)1‬‬
‫المحرم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ونصه‪" :‬واألمر بالمعروف أي الواجب والنهي عن المنكر أي‬
‫لكن محله في واجب أو حرام مجمع عليه‪ ،‬ويجب اإلنكار على معتقد‬
‫التحريم وإن اعتقد المنكر إباحته ألنه يعتقد حرمته بالنسبة لفاعله باعتبار‬
‫إنكار حتى يخبره عالم بأنه‬
‫ٌ‬ ‫عقيدته‪ ،‬ويمتنع على عامي يجهل حكم ما رءاه‬
‫محرم في اعتقاد فاعله‪ ،‬وال لعالم إنكار مختلف فيه حتى‬ ‫ّ‬ ‫مجمع عليه أو‬
‫يعلم من فاعله اعتقاد تحريمه له حالة ارتكابه الحتمال أنه حينئذ قلّد القائل‬
‫بحله أو جاهل بحرمته‪ ،‬أما من ارتكب ما يرى إباحته بتقليد صحيح فال‬
‫يحل اإلنكار عليه‪ ،‬لكن لو ندب للخروج من الخالف‬
‫]‪[Type text‬‬

‫_________________‬
‫(‪ )1‬نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج (‪.)48/8‬‬

‫برفق فحسن" اهـ‪.‬‬


‫وفي األشباه والنظائر للسيوطي (‪ )1‬ما نصه‪" :‬القاعدة الخامسة‬
‫والثالثون ال ينكر المختلف فيه وإنما ينكر المجمع عليه" اهـ‪.‬‬
‫وفي التفسير الكبير للفخر الرازي (‪ )2‬عند تفسير قوله تعالى‪{ :‬قُل‬
‫أبصار ِهم} [سورة النور‪ ]30/‬ما نصه‪" :‬اعلم أن‬
‫ِ‬ ‫للمؤمنين َيغُضُّوا من‬
‫العورات على أربعة أقسام‪ :‬عورة الرجل مع الرجل‪ ،‬وعورة المرأة مع‬
‫المرأة‪ ،‬وعورة المرأة مع الرجل‪ ،‬وعورة الرجل مع المرأة‪ .‬فأما الرجل‬
‫مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إال عورته‪ ،‬وعورته ما بين‬
‫السرة والركبة‪ ،‬والسرة والركبة ليستا بعورة‪ ،‬وعند أبي حنيفة رحمه هللا‬‫ّ‬
‫الركبة عورة‪ ،‬وقال مالك‪ :‬الفخذ ليس بعورة" اهـ‪.‬‬
‫ويقول القرطبي (‪ )3‬عند تفسير اآلية المذكورة ما نصه‪" :‬إن َدلّكه أح ٌد‬
‫سرته إلى ركبته إال امرأته أو جاريته‪ ،‬وقد اختلف‬ ‫ال يم ّكنه من عورته من ّ‬
‫في الفخذين هل هما عورة أم ال" اهـ‪.‬‬
‫سا‬‫ويقول (‪ )4‬عند تفسير قوله تعالى‪{ :‬يا بني ءا َد َم ق ْد أ ْنزَ لنا علي ُكم ِلبا ً‬
‫ت هللاِ لعلَّ ُهم‬
‫من ءايا ِ‬ ‫ذلك ْ‬ ‫خير َ‬ ‫ذلك ٌ‬‫باس التَّقوى َ‬ ‫س ْوءاتِ ُكم َو ِري ً‬
‫شا و ِل ُ‬ ‫واري َ‬
‫يُ ِ‬
‫يَذَّ َّكرون} [سورة األعراف‪ ]26/‬ما نصه‪" :‬ومن جملة اإلنعام ستر العورة‪،‬‬
‫فبيّن أنه جعل لذريته ما تسترون به عوراتهم‪ ،‬ود ّل على األمر بالتستر‪،‬‬
‫وال خالف بين العلماء في وجوب ستر العورة عن أعين الناس‪ ،‬واختلفوا‬
‫في العورة ما هي؟ فقال ابن أبي ذئب‪ :‬هي من الرجل الفرج نفسه‪ ،‬القبل‬
‫والدبر دون‬
‫__________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األشباه والنظائر (ص‪.)158/‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫التفسير الكبير (‪.)201/23‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)225/12‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫الجامع ألحكام القرءان (‪.)182/7‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫غيرهما‪ ،‬وهو قول داود وأهل الظاهر وابن أبي عبلة والطبري لقوله‬
‫ت ل ُهما‬‫س ْوءاتِ ُكم} [سورة األعراف‪ ،]26/‬وقوله‪{ :‬بَ َد ْ‬ ‫سا يُواري َ‬
‫تعالى‪ِ { :‬لبا ً‬
‫س ْوءات ُ ُهما} [سورة األعراف‪ ،]22/‬وقوله‪ِ { :‬ليُ ِريَ ُهما َ‬
‫س ْوءاتِ ِهما} [سورة‬ ‫َ‬
‫األعراف‪ ،]27/‬وفي البخاري عن أنس‪ :‬فأجرى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫س َر اإلزار عن فخذه‪ ،‬حتى إني أنظر‬ ‫وسلم في ُزقاق خيبر‪- ،‬وفيه‪ -‬ثم ح َ‬
‫إلى بياض فخذ نبي هللا صلى هللا عليه وسلم (‪ ")1‬انتهى كالم القرطبي‪.‬‬
‫ونقل الحطاب المالكي (‪ )2‬عن ابن الحاج المالكي المعروف بالتشدّد أن‬
‫إظهار بعض الفخذ مكروه على المشهور‪ ،‬وقيل حرام‪.‬‬
‫ظهورا جليًّا أن الفخذ ليس عورة في قول لإلمام مالك بن أنس‬
‫ً‬ ‫فظهر‬
‫وأحمد بن حنبل المعروف بالزهد والورع وعند التابعي الجليل عطاء بن‬
‫أبي رباح وابن جرير الطري وكل هؤالء من أهل االجتهاد‪.‬‬
‫قال الحافظ ابن حجر العسقالني في تخريج مختصر ابن الحاجب (‪)3‬‬
‫ما نصه‪" :‬وأما كشف الفخذ فأخرجه أبو داود في كتاب الجنائز (‪ )4‬عن‬
‫علي بن سهل هو الرملي‪ ،‬ح َّدثنا حجاج هو ابن محمد المصيصي قال‪ :‬قال‬
‫ابن جريج‪ :‬أُخبرتُ عن حبيب بن أبي ثابت‪ ،‬عن عاصم بن َ‬
‫ض ْمرة‪ ،‬عن‬
‫علي بن أبي طالب رضي هللا عنه قال‪ :‬قال لي النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"ال تبرز فخذك وال تنظر إلى فخذ‬
‫_____________‬
‫(‪ )1‬ورد تخريج الحديث ءانفًا‪.‬‬
‫(‪ )2‬مواهب الجليل (‪.)498/1‬‬
‫(‪ )3‬موافقة الخبر الخبر في تخريج ءاثار المختصر (‪-117/2‬‬
‫‪.)125‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب في ستر‬


‫الميت عند غسله‪.‬‬

‫حي وال ميت"‪ ،‬وأعاده أبو داود في كتاب الح َّمام (‪ )1‬بهذا اإلسناد وقال‪:‬‬
‫فيه نكارة‪ ،‬وقال‪َّ :‬أوالً كان سفيان ينكر أن يكون حبيب روى عن عاصم‬
‫عا‪ ،‬وقال ابن أبي حاتم في كتاب العلل (‪ :)2‬سألت أبي عن هذا‬ ‫يعني سما ً‬
‫الحديث فقال‪ :‬لم يسمعه ابن جريج من حبيب وال سمع حبيب من عاصم بن‬
‫موصوف بالتدليس‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ضمرة شيئًا‪ ،‬قلت‪ :‬وكل من ابن جريج وحبيب ثقة لكن‬
‫وقد وقعت لنا رواية فيها تصريح ابن جريج باإلخبار وأخرى فيها‬
‫تصريحه بالتحديث‪.‬‬
‫وبالسند الماضي إلى عبد هللا بن أحمد‪ ،‬حدّثنا عبيد هللا بن أحمد‬
‫القواريري‪ ،‬حدّثنا يزيد أبو خالد القرشي‪ ،‬أخبرنا ابن جريج‪ ،‬أخبرني حبيب‬
‫بن أبي ثابت فذكره‪ .‬وهذا لوال أنه معلول ألفاد لكن يزيد أبو خالد مجهول‪.‬‬
‫وقد أخرجه أبو يعلى (‪ )3‬عن عبيد هللا القواريري فقال في روايته‪ :‬قال‬
‫حبيب‪ :‬وكذا أخرجه الطحاوي (‪ )4‬عن ابن أبي عمران‪ ،‬عن القواريري‬
‫فقال في روايته عن حبيب‪ :‬وقرأت على أم الحسن التنوخية بدمشق‪ ،‬عن‬
‫سليمان بن حمزة‪ ،‬أخبرنا محمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد الحافظ‪،‬‬
‫أخبرنا عبد الباقي بن عبد الجبار‪ ،‬أخبرنا أبو شجاع عمر بن محمد‪ ،‬أخبرنا‬
‫أبو القاسم الخليلي‪ ،‬أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي‪ ،‬حدّثنا الهيثم بن كليب‪،‬‬
‫حدثنا محمد بن سعد العوفي‪( ،‬ح) وأخبرنيه عاليًا الشيخ أبو إسحاق‬
‫التنوخي‪ ،‬عن عبد هللا بن أحمد بن تمام‪ ،‬أخبرنا يحيى بن أبي السعود قرئ‬
‫عا‪،‬‬
‫ش ْهدة وأنا أسمع‪ ،‬عن الحسين بن أحمد بن طلحة حدثني سما ً‬ ‫على ُ‬
‫أخبرنا أبو الحسين بن ِبشران‪ ،‬أخبرنا‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الحمام‪ :‬باب النهي عن‬
‫التعري‪.‬‬
‫(‪ )2‬العلل (‪.)270-271/2‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه أبو يعلى في مسنده (‪.)277-278/1‬‬


