You are on page 1of 6

‫التفكير بالدولة عند الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ‪ :‬مدخل‬

‫ام العوطة‬ ‫ولي‬

‫تنتمي نظرية الدولة عند الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز الى فكر السياسة لديه‪ ،‬وفكر السياسية ه و‬
‫هنا شك ٌل جوّ انيٌّ للسياسة‪ ،‬أو انه شكل‪ -‬السياسة التي تستوطن الفكر‪ .‬ذلك ان السياسة كانت بإس تمرار تماث ُل‬
‫ُخر ُج السياسة عن‬ ‫تبادل بينها وبين الفلسفة‪ .‬وكالمنا ي ِ‬
‫ٍ‬ ‫تش ّكالً للفكر‪ ،‬وللفلسفة‪ ،‬بكونها دائمة الحضور عبر آلية‬
‫توس ع‬
‫مج ّرد كونها في عالقة خارجية مع الفكر الفلسفي لتصبح في هذا الفكر وليس بجانب ه‪ ،‬ورؤي ة دول وز ّ‬
‫ايض ا بإعتباره ا‬ ‫رؤيتنا الى الدولة بكونها ليست مج رّد سلس لة من المؤسس ات والممارس ات السياس ية ولكن ً‬
‫الفكر بل انها‬
‫َ‬ ‫تكثرً ا من الق َيم‪ ،‬والخطابات‪ ،‬والتقنيات وبنى اللغة التي ال تصبح فقط داخل‬ ‫الشكل الّذي يتضمّن ّ‬
‫أيض ا وتقولب ه بحس ب نموذجه ا‪ ،‬لتص بح هي الفك ر‪ ،‬وليك ون الفك ُر هي في اآلن عين ه‪.‬‬ ‫تش ّكله ً‬
‫للفكر مظه َر الدول ةِ‪ ،‬فنموذج ه جه از الدول ِة الّ ذي يثبّت ل دى ه ذا الفك ِر أه دا ًفا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ويأخذ هذا الشك َل الجوّ اني‬
‫الفكر بهذا المعنى شك َل – الدولة الّذي ينمو داخل‬ ‫ِ‬ ‫صب ُح صورةُ‬ ‫وآلياتٍ‪ ،‬ومنطِ ًقا‪،‬ودروبًا‪ ،‬وقنواتٍ‪ ،‬وأجزاءًا‪ُ .‬ت ِ‬
‫ضختها الدول ة في ه ذا الفك ر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نسخة عن تلك التصوّ رات الّتي‬‫ً‬ ‫الفكر عن الدولة‬
‫ِ‬ ‫هذا الفكر‪ ،‬وتكون تصوّ ُ‬
‫رات‬
‫للفكر وليست مفارقة ‪ transcendental‬ل ه‪ ،‬وهي ال تي تمنح ه ل َّب ُه وقا َع هُ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫محايثة ‪immanent‬‬ ‫ٌ‬ ‫والدولة‬
‫فلنأخ ذ مثالً الكوجيت و ال ديكارتي (وه و الّ ذي يس مّيه دول وز األوديب الفلس في)‪ ،‬حيث ان الفهم الس ائد له ذا‬
‫الكوجيت و ان ه اس تطاع ان يبتك ر ش كالً منفص الً‪ ،‬ح رً ا‪ ،‬ومس تقالً للفك ر‪ ،‬إالّ ان حقيق ة األم ر تكمن في ان‬
‫الكوجيتو في عمقه لم يكن يدين سوى للشكل السيادي للدول ة على الفك ر‪ ،‬وه و الّ ذي يس تند الى فك رة الحس‬
‫المشترك‪ ،‬والتوزيع العادل بين الناس (العقل) والى "تشاركية" التفك ير بين جمي ع الن اس‪ ،‬والـ"أن ا أف ّك ر" ال‬
‫يف ّكر إالّ بما يف ّكر فيه الـ"نحن نف ّكر" وكأننا في "جمهورية العقول الحرّ ة"‪ .‬فالذات الديكارتي ة وعلى عكس م ا‬
