Professional Documents
Culture Documents
مقدمة
تستند املعرفة التارخيية إىل مصادر املاضي وأاثره اليت يعاد تركيبها وفق منهج حبثي
يقوم على االستقراء ،والتحقيق ،والنقد ،والتحليل الذي يتناول املؤثرات الداخلية واخلارجية
اليت أحاطت ابملشكلة التارخيية موضوع البحث ،وأسهمت يف تشكيلها .لكن حجم
املصادر ،ودقة االستقراء ،وخمرجات التحقيق ،ومهنية النقد ،وجرأة التحليل ال تفي وحدها
إلعادة تركيب املاضي؛ ألن عملية التحليل واإلعادة حتتاج إىل منهج قادر على استيعاب
ديناميات احلياة السياسية ،واالقتصادية ،واالجتماعية ،والثقافية ،الناظمة ملفردات احلدث
التارخيي .بيد أن أدبيات املدرسة الوضعية التجريبية يف أورواب حتاشت هذه التعقيدات يف
القرن التاسع عشر امليالدي ،وأثرت استقالل العلوم االجتماعية واإلنسانية عن بعضها،
مستندة يف ذلك إىل جمموعة من النظرايت الفلسفية التأملية اليت ميكن أن تضع إطارا نظراي
لقراءة أحداث املاضي وتفاسريها؛ إال أن الفعل التارخيي املركب ،وارتباط بعض أصوله
وسوابقه وخلفياته ابحلاضر قد خلق نوعا من التحدي؛ األمر الذي دفع خنبة من املؤرخني
احملدثني إىل البحث عن منهج تكاملي؛ لتفسري أحداث املاضي من خالل مناهج وفرضيات
طبقت على واقع معاصر ،ولذلك برزت فكرة التكامل ) (integrationأو التداخل
( )interdisciplinarityالتخصصي بني علم التاريخ والعلوم االجتماعية واإلنسانية
األخرى ملعاجلة املشكالت البحثية املعقدة ،ذات الديناميات السياسية واالقتصادية
واالجتماعية والثقافية والتواصل العضوي بني املاضي ،واحلاضر ،واملستقبل.
هذا هو أس املشكل املرتبط ابملنهج التكاملي لدراسة التاريخ الذي أشار إليه ابن
خلدون (ت 1406م) ،عندما أوضح أن علم التاريخ " حمتاج إىل مآخذ متعددة ،ومعارف
متنوعة ،وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إىل احلق ،وينكبان به عن املزالت واملغالط؛
ألن األخبار إذا اعتمد فيها على جمرد النقل ،ومل حتكم أصول العادة ،وقواعد السياسة،
وطبيعة العمران ،واألحوال يف االجتماع اإلنساين ،وال قيس الغائب منها ابلشاهد ،واحلاضر
ابلذاهب ،فرمبا مل يؤمن فيها من العثور ،ومزلة القدم ،واحليد عن جادة الصدق" ( .)1ال
جدال يف أن املعارف املتنوعة اليت قصدها ابن خلدون ،تتجسد يف عالقة علم التاريخ ابلعلوم
األخرى ،وكيفية توظيف مناهج تلك العلوم خلدمة التاريخ ،ليكون علما قادرا على إعادة
تركيب أحداث املاضي بطريقة موضوعية؛ إال أن عملية هتذيب وتشذيب وتطوير املنهج
التكاملي تبلورت يف أدبيات مدرسة احلوليات الفرنسية .ومتهيدا لذلك ،نستهل عرضنا يف
هذا اجلانب مبدخل عن علم التاريخ ومشكلة انتسابه املعريف (اإلبستمولوجي) ،وكيفية انتقاله
من الفلسفات التجريبية إىل الفلسفة النقدية اليت مهدت الطريق لنشأة مدرسة احلوليات
الفرنسية ،وشكلت مفردات منهجها اجلديد يف التاريخ.
علم التاريخ ومشكلة االنتساب املعريف (اإلبستمولوجي)
يف عصر النهضة األوروبية شجع فرانسيس بيكون) (2) (Francis Baconالنظرة
الوضعية للتاريخ ،متعلال أبن التاريخ يرتبط مبلكة الذاكرة عند اإلنسان ،والشعر مبلكة اخليال،
والفلسفة مبلكة اإلدراك ،ولذلك فإن " مهمة التاريخ اجلوهرية تكمن يف استذكار املاضي،
وتسجيله تسجيال يصور األحداث حبقيقتها وواقعها"( .)3إال أن ديكات (ت 1650 .م)
شكك يف هذه النظرة الوضعية ،قائال " :التواريخ ابلرغم من صدقها ،وعدم مبالغتها ،أو
تغريها لقيمة األشياء ،تعمد إىل حذف بعض االعتبارات الوضيعة؛ لتكون جاذبة النتباه
القارئ ،ولذلك جند أن األحداث اليت تصفها تلك التواريخ ،مل حتدث ابلشكل الذي
وصفت به؛ والذين حياولون توصيفها ،مسكنون بزهو الفرسان اخلياليني ،وتصويرهم لألعمال
غري الواقعية "( .)4ولذلك يرى ديكارت أن التاريخ يشد املؤرخ جتاه ماضي مزيف ،يبعده عن
احلاضر الذي جيب أن ينفتح عليه ،وعلى األفكار الفلسفية املعاصرة اليت جتعله ينظر إىل
املاضي بطريقة متوازنة ،يفاد من عربها يف ربط احلاضر ابملستقبل ( .)5استند الفالسفة
الطبيعيون إىل موقف ديكارت ،رافضني إطالق مصطلح علم على التاريخ ،متعللني أبن مادته
ختتلف عن مادة العلوم الطبيعية؛ ألهنا ال توصف ابلثبات ،وأن الوقائع التارخيية ال ميكن
معاينتها مباشرة ،وإخضاعها لالختبار والتجربة ،وال ميكن أن تقودك تلك الوقائع إىل
استنباط نظرايت عامة أو قوانني علمية ،وأن املؤرخني أنفسهم ال يتفقون على تفسري واحد
للحدث التارخيي .وبناء على ذلك توصل بعضهم إىل نتيجة ،مفادها أن كل " جمهود يرمي
إىل إقامة التاريخ على أسس علمية يعد جمهودا ضائعا ،بل وداعيا إىل السخرية
واالستهزاء"( .)6بيد أن هذا الربط املعيب بني منهج علم التاريخ ومناهج العلوم الطبيعية قد
جتاوزه الزمن ،علما أبن األحباث األكادميية أثبتت أن علم التاريخ ،يعتمد على حزمة من
املسائل اإلجرائية ،املرتبطة جبمع املصادر التارخيية ،ونقدها وحتليلها يف إطار واقعها السياسي
واالجتماعي واالقتصادي والثقايف ،مث إعادة تركيبها لرسم صورة أقرب إىل احلقيقة .واحلقيقة
يف حد ذاهتا نسبية يف جمال العلوم اإلنسانية؛ لكن حتقيق النسيب نفسه يقتضي وجود منهجية
اترخيية معينة .وعليه ماز ج .هرنشو التاريخ عن العلوم التطبيقية األخرى ،ووصفه أبنه "نقد
وحتقيق " ( .)7لذلك دعا فولتري (ت1778 .م) الستخدام منطق الفلسفة العقالين لدراسة
التاريخ وتنقيته من الرواايت ،واألخبار ،واخلرافات ،واألساطري اليت ال تستقيم مع العقل
والواقع .وبذلك برزت النزعة التارخيانية اليت سادت عصر التنوير (أو األنوار) ،وأخضعت
األخبار التارخيية الواردة يف التوراة واإلجنيل إىل نقد مؤسس ،جردها من قدسيتها الدينية؛
وأضفى عليها نزعة إنسانية ،جعلت أفعال اإلنسان متثل حمور األحداث التارخيية ،اليت جيب
أن ال يتأثر تدوينها ابلقيم الدينية واالعتبارات الغيبية.
ويبدو أنه هذه النزعة التارخيانية استندت إىل املالحظة اليت افرتعها أرسطو ،عندما
وصف الشعر أبنه أكثر فلسفة وجدية؛ ألنه خياطب احلقيقة العمومية ،والتاريخ يعتين ابحلقيقة
اخلصوصية ( .")8أو مبعىن أخر أن أرسطو أراد أن يربط التاريخ ابألحداث اجلزئية اليت ميكن
التثبت من صدقيتها عن طريق اإلدراك احلسي ،دون العموميات اليت تستند إىل استنباط
القوانني من االستقراء اجلزئي للحقائق .وقد أضحى هذا الواقع موطن اهتمام الفالسفة
الوضعيني؛ لنقل التاريخ من دائرة التثبت من احلقائق إىل دائرة صناعة القوانني ،حتقيقا
لصورته العلمية .ومن أهم املبادرات املنهجية اليت طرحت يف هذا الشأن مبادرة أوغست
كونت) ، (9) (Auguste Comteالذي اقرتح إجياد عالقة ثنائية بني علم التاريخ وعلم
االجتماع ،حمتجا أبن مهمة التاريخ ترتبط ابملعرفة التارخيية ،اليت ميكن لعلم االجتماع أن
يربطها ابحلاضر واملستقبل؛ ألنه يهتم بفحص العالقة السببية بني الوقائع التارخيية ،وكيفية
توظيفها ملعرفة القوانني العامة اليت حتكم حركة التاريخ اإلنساين بصفة شاملة ( .")10ولربط
الوقائع اجلزئية ابلنظرة الكلية لألحداث التارخيية والقوانني الناظمة حلركتها ،وبناء على ذلك
ظهر توجه فلسفي ذو صبغة أتملية يف كتاابت فردريك هيغل (،)11( (Friedrich Hegel
وكارل ماركس ) )12( )Karl Marxوأرنولد توينيب ( ")13( (Arnold Toynbeeعلى
سبيل املثال.
