You are on page 1of 18

‫من االعتراف إلى التبرير… حوار نقدي بين نانسي فريزر وأكسيل‬

‫هونت وراينر فورست‬


‫‪https://couua.com/2018/03/22/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA‬‬
‫‪%D8%B1%D8%A7%D9%81-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA‬‬
‫‪%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%86%D9%82%D8%AF‬‬
‫‪/%D9%8A-%D8%A8%D9%8A‬‬
‫د‪.‬عزيز الهاللي‬

‫يتوزع االهتمام الفلسفي لمدرسة فرانكفورت على مساحات زمنية ومنعطفات فكرية متباينة‪ .‬بدأت أولى‬
‫شرارتها منذ تأسيس معهد البحث السوسيولوجي (‪ )Institut für Sozialforschung‬سنة‬
‫‪ ،1923‬حيث عرفت المدرسة خالل هذه السيرورة اهتمامات متباينة على مستوى مباحثها الفلسفية‪.‬‬
‫لقد اهتم الجيل األول بإعادة بناء الفكر الماركسي‪ ،‬وانعطف الجيل الثاني نحو نظرية الفعل التواصلي‪،‬‬
‫وحط‪  ‬الجيل الثالث رحاله الفلسفي في قارة االعتراف‪ ،‬أما الجيل الرابع‪ ،‬فقد توج مسار المدرسة من‬
‫خالل االنفتاح على ‪ ‬براديغم التبرير (‪.)Justification‬‬
‫لكن‪ ،‬ما يميز مسار المدرسة خالل رحلتها الفلسفية‪ ،‬هو بداية تأسيس لحضور خطاب فلسفي نسوي‪،‬‬
‫خاصة مع الجيل الثالث‪ ،‬كطرف أساسي في المعادلة الفلسفية للمدرسة النقدية‪ .‬ويبدو أن المساهمة‬
‫النظرية للمرأة‪ ،‬تعكس فعال تمرديا ضد مؤسسة اإلقصاء التي دأب على ترسيخها فالسفة المدرسة‪ .‬وقد‬
‫بلغ اإلقصاء ذروته في‪  ‬كتاب ”‪ ‬التحول البنيوي للفضاء العمومي‪ ” ‬حيث تجاهل هابرماس (‬
‫‪ )   -1929‬حكاية المرأة‪.‬‬

‫لم يقف تميز الجيل الثالث عند عتبة النظرية السياسية النسوية‪ ،‬بل امتد إلى خلق نوع من‪  ‬التصدع‬
‫في السيادة الجغرافية‪ .‬فلم يعد االنتماء الفكري للمدرسة النقدية رهينا بجغرافية المكان‪ ،‬بل حدث تمرد‬
‫على أغالل الحدود من خالل إفصاح الخطاب الفلسفي عن انتمائه إلى المدرسة النقدية خارج الحدود‬
‫الجغرافية ‪.‬‬
‫إن ما يشد رهانات الجيل الثالث‪ ،‬كتميز إضافي آخر‪ ،‬هو االنخراط الجماعي في إعادة بناء النظرية‬
‫النقدية‪ ،‬وهو تقليد رسخه هابرماس من خالل مشروعه التواصلي‪ .‬لكن‪ ،‬الجيل الثالث فتح أفقا نظريا‬
‫جديدا وراح يتحدث عن مشروع نقدي يقوم على‪ ‬إعادة إعادة بناء النظرية النقدية االجتماعية‪.‬‬
‫في هذا السياق من التحوالت والرهانات يمكن القول‪ ،‬إذا كان هابرماس قد أحدث منعطفا تداوليا‪ ،‬فإن‬
‫الجيل الثالث أحدث منعطفا جغرافيا‪ ،‬احتضن من خالله أعضاء خارج الحدود لمقاربة مباحث تشكل‬
‫عالمة فارقة في مسار الجيل الثالث للمدرسة النقدية‪ ،‬األمر يتعلق ببراديغم‪ ‬االعتراف‪ ،‬حيث انشغل‬
‫أعضاء النظرية النقدية بتكثيف ال ُعدّ ة المفاهيمية والرؤية المنهجية‪ ،‬من أجل صوغ تصور نقدي يجيب‬
‫عن إشكالية‪ ‬االندماج االجتماعي للهويات‪ ،‬بوصفه مأزقا عالقا في ثنايا النسق السياسي الليبرالي ‪.‬‬
‫عن هذا اإلشكال‪ ،‬تطالعنا أطروحة نقدية تعكس تميزها على مستوى النظر‪ ،‬األمر يتعلق‬
‫بإشكالية‪ ‬االعتراف‪ .‬ونخص بالذكر‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬أطروحة‪ ‬نانسي فريزر‪)Nancy Fraser( ‬‬
‫التي انخرطت كصوت نسوي من خارج الحدود األلمانية‪ ،‬في حوار نقدي مع‪ ‬أكسيل هونت‪Axel( ‬‬
‫‪ .)Honneth‬ولقد أثمر هذا الحوار‪ ،‬الذي ُجمع في كتاب مشترك تحت عنوان ”‪ ‬إعادة التوزيع أو‬
‫االعتراف ؟‪ ،“ ‬عن اختالفات نظرية هامة‪ ،‬لكنها اختالفات عائلية بين أفراد تجمعهم النظرية النقدية‬
‫كقرابة دموية‪.‬‬
‫وجه أكسيل هونت تحية خاصة إلى‪ ‬راينر فورست‪ )Rainer Forst( ‬لكونه انخرط‪ ،‬كطرف‬
‫ثالث‪ ،‬في هذا الجدل الثنائي الذي دار بينه وبين فريزر‪ .‬وبذلك تكون المساهمة التي أدلى بها فورست‬
‫قد كشفت عن قارة ثالثة لالعتراف‪ P،‬وفي نفس اآلن فتحت أفقا جديدا نحو ترسيخ اإلنصاف التبريري في‬
‫معادلة االعتراف‪.‬‬

‫تالحقنا أسئلة‪ ،‬تترابط في وحدة موضوعية‪ ،‬من خالل هذا الحوار النقدي بين أعضاء النظرية النقدية‪،‬‬
‫األمر الذي يدعو إلى حصرها فيما يلي ‪ :‬هل يمكن اختزال براديغم االعتراف في ُبعد يخص العدالة أم‬
‫في ُب عد يخص التحقق الذاتي ؟ وهل االعتراف يغتني دالليا عندما يتحرر من أسر االختزال ويروم الجمع‬
‫بين عدالة التوزيع الثقافي وعدالة التوزيع االقتصادي؟ وهل يمكن بناء براديغم االعتراف خارج ثنائية‪ ‬‬
‫الثقافة واالقتصاد ؟‬

‫مسارات فكرية‬ ‫‪‬‬

‫‪ ‬ولدت نانسي فريزر(‪ 20‬ماي ‪ )1947‬في بالتيمور (‪ )Baltimore‬بالواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬


‫قضت فريزر سنواتها األولى الجامعية في براي ماور (‪ )Bry Mawr‬بفيالديليفيا‪ .‬ثم‪ ،‬تابعت رحلتها‬
‫العلمية للحصول على شهادة الدكتوراه بنيويورك‪ ،‬وهناك بدأت تدرس الفلسفة الكالسيكية‪ .‬تأثرت‬
‫بأعمال فوكو وبأعمال الفيلسوف ريتشارد رورتي (‪ )2007 -1931‬ممثل الفلسفة التحليلية‪ .‬تشتغل‬
‫اآلن كأستاذة الفلسفة والعلوم السياسية واالجتماعية بالمدرسة الجديدة بنيويورك‪ .‬كما أنها أستاذة زائرة‬
‫بجامعات أوروبية كفرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا…أعمالها تتمحور حول قضايا العدالة االجتماعية‬
‫والنسوية وسياسة الهويات‪ ،‬وكذلك حول الحقوق االجتماعية على الصعيد العالمي‪.‬‬
‫من أهم أعمالها نذكر‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫دعاوى نسوية‪ :‬تبادل فلسفي (‪)1994‬‬ ‫‪‬‬

‫الخيال الجذري‪ :‬بين إعادة التوزيع واالعتراف (‪)2003‬‬ ‫‪‬‬

‫ما العدالة االجتماعية ؟ االعتراف وإعادة التوزيع (‪)2005‬‬ ‫‪‬‬

‫ميزان العدل‪ :‬إعادة تخييل الفضاء السياسي في عصر العولمة (‪)2009‬‬ ‫‪‬‬

‫الحركة النسوية في تطور (‪)2012‬‬ ‫‪‬‬

‫أما أكسيل هونت‪ ،‬فقد ولد (‪ 18‬يوليو ‪ )1949‬بإسن (‪ )Essen‬غرب ألمانيا‪ .‬درس الفلسفة‬
‫والسوسيولوجية في مناطق عديدة بألمانيا‪ ،‬مثل بون (‪ )Bonn‬وبوخوم (‪ )Bchum‬وبرلين (‬
‫‪       )Berlin‬وميونيخ (‪ .)Munich‬منذ سنة ‪ 2001‬وهو يعمل مديرا في معهد البحث‬
‫السوسيولوجي خلفا ألستاذه هابرماس‪ .‬كما أنه منذ سنة ‪ 2011‬يشغل منصب أستاذ الفلسفة المعاصرة‬
‫بجامعة فرانكفورت وجامعة كولومبيا‪ .‬ويقترن اسمه اآلن‪ ،‬في إطار الفلسفة النقدية االجتماعية‪،‬‬
‫بمشروع االعتراف‪.‬‬

