You are on page 1of 28

‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫في النقد املنهجي‪ :‬الطيب تيزيني بين املوسوعية املعرفية و"التماهي" التراثي‬

‫(((‬
‫جمال الشوفي‬

‫امللخص‬
‫ال يمكن لبحث واحد أن يلم بمقتضيات العمل املعرفي الشاق الذي كرس له املرحوم الطيب‬
‫تيزيني حياته الفكرية‪ ،‬وال سيما أنه فيلسوف معاصر‪ ،‬امتلك القدرة على الضلوع في التراث العربي‬
‫تفنيدا ً‬
‫ونقدا‪ ،‬بسلسلة متعددة من الكتابات املوسوعية ذات الطابع األكاديمي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ونهضته‪،‬‬
‫إن اإلقرار بأهمية مباحث الرجل ومرجعيتها التنويرية‪ ،‬في سياق فلسفي‪ ،‬ال يعني االتفاق معه في‬
‫كل ما رمى إليه من نتائج‪ ،‬وال سيما املنهجية‪ ،‬بما هي أحد أهم املوضوعات املمكنة للنقد اإليجابي‬
‫والسلبي في فكر تيزيني‪ ،‬وذلك بسبب املساحة املعرفية الواسعة التي تتيحها كتاباته‪ ،‬وخالصاتها‬
‫النظرية‪.‬‬
‫وفي غرض هذا البحث سنقف على الثوابت املنهجية البحثية في فكر الطيب تيزيني‪ ،‬حيث تبرز‬
‫اثيا‪ ،‬سواء‬ ‫"ماركسيا"‪ ،‬وقد فرضت ً‬
‫قيودا منهجية في تتبعه الفكر العربي اإلسالمي تر ً‬ ‫ً‬ ‫املادية التاريخية‬
‫بالتمسك بقراءة التراث بما هو ثابت في حضوره التاريخي‪ ،‬بحيث يفصح التراث عن نفسه حسبما‬
‫ماركسيا‪ ،‬أو من خالل بحثه الدائم عن نموذج الطبقة الوسطى حاملة‬ ‫ً‬ ‫أراده‪ ،‬ولكن بطريقة ممنهجة‬
‫ً‬
‫لواء التغيير نحو االشتراكية‪ ،‬وبالضرورة التوعية األيديولوجية ودور الثقافة والتنويرية فيها؛ محاول‬
‫قراءة األزمة البنيوية الوظيفية للفكر العربي املعاصر الالتاريخي الالتراثي‪ ،‬وتالفي الوقوع في نزعتي‬
‫األصالة‪ -‬السلفية الفكرية‪ ،‬و"الحداثة"‪ -‬اإلمبريالية‪ ،‬األمر الذي ألزمه عدم االنفتاح على فكر كوني‪،‬‬
‫إضافة إلى تقديمه النزعة العربية القومية في حلقة صراع مثنوي هادم بين الداخل والخارج‪ ،‬يحيل‬
‫على نزعة عربية التمركز من منظار إسالمي تنويري‪ ،‬في مقابلة نزعة أوروبية التمركز‪ ،‬أحالت على نوع‬

‫((( جمال الشوفي‪ :‬كاتب وباحث سوري‪ ،‬يحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية‪ ،‬له عدد من البحوث املنشورة‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫من التصالحية التاريخية واملنهجية التسويغية ملساراته التاريخية؛ ليبرز سؤال منهجي آخر‪ :‬ماذا عن‬
‫التأثير الحضاري املتبادل؟ ملاذا أخذ الغرب من فكر العرب بتراثهم العلمي على الرغم من أنهم كانوا‬
‫غزاة "إمبرياليين" وفق النهج ذاته؟ ولم يتح الطيب أن نأخذ من الغرب سوى وجهه الغازي‪.‬‬
‫إن التراث‪ ،‬والقومية العربية‪ ،‬واملاركسية‪ ،‬باتت محاور عمل معرفية‪ ،‬وأدوات فكرية منهجية‪،‬‬
‫شغلت هاجس الطيب تيزيني في مشروعه النهضوي التنويري‪ ،‬وجمعت بين طياتها وجدان الرجل املحب‬
‫واملتسامح‪ ،‬ووسطيته التصالحية‪ ،‬بطريقة تحليلية تفصيلية‪ ،‬محمولة على جملة من الفرضيات‬
‫املنهجية بمسلمات ثابتة لم يبرهن عليها‪ ،‬وأوجدت حالة من التماهي بين التراث واملعرفة واملنهج‪ ،‬من‬
‫دون الوصول إلى وضع تصور نقدي لها‪ ،‬وهذا ما يجعل النقد املنهجي ضرورة معرفية الزمة‪.‬‬
‫فهل كانت نتائجه كما أراد وأجاد واجتهد؟ سؤال بحكم التاريخ والواقع سنحاول تناوله من زاوية‬
‫منهجية تتعلق باملسلمات التي بنى عليها الطيب ذاته‪.‬‬
‫تبدو محاوالت الطيب تيزيني الفكرية األخيرة محاولة للخروج من حالة التماهي‪ ،‬هذه‪ ،‬إلى‬
‫نموذج القراءة النقدية التي تستبق املشروع في أحقية دور الفلسفة في التقدم بطرحها‪ ،‬تلك التي‬
‫ظهرت في أعماله األخيرة التي حاولت االنتقال املعرفي خارج الفرضيات املنهجية التي أطرت مسيرة‬
‫عمله الفلسفية التراثية‪ ،‬فكان أن اعترف بوحدة الوجود الكوني آخر أيامه‪ ،‬ولم يسعفه الزمن‬
‫ً‬
‫كثيرا للكتابة فيه‪.‬‬

‫مقدمة‪ :‬الخطوط العريضة في موضوع النهضة‬


‫إن التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬والفلسفة والنقد الفلسفي‪ ،‬والقومية العربية‪ ،‬واملنهج املادي‬
‫ً‬ ‫املارك�سي‪ ،‬تار ً‬
‫يخيا وما يتخللها جدل‪ ،‬تؤلف الفضاء املتسع في فكر املرحوم الدكتور طيب تيزيني‪،‬‬
‫محملة على أرضية متسعة من صفاء النية والسريرة‪ ،‬والشخصية املحبة والغيورة‪ ،‬والتنويرية‪ ،‬على‬
‫قضايا مجتمعه ً‬
‫اهنا وتار ً‬
‫يخيا‪.‬‬ ‫ر‬
‫طيب تيزيني أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق‪ ،‬والفيلسوف العربي املعاصر‪ ،‬حمله هاجس األمة‬
‫في بعديها‪ :‬التراثي والقومي‪ ،‬طوال مسيرة حياته املمتدة منذ ‪ 1934‬حتى ‪ ،2019‬واالشتغال في قضاياها‬
‫ً‬ ‫اشتغال ً‬ ‫ً‬
‫وغزيرا وفق مشروعات عدة‪ ،‬تتعلق بنهضتها ومحتواها‪.‬‬ ‫مكثفا‬

‫‪152‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫فعلى الرغم من التناقض بين املاركسية واألديان‪ ،‬ومنها اإلسالمي‪ ،‬إال أنه ال يلمس تناقض بين فكر‬
‫الرجل املتنور‪ ،‬بمنهجيته املادية التاريخية املاركسية مع اإلسالم‪ ،‬ومناهجه الدينية‪ ،‬فقد استطاع‬
‫كثيرا من التسامحية والتصالحية لدرجة‬‫جمعها في فكره وفي شخصه وسلوكه‪ ،‬وهو ما أضفى عليه ً‬
‫منيا مع عصره‪ ،‬ومحاكاة النماذج العصرية‬ ‫"التماهي" مع التراث‪ ،‬بمحتواه التاريخي املتخارج واملتباعد ز ً‬
‫ً‬
‫الفكرية التي يحياها‪ ،‬فظل مقبول بين كل األوساط املتناقضة حوله‪ ،‬يوازن بين السلطة القمعية‬
‫ومعارضته لها‪ ،‬بين املاركسية واإلسالم والتراث‪ ،‬وبين الفلسفة‪ ،‬باتساعها‪ ،‬والسياسة بمحدداتها‪،‬‬
‫جيدا في موضوعاته الفكرية التي تناولها في آفاق فلسفية؛ إذ يدرك "أنه تعين على الفكر‬ ‫وتبرز هذه ً‬
‫شيئا ً‬
‫فشيئا‪ ،‬بكثير من الروية والتقية‬ ‫الكالمي الفلسفي أن يقتحم بناء شبه مغلق‪ ،‬ويعمل على فتحه ً‬
‫لربما من الجائز القول‪ ،‬هنا‪ ،‬أن املوسوعية والفلسفة النقدية النظرية هي أبرزميزة في عمل الرجل‪،‬‬
‫فقد حاول بناء نموذج "متفرد"‪ ،‬أو "مغاير" غيره من املفكرين العصرين‪ ،‬بالعودة إلى قراءة التراث‬
‫العربي اإلسالمي‪ ،‬وفق نهج املادية التاريخية املاركسية‪ ،‬وإجازة القول‪ ،‬هنا‪ ،‬للحكم التاريخي املوضوعي‬
‫ال لرأي شخ�صي؛ إذ لم يستطع الخروج من انغماسه في ماهية التراث اإلسالمي والقومية واملاركسية‪،‬‬
‫والذهاب في اتجاه فكر كوني أكثر محاكاة للعصر‪ ،‬كما أوردها نفسه في أواخر حياته‪ ،‬ولربما ختامه‬
‫مسيرة حياته الفكرية التي أكد فيها هذا‪ ،‬في مقابلة أجرته معه "الضفة الثالثة"‪ ،‬في أثناء وجوده في‬
‫تونس عام ‪ ،2017‬قوله‪" :‬اليوم‪ ،‬وبعد كل الذي حدث في سورية وفي غيرها‪ ،‬أعلن أن كل ما كتبته‬
‫في حياتي أصبح ملغى‪ ،‬وفي حاجة إلى إعادة نظر‪ ،‬وقد انتهيت في رحلتي الفكرية إلى اإليمان بوحدة‬
‫العالم"(((‪.‬‬
‫سيحاول سياق البحث إلقاء الضوء ً‬
‫نقديا على الجانب املنهجي في فكر الرجل املوسوعي‪ ،‬وأعترف‬
‫مبدئيا بصعوبة نصوصه من حيث التكرار والتداخل واملركزية املنهجية املهيمنة‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫ً‬
‫املنطق التحليلي الصوري‪ ،‬بفرضياته ومسلماته املغلقة؛ إذ تحتاج أعماله ألعمال أخرى تعادلها‬
‫ً‬
‫موضوعيا في املوسوعية‪ ،‬تلك التي عبر عنها جاد الكريم جباعي‪ ،‬املفكر والكاتب العصري السوري‪،‬‬
‫ً‬
‫بقوله في تأبينه‪" :‬رحل طيب تيزيني عن دنيانا‪ ،‬مكلل بمحبة ذويه وأصدقائه وطالبه‪ ،‬وأولئك الذين‬
‫استمعوا إلى محاضراته املتواترة في املراكز الثقافية السورية كافة‪ ،‬وفي البيوت والصالونات ً‬
‫أيضا‪،‬‬
‫وفي الندوات واملؤتمرات‪ ،‬في املدن السورية وفي غير عاصمة عربية‪ .‬أجل‪ ،‬صار طيب اليوم في ذمة‬

‫((( راجع اآلتي‪:‬‬


‫‪https//:www.alaraby.co.uk/diffah/herenow2017/1/3/‬‬
‫الطيب تيزيني كل ما كتبته أصبح محل إعادة نظر‬

‫‪153‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫القراءة والنقد"(((‪.‬‬

‫مع اإلدراك التام أنها رؤية نقدية‪ ،‬وإن تناولت فكر الطيب بذاته‪ ،‬لكنها تتجاوزه إلى فكر عمومي‬
‫تعميميا‪ ،‬عاصرناه ً‬
‫زمنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫"تصوري"‪ ،‬والتصور حالة فلسفية نظرية تتخذ من املاهية والجوهر ً‬
‫نهجا‬ ‫ّ‬
‫أيضا‪ ،‬له من اإليجابيات ما له من قيمة معرفية؛ لذلك‪ ،‬ضروري‬ ‫ودرست في منابرنا األكاديمية ً‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫وإيجابا‪.‬‬ ‫منهجيا‪ً ،‬‬
‫سلبا‬ ‫ً‬ ‫نقدها‬

‫الفرضيات واألسئلة املنهجية‬


‫في سياق البحث ثمة فرضية مفادها‪ :‬إذا كانت قراءة التراث العربي اإلسالمي بطريقة مادية‬
‫ً‬
‫معرفيا وإضاءات فكرية مهمة في الفكر العربي‪ ،‬ومثله‬ ‫ً‬
‫نموذجا‬ ‫تاريخية‪ ،‬بمنهجية ماركسية‪ ،‬قد بنت‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فهل يمكن للماركسية أن تكون إجابة كافية لصنع مستقبل القومية العربي االشتراكي‪،‬‬
‫حسبما رمى إليها طيب تيزيني؟ وهل الطبقة العاملة ً‬
‫فعليا موجودة أو قابلة للتصنيع؟‪ .‬والسؤال األكثر‬
‫ً‬
‫عموما؟ وهل كانت تمثل تطلعات شباب الربيع العربي في‬ ‫عمومية‪ :‬هل االشتراكية هي الزمة الثورات‬
‫اآلونة األخيرة؟‬
‫ثمة أسئلة معرفية عميقة تتعلق باملنهج املارك�سي عامة‪ ،‬وتبدو مجال بحث واسع وضروري في‬
‫عموم الفكر العربي‪ .‬لكن سنحاول مقاربتها من زاوية عمل املرحوم طيب تيزيني‪ ،‬في نتائجه وخالصاته‪،‬‬
‫وبالضرورة في منهجه البحثي‪ .‬ذلك من دون اإلغراق في التفاصيل السردية العريضة التي درسها خالل‬
‫مسيرة حياته األكاديمية والفلسفية الطويلة‪.‬‬
‫وفي سياق آخر‪ :‬هل النزعة العربية اإلسالمية التراثية‪ ،‬وإبراز خصوصيتها وتفردها‪ّ ،‬‬
‫تعد حالة كافية‬
‫لقيام مشروع عربي قومي نهضوي؟ وهل مثل نقد املركزية األوروبية في هذا حالة انفتاح على فكر‬
‫كوني‪ ،‬يمكنه أن ي�ضيء مسارات النهضة العربية املمكنة‪ ،‬أم أن اإلصرار على أخذه الوجه االمبريالي‬
‫ً‬
‫معرفيا بين فكر الحداثة والليبرالية‪ ،‬وبين مسوغات املشروع القومي االشتراكي‬ ‫ً‬
‫حاجزا‬ ‫الغازي لها أقام‬
‫الذي أراده طيب تيزيني؟ ففي منهجية الطيب تيزيني ثمة محاولة نقدية لتتبع هذا املسار‪ ،‬مرة تأخذ‬
‫ماركسيا‪ ،‬وفي أخرى تكون ذات ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سياقا ً‬
‫منحى مثالي ديني‪ ،‬فتؤكد مصادره تلك أن "اإلمبريالية منذ‬ ‫ماديا‬

