You are on page 1of 63

‫ُّ‬

‫التدين والتنوير‬

‫‪1‬‬
2
‫ُّ‬
‫التدين والتنوير‬

‫د‪ .‬رسول محمد رسول‬

‫‪3‬‬
‫التدين والتنوير‬

‫د‪ .‬رسول محمد رسول‬

‫مجيع احلقوق حمفوظة‬

‫الطبعة األوىل ‪2020‬‬

‫مجيع حقوق الطبع والنسخ والرتمجة حمفوظة لدى تنويريّات للنشر يف العراق حبسب‬
‫قوانني امللكية الفكرية لعام ‪ ، 1988‬وال جيوز نسخ أو طبع أو اجتزاء أو إعادة نشر أي نص‬
‫من هذا الكتاب ألغراض جتارية إال بإذن خطي من الناشر أو املؤلِّف‪.‬‬

‫تنويريّات للنشر‬

‫الكوفة – السراي‪ /‬بغداد‪ /‬مجهورية العراق‬

‫لوحة غالف الكتاب‬

‫‪4‬‬
‫اإلهداء‬

‫إىل شهداء معركة اإلصالح يف العراق‬

‫‪5‬‬
6
‫احملتويات‬

‫‪5‬‬ ‫اإلهداء ‪....................................................‬‬


‫‪9‬‬ ‫املُثقف التنويري يف مواجهة العصر‪.........................‬‬
‫‪26‬‬ ‫التنوير والدِّين‪ ..‬أيّة وصاية مُمكنة؟‪........................‬‬
‫‪38‬‬ ‫التنوير وحضوريّة النور اإلهلي‪.............................‬‬
‫‪53‬‬ ‫بأي معنى نفهم التنوير اإلهلي يف القرن األول اهلجري؟‪.....‬‬
‫‪62‬‬ ‫هوامش وإحاالت ‪..........................................‬‬

‫‪7‬‬
8
‫ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫املثقف التنويري يف مواجهة العصر‬

‫ال بد بداية أن نتوفّر على فهم مغاير للمثقف التنويري‪ ،‬وهو ما يتطلَّب‬
‫منا تعريفاً للمثقف‪ ،‬ال سيما أننا شهدنا ‪ -‬على الصعيد الشخصي ‪ -‬والدة‬
‫توصيفات للمثقف يف شتى اجملاالت‪ ،‬ومنذ غابر األزمان‪ .‬وكان كتابنا‬
‫صورة املثقف يف الرتاث العربي‪ ،‬الصادر ببغداد يف طبعته األوىل سنة‬
‫‪ ،2011‬والثانية بالعاصمة اإلماراتية أبوظيب يف سنة ‪ ،2017‬وحتت‬
‫عنوان املثقفون يف القرن األول اهلجري‪ ،‬قد أشار إىل بعضِ هذه‬
‫التوصيفات سوى "املثقف التنويري"‪.‬‬

‫كنتُ‪ ،‬ويف سنة ‪ ،2011‬توافرت على تعريف لـ "املثقف"؛ إذ قلتُ يف‬


‫كتابي صورة املثقف يف الرتاث العربي‪ :‬إن املثقف هو "اإلنسان املُنتج‬
‫للمعرفة املنظّمة الذي يهدف‪ ،‬ومن خالل هذه املعرفة‪ ،‬إىل حتقيق دور‬
‫ثُالثي األبعاد؛ بُعد معريف حمض يتعلَّق بتخصُّص املثقف احلقلي‪ ،‬وبُعد‬
‫خنبوي يتعلَّق مبجتمع التخصّص أو جمتمع احلقل املعريف الذي يشتغل‬
‫‪9‬‬
‫فيه املثقف متاثالً مع أقرانه‪ ،‬وبُعد جمتمعي واسع يتحرّك املثقف من‬
‫خالله يف اجملتمع العام لتداول خطاب معرفته يف أوساط اجملتمع‬
‫باالنطالق من مرجعيّات فكرية أو اعتقادية أو أيديولوجية أو مجالية‪،‬‬
‫وعرب منهجية عقلية أو نقدية أو إميانية أو جتريبية اختارها هذا املثقف أو‬
‫قُدِّر له التفكري فيها ومن خالهلا يف الطبيعة واجملتمع واإلنسان والوجود‬
‫وما بعدهما أو وراءهما واملستقبل"(‪.)2‬‬

‫لقد ظل هذا التعريف سائغاً عندي حتى سنة ‪ 2018‬عندما عرّفتُ املثقف‬
‫ويف كتابي هيّا إىل اإلنسان بأنه‪" :‬إنسان"؛ بل هو "الضمري اجلمعي يف‬
‫اإلنسان قبل أن يتفيّأ ‪ -‬هذا األخري ‪ -‬ختصّصه العِلمي حقليًا"(‪.)3‬‬

‫أما ما يتعلَّق بتسمية "املثقف التنويري"‪ ،‬فيعود استخدامي له إىل سنة‬


‫‪ 2002‬عندما ذكرتهُ يف حماضرة لي كان عنوانها "املثقف العربي‪ ..‬الزمان‬
‫وأسئلة العصر" كنتُ ألقيتها بالعاصمة اإلماراتية أبوظيب‪ ،‬وتناولت فيها‬
‫سؤال التنوير يف سياق احلديث عن املثقف العربي‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وعدتُ إىل استخدام املصطلح ذاته "املثقف التنويري" يف سنة ‪ 2018‬يوم‬
‫كنتُ أعدُّ فصول كتابي هيّا إىل التنوير‪ ،‬وقد ذكرته مرّتني‪ .‬لكنين أجد‬
‫احلاجة اليوم أكثر من ماسّة إىل إعادة بناء مصطلح "املثقف التنويري" من‬
‫زاوية حمدّدة يف كتابي هذا التديُّن والتنوير هي زاوية العالقة بني التنوير‬
‫والتديُّن أو العكس‪ ،‬فما هو موقف املثقف التنويري من التديُّن يف وضعية‬
‫القرن احلادي والعشرين وقد ودّعنا قرناً كامالً شهد صوراً من العداء‬
‫املتصارع‪ ،‬الدموي أحياناً‪ ،‬بني الطرفني الذي أوحى بالتصادم واالختالف‬
‫بينهما!‬

‫إن املثقف هو موجود إنساني تكفيه إنسانيته الصادقة أن يكون تنويرياً‬


‫عندما يفهم ذاته اإلنسانية بوصفه إنساناً لكون التنوير ال يفكّر باإلنسان إال‬
‫بوصف ِه إنساناً وليس جمرّد كائن حيواني أو بشري‪.‬‬

‫إن التنوير ال ينظر إىل املوجود اإلنساني بوصفه جمرّد كائن بشري ال يسمو‬
‫بكائنيته البشرية إىل مصاف املوجوديّة اإلنسانية‪ ،‬وهكذا يسعى التفكري‬
‫التنويري إىل االرتقاء بالكائن البشري إىل مصاف املوجود اإلنساني‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫إن الدين يف جوهره ويف سطوحه‪ ،‬ال سيما الدين اإلسالمي‪ ،‬ال يريد‬
‫للمخلوق أن يكون جمرّد ذلك الكائن بشري الغارق يف آدميته البشرية‬
‫مبطامح غريزية؛ بل يريده أن يكون موجوداً إنسانياً يف ضوء ما حباه‬
‫خالقه (اهلل) مبكامن إنسيّة وافرة متيزه عن جمرّد الكائنية اآلدمية أو‬
‫البشرية؛ فالعقل ومُمكنات التفكري بالغد أو املستقبل ال توجد لدى‬
‫املخلوقات احليوانية سوى بدواع حسية‪ ،‬أما عند اإلنسان فهي مُمكنات‬
‫ظاهرة يف مقدّمة طبيعته الذاتية والعقلية‪ ،‬وإذا كان اهلل هو خالق ًا تنويرياً‬
‫السمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور‪ ،)35 :‬فإنّ اهلل أكرم‬
‫باملطلق {اللَّهُ نُورُ َّ‬
‫اإلنسان بأن يكون موجوداً تنويرياً؛ بل ذلك املهموم الفائق بالتنوير‪.‬‬

‫اإلصالح التنويري‬

‫وقدر تعلُّق األمر بالدين‪ ،‬ال سيما الدين اإلسالمي‪ ،‬ال يتعارض التنوير مع‬
‫الدين لطاملا إن كليهما عزَّز مكانة اإلنسان يف الوجود‪ ،‬فكالهما غايته‬
‫اإلنسان احلُر يف العيش املشرتك‪ ،‬والتعارف بني الناس‪ ،‬وكذلك التفكري‬
‫والنظر إىل الغد‪ ،‬وكلها مسات إنسية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وإذا كانت للدين وصاية على اإلنسان‪ ،‬فهي ال تأتي قسراً لطاملا قال اهلل‬
‫{لَا ِإكْرَاهَ فِي الدِّين} (البقرة‪)256 :‬؛ ذلك أن الدين يف جوهره ال وصاية‬
‫له إال على اإلنسان احلُر املتحرّر من مُجمل تأويالت الفقهاء أو املتفيقهني‬
‫اليت يُطالب ‪ -‬هذا املُجمل ‪ -‬حبصر اإلنسان يف زوايا ال يستطيع فيها أن‬
‫يتحرّك حبرية تضمن إميانه احلقيقي باهلل؛ لذا فمن وظائف املثقف‬
‫التنويري التصدّي لتأويالت من هذا النوع اليت كثرياً ما أدّت‪ ،‬وال تزال‬
‫تؤدّي‪ ،‬إىل كوارث غالباً ما تُصيب اإلنسان‪ ،‬فرداً وجمموعاً‪ ،‬باألذى‪ ،‬ال‬
‫سيما عندما يتحوّل املتديِّن اىل راع للصوصيّة السياسية‪ ،‬كما هو احلال يف‬
‫العراق بعد سنة ‪2003‬؛ حيث حتوَّل رجال دين إىل رعاة ملثل هذه‬
‫اللصوصيّة القميئة‪.‬‬

‫إن الدين يف أصله هو مشروع لإلصالح‪ ،‬ومَهمة املثقف التنويري أن يكون‬


‫هذا املثقف موجوداً إصالحياً‪ ،‬وميكن أن يأتي إصالحه مشولياً على‬
‫الصعيد الديين والسياسي واملعريف والثقايف واجملتمعي‪ .‬إن اإلصالح صفة‬
‫املثقف التنويري العمومية‪ ،‬وتبدأ هذه املَهمة من ذات املثقف لكي‬

‫‪13‬‬
‫يتصدّى لإلصالح عرب االنفتاح على الواقع بوصفه إنساناً منخرطاً يف‬
‫مفاصل احلياة والوجود‪.‬‬

‫ويف شأن اإلصالح‪ ،‬كنتُ يف كتابي نقد العقل اإلصالحي الذي صدر يف‬
‫طبعته األوىل سنة ‪ ،2008‬ويف طبعته الثانية سنة ‪ ،2010‬تطرّقت إىل‬
‫تعريفات عدّة للمفاهيم املتعلّقة باإلصالح؛ كاحلقل اإلصالحي‪ ،‬واملعرفة‬
‫اإلصالحية‪ ،‬والفكر اإلصالحي‪ ،‬والعقل اإلصالحي‪ ،‬واهلويّة اإلصالحية‪،‬‬
‫وكُل ذلك يف ضوء جتارب املثقفني العرب والعراقيني‪ ،‬ومنهم املثقفون‬
‫الدِّينيون‪.‬‬

‫اإلصالح هو ما ارتضاه املثقف التنويري لنفسه ولذاته؛ بل ال بد له ذلك‬


‫بوصفه فعالً للمقاومة احلقيقية‪ .‬نعم اإلصالح فعل مقاومة حقيقي‪ .‬وكم كان‬
‫الشعراء والفالسفة ورجال الدين احلقيقيني يقاومون خمتلف أشكال الرتدّي‬
‫يف اجملتمع؟ ال سيما عندما يُخطف اإلنسان من مزيته اإلنسانية ويتحوّل‬
‫إىل كينونة رعاعيّة بشرية فاسدة حتى إن بعضاً من هؤالء املثقفني محل‬
‫السالح بوجه الشر البشري ليؤكِّد مقاومته له انتصاراً للحرية ولإلنسان‪،‬‬

‫‪14‬‬
‫وكنت قد تصديت إىل جتارب مثل هذه يف كتابي نقد العقل اإلصالحي‪،‬‬
‫‪ ،2008‬وقبله يف كتابي الوهابيون والعراق الذي صدر سنة ‪.2005‬‬