أرجع الباحثون جذور املدرسة املثالية اليت تشكلت حول رؤية هيغل الفلسفية إىل
الفيلسوف اليوانين أفالطون ) 347-427ق.م) الذي يقر أن العقل اإلنساين مصدر الوجود
احلقيقي ،وأن احملسوسات جمرد انعكاس للوجود احلقيقي نفسه .وبناء على ذلك يعتقد هيغل
أن التاريخ اإلنساين يبدأ بظهور الوعي البشري ،الذي جيعل اإلنسان قادرا على االستقالل
من هيمنة الطبيعة ،وفاعال يف توجيه حركتها وفق إرادة النواميس الكونية اليت تنظم تفاعالهتا
الداخلية .إذا ،العالقة بني العقل (الروح) والطبيعة (املادة) عالقة جدلية ،حمكومة حركتها
بفعل التناقضات اليت حتدث بني طرفيها ،مولدة واقعا اترخييا جديدا .وهبذه الكيفية يتقدم
الوعي الذايت اإلنساين عند هيغل -خبطى جدلية جتاه احلرية والتكامل الفكري ،مث يواصل
سريه صوب الوجود املطلق الذي ختتفي عنده التناقضات ،ويضحي التعايش مسة أبدية بني
العقل واملادة .ولذلك يرى هيغل أن التاريخ البشري جتليات للفكر اإلنساين صوب " الكامل
" ،الذي حيدث نتيجة للجدل القائم بني األفكار ونقائضها يف سبيل االرتقاء إىل " الوجود
املطلق " ،الذي ينتفي عنده الصراع ،وتسقط أقنعة النقائض نفسها(.)14
إال أن كارل ماركس ( 1883- 1818م) وفردريك إجنلز (1895- 1820م)
رفضا هذه الرؤية املثالية لقراءة التارخيية ،متعللني أبن منط احلياة املادية هو الذي حيكم مسار
احلياة االجتماعية ،بفضل الصراع القائم بني وسائل اإلنتاج ،والقوى املنتجة ،وعالقات
اإلنتاج .لذلك يرى ماركس أن أسلوب الدايلكتيك املادي "ليس جمرد أسلوب خمالف
ألسلوب املثالية ،إمنا هو عكسه متاما؛ ألن عملية التفكري عند هيغل هي مصدر العامل
احلقيقي ،والعامل احلقيقي ليس إال الشكل اخلارجي الذي تتخذه الفكرة ،أما أان فأرى أن
الفكرة ما هي إال العامل املادي بعد أن يعكسه ذهن اإلنسان ،ويصوغه يف شكل أفكار"(.)15
فالتاريخ البشري ،من وجهة نظر املاركسيني ،يرتبط ارتباطا عضواي ابلظروف املادية
االقتصادية ،اليت تشكل معيارا كميا ونوعيا؛ لقياس درجة احلضارة ،وحتديد منط احلياة
االجتماعية والسياسة والفكرية .وأسلوب اإلنتاج هو عمدهتم يف ضبط القيم االجتماعية اليت
حتكم التطور التارخيي الناتج من صراع الطبقات االجتماعية .والصراع الطبقي نفسه يتحرك
يف إطار منظومة ثالثية ،تتكون من وسائل اإلنتاج ،والقوى املنتجة ،وعالقات اإلنتاج.
وبذلك يتم رفض العوامل الغيبية والفكرية يف حتديد البناء الفوقي للمجتمع .ويبدأ تطور
اجملتمع ،عند املاركسيني ،بنظام املشايعة البدائية ،مث نظام الطبقات الناتج عن انقسام اجملتمع
البدائي إىل سادة وعبيد ،ويعقبه نظام اإلقطاع الذي يسود فيه اإلقطاعيون على حساب
األقنان؛ مث النظام الرأمسايل ،الذي يقسم اجملتمع إىل رأمساليني وأجراء .وهبذه الكيفية تسري
عجلة املادية اجلدلية يف صراع حتمي إىل أن تبلغ هدفها األمسى بقيام الشيوعية املطلقة ،اليت
مبوجبها تزول املصاحل االقتصادية املتعارضة ،ويسود التعايش األبدي بني وسائل اإلنتاج،
وعالقاته والطبقة العاملة املنتجة (.)16
بيد أن املادية التارخيية واجهت نقدا حادا من علماء احلداثة وما بعدها ،ونذكر
منهم أرنولد توينيب ( 1886-1975م) الذي شكك يف صالحية املاركسية أساسا لقراءة
التاريخ ،وتبىن طرحا يؤمن ابلقوى الغيبية ،ودور األفراد املبدعني ،ومفهوم التحدي
واالستجابة ( )17يف دفع حركة التاريخ البشري .ولذلك رفض التنظري أبن سلوكيات األفراد
إفراز طبيعي لثمرة اإلبداع الفكري اجملرد ،أو انعكاس للصراع بني مفردات املادة اإلنتاجية.
ويرى توينيب أن نشوء احلضارات يتحقق عندما حيدث التقدم الذايت لإلنسان ،وتكون
استجابة اجملتمع قوية يف جمال العلوم والفنون والعقائد .ويفرتض أن هذا التقدمي الذايت جيب
أن يكون مدعوما بصفوة من األفراد املبدعني الذين اختذهم السواد األعظم قدوة له .وهبذه
الكيفية تنشأ احلضارة يف ثوب مثايل ،وفق قيم املؤسس اليت التف األتباع حوهلا .مث أتيت بعد
ذلك مرحلة التفكك واالحنالل عندما ينشأ التناقض يف سلوكيات ورثة املبدعني الذين فقدوا
جاذبية اجليل املؤسس ،وانفضت األكثرية من حوهلم .ويف ظل هذا الصراع والشقاق الداخلي
تفقد احلضارة رونقها ،وتواصل االحندار صوب التفكك واالحنالل (.)18
إال أن أطروحات توينيب القائمة على اعتبار احلضارة وحدة لتحليل الوقائع التارخيية
يف ضوء جدلية التحدي واالستجابة مل حتظ بقبول معظم املؤرخني ،الذين وصفوها أبهنا
"تركيب معماري ضخم" قائم على "أسس نظرية ضعيفة" ،ال تصلح أن تكون إطارا نظراي
لفهم أحداث العامل وإعادة تركيبها .ولذلك رفضها ابراكلو مع الفلسفات التأملية األخرى
لقراءة التاريخ ،ودعا املؤرخني الختاذ خطوتني مهمتني قبل التفكري يف كتابة التاريخ .تتمثل
اخلطوة األوىل يف استثمار مناهج العلوم االجتماعية لدراسة األحداث التارخيية ،والثانية يف
اإلملام بتاريخ الشعوب غري األوروبية؛ لتكون هناك نظرة متكاملة عن اتريخ العامل (.)19
ولذلك نلحظ أن نقد الفلسفات التأملية قد مهد الطريق لظهور الفلسفة النقدية للتاريخ،
اليت يعتقد املالح أهنا " تنطوي على إمكانيات واسعة يف جمال تطوير األسس املعرفية هلذا
العلم ،وتوفري الشروط املساعدة النطالقة جديدة لفلسفة التاريخ " ( .)20يكون قوامها املنطق
العقالين لدراسة الوقائع التارخيية؛ واملنهج التكاملي املستمد من علم التاريخ والعلوم
االجتماعية واإلنسانية األخرى ،واملستأنس إبجنازات املنهج التجرييب دون االنشغال إبعداد
قوالب فلسفية مصطنعة ،وغري مؤسسة على وقائع اترخيية دقيقة لقراءة أحداث املاضي،
وتنميطها بطريقة تعسفية (.)21
بدأت بوادر هذا املنهج التكاملي يف أملانيا ،عندما تبىن كارل المربتش ( Karl
)Lamprechtمصطلح التاريخ الثقايف؛ لدراسة أحداث املاضي وفق منهج يزاوج بني
مناهج علم االجتماع ،وعلم اإلانسة ،واتريخ الفن) (22؛ إال أن هذه اخلطوة انتقدها بعض
املؤرخني األملان ،متعللني أبن التاريخ جيب أن يكون له منهجه اخلاص الذي مييزه عن مناهج
العلوم االجتماعية واإلنسانية األخرى .لكن يف املقابل وجدت أطروحة التاريخ الثقايف رواجا
يف أوساط رهط من املؤرخني األمريكيني ،أمثال جيمس هاريف روبنسون (James
) ،Harvey Robinsonالذي اسنت مصطلح التاريخ اجلديد ،حمتجا أبن العلوم اإلنسانية
واالجتماعية ال ميكن أن تقف مستقلة بعضها عن بعض ،بل ينبغي أن تتكامل من حيث
املناهج؛ لتعطي رؤية كلية لقراءة أحداث املاضي اإلنساين .ومن هنا دعا إىل جتسري قنوات
التواصل بني علم التاريخ والعلوم اإلنسانية األخرى ( .)23يف فرنسا برز اسم املؤرخ هينري بر
) ،(Henri Berrالذي أدخل مفهوم التحليل التارخيي املركب ،القائم على العالقة الثالثية
املتبادلة بني الفلسفة وعلم االجتماع والتاريخ ( .)24هبذه الكيفية استطاعت هذه احملاوالت
األولية السابقة ملدرسة احلوليات الفرنسية أن تتجاوز إخفاقات تيار الوضعانية الذي شجع
على استقاللية العلوم االجتماعية واإلنسانية بعضها عن بعض ،مع االلتزام ابملعرفة "التارخيية
املوغلة يف التخصص ...واملمعنة يف التدقيق والنظر يف ضبط النصوص الواثئقية ،واستخراج
احلقائق املفردة منها" ،دون عناية ابلسياق " التارخيي الذي حيمل معطيات اجتماعية،
واقتصادية ،وسياسية ،ودميغرافية ،ونفسية " (.)25
التاريخ اإلشكايل يف إطار النظرة الكلية لألحداث التارخيية اليت تشكلت يف حيز جغرايف
معني؛ واملنهج التكاملي القائم على االستئناس مبناهج العلوم اإلنسانية واالجتماعية يف حتليل
األحداث التارخيية ،واألزمنة التارخيية املتعاقبة ،ودورها يف تقصي أبعاد احلدث التارخيي جبوانبه
املختلفة .وهذه النظرة الثالثية تبناها منظرو التاريخ اجلديد من حيث املنهج وتنوع
املوضوعات.