‫((( جاد الكريم جباعي‪" ،‬طيب تيزيني في ذمة القراءة والنقد"‪ ،‬حفريات‪.2019/05/20 ،‬‬

‫‪154‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫أواخر القرن التاسع عشر مارست ً‬


‫دورا‪ ،‬لعله كان ً‬
‫كبيرا في صوغ املوقف النهضوي العربي‪ ،‬بسماته‬
‫لثالث‪ :‬اإلصالحية والهجانة والقصور"(((‪ ،‬فهل أوجد هذا املوقف قراءة واضحة للمشهد العربي‪،‬‬
‫ً‬
‫معرفيا‪ ،‬أم اختلطت بين‬ ‫فعليا نهضة عربية عريضة‪ ،‬تأخذ سياقها الزمني بالتدرج‬‫يمكنها أن تؤسس ً‬
‫تراثها املاضوي ومشروعه التنويري املارك�سي؟‬

‫وفي السياق نفسه‪ :‬هل الفكر الكوني اإلنساني حكر على شعب من الشعوب؟ وملاذا أجيز للغرب‬
‫ً‬
‫إمبرياليا‪ ،‬من‬ ‫أن يأخذ من الفكر العربي اإلسالمي‪ ،‬وهو في قمة إنتاجه‪ ،‬بينما ُعد الفعل املعاكس ً‬
‫غزوا‬
‫صوريا‪ ،‬ولنقل من موقع أيديولوجي مارك�سي وقومي فقط؟‬ ‫ً‬ ‫دون الخوض في مرتكزات هذا الفكر إال‬

‫تيزيني واملنهجية املاركسية املهيمنة‬


‫منذ بدايات القرن العشرين‪ ،‬ومع بداية انفتاح العقل العربي على العصرية والدولة الحديثة‪،‬‬
‫"باملالمسة" واملعاينة‪ ،‬باالطالع والتقرب‪ ،‬بالترجمة والتعريب‪ ،‬وبعدئذ بالقبول و‪ /‬أو الرفض‪ ،‬وكذلك‬
‫بالنقد؛ بدأت تتبلور تيارات عدة إلعادة قراءة التاريخ العربي‪ ،‬و‪ /‬أو اإلسالمي‪ ،‬و‪ /‬أو العربي اإلسالمي‪،‬‬
‫عبرت عن نفسها برواد النهضتين‪ :‬األولى والثانية(((‪.‬‬

‫إن االنفتاح على ثقافة مغايرة‪ ،‬ثقافة عصر األنوار األوروبي‪ ،‬بما هي موقعة مخالفة في العقل‬
‫ً‬
‫وعربيا‪ ،‬أوجد تيارات متعددة االتجاهات في الفكري العربي‪ ،‬تباينت‬ ‫ً‬
‫إسالميا‬ ‫والعقالنية عن السائد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫في أثرها قراءة الحاضر العربي‪ ،‬وبالضرورة التاريخ املشكل له تراثيا‪ ،‬إسالميا و‪ /‬أو عربيا‪ ،‬ومستقبله‬
‫وحاضره‪ ،‬فقد بدأت مشكالته املتراكمة تظهر وتطفو على السطح لدرجة تصل حد التأزم‪ ،‬بحسب‬
‫تعبير تيزيني‪" :‬ليس من الصعوبة أن يتبين الباحث املدقق وجود حالة من التأزم في الوضع العربي‬
‫الراهن"(((‪ ،‬وكل اتجاه يحاول الحل فيه بطريقته‪.‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬كتابات في الفلسفة والفكر العربي‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الفارابي‪ ،)1989 ،‬ص‪.19‬‬

‫((( انظر‪ :‬رواد النهضة العربية‬


‫‪https://www.marefa.org/index.php‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ ،‬من االستشراق الغربي إلى االستغراب املغربي‪( ،‬سورية‪ :‬داري املجد والذاكرة‪ ،)1996 ،‬ص‪.9‬‬

‫‪155‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫إن قراءة التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬وصوغ مشروعه‪ ،‬وطريقه النهضوي‪ ،‬بات ً‬
‫جانبا ً‬
‫مهما من‬
‫مسا ات الفكر العربي‪ ،‬بصوره املتعددة‪ ،‬مر ً‬
‫افقا لعدد املناهج املعرفية التي بدأت تأخذ حيز حوارها‬ ‫ر‬
‫في موضوع النهضة‪ ،‬وال سيما منذ منتصف القرن العشرين‪ ،‬وما بعده‪ ،‬بعد حركات التحرر العربي‬
‫من االنتداب الغربي‪ ،‬وبدء تبلور مشروعات عربية حديثة‪ ،‬اطلع عليها الدكتور طيب تيزيني ً‬
‫نقديا‪،‬‬
‫ً‬ ‫موضوع د استنا؛ إذ "عانى التا يخ والتراث العربي‪ً ،‬‬
‫منا طويل‪ ،‬مجموعة وجهات النظر الالتاريخية‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫ر‬
‫الالتراثية‪ ،‬برزت بصيغ متعددة‪ :‬دينية‪ ،‬وقومية وعلمية ليبرالية‪ ،‬وتلفيقية‪ ،‬وعدمية"(((‪ ،‬ليتخذ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫لنفسه املاركسية ً‬
‫منهجا ً‬
‫تحليليا في التاريخ‪ ،‬وأعماله في التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬محاول قراءته‬ ‫ماديا‬
‫بموضوعية‪ ،‬حسبما أراد‪ ،‬أي‪ :‬أراد أن يجعل التراث يفصح عن نفسه بـ "موضوعية"‪ ،‬من دون تأويالت‬
‫ومغالطات تاريخية‪ ،‬ومن دون تحميلها أيديولوجيات أولى‪ ،‬فـ "يتعين على الباحث أن يدع التاريخي‬
‫يفصح عن نفسه في سياقه الداخلي‪ ،‬وفي ضوء املناهج أو املنهج املعاصر األقل احتشاء بالعناصر‬
‫األيديولوجية املعيقة للبحث العلمي"(((‪.‬‬

‫لقد كانت املاركسية‪ ،‬بأفقها االشتراكي‪ ،‬من املناهج الرئيسة التي صعدت في الحيز الثقافي والفكر‬
‫العربي‪ ،‬وال سيما بعد تحققها في االتحاد السوفياتي‪ ،‬وتحقيق االشتراكية وسلطة البروليتاريا فيه‪،‬‬
‫فاملنهج املارك�سي‪ ،‬بجناحيه‪ :‬املادية التاريخية واملادية الجدلية‪ُ ،‬ع ّد لزمن طويل ملهم اليسار وحركات‬
‫التغيير العاملية‪ ،‬ومثلها العربية‪ ،‬وترافق مع نماذج سياسية قومية بجناح اشتراكي أوجد في حاضرنا‬
‫ً‬
‫املعاش دول ذات سلط عسكرية وأمنية ديكتاتورية‪.‬‬
‫إن السلطات األمنية‪ ،‬هذه‪ ،‬أصل الحدث العربي إلى اليوم‪ ،‬ومصدر ويالته وكوارثه‪ ،‬فقد ادعت‬
‫ز ًيفا قيادة الجماهير العربية نحو الوحدة والتحرر‪ ،‬وذلك بعد موجات التحرر الشعبي من االستعمار‬
‫ً‬
‫ظاهريا‪ ،‬وحكمت البالد والشعوب بالحديد‬ ‫أو االنتداب الغربي‪ ،‬فحملت شعارات القومية واالشتراكية‬
‫فعليا‪ .‬تلك السلطات األمنية التسلطية التي فندها خلدون حسن النقيب‪ ،‬ووصفها بالدولة‬ ‫والنار ً‬
‫التسلطية‪ ،‬على أنها "امتداد ألجهزة الدولة ووسيلة ّ‬
‫فعالة‪ ،‬أو بالغة الفاعلية‪ ،‬للضبط االجتماعي‪،‬‬
‫ولسيطرة الدولة على االقتصاد واملجتمع"(((‪.‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ ،‬من التراث الى الثورة‪ ،‬حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي ج‪ ،1‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار ابن خلدون‪ ،)1978 ،‬ص‪.15‬‬

‫((( طيب تيزيني‪ ،‬من الالهوت الى الفلسفة العربية الوسيطة‪( ،‬دمشق‪ :‬بترا للطباعة والنشر‪ ،)2002 ،‬ص‪.14‬‬

‫((( خلدون حسن النقيب‪ ،‬الدولة التسلطية في املشرق العربي املعاصر‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،)1991 ،‬ص‪.183‬‬

‫‪156‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫ً‬
‫وفي موضوع دراستنا‪ ،‬هذه‪ ،‬ستكون القراءة النقدية في املنهج املارك�سي‪ ،‬محمول على النزعة‬
‫والحلم القومي الذي اتبعه تيزيني‪ ،‬هي صلب مسار البحث من دون تشعبه السيا�سي‪ ،‬فاملاركسية ال‬
‫يمكن اختزالها في نظام سيا�سي اشتراكي‪ ،‬تحقق وأخفق‪ ،‬وال نموذج في الحكم والتسلط والديكتاتورية‬
‫ً‬
‫نموذجا‬ ‫الشمولية (التوتاليتاريا) فحسب‪ ،‬فهي منهج معرفي في التحليل اتخذ من املادية التاريخية‬
‫علميا في قراءة التاريخ وآليات تحقق مراحله السابقة وحتمية االنتقال إلى االشتراكية؛ إذ تتحقق‬‫ً‬
‫العدالة االجتماعية‪ ،‬وتنصف الطبقة العاملة املظلومة‪ ،‬ويعاد توزيع وسائل اإلنتاج لتصبح ملكية‬
‫عامة ال فردية استثمارية استئثاريه خاصة‪ ،‬فـ "يتشكل النموذج االشتراكي من االقتصاد الوطني‪،‬‬
‫بجعل ملكية وسائل اإلنتاج ملكية اجتماعية اشتراكية‪ .‬وأول وأهم خطوة للسلطة االشتراكية هو‬
‫الظفر بمقاليد قيادة االقتصاد الوطني من طريق التأميم االشتراكي"(‪.((1‬‬

‫لقد أصبحت قراءة التراث العربي اإلسالمي قراءة مادية تاريخية صلب العمل املعرفي الطويل‬
‫ً‬
‫واملوسوعي للدكتور طيب تيزيني‪ ،‬محاول فيها بين حدية استقطابها‪ ،‬بحيث يتجاوز عقدتي األصالة‬
‫ً‬
‫منطلقا‬ ‫املفرطة في النزعة السلفية األصولية الدينية‪ ،‬واملعاصرة املغرقة في االستغراب‪ ،‬بحسب رأيه‪،‬‬
‫من أن "املنهج التاريخي تجاوز الوجود الثابت واملطلق إلى مفهومي التحول والنسبي" (‪ ،((1‬لتبرز بذلك‬
‫محددات قراءاته املنهجية‪ ،‬بوصفها مادية تاريخية‪ ،‬في النقاط املركبة اآلتية‪:‬‬

‫‪1 .1‬العناصر املادية في التراث العربي اإلسالمي والتغيير الطبقي نحو االشتراكية‪ ،‬ودور‬
‫الثقافة والتوعية في تحقيق العدالة املجتمعية‪ ،‬وفق نسق معرفي "تصوري" عن واقع‬
‫اليوم والغد‪.‬‬
‫‪2 .2‬النزعة العربية اإلسالمية التراثية في مقابل النزعة األوروبية ذاتية التمركز‪ ،‬مرفوعة‬
‫على هاجس القومية‪ ،‬في معادلة الداخل والخارج‪.‬‬

‫رؤية التاريخ املادية قيد النقد‪ ،‬التغييرالطبقي والتراث‬


‫ً‬
‫مبكرا وضع تيزيني أسس مشروعه النهضوي بإعادة قراءة التراث‪ ،‬بشكله املادي التاريخي املارك�سي؛‬
‫ً‬
‫(مترجما)‪( ،‬موسكو‪ :‬دار التقدم‪ ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.197‬‬ ‫(‪ ((1‬نيكيتين‪ ،‬أسس االقتصاد السيا�سي‪ ،1984 ،‬الياس شاهين‬

