You are on page 1of 23

‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬

‫( ‪) 102‬‬

‫الفكر املقاصدي املعاصر‬


‫من أشكال التمجيد إلى إشكال التجديد‬

‫د‪ .‬هشام تهتاه‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪2‬‬

‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‬


‫من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫د‪ .‬ه�شام تهتاه‬


‫جامعة حممد اخلام�س‪ ،‬كلية الآداب والعلوم الإن�سانية‪/‬الرباط‬

‫مقدمة‬
‫ي�شهد املوروث الثقايف خلزائن الفكر املقا�صدي على جت ّدره يف تاريخ الإ�سالم‪ ،‬خالف ًا‬
‫ملا يظنه البع�ض‪ ،‬جت ّدر الإ�سالم يف �أتباعه‪ ،‬و�إمنا اختلفت مراتب الظهور وال�ضمور باختالف‬
‫الع�صور َ�س ْ ًيا على ُ�س َّن ِة �سائر العلوم‪ ،‬فلم يظهر (الفكر املقا�صدي) علما م�ستقال بذاته‪ ،‬مم ّيزا‬
‫مبناهجه‪ ،‬م�شهورا برجاالته ودواوينه‪� ،‬إال بعد مروره مبراحل عدة‪ ،‬بد ًءا بالإرها�صات الر�شيدة‬
‫بعد ذلك مبل ًغا‬
‫للوحي الإلهي‪ ،‬مرورا مبرحلتي الت�أ�سي�س النظري والتفعيل العملي‪� ،‬إىل �أن بلغ َ‬
‫من الن�ضج والكمال‪ -‬ال ِّّن�سبي‪ ،‬مع زمرة من الأئمة الكبار يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬يتق ّدمهم �إمامهم �أبو‬
‫�إ�سحاق ال�شاطبي (تويف ‪790‬ﻫ)‪ ،‬ذلك الرجل الذي ن�أى بكتاباته يف علم املقا�صد عن �سبيل‬
‫املحاكاة واملتابعة‪ ،‬و�سلك مبباحثها م�سالك دقيقة من النقد واملراجعة‪ ،‬وارتقى بها مراقي �صعبة‬
‫من الإبداع والتجديد‪� ،‬إن على م�ستوى اخلطاب‪� ،‬أو التمثيل‪� ،‬أو التنزيل‪.‬‬
‫تغيت الأحوال‪َ ،‬و َو َّلت الأمور القهقرى‪ ،‬و� َ‬
‫أ�صاب الفك َر املقا�صدي ما �أ�صاب �سائر علوم‬ ‫ثم ّ‬
‫كتب ال�شاطبي‬ ‫ال�شريعة من يب�س وفتور واجرتار‪ ،‬فلم يكتب َمنْ جاء بعد ع�صر ال�شاطبي َ‬
‫مثل ما َ‬
‫ّ‬
‫قط!!‬
‫ثم �شاء اهلل‪ ،‬ع ّز وج ّل‪� ،‬أن يدخل (علم املقا�صد) منعطفا جديدا غاية يف الأهمية‪� ،‬إنه‬
‫منعطف ( الإحياء واال�ستئناف) �إحياء الأفكار‪ ،‬وا�ستئناف اجلهود‪ ،‬وهي امل�س�ؤولية التي انربى‬
‫حلمل �أمانتها ث ّل ٌة من العلماء املهرة يف هذا الفن‪ ،‬منهم الطاهر ابن عا�شور‪ ،‬وعالل الفا�سي‪،‬‬
‫وعبد اهلل دراز‪ ،‬ور�شيد ر�ضا‪ ...‬وغريهم من الذين باعدت بينهم الأقطار‪ ،‬وجمعتهم وحدة‬
‫وجهة الأنظار‪ ،‬فقد كان طموح ه�ؤالء الر ّواد‪ ،‬يف هذه املرحلة‪ ،‬الرجوع ببع�ض الوفاء لعلم املقا�صد‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪3‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫ورجاالته‪ ،‬ف�سعوا جاهدين يف كتاباتهم ودرو�سهم �إىل ا�سرتداد قيمة (علم املقا�صد) امل�سلوبة‪،‬‬
‫و�إقناع العاملني ب�ضرورة �إنزاله مكانته املن�شودة‪.‬‬
‫وما دام الأمر كذلك‪ ،‬ف�إن حقّ (علم املقا�صد) علينا يف هذا الع�صر �أن نع ّمق البحث يف‬
‫ق�ضاياه مبا يخدمه ويف ّعله‪ ،‬ويجعله مرت ِّب ًعا على ُ�س َّدة الفقه‪ ،‬ال �أن جنعل منه ما ّدة ّ‬
‫للتف الفكري‬
‫ومائدة للتف ّكه العقلي كما هو حا�صل يف عدد‪ ،‬غري قليل‪ ،‬من البحوث والر�سائل املكتوبة يف جمال‬
‫(الدرا�سات املقا�صدية)‪.‬‬
‫وبناء على ذلك ف�إن هذه امل�شاركة‪ ،‬يف ندوتكم املباركة‪ ،‬تروم ت�سليط ال�ضوء على مرحلة ما‬
‫بعد الإمام ال�شاطبي‪ ،‬وبال�ضبط مرحلة (الإحياء واال�ستئناف) تلك احللقة الهامة من حلقات‬
‫الإبداع املقا�صدي التي ال تقل �أهمية عن املراحل ال�سالفة؛ لأنها امتداد لها‪ ،‬وبناء على �أ�ساطينها‪،‬‬
‫وا�ستمرار طبيعي ملا ر�سم الأولون يف �إ َّبانها من معامل النهج املقا�صدي الر�شيد‪.‬‬
‫�إن الأوائل من رجاالت علم املقا�صد و�إن كان لهم ف�ضل ال�سبق و�صعوبة البدء‪ ،‬ف�إن للمت�أخرين‬
‫ف�ضائل التتميم والتكميل والتجميل‪ ،‬مع ما تختزله تلكم الكلمات من م�س�ؤوليات امل�سايرة والتفعيل‪،‬‬
‫وما تقت�ضيه من نباهة لتاليف مثبطات ومزالق التنزيل‪.‬‬
‫ّ‬
‫حمطة تفكّر يف‬ ‫و�أهم من ذلك ك ّله �أن ُن َف ِّعل احلوار حول ُ ُ�سبل جعل املرحلة الراهنة‬
‫مكنونات الرتاث املقا�صدي الزاخر‪ ،‬وكيف نعيد قراءته قراءة واعية ناقدة‪َ ،‬ت َت َق َّ�ص ُد بالأ�سا�س‬
‫االرتقاء بالفكر املقا�صدي من خطابات التبجيل والتمجيد‪ ،‬و�آفات التجريد والتعقيد‪ ،‬و�أ�ساليب‬
‫التكرار واالجرتار‪� ،‬إىل ح ّيز التجديد والتقريب‪ ،‬و�سبل التفعيل والتنزيل‪.‬‬
‫�إن احلديث عن (جتديد اخلطاب املقا�صدي) هي دعوة مفتوحة �إىل �إعادة النظر يف هيكلة‬
‫الفكر املقا�صدي‪ ،‬الرتاثي منه واحلديث‪ ،‬من جميع اجلهات‪ ،‬بد ًءا بالت�ص ّورات النظرية‪ ،‬ومرورا‬
‫بال�ضوابط املنهجية‪ ،‬وانتهاء بالتنزيالت العملية‪.‬‬

‫�أهمية التجديد املقا�صدي وجماالته‬


‫ننبه �أوال �إىل �أن الدعوة �إىل جتديد الفكر املقا�صدي اليوم ال تعني �أبدا �إبداع درا�سات جديدة‬
‫م�ستقلة عن �إنتاجات املراحل املا�ضية؛ لتعذر ذلك �أوال‪ ،‬ولأن مبد�أ ن�ش�أة العلوم وتطورها ي�أبى ذلك‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪4‬‬

‫ثانيا‪ ،‬ثم لأن (املوروث املقا�صدي) ميثل لأهل الزمن املعا�صر مادة بحث من جهة‪ ،‬وم�صدر �إلهام‬
‫ال�سديد‬
‫واملوجه ّ‬
‫و�سبب �إعجاب من جهة ثانية‪ ،‬بل ويف كثري من الأحيان يجدون فيه الأ�صل العتيد ّ‬
‫لتقومي وتوجيه حركة االجتهاد املقا�صدي‪ ،‬ولي�س ذلك غريبا بالنظر �إىل ما مت ّيزت به �إجنازات‬
‫الرعيل الأول يف البحث املقا�صدي من عمق يف ال ِف َك ِر‪ ،‬و ُبعد يف النظر‪ ،‬وجودة يف العرب‪...‬‬
‫ومن �أراد د ْرك هذه احلقيقة فليقر�أ كتبهم‪ ،‬وليفت�ش يف ر�سائلهم‪ ،‬وليت�أمل بنات �أفكارهم‪ ،‬ف�إنه‬
‫يحي‪ ،‬ومن الإبداع ما يبهر‪� ،‬سواء على م�ستوى التعريفات اال�صطالحية‪� ،‬أو‬ ‫يجد فيها من الدقة ما ّ‬
‫التق�سيمات الفنية‪� ،‬أو الأبعاد الداللية‪� ،‬أو اخلطى املنهجية‪� ،‬أو التنزيالت الفقهية‪...‬‬
‫ومع ما م�ضى ذكره‪ ،‬ف�إن قانون اختالف �أحوال الع�صور يق�ضي ب�ضرورة التجديد‪ ،‬وواقع‬
‫احلال ينذر بعواقب التقليد؛ لأن هذه احلقائق العيان التي ذكرنا تتبعها ت�سا�ؤالت كثرية‪ ،‬حتتاج‬
‫�إىل التذاكر واملدار�سة‪� ،‬أهمها‪:‬‬
‫ـ هل يلزم الباحثني واملفكرين املعا�صرين التق ّيد بالرتاث املقا�صدي املوروث بر�سومه‬
‫ومناهجه ومت ّثالته‪ ،‬وحتى تعريفاته وتق�سيماته؟‬
‫ـ �ألي�س يف ذلك جماال خ�صبا للإبداع والتجديد؟ فلم التكرار واالجرتار يف اخلطاب املقا�صدي‬
‫املعا�صر!!‬
‫ـ �أمل يخالف املح ّققون‪ ،‬من �أهل املقا�صد‪ُ ،‬‬
‫بع�ضهم ً‬
‫بع�ضا يف كثري من ق�ضايا ومتعلقات علم‬
‫املقا�صد؟‬
‫ـ كيف ميكن االنتقال بالدرا�سات امل�صطلحية من امل�سالك املوغلة يف �صياغة احلدود‪،‬‬
‫و�إح�صاء الألفاظ واال�شتقاقات‪ ،‬وت�أ�صيل الت�سم ّيات والإطالقات‪� ...‬إىل �صياغة ُ�س ُب ٍل التفعيل‪،‬‬
‫ومدار�سة مناهج التنزيل؟‬
‫ـ كيف نرقى بقواعد (الفكر املقا�صدي) من دوائر الظنية �إىل مواقع القطعية واحلاكمية؟‬
‫ـ �أمل يحن وقتُ �إقحام قواعد ونتائج العلوم احلديثة املوثوقة �ضمن م�سالك َد ْرك مقا�صد‬
‫اخلطاب ال�شرعي؟‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪5‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫ـ �ألي�س علماء املقا�صد �أوىل النا�س ب�صياغة م�شاريع النهو�ض احل�ضاري والرقي الأخالقي‬
‫واالجتماعي؟ ف�أين الفكر املقا�صدي ال ّر�شيد‪ ،‬اليوم‪ ،‬من م�شكالت ال�شغل‪ ،‬ومل ّمات االقت�صاد‪،‬‬
‫وف�ساد ال�سيا�سة‪ ...‬وغري ذلك من املجاالت احليوية التطبيقية‪.‬‬
‫ال�ش ِاه ُد املُ َ�ص َّد ُق على �أهل ّية (علماء املقا�صد) يف ال�شهود‬
‫ـ �ألي�ست هذه اجلوانب العملية هي َّ‬
‫احل�ضاري على العاملني؟‬

