Professional Documents
Culture Documents
إيمانويل لفيناس وجيل دولوز :إنسانوية الوجه بين اإلتيقا ،االستطيقا والسينما.
Emmanuel Levinas and Jilles Deleuze: the humanity of the face between ethics,
esthetics and cinema.
1
فايزة بغياني
مخبر مشكالت الحضارة والتاريخ في الجزائر ،جامعة الجزائرbaghianifai@gmail.com ،2 1
ملخص:
يعتبر الوجه رم از لوحدة النوع البشري فمن خالله نتقاسم إنسوانويتنا ،لذلك كان التجلي من خالله أمام اآلخر
مدخل لكل ترحيب وضيافة ومؤانسة بل مساواة أمام من يتأملنا بعينيه مهما كان أصله وعرقة ودينه ،فمنه تبدأ
كل عالقة إتيقية مع اآلخر لذلك جعله إيمانويل لفيناس المفهوم المركزي في مشروعه الفينومينولوجي اإلتيقي -
التيولوجي ،فالوجه وحده من يمتلك اقتدار حمل أثر الالمتناهي ومن ثم وجب التحلي بالحياء عند النظر إليه
لنتأمل العمق والحقيقة خلف األشكال وألوان العينين ،لكن مع سينما جيل دولوز سيختلف األمر ألن الفنان ال
يكون مبدعا إال إذا أظهر مدى قدرات وجهه على التزييف من خالل تقديم أدوار مختلفة ليصبح الوجه بمثابة
لوحة فنية متناسقة األبعاد واأللوان بل كأنه تطريز هندسي ،ومن هنا ينطلق بحثنا الذي نهدف من خالله إلى
بسط التصور اللفيناسي والدولوزي حول الوجه لعلنا نجد نقاط الوصل بينهما.
كلمات مفتاحية :اإلنسانوية ،الوجه ،اإلتيقا ،االستطيقا ،السينما.
Abstract:
The face is the most important sign of our humanity in all of our long history, and the
appearance through it is an enterance for every welcome and equality in front of
those who look at us, whatever his race, because the face is symbol of the human
kind, and through it every relationship with the other, he made Levinas the central
concept in his ethical theological project , because the face expresses the infinte
effect, therefore, we must be shy when seeing him to reflect on the depth behind
color of the eyes unlike Deleuze, the artist is not creative unless he shows the
capabilities of his face to counterfeit , and from here begins our study, Which aims to
display visualizations of Levinas and Deleuze.
Keywords: Humanity ; Face ; Ethics ; Esthetics ; Cinema.
___________________ـ
314
.1مقدمة:
مثلما كانت الفينومينولوجيا الترنسندنتالية عند هوسرل جوابا على النزعة الوضعية المادية التي حاولت
إختزال اإلنسان في مادية بحته ليحاول من خاللها أن يعيد لإلنسان األوروبي جانبه القيمي والمعنوي ،كذلك
ستكون فينومينولوجيا إيمانويل لفيناس أيضا جوابا قويا على الحرب والنزعة التقنوعلمية التي حاولت أن تحذف
إنسانوية اإلنسان لصالح مادية بحته ،فلفيناس عندما يتحدث عن الوجه يتحدث عنه ضمن أفق إتيقي-تيولوجي
لعله يعيد بذلك له ومعه اإلنسان اآلخر قدسيته وجانبه القيمي الذي حاولت العلوم باتحادها مع الحرب أن تفقده
إياه ،فهو بصمة الشخصية فمن الناحية اإلتيقية ال توجد وجوه عمومية إال إذا كانت أقنعة مثل أقنعة الممثلين
على المسرح والتي تأخذ من الوجه الشكل فقط ،لذلك نحن ال يمكن أن نخلط بينها وبين الوجه اإلنسانوي ،فكل
إنسان له وجهه الذي له نظرته الخاصة والتي تميزه وتجسد وحدانيته لتحييه تعابير تترجم اإلنفعاالت األشد عمقا
والتي تجعله فريدا ومتمي از .
لكن إذا أردنا الحديث عن منزلة الوجه ضمن آفاق سنيمائية سيختلف األمر فالممثل ال يكون عمله
أصيال إال إذا قدم أدوا ار مختلفة تتغير مالمح وجهه معها في نفس الفيلم ،وهذا ما فصل فيه جيل دولوز
عندما تحدث عن الوجه في عمله الضخم حول السينما والمتمثل في كتابيه اللذان يحمالن عنوان" :سينما
الصورة -الحركة" و"سينما الصورة-الزمن" ،فالممثل في نظره الذي لديه قدرة كبيرة على التزيف بتغيير مالمح
وجهه في نفس العمل وحده فقط يستحق إسم مبدع ،ويتخذ دولوز أنموذج اإلنسان األعلى عند نيتشه الذي
تقمص وجه العراف والملك والساحر والبابا والمتسول كأنموذج لكل عمل فني أصيل ،فهو ذلك الوجه الذي تحول
إلى صورة فنية تعمل بمنطق التزييف من خالل األلوان واألشكال والحركات والخدع البصرية لتترجم إنفعاالت
الرغبة واإلغراء واإلغواء واإلعجاب والشغف والحزن والزهد واإليمان على نفس الوجه ،وعليه يمكن أن نطرح
اإلستشكال التالي :ما هي المنزلة التي يتخذها الوجه اإلنسانوي بين إتيقا-استطيقا لفيناس وسينما دولوز؟ كيف
يمكن أن نتحدث عن نزعة إنسانوية خاصة بالوجه؟ كيف تنفتح الذات على اآلخر ضمن أفق إتيقي-تيولوجي
من خالل الوجه؟ إذا كان الوجه اللفيناسي يفر من سطوة األشكال واإلدراك للوصول إلى المعنى والقيمة خلف
األشكال واأللوان وجمال العينين فهل سيكون له موقفا مرتابا ضد تصورات االستطيقا والسينما الحديثة عن
الوجه؟ كيف سيكون رد دولوز على لفيناس ؟ وكيف ننتقل من الوجه كحامل ألثر الالمتناهي والحقيقة عند
لفيناس إلى الوجه كرمز لإلغراء واإلغواء والتزييف مع دلوز؟ كيف يصير التزييف إبداعا في مجال السينما
ومن ثم االستطيقا؟ .
315
ومن هنا تكون فرضية هذا البحث تتمحور حول المكانة التي يتخذها الوجه بين اإلتيقا واالستطيقا
والسينما ألن هدف بحثنا هو إماطة اللثام عن الرؤية اللفيناسية اإلتيقية االستطيقية والرؤية الدولولزية السينمائية
للوجه لنحاول بعدها أن نجد نقاط الفصل بينهما ،ثم نردم بعد ذلك الهوة القائمة بين اإلتيقا واالستطيقا والسينما
حول تصور الوجه.
316
وفق ار فهو يحمل فق ار أساسيا إذ هو أكثر عرضة للتهديد والخطر والعنف في عريه دون دفاع ،وكأنه يدعونا
لممارسة العنف وفي اآلن يمنعنا من القتل ،5فهو الضعف والهشاشة والفقر ألنه وجه األرملة واليتيم والغريب
الذي تواجهه األنا كآخر منفصال عنها حيث تجمعهما عالقة قرب وليس تماثل وانصهار في المجتمع الذي
يشكل المشترك بينهما.
كما أن زيارة الوجه تكون في عريه أي تجرده من صورته الخاصة ،والذي هو عري في ذاته وهو ممكن
فقط داخل العالم ،فعراء الوجه هو تعريه من كل زخرف ثقافي ألنه يخترق عالمنا الخاص انطالقا من مجال
الذي ال يحضر إال في الوجه، 6
غريب ،ألن داللة الوجه غريبة فهي تحمل أثر اآلخر بإطالق أي الالنهائي
وهذا ما يتقاطع مع الرؤية اإلسالمية حيث ورد في القرآن الكريم قوله تعالى":فأينما تولوا فثم وجه اهلل" 7لذلك كان
ال بد من التحلي بالحياء عند النظر إليه فال نتأمل مالمحه الفيزيولوجية ،خصوصا لون العينين ألنني بتأمل لون
العينين قد أتمكن من تحديد جنسية اآلخر فاإلنسان الغربي في الغالب أشقر يمتلك عينان زرقاوتان فأمتنع من
الدخول في عالقة إتيقية معه ،ألنه ليس من بني جنسي ،لذلك يؤكد لفيناس أنه للوجه داللة تتعالى عن كل
سياق ثقافي كما أن تأمل لون العينين قد يجعلني أدخل في عالقة عاطفية مع اآلخر والمطلوب هنا عالقة
اجتماعية.
