Professional Documents
Culture Documents
التدين والتنوير
1
2
ُّ
التدين والتنوير
3
التدين والتنوير
مجيع حقوق الطبع والنسخ والرتمجة حمفوظة لدى تنويريّات للنشر يف العراق حبسب
قوانني امللكية الفكرية لعام ، 1988وال جيوز نسخ أو طبع أو اجتزاء أو إعادة نشر أي نص
من هذا الكتاب ألغراض جتارية إال بإذن خطي من الناشر أو املؤلِّف.
تنويريّات للنشر
4
اإلهداء
5
6
احملتويات
7
8
ّ
()1
املثقف التنويري يف مواجهة العصر
ال بد بداية أن نتوفّر على فهم مغاير للمثقف التنويري ،وهو ما يتطلَّب
منا تعريفاً للمثقف ،ال سيما أننا شهدنا -على الصعيد الشخصي -والدة
توصيفات للمثقف يف شتى اجملاالت ،ومنذ غابر األزمان .وكان كتابنا
صورة املثقف يف الرتاث العربي ،الصادر ببغداد يف طبعته األوىل سنة
،2011والثانية بالعاصمة اإلماراتية أبوظيب يف سنة ،2017وحتت
عنوان املثقفون يف القرن األول اهلجري ،قد أشار إىل بعضِ هذه
التوصيفات سوى "املثقف التنويري".
لقد ظل هذا التعريف سائغاً عندي حتى سنة 2018عندما عرّفتُ املثقف
ويف كتابي هيّا إىل اإلنسان بأنه" :إنسان"؛ بل هو "الضمري اجلمعي يف
اإلنسان قبل أن يتفيّأ -هذا األخري -ختصّصه العِلمي حقليًا"(.)3
10
وعدتُ إىل استخدام املصطلح ذاته "املثقف التنويري" يف سنة 2018يوم
كنتُ أعدُّ فصول كتابي هيّا إىل التنوير ،وقد ذكرته مرّتني .لكنين أجد
احلاجة اليوم أكثر من ماسّة إىل إعادة بناء مصطلح "املثقف التنويري" من
زاوية حمدّدة يف كتابي هذا التديُّن والتنوير هي زاوية العالقة بني التنوير
والتديُّن أو العكس ،فما هو موقف املثقف التنويري من التديُّن يف وضعية
القرن احلادي والعشرين وقد ودّعنا قرناً كامالً شهد صوراً من العداء
املتصارع ،الدموي أحياناً ،بني الطرفني الذي أوحى بالتصادم واالختالف
بينهما!
إن التنوير ال ينظر إىل املوجود اإلنساني بوصفه جمرّد كائن بشري ال يسمو
بكائنيته البشرية إىل مصاف املوجوديّة اإلنسانية ،وهكذا يسعى التفكري
التنويري إىل االرتقاء بالكائن البشري إىل مصاف املوجود اإلنساني.
11
إن الدين يف جوهره ويف سطوحه ،ال سيما الدين اإلسالمي ،ال يريد
للمخلوق أن يكون جمرّد ذلك الكائن بشري الغارق يف آدميته البشرية
مبطامح غريزية؛ بل يريده أن يكون موجوداً إنسانياً يف ضوء ما حباه
خالقه (اهلل) مبكامن إنسيّة وافرة متيزه عن جمرّد الكائنية اآلدمية أو
البشرية؛ فالعقل ومُمكنات التفكري بالغد أو املستقبل ال توجد لدى
املخلوقات احليوانية سوى بدواع حسية ،أما عند اإلنسان فهي مُمكنات
ظاهرة يف مقدّمة طبيعته الذاتية والعقلية ،وإذا كان اهلل هو خالق ًا تنويرياً
السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور ،)35 :فإنّ اهلل أكرم
باملطلق {اللَّهُ نُورُ َّ
اإلنسان بأن يكون موجوداً تنويرياً؛ بل ذلك املهموم الفائق بالتنوير.
اإلصالح التنويري
وقدر تعلُّق األمر بالدين ،ال سيما الدين اإلسالمي ،ال يتعارض التنوير مع
الدين لطاملا إن كليهما عزَّز مكانة اإلنسان يف الوجود ،فكالهما غايته
اإلنسان احلُر يف العيش املشرتك ،والتعارف بني الناس ،وكذلك التفكري
والنظر إىل الغد ،وكلها مسات إنسية.
12
وإذا كانت للدين وصاية على اإلنسان ،فهي ال تأتي قسراً لطاملا قال اهلل
{لَا ِإكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة)256 :؛ ذلك أن الدين يف جوهره ال وصاية
له إال على اإلنسان احلُر املتحرّر من مُجمل تأويالت الفقهاء أو املتفيقهني
اليت يُطالب -هذا املُجمل -حبصر اإلنسان يف زوايا ال يستطيع فيها أن
يتحرّك حبرية تضمن إميانه احلقيقي باهلل؛ لذا فمن وظائف املثقف
التنويري التصدّي لتأويالت من هذا النوع اليت كثرياً ما أدّت ،وال تزال
تؤدّي ،إىل كوارث غالباً ما تُصيب اإلنسان ،فرداً وجمموعاً ،باألذى ،ال
سيما عندما يتحوّل املتديِّن اىل راع للصوصيّة السياسية ،كما هو احلال يف
العراق بعد سنة 2003؛ حيث حتوَّل رجال دين إىل رعاة ملثل هذه
اللصوصيّة القميئة.
13
يتصدّى لإلصالح عرب االنفتاح على الواقع بوصفه إنساناً منخرطاً يف
مفاصل احلياة والوجود.
ويف شأن اإلصالح ،كنتُ يف كتابي نقد العقل اإلصالحي الذي صدر يف
طبعته األوىل سنة ،2008ويف طبعته الثانية سنة ،2010تطرّقت إىل
تعريفات عدّة للمفاهيم املتعلّقة باإلصالح؛ كاحلقل اإلصالحي ،واملعرفة
اإلصالحية ،والفكر اإلصالحي ،والعقل اإلصالحي ،واهلويّة اإلصالحية،
وكُل ذلك يف ضوء جتارب املثقفني العرب والعراقيني ،ومنهم املثقفون
الدِّينيون.
14
وكنت قد تصديت إىل جتارب مثل هذه يف كتابي نقد العقل اإلصالحي،
،2008وقبله يف كتابي الوهابيون والعراق الذي صدر سنة .2005
التجهيل املقدّس
ويف هذا السياق ،كان الباحث الفرنسي أوليفييه روا ،ويف كتابه اجلهل
املقدّس ،قد أشار إىل أن هذا اجلهل يوجد عندما يتم "إلغاء اللغة لصاحل
15
الكالم" ،وذلك "مثال على اجلهل املقدّس"( ،)4ورغم أن أوليفييه روا مل
يتحدّث عمّ ا جيري يف شأن الدين اإلسالمي ،لكنّنا منيل إىل استثمار هذا
املصطلح ونتحدّث عمّا حنن نسميه التجهيل ( )Blackoutاملقدّس الذي
ميارسه أشخاص آخرون باسم الدين ،ال سيما املتفيقهني منهم ،تأويالً من
عندهم وفق مصاحل هلم أو مصاحل ومآرب غريهم سواء كانت ذاتية أو على
حنو منظماتي أو مؤسساتي شأنها حجب حقيقة املعنى واملقصد الذي
يريده الدين أو الضوابط اإلهليّة للوجود واحلياة ،وهي عملية رافقت
اإلسالم منذ إشراقته األوىل تلك اليت كان املشركون واليهود والنصارى،
ومن ثمَّ املسلمني أنفسهم ممن زاغ عن طريق احلق ،قد شرعوا بها لتستمر
يف عصور الحقة حتى يومنا هذا ،خصوصاً بعض احملسوبني على قائمة
الفقهاء املسلمني الذين شاركوا فيها وبها بقصد تعمية الناس عن حقيقة
املعنى الديين يف نوره األصل أو الدين يف حدِّ ذاته ،وإخفاء سنى الدين
احلقيقي هذا عن الناس حتى راح التجهيل الذي يضفون عليه صفة
القداسة ميارس دوره يف التخريب لكونه يستفز الرعاعية؛ بل الغوغائية
16
لدى النفوس الضالة؛ ويُوقظ الغرائزية والبهيمية لديهم ،ويتغنّى
بالطقوسية العمياء ،الفردية واجلماعاتية.
