Professional Documents
Culture Documents
net
1
الدرر السنيةwww.dorar.net
بسم اهلل الرمحن الرحيم
وبه نستعني
مقدمة
إن احلمد هلل حنمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا ،من يهده اهلل فال مضل له ومن يضلل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله
إال اهلل وحده ال شريك له وأشهد أن حممدا عبده ورسوله .أما بعد :
يرى الرتبويون أن العملية التعليمية ( تعلما وتعليما ) تتكون من ثالث عناصر هي :
املدرس واملنهج والتلميذ ،ومما ال شك فيه أن للمدرس دورا كبريا يف تنشئة األفراد
وإصالح اجملتمعات ،إال أن هناك أسلوبا آخر لتلقي الرتبية وتشرب املعرفة من دون
املدرس ،وهو ما يعرف بالرتبية الذاتية أو التلقائية ،حيث يريب الفرد نفسه ويوجهها
وجهة سليمة مبا يوافق الغاية اليت من أجلها أوجده اهلل عز وجل على هذه البسيطة وصريه
فيها خليفة .
ولذا فإن للفرد مسئولية عظمى جتاه نفسه وتربيتها سواء كان ذلك على مقاعد
الدراسة أو يف العمل أو يف البيت أو يف الشارع ،فهو مطالب ببلوغ الكمال البشري
الذي ينبغي أن ينشده كل إنسان بلغ مرحلة الرشد والتكليف ،ولن يتأتى له ذلك إال
اي َو َم َماتِي هلل َر ِّ إن صالتِي ونُ ِ
ب سكي َو َم ْحيَ َ َ ُ باتباع املنهج اإلهلي ،قال تعاىل :قُ ْل َّ َ
[ األنعام ، 162 : ِِ ك أ ُِم ْر ُ
ت َوأَنَا أ ََّو ُل ال ُْم ْسلم َ
ين يك لَهُ َوبِ َذلِ َ
ين ال َش ِر َ ِ
ال َْعالَم َ
] 163
وإن الناظر واملتدبر آليات الكتاب وأحاديث املصطفى صلى اهلل عليه وسلم ليهتدي إىل
أساليب متعددة لرتبية النفوس وهتذيب األفئدة ومنها :
2ـ الرتبية بالقدوة . 1ـ الرتبية بالقصة .
4ـ الرتبية بالرتغيب والرتهيب . 3ـ الرتبية باملوعظة .
6ـ الرتبية بالعقوبة . 5ـ الرتبية بالعادة .
2
وغريها كثري .
وقد جاء هذا التنوع يف األسلوب تبعا لطبيعة اجملال واملوقف الذي تبحثه ،فهناك الرتبية
اجلسدية والرتبية الفكرية والرتبية املهنية والرتبية الروحية والنفسية وغريها ،ولو أردنا أن
جنمع بني أنواع الرتبية وأساليبها لتبني لنا أن موضوع الرتبية يركز على الفرد قلبا وقالبا ،
ولذا كان لزاما على هذا الفرد أن يسعى بنفسه لتحقيق أهداف الرتبية اإلسالمية ويف
مقدمتها حتقيق العبودية هلل عز وجل .وبناء على ذلك فسوف هتتم هذه الدراسة بالرتبية
الذاتية ،أي الرتبية اليت تنبع من ذات الشخص أي من نفسه لتحقيق ذلك اهلدف ،كما
أهنا سوف توضح بعضا من مبادئ وأساليب الرتبية الذاتية املختلفة الواردة يف كتاب اهلل
سبحانه وتعاىل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم .
أمهية املوضوع :
تبذل اجملتمعات قصارى جهودها من أجل إصالح أفرادها وهتذيب سلوكهم ،ومما
ينبغي أن يصاحب هذه اجلهود شعور األفراد بذلك حىت يندفعوا من تلقاء ذواهتم إىل
إصالح أنفسهم وتربيتها مما يسهل وييسر مهمة الرتبية اليت تسعى إلعداد اإلنسان الصاحل
،ولذا فإن أمهية البحث ترجع إىل أنه :
1ـ يبني عظم املسئولية امللقاة على عاتق الفرد يف تربية نفسه وتوجيهها وإصالحها .
2ـ يضع لبنة قوية يف سبيل إصالح اجملتمع حيث إنه إذا أصلح كل فرد نفسه ورىب ذاته
ختلص اجملتمع من األمراض واالحنرافات واجته للبناء واإلصالح .
3ـ ينري الطريق أمام املؤسسات الرتبوية يف كيفية توجيه األفراد لتحقيق الغايات واألهداف
اليت تتوخاها املؤسسات الرتبوية لرتبية الفرد .
4ـ يوضح أسلوبا مهما من أساليب الرتبية وله دور كبري يف إصالح النفوس ،إال أنه أغفل
يف البحوث الرتبوية .
5ـ يبني أيضا أحد أساليب التقومي املهمة أال وهو ما يعر ف بالتقومي الذايت واليت تسعى
الرتبية احلديثة إىل تطبيقها ،يف حني أن اإلسالم عرض هلا منذ مخسة عشر قرنا .
الفصل األول
مكانة اإلنسان يف التصور اإلسالمي
مقدمة
اإلنسان ،ما اإلنسان ؟ ما أدراك ما اإلنسان ؟! إنه ذلك الكائن املتفرد الذي خلقه اهلل
عز وجل حلكمة أرادها وملهمة اختاره هلا بعد أن فضله على بقية الكائنات .قال تعاىل :
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم
على كثير ممن خلقنا تفضيال [ اإلسراء . ] 70 :
وقد أوضح لنا املنهج اإلسالمي ما حيتاج أن يعرفه اإلنسان عن نفسه ،فبني أيدينا حنن
املسلمني مصدر أصيل ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم
حميد [ فصلت ، ] 42 :منه نصدر ومنه نورد يف كل حال ويف أي وقت .فمنه
يستقي الفرد املسلم تصوراته وآرائه لنفسه وملا حوله من موجودات فيهتدي إىل الصواب
وحيظى برضى رب األرباب .وسنتحدث يف هذا املبحث ـ إن شاء اهلل ـ عن نشأة اإلنسان
وغايته ومصريه .
إن قصة اإلنسان منذ بدئه حىت منتهاه تظهر جبالء ووضوح يف قوله تعاىل :وإذ قال
ربك للمالئكة إني جاعل في األرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك
الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما ال تعلمون * وعلم آدم
األسماء كلها ثم عرضهم على المالئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤالء إن كنتم صادقين
* قالوا سبحانك ال علم لنا إال ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم
بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات واألرض
وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون * وإذ قلنا للمالئكة اسجدوا آلدم فسجدوا إال
إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين * وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة
وكال منها رغدا حيث شئتما وال تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ البقرة :
] 35 – 30
ويبني ذلك أيضا ما ورد عن املصطفى صلى اهلل عليه وسلم يف حديث عظيم جامع
ألحوال اإلنسان بدءا خبلقه يف بطن أمه وبيان حاله يف هذه الدنيا وانتهاء مبصريه ،فعن
عبد اهلل بن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ قال :حدثنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو
الصادق املصدوق قال :إن أحدكم جيمع خلقه يف بطن أمه أربعني يوما نطفة مث يكون
علقة مثل ذلك ،مث يكون مضغة مثل ذلك ،مث يرسل إليه امللك فينفخ فيه الروح ويؤمر
بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ،فواهلل الذي ال إله غريه إن
أحدكم ليعمل بعمل أهل اجلنة حىت ما يكون بينه وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب
فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ،وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حىت ما يكون بينه
وبينها إال ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل اجلنة فيدخلها [ .مسلم :
] 4/2036
هذا هو اإلنسان وهذه هي قصة نشأته والغاية من وجوده واملصري الذي سيؤول إليه ،
وسنوضح بيان ذلك بشيء من التفصيل .
أوال :النشأة
قال تعاىل :إذ قال ربك للمالئكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت
فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ ص ] 72 ، 71 :
فاإلنسان :قبضة من طني األرض ونفخة من روح اهلل ،قبضة من طني األرض تتمثل
يف حقيقة اجلسد :عضالته ووشائجه وأحشائه ، ...ونفخة من روح اهلل تتمثل يف
اجلانب الروحي لإلنسان ،تتمثل يف الوعي واإلدراك واإلرادة ،تتمثل يف كل القيم
()1
واملعنويات اليت ميارسها
وقد أبدعه البارئ املصور على غري مثال سابق وخلقه على صورته ،قال تعاىل :
الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك [ االنفطار ] 8 ، 7
وقال تعاىل :لقد خلقنا اإلنسان في أحسن تقويم [ التني ] 4 :فجعله يف
أحسن صورة وشكل ،منتصب القامة سوي األعضاء وحسنها .ويقول الرفاعي :ولو
شاء تعاىل لكان يف صورة قرد أو خنزير أو كلب أو محار ،واهلل عز وجل قادر على
()2
ذلك
( )1دراسات يف النفس اإلنسانية :حممد قطب .دار الشروق ،بريوت ،الطبعة السادسة 1403هـ
( )2تيسري العلي القدير الختصار تفسري ابن كثري :حممد نسيب الرفاعي .مكتبة املعارف ،الرياض 1407 ،هـ ( 4
أجزاء ) 4/489 .
فتلك كانت البداية وهذه هي اخللقة كما صورها القرآن الكرمي ،ولنر كيف يشطح
الفكر بعيدا إذا مل يكن له منج رباين يسري على نوره ويهتدي هبديه .
لقد زعم بعضهم أن اإلنسان سليل القرود وأنه تطور عرب األزمان والعصور حىت وصل
إىل هذه الصورة اليت نراها اليوم .وقد افرتيت هذه الفرية من أجل أن يقال :إن هذا
اإلنسان مثله مثل سائر األنواع اليت البد أهنا قد احندرت من نوع خمتلف سابق يف الوجود
، ...ومن مث فالبد أن اإلنسان قد ظهر على األرض نتيجة تطور سلسلة جماورة من
()1
سالسل مملكة احليوان
ال شك أن هذه النظرة املنحرفة جتعل كل متمسك بدين يقف حائرا أمام معتقداته ،
ويرتدد يف االحتفاظ هبا والدفاع عنها ،بل يشجعه ذلك على التخلي عنها ،وقد حصل
هذا فعال حينما أعلن دارون نظريته امللحدة يف أوروبا وقرر حيوانية اإلنسان فزادت
الفجوة بني الشعوب البائسة والكنيسة املتسلطة على رقاهبم ،ومن مث تركوا الدين أو بقايا
الدين الذي كانوا يعرفونه .يقول الشيخ حممد قطب :ولعل أكرب زلزلة أصابت الكنيسة
كانت على يد دارون حني نادى بنظريته أصل األنواع ،وتتالت الضربات بعد ذلك على
أيدي العلماء والباحثني فرتحنت هيبة الكنيسة وأخذت تتهاوى ، ...ولكن أوروبا حني
نزعت عنها سلطان الكنيسة مل تكتف بذلك بل نزعت عنها سلطان الدين أيضا ،إذ كان
الدين لديها ممثال يف الكنيسة جمسما فيها ،وأغراهم هبذا أن يف العقيدة املسيحية كما
()2
صورهتا الكنيسة ال كما أنزلتها السماء كثريا مما يناقض العقل ويثقل األفهام
إن أي إنسان يشغل ذهنه ويعمل فكره فيما ليس من قدرات عقله من أمور الغيب
فإنه حتما سينقلب خاسئا وهو حسري أو على األقل سيأيت بالعجائب والرتهات كما
حصل من دارون وفرويد ودوركامي وغريهم .
لنرجع ونتدبر كتاب ربنا ونتأمل كيف ينشأ اإلنسان ،وما هي األطوار اليت مير هبا يف
بطن أمه فيخرج سوي األعضاء كاملها ،يقول تعاىل :ولقد خلقنا اإلنسان من ساللة
من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة
( )1ما أصل اإلنسان ؟ إجابات العلم والكتب املقدسة :موريس بو كاي ،الرياض ،نشر مكتب الرتبية العريب
لدول اخلليج 1406هـ ،ص 15 :
( )2اإلنسان بني املادية واإلسالم :حممد قطب .دار الشروق ،بريوت ،الطبعة السادسة 140 ،هـ ،ص 16
فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك اهلل أحسن
الخالقين [ املؤمنون . ] 14-12 :وحنن ال منلك إال أن نقول :سبحان اخلالق املبدع
املصور الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى .يقول سيد قطب :لقد نشأ اجلنس
اإلنساين من ساللة من طني ،فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة اهلل
أن يكون عن طريق نقطة مائية خترج من صلب رجل فتستقر يف رحم امرأة ،ال بل خلية
واحدة من عشرات األلوف من اخلاليا الكامنة من تلك النقطة ،تستقر يف قرار مكني
ثابتة يف الرحم الغائرة بني عظام احلوض احملمية من التأثر باهتزازات اجلسم ، ...ومن
النطفة إىل العلقة حينما متتزج خلية الذكر ببويضة األنثى وتعلق هذه جبدار الرحم نقطة
صغرية يف أول األمر تتغذى بدم األم ،ومن العلقة إىل املضغة حينما تكرب تلك النقطة
العالقة وتتحول إىل دم غليظ خمتلط ،ومتضي هذه اخلليقة يف ذلك اخلط الذي ال ينحرف
وال يتحول وال تتواىن حركته املنظمة الرتيبة ، ...حىت جتيء مرحلة العظام ، ...فمرحلة
()1
كسوة العظام باللحم ، ...مث يتحول إىل تلك اخلليقة املتميزة املستعدة لالرتقاء .
لقد مر خلق اإلنسان مبراحل متعددة ،فهو أصال من طني ،وبالتقاء الذكر واألنثى
تكون النطفة ،ومن النطفة ختلق العلقة فاملضغة فالعظام ،مث تكسى العظام باللحم
ويتكون اجلنني ،كل ذلك يتم بتقدير العليم احلكيم ،وهذه احلقائق أخرب هبا القرآن منذ
مخسة عشر قرنا وكفانا مؤونة البحث عنها والتفكري فيها ،ومما يزيد الفرد املؤمن يقينا
وثباتا واعتزازا بدينه أن العلم مل يكتشف هذه احلقائق إال يف العصر احلاضر .
يقول الدكتور بوكاي :وكل هذه اآليات تتفق وحقائق اليوم الثابتة .ولكن كيف
تسىن للرجال الذين عاشوا يف عهد حممد صلى اهلل عليه وسلم أن يكون لديهم هذه
التفاصيل الكثرية والدقيقة يف علم األجنة ؟! إن هذه احلقائق مل تكتشف إال بعد مرور
ألف عام تقريبا على نزول القرآن ،ويقودنا تاريخ العلوم إىل أن جنزم بعدم وجود أي
()2
تعليل أو تربير بشري لوجود هذه اآليات يف القرآن .
( )1يف ظالل القرآن :سيد قطب .دار الشروق ،بريوت ،الطبعة التاسعة 1400 ،هـ 6 ( ،أجزاء ) ،
2459 -4/2458
( )2ما أصل اإلنسان ؟ :مرجع سابق ص 207 :
ثانيا :الغاية
مل خيلق اهلل عز وجل اإلنسان عبثا ومل يرتكه مهال ،فبعد أن سواه ونفخ فيه من روحه
أسجد له مالئكته املقربني ،مث أهبطه إىل األرض مع اجلان ليكون االبتالء واالمتحان ،
واستخلف يف األرض ليعمرها بطاعته .يقول الدوسري رمحه اهلل :واخلليفة هلل يف أرضه
()1
هو املكلف بأحكام يطبقها على نفسه وينفذها على غريه .
وقد أخذ ربنا العهد على اإلنسان أن يعبده وال يشرك به شيئا ،قال تعاىل { :وإذ
أخذ ربك من بين آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا
بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلني } [ األعراف ] 172 :أورد
ابن كثري عند تفسريه هلذه اآلية ما رواه الرتمذي عن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم :ملا خلق اهلل آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها
()2
من ذريته إىل يوم القيامة .
ويقول الرفاعي :وقد وردت أحاديث يف أخذ الذرية من صلب آدم عليه السالم
ومتييزهم إىل أصحاب اليمني وأصحاب الشمال ،ويف بعضها االستشهاد عليهم بأن اهلل
()3
رهبم .
عن أنس بن مالك – رضي اهلل عنه – عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال :يقال
للرجل من أهل النار يوم القيامة :أرأيت لو كان لك ما على األرض من شيء أكنت
مفتديا به .قال :فيقول :نعم .فيقول :قد أردت منك أهون من ذلك ،قد أخذت
عليك يف ظهر آدم أن ال تشرك يب شيئا فأبيت إال أن تشرك يب [ .أمحد ] 3/127 :
ويف مسند أمحد أيضا عن ابن عباس – رضي اهلل عنهما – عن النيب صلى اهلل عليه
وسلم قال :أخذ اهلل امليثاق من ظهر آدم بنعمان – يعين عرفة – فأخرج من صلبه كل
ذرية ذرأها فنثرهم بني يديه كالذر مث كلمهم قبال ،قال :ألست بربكم ؟ قالوا :بلى
( )1صفوة اآلثار واملفاهيم من تفسري القرآن العظيم :عبد الرمحن بن حممد الدوسري .مكتبة دار األرقم ،الكويت
1406 ،هـ 2/72 .