فداخل عراء الوجه فقر وسمو ألن اهلل يتحدد فيه كأثر ليصبح وجه اآلخر معبدا ،وهنا سيظهر البعد
اإلتيقي التيولوجي للزيارة ليقول اهلل كلمته األولى في شكل نداء يمنعني أن أظل أصما إزاءه أو استمر في
نسيانه أو امتنع على أن أكون مسؤوال عن بؤسه ،فللوجه أمر بل وصية تضع الوعي موضع سؤال من طرف
الوجه ،8ف ي وجه اليتيم واألرملة والغريب إفصاح عن لغز اآلخرية بإطالق إنه نداء تحريم فعل القتل أي العنف
ممثال في الكلمة األولى " :ال تقتل أبدا " ،9أين يأمرني اهلل في تعاليه فهو الماضي السحيق "األنارخيا" أو "الما
قبل أصلي" إنه األمر الذي يأتي انطالقا من وجه اآلخر ،ليستفز وعيي وماهيتي وحضوري وحريتي ففي أول
اقترابه يضع ذاتي موضع سؤال بل اتهام ،كسيد أو قاضي يحاكمني ،10ليحدث اللقاء اإلتيقي بين الذات واآلخر
والذي يأخذ شكل صدمة واتهام ،فاهلل يحضر في وجه اآلخر كأثر ليتهم األنا بإضطهادها لآلخر لينهى عن
القتل والعنف من خالل الكلمة األولى للرب التي تحرم القتل.
إذ هي مقاومة إتيقية للوجه دون عنف تشل الذات وتمنعها من تعنيف اآلخر ،فنداء القداسة يحثها على
مقاومة إغواء القتل والحرب المتمثلة في فعل الكفاح من أجل اإلستمرار في الكينونة التي تحولت فيها العالقة
بين الذات واآلخر إلى اقتتال ،فالحرب تفترض السلم المنبعث من وجوه اآلخرين ،11فما يجمد حريتي ليست نظرة
اآلخر الشيئية بل عريه ووحدته دون دفاع ،وما يخجلني ليس استالب حريتي بل حريتي نفسها فأنا المعتدي
317
لينبجس قلق أخالقي بداخلي بمثابة شعور بالعار والندم بسبب ال عدالتي ،فاآلخر يقاومني دون عنف وهو األمر
كما أن اهلل يحضر في وجه اآلخر ليذكرني بمسؤوليتي نحو اآلخر الغريب والفقير والمضطهد 12
الذي يخجلني
دون أن يعنفني بل يأمرني في صمت الوجه.
وهنا يقول لفيناس":الالنهائي يحضر في الوجه وفي مقاومته اإلتيقية التي تشل إرادتي واقتداري أمام
عينيه دون دفاع عن عريه وبؤسه ،فهذا الفقر والجوع هو نفسه القرب من اآلخر( )...إنه وجه خلف الشكل." 13
ذلك َّ
أن زيارة الالمتناهي لوجه اآلخر تساهم في إحداث هزة داخل أنانية األنا لتنفتح على اآلخر ،ومن
ثم يفكك الوجه قصدية الوعي التي تنظر إليه والتي هي عملية مساءلة للوعي من خالل كلمة اهلل" ال تقتل أبدا"،
لتخسر األنا تطابقها مع ذاتها ومماهاتها التي هي في نفس الوقت مساءلة للحرية المتوحشة بل الساذجة،
فمساءلة الذات هي في اآلن استقبال لآلخر بإطالق الذي يتجلى في الوجه والذي يناديني ويأمرني في عريه،
ليلزم األنا على تقديم إجابة تأخذ شكل تضا من ومسؤولية دون حدود نحو اآلخر ،فتتولى مهمة إفراغ األنا من
إمبرياليته لتتشكل الذات في النهاية كمفعول به ،باعتبارها متلقية لألمر اإللهي عبر اآلخر سيد للعدالة.
إن العالقة مع الوجه إتيقية فالوجه هو ما ال نستطيع تعريضه للفناء ويوميات الحرب تؤكد صعوبة قتل
إنس ان آخر يتأملنا بعينيه ألن القتل عمل مثير للسخرية ،صحيح هو ممكن من الناحية األنطولوجية ومنعه ال
يحد منه حتى لو كانت سلطة المنع نابعة من الضمير ،فهو الشر الناتج عن الكينونة ،لكن مع ظهور هذه
اإلتيقا الغريبة والمرتبطة بإنسانوية اإلنسان اآلخر ستحدث صدعا في الكينونة 14،ليصبح القتل محرما إتيقيا
وتيولوجيا.
والمطلوب هنا من األنا القلق والخوف على موت اآلخر لتسهر على هشاشته وضعفه وألمه ومعاناته
وفقره فكما ورد في التلمود" :كل شيء في يد اهلل ،ما عدا الخوف من اهلل" ،فالخوف منه هو فعل اإلنسان ،خوف
من المجد والخير المنطلق من الوجه ،األمر الكفيل بأن يحدث قطيعة مع األنطولوجيا المرتبطة باإلنسانوية
المنعزلة في حربها وكفاحها من أجل االستمرار ،إنه موعد لقاء إله في وجه ليمكنني من العبور إلى الماوراء،
للتأسيس لإلنسانوية الداخلية L’intériorité humaineالمنفتحة على اآلخر ومن ثم على الالنهائي الذي يحظر
في وجهه.15
للعبور الى ما وراء الماهية وماوراء الكينونة فكأنه هنا يعيد ترجمة عبارة ألفالطون والتي استخدمها في
الجمهورية le républiqueأثناء حديثه عن الخير ،الذي ال يمكن العبور إليه إال في ما وراء المادة فكأن
لفيناس سيستأنف التجاوز األفالطوني ليحدث منعرجا حاسما في الفلسفة الغربية ،من خالل اإللتفاف بالوجه
الحامل ألثر ولغز جدير باإلحترام ففي مقاييس الوجه الدقيقة يتألق بالالنهائي كأثر مرتسم ومنمحي عليه في
318
اآلن ،16إنه أثر الماضي المنسي ،ذلك الزمن الذي يسبق زمن األنا فهو زمن بعيد يتداخل مع الحاضر عندما
يحضر الالمتناهي في وجه اآلخر ليذكرني بمسؤوليتي نحوه ،وهو الزمن الذي أراد لفيناس في العديد من المرات
العبور إليه ألنه يقع في ما وراء الكينونة ،ليصبح اللقاء مع اآلخر بإطالق هو نوع من الوحي نتلقاه في وجه
اآلخرين.
2.2الوجه ضمن أفق تيولوجي-استطيقي:
إنه وحي يسطع كأثر مطموس لالنهائي على الوجه ،فالالنهائي ال يمكن تتبعة إال في أثره مثل لعبة
الصياد التي يالحق فيها األثر ،فاألثر هو بقية حضور له تألق واشراق غامض يمثل عمل الماضي في الحاضر
بعدم تعنيف ومن ثم قتل اآلخر ،في لغة صامته 17
وهو ماض يتعالى على كل حاضر حيث يأمرني في تعاليه
ألنها مرتسمة ككتابة وكأثر على وجه اآلخر ،إذ هي الكلمة األولى للرب في التقليد الديني اليهودي التي تحرم
القتل.
فالوجه ال يأخذ داللته إال كأثر لغائب بإطالق ماضي بإطالق والذي أسماه بول فاليري سابقا ب":ماضي
سحيق ،ماضي ال يكف عن القدوم" ،إنه ماضي أزلي وأبدي بل هو الخلود الذي يتجاوز اقتدارات الذاكرة ألنها
تعجز عن استيعابه إذ يرفض أن يكون حضو ار بسيطا للذات ،ألن األثر ال يحصل على معناه الكامل إال من
خالل العبور إلى ماوراء الكينونة18 .فهو يصبح زمن ماضي مقدس لما يرتبط بالحاضر من خالل وجه اآلخر
الذي يحضر فيه اهلل ليفتتح أفق المستقبل حيث األبدية والسر.
بعبارة أخرى هو خط سير للعبور الى ما وراء الكينونة ،من أجل التيه نحو الالأصل والالمركز فعندما
يحضر اهلل في وجه اآلخر يسحبني إلى ما وراء العالم ،مثلما يقول إدمون جابيس":ال يوجد أثر إال في الصحراء.
الفعل هو العبور ،التيه .من المتعذر قوله إلى المتعذر قوله.هجران المكان المعروف ،المعيش-المشهد ،الوجه-
من أجل المكان المجهول-الصحراء ،الوجه الجديد ،السراب؟ الوجه الالنهائي لالشيء ،بثقله الالشيء بكل
الوجوه المختزلة في وجه واحد ،وجهي ،الضائع" ،19إنه أثر اهلل الذي يسحبني من مركزي ومن ذاتي ألنفتح على
اآلخر الذي هو هجران لألصل والمركز ،مثل ذلك الهجران الذي تحدث عنه لفيناس المتمثل في سفر النبي
إبراهيم وتيهه في أرض لم تكن معروفة لديه والذي هو تخلي عن كل انتماء ألصل.