‫من معامل التجديد يف الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬االرتقاء بالفكر املقا�صدي من‬
‫التب�صر امل�صلحي الوا�سع‬
‫ّ‬ ‫النظر اجلزئي ال�ضيق �إىل‬
‫�إن من �أقوى مع�ض ّدات النظر املقا�صدي تلك املبادئ العامة والأ�صول الكلية التي تزخر‬
‫بها �شريعة الإ�سالم‪ ،‬فاملت�أمل يف حقيقة الأحكام التف�صيلية ب�أعيانها و�أ�سمائها يجدها ال تفي‬
‫بع�شر مع�شار ال�شريعة كما يقال؛ لأن الن�صو�ص متناهية واحلوادث ال متناهية‪ ،‬وحمال �أن ي�ضبط‬
‫املتناهي الالمتناهي‪� ،‬إال �إذا كان الأول متناهي الألفاظ والعبارات دون املعاين والدالالت‪ ،‬وذلك‬
‫هو �ش�أن ن�صو�ص �شريعة الإ�سالم‪.‬‬
‫ولئن كان اخلليفة عمر بن عبد العزيز (تويف ‪101‬ﻫ) قد حت َّدث عن �أهل زمانه فقال‪:‬‬
‫"تد ُُث للنا�س �أق�ضية بقدر ما �أحدثوا من فجور"‪ ،‬ف�إن هذه املقولة ت�صري �أكرث ات�ساعا يف هذا‬ ‫َْ‬
‫ي�صح �أن يقال‪ :‬حتدث للنا�س �أق�ضية بقدر ما �أحدثوا من ُخ ُي ٍور و ُف ُج ٍور؛ وبيان ذلك‬
‫الزمان بحيث ّ‬
‫التغيات الكبرية التي طر�أت يف �شتى جماالت احلياة �أحوجت الإن�سان �إىل �إحداث كثري من‬ ‫�أن ّ‬
‫�أنواع املعامالت احلديثة‪ ،‬كلها تدور بني النفع وال�ضرر‪ ،‬ك�أ�شكال املعامالت املالية احلديثة (�أبناك‬
‫وم�صاريف وبور�صات ووكاالت حتويل الأموال‪ )...‬و�أنواع البيوع امل�ستحدثة (كالبيع بالإيجار)‬
‫و�أ�ساليب الإ�شهار لت�سريق ال�سلع واخلدمات‪ ،‬وعقود الإذعان ب�صورها اخل ّداعة‪ ،‬و�سائل الإثبات‬
‫املعا�صرة‪ ،‬والأ�سفار اجلوية وما يرتتب عليها من �أحكام‪ ،‬وكثري من طرق اال�ست�شفاء املعا�صرة‪،‬‬
‫وطرائق الت�أمني املبتكرة‪ ...‬وغري ذلك من �أ�ساليب العي�ش امل�ستحدثة‪.‬‬
‫والذي ي�سعف ال�شريعة الإ�سالمية على تغطية هذه النوازل اجلديدة يف خمتلف جماالتها‪،‬‬
‫هو طبيعة ن�صو�صها ال�شرعية من حيث الداللة‪ ،‬ف�إنها تت�سم بفي�ض معانيها‪ ،‬و�سعة دالالتها‪ ،‬يقول‬
‫�أ�ستاذنا حممد الروكي‪" :‬و�إمنا كانت هذه ال�شريعة املرعية �صاحلة لكل زمان ومكان‪ ،‬م�ستوعبة‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪6‬‬

‫لكل التطورات والتغريات‪ ...‬ملا ت�ضمنه �أ�صلها الأول "القر�آن" من قواعد وكليات و�أ�صول‪ ،‬تخ�ضع‬
‫لها الفروع واجلزئيات‪ ،‬وتن�ضبط بها الوقائع واحلوادث‪ ...‬وملا ت�ضمنه �أ�صلها الثاين "ال�سنة"‬
‫من جوامع الكلم الذي �أوتيه �صلى اهلل عليه و�سلم‪".1‬‬
‫و�إذا كانت الن�صو�ص اجلزئية تنطق مبراعاة م�صالح بعينها‪ ،‬وتن ّفر من مفا�سد بذاتها‪،‬‬
‫ف�إن الن�صو�ص الكلية تنطق مب�صالح اخللق ك ّلها‪ ،‬وتن�أى عن مفا�سدها كلها؛ لأن احلكمة الإلهية‬
‫اقت�ضت جت ّردها وانفكاكها عن قيود الزمان واملكان والأ�شخا�ص والأحوال‪ ،‬فينتج عن هذه‬
‫احلقيقة املعاينة يف القر�آن وال�سنة قانون كلي يق�ضي ب�ضرورة "�أن تكون هذه الكليات مقدمة يف‬
‫الرتتيب واالعتبار‪".2‬‬
‫ومما يدل على وجوب مراعاة هذا الرتتيب كونُ قواعد ال�شريعة الإميانية ومبادئها العقدية‬
‫و�أ�صولها الت�شريعية كانت �أول ما �أنزل من القر�آن مبكة‪ ،‬ثم جاءت حقبة التف�صيل والتجزيء‬
‫والبيان باملدينة‪ ،‬ومل يخرج عن هذه القاعدة �إال النزر القليل‪ ،‬على �أنك لو ت�أملت هذا القليل‬
‫لوجدته �أ�صال يف ذاته لكثري من الفروع واجلزئيات كما ن ّبه على ذلك علماء الأ�صول‪ ،‬وامل�ستفاد‬
‫من ذلك‪ :‬عدم �إمكان خلو واقعة عن حكم اهلل تعاىل‪� ،‬إن �أبق ّيت ال�شريعة على نظامها‪ ،‬وهذه بع�ض‬
‫�شهادات �أهل العلم على ذلك‪:‬‬
‫يقول ال�شافعي (تويف ‪204‬ﻫ) بل�سان جزم‪" :‬فلي�ست تنزل ب�أحد من دين اهلل نازلة �إال ويف‬
‫كتاب اهلل الدليل على �سبيل الهدى فيها‪ ".3‬وقال �أبو املعايل اجلويني (تويف ‪478‬ﻫ)‪" :‬ونحن‬
‫نعلم قطعا �أن الوقائع التي يتوقع وقوعها ال نهاية لها‪ ،‬والر�أي املبتوت املقطوع به عندنا �أنه ال تخلو‬
‫واقعة عن حكم اهلل تعاىل متلقى من قاعدة ال�شرع‪ ".4‬وقال �أي�ضا‪" :‬لو انح�صرت م�آخذ الأحكام‬

‫‪ .1‬حممد الروكي‪ ،‬نظرية التقعيد الفقهي و�أثرها يف اختالف الفقهاء‪ ،‬الرباط‪ :‬من�شورات كلية الآداب والعلوم الإن�سانية‪،‬‬
‫�سل�سلة ر�سائل و�أطروحات‪ ،‬رقم ‪ ،25‬ط‪1414( ،1‬ﻫ‪1994/‬م)‪� ،‬ص‪.13‬‬
‫‪� .2‬أحمد الري�سوين‪ ،‬الكليات الأ�سا�سية لل�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬حركة التوحيد والإ�صالح‪� ،‬إ�صدار اللجنة العلمية‪،‬الرباط‪:‬‬
‫مطبعة طوب بري�س‪2007 ،‬م‪� ،‬ص‪.22‬‬
‫‪ .3‬الر�سالة‪� ،‬ص‪.20‬‬
‫‪� .4‬أبو املعايل اجلويني‪ ،‬الربهان يف �أ�صول الفقه‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪1418( ،1‬ﻫ‪1997/‬م)‪،‬‬
‫‪ .3/2‬وانظر‪ :‬القواعد الأ�صولية عند الإمام ال�شاطبي‪ ،‬من خالل كتابه املوافقات للدكتور اجليالين املريني‪ ،‬وهو‬
‫ر�سالة جامعية قدمت لنيل دبلوم الدرا�سات العليا بدار احلديث احل�سنية‪-‬الرباط‪ ،‬حتت �إ�شراف د‪ .‬حممد ي�سف‪،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪7‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫يف املن�صو�صات واملعاين امل�ستثارة منها ملا ات�سع باب االجتهاد‪ ،‬ف�إن املن�صو�صات ومعانيها املعزوة‬
‫�إليها ال تقع من مت�سع ال�شريعة غرفة من بحر‪ ،‬ولو مل يتم�سك املا�ضون مبعان يف وقائع مل يعهدوا‬
‫�أمثالها‪ ،‬لكان وقوفهم عن احلكم يزيد عن جريانهم‪".1...‬‬
‫ويقول �أبو حامد الغزايل (تويف ‪505‬ﻫ)‪ ":‬وقد ج ّوزه القا�ضي حتى كان يوجبه‪ ،‬وقال‪ :‬امل�آخذ‬
‫حم�صورة‪ ،‬والوقائع ال نهاية لها‪ ،‬فال ت�ستوي فيها م�سالك حم�صورة‪ ...‬واملختار عندنا �إحالة ذلك‬
‫وقوعا يف ال�شرع ال جوازا يف العقل‪ ،‬لعلمنا ب�أن ال�صحابة على طول الأع�صار ما انحجزوا عن‬
‫واقعة‪ ،‬وما اعتقدوا خلوها عن حكم اهلل‪ ،‬بل كانوا يهجمون عليها هجوم من ال يرى لها ح�صرا‪".2‬‬
‫وتتجلى �أهمية ا�ست�صحاب الفقيه للن�صو�ص ال�شرعية العامة ومبادئها الكربى عندما تتوارد‬
‫عليه الق�ضايا والنوازل الفقهية التي مل ترد فيها ن�صو�ص �شرعية خا�صة‪ ،‬فتجد العديد من‬
‫الفقهاء يتك ّلف يف ت�أويل بع�ض الن�صو�ص ال�شرعية لإيجاد العالقات بينها وبني ما ُي ْع َر ُ�ض عليه من‬
‫ويتع�سف �أحيانا يف ا�ستح�ضار الأ�شباه والنظائر القدمية للقيا�س عليها‪ ،‬وهم بذلك‬ ‫تلك النوازل‪ّ ،‬‬
‫يرهقون �أنف�سهم دون �أن يقنعوا كثريا من �سائليهم‪.‬‬
‫وقد ن ّبه �إىل هذا الأ�ستاذ �أحمد الري�سوين قائال‪" :‬وجند كثريا من ال�سادة الفقهاء حني‬
‫بحثهم حلكم من الأحكام الفقهية يجمعون له كل ما لديهم من ن�صو�ص جزئية ذات ال�صلة‪،‬‬
‫ومن �أقوال ال�سلف و�آراء اخللف‪ ،‬والأقي�سة‪ ،‬والتخريجات‪ ،‬والت�شبيهات‪ ،‬وقد يكون منها ما هو‬
‫غري �صالح‪� ،‬أو غري مالئم‪� ،‬أو �ضعيف ال�صلة باحلالة �أو النازلة مو�ضوع البحث‪ ،‬ولكنهم قليال ما‬
‫يحتكمون �إىل عمومات ال�شريعة وكلياتها وقواعدها ومقا�صدها‪ ،‬وقلما يجعلونها حاكمة‪".3‬‬
‫و�إذا كان هذا ي�صدر عن بع�ض الذين ُي ْر َجى منهم �إنار ُة َد ْر ِب االجتهاد وتذليل �سبله‪ ،‬فما‬
‫بالك بالعوام‪ ،‬ف�إنك �إن و ّليت وجهك �شطرهم ر�أيت و�سمعت العجب العجاب؛ "فرتى فريق ًا ممن‬
‫‪1990‬م‪/‬ر‪� ،80 .‬ص‪.112‬‬
‫‪ .1‬الربهان‪ ،‬م‪� ،‬س‪ .163 -262/2 ،‬وانظر‪� :‬أبو املظفر من�صور بن حممد بن عبد اجلبار ال�سمعاين (تويف ‪489‬ﻫ)‪،‬‬
‫قواطع الأدلة يف الأ�صول‪ ،‬حتقيق حممد ح�سن حممد ح�سن �إ�سماعيل ال�شافعي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫(‪1418‬ﻫ‪1997/‬م)‪.260/2 ،‬‬
‫‪� .2‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬املنخول من تعليقات الأ�صول‪ ،‬حتقيق حممد ح�سن هيتو‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار الفكر‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫(‪1400‬ﻫ‪1980/‬م)‪� ،‬ص‪.485‬‬
‫‪ .3‬الكليات الأ�سا�سية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.117‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪8‬‬