ويف إطار هذا التسلسل التارخيي يرى جاك لوغوف أن حركة التاريخ اجلديد بدأت
انطالقتها األوىل يف القرن العشرين للميالد من الوالايت املتحدة األمريكية ،حيث نشر ه .أ.
ابرنس ( )H.E. Barnesيف عام 1919م مؤلفا بعنوان "علم النفس والتاريخ " ،ويف عام
1925م مؤلفا أخر بعنوان " التاريخ اجلديد والعلوم االجتماعية "( .)28ويربط لوغوف هذه
احلركة التجديدية بظهور علوم جديدة ،مثل علم اإلنثروبولوجيا ،وعلم االجتماع ،وعلم
السيميولوجيا (األعراض) ،وعلم استشراف املستقبل؛ وجتديد بعض العلوم التقليدية اليت
أضحت توصف ابحلداثة أو اجلدة ،مثل األلسنية اجلديدة ،والتاريخ االقتصادي اجلديد؛
فضال عن التداخل التخصصي بني هذه العلوم ،وطبيعة التسميات املشرتكة اليت أنتجتها،
مثل التاريخ االجتماعي ،والدميغرافيا التارخيية ،واإلنثروبوجليا التارخيية .وجتسدت حصيلة ذلك
يف نشوء علوم تتجاوز احلدود التقليدية الومهية اليت رمسها منظرو املدرسة الوضعية التجريبية
( .)29وإىل جانب ذلك ،برز أتثري علماء اجلغرافيا ،أمثال بول فيدال دو البالش )BIache
،(Paul Vidal de laوجان بروهنس ( ،)Jean Brunhesوألبري دمنجون Albert
) ،)Demangeonالذين اندوا بضرورة التحالف بني التاريخ اجلديد واجلغرافيا البشرية.
ويف ظل هذا احلراك الفكري أسس مارك بلوخ ( )30( (Marc Blochولوسيان
فيفر ) )31( (Lucien Febvreجملة "حوليات التاريخ االقتصادي واالجتماعي" عام
1929م؛ لتكون حضانة للتاريخ اجلديد ،ونشر أدبيات املنتمني إليه ( ،)32وفق منهج
تكاملي ،يركز على الدراسات ذات الصبغة االقتصادية واالجتماعية ،بعيدا عن أصنام التاريخ
الثالثة :السياسي ،والفردي (البطويل /البيوغرايف) ،والتسلسل التارخيي (الوقائعي) القائم على
األصول (الواثئق) .فكان القصد من وضع "التاريخ االقتصادي واالجتماعي" عنواان للمجلة،
دفع البحث التارخيي صوب جمال يكاد يكون مغيبا كليا من أدبيات التاريخ التقليدية آنذاك،
فضال عن أن الوضع االقتصادي الذي أعقب احلرب العاملية قد شغل الباحثني املهتمني
إبفرازاته اإلشكالية ( .)33ومن زاوية أخرى أفسح احلوليون اجملال لعلم االجتماع وعالقته
ابلعلوم األخرى ،استنادا إلسهامات أميل دوركهامي ) (É mile Durkheimيف جملة
"احلولية السوسيولوجية" اليت أسسها عام 1897م .وجاءت أيضا حماوالت ماكس فيرب
)(Max Weber؛ لربط الدراسات االجتماعية ابلتاريخ ،والقانون ،واالقتصاد ،والسياسة،
بغية تكوين منهج تكاملي لقراءة الواقع اإلنساين يف إطار اجملتمع الواسع .أما بول فيدال دي
ال بالش ) (Paul Vidal De La Blacheفقد أسهم يف ربط اجلغرافية ابلتاريخ لفهم
العالقة بني اإلنسان واألرض ( .)34وامتد هذا التواصل املعريف إىل علم النفس ودوره يف حتديد
مسار الظواهر االجتماعية والسلوك العاطفي يف مناقشة القضااي التارخيية .ويؤكد جممل هذه
التفاعالت أن مدرسة احلوليات الفرنسية قد نشأت يف واقع فكري متجدد ،يدعو لقيام
منهج تكاملي بني العلوم اإلنسانية واالجتماعية .وأخريا تبلورت مالمح هذا التكاملي
املنهجي بني العلوم اإلنسانية واالجتماعية يف إصدارات جملة احلوليات ،اليت ضمت إىل
جانب مؤسسيها بلوخ وفيفر ،خنبة من الكتاب األكادمييني ،الذين اهتموا ابملنهج التكاملي،
املعضد مبناهج اجلغرافيا ،وعلم االجتماع ،واالقتصاد ،والفلسفة ،والسياسة ،وعلم النفس،
واللغوايت يف دراسة القضااي التارخيية ( .)35ومبوجب ذلك تطور املنهج التكاملي ،وتنوعت
حقول املوضوعات التارخيية ،املرتبطة ابألنشطة اإلنسانية عرب الزمان واملكان ،وتعاظمت
درجة أتثريها يف وأتثرها ابلبيئات االقتصادية ،واالجتماعية والثقافية احمليطة.
وبعد احلرب العاملية الثانية ،خطت جملة احلوليات خطوة أكثر انفتاحا من حيث
املنهج واملوضوعات؛ حيث عدلت امسها إىل "حوليات .اقتصادايت .جمتمعات .حضارات"
( .)Annales: Economies-Sociétés-Civilisationsوهبذه الصيغة التجريدية،
عمدت رائسة حتريرها إىل توثيق الفعل اإلنساين مبكوانته االقتصادية ،واجملتمعية ،واحلضارية.