إنه ذهاب إلى الماوراء ،وراء العالم والماهية والكينونة نحو الواحد(اهلل) كما كان سائدا في فرضية
بارمانيدس األولى وعند أفالطون ،فهو الواحد المتعالي على كل معرفة ألنه عصي عن التصنيف إذ ال هو
متشابه وال هو غير متشابه وال هو مطابق وال هو غير مطابق ،ذلك أن عراء الوجه يحدث قطيعة مع الزمن
الح اضر ال تندمل بعد زيارة الالمتناهي العالم دون أن يستقر فيه ،ليزعج نظام المحايثة المرتبط بالحاضر فهو
319
قادم من الزمن الماضي ليتجه صوب اآلخر الذي ال يتماهى معه أي ال يتجسد فيه بل يأتي ويتوارى في وجهه
وهنا تكمن غرائبيته20فاآلخر بإطالق أي اهلل ال يحضر إال في صورة أثر أصيل يشوش نظام العالم والمحايثة.
واإلله الذي ينزل على الوجه ليس أنموذجا يعكس الوجه صورته ،بمعنى أن اهلل ال يتجسد كرسم في
الوجه بل يتجلى كأثر يظهر وينمحي في وجه اآلخر الغريب ،وذلك مثل ما ورد في الفصل 00من سفر
الخروج" :السير نحوه ال يعني السير وفق هذا األثر الذي هو ليس عالمة ،بل هو السير نحو اآلخرين الذين
يوجدون داخل هذا األثر". 21
لذلك كان للفيناس موقفا نقديا مهما من فنون عصره التي ترتكز على النحت والتصوير ،إذ له نصا
مركزيا حول دراسته النقدية لالستطيقا ومعها اإلتجاه الواقعي في الفن تحت عنوان"الواقعية وظلها la Réalité
" et son Ombreوالتي يترجمها البعض الحقيقة وظلها أو الواقع وظله ،وأنا فضلت إستخدام الترجمة األولى
العتبرات عديدة منها أن لفيناس كان يسعى إلى نقد المدرسة الواقعية في الفن ،كما أن أغلب الباحثين
المشتغلين على فلسفة لفيناس في الوطن العربي يترجمونها بهذه الكيفية ،وقد نشر هذا المقال في عام 1492م
أين قدم مراجعة نقدية من خالل اإلتيقا لالستطيقا حيث أبرز العالقة الكامنة بين اإلتيقي واالستطيقي ويمكن أن
نعتبر هذا النص هو النقد األول الذي وجهه ألنطولوجيا الهيدغرية والفينومينولوجيا الهوسرلية .22التي ترتكز على
التمركز حول الذات من خالل فعل الثمة Il‘ yaكما يترجمه الباحث التونسي فتحي المسكيني أو اإلليا كما
يعربه الباحث الجزائري محمد شوفي الزين ،غير أنه سواء ترجمناه كثمة أو عربناه كإليا فهو سيبقى الفعل الذي
يعني المواظبة على الكينونة أو الكفاح من أجل الكينونة ،والذي يسعى فيه الكائن إلى التسلط على اآلخر من
خالل تحويله لمجرد مكون هامشي له ،ففي هذا النص سيمتزج اإلستطيقي باإلتيقي بالتيولوجي باألدبي ،فقد
تحاور لفيناس أيضا هنا مع األدباء الروس ولم يتوقف عن اإلستشهاد بآيات الكتاب المقدس ليسائل الفن وهذا
كله لكي يعيد لإلنسان إنسانويته الضائعة في عالم األشكال والمظاهر والزيف .
فاإلنسانوي ال يمكن أن يختزل في شكل أو صورة ففي وجه اآلخرين تتحطم الصور ألنها ال يمكن أن
تستوعب العمق التيولوجي ممثال في فكرة الالنهائي التي يبطنها الوجه ،فما تميزت به التوراة عن فهم لالمتناهي
ال يمكن أن تدركه العقالنية واألنطووجيا الغربية فاهلل هنا ليس إله ديكارت وباسكال بل هو اإلله يهوه إله إبراهيم
واسحاق ويعقوب.23
كما أن لفيناس حدثنا عن الفن التصويري الذي يسعى لتجسيد جمال وجه األنثوي ليحل الشكل
والزيف محل العمق والحقيقة ،في حين أن العمق هو الذي يدشن أفق المستقبل فيما وراء الشكل والعالم ،بينما
الصورة تجسد جمال وجه األنثوي وتخبئه بل تشوهه في اآلن لتختزله في مجرد شكل جميل ال يستند لعمق
320
تيولوجي ،يعبر عنه في لوحة فنية بل صنم يقدم معنى زائف عن الحقيقة األصيلة لألنثوي ليربطها بالعري
إنها حياة زيف ال تليق باإلنسان فمعها تحظر مفاهيم اللذة والفساد 24
الغير محتشم المرتبط بالشغف والليل
األخالقي ألنها ترتبط بعالم المظاهر والمادة والحس ولفيناس ينشد العمق والقيمة ،ألن المعنى والوحي ال نجده
إال خلف المظهر والصورة حيث يبزغ مجد الالمتناهي وحيث نلتقي ونتحد باهلل.
فاألثر االستطيقي ال يحيل إال لذاته ألنه يأبي اإلنفتاح على المعنى اآلتي من خارجه فهو مكتفي بذاته،
لذلك فاالستطيقا عاجزة عن استعاب الالنهائي فهي غير قادرة على تجسيد اهلل وان حاولت فعل ذلك وقعت في
الوثنية ،لذلك عملت على إقصائه لما عملت على مضاعفة حدة عزلة الذات المستغرقة في لذة حسية وقتية
تترجمها الخبرة االستطيقية ،لذلك فالفنان من خالل أثره الفني ال يعبر إال عن ظالم الواقع وظالله ،وهنا
نستطيع أن ندرك بأن لفيناس قد أعلن حربا شعواء على استطيقا هيدغر التي اعتقد فيها بأن األثر الفني يقول
على نقيض لفيناس الذي اعتبره مصد ار للزيف والظالم والظالل بل الشر الموجود في العالم 25
الحقيقة كألثيا
ألنه يزيف الحقائق في صور مشوهة تعبر عن نرجسية ذات تسعى لمضاعفة كينونتها في صور أو نسخ مكررة
،ونحن نعلم جيدا النتائج الخطيرة الناجمة عن التمركز حول الذات(اإلنسان األوروبي األبيض) وما أعقبها من
أحداث عنف جسدت سيادة الشر وهو ما ترجمته الحربين العالميتين.
فاألثر الفني هنا ال يعبر إال عن صورة زائفة تفتقر للعمق اإلتيقي ألنها تسجن اإلنسان في لذة مؤقته
تنسيه مسؤوليته نحو اآلخر ،لذلك وجب التحرر من اإللتزام الفني للهروب من هذا الزيف وذلك من خالل العبور
الى ماوراء العالم نحو ما أسماه أفالطون* سابقا بموضع المثل أين نلتقي باللغز حيث يسطع مجد الالنهائي و
يتحقق الخلود لذلك كان الفن ينتمي دائما الى عالم الظالم والظالل ألنه يفتقد لكل عمق روحي ،26ذلك أن
الصورة وظيفتها األساسية تتمثل إعادة تمثيل األصل في شكل صنم وأيدولة تجعل اإلنسان ضائع عائم على
سطح غبي.
يقول لفيناس":في الصنم تعرف المادة موت المعبود ،إن تحريم الصور هو بالفعل األمر األسمي لديانة
التوحيد" ،27وهو الموقف الذي يخترقه غرضا الهوتيا يتمثل في تحريم الديانة اليهودية تصوير اهلل ،فأوامر
التوراة تدعوا الى تحطيم األيدوالت والصور واألثار الفنية على خالف التصور السائد في الكاثوليكية المسيحية
التي تعمل على تعزيز الرسومات الموجودة على جدران كاتدرائياتها وهي رسومات تعبر عن حياة المسيح
والقديسين ،في حين أن تصوير اهلل كما هو سائد في اليهودية وكذا اإلسالم يحوله إلى صنم كما كان سائدا
في الوثنية اليونانية القديمة ،لذلك يرفض لفيناس تحديد اهلل كصورة بل كأثر لكن ماذا لو توجهنا إلى سينما
دولوز فهل سيكون له نفس الموقف؟.