التصدي اجلذري
ويف هذا السياق ،كم رأينا مثل هذه التطلّعات واملمارسات يف اجملتمع
العراقي بعد نيسان /أبريل 2003؛ فكم حتوّل مُلتحٍ سيماه رجل دين يف
واجهته العامة إىل منتج لثقافة التجهيل املقدّس وتسويقها يف اجملتمع؟ بل
كم رأينا من هذه الواجهات تتلبّس رداء الدين وهي تتاجر باملمنوعات غري
املرغوبة ،والدعارة ،والقمار ،واملتاجرة باألعضاء اللحمية البشرية،
واملتاجرة ببيع األطفال ،وكذلك املتاجرة بطقوس زيارات أضرحة األئمة
واألولياء والصاحلني ،وبطقوس الشعائر الدينية – املذهبية؟ هذه
السلوكيات أصبحت شائعة يف عاملنا اإلسالمي كما جرى يف العراق ،ال
سيما بعد سقوط نظام الدولة البعثية؟ (انظر :عمليات إلقاء القبض على مافيات
الروليت وصاالت القمار وجتارة املخدرات وبيع وشراء النساء بالعاصمة بغداد يوم 5
أغسطس ،2019ومل تنته هذه العصابات بعد اليت كان يقودها شخص مقرّب
17
ومدعوم من إسالميني حيكمون يف السلطة يف العراق) .فمن الضروري للمثقف
التنويري أن يتصدّى ،وعلى حنو جذري ،ملثل هذه الثقافة التجهيلية
العمائية اخلافية لنور الدين احلقيقي ،هذه الثقافة البائسة اليت تنتج الشر
يف اجملتمع ،وترمي اإلنسان إىل هاوية التيه والضياع.
اجتاه معريف قوامه العقالنية النقدية اإلنسانية .واجتاه قيمي قوامه إحياء
قيم التعايش السلمي والتواصل احلضاري والثقايف بني األفراد واجملتمعات
واحلضارات.
18
اجتاه جمتمعي قوامه إحياء ثقافة املسؤولية اجلماعية -اجملتمعية غري
املتعصبة وال املتطرّفة وال التكفريية أو التبديعية بغية تقويض وتفكيك
الوعي التحرميي والتكفريي والتبديعي أو التبدُّعي والتدمريي املتطرّف
الناتج عن أهواء جهويّة ومرضية متعصبة سواء أكانت رعاعية أم دينية أم
مذهبية يف الدين أم عرقية أم مناطقية.
إن مَهمة من هذا النوع هلي مَهمة املثقف التنويري وهو ينظر إىل "الدين".
وهي رؤيه كنتُ نضدّتها منذ سنة 2012يف حماضرة لي كان عنوانها
"الفيلسوف العربي يف القرن .)5("21
19
لقد تطوّر النظر عندي حول الدور التنويري الذي ال بد أن يضطلع به
املثقف التنويري؛ ففي شهر آذار /مارس سنة ،2015كنتُ ألقيتُ
حماضرةً بـ (اجلامعة املستنصرية) يف بغداد حتت عنوان "الفيلسوف
والتنوير" ،وانتهيت إىل رسم معامل أخرى للفيلسوف التنويري أو املثقف
التنويري والدور املُنتظر منه.
20
ومالمستها مع حراك الواقع اجملتمعي اليومي خارج اإلطار املؤسساتي"،
إىل جانب أهمية "النظر إىل ما جيري يف الواقع كاستثناء وحدث وانقطاع
ال جمرّد صريورة غُفل تأتي ومتر وتذهب حبيث تهيء هذه الثالثية
املفهومية لبنية املعرفة الفلسفية طابعها يف أن تكون االستثناء املعريف،
واحلدث املعريف ،واالنقطاع املعريف ،وتهيء جتربتها التارخيانية أيضاً
لوالدة فيلسوف االستثناء املعريف ،وفيلسوف احلدث املعريف ،وفيلسوف
االنقطاع /القطيعة املعريف الفلسفي األصيل".
21
ويف السنة ذاتها ،وحتديداً يف مايو /أيار ،2015كنتُ ألقيتُ حماضرة
يف (بيت احلكمة) العراقي عنوانها "بعيداً عن نزوة الطاووس" ،جدّدت
فيها دعوتي إىل املثقف عرب شخص الفيلسوف التنويري بأن "يوجّه طاقته
املعرفية صوب تفكيك كيان العُنف بكُل تأويالت خطابه املتطرّفة"،
وكذلك بدت لي مَهمة الفيلسوف التنويري هذه "ذات شأن بارز لكونها
املمر احلقيقي املؤدِّي إىل فتح املواجل أمام مُساءلة خطابات هذه النزعة
التهدميية يف أكثر صورها بشاعة وقتالً للحياة ،وحنراً للمستقبل..؛ بل
مُساءلتها اجلذريّة بكشف تناقضاتها ،وتعرية طروحاتها ،وفضح
مسارات تفكريها؛ أليسَ اإلنسان هو املوجود التساؤلي بني مجيع
اخللق"( ،)7وأيضاً ال بد على املثقف التنويري أن يتخلّص جذرياً من فخ
أن يكون مفتوناً بالنزعة الطاووسيّة ،وأن يعمل على "جتديد دوره على
حنو مزدوج ومتزامن؛ جتديد دوره املعريف اخلالق ،وجتديد دوره
الوجودي اليقظ معاً ،ومعاودة ذلك الدور بأصالة خالقة فائقة يف انهماكها
التارخياني عرب تبديد عزلة الفيلسوف التنويري؛ بل استعجال ُمساءلة
ذلك الـ ما جيري ،واملاحيدث يف الواقع وعلى حنو مرتوٍّ"(.)8
22
الدين يف حدِّ ذاته
يف فصول كتابنا هذا -التديُّن والتنوير -تبدو احلاجة ماسّة اليوم إىل
النظر يف زوايا العالقة بني التديُّن والتنوير ،وجتديد القول فيها بغية وضع
النقاط على احلروف وبشجاعة ألننا أصبحنا نواجه التديُّن املزيف -
التديُّن وليس الدين يف حدِّ ذاته -يف يوميات تريد قتل الدين نفسه عرب
تأويالت ومُمارسات ما أنزل اهلل بها من سُلطان؛ وكم طالب اهلل بالنأي
عن هكذا تأويالت لكون الدين أكثر رفعة من أن يصبح سيفاً يُنزّل على
رقاب الناس بأكثر مما هم يتحمّلون أو هُزاالً طقوسياً تسويقياً شعبياً
جتارياً ،وهو ما تقوم به التأويالت التديُّنيّة العملية نافرة الوجود يف أيامنا
هذه ،وعلى خمتلف إشكاهلا؛ فبامسها صار التديُّن الضار سبباً يؤدي -
يف نهاية املطاف -إىل قتل اإلنسان ،وقبل قتله يعيش -هذا اإلنسان -
شتى أنواع التيه والويالت واملآسي والذل واهلوان ،كما هو حال التديُّن يف
لباسه السياسي اللصوصي الذي حكم العراق منذ 2003يف كل صوره
23
املذهبيّة ،وفضحته ثورة الشعب أو "ثورة اإلصالح" منذ األول ،بل منذ
اخلامس والعشرين من شهر أيلول /سبتمرب 2019يف العراق.
إننا ال نرمي كُل هذه املصائب على الدين يف حدِّ ذاته ،وال على ذمّة
الفقيه الديين األصيل الذي يرعى بيضة الدين وفق حرص متناه مبا ال
حد ذاته ،ال سيما الدين اإلسالمي ،وما نراه أن
يضر على حقيقة الدين يف ِّ
مُمارسة الدين -أو التديُّن -أنها املسؤول األول عن كل أشكال الضياع
والتيه اليت نرى ،وهو ما مُين ويُمنى به الناس يف بعض دول لعامل
اإلسالمي.
24
حدِّ ذاته -حتى تلوي عنقه ببالغة الزيغ .لقد بات هكذا تديُّن ،وباتت
هكذا هرطقات شعبية ،موضع سؤال وحمط شبه!
إن املثقف التنويري يستنري بالدين يف حدِّ ذاته عندما حيتفي باإلنسان
بوصفه إنساناً بال خداع وال تقويل زائف؛ ولذلك نظرنا -عرب فصول
كتابنا هذا التديُّن والتنوير -يف حضوريّة النور اإلهلي لكي نقف عند
سنى ذلك النور ،وأيضاً عند معنى فهمنا للتنوير يف القرن األول اهلجري،
وبالتالي نظرنا يف معنى الوصاية اليت يرومها الدين يف حدِّ ذاته لعلّنا نقدّم
رؤية صافية على قدر ما من غلواء التأويل والتفسريات املُضرة بالدين
واإلنسان.
25
ُ ّ ِّ
التنوير والدين ..أية وصاية ممكنة؟
()9
يف نهاية القرن السابع عشر وصوالً إىل نهاية القرن الثامن صار التنوير
يدعو إىل إعادة النظر يف مفهوم الوصاية ( )Guardianshipوفرض سُلطته
تداوالً على اإلنسان ،وهو يعين أن مفهوم الوصاية كانت حفلت به
األدبيات التنويريّة يف تلك املرحلة ،ال سيما ،ويف حدودٍ ما ،عند جون
لوك عرب رسالته يف التسامح ،وإميانويل كانط عرب إجابته عن سؤال :ما
التنوير /األنوار؟ وغريهما من فالسفة التنوير الغربي يف تلك املرحلة.