‫ومن أهم أعماله نذكر‪:‬‬

‫في نقد نظرية السلطة (‪)1991‬‬ ‫‪‬‬

‫الصراع من أجل االعتراف (‪)1995‬‬ ‫‪‬‬

‫االندماج واالحتقار‪ :‬المبادئ األخالقية لالعتراف (‪)1999‬‬ ‫‪‬‬

‫مجتمع االحتقار (‪)2006‬‬ ‫‪‬‬

‫أمراض‪ P‬الحرية (‪)2008‬‬ ‫‪‬‬

‫الحق في الحرية‪ :‬األسس االجتماعية للحياة الديمقراطية (‪)2014‬‬ ‫‪‬‬


‫ولد ممثل الجيل الرابع لمدرسة فرانكفورت النقدية راينر فورست (‪ 15‬غشت ‪ )1964‬في فيزبادن (‬
‫‪ )Wiesbaden‬بألمانيا‪ .‬وهو فيلسوف ومنظر سياسي‪ .‬يعمل اآلن كأستاذ النظرية السياسية بشعبة‬
‫العلوم السياسية بجامعة غوته بفرانكفورت‪ .‬حصل سنة ‪ 1993‬على شهادة الدكتوراه حول‬
‫موضوع‪“   ‬سياقات العدالة” تحت إشراف‪ P‬يورغن هابرماس ‪ .‬من أهم المباحث الفلسفية التي يشتغل‬
‫عليها نخص بالذكر‪ :‬النظرية النقدية و التسامح والبرغماتية والعدالة االجتماعية والسياسية‪ .‬لقد حظي‪،‬‬
‫لحظة تسلمه جائزة‪ ‬غوتفريد‪ ‬فيلهيلم اليبنتز‪ ‬سنة ‪ ،2012‬بتقدير كبير كفيلسوف سياسي معاصر‪.‬‬
‫قام‪  ‬خالل الموسم الدراسي (‪ )1992 – 1991‬بزيارة جامعة هارفارد‪ -‬شعبة الفلسفة‪ -‬بناء على‬
‫دعوة وجهها إليه جون راولز(‪.)2002 -1921‬‬

‫من أهم أعماله نذكر‪:‬‬

‫سياقات العدالة‪ :‬الفلسفة السياسية بمعزل عن النزعة الليبرالية والنزعة الجماعاتية (‬ ‫‪‬‬
‫‪)2002‬‬

‫الحق في التبرير (‪)2012‬‬ ‫‪‬‬

‫التسامح في صراع‪ :‬األمس واليوم (‪)2013‬‬ ‫‪‬‬

‫العدالة‪ ،‬الديمقراطية والحق في التبرير (‪)2014‬‬ ‫‪‬‬


‫أرضية‪ ‬الحوار‪ ‬النقدي‪ :‬العدالة‪ ‬االجتماعية‪ ‬وسؤال‪ ‬االعتراف‬ ‫‪‬‬
‫تعتبر فريزر من جيل ‪ 1968‬الذي تأثر بمطالب االنتفاضة الفرنسية‪ ،‬فانخرطت في حركات سياسية‪،‬‬
‫مثل “المنظمة الطالبية من أجل الديمقراطية االجتماعية” (‪Students for Democratic‬‬
‫‪ )Society‬كصوت يساري جديد‪ .‬ولذلك تعلن فريزر‪ P‬في مجمل الحوارات‪ ،‬التي تجريها معها بعض‬
‫المنابر اإلعالمية‪ ،‬أنها “طفلة اليسار الجديد“[‪ .]1‬وفي خضم هذه التحوالت النضالية المتشبعة بقيم‬
‫يسارية‪ ،‬تمكنت من بلورة رؤية مجتمعية‪ ،‬على اعتبار أن الشق النضالي يعد طرفا أساسيا في المعادلة‬
‫الفكرية والنظرية التي طبعت مسارها الفكري‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬عندما تراجع الفعل النضالي في الواليات المتحدة األمريكية وانحبست أنفاس المناضلين من جراء‬
‫الوهن الذي أصاب المجتمع المدني‪ ،‬ظهرت على السطح ردود أفعال عنيفة تستخدم العنف السياسي‬
‫كآلية من آليات الضغط‪ .‬وفي ظل هذا التراجع النضالي وتصاعد االنفالت الالمسؤول للحركات المدنية‪،‬‬
‫انفردت فريزر بمساحة للتأمل والمراجعة النقدية‪ ،‬من منطلق أن العودة إلى الساحة النضالية يجب أن‬
‫تكون مصحوبة برؤية نقدية جديدة تضخ دما جديدا في شرايين الفعل النضالي‪ ،‬ذلك أن التحوالت التي‬
‫يعرفها المجتمع األمريكي ال تواكبها نظرية سياسية تضفي على هذا التحول صبغة فكرية جديدة تعيد‬
‫مساءلة البنية السياسية والمجتمعية‪ .‬تقول فريزر إن‪ ”  ‬تكويني العلمي لم يبق سجين النزعة‬
‫النضالية”[‪  .]2‬هناك اقتحمت عوالم الفكر الفلسفي‪ ،‬من خالل االطالع على الفلسفة اإلغريقية‬
‫والفلسفة الكالسيكية والفلسفة الهيغيلية والماركسية والفلسفة الفرنسية…هذا المسار من البحث مكنها‬
‫من بناء تصور فلسفي نقدي يجيب عن المعضلة السياسية واالجتماعية للمجتمع األمريكي‪ .‬هنا حدث‬
‫منعطف فكري في المسار الفكري لفريزر‪ ،‬بحيث لم تعد الماركسية تشكل بمفردها خالصا اجتماعيا‪،‬‬
‫وإنما من شأن المزاوجة النقدية بين الماركسية والنظرية النقدية أن تحدث إصالحات أو تغييرات في‬
‫البنية االقتصادية وفي الوضعية الثقافية‪.‬‬

‫إن المشاكل التي يعرفها المجتمع األمريكي ( العنصرية‪ ،‬االستغالل‪ ،‬اإلقصاء‪ ،‬االحتقار…) يتعذر على‬
‫الخطاب الماركسي‪ ،‬كإطار للتحليل الطبقي‪ ،‬أن يستوعب في جوفه النظري التحوالت االجتماعية التي‬
‫تنفلت من كل تحديد طبقي‪ .‬في المقابل‪ ،‬فإن الحركات االحتجاجية الثقافية التي تجوب الشوارع األمريكية‬
‫وتطالب برفع االحتقار واإلقصاء عن هويات ثقافية منبوذة‪ ،‬ال تستطيع إيجاد مخرج منصف لمطالب‬
‫االندماج االجتماعي‪.‬‬

‫فأمام هذا اإلحراج النظري‪ ،‬يظل السؤال‪ :‬هل يجب االنخراط في سياسة االعتراف أم في سياسة إعادة‬
‫التوزيع االقتصادي؟ في سياسة طبقية أم في سياسة الهوية ؟ في التعدد الثقافي أم في الديمقراطية‬
‫االجتماعية ؟‬

‫تحاول فريزر بناء براديغم الخالص‪ ،‬من خالل ثنائية االعتراف واالقتصاد السياسي‪ .‬فال االعتراف لوحده‬
‫قادر على رفع الظلم وتحقيق عدالة اجتماعية منصفة‪ ،‬وال االقتصاد لوحده قادر على حماية المساواة‬
‫االقتصادية‪   .‬تتطلب العدالة‪ ،‬من أجل تحقيقها‪ ،‬نسقا موحدا يجمع في تركيبة متكاملة بين إعادة‬
‫التوزيع‪  ‬االقتصادي واالعتراف‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬ترى فريزر بأن‪  ‬التيار الذي يحتمي خلف إعادة التوزيع االقتصادي ويحتقر التعدد‬
‫الثقافي‪ ،‬باعتباره وعيا مشوشا وكابحا للعدالة االجتماعية‪ ،‬يقع تحت ” النقائض المغلوطة “[‪.]3‬‬
‫وكذلك الشأن بالنسبة للتيار المدافع عن االعتراف الثقافي ويتجاهل االقتصاد السياسي ‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬السؤال الذي يمكن أن يعترض مشروع المزاوجة بين الثقافي والسياسي هو‪ :‬هل يمكن لوظيفة‬
‫االعتراف أن تعيق وظيفة إعادة التوزيع ؟ وهل سلطة إعادة التوزيع يمكن أن تسلب سلطة االعتراف ؟‬
‫تقترح فريزر‪ ،‬على المستوى المنهجي‪ ،‬الفصل بين إعادة التوزيع واالعتراف‪ .‬وبالرغم من أن‬
‫البراديغمين معا يشكالن واجهة لمقاومة الظلم االجتماعي‪ .‬فإن الفصل بينهما يعد ضروريا‪ ،‬من وجهة‬
‫نظر التحليل النقدي‪ ،‬على األقل للكشف عن بؤر التوتر‪ .‬ففي منطق الفصل‪ ،‬تكون فريزر قد “أضاءت‬
‫منطقهما [ االعتراف واالقتصاد] الخاص‪ ،‬وساهمت في حل بعض اإلحراجات السياسية في وقتنا‬
‫الراهن”[‪ .]4‬معنى هذا‪ ،‬أن ثنائية االعتراف واالقتصاد‪ ،‬ال يجب النظر إليها كماهيات ثابتة تتغذى من‬
‫فلسفة الذات‪ ،‬وإنما يجب النظر إليها كمواقع تمتاز بالمرونة والسالسة‪.‬‬