‫(‪ ((1‬تيزيني‪ ،‬د‪.‬م‪ ،‬من الالهوت الى الفلسفة العربية الوسيطة‪ ،‬ص‪.9‬‬

‫‪157‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫إذ إن "التاريخية تعني عند ماركس‪ ،‬ليس املجرى الزمني للحدث االجتماعي على الصعيد البشري‬
‫الكلي فحسب‪ ،‬انها تعني عنده كذلك‪ ،‬التحديد االجتماعي والوظيفة االجتماعية ملرحلة ما من مراحل‬
‫ً‬
‫التطور"(‪ ،((1‬باحثا عن مقومات التناقض الطبقي في التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬وطرق تحولها املمكنة‪،‬‬
‫محمولة على نزعة عربية قومية بأفق اشتراكي مارك�سي التوجه؛ ليضع قراءاته املوسوعية في مشروع‬
‫ً‬
‫متتبعا بذلك‬ ‫جزءا (أتم منها خمسة‪ ،‬بحسب اطالعي)‪،‬‬ ‫رؤية جديدة في الفكر العربي في اثني عشر ً‬
‫ً‬
‫حاضنا لإلسالم‬ ‫املواضع املادية فيه ً‬
‫إثباتا ملوضوعتي الصراع الطبقي‪ ،‬والفكر العروبي‪ ،‬بوصفه‬
‫بنسقه التنويري‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فرقا ومذاهب تار ً‬
‫يخيا‪ ،‬وقصور الفكر العربي املهزوم حديثا‪ ،‬كانا دليل‬ ‫إن تشظي الفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫نقديا عند الطيب‪ ،‬على الرغم من تقديمه رؤية نقدية لكليهما في قراءة التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬راداً‬ ‫ً‬
‫ذلك إلى عدمية قراءته قراءة منهجية اجتماعية واقتصادية مادية‪ ،‬تؤسس لحضور عصري له‪ ،‬ال‬
‫هو منعزل عن العالم‪ ،‬وال مغلق على ذاته‪ ،‬وغايته تحقيق العدالة االجتماعية‪ ،‬وإنصاف املظلومين‬
‫ً‬ ‫فيه‪ً ،‬‬
‫ناقدا ثبات القراءات التراثية بأصوليتها‪ ،‬محاول تتبع متغيراتها املادية‪ ،‬وفق املنهجية ذاتها؛ إذ‬
‫إن "الالتاريخية واألسطورية تشكالن الترسانة الثابتة األصلية للنزعة السلفية في صيغتها النصية‬
‫الوثوقية‪ ،‬إذ تختزل األزمان بزمن واحد واألحكام بحكم واحد‪ ،‬ولك في سبيل التأكيد على املبدأ‪:‬‬
‫ً‬
‫"األصول جملة وتفصيال تصدق على كل زمان ومكان"‪ ،‬خالفا للمبدأ الفقهي الحقوقي‪" :‬تتغير األحكام‬
‫بتغير األزمان"(‪.((1‬‬
‫لقد حوت قراءة التراث ً‬
‫ماديا ً‬
‫كثيرا من اإلضاءات اإليجابية‪ ،‬وال سيما املتعلقة بما سمي بالعصر‬
‫جزءا من التراث العروبي اإلسالمي‪ ،‬والشخصية املحمدية (عليه‬ ‫ً‬
‫عروبيا‪ ،‬بوصفه ً‬ ‫الجاهلي وإنصافه‬
‫ً‬
‫وعربيا‪ ،‬وفي نقد موضوعة العروق النقية‪،‬‬ ‫ً‬
‫إسالميا‬ ‫السالم)‪ ،‬بما هو نبي وشخصية عربية مركزية‪،‬‬
‫العربية والسامية‪ ،‬وفجاجة التأويل الشمولي العلمي األنثروبولوجي األوروبي‪ ،‬ونقد الفكر العربي "الذي‬
‫يأخذ في الجناس والعروق عامة‪ ،‬وبوحدة الجنس العربي‪ ،‬فذلك لم يعد يدافع عن مواقع العلم‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬في البرهان على قصور الرؤية اإلسالمية‬‫بمختلف فروعه وأنسابه"(‪ .((1‬وتبرز اإليجابية فيها ً‬

‫(‪ ((1‬طيب تيزيني‪ ،‬الفكر العربي في بواكيره وآفاقه األولى‪( ،‬سورية‪ :‬دار دمشق‪ ،)1982 ،‬ص‪.41‬‬

‫(‪ ((1‬تيزيني‪ ،‬من التراث الى الثورة‪ ،‬ص‪70‬‬

‫(‪ ((1‬تيزيني‪ ،‬الفكر العربي في بواكيره وآفاقه األولى‪ ،‬ص‪.37‬‬

‫‪158‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫الالحقة التي نفت العروبة‪ ،‬وأسمت ما قبلها بالجهالة‪ ،‬وذهبت بعدها إلى التأويالت النصية الدينية‬
‫التي كرست السلطة املطلقة للخليفة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وفرقت األمة‪ ،‬في جهة أخرى‪ ،‬بين مذاهب وطوائف‬
‫وملل ال تتوافق‪ ،‬بل تتحارب‪.‬‬

‫نقديا البحث عن الصراع الطبقي في التاريخ العربي‬ ‫في جانب آخر‪ُ ،‬يعد أبرز النقاط املنهجية ً‬
‫أيضا مع حسين‬ ‫اإلسالمي؛ بغية إحداث التغيير الثوري فيه‪ ،‬بحسب تيزيني‪ ،‬تلك النقطة املتفقة ً‬
‫مروة في "النزعات املادية في الفلسفة العربية اإلسالمية"‪ ،‬فـ "األيديولوجيا الثورية هي أيديولوجيا‬
‫الثوريين في املجتمع‪ ،‬أي‪ :‬الطبقات والفئات االجتماعية التي ترتبط مطامحها ومصالحها الطبقية‬
‫والفئوية بمطلب التغيير الثوري في لحظة تاريخية معينة"(‪ ،((1‬وهو ما جعل بحوث تيزيني املوسوعية‬
‫تمتد بهذا التاريخ‪ ،‬منذ ما سمي بالعصر الجاهلي إلى الحاضر الراهن‪ ،‬باألدوات املنهجية ذاتها‪،‬‬
‫ففي دراسة العصر الجاهلي واملرحلة اإلسالمية األولى وجد تيزيني أن عالقات ذلك العصر عالقات‬
‫خصومة ال صراع طبقي؛ ومرد ذلك إلى أن القوة اإلنتاجية األساسية للفالح‪ ،‬بوصفه مصد ًرا للخصب‬
‫(الزراعة)‪ ،‬واإلخصاب (النشاط الجن�سي اإلنساني)‪ ،‬فـ "في نطاق عالقات اجتماعية طبقية من نوعية‬
‫خاصة‪ ،‬حيث إن القوة االجتماعية املنتجة األساسية تمثلت بالفالحين‪ ،‬وليس بالعبيد‪ ،‬ومن إبعاد‬
‫الفالحين عن االنخراط في الجيش‪ ،‬وعدم اخضاعهم ألعمال السخرة‪ ،‬بحيث تصبح مسألة الخصب‬
‫واإلخصاب‪ ،‬تمثل نتيجة ملصدر وأساس وهميين‪ ،‬متمثلين في الوجود الوهمي لآللهة امللوكية"(‪ ،((1‬وهو‬
‫ما خفض التناقض الطبقي لحالة تنافسية ال تناقضية‪.‬‬
‫وهي الدراسة ذاتها التي حاولها حسين مروة ً‬
‫أيضا‪ ،‬من وجهة نظر تاريخية مادية‪ ،‬في تتبع تطورها‬
‫املادي منذ املرحلة الجاهلية‪ ،‬من حيث "طبيعة العالقات االجتماعية العائلية واالقتصادية‪ ،‬كما‬
‫في الشعر واللغة‪ ،‬بما هي ظاهرة حتمية من ظواهر التطور التاريخي للمجتمع‪ ،‬تتضمن االنقطاع‬
‫ً‬
‫جدليا؛ إذ لم يبق سكان املنطقة العربية في املرحلة الجاهلية أسرى الطبيعة بمتطلبات‬ ‫واالستمرار‬
‫إنتاجها الزراعية والحرفية األولى ونموها اتجاه الصناعة والتبادل البضائعي‪ ،‬بل انتقل تدر ً‬
‫يجيا إلى‬
‫ملكية وسائل اإلنتاج بشكلها الخاص‪ ،‬واختالط قوى اإلنتاج الزراعي والرعوي‪ ،‬فالفالح ليس القوة‬

‫(‪ ((1‬حسين مروة‪ ،‬النزعات املادية في الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬الجاهلية‪ :‬نشأت وصدر اإلسالم‪ ،‬مجلد‪ ،1‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار الفارابي‪،‬‬
‫‪ ،)2008‬ص‪.31‬‬

‫(‪ ((1‬تيزيني‪ ،‬الفكر العربي في بواكيره وآفاقه األولى‪ ،‬ص‪.160-153‬‬

‫‪159‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫املنتجة الوحيدة‪ ،‬بل مترافقة مع ظاهرتي الرعي والرق والعبودية"(‪ ،((1‬ليصل كالهما‪ ،‬تيزيني ومروة‪،‬‬
‫إلى أن هذه الدراسة غير كافية لتعليل هذا االنقطاع‪ ،‬وعدم تطوره إلى صراع طبقي واضح (بحسب‬
‫طبقيا‪ ،‬وإنما أوجدت خصومة تنافسية (بحسب تيزيني)‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬لم‬ ‫ً‬
‫تناقضا ً‬ ‫مروة)‪ ،‬وأنها لم توجد‬
‫يفض إلى االنتقال إلى مرحلة أخرى من اإلنتاج كما حدث في أوروبا‪ ،‬في االنتقال املتتالي من العبودية‬
‫ً‬
‫الى الزراعة الى املرحلة البرجوازية‪ ،‬ويردها تيزيني تعليل إلى هيمنة طبقة الكهنوت الدينية املتآلفة مع‬
‫السلطة امللكية طوال املرحلة اإلسالمية الالحقة‪ ،‬وباتت الطبقة األرستقراطية الحاكمة املمتدة إلى‬
‫عصرنا الحديث‪ ،‬مع اختالفها الشكلي ز ً‬
‫منيا‪ .‬لكن بمضمونها ذاته‪.‬‬

‫إن عدم تمييز وجود تناقض طبقي في املراحل اإلسالمية األولى‪ ،‬وعدم وجود إمكانية للتغير فيه‪،‬‬
‫كانت مقدمة لدى تيزيني لتفسير ظاهرة املعتزلة واملتصوفة التي تعني له العودة إلى حالة النقاء الديني‬
‫والضمير األخالقي‪ ،‬فـ "بعد خالف علي ومعاوية‪ ،‬وأحقية سلطة أحدهما‪ ،‬أتى فريق يقول سلطة هللا‪،‬‬
‫ُ‬
‫ورابع أخرج املسألة من البعد املجتمعي الدنيوي‪ ...‬هكذا نشأ التركيب الجديد‪ :‬أناس أثقلت عليهم‬
‫ال فاعليها‪ ،‬ليعيشوا إيمانهم الصافي من‬ ‫الكوارث واملخاطر‪ ،‬فآثروا الخروج من الحلبة امللتهبة‪ ،‬واعتز َ‬
‫الداخل‪ .‬وكان ذلك قد جسد حيثيات "الهجرة" إلى "الضمير األخالقي الديني النقي"‪ ،‬وهو ما أف�ضى‬
‫ْ‬
‫إلى نشوء تيار يرى نفسه فوق كل التيارات‪ ،‬أي‪ :‬تيار رفض االصطفاف إلى جانبها ضمن بعد أفقي‪،‬‬
‫ً‬
‫واختار‪ ،‬بدل من ذلك‪ ،‬البعد العمودي الذي يجد طريقه وغايته يقودان إلى هللا‪ ،‬من دون توسط"(‪.((1‬‬
‫نظريا في هذا‪ .‬لكنه لم يذهب قط في اتجاه مناقشة سلطة الخليفة املتمركزة على‬ ‫محقا ً‬ ‫وربما يكون ً‬
‫سلطة النص القرآني في األساس‪ ،‬ومحاورتها‪.‬‬
‫ً‬
‫تلك هي املنهجية نفسها التي حافظ تيزيني فيها على الجمع بين املاركسية واإلسالم‪ ،‬حالة تراثية‬
‫دينيا من حيث منبت كل منهما‪ ،‬من دون النظر الجدلي إلى سياقاتهما السياسية‪ ،‬في جدلية‬ ‫نقية ً‬
‫ً‬
‫منهجيا هي املطلق املفهومي‪ ،‬وعلى‬ ‫الواقع والفكر‪ ،‬لتبدو املسألة في فكر تيزيني مركزية الفكرة األولى‬
‫منهجيا املنطق الصوري (التصوري) ال الجدلي‪ ،‬وذلك حين لم يسعفه‬ ‫ً‬ ‫الواقع أن يستجيب له‪ ،‬وتعني‬
‫الجدل املادي باستخالص النتيجة والغرض من التحليل املادي في التراث العربي‪ ،‬فنفي الكلية األولى‪،‬‬
‫ً‬
‫وصوريا عدم‬ ‫بوصفها مقدمة تستلزم نفي النتيجة‪ ،‬فالقول بالتغير يستلزم وجود مجتمع طبقي‪،‬‬

‫(‪ ((1‬حسين مروة‪ ،‬النزعات املادية في الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬ص‪.284-230‬‬

‫(‪ ((1‬طيب تيزيني‪ ،‬التصوف العربي اإلسالمي‪ ،‬قراءة في الحضور الوجودي واالستحقاق القيمي‪( ،‬دمشق‪ :‬الهيئة العامة السورية‬
‫للكتاب‪ ،‬وزارة الثقافة‪ ،)2011 ،‬ص‪.96-95‬‬

‫‪160‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫وجود تغيير يعني ال طبقية باألساس‪ ،‬وبالضرورة يأتي تفسير العودة نحو الجذر املثالي املتمثل بالنقاء‬
‫وضوحا عندما ال يتعرض إلى‬ ‫ً‬ ‫الديني والضمير األخالقي تصبح نتيجة حتمية‪ .‬وتبدو هذه النقطة أشد‬
‫جدل السلطة الدينية‪ ،‬وحوارها‪ ،‬ممثلة بالخلفية النصية املقدسة في أحقيتها الدينية في الحكم‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫منهجيا في‬ ‫ما كان من املمكن أن يقود إلى طرح موضوعة الحريات الفردية املمكنة على أرضية مختلفة‬
‫التحليل‪ ،‬وبالضرورة تغير دفة املنهج‪ ،‬وال سيما في جدل الواقع الحالي‪.‬‬
‫ً‬ ‫وفي العصر الوسيط من املجتمع العربي‪ ،‬يتمسك تيزيني ً‬
‫أيضا بمنهجه املادي‪ ،‬ويدرسه تحليل‬
‫وفق الرؤية نفسها‪ ،‬األمر الذي يجعله يخلص إلى النتيجة نفسها‪ ،‬وهي عدم تبلور حامل مادي للطبقة‬
‫ماركسيا‪ ،‬بحسب رأيه‪ ،‬فقد "احتوى املجتمع العربي الوسيط ثالثة أنماط من‬ ‫ً‬ ‫حاملة لواء التغيير‬
‫العالقات االجتماعية الطبقية‪ ،‬هي‪ :‬الرقيقية واإلقطاعية والرأسمالية املبكرة‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فقد‬
‫نشب صراع طبقي من نوع معقد املعالم‪ ،‬كان قد ُحسم أكثر فأكثر ملصلحة اإلقطاعية منها‪ ،‬وهو ما‬
‫يبرز واقع الرأسمالية التجارية املبكرة التي كانت في األصل قد نشأت في ظالل اإلقطاع الوليد‪ ،‬وفي‬
‫إطار تلبية حاجاته وتطلعاته االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬بحيث أنها لم تخرج عن كونها الوجه الثاني‬
‫ملجتمع إقطاعي رأسمالي تجاري مبكر‪ .‬هذا وإن احتفاظ الدولة املركزية بقدرتها وهيبتها االجتماعية‬
‫ً‬
‫واالقتصادية والسياسية كان منوطا بسيطرتها على االقطاع املنضوي تحت إطارها‪ ،‬األمر الذي لم‬
‫يسمح بنشوء وحدة اقتصادية متماسكة‪ ،‬وذات طبيعة استمرارية"(‪.((1‬‬
‫وفي العصر الحديث‪ً ،‬‬
‫ووفقا للمنهج ذاته في البحث عن نموذج الطبقة الوسطى حاملة التغيير‪،‬‬
‫ُيبرز تيزيني‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬عدم تبلور هذه الطبقة من خالل‪:‬‬
‫‪1 .1‬إفقاراها وتحولها البنيوي والوظيفي‪.‬‬
‫‪2 .2‬تنامي تحول الثقافة والكتاب سلعة تافهة‪ ،‬وحسب‪ ،‬أمام نمو نزعة الثراء الفاحش‪.‬‬
‫‪3 .3‬ترافق ذلك مع املصالح الشخصية املادية‪ ،‬والجنسية والسياحية‪.‬‬