‫(‪ )4‬أخرجه الطحاوي في شرح معاني اآلثار (‪.)474/1‬‬
‫إسماعيل بن محمد الصفّار‪ ،‬حدثنا محمد بن سعد‪ ،‬حدّثنا رو ُح بن عبادة‪،‬‬
‫حدّثنا ابن جريج‪ ،‬حدثني حبيب بن أبي ثابت‪ ،‬عن عاصم بن ضمرة‪ ،‬عن‬
‫علي رضي هللا عنه قال‪ :‬دخل علي النبي صلى هللا عليه وسلم وفخذي‬
‫صفَّار‪ :‬هكذا قال‪ :‬حدثني‬ ‫ّ‬
‫"غط فخذك فإن الفخذ عورة" قال ال َّ‬ ‫مكشوفة فقال‪:‬‬
‫حبيب يشير إلى أن المعروف عن ابن جريج عدم التصريح‪.‬‬
‫وهكذا أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن روح بن عبادة‬
‫بالعنعنة‪ ،‬وكذا أخرجه ابن ماجه (‪ )1‬عن بشر بن ءادم‪ ،‬عن َر ْوح‪ ،‬وخالف‬
‫َر ْوح في متنه أصحاب ابن جريج فالمحفوظ عنهم ما تقدّم ولعل ذلك من‬
‫ابن جريج فإنه ح ّدث بالبصرة بأشياء َو ِه َم فيها لكونها من حفظه وسماع‬
‫َر ْوح منه كان بالبصرة‪ ،‬وقد حدّث عنه عبد المجيد بن أبي َر ّواد عن ابن‬
‫جريج معنعنًا‪ ،‬أخرجه الدارقطني (‪ )2‬وحجاج بن محمد‪ ،‬وعبد المجيد من‬
‫أعرف الناس بحديث ابن جريج‪.‬‬
‫وقال البخاري في صحيحه‪ :‬باب ما يذكر في الفخذ ويُروى عن ابن‬
‫عباس و َج ْرهَد ومحمد بن جحش عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬الفخذ‬
‫سر النبي صلى هللا عليه وسلم عن فخذه‪ .‬وحديث أنس‬
‫عورة" وقال أنس‪َ :‬ح َ‬
‫أسنَ ُد –يعني أصح إسنادًا‪ -‬وحديث جرهد أحوط‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وحديث ابن عباس المذكور وصله أحمد (‪ )3‬والترمذي (‪ )4‬من رواية‬
‫أبي يحيى القَتَّات عن مجاهد عنه قال‪ّ :‬‬
‫مر النبي‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه ابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب الجنائز‪ :‬باب ما جاء في‬
‫غسل الميت‪.‬‬
‫(‪ )2‬سنن الدارقطني (‪.)225/1‬‬
‫(‪ )3‬مسند أحمد (‪.)275/1‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه الترمذي في جامعه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء أن‬


‫الفخذ عورة‪.‬‬
‫"غط فخذك فإن الفخذ‬ ‫ّ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم على رجل وفخذه مكشوفة فقال‪:‬‬
‫عورة" والقتّات ضعيف‪ ،‬وحديث جرهد أخرجه مالك في بعض روايات‬
‫الموطإ كالقعنبي‪ ،‬وأخرجه عنه أبو داود (‪ )1‬وأخرجه الترمذي (‪ )2‬من‬
‫وجه ءاخر‪ .‬ولفظ حديث مالك عن جرهد وكان من أصحاب الصفة قال‪:‬‬
‫سا وفخذي مكشوفة فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أما علمت‬ ‫كنت جال ً‬
‫كثيرا‬
‫ً‬ ‫أن الفخذ عورة" ورجاله ثقات‪ ،‬لكن اختلف عليهم في سياقه اختالفًا‬
‫ف باالضطراب‪ ،‬وجرى بعضهم على الظاهر فصححه كابن‬ ‫وص َ‬‫حتى ِ‬
‫حبان (‪.)3‬‬

‫وحديث محمد بن جحش أخبرني به أبو عبد هللا بن علي البُ ّزا ِع ُّ‬
‫ي‬
‫عا قالت‪ :‬أخبرنا‬ ‫بصالحية دمشق‪ ،‬عن زينب بنت إسماعيل بن الخباز سما ً‬
‫أحمد بن عبد الدائم‪ ،‬أخبرنا يحيى بن محمود‪ ،‬أخبرنا عبد الواحد بن محمد‪،‬‬
‫أخبرنا عبيد هللا بن المعتز‪ ،‬أخبرنا محمد بن الفضل‪ ،‬حدثنا محمد بن‬
‫إسحاق بن خزيمة‪ ،‬حدثنا علي بن حجر‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن جعفر‪ ،‬حدثنا‬
‫العالء بن عبد الرحمن‪ ،‬عن أبي كثير‪ ،‬عن محمد بن جحش رضي هللا عنه‬
‫مر النبي صلى هللا عليه وسلم على معمر وفخذاه مكشوفتان فقال‪:‬‬ ‫قال‪ّ :‬‬
‫"غط فخذيك فإن الفخذين من العورة"‪ ،‬أخرجه البخاري في تاريخه (‪)4‬‬ ‫ّ‬
‫وأحمد (‪ )5‬من رواية إسماعيل بن جعفر فوقع لنا بدالً عاليًا مع اتصال‬
‫السماع‪ ،‬ومحمد بن جحش هو محمد بن عبد هللا بن جحش ابن أخي زينب‬
‫أم المؤمنين نُ ِس َ‬
‫ب إلى جده‪ ،‬وأبوه من كبار الصحابة‪،‬‬
‫_________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب الحمام‪ :‬باب النهي عن‬
‫التعري‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الترمذي في جامعه‪ :‬كتاب األدب‪ :‬باب ما جاء أن‬
‫الفخذ عورة‪.‬‬
‫(‪ )3‬اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)106/3‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )4‬التاريخ الكبير (‪.)13/1‬‬


‫(‪ )5‬مسند أحمد (‪.)290/5‬‬
‫صغيرا‪ ،‬وأبو كثير مواله ال‬
‫ً‬ ‫وكان هو على عقد النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫عرف اسمه والمشهور فيه بالثاء المثلثة وقيل أبو كبيرة بموحدة وزيادة‬
‫يُ ُ‬
‫هاء‪.‬‬
‫وأما حديث أنس فوصله البخاري (‪ )1‬من رواية عبد العزيز بن صهيب‬
‫عنه قال‪ :‬أجرى النبي صلى هللا عليه وسلم في زقاق خيبر وإن ركبتي‬
‫لتمس فخذ النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ثم حسر اإلزار عن فخذه حتى إني‬
‫ألنظر إلى بياض فخذه صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وقد اختلف في ضبط اإلزار‬
‫هو بالرفع أو بالنصب والمشهور الثاني‪ ،‬ورجح اإلسماعيلي األول‪.‬‬
‫وقد جاء في حديث ءاخر كشف الفخذ وبه إلى ابن خزيمة‪ ،‬حدثنا علي‬
‫بن حجر‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن جعفر‪ ،‬حدثنا محمد بن أبي َح ْرملة‪ ،‬عن‬
‫سليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن‪ ،‬عن عائشة‬
‫رضي هللا عنها قالت‪ :‬كان النبي صلى هللا عليه وسلم متكئًا في بيته كاشفًا‬
‫عن فخذيه أو ساقيه‪ ،‬فاستأذن أبو بكر فأذن له فدخل فتحدّث‪ ،‬ثم استأذن‬
‫عمر فأذن له فدخل وهو على تلك الحال فتحدث‪ ،‬ثم استأذن عثمان فجلس‬
‫س ّوى عليه ثيابه‪ .‬الحديث‪ .‬هذا حديث صحيح‬ ‫النبي صلى هللا عليه وسلم و َ‬
‫أخرجه مسلم (‪ )2‬عن علي بن ُحجر فوقع لنا موافقة عالية‪ ،‬وفي االستدالل‬
‫ّ‬
‫الشك الواقع فيه‪ .‬وهللا أعلم‪ .‬ءاخر المجلس الرابع بعد‬ ‫به نظر من أجل‬
‫الثالثمائة وهو الرابع والخمسون بعد المائة من التخريج‪.‬‬
‫قال ال ُم ْملي رضي هللا عنه‪ :‬وقد أخرج أحمد (‪ )3‬حديث عائشة من وجه‬
‫ءاحر وفيه كشف الفخذ بال تردد ولكن في إسناده را ٍو مجهول‪ ،‬وله شاهد‬
‫من حديث حفصة أم المؤمنين‪ ،‬قرأت على أم‬
‫___________________‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪ :‬كتاب الصالة‪ :‬باب ما يذكر في الفخذ‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه مسلم في صحيحه‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب من‬