‫انطالقا من هذا المنظور‪ ،‬تسعى فريزر‪ P‬إلى تصنيف نماذج مثالية للداللة على أهمية الفصل التحليلي بين‬
‫براديغم إعادة التوزيع االقتصادي وبراديغم االعتراف الثقافي‪ .‬ويمكن تصنيف هذه النماذج على الشكل‬
‫التالي‪:‬‬

‫نموذج مثالي‪ ،‬يخص فئة تتعرض لالستغالل االقتصادي بسبب سوء التوزيع‪ ،‬األمر الذي‬ ‫‪‬‬
‫يتطلب‪ ،‬إلنصاف هذه الفئة‪ ،‬هدم البنيات الطبقية الرأسمالية وتجاوز االستغالل الطبقي‪ ،‬لتتناسب هذه‬
‫الفئة (الطبقة العاملة) مع عدالة إعادة التوزيع االقتصادي‪.‬‬

‫نموذج مثالي‪ ،‬يتحرك ضمن إطار ثقافي‪ .‬فهذا النموذج‪ ،‬ليس سوى فئة محتقرة على مستوى‬ ‫‪‬‬
‫الجنساني (المثليين ومتحولي الجنس والسحاقيات وهرمافروديث… ) تشتغل تحت تأثير التأويل‬
‫والتمثيل‪ ،‬وليس تحت تأثير الصراع الطبقي‪ .‬والحل الذي يمكن أن تنشده هذه الفئة‪ ،‬هو عدالة‬
‫االعتراف وليس عدالة إعادة التوزيع االقتصادي‪ .‬فالغيرية الجنسية كسلطة معيارية‪ ،‬تنزع الحماية‬
‫االجتماعية عن هذه الفئة‪ ،‬فتتعرض للعنف والتحرش واإلهانة والسب… ولهذا‪ ،‬فإن بنية االعتراف‬
‫الثقافي تعتبر مخرجا لتجاوز بنية االحتقار االجتماعي‪ .‬والمثال الذي تسوقه فريزر‪ ،‬يتعلق بإطار بنكي‬
‫من أصول أفرو‪-‬أمريكية يتعذر عليه أن يستقل سيارة األجرة بشارع وول ستريت‪ ،‬في حين عامل‬
‫أبيض مطرود من شركة السيارات يستقل بسهولة سيارة األجرة ‪.‬‬

‫نموذج مثالي‪ ،‬صعب التحديد‪ ،‬لكونه يتشكل من مجموعات المتجانسة (مجموعات مختلطة)‬ ‫‪‬‬
‫تتمركز في الوسط وتجمع بين االعتراف وإعادة التوزيع االقتصادي‪ .‬فالمرأة العاملة مثال‪ ،‬تعاني من‬
‫بنية االستغالل التي تتمظهر في تقسيم العمل‪ ،‬بحيث تجمع بين وظيفتها المهنية خارج البيت‬
‫(االستغالل االقتصادي) ومهمة تربوية ومنزلية داخل البيت (مشكلة االعتراف)‪ .‬كما أن نفس‬
‫الوضعية تسري على المجموعات المثلية (‪ …)Homosexual‬وللخروج من هذه الوضعية‪،‬‬
‫يلزم الترابط بين االعتراف وإعادة التوزيع االقتصادي‪.‬‬
‫وبهذه اإلستراتيجية‪ ،‬التي تقوم على الفصل والترابط‪ ،‬تكون فريزر قد قامت بتدعيم أطروحة‪     ‬‬
‫“النزعة االشتراكية‪ ،‬على المستوى االقتصادي‪ ،‬والتفكيكية على المستوى الثقافي‪ ،‬وكالهما يشكالن‬
‫تناغما جيدا للتخفيف من حدة اإلحراج الذي يمس المجموعات المختلطة “[‪.]5‬‬

‫‪  ‬فعلى هذا المستوى‪ ،‬فإن مسارات العدالة االجتماعية تتطلب هدم بنية االستغالل (المجموعة المثالية‬
‫األولى)‪ ،‬أو تفكيك البنية الثقافية (المجموعة المثالية الثانية) أو الجمع بين الترابط االشتراكي والتفكيكي‬
‫(المجموعة المثالية الثالثة)‪.‬‬
‫إن المسح ” الطبوغرافي ” الذي قامت به فريزر للجماعات المجتمعية‪ ،‬مكنها من وضع اليد على بؤر‬
‫تستدعي تدخال لمعالجة انزالقات االعتراف واالقتصاد‪ .‬فاالعتراف يروم بناء عدالة اجتماعية‪ ،‬ولذلك‬
‫يجب ربط االعتراف بالعدالة وبالواجب األخالقي‪ ،‬إذ ال يمكن ربط االعتراف بحالة وجدانية نفسية‬
‫وذاتية‪ ،‬أو بشعور الخير والحاجة اإلنسانية‪ ،‬فكل “محاولة لتبرير مقاصد االعتراف التي تعلن عن الخير‬
‫وتحقيق الذات‪ ،‬فهي طائفية “[‪ .]6‬في المقابل‪ ،‬فإن التوزيع االقتصادي ال يتطلب توزيعا جائرا يجهز‬
‫على الهياكل التنظيمية للتوزيع‪ .‬ترمي رهانات فريزر إلى اإلنصاف والتفاعل والمساواة‪ ،‬وهذه المطالب‬
‫ال تتحقق خارج‪ ‬المؤسسات‪ ‬الثقافية واالقتصادية‪ ،‬بحيث تنظر فريزر إلى االعتراف كمؤسسة للقيم‬
‫الثقافية التي عملت على ترسيخ معايير االحترام واإلساءة‪ ،‬التقدير وعدم التقدير‪ ،‬الغيرية الجنسية‬
‫والمثلية…وعلى هذا األساس‪ ،‬تقترح فريزر إحداث‪ ‬إصالح وتحويل‪ ( ‬تجاور فريزر بين الوضعية‬
‫التصحيحية والوضعية التحويلية(*)‪ ) ‬للبنية المؤسساتية لالعتراف واالقتصاد‪ ،‬من أجل بناء عدالة‬
‫اجتماعية خارج معايير البنية النسقية الليبرالية‪ .‬فإذن‪ ،‬ما المفاهيم المركزية التي تعتبرها فريزر أساس‬
‫بناء عدالة االعتراف وعدالة التوزيع ؟‬
‫مبدأ المناصفة التشاركية‪)Parity of Participation( ‬‬ ‫‪‬‬
‫تقول فريزر إن ” األساس المعياري لتصوري‪ ،‬هو بناء‪ ‬مناصفة تشاركية‪ ]7[“ ‬أي‪ ،‬بناء عدالة‬
‫تقوم على إجراءات تسمح بالتفاعل االجتماعي‪ .‬وتفترض “المناصفة التشاركية” ‪ ‬قيما أخالقيا متساوية‬
‫تشمل الجميع‪ ،‬كما أنها معيار كوني يحتضن كل الشركاء في العملية التفاعلية‪ ،‬بحيث “يجب على جميع‬
‫المتحاورين من حيث المبدأ التمتع بفرص متساوية للتعبير عن وجهات نظرهم ووضع القضايا على‬
‫جدول أعمالهم “[‪ .]8‬فمبدأ المناصفة‪ ،‬بوصفها تجسيدا لقيم العدالة االجتماعية‪ ،‬هو ذلك المعنى الماثل‬
‫في التوزيع المادي للموارد االقتصادية الذي يقوم على خلفية معايير قانونية شكلية‪ .‬وهذا البعد‪ ،‬يندرج‬
‫في إطار “الشروط الموضوعية‪ ‬للمناصفة التشاركية“‪ ،‬التي تقطع مع كل األشكال التبعية االقتصادية‬
‫واالستغالل المادي وإبعاد كل ما يشكل تفقيرا واستغالال ُم َمأسسا للواقع االجتماعي‪.‬‬
‫تراهن فريزر على مبدأ ”‪ ‬المناصفة التشاركية‪ ،“ ‬بسبب تملص الليبرالية الجديدة من تفعيل األسس‬
‫التفاعلية لهذا المبدأ‪ ،‬ألنها ترى في االعتراف وإعادة التوزيع مكونين ينتميان إلى ” اإلثنية ” وليس‬
‫إلى االختالف‪ .‬وكذلك بسبب‪ ،‬غياب نموذج اشتراكي يتمتع بالمصداقية والفعالية الديمقراطية في تثبيت‬
‫عدالة التوزيع واالعتراف‪.‬‬