‫التمثالت التي تش ّكل العالم‪ ،‬بل انها مُن َتج الواقع وولي دة "سلس لة من التركيب ات‬ ‫ّ‬ ‫هو شائع ليست هي التي تنتج‬
‫ترق من تش ققات ال زمن واالح داث ال تي تم ارس س يادتها على‬ ‫السلبية"‪ ،‬فهي انفعا ٌل ألنا سلبي متص ّدع مُخ ٌ‬
‫ه‪.‬‬ ‫جوّ انيت‬
‫از مم ّي ز ينتمي الى مرحل ة تاريخي ة فحس ب‪ ،‬أو انه ا البني ة‬ ‫ليست الدولة بهذا المعنى مج رّد مؤسس ة أو جه ٍ‬
‫انتاج اقتصاديّ كما يريد الماركسيون القول‪ ،‬بل انه ا أك ثر من ذل ك‪ ،‬فهي مب دأ ٌ الس لطة والحكم‬ ‫ٍ‬ ‫الفوقية لنمطِ‬
‫أشكال مختلفة‪ ،‬وهو مع ذلك أكثر من هذه األشكال المتعيّنة‪ .‬الدول ُة هي نم وذ ٌج مج رّد للس لطةِ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ينوجد تحت‬
‫متكثرة في المجتمع‪ ،‬وه ذه اآلل ة ليس ت ب دوها‬ ‫ّ‬ ‫ورموز‬
‫ٍ‬ ‫معان‬
‫ٍ‬ ‫يحقق آل َة ّ‬
‫تبث‬ ‫ُ‬ ‫وجها ُز الدولة هو تجمي ٌع ملموسٌ‬
‫تنظم الكالم المهيمن في المجتمع والنسق السائد‪ ،‬كما انه ا هي ال تي تمنهج المعرف ة‬ ‫آلة مجرّدةٌ ّ‬ ‫الدول ُة بل هي ٌ‬
‫المهيمن ة‪ ،‬وتنش ر المش اعر المتماثل ة والقطاع ات ال تي تس ود بعض ها على بعض‪.‬‬
‫تتخ ذ س يادة الدول ة على الفك ر ش ك َل قط بين أو تح ويلين من ه ذه الس يادة بإتج اه الفك ر‪:‬‬
‫األول هو "إطالقي ة" أن "نف ّك ر ص حّ"‪ ،‬الهيمن ة االمبراطوري ة للتفك ير الص حيح حيث ال وج ود اال‬ ‫‪-‬‬
‫لشكل صحيح واح ٍد من التفكير كأسٍّ للتوزيع‪ .‬تعمل هذه الهيمن ة االمبراطوري ة ع بر إمس اكٍ س حريّ يش ّكل‬ ‫ٍ‬
‫وس)‪.‬‬ ‫ري(الميث‬ ‫اء الفك‬ ‫ة البن‬‫َ‬ ‫نجاع‬
‫الث اني ه و "جمهوري ة العق ول الح ّرة" ال تي تنش أ بع د حل فٍ أو عق دٍ‪ ،‬مؤسِ س ًة تنظي ًم ا تش ريعيًا‬ ‫‪-‬‬
‫ت ح رّ ة يت أ ّتى بع د عق دٍ‪.‬‬ ‫وقانون ًي ا‪،‬تض ُع موض ع التنفي ذ األص َل (لوغ وس)‪ .‬الفك ُر هن ا ه و تب اد ٌل بين ذوا ٍ‬
‫ب إلى‬ ‫يتقاطع هذان القطبان في الصورة الكالس يكية للفك ر ع بر عالق ٍة ض روريةٍ‪ ،‬رغم ان الم رور من قط ٍ‬
‫دثا من طبيع ة مختلف ةٍ‪ ،‬يحتجب وراء ص ور ِة الفك ِر‪ ،‬ويج ري خ ارج القط بين‪.‬‬ ‫آخ ر يل ز ُم ح ً‬
‫ويبدو وكأن الفكر يمتلك مرساة مزدوجة الرأس ‪،‬فمن جهة نجد على رأس جمهورية العقول الحرّ ة أم ي ٌر ه و‬
‫الفكرة الح ّقة للـ"كائن األعلى‪ ،‬الربّ ‪ ،‬الخير‪ "...‬اي المؤسس ة االس طورية للحقيق ة‪ ،‬ومن جه ٍة اخ رى هنال ك‬
‫األسّ المنطقي‪-‬الح واري للعق د الق انوني بين ال ذوات‪ .‬ه ذان الش رطان يح والّن الفك َر الى أنض ودة ‪strate‬‬
