Professional Documents
Culture Documents
العدد 85نوفمبر2014
ب في ھذا الموضوع منذ عشرين سنة أو تكاد نجد فوضى من المعاني والدالالت المتعلّقة بالتطرّف ،متباينة عندما نتابع ما ُكتِ َ
أحيانا ً ومتناقضة أحايين أخرى ،فالمعنى يتغيّر بتغيّر مقام التلفظ وسياق الخطاب والخلفيات السياسيّة واأليديولوجية المتحكمة فيه،
ّ ّ
فقد يوصف الطرف نفسه بأنّه متطرّف وأنّه غير ذلك من قبل جھات مختلفة وأحيانا ً من الجھة نفسھا ،فيتغيّر الوصف والتوصيف
أن النضال من أجل الحرية والتح ّرر أصبح عند البعض تطرّفا ً يمسّ باألمن والسالم ،وأصبح بتغيّر المصالح وتج ّدد السياق ،حتّى ّ
ً ً
بعض المتطرّفين في عرف آخرين رموزا للسلم والعطاء اإلنسان ّي .ومھما حاولنا تدقيق المصطلح لغة واصطالحاّ ،
فإن معنى
التطرّف يظ ّل رخواً طيّعا ً يمكن توظيفه بع ّدة أشكال.
أن »التطرّف« صار حديث السّاعة ،ال يخلو خطاب من ذكره أو التلميح إليه أو التعليق عليه ،يتنافس اإلعالميون في جدير ّ
بالذكر ّ
بيان مواضع التطرّف وأخبار المتطرّفين على سبيل الحقيقة حينا ً والمجاز أحياناً ،بل ربّما طغى المجاز وھيمنت االستعارات،
فأصبح المشھد غامضا ،وبات الحديث عن اإلرھاب والتطرّف ساذجا ً يستخف بعقول الناس.
وھذا ما نالحظه ،على سبيل المثال ،في التجربة التونسية الرّاھنة ،فبعد قيام ثورة يناير 2011دخلت البالد في حرب ضروس مع
التطرف والمتطرفين في الجبال والمدن والمساجد ،ولكن ال أحد إلى اليوم يفھم المقصود من التطرّف وال أحد عاين متطرّفا ً يتح ّدث
عن تطرّفه ،وأصبح المواطن يشعر بأنّه أمام صور رسمت ال يفقه كنھھا إالّ قلّة قليلة من أصحاب القرار .ولم يكن ھذا االضطراب
مرتبطا ً بالخطاب اإلعالم ّي فحسب ،بل أسھم السياسيّون في تزكيته وتفعيله ،فرجال السياسة على مختلف توجّھاتھم ينتقدون
ويحذرون من تداعياته ،ولكنّھم نادراً ما يتمثّلون ھذه المسألة في سياقاتھا المختلفة ،ولم يكن حديث السّاسة
ّ التطرّف وين ّددون به
ّ ً ً ً
عن التطرّف إالّ حديثا وظيفيّا براغماتيا ،والمتابع لخطابات زعماء األحزاب السياسية ورؤساء القائمات االنتخابيّة المتعلقة
بانتخابات تونس )أكتوبر (2014يالحظ من خالل أحاديثھم المتشابھة تركيزھم على محاربة التطرّف ومقاومة المتطرّفين،
ويھدفون من خالله أساسا ً إلى تعبئة الجمھور وكسب ثقتھم ،في زمن ھيمنت عليه مسألة التطرّف وشغلت النّاس ،بل قد يھدفون
أحيانا ً من خالل خطاباتھم إلى التكسّب من خالل ھذه القضية أو التزيّن بھا في المحافل الدولية ،ويجد المواطن نفسه أمام خطابات
أن بعضھم ينتقد التطرّف ويمارسه بطريقة أو بأخرى ،ويحارب ولكن المفارقة ّ
ّ سياسيّة رنّانة تدغدغ العواطف وتلعن التطرّف،
المتطرّفين ويم ّدھم بالعون والدعم.