ومصطلح احلضارات كان مصطلحا مفضال عند مؤسسيها (بلوخ وفيفر)؛ وذلك التساع
مدلوله ومشوله ابلنسبة للبعدين املادي والروحي ( .)36وبرز يف تلك الفرتة أيضا دور لوسيان
فيفر ( 1956- 1944م) ،رئيس حتريرها ،الذي مال إىل متجيد كتابة التاريخ اإلشكايل
بدال من التاريخ اآليل ،وذلك وفق منهج تكاملي ،يربط بني املاضي واحلاضر يف نسق
ارتدادي ( .)37وعمق هذه النظرة التكاملية ،فرانند بروديل ( ،)38( (1969 – 1902رئيس
حتريرها ،الذي أدخل مفهوم األزمان الثالثة يف كتابة التاريخ ،وترسيخ مفهوم األمد الطويل يف
تناول األحداث التارخيية يف حيز جغرايف معني ،وفوق هذا وذاك جذب إليها خنبة من
املؤرخني الفرنسيني ،أمثال جاك لوغوف ،ولوروري الدوري ،الذين أسهموا يف ترويج مناهجها
وأدبياهتا خارج نطاق أورواب القدمية (.)39
وبناء على هذه التطورات املنهجية تبلورت إسهامات مدرسة احلوليات الفرنسية يف
النقاط اآلتية:
أوال :إن مؤسسي مدرسة احلوليات الفرنسية اعتربوا أن علم التاريخ ال يرتبط فقط
ابملاضي؛ ألن بعض السلوكيات اإلنسانية وأمناط احلياة االجتماعية هلا القدرة على االستمرار
يف فضاء احلاضر ،والتأثري يف املستقبل .وتؤكد هذه النظرة التطورية أن األحداث التارخيية
انعكاسات للسلوك اإلنساين يف إطار حركة الزمن املتجددة دوما .ولذلك قسم فرانند بروديل
الزمن التارخيي إىل ثالثة مستوايت ،تتمثل يف الزمن شبه الثابت الذي يعكس عالقة اإلنسان
ابحمليط اجلغرايف الذي يعيش فيه؛ والزمن البطيء املرتبط حبركة االجتماع اإلنساين واألنشطة
االقتصادية والعمرانية املصاحبة له؛ والزمن احلدثي أو التقليدي الذي يتجسد يف احلراك
السياسي والنتائج املرتبة عليه ،فهو أكثر سرعة من سابقيه .ويؤكد هذا البعد التطوري حلركة
التاريخ ضرورة تبين منهج تكاملي لتفسري أحداث املاضي اإلنساين ،جبوانبها املختلفة،
وحركتها الزمانية واملكانية ذات املستوايت املتعددة (.)40
اثنيا :عدم االكتفاء ابستثمار الوثيقة التارخيية من خالل النقد اخلارجي (الظاهري)
والداخلي (الباطين) فقط) (41بل جيب أن يستخدم املؤرخ مناهج العلوم اإلنسانية
واالجتماعية األخرى استخداما تكامليا ،يتجاوز مبدأ املساعدة ،إىل رحاب التحليل
املوضوعي حملتوايت الوثيقة يف إطار الظروف النفسية ،والسياسية ،واالقتصادية ،واالجتماعية
اليت أسهمت يف صوغها وتكوينها .وبناء على ذلك يرى بلوخ أن الوثيقة جيب أن ال تكون
املصدر التارخيي الوحيد ،وأن مفهومها جيب يتجاوز النص املكتوب؛ ليشمل الرسومات،
والتماثيل ،وشواهد القبور ،والنيميات ،والرنوك .ولذلك يقول لوسيان فيفر :جيب أن حيرر
التاريخ " ...نفسه من الواثئق ،وما تفرضه من حتديدات ،وإن عليه أن يستعمل كافة ما
يستعمله اإلنسان :اللغة ،والعالمات ،وأدلة الريف ،ونظم احلقول ،واألساور ،والقالئد ،وكل
مصدر أخر ميكن احلصول عليه ،وابالختصار :فإن عليه أن يكون منفتحا لكل املكتشفات،
وطرق العلوم األخرى ،كاجلغرافيا ،واالقتصاد ،وعلم االجتماع ،وعلم النفس ،عليه أن ال
ينجرف يف النزعات اليت برزت يف العشرينيات والثالثينيات (من القرن العشرين) يف تقسيم
نفسه إىل عدد من التخصصات (التاريخ االقتصادي ،اتريخ األفكار ...إخل) اليت يسري كل
منها يف طريقه اخلاص .ففصل التاريخ عن مضماره االجتماعي هو أسوأ من عبث ،ومن
املؤكد أنه كان مضلال .وعلى أي حال ،فإن البحوث املتخصصة يف التاريخ االجتماعي أو
االقتصادي ،قيمتها ابلدرجة األوىل يف قدرهتا على كشف واجبات جديدة ،وسبل جديدة يف
معاجلة التاريخ ككل " (.)42
اثلثا :ضرورة انتقال التاريخ من احلقل السياسي التقليدي القائم على القراءات
النمطية ملكوانت الدولة إىل دراسة اتريخ السلطة وأتثرياهتا ،مع النظر يف القضااي الذهنية،
واالنثربولوجيا التارخيية ،واتريخ اهلامشيني يف اجملتمع ،كما يسميه جان كلود مشيت (Jean-
.)Claude Schmittوبذلك تصبح النظرة الكلية حلركة التاريخ أكثر مشوال؛ ألن اتريخ
السلطة ال يعين اتريخ الدولة؛ ألن السلطة تتجسد يف شكل عالقات أفقية بني القطاعات
الفاعلة فيها ،وعالقات رأسية بني احلاكم واحملكومني من طرف ،وبني الرئيس واملرؤوسني يف
طرف أخر .وهنا يربز مفهوما القوة واالستالب ،وقضية الراعي والتابع ،والتأييد واملقاومة،
واستخدام األيديولوجيات املرتبطة بطريف السلطة وصراعاهتما .ومن مث يكون البحث التارخيي
إشكاليا بدال من أن يكون آليا ،كما يرى فرانند بروديل ( .)43هكذا ظل التاريخ -املشكل
ميثل بعدا مهما يف إسهامات مدرسة احلوليات ،دون أن يذعن املؤرخ إىل اإلمالء الواثئقي،
بل يولد من الواثئق قضااي إشكالية ،تربط احلقب التارخيية بعضها ببعض بعيدا عن هيمنة
الفواصل الومهية (.)44
رابعا :يرى مؤسسو مدرسة احلوليات ضرورة ترتيب للعلوم اإلنسانية واالجتماعية يف
وضع حلزوين ،يقر تداخل بعضها مع بعض ،كما أكد ذلك جان بياجه )(Jean Piaget
عندما استشهد ابلعلوم التارخيية؛ أي العلوم ذات الصلة بعلم التاريخ ،اليت متكن املؤرخ من
وضع احلدث التارخيي يف إطار مشويل ،يستوعب كل ضروبه املرتبطة ابلفعل اإلنساين
والظروف احمليطة به ،وفق مناهج ختصصية متعددة ومتكاملة يف استقرائها ملفردات احلدث
التارخيي ،وإعادة تركيبه بصورة أقرب إىل الواقع (.)45
نلحظ أن هذه املرتكزات اليت استندت إليها مدرسة احلوليات الفرنسية تشبه يف
كلياهتا منطلقات التاريخ اجلديد ،اليت أشران إليها .ويقودان هذا التشابه إىل طرح أسئلة
منهجية :ما أوجه الشبه واالختالف بني مدرسة احلوليات والتاريخ اجلديد؟ وإذا مل يكن هناك
اختالف جوهري ،فما مربرات الدعوة للتاريخ اجلديد؟ وهل هذه الدعوة تعين أن مدرسة
احلوليات قد أدت رسالتها ،وجيب أن تفسح اجملال للتاريخ اجلديد؟ حناول أن جنيب عن هذه
األسئلة ومثيالهتا يف الفقرة القادمة.