‫ي�ستحق و�صف الأم ّية يف ال�شريعة ي�أخذ ببع�ض جزئياتها يهدم به كلياتها حتى ي�صري منها �إىل ما‬
‫ظهر له ببادئ الر�أي من غري �إحاطة مبقا�صد ال�شارع‪".1‬‬
‫وال�صواب‪ ،‬واهلل �أعلم‪� ،‬أن الفقهاء احلذاق ال تعوزهم الن�صو�ص العامة والأ�صول الكربى لهذه‬
‫ال�شريعة الكاملة اخلامتة عن احلكم يف م�س�ألة من امل�سائل امل�ستحدثة قيد �أمنلة‪ ،‬بل �إن الأدلة‬
‫الكلية الإجمالية العامة قد تكون داللتها على الأحكام �أكرث قطعا‪ ،‬و�أرجح اعتبارا من تلك اجلزئية‬
‫والتف�صيلية واخلا�صة‪ ،2‬وف�ضل ال�شاطبي (تويف ‪790‬ﻫ) يف التنبيه على هذه املعاين م�شهود‪ ،‬فهو‬
‫الذي "نظر للفروع من خالل الأ�صول‪ ،‬وعمل على ا�ستقراء الكليات ال�شرعية والعقلية متخذا‬
‫منها �أ�صوال ملعرفة املقا�صد‪ ".3‬ومن خالل ذلك ي�ؤكد ال�شاطبي على �أن قاعدة مراعاة التفاوت‬
‫بني الكليات واجلزئيات "هي يف ال�شريعة بالغة مبلغ القطع ملن ا�ستقر�أ ال�شريعة يف مواردها‬
‫وم�صادرها‪".4‬‬
‫وتبعا لذلك يقرر ال�شاطبي �أن "الكلي �إذا عار�ضه اجلزئي فال �أثر للجزئي‪ ".5‬و�أن "املكمل‬
‫�إذا عاد على الأ�صل بالنق�ص �سقط اعتباره‪".6‬‬
‫وكم هو جميل ذلك املنظور الذي �أط ّل به الدكتور طه جابر العلواين على بنية الفكر املقا�صدي‬
‫احلديث‪َ ،‬ف ِل ُح ْ�س ِن بلورة الفكر املقا�صدي من حيث املنطلقات والغايات ينبغي االنطالق عنده‪،‬‬
‫من مبادئ "العهد‪ ،‬واال�ستخالف‪ ،‬والأمانة‪ ،‬واالبتالء‪ ،‬ثم الت�سخري"؛ لأنها جميعا تدفع باجتاه‬
‫�صياغة الكليات الناظمة للجزئيات‪ ،‬وبالتايل فهي متثل املقا�صد العليا التي ما ا�ستخلف الإن�سان‬
‫�إال لتحقيقها‪ ،‬وهي " التوحيد والتزكية والعمران‪".7‬‬

‫‪ .1‬قاله عبد اهلل دراز يف متهيده للموافقات‪.14/1 ،‬‬


‫‪ .2‬انظر‪ :‬نور الدين اخلادمي‪ ،‬امل�صلحة امللغاة يف ال�شرع الإ�سالمي وتطبيقاتها املعا�صرة‪ ،‬الريا�ض‪ :‬مكتبة الر�شد‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫(‪1426‬ﻫ‪2005/‬م)‪� ،‬ص‪.12‬‬
‫‪ .3‬الأثر ال�شاطبي يف الفكر ال�سلفي باملغرب‪� ،‬ص‪.8‬‬
‫‪� .4‬أبو �إ�سحاق ال�شاطبي‪ ،‬املوافقات يف ا�صول ال�شريعة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مطبعة حممد علي �صبيح و�أوالده‪ ،‬د‪ .‬ت‪.120/1 ،‬‬
‫‪ .5‬امل�صدر نف�سه‪.162/1 ،‬‬
‫‪ .6‬امل�صدر نف�سه‪.160/1 ،‬‬
‫‪ .7‬انظر‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة‪( ،‬عبارة عن حوار مع نخبة من رجال املقا�صد)‪ ،‬دم�شق‪ :‬دار الفكر‪/‬‬
‫�سورية‪� ،‬سل�سلة �آفاق التجديد‪ ،‬ط‪�( ،1‬شوال ‪1411‬ﻫ‪ ،‬يناير ‪2002‬م)‪� ،‬ص‪.82-78‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪9‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫وهذه الأ�صول ال�شرعية الكلية منها ما هو �آية‪ ،‬ومنها ما هو حديث‪ ،‬ومنها ما هو جزء منهما‪،‬‬
‫ومنها ما هو مت�ألف من جمموع ن�صو�ص �شرعية‪ ،‬فمن ذلك على �سبيل املثال ال احل�صر‪ :‬قوله‬
‫ف‪ ،‬و ََأ ْعرِ ْ‬
‫ض عَ ِن الْجَاهِلِي َن ﴾ (الأعراف‪.)199 :‬‬ ‫خذِ ال ْعَفْوَ‪ ،‬وَام ُ ْر بِال ْعُرْ ِ‬
‫�سبحانه وتعاىل‪ُ  ﴿ :‬‬

‫فقد ت�ض ّمنت هذه الآية قواعد الت�شريع يف امل�أمورات واملنهيات‪ ،‬وفيها كل �أ�صول الأخالق‪،‬‬
‫يقول عالل الفا�سي (تويف ‪1394‬ﻫ)‪" :‬هذه الآية جتمع �أ�صوال كلية لتلك القواعد ال�شرعية‪،‬‬
‫والأحكام العملية‪ ،‬والف�ضائل النف�سية‪ ...‬وقال جعفر ال�صادق‪ :‬لي�س يف القر�آن �آية �أجمع ملكارم‬
‫الأخالق من هذه الآية‪".1‬‬
‫ل مِثْق َا َ‬
‫ل ذ ََرّة ٍ ش َ ّرا يَرَه ﴾‬
‫ً‬ ‫ل ذ ََرّة ٍ َ‬
‫خيْرًا يَرَه‪ .‬وَم َ ْن ي َ ْعمَ ْ‬ ‫ـ قوله �سبحانه وتعاىل‪ ﴿ :‬فَم َ ْن ي َ ْعمَ ْ‬
‫ل مِثْق َا َ‬
‫(الزلزلة‪.)9-8 :‬‬
‫يقول �أحمد الري�سوين‪" :‬ولو مل يكن يف القر�آن الكرمي غري قوله ﴿ فَم َ ْن ي َ ْعمَ ْ‬
‫ل مِثْق َا َ‬
‫ل ذ ََرّة ٍ‬
‫َخيْرًا يَرَه‪ .‬وَم َ ْن ي َ ْعمَ ْل مِثْق َا َل ذ ََرّة ٍ ش َ ً ّرا يَرَه ﴾ لكفت؛ لأن فيها جماع الرتغيب يف كل خري وبر‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫وجماع الرتهيب من �شر و�ضر‪".‬‬
‫ن ِ‬
‫تجَارَة ً‬ ‫ل‪ِ ،‬إلا ّ َ َأ ْن ت َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫كل ُوا َأ ْموَالَكُ ْم بَيْنَكُ ْم بِال ْبَا ِ‬
‫ط ِ‬ ‫ـ قوله تعاىل‪ ﴿ :‬يَا َأيّ ُهَا ال ّ َذِي َ‬
‫ن ءَامَنُوا لا تَا ُ‬
‫اض مِنْكُ ْم‪ ،‬وَلا تَقْتُل ُوا َأنف َُسكُمُ‪ِ ،‬إ ّ َن الل َّه َ َكا َن بِكُ ْم رَحِيما ً ﴾ (الن�ساء‪.)29 :‬‬ ‫عَ ْن تَر َ ٍ‬

‫شاء وَال ْمُنكَر ِ‬


‫ن الْف َْح َ‬
‫ن و َ ِإيتَاء ذِي الْق ُرْ بَى و َ يَنْهَى عَ ِ‬
‫سا ِ‬ ‫ن الل َّه َ يَامُرُ بِال ْع َ ْد ِ‬
‫ل وَالا ِْح َ‬ ‫ـ قوله تعاىل‪ ﴿ :‬إ ّ َ‬
‫وَال ْب َ ْغيِ‪ ،‬يَع ِ ُظكُ ْم ل َعَل ّ َكُ ْم تَذَ ّ َكرُو َن ﴾ (النحل‪ )90 :‬وغري هذا من الن�صو�ص ال�شرعية كثري‪.‬‬

‫تنبيهات‬
‫عند احلديث عن عالقة الكلي باجلزئي يف نوازل الفقه الإ�سالمي يجب توجيه ذلك ب�أمور‬
‫هامة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫الأمر الأول‪� :‬أن اجلزئيات لي�ست نوعا واحدا‪ ،‬بل على نوعني‪:‬‬

‫‪ .1‬عالل الفا�سي‪ ،‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية ومكارمها‪ ،‬الدار البي�ضاء‪ :‬مطبعة النجاح اجلديدة‪ ،‬ط‪،4‬‬
‫(‪1411‬ﻫ‪1991/‬م)‪� ،‬ص‪.200-198‬‬
‫‪ .2‬الكليات الأ�سا�سية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.32‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪10‬‬

‫ـ النوع الأول؛ نوع ا�ستقل ال�شرع ببيانه وتف�صيله‪ ،‬وهذا لي�س لنا �إال �أن نكون فيه تبع‪ ،‬وي�شمل‬
‫هذا الق�سم كل الأحكام املبينة يف القر�آن وال�سنة‪ ،‬ككثري من �أحكام ال�صالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وال�صوم‪،‬‬
‫واحلج‪ ،‬والعمرة‪ ،‬واجلهاد‪ ،‬واحلدود‪ ،‬والبيوع‪ ،‬والأنكحة‪ ،‬واملواريث‪ ...‬وغريها‪ ،‬قال ال�شاطبي‬
‫(تويف ‪790‬ﻫ)‪" :‬فقد يعترب ال�شارع من ذلك ما ال تدركه العقول �إال بالن�ص عليه‪ ،‬وهو �أكرث ما‬
‫دلت عليه ال�شريعة يف اجلزئيات؛ لأن العقالء يف الفرتات قد كانوا يحافظون على تلك الأ�شياء‬
‫مبقت�ضى �أنظار عقولهم‪ ،‬لكن على وجه مل يهتدوا به �إىل العدل يف اخللق واملنا�صفة بينهم‪ ،‬بل‬
‫كان مع ذلك ال َه ْرج واقعا‪ "1...‬ولأجل دفع ذلك �أو تقوميه توىل اهلل �سبحانه بيان هذه الأحكام‪،‬‬
‫وغريها‪ ،‬ليال تكون عقول النا�س عر�ضة لالختالف يف فهمها‪ ،‬والتباين يف تقدير �أحوالها‪ ،‬ثم‬
‫التنازع �أحكامها وهي�آت �إقامتها‪.‬‬
‫ـ النوع الثاين؛ ما �سكت ال�شرع عنه‪ ،‬و�أوكل لأهل العلم البحث يف �أحواله ال�ستنباط �أحكامه‪،‬‬
‫وذلك ب�أن ير ّدوه �إىل وجوه امل�صالح املعتربة يف ال�شرع‪� ،‬سواء كانت �أعيانا ت�شبهها‪� ،‬أو �أ�صوال‬
‫ت�شملها‪� ،‬أو مبادئ عامة كلية مطلقة حتكمها‪ ،‬واملعهود من ت�صرفات ال�شارع �أنه "ال يطبق املبادئ‬
‫العامة تطبيقا �آليا‪ ،‬و�إمنا يطبقها ليحقق بها نفعا �أو يدفع بها �ضررا‪".2‬‬