بأن التطرّف صار لغزاً محيّراً ،نتح ّدث عنه كثيراً وال نفھمه إالّ قليالً ،وبقدر ما تجابه الحكومات والمنظمات
ال نبالغ إذا قلنا ّ
ق من أجل محاربة التطرّف أموا ٌل طائلة ،وتعقد من أجل الح ّد والجمعيات واألفراد التطرّف ،تزيد ھيمنته وتتضاعف خطورته ،تُ ْنفَ ُ
منه ملتقيات ومؤتمرات وندوات ،ولكن ذلك لم يَحُلْ دون تط ّور ھذه الظاھرة وانتشارھا في أشكال متجددة ،ولم تستطع مراكز
البحوث في العالمين اإلسالمي والعرب ّي أن تحسم ھذا األمر ،وأن تق ّدم لنا دراسات شافية كافية عن التطرّف وثقافته ،وك ّل ما نجده
محاوالت مبعثرة ھنا وھناك دون تنسيق.
البحث في مسألة التطرّف مازالت تنقصه الجرأة والشجاعة ،ومازلنا نتحاشى وضع إصبعنا على الداء الحقيق ّي ،نحلّق في مدارات
الظاھرة دون أن نلج إليھا ،ولكن ھل يمكن أن نتبيّن العلّة ونبحث عن شفاء صاحبھا دون تشخيص حقيق ّي لھا؟ من العبث تجاوز
مرحلة التشخيص والتفكيك ،فھذا اإلجراء يسھم في فھم الظاھرة وتمثّلھا واإلحاطة بخلفياتھا وسياقاتھا ،ومن المضحكات المبكيات
أن التطرّف استفاد كثيراً من ھذا الوضع الضباب ّي ،فاألفكار المريضة تستثمر حالة الفوضى ،وتجعل منھا مصدر ق ّوة لھا.
ّ
ال ن ّدعي اإللمام بمختلف جوانب ھذا الموضوع المعقّد الشائك ،فھذا طموح يتجاوز طبيعة ھذا البحث ،وقصارى جھدنا أن نقف
عند المسائل المحورية المتعلّقة بالتطرّف ،وسنحاول اإلجابة عن مجموعة من اإلشكاليات األساسية ،ستكون بمثابة محاور اھتمام
حف به من اضطرابات وتشويھات؟ ما ھي الدالالت الممكنة نعتمدھا في بناء ھذا المقال :كيف يمكن أن نفھم التطرّف بعيداً ع ّما ّ
للتطرّف؟ وما ھي خلفياته السيكولوجية واالجتماعية والثقافية والسياسية؟ كيف نفھم التطرّف من زاوية ثقافية؟ وما ھي درجاته؟
وكيف نف ّكك خطابه؟ وما ھي المسائل األخرى المتف ّرعة عنه والمتعلّقة به؟ ثم نعود لمناقشة كيفية استبدال ثقافة التطرّف بثقافة
االعتدال واالختالف والتنوّع؟
ھويّات قاتلة
التطرّف في عرف اللغة الوقوف في طرف الطريق واالبتعاد عنه ،وتطرّف في أفكاره بالغ فيھا ،ويقابله في ھذا المستوى من
الداللة التوسّط ،وھذا نالحظه في قول الشاعر:
بأن التطرّف اتّخاذ لموضع واختيار لموقع يكون نقيض ما يتّخذه الناس وضديد ما يعتقده ي ّونفھم من خالل ھذا الشاھد اللغو ّ
ً
الجمھور ،فالتطرّف موقف انفعال ّي من الثقافة والجماعات واألفراد ،وھذا الموقف غالبا ما يكون عدائيّا ،ولكن قبل أن نتع ّمق أكثر
في دالالت التطرّف ،ال ب ّد أن نتح ّدث عن المستويات الممكنة للتطرّف ،فقد يشمل ھذا السلوك األفراد والجماعات والمؤسسات
والحكومات ،كما يشمل ع ّدة مجاالت تتعلّق بال ّدين والفكر والسياسة واالقتصاد ،ولع ّل أھ ّم ھذه المجاالت ما تعلّق منھا بالتطرّف
الدين ّي وما ارتبط به من خلفيات ثقافية ،فالتطرّف الدين ّي أصبح حديث الساعة ،وتحوّل إلى شبح مفزع يخيف المسلمين وغيرھم
على ح ّد سواء ،وازداد التطرّف الدين ّي شيوعا ً وانتشاراً بعد ثورات الربيع العرب ّي وما لحقھا من تغيّرات اجتماعية وسياسيّة وما
نتج عنھا من فوضى ،وانتھى األمر بظھور حركات دينيّة متطرّفة في تونس وليبيا وسوريا والعراق ،تقتّل النّاس وتد ّمر العمران
والمعمار ،وتحرق المزارع ،وتقطّع الرؤوس ،وساھم التطرّف الدين ّي الرّاھن في تشكيل صورة قاتمة عن اإلسالم والمسلمين
انعكست أساسا ً في وسائل اإلعالم الغرب ّي ،واستغلّت ھذه الصورة من قبل أطراف سياسية متطرّفة في أوروبا وأميركا لتشويه
صورة اإلسالم وتنفير الناس منه.