321
.3السينما والتفكير من خالل الصورة مع دولوز:
1.3منزلة الوجه اإلنسانوي في السينما:
يقول دولوز واصفا وجه الممثلين السينمائيين في أفالمهم ":وهكذا يشارك الوجه في الحياة الالعضوية
لألشياء كقطب أول للتعبيرية ،فنرى وجها مخددا محز از سقط في شبكة ضاغطة نوعا ما ،وصار أشبه بمشربية
أو بنار أو بأوراق شجر أو بشمس تخترق الغابة .نرى وجها ضبابيا مدخنا يحيط به وشاح كثيف نوعا ما .نرى
وجه أتيال(وجه ملك قبائل الهون) المدلهم والمتعضن في فيلم النيبلونغن لفريتز النغ ولكن في غمرة التركيز أو
في الحد األقصى في السلسلة ،سيقال إن الوجه يرد الى النور الذي ال ينقسم أو الى الهالة البيضاء التي تحيط
بشخصية كريميهيلد" .28إذا كان لفيناس يعتبر بأن الوجه عصي عن الرؤية واإلدراك واللمس ألنه يحمل عمق
وأثر لالمتناهي لذلك وجب التحلي بالحياء عند النظر إليه لنتأمله في عريه من الصفات الفيزيولوجية ،فإن جيل
دولوز يؤكد على أولوية الرؤية والحس والحركة والصفات الفيزيولوجية للوجه والذي سيسميه "بالصورة مهتزة" ،لما
له من اقتدار كبير على تغيير مالمحه وترجمة إنفعاالته العاطفية في صور مختلفة ،إذ هو بمثابة قناع لشخص
أثناء التمثيل له اقتدار ترجمة تعابير زائفة وكاذبة ،بحيث توجد أيقونات لمالمح وقسمات الوجه ومحيطه ،فإذا
كان اإلبداع الفلسفي عند دولوز إبداع للمفاهيم فإن اإلبداع السينيمائي هو إبداع للصور لتصبح السينما أرضية
خصبة لممارسة فعل التفلسف فكليهما ينخرطان في عملية اإلبداع ذاتها.
فالنص الدولوزي هو نص فسيفسائي ميزته األساسية التنوع وتعدد المداخل فهو غني وثري ما يجعله
منفتحا على عوامل ال فكر المتباينة بدال من التقوقع على نص فلسفي جامد يقلص من حركيته وانسيابيته وتدفقه،
فهو نص يحاول استشراف أحاسيس اإلنسان وانفعاالته في مهدها األول ألن ثقافة اإلنسان وركام المعارف
المختلفة وكذا رؤيته للواقع هي في النهاية من تحدد معنى المفاهيم أثناء إستعمالها ،لذلك كانت مهمة الفلسفة
األولى هي خلق المفاهيم ونحتها باعتبارها مبحثا ثوريا جينيالوجيا ال يتوقف على ابتكار المفاهيم وغرسها في
الحقول المعرفية المختلفة29لتصير السينما إبداعا للصور فيصبح السينمائي فيلسوفا ومفكرا.
وبالعودة إلى مفهوم الوجه فإذا كان في إتيقا لفيناس يفر من سطوة الصورة كأيقونة وشكل ولون ،فإنه
مع دولوز سيصبح صورة فنية ذات أبعاد هندسية متناسقة وهذا ما يؤكده بقوله" :الصورة المذهلة للوجه يصبح
كتطريز هندسي للستار عليه ترتسم األلوان "وصوال الى الصورة المذهلة التي لم يعد الوجه يبدو فيها إال كتطريز
هندسي للستارة .ذلك أن الحيز األبيض نفسه يحاط ويكرر بستارة أو بشبكة منضدة تعطيه حجما ،أو تعطيه
عمقا رقيقا ،كما يقال في علم المحيطات (أو في فن الرسم)" ، 30هناك اختالف صريح بين لفيناس ودولوز في
طريقة تفكيرهما في الوجه كأن دولوز يقوم بعملية قلب كلي وشامل لفسفة لفيناس فإذا كان لفيناس يعطي أهمية
322
للمعنى اإلتيقي التيولوجي الكامن خلف الشكل واللون للوجه والمتمثل في الكلمة األولى للرب ألن فلسفته لها
خلفية دينية يهودية ،فإن دولوز ال يعطي قيمة إال للشكل واللون فأحيانا نتخلى على مالمح الوجه ومعانيه لصالح
خطوط متناسقة األبعاد واألشكال واأللوان أي مظهر الوجه وشكله ألن فلسفة جيل دولوز تمجد الحياة.
ففي فن الرسم يصور الرسام الوجه كاستدارة لها خط محيط حيث يبدأ برسم األنف والفم وأطراف
األجفان ،وحتى اللحية والقلنسوة وهي مساحة لتشكيل الوجه وأحيانا يرسم على العكس من ذلك ،خطوطا
ومكسرة تشير هنا إلى اختالج الشفتين وبريق البصر وهي مادة عصية نوعا ما على اإلستدارة نسميها
ّ مجزوءة
ذلك أن دولوز يركز على المظهر الخارجي للوجه ال معناه كما كان سائدا عند لفيناس ،بل ال 31
خطوط الوجهية
يتوقف هنا إذ يثمن مقدرة الوجه الكبيرة على اإلغراء واإلغواء ما يناقض تصور لفيناس الذي يؤكد على ضرورة
التحلي بالحياء والحشمة عند تأمله ألن اهلل يحضر فيه.
وبالعودة إلى دولوز فانفعاالت الرغبة واإلغراء واإلعجاب والشغف يترجمها الوجه ،بحيث يكتسب قيمته
في مدى قدرته على التعبير والتبليغ أو كما يسميها دولوز السلسلة المكثفة التي تبلغها أجزاءه تباعا لتصل إلى
ذروتها ،في نظراته الثاقبة والماكرة ال سيما عندما تبرز حدقة العين فهي المالمح الوجهية المعبرة بامتياز عن
لذلك تغزل وتغنى بهذه اللوحة الفنية الجميلة الرائعة الشعراء العرب واألجانب فللوجه 32
الغضب والحزن والفرح،
مركزية وسلطة مساوية لسلطة الجهاز التناسلي ،بحيث يمارس علينا نوعا من اإلغواء يجعل الشبق يبلغ مبلغه،
من خالل العين التي قد تقول ماال تقوله لغة الكالم ،إذ هي لغة يتداخل فيها المحظور والممنوع ،ومن هنا مارس
المجتمع اإلسالمي حصا ار واكراها على العين شبيه بالحصار الذي مارسته المجتمعات المتحضرة على العضو
التناسلي ،فمعها يصعب تمييز لغة الجمال على لغة اإلغواء ،ففي المجتمع اإلسالمي نجد كثير من النساء يقمن
بتغطية وجوههن إمتثاال ألوامر الشرع والمجتمع لما للوجه من قدرة هائلة على اإلغراء.
فالعين تبلغ القصد عندما ترسل رسائل مشفرة ألنها أبلغ الحواس بل هي مرآة النفس المجلوة التي تقف
عليها كل الحقائق ،فهي في جوهرها أرفع الجواهر إذ هي نورية ألننا ال ندرك األلوان إال من خاللها ،وكذلك ال
كما أكد سابقا شاعر الحب والعشق ابن حزم األندلسي الذي قدم وصفا 33
نتأمل السماء واألجرام والشمس إال بها
رائعا للوجه وأشرف عضو فيه الذي حدده بالعين لما لها من قدرة هائلة على التعبير واإلغواء واكمال جمالية
الوجه.
فقد ساهمت وجوه الشابات السينمائية لغريفيث في التعبير عن البياض ،ذلك البياض الثلجي العالق على
هدب العين العاكس لبياض روحي متمثل في براءة داخلية ،ثم يتالشى البياض بسبب اإلنحالل األخالقي
وهناك بياض الجليد العدائي الجارح الذي تمشي عليه البطلة كما في فيلم معبر العاصفة ،فالوجه ال يكتفي
323
بالتفكير في شيء ما ،بل الوجه التكثيفي يعبر عن قوة خالصة بمثابة شيء مشترك ألشياء متعددة لها طبيعة
مختلفة 34 .فكل اإلنفعاالت ترتسم على وجه واحد وكل مظاهر الكون والطبيعة يستطيع أن يعبر عليها الوجه
بلونه وحركاته وايماءاته.
وهنا يقول دولوز":فعلى وجه واحد ،وفي ذهول وهلع عام ،ترى أن الحزن والخوف يصعدان ويشوبان
شتى التقاطيع(كما فيلمي قلوب العالم والزنبقة المحطمة)؛ ونرى ذلك على وجوه عديدة عندما تأتي اللقطات
المبكرة للمقاتلين لتخلق إيقاع المعركة برمتها(كما في فيلم مولد أمة)" 35فقسمات الوجه تُتَرجم عليها المعارك
والحروب والعشق والحب واألمل والسعادة والفرح فكأن وجه إنساونوي واحد ترتسم على أدمته الحياة بمظاهرها،
وليس الماوراء كما اعتقد لفيناس ألن فلسفة دولوز ترتبط أكثر بالحياة أكثر من الماوراء المرتبط بالجانب الديني
القيمي.
فللوجه ثالث وظائف أساسية فهو مفردن (أي يميز ويطبع كل إنسان) ،وهو مجتمعي(أي يظهر دو ار
إجتماعيا) ،وهو عالئقي أو تواصلي(ألنه ال يؤمن اإلتصال بين شخصين فقط ،بل يؤمن لدى الشخص الواحد
الوئام الداخلي بين طباعه ودوره) وفي السينما يصبح كالقناع يزيف الحقيقة ليقوم بأدوار مختلفة36ألن الفنان قد
ال يلعب دو ار واحدا بل يلعب عدة أدوار تستلزم تغيير إيماءات وحتى شكل الوجه من خالل اللعب الحر باأللوان،
كوضع مساحيق تجميل تناسب الدور والشخصية السينمائية.