( )2تفسري القرآن العظيم :إمساعيل بن كثري .دار املعرفة ،بريوت 1400 ،هـ 4 ( ،أجزاء ) 1/249
( )3تيسري العلي القدير :مرجع سابق 2/252
شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلني أو تقولوا :إمنا أشرك آباؤنا من قبل
وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا مبا فعل املبطلون [ ] 1/272
وملا كان األمر كذلك فإن اخللق كلهم مكلفون باالتباع ،وكل فرد بذاته قد أودع
يف فطرته اإلسالم وإفراد العبادة هلل رب العاملني ،وهلذا خلق آدم عليه السالم وذريته لكي
يكون كل منهم عابدا هلل متبعا ألوامره جمتنبا لنواهيه .وقد استمر آدم وذريته على ذلك
()1
عشرة قرون كلهم على شريعة احلق حىت عهد نوح عليه السالم
فلما اختلفوا وحادوا عن الصراط بعث اهلل الرسل واألنبياء يوجهون الناس ويرشدوهنم
لكي يردوهم إىل جادة الصواب
قال تعاىل { كان الناس أمة واحدة فبعث اهلل النبيني مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب باحلق ليحكم بني الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إال الذين أوتوه من بعد
ما جاءهتم البينات بغيا بينهم فهدى اهلل الذين آمنوا ملا اختلفوا فيه من احلق بإذنه واهلل
يهدي من يشاء إىل صراط مستقيم } [ البقرة . ] 213 :وقد أرسل اهلل سبحانه وتعاىل
املرسلني عليهم السالم لتجديد العهد وتوضيح هذه الغاية ،فقال نوح عليه السالم لقومه
{ :اعبدوا اهلل ما لكم من إله غريه } [ األعراف ، ] 59 :وكذلك قال هود عليه
السالم لقومه عاد { :اعبدوا اهلل ما لكم من إله غريه } [ األعراف ] 73 :وقاهلا
شعيب عليه السالم ألصحاب األيكة { :اعبدوا اهلل ما لكم من إله غريه } [ األعراف :
] 85كما قاهلا غريهم ألقوامهم ،وقد حقق بعض تلك األمم غاية وجوده ونكل عن
ذلك آخرون كما قال تعاىل { :ولقد بعثنا يف كل أمة رسوال أن اعبدوا اهلل واجتنبوا
الطاغوت فمنهم من هدى اهلل ومنهم من حقت عليه الضاللة } [ النحل ] 36 :
وجاء القرآن املنزل على نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم مقررا ومؤكدا على ذلك
اهلدف العظيم من وجودك أيها اإلنسان وذلك يف آيات كثرية منها قوله تعاىل { :وما
خلقت اجلن واإلنس إال ليعبدون } [ الذاريات ] 56 :فمقام العبودية هو املقام الذي
اختاره تعاىل للخلق أمجعني .وقد وصف مالئكته املقربني بوصف العبودية فقال تعاىل :
{ ومن عنده ال يستكربون عن عبادته وال يستحسرون يسبحون الليل والنهار ال يفرتون
العبودية :أمحد بن عبد احلليم بن تيمية .دار الكتب العلمية ،بريوت 1401هـ ،ص . 4 ()1
( )1شرح العقيدة الطحاوية :أبو العز علي بن علي بن حممد ،املكتب اإلسالمي ،بريوت ،الطبعة السادسة ،
1400هـ ،ص 453
الفصل الثاني
مبادئ التربية الذاتية من الكتاب والسنة
( )1لسان العرب :حممد بن منظور ،دار صادر ،بريوت 1300هـ 15 ،جزءا 27/ 10 ،
( )2املعجم الوسيط :عبد السالم هارون وآخرون ،طهران ،املكتبة العلمية 42 / 10 ،
أو جمموعة مرتبة يف العلوم الطبيعية ،أما مبادئ الرتبية اإلسالمية فيجدها الباحث موزعة
يف القرآن والسنة ()1
ويف موضع آخر حيدد النحالوي املبادئ الرتبوية اإلسالمية بأهنا :قواعد وقوانني تربوية
()2
عامة واسعة الشمول مقتبسة من القرآن والسنة
ويرى الباحث أن التعريفات السابقة غري وافية لتعريف املبادئ الرتبوية اإلسالمية ،
ومتحيصا ملا ذكر يستخرج الباحث تعريفا يراه جامعا ،فمبادئ الرتبية اإلسالمية هي :
قواعد أساسية شاملة تستنبط مباشرة من الكتاب والسنة وتنبثق عنها سلوكيات الفرد
املسلم واجملتمع املسلم
وال يقتصر غياب هذا املفهم على املؤلفات النظرية بل يتعداه إىل الواقع العملي يف حياة
كثري من املسلمني ،ومما يتأكد لدى كل عاقل حصيف أن املبادئ اإلسالمية عموما تبقى
كذلك وإن ختلى عنها أصحاهبا أو هتاونوا يف التمسك هبا واخلاسر الوحيد هو من أعرض
عنها ،قال تعاىل { :وال حيزنك الذين يسارعون يف الكفر إهنم لن يضروا اهلل شيئا يريد
اهلل أال جيعل هلم حظا يف اآلخرة وهلم عذاب عظيم ،إن الذين اشرتوا الكفر باإلميان لن
يضروا اهلل شيئا وهلم عذاب أليم } [ آل عمران ] 177 ، 176 :
وقال تعاىل أيضا { :إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل وشاقوا الرسول من بعد ما تبني
هلم اهلدى لن يضروا اهلل شيئا وسيحبط أعماهلم } [ حممد ] 32 :
واآليتان السابقتان ـ وإن كانتا تتحدثان عن حال الكافرين أو املرتدين ـ إال أهنما تنطبقان
على واقع بعض املسلمني الذين تركوا املبادئ اإلسالمية األصيلة لينهلوا من مبادئ الشرق
أو الغرب ،واالستشهاد باآليتني هنا لبيان احلال فقط واهلل أعلم باملآل .وتعترب مبادئ
الرتبية اإلسالمية حبق عنصرا أصيال وركنا ركينا يف مسرية املربني واملريدين يهتدي هبديها
ويسار على خطاها لتؤتى العملية الرتبوية أكلها كل حني بإذن رهبا .
( )1الرتبية اإلسالمية واملشكالت املعاصرة :عبد الرمحن النحالوي ،الرياض ،مكتبة أسامة وبريوت املكتب
اإلسالمي ،الطبعة الثانية1405هـ ص 55
( )2اإلصالح الرتبوي واالجتماعي والسياسي من خالل املبادئ واالجتاهات الرتبوية عند التاج السبكي :عبد الرمحن
النحالوي ،بريوت ،املكتب اإلسالمي 1410 ،هـ ،ص 50
أما فيما يتعلق هبذا البحث فإننا نعرف مبادئ الرتبية الذاتية بأهنا األسس والركائز اليت
تضع الفرد املسلم أمام نفسه لريى مدى تطويعه هلذه املبادئ لتحقيق العبودية احلقة هلل
سبحانه وتعاىل ،وهي تذكرة بدوره ووظيفته كفرد مسلم من أمة حممد صلى اهلل عليه
وسلم ،كما أهنا جتعله يسائل نفسه دائما ويراجعها مقوما ومرشدا لكي يستفيد من ذلك
يف سريه إىل ربه على صراط مستقيم ،قال تعاىل { :وأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه
وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ األنعام :
] 153
عن عبد اهلل بن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ قال :خط لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
خطا مث قال هذا سبيل اهلل مث خط خطوطا عن ميينه وعن مشاله مث قال هذه سبل متفرقة
على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ،مث قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه وال
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ ،أمحد ] 435 /1 :
وعن النواس بن مسعان ـ رضي اهلل عنه ـ قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
ضرب اهلل تعاىل مثال صراطا مستقيما وعلى جنبيت الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة
وعلى األبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط
مجيعا وال تتعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط ،فإذا أراد اإلنسان أن يفتح شيئا من
تلك األبواب قال :وحيك ال تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ،فالصراط اإلسالم والسوران
حدود اهلل تعاىل واألبواب املفتحة حمارم اهلل تعاىل وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب
اهلل والداعي من فوق :واعظ اهلل يف قلب كل مسلم [ ،أمحد 4/182 :وصححه
األلباين يف صحيح اجلامع برقم ] 3782
ال ريب أن مبادئ الرتبية الذاتية تستثري واعظ اهلل يف قلب كل مسلم للمبادرة إىل فعل
الطاعات وترك املنهيات جبميع أنواعهما ،أي لرتبية ذاته وتزكيتها وتقوميها .
وقد اختار الباحث بعض مبادئ الرتبية الذاتية املستنبطة من الكتاب والسنة للحديث عنها
وقسمت إىل املباحث التالية :
1ـ احلرية
2ـ املسؤولية واجلزاء
3ـ االهتمام باآلخرين
وسوف يتناول البحث كال منها بشيء من التفصيل والتوضيح
المبحث األول
الحرية
مقدمة :
تتضمن احلرية تقرير املصري وهي من هذه الناحية تتفق مع الرتبية الذاتية ،ولذلك تعترب
احلرية إحدى العالمات املميزة للطبيعية اإلنسانية وهبا يقرر الفرد ما سيكونه وما سيفعله
()1
وما سيعتقده
ولذا فهي من أبرز عوامل حتقيق الذات اإلنسانية واليت تسعى الرتبية لتحقيقها لتكوين
شخصية الفرد ،وقد وضع الشرع احلنيف أسسا واضحة لكل فرد ملمارسة احلرية حبيث
ال تستبد به رغباته وأهواؤه فتزل قدمه ويضل فكره وخيسر دنياه وآخرته .
قال تعاىل { :وال تتبع اهلوى فيضلك عن سبيل اهلل } [ ص ] 26:
وقال أيضا { :ومن أضل ممن اتبع هواه بغري هدى من اهلل } [ القصص ] 50 :
فاحلرية الفردية يف اإلسالم حمددة بضوابط وقيود جتعلها مرتبطة باألصل األصيل الذي خلق
اإلنسان ألجله أال وهو العبودية هلل تعاىل ،وهذا التشريع ليس سلبا لألفراد حريتهم بل من
أجل أن جينب البشرية اخلوض يف مزالق الردى ومهاوي الضالل قرونا طويلة ظلوا
()2
يتخبطون فيها ويتعثرون يف جتارهبم وتؤدي هبم هذه التجارب إىل دمار األجيال
ومن فوائد هذا التشريع أيضا أن تراعى حقوق اجملتمع ومتطلباته اليت قد تتعارض أحيانا
مع حق الفرد وحريته ،وقد صور لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ذلك تصويرا بليغا
فقال :مثل القائم على حدود اهلل والواقع فيها كمثل قوم استهموا يف سفينة فأصاب
بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها فكان الذين يف أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم
فقالوا لو أنا خرقنا يف نصيبنا ومل نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وإن أخذوا
على أيديهم جنوا وجنوا مجيعا [ ،البخاري ] 207 / 3 :
( )1السرية النبوية :ابن هشام ،أبو حممد عبد امللك احلميدي ،حتقيق /مصطفى السقا وآخرون 1/348
( )2حياة الصحابة :حممد يوسف الكاندهلوي ،دمشق ،دار القلم 1403 ،هـ 3 ،أجزاء 1/386 ،
وهذا احلديث كما قال النووي يف شرح مسلم :من قواعد اإلسالم املهمة ومن جوامع
()1
الكلم اليت أعطيها صلى اهلل عليه وسلم ويدخل فيه ما ال حيصى من األحكام
ومن أحكامه ودالئله أنه يتعني على كل مسلم :االعتناء به واالهتمام أن يبحث عما جاء
عن اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم مث جيتهد يف فهم ذلك والوقوف على معانيه مث
يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من األمور العلمية وإن كان من األمور العملية بذل
وسعه يف االجتهاد يف فعل ما يستطيعه من األوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون مهته
مصروفة إىل ذلك ال إىل غريه وهكذا كان أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم والتابعون
هلم بإحسان يف طلب العلم النافع من الكتاب والسنة ( )2ومن هذا احلديث يتبني لنا عدة
أمور هي :
1ـ أن ما هنى عنه الشارع احلكيم يرتكه الفرد املسلم بالكلية.
2ـ أن جيتهد يف فعل كل األوامر.
3ـ أن ما أمر به يفعله قدر االستطاعة .
فالواجب إذن على كل مكلف أن جيتنب املنهيات واحملرمات واملكروهات ،مع املبادرة
إىل فعل الطاعات واملسارعة إىل اخلريات وتنويع القربات لتمتلئ الصحائف باحلسنات ،
ولو تتبعنا شعائر اإلسالم وفرائضه لوجدناها كثرية جدا وكذلك الواجبات والسنن
واملستحبات ،وال ميكن لفرد أن يقوم هبا كلها يف وقت واحد ويف ساعة واحدة ،ومن
أمثلة ذلك :الصالة والصيام والزكاة واحلج والصدقة وزيارة املريض وقيام الليل واألمر
باملعروف والنهي عن املنكر وقراءة القرآن وتشييع اجلنازة وإكرام الضيف وتعليم اجلاهل
ومساعدة اجلريان واجلهاد يف سبيل اهلل وخمالطة الناس للنصح واإلرشاد وغري ذلك من
أمور العبادة ،ويف ذلك يظهر مبدأ الفروق الفردية بني العباد ،كما يظهر مبدأ احلرية يف
العبادة ،فقد يكون لعبد من العباد أن يكثر من النوافل آناء الليل وأطراف النهار وآخر
( )1صحيح مسلم بشرح النووي :أبو زكريا حيىي بن شرف النووي ،اإلسكندرية ،دار الريان للرتاث 1407 ،هـ
9 ،أجزاء 5/102
( )2جامع العلوم واحلكم يف شرح مخسني حديثا من جوامع الكلم :عبد الرمحن بن رجب ،القاهرة ،مؤسسة
الكتب الثقافية 1382 ،هـ ،ص 79
رغبته يف اإلكثار من قراءة القرآن ،وفرد ثالث يكثر من الصدقة ورابع مشتغل بتعليم
عوام الناس أمور دينهم وخامس آخذ بعنان فرسه جياهد يف سبيل اهلل .... ،وهكذا .
ولكن ذلك ال مينع أن جتتمع بعض هذه األمور أو كلها لشخص واحد وقليل ما هم .
روى أبو هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :من أنفق
زوجني يف سبيل اهلل نودي يا عبد اهلل هذا خري فمن كان من أهل الصالة دعي من باب
الصالة ومن كان من أهل اجلهاد دعي من باب اجلهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي
من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ،قال أبو بكر الصديق :
يا رسول اهلل :ما على أحد يدعى من تلك األبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك
األبواب كلها ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :نعم وأرجو أن تكون منهم،
[مسلم ] 2/712 :
()1
قال النووي ـ رمحه اهلل ـ :قال العلماء معناه من كان الغالب عليه يف عمله وطاعته ذلك
ويقول اإلمام املقدسي :وقد كانت أحوال املتعبدين من السلف خمتلفة ،فمنهم من كان
يغلب على حاله التالوة حىت خيتم كل يوم ختمة أو ختمتني أو ثالثا وكان فيهم من يكثر
()2
التسبيح ومنهم من يكثر الصالة ومنهم من يكثر الطواف بالبيت
امليزان الصحيح ألفضل العبادة :
وإن سأل سائل ما هو امليزان الصحيح ألفضلية العبادة ؟ وما هي القربات اليت حيبها اهلل
أفضل من غريها كي يستزيد منها املرء ؟ وما هو األنفع واألحق باإليثار والتخصيص يف
منازل العبودية ؟ واجلواب على ذلك جد يسري فإن :أفضل العبادة يف كل وقت وحال :
إيثار مرضاة اهلل يف ذلك الوقت واحلال واالشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته
()1
ومقتضاه
فكل زمان أو مكان له عبادة أفضل من غريها ،فمن كان جبوار الكعبة فاألفضل له أن
يطوف بدال من اجللوس لقراءة القرآن ،ومن تيسر له الوقوف بعرفة فذلك أفضل من
حضور جملس للذكر ،وأفضل العبادات يف وقت اجلهاد :اجلهاد وإن آل إىل ترك األوراد
( )1هتذيب مدارج السالكني :عبد املنعم العزى ،جدة ،دار املطبوعات احلديثة 1405 ،هـ ،ص 73
( )2جمموع فتاوى شيخ اإلسالم أمحد بن تيمية :مجع وترتيب عبد الرمحن بن حممد بن قاسم العاصمي .النجدي
وابنه حممد ،الرياض ،مطابع الرياض ،الطبعة األوىل 1381 ،هـ 1/5،ـ 6
وبفهم واع وبصرية نافذة يقرر ابن تيمية حقيقة احلرية يف العبادة لدى الفرد فهو يرى أن
العبد كلما ازداد حبا هلل ازداد له عبودية وحرية عما سواه ،ومن جهة أخرى كلما ازداد
له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه(.)3
وحرية العبادة اليت هي حق لكل فرد يف اجملتمع املسلم هلا تأثري بالغ يف عبادته وتؤثر
مباشرة يف شخصيته ،فإذا أدى العبد ما افرتض اهلل عليه من العبادات أمكنه بال حرج أن
يتنقل بني العبادات األخرى فيما متيل إليها نفسه وتشتاق إليها روحه أكثر من غريها ،
وبذلك يقبل عليها بنفس مطمئنة راضية ويندفع يف آدائها بكل رغبة وارتياح .
ويستنبط الباحث حرية العقيدة والعبادة معا يف القرآن من قوله تعاىل { :من كان يريد
العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء ملن نريد مث جعلنا له جهنم يصالها مذموما مدحورا ،ومن
أراد اآلخرة وسعى هلا سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ،كال مند هؤالء
وهؤالء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك حمظورا } [ اإلسراء 18 :ـ] 20
ثانيا :الحرية الفكرية
ومن عناصرها :حرية االجتهاد
لقد كفل اإلسالم ألفراده حرية االجتهاد وابداء الرأي وأحاط ذلك بسياج قوي من
الدعم والتوجيه ،وبنظرة سريعة للفقه اإلسالمي جند أن الفقهاء ـ رمحهم اهلل ـ قد اعتربوا
االجتهاد مصدرا من مصادر التشريع اإلسالمي ،واالجتهاد هو :استفراغ الوسع يف
طلب الظن بشيء من األحكام الشرعية على وجه حيس من النفس بالعجز عن املزيد
()1
عليه
وحيث أن يف االجتهاد يف األحكام الشرعية توقيعا عن رب العاملني فقد اشرتط يف اجملتهد
شروط عدة لكي يتسىن له االجتهاد( ، )2فليس يف الشريعة حتجري للعقول وكبت لآلراء
( )3العبودية :ابن تيمية ،دار الكتب العلمية ،بريوت 1401 ،هـ ،ص 29
( )1األحكام يف أصول األحكام ( : ) 370أبو احلسن علي اآلمدي ،بريوت ،دار الكتب العلمية 1400 ،هـ 4 ،
أجزاء 218/ 4 ،
( )2شرح الكوكب املنري :ابن النجار ،حتقيق حممد الزحيلي ونزيه محاد ،مكة ،جامعة أم القرى ،مركز البحث
العلمي 1400 ،هـ 4 ،أجزاء 4/459 ،
بل يف األمر تيسري وسعة خاصة فيما يستجد من أمور احلياة ومتطلباهتا وما يعرض للناس
من أقضية وأحكام .
وتؤيد نصوص الكتاب والسنة ذلك االجتهاد يف مواضع كثرية ،يقول سبحانه وتعاىل :
{ وداود وسليمان إذ حيكمان يف احلرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا حلكمهم شاهدين
،ففهمناها سليمان وكال آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود اجلبال يسبحن والطري
وكنا فاعلني } [ ] 79 ، 78ففي اآلية الثانية اختص اهلل عز وجل سليمان عليه السالم
بالفهم مث أثىن على داود وسليمان عليهما السالم باحلكم والعلم ،أما ابن كثري فيقول :
()3
فأثىن اهلل على سليمان ومل يذم داود
أي كأن اهلل سبحانه وتعاىل قد أقر كال منهما على اجتهاده ،وثبت عن عمرو بن العاص
ـ رضي اهلل عنه ـ أنه مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول :إذا حكم احلاكم فاجتهد
احلاكم مث أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد مث أخطأ فله أجر [ البخاري / 4 :
] 372
ويرى الباحث أن تقرير هذه النصوص من الكتاب والسنة حث لكل عبد على االجتهاد
فيما يستطيعه من األمور الرتبوية أو االجتماعية أو غريها ،فإذا ما واجه الفرد قضية من
القضايا اليت ال نص فيها من الشرع وتأكد من ذلك ،أمكنه أن يعمل فكره ويشحذ ذهنه
إلحراز الصواب .