أشران إىل أن منظري التاريخ اجلديد يرون أن مدرسة احلوليات كانت حضانة للتاريخ
اجلديد ،ألهنا تستند إىل مرتكزات التاريخ اجلديد من حيث املنهج وتنوع املوضوعات،
ولكنها بدأت تنحرف تدرجييا عن مسارها األول يف سبعينيات القرن العشرين ،متبنية النظرية
البنيوية والتاريخ السياسي يف طرحها ومناقشتها لألحداث التارخيية ،وبذلك " أصبحت اجمللة
ينادي بنقيض ما كان ينادي به مؤسساها بلوخ وفيفر ،اللذان كاان يعرفان التاريخ أبنه علم
التغيري الدائم " .ويف ظل تلك الظروف امللتبسة أصدرت جمموعة من املؤرخني ،عمال مجاعيا
موسوعيا بعنوان " التاريخ اجلديد"( )46عام 1978م .أشرف عليه وقدم له أحد مؤرخي
مدرسة احلوليات ،جاك لوغوف .حيتوي املؤلف اجلماعي على عشر مقاالت أساسية ،تتناول
حقول التاريخ اجلديد ،ومفاهيمه ،واجتاهاته البحثية ،واملراحل اليت قطعها .وجاء ترتيب تلك
املقاالت على النحو اآليت :جاك لوغوف "التاريخ اجلديد"؛ وميشل فوفيل " التاريخ واألمد
الطويل " ،وكريزيستوف بوميان " اتريخ البىن "؛ وإندريه بوغيار " األنثربولوجيا التارخيية "؛
وفيليب أرايس " اتريخ الذهنيات "؛ وجان -مري بيساز " اتريخ الثقافة املادية "؛ وجان
الكوتور " التاريخ اآلين "؛ وغي بوا " املاركسية والتاريخ اجلديد"؛ وجان كلود مشيث " اتريخ
اهلامشيني"؛ وإفلني ابتالجني " اتريخ املتخيل " .ويقول لوغوف يف الفصل االفتتاحي " :إن
التاريخ احلي ،وخاصة التاريخ اجلديد ،ال يشكل كتلة واحدة ،ولكن جمموعة (سدمي أو
سحابة من الكتل) ،حمورها األساسي هو مدرسة احلوليات اليت مل تتوقف ،وال جيب أن
تتوقف عن الطموح إىل بلوغ اتريخ مشويل ،يبحث يف تطور اجملتمعات وفقا لنماذج جامعة"
(.)47
يلحظ القارئ املتمعن يف مقاالت هذا الكتاب أن األطروحات اليت عرضت فيه ال
خترج خروجا صرحيا على مرتكزات مدرسة احلوليات الفرنسية من حيث الكيف؛ لكنها
وسعت بعض املفاهيم املرتبطة ابملنهج التكاملي ،وجددت آليات استثمار املصادر التارخيية،
وأضافت حقوال جديدة للبحث التارخيي يف إطار أكثر مشولية .ولذلك يصف وجيه كوثراين
الدعوة للتاريخ اجلديد ،أبهنا نوع " من النزوع املذهيب -املدرسي داخل فرنسا آنذاك .وكان
رد فعل على رأي شاع ،مفاده أن مدرسة احلوليات متر أبزمة ،ومن مظاهر هذه األزمة :حتول
توارخيها من الطابع التوليفي ) (travaux de syntheseإىل حال من التفتت )." (48
وبغض النظر عن خلفيات األزمة اليت قد تكون عاشتها مدرسة احلوليات؛ فإن
أدبيات التاريخ اجلديد قد أسهمت يف توسيع نطاق مناهج اإلنسانيات واالجتماعيات
املتداخلة واملتكاملة على مستوى العامل ،وتنىب العديد من الباحثني هذا املنهج ،وحاولوا
تطويره حبسب أجندهتم العلمية .وعند هذا املنعطف نشأ جدل أخر عن مفهوم التاريخ
الشامل ،الذي وصفه بعض الناقدين أبنه " حيمل املؤرخ وزرا ثقيال جدا ،وجيعله يتخصص يف
العديد من امليادين (اتريخ ،اقتصاد ،أنثربولوجيا ،علم اجتماع ،")...ولذلك فضلوا أن حيصر
املؤرخ نفسه يف دراسات دقيقة عن قضااي حمددة زماان ومكاان؛ ألن الشمول يف التناول
التارخيي خيرجه عن ختصصه الدقيق ( .)49ويبدو أن هذا الشعور قد تسرب إىل جملة احلوليات
نفسها؛ ألهنا غريت امسها عام 1993إىل " جملة التاريخ والعلوم االجتماعية " ،وواضح أن
كلمة اتريخ ضمنت يف عنواهنا لتؤكد " هوية علم التاريخ " ،كما يرى التيمومي ،وحتافظ عليه
من " الضياع حتت ركام العلوم االجتماعية واإلنسانية األخرى " (.)50
املنهج التكاملي والرأي األخر
واجهت مدرسة احلوليات منذ نشأهتا عام 1929م انتقادات متعددة من بعض
املؤرخني وعلماء العلوم االجتماعية واإلنسانية ،ونذكر منهم فرانسوا دوس Francois
) )Dosseالذي وصف املنهج التكاملي أبنه "جتربة انتحارية مزدوجة" ،تعين من طرف
ذوابن علم التاريخ يف العلوم االجتماعية واإلنسانية اآلخرى؛ ومن طرف اثن الرتاجع حنو
التاريخ الوضعي القدمي الذي شهده القرن العشرين ( .)52ورأى دوس هذا يرتبط حتديدا
مبرحلة الدعوة املعاصرة إىل التاريخ اجلديد ،اليت عمدت يف نظره إىل خطاب اترخيي يناقض
خطاب بلوخ وفيفر ،ويقضي ابلتخلص من األرضية التارخيية اليت حافظا عليها؛ ألن
االنصهار غري "التوليفي " يف حقل العلوم االجتماعية يطعن يف هوية علم التاريخ (.)53
ويتهم فرانسوا دوس اجليل الثالث من مؤرخي احلوليات بعدم السعي إىل كشف
القوانني واملعايري الناظمة لسري األحداث والوقائع التارخيية؛ ألن نزعتهم التجريبية دفعتهم إىل
الرتكيز على األسئلة الكيفية (كيف) أكثر من السببية (ملاذا) ،ولذلك ابتعدوا عن " مفهوم
التاريخ -املشكل " الذي اندى به بلوخ وفيفر ،ومالوا إىل التوظيف املفرط ملناهج العلوم
االجتماعية ،الذي ميكن أن يفضي إىل تذويب هوية علم التاريخ ،وتفتيت موضوعاته (.)54
ويف هذا يقول دون:
" غري أن التاريخ الذي مت تطعيمه ابلعلوم االجتماعية ينتهي ابلتخلي عن هويته،
ويتعرض خلطر كبري ،أبن جيد نفسه معرضا للضياع يف االنفجار ،والتحول إىل شظااي ،وتعدد
مواضيعه املختلفة ،اليت ال توجد بينها عالقات .وهو يوشك أن ينتهي مثل علم احليوان
ابألمس ،أو يعرف أزمة وهتميشا كاللذين عرفتهما اجلغرافيا ،فإذا كان هذا التطور قد مت على
ثالث مراحل ،ميكن أن نبني حركتني كبريتني وشكلني خمتلفني لعلوم اإلنسان اليت اندرج فيها
اتريخ احلوليات ،مثل التوجه اإلنسانوي الشمويل ،توجيه اجليل األول والثاين ،وهو جيل
مؤسسي حوليات التاريخ االقتصادي واالجتماعي اليت أسست عام 1929من قبل مارك
بلوخ ولوسيان فيفر ،وكذلك فرانند بروديل .إهنا حماولة بناء سوق مشرتكة لعلوم اإلنسان
املوحدة حول التاريخ ،والتوليف بينها يف كتابة مشولية قد تؤدي إىل ميالد علم مشرتك كان
فرانند بروديل يتمناه من أعماقه .وتغري املشهد يف الستينيات ،ختلى املؤرخون احلولياتيون عن
توجههم التوليفي من أجل الصمود أمام اهلجوم اجلديد للعلوم االجتماعية ،وألقوا بسالحهم
وأصبحوا يفكرون يف تقسيم مؤقت لالختصاصات من خالل املمارسات املختلفة ،وخمتلف
مواضيع التاريخ ،فوجد اإلنسان نفسه خارج املركز خالل هذا التوجه الذي وقع فيه تفكيك
التاريخ إىل ممارسات جزئية ،وختلى عن كل الطموحات الشمولية ( .)....لقد أدت عملية
التفكيك اليت قامت هبا حوليات اجليل األخري إىل بروز كتابة أكثر وصفية مما هي تفسريية،
وكثر وضعانية وجتريبية مما هي علمية .ويف هذا الشكل اجلديد حلقل العلوم االجتماعية فقد
املؤرخ عصاه ،كرئيس للجوقة؛ ليصبح عامال من العمال يف أعماق املناجم ،أييت ابملواد
املطلوب درسها للعلوم االجتماعية األخرى ،كما يراه إميانويل لوروا الدوري ،فهو متسكع
على طريقة ميشال دو سريتو ،واختصاصي يف اهلوامش واملنحرفني واالختالل .إنه يتخلى عن
دوره االجتماعي ليدخل بشكل أفضل يف حقل اإلعالم " (.)55
لكن الشيء الذي يؤخذ على انتقادات فرانسوا دوس ،أهنا مل تراع أن املنهج
التكاملي لدراسة التاريخ يف جزئياته منهج متغري ،حبسب املشكالت املطروحة واملعطيات
اجلديدة ،بدليل أن املشكالت االقتصادية طغت يف أدبيات فرتة ما بني احلربني ،وقل
االهتمام ابلتاريخ الثقايف ،ودراسة الذهنيات ،وعلم النفس التارخيي .فالثورة التكنولوجية اهلائلة
اليت نعيشها اليوم قد أفرزت معطى جديدا ،يقضي بضرورة إعادة توجيه اخلطاب التارخيي
ليتالءم مع الوعي اجلديد للزمن التارخيي وأدواته اإلعالمية .وملواكبة هذه التحوالت شهد
املنهج التكاملي نقلة مكانية من إطاره الوطين الضيق إىل رحاب العاملية ،ونقلة منهجية يف
االستئناس مبناهج العلوم اإلنسانية واالجتماعية األخرى؛ لذلك نلحظ أن جاك لوغوف
كانت مدركا لالحتماالت املرتبطة ابحتواء التاريخ للعلوم االجتماعية واإلنسانية ،بدليل أنه
حصر احتماالت االحتواء املتوقعة ثالثة احتماالت:
أوال :أتسيس علم اتريخ شامل يبتلع كل العلوم اإلنسانية ،ويوحدها يف إطار دراسة
اإلنسان يف الزمن مقابل ذوابنه وفقدانه هلويته.