26
ترانا ننظر يف عاملنا العربي وقد أخذ الدين يستعيد شأنه يف ظاهر املشهد
احلياتي على حنو ما حبيث أصبح يثري االضطراب ،وليس يف ذلك
مشكلة؛ فالدين حقيقة روحية موضوعية يف حياة اإلنسان ال فكاك منها؛
إذ ال ميكن "الشطب الراديكالي للقداسة" الدينية (تزفتان تودوروف :روح
األنوار ،ص ،)143إال أنه يُفهم من وجود الدين ،ال سيما بوصفه
أيديولوجيا متطرّفة يف حياة املرء ،أنه بات يستعيد الوصاية على الناس
بنحو صار جملبة للضر ،وهذا الضُّر ال يسوقه الدين يف حدِّ ذاته ،إمنا يف
ممارسته -التديُّن -من جانب حامله ومسوّقه؛ فال ميثل الدين وصاية
على اإلنسان لكون الدين ذاته ال ميشي يف الشارع كما لو كان رجالً حيمل
عصاه الغليظة ويروم بها إخضاع الناس إليه عرب العصا ،فليس للدين
سوط ًا وال عصا طعن وال سيف.
من ذي قبل ،عرفنا أن الدين اإلسالمي الذي قال" :لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين"
(البقرة ،)256 :مبعنى ال يستطيع أي طرف إكراه الناس على اإلميان
بالدين فهذا األخري يتضمّن حرية اإلميان ومينحها للناس عرب االختيار،
27
ما يعين أن الدين شأنه احلرية يف طبعه .وال أريد بذلك حتقيق رغبة
إحلاديّة أو أدعو إىل اإلحلاد ،ألن الدِّين ال يفرض وصايته ،ويف الوقت
ذاته ،ال يريد من اإلنسان أن يفرض إرادته عليه كوصاية يف وجود الدِّين
من عدمه؛ فالدِّين حر الوجود مبذول االختيار ،وتلك من عناصر قوته
الدائمة.
إن الدِّين يف وجوده العام ،وبوصفه إمياناً ،قال خطابه بتمامه من دون
نقصان ،لكن املنت الدِّيين ال ينبغي فهمه -حبسب الفاهمة التديُّنية -
كمنظومة رياضية صبّت كينونتها يف لغة رقمية ميكن حسابها من دون
أخطاء ،فالدِّين اعتمد وسيطاً لغوياً للتعبري عن مكنونه ،وله بنية عالمات
دالة على وجوده ،ومعلوم أن الوسيط اللغوي محّال أوجه يف دالالته ،وهنا
ينفتح الدِّين للتبيني والشرح والبسط والتفسري والتأويل بغية الوصول إىل
ذلك املكنون ،وال ريب أن اإلنسان هو الذي يُمسك زمام هذه املسالك منذ
انبثاق مشس األديان.
التأويلية النبويّة
28
ويف هذا اإلطار ،جاء اصطفاء األنبياء املُرسَلني من اهلل ليبينوا ويشرحوا
ويؤولوا مكنون الدِّين الذي قد يبدو عصي الوضوح على املؤمنني به أو
املناوئني له ،فصارت تأويلية األنبياء رأمساالً عضوياً جماوراً لرأمسال منت
الكتاب السماوي يف كليّته مع احرتمنا للفرق بينهما.
29
لقد بقيت هذه املرجعيّة فاعلة يف الثقافة اإلسالمية ،ولكن سرعان ما
أخذت تتنامى لدى غري النيب املصطفى ،فهيّأ النيب حممد (ص) للمؤمنني
بدين اإلسالم خنبة من القرّاء واملبينني والشراح واملفسِّرين واملؤوّلني
واملتفقّه ،وصار ظهورهم يتنامى يف القرن األول اهلجري ابتداء من بدء
إشراف النيب حممد (ص) عليهم حتى صاروا ،تالياً عليه ،مرجعيّة
استمرّت فاعليتها حتى يومنا (انظر كتابنا :املثقفون يف القرن األول
اهلجري)؛ مرجعيّة حنن نصفها ،أيضاً ،بأنها عضويّة ،ولكن من نوعٍ
تالٍ؛ ألنها تنهل من مرجعيّة (القرآن) الكريم وسنّة الرسول األمني (ص)،
وكذلك جتتهد مبا ال يتناقض مع كليّة املنت الديين (اهلل +النيب) لقول
أصول وفروع الدين للناس مبا هلم من حرية وأصالة واختالف اجتهادي
معقول يف التفسري والتبيني والتأويل.
يبدو التفقّه يف الدِّين شرعة مُمكنة ،وهو ال ميثل وصاية سوى أنه وصاية
طبيعية ألنها عضويّة تنهل من صميم الدِّين سُلطتها بال تورّط الفقيه بأن
حيمل العصا بوجه الناس ،لكن هذه الوصاية العضويّة التالية ستفقد
شرعيتها عندما تفعل ذلك ،وحتمل العصا بنحو خيالف حرية منطق لَا
30
ِإكْرَاهَ فِي الدِّين( البقرة" ،)256وإنْ فعلْ فهي مُمارسة تكريسية ضارّة
غالباً ما يفعلها رجال الدِّين وهم منخرطون يف مؤسساتهم الدينية واحلزبية
أولئك الذين يسعون ألن يظهروا بوصفهم سُلطة على رقاب الناس ،وكذلك
رجال احلُكم يف الدولة اإلسالمية عندما يُظهرون وصايتهم على الناس
بوصفهم سُلطة فوق -طبيعية ( .)Sur-naturalإن عمل هؤالء يبدو نفوذ
وصاية إكراهية على الغري أو النظري يف اخللق ،وهي سُلطة الوصاية غري
املرغوب فيها حتمًا.
الدين هو انفتاح على الغري؛ انفتاح املُطلق املفارق على املُحايث ،ورسالة
اهلل تصل إىل الناس عرب نيب مُرسَل معلوم االصطفاء ،ويسمح الدِّين
باإلميان بها وفهمها وتعقلّها على حنو مباشر لكونها مبذولة القراءة لكُل
الناس بفعل اإلشهار املقدّس الذي ارتضاه الدِّين لنفسه ،وإن َغمُض أو
أشكل على الناس أي جانب من رسالة الدِّين فاألسوة بالنيب أوالً وفقهاء
الدِّين ثانياً أولئك الذين يتخذون من التفقّه يف خطاب ورسالة الدِّين صنعة
31
أو مهنة ( )Occupationهلم ،لكنّهم وعندما جيعلون معرفتهم سُلطة
وصاية مُطلقة مقوَّمة بالعصا والسيف والبندقية فإمنا هم خيالفون دورهم
الذي هلم عند اهلل.
إن الدِّين ال يبدو سوى ماهيّة تنويرية من حيث اهتمامه باإلنسان ،ال
سيما الفهم والعقل لدى اإلنسان ،ومبا أن الدِّين يضع اإلنسان على مسطرة
مستقبله ،فهو ميتلك رسم الغد لإلنسان ،سواء الغد الدنيوي أو األخروي،
من دون أن يكون هذا الرسم وصاية سوى ما يتعلّق بصميم الدين اخلاص
مبصري اإلنسان بعد املوت.
ال ميثل الدِّين أيّة وصاية لطاملا تنطلق هذه الوصاية من عضويته األصلية
اليت له مع الغري ،لكنه سيكون وصاية عندما خترج العالقة العضويّة مع
الدِّين إىل ساحة أن يكون الدِّين سلطة مُباحة تتحكُّم بالغري على حنو
مُطلق ،سُلطة ميارسها أتباع الدِّين الذين يصطنعون عالقتهم العضويّة به
تصنُعاً ،وجيعلون صنعتهم هذه سُلطة إلخضاع الغري قسراً تبغي منه
الذيليّة إىل وصايتهم؛ فالعالقة مع الدِّين إمنا هي عالقة مباشرة مع كالم
32
اهلل لفهمه من جانب اإلنسان الذي يؤمن به ،وإن حدث عدم فهم الدين،
وعلى حنو مباشر ،فيمكن أن تكون العالقة ممتدّة إىل النيب املُرسَل وأتباعه
املتقني الصادقني ،قوالً وعمالً ،لالستعانة مبنظومته التأويلية العضويّة ملنت
الدِّين.