‫الفضاء العمومي‬ ‫‪‬‬


‫يعتبر الفضاء العمومي المتعدد‪ ،‬واجهة أساسية لبناء جسور تفاعل االعتراف والمناصفة مع باقي‬
‫الفضاءات األخرى‪ .‬فالفضاء المتعدد يحتضن مجتمعات طبقية (‪)Stratified Societies‬‬
‫ومجتمعات المساواة والتعددية الثقافية (‪…) Societies Multicultural Egalitarian‬‬
‫ويبدو أن هذا التوجه يخالف الصيغة األحادية للفضاء العمومي الهابرماسي (‪The Public‬‬
‫‪ .)Arena‬تدافع فريزر عن ما تسميه بالفضاء العمومي المتعدد‪ ،‬ألنه يتطلب تثبيت “عدالة المناصفة‬
‫التشاركية ‪ ‬في فضاءات تفاعلية متعددة‪ :‬في سوق العمل وعلى مستوى العالقات الجنسانية والحياة‬
‫العائلية والفضاءات العمومية وجمعيات المجتمع المدني المتطوعة “[‪ .]9‬ومن شأن الفضاء المتعدد‪،‬‬
‫أن ينسف أطروحة النسق الليبرالي الذي يدعم سوء االعتراف وسوء التوزيع ويعتبر دوما العالقات‬
‫االجتماعية الالمتساوية بين المتحاورين‪ .‬ولهذا ترى فريزر‪ ،‬أن الفضاء الليبرالي ليس بالضرورة‬
‫إقصائيا‪ .‬بل يضع اعتقادات وقناعات اآلخر بين قوسين (‪ .)Bracketed‬إذ يمكن أن تشارك هويات‬
‫منبوذة في حوارات تشاورية‪ ،‬لكن يتم تجاهلها و ُيزج بها نحو أقواس مغلقة‪ ،‬بسبب سلطة المعيار‬
‫الرقابية التي تنهجه المؤسسات الليبرالية‪ .‬ليس الفضاء العمومي البورجوازي فضاء لتشكل الرأي‪ ،‬ألن‬
‫خيارات األغلبية تستبعد المساواة الخطابية التي تجنح نحو ترسيخ تكافؤ فرص المشاركة في فضاء‬
‫تشاوري ديمقراطي‪.‬‬
‫د‪ -‬البينذاتية‬
‫إن المسألة التي يجب أن نأخذها على محمل الجد‪ ،‬هي أن سياسة االعتراف ترقد في قلب المؤسسة‬
‫التشريعية والقانونية وليس في إطار ذاتي‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإن كل النماذج الممأسسة على مستوى التأويل‬
‫والتواصل يجب أن تضمن االحترام والتقدير الضروريين لكل األعضاء‪ ،‬في مقابل إبعاد كل الجوانب‪ ‬‬
‫الثقافية الممأسسة التي تخدش كرامة اإلنسان وقدراته على مستوى العالقات التفاعلية االجتماعية‪.‬‬
‫فاإلنسان الذي يتعرض للتحقير واإلساءة‪ ،‬يعتبر مرفوضا من المشاركة المنصفة في الحياة االجتماعية‪.‬‬
‫ألن ثمة‪ ،‬نماذج ممأسسة من التمثالت والتأويالت قد وضعت معاييرها ورسخت قيم الالاحترام وعدم‬
‫التقدير‪ .‬ويصعب‪ ،‬في الواقع على جماعات كالمثليين والسحاقيات والسود…أن يحظوا بالتقدير واالحترام‬
‫الضروريين داخل اصطفاف عمودي لم يشاركوا أصال في بنائه ( مثال قانون الزواج الذي ال يبيح‬
‫الزواج من نفس الجنس أو تبني أطفال من طرف سحاقيات متزوجات…)‪ .‬فمقاصد االعتراف ملزمة‬
‫أخالقيا بالنظر إلى شروط التفاعل واإلنصاف التي يشترطها التعدد القيمي ‪.‬‬
‫تنتقد فريزر نموذج السياسة الهوياتية الممركزة حول ذاتها‪ ،‬وتطلق على هذه المجموعة‬
‫“نموذج هوية االعتراف” ( ‪ )The Identity Model of Recognition‬التي تتجاهل‬
‫المشترك اإلنساني وتسقط في تحويل الهوية إلى جوهر ثابت‪  .‬في المقابل‪ ،‬تدافع فريزر‪ P‬عن ”‪ ‬نموذج‬
‫الوضعية‪ )Status Model( ” ‬التي تنبذ الهوية الخاصة وتنتصر للتفاعل االجتماعي بين أعضاء‬
‫الجماعة‪.‬‬
‫تبدو القراءة‪ P‬التي تقدمها فريزر لمساءلة عدالة االعتراف‪ ،‬عبر ثنائيتها الجدلية ‪( ‬جدلية الثقافي‬
‫واالقتصادي)‪ ،‬قراءة تندرج في إطار فعل نسقي تحليلي لبنيات االعتراف ومحايثة للجوانب اإلمبريقية‬
‫والعملية‪ ،‬وبعيدة عن كل تصنيف تاريخي‪ .‬وما يهمنا في قراءة‪ P‬فريزر‪ ،‬هو بحثها عن الحلقات المفقودة‬
‫في نظريات العدالة‪ ،‬من أجل إعادة بناء عدالة متشبعة بقيم إنسانية‪ .‬ولذلك استوجبت إستراتيجية فريزر‬
‫تفكيك البنية الرأسمالية والكشف عن ماهيتها‪ .‬وبهذه اإلستراتيجية تسعى إلى ” إدماج األفضل من‬
‫سياسة إعادة التوزيع مع األفضل من سياسة االعتراف “[‪. ]10‬‬