‫إن مَهمة املثقف التنويري اإلصالحية مشولية ال تتوقّف فقط عند‬


‫اإلصالح الثقايف الذي يقصد إصالح السلوك والعادات والتقاليد واألعراف؛‬
‫بل ينبسط إىل أبعد من ذلك‪ ،‬كاإلصالح الديين‪ ،‬ال سيما مُجمل التأويالت‬
‫الفاسدة اليت تلتف حوال الدين يف حدِّ ذاته تأويالً مُغرضاً‪ ،‬وجعل هذا‬
‫التأويل تعلة لتحقيق مصاحل مادية أو معنوية أو إيديولوجية أو استعمارية‬
‫أو لصوصية تلك اليت خيوض غمارها رجال الدين أنفسهم من الذين‬
‫يتوّلون تقديس ما يقدّمونه حتى صرنا نواجه جهالً مقدساً ابتلينا به شر‬
‫ابتالء يف حاضرتنا عرب التاريخ‪.‬‬

‫التجهيل املقدّس‬

‫ويف هذا السياق‪ ،‬كان الباحث الفرنسي أوليفييه روا‪ ،‬ويف كتابه اجلهل‬
‫املقدّس‪ ،‬قد أشار إىل أن هذا اجلهل يوجد عندما يتم "إلغاء اللغة لصاحل‬

‫‪15‬‬
‫الكالم"‪ ،‬وذلك "مثال على اجلهل املقدّس"(‪ ،)4‬ورغم أن أوليفييه روا مل‬
‫يتحدّث عمّ ا جيري يف شأن الدين اإلسالمي‪ ،‬لكنّنا منيل إىل استثمار هذا‬
‫املصطلح ونتحدّث عمّا حنن نسميه التجهيل (‪ )Blackout‬املقدّس الذي‬
‫ميارسه أشخاص آخرون باسم الدين‪ ،‬ال سيما املتفيقهني منهم‪ ،‬تأويالً من‬
‫عندهم وفق مصاحل هلم أو مصاحل ومآرب غريهم سواء كانت ذاتية أو على‬
‫حنو منظماتي أو مؤسساتي شأنها حجب حقيقة املعنى واملقصد الذي‬
‫يريده الدين أو الضوابط اإلهليّة للوجود واحلياة‪ ،‬وهي عملية رافقت‬
‫اإلسالم منذ إشراقته األوىل تلك اليت كان املشركون واليهود والنصارى‪،‬‬
‫ومن ثمَّ املسلمني أنفسهم ممن زاغ عن طريق احلق‪ ،‬قد شرعوا بها لتستمر‬
‫يف عصور الحقة حتى يومنا هذا‪ ،‬خصوصاً بعض احملسوبني على قائمة‬
‫الفقهاء املسلمني الذين شاركوا فيها وبها بقصد تعمية الناس عن حقيقة‬
‫املعنى الديين يف نوره األصل أو الدين يف حدِّ ذاته‪ ،‬وإخفاء سنى الدين‬
‫احلقيقي هذا عن الناس حتى راح التجهيل الذي يضفون عليه صفة‬
‫القداسة ميارس دوره يف التخريب لكونه يستفز الرعاعية؛ بل الغوغائية‬

‫‪16‬‬
‫لدى النفوس الضالة؛ ويُوقظ الغرائزية والبهيمية لديهم‪ ،‬ويتغنّى‬
‫بالطقوسية العمياء‪ ،‬الفردية واجلماعاتية‪.‬‬

‫التصدي اجلذري‬

‫ويف هذا السياق‪ ،‬كم رأينا مثل هذه التطلّعات واملمارسات يف اجملتمع‬
‫العراقي بعد نيسان‪ /‬أبريل ‪2003‬؛ فكم حتوّل مُلتحٍ سيماه رجل دين يف‬
‫واجهته العامة إىل منتج لثقافة التجهيل املقدّس وتسويقها يف اجملتمع؟ بل‬
‫كم رأينا من هذه الواجهات تتلبّس رداء الدين وهي تتاجر باملمنوعات غري‬
‫املرغوبة‪ ،‬والدعارة‪ ،‬والقمار‪ ،‬واملتاجرة باألعضاء اللحمية البشرية‪،‬‬
‫واملتاجرة ببيع األطفال‪ ،‬وكذلك املتاجرة بطقوس زيارات أضرحة األئمة‬
‫واألولياء والصاحلني‪ ،‬وبطقوس الشعائر الدينية – املذهبية؟ هذه‬
‫السلوكيات أصبحت شائعة يف عاملنا اإلسالمي كما جرى يف العراق‪ ،‬ال‬
‫سيما بعد سقوط نظام الدولة البعثية؟ (انظر‪ :‬عمليات إلقاء القبض على مافيات‬
‫الروليت وصاالت القمار وجتارة املخدرات وبيع وشراء النساء بالعاصمة بغداد يوم ‪5‬‬
‫أغسطس ‪ ،2019‬ومل تنته هذه العصابات بعد اليت كان يقودها شخص مقرّب‬

‫‪17‬‬
‫ومدعوم من إسالميني حيكمون يف السلطة يف العراق)‪ .‬فمن الضروري للمثقف‬
‫التنويري أن يتصدّى‪ ،‬وعلى حنو جذري‪ ،‬ملثل هذه الثقافة التجهيلية‬
‫العمائية اخلافية لنور الدين احلقيقي‪ ،‬هذه الثقافة البائسة اليت تنتج الشر‬
‫يف اجملتمع‪ ،‬وترمي اإلنسان إىل هاوية التيه والضياع‪.‬‬

‫حنن نعيب اخرتاق املقدّس الديين‪ ،‬اخرتاقه من أجل التلذّذ باالخرتاق‬


‫أو االخرتاق من أجل االخرتاق! ال سيما أن اهلل سبحانه قال للناس‪:‬‬
‫{اتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة‪ .)189 :‬ووظيفة الفيلسوف أو املثقف التنويري هي‬
‫"مُمارسة تعيد بناء الوجود البشري واملعريف إلنساننا العربي املأمول وفق‬
‫طاقة قدراته العقلية ومكانته األنطولوجية من خالل أربعة مسارات متعاقدة‬
‫متجاورة متفاعلة هي‪:‬‬

‫اجتاه معريف قوامه العقالنية النقدية اإلنسانية‪ .‬واجتاه قيمي قوامه إحياء‬
‫قيم التعايش السلمي والتواصل احلضاري والثقايف بني األفراد واجملتمعات‬
‫واحلضارات‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫اجتاه جمتمعي قوامه إحياء ثقافة املسؤولية اجلماعية ‪ -‬اجملتمعية غري‬
‫املتعصبة وال املتطرّفة وال التكفريية أو التبديعية بغية تقويض وتفكيك‬
‫الوعي التحرميي والتكفريي والتبديعي أو التبدُّعي والتدمريي املتطرّف‬
‫الناتج عن أهواء جهويّة ومرضية متعصبة سواء أكانت رعاعية أم دينية أم‬
‫مذهبية يف الدين أم عرقية أم مناطقية‪.‬‬

‫اجتاه أنطولوجي قوامه أنّ اإلنسان واجملتمع والعامل هي موجودات‬


‫أنطولوجية‪ ،‬ما يتطلَّب إحياء الوعي بأنطولوجيا الوجود واحلياة والسلوك‬
‫اليومي‪.‬‬

‫إن مَهمة من هذا النوع هلي مَهمة املثقف التنويري وهو ينظر إىل "الدين"‪.‬‬
‫وهي رؤيه كنتُ نضدّتها منذ سنة ‪ 2012‬يف حماضرة لي كان عنوانها‬
‫"الفيلسوف العربي يف القرن ‪.)5("21‬‬

‫إرادة االقتدار التنويري‬

‫‪19‬‬
‫لقد تطوّر النظر عندي حول الدور التنويري الذي ال بد أن يضطلع به‬
‫املثقف التنويري؛ ففي شهر آذار‪ /‬مارس سنة ‪ ،2015‬كنتُ ألقيتُ‬
‫حماضرةً بـ (اجلامعة املستنصرية) يف بغداد حتت عنوان "الفيلسوف‬
‫والتنوير"‪ ،‬وانتهيت إىل رسم معامل أخرى للفيلسوف التنويري أو املثقف‬
‫التنويري والدور املُنتظر منه‪.‬‬

‫لقد توصّلت فيها إىل ضرورة أن يستحضر الفيلسوف التنويري املأمول‬


‫"إرادة الرغبة العقلية احلقيقية واملقتدرة بالتنوير بعيداً عن أيّة ميول‬
‫جهويّة أو أسطورية أو خرافية متعالية"‪ ،‬وكذلك "يستحضر إرادة‬
‫التخلُّص من الشعور احلاد بالغربة السلبية عرب تفكيك هذا الشعور ودحره‬
‫صوب االنفتاح التفاعلي اخلالق بني الفيلسوف واملعرفة والواقع املعاش"‪،‬‬
‫وأيضاً ضرورة "تفادي التعالي على أمنوذج فيلسوف ميكن أن يكون هادي ًا‬
‫إىل مشروع تنويري ما" حقيقي ونافع‪ ،‬إىل جانب "تبديد خمادعة‬
‫احلدوث التارخياني لفعل التفكري الفلسفي اليت يبديها هذا الطرف أو‬
‫ذاك من دُعاة اليأس الذاتي الذين عجزوا عن وصل معرفتهم الفلسفية‬

‫‪20‬‬
‫ومالمستها مع حراك الواقع اجملتمعي اليومي خارج اإلطار املؤسساتي"‪،‬‬
‫إىل جانب أهمية "النظر إىل ما جيري يف الواقع كاستثناء وحدث وانقطاع‬
‫ال جمرّد صريورة غُفل تأتي ومتر وتذهب حبيث تهيء هذه الثالثية‬
‫املفهومية لبنية املعرفة الفلسفية طابعها يف أن تكون االستثناء املعريف‪،‬‬
‫واحلدث املعريف‪ ،‬واالنقطاع املعريف‪ ،‬وتهيء جتربتها التارخيانية أيضاً‬
‫لوالدة فيلسوف االستثناء املعريف‪ ،‬وفيلسوف احلدث املعريف‪ ،‬وفيلسوف‬
‫االنقطاع‪ /‬القطيعة املعريف الفلسفي األصيل"‪.‬‬

‫ناهيك عن أن الفيلسوف التنويري له أنْ "يوقظ احلوار مع ما جيري يف‬


‫العامل؛ ويوقظ التنافذ التواصلي مع مصري العامل عرب التفكُّر األصيل الذي‬
‫هو مصريه الوجودي واألنطولوجي كإنسان وهبته طبيعته القدرة على‬
‫التفكري اخلالق يف ما جيري‪ ،‬ويف ما يكون‪ ،‬ويف ما سيكون أو ممكن أن‬
‫يكون"(‪ ،)6‬وتلك هي إرادة االقتدار التنويري اإلنساني العقالني النقدي‬
‫اليت نرومها لتوجد وتكون ويُعمل بها يف راهن احلضارة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫ويف السنة ذاتها‪ ،‬وحتديداً يف مايو‪ /‬أيار ‪ ،2015‬كنتُ ألقيتُ حماضرة‬
‫يف (بيت احلكمة) العراقي عنوانها "بعيداً عن نزوة الطاووس"‪ ،‬جدّدت‬
‫فيها دعوتي إىل املثقف عرب شخص الفيلسوف التنويري بأن "يوجّه طاقته‬
‫املعرفية صوب تفكيك كيان العُنف بكُل تأويالت خطابه املتطرّفة"‪،‬‬
‫وكذلك بدت لي مَهمة الفيلسوف التنويري هذه "ذات شأن بارز لكونها‬
‫املمر احلقيقي املؤدِّي إىل فتح املواجل أمام مُساءلة خطابات هذه النزعة‬
‫التهدميية يف أكثر صورها بشاعة وقتالً للحياة‪ ،‬وحنراً للمستقبل‪..‬؛ بل‬
‫مُساءلتها اجلذريّة بكشف تناقضاتها‪ ،‬وتعرية طروحاتها‪ ،‬وفضح‬
‫مسارات تفكريها؛ أليسَ اإلنسان هو املوجود التساؤلي بني مجيع‬
‫اخللق"(‪ ،)7‬وأيضاً ال بد على املثقف التنويري أن يتخلّص جذرياً من فخ‬
‫أن يكون مفتوناً بالنزعة الطاووسيّة‪ ،‬وأن يعمل على "جتديد دوره على‬
‫حنو مزدوج ومتزامن؛ جتديد دوره املعريف اخلالق‪ ،‬وجتديد دوره‬
‫الوجودي اليقظ معاً‪ ،‬ومعاودة ذلك الدور بأصالة خالقة فائقة يف انهماكها‬
‫التارخياني عرب تبديد عزلة الفيلسوف التنويري؛ بل استعجال ُمساءلة‬
‫ذلك الـ ما جيري‪ ،‬واملاحيدث يف الواقع وعلى حنو مرتوٍّ"(‪.)8‬‬
‫‪22‬‬
‫الدين يف حدِّ ذاته‬