‫سلطة وقدر َة تبرير كلّية‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫ثقل‪ ،‬وتمنحه‬ ‫َ‬
‫ومركز ٍ‬ ‫ً‬
‫جاذبية‬ ‫الفكر‬
‫َ‬ ‫الدولة‪ .‬هذه األنضودة الجوّ انية للدولة ُتكسِ بُ‬
‫يصب ُح ذا قو ٍة ثقيلةٍ‪ .‬وقد تعاملت الفلسفة الكالسيكية – والحداثة كك ّل – مع هذه القوة والق درة والس لطان ال تي‬
‫امتلكها الفك ُر بإعتباره ا نتاج ه الخ اص‪ ،‬وغفلت عن ك ون ه ذه "الملك ات" الفكري ة أث ٌر من آث ار اس تدخال‬
‫ُكم وعلى ف رض العق اب‪-‬‬ ‫(استدماج) الشكل‪-‬الدولة‪ ،‬ذلك ان القدرة التي يمتلكها ه ذا الفك ر على الت برير والح ِ‬
‫ضد الخطأ‪ -..‬ليست قو ًة ذاتية يمتلكها بل هي تحوي ُل ‪ transfert‬الدولة لسلطانها ولقدرتها اليه‪ .‬ورغم ذل ك‪،‬‬
‫اساس ا آخ رً ا (غ ير الق وّ ة واإلجم اع)‬ ‫ً‬ ‫ال يبقى الفك ر س لبيًا إذا ان ه يرتف ع بالدول ِة الى كلّياني ة الح ق‪ ،‬بمنحه ا‬
‫مضمونه التسويغ الكوني – الكلّي‪ ،‬الشامل – المرتكز على فكرة الحق والقانون األعلى‪ .‬إن الفك ر الّ ذي ه و‬
‫انضودة الدولة يضع ح ّي ز اإلمك ان فك ر َة دول ٍة عقالني ة‪ ،‬كلّي ة‪ ،‬قانوني ة‪ ،‬وال تي يُعبَّر عنه ا ع ادة بإعتباره ا‬
‫"التنظيم العقالني للمجتمع" والّذي يعلو فوق ب اقي التنظيم ات ال تي ال تأخ ذ ش رعيتها إالّ من ه‪ ،‬وه و التنظيم‬
‫ت غ ير قانوني ة‪ ،‬ش ّاذة‪" ،‬ش ريرة"‬ ‫األعلى الّ ذي يجع ل من تل ك التنظيم ات "المنش قة" و"المقاوم ة" تنظيم ا ٍ‬
‫وخاطئة يسلبها شرعيتها لكونها ال تتقولب ضمن الشكل‪-‬الدول ة‪ .‬العقالني ة هن ا هي نم وذ ٌج عن فك ِر الدول ةِ‪،‬‬
‫الفكر وليس خط ابُ الفك ِر‬ ‫ِ‬ ‫والخطابُ العقالني الّذي يبرر الدول َة هو تمظه ٌر من تمظهرات هذه الدول ِة في هذا‬
‫هذا عنها بإعتباره خارجها أو بإعتبارها خارجه‪.‬ان الدولة بالنسبة لهيغل مثالً هي العقل‪-‬الفكرة الش املة‪ -‬وق د‬
‫تحقق بالفعل‪ ،‬كما ال يوجد سلطة على األرض أعلى من سلطتها القانونية العقالنية‪ ،‬والخضوع للدول ة يماث ُل‬
‫نى‪.‬‬ ‫ذا المع‬ ‫ل به‬ ‫وع للعق‬ ‫الخض‬
‫و" َتعاملُ" الدول ِة بإعتبارها التنظيم العقالني األعلى مع باقي التنظيمات المغ ايرة لش كلها‪ ،‬ه ذا التعام ل الّ ذي‬
‫يقوم على ثنائيات مثل الخير‪/‬الشر‪ ،‬الح ق‪/‬الباط ل‪ ،‬الص حّ‪/‬الخط أ ‪..‬الخ نج ده في الفك ر المتق ولب في ش كل‪-‬‬
‫رب‪..‬رافض ا التعددي ة واالختالف‬‫ً‬ ‫ُسجن ضمن ثنائي ات مث ل أبيض‪/‬اس ود‪ ،‬ان ثى‪/‬ذك ر‪ ،‬ش رق‪/‬غ‬ ‫الدول ِة حين ي َ‬