‫ليحدد في الوضوح املنهجي ذلك بنقاط متتالية‪ ،‬فـ "تحول الكتاب إلى سلعة تافهة بائرة في أنظار‬
‫األثرياء واملستجدين الذين يلهثون وراء مصالحهم املالية واالجتماعية والجنسية والسياحية‪ ،‬مع‬
‫ترافق اإلفقار وافتقاد الخبز‪ ،‬تحدث على قدم وساق بالتوازي مع افتقاد الكرامة والحرية‪ .‬وهما‬
‫وجهان ملوقف واحد‪ ،‬هو بروز الطفيلية‪ .‬إن حدوث تحول عميق في أوساط املفقرين والفقراء‪،‬‬

‫(‪ ((1‬تيزيني‪ ،‬من التراث الى الثورة‪ ،‬ص‪38-35‬‬

‫‪161‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫ً‬
‫وطبقيا‬ ‫ً‬
‫اجتماعيا‬ ‫باالعتبار البنيوي والوظيفي‪ ،‬من شأنه (أي‪ :‬التحول) أن يقود إلى بنية متجانسة‬
‫ً‬
‫وأيديولوجيا‪ ،‬تتصدى ألعباء التقدم والتاريخي والوحيد والوطني والقومي في الوطن العربي‪ ،‬مع أنه‬
‫أمر مركب ومعقد وصعب‪ ،‬ومتمثل بالحضور الكثيف لقانون التبعية للخارج‪ ،‬وثانيها متمثل في غياب‬
‫وعي البؤس واإلفقار والوعي التاريخي املتماسك في أوساط الفقراء واملفقرين‪ ،‬وهو ما يجعل الكتاب‬
‫أحد األركان التي ستقوم عليها الدالئل التاريخية التقدمية للحل‪.((2("...‬‬

‫إن هذا التحليل املادي‪ ،‬على أهميته النقدية‪ ،‬لم يجعل تيزيني يقود دفة التحليل إلى النقد املنهجي‬
‫للسلطة‪ ،‬بخالف النظرية الطبقية املاركسية التي تركز على الفعل التوعوي التاريخي‪ ،‬وبالضرورة‬
‫محور السلطة التوعوي‪ ،‬في دورات البعث العقائدية املمنهجة‪ ،‬إلى وجه وحيد الرؤية‪ ،‬وهي املسألة‬
‫التي تشترك فيها النظم االشتراكية والقومية في فرض سلطتها وقمعها املجتمعي‪ ،‬أهمية نقد تيزيني‪،‬‬
‫ً‬
‫أيديولوجيا‪ ،‬وضرورة البحث‬ ‫هنا‪ ،‬ال يمكنها أن تختزل األبعاد املنمذجة في هيمنة الفكر املارك�سي‬
‫وتنويريا في البنية العربية‪ ،‬وهذه مجازفة إرادوية فكرية نظرية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫معرفيا‬ ‫عن حيز يمكن اصطناعه‬
‫ً‬ ‫(‪((2‬‬
‫فحيث تبدو مسألة التأخر العربي التي طرحها تيار العقالنية العربية ‪ ،‬كما حددها نقديا ياسين‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫الحافظ‪ ،‬متسائل مع املاركسية‪" :‬ملاذا أسقطت املاركسية املؤسسية العربية املسفيتة مقولة التأخر‪،‬‬
‫ُ‬
‫املسألة املركزية في الواقع العربي‪ .‬ما إن أسقطت واقعة التأخر‪ ،‬حتى شوهت‪ ،‬أو خصيت‪ ،‬الثورة‬
‫الديمقراطية‪ ،‬واختزلتها إلى إصالح زراعي‪.((2( "...‬‬

‫إن التأخر التاريخي‪ ،‬ومقاربات العقالنية العربية‪ ،‬لم تأخذ حيزها الحواري والنقدي في فكر تيزيني‪،‬‬
‫ال لكونه يختلف عنها‪ ،‬بل ألن الطبيعة الفكرية العقالنية فيها ال تستند بالضرورة إلى املاركسية ً‬
‫منهجا‪،‬‬
‫فحسب‪ ،‬بل تستند ً‬
‫أيضا إلى فكر عصر األنوار الحداثي املبني على مثلث الليبرالية في الحرية الفردية‬
‫وحق الرأي والتعبير‪ ،‬وحرية املعتقد‪ ،‬وممارسة السياسة‪ ،‬وجذرها في الديمقراطية‪ .‬تلك التي اتخذت‬
‫ً‬
‫واضحا في النقد املعرفي التاريخي‪ ،‬وفي نقد السيا�سي الحاضر‪ ،‬وقلما حاورها تيزيني؛ كونه في‬ ‫ً‬
‫توجها‬

‫(‪ ((2‬تيزيني‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬ص‪.15-10‬‬

‫(‪ ((2‬يمكن مراجعة كتابات ياسين الحافظ في الهزيمة واأليديولوجيا املهزومة‪ ،‬والياس مرقص في نقد العقالنية العربية‪ ،‬على سبيل املثل‬
‫وغيرهم الكثير في موضوعتي التأخر التاريخي العربي‪ ،‬ومقاربات العقالنية السياسية والفكرية حين تتجرد من نماذجها األيديولوجية‬
‫والعاطفية وتبحث بالضرورة في مفهوم الدولة العصرية بمرجعية فكر عصر األنوار التحرري‪.‬‬

‫(‪ ((2‬ياسين الحافظ‪ ،‬الهزيمة واأليديولوجيا املهزومة‪ ،‬ط‪( ،2‬دمشق‪ :‬دار الحصاد‪ ،)1997 ،‬ص‪.102‬‬

‫‪162‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫ً‬
‫عداء مباشر مع االمبريالية الغازية‪ ،‬ومن خلفها الليبرالية نتيجة‪ .‬وهذا خالف ليس في املنهج املعرفي‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬وهو ما أعفاه من معالجة املشكالت السياسية‬ ‫فحسب‪ ،‬وإنما في طبيعة التوجه السيا�سي ً‬
‫الراهنة‪ ،‬وال سيما على مستوى مفهوم السلطة السياسية‪.‬‬
‫ومع اتفاقه في املنهج املارك�سي في التحليل مع الدكتور سمير أمين‪ ،‬إال أن أمين يؤكد أن فكر التحرر‬
‫عمدا الديمقراطية‪ ،‬على الرغم من نقده الشديد للرأسمالية العاملية "أطروحة‬ ‫العربي قد تجاهل ً‬
‫التحرر الوطني القديمة تجاهلت الديمقراطية‪ ،‬والحركات الشعبية الجذرية للتحرر الوطني تتسم‬
‫بتغليب البعد االجتماعي التقدمي على وعيها الديمقراطي"(‪ .((2‬وعلى العكس من هذا‪ ،‬قادت ماركسية‬
‫تيزيني إلى التصالح مع السلطات الحاكمة الديكتاتورية ‪-‬على الرغم من نقده دولتها األمنية‪ -‬في مواقع‬
‫عدة‪ ،‬سوى نقاط الخالف مع موضوعات الفساد اإلداري والقضائي واملالي؛ إذ افترض أن إلغاء‬
‫ً‬
‫إصالحيا يقوض سلطتها السياسية‪.‬‬ ‫الفساد‬

‫مخطئا‪ ،‬واآلخرون في حيز من هذا وذاك‪ ،‬فال حقيقة مطلقة في هذا‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مصيبا أو‬ ‫لربما كان‬
‫املنهجية املطروحة موضوع النقد واملقارنة النقدية‪ ،‬هي ما تستوجب الوقوف عندها‪ ،‬وهي التي قادت‬
‫ً‬
‫أيديولوجيا على وجهة التغيير في املسألة السورية‬ ‫تيارات املعارضة السورية إلى الخالف املنهجي العميق‬
‫التي تباينت بين "اإلسالموية" و"العلمانوية"‪ ،‬حدين متطرفين‪ ،‬وما بينهما كثير من التيارات املاركسية‬
‫بعيدا من نموذجها الطبقي‪ ،‬ومثله القيادي في‬ ‫والقومية التي لم تستطع التعامل مع الحدث الثوري ً‬
‫الثورة‪ ،‬فأوجدت حالة شبه وسطية بينهما‪ ،‬وسواء اتفقت أم اختلفت مع تيزيني‪ ،‬إال أنها لم تخرج‬
‫عن موضوعتي الصراع الطبقي غير املتوافر على أرض الواقع‪ ،‬وقيادة الثورة‪ ،‬والتوعية النظرية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتهجيرا‪ ،‬كمن يشرح ميكانيك‬ ‫الثقافوية املطلوبة للمظلومين واملقهورين‪ ،‬وحياتهم املستباحة قتل‬
‫ً‬
‫تدميرا‪ ،‬وهذه إلى اليوم موضوع‬ ‫السوائل لغريق يبحث عن قشة نجاة من موت محكم‪ ،‬حصا ًرا أو‬
‫منهجيا‪ ،‬سوى ببعض وجهات نظر نقدية‪ ،‬تغلب فيها املسألة السياسية التي لسنا‬ ‫ً‬ ‫جدال لم ُيحسم‬
‫بصدد إيرادها هنا‪.‬‬
‫إن السلطة‪ ،‬والسلطة األمنية‪ ،‬في موازاة التأخر التاريخي‪ ،‬هي املوضوعة املفتاحية في املسألة‬
‫العربية املعاصرة‪ ،‬فاالختالط التاريخي الطبقي في مجتمع لم ينجز كل مهمات الثورة الزراعية‬
‫ماركسيا وتار ً‬
‫يخيا‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫والصناعية‪ ،‬وتختلط في بناه مجموعة نماذج الطبقة التاريخية املدروسة‬
‫استنتجها تيزيني‪ ،‬وال تؤدي فيه السلطة‪ ،‬بحسب سمير أمين‪ ،‬دور الوسيط التجاري (امليركنتلي)‪،‬‬

‫(‪ ((2‬سمير أمين‪ ،‬بعض قضايا للمستقبل‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الفارابي‪ ،)1990 ،‬ص‪.50‬‬

‫‪163‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫ً‬
‫ونفعيا مع البرجوازية املحلية ورجال الدين‪ ،‬بكل تنويعاته املذهبية‪،‬‬ ‫ً‬
‫مصلحيا‬ ‫فحسب‪ ،‬بل املتصالحة‬
‫بحسب خلدون حسن النقيب‪ ،‬واألشد دهشة مع النموذج الثقافوي املتمثل بحيز كبير من "اليسار‬
‫املاركسوي"‪ ،‬بحيث تحقق معادلتي الحكم واملال‪.‬‬
‫ً‬
‫إن نهج تيزيني‪ ،‬هذا‪ ،‬ال يجد فيها حل يتفق ونظريته املادية تلك‪ ،‬وهو ما أشار إليه حسين مروة‬
‫كما ذكرنا ً‬
‫آنفا‪ .‬وبالضرورة‪ ،‬فإما أن املنهج املارك�سي باتت أدواته املنهجية ال تستطيع اإلجابة العامة‪،‬‬
‫كما افترضت‪ ،‬عن معطيات التاريخ بكاملها‪ ،‬وهذا سؤال معرفي يحتمل اإلجابة املمكنة‪ ،‬وهو موضوع‬
‫عمل مستقل مفصل وموسع‪ ،‬ال تتسع له مساحة البحث الحالي‪ ،‬بعنوان "األبستمولوجيا في مواجهة‬
‫ً‬
‫تحديدا‪.‬‬ ‫املاركسية"‪ ،‬أو أنها شكلت أيديولوجيا حاجبة رؤية الواقع‪ ،‬في الفكر العربي عامة‪ ،‬وتيزيني‬
‫ً‬
‫استبداديا في املجتمعات املتأخرة‬ ‫ونتساءل مع جاد الكريم الجباعي فيها‪" :‬ملاذا جرى تحويل املاركسية‬
‫عامة‪ ،‬وفي مجتمعاتنا خاصة‪ ،‬وملاذا جرى تحويل الفكر إلى أيديولوجيا‪ ،‬أي‪ :‬إلى حجاب يحول دون‬
‫رؤية الواقع كما هو؟"(‪ ،((2‬لتصبح إعادة قراءة الواقع‪ ،‬وفق منهج مختلف‪ ،‬ضرورة معرفية يحاولها‬
‫السوريون اليوم بطرق ومناهج عدة‪.‬‬