وملا كان للنيب (ص) عرتة تقيّة صادقة يثق بها هو نفسه ،فهذه العرتة
ميكن االستعانة بها لفهم الدِّين من دون وصاية قسريّة مطلقة ألن مرجعيّة
الدِّين األصل واملرجعيّة النبوية تبقى غيثاً مفضال اإلمكان للتعامل معه وبه
لسقي الروح املقفرة ،أما إذا مت التعامل مع مرجعيّة فقهائية تالية تقدِّم
نفسها برسم الوصاية ،فذلك هو الذي ال ينبغي اعتماده ،خصوصاً عندما
تتلبّس -هكذا مرجعيّة -رداء الكيان احلزبي أو اإليديولوجي أو أي إطار
مؤسساتي آخر غريهما كما هي الفقهائية املنغلقة وغريها من فقهائيّات
الظالم اليت غزت العامل منذ مطالع القرن العشرين؛ بل قبله ،ومن هم
على غرارها تالياً كحركة اإلخوان املسلمني ،وحزب التحرير اإلسالمي،
وأحزاب احلكم العراقي بعد ،2003وبقية األحزاب األخرى اليت يضمّها
املشهد اإلسالمي يف غري مكان بالعالَم املعاصر راهناً ،وكل ذلك ال ميثل
33
مرجعيّة دينية تقية صادقة سوى أنها مرجعيّة وصاية على اآلخرين
ُتصرِّف الدِّين إىل الوجود كهويّة وصاياتيّة تبتغي من اآلخرين اتباعها على
حنو أعمى حتى إن هذه الطاعة العمياء وصلت إىل مستوى حنر املسلمني
على مسارب الطرقات كما رأينا ذلك مع جتارب تشكيالت (تنظيم
القاعدة) ومن ثم (تنظيم داعش) ومشتقاتهما تباعاً وكالهما أفرغ الدِّين من
مضمون احلرية الذي يضمّه حبيث قوّلته وشغّلته هذه اجلماعات مبا ال
يريد قوله وال تشغيله ،فبدالً من النور حلَّ الظالم على اجملتمع ،لكون
عالقة هذه املكوّنات مع الدِّين ليست عضويّة حقّة؛ بل هي قراءة تأويلية
غري مُنضبطة غارقة يف غلوّها وتطرّفها وهيمنة ذاتها الغريزية اليت تقوّل
الدّين مبا ال يريد قوله ،وتلك واحدة من آليّات الوصاية سيئة الصيت.
إن التنوير ال ميكن له ميضي يف دروبه حتت راية وصاية الدِّين على
اإلنسان باملعنى املتطرِّف الذي ذكرناه؛ فالدّين جتربة ذاتية -شخصية
مع اهلل .ولكن هل الدِّين ،يف حدِّ ذاته ،وصاية قسريّة على اإلنسان؟ ال
أعتقد بذلك؛ فاملُتدين ميكن أن يفهم الدِّين ويؤوّله كوصاية عليه بوصفه
فرداً ال ينبغي أن يريده مجْعاً معمماً سائداً على الناس ،ويعمل على بسيط
34
وإشهار ذلك بني الناس ،فيقدّم نفسه وقراءته للدِّين بوصفهما وصاية على
اإلنسان عرب إنشاء صومعات تفرض كيانها اجلماعاتوي بوصاية على
اآلخرين ،وتلك معضلة تعذِّب اإلنسانية كُلها لكونها تنخر قيمة احلرية
اليت للدِّين وتؤوّهلا تدمريياً على حنو سُلطوي غري مرغوب فيه لتعطل
طاقة الدِّين احلقة يف احلياة.
إن التنوير ليس وثنياً وال يبغي الوثنية ،وال يصطفي إهلاً غري اهلل ،وال
ينظر للعقل بوصفه أحد اآلهلة املقدّسة ليربمه بديالً عن اهلل ويدعو الناس
إليه ،فال إله غري اهلل.
التنوير يدعوا إىل العمل بالعقل ضمن مُمكناته اليت وهبها اهلل نفسه
لإلنسان ودعاه إىل إعماهلا فهماً يف مُعاش احلياة للتحرّر من األوهام
واخلرافات واألساطري وسلطة اخليال اجلاحمة اليت تنتج اخلداع واخلوف
واليأس من مكانة اإلنسان املأمولة خريًا يف الوجود.
35
ال يهدّد التنوير أحد من الناس سواء كان فرداً أم مجاعة عندما يطلق
العنان لقرار اإلنسان الذي الذي يتخذه لكي يتحرَّر من اخلرافة واألساطري
والشِّرك باهلل ،التنوير ليس ضد الدِّين وال يُهدّده ،وإن جرى فذلكَ وهم ال
بد من برمه وتفكيكه بغية تقويضه لعزله ونسف أباطيله.
كما أن التنوير ال يعكّر صفو اإلميان باهلل ،وال احرتام مقدّسات اهلل وعالقة
اإلنسان الشخصية بها .إن التنوير يقدّم نفسه كنمط تفكري وفهم وتعقُّل
يوازي الفكرة اإلميانيّة باهلل لطاملا أن اإلنسان هو قامسهما املشرتك .لذلك
ال يؤمن التنوير بكُل ما هو وهم وخيال أسطوري وخرايف الذي ال يرضى به
حتى اإلميان باهلل نفسه؛ بل يناقضه ،ويقف على الضد منه ،وبذلك ال
يقدّم التنوير نفسه كوصاية مُطلقة؛ فالتنوير ليس وصياً على أحد ،ال
بالعصا ،وال بالسيف ،وال بالتابعية والذيليّة العمياء.
التنوير يقني مفكَّر فيه يؤدِّيه اإلنسان لكونه صانعه بغية التحرّر من ربقة
خيبة السكون لصاحل نبض التقدّم ،ومن الظالم لصاحل نور احلرية ،ومن
36
اخلرافة واألسطورة لصاحل التفكري العلمي املُمكن تداوله يف مُعاش الوجود
على حنو عملي مُحايث من دون اإلخالل مبكانة حضوريّة اهلل يف الوجود.
التنوير ال حيبس اهلل يف سجن ما لكي يعزله ،وال يضعه يف ضريح ليحنطه
ويعبده كما لو كان ضرحياً ،اهلل ليس سجيناً عند أحد من الناس ،ومن ثمَّ
إن التنوير ال يسعى إىل زحزحة الدِّين عن طريقه ومكانه؛ فكالهما حيتفي
باإلنسان ويروم له اخلري واخلالص من اخلوف واخلرافة والالمعقول.
وإذ ترانا نفهم التنوير بوصفه حكمة فلسفية ،فما أمجل مقولة الفيلسوف
ابن رشد عندما قال يف كتابه فصل املقال فيما بني احلكمة والشريعة من
االتصال :إن احلكمة هي" :صاحبة الشريعة واألخت الرضيعة ..وهما
املصطحبتان بالطبع املتحابّان باجلوهر".
37
ّ
التنوير وحضورية النور اإلهلي
ُ ّ
من املفارق إىل نقد اجرتار تأويليات املحايث
ال يزال تأثري مصطلح "التنوير" مثار جدل وتسـاؤل عـن معنـاه ودالالتـه يف
مسمع مـنْ يتلقّـاه؛ بـل وسـياق ظهـوره يف التـاريخ ،وجُملـة مـا أثـار مـن
نقاشات أدَّت إىل بزوغ نظريات ورؤى ومواقف يف شأنه حتى صارت جـزءًا
من تأريخ الفكر عامّة والفكر التنويري على حنو خاص يف العالَم وال تـزال.
وهذا ما يدعونا دائماً إىل إمعان النظر والتأمُّل والتحليل اخلاصـة يف مفهـوم
هذا املصطلح ،وحماولة االشـتغال املعـريف عليـه لـيس بعيـدًا عـن اإلنسـان
واجملتمع وغدهما أو مستقبلهما معـاً مـن أجـل حتصـيل جـدوى مُعطياتـه
للمشاركة يف حلِّ املشكالت اليت تواجه اجملتمعات والناس يف العالَم ومنها
جمتمعاتنا العربية واإلسالمية.
38
جاءت األديان إىل الناس وهـي حتمـل خطابهـا التنـويري ،فالـدين تنـوير
جــد األديـان مبـا أنـز َل مـن كتــب
حبسـب منظـوره اخلـاص بـه ،واهلل مو ِ
مساوية؛ (التوراة ،اإلجنيل ،القرآن) ،هذه الكتب السماوية املقدّسـة الـيت
أوحاها اهلل إىل األنبياء ممّن اصطفاهم ،وطلب منهم بأن ميشـوا بهـا تنـويرًا
بني الناس هو تكليف مسـاوي ،واهلل يكلِّـف أي شـخص مـن النـاس بـأن
يكون تنويرياً على غرار الـنيب املختـار ،فـالتنوير الـديين مشـرتك كمَهمـة
لدى النـاس مجيعـاً ،ولكـن دور األنبيـاء ،مـن بـني هـؤالء النـاس ،أكثـر
مسؤولية حبُكم ما موكول إليهم من جهة اهلل.
وما هو مؤكّـد أن "التنـوير الـديين" خيتلـف عـن التنـوير أيـاً كـان شـكله
ومشــربه كــالتنوير مبعنــاه االصــطناعي الــذي ظهــر يف العصــور الغربيــة
احلديثة ،فإذا كان هذا التنوير األخري يعمل مبفهوم التحرّر ،فـإن التحـرّر
التنويري الديين إمنا هـو التحـرّر مـن الشـرك بـاهلل ،وكـذلك التحـرّر مـن
الغرائزية البشرية الضارة لدى املرء.