أمثلة لالجتهاد من حياة الرسول وأصحابه :
وإذا تتبعنا السرية النبوية جند أمثلة كثرية الجتهاد النيب صلى اهلل عليه وسلم وصحبه
الكرام منها :
1ـ قبوله عليه السالم للفداء من أسرى بدر فأنزل اهلل معاتبا إياه على ذلك قال تعاىل :
{ ما كان لنيب أن يكون له أسرى حىت يثخن يف األرض } [ األنفال ]67 :فهذا رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم جيتهد يف قضية أسرى بدر [ .مسلم ] 1385/ 3 :
2ـ ما وقع منه عليه السالم من اإلذن للمعتذرين أن يتخلفوا عن غزوة تبوك فأنزل اهلل
معاتبا { :عفا اهلل عنك مل أذنت هلم حىت يتبني لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبني }
( )3تفسري القرآن العظيم :إمساعيل بن كثري دار املعرفة ،بريوت 1400 ،هـ 4 ،أجزاء
[ التوبة ] 44 :وهنا يعاتب اهلل نبيه يف اجتهاده يف احلكم على املتخلفني عن غزوة تبوك
.
3ـ قوله صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه :ال يصلني أحد العصر إال يف بين قريظة ،فصلى
بعضهم يف الطريق اجتهادا منهم ومل يصل البعض اآلخر حىت وصلوا إىل بين قريظة ومل
يعنف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحدا منهم الجتهاده [ .مسلم ] 1391 / 3 :
4ـ قصة بعث معاذ بن جبل ـ رضي اهلل عنه ـ إىل اليمن وملا سأله عليه السالم مب حتكم قال
:بكتاب اهلل ،قال :فإن مل جتد ،قال :بسنة رسول اهلل ،قال :فإن مل جتد ،قال :
أجتهد رأيي وال آلو ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :احلمد هلل الذي وفق رسول
رسول اهلل ملا يرضى رسول اهلل [ .أبو داود 19/ 4 :وأخرجه الرتمذي وقال :وليس
إسناده عندي مبتصل ].
قال ابن القيم تعليقا على احلديث :وقد أقر النيب صلى اهلل عليه وسلم معاذا على اجتهاد
رأيه فيما مل جيد فيه نصا عن اهلل ورسوله .
ثالثا الحرية الملكية
لقد متشي اإلسالم مع فطرة اإلنسان وغريزته يف حب املال ومتلكه ،أتاح له فرص
الكسب املختلفة ومسح له أن حيوز مثرة جهده ونتيجة عطائه دون أن ميس كرامة غريه أو
جيور عليهم يف ظل الشرع احلنيف ،وقد قال صلى اهلل عليه وسلم :ال تزول قدما عبد
يوم القيامة حىت يسأل عن عمره فيم أفناه وعن علمه فيم فعل وعن ماله من أين اكتسبه
وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أباله [ .الرتمذي ] 4/529 :
ويبني اخلويل وظيفة احلافز الفردي يف امللكية الفردية فيقول :إنه قانون نفساين ذو
خصائص إجيابية يؤدي به املرء دوره يف عمارة األرض على أمت وجه ،ومن هذه
اخلصائص نزوعه إىل االستيالء على حصيلة عمله وأن حتقيق هذا االستيالء هو االستجابة
()1
الواجبة ليحقق هذا القانون أثره الذي أراد اهلل له .
ولكن اإلسالم أباح التكسب ومجع املال ضمن ضوابط شرعية معينة ويف إطار مراتب
متدرجة ،يقول الشيباين صاحب اإلمام أيب حنيفة :
( )1الثروة يف ظل اإلسالم :البهي اخلويل ،القاهرة ،دار االعتصام ،الطبعة الثالثة 1398 ،هـ ،ص .71
مث الكسب على مراتب ،فمقدار ما البد لكل أحد منه يعين ما يقيم به صلبه يفرتض على
كل أحد اكتسابه عينا ألنه ال يتوصل إىل إقامة الفرائض إال به ،ومما يتوصل به إىل
الفرائض يكون فرضا فإن مل يكتسب زيادة على ذلك فهو يف سعة من ذلك لقوله صلى
اهلل عليه وسلم :من أصبح آمنا يف سربه معاىف يف بدنه عنده قوت يومه فكأمنا حيزت له
الدنيا حبذافريها [ .الرتمذي . ] 496 / 4 :
وهذا إن مل يكن عليه دين فإن كان عليه دين فاالكتساب بقدر ما يقضي به دينه فرض
عليه ألن قضاء الدين يستحق عليه عينا وباالكتساب يتوصل إليه .
وكذا إن كان له عيال من زوجة وأوالد فإنه يفرتض عليه الكسب بقدر كفايتهم عينا
ألن اإلنفاق عليهم مستحق عليه وإمنا يتوصل إىل إيفاء هذا املستحق بالكسب ،والكسب
زيادة على ذلك فيه سعة(.)1
وإذا حاز اإلنسان على كل شيء من هذا املال وجب عليه أن يقوم مبتطلباته وتكاليفه ،
فاملال الذي ميتلكه اإلنسان هو مال اهلل وهو مستخلف فيه وهو مسئول عن كسبه وإنفاقه
ال ريب ،وإذا امتلك عبد هذا املال ـ مهما كثر ـ فإنه يبقى فقريا إىل خالقه ومواله ،
حمتاجا إىل رمحته ومغفرته ،قال تعاىل { :يا أيها الناس أنتم الفقراء إىل اهلل واهلل هو الغين
احلميد } [ فاطر .] 15 :
يقول اخلويل :وإذا أدرك اإلنسان حقيقة االفتقار يف نفسه عرف أهنا فطرته فالتزمها
وجعلها منهاجا ،وإذا استعلنت له حقيقة السلب يف نفسه بدت كل املواهب نعما وإرادة
من اهلل ومنعه ذلك أن يزهى هبا على غريه ،واإلحساس باالفتقار يدفع إىل اإلقبال على
()1
اهلل ليستمد اإلجياب من معاين صفاته .
فاملال عارية مردودة وإن بقي ألحد فلن يبقى له أحد حيث أنه متاع احلياة الفانية ،قال
تعاىل { :زين للناس حب الشهوات من النساء والبنني والقناطري املقنطرة من الذهب
والفضة واخليل املسومة واألنعام واحلرث ذلك متاع احلياة الدنيا واهلل عنده حسن املآب }
[ آل عمران .] 14 :
( )1االكتساب يف الرزق املستطاب ،حممد بن احلسن الشيباين ،حتقيق حممود عرنوس ،مكة دار الباز للنشر
والتوزيع 1406 ،هـ ،ص 35ـ . 36
( )1الثروة يف ظل اإلسالم مرجع سابق ،ص 49
ولن ينفع هذا املال صاحبه إال إذا استغله فيما يرضي اهلل عز وجل ويعود عليه بالنفع
والفالح يوم ال ينفع مال وال بنون إال من أتى اهلل بقلب سليم ،ويف ذلك حث وحتريض
لكل من ميلك أن يستبدل ما عند اهلل من اللذات احلقيقية األبدية بالشهوات املخدجة
الناقصة الفانية (. )1
وقد امتدح النيب صلى اهلل عليه وسلم املال الذي ينفق يف أوجه الرب بقوله :نعم املال
الصاحل للمرء الصاحل [ ،أمحد ] 197 / 4 :
إن ذاتية الفرد املالك تكمن يف تغلبه على نوازعه الشيطانية وتسخري املال الذي رزقه اهلل
لتزكية نفسه وتربيتها لتمضي مع النصوص القرآنية الكثرية اليت تشري إىل ذلك ومنها :
{ وآتى املال على حبه ذوى القرىب واليتامى واملساكني وابن السبيل والسائلني ويف
الرقاب [ } ...البقرة { ] 177 :املال والبنون زينة احلياة الدنيا والباقيات الصاحلات
خري عند ربك ثوابا وخري أمال } [ الكهف .] 46 :
وقوله { :وسيجنبها األتقى ،الذي يؤتى ماله يتزكى } [ الليل { ، ] 18 :ومثل
الذين ينفقون أمواهلم ابتغاء مرضات اهلل وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصاهبا وابل
فآتت أكلها ضعفني فإن مل يصبها وابل فطل واهلل مبا تعملون بصري } [ البقرة :
{ ، ] 265انفروا خفاقا وثقاال وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم يف سبيل اهلل ذلكم خري
لكم إن كنتم تعلمون } [ التوبة . ] 41 :
إضافة إىل ذلك فإن التطبيق الصحيح حلرية التملك خيلص النفس من أنانيتها واستئثارها مبا
وهبها اهلل ،ويف التعود على البذل والعطاء راحة للضمري وسكينة للفؤاد ،وإذا أدرك املرء
أن املال مال اهلل وأن الذي أعطاه اليوم ميكنه أن يأخذه غدا ويعطيه لغريه ،جيعله دوما
يشعر باحلاجة إىل ما عند اهلل فيقبل عليه بالطاعات ويوظف ماله يف مرضاة اهلل لنيل ما
عند اهلل من النعيم املقيم .
إن حرية التملك اليت أقرها اإلسالم لألفراد ال هتيئ هلم البذل والعطاء لالنعتاق من ذل
القيود األرضية فحسب ،بل هتيئ هلم اإلنفاق يف املباحات وتوفري املال وتثمريه يف ظل
الشريعة الغراء ،وهلذه احلرية منافع مجة ،يقول سيد قطب :وتقرير حق امللكية الفردية
( )1دليل الفاحلني لطرق رياض الصاحلني :حممد عالن الصديقي ،بريوت ،دار الكتب العلمية 1405 ،هـ 4 ،
أجزاء .385 / 2
حيقق العدالة بني اجلهد واجلزاء فوق مسايرته للفطرة واتفاقه مع امليول األصلية يف النفس
البشرية ،تلك امليول اليت حيسب اإلسالم حساهبا يف إقامة نظام اجملتمع ويف الوقت ذاته
يتفق مع مصلحة اجلماعة بإغراء الفرد على بذل أقصى جهد يف طوقه لتنمية احلياة ،فوق
ما حيقق من العزة والكرامة واالستقالل ومنو الشخصية لألفراد حبيث يصلحون أن يكونوا
أمناء على هذا الدين ،يقفون يف وجه املنكر وحياسبون احلاكم وينصحونه دون خوف
من انقطاع أرزاقهم لو كانت يف يديه (.)1
فمما تسعى إليه الرتبية اإلسالمية أن يكون التوافق كبريا بني فطرة اإلنسان واحلرية امللكية
اليت أبيحت له .
والفرد املسلم املنتمي إىل اجلماعة املسلمة ال يرضى لنفسه أن تتنعم باملال وال تتذكر
إخواهنا من حوهلا فتبادر إىل املسامهة يف بناء اجملتمع من خالل هذا املال فيشعر يف قرارة
نفسه أنه قدم شيئا لإلسالم واملسلمني .
ويتعجب املرء حني يسمع عن اجلمعيات املنحرفة واملؤسسات الضالة اليت يسخو أصحاهبا
سخاء ال تعرفه اجلمعيات واهليئات اإلسالمية ،بل وينظمون أمورها تنظيما ينتج الشر
الكبري ويثمر الفتنة العارمة اليت ال يشقى بويالهتا إال امللتزمني بشرائع اإلسالم (.)2
منوذج فريد لتطبيق احلرية امللكية :
وإذا أردنا مثاال لنفس حررت ذاهتا من قيود املال وكانت تطبيقا عمليا لتلك اآليات
فلننظر إىل شخصية احلبيب صلى اهلل عليه وسلم وسريته القولية والعملية فإهنا صورة
مقتبسة من القرآن الكرمي ،يقول العالمة ابن القيم رمحه اهلل :كان صلى اهلل عليه وسلم
أعظم الناس صدقة مبا ملكت يده وكان ال يستكثر شيئا أعطاه هلل تعاىل وال يستقله وكان
ال يسأله أحد شيئا إال أعطاه قليال كان أو كثريا وكان عطاؤه عطاء من ال خياف الفقر
وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه وكان سروره وفرحه مبا يعطيه أعظم من سرور
اآلخذ مبا يأخذ وكان أجود الناس باخلري ميينه كالريح املرسلة ،وكان إذا عرض له حمتاج
آثره على نفسه تارة بطعامه وتارة باهلدية ،وكان ينوع يف أصناف عطائه وصدقته فتارة
باهلبة وتارة بالصدقة وتارة باهلدية وتارة بشراء الشيء مث يعطي البائع الثمن والسلعة مجيعا
( )1العدالة االجتماعية يف اإلسالم :سيد قطب ،جدة ،دار الشروق 1399 ،هـ ،ص .166
( )2من هدي سورة األنقال :حممد أمني املصري ،تقدمي حممد العبدة ،الكويت ،مكتبة دار األرقم ،ص . 47
كما فعل ببعري جابر ،وتارة كان يقرتض الشيء فريد أكثر منه وأفضل وأكرب ويشرتي
الشيء فيعطي أكثر من مثنه ويقبل اهلدية ويكافئ عليها بأكثر منها أو بأضعافها تلطفا
وتنوعا يف ضروب الصدقة واإلحسان بكل ممكن ،وكانت صدقته وإحسانه مبا ميلكه
وحباله وبقوله فيخرج ما عنده ويأمر بالصدقة وحيض عليها ويدعو إليها حباله وقوله فإذا
رآه البخيل الشحيح دعاه حاله إىل البذل والعطاء وكان من خالطه وصحبه ورأى هديه
ال ميلك نفسه من السماحة والندى ،وكان هديه صلى اهلل عليه وسلم يدعو إىل
اإلحسان والصدقة واملعروف ولذلك كان صلى اهلل عليه وسلم أشرح اخللق صدرا
وأطيبهم نفسا وأنعمهم قلبا فإن للصدقة وفعل املعروف تأثريا عجيبا يف شرح الصدر وإن
ضاف ذلك إىل ما خصه اهلل به من شرح صدره بالنبوة والرسالة وخصائصها وتوابعها
()1
وشرح صدره حسا وإخراج حظه منه.
واقتداء بالنيب صلى اهلل عليه وسلم ينطلق املسلم من ذاته لفك القيود اليت تربطه باألرض
ولريتفع إىل امللكوت األعلى يف السماء ،وحيصل له ذلك بالبذل والعطاء واإلنفاق يف
سبيل اهلل بسخاء ،فإن يف ذلك حياة اجملتمع وتضامن أفراده وثبات بنيانه كما أن فيه
تربية لإلميان باالعتماد على اهلل والتوكل عليه وفيه تربية للنفوس ومتحيصها من أدراهنا .
رابعا :الحرية العلمية
مل يلزم اإلسالم مجيع أفراده باالجتاه إىل علم معني ،وترك هذا األمر مطلقا حسب رغبة
كل فرد وميوله وأهوائه ،بل إن مقتضى احلال يدعو إىل أن يكون للمسلمني باع يف كل
علم من العلوم املفيدة وأن يكون لدى مجاعة املسلمني اخلرباء واملختصون يف خمتلف
اجملاالت لكي يكونوا يف قوة ومنعة ويستغنوا بإمكانيتهم عن األعداء ،قال تعاىل { :وإذا
جاءهم أمر من األمن أو اخلوف أذاعوا به ولو ردوه إىل الرسول وإىل أويل األمر منهم
لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولوال فضل اهلل عليكم ورمحته التبعتم الشيطان إال قليال } [
النساء .] 83 :
( )1زاد املعاد يف هدي خري العباد :ابن القيم اجلوزية ،حتقيق /شعيب وعبد القادر األرناؤوط ،بريوت ،مؤسسة
الرسالة 1405 ،هـ 6 ،أجزاء 22 / 2 ،ـ 23
فوجود اهليئات املتخصصة والعلماء البارعني يف خمتلف اجملاالت النافعة أمر هيأته الشريعة
ويسرت سبله عن طريق حرية العلم لألفراد ،يقول أحد الرتبويني املعاصرين :وحني
تتعقد املواقف واملشكالت ـ خاصة تلك اليت تتعلق بأمور السلم أو أمور احلرب واألخطار
ـ وحتتاج إىل درجات عالية من القدرات واخلربات العميقة ومناهج التفكري احلكيم فإن
القرآن يوجه إىل وجوب إقامة هيئة متخصصة يف دراسة هذا النوع من املواقف
واملشكالت(.)1
وقد كانت حرية العلم واضحة يف حياة صحابة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ ورضي
اهلل عنهم أمجعني ـ فمنهم العامل بالقرآن والعامل بسنة املصطفى عليه السالم واللغوي
والشاعر والقاضي ومنهم القائد احملنك اخلبري بفنون احلرب والتاجر املتمرس بالتجارة
والعامل بالفرائض والعامل باحلالل واحلرام ،وورد يف سرية املصطفى القولية والفعلية ما يدل
على تشجيعه وإقراره لكل منهم على اجملال الذي برع فيه أو العلم الذي اختاره ،من
ذلك ما رواه ابن عمر عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قوله :أرحم أميت أبو بكر ،وأشدها
يف دين اهلل عمر وأصدقها حياء عثمان وأعلمها باحلالل واحلرام معاذ بن جبل ،وأقرؤها
لكتاب اهلل أيب ،وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ،ولكل أمة أمينا وأمني هذه األمة أبو
عبيدة بن اجلراح [ .أمحد 3/184 :وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ]908
وروى الرباء بن عازب ـ رضي اهلل عنه ـ قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يوم قريظة حلسان بن ثابت :اهج املشركني فإن جربيل معك [ .أمحد 4/286 :
وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ] 2519
وعن ابن مسعود ـ رضي اهلل عنه ـ قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اقتدوا
باللذين من بعدي أيب بكر وعمر واهتدوا هبدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه [ .
رواه أبو يعلى يف مسنده ،نقال عن األلباين يف الصحيحة برقم ] 1154واآلثار يف ذلك
كثرية .