‫الأمر الثاين‪� :‬أن الأ�صول والكليات مراتب و�أنواع‬


‫ف�أما من حيث مراتبها ففيها الأعم والأ�شمل‪ ،‬وفيها الأوىل والأعلى‪ ،‬وفيها ما دون ذلك من‬
‫الرتب‪ .3‬و�أما من حيث �أنواعها فقد ّ‬
‫ق�سمها �أحمد الري�سوين تق�سيما فريدا نافعا‪ ،‬فجعلها‪ ،‬على‬
‫�سبيل التقريب والتغليب‪� ،‬أربعة �أ�صناف هي‪:‬‬
‫الكليات العقدية؛ وهي الأ�صول االعتقادية الإميانية الكربى التي متثل املرتكزات الأولية‬
‫للدين‪.‬‬

‫‪ .1‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.11/3 ،‬‬


‫‪ .2‬عبد القادر عودة‪ ،‬الت�شريع اجلنائي الإ�سالمي مقارنا بالقانون الو�ضعي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكاتب العربي‪/‬لبنان‪ ،‬د‪ .‬ت‪،‬‬
‫‪.27/1‬‬
‫‪ .3‬الكليات الأ�سا�سيةّ ‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.25‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪11‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫الكليات املقا�صدية؛ وهي املعاين الأولية والغايات الأ�سا�سية اجلامعة التي لأجلها خلقت‬
‫اخلالئق وو�ضعت ال�شرائع والتكاليف‪ ،‬وعلى �أ�سا�سها كانت احلياة واملوت والبعث والن�شور‪.‬‬
‫الكليات اخللقية؛ �إذ الأخالق بطبيعتها ق�ضايا كلية‪.‬‬
‫الكليات الت�شريعية؛ وهي املبادئ والقواعد املت�صلة ات�صاال مبا�شرا بتفريع الأحكام العملية‪.1‬‬

‫الأمر الثالث‪� :‬أن عالقة الكلي باجلزئي يف نظم الأحكام ال�شرعية‬


‫ّ‬
‫لي�ست‪ ‬مطردة‪:‬‬
‫فال يفهم من قول ال�شاطبي مثال‪�" :‬إذا تعار�ض �أمر كلي و�أمر جزئي فالكلي مقدم؛ لأن‬
‫اجلزئي يقت�ضي م�صلحة جزئية‪ ،‬والكلي يقت�ضي م�صلحة كلية‪ ،‬وال ينخرم نظام يف العامل بانخرام‬
‫امل�صلحة اجلزئية‪ ،‬بخالف ما �إذا ق ّدم اعتبار امل�صلحة اجلزئية‪ ،‬ف�إن امل�صلحة الكلية ينخرم‬
‫نظام كليتها‪� ،"2‬أنّ اجلزئيات ال ي�ؤبه بها‪ ،‬وال يلتفت �إليها‪ ،‬بل لها ح ّقها ون�صيبها من االعتبار‬
‫والإعمال‪ ،‬وقد ن ّبه ال�شاطبي نف�سه على ذلك يف مو�ضع �آخر فقال‪":‬بل اجلزئي �إذا كان م�ستثنى‬
‫من كلي فهو معترب يف نف�سه لأنه من باب التخ�صي�ص للعموم‪� ،‬أو من باب التقييد للإطالق‪".3‬‬
‫لتكون القاعدة الناظمة لهذه العالقة هي ما ق ّرره ال�شاطبي بعد ذلك قائال‪" :‬وكما �أن من‬
‫�أخذ باجلزئي معر�ضا عن كليه فهو خمطئ‪ ،‬كذلك من �أخذ بالكلي معر�ضا عن جزئيه‪".‬‬

‫الأمر الرابع‪ :‬من املجازفة القول بقلة �آيات الأحكام "اجلزئية والكلية‪"4‬‬
‫�إن القول بق ّلة عدد �آيات الأحكام‪� ،‬أو ح�صرها يف عدد معلوم قد ج ّرب �أقوام فعله‪ ،‬و�أف�سد‬
‫�آخرون ت�أويله‪ ،‬وكادوا‪ ،‬ب�سببه‪َ ،‬ي ِ�س ُمون ال�شريعة الكاملة بالنق�صان وهي عن ذلك متعالية؛ فقد‬

‫‪ .1‬انظر تف�صيل القول يف هذه الأ�صناف الأربعة يف الكليات الأ�سا�سية‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،‬من �ص‪� 53‬إىل �ص‪.82‬‬
‫‪ .2‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.288/1 ،‬‬
‫‪ .3‬امل�صدر نف�سه‪.302/1 ،‬‬
‫ال�شح‪ ،‬يف تقدير �آيات الأحكام‬
‫‪ .4‬وقد �أرجع الأ�ستاذ �أحمد الري�سوين ذلك �إىل �أمرين اثنني‪ ،‬فقال‪" :‬وهذا الت�ضييق‪� ،‬أو ّ‬
‫ينبني �أوال على الت�ضييق الذي ح�صل يف مفهوم ال�شريعة والت�شريع والأحكام ال�شرعية‪ ...‬وينبني ثانيا على ح�صر‬
‫مفهوم (الأحكام ) يف الأحكام اجلزئية التطبيقية املبا�شرة‪ ".‬الكليات الأ�سا�سية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.117‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪12‬‬

‫ع ّدها الغزايل (تويف ‪505‬ﻫ) يف امل�ست�صفى فقال‪" :‬وهو مقدار خم�سمائة �آية‪ "1‬ووافقه على ذلك‬
‫ابن العربي (تويف ‪463‬ﻫ) والفخر الرازي (تويف ‪606‬ﻫ) وابن قدامة املقد�سي (تويف ‪620‬ﻫ)‬
‫و�شهاب الدين القرايف (تويف ‪684‬ﻫ) وغريهم‪.2‬‬
‫واحلقّ �أن الأمر لي�س كذلك‪ ،‬ف�إن الفقيه ال َك ّي�س الفطن احلذق ي�ستخل�ص من �آيات الوعظ‬
‫والأخبار والق�ص�ص والأمثال‪ ،‬وغريها مما مل ُي َ�سقْ للأحكام بالأ�صالة‪ ،‬الكثري من الأحكام‪،‬‬
‫يقول جنم الدين الطويف (تويف ‪716‬ﻫ)‪" :‬ق ّل �أن يوجد يف القر�آن �آية ال ي�ستنبط منها �شيء من‬
‫الأحكام‪ ".3‬وما قيل عن القر�آن العظيم‪ ،‬هاهنا‪ّ ،‬‬
‫ي�صح قوله عن ال�سنة امل�شرفة كذلك‪.‬‬
‫وقال ال�شوكاين (تويف ‪1250‬ﻫ)‪" :‬من له فهم �صحيح وتقدير كامل ي�ستخرج الأحكام من‬
‫الآيات الواردة ملجرد الق�ص�ص والأمثال‪ ...‬ولعلهم ق�صدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام داللة‬
‫�أولية بالذات ال بطريق الت�ضمن وااللتزام‪".4‬‬

