You are on page 1of 140

‫الدرر السنية‪www.dorar.

net‬‬

‫التربية الذاتية من‬


‫الكتاب والسنة‬
‫إعداد‬
‫الدكتور هاشم علي األهدل‬

‫‪1‬‬
‫الدرر السنية‪www.dorar.net‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫وبه نستعني‬
‫مقدمة‬
‫إن احلمد هلل حنمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا‬
‫وسيئات أعمالنا ‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له ‪ ،‬وأشهد أن ال إله‬
‫إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله ‪ .‬أما بعد ‪:‬‬
‫يرى الرتبويون أن العملية التعليمية ( تعلما وتعليما ) تتكون من ثالث عناصر هي ‪:‬‬
‫املدرس واملنهج والتلميذ ‪ ،‬ومما ال شك فيه أن للمدرس دورا كبريا يف تنشئة األفراد‬
‫وإصالح اجملتمعات ‪ ،‬إال أن هناك أسلوبا آخر لتلقي الرتبية وتشرب املعرفة من دون‬
‫املدرس ‪ ،‬وهو ما يعرف بالرتبية الذاتية أو التلقائية ‪ ،‬حيث يريب الفرد نفسه ويوجهها‬
‫وجهة سليمة مبا يوافق الغاية اليت من أجلها أوجده اهلل عز وجل على هذه البسيطة وصريه‬
‫فيها خليفة ‪.‬‬
‫ولذا فإن للفرد مسئولية عظمى جتاه نفسه وتربيتها سواء كان ذلك على مقاعد‬
‫الدراسة أو يف العمل أو يف البيت أو يف الشارع ‪ ،‬فهو مطالب ببلوغ الكمال البشري‬
‫الذي ينبغي أن ينشده كل إنسان بلغ مرحلة الرشد والتكليف ‪ ،‬ولن يتأتى له ذلك إال‬
‫اي َو َم َماتِي هلل َر ِّ‬ ‫إن صالتِي ونُ ِ‬
‫ب‬ ‫سكي َو َم ْحيَ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫باتباع املنهج اإلهلي ‪ ،‬قال تعاىل ‪ :‬قُ ْل َّ َ‬
‫[ األنعام ‪، 162 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ك أ ُِم ْر ُ‬
‫ت َوأَنَا أ ََّو ُل ال ُْم ْسلم َ‬
‫ين ‪‬‬ ‫يك لَهُ َوبِ َذلِ َ‬
‫ين ال َش ِر َ‬ ‫ِ‬
‫ال َْعالَم َ‬
‫‪] 163‬‬
‫وإن الناظر واملتدبر آليات الكتاب وأحاديث املصطفى صلى اهلل عليه وسلم ليهتدي إىل‬
‫أساليب متعددة لرتبية النفوس وهتذيب األفئدة ومنها ‪:‬‬
‫‪2‬ـ الرتبية بالقدوة ‪.‬‬ ‫‪1‬ـ الرتبية بالقصة ‪.‬‬
‫‪4‬ـ الرتبية بالرتغيب والرتهيب ‪.‬‬ ‫‪3‬ـ الرتبية باملوعظة ‪.‬‬
‫‪6‬ـ الرتبية بالعقوبة ‪.‬‬ ‫‪5‬ـ الرتبية بالعادة ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وغريها كثري ‪.‬‬
‫وقد جاء هذا التنوع يف األسلوب تبعا لطبيعة اجملال واملوقف الذي تبحثه ‪ ،‬فهناك الرتبية‬
‫اجلسدية والرتبية الفكرية والرتبية املهنية والرتبية الروحية والنفسية وغريها ‪ ،‬ولو أردنا أن‬
‫جنمع بني أنواع الرتبية وأساليبها لتبني لنا أن موضوع الرتبية يركز على الفرد قلبا وقالبا ‪،‬‬
‫ولذا كان لزاما على هذا الفرد أن يسعى بنفسه لتحقيق أهداف الرتبية اإلسالمية ويف‬
‫مقدمتها حتقيق العبودية هلل عز وجل ‪ .‬وبناء على ذلك فسوف هتتم هذه الدراسة بالرتبية‬
‫الذاتية ‪ ،‬أي الرتبية اليت تنبع من ذات الشخص أي من نفسه لتحقيق ذلك اهلدف ‪ ،‬كما‬
‫أهنا سوف توضح بعضا من مبادئ وأساليب الرتبية الذاتية املختلفة الواردة يف كتاب اهلل‬
‫سبحانه وتعاىل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪.‬‬
‫أمهية املوضوع ‪:‬‬
‫تبذل اجملتمعات قصارى جهودها من أجل إصالح أفرادها وهتذيب سلوكهم ‪ ،‬ومما‬
‫ينبغي أن يصاحب هذه اجلهود شعور األفراد بذلك حىت يندفعوا من تلقاء ذواهتم إىل‬
‫إصالح أنفسهم وتربيتها مما يسهل وييسر مهمة الرتبية اليت تسعى إلعداد اإلنسان الصاحل‬
‫‪ ،‬ولذا فإن أمهية البحث ترجع إىل أنه ‪:‬‬
‫‪1‬ـ يبني عظم املسئولية امللقاة على عاتق الفرد يف تربية نفسه وتوجيهها وإصالحها ‪.‬‬
‫‪2‬ـ يضع لبنة قوية يف سبيل إصالح اجملتمع حيث إنه إذا أصلح كل فرد نفسه ورىب ذاته‬
‫ختلص اجملتمع من األمراض واالحنرافات واجته للبناء واإلصالح ‪.‬‬
‫‪3‬ـ ينري الطريق أمام املؤسسات الرتبوية يف كيفية توجيه األفراد لتحقيق الغايات واألهداف‬
‫اليت تتوخاها املؤسسات الرتبوية لرتبية الفرد ‪.‬‬
‫‪4‬ـ يوضح أسلوبا مهما من أساليب الرتبية وله دور كبري يف إصالح النفوس ‪ ،‬إال أنه أغفل‬
‫يف البحوث الرتبوية ‪.‬‬
‫‪5‬ـ يبني أيضا أحد أساليب التقومي املهمة أال وهو ما يعر ف بالتقومي الذايت واليت تسعى‬
‫الرتبية احلديثة إىل تطبيقها ‪ ،‬يف حني أن اإلسالم عرض هلا منذ مخسة عشر قرنا ‪.‬‬
‫الفصل األول‬
‫مكانة اإلنسان يف التصور اإلسالمي‬
‫مقدمة‬
‫اإلنسان ‪ ،‬ما اإلنسان ؟ ما أدراك ما اإلنسان ؟! إنه ذلك الكائن املتفرد الذي خلقه اهلل‬
‫عز وجل حلكمة أرادها وملهمة اختاره هلا بعد أن فضله على بقية الكائنات ‪ .‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫‪ ‬ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم‬
‫على كثير ممن خلقنا تفضيال ‪ [ ‬اإلسراء ‪. ] 70 :‬‬
‫وقد أوضح لنا املنهج اإلسالمي ما حيتاج أن يعرفه اإلنسان عن نفسه ‪ ،‬فبني أيدينا حنن‬
‫املسلمني مصدر أصيل ‪ ‬ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم‬
‫حميد ‪ [ ‬فصلت ‪ ، ] 42 :‬منه نصدر ومنه نورد يف كل حال ويف أي وقت ‪ .‬فمنه‬
‫يستقي الفرد املسلم تصوراته وآرائه لنفسه وملا حوله من موجودات فيهتدي إىل الصواب‬
‫وحيظى برضى رب األرباب ‪ .‬وسنتحدث يف هذا املبحث ـ إن شاء اهلل ـ عن نشأة اإلنسان‬
‫وغايته ومصريه ‪.‬‬
‫إن قصة اإلنسان منذ بدئه حىت منتهاه تظهر جبالء ووضوح يف قوله تعاىل ‪  :‬وإذ قال‬
‫ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك‬
‫الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما ال تعلمون * وعلم آدم‬
‫األسماء كلها ثم عرضهم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤالء إن كنتم صادقين‬
‫* قالوا سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم‬
‫بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات واألرض‬
‫وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا إال‬
‫إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‬
‫وكال منها رغدا حيث شئتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ‪ [ ‬البقرة ‪:‬‬
‫‪] 35 – 30‬‬
‫ويبني ذلك أيضا ما ورد عن املصطفى صلى اهلل عليه وسلم يف حديث عظيم جامع‬
‫ألحوال اإلنسان بدءا خبلقه يف بطن أمه وبيان حاله يف هذه الدنيا وانتهاء مبصريه ‪ ،‬فعن‬
‫عبد اهلل بن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬حدثنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو‬
‫الصادق املصدوق قال ‪ :‬إن أحدكم جيمع خلقه يف بطن أمه أربعني يوما نطفة مث يكون‬
‫علقة مثل ذلك ‪ ،‬مث يكون مضغة مثل ذلك ‪ ،‬مث يرسل إليه امللك فينفخ فيه الروح ويؤمر‬
‫بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ‪ ،‬فواهلل الذي ال إله غريه إن‬
‫أحدكم ليعمل بعمل أهل اجلنة حىت ما يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب‬
‫فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ‪ ،‬وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حىت ما يكون بينه‬
‫وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل اجلنة فيدخلها ‪ [ .‬مسلم ‪:‬‬
‫‪] 4/2036‬‬
‫هذا هو اإلنسان وهذه هي قصة نشأته والغاية من وجوده واملصري الذي سيؤول إليه ‪،‬‬
‫وسنوضح بيان ذلك بشيء من التفصيل ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬النشأة‬
‫قال تعاىل ‪  :‬إذ قال ربك للمالئكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت‬
‫فيه من روحي فقعوا له ساجدين ‪ [ ‬ص ‪] 72 ، 71 :‬‬
‫فاإلنسان ‪ :‬قبضة من طني األرض ونفخة من روح اهلل ‪ ،‬قبضة من طني األرض تتمثل‬
‫يف حقيقة اجلسد ‪ :‬عضالته ووشائجه وأحشائه ‪ ، ...‬ونفخة من روح اهلل تتمثل يف‬
‫اجلانب الروحي لإلنسان ‪ ،‬تتمثل يف الوعي واإلدراك واإلرادة ‪ ،‬تتمثل يف كل القيم‬
‫(‪)1‬‬
‫واملعنويات اليت ميارسها‬
‫وقد أبدعه البارئ املصور على غري مثال سابق وخلقه على صورته ‪ ،‬قال تعاىل ‪ :‬‬
‫الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ‪ [ ‬االنفطار ‪] 8 ، 7‬‬
‫وقال تعاىل ‪  :‬لقد خلقنا اإلنسان في أحسن تقويم ‪ [ ‬التني ‪ ] 4 :‬فجعله يف‬
‫أحسن صورة وشكل ‪ ،‬منتصب القامة سوي األعضاء وحسنها ‪ .‬ويقول الرفاعي ‪ :‬ولو‬
‫شاء تعاىل لكان يف صورة قرد أو خنزير أو كلب أو محار ‪ ،‬واهلل عز وجل قادر على‬
‫(‪)2‬‬
‫ذلك‬

‫(‪ )1‬دراسات يف النفس اإلنسانية ‪ :‬حممد قطب ‪ .‬دار الشروق ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة السادسة ‪ 1403‬هـ‬
‫(‪ )2‬تيسري العلي القدير الختصار تفسري ابن كثري ‪ :‬حممد نسيب الرفاعي ‪ .‬مكتبة املعارف ‪ ،‬الرياض ‪1407 ،‬هـ ( ‪4‬‬
‫أجزاء ‪) 4/489 .‬‬
‫فتلك كانت البداية وهذه هي اخللقة كما صورها القرآن الكرمي ‪ ،‬ولنر كيف يشطح‬
‫الفكر بعيدا إذا مل يكن له منج رباين يسري على نوره ويهتدي هبديه ‪.‬‬
‫لقد زعم بعضهم أن اإلنسان سليل القرود وأنه تطور عرب األزمان والعصور حىت وصل‬
‫إىل هذه الصورة اليت نراها اليوم ‪ .‬وقد افرتيت هذه الفرية من أجل أن يقال ‪ :‬إن هذا‬
‫اإلنسان مثله مثل سائر األنواع اليت البد أهنا قد احندرت من نوع خمتلف سابق يف الوجود‬
‫‪ ، ...‬ومن مث فالبد أن اإلنسان قد ظهر على األرض نتيجة تطور سلسلة جماورة من‬
‫(‪)1‬‬
‫سالسل مملكة احليوان‬
‫ال شك أن هذه النظرة املنحرفة جتعل كل متمسك بدين يقف حائرا أمام معتقداته ‪،‬‬
‫ويرتدد يف االحتفاظ هبا والدفاع عنها ‪ ،‬بل يشجعه ذلك على التخلي عنها ‪ ،‬وقد حصل‬
‫هذا فعال حينما أعلن دارون نظريته امللحدة يف أوروبا وقرر حيوانية اإلنسان فزادت‬
‫الفجوة بني الشعوب البائسة والكنيسة املتسلطة على رقاهبم ‪ ،‬ومن مث تركوا الدين أو بقايا‬
‫الدين الذي كانوا يعرفونه ‪ .‬يقول الشيخ حممد قطب ‪ :‬ولعل أكرب زلزلة أصابت الكنيسة‬
‫كانت على يد دارون حني نادى بنظريته أصل األنواع ‪ ،‬وتتالت الضربات بعد ذلك على‬
‫أيدي العلماء والباحثني فرتحنت هيبة الكنيسة وأخذت تتهاوى ‪ ، ...‬ولكن أوروبا حني‬
‫نزعت عنها سلطان الكنيسة مل تكتف بذلك بل نزعت عنها سلطان الدين أيضا ‪ ،‬إذ كان‬
‫الدين لديها ممثال يف الكنيسة جمسما فيها ‪ ،‬وأغراهم هبذا أن يف العقيدة املسيحية كما‬
‫(‪)2‬‬
‫صورهتا الكنيسة ال كما أنزلتها السماء كثريا مما يناقض العقل ويثقل األفهام‬
‫إن أي إنسان يشغل ذهنه ويعمل فكره فيما ليس من قدرات عقله من أمور الغيب‬
‫فإنه حتما سينقلب خاسئا وهو حسري أو على األقل سيأيت بالعجائب والرتهات كما‬
‫حصل من دارون وفرويد ودوركامي وغريهم ‪.‬‬
‫لنرجع ونتدبر كتاب ربنا ونتأمل كيف ينشأ اإلنسان ‪ ،‬وما هي األطوار اليت مير هبا يف‬
‫بطن أمه فيخرج سوي األعضاء كاملها ‪ ،‬يقول تعاىل ‪  :‬ولقد خلقنا اإلنسان من ساللة‬
‫من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة‬

‫(‪ )1‬ما أصل اإلنسان ؟ إجابات العلم والكتب املقدسة ‪ :‬موريس بو كاي ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬نشر مكتب الرتبية العريب‬
‫لدول اخلليج ‪1406‬هـ ‪ ،‬ص ‪15 :‬‬
‫(‪ )2‬اإلنسان بني املادية واإلسالم ‪ :‬حممد قطب ‪ .‬دار الشروق ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة السادسة ‪140 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪16‬‬
‫فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك اهلل أحسن‬
‫الخالقين ‪ [ ‬املؤمنون ‪ . ] 14-12 :‬وحنن ال منلك إال أن نقول ‪ :‬سبحان اخلالق املبدع‬
‫املصور الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ‪ .‬يقول سيد قطب ‪ :‬لقد نشأ اجلنس‬
‫اإلنساين من ساللة من طني ‪ ،‬فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة اهلل‬
‫أن يكون عن طريق نقطة مائية خترج من صلب رجل فتستقر يف رحم امرأة ‪ ،‬ال بل خلية‬
‫واحدة من عشرات األلوف من اخلاليا الكامنة من تلك النقطة ‪ ،‬تستقر يف قرار مكني‬
‫ثابتة يف الرحم الغائرة بني عظام احلوض احملمية من التأثر باهتزازات اجلسم ‪ ، ...‬ومن‬
‫النطفة إىل العلقة حينما متتزج خلية الذكر ببويضة األنثى وتعلق هذه جبدار الرحم نقطة‬
‫صغرية يف أول األمر تتغذى بدم األم ‪ ،‬ومن العلقة إىل املضغة حينما تكرب تلك النقطة‬
‫العالقة وتتحول إىل دم غليظ خمتلط ‪ ،‬ومتضي هذه اخلليقة يف ذلك اخلط الذي ال ينحرف‬
‫وال يتحول وال تتواىن حركته املنظمة الرتيبة ‪ ، ...‬حىت جتيء مرحلة العظام ‪ ، ...‬فمرحلة‬
‫(‪)1‬‬
‫كسوة العظام باللحم ‪ ، ...‬مث يتحول إىل تلك اخلليقة املتميزة املستعدة لالرتقاء ‪.‬‬
‫لقد مر خلق اإلنسان مبراحل متعددة ‪ ،‬فهو أصال من طني ‪ ،‬وبالتقاء الذكر واألنثى‬
‫تكون النطفة ‪ ،‬ومن النطفة ختلق العلقة فاملضغة فالعظام ‪ ،‬مث تكسى العظام باللحم‬
‫ويتكون اجلنني ‪ ،‬كل ذلك يتم بتقدير العليم احلكيم ‪ ،‬وهذه احلقائق أخرب هبا القرآن منذ‬
‫مخسة عشر قرنا وكفانا مؤونة البحث عنها والتفكري فيها ‪ ،‬ومما يزيد الفرد املؤمن يقينا‬
‫وثباتا واعتزازا بدينه أن العلم مل يكتشف هذه احلقائق إال يف العصر احلاضر ‪.‬‬
‫يقول الدكتور بوكاي ‪ :‬وكل هذه اآليات تتفق وحقائق اليوم الثابتة ‪ .‬ولكن كيف‬
‫تسىن للرجال الذين عاشوا يف عهد حممد صلى اهلل عليه وسلم أن يكون لديهم هذه‬
‫التفاصيل الكثرية والدقيقة يف علم األجنة ؟! إن هذه احلقائق مل تكتشف إال بعد مرور‬
‫ألف عام تقريبا على نزول القرآن ‪ ،‬ويقودنا تاريخ العلوم إىل أن جنزم بعدم وجود أي‬
‫(‪)2‬‬
‫تعليل أو تربير بشري لوجود هذه اآليات يف القرآن ‪.‬‬

‫(‪ )1‬يف ظالل القرآن ‪ :‬سيد قطب ‪ .‬دار الشروق ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة التاسعة ‪ 1400 ،‬هـ ‪ 6 ( ،‬أجزاء ) ‪،‬‬
‫‪2459 -4/2458‬‬
‫(‪ )2‬ما أصل اإلنسان ؟ ‪ :‬مرجع سابق ص ‪207 :‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الغاية‬
‫مل خيلق اهلل عز وجل اإلنسان عبثا ومل يرتكه مهال ‪ ،‬فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه‬
‫أسجد له مالئكته املقربني ‪ ،‬مث أهبطه إىل األرض مع اجلان ليكون االبتالء واالمتحان ‪،‬‬
‫واستخلف يف األرض ليعمرها بطاعته ‪ .‬يقول الدوسري رمحه اهلل ‪ :‬واخلليفة هلل يف أرضه‬
‫(‪)1‬‬
‫هو املكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غريه ‪.‬‬
‫وقد أخذ ربنا العهد على اإلنسان أن يعبده وال يشرك به شيئا ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وإذ‬
‫أخذ ربك من بين آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا‬
‫بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلني } [ األعراف ‪ ] 172 :‬أورد‬
‫ابن كثري عند تفسريه هلذه اآلية ما رواه الرتمذي عن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬ملا خلق اهلل آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها‬
‫(‪)2‬‬
‫من ذريته إىل يوم القيامة ‪.‬‬
‫ويقول الرفاعي ‪ :‬وقد وردت أحاديث يف أخذ الذرية من صلب آدم عليه السالم‬
‫ومتييزهم إىل أصحاب اليمني وأصحاب الشمال ‪ ،‬ويف بعضها االستشهاد عليهم بأن اهلل‬
‫(‪)3‬‬
‫رهبم ‪.‬‬
‫عن أنس بن مالك – رضي اهلل عنه – عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬يقال‬
‫للرجل من أهل النار يوم القيامة ‪ :‬أرأيت لو كان لك ما على األرض من شيء أكنت‬
‫مفتديا به ‪ .‬قال ‪ :‬فيقول ‪ :‬نعم ‪ .‬فيقول ‪ :‬قد أردت منك أهون من ذلك ‪ ،‬قد أخذت‬
‫عليك يف ظهر آدم أن ال تشرك يب شيئا فأبيت إال أن تشرك يب ‪ [ .‬أمحد ‪] 3/127 :‬‬
‫ويف مسند أمحد أيضا عن ابن عباس – رضي اهلل عنهما – عن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال ‪ :‬أخذ اهلل امليثاق من ظهر آدم بنعمان – يعين عرفة – فأخرج من صلبه كل‬
‫ذرية ذرأها فنثرهم بني يديه كالذر مث كلمهم قبال ‪ ،‬قال ‪ :‬ألست بربكم ؟ قالوا ‪ :‬بلى‬

‫(‪ )1‬صفوة اآلثار واملفاهيم من تفسري القرآن العظيم ‪ :‬عبد الرمحن بن حممد الدوسري ‪ .‬مكتبة دار األرقم ‪ ،‬الكويت‬
‫‪ 1406 ،‬هـ ‪2/72 .‬‬
‫(‪ )2‬تفسري القرآن العظيم ‪ :‬إمساعيل بن كثري ‪ .‬دار املعرفة ‪ ،‬بريوت ‪ 1400 ،‬هـ ‪ 4 ( ،‬أجزاء ) ‪1/249‬‬
‫(‪ )3‬تيسري العلي القدير ‪ :‬مرجع سابق ‪2/252‬‬
‫شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلني أو تقولوا ‪ :‬إمنا أشرك آباؤنا من قبل‬
‫وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا مبا فعل املبطلون [ ‪] 1/272‬‬
‫وملا كان األمر كذلك فإن اخللق كلهم مكلفون باالتباع ‪ ،‬وكل فرد بذاته قد أودع‬
‫يف فطرته اإلسالم وإفراد العبادة هلل رب العاملني ‪ ،‬وهلذا خلق آدم عليه السالم وذريته لكي‬
‫يكون كل منهم عابدا هلل متبعا ألوامره جمتنبا لنواهيه ‪ .‬وقد استمر آدم وذريته على ذلك‬
‫(‪)1‬‬
‫عشرة قرون كلهم على شريعة احلق حىت عهد نوح عليه السالم‬
‫فلما اختلفوا وحادوا عن الصراط بعث اهلل الرسل واألنبياء يوجهون الناس ويرشدوهنم‬
‫لكي يردوهم إىل جادة الصواب‬
‫قال تعاىل { كان الناس أمة واحدة فبعث اهلل النبيني مبشرين ومنذرين وأنزل معهم‬
‫الكتاب باحلق ليحكم بني الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إال الذين أوتوه من بعد‬
‫ما جاءهتم البينات بغيا بينهم فهدى اهلل الذين آمنوا ملا اختلفوا فيه من احلق بإذنه واهلل‬
‫يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم } [ البقرة ‪ . ] 213 :‬وقد أرسل اهلل سبحانه وتعاىل‬
‫املرسلني عليهم السالم لتجديد العهد وتوضيح هذه الغاية ‪ ،‬فقال نوح عليه السالم لقومه‬
‫‪ { :‬اعبدوا اهلل ما لكم من إله غريه } [ األعراف ‪ ، ] 59 :‬وكذلك قال هود عليه‬
‫السالم لقومه عاد ‪ { :‬اعبدوا اهلل ما لكم من إله غريه } [ األعراف ‪ ] 73 :‬وقاهلا‬
‫شعيب عليه السالم ألصحاب األيكة ‪ { :‬اعبدوا اهلل ما لكم من إله غريه } [ األعراف ‪:‬‬
‫‪ ] 85‬كما قاهلا غريهم ألقوامهم ‪ ،‬وقد حقق بعض تلك األمم غاية وجوده ونكل عن‬
‫ذلك آخرون كما قال تعاىل ‪ { :‬ولقد بعثنا يف كل أمة رسوال أن اعبدوا اهلل واجتنبوا‬
‫الطاغوت فمنهم من هدى اهلل ومنهم من حقت عليه الضاللة } [ النحل ‪] 36 :‬‬
‫وجاء القرآن املنزل على نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم مقررا ومؤكدا على ذلك‬
‫اهلدف العظيم من وجودك أيها اإلنسان وذلك يف آيات كثرية منها قوله تعاىل ‪ { :‬وما‬
‫خلقت اجلن واإلنس إال ليعبدون } [ الذاريات ‪ ] 56 :‬فمقام العبودية هو املقام الذي‬
‫اختاره تعاىل للخلق أمجعني ‪ .‬وقد وصف مالئكته املقربني بوصف العبودية فقال تعاىل ‪:‬‬
‫{ ومن عنده ال يستكربون عن عبادته وال يستحسرون يسبحون الليل والنهار ال يفرتون‬

‫تفسري القرآن العظيم ‪ :‬مرجع سابق ‪1/250‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫} [ األنبياء ‪ ] 19 :‬وقال أيضا ‪ { :‬إن الذين عند ربك ال يستكربون عن عبادته‬
‫ويسبحونه وله يسجدون } [ األعراف ‪ . ] 206 :‬ويف حادثة اإلسراء ارتقى نبينا حممد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم إىل أشرف مقام وأعظم منزلة ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬مث دنا فتدىل فكان‬
‫قاب قوسني أو أدىن } [ النجم ‪] 9 ، 8 :‬‬
‫وتلك مكانة مل يصل إليها نيب مرسل وال ملك مقرب ‪ ،‬ومع ذلك فقد ارتبط لفظ‬
‫العبودية به عليه السالم ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬سبحان الذي أسرى بعبده ليال من املسجد احلرام‬
‫إىل املسجد األقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا } [ اإلسراء ‪ ] 1 :‬فدل ذلك على‬
‫أن أرفع منزلة هي منزلة العبودية ‪ ،‬وكذلك قال عز وجل عن عيسى عليه السالم ‪ { :‬إن‬
‫هو إال عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثال لبين إسرائيل } [ الزخرف ‪ ] 59 :‬ولذا قال صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يف احلديث الصحيح ‪ :‬ال تطروين كما أطرت النصارى عيسى بن مرمي إمنا‬
‫أنا عبد فقولوا عبد اهلل ورسوله ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 2/490‬‬
‫والعبودية وصف مالزم لكل إنسان ما دام له قلب ينبض وعني تطرف ‪ ،‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫{ واعبد ربك حىت يأتيك اليقني } [ احلجر ‪ ] 99 :‬قال ابن حجر رمحه اهلل ‪ :‬قال سامل‬
‫(‪)1‬‬
‫‪ :‬اليقني ‪ :‬املوت‬
‫ويف هذه اآلية واآليات اليت قبلها رد على مزاعم الصوفية اليت تقول إنه ميكن للعبد أن‬
‫ترفع عنه التكاليف الشرعية مىت وصل إىل حالة أو مرحلة معينة ‪ ،‬وحنن نعلم من سرية‬
‫املصطفى عليه السالم أنه كان عابدا هلل حىت آخر حلظة من حياته ‪ ،‬فهل ميكن لعبد أن‬
‫يسعه ما مل يسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ؟! ويف اآليات أيضا داللة على تكرمي‬
‫اإلنسان الذي شرفه ربه بأن جعله وهو املخلوق الضعيف منتسبا بالعبودية لرب الكونني‬
‫رب السماوات السبع واألرضني ومن فيهن ‪ .‬ويف املقابل جند أفرادا من املسلمني يتجردون‬
‫من عبوديتهم للخالق منصرفني إىل عبادة غريه ‪ ،‬وقد دعا الرسول عليه السالم على أولئك‬
‫دعوة تصل إليهم وهم يف عقر منازهلم فقال ‪ :‬تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد‬
‫اخلميصة إن أعطي رضي وإن مل يعط سخط ‪ ،‬تعس وانتكس وإذا شيك فال انتقش ‪،‬‬
‫طوىب لعبد آخذ بعنان فرسه يف سبيل اهلل أشعث رأسه مغربة قدماه ‪ ،‬إن كان يف احلراسة‬
‫(‪ )1‬فتح الباري يف شرح صحيح البخاري ‪ :‬أمحد بن حجر العسقالين ‪ .‬تصحيح وحتقيق عبد العزيز بن عبد اهلل بن‬
‫باز ‪ .‬الرياض ‪ ،‬مكتبة الرياض احلديثة ‪ 1379 ،‬هـ ‪. 8/383 ،‬‬
‫كان يف احلراسة وإن كان يف الساقة كان يف الساقة ‪ ،‬إن استأذن مل يؤذن له وإن شفع مل‬
‫يشفع ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 2/328 :‬‬
‫معنى العبودية ‪:‬‬
‫علمنا مما سبق أن وظيفة اإلنسان األوىل والغاية من وجوده هي العبودية ‪ ،‬فماذا تعين‬
‫هذه الكلمة وما مدلوالهتا ؟ هل هي نطق بالشهادتني فقط ؟! أم أهنا حركات باجلوارح‬
‫؟! أم يكفي االعتقاد بالقلب ؟! أم غري ذلك من األقوال واآلراء ؟ الواقع أهنا تشمل ذلك‬
‫كله فهي نطق باللسان واعتقاد باجلنان وعمل باألركان وذلك يف حدود ما شرعه الرمحن‬
‫‪ .‬وكما يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية – رمحه اهلل – هي ‪ :‬اسم جامع لكل ما حيبه اهلل‬
‫ويرضاه من األقوال واألعمال الباطنة والظاهرة فالصالة والزكاة والصيام واحلج وصدق‬
‫احلديث وأداء األمانة وبر الوالدين وصلة األرحام والوفاء بالعهود واألمر باملعروف والنهي‬
‫عن املنكر واجلهاد للكفار واملنافقني واإلحسان إىل اجلار واليتيم واملسكني واململوك من‬
‫اآلدميني والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة ‪ ،‬وكذلك حب اهلل‬
‫ورسوله وخشية اهلل واإلنابة إليه وإخالص الدين له والصرب حلكمه والشكر بنعمه والرضا‬
‫(‪)1‬‬
‫بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرمحته واخلوف لعذابه وأمثال ذلك من العبادات هلل ‪.‬‬
‫والعبودية تعين أن يستسلم املرء خلالقه بكل جوارحه وطاقاته وتصرفاته وأفكاره‬
‫وشعوره ‪ .‬كما تعين أن ينقاد للشرع وحيكمه يف نفسه وأهله وما ملكت ميينه ‪ ،‬تاركا‬
‫أهواءه وشهواته وراءه ظهريا ‪ .‬ويوضح سيد قطب حقيقة العبادة يف أسلوب أديب رفيع‬
‫قائال ‪ :‬إن حقيقة العبادة تتمثل إذن يف أمرين رئيسيني ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬هو استقرار معىن العبودية هلل يف النفس ‪ ،‬أي استقرار الشعور أن هناك عبدا‬
‫وربا ‪ .‬عبدا يعبد وربا يعبد ‪ ،‬وأن ليس هناك إال هذا الوضع وهذا االعتبار ‪ .‬ليس يف هذا‬
‫الوجود إال عابد ومعبود وإال رب واحد والكل له عبيد ‪.‬‬
‫‪ :‬هو التوجه إىل اهلل بكل حركة يف الضمري وكل حركة يف احلياة ‪ .‬التوجه‬ ‫والثاني‬
‫هبا إىل اهلل خالصة والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معىن غري معىن التعبد هلل (‪. )2‬‬

‫العبودية ‪ :‬أمحد بن عبد احلليم بن تيمية ‪ .‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بريوت ‪ 1401‬هـ ‪ ،‬ص ‪. 4‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫يف ظالل القرآن ‪ :‬مرجع سابق ‪3387/‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫نعم ‪ ...‬هبذا االستسالم وهبذا االنقياد يكون الفرد عبدا هلل ‪ ،‬عبدا يوظف كل ما ميلك‬
‫من نعم مادية أو معنوية ابتغاء مرضات اهلل وجيعلها ذخرا وزادا ليوم املعاد استعدادا ‪ .‬قال‬
‫تعاىل ‪ { :‬وابتغ فيما آتاك اهلل الدار اآلخرة وال تنس نصيبك من الدنيا } [ القصص ‪:‬‬
‫‪ ] 77‬وليعلم اإلنسان أنه إن مل يعبد اهلل حق العبادة فإنه ال شك سيعبد الشيطان الذي‬
‫أخذ عهدا على نفسه بأن يغوي بين آدم ويزين هلم الضالل وحيبب إليهم املنكرات ‪.‬‬
‫فينبغي على كل مسلم أن يكون حذرا حىت ال يقع يف حبائل الشيطان ومصائده فيسلم‬
‫من شره ويصبح من عباد اهلل املخلصني كما قال تعاىل يف حوار مع الشيطان ‪ { :‬قال‬
‫رب مبا أغويتين ألزينن هلم يف األرض وألغوينهم أمجعني * إال عبادك منهم املخلصني *‬
‫قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إال من اتبعك من‬
‫الغاوين } [ احلجر ‪. ] 42-39 :‬‬
‫فعبد اهلل املخلص يوحد اهلل بالعبادة وال يدع للشيطان جماال أو منفذا يصل إليه منه ‪.‬‬
‫ويبني شيخ اإلسالم ابن تيمية – رمحه اهلل – األساس العقدي هلذا األمر فيقول ‪ :‬وهلذا‬
‫كان كل من مل يعبد اهلل وحده فالبد أن يكون عابدا لغريه ‪ ،‬يعبد غريه فيكون مشركا‬
‫وليس يف بين آدم قسم ثالث ‪ ،‬بل إما موحد أو مشرك أو من خلط هذا هبذا كاملبدلني من‬
‫(‪)1‬‬
‫أهل امللل النصارى ومن أشبههم من الضالل املنتسبني إىل اإلسالم‬
‫فاإلنسان حيدد بنفسه إما أن يكون عابدا هلل أو عابدا للشيطان ‪ ،‬وبيده حتقيق غاية‬
‫وجوده ‪ ،‬وبالتايل حتديد مصريه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬المصير‬
‫إن أي خملوق مهما امتد أجله وطال عمره فإن له هناية حمتمة ‪ ،‬فكل نفس ذائقة املوت ‪،‬‬
‫املوت الذي قدره اهلل عز وجل على خلقه وكتبه على عباده وانفرد جل شأنه بالبقاء‬
‫والدوام ‪ ،‬قال تعاىل { كل نفس ذائقة املوت } [ آل عمران ‪] 185 :‬‬
‫وقال أيضا ‪ { :‬أهلاكم التكاثر ‪ ،‬حىت زرمت املقابر } [ التكاثر ‪ ، ] 2 ،1 :‬ففي آيتني من‬
‫مخس كلمات فقط يصور القرآن الكرمي حال الدنيا وما بعدها ‪ ،‬فهي حياة ملهية مث زيارة‬
‫وأي زيارة ‪ ،‬زيارة منتهية ال حمالة ويكون بعدها االنتقال إىل دار احلساب ‪ ،‬ولكن تلك‬
‫احلسنة والسيئة ‪ :‬أمحد بن عبد بن احلليم بن تيمية ‪ .‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬ص ‪56‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الزيارة أي فرتة البقاء يف القبور ال يعلم مداها إال اهلل ومع ذلك فنحن نعلم من ديننا أن‬
‫تلك احلفرة الضيقة ستكون على صاحبها أحد أمرين ‪ :‬إما روضة من رياض اجلنة أو‬
‫حفرة من حفر النار ‪ ،‬كما ورد يف حديث الرباء بن عازب الطويل [ انظر سنن أيب داود‬
‫حديث رقم ‪ ] 3212‬وغريه من األحاديث ‪ .‬يقول ابن القيم ‪ :‬مذهب سلف األمة‬
‫وأئمتها أن امليت إذا مات يكون يف نعيم أو عذاب ‪ ،‬وأن ذلك حيصل لروحه وبدنه وأن‬
‫الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة ‪ ،‬وأهنا تتصل بالبدن أحيانا وحيصل له معها‬
‫النعيم أو العذاب مث إذا كان يوم القيامة الكربى أعيدت األرواح إىل األجساد وقاموا من‬
‫(‪)1‬‬
‫قبورهم لرب العباد ‪ ،‬ومعاد األبدان متفق عليه بني املسلمني واليهود والنصارى‪.‬‬
‫فإذا مات اإلنسان فهذه قيامته وهي القيامة الصغرى ‪ ،‬أما القيامة الكربى فتكون عندما‬
‫يؤذن بالنفخ يف الصور فيحشر مجيع العباد ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬يوم ترجف الراجفة ‪ ،‬تتبعها‬
‫الرادفة } [ النازعات ‪ ] 7 ، 6 :‬عندئذ ترجتف القلوب واألفئدة وحتتار العقول واألفهام‬
‫كما قال تعاىل ‪ { :‬يوم تروهنا تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات محل‬
‫محلها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اهلل شديد } [ احلج ‪. ] 2 :‬‬
‫ويصور هول ذلك اليوم أيضا قوله تعاىل ‪ { :‬يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما ال‬
‫جيزى والد عن ولده وال مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد اهلل حق فال تغرنكم احلياة‬
‫الدنيا وال يغرنكم باهلل الغرور} [ لقمان ‪. ] 33 :‬‬
‫وإذا تأملنا القرآن الكرمي وجدنا آيات كثرية جدا تعرض لذلك اليوم من زوايا متعددة‬
‫ومشاهد خمتلفة ‪ ،‬وتعين هذه املشاهد بتصوير اهلول يف يوم القيامة ‪ ،‬ذلك اهلول الذي‬
‫يشمل الطبيعة كلها ويغشى النفس اإلنسانية ويهزها وال يكاد خيلو مشهد واحد من‬
‫اشرتاك األحياء فيه ‪ ،...‬وتعين هذه املشاهد أيضا بتصوير مواقف احلساب قبل النعيم‬
‫والعذاب ‪ ،‬وهنا نلتقي بألوان شىت من طرق العرض الكثرية ومسات شىت للموقف‬
‫(‪)2‬‬
‫املعروض‬
‫وتبني السنة كذلك بعض أهوال ذلك اليوم العصيب ‪ ،‬ففي حديث الشفاعة يقول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬جيمع اهلل الناس ـ األولني واآلخرين ـ يف صعيد واحد يسمعهم الداعي‬
‫(‪ )1‬الروح ‪ :‬حممد بن أيب بكر بن قيم اجلوزية ‪ ،‬دار الكتاب العريب ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪97‬‬
‫(‪ )2‬مشاهد القيامة يف القرآن ‪ :‬سيد قطب ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬ص ‪43-41‬‬
‫وينفذهم البصر وتدنو فيبلغ الناس من الغم والكرب ما ال يطيقون وال حيتملون فيقول‬
‫الناس أال ترون ما قد بلغكم ؟ أال تنظرون من يشفع لكم إىل ربكم ‪ [ ،‬البخاري ‪:‬‬
‫‪ ،] 3/250‬ومن حديث عائشة عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬حيشر الناس يوم‬
‫القيامة حفاة عراة غرال فقلت يا رسول اهلل النساء والرجال مجيعا ينظر بعضهم إىل بعض‬
‫؟ فقال يا عائشة األمر أشد من أن ينظر بعضهم إىل بعض [ مسلم ‪] 2194 /4 :‬‬
‫ومن حديث املقداد ـ رضي اهلل عنه ـ عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬تدىن الشمس‬
‫يوم القيامة من اخللق حىت تكون منهم كمقدار ميل ‪ ،‬فيكون الناس على قدر أعماهلم يف‬
‫العرق فمنهم من يكون إىل كعبيه ومنهم من يكون إىل ركبتيه ومنهم من يكون إىل‬
‫حقويه ومنهم من يلجمه العرق إجلاما ‪ ،‬قال وأشار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيده‬
‫إىل فيه [ مسلم ‪] 2196 /4 :‬‬
‫فهذه األهوال وغريها تنتظر كل إنسان ولن ينجو منها أحد فالكل صائرون إىل اهلل يقول‬
‫تعاىل ‪ { :‬يقول اإلنسان يومئذ أين املفر ‪ ،‬كال ال وزر ‪ ،‬إىل ربك يومئذ املستقر ‪ ،‬ينبؤا‬
‫اإلنسان يؤمئذ مبا قدم وأخر } [ القيامة ‪ 10 :‬ـ ‪] 13‬‬
‫وبعد أن يقوم الناس لرب العاملني جتازى كل نفس مبا كسبت ويالقي كل عبد ما قدم ‪،‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬واتقوا يوما ترجعون فيه إىل اهلل مث توىف كل نفس ما كسبت وهم ال‬
‫يظلمون } [ البقرة ‪ ] 281 :‬وقال ‪ { :‬يومئذ يوفيهم اهلل دينهم احلق ويعلمون أن اهلل‬
‫هو احلق املبني } [ النور ‪ ] 25 :‬ويقول صلى اهلل عليه وسلم فيم يرويه عن ربه عز وجل‬
‫‪.... :‬يا عبادي إمنا هي أعمالكم أحصيها لكم مث أوفيكم إياها فمن وجد خريا فليحمد‬
‫اهلل ومن وجد غري ذلك فال يلومن إال نفسه ‪ [ ،‬مسلم ‪] 1994 /4 :‬‬
‫ويقول تعاىل أيضا ‪ { :‬إنه من يأت ربه جمرما فإن له جهنم ال ميوت فيها وال حيىي ‪ ،‬ومن‬
‫يأته مؤمنا قد عمل الصاحلات فأولئك هلم الدرجات العلى ‪ ،‬جنات عدن جتري من حتتها‬
‫األهنار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى } [ طه ‪] 76 -74 :‬‬
‫فهذه هي اخلامتة ‪ ،‬خلود دائم وحياة ال تنتهي ‪ ،‬فمن زكى نفسه فإىل دار النعيم ومن‬
‫دساها فإىل اجلحيم والعياذ باهلل ‪ ،‬فليخرت كل امرئ ما يريد ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬ونفس وما‬
‫سواها ‪ ،‬فأهلمها فجورها وتقواها ‪ ،‬قد أفلح من زكاها ‪ ،‬وقد خاب من دساها }‬
‫[ الشمس ‪] 9-7 :‬‬
‫خنلص من هذا القول بأن العبد مير بثالث مراحل ‪ :‬احلياة الدنيا فالقرب مث اخللود ‪ ،‬وهذه‬
‫املراحل ال يعلم مداها إال اهلل سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهناك مغيبات كثرية يف هذه املراحل ال‬
‫نعلم منها إال ما ثبت يف الكتاب والسنة ‪ ،‬واملسلم احلق يؤمن ويصدق هبا وإن مل يستطع‬
‫عقله أن يتصورها أو يدرك كنهها ‪.‬‬
‫يقول ابن أيب العز الدمشقي ‪ :‬واحلاصل أن الدور ثالث ‪ :‬دار الدنيا ودار الربزخ ودار‬
‫القرار ‪ ،‬وقد جعل اهلل لكل دار أحكاما ختصها ‪ ،‬وركب هذا اإلنسان من بدن ونفس‬
‫وجعل أحكام الدنيا على األبدان ‪ ،‬واألرواح تبع هلا ‪ ،‬وجعل أحكام الربزخ على األرواح‬
‫‪ ،‬واألبدان تبع هلا فجاء يوم حشر األجساد وقيام الناس من قبورهم صار احلكم والنعيم‬
‫(‪)1‬‬
‫والعذاب على األرواح واألجساد مجيعا‬

‫(‪ )1‬شرح العقيدة الطحاوية ‪ :‬أبو العز علي بن علي بن حممد ‪ ،‬املكتب اإلسالمي ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة السادسة ‪،‬‬
‫‪ 1400‬هـ ‪ ،‬ص ‪453‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مبادئ التربية الذاتية من الكتاب والسنة‬

‫المبحث األول ‪ :‬الحرية‬


‫المبحث الثاني ‪ :‬المسئولية والجزاء‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬االهتمام بالغير‬
‫مقدمة‬
‫يزخر القرآن الكرمي والسنة املطهرة بالعديد من املبادئ واألسس اليت تنري الطريق‬
‫للفرد املسلم وللمجتمعات املسلمة لتحقيق غايتها من الوجود فهناك مبادئ الرتبية اخللقية‬
‫والفكرية واالجتماعية واالقتصادية واجلنسية والروحية واجلسمية ‪ ،‬وهناك أيضا مبادئ‬
‫الرتبية الذاتية وغريها ‪ ،‬ويف جمال الرتبية اإلسالمية تسعى كل من هذه املبادئ للوصول‬
‫باإلنسان إىل غاية خلقه ووجوده وحتقيق دوره يف احلياة ‪ ،‬وحيسن بالباحث قبل املضي‬
‫قدما توضيح املقصود بكلمة املبادئ وماذا نعين بقولنا ‪ :‬أن هناك مبادئ يف الرتبية‬
‫اإلسالمية مث ما هي وظيفة مبادئ الرتبية الذاتية ‪.‬‬
‫يقول ابن منظور ‪ :‬البدء فعل الشيء أول ‪ .. ،‬والبدء والبدئ ‪ :‬األول وأبدأت باألمر بدءا‬
‫‪ :‬ابتدأت به ‪ ،‬وبادئ الرأي ‪ :‬أوله وابتداؤه ‪ ،‬وقال الفراء ‪ :‬ال هتمزوا بادي الرأي أي أول‬
‫(‪)1‬‬
‫الرأي ألن املعىن فيما يظهر لنا ويبدو ‪ ،‬وقال ‪ :‬ولو أراد ابتداء الرأي فهمز كان صوابا‬
‫وصرح هارون بكلمة املبادئ فقال ‪ :‬املبدأ مبدأ الشيء أوله ومادته اليت يتكون منها‬
‫كالنواة مبدأ النخل ‪ ،‬أو يرتكب منها كاحلروف مبدأ الكالم ‪ ،‬ومجعها مبادئ ‪ ،‬ومبادئ‬
‫العلم أو الفن أو اخللق أو الدستور أو القانون ‪ :‬قواعده األساسية اليت يقوم عليها وال‬
‫(‪)2‬‬
‫خيرج عنها‬
‫وبالنظر إىل البحوث والدراسات الرتبوية املعاصرة وجد الباحث أن معظمها مل يتطرق إىل‬
‫تعريف واضح حمدد للمبادئ ‪ ،‬فتجد كتابا أو حبثا بعنوان مبادئ تربوية يف كذا أو لكذا ‪،‬‬
‫وإذا ما تصفحت ذلك الكتاب أو البحث جتد أن املؤلف أدرج بعض املفاهيم الرتبوية‬
‫معتربا إياها دون أن يوضح ماذا يقصد هبذا املصطلح الرتبوي ‪ ،‬وممن عرف هذا املصطلح‬
‫عبد الرمحن النحالوي حيث قال إن كلمة املبدأ تعرب عن ‪ :‬فكرة شاملة تنبثق عنها أفكار‬
‫فرعية أو تنظم على ضوئها عمليات فيزيائية أو كيماوية أو تربوية أو عالقات اجتماعية ‪،‬‬
‫وتأيت املبادئ على األغلب مصرحا هبا أو متضمنة يف البحوث أو القصص أو التشريعات‬