( )1أهداف الرتبية اإلسالمية :ماجد عرسان الكيالين ،املدينة املنورة ،مكتبة دار الرتاث 1408 ،هـ ،ص . 61
إن احلرية العلمية يف الرتبية اإلسالمية تفتح الباب على مصراعيه لتتنوع اخلربات وتتعدد
التخصصات ،ورغم كثرهتا وتنوعها ،إال أهنا كلها تصب يف منبع واحد هو حتقيق
االكتفاء الذايت للمجتمع وذلك بتكاتف أفراده وتعاوهنم .
وتسعى الرتبية اإلسالمية هلذا اهلدف بتوظيف الطاقات ،فاجلميع يعمل ويبين ويساهم كل
من موقعه وكل حسب طاقته وكل حسب ميوله العلمية ورغباته الفكرية أو قدراته املهنية
،ومن املفرتض أال يوجد بني املسلمني من ال ينفع يف أي أمر من األمور ،وما دام الفرد
املسلم عامال فهو يضع لبنة يف البناء ،وهو بذلك له جهده ومسامهته اليت ال يستغىن عنها
،وشعور املرء حبرية العلم جيعله ال ينتقص أي جهد يقدمه ولو كان يسريا ،بل على
العكس من ذلك فإن هذا يدفعه إىل أن يبدع يف جماله ويسد الثغرة اليت هو عليها حىت ال
يؤيت اجملتمع املسلم من قبله وحىت ال يصبح هو نفسه عالة على غريه .
قواعد أساسية :
ال ريب أن االكتفاء الذايت أمر مطلوب وهدف نبيل تسعى الرتبية اإلسالمية لتحقيقه
من خالل احلث على االخنراط يف خمتلف التخصصات والعلوم ،ولكن تصحيح النظرة
واملوازنة بني العلوم من حيث املنفعة واألفضلية واحلاجة مما يستدعي التنبيه إليه ،فهناك
قواعد أساسية ينبغي أن يعيها الفرد املسلم عند مناقشة موضوع حرية العلم ،وهي كما
يلي :
1ـ العلوم من حيث فائدتها وضررها :
تنقسم العلوم من حيث فائدهتا إىل نافع وضار ،واملسلم مطالب باالستزادة من العلم
النافع ،قال تعاىل { :وقل رب زدين علما } [ طه ، ] 114 :كما أن النيب صلى اهلل
عليه وسلم تعوذ من العلم الذي ال ينفع ،ففي الصحيح عن زيد بن أرقم أن النيب عليه
السالم قال ، ... :اللهم إين أعوذ بك من علم ال ينفع ومن قلب ال خيشع ومن نفس ال
تشبع ومن دعوة ال يستجاب هلا [ ،مسلم .] 2088 / 4 :
ومن أمثلة العلوم النافعة علم التفسري والفقه واحلديث وعلوم التجارة والزراعة والصناعة
والطب واهلندسة ،ومن العلوم الضارة السحر والتنجيم والكهانة وغريها ،ويضع الباحث
أسسا وركائز للعلوم النافعة للفرد املسلم :
أ ـ موافقته للكتاب والسنة وعدم معارضته للشرع يف أي جزئية من جزئياته .
ب ـ العمل به فيما يعود باخلري على الفرد واجملتمع .
ج ـ تأدية زكاته بنشره وتعليمه من ال يعلمه أو حيتاجه .
د ـ اإلخالص يف أدائه وتقدمي النية احلسنة بني يديه فإمنا األعمال بالنيات وكذلك العلوم .
إن أي علم ال ينتفع منه يف أمر دنيا أو آخرة ينقلب وباال على صاحبه وقد يكون األوىل
به أن يدعه وال يضيع أوقاته فيه ،قال عليه السالم :إن علما ال ينتفع ككنز ال ينفق منه
يف سبيل اهلل [ .رواه ابن عساكر ،نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم . ] 2108
2ـ أفضل العلوم :
دلت نصوص الكتاب والسنة على أن خري العلوم هو الذي يدلك على معرفة اهلل
وخشيته وتقواه واإلنابة إليه ،أي علم اآلخرة .
قال تعاىل { :ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو احلق ويهدي إىل
صراط العزيز احلميد } [ سبأ .] 6 :
وقال تعاىل { :إمنا خيشى اهلل من عباده العلماء } [ فاطر ] 28 :أي العاملني باهلل عز
وجل الذين قدروا اهلل حق قدره .
وقال تعاىل { :أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما حيذر اآلخرة ويرجوا رمحة ربه قل
هل يستوي الذين يعلمون والذين ال يعلمون إمنا يتذكر أولوا األلباب } [ .الزمر . ] 9 :
فمن يتعلم ويعلم العلم الذي يقرب من اهلل والدار اآلخرة ال يستوي هو ومن ال يعلم
ذلك العلم ،قال صلى اهلل عليه وسلم :من يرد اهلل به خريا يفقهه يف الدين [.البخاري
. ] 42 / 1 :
يقول ابن حجر ـ رمحه اهلل ـ :ويف ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس ولفضل
()1
التفقه يف الدين على سائر العلوم .
ولفضل العلم يف الدين على سائر العلوم فقد دعا النيب صلى اهلل عليه وسلم البن عمه
فقال :اللهم فقهه يف الدين وعلمه التأويل [ .ابن ماجة .] 49 / 1 :
( )1فتح الباري يف شرح صحيح البخاري :أمحد بن حجر العسقالين ،تصحيح وحتقيق /عبد العزيز بن عبد اهلل بن
باز ،الرياض ،مكتبة الرياض احلديثة 1379 ،هـ . 1/165 ،
وعن ابن عباس قال :ضمين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال :اللهم علمه الكتاب
[ .البخاري .] 44/ 1 :وأورد ابن حجر يف رواية أخرى عن ابن عباس أن النيب صلى
اهلل عليه وسلم قال :اللهم علمه احلكمة وتأويل الكتاب .واملراد بالكتاب القرآن
وباحلكمة السنة )1( .ومعلوم أنه لو كان علم خري من علم الكتاب والسنة لدعا النيب عليه
السالم البن عمه ـ رضي اهلل عنهما ـ ،فدل ذلك على أن علوم اآلخرة أفضل وخري من
علوم الدنيا .
ذكر اإلمام الغزايل ـ رمحه اهلل ـ يف كتابه إحياء علوم الدين مقارنة لطيفة بني علوم اآلخرة
متمثلة يف علم الفقه وبني علوم الدنيا متمثلة يف علم الطب فقال :اعلم أن التسوية بينهما
غري الزمة بل بينهما فرق ،وأن الفقه أشرف منه من ثالث وجوه :
أحدمها :أنه علم شرعي إذ هو مستفاد من النبوة خبالف الطب فإنه ليس من علم الشرع
الثاين :أنه ال يستغين عنه أحد من سالكي طريق اآلخرة البتة ال الصحيح وال املريض ،
وأما الطب فال حيتاج إليه إال املرضى وهم األقلون .
الثالث :أن علم الفقه جماور لعلم طريق اآلخرة ألنه نظر يف أعمال اجلوارح ومنشؤها
()2
صفات القلوب .
إن تقرير حقيقة أفضلية علم اآلخرة على بقية العلوم ال يلغي أمهية العلوم األخرى وحاجة
املسلمني كافة إليها ،ولكن ذلك يعين أن على كل مسلم مكلف ـ أيا كان علمه ـ أال
حيرم نفسه من االستزادة من هذا اخلري فإن من فاته هذا العلم النافع وقع يف األربع اليت
استعاذ منها النيب صلى اهلل عليه وسلم وصار علمه وباال عليه وحجة عليه ومل ينتفع به
ألنه مل خيشع قلبه لربه ومل يشبع نفسه من الدنيا بل ازداد عليها حرصا وهلا طلبا ومل
يسمع دعاؤه لعدم امتثاله ألوامر ربه وعدم اجتنابه ملا يسخطه ويكرهه (.)1
( )2تذكرة السامع واملتكلم يف أدب العامل واملتعلم :ابن مجاعة الكناين ،بريوت ،دار الكتب العلمية .
( )1زاد املسري يف علم التفسري :عبد الرمحن بن علي بن حممد بن اجلوزي .بريوت ،املكتب اإلسالمي 1404 ،
هـ 6/289 ،
أصحاب املهن والوظائف يقضي الساعات الطوال ليقوم بتبعات تلك املهنة أو الوظيفة
وما يتعلق هبا ومع ذلك ال جتده يفرغ ساعة من وقته يف األسبوع أو يف الشهر لتعلم أمور
دينه إما يف بيته مع أهله وأوالده وإما يف املسجد القريب من سكنه مع جريانه أو بأي
طريقة من الطرق ،ويرى الباحث أن هذا اإلعراض مما ابتلي به املسلمون حىت املثقفني
منهم ،وقد عد العلماء من نواقض اإلسالم اليت خترج صاحبها من اإلسالم ،اإلعراض
عن دين اهلل تعلما وعمال (.)2
إذا فاألمر جد خطري وعلى الفرد املسلم أن يكون له من العلم الشرعي نصيبب ،وينبغي
على كل مكلف تعلم أصول الدين وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أمور العقائد
والعبادات واملعامالت واملداومة على ذلك من املهد إىل اللحد وخاصة فيما متس إليه
حاجة الفرد نفسه ،فالتاجر يتفقه شرعيا يف أنواع البيوع والقاضي يتعلم أحكام القضاء
واحلكم وقل مثل ذلك للسياسي واملعلم والطبيب واملهندس وهلم جرا ،وسئل شيخ
اإلسالم ابن تيمية ـ رمحه اهلل ـ عما جيب على املكلف اعتقاده وما الذي جيب عليه علمه
فقال :أما اإلمجال فيجب على املكلف أن يؤمن باهلل ورسوله ويقر جبميع ما جاء به
الرسول من أمر اإلميان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر وما أمر به الرسول وهنى
حبيث يقر جبميع ما أخرب به وما أمر به فالبد من تصديقه فيما أخرب واالنقياد له فيما أمر
، ... ،وأما الذي جيب عليه علمه فهذا يتنوع فإنه جيب على كل مكلف أن يعلم ما أمر
اهلل فيعلم ما أمر باإلميان به وما أمر بعلمه حبيث لو كان له ما جتب فيه الزكاة لوجب
عليه تعلم علم الزكاة ،ولو كان له ما حيج به لوجب عليه تعلم احلج وكذا أمثال ذلك ،
وجيب على عموم األمة علم ما جاء به الرسول صلى اهلل عليه وسلم حبيث ال يضيع من
العلم الذي بلغه النيب صلى اهلل عليه وسلم أمته شيء وهو ما دل عليه الكتاب والسنة
لكن القدر الزائد على ما حيتاج إليه املعني على الكفاية إذا قامت به طائفة سقط من
الباقني .
وأما العلم املرغب فيه مجلة فهو العلم الذي علمه النيب صلى اهلل عليه وسلم أمته لكي
يرغب كل شخص يف العلم الذي هو إليه أحوج وهو له أنفع وهذا يتنوع ،فرغبة عموم
( )2الوالء والرباء يف اإلسالم من مفاهيم عقيدة السلف :حممد سعيد سامل القحطاين ،الرياض ،دار طيبة 1402 ،
هـ ،ص 76
الناس يف معرفة الواجبات واملستحبات من األعمال والوعد والوعيد أنفع هلم ،وكل
شخص منهم يرغب يف كل ما حيتاج إليه من ذلك ،ومن وقعت يف قلبه شبهة فقد تكون
()1
رغبته يف ما ينافيها أنفع من غري ذلك
وبناء على ما قرره شيخ اإلسالم فال حيق ألي فرد أن يتهاون يف طلب العلم الشرعي
واحلرص عليه وخاصة يف مثل هذه األيام اليت بعد الناس فيها عن العلماء وجمالسهم
وانشغلوا مبلذات احلياة وشهواهتا ،كما أن مناهج ومقررات الرتبية والتعليم ليست كافية
ومؤدية للدور املطلوب منها يف ظل مستجدات احلياة
والباحث ال ينكر الدور الذي تؤديه بعض املؤسسات التعليمية ولكن احلق أنه ما يزال
يعرتيها النقص والقصور ،وليس أدل على ذلك من أن كثريا من مسائل الصالة اليت
يؤديها كل مسلم مخس مرات على األقل كل يوم تغيب عن أذهان خرجيي املدارس
واجلامعات فضال عن غري املتعلمني ،وجتد بعض أصحاب الشهادات العليا ال يعرف
كيف يغتسل من اجلنابة وال يدري أن من اعتنق غري اإلسالم دينا فهو من اخلالدين
املخلدين يف نار جهنم ،وقل مثل ذلك عن اجلهل حبقوق اجلريان واألقارب وأمور البيع
والشراء اليت هتم كل مكلف وال يعذر باجلهل فيه أحد إال بعذر شرعي ،وقد يقول قائل
أن هذه األمور يعذر باجلهل هبا فنرد عليه بأن العلماء قي القدمي واحلديث ناقشوا هذه
املسالة وأوسعوها حبثا ،وألن اجملال ليس مناسبا لسردها فرتاجع يف مظاهنا ،ولكن ال
بأس أن نشري إىل رسالة بعنوان :رفع احلرج يف الشريعة اإلسالمية ،تقدم هبا الشيخ صاحل
بن محيد لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة جبامعة أم القرى ،حيث استعرض فضيلته
ما ذكره العلماء يف حكم اجلهل مبا يعذر فيه وما ال يعذر فيه ،مث استخلص األمور التالية
(:)1
أ ـ اجلهل بأصول الدين أي أمور التوحيد والعقائد ال يعترب عذرا بأي حال كما ال يقبل
االدعاء به
المبحث الثاني
المسئولية والجزاء
أوال :المسئولية
يقصد الباحث باملسئولية :املسئولية الشخصية أي فردية التبعة أو حتمل اجلزاء احلاصل
نتيجة العمل الذي قام به الفرد أو كلف به ،أي إهنا تعين ترتب اجلزاء من اهلل تعاىل على
ما يأيت به املكلف من أعمال أو أقوال أو نيات باختياره سواء ألزم هبا شرعا أو التزم هبا
مبقتضى الشرع ،وهلا أركان ثالثة هي :
األول :السائل وهو اهلل عز وجل املالك القادر على اجلزاء
الثاين :املسئول وهو البالغ العاقل املبلغ على لسان الرسل
الثالث :املسئول عنه وهي التعاليم املبلغة وهي شريعة اهلل اليت ارتضى لعباده (. )1
وتؤكد اآليات القرآنية واألحاديث النبوية على املسئولية الشخصية لألفراد ،يقول
تعاىل { :ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه مث يستغفر اهلل جيد اهلل غفورا رحيما * ومن
يكسب إمثا فإمنا يكسبه على نفسه وكان اهلل عليما حكيما } [ النساء ] 111 ، 110 :
فاآلية األوىل تبني املسئولية الشخصية ملا يفعله املرء يف حق نفسه ،واآلية الثانية تقرر
اجلزاء الفردي الذي يناله من قام بالعمل وال يسأل عنه غريه ،كما قال تعاىل { :قل ال
تسألون عما أجرمنا وال نسأل عما تعملون } { سبأ . ] 25 :
وتتضمن املسئولية أيضا ما يفعله اإلنسان من اخلري واهلدى أو الشر والضالل ،قال
تعاىل { :من اهتدى فإمنا يهتدي لنفسه ومن ضل فإمنا يضل عليها وال تزر وازرة وزر
أخرى } [ اإلسراء ] 15 :يقول سيد قطب – رمحه اهلل – فهي التبعة الفردية اليت تربط
كل إنسان بنفسه إن اهتدى فلها وإن ضل فعليها ،وما من نفس حتمل وزر أخرى ،وما
من أحد خيفف محل أخيه ،إمنا يسأل كل عن عمله وجيزى كل بعمله وال يسأل محيم
()2
محيما
ويعرض لنا القرآن الكرمي صورا شىت لتقرير هذا املبدأ فيذكر لنا موقف امرأة نوح
وكذلك امرأة لوط اللتني مل توافقا زوجيهما النبيني على اإلميان وال صدقامها على الرسالة
فلم جيد ذلك كله شيئا وال دفع عنهما حمذورا أو رد عذابا يف النار ،ويف املقابل تربز لنا
صورة امرأة فرعون املؤمنة اليت ما ضرها كفر زوجها حني أطاعت رهبا وآمنت به
قال تعاىل { :ضرب اهلل مثال للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا حتت عبدين
من عبادنا صاحلني فخانتامها فلم يغنيا عنهما من اهلل شيئا وقيل ادخال النار مع الداخلني ،
وضرب اهلل مثال للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن يل عندك بيتا يف اجلنة وجنين
من فرعون وعمله وجنين من القوم الظاملني }[ التحرمي 10 :ـ]11
ومن خالل هذه احلقيقة يقرر املرء احلياة اليت يريد أن حيياها والطريق الذي سيختاره لنفسه
واملصري الذي سيؤول إليه كل فرد يضع نفسه حيث يريد هو ،يكرمها أو يهينها ،يرفعها
( )1املسئولية وصلتها بالتكاليف الشرعية يف ضوء القرآن الكرمي :عبد الصمد بكر عابد .مكة ،جامعة امللك عبد
العزيز 1398 ،هـ ،ص 78 -71
( )2يف ظالل القرآن :سيد قطب .دار الشروق ،بريوت ،الطبعة التاسعة 1400 ،هـ ( 6أجزاء ) 4/2217 ،
أو يضعها ،قال تعاىل { ملن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ،كل نفس مبا كسبت رهينة
}[ املدثر ] 38 ، 37 :
واخلطاب واضح والبيان ناصع يف احلث على تربية الذات والسمو بالشخصية إىل املراتب
العليا وذلك باالستعداد هلذه املسئولية اليت سيواجهها كل فرد حيث تبدأ مسئولية كل فرد
يف هذه احلياة منذ بلوغه سن التكليف وتنتهي مبفارقته هلا ،ولكل مسئوليته اخلاصة به .