‫متخًذا صورة الدولة التي تلغي ايّ خطاب مختلف او مضاد (وهذا ما نس ميه بالنزع ة اإلثنيني ة ‪.)dualism‬‬ ‫ًّّ‬
‫إن التصوّ ر أو التمثيل ‪ representation‬الّذي يقوم على اعتبار ان المفاهيم ‪ conception‬هي تم ثيالت‬
‫ُنظر إلي ه في‬‫لموضوعات موجودة في الواقع‪ ،‬والّذي يفترض انه يبدأ بالفكر بال أي مصادرات‪ ،‬هذا التمثيل ي َ‬
‫تبعد على ه ذا االس اس ك ل نم وذج آخ ر ق ائم على‬ ‫ت اريخ الفلس فة بإعتب اره النم وذج الص حيح للتفك ير ويُس َ‬
‫ار تعام ل الدول ة م ع المختل ف عنه ا وال تي تس عى الى‬ ‫االختالف والتعددية ‪ ،‬وفي هذا االس تبعاد أث ٌر من آث ِ‬
‫تمثيل يقوم على االختالف‪ ،‬رغم ان االختالف بحسب دول وز يس بق ك ل تحدي ٍد ألي ة هوي ة وه و‬ ‫ٍ‬ ‫تهميش كل‬
‫الّذي يؤسس الهوية ال الّذي يتأسس عليها‪ ،‬كما ان الفهم التقليدي للتمثيل يقوم على مصادرة هي ان الخطأ هو‬
‫ة‪...‬‬ ‫ة والحماق‬ ‫رى كالتفاه‬ ‫امرات أخ‬ ‫تبعد مغ‬ ‫يئة ويس‬ ‫امرة س‬ ‫مغ‬
‫ونحن هنا ال نتكلّم فقط عن تلك الدول التي توصف بإنها فاشية أو استبدادية أو ديكتاتورية‪ ،‬فح ّتى الدولة التي‬
‫ُتسمّى ديموقراطية ال تسلم من هذا الوصف‪ .‬ورغم ان التفكير بالديموقراطية لم يلعب دورً ا مركز ًي ا في فك ر‬
‫دولوز الفلسفي والسياس ي ح ّتى ا ّن ه ا ُتهم بمع اداة الديموقراطي ة‪ ،‬إالّ ان ك ل من دول وز وغات اري في كت ابهم‬
‫"ألف سطح" اعتبرا ان كل اصناف الدول ومن بينها الديموقراطية ال تعمل بالفعل إالّ كنماذج من أجل تحقيق‬
‫والحفاظ على االطار التقعيدي ‪ axiomatic‬العالمي لرأس الم ال وديموم ة الس وق الرأس مالية ال تي ال تنتج‬
‫سوى البؤس الى جانب الغنى الفاحش واالغتراب والتشيوء‪ ،‬كما ان هذه الديموقراطيات الرأسمالية هي ال تي‬
‫تؤدي الى انتشار الشيزفرينيا في المجال االجتماعي وهي الحالة التي تميل بحسب دولوز الى ج انب الرغب ة‬
‫فيما تميل الرأسمالية الى جانب غريزة الموت وسحق الرغبة وكبتها‪ ،‬هذه الرغبة ال تي س تكون ك اللغم الّ ذي‬
‫حين كالمنا عن أساليب "المقاوم ة" السياس ية عن د دول وز‪.‬‬ ‫سينفجر في قلب الرأسمالية كما سنرى في الفقرة َ‬
‫ة المقاومة‬ ‫ة‪:‬سياس‬ ‫ة الدول‬ ‫ة في مواجه‬ ‫الرغب‬
‫صا‪...،‬انها مسار وحدث" هكذا ير ّد دولوز على التصوّ ر الكالسيكي للتحلي ل‬ ‫"الرغبة بالنسبة لي ليست أبدا نق ً‬
‫تسام تأخذ قيمتها بر ّده ا الى‬
‫ٍ‬ ‫نقص يجب ملؤه‪ ،‬والّذي يرى الرغبة بكونها لحظة‬ ‫النفسي الّذي ير ّد الرغبة الى ٍ‬