‫(‪ )1‬لسان العرب ‪ :‬حممد بن منظور ‪ ،‬دار صادر ‪ ،‬بريوت ‪ 1300‬هـ ‪ 15 ،‬جزءا ‪27/ 10 ،‬‬
‫(‪ )2‬املعجم الوسيط ‪ :‬عبد السالم هارون وآخرون ‪ ،‬طهران ‪ ،‬املكتبة العلمية ‪42 / 10 ،‬‬
‫أو جمموعة مرتبة يف العلوم الطبيعية ‪ ،‬أما مبادئ الرتبية اإلسالمية فيجدها الباحث موزعة‬
‫يف القرآن والسنة (‪)1‬‬
‫ويف موضع آخر حيدد النحالوي املبادئ الرتبوية اإلسالمية بأهنا ‪ :‬قواعد وقوانني تربوية‬
‫(‪)2‬‬
‫عامة واسعة الشمول مقتبسة من القرآن والسنة‬
‫ويرى الباحث أن التعريفات السابقة غري وافية لتعريف املبادئ الرتبوية اإلسالمية ‪،‬‬
‫ومتحيصا ملا ذكر يستخرج الباحث تعريفا يراه جامعا ‪ ،‬فمبادئ الرتبية اإلسالمية هي ‪:‬‬
‫قواعد أساسية شاملة تستنبط مباشرة من الكتاب والسنة وتنبثق عنها سلوكيات الفرد‬
‫املسلم واجملتمع املسلم‬
‫وال يقتصر غياب هذا املفهم على املؤلفات النظرية بل يتعداه إىل الواقع العملي يف حياة‬
‫كثري من املسلمني ‪ ،‬ومما يتأكد لدى كل عاقل حصيف أن املبادئ اإلسالمية عموما تبقى‬
‫كذلك وإن ختلى عنها أصحاهبا أو هتاونوا يف التمسك هبا واخلاسر الوحيد هو من أعرض‬
‫عنها ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وال حيزنك الذين يسارعون يف الكفر إهنم لن يضروا اهلل شيئا يريد‬
‫اهلل أال جيعل هلم حظا يف اآلخرة وهلم عذاب عظيم ‪ ،‬إن الذين اشرتوا الكفر باإلميان لن‬
‫يضروا اهلل شيئا وهلم عذاب أليم } [ آل عمران ‪] 177 ، 176 :‬‬

‫وقال تعاىل أيضا ‪ { :‬إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل وشاقوا الرسول من بعد ما تبني‬
‫هلم اهلدى لن يضروا اهلل شيئا وسيحبط أعماهلم } [ حممد ‪] 32 :‬‬
‫واآليتان السابقتان ـ وإن كانتا تتحدثان عن حال الكافرين أو املرتدين ـ إال أهنما تنطبقان‬
‫على واقع بعض املسلمني الذين تركوا املبادئ اإلسالمية األصيلة لينهلوا من مبادئ الشرق‬
‫أو الغرب ‪ ،‬واالستشهاد باآليتني هنا لبيان احلال فقط واهلل أعلم باملآل ‪ .‬وتعترب مبادئ‬
‫الرتبية اإلسالمية حبق عنصرا أصيال وركنا ركينا يف مسرية املربني واملريدين يهتدي هبديها‬
‫ويسار على خطاها لتؤتى العملية الرتبوية أكلها كل حني بإذن رهبا ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الرتبية اإلسالمية واملشكالت املعاصرة ‪ :‬عبد الرمحن النحالوي ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬مكتبة أسامة وبريوت املكتب‬
‫اإلسالمي ‪ ،‬الطبعة الثانية‪1405‬هـ ص ‪55‬‬
‫(‪ )2‬اإلصالح الرتبوي واالجتماعي والسياسي من خالل املبادئ واالجتاهات الرتبوية عند التاج السبكي ‪ :‬عبد الرمحن‬
‫النحالوي ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬املكتب اإلسالمي ‪ 1410 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪50‬‬
‫أما فيما يتعلق هبذا البحث فإننا نعرف مبادئ الرتبية الذاتية بأهنا األسس والركائز اليت‬
‫تضع الفرد املسلم أمام نفسه لريى مدى تطويعه هلذه املبادئ لتحقيق العبودية احلقة هلل‬
‫سبحانه وتعاىل ‪ ،‬وهي تذكرة بدوره ووظيفته كفرد مسلم من أمة حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬كما أهنا جتعله يسائل نفسه دائما ويراجعها مقوما ومرشدا لكي يستفيد من ذلك‬
‫يف سريه إىل ربه على صراط مستقيم ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه‬
‫وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ األنعام ‪:‬‬
‫‪] 153‬‬
‫عن عبد اهلل بن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬خط لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫خطا مث قال هذا سبيل اهلل مث خط خطوطا عن ميينه وعن مشاله مث قال هذه سبل متفرقة‬
‫على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ‪ ،‬مث قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه وال‬
‫تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ‪ [ ،‬أمحد ‪] 435 /1 :‬‬
‫وعن النواس بن مسعان ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫ضرب اهلل تعاىل مثال صراطا مستقيما وعلى جنبيت الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة‬
‫وعلى األبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط‬
‫مجيعا وال تتعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط ‪ ،‬فإذا أراد اإلنسان أن يفتح شيئا من‬
‫تلك األبواب قال ‪ :‬وحيك ال تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ‪ ،‬فالصراط اإلسالم والسوران‬
‫حدود اهلل تعاىل واألبواب املفتحة حمارم اهلل تعاىل وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب‬
‫اهلل والداعي من فوق ‪ :‬واعظ اهلل يف قلب كل مسلم ‪ [ ،‬أمحد ‪ 4/182 :‬وصححه‬
‫األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪] 3782‬‬
‫ال ريب أن مبادئ الرتبية الذاتية تستثري واعظ اهلل يف قلب كل مسلم للمبادرة إىل فعل‬
‫الطاعات وترك املنهيات جبميع أنواعهما ‪ ،‬أي لرتبية ذاته وتزكيتها وتقوميها ‪.‬‬
‫وقد اختار الباحث بعض مبادئ الرتبية الذاتية املستنبطة من الكتاب والسنة للحديث عنها‬
‫وقسمت إىل املباحث التالية ‪:‬‬
‫‪1‬ـ احلرية‬
‫‪2‬ـ املسؤولية واجلزاء‬
‫‪3‬ـ االهتمام باآلخرين‬
‫وسوف يتناول البحث كال منها بشيء من التفصيل والتوضيح‬
‫المبحث األول‬
‫الحرية‬
‫مقدمة ‪:‬‬
‫تتضمن احلرية تقرير املصري وهي من هذه الناحية تتفق مع الرتبية الذاتية ‪ ،‬ولذلك تعترب‬
‫احلرية إحدى العالمات املميزة للطبيعية اإلنسانية وهبا يقرر الفرد ما سيكونه وما سيفعله‬
‫(‪)1‬‬
‫وما سيعتقده‬
‫ولذا فهي من أبرز عوامل حتقيق الذات اإلنسانية واليت تسعى الرتبية لتحقيقها لتكوين‬
‫شخصية الفرد ‪ ،‬وقد وضع الشرع احلنيف أسسا واضحة لكل فرد ملمارسة احلرية حبيث‬
‫ال تستبد به رغباته وأهواؤه فتزل قدمه ويضل فكره وخيسر دنياه وآخرته ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬وال تتبع اهلوى فيضلك عن سبيل اهلل } [ ص ‪] 26:‬‬
‫وقال أيضا ‪ { :‬ومن أضل ممن اتبع هواه بغري هدى من اهلل } [ القصص ‪] 50 :‬‬
‫فاحلرية الفردية يف اإلسالم حمددة بضوابط وقيود جتعلها مرتبطة باألصل األصيل الذي خلق‬
‫اإلنسان ألجله أال وهو العبودية هلل تعاىل ‪ ،‬وهذا التشريع ليس سلبا لألفراد حريتهم بل من‬
‫أجل أن جينب البشرية اخلوض يف مزالق الردى ومهاوي الضالل قرونا طويلة ظلوا‬
‫(‪)2‬‬
‫يتخبطون فيها ويتعثرون يف جتارهبم وتؤدي هبم هذه التجارب إىل دمار األجيال‬
‫ومن فوائد هذا التشريع أيضا أن تراعى حقوق اجملتمع ومتطلباته اليت قد تتعارض أحيانا‬
‫مع حق الفرد وحريته ‪ ،‬وقد صور لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذلك تصويرا بليغا‬
‫فقال ‪ :‬مثل القائم على حدود اهلل والواقع فيها كمثل قوم استهموا يف سفينة فأصاب‬
‫بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها فكان الذين يف أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم‬
‫فقالوا لو أنا خرقنا يف نصيبنا ومل نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا‬
‫على أيديهم جنوا وجنوا مجيعا‪ [ ،‬البخاري ‪] 207 / 3 :‬‬

‫(‪ )1‬فلسفة الرتبية ‪ :‬فينكس ‪ 1402 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪422‬‬


‫(‪ )2‬املسئولية ‪ :‬حممد أمني املصري ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬دار األرقم ‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ 1400 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪156‬‬
‫فليس هناك فرد يعيش لوحده يفعل ما يشاء وقتما يريد حبجة أن له حرية شخصية‬
‫يتصرف هبا وفق هواه ‪ ،‬بل أن القضية مرتبطة بأفراد آخرين يتأثر كل منهم حبرية اآلخر ‪،‬‬
‫وهذا هو املنهج الذي ينبغي أن يراعى يف جانب احلرية ‪ ،‬يقول حممد قطب ‪ :‬ليس هناك‬
‫مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه مبفرده ‪ ،‬كل مصلحة هي مصلحتهم مجيعا ـ أي‬
‫مجيع األفراد ـ وكل ضرر هو ضرر يصيبهم مجيعا وال يستطيع أحد أن يتخل عن مسئوليته‬
‫(‪)1‬‬
‫يف هذا السبيل‬
‫وملا كانت احلرية هبذه الدرجة من احلساسية وكانت حباجة إىل مستوى معني من التوازن‬
‫‪ ،‬فإن على كل فرد مراعاة ذلك يف األقوال واألفعال وتوظيف هذا املبدأ ـ مبدأ احلرية ـ‬
‫وفق مراد اهلل ومراد رسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬وقد كفل الدين اإلسالمي ممثال يف‬
‫الكتاب والسنة حتقيق هذا املبدأ يف نفوس معتنقيه ‪ ،‬ويربز ذلك يف عدة جوانب منها ‪:‬‬
‫‪1‬ـ حرية العقيدة والعبادة ‪.‬‬
‫‪2‬ـ احلرية الفكرية ‪.‬‬
‫‪3‬ـ احلرية امللكية ‪.‬‬
‫‪4‬ـ احلرية العلمية ‪.‬‬

‫أوال ‪ :‬حرية العقيدة والعبادة‬


‫ويتفرع منها عنصران مها ‪:‬‬
‫‪1‬ـ حرية العقيدة ‪.‬‬
‫‪2‬ـ حرية العبادة ‪.‬‬
‫‪1‬ـ حرية العقيدة ‪:‬‬
‫بادئ ذي بدء يقرر اإلسالم حرية اعتناق اإلسالم فال يكره أحدا على تبديل عقيدته‬
‫وإن كان يدعو إىل ذلك ‪ ،‬وفرق بني اإلكراه على اإلسالم والدعوة إليه ‪ .‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫{ ال إكراه يف الدين قد تبني الرشد من الغي } [ البقرة ‪ ] 256 :‬وقال أيضا ‪ { :‬فمن‬
‫شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف ‪ . ] 29 :‬فأمر اهلدى والضالل أو اإلميان‬
‫والكفر بيد كل إنسان وال حق ألحد مهما كان أن يكره غريه أو جيربه قسرا على ذلك‬
‫(‪ )1‬اإلنسان بني املادية واإلسالم ‪ :‬حممد قطب ‪ ،‬دار الشروق ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة السادسة ‪ 1400 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪168‬‬
‫فإن فعل فهو مستبد ظامل ‪ .‬يقول سيد قطب – رمحه اهلل ‪ : -‬إن حرية االعتقاد هي أول‬
‫حقوق اإلنسان اليت يثبت له هبا وصف إنسان ‪ ،‬فالذي يسلب إنسانا حرية االعتقاد إمنا‬
‫يسلبه إنسانيته ابتداء ‪ ،‬ومع حرية االعتقاد حرية الدعوة للعقيدة واألمن من األذى والفتنة‬
‫وإال فهي حرية باالسم ال مدلول هلا يف واقع احلياة ‪ ، ...‬ويف هذا املبدأ يتجلى تكرمي اهلل‬
‫لإلنسان واحرتام إرادته وفكره ومشاعره وترك أمره لنفسه فيما خيتص باهلدى والضالل‬
‫يف االعتقاد وحتميله تبعة عمله وحساب نفسه وهذه هي أخص خصائص التحرر اإلنساين‬
‫‪ ،‬التحرر الذي تنكره على اإلنسان يف القرن العشرين مذاهب متعسفة ونظم مذلة ال‬
‫تسمح هلذا الكائن الذي كرمه اهلل – باختياره لعقيدته – أن ينطوي ضمريه على تصور‬
‫للحياة ونظمها غري ما متليه عليه الدولة بشىت أجهزهتا التوجيهية وما متليه عليه بعد ذلك‬
‫بقوانينها وأوضاعها ‪ ،‬فإما أن يعتنق مذهب الدولة هذا وهو حيرمه من اإلميان بإله للكون‬
‫(‪)1‬‬
‫يصرف هذا الكون ‪ ،‬وإما أن يتعرض للموت بشىت الوسائل واألسباب‬
‫وللحرية الفردية يف اإلسالم مسار ينبغي أن تسري فيه ‪ .‬يقول تعاىل ‪ { :‬فمن يكفر‬
‫بالطاغوت ويؤمن باهلل فقد استمسك بالعروة الوثقى ال انفصام هلا } [ البقرة ‪] 256 :‬‬
‫ويقول أيضا ‪ { :‬ومن يسلم وجهه إىل اهلل وهو حمسن فقد استمسك بالعروة الوثقى }‬
‫[ لقمان ‪. ] 22 :‬‬
‫فاالستمساك بالشرع احلنيف هو املسار الصحيح للحرية الفردية ‪ ،‬وهو التوجيه اإلهلي‬
‫لنبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم وصحبه حيث قال ‪ { :‬فاستقم كما أمرت ومن تاب‬
‫معك وال تطغوا } [ هود ‪ ] 112 :‬فكان كل منهم كما وصفهم اهلل تعاىل يف كتابه‬
‫الكرمي ‪ { :‬رجال ال تلهيهم جتارة وال بيع عن ذكر اهلل وإقام الصالة وإيتاء الزكاة خيافون‬
‫يوما تتقلب فيه القلوب واألبصار } [ النور ‪. ] 37 :‬‬
‫إن استشعار املؤمن حلرية العقيدة اليت كفلها اإلسالم يزيده يقينا باهلدى الذي منحه‬
‫اهلل عز وجل له واختاره من بني كثري من الناس لالعتناق به ‪ ،‬ونداء الفطرة الذي أوجد‬
‫يف كل إنسان يقوده بسهولة إىل التشبث باملنهج احلق دون عناء أو مشقة ‪ ،‬بل ويتحمل‬
‫يف سبيله كل املصاعب واآلالم والعقبات اليت يضعها الطغاة لصرفه عن مسايرة فطرته‬

‫يف ظالل القرآن ‪ ،‬مرجع سابق ‪. 1/291‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫والتمشي مبوجبها ‪ ،‬والسبب الكامن وراء ذلك أنه ال ميكن له أن يتخلى عن تلك الفطرة‬
‫اليت غرست يف كيانه وأصبحت جزءا ال يتجزأ من نفسه اليت بني جنبيه ‪.‬‬
‫مناذج واقعية يف تطبيق حرية العقيدة ‪:‬‬
‫وفيما يلي يستعرض الباحث تطبيقات واقعية حلرية العقيدة يف حياة أفراد من خري القرون‬
‫‪:‬‬
‫‪1‬ـ عندما أسلم عمر بن اخلطاب ـ رضي اهلل عنه ـ وأعلن إسالمه وعلمت قريش بذلك‬
‫ثاروا عليه وما برح يقاتلهم ويقاتلونه حىت قامت الشمس على رؤوسهم ‪ ،‬وملا أعيا عمر‬
‫قعد وقال ‪ :‬افعلوا ما بدا لكم فأحلف باهلل أن لو قد كنا ثالث مائة رجل لقد تركناهم‬
‫لكم أو تركتموها لنا ‪ ،‬وبينما هم كذلك إذ أقبل العاص بن وائل السهمي فقال ‪ :‬ما‬
‫شأنكم ؟ قالوا صبأ عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بين‬
‫(‪)1‬‬
‫عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل ‪ ،‬فتفرقوا عنه‬
‫‪2‬ـ وملا أسلم عثمان بن عفان ـ رضي اهلل عنه ـأخذه عمه احلكم بن أيب العاص بن أمية‬
‫فأوثقه رباطا وقال ‪ :‬أترغب عن ملة آبائك إىل دين حمدث ؟ واهلل ال أحلك أبدا حىت تدع‬
‫ما أنت عليه عن هذا الدين ؟ فقال عثمان‪ :‬واهلل ال أدعه أبدا وال أفارقه ‪ ،‬فلما رأى احلكم‬
‫(‪)2‬‬
‫صالبته يف دينه تركه‬
‫‪3‬ـ وهذا بالل وخباب وآل ياسر وغريهم ـ رضي اهلل عنهم ـ كانوا يعذبون يف ذات اهلل من‬
‫أجل أن يتنازلوا عن حريتهم ومع ذلك صربوا وحتملوا الشدائد حىت لقي بعضهم حتفه‬
‫وهو يف ذلك العذاب ‪ ،‬وبقي البعض حيدث عما لقيه من العنت والشدة ‪ ،‬وكلهم قد لقي‬
‫اهلل وهو راض عنه ‪.‬‬
‫‪2‬ـ حرية العبادة ‪:‬‬
‫أما احلرية يف العبادة فهي فرع من احلرية يف العقيدة ‪ ،‬وحيث أن العبادة هي فعل‬
‫للمأمورات وترك للمنهيات فقد وضع لنا صلى اهلل عليه وسلم القاعدة يف ذلك قائال ‪ :‬ما‬
‫هنيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم‪ [...‬مسلم ‪] 4/1830:‬‬

‫(‪ )1‬السرية النبوية ‪ :‬ابن هشام ‪ ،‬أبو حممد عبد امللك احلميدي ‪ ،‬حتقيق ‪ /‬مصطفى السقا وآخرون ‪1/348‬‬
‫(‪ )2‬حياة الصحابة ‪ :‬حممد يوسف الكاندهلوي ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬دار القلم ‪1403 ،‬هـ ‪ 3 ،‬أجزاء ‪1/386 ،‬‬
‫وهذا احلديث كما قال النووي يف شرح مسلم ‪ :‬من قواعد اإلسالم املهمة ومن جوامع‬
‫(‪)1‬‬
‫الكلم اليت أعطيها صلى اهلل عليه وسلم ويدخل فيه ما ال حيصى من األحكام‬
‫ومن أحكامه ودالئله أنه يتعني على كل مسلم ‪ :‬االعتناء به واالهتمام أن يبحث عما جاء‬
‫عن اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم مث جيتهد يف فهم ذلك والوقوف على معانيه مث‬
‫يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من األمور العلمية وإن كان من األمور العملية بذل‬
‫وسعه يف االجتهاد يف فعل ما يستطيعه من األوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون مهته‬
‫مصروفة إىل ذلك ال إىل غريه وهكذا كان أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم والتابعون‬
‫هلم بإحسان يف طلب العلم النافع من الكتاب والسنة (‪ )2‬ومن هذا احلديث يتبني لنا عدة‬
‫أمور هي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن ما هنى عنه الشارع احلكيم يرتكه الفرد املسلم بالكلية‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن جيتهد يف فعل كل األوامر‪.‬‬
‫‪3‬ـ أن ما أمر به يفعله قدر االستطاعة ‪.‬‬
‫فالواجب إذن على كل مكلف أن جيتنب املنهيات واحملرمات واملكروهات ‪ ،‬مع املبادرة‬
‫إىل فعل الطاعات واملسارعة إىل اخلريات وتنويع القربات لتمتلئ الصحائف باحلسنات ‪،‬‬
‫ولو تتبعنا شعائر اإلسالم وفرائضه لوجدناها كثرية جدا وكذلك الواجبات والسنن‬
‫واملستحبات ‪ ،‬وال ميكن لفرد أن يقوم هبا كلها يف وقت واحد ويف ساعة واحدة ‪ ،‬ومن‬
‫أمثلة ذلك ‪ :‬الصالة والصيام والزكاة واحلج والصدقة وزيارة املريض وقيام الليل واألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر وقراءة القرآن وتشييع اجلنازة وإكرام الضيف وتعليم اجلاهل‬
‫ومساعدة اجلريان واجلهاد يف سبيل اهلل وخمالطة الناس للنصح واإلرشاد وغري ذلك من‬
‫أمور العبادة ‪ ،‬ويف ذلك يظهر مبدأ الفروق الفردية بني العباد ‪ ،‬كما يظهر مبدأ احلرية يف‬
‫العبادة ‪ ،‬فقد يكون لعبد من العباد أن يكثر من النوافل آناء الليل وأطراف النهار وآخر‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم بشرح النووي‪ :‬أبو زكريا حيىي بن شرف النووي ‪ ،‬اإلسكندرية ‪ ،‬دار الريان للرتاث ‪ 1407 ،‬هـ‬
‫‪ 9 ،‬أجزاء ‪5/102‬‬
‫(‪ )2‬جامع العلوم واحلكم يف شرح مخسني حديثا من جوامع الكلم ‪ :‬عبد الرمحن بن رجب ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬مؤسسة‬
‫الكتب الثقافية ‪1382 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪79‬‬
‫رغبته يف اإلكثار من قراءة القرآن ‪ ،‬وفرد ثالث يكثر من الصدقة ورابع مشتغل بتعليم‬
‫عوام الناس أمور دينهم وخامس آخذ بعنان فرسه جياهد يف سبيل اهلل ‪.... ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫ولكن ذلك ال مينع أن جتتمع بعض هذه األمور أو كلها لشخص واحد وقليل ما هم ‪.‬‬
‫روى أبو هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬من أنفق‬
‫زوجني يف سبيل اهلل نودي يا عبد اهلل هذا خري فمن كان من أهل الصالة دعي من باب‬
‫الصالة ومن كان من أهل اجلهاد دعي من باب اجلهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي‬
‫من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ‪ ،‬قال أبو بكر الصديق ‪:‬‬
‫يا رسول اهلل ‪ :‬ما على أحد يدعى من تلك األبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك‬
‫األبواب كلها ‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬نعم وأرجو أن تكون منهم‪،‬‬
‫[مسلم ‪] 2/712 :‬‬
‫(‪)1‬‬
‫قال النووي ـ رمحه اهلل ـ ‪ :‬قال العلماء معناه من كان الغالب عليه يف عمله وطاعته ذلك‬
‫ويقول اإلمام املقدسي ‪ :‬وقد كانت أحوال املتعبدين من السلف خمتلفة ‪ ،‬فمنهم من كان‬
‫يغلب على حاله التالوة حىت خيتم كل يوم ختمة أو ختمتني أو ثالثا وكان فيهم من يكثر‬
‫(‪)2‬‬
‫التسبيح ومنهم من يكثر الصالة ومنهم من يكثر الطواف بالبيت‬
‫امليزان الصحيح ألفضل العبادة ‪:‬‬
‫وإن سأل سائل ما هو امليزان الصحيح ألفضلية العبادة ؟ وما هي القربات اليت حيبها اهلل‬
‫أفضل من غريها كي يستزيد منها املرء ؟ وما هو األنفع واألحق باإليثار والتخصيص يف‬
‫منازل العبودية ؟ واجلواب على ذلك جد يسري فإن ‪ :‬أفضل العبادة يف كل وقت وحال ‪:‬‬
‫إيثار مرضاة اهلل يف ذلك الوقت واحلال واالشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته‬
‫(‪)1‬‬
‫ومقتضاه‬
‫فكل زمان أو مكان له عبادة أفضل من غريها ‪ ،‬فمن كان جبوار الكعبة فاألفضل له أن‬
‫يطوف بدال من اجللوس لقراءة القرآن ‪ ،‬ومن تيسر له الوقوف بعرفة فذلك أفضل من‬
‫حضور جملس للذكر ‪ ،‬وأفضل العبادات يف وقت اجلهاد ‪ :‬اجلهاد وإن آل إىل ترك األوراد‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم بشرح النووي ‪ :‬مرجع سابق ‪4/116 ،‬‬


‫(‪ )2‬خمتصر منهاج القاصدين ‪ :‬املقدسي أمحد بن عبد الرمحن املقدسي مكة دار الباز ‪1398‬هـ ‪ ،‬ص ‪65‬‬
‫(‪ )1‬هتذيب مدارج السالكني ‪ :‬عبد املنعم العزى ‪ ،‬جدة ‪،‬دار املطبوعات احلديثة ‪ 1405 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪72‬‬
‫من صالة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إمتام صالة الفرض كما يف حالة األمن‬
‫والطمأنينة ‪ ،‬واألفضل يف وقت حضور الضيف القيام حبقه من إكرام وغريه واالنشغال به‬
‫عن حق األهل واألوالد ‪ ،‬واألفضل وقت السحر االشتغال بالصالة والقرآن وترك الزوجة‬
‫والفراش ‪ ،‬واألفضل وقت انتشار غياهب اجلهل وظلماته هو الدعوة إىل اهلل والنصح‬
‫واإلرشاد وإن أدى ذلك إىل التقصري يف زيارة األقارب وخاصة البعيدين منهم ‪ ،‬فهذا هو‬
‫العبد احلر أو ما يسميه العزى العبد املطلق الذي ‪ :‬مل متلكه الرسوم ومل تقيده القيود ومل‬
‫يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذهتا وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو‬
‫كانت راحة نفسه ولذهتا يف سواه ‪ ،‬فهذا هو املتحقق بـ { إياك نعبد وإياك نستعني }‬
‫حقا ‪ ،‬القائم هبما صدقا ‪ ،‬ملبسه ما هتيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله مبا أمر اهلل به يف كل‬
‫وقت بوقته وجملسه حيث انتهى به املكان ووجده خاليا ‪ ،‬ال متلكه إشارة وال يتعبده قيد‬
‫وال يستويل عليه رسم ‪ ،‬حر جمرد ‪ ،‬دائر مع األمر حيث دار يدين بدين اآلمر أىن توجهت‬
‫ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه ‪ ،‬يأنس به كل حمق ويستوحش منه كل مبطل‬
‫كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة ال يسقط ورقها وكلها منفعة حىت شوكها وهو موضع‬
‫الغلظة منه على املخالفني ألمر اهلل والغضب إذا انتهكت حمارم اهلل فهو هلل وباهلل ومع‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل‬
‫تلك هي الصورة املثالية يف حرية العبادة أو ما ينبغي أن يكون ‪ ،‬أما التطبيق العملي‬
‫للحرية الذاتية يف العبادة يف واقع املسلمني فيتمثل يف قوله تعاىل ‪ { :‬مث أورثنا الكتاب‬
‫الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظامل لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق باخلريات بإذن‬
‫اهلل ذلك هو الفضل الكبري } [ فاطر ‪ ] 32 :‬فاخللق ثالثة أصناف يف العبادة ‪ :‬ظامل‬
‫ومقتصد وسابق ‪ ،‬ويوضح ابن تيمية ـ رمحه اهلل ـ هذه األصناف بقوله ‪ :‬فالظامل لنفسه‬
‫العاصي برتك مأمور أو فعل حمظور ‪ ،‬واملقتصد املؤدي للواجبات والتارك للمحرمات‬
‫والسابق باخلريات املتقرب مبا يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرم‬
‫(‪)2‬‬
‫واملكروه‬

‫(‪ )1‬هتذيب مدارج السالكني ‪ :‬عبد املنعم العزى ‪ ،‬جدة ‪ ،‬دار املطبوعات احلديثة ‪ 1405 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪73‬‬
‫(‪ )2‬جمموع فتاوى شيخ اإلسالم أمحد بن تيمية ‪ :‬مجع وترتيب عبد الرمحن بن حممد بن قاسم العاصمي‪ .‬النجدي‬
‫وابنه حممد ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬مطابع الرياض ‪ ،‬الطبعة األوىل ‪1381 ،‬هـ ‪ 1/5،‬ـ ‪6‬‬
‫وبفهم واع وبصرية نافذة يقرر ابن تيمية حقيقة احلرية يف العبادة لدى الفرد فهو يرى أن‬
‫العبد كلما ازداد حبا هلل ازداد له عبودية وحرية عما سواه ‪ ،‬ومن جهة أخرى كلما ازداد‬
‫له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه(‪.)3‬‬
‫وحرية العبادة اليت هي حق لكل فرد يف اجملتمع املسلم هلا تأثري بالغ يف عبادته وتؤثر‬
‫مباشرة يف شخصيته ‪ ،‬فإذا أدى العبد ما افرتض اهلل عليه من العبادات أمكنه بال حرج أن‬
‫يتنقل بني العبادات األخرى فيما متيل إليها نفسه وتشتاق إليها روحه أكثر من غريها ‪،‬‬
‫وبذلك يقبل عليها بنفس مطمئنة راضية ويندفع يف آدائها بكل رغبة وارتياح ‪.‬‬
‫ويستنبط الباحث حرية العقيدة والعبادة معا يف القرآن من قوله تعاىل ‪ { :‬من كان يريد‬
‫العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ملن نريد مث جعلنا له جهنم يصالها مذموما مدحورا ‪ ،‬ومن‬
‫أراد اآلخرة وسعى هلا سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ‪ ،‬كال مند هؤالء‬
‫وهؤالء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك حمظورا } [ اإلسراء ‪ 18 :‬ـ‪] 20‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الحرية الفكرية‬
‫ومن عناصرها ‪ :‬حرية االجتهاد‬
‫لقد كفل اإلسالم ألفراده حرية االجتهاد وابداء الرأي وأحاط ذلك بسياج قوي من‬
‫الدعم والتوجيه ‪ ،‬وبنظرة سريعة للفقه اإلسالمي جند أن الفقهاء ـ رمحهم اهلل ـ قد اعتربوا‬
‫االجتهاد مصدرا من مصادر التشريع اإلسالمي ‪ ،‬واالجتهاد هو ‪ :‬استفراغ الوسع يف‬
‫طلب الظن بشيء من األحكام الشرعية على وجه حيس من النفس بالعجز عن املزيد‬
‫(‪)1‬‬
‫عليه‬
‫وحيث أن يف االجتهاد يف األحكام الشرعية توقيعا عن رب العاملني فقد اشرتط يف اجملتهد‬
‫شروط عدة لكي يتسىن له االجتهاد(‪ ، )2‬فليس يف الشريعة حتجري للعقول وكبت لآلراء‬

‫(‪ )3‬العبودية ‪ :‬ابن تيمية ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ ،‬بريوت ‪1401 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪29‬‬
‫(‪ )1‬األحكام يف أصول األحكام (‪ : ) 370‬أبو احلسن علي اآلمدي ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪1400 ،‬هـ ‪4 ،‬‬
‫أجزاء ‪218/ 4 ،‬‬
‫(‪ )2‬شرح الكوكب املنري ‪ :‬ابن النجار ‪ ،‬حتقيق حممد الزحيلي ونزيه محاد ‪ ،‬مكة ‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ ،‬مركز البحث‬
‫العلمي ‪ 1400 ،‬هـ ‪ 4 ،‬أجزاء ‪4/459 ،‬‬
‫بل يف األمر تيسري وسعة خاصة فيما يستجد من أمور احلياة ومتطلباهتا وما يعرض للناس‬
‫من أقضية وأحكام ‪.‬‬
‫وتؤيد نصوص الكتاب والسنة ذلك االجتهاد يف مواضع كثرية ‪ ،‬يقول سبحانه وتعاىل ‪:‬‬
‫{ وداود وسليمان إذ حيكمان يف احلرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا حلكمهم شاهدين‬
‫‪ ،‬ففهمناها سليمان وكال آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود اجلبال يسبحن والطري‬
‫وكنا فاعلني } [ ‪ ] 79 ، 78‬ففي اآلية الثانية اختص اهلل عز وجل سليمان عليه السالم‬
‫بالفهم مث أثىن على داود وسليمان عليهما السالم باحلكم والعلم ‪ ،‬أما ابن كثري فيقول ‪:‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فأثىن اهلل على سليمان ومل يذم داود‬
‫أي كأن اهلل سبحانه وتعاىل قد أقر كال منهما على اجتهاده ‪ ،‬وثبت عن عمرو بن العاص‬
‫ـ رضي اهلل عنه ـ أنه مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬إذا حكم احلاكم فاجتهد‬
‫احلاكم مث أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد مث أخطأ فله أجر [ البخاري ‪/ 4 :‬‬
‫‪] 372‬‬
‫ويرى الباحث أن تقرير هذه النصوص من الكتاب والسنة حث لكل عبد على االجتهاد‬
‫فيما يستطيعه من األمور الرتبوية أو االجتماعية أو غريها ‪ ،‬فإذا ما واجه الفرد قضية من‬
‫القضايا اليت ال نص فيها من الشرع وتأكد من ذلك ‪ ،‬أمكنه أن يعمل فكره ويشحذ ذهنه‬
‫إلحراز الصواب ‪.‬‬
‫أمثلة لالجتهاد من حياة الرسول وأصحابه ‪:‬‬
‫وإذا تتبعنا السرية النبوية جند أمثلة كثرية الجتهاد النيب صلى اهلل عليه وسلم وصحبه‬
‫الكرام منها ‪:‬‬
‫‪1‬ـ قبوله عليه السالم للفداء من أسرى بدر فأنزل اهلل معاتبا إياه على ذلك قال تعاىل ‪:‬‬
‫{ ما كان لنيب أن يكون له أسرى حىت يثخن يف األرض } [ األنفال ‪ ]67 :‬فهذا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم جيتهد يف قضية أسرى بدر ‪ [ .‬مسلم ‪] 1385/ 3 :‬‬
‫‪2‬ـ ما وقع منه عليه السالم من اإلذن للمعتذرين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك فأنزل اهلل‬
‫معاتبا ‪ { :‬عفا اهلل عنك مل أذنت هلم حىت يتبني لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبني }‬

‫(‪ )3‬تفسري القرآن العظيم ‪ :‬إمساعيل بن كثري دار املعرفة ‪ ،‬بريوت ‪ 1400 ،‬هـ ‪ 4 ،‬أجزاء‬
‫[ التوبة ‪ ] 44 :‬وهنا يعاتب اهلل نبيه يف اجتهاده يف احلكم على املتخلفني عن غزوة تبوك‬
‫‪.‬‬
‫‪3‬ـ قوله صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه ‪ :‬ال يصلني أحد العصر إال يف بين قريظة ‪ ،‬فصلى‬
‫بعضهم يف الطريق اجتهادا منهم ومل يصل البعض اآلخر حىت وصلوا إىل بين قريظة ومل‬
‫يعنف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحدا منهم الجتهاده ‪ [ .‬مسلم ‪] 1391 / 3 :‬‬
‫‪4‬ـ قصة بعث معاذ بن جبل ـ رضي اهلل عنه ـ إىل اليمن وملا سأله عليه السالم مب حتكم قال‬
‫‪ :‬بكتاب اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن مل جتد ‪ ،‬قال ‪ :‬بسنة رسول اهلل ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن مل جتد ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫أجتهد رأيي وال آلو ‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬احلمد هلل الذي وفق رسول‬
‫رسول اهلل ملا يرضى رسول اهلل ‪ [ .‬أبو داود ‪ 19/ 4 :‬وأخرجه الرتمذي وقال ‪ :‬وليس‬
‫إسناده عندي مبتصل ]‪.‬‬
‫قال ابن القيم تعليقا على احلديث ‪ :‬وقد أقر النيب صلى اهلل عليه وسلم معاذا على اجتهاد‬
‫رأيه فيما مل جيد فيه نصا عن اهلل ورسوله ‪.‬‬
‫ثالثا الحرية الملكية‬
‫لقد متشي اإلسالم مع فطرة اإلنسان وغريزته يف حب املال ومتلكه ‪ ،‬أتاح له فرص‬
‫الكسب املختلفة ومسح له أن حيوز مثرة جهده ونتيجة عطائه دون أن ميس كرامة غريه أو‬
‫جيور عليهم يف ظل الشرع احلنيف ‪ ،‬وقد قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ال تزول قدما عبد‬
‫يوم القيامة حىت يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه‬
‫وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أباله ‪ [ .‬الرتمذي ‪] 4/529 :‬‬
‫ويبني اخلويل وظيفة احلافز الفردي يف امللكية الفردية فيقول ‪ :‬إنه قانون نفساين ذو‬
‫خصائص إجيابية يؤدي به املرء دوره يف عمارة األرض على أمت وجه ‪ ،‬ومن هذه‬
‫اخلصائص نزوعه إىل االستيالء على حصيلة عمله وأن حتقيق هذا االستيالء هو االستجابة‬
‫(‪)1‬‬
‫الواجبة ليحقق هذا القانون أثره الذي أراد اهلل له ‪.‬‬
‫ولكن اإلسالم أباح التكسب ومجع املال ضمن ضوابط شرعية معينة ويف إطار مراتب‬
‫متدرجة ‪ ،‬يقول الشيباين صاحب اإلمام أيب حنيفة ‪:‬‬
‫(‪ )1‬الثروة يف ظل اإلسالم ‪ :‬البهي اخلويل ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار االعتصام ‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ 1398 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫مث الكسب على مراتب ‪ ،‬فمقدار ما البد لكل أحد منه يعين ما يقيم به صلبه يفرتض على‬
‫كل أحد اكتسابه عينا ألنه ال يتوصل إىل إقامة الفرائض إال به ‪ ،‬ومما يتوصل به إىل‬
‫الفرائض يكون فرضا فإن مل يكتسب زيادة على ذلك فهو يف سعة من ذلك لقوله صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬من أصبح آمنا يف سربه معاىف يف بدنه عنده قوت يومه فكأمنا حيزت له‬
‫الدنيا حبذافريها ‪ [ .‬الرتمذي ‪. ] 496 / 4 :‬‬
‫وهذا إن مل يكن عليه دين فإن كان عليه دين فاالكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض‬
‫عليه ألن قضاء الدين يستحق عليه عينا وباالكتساب يتوصل إليه ‪.‬‬
‫وكذا إن كان له عيال من زوجة وأوالد فإنه يفرتض عليه الكسب بقدر كفايتهم عينا‬
‫ألن اإلنفاق عليهم مستحق عليه وإمنا يتوصل إىل إيفاء هذا املستحق بالكسب ‪ ،‬والكسب‬
‫زيادة على ذلك فيه سعة(‪.)1‬‬
‫وإذا حاز اإلنسان على كل شيء من هذا املال وجب عليه أن يقوم مبتطلباته وتكاليفه ‪،‬‬
‫فاملال الذي ميتلكه اإلنسان هو مال اهلل وهو مستخلف فيه وهو مسئول عن كسبه وإنفاقه‬
‫ال ريب ‪ ،‬وإذا امتلك عبد هذا املال ـ مهما كثر ـ فإنه يبقى فقريا إىل خالقه ومواله ‪،‬‬
‫حمتاجا إىل رمحته ومغفرته ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬يا أيها الناس أنتم الفقراء إىل اهلل واهلل هو الغين‬
‫احلميد } [ فاطر ‪.] 15 :‬‬
‫يقول اخلويل ‪ :‬وإذا أدرك اإلنسان حقيقة االفتقار يف نفسه عرف أهنا فطرته فالتزمها‬
‫وجعلها منهاجا ‪ ،‬وإذا استعلنت له حقيقة السلب يف نفسه بدت كل املواهب نعما وإرادة‬
‫من اهلل ومنعه ذلك أن يزهى هبا على غريه ‪ ،‬واإلحساس باالفتقار يدفع إىل اإلقبال على‬
‫(‪)1‬‬
‫اهلل ليستمد اإلجياب من معاين صفاته ‪.‬‬
‫فاملال عارية مردودة وإن بقي ألحد فلن يبقى له أحد حيث أنه متاع احلياة الفانية ‪ ،‬قال‬
‫تعاىل ‪ { :‬زين للناس حب الشهوات من النساء والبنني والقناطري املقنطرة من الذهب‬
‫والفضة واخليل املسومة واألنعام واحلرث ذلك متاع احلياة الدنيا واهلل عنده حسن املآب }‬
‫[ آل عمران ‪.] 14 :‬‬

‫(‪ )1‬االكتساب يف الرزق املستطاب ‪ ،‬حممد بن احلسن الشيباين ‪ ،‬حتقيق حممود عرنوس ‪ ،‬مكة دار الباز للنشر‬
‫والتوزيع ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪ 35‬ـ ‪. 36‬‬
‫(‪ )1‬الثروة يف ظل اإلسالم مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪49‬‬
‫ولن ينفع هذا املال صاحبه إال إذا استغله فيما يرضي اهلل عز وجل ويعود عليه بالنفع‬
‫والفالح يوم ال ينفع مال وال بنون إال من أتى اهلل بقلب سليم ‪ ،‬ويف ذلك حث وحتريض‬
‫لكل من ميلك أن يستبدل ما عند اهلل من اللذات احلقيقية األبدية بالشهوات املخدجة‬
‫الناقصة الفانية (‪. )1‬‬
‫وقد امتدح النيب صلى اهلل عليه وسلم املال الذي ينفق يف أوجه الرب بقوله ‪ :‬نعم املال‬
‫الصاحل للمرء الصاحل ‪ [ ،‬أمحد ‪] 197 / 4 :‬‬
‫إن ذاتية الفرد املالك تكمن يف تغلبه على نوازعه الشيطانية وتسخري املال الذي رزقه اهلل‬
‫لتزكية نفسه وتربيتها لتمضي مع النصوص القرآنية الكثرية اليت تشري إىل ذلك ومنها ‪:‬‬
‫{ وآتى املال على حبه ذوى القرىب واليتامى واملساكني وابن السبيل والسائلني ويف‬
‫الرقاب ‪ [ } ...‬البقرة ‪ { ] 177 :‬املال والبنون زينة احلياة الدنيا والباقيات الصاحلات‬
‫خري عند ربك ثوابا وخري أمال } [ الكهف ‪.] 46 :‬‬
‫وقوله ‪ { :‬وسيجنبها األتقى ‪ ،‬الذي يؤتى ماله يتزكى } [ الليل ‪ { ، ] 18 :‬ومثل‬
‫الذين ينفقون أمواهلم ابتغاء مرضات اهلل وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصاهبا وابل‬
‫فآتت أكلها ضعفني فإن مل يصبها وابل فطل واهلل مبا تعملون بصري } [ البقرة ‪:‬‬
‫‪ { ، ] 265‬انفروا خفاقا وثقاال وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم يف سبيل اهلل ذلكم خري‬
‫لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة ‪. ] 41 :‬‬
‫إضافة إىل ذلك فإن التطبيق الصحيح حلرية التملك خيلص النفس من أنانيتها واستئثارها مبا‬
‫وهبها اهلل ‪ ،‬ويف التعود على البذل والعطاء راحة للضمري وسكينة للفؤاد ‪ ،‬وإذا أدرك املرء‬
‫أن املال مال اهلل وأن الذي أعطاه اليوم ميكنه أن يأخذه غدا ويعطيه لغريه ‪ ،‬جيعله دوما‬
‫يشعر باحلاجة إىل ما عند اهلل فيقبل عليه بالطاعات ويوظف ماله يف مرضاة اهلل لنيل ما‬
‫عند اهلل من النعيم املقيم ‪.‬‬
‫إن حرية التملك اليت أقرها اإلسالم لألفراد ال هتيئ هلم البذل والعطاء لالنعتاق من ذل‬
‫القيود األرضية فحسب ‪ ،‬بل هتيئ هلم اإلنفاق يف املباحات وتوفري املال وتثمريه يف ظل‬
‫الشريعة الغراء ‪ ،‬وهلذه احلرية منافع مجة ‪ ،‬يقول سيد قطب ‪ :‬وتقرير حق امللكية الفردية‬
‫(‪ )1‬دليل الفاحلني لطرق رياض الصاحلني ‪ :‬حممد عالن الصديقي ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ 1405 ،‬هـ ‪4 ،‬‬
‫أجزاء ‪.385 / 2‬‬
‫حيقق العدالة بني اجلهد واجلزاء فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع امليول األصلية يف النفس‬
‫البشرية ‪ ،‬تلك امليول اليت حيسب اإلسالم حساهبا يف إقامة نظام اجملتمع ويف الوقت ذاته‬
‫يتفق مع مصلحة اجلماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد يف طوقه لتنمية احلياة ‪ ،‬فوق‬
‫ما حيقق من العزة والكرامة واالستقالل ومنو الشخصية لألفراد حبيث يصلحون أن يكونوا‬
‫أمناء على هذا الدين ‪ ،‬يقفون يف وجه املنكر وحياسبون احلاكم وينصحونه دون خوف‬
‫من انقطاع أرزاقهم لو كانت يف يديه (‪.)1‬‬
‫فمما تسعى إليه الرتبية اإلسالمية أن يكون التوافق كبريا بني فطرة اإلنسان واحلرية امللكية‬
‫اليت أبيحت له ‪.‬‬
‫والفرد املسلم املنتمي إىل اجلماعة املسلمة ال يرضى لنفسه أن تتنعم باملال وال تتذكر‬
‫إخواهنا من حوهلا فتبادر إىل املسامهة يف بناء اجملتمع من خالل هذا املال فيشعر يف قرارة‬
‫نفسه أنه قدم شيئا لإلسالم واملسلمني ‪.‬‬
‫ويتعجب املرء حني يسمع عن اجلمعيات املنحرفة واملؤسسات الضالة اليت يسخو أصحاهبا‬
‫سخاء ال تعرفه اجلمعيات واهليئات اإلسالمية ‪ ،‬بل وينظمون أمورها تنظيما ينتج الشر‬
‫الكبري ويثمر الفتنة العارمة اليت ال يشقى بويالهتا إال امللتزمني بشرائع اإلسالم (‪.)2‬‬
‫منوذج فريد لتطبيق احلرية امللكية ‪:‬‬
‫وإذا أردنا مثاال لنفس حررت ذاهتا من قيود املال وكانت تطبيقا عمليا لتلك اآليات‬
‫فلننظر إىل شخصية احلبيب صلى اهلل عليه وسلم وسريته القولية والعملية فإهنا صورة‬
‫مقتبسة من القرآن الكرمي ‪ ،‬يقول العالمة ابن القيم رمحه اهلل ‪ :‬كان صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أعظم الناس صدقة مبا ملكت يده وكان ال يستكثر شيئا أعطاه هلل تعاىل وال يستقله وكان‬
‫ال يسأله أحد شيئا إال أعطاه قليال كان أو كثريا وكان عطاؤه عطاء من ال خياف الفقر‬
‫وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه مبا يعطيه أعظم من سرور‬
‫اآلخذ مبا يأخذ وكان أجود الناس باخلري ميينه كالريح املرسلة ‪ ،‬وكان إذا عرض له حمتاج‬
‫آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة باهلدية ‪ ،‬وكان ينوع يف أصناف عطائه وصدقته فتارة‬
‫باهلبة وتارة بالصدقة وتارة باهلدية وتارة بشراء الشيء مث يعطي البائع الثمن والسلعة مجيعا‬
‫(‪ )1‬العدالة االجتماعية يف اإلسالم ‪ :‬سيد قطب ‪ ،‬جدة ‪ ،‬دار الشروق ‪ 1399 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪.166‬‬
‫(‪ )2‬من هدي سورة األنقال ‪ :‬حممد أمني املصري ‪ ،‬تقدمي حممد العبدة ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬مكتبة دار األرقم ‪ ،‬ص ‪. 47‬‬
‫كما فعل ببعري جابر ‪ ،‬وتارة كان يقرتض الشيء فريد أكثر منه وأفضل وأكرب ويشرتي‬
‫الشيء فيعطي أكثر من مثنه ويقبل اهلدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا‬
‫وتنوعا يف ضروب الصدقة واإلحسان بكل ممكن ‪ ،‬وكانت صدقته وإحسانه مبا ميلكه‬
‫وحباله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة وحيض عليها ويدعو إليها حباله وقوله فإذا‬
‫رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إىل البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه‬
‫ال ميلك نفسه من السماحة والندى ‪ ،‬وكان هديه صلى اهلل عليه وسلم يدعو إىل‬
‫اإلحسان والصدقة واملعروف ولذلك كان صلى اهلل عليه وسلم أشرح اخللق صدرا‬
‫وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل املعروف تأثريا عجيبا يف شرح الصدر وإن‬
‫ضاف ذلك إىل ما خصه اهلل به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها‬
‫(‪)1‬‬
‫وشرح صدره حسا وإخراج حظه منه‪.‬‬
‫واقتداء بالنيب صلى اهلل عليه وسلم ينطلق املسلم من ذاته لفك القيود اليت تربطه باألرض‬
‫ولريتفع إىل امللكوت األعلى يف السماء ‪ ،‬وحيصل له ذلك بالبذل والعطاء واإلنفاق يف‬
‫سبيل اهلل بسخاء ‪ ،‬فإن يف ذلك حياة اجملتمع وتضامن أفراده وثبات بنيانه كما أن فيه‬
‫تربية لإلميان باالعتماد على اهلل والتوكل عليه وفيه تربية للنفوس ومتحيصها من أدراهنا ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬الحرية العلمية‬
‫مل يلزم اإلسالم مجيع أفراده باالجتاه إىل علم معني ‪ ،‬وترك هذا األمر مطلقا حسب رغبة‬
‫كل فرد وميوله وأهوائه ‪ ،‬بل إن مقتضى احلال يدعو إىل أن يكون للمسلمني باع يف كل‬
‫علم من العلوم املفيدة وأن يكون لدى مجاعة املسلمني اخلرباء واملختصون يف خمتلف‬
‫اجملاالت لكي يكونوا يف قوة ومنعة ويستغنوا بإمكانيتهم عن األعداء ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وإذا‬
‫جاءهم أمر من األمن أو اخلوف أذاعوا به ولو ردوه إىل الرسول وإىل أويل األمر منهم‬
‫لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولوال فضل اهلل عليكم ورمحته التبعتم الشيطان إال قليال } [‬
‫النساء ‪.] 83 :‬‬