‫يف فصول كتابنا هذا ‪ -‬التديُّن والتنوير ‪ -‬تبدو احلاجة ماسّة اليوم إىل‬
‫النظر يف زوايا العالقة بني التديُّن والتنوير‪ ،‬وجتديد القول فيها بغية وضع‬
‫النقاط على احلروف وبشجاعة ألننا أصبحنا نواجه التديُّن املزيف ‪-‬‬
‫التديُّن وليس الدين يف حدِّ ذاته ‪ -‬يف يوميات تريد قتل الدين نفسه عرب‬
‫تأويالت ومُمارسات ما أنزل اهلل بها من سُلطان؛ وكم طالب اهلل بالنأي‬
‫عن هكذا تأويالت لكون الدين أكثر رفعة من أن يصبح سيفاً يُنزّل على‬
‫رقاب الناس بأكثر مما هم يتحمّلون أو هُزاالً طقوسياً تسويقياً شعبياً‬
‫جتارياً‪ ،‬وهو ما تقوم به التأويالت التديُّنيّة العملية نافرة الوجود يف أيامنا‬
‫هذه‪ ،‬وعلى خمتلف إشكاهلا؛ فبامسها صار التديُّن الضار سبباً يؤدي ‪-‬‬
‫يف نهاية املطاف ‪ -‬إىل قتل اإلنسان‪ ،‬وقبل قتله يعيش ‪ -‬هذا اإلنسان ‪-‬‬
‫شتى أنواع التيه والويالت واملآسي والذل واهلوان‪ ،‬كما هو حال التديُّن يف‬
‫لباسه السياسي اللصوصي الذي حكم العراق منذ ‪ 2003‬يف كل صوره‬

‫‪23‬‬
‫املذهبيّة‪ ،‬وفضحته ثورة الشعب أو "ثورة اإلصالح" منذ األول‪ ،‬بل منذ‬
‫اخلامس والعشرين من شهر أيلول‪ /‬سبتمرب ‪ 2019‬يف العراق‪.‬‬

‫إننا ال نرمي كُل هذه املصائب على الدين يف حدِّ ذاته‪ ،‬وال على ذمّة‬
‫الفقيه الديين األصيل الذي يرعى بيضة الدين وفق حرص متناه مبا ال‬
‫حد ذاته‪ ،‬ال سيما الدين اإلسالمي‪ ،‬وما نراه أن‬
‫يضر على حقيقة الدين يف ِّ‬
‫مُمارسة الدين ‪ -‬أو التديُّن ‪ -‬أنها املسؤول األول عن كل أشكال الضياع‬
‫والتيه اليت نرى‪ ،‬وهو ما مُين ويُمنى به الناس يف بعض دول لعامل‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫ولعل مَهمة املثقف التنويرية هي التصدّي ملثل هذه التأويالت‪ /‬التفسريات‬


‫عندما تتخذ أسلوب املُمارسة العملية الضارة أميا ضرر‪ ،‬وعلى حنو‬
‫مزدوج؛ فهي تضرُّ الدين يف حدِّ ذاته عندما جترّه إىل حبائل اخلداع من‬
‫جهة‪ ،‬وتضرّه عندما متارسه تأويالً وتفسرياً مبا ال يريد قوله الدين ذاته‪،‬‬
‫ال سيما عندما تتعامل معه بوصفه كالماً مُقوّالً مبا ال يريد قوله ‪ -‬الدين يف‬

‫‪24‬‬
‫حدِّ ذاته ‪ -‬حتى تلوي عنقه ببالغة الزيغ‪ .‬لقد بات هكذا تديُّن‪ ،‬وباتت‬
‫هكذا هرطقات شعبية‪ ،‬موضع سؤال وحمط شبه!‬

‫إن املثقف التنويري يستنري بالدين يف حدِّ ذاته عندما حيتفي باإلنسان‬
‫بوصفه إنساناً بال خداع وال تقويل زائف؛ ولذلك نظرنا ‪ -‬عرب فصول‬
‫كتابنا هذا التديُّن والتنوير ‪ -‬يف حضوريّة النور اإلهلي لكي نقف عند‬
‫سنى ذلك النور‪ ،‬وأيضاً عند معنى فهمنا للتنوير يف القرن األول اهلجري‪،‬‬
‫وبالتالي نظرنا يف معنى الوصاية اليت يرومها الدين يف حدِّ ذاته لعلّنا نقدّم‬
‫رؤية صافية على قدر ما من غلواء التأويل والتفسريات املُضرة بالدين‬
‫واإلنسان‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫التنوير والدين‪ ..‬أية وصاية ممكنة؟‬
‫(‪)9‬‬

‫يف نهاية القرن السابع عشر وصوالً إىل نهاية القرن الثامن صار التنوير‬
‫يدعو إىل إعادة النظر يف مفهوم الوصاية (‪ )Guardianship‬وفرض سُلطته‬
‫تداوالً على اإلنسان‪ ،‬وهو يعين أن مفهوم الوصاية كانت حفلت به‬
‫األدبيات التنويريّة يف تلك املرحلة‪ ،‬ال سيما‪ ،‬ويف حدودٍ ما‪ ،‬عند جون‬
‫لوك عرب رسالته يف التسامح‪ ،‬وإميانويل كانط عرب إجابته عن سؤال‪ :‬ما‬
‫التنوير‪ /‬األنوار؟ وغريهما من فالسفة التنوير الغربي يف تلك املرحلة‪.‬‬

‫لقد رفض الفيلسوف اإلجنليزي جون لوك (‪ 1632‬ـ ‪ )1704‬والفيلسوف‬


‫األملاني إميانويل كانط (‪ 1724‬ـ ‪ )1804‬وصاية الكنيسة على اإلنسان‪،‬‬
‫إذ‪ ،‬ومن دون الدخول إىل تفاصيل ذلك‪ ،‬يبدو الدين واضح البنية والسطح‬
‫ملن يريد التعرّف إىل أصوله وحدوده‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ترانا ننظر يف عاملنا العربي وقد أخذ الدين يستعيد شأنه يف ظاهر املشهد‬
‫احلياتي على حنو ما حبيث أصبح يثري االضطراب‪ ،‬وليس يف ذلك‬
‫مشكلة؛ فالدين حقيقة روحية موضوعية يف حياة اإلنسان ال فكاك منها؛‬
‫إذ ال ميكن "الشطب الراديكالي للقداسة" الدينية (تزفتان تودوروف‪ :‬روح‬
‫األنوار‪ ،‬ص ‪ ،)143‬إال أنه يُفهم من وجود الدين‪ ،‬ال سيما بوصفه‬
‫أيديولوجيا متطرّفة يف حياة املرء‪ ،‬أنه بات يستعيد الوصاية على الناس‬
‫بنحو صار جملبة للضر‪ ،‬وهذا الضُّر ال يسوقه الدين يف حدِّ ذاته‪ ،‬إمنا يف‬
‫ممارسته ‪ -‬التديُّن ‪ -‬من جانب حامله ومسوّقه؛ فال ميثل الدين وصاية‬
‫على اإلنسان لكون الدين ذاته ال ميشي يف الشارع كما لو كان رجالً حيمل‬
‫عصاه الغليظة ويروم بها إخضاع الناس إليه عرب العصا‪ ،‬فليس للدين‬
‫سوط ًا وال عصا طعن وال سيف‪.‬‬

‫من ذي قبل‪ ،‬عرفنا أن الدين اإلسالمي الذي قال‪" :‬لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّين"‬
‫(البقرة‪ ،)256 :‬مبعنى ال يستطيع أي طرف إكراه الناس على اإلميان‬
‫بالدين فهذا األخري يتضمّن حرية اإلميان ومينحها للناس عرب االختيار‪،‬‬

‫‪27‬‬
‫ما يعين أن الدين شأنه احلرية يف طبعه‪ .‬وال أريد بذلك حتقيق رغبة‬
‫إحلاديّة أو أدعو إىل اإلحلاد‪ ،‬ألن الدِّين ال يفرض وصايته‪ ،‬ويف الوقت‬
‫ذاته‪ ،‬ال يريد من اإلنسان أن يفرض إرادته عليه كوصاية يف وجود الدِّين‬
‫من عدمه؛ فالدِّين حر الوجود مبذول االختيار‪ ،‬وتلك من عناصر قوته‬
‫الدائمة‪.‬‬

‫إن الدِّين يف وجوده العام‪ ،‬وبوصفه إمياناً‪ ،‬قال خطابه بتمامه من دون‬
‫نقصان‪ ،‬لكن املنت الدِّيين ال ينبغي فهمه ‪ -‬حبسب الفاهمة التديُّنية ‪-‬‬
‫كمنظومة رياضية صبّت كينونتها يف لغة رقمية ميكن حسابها من دون‬
‫أخطاء‪ ،‬فالدِّين اعتمد وسيطاً لغوياً للتعبري عن مكنونه‪ ،‬وله بنية عالمات‬
‫دالة على وجوده‪ ،‬ومعلوم أن الوسيط اللغوي محّال أوجه يف دالالته‪ ،‬وهنا‬
‫ينفتح الدِّين للتبيني والشرح والبسط والتفسري والتأويل بغية الوصول إىل‬
‫ذلك املكنون‪ ،‬وال ريب أن اإلنسان هو الذي يُمسك زمام هذه املسالك منذ‬
‫انبثاق مشس األديان‪.‬‬

‫التأويلية النبويّة‬

‫‪28‬‬
‫ويف هذا اإلطار‪ ،‬جاء اصطفاء األنبياء املُرسَلني من اهلل ليبينوا ويشرحوا‬
‫ويؤولوا مكنون الدِّين الذي قد يبدو عصي الوضوح على املؤمنني به أو‬
‫املناوئني له‪ ،‬فصارت تأويلية األنبياء رأمساالً عضوياً جماوراً لرأمسال منت‬
‫الكتاب السماوي يف كليّته مع احرتمنا للفرق بينهما‪.‬‬

‫إن التأويلية النبوية ال ختطئ التبيني والشرح والتأويل بسبب العناية‬


‫اإلهلية املمنوحة لألنبياء املصطفني ألنها األقرب إىل جتربة الداللة كما‬
‫قصدها اهلل وهو صاحب املنت الدِّيين رغم أن اهلل قال يف كتابه‪ ،‬على‬
‫سبيل املثال‪ ،‬ويف أحد مواضعه‪َ  :‬ومَا َيعْلَمُ َتأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ‪( ‬البقرة‪،)7 :‬‬
‫لكن املقصود بذلك هو الغيب الذي ال يعلمه إال اهلل سوى النفر الذي‬
‫يصطفيه اهلل من عباده للعِلم به ويُعلمهم بسرّه‪ ،‬ومنهم األنبياء‪ ،‬وهذا ما‬
‫ميكن أن امسيه الوصاية من داخل املنت السماوي‪ ،‬وهي وصاية عضويّة‬
‫تكشف عن حتقّق درجة من االنسجام والتناغم والتوافق داخل كليّة املنت‬
‫الدِّيين‪ ،‬أقصد‪ :‬اهلل ‪ +‬األنبياء‪ ،‬وال غبار عليها وهي وصاية هلل على‬
‫خلقه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫لقد بقيت هذه املرجعيّة فاعلة يف الثقافة اإلسالمية‪ ،‬ولكن سرعان ما‬
‫أخذت تتنامى لدى غري النيب املصطفى‪ ،‬فهيّأ النيب حممد (ص) للمؤمنني‬
‫بدين اإلسالم خنبة من القرّاء واملبينني والشراح واملفسِّرين واملؤوّلني‬
‫واملتفقّه‪ ،‬وصار ظهورهم يتنامى يف القرن األول اهلجري ابتداء من بدء‬
‫إشراف النيب حممد (ص) عليهم حتى صاروا‪ ،‬تالياً عليه‪ ،‬مرجعيّة‬
‫استمرّت فاعليتها حتى يومنا (انظر كتابنا‪ :‬املثقفون يف القرن األول‬
‫اهلجري)؛ مرجعيّة حنن نصفها‪ ،‬أيضاً‪ ،‬بأنها عضويّة‪ ،‬ولكن من نوعٍ‬
‫تالٍ؛ ألنها تنهل من مرجعيّة (القرآن) الكريم وسنّة الرسول األمني (ص)‪،‬‬
‫وكذلك جتتهد مبا ال يتناقض مع كليّة املنت الديين (اهلل ‪ +‬النيب) لقول‬
‫أصول وفروع الدين للناس مبا هلم من حرية وأصالة واختالف اجتهادي‬
‫معقول يف التفسري والتبيني والتأويل‪.‬‬