‫الداخل والخارج‪ :‬اإلمبريالية والبرجوازية والقومية‬


‫بات كتاب "االمبريالية أعلى مراحل االستعمار"(‪ ((2‬مرجعية فكرية للحركة الشيوعية العاملية‪،‬‬
‫فلم تقتصر حالة العداء للرأسمالية في نموذجها االستعماري فحسب‪ ،‬بل هي امتداد في األصل لنزاع‬
‫ً‬
‫سياسيا أن االتحاد السوفياتي كان دولة استعمار وهيمنة‬ ‫مشروعي الليبرالية واالشتراكية‪ ،‬فإن أغفلنا‬
‫ً‬
‫عسكريا بعدئذ‪ ،‬وأكدنا حق‬ ‫فكرية عقب الحرب العاملية الثانية في أوروبا الشرقية‪ ،‬وفي أفغانستان‬
‫تقرير مصير الشعوب‪ ،‬والحق الوطني في التحرر من االستعمار‪ً ،‬أيا كان شكله أو لونه‪ ،‬وهذا حق ال‬
‫ً‬
‫منهجيا عنها‪ ،‬ونقف عند الطرف اآلخر الليبرالي‪ ،‬والخلط بين االستعمار‬ ‫نزاع فيه؛ لكن أن نتغافل‬
‫عابرا للقارات والحدود‪ ،‬فهذه معضلة‪.‬‬ ‫ً‬
‫إنسانيا ً‬ ‫والفكر الكوني‪ ،‬بوصفه ً‬
‫فكرا‬

‫إن معضلة الفكر السيا�سي العربي القومي ذاتها التي كرست فكرة العداء للغرب‪ ،‬بوجهه االمبريالي‪،‬‬

‫(‪ ((2‬جاد الكريم الجباعي‪ ،‬قضايا النهضة‪( ،‬دمشق‪ :‬دار عالء الدين‪ ،)2003 ،‬ص‪.79‬‬

‫(‪ ((2‬فالديمير لينين‪ ،‬االستعمار أعلى مراحل الرأسمالية (بيروت‪ :‬دار الفارابي‪ ،)1956 ،‬ص ‪.169‬‬

‫‪164‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫بما هي وصفة جاهزة للهيمنة على مقدرات الشعوب ونهبها‪ ،‬هي ذاتها املنطلق السوسيوثقافي الذي‬
‫َ‬
‫أراده طيب تيزيني في كتاباته التراثية ذاتها‪ ،‬فكيف وإن ُح ّملت على أرضية ماركسية أداتيه في التحليل‪،‬‬
‫موقفا ً‬
‫طريفا‬ ‫فيؤكد تيزيني أكثر من مرة أن بروز "السياسة متالحمة بأيديولوجيا الالتا يخية‪ ،‬تولد ً‬
‫ر‬
‫بما ينطوي عليه من هجانة وقصور وإصالحية‪ .‬وال بد من اإلشارة إلى أن رفض العقائد الحتمية‬
‫االشتراكية أتى في إطار رفضها من القوى البرجوازية االمبريالية‪ ،‬وهو يفضح املقاربات بينها وبين‬
‫البرجوازية العربية‪ ،‬مع االختالف العميق بين النمطين‪ ،‬وهو ما كان بمنزلة توحيد بينهما على الصعيد‬
‫األيديولوجي الوظيفي‪ ،‬ضمن عالقة الداخل والخارج‪ ،‬ووفق السياق الذي اكتسبه الوعي العربي‬
‫النهضوي‪ ،‬تحت وطأة التواطؤ مع االمبريالية الغازية‪ ،‬من طرف‪ ،‬وفصائل االقطاع وما قبله في ذلك‬
‫العالم‪ ،‬من طرف آخر"(‪ ،((2‬وهذا ما يقودنا بالضرورة إلى التوقف عند منهجية تيزيني في ذلك من خالل‬
‫النقاط اآلتية‪:‬‬
‫ً‬
‫عصرا ذا‬ ‫‪1 .1‬رؤية مادية تاريخية للتراث العربي اإلسالمي‪ ،‬تثبت حضوره التاريخي‪ ،‬بوصفه‬
‫مقومات حضارية مستقلة بذاتها‪ ،‬وترفض وجود فكر كوني إنساني متفرد ومستقل عن املنتوج‬
‫السيا�سي بوجهه االستعماري‪ ،‬ففي حواره املطول مع عابد الجابري يرفض تيزيني تقدير الجابري‬
‫اكتفاء التحليل املارك�سي للمجتمع العربي باقتصادوية طبقية‪ ،‬بينما يذهب ذاته إلى تكريس‬
‫افضا فكرة التداول الحضاري للفكر والعقالنية‪ ،‬أو ما أسماه الجابري بـ‬‫فكرة الداخل والخارج‪ ،‬ر ً‬
‫ً‬
‫نهوضا ويقظة‪ ،‬إن لم‬ ‫"صدمة الحضارة"‪ ،‬فبحسب تيزيني "كيف لخارج ما أن يحدث في داخل ما‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وواعدا في بنيته األساسية‪ .‬وبصورة أكثر خصوصية‪،‬‬ ‫ومهيئا له‪،‬‬ ‫يكن هذا الداخل قابل لذلك‪،‬‬
‫فكيف إذا كان‪ ،‬أي‪ :‬الخارج‪ ،‬ذا طابع امبريالي واستعماري كولونيالي‪ ،‬يقوم على استتباع اآلخر له‬
‫ً‬
‫ووظيفيا؟"(‪.((2‬‬ ‫ً‬
‫بنيويا‬
‫‪2 .2‬الوجه الوحيد للغرب هو االمبريالية الغازية واملستعمرة؛ إذ تتجلى وتتكثف بعالقة غير‬
‫متكافئة بين الداخل "نحن" والخارج "هم"‪ ،‬فـ "التواطؤ االمبريالي العربي‪ ،‬االقطاعي وما قبله وما‬
‫ً‬
‫محكوما بقانون العالقة الجدلية‬ ‫بعده‪ ،‬بما رافقه من قسر وعنف وشراسة‪ ،‬ظل في أساس األمر‬
‫بين الداخل والخارج؛ مرد ذلك عدم التكافؤ التاريخي في البنى االقتصادية واالجتماعية والسياسية‬

‫(‪ ((2‬تيزيني‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬ص‪.113-111‬‬

‫(‪ ((2‬تيزيني‪ ،‬من االستشراق الغربي إلى االستغراب املغربي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.242 -241‬‬

‫‪165‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫والثقافية"(‪ .((2‬فان كان الجدل املارك�سي بذاته يفترض حضور األنا واآلخر في الحيز السوسيوثقافي‬
‫ً‬
‫ماركسيا؟‪.‬‬ ‫لكليهما‪ ،‬فكيف ال يجيزها تيزيني‬
‫‪3 .3‬رفض الهيمنة الغربية االستعمارية حق تاريخي‪ ،‬شأنه شأن رفض أي هيمنة استعمارية أخرى‪،‬‬
‫لكن أن تختلط تلك مع فكر الليبرالية التحرري ومنتجاتها في الديمقراطية والدولة الدستورية‬
‫ً‬
‫تحليليا‪ .‬‬ ‫ً‬
‫عاطفيا ال‬ ‫القانونية‪ ،‬على أنهما وجهان لعملة واحدة‪ ،‬فهذا موقع فكري أيديولوجي منحاز‬
‫إن مقابلة النزعة األوروبية املركزية املتعالية بمثيلتها االشتراكية األكثر عدالة‪ ،‬والنزعة القومية‬
‫وعاطفيا‪ ،‬والبحث في التاريخ عن مقومات مادية لتراث عربي إسالمي مقابل‪ ،‬يخفض‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫شعوريا‬
‫املسألة الوطنية من حيث الحقوق والحريات املستلبة بحكم السلطات األمنية املهيمنة في املنطقة‪،‬‬
‫إلى موضوعة إصالح إداري وقضائي ومالي فحسب‪ ،‬من دون األخذ‪ ،‬في العمق‪ ،‬بمسبباتها الجذرية‬
‫يخيا‪ ،‬واالستبداد العسكري الحديث‪ ،‬ويقود إلى شكل من التماهي‪،‬‬ ‫في االستبداد الشرقي الديني تار ً‬
‫ً‬
‫بديل عن السلفية أو األصولية‪ ،‬مع حالة تراثية نقية‪ ،‬يبحث عنها تيزيني في مخيلته الفكرية‪ ،‬من‬
‫دون تموضعاتها الواقعية‪ ،‬كما أثبتها هو نفسه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫استالبا‬ ‫‪4 .4‬النموذج التفكيكي في الفكر العربي الذي أدرجه تيزيني مركزا ضد املعاصرة‪ ،‬بوصفها‬
‫إسالميا‪،‬‬‫ً‬ ‫لإلمبريالية الغازية‪ ،‬ترافقت مع رفضه األصولية‪ ،‬واالنغماس في املا�ضي السلفي ً‬
‫أيضا‬
‫وجدانيا "إن طرائقهم‪ ،‬تلك‪ ،‬تمثل جوانب أيديولوجية تبريرية مزيفة‬ ‫ً‬ ‫ومثلها التلفيقية والتسويغية‬
‫ً‬
‫معرفيا‪ ،‬ومزيفة الواقع العيني املتسلط عليه‪ ،‬تمثل واحدا من الكوابح واملعوقات األساسية‬ ‫ً‬
‫مصطلحيا‪ ،‬فإننا نجدها تندرج بشكل رئي�سي‪ ،‬ومن حيث األساس‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نهضويا‪ ،‬وإذا أردنا أن نضبطها‬
‫ً‬
‫منهجيا‬ ‫النزعة السلفية‪ ،‬نزعة املعاصرة‪ ،‬التلفيقية‪ ،‬املركزية األوربية‪ ،‬التحييدية"(‪ .((2‬وقد ُحددت‬
‫لديه بالعالقة بين الواقع االجتماعي والفكر التأريخي التراثي‪ ،‬بكونها ليست بسيطة ومباشرة أو‬
‫بنيويا إلى‬ ‫ميكانيكية‪ ،‬بل حلزونية متوسطة‪ ،‬بحسب املرجعية الجدلية املاركسية‪ ،‬وهو ما قاده ً‬
‫ماديا‪،‬‬ ‫البحث عن بنية نقية إسالمية اشتراكية‪ ،‬لم تلمس مسوغات وجودها ال في التاريخ التراثي ً‬
‫بحسبه‪ ،‬وال في الواقع السيا�سي املعيش واملعاصر‪.‬‬

‫(‪ ((2‬تيزيني‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬كتابات في الفلسفة والفكر العربي‪ ،‬مرجع سابق ‪،‬ص‪.20‬‬

‫(‪ ((2‬تيزيني‪ ،‬من التراث الى الثورة‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫‪166‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫ً‬
‫سوسيوثقافيا‪ ،‬يختلط فيها الطفو‬ ‫إن معادلة الداخل والخارج معادلة مستقرة في وجدان تيزيني‬
‫الشعوري للقومية والوحدة العربية‪ ،‬فترفض كل منتج غربي‪ ،‬بما هو فكر كوني مستقل عن األبعاد‬
‫السياسية‪ ،‬فالعقد االجتماعي‪ ،‬ودولة الحقوق واملواطنة الليبرالية‪ ،‬وفكر عصر األنوار األوروبي‪،‬‬
‫منتج إنساني عالمي‪ ،‬استقى من املنتج العربي اإلسالمي بذوره العلمية واملعرفية‪ ،‬تلك املتمثلة بفلسفة‬
‫ابن رشد وابن خلدون‪ ،‬وغيرهم كثر‪ ،‬كما في فن العمارة اإلسالمية والتقدم العلمي الطبي في التشريح‬
‫ً‬
‫والبصريات والرياضيات وغيرها‪ ،‬على الرغم من أن اإلسالم وقتئذ كان غازًيا أوروبا في إسبانيا‪ ،‬وصول‬
‫عربيا؛ كون العالقة بين شرقنا وغربهم غير متكافئة‬ ‫إلى الجنوب الفرن�سي‪ .‬بينما ال يجيز عكس هذا ً‬
‫ً‬
‫اقتصاديا‪ ،‬في تراجع منهجي واضح عن موضوعة الفكر اإلنساني العام‪ ،‬بما هو منتج كوني‪ ،‬إال إذا أراد‬
‫ً‬ ‫هو منه األحقية املاركسية‪ ،‬فحسب‪ ،‬كونها لم ُ‬
‫تغز دول الشرق اإلسالمي مثل‪ ،‬أو أنها الرؤية اإلنسانية‬
‫األوحد بحسبه‪.‬‬
‫وهنا يجيز تيزيني منهجيته تلك بالقول‪ ،‬بحسب عمر بن الخطاب (رض)‪ :‬إن الضرورات تبيح‬
‫املحظورات‪ ،‬فضرورة إنصاف الطبقة العاملة واملظلومين في املجتمع العربي‪ ،‬وتحقيق اشتراكيته‪،‬‬
‫ً‬
‫نهضويا‪ .‬لكن ذلك‬ ‫تستلزم نقض أصوليته‪ ،‬ونقض استالبه الغربي‪ ،‬بوصفهما محظورتين معيقتين‬
‫هل يجيز رؤية وحيدة لتشكله في مشروع تفصيلي موسوعي للنهضة العربية‪ ،‬ذات التراث اإلسالمي‬
‫بوجهة اشتراكية؛ حتى لو كانت في جذرها سلطة ديكتاتورية؟‬
‫يد ك ً‬
‫عميقا الطيب هذا‪ ،‬ولكن أخذته املنهجية ذاتها نحو طريقة تصورية مختلفة ً‬
‫نظريا‪ ،‬ومتماهية‬ ‫ر‬
‫اثيا‪ .‬لكنه‪ ،‬ومع ثورات الربيع العربي وشبابه‪ ،‬بداية تشكل موجاتها األولى‪ ،‬وإعالئها من الحريات‬‫تر ً‬
‫ً‬
‫سياسيا على‬ ‫واملدنية والعصرية‪ً ،‬‬
‫بعيدا من أي أدلجة قومية أو إسالمية أو ماركسية (وهذه املتنازعة‬
‫ً‬
‫سياسيا إلى اليوم)‪ ،‬بما يشبه عصر األنوار األوروبي في بداياته؛ شباب الربيع‬ ‫حساب ربيعه املنسحق‬
‫العربي وثورته‪ ،‬تلك‪ ،‬قد تكون األساس التي دفعت تيزيني إلى القول "إن كل ما كتبته في حياتي أصبح‬
‫آنفا‪ ،‬وهي اليوم ستنتج ً‬
‫كثيرا من الدراسات الحديثة في‬ ‫ملغى‪ ،‬وفي حاجة إلى إعادة نظر"‪ ،‬كما ثبتناه ً‬
‫ً‬
‫ثورات الربيع العربي‪ ،‬وفي نتائجه السياسية والكارثية‪ ،‬ومحاوالته الفكرية والنقدية‪ ،‬وتحاول شق‬
‫طريقها في النقد والنقد الفكري؛ للتأسيس لفكر بال أصنام أو مقدسات‪ ،‬إسالموية كانت أم قوموية‬
‫أم اشتراكوية أم معوملة‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫في التماهي املنهجي التراثي‬