‫(‪ )1‬زاد املعاد يف هدي خري العباد ‪ :‬ابن القيم اجلوزية ‪ ،‬حتقيق ‪ /‬شعيب وعبد القادر األرناؤوط ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة ‪ 1405 ،‬هـ ‪ 6 ،‬أجزاء ‪ 22 / 2 ،‬ـ ‪23‬‬
‫فوجود اهليئات املتخصصة والعلماء البارعني يف خمتلف اجملاالت النافعة أمر هيأته الشريعة‬
‫ويسرت سبله عن طريق حرية العلم لألفراد ‪ ،‬يقول أحد الرتبويني املعاصرين ‪ :‬وحني‬
‫تتعقد املواقف واملشكالت ـ خاصة تلك اليت تتعلق بأمور السلم أو أمور احلرب واألخطار‬
‫ـ وحتتاج إىل درجات عالية من القدرات واخلربات العميقة ومناهج التفكري احلكيم فإن‬
‫القرآن يوجه إىل وجوب إقامة هيئة متخصصة يف دراسة هذا النوع من املواقف‬
‫واملشكالت(‪.)1‬‬
‫وقد كانت حرية العلم واضحة يف حياة صحابة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ ورضي‬
‫اهلل عنهم أمجعني ـ فمنهم العامل بالقرآن والعامل بسنة املصطفى عليه السالم واللغوي‬
‫والشاعر والقاضي ومنهم القائد احملنك اخلبري بفنون احلرب والتاجر املتمرس بالتجارة‬
‫والعامل بالفرائض والعامل باحلالل واحلرام ‪ ،‬وورد يف سرية املصطفى القولية والفعلية ما يدل‬
‫على تشجيعه وإقراره لكل منهم على اجملال الذي برع فيه أو العلم الذي اختاره ‪ ،‬من‬
‫ذلك ما رواه ابن عمر عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قوله ‪ :‬أرحم أميت أبو بكر ‪ ،‬وأشدها‬
‫يف دين اهلل عمر وأصدقها حياء عثمان وأعلمها باحلالل واحلرام معاذ بن جبل ‪ ،‬وأقرؤها‬
‫لكتاب اهلل أيب ‪ ،‬وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ‪ ،‬ولكل أمة أمينا وأمني هذه األمة أبو‬
‫عبيدة بن اجلراح ‪ [ .‬أمحد ‪ 3/184 :‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪]908‬‬
‫وروى الرباء بن عازب ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يوم قريظة حلسان بن ثابت ‪ :‬اهج املشركني فإن جربيل معك ‪ [ .‬أمحد ‪4/286 :‬‬
‫وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪] 2519‬‬
‫وعن ابن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اقتدوا‬
‫باللذين من بعدي أيب بكر وعمر واهتدوا هبدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه ‪[ .‬‬
‫رواه أبو يعلى يف مسنده ‪ ،‬نقال عن األلباين يف الصحيحة برقم ‪ ] 1154‬واآلثار يف ذلك‬
‫كثرية ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أهداف الرتبية اإلسالمية ‪ :‬ماجد عرسان الكيالين ‪ ،‬املدينة املنورة ‪ ،‬مكتبة دار الرتاث ‪ 1408 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪. 61‬‬
‫إن احلرية العلمية يف الرتبية اإلسالمية تفتح الباب على مصراعيه لتتنوع اخلربات وتتعدد‬
‫التخصصات ‪ ،‬ورغم كثرهتا وتنوعها ‪ ،‬إال أهنا كلها تصب يف منبع واحد هو حتقيق‬
‫االكتفاء الذايت للمجتمع وذلك بتكاتف أفراده وتعاوهنم ‪.‬‬
‫وتسعى الرتبية اإلسالمية هلذا اهلدف بتوظيف الطاقات ‪ ،‬فاجلميع يعمل ويبين ويساهم كل‬
‫من موقعه وكل حسب طاقته وكل حسب ميوله العلمية ورغباته الفكرية أو قدراته املهنية‬
‫‪ ،‬ومن املفرتض أال يوجد بني املسلمني من ال ينفع يف أي أمر من األمور ‪ ،‬وما دام الفرد‬
‫املسلم عامال فهو يضع لبنة يف البناء ‪ ،‬وهو بذلك له جهده ومسامهته اليت ال يستغىن عنها‬
‫‪ ،‬وشعور املرء حبرية العلم جيعله ال ينتقص أي جهد يقدمه ولو كان يسريا ‪ ،‬بل على‬
‫العكس من ذلك فإن هذا يدفعه إىل أن يبدع يف جماله ويسد الثغرة اليت هو عليها حىت ال‬
‫يؤيت اجملتمع املسلم من قبله وحىت ال يصبح هو نفسه عالة على غريه ‪.‬‬
‫قواعد أساسية ‪:‬‬
‫ال ريب أن االكتفاء الذايت أمر مطلوب وهدف نبيل تسعى الرتبية اإلسالمية لتحقيقه‬
‫من خالل احلث على االخنراط يف خمتلف التخصصات والعلوم ‪ ،‬ولكن تصحيح النظرة‬
‫واملوازنة بني العلوم من حيث املنفعة واألفضلية واحلاجة مما يستدعي التنبيه إليه ‪ ،‬فهناك‬
‫قواعد أساسية ينبغي أن يعيها الفرد املسلم عند مناقشة موضوع حرية العلم ‪ ،‬وهي كما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ العلوم من حيث فائدتها وضررها ‪:‬‬
‫تنقسم العلوم من حيث فائدهتا إىل نافع وضار ‪ ،‬واملسلم مطالب باالستزادة من العلم‬
‫النافع ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وقل رب زدين علما } [ طه ‪ ، ] 114 :‬كما أن النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم تعوذ من العلم الذي ال ينفع ‪ ،‬ففي الصحيح عن زيد بن أرقم أن النيب عليه‬
‫السالم قال ‪ ، ... :‬اللهم إين أعوذ بك من علم ال ينفع ومن قلب ال خيشع ومن نفس ال‬
‫تشبع ومن دعوة ال يستجاب هلا ‪ [ ،‬مسلم ‪.] 2088 / 4 :‬‬
‫ومن أمثلة العلوم النافعة علم التفسري والفقه واحلديث وعلوم التجارة والزراعة والصناعة‬
‫والطب واهلندسة ‪ ،‬ومن العلوم الضارة السحر والتنجيم والكهانة وغريها ‪ ،‬ويضع الباحث‬
‫أسسا وركائز للعلوم النافعة للفرد املسلم ‪:‬‬
‫أ ـ موافقته للكتاب والسنة وعدم معارضته للشرع يف أي جزئية من جزئياته ‪.‬‬
‫ب ـ العمل به فيما يعود باخلري على الفرد واجملتمع ‪.‬‬
‫ج ـ تأدية زكاته بنشره وتعليمه من ال يعلمه أو حيتاجه ‪.‬‬
‫د ـ اإلخالص يف أدائه وتقدمي النية احلسنة بني يديه فإمنا األعمال بالنيات وكذلك العلوم ‪.‬‬
‫إن أي علم ال ينتفع منه يف أمر دنيا أو آخرة ينقلب وباال على صاحبه وقد يكون األوىل‬
‫به أن يدعه وال يضيع أوقاته فيه ‪ ،‬قال عليه السالم ‪ :‬إن علما ال ينتفع ككنز ال ينفق منه‬
‫يف سبيل اهلل ‪ [ .‬رواه ابن عساكر ‪ ،‬نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪. ] 2108‬‬
‫‪ 2‬ـ أفضل العلوم ‪:‬‬
‫دلت نصوص الكتاب والسنة على أن خري العلوم هو الذي يدلك على معرفة اهلل‬
‫وخشيته وتقواه واإلنابة إليه ‪ ،‬أي علم اآلخرة ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو احلق ويهدي إىل‬
‫صراط العزيز احلميد } [ سبأ ‪.] 6 :‬‬
‫وقال تعاىل ‪ { :‬إمنا خيشى اهلل من عباده العلماء } [ فاطر ‪ ] 28 :‬أي العاملني باهلل عز‬
‫وجل الذين قدروا اهلل حق قدره ‪.‬‬
‫وقال تعاىل ‪ { :‬أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما حيذر اآلخرة ويرجوا رمحة ربه قل‬
‫هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون إمنا يتذكر أولوا األلباب }‪ [ .‬الزمر ‪. ] 9 :‬‬
‫فمن يتعلم ويعلم العلم الذي يقرب من اهلل والدار اآلخرة ال يستوي هو ومن ال يعلم‬
‫ذلك العلم ‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬من يرد اهلل به خريا يفقهه يف الدين ‪ [.‬البخاري‬
‫‪. ] 42 / 1 :‬‬
‫يقول ابن حجر ـ رمحه اهلل ـ ‪ :‬ويف ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس ولفضل‬
‫(‪)1‬‬
‫التفقه يف الدين على سائر العلوم ‪.‬‬
‫ولفضل العلم يف الدين على سائر العلوم فقد دعا النيب صلى اهلل عليه وسلم البن عمه‬
‫فقال ‪ :‬اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل ‪ [ .‬ابن ماجة ‪.] 49 / 1 :‬‬

‫(‪ )1‬فتح الباري يف شرح صحيح البخاري ‪ :‬أمحد بن حجر العسقالين ‪ ،‬تصحيح وحتقيق ‪ /‬عبد العزيز بن عبد اهلل بن‬
‫باز ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬مكتبة الرياض احلديثة ‪1379 ،‬هـ ‪. 1/165 ،‬‬
‫وعن ابن عباس قال ‪ :‬ضمين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال ‪ :‬اللهم علمه الكتاب‬
‫‪ [ .‬البخاري ‪ .] 44/ 1 :‬وأورد ابن حجر يف رواية أخرى عن ابن عباس أن النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬اللهم علمه احلكمة وتأويل الكتاب ‪ .‬واملراد بالكتاب القرآن‬
‫وباحلكمة السنة ‪)1( .‬ومعلوم أنه لو كان علم خري من علم الكتاب والسنة لدعا النيب عليه‬
‫السالم البن عمه ـ رضي اهلل عنهما ـ ‪ ،‬فدل ذلك على أن علوم اآلخرة أفضل وخري من‬
‫علوم الدنيا ‪.‬‬
‫ذكر اإلمام الغزايل ـ رمحه اهلل ـ يف كتابه إحياء علوم الدين مقارنة لطيفة بني علوم اآلخرة‬
‫متمثلة يف علم الفقه وبني علوم الدنيا متمثلة يف علم الطب فقال ‪ :‬اعلم أن التسوية بينهما‬
‫غري الزمة بل بينهما فرق ‪ ،‬وأن الفقه أشرف منه من ثالث وجوه ‪:‬‬
‫أحدمها ‪ :‬أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة خبالف الطب فإنه ليس من علم الشرع‬
‫الثاين ‪ :‬أنه ال يستغين عنه أحد من سالكي طريق اآلخرة البتة ال الصحيح وال املريض ‪،‬‬
‫وأما الطب فال حيتاج إليه إال املرضى وهم األقلون ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن علم الفقه جماور لعلم طريق اآلخرة ألنه نظر يف أعمال اجلوارح ومنشؤها‬
‫(‪)2‬‬
‫صفات القلوب ‪.‬‬
‫إن تقرير حقيقة أفضلية علم اآلخرة على بقية العلوم ال يلغي أمهية العلوم األخرى وحاجة‬
‫املسلمني كافة إليها ‪ ،‬ولكن ذلك يعين أن على كل مسلم مكلف ـ أيا كان علمه ـ أال‬
‫حيرم نفسه من االستزادة من هذا اخلري فإن من فاته هذا العلم النافع وقع يف األربع اليت‬
‫استعاذ منها النيب صلى اهلل عليه وسلم وصار علمه وباال عليه وحجة عليه ومل ينتفع به‬
‫ألنه مل خيشع قلبه لربه ومل يشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصا وهلا طلبا ومل‬
‫يسمع دعاؤه لعدم امتثاله ألوامر ربه وعدم اجتنابه ملا يسخطه ويكرهه (‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬املرجع السابق ‪1/170 .‬‬


‫(‪ )2‬إحياء علوم الدين ‪ :‬أبو حامد الغزايل ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دار املعرفة ‪ 5 ،‬أجزاء ‪. 19/ 1 ،‬‬
‫(‪ )1‬فضل علم السلف على اخللف ‪ :‬ابن رجب ‪ ،‬عمان ‪ ،‬دار عمار ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪52‬‬
‫وليست األفضلية مقتصرة على علوم الدنيا ‪ ،‬بل إن العلم باهلل أفضل من االشتغال‬
‫بنوافل العبادات من صالة وصيام وتسبيح ودعاء وذلك ألسباب عدة يذكرها ابن مجاعة‬
‫(‪ )2‬كما يلي ‪:‬‬
‫أ ـ أن العلم يعم نفعه لصاحبه وللناس ‪ ،‬والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها ‪،‬‬
‫ب ـ أن العلم مصحح لغريه من العبادات ومفتقرة إليه وال يتوقف هو عليها ‪.‬‬
‫ج ـ أن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه بينما تنقطع النوافل مبوت صاحبها ‪.‬‬
‫د ـ يف بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معامل امللة ‪.‬‬
‫هـ ـأن طاعة العامل واجبة على غريه فيه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ احلاجة إىل العلم الشرعي ‪:‬‬
‫لقد ذم اهلل قوما انصرفوا بالكلية عن العلم األخروي إىل علوم هذه الدنيا الفانية ‪،‬‬
‫اهتم الفرد منهم بصالح دنياه وأمر معاشه وزيادة أمواله متجاهال دينه الذي هو عصمة‬
‫أمره وبه فالحه وجناحه ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬وعد اهلل ال خيلف اهلل وعده ولكن أكثر الناس ال‬
‫يعلمون * يعلمون ظاهرا من احلياة الدنيا وهم عن اآلخرة هم غافلون * أومل يتفكروا يف‬
‫أنفسهم ما خلق اهلل السموات واألرض وما بينهما إال باحلق وأجل مسمى وإن كثريا من‬
‫الناس بلقاء رهبم لكافرون } [ الروم ‪] 8-6 :‬‬
‫وقال احلسن يف وصف هؤالء ‪ :‬يعلمون مىت زرعهم ومىت حصادهم ‪ ،‬ولقد بلغ واهلل‬
‫من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقر الدرهم بظفره فيخربك بوزنه وال حيسن يصلي (‪. )1‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم يف أمثال هؤالء ‪ :‬إن اهلل يبغض كل جعظري جواظ‬
‫صخاب يف األسواق ‪ ،‬جيفة بالليل محار بالنهار ‪ ،‬عامل بأمر الدنيا جاهل بأمر اآلخرة ‪.‬‬
‫[ رواه البيهقي يف السنن نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪] 1874‬‬
‫ما أشد انطباق الوصف يف هذا احلديث على حال كثري من شباب املسلمني وشيبهم‬
‫‪ ،‬رجاال ونساء يف العصر احلاضر ‪ ،‬فرمبا يتقن املهندس عمله ويبدع الصانع يف مصنعه‬
‫ويربح التاجر يف سوقه أو خيلص األستاذ يف تدريسه واستيعاب مادته ‪ ،‬وكل واحد من‬

‫(‪ )2‬تذكرة السامع واملتكلم يف أدب العامل واملتعلم ‪ :‬ابن مجاعة الكناين ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪.‬‬
‫(‪ )1‬زاد املسري يف علم التفسري ‪ :‬عبد الرمحن بن علي بن حممد بن اجلوزي ‪ .‬بريوت ‪ ،‬املكتب اإلسالمي ‪1404 ،‬‬
‫هـ ‪6/289 ،‬‬
‫أصحاب املهن والوظائف يقضي الساعات الطوال ليقوم بتبعات تلك املهنة أو الوظيفة‬
‫وما يتعلق هبا ومع ذلك ال جتده يفرغ ساعة من وقته يف األسبوع أو يف الشهر لتعلم أمور‬
‫دينه إما يف بيته مع أهله وأوالده وإما يف املسجد القريب من سكنه مع جريانه أو بأي‬
‫طريقة من الطرق ‪ ،‬ويرى الباحث أن هذا اإلعراض مما ابتلي به املسلمون حىت املثقفني‬
‫منهم ‪ ،‬وقد عد العلماء من نواقض اإلسالم اليت خترج صاحبها من اإلسالم ‪ ،‬اإلعراض‬
‫عن دين اهلل تعلما وعمال (‪.)2‬‬
‫إذا فاألمر جد خطري وعلى الفرد املسلم أن يكون له من العلم الشرعي نصيبب ‪ ،‬وينبغي‬
‫على كل مكلف تعلم أصول الدين وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أمور العقائد‬
‫والعبادات واملعامالت واملداومة على ذلك من املهد إىل اللحد وخاصة فيما متس إليه‬
‫حاجة الفرد نفسه ‪ ،‬فالتاجر يتفقه شرعيا يف أنواع البيوع والقاضي يتعلم أحكام القضاء‬
‫واحلكم وقل مثل ذلك للسياسي واملعلم والطبيب واملهندس وهلم جرا ‪ ،‬وسئل شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية ـ رمحه اهلل ـ عما جيب على املكلف اعتقاده وما الذي جيب عليه علمه‬
‫فقال ‪ :‬أما اإلمجال فيجب على املكلف أن يؤمن باهلل ورسوله ويقر جبميع ما جاء به‬
‫الرسول من أمر اإلميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وما أمر به الرسول وهنى‬
‫حبيث يقر جبميع ما أخرب به وما أمر به فالبد من تصديقه فيما أخرب واالنقياد له فيما أمر‬
‫‪ ، ... ،‬وأما الذي جيب عليه علمه فهذا يتنوع فإنه جيب على كل مكلف أن يعلم ما أمر‬
‫اهلل فيعلم ما أمر باإلميان به وما أمر بعلمه حبيث لو كان له ما جتب فيه الزكاة لوجب‬
‫عليه تعلم علم الزكاة ‪ ،‬ولو كان له ما حيج به لوجب عليه تعلم احلج وكذا أمثال ذلك ‪،‬‬
‫وجيب على عموم األمة علم ما جاء به الرسول صلى اهلل عليه وسلم حبيث ال يضيع من‬
‫العلم الذي بلغه النيب صلى اهلل عليه وسلم أمته شيء وهو ما دل عليه الكتاب والسنة‬
‫لكن القدر الزائد على ما حيتاج إليه املعني على الكفاية إذا قامت به طائفة سقط من‬
‫الباقني ‪.‬‬
‫وأما العلم املرغب فيه مجلة فهو العلم الذي علمه النيب صلى اهلل عليه وسلم أمته لكي‬
‫يرغب كل شخص يف العلم الذي هو إليه أحوج وهو له أنفع وهذا يتنوع ‪ ،‬فرغبة عموم‬
‫(‪ )2‬الوالء والرباء يف اإلسالم من مفاهيم عقيدة السلف ‪ :‬حممد سعيد سامل القحطاين ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬دار طيبة ‪1402 ،‬‬
‫هـ ‪،‬ص ‪76‬‬
‫الناس يف معرفة الواجبات واملستحبات من األعمال والوعد والوعيد أنفع هلم ‪ ،‬وكل‬
‫شخص منهم يرغب يف كل ما حيتاج إليه من ذلك ‪ ،‬ومن وقعت يف قلبه شبهة فقد تكون‬
‫(‪)1‬‬
‫رغبته يف ما ينافيها أنفع من غري ذلك‬
‫وبناء على ما قرره شيخ اإلسالم فال حيق ألي فرد أن يتهاون يف طلب العلم الشرعي‬
‫واحلرص عليه وخاصة يف مثل هذه األيام اليت بعد الناس فيها عن العلماء وجمالسهم‬
‫وانشغلوا مبلذات احلياة وشهواهتا ‪ ،‬كما أن مناهج ومقررات الرتبية والتعليم ليست كافية‬
‫ومؤدية للدور املطلوب منها يف ظل مستجدات احلياة‬
‫والباحث ال ينكر الدور الذي تؤديه بعض املؤسسات التعليمية ولكن احلق أنه ما يزال‬
‫يعرتيها النقص والقصور ‪ ،‬وليس أدل على ذلك من أن كثريا من مسائل الصالة اليت‬
‫يؤديها كل مسلم مخس مرات على األقل كل يوم تغيب عن أذهان خرجيي املدارس‬
‫واجلامعات فضال عن غري املتعلمني ‪ ،‬وجتد بعض أصحاب الشهادات العليا ال يعرف‬
‫كيف يغتسل من اجلنابة وال يدري أن من اعتنق غري اإلسالم دينا فهو من اخلالدين‬
‫املخلدين يف نار جهنم ‪ ،‬وقل مثل ذلك عن اجلهل حبقوق اجلريان واألقارب وأمور البيع‬
‫والشراء اليت هتم كل مكلف وال يعذر باجلهل فيه أحد إال بعذر شرعي ‪ ،‬وقد يقول قائل‬
‫أن هذه األمور يعذر باجلهل هبا فنرد عليه بأن العلماء قي القدمي واحلديث ناقشوا هذه‬
‫املسالة وأوسعوها حبثا ‪ ،‬وألن اجملال ليس مناسبا لسردها فرتاجع يف مظاهنا ‪ ،‬ولكن ال‬
‫بأس أن نشري إىل رسالة بعنوان ‪ :‬رفع احلرج يف الشريعة اإلسالمية ‪ ،‬تقدم هبا الشيخ صاحل‬
‫بن محيد لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة جبامعة أم القرى ‪ ،‬حيث استعرض فضيلته‬
‫ما ذكره العلماء يف حكم اجلهل مبا يعذر فيه وما ال يعذر فيه ‪ ،‬مث استخلص األمور التالية‬
‫(‪:)1‬‬
‫أ ـ اجلهل بأصول الدين أي أمور التوحيد والعقائد ال يعترب عذرا بأي حال كما ال يقبل‬
‫االدعاء به‬

‫(‪ )1‬فتاوى ابن تيمية ‪ :‬مرجع سابق ‪ 327/ 3 ،‬ـ ‪329‬‬


‫(‪ )1‬رفع احلرج يف الشريعة اإلسالمية ‪ :‬صاحل عبد اهلل بن محيد ‪ ،‬مكة ‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ ،‬مركز البحث العلمي ‪،‬‬
‫‪ 1403‬هـ ‪ ،‬ص ‪ 230‬ـ ‪237‬‬
‫ب ـ اجلهل بضروريات الدين من صالة وزكاة وصيام وحج غري مقبول أبدا ‪ ،‬ويدخل يف‬
‫ذلك بعض األركان والشروط والواجبات لبعض العبادات ألن املسلم املكلف مهما قلت‬
‫درجته العلمية مطالب باإلتيان هبا يف أوقاهتا وعلى صفتها الشرعية ‪ ،‬وكذلك احملرمات‬
‫املشهورة لدى عامة املسلمني كقتل النفس واخلمر والربا والزنا‬
‫ج ـ يعذر باجلهل ويقبل ادعاؤه إذ نشأ املسلم يف دار حرب ومل يعلم حكم ما أقدم عليه‬
‫أو امتنع عنه‬
‫د ـ يعذر باجلهل إذا كان املسلم حديث عهد باإلسالم‬
‫ه ـ يقبل اجلهل ويكون عذرا يف حق العامة إذا كان واقعا يف أحكام ال يعلمها إال العلماء‬
‫لذا فينبغي على الفرد املسلم أن يتجنب هذه املزلة الدحضة اليت وقع فيها كثري من الناس ‪،‬‬
‫فيحرص على طلب العلم الشرعي واالستزادة منه أيا كان ختصصه وأيا كان جماله ‪،‬‬
‫وخاصة يف األمور اليت حيتاجها الفرد سواء يف مهنته أو يف منزله ‪ ،‬وبذا يرتبط قلب املسلم‬
‫بدينه وال ينسى انتماءه ووالءه هلذا الدين‬
‫إن االهتمام حبرية العلم يف الرتبية اإلسالمية وما يتعلق هبا من قواعد سيكون له أثره الفعال‬
‫يف تربية النفس وتنميتها لتكون قوة فعالة ولبنة راسخة لبناء جمتمع إسالمي معتز بدينه‬
‫مفتخر بعقيدته له دوره يف تغيري جمريات األحداث يف العامل املعاصر ‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫المسئولية والجزاء‬
‫أوال ‪ :‬المسئولية‬
‫يقصد الباحث باملسئولية ‪ :‬املسئولية الشخصية أي فردية التبعة أو حتمل اجلزاء احلاصل‬
‫نتيجة العمل الذي قام به الفرد أو كلف به ‪ ،‬أي إهنا تعين ترتب اجلزاء من اهلل تعاىل على‬
‫ما يأيت به املكلف من أعمال أو أقوال أو نيات باختياره سواء ألزم هبا شرعا أو التزم هبا‬
‫مبقتضى الشرع ‪ ،‬وهلا أركان ثالثة هي ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬السائل وهو اهلل عز وجل املالك القادر على اجلزاء‬
‫الثاين ‪ :‬املسئول وهو البالغ العاقل املبلغ على لسان الرسل‬
‫الثالث ‪ :‬املسئول عنه وهي التعاليم املبلغة وهي شريعة اهلل اليت ارتضى لعباده (‪. )1‬‬
‫وتؤكد اآليات القرآنية واألحاديث النبوية على املسئولية الشخصية لألفراد ‪ ،‬يقول‬
‫تعاىل ‪ { :‬ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه مث يستغفر اهلل جيد اهلل غفورا رحيما * ومن‬
‫يكسب إمثا فإمنا يكسبه على نفسه وكان اهلل عليما حكيما } [ النساء ‪] 111 ، 110 :‬‬
‫فاآلية األوىل تبني املسئولية الشخصية ملا يفعله املرء يف حق نفسه ‪ ،‬واآلية الثانية تقرر‬
‫اجلزاء الفردي الذي يناله من قام بالعمل وال يسأل عنه غريه ‪ ،‬كما قال تعاىل ‪ { :‬قل ال‬
‫تسألون عما أجرمنا وال نسأل عما تعملون } { سبأ ‪. ] 25 :‬‬
‫وتتضمن املسئولية أيضا ما يفعله اإلنسان من اخلري واهلدى أو الشر والضالل ‪ ،‬قال‬
‫تعاىل ‪ { :‬من اهتدى فإمنا يهتدي لنفسه ومن ضل فإمنا يضل عليها وال تزر وازرة وزر‬
‫أخرى } [ اإلسراء ‪ ] 15 :‬يقول سيد قطب – رمحه اهلل – فهي التبعة الفردية اليت تربط‬
‫كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها وإن ضل فعليها ‪ ،‬وما من نفس حتمل وزر أخرى ‪ ،‬وما‬
‫من أحد خيفف محل أخيه ‪ ،‬إمنا يسأل كل عن عمله وجيزى كل بعمله وال يسأل محيم‬
‫(‪)2‬‬
‫محيما‬
‫ويعرض لنا القرآن الكرمي صورا شىت لتقرير هذا املبدأ فيذكر لنا موقف امرأة نوح‬
‫وكذلك امرأة لوط اللتني مل توافقا زوجيهما النبيني على اإلميان وال صدقامها على الرسالة‬
‫فلم جيد ذلك كله شيئا وال دفع عنهما حمذورا أو رد عذابا يف النار ‪ ،‬ويف املقابل تربز لنا‬
‫صورة امرأة فرعون املؤمنة اليت ما ضرها كفر زوجها حني أطاعت رهبا وآمنت به‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬ضرب اهلل مثال للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا حتت عبدين‬
‫من عبادنا صاحلني فخانتامها فلم يغنيا عنهما من اهلل شيئا وقيل ادخال النار مع الداخلني ‪،‬‬
‫وضرب اهلل مثال للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن يل عندك بيتا يف اجلنة وجنين‬
‫من فرعون وعمله وجنين من القوم الظاملني }[ التحرمي ‪ 10 :‬ـ‪]11‬‬
‫ومن خالل هذه احلقيقة يقرر املرء احلياة اليت يريد أن حيياها والطريق الذي سيختاره لنفسه‬
‫واملصري الذي سيؤول إليه كل فرد يضع نفسه حيث يريد هو ‪ ،‬يكرمها أو يهينها ‪ ،‬يرفعها‬

‫(‪ )1‬املسئولية وصلتها بالتكاليف الشرعية يف ضوء القرآن الكرمي ‪ :‬عبد الصمد بكر عابد ‪ .‬مكة ‪ ،‬جامعة امللك عبد‬
‫العزيز ‪ 1398 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪78 -71‬‬
‫(‪ )2‬يف ظالل القرآن ‪ :‬سيد قطب ‪ .‬دار الشروق ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة التاسعة ‪ 1400 ،‬هـ ( ‪ 6‬أجزاء ) ‪4/2217 ،‬‬
‫أو يضعها ‪ ،‬قال تعاىل { ملن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ‪ ،‬كل نفس مبا كسبت رهينة‬
‫}[ املدثر ‪] 38 ، 37 :‬‬
‫واخلطاب واضح والبيان ناصع يف احلث على تربية الذات والسمو بالشخصية إىل املراتب‬
‫العليا وذلك باالستعداد هلذه املسئولية اليت سيواجهها كل فرد حيث تبدأ مسئولية كل فرد‬
‫يف هذه احلياة منذ بلوغه سن التكليف وتنتهي مبفارقته هلا ‪ ،‬ولكل مسئوليته اخلاصة به ‪.‬‬
‫عن ابن عمر ـ رضي اهلل عنهما ـ قال ‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ‪ ،‬فاإلمام األعظم الذي على الناس راع ومسئول‬
‫عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته ‪ ،‬واملرأة راعية على أهل‬
‫بيت زوجها وهي مسئولة عنهم ‪ ،‬وعبد الرجل راع على كل مال سيده وهو مسئول عنه‬
‫‪ ،‬أال فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ البخاري ‪] 328/ 4 :‬‬
‫كل فرد يف اجملتمع اإلسالمي له رعية يرعاها ‪ ،‬وبغض النظر عن موقعه فيه يف القمة أو يف‬
‫القاع ‪ ،‬وسواء كان رجال أو امرأة ‪ ،‬حرا أو عبدا ‪ ،‬مهما اختلفت الظروف واألحوال‬
‫فإنه مسئول عن رعيته ‪ ،‬يوضح هذا املعىن حممد بن عبد اهلل دراز فيقول (‪:)1‬‬
‫واحلق أن هذه الظروف ال تتخلف أبدا فلكل منا بالضرورة بعض العالقات وهو يشغل‬
‫مكانا معينا وميارس بعض الوظائف يف جهاز اجملتمع ‪ ،‬فاألب مسئول عن رفاهية أوالده ـ‬
‫املادية واألخالقية ـ واملريب مسئول عن الثقافة األخالقية والعقلية للشباب والعامل عن تنفيذ‬
‫عمله وكماله ‪ ،‬والقاضي عن توزيع العدالة والشرطي عن األمن العام واجلندي عن حفظ‬
‫الوطن ‪ ،‬كذلك حنن ـ فرادى ـ مسئولون عن طهارة قلوبنا واستقامة أفكارنا ‪ ،‬كما أننا‬
‫مسئولون عن محاية صحتنا وحياتنا ‪ ،‬حىت أننا نستطيع أن جند يف كل حلظة من حلظات‬
‫احلياة اإلنسانية بعض املسئوليات وهي ليست افرتاضية فحسب بل حاضرة وواقعية مىت‬
‫حتققت هلا الشروط العامة ‪ ،‬مث إن اختالف املواقف ال يتدخل إال من أجل ختصيص‬
‫وحتديد موضوع هذه املسئولية‬
‫وإمنا يزيد هذه املسئولية خطورة وأمهية قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ما من عبد يسرتعيه‬
‫اهلل رعية ميوت يوم ميوت وهو غاش لرعيته إال حرم اهلل عليه اجلنة [ مسلم ‪] 1/125 :‬‬
‫(‪ )1‬دستور األخالق يف القرآن ‪ :‬حممد عبد اهلل دراز ‪ ،‬تعريب وحتقيق ‪ /‬عبد الصبور شاهني ‪ ،‬بريوت مؤسسة‬
‫الرسالة ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬دار البحوث العاملية ‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ 1402 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪139‬‬
‫ويف رواية ‪ :‬ما من عبد يسرتعيه اهلل رعية فلم حيطها بنصحه مل جيد رائحة اجلنة [البخاري‬
‫‪] 331/ 4 :‬‬
‫ويف رواية ملسلم ‪ :‬ما من أمري يلي أمور املسلمني مث ال جيتهد هلم وينصح هلم إال مل يدخل‬
‫معهم اجلنة [ أبو داود ‪] 356 / 3 :‬‬
‫وقال أيضا عليه السالم ‪ :‬من واله اهلل عز وجل شيئا من أمر املسلمني فاحتجب دون‬
‫حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب اهلل عنه دون حاجته وخلته وفقره [ أبو داود ‪/ 3:‬‬
‫‪] 356‬‬
‫أال فليتفكر يف هذه النصوص كل املربني والعلماء واحلكام وغريهم من الرعاة فإن التبعة‬
‫كبرية واحلساب عسري ‪ .‬صحيح أن اجلزاء يوم القيامة ولكن ال يغيب عن البال أن‬
‫املسئولية تبدأ من احلياة الدنيا دار العمل والكسب ‪ ،‬فهل أدى كل فرد ما يرتتب عليه من‬
‫واجبات جتاه األمانة اليت كلف هبا ‪ ،‬إن إجابة أي فرد لنفسه عن هذا السؤال تتطلب‬
‫التجرد والنزاهة ‪ ،‬فال داعي جللب األعذار وتربير األخطاء أو انتحال املغالطات النفسية‬
‫واحليل الالشعورية ‪ ،‬فاليوم دار عمل وال حساب وغدا دار حساب وال عمل‬
‫إن شعور الفرد هبذه املسئولية يدفعه للعمل بدون توان وال ملل ويراعى يف هذه املسئولية‬
‫هل حفظ األمانة كما ينبغي أم ضيع وفرط ‪ ،‬وإن أوىل الناس باحملاسبة واملراقبة نفسه اليت‬
‫بني جنبيه فرياجعها الفينة بعد األخرى ويسائلها قبل أن تسأل‬
‫كما أن مسئولية الفرد عمن يعول يشعره بالتبعة الشاقة فيتعاهدها بالرعاية والعناية ويراقب‬
‫اهلل يف هذه األمانة عمال بقوله تعاىل ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا‬
‫وقودها الناس واحلجارة عليها مالئكة غالظ شداد }[ التحرمي ‪] 6:‬‬
‫ثانيا ‪ :‬الجزاء‬
‫وبنهاية هذه احلياة الدنيا تأيت فرتة الربزخ وهي الفرتة اليت يقضيها اإلنسان بعد مماته يف‬
‫القرب وقبل يوم احلشر ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬كل نفس ذائقة املوت وإمنا توفون أجوركم يوم‬
‫القيامة } [ آل عمران ‪] 185 :‬‬
‫وقال أيضا ‪ { :‬أينما تكونوا يدرككم املوت ولو كنتم يف بروج مشيدة } [ النساء ‪78 :‬‬
‫]‬
‫يعتقد املسلم اعتقادا جازما أن املوت باب وكل الناس داخله ‪ ،‬والربزخ دار كل الناس‬
‫سيزورها وسيقضي فيها فرتة اهلل أعلم هبا ‪ ،‬مث يكون احملشر للسؤال عن األعمال وللفصل‬
‫بني العباد ‪ .‬ويف الربزخ حييا الفرد حياة اهلل أعلم هبا ‪ ،‬ال أب وال أم وال أصحاب وال‬
‫أتباع وال خدم وال حشم ‪ ،‬تكون مساءلة ويكون حساب ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬يثبت اهلل الذين آمنوا بالقول الثابت يف احلياة الدنيا ويف اآلخرة ويضل‬
‫اهلل الظاملني ويفعل اهلل ما يشاء } [ إبراهيم ‪. ] 27 :‬‬
‫روى أبو جعفر النحاس – رمحه اهلل – يف معىن هذه اآلية فقال ‪ :‬قال الرباء بن عازب‬
‫(‪)1‬‬
‫وأبو هريرة ‪ :‬هذا عند املساءلة إذا صار يف القرب‬
‫وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا فرغ من دفن امليت وقف عليه وقال ‪ :‬استغفروا‬
‫ألخيكم وسلوا له التثبيت فإنه اآلن يسأل ‪ [ .‬أبو داود ‪] 3/550 :‬‬
‫وعن الرباء – رضي اهلل عنه – أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬املسلم إذا‬
‫سئل يف القرب يشهد أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل فذلك قوله ‪ :‬يثبت اهلل الذين‬
‫آمنوا بالقول الثابت يف احلياة الدنيا ويف اآلخرة ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 3/247 :‬‬
‫كما روى أنس بن مالك – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬إن العبد إذا وضع يف قربه وتوىل عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعاهلم ‪ ،‬أتاه ملكان‬
‫فيقعدانه فيقوالن له ‪ :‬ما كنت تقول يف هذا الرجل حممد صلى اهلل عليه وسلم ؟ فأما‬
‫املؤمن فيقول ‪ :‬أشهد أنه عبد اهلل ورسوله ‪ ،‬فيقال له ‪ :‬انظر إىل مقعدك من النار قد‬
‫أبدلك اهلل تعاىل به مقعدا من اجلنة فريامها مجيعا ‪ .‬وأما املنافق والكافر فيقال له ‪ :‬ما كنت‬
‫تقول يف هذا الرجل ؟ فيقول ‪ :‬ال أدري كنت أقول ما يقول الناس ‪ ،‬فيقال له ‪ :‬ال دريت‬
‫وال تليت ‪ ،‬ويضرب مبطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غري الثقلني‬
‫‪ [ .‬البخاري ‪. ] 1/422 :‬‬
‫إن املسئولية يف الربزخ أمر الزم وال مفر منها ألحد ‪ ،‬وحمصلة هذه املسئولية إما روضة‬
‫من رياض اجلنة أو حفرة من حفر النار ‪ .‬يقول القرطيب (‪ : )1‬اإلميان بعذاب القرب وفتنته‬

‫(‪ )1‬معاين القرآن الكرمي ‪ :‬أبو جعفر النحاس ‪ .‬مكة ‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ 1409 ،‬هـ ( ‪ 6‬أجزاء ) ‪2/530‬‬
‫(‪ )1‬التذكرة يف أحوال املوتى وأمور اآلخرة ‪ :‬حممد أمحد األنصاري القرطيب ‪ .‬القاهرة ‪ ،‬دار الريان للرتاث ‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية ‪1407 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪137‬‬
‫واجب ‪ ،‬والتصديق به الزم حسب ما أخرب به الصادق ‪ ،‬وأن اهلل تعاىل حييي العبد املكلف‬
‫يف قربه برد احلياة إليه وجيعله من العقل يف مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل‬
‫عنه ما جييب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له يف قربه من كرامة أو هوان ‪ .‬وهبذا‬
‫نطقت األخبار عن النيب املختار صلى اهلل عليه وسلم وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار ‪،‬‬
‫وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه اجلماعة من أهل امللة ‪.‬‬
‫وينبغي اإلكثار من ذكر هاذم اللذات ومفرق اجلماعات لقول النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬أكثروا من ذكر هادم اللذات ‪ [ .‬الرتمذي ‪. ] 4/479 :‬‬
‫إن من يتذكر ذلك البيت املظلم بيت الوحشة والدود لن تصرفه هذه الدنيا مبلذاهتا عن‬
‫العمل واالستعداد للسؤال يف ذلك املكان املقفر ‪ ،‬وسوف يراقب نفسه يف كل حني ‪،‬‬
‫ورحم اهلل عمر بن عبد العزيز الذي كان يتمثل بأبيات البن عبد األعلى حيث ينشد قائال‬
‫(‪: )2‬‬
‫أو الغبار خياف الشني والشعثا‬ ‫من كان حني تصيب الشمس جبهته‬
‫فسوف يسكن يوما راغما جدثا‬ ‫ويألف الظل كي تبقى بشاشته‬
‫يطيل حتت الثرى يف قعرها اللبثا‬ ‫يف قعر مظلمة غرباء مقفرة‬
‫قبل الردى مل ختلقي عبثا‬ ‫جتهزي جبهاز تبلغني به يا نفس‬
‫قبل اللزوم فال منجا وال غوثا‬ ‫وسابقي بغتة اآلجال وانكمشي‬
‫إن الردى وارث الباقى وما ورثا‬ ‫ال تكدي ملن يبقى وتفتقري‬
‫كما أن تذكر هذا املصري احملتوم يولد القشعريرة يف القلب وميلؤه باخلشية واإلنابة‬
‫وبالتفكر الصادق تسقط العربات من املدامع وحيس اإلنسان بالتفريط ويعرتف بالتقصري‬
‫فيندم على ما مضى وينيب إىل ربه ويسارع إىل تدارك ذاته فريبيها ويقومها على اجلادة‬
‫قبل أن يعض أصابع الندم والت حني مندم ‪ .‬ومن وضع يف خميلته ظلمة القرب ووحشته‬
‫سيتذكرها تلقائيا كلما وجد نفسه يف غرفة مظلمة أو صحراء موحشة أو ما أشبه ذلك ‪،‬‬
‫وذلك مما حيثه على التجهز واالستعداد قبل فوات األوان ‪.‬‬

‫سرية عمر بن عبد العزيز ‪ :‬ابن اجلوزي ‪ .‬د‪.‬ت ‪ ،‬ص ‪195‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وحني ينفخ يف الصور ويبعث من يف القبور حيشر كل إنسان إىل ربه حيث يالقي‬
‫جزاء ما قدم يف حياته الدنيا ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬يوم تأيت كل نفس جتادل عن نفسها وتوىف كل نفس ما عملت وهم ال‬
‫يظلمون } [ النحل ‪ . ] 111 :‬ويقول ‪ { :‬هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إىل‬
‫اهلل موالهم احلق وضل عنهم ما كانوا يفرتون } [ يونس ‪. ] 30 :‬‬
‫ومعىن هذه اآلية ‪ :‬أي يف موقف احلساب يوم القيامة ختترب كل نفس وتعلم ما سلف‬
‫(‪)1‬‬
‫من عملها من خري وشر‬
‫عندما حيشر الناس يوم القيامة يكون كل فرد مسئوال عن نفسه ولن يهتم أو يلتفت‬
‫إىل أقرب أقربائه وذلك ألن املوقف عصيب واحلساب شديد ‪ ،‬ويف ذلك املوقف تنشر‬
‫الصحف ويطلع كل امرئ على صحيفته فريى ما قدم من أعمال ويعرض على الرب عز‬
‫وجل بدون واسطة أو شفيع ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } [ مرمي ‪] 95 :‬‬
‫وعن عدي بن حامت – رضي اهلل عنه – أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬ما منكم‬
‫من أحد إال سيكلمه اهلل يوم القيامة ليس بينه وبينه ترمجان مث ينظر فال يرى شيئا قدامه ‪،‬‬
‫مث ينظر بني يديه فتستقبله النار ‪ ،‬فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق مترة ‪.‬‬
‫[ البخاري ‪. ] 4/198 :‬‬
‫إن اإلنسان قد يشعر بالرهبة إذا التقى بعظيم من عظماء الدنيا أو مبلك من ملوكها ‪،‬‬
‫فكيف اللقيا برب األرباب وملك امللوك عظيم السماوات واألرض ‪ ،‬وكيف السؤال‬
‫وكيف اجلواب ‪ .‬فتوهم نفسك يا عبد اهلل بعد تطاير الكتب ونصب املوازين للحساب‬
‫وقد نوديت للمساءلة واحلساب ‪.‬‬
‫يقول الشاعر ‪:‬‬
‫ملا قرأت ومل تنكر قراءته‬ ‫مثل وقوفك يوم العرض عريانا‬
‫نادى اجلليل خذوه يا مالئكيت‬ ‫والنار تلهب من غيض ومن حنق‬
‫املشركون غدا يف النار يلتهبوا‬ ‫اقرأ كتابك يا عبدي على مهل‬