‫فضائل عثمان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫(‪ )3‬مسند أحمد (‪.)62/6‬‬
‫عا‪ ،‬أخبرنا أبو القاسم سبط‬ ‫عيسى األسدية‪ ،‬عن علي بن عمر الواني سما ً‬
‫سلَفي‪ ،‬أخبرنا جدي‪ ،‬أخبرنا أبو القاسم الربعي‪ ،‬أخبرنا أبو الحسن بن‬ ‫ال ِ ّ‬
‫َم ْخلد‪ ،‬أخبرنا إسماعيل بن محمد‪ ،‬حدثنا الحسن بن عرفة‪ ،‬حدثنا روح بن‬
‫عبادة‪ ،‬حدثنا ابن جريج‪( ،‬ح) وأخبرني إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد‪،‬‬
‫عن عيسى بن عبد الرحمن‪ ،‬أخبرنا جعفر بن علي‪ ،‬أخبرنا أبو طاهر‬
‫سلّفي‪ ،‬أخبرنا أبو طالب البصري‪ ،‬حدّثنا أبو القاسم بن بشران إمال ًء‪،‬‬ ‫ال ِ ّ‬
‫حدثنا محمد بن عبد هللا الشافعي‪ ،‬حدثنا محمد بن الفرج‪ ،‬حدثنا حجاج بن‬
‫محمد قال‪ :‬قال ابن جريج‪ :‬حدثني أبو خالد‪ ،‬عن عبد هللا بن أبي سعيد‬
‫المدني‪ ،‬حدثتني حفصة بنت عمر رضي هللا عنهما قالت‪ :‬كان رسول هللا‬
‫سا في بيته فوضع ثوبه بين فخذيه‪ ،‬فجاء أبو بكر‬ ‫صلى هللا عليه وسلم جال ً‬
‫فاستأذن فأذن له وهو على هيئته فتحدث ثم خرج‪ ،‬ثم جاء علي رضي هللا‬
‫عنه بمثل هذه القصة‪ ،‬ثم عمر رضي هللا عنه‪ ،‬ثم ناس من أصحابه كذلك‪،‬‬
‫ثم جاء عثمان رضي هللا عنه يستأذن فتجلل له النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫بثوبه فأذن له فدخل فتحدثوا ثم خرجوا‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول هللا استأذن أبو‬
‫بكر وعمر وعلي وناس من أصحابك وأنت على هيأتك‪ ،‬ثم جاء عثمان‬
‫فأخذت ثوبك فتجللت له‪ ،‬فقال‪" :‬أال أستحي ممن تستحي منه المالئكة"‪.‬‬
‫وبه إلى حجاج قال‪ :‬قال ابن جريج‪ :‬وسمعت أبي وغيره يحدثون بنحو‬
‫هذا الحديث‪ .‬هذا حديث حسن أخرجه أحمد (‪ )1‬عن َر ْوح بن عبادة فوقع‬
‫لنا موافقة عالية‪ ،‬وأبو خالد شيخ ابن ُجريج ال يعرف اسمه وال نسبه وال‬
‫ضا من طريق أبي يعفور‬ ‫حاله لكن لم ينفرد به‪ ،‬فقد أخرجه أحمد (‪ )2‬أي ً‬
‫أحد الثقات عن شيخ أبي خالد‪ ،‬وشيخهما عبد هللا بن أبي سعيد ال يعرف‬
‫حاله‪.‬‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬مسند أحمد (‪.)288/6‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬مسند أحمد (‪.)288/6‬‬


‫وللحديث شاهد أصرح منه أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (‪ )1‬من‬
‫عمر‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس قال‪ :‬كان رسول هللا‬ ‫رواية النضر أبي ُ‬
‫صلى هللا عليه وسلم في بيت ليس عليه إال إزار وقد طرحه بين رجليه‬
‫وفخذاه خارجتان‪ ،‬فجاء أبو بكر يستأذن فذكر الحديث بنحوه‪ ،‬والنضر أبو‬
‫عمر ضعيف‪.‬‬
‫وجاء في كشف الفخذ حديث ءاخر قرأت على فاطمة بنت محمد بن عبد‬
‫الهادي‪ ،‬عن أبي نصر بن الشيرازي‪ ،‬أخبرنا أبو محمد بن بنيمان في‬
‫كتابه‪ ،‬أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسين الحافظ‪ ،‬أخبرنا الحسن بن أحمد‬
‫بن الحسن المقرئ‪ ،‬أخبرنا أحمد بن عبد هللا بن أحمد‪ ،‬أخبرنا الطبراني في‬
‫األوسط‪ ،‬أخبرنا علي بن سعيد الرازي‪ ،‬حدثنا أبو ُمصعب‪ ،‬حدثنا عبد‬
‫العزيز بن محمد هو الدراوردي‪ ،‬حدثنا شريك بن عبد هللا بن أبي نمر‪ ،‬عن‬
‫عطاء بن يسار‪ ،‬عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه قال‪ :‬كان رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم باألسواف ومعه بالل فدلّى رجليه في البئر وكشف‬
‫عن فخذيه‪ ،‬فجاء أبو بكر فاستأذن فقال‪" :‬يا بالل ائذن له وب ّ‬
‫شره بالجنة"‬
‫فدخل فجلس عن يمين رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ودلى رجليه في‬
‫البئر وكشف عن فخذيه‪ .‬ثم جاء عمر فاستأذن فقال‪" :‬يا بالل ائذن له‬
‫شره بالجنة" فدخل فجلس عن يسار رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬ ‫وب ّ‬
‫ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه‪ ،‬ثم جاء عثمان فاستأذن فقال‪" :‬يا‬
‫بالل ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" فدخل فجلس قبالتهم ودلى‬
‫رجليه في البئر وكشف عن فخذيه وبه قال الطبراني‪ :‬لم يروه عن شريك‬
‫تفرد به أبو مصعب‪.‬‬ ‫بن عبد هللا بهذا اإلسناد إال الدراوردي ّ‬
‫_______________‬
‫(‪ )1‬المعجم الكبير (‪.)254/11‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫قلت‪ :‬المحفوظ بهذا اإلسناد ما أخرجه الشيخان (‪ )1‬من طريق سليمان‬


‫بن بالل ومحمد بن جعفر بن أبي كثير‪ ،‬كالهما عن شريك ابن عبد هللا بن‬
‫أبي ن َِمر‪ ،‬عن سعيد بن المسيب‪ ،‬عن أبي موسى األشعري‪ ،‬وسليمان‬
‫ومحمد بن جعفر كل منهما أحفظ من الدراوردي فكيف إذا اتفقا‪ ،‬لكن‬
‫اختالف السياق يشعر بأنهما واقعتان‪ ،‬فيقوى أن لشريك فيه إسنادين وذلك‬
‫أن في حديث أبي موسى أن القصة كانت في بئر أريس وأنه هو كان‬
‫المستأذن وفيه كشف الساقين‪ .‬وفي هذا أن القصة كانت باألسواف وأن‬
‫المستأذن كان بالالً‪ ،‬وفيها كشف الفخذين‪ ،‬واألسواف –بفتح الهمزة‬
‫وسكون المهملة وءاخره فاء‪ -‬مكان بالبقيع فيه بئر معروفة وقد صارت‬
‫بعد ذلك في صدقة زيد بن ثابت قاله ابن عبد البر‪.‬‬
‫وقد أخرج البخاري ومسلم (‪ )2‬حديث أبي موسى من وجه ءاخر من‬
‫رواية أيوب وغيره عن أبي عثمان النهدي عنه‪ ،‬ليس فيه تعرض لكشف‬
‫شئ‪ ،‬غير أن في البخاري زيادة عن عاصم وهو ابن سليمان عن أبي‬
‫عثمان بن أبي موسى أن النبي صلى هللا عليه وسلم كشف عن ركبته‪ ،‬فلما‬
‫غطاها وهي زيادة مستغربة في حديث أبي موسى‪ .‬وأخرج‬‫دخل عثمان ّ‬
‫نحوا من حديث حفصة ولكن فيه كشف‬‫أبو يعلى من حديث ابن عمر ً‬
‫الركبة ولم يذكر‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب فضائل أصحاب النبي‪:‬‬
‫باب رقم‪ ،6/‬وكتاب الفتن‪ :‬باب الفتنة التي تموج كموج‬
‫البحر‪ ،‬ومسلم في صحيحه‪ :‬كتاب فضائل الصحابة‪ :‬باب‬
‫من فضائل عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ :‬كتاب فضائل أصحاب النبي‪:‬‬
‫باب مناقب عمر بن الخطاب رضي هللا عنه وباب مناقب‬
‫عثمان بن عفان رضي هللا عنه‪ ،‬ومسلم في صحيحه‪ :‬كتاب‬
‫فضائل الصحابة‪ :‬باب من فضائل عثمان بن عفان رضي‬
‫هللا عنه‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الفخذ"‪ .‬انتهى كالم الحافظ ابن حجر‪.‬‬