أن »نشوء التطرّف أن التطرّف الدين ّي يعكس أزمة خطيرة عاشھا الفكر اإلسالم ّي )ومازال( ،وآية ذلك ّ ولنا أن نعترف منذ البداية ّ
ال يأتي من فراغ ،بل ھو نتيجة خلل ما يصيب منظومة القيم والمبادئ التي تحكم العالقة اإلنسانية في بعض وجوھھا«) ،(1وھذا
أن التطرّف حركة تمرّد على »المنوال النموذجي« ،الذي يوجّه ثقافة الشعوب وجھة متوازنة ومطمئنة ،ولئن كانت يعني ّ
المجتمعات المتقدمة راسخة في مناويلھا المرجعيّة ،فإن المجتمعات اإلسالمية تعيش مخاضا ً ثقافيا ً وتحوّالت اجتماعية وسياسية
عصيبة ،وھذا األمر يجعل المنوال المرجع ّي ھ ّشا ً غامضا ً قابالً لع ّدة تأويالت ،ويجعل الھوية المنبثقة عنه ھوية مضطربة وعنيفة
وربّما قاتلة في بعض األحايين .وعلى ھذا األساس ال يمكن الفصل بين مسألة »التطرّف« وإشكالية الھوية ،وما التطرّف في
حقيقته إالّ تحوّل في طبيعة الھوية ذاتھا ،إذ تحوّلت من ھوية مبدعة تبحث عن سبل الحياة إلى ھوية قاتلة تجلب الدمار والخراب،
ي وخطاب إقصائ ّي وعنف »أن الھوية يمكن أيضا ً أن تقتل وبال رحمة«) ، (2إذ قد ينتج عن بعض الھويات فكر دمو ّ وآية ذلك ّ
ً ّ
رھيب ،و»النزاعات الوحشية قد تتغذى من وھم الھوية«) ،(3ولكن كيف تستحيل الھوية مجاال للتطرّف؟ وكيف تحوّلت الثقافة
اإلسالمية من ثقافة حياة وإبداع إلى ثقافة موت وشقاء؟
اقترن التطرّف في الثقافة اإلسالميّة قديما ً وحديثا ً بما يس ّميه روّاد علم االجتماع الثقافي بالتخلّف الثقافي الذي يعني ّ
أن »البناء
الثقاف ّي لم يعد متمسكا ً كما كان من قبل ،ومن ث ّم تنعكس آثاره على كفاءة تأديته لوظيفته في إشباع حاجيات أفراد المجتمع«)،(4
وتصبح ثقافة المجتمع معتلّة ومختلّة.