‫نهج الأ�سلوب الت�شاوري بدل �أحادية االجتهاد‬


‫ال �شك �أن العمل امل�ؤ�س�ساتي‪ ،‬والنهج الت�شاوري‪� ،‬صار من �شروط نه�ضة االجتهاد املقا�صدي‬
‫املعا�صر‪ ،‬لذلك نع ّده املطلب الأول لتن�شيط حركة االجتهاد وتطويرها‪ ،‬و�سبيل التجاوب مع طموح‬
‫ال�شعوب و�آمالها‪ ،‬والإجابة عن همومها وم�شكالتها‪ .‬واحلق �أن من امل�سلمات الفكرية يف ق�ضايا‬
‫(االجتهاد املقا�صدي املعا�صر) �أن الغفلة �أقرب �إىل الفرد منه �إىل اجلماعة؛ ويد اهلل تعاىل‬
‫م َ‬
‫يط ٌة بهم‪ ،‬ومقا�ص ُد تكاليفه ُ َ‬
‫م َّهدة لهم‪ ،‬لأن اهلل تعاىل َع َ�صمهم ِمن‬ ‫مع اجلماعة‪ ،‬و َب َر َك ُت ُه ُ ِ‬
‫يجتمعوا على �ضالل‪.‬‬
‫‪� .1‬أبو حامد الغزايل‪ ،‬امل�ست�صفى من علم الأ�صول‪ ،‬دار �إحياء الرتاث العربي‪ ،‬ط‪1418( ،1‬ﻫ‪1997/‬م)‪ .350/2 ،‬نقال‬
‫عن‪ :‬يو�سف القر�ضاوي‪ ،‬االجتهاد يف ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬دار القلم‪ ،‬ط‪1410( ،2‬ﻫ‪1989/‬م)‪� ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ .2‬انظر‪ :‬حممد ال�شوكاين‪� ،‬إر�شاد الفحول �إىل حتقيق علم الأ�صول‪ ،‬حتقيق ابو م�صعب حممد �سعيد البدري‪ ،‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الفكر‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪1412( ،1‬ﻫ‪1992/‬م)‪� ،‬ص‪ .250‬حممد �شهاب الدين القرايف‪� ،‬شرح تنقيح الف�صول يف اخت�صار‬
‫املح�صول يف علم الأ�صول‪ ،‬حتقيق طه عبد الر�ؤوف �سعد‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الفكر‪/‬م�صر‪ /‬ط‪1393( ،1‬ﻫ‪1973/‬م)‪،‬‬
‫�ص‪ .194‬نقال عن‪ :‬االجتهاد يف ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ .3‬ابن قدامة املقد�سي (تويف ‪620‬ﻫ)‪ ،‬رو�ضة الناظر وجنة املناظر‪ ،‬مع �شرحه البن بدران‪ ،‬بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪/‬‬
‫لبنان‪ ،‬ط‪1401( ،1‬ﻫ‪1981/‬م)‪ .401/2 ،‬نقال عن االجتهاد يف ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.18‬‬
‫‪� .4‬إر�شاد الفحول‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪ 251 -250 :‬نقال عن‪ :‬االجتهاد يف ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.18‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪13‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫و ِقبلة هذا النوع من االجتهاد يجب �أن تكون حتقيق التنمية امل�ستدامة يف جميع جماالت‬
‫احلياة‪ :‬كرامة الإن�سان‪ ،‬ونه�ضة العمران‪ ،‬ونظافة ال�سيا�سة‪ ،‬وقوة االقت�صاد‪ ،‬وجودة البيئة‪...‬‬
‫التخ�ص�صات‪ ،‬وقدميا قيل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مبد َ�أي توزيع املهام‪ ،‬واحرتام‬
‫وغريها‪ ،‬و�أَ ْف َي ُد ما فيه �أنه يقوم على َ‬
‫"لغة ال�شعر ال ت�صلح لدار الق�ضاء‪ ".‬ولذلك ف�إننا ن�ؤكد على �أن من م�ستلزمات العمل اجلماعي‬
‫الت�شاوري التزام �أدب االختالف‪ ،‬ف�إن غابت هذه الآداب َح َ�ض َر ْت ُ�أ ُمو ٌر �ش ٌّر ُكلُّها‪ ،‬منها‪ :‬و�ضع‬
‫حركة االجتهاد يف تعطيل‪ ،‬وفتح املجال لذوي الأهواء والأباطيل‪ ،‬وجعل العوام يف فو�ضى وت�ضليل‪.‬‬
‫وينبني على هذا الأ�صل وجوب التزام اجلهات الر�سمية بتمكني �أهل االجتهاد املقا�صدي‬
‫�صنيَ) من التعاون والت�شاور يف د ْرك مقا�صد ال�شارع‪ ،‬حتت �شعار ﴿ وتعاونوا‬
‫(املُخْ ِل ِ�ص َني املُت ََخ ِّ�ص ِ‬
‫على البر ّ والتقوى‪ ،‬ولا تعاونوا على الا ِثم والعدوان ﴾ (املائدة‪ )3 :‬وهو الذي ال منا�ص له من‬
‫غري املجامع العلمية والفقهية ال�سديدة‪ ،‬على �أن " ّ‬
‫ي�ضم هذا املجمع من كل قطر �إ�سالمي �أ�شهر‬
‫فقهائه الرا�سخني ممن جمعوا بني العلم ال�شرعي‪ ،‬واال�ستنارة الزمنية‪ ،‬و�صالح ال�سرية والتقوى‪،‬‬
‫وين�ضم �إىل ه�ؤالء علماء م�سلمون موثوقون يف دينهم من خمتلف االخت�صا�صات الزمنية الالزمة‬ ‫ّ‬
‫يف �ش�ؤون االقت�صاد واالجتماع والقانون والطب ونحو ذلك‪ ،‬ليكونوا مبثابة خرباء يعتمد الفقهاء‬
‫ر�أيهم يف االخت�صا�صات العلمية غري الفقهية؛ وذلك لكي تكون الأحكام الفقهية التي ت�صدر عن‬
‫املجمع مبنية على فهم و�إدراك لواقع احلال يف كل مو�ضوع وم�س�ألة‪".1‬‬
‫وما �أَ َد َّق ما قاله م�صطفى �أحمد الزرقاء‪" :‬لقد كان االجتهاد الفردي �ضرورة يف املا�ضي‪،‬‬
‫وهو اليوم �ضرر كبري‪ ".2‬وي�شهد لهذه ال�ضرورة واق ُع الع�صر ومنطقُ العقل على ال�سواء؛ ذلك‬
‫�أن �أُ َحا ُد َّي ُة التفكري مل َي ُع ْد ب�إمكانها اليوم‪ ،‬قطع ًا‪ ،‬الإحاطة مبا يج ّد يف دنيا النا�س من وقائع‬
‫بخوا�ص تلك الوقائع ودقائق تلك العلوم‬
‫ّ‬ ‫ومعارف يف �شتى جماالت احلياة‪ ،‬فما بالك الإحاطة‬
‫واملعارف!!‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى‪ ،‬ف�إن برهان العقل القاطع يق�ضي با�ستحالة ا�ستقالل‬
‫الفرد الواحد مبعرف الع�صر مهما كان مبلغ علمه‪ ،‬وم�ستوى ذكائه‪ ،‬وجودة مناهجه‪ ...‬وبهذا‬
‫الزما‪ ،‬فت�شمله قاعدة‪" :‬املقدور عليه‬
‫الت�صور ي�صري االجتهادي املقا�صدي املنظم‪ ،‬اليوم‪� ،‬أم ًرا ً‬
‫الذي ال يتم الواجب املطلق �إال به واجب‪".3‬‬
‫‪ .1‬جملة اجلامعة الإ�سالمية‪ ،‬العدد ‪1409( :22‬ﻫ‪1989/‬م)‪� ،‬ص‪.156‬‬
‫‪ .2‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬من البحث الذي �شارك به م�صطفى �أحمد الزرقاء بعنوان‪ :‬االجتهاد ودور الفقه يف حل امل�شكالت‪.‬‬
‫‪ .3‬تاج الدين عبد الوهاب بن ابي احل�سن ال�سبكي (تويف ‪771‬ﻫ)‪ ،‬جمع اجلوامع‪ ،‬بريوت‪ :‬دار ابن حزم‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪14‬‬

‫فيدرك بع�ض‬‫ُ‬ ‫فقد يبذل املجته ُد ُق َ�صا َرى ُج ْه ِد ِه يف الإحاطة مبتعلقات ق�ضي ٍة اجتماعي ٍة‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫جوانبها ويغفل عن البع�ض الآخر‪ ،‬وقد يتو ّفق يف َد ْرك جميع جوانبها االجتماعية لكنه يغفل عن‬
‫بع�ض جذورها التاريخية‪� ،‬أو �آثارها النف�سية‪� ،‬أو انعكا�ساتها االقت�صادية فتتكون فتواه خمالفة‬
‫يطلع املجتهد على بع�ض الن�صو�ص ال�شرعية ذات ال�صلة باملو�ضوع‬ ‫لق�صد ال�شارع فيها‪ ،‬بل قد ال ّ‬
‫فيحكم بخالفها‪ ،‬وقد يطلع على ذلك الن�ص ال�شرعي ثم ين�ساه‪ ،‬وقد يذكره �ساعة التنزيل وال‬
‫الن�ص و ُيح�سنُ فهمه لكن يفوته العلم بكونه من�سوخا‪� ،‬أو ُ َ‬
‫م َّّ�ص ً�صا‪� ،‬أو‬ ‫يح�سن ت�أويله‪ ،‬وقد َي ْح ُ�ض ُر ُه ُّ‬
‫مق َّيدا‪� ،‬أو م�ستثنى من قاعدة عا ّمة‪� ...‬أو نحو ذلك مما هو معلوم يف �أ�صول الفقه‪� .‬إنها العوار�ض‬
‫الب�شرية التي حتول دون كمال العمل الإن�ساين‪�" ،1‬سنة اهلل تعاىل يف الذين خلوا من قبل"؛‬
‫﴿ وخلق الا ِنسان ضعيفا ﴾ (الن�ساء‪)28 :‬‬
‫ومن �شعر ب�شار بن برد‪:‬‬
‫ومن ذا الذي ُت ْر َ�ضى َ�س َجا َيا ُه ُكلُّها كفى باملرء ُن ْب ًال �أَنْ ُت َع َّد َم َعا ِي ُب ُه‬

‫مناذج من االجتهاد الفردي غري املو ّفق‬


‫حمل قواعد العلوم املختلفة بع�ضها على بع�ض من غري منا�سبة‬
‫ومن ذلك ما حكاه ال�شاطبي (تويف ‪790‬ﻫ) قائال‪" :‬يحكى عن الف ّراء النحوي �أنه قال‪:‬‬
‫من برع يف علم واحد �سهل عليه كل علم‪ .‬فقال له حممد بن احل�سن القا�ضي ‪ ،‬وكان حا�ضرا يف‬
‫جمل�سه ذلك‪ ،‬وكان ابن خالة الفراء‪ ،‬ف�أنت قد برعت يف علمك‪ ،‬فخذ م�س�ألة �أ�س�ألك عنها من غري‬
‫علمك! ما تقول فيمن �سها يف �صالته‪ ،‬ثم �سجد ل�سهوه ف�سها يف �سجوده �أي�ضا؟ قال الفراء‪ :‬ال �شيء‬
‫عليه‪ .‬قال‪ :‬وكيف؟ قال‪ :‬لأن الت�صغري عندنا ال ي�صغر‪ ،‬فكذلك ال�سهو يف �سجود ال�سهو ال ي�سجد له؛‬
‫لأنه مبنزلة ت�صغري الت�صغري‪ ،‬فال�سجود لل�سهو هو جرب لل�صالة‪ ،‬واجلرب ال يجرب كما �أن الت�صغري‬
‫ال ي�صغر‪ .‬فقال القا�ضي‪ :‬ما ح�سبت �أن الن�ساء يلدن مثلك‪".2‬‬
‫(‪1426‬ﻫ‪2005/‬م)‪� ،‬ص‪ .9‬وانظر اللمع يف �أ�صول الفقه‪� ،‬ص‪.26‬‬
‫‪ .1‬ومن حكم الإمام ال�شافعي (تويف ‪204‬ﻫ) يف هذا ال�ش�أن قوله‪" :‬ال نعلم رجال جمع ال�سنن فلم يذهب منها عليه‬
‫�شيء‪ ".‬الر�سالة‪ ،‬حتقيق و�شرح �أحمد حممد �شاكر‪ ،‬دار الفكر‪1309 ،‬ﻫ‪� ،‬ص‪ 42‬وقوله‪" :‬قد يجهل الرجل ال�سنة‬
‫فيكون له قول يخالفها ال �أنه عمد خالفها‪ ،‬وقد يغفل املرء ويخطئ يف الت�أويل‪ ".‬الر�سالة‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.219‬‬
‫‪ .2‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.75/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪15‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫وال�شاهد �أن الفراء‪ ،‬وهو ممن برع يف فن النحو‪ ،‬كان الأليق به التحري‪ ،‬واال�ستعانة ب�أهل‬
‫التخ�ص�ص من الفقهاء‪ ،‬ال �أن يجرتئ الإجابة عن �شيء من دقائق علم الفقه‪ ،‬لذلك ال يعترب‬
‫جوابه‪ ،‬و�إن �أ�صاب َع َر ً�ضا‪� ،‬أبدا �صوابا‪ ،‬ولأجل هذا املعنى ر ّد عليه ال�شاطبي بقوله‪ :‬ف�أنت ترى ما‬
‫ال�ضعف؛ �إذ ال يجمعهما يف املعنى �أ�صل حقيقي‬‫يف اجلمع بني الت�صغري وال�سهو يف ال�صالة من ّ‬
‫فيعترب �أحدهما بالآخر‪".1‬‬