‫قال الحافظ المجتهد ابن القطان (‪ )1‬عن حديث جرهد ما نصه‪" :‬هذا‬
‫الحديث له علتان‪ :‬إحداهما‪ :‬االضطراب المورث لسقوط الثقة به‪ ،‬وذلك‬
‫أنهم يختلفون فيه‪ ،‬فمنهم من يقول‪ :‬زرعة بن عبد الرحمن‪ ،‬ومنهم من‬
‫يقول‪ :‬زرعة بن عبد هللا‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬زرعة بن مسلم‪ .‬ثم ِمن هؤالء‬
‫من يقول‪ :‬عن أبيه‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومنهم َمن يقول‪ :‬عن‬
‫أبيه‪ ،‬عن جرهد‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومنهم من يقول‪ :‬زرعة‪،‬‬
‫عن ءال جرهد‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وإن كنت ال أرى االضطراب في اإلسناد علة‪ ،‬وإنما ذلك إذا كان من‬
‫يدور عليه الحديث ثقة‪ ،‬فحينئذ ال يضره اختالف النقلة عنه إلى مسند‬
‫ومرسل‪ ،‬أو رافع وواقف‪ ،‬أو واصل وقاطع‪.‬‬
‫ضطرب عليه بجميع هذا‪ ،‬أو ببعضه‪ ،‬أو بغيره غير‬ ‫وأما إذا كان الذي ا ُ‬
‫ثقة‪ ،‬أو غير معروف‪ ،‬فاالضطراب حينئذ يكون زيادة في وهنه‪ ،‬وهذه حال‬
‫هذا الخبر‪ ،‬وهي العلة الثانية‪ ،‬وذلك أن زرعة وأباه غير معروفي الحال‬
‫وال مشهوري الرواية‪ ،‬فاعلم ذلك" اهـ‪.‬‬
‫وقال العالمة الشيخ محمد بن أحمد ميّارة المالكي (‪ )2‬ما نصه‪" :‬قال‬
‫الباجي جمهور أصحابنا أن عورة الرجل ما بين سرته وركبته السوأتان‬
‫مثقلها وإلى سرته وركبتيه مخففها‪ ،‬وصحح عياض هذا‪ ،‬وصرح بخروج‬
‫السرة والركبة ابن القطان‪ ،‬وهذا هو األظهر لقول مالك‪ ،‬يجوز أن يأتزر‬
‫الرجل تحت سرته‪ ،‬وفي ابن‬
‫______________________‬
‫(‪ )1‬بيان الوهم واإليهام (‪.)339/2‬‬
‫(‪ )2‬الدر الثمين والمورد المعين (ص‪.)181/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الحاجب وفي الرجل ثالثة أقوال‪ :‬السوأتان خاصة‪ ،‬ومن السرة إلى الركبة‪،‬‬
‫والسرة حتى الركبة" اهـ‪.‬‬
‫فإذا تقرر هذا فما بال من ينتهر األطفال الذين يسترون السوأتين وبعض‬
‫الفخذ ويعتبره أكبر الكبائر وأفحش الفاحشات بحيث إذا دخل أحد هؤالء‬
‫األطفال المسجد يطردونه طرد الكلب‪ ،‬فليتق هللا وليذكر القاعدة المتفق‬
‫عليها المتقدم ذكرها‪" :‬ال ينكر المختلف فيه‪ ،‬وإنما ينكر المجمع عليه إال أن‬
‫يكون فاعله يعتقد حرمته"‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫بيان‬
‫أن نكاح المتعة محرم إلى يوم القيامة‬

‫أزواج ِهم ْأو ما‬


‫ِ‬ ‫وج ِهم حا ِفظون* إال على‬‫قال هللا تعالى‪{ :‬والذينَ ُه ْم ِلفُ ُر ِ‬
‫غير َملومين* فَ َم ِن ابتغى ورا َء َ‬
‫ذلك فأول ِئ َك ه ُم‬ ‫ملَ َك ْ‬
‫ت أ ْي َمانُ ُه ْم فإنَّ ُهم ُ‬
‫العادُون} [سورة المؤمنون‪.]7-6-5/‬‬
‫فهذه اآلية تفيد أن المتمتع بها ليست واحدة من المذكورة‪ ،‬أما أنها ليست‬
‫بمملوكة فظاهر‪ ،‬وأما أنها ليست بزوجة فألن الزواج له أحكام كاإلرث‬
‫وغيره وهي منعدمة فيها باتفاق من أهل السنة وغيرهم‪ ،‬فال ميراث فيها‬
‫وال نسب وال طالق‪ ،‬والفراق فيها يحصل بانقضاء األجل من غير طالق‪،‬‬
‫وبهذه الوتيرة أثبت القاضي يحيى بن أكثم كون المتعة بعد تحريم رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم لها زنا‪.‬‬

‫وأما قوله تعالى‪{ :‬وءاتُو ُه َّن أ ُ ُج َ‬


‫ور ُه َّن} [سورة النساء‪ ]25/‬فمعناه‬
‫مهورهن أي مهور النساء في الزواج الشرعي الذي قال النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم فيه (‪" :)1‬ال نكاح إال بولي"‪ ،‬فاألجور هنا هي المهور كما ذكر‬
‫ذلك أهل التفسير (‪.)2‬‬
‫_______________________‬
‫(‪ )1‬أخرجه أبو داود في سننه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب في الولي‪،‬‬
‫والترمذي في سننه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب ما جاء ال نكاح إال‬
‫بولي‪ ،‬وابن ماجه في سننه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب ال نكاح إال‬
‫بولي‪ ،‬وأحمد في مسنده (‪.)394/4‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي (‪ ،)142/5‬تفسير الرازي (‪،)63-64/10‬‬
‫تفسير الطبري (‪ ،)11/4‬غريب القرءان للسجستاني‬
‫(ص‪.)68/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫وقال العالمة اللغوي ابن منظور في لسان العرب ما نصه (‪" :)1‬وأجر‬
‫المرأة‪ :‬مهرها" اهـ‪.‬‬
‫شهرا لما‬
‫ً‬ ‫زوجتك ابنتي يو ًما أو‬
‫فال يجوز نكاح المتعة وهو أن يقول‪ّ :‬‬
‫روى مسلم والبيهقي (‪ )2‬أن علي بن أبي طالب رضي هللا عنه لقي ابن‬
‫عباس رضي هللا عنهما وبلغه أنه يرخص في متعة النساء فقال له علي‪:‬‬
‫"إنك رجل تائه" أما علمت أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نهى عن‬
‫المتعة وعن لحوم ال ُح ُمر األهلية"‪.‬‬
‫ضا ألنه عقد يجوز مطلقًا فال يصح مؤقتًا كالبيع‪ ،‬وألنه نكاح ال يتعلق‬
‫أي ً‬
‫به الطالق والظهار واإلرث وعدة الوفاة فكان باطالً كسائر األنكحة الباطلة‬
‫(‪.)3‬‬
‫قال القرطبي في تفسيره ما نصه (‪" :)4‬قال ابن العربي‪ :‬الذي أجمعت‬
‫عليه األمة تحريم نكاح المتعة" اهـ‪.‬‬
‫ت‬‫أزواج ِهم ْأو ما َملَ َك ْ‬
‫ِ‬ ‫وقال النسفي في تفسير قوله تعالى‪{ :‬إال على‬
‫فأولئك ه ُم العادون}‬
‫َ‬ ‫ذلك‬
‫فمن ابتغى ورا َء َ‬ ‫أيْمانُ ُهم فإنهم ُ‬
‫غير َملومين* ِ‬
‫[سورة المؤمنون‪ ]7-6/‬ما نصه (‪" :)5‬فيه دليل تحريم المتعة" اهـ‪ ،‬وكذا‬
‫ذكر الرازي في تفسيره (‪.)6‬‬

‫______________________‬
‫لسان العرب (‪.)10/4‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬ ‫(‪)2‬‬
‫ثم نُسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫سنن البيهقي (‪.)201/7‬‬
‫المهذب (‪.)247/2‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫تفسير القرطبي (‪.)106/12‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫تفسير النسفي (‪.)114/3‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )6‬تفسير الرازي (‪.)81/23‬‬


‫قال النووي الشافعي في روضة الطالبين ما نصه (‪" :)1‬النكاح المؤقت‬
‫باطل سواء قيَّده بمدة مجهولة أو معلومة‪ ،‬وهو نكاح باطل" اهـ‪.‬‬
‫شهرا‬
‫ً‬ ‫وفي المدونة (‪ )2‬لإلمام مالك أنه سئل‪" :‬أرأيت إن قال‪ :‬أتزوجك‬
‫يبطل النكاح أم يجعل النكاح صحي ًحا ويبطل الشرط؟ قال مالك‪ :‬النكاح‬
‫باطل يُفسخ‪ ،‬وهذه المتعة‪ ،‬وقد ثبت عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫تحريمها" اهـ‪.‬‬
‫وقال السرخسي الحنفي في المبسوط ما نصه (‪" :)3‬المتعة أن يقول‬
‫الرجل المرأته‪ :‬أتمتع بك كذا من المدة بكذا من البدل‪ ،‬وهذا باطل عندنا"‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن قدامة الحنبلي في المغني ما نصه (‪" :)4‬معنى نكاح المتعة أن‬
‫شهرا أو سنة أو إلى انقضاء‬
‫ً‬ ‫يتزوج المرأة مدة مثل أن يقول‪ :‬زوجتك ابنتي‬
‫الموسم أو قدوم الحج وشبهه‪ ،‬سواء كانت المدة معلومة أو مجهولة‪ ،‬فهذا‬
‫نكاح باطل نص عليه أحمد فقال‪ :‬نكاح المتعة حرام" اهـ‪.‬‬
‫فبعد هذه النقول من المذاهب األربعة ونقل اإلجماع على تحريم نكاح‬
‫المتعة يتبين أن هذا النكاح باطل فاسد‪.‬‬
‫وأما ما يسميه البعض "زواج المتعة" فالجواب‪ :‬أنه أخرج اإلمام مسلم‬
‫في كتابه الجامع الصحيح "صحيح مسلم" حديثًا‬
‫________________________‬
‫روضة الطالبين (‪.)48/7‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫المدونة (‪.)160/2‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المبسوط (‪.)152/5‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المغني (‪.)644/6‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫صحيح اإلسناد عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قال (‪" :)1‬يا أيها الناس‬
‫إني كنتُ قد أذنتُ لكم في االستمتاع من النساء وإن هللا قد حرم ذلك إلى‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فمن كان عنده منهن شئ فليُ َخ ّل سبيلهن‪ ،‬وال تأخذوا مما‬
‫ءاتيتموهن شيئًا"‪ ،‬وكتاب صحيح مسلم مشهور بين العلماء وهو أصح‬
‫الكتب المصنفة في الحديث النبوي بعد كتاب صحيح البخاري فهذان كتابان‬
‫معتمدان عند المسلمين‪.‬‬
‫فإن ادعى البعض أنه حديث موضوع مختلق ومكذوب فليثبتوا ذلك عبر‬
‫دراسة سند الحديث إن هم استطاعوا‪ ،‬أم أنه خفي عليهم أن في علم الحديث‬
‫جراء دراسته ينكشف الحديث المكذوب من غيره‪،‬‬ ‫النبوي إسنادًا من َّ‬
‫فاإلسناد من الدين ولوال اإلسناد لقال من شاء ما شاء‪.‬‬
‫والدراسة هذه تؤخذ من كتب الجرح والتعديل التي تتكلم عن رجال‬
‫السند في الحديث‪ ،‬وبمعرفة أحوال الرواة أي رواة الحديث يُعلم صحة‬
‫الحديث أو عدم صحته‪ ،‬فهل بعد كل هذا يستطيع أحد أن يثبت لنا عن‬
‫طريق دراسة السند وأحوال الرواة أن حديث تحريم المتعة مكذوب؟ من‬
‫استطاع فليفعل ولن يستطيع‪.‬‬
‫أما دليل تحريم نكاح المتعة من حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫سبرة‬
‫هو ما رواه مسلم في صحيحه (‪ )2‬كما مر من حديث الربيع بن َ‬
‫الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪" :‬يا‬
‫أيها الناس إني كنتُ قد أذنتُ لكم في‬
‫_____________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬
‫ثم نُسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫سنن البيهقي (‪.)203/7‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬
‫ثم نُسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫سنن البيهقي (‪.)203/7‬‬