دخلت الحضارة اإلسالمية في دائرة مغلقة فأقفلت أبواب االجتھاد ،وأحكمت غلقھا ،فساد االتباع الساذج والتقليد األعمى ،وھيمن
الجھل والتخلّف ،وانقطع التواصل ،فانغلقت ك ّل مجموعة دينية على نفسھا ،تعيد صياغة مقوالتھا تلخيصا ً وشرحا ً وتھميشا)(5
دون تطوير أو تھذيب وأصبحت ك ّل مجموعة تعتقد أنّھا تمثّل الحق ك ّل الح ّ
ق وأنّھا الفرقة الناجية دون غيرھا من أھل اإليمان،
إن المتتبّع لتاريخ األديان بصفة عا ّمة وتاريخ األديان التوحيدية بصفة أخصّ وأن غيرھا من المسلمين في الدرك األسفل من النارّ . ّ
أن ھذا التوصيف الثقافي يخصّ ك ّل المنظومات الدينيّة ،فاليھود زمن األسر )سنة 587ق.م( وبعد سقوط ملكھم انغلقوا على يالحظ ّ
ذاتھم واكتفوا بتقاليدھم الشفوية ث ّم انقسموا بدورھم إلى مجموعات دينية تلعن ك ّل واحدة منھا غيرھا ،وكذلك حال المسيحيين عندما
تحوّلوا في القرون الوسطى إلى مجموعات منغلقة تحاكم العلم والعقل واإلبداع وترفض االختالف والتنوّع .ويُعد االنغــــالق على
ّ
الـــذات دلـــــيــــالً
) ،(RETARD CULTURELويعـــبـــر ھـــــذا الضرب من التخلّف نتيجة طبيعية لتحوّل األ ّمة من حالة ق ّوة وعلم إلى وضع
أن » النتيجة الحتمية لظھور التخلّف الثقافي واالنحالل أو التفكك االجتماعي ھو
ضعف وجھل ولقد توصّل علم اجتماع الثقافة إلى ّ
أن البناء الثّقافي ،لم يعد متماسكا ً كما كان من قبل ،ومن ث ّم تنعكس آثاره على كفاءة تأديته لوظيفته في إشباع حاجيات أفراد
ّ
ّ
المجتمع وتوجيھھم التوجيه المحكم في تفكيرھم واتجاھھم وسلوكھم ،ومن ث ّم يصبح المجتمع في حالة »مرضية« يظھر فيھا الكثير
م ّما يعرف في علم االجتماع بالمشكالت االجتماعية«) ،(6ويمكن اعتبار التطرّف أحد ھذه المشكالت ،ولعلّه أعوصھا في العصر
الحديث.
أن البناء الثقافي اإلسالمي أصبح بسبب ما أصابه من تشويھات ،مختالّ مضطربا ً ال يفي بحاجيات معتنقيه من أبناء والمالحظ ّ
مختلف المجموعات اإلسالمية ،وھذا ما يفسّر شيوع حاالت التمرّد على المؤسّسات ال ّرسمية الدينية والسياسيّة ،وھذا األمر قد
يساعدنا على اإلجابة عن سؤال ينتابنا دائما ً يتعلّق بوجود مفارقة غريبة بين إجماع علماء المسلمين على حرمة تكفير أھل القبلة
من جھة ،وانتشار ثقافة التكفير بوتيرة تصاعدية من جھة ثانيّة ،وتدعو ھذه المفارقة إلى الحيرة والرھبة .وعلى ھذا األساس يكون
خطاب التكفير وجھا ً من وجوه ھذه األزمة الثقافية وعالمة من عالمات األمراض االجتماعية المطروحة على الساحة اإلسالمية،
بل لعلّه أخطر ھذه األمراض وأش ّدھا فتكا ً ألنّه يد ّمر المجتمع من الداخل ويعزله عن محيطه الخارجي في اآلن ذاته.