‫إن دراسة التراث العربي اإلسالمي‪ ،‬وإخضاعه لألدوات املعرفية املاركسية‪ ،‬شكل اضاءات فكرية‬
‫في بعض جوانبها‪ ،‬لكنها لم تستطع عند تيزيني الوصول إلى آلية طرح مشروع نهضوي مغاير لواقعها‬
‫املتردي‪ ،‬والحديث بالتحديد‪.‬‬
‫إن إلزامية التحول الطبقي‪ ،‬وحتميته‪ ،‬التي لم يجد لها تيزيني مسوغات تا يخية كافية‪ً ،‬‬
‫وفقا‬ ‫ر‬
‫للمنهج املارك�سي ذاته‪ ،‬دفعته إلى البحث عن هذه الطبقة في العصر الحديث‪ ،‬ودراسة موجبات عدم‬
‫تشكلها؛ فالحتمية االشتراكية وإنصاف املظلومين هاجس الطيب تيزيني‪ ،‬وفق محاولته املنهجية هذه؛ ‬
‫إذ إن "تحديد الطريق الذي يقود الوطن العربي إلى تحقيق شطري الحقيقة الكبرى التي تحكم آفاقه‬
‫الناهضة‪ ،‬وهما الوحدات الوطنية الديمقراطية في أقطاره املكونة له‪ ،‬ووحدته القومية التقدمية‬
‫من طرف‪ ،‬وتقدمه االجتماعي التاريخي نحو نظام اجتماعي اقتصادي‪ ،‬يتجاوز التخلف التاريخي‬
‫املزمن‪ ،‬ويحقق العدالة والحرية للكادحين املنتجين من طرف آخر‪ ...‬وذلك من موقع املنطلق املنفتح‬
‫الديمقراطي‪ ،‬من دون مواربة أو غمغمة‪ ،‬ان مواقع الطبقات املنتجة الكادحة في هذا الوطن‪ ،‬بصفتها‬
‫البديل التاريخي الضروري والوحيد فيه‪ ،‬والفكر الذي يصوغ هذا البديل ً‬
‫فكريا‪ ،‬ويناضل من أجله‪،‬‬
‫وتحت رايته"(‪.((3‬‬

‫إن هذه املنهجية‪ ،‬متضمنة النية والهدف وأدوات التحليل املعرفي‪ ،‬قادت تيزيني إلى عدم التعرض‬
‫املنهجي ملوضوعات رئيسة ثالثة في هذا التراث‪ ،‬قديمه وحاضره‪:‬‬
‫‪1 .1‬قدسية النص اإللهي اإلسالمي‪ ،‬والسلطة السياسية املبنية على أساسه‪.‬‬
‫‪2 .2‬السلطة الديكتاتورية ونموذجها العقائدي في العصر الحديث‪ ،‬بسماتها القومية‬
‫الزائفة‪.‬‬
‫‪3 .3‬الليبرالية وحرية الفرد ضمن إطار دولة الحق والقانون‪ ،‬وبمنتجها السيا�سي في‬
‫الديمقراطية‪.‬‬
‫ً‬
‫طوعيا‪ ،‬إلى التماهي بالتراث اإلسالمي بقدسيته‬ ‫منهجيا‪ً ،‬‬
‫ذهابا‬ ‫ً‬ ‫األمر الذي جعل تيزيني يذهب‬
‫النصية "النقية"‪ ،‬وتجريده من التعاليم األرضية ملصلحة تعاليم أكثر عدالة في نصوصه‪ ،‬فعلى الرغم‬

‫(‪ ((3‬تيزيني‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬ص‪.7‬‬

‫‪168‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫من نقده الشديد لالغتناء الفاحش في الوسط العربي اإلسالمي‪ ،‬وتفريقه بين املظلومين والفقراء‬
‫الباحثين عن حريتهم وكرامتهم‪ ،‬وبين الباحثين عن مصالحهم الفاحشة‪ ،‬كما في ظاهرة دول الخليج‬
‫العربية‪ ،‬وتبدو مرجعيته مقولة "اإلخالص هلل وحده" التي ُت ّ‬
‫عد حمالة أوجه‪ .‬لكنه أعاد في حواره مع‬
‫البوطي تلك اإلشكالية للبحث في حواملها املنبثقة من قراءة النص القرآني‪ ،‬ال النص في ذاته‪ ،‬وفرق‬
‫نجما"(‪ ،((3‬وبين ّ‬
‫الكتاب‬ ‫نجما ً‬
‫نجما‪ ،‬وكتاب تأويل بلغ كذلك ً‬ ‫نجما ً‬‫بين القرآن "ككتاب تنزيل‪ ،‬نزل ً‬
‫اإلسالمين الالحقين الذي ال يدركون املعنى التاريخي بكتاباتهم‪ ،‬وكيفية مواجهة مشكالت الحاضر‬
‫وتحديات العصر التي يطرحها تيزيني في كيفية الوصول إلى مجتمع العدالة عبر االشتراكية‪ ،‬من دون‬
‫نصا‪ .‬تلك التي أتاحت مساحة واسعة من االتفاق العريض في‬ ‫نزاع مع التنزيل والعدالة القرآنية ً‬
‫حواره مع محمد سعيد رمضان البوطي؛ إذ يرى البوطي أن هناك فرق بين اإلسالم‪ ،‬بما هو تعاليم‬
‫جوهرا‪ ،‬ويفرق بين تطبيق الدستور على أرضية أن الشريعة اإلسالمية‬ ‫ً‬ ‫وأنظمة حكم‪ ،‬وبين اإلسالم‬
‫ً‬
‫مصدر من مصادر الدستور‪ ،‬خالفا لإلسالم دين الدولة‪ ،‬فجوهر اإلسالم يرفض تلك الدعوة في‬
‫اإلسالم السيا�سي التي تدعو إلى محاربة املذاهب الوضعية بالعنف‪ ،‬فـ "اإلسالم الجوهر هو الضامن‬
‫والكفيل‪ ،‬ال أنظمته وأحكامه الفوقية املفصولة عنه"(‪.((3‬‬

‫وعلى الرغم من هذا‪ ،‬تجد خالف الرؤيتين بين تيزيني والبوطي في موضوع الحقيقة القرآنية التي‬
‫ً‬
‫تأويليا على أحد‪ ،‬أو مذهب دون غيره‪ ،‬سوى تنزيله األول‪،‬‬ ‫يراها تيزيني حقيقة متعالية‪ ،‬ليست ً‬
‫حكرا‬
‫بينما يبيحها البوطي؛ كون الحقيقة هنا مفهوم فلسفي‪ ،‬ليس سوى صورة من صور الواقع وفهمه‪،‬‬
‫وهو ما يتيح تنوع القراءات‪ ،‬وبالضرورة التأويل والتسويغ الذي يرفضه تيزيني‪ ،‬من حيث كونه يبيح‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عصريا‪ .‬فحسب رأي‬ ‫االغتناء كما اإلفقار‪ ،‬وهذا ضد العدالة القرآنية واملحمدية أصل‪ ،‬واملاركسية‬
‫البوطي ثمة سؤال‪" :‬فليقل لي الدكتور تيزيني‪ ،‬كيف يمكن أن يحتضن القرآن كل أفهام الناس‪،‬‬
‫على اختالف اتجاهاتهم الفكرية ومذاهبهم الدينية والفلسفية واألخالقية‪ ،‬ثم يكون كل هذه األفهام‬
‫املتناقضة حقيقة"(‪.((3‬‬

‫(‪ ((3‬محمد سعيد رمضان البوطي وطيب تيزيني‪ ،‬حوارات لقرن جديد‪ ،‬اإلسالم والعصر تحديات وآفاق‪ ،‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪،‬‬
‫‪ ،)1999‬ص‪.133 -89‬‬

‫(‪ ((3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.24‬‬

‫(‪ ((3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.213‬‬

‫‪169‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫ً‬
‫إسالميا‪ ،‬كما هو‬ ‫ومن جهة أخرى‪ ،‬تقوده هذه النزعة التصالحية مع مرجعية النص العادل‬
‫ً‬
‫ماركسيا‪ ،‬إلى موقع من الدفاع العاطفي عن القومية العربية‪ ،‬من دون نقد فعلي ملؤسسات األنظمة‬
‫الحاكمة الديكتاتورية العربية‪ ،‬والبحث في الحاضر العربي عن حالة إصالحية في النظام السيا�سي‬
‫وحده‪ ،‬من حيث معالجة مظاهر فساده (كما أشرنا مرات ً‬
‫آنفا)‪.‬‬
‫إن هذا التماهي التراثي‪ ،‬عامة‪ ،‬في فكر تيزيني تجلى بوضوح في‪:‬‬
‫ً‬
‫مضمونا عن القراءة اإلسالمية‬ ‫‪1 .1‬اإلضاءة التاريخية على نماذج فكرية مادية‪ ،‬تختلف‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫املهيمنة على التراث‪ ،‬وتذهب إلى األصولية والسلفية‪ ،‬تمذهبا وفعل سياسيا‪ ،‬إال أنه‬
‫تبعا للنهج املارك�سي املادي‪ ،‬وثبت من جانب آخر‬ ‫فكريا فحسب‪ً ،‬‬ ‫نفى منها جانبها املثالي‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حضورا مستقل‪ ،‬بوصفها حضارة عقلية ذاتية الحضور في مرجعيتها‬ ‫حضورها التاريخي‬
‫النصية األولى‪ ،‬وليست مرحلة تاريخية بين أوروبا القديمة والحديثة‪ ،‬بحسب الجابري‪.‬‬
‫‪2 .2‬الخلط املنهجي املارك�سي بين الليبرالية‪ ،‬برافعتها الديمقراطية وجذرها في العقد‬
‫االجتماعي‪ ،‬مع النموذج الغربي االمبريالي الغازي‪ ،‬أحاله على تجاهل حضور عصر‬
‫الحريات الفردية‪ ،‬وإذابتها في نموذج األمة العادلة‪ ،‬في مقابلة التمركز األوروبي ذاته‪.‬‬
‫‪3 .3‬القومية العروبية هي ذاتها نموذج معمم‪ ،‬وواسع الهوية‪ ،‬يكرس موضوعتي عداء‬
‫اإلمبريالية‪ ،‬والنموذج االشتراكي الشرقي‪ ،‬من دون األخذ بالتجارب الحديثة والعصرية؛‬
‫ً‬
‫لتكون املصلحة الوطنية أول‪ .‬فالفارق الحضاري غير املتكافئ جعل هدف الوحدة‬
‫فكريا مع التراثية األم‪ ،‬متوافقة مع التوجهات‬ ‫متماهيا ً‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نموذجا‬ ‫العربية والقومية العربية‬
‫ً‬
‫السلطوية األمنية في طروحاتها القوموية الزائفة‪ ،‬وهو ما جعل اإلصالح السيا�سي مدخل‬
‫لكل عمله السيا�سي‪ ،‬حتى بدايات الربيع العربي‪ ،‬وثورة شبابه‪.‬‬
‫‪4 .4‬البحث الدائم عن فكرة نظرية في املنهجية املاركسية‪ ،‬عن الطبقة الوسطى‪،‬‬
‫ً‬
‫مباشرا للسلطة األمنية‬ ‫ً‬
‫تعرضا‬ ‫واألسباب الداعية إلى عدم تشكلها‪ ،‬من دون التعرض‬
‫سلطويا‪ ،‬ليغدو املشروع النهضوي لديه‬ ‫ً‬ ‫العسكرية‪ ،‬مع تأكيده تفكك الطبقة الوسطى‬
‫هو كيفية استعادة تكون هذه الطبقة بوجود هذه السلطات‪ ،‬أو بدونها‪ ،‬فـ "منذ بداية‬
‫السبعينات من عصرنا أخذنا نواجه حالة نوعية من التفكك والتداعي ضمن أوساط‬
‫الفئات املتوسطة من املجتمع‪ ،‬هؤالء املفقرون الذين كانوا ينتمون إلى الفئات الوسطى‬
‫عمقا في القوة االقتصادية االستهالكية غير املنتجة والتابعة‬ ‫إياها‪ ،‬مع تعاظم مطرد ً‬
‫لدى أفراد هذا األخير‪ ،‬أي‪ :‬الحقل الطبقي األعلى‪ ،‬ومن ثم بلهاث وراء تدعيم مصالحه‬

‫‪170‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫قانونيا ً‬ ‫ً‬
‫ً ز‬
‫ائفا‪ ،‬وانتهاء‬ ‫االقتصادية‪ ،‬وتكريسها بطرق وأشكال مسوغة على نحو ما تسويغا‬
‫بالتهريب واللصوصية والنهب والتجارة بمقدرات الوطن املالية منها‪ ،‬واألثارية القومية‬
‫والثقافية"(‪.((3‬‬
‫‪5 .5‬االستعداد املنهجي املارك�سي‪ ،‬برافعته الشيوعية‪ ،‬جعلت التاريخ أمام تيزيني جملة‬
‫من املقدمات تستلزم النتائج‪ ،‬وفق منطق صوري يخفض الجدل املارك�سي ذاته؛ إذ إن‬
‫ً‬
‫إسالميا‪ ،‬واملحمول على عروبة وقومية‪ ،‬تستلزم االشتراكية نتيجة‬ ‫النموذج التراثي املكتمل‬
‫حتمية‪ .‬فالنص اإلسالمي والعدالة في بناه النصية‪ ،‬ومقدمات النزعة اإلنسانية واملساواة‬
‫بين العرب واألعاجم‪ ،‬وتحرير العبيد‪ ،‬مع وجود فكر مثالي تمثل بالصوفية تار ً‬
‫يخيا‪ ،‬هي‬
‫مقدمات يمكن البرهنة بسهولة صورية عليها‪ ،‬بوصفها كليات أثبتها مرا ًرا للوصول إلى‬
‫االشتراكية‪ ،‬وفي هذا ال تحتاج السلطات العصرية سوى إلى إصالح بطانتها الحاكمة‪،‬‬
‫وفسادها اإلداري والقضائي والتعليمي‪ ،‬وتصالحها مع الدستور الحالي‪ ،‬بمرجعيته‬
‫ً‬
‫القوموية الوحدوية‪ ،‬والنصية اإلسالمية‪ ،‬ذات التوجه االشتراكي؛ لتصبح بذلك هدفا‬
‫حتمي النتيجة والتحقق‪.‬‬

