You are on page 1of 1

‫الهجر الجميل‬

‫أم كلثوم بخاري‬

‫الإنسان كائن إجتماعي بطبعه ‪ ،‬لا ينفك عن عائلة و أصحاب و أحباب ‪ .‬منهم من يتعامل معهم يوميا ومنهم من لا يراه إلا‬
‫كل حين و حين ‪ .‬والناس ليسوا على طبع واحد ‪ ،‬فاهلل سبحانه خلقهم من تراب الأرض ‪ :‬منهم السهل ومنهم الصعب ‪،‬‬
‫منهم قاسي القلب ومنهم لين الطبع ‪ ...‬لا بد وأن كلا منا قابل كثيرا من هؤلاء و هؤلاء خلال دورة حياتنا "القصيرة مهما‬
‫طالت" ‪ ..‬قد نعجز أحيانا عن التعامل مع فئات منهم ‪..‬‬

‫صعب المراس ‪ /‬بيئة العائلة و العمل خصوصا تكتظ بأمثالهم من تلك النوعية الصعبة جدا في التعامل ‪ :‬تراه متجهم‬
‫الوجه ‪ ،‬مقطب الجبين ‪ ،‬سليط اللسان ‪ ،‬كثير التذمر ‪ ..‬قد تشعر نحوه بالأسى والحزن أحيانا لشدة ما ترى من معاناته مع‬
‫نفسه !! كيف تتعامل معه؟ الهجر الجميل هو سيد الحلول لمثل هذه النوعيات من البشر ‪..‬‬
‫السكوت و التجاهل وعدم الرد مطلقا ‪ .‬فلا تدافع عن نفسك ولا تنطق بحرف ولا تمعر وجهك ولا تكدر صفوك ‪ ..‬اتركه يزبد‬
‫و يرعد ‪ ..‬تخيل أن معه شيطانا يحرضه ‪ ،‬و أنت معك ملك يدافع عنك طالما أنك ساكت ‪...‬‬
‫روى أبو هريرة رضي هللا عنه أن رجلا شتم أبا بكر رضي هللا عنه والنبي صلى هللا عليه وسلم جالس‪ ..‬فجعل النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم يعجب ويتبسم‪ ،‬فلما أكثر الرجل رد عليه أبو بكر‪ ،‬فغضب النبي صلى هللا عليه وسلم وقام من مجلسه‪،‬‬
‫فلحقه أبو بكر فقال‪( :‬يا رسول هللا‪ ،‬كان يشتمني وأنت جالس‪ ،‬فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟) فقال له ( إنه‬
‫كان معك ملك يرد عنك‪ ،‬فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان‪ ،‬فلم أكن لأقعد مع الشيطان )‬
‫مما يغفل عنه الكثير منا ‪ :‬تذكر ذنب وقع فيه أحدنا ‪ ،‬فكان هذا الشخص عقوبة على ذلك الذنب ‪ ..‬فاحمد هللا أن عقوبتك‬
‫ُعجلت في الدنيا ‪ ..‬و بالمقابل فإن من يعتدي عليك ‪ ،‬هو في الحقيقة يعتدي ع نفسه‬
‫(ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه) فلا ُتحمل قوله أكثر من مجرد ثرثرة لا تستحق حتى الغضب منها بل الحزن‬
‫على صاحبها ‪ ..‬الخرو ج من الغرفة المشحونة ناجع ‪ ،‬و اللجوء إلى الوضوء و ذكر هللا يذهبان عنك الحنق ‪ ..‬لا تبرر و لا تقدم‬
‫أعذارا ولا تشر ح ظروفك لمن لا يريد أن يسمع لك أو يعذرك‬
‫تذكر قوله ﷺ لمن سأله ( يا رسول هللا لي قرابة أصلهم و يقطعونني ‪ ،‬و أحسن إليهم و يسيؤون إلي‪ ،‬و أحلم عنهم و‬
‫يجهلون علي ) فرد عليه ( إن كنت كما قلت ‪ ،‬فكأنما ُتسفهم المل " الرماد الحار من جهنم" و لا يزال معك عليهم من هللا‬
‫حافظ ما دمت على ذلك )‬

‫و صنف آخر من البشر يصيبك بالحيرة من أمره و الريبة في مودته ‪ ..‬فلا تستشعر محبته رغم ذوبانك فيه ‪ ،‬ولا رغبة لديه‬
‫في لقائك والجلوس معك رغم حاجتك و عدم انشغاله ‪ ..‬هنا لا يصح البتة أن تستجدي عطفه و اهتمامه ‪ ..‬اشغل نفسك‬
‫في النافع والمفيد ‪ .‬لن تصيبه سهام حبك إذا كنت تلاحقه بالعتاب و تطالبه بالصراخ واللوم !!! ما العمل إذا ؟ ببساطة‬
‫دعه في حاله ‪ ..‬اترك له باب قلبك مفتوحا ليخرج مادام يريد الخروج ‪ ..‬اسأل نفسك ماذا تخسر إن أراد الرحيل ؟ جنة‬
‫عرضها السماوات والأرض ؟ رضا ملك الملوك ؟ بالطبع لا ‪ ..‬إنما هو مجرد شخص من عشرات الأشخاص الذين تكتظ بهم‬
‫تفاصيل حياتك ‪ .‬فإن اختار البقاء على عتباب الباب ‪ ،‬فتعامل معه باحترام ومودة وصدق وابتسامة ‪ ،‬فقط لا غير ‪ ..‬لكن لا‬
‫تتعلق به من دون هللا فتعذب نفسك و تعذبه معك !‬

‫الهجر الجميل لا يكون بقطيعة الأرحام و النأي عن الخلان ‪ ..‬الهجر الجميل يكون بالتغافل عن الزلات و الإعراض عن الإساءة‬
‫لا لعجزك وإنما لقوة يقينك بأن الحقوق عنده سبحانه محفوظة والكرام الكاتبون يسجلون ‪ ..‬الهجر الجميل لا يصاحبه سوء‬
‫ظن ولا حقد على الطرف الآخر ‪ ،‬بل ترفع عن الأذى و إكرام للنفس عن الابتذال‬
‫و أخيرا تذكر أن الدعاء هو الملجأ الآمن ‪ ،‬و الاستغاثة برب الأرباب و مسبب الأسباب تفتح لك القلوب المغلقة و الأبواب‬
‫الموصدة ‪ ..‬دمت ومحبيك بود ومحبة و انسجام‬

‫أم كلثوم بخاري‬


‫‪tomah@live.ca‬‬

You might also like