‫تنمية ملكة النقد املقا�صدي القائم على املو�ضوعية والإن�صاف‬


‫�إن العلماء العظام والأ�ساتذة الكبار هم الذين ير ّبون يف نفو�س ط ّالبهم روح املالحظة العلمية‬
‫واملراجعة النقدية‪ ،‬والق�صد من ذلك بلوغ احلق و�إدراك ال�صواب �أ ًّيا كان قائله‪ ،‬ال كمن ير ّوج‬
‫التحجر الفكري‪ ،‬والتقاع�س الذهني‪ ،‬كمثل ما‬ ‫ّ‬ ‫للأخبار الزائفة والأحاديث املو�ضوعة الداعية �إىل‬
‫ين�سبونه �إىل النبي الأكرم‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪� ،‬أنه قال‪" :‬اتبعوا وال تبتدعوا‪ ".‬فيفهمون النا�س‬
‫�أن الإ�سالم يدعوا �إىل اجلمود العقلي‪ .2‬ومنهم من ين�سب �إىل ر�سول اهلل ‪� ،‬صلى اهلل عليه و�سلم‪،‬‬
‫�أنه قال‪" :‬عليكم بدين العجائز‪ ،‬ف�إنه من �أ�سنى اجلوائز‪ ".3‬وهو حديث مو�ضوع ال ي�صح �سندا‬
‫وال متنا‪.‬‬
‫ب�صاحب مالك بن �أن�س (تويف ‪179‬ﻫ) ال ب�صاحب ابن‬
‫ِ‬ ‫وليكن املجتهد من �أهل املقا�صد ُم ْقت َِد ًّيا‬
‫عرفة‪( 4‬تويف‪803‬ﻫ)‪� ،‬صاحب مالك بن �أن�س الذي قال‪" :‬و�إن قالها مالك فل�سنا له مبمالك‪،"5‬‬
‫�أما �صاحب ابن عرفة فهو من قال‪" :‬مل �أخالفه يف حياته‪ ،‬فكيف �أخالفه بعد مماته‪".6‬‬
‫‪ .1‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.75/1 ،‬‬
‫‪ .2‬حممد عابد اجلابري‪ ،‬بنية العقل العربي‪ ،‬وهو اجلزء الثاين من كتاب نقد العقل العربي‪ ،‬النا�شر‪ :‬املركز الثقايف‬
‫العربي‪/‬الدار البي�ضاء‪-‬املغرب‪ ،‬ط‪ ،1‬يناير ‪1986‬م‪� ،‬ص‪.332‬‬
‫‪ .3‬ذكره ال�سخاوي يف املقا�صد احل�سنة‪ 464/1 :‬وقال‪" :‬ال �أ�صل له"‪.‬‬
‫‪ .4‬املق�صود هنا‪ :‬حممد بن حممد بن عرفة الورغمي‪� ،‬إمام تون�س وعاملها وخطيبها ومفتيها‪ ،‬قدّم للخطابة �سنة ‪772‬ﻫ‬
‫وللفتوى �سنة ‪773‬ﻫ‪ ،‬كان من كبار فقهاء املالكية‪ ،‬وت�صدى للدر�س بجامع تون�س‪ ،‬وانتفع به خلق كثري‪ .‬من ت�صانيفه‪:‬‬
‫املب�سوط يف الفقه‪ ،‬واحلدود يف التعريفات الفقهية‪( .‬تويف ‪803‬ﻫ)‪( .‬انظر‪ :‬الديباج املذهب‪� ،‬ص‪ ،337‬ونيل‬
‫االبتهاج‪� ،‬ص‪ ،278‬والأعالم ‪.)272/7‬‬
‫‪ .5‬وقائل هذا هو �أ�شهب (تويف ‪204‬ﻫ) من م�شاهري تالمذة مالك‪ .‬انظر‪ :‬مباحث يف املذهب املالكي باملغرب لعمر‬
‫اجليدي‪� ،‬ص‪.150‬‬
‫‪ .6‬وقائل هذا هو‪ :‬عي�سى الغربي �أحد تالمذة ال�شيخ ابن عرفة‪ .‬انظر‪ :‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪� ،‬ص‪.17 :‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪16‬‬

‫والتقليد الذي هو �آفة احلركة االجتهادية عموما‪ ،‬ومعيق النه�ضة املقا�صدية خ�صو�صا‪ ،‬قيل‬
‫فيه تعريفات منها‪ :‬قبول الأقوال بال حجة‪ ،‬وقيل‪ :‬قبول قول من ال يدري من �أين يقول‪ ،‬وقيل غري‬
‫ذلك‪ .1‬وهو �أ�شكال و�أنواع‪ ،‬ولعل من �أخطر �أنواعه ما كان ممزوجا بالوجدان الأبوي واحلنني �إىل‬
‫املا�ضي‪.‬‬
‫وبيان ما م�ضى �أن كثريا من امل�شتغلني بعلوم ال�شريعة �إذا حت ّدث عن ن�ش�أة تلك العلوم ودواوينها‬
‫ورجاالتها‪ ...‬يثني عن الزمن املا�ضي‪ ،‬ويق ّبح �أحوال الزمن احلا�ضر‪ ،‬ويتوج�س من الزمن املقبل؛‬
‫فك�أمنا قر�أ ه�ؤالء على حا�ضر الدنيا ال�سالم‪ ،‬و�صار املا�ضي عندهم وحده الزمن اجلميل‪ ،‬كما‬
‫يعبون عنه‪ ،‬لذلك جتدهم �أكرث النا�س ثقة مبوروثه‪ ،‬وركونا �إىل مقوالت �أهله‪ ...‬لأنه تركة الآباء‬ ‫ّ‬
‫والأجداد‪ ،‬وخال�صة جتربة الأ�سالف‪ ،‬املخطوط وامللفوظ منه يف وجوب االقتداء عندهم �سواء!‬
‫وه�ؤالء‪ ،‬بت�صوراتهم وت�صرفاتهم هذه‪ ،‬يو ّرثون �أنف�سهم مذ ّلة التقليد‪ ،‬ويع ّودون �أل�سنتهم‬
‫تبي وال نقد وال مراجعة‪ ،‬لتتّ�سع بذلك‬ ‫عادة اجرتار معارف ومقوالت ال�سابقني دون رو ّية وال ّ‬
‫دائرة ت�أثري معارف املا�ضي على عقولهم‪ ،‬وت�شت ّد وط�أته على متثالتهم‪ ،‬حتى ي�صري الواق ُع املعي�ش‬
‫لديهم وا ِق َع ْ ِي‪ ،‬واق ٌع حا�ض ٌر عيا ًنا وواق ٌع م�ستح�ض ٌر ذهنا‪ ،‬والأخطر يف الأمر �أن يغلب الثاين ال َ‬
‫أول‬
‫ال�سديد‬
‫فيبطله‪ ،‬ك�أن يعتقد املرء �أن الأولني مل يرتكوا للمت�أخرين ما ي�ستزيدون به من الر�أي ّ‬
‫والعلم املفيد‪ ،‬وهلل ذ ّر الناظم �إذ قال‪:‬‬
‫ق ــل ملن ال يرى للأواخر �شيئـا ويـ ـ ــرى للأوائـ ـ ـ ــل التقدميـا‬
‫و�سيغدو هــذا احلديـث قدميا‬ ‫�إن ذاك القديـم كـ ــان حديثــا‬
‫و�أخطر من ذلك و�أهول �أن يجد التقليد لأهل الإفتاء والق�ضاء طريقه‪ ،‬و�أن يتمكن من عقولهم‬
‫فيفعل بها فعلته‪� ،‬إنه الأ�سر والتكبيل عن ك ّل �أ�شكال الإبداع والتجديد‪ ،‬ومن روائع كالم �أبي املعايل‬
‫اجلويني (تويف ‪478‬ﻫ) يف هذا ال�صدد ت�أكيده على �أن " ال�سابق و�إن كان له حق الو�ضع والت�أ�سي�س‬
‫والت�أ�صيل‪ ،‬فللمت�أخر حق التتميم والتكميل‪ ...‬ثم يتدرج املت�أخر �إىل التهذيب والتكميل‪ ،‬فيكون‬

‫‪ .1‬انظر املنخول‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪ ،473-472‬ونهاية ال�سول يف �شرح منهاج الأ�صول‪ ،617/4 :‬والإن�صاف يف بيان �أ�سباب‬
‫االختالف‪ ،‬لويل اهلل الدهلوي (تويف ‪1176‬ﻫ)‪ ،‬تعليق عبد الفتاح �أبو غدة‪ ،‬دار النفائ�س‪ ،‬ط‪1397( ،1‬ﻫ‪1977/‬م)‪،‬‬
‫�ص‪ 97‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪17‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫املت�أخر �أحق �أن ُيتّب َع جلمعه املذاهب‪ ...‬وهذا وا�ضح يف احلرف وال�صناعات ف�ضال عن العلوم‬
‫وم�سالك الظنون‪ ،‬وهذه طريقة كل من�صف‪ ،‬ولي�س فيها تعر�ض لنق�ض مرتبة �إمام‪".1‬‬
‫ويو�ضح ذلك حممد بن علي ال�شوكاين (تويف ‪1250‬ﻫ) حينما ي�ؤكد �أن زمن �أبي حنيفة (تويف‬
‫‪150‬ﻫ) ومالك (تويف ‪179‬ﻫ) وال�شافعي (تويف ‪204‬ﻫ) و�أحمد (تويف ‪241‬ﻫ) مل يكن فيه مذهب‬
‫معي يتدار�سونه‪ ،‬و�أن حدوث التمذهب مبذاهب الأئمة الأربعة �إمنا كان بعد انقرا�ض ه�ؤالء‬ ‫رجل ّ‬
‫الأئمة‪ ،‬و�أن هذه املذاهب �إمنا �أحدثها عوام املقلدة لأنف�سهم من دون �أن ي�أذن بها �إمام من الأئمة‬
‫املجتهدين‪.2‬‬
‫التع�صب املذهبي؛ العقدي واحلزبي والفقهي‪ ...‬فال‬ ‫ّ‬ ‫ويلحق مبا ُذكر كل �أ�شكال ومظاهر‬
‫ينبغي لرواد الفكر املقا�صدي التق ّيد املطلق ب�أقوال املا�ضني واعتقاده ال�صواب الذي ال مرية فيه‪،‬‬
‫الحتمال �أن يكون اخلط�أ الذي ال �شك فيه‪ ،‬ولأن احلق �أحقّ �أن يعلى‪ ،‬وال�صواب �أجدر �أن يتبع‪،‬‬
‫فليكن العمل املقا�صدي م�ؤ�س�سا على وفق هذه القاعدة "�إذا انتظم الدليل على �إثبات مق�صد‬
‫�شرعي وجب على املتجادلني فيه �أن ي�ستقبلوا قبلة الإن�صاف‪ ،‬وينبذوا االحتماالت ال�ضعاف‪".3‬‬
‫و�أن املجتهد ال يجوز له �أن يقلد غريه يف حق نف�سه وال يف حق غريه‪.4‬‬
‫ويف هذا يقول العز بن عبد ال�سالم (تويف ‪660‬ﻫ)‪" :‬ومن العجب العجاب �أن الفقهاء املق ّلدين‬
‫يقف �أحدهم على �ضعف م�أخذ �إمامه بحيث ال يجد ل�ضعفه مدفعا وهو مع ذلك يقلده‪....‬بل يتحيل‬
‫لدفع ظاهر الكتاب وال�سنة ويت�أولهما بالت�أويالت البعيدة الباطلة ن�ضاال عن مقلده‪".5‬‬
‫وما �أَ َّل َف جالل الدين ال�سيوطي ر�سالته امل�سماة "الر ّد على من �أخلد �إىل الأر�ض وجهل �أن‬
‫االجتهاد يف كل ع�صر فر�ض" �إال للت�أكيد على هذا املعنى‪ ،‬ولل�شوكاين كتاب مفيد يف املو�ضوع‬

‫‪ .1‬الربهان‪ ،‬م‪� ،‬س‪ ،744/2 ،‬وانظر الإن�صاف يف بيان �أ�سباب االختالف‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪ 68‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ .2‬نقال عن جملة العربي‪� ،‬ص‪ ،32‬العدد‪ ،224 :‬رجب ‪1397‬ﻫ‪ /‬يوليوز ‪1977‬م‪ ،‬عنوان املقال "من ي�سبح �ضد التيار"‬
‫لفهمي هويدي‪.‬‬
‫‪ .3‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ .4‬عالء الدين عبد العزيز بن �أحمد البخاري (تويف ‪730‬ﻫ)‪ ،‬ك�شف الأ�سرار عن �أ�صول فخر الدين البزودي‪ ،‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪1418( ،1‬ﻫ‪1997/‬م) د‪ .‬ت‪ .20/4 ،‬وانظر جمع اجلوامع‪� ،‬ص‪.68‬‬
‫‪ .5‬انظر الإن�صاف يف بيان �أ�سباب االختالف‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.99‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪18‬‬

‫عنوانه "القول املفيد يف �أدلة االجتهاد والتقليد"‪ ،‬وكذلك فعل �آخرون يف كتب خا�صة �أو �أجزاء‬
‫منها‪.‬‬