‫تفسري القرآن العظيم ‪ :‬مرجع سابق ‪. 2/416 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫إقرار من عرف األشياء عرفانا‬ ‫مستوحشا قلق األحشاء حريانا‬
‫وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا‬ ‫على العصاة ورب العرش غضبانا‬
‫واملؤمنون بدار اخللد سكانا‬ ‫فهل ترى فيه حرفا غري ما كانا‬
‫ويف يوم القيامة أيضا تعدد األهوال ‪ ،‬ومن ذلك األسئلة اخلمسة اليت يسأل عنها كل‬
‫فرد وهي كما يلي ‪:‬‬
‫السؤال األول ‪ :‬كيف قضى عمره احملدود يف احلياة الدنيا وهل كان مؤمنا موحدا أو‬
‫كان فاسقا عاصيا أم كان كافرا ‪.‬‬
‫السؤال الثاني ‪ :‬كيف مرت فرتة الشباب اليت عاشها ؟ هل كانت يف طاعة اهلل‬
‫ومرضاته أم يف معصية وفسوق وفجور ؟‬
‫السؤال الثالث ‪ :‬من أين اكتسب املال الذي كان يقتات به يف الدنيا ؟ هل مصادر‬
‫كسبه من حالل ومباح أم من غش وخداع أم من استحالل احملرمات كالربا واخلمر‬
‫وامللهيات بأنواعها ؟‬
‫السؤال الرابع ‪ :‬ما هي طرق إنفاق ذلك املال ؟ هل أدى حق اهلل فيها وكان نعم‬
‫املال الصاحل للرجل الصاحل ؟ أم أنفقت فيما ال يرضي اهلل عز وجل وال يعود بالنفع ؟‬
‫السؤال الخامس ‪ :‬ماذا كانت نتيجة العلم الذي حتصل عليه ؟ هل كان علما نافعا‬
‫وعمل به وأدى زكاته ؟ أم أعرض عنه وجعله مطية للحياة الفانية فقط وكان ممن آمن‬
‫ببعضه وكفر بالبعض اآلخر ؟‬
‫ومصداق هذه األسئلة اخلمسة من حديث أيب برزة األسلمي رضي اهلل عنه قال ‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ال تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حىت يسأل عن مخس ‪:‬‬
‫عن عمره فيم أفناه ‪ ،‬وعن شبابه فيم أباله ‪ ،‬وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ‪ ،‬وماذا‬
‫عمل فيما علم ‪ [ .‬الرتمذي ‪ . 4/529 :‬وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع برقم‬
‫‪] 7176‬‬
‫ومن األهوال اليت ال ينجو منها أحد من املؤمنني أبدا املرور على الصراط ‪ .‬قال تعاىل‬
‫‪ { :‬وإن منكم إال واردها كان على ربك حتما مقضيا * مث ننجي الذين اتقوا ونذر‬
‫الظاملني فيها جثيا } [ مرمي ‪. ] 72-71 :‬‬
‫وقد ثبت من األحاديث الصحيحة أن الناس ميرون عليه وتكون سهولة ذلك بقدر‬
‫أعماهلم يف الدنيا ‪ ،‬فمنهم من مير كانقضاض الكوكب ‪ ،‬ومنهم من مير كالريح ‪ ،‬ومنهم‬
‫من مير كالطرف ‪ ،‬ومنهم من مير كشد الرحل يرمل رمال ‪ .‬فيمرون على قدر أعماهلم‬
‫حىت مير الذي نوره على إهبام قدمه ختر يد وتعلق يد وختر رجل وتعلق رجل وتصيب‬
‫(‪)1‬‬
‫جوانبه النار ‪.‬‬
‫ومن رمحة اهلل عز وجل أن الناس يتفاوتون يف احلساب فمنهم من حياسب حسابا‬
‫يسريا ومنهم من حياسب حسابا عسريا كل حسب عمله يف الدنيا ‪.‬‬
‫فقد حدثت عائشة – رضي اهلل عنها – أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬ليس‬
‫أحد حياسب يوم القيامة إال هلك ‪ .‬فقلت ‪ :‬يا رسول اهلل أليس قد قال اهلل { فأما من‬
‫أويت كتابه بيمينه فسوف حياسب حسابا يسريا } ؟ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫‪ :‬إمنا ذلك العرض ‪ ،‬وليس أحد يناقش احلساب إال عذب ‪ [ .‬البخاري ‪] 4/198 :‬‬
‫واملراد باملناقشة االستقصاء يف احملاسبة واملطالبة باحلقري قبل اجلليل وترك املساحمة‬
‫والعفو ‪.‬‬
‫وقال رجل البن عمر ‪ :‬كيف مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول يف النجوى‬
‫؟ قال ‪ :‬مسعته يقول ‪ :‬يدين املؤمن يوم القيامة حىت يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول ‪:‬‬
‫هل تعرف ؟ فيقول ‪ :‬رب أعرف ‪ .‬فيقول ‪ :‬إين سرتهتا عليك يف الدنيا وأنا أغفرها لك‬
‫اليوم ‪ .‬قال ‪ :‬فيعطى صحيفة حسناته ‪ .‬وأما الكفار واملنافقون فينادى هبم على رؤوس‬
‫اخلالئق ‪ :‬هؤالء الذين كذبوا على اهلل ‪ [ .‬مسلم ‪] 4/2120 :‬‬
‫وإذا تقرر ما ذكر عن اجلزاء واحلساب يوم القيامة يتضح جليا أن اجلزاء من جنس‬
‫العمل وهذا هو غاية العدل من رب العباد ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬قد جاءكم بصائر من ربكم‬
‫فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم حبفيظ } [ األنعام ‪. ] 104 :‬‬
‫وقال ‪ { :‬من عمل صاحلا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظالم للعبيد } [ فصلت ‪:‬‬
‫‪ ] 46‬وقال ‪ { :‬فأما من طغى * وآثر احلياة الدنيا * فإن اجلحيم هي املأوى }‬
‫[ النازعات ‪ ] 41-37 :‬وقال ‪ { :‬لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ‬
‫(‪ )1‬شرح العقيدة الطحاوية ‪ :‬علي بن علي بن حممد أبو العز ‪ .‬املكتب اإلسالمي ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬الطبعة السادسة ‪،‬‬
‫‪ 1400‬هـ ‪ ،‬ص ‪470‬‬
‫مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غربة * ترهقها قرتة * أولئك هم‬
‫الكفرة الفجرة } [ عبس ‪. ] 43-37 :‬‬
‫إن الفرد الذي ينتظر جزاء ما قدمت يداه من خري وخيشى سوء ما اقرتفت من شر لن‬
‫يكون يف تصرفاته وسلوكه مثل من ال يعتقد ذلك ‪ ،‬ولذا تراه يراقب اهلل يف كل حني‬
‫ويسوق نفسه سوقا لنيل مرضاة اهلل وفكاكها من عقابه ‪.‬‬
‫أخريا ال يعد من املبالغة إذا اعترب الباحث مبدأ املسئولية أهم مبادئ الرتبية الذاتية اليت‬
‫تتحكم يف تصرفات اإلنسان املسلم ‪ .‬كيف ال وهي تبدأ معه يف هذه احلياة مث تالزمه يف‬
‫قربه وينتهي به املطاف معها يوم يقوم الناس لرب العاملني حيث يالقي العبد نتيجة حتمله‬
‫إياها ‪ .‬وهي فرصة واحدة فقط ال يعطى عبد غريها وال يعوض عنها ‪ .‬فإن أحسن العمل‬
‫فهنيئا له جبنة عرضها كعرض السماء واألرض وإن أساء استخدام تلك املسئولية فمصريه‬
‫إىل بارئه جيازيه مبا يستحق أو يفعل سبحانه ما يشاء ‪ .‬واألمر هلل من قبل ومن بعد ‪.‬‬
‫المبحث الثالث‬
‫االهتمام بالغير‬
‫مقدمة‬
‫تتعلق الرتبية الذاتية كما ذكرنا سابقا بأن يهتم الفرد بنفسه لرتبيتها وتزكيتها ‪ ،‬ويتم‬
‫ذلك جبهوده الذاتية دون انتظار املعونة أو التوجيه من أحد ‪ ،‬وقد يفهم من هذا أال يلتفت‬
‫املرء إىل غريه حبجة أال يشغله ذلك عن تربية نفسه ‪ ،‬ولكن احلقيقة أن االهتمام باآلخرين‬
‫عنصر أساسي من عناصر الرتبية الذاتية ‪.‬‬
‫ويقصد الباحث مببدأ االهتمام بالغري أي االجتماع بالناس وخمالطتهم ونفعهم وأمرهم‬
‫باملعروف وهنيهم عن املنكر ونشر اخلري بينهم ‪.‬‬
‫إن الفرد الذي يعيش لنفسه وال يهتم بغريه يعيش صغريا وميوت صغريا ويندم كثريا ‪،‬‬
‫وال يستطيع الفرد السوي إال أن يكون خمتلطا مبن حوله ‪ ،‬فإن من أخص خصائص‬
‫اإلنسان أن ينتمي إىل وسط ما يشعر مبشاعره وحيس بأحاسيسه ‪ ،‬ويتحول هذا الوسط يف‬
‫الرتبية اإلسالمية إىل ما يسمى باألخوة اإلسالمية اليت تقوم على احلب يف اهلل ‪ ،‬وهذه‬
‫األخوة ال ميكن أن تتحقق على أرض الواقع ومن حيز االدعاء إىل حيز التطبيق إال من‬
‫خالل املساعدة واملساندة واالهتمام والسعي وقضاء احلوائج لآلخرين ‪ .‬ويكفي من يقوم‬
‫بذلك رضا وسرورا علمه أن من ينفع غريه من العباد فهو حمبوب عند اهلل عز وجل مما‬
‫يشعره بالقرب منه واالتصال به ‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أحب العباد إىل اهلل أنفعهم لعياله [ حسنه األلباين يف‬
‫صحيح اجلامع برقم ‪ . ] 170‬فاخللق كلهم عالة على اهلل ويف حاجة إليه ‪ ،‬وخري هؤالء‬
‫من يقدم النفع هلم ‪.‬‬
‫والتعامل مع النفوس البشرية املختلفة يقتضي سعة الصدر ومساحة الطبع واليسر‬
‫والتيسري يف غري هتاون وال تفريط يف دين اهلل ‪ ،‬وكل هذا مما يعود أثره على ذات املسلم‬
‫(‪)1‬‬
‫فتزداد صقال وتزداد تربية وتزكية‬

‫يف ظالل القرآن ‪ :‬مرجع سابق ‪3/1421 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫وخدمة اآلخرين يكسب الفرد صفات أخالقية عدة منها ‪ :‬الصرب والتضحية والبذل‬
‫والتعاون وغري ذلك من األخالق اإلسالمية احلميدة اليت تشع نورا وهباء من النفس املتحلية‬
‫هبا ‪.‬‬
‫وعندما يأمر الفرد باملعروف وينهى عن املنكر يزداد ثباتا على املبادئ اليت يعتنقها‬
‫ويكون أول الفاعلني هلا واملتمسكني هبا ‪ ،‬فهذه العبادة هي أوال إصالح للذات قبل أن‬
‫تكون إصالحا للغري ‪ ،‬وحري بكل مسلم أن حيرص عليها لرييب ذاته ويزكي نفسه ‪.‬‬
‫وسيقتصر هذا املبحث على تقرير االهتمام بالغري كمبدأ من مبادئ الرتبية الذاتية يف‬
‫الرتبية اإلسالمية من خالل ثالثة عناصر هي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ تنفيذ التكليف الرباين ‪.‬‬
‫‪2‬ـ النجاة من العذاب ‪.‬‬
‫‪3‬ـ التشوق لألجر العظيم ‪.‬‬
‫أوال ‪ :‬تنفيذ التكليف الرباني‬
‫يستطيع املتدبر لكتاب اهلل أن يدرك معىن التكليف الرباين لكل فرد باالهتمام باآلخرين‬
‫يف مواضع كثرية من كتاب اهلل وخاصة يف اآليات اليت ختاطب مجاعة املؤمنني ‪.‬‬
‫نالحظ أوال أن مجيع أنبياء اهلل قد أرسلوا لالهتمام بأقوامهم وانتشاهلم من عبودية‬
‫األرباب إىل عبودية رب األرباب ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم‬
‫الكتاب وامليزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا احلديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم‬
‫اهلل من ينصره ورسله بالغيب إن اهلل قوي عزيز } [ احلديد ‪ . ] 25 :‬وقال تعاىل ‪:‬‬
‫{ وأنزلنا إليك الذكر لتبني للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [ النحل ‪. ] 43 :‬‬
‫وقال تعاىل خماطبا رسوله الكرمي ‪ { :‬وأنذر عشريتك األقربني } [ الشعراء ‪] 214 :‬‬
‫وجاء اخلطاب يف ذلك صرحيا لنبينا حممد عليه السالم قائال ‪ { :‬واصرب نفسك مع الذين‬
‫يدعون رهبم بالغداة والعشي يريدون وجهه وال تعد عيناك عنهم تريد زينة احلياة الدنيا وال‬
‫تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف ‪. ] 30-28 :‬‬
‫وهذا مثل قوله تعاىل ‪ { :‬وأنذر به الذين خيافون أن حيشروا إىل رهبم ليس هلم من دونه‬
‫ويل وال شفيع لعلهم يتقون * وال تطرد الذين يدعون رهبم بالغداة والعشي يريدون وجهه‬
‫ما عليك من حساهبم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من‬
‫الظاملني } [ األنعام ‪. ] 52 ، 51 :‬‬
‫قال الزجاج – رمحه اهلل ‪ : )1( -‬إمنا ذكر الذين خيافون احلشر دون غريهم وإن كان‬
‫منذرا جلميع اخللق ألن احلجة على اخلائفني احلشر أظهر العرتافهم باملعاد فهم أحد رجلني‬
‫‪ :‬إما مسلم فينذر ليؤدي حق اهلل عليه يف إسالمه وإما كتايب فأهل الكتاب جممعون على‬
‫البعث ‪.‬‬
‫ويف آية سورة األنعام روى سعد بن أيب وقاص – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬نزلت هذه‬
‫اآلية يف ستة ‪ :‬يف ويف ابن مسعود وصهيب وعمار واملقداد وبالل ‪ .‬قالت قريش لرسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم إنا ال نرضى أن نكون أتباعا هلؤالء فاطردهم عنك ‪ ،‬فدخل على‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من ذلك ما شاء اهلل أن يدخل فنزلت هذه اآلية ‪ [ .‬ابن‬
‫ماجة ‪.] 2/1383 :‬‬
‫فهذا نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم خري الرسل أمجعني قد كلفه ربه بتصبري نفسه مع‬
‫تلك الثلة من ضعفاء املؤمنني وفقرائهم ‪ ،‬وهذا يعين االهتمام بشئوهنم وقضاياهم وما‬
‫يواجهونه من مصاعب ومشكالت ‪ ,.‬وكانت اجلارية تأخذ بيد رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وتذهب به حيث شاءت ‪ ،‬واألمثلة من السرية يف هذا الباب كثرية جدا ‪.‬‬
‫وآيات القرآن الكرمي وأحاديث املصطفى عليه الصالة والسالم تبني أن التكليف‬
‫الرباين ليس خاصا بنبينا صلى اهلل عليه وسلم بل إن األمة مجعاء مكلفة بإعداد أفراد‬
‫يتصدون هلذه املهمة ‪ ،‬هذا مع وجوب أن يقوم كل فرد بدوره حسب استطاعته وقدرته ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬ولتكن منكم أمة يدعون إىل اخلري ويأمرون باملعروف وينهون عن‬
‫املنكر وأولئك هم املفلحون } [ آل عمران ‪] 104 :‬‬
‫يقول العالمة عبد الرمحن بن سعدي غفر اهلل لنا وله (‪ )2‬فكل من دعا الناس إىل خري‬
‫على وجه العموم أو وجه اخلصوص أو قام بنصيحة عامة أو خاصة فإنه داخل يف هذه‬
‫اآلية الكرمية ‪.‬‬

‫(‪ )1‬زاد املسري يف علم التفسري ‪ :‬مرجع سابق ‪3/43 ،‬‬


‫(‪ )2‬تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان ‪ :‬عبد الرمحن بن سعدي ‪ .‬املدينة املنورة ‪ ،‬مطبوعات اجلامعة‬
‫اإلسالمية ‪ 1398 ،‬هـ ‪1/194 ،‬‬
‫ويوافق الباحث العالمة ابن سعدي فيما ذهب إليه ‪ ،‬وهذا يعين أيضا أن يدخل يف‬
‫هذه اآلية الكرمية كل اآلباء واألمهات واملعلمون واملرشدون والعلماء واألمراء وغريهم ‪،‬‬
‫أي مجيع أفراد اجملتمع كل حسب قدرته ‪.‬‬
‫قال ابن كثري – رمحه اهلل ‪ : )1( -‬واملقصود من هذه اآلية أن تكون فرقة من هذه‬
‫األمة متصدية هلذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من األمة حبسبه ‪.‬‬
‫ويدل على ذلك ما رواه أبو سعيد اخلدري – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬مسعت رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬من رأى منكم منكرا فليغريه بيده فإن مل يستطع فبلسانه‬
‫فإن مل يستطع بقلبه وذلك أضعف اإلميان ‪ [ .‬مسلم ‪ . ] 1/69 :‬ويف رواية ‪ :‬وليس وراء‬
‫ذلك من اإلميان حبة خردل ‪ [ .‬مسلم ‪. ] 1/70 :‬‬
‫وبالتمعن يف مفهوم اآلية واحلديث يتبني لنا أمران مها ‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن املفلح هو من يدعو إىل اخلري ويأمر باملعروف وينهى عن املنكر أي يهتم بشئون‬
‫غريه وليس مقتصرا على نفسه فقط ‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن هناك عالقة مطردة بني زيادة اإلميان وتنميته وبني الشعور بواجب إصالح اخلطأ‬
‫ليعم الصواب ويندثر املنكر ‪ .‬وبعبارة أخرى ‪ :‬فكلما رىب اإلنسان نفسه كلما أداه ذلك‬
‫إىل االهتمام بغريه ‪.‬‬
‫ومبا أن كل مسلم مكلف من قبل خالقه بأن يكون من املفلحني ‪ ،‬وباجلمع بني اآلية‬
‫واحلديث يستنتج الباحث أن االهتمام بالغري واجب شرعي يف عنق كل مسلم باإلضافة‬
‫إىل أنه مبدأ رئيس يف الرتبية الذاتية ‪ .‬ومما يدعم هذا القول ويسنده قوله تعاىل ‪ { :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس واحلجارة عليها مالئكة غالظ شداد‬
‫ال يعصون اهلل ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } [ التحرمي ‪ . ] 6 :‬وقوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ سبق خترجيه ] ‪ .‬ومبا أن كل فرد خماطب‬
‫هبذا التكليف فإن الواجب عليه االنصياع له وتنفيذ هذه الطاعة الربانية اليت تقربه من اهلل‬
‫ومرضاته ‪.‬‬

‫تفسري القرآن العظيم ‪ :‬مرجع سابق ‪1/390 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫ثانيا ‪ :‬النجاة من العذاب‬
‫مر معنا يف الفصل األول أن مصري اإلنسان إما جنة أو نار ‪ ،‬والفرد املسلم يرجو رمحة‬
‫ربه والفوز جبنته وخيشى عذابه والتلظي بناره ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬كل نفس ذائقة املوت وإمنا‬
‫توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل اجلنة فقد فاز وما احلياة الدنيا إال‬
‫متاع الغرور } [ آل عمران ‪ . ] 185 :‬فالفوز احلقيقي هو أن ينجو العبد من عذاب اهلل‬
‫ويدخل اجلنة ‪ ،‬واالهتمام بالغري سبيل من السبل املؤدية إىل هذا الفوز ‪ ،‬بينما التفريط يف‬
‫هذا اجلانب يؤدي بالفرد واجملتمع إىل اهلالك والدمار ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬واتقوا فتنة ال تصينب‬
‫الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن اهلل شديد العقاب } [ األنفال ‪ . ] 25 :‬قال ابن‬
‫عباس يف تفسري هذه اآلية ‪ :‬أمر اهلل املؤمنني أن ال يقروا املنكر بني ظهرانيهم فيعمهم اهلل‬
‫(‪)1‬‬
‫بالعذاب ‪.‬‬
‫وحذر سبحانه من فعل أقوام سابقة هتاونوا يف هذا األمر فأنزل عليهم سخطه وعقابه‬
‫‪ .‬قال تعاىل { لعن الذين كفروا من بين إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مرمي ذلك‬
‫مبا عصوا وكانوا يعتدون * كانوا ال يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون }‬
‫[ املائدة ‪] 79 ، 78 :‬‬
‫وعن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫إن أول ما دخل النقص على بين إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول ‪ :‬يا هذا اتق اهلل‬
‫ودع ما تصنع فإنه ال حيل لك ‪ ،‬مث يلقاه من الغد فال مينعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه‬
‫وقعيده ‪ ،‬فلما فعلوا ذلك ضرب اهلل قلوب بعضهم ببعض مث قال ‪ { :‬لعن الذين كفروا‬
‫من بين إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مرمي } إىل قوله { فاسقون } مث قال ‪ :‬كال‬
‫واهلل لتأمرن باملعروف ولتنهون عن املنكر ولتأخذن على يد الظامل ولتأطرنه على احلق‬
‫أطرا ولتقصرنه على احلق قصر ‪ .‬وزاد يف رواية ‪ :‬أو ليضربن اهلل قلوب بعضكم على بعض‬
‫مث ليلعننكم كما لعنهم ‪ [ .‬أبو داود ‪] 4/508 :‬‬

‫تفسري القرآن العظيم ‪ :‬مرجع سابق ‪2/299 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫وعن حذيفة بن اليمان أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬والذي نفسي بيده لتأمرن‬
‫باملعروف ولتنهون عن املنكر أو ليوشكن اهلل أن يبعث عليكم عقابا منه مث تدعونه فال‬
‫يستجاب لكم ‪ { .‬الرتمذي ‪. ] 4/406 :‬‬
‫وعن أيب سعيد اخلدري – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يقول ‪ :‬إن اهلل يسأل العبد يوم القيامة حىت ليقول ‪ :‬فما منعك إذ رأيت املنكر أن‬
‫تنكره ‪ ،‬فإذا لقن اهلل عبدا حجته قال ‪ :‬أي رب وثقت بك وفرقت من الناس ‪ [ .‬ابن‬
‫ماجة ‪ . 2/1322 :‬وجود األلباين إسناده يف سلسلة األحاديث الصحيحة برقم ‪] 929‬‬
‫وإذا قام كل فرد بواجبه يف إصالح نفسه وفعل اخلري والدعوة إليه فإنه ال يضره فساد من‬
‫فسد وضياع من ضاع وإن كان أقرب األقربني ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ال يضركم من ضل إذا اهتديتم إىل‬
‫اهلل مرجعكم مجيعا فينبئكم مبا كنتم تعملون } [ املائدة ‪ ] 105 :‬وليس يف هذه اآلية‬
‫دعوة إىل ترك االهتمام بالغري وإمنا هي إخبار عن حال اإلنسان إذا فسد اجملتمع من حوله‬
‫وذلك بأن يثبت على فعل ما أمره اهلل به وترك ما هنى عنه مع القيام بواجبه يف اإلصالح‬
‫قدر الطاقة ‪ .‬كان هذا هو الفهم الذي أوتيه صديق هذه األمة حني قام فحمد اهلل مث أثىن‬
‫عليه مث قال ‪ :‬أيها الناس إنكم تقرأون هذه اآلية ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم‬
‫ال يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنكم تضعوهنا يف غري موضعها وإين مسعت رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬إن الناس إذا رأوا املنكر ال يغريونه أوشك أن يعمهم اهلل‬
‫بعقابه ‪ [ .‬ابن ماجة ‪. ] 2/1326 :‬‬
‫مث إن يف القيام بواجب االهتمام بالغري والنصح هلم إعذارا إىل اهلل سبحانه وتعاىل الذي‬
‫سيسأل كل امرئ عما عمل فيما علم وهل أدى ما عليه من النصح واالهتمام أم أنه فرط‬
‫يف ذلك ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬وإذ قالت أمة منهم مل تعظون قوما اهلل مهلكهم أو معذهبم عذابا شديدا‬
‫قالوا معذرة إىل ربكم ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا به أجنينا الذين ينهون عن‬
‫السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس مبا كانوا يفسقون * فلما عتوا عما هنوا عنه قلنا‬
‫هلم كونوا قردة خاسئني } [ األعراف ‪ . ] 166 : 164 :‬فبني اهلل تعاىل جناة الذين‬
‫بذلوا النصح وسكت عن الذين تراخوا عن هذا الواجب ألن اجلزاء من جنس العمل ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬التشوق لألجر العظيم‬
‫ما من شك يف أن الطريق الذي سلكه األنبياء والرسل يوصل إىل مرضاة اهلل وجنته‬
‫فأولئك الذين هدى اهلل وهبداهم يقتدي كل السائرين إىل مرضاة اهلل رب العاملني ‪ .‬وقد‬
‫كان مما هداهم إليه أن هداهم إىل مهمة عظيمة وهي دعوة اخللق لتوحيد املنهج والغاية ‪،‬‬
‫أي اإلميان باهلل وحده ال شريك له والكفر بالطواغيت بأنواعها ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬ولقد‬
‫بعثنا يف كل أمة رسوال أن اعبدوا اهلل واجتنبوا الطاغوت } [ النحل ‪ ] 36 :‬وإنه لشرف‬
‫جد عظيم أن يشرتك فرد من األمة مع أنبياء اهلل ورسله يف الدعوة إىل اخلري واألمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬ومن أحسن قوال ممن دعا إىل اهلل وعمل‬
‫صاحلا وقال ‪ :‬إنين من املسلمني } [ فصلت ‪ . ] 33 :‬فليس هناك أحد أفضل ممن أصلح‬
‫نفسه واهتم بغريه لنشر اهلدى واخلري والصالح ‪ ،‬وقد روى أبو هريرة عن النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قوله ‪ :‬من دل على خري فله مثل أجر فاعله ‪ [ .‬مسلم ‪ ] 3/1506 :‬وقال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬املؤمن الذي خيالط الناس ويصرب على أذاهم أعظم أجرا من املؤمن‬
‫الذي ال خيالط الناس وال يصرب على أذاهم ‪ [ .‬ابن ماجة ‪ ] 2/1338 :‬وعن أيب هريرة‬
‫– رضي اهلل عنه – أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬من دل إىل هدى كان له‬
‫من األجر مثل أجور من تبعه ال ينقص ذلك من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن دعا إىل ضاللة كان‬
‫عليه من اإلمث مثل آثام من تبعه ال ينقص من آثامهم شيئا ‪ [ .‬مسلم ‪. ] 4/2061 :‬‬
‫وهناك الكثري من األحاديث اليت ترتب اجلزاء العظيم من اهلل وذلك ملن حيسن إىل غريه‬
‫أو يسدي إليه معروفا ‪ .‬كما أن فيها بيانا ألبواب اخلري وطرق خدمة اآلخرين ‪ .‬ومن ذلك‬
‫قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أحب الناس إىل اهلل تعاىل أنفعهم للناس ‪ ،‬وأحب األعمال إىل‬
‫اهلل عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد‬
‫عنه جوعا وألن أمشي مع أخ يف حاجة أحب إيل من أن أعتكف يف هذا املسجد – يعين‬
‫مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم – شهرا ‪ .‬ومن كف غضبه سرت اهلل عورته ‪ ،‬ومن‬
‫كظم غيظه ولو شاء أن ميضيه أمضاه مأل اهلل قلبه رجاء يوم القيامة ‪ ،‬ومن مشى مع أخيه‬
‫يف حاجة حىت تتهيأ له أثبت اهلل قدمه يوم تزل األقدام ‪ ،‬وإن سوء اخللق يفسد العمل كما‬
‫يفسد اخلل العسل ‪ [ .‬رواه ابن أيب الدنيا يف قضاء احلوائج ‪ ،‬والطرباين يف الكبري نقال عن‬
‫األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪ ، 147‬وسلسلة األحاديث الصحيحة رقم ‪. ] 906‬‬
‫وعن ابن عمر – رضي اهلل عنهما – أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬املسلم‬
‫أخو املسلم ال يظلمه وال يسلمه ‪ .‬من كان يف حاجة أخيه كان اهلل يف حاجته ‪ ،‬ومن فرج‬
‫عن مسلم كربة فرج اهلل عنه هبا كربة من كرب يوم القيامة ‪ ،‬ومن سرت مسلما سرته اهلل‬
‫يوم القيامة ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 2/190 :‬‬
‫وعن أيب هريرة – رضي اهلل عنه – عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬من نفس عن‬
‫مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس اهلل عنه كربة من كرب يوم القيامة ‪ ،‬ومن يسر على‬
‫معسر يسر اهلل عليه يف الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ومن سرت مسلما سرته اهلل يف الدنيا واآلخرة واهلل‬
‫يف عون العبد ما كان العبد يف عون أخيه ‪ ،‬وما اجتمع قوم يف بيت من بيوت اهلل تعاىل‬
‫يتلون كتاب اهلل ويتدارسونه بينهم إال نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرمحة وحفتهم‬
‫املالئكة وذكرهم اهلل فيمن عنده ومن بطأ به عمله مل يسرع به نسبه ‪ [ .‬نقال عن األلباين‬
‫يف صحيح اجلامع برقم ‪. ] 6453‬‬
‫إن االهتمام باآلخرين فرصة عظيمة لكل من أخذ بزمام تربية وتعليم ونصب نفسه‬
‫مرشدا وموجها أن حيوز على هذا األجر العظيم الذي من اهلل به على من خيدم غريه ويهتم‬
‫به ويصرب على ما يالقيه من جراء ذلك ابتغاء وجه اهلل ‪ .‬فأما إذا أخلص النية واستحضرها‬
‫وابتغى بذلك وجه اهلل فإنه سينال أجور مجيع من اقتدى به يف اخلري ويضاف ذلك إىل‬
‫رصيد حسناته ‪ ،‬وأما إن مل يستحضر النية فسيفوته ذلك األجر ‪ ،‬وأما إن كان تعليمه‬
‫ضالال وفسادا فستعود مغبة ذلك على نفسه وستمتلئ صحائفه بالذنوب واآلثام ‪.‬‬
‫روت أم سلمة – رضي اهلل عنها – عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قوله ‪ :‬صنائع‬
‫املعروف تقي مصارع السوء والصدقة خفيا تطفئ غضب الرب ‪ ،‬وصلة الرحم زيادة يف‬
‫العمر وكل معروف صدقة وأهل املعروف يف الدنيا هم أهل املعروف يف االخرة وأهل‬
‫املنكر يف الدنيا هم أهل املنكر يف اآلخرة [ رواه الطرباين يف األوسط نقال عن األلباين يف‬
‫صحيح اجلامع برقم ‪. ] 3690‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫أساليب التربية الذاتية من الكتاب والسنة‬

‫المبحث األول ‪ :‬العبادات اإلسالمية‬


‫أوال ‪ :‬الشعائر التعبدية‬
‫ثانيا ‪ :‬المحاسبة‬
‫ثالثا ‪ :‬تقوى اهلل‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬المعامالت‬
‫أوال ‪ :‬التحلي باألخالق اإلسالمية‬
‫ثانيا ‪ :‬اتخاذ القدوة‬
‫ثالثا ‪ :‬السؤال والحوار‬
‫رابعا ‪ :‬العزلة والمخالطة‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬استغالل الوقت‬
‫أوال ‪ :‬العادة‬
‫ثانيا ‪ :‬ملء الفراغ‬
‫ثالثا ‪ :‬المحاولة والخطأ‬
‫مقدمة‬
‫ناقش البحث يف الفصل السابق مبادئ الرتبية الذاتية ‪ ،‬ويناقش يف هذا الفصل‬
‫األساليب الرتبوية لتحقيق تلك املبادئ ‪ .‬لنلق أوال نظرة يف بعض معاجم اللغة ملعرفة ماذا‬
‫يعىن بكلمة األساليب ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫جاء يف خمتار الصحاح ‪ :‬أن األسلوب هو الفن ‪.‬‬
‫وقال ابن منظور ‪ :‬يقال للسطر من النخيل أسلوب وكل طريق ممتد فهو أسلوب ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬واألسلوب الطريق والوجه واملذهب ‪ ،‬يقال ‪ :‬أنتم يف أسلوب سوء وجيمع أساليب‬
‫‪ .‬واألسلوب الطريق تأخذ فيه ‪ .‬األسلوب بالضم ‪ :‬الفن ‪ ،‬يقال ‪ :‬أخذ فالن يف أساليب‬
‫(‪)2‬‬
‫من القول أي أفانني منه ‪.‬‬
‫إن ذلك يعين أن البحث سيناقش يف هذا الفصل بعض الطرق والوسائل واألفانني اليت‬
‫يتبعها الفرد لرتبية ذاته وتزكية نفسه لكي يكون ذلك املسلم الفعال ‪ ،‬ذلك الشخص‬
‫الذي اعتزم حتقيق القيم واملبادئ اإلسالمية يف نفسه ومن يعول واليت بدورها حتدد‬
‫إسالميته وذاتيته ‪.‬‬
‫وكما أنه ال يتصور أن ينجح طالب يف دراسته بدون جد واجتهاد فكذلك ال ميكن‬
‫لفرد أن يريب ذاته بدون حتقيق أساليب الرتبية الذاتية ‪ ،‬وهذه سنة اهلل يف الكون ‪ :‬بذل‬
‫األساليب لتحقيق املسببات ‪ .‬قال الشاعر ‪:‬‬
‫إن السفينة ال متشي على اليبس‬ ‫ترجو النجاة ومل تسلك مسالكها‬
‫أن يغري الفرد سلوكه وتصرفاته وأفكاره إىل األفضل يعين سريه وفق السنن الكونية اليت‬
‫وضعها اهلل سبحانه وتعاىل يف الكون ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬قد خلت من قبلكم سنن فسريوا يف‬
‫األرض فانظروا كيف كان عاقبة املكذبني } [ آل عمران ‪. ] 137 :‬‬
‫لذا كان من الضروري معرفة السنن والقوانني إلصالح األفراد واجملتمعات لتحقيقها يف‬
‫الواقع ‪ ،‬يقول جودت سعيد ‪ :‬ومن أكرب الظلم الذي ينزله اإلنسان بنفسه أال يرى العالقة‬
‫التسخريية املوجودة بني اإلنسان والكون واجملتمع ـ اآلفاق واألنفس ‪ :‬فيهمل نفسه وال‬

‫خمتار الصحاح ‪ :‬حممد بن أيب بكر الرازي ‪ 1408 .‬هـ ‪ ،‬ص ‪130‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫لسان العرب ‪ :‬مرجع سابق ‪. 1/473 ،‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫يضعها يف املكان الذي يسخر اآلفاق واألنفس على أساس السنن املودعة فيهما (‪)1‬والرابط‬
‫املشرتك ألساليب الرتبية اإلسالمية عموما وأساليب الرتبية الذاتية خصوصا هو أهنا تتعاون‬
‫لرتبية اإلنسان الصاحل يف أي مكان وزمان ‪ ،‬ويتفاوت التطبيق الفردي حسب طبيعة كل‬
‫(‪)2‬‬
‫إنسان وإمكانياته وميوله وهتيئه النفسي وقدرة إدراكه‬
‫واألساليب الرتبوية لتحقيق الرتبية الذاتية متعددة ومتنوعة ‪ ،‬فبعضها ال يعترب املرء بدوهنا‬
‫داخال يف دائرة اإلسالم ولكنها ذكرت للتأكيد عليها وبيان أثرها املباشر يف تزكية املسلم‬
‫‪ ،‬وبعض هذه األساليب خيتلف أداؤها من شخص آلخر ‪ ،‬وما مجع يف هذا املوضع إن هو‬
‫إال نتاج اجتهاد شخصي من الباحث فإن أصاب فمن اهلل وإن أخطأ فمن نفسه ومن‬
‫الشيطان ‪ ،‬وفيما يلي تصنيف األساليب املقرتحة ‪:‬‬
‫املبحث األول ‪ :‬العبادات اإلسالمية‬
‫أوال ‪ :‬الشعائر التعبدية ‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬احملاسبة ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬تقوى اهلل ‪.‬‬
‫املبحث الثاين ‪ :‬املعامالت ‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬التحلي باألخالق اإلسالمية‬
‫ثانيا ‪ :‬اختاذ القدوة‬
‫ثالثا ‪ :‬السؤال واحلوار‬
‫رابعا ‪ :‬العزلة واملخالطة‬
‫املبحث الثالث ‪ :‬استغالل الوقت‬
‫أوال ‪ :‬العادة‬
‫ثانيا ‪ :‬ملء الفراغ‬
‫ثالثا ‪ :‬احملاولة واخلطأ‬
‫ويالحظ أن هذه األساليب تستثري الشخصية املسلمة الراغبة يف تزكية نفسها ‪ ،‬وكل منها‬
‫مكمل لآلخر ‪ ،‬فمنها ما هو مستقر يف الشعور وميارسه الفرد مع نفسه أو مع اآلخرين‬
‫(‪ )1‬حىت يغريوا ما بأنفسهم ‪ :‬جودت سعيد ‪ ،‬تقدمي ‪ /‬مالك بن نيب ‪ 1397 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪14‬‬
‫(‪ )2‬أزمة التعليم املعاصر ‪ :‬زغلول النجار ‪ ،‬الكويت ‪ ،‬مكتبة الفالح ‪1400 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪56‬‬
‫ومنها ما يتطلب أداؤه عددا من حواس اإلنسان ‪ ،‬وكلما كان عدد احلواس أكثر ‪ ،‬كلما‬
‫كانت الفائدة املرجوة أكرب ‪ ،‬فاشرتاك السمع والبصر واللمس والقراءة واإلدراك يف نشاط‬
‫إدراكي أو تعليمي أو عاطفي أو انفعايل ‪ ،‬فإن هذه أدعى ألن يكون النشاط أشد وأقوى‬
‫(‪)1‬‬
‫وأعمق ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أصول علم النفس العام ‪ :‬عبد احلميد حممد اهلامشي ‪ ،‬جدة ‪ ،‬دار الشروق ‪ 1404 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪89‬‬
‫المبحث األول‬
‫العبادات اإلسالمية‬
‫أوال ‪ :‬الشعائر التعبدية‬
‫يقول تعاىل ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا استجيبوا هلل وللرسول إذا دعاكم ملا حيييكم‬
‫} [ األنفال ‪ ] 24 :‬إنه ما من شيء يدعو إليه اهلل ورسوله إال وفيه حياة‬
‫القلوب وتزكية النفوس وزيادة اإلميان ‪ ،‬ويف الشعائر التعبدية إحكام للصلة بني‬
‫العبد وربه وترسيخ لإلميان يف نفسه ‪ ،‬وأهم ما يتقرب به العبد إىل اهلل عز وجل‬
‫ويزيد من إميانه ويرفع درجته هو أداء الفرائض اليت افرتضها سبحانه وتعاىل‬
‫وهي قدر مشرتك بني العباد ـ فيما يتعلق بالكم ال بالكيف ـ مث يتفاوتون فيما عدا‬
‫ذلك من نوافل العبادات كما بني ذلك يف مبادئ الرتبية الذاتية فيما يتعلق حبرية‬
‫العبادة ‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل ‪ :‬إن اهلل قال ‪:‬‬
‫من عادى يل وليا فقد آذنته باحلرب وما تقرب إيل عبدي بشيء أحب إيل مما‬
‫افرتضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إيل بالنوافل حىت أحبه فإذا أحببته كنت‬
‫مسعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده اليت يبطش هبا ورجله اليت ميشي‬
‫هبا وإن سألين ألعطينه ولئن استعاذين ألعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله‬
‫ترددي عن نفس املؤمن يكره املوت وأنا أكره مساءته ‪ [ ،‬البخاري ‪]4/192 :‬‬
‫‪ ،‬ففي احلديث داللة على أن أحب األعمال إىل اهلل هو أداء الفرائض وهي على‬
‫نوعني ‪:‬‬
‫أ ـ ظاهرة ‪ :‬وهي اليت تؤدى باجلوارح‬
‫ب ـ باطنة ‪ :‬وهي أعمال القلوب‬
‫فالظاهرة ‪ :‬عمال كالصالة والزكاة وغريها من األفعال ‪ ،‬وتركا مثل ‪ :‬الربا‬
‫والقتل وغريها من احملرمات‬
‫والفرائض الباطنة ‪:‬‬
‫هي كالعلم باهلل واحلب له والتوكل عليه واخلوف منه ‪ ،‬كذلك الوالء للمسلمني‬
‫(‪)1‬‬
‫والرباء من املشركني ‪ ،‬وكل ذلك ينقسم إىل أفعال وتروك‬
‫فأول ما يتشبث به الفرد يف سريه إىل ربه وتربية ذاته هو احملافظة على هذه‬
‫الفرائض وعدم التهاون هبا بأي حال من األحوال ‪ ،‬ويأيت بعد ذلك باب النوافل‬
‫وهي ما زاد على الفرائض من صالة وصيام وصدقة وغريها ‪ ،‬وهذا الباب متيسر‬
‫لكل فرد أن يلجه وأن يكثر من أداء النوافل طمعا يف نيل رضا اخلالق الذي هو‬
‫غاية كل خملوق واهلدف من تربية النفس ‪ ،‬إذا نال العبد حمبة اهلل ورضاه وفقه اهلل‬
‫لكل خري وعصمه من كثري من الشرور‬
‫يقول اإلمام اخلطايب ـ رمحه اهلل ـ شارحا للحديث السابق ‪ :‬قوله فكنت مسعه‬
‫الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده اليت يبطش هبا ‪ ،‬هذه أمثال ضرهبا‬
‫واملعىن ـ واهلل أعلم ـ توفيق لألعمال اليت يباشرها هبذه األعضاء وتيسري احملبة له‬
‫فيها فيحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن موافقة ما يكره اهلل من إصغاء إىل اللهو‬
‫بسمعه ونظر إىل ما هنى عنه ببصره وبطش إىل ما ال حيل له بيده وسعي يف‬
‫الباطل برجله ‪ ،‬وقد يكون معناه سرعة إجابة الدعاء واإلجناح يف الطلبة وذلك‬
‫(‪)2‬‬
‫أن مساعي اإلنسان إمنا تكون هبذه اجلوارح األربع‬
‫لقد جاء الدين اإلسالمي بعبادات شىت متأل حياة املسلم يف كل الظروف‬
‫واألحوال وبالليل والنهار ‪ ،‬فهناك العديد من السنن القولية والعملية واليت يعترب‬
‫أداؤها من األساليب املهمة لرتبية النفس ‪ ،‬ومن هذه العبادات قيام الليل وصيام‬
‫التطوع والصدقة وقراءة القرآن واألذكار املتنوعة ‪ ،‬وال شك يف أن اإلتيان هبذه‬
‫العبادات تقوية للصلة اليت تربط بني العبد وربه وتوثيقا لعرى اإلميان يف قلبه‬

‫(‪ )1‬فتح الباري ‪ :‬مرجع سابق ‪11/347،‬‬


‫(‪ )2‬أعالم احلديث يف شرح صحيح البخاري ‪ :‬محد بن حممد البسيت اخلطايب ‪ ،‬حتقيق ودراسة الدكتور حممد بن‬
‫سعد آل سعود ‪ .‬مكة ‪ ،‬نشر مركز البحث العلمي وإحياء الرتاث اإلسالمي ‪ ،‬جامعة أم القرى ‪ 1409 ،‬هـ ‪4 ،‬‬
‫أجزاء‬
‫فتزكو النفس وتصفو الروح ‪ ،‬وهذا األمل هو الذي يدفعه ليكون له من كل‬
‫منها حظ ونصيب مما جيعله ينوع يف عباداته وأعماله الصاحلة كما قال تعاىل ‪{ :‬‬
‫يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا اخلري لعلكم تفلحون‬
‫} [ احلج ‪] 77 :‬‬
‫ولعل يف هذا التنوع مراعاة لطبيعة النفس اإلنسانية اليت إذا داومت على أمر معني‬
‫متله حىت لو كان هذا األمر طعاما أو شرابا أو عمال أو مسكنا (‪)1‬وذلك مثل قول‬
‫(‪)2‬‬
‫أيب متام ‪:‬‬
‫لديباجتيه فاغرتب تتجدد‬ ‫وطول مقام املرء يف احلي خملق‬
‫فإين رأيت الشمس زيدت حمبة إىل الناس أن ليست عليهم بسرمد‬
‫وكما بني الباحث يف الفصل الثاين فإن العبادات يف اإلسالم ليست إال جزءا من‬
‫مفهوم العبادة الشامل ‪ ،‬وهذا املفهوم له أثره البالغ يف تربية النفس اإلنسانية يقول‬
‫حممد شديد ‪ :‬ومنهج العبادة يليب يف اإلنسان فطرته ‪ ،‬وجيعل منها تربية لنفسه‬
‫وعالجا لضعفه وينري له طريقه وحيدد معامله حىت يصل إىل غايته دون شطط أو‬
‫ضالل ‪ ،‬ويقوم هذا املنهج على فكرة القرآن عن وضع اإلنسان من الكون‬
‫واحلياة ‪ ،‬وفطرة نفسه على التعبد والتوجه إىل بارئها بالتضرع والدعاء ‪ ،‬وهدفه‬
‫أن يضع اإلنسان يف مكانه الصحيح من الكون حىت ال خيرج عن سنته وال‬
‫ينحرف عن ناموسه ‪ ،‬فخروجه واحنرافه ال يؤديان إال إىل الضالل والفساد‬
‫(‪)3‬‬
‫والشقاء‬
‫من أجل ذلك البد للمرء أن حيفز نفسه لإلكثار من هذه العبادات‬