‫غايته ا وهي "اللّ ذة" او االس تلذاذ‪ ،‬وم تى حص لت اللّ ذة انتهت الرغب ة حُك ًم ا‪ ،‬والل ّذة ال يمكن أن تتح ّق ق إال‬
‫بح أك ثر "ح د ًة" م ع التص وّ ر‬‫بنفيها‪ .‬وهذا تصوّ ٌر يعود الى الفالس فة االغري ق وق د أص َ‬ ‫بتجاوز الرغبة‪ ،‬أي ِ‬
‫ألحالم واس تهيمات بحس ب‬ ‫ٍ‬ ‫المسيحي للرغبة وللجسد‪ .‬أما بالنسبة لدولوز فالرغبة قوّ ة مُنتِجة‪ ،‬وليست مُنتج ة‬
‫المنط ق الفروي دي‪ ،‬ب ل هي بمع نى م ا تش ّك ُل ج زءًا من البني ة التحتي ة (وليس من البني ة الفوقي ة كم ا يق ول‬
‫اج راغب‪،‬‬ ‫الماركسيون)‪ ،‬انها قوة انتاج تما ًم ا ك إرادة الق وة ب المفهوم النيتش وي‪ .‬وهك ذا يُمكن التكلّم عن إنت ٍ‬
‫وعن الوعيٍ منتِج للحاج ات (وليس العكس) كم ا للواق ع الم ادي في الواق ع الم ادي‪ ،‬وه و انت اج راغب‬
‫مجتمعيّ ‪ ،‬يُمكِن ر ّد الصراع االجتماعي والسياسي إليه‪ ،‬كما يُمكِن تمري ر العائل ة واالن ا والش خص من جه ة‬
‫البنية الفوقية (اآلنتي‪-‬أوديب)‪ .‬والالوعي برؤية دواوز وصديقه فليكس غاتاري لم يعد مسرحً ا للرغب ِة بل آل ة‬
‫انتاج ال ينحصر في النطاق الض يّق للعائل ة ب ل ينفتح الى الت اريخ والجغرافي ا والق ارات واألع راق‪ ،‬اي الى‬
‫المجتمع الواسع‪ .‬وهنا يظهر لنا األفهوم الدولوزي المُب َتكر حين يتحدث عن آالت راغبة تخ ترق ك ل المج ال‬
‫االجتماعي وتتدفق فيه ويكونُ نتاجً ا تاريخيًا لها‪ ،‬وهي آالت ال تسير إالّ وهي تتعط ل بإس تمرار‪ ،‬واآلل ة هي‬
‫كتعريف " سيستام من قطائع الدفوق‪ ، " système de coupures de flux -‬أمّا اآللة الراغبة فهي‬
‫وتحت ك ل تمي يز وتحدي د‪.‬أ ّم ا الجس ُد بال‬‫َ‬ ‫ٌ‬
‫نمط في توصيفِ آلية الذاتية ال تي تح رّك الجس َد بال أعض اء قب َل‬
‫أعضاء فيعني به دولوز الجسد الّذي يع ارض تنظيم األعض اء أو م ا نس ميه "المتعض ي" ‪.Organism/e‬‬
‫ويشبّه دولوز الجسد بال أعضاء بالبيضة المليئة قبل إمتالء المتعضّي وتعضية األعضاء‪ .‬وهكذا تك ون اآلل ة‬
‫المتعض ي في الطبيع ة‬
‫ّ‬ ‫الراغبة سستام غير عضوي للجسد يتجاوز إوالية ‪ Mecanism/e‬التقني ة وتعض ية‬
‫والمجتمع وفي االنسان‪ .‬ويقول دولوز في ما معناه ان الجسد بال أعضاء يشكل حق ل المحايث ة للرغب ة وه ذه‬
‫توجد حيثما هناك الجسد بال أعضاء(‪ )..‬وال يتعلق األم ر بمس ألة إيديولوجي ة ولكن بم ادة خالص ة‪ ،‬بظ اهرة‬
‫ة‪...‬‬ ‫ة أو كوني‬ ‫ية اجتماعي‬ ‫ة‪ ،‬نفس‬ ‫ة‪ ،‬بيولوجي‬ ‫ادة طبيعي‬ ‫لم‬
‫دفق وتص ن ُع الواق َع‪ ،‬وكم ا ص نعت‬ ‫ت راغب ة من ك ل األحج ام تت ُ‬ ‫هناك ًإذا إنتا ٌج راغب‪ ،‬وسيولة دائم ة آلال ٍ‬