عن ابن عمر ـ رضي اهلل عنهما ـ قال :مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول :
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ،فاإلمام األعظم الذي على الناس راع ومسئول
عن رعيته والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته ،واملرأة راعية على أهل
بيت زوجها وهي مسئولة عنهم ،وعبد الرجل راع على كل مال سيده وهو مسئول عنه
،أال فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته [ البخاري ] 328/ 4 :
كل فرد يف اجملتمع اإلسالمي له رعية يرعاها ،وبغض النظر عن موقعه فيه يف القمة أو يف
القاع ،وسواء كان رجال أو امرأة ،حرا أو عبدا ،مهما اختلفت الظروف واألحوال
فإنه مسئول عن رعيته ،يوضح هذا املعىن حممد بن عبد اهلل دراز فيقول (:)1
واحلق أن هذه الظروف ال تتخلف أبدا فلكل منا بالضرورة بعض العالقات وهو يشغل
مكانا معينا وميارس بعض الوظائف يف جهاز اجملتمع ،فاألب مسئول عن رفاهية أوالده ـ
املادية واألخالقية ـ واملريب مسئول عن الثقافة األخالقية والعقلية للشباب والعامل عن تنفيذ
عمله وكماله ،والقاضي عن توزيع العدالة والشرطي عن األمن العام واجلندي عن حفظ
الوطن ،كذلك حنن ـ فرادى ـ مسئولون عن طهارة قلوبنا واستقامة أفكارنا ،كما أننا
مسئولون عن محاية صحتنا وحياتنا ،حىت أننا نستطيع أن جند يف كل حلظة من حلظات
احلياة اإلنسانية بعض املسئوليات وهي ليست افرتاضية فحسب بل حاضرة وواقعية مىت
حتققت هلا الشروط العامة ،مث إن اختالف املواقف ال يتدخل إال من أجل ختصيص
وحتديد موضوع هذه املسئولية
وإمنا يزيد هذه املسئولية خطورة وأمهية قوله صلى اهلل عليه وسلم :ما من عبد يسرتعيه
اهلل رعية ميوت يوم ميوت وهو غاش لرعيته إال حرم اهلل عليه اجلنة [ مسلم ] 1/125 :
( )1دستور األخالق يف القرآن :حممد عبد اهلل دراز ،تعريب وحتقيق /عبد الصبور شاهني ،بريوت مؤسسة
الرسالة ،الكويت ،دار البحوث العاملية ،الطبعة الرابعة 1402 ،هـ ،ص 139
ويف رواية :ما من عبد يسرتعيه اهلل رعية فلم حيطها بنصحه مل جيد رائحة اجلنة [البخاري
] 331/ 4 :
ويف رواية ملسلم :ما من أمري يلي أمور املسلمني مث ال جيتهد هلم وينصح هلم إال مل يدخل
معهم اجلنة [ أبو داود ] 356 / 3 :
وقال أيضا عليه السالم :من واله اهلل عز وجل شيئا من أمر املسلمني فاحتجب دون
حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب اهلل عنه دون حاجته وخلته وفقره [ أبو داود / 3:
] 356
أال فليتفكر يف هذه النصوص كل املربني والعلماء واحلكام وغريهم من الرعاة فإن التبعة
كبرية واحلساب عسري .صحيح أن اجلزاء يوم القيامة ولكن ال يغيب عن البال أن
املسئولية تبدأ من احلياة الدنيا دار العمل والكسب ،فهل أدى كل فرد ما يرتتب عليه من
واجبات جتاه األمانة اليت كلف هبا ،إن إجابة أي فرد لنفسه عن هذا السؤال تتطلب
التجرد والنزاهة ،فال داعي جللب األعذار وتربير األخطاء أو انتحال املغالطات النفسية
واحليل الالشعورية ،فاليوم دار عمل وال حساب وغدا دار حساب وال عمل
إن شعور الفرد هبذه املسئولية يدفعه للعمل بدون توان وال ملل ويراعى يف هذه املسئولية
هل حفظ األمانة كما ينبغي أم ضيع وفرط ،وإن أوىل الناس باحملاسبة واملراقبة نفسه اليت
بني جنبيه فرياجعها الفينة بعد األخرى ويسائلها قبل أن تسأل
كما أن مسئولية الفرد عمن يعول يشعره بالتبعة الشاقة فيتعاهدها بالرعاية والعناية ويراقب
اهلل يف هذه األمانة عمال بقوله تعاىل { :يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا
وقودها الناس واحلجارة عليها مالئكة غالظ شداد }[ التحرمي ] 6:
ثانيا :الجزاء
وبنهاية هذه احلياة الدنيا تأيت فرتة الربزخ وهي الفرتة اليت يقضيها اإلنسان بعد مماته يف
القرب وقبل يوم احلشر ،قال تعاىل { :كل نفس ذائقة املوت وإمنا توفون أجوركم يوم
القيامة } [ آل عمران ] 185 :
وقال أيضا { :أينما تكونوا يدرككم املوت ولو كنتم يف بروج مشيدة } [ النساء 78 :
]
يعتقد املسلم اعتقادا جازما أن املوت باب وكل الناس داخله ،والربزخ دار كل الناس
سيزورها وسيقضي فيها فرتة اهلل أعلم هبا ،مث يكون احملشر للسؤال عن األعمال وللفصل
بني العباد .ويف الربزخ حييا الفرد حياة اهلل أعلم هبا ،ال أب وال أم وال أصحاب وال
أتباع وال خدم وال حشم ،تكون مساءلة ويكون حساب .
قال تعاىل { :يثبت اهلل الذين آمنوا بالقول الثابت يف احلياة الدنيا ويف اآلخرة ويضل
اهلل الظاملني ويفعل اهلل ما يشاء } [ إبراهيم . ] 27 :
روى أبو جعفر النحاس – رمحه اهلل – يف معىن هذه اآلية فقال :قال الرباء بن عازب
()1
وأبو هريرة :هذا عند املساءلة إذا صار يف القرب
وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا فرغ من دفن امليت وقف عليه وقال :استغفروا
ألخيكم وسلوا له التثبيت فإنه اآلن يسأل [ .أبو داود ] 3/550 :
وعن الرباء – رضي اهلل عنه – أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :املسلم إذا
سئل يف القرب يشهد أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل فذلك قوله :يثبت اهلل الذين
آمنوا بالقول الثابت يف احلياة الدنيا ويف اآلخرة [ .البخاري . ] 3/247 :
كما روى أنس بن مالك – رضي اهلل عنه – قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :إن العبد إذا وضع يف قربه وتوىل عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعاهلم ،أتاه ملكان
فيقعدانه فيقوالن له :ما كنت تقول يف هذا الرجل حممد صلى اهلل عليه وسلم ؟ فأما
املؤمن فيقول :أشهد أنه عبد اهلل ورسوله ،فيقال له :انظر إىل مقعدك من النار قد
أبدلك اهلل تعاىل به مقعدا من اجلنة فريامها مجيعا .وأما املنافق والكافر فيقال له :ما كنت
تقول يف هذا الرجل ؟ فيقول :ال أدري كنت أقول ما يقول الناس ،فيقال له :ال دريت
وال تليت ،ويضرب مبطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غري الثقلني
[ .البخاري . ] 1/422 :
إن املسئولية يف الربزخ أمر الزم وال مفر منها ألحد ،وحمصلة هذه املسئولية إما روضة
من رياض اجلنة أو حفرة من حفر النار .يقول القرطيب ( : )1اإلميان بعذاب القرب وفتنته
( )1معاين القرآن الكرمي :أبو جعفر النحاس .مكة ،جامعة أم القرى 1409 ،هـ ( 6أجزاء ) 2/530
( )1التذكرة يف أحوال املوتى وأمور اآلخرة :حممد أمحد األنصاري القرطيب .القاهرة ،دار الريان للرتاث ،الطبعة
الثانية 1407 ،هـ ،ص 137
واجب ،والتصديق به الزم حسب ما أخرب به الصادق ،وأن اهلل تعاىل حييي العبد املكلف
يف قربه برد احلياة إليه وجيعله من العقل يف مثل الوصف الذي عاش عليه ليعقل ما يسأل
عنه ما جييب به ويفهم ما أتاه من ربه وما أعد له يف قربه من كرامة أو هوان .وهبذا
نطقت األخبار عن النيب املختار صلى اهلل عليه وسلم وعلى آله آناء الليل وأطراف النهار ،
وهذا مذهب أهل السنة والذي عليه اجلماعة من أهل امللة .
وينبغي اإلكثار من ذكر هاذم اللذات ومفرق اجلماعات لقول النيب صلى اهلل عليه
وسلم :أكثروا من ذكر هادم اللذات [ .الرتمذي . ] 4/479 :
إن من يتذكر ذلك البيت املظلم بيت الوحشة والدود لن تصرفه هذه الدنيا مبلذاهتا عن
العمل واالستعداد للسؤال يف ذلك املكان املقفر ،وسوف يراقب نفسه يف كل حني ،
ورحم اهلل عمر بن عبد العزيز الذي كان يتمثل بأبيات البن عبد األعلى حيث ينشد قائال
(: )2
أو الغبار خياف الشني والشعثا من كان حني تصيب الشمس جبهته
فسوف يسكن يوما راغما جدثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته
يطيل حتت الثرى يف قعرها اللبثا يف قعر مظلمة غرباء مقفرة
قبل الردى مل ختلقي عبثا جتهزي جبهاز تبلغني به يا نفس
قبل اللزوم فال منجا وال غوثا وسابقي بغتة اآلجال وانكمشي
إن الردى وارث الباقى وما ورثا ال تكدي ملن يبقى وتفتقري
كما أن تذكر هذا املصري احملتوم يولد القشعريرة يف القلب وميلؤه باخلشية واإلنابة
وبالتفكر الصادق تسقط العربات من املدامع وحيس اإلنسان بالتفريط ويعرتف بالتقصري
فيندم على ما مضى وينيب إىل ربه ويسارع إىل تدارك ذاته فريبيها ويقومها على اجلادة
قبل أن يعض أصابع الندم والت حني مندم .ومن وضع يف خميلته ظلمة القرب ووحشته
سيتذكرها تلقائيا كلما وجد نفسه يف غرفة مظلمة أو صحراء موحشة أو ما أشبه ذلك ،
وذلك مما حيثه على التجهز واالستعداد قبل فوات األوان .
سرية عمر بن عبد العزيز :ابن اجلوزي .د.ت ،ص 195 ()2
وحني ينفخ يف الصور ويبعث من يف القبور حيشر كل إنسان إىل ربه حيث يالقي
جزاء ما قدم يف حياته الدنيا .
قال تعاىل { :يوم تأيت كل نفس جتادل عن نفسها وتوىف كل نفس ما عملت وهم ال
يظلمون } [ النحل . ] 111 :ويقول { :هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إىل
اهلل موالهم احلق وضل عنهم ما كانوا يفرتون } [ يونس . ] 30 :
ومعىن هذه اآلية :أي يف موقف احلساب يوم القيامة ختترب كل نفس وتعلم ما سلف
()1
من عملها من خري وشر
عندما حيشر الناس يوم القيامة يكون كل فرد مسئوال عن نفسه ولن يهتم أو يلتفت
إىل أقرب أقربائه وذلك ألن املوقف عصيب واحلساب شديد ،ويف ذلك املوقف تنشر
الصحف ويطلع كل امرئ على صحيفته فريى ما قدم من أعمال ويعرض على الرب عز
وجل بدون واسطة أو شفيع .
قال تعاىل { :وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } [ مرمي ] 95 :
وعن عدي بن حامت – رضي اهلل عنه – أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال :ما منكم
من أحد إال سيكلمه اهلل يوم القيامة ليس بينه وبينه ترمجان مث ينظر فال يرى شيئا قدامه ،
مث ينظر بني يديه فتستقبله النار ،فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق مترة .
[ البخاري . ] 4/198 :
إن اإلنسان قد يشعر بالرهبة إذا التقى بعظيم من عظماء الدنيا أو مبلك من ملوكها ،
فكيف اللقيا برب األرباب وملك امللوك عظيم السماوات واألرض ،وكيف السؤال
وكيف اجلواب .فتوهم نفسك يا عبد اهلل بعد تطاير الكتب ونصب املوازين للحساب
وقد نوديت للمساءلة واحلساب .
يقول الشاعر :
ملا قرأت ومل تنكر قراءته مثل وقوفك يوم العرض عريانا
نادى اجلليل خذوه يا مالئكيت والنار تلهب من غيض ومن حنق
املشركون غدا يف النار يلتهبوا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل
خمتار الصحاح :حممد بن أيب بكر الرازي 1408 .هـ ،ص 130 ()1
( )1أصول علم النفس العام :عبد احلميد حممد اهلامشي ،جدة ،دار الشروق 1404 ،هـ ،ص 89
المبحث األول
العبادات اإلسالمية
أوال :الشعائر التعبدية
يقول تعاىل { :يا أيها الذين آمنوا استجيبوا هلل وللرسول إذا دعاكم ملا حيييكم
} [ األنفال ] 24 :إنه ما من شيء يدعو إليه اهلل ورسوله إال وفيه حياة
القلوب وتزكية النفوس وزيادة اإلميان ،ويف الشعائر التعبدية إحكام للصلة بني
العبد وربه وترسيخ لإلميان يف نفسه ،وأهم ما يتقرب به العبد إىل اهلل عز وجل
ويزيد من إميانه ويرفع درجته هو أداء الفرائض اليت افرتضها سبحانه وتعاىل
وهي قدر مشرتك بني العباد ـ فيما يتعلق بالكم ال بالكيف ـ مث يتفاوتون فيما عدا
ذلك من نوافل العبادات كما بني ذلك يف مبادئ الرتبية الذاتية فيما يتعلق حبرية
العبادة ،قال صلى اهلل عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل :إن اهلل قال :
من عادى يل وليا فقد آذنته باحلرب وما تقرب إيل عبدي بشيء أحب إيل مما
افرتضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إيل بالنوافل حىت أحبه فإذا أحببته كنت
مسعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده اليت يبطش هبا ورجله اليت ميشي
هبا وإن سألين ألعطينه ولئن استعاذين ألعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله
ترددي عن نفس املؤمن يكره املوت وأنا أكره مساءته [ ،البخاري ]4/192 :
،ففي احلديث داللة على أن أحب األعمال إىل اهلل هو أداء الفرائض وهي على
نوعني :
أ ـ ظاهرة :وهي اليت تؤدى باجلوارح
ب ـ باطنة :وهي أعمال القلوب
فالظاهرة :عمال كالصالة والزكاة وغريها من األفعال ،وتركا مثل :الربا
والقتل وغريها من احملرمات
والفرائض الباطنة :
هي كالعلم باهلل واحلب له والتوكل عليه واخلوف منه ،كذلك الوالء للمسلمني
()1
والرباء من املشركني ،وكل ذلك ينقسم إىل أفعال وتروك
فأول ما يتشبث به الفرد يف سريه إىل ربه وتربية ذاته هو احملافظة على هذه
الفرائض وعدم التهاون هبا بأي حال من األحوال ،ويأيت بعد ذلك باب النوافل
وهي ما زاد على الفرائض من صالة وصيام وصدقة وغريها ،وهذا الباب متيسر
لكل فرد أن يلجه وأن يكثر من أداء النوافل طمعا يف نيل رضا اخلالق الذي هو
غاية كل خملوق واهلدف من تربية النفس ،إذا نال العبد حمبة اهلل ورضاه وفقه اهلل
لكل خري وعصمه من كثري من الشرور
يقول اإلمام اخلطايب ـ رمحه اهلل ـ شارحا للحديث السابق :قوله فكنت مسعه
الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده اليت يبطش هبا ،هذه أمثال ضرهبا
واملعىن ـ واهلل أعلم ـ توفيق لألعمال اليت يباشرها هبذه األعضاء وتيسري احملبة له
فيها فيحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن موافقة ما يكره اهلل من إصغاء إىل اللهو
بسمعه ونظر إىل ما هنى عنه ببصره وبطش إىل ما ال حيل له بيده وسعي يف
الباطل برجله ،وقد يكون معناه سرعة إجابة الدعاء واإلجناح يف الطلبة وذلك
()2
أن مساعي اإلنسان إمنا تكون هبذه اجلوارح األربع
لقد جاء الدين اإلسالمي بعبادات شىت متأل حياة املسلم يف كل الظروف
واألحوال وبالليل والنهار ،فهناك العديد من السنن القولية والعملية واليت يعترب
أداؤها من األساليب املهمة لرتبية النفس ،ومن هذه العبادات قيام الليل وصيام
التطوع والصدقة وقراءة القرآن واألذكار املتنوعة ،وال شك يف أن اإلتيان هبذه
العبادات تقوية للصلة اليت تربط بني العبد وربه وتوثيقا لعرى اإلميان يف قلبه
( )1دعوة الفطرة :د .يوسف أبو هاللة ،دار العاصمة ،الرياض ،ص 122
( )2ديوان أيب متام بشرح اخلطيب التربيزي :حتقيق حممد عبده عزام ،مصر ،دار املعارف ،الطبعة الثالثة 4 ،أجزاء
2/23
( )3منهج القرآن يف الرتبية :حممد أمحد شديد 1402 ،هـ ،ص 179
والعبادات اليت يستطيع أن يباشرها بنفسه لتحقيق غاية وجوده وتربية ذاته كثرية
جدا منها :قيام الليل وقراءة القرآن والدعاء وصلة األرحام وصدقة السر واملتابعة
بني احلج والعمرة وصيام األيام املرغب فيها كاالثنني واخلميس وثالثة أيام من
كل شهر ،وكذلك مالزمة األوراد وطلب العلم وغريها ،وألن جمال البحث ال
يتسع لذكر كل منها على حدة فسنكتفي ببعضها
_1قراءة القرآن :
القرآن الكرمي هو كالم رب العاملني نزل به الروح األمني على سيد املرسلني
ليكون منهجا للعاملني ،وأن يف قراءته وتدبره تربية للنفس وأي تربية ،وفيه حياة
للروح ،وأي حياة ،قال تعاىل { :إن هو إال ذكر للعاملني ،ملن شاء منكم أن
يستقيم } [ التكوير ، ] 28 ، 27:وقال أيضا { :ذلك الكتاب ال ريب فيه
هدى للمتقني } [ البقرة ، ] 1:وعن جابر بن عبد اهلل ـ رضي اهلل عنه ـ قال :
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من
جعله أمامه قاده إىل اجلنة ومن جعله خلفه قاده إىل النار [ رواه ابن حبان يف
صحيحه والبيهقي يف الشعب والطرباين يف الكبري وابن سعد ،نقال عن األلباين يف
سلسلة األحاديث الصحيحة برقم 2019
ومن القرآن يأخذ املؤمن التصورات واألفكار واملبادئ الصحيحة عن نفسه وعن
الكون وعن احلياة وعن اآلخرة فيحيا كما يريد خالقه ،ومن القرآن يقتبس
الطرق الناجحة لرتبية النفس وإحياء الضمري
وإن من يريد أن يريب نفسه حري به أن يتعهدها بكتاب اهلل تالوة وتدبرا وفهما
وحفظا ،مبتعدا بذلك عن منهج أهل الزيغ والعصيان الذين هجروا كالم الرمحن
،ومن عاش يف رحاب القرآن أصبح مبثابة قرآن يتحرك على األرض ،ففيه