‫(‪ )1‬دعوة الفطرة ‪ :‬د‪ .‬يوسف أبو هاللة ‪ ،‬دار العاصمة ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬ص ‪122‬‬
‫(‪ )2‬ديوان أيب متام بشرح اخلطيب التربيزي ‪ :‬حتقيق حممد عبده عزام ‪ ،‬مصر ‪ ،‬دار املعارف ‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ 4 ،‬أجزاء‬
‫‪2/23‬‬
‫(‪ )3‬منهج القرآن يف الرتبية ‪ :‬حممد أمحد شديد ‪1402 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪179‬‬
‫والعبادات اليت يستطيع أن يباشرها بنفسه لتحقيق غاية وجوده وتربية ذاته كثرية‬
‫جدا منها ‪ :‬قيام الليل وقراءة القرآن والدعاء وصلة األرحام وصدقة السر واملتابعة‬
‫بني احلج والعمرة وصيام األيام املرغب فيها كاالثنني واخلميس وثالثة أيام من‬
‫كل شهر ‪ ،‬وكذلك مالزمة األوراد وطلب العلم وغريها ‪ ،‬وألن جمال البحث ال‬
‫يتسع لذكر كل منها على حدة فسنكتفي ببعضها‬
‫‪ _1‬قراءة القرآن ‪:‬‬
‫القرآن الكرمي هو كالم رب العاملني نزل به الروح األمني على سيد املرسلني‬
‫ليكون منهجا للعاملني ‪ ،‬وأن يف قراءته وتدبره تربية للنفس وأي تربية ‪ ،‬وفيه حياة‬
‫للروح ‪ ،‬وأي حياة ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬إن هو إال ذكر للعاملني ‪ ،‬ملن شاء منكم أن‬
‫يستقيم } [ التكوير ‪ ، ] 28 ، 27:‬وقال أيضا ‪ { :‬ذلك الكتاب ال ريب فيه‬
‫هدى للمتقني } [ البقرة ‪ ، ] 1:‬وعن جابر بن عبد اهلل ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من‬
‫جعله أمامه قاده إىل اجلنة ومن جعله خلفه قاده إىل النار [ رواه ابن حبان يف‬
‫صحيحه والبيهقي يف الشعب والطرباين يف الكبري وابن سعد ‪ ،‬نقال عن األلباين يف‬
‫سلسلة األحاديث الصحيحة برقم ‪2019‬‬
‫ومن القرآن يأخذ املؤمن التصورات واألفكار واملبادئ الصحيحة عن نفسه وعن‬
‫الكون وعن احلياة وعن اآلخرة فيحيا كما يريد خالقه ‪ ،‬ومن القرآن يقتبس‬
‫الطرق الناجحة لرتبية النفس وإحياء الضمري‬
‫وإن من يريد أن يريب نفسه حري به أن يتعهدها بكتاب اهلل تالوة وتدبرا وفهما‬
‫وحفظا ‪ ،‬مبتعدا بذلك عن منهج أهل الزيغ والعصيان الذين هجروا كالم الرمحن‬
‫‪ ،‬ومن عاش يف رحاب القرآن أصبح مبثابة قرآن يتحرك على األرض ‪ ،‬ففيه‬
‫منهج حياة لكل فرد يف كل زمان ومكان‬
‫وما احلرية والضياع اليت يعيش فيها كثري من أفراد املسلمني إال ألهنم ابتعدوا عن‬
‫هذا النبع األصيل ‪ ،‬ولذلك ال يستغرب أن ترى بعض املنتسبني لإلسالم مير‬
‫عليهم الشهر والشهران والثالثة ‪ ،‬بل السنة بأكملها ومل يقرأ جزءا أو سورة من‬
‫سور املصحف الشريف ومل يتدبر معناها ومل يعمل مبقتضاها ‪ ،‬ال غرو أن أمثال‬
‫هذا ممن يثقل كاهل األمة ويكون عبئا عليها ‪ ،‬بينما جند أن أهل القرآن العاملني‬
‫به على العكس من ذلك فهم أهل اهلل وخاصته وهبم تقاس حضارة األمة ‪ ،‬ولذا‬
‫امتدحهم الرب سبحانه وتعاىل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ترغيبا لكل فرد أن‬
‫حيذو حذوهم قال اهلل عز وجل ‪ { :‬إن الذين يتلون كتاب اهلل وأقاموا الصالة‬
‫وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعالنية يرجون جتارة لن تبور ‪ ،‬ليوفيهم أجورهم‬
‫ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } [ فاطر ‪ ] 30 ، 29 :‬وعن عثمان بن‬
‫عفان ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬خريكم من تعلم‬
‫القرآن وعلمه [ البخاري ‪]3/346 :‬‬
‫وعن عائشة ـ رضي اهلل عنها ـ قالت ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬مثل‬
‫الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام الربرة ومثل الذي يقرأ القرآن‬
‫وهو يتعاهده وهو عليه شديد له أجران [ البخاري ‪ ، ]3/39:‬وعن أيب أمامة‬
‫الباهلي ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫اقرؤوا القرآن فإنه يأيت يوم القيامة شفيعا ألصحابه ‪ [...‬مسلم ‪، ]1/533:‬‬
‫وعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص ـ رضي اهلل عنهما ـ عن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال ‪ :‬يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل يف الدنيا فإن‬
‫منزلتك عند آخر آية تقرؤها [ الرتمذي ‪ 5/163 :‬وقال حسن صحيح ]‬
‫إن هذه اخلريية اليت يناهلا املتصل بكتاب اهلل والرفعة اليت حيظى هبا يف الدنيا‬
‫واآلخرة ‪ ،‬هي من بركات التوفيق لرتبية الذات وتزكيتها‬
‫ومن شرع يف القرآن فليكن شأنه اخلشوع والتدبر والبكاء فبذلك تنشرح‬
‫الصدور وتستنري القلوب وتسمو األرواح ‪ ،‬ولكي حيظى قارئ القرآن بالتسديد‬
‫والتوفيق والقبول ينبغي أن يتحلى بآدابه فال يهذه كهذ الشعر وال يسرح خبياله‬
‫أثناء قراءته وال يكن مهه آلخر السورة ‪ ،‬وإمنا يقف متدبرا ملعانيه متفكرا يف‬
‫وعده ووعيده عامال بأوامره منتهيا عن نواهيه ‪ ،‬وهذا ال يتناىف مع الندب إىل‬
‫اإلكثار من تالوة القرآن واحملافظة على ذلك‬
‫وحلرص السلف رضوان اهلل عليهم على تربية ذواهتم بقراءة القرآن وتدبره ‪ ،‬فقد‬
‫كانت هلم عادات خمتلفة يف قدر ما خيتمون به ‪ ،‬فروي أهنم كانوا خيتمون يف كل‬
‫شهرين ختمة واحدة ‪ ،‬وروي عن بعضهم يف كل شهر ختمة ‪ ،‬وعن بعضهم يف‬
‫كل عشر ليال ختمة ‪ ،‬أو يف كل مثان ليال ‪ ،‬ومنهم من زاد على ذلك أو‬
‫(‪)1‬‬
‫أنقص‬
‫كما استحب العلماء أن خيتم القارئ يف السنة مرتني على األقل وذلك قياسا‬
‫على أن النيب صلى اهلل عليه وسلم عرض القرآن مرتني على جربيل عليه السالم‬
‫(‪)2‬‬
‫يف السنة اليت قبض فيها‬
‫ولكن األوىل من هذا أن يقال أن مقدار القراءة يعتمد على حال كل شخص‬
‫بذاته ‪ ،‬يقول اإلمام النووي ـ رمحه اهلل ـ ‪ :‬املختار أن ذلك خيتلف باختالف‬
‫األشخاص ‪،‬فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر‬
‫حيصل له معه كمال فهم ما يقرأ وكذلك من كان مشغوال بنشر العلم أو فصل‬
‫احلكومات أو غري ذلك من مهمات الدين واملصاحل العامة فليقتصر على قدر ال‬

‫(‪ )1‬التبيان يف آداب محلة القرآن ‪ :‬النووي ‪ ،‬مكتبة دار البيان ‪ ،‬دمشق ‪ 1405 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪46‬‬
‫(‪ )2‬اإلتقان يف علوم القرآن ‪ :‬جالل الدين عبد الرمحن السيوطي ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دار املعرفة ‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1398 ،‬هـ ‪،‬‬
‫جزءان‪ ،‬ص ‪138‬‬
‫حيصل بسببه إخالل مبا هو مرصد له وال فوات كماله ‪ ،‬وإن مل يكن من هؤالء‬
‫(‪)1‬‬
‫املذكورين فليكثر ما أمكنه من غري خروج إىل حد امللل أو اهلذرمة يف القراءة‬
‫والقصد من إيراد من قول النووي بيان أن تربية النفس بقراءة القرآن ال تكون‬
‫بكثرة القراءة فقط ولكن قد حتصل الرتبية الذاتية بقراءة آيات قليلة مع تدبر‬
‫معانيها واستخراج كنوزها ‪ ،‬وميكن للقارئ أن حيرز ذلك بسؤال أهل العلم أو‬
‫بالرجوع إىل التفاسري املعتمدة لدى أهل السنة واجلماعة‬
‫‪2‬ـ ذكر اهلل تعالى ‪:‬‬
‫بني العلماء أن للذكر نوعني مها ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ذكر أمساء الرب وصفاته والثناء عليه هبما وتنزيهه وتقديسه عما ال يليق‬
‫به تبارك وتعاىل ‪ ،‬وهذا النوع ينقسم إىل قسمني ‪:‬‬
‫أ ـ إنشاء الثناء عن الذاكر مثل قول سبحان اهلل واحلمد هلل واهلل أكرب وال إله إال‬
‫اهلل وال حول وال قوة إال باهلل‬
‫ب ـ الثناء على اهلل مبا أثىن به على نفسه ومبا أثىن به عليه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم من غري حتريف وال تعطيل وال تشبيه وال متثيل ‪ ،‬مثل اخلرب عن مسع‬
‫اهلل وبصره وعلمه عز وجل مبا ثبت يف الكتاب والسنة‬
‫الثاين ‪ :‬ذكر أمره وهنيه وأحكامه وله قسمان أيضا ‪:‬‬
‫أ ـ اإلخبار بأنه أمر بكذا وهنى عن كذا وبأنه أحب كذا أو كره كذا‬
‫[ ابن القيم ‪:‬‬ ‫ب ـ ذكر اهلل عند أمره فيبادر إليه وعند هنيه فيهرب منه‬
‫‪178 ، 1406‬ـ ‪] 181‬‬
‫فيشمل ذكر اهلل ترديد كل ما ثبت من األدعية واألذكار ويشمل حضور جمالس‬
‫الذكر يف املساجد والبيوت وغريها من األماكن ‪ ،‬ويشمل أيضا بيان حكم اهلل‬
‫عز وجل فيما يواجه الناس من أقضية وأحكام ‪ ،‬هذا باإلضافة إىل املبادرة إىل‬

‫(‪ )1‬التبيان يف آداب محلة القرآن ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪48‬‬


‫تنفيذ ما أمر اهلل به واجتناب ما هنى عنه خاصة عند تذكر قدرة اهلل وعظمته وما‬
‫أعده لألبرار من نعيم وللفجار من جحيم ‪ ،‬وذكر اهلل مما ينبغي أن يتحلى به‬
‫املسلم ويتشبث به سواء كان لوحده أو مع غريه ‪ ،‬قال تعاىل { إن يف خلق‬
‫السموات واألرض واختالف الليل والنهار آليات ألويل األلباب ‪ ،‬الذين‬
‫يذكرون اهلل قياما وقعودا وعلى جنوهبم ويتفكرون يف خلق السموات واألرض‬
‫ربنا ما خلقت هذا باطال سبحانك فقنا عذاب النار } [ آل عمران ‪،190 :‬‬
‫‪] 191‬‬
‫وعن أيب هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬يقول‬
‫اله تعاىل ‪ :‬أنا عند حسن ظن عبدي يب وأنا معه حني يذكرين إن ذكرين يف نفسه‬
‫ذكرته يف نفسي وإن ذكرين يف مإل ذكرته يف مإل هم خري منهم ‪ ،‬وإن تقرب‬
‫مين شربا تقربت إليه ذراعا وإن تقرب إيل ذراعا تقربت منه باعا وإن أتاين ميشي‬
‫أتيته هرولة [ مسلم ‪] 4/2061 :‬‬
‫إن لذكر اله أثر عظيم يف تربية الذات وحتريك الضمري ألن دوام ذكره تعاىل يريب‬
‫يف النفس مقام مراقبة اهلل يف السلوك والتصرفات ‪ ،‬قال تعاىل { إمنا املؤمنون‬
‫الذين إذا ذكر اهلل وجلت قلوهبم وإذا تليت عليهم آياته زادهتم إميانا وعلى رهبم‬
‫يتوكلون } [ األنفال ‪ ] 2 :‬وإنه ما من شك يف أن اختاذ ذكر اهلل جبميع أنواعه‬
‫أسلوبا يف حياة الفرد يعد من أجنح األساليب يف الرتبية الذاتية ‪ ،‬باإلضافة إىل أمهية‬
‫هذا األسلوب يف تربية األمة ‪ ،‬ومن ال يتخذ هذا األسلوب فسيدع جماال لشياطني‬
‫اإلنس واجلن وأعواهنما كي تذكر وتنشر ‪ ،‬ومن مث سيصري ـ والعياذ باهلل ـ من‬
‫الذين ذمهم اهلل تعاىل فقال فيه ‪ { :‬وإذا ذكر اهلل وحده امشأزت قلوب الذين ال‬
‫يؤمنون باآلخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون } [ الزمر ‪،] 45 :‬‬
‫وقال تعاىل ‪ { :‬ومن يغش عن ذكر الرمحن نقيض له شيطانا فهو له قرين }‬
‫[ الزخرف ‪] 36 :‬‬
‫وقد حث املصطفى صلى اهلل عليه وسلم على مداومة الذكر يف أحاديث كثرية ‪،‬‬
‫عن معاذ ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أال‬
‫أخربكم خبري أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها يف درجاتكم وخري لكم‬
‫من إنفاق الذهب والورق وخري لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم‬
‫ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا ‪ :‬بلى ‪ ،‬قال ‪ :‬ذكر اهلل تعاىل [ الرتمذي ‪] 5/428 :‬‬
‫وعن معاذ أيضا قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ما عمل آدمي عمال‬
‫قط أجنى له من عذاب اهلل من ذكر اهلل [ أمحد ‪ 5/239 :‬وصححه األلباين يف‬
‫صحيح اجلامع رقم ‪] 5520‬‬
‫وبني العالمة اجلهبذ ابن القيم أن للذكر حنوا من مائة فائدة ‪ ،‬وينصح الباحث‬
‫كل مهتم برتبية نفسه أن يراجع تلك الفوائد فإن فيها نفائس مجة ودررا عظيمة‬
‫ال تكاد توجد عند غريه ‪ ،‬ومن ذلك أنه أورد روايات وأقواال عدة عن سلف‬
‫هذه األمة يف بيان أثر هذا الذكر على نفوسهم وأرواحهم ‪ ،‬قال رمحه اهلل ‪:‬‬
‫وحضرت شيخ اإلسالم ابن تيمية مرة صلى الفجر مث جلس يذكر اهلل تعاىل إىل‬
‫قريب من انتصاف النهار مث التفت إيل وقال ‪ :‬هذه غدويت ولو مل اتغذ هذا‬
‫الغذاء سقطت قويت ‪ ، ...‬وقال يل مرة ‪ :‬ال أترك الذكر إال بنية إمجام نفسي‬
‫وإراحتها ألستعد بتلك الراحة لذكر آخر ‪ ، ... ،‬ومسعت شيخ اإلسالم يقول ‪:‬‬
‫إن يف الدنيا جنة من مل يدخلها ال يدخل جنة اآلخرة ‪... ،‬وقال أيضا ‪ :‬ما يصنع‬
‫أعدائي يب ؟ أنا جنيت وبستاين يف صدري إن رحت فهي معي ال تفارقين إن‬
‫(‪)1‬‬
‫حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة‬

‫(‪ )1‬الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب ‪ :‬ابن قيم اجلوزية ‪ ،‬حتقيق وختريج ‪ /‬بشري عيون دمشق دار البيان ‪1406 ،‬‬
‫هـ ‪ ،‬ص ‪ 85‬ـ‪96‬‬
‫ومن األقوال العظيمة يف هذا الباب قول أحدهم ‪ :‬لو علم امللوك وأبناء امللوك ما‬
‫حنن فيه جلالدونا عليه بالسيوف ‪ ،‬وقال آخر ‪ :‬مساكني أهل الدنيا خرجوا منها‬
‫(‪)2‬‬
‫وما ذاقوا أطيب ما فيها ‪ ،‬حمبة اهلل تعاىل ومعرفته وذكره‬
‫(‪)3‬‬
‫وشكا رجل للحسن البصري قسوة قلبه فقال أدبه بالذكر‬
‫وخنتم مبا قاله ابن القيم عن أثر الذكر يف الرتبية الذاتية ‪ ،‬قال رمحه اهلل ‪ :‬وال ريب‬
‫أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغريمها وجالؤه بالذكر فإنه جيلوه‬
‫حىت يدعه كاملرآة البيضاء فإذا ترك الذكر صدئ فإذا ذكره جاله ‪ ،‬وصدأ القلب‬
‫(‪)4‬‬
‫بأمرين ‪ :‬بالغفلة والذنب وجالؤه بشيئني ‪ :‬باالستغفار والذكر‬
‫ويف ذكر اهلل جبميع أنواعه تكثري للحسنات ورفع للدرجات ‪ ،‬وهذا ما يسعى إليه‬
‫العبد من تربية ذاته‬
‫‪3‬ـ قيام الليل ‪:‬‬
‫يقول تعاىل ‪ { :‬وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ملن أراد أن يذكر أو أراد‬
‫شكورا } [ الفرقان ‪] 62 :‬‬
‫ففي تعاقب الليل والنهار حكمة عظيمة ويف كل منهما عمل ال يصلح يف الوقت‬
‫اآلخر أو على األقل ال ينضبط متاما ‪ ،‬مثال النوم يف الليل ليس كالنوم يف النهار ‪،‬‬
‫وطلب املعاش يف وقت النهار ليس كطلبه يف العتمة ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وجعلنا‬
‫الليل لباسا ‪ ،‬وجعلنا النهار معاشا } [ النبأ ‪ ] 11 ، 10 :‬كما أن أي خلل‬
‫يطرأ على دورة الضياء ودورة الظالم ‪..‬على دورة الليل والنهار سيؤثر على ما‬
‫يسمى بالساعة الداخلية يف اإلنسان اليت تسيطر على دورته اليومية ‪ ،‬تلك الساعة‬

‫(‪ )2‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪97‬‬


‫(‪ )3‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪142‬‬
‫(‬
‫اليت تأقلمت واعتمدت على دورة الليل ودورة النهار ‪ ..‬دورة الضوء ودورة‬
‫(‪)1‬‬
‫الظالم الطبيعية‬
‫ولذلك كان من رمحة اهلل أن أوجد الليل والنهار يعمل الفرد فيهما مبا يناسبهما‬
‫كما يعمالن فيه ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬ومن رمحته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه‬
‫ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } [ القصص ‪] 73 :‬‬
‫إهنا لنعمة عظيمة جدا ينبغي للمسلم أن يشكر املنعم عليها ‪ ،‬ومن شكر هذه‬
‫النعمة أن ينظم املسلم وقته وحياته وفق هذه السنة الكونية ما استطاع إىل ذلك‬
‫سبيال ‪ ،‬فهناك عبادات وأمور تؤدى يف الليل وأخرى تؤدى يف النهار واألوىل أن‬
‫يؤدي كل يف وقته‬
‫ومن األمور اليت حث الشرع عليها قيام الليل ويقصد به صالة النافلة وقت منام‬
‫اخللق وخاصة يف اهلزيع األخري من الليل ‪ ،‬ويقال له ‪ :‬التهجد وهو ما كان بعد‬
‫نوم ‪ ،‬يقول تعاىل خماطبا نبيه صلى اهلل عليه وسلم ‪ { :‬ومن الليل فتهجد به نافلة‬
‫لك عسى أن يبعثك ربك مقاما حممودا } [ اإلسراء ‪ ] 79 :‬ويف موضع آخر‬
‫يقول تعاىل ‪ { :‬إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيال } [ املزمل ‪] 6 :‬‬
‫واملقصود من ذلك أن قيام الليل هو أنسب األوقات الستجماع الفكر وتفهم‬
‫(‪)2‬‬
‫القراءة حيث ال شاغل وال صارف عن ذلك‬
‫وإذا تدبر املرء ما يتلو من آيات يف ظلمة الليل البهيم والناس نيام كان ذلك‬
‫أدعى للتدبر والتفكر وألن تؤيت القراءة مثارها اليانعة ‪ ،‬وقد رغب الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يف قيام الليل يف أحاديث كثرية نذكر بعضا منها ‪:‬‬

‫(‪ )1‬النوم ‪...‬أسراره وخفاياه ‪ :‬أنور محدي ‪ ،‬بريوت املكتب اإلسالمي ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪56‬‬
‫(‪ )2‬تفسري القرآن العظيم ‪ :‬مرجع سابق ‪4/345 ،‬‬
‫عن أيب هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قلت ‪ :‬يا رسول اهلل أخربين بشيء إذا‬
‫عملت به دخلت اجلنة ‪ ،‬قال ‪ :‬أفش السالم وأطعم الطعام وصل األرحام وقم‬
‫بالليل والناس نيام وادخل اجلنة بسالم‬
‫[ أمحد ‪ 2/295 :‬وصححه األلباين برقم ‪ 1096‬يف صحيح اجلامع ]‬
‫وعن أيب مالك األشعري ـ رضي اهلل عنه ـ عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ :‬إن‬
‫يف اجلنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها اهلل تعاىل ملن‬
‫أطعم الطعام وأالن الكالم وتابع الصيام وصل بالليل والناس نيام‬
‫[ أمحد ‪ 5/343 :‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪] 2119‬‬
‫وأورد املروزي بسنده عن بالل ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصاحلني قبلكم وإن قيام الليل قربة‬
‫(‪)1‬‬
‫إىل اهلل وتكفري للسيئات ومنهاة عن اإلمث ومطردة للداء عن اجلسد‬
‫[ رواه أمحد وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪] 3958‬‬
‫وعن أيب هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫أفضل الصالة بعد الصالة املكتوبة الصالة يف جوف الليل وأفضل الصيام بعد‬
‫شهر رمضان صيام شهر احملرم [ مسلم ‪]2/821 :‬‬
‫وقد شهد عليه الصالة والسالم ملن يقوم الليل بسالمته من اإلمث والفجور فقال ‪:‬‬
‫جعل اهلل عليكم صالة قوم أبرار يقومون الليل ويصومون النهار ليسوا بأمثة وال‬
‫فجار ‪ [ ،‬رواه عبد بن محيد ‪ ،‬نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪]3092‬‬
‫ومن ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على صالة الليل لقوله عليه السالم ‪ :‬شرف‬
‫املؤمن صالته بالليل وعزه استغناؤه عما يف أيدي الناس‬
‫[ رواه اخلطيب والعقيلي ‪ ،‬نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم‬
‫‪]3604‬‬

‫(‪ )1‬قيام الليل ‪ :‬املروزي ‪ 1402 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪41‬‬


‫ما أكثر الفوائد اليت جينيها الفرد من قيام الليل لرتبية ذاته وصالح حاله ولعل من‬
‫أهم الثمار اليت يتحصل عليها هي تنمية وازع اإلخالص الذي هو أحد شرطي‬
‫قبول العمل ‪ ،‬ويف قيام الليل يريب اإلنسان نفسه على حتقيق الشرط الثاين من‬
‫شرطي قبول العمل وهو املتابعة حيث ثبت أن نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كان يقوم من الليل حىت تتفطر قدماه ‪ ،‬أضف إىل ذلك أن من تدبر القرآن أثناء‬
‫هجوع الناس أحس بتقصريه وندم على تفريطه ‪ ،‬ومن خشع يف القراءة والصالة‬
‫سالت منه عربات التوبة والندم ‪ ،‬وإذا ذكر اهلل خاليا ففاضت عيناه حشره رب‬
‫العزة واجلالل يف ظل عرشه يوم ال ظل إال ظله وال عفو إال عفوه‬
‫وحني ينصرف الناس إىل حمبوبيهم من أهل الدنيا يتوسطون هلم لقضاء حاجاهتم‬
‫‪ ،‬يثوب املؤمن إىل ربه خمبتا ويصلي من الليل ما شاء اهلل له أن يصلي ويدعو ما‬
‫شاء اهلل له أن يدعو عله أن يقضي له حوائجه ويغفر له ذنوبه أو يدخرها له إىل‬
‫أن يلقاه ‪ ،‬ويدعو اهلل بأن يؤيت نفسه تقواها ويزكيها وخيلصها من شرورها‬
‫وآثامها ‪ ،‬عن أيب هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إىل السماء الدنيا حني يبقى ثلث الليل فيقول ‪ :‬من‬
‫يدعوين فأستجيب له ؟ من يسألين فأعطيه ؟ من يستغفرين فأغفر له ؟‬
‫[ أمحد ‪ ، 2/487 :‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪]8024‬‬
‫وبعد كدح النهار والسعي جللب لقمة العيش يأوي الناس إىل فرشهم الدافئة ‪،‬‬
‫ويلتذ أهل املعاصي بشهواهتم ومعاصيهم كما يلتذ املؤمن بالوقوف بني يدي ربه‬
‫ملناجاته والتزود الستقبال يوم جديد على عمله شهيد ‪ ،‬والزاد اإلمياين ضروري‬
‫جدا ملواصلة العطاء وحتمل التبعات والتكاليف اليت محلها اإلنسان وذلك حيتاج‬
‫إىل استعداد طويل ‪ ،‬يقول سيد قطب ـ رمحه اهلل ـ ‪:‬‬
‫وإن االستقامة على هذا األمر بال تردد وال ارتياب وال تلفت هنا أو هناك وراء‬
‫اهلواتف واجلواذب واملعوقات لثقيل حيتاج إىل استعداد طويل ‪ ،‬وإن قيام الليل‬
‫والناس نيام واالنقطاع عن غبش احلياة اليومية وسفسافها واالتصال باهلل وتلقي‬
‫فيضه ونوره واألنس بالوحدة معه واخللوة إليه وترتيل القرآن والكون ساكن‬
‫وكأمنا يتنزل من املأل األعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود يف حلظة الرتتيل بال‬
‫لفظ بشري وال عبارة ‪ ،‬واستقبال إشعاعاته وإحياءاته وإيقاعاته يف الليل الساجي‬
‫‪ , ...‬إن هذا كله هو الزاد الحتمال القول الثقيل والعبء الباهظ واجلهد املرير‬
‫الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو هبذه الدعوة يف كل جيل ‪ ،‬وينري القلب يف‬
‫الطريق الشاق الطويل ويعصمه من وسوسة الشيطان ومن التيه يف الظلمات احلافة‬
‫هبذا الطريق املنري ‪ ...‬وإن يف مغالبة هتاف النوم وجاذبية الفراش بعد كد النهار‬
‫أشد وطأ وأجهد للبدن ولكنها إعالن لسيطرة الروح واستجابة لدعوة اهلل وإيثار‬
‫(‪)1‬‬
‫لألنس به‬
‫وال عجب أن يكون التأكيد اإلهلي باحملافظة على هذه الشعرية والرتغيب فيها‬
‫حىت يف احلاالت اليت يعيا فيها املرء من شغل النهار ويرنو لالسرتخاء واالسرتاحة‬
‫‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬فإذا فرغت فانصب ‪ ،‬وإىل ربك فارغب } [ الشرح ‪] 8 ، 7:‬‬
‫وال عجب أيضا أن يكون اجلزاء األخروي كبري جدا ‪ ،‬بل ال يعلم مداه إال اهلل ‪،‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬تتجاىف جنوهبم عن املضاجع يدعون رهبم خوفا وطمعا ومما‬
‫رزقناهم ينفقون ‪ ،‬فال تعلم نفس ما أخفي هلا من قرة أعني جزاء مبا كانوا‬
‫يعلمون } [ السجدة ‪] 17 ، 16 :‬‬
‫وقد كان سلفنا الصاحل ـ رضوان اهلل عليهم ـ من رواد مدرسة الليل وكانوا حبق‬
‫رهبانا يف الليل فرسانا يف النهار وعلى أيديهم انتشر النور وعم الضياء فزكوا‬
‫أنفسهم وزكوا غريهم‬
‫يقول أحد الرتبويني ‪ :‬وأكثر من هذا فإن من يتخرج من مدرسة الليل يؤثر يف‬
‫األجيال اليت بعده إىل ما شاء اهلل ‪ ،‬واملتخلف عنها يابس تقسو قلوب الناظرين‬

‫(‪ )1‬يف ظالل القرآن ‪ :‬مرجع سابق ‪6/3745 ،‬‬


‫إليه والدليل عند بشر بن احلارث احلايف منذ القدمي شاهده وأرشدك إليه فقال ‪:‬‬
‫حبسبك أن قوما موتى حتيا القلوب بذكرهم وإن قوما أحياء تقسو القلوب‬
‫برؤيتهم ‪ ،‬فلم كان ذلك إن مل يكن ليل األولني يقظة وليل غريهم نوما ؟ وهنار‬
‫(‪)2‬‬
‫األولني جدا وهنار اآلخرين شهوة ؟‬
‫وحسبنا شاهدا على هدي سلف األمة يف قيام الليل مقالة احلسن البصري ـ رمحه‬
‫اهلل ـ عنهم حيث يقول ‪ :‬لقد صحبت أقواما يبيتون لرهبم يف سواد هذا الليل‬
‫سجدا وقياما ‪ ،‬يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم ‪،‬‬
‫فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون رهبم يف فكاك رقاهبم ‪ ،‬مل ميلوا طول السهر ملا‬
‫خالط قلوهبم من حسن الرجاء يف يوم املرجع فأصبح القوم مما أصابوا من النصب‬
‫هلل يف أبداهنم فرحني ومبا يأملون من حسن ثوابه مستبشرين ‪ ،‬فرحم اهلل امرأ‬
‫نافسهم يف مثل هذه األعمال ومل يرض لنفسه من نفسه بالتقصري يف أمره واليسري‬
‫(‪)1‬‬
‫من فعله فإن الدنيا عن أهلها منقطعة واألعمال على أهلها مردودة‬
‫ودقائق الليل الغالية مل تفلت من قرحية الشعراء فهي عندهم ليست برخيصة ولذا‬
‫أوسعت إنشادا وتقريضا ‪ ،‬يقول ابن القيم يف وصف رجال الليل الذين يغتنمون‬
‫تلك الدقائق ‪:‬‬
‫بتالوة وتضرع وسؤال‬ ‫حييون ليلهم بطاعة رهبم‬
‫وعيوهنم جتري بفيض دموعهم مثل اهنمال الوابل اهلطال‬
‫يف الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع األبطال‬
‫وهبا أشعة نوره املتاليل‬ ‫بوجوههم أثر السجود لرهبم‬
‫ويعترب قيام الليل مدرسة عظيمة تعلم تالوة القرآن خبشوع وتدبر ‪ ،‬وهي تريب يف‬
‫الفرد مداومة ذكر اهلل واإلخالص يف عبادته وتشد القلب إىل خالقه‬

‫(‪ )2‬منهج القرآن يف الرتبية ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪34‬‬


‫(‪ )1‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪30‬‬
‫ومدرسة الليل مفتوحة لكل فرد أن ينضم إليها فيقتبس الدروس العظيمة واملعاين‬
‫الكبرية يف تربية الذات ‪ ،‬واالنتظام هبذه املدرسة ال يكلف شيئا إال جماهدة النفس‬
‫من أجل مصلحتها وهى من أجل تربيتها وتقوميها‬
‫ثانيا ‪ :‬المحاسبة‬
‫يقتضي مبدأ املسئولية واجلزاء الذي مر ذكره ضمن مبادئ الرتبية الذاتية ‪ ،‬أن‬
‫حياسب املرء نفسه ويراقبها على الدوام كي ال حتيد وال متيل عن اجلادة املثلى‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬ووضع الكتاب فرتى اجملرمني مشفقني مما فيه ويقولون يا ويلتنا‬
‫مال هذا الكتاب ال يغادر صغرية وال كبرية إال أحصاها ووجدوا ما عملوا‬
‫حاضرا وال يظلم ربك أحدا } [ الكهف ‪] 49 :‬‬
‫ويقول أيضا ‪ { :‬يوم يبعثهم اهلل مجيعا فينبئهم مبا عملوا أحصاه اهلل ونسوه واهلل‬
‫على كل شيء شهيد } [ اجملادلة ‪] 6 :‬‬
‫ويقول ‪ { :‬ونضع املوازين القسط ليوم القيامة فال تظلم نفس شيئا وإن كان‬
‫مثقال حبة من خردل أتينا هبا وكفى بنا حاسبني } [ األنبياء ‪] 47 :‬‬
‫فينبغي أن يضع الفرد املسلم احملاسبة نصب عينيه استعدادا للسؤال وترقبا ملا بعده‬
‫من أهوال ‪ ،‬واحملاسبة هي ذلك امليزان الدنيوي الذي يستخدمه املرء املسلم‬
‫لتصحيح مساره وتعديل سلوكه مستضيئا يف ذلك هبدي الكتاب والسنة ‪،‬‬
‫ويعرفها احلارث احملاسيب بأهنا ‪ :‬التثبت يف مجيع األحوال قبل الفعل والرتك من‬
‫العقد بالضمري أو الفعل باجلارحة ‪ ،‬حىت يتبني له ما يرتك وما يفعل ‪ ،‬فإن تبني له‬
‫ما كره اهلل عز وجل جانبه بعقد ضمري قلبه وكف جوارحه عما كرهه اهلل عز‬
‫(‪)1‬‬
‫وجل ومنع نفسه من اإلمساك عن ترك الفرض وسارع إىل أدائه‬

‫(‪ )1‬معاتبة النفس ‪ :‬احلارث بن أسيد احملاسيب ‪ ،‬حتقيق ‪ /‬حممد عبد القادر عطا ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار االعتصام ‪ 1406 ،‬هـ‬
‫‪ ،‬ص ‪20‬‬
‫(‪)2‬‬
‫وقيل هي ‪ :‬التمييز بني ما للمرء وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه‬
‫أهميتها ‪:‬‬
‫إن هذا األسلوب ـ أي أسلوب احملاسبة ـ مهم جدا ومع ذلك مل يفطن إليه إال من‬
‫وفقه اهلل ‪ ،‬واهلل سبحانه وتعاىل ينادي عباده املؤمنني مطالبا إياهم بذلك فيقول ‪:‬‬
‫{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا اهلل إن اهلل خبري‬
‫مبا تعلمون } [ احلشر ‪] 18 :‬‬
‫واملعىن أن ينظر كل امرئ وليتفكر فيما يقوم به من أعمال ‪ :‬أهي من الصاحلات‬
‫املنجيات أم من السيئات املوبقات وذلك استعدادا ليوم احلساب واجملازاة ‪ ،‬وإذا‬
‫استطاع اإلنسان أن حياسب نفسه ويراقبها يف تصرفاهتا وحركاهتا وسكناهتا فإن‬
‫هذه مظنة االستقامة والسري على الصراط املستقيم ومن مث الفوز جبنات النعيم ‪،‬‬
‫وهذه األمنية هي غاية ما يتمىن املسلم من تربية ذاته‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬إن الذين قالوا ربنا اهلل مث استقاموا تتنزل عليهم املالئكة أال ختافوا‬
‫وال حتزنوا وأبشروا باجلنة اليت كنتم توعدون ‪ ،‬حنن أولياؤكم يف احلياة الدنيا ويف‬
‫اآلخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } [ فصلت ‪-30 :‬‬
‫‪]32‬‬
‫وتعد منزلة احملاسبة من أفضل املراتب ألهنا حتتاج إىل مراقبة دائمة وجماهدة‬
‫مستمرة للنفس اإلنسانية ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‬
‫وإن اهلل ملع احملسنني } [ العنكبوت ‪ ] 69 :‬وعن فضالة بن عبيد قال ‪ :‬مسعت‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬اجملاهد من جاهد نفسه يف سبيل اهلل عز‬
‫وجل‬
‫[ أمحد ‪ ،6/22 :‬وجود األلباين إسناده يف الصحيحة برقم ‪]1496‬‬

‫(‪ )2‬مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ‪ :‬ابن قيم اجلوزية ‪ ،‬حتقيق ‪ /‬حممد حامد الفقي ‪ ،‬بريوت ‪،‬‬
‫دار الكتاب العريب ‪ 1392 ،‬هـ ‪ 3 ،‬أجزاء ‪1/169 ،‬‬
‫ومن فوائد هذا األسلوب أيضا أنه يريب الضمري يف داخل النفس وينمي يف الذات‬
‫الشعور باملسئولية ووزن األعمال والتصرفات مبيزان دقيق هو ميزان الشرع‬
‫نماذج قولية وعملية ‪:‬‬
‫عرف سلفنا الصاحل أمهية هذه املنزلة فحققوها يف أنفسهم وحثوا غريهم عليها مما‬
‫حدا هبم أن يؤلفوا الرسائل والتصنيفات املستقلة إليراد النماذج القولية والعملية‬
‫عنها ‪ ،‬وقد ورد عن سلفنا الصاحل مواقف شىت يف تطبيق أسلوب احملاسبة ‪ ،‬فهذا‬
‫عمر بن اخلطاب ـ رضي اهلل عنه ـ يقول مبينا أمهية هذا األسلوب ‪ :‬حاسبوا‬
‫غدا‬
‫أنفسكم قبل أن حتاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون يف احلساب ً‬
‫أن حتاسبوا أنفسكم اليوم ‪ ،‬وتزينوا للعرض األكرب ‪ ،‬يومئذ تعرضون ال ختفى‬
‫(‪)1‬‬
‫منكم خافية‬
‫وإذا أتينا إىل التطبيق العملي جند هذا اخلليفة العادل يقيم احلجة يف حماسبة النفس‬
‫على كل الرعاة والدعاة واملربني وغريهم ‪ ،‬عن أنس بن مالك ـ رضي اهلل عنه ـ‬
‫قال ‪ :‬مسعت عمر بن اخلطاب ـ رضي اهلل عنه ـ يوما وخرجت معه حىت دخل‬
‫حائطا فسمعته يقول وبيين وبينه جدار وهو يف جوف احلائط ‪ :‬عمر أمري املؤمنني‬
‫(‪)2‬‬
‫بخ بخ واهلل بين اخلطاب لتتقني اهلل أو ليعذبنك‬
‫ويعترب ميمون بن مهران احملاسبة ميزانا للتقوى فيقول ‪ :‬ال يكون الرجل تقيا حىت‬
‫(‪)3‬‬
‫يكون لنفسه أشد حماسبة من الشريك لشريكه‬
‫وعن أمهية ختصيص وقت احملاسبة وأثرها يف حياة الفرد يقول وهب بن منبه ‪:‬‬
‫مكتوب يف حكمة آل داود ‪ :‬حق على العاقل أال يغفل عن أربع ساعات ‪ :‬ساعة‬
‫يناجي فيها ربه ‪ ،‬وساعة حياسب فيها نفسه ‪ ،‬وساعة خيلو فيها مع إخوانه الذين‬
‫(‪ )1‬الزهد ‪ :‬أمحد بن حنبل ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬دار الريان للرتاث ‪ 1408 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪149‬‬
‫(‪ )2‬الزهد ‪ :‬مرجع سابق ‪ :‬ص ‪149‬‬
‫(‪ )3‬حماسبة النفس ‪ :‬عبد اهلل بن حممد بن أيب الدنيا ‪ ،‬حتقيق ‪ /‬جمدي السيد إبراهيم ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬مكتبة القرآن ‪،‬‬
‫‪1407‬هـ ‪ ،‬ص ‪33‬‬
‫خيربونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ‪ ،‬وساعة خيلو فيها بني نفسه وبني لذاهتا فيما‬
‫(‪)4‬‬
‫حيل وحيمد ‪ ،‬فإن هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإمجاما للقلوب‬
‫ومن حاسب نفسه يف الدنيا هان احلساب عليه يف اآلخرة كما يقول احلسن ‪:‬‬
‫أيسر الناس حسابا يوم القيامة الذين حياسبون أنفسهم يف الدنيا فوقفوا عند‬
‫مهومهم وأعماهلم ‪ ،‬فإن كان الذي مهوا به هلم مضوا ‪ ،‬وإن كان الذي مهوا به‬
‫عليهم أمسكوا ‪ ..‬وإمنا يثقل األمر يوم القيامة على الذين جازفوا األمور يف الدنيا‬
‫(‪)1‬‬
‫أخذوها من غري حماسبة فوجدوا اهلل عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر‬
‫ويصف اإلمام الغزايل أرباب القلوب املنيبة وذوي الضمائر احلية الذين اختذوا هذا‬
‫األسلوب هنجا يف حياهتم ‪ :‬فعرف أرباب البصائر من مجلة العباد أن اهلل تعاىل هلم‬
‫باملرصاد ‪ ،‬وأهنم سيناقشون يف احلساب ويطالبون مبثاقيل الذر من اخلطرات‬
‫واللحظات وحتققوا أنه ال ينجيهم من هذه األخطار إال لزوم احملاسبة وصدق‬
‫املراقبة ومطالبة النفس يف األنفاس واحلركات وحماسبتها يف اخلطرات واللحظات‬
‫‪ ،‬فمن حاسب نفسه قبل أن حياسب خف يف القيامة حسابه وحضر عند السؤال‬
‫جوابه وحسن منقلبه ومآبه ‪ ،‬ومن مل حياسب نفسه دامت حسراته وطالت يف‬
‫(‪)2‬‬
‫عرصات القيامة وقفاته وقادته إىل اخلزي واملقت سيئاته‬
‫وفيما يلي نورد مزيدا من النماذج العملية يف احملاسبة الذاتية ‪:‬‬
‫ـ أورد ابن أيب الدنيا بسنده قال ‪ :‬كان توبة بن الصمة بالرقة وكان حماسبا لنفسه‬
‫فإذا هو ابن ستني فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألفا يوم ومخسمائة يوم‬
‫فصرخ وقال ‪ :‬يا ويلىت ألقى املليك بأحد وعشرين ألف ذنب ‪ ،‬كيف ويف كل‬
‫(‪)3‬‬
‫يوم عشرة آالف ذنب ؟ مث خر مغشيا عليه‬

‫(‪ )4‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪35‬‬


‫(‪ )1‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪94‬‬
‫(‪ )2‬إحياء علوم الدين ‪ :‬الغزايل ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دار املعرفة ‪ 5 ،‬أجزاء ‪ 4/393 ،‬ـ‪394‬‬
‫ـ وأورد أيضا بسنده عن إبراهيم التيمي قال ‪ :‬مثلت نفسي يف اجلنة آكل من‬
‫مثارها وأشرب من أهنارها وأعانق أبكارها ‪ ،‬مث مثلت نفسي يف النار آكل من‬
‫زقومها وأشرب من صديدها وأعاجل سالسلها وأغالهلا فقلت لنفسي ‪ :‬أي شيء‬
‫تريدين ؟ قالت ‪ :‬أريد أن أرد إىل الدنيا فأعمل صاحلا ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت ‪ :‬فأنت يف‬
‫(‪)4‬‬
‫األمنية فاعملي‬
‫ـ ويروي الغزايل ( د ‪ .‬ت ) قال ‪ :‬حكى صاحب لألحنف ابن قيس قال ‪ :‬كنت‬
‫أصحبه فكان عامة صالته بالليل الدعاء ‪ ،‬وكان جيئ إىل املصباح فيضع أصبعه‬
‫فيه حىت حيس بالنار مث يقول لنفسه ‪ :‬يا حنيف ما محلك على ما صنعت يوم كذا‬
‫(‪)1‬‬
‫؟ ما محلك على ما صنعت يوم كذا‬
‫أنواعها ‪:‬‬
‫ذكر ابن القيم ـ رمحه اهلل ـ أن للمحاسبة نوعني مها ‪ :‬نوع قبل العمل ونوع بعده‬
‫‪ ،‬فأما النوع األول ‪ :‬فهو أن يقف عند أول مهه وإرادته وال يبادر بالعمل حىت‬
‫يتبني له رجحانه على تركه ‪ ،‬والنوع الثاين حماسبة النفس بعد العمل وهو ثالثة‬
‫أنواع هي ‪:‬‬
‫أ ـ حماسبتها على طاعة قصرت فيها من حق اهلل فلم تؤدها كما ينبغي‬
‫ب ـ حماسبتها على كل عمل كان تركه خريا له من فعله‬
‫ج ـ حماسبتها على األمور املباحة أو املعتادة مل فعلها‬
‫[ ابن القيم ‪1381 ،‬هـ ‪ ،‬ص‪1/97‬ـ‪]99‬‬

‫(‪ )3‬حماسبة النفس ‪ :‬احلافظ ابن أيب الدنيا ‪ ،‬حتقيق جمدي السيد إبراهيم ‪ ،‬مكتبة الساعي ‪ ،‬القاهرة ‪ 1407 ،‬هـ ‪ ،‬ص‬
‫‪67‬‬