‫من التجريد والتعقيد �إىل الواقعية والفاعلية‬


‫�صحة العلم وجودة املنهج‪،‬‬ ‫الأ�صل يف علوم الإ�سالم‪ ،‬بل وعلوم الإن�سان عموما‪� ،‬أن تقوم على ّ‬
‫و�أن تطمح �إىل تلبية الطلبات و�إجابة الت�سا�ؤالت‪ ،‬وذلك ما يعني �أنها ت�سري على وفق ن�سق ِع ْلمِ ٍّي‬
‫َع َم ِل ٍّي‪� ،‬أما �أن تخو�ض فيما ال ينبني عليه عمل من �أعمال الل�سان �أو القلب �أو اجلوارح فلي�س‬
‫ذلك من العلم املطلوب بل وال املرغوب‪ ،‬ويت�أكد هذا املعنى يف هذا املقام بالذات؛ لأننا نتح ّدث‬
‫عن (علم) من علوم ال�شريعة �أوال‪ ،‬ومو�صوف بـ(الق�صد ّية) يف عنوانه ثانيا‪ ،‬فوجب �أن َي ِف َّي بها‬
‫يف جميع مباحثه‪ ،‬بد ًءا من عتبات مقدماته‪ ،‬ومرورا بقواعده و�أمثلته‪ ،‬وانتها ًء بنتائجه و�سائر‬
‫تنزيالته‪.‬‬

‫مثال التجريد يف علم املقا�صد (امل�صالح واملفا�سد املح�ضة بني الوجود والعدم)‬
‫لعلي ال �أجد مثاال �أبني لإبراز مدى معاناة الأبحاث املقا�صدية‪ ،‬قدميا وحديثا‪ ،‬من �آفة‬
‫التجريد والتعقيد مثل ق�ضية (امل�صالح واملفا�سد املح�ضة)‪ ،‬مع �أنها من املوا�ضيع التي يقع فيها‬
‫الدور والت�سل�سل‪ ،‬وفيما يلي بيان موجز لذلك‪:‬‬
‫يف �س ّياق حديث �أهل املقا�صد عن �أفعال املكلفني وما َي ْع ِر ُ�ض لها من �صالح وف�ساد‪ ،‬جندهم‬
‫يتّفقون ابتدا ًء على �أنها حم ّل المتزاج امل�صالح باملفا�سد‪ ،‬و�أن الواجب على �أهل العلم ح ّيال ذلك‬
‫نهج �أ�سلوب التقريب والتغليب لد ْرك �أي القبيلني هو الغالب َِل ُي ْعترب‪ ،‬و�أيهما املغمور ِل ُي ْهدر‪ ،‬ولكنهم‬
‫ُ‬
‫انعدام امل�صالح واملفا�سد املح�ضة‪ ،‬ويف هذا ال�ش�أن ت�سرت�سل‬ ‫ِ‬ ‫يختلفون‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬يف حكم وجو ِد �أو‬
‫خطاباتهم يف املو�ضوع �إىل �أن تنبت فروعا وتنتج خيوطا ال تقبل الرتتيب والتهذيب‪ ،‬وال تخ�ضع‬
‫لقانون تدبري االختالف‪ ،‬بل �إن َمن ينظر يف عمق هذا االختالف ويت�أمل مداه يجده بالغا ح ّد‬
‫ال�صورية والتجريد؛ وبيان ذلك �أنهم انق�سموا يف مواقفهم جتاه هذا النوع من امل�صالح واملفا�سد‬ ‫ّ‬
‫ومثبت له‪ ،‬واملثبتون �أنواع؛ فمنهم مق ُّر بكرثة الوجود‪ ،‬وقائ ُل بندرته‪ ،‬و�ساكتُ عن‬ ‫منكر لوجوده ٍ‬ ‫بني ٍ‬
‫عر�ض مرك ٌز لأهم مذاهب �أهل العلم يف امل�س�ألة‪:‬‬ ‫و�صفه بوفرة �أو قلة‪ ،‬وفيما يلي ٌ‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪19‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫يقول ابن قدامة املقد�سي (تويف ‪620‬ﻫ) يف كتابه املغني‪" :‬ال�شرع ال َي ِر ُد بتحرمي امل�صالح‬
‫التي ال م�ض ّرة فيها‪ ،‬بل مب�شروعيتها‪"1‬؛ َف ُيفهم من هذا الكالم‪ ،‬ومثله‪� ،‬إقرار الرجل بوجود‬
‫يف�صل القول يف ن�سبة هذا الوجود �أكثري �أم قليل؟‬
‫امل�صالح املح�ضة‪ ،‬ولكنه مل ّ‬
‫�أما العز بن عبد ال�سالم (تويف ‪660‬ﻫ) فعند تتبع كالمه يف �ش�أن طرائق الرتجيح بني‬
‫امل�صالح املفا�سد املتعار�ضة جنده ي�ص ّرح بوجود ما هو ُم َت َم ِّح ٌ�ض منها‪ ،‬فهو ُي َع ِّ ُب عنها بامل�صالح‬
‫واملفا�سد (اخلل ّية)‪ ،‬ويف ذلك يقول‪" :‬وال�ضابط �أنه مهما ظهرت امل�صلحة اخلل ّية عن املفا�سد‬
‫ي�سعى يف حت�صيلها‪ ،‬ومهما ظهرت املفا�سد اخلل ّية عن امل�صالح ي�سعى يف درئها‪ ،‬و�إن التب�س احلال‬
‫احتطنا للم�صالح بتقدير وجودها وفعلناها‪ ،‬وللمفا�سد بتقدير وجودها وتركناها‪".2‬‬
‫غري �أنه حينما يتحدث‪ ،‬بالأ�صالة‪ ،‬عن طبيعة هذا الوجود ي�ؤكد على �أن "امل�صالح اخلال�صة‬
‫عزيزة الوجود‪ ".3‬وهذا يعني ت�سليمه بوجود �شيء من امل�صالح واملفا�سد املح�ضة‪� ،‬إال �أنه وجو ٌد‬
‫نادر جدا؛ لأن �أكرث �أفعال العباد يف الغالب متتزج فيها امل�صالح واملفا�سد يف �آن واحد‪ ،‬فكان‬
‫اخلال�ص منها يف حكم النادر وجوده‪.‬‬
‫و�أما �شهاب الدين القرايف (تويف ‪684‬ﻫ) فيجزم متام اجلزم بانعدام امل�صالح اخلال�صة‬
‫املتمح�ضة يف الدنيا‪ ،‬وي�ستدل على ذلك بدليل من �أقطع الأدلة ال�شرعية‪� ،‬أال وهو دليل‬
‫واملفا�سد ّ‬
‫اال�ستقراء‪ ،‬حيث يقول‪" :‬ا�ستقراء ال�شريعة يق�ضي �أن ما من م�صلحة �إال وفيها مف�سدة ولو ق ّلت‬
‫على البعد‪ ،‬وال مف�سدة �إال وفيها م�صلحة و�إن ق ّلت على البعد‪ "4...‬ومعنى هذا املذهب �أنك مهما‬
‫حت�صل م�صلحة خال�صة وال مف�سدة‬ ‫بحثت يف �أفعال املكلفني‪ ،‬الواقعة �أو املفرت�ضة‪ ،‬ف�إنك لن ّ‬
‫حم�ضة �أبدً ا‪.‬‬

‫‪ .1‬ابن قدامة املقد�سي‪ ،‬املغني‪ ،‬حتقيق د‪ .‬عبد اهلل بن املح�سن الرتكي ود‪ .‬عبد الفتاح حممد احللو‪ ،‬مطبعة هجر‪ ،‬ط‪،2‬‬
‫(‪1412‬ﻫ‪1992/‬م)‪.436/6 ،‬‬
‫‪ .2‬العز بن عبد ال�سالم (تويف ‪660‬ﻫ)‪ ،‬قواعد الأحكام يف م�صالح الأنام‪ ،‬من�شورات حممد علي بي�ضون‪ ،‬بريوت‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية‪/‬لبنان‪ ،‬ط‪1420( ،1‬ﻫ‪1990/‬م)‪.43/1 ،‬‬
‫‪ .3‬املرجع نف�سه‪.14/1 ،‬‬
‫‪� .4‬شرح تنقيح الف�صول‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.78‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪20‬‬

‫و�أما ابن تيمية (تويف ‪728‬ﻫ) فيق ّر بوجود امل�صالح املح�ضة‪ ،‬ولكن من غري �أن يق ّيد هذا‬
‫الوجود بق ّلة وال كرثة‪ُ ،‬يفهم ذلك من قوله" وال�شارع ال يحظر على الإن�سان �إال ما فيه ف�ساد راجح‬
‫�أو حم�ض‪ ،‬ف�إذا مل يكن فيه ف�ساد‪� ،‬أو كان ف�ساده مغمورا بامل�صلحة‪ ،‬مل يحظره �أبدا‪".1‬‬
‫و�إذا ت�ص ّفحنا كتاب املوفقات لأبي �إ�سحاق ال�شاطبي (تويف ‪790‬ﻫ) وجدناه يدر�س هذا‬
‫املو�ضوع بتف�صيل غري م�سبوق‪ ،‬فيما نعلم ‪ ،‬فهو ينظر �إليه بنظرين اثنني‪ ،‬فيق ّرر �أن "امل�صالح‬
‫املبثوثة يف هذه الدار ُينظر �إليها من جهتني‪ :‬من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق اخلطاب‬
‫ال�شرعي بها‪.‬‬
‫ف�أما املنظور الأول‪ :‬ف�إن امل�صالح الدنيوية‪ ،‬من حيث هي موجودة هنا‪ ،‬ال يتلخ�ص كونها‬
‫وم�شاق‪ ،‬ق ّلت �أو كرثت‪ ،‬تقرتن بها �أو ت�سبقها‬
‫ّ‬ ‫م�صالح حم�ضة‪ ...‬لأن تلك امل�صالح م�شوبة بتكاليف‬
‫�أو تلحقها؛ كالأكل‪ ،‬وال�شرب‪ ،‬واللب�س‪ ،‬وال�سكنى‪ ،‬والركوب‪ ،‬والنكاح‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬ف�إن هذه الأمور‬
‫ال تنال �إال بك ّد وتعب‪.‬‬
‫كما �أن املفا�سد الدنيوية لي�ست مبفا�سد حم�ضة من حيث مواقع الوجود؛ �إذ ما من مف�سدة‬
‫تفر�ض يف احلياة اجلارية �إال ويقرتن بها �أو ي�سبقها �أو يتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات‬
‫كثري‪ ...‬ويدلك على ذلك �أن هذه احلياة و�ضعت على االمتزاج بني الطرفني‪ ،‬واالختالط بني‬
‫القبيلني‪ ،‬فمن رام ا�ستخال�ص جهة فيها مل يقدر على ذلك‪ ،‬وبرهان التجربة التامة من جميع‬
‫اخلالئق‪ ،‬و�أ�صل ذلك الإخبار بو�ضعها على االبتالء واالختبار والتمحي�ص‪...‬‬
‫و�أما النظر الثاين فيها‪ :‬من حيث تعلق اخلطاب بها �شرعا‪ ،‬فامل�صلحة �إذا كانت هي الغالبة‬
‫عند مناظرتها مع املف�سدة يف حكم االعتياد فهي املق�صودة �شرعا‪ ،‬ولتح�صيلها وقع الطلب على‬
‫العباد‪ ،‬وكذلك املف�سدة �إذا كانت هي الغالبة بالنظر �إىل امل�صلحة يف حكم االعتياد فرفعها هو‬
‫املق�صود �شرعا‪ ،‬ولأجلها وقع النهي‪ ".2‬فتكون خال�صة مذهب ال�شاطبي (تويف ‪790‬ﻫ) النفي‬
‫التام لوجود امل�صالح واملفا�سد الدنيوية املح�ضة‪ ،‬ليكون قوله وقول القرايف (تويف ‪684‬ﻫ) يف‬
‫امل�س�ألة �س ّيان‪ .‬مع مت ّيز ال�شاطبي بالنظر الثاين للمو�ضوع وا�ستقالله به‪.‬‬
‫‪ .1‬تقي الدين ابن تيمية احلراين (تويف ‪728‬ﻫ)‪ ،‬الفتاوى‪ ،‬املن�صورة‪ :‬دار الوفاء‪ ،‬ط‪1426( ،3‬ﻫ‪2005/‬م)‪-338/3 ،‬‬
‫‪ ،349‬وانظر‪ :‬تعليل الأحكام‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪.377‬‬
‫‪ .2‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.341-339 /2 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪21‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫�أما الطاهر بن عا�شور (تويف ‪1394‬ﻫ) فينبه �إىل �أن "النفع اخلال�ص وال�ض ّر اخلال�ص و�إن‬
‫كانا موجودين �إال �أنهما بالن�سبة للنفع وال�ضر امل�شوبني يعتربان عزيزين‪ ".1‬وهو بذلك يوافق‬
‫مذهب العز بن عبد ال�سالم بالتمام‪ ،‬غري �أن هذا الأ�صل عند ابن عا�شور تعر�ض له اعتبارات‬ ‫َ‬
‫ع ّدة‪ ،‬نعتربها من قبيل ت�أمالته الأ�صولية التي ال ينا�سب املقام تف�صيلها‪.2‬‬