‫بالظبط رغبة الجماهير األلمانية أو االيطالية في بديات القرن الماضي التاريخ الفاشي الجديد‪ ،‬صنعت الطاقة‬
‫الراغبة وجهًا ثوريًا للتاريخ نجده مع الطبقة العاملة وفي العلم والفنون‪ .‬فالرغبة ال تتوقف ولكنه ا ق د تش تغل‬
‫ضد مصلحتها إالّ انها ال تض ّل الطريق‪ .‬وهي اي الرغبة من بإمكانها أن تزعزع النظام الع ام وآلي ات القم ع‬
‫نوع آخر‪ ،‬وفي كل األحوال ال ينفع الكالم عن رغبات قبيح ة أو جميل ة‪،‬‬ ‫في الوقت الّذي قد ينتج عنا قمع من ٍ‬
‫شريرة أو خيّرة‪ ،‬بل انّ ما يمكن القيام به هو الكالم عن الرغبة التي تنسكب في كل شي والتي تس توطن ك ل‬
‫ث األف راد والمؤسس ات واإلوالي ات االقتص ادية‬ ‫بشكل محاي ٍ‬
‫ٍ‬ ‫ك فيه مكا ًنا محد ًدا؛ انها تع ُّم‬
‫ت ال تمل ُ‬‫مكان في وق ٍ‬
‫ٍ‬
‫برمته ا‪ .‬ومن ه ذه النقط ة ن دخل الى بحث الص لة بين الدول ِة (والس لطة بش كل ع ام) والرغب ة‪.‬‬
‫فكر الدول ِة عبر الخضوع الطوعي للتص وّ ر‬ ‫بالنسبة الى دولوز (وغاتاري) تنحص ُر الرغب ُة في قنا ِة (مجرى) ِ‬
‫األوديبي‪ .‬أوديب هو خط الدفاع الّذي تستعين به الدول ُة ضد كل رغب ٍة "منفلت ة"‪" ،‬هارب ة" أو غ ير مقيَّدة؛ ان‬
‫األوديب يشبه إله الكنيسة‪ ،‬والتحلي ُل النفس ي ال يش به إالّ ه ذه األخ يرة‪ ،‬كم ا أنّ المحللين النفس يين هم الكهن ة‬
‫بشكل تشعر معه ا ّنه ا بالفع ل مكبوت ة ومقموع ة‬‫ٍ‬ ‫الجدد الملحدين‪ .‬وأوديب ال يقمع الرغبة بقدر ما يعيد بناءها‬
‫كي تشعر بالذنب‪ ،‬فيما هي وفي ظ ّل آلة الدولة والرأسمالية يج ري اختزاله ا الى اس تيهامات عائلي ة "تافه ة"‬
‫كما يجري توظيفه ا في التقس يم المجتمعي للعم ل وتقيي دها ‪ ،‬ويت ّم تحويله ا الى آالت راغب ة غ ير منتج ة في‬
‫جس ٍد عضوي مملوء هو رأس المال‪ .‬وأوديب التحليل النفسي يسجن الرغبة في الذات الفردية‪ ،‬يذوّ ًتها (الهُو ‪l‬‬
‫‪ ،)e ça‬ويقطع عنها سبل اإلتصال‪ .‬لدينا هنا جها ٌز أعلى للمراقبة يمنع تدفق الرغبة في الحقل االجتم اعي‪،‬‬
‫الرغبة التي بتدفقها ستهذي ليس حول كراهية األب وعشق األم (أو العكس)كما يريد التحلي ل النفس ي‪ ،‬وإنم ا‬
‫حول المال والسلطة واألعراق والشعوب كما سيبرهن عليه التحليل الفصامي(‪ ،)schizoanalyse‬وب ذلك‬
‫ينظ ر دول وز الى الرغب ة بوص فها "وت داً ‪ agencement‬اجتماع ًي ا" لتولي د اله ذيات "المتكلم ة" (فاش ية‬
‫رجعية كانت ام ثورية يوتوبية) وخلق االوه ام في المج ال المجتمعي المش ترك‪.‬هنال ك ن و ٌع من "الم ؤامرة"‬