39
وإذا كان التنوير يدعو إىل االنفتاح على اإلنسان ،فإن التنوير الديين يفعـل
األمر نفسه عندما حيتفي باإلنسان ،ويطلب منه أن ميشـي بـالنور اإلهلـي
بني الناس ليحمله شعلة وضّاءة يف الوجـود؛ ألن "هـدف الـدين هـو خـري
اإلنسان" ،كما قال الفيلسوف فويرباخ يف كتابه جوهر املسيحية (ترمجة:
جورج برشني ،ص .)225وهنا اختالف يف بؤرة االنطـالق ،وهـذه البـؤرة
اليت هي "اإلميان"؛ ألنّ خطاب التنوير اإلهلي يعتمد النسْـقية اإلميانيّـة،
وملعرفة ذلك خري لنا الذهاب إىل الكالم اإلهلي نفسه مباشـرة ،كمـا هـو يف
(القرآن) الكريم ،لنقف عند حدود التنوير حبسب نواته اإلميانيّة اإلهليّة.
النور والتنُّور
إن لفــظ "التنــوير" ،وحبســب رســم واشــتقاق هــذا امللفــوظ ،مل يظهــر يف
(القرآن) ،بدالً من ذلك ظهرت اشتقاقات أملتها سياقات الكالم اإلهلـي يف
(القــرآن) نفســه مثــل" :بنــورهم"" ،النــور"" ،نــوراً"" ،نــور""" ،نــوره"،
"التنّــور"" ،نــورهم"" ،نــوركم"" ،نورنــا" حتــى تصــل إىل حــواىل 47مــن
االستخدامات ،وهذه وفرة يف الكتاب اإلهلي ممتازة املعطى.
40
يف ســورة النــور نقــرأ﴿ :اهلل نــور الســموات واألرض﴾ (النــور ،)35 :وهــذا
يعين أن اهلل هو النور الـذي يعـم كـل العـوالِم؛ ألنّ اهلل هـو الـذي ﴿خَلَـ َق
جعَـلَ الظُّ ُلمَـاتِ وَالنُّـورَ﴾ (األنعـام .)1 :وهـذه املُكنـة
السمَاوَاتِ وَالْـأَرْضَ وَ َ
َّ
اإلهلية املُطلقة هي له حتى إنـه قـال يف كتابـه﴿ :اللَّـهُ وَلِـيُّ الَّـذِينَ َآمَنُـوا
ت
ت إِلَــى النُّــو ِر وَالَّــذِينَ كَفَ ـرُوا أَوْلِيَــاؤُهُ ُم الطَّــاغُو ُ
جهُمْ مِــ َن الظُّ ُلمَــا ِ
يُخْ ـرِ ُ
يُخْرِجُوَنهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّ ُلمَاتِ أُولَئِكَ َأصْحَابُ النَّارِ ُهمْ فِيهَـا خَالِـدُونَ﴾
(البقرة)35 :؛ بل ويضيف يف سورة األنعـام﴿ :أَ َومَـنْ كَـانَ مَيْتًـا َفأَحْيَيْنَـا ُه
جعَلْنَا لَهُ نُورًا َيمْشِي بِهِ فِي النَّـاسِ﴾ (األنعـام .)122 :ومـن ثـم يف سـورة
وَ َ
األعراف﴿ :فَالَّذِينَ َآمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وََنصَرُوهُ وَاتََّبعُوا النُّورَ الَّـذِي أُنْـزِلَ َمعَـ ُه
أُولَئِكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ﴾ (األعراف.)157 :
وواضح أن مَنْ سارَ وفق النور اإلهلي أفلحَ وسيفلحَ يف نصـيبه ،كمـا أن اهلل
ُمدافع بإرادتـه عـن نـوره ليتمـه يف الوجـود مهمـا نبـأت أصـوات الـرفض
والتمرّد؛ ففي سورة التوبة نقـرأ﴿ :يُرِيـدُو َن أَ ْن يُطْفِئُـوا نُـورَ اللَّـ ِه بِـ َأفْوَا ِههِ ْم
وَ َيأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُو َرهُ وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ﴾ (التوبـة ،)32 :كمـا أن مـن
ج َعلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا َفمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور ،)40 :فاملخلوق ال يتحصّـل
﴿لَمْ يَ ْ
41
النور اإلهلي إال من اهلل ،وبذلك فإن النور اإلهلـي هـو مُكنـة مطلقـة هلل يف
اخللق؛ إذ إنه سبحانه هو الذي يبث نوره يف عـوالِم األرض والسـماء وهـو
ني
الش ْمسَ ضِيَاءً وَالْ َقمَرَ نُورًا َوقَـدَّ َرهُ مَنَـازِلَ لَِتعْ َلمُـوا عَـدَدَ السِّـنِ َ
ج َعلَ َّ
﴿الَّذِي َ
وَالْحِسَابَ﴾ (يونس.)5 :
ويف سورة هود ،يأتي الكالم اإلهلي إىل ملفوظ التَّنُّورُ﴿ :حَتَّى إِذَا جَا َء َأمْرُنَـا
ح ِملْ فِيهَا مِنْ ُكلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْ ِن وَأَهْلَ َك إِلَّا مَ ْن سَـبَ َق عَلَيْـ ِه
َوفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا ا ْ
الْقَوْلُ َومَنْ َآمَنَ َومَا َآمَنَ َمعَهُ إِلَّا قَلِيل"﴾ (هود .)49 :ويبدو لفظ "التَّنُّورُ" أنه
حييل إىل معنى فعل الطلوع ملا هو مـادي ملمـوس كطلـوع املـاء مـن عيـون
الثرى رغم أن التَّنُّورُ هو امللفـوظ الوحيـد يف الكـالم اإلهلـي القرآنـي الـذي
اشتقه اهلل برسم موسّع لكنه يطال حركة حسيّة منظورة .ويف سـورة النـور،
ض
يشبِّه اهلل نوره باملشكاة اليت تضم مصباحاً﴿ :اللَّهُ نُـورُ السَّـمَاوَاتِ وَالْـأَرْ ِ
ب
مََثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْشكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاح" ا ْل ِمصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ َكأََّنهَا كَ ْوكَ "
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَ ْرقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ َيكَادُ زَيُْتهَا ُيضِـي ُء
وَلَوْ لَمْ َتمْسَسْهُ نَار" نُور" عَلَى نُورٍ َيهْدِي اللَّهُ لِنُـو ِرهِ مَـنْ يَشَـاءُ وَ َيضْـرِبُ اللَّـ ُه
ا ْل َأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّ ُه ِبكُلِّ َشيْءٍ عَلِيم"﴾ (النور.)35 :
42
النور يف املُحايث
وهذا حسم بائن عندما أنزل اهلل نوره ليجعله ميشي بـني النـاس ،ال سـيما
ممن ألفَ له هذا النور ،وميكن أن يالحظه هؤالء الناس حبسب إدراكهـم
احلسي حتى زادهم اهلل أمراً ليخاطب النـاس يف سـورة النسـاء﴿ :يَـا أَُّيهَـا
النَّاسُ قَدْ جَا َءكُمْ بُرْهَان" مِنْ رَِّبكُمْ وَأَْنزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء.)174 :
وما أنزلهُ اهلل هو كالمه اإلهلي (القرآن) الذي يصفه بالنور املُبني ،ما يعين
أن اهلل ،وبوصــفه نــوراً وهــو املفــارق ( )Transcendentاملطلــق جملــرّد
احلواس ،يُظهِر نوره جبهة عينيـة دالـة علـى خطابـه؛ جهـة قـد تكـون
حمسوســة ومقــروءة ومُدركــة﴿ :قَـ ْد جَــا َءكُمْ مِـنَ اللَّـ ِه نُــو "ر َوكِتَــاب" مُ ـبِني"﴾
(املائــدة ،)15 :وهــي طريقــة اهلل اخلــالق يف كالمــه املنـزّل بشــأن التــوراة
واإلجنيل من ذي قبـل؛ إذ قـال﴿ :إِنَّـا أَْنزَلْنَـا التَّـوْرَاةَ فِيهَـا هُـدًى وَنُـور"﴾
(املائدة ،)44 :وقارئ أسفار التوراة جيد ذلك واضحاً ،وبالتـالي ﴿ َوآَتَيْنَـا ُه
الْإِنْجِيـلَ فِيـهِ هُـدًى وَنُـور"﴾ (املائـدة ،)46 :وقـارئ األناجيـل جيـد ذلـك
واضحاً.