‫منسجما مع ذاته‪ ،‬فهو املسلم املتنور‪ ،‬واسع التصور‪ ،‬القابل لحوار املختلف معه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بقي تيزيني‬
‫ً‬
‫عروبيا ووطنيا‪ .‬لكن هذه امليزات الشخصية الوجدانية ال تكفي أدوات التحليل املنهجية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫املنتمي‬
‫وبالضرورة اإلنتاج املعرفي العصري والحديث‪ .‬تلك التي فاجأته بها ثورات الربيع العربي‪ ،‬والسيما‬
‫تظاهرا وحوا ًرا مع كل أطيافها السلطوية واملعارضة واإلسالمية‪،‬‬
‫ً‬ ‫الثورة السورية‪ .‬وما اندياحه بها‪،‬‬
‫إال لتلك النزعة املتماهية مع حضوره الوجداني العام‪ ،‬واملرتبط بالتراث من دون سلفية أصولية‪،‬‬
‫وبالعصر من دون علمانية‪ ،‬وما بين هذا وذاك‪ ،‬طرفي املعادلة األقسيين في تنازع الهوية السورية‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫واضحا للتماهي عند تيزيني‪ ،‬مثلثه األوضح‪ :‬املاركسية‪ ،‬التراث‪ ،‬القومية في حالة تثبت‬ ‫ً‬
‫نموذجا‬ ‫اإلصالح‬
‫أفكاره‪ ،‬ولكنها ترفض الليبرالية بكل معطياتها‪ ،‬وترفض املتغيرات الكبرى في تاريخ البشرية‪ ،‬وال سيما‬
‫على مستوى الفعل التغييري العريض في بنى املجتمع لحظة اجتياحها ً‬
‫ثوريا‪.‬‬
‫في مقاربة معرفية في منهجية طيب تيزيني‪ ،‬تلك املبينة على جملة من الكليات الكبرى‪ ،‬كليات‬
‫الفلسفة املثالية واملادية التاريخية‪ ،‬والنزعة العروبية القومية‪ ،‬حيث يتراصف بعض هذه الكليات إلى‬
‫جانب بعض تر ً‬
‫اصفا واضح املعالم في فكره التنويري‪ ،‬وربما يأخذ السياق النقدي ً‬
‫بعدا آخر مع الزمن‬

‫(‪ ((3‬تيزيني‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬ص‪.12 10-‬‬

‫‪171‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫في نموذجها الفكري‪ ،‬من حيث كونها توجد حالة انسجام عام مع ما يسمى إلى اليوم بثقافة الشرق‬
‫املنحلة في املثل العليا‪ ،‬والوصايا الدينية املتماهية مع التوجه االشتراكي املثالي‪ ،‬وهذا مرهون بالتاريخ‬
‫من دون حتميات أو أصنام‪ .‬والنقد في هذه النقطة متمثل ال لتيزيني فحسب‪ ،‬بل لذلك النموذج من‬
‫ً‬
‫فلسفيا بمناهج‬ ‫الفكر العربي الذي افترض إمكانية حل املشكالت املجتمعية بطريقة نظرية تعالج‬
‫عدة‪ ،‬من دون محاولة الوصول إلى موضوعة الحريات الفردية‪ ،‬وحقوق الفرد املادية والفكرية‪ ،‬وال‬
‫سيما لجيل الشباب الذي لم ترضه قط أقفاص الكليات هذه‪ ،‬وال أسرها ملعنى وجوده‪ ،‬وال سيما في‬
‫عالم التقنية وثورة املعلومات‪ ،‬فاقتحم أسوار االستبداد بكل تموضعاته وتصالحاته التاريخية مع‬
‫رجال الدين واألحزاب الشيوعية وغيرها‪ ،‬وليس مع نظام الوصايا األبوي البطريكي وحده‪ ،‬بحسب‬
‫تعبير هشام شرابي(‪ ،((3‬فكان حدث الربيع العربي ببداياته‪ ،‬وما انتكاساته سوى ملواجهته متعددة‬
‫األطراف للسلطات الشمولية واأليديولوجيات النظرية محكمة اإلغالق بالكليات تلك‪ ،‬سواء كانت‬
‫إسالمية أم اشتراكية أم قومية‪ ،‬حتى وإن كانت محمولة على خلفية إيمانية‪ ،‬تمثلت في إطالقية النص‬
‫القرآني والعدالة االجتماعية‪ ،‬وحتمية االشتراكية في املنهج املارك�سي‪ ،‬كما هو فكر طيب تيزيني‪ ،‬فهل‬
‫سابقا "التصوف نشأ ليمأل فضاء في الحضارة‬ ‫سيقود هذا إلى التصوف مرة أخرى‪ ،‬كما آه تيزيني ً‬
‫ر‬
‫العربية اإلسالمية؛ ذلك هو الفضاء الروحي اإلنساني املفعم بالشوق إلى العدل والحرية واملساواة‬
‫ً‬
‫إنسانيا"‪.‬‬ ‫والتسامح واألخوة بين البشر‪ ،‬وذلك عبر جدلية اإلنساني ً‬
‫إلهيا‪ ،‬اإللهي‬

‫إن هيمنة نصين كبيرين على منهجية تيزيني‪ ،‬نص قرآني ذو قداسة إلهية‪ ،‬وآخر مارك�سي يوازيه‬
‫بدءا من املرحلة العربية الجاهلية‪،‬‬ ‫ً‬
‫فكريا‪ ،‬هي خالصة العمل املنهجي العام للطيب في البحث التراثي‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫مرو ًرا باملراحل اإلسالمية املتعددة‪ ،‬حيث املرحلة االقطاعية‪ ،‬وصول إلى العصر الحديث واملرحلة‬
‫ً‬
‫البرجوازية "وصول للبحث في ضرورات وأبعاد وآفاق ثورة ثقافية في الواقع العربي الراهن‪ ،‬في إطار‬
‫ً‬
‫مستقبليا‪ ،‬وضمن‬ ‫ثورة اجتماعية اشتراكية‪ ،‬تكتسب شخصيتها في هذا الواقع املبعثر ً‬
‫حاليا واملوحد‬
‫عالقتها مع التاريخ والتراث العربي الفكري"(‪ ،((3‬وهي ذاتها مشكلة تيزيني العامة‪ ،‬سواء في التكرار‬
‫والتوصيف والتضمين املوجه‪ً ،‬‬
‫وأيضا عدم القدرة على الخروج على تاريخيته املادية املاركسية‪ ،‬وحالة‬
‫التماهي التراثية‪ ،‬هذه‪ ،‬إلى موقف أكثر جذرية حتى من مسلماته وفرضياته ذاتها التي قادته إلى هذا‬
‫التماهي‪ ،‬من دون نتيجة نظرية أو فكرية أو ممارسة سياسية شيوعية‪ /‬ماركسية أو اسالمية تفيد‬

‫(‪ ((3‬هشام شرابي‪ ،‬النظام األبوي واشكالية تخلف املجتمع العربي‪( ،‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬د‪.‬ت)‪.1993 ،‬‬

‫(‪ ((3‬تيزيني‪ ،‬من التراث الى الثورة‪ ،‬ص‪25-18‬‬

‫‪172‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫مشروعه النهضوي‪ ،‬فهل املشكلة في الواقع الذي ال يستجيب لنظرية‪ ،‬أم ثمة إشكالية في هذا االتجاه؟‬

‫في الخاتمة وسؤال الكونية‪ :‬تيزيني اإلنسان والفيلسوف‬


‫إن نقد املنهج املعرفي لدى فيلسوف موسوعي كالطيب تيزيني يحتاج مجلدات‪ ،‬وأعترف أن كل‬
‫موضوعة من موضوعاته التي تناولتها هذه الدراسة النقدية تحتاج ً‬
‫كتابا وأكثر‪ ،‬وهذا رهن بالفكر‬
‫العربي عامة‪ ،‬هو نقد للفكر ذاته في ذاته باملبدأ‪ ،‬وقصورنا عن الدخول في معترك موضوعة الفرد‬
‫ً‬
‫وحرياته أول‪ ،‬الفرد‪ /‬الـ "أنا" في عالقاته مع الـ "نحن" الجمعية –و" نحن"‪ ،‬هذه‪ ،‬قبيلة أو طائفة‬
‫أو دين أو حزب أو أمة‪ ،‬وتراث بأكمله‪ ،‬واقتحام أسوار العلوم الحديثة‪ ،‬واالنفتاح عليها‪ ،‬تلك التي‬
‫باتت تتجاوز أقفاص نموذج الكليات واملطلقات التعميمية‪ ،‬والذهاب في اتجاه فلسفة العلوم‬
‫ً‬
‫منهجيا (مؤكدين املالحظات النقدية اآلتية ال منهجيتها‬ ‫(األبستمولوجيا) ً‬
‫نقديا‪ ،‬وليس بالضرورة‬
‫ً‬
‫منطوقا ً‬ ‫ً‬
‫عربيا أو‬ ‫التي نرى بواعث تشكلها الزمني)‪ ،‬فاللغة‪ ،‬بما هي محتوى وأداة الفكر‪ ،‬ليست شكل‬
‫أعجميا‪ ،‬كما تقول النظريات القومية العصبوية‪ ،‬بل تدخل مع األلسنية الحديثة ً‬
‫لغويا إلى املشترك‬ ‫ً‬
‫اإلنساني في النغمة والصوتيات (األلسنية) وبالضرورة العقل والفكر اإلنساني العام حيث يعتبر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫صوتيا‪ ،‬تربطها عالقات مجردة‪ ،‬تكشفها عمليات عقلية صرفة‪ ،‬وقيم‬ ‫"الفونولوجيا اللغة‪ ،‬اتساقا‬
‫خالفية بحتة"(‪ .((3‬وكذلك في مناهج التعلم والتعليم الحديثة املتخارجة مع دورات اإلعداد والتوعية‬
‫العقائدية الحزبية‪ ،‬البعثية أو الشيوعية‪ ،‬للبحث في إمكانات جيل الشباب وقدراته ومواهبه املكنونة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وتهجيرا‪ ،‬في خلفية مرجعية جدلية تتجاوز فكرة املقدمة‬ ‫استبداديا‪ ،‬اعتقال‬ ‫واإلبداعية‪ ،‬املبتورة‬
‫تماما‪ ،‬بل أكبر من مجموع أجزائه(‪ً ((3‬‬
‫تبعا ملفاهيم‬ ‫والنتيجة الصورية‪ ،‬فالكل ليس مجموع أجزائه ً‬
‫النسبية األينشتاينية‪ ،‬وكذا اإلنسان‪ ،‬وهو ما بات يلتمسه السوري في بلدان الشتات والهجرة‪ ،‬مع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إبداعا وإمكانات تتفوق‪ ،‬بدل من أن تحتويه أرضه ووطنه بإمكاناته الخالقة‪.‬‬ ‫األسف‪،‬‬

‫إن املمكن املتشكل في واقع اليوم يعيد سؤال العالقة الجدلية بين الفرد والدولة‪ ،‬اإلنسان والكون‪،‬‬

‫(‪ ((3‬ريمون طحان ودينيز طحان‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم األلسنية‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الكتاب اللبناني‪ ،)1983 ،‬ص‪.141‬‬

‫(‪ ((3‬مصطفى ناصف‪ ،‬نظريات التعلم‪ :‬دراسة مقارنة‪ ،‬سلسلة عالم املعرفة عدد ‪( ،70‬الكويت‪ :‬املجلس الوطني للثقافة والفنون‬
‫واآلداب‪ ،)1983 ،‬ص ‪.210 -200‬‬

‫‪173‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫هو سؤال الخوف من الحرية عند أيرك فروم؛ إذ ُ"يقمع التفكير النقدي عادة ً‬
‫مبكرا"(‪((3‬؛ وبالضرورة‬
‫املدمجة لألفراد في بوتقة‬
‫سؤال السلطة واملعرفة خارج أسوار الطبقية اآلسرة واملهيمنة‪ ،‬واملنهاجية ِ‬
‫توجه وحيد‪ ،‬يلغي الحريات والحقوق الفردية ملصلحة جهة حاكمة‪ ،‬طبقة أو فرد ديكتاتوري‪ ،‬حتى وإن‬
‫كانت غايته أو نيته ً‬
‫"خيرا"‪ ،‬كما نقدها فيلهلم رايش‪ ،‬بقوله‪" :‬قفي‪ ،‬قفي‪ ،‬أيتها الجماهير البروليتارية‪.‬‬
‫أال ترين أني محررك‪.((4(".‬‬

‫إن الحرية حق انساني أول‪ ،‬وبالضرورة الديمقراطية كذلك‪ ،‬بما هي منهج فكري ال سيا�سي‬
‫فحسب‪ ،‬فثمة وجه آخر للعدالة بخالف الطرح املارك�سي "املحبب" لدى "اليسار العربي"‪ ،‬ولنجز‬
‫القول بأن ثمة بواكير معرفية تتبلور على أرضية ثورات الربيع العربي‪ ،‬تستهدف الكونية والوجود‬
‫اإلنساني‪ ،‬وستشق طريقها‪ ،‬على الرغم من كل تعثرنا التاريخي والسيا�سي اليوم واملنهجي السابق‪.‬‬
‫إن الفكر الكوني الباحث اليوم عن تجاوز قصور املنهج املارك�سي‪ ،‬واغتراب الفكر النيوليبرالي‪،‬‬
‫أبعادا أبستمولوجية‬‫وهيمنته بذراعه التقنية الطولى في ثورة التكنولوجيا‪ ،‬بدأت معالجاته األولى تأخذ ً‬
‫ً‬
‫إنسانيا‪ ،‬خارج حدود الكليات األولى في‬ ‫مختلفة‪ .‬يذهب يورغن هابرماس مع العقل التواصلي املنفتح‬
‫املعرفة‪ ،‬خارج حدود العصبيات القومية والفئوية الضيقة‪ ،‬واملنهجية األداتية املوجهة(‪ ،((4‬ماركسية‬
‫ً‬
‫وظيفيا؛‬ ‫كانت أم رأسمالية أم تقنية معوملة (نيوليبرالية)‪ ،‬تستهدف اصطناع الثقافة وتوجيهها‬
‫ليميز بين عقلين‪" :‬عقل تواصلي وعقل أداتي"‪ ،‬في األول نقد ألتمتة الحياة وتشييئها في عصر العوملة‬
‫والتكنولوجيا‪ ،‬وبالضرورة التواصل البشري اللغوي والح�سي؛ لكسر أطواق العزلة‪ ،‬وهيمنة الحياة‬
‫املادية الشيئية والرقمية‪ ،‬والثاني هو العقل االستثماري النفعي‪ ،‬وهو املنتج العصري الحديث الذي‬
‫يجب استخدامه في خدمة اإلنسان ومصلحته‪ ،‬ال أن يكون هو املهيمن واملسيطر؛ في هذا الفرق بين‬
‫ً‬
‫وإنسانيا‪.‬‬ ‫ً‬
‫معرفيا‬ ‫عقلين أو نموذجين من فلسفة الحياة‪ ،‬وشكل توضعها‪ ،‬بواكير نقدية يبنى عليها‬