شھدت الثقافة اإلسالمية انزياحا ً خطيراً ،فتحوّلت من ثقافة تقوم على االختالف والتع ّدد والتنوّع واحترام اآلخر إلى ثقافة حاقدة
ترفض اآلخرين وال تؤمن إالّ بطريق واحد للخالص وتحصيل الثواب ،وزعم ك ّل فريق بأنه الفرقة الناجية التي اختارھا ﷲ دون
بقية الخلق لتمثّل الحقيقة المطلقة والظفر بالجنّة وحسن المآب ،وفي ھذا السّياق أ ّكد بعض الباحثين أسطورة الفرقة النّاجية
وارتباطھا ّ
بالذاكرة الدينيّة المذھبيّة المنغلقة) ،(7ولقد انتقد مح ّمد أبو زھرة حديث »الفرقة النّاجية«) (8أش ّد انتقاد وتح ّدث عن
تداعياته السلبيّة في مختلف العصور اإلسالميّة) ،(9واجتھد عبد المتعال الصّعيدي في دحض ھذه المقولة وتصحيحھا معتبراً ّ
أن
صحيحين برغم أھ ّمية ي من ال ّ ك ّل الفرق اإلسالميّة ناجيّة ومعنيّة بالخالص) ،(10كما أ ّكد القرضاوي ّ
أن »الحديث لم يرد في أ ّ
موضوعه داللة على أنّه لم يص ّح على شرط واحد منھما«) ،(11ورأى القرضاوي في ھذا الحديث »تمزيقا لألمة وطعن بعضھا
في بعض ،م ّما يضعفھا جميعاً ،ويقوي عد ّوھا عليھا ويغريه بھا«) ،(12وبناء على ذلك ال يمكن الوثوق بھذا الحديث والتسليم
بمعانيه).(13
ولَع ّل من أخطر تداعيات ھذا الحديث بروز ظاھرة الغل ّو في التعصّب المذھب ّي والطّائفي وانتشار ثقافة التكفير والتفسيق والتبديع،
أن »التعصّب للمذھب ھو تعصب للفرد، أن التعصّب لم يكن غير تعصّب لرجاالت المذھب وأصحابه وھو ما يعني ّ ولكن المشكلة ّ
ّ
بالذات ال تعصّب لإلسالم ،وال لمبدأ من مبادئه«) ،(14وقد يتحوّل التعصّب إلى عصبيّة و»ال ّدعوة إلى تعصّب لصاحب المذھب ّ
العصبيّة أيّا كان شكلّھا ومظھرھا ھي ال ّداء ال ّدفين الذي ذھب بوحدة اإلسالم«) ،(15فقد دخلت األ ّمة منذ دخل باب االجتھاد في
دائرة مغلقة تقوم على التقليد واالتباع وترفض ك ّل تفكير وإبداع ،وأصبح كالم الرجال ال يق ّل قدسية عن كتاب التنزيل ،وانتشرت
الفتاوى) ،(16وھيمنت على عقول النّاس ووجّھت سلوكھم وجھة مريبة أ ّدت في أغلب األحيان إلى التطرّف والغل ّو فيه ،واستفادت
ھذه الفتاوى من ثورة االتصال في العصر الحديث ،إذ ھيمنت الفضائيات والمواقع الدينيّة التي تش ّجع على التطرّف وتدعو إلى
الكره والقطيعة بين المذاھب واألديان والجماعات.
بأن الفضائيات ومواقع الواب تلعب دوراً أساسيا ً في تكريس ثقافة التطرّف الديني وتزكيته ،والطريف ّ
أن وال نبالغ اليوم إذا قلنا ّ
ً ً ّ ً ً
الزمن الرّاھن أصبح أكثر تش ّددا وتطرّفا وتخلفا فكريا من العصور اإلسالميّة األولى ،وأصبح قصارى طموحنا اليوم أمام ھيمنة
التش ّدد الدين ّي أن نعود إلى سماحة اإلسالم وعدالته وعقالنيته ،كما كان سائداً في عصوره األولى ،إذ دعا القرآن إلى االختالف
واستعمال العقل ،واحترام اآلخرين مھما كانت معتقداتھم وأفكارھم ،وحينما دخل المسلمون في غياھب التقليد والتراجع الثقاف ّي
استبدلوا ك ّل ذلك بقيم جديدة تقوم على تعطيل العقل وتحريم التفكير ومحاربة االختالف وإقصاء اآلخر ،وأصبح ك ّل من يخالف
أقوال ھذه الجماعة أو تلك كافراً زنديقا ً يجوز قتله والتشنيع به.