‫لم يعد مفهوم الطبقة يجيب عن حاجيات معيارية ونفسية لفئات مجتمعية عديدة‪ .‬فالتطورات التي‬
‫عرفتها الحركات االجتماعية‪ ،‬خاصة أواخر القرن العشرين‪ ،‬جعلتها تتحلل من قبضة االختزال الطبقي‪.‬‬
‫واالختزال‪ ،‬ال يعني سوى ممارسة الصمت وإخفاء مطالب ثقافية لالختالف‪ .‬ولهذا‪ ،‬فإن الحركات‬
‫االجتماعية باتت مطالبة‪ ،‬أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬بفتح جبهات المقاومة والصراع‪ .‬لكن هذه المرة ليس‬
‫على أرضية‪“  ‬الصراع الطبقي” بل على أرضية “الصراع من أجل االعتراف” و “الصراع من أجل‬
‫إعادة التوزيع االقتصادي ” ‪.‬‬
‫تعقيب‪ ‬وردود‪ :‬هونت ‪ /‬فريزر‬ ‫‪‬‬
‫يعتبر كل من هونت وفريزر‪ P،‬بـأن االعتراف مبحث أساسي إلعادة بناء النظرية النقدية‪ .‬لكنهما‬
‫يموضعان االعتراف بشكل مختلف‪ .‬يقترح هونت إطارا أحاديا لالعتراف ويستبعد من دائرة اهتمامه‬
‫إطارا آخر ‪.‬ال يستهوي هونت البعد االقتصادي كطرف معادل لالعتراف‪ ،‬ألن آلية السوق الرأسمالي تقع‬
‫في محيط االعتراف‪ .‬ومن ثمة‪ ،‬ف “االعتراف وحده كاف للقبض على كل عجز معياري للمجتمع‬
‫المعاصر وعلى كل السيرورات االجتماعية وكل التحديات السياسية التي تواجه أولئك الذين يسعون إلى‬
‫التغيير”[‪ .]11‬في المقابل‪ ،‬ترى فريزر بأن االعتراف وحده ” بعيد عن فهم مجمل الحياة األخالقية “[‬
‫‪  ]12‬وتضيف قائلة ” االعتراف‪ ،‬بالنسبة لي بعد حاسم‪ ،‬لكنه بالنظر إلى العدالة االجتماعية‪ ،‬فإنه بعد‬
‫محدود “[‪.]13‬‬
‫ففي الوقت الذي تعتبر فيه فريزر أن ” المناصفة التشاركية ” تشكل األساس النظري إلشكالية عدالة‬
‫االعتراف‪ ،‬فإن هونت يرى في هذا المبدأ مجرد إعادة إنتاج لذلك “الخطأ الفادح الذي سقطت فيه‬
‫النظرية الماركسية”[‪ ]14‬لما ركزت تصورها المادي حول البروليتارية كطبقة أحادية الجانب‪ .‬وهنا‬
‫تكون النظرية التقليدية قد أساءت إلى االعتراف‪ ،‬ألنها ركزت فقط على مفهوم المصلحة‪.‬‬
‫ينطلق هونت من التقسيم الثالثي الذي يقوم عليه االعتراف‪ ،‬وهو تقسيم يشكل تفاعال واندماجا‬
‫اجتماعيا‪ :‬الحب–‪ ‬القانون–‪ ‬التضامن‪ .‬يسترجع بذلك هونت نفس التقسيم الثالثي الهيغلي‪ :‬األسرة‪-‬‬
‫المجتمع المدني‪ -‬الدولة‪ .‬ومن خالل هذا التقسيم‪ ،‬يكون هونت قد احتوى كل انفالت محتمل من شأنه أن‬
‫ينتصب‪ ،‬تحت هذه الذريعة أو تلك‪ ،‬كبؤرة أساسية تدعي لنفسها القدرة على معالجة الخلل المجتمعي‪ .‬لم‬
‫يفكر هونت ولم يخطر على باله قط‪ ،‬أن يمسك باالحتقار كبراديغم منفلت من أعمال هيغل‬
‫وميد‪ )*( ‬ويستعين به كإطار نظري مواز لالعتراف‪ .‬وبالرغم‪ ،‬من أن مفعوالت االحتقار تمارس خدشا‬
‫وجرحا في ” الذات التي طورها الفرد في إطار التبادل البينذاتي “[‪ ،]15‬فإن التجاوز واالنعطاف‪،‬‬
‫اللذين سجلهما هونت‪ ،‬من أجل بناء نظرية االحتقار‪ ،‬ظال في إطار عالقات اجتماعية وفي إطار براديغم‬
‫االعتراف‪.‬‬
‫يعتبر هونت أن الشكل األولي للتفاعل االجتماعي‪ ،‬هو الحب الذي يقوم على الحياة األخالقية الطبيعية‪.‬‬
‫والحب يجسد تفاعال طبيعيا‪ ،‬ألنه يقوم على احتياجات الفرد الملموسة‪ .‬وبذلك يتمظهر الحب كشكل من‬
‫أشكال االعتراف و ” يندرج في إطار الروابط العاطفية القوية بين عدد محدود من األشخاص‪ ،‬سواء‬
‫على مستوى العالقات الشبقية أو الصداقة أو األسرة “[‪.]16‬‬
‫أما الجانب القانوني في عملية االعتراف‪ ،‬أو لنقل االعتراف القانوني يتطلب تحديد العالقة بين الذات‬
‫واآلخر‪ .‬فالذات كحاملة للقانون يجب أن تكون على وعي بالمعايير االجتماعية لتبدي اعترافا باآلخر من‬
‫حيث إنه حامل لنفس المعايير والقوانين‪ .‬وبما أن الذوات ” تخضع لنفس القانون‪ ،‬فإن الذوات القانونية‬
‫تعترف تعاضديا ببعضها البعض كأشخاص قادرين على حمل حكم عقالني ومستقل حول المعايير‬
‫األخالقية “[‪. ]17‬‬
‫أما فيما يخص التضامن أو التقدير‪ ،‬فإنه ينشأ من خالل ” تجربة المقاومة المشتركة ضد القمع‬
‫السياسي “[‪]18‬الذي تتعرض له الجماعة‪ .‬وهذا الشكل من التضامن‪ ،‬يولد عالقات بينذاتية وتقديرية‬
‫بين األشخاص‪ ،‬حسب القدرات والمؤهالت التي يتميز بها كل شخص إزاء القيم المشتركة ‪.‬‬

‫تشكل هذه العناصر الثالثة‪ ،‬أرضية ثقافية ممتازة لمعالجة كل القضايا المجتمعية (الدينية واإلثنية‬
‫والعنصرية والظلم واالستغالل… ) التي تنتصب في وجه النظرية النقدية كمرجعية امبريقية‪ .‬وأي‬
‫مشكل يخص عدالة التوزيع االقتصادي يجب فهمه في إطار النموذج المعياري لالعتراف‪ .‬إن المنعطف‬
‫النظري لالعتراف يتجاوز الثقب التصوري لمفهوم الطبقة البروليتارية التي تتوحد تحت إطار جماعة‬
‫مشتركة تحركها مصالح ذاتية نفعية‪ .‬ومن شأن هذا التصور المادي‪ ،‬أن يضفي تشويشا على براديغم‬
‫االعتراف‪.‬‬
‫يؤاخذ هونت على فريزر تصنيفها للنماذج المثالية‪ ،‬حسب أطروحة ” الرمزي ” و ” المادي “‪ ،‬فينفلت‬
‫من هذا التصنيف نماذج ال تحظى بالدعاية اإلعالمية في الفضاء العمومي‪ .‬فالهويات االجتماعية التي‬
‫تعاني من شدة البؤس توجد خارج الفضاء العام السياسي‪ .‬وبالرغم من انخراط هذه الهويات في إطار‬
‫حركات مدنية تحررية‪ ،‬فهي تقبع دوما على الهامش وال تثير اهتمام النظرية النقدية‪ .‬تدعم فريزر‬
‫الحركات االجتماعية‪ ‬المرئية‪ ‬التي تحظى بشرعية الصراع والمقاومة والفعل‪ .‬لقد تجاهلت فريزر‬
‫“العديد من الصراعات االجتماعية التي تنشأ على ظالل الفضاء السياسي العمومي”[‪ .]19‬نذكر من‬
‫أهمها‪ :‬حقوق الديانات الجديدة‪ ،‬النزعات األصولية‪ ،‬النزعات المحلية‪ ،‬اإلثنية البيضاء…هذا التجاهل‬
‫للحركات‪ ‬الالمرئية‪ ‬يعني أن الحركات‪ ‬المرئية‪ ‬تشكل مركز الصراع االجتماعي‪.‬‬
‫يدفع هونت بسياسة االعتراف إلى مداها القصوى‪ ،‬من أجل احتضان حركات اجتماعية تقليدية ممتدة في‬
‫ثنايا التاريخ‪ ،‬منذ مائتي سنة‪ ،‬لكنها أصبحت قوية بين ‪ 1800‬إلى ‪ .1960‬على عكس فريزر‪ ،‬فإنها‬
‫تتجاهل هذه الحركات التقليدية “من أجل الوصول إلى فكرة مفادها أن الصراع من أجل االعتراف ظاهرة‬
‫تاريخية جديدة “[‪. ]20‬‬
‫ترى فريزر‪ P،‬أن ما تقدم به هونت أسقطه ضحية فشل مزعج ‪ ،‬ألنه اختزل كل اإلشكاالت المجتمعية في‬
‫ثقافة االعتراف فقط‪ .‬لقد فشل في تأمين مصداقية المرجعية اإلمبريقية للنظرية النقدية‪ .‬فانغمس في‬
‫التعالي على حساب المحايث‪ ،‬فأنتج بذلك سيكولوجية أخالقية لالعتراف على حساب السوسيولوجية‬
‫السياسية‪ .‬لم يهتم هونت بالتجربة السياسية لمعاناة الهويات‪ ،‬وهو بذلك يأخذ مسافة محترمة عن مجال‬
‫الصراعات السياسية والمقاومات النضالية‪ .‬لقد سقط الفضاء العممومي الشعبي أو المتعدد‪ ،‬كعمق‬
‫استراتيجي من حسابات هونت‪ ،‬ولم ينتبه إلى مطالب الحركات االحتجاجية الغاضبة التي تسعى إلى‬
‫بلورة ‪  ‬قرارات منصفة الحتواء المعاناة السياسية المجتمعية‪ .‬يبدو أن هونت غير متأثر بمطالب‬
‫وقرارات الفضاء العمومي السياسي‪ ،‬حيث تتفاعل تجربة المعاناة واإلحساس بالظلم‪ .‬فإستراتيجيته تقوم‬
‫على “دمج النظرية النقدية بسيكولوجية أخالقية للمعاناة ما قبل سياسية “[‪ ،]21‬إنه يبحث عن معاناة‬
‫لم تعرف طريقها بعد إلى التسييس‪ .‬ليس ثمة سيكولوجية أخالقية مستقلة‪ ،‬فالحياة اليومية رحلة ممتدة‬
‫من المعاناة‪ ،‬األمر الذي يتطلب مناصفة تشاركية الحتواء االستياء االجتماعي‪ .‬ففي “المجتمعات‬
‫الديمقراطية ال يوجد جدار يعزل الحياة اليومية عن النزاعات السياسية التي يعرفها الفضاء العمومي “[‬
‫‪.]22‬‬
‫تعيب فريزر على هونت مقاربته لالعتراف من خالل تبنيه “نموذج هوياتي بنفحات هيغيلية‪ ،‬حيث يدرك‬
‫االعتراف كتطور أساسي للوعي الذاتي”[‪ .]23‬تعارض فريزر النموذج الهوياتي بالنموذج القانوني‪.‬‬
‫وهذا التعارض يفضي إلى أن النموذج األول موغل في الذاتية والطائفية‪ ،‬ألنه يتشكل تحت روابط‬
‫عاطفية ونزوعات شعورية‪ .‬في حين‪ ،‬يتشبث النموذج الثاني ببناء عدالة اجتماعية‪ُ  ‬م َمأسسة‪ ،‬يشكل‬
‫الفضاء العمومي والمناصفة التشاركية قوامها‪ .‬تنتقد فريزر المنحى السيكولوجي‪ ،‬ألنه يختزل الظلم‬
‫بكافة أشكاله في مواقف شخصية وفردية ويسقط بذلك في النزعة االختزالية الثقافوية‪.‬‬
‫يمكن نعت المقاربة النقدية لفريزر‪ ،‬كونها ال تأسيسية‪ .‬على عكس مقاربة هونت التي تبحث عن نقطة‬
‫مركزية إلضاءة مجال االعتراف‪ .‬تتوزع مقاربة فريزر‪ P‬نحو مراكز عديدة‪ ،‬بحيث ال تقف عند شاطئ و‬
‫ال ترسو عند مرفأ‪ ،‬إنها جانحة على الدوام نحو التعدد‪ .‬في حين أن النظرية النقدية كما يتصورها هونت‬
‫“عبارة عن صرح نظري ُبني بشكل مدهش من األسفل إلى األعلى “[‪.]24‬‬
‫تعقيب‪ ‬وردود‪ :‬فورست ‪ /‬فريزر‬ ‫‪‬‬