‫االستمتاع من النساء وإن هللا قد حرم ذلك إلى يوم القيامة‪ ،‬فمن كان عنده‬
‫منهن شئ فليُ َخ ّل سبيلهن‪ ،‬وال تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئًا"‪.‬‬
‫ضا في صحيحه (‪ )1‬من حديث عمرو الناقد وابن‬ ‫وما رواه مسلم أي ً‬
‫نمير قاال‪ :‬حدثنا سفيان بن عيينة‪ ،‬عن الزهري‪ ،‬عن الربيع بن سبرة عن‬
‫أبي أن النبي صلى هللا عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة‪.‬‬
‫وعن الربيع بن سبرة عن أبيه أن الرسول صلى هللا عليه وسلم نهى يوم‬
‫الفتح عن متعة النساء (‪.)2‬‬
‫قال ابن شهاب‪ :‬أخبرني عروة بن الزبير أن عبد هللا بن الزبير قام بمكة‬
‫ض‬‫سا أعمى هللا قلوبَهم كما أعمى أبصارهم يُفتون بالمتعة يُعَ ّر ُ‬‫فقال‪ :‬إن أنا ً‬
‫لف جافٍ فلَعمري لقد كانت المتعة تُفعل على‬ ‫برجل فناداه فقال‪ :‬إنك لَ ِج ٌ‬
‫عهد إمام المتقين يريد الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال له ابن الزبير‪:‬‬
‫فجرب بنفسك فوهللا لئن فعلتها ألرجمنك بأحجارك‪.‬‬
‫قال ابن شهاب‪ :‬فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف هللا أنه بينما هو‬
‫جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها فقال له ابن أبي‬
‫َعمرة األنصاري‪ :‬مهالً‪ ،‬قال‪ :‬ما هي؟ لقد فُ ِعلت في عهد إمام المتقين‪ ،‬فقال‬
‫ابن أبي عمرة‪ :‬إنها كانت رخصة في أول اإلسالم لمن اض ُ‬
‫طر إليها كالميتة‬
‫والدم ولحم الخنزير ثم‬
‫________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬
‫ثم نُسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬
‫ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫أحكم هللا الدين ونهى عنها (‪.)1‬‬


‫وروى البخاري ومسلم وابن ماجه وغيرهم (‪ )2‬عن علي بن أبي طالب‬
‫رضي هللا عنهم أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نهى عن متعة النساء‬
‫يوم خيبر‪ ،‬وعن لحوم ال ُح ُم ِر األهلية‪.‬‬
‫ضا (‪ )3‬أن عمر بن عبد العزيز قال‪ :‬حدثنا الربيع بن‬
‫وروى مسلم أي ً‬
‫سبرة الجهني عن أبيه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم نهى عن المتعة‬
‫وقال‪" :‬أال إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئًا‬
‫فال يأ ُخ ْذه"‪.‬‬
‫وروى ابن ماجه في سننه وغيره (‪ )4‬عن ابن عمر أنه قال‪:‬‬
‫_______________________‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬ ‫(‪)1‬‬
‫ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫صحيح البخاري‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نهي رسول هللا صلى‬ ‫(‪)2‬‬
‫أخيرا‪ ،‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب‬ ‫ً‬ ‫هللا عليه وسلم عن نكاح المتعة‬
‫النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم‬
‫نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪ ،‬سنن ابن ماجه‪ :‬كتاب‬
‫النكاح‪ :‬باب النهي عن نكاح المتعة‪ ،‬سنن البيهقي‬
‫(‪.)201/7‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬ ‫(‪)3‬‬
‫ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬ ‫(‪)4‬‬
‫ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫وسنن ابن ماجه‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب النهي عن نكاح المتعة‪،‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫سنن البيهقي (‪ ،)201/7‬صحيح ابن حبان‪ ،‬انظر اإلحسان‬


‫بترتيب صحيح ابن حبان (‪.)175-176/6‬‬

‫" لما ولي عمر بن الخطاب خطب الناس فقال‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثالثًا ثم حرمها‪ ،‬وهللا ال أعلم أحدًا يتمتع وهو‬
‫ص ٌن إال رجمته بالحجارة إال أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول هللا‬ ‫ُمح َ‬
‫أحلها بعد إذ حرمها"‪ ،‬فال حجة بعد هذا لمن يقول إن أبا بكر وعمر هما‬
‫حرما المتعة من تلقاء أنفسهما بل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حرمها‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه البيهقي في السنن الكبرى (‪ )1‬عن اإلمام‬
‫جعفر الصادق رضي هللا عنه أنه قال عن نكاح المتعة‪" :‬ذلك الزنا"‪.‬‬
‫وأما كون نكاح المتعة قد أُحل فترة قبل فتح مكة فألن النساء المؤمنات‬
‫المسلمات كان عددهن قليالً وكان الجندي المسلم إذا خرج للغزو مسافة‬
‫بعيدة تشق عليه العزوبة لكن بعد فتح مكة وقد دخل الناس في دين هللا‬
‫أفوا ًجا فدخل كثير من نساء العرب في دين هللا‪ ،‬ثم نزلت بعد ذلك أحكام‬
‫اإلرث والطالق في القرءان الكريم فلم تدع الحاجة للمتعة فلذا حرم رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم المتعة إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫وزيادة تفصيل ذلك أن متعة النساء اقتضت إباحتها في زمن كان أصل‬
‫إباحة متعة النساء للحرب والضرورة‪ ،‬فقد كان أصحاب رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم حينما يكونون في السفر في بعض أسفارهم للغزوات أي‬
‫للجهاد في سبيل هللا تطول عليه العزوبة‪ ،‬فأحل هللا لهم أن يستمتعوا من‬
‫النساء تسهيالً عليهم ورحمة بهم‪ ،‬ثم نزل الوحي السماوي بتحريمها ثم‬
‫نزل الوحي بإباحتها وذلك في غزوة الفتح ثم نسخ هللا تعالى هذا الحكم بعد‬
‫ثالثة أيام من دخولهم مكة إلى يوم القيامة فكان الوحي الذي حرمها عام‬
‫الفتح هو ءاخر ما نزل في متعة النساء‪.‬‬
‫________________‬
‫]‪[Type text‬‬