لذلك ارتبط التطرّف الدين ّي بالتكفير ،فعرّف ع ّدة حركات دينيّة بأنّھا حركات متطرّفة وحركات تكفيرية ،وليس من السير تناول
مسألة التكفير في ھذا المقام المخصوص ،فھذا المبحث متداخل ومتع ّدد المداخل ،وعرف مفھوم التكفير بدوره مجموعة من
االنزياحات الخطيرة وصلت ح ّد تكفير المسلم الملتزم بتعاليم دينه بتعلّة التباين في الفكر والطرح.
أن استراتيجية التقريب بين المذاھب اإلسالمية الصادرة عن اإليسيسكو سنة 2004نبّھت إلى مخاطر انتشار خطاب جدير ّ
بالذكر ّ
ّ ّ
التطرّف والتكفير ،وأكدت أنه ال يوجد »أثر للتكفير أو التفسيق أو التبديع في مذاھب الفقه اإلسالميّة«) ،(17ولئن اقترحت
إستراتيجيّة اإليسيسكو »البحث عن صيغ فكريّة تنتقل بمسائل الخالف من »خانة األصول« التي يؤدي الخالف حولھا إلى »كفر
فإن تشخصيھا وإيمان« إلى »خانة الفروع« التي معايير االختالف فيھا ھي »الخطأ والصواب« ميدانا ً أساسا ً للتقريب«)ّ ،(18
للعلّة )األزمة( لم يكن دقيقاً ،إذ ّ
إن ثنائية الخطأ والصواب ثنائية سجاليّة بامتياز ال تساعد على تجاوز ثقافة التطرّف ،فاالعتقاد
أن الحقّيقة واحدة تكمن عند طرف مخصوص وعلى الطرف الثاني أن يقبلھا ويسلّم بوجود رأي خاطئ وآخر مصيب يجعلنا نتوھّم ّ
ّ ّ ّ ّ
بدالئلھا وحججھا ،وھذا ضرب من الوھم واإليھام ،فالحقيقة المطلقة ال يعرفھا إال ﷲ وما اجتھادات البشر إال تمثالت تحاول أن
تص ّور الحقّائق وتيسّر فھم النّاس لھا ،ولذلك وجب االختالف فيھا واالعتدال في طرحھا ،لقد أدرك المسلمون اليوم فظاعة التطرّف
الدين ّي وما ارتبط به من تكفير ،وانتابھم فزع وھم يشاھدون على شاشات التليفزيون أشخاصا ً يذبحون إخوانھم في ال ّدين بطرق
يحذر من »طاعون بشعة بتعلّة مخالفتھم اإلسالم ،ولذلك أصدرت اإليسيسكو من خالل إحدى ندواتھا ) (1996إنذاراً مخيفا ً ّ
التكفير« المقبل على العالم اإلسالم ّي) ،(19ولذلك كان ال ب ّد من البحث عن حلول عمليّة لتجاوز »محنة التطرّف والتكفير«)،(20
فالسّاحة الثقافيّة اإلسالميّة مزروعة بألغام التكفير وعلى رجل الفكر أن يحسن »تحديد نطاق ھذه األلغام الفكريّة –
التكفيرية«) ،(21ويتطلّب ھذا العمل »اعتماد منھاج التدرج في تطبيق خطة إزالة ھذه األلغام الفكريّة– التكفيرية من الكتب
التراثية ،وخاصّة الذي يدرس منھا في الحوزات العلميّة والجامعات اإلسالميّة ،وذلك بحذفھا من الطبعات الجديدة«).(22
ويكاد مح ّمد عمارة يحصر خلفيات التطرّف في الجانب المعرف ّي التعليم ّي ،ولذلك دعا إلى مراجعة البرامج الدراسيّة والمحتويات
التعليميّة المعتمدة في المدارس الدينيّة السنيّة وال ّشيعيّة ،وھذا المنشود التّقريب ّي مفيد نظراً إلى تخلّف البرامج التعليميّة المعتمدة
وعدم استجابتھا إلى رھانات العصر والتّواصل اإلنسان ّي وإحياء العلوم اإلسالميّة )وخاصّة علم الكالم( دون مراعاة سياقاتھا
الحضاريّة التي تن ّزلت فيھا .فعلم الكالم القديم أصبح مصدراً من مصادر التطرّف الدين ّي ،إذ تحوّل في العصور الوسطى من علم
يدافع عن ال ّدين وعقائده إلى خطاب سجال ّي يدافع عن المذھب والفرقة والنحلة ،ويتّھم المخالف بالفسق والزندقة والكفر ،وعلى ھذا
األساس اندلعت حروب مد ّمرة بين أبناء ال ِملّة الواحدة بتعلّة االختالف في العقيدة ،ولذلك ظھر تيار فكري جديد يدعو إلى إنشاء
علم كالم جديد يستجيب إلى حاجيات اإلنسان المعاصر في مجال التواصل والعيش المشترك.