‫من باب إغناء هذا النقاش الذي يدور حول موضوع االعتراف‪ ،‬يتدخل راينر فورست معقبا‪ :‬هل تتطلب‬
‫سلط العدالة توزيعا ماديا أو ثقافيا ؟‬
‫تقوم النظرية النقدية لدى فورست على نقد “سلطة المعيار” االجتماعي‪ ،‬أي نقد العالقات السلطوية‪.‬‬
‫فعندما “ينخرط الشعب في صراعات ضد الالعدالة‪ ،‬فإنه يصارع أشكاال من السيطرة “[‪ .]25‬وقد‬
‫يساهم هذا النقد في منح فرص تعبيرية وفي انبثاق عدالة اجتماعية جديدة تشمل ضحايا سوء التوزيع‬
‫الثقافي واالقتصادي‪ .‬ويعتبرالتبرير‪ ) Justification ( ‬بؤرة مركزية لبناء هذا الرهان النظري‬
‫النقدي ‪.‬‬
‫إن الشخص الذي يطالب‪ ‬بالتبرير‪ ،‬هو ذلك الشخص الذي يقع خارج التوزيع واإلنتاج‪ ،‬كما أنه عرضة‬
‫لممارسات احتقارية تخدش كرامته‪ .‬وعليه‪ ،‬فالجهات المسؤولة عن هذا الفعل‪ ،‬أكانت‪  ‬سلطات سياسية‬
‫أو اجتماعية‪ ،‬يجب أن تقدم تبريرات عن ممارسات اقترفتها وخلفت آثارا مادية ونفسية على ضحايا‬
‫سلبوا من حقهم في الكالم والفعل‪ ،‬كما تعرضوا لإلهانة وعدم االحترام ‪.‬‬
‫ُ‬
‫يبدو أن فورست يدافع عن سياق االعتراف في إطار فضاء‪ ‬التبرير‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإن فورست يعيد‬
‫للسؤال الفلسفي اإلغريقي وجاهته‪ :‬ما علل األشياء ومبادئها ؟ إنه يطالب بأصل الفعل وال يتوجه إلى‬
‫نتائج الفعل‪ .‬فالمسألة تبدأ بسؤال مركزي‪“  :‬من يضع األسئلة ومن يمتلك سلطة اإلجابة ؟”[‪.]26‬‬
‫لما تتحدث فريزر عن سوء التوزيع‪ ،‬كشكل من أشكال الظلم االجتماعي‪ ،‬فإنها تطالب بتفعيل‪ ‬‬
‫مبدأ‪ ‬المناصفة التشاركية‪ ‬من أجل سيادة اإلنصاف االجتماعي‪ .‬لكن‪ ،‬فورست ال يروقه ربط العدالة‬
‫بمبدأ‪ ‬المناصفة التشاركية‪ ،‬وإنما يربط العدالة بسياسة‪ ‬التبرير‪ ،‬ولذلك يراهن على أن “األسئلة في‬
‫إطار الفلسفة السياسية يجب أن تبدأ‪ ‬بالتبرير‪ ، ]27[“ ‬طالما أن البؤرة األساسية في التوزيع لم‬
‫تكشف عن تبريراتها‪.‬‬
‫ال يجب على الجماعة السياسية أن تضع مسألة التوزيع في مربع البحث عن األسباب‪ .‬فالبحث عن‬
‫األسباب ال يشخص الوضعية القلقة لعدالة االعتراف‪ .‬فالنظام التبريري ال ينطلق من هذه األسئلة ‪ :‬لماذا‬
‫هذا التوزيع وليس ذاك؟ أو لماذا هذه الجماعة تملك دون الجماعة األخرى؟ إن الهاجس االقتصادي‬
‫والسياسي واالجتماعيللتبرير‪ ،‬يتجه صوب تحديد الجهة المالكة أو الجهة الموزعة للخيرات‪ .‬ثم‪ ،‬يسأل‬
‫عن دعاويها المعيارية ؟ وكيف تتمثل صورة الهامش المنزوع من حقوقه؟ …‬
‫إن أزمة التوزيع بشقيه االقتصادي والسياسي‪ ،‬تعود حسب فورست‪ ،‬إلى صياغة سلطة معيارية خارج‬
‫اإلرادة التبريرية للجماعة‪ .‬والسلطة على هذا النحو هي ” قاعدة بدون‪ ‬تبرير“[‪ .]28‬فالجماعة من‬
‫حقها أن تنخرط في مطالبة‪ ‬تبريرات‪ ‬معقولة وعادلة وملموسة‪ ،‬ألن النظام المعياري ال يكتسي‬
‫شرعيته السياسية واالجتماعية‪ ،‬إال من خالل‪ ‬تبرير‪ُ  ‬م َمأسس‪ .‬فالتوزيع المأمول هو توزيع “سلطة‬
‫المعيار“‪ ،‬ألن السلطة ال تتمركز في جهة ما (السلطة التقليدية) وال تمتد في ثنايا المجتمع بصورة خفية‬
‫(السلطة التوزيعية)‪ ،‬إنما السلطة “معياري محايد “[‪ .]29‬يعني‪ ،‬أن السلطة يجب أن تندرج في سياق‬
‫االعتراف‪ ،‬ولذلك فهي ” ليست بجيدة وال بسيئة “[‪]30‬طالما أنها محايدة ‪.‬‬

‫في هذا المسعى‪ ،‬يقدم لنا فورست مثال الكعكعة‪ :‬لنفترض أن ربة بيت تتأهب لتقسيم كعكعة‪ ،‬فالبد أن‬
‫تسـأل نفسها عن كيفية التوزيع ؟ وفي هذه اللحظة‪ ،‬البد أن نتساءل من جهتنا‪ :‬هل السلطة حاضرة‬
‫لحظة التوزيع أم قبل التوزيع ؟ ثم‪ ،‬من لعب دور األم ؟ ومن كان وراء إنتاج الكعكعة ؟ ومن‬
‫“ حدد بنيات اإلنتاج والتوزيع؟ “… إنها أسئلة انطولوجية ووظيفية وأخالقية‪ ،‬تتعلق أوال‪ ،‬بكيفية وجود‬
‫الشيء‪ ،‬ثم بوظيفة الفاعل االجتماعي أو السياسي‪ .‬وأخيرا بالمسؤولية األخالقية‪.‬‬
‫يحرص فورست على توزيع الخيرات وفق “إجراءات‪ ‬تبريرية‪ ‬مؤسسة”[‪ ،]31‬لتحديد المسؤولية‪.‬‬
‫تبدأ األسئلة لما يدرك الشخص أنه يرزح تحت ثقل معايير أو ممارسات مؤسساتية‪ُ ،‬تسيد نظامها‬
‫المعياري ضدا على إرادات أشخاص‪ ،‬مما يدفعهم إلى طلب افتحاص صالحية هذه المعايير مع إمكانية‬
‫رفضها أو إعادة تحديدها‪ .‬فالمعيار ال يكتسي شرعيته إال على أرضية‪ ‬تبريرية‪ .‬ولهذا يؤكد فورست‬
‫على أنه‪“  ‬يجب على المعايير أن تكون دائما مبررة وفي توافق مع دعاوى الصالحية “[‪.]32‬‬
‫يتطلب مبدأ التبرير كواجب أخالقي‪ ،‬معيار ”‪ ‬التبادلية والتعميم” (‪Reciprocity and‬‬
‫‪ .)Generality‬تعني‪ ‬التبادلية‪ ‬أنه “ال يمكن ألي أحد أن يرفض مطالب خاصة باآلخرين “[‬
‫‪ . ]33‬أما‪ ‬التعميم ‪ ،‬فإنه يعني تلك المعقولية التي تحظى باتفاق الجميع‪ ،‬أي “أن تكون دعاوى‬
‫القواعد األساسية العامة ذات صالحية مشتركة “[‪ .]34‬إن معيار “التبادلية والتعميم”‪ ‬يجب أن يكون‬
‫خطابيا‪ .‬ففي إطار التوزيع‪ ،‬فالعالقة بين المتحاورين تتوزع حول قضايا تخص ”‪ ‬من‪ ( ” ‬الملكية )‬
‫أو “كيف” (كيفية التوزيع )‪ ،‬ألن مثل هذه األسئلة ترمي فقط إلى الحصول على مبدأ المساواة وتكافؤ‬
‫الفرص‪ .‬أما بخصوص إعادة بناء الحجج‪ ،‬التي يفترضها المبدأ الخطابي الهابرماسي‪ ،‬فإنه ينطلق من‬
‫شروط أخالقية جماعية‪  ‬لتبرير معيار “أحسن حجة“‪ .‬لكن‪ ،‬سلطة‪ ‬التبرير‪ ‬الخطابي الذي يفترضه‬
‫فورست‪ ،‬يختلف مع هذه المسارات التي تسعى إلى بناء افتراضات خطابية أو إلى بناء مبدأ الخطاب‪ .‬‬
‫يتوجه فورست نحو بناء خطاب أخالقي (الحق في التبرير) نظير خطاب السلطة (سلطة المعيار)‪ .‬وفي‬
‫خضم هذه السيرروة التي تتطلع إلى االعتراف‪ ،‬تتبلور األسئلة التالية‪ ” :‬لماذا فعلت هذا بي ؟ ” أو ”‬
‫لماذا هذا القانون وليس قانونا آخر؟ ” أو ‪ ” ‬لماذا هذه الصياغة وليست صياغة أخرى؟”… وهذه‬
‫األسئلة تتطلب معنيين‪ :‬معنى يخص طلب تفسير حقيقي “ماذا سبب لي فعلك ؟ “‪ .‬ومعنى يتطلب تبريرا‬
‫أخالقيا ” لماذا فكرت في هذا ؟ ” ‪ .‬فإذن‪ ” ،‬كل شخص أخالقي له حق‪ ‬الفيتو‪ ‬ضد أفعال أو معايير‬
‫غير مبررة أخالقيا‪ .‬كما له الحق في أن يثبت ويطالب باألسباب المالئمة “[‪. ]35‬‬
‫إن معيار ”‪ ‬التبادلية والتعميم” بوصفه معيارا خطابيا (طلب وتقديم‪ ‬التبرير) شكل “منعطفا سياسيا”‬
‫إزاء النظرية النقدية للعدالة بوصفها نقدا للعالقات‪ ‬التبريرية‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬فإن “العدالة‪ ،‬أوال‬
‫وقبل كل شيء‪ ،‬نهاية سيطرة تعسفية غير مبررة “[‪.]36‬‬

