You are on page 1of 70

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫الحركة الكونية لإلنسان في رؤية القرآن للعالم‬

‫فهرس الكتاب‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪2‬‬ ‫‪ -1‬المقدمة المنهجية‬
‫‪12‬‬ ‫‪ -2‬رؤية القرآن للعالم(خطة الخلق العامة)‬
‫‪30‬‬ ‫‪ -3‬الحركة الكونية في رؤية القرآن للعالم‬
‫‪31‬‬ ‫‪ -1.3‬األسئلة الوجودية‬
‫‪ -1.1.3‬السؤال األول‪ :‬التكافؤ بين العمل اإلنساني والخلق الكوني‬
‫‪31‬‬
‫‪ -2.1.3‬