أصبحت الثقافة اإلسالمية بعد منع التفكير واالجتھاد ثقافة مأزومة ،كما ھو حال ك ّل الثقافات المنغلقة على نفسھا ،ومن سمات
الثقافات المأزومة المبالغة في تقديس الذات واحتقار اآلخرين والتعصّب آلراء الجماعة ورجاالتھا ،والنزوع نحو استعمال العنف
بك ّل أصنافه ،وك ّل ھذه الصفات تتعلّق بطريقة أو بأخرى بمظاھر التعصّب والتطرّف ،والتعصّب كما يُعرّفه فولتير »ھوس دين ّي
فظيع ،ومرض مع ٍد يصيب العقل كالجدري ،وھؤالء المتعصّبون قضاة ذوو أعصاب باردة يحكمون باإلعدام على األبرياء الذين
لم يف ّكروا بنفس طريقتھم«) ،(26وفي نفس السياق كتب فولتير )تـ » (1778مقبرة التعصّب« ) (1936ونشره سنة 1767إيمانا ً
أن ظاھرة التطرّف ظاھرة تاريخية ارتبط وجودھا بظھور اإلنسان أن التعصّب يجلب الخراب ويد ّمر العمران ،وھذا يعني ّ منه ّ
واندماجه في جماعات ،وارتبطت ھذه الظاھرة بتط ّور الشعوب والثقافات والعادات والنظم السياسية واالقتصادية والصراع بين
األطروحات والتص ّورات ،وانعكست ھذه التغيّرات على نفسية الشعوب وكيفية فھمھا للمحيط وعالم الغيب الذي يديره.
ھوامش:
) (1مصطفى ملص ،قراءة في واقع ظاھرة التطرّف وفي كيفية التعاطي معھا ،رسالة التقريب ،عدد 83ص .32
) (2أمارتيا صن ،الھوية والعنف ،سلسلة عالم المعرفة ،عدد ،352يوليو ،2008المركز الوطني للثقافة والفنون واآلداب،
الكويت ،ترجمة :سحر توفيق ،ص .18
) (4مح ّمد السويدي ،مفاھيم علم االجتماع الثقافي ومصطلحاته ،الدار التونسية للكتاب ،تونس ،1991 ،ص136
) (7انظر :عمر بن حمادي ،حول حديث افتراق األ ّمة إلى بضع وسبعين فرقة ،كراسات تونسيّة ،مجلد ،24عدد ،116-115
ثالثيّة ،2-1سنة ،1981ص ص .358-287
صارى على اثنتين) (8نصّ الحديث» :افترقت اليھود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنّة وسبعون في النّار ،وافترقت النّ ّ
ّ
لتفترقن أ ّمتي على ثالث وسبعين فرقة واحدة في وسبعين فرقة ،فإحدى وسبعون في النّار وواحدة في الجنّة ،والذي نفس مح ّمد بيده
الجنّة وثنتان وسبعون في النّار« ،أخرجه :أبو عبدﷲ مح ّمد ابن ماجه ،السنن ،كتاب الفتن ،باب افتراق األ ّمة ،حديث رقم ،3992
دار إحياء التراث العربي] ،د.ت[ ،ج ،2ص .1322
) (9يقول مح ّمد أبو زھرة» :ولقد حفظ التّاريخ من أثر ذلك في الماضي ما قوّض شمل اإلسالم وجعل بأس المؤمنين بينھم شديداً،
أن األخرى على ضالل ،ولقد حدث والتتار غير المسلمين يدقون أسوار ألن كلتيھما تعتقد ّ
حتى لقد وجدنا المذابح تقام بين فريقينّ ،
بغداد دقا ً ويذبحون المسلمين على طريقتھم ....والمذابح بين السنيين والشيعيّين حتى لقد ذكر المؤرخون في ذلك أقواال وأقاويل«،