43
أما (القرآن) فخاطب النيب حممـد (ص) حيـث الـروح والكتـاب واإلميـان
ب أَْنزَلْنَـا ُه
الذي جعلها اهلل كلها نوراً للهداية حنو الطريق املسـتقيم﴿ :كِتَـا "
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّ ُلمَاتِ إِلَى النُّورِ بِـإِذْنِ رَِّبهِـمْ ِإلَـى صِـرَاطِ ا ْل َعزِيـ ِز
ت
حمِيدِ﴾ (إبراهيم ،)1 :ومن ثم﴿ :أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِـنْ َأمْرِنَـا مَـا كُنْـ َ
الْ َ
ج َع ْلنَـا ُه نُـورًا َنهْـدِي بِـ ِه مَـ ْن َنشَـا ُء مِـ ْن
ب َولَا ا ْل ِإميَا ُن َو َل ِك ْن َ
َت ْدرِي مَا ا ْل ِكتَا ُ
عِبَادِنَا وَإِنَّ َك لََتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (فصلت.)53 :
وهذا يعين أن كتاب اهلل واإلميان باهلل هما النور ،والكالم جزء من مسـطرة
إهليّــة متكاملــة قوامهــا كتــاب اهلل القــرآن ،وســنّة نبيــه ،فيقــول اهلل:
ني وَالشُّـ َهدَا ِء
ِـالنب ِِّي َ
ب َوجِـي َء ب َّ
ض ِبنُـو ِر رَِّبهَـا َو ُوضِـ َع ا ْل ِكتَـا ُ
ت الْـ َأ ْر ُ
﴿ َو َأ ْش َر َق ِ
ضيَ بَيَْنهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْ َلمُونَ﴾ (الزمر .)69 :وقال أيضاً﴿ :هُوَ الَّـذِي
َو ُق ِ
ت إِلَـى النُّـو ِر وَإِنَّ اللَّـ َه
جكُمْ مِـ َن الظُّ ُلمَـا ِ
يُنَزِّلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آَيَاتٍ ب َِّينَاتٍ لِيُخْرِ َ
جعَـ ْل
ِبكُمْ لَرَءُوف" رَحِيم"﴾ (احلديد ،)9 :ومن ثمَّ خياطب الناس قائالً﴿ :وَيَ ْ
َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِـهِ وَ َيغْفِـرْ َلكُـمْ وَاللَّـهُ غَفُـور" رَحِـيم"﴾ (احلديـد .)28 :مـا
يعين ،ويف السورة نفسها ،أن النور سيتحوّل إىل مُكـرَّس فيـه مقتـدِر لـدى
الناس﴿ :يَوْمَ تَرَى ا ْلمُ ْؤمِنِنيَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ يَ ْسعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ِبأَيْمَـا ِنهِ ْم
44
بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّات" تَجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ا ْلأَْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُـوَ الْفَـ ْو ُز
ا ْلعَظِيمُ﴾ (احلديد .)12 :ويطالـب النـاس﴿ :فَـ َآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُـولِهِ وَالنُّـو ِر
الَّذِي أَْنزَلْنَا وَاللَّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِري"﴾ (التغابن ،)8 :حتى ليطلب مـنهم أن
ُل َشيْءٍ قَدِير"﴾ (التحـريم:
يقولوا﴿ :رَبَّنَا أَْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّ َك عَلَى ك ِّ
.)8ويتساءل سبحانه موضِّحاًَ ﴿ :أ َفمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْ َرهُ لِلْإِسْـلَامِ َفهُـوَ عَلَـى
ني﴾
نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَ ْيل" ِل ْلقَا ِس َي ِة ُقلُوُب ُه ْم مِـ ْن ِذكْـ ِر اللَّـ ِه أُو َلئِـ َك فِـي ضَـلَا ٍل مُـ ِب ٍ
(الزمر.)22 :
تبدو كل هذه االستخدامات الربانية أنها ممكنة بتقـديم صـورة وافيـة عـن
داللة النور يف (القرآن)؛ فمنبع النور هو اهلل؛ بل اهلل هو نور مُطلق وشـامل
ومفارق ،لكنه مُحايث للطبيعة واإلنسان والعالَم من زاويـة معينـة ،فـالنور
يتحوّل إىل كينونة فعل تنوير يهبه اهلل لإلنسـان بغيـة أن يكرِّسـه ليوجِـده
نوراً يف األرض ابتداء من ذاته صوب ذوات اآلخرين ،واملََهمّة املرجتـاة مـن
اإلنسان أن يعمم النور اإلهلـي يف الوجـود برمتـه ،وبـذلك يصـبح اإلنسـان
تنويرياً ،وهي تنويرية دينية يُراد هلا أن تكون تارخيانية جتري على حنو
مُالزم ومُحايث يف التاريخ لتزف وتُحدِث نور اهلل يف األرض والناس عنـدما
45
ترنو إىل النور اإلهلي لتمشي به يف احلدوث ( )Geschhehenاليومي بكل
ُمجرياته .وبالتنوير اإلهلي يتحرّر اإلنسان من ظالم الكفر أو الشرك بـاهلل،
كما أن النور املكرَّس هنـا يتوجّـه بالضـد مـن نسـيان اهلل ليمضـي األنسـان
تنويرياً عندما يصبح جاري احلدوث يف العامل املُحايث.
ب
وهكذا مُهمة كلّف اهلل بها األنبياء الذين اصطفاهم من بني خلقـه؛ ﴿كِتَـا "
أَْنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّ ُلمَاتِ إِلَى النُّـورِ بِـإِذْ ِن رَِّبهِـ ْم إِلَـى صِـرَا ِط
حمِيدِ﴾ (إبراهيم .)1 :وهذا يعين أن النيب مكلّـف مبَهمـة التنـوير
ا ْل َعزِيزِ الْ َ
اإلهلي القاضي بإخراج الناس من ظُلمات الشـرك والعمـاء إىل نـور اإلميـان
46
ت
باهلل ،وأيضاً قوله سبحانهَ ﴿ :وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا مَا كُنْـ َ
جعَلْنَـاهُ نُـورًا َنهْـدِي بِـهِ مَـنْ نَشَـاءُ مِـ ْن
تَدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَلَا الْ ِإميَانُ وَ َلكِنْ َ
عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لََتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (فصـلت .)53 :فالـدور التنـويري
للنيب إذن هو هدي الناس إىل صراط النور اإلهلي ،ما يعين أن األنبياء هـم
أصحاب تنوير ،بعـد اهلل ،وقـد جعلـهم خلفـاء لـه يف األرض ،واهلل يلقـي
املسؤوليّة علـى املـؤمنني بـه أن يكونـوا تنـويريني؛ فسـبحانه جعـل نـوره
لإلنسان ﴿نُورًا َيمْشِي بِهِ فِـي النَّـاسِ﴾ (األنعـام)122 :؛ فـالنور أنزلـه اهلل
بوصفه ﴿نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء)174 :؛ إذ قـال﴿ :قَـ ْد جَـا َءكُمْ مِـنَ اللَّـهِ نُـو "ر
َوكِتَاب" مُبِني"﴾ (املائدة ،)15 :ما يعين أن اهلل وفّر للناس الطريق ألن يكون
ي من نوره اإلهلي.
أحدهم تنويرياً بهد ٍ
خنلص ههنا إىل أن التنوير الـديين مصـدره بـإطالق هـو اهلل الـذي بثَـه يف
الوجود ،ويكلّف اإلنسان بأن يكون تنويريـاً سـواء "اإلنسـان – الـنيب" أو
"اإلنسان غري النيب" املـؤمن بـالنور اإلهلـي الـذي جيسِّـده اهلل عـرب فعـل
اخللــق الشــامل كمــا يبيّنــه اهلل عــرب كالمــه اإلهلــي ،ســواء يف التــوراة أو
47
اإلجنيل أو (القرآن) ،وكـل تنـوير ديـين ال خيـرج عـن هـذا املعنـى؛ ألن
األديان اليت تواتر ظهورها تنطلق منه.
إن اإلميان باهلل يتحوّل إىل سلوك مُعتقَد ب ِه بغية العمل ،ولعلنـا ويف الكـالم
اإلهلي ،وعندما نقرأ اآلية اليت تقول﴿ :تَرَى ا ْلمُـ ْؤمِنِنيَ وَا ْلمُ ْؤمِنَـاتِ يَسْـعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ِبأَ ْيمَا ِنهِمْ﴾ (احلديـد ،)12 :نصـبح بـإزاء دليـل للعمـل
التنويري شفاف املنبع طالبَ اهلل به األنبياء واملـؤمنني بدينـه مـن النـاس،
على حدٍّ سواء ،بأن ميارسوه كفعـل لـه ال بـد أن يكـون دوره التارخيـاني
واألنطولوجي تلقائياً وعلى حنو مطـابق يف شـفافيته ،لكـن التنـوير الـديين
وبهذا املعنى قد يأخذ منحـى آخـر عنـدما خيـرج إميـان الشـخص بـالنور
اإلهلي من جمرّد موافقة شفافة لإلميان إىل ما هو أبعد منه باعتماد صـنائع
تديُّنيّــة تاليــة كفنــون التحليــل ،والتفســري ،والتأويــل ،وإنشــاء األديــرة،
والكنائس ،واملساجد ،واجلوامع ،وتكوين احلـوزات الدينيـة ،إىل جانـب
الفقهاء أو ما يسمى "رجال الـدين" ملـدِّ اإلميـان بـالنور اإلهلـي أو التنـوير
48
اإلهلي إىل نسْق مجاعاتي -عملي أبعد من مفهـوم "الـدين – اجلماعـة"؛
حبيث يأخذ النور الذي يسـعى فيـه بـني أيـدي النـاس إىل قصـديّة تفـوق
قصــديّة اإلميــان بــالنور اإلهلــي املُعتقــد ب ـهِ ،وتقدميــه كتنــوير مجاعــاتي
خمصوص يتخـذ ،علـى سـبيل املثـال ،مـن اإليـديولوجيا ،مـثالً ،هيكلـة
خ طابية ملزاولة النـور /التنـوير اإلهلـي خـارج شـفافيته األصـل الـيت لـه!