منهج حياة لكل فرد يف كل زمان ومكان
وما احلرية والضياع اليت يعيش فيها كثري من أفراد املسلمني إال ألهنم ابتعدوا عن
هذا النبع األصيل ،ولذلك ال يستغرب أن ترى بعض املنتسبني لإلسالم مير
عليهم الشهر والشهران والثالثة ،بل السنة بأكملها ومل يقرأ جزءا أو سورة من
سور املصحف الشريف ومل يتدبر معناها ومل يعمل مبقتضاها ،ال غرو أن أمثال
هذا ممن يثقل كاهل األمة ويكون عبئا عليها ،بينما جند أن أهل القرآن العاملني
به على العكس من ذلك فهم أهل اهلل وخاصته وهبم تقاس حضارة األمة ،ولذا
امتدحهم الرب سبحانه وتعاىل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ترغيبا لكل فرد أن
حيذو حذوهم قال اهلل عز وجل { :إن الذين يتلون كتاب اهلل وأقاموا الصالة
وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعالنية يرجون جتارة لن تبور ،ليوفيهم أجورهم
ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } [ فاطر ] 30 ، 29 :وعن عثمان بن
عفان ـ رضي اهلل عنه ـ قال :قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم :خريكم من تعلم
القرآن وعلمه [ البخاري ]3/346 :
وعن عائشة ـ رضي اهلل عنها ـ قالت :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :مثل
الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام الربرة ومثل الذي يقرأ القرآن
وهو يتعاهده وهو عليه شديد له أجران [ البخاري ، ]3/39:وعن أيب أمامة
الباهلي ـ رضي اهلل عنه ـ قال :مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول :
اقرؤوا القرآن فإنه يأيت يوم القيامة شفيعا ألصحابه [...مسلم ، ]1/533:
وعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص ـ رضي اهلل عنهما ـ عن النيب صلى اهلل عليه
وسلم قال :يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل يف الدنيا فإن
منزلتك عند آخر آية تقرؤها [ الرتمذي 5/163 :وقال حسن صحيح ]
إن هذه اخلريية اليت يناهلا املتصل بكتاب اهلل والرفعة اليت حيظى هبا يف الدنيا
واآلخرة ،هي من بركات التوفيق لرتبية الذات وتزكيتها
ومن شرع يف القرآن فليكن شأنه اخلشوع والتدبر والبكاء فبذلك تنشرح
الصدور وتستنري القلوب وتسمو األرواح ،ولكي حيظى قارئ القرآن بالتسديد
والتوفيق والقبول ينبغي أن يتحلى بآدابه فال يهذه كهذ الشعر وال يسرح خبياله
أثناء قراءته وال يكن مهه آلخر السورة ،وإمنا يقف متدبرا ملعانيه متفكرا يف
وعده ووعيده عامال بأوامره منتهيا عن نواهيه ،وهذا ال يتناىف مع الندب إىل
اإلكثار من تالوة القرآن واحملافظة على ذلك
وحلرص السلف رضوان اهلل عليهم على تربية ذواهتم بقراءة القرآن وتدبره ،فقد
كانت هلم عادات خمتلفة يف قدر ما خيتمون به ،فروي أهنم كانوا خيتمون يف كل
شهرين ختمة واحدة ،وروي عن بعضهم يف كل شهر ختمة ،وعن بعضهم يف
كل عشر ليال ختمة ،أو يف كل مثان ليال ،ومنهم من زاد على ذلك أو
()1
أنقص
كما استحب العلماء أن خيتم القارئ يف السنة مرتني على األقل وذلك قياسا
على أن النيب صلى اهلل عليه وسلم عرض القرآن مرتني على جربيل عليه السالم
()2
يف السنة اليت قبض فيها
ولكن األوىل من هذا أن يقال أن مقدار القراءة يعتمد على حال كل شخص
بذاته ،يقول اإلمام النووي ـ رمحه اهلل ـ :املختار أن ذلك خيتلف باختالف
األشخاص ،فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر
حيصل له معه كمال فهم ما يقرأ وكذلك من كان مشغوال بنشر العلم أو فصل
احلكومات أو غري ذلك من مهمات الدين واملصاحل العامة فليقتصر على قدر ال
( )1التبيان يف آداب محلة القرآن :النووي ،مكتبة دار البيان ،دمشق 1405 ،هـ ،ص 46
( )2اإلتقان يف علوم القرآن :جالل الدين عبد الرمحن السيوطي ،بريوت ،دار املعرفة ،الطبعة الرابعة 1398 ،هـ ،
جزءان ،ص 138
حيصل بسببه إخالل مبا هو مرصد له وال فوات كماله ،وإن مل يكن من هؤالء
()1
املذكورين فليكثر ما أمكنه من غري خروج إىل حد امللل أو اهلذرمة يف القراءة
والقصد من إيراد من قول النووي بيان أن تربية النفس بقراءة القرآن ال تكون
بكثرة القراءة فقط ولكن قد حتصل الرتبية الذاتية بقراءة آيات قليلة مع تدبر
معانيها واستخراج كنوزها ،وميكن للقارئ أن حيرز ذلك بسؤال أهل العلم أو
بالرجوع إىل التفاسري املعتمدة لدى أهل السنة واجلماعة
2ـ ذكر اهلل تعالى :
بني العلماء أن للذكر نوعني مها :
األول :ذكر أمساء الرب وصفاته والثناء عليه هبما وتنزيهه وتقديسه عما ال يليق
به تبارك وتعاىل ،وهذا النوع ينقسم إىل قسمني :
أ ـ إنشاء الثناء عن الذاكر مثل قول سبحان اهلل واحلمد هلل واهلل أكرب وال إله إال
اهلل وال حول وال قوة إال باهلل
ب ـ الثناء على اهلل مبا أثىن به على نفسه ومبا أثىن به عليه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم من غري حتريف وال تعطيل وال تشبيه وال متثيل ،مثل اخلرب عن مسع
اهلل وبصره وعلمه عز وجل مبا ثبت يف الكتاب والسنة
الثاين :ذكر أمره وهنيه وأحكامه وله قسمان أيضا :
أ ـ اإلخبار بأنه أمر بكذا وهنى عن كذا وبأنه أحب كذا أو كره كذا
[ ابن القيم : ب ـ ذكر اهلل عند أمره فيبادر إليه وعند هنيه فيهرب منه
178 ، 1406ـ ] 181
فيشمل ذكر اهلل ترديد كل ما ثبت من األدعية واألذكار ويشمل حضور جمالس
الذكر يف املساجد والبيوت وغريها من األماكن ،ويشمل أيضا بيان حكم اهلل
عز وجل فيما يواجه الناس من أقضية وأحكام ،هذا باإلضافة إىل املبادرة إىل
( )1الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب :ابن قيم اجلوزية ،حتقيق وختريج /بشري عيون دمشق دار البيان 1406 ،
هـ ،ص 85ـ96
ومن األقوال العظيمة يف هذا الباب قول أحدهم :لو علم امللوك وأبناء امللوك ما
حنن فيه جلالدونا عليه بالسيوف ،وقال آخر :مساكني أهل الدنيا خرجوا منها
()2
وما ذاقوا أطيب ما فيها ،حمبة اهلل تعاىل ومعرفته وذكره
()3
وشكا رجل للحسن البصري قسوة قلبه فقال أدبه بالذكر
وخنتم مبا قاله ابن القيم عن أثر الذكر يف الرتبية الذاتية ،قال رمحه اهلل :وال ريب
أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغريمها وجالؤه بالذكر فإنه جيلوه
حىت يدعه كاملرآة البيضاء فإذا ترك الذكر صدئ فإذا ذكره جاله ،وصدأ القلب
()4
بأمرين :بالغفلة والذنب وجالؤه بشيئني :باالستغفار والذكر
ويف ذكر اهلل جبميع أنواعه تكثري للحسنات ورفع للدرجات ،وهذا ما يسعى إليه
العبد من تربية ذاته
3ـ قيام الليل :
يقول تعاىل { :وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة ملن أراد أن يذكر أو أراد
شكورا } [ الفرقان ] 62 :
ففي تعاقب الليل والنهار حكمة عظيمة ويف كل منهما عمل ال يصلح يف الوقت
اآلخر أو على األقل ال ينضبط متاما ،مثال النوم يف الليل ليس كالنوم يف النهار ،
وطلب املعاش يف وقت النهار ليس كطلبه يف العتمة ،قال تعاىل { :وجعلنا
الليل لباسا ،وجعلنا النهار معاشا } [ النبأ ] 11 ، 10 :كما أن أي خلل
يطرأ على دورة الضياء ودورة الظالم ..على دورة الليل والنهار سيؤثر على ما
يسمى بالساعة الداخلية يف اإلنسان اليت تسيطر على دورته اليومية ،تلك الساعة
( )1النوم ...أسراره وخفاياه :أنور محدي ،بريوت املكتب اإلسالمي 1406 ،هـ ،ص 56
( )2تفسري القرآن العظيم :مرجع سابق 4/345 ،
عن أيب هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ قال :قلت :يا رسول اهلل أخربين بشيء إذا
عملت به دخلت اجلنة ،قال :أفش السالم وأطعم الطعام وصل األرحام وقم
بالليل والناس نيام وادخل اجلنة بسالم
[ أمحد 2/295 :وصححه األلباين برقم 1096يف صحيح اجلامع ]
وعن أيب مالك األشعري ـ رضي اهلل عنه ـ عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال :إن
يف اجلنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها اهلل تعاىل ملن
أطعم الطعام وأالن الكالم وتابع الصيام وصل بالليل والناس نيام
[ أمحد 5/343 :وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ] 2119
وأورد املروزي بسنده عن بالل ـ رضي اهلل عنه ـ قال :قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصاحلني قبلكم وإن قيام الليل قربة
()1
إىل اهلل وتكفري للسيئات ومنهاة عن اإلمث ومطردة للداء عن اجلسد
[ رواه أمحد وصححه األلباين يف صحيح اجلامع برقم ] 3958
وعن أيب هريرة ـ رضي اهلل عنه ـ عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال :
أفضل الصالة بعد الصالة املكتوبة الصالة يف جوف الليل وأفضل الصيام بعد
شهر رمضان صيام شهر احملرم [ مسلم ]2/821 :
وقد شهد عليه الصالة والسالم ملن يقوم الليل بسالمته من اإلمث والفجور فقال :
جعل اهلل عليكم صالة قوم أبرار يقومون الليل ويصومون النهار ليسوا بأمثة وال
فجار [ ،رواه عبد بن محيد ،نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم ]3092
ومن ابتغى الشرف والرفعة فليداوم على صالة الليل لقوله عليه السالم :شرف
املؤمن صالته بالليل وعزه استغناؤه عما يف أيدي الناس
[ رواه اخلطيب والعقيلي ،نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم
]3604
( )1معاتبة النفس :احلارث بن أسيد احملاسيب ،حتقيق /حممد عبد القادر عطا ،القاهرة ،دار االعتصام 1406 ،هـ
،ص 20
()2
وقيل هي :التمييز بني ما للمرء وما عليه فيستصحب ما له ويؤدي ما عليه
أهميتها :
إن هذا األسلوب ـ أي أسلوب احملاسبة ـ مهم جدا ومع ذلك مل يفطن إليه إال من
وفقه اهلل ،واهلل سبحانه وتعاىل ينادي عباده املؤمنني مطالبا إياهم بذلك فيقول :
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا اهلل إن اهلل خبري
مبا تعلمون } [ احلشر ] 18 :
واملعىن أن ينظر كل امرئ وليتفكر فيما يقوم به من أعمال :أهي من الصاحلات
املنجيات أم من السيئات املوبقات وذلك استعدادا ليوم احلساب واجملازاة ،وإذا
استطاع اإلنسان أن حياسب نفسه ويراقبها يف تصرفاهتا وحركاهتا وسكناهتا فإن
هذه مظنة االستقامة والسري على الصراط املستقيم ومن مث الفوز جبنات النعيم ،
وهذه األمنية هي غاية ما يتمىن املسلم من تربية ذاته
قال تعاىل { :إن الذين قالوا ربنا اهلل مث استقاموا تتنزل عليهم املالئكة أال ختافوا
وال حتزنوا وأبشروا باجلنة اليت كنتم توعدون ،حنن أولياؤكم يف احلياة الدنيا ويف
اآلخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون } [ فصلت -30 :
]32
وتعد منزلة احملاسبة من أفضل املراتب ألهنا حتتاج إىل مراقبة دائمة وجماهدة
مستمرة للنفس اإلنسانية ،قال تعاىل { :والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا
وإن اهلل ملع احملسنني } [ العنكبوت ] 69 :وعن فضالة بن عبيد قال :مسعت
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول :اجملاهد من جاهد نفسه يف سبيل اهلل عز
وجل
[ أمحد ،6/22 :وجود األلباين إسناده يف الصحيحة برقم ]1496
( )2مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني :ابن قيم اجلوزية ،حتقيق /حممد حامد الفقي ،بريوت ،
دار الكتاب العريب 1392 ،هـ 3 ،أجزاء 1/169 ،
ومن فوائد هذا األسلوب أيضا أنه يريب الضمري يف داخل النفس وينمي يف الذات
الشعور باملسئولية ووزن األعمال والتصرفات مبيزان دقيق هو ميزان الشرع
نماذج قولية وعملية :
عرف سلفنا الصاحل أمهية هذه املنزلة فحققوها يف أنفسهم وحثوا غريهم عليها مما
حدا هبم أن يؤلفوا الرسائل والتصنيفات املستقلة إليراد النماذج القولية والعملية
عنها ،وقد ورد عن سلفنا الصاحل مواقف شىت يف تطبيق أسلوب احملاسبة ،فهذا
عمر بن اخلطاب ـ رضي اهلل عنه ـ يقول مبينا أمهية هذا األسلوب :حاسبوا
غدا
أنفسكم قبل أن حتاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون يف احلساب ً
أن حتاسبوا أنفسكم اليوم ،وتزينوا للعرض األكرب ،يومئذ تعرضون ال ختفى
()1
منكم خافية
وإذا أتينا إىل التطبيق العملي جند هذا اخلليفة العادل يقيم احلجة يف حماسبة النفس
على كل الرعاة والدعاة واملربني وغريهم ،عن أنس بن مالك ـ رضي اهلل عنه ـ
قال :مسعت عمر بن اخلطاب ـ رضي اهلل عنه ـ يوما وخرجت معه حىت دخل
حائطا فسمعته يقول وبيين وبينه جدار وهو يف جوف احلائط :عمر أمري املؤمنني
()2
بخ بخ واهلل بين اخلطاب لتتقني اهلل أو ليعذبنك
ويعترب ميمون بن مهران احملاسبة ميزانا للتقوى فيقول :ال يكون الرجل تقيا حىت
()3
يكون لنفسه أشد حماسبة من الشريك لشريكه
وعن أمهية ختصيص وقت احملاسبة وأثرها يف حياة الفرد يقول وهب بن منبه :
مكتوب يف حكمة آل داود :حق على العاقل أال يغفل عن أربع ساعات :ساعة
يناجي فيها ربه ،وساعة حياسب فيها نفسه ،وساعة خيلو فيها مع إخوانه الذين
( )1الزهد :أمحد بن حنبل ،القاهرة ،دار الريان للرتاث 1408 ،هـ ،ص 149
( )2الزهد :مرجع سابق :ص 149
( )3حماسبة النفس :عبد اهلل بن حممد بن أيب الدنيا ،حتقيق /جمدي السيد إبراهيم ،القاهرة ،مكتبة القرآن ،
1407هـ ،ص 33
خيربونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه ،وساعة خيلو فيها بني نفسه وبني لذاهتا فيما
()4
حيل وحيمد ،فإن هذه الساعة عونا على تلك الساعات وإمجاما للقلوب
ومن حاسب نفسه يف الدنيا هان احلساب عليه يف اآلخرة كما يقول احلسن :
أيسر الناس حسابا يوم القيامة الذين حياسبون أنفسهم يف الدنيا فوقفوا عند
مهومهم وأعماهلم ،فإن كان الذي مهوا به هلم مضوا ،وإن كان الذي مهوا به
عليهم أمسكوا ..وإمنا يثقل األمر يوم القيامة على الذين جازفوا األمور يف الدنيا
()1
أخذوها من غري حماسبة فوجدوا اهلل عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر
ويصف اإلمام الغزايل أرباب القلوب املنيبة وذوي الضمائر احلية الذين اختذوا هذا
األسلوب هنجا يف حياهتم :فعرف أرباب البصائر من مجلة العباد أن اهلل تعاىل هلم
باملرصاد ،وأهنم سيناقشون يف احلساب ويطالبون مبثاقيل الذر من اخلطرات
واللحظات وحتققوا أنه ال ينجيهم من هذه األخطار إال لزوم احملاسبة وصدق
املراقبة ومطالبة النفس يف األنفاس واحلركات وحماسبتها يف اخلطرات واللحظات
،فمن حاسب نفسه قبل أن حياسب خف يف القيامة حسابه وحضر عند السؤال
جوابه وحسن منقلبه ومآبه ،ومن مل حياسب نفسه دامت حسراته وطالت يف
()2
عرصات القيامة وقفاته وقادته إىل اخلزي واملقت سيئاته
وفيما يلي نورد مزيدا من النماذج العملية يف احملاسبة الذاتية :
ـ أورد ابن أيب الدنيا بسنده قال :كان توبة بن الصمة بالرقة وكان حماسبا لنفسه
فإذا هو ابن ستني فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألفا يوم ومخسمائة يوم
فصرخ وقال :يا ويلىت ألقى املليك بأحد وعشرين ألف ذنب ،كيف ويف كل
()3
يوم عشرة آالف ذنب ؟ مث خر مغشيا عليه
( )3حماسبة النفس :احلافظ ابن أيب الدنيا ،حتقيق جمدي السيد إبراهيم ،مكتبة الساعي ،القاهرة 1407 ،هـ ،ص
67
ومما يعني اإلنسان على معرفة عيوب نفسه ويساعده على متييز النعمة من الفتنة
ما أشار إليه الغزايل حيث أورد أربعة طرق ملعرفة عيوب النفس هي(: )2
ـ أن جيلس بني يدي شيخ بصري بعيوب النفس وحيكمه يف نفسه ويتبع إشارته يف
جماهدهتا
ـ أن يطلب صديقا صدوقا بصريا متدينا رقيبا على نفسه ليالحظ أحواله وأفعاله
ـ أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة خصومه وأعدائه فإن عني السخط
تبدي لك املساوئ
ـ أن خيالط الناس ـ وخاصة أهل الصالح منهم ـ فكل ما رآه مذموما فيما بني
اخللق فليطالب نفسه وينسبها إليه وليتفقد نفسه ويطهرها
ويلخص الباحث فيما يلي اآلثار الرتبوية ألسلوب احملاسبة :
فتح املبني لشرح األربعني :أمحد بن حجر اهليثمي .بريوت ،دار الكتب العلمية 1398 ،هـ ص . 164 ()1
وقال طلق بن حبيب :التقوى أن تعمل بطاعة اهلل على نور من اهلل ترجو
ثواب اهلل ،وأن ترتك معصية اهلل على نور من اهلل ختشى عقاب اهلل .