حيث يتم العمل بالوجه البشري في مجال السينما كوسيلة جذب وأحيانا إغواء وتزييف لما يقوم بأداء
أدوار مخ تلفة ،ما يناقض تماما تصور لفيناس حول الوجه الذي اعتبره مدخال للحقيقة ألن اهلل ال يحضر إال فيه،
فكأن دولوز يريد أن يربط الوجه اإلنسانوي بجانبه الالواعي الشبقي والخفي ال القيمي مثلما كان سائدا مع
لفيناس ،يقول دولوز":إن انكشاف الوجه أكبر من عري األجساد وال إنسانيته أشد من وحشية الحيوانات .القبلة
تشي باإلنكشاف الكامل للوجه وتوحي له القيام بحركات صغرى يخفيها باقي الجسم .أضف إلى ذلك أن اللقطة
المقربة تجعل من الوجه شبحا وتسلمه لألشباح الوجه هو مصاص دماء والحروف األبجدية هي خفافيشه وأدوات
تعبيره في فيلم متناولوا القربان".37
فالوجه مع دولوز عاري لكنه ليس عري محتشما مثلما سبق وأن بين لفيناس ،بل هو عري متوحش يقوم
باإلغواء وأحيانا الترهيب ببث الذعر في نفس اآلخر مثل وجوه مصاصي الدماء واألشباح ،بعدما كان عند
لفيناس مصد ار لإلطمئنان الميتافيزيقي ألنه مصدر الوحي والكالم اإللهي لذلك إنتقد لفيناس فن التصوير الذي
يتخذ موضعا مركزيا في سينما دولوز .
324
لقد اعتبر جيل دولوز السينما أفقا جديدا لإلبداع وممارسة التفكير الفلسفي ،وبعبارة أوضح ممارسة
التفكير من خالل الصورة التي تحاكي وتعيد تمثيل الواقع ،ليطرح نمط جديد من التفلسف يواكب العصر والزمن
عصر الصورة كما تسميه إل از غودار ،لتصبح الفلسفة
لما تقدم السينما مادة دسمة(مواضيع) للتفلسف فإذا كانت الفلسفة تقوم على النظر والتأمل
أيضا إبداعا للصور ّ
فإن السينما تمنح للفلسفة صورها وواقعيتها لتصير هناك صورة للفكر ليؤكد بأن السينمائي مفكر من خالل
الصورة.
وهذا ما يظهره قوله" :لقد بدا لنا أن كبار كتاب السينما يمكن مقارنتهم ال بالرسامين والمعماريين
والموسيقيين فحسب ،بل بالمفكرين أيضا .ذلك أنهم يفكرون من خالل الصور /الحركة والصور /الزمن بدل من
أن يسوقوا المفاهيم .فالكم الهائل من الضحالة في اإلنتاج السينيمائي ليس اعتراضا على ذلك؛ مع أنه ليس أسوأ
مما نراه في مجاالت أخرى( )...فليست السينما أقل إسهاما في تاريخ الفن والفكر ،وفي ظل األشكال المستقلة
38
الفريدة التي استحدثها هؤالء السينمائيون ونشروها على الرغم من جميع العقبات".
ليوجه بذلك سهام نقده ألهم المفكرين ولكل من يقلل من قيمة العمل السينمائي ،ومن هؤالء برغسون
الذي تحدث في كتابه التطور الخالق والذي صدر في عام 1470م ،بصيغة رديئة عن الوهم السينمائي
فالسينما في نظر برغسون تقوم على معطيين مترابطين وهما الصور أو المقاطع اللحظية وحركة الزمن الغير
الشخصي أحادي الشكل الغير مدرك وغير المنظور اليه ،لتقدم حركة كاذبة وخاطئة تعمل على تزييف الواقع
وهو ما يصطلح عليه برغسون تسمية"الوهم السينمائي"39هذا الوهم يعمل على تظليل اإلنسان ليضيع في هوة
الالمعنى العميقة في هذا الكون الذي أصبح غريبا وشاذا عنه ،وهنا يمكن أن نلمس نقاط الوصل بين لفيناس
وبرغسون فيما يخص موقفهما من الصور سواء كانت استطيقية أم سينمائية واختالفهما مع دولوز الذي هو
اآلخر فيلسوف من فالسفة االختالف مثل لفيناس الذي أراد أن يحدث صدعا في مفهوم الهوية لإلحتفاء بما هو
منسي ومهمش في الثقافة الغربية المتمركزة ،إال أنه يختلف مع لفيناس وبرغسون حول أهمية الصورة ودورها
الكبير في تحفيز وتنشيط الفكر على التفلسف ،فهي في رأيه تقدم طريقة جديدة للتفكير ومن ثم اإلبداع .
غير أن النقطة األساسية التي يلتقي فيها مع لفيناس تتمثل في أنه أراد أن يحدث ثورة كوبرنيكية في
مفهوم الهوية ،بمعنى أنهما معا أرادا التأسيس لثقافة اإلختالف التي تقبل اآلخر المختلف بغض النظر عن لونه
وجنسه ،وهذا ما ترجمه عنوان كتاب دولوز "االختالف والتكرار" ،فدولوز يمثل تلك الروح المرتابة الرافضة لكل
صنمية وتماثل وتحجر ليخلخل األنساق واإلنضباطية الفكرية والفلسفة اإلحترافية فهو أنموذج لفكر يتعايش مع
325
المختلف والهوامش والجنون ،ليحاول كسر طوق العقالنية األداتية الصارمة ومن ثم يحرر اإلنسان المعاصر من
إرث التنوير الذي شيدت عليه الحداثة معماريتها وحضارتها 40المتمركزة حول ذاتها.
فمع دولوز ليس هناك هوية إال وهي مزاحة عن مركزها فكل الهويات مصطنعة كأثر بصري عن لعبة
أعمق ،وهي لعبة االختالف والتكرار بحيث تهزها ثورة كوبرنيكية تفتح تخوم الفروقات واالختالفات ،والمطلوب
هنا عدم رد االختالف إلى رحم هووي بل رد الهوية نفسها الى رحم االختالف ،41فقد إنتقد دولوز المركزية
الغربية واف ارزاتها الخطيرة على مختلف األصعدة حتى على الصعيد السينمائي وذلك عندما تحدث عن أزمة
الصورة .
2.3جدلية الزيف والحقيقة:
لقد حدثت أزمة الصورة بعد الحرب العالمية الثانية نتيجة عدة أسباب منها اقتصادية واجتماعية
وسياسية وأخالقية وبعضها أسباب ترتبط بالفن واألدب والسينما ،وذلك عندما تضخمت الصور الخاصة في
العالم الخارجي وفي رؤوس الناس ،األمر الذي تزامن مع أزمة هوليود والتأثير السلبي الذي مارسته السينما في
تلك الفترة ،ألنها كانت في يد السلطة أي الطبقة المسيطرة المتمركزة لتخدم النظام السائد ،لذلك فنحن في أمس
الحاجة إلى سينما جديدة تحتفي بالهامش أي اآلخر المقصي لتقول كلمته وتعبر عن همومه ،وهذا ما حاول
دولوز تحديد معالمه في السينما األمريكية بعد الحرب وخارج هوليود ،ألن الصور أصبحت ال تحيل إلى توليف
كلي شامل يوقض الشعوب بل إلى وضع تشتيتي يساهام في إغتراب الشعوب عن عالمها لما يزيف الحقائق
ألنه في خدمة السلطة الفاسدة42والحل الذي يقدمه هنا هو "التفكير السينمائي النقدي" لمراجعة األخطاء التي
وقعت فيها السينما سابقا ،فهنالك فرصة لتخليص الصورة من كل القوالب الجاهزة والغايات اإليديولوجية التي
كانت توجهها وذلك من خالل بلورة مشروع جمالي وسياسي قادر على تشكيل مبادرة إيجابية في تغيير العالم
نحو األفضل ،ألنه مشروع إبداعي إيجابي نقدي يفضح اإلستخدام السيء لألجهزة والمؤسسات بمختلف
أشكالها.43
فالفن يمكن أن يضطلع بهمة ثورية ليغير الراهن من خالل الرسائل التي يعرضها الممثلين في أدوارهم
لكشف الزيف والظلم الذي يتعرض له اآلخر ،للمساهمة في تعريف الجماهير والحشود بحقوقهم ،لذلك نجد دولوز
يلح على ضرورة توقف الفن والسينما واإلعالم على أن يكونوا في خدمة السلطة السياسية الفاسدة المتمركزة ،إذ
يجب أن تكون لهم أغراضا إنسية تخدم اإلنسانوية في مفهومها الفضفاض الكوني.