مبعنى سحب تلقائية النور اإلهلي من كونه جتربة شخصـية يُـراد هلـا أن
تكون شفافة حبيث ميكن أن جيرّبها أي شخص يؤمن بالتنوير اإلهلـي إىل
جتربة مجاعاتيّة تغلب عليها الذات عندما تتخذ شـكل أنسـقة خطابيـة
تضع النور اإلهلـي يف سـوق األيـديولوجيا واملراحبـة الدالـة علـى أغـراض
أخرى حترِّف اإلميان بالنور اإلهلي عن مساره الشفاف حنو غـريه؛ فبـد ًال
من أن تُخرج "النَّاسَ مِ َن الظُّ ُلمَاتِ إِلَى النُّورِ" ،تراهـا تُدخلـهم إىل حُجُـب
مُظلمة ،وتصف ذلك ،زوراً بالطبع ،بأنه تنـوير ديـين ،وبـدالً مـن جعـل
النور اإلهلي شفاف ًا كما نقـاؤه األول تقدّمـه هـي علـى حنـو ضـبابي مـتخم
باملخاطر يف غالب األحيان ،نراهـا جتـرّه إىل متاهـات ينخـرط فيهـا النـور
اإلهلي واملتنوِّر اإلهلي صـوب تيـه وضـياع وعتمـة وهـالك!! هـذا التنـوير
49
الديين هو الشكل املزيّف الذي ميوضع املوجود اإلنسي يف أتون ال شـفافية
فيها لإلميان بالنور اإلهلي األصل كما هو نبته ودالالته.
إن ماهيّة التنوير اإلهلي ليست فكرة مُجـرّدة؛ بـل هـي ماهيّـة للحـدوث،
ماهيّة أن حتدث .إن الدين إميانيّة يُعكِّر صفو نواتها كُل تفكـري ال يسـتمد
نسْقه من الطبيعة اإلميانيّة اخلاصّة بالنور اإلهلي ذاته ،وال مـن رتـوش أو
حُجب تأويلية .لـذلك ال يعتمـد التنـوير الـديين إال علـى نسْـق اإلميانيّـة
بوصفه االقتدار املطلق هلل الذي يريد حضوريّة النور من دون غمامة التأويل
التحزّبي أو اإليديولوجي أو إسـالم اجلماعاتويّـة التدمرييـة العدميّـة ،فـال
تنوير ديين من دون حضوريّة النور اإلهلي يف صفائه الشفّاف الوايف كما هو
يف نواة نفسه مُنزّالً يف املعيش التارخيي كفعل وحدث وحدوث يتوافـق مـع
ذلك الصفاء ،صفاء النور املقدّس ،الذي يُراد منه أن يكون نورًا بال اجرتار
أليّــة أســوار تفســريية ينشــئها اإلنســان تأويليـ ًا وهــو الُمــالزم أو املُحايــث
)Immanentحول هذا النور فتحجبه ،هذه األسـوار، (interpretation
51
إن النور اإلهلي يبدو مقروناً باحلكمة ،ولذلك قال اهللَ﴿ :اذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللَّـ ِه
ح ْكمَةِ َيعِ ُظكُـمْ بِـهِ﴾ (البقـرة،)231 :
عَلَ ْيكُمْ َومَا أَْنزَلَ عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَالْ ِ
وتاليـ ًا قــال الــنيب حممَّــد (ص)" :رأس احلكمــة خمافــة اهلل" ،وحبســب
التوراة قال اهلل لإلنسان" :خمافـة اهلل هـي احلكمـة" (سـفر أيـوب/28 :
،)2وكل ذلك يعين أن احلكمة التنويرية اإلهليّـة تتـوخّى اإلنسـان غايـة
وهدفا.
إن عظمة النور اإلهلي تكمن يف انفتاحه علـى املوجـود اإلنسـاني مـن بـني
موجودات أخرى ،فهل يرتقى ،هذا املوجود أو اإلنسـان ،إىل صـفاء ذلـك
النور بوصفه حكمة تنويرية؟
ما أحراني هنا أن أسوق أمنيات نيب اهلل أيوب ،عليه السالم ،بعد رحلـة
عذاب وخسران عندما قال" :كم أشتاق أن يعـود املاضـي ،وترجـع األيّـام
ت يف الظـالم
اليت كان اهلل فيها حيرسين ،ملا أنار مصباح ُه طريقـي ،فسِـر ُ
على هدى نوره"؟ (سفر أيوب.)4 - 3 /28 :
52
بأي معىن نفهم التنوير اإلهلي
ومن جانيب ،كنتُ ركّزت يف أحدى مقاالتي ،كما يف الفصل السابق ،على
دالالت النور يف الكالم اإلهلي ،كما رأينا ذلك يف الفصل السابق ،فجوهر
السمَاوَاتِ
التنوير اإلهلي -حبسب (القرآن) -يستند إىل اآلية ﴿اللَّهُ نُورُ َّ
53
وَا ْلأَرْضِ﴾ (النور ،)35 :بيد أن التنوير اإلسالمي يبدو أكثر تفصيالً -من
جانب آخر -فيما لو استدرجنا مفهوم "العقل" الذي هو لإلنسان دون
غريه من بني املخلوقات قبل أن يتخذ -هذا العقل -طابعاً قوامه التأمُّل
الفلسفي يف خالل قرون هجرية تالية تألّق فيها الفيلسوف العربي
باملصاحلة بني العقل والدين ،فأنتجَ خطابه ،يف هذا اجملال ،منتصراً
للفلسفة وإن مل يغادر األرضية الدينية.
ومنذ وقت باكر ،ويف املرحلة األوىل لشروق اإلسالم دينياً ،كشف اهلل عن
دعوته لإلنسان ليعرف مكانته وطاقاته؛ وهو الذي خلق اإلنسان بتقويم
حسن﴿ :لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التني ،)4 :وكرّمه ﴿وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ (اإلسراء ،)70 :وسخَّر له املُسخّرات ﴿وَسَخَّرَ َلكُمْ مَا فِي
جعَلَ
السمَاوَاتِ َومَا فِي ا ْلأَرْضِ﴾ (اجلاثية ،)13 :وبسط له األرض ﴿وَاللَّهُ َ
َّ
َلكُمُ ا ْلأَرْضَ بِسَاطًا﴾ (نوح )13 :لينعم مبا فيها من طيبات ،وحاجج
املالئكة بأنه سبحانه خلق اإلنسان ومنحه مزايا دون غريه مقارنة ببقية
اخللق ﴿عَلَّمَ آَدَمَ ا ْلأَ ْسمَاءَ كُ َّلهَا﴾ (البقرة )31 :وتلك منزلة معرفية ذهنية،
ومن ثمَّ جعله خليفة له يف األرض﴿ :إِنِّي جَا ِعل" فِي ا ْلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
54
(البقرة .)30 :ويف ضوء ذلك حثّ (اهلل) الناس على التعلّم باتباع ما هو
أحسن مما تلقّاه عن ربه﴿ :وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُ ْنزِلَ إِلَ ْيكُمْ﴾ (الزمر،)55 :
األمر الذي يستلزم التفكري واالختيار بإعمال الفهم واإلدراك بالعقل والذهن
وبقية مُمكنات التفكري.
الفهم والعقل
إن تعلُّم األمساء يقتضي آلة ذهنية هي لدى اإلنسان "الفاهمة = الفهم"،
وهو ما حثّت عليه النبوّة احملمديّة بال تردُّد لكي يتداول الناس فاهمتهم،
ومن ذلك فهم الناس للوحي أو "تعامل العقل مع الوحي يف مظهره النصي
لتبني املُُراد اإلهلي املُضمر يف ذلك املظهر" (عبد اجمليد النجار :خالفة
اإلنسان بني الوحي والعقل ،ص ،)89ويصبح ذلك سبيالً هلم حتى إن
اخلليفة عمر بن اخلطاب قال يف سنة 14هجرية ملا وجّه عهده إىل أبي
موسى األشعري" :ال َفهْمَ ال َفهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ ِممَّا لَ ْيسَ فِي كِتَابِ
اللَّ ِه َتعَالَى وَلَا سُنَّ ِة نَبِيِّهِ."..