وقال ابن املعتز ناظما (: )2
خل الذنوب صغريها وكبريها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك حيذر ما يرى
ال حتقرن صغرية إن اجلبال من احلصى
فحقيقة التقوى إذن أهنا كلمة جامعة لفعل الطاعات وترك املعاصي الكبري
منها والصغري واجلليل واحلقري .
وهي يف مجلتها تكتنف النفس املؤمنة من الداخل حبيث ينبع اخلري منها دون
ضغوط خارجية ،وتنفر من الشر بال قسر أو إكراه .
( )1صفوة اآلثار واملفاهيم من تفسري القرآن العظيم :عبد الرمحن بن حممد الدوسري .مكتبة دار األرقم ،الكويت
1406 ،هـ 2/5 ،
( )2الوايف يف شرح األربعني النووية :مصطفى البغا وحميي الدين مستو .دمشق ،دار اإلمام البخاري للنشر
والتوزيع 1400 ،هـ ،ص . 34
فرتك الشبهات منزلة عظيمة ال يبلغها إال املتقون وال تأيت إال مبجاهدة النفس
ومغالبتها حتقيقا ألوامر الشرع .
يقول حممد املصري :وهكذا يظل املؤمن يف عالج لنفسه وجهاد لرغباته
وأهوائه حىت ينتهي به األمر إىل أن تصبح التقوى مغروسة يف نفسه وتصبح خلقا
من أخالقه وسجية من سجاياه ،وهنا يدرك مثرة التقوى يف أيامه كلها ،وهنا
يرهف إحساسه ويسمو وجدانه فيصبح سريع اإلدراك ملواطن اخلري وملواطن الشر
،خبريا كل اخلربة بالتمييز بينهما ،ويصبح طبعه اخلري وهواه مع اخلري وكراهيته
()3
للشر ونفوره منه ويكره أن يعود إىل الكفر كما يكره أن يلقى يف النار
* * * * * *
القيم اخللقية يف اإلسالم :أمحد ماهر البقري .اإلسكندرية ،مؤسسة شباب اجلامعة 1407 ،هـ ،ص 7 ()1
مشقة ،وليس التدريب النفسي ببعيد الشبه عن التدريب اجلسدي الذي تكتسب
به املهارات العملية اجلسدية (. )2
ولطبيعة البحث سيقتصر احلديث على أهم الصفات اخللقية الفردية وأثرها يف
الرتبية الذاتية .
( )2اكتساب اخللق اإلسالمي :عبد احلميد األقطش .جملة الدعوة ،عدد ، 1267الرياض ،إصدار مؤسسة
الدعوة اإلسالمية الصحفية 1410 ،هـ ،ص 50
أ ـ الصبر
البد لطالب التزكية أن حيلي نفسه بالصرب لينال مراتب الكمال ،ومن مل
يتعود الصرب فليصرب نفسه ولريغمها على ذلك .قال تعاىل { :يا أيها الذين
آمنوا اصربوا وصابروا ورابطوا واتقوا اهلل لعلكم تفلحون } [ آل عمران 200 :
] .يقول عليه الصالة والسالم ... :وإنه من يستعفف يعفه اهلل ومن يتصرب
يصربه اهلل ومن يستغن يغنه اهلل ولن تعطوا عطاء خري وأوسع من الصرب .
[ البخاري ] 4/186 :
ويقول صلى اهلل عليه وسلم :إمنا العلم بالتعلم واحللم بالتحلم ومن يتحر
اخلري يعطه ومن يتوق الشر يوقعه [ حسنه األلباين يف الصحيحة برقم ] 342
فمن يتصرب يصربه اهلل ويعطيه هذا اخللق الرفيع .
والصرب يف الرتبية الذاتية على أنواع ،فمنه الصرب على رغبات النفس ومنه
الصرب على متاعب احلياة الرتبوية ومنه الصرب على معاملة األستاذ واملريب ومنه
الصرب على جفاف املادة العلمية أحيانا .
وقد أشارت قصة موسى مع اخلضر عليهما السالم إىل أن تربية الذات ال
تتحقق إال بالصرب والتحمل حيث قال تعاىل خمربا عنهما { :قال له موسى هل
أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صربا *
وكيف تصرب على ما مل حتط به خربا * قال ستجدين إن شاء اهلل صابرا وال
أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتين فال تسألين عن شيء حىت أحدث لك منه ذكرا
} [ الكهف ] 70-66
فقد كان موسى عليه السالم يتطلع إىل العلم الذي خصه اهلل باخلضر عليه
السالم ولكن خمالفته للشرط الذي كان بينهما وهو الصرب فوت عليه ذلك ،
وهذا ما جعل رسولنا حممد صلى اهلل عليه وسلم يقول ... :وددنا أن موسى
صرب حىت يقص اهلل علينا من خربمها [ ...البخاري ] 3/257 :
ومراتب الكمال يف الرتبية والتعليم وغريمها ال تنال بني عشية وضحاها وإمنا
بالصرب واليقني واجلد واالجتهاد كما قال تعاىل { :وجعلنا منهم أئمة يهدون
بأمرنا ملا صربوا وكانوا بآياتنا يوقنون } [ السجدة ] 24 :وقال صلى اهلل عليه
وسلم :ما رزق عبد خريا له وال أوسع من الصرب [ رواه الطرباين نقال عن
األلباين يف الصحيحة برقم ] 449
ويقول أيضا :أفضل اإلميان الصرب والسماحة [ .رواه الديلمي نقال عن األلباين
يف الصحيحة برقم . ] 1495
فبالصرب واليقني تنال اإلمامة يف الدين ،وبتتبعنا لسرية سلفنا الصاحل جند أهنم
ما وصلوا إىل تلك الدرجات السابقة إال بعد التحلي هبذا اخللق الكرمي .
حيكي لنا خري األمة وترمجان القرآن – عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما –
قصة كفاحه وصربه حىت حقق دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم له بالفقه يف
الدين فيقول :ملا قبض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قلت لرجل من األنصار :
هلم نسأل أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإهنم اليوم كثري .فقال :يا
عجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يفتقرون إليك ويف الناس أصحاب رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم من فيهم ؟ قال ابن عباس :فرتكت ذلك وأقبلت أنا أسأل
أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإنه كان ليبلغين احلديث عن الرجل
فآيت بابه وهو قائل – أي نائم يف نصف النهار – فأتوسد ردائي على بابه يسفي
الريح علي من الرتاب فيخرج فرياين فيقول :يا ابن عم رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ما جاء بك ؟ هال أرسلت إيل فآتيك .فأقول :ال أنا أحق أن آتيك .قال
:فأسأله عن احلديث .قال ابن عباس :فعاش الرجل األنصاري حىت رآين قد
()1
اجتمع حويل الناس يسألوين فقال :هذا الفىت كان أعقل مين .
( )1سري أعالم النبالء :حممد أمحد عثمان الذهيب .التحقيق والتخريج بإشراف شعيب األرناؤوط ،مؤسسة الرسالة
1402 ،هـ 23 ( ،جزءا ) 3/242
إن يف قصة ابن عباس عربة وعظة لكل الكساىل والساقطني على جنبات
الطريق الرتبوي الطويل ،وفيها درس لكل املربني واملرتبني الذين يستعجلون
قطف الثمار أو الذين يستنكفون عن السري يف الطريق من أوله أو يظنون استحالة
الوصول إىل هنايته .ويؤكد اإلمام النووي هذا املفهوم فيقول :من مل يصرب على
ذل التعلم بقي عمره يف عماية اجلهالة ومن صرب آل أمره إىل عز الدنيا واآلخرة
...ومنه األثر :ذللت طالبا فعززت مطلوبا (. )2
وقيل لإلمام الشعيب من أين لك هذا العلم كله ؟ قال :ينبغي االعتماد
والسري يف البالد وصرب كصرب اجلمال وبكور كبكور الغراب .فال عجب إذن أن
يفوز أهل الصرب كما قال تعاىل { إين جزيتهم اليوم مبا صربوا أهنم هم الفائزون
} [ املؤمنون ] 111 :وقال أيضا { :إن يف ذلك آليات لكل صبار شكور }
[ الشورى /33 :سبأ / 19 :إبراهيم / 5 :لقمان ] 31 :يقول ابن القيم
رمحه اهلل (: )1
وملا كان اإلميان نصفني :نصف صرب ونصف شكر كان حقيقا على من
نصح نفسه وأحب جناهتا وآثر سعادهتا أال يهمل هذين األصلني وأن جيعل سريه
إىل اهلل بني هذين الطريقني ليجعله يوم لقائه مع خري الفريقني ، ...والصرب آخية
املؤمن اليت جيول مث يرجع إليه وساق إميانه الذي ال اعتماد إال عليها فال إميان ملن
ال صرب له وإن كان فإميان قليل يف غاية الضعف وصاحبه من يعبد اهلل على
حرف فإن أصابه خري اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا
واآلخرة ومل حيظ منهما إال بالصفقة اخلاسرة .فخري عيش أدركه السعداء
( )2اجملموع شرح املهذب ويليه فتح العزيز شرح الوجيز لإلمام الرافض ويليه التلخيص احلبري يف ختريج الرافعي
الكبري البن حجر العسقالين :النووي .بريوت ،دار الفكر 20 ،جملدا . 38 -1/37 ،
( )1عدة الصابرين وذخرية الشاكرين :ابن قيم اجلوزية .تصحيح ومراجعة نعيم زرزور .بريوت ،دار الكتب
العلمية 1403 ،هـ ،ص . 8
بصربهم وترقوا إىل أعلى املنازل بشكرهم فساروا بني جناحي الصرب والشكر إىل
جنات النعيم وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم .
وبالتصرب تقوى إرادة اإلنسان فيتحرر من عبودية اجلسد واملادة منطلقا
بذلك إىل عبودية اهلل وحده وسائرا يف حتقيق إرادته يف أن يكون مسلما يف
أفكاره وتصوراته ومعامالته وأخالقه .
ب ـ التواضع
هذا اخللق الكرمي ينبئ عن معدن صاحبه ويظهر عليه يف التعامل مع غريه
خاصة إذا كان هذا أقل علما أو عمرا أو منزلة اجتماعية .ومبا أن احلكمة ضالة
املؤمن فهو أحق هبا أىن وجدها وهو أوىل من غريه أن حيصل عليها وال يعيقه عن
ذلك أي من العوائق النفسية أو املوانع االجتماعية .ومما ييسر هذا أن يتخلص
اإلنسان من شرور نفسه من عجب وتكرب وغرور ومدح للنفس أو غري ذلك من
الصفات القلبية املمقوتة .قال تعاىل { :فال تزكوا أنفسكم هو أعلم مبن اتقى }
[ النجم ] 32 :
ومن ابتلي بشيء من هذه الشرور فقد حرم خريا كثريا ،ومن مل يتواضع
فسيحقر غريه ويرتفع عن االستفادة منه وحتصيل ما لديه من علوم وخربات
وجتارب .
روى عياض بن محار – رضي اهلل عنه – قال :قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :إن اهلل أوحى إيل أن تواضعوا حىت ال يفخر أحد على أحد وال
يبغي أحد على أحد [ .مسلم . ] 4/2199 :
ومن املقرر شرعا أنه ال فضل ألحد على أحد حىت وإن كان من آل بيت
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال بالتقوى .
ومن التواضع يف الرتبية الذاتية أال خيجل اإلنسان من االستفادة ممن هو أصغر
منه عمرا أو أقل منزلة ،فال يستنكف األستاذ أن يتعلم من تلميذه وال الوالد أن
يقتدي بابنه فقد يكون ممن أويت علما وخربة وجتربة مل يؤهتا اآلخر .
وال يكاد املتأمل يف آيات القرآن جيد مثال للتواضع أبلغ يف االستشهاد من
موقف موسى مع اخلضر عليهما السالم ،فهذا نيب من أنبياء اهلل ينزل إىل مقام
التلميذ متحليا بالتواضع مع أستاذه العبد الصاحل .
وهذا إبراهيم عليه السالم ينصح أباه عله يرتدع عن غيه وضالله ولكن
األب الضال يستكرب ويرفض إتباع ابنه حيث روى القرآن حتاورمها فقال إبراهيم
عليه السالم { :يا أبت أين قد جاءين من العلم ما مل يأتك فاتبعين أهدك صراطا
سويا } [ مرمي ] 43 :
ويكون جواب األب املعاند { :قال أراغب أنت عن آهليت يا إبراهيم لئن مل تنته
ألرمجنك واهجرين مليا } [ مرمي ] 46 :
ولو أن الرجل تواضع وانصاع لدعوة احلق حلاز الفالح يف الدارين ،وكذا من
أراد تربية ذاته وتزكيتها فليتواضع ملن هو أعلم منه كما يتواضع له من هو أجهل
منه
قال عمر بن اخلطاب :تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة واحللم وتواضعوا ملن
()1
تعلمون وليتواضع لكم من تعلمون
ورحم اهلل اإلمام الشافعي حني يقول :ال يطلب أحد هذا العلم بامللك وعز
()2
النفس فيفلح ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح
فإذا مل تكن للمرء بداية حمرقة مل حتصل له هناية مشرقة ،أي إذا مل يصرب على
أخالق من يتعلم منه ومل يصرب على ذل التعلم ،وإذا مل يتواضع للمعرفة اليت
جامع بيان املعرفة وفضله وما ينبغي يف روايته ومحله :ابن عبد الرب .القاهرة ،دار الفتح 2/97 ، ()1
وينبغي أن يكون الضابط يف اختيار القدوة يف هذا املستوى أن يكون ممن
تعلق فؤاده باهلل تعاىل ومل يغفل عنه وأخلص يف العلم والعمل .قال تعاىل :
{ وال تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } [ الكهف :
] 28
يقول ابن القيم – رمحه اهلل : -فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل
هو من أهل الذكر أو من الغافلني ،وهل احلاكم عليه الوحي أو اهلوى ؟ فإن
كان احلاكم عليه هو اهلوى وهو من أهل الغفلة وأمره فرط مل يقتد به ومل يتبعه
فإنه يقوده إىل اهلالك ... ،وإن وجده ممن غلب عليه ذكر اهلل تعاىل واتباع السنة
()1
وأمره غري مفروط بل هو حازم يف أمره فليتمسك بعروته .
وألمهية هذا النوع من القدوة كان العلماء األوائل حيرصون على اختاذه لرتبية
ذواهتم فيالزمون مشاخيهم وينقادون إليهم صابرين مطيعني .ويقرر اإلمام
الشاطيب هذا األمر كقاعدة فيقول :وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك ال جتد
عاملا اشتهر يف الناس األخذ عنه إال وله قدوة اشتهر يف قرنه مبثل ذلك ،وقلما
وجدت فرقة زائغة وال أحد خمالف للسنة إال وهو مفارق هلذا الوصف ،وهبذا
الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري وأنه مل يالزم األخذ عن الشيوخ وال
تأدب بآداهبم .وبضد ذلك كان العلماء الراسخون األئمة األربعة وأشباههم .
()2
وكافيك تبيانا ألمهية املالزمة أن العلماء كانوا يعدون مالزمة األستاذ من
شروط التحصيل العلمي والرتبية العملية .يقول الشافعي – رمحه اهلل : )1( -
أخي لن تنال العلم إال بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب :مرجع سابق ،ص 83 - 82 ()1
( )1يف أصول احلوار :الندوة العاملية للشباب اإلسالمي ،الرياض ،وحدة الدراسات والبحوث 1408 ،هـ
وهنا يدعوهم دعوة خالصة إىل منهج البحث عن احلق ( قل إمنا أعظكم
بواحدة ) إهنا دعوة إىل القيام هلل بعيدا عن اهلوى ،بعيدا عن املصلحة ،بعيدا
عن مالبسات األرض بعيدا عن اهلواتف والدوافع اليت تشتجر يف القلب فتبعد
به عن اهلل ،بعيدا عن التأثر بالتيارات السائدة يف البيئة واملؤثرات الشائعة يف
اجلماعة ،دعوة إىل التعامل مع الواقع البسيط ال مع القضايا والدعاوى
الرائجة وال مع العبارات املطاطة اليت تبعد العقل والقلب عن مواجهة احلقيقة
يف بساطتها
دعوة إىل منطق الفطرة اهلادئ الصايف بعيدا عن الضجيج واخللط واللبس
والرؤية املضطربة والغبش الذي حيجب صفاء احلقيقة ،وهي يف الوقت ذاته
منهج يف البحث عن احلقيقة ،منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب
والغواشي واملؤثرات وعلى مراقبة اهلل وتقواه ،وهي واحدة إن حتققت صح
املنهج واستقام الطريق ،القيام هلل ال لغرض وال هلوى وال ملصلحة وال لنتيجة
..التجرد ..اخللوص ،مث التفكر والتدبر بال مؤثر خارج عن الواقع الذي
يواجهه القائمون هلل املتجردون ( .أن تقوموا هلل مثىن وفرادى ) مثىن لرياجع
أحدمها اآلخر ويأخذ معه ويعطي يف غري تأثر بعقلية اجلماهري اليت تتبع
االنفعال الطارئ وال تتلبث لتتبع احلجة يف هدوء ... ،وفرادى مع النفس
وجها لوجه يف متحيص هادئ عميق ( .مث تتفكروا ) فما عرفتم عنه إال
العقل والتدبر والرزانة وما يقول شيئا يدعو إىل التظنن بعقله ورشده إن هو
()1
إال القول احملكم املبني
وليس الوصول للحق هو اهلدف الوحيد من احلوار بل إن هناك أهدافا
أخرى منها استعادة املعلومات ومراجعتها لتثبيتها بدل أن تبقى رهينة العقول
ويف ذلك يقول الزهري :إمنا يذهب العلم بالنسيان وترك املذاكرة .ويقول
وقفات تربوية يف ضوء القرآن الكرمي :املرجع السابق 2/227 ، ()2
ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } [ الكهف . ] 16 :وكذلك اعتزال أهل
الفسق والباطل ومفاصلتهم وخاصة أثناء مقارفتهم للمعاصي واملنكرات كي
يسلم املرء من أذاهم وباطلهم كما قال إبراهيم عليه السالم لقومه :
{ وأعتزلكم وما تدعون من دون اهلل وأدعو ريب عسى أال أكون بدعاء ريب
شقيا } [ مرمي . ] 48 :وقيل لبعض احلكماء ما الذي أرادوا باخللوة
واختيار العزلة فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبيت العلوم يف قلوهبم
ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حالوة املعرفة .وقيل لبعضهم :ما أصربك على
الوحدة .فقال :ما أنا وحدي .أنا جليسي اهلل تعاىل إذا شئت أن يناجيين
قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت ،وقال الفضيل :إذا رأيت الليل
مقبال فرحت وقلت :أخلو بريب ،وإذا رأيت الصبح أدركين اسرتجعت
()1
كراهية لقاء الناس وأن جييئين من يشغلين عن ريب
ب ـ االبتعاد عن املعاصي اليت يتعرض هلا اإلنسان غالبا باملخالطة مثل الغيبة
والنميمة والرياء والتزين للناس ،وقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
جتد من شرار الناس يوم القيامة عند اهلل ذا الوجهني الذي يأيت هؤالء بوجه
وهؤالء بوجه [ .البخاري . ] 4/102 :
وقال اخلطايب ( : )1ولو مل يكن يف العزلة إال السالمة من آفة الرياء والتصنع
للناس وما يدفع إليه الناس إذا كان فيهم من استعمال املداهنة معهم وخداع
املواربة يف رضاهم لكان يف ذلك ما يرغب يف العزلة .