فهو يؤكد على وجود مؤامرة دولية ومشروع إستعباد معمم يزرع الموت في جميع األمكنة(حروب،
تهميش ،إضطهاد ،أوبئة منتشرة في كل مكان) وهذا ما ينبغي أن تتصدى له السينما ،والتي ينبغي لها أن ال
326
تكتفي بتقديم وعي سلبي نقدي أو ساخر لما يحدث في العالم ،بل يجب أن تنخرط في أعلى درجات التفكير
العميق من خالل الصور الذهنية التي تشكل ماهية جديدة للتفكير فهو تفكير من خالل الصور .44وذلك لتقديم
حلول جديدة لهذه األزمة التي أصابت إنسانويتنا ككل ،فكما للفلسفة اقتدار الغور وتأسيس عوالم افتراضية
لموا جهة السلطة الفاسدة ومقاومتها في الحاضر كذلك للفن اقتدار إبداع عوالم خفية وجديدة ليفتتح آفاق إبداعية
جديدة من خالل السينما ،فنحن في أمس الحاجة إلى هذا اإلبداع ليصير الفنان فيلسوفا.
يثمن دولوز عمل الواقعية الجديدة والتي وجه لها لفيناس سابقا نقدا الذعا في مقاله "الواقعية وظلها"،
فالواقعية الجديدة حسب دولوز تمتلك تصور تقني جد عالي حول الصعوبات التي واجهتها والوسائل التي
ابتكرتها ،إذ هي تمتلك وعي حدسي حول الصورة الجديدة التي بدأت بالتشكل ،فقد صار الشكل يعبر عن
حاضر ومجتمع جديد كما في فيلم "سيرج الجميل" أين صار التزييف عالمة اإلبداع ،خالفا للواقعية القديمة
التي ترتكز على السلوك الحقيقي ،فمع الواقعية الجديدة كلما أصبحت مزيفا كلما ذهبت بعيدا وتقدمت في آفاق
السينما اإلبداعية.45
لذلك جعل دولوز فصال كامال في عمله حول السينما يأخذ عنوان "قوة الزيف" ردا على برغسون الذي
تكلم بل غة تهكمية عن الوهم السينمائي وهنا أشاد بنيتشه الذي نحت شعار" إرادة القوة " ،أين جعل قوة الزيف
تأخذ محل الحقيقة ليجد حال ألزمة الحقيقة على النقيض من التيار العقالني ،فقد لفت نيتشه اإلنتباه لقوة
الزيف اإلبداعية والفنية الهائلة وهو نفس األمر الذي نجده في سينما روب غرييه التي نالحظ فيها أهمية قوة
الزيف كمبدأ إلنتاج الصور ،فالسينما هنا هي منبع اإللهام والزيف الذي هو المبدأ األعم الذي يحدد أغلب
46
العالقات داخل الصورة /الزمن بطريقة مباشرة .
يقول دولوز":نستطيع أن نجمل كل هذا بالقول إن المزيف قد غدا الشخصية المفضلة في السينما :ولم
تعد شخصية المجرم وراعي البقر واإلنسان المأزوم في المجتمع والبطل التاريخي والمستولي على السلطة...إلخ،
كما في الصورة /الفعل ،بل فقط شخصية المزيف ،على حساب كل فعل .في الماضي ،كان بوسع المزيف أن
يظهر بشكل معين كذابا أو خائنا ،ولكنه يأخذ اآلن شكال ال حدود له يؤثر في الفيلم برمته()...ويفرض باآلتي
قوة الزائف كمكافئة للزمن ،خالفا لكل شكل من أشكال الحقيقي الذي يطوع الزمن".47
فكل الممثلين سواء كانوا أبطاال أم مجرمين أم أبرياء هم يتشاركون في قوة الزيف ألنهم ال يمثلون أنفسهم
الخير الذي يقدم دور البطل البريء هو
وذواتهم الحقيقية بل يعرضون أدوا ار آلخرين ليسوا هم ،فحتى اإلنسان ّ
مزيف بل كاذب ألنه ال يمثل نفسه بل غيره ،إذ ال وجود لمزيف وحيد فكل الممثلين مزيفين ،والفنان المبدع هو
لما يتقمص دور شخصية ليست له ويمثلها ببراعة في كل األدوار،
الذي يمتلك قدرة كبيرة على التزييف والكذب ّ
327
وهناك نص ان عظيمين في هذا المجال في األدب والفلسفة ،وهما "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه ورواية ميلفيل
"النصاب الكبير" ،فقد عرض نيتشه صيحة اإلنسان المتفوق الذي يلبس لباس العراف والملك والساحر والبابا
والمتسول والظل الذين كلهم مزيفون ويجتمعون في ممثل واحد ،وعرض الثاني مجموعة مزيفين ممثلين في رجل
أخرس وزنجي مقعد ورجل بثياب الحداد وآخر بثياب رمادية ورجل له سوابق وطبيب يعالج باألعشاب...الخ،
فكل واحد منهم يتحول في اآلخر وكلهم يواجهون أشخاصا حقيقين ليسوا أقل زيفا منهم .48فنظام الصورة يعمل
بمنطق الزيف والتكرار من خالل األلوان وا ألشكال والحركات والخدع البصرية في صيرورة ال تكف أبدا عن
انتاج نفسها.
ذلك أن عودة األشياء ليس إال تكرار وصيرورة فهذه العودة هي الهوية الوحيدة بوصفها قدرة ثانية وهي
هوية االختالف ممثله في"الهو الهو" الذي يخص الممثل المختلف ،فكل األدوار ونقصد دور الملك والساحر
والبابا والمتسول التي يتقمصها ممثل واحد أي ذات واحدة تجتمع فيها صور لعديد من الغيرية من خالل فعل
التمثيل ،لتكف الذات هنا عن التماهي مع ذاتها األمر الذي يخضع هويتها لإلختالف.
وهذه الهوية تنتج االختالف كتكرار ليقوم التكرار في العود األبدي على التفكير في العينيه إنطالقا من
المختلف فال يحتجز في التشابه وال يختزل في السلبي ما يفتح المجال أمام اختالفات حرة ومتوحشة وغير
فدولوز مثل لفيناس يريد أن يهز أركان بل 49
مكبوحة ،لتهرب هذه االختالفات من سجن المفهوم التمثيلي الكسول
عرش األنا ،فليس هنالك كوجيطو جاهز وليس هناك وجه ممثل واحد يحتفظ بمالمح وشخصية واحدة ،بل هنالك
وجوه وشخصيات متعددة تجتمع في وجه مزيف.
وقد تحدث نيتشه عن أطوار العدمية أو روح اإلنتقام التي تأخذ أشكاال مختلفة ،فخلف الرجل الحق الذي
يحاكم الحياة متسوال القيم العليا يكمن الرجل المريض بذاته الذي يحاكم الحياة باإلستناد إلى مرضه وانحطاطه
ألن الحياة العليلة هي أيضا حياة تعارض الموت بالحياة بدال من أن تعارضه بقيم عليا ،وهنا قال نيتشه خلف
اإلنسان الحق الذي يحاكم الحياة هناك إنسان مريض بالحياة ،وأضاف له ويلز خلف الضفدع الحيوان الحق
بامتياز هناك العقرب الحيوان المريض بذاته أحدهما أحمق وآخر وضيع لكنهما متكامالن كشكالن من أشكال
العدمية أو إرادة القوة.50
فنيتشه قد إستبدل التقويم بالمحاكمة ألنه خلف الخير والشر ال نقصد خلف الجيد والرديء ،فالرديء هو
الحياة المستهلكة والمنحطة القادرة على اإلستمرار ولكن الجيد هو الحياة المتدفقة والمتصاعدة التي تتغير ،وقوة
العيش هنا هي التي تفتح إمكانات جديدة إذ ال توجد حقيقة بل توجد صيرورة وهي طاقة المزيف في الحياة التي
تأخذ إسم إرادة القوة وقد أثبت علماء الفيزياء سابقا بأن الطاقة النبيلة هي التي تمتلك إقتدار التحول.51
328
لذلك كان فعل الكتابة الفلسفية الحقة عند دولوز وخاصة في كتابه "االختالف والتكرار" هي محاولة
فريدة ومميزة لتثمين الحياة لتحريرها من ما يكبلها ويسجنها ويحد من فاعليتها وتدفقها ألن عملية الخلق في
معناها األشمل ال تعني التواصل بل المقاومة ،أي مقاومة كل ما يحيل الحياة الى مجرد إستبطان شخصي
يروي هموم الذات وانحرافاتها من خالل مفاهيم تعمل كمرآة للفكر لتتحول الفلسفة من محبة للحكمة ،الى عشق
ومحبة فقط ويتحول الفيلسوف المنعزل المتقوقع على ذاته إلى رحالة في األرض بتضاريسها الحية لذلك تسمى
فلسفة دولوز بالجيو-الفلسفة ، Geo-philsophieفالجيو هي األرض وهي من المفاهيم التي ترتبط
وأكثر ارتباطا بأدمة وبشرة األرض ومن ثم الواقع والحياة. 52
بالجيولوجيا والجغرافيا لتصبح الفلسفة أكثر رحابة
فالسينما في بداياتها األولى كانت مرتبطة بالدين حيث كانت لها عالقة قوية باإليمان ونقصد هنا
"الكاثوليكية السينمائي ة" ألن أغلب السينمائيين الكبار هم من الطائفة الكاثوليكية التي تولي أهمية كبيرة للصور
المرتسمة على حيطان الكاتدرائيات والتي تصور حياة المسيح والقديسين ،لذلك كانت هنالك عالقة مركبة بين
الدين المسيحي-الكاثوليكي والسينما فكليهما يرتكز على فن التصوير ويسعى لخدمة اإليمان المسيحي ،فعلى حد
تعبير نيتشه "نحن بذلك مازلنا اتقياء ورعين" فمنذ البدايات األولى للسينما كانت هنالك المسيحية والثورة وكان
وهما القطبان اللذان جذبا الجماهير حتى في دول العالم هنالك اإليمان المسيحي واإليمان الثوري
الثالث53وارتبطت بهما السينما التي كانت تسعى لخدمة اإليمان المسيحي والثورة.