اثنيا :االلتحام بني العلوم اإلنسانية الثالثة املتقاربة (التاريخ ،واألنثروبولوجيا،
واالجتماع) ،وتسمية العلم الناتج من هذا التالحم ب " التاريخ السوسيولوجي " ،كما يرى
بول فاين ،أو "األنثروبولوجيا التارخيية" ،كما يفضل جاك لوغوف.
اثلثا :االنكفاء داخل احلدود التقليدية لعلم التاريخ ،وبذلك جتمد عملية التواصل
مع العلوم اإلنسانية األخرى ،وحتدث قطيعة إبستمولوجية ،تفضي إىل ارتداد علم التاريخ إىل
حميطه الوضعي (التارخيانية)(.)56
ال شك أن هذه االستنتاجات شكلت حتداي للمؤرخني ،الذين محلوا فرتة " ما بعد
احلداثة " وزر ما يسمى ب " فوضى الكتابة التارخيية " اليت ابتعدت يف منهجيتها عن
األصول احلرفية ،حبسب وجهة نظرهم .ونلحظ هذا الرفض جمسدا على سبيل التمثيل يف
كتاابت جيفري إلتون " : (Geoffrey Eltonالعودة إىل اجلوهر " ( ،)57ورتشارد إيفانس
) " :(R. Evansدفاعا عن التاريخ " ( )58اليت اندت ابلتمسك بثوابت التاريخ الصحيح
) (proper historyالقائم على املصادر والقرائن التارخيية يف أساسه دون االعتماد على
التنظري املستأنس من مناهج العلوم االجتماعية واإلنسانية األخرى ،أو السرد التارخيي غري
املقيد مبعايري البحث التارخيي املتعارف عليها .وبناء على ذلك قدم إلتون نصيحتني مهمتني
للمؤرخني احملرتفني:
أوال :الفصل الكامل بني األسئلة اليت يطرحها املؤرخون واإلجاابت املتوقعة عنها؛
مبعىن أن تكون إجاابهتم أو تفسرياهتم مستقاة من املصادر التارخيية والقرائن املصاحبة هلا،
وليست من وحي توقعاهتم املسبقة ،وبذلك يستطيع املؤرخ التعامل مع مصادره مبوضوعية،
بعيدا عن التصورات اخليالة.
اثنيا :جيب أن يدرس املؤرخ احملرتف املاضي من خالل مفاهيمه ،وقيمه ،ومعايريه
املستقاة من واقع أحداثه ،كما تربزها املصادر املتاحة ،دون أن يعتمد على قيم ومعايري
مستعارة من أحداث احلاضر املقيسة على أشباهها ونظائرة يف املاضي .وهنا إشارة لعدم
االستئناس مبناهج العلوم االجتماعية واإلنسانية األخرى ،حبجة أهنا متأثرة ابلواقع التجرييب
املعاصر(.)59
وتقودان هااتن النصيحتان إىل احلديث مرة أخرى عن سلطة املصادر التارخيية العليا،
واجلدل القدمي املستحدث بني النظرة الواقعية والنظرة النسبية للمعرفة التارخيية ،الذي أسلفنا
اإلشارة إليه يف صدر هذا البحث ،لكن الشيء اجلديد الذي طرحه ريتشارد إيفانس هو
جتاوز إطار السؤال التقليدي ،الذي جعله إدوارد كار ) (Edward Carrعنواان لكتابه "ما
هو التاريخ "( ،)60إىل سؤال جوهري ،مفاده" :هل ميكن يف عصر ما بعد احلداثة كتابة اتريخ
حريف يعتمد على املصادر التارخيية وحدها؟" وهنا تتجلى مرافعة املؤرختني إليزابيث فوكس-
جينوفيز ( )Elizabeth Fox-Genoveseوإليزابيث الش -كوين (Elisabeth
) Lasch Quinnيف كتاهبما " إعادة بناء التاريخ ( ،)61ويف كتاب أخر بعنوان " قول
احلقيقة عن التاريخ ( ،)62حيث تقر مؤلفتا هذا الكتاب األخري بنسبية املعرفة التارخيية يف
إطار مفهوم جديد ،خيتلف عن املفهوم الذي تبناه رانكي؛ حيث أطلقتا عليه اسم الواقعية
العلمية ) .(Practical Realismوبناء على ذلك انتقدت مؤلفتا " قول احلقيقة عن
التاريخ " فرضيات ما بعد احلداثة القائمة على مفهوم النسبية املطلقة لعلم التاريخ ،اليت
أعادت تصنيفه ضمن الفنون األدبية؛ أي مبعىن أخر أهنما تنتقدان ادعاء منظري ما بعد
احلداثة أبن املعرفة التارخيية تقوم على سرد املؤرخ الذي ال ميثل املاضي ،بل يستند إىل تصور
وقائعه حبسب توافق متطلبات املزاج الثقايف املسيطرة على روح احلوارات التارخيية .ولذلك
تعتربان املعرفية التارخيية ،على الرغم من نسبيتها ،ختتلف عما توصل إليه منظرو ما بعد
احلداثة؛ ألن خمرجاهتا تعتمد على املصادر التارخيية والقرائن املستنبطة منها ،اليت متكن املؤرخ
من إعادة تركيب أحداث املاضي ،وسردها بصورة أقرب إىل الواقع.
وهنا تطرأ ثالثة أسئلة عن عملية سرد املؤرخ لألحداث التارخيية :أهي سابقة لفرتة ما
بعد احلداثة أم الحقة هلا؟ وهل ينسب أتويل سجالت املاضي يف نسق لغوي وتركييب إىل
املؤرخ وحده دون اصطحاب وقائع املاضي بصفة موضوعية؟ وكيف ميكن جتسري اهلوة بني
سجالت املاضي وأحداثه من طرف وسرد املؤرخ يف طرف اثن؟ طرحت هذه األسئلة يف
سياق انتقادات منظري ما بعد احلداثة إىل سرد املؤرخ الذي يصفونه ابلروح البالغية اليت ال
عالقة هلا ابلواقع ،وأدبيات املؤرخني الذين يقرون التطابق النسيب بني سردية املؤرخ والواقع
التارخيي ،ألن املؤرخ ،يف عرفهم ،يعتمد على املصادر التارخيية والقرائن املصاحبة هلا ،مع
االلتزام بتوظيفها وفق أدوات البحث التارخيي املتعارف عليها يف استقراء األحداث التارخيية،
والتثبت من صحتها ،وإعادة تركيبها يف سردية اترخيية ،تصف مفردات املاضي بدقة ومهنية
عالية ،دون االنشغال بشكليات السرد اللغوي ( .)63وجتاوزا هلذا االختالف بني منظري ما
بعد احلداثة واملؤرخني احملرتفني ،حاول توكر ) (Tuckerأن مييز بني الكتابة التارخيية املرتبطة
بسرد الوقائع التارخيية املتفق عليها ،والكتابة التارخيية املتعلقة بتحليل الوقائع التارخيية ،وكيفية
حدوثها ،واألسباب اليت أفضت إىل تشكيلها .وهبذه الكيفية يقر توكر بصدقية الواقعية
التارخيية من طرف ،وذلك إثباات لعملية السرد التارخيي ،ومن طرف أخر يعطى مساحة
إلجهادات السرد التارخيي ،القائم على حتليل األسباب أو القرائن املرتبطة أبحداث املاضي،
حبجة أهنا ال تقدح يف علمية التاريخ ،إذا كانت مرتبطة جبملة من املعايري الناظمة حلركة
البحث التارخيي (.)64
ويف إطار السرد التارخيي القائم على القراءات التحليلية للمؤرخ واجهت مدرسة
احلوليات الفرنسية ومنهجها التكاملي حتداي أخر ،متثل يف نقد لورنس ستون (Lawrence
) Stoneوآخرين إلسهامات احلوليات يف جمال التاريخ االقتصادي والتاريخ االجتماعي،
حمتجني أبن مؤرخي احلوليات األوائل مالوا إىل التاريخ االقتصادي واالجتماعي ،واالعتماد
على مناهج العلوم االقتصادية واالجتماعية؛ لتعينهم يف حتليل الوقائع التارخيية ،واستنباط
بعض القوانني واملعايري العامة اليت حتكم حركة التاريخ من طرف ،وثبت من طرف أخر أن
علم التاريخ علم قادر على توليد القواعد والنظرايت العامة .ويرى ستون أن االعتماد على
احلتميات االقتصادية والبنيوية االجتماعية قد أبعد املعرفية التارخيية عن مصادرها التقليدية،
وأفسح اجملال إىل السرد التارخيي القائم على االفرتاضات العامة اليت تبعد املؤرخ عن وظيفته
األساسية ،وجتعل علم التاريخ علما فرعيا خادما للعلوم االجتماعية واإلنسانية األخرى .وعند
هذا املنعطف برز منط سرد اترخيي أخر ،يقوم على تنظم املادة التارخيية تنظيما متتابعا
ومتسلسال زمنيا ،يدور حول قصة متجانسة ،تذخر ابلوصف على حساب التحليل ،وهتتم
)(65
ابلناس دون الظروف اجملردة ،وتعاجل اخلاص أكثر من معاجلتها للجماعي أو اإلحصائي
" .ويف إطار هذا النمط السردي التارخيي مت رفض املنهج التكاملي ،وتفضيل االعتناء ابملنهج
السردي املرتبط ابلقضااي الثقافية ،وتفسريها من واقع مصادرها األولية والثانوية والقرائن
التارخيية املصاحبة هلا .وهبذه الكيفية أضحى النمط السردي الثقايف (أو التاريخ الثقايف
اجلديد) أكثر ضروب الكتابة التارخيية رواجا يف القرن احلادي والعشرين ،فضال عن جاذبيته
يف توصيف املفردات الثقافية ،بعيدا عن النظرايت البنيوية واحلتميات االقتصادية ،املرتبطة
مبناهج العلوم اإلنسانية واالجتماعية ،اليت هتدف إىل حتليل القرائن التارخيية للوصول إىل
بعض القواعد العامة اليت حتكم حركة التاريخ.