‫(‪ )1‬سنن البيهقي (‪.)207/7‬‬


‫ويدل عليه ما رواه مسلم (‪ )1‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال يوم‬
‫حرمها‪" :‬إني كنت قد أذنت لكم في االستمتاع من النساء وإن هللا قد حرم‬‫َّ‬
‫ذلك إلى يوم القيامة"‪.‬‬
‫وكان من السبب المقتضي إلباحة المتعة قبل ذلك أن كان في النساء‬
‫المسلمات قلة وإن كثرت النساء المسلمات بعد فتح مكة وذلك ألن العرب‬
‫دخلوا في دين هللا بعد الفتح أفو ًجا فع َّم اإلسالم جزيرة العرب فلم تكن بعد‬
‫ذلك ضرورة تدعو إلى متعة النساء‪ .‬فكان السبب الذي أبيح من أجله متعة‬
‫النساء أمرين‪ :‬أحدهما المشقة التي كانوا يقاسونها في الحرب‪ ،‬وقلة النساء‬
‫المسلمات‪ ،‬فلما زال السببان لم تقتض المصلحة إباحتها‪.‬‬
‫ثم إن هناك سببًا ءاخر وهو أن الميراث والعدة وأحكام الطالق لم تكن‬
‫ترتبت قبل ذلك فلما ترتبت هذه األحكام بالوحي الذي نزلت به لم يبق داعٍ‬
‫لضرورة إباحة المتعة‪.‬‬
‫ثم إن سيدنا عليًّا رضي هللا عنه ما عمل المتعة قط وال مرة ال قبل‬
‫زواجه بفاطمة رضي هللا عنها وال بعد زواجه بها إلى أن توفاه هللا تعالى‪،‬‬
‫وكذا الحسن والحسين وعلي زين العابدين رضي هللا عنهم وال يستطيع أحد‬
‫أن يثبت ذلك على علي أو على أبنائه أنهم عملوا المتعة بعد أن حرمها‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ومما يدل على ذلك اعتبار اإلمام جعفر‬
‫الصادق رضي هللا عنه المتعة هي الزنا بعينه كما قدمنا‪.‬‬
‫تنبيه‪ :‬ثم إن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ليس هو من حرمها من‬
‫ي بن أبي طالب رضي هللا‬
‫قِ َب ِل نفسه فلو كان هو فعل ذلك لكان قام عليه عل ّ‬
‫عنه الذي ال يخاف في هللا لومة الئم ألن‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب النكاح‪ :‬باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح‬
‫ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫عليًّا لم يكن من الذين يتركون النطق بالحق خوفًا من الناس بل كان جريئًا‬
‫ي وغيره من الصحابة لكن بما أن عليًّا نفسه‬‫لقول الحق‪ ،‬كان ر َّد عليه عل ٌّ‬
‫يعتقد أن المتعة حرام بعد تحريم هللا تعالى ما أنكر على عمر‪ ،‬فعمر رضي‬
‫هللا عنه ما حرم المتعة من تلقاء نفسه إنما أشاع الحرمة التي حرمها رسول‬
‫هللا في حياته عام الفتح‪ ،‬أشاع هذا ألنه الخليفة فقد صادف أن بعض الناس‬
‫ظلوا يفعلون المتعة في أيام عمر رضي هللا عنه فأراد أن يُعلن هذا االمر‬
‫الذي خفي على بعض الناس الذين ما سمعوا أن المتعة حرمها الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم بعدما أحلها‪.‬‬
‫وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه أنه قال (‪" :)1‬نعوذ باهلل‬
‫من معضلة ليس لها أبو الحسن" معناه أنا أتمنى أن يكون أبو الحسن وهو‬
‫حاضرا عندي عند كل مسألة معضلة‪ ،‬فعمر كان يشتهي إذا وقع في‬ ‫ً‬ ‫علي‬
‫الغلط أن ينبهه علي‪ ،‬فلو كان إظهار عمر لحرمة المتعة باطالً فما الذي‬
‫زوج ابنته لرجل يخالف‬ ‫ألجم علي بن أبي طالب عن الكالم! وما كان علي َّ‬
‫دين هللا تعالى ويحرم ما أحل هللا‪ ،‬سبحانك هذا بهتان عظيم‪.‬‬
‫ثم الكتاب بحمد هللا تعالى‪ ،‬وسبحان ربك رب العزة عما يصفون‪ ،‬وسالم‬
‫على المرسلين والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫__________________‬
‫(‪ )1‬تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص‪.)160/‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫فهرس المصادر‬
‫أ‪-‬المصادر المخطوطة‪:‬‬
‫ألفية السيرة‪ ،‬للحافظ عبد الرحيم العراقي‪ ،‬أوقاف بغداد – العراق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫األمالي‪ ،‬للحافظ عبد الرحيم العراقي‪ ،‬الظاهرية –دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫األمالي المصرية‪ ،‬للحافظ العسقالني‪ ،‬الرباط – المغرب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بحر المذهب‪ ،‬ألبي المحاسن الروياني‪ ،‬دار الكتب المصرية (‪22‬‬ ‫‪-‬‬
‫فقه شافعي)‪.‬‬
‫تشنيف المسامع‪ ،‬للزركشي‪ ،‬مخطوطة في خزانتنا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تفسير األسماء والصفات‪ ،‬ألبي منصور التميمي‪ ،‬مكتبة قيصري –‬ ‫‪-‬‬
‫تركيا‪.‬‬
‫جزء في تقبيل اليد‪ ،‬البن المقرئ‪ ،‬الظاهرية – دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حواشي الروضة‪ ،‬للبلقيني‪ ،‬مخطوط في المكتبة األزهرية –‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫ذخائر القصر في تراجم نبالء العصر‪ ،‬ابن طولون‪ ،‬الخزانة‬ ‫‪-‬‬
‫التيمورية – القاهرة‪.‬‬
‫فتاوى العز بن عبد السالم‪ ،‬الظاهرية – دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫القالئد شرح العقائد‪ ،‬القونوي‪ ،‬البلدية ‪1968‬ر‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نكت الفتاوى على المختصرات الثالث التنبيه والمنهاج والحاوي‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫دار الكتب المصرية – القاهرة‪.‬‬
‫ب‪-‬المصادر المطبوعة‪:‬‬
‫ءاداب الزفاف‪ ،‬األلباني‪ ،‬مكتب زهير شاويش – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين‪ ،‬مرتضى الزبيدي‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫دار الفكر – بيروت‪.‬‬
‫إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة‪ ،‬عبد هللا الغماري‪ ،‬عالم الكتب‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين‪ ،‬البيهقي‪ ،‬مكتبة التراث اإلسالمي‬ ‫‪-‬‬
‫– القاهرة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫األجوبة المرضية‪ ،‬ولي الدين العراقي‪ ،‬مكتبة التوعية اإلسالمية –‬ ‫‪-‬‬


‫القاهرة‪.‬‬
‫اإلحسان بترتيب صحيح ابن حبان‪ ،‬ابن بلبان‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫أحكام القرءان‪ ،‬ابن العربي المالكي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أحكام القرءان‪ ،‬الجصاص‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إحياء علوم الدين‪ ،‬الغزالي – دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫اآلداب الشرعية والمنح المرعية‪ ،‬محمد بن مفلح الدمشقي‪ ،‬المملكة‬ ‫‪-‬‬
‫العربية السعودية‪.‬‬
‫األدب المفرد‪ ،‬البخاري‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫اإلرشاد‪ ،‬الجويني‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري‪ ،‬القسطالني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫االستيعاب في معرفة األصحاب‪ ،‬ابن عبد البر‪ ،‬دار الكتاب العربي‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫أسد الغابة في معرفة الصحابة‪ ،‬ابن األثير‪ ،‬دار إحياء التراث‬ ‫‪-‬‬
‫العربي – بيروت‪.‬‬
‫األسرار المعروفة في األحاديث الموضوعة‪ ،‬مال علي القاري‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬
‫األسماء والصفات‪ ،‬الحافظ البيهقي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫أسنى المطالب شرح روض الطالب‪ ،‬زكريا األنصاري‪ ،‬المكتبة‬ ‫‪-‬‬
‫اإلسالمية – بيروت‪.‬‬
‫أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المطالب‪ ،‬عبد الرحمن الحوت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬
‫األشباه والنظائر في قواعد الفقه‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫اإلصابة في تمييز الصحابة‪ ،‬للحافظ العسقالني‪ ،‬دار الكتاب العربي‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫أصول الدين‪ ،‬ألبي منصور التميمي –استانبول‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫إعانة الطالبين‪ ،‬البكري الدمياطي‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية –‬ ‫‪-‬‬


‫القاهرة‪.‬‬
‫االعتقاد والهداية‪ ،‬البيهقي‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إفادة النصيح بالتعريف بسند الجامع الصحيح‪ ،‬البن ُرشَيد ال ِفهري‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫الدار التونسية للنشر – تونس‪.‬‬
‫إكفار الملحدين في ضروريات الدين‪ ،‬محمد أنور الكشميري‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الكتب العلمية – الهند‪.‬‬
‫األم‪ ،‬للشافعي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫األنساب‪ ،‬للسمعاني‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف‪ ،‬المرداوي الحنبلي‪ ،‬داء‬ ‫‪-‬‬
‫إحياء التراث العربي – بيروت‪.‬‬
‫األوسط في السنن واإلجماع‪ ،‬ابن المنذر‪ ،‬دار طيبة – الرياض‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل‪ ،‬بدر الدين بن جماعة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫دار اإلسالم – القاهرة‪.‬‬
‫الباز األشهب المنقض على مخالفي المذهب‪ ،‬ابن الجوزي‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الجنان – بيروت‪.‬‬
‫البحر المحيط‪ ،‬ألبي حيان األندلسي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫البداية والنهاية‪ ،‬البن كثير‪ ،‬دار المعارف – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫بصائر ذوي التمييز‪ ،‬مرتضى الزبيدي‪ ،‬المكتبة العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ابن رشد‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي – بيروت‪.‬‬
‫بيان الوهم واإلبهام الواقعين في كتاب األحكام‪ ،‬ابن القطان‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫طيبة – الرياض‪.‬‬
‫تاج العروس في شرح القاموس‪ ،‬لمرتضى الزبيدي‪ ،‬دار ومكتبة‬ ‫‪-‬‬
‫الحياة – بيروت‪.‬‬
‫التاج واإلكليل لمختصر خليل‪ ،‬للشيخ المواق المالكي‪ ،‬دار الفكر –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫تاريخ أصبهان‪ ،‬ألبي نعيم األصبهاني‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تاريخ األمم والملوك‪ ،‬البن جرير الطبري‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫تاريخ بغداد‪ ،‬للخطيب البغدادي المكتبة السلفية – المدينة المنورة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تاريخ الخلفاء‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التاريخ الكبير‪ ،‬للبخاري‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تاريخ مدينة دمشق‪ ،‬ابن عساكر‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تبصرة الحكام في أصول األقضية‪ ،‬ابن فرحون المالكي‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫المعرفة – بيروت‪.‬‬
‫التبصير في الدين‪ ،‬لألسفراييني‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تبيين كذب المفتري‪ ،‬ابن عساكر‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التحرير المختار لرد المحتار‪ ،‬عبد القادر الرافعي‪ ،‬المطبعة األميرية‬ ‫‪-‬‬
‫– القاهرة‪.‬‬
‫للمزي‪ ،‬زهير الشاوش – بيروت‪.‬‬ ‫تحفة األشراف بمعرفة األطراف‪ّ ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫تحفة األنام في تاريخ اإلسالم‪ ،‬عبد الباسط الفاخوري‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تحفة الذاكرين لعدة الحصن الحصين‪ ،‬الشوكاني‪ ،‬دار الكتب العلمية‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫تدريب الراوي شرح تقريب النواوي‪ ،‬السيوطي‪ ،‬المكتبة السلفية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تذكرة الحفاظ‪ ،‬للذهبي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التذكرة في األحاديث المشتهرة‪ ،‬الزركشي‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫التذكرة في أحوال الموتى وأمور اآلخرة‪ ،‬القرطبي‪ ،‬دار الكتب‬ ‫‪-‬‬
‫العلمية – بيروت‪.‬‬
‫ترتيب القاموس المحيط‪ ،‬الطاهر الزاوي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الترغيب والترهيب‪ ،‬المنذري‪ ،‬دار اإليمان – دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تسهيل الفوائد‪ ،‬ابن مالك‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع‪ ،‬للزركشي‪ ،‬مؤسسة قرطبة –‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫تفسير روح البيان‪ ،‬لأللوسي‪ ،‬إدارة الطباعة المنيرة – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تفسير الطبري‪ ،‬البن جرير الطبري‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫تفسير عبد الرزاق‪ ،‬عبد الرزاق الصنعاني‪ ،‬مكتبة الرشد –‬ ‫‪-‬‬