ذلك أن الكاثوليكية كانت مصدر إلهام لكبار المخرجين السينمائيين فما كان يجمعهما هو عشق
الصورة ،لكن المطلوب من المخرجين اليوم هو أن يتخذوا من ما يحدث في العالم من مستجدات مصد ار لإللهام
ومواضيع ألفالمهم ،فالعالم اليوم يظهر كفيلم قبيح يقدم صور بشعة ذات سيناريو رديء ،وهنا يتعين على
السينما أن تضطلع بمهمة إعادة إيماننا بالعالم ،من خالل محاولة إيجاد ترياق ألزمة اإلنسان المعاصر ويهذه
الطريقة تكف السينما على أن تكون رديئة لتستبدل نمط المعرفة باإليمان ،لكنه إيمان من نوع خاص فهو إيمان
بالعالم أوال كما هو ألن الصور السينمائية هي التي تظطلع بمهمة ربط اإلنسان بالعالم54إنه إيمان بال حدود
وحر فهو يرتبط بالحياة في تغيرها وتحولها وجماليتها بل يسعى ليفتتح أفق مستقبال مشرق يليق باإلنسان
كإنسان.
إذ ال يكفي اإلستقرار في سماء الفن والرسم كي يكون المرء مؤمنا ،فاإليمان ال يرتبط بعالم آخر إنه
إيمان بالجسد فقط وتمكين للجسد بأن يقول كلمته ،إذ ال بد من الوصول للجسد قبل الكلمة فعلى حسب تعبير
أنطونين آرتو الجميل الذي آمن بالجسد والحياة":إنني رجل أضاع حياته ويسعى بجميع السبل إلى جعلها تستعيد
مكانت ها" وهذا ما ترجمه فعال فيلم السالم عليك يا مريم ،حيث قام المخرج بتوظيف الشخصيات الدينية يوسف
329
ومريم لإليمان بالجسد الذي هو رشيم الحياة والبذرة التي تشق األرض الصلبة وهذا هو الملمح األول للسينما
55
الجديدة.
فجيل دولوز هو الفيلسوف الذي أراد أن تصبح الفلسفة شيئا آخر إال أن تكون فلسفة ليخلخل المتفق
عليه ويستحدث مناطق غير آمنة داخل الكائن أين تتوالد فيه بذرة السؤال بإستمرار ،فالفيلسوف هو صديق
المفهوم ألن له شخصية مفهومية مهمتها زرع المفاهيم في أراضي جديدة في عالم الحدث ،فالفيلسوف عند
دولوز رحالة موطنه البيداء الواس عة فهو ال يكف عن الترحال إلى مناطق خصبة يمكن للمفاهيم أن تزدهر فيها،
مثلما يبحث البدوي عن الكأل والعشب لحيوناته في مناطق خصبة لذلك سمي بالفيلسوف الرحالة وفلسفته لقبت
بفلسفة البداوة والترحال56فرهان دولوز هنا هو أن يجعل الفيلسوف هو السينمائي الذي يفكر انطالقا من األشكال
والصور واأللوان.
.4خاتمة:
من خالل ما سبق ذكره يمكننا أن نلخص جملة النتائج التي توصلنا إليها واآلفاق التي يفتتحها
موضوعنا في النقاط التالية:
-في حديث لفيناس عن الوجه نجده يوجه نقدا الذعا للحداثة الغربية في كل تفريعاتها المعرفية والفنية
والسينم ائية بإعتباره هاجم القاعدة التي شيد عليها الفيلسوف الحديث عرينه ونقصده الذاتية ،على أساس أنها
أهملت الجانب الروحي القيمي والذي رأى أن الروحانية اليهودية كفيلة بأن تعيد هذا الجانب الذي أقصته الحداثة
الغربية من جديد لإلنسان ،وهو الكفيل بأن يؤنسن اإلنسانوية داخلنا ومن خالل العالقة اإلتيقية بين الذات
واآلخر وجها لوجه.
-في تقاسيم وتجاعيد الوجه ينجلي عمل الزمن على البشرة ليحضر الماضي في الحاضر ،في شكل أثر
منمحي يمثل تجليا إلله غائب عائد ،والذي ال نتصل به إال من خالل عالقة إتيقية مع وجه اآلخر ،في شكل
تصوف يستل هم أهم مبادئه من التصوف اليهودي تتحد فيه الذات اإلنسانية بالذات اإللهية ،فلفيناس يبحث عن
المعنى في عري الوجه خلف األشكال والخطوط والتقاسيم ،لذلك إنتقد فنون عصره ألن اللوحات الفنية ال تستطيع
إستعاب فكرة الالمتناهي فأي محاولة لتصويره قد توقعنا في الصنمية والوثنية وهو موقف يستند ألساس ديني
متمثل في تحريم الديانة اليهودية للتصوير.
-لقد كانت فلسفة دولوز في السينما نقدا وقلبا إلتيقا لفيناس حول الوجه اإلنسانوي فقد أصبح الوجه مع
دولوز قناعا يأخذ أدوا ار وأشكاال وألوانا مختلفة ليفتتح تخوم الزيف والالحقيقة كما كان سائدا في الواقعية الجديدة،
ذلك أن الزيف هو أساس كل إبداع سينمائي فالفنان ال يكون عمله أصيال إال إذا أبدى كل اقتدراته على التزييف
330
من خالل تمثيل شخصيات مختلفة ،يتغير معه وجهه ليترجم كل انفعاالت الوجدان من إغواء واغراء وشغف
وحب وغريزة وحنان ...إلخ ،فهو الصورة الفنية المهتزة التي تتغير حسب األدوار .
-إن دولوز وعلى خالف لفيناس يولي أهمية لتقاسيم وشكل ولون وأدمة الوجه اإلنسانوي على حساب
العمق اإلتيقي والتيولوجي ،ألنه مثل نيتشه يمجد الحياة وبشرة الجسد برغباته وأهوائه وغرائزه وأالمه لذلك يطمح
إلى أن تظطلع السينما بمهمة إعادة إيمان اإلنسان بالعالم والحياة والجسد ،لتكف على أن تكون في يد السلطة
السائدة لتقول كلمة الحق التي هي كلمة اآلخر المقصي والمهمش والمنسي ،هذا اآلخر الذي يتخذ تسميات
مختلفة منها الجسد أو اإلنسان اآلخر المضطهد أو الشعب المقهور ،فهذا هو اإليمان الحقيقي حسب دولوز
الذي هو ليس إيمانا معلقا في سماء المثل بل هو إيمان يعانق الحياة في براءتها.
-وفي ختام بحثنا هذا نود أن نلفت اإلنتباه إلى المناطق البكر والتي ال زالت تنتظر البحث والدراسة في
بحثنا ،كموضوع مقاربة منزلة الوجه بين عدة تخصصات مثل البيواتيقا واألنثربولوجيا والطب ،وهذا ما يواكب
الراهن وقضايا العصر مع تزايد عمليات التجميل بتطور أبحاث علماء الهندسة الوراثية الذين استبدلوا األنومذج
العالجي الكالسيكي للطب باألنموذج التحسيني ،فكيف ستكون إجابة اإلتيقا والدين على هذه التطورات الحاصلة
في مجال الطب الحديث ،والتي أدخلت على الوجه تعديالت كزراعة األنسجة التأصيلية للوجه؟ .
-ونريد أيضا أن نوجه الرؤية الى أفق آخر يفتتحه موضوعنا للباحثين وهو التفكير في الدور الذي
يمكن أن تساهم به السينما في إعادة اإلنسانوية إلى اإلنسان أو تعريف اإلنسان باقتدراته وذاته ،لما تم ّكنه من
إكتشافها من جديد ليطورها فيما بعد نحو غايات إبداعية استطيقية واتيقية في أشكال من الضيافة وقبول
للمختلف.