‫من �آثار االختالف يف املو�ضوع‬


‫لقد د�أب كثري من �أهل الأ�صول واملقا�صد ب�سط هذه املقدمة النظرية يف م�ص ّنفاتهم‪ ،‬واخلو�ض‬
‫يف تفا�صيلها‪ ،3‬وال ّرد على املخالفني فيها‪...‬دون ج ّدة يف التناول‪ ،4‬وال تغيري يف النتائج‪ ،‬وك�أنهم‬
‫يفعلون ذلك من باب الوفاء لنهج �أ�سالفهم الأ�صوليني يف تناول املباحث الأ�صولية‪ ،‬مع �أنها‪ ،‬عند‬
‫التحقيق‪ ،‬م�س�ألة نظرية لي�س وراءها فائدة َع َم ِل ّية‪ ،‬وي�صدق عليها ذلك الأ�صل اجلامع الذي ق ّرره‬
‫ال�شاطبي (تويف ‪790‬ﻫ) حني قال‪" :‬كل م�س�ألة ال ينبني عليها عم ٌل فاخلو�ض فيها ٌ‬
‫خو�ض فيما‬
‫يدل على ا�ستح�سانه دليل �شرعي‪ ".5‬وعند مراجعة الأقوال الواردة يف املو�ضوع‪ ،‬والتحقيق يف‬ ‫مل ّ‬
‫الأ�سباب املن�شئة الختالف �أ�صحابها‪ ،‬والتط ّلع �إىل �آثارها الفقهية‪ ،‬وا�ستب�صار نتائجها العملية‪...‬‬
‫ميكن حت�صيل النتائج الآتية‪:‬‬
‫النتيجة الأوىل؛ �أن اجلميع متفق على �أن �أفعال املكلفني قابلة لأن تكت�سي لبا�س امل�صالح‬
‫واملفا�سد يف �آن واحد‪ ،‬فت�صري بذلك وعا ًء ميتزج فيه القبيالن‪ ،‬ويتداخل فيه الوجهان‪ ،‬لتكون‬
‫القاعدة املع ّول عليها يف هذا الباب "�أن اختالط امل�صالح واملفا�سد �أمر واقع ما له من دافع‪".‬‬
‫وعندئذ ما ينبغي �أن تكون هذه نهاية البحث‪ ،‬بل الواجب عندئذ تعيني اجلهة الراجحة من اجلهة‬
‫املرجوحة‪ ،‬وال يكون ذلك �إال وفق قواعد الرتجيح املبثوثة �أ�صولها يف رحاب هذه ال�شريعة الغراء‪،‬‬
‫ولي�س بح�سب حكم االعتياد الك�سبي كما ُيفهم من ظاهر كالم ال�شاطبي‪.‬‬

‫‪ .1‬مقا�صد ال�شريعة‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪ 64‬و‪.68‬‬


‫‪ .2‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪ 64 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ .3‬على اختالف يف م�ستويات ذلك عندهم‪ ،‬فهم بني موجز ومقت�صد وم�سهب‪.‬‬
‫‪ .4‬ي�ستثنى من هذا الأ�صل َن َظ ُر الإمام ال�شاطبي وابن عا�شور للمو�ضوع‪ ،‬فقد جاءا على قدر كبري من املخالفة لِ َا اعتاد‬
‫الأ�صوليون ب�سطه يف هذا الباب‪.‬‬
‫‪ .5‬املوافقات‪ ،‬م‪� ،‬س‪.42/1 ،‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫�سل�سلة الإ�سالم وال�سياق املعا�صر‬ ‫‪22‬‬

‫النتيجة الثانية؛ �أنه اختالف يغلب عليه قدر كبري من طابع ال�صورية والتجريد‪ ،‬فال‬
‫يتح�صل من ورائه �أ�سا�س فقهي ُيعمل به‪ ،‬وال ُبعد م�صلحي ُيركن عند النوائب �إليه‪ ،‬بل نع ّده‬ ‫ّ‬
‫وجها من وجوه ت�أثر الفكر الأ�صويل بخلفية التح�سني والتقبيح العقلي‪ ،‬وجنزم ب�أن هذه الق�ضية‬
‫اجلزئية النظرية‪ ،‬على �شاكلة مثيالتها‪ ،‬غالبا ما يقع فيها ال ّدور والت�سل�سل‪ ،‬بحيث تكون نهاية‬
‫البحث فيها ال َع ْو ُد �إىل �أ ّولها‪ ،‬وبيان ذلك من ثالثة �أوجه‪ ،‬هي‪:‬‬
‫الأول؛ َل ْو َق َّد ْر َنا اجلواب بالإيجاب‪ ،‬ولو على وجه الندرة‪ ،‬كما هو مذهب العز بن عبد‬
‫و�سقنا‬
‫املتمح�ض من امل�صالح واملفا�سد‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ال�سالم والطاهر بن عا�شور‪ ،‬و�أَ ْق َر ْر َنا بوجود هذا النوع‬
‫له ال�شواهد‪ ،‬و�ضربنا له الأمثلة‪ ،‬و�أخر�صنا املخالف‪ ،‬و�أر�ضينا امل�ؤالف‪ ...‬ففيم ينفع ذلك علم‬
‫العاملني‪ ،‬وعمل العاملني؟ لأننا مل نتجاوز ح ّد و�صف ما هو كائن واقع (هذا �صالح حم�ض وهذا‬
‫ف�ساد حم�ض)‪.‬‬
‫بال�صالح املح�ض �أو الف�ساد‬
‫الثاين؛ وهو نتيجة ل�سابقه‪ ،‬وحا�صله �أن احلكم على الأفعال ّ‬
‫اخلال�ص ال ينتج عنه‪ ،‬وال يت�ص ّور �أن ينتج؛ �أي اختالف فقهي على م�ستوى الأحكام ال�شرعية‪،‬‬
‫حم�ض" يحمل يف ثناياه �أحكاما �شرعية متفقا‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫حم�ض‪/‬ف�سادٌ‬ ‫لأن هذا النوع من الأو�صاف " ٌ‬
‫�صالح‬
‫عليها‪ ،‬قد يكون الوجوب �أو الندب �أو الإباحة �أو احلرمة‪ ،‬ك ّل بح�سب ظروف املك ّلف و�أحواله‪،‬‬
‫وطبيعة التكليف وم�آالته‪ ...‬ولنربهن على ذلك انطالقا من مثالني ذكرهما ابن عا�شور يف هذا‬
‫ال�صدد‪:‬‬
‫املثال الأول‪" :‬التعاون الواقع بني �شخ�صني هو م�صلحة لهما ولي�س فيه �أدنى �ض ّر‪".1‬‬
‫املثال الثاين‪" :‬و�إن �إحراق مال �أحد �إ�ضرار خال�ص‪".2‬‬
‫فكون الأول (�صالحا حم�ضا) والثاين (ف�سادا خال�صا) يلزم ب�إفادة م�شروعية الإقدام على‬
‫الأول‪ ،‬ووجوب الإحجام عن الثاين‪ ،‬فهما �إذن ق�ضيتان ال تقبالن اخلالف بني ُك ِّل َمنْ له ُم ْ�س َك ٌة ِمن‬
‫عقل‪ ،‬فكيف بعلماء الفقه و�أرباب االجتهاد!‬

‫‪ .1‬مقا�صد ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬م‪� ،‬س‪� ،‬ص‪ 64‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ .2‬املرجع نف�سه‪.‬‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬
‫‪23‬‬ ‫الفكر املقا�صدي املعا�صر‪ :‬من �أ�شكال التمجيد �إىل �إ�شكال التجديد‬

‫بال�سلب‪ ،‬ونفينا وجود امل�صالح واملفا�سد املح�ضة‪ ،‬وجزمنا ب�أن‬


‫الثالث‪� :‬أننا لو ق ّدرنا اجلواب ّ‬
‫ح�صلنا‪ ،‬ولأي‬
‫كل �أفعال املكلفني البد �أن متتزج فيها امل�صالح باملفا�سد‪ ...‬ف�أ ّية فائدة نكون قد ّ‬
‫مق�صد قد م ّهدنا �إال �أن نعود �إىل الق�سمة الأوىل التي هي حمل اتفاق ووفاق‪ ،‬وهي القا�ضية ب�أن‬
‫امتزاج ال�صالح بالف�ساد يف �أفعال املكلفني �أمر واقع ما له من دافع‪.‬‬
‫وعليه‪ :‬يكون الأوىل بالبحث والأجدر بالتتبع يف هذا الباب هو تعيني امل�سالك املو�صلة �إىل‬
‫معرفة ما هو �صالح وما هو ف�ساد‪ ،‬و�أثر العقل ال�سليم امل�سلم يف هذه املعرفة‪ ،‬وحدوده‪...‬وغريها‬
‫من املباحث الأ�صولية املتفرقة يف بطون م�صنفات الأ�صول واملقا�صد‪.‬‬

‫النتيجة الثالثة‪ :‬ت�أويل بع�ض هذه املذاهب مبا يف�سد معناها ّ‬


‫ويب�شع جمالها‬
‫واملق�صود عندي بالذات مذهب ال�شاطبي‪ ،‬وبيت الق�صيد فيه م�صطلح "مواقع الوجود"‬
‫ف�إن مراد ال�شاطبي منه‪ ،‬كما يتبني من �سياق كالمه ال�سالف ذكره‪ ،‬طبيع ُة امل�صالح واملفا�سد من‬
‫حيث هي مبثوثة يف هذا الوجود‪ ،‬وكيفية تلقي عقول النا�س لها‪ ،‬وان�سياق طبائعهم معها‪.‬‬
‫وهنا مكمن الغرابة الظاهرة‪ ،‬غري املق�صودة‪ ،‬للقانون الذي جاء به ال�شاطبي يف هذا‬
‫الباب‪ ،‬وهو قانون الرتجيح بني امل�صالح واملفا�سد‪ ،‬حيث يفر�ض عند اختالط امل�صالح باملفا�سد‬
‫يف الفعل الواحد �أن ُي ْن َظ َر �إىل اجلهة الغالبة منهما بحكم االعتياد �أو ًال لد ْرك الراجح منهما‪،‬‬
‫قول ال�شارع يف امل�س�ألة من حيث كونها م�صلحة‬‫وما تخ ّرج من ذلك النظر هو الذي ُي ْع َر ُف به ُ‬
‫�أو مف�سدة‪� ‬شرعا‪.‬‬
‫ومعلوم �أن �أنظار النا�س تختلف يف تقدير ما هو (�صالح) وما هو (فا�سد)‪ ،‬فيكون اختالفها‬
‫يف معرفة الراجح منهما‪ ،‬عند التمازج‪� ،‬أبني و�أظهر! وكيف تع ّد الت�صورات العرفية ميزانا‬
‫للت�صرفات ال�شرعية‪ ،‬مع �أن ال�شرائع ما جاءت �إال لتطويع النفو�س‪ ،‬وقهر ال�شهوات‪ ،‬و�إ�صالح‬
‫فا�سد العادات!؟‬

‫‪www.arrabita.ma‬‬

You might also like