‫يبدو التفقّه يف الدِّين شرعة مُمكنة‪ ،‬وهو ال ميثل وصاية سوى أنه وصاية‬
‫طبيعية ألنها عضويّة تنهل من صميم الدِّين سُلطتها بال تورّط الفقيه بأن‬
‫حيمل العصا بوجه الناس‪ ،‬لكن هذه الوصاية العضويّة التالية ستفقد‬
‫شرعيتها عندما تفعل ذلك‪ ،‬وحتمل العصا بنحو خيالف حرية منطق ‪‬لَا‬
‫‪30‬‬
‫ِإكْرَاهَ فِي الدِّين‪( ‬البقرة" ‪ ،)256‬وإنْ فعلْ فهي مُمارسة تكريسية ضارّة‬
‫غالباً ما يفعلها رجال الدِّين وهم منخرطون يف مؤسساتهم الدينية واحلزبية‬
‫أولئك الذين يسعون ألن يظهروا بوصفهم سُلطة على رقاب الناس‪ ،‬وكذلك‬
‫رجال احلُكم يف الدولة اإلسالمية عندما يُظهرون وصايتهم على الناس‬
‫بوصفهم سُلطة فوق ‪ -‬طبيعية (‪ .)Sur-natural‬إن عمل هؤالء يبدو نفوذ‬
‫وصاية إكراهية على الغري أو النظري يف اخللق‪ ،‬وهي سُلطة الوصاية غري‬
‫املرغوب فيها حتمًا‪.‬‬

‫الدين انفتاح وحرية‬

‫الدين هو انفتاح على الغري؛ انفتاح املُطلق املفارق على املُحايث‪ ،‬ورسالة‬
‫اهلل تصل إىل الناس عرب نيب مُرسَل معلوم االصطفاء‪ ،‬ويسمح الدِّين‬
‫باإلميان بها وفهمها وتعقلّها على حنو مباشر لكونها مبذولة القراءة لكُل‬
‫الناس بفعل اإلشهار املقدّس الذي ارتضاه الدِّين لنفسه‪ ،‬وإن َغمُض أو‬
‫أشكل على الناس أي جانب من رسالة الدِّين فاألسوة بالنيب أوالً وفقهاء‬
‫الدِّين ثانياً أولئك الذين يتخذون من التفقّه يف خطاب ورسالة الدِّين صنعة‬

‫‪31‬‬
‫أو مهنة (‪ )Occupation‬هلم‪ ،‬لكنّهم وعندما جيعلون معرفتهم سُلطة‬
‫وصاية مُطلقة مقوَّمة بالعصا والسيف والبندقية فإمنا هم خيالفون دورهم‬
‫الذي هلم عند اهلل‪.‬‬

‫إن الدِّين ال يبدو سوى ماهيّة تنويرية من حيث اهتمامه باإلنسان‪ ،‬ال‬
‫سيما الفهم والعقل لدى اإلنسان‪ ،‬ومبا أن الدِّين يضع اإلنسان على مسطرة‬
‫مستقبله‪ ،‬فهو ميتلك رسم الغد لإلنسان‪ ،‬سواء الغد الدنيوي أو األخروي‪،‬‬
‫من دون أن يكون هذا الرسم وصاية سوى ما يتعلّق بصميم الدين اخلاص‬
‫مبصري اإلنسان بعد املوت‪.‬‬

‫ال ميثل الدِّين أيّة وصاية لطاملا تنطلق هذه الوصاية من عضويته األصلية‬
‫اليت له مع الغري‪ ،‬لكنه سيكون وصاية عندما خترج العالقة العضويّة مع‬
‫الدِّين إىل ساحة أن يكون الدِّين سلطة مُباحة تتحكُّم بالغري على حنو‬
‫مُطلق‪ ،‬سُلطة ميارسها أتباع الدِّين الذين يصطنعون عالقتهم العضويّة به‬
‫تصنُعاً‪ ،‬وجيعلون صنعتهم هذه سُلطة إلخضاع الغري قسراً تبغي منه‬
‫الذيليّة إىل وصايتهم؛ فالعالقة مع الدِّين إمنا هي عالقة مباشرة مع كالم‬

‫‪32‬‬
‫اهلل لفهمه من جانب اإلنسان الذي يؤمن به‪ ،‬وإن حدث عدم فهم الدين‪،‬‬
‫وعلى حنو مباشر‪ ،‬فيمكن أن تكون العالقة ممتدّة إىل النيب املُرسَل وأتباعه‬
‫املتقني الصادقني‪ ،‬قوالً وعمالً‪ ،‬لالستعانة مبنظومته التأويلية العضويّة ملنت‬
‫الدِّين‪.‬‬

‫وملا كان للنيب (ص) عرتة تقيّة صادقة يثق بها هو نفسه‪ ،‬فهذه العرتة‬
‫ميكن االستعانة بها لفهم الدِّين من دون وصاية قسريّة مطلقة ألن مرجعيّة‬
‫الدِّين األصل واملرجعيّة النبوية تبقى غيثاً مفضال اإلمكان للتعامل معه وبه‬
‫لسقي الروح املقفرة‪ ،‬أما إذا مت التعامل مع مرجعيّة فقهائية تالية تقدِّم‬
‫نفسها برسم الوصاية‪ ،‬فذلك هو الذي ال ينبغي اعتماده‪ ،‬خصوصاً عندما‬
‫تتلبّس ‪ -‬هكذا مرجعيّة ‪ -‬رداء الكيان احلزبي أو اإليديولوجي أو أي إطار‬
‫مؤسساتي آخر غريهما كما هي الفقهائية املنغلقة وغريها من فقهائيّات‬
‫الظالم اليت غزت العامل منذ مطالع القرن العشرين؛ بل قبله‪ ،‬ومن هم‬
‫على غرارها تالياً كحركة اإلخوان املسلمني‪ ،‬وحزب التحرير اإلسالمي‪،‬‬
‫وأحزاب احلكم العراقي بعد ‪ ،2003‬وبقية األحزاب األخرى اليت يضمّها‬
‫املشهد اإلسالمي يف غري مكان بالعالَم املعاصر راهناً‪ ،‬وكل ذلك ال ميثل‬
‫‪33‬‬
‫مرجعيّة دينية تقية صادقة سوى أنها مرجعيّة وصاية على اآلخرين‬
‫ُتصرِّف الدِّين إىل الوجود كهويّة وصاياتيّة تبتغي من اآلخرين اتباعها على‬
‫حنو أعمى حتى إن هذه الطاعة العمياء وصلت إىل مستوى حنر املسلمني‬
‫على مسارب الطرقات كما رأينا ذلك مع جتارب تشكيالت (تنظيم‬
‫القاعدة) ومن ثم (تنظيم داعش) ومشتقاتهما تباعاً وكالهما أفرغ الدِّين من‬
‫مضمون احلرية الذي يضمّه حبيث قوّلته وشغّلته هذه اجلماعات مبا ال‬
‫يريد قوله وال تشغيله‪ ،‬فبدالً من النور حلَّ الظالم على اجملتمع‪ ،‬لكون‬
‫عالقة هذه املكوّنات مع الدِّين ليست عضويّة حقّة؛ بل هي قراءة تأويلية‬
‫غري مُنضبطة غارقة يف غلوّها وتطرّفها وهيمنة ذاتها الغريزية اليت تقوّل‬
‫الدّين مبا ال يريد قوله‪ ،‬وتلك واحدة من آليّات الوصاية سيئة الصيت‪.‬‬

‫إن التنوير ال ميكن له ميضي يف دروبه حتت راية وصاية الدِّين على‬
‫اإلنسان باملعنى املتطرِّف الذي ذكرناه؛ فالدّين جتربة ذاتية ‪ -‬شخصية‬
‫مع اهلل‪ .‬ولكن هل الدِّين‪ ،‬يف حدِّ ذاته‪ ،‬وصاية قسريّة على اإلنسان؟ ال‬
‫أعتقد بذلك؛ فاملُتدين ميكن أن يفهم الدِّين ويؤوّله كوصاية عليه بوصفه‬
‫فرداً ال ينبغي أن يريده مجْعاً معمماً سائداً على الناس‪ ،‬ويعمل على بسيط‬
‫‪34‬‬
‫وإشهار ذلك بني الناس‪ ،‬فيقدّم نفسه وقراءته للدِّين بوصفهما وصاية على‬
‫اإلنسان عرب إنشاء صومعات تفرض كيانها اجلماعاتوي بوصاية على‬
‫اآلخرين‪ ،‬وتلك معضلة تعذِّب اإلنسانية كُلها لكونها تنخر قيمة احلرية‬
‫اليت للدِّين وتؤوّهلا تدمريياً على حنو سُلطوي غري مرغوب فيه لتعطل‬
‫طاقة الدِّين احلقة يف احلياة‪.‬‬

‫اهلل ليس ضرحيًا‬

‫إن التنوير ليس وثنياً وال يبغي الوثنية‪ ،‬وال يصطفي إهلاً غري اهلل‪ ،‬وال‬
‫ينظر للعقل بوصفه أحد اآلهلة املقدّسة ليربمه بديالً عن اهلل ويدعو الناس‬
‫إليه‪ ،‬فال إله غري اهلل‪.‬‬

‫التنوير يدعوا إىل العمل بالعقل ضمن مُمكناته اليت وهبها اهلل نفسه‬
‫لإلنسان ودعاه إىل إعماهلا فهماً يف مُعاش احلياة للتحرّر من األوهام‬
‫واخلرافات واألساطري وسلطة اخليال اجلاحمة اليت تنتج اخلداع واخلوف‬
‫واليأس من مكانة اإلنسان املأمولة خريًا يف الوجود‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ال يهدّد التنوير أحد من الناس سواء كان فرداً أم مجاعة عندما يطلق‬
‫العنان لقرار اإلنسان الذي الذي يتخذه لكي يتحرَّر من اخلرافة واألساطري‬
‫والشِّرك باهلل‪ ،‬التنوير ليس ضد الدِّين وال يُهدّده‪ ،‬وإن جرى فذلكَ وهم ال‬
‫بد من برمه وتفكيكه بغية تقويضه لعزله ونسف أباطيله‪.‬‬

‫كما أن التنوير ال يعكّر صفو اإلميان باهلل‪ ،‬وال احرتام مقدّسات اهلل وعالقة‬
‫اإلنسان الشخصية بها‪ .‬إن التنوير يقدّم نفسه كنمط تفكري وفهم وتعقُّل‬
‫يوازي الفكرة اإلميانيّة باهلل لطاملا أن اإلنسان هو قامسهما املشرتك‪ .‬لذلك‬
‫ال يؤمن التنوير بكُل ما هو وهم وخيال أسطوري وخرايف الذي ال يرضى به‬
‫حتى اإلميان باهلل نفسه؛ بل يناقضه‪ ،‬ويقف على الضد منه‪ ،‬وبذلك ال‬
‫يقدّم التنوير نفسه كوصاية مُطلقة؛ فالتنوير ليس وصياً على أحد‪ ،‬ال‬
‫بالعصا‪ ،‬وال بالسيف‪ ،‬وال بالتابعية والذيليّة العمياء‪.‬‬

‫التنوير يقني مفكَّر فيه يؤدِّيه اإلنسان لكونه صانعه بغية التحرّر من ربقة‬
‫خيبة السكون لصاحل نبض التقدّم‪ ،‬ومن الظالم لصاحل نور احلرية‪ ،‬ومن‬

‫‪36‬‬
‫اخلرافة واألسطورة لصاحل التفكري العلمي املُمكن تداوله يف مُعاش الوجود‬
‫على حنو عملي مُحايث من دون اإلخالل مبكانة حضوريّة اهلل يف الوجود‪.‬‬

‫التنوير ال حيبس اهلل يف سجن ما لكي يعزله‪ ،‬وال يضعه يف ضريح ليحنطه‬
‫ويعبده كما لو كان ضرحياً‪ ،‬اهلل ليس سجيناً عند أحد من الناس‪ ،‬ومن ثمَّ‬
‫إن التنوير ال يسعى إىل زحزحة الدِّين عن طريقه ومكانه؛ فكالهما حيتفي‬
‫باإلنسان ويروم له اخلري واخلالص من اخلوف واخلرافة والالمعقول‪.‬‬

‫وإذ ترانا نفهم التنوير بوصفه حكمة فلسفية‪ ،‬فما أمجل مقولة الفيلسوف‬
‫ابن رشد عندما قال يف كتابه فصل املقال فيما بني احلكمة والشريعة من‬
‫االتصال‪ :‬إن احلكمة هي‪" :‬صاحبة الشريعة واألخت الرضيعة‪ ..‬وهما‬
‫املصطحبتان بالطبع املتحابّان باجلوهر"‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ّ‬
‫التنوير وحضورية النور اإلهلي‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫من املفارق إىل نقد اجرتار تأويليات املحايث‬