‫الرياض‪.‬‬
‫تفسير القرءان العظيم‪ ،‬البن أبي حاتم‪ ،‬المكتبة العصرية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تفسير القرءان الكريم‪ ،‬سفيان الثوري‪ ،‬الهند‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التفسير الكبير‪ ،‬للرازي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التقرير والتحبير شرح التحرير‪ ،‬ابن أكير الحاج‪ ،‬دار الكتب العلمية‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد‪ ،‬ابن النقطة‪ ،‬دار الكتب العلمية‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫التلخيص الحبير تخريج أحاديث الرافعي‪ ،‬للحافظ العسقالني‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫المعرفة – بيروت‪.‬‬
‫تمييز الطيب من الخبيث‪ ،‬ابن الديبع‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تمهيد األوائل وتلخيص الدالئل‪ ،‬الباقالني‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫التمهيد في علم التجويد‪ ،‬الجزري‪ ،‬مؤسسة الرسالة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تنزيه الشريعة المرفوعة‪ ،‬البن عراق الكناني‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫تهذيب اآلثار‪ ،‬البن جرير الطبري‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تهذيب األسماء واللغات‪ ،‬النووي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تهذيب التهذيب‪ ،‬للحافظ العسقالني‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المزي‪ ،‬مؤسسة الرسالة – بيروت‪.‬‬‫تهذيب الكمال‪ّ ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫تهذيب اللغة‪ ،‬ألبي منصور األزهري‪ ،‬الدار المصرية للتأليف‬ ‫‪-‬‬
‫والترجمة – القاهرة‪.‬‬
‫التيسير شرح الجامع الصغير‪ ،‬المناوي‪ ،‬بوالق – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫التوسل والوسيلة‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬طبعة زهير الشاويش – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الثقات‪ ،‬ابن حبان البستي‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الجامع الصغير‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الجامع ألحكام القرءان‪ ،‬القرطبي‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫جمع الفوائد وأعذب الموارد‪ ،‬محمد بن محمد بن سليمان – المدينة‬ ‫‪-‬‬


‫المنورة‪.‬‬
‫حاشية األمير على المجموع‪ ،‬محمد األمير المالكي‪ ،‬مطبعة السعادة‬ ‫‪-‬‬
‫– القاهرة‪.‬‬
‫حاشية الدسوقي على الشرح الكبير‪ ،‬ابن عرفة الدسوقي‪ ،‬دار الفكر‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫حاشية الرملي على شرح الروض‪ ،‬الرملي األنصاري‪ ،‬المكتبة‬ ‫‪-‬‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫حاشية شرح اإليضاح‪ ،‬ابن حجر الهيتمي‪ ،‬المكتبة السلفية – المدينة‬ ‫‪-‬‬
‫المنورة‪.‬‬
‫حاشية الصفتي على شرح ابن تركي على العشماوية‪ ،‬الصفتي‬ ‫‪-‬‬
‫المالكي‪ ،‬مكتبة القاهرة – القاهرة‪.‬‬
‫الحاوي للفتاوى‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حلية األولياء‪ ،‬ألبي نعيم األصبهاني‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء‪ ،‬الشاشي‪ ،‬مكتبة الرسالة‬ ‫‪-‬‬
‫الحديثة – عمان‪.‬‬
‫حياة األنبياء بعد وفاتهم‪ ،‬البيهقي‪ ،‬مؤسسة نادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫خصائص علي‪ ،‬النسائي‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الخصائص الكبرى‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار الكاب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الدر الثمين والمورد المعين‪ ،‬محمد ميارة‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الدر المنثور في التفسير المأثور‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الدقائق المحكمة في شرح المقدمة‪ ،‬زكريا األنصاري – دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫دالئل النبوة‪ ،‬الحافظ البيهقي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ذكر أخبار أصبهان‪ ،‬ألبي نعيم األصبهاني‪ ،‬طهران – إيران‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫رد المحتار على الدر المختار‪ ،‬ابن عابدين‪ ،‬دار إحياء التراث‬ ‫‪-‬‬
‫العربي – بيروت‪.‬‬
‫روضة الطالبين‪ ،‬النووي‪ ،‬طبعة زهير الشاويش – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫زاد المسير في علم التفسير‪ ،‬ابن الجوزي‪ ،‬طبعة زهير الشاويش –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الزبد‪ ،‬ابن رسالن‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫الزواجر عن اقتراف الكبائر‪ ،‬البن حجر الهيتمي‪ ،‬مصطفى البابي‬ ‫‪-‬‬
‫الحلبي – مصر‪,‬‬
‫سنن أبي داود‪ ،‬ألبي داود السجستاني‪ ،‬دار الجنان – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سنن ابن ماجه‪ ،‬ابن ماجه القزويني‪ ،‬المكتبة العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سنن الترمذي‪ ،‬الترمذي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سنن الدارقطني‪ ،‬الدارقطني‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سنن سعيد بن منصور‪ ،‬سعيد بن منصور‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫السنن الكبرى‪ ،‬البيهقي‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫السنن الكبرى‪ ،‬النسائي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سنن النسائي‪ ،‬النسائي‪ ،‬مكتب المطبوعات اإلسالمية – حلب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫السنة‪ ،‬ابن أبي عاصم‪ ،‬طبعة زهير الشاويش – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫سير أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬مؤسسة الرسالة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل‪ ،‬السبكي – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح تائية السلوك‪ ،‬الشرنوبي‪ ،‬المطبعة الحميدية – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شذرات الذهب‪ ،‬ابن العماد الحنبلي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح الترمذي‪ ،‬ابن العربي‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح الزرقاني على الموطأ‪ ،‬الزرقاني‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح السنة‪ ،‬البغوي‪ ،‬طبعة زهير الشاويش – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح شافية ابن الحاجب‪ ،‬رضي الدين األستراباذي‪ ،‬مطبعة حجازي‬ ‫‪-‬‬
‫– القاهرة‪.‬‬
‫شرح صحيح مسلم‪ ،‬النووي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح الفقه األكبر‪ ،‬مال علي القاري‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي –‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫شرح معاني اآلثار‪ ،‬الطحاوي‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرح منتهى اإلرادات‪ ،‬البهوتي الحنبلي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫شعب اإليمان‪ ،‬البيهقي‪ ،‬دار الريان – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫الشفا بتعريف حقوق المصطفى‪ ،‬القاضي عياض‪ ،‬مكتبة الفارابي –‬ ‫‪-‬‬