55
وكانت رسائل وعهود وخُطب اخلليفة علي بن أبي طالب حتث على
توظيف فاهمة اإلنسان أو الفهم اإلنساني يف تصريف مفردات احلياة للظفر
بداري الدنيا واآلخرة ،وكان يقول عن "العدل" -على سبيل املثال -إنه
يتقوَّم "عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ؛ عَلَى غَا ِئصِ الْ َفهْمِ ،وغَوْرِ ا ْلعِلْمِ ،وزُهْرَةِ الْحُكْمِ،
ورَسَاخَةِ الْحِلْمِ؛ َفمَ ْن َفهِمَ عَلِ َم غَوْرَ ا ْلعِلْمِ" (نهج البالغة :ص .)473
إن تسويق الفهم يف الوعي اإلنساني خالل تلك املرحلة هو الفتح اإلنساني
ملوجودية اإلنسان يف الوجود ،ال سيما عندما يرتافق -ذلك الفتح -
وإعمال العقل اإلنساني ،خصوصاً أنه إذا "تَمَّ ا ْلعَقْلُ نَقَصَ ا ْلكَالم" (نهج
البالغة :ص ،)480وهذا إيذان واضح بربوع العقل اخلضراء يف ضبط هذر
الكالم اليومي االستهالكي من عدمه ،وكذلك ميزان الكالم يف مواجهة
التفكري حول أعقد املسائل الدينية والفلسفية والفكرية والعلمية والتأويلية.
وكل ذلك ،وأقصد الكالم اإلهلي املتمثل بكتاب اهلل (القرآن) ،وكذلك
بالسنّة النبوية الشريفة ،وبأحاديث الصحابة األبرار ،دلَّ على وجود
تطلّع إىل أنسنة التفكري الديين يف احلياة والوجود اىل حدِّ ما ،وبعبارة
56
أخرى كان ذلك ميثل "التعبري عن تسرُّب اإلنسان يف الشريعة النصية
واخنراط الذاتي النشيط يف املُنزَّل" اإلهلي -حبسب تعبري الدكتور بنسامل
محيش بكتابه (يف اإلسالم الثقايف ،ص - )43ذلك التسرُّب الذي اجتهد
به احلراك القرآني والنبوي والصحابي يف القرن األول اهلجري.
وهذا يعين ،فيما يعين ،أن الدين اإلسالمي يكتنز قدراً هائالً من املصاحلة
بينه والعقل اإلنساني ،وهو ما تنبّهت إليه النخب املثقفة اليت نشأت يف
مطلع الرسالة اإلسالمية تلك اليت التفَّت حول اإلهليّة اإلسالمية والنبوّة
الرسولية احملمديّة بثقة رائقة.
57
لإلنسان مستداماً مثلَ ﴿ :أفَال َتعْقِلُونَ﴾ (البقرة ،)44 :و﴿ َلعَ َّلكُمْ َتعْقِلُونَ﴾
(البقرة )73 :وغريهما مبا يتكرَّر عرب صيغ عدّة لرتسيخ العقل الفاهم كآلة
ناجعة الصواب إذا ما اصطفاها اإلنسان طريقاً يف اإلميان والتفكري وعيش
احلياة والتفاعل مع الوجود.
ويف يومها ،كان االختالف مع الدين اإلسالمي ومع النبوّة احملمديّة سائراً
إىل مديات مفتوحة ،وتلك ظاهرة طبيعية؛ إذا كان الرسول حممد (ص)
يواجه ذبذبات ورغبات متعدّدة من الرفض واالختالف والتقاطع مع
خطاب الرسالة اإلسالمية كانت الروايات والتواريخ ذكرتها حبيث وصلت
إىل حدّ الرغبة باالعتداء على شخص الرسول نفسه (ص) كما همَّت بذلك
أم مجيل بنت حرب بن أمية -امرأة أبي هلب -عندما هاجت غرائزها
يوماً ومحلت احلجارة لرتمي بها الرسول (ص) يف مسجده ،ناهيك عمّا
كان يرومه اليهود الكارهون والنصارى واألعراب املتعصبون من الذين مل
يرغبوا بدعوة اإلسالم ،وكم حاكوا من الدسائس واملؤامرات؟
58
ورغم الوجه السليب ملثل هذه التصرّفات العدوانية إال أنها كانت كرّست
مجرة االختالف البشري مع الدين اجلديد ،ومع شخص النبوّة رسول اهلل
حممد (ص) ،ذلك االختالف الذي ظهر بصورٍ متعدّدة يف خالل القرن
األول اهلجري رغم أننا وجدنا أن هذه الصور ،يف بعض األحيان ،تهدر
دماء الصحابة الكرام وآل الرسول وغريهما ،وتلك مسألة طبيعية يف حالة
ظهور الرساالت السماوية وظهور النبوّات ،فهذه متغريات اسرتاتيجية يف
التاريخ اإلنساني ،ومن الطبيعي أن تواجه ،هكذا متغريات ،حتديات
امليول الغرائزية للبشر والرؤى التفكريية اليت تكرّس االختالفية الضديّة أو
احلادة.
الدين واإلنسان
وبالعودة إىل احلديث النبوي الشريف ،كان املسلمون مسعوا النيب حممد
(ص) يقول حديثه" :كُُّلكُمْ رَاعٍ َوكُُّلكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ ،ا ِإلمَامُ رَاعٍ
جلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤول" عَنْ رَعِيَّتِهِ ،وَالْمَرْأَةُ
َومَسْؤول" عَنْ رَعِيَّتِهِ ،وَالرَّ ُ
59
جهَا َومَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّ ِتهَا ،وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ
رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْ ِ
ومَسْؤو "ل عَ ْن رَعِيَّتِهِ".
ثم إن اإلسالم خياطب اإلنسان بأن يعود إىل نفسه ليعرفها؛ ففي ذلك
بعض جناة﴿ :إِنَّ اللَّهَ َلا ُيغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى ُيغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُ ِسهِمْ﴾ (الرعد:
،)11ومعرفة النفس تأمُّل تداولي يف قيمة الذات اإلنسانية وقد جرّبته
لتكون وتوجد يف احلياة على أحسن صورة ومضمون .وقدمياً كان الفالسفة،
قبل (القرآن) ،قالوا" :اعرف نفسك" ،ومعرفة النفس تضع الذات
اإلنسانية يف حدودها لكي ال تكون غُف ًال يف الوجود.
60
وواضح جداً أن القرن األول اهلجري السابع امليالدي هو قرن الدين
اجلديد (اإلسالم) الذي أنزله اهلل للناس يف تلك املرحلة ليبقى أبد اآلبدين
لكونه الدين السماوي األخري يف رحلة األديان اإلهلية أو السماوية ،ويف
قرن ديين كالقرن األول اهلجري ما كانت مَهمته استقبال فرشَة فكرية
تنويرية خالصة يصنعها اإلنسان بذاته فحسب ،لكن الدين اإلسالمي أيضاً
بسط كينونته ليس بعيداً عن اإلنسان ،فهو ضمّنه يف خطابه بوصف
اإلنسان غاية يف الدارين -دار الدُنيا ودار اآلخرة -ووسيلة يف الوقت
نفسه ،وما التنوير سوى أن يكون اإلنسان بوصفه إنساناً عرب اخلطاب
الديين ال مُجرد غريزة بشرية.
إننا نفهم التنوير يف القرن األول اهلجري بهذا املعنى الذي ال يغادر
اإلسالم فيه اإلنسان وإنْ كانت رسالة هذا اإلسالم مساويّة منزّلة من اهلل
الذي ،ورغم مفارقته للعامل ،يبقى يف مُحايثة دائمة مع العالَم واإلنسان
والوجود يف كُل آن ومصري وغد آت.
61
اهلوامش واإلحاالت
62
. 1نُشر كمقال يف جملة (اجمللة العربية) ،العدد ،519 :الرياض ،كانون
األول /ديسمرب .2019 ،ص .89 – 84
.2د .رسول حممد رسول :صورة املثقف يف الرتاث العربي :ص ،99
الطبعة األوىل ،2011ص ،90الطبعة الثانية ،2017دار الشؤون الثقافية
العامة ،بغداد.2011 ،
.3د .رسول حممد رسول :هيا إىل اإلنسان ..من الكائن البشري إىل
املوجود اإلنساني ،ص ،127مركز سلطان بن زايد ،أبوظيب.2018 ،
.4أوليفييه روا :اجلهل املقدس ،ترمجة :صاحل األمشر ،ص ،299دار
الساقي ،بريوت.2012 ،
.5د .رسول حممد رسول :الفيلسوف ..إنسان التنوير ومفكر صباح الغد،
ص ،24 - 23تنويريات للنشر ،الكوفة ،ط .2019 ،2
6انظر( :د .رسول حممد رسول :الفيلسوف ..إنسان التنوير ومفكّر صباح
الغد ص .)39 – 37
.7انظر( :د .رسول حممد رسول :الفيلسوف ..إنسان التنوير ومفكّر
صباح الغد ص .)46
.8انظر( :د .رسول حممد رسول :الفيلسوف إنسان التنوير ومفكّر صباح
الغد ص .)47
.9حماضرة يف (مجعية الثقافة للجميع) ،بغداد ،األربعاء 21أغسطس
.2019
.10نُشرت يف جريدة (الصباح) ،بغداد ،األربعاء 20شباط .2019ص .15
63