‫(‪ )4‬املرجع السابق ‪ :‬ص ‪34‬‬


‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪4/405 ،‬‬
‫ويشري الباحث إىل نوع ثالث من احملاسبة وهو حماسبة النفس أثناء أداء العمل فإن‬
‫كان خالصا لوجه اهلل تعاىل وموافقا هلدي املصطفى مضى فيه وإال رجع عنه ‪،‬‬
‫والسبب يف ذلك أن العمل يكون خالصا عند أول اهلم به ولكن قد يشوبه أثناء‬
‫أدائه شيء من الرياء فيحبط العمل ويصبح وباال على عامله ‪ ،‬هذا إذا مل جيدد‬
‫النية ويصححها‬
‫كيفية احملاسبة وما يعني عليها ‪:‬‬
‫وأما كيف يستخدم هذا األسلوب يف الرتبية الذاتية وما هي طريقة حماسبة النفس‬
‫فهذا أمر ليس باليسري ويستدعي مداومة الرتويض والتهذيب للنفس كيما تصل‬
‫إىل رضى خالقها ‪ ،‬يقول اإلمام ابن القيم ـ رمحه اهلل ـ ‪ :‬وبداية احملاسبة أن تقايس‬
‫بني نعمته عز وجل وجنايتك فحينئذ يظهر لك التفاوت وتعلم أنه ليس إال عفوه‬
‫ورمحته أو اهلالك والعطب ‪ ..‬مث تقايس بني احلسنات والسيئات فتعلم هبذه‬
‫املقايسة ‪ :‬أيهما أكثر وأرجح قدرا وصفة ‪ ،‬وهذه املقايسة الثانية مقايسة بني‬
‫(‪)2‬‬
‫أفعالك وما منك خاصة‬
‫ويف وصف املؤمن احملاسب لنفسه أورد احلافظ ابن أيب الدنيا بسنده عن احلسن‬
‫قوله ‪:‬‬
‫إن املؤمن يفجأه الشيء ويعجبه فيقول واهلل إين ألشتهيك وإنك ملن حاجيت‬
‫ولكن واهلل ما من صلة إليك ‪ ،‬هيهات حيل بيين وبينك ‪ ،‬ويفرط منه الشيء‬
‫فريجع نفسه فيقول ‪ :‬هيهات ما أردت إىل هذا وما يل وهلذا ‪ ،‬ما أردت إىل هذا‬
‫وما يل وهلذا ‪ ،‬واهلل ما أعذر هبذا واهلل ال أعود إىل هذا أبدا إن شاء اهلل‪...‬إن‬
‫املؤمنني قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبني هلكتهم ‪ ،‬إن املؤمن أسري يف الدنيا‬

‫(‪ )2‬هتذيب مدارج السالكني ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪115‬‬


‫يسعى يف فكاك رقبته ال يأمن شيئا حىت يلقى اهلل ‪ ،‬يعلم أنه مأخوذ عليه يف مسعه‬
‫(‪)1‬‬
‫ويف بصره ويف لسانه ويف جوارحه ‪ ،‬مأخوذ عليه يف ذلك كله‬
‫ومن احملاسبة أن يقرر املرء نفسه بذنوبه ومعاصيه لكي ترجع وتؤوب ‪ ،‬يقول‬
‫مالك بن دينار ‪ :‬رحم اهلل عبدا قال لنفسه ‪ :‬ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة‬
‫(‪)2‬‬
‫كذا ؟ مث ذمها مث خطمها مث ألزمها كتاب اهلل تعاىل فكان هلا قائدا‬
‫ولنستمع إىل احملاسيب وهو حيدث نفسه حماسبا ومعاتبا ‪:‬‬
‫وحيك إن الدنيا دار جناة اآلخرة ‪ ..‬إن اجلامعني بدلوا األحزان يف الدنيا فورثوها‬
‫يف اآلخرة دوام السرور ‪ ،‬وحيك فال تدعي معاملة موالك يف دار العمل فتخسري‬
‫الدنيا واآلخرة ‪ ، ..‬وحيك يا نفس أين تالوة القرآن ؟ وأين معاين اآلثار ؟ وأين‬
‫الشكر ملن ال تعرفني منه إال اإلحسان ؟ رضيت بأحوال اجلاهلني ومنازل الغافلني‬
‫وأعمال الفاسقني ‪ ،‬وحيك يا نفس أليس قد انقطع عنك كل لذة وزالت عنك‬
‫كل رفاهية وانقضت الساعات واأليام وما كان فيها من التخليط والذنوب‬
‫وبقيت عليك األوزار هذا ما قد قضى وذهب ‪ ..‬وبقي السؤال ‪ ،‬فهكذا‬
‫تستقبلني أيامك ‪ ..‬ما يكون منها وما يبقى عليك من التبعات فتحويل عما‬
‫(‪)3‬‬
‫ينقضي ويبقى سوء عاقبته ‪...‬‬
‫إن مما حيفز املسلم حملاسبة نفسه تيقنه أن اهلل عز وجل يقبل التوبة من عباده يف‬
‫كل حني ومهما كرب الذنب أو دق ‪ ،‬يقول تعاىل ‪ { :‬قل يا عبادي الذين أسرفوا‬
‫على أنفسهم ال تقنطوا من رمحة اهلل إن اهلل يغفر الذنوب مجيعا إنه هو الغفور‬
‫الرحيم } [ الزمر ‪] 53 :‬‬

‫(‪ )1‬حماسبة النفس ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪36‬‬


‫(‪ )2‬إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪4/405‬‬
‫(‪ )3‬معاقبة النفس ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪ 56‬ـ ‪60‬‬
‫ويقول املصطفى صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن اهلل عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب‬
‫مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حىت تطلع الشمس من‬
‫مغرهبا [ مسلم ‪] 4/2113 :‬‬
‫ومما يعني على احملاسبة أن يكون املرء صادقا يف حماسبته لنفسه ‪ ،‬وتعتمد احملاسبة‬
‫الصادقة على ثالث أسس هي ‪ :‬االستنارة بنور احلكمة وسوء الظن بالنفس ومتييز‬
‫النعمة من الفتنة ‪ ،‬فأما نور احلكمة فهو العلم الذي مييز به العبد بني احلق والباطل‬
‫واهلدى والضالل ‪ ،‬وكلما كان حظه من هذا النور أقوى كان حظه من احملاسبة‬
‫أكمل وأمت ‪ ،‬وأما سوء الظن بالنفس حىت ال مينع من كمال التفتيش والتنقيب‬
‫عن املساوئ والعيوب ‪ ،‬وأما متييز النعمة من الفتنة ألنه كم من مستدرج بالنعم‬
‫وهو ال يشعر ‪ ،‬مفتون بثناء اجلهال عليه مغرور بقضاء اهلل حوائجه وسرته عليه‬
‫(‪)1‬‬

‫ومما يعني اإلنسان على معرفة عيوب نفسه ويساعده على متييز النعمة من الفتنة‬
‫ما أشار إليه الغزايل حيث أورد أربعة طرق ملعرفة عيوب النفس هي(‪: )2‬‬
‫ـ أن جيلس بني يدي شيخ بصري بعيوب النفس وحيكمه يف نفسه ويتبع إشارته يف‬
‫جماهدهتا‬
‫ـ أن يطلب صديقا صدوقا بصريا متدينا رقيبا على نفسه ليالحظ أحواله وأفعاله‬
‫ـ أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة خصومه وأعدائه فإن عني السخط‬
‫تبدي لك املساوئ‬
‫ـ أن خيالط الناس ـ وخاصة أهل الصالح منهم ـ فكل ما رآه مذموما فيما بني‬
‫اخللق فليطالب نفسه وينسبها إليه وليتفقد نفسه ويطهرها‬
‫ويلخص الباحث فيما يلي اآلثار الرتبوية ألسلوب احملاسبة ‪:‬‬

‫(‪ )1‬هتذيب مدارج السالكني ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪116‬‬


‫(‪ )2‬إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪ 3/64 ،‬ـ‪65‬‬
‫ـ حتقيق العبودية الكاملة هلل عز وجل ‪.‬‬
‫ـ مراقبة اهلل يف السلوك واملعامالت ‪.‬‬
‫ـ أداء حقوق اآلدميني كاملة من غري نقصان ‪.‬‬
‫ـ إتقان العمل كل يف جماله وختصصه ‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬تقوى اهلل‬
‫يقول تعاىل ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل وقولوا قوال سديدا ‪ ،‬يصلح لكم‬
‫أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اهلل ورسوله فقد فاز فوزا عظيما }‬
‫[ األحزاب ‪ ] 71 ، 70 :‬فالعالقة قوية بني تقوى اهلل والرتبية الذاتية ونتيجتها‬
‫(‪)1‬‬
‫أن يتقبل اهلل احلسنات ويزكي األعمال‬
‫ويقول ابن كثري ـ رمحه اهلل ـ وعدهم أهنم إذا فعلوا ذلك أثاهبم عليه بأن يصلح هلم‬
‫أعماهلم أي يوفقهم لألعمال الصاحلة وأن يغفر هلم الذنوب املاضية وما قد يقع‬
‫يف املستقبل يلهمهم التوبة منها (‪ ،)2‬ويف ذلك صالح ألمري الدنيا واآلخرة كما‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا اهلل جيعل لكم فرقانا ويكفر عنكم‬
‫سيئاتكم ويغفر لكم واهلل ذو الفضل العظيم } [ األنفال ‪ ] 29 :‬وبني عليه‬
‫الصالة والسالم أمهية التقوى عندما سئل عن أكثر ما يدخل الناس اجلنة فقال ‪:‬‬
‫التقوى وحسن اخللق ‪ [ .‬ابن ماجة ‪ ، 2/1418 :‬وقال الرتمذي ‪ :‬حديث‬
‫حسن ] ويقول أيضا ‪ :‬احفظ اهلل حيفظك ‪ ،‬احفظ اهلل جتده جتاهك ‪ [ .‬أمحد ‪:‬‬
‫‪ ] 1/307‬وحفظ اهلل هو تقواه حبفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه أي بفعل‬
‫(‪)3‬‬
‫الواجبات مجيعا وترك احملرمات كلها‬

‫(‪ )1‬زاد املسري يف علم التفسيرب ‪ :‬مرجع سابق ‪6/427 ،‬‬


‫(‪ )2‬تفسري القرآن العظيم ‪ :‬مرجع سابق ‪3/521 ،‬‬
‫(‪ )3‬نور االقتباس يف مشكاة وصية النيب صلى اهلل عليه وسلم البن عباس ‪ :‬ابن رجب ‪ ،‬حتقيق وتعليق ‪ /‬حممد بن‬
‫ناصر العجمي ‪ .‬الكويت ‪ ،‬دار األقصى ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪24‬‬
‫ومن ميزات هذا األسلوب أنه ينشئ داخل حس اإلنسان رقابة ذاتية تشعره‬
‫باملسئولية املطلقة أمام اهلل ليكون حارسا أمينا لنظام احلياة الذي ارتضاه لعباده‬
‫وطالب كل فرد بتطبيقه فال حييد عنه قيد أمنلة ‪.‬‬
‫إن تقوى اهلل هو عقد متفرقات مجيع أساليب الرتبية الذاتية ‪ ،‬وهي الرابطة‬
‫أو احللقة اليت ينبغي أن حييط هبا العبد عند اهلم بأي من تلك األساليب ‪ .‬وتشبه‬
‫احملاسبة من جوانب عدة مثل العلم قبل العمل وعدم معرفة املخلوقني هبا ‪ .‬ورمبا‬
‫يكون الفرق بينهما أن احملاسبة تكون غالبا بعد أداء العمل بينما تقع التقوى قبله‬
‫‪.‬‬
‫حقيقة التقوى ‪:‬‬
‫التقوى هي وصية اهلل إىل األولني واآلخرين ‪ ،‬قال تعاىل { ولقد وصينا‬
‫الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا اهلل } [ النساء ‪ ] 131 :‬وهذه‬
‫الوصية العظيمة جامعة حلقوق اهلل وحقوق عباده ‪ .‬ويورد الباحث فيما يلي مجلة‬
‫من أقوال السلف الصاحل يف بيان حقيقة التقوى ‪:‬‬
‫قال ابن عمر ‪ :‬ال يبلغ العبد حقيقة التقوى حىت يدع ما حاك يف الصدر‬
‫[ البخاري ‪] 1/19 :‬‬
‫سئل علي بن أيب طالب عن التقوى فقال ‪ :‬هي اخلوف من اجلليل والعمل‬
‫(‪)1‬‬
‫بالتنزيل والقناعة بالقليل واالستعداد ليوم الرحيل‬
‫وقال ابن مسعود رضي اهلل عنه ‪ :‬اتقوا اهلل حق تقاته أي أن يطاع فال يعصى‬
‫ويذكر فال ينسى وأن يشكر فال يكفر ‪.‬‬
‫وقال عمر بن عبد العزيز ‪ :‬هي ترك ما حرم اهلل وأداء ما افرتض اهلل فما رزق‬
‫اهلل بعد ذلك فهو خري إىل خري ‪.‬‬

‫فتح املبني لشرح األربعني ‪ :‬أمحد بن حجر اهليثمي ‪ .‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ 1398 ،‬هـ ص ‪. 164‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫وقال طلق بن حبيب ‪ :‬التقوى أن تعمل بطاعة اهلل على نور من اهلل ترجو‬
‫ثواب اهلل ‪ ،‬وأن ترتك معصية اهلل على نور من اهلل ختشى عقاب اهلل ‪.‬‬
‫وقال ابن املعتز ناظما (‪: )2‬‬
‫خل الذنوب صغريها وكبريها ذاك التقى‬
‫واصنع كماش فوق أرض الشوك حيذر ما يرى‬
‫ال حتقرن صغرية إن اجلبال من احلصى‬
‫فحقيقة التقوى إذن أهنا كلمة جامعة لفعل الطاعات وترك املعاصي الكبري‬
‫منها والصغري واجلليل واحلقري ‪.‬‬
‫وهي يف مجلتها تكتنف النفس املؤمنة من الداخل حبيث ينبع اخلري منها دون‬
‫ضغوط خارجية ‪ ،‬وتنفر من الشر بال قسر أو إكراه ‪.‬‬

‫النووي ‪ 1382 :‬هـ ‪ ،‬ص ‪138‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫ثمرة التقوى ‪:‬‬
‫إن يف التزام التقوى فالح الدنيا واآلخرة ‪ ،‬ويفصل الباحث فيما يلي بعض مثار‬
‫التقوى اقتباسا مما جاء يف القرآن الكرمي والسنة املطهرة ‪:‬‬
‫‪1‬ـ تكفري السيئات ومضاعفة احلسنات ‪.‬‬
‫‪2‬ـ حتقيق معية اهلل وحفظه ‪.‬‬
‫‪3‬ـ احلصول على اإلهلام والرشد والتوفيق يف مجيع األمور ‪.‬‬
‫‪4‬ـ القدرة على التمييز بني احلق والباطل واهلدى والضالل ‪.‬‬
‫‪5‬ـ تفريج اهلموم وتنفيس الكروب ‪.‬‬
‫‪6‬ـ تيسري سبل الرزق ‪.‬‬
‫‪7‬ـ االستعداد ملالقاة رب العباد ‪.‬‬
‫‪8‬ـ التمكني يف األرض وتعبيد البشر لرب العاملني ‪.‬‬
‫‪9‬ـ النجاة من عذاب جهنم ومن أهوال يوم القيامة ‪.‬‬
‫‪10‬ـ الفوز برضى الرمحن ونيل أعلى درجات اجلنان ‪.‬‬
‫إن هذه الفوائد وغريها مما يتمىن كل فرد بذاته أن حيظى هبا ‪ ،‬ولكن ليس‬
‫احلصول عليها بالتمين وإمنا ببلوغ درجة املتقني ‪.‬‬
‫تحقيق التقوى ‪:‬‬
‫إن حتقيق هذا األسلوب العظيم – التقوى – يتطلب االتصاف خبصال املتقني‬
‫اليت وردت يف الكتاب والسنة وهي كثرية جدا ‪ ،‬يذكر الباحث طرفا منها ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬آمل * ذلك الكتاب ال ريب فيه هدى للمتقني * الذين يؤمنون‬
‫بالغيب ويقيمون الصالة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون مبا أنزل إليك وما‬
‫أنزل من قبلك وباآلخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من رهبم وأولئك هم‬
‫املفلحون }‬
‫[ البقرة ‪-1 :‬‬
‫‪]5‬‬
‫فمن أخص خصائصهم اإلميان بالغيب ألنه جيعل من ضمري اإلنسان رقيبا‬
‫ذاتيا حيصي عليه مجيع حركاته وسكناته وتصرفاته ‪ .‬يقول أحد العلماء – رمحه‬
‫اهلل ‪ : -‬فاملؤمن بالغيب على احلقيقة هو الذي يستشعر دائما مشاهد يوم القيامة‬
‫‪ .‬وكل ما يرى يف الدنيا من صنوف اللذات والنعيم يذكر به نعيم اجلنة الذي هو‬
‫خري منه وأبقى فيبادر إىل األعمال الصاحلة ويكون إنسانا صاحلا ‪ ،‬وكل ما يرى‬
‫يف دنيا من أصناف الشرور وحر النار يذكر به عذاب جهنم وشدة حرها فريتدع‬
‫عن الشهوات ويكبح نفسه عن مجاحها وال يطلق هلا أنانيتها من أنواع الطمع‬
‫والشره يف مال أو عرض أو أي نوع من أنواع التسلط واالغتصاب ‪. )1( ...‬‬
‫ومن صفاهتم أيضا أهنم أوابون رجاعون إىل احلق إذا ما أخطأوا أو ضلوا ‪،‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم‬
‫مبصرون } [ األعراف ‪ ] 201 :‬وكذا من صفاهتم ترك الشبهات وما ترجح‬
‫بني احلالل واحلرام أو خفي حكمه لقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ ... :‬فمن اتقى‬
‫الشبهات فقد استربأ لدينه وعرضه ‪ [ ...‬البخاري ‪ ] 341 :‬ويقول أيضا ‪ :‬ال‬
‫يبلغ العبد أن يكون من املتقني حىت يدع ما ال بأس به حذرا ملا به بأس‬
‫[ الرتمذي ‪ ، 4/547 :‬وقال ‪ :‬حسن غريب ] ‪.‬‬
‫يقول احلسن البصري ‪ :‬ما زالت التقوى باملتقني حىت تركوا كثريا من احلالل‬
‫خمافة احلرام ‪ .‬وقال سفيان بن عيينة ‪ :‬ال يصيب عبد حقيقة اإلميان حىت جيعل بينه‬
‫وبني احلرام حاجزا من احلالل وحىت يدع اإلمث وما تشابه منه (‪. )2‬‬

‫(‪ )1‬صفوة اآلثار واملفاهيم من تفسري القرآن العظيم ‪ :‬عبد الرمحن بن حممد الدوسري ‪ .‬مكتبة دار األرقم ‪ ،‬الكويت‬
‫‪ 1406 ،‬هـ ‪2/5 ،‬‬
‫(‪ )2‬الوايف يف شرح األربعني النووية ‪ :‬مصطفى البغا وحميي الدين مستو ‪ .‬دمشق ‪ ،‬دار اإلمام البخاري للنشر‬
‫والتوزيع ‪ 1400 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪. 34‬‬
‫فرتك الشبهات منزلة عظيمة ال يبلغها إال املتقون وال تأيت إال مبجاهدة النفس‬
‫ومغالبتها حتقيقا ألوامر الشرع ‪.‬‬
‫يقول حممد املصري ‪ :‬وهكذا يظل املؤمن يف عالج لنفسه وجهاد لرغباته‬
‫وأهوائه حىت ينتهي به األمر إىل أن تصبح التقوى مغروسة يف نفسه وتصبح خلقا‬
‫من أخالقه وسجية من سجاياه ‪ ،‬وهنا يدرك مثرة التقوى يف أيامه كلها ‪ ،‬وهنا‬
‫يرهف إحساسه ويسمو وجدانه فيصبح سريع اإلدراك ملواطن اخلري وملواطن الشر‬
‫‪ ،‬خبريا كل اخلربة بالتمييز بينهما ‪ ،‬ويصبح طبعه اخلري وهواه مع اخلري وكراهيته‬
‫(‪)3‬‬
‫للشر ونفوره منه ويكره أن يعود إىل الكفر كما يكره أن يلقى يف النار‬
‫* * * * * *‬

‫من هدي سورة األنفال ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪. 7‬‬ ‫(‪)3‬‬


‫المبحث الثاني‬
‫المعامالت اإلسالمية‬
‫أوال ‪ :‬التحلي باألخالق اإلسالمية‬
‫ليس من شك يف أن لألخالق أثرا قويا يف بناء األمم واألفراد ألن كل‬
‫السلوكيات والتصرفات ناشئة عن تلك األخالق ‪ ،‬وهبا يبلغ املرء أعلى املراتب‬
‫والدرجات أو ينزل إىل أسوأ الدركات ‪ .‬واألخالق اإلسالمية بالذات مطلب‬
‫رئيسي يف الرتبية اإلسالمية ‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن املؤمن ليدرك حبسن‬
‫خلقه درجة الصائم القائم [ أبو داود ‪ . ] 5/149 :‬وقال أيضا ‪ :‬أكمل املؤمنني‬
‫إميانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله [ رواه الرتمذي ‪ ، 5/11‬وقال ‪ :‬حديث‬
‫حسن صحيح ] وأمناط السلوك متعددة منها ما هو فردي ومنها ما هو اجتماعي‬
‫وكالمها ينعكس أثره على البيئة أو اجملتمع الذي يعيش فيه األفراد ‪ .‬فالسلوك‬
‫الفردي حموره الفرد ومثاله الطموح والرضا والصرب والتواضع ‪ ،‬والسلوك‬
‫االجتماعي يشرتك فيه اثنان على األقل لكي يظهر إىل حيز التطبيق ومنه التعاون‬
‫واإليثار والتضحية (‪. )1‬‬
‫والنمط األول – أي السلوك الفردي – هو الذي يتصل مباشرة بالرتبية‬
‫الذاتية ‪ ،‬وإذا حتلى الفرد باألخالق احلسنة وجاهد نفسه لكي يكتسبها وتبقى‬
‫متأصلة فيه فإن ذلك سيساعده بإذن اهلل يف تزكية نفسه وتقوميها ‪ .‬يقول‬
‫الدكتور عبد احلميد األقطش ‪ :‬وقد يبدأ التخلق خبلق ما عمال شاقا على النفس‬
‫إذا مل يكن من أصل طبيعتها الفطرية ‪ ،‬ولكنه بتدريب النفس عليه وبالتمرس‬
‫واملران يصبح سجية ثابتة يندفع اإلنسان إىل ممارسة ظواهرها اندفاعا ذاتيا دون‬

‫القيم اخللقية يف اإلسالم ‪ :‬أمحد ماهر البقري ‪ .‬اإلسكندرية ‪ ،‬مؤسسة شباب اجلامعة ‪ 1407 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪7‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫مشقة ‪ ،‬وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب اجلسدي الذي تكتسب‬
‫به املهارات العملية اجلسدية (‪. )2‬‬
‫ولطبيعة البحث سيقتصر احلديث على أهم الصفات اخللقية الفردية وأثرها يف‬
‫الرتبية الذاتية ‪.‬‬

‫(‪ )2‬اكتساب اخللق اإلسالمي ‪ :‬عبد احلميد األقطش ‪ .‬جملة الدعوة ‪ ،‬عدد ‪ ، 1267‬الرياض ‪ ،‬إصدار مؤسسة‬
‫الدعوة اإلسالمية الصحفية ‪ 1410 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪50‬‬
‫أ ـ الصبر‬
‫البد لطالب التزكية أن حيلي نفسه بالصرب لينال مراتب الكمال ‪ ،‬ومن مل‬
‫يتعود الصرب فليصرب نفسه ولريغمها على ذلك ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا اصربوا وصابروا ورابطوا واتقوا اهلل لعلكم تفلحون } [ آل عمران ‪200 :‬‬
‫] ‪ .‬يقول عليه الصالة والسالم ‪ ... :‬وإنه من يستعفف يعفه اهلل ومن يتصرب‬
‫يصربه اهلل ومن يستغن يغنه اهلل ولن تعطوا عطاء خري وأوسع من الصرب ‪.‬‬
‫[ البخاري ‪] 4/186 :‬‬
‫ويقول صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إمنا العلم بالتعلم واحللم بالتحلم ومن يتحر‬
‫اخلري يعطه ومن يتوق الشر يوقعه [ حسنه األلباين يف الصحيحة برقم ‪] 342‬‬
‫فمن يتصرب يصربه اهلل ويعطيه هذا اخللق الرفيع ‪.‬‬
‫والصرب يف الرتبية الذاتية على أنواع ‪ ،‬فمنه الصرب على رغبات النفس ومنه‬
‫الصرب على متاعب احلياة الرتبوية ومنه الصرب على معاملة األستاذ واملريب ومنه‬
‫الصرب على جفاف املادة العلمية أحيانا ‪.‬‬
‫وقد أشارت قصة موسى مع اخلضر عليهما السالم إىل أن تربية الذات ال‬
‫تتحقق إال بالصرب والتحمل حيث قال تعاىل خمربا عنهما ‪ { :‬قال له موسى هل‬
‫أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صربا *‬
‫وكيف تصرب على ما مل حتط به خربا * قال ستجدين إن شاء اهلل صابرا وال‬
‫أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتين فال تسألين عن شيء حىت أحدث لك منه ذكرا‬
‫} [ الكهف ‪] 70-66‬‬
‫فقد كان موسى عليه السالم يتطلع إىل العلم الذي خصه اهلل باخلضر عليه‬
‫السالم ولكن خمالفته للشرط الذي كان بينهما وهو الصرب فوت عليه ذلك ‪،‬‬
‫وهذا ما جعل رسولنا حممد صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ ... :‬وددنا أن موسى‬
‫صرب حىت يقص اهلل علينا من خربمها ‪ [ ...‬البخاري ‪] 3/257 :‬‬
‫ومراتب الكمال يف الرتبية والتعليم وغريمها ال تنال بني عشية وضحاها وإمنا‬
‫بالصرب واليقني واجلد واالجتهاد كما قال تعاىل ‪ { :‬وجعلنا منهم أئمة يهدون‬
‫بأمرنا ملا صربوا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة ‪ ] 24 :‬وقال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬ما رزق عبد خريا له وال أوسع من الصرب [ رواه الطرباين نقال عن‬
‫األلباين يف الصحيحة برقم ‪] 449‬‬
‫ويقول أيضا ‪ :‬أفضل اإلميان الصرب والسماحة ‪ [ .‬رواه الديلمي نقال عن األلباين‬
‫يف الصحيحة برقم ‪. ] 1495‬‬
‫فبالصرب واليقني تنال اإلمامة يف الدين ‪ ،‬وبتتبعنا لسرية سلفنا الصاحل جند أهنم‬
‫ما وصلوا إىل تلك الدرجات السابقة إال بعد التحلي هبذا اخللق الكرمي ‪.‬‬
‫حيكي لنا خري األمة وترمجان القرآن – عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما –‬
‫قصة كفاحه وصربه حىت حقق دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم له بالفقه يف‬
‫الدين فيقول ‪ :‬ملا قبض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قلت لرجل من األنصار ‪:‬‬
‫هلم نسأل أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإهنم اليوم كثري ‪ .‬فقال ‪ :‬يا‬
‫عجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك ويف الناس أصحاب رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم من فيهم ؟ قال ابن عباس ‪ :‬فرتكت ذلك وأقبلت أنا أسأل‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإنه كان ليبلغين احلديث عن الرجل‬
‫فآيت بابه وهو قائل – أي نائم يف نصف النهار – فأتوسد ردائي على بابه يسفي‬
‫الريح علي من الرتاب فيخرج فرياين فيقول ‪ :‬يا ابن عم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ما جاء بك ؟ هال أرسلت إيل فآتيك ‪ .‬فأقول ‪ :‬ال أنا أحق أن آتيك ‪ .‬قال‬
‫‪ :‬فأسأله عن احلديث ‪ .‬قال ابن عباس ‪ :‬فعاش الرجل األنصاري حىت رآين قد‬
‫(‪)1‬‬
‫اجتمع حويل الناس يسألوين فقال ‪ :‬هذا الفىت كان أعقل مين ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سري أعالم النبالء ‪ :‬حممد أمحد عثمان الذهيب ‪ .‬التحقيق والتخريج بإشراف شعيب األرناؤوط ‪ ،‬مؤسسة الرسالة‬
‫‪ 1402 ،‬هـ ‪ 23 ( ،‬جزءا ) ‪3/242‬‬
‫إن يف قصة ابن عباس عربة وعظة لكل الكساىل والساقطني على جنبات‬
‫الطريق الرتبوي الطويل ‪ ،‬وفيها درس لكل املربني واملرتبني الذين يستعجلون‬
‫قطف الثمار أو الذين يستنكفون عن السري يف الطريق من أوله أو يظنون استحالة‬
‫الوصول إىل هنايته ‪ .‬ويؤكد اإلمام النووي هذا املفهوم فيقول ‪ :‬من مل يصرب على‬
‫ذل التعلم بقي عمره يف عماية اجلهالة ومن صرب آل أمره إىل عز الدنيا واآلخرة‬
‫‪ ...‬ومنه األثر ‪ :‬ذللت طالبا فعززت مطلوبا (‪. )2‬‬
‫وقيل لإلمام الشعيب من أين لك هذا العلم كله ؟ قال ‪ :‬ينبغي االعتماد‬
‫والسري يف البالد وصرب كصرب اجلمال وبكور كبكور الغراب ‪ .‬فال عجب إذن أن‬
‫يفوز أهل الصرب كما قال تعاىل { إين جزيتهم اليوم مبا صربوا أهنم هم الفائزون‬
‫} [ املؤمنون ‪ ] 111 :‬وقال أيضا ‪ { :‬إن يف ذلك آليات لكل صبار شكور }‬
‫[ الشورى ‪ /33 :‬سبأ ‪ / 19 :‬إبراهيم ‪ / 5 :‬لقمان ‪ ] 31 :‬يقول ابن القيم‬
‫رمحه اهلل (‪: )1‬‬
‫وملا كان اإلميان نصفني ‪ :‬نصف صرب ونصف شكر كان حقيقا على من‬
‫نصح نفسه وأحب جناهتا وآثر سعادهتا أال يهمل هذين األصلني وأن جيعل سريه‬
‫إىل اهلل بني هذين الطريقني ليجعله يوم لقائه مع خري الفريقني ‪ ، ...‬والصرب آخية‬
‫املؤمن اليت جيول مث يرجع إليه وساق إميانه الذي ال اعتماد إال عليها فال إميان ملن‬
‫ال صرب له وإن كان فإميان قليل يف غاية الضعف وصاحبه من يعبد اهلل على‬
‫حرف فإن أصابه خري اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا‬
‫واآلخرة ومل حيظ منهما إال بالصفقة اخلاسرة ‪ .‬فخري عيش أدركه السعداء‬

‫(‪ )2‬اجملموع شرح املهذب ويليه فتح العزيز شرح الوجيز لإلمام الرافض ويليه التلخيص احلبري يف ختريج الرافعي‬
‫الكبري البن حجر العسقالين ‪ :‬النووي ‪ .‬بريوت ‪ ،‬دار الفكر ‪ 20 ،‬جملدا ‪. 38 -1/37 ،‬‬
‫(‪ )1‬عدة الصابرين وذخرية الشاكرين ‪ :‬ابن قيم اجلوزية ‪ .‬تصحيح ومراجعة نعيم زرزور ‪ .‬بريوت ‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية ‪ 1403 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪. 8‬‬
‫بصربهم وترقوا إىل أعلى املنازل بشكرهم فساروا بني جناحي الصرب والشكر إىل‬
‫جنات النعيم وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم ‪.‬‬
‫وبالتصرب تقوى إرادة اإلنسان فيتحرر من عبودية اجلسد واملادة منطلقا‬
‫بذلك إىل عبودية اهلل وحده وسائرا يف حتقيق إرادته يف أن يكون مسلما يف‬
‫أفكاره وتصوراته ومعامالته وأخالقه ‪.‬‬
‫ب ـ التواضع‬
‫هذا اخللق الكرمي ينبئ عن معدن صاحبه ويظهر عليه يف التعامل مع غريه‬
‫خاصة إذا كان هذا أقل علما أو عمرا أو منزلة اجتماعية ‪ .‬ومبا أن احلكمة ضالة‬
‫املؤمن فهو أحق هبا أىن وجدها وهو أوىل من غريه أن حيصل عليها وال يعيقه عن‬
‫ذلك أي من العوائق النفسية أو املوانع االجتماعية ‪ .‬ومما ييسر هذا أن يتخلص‬
‫اإلنسان من شرور نفسه من عجب وتكرب وغرور ومدح للنفس أو غري ذلك من‬
‫الصفات القلبية املمقوتة ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬فال تزكوا أنفسكم هو أعلم مبن اتقى }‬
‫[ النجم ‪] 32 :‬‬
‫ومن ابتلي بشيء من هذه الشرور فقد حرم خريا كثريا ‪ ،‬ومن مل يتواضع‬
‫فسيحقر غريه ويرتفع عن االستفادة منه وحتصيل ما لديه من علوم وخربات‬
‫وجتارب ‪.‬‬
‫روى عياض بن محار – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬إن اهلل أوحى إيل أن تواضعوا حىت ال يفخر أحد على أحد وال‬
‫يبغي أحد على أحد ‪ [ .‬مسلم ‪. ] 4/2199 :‬‬
‫ومن املقرر شرعا أنه ال فضل ألحد على أحد حىت وإن كان من آل بيت‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال بالتقوى ‪.‬‬
‫ومن التواضع يف الرتبية الذاتية أال خيجل اإلنسان من االستفادة ممن هو أصغر‬
‫منه عمرا أو أقل منزلة ‪ ،‬فال يستنكف األستاذ أن يتعلم من تلميذه وال الوالد أن‬
‫يقتدي بابنه فقد يكون ممن أويت علما وخربة وجتربة مل يؤهتا اآلخر ‪.‬‬
‫وال يكاد املتأمل يف آيات القرآن جيد مثال للتواضع أبلغ يف االستشهاد من‬
‫موقف موسى مع اخلضر عليهما السالم ‪ ،‬فهذا نيب من أنبياء اهلل ينزل إىل مقام‬
‫التلميذ متحليا بالتواضع مع أستاذه العبد الصاحل ‪.‬‬
‫وهذا إبراهيم عليه السالم ينصح أباه عله يرتدع عن غيه وضالله ولكن‬
‫األب الضال يستكرب ويرفض إتباع ابنه حيث روى القرآن حتاورمها فقال إبراهيم‬
‫عليه السالم ‪ { :‬يا أبت أين قد جاءين من العلم ما مل يأتك فاتبعين أهدك صراطا‬
‫سويا } [ مرمي ‪] 43 :‬‬
‫ويكون جواب األب املعاند ‪ { :‬قال أراغب أنت عن آهليت يا إبراهيم لئن مل تنته‬
‫ألرمجنك واهجرين مليا } [ مرمي ‪] 46 :‬‬
‫ولو أن الرجل تواضع وانصاع لدعوة احلق حلاز الفالح يف الدارين ‪ ،‬وكذا من‬
‫أراد تربية ذاته وتزكيتها فليتواضع ملن هو أعلم منه كما يتواضع له من هو أجهل‬
‫منه‬
‫قال عمر بن اخلطاب ‪ :‬تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة واحللم وتواضعوا ملن‬
‫(‪)1‬‬
‫تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون‬
‫ورحم اهلل اإلمام الشافعي حني يقول ‪ :‬ال يطلب أحد هذا العلم بامللك وعز‬
‫(‪)2‬‬
‫النفس فيفلح ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح‬
‫فإذا مل تكن للمرء بداية حمرقة مل حتصل له هناية مشرقة ‪ ،‬أي إذا مل يصرب على‬
‫أخالق من يتعلم منه ومل يصرب على ذل التعلم ‪ ،‬وإذا مل يتواضع للمعرفة اليت‬

‫(‪ )1‬الزهد ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪149‬‬


‫(‪ )2‬اجملموع شرح املهذب ‪ :‬مرجع سابق ‪1/35 ،‬‬
‫حيملها املعلم أيا كانت منزلته فلن يصل إىل التزكية املبتغاة ‪ ،‬فليكن املتعلم ملتعلمه‬
‫(‪)1‬‬
‫كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت مجيع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله‬
‫ويف احلث على الصرب والتواضع يقول اإلمام الشافعي ـ رمحه اهلل ـ (‪: )2‬‬
‫فإن رسوب العلم يف نفراته‬ ‫اصرب على مر اجلفا من معلم‬
‫ومن مل يذق مر التعلم ساعة تذوق مر اجلهل طول حياته‬
‫ومن فاته التعليم وقت شبابه فكرب عليه أربعا لوفاته‬
‫وذات الفىت واهلل بالعلم والتقى إذا مل يكونا ال اعتبار لذاته‬
‫وبالتحلي خبلقي الصرب والتواضع تستجلب حمبة اآلخرين فتفتح مغاليق قلوهبم‬
‫وأفئدهتم ‪ ،‬وتنطلق ألسنتهم لإلفادة والتعليم ‪ ،‬كما تنساب منهم املعارف والعلوم‬
‫واخلربات فتزكو الروح وتسمو الذات‬
‫ثانيا ‪ :‬اتخاذ القدوة‬
‫مهما يكن لدى املرء من طاقات وقدرات ومواهب ومهما يكن لديه من وسائل‬
‫وأساليب يستثمرها لرتبية ذاته وتزكيتها فإنه ال يستغين بأي حال من األحوال‬
‫عن وجود قدوة من بين جنسه تكون له نرباسا وهاديا يف سريه إىل ربه ‪ ،‬وتؤثر‬
‫القدوة تأثريا كبريا يف تكوين شخصية الفرد وصقلها حيث أن اإلنسان ميال‬
‫بطبعه إىل التقليد واحملاكاة ‪ ،‬وهلذا املكيل أسس نفسية يرتكز عليها هي ‪:‬‬
‫‪ .1‬الرغبة يف التقليد واحملاكاة للمماثلني واملشاكلني‬
‫‪ .2‬االستعداد النفسي الذي يتغري حسب الظروف واألحوال واألشخاص‬
‫‪ .3‬اهلدف أو الدافع الغريزي الذي قد يكون معروفا لدى املقلد أو ال‬
‫(‪)3‬‬
‫يكون‬
‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪1/50 ،‬‬
‫(‪ )2‬ديوان اإلمام الشافعي ‪ :‬مجع وتعليق حممد الزعيب ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬مؤسسة الزعيب ودار اجليل ‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1392 ،‬‬
‫هـ ‪ ،‬ص ‪29‬‬
‫(‪ )3‬الرسول العريب املريب ‪ :‬عبد احلميد حممد اهلامشي ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬دار الثقافة للجميع ‪1401 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪433‬‬
‫‪ .4‬الشعور بالنقص وقلة اخلربة واحلاجة إىل التعلم‬
‫ويف الرتبية اإلسالمية يتحول هذا التقليد أو يوجه إىل ما يسمى باإلتباع ‪،‬‬
‫واإلتباع هو عملية فكرية ميزج فيها بني الوعي واالنتماء واحملاكاة واالعتزاز يف‬
‫ظل البصرية واحلجة ‪ ،‬ولذلك كان اخلطاب اإلهلي بإتباع الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬قل إن كنتم حتبون اهلل فاتبعوين حيببكم اهلل ويغفر لكم‬
‫ذنوبكم واهلل غفور رحيم } [ آل عمران ‪ ] 31 :‬وقال ‪ { :‬وأن هذا صراطي‬
‫مستقيما فاتبعوه وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [ األنعام ‪]153 :‬‬
‫فلما أراد اهلل إقامة احلجة على الناس مل ينزل إليه الكتب فحسب بل أرسل إليهم‬
‫الرسل ‪ ،‬ومن رمحة اهلل عز وجل أن كان الرسل واألنبياء من بين البشر حىت‬
‫يكون ذلك أدعى لإلتباع وأحرى باإلقتداء ‪ ،‬ولو كان الرسول ملكا من املالئكة‬
‫الحتج الناس بضعفهم وعجزهم وعدم طاقتهم على جماراة امللك فيما يصدر منه‬
‫من أفعال وتصرفات ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وقالوا لوال أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا‬
‫لقضي األمر مث ال ينظرون ‪ ،‬ولو جعلناه ملكا جلعلناه رجال وللبسنا عليهم ما‬
‫يلبسون } [ األنعام ‪ ] 9 ، 8 :‬وهكذا حىت حيصل كمال اإلقتداء واالتساء‬
‫كانت قدوات البشر من بين جنسهم‬
‫مستويات القدوة ‪:‬‬
‫نظرا لتشعب جماالت القدوة يف الرتبية اإلسالمية ‪ ،‬يرى الباحث أنه ميكن‬
‫تصنيفها إىل املستويات التالية ‪:‬‬
‫المستوى األول ‪:‬‬
‫وهو االقتداء املطلق بالنيب حممد صلى اهلل عليه وسلم يف مجيع أفعاله وأقواله‬
‫وأحواله إال ما كان من خصوصياته عليه الصالة والسالم ‪ ،‬وهذا املستوى هو‬
‫األمسى واألعلى واألمثل الذي ينبغي أن يتخذه الفرد لرتبية نفسه وتزكيتها وهبذا‬
‫االقتداء يكون الفوز والفالح يف الدنيا واآلخرة وبدونه يكون اخلسران املبني ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬لقد كان لكم يف رسول اهلل أسوة حسنة ملن كان يرجو اهلل‬
‫واليوم اآلخر وذكر اهلل كثريا } [ األحزاب ‪. ] 21 :‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬كل أميت يدخلون اجلنة إال من أىب ‪ ،‬قالوا ‪:‬‬
‫ومن يأىب ؟ قال ‪ :‬من أطاعين دخل اجلنة ومن عصاين فقد أىب ‪ [ .‬البخاري ‪:‬‬
‫‪] 4/359‬‬
‫ويف شخصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم وسريته جيد املرء األسوة احلسنة‬
‫يف حياته كلها ‪ .‬فهو إنسان أكرمه اهلل برسالته ومع ذلك فسريته شاملة لكل‬
‫النواحي اإلنسانية يف اإلنسان ‪ ،‬فهو الشاب األمني قبل البعثة والتاجر الصادق‬
‫وهو الباذل لكل طاقته يف تبليغ دعوة ربه ‪ ،‬وهو الداعية الصبور واألب الرحيم‬
‫والزوج احملبوب والقائد احملنك والصديق املخلص واملريب املرشد والسياسي‬
‫الناجح واحلاكم العادل ‪ .‬كما أنه عليه الصالة والسالم ضرب املثل األعلى يف‬
‫تربية الذات من مجيع النواحي سواء يف عبادته أو زهده أو خلقه الكرمي أو غري‬
‫ذلك ‪ .‬واملتأمل لسريته جيد احلل والصواب لكل املعضالت اليت تقف حائال دون‬
‫إشعاع الروح وبلوغ صفائها ونقائها ‪ .‬ولذلك فإن التأسي باملصطفى عليه‬
‫السالم فيه تربية للروح كي تصل إىل مرتبة الكمال البشري والسمو اإلنساين‬
‫املتمثل يف شخصه الكرمي ‪.‬‬
‫المستوى الثاني ‪:‬‬
‫وهو أقل درجة من املستوى األول ويتمثل يف االقتداء بسلف هذه األمة من‬
‫عظمائها وجمدديها الذين كان هلم دور بارز يف جمريات التاريخ ‪ .‬فإذا كان لدى‬
‫الفرد ميل إىل نوع من أنواع النبوغ كالعلم أو العبادة أو الدعوة أو التخصص يف‬
‫أي علم من العلوم فيحتاج أن يكون أمامه مثل بارز يف هذا اجملال يسري على‬
‫خطاه ويقتفي آثاره ‪ .‬والقدوات يف هذا املستوى ال تعد وال حتصى وختتلف‬
‫باختالف التخصصات واجملاالت ‪ .‬وال تقتصر األمثلة على الصحابة رضوان اهلل‬
‫عليهم بل يتعدى ذلك إىل من جاء بعدهم ‪ ،‬فهناك عمر بن عبد العزيز يف العدل‬
‫واإلمام الشافعي يف العلم واإلمام أمحد يف الثبات على احلق والعقيدة الصحيحة‬
‫وابن تيمية يف العلم واجلهاد معا وابن القيم يف الرتبية والشيخ حممد بن عبد‬
‫الوهاب يف الدعوة إىل اهلل ‪ ،‬وهناك ابن النفيس يف الطب وابن خلدون يف علم‬
‫االجتماع وابن رجب يف املواعظ ‪ ...‬وهكذا ‪ .‬روي عن عبد اهلل بن مسعود أنه‬
‫كان يقول ‪ :‬من كان متأسيا فليتأس مبن قد مات فإن احلي ال تؤمن عليه الفتنة‬
‫(‪. )1‬‬
‫إن هذا النوع من االقتداء يليب رغبة فطرية موجودة لدى اإلنسان الذي‬
‫يتطلع إىل حتقيق ما وصل إليه أولئك األفذاذ أو يزيد ‪.‬‬
‫المستوى الثالث ‪:‬‬
‫وهو االقتداء مبن يستحق أن يكون قدوة يف اخلري والصالح من األحياء‬
‫احمليطني باإلنسان يف بيئته ‪ .‬فحرص املرء على اختيار شخص استجمع قدرا كبريا‬
‫من الفضل والتقوى يكون قدوة له وحياكيه يف أمور اخلري واهلدى ويرجع إليه يف‬
‫السراء والضراء مستفيدا من عقله ورأيه ومشورته فيما يلم به من أحداث‬
‫ومواقف وتغريات ‪ .‬كما حيرص على معاشرته الكتساب جتاربه وخرباته‬
‫واالستفادة منها يف تربية ذاته ‪ .‬ذلك القدوة الذي من صفاته أنه مفتاح للخري‬
‫مغالق للشر كما مدحه املصطفى عليه السالم فيما رواه أنس – رضي اهلل عنه‬
‫– قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن من الناس مفاتيح للخري مغاليق‬
‫للشر وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخري ‪ ،‬فطوىب ملن جعل اهلل مفاتيح اخلري‬
‫على يديه ‪ ،‬وويل ملن جعل اهلل مفاتيح الشر على يديه [ ابن ماجة ‪، 1/86 :‬‬
‫وحسنه األلباين يف الصحيحة برقم ‪] 1332‬‬