‫ال يزال تأثري مصطلح "التنوير" مثار جدل وتسـاؤل عـن معنـاه ودالالتـه يف‬
‫مسمع مـنْ يتلقّـاه؛ بـل وسـياق ظهـوره يف التـاريخ‪ ،‬وجُملـة مـا أثـار مـن‬
‫نقاشات أدَّت إىل بزوغ نظريات ورؤى ومواقف يف شأنه حتى صارت جـزءًا‬
‫من تأريخ الفكر عامّة والفكر التنويري على حنو خاص يف العالَم وال تـزال‪.‬‬
‫وهذا ما يدعونا دائماً إىل إمعان النظر والتأمُّل والتحليل اخلاصـة يف مفهـوم‬
‫هذا املصطلح‪ ،‬وحماولة االشـتغال املعـريف عليـه لـيس بعيـدًا عـن اإلنسـان‬
‫واجملتمع وغدهما أو مستقبلهما معـاً مـن أجـل حتصـيل جـدوى مُعطياتـه‬
‫للمشاركة يف حلِّ املشكالت اليت تواجه اجملتمعات والناس يف العالَم ومنها‬
‫جمتمعاتنا العربية واإلسالمية‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫جاءت األديان إىل الناس وهـي حتمـل خطابهـا التنـويري‪ ،‬فالـدين تنـوير‬
‫جــد األديـان مبـا أنـز َل مـن كتــب‬
‫حبسـب منظـوره اخلـاص بـه‪ ،‬واهلل مو ِ‬
‫مساوية؛ (التوراة‪ ،‬اإلجنيل‪ ،‬القرآن)‪ ،‬هذه الكتب السماوية املقدّسـة الـيت‬
‫أوحاها اهلل إىل األنبياء ممّن اصطفاهم‪ ،‬وطلب منهم بأن ميشـوا بهـا تنـويرًا‬
‫بني الناس هو تكليف مسـاوي‪ ،‬واهلل يكلِّـف أي شـخص مـن النـاس بـأن‬
‫يكون تنويرياً على غرار الـنيب املختـار‪ ،‬فـالتنوير الـديين مشـرتك كمَهمـة‬
‫لدى النـاس مجيعـاً‪ ،‬ولكـن دور األنبيـاء‪ ،‬مـن بـني هـؤالء النـاس‪ ،‬أكثـر‬
‫مسؤولية حبُكم ما موكول إليهم من جهة اهلل‪.‬‬

‫وما هو مؤكّـد أن "التنـوير الـديين" خيتلـف عـن التنـوير أيـاً كـان شـكله‬
‫ومشــربه كــالتنوير مبعنــاه االصــطناعي الــذي ظهــر يف العصــور الغربيــة‬
‫احلديثة‪ ،‬فإذا كان هذا التنوير األخري يعمل مبفهوم التحرّر‪ ،‬فـإن التحـرّر‬
‫التنويري الديين إمنا هـو التحـرّر مـن الشـرك بـاهلل‪ ،‬وكـذلك التحـرّر مـن‬
‫الغرائزية البشرية الضارة لدى املرء‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وإذا كان التنوير يدعو إىل االنفتاح على اإلنسان‪ ،‬فإن التنوير الديين يفعـل‬
‫األمر نفسه عندما حيتفي باإلنسان‪ ،‬ويطلب منه أن ميشـي بـالنور اإلهلـي‬
‫بني الناس ليحمله شعلة وضّاءة يف الوجـود؛ ألن "هـدف الـدين هـو خـري‬
‫اإلنسان"‪ ،‬كما قال الفيلسوف فويرباخ يف كتابه جوهر املسيحية (ترمجة‪:‬‬
‫جورج برشني‪ ،‬ص ‪ .)225‬وهنا اختالف يف بؤرة االنطـالق‪ ،‬وهـذه البـؤرة‬
‫اليت هي "اإلميان"؛ ألنّ خطاب التنوير اإلهلي يعتمد النسْـقية اإلميانيّـة‪،‬‬
‫وملعرفة ذلك خري لنا الذهاب إىل الكالم اإلهلي نفسه مباشـرة‪ ،‬كمـا هـو يف‬
‫(القرآن) الكريم‪ ،‬لنقف عند حدود التنوير حبسب نواته اإلميانيّة اإلهليّة‪.‬‬

‫النور والتنُّور‬

‫إن لفــظ "التنــوير"‪ ،‬وحبســب رســم واشــتقاق هــذا امللفــوظ‪ ،‬مل يظهــر يف‬
‫(القرآن)‪ ،‬بدالً من ذلك ظهرت اشتقاقات أملتها سياقات الكالم اإلهلـي يف‬
‫(القــرآن) نفســه مثــل‪" :‬بنــورهم"‪" ،‬النــور"‪" ،‬نــوراً"‪" ،‬نــور""‪" ،‬نــوره"‪،‬‬
‫"التنّــور"‪" ،‬نــورهم"‪" ،‬نــوركم"‪" ،‬نورنــا" حتــى تصــل إىل حــواىل ‪ 47‬مــن‬
‫االستخدامات‪ ،‬وهذه وفرة يف الكتاب اإلهلي ممتازة املعطى‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫يف ســورة النــور نقــرأ‪﴿ :‬اهلل نــور الســموات واألرض﴾ (النــور‪ ،)35 :‬وهــذا‬
‫يعين أن اهلل هو النور الـذي يعـم كـل العـوالِم؛ ألنّ اهلل هـو الـذي ﴿خَلَـ َق‬
‫جعَـلَ الظُّ ُلمَـاتِ وَالنُّـورَ﴾ (األنعـام‪ .)1 :‬وهـذه املُكنـة‬
‫السمَاوَاتِ وَالْـأَرْضَ وَ َ‬
‫َّ‬
‫اإلهلية املُطلقة هي له حتى إنـه قـال يف كتابـه‪﴿ :‬اللَّـهُ وَلِـيُّ الَّـذِينَ َآمَنُـوا‬
‫ت‬
‫ت إِلَــى النُّــو ِر وَالَّــذِينَ كَفَ ـرُوا أَوْلِيَــاؤُهُ ُم الطَّــاغُو ُ‬
‫جهُمْ مِــ َن الظُّ ُلمَــا ِ‬
‫يُخْ ـرِ ُ‬
‫يُخْرِجُوَنهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّ ُلمَاتِ أُولَئِكَ َأصْحَابُ النَّارِ ُهمْ فِيهَـا خَالِـدُونَ﴾‬
‫(البقرة‪)35 :‬؛ بل ويضيف يف سورة األنعـام‪﴿ :‬أَ َومَـنْ كَـانَ مَيْتًـا َفأَحْيَيْنَـا ُه‬
‫جعَلْنَا لَهُ نُورًا َيمْشِي بِهِ فِي النَّـاسِ﴾ (األنعـام‪ .)122 :‬ومـن ثـم يف سـورة‬
‫وَ َ‬
‫األعراف‪﴿ :‬فَالَّذِينَ َآمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وََنصَرُوهُ وَاتََّبعُوا النُّورَ الَّـذِي أُنْـزِلَ َمعَـ ُه‬
‫أُولَئِكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ﴾ (األعراف‪.)157 :‬‬

‫وواضح أن مَنْ سارَ وفق النور اإلهلي أفلحَ وسيفلحَ يف نصـيبه‪ ،‬كمـا أن اهلل‬
‫ُمدافع بإرادتـه عـن نـوره ليتمـه يف الوجـود مهمـا نبـأت أصـوات الـرفض‬
‫والتمرّد؛ ففي سورة التوبة نقـرأ‪﴿ :‬يُرِيـدُو َن أَ ْن يُطْفِئُـوا نُـورَ اللَّـ ِه بِـ َأفْوَا ِههِ ْم‬
‫وَ َيأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُو َرهُ وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ﴾ (التوبـة‪ ،)32 :‬كمـا أن مـن‬
‫ج َعلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا َفمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ (النور‪ ،)40 :‬فاملخلوق ال يتحصّـل‬
‫﴿لَمْ يَ ْ‬
‫‪41‬‬
‫النور اإلهلي إال من اهلل‪ ،‬وبذلك فإن النور اإلهلـي هـو مُكنـة مطلقـة هلل يف‬
‫اخللق؛ إذ إنه سبحانه هو الذي يبث نوره يف عـوالِم األرض والسـماء وهـو‬
‫ني‬
‫الش ْمسَ ضِيَاءً وَالْ َقمَرَ نُورًا َوقَـدَّ َرهُ مَنَـازِلَ لَِتعْ َلمُـوا عَـدَدَ السِّـنِ َ‬
‫ج َعلَ َّ‬
‫﴿الَّذِي َ‬
‫وَالْحِسَابَ﴾ (يونس‪.)5 :‬‬

‫ويف سورة هود‪ ،‬يأتي الكالم اإلهلي إىل ملفوظ التَّنُّورُ‪﴿ :‬حَتَّى إِذَا جَا َء َأمْرُنَـا‬
‫ح ِملْ فِيهَا مِنْ ُكلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْ ِن وَأَهْلَ َك إِلَّا مَ ْن سَـبَ َق عَلَيْـ ِه‬
‫َوفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا ا ْ‬
‫الْقَوْلُ َومَنْ َآمَنَ َومَا َآمَنَ َمعَهُ إِلَّا قَلِيل"﴾ (هود‪ .)49 :‬ويبدو لفظ "التَّنُّورُ" أنه‬
‫حييل إىل معنى فعل الطلوع ملا هو مـادي ملمـوس كطلـوع املـاء مـن عيـون‬
‫الثرى رغم أن التَّنُّورُ هو امللفـوظ الوحيـد يف الكـالم اإلهلـي القرآنـي الـذي‬
‫اشتقه اهلل برسم موسّع لكنه يطال حركة حسيّة منظورة‪ .‬ويف سـورة النـور‪،‬‬
‫ض‬
‫يشبِّه اهلل نوره باملشكاة اليت تضم مصباحاً‪﴿ :‬اللَّهُ نُـورُ السَّـمَاوَاتِ وَالْـأَرْ ِ‬
‫ب‬
‫مََثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْشكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاح" ا ْل ِمصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ َكأََّنهَا كَ ْوكَ "‬
‫دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَا َركَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَ ْرقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ َيكَادُ زَيُْتهَا ُيضِـي ُء‬
‫وَلَوْ لَمْ َتمْسَسْهُ نَار" نُور" عَلَى نُورٍ َيهْدِي اللَّهُ لِنُـو ِرهِ مَـنْ يَشَـاءُ وَ َيضْـرِبُ اللَّـ ُه‬
‫ا ْل َأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّ ُه ِبكُلِّ َشيْءٍ عَلِيم"﴾ (النور‪.)35 :‬‬
‫‪42‬‬
‫النور يف املُحايث‬

‫وهذا حسم بائن عندما أنزل اهلل نوره ليجعله ميشي بـني النـاس‪ ،‬ال سـيما‬
‫ممن ألفَ له هذا النور ‪ ،‬وميكن أن يالحظه هؤالء الناس حبسب إدراكهـم‬
‫احلسي حتى زادهم اهلل أمراً ليخاطب النـاس يف سـورة النسـاء‪﴿ :‬يَـا أَُّيهَـا‬
‫النَّاسُ قَدْ جَا َءكُمْ بُرْهَان" مِنْ رَِّبكُمْ وَأَْنزَلْنَا إِلَ ْيكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء‪.)174 :‬‬
‫وما أنزلهُ اهلل هو كالمه اإلهلي (القرآن) الذي يصفه بالنور املُبني‪ ،‬ما يعين‬
‫أن اهلل‪ ،‬وبوصــفه نــوراً وهــو املفــارق (‪ )Transcendent‬املطلــق جملــرّد‬
‫احلواس‪ ،‬يُظهِر نوره جبهة عينيـة دالـة علـى خطابـه؛ جهـة قـد تكـون‬
‫حمسوســة ومقــروءة ومُدركــة‪﴿ :‬قَـ ْد جَــا َءكُمْ مِـنَ اللَّـ ِه نُــو "ر َوكِتَــاب" مُ ـبِني"﴾‬
‫(املائــدة‪ ،)15 :‬وهــي طريقــة اهلل اخلــالق يف كالمــه املنـزّل بشــأن التــوراة‬
‫واإلجنيل من ذي قبـل؛ إذ قـال‪﴿ :‬إِنَّـا أَْنزَلْنَـا التَّـوْرَاةَ فِيهَـا هُـدًى وَنُـور"﴾‬
‫(املائدة‪ ،)44 :‬وقارئ أسفار التوراة جيد ذلك واضحاً‪ ،‬وبالتـالي ﴿ َوآَتَيْنَـا ُه‬
‫الْإِنْجِيـلَ فِيـهِ هُـدًى وَنُـور"﴾ (املائـدة‪ ،)46 :‬وقـارئ األناجيـل جيـد ذلـك‬
‫واضحاً‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أما (القرآن) فخاطب النيب حممـد (ص) حيـث الـروح والكتـاب واإلميـان‬
‫ب أَْنزَلْنَـا ُه‬
‫الذي جعلها اهلل كلها نوراً للهداية حنو الطريق املسـتقيم‪﴿ :‬كِتَـا "‬
‫إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّ ُلمَاتِ إِلَى النُّورِ بِـإِذْنِ رَِّبهِـمْ ِإلَـى صِـرَاطِ ا ْل َعزِيـ ِز‬
‫ت‬
‫حمِيدِ﴾ (إبراهيم‪ ،)1 :‬ومن ثم‪﴿ :‬أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِـنْ َأمْرِنَـا مَـا كُنْـ َ‬
‫الْ َ‬
‫ج َع ْلنَـا ُه نُـورًا َنهْـدِي بِـ ِه مَـ ْن َنشَـا ُء مِـ ْن‬
‫ب َولَا ا ْل ِإميَا ُن َو َل ِك ْن َ‬
‫َت ْدرِي مَا ا ْل ِكتَا ُ‬
‫عِبَادِنَا وَإِنَّ َك لََتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (فصلت‪.)53 :‬‬