ً ّ
مح ّمد أبو زھرة ،الوحدة اإلسالميّة ،رسالة اإلسالم ،عدد ،38ص .139
) (10عبد المتعال الصعيدي التّقريب بين المذاھب اإلسالميّة ودراسة علم التوحيد ،رسالة اإلسالم ،عدد ،11ص .312
) (11يوسف القرضاوي ،مبادئ أساسيّة فكرية وعملية في التّقريب بين المذاھب اإلسالميّة،إيسيسكو ،1996ص .170
) (13إسماعيل الدفتار ،حديث افتراق األ ّمة في ميزان القبول والر ّد ،مؤتمر الدوحة لحوار المذاھب ،الدوحة 22-21 ،يناير
،2007وثيقة وزعت على المشاركين في المؤتمر.
) (14مح ّمد جواد مغنيه ،الفرق بين ال ّدين والمذھب ،رسالة اإلسالم ،السنة ،8عدد ،1/29يناير ،1956جمادي اآلخرة،1375 ،
ص .50
) (15مح ّمد أبو زھرة ،المجتمع القرآني رسالة اإلسالم ،عدد ،31ذو الحجة 1375ھـ ،يوليو ،1956ص .248
) (16درسنا دور الفتاوى في صناعة التطرّف في مقالنا :علي بن مبارك ،دور اإلفتاء في التقريب بين المذاھب اإلسالمية ،مجلة
الحياة ،جمعية التراث ،غرداية الجزائر ،عدد ،18يوليو ،2014ص ص ) 52-38القسم األوّل(.
) (17المنظمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة ،إستراتيجيا التقريب بين المذاھب اإلسالمية ،منشورات المنظمة اإلسالمية
للتربية والعلوم والثقافة ،الرباط ، 2004 ،ص .21
) (19المنظمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط ،أبحاث الندوة الثانية »التّقريب بين المذاھب اإلسالمية« ،من 27إلى 29
أغسطس ،1996منشورات المنظمة اإلسالمية للتربية والعلوم والثقافة ،1997 ،ص .192
) (20مح ّمد عمارة ،التّقريب بين المذاھب اإلسالميّة )رأي وتعقيب( ،رسالة التّقريب ،عدد ،36ص ص .296-285
واعتبر مح ّمد عمارة التطرّف والتكفير لغما ً مغروسا ً في جسد األ ّمة اإلسالميّة يمكن له أن يتف ّجر في ك ّل حين وكلّما سنحت
الظروف بذلك،مح ّمد عمارة ،المصدر نفسه ،ص .293
) (23من ذلك ما ذھب إليه يوسف القرضاوي في كتابه »ظاھرة الغل ّو في التكفير« إذ حصر السبب الرئيسي لظاھرة الغل ّو في
التكفير في معاملة الحكومات القاسية والعنيفة للشباب المسلم ،طبعة مكتبة وھبة ،عابدين ،مصر.1990 ،
) (24يمكن االستفادة من كتاب »التكفير بين ال ّدين والسّياسة« لمح ّمد يونس ،مركز القاھرة لدراسات حقوق اإلنسان1999 ،
)سلسلة مبادرات فكرية(.
) (25نذكر على سبيل المثال ما كتبه علي حرب في السنوات األخيرة من قبيل:
-العالم ومأزقه منطق الصدام ولغة التداول ،المركز الثقافي العربي ،بيروت2002 ،
-اإلنسان األدنى؛ أمراض ال ّدين وأعطال الحداثة ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت.2005 ،
) (26مجموعة مؤلّفين ،أضواء على التعصّب ،دار أمواج ،بيروت ،1993 ،ص .176