‫ففي إطار الردود التي تبديها فريزر حول تعقيبات فورست‪ ،‬فإنها ترى أن نقط االلتقاء بينهما كثيرة‬
‫من بينها‪:‬‬
‫يجب أن تكون النظرية النقدية منفتحة على سياقات االعتراف‪ ،‬وفي نفس اآلن أحادية‬ ‫‪‬‬
‫المعيار‪ ” .‬أتفق مع فورست أن النظرية النقدية للمجتمع المعاصر ينبغي أن تكون نظريا اجتماعية‬
‫ومعياريا أحادية ومتعددة األبعاد “[‪. ]37‬‬

‫يجب أن تكون أهداف النظرية النقدية ممأسسة وتحريرية وعملية‪.‬‬ ‫‪‬‬


‫نظرية هونت النقدية مشوشة ومضطربة‪ ،‬من زاويتين‪ :‬األولى ”ال يستطيع االعتراف‬ ‫‪‬‬
‫األحادي الجانب تحديد أنواع كبرى للظلم البنيوي في المجتمع المعاصر‪ ،‬ألن الظلم التوزيعي ليس‬
‫دائما نتاج سوء االعتراف‪ ،‬ولذلك تحتاج النظرية النقدية إطارا تفسيريا متعدد األبعاد”‪ .‬أما الثانية‪” :‬‬
‫يفشل االعتراف أحادي الجانب في إمداد األساس المعياري المالئم للنقد‪ ،‬ألن المفهوم الغائي‬
‫لالعتراف ال يمكنه تبرير التزامات العدالة داخل التعددية اإلتيكية‪ .‬وتحتاج النظرية النقدية إلى الفلسفة‬
‫السياسية التي تقوم على فكرة الواجب‪ ،‬حيث ينبغي أن تكون أحادية المعيار “[‪.]38‬‬

‫تسمح المقاربة الخطابية لكل المتضررين بالمشاركة وتبادل الحجج ‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫تصور السيرورة الخطابية حوارية (‪ )Dialogically‬وليست مناجاة داخلية (‬ ‫‪‬‬


‫‪. )Monologically‬‬
‫وبالرغم من نقط االلتقاء التي تبديها فريزر‪ ،‬فإنها بالمقابل تشير إلى دوائر االختالف بينها وبين‬
‫فورست‪ .‬فإذا كانت المقاربة النظرية‪ ‬التبريرية‪ ‬تستعين ب” النحو الشكلي”‪  ‬أو “الفرضيات النحوية”‬
‫في إطار العالقات الحوارية بين األعضاء‪ ،‬فإن فريزر على العكس من ذلك‪ ،‬ففي مقاربتها التشاركية‬
‫تستعين بالعالقات االجتماعية بين األطراف المتحاورة‪ .‬ففي هذا الصدد‪ ،‬ترتبط فريزر ” بالسياق البنيوي‬
‫االجتماعي”[‪ ،  ]39‬على عكس فورست الذي يركز على الجوانب الداخلية‪ ،‬على مستوى السيرورة‬
‫التشاورية‪ ،‬من خالل “الفحص الدقيق للتركيب اللغوي النحوي”[‪  .]40‬ويبدو أن حصة النقد‪ ،‬في‬
‫هذه النقطة بالذات‪ ،‬التي حاز عليها هونت‪ ،‬هي نفسها التي سرت على فورست ‪.‬‬
‫تؤاخذ فريزر على فورست نزعته السياسوية‪ ،‬ألنه يتصور المجال السياسي كبعد أساسي للعدالة‪.‬‬
‫فالرؤية‪  ‬السياسية في منظور فورست تشكل في حد ذاتها “عالما أوسع رحابة وأكثر استقاللية من‬
‫نظرية ثنائية األبعاد”[‪ .]41‬على عكس نظرية ثنائية األبعاد‪ ،‬فإنها ترصد وتتربص على مساحة نقدية‬
‫واسعة بكل مظاهر السلطة التي تسود فضاءات الحياة االجتماعية‪ .‬إنها تالحق ما يعجز عن مالحقته‬
‫فورست‪ ،‬ألن مجال اشتغاله ورصده‪ ‬لتبرير‪ ‬الفضاءات االجتماعية ضيق‪ .‬تقطع النظرية النقدية لفريزر‬
‫مع االختزال السياسي وهيمنة البعد السياسي‪ ،‬لتقتفي آثار السلطة في ثنايا الممارسات االجتماعية‪.‬‬
‫فالنزعة السياسوية في النظرية النقدية لفورست‪ ،‬تضيق الخناق على مجال النقد المعياري‬
‫للممارسات‪ ‬التبريرية‪ ،‬لكونها تصور األشخاص على نفس موجة اإلرسال واالستقبال‪ ‬للتبرير‪ ‬بدون‬
‫خلفية التموقع االجتماعي والقدرة على تجسيد االستقاللية والمهارة الذاتية‪ .‬وبهذا االختزال‪ ،‬ترفض‬
‫فريزر الممارسات‪ ‬التبريرية‪ ‬في نطاق سياسي خاص‪ ،‬لكونها ” تقيد نمطا من الممارسة االجتماعية‬
‫التي تفيد طلب والحصول على‪ ‬تبريريات‪ ‬سياسية “[‪ .]42‬وبهذا المنطق‪ ،‬تدفع فريزر بالنقد‬
‫المعياري للممارسات االجتماعية إلى حدوده القصوى‪ ،‬ليشمل فضاءات مهجورة كبرى تشكل أساس‬
‫الحياة االجتماعية لألفراد ‪.‬‬
‫كلمة الختم‬

‫إن الخطاب النقدي اليوم يتوجه إلى محاصرة كل أشكال الظلم‪ ،‬سواء في بعده األحادي أو الثنائي أو‬
‫التعددي‪ .‬فالجماعات السياسية مطالبة بتكثيف الجهد‪ ،‬من أجل تغيير موازين قوة المعيار وصالحيته‪،‬‬
‫سواء لفائدة أحسن حجة‪ ،‬أو لفائدة منطق التبرير‪ ،‬او لفائدة التشارك … فهذه الرهانات المتعددة‪ ،‬إنما‬
‫تسعى إلى مواجهة الثقوب التصورية الليبرالية‪ .‬ذلك أن النسق الليبرالي تقوم إستراتيجيته الصماء على‬
‫خلق ظواهر اجتماعية قلقة تتفاعل امتداداتها داخل وخارج سيادتها الترابية‪.‬‬