.5الهوامش:
1
- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Libraire philosophique,4eme
édition j.Vrin, Paris, 2010, p.271.
- 2ابن منظور ،لسان العرب ،مج ،31دار صادر ،بيروت ،ص.555
3
-Emmanuel Levinas, Ethique et Infini, Librairie Ar thème et radio-France, 1er édition , 1882, p .81.
4
-Ibid, p.p.79-80.
.5 -Ibid, p.p.79-80
6
-Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, Fata morgana, 1972,p.68.
- 7القرآن الكريم ،سورة البقرة ،األية.335
8
-Emmanuel Levinas, humanisme de l’autre homme , op .cit, p.p.68-68.
9
-Emmanuel Levinas, Totalité et infini(Essai sur L'extériorité), Original édition: Martinus Nijhoff, 1 eredition ,
1971, p.215.
10
-Emmanuel Levinas, Autrement Qu’Etre ou Au-delà L’essence, original édition: Martins Nijhoff,1978,p.27.
11
-Emmanuel Levinas, Totalité et infini, p.p.217-218.
- 12رشيد بوطيب ،نقد الحرية(مدخل الى امانويل ل يفيناس) ،تقديم أكسل هونيث ،منشورات ضفاف ،منشورات االختالف ،بيروت ،الجزائر العاصمة ،ط،3
، 9132ص.311
13
-Emmanuel Levinas, Totalité et infini,op.cit, p.218.
14
- Emmanuel Levinas, Ethique et infini,op.cit, p.p.80-81.
331
15
- Emmanuel Levinas, D Dieu Qui Vient A L’idée Libraire Philosophique J .Vrin, Paris, 1986, p p.264-265.
16
-Jean-Marc Narbone, De L’au-Delà de L’être" A L"Autrement ou Etre" :le tournant Lévinissein, Press
Universitaire de France, 2006,1nْ25, p.p.69-71.
17
-Emmanuel Levinas, Autrement Qu’ Etre ou Au-delà L’essence, op.,cit,p.27.
18
- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger,op, p.p.257-277.
- 19إ دمون جابيس ،ال أثر اال في الصحراء مع إيمانويل لفيناس ، ،ورد في :كتاب الهوامش ، ،ترجمة رجاء طالبي ،دار األمان ،منشورات اإلختالف،
منشورات ضفاف ،الرباط ،الجزائر العاصمة ،بيروت ،ط ،9135 ،3ص.375
20
- Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger,op.cit, p.p.255-276 .
21
- Ibid,p.289
22
-Jaques Taminiaux, Art et destin Le débat avec la phénoménologie Dans"La réalité et son ombre",in :
Levinas de L’être à L’autre, , sous la coordination de Joelle Hansel, press Universitaires de France,
Paris,1er édition, 2006, p.75.
23
-Emmanuel Levinas, De Dieu qui vient a L’idée, op .cit,PP96-97.
24
-Emmanuel Levinas, Totalité et infini, op .cit, pp.294-295.
25
- Jaques Taminiaux, Art et destin Le débat avec la phénoménologie Dans"La réalité et son ombre",in :
Levinas de L’être à L’autre , op . cit, pp.79-80.
* نالحظ بأن موقف لفيناس من الفن يحيلنا مباشرة الى كهف افالطون حيث الظال ل والظال فرييت تتقاطع الى حد كبير مع افالطون الي انتقد سابقا الفن
حين اعتبر فن الرسم محكاة فالعالم صورة مشوهة(العالم) لموضع المثل.
26
- Emmanuel Levinas, La Réalité et Son Ombre , in : Les Temps Modernes, Directeur Jean Paul Sartre, 4 e
année, Revie Mensuelle n0 38 , paris, p.773.
27
-Ibid, p .786.
-28جيل دولوز ،سينما الصورة -الحركة ،ج ، 3ترجمة جما ل شحيّد ،مراجعة نبيل أبو مراد ،المنظمة العربية للترجمة ،بيروت ،لبنان ،ط ،9132 ،3ص
.381
-29عمر مهيبل ،من النسق الى اليات(،قراءات في الفكر الغربي المعاصر) ،الدار العربية للعلو -ناشرون ،منشورات اإلختالف ،الجزائر العاصمة،
بيروت ،ط ، 9115 ،3ص ص .322-321
-30جيل دولوز ،سينما الصورة -الحركة ،ج ،3مصدر سابق ،ص ص .385-382
-31مصدر نفس ،ص.355
-32مصدر نفس ،ص ص .355-357
- 33علي بن حز األندلسي ،طوق الحمامة(في األُلفة واألُالف) ،مؤسسة هنداو للتعليم والثقافة ،ط ،.9137 ،3ص ص .22-21
-34جيل دولوز ،سينما الصورة -الحركة ،ج ،3مصدر سابق ،ص.352
-35مصدر نفس ،ص .383
-36مصدر نفس ،ص.322
-37مصدر نفس ،ص.325
-38مصدر نفس ،ص.32
-39مصدر نفس ،ص.37
-40عمر مهيبل ،من النسق الى اليات ،مرجع سابق،ص.323
-41فتحي المسكيني ،الكوجيطو المجروح( أسئلة الهوية في الفلسفة المعاصرة) ،دار األمان ،منشورات اإلختالف ،منشورات ضفاف ،الرباط ،الجزائر
العاصمة ،ط ،9131 ،3ص ص .393-332
-42جيل دولوز ،سينما الصورة -الحركة ،ج،3مصدر سابق ،ص ص .158-155
-43مصدر نفس ،ص.181
-44مصدر نفس ،ص ص .129-123
-45مصدر نفس ،ص ص .121-185
-46جيل دولوز ،سينما الصورة-الزمن ،ج ، 9ترجمة جما ل شحيد ،مراجعة سمية الجراح ،المنظمة العربية للترجمة ،بيروت ،ط ،9135 ،3ص.931
-47مصدر نفس ،ص.932
-48مصدر نفس ،ص.935
-49فتحي المسكيني ،الكوجيطو المجروح ،مرجع سابق ،ص ص.315-312
-50جيل دولوز ،سينما الصورة-الزمن ،ج ،9مصدر سابق ،ص ص .998-995
-51مصدر نفس ،ص.998
-52عمر مهيبل ،من النسق الى اليات ،مرجع سابق ،ص ص .325-322
-53جيل دولوز ،سينما الصورة-الزمن ،ج ،9ص.952
-54مصدر نفس ،ص ص .957-955
-55مصدر نفس ،ص ص.722-722
-56عمر مهيبل ،من النسق الى اليات ،مرجع سابق ،ص ص .692-691
332
-6قائمة المصادر والمراجع:
1.6قائمة المصادر باللغة العربية:
-القرآن الكريم.
شحيد ،مراجعة نبيل أبو مراد ،المنظمة العربية
-جيل دولوز ،سينما الصورة-الحركة ،ج ،1ترجمة جمال ّ
للترجمة ،بيروت ،ط.2719 ،1
-جيل دولوز ،سينما الصورة-الزمن ،ج ،2ترجمة جمال شحيد ،مراجعة سمية الجراح ،المنظمة العربية للترجمة،
بيروت ،ط.2711 ،1
2.6قائمة المصادر باللغة الفرنسية:
-Emmanuel Levinas, En découvrant l’existence avec Husserl et Heidegger, Libraire
philosophique,4eme édition j.Vrin, Paris, 2010.
-Emmanuel Levinas, Ethique et Infini, Librairie Ar thème et radio-France, 1er édition , 1882.
-Emmanuel Levinas, Humanisme de l’autre homme, Fata morgana, 1972.
-Emmanuel Levinas, Totalité et infini (Essai sur L'extériorité), Original édition: Martinus
Nijhoff, 1eredition , 1971.
-Emmanuel Levinas, Autrement Qu’ Etre ou Au-delà L’essence, original edition: Martins
Nijhoff,1978.
- Emmanuel Levinas, La Réalité et Son Ombre , in : Les Temps Modernes, Directeur Jean
Paul Sartre, 4e année, Revie Mensuelle n0 38 , paris.
333
: قائمة المراجع باللغة الفرنسية4.6
-Jaques Taminiaux, Art et destin Le débat avec la phénoménologie Dans"La réalité et son
ombre",in : Levinas de L’être à L’autre, , sous la coordination de Joelle Hansel, press
Universitaires de France, Paris,1er édition, 2006.
: قائمة المعاجم والموسوعات5.6
. بيروت، دار صادر،10 مج، لسان العرب،ابن منظور-
: قائمة المجالت ودوريات6.6
-Jean-Marc Narbone, De L’au-Delà de L’être" A L"Autrement ou Etre" :Le tournant
Lévinissein, Press Universitaire de France, 2006,1 n 725.
334