خامتة
ترتبط قضية االنتقال من احلوليات إىل التاريخ اجلديد ببعدين متالزمني ،مها املنهج
التكاملي واملوضوعات التارخيية املتنوعة ،والصلة بني االثنني تشكل ما يعرف ابملعرفية التارخيية
اليت ال تعيد مفردات املاضي كما كانت عليه ،بل تقوم على استقراء األحداث التارخيية،
والتثبت من صدقيتها ،ونقدها وحتليلها ،مث إعادة تركيبها يف منط سردي؛ لتكون أقرب إىل
الواقع ،وأكثر قدرة على توثيق خمرجات العالقة اجلامعة بني املاضي واحلاضر وفق حركة
ارتدادية .وكما أشران يف صدر هذا البحث أن ابن خلدون هو أول من أشار إىل املنهج
التكاملي يف كلياته ،وتكررت اإلشارة يف أدبيات فولتري وشارتوبلوين ،مث تبلورت عملية
االنتقال من التنظري إىل التطبيق يف أدبيات جملة احلوليات الفرنسية ،اليت رفضت االلتزام
ابألصنام الثالثة (التاريخ البيوغرايف ،والتاريخ السياسي ،والتاريخ الوقائعي) ،مؤثرة البحث يف
التاريخ اإلشكايل من حيث املوضوعات املختارة ،اليت ميكن أن تعاجل وفق منهج تكاملي،
يستمد ثوابته من تقاليد البحث التارخيي املتعارف عليها ،وحيتوي مناهج العلوم االجتماعية
واإلنسانية األخرى ،املفسرة لألفعال التارخيية .وبدأت عملية االحتواء هذه؛ كما أشران من
قبل ،بعد أتسيس جملة احلوليات ،حيث عمد مؤسساها (بلوخ وفيفر) إىل احتواء اجلغرافية
الفيدالية( ،)66وعلم االجتماعي الدوركهاميي( ،)67وعلم النفس التارخيي؛ ويف اخلمسينيات مت
اصطحاب علمي اإلحصاء ،والدميغرافية ،ويف الستينيات والسبعينيات تضاعف االهتمام
بعلمي اإلثنولوجيا ،واألنثروبولوجيا .وعرب هذه املراحل الثالث استطاعت جملة احلوليات أن
توسع منهجها التكاملي ،وتنوع موضوعاهتا يف إطار مفهوم املدى الطويل الذي وضعه فرانند
بروديل ،لدراسة التحوالت الكربى يف التاريخ ،ومعرفة عناصر االستمرارية يف تعاقبها،
وحلظات القطيعة اليت ترافق صريورهتا(.)68
وعلى الرغم من موضوعية احلوليني فإن املنهج التكاملي واجه مجلة من التحدايت
واالنتقادات اليت ارتبطت يف كلياهتا ابجلدل الدائر حول صدقية املعرفة التارخيية ونسبيتها،
وبني توصيف الوقائع التارخيية وحتليلها وفق نظرايت وفرضيات مستمدة من العلوم اإلنسانية
واالجتماعية األخرى ،تستطيع أن تربط بني معقولية اجملرد والواقع ،وتوظف الواقع وقرائنه
التارخيية لبناء شبكة من القوانني واملعايري الضابطة حلركة التاريخ العام .وال شك أن مدرسة
احلوليات قد حققت نقلة نوعية يف الكتابة التارخيية؛ ألهنا أضافت بعدا مهما للمعرفية
التارخيية يف جانبها الوصفي ،وبعدا منهجيا تكامليا ،مرتبطا ابحتواء العلوم االجتماعية
واإلنسانية ،وتوظيفها يف قراءة النصوص التارخيية ،قراءة متجاوزة حملتوايت النص الظاهرة؛
ورابطة إايه ابلظروف السياسية ،واالقتصادية ،واالجتماعية ،والثقافية احمليطة .بيد أن خصوم
مدرسة احلوليات شككوا يف صدقية سردها التارخيي ،دون متييز بني بعديه الوصفي
واالستنباطي ،ولذلك عمد بعضهم إىل أتسيس منهج اترخيي أخر ،يبعدهم عن دائرة القضااي
البنيوية االجتماعية واحلتميات االقتصادية ،وجيعلهم أكثر ميال إىل مفهوم السرد الثقايف (أو
التاريخ الثقايف اجلديد) القائم على املصادر الشفوية واملكتوبة ،وبقية خملفات اإلنسان
احلضارية ( ،)69وجينبهم مشكالت التحليل واالستنباط الناتج من الفلسفات التأملية ،أو
مناهج العلوم اإلنسانية واالجتماعية .وبناء على ذلك أضحى املنهج السردي اجلديد (أو
التاريخ الثقايف) يشكل حركة ارتدادية جتاه املفهوم الواقعي أو الوضعاين للتاريخ ،ويعيد إىل
األذهان حوارا إبستمولوجيا قدميا يتعلق مباهية علم التاريخ :أهو علم أم أدب؟
اهلوامش واملراجع
ابن خلدون ،عبد الرمحن :مقدمة ابن خلدون :اجلزء األول من كتاب العرب وديوان .1
املبتدأ واخلرب يف أايم العرب والعجم والرببر ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكرب،
بريوت :دار إحياء الرتاث العريب ،د .ن ،ص.9- 10:
هو فرانسيس بيكون ( 1561-1626م) ،فيلسوف وكاتب ورسام إجنليزي ،ولد يف .2
لندن ،ودرس جبامعة كمربدج ،ومنها رحل إىل ابريس ،حيث اشتغل يف السفارة
اإلجنليزية ،مث عاد إىل وطنه األم ،وعمل مستشارا للملكة إليزابيث .وكان من
الفالسفة البارزين يف قيادة الثورة العلمية اليت قامت على املالحظة والتجربة يف حل
املشكالت النظرية والتطبيقية .ورأي أنه جيب أن تكون لإلنسان عقلية عملية
جديدة ،سبيلها يف التفكري املنهج االستقرائي الذي يكون اهلدف منه ليس احلكمة
أو القضااي النظرية بل العمل ،واالستفادة من إدراك احلقائق والنظرايت يف هنوض
احلياة اإلنسانية ،وقد عثر عن ذلك بقوله " :املعرفة هي القوة " .ومن أهم كتاابته
الفلسفية " التقدم يف التعليم " .انظر:
من األسباب األتية :ضعف القوة اخلالقة يف األقفية املوجهة وانقالهبا إىل سلطة
تعسفية؛ وختلي األكثرية عن مواالة األقلية اجلديدة املسيطرة وكفها عن حماكاهتا؛
واالنشقاق وضياع الوحدة يف كيان اجملتمع .ومن أهم مؤلفاته العلمية :قصة
احلضارة ،مبجلداته املتعددة .انظر:
The New Encyclopaedia Britannica, vol. 11, p -880.
.14ملزيد من التفصيل انظر :إمام ،إمام عبد الفتاح :تطور اجلدل بعد هيغل :الكتاب
األول :جدل الفكر ،بريوت :دار التنوير للطباعة والنشر1984 ،م ،ص.47-41
Heqel, G. W. H.: Philosophy of History, trans.: J. Sibree, New
York: Dover Publication INC., 1956, pp 1-110.
.15ورد هذا النص يف املقدمة الثانية يف كتاب رأس املال ،لندن .1873/1/24 ،انظر:
Marx, Karl: Capital, ed.: F. Engels, 2nd Edition, Great Book of
the Western World, the University of Chicago, 1990, p.11.
ملزيد من التفصيل انظر: .16
- Fredern, Karl: The Materialist Conception of History, 2nd
Edition, Connecticut: Green. World Press, 1971، pp 1-
6,200-217.
انظر: .17
- Toynbee, Arnold J.: A Study of History (Abridgement of
volumes, 1-7 by D. C -Somervell), 2nd edition, New York.
Oxford: Oxford University Press، pp.60-67.