وإذا ختلصت الذات من شرورها وسلبياهتا أصبحت قوة فعالة واجتهت للبناء
والتنمية والسمو بالذات إىل مراتب الكمال .
احملجة يف سري الدجلة :ابن رجب .حتقيق /حيىي غزاوي .بريوت ،دار البشائر اإلسالمية 1404 ،هـ ،ص ()1
44
التالية .كما أن صيام يوم واحد أو ثالثة أيام من كل شهر أحب إىل اهلل من
صيام عدة أيام يف شهر من الشهور مث االنقطاع ...وهكذا يف سائر العبادات
واألعمال احلسنة .فكل إنسان يعرف قدر استطاعته فيثبت عليه وال ينقص منه
،روي عن احلسن قوله( :)2إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوما على طاعة اهلل
عز وجل فبغاك وبغاك ،فإن رآك مداوما ملك ورفضك ،وإذا رآك مرة هكذا
ومرة هكذا طمع فيك
ومن فضل اهلل وكرمه أن املسلم إذا اعتاد وداوم على طاعة من الطاعات مث جاء
ما يصرفه عن أدائها من عجز أو مرض أو فتنة ،فإن أجره لن ينقطع ولن
يتوقف حىت يزول ذلك الصارف ،والدليل على ذلك ما رواه أبو بردة قال :
مسعت أبا موسى مرارا يقول :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إذا مرض
العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا [ البخاري ]2/357 :
ويف احلديث :إذا اشتكى العبد املسلم قال اهلل تعاىل للذين يكتبون اكتبوا له
أفضل ما كان يعمل إذا كان طلقا حىت أطلقه
[ أمحد ، 2/502 :وانظر الصحيحة رقم ]1232
ولريغب هادي البشرية أفراد أمته يف املداومة على عبادة اهلل من الصغر حىت الكرب
ومن الشباب حىت الشيخوخة يقول :الشيب نور املؤمن ،ال يشيب رجل يف
اإلسالم إال كانت له بكل شيبة حسنة ورفع هبا درجة
[ رواه البيهقي يف الشعب ،نقال عن األلباين يف الصحيحة برقم ] 1243
وورد أن من السبعة الذين يظلهم اهلل يف ظل عرشه يوم ال ظل إال ظله ذلك
الشاب الذي نشأ يف طاعة اهلل ،فليحرص املرء يف سريه إىل ربه أن يكون من
العارفني هلل يف كل وقت من األوقات ومن الذين حيرصون على فعل الطاعات يف
كل األمكنة ،فإنه بذلك يقطع دابر شياطني اإلنس واجلن
( )1املسلم قارئا ومثقفا :جاسر اجلاسر .جملة البيان ،عدد ، 22لندن ،املنتدى اإلسالمي 1411 ،هـ ،صلى
اهلل عليه وسلم 57 – 54
ومن املهم اقتناء الكتب يف املنزل للرجوع إليها وقت احلاجة وشغل أوقات
الفراغ هبا وتعويد النفس على ذلك .ومن طريف الذكر أن بعض األدباء عوتب
على لزومه منزله وتركه حمادثة الرجال فأجاب جبواب مدح فيه كتبه فقال :
ألباء مأمونون غيبا ومشهدا لنا جلساء ما منل حديثهم
وعقال وتأديبا ورأيا مسددا يفيدوننا من رأيهم علم من مضى
وال تتقي منهم لسانا وال يدا بال مؤنة ختشى وال سوء عشرة
وإن قلت أحياء فلست مفندا فإن قلت هم موتى فلست بكاذب
كأن فؤادي ضافه سم أسودا يفكر قليب دائما يف حديثهم
إن وجود مكتبة يف املنزل حتوي خمتلف الكتب ويف شىت اجملاالت يدفع مجيع
أفراد املنزل لالستفادة من هذه املكتبة وخاصة إذا وجد التوجيه واإلرشاد من
رب املنزل أو غريه .وال شك أن أثرها على الرتبية الذاتية سيظهر إن عاجال أو
آجال .كما أن االستفادة من هذه املكتبة بعد وفاة صاحبها يعترب من الصدقات
اجلارية اليت تنفع املرء بعد موته .
ب ـ المحاضرات والندوات
تزخر األمة املتقدمة بالكثري من اجملامع العلمية واملنتديات الفكرية اليت يلتقي
فيها العلماء واملثقفون واملفكرون ملعرفة اجلديد واملفيد عرب احملاضرات والندوات
واللقاءات يف شىت جماالت املعرفة والواقع .وحضور مثل تلك احملاضرات
والندوات يعترب رافدا مهما من روافد ملء الفراغ مبا يفيد يف الرتبية الذاتية .
وتكون احملاضرة غالبا تلخيصا لكم هائل من املعلومات ورمبا لتجارب سنوات
عديدة تلقى على املستمعني يف فرتة حمدودة وتوفر عليهم وقتا وجهدا كبريين يف
حتصيل واستيعاب تلك املعلومات .كما أن يف حضور الندوات فرصة لالستفادة
من خربات اآلخرين وجتارهبم وفرصة ملعرفة وجهات النظر املتباينة أو املتفقة
وتعويد النفس على متحيص اآلراء النتقاء الصاحل منها واملناسب .
قال تعاىل { :الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم
اهلل وأولئك هم أولو األلباب } [ الزمر ] 18 :
روى اخلطيب البغدادي بإسناده عن عبد اهلل بن عباس قوله :العلم كثري
ولن تعيه قلوبكم ولكن ابتغوا أحسنه ،أمل تسمع قوله تعاىل – وقرأ اآلية السابقة
، )1( -ويف اجملتمع املسلم جيد املؤمن نفسه يف مواقف كثرية يستعمل فيها حاسة
السمع مثل خطب اجلمع واألعياد واالستماع إىل املؤذن لرتديد األذان خلفه
واالستماع إىل قراءة اإلمام يف الصالة اجلهرية وغري ذلك من املواقف .قال تعاىل
{ :وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترمحون } [ األعراف 204 :
] وهذا رسولنا العظيم يطلب من صاحبه عبد اهلل بن مسعود أن يقرأ له آيات من
كتاب اهلل ،قال – رضي اهلل عنه – قال يل النيب صلى اهلل عليه وسلم :اقرأ
علي القرآن .قلت :أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ فيقول عليه السالم :إين أحب
أن أمسعه من غريي [ .البخاري . ] 3/351 :
وال تكاد متر على الطالب يف مراحله الدراسية املختلفة حماضرة أو درس إال
ويكون لالستماع واإلنصات نصيب كبري من وقت تلك احملاضرة أو الدرس .
وهنا يلفت الباحث نظر املسئولني عن الرتبية والتعليم والتوجيه واإلرشاد إىل
االهتمام باستغالل ملكة السماع لدى املرتبني والناشئة ملا هلا من أثر يف تشرب
املعرفة وازدياد اإلميان .
ولكي تكون تلك احملاضرات والندوات رافدا من روافد الرتبية الذاتية ينبغي
على الفرد أن يتبعها يف مظاهنا من خالل اجلامعات والنوادي األدبية واملساجد
وليحرص قبال على معرفة املشاركني يف تلك اللقاءات الفكرية ألخذ فكرة
موجزة على األقل عنها وحىت ال يفاجأ بأن الوقت قد ضاع يف االستماع ألفكار
سخيفة وماجنة .
سوانح وتأمالت يف قيمة الزمن :خلدون األحدب .جدة ،مكتبة دار الوفاء 1407 ،هـ ،ص . 53 ()1
روي عن علي – رضي اهلل عنه – قوله :امجعوا هذه القلوب وابتغوا هلا
طرائف احلكمة فإهنا متل كما متل األبدان .وعن الزهري قوله :كان بعض
العلماء يقول :هاتوا من أشعاركم فإن األذن جماجة والنفس محضة .وقوله أيضا
:روحوا القلوب ساعة وساعة (. )1
ومن اللهو املباح أيضا ما يفيد يف ترويض العقل واجلسم معا كاالستفادة من
األلعاب الرتبوية أو توجيه األلعاب الرياضية وجهة تربوية وهنا تربز أمهية اختاذ
األلعاب كوسيلة للرتبية الذاتية وللرتبية عموما يف خمتلف املراحل الرتبوية وحسب
الفروق الفردية .وهلذا الغرض جيب أن تنظم األلعاب تنظيما تربويا لتحقيق
أهداف تربوية عدة ال جملرد شغل الوقت يف أغراض تافهة أو بدون غرض ،بل
ينبغي توجيهها الكتساب املثل العليا واألخالق الفاضلة وخاصة يف املعسكرات
()2
الرتبوية والرحالت اهلادفة
وهناك وسائل أخرى كثرية مللء الفراغ وشغله مبا يعود على املرء بالفائدة
واخلري ولكن اجملال ال يتسع حلصرها ومنها :الرحالت واملخيمات – صلة
األرحام والزيارات بني األصدقاء – االشرتاك يف األنشطة االجتماعية املفيدة اليت
تنفع اإلسالم واملسلمني .
أما إذا استعرضنا حال علمائنا األوائل يف شغل أوقاهتم لرأينا العجب
العجاب .حيدثنا اإلمام ابن عقيل عن نفسه فيقول :إين ال حيل يل أن أضيع
ساعة من عمري حىت إذا تعطل لساين عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة
أعمل فكري يف حال راحيت وأنا مستطرح فال أهنض إال وقد خطر يل ما أسطره
جوانب الرتبية اإلسالمية األساسية :مقداد حلن .بريوت ،دار الرحياين 1406 ،هـ ،ص 328 - 325 ()2
،وإين ألجد من حرصي على العلم وأنا يف عشر الثمانني أشد مما كنت أجده
()3
وأنا ابن عشرين .
ويذكر احلافظ الذهيب يف ترمجة أيب حامت الرازي أن أبا حامت قال :قال يل
أبو زرعة :ما رأيت أحرص على طلب احلديث منك .فقلت له :إن عبد
الرمحن ابين حلريص .فقال :من أشبه أباه فما ظلم .وملا سئل عن اتفاق
السماع له وسؤاالته عن أبيه أجاب بأنه كان يستغل كل حلظة يقضيها مع والده
فإذا ما أكل قرأ عليه وإذا مشى قرأ عليه وإذا دخل اخلالء قرأ عليه وإذا دخل
البيت يف طلب شيء قرأ عليه ( . )1ومبثل هذا يكون ملء الفراغ .
إن من ال يستشعر أمهية الوقت حيس بالغنب يوم القيامة فإن كان مفرطا ندم
على تفريطه وإن كان مقصرا ود لو كان من احملسنني .
2ـ الوسائل الضارة :
من وسائل ملء الفراغ ما يكون ذا أثر سليب ومعيقا للرتبية الذاتية .ومن
هذه الوسائل :
أ ـ اإلفراط يف النوم .
ب ـ االنغماس يف اللهو والباطل .
ونشري إىل أثر هاتني الوسيلتني على الرتبية الذاتية :
أ ـ اإلفراط في النوم :
يظن بعض الناس أن كثرة النوم وزيادته دليل على إعطاء النفس حقها من
الراحة والفائدة .والصحيح أن يف ذلك ضررا بالغا على النفس .
( )3املنتظم يف تاريخ امللوك واألمم :ابن اجلوزي .اهلند ،حيدر أباد ،دائرة املعارف العثمانية 1359 ،هـ ( 10
أجزاء ) 9/214 ،
( )1سري أعالم النبالء :مرجع سابق 251 - 13/250 ،
فمن أضراره أنه يصرف النائم عن أداء أعمال كثرية مفيدة ويقلل من فرص
استثمار وقت الفراغ اليت كان من املفرتض أن يشغله فيما يعود عليه بالنفع
والصالح .ومن نام كثريا خسر كثريا .
وقد دلت الدراسات واألحباث على أمهية اإلقالل من النوم وإنقاص ساعاته
بشكل معقول .يقول الدكتور محدي ( : )2فاألطباء يقولون إن األشخاص الذين
يكتفون بفرتة نوم قصرية هم أكثر حيوية ونشاطا من الذين تزيد فرتة نومهم عن
الثماين ساعات ! ذلك أن حميب النوم غالبا ما يتميزون بالقلق واالنطواء والعزلة
والكآبة ويغلب عليهم الكبت اجلنسي واالهنيار العصيب والرتدد واحلرية والتأثر
بأقل سبب ..والتطري ،كما أهنم غالبا ما يأخذون مشكالهتم الشخصية مأخذا
جديا مفرطا ولذلك يبدون بنومهم هذا وكأهنم يهربون من احلياة ومشكالهتا
ومواجهتها .
فكثرة النوم تعترب هروبا من الواقع ،بينما احلياة ساعات قليلة تستغل يف
مواجهة هذا الواقع وجماهدة النفس للتغلب عليه وتوجيهه حنو األفضل .ويقول
محدي أيضا :كما أن الدراسات اليت قام هبا األخصائيون تثبت أن الذين ينامون
فرتات قصرية يستمتعون بنوم أعمق من أولئك الذين ينامون أكثر من املعدل
()1
الالزم ..فالنوم الكثري ليس صحيا والنوم األقل ميكن أن يكون شافيا .
ولذل فلرياقب املرء نفسه يف مقدار النوم الذي يصرف وقته فيه .واملسألة
بالتعود ،كما أن النفس متيل إىل ما عودهتا عليه .
ومن األوقات اليت غفل عنها وفرط بالنوم فيها كثري من الناس الوقت الذي
يلي صالة الفجر ،وهذا إن مل يناموا عن صالة الفجر نفسها ومل يستيقظوا إال
بعد طلوع الشمس .وهذا الوقت من األوقات املباركة اليت تقسم فيها األرزاق
( )1األسرة املسلمة أمام الفيديو والتلفزيون :مروان كجك .الرياض ،دار طيبة للنشر والتوزيع ،الطبعة الثانية ،
1408هـ ،ص 95
( )2بصمات على ولدي :طيبة اليحىي .الكويت ،مكتبة املنار اإلسالمية ،الطبعة الثالثة 1409 ،هـ ،ص 35
( )3األسرة املسلمة أمام الفيديو والتلفزيون :مرجع سابق ،ص 106
ثالثا :المحاولة والخطأ
من البديهي أن اإلنسان خيطئ أحيانا ويصيب أحيانا وخيطو إىل األمام
خطوات ويتعثر أخرى ولكن يدفعه األمل والعزمية إىل احملاولة مرارا وتكرارا ألن
الفشل أساس النجاح .ويلجأ الفرد إىل أسلوب احملاولة واخلطأ للوصول بالعمل
إىل كماله املنشود أو للتثبت من االجتهادات البشرية واكتشاف خربات جديدة
.
واملقصود باحملاولة واخلطأ هو تكرار العمل أكثر من مرة لتحقيق أقصى جناح
ممكن ،ومن األدلة على هذا األسلوب من الرتبية اإلسالمية حديث املسيء
صالته .
فعن أيب هريرة – رضي اهلل عنه – أن النيب صلى اهلل عليه وسلم دخل
املسجد فدخل رجل فصلى مث جاء فسلم على النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال :
ارجع فصل فإنك مل تصل ،فصلى مث جاء فسلم على النيب صلى اهلل عليه وسلم
فقال :ارجع فصل فإنك مل تصل ( ثالثا ) فقال :والذي بعثك باحلق فما
أحسن غريه فعلمين ...احلديث
[ البخاري ] 1/257 :
الشاهد من احلديث أن ذلك الصحايب حاول تصحيح خطئه بنفسه – بعد
أن وجهه النيب صلى اهلل عليه وسلم – وكان من املمكن أن يؤدي العمل كما
ينبغي وجلهله عجز مث سأل .وهذا األسلوب أوقع يف النفس وأدعى إىل قبوله
()1
وانطباعه يف الذاكرة
أصول الرتبية اإلسالمية وأساليبها :عبد الرمحن النحالوي .دمشق ،دار الفكر 1399 ،هـ ،ص 238 ()1
ويذكر ياجلن مؤكدا على هذا األسلوب قائال :والتجربة وهي جعل املرتيب
جيرب بنفسه القيم واألفكار واحلقائق املقدمة إليه ،ذلك أوقع يف نفسه وأقرب
()2
إىل إدراك قيمة تلك احلقائق واألفكار
ومما ينبغي أن ينتبه إليه أنه ليس كل أمر يصح فيه جتريب أسلوب احملاولة
واخلطأ للتأكد من صالحه وجناحه .فأحكام الشرع مثال من حترمي لشرب اخلمر
أو مزاولة الربا وغري ذلك ال ميكن أن نضعها حتت التجربة واحملاولة ألهنا منزلة
من لدن حكيم خبري .واملسلم احلق يفعل ما يأمره خالقه وجيتنب ما ينهى عنه
بدون أدىن تردد يف التطبيق .أما احملاولة يف تطبيق العمل إلتقانه فهذا أمر
مرغوب شرعا لقوله صلى اهلل عليه وسلم :إن اهلل حيب إذا عمل أحدكم عمال
أن يتقنه
[ رواه البيهقي يف شعب اإلميان .نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم
] 1876
ويف رواية أخرى :إن اهلل تعاىل حيب من العامل إذا عمل أن حيسن .
[ رواه البيهقي يف شعب اإلميان .نقال عن األلباين يف صحيح اجلامع برقم
1887وحسنه]
وحيث أن الغالب على النفس البشرية لقصورها أهنا ال تتقن أداء العمل من
أول حماولة فإن األمر حيتاج إىل مرات وكرات .واإلنسان السامي لبلوغ الكمال
البشري ال ييأس وال يكل وال ميل فيحاول وحياول حىت يصل إىل مبتغاه وينال ما
يتمناه .وباإلرادة القوية وتركيز االنتباه تصبح الذات هي حمور احلضارة واحملرك
الفعال لتحقيق األماين وحتسني األداء .
* * * * *