‫لم تعرف النظرية النقدية انعطافات فلسفية‪ ،‬بالقدر الذي عرفته مع هابرماس (النظرية التواصلية) ومع‬
‫هونت (نظرية االعتراف) ومع فريزر (االعتراف السياسي واالقتصادي) ومع فورست (نظرية اإلنصاف‬
‫التبريري)‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬تكون النظرية النقدية قد اغتنت من جراء تحوالت هامة لحقت بناءها النظري‬
‫االجتماعي‪ ،‬األمر الذي مكنها من السفر نحو جغرافيات عديدة‪ ،‬فاستقبلت بإعجاب شديد‪.‬‬
‫المصادر‪ ‬والمراجع‪:‬‬

‫‪Fraser Nancy.Justice Interrupus :Critical Reflections‬‬ ‫‪‬‬


‫‪.on The ‘Postsocial’ Condition.Routledge.1997‬‬

‫?‪Fraser Nancy.Qu’est-ce que la justice sociale ‬‬ ‫‪‬‬


‫‪Reconnaissance et redistribution. Trad.par.Estelle‬‬
‫‪.Ferrarese. La découverte.2005‬‬

‫‪Fraser Nancy and Axel Honneth. Redistribution or‬‬ ‫‪‬‬


‫‪Recognition ? A Political-Philosophical‬‬
‫‪Exchange.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane‬‬
‫‪.Wilke.Verso.London.2003‬‬
Fraser Nancy.Transnationalizing The Public Sphere:On 
The Legitimacy and Efficacity of Public Sphere Opinion in
Post-Westphalian World.in.Identities,Affiliation and
Allegiances.Edit.by.Seyla Benhabib and Danille
.Petranovic.Cambridge University Press,2007

Fraser Nancy.Fortunes of Feminism: From State- 


.Managed Capitalism to Neoliberal Crisis.Verso.2013

Fraser Nancy.Distorted Beyond all Recognition:A 


Rejoinder to Axel Honneth.in. Redistribution or Recognition
? A Political-Philosophical Exchange.Edit.by.Fraser and
Honneth.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane
Wilke.Verso.London.2003

Forst Rainer. Justification and Critique:Towards a 


Critical Theory of Politics.Trans.by.Ciaran Cronin.Polity
.Press.2011

Honneth Axel.La lutte pour la reconnaissance.Traduit 


de L’Allemand Par.Pierre Rusch.Edition.Cerf.2010

Rainer Forst.The Right to Justification: Elements of a 


constructivist Theory of justice.Trans.Teffrey Flynn.
Columbia University Press.2007

Rainer Forst.First-Things- 
First.Redistribution;Recognition and Justification.in.Adding
to Injury:Nancy Fraser Debates Her Critics.Edited by.Kevin
Olson.Verso.2008
:‫مواقع الكترونية‬
Estelle Ferrarese. Nancy Fraser ou la théorie du « 
prendre part ».in.http://www.laviedesidees.fr/Nancy-Fraser-
ou-la-theorie-du-prendre-part.html.PDF
Le Goff Alice. The Political Theory of 
Recognition.Revue Du MAUSS Permanente (9 Decembre
2007).in. http://www.journaldumauss.net/?The-Political-
Theory-of
Vincent Casanova et Gaelle Krikorian.Entretien avec 
Nancy Fraser, Devenir
Pairs.in. http://www.vacarme.org/article2005.html
Ferrarese Estelle, Nancy Fraser ou la théorie du «  ]1[
prendre part ».p.1.in. http://www.laviedesidees.fr/Nancy-
Fraser-ou-la-theorie-du-prendre-part.html.PDF
Casanova Vincent et Gaelle Krikorian.Entretien avec  ]2[
Nancy Fraser, Devenir Pairs.in.
http://www.vacarme.org/article2005.html
Nancy Fraser.Justice Interrupus :Critical Reflections on ]3[
.The ‘Postsocial’ Condition.Routledge.1997.p.188
Nancy Fraser.Qu’est-ce que la justice sociale ? ]4[
Reconnaissance et redistribution. Trad.par.Estelle Ferrarese.
.La découverte.2005.p.15
.Ibid.p.40 ]5[
.Ibid.p.50 ]6[
.‫ في حين الوضعية التحويلية تسعى إلى التحرر‬،‫(*) ترمي الوضعية التصحيحية إلى إعادة االعتبار‬ 
‫ في‬،‫ فإن اإلستراتيجية التصحيحية تقود إلى الدفاع عن كرامة الهويات المثلية‬،‫فإذا أخذنا حالة المثلية‬
،‫ الغيرية الجنسية في مقابل المثلية‬:‫حين أن اإلستراتيجية التحويلية تسعى إلى تفكيك المعيار الثنائي‬
‫ إن الحلول التصحيحية تجهز‬،‫ وعموما يمكن القول‬.‫) تحقيقه‬Queer( ‫وهذا الذي تود حركة كوير‬
.‫ فإنها تروم إحداث انعطافات وتغييرات جذرية‬،‫ أما الحلول التحويلية‬.‫على االختالف وتجمده‬
Nancy Fraser and Axel Honneth. Redistribution or  ]7[
Recognition ? A Political-Philosophical Exchange.Trans.Toel
Glob,Tames Ingran and Christiane
.Wilke.Verso.London.2003.p.36
Nancy Fraser.Transnationalizing The Public Sphere:On  ]8[
The Legitimacy and Efficacity of Public Sphere Opinion in
Post-Westphalian World.in.Identities,Affiliation and
Allegiances.Edit.by.Seyla Benhabib and Danille
.Petranovic.Cambridge University Press,2007.p.61
Nancy Fraser.Fortunes of Feminism: From State-Managed  ]9[
.Capitalism to Neoliberal Crisis.Verso.2013.p.166
Nancy Fraser and Axel Honneth. Redistribution or  ]10[
.Recognition? op.cit.p.27
Nancy Fraser.Distorted Beyond all Recognition:A  ]11[
Rejoinder to Axel Honneth.in. Redistribution or Recognition ?
A Political-Philosophical Exchange.Edit.by.Fraser and
Honneth.Trans.Toel Glob,Tames Ingran and Christiane
.Wilke.Verso.London.2003.p.199
.Ibid.199 ]12[
.Ibid.199 ]13[
Nancy Fraser and l Honneth Axel. Redistribution or  ]14[
.Recognition?.op.cit.p.124
‫ ) فيلسوف أمريكي‬1863 – 1931( )George Herbert Mead (  ‫(*) هربت ميد‬
‫ من أعماله “الحركات‬.‫ ويعتبر واحدا من مؤسسي علم النفس االجتماعي‬.‫وعالم اجتماع ومحلل نفساني‬
…”‫الحاضر‬    ‫الفكرية في القرن التاسع عشر” و ” فلسفة‬
Honneth Axel.La lutte pour la reconnaissance.Traduit  ]15[
.de l’Allemand par.Pierre Rusch.Edition.Cerf.2010.p.115
.Ibid.p.117 ]16[
.Ibid.p.134  ]17[
.Ibid.p.156 ]18[
Axel Honneth. Redistribution as Recognation: A  ]19[
Response To Nancy Fraser.in. Redistribution or
.Recognition?.op.cit.p.122
.Ibid.124 ]20[
Nancy Fraser.Distorted Beyond all ]21[
.Recognition.op.cit.p.203
.Ibid.p.199 ]22[
Alice Le Goff. The Political Theory of Recognition.Revue  ]23[
Du MAUSS Permanente  (9 Decembre 2007).in.
http://www.journaldumauss.net/?The-Political-Theory-of
Nancy Fraser.Distorted Beyond all ]24[
.Recognition.op.cit.p.207
Rainer Forst. Justification and Critique:Towards a  ]25[
Critical Theory of Politics.Trans.by.Ciaran Cronin.Polity
.Press.2011.p.21
.Ibid.p.1 ]26[
.Ibid.p.2 ]27[
.Ibid.34 ]28[
.Ibid.p.7 ]29[
.Ibid.p.7 ]30[
Forst Rainer.The Right to Justification: Elements of a  ]31[
Constructivist Theory of Justice.Trans.Teffrey Flynn.
.Columbia University Press.2007.p.34
.Ibid.p.3 ]32[
.Ibid.6 ]33[
.Ibid.6 ]34[
.Forst Rainer.The Right to Justification.op.cit.21  ]35[
Forst Rainer.First-Things- ]36[
First.Redistribution;Recognition and Justification.in.Adding
to Injury:Nancy Fraser Debates Her Critics.Edited by.Kevin
.Olson.Verso.2008.p.315
Nancy Fraser. Prioritizing Justice as Paticipatory Parity.  ]37[
A Reply To Kompridis and Forst.in. Adding to
.Injury.op.cit.337
.Ibid.p.336 ]38[
.Ibid.p.339 ]39[
.Ibid.p.339 ]40[
Fraser Nancy.Prioritizing Justice as Participatory Parity.A
Reply To Kompridis and Forst.in.Adding Insult to
.Injury .op.cit.p.318
.Ibid.p.345]42[
‫*باحث في الفلسفة السياسية المعاصرة‬

You might also like