انظر: .18
Toynbee, Arnold J.: A Study of History, vol. iii, 6th impression,
London: Oxford University Press, 1955, pp 112-217,236-
278.
.19االجتاهات العامة ،ص .285-281
.20املالح ،هاشم حيىي :املفصل يف فلسفة التاريخ التأملية والنقدية ،بريوت :دار
الكتب العلمية 1971 ،م ،ص. 421
.21كوثراين ،وجيه :اتريخ التأريخ :اجتاهات -مدارس -مناهج ،الدوحة :املركز العريب
لألحباث ودراسة السياسات 2012 ،م ،ص .388
انظر: .22
- Brush, Kathryn: “The Cultural Historian Karl Lamprecht:
Practitioner and Progenitor of Art History”, Central
European History, Vol. 26, No. 2 , 1993, 139-164.
انظر: .23
- Whelan, Michael: “James Harvey Robinson, the New
History, and the 1916 Social Studies Report”, The History
Teacher, Vol. 24, No. 2, Feb., 1991, 193.
انظر .24
- Cole, Matthew D.: “The Idea of Historical Synthesis,
Henri Berr and the Relationship between History and
Sociology in France at the Beginning of the Twentieth
Century”, Sheffield University, Department of
Sociological Studies, ShOP Issue 8, March 2005.
.25اتريخ التأريخ ،ص. 388
هو جاك لوغوف ) 1914 -1924م) ،مؤرخ فرنسي مرموق ،بدأ حياته العملية .26
أستاذا للتاريخ يف معهد الدراسات العليا للعلوم االجتماعية بباريس ،مث توىل رائسة
املعهد لعدة سنوات .يعد من مؤرخي العصور الوسطى البارزين ،ومن كتاب جملة
احلوليات الفرنسية الناشطني الذين أسهموا يف تطوير منهجها التكاملي لدراسة
التاريخ .من أهم أعماله األكادميية :حضارة الغرب القرووسطية ،والقاموس املشروح
للغرب القرووسطي ،وأبطال العصر الوسيط وعجائبه ،يف عام 1978م حرر كتاب
التاريخ اجلديد مع جمموعة من املؤرخني .جاك لوغوف (حترير) ،التاريخ اجلديد،
.75
اتريخ التأريخ ،ص388. .27
التاريخ اجلديد ،ص .77 .28
التاريخ اجلديد ،ص .76 .29
هو مارك بلوخ ) 1944 -1886م) ،مؤرخ فرنسي ،متخصص يف اتريخ العصور .30
الوسطى ،من أهم مؤلفاته" اتريخ الريف الفرنسي واجملتمع اإلقطاعي " ،شغل رائسة
حترير جملة احلوليات الفرنسية منذ اتريخ أتسيسها عام 1929م حىت اتريخ إعدامه
عام 1944م بوساطة القوات األملانية ،نتيجة جلهوده يف املقاومة الفرنسية .عمل
أستاذا جبامعة سرتاسبورغ ) 1936-1919م) ،وبعدها انتقل إىل جامعة السربون،
اليت أاتحت له الفرصة يف توسيع دائرة أنشطته األكادميية ،ومواصلة نشاطه البحثي
يف جملة احلوليات الفرنسية ،والرتويج لرسالتها العلمية ومنهجها التكاملي يف أورواب.
انظر:
- The New Encyclopaedia Britannica, vol –2, p.286.
هو لوسيان فيفر (ت 1956 .م) ،مؤرخ فرنسي ،درس ابملدرسة العليا بباريس ،مث .31
جامعة السربون .عمل ابلتدريس قبل اندالع احلرب العاملية األوىل ،وبعد اندالعها
انضم إىل اجليش الفرنسي ،وعمل به ملدة أربع سنوات .عاد للعمل اجلامعي بعد
اسرتداد جامعة سرتاسبورغ من األملان عام 1919م ،وتعرف هناك مارك بلوخ ،وبدأ
التقارب بينهما يف اجلوانب الفكرية والفلسفية .وأسسا معا جملة احلوليات الفرنسية
عام 1929م .وبعد تعيني فيفر يف " الكوليج دي فرانس " عام 1933م ،مث
تعيني ،مارك بلوخ ب ـ "السربون" عام 1936م ،انتقل مقر جملة احلوليات من
سرتاسبورغ إىل ابريس؛ حيث تضاعف عدد قرائها وذاعت شهرهتا .وبعد وفاة بلوخ
عام 1944م ،توىل فيفر رائسة حترير اجمللة إىل أن وافته املنية عام 1956م.
راجع :حممود ،حممود الواحد :مدرسة احلوليات الفرنسية يف جتديد كتابة التاريخ:
حماولة للتأصيل يف الفهم العراقي ،بغداد :دار ومكتبة عدانن 2013 ،م ،ص. 24
إىل جانب املؤسسني بلوخ وفيفر ،تشكلت هيئة حترير جملة احلوليات من ابحثني .32
أخرين ينتمون إىل ختصصات خمتلفة من العلوم اإلنسانية واالجتماعية ،نذكر منهم
ألبري دومنجون (اجلغرافيا) ،وموريس هالبواكس (االجتماع) ،وشارل ريست
(االقتصاد) ،وأندريه سيغفريد (السياسة) ،وأندريه بيغانيول (التاريخ القدمي) ،وجورج
إسبيناس (التاريخ الوسيط) ،وهنري هاوزر (التاريخ احلديث .ملزيد من التفصل انظر،
دوس ،فرانسوا :التاريخ املتفتت من احلوليات إىل التاريخ اجلديد ،ترمجة :حممد
الطاهر املنصوري ،بريوت :املنظمة العربية للرتمجة 2009 ،م ،ص. 81
التاريخ اجلديد ،ص. 85 .33
املدارس التارخيية احلديثة ،ص. 181-182 .34
جاك ،جان :وضع علوم اإلنسان يف منظور العلوم ،يف :اإلجتاهات الرئيسية .45
للبحث يف العلوم االجتماعية واإلنسانية :القسم األول -العلوم االجتماعية،
دمشق :مطبعة جامعة دمشق1976 ،م ،ص147- 155؛ التاريخ املفتت ،ص
.118
التاريخ اجلديد ،ص .98-84 .46
التاريخ املفتت ،ص. 14 .47
اتريخ التاريخ ،ص .399 .48
املدارس التارخيية ،ص. 187 .49
املدارس التارخيية ،ص187. .50
هو فرانسوا دوس ،مؤرخ فرنسي ،متخصص يف اتريخ العصور الوسطى .ويعد من .51
مؤرخي مدرسة احلوليات البارزين ،من أهم كتاابته التاريخ املفتت :من احلوليات إىل
التاريخ اجلديد1978 ،م .ويعترب هذا الكتاب سجال مهما يف اتريخ مدرسة
احلوليات وتطورها.
التاريخ املفتت ،ص .30 .52
التاريخ املفتت ،ص. 15 .53
التاريخ اجلديد ،ص98-84. .54
التاريخ املفتت ،ص .368-369 .55
التاريخ اجلديد ،ص. 134-133 .56
انظر: .57
- Elton, Geoffrey: Return to Essentials: Some Reflections on
the Present State of, Historical Study, Cambridge. New
York: Cambridge University Press, 1991.
انظر: .58
- Evans Richard J.: In Defence of History, London: Granta
Books.1997
انظر: .59
- Return to Essentials, pp 6-69.
:انظر .60
- Carr, E. H.: What is History?, edited by: R. W. Davies,
2nd edition, London: MacMillan Press,1986.
:انظر .61
- Fox- Genovese, Elizabeth and Elisabeth Lasch- Quinn:
eds., Reconstructing History: The Emergence of A New
Historical Society, New York: Routledqe, 1999.
:انظر .62
- What is History?
:انظر .63
- Appleby, Joyce, Lynn Hunt and Margaret Jacob: Telling
the Truth about History, pp.207-237
:ملزيد من التفصيل انظر .64
- Tucker, Aviezer: Our Knowledge of the Past: A
Philosophy of Historiography Cambridge: Cambridge
University Press, 2004.
:ملزيد من التفصيل انظر .65
- Stone, Lawrence: "Revival of Narrative: Reflections on
New Old History", Past and.Present, no. 85, November
1979, pp 3-4.
، )Paul Vidal de la Blache( الفيدالية نسبة إىل بول فيدال دو البالش.66
ابعتبار أن اجلغرافيا هي املسرح،الذي اهتم مبنهج علم اجلغرافيا يف دراسة التاريخ
.الذي متثل فيه مفردات احلدث التاريخ
Emile الدوركهاميي نسبة إىل عامل األملاين االجتماع أميل دوركهامي.67
!)Durkheim)
.368: ص، التاريخ املفتت.68
: ملزيد من التفصيل عن التاريخ الثقايف اجلديد انظر.69
- Hunt, Lynn: ed. The New Cultural History, Los Angeles.
University of California Press, 1984: Frederic Jameson,
The Cultural Turn: Selected Writings on the Postmodern.
New York: Verso, 1988, 1983,1998.