‫وهذا يعين أن كتاب اهلل واإلميان باهلل هما النور‪ ،‬والكالم جزء من مسـطرة‬
‫إهليّــة متكاملــة قوامهــا كتــاب اهلل القــرآن‪ ،‬وســنّة نبيــه‪ ،‬فيقــول اهلل‪:‬‬
‫ني وَالشُّـ َهدَا ِء‬
‫ِـالنب ِِّي َ‬
‫ب َوجِـي َء ب َّ‬
‫ض ِبنُـو ِر رَِّبهَـا َو ُوضِـ َع ا ْل ِكتَـا ُ‬
‫ت الْـ َأ ْر ُ‬
‫﴿ َو َأ ْش َر َق ِ‬
‫ضيَ بَيَْنهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْ َلمُونَ﴾ (الزمر‪ .)69 :‬وقال أيضاً‪﴿ :‬هُوَ الَّـذِي‬
‫َو ُق ِ‬
‫ت إِلَـى النُّـو ِر وَإِنَّ اللَّـ َه‬
‫جكُمْ مِـ َن الظُّ ُلمَـا ِ‬
‫يُنَزِّلُ عَلَى عَبْ ِدهِ آَيَاتٍ ب َِّينَاتٍ لِيُخْرِ َ‬
‫جعَـ ْل‬
‫ِبكُمْ لَرَءُوف" رَحِيم"﴾ (احلديد‪ ،)9 :‬ومن ثمَّ خياطب الناس قائالً‪﴿ :‬وَيَ ْ‬
‫َلكُمْ نُورًا َتمْشُونَ بِـهِ وَ َيغْفِـرْ َلكُـمْ وَاللَّـهُ غَفُـور" رَحِـيم"﴾ (احلديـد‪ .)28 :‬مـا‬
‫يعين‪ ،‬ويف السورة نفسها‪ ،‬أن النور سيتحوّل إىل مُكـرَّس فيـه مقتـدِر لـدى‬
‫الناس‪﴿ :‬يَوْمَ تَرَى ا ْلمُ ْؤمِنِنيَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ يَ ْسعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ِبأَيْمَـا ِنهِ ْم‬
‫‪44‬‬
‫بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّات" تَجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا ا ْلأَْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُـوَ الْفَـ ْو ُز‬
‫ا ْلعَظِيمُ﴾ (احلديد‪ .)12 :‬ويطالـب النـاس‪﴿ :‬فَـ َآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُـولِهِ وَالنُّـو ِر‬
‫الَّذِي أَْنزَلْنَا وَاللَّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِري"﴾ (التغابن‪ ،)8 :‬حتى ليطلب مـنهم أن‬
‫ُل َشيْءٍ قَدِير"﴾ (التحـريم‪:‬‬
‫يقولوا‪﴿ :‬رَبَّنَا أَْتمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّ َك عَلَى ك ِّ‬
‫‪ .)8‬ويتساءل سبحانه موضِّحاً‪َ ﴿ :‬أ َفمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْ َرهُ لِلْإِسْـلَامِ َفهُـوَ عَلَـى‬
‫ني﴾‬
‫نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَ ْيل" ِل ْلقَا ِس َي ِة ُقلُوُب ُه ْم مِـ ْن ِذكْـ ِر اللَّـ ِه أُو َلئِـ َك فِـي ضَـلَا ٍل مُـ ِب ٍ‬
‫(الزمر‪.)22 :‬‬

‫تبدو كل هذه االستخدامات الربانية أنها ممكنة بتقـديم صـورة وافيـة عـن‬
‫داللة النور يف (القرآن)؛ فمنبع النور هو اهلل؛ بل اهلل هو نور مُطلق وشـامل‬
‫ومفارق‪ ،‬لكنه مُحايث للطبيعة واإلنسان والعالَم من زاويـة معينـة‪ ،‬فـالنور‬
‫يتحوّل إىل كينونة فعل تنوير يهبه اهلل لإلنسـان بغيـة أن يكرِّسـه ليوجِـده‬
‫نوراً يف األرض ابتداء من ذاته صوب ذوات اآلخرين‪ ،‬واملََهمّة املرجتـاة مـن‬
‫اإلنسان أن يعمم النور اإلهلـي يف الوجـود برمتـه‪ ،‬وبـذلك يصـبح اإلنسـان‬
‫تنويرياً‪ ،‬وهي تنويرية دينية يُراد هلا أن تكون تارخيانية جتري على حنو‬
‫مُالزم ومُحايث يف التاريخ لتزف وتُحدِث نور اهلل يف األرض والناس عنـدما‬
‫‪45‬‬
‫ترنو إىل النور اإلهلي لتمشي به يف احلدوث (‪ )Geschhehen‬اليومي بكل‬
‫ُمجرياته‪ .‬وبالتنوير اإلهلي يتحرّر اإلنسان من ظالم الكفر أو الشرك بـاهلل‪،‬‬
‫كما أن النور املكرَّس هنـا يتوجّـه بالضـد مـن نسـيان اهلل ليمضـي األنسـان‬
‫تنويرياً عندما يصبح جاري احلدوث يف العامل املُحايث‪.‬‬

‫وبهذا املعنى‪ ،‬فـإن التنـوير اإلهلـي جيـري كمسـؤولية لإلنسـان يف األرض‬


‫واجملتمع والتاريخ والوجود‪ .‬وواضح أن اهلل ميارس تنويره اإلهلـي بـإطالق‬
‫عرب اخللق الشامل للوجود كُله وفيه اإلنسـان؛ فـالوجود هـو مـوطن النـور‬
‫اآلتي من اهلل الذي مينحه لإلنسان والطبيعة سواء كان نوراً يتجلـى عينيـ ًا‬
‫نراه حبواسنا أو النور الذي يبثّه اهلل يف ذواتنا اإلنسـانية الباطنيـة لنمشـي‬
‫به بني الناس ومنارس مفاعيله بوصفنا متنوّرين بالنور اإلهلي‪.‬‬

‫ب‬
‫وهكذا مُهمة كلّف اهلل بها األنبياء الذين اصطفاهم من بني خلقـه؛ ﴿كِتَـا "‬
‫أَْنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّ ُلمَاتِ إِلَى النُّـورِ بِـإِذْ ِن رَِّبهِـ ْم إِلَـى صِـرَا ِط‬
‫حمِيدِ﴾ (إبراهيم‪ .)1 :‬وهذا يعين أن النيب مكلّـف مبَهمـة التنـوير‬
‫ا ْل َعزِيزِ الْ َ‬
‫اإلهلي القاضي بإخراج الناس من ظُلمات الشـرك والعمـاء إىل نـور اإلميـان‬

‫‪46‬‬
‫ت‬
‫باهلل‪ ،‬وأيضاً قوله سبحانه‪َ ﴿ :‬وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ َأمْرِنَا مَا كُنْـ َ‬
‫جعَلْنَـاهُ نُـورًا َنهْـدِي بِـهِ مَـنْ نَشَـاءُ مِـ ْن‬
‫تَدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَلَا الْ ِإميَانُ وَ َلكِنْ َ‬
‫عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لََتهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (فصـلت‪ .)53 :‬فالـدور التنـويري‬
‫للنيب إذن هو هدي الناس إىل صراط النور اإلهلي‪ ،‬ما يعين أن األنبياء هـم‬
‫أصحاب تنوير‪ ،‬بعـد اهلل‪ ،‬وقـد جعلـهم خلفـاء لـه يف األرض‪ ،‬واهلل يلقـي‬
‫املسؤوليّة علـى املـؤمنني بـه أن يكونـوا تنـويريني؛ فسـبحانه جعـل نـوره‬
‫لإلنسان ﴿نُورًا َيمْشِي بِهِ فِـي النَّـاسِ﴾ (األنعـام‪)122 :‬؛ فـالنور أنزلـه اهلل‬
‫بوصفه ﴿نُورًا مُبِينًا﴾ (النساء‪)174 :‬؛ إذ قـال‪﴿ :‬قَـ ْد جَـا َءكُمْ مِـنَ اللَّـهِ نُـو "ر‬
‫َوكِتَاب" مُبِني"﴾ (املائدة‪ ،)15 :‬ما يعين أن اهلل وفّر للناس الطريق ألن يكون‬
‫ي من نوره اإلهلي‪.‬‬
‫أحدهم تنويرياً بهد ٍ‬

‫خنلص ههنا إىل أن التنوير الـديين مصـدره بـإطالق هـو اهلل الـذي بثَـه يف‬
‫الوجود‪ ،‬ويكلّف اإلنسان بأن يكون تنويريـاً سـواء "اإلنسـان – الـنيب" أو‬
‫"اإلنسان غري النيب" املـؤمن بـالنور اإلهلـي الـذي جيسِّـده اهلل عـرب فعـل‬
‫اخللــق الشــامل كمــا يبيّنــه اهلل عــرب كالمــه اإلهلــي‪ ،‬ســواء يف التــوراة أو‬

‫‪47‬‬
‫اإلجنيل أو (القرآن)‪ ،‬وكـل تنـوير ديـين ال خيـرج عـن هـذا املعنـى؛ ألن‬
‫األديان اليت تواتر ظهورها تنطلق منه‪.‬‬

‫نورٌ بال تأويل‬

‫إن اإلميان باهلل يتحوّل إىل سلوك مُعتقَد ب ِه بغية العمل‪ ،‬ولعلنـا ويف الكـالم‬
‫اإلهلي‪ ،‬وعندما نقرأ اآلية اليت تقول‪﴿ :‬تَرَى ا ْلمُـ ْؤمِنِنيَ وَا ْلمُ ْؤمِنَـاتِ يَسْـعَى‬
‫نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ِبأَ ْيمَا ِنهِمْ﴾ (احلديـد‪ ،)12 :‬نصـبح بـإزاء دليـل للعمـل‬
‫التنويري شفاف املنبع طالبَ اهلل به األنبياء واملـؤمنني بدينـه مـن النـاس‪،‬‬
‫على حدٍّ سواء‪ ،‬بأن ميارسوه كفعـل لـه ال بـد أن يكـون دوره التارخيـاني‬
‫واألنطولوجي تلقائياً وعلى حنو مطـابق يف شـفافيته‪ ،‬لكـن التنـوير الـديين‬
‫وبهذا املعنى قد يأخذ منحـى آخـر عنـدما خيـرج إميـان الشـخص بـالنور‬
‫اإلهلي من جمرّد موافقة شفافة لإلميان إىل ما هو أبعد منه باعتماد صـنائع‬
‫تديُّنيّــة تاليــة كفنــون التحليــل‪ ،‬والتفســري‪ ،‬والتأويــل‪ ،‬وإنشــاء األديــرة‪،‬‬
‫والكنائس‪ ،‬واملساجد‪ ،‬واجلوامع‪ ،‬وتكوين احلـوزات الدينيـة‪ ،‬إىل جانـب‬
‫الفقهاء أو ما يسمى "رجال الـدين" ملـدِّ اإلميـان بـالنور اإلهلـي أو التنـوير‬

‫‪48‬‬
‫اإلهلي إىل نسْق مجاعاتي ‪ -‬عملي أبعد من مفهـوم "الـدين – اجلماعـة"؛‬
‫حبيث يأخذ النور الذي يسـعى فيـه بـني أيـدي النـاس إىل قصـديّة تفـوق‬
‫قصــديّة اإلميــان بــالنور اإلهلــي املُعتقــد ب ـهِ‪ ،‬وتقدميــه كتنــوير مجاعــاتي‬
‫خمصوص يتخـذ‪ ،‬علـى سـبيل املثـال‪ ،‬مـن اإليـديولوجيا‪ ،‬مـثالً‪ ،‬هيكلـة‬
‫خ طابية ملزاولة النـور‪ /‬التنـوير اإلهلـي خـارج شـفافيته األصـل الـيت لـه!‬
‫مبعنى سحب تلقائية النور اإلهلي من كونه جتربة شخصـية يُـراد هلـا أن‬
‫تكون شفافة حبيث ميكن أن جيرّبها أي شخص يؤمن بالتنوير اإلهلـي إىل‬
‫جتربة مجاعاتيّة تغلب عليها الذات عندما تتخذ شـكل أنسـقة خطابيـة‬
‫تضع النور اإلهلـي يف سـوق األيـديولوجيا واملراحبـة الدالـة علـى أغـراض‬
‫أخرى حترِّف اإلميان بالنور اإلهلي عن مساره الشفاف حنو غـريه؛ فبـد ًال‬
‫من أن تُخرج "النَّاسَ مِ َن الظُّ ُلمَاتِ إِلَى النُّورِ"‪ ،‬تراهـا تُدخلـهم إىل حُجُـب‬
‫مُظلمة‪ ،‬وتصف ذلك‪ ،‬زوراً بالطبع‪ ،‬بأنه تنـوير ديـين‪ ،‬وبـدالً مـن جعـل‬
‫النور اإلهلي شفاف ًا كما نقـاؤه األول تقدّمـه هـي علـى حنـو ضـبابي مـتخم‬
‫باملخاطر يف غالب األحيان‪ ،‬نراهـا جتـرّه إىل متاهـات ينخـرط فيهـا النـور‬
‫اإلهلي واملتنوِّر اإلهلي صـوب تيـه وضـياع وعتمـة وهـالك!! هـذا التنـوير‬
‫‪49‬‬
‫الديين هو الشكل املزيّف الذي ميوضع املوجود اإلنسي يف أتون ال شـفافية‬
‫فيها لإلميان بالنور اإلهلي األصل كما هو نبته ودالالته‪.‬‬