‫دمشق‪.‬‬
‫شفاء السقام في زيارة خير األنام‪ ،‬السبكي‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫صحيح ابن خزيمة‪ ،‬ابن خزيمة‪ ،‬طبعة زهير الشاويش – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬البخاري‪ ،‬دار الجنان – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬مسلم النيسابوري‪ ،‬دار إحياء التراث العربي –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫الضعفاء والمجروحين والمتروكين‪ ،‬ابن حبان البستي‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫طبقات الشافعية‪ ،‬تاج الدين السبكي‪ ،‬عيسى البابي الحلبي – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الطبقات الكبرى‪ ،‬البن سعد‪ ،‬دار صادر –بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫طرح التثريب في شرح التقريب‪ ،‬العراقي‪ ،‬دار إحياء التراث‬ ‫‪-‬‬
‫العربي – بيروت‪.‬‬
‫الطريقة الرفاعية‪ ،‬ألبي الهدى الصيادي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫العاقبة‪ ،‬عبد الحق االشبيلي‪ ،‬دار الكتب العلمية –بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫العقد الثمين بأخبار البلد األمين‪ ،‬الفاسي المكي‪ ،‬مؤسسة الرسالة –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫عقود الآللئ في األسانيد العوالي‪ ،‬ابن عابدين‪ ،‬دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫علل الحديث‪ ،‬ابن أبي حاتم الرازي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫العلل ومعرفة الرجال‪ ،‬ألحمد بن حنبل‪ ،‬طبعة زهير الشاويش –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫علوم الحديث‪ ،‬ابن الصالح‪ ،‬دار الفكر – دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عمدة القاري شرح صحيح البخاري‪ ،‬البدر العيني‪ ،‬دار الفكر –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫عمل اليوم والليلة‪ ،‬النسائي‪ ،‬مؤسسة الرسالة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عيوم األثر‪ ،‬ابن سيد الناس‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫غاية المنتهى في الجمع بين اإلقناع والمنتهى‪ ،‬الشيخ مرعي‬ ‫‪-‬‬
‫الحنبلي‪ ،‬قطر‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫غريب القرءان‪ ،‬ألبي بكر السجستاني‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫الفتاوى البزازية‪ ،‬ابن البزاز الكردري‪ ،‬بهامش طبعة الفتاوى‬ ‫‪-‬‬
‫الهندية‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬
‫الفتاوى‪ ،‬الرملي‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فتاوى السبكي‪ ،‬السبكي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفتاوى الكاملية في الحوادث الطرابلسية‪ ،‬للشيخ محمد كامل‬ ‫‪-‬‬
‫الطرابلسي‪ ،‬طرابلس‪.‬‬
‫الفتاوى الكبرى‪ ،‬ابن حجر الهيتمي‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية‪ ،‬محمد العباسي الحنفي‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫المطبعة األزهرية – القاهرة‪.‬‬
‫الفتاوى الهندية‪ ،‬ألبي المظفر عالمكير‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فتح الباري شرح صحيح البخاري‪ ،‬للحافظ العسقالني‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫فتح الجواد شرح منظومة ابن العماد‪ ،‬البن حجر الهيتمي‪ -‬مصطفى‬ ‫‪-‬‬
‫البابي الحلبي – القاهرة‪.‬‬
‫فتح العزيز شرح الوجيز‪ ،‬عبد الكريم الرافعي – القاهرة‪ ،‬بهامش‬ ‫‪-‬‬
‫المجموع‪.‬‬
‫الفرق بين ال ِفرق‪ ،‬التميمي‪ ،‬مكتبة صبيح – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفروق‪ ،‬للقرافي‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فيض القدير بشرح الجامع الصغير‪ ،‬المناوي‪ ،‬دار المعرفة –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫القول البديع‪ ،‬السخاوي‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الكامل في التاريخ‪ ،‬ابن األثير‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كشاف القناع عن متن اإلقناع‪ ،‬البهوتي الحنبلي‪ ،‬عالم الكتب –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫كشف األستار عن زوائد البزار‪ ،‬الحافظ الهيثمي‪ ،‬مؤسسة الرسالة –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫كشف الخفا ومزيل اإللباس‪ ،‬العجلوني‪ ،‬مؤسسة الرسالة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الكفاية لذوي العناية‪ ،‬الفاخوري – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع‪ ،‬ابن حجر الهيتمي‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪-‬‬
‫مصطفى البابي الحلبي – القاهرة‪.‬‬
‫الكلم الطيب‪ ،‬ابن تيمية‪ ،‬مكتبة الجمهورية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كنز الع ّمال‪ ،‬علي الهندي‪ ،‬مؤسسة الرسالة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الكواكب الدرية على متممة اآلجرومية‪ ،‬األهدل‪ ،‬دار الكتب العلمية‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫لباب التأويل في معاني التنزيل‪ ،‬للخازن‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لسان العرب‪ ،‬ابن منظور‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الآللئ المصنوعة في األحاديث الموضوعة‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫‪-‬‬
‫– بيروت‪.‬‬
‫المبسوط‪ ،‬السرخسي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المجالس‪ ،‬البن الجوزي‪ ،‬دار األنصار – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مجرد مقاالت األشعري‪ ،‬ابن فورك‪ ،‬دار المشرق – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬للحافظ الهيثمي‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫المجموع شرح المهذب‪ ،‬النووي – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مجموع فتاوى ابن تيمية‪ ،‬البن تيمية‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة األولى‬ ‫‪-‬‬
‫‪1381‬هـ‪.‬‬
‫المجموع لمهمات المسائل من الفروع‪ ،‬طه السقاف‪ ،‬جدة –‬ ‫‪-‬‬
‫السعودية‪.‬‬
‫مجموعة رسائل ابن عابدين‪ ،‬ابن عابدين الدمشقي‪ ،‬دار إحياء‬ ‫‪-‬‬
‫التراث العربي – بيروت‪.‬‬
‫محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء‬ ‫‪-‬‬
‫والمتكلمين‪ ،‬فخر الدين الرازي‪ ،‬مكتبة الكليات األزهرية – القاهرة‪.‬‬
‫مختار الصحاح‪ ،‬البن أبي بكر الرازي‪ ،‬مكتبة لبنان – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المدخل‪ ،‬ابن الحاج الملكي‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المدونة الكبرى‪ ،‬لإلمام مالك‪ ،‬مطبعة العادة – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مراتب اإلجماع‪ ،‬ابن حزم‪ ،‬دار الكتب العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المراسيل‪ ،‬أبي داود السجستاني‪ ،‬دار الجنان – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫مرشد الحائر في بيان وضع حديث جابر‪ ،‬عبد هللا الغماري‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الجنان – بيروت‪.‬‬
‫مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح‪ ،‬لمال علي القاري‪ ،‬بوالق –‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫المستدرك على الصحيحين‪ ،‬للحاكم‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مسند أبي يعلى‪ ،‬ألبي يعلى الموصلي‪ ،‬دار المأمون – دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مسند أحمد‪ ،‬ألحمد بن حنبل‪ ،‬طبعة زهير الشاويش‪ -‬بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مسند إسحاق بن راهويه‪ ،‬إلسحاق بن إبراهيم الحنظلي المروزي‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫مكتبة اإليمان – المدينة المنورة‪.‬‬
‫مسند الحميدي‪ ،‬الحميدي‪ ،‬عالم الكتب – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مسند الطيالسي‪ ،‬ألبي داود الطيالسي‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مشارق األنوار على صحاح اآلثار‪ ،‬للقاضي عياض‪ ،‬دار التراث –‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫المصاحف‪ ،‬البن أبي داود السجستاني‪ ،‬المطبعة الرحمانية –‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه‪ ،‬للحافظ البوصيري‪ ،‬مؤسسة‬ ‫‪-‬‬
‫الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬
‫المصباح المنير‪ ،‬الفيومي‪ ،‬مكتبة لبنان – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المصنف في األحاديث واآلثار‪ ،‬ابن أبي شيبة‪ ،‬دار التاج – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مصنف عبد الرزاق‪ ،‬عبد الرزاق الصنعاني‪ ،‬طبعة زهير الشاويش‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية‪ ،‬مؤسسة قرطبة – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫معامل التنزيل‪ ،‬للبغوي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫معالم السنن‪ ،‬ألبي سليمان الخطابي‪ ،‬المكتبة العلمية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المعيار المعرب والجامع المغرب‪ ،‬الونشريسي‪ ،‬دار الغرب –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫المعجم األوسط‪ ،‬للطبراني‪ ،‬دار الحديث – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫معجم البلدان‪ ،‬ياقوت الحموي‪ ،‬دار صادر – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المعجم الصغير‪ ،‬الطبراني‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫المعجم الكبير‪ ،‬الطبراني‪ ،‬أوقاف بغداد – العراق‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫المغني عن حمل األسفار‪ ،‬العراقي‪ ،‬مكتبة دار طبرية – الرياض‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المغير على الجامع الصغير‪ ،‬أحمد الغماري‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المقاصد الحسنة‪ ،‬السخاوي‪ ،‬دار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مقاالت الكوثري‪ ،‬للكوثري‪ ،‬دار االحناف – الرياض‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الملل والنحل‪ ،‬الشهرستاني‪ ،‬دار المعرفة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مناقب أحمد‪ ،‬ابن الجوزي‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مناقب الشافعي‪ ،‬البيهقي‪ ،‬دار النصر للطباعة – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المنتقى شرح الموطإ‪ ،‬للباجي‪ ،‬جار الكتاب العربي – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المنتقى من كتاب القضاء والقدر‪ ،‬للبيهقي‪ ،‬شركة دار المشاريع –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫منح الجليل شرح مختصر خليل‪ ،‬الشيخ محمد عليش‪ ،‬دار الفكر –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫منهاج الطالبين وعمدة المفتين‪ ،‬النووي – القاهرة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المنهاج القويم‪ ،‬ابن حجر الهيتمي بهامش الحواشي المدنية‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪-‬‬
‫الغزالي – دمشق‪.‬‬
‫موافقة الخبر الخبر في تخريج أحاديث المختصر‪ ،‬للحافظ‬ ‫‪-‬‬
‫العسقالني‪ ،‬مكتبة الرشد – الرياض‪.‬‬
‫مواهب الجليل بشرح مختصر خليل‪ ،‬الحطاب المالكي‪ ،‬دار الفكر –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫الموضوعات‪ ،‬ابن الجوزي‪ ،‬دار الفكر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الموطأ‪ ،‬اإلمام مالك‪ ،‬دار اآلفاق الجديدة – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫موهبة ذي الفضل على شرح ابن حجر على مقدمة بافضل‪ ،‬محمد‬ ‫‪-‬‬
‫محفوظ الترمسي‪ ،‬المطبعة الشرقية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫نتائج األفكار في تخريج أحاديث األذكار‪ ،‬العسقالني‪ ،‬مكتبة المثنى‬ ‫‪-‬‬
‫– بغداد‪.‬‬
‫نصب الراية تخريج أحاديث الهداية‪ ،‬الزيلعي‪ ،‬دار الحديث –‬ ‫‪-‬‬
‫المدينة المنورة‪.‬‬
‫]‪[Type text‬‬

‫النظر في أحكام النظر بحاسة البصر‪ ،‬البن قطان الفاسي‪ ،‬دار إحياء‬ ‫‪-‬‬
‫العلوم – بيروت‪.‬‬
‫النكت البديعات على الموضوعات‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار الجنان –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫نهاية اآلمال في شرح حديث عرض األعمال‪ ،‬عبد هللا الغماري‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫عالم الكتب – بيروت‪.‬‬
‫النهاية في غريب الحديث‪ ،‬ابن األثير‪ ،‬دار إحياء التراث العربي –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج‪ ،‬شمس الدين الرملي‪ ،‬دار إحياء‬ ‫‪-‬‬
‫التراث العربي – بيروت‪.‬‬
‫النهر الماد من البحر المحيط‪ ،‬ألبي حيان األندلسي‪ ،‬دار الجنان –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫النوازل الصغرى‪ ،‬لمحمد مهدي الوزاني‪ ،‬المغرب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫وجيز الكالم في الذيل على دول اإلسالم‪ ،‬السخاوي – مؤسسة‬ ‫‪-‬‬
‫الرسالة – بيروت‪.‬‬
‫الوسائل إلى مسامرة األوائل‪ ،‬السيوطي‪ ،‬دار الكتب العلمية –‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫وفيات األعيان‪ ،‬ابن خلكان‪ ،‬دار صادر – بيروت‪.‬‬ ‫‪-‬‬

You might also like