You are on page 1of 4

‫المبحث الثالث‪ :‬األفعال الكالمية في الخطاب القرآني‬

‫نحاول دراسة األفعال الكالمية الواردة في الخطاب القرآني من جهة نظر التداولية وتنقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫مباشرة وغير مباشرة‪:‬‬

‫المطلب األول‪ :‬األفعال الكالمية المباشرة‪:‬‬

‫إن جهود "أوستن" و"سيرل" في مجال األفعال الكالمية مهمة وفعالة‪ ،‬ولعل المبحث األساسي ألعمالهما‬
‫التحليلية هو األفعال اإلنشائية المتعلقة بالصيغة المباشرة‪ ،‬وشروط استعمالها في سياقات الحديث‬
‫المختلفة‪ ،‬كالسؤال والتقرير واستعمال مختلف الوسائل التي يتوفر عليها المتحدثون لكي يتواصلو‬
‫ويبلغو فعل الكالم إلى المتلقي‪ ،‬يستعمل المخاطب الفعل الكالمي المباشر عندما يولي عناية لتبليغ‬
‫قصده‪ ،‬وتحقيق هدفه الخطابي ورغبته في أن يكلف المتلقي بعمل ما‪ ،‬أو يوجهه لمصلحته من جهة‬
‫وابعاده عن الضرر من جهة أخرى‪ ،‬أو توجيهه لفعل مستقبلي معين‪ ،‬ويفترض أن يتجه المخاطب‬
‫بخطابه إلى التكثير من فائدة المتلقي‪ ،‬فيستعمل هذه اإلستراتيجيات في شكلها األكثر مباشرة للداللة على‬
‫قصده‪ ،‬كاألمر والنهي الصريحين‪.‬‬

‫‪ .1.1‬أفعال االتكليف والتوجيه‪:‬‬


‫يعد هذا المبحث جوهر القضية اإلجتهادية في تفسير النصوص‪ ،‬ومسألة مهمة عند األصوليين‬
‫خاصة كمسألة األمر وداللته في المواضعة واالستعمال‪ ،‬وبهذه األفعال طلبية طلبية توجيهية‬
‫تحسب محاوالت تأثيرها عبر فعل المستمع كالنداء واألمر واإلستفهام‪.‬‬
‫يعد النداء من األفعال الكالمية التوجيهية ألنه يحفز المتلقي لرد فعل المتكلم وأبرز أدواته (الياء)‪.‬‬
‫فالنداء أول فعل كالمي يقوم به المخاطب سليتمكن بعد ذلك من تحديد مقاصده‪ ،‬ويحص الخطاب‬
‫القرآنيب على التنوع في مخاطباته وأساليبه‪ ،‬وفق منظور يحرص على بلوغ الفائدة لجميع‬
‫المخاطبين‪ ،‬فيستعمل أداة النداء المناسبة ثم يخاطب كل منادى حسب طبيعة إيمانه أو مكانته‬
‫الخاصة واإلجتماعية‪ ،‬إذ أنه مرتبط بمقام التلقي ومقايسه فخطاب األذكياء غير خطاب األغبياء‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص‪.‬‬
‫لقد كان أو نداء في القرآن الكريم (يا أيها الناس)‪ ،‬وهذا دليل على رسالته العلمية وتوجهه إلى كل‬
‫الناس‪ ،‬ومن ثم يبدأ بتخصيص النداء حسب نوع الخطاب الذي يسعى القرآن الكريم إلى تبليغه‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫عبد العظيم الزرقاني‪ ،‬مناهل العرفان في علوم القرآن‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،1‬ج‪ ،1‬ص‪.188‬‬
‫فقد بين اهلل تعالى وحدانية ألوهيته بأنه وحده المعبود وهو المنعم على عباده بإخراجهم من العدم‬
‫إلى الوجود وتكريمهم ومدهم بالنعم المختلفة‪ ،‬ومن ثم استحقاقه للعبادة دون غيره لقوله تعالى‪" :‬يا‬
‫أيها الناس اعبدو ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون"‪ .1...‬لقد تجاوز القرآن الكريم‬
‫نداء اإلنسان إلى تشخيص الجامد‪ ،‬فنادى السماء واألرض والنار‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ليجعل منها كاءنات‬
‫تتحرك وتستجيب لنداءه وأوامره رغبة وخضوعا بناءا على القاعدة اإللهية المعروفة "إنما أمره إذا‬
‫أراد أن يقول شيء كن فيكون"‪. 2‬‬
‫يعتبر النداء في القرآن الكريم بمابة المدخل لألفعال الكالمية األخرى التي يأتي بعدها الهدف‬
‫المقصود مباشرةـ‪ ،‬فاشتمل ما بعده على أصول التشريع وسياسة الخلق وقواعد الحكم‪ ،‬وآداب‬
‫المعامالت ونظم العبادات الدعوة إلى التوحيد‪.‬‬
‫ومن هنا نفهم أن النداء طلب واستحضار يراد منه إقبال المدعو إلى الداعي ليتمكن من من توجيه‬
‫ما يريد‪ ،‬ويصحبه في ذلك غالبا األمر‪ ،‬النهي‪ ،‬فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه أنه قال‪" :‬إذا‬
‫سمعت اهلل يقول‪ :‬يا أيها الذين آمنوا‪ .‬فأوعها سمعك فإنه خير يؤمر به أو شر ينهى عنه"‪.3‬‬
‫لقد ترسخت التداولية كدراسة لغوية تتناول فعل القول‪ ،‬فالنص وظيفة يقوم بها المتكلم بانجاز فعل‬
‫كالمي أو سلسلة من األفعال الكالمية كالوعد واألمر‪ 4...‬يبن من خاللها هدفه في ممارسة الحوار‬
‫ما دامت الحقيقة مرتبطة بحركة التواصل والمعنى المستهدف‪.‬‬