‫جامع بيان املعرفة وفضله وما ينبغي يف روايته ومحله ‪ :‬ابن عبد الرب ‪ .‬القاهرة ‪ ،‬دار الفتح ‪2/97 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫وينبغي أن يكون الضابط يف اختيار القدوة يف هذا املستوى أن يكون ممن‬
‫تعلق فؤاده باهلل تعاىل ومل يغفل عنه وأخلص يف العلم والعمل ‪ .‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫{ وال تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف ‪:‬‬
‫‪] 28‬‬
‫يقول ابن القيم – رمحه اهلل ‪ : -‬فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل‬
‫هو من أهل الذكر أو من الغافلني ‪ ،‬وهل احلاكم عليه الوحي أو اهلوى ؟ فإن‬
‫كان احلاكم عليه هو اهلوى وهو من أهل الغفلة وأمره فرط مل يقتد به ومل يتبعه‬
‫فإنه يقوده إىل اهلالك ‪ ... ،‬وإن وجده ممن غلب عليه ذكر اهلل تعاىل واتباع السنة‬
‫(‪)1‬‬
‫وأمره غري مفروط بل هو حازم يف أمره فليتمسك بعروته ‪.‬‬
‫وألمهية هذا النوع من القدوة كان العلماء األوائل حيرصون على اختاذه لرتبية‬
‫ذواهتم فيالزمون مشاخيهم وينقادون إليهم صابرين مطيعني ‪ .‬ويقرر اإلمام‬
‫الشاطيب هذا األمر كقاعدة فيقول ‪ :‬وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك ال جتد‬
‫عاملا اشتهر يف الناس األخذ عنه إال وله قدوة اشتهر يف قرنه مبثل ذلك ‪ ،‬وقلما‬
‫وجدت فرقة زائغة وال أحد خمالف للسنة إال وهو مفارق هلذا الوصف ‪ ،‬وهبذا‬
‫الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري وأنه مل يالزم األخذ عن الشيوخ وال‬
‫تأدب بآداهبم ‪ .‬وبضد ذلك كان العلماء الراسخون األئمة األربعة وأشباههم ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وكافيك تبيانا ألمهية املالزمة أن العلماء كانوا يعدون مالزمة األستاذ من‬
‫شروط التحصيل العلمي والرتبية العملية ‪ .‬يقول الشافعي – رمحه اهلل ‪: )1( -‬‬
‫أخي لن تنال العلم إال بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان‬
‫ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان‬
‫الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪83 - 82‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫املوافقات ‪ :‬اإلمام الشاطيب ‪.‬د‪.‬ت ‪95 - 1/94 ،‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫ديوان اإلمام الشافعي ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪81‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫وقد يسأل مسرتشد فيقول ‪ :‬وأين أجد مثل هذا النوع من القدوات ؟ فنقول‬
‫له ‪:‬‬
‫صحيح أنه يعز وجودهم يف عصورنا املتأخرة ‪ ،‬ولكن إذا تلفت املرء مينة ويسرة‬
‫واستعرض أمام خميلته أساتذته الذين تتلمذ عليهم يف إحدى املؤسسات الرتبوية أو‬
‫التعليمية من مسجد أو مدرسة أو جامعة أو غري ذلك فالشك أنه سيجد بغيته ‪،‬‬
‫ولرمبا تكون هذه القدوة من العلماء العاملني البارزين يف اجملتمع ممن يبعد آالف‬
‫األميال ومع ذلك يسهل االتصال هبم والغرف من معينهم لالستفادة من علومهم‬
‫وجهودهم وجتارهبم الرتبوية‬
‫ولعل وجود أمثال هؤالء القدوات أمام ناظري اإلنسان يزيده متسكا بتعاليم‬
‫الدين وقيمه فيجاهد نفسه يف ذلك ألنه يرى إمكانية تطبيق تلك التعاليم يف أرض‬
‫الواقع ‪ ،‬ومن يتبلور يف حسه وشعوره أن احلل الديين املقتبس من الكتاب والسنة‬
‫هو احلل األمثل واألجنح ملشكالت احلياة ‪ ،‬فإنه ال يرتدد حلظة يف األخذ بنصيحة‬
‫أولئك األفذاذ واالسرتشاد بآرائهم ومشورهتم فيوفر على نفسه كثريا من الوقت‬
‫واجلهد يف سبيل البحث عن األفضل واألصلح لذاته‬
‫المستوى الرابع‬
‫ويقع يف هذا املستوى كل املعاشرين من الصحبة والرفقاء حيث أن اإلنسان‬
‫بطبعه ميال إىل االستئناس بغريه واالتصال برفقة أو مجاعة يشاركها أفراحها‬
‫وأتراحها ويعيش يف كنفها مؤثرا ومتأثرا بالقيم واملبادئ والصفات اليت تتميز هبا‬
‫تلك الرفقة أو تلك اجلماعة ‪ ،‬ومن هذا املنطلق اعترب هذا املستوى جماال من‬
‫جماالت القدوة ملا له من تأثري على شخصية الفرد سلبا وإجيابا ‪ ،‬وجند يف القرآن‬
‫الكرمي والسنة النبوية نصوصا كثرية تدل على االهتمام هبذا النوع من القدوة‬
‫وحتث على االختيار احلسن هلا ‪ ،‬وإذا أراد أمرؤ أن يريب نفسه فليخرت الرفقة اليت‬
‫تذكره باهلل إذا نسي وتدله على اهلدى إذا غفل وتعينه إذا فعل طاعة أو دل عليها‬
‫‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬واملؤمنون واملؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون باملعروف‬
‫وينهون عن املنكر ويقيمون الصالة ويؤتون الزكاة ويطيعون اهلل ورسوله أولئك‬
‫سريمحهم اهلل إن اهلل عزيز حكيم } [ التوبة ‪] 71 :‬‬
‫ومما يالحظ أن اجلليس يؤثر يف من جيالسه من حيث يشعر أو ال يشعر ‪ ،‬والطباع‬
‫واألرواح جنود جمندة يقود بعضها بعضا إىل اخلري أو إىل ضده ‪ ،‬عن أيب موسى‬
‫األشعري ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إمنا مثل‬
‫اجلليس الصاحل واجلليس السوء كحامل املسك ونافخ الكري فحامل املسك إما أن‬
‫حيذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن جتد منه رحيا طيبة ‪ ،‬ونافخ الكري إما أن حيرق‬
‫ثيابك وإما أن جتد منه رحيا خبيثة ‪ [ ،‬مسلم ‪] 4/2026 :‬‬
‫ويزيد املرء تشبثا هبذه الصحبة علمه بأهنا ترافقه يف الدار اآلخرة قد يشفع‬
‫بعضهم لبعض بعد إذن اهلل تعاىل ‪ ،‬فهي منفعة متحصلة يف الدنيا ويف اآلخرة ‪،‬‬
‫يقول سبحانه ‪ { :‬األخالء يومئذ بعضهم لبعض عدو إال املتقني } [ الزخرف ‪:‬‬
‫‪] 67‬‬
‫ويقول أيضا ‪ { :‬ما للظاملني من محيم وال شفيع مطاع } [ غافر ‪] 18 :‬‬
‫ضوابط ومحاذير ‪:‬‬
‫هناك بعض الضوابط واحملاذير اليت جيب أن تراعى عند اختاذ القدوة كأسلوب من‬
‫أساليب الرتبية الذاتية منها ‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن كل قدوة يؤخذ من أفعاله وأقواله البعض ويرتك البعض إال صاحب‬
‫املستوى األول يف القدوة وهو نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم ألن البشر خيطئون‬
‫ويصيبون إال األنبياء عليهم صلوات اهلل وسالمه فإهنم معصومون‬
‫‪2‬ـ يرتتب على ما ذكر يف الضابط األول أن تعرض أعمال القدوات وأحواهلم‬
‫وأقواهلم على الكتاب والسنة لريى مدى قرهبا أو بعدها عنهما فيؤخذ املوافق‬
‫ويرتك املخالف إن ظهر وتبني‬
‫‪3‬ـ ال ينبغي أن تفىن شخصية الفرد فناء مطلقا وتذوب يف شخصية القدوة من‬
‫املستويات الثالثة األخرية كما حيدث عند بعض فرق الصوفية ‪ ،‬وخاصة يف‬
‫األمور اجلبلية مثل طريقة املشي والكالم واللبس وما شابه ذلك ‪ ،‬بل إن بعض‬
‫األمور االجتهادية حيسن بالفرد أن يكون له رأي مستقل تربز إمكانياته وقدراته‬
‫وشخصيته‬
‫‪4‬ـ ال يعين تقسيم هذا األسلوب إىل عدة مستويات أنه ميكن االستغناء ببعضها‬
‫عن اآلخر ‪ ،‬ولكن الواجب استعمال كل مستوى يف زمانه ومكانه املناسب‬
‫ثالثا ‪ :‬السؤال والحوار ‪:‬‬
‫إن هذا األسلوب من األساليب اليت ال يستغىن عنها اإلنسان الذي منحه اهلل‬
‫القدرة على النطق والتفكري ‪ ،‬وهو يف حياته اليومية جيد نفسه يف حوار أو‬
‫سؤال مع جريانه أو أصدقائه أو أهله أو غريهم ‪ ،‬واملرء يف حياته العادية حيتاج‬
‫إىل هذا األسلوب كي يشعر بالراحة والطمأنينة ‪ ،‬فما هو دور كل منهما‬
‫كأسلوب من أساليب الرتبية الذاتية ؟ وكيف ميكن توجيهها لتحقيق هذا‬
‫الغرض ؟‬
‫‪1‬ـ السؤال ‪:‬‬
‫كل إنسان يف هذه احلياة له طاقات معينة وبالتايل فإن معارفه حمدودة ولن‬
‫حييط بكل شيء ‪ ،‬ومن عرف أشياء غابت عنه أشياء أخرى كثرية ‪ ،‬ولذا‬
‫تراه يبحث عن إجابات ملا جيهل ‪ ،‬ومن ضمن وسائل الكشف عن اجملهول‬
‫السؤال‬
‫وللسؤال مزايا متعددة من توفري للجهد والوقت واملال ‪ ،‬كما أن فيه حتصيل‬
‫منفعة ودفع مضرة يف أمور الدنيا والدين ‪ ،‬خاصة إذا كان املسئول من أهل‬
‫اخلربة واالختصاص ‪ ،‬قال تعاىل { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون }‬
‫[ النحل ‪ ، 43 :‬واألنبياء ‪] 7 :‬‬
‫وملا كان األمر كذلك فال ينبغي للعاقل الرتدد يف السؤال والسكوت على‬
‫اجلهل حىت ال حيدث ما ال حتمد عقباه سواء يف القريب العاجل أو يف البعيد‬
‫اآلجل ‪ ،‬ويذكر عبد احلميد اهلامشي أن سكوت اإلنسان على جهله قد يكلفه‬
‫غري قليل من جتارب فاشلة ومن آالم ومتاعب ‪ ،‬ألنه لو عرف اإلجابة املوفقة‬
‫لضمن لنفسه العمل السليم أو السلوك الصائب السيما يف أمور تتصل‬
‫(‪)1‬‬
‫باحملاولة واخلطأ والتجريب‬
‫وتذكر لنا كتب السرية مثال يبني مغبة جتاهل السؤال لطلب العلم وتلقي‬
‫املعرفة ‪ ،‬عن جابر ـ رضي اهلل عنه ـ قال ‪ :‬خرجنا يف سفر فأصاب رجال منا‬
‫حجر فشجه يف رأسه مث احتلم فسأل أصحابه فقال ‪ :‬هل جتدون يل رخصة‬
‫يف التيمم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬ما جند لك رخصة وأنت تقدر على املاء فاغتسل فمات ‪،‬‬
‫فلما قدموا على النيب صلى اهلل عليه وسلم أخرب بذلك فقال ‪ :‬قتلوه قتلهم اهلل‬
‫أال سألوا إذا مل يعلموا فإمنا شفاء العي السؤال ‪ ...‬احلديث‬
‫[ أبو داود ‪ ، 1/239 :‬وصححه األلباين يف إرواء الغليل‬
‫برقم ‪]105‬‬
‫وألمهية السؤال حرص الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ رجاال ونساء على‬
‫السؤال عما خيفى عليهم من أمور دينهم وورد يف القرآن الكرمي ما يدل على‬
‫ذلك مثل قوله ‪ :‬يسألونك ويستفتونك ‪ ،‬وليس هذا خاصا بالرجال بل حىت‬
‫النساء أيضا ‪ ،‬تقول عائشة بنت الصديق ـ رضي اهلل عنهما ـ ‪... :‬نعم النساء‬
‫نساء األنصار مل يكن مينعهن احلياء أن يتفقهن يف الدين [ مسلم ‪:‬‬
‫‪ ، ]1/261‬ومل حيقق عبد اهلل بن عباس ـ رضي اهلل عنهما ـ دعوة رسول اهلل‬
‫له بالتفقه يف الدين إال بسؤال أهل العلم حىت أنه كان يقول ‪ :‬إن كنت‬

‫(‪ )1‬الرسول العريب املريب ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪233‬‬


‫ألسأل عن األمر الواحد ثالثني من أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم (‪،)1‬‬
‫فبلغ يف ذلك شأنا بعيدا حىت أن عمر ـ رضي اهلل عنه ـ كان جيله ويكرمه‬
‫لعلمه وكان يدنيه ويستشريه يف املعضالت‬
‫روى اإلمام أمحد عن الزهري بسند ضعيف قال ‪ :‬قال املهاجرون لعمر ‪ :‬أال‬
‫تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس قال ‪ :‬ذاك فىت الكهول إن له لسانا سؤوال‬
‫(‪)2‬‬
‫وقلبا عقوال‬
‫وذكر ابن عبد الرب قول عبد اهلل بن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ ‪ :‬زيادة العلم‬
‫االبتغاء ودرك العلم السؤال فتعلم ما جهلت واعمل مبا علمت ‪ ،‬كما ذكر‬
‫(‪)3‬‬
‫قول ابن شهاب ‪ :‬العلم خزانة مفاحتها املسألة‬
‫وقال أمية بن الصلت (‪: )4‬‬
‫طول األناة وال يطمح بك العجل‬ ‫ال يذهنب بك التفريط منتظرا‬
‫ويسرتيح إىل األخبار من يسل‬ ‫فقد يزيد السؤال املرء جتربة‬
‫وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها وال البصري كأعمى ما له بصر‬
‫فاستخرب الناس عما أنت جاهله إذا عميت فقد جيلو العمى اخلرب‬
‫وحيمل بالسائل أن يتأدب بآداب السؤال فال يرفع صوتا وال يقاطع متكلما ‪،‬‬
‫ويراعي اختيار األلفاظ املناسبة يف غري ما تكلف ‪ ،‬مث ينتظر اإلجابة يف تواضع‬
‫واحرتام وينصت لفهمها واستيعاهبا‬

‫(‪ )1‬سري أعالم النبالء ‪ :‬مرجع سابق ‪3/344 ،‬‬


‫(‪ )2‬كتاب فضائل الصحابة ‪ :‬أيب عبد اهلل أمحد بن حممد بن حنبل ‪ ،‬حتقيق وختريج ‪ /‬وصي اهلل حممد عباس ‪ ،‬نشر‬
‫مركز البحث العلمي وإحياء الرتاث اإلسالمي ‪ ،‬مكة ‪ ،‬مؤسسة الرسالة ‪ 1403 ،‬هـ ‪ ،‬جزءان ‪2/844 ،‬‬
‫(‪ )3‬جامع بيان العلم ‪ :‬مرجع سابق ‪ 1/87 ،‬ـ‪88‬‬
‫(‪ )4‬ديوان أمية بن أيب الصلت ‪ :‬مجع وحتقيق ودراسة عبد احلفيظ السطلي ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬املطبعة التعاونية ‪ ،‬الطبعة الثانية‬
‫‪1394 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪436‬‬
‫ومن عود نفسه على السؤال زادت ثقته بنفسه وشعر بالطمأنينة واالرتياح‬
‫ملعرفة اإلجابة عما كان جيول خباطره ويشغل ذهنه ‪ ،‬وإن مل جيد اإلجابة لدى‬
‫املسئول فحسبه أنه بذل وسعه ‪ ،‬ورمبا يعاود السؤال يف مناسبة أخرى‬
‫‪ _2‬الحوار ‪:‬‬
‫هو نوع من احلديث يتم بني شخصيتني ـ على األقل ـ يتبادالن فيه وجهات‬
‫النظر ‪ ،‬ولكل منهما فرصة متكافئة يف طرح اآلراء والرد عليها ‪ ،‬وعادة ما‬
‫يتسم احلوار باهلدوء والرزانة بعكس اجلدل املتميز باملخاصمة ورفع الصوت ‪،‬‬
‫وقد تتضح أثناء احلوار مفاهيم خاطئة أو أمور غامضة أو أسئلة حائرة ال جيد‬
‫هلا أحد املتحاورين أو كالمها إجابة حىت يكون احلوار‬
‫وقد عين القرآن الكرمي والسنة املطهرة باحلوار عناية بالغة ‪ ،‬وذلك ألمهيته‬
‫لإلقناع الذايت فهو ‪ :‬الطريق األمثل لالقتناع الذي ينبع من أعماق صاحبه ‪،‬‬
‫واالقتناع هو أساس اإلميان الذي ال ميكن أن يفرض فرضا وإمنا ينبع من‬
‫(‪)1‬‬
‫داخل اإلنسان‬
‫ولكي حيدث هذا االقتناع البد من إخالص النية والتجرد للوصول إىل احلق‬
‫بغض النظر عن األهواء والشهوات أثناء احلوار مع اآلخرين أو حىت مع النفس‬
‫يقول تعاىل ‪ { :‬قل إمنا أعظكم بواحدة أن تقوموا هلل مثىن وفرادى مث تتفكروا‬
‫ما بصاحبكم من جنة إن هو إال نذير لكم بني يدي عذاب شديد }[ سبأ ‪:‬‬
‫‪] 46‬‬
‫فهذه دعوة لكل من يريد أن يصل إىل الصواب مع من حياوره أو خيالفه يف‬
‫الرأي وذلك بالتجرد هلل تعاىل أثناء احملاورة وبعدها وقبلها ‪ ،‬يقول سيد قطب‬
‫ـ رمحه اهلل تعاىل ـ حول ظالل هذه اآلية ‪:‬‬

‫(‪ )1‬يف أصول احلوار ‪ :‬الندوة العاملية للشباب اإلسالمي ‪ ،‬الرياض ‪ ،‬وحدة الدراسات والبحوث ‪1408 ،‬هـ‬
‫وهنا يدعوهم دعوة خالصة إىل منهج البحث عن احلق ( قل إمنا أعظكم‬
‫بواحدة ) إهنا دعوة إىل القيام هلل بعيدا عن اهلوى ‪ ،‬بعيدا عن املصلحة ‪ ،‬بعيدا‬
‫عن مالبسات األرض بعيدا عن اهلواتف والدوافع اليت تشتجر يف القلب فتبعد‬
‫به عن اهلل ‪ ،‬بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة يف البيئة واملؤثرات الشائعة يف‬
‫اجلماعة ‪ ،‬دعوة إىل التعامل مع الواقع البسيط ال مع القضايا والدعاوى‬
‫الرائجة وال مع العبارات املطاطة اليت تبعد العقل والقلب عن مواجهة احلقيقة‬
‫يف بساطتها‬
‫دعوة إىل منطق الفطرة اهلادئ الصايف بعيدا عن الضجيج واخللط واللبس‬
‫والرؤية املضطربة والغبش الذي حيجب صفاء احلقيقة ‪ ،‬وهي يف الوقت ذاته‬
‫منهج يف البحث عن احلقيقة ‪ ،‬منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب‬
‫والغواشي واملؤثرات وعلى مراقبة اهلل وتقواه ‪ ،‬وهي واحدة إن حتققت صح‬
‫املنهج واستقام الطريق ‪ ،‬القيام هلل ال لغرض وال هلوى وال ملصلحة وال لنتيجة‬
‫‪ ..‬التجرد ‪ ..‬اخللوص ‪ ،‬مث التفكر والتدبر بال مؤثر خارج عن الواقع الذي‬
‫يواجهه القائمون هلل املتجردون ‪ ( .‬أن تقوموا هلل مثىن وفرادى ) مثىن لرياجع‬
‫أحدمها اآلخر ويأخذ معه ويعطي يف غري تأثر بعقلية اجلماهري اليت تتبع‬
‫االنفعال الطارئ وال تتلبث لتتبع احلجة يف هدوء ‪ ... ،‬وفرادى مع النفس‬
‫وجها لوجه يف متحيص هادئ عميق ‪ ( .‬مث تتفكروا ) فما عرفتم عنه إال‬
‫العقل والتدبر والرزانة وما يقول شيئا يدعو إىل التظنن بعقله ورشده إن هو‬
‫(‪)1‬‬
‫إال القول احملكم املبني‬
‫وليس الوصول للحق هو اهلدف الوحيد من احلوار بل إن هناك أهدافا‬
‫أخرى منها استعادة املعلومات ومراجعتها لتثبيتها بدل أن تبقى رهينة العقول‬
‫ويف ذلك يقول الزهري ‪ :‬إمنا يذهب العلم بالنسيان وترك املذاكرة ‪ .‬ويقول‬

‫(‪ )1‬يف ظالل القرآن ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪5/2914‬‬


‫آخر ‪ :‬مطارحة ساعة خري من تكرار شهر ‪ .‬ومن حماسن احلوار ما يلخصه‬
‫اهلامشي فيما يلي (‪: )2‬‬
‫‪1‬ـ أنه حيرتم الذات اإلنسانية فال يفرض عليها األفكار والتجارب واخلربات‬
‫فرضا وإمنا تنمو مع الذات عن طريق اكتساهبا شخصيا عن طريق املناقشة ‪.‬‬
‫‪2‬ـ أنه يشجع روح النقد الذايت يف اإلنسان ملراجعة أفكاره وخرباته بني حني‬
‫وآخر‬
‫‪3‬ـ استغالل اجلانب اإلجيايب التفكريي يف الشخصية اإلنسانية يف مراقبة‬
‫اجلوانب األخرى للشخصية يف السلوك واإلدراك واالنفعال ‪.‬‬
‫‪4‬ـ احلث على التفكري العميق يف جوانب املوضوع احملدد أو إىل إجراء‬
‫االستقصاء واملالحظة والتجربة بعيدا عن التلقي واحلفظ والرتديد ‪.‬‬
‫‪5‬ـ توجيه غري مباشر لزيادة ثقة الفرد بنفسه عند طرح األفكار أو الرد عليها ‪.‬‬
‫وألمهية احلوار يف العالقات اإلنسانية اليت تعود بالتأثري املباشر على‬
‫اإلنسان نذكر فيما يلي أسس وأصول احلوار اليت ينبغي أن يراعيها الفرد يف‬
‫حماوراته ‪:‬‬
‫‪1‬ـ حسن االستماع واالهتمام بكالم الطرف اآلخر وعدم االستئثار باحلديث‬
‫‪.‬‬
‫‪2‬ـ احلذر من الكذب والغموض واللف والدوران ‪.‬‬
‫‪3‬ـ التسليم باخلطأ واإلنصاف يف احلكم والنقاش ‪.‬‬
‫‪4‬ـ مراقبة النفس أثناء احلوار لكي ال خيرج احلوار عن طبيعته اهلادئة ‪.‬‬
‫‪5‬ـ التواضع عند كسب احلوار وجتنب الشماتة وكل ما يشعر باالحتقار (‪. )1‬‬

‫(‪ )2‬الرسول العريب املريب ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪453 - 452‬‬


‫(‪ )1‬وقفات تربوية يف ضوء القرآن الكرمي ‪ :‬قل إمنا أعظكم بواحدة ‪ .‬عبد العزيز ناصر اجلليل ‪ .‬الرياض ‪ ،‬دار طيبة ‪،‬‬
‫‪1410‬هـ ‪ ،‬ص ‪30 - 26‬‬
‫ولكي يسري احلوار يف طبيعته اهلادئة بعيدا عن الفظاظة والغلظة حيسن أن‬
‫تتوفر بعض األمور املتعلقة بالثقافة الذاتية للفرد احملاور أو مدى فهمه للخلفية‬
‫الثقافية للطرف اآلخر وتلخصها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ مراعاة الفروق الفردية وتفاوت العقول يف املناقشة والفهم ‪.‬‬
‫‪2‬ـ احلرص قدر اإلمكان على حسن البيان وتوضيح األفكار باألمثلة وغريها ‪.‬‬
‫‪3‬ـ البدء مبواطن االتفاق والنقاط املشرتكة ‪.‬‬
‫‪4‬ـ توثيق احلوار من الناحية العلمية واإلسنادية بذكر املصادر واإلحصائيات ‪.‬‬
‫‪5‬ـ عدم التعرض لكالم الطرف اآلخر ومناقشته قبل فهمه متاما ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫‪6‬ـ اإلحاطة مبواطن اخلالف لكي ميكن الرد عليها أو قبوهلا ‪.‬‬
‫رابعا ‪ :‬العزلة والمخالطة‬
‫لقد كثر اجلدل حول هذين األمرين – العزلة واملخالطة – وأيهما أفضل‬
‫للمرء لرتبية ذاته ‪ .‬فذهب بعض العلماء واملربني إىل أن العزلة أفضل وأوىل يف‬
‫مجيع األحوال ‪ ،‬ورجح البعض اآلخر أن اخللطة أفضل ‪ .‬والصواب أن يقال‬
‫أنه ال ميكن التفريق بينهما وال ميكن االستغناء بأحدمها عن اآلخر ‪ ،‬فلكل‬
‫منهما أثر يف الرتبية الذاتية ‪ .‬ويتبني فيما يلي آثار كل منهما وفوائدمها ومىت‬
‫تكون وملن تكون مستدلني يف ذلك بالكتاب والسنة ‪.‬‬
‫‪1‬ـ فوائد العزلة في التربية الذاتية ‪:‬‬
‫أ ـ التفرغ للعبادة والتفكر واالستئناس مبناجاة اهلل تعاىل عن مناجاة اخللق ‪،‬‬
‫ويتضح هذا جليا يف احلث على قيام الليل والناس نيام واحلث على صالة املرء‬
‫يف بيته عدا املكتوبة ‪ .‬ومن األمثلة يف ذلك قصة أصحاب الكهف الذين‬
‫اعتزلوا قومهم فرارا بدينهم وتفرغا لعبادة اهلل ‪ ،‬قال تعاىل ‪ { :‬وإذ‬
‫اعتزلتموهم وما يعبدون إال اهلل فأووا إىل الكهف ينشر لكم ربكم من رمحته‬

‫وقفات تربوية يف ضوء القرآن الكرمي ‪ :‬املرجع السابق ‪2/227 ،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } [ الكهف ‪ . ] 16 :‬وكذلك اعتزال أهل‬
‫الفسق والباطل ومفاصلتهم وخاصة أثناء مقارفتهم للمعاصي واملنكرات كي‬
‫يسلم املرء من أذاهم وباطلهم كما قال إبراهيم عليه السالم لقومه ‪:‬‬
‫{ وأعتزلكم وما تدعون من دون اهلل وأدعو ريب عسى أال أكون بدعاء ريب‬
‫شقيا } [ مرمي ‪ . ] 48 :‬وقيل لبعض احلكماء ما الذي أرادوا باخللوة‬
‫واختيار العزلة فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبيت العلوم يف قلوهبم‬
‫ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حالوة املعرفة ‪ .‬وقيل لبعضهم ‪ :‬ما أصربك على‬
‫الوحدة ‪ .‬فقال ‪ :‬ما أنا وحدي ‪ .‬أنا جليسي اهلل تعاىل إذا شئت أن يناجيين‬
‫قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت ‪ ،‬وقال الفضيل ‪ :‬إذا رأيت الليل‬
‫مقبال فرحت وقلت ‪ :‬أخلو بريب ‪ ،‬وإذا رأيت الصبح أدركين اسرتجعت‬
‫(‪)1‬‬
‫كراهية لقاء الناس وأن جييئين من يشغلين عن ريب‬
‫ب ـ االبتعاد عن املعاصي اليت يتعرض هلا اإلنسان غالبا باملخالطة مثل الغيبة‬
‫والنميمة والرياء والتزين للناس ‪ ،‬وقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫جتد من شرار الناس يوم القيامة عند اهلل ذا الوجهني الذي يأيت هؤالء بوجه‬
‫وهؤالء بوجه ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 4/102 :‬‬
‫وقال اخلطايب (‪ : )1‬ولو مل يكن يف العزلة إال السالمة من آفة الرياء والتصنع‬
‫للناس وما يدفع إليه الناس إذا كان فيهم من استعمال املداهنة معهم وخداع‬
‫املواربة يف رضاهم لكان يف ذلك ما يرغب يف العزلة ‪.‬‬
‫وإذا ختلصت الذات من شرورها وسلبياهتا أصبحت قوة فعالة واجتهت للبناء‬
‫والتنمية والسمو بالذات إىل مراتب الكمال ‪.‬‬

‫(‪ )1‬إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪. 2/227‬‬


‫(‪ )1‬العزلة ‪ :‬محد بن حممد البسيت اخلطايب ‪ .‬حققه وعلق عليه ياسني حممد السواس ‪ ،‬بريوت ‪ ،‬دمشق ‪ ،‬دار ابن كثري‬
‫‪ 1407 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪101‬‬
‫جـ ـ اخلالص من الفنت واخلصومات وصيانة الدين والنفس عن اخلوض فيها‬
‫والتعرض ألخطارها ‪ .‬ويتأكد اعتزال الناس حينما تظهر الفنت برؤوسها ‪،‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن بني أيديكم فتنا كقطع الليل املظلم ‪ ،‬يصبح‬
‫الرجل فيها مؤمنا وميسي كافرا ‪ ،‬القاعد فيها خري من القائم ‪ ،‬والقائم فيها‬
‫خري من املاشي ‪ ،‬واملاشي فيها خري من الساعي ‪ .‬قالوا ‪ :‬فما تأمرنا ؟ قال ‪:‬‬
‫كونوا أحالس بيوتكم ‪ [ .‬أبو داود ‪. ] 4/459 :‬‬
‫فيتعني على اإلنسان االعتزال وذلك عندما ال يكون هناك فائدة من األمر‬
‫باملعروف والنهي عن املنكر وليس من املستطاع االحتفاظ باملبادئ والقيم‬
‫ويكون يف هذه احلالة من األوىل التزام البيوت سالمة للدين وحفظا للذات‬
‫من االنسالخ ‪.‬‬
‫د ـ السالمة من شرور الناس وحسدهم ومكرهم وانقطاع الطمع عما يف‬
‫أيديهم ‪ ،‬وهذه الفائدة متحصلة يف كل حال من اعتزال الناس ‪ .‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫{ وال متدن عينيك إىل ما متعنا به أزواجا منهم زهرة احلياة الدنيا لنفتنهم فيه‬
‫ورزق ربك خري وأبقى } [ طه ‪. ] 131 :‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬انظروا إىل من أسفل منكم وال تنظروا إىل من‬
‫هو فوقكم فإنه أجدر أال تزدروا نعمة اهلل [ مسلم ‪. ] 4/2275 :‬‬
‫‪2‬ـ فوائد الخلطة في التربية الذاتية‬
‫أ ـ التعلم والتعليم ‪ :‬بني الباحث يف مبدأ احلرية وحرية العلم خاصة أن هناك‬
‫أمورا ال يعذر املرء املسلم جبهلها وينبغي عليه أن يتعلمها وهذه غالبا ال ميكن‬
‫حتصيلها بغري املخالطة ‪ .‬وجيب على من آتاه اهلل علما أو فقها أال يكتمه‬
‫وحيجر عليه ‪ ،‬بل الواجب خمالطة أفراد اجملتمع لتعليمهم وإفادهتم ‪.‬‬
‫ب ـ التأدب والتأديب وهاتان اللفظتان حتمل معىن أخص من التعلم والتعليم ‪.‬‬
‫فالتأدب كما قال اإلمام الغزايل – رمحه اهلل – يعين ‪ :‬االرتياض مبقاساة الناس‬
‫واجملاهدة يف حتمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات (‪. )1‬‬
‫واملقصود من ذلك ترويض النفس على التحلي باألخالق الفاضلة اليت ال‬
‫تظهر إال باالحتكاك مع اآلخرين وكثرة التعامل معهم ‪ .‬ومن هذه األخالق‬
‫التضحية واإليثار والتعاون والصفح عن اإلساءة وغري ذلك ‪.‬‬
‫أما التأديب فتعين ترويض اآلخرين وتأديبهم وهتذيبهم ‪ .‬وهذا املقام يناسب‬
‫حال املعلم مع طالبه واملريب مع مريديه أو العامل والشيخ مع أفراد جمتمعه ‪،‬‬
‫فيصرب على كثرة خمالطتهم وشغل أوقاته احتسابا هلل ومتأسيا يف ذلك بأحوال‬
‫الدعاة األوائل من سلف هذه األمة الذين ندبوا أنفسهم وأوقاهتم يف الدعوة‬
‫إىل اهلل وتعليم الناس اخلري ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬قل هذه سبيلي أدعو إىل اهلل على‬
‫بصرية أنا ومن اتبعين وسبحان اهلل وما أنا من املشركني } [ يوسف ‪:‬‬
‫‪ . ] 108‬وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬املؤمن الذي خيالط الناس ويصرب على‬
‫أذاهم خري من املؤمن الذي ال خيالط الناس وال يصرب على أذاهم ‪ [ .‬ابن‬
‫ماجة ‪ ، 2/1338 :‬وأورده األلباين بإسناد حسن يف الصحيحة برقم‬
‫‪. ] 939‬‬

‫إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪. 2/238 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫جـ ـ نيل الثواب وترويح النفس ‪ :‬ففي خمالطة الناس أداء بعض الفرائض‬
‫والواجبات كحضور اجلمع واجلماعات وأداء احلقوق املفروضة بني املسلمني‬
‫أنفسهم كعيادة املريض واتباع اجلنائز وإجابة الدعوة وكذا حضور جمالس‬
‫الذكر اليت يباهي اهلل هبا مالئكته ‪ ،‬كما أن يف اللقاء باإلخوان تروحيا للقلب‬
‫وهتييجا لدواعي النشاط يف العبادة واالستئناس باملشاكلني واحلديث معهم‬
‫ولذا يوصي اإلمام الغزايل يف هذا املقام بوصية مثينة فيقول ‪ :‬وليحرص أن‬
‫يكون حديثه عند اللقاء يف أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه‬
‫وقصوره عن الثبات على احلق واالهتداء إىل الرشد ففي ذلك متنفس ومرتوح‬
‫للنفس وفيه جمال رحب لكل مشغول بإصالح نفسه فإنه ال تنقطع شكواه‬
‫ولو عمر أعمارا طويلة ‪ ،‬والراضي عن نفسه مغرور قطعا (‪. )1‬‬
‫ويف أداء اجلمع واجلماعات وحضور اجتماعات إخوانه املسلمني حتقيق‬
‫للعبودية املطلقة للخالق ‪ .‬والنفس بطبعها تضعف وتفرت أحيانا ولكنها تقوى‬
‫وتثبت عند خمالطة مثيالهتا ممن يسريون على ذات املنهج‬
‫د ـ معرفة الواقع وكيد األعداء ‪ :‬إن املسلم املعاصر يعيش يف ظروف‬
‫ومالبسات ختتلف عن تلك اليت كان يعيشها إخوانه الذين سبقوه باإلميان يف‬
‫العصور املاضية ‪ .‬فللباطل اليوم صولة وجولة ‪ ،‬واجلاهلية املعاصرة ختطو‬
‫خطوات حثيثة وبوسائل حديثة إلقصاء تيار الرتبية اإلسالمية عن التغيري يف‬
‫جمريات األحداث لتعبيد العباد لرب العباد يف الوقت الذي بذلت فيه تلك‬
‫اجلاهلية قصارى جهودها وإمكانيتها لتعبيد العباد للشهوات والطواغيت ‪.‬‬
‫ولقد جنحت يف ذلك إىل حد كبري ‪ .‬إن اإلسالم اليوم ال يستقيم عموده فقط‬
‫بدعاء شيخ يف زوايا املسجد أو بإلقاء خطب رنانة جوفاء ال مكان هلا يف‬
‫الواقع ‪ ،‬وال يستقيم كذلك بنشر تصرحيات يف اجلرائد واجملالت املشبوهة بل‬

‫إحياء علوم الدين ‪ :‬مرجع سابق ‪2/239 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫البد من اجلهاد ‪ .‬اجلهاد مع النفس واجلهاد ضد األعداء واجلهاد مع الشهوات‬
‫والشبهات ‪ .‬ومن أنواع اجلهاد ضد األعداء معرفة ورصد اخلطط واملؤامرات‬
‫اليت يدبرها أولئك األعداء ضد املسلمني عمال وتنفيذا لقوله تعاىل ‪:‬‬
‫{ وكذلك نفصل اآليات ولتستبني سبيل اجملرمني } [ األنعام ‪]55 :‬‬
‫فال ميكن ملسلم اليوم أن يعيش مبعزل عن البيئة واألحداث وال ميكن أن‬
‫ينجو من أحابيل شياطني اإلنس واجلن إن مل يكن يقظا فطنا ملا جيري حوله‬
‫وما يقع حتت بصره ويده من مستجدات وأمور وما وصل املسلمون إىل‬
‫احلالة اليت نراها عليهم اليوم إال بعد أن لدغوا مرات ومرات ‪ ،‬والرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم حيذر أمته قائال ‪ :‬ال يلدغ املؤمن من جحر واحد مرتني ‪.‬‬
‫[ البخاري ‪ ] 4/115 :‬ويقول اخلليفة امللهم عمر بن اخلطاب – رضي اهلل‬
‫عنه ‪ : -‬لست باخلب وال خيدعين اخلب ‪.‬‬
‫ومعرفة الواقع تشمل العناية واالهتمام بأحوال املسلمني يف أرجاء‬
‫املعمورة لقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬املؤمن من أهل اإلميان مبنزلة الرأس من‬
‫اجلسد يأمل املؤمن ملا يصيب أهل اإلميان كما يأمل الرأس ملا يصيب اجلسد ‪.‬‬
‫[ رواه أمحد وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪ . ] 6535‬ومن حديث‬
‫النعمان بن بشري يقول صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬املؤمنون كرجل واحد إن‬
‫اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله ‪ [ .‬أمحد ‪4/271 :‬‬
‫‪ ،‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ‪ ] 6544‬ولقوله أيضا ‪ :‬من مل‬
‫يهتم للمسلمني عامة فليس منهم ‪ [ .‬ذكره األلباين يف الضعيفة برقم ‪] 309‬‬
‫إن دراسة الواقع وفهمه فهما جيدا من األمور اهلامة جدا يف حياة‬
‫املسلمني ألهنا تتعلق ليس باألفراد فحسب ولكن باجملتمعات أيضا ‪ .‬وتعد‬
‫مرحلة دراسة الواقع من املراحل املتقدمة يف الرتبية الذاتية حيث أهنا تستلزم‬
‫فيمن ينربي هلا أن تتوفر لديه مقومات عدة من أمهها (‪: )1‬‬
‫‪ -‬القناعة بأمهية فقه الواقع وحاجة الفرد واألمة إليه ‪.‬‬
‫‪ -‬التأصيل العلمي الشرعي الذي يبىن على الكتاب والسنة ‪.‬‬
‫‪ -‬سعة االطالع وجتدده وخاصة من املصادر املباشرة واألصلية للمعلومات ‪.‬‬
‫‪ -‬القدرة على الربط واملقارنة والتحليل واالستنتاج والتنبؤ ‪.‬‬
‫‪ -‬التفاعل اإلجيايب واملمارسة العملية يف امليادين املختلفة ‪.‬‬
‫وإذا ما حتققت تلك املقومات فسيكون من مثراهتا ونتائجها ما يلي (‪: )2‬‬
‫‪ -‬محاية املسلم لنفسه وإلخوانه من كيد األعداء وأالعيبهم ‪.‬‬
‫‪ -‬إبطال كيد األعداء وفضح خططهم ومؤامراهتم احلالية واملستقبلية ‪.‬‬
‫‪ -‬ربط األسباب مبسبباهتا واختاذ املواقف الصحيحة والوصول إىل النتائج‬
‫السليمة واحملكمة ‪.‬‬
‫‪ -‬حتقيق الرتبية الشاملة املتكاملة والثبات على الطريق ‪.‬‬
‫فاخلالصة فيما ذكر من فوائد العزلة واملخالطة أن لكل منهما حاالت‬
‫وأوقات ‪ ،‬وهي ختتلف من شخص آلخر حسب وضعه االجتماعي وعلمه‬
‫وفقهه وحسب الباعث له على أي منهما ‪ ،‬ولكن ينبغي لزوم القصد يف‬
‫حاليت العزلة واخللطة كما أوصى بذلك احلافظ أبو سليمان اخلطايب حني‬
‫قال ‪ :‬والطريقة املثلى يف هذا الباب أال متتنع من حق يلزمك للناس وإن مل‬
‫يطالبوك به وأال تنهمك هلم يف باطل ال جيب عليك وإن دعوك إليه فإن‬
‫من اشتغل مبا ال يعنيه فاته ما يعنيه ‪ ،‬ومن احنل يف الباطل مجد عن احلق‬

‫فقه الواقع ‪ :‬ناصر العمر ‪ ،‬ص ‪35 - 20‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫فقه الواقع ‪ :‬ناصر العمر ‪ ،‬ص ‪50 - 36‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫فكن مع الناس يف اخلري وكن مبعزل عنهم يف الشر وتوخ أن تكون فيهم‬
‫(‪)1‬‬
‫شاهدا كغائب وعاملا كجاهل ‪.‬‬
‫وقد حيدث عند االختالط باإلخوان بعض املزالق اليت ينبغي أن حيذر‬
‫منها ‪ ،‬ويفصل ذلك ابن القيم (‪ – )2‬رمحه اهلل – قائال ‪:‬‬
‫االجتماع باإلخوان قسمان ‪ :‬أحدمها على مؤانسة الطبع وشغل‬
‫الوقت فهذا مضرته أرجح من منفعته وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع‬
‫الوقت ‪.‬‬
‫الثاين ‪ :‬االجتماع هبم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي باحلق‬
‫والصرب فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها ولكن فيه ثالث آفات ‪:‬‬
‫أ – تزين بعضهم لبعض ‪.‬‬
‫ب ـ الكالم واخللطة أكثر من احلاجة ‪.‬‬
‫جـ ـ أن يصري ذلك شهوة وعادة ينقطع هبا عن املقصود من االجتماع ‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫العزلة ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪237‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب ‪ :‬مرجع سابق‬ ‫(‪)2‬‬


‫المبحث الثالث‬
‫استغالل الوقت‬
‫أوال – العادة‬
‫تعرف العادة بأهنا ‪ :‬ميل نفسي متعلم مكتسب بالتكرار واخلربة للقيام بذات‬
‫األعمال السلوكية حبيث يقوم اإلنسان هبا بطريقة آلية عفوية إىل حد بعيد‬
‫ويطمئن إليها الفرد سعادة يف متام األداء (‪. )1‬‬
‫وملا كانت الرتبية أساسا مبنية على املمارسة والتطبيق ملبادئها املتعلقة هبا فإن‬
‫األفكار النظرية اجملردة لن يكون هلا أثر إذا مل تظهر إىل عامل الواقع ويعمل هبا‬
‫وتنطبق هذه اخلاصية متاما يف الرتبية اإلسالمية اليت يقرتن فيها اإلميان بالعمل‬
‫الصاحل وتقرتن فيها النية املضمرة باحلركة احلية ‪ .‬وقدميا قال احلسن البصري (‪: )2‬‬
‫ليس اإلميان بالتمين وال بالتحلي ولكن ما وقر يف القلب وصدقه العمل ‪.‬‬
‫فمن املهم أن يبدأ املسلم العمل ولكن األهم أن يستمر عليه ويداوم عليه ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم }‬
‫[ الزخرف ‪ ] 43 :‬وقال أيضا ‪ { :‬إن الذين قالوا ربنا اهلل مث استقاموا فال‬
‫خوف عليهم وال هم حيزنون } [ األحقاف ‪. ] 13 :‬‬
‫إن االستقامة على الطريق ضمان للوصول إىل هنايته وإن التعود على‬
‫األعمال الصاحلة واالستمرار عليها تثبيت للنفس اإلنسانية ملواجهة أعباء الطريق‬
‫وتكاليفه وصرف ملكايد الشيطان ونوازغه ‪ .‬ومن هنا تظهر أمهية هذا األسلوب‬
‫يف الرتبية الذاتية لذا كان صلى اهلل عليه وسلم حيث صحابته على مالزمة هذا‬
‫األسلوب ‪ ،‬فها هو يقول لعبد اهلل بن عمر – رضي اهلل عنهما ‪ : -‬يا عبد اهلل ال‬
‫تكن مثل فالن كان يقوم الليل فرتك قيام الليل ‪.‬‬

‫أصول علم النفس العام ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪136‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫املناوي يف اجلامع الصغري ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫[ النسائي ‪ ، 3/253 :‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم‬
‫‪] 7822‬‬
‫ويقول أيضا ‪ :‬أدميوا احلج والعمرة فإهنما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي‬
‫الكري خبث احلديد ‪ [ .‬رواه الطرباين يف األوسط نقال عن األلباين يف الصحيحة‬
‫برقم ‪. ] 1185‬‬
‫وللسلوك املعتاد تأثري قوي على النفس البشرية ‪ ،‬ففيه تربية على الثبات‬
‫وتعزيز للمفاهيم وتقوية لإلرادة وبذا جينبها كثريا من االحنرافات واالنتكاسات ‪.‬‬
‫ومن إجيابيات السلوك املعتاد أنه اقتصاد للجهد الفكري واحلركي وسرعة األداء‬
‫مما يتيح اجملال ألنشطة أخرى ‪ .‬باإلضافة إىل أن العادة جتعل اإلنسان ذا استعداد‬
‫(‪)1‬‬
‫نفسي ألداء السلوك االعتيادي يف املواقف املناسبة‬
‫فإذا عود املرء على الفضائل فإهنا تنقاد له وإذا هتاون يف ذلك فقد تصبح‬
‫مستعصية كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫والنفس كالطفل إن ترضعه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم ‪.‬‬
‫يقول زغلول النجار ‪ :‬إن تكوين األخالق الفاضلة ال يتم بالوعظ فقط وال‬
‫باحلفظ وحده وال باالقتناع العقلي مبفرده بل حيتاج إىل ممارسة فعلية يقوم هبا‬
‫اإلنسان حىت يتعود هذه األخالق الفاضلة فتصبح جزءا من كيانه وطبيعة فيه ال‬
‫يطمئن قلبه بغريها وال يرتاح ضمريه إذا خرج عليها فتعود املرء على النظام‬
‫واألمانة وضبط النفس والتعاون مع غريه والتسامح مع املخالفني له والتضحية يف‬
‫سبيل اجملموع يتطلب مرانا وممارسة من اإلنسان طوال حياته حىت تتأصل تلك‬
‫(‪)2‬‬
‫اخلصال فيه ‪.‬‬