‫إن للـدين نسْــقه املفــارق لكنّــه املُــالزم أو املُحايــث (‪ )Immanent‬ملــا هــو‬


‫تارخياني أنطولوجي‪ ،‬وذلك هو اقتدار مُطلق للنسْق الـديين عنـدما يصـبح‬
‫اإلنسان اجلزء احليوي الذي ميشي بـالنور اإلهلـي يف دروب احليـاة كافـة‬
‫يف الوجود وهو املرجتى‪ .‬أما وعندما يأخذ النسْق الـديين؛ بـل قـل‪ :‬نسْـق‬
‫النور اإلهلي‪ ،‬طابعاً أيديولوجياً تزييفي املنحى وحتريفي اهلوى من جهـة‬
‫اإلنسان يف حدوث التاريخ‪ ،‬فإن النور اإلهلي يسـتحيل إىل حقـل جتـارب‬
‫لإلنســان تطبِّــق معــايري خارجيــة مُســتعارة مــن تأويليــات أنسْــقة التيــه‬
‫األنطولوجي اليت خترج إميانيّة النور اإلهلـي أو النـواة األخـص لإلميانيّـة‬
‫من حدود نـور االقتـدار اإلهلـي‪ ،‬كمـا أرادهـا اهلل‪ ،‬إىل السـعي بهـا حنـو‬
‫االستسالم لعماء الضالل األنطولوجي‪ ،‬ال سيما ذلك الذي جترّبه مجاعـات‬
‫احلماسة اإلسالموية أو مجاعات تأصيل الدين خـارج نفسـه؛ فالـدين هـو‬
‫ديــن‪ ،‬والــدين لــيس هــو العِلــم بداللــة مصــطلح (‪ ،)Scientific‬وال هــو‬
‫‪ )Religious‬كمــا‬ ‫(‪enthusiasm‬‬ ‫األيــديولوجيا‪ ،‬وال احلماســة الدينيــة‬
‫‪50‬‬
‫ميثلها اإلسالم السياسـي‪ ،‬ال سـيما اإلسـالموي املتطـرِّف منـه أو املُمارسـة‬
‫العدميّة باسم الدِّين‪.‬‬

‫إن ماهيّة التنوير اإلهلي ليست فكرة مُجـرّدة؛ بـل هـي ماهيّـة للحـدوث‪،‬‬
‫ماهيّة أن حتدث‪ .‬إن الدين إميانيّة يُعكِّر صفو نواتها كُل تفكـري ال يسـتمد‬
‫نسْقه من الطبيعة اإلميانيّة اخلاصّة بالنور اإلهلي ذاته‪ ،‬وال مـن رتـوش أو‬
‫حُجب تأويلية‪ .‬لـذلك ال يعتمـد التنـوير الـديين إال علـى نسْـق اإلميانيّـة‬
‫بوصفه االقتدار املطلق هلل الذي يريد حضوريّة النور من دون غمامة التأويل‬
‫التحزّبي أو اإليديولوجي أو إسـالم اجلماعاتويّـة التدمرييـة العدميّـة‪ ،‬فـال‬
‫تنوير ديين من دون حضوريّة النور اإلهلي يف صفائه الشفّاف الوايف كما هو‬
‫يف نواة نفسه مُنزّالً يف املعيش التارخيي كفعل وحدث وحدوث يتوافـق مـع‬
‫ذلك الصفاء‪ ،‬صفاء النور املقدّس‪ ،‬الذي يُراد منه أن يكون نورًا بال اجرتار‬
‫أليّــة أســوار تفســريية ينشــئها اإلنســان تأويليـ ًا وهــو الُمــالزم أو املُحايــث‬
‫‪ )Immanent‬حول هذا النور فتحجبه‪ ،‬هذه األسـوار‪،‬‬ ‫(‪interpretation‬‬

‫لتسلب النقاء املُرجتى الذي له أن يوجد ويكون‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫إن النور اإلهلي يبدو مقروناً باحلكمة‪ ،‬ولذلك قال اهلل‪َ﴿ :‬اذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللَّـ ِه‬
‫ح ْكمَةِ َيعِ ُظكُـمْ بِـهِ﴾ (البقـرة‪،)231 :‬‬
‫عَلَ ْيكُمْ َومَا أَْنزَلَ عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَابِ وَالْ ِ‬
‫وتاليـ ًا قــال الــنيب حممَّــد (ص)‪" :‬رأس احلكمــة خمافــة اهلل"‪ ،‬وحبســب‬
‫التوراة قال اهلل لإلنسان‪" :‬خمافـة اهلل هـي احلكمـة" (سـفر أيـوب‪/28 :‬‬
‫‪ ،)2‬وكل ذلك يعين أن احلكمة التنويرية اإلهليّـة تتـوخّى اإلنسـان غايـة‬
‫وهدفا‪.‬‬

‫إن عظمة النور اإلهلي تكمن يف انفتاحه علـى املوجـود اإلنسـاني مـن بـني‬
‫موجودات أخرى‪ ،‬فهل يرتقى‪ ،‬هذا املوجود أو اإلنسـان‪ ،‬إىل صـفاء ذلـك‬
‫النور بوصفه حكمة تنويرية؟‬

‫ما أحراني هنا أن أسوق أمنيات نيب اهلل أيوب‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬بعد رحلـة‬
‫عذاب وخسران عندما قال‪" :‬كم أشتاق أن يعـود املاضـي‪ ،‬وترجـع األيّـام‬
‫ت يف الظـالم‬
‫اليت كان اهلل فيها حيرسين‪ ،‬ملا أنار مصباح ُه طريقـي‪ ،‬فسِـر ُ‬
‫على هدى نوره"؟ (سفر أيوب‪.)4 - 3 /28 :‬‬

‫‪52‬‬
‫بأي معىن نفهم التنوير اإلهلي‬

‫يف القرن األول اهلجري؟‬


‫(‪)10‬‬

‫دعوني أحتدَّث عن جتربة تنوير إسالمي متيّز به القرن األول اهلجري‬


‫قبل أن يظهر التنوير يف القرون التالية بالغرب األوروبي عندما جتلى‬
‫بفاعلية "العقل الفلسفي" الذي استقبلته الثقافة العربية اإلسالمية حديثاً‬
‫برحابة صدر متنوّع التلقي‪ ،‬لكنّها ثقافتنا العربية مل يؤثَر تنويرها حتى‬
‫اللحظة يف جمرى اإلنسان والدولة واجملتمع والتاريخ بسبب هيمنة‬
‫سرديات اخلرافة واألساطري واخلوف من العقل وقيمة حرية اإلنسان‪،‬‬
‫وشيوع مبدأ الوصاية‪.‬‬

‫ومن جانيب‪ ،‬كنتُ ركّزت يف أحدى مقاالتي‪ ،‬كما يف الفصل السابق‪ ،‬على‬
‫دالالت النور يف الكالم اإلهلي‪ ،‬كما رأينا ذلك يف الفصل السابق‪ ،‬فجوهر‬
‫السمَاوَاتِ‬
‫التنوير اإلهلي ‪ -‬حبسب (القرآن) ‪ -‬يستند إىل اآلية ﴿اللَّهُ نُورُ َّ‬
‫‪53‬‬
‫وَا ْلأَرْضِ﴾ (النور‪ ،)35 :‬بيد أن التنوير اإلسالمي يبدو أكثر تفصيالً ‪ -‬من‬
‫جانب آخر ‪ -‬فيما لو استدرجنا مفهوم "العقل" الذي هو لإلنسان دون‬
‫غريه من بني املخلوقات قبل أن يتخذ ‪ -‬هذا العقل ‪ -‬طابعاً قوامه التأمُّل‬
‫الفلسفي يف خالل قرون هجرية تالية تألّق فيها الفيلسوف العربي‬
‫باملصاحلة بني العقل والدين‪ ،‬فأنتجَ خطابه‪ ،‬يف هذا اجملال‪ ،‬منتصراً‬
‫للفلسفة وإن مل يغادر األرضية الدينية‪.‬‬

‫ومنذ وقت باكر‪ ،‬ويف املرحلة األوىل لشروق اإلسالم دينياً‪ ،‬كشف اهلل عن‬
‫دعوته لإلنسان ليعرف مكانته وطاقاته؛ وهو الذي خلق اإلنسان بتقويم‬
‫حسن‪﴿ :‬لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التني‪ ،)4 :‬وكرّمه ﴿وَلَقَدْ‬
‫كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ (اإلسراء‪ ،)70 :‬وسخَّر له املُسخّرات ﴿وَسَخَّرَ َلكُمْ مَا فِي‬
‫جعَلَ‬
‫السمَاوَاتِ َومَا فِي ا ْلأَرْضِ﴾ (اجلاثية‪ ،)13 :‬وبسط له األرض ﴿وَاللَّهُ َ‬
‫َّ‬
‫َلكُمُ ا ْلأَرْضَ بِسَاطًا﴾ (نوح‪ )13 :‬لينعم مبا فيها من طيبات‪ ،‬وحاجج‬
‫املالئكة بأنه سبحانه خلق اإلنسان ومنحه مزايا دون غريه مقارنة ببقية‬
‫اخللق ﴿عَلَّمَ آَدَمَ ا ْلأَ ْسمَاءَ كُ َّلهَا﴾ (البقرة‪ )31 :‬وتلك منزلة معرفية ذهنية‪،‬‬
‫ومن ثمَّ جعله خليفة له يف األرض‪﴿ :‬إِنِّي جَا ِعل" فِي ا ْلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾‬
‫‪54‬‬
‫(البقرة‪ .)30 :‬ويف ضوء ذلك حثّ (اهلل) الناس على التعلّم باتباع ما هو‬
‫أحسن مما تلقّاه عن ربه‪﴿ :‬وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُ ْنزِلَ إِلَ ْيكُمْ﴾ (الزمر‪،)55 :‬‬
‫األمر الذي يستلزم التفكري واالختيار بإعمال الفهم واإلدراك بالعقل والذهن‬
‫وبقية مُمكنات التفكري‪.‬‬

‫الفهم والعقل‬

‫إن تعلُّم األمساء يقتضي آلة ذهنية هي لدى اإلنسان "الفاهمة = الفهم"‪،‬‬
‫وهو ما حثّت عليه النبوّة احملمديّة بال تردُّد لكي يتداول الناس فاهمتهم‪،‬‬
‫ومن ذلك فهم الناس للوحي أو "تعامل العقل مع الوحي يف مظهره النصي‬
‫لتبني املُُراد اإلهلي املُضمر يف ذلك املظهر" (عبد اجمليد النجار‪ :‬خالفة‬
‫اإلنسان بني الوحي والعقل‪ ،‬ص ‪ ،)89‬ويصبح ذلك سبيالً هلم حتى إن‬
‫اخلليفة عمر بن اخلطاب قال يف سنة ‪ 14‬هجرية ملا وجّه عهده إىل أبي‬
‫موسى األشعري‪" :‬ال َفهْمَ ال َفهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ ِممَّا لَ ْيسَ فِي كِتَابِ‬
‫اللَّ ِه َتعَالَى وَلَا سُنَّ ِة نَبِيِّهِ‪."..‬‬

‫‪55‬‬
‫وكانت رسائل وعهود وخُطب اخلليفة علي بن أبي طالب حتث على‬
‫توظيف فاهمة اإلنسان أو الفهم اإلنساني يف تصريف مفردات احلياة للظفر‬
‫بداري الدنيا واآلخرة‪ ،‬وكان يقول عن "العدل" ‪ -‬على سبيل املثال ‪ -‬إنه‬
‫يتقوَّم "عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ؛ عَلَى غَا ِئصِ الْ َفهْمِ‪ ،‬وغَوْرِ ا ْلعِلْمِ‪ ،‬وزُهْرَةِ الْحُكْمِ‪،‬‬
‫ورَسَاخَةِ الْحِلْمِ؛ َفمَ ْن َفهِمَ عَلِ َم غَوْرَ ا ْلعِلْمِ" (نهج البالغة‪ :‬ص ‪.)473‬‬