‫وفي جهة أخرى‪ ،‬ميشيل فوكو يذهب مع الالتاريخية‪ ،‬ونفي هيمنتها املنهجية‪ ،‬ليتخذ من التعاطف‬
‫اإلنساني‪ ،‬والبعد الح�سي فيه‪ ،‬حالة كونية عامة للوجود اإلنساني‪ ،‬في تشابهه واختالفه وتنافسه‪،‬‬
‫ً‬
‫(مترجما)‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،)1972 ،‬‬ ‫(‪ ((3‬إيرك فروم‪ ،‬الخوف من الحرية‪ ،‬مجاهد عبد املنعم مجاهد‬
‫ص‪.155‬‬

‫ً‬
‫(مترجما)‪ ،‬ط‪ ،1‬كولونيا‪ /‬أملانيا‪ :‬منشورات الجمل‪ ،)2003 ،‬ص ‪.51‬‬ ‫(‪ ((4‬فيلهلم رايش‪ ،‬خطاب إلى الرجل الصغير‪ ،‬رشيد بو طيب‬

‫ً‬
‫(مترجما)‪( ،‬كولونيا‪ /‬أملانيا‪ :‬منشورات الجمل‪ ،)2001 ،‬ص‪.67‬‬ ‫(‪ ((4‬يورغن هابرماس‪ ،‬املعرفة واملصلحة‪ ،‬حسن صقر‬

‫‪174‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫سلفا‪ ،‬وال مسافة مفترضة ً‬


‫مقدما‪ ،‬فإن "التعاطف يقوم‬ ‫معينة ً‬
‫وبالضرورة تعاطفه‪ ،‬وليس ثمة طريق ّ‬
‫ً‬
‫اتساعا"(‪ ،((4‬وغيرهما كثر‪،‬‬ ‫بوظيفته بحرية كاملة في أعماق العالم‪ ،‬وهو يطوف في برهة أشد األماكن‬
‫من أمثال جيان بياجيه وجاستون باشلر في الحقل املعرفي اإلنساني؛ إذ ثمة محاولة لنقد التجربة‬
‫اإلنسانية الفكرية والفلسفية اليوم‪ ،‬بعد أن بات الكون في إشكالية حضور ووجود‪.‬‬

‫إن إشكالية املسألة النهضوية العربية‪ ،‬إلى اليوم‪ ،‬ذات إجابات متعددة‪ ،‬واالفتراض بأن ثمة إجابة‬
‫نهائية وقطعية عليها يقطع مسارها وسؤالها‪ ،‬هذا ما أوقع كثير من املثقفين العرب في حيرة من مجريات‬
‫سنواتنا األخيرة‪ ،‬لكنها لم تحير قط الوجدان النقي‪ ،‬والنزعة املحبة والتصالحية السامية في شخص‬
‫الطيب تيزيني عن االنتصار ملظالم شعبه‪ ،‬والوقوف إلى جانبه‪ ،‬وحضور مظاهراته السلمية‪ ،‬وبكائه‬
‫املرير على شباب حمص السوري في اعتصام الساعة(‪ ،((4‬حيث كان يوم مجزرة أمنية دامية‪ ،‬تكررت‬
‫في كل األرض السورية‪ً ،‬‬
‫مكررا عبارته املحببة‪" :‬حمص في حياتي هي املبتدأ واملنتهى"(‪ ،((4‬فكان رحيله‬
‫عنها وعن سورية‪ ،‬غصة موجعة وحرقة ألم كبيرة‪.‬‬
‫مشروعا لكل عمل فكري‪ً ،‬‬
‫سلبا (باملعنى‬ ‫ً‬ ‫فكريا أم اختلفنا‪ ،‬يظل النقد ً‬
‫حقا‬ ‫فسواء اتفقنا معه ً‬
‫وتعينا)‪ ،‬إال أنه إضاءة في فكر الرجل ومعا فه املوسوعية‪ً ،‬‬
‫علنا‬ ‫ايجابا ً‬
‫(إثباتا ً‬ ‫الهيغلي النافي) كان‪ ،‬أم ً‬
‫ر‬
‫نتخذ من النقد "املحب"‪ ،‬النقد املبني على بعد فكري إنساني‪ ،‬يستهدف اإلنسان في تعثره ونهوضه‪،‬‬
‫دليل عمل حضاري وثقافي‪ ،‬يلغي االستئثار والنزعة التنافسية التهكمية املريضة التي تسود معظم‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫سياسيا‪ .‬على أن مسار‬ ‫أروقة السياسة والفكر السيا�سي العربي‪ .‬وهذا مؤشر ثقافي أول قبل أن يكون‬
‫ً‬
‫سياسيا في‬ ‫التأخر التاريخي العربي‪ ،‬هذا‪ ،‬قد بدأ ركب تجاوزه بثورات الربيع العربي‪ ،‬سواء أأنتجت‬
‫ووضوحا‪ ،‬حيث تتقشر‬ ‫ً‬ ‫وقت قريب أم لم تنتج‪ .‬لكن مسارات نقده باتت تتسع‪ ،‬وتصبح أكثر جذرية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عنه األيديولوجيات واملعتقدات الصنمية السياسية والفكرية والدينية‪ ،‬رويدا رويدا‪ ،‬وقبله ً‬
‫فكريا في‬
‫سياق ركب النهضة العربية األولى والثانية‪ ،‬منذ بدايات القرن العشرين؛ حتى بات يحق لنا القول‪ :‬إنها‬
‫معركة اإلنسان في أمة تنازع طورها االندثاري والفنائي حضارًيا‪ ،‬على الرغم من هول تضحيات شبابها‬

‫(‪ ((4‬ميشيل فوكو‪ ،‬الكلمات واألشياء‪ ،‬مطاع الصفدي وآخرون (مترجمون)‪( ،‬بيروت‪ :‬مركز االنماء القومي‪ ،)1990/1989 ،‬ص‪.43‬‬

‫‪(43) https://www.youtube.com/watch?v=mp2SVNtMkeY‬‬

‫‪(44) https://www.alaraby.co.uk/culture/201918/5//‬‬
‫الطيب تيزيني‪ ...‬الرحيل عن سورية الجريحة‬

‫‪175‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫الجسام‪ ،‬لكنها ما زالت تستهدف محاولة الحضور الحضاري واإلنساني من جديد‪ ،‬وإن تباينت طرقه‬
‫املعرفية ومشروعاته النهضوية‪.‬‬
‫أيضا‪ً ،‬‬
‫وتبعا لديكارت‬ ‫ثوريا في الحياة والحرية‪ ،‬واملناهج املعرفية والثقافية ً‬
‫إنه زمن املفارقات الكبرى ً‬
‫منهجيا‪ ،‬فإن "كل حياة الناس على صعيد النظر كما على صعيد العمل‪ ،‬أو إن شئنا على‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫نقديا‪ ،‬ال‬
‫مستوى الفكر كما هي على مستوى املجتمع‪ ،‬تقوم على أرضية النسبية والتعدد واالختالف"(‪ ،((4‬وتلك‬
‫ً‬
‫موسوعيا‬ ‫كانت محاولتنا النقدية‪ ،‬خارج التمركز على الذات في التراثية أو املاركسية‪ ،‬والبحث فيها‬
‫بطريقة تصوراتية منهجية‪ ،‬على أهميتها بحسب تيزيني‪ ،‬إال أنها لم تنتج سوى التماهي التراثي‪ ،‬دون‬
‫مستوى الكونية ووحدة الوجود الكوني‪ ،‬كما أجاز لنفسه اإلقرار بها أواخر أيامه‪ ،‬ولم يسعفه املوت‬
‫من التفصيل فيها‪ ،‬فاحتضنه حي "باب الدريب" في حمص" كما عاش فيه تار ً‬
‫يخيا‪.‬‬
‫أعمال معرفية وبحثية متعددة‪ ،‬تتناولها من كل جنباتها‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫نقديا‬ ‫إن وحدة الوجود الكوني تتطلب‬
‫ومعرفيا وحوارًيا؛ إذ يصبح اإلنسان غاية وطريقة في املعرفة والوجود‪ ،‬وفي هذا متسع معرفي للبحث‬
‫ٌ‬ ‫ً‬
‫واملحاولة مرات ومرات‪ ،‬من دون يأس أو كلل‪.‬‬

‫ً‬
‫(مترجما)‪( ،‬بيروت‪ :‬املنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫(‪ ((4‬رينيه ديكارت‪ ،‬حديث الطريقة‪ ،‬عمر الشارني‬
‫‪ ،)2001‬ص‪.25‬‬

‫‪176‬‬
‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬ ‫ملف العدد‬

‫املصادرواملراجع‬
‫‪1 .1‬الجباعي‪ .‬جاد الكريم‪ ،‬قضايا النهضة‪( ،‬دمشق‪ :‬دار عالء الدين‪.)2003 ،‬‬
‫‪2 .2‬الحافظ‪ .‬ياسين‪ ،‬الهزيمة واأليديولوجيا املهزومة‪ ،‬ط‪( ،2‬دمشق‪ :‬دار الحصاد‪.)1997 ،‬‬
‫‪3 .3‬النقيب ‪.‬خلدون حسن‪ ،‬الدولة التسلطية في املشرق العربي املعاصر‪ ،‬ط‪( ،1‬بيروت‪ :‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪.)1991 ،‬‬
‫‪4 .4‬أمين‪ .‬سمير‪ ،‬بعض قضايا للمستقبل‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الفارابي‪.)1990 ،‬‬
‫‪5 .5‬تيزيني‪ .‬طيب‪ ،‬وأبو يعرب مرزوقي‪ ،‬آفاق فلسفية عربية معاصرة‪( ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر العربي‪،‬‬
‫‪.)2001‬‬
‫‪ 6 .6‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ ،‬على طريق الوضوح املنهجي‪ ،‬كتابات في الفلسفة والفكر العربي‪( ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫الفارابي‪.)1989 ،‬‬
‫‪ 7 .7‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ ،‬من االستشراق الغربي إلى االستغراب املغربي‪( ،‬سورية‪ :‬داري املجد والذاكرة‪.)1996 ،‬‬
‫‪ 8 .8‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ ،‬من التراث الى الثورة‪ ،‬حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي‪ ،‬ط‪( ،2‬بيروت‪:‬‬
‫دار ابن خلدون‪.)1978 ،‬‬
‫‪ 9 .9‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ ،‬من الالهوت الى الفلسفة العربية الوسيطة‪( ،‬دمشق‪ :‬بترا للطباعة والنشر‪،‬‬
‫‪.)2002‬‬
‫‪ 1010‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ ،‬الفكر العربي في بواكيره وآفاقه األولى‪( ،‬سورية‪ :‬دار دمشق‪.)1982 ،‬‬
‫‪ 1111‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــ‪ ،‬التصوف العربي اإلسالمي‪ ،‬قراءة في الحضور الوجودي واالستحقاق القيمي‪،‬‬
‫(دمشق‪ :‬الهيئة العامة السورية للكتاب‪ ،‬وزارة الثقافة‪.)2011 ،‬‬
‫‪1212‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ومحمد سعيد رمضان البوطي‪ ،‬حوارات لقرن جديد‪ ،‬اإلسالم والعصر تحديات‬
‫وآفاق‪ ،‬ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪.)1999 ،‬‬
‫ً‬
‫(مترجما)‪( ،‬بيروت‪ :‬املنظمة العربية للترجمة‬ ‫‪1313‬ديكارت‪ .‬رينيه‪ ،‬حديث الطريقة‪ ،‬عمر الشارني‬
‫ومركز دراسات الوحدة العربية‪.)2001 ،‬‬
‫‪1414‬شرابي‪ .‬هشام‪ ،‬النظام األبوي واشكالية تخلف املجتمع العربي‪( ،‬بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة‬
‫العربية‪ ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪1515‬طحان‪ .‬ريمون ودينيز طحان‪ ،‬فنون التقعيد وعلوم األلسنية‪( ،‬بيروت‪ :‬دار الكتاب اللبناني‪،‬‬
‫‪.)1983‬‬
‫‪1616‬فوكو‪ .‬ميشيل‪ ،‬الكلمات واألشياء‪ ،‬مطاع الصفدي وآخرون (مترجمون)‪( ،‬بيروت‪ :‬مركز االنماء‬
‫القومي‪.)1990/1989 ،‬‬

‫‪177‬‬
‫ملف العدد‬ ‫العدد التاسع ‪ -‬أيلول‪ /‬سبتمبر‪2019‬‬

‫‪1717‬لينين‪ .‬فالديمير‪ ،‬االستعمار أعلى مراحل الرأسمالية (بيروت‪ :‬دار الفارابي‪.)1956 ،‬‬
‫‪1818‬مروة‪ .‬حسين‪ ،‬النزعات املادية في الفلسفة العربية اإلسالمية‪ ،‬الجاهلية‪ :‬نشأت وصدر اإلسالم‪،‬‬
‫ط‪( ،2‬بيروت‪ :‬دار الفارابي‪.)2008 ،‬‬
‫‪1919‬ناصف‪ .‬مصطفى‪ ،‬نظريات التعلم‪ :‬دراسة مقارنة‪ ،‬سلسلة عالم املعرفة عدد ‪( ،70‬الكويت‪:‬‬
‫املجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪.)1983 ،‬‬
‫ً‬
‫(مترجما)‪( ،‬موسكو‪ :‬دار التقدم‪ ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬ ‫‪2020‬نيكيتين‪ ،‬أسس االقتصاد السيا�سي‪ ،1984 ،‬الياس شاهين‬

‫‪178‬‬

You might also like