‫التي تحيكها الدول ُة مع التحليل النفسي لفصل المسارات‪ :‬مسار الالوعي‪/‬مسار المعمل ‪-‬مس ار الرغب ة‪/‬مس ار‬
‫الثورة والتغيير االجتماعي‪-‬إقتصاد الرغبة‪/‬إقتصاد اإلنت اج‪ ،‬وه و فص ٌل يُع ا ُد رس مه يوم ًي ا من أج ل حص ر‬
‫الرغبة في المجال الذاتي والعائلي وحصر االنتاج في المج ال االجتم اعي واالقتص ادي البحت‪ ،‬وه و فص ٌل‬
‫امح‬
‫يل ج ٍ‬ ‫يعيد انتاج االغتراب والتشيوء والصنمية‪.‬عملية الفصل هذه تمنع والحالة هذه تح وّ َل الرغب ة الى س ٍ‬
‫دافق كلّي يخترق مجال الصراع االجتماعي ويؤسس لإلختالف وللتعددية ولإلبتك ار والفن واألدب‪ ،‬وعملي ة‬ ‫ٍ‬
‫ترسيمة تجعل من تدفقاته تدفقات جزئية صغيرة مح دودة‬ ‫ً‬ ‫الفصل هذه تبقي على الرغبة بإعاقتها وبرسمها لها‬
‫اق ع ائليّ ض يّق ال ينفتح على المج ال الع ام ب ل يبقى ح ّي زه أريك ة المحل ل النفس ي‪.‬‬ ‫اإلط ار في نط ٍ‬
‫إن محاوالت تحجيم تدفقات الرغبة في إطار الرأسمالية يقتضي توظيف هذه الرغبة في إطار منظومة البني ة‬
‫الرأسمالية كلّها بمعاونة التحليل النفسي مما يؤدي الى حالة الفُصام أو الشيزوفرينيا‪ ،‬إالّ أن الدولة الرأس مالية‬
‫نظام مغلق ال يس مح ب أي ن وع من اله روب والف رار الرغب وي‪ ،‬فهي وعلى خالف األنظم ة‬ ‫ٍ‬ ‫تختلف عن ايّ‬
‫البربرية العسركية والدينية التي تكث ُر من الرموز والشيفرات وتؤسس إلرهاب دوالني مُطلَق ومباش ر‪ ،‬تق وم‬
‫الدولة الرأسمالية بفك شفرة او رمز تدفقات الرغبة و ُتطلِقُه ا و"تس تثمرها" على "الجس د االجتم اعي" بم ا ال‬
‫يهدد سيرورة النظام القائم‪ ،‬فما يه ّم الرأس مال هو استغالل ق درات الش خص في المص نع وفي العم ل وك ل‬
‫رغبة تهدد االنتاج الرأسمالي يتم تهميشها وإقصائها وسجنها (عبر التحليل النفسي) إمّا ض من اط ار االس رة‬
‫الضيّق‪ ،‬او في االستهالك أو في البغاء مثالً‪ .‬وهذا ما يولّد حالة الفصام وما يصنع ذلك النموذج من الشخص‬
‫الهارب الّذي يهدد النظام القائم والنسق المهيمن بتملّكه "ش هية" جامح ة ب التمرّد إ ّم ا بإس م الرغب ة (في الحلم‬
‫والفن والحب) أو بإسم الثورة‪ .‬وح ّتى اللحظة استطاعات الدولة – الرأسمالية – ترويض ك ل تهدي ٍد من ه ذا‬
‫بر وسائل االعالم مثالً وع بر آلي ات ص ناعة الحاج ات الجدي دة‬ ‫النوع بإعادة تحريف مساراه وكبح جماحه عِ َ‬
‫ُنظ َر إليه ا بإعتباره ا تخ دم مص الحة‬‫والتسويق ‪ marketing‬أو عبر "اللعبة" الديموقراطية والقوانين التي ي َ‬
‫قبرها" على حد قول ماركس وهو قول يتبناه دولوز وغاتاري‬ ‫الكلّ‪ .‬إالّ ا ّنه وفي اآلن عينه "تحفر الرأسمالية َ‬