‫إن تسويق الفهم يف الوعي اإلنساني خالل تلك املرحلة هو الفتح اإلنساني‬
‫ملوجودية اإلنسان يف الوجود‪ ،‬ال سيما عندما يرتافق ‪ -‬ذلك الفتح ‪-‬‬
‫وإعمال العقل اإلنساني‪ ،‬خصوصاً أنه إذا "تَمَّ ا ْلعَقْلُ نَقَصَ ا ْلكَالم" (نهج‬
‫البالغة‪ :‬ص ‪ ،)480‬وهذا إيذان واضح بربوع العقل اخلضراء يف ضبط هذر‬
‫الكالم اليومي االستهالكي من عدمه‪ ،‬وكذلك ميزان الكالم يف مواجهة‬
‫التفكري حول أعقد املسائل الدينية والفلسفية والفكرية والعلمية والتأويلية‪.‬‬

‫وكل ذلك‪ ،‬وأقصد الكالم اإلهلي املتمثل بكتاب اهلل (القرآن)‪ ،‬وكذلك‬
‫بالسنّة النبوية الشريفة‪ ،‬وبأحاديث الصحابة األبرار‪ ،‬دلَّ على وجود‬
‫تطلّع إىل أنسنة التفكري الديين يف احلياة والوجود اىل حدِّ ما‪ ،‬وبعبارة‬

‫‪56‬‬
‫أخرى كان ذلك ميثل "التعبري عن تسرُّب اإلنسان يف الشريعة النصية‬
‫واخنراط الذاتي النشيط يف املُنزَّل" اإلهلي ‪ -‬حبسب تعبري الدكتور بنسامل‬
‫محيش بكتابه (يف اإلسالم الثقايف‪ ،‬ص ‪ - )43‬ذلك التسرُّب الذي اجتهد‬
‫به احلراك القرآني والنبوي والصحابي يف القرن األول اهلجري‪.‬‬

‫وهذا يعين‪ ،‬فيما يعين‪ ،‬أن الدين اإلسالمي يكتنز قدراً هائالً من املصاحلة‬
‫بينه والعقل اإلنساني‪ ،‬وهو ما تنبّهت إليه النخب املثقفة اليت نشأت يف‬
‫مطلع الرسالة اإلسالمية تلك اليت التفَّت حول اإلهليّة اإلسالمية والنبوّة‬
‫الرسولية احملمديّة بثقة رائقة‪.‬‬

‫ولعلّ تأكيد الصحابة الكبار على مقولة "الفهم" اإلنساني" وإعمال‬


‫"الفاهمة" اإلنسانية يف أثناء التفكري لفيه تأكيد جلي املنحى على قدرة‬
‫اإلنسان بأن يكون ويوجد صُحبة اخلطاب القرآني‪ .‬وكان اإلنسان قد حباه‬
‫خالقه (اهلل) مبكانة مرموقة يف خطابه اإلهلي عندما دعاه إىل التفكري‬
‫والتأمُّل يف مُعطيات ومتضمّنات املنطق القرآني وما حواه ذلك يف شرائع‬
‫ورؤى ختص اإلنسان واحلياة والوجود وما وراءهم‪ .‬وكان التساؤل اإلهلي‬

‫‪57‬‬
‫لإلنسان مستداماً مثل‪َ ﴿ :‬أفَال َتعْقِلُونَ﴾ (البقرة‪ ،)44 :‬و﴿ َلعَ َّلكُمْ َتعْقِلُونَ﴾‬
‫(البقرة‪ )73 :‬وغريهما مبا يتكرَّر عرب صيغ عدّة لرتسيخ العقل الفاهم كآلة‬
‫ناجعة الصواب إذا ما اصطفاها اإلنسان طريقاً يف اإلميان والتفكري وعيش‬
‫احلياة والتفاعل مع الوجود‪.‬‬

‫ويف يومها‪ ،‬كان االختالف مع الدين اإلسالمي ومع النبوّة احملمديّة سائراً‬
‫إىل مديات مفتوحة‪ ،‬وتلك ظاهرة طبيعية؛ إذا كان الرسول حممد (ص)‬
‫يواجه ذبذبات ورغبات متعدّدة من الرفض واالختالف والتقاطع مع‬
‫خطاب الرسالة اإلسالمية كانت الروايات والتواريخ ذكرتها حبيث وصلت‬
‫إىل حدّ الرغبة باالعتداء على شخص الرسول نفسه (ص) كما همَّت بذلك‬
‫أم مجيل بنت حرب بن أمية ‪ -‬امرأة أبي هلب ‪ -‬عندما هاجت غرائزها‬
‫يوماً ومحلت احلجارة لرتمي بها الرسول (ص) يف مسجده‪ ،‬ناهيك عمّا‬
‫كان يرومه اليهود الكارهون والنصارى واألعراب املتعصبون من الذين مل‬
‫يرغبوا بدعوة اإلسالم‪ ،‬وكم حاكوا من الدسائس واملؤامرات؟‬

‫‪58‬‬
‫ورغم الوجه السليب ملثل هذه التصرّفات العدوانية إال أنها كانت كرّست‬
‫مجرة االختالف البشري مع الدين اجلديد‪ ،‬ومع شخص النبوّة رسول اهلل‬
‫حممد (ص)‪ ،‬ذلك االختالف الذي ظهر بصورٍ متعدّدة يف خالل القرن‬
‫األول اهلجري رغم أننا وجدنا أن هذه الصور‪ ،‬يف بعض األحيان‪ ،‬تهدر‬
‫دماء الصحابة الكرام وآل الرسول وغريهما‪ ،‬وتلك مسألة طبيعية يف حالة‬
‫ظهور الرساالت السماوية وظهور النبوّات‪ ،‬فهذه متغريات اسرتاتيجية يف‬
‫التاريخ اإلنساني‪ ،‬ومن الطبيعي أن تواجه‪ ،‬هكذا متغريات‪ ،‬حتديات‬
‫امليول الغرائزية للبشر والرؤى التفكريية اليت تكرّس االختالفية الضديّة أو‬
‫احلادة‪.‬‬

‫الدين واإلنسان‬

‫وبالعودة إىل احلديث النبوي الشريف‪ ،‬كان املسلمون مسعوا النيب حممد‬
‫(ص) يقول حديثه‪" :‬كُُّلكُمْ رَاعٍ َوكُُّلكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ‪ ،‬ا ِإلمَامُ رَاعٍ‬
‫جلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤول" عَنْ رَعِيَّتِهِ‪ ،‬وَالْمَرْأَةُ‬
‫َومَسْؤول" عَنْ رَعِيَّتِهِ‪ ،‬وَالرَّ ُ‬

‫‪59‬‬
‫جهَا َومَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّ ِتهَا‪ ،‬وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ‬
‫رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْ ِ‬
‫ومَسْؤو "ل عَ ْن رَعِيَّتِهِ"‪.‬‬

‫وترانا نستشف من كالم هذا احلديث عطره السوسيولوجي‪ ،‬لكن هذا‬


‫"الكُل" يف "كُُّلكُمْ" يبقى هو "كُل إنساني" و"كُل مُجتمعي" ضمناً‪،‬‬
‫والرعاية هي رعاية اإلنسان لإلنسان كما هي رعاية اإلنسان حلقوق اهلل‪،‬‬
‫وهذا ختريج إنسي ميكن أن نعدّه جزءاً من التفكري التنويري الذي كانت‬
‫حتبِّذه النبوّة املُحمديّة يف حينها ليكون سُنَّة العمل والتداول يف عيش‬
‫الوجود عرب التضامن اإلنساني بني الناس‪.‬‬

‫ثم إن اإلسالم خياطب اإلنسان بأن يعود إىل نفسه ليعرفها؛ ففي ذلك‬
‫بعض جناة‪﴿ :‬إِنَّ اللَّهَ َلا ُيغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى ُيغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُ ِسهِمْ﴾ (الرعد‪:‬‬
‫‪ ،)11‬ومعرفة النفس تأمُّل تداولي يف قيمة الذات اإلنسانية وقد جرّبته‬
‫لتكون وتوجد يف احلياة على أحسن صورة ومضمون‪ .‬وقدمياً كان الفالسفة‪،‬‬
‫قبل (القرآن)‪ ،‬قالوا‪" :‬اعرف نفسك"‪ ،‬ومعرفة النفس تضع الذات‬
‫اإلنسانية يف حدودها لكي ال تكون غُف ًال يف الوجود‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وواضح جداً أن القرن األول اهلجري السابع امليالدي هو قرن الدين‬
‫اجلديد (اإلسالم) الذي أنزله اهلل للناس يف تلك املرحلة ليبقى أبد اآلبدين‬
‫لكونه الدين السماوي األخري يف رحلة األديان اإلهلية أو السماوية‪ ،‬ويف‬
‫قرن ديين كالقرن األول اهلجري ما كانت مَهمته استقبال فرشَة فكرية‬
‫تنويرية خالصة يصنعها اإلنسان بذاته فحسب‪ ،‬لكن الدين اإلسالمي أيضاً‬
‫بسط كينونته ليس بعيداً عن اإلنسان‪ ،‬فهو ضمّنه يف خطابه بوصف‬
‫اإلنسان غاية يف الدارين ‪ -‬دار الدُنيا ودار اآلخرة ‪ -‬ووسيلة يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬وما التنوير سوى أن يكون اإلنسان بوصفه إنساناً عرب اخلطاب‬
‫الديين ال مُجرد غريزة بشرية‪.‬‬

‫إننا نفهم التنوير يف القرن األول اهلجري بهذا املعنى الذي ال يغادر‬
‫اإلسالم فيه اإلنسان وإنْ كانت رسالة هذا اإلسالم مساويّة منزّلة من اهلل‬
‫الذي‪ ،‬ورغم مفارقته للعامل‪ ،‬يبقى يف مُحايثة دائمة مع العالَم واإلنسان‬
‫والوجود يف كُل آن ومصري وغد آت‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫اهلوامش واإلحاالت‬

‫‪62‬‬
‫‪ . 1‬نُشر كمقال يف جملة (اجمللة العربية)‪ ،‬العدد‪ ،519 :‬الرياض‪ ،‬كانون‬
‫األول‪ /‬ديسمرب‪ .2019 ،‬ص ‪.89 – 84‬‬
‫‪ .2‬د‪ .‬رسول حممد رسول‪ :‬صورة املثقف يف الرتاث العربي‪ :‬ص ‪،99‬‬
‫الطبعة األوىل ‪ ،2011‬ص ‪ ،90‬الطبعة الثانية ‪ ،2017‬دار الشؤون الثقافية‬
‫العامة‪ ،‬بغداد‪.2011 ،‬‬
‫‪ .3‬د‪ .‬رسول حممد رسول‪ :‬هيا إىل اإلنسان‪ ..‬من الكائن البشري إىل‬
‫املوجود اإلنساني‪ ،‬ص ‪ ،127‬مركز سلطان بن زايد‪ ،‬أبوظيب‪.2018 ،‬‬
‫‪ .4‬أوليفييه روا‪ :‬اجلهل املقدس‪ ،‬ترمجة‪ :‬صاحل األمشر‪ ،‬ص ‪ ،299‬دار‬
‫الساقي‪ ،‬بريوت‪.2012 ،‬‬
‫‪ .5‬د‪ .‬رسول حممد رسول‪ :‬الفيلسوف‪ ..‬إنسان التنوير ومفكر صباح الغد‪،‬‬
‫ص ‪ ،24 - 23‬تنويريات للنشر‪ ،‬الكوفة‪ ،‬ط ‪.2019 ،2‬‬
‫‪ 6‬انظر‪( :‬د‪ .‬رسول حممد رسول‪ :‬الفيلسوف‪ ..‬إنسان التنوير ومفكّر صباح‬
‫الغد ص ‪.)39 – 37‬‬
‫‪ .7‬انظر‪( :‬د‪ .‬رسول حممد رسول‪ :‬الفيلسوف‪ ..‬إنسان التنوير ومفكّر‬
‫صباح الغد ص ‪.)46‬‬
‫‪ .8‬انظر‪( :‬د‪ .‬رسول حممد رسول‪ :‬الفيلسوف إنسان التنوير ومفكّر صباح‬
‫الغد ص ‪.)47‬‬
‫‪ .9‬حماضرة يف (مجعية الثقافة للجميع)‪ ،‬بغداد‪ ،‬األربعاء ‪ 21‬أغسطس‬
‫‪.2019‬‬
‫‪ .10‬نُشرت يف جريدة (الصباح)‪ ،‬بغداد‪ ،‬األربعاء ‪ 20‬شباط ‪ .2019‬ص ‪.15‬‬
‫‪63‬‬

You might also like