‫صفحة ‪2-1‬‬

‫فقد رأت الفتاة من موسى القوة واألمانة‪ ،‬فأشارت على أببيها باستئجاره لرعى الغنم‪ ،‬لقد تكلمت‬
‫الفتاة بخطاب يستلزم أنها معجبة بهذا الرجل‪ ،‬وقد فهم أبوها أنها تقصد شيئا آخر وحدثته من باب‬

‫‪1‬‬
‫سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.21‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة يس‪ ،‬اآلية ‪.82‬‬
‫‪3‬‬
‫أحمد محمد فارس‪ ،‬النداء في اللغة والقرآن‪ ،‬دار الفكر اللناني للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1989 ،1‬ص‪.135‬‬
‫‪4‬‬
‫ينظر‪ ،‬خوسيه ايفانوكس‪ ،‬نظرية اللغة األدبية‪ ،‬ترجمة حامد أبو حمد‪ ،‬مكتبة مصر‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪.88‬‬
‫آخر‪ ،‬فلما منعها الحياء من التصريح لجأت إألى التلميح بالتعريض عوضا عنه‪ ،‬وبما أنه ال يربط‬
‫بين لفظ التعريض وقصد المتكلم أي روابط لغوية‪ ،‬فقد فهم األب قصد ابنته‪ ،‬فعرض على موسى‬
‫تزويجه إحدى ابنتيه‪ ،‬وقد تيسر التعامل الخطابي بين األطراف المتحاورة ذلك أن المتكلم يستعمل‬
‫التعريض في خطابه متى كان واثقا أن المتلقي يفهم قصده‪ ،‬زفي حالة ما إذا لم يفهم قصده فسوف‬
‫يضطر إلى التصريح به لفظا‪ ،‬أو باستعمال عالمات غير لغوية‪ ،‬حتى يتفطن المتلقي إبى قصد‬
‫المتكلم‪.‬‬
‫‪ -4‬خطاب التهكم‪:‬‬
‫يستعمل المتكلم خطاب التهكم باعتبارها احدى اإلستراتيجيات غير المباشرة‪ ،‬وهي تستلزم قصدا‬
‫غير ما يدل عليه الخطاب بمعناه الحرفي‪ ،‬وتعني عند علماء البيان إخراج الكالم على ضد‬
‫مقتضى الحال استهزاءا بالمخاطب‪ ،1‬وقد أشار الزركشي في كتاب البرهان في علوم القرآن إلى‬
‫آليه التهكم كخطاب يحفل به النص القرآني‪ ،‬وعرفه بقوله هو‪" :‬هو اإلستهزاء بالمخاطب مأخوذ‬
‫من "تهكم البئر" إذا تهدمت" ‪ ،2‬ومن ألفاظ التهكم التي يشتهر بها القرآن الكريم‪ ،‬استخدامه لكلمة‬
‫"نزل" في غير موضعها‪ ،‬كقوله تعالى‪":‬وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية‬
‫جحيم"‪.3‬‬
‫فقد تواترت لفظة "نزل" في آيات عدة من القرآن الكريم‪ ،‬وجاءت غالبا مقترنة بمأوى الكفار يوم‬
‫اآلخرة تحمل تهكما وسخرية مريرة ذلك أن‪ :‬النزل لغة‪ :‬هو الذي يقدم للنازل تكرمة له قبل‬
‫حضور الضيافة"‪.4‬‬
‫ففي هذه اآليات موضع تهكمي يتمثل في جعل نار جهنم مأوى ونزال للكافرين وإ ن قصد المتكلم‬
‫واضح بالنسبة للمتلقي رغم كونه غير مباشر‪ ،‬ذلك أن موضع الكفار في نار جهنم يتنافى مع ما‬
‫يقدم للنازل من حسن الضيافة‪ ،‬فجاءت اآليات بطريقة ساخرة مرة استعملت بقصد مضاد لمعناها‬
‫تماما‪.‬‬
‫لقد تجاوزت األفعال الكالمية في القرآن المريم صيغتها المباشرة إلى المعنى غير مباشر وذلك في‬
‫سياق اإلشارة إلى إمكانية مخالفة ظاهر اللفظ لمراد المتكلم‪ ،‬فتتحول األفعال الكالمية بوجود جملة‬

‫‪ 1‬يحيى بن حمزة العلوي‪ ،‬كتاب الطراز‪ ،‬مراجعة وضبط وتدقيق‪ ،‬محمد عبد السالم شاهين‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪1415 ،1‬هـ‪/‬‬
‫‪1995‬م‪ ،‬ص ‪.476‬‬
‫‪ 2‬بدر الدين بن محمد بن عبد هللا الزركشي‪ ،‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬تحقيق أبو الفضل إبراهيم‪ ،‬المكتبة العصرية‪ ،‬صيدا‪ ،‬بيروت‪ ،‬ج‪ ،2‬ط‪،2‬‬
‫‪1391‬هـ‪ ،1972/‬ص ‪.231‬‬
‫‪ 3‬سورة الواقعة‪ ،‬اآليات ‪.94 ،93 ،92‬‬
‫‪ 4‬الزركشي‪ ،‬البرهان في علوم القرآن‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.232‬‬
‫من القرائن المقالية والمقامية يختارها المرسل لتحقيق قصد معين‪ .‬وقد ارتبط الوضع بالقصد في‬
‫أسلوب القرآن الكريم‪ ،‬مما أدى إلى كثرة تلك األفعال التي تخرج من حقيقتها ووتجاوز ظاهرها‬
‫إلى مقاصد أخرى يرمي القرآن الكريم إألى تحقيقها‪.‬‬

‫صفحة ‪9- 8‬‬

You might also like