‫حيث يالحظان ان الرأسمالية بدأت تفقد قوّ تها بفقدانها حيّزها المكاني وآلي ات إخض اعها ووس ائل تنظيراته ا‬
‫ير‪.‬‬ ‫ا ٍة أخ‬ ‫ط حي‬ ‫مالية كنم‬ ‫ة للرأس‬ ‫وات المعارض‬ ‫و األص‬ ‫دأت تعل‬ ‫وب‬
‫الخالصة‬
‫ب عقالنيّ وأخالقيّ ‪ ،‬ب ل‬ ‫ال يسود فك ُر الدولة ويهيمِن من خالل عق ٍد إجتماعيّ مُف َت َرض أو فقط من خالل خطا ٍ‬
‫عبر الرغب ِة البشرية بالدرجة األولى‪ .‬وبالتالي فإن آلية مقاومة الدولة ال يمرّ إالّ عبر صيرورة الرغبة كفع ٍل‬ ‫َ‬
‫متمر ٍّد ثوريّ ‪ ،‬والثورةُ هنا ليست بمعناها الكالسيكي ً‬
‫حدثا جماهيريًا يروم إجتث اث دول ٍة وس لط ٍة ليقيم مكانه ا‬
‫شكل آخر كما حصل ح ّتى اللحظة في كل التجارب الثورية في التاريخ وباالخص تلك ال تي‬ ‫ٍ‬ ‫دول ٍة وسلط ٍة من‬
‫لطالما نادت بإسقاط الدولة (االشتراكية الماركسية واألناركية)‪ .‬إ ّنها "آلة الحرب" التي بإمكانه ا تج اوز فك َر‬
‫الدول ِة ولن تكون سوى ثورة –هي أقرب الى االنتفاضة ‪ -‬إبتكار وقلب شيفرات ورموز الفكر المهيمن‪ ،‬وهي‬
‫ثورة في الفرار من آليات المراقبة عبر الترحال واإلحتفالية الرغبوية الحرّ ة وتأكي د ال ذات الفردي ة الرافض ة‬
‫للهويات القسرية‪ .‬وهي ثورة ال تستوجب وجود أغلبية تقوم بها ب ل تب دأ على المس توى ال ذرّي في المص انع‬
‫والمدارس والسجون‪ ،‬بين االقليات وفي العائلة‪ ،‬وهي متى نجحت على المستوى الذرّ ي تنقل انتص اراتها الى‬
‫المس توى األك بر‪ .‬وهي ال تتو ّج ه بأس لحتها الى الدول ِة فحس ب ب ل الى ك ل البن اء االجتم اعي الق ائم‪.‬‬

‫المراجع‬
‫‪Pensée du politique et résistance chez Gilles Deleuze,Pierre‬‬ ‫‪-1‬‬
‫‪Montebello.‬‬
‫‪http://www.academia.edu/1401389/Pensee_du_politique_et_resistance_ch‬‬
‫‪ez_Gilles_Deleuze‬‬
‫‪Political Normativity and Poststructuralism: The Case of Gilles‬‬ ‫‪-2‬‬
‫‪Deleuze-‬‬ ‫‪Paul‬‬ ‫‪Patton‬‬
‫‪http://www.uu.nl/SiteCollectionDocuments/GW/GW_Centre_Humanities/pol‬‬
‫‪itical-normativity-deleuze.pdf‬‬
‫جيل دولوز‪ ،‬سياسات الرغبة‪ ،‬تحرير د‪.‬أحمد عبد الحليم عطية‪ ،‬دار الفارابي‪،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبع ة‬ ‫‪-3‬‬
‫األولى ‪.2011‬‬
‫‪.Saul Newman War on the State: Stirner and Deleuze’s Anarchism‬‬ ‫‪-4‬‬
‫‪http://theanarchistlibrary.org/library/saul-newman-war-on-the-state-stirner-‬‬
and-deleuze-s-anarchism

You might also like