‫أصول علم النفس العام ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪138‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أزمة التعليم املعاصر ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪130‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫وتثبيتا هلذا األسلوب فقد أوكلت الرتبية اإلسالمية تطبيقه لكل فرد حسب‬
‫طاقته وقدرته ‪ .‬عن عائشة – رضي اهلل عنها – أن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫دخل عليها وعندها امرأة قال ‪ :‬من هذه ؟ قالت ‪ :‬فالنة تذكر من صالهتا ‪ .‬قال‬
‫‪ :‬مه عليكم مبا تطيقون فواهلل ال ميل اهلل حىت متلوا ‪ .‬وكان أحب الدين ما داوم‬
‫عليه صاحبه ‪.‬‬
‫[ البخاري ‪] 1/30 :‬‬
‫قال اإلمام النووي – رمحه اهلل – مه كلمة زجر وهني ‪ ،‬ومعىن ال ميل اهلل ال‬
‫يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ويعاملكم معاملة احلال حىت متلوا فترتكوا ‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫فينبغي لكم أن تأخذوا ما تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم‬
‫‪ .‬وعندما سئل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن أي األعمال أحب إىل اهلل‬
‫تعاىل ؟ قال ‪ :‬أدومها وإن قل ‪.‬‬
‫[ البخاري ‪] 4/184 :‬‬
‫‪.‬‬
‫واستنبط ابن رجب – رمحه اهلل – من هذا احلديث أمرين هامني تتميز هبما‬
‫األعمال اليت حيبها اهلل عز وجل مها (‪: )1‬‬
‫أوال ‪ :‬ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليل املقدار أو العدد‬
‫ثانيا ‪ :‬ما كان على وجه السداد واالقتصاد والتيسري دون ما كان على وجه‬
‫التكلف واالجتهاد والتعسري ‪ ،‬أي حسب كل إنسان بذاته ‪.‬‬
‫ومن التطبيقات اليت يراها الباحث هلذا احلديث أن يكتفي املرء يف قيام الليل‬
‫بثالث ركعات أو مخس مع املداومة عليها خري وأفضل عند اهلل من صالة أحد‬
‫عشر ركعة أو أكثر يف ليلة من الليايل مث االنقطاع عن هذه العبادة يف الليايل‬
‫صحيح مسلم بشرح النووي ‪ ،‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪94‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫احملجة يف سري الدجلة ‪ :‬ابن رجب ‪ .‬حتقيق ‪ /‬حيىي غزاوي ‪ .‬بريوت ‪ ،‬دار البشائر اإلسالمية ‪ 1404 ،‬هـ ‪ ،‬ص‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪44‬‬
‫التالية ‪ .‬كما أن صيام يوم واحد أو ثالثة أيام من كل شهر أحب إىل اهلل من‬
‫صيام عدة أيام يف شهر من الشهور مث االنقطاع ‪ ...‬وهكذا يف سائر العبادات‬
‫واألعمال احلسنة ‪ .‬فكل إنسان يعرف قدر استطاعته فيثبت عليه وال ينقص منه‬
‫‪ ،‬روي عن احلسن قوله(‪ :)2‬إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة اهلل‬
‫عز وجل فبغاك وبغاك ‪ ،‬فإن رآك مداوما ملك ورفضك ‪ ،‬وإذا رآك مرة هكذا‬
‫ومرة هكذا طمع فيك‬
‫ومن فضل اهلل وكرمه أن املسلم إذا اعتاد وداوم على طاعة من الطاعات مث جاء‬
‫ما يصرفه عن أدائها من عجز أو مرض أو فتنة ‪ ،‬فإن أجره لن ينقطع ولن‬
‫يتوقف حىت يزول ذلك الصارف ‪ ،‬والدليل على ذلك ما رواه أبو بردة قال ‪:‬‬
‫مسعت أبا موسى مرارا يقول ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إذا مرض‬
‫العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا [ البخاري ‪]2/357 :‬‬
‫ويف احلديث ‪ :‬إذا اشتكى العبد املسلم قال اهلل تعاىل للذين يكتبون اكتبوا له‬
‫أفضل ما كان يعمل إذا كان طلقا حىت أطلقه‬
‫[ أمحد ‪ ، 2/502 :‬وانظر الصحيحة رقم ‪]1232‬‬
‫ولريغب هادي البشرية أفراد أمته يف املداومة على عبادة اهلل من الصغر حىت الكرب‬
‫ومن الشباب حىت الشيخوخة يقول ‪ :‬الشيب نور املؤمن ‪ ،‬ال يشيب رجل يف‬
‫اإلسالم إال كانت له بكل شيبة حسنة ورفع هبا درجة‬
‫[ رواه البيهقي يف الشعب ‪ ،‬نقال عن األلباين يف الصحيحة برقم ‪] 1243‬‬
‫وورد أن من السبعة الذين يظلهم اهلل يف ظل عرشه يوم ال ظل إال ظله ذلك‬
‫الشاب الذي نشأ يف طاعة اهلل ‪ ،‬فليحرص املرء يف سريه إىل ربه أن يكون من‬
‫العارفني هلل يف كل وقت من األوقات ومن الذين حيرصون على فعل الطاعات يف‬
‫كل األمكنة ‪ ،‬فإنه بذلك يقطع دابر شياطني اإلنس واجلن‬

‫(‪ )2‬احملجة يف سري الدجلة‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪46‬‬


‫ثانيا ‪ :‬ملء الفراغ‬
‫الفراغ يف اللغة كما يقول ابن منظور ‪ :‬اخلالء (‪ ، )1‬وعليه يكون وقت‬
‫الفراغ هو الوقت الذي يكون صاحبه خاليا من املشاغل فيملؤه مبا يريد ‪ .‬أي هو‬
‫الوقت الذي يكون الفرد فيه حرا من ارتباطات العمل أو أية التزامات أخرى‬
‫حبيث ميكن االستفادة من هذا الوقت يف الراحة أو االسرتخاء أو يف ممارسة أنواع‬
‫من النشاط تعود عليه بتطوير ذاته وتربية نفسه‬
‫ويعرف باعتبار وظيفته للفرد بأنه جمموعة الوظائف أو األنشطة اليت ينغمس‬
‫فيها الفرد مبحض إرادته وذلك حبثا عن الراحة واملتعة أو لغرض تنمية ثقافته‬
‫ومعلوماته أو لتحسني مهارته أو لإلسهام يف تقدمي خدمات تطوعية للمجتمع‬
‫(‪)2‬‬
‫الذي حييط به وذلك بعد تركه لعمله األساسي سواء العائلي أو االجتماعي‬
‫وقد أولت الرتبية اإلسالمية عناية بالغة باألوقات عامة وبوقت الفراغ خاصة‬
‫ملا هلا من أثر عظيم يف حياة الفرد واجملتمع ‪ .‬قال تعاىل ‪ { :‬وجعلنا الليل والنهار‬
‫آية فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضال من ربكم ولتعلموا‬
‫عدد السنني واحلساب وكل شيء فصلناه تفصيال } [ اإلسراء ‪. ] 12 :‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬نعمتان مغبون فيهما كثري من الناس الصحة‬
‫والفراغ ‪.‬‬
‫[ البخاري ‪] 4/175 :‬‬
‫واحلديث يبني مدى خسارة من يفرط يف استغالل نعميت الصحة والفراغ ‪.‬‬
‫وإذا كان الوقت هو رأس مال املسلم الذي يتاجر فيه بالطاعات واكتساب‬
‫احلسنات ‪ ،‬فإن الفراغ هو مكسب إضايف يتزود فيه لنيل أعلى الدرجات‬
‫وحتصيل املنافع اجلمة ‪ ،‬ومع ذلك جند الكثري والكثري من أوقات الفراغ يف حياة‬
‫(‪ )1‬لسان العرب ‪8/444 :‬‬
‫(‪ )2‬الرتويح وأوقات الفراغ يف اجملتمع املعاصر ‪ :‬كمال درويش وحممد احلمامصي ‪ .‬مكة ‪ ،‬مركز البحوث الرتبوية ‪،‬‬
‫جامعة أم القرى ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪33‬‬
‫األمة تضيع هباء وتذهب سدى ‪ ،‬ولو افرتضنا على سبيل املثال أن مسلما قضى‬
‫ساعة واحدة فقط ملشاهدة فيلم هابط أو مسرحية داعرة فهذا يعين بال مراء أن‬
‫ماليني الساعات بل باليينها من وقت األمة قد صرف يف غري ما فائدة ‪ ،‬وليضع‬
‫املتدبر الواعي يف باله الساعات اليت تضاع وهتدر يف أمور أخرى مثل التسكع يف‬
‫األسواق واجللوس يف املقاهي والطرقات أو يف املسامرات والسهرات بال رقيب‬
‫وال وازع من سلطان أو قرآن ‪.‬‬
‫وال يستغرب بعد هذا أن نسمع ونقرأ تقارير اخلرباء واملختصني عن قلة‬
‫النتاج القومي أو نقص املوارد البشرية أو عن اإلهدار الكمي والكيفي للطاقات‬
‫واملواهب والقدرات وكذلك العجز املزمن يف ميزانيات الدول والشعوب املسلمة‬
‫‪ .‬ولبيان خطورة هذه القضية يكفي أن يشري الباحث إىل ما ذكر يف الفصل الثاين‬
‫حول األسئلة اليت يسأل عنها يوم القيامة كل فرد ومنها عن عمره فيم أفناه وعن‬
‫شبابه فيم أباله ‪ ،‬وهذا غري اخلسائر املادية والصحية واالجتماعية اليت تصيب‬
‫الفرد واجملتمع يف الدنيا من جراء ذلك ‪.‬‬
‫إذا علم ما سبق فبضدها تتميز األشياء ‪ .‬وكما أن يف إضاعة الوقت خسائر‬
‫فادحة فإن يف استغالله مكاسب عظيمة ‪ .‬ومن أراد تربية نفسه فليحرص على‬
‫اتباع هذا األسلوب بأال يدع وقتا من أوقاته إال شغله وال فراغا إال مأله ألن‬
‫النفس إذا مل تشغلها بطاعة شغلتك مبعصية ‪ .‬وللفراغ الذي ينبغي أن يشغل عدة‬
‫أضرب ‪:‬‬
‫‪1‬ـ فراغ عقلي ويقصد به خلو الذهن من اآلراء واملعتقدات واألفكار السليمة اليت‬
‫تسري املرء يف حياته ‪.‬‬
‫‪2‬ـ فراغ قليب وهو خلو القلب من اإلميانيات اليت تصل اإلنسان باملأل األعلى وهلا‬
‫تأثري مباشر على تصرفاته وسلوكه ‪.‬‬
‫‪3‬ـ فراغ حسي ويشمل الدقائق والساعات اليت يقضيها الفرد بعد أداء نشاطاته‬
‫األساسية وهو الذي يدعى بوقت الفراغ ‪.‬‬
‫واملسلم احلق ال يشعر عادة بالفراغ العقلي أو بالفراغ الروحي ألن اعتناقه‬
‫بالعقيدة اإلسالمية قوال وعمال يشغل حيزا كبريا من هذين الضربني من الفراغ ‪.‬‬
‫أما الفراغ احلسي فمن املفرتض أن يقضيه املسلم يف أمر نافع الكتساب اخلربات‬
‫واملعارف اليت يبين عليها السلوكيات املوافقة ملعتقداته والتصرفات املنبثقة عن‬
‫مكونات سرائره ‪ ،‬باإلضافة إىل إبراز دوره يف األنشطة االجتماعية املختلفة ‪ .‬ولو‬
‫أحسن الفرد استغالل وقت الفراغ ومأله مبا يفيد حسيا ومعنويا ألسهم ذلك‬
‫مسامهة كبرية جدا يف تربية ذاته وحتقيق دوره يف احلياة ‪.‬‬
‫وسائل ملء الفراغ‬
‫أبرزت الرتبية احلديثة وسائل عدة مللء الفراغ وشغله ولكن احلقيقة أهنا‬
‫ليست كلها موافقة ألسس الرتبية اإلسالمية ‪ ،‬بل إن بعضها مما يضادها ويناقضها‬
‫‪ ،‬ومن كان حريصا على تربية ذاته يسعى مللء أوقاته مبا يفيد حىت ال يصاب‬
‫باحلسرة والندامة ‪ .‬ورد عن معاذ – رضي اهلل عنه – أن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال ‪ :‬ليس يتحسر أهل اجلنة على شيء إال على ساعة مرت هبم مل‬
‫يذكروا اهلل عز وجل فيها ‪ [ .‬رواه الطرباين يف الكبري ‪ ،‬نقال عن األلباين يف‬
‫صحيح اجلامع برقم ‪. ] 5322‬‬
‫وميكن تقسيم وسائل ملء الفراغ للرتبية الذاتية إىل نوعني مها ‪:‬‬
‫‪2‬ـ وسائل ضارة‬ ‫‪1‬ـ وسائل مفيدة‬
‫وسيورد الباحث أمثلة هلذين النوعني من الوسائل مبينا أثرها يف الرتبية الذاتية ‪.‬‬
‫‪1‬ـ الوسائل المفيدة ‪:‬‬
‫إن الذات املسلمة يف حاجة ماسة ملا يزيدها اتصاال باهلل ومعرفة بأحكامه‬
‫وشرائعه ‪ .‬ولذا فهي تستخدم الوسائل املناسبة لتغطية هذا اجلانب ‪ .‬وال بأس من‬
‫شغل الفراغ بالولوج يف باب املباحات بقدر مناسب حىت ال يطغى هذا اجلانب‬
‫على املفروضات ‪ .‬ومن الوسائل املفيدة مللء الفراغ ‪:‬‬
‫ب ـ احملاضرات والندوات جـ ـ اللهو املباح ‪.‬‬ ‫أ ـ القراءة‬
‫أ ـ القراءة ‪:‬‬
‫ما من شك يف أن الكلمة املقروءة ستظل حىت قيام الساعة مصدرا أصيال من‬
‫مصادر حتصيل العلم واملعرفة لدى الفرد املسلم ‪ .‬ذلك أنه ورد يف الكتاب العزيز‬
‫قوله تعاىل ‪ { :‬اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق اإلنسان من علق * اقرأ وربك‬
‫األكرم * الذي علم بالقلم * علم اإلنسان ما مل يعلم } [ العلق ‪] 5 – 1 :‬‬
‫وهذه اآليات حمفوظة إىل قيام الساعة حبفظ الكتاب العزيز ‪ ،‬وللقراءة فوائد‬
‫عديدة فهي تفتح مغاليق أسرار الوجود ‪ ،‬أسرار ما يعلم اإلنسان وما ال يعلم ‪.‬‬
‫وهي مفتاح املعرفة والطريق إىل سعادة الدار اآلخرة والوسيلة إىل االتصال بعقول‬
‫البشر ومعرفة أفكارهم والطريق الذي ميدنا مبا يقع يف الكون وما يدور يف البيئة‬
‫من أحداث ‪ .‬وهي إىل جانب ذلك متعة يف أوقات فراغنا (‪. )1‬‬
‫وقد كان للسلف من علماء األمة وأدبائها شغف كبري بالقراءة وولع شديد‬
‫بالكتب واقتنائها ‪ ،‬وهلم يف ذلك أقوال مأثورة ‪ ،‬ورد عن بعضهم قوله ‪ :‬ال شيء‬
‫آثر للنفس وال أشرح للصدر وال أوفر للعرض وال أذكى للقلب وال أبسط‬
‫للسان وال أشد للجنان وال أكثر وفاقا وال أقل خالفا وال أبلغ إشارة وال أكثر‬
‫عبارة من كتاب تكثر فائدته وتقل مؤونته وتسقط غائلته وحتمد عاقبته وهو‬
‫حمدث ال ميل وصاحب ال خيل وجليس ال يتحفظ ومرتجم عن العقول املاضية‬
‫واحلكم اخلالية واألمم السالفة ‪ ،‬حييي ما أماته احلفظ وجيدد ما أخلقه الدهر‬
‫ويربز ما حجبته الغباوة ويصل إذا قع الثقة ويدوم إذا خان امللوك(‪. )2‬‬
‫(‪ )1‬التعليم الذايت بني النظرية والتطبيق ‪ :‬أمحد حممد العلي ‪ .‬الكويت ‪ ،‬ذات السالسل ‪ 1408 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪. 26‬‬
‫(‪ )2‬تقييد العلم ‪ :‬اخلطيب البغدادي ‪ .‬حتقيق ‪ /‬يوسف العشي ‪ .‬دار إحياء السنة النبوية ‪ .‬الطبعة الثانية ‪ 1394 ،‬هـ‬
‫‪ ،‬ص ‪124‬‬
‫وحىت تساهم القراءة يف ملء الفراغ وتربية الذات ينبغي أن خيصص اإلنسان‬
‫جزءا من وقته اليومي للقراءة اهلادفة يف الكتب واجملالت النافعة ‪ .‬وقد حيتار املرء‬
‫يف القراءة بأي املواضيع يبدأ وفيم يقرأ وملن يقرأ ‪ ،‬وهنا تأيت مشورة األستاذ‬
‫الواعي واملرشد الناصح ‪ .‬ويقرتح املؤلف بعض املواضيع واليت هلا تأثري مباشر يف‬
‫تربية الذات املسلمة ‪ .‬ومتتاز هذه املواضيع بأهنا مهمة لكل النفوس املؤمنة وال‬
‫يستغين عنها الفرد املكلف يف أي مرحلة من مراحل حياته ‪ .‬وينصح باالطالع‬
‫على الكتب اليت تطرق هذه اجلوانب ‪ ،‬وهذه املواضيع هي ‪:‬‬
‫‪ -‬جانب العبادات والسنن ‪.‬‬
‫‪ -‬السرية النبوية وتراجم الصاحلني‬
‫‪ -‬املواعظ وأعمال القلوب كاإلخالص والتوكل واملراقبة واخلوف والرجاء‬
‫واإلنابة وغري ذلك ‪.‬‬
‫‪ -‬صفات الشخصية املسلمة واخللق اإلسالمي ‪.‬‬
‫وهذا التخصيص ال ينايف القول بأن يف قراءة الدوريات املتخصصة أو الكتب‬
‫املتنوعة تثقيف لإلنسان وزيادة معلوماته واستفادة من خربات اآلخرين ‪ .‬ولكن‬
‫ليس املهم أن ميتلئ الذهن باملعلومات فقط ولكن املهم حتكيم ما يقرأ على ضوء‬
‫القواعد الثابتة من الكتاب والسنة ‪ ،‬وبذا يكون القارئ مثقفا واعيا ‪ .‬يقول‬
‫اجلاسر (‪ : )1‬وهكذا تكون القراءة معرفة ومنوا وتكون وعيا ونضجا ‪ .‬فكل‬
‫خطوة خيطوها القارئ تصبح فيما بعد سلما إرشاديا يساعده على وضوح الرؤية‬
‫ودقة احلكم ويظل نضجه العقلي يتنامى بصورة مطردة ليصبح بعد ذلك حمكا‬
‫حساسا وصادقا لكل حماولة تضليلية وكل حماولة غزو خارجية وداخلية ‪.‬‬

‫(‪ )1‬املسلم قارئا ومثقفا ‪ :‬جاسر اجلاسر ‪ .‬جملة البيان ‪ ،‬عدد ‪ ، 22‬لندن ‪ ،‬املنتدى اإلسالمي ‪ 1411 ،‬هـ ‪ ،‬صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪57 – 54‬‬
‫ومن املهم اقتناء الكتب يف املنزل للرجوع إليها وقت احلاجة وشغل أوقات‬
‫الفراغ هبا وتعويد النفس على ذلك ‪ .‬ومن طريف الذكر أن بعض األدباء عوتب‬
‫على لزومه منزله وتركه حمادثة الرجال فأجاب جبواب مدح فيه كتبه فقال ‪:‬‬
‫ألباء مأمونون غيبا ومشهدا‬ ‫لنا جلساء ما منل حديثهم‬
‫وعقال وتأديبا ورأيا مسددا‬ ‫يفيدوننا من رأيهم علم من مضى‬
‫وال تتقي منهم لسانا وال يدا‬ ‫بال مؤنة ختشى وال سوء عشرة‬
‫وإن قلت أحياء فلست مفندا‬ ‫فإن قلت هم موتى فلست بكاذب‬
‫كأن فؤادي ضافه سم أسودا‬ ‫يفكر قليب دائما يف حديثهم‬
‫إن وجود مكتبة يف املنزل حتوي خمتلف الكتب ويف شىت اجملاالت يدفع مجيع‬
‫أفراد املنزل لالستفادة من هذه املكتبة وخاصة إذا وجد التوجيه واإلرشاد من‬
‫رب املنزل أو غريه ‪ .‬وال شك أن أثرها على الرتبية الذاتية سيظهر إن عاجال أو‬
‫آجال ‪ .‬كما أن االستفادة من هذه املكتبة بعد وفاة صاحبها يعترب من الصدقات‬
‫اجلارية اليت تنفع املرء بعد موته ‪.‬‬
‫ب ـ المحاضرات والندوات‬
‫تزخر األمة املتقدمة بالكثري من اجملامع العلمية واملنتديات الفكرية اليت يلتقي‬
‫فيها العلماء واملثقفون واملفكرون ملعرفة اجلديد واملفيد عرب احملاضرات والندوات‬
‫واللقاءات يف شىت جماالت املعرفة والواقع ‪ .‬وحضور مثل تلك احملاضرات‬
‫والندوات يعترب رافدا مهما من روافد ملء الفراغ مبا يفيد يف الرتبية الذاتية ‪.‬‬
‫وتكون احملاضرة غالبا تلخيصا لكم هائل من املعلومات ورمبا لتجارب سنوات‬
‫عديدة تلقى على املستمعني يف فرتة حمدودة وتوفر عليهم وقتا وجهدا كبريين يف‬
‫حتصيل واستيعاب تلك املعلومات ‪ .‬كما أن يف حضور الندوات فرصة لالستفادة‬
‫من خربات اآلخرين وجتارهبم وفرصة ملعرفة وجهات النظر املتباينة أو املتفقة‬
‫وتعويد النفس على متحيص اآلراء النتقاء الصاحل منها واملناسب ‪.‬‬
‫قال تعاىل ‪ { :‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم‬
‫اهلل وأولئك هم أولو األلباب } [ الزمر ‪] 18 :‬‬
‫روى اخلطيب البغدادي بإسناده عن عبد اهلل بن عباس قوله ‪ :‬العلم كثري‬
‫ولن تعيه قلوبكم ولكن ابتغوا أحسنه ‪ ،‬أمل تسمع قوله تعاىل – وقرأ اآلية السابقة‬
‫‪ ، )1( -‬ويف اجملتمع املسلم جيد املؤمن نفسه يف مواقف كثرية يستعمل فيها حاسة‬
‫السمع مثل خطب اجلمع واألعياد واالستماع إىل املؤذن لرتديد األذان خلفه‬
‫واالستماع إىل قراءة اإلمام يف الصالة اجلهرية وغري ذلك من املواقف ‪ .‬قال تعاىل‬
‫‪ { :‬وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترمحون } [ األعراف ‪204 :‬‬
‫] وهذا رسولنا العظيم يطلب من صاحبه عبد اهلل بن مسعود أن يقرأ له آيات من‬
‫كتاب اهلل ‪ ،‬قال – رضي اهلل عنه – قال يل النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اقرأ‬
‫علي القرآن ‪ .‬قلت ‪ :‬أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فيقول عليه السالم ‪ :‬إين أحب‬
‫أن أمسعه من غريي ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 3/351 :‬‬
‫وال تكاد متر على الطالب يف مراحله الدراسية املختلفة حماضرة أو درس إال‬
‫ويكون لالستماع واإلنصات نصيب كبري من وقت تلك احملاضرة أو الدرس ‪.‬‬
‫وهنا يلفت الباحث نظر املسئولني عن الرتبية والتعليم والتوجيه واإلرشاد إىل‬
‫االهتمام باستغالل ملكة السماع لدى املرتبني والناشئة ملا هلا من أثر يف تشرب‬
‫املعرفة وازدياد اإلميان ‪.‬‬
‫ولكي تكون تلك احملاضرات والندوات رافدا من روافد الرتبية الذاتية ينبغي‬
‫على الفرد أن يتبعها يف مظاهنا من خالل اجلامعات والنوادي األدبية واملساجد‬
‫وليحرص قبال على معرفة املشاركني يف تلك اللقاءات الفكرية ألخذ فكرة‬
‫موجزة على األقل عنها وحىت ال يفاجأ بأن الوقت قد ضاع يف االستماع ألفكار‬
‫سخيفة وماجنة ‪.‬‬

‫تقييد العلم ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪60‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫ويأيت من ضمن املصادر املعاصرة لالستماع واليت تساهم بشكل فعال يف‬
‫الرتبية الذاتية ما يعرف بالشريط اإلسالمي الذي يسهل اقتناؤه وميكن االستفادة‬
‫منه يف البيت والسيارة ويف السفر أو احلضر ويف الصباح أو املساء ‪ ،‬أي يف الزمان‬
‫واملكان واحلال الذي خيتاره اإلنسان لنفسه أو الذي يتيسر له فيه االستماع إليه ‪.‬‬
‫ويف عصرنا احلاضر استحدثت إذاعة للقرآن الكرمي يذاع من خالهلا برامج‬
‫ثقافية وشرعية وتالوات للقرآن الكرمي ‪ .‬وال شك أن يف متابعة برامج هذه‬
‫اإلذاعة خري كثري وفوائد مجة ‪ .‬ولذا ينصح الباحث كل مهتم برتبية ذاته أن يتابع‬
‫برامج هذه اإلذاعة لكي يستفيد من براجمها أوال ولكي يسلم من األذى الذي‬
‫تبثه اإلذاعات األخرى ثانيا ‪.‬‬
‫جـ ـ اللهو المباح ‪:‬‬
‫ال حرج على املسلم أن يقضي جزءا من وقته يف اللهو املباح واملتعة الربيئة‬
‫على أال جيور يف ذلك على حق ربه أو حق نفسه أو حق غريه من املخلوقني ‪.‬‬
‫ويف ديننا واحلمد هلل فسحة للرتويح عن النفس كي تبقى معطاءة على الدوام ‪.‬‬
‫عن عطاء بن أيب رباح قال ‪ :‬رأيت جابر بن عبد اهلل وجابر بن عمري‬
‫األنصاريني – رضي اهلل عنهما – يرمتيان فمل أحدمها فجلس فقال له اآلخر ‪:‬‬
‫كسلت ؟ مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪ :‬كل شيء ليس من‬
‫ذكر اهلل عز وجل فهو لغو وهلو أو سهو إال أربع خصال ‪ :‬مشي الرجل بني‬
‫الغرضني وتأديبه فرسه ومالعبته أهله وتعلم السباحة ‪ [ .‬رواه أبو نعيم يف احللية ‪.‬‬
‫نقال عن األلباين يف الصحيحة برقم ‪. ] 315‬‬
‫ففي هذا احلديث بيان لبعض وسائل الرتويح املباحة ‪ .‬فمن اللهو مباسطة‬
‫الرجل أهله ومؤانستهم ومالعبتهم ‪ .‬روت عائشة – رضي اهلل عنها – قالت ‪:‬‬
‫كان احلبش يلعبون حبراهبم فسرتين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأنا أنظر فما‬
‫زلت أنظر حىت كنت أنا أنصرف ‪ ،‬فاقدروا قدر اجلارية احلديثة السن تسمع‬
‫اللهو ‪ [ .‬البخاري ‪. ] 3/385 :‬‬
‫ويف ذلك يعلق خلدون األحدب ‪ :‬وكان ذلك منه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫إدراكا حلقيقة النفس البشرية وتلبية لنداء الفطرة ‪ ،‬فتمكني القلوب من حقها يف‬
‫الراحة وترويح النفس بأضرب من اللهو املباح جيعل املرء أقدر على مواصلة‬
‫عطائه بل أكثر استفادة من زمانه (‪. )1‬‬
‫ومن اللهو املباح ممازحة الرجل ألصدقائه ورفقائه على أال خيرج يف مزاحه‬
‫عن الضوابط الشرعية ‪ .‬عن أيب هريرة – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬قالوا ‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل إنك تداعبنا ‪ .‬قال ‪ :‬نعم غري أين ال أقول إال حقا ‪.‬‬
‫[ الرتمذي ‪ ، 4/314 :‬وصححه األلباين يف خمتصر الشمائل احملمدية برقم‬
‫‪] 202‬‬
‫وعن معاوية بن حيدة – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬ويل للذي حيدث باحلديث ليضحك به القوم فيكذب ‪ ،‬ويل له ويل‬
‫له ‪.‬‬
‫[ رواه الرتمذي ‪ 4/483‬وقال ‪ :‬حديث‬
‫حسن ]‬
‫وللهو املباح أنواع أخرى ‪ ،‬فمنه ما يفيد يف تنمية اجلسم والقوى العضلية‬
‫كبعض األلعاب الرياضية اليت قد ال حتتاج إىل مدرب أو موجه مثل املشي الطويل‬
‫واجلري والرماية ‪ .‬وميكن استغالل فرتات من هذه الرياضات يف التسبيح‬
‫والتحميد والتهليل وغريها من أذكار اللسان اليت ال تكلف املرء إال حتريك لسانه‬
‫فقط ‪ .‬ومن اللهو أيضا ما يفيد يف تغذية العقل وترويح القلب كمناشدة األشعار‬
‫وطرح املسابقات الذهنية والثقافية وذكر الطرائف والنوادر ‪.‬‬

‫سوانح وتأمالت يف قيمة الزمن ‪ :‬خلدون األحدب ‪ .‬جدة ‪ ،‬مكتبة دار الوفاء ‪ 1407 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪. 53‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫روي عن علي – رضي اهلل عنه – قوله ‪ :‬امجعوا هذه القلوب وابتغوا هلا‬
‫طرائف احلكمة فإهنا متل كما متل األبدان ‪ .‬وعن الزهري قوله ‪ :‬كان بعض‬
‫العلماء يقول ‪ :‬هاتوا من أشعاركم فإن األذن جماجة والنفس محضة ‪ .‬وقوله أيضا‬
‫‪ :‬روحوا القلوب ساعة وساعة (‪. )1‬‬
‫ومن اللهو املباح أيضا ما يفيد يف ترويض العقل واجلسم معا كاالستفادة من‬
‫األلعاب الرتبوية أو توجيه األلعاب الرياضية وجهة تربوية وهنا تربز أمهية اختاذ‬
‫األلعاب كوسيلة للرتبية الذاتية وللرتبية عموما يف خمتلف املراحل الرتبوية وحسب‬
‫الفروق الفردية ‪ .‬وهلذا الغرض جيب أن تنظم األلعاب تنظيما تربويا لتحقيق‬
‫أهداف تربوية عدة ال جملرد شغل الوقت يف أغراض تافهة أو بدون غرض ‪ ،‬بل‬
‫ينبغي توجيهها الكتساب املثل العليا واألخالق الفاضلة وخاصة يف املعسكرات‬
‫(‪)2‬‬
‫الرتبوية والرحالت اهلادفة‬
‫وهناك وسائل أخرى كثرية مللء الفراغ وشغله مبا يعود على املرء بالفائدة‬
‫واخلري ولكن اجملال ال يتسع حلصرها ومنها ‪ :‬الرحالت واملخيمات – صلة‬
‫األرحام والزيارات بني األصدقاء – االشرتاك يف األنشطة االجتماعية املفيدة اليت‬
‫تنفع اإلسالم واملسلمني ‪.‬‬
‫أما إذا استعرضنا حال علمائنا األوائل يف شغل أوقاهتم لرأينا العجب‬
‫العجاب ‪ .‬حيدثنا اإلمام ابن عقيل عن نفسه فيقول ‪ :‬إين ال حيل يل أن أضيع‬
‫ساعة من عمري حىت إذا تعطل لساين عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة‬
‫أعمل فكري يف حال راحيت وأنا مستطرح فال أهنض إال وقد خطر يل ما أسطره‬

‫جامع بيان العلم ‪ :‬مرجع سابق ‪1/105 ،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫جوانب الرتبية اإلسالمية األساسية ‪ :‬مقداد حلن ‪ .‬بريوت ‪ ،‬دار الرحياين ‪ 1406 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪328 - 325‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫‪ ،‬وإين ألجد من حرصي على العلم وأنا يف عشر الثمانني أشد مما كنت أجده‬
‫(‪)3‬‬
‫وأنا ابن عشرين ‪.‬‬
‫ويذكر احلافظ الذهيب يف ترمجة أيب حامت الرازي أن أبا حامت قال ‪ :‬قال يل‬
‫أبو زرعة ‪ :‬ما رأيت أحرص على طلب احلديث منك ‪ .‬فقلت له ‪ :‬إن عبد‬
‫الرمحن ابين حلريص ‪ .‬فقال ‪ :‬من أشبه أباه فما ظلم ‪ .‬وملا سئل عن اتفاق‬
‫السماع له وسؤاالته عن أبيه أجاب بأنه كان يستغل كل حلظة يقضيها مع والده‬
‫فإذا ما أكل قرأ عليه وإذا مشى قرأ عليه وإذا دخل اخلالء قرأ عليه وإذا دخل‬
‫البيت يف طلب شيء قرأ عليه (‪ . )1‬ومبثل هذا يكون ملء الفراغ ‪.‬‬
‫إن من ال يستشعر أمهية الوقت حيس بالغنب يوم القيامة فإن كان مفرطا ندم‬
‫على تفريطه وإن كان مقصرا ود لو كان من احملسنني ‪.‬‬
‫‪2‬ـ الوسائل الضارة ‪:‬‬
‫من وسائل ملء الفراغ ما يكون ذا أثر سليب ومعيقا للرتبية الذاتية ‪ .‬ومن‬
‫هذه الوسائل ‪:‬‬
‫أ ـ اإلفراط يف النوم ‪.‬‬
‫ب ـ االنغماس يف اللهو والباطل ‪.‬‬
‫ونشري إىل أثر هاتني الوسيلتني على الرتبية الذاتية ‪:‬‬
‫أ ـ اإلفراط في النوم ‪:‬‬
‫يظن بعض الناس أن كثرة النوم وزيادته دليل على إعطاء النفس حقها من‬
‫الراحة والفائدة ‪ .‬والصحيح أن يف ذلك ضررا بالغا على النفس ‪.‬‬

‫(‪ )3‬املنتظم يف تاريخ امللوك واألمم ‪ :‬ابن اجلوزي ‪ .‬اهلند ‪ ،‬حيدر أباد ‪ ،‬دائرة املعارف العثمانية ‪ 1359 ،‬هـ ( ‪10‬‬
‫أجزاء ) ‪9/214 ،‬‬
‫(‪ )1‬سري أعالم النبالء ‪ :‬مرجع سابق ‪251 - 13/250 ،‬‬
‫فمن أضراره أنه يصرف النائم عن أداء أعمال كثرية مفيدة ويقلل من فرص‬
‫استثمار وقت الفراغ اليت كان من املفرتض أن يشغله فيما يعود عليه بالنفع‬
‫والصالح ‪ .‬ومن نام كثريا خسر كثريا ‪.‬‬
‫وقد دلت الدراسات واألحباث على أمهية اإلقالل من النوم وإنقاص ساعاته‬
‫بشكل معقول ‪ .‬يقول الدكتور محدي (‪ : )2‬فاألطباء يقولون إن األشخاص الذين‬
‫يكتفون بفرتة نوم قصرية هم أكثر حيوية ونشاطا من الذين تزيد فرتة نومهم عن‬
‫الثماين ساعات ! ذلك أن حميب النوم غالبا ما يتميزون بالقلق واالنطواء والعزلة‬
‫والكآبة ويغلب عليهم الكبت اجلنسي واالهنيار العصيب والرتدد واحلرية والتأثر‬
‫بأقل سبب ‪ ..‬والتطري ‪ ،‬كما أهنم غالبا ما يأخذون مشكالهتم الشخصية مأخذا‬
‫جديا مفرطا ولذلك يبدون بنومهم هذا وكأهنم يهربون من احلياة ومشكالهتا‬
‫ومواجهتها ‪.‬‬
‫فكثرة النوم تعترب هروبا من الواقع ‪ ،‬بينما احلياة ساعات قليلة تستغل يف‬
‫مواجهة هذا الواقع وجماهدة النفس للتغلب عليه وتوجيهه حنو األفضل ‪ .‬ويقول‬
‫محدي أيضا ‪ :‬كما أن الدراسات اليت قام هبا األخصائيون تثبت أن الذين ينامون‬
‫فرتات قصرية يستمتعون بنوم أعمق من أولئك الذين ينامون أكثر من املعدل‬
‫(‪)1‬‬
‫الالزم ‪ ..‬فالنوم الكثري ليس صحيا والنوم األقل ميكن أن يكون شافيا ‪.‬‬
‫ولذل فلرياقب املرء نفسه يف مقدار النوم الذي يصرف وقته فيه ‪ .‬واملسألة‬
‫بالتعود ‪ ،‬كما أن النفس متيل إىل ما عودهتا عليه ‪.‬‬
‫ومن األوقات اليت غفل عنها وفرط بالنوم فيها كثري من الناس الوقت الذي‬
‫يلي صالة الفجر ‪ ،‬وهذا إن مل يناموا عن صالة الفجر نفسها ومل يستيقظوا إال‬
‫بعد طلوع الشمس ‪ .‬وهذا الوقت من األوقات املباركة اليت تقسم فيها األرزاق‬

‫النوم ‪ ..‬أسراره وخفاياه ‪ :‬أنور محدي ‪ ،‬ص ‪379‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫النوم ‪ ..‬أسراره وخفاياه ‪ :‬ص ‪379‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫املادية واملعنوية ‪ .‬وقد حث النيب صلى اهلل عليه وسلم على التبكري يف طلب العلم‬
‫والسعي إىل الرزق وذلك لعلمه مبا فيه من اخلري والربكة ‪.‬‬
‫عن أيب هريرة – رضي اهلل عنه – قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬بورك ألميت يف بكورها ‪ [ .‬رواه الطرباين يف األوسط ‪ .‬نقال عن األلباين‬
‫يف صحيح اجلامع برقم ‪. ] 2838‬‬
‫كما روى الصحايب اجلليل صخر بن وداعة الغامدي عن النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قوله ‪ :‬اللهم بارك ألميت يف بكورها ‪ .‬وقال ‪ :‬وكان إذا بعث سرية أو‬
‫جيشا بعثهم يف أول النهار ‪ .‬وقد استفاد هذا الصحايب من هذا احلديث حيث‬
‫(‪)2‬‬
‫كان تاجرا فكان يبعث جتارته أول النهار فأثرى وكثر ماله‬
‫وملا كان التبكري جيلب اخلري ويكثر الربح ويزيد يف إجناز األعمال ويف إمتامها‬
‫فإن حرص املرء على عدم النوم يف ذلك الوقت املبارك جيعله مستغال له فيما‬
‫ينفعه ويساهم يف تربية ذاته وتزكيتها ‪.‬‬
‫ب ـ االنغماس في اللهو والباطل‬
‫ومن الوسائل الضارة مللء الفراغ واليت تصرف عن الرتبية الذاتية االنغماس‬
‫يف اللهو والباطل وخاصة عند متابعة كثري من برامج الفيديو والتلفزيون ‪ .‬ومتتاز‬
‫هاتان الوسيلتان بأهنا تثري املشاهدين بلقطاهتا الباهرة السريعة مستخدمة أساليب‬
‫التقنية احلديثة يف إعدادها وتنفيذها ورغم ذلك فهي ال حتمل يف طياهتا إال قدرا‬
‫ضئيال من الفائدة ‪ .‬واألمر املؤسف أن الصور التلفزيونية املتتابعة أمام املشاهد‬
‫تقف حجر عثرة ضد امللكة النقدية لديه فتتحول تلك الصور ال شعوريا إىل عقله‬
‫الباطن لتصبح مسلمات وحقائق ‪ .‬وإذا ما استمر الفرد على هذه احلالة مستقبال‬
‫لكل ما يعرض عليه من ثقافات وعادات ومتشربا هلا فسيفقد يوما ما هويته‬
‫وشخصيته األصلية ‪ .‬وهكذا يتبني أن للتلفزيون دورا حمدودا يف الرتبية والتعليم ‪.‬‬

‫فضائل الصحابة ‪ :‬مرجع سابق ‪1/154 ،‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫يقول مروان كجك ‪ :‬إن أفضل أنواع التعليم هي اليت تعتمد على املشاركة ‪...‬‬
‫ومشاهدة التلفزيون تعتمد على األخذ فقط واالستغناء عن التفاعل وال ميكنها‬
‫عمل شيء سوى اسرتعاء انتباهك ‪ ...‬ولذا فإن املعلومات تستمر ولكننا ال‬
‫نتفاعل بعد ذلك ‪ ،‬ال نعرف مع أي شيء نتفاعل ‪ ،‬وعندما تشاهد التلفزيون‬
‫(‪)1‬‬
‫فإنك تدرب نفسك على عدم التفاعل وتنمي فيك السلبية‬
‫وليس ذلك فحسب ‪ ،‬بل إن التلفزيون ينقض يف فرتة وجيزة ما يبنيه املربون‬
‫خالل سنوات ‪ ،‬أي أن التلفزيون يروج لعملية الرتبية املوازية واملضادة لعمليات‬
‫الرتبية اليت تقوم هبا املساجد واملدارس واألسر (‪. )2‬‬
‫وللتلفزيون والفيديو من اآلثار السيئة على النفس اإلنسانية ما اهلل به عليم ‪ ،‬وهذه‬
‫اآلثار قد ال تظهر مباشرة بعد انتهاء برامج أو مشهد تلفزيوين ولكن تظهر بعد‬
‫فرتة طويلة ‪ .‬يقول مروان كجك أيضا ‪ :‬ومن املؤكد أن هذه اآلثار ال تأيت‬
‫مباشرة عقب صب املعلومات وتغلغلها يف النفس وإمنا تظهر بعد حني نتيجة‬
‫تضافر برامج أخرى تعمل على تراكم اآلثار اليت تأخذ بدورها من جديد‬
‫باالندفاع من الداخل حنو اخلارج على صورة سلوك حركي يرتجم التفاعل‬
‫الالإرادي الذي يأخذ سبيله إىل النفس على شكل مفاهيم امتـزجت مع الشخصية‬
‫(‪)3‬‬
‫فأكسبتها بعضا من مالحمها وأهدافها ‪.‬‬
‫ورغم ما ذكر فإن الباحث يرى أنه لو أحسن توجيه واستغالل وسائل‬
‫اإلعالم عموما ومت إصالح براجمها وأنشطتها مبا يتوافق مع معتقداتنا وأخالقنا‬
‫وقيمنا اإلسالمية وبشرط أال تشغل وقت الفرد املسلم فإنه ميكن تاليف الكثري من‬
‫آثارها السيئة واإلفادة منها يف جماالت متعددة ومن ضمنها الرتبية الذاتية ‪.‬‬

‫(‪ )1‬األسرة املسلمة أمام الفيديو والتلفزيون ‪ :‬مروان كجك ‪ .‬الرياض ‪ ،‬دار طيبة للنشر والتوزيع ‪ ،‬الطبعة الثانية ‪،‬‬
‫‪ 1408‬هـ ‪ ،‬ص ‪95‬‬
‫(‪ )2‬بصمات على ولدي ‪ :‬طيبة اليحىي ‪ .‬الكويت ‪ ،‬مكتبة املنار اإلسالمية ‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1409 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪35‬‬
‫(‪ )3‬األسرة املسلمة أمام الفيديو والتلفزيون ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪106‬‬
‫ثالثا ‪ :‬المحاولة والخطأ‬
‫من البديهي أن اإلنسان خيطئ أحيانا ويصيب أحيانا وخيطو إىل األمام‬
‫خطوات ويتعثر أخرى ولكن يدفعه األمل والعزمية إىل احملاولة مرارا وتكرارا ألن‬
‫الفشل أساس النجاح ‪ .‬ويلجأ الفرد إىل أسلوب احملاولة واخلطأ للوصول بالعمل‬
‫إىل كماله املنشود أو للتثبت من االجتهادات البشرية واكتشاف خربات جديدة‬
‫‪.‬‬
‫واملقصود باحملاولة واخلطأ هو تكرار العمل أكثر من مرة لتحقيق أقصى جناح‬
‫ممكن ‪ ،‬ومن األدلة على هذا األسلوب من الرتبية اإلسالمية حديث املسيء‬
‫صالته ‪.‬‬
‫فعن أيب هريرة – رضي اهلل عنه – أن النيب صلى اهلل عليه وسلم دخل‬
‫املسجد فدخل رجل فصلى مث جاء فسلم على النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال ‪:‬‬
‫ارجع فصل فإنك مل تصل ‪ ،‬فصلى مث جاء فسلم على النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال ‪ :‬ارجع فصل فإنك مل تصل ( ثالثا ) فقال ‪ :‬والذي بعثك باحلق فما‬
‫أحسن غريه فعلمين ‪ ...‬احلديث‬
‫[ البخاري ‪] 1/257 :‬‬
‫الشاهد من احلديث أن ذلك الصحايب حاول تصحيح خطئه بنفسه – بعد‬
‫أن وجهه النيب صلى اهلل عليه وسلم – وكان من املمكن أن يؤدي العمل كما‬
‫ينبغي وجلهله عجز مث سأل ‪ .‬وهذا األسلوب أوقع يف النفس وأدعى إىل قبوله‬
‫(‪)1‬‬
‫وانطباعه يف الذاكرة‬

‫أصول الرتبية اإلسالمية وأساليبها ‪ :‬عبد الرمحن النحالوي ‪ .‬دمشق ‪ ،‬دار الفكر ‪ 1399 ،‬هـ ‪ ،‬ص ‪238‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫ويذكر ياجلن مؤكدا على هذا األسلوب قائال ‪ :‬والتجربة وهي جعل املرتيب‬
‫جيرب بنفسه القيم واألفكار واحلقائق املقدمة إليه ‪ ،‬ذلك أوقع يف نفسه وأقرب‬
‫(‪)2‬‬
‫إىل إدراك قيمة تلك احلقائق واألفكار‬
‫ومما ينبغي أن ينتبه إليه أنه ليس كل أمر يصح فيه جتريب أسلوب احملاولة‬
‫واخلطأ للتأكد من صالحه وجناحه ‪ .‬فأحكام الشرع مثال من حترمي لشرب اخلمر‬
‫أو مزاولة الربا وغري ذلك ال ميكن أن نضعها حتت التجربة واحملاولة ألهنا منزلة‬
‫من لدن حكيم خبري ‪ .‬واملسلم احلق يفعل ما يأمره خالقه وجيتنب ما ينهى عنه‬
‫بدون أدىن تردد يف التطبيق ‪ .‬أما احملاولة يف تطبيق العمل إلتقانه فهذا أمر‬
‫مرغوب شرعا لقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إن اهلل حيب إذا عمل أحدكم عمال‬
‫أن يتقنه‬
‫[ رواه البيهقي يف شعب اإلميان ‪ .‬نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم‬
‫‪] 1876‬‬
‫ويف رواية أخرى ‪ :‬إن اهلل تعاىل حيب من العامل إذا عمل أن حيسن ‪.‬‬
‫[ رواه البيهقي يف شعب اإلميان ‪ .‬نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم‬
‫‪1887‬وحسنه]‬
‫وحيث أن الغالب على النفس البشرية لقصورها أهنا ال تتقن أداء العمل من‬
‫أول حماولة فإن األمر حيتاج إىل مرات وكرات ‪ .‬واإلنسان السامي لبلوغ الكمال‬
‫البشري ال ييأس وال يكل وال ميل فيحاول وحياول حىت يصل إىل مبتغاه وينال ما‬
‫يتمناه ‪ .‬وباإلرادة القوية وتركيز االنتباه تصبح الذات هي حمور احلضارة واحملرك‬
‫الفعال لتحقيق األماين وحتسني األداء ‪.‬‬
‫* * * * *‬

‫جوانب الرتبية اإلسالمية األساسية ‪ :‬مرجع سابق ‪ ،‬ص ‪353‬‬ ‫(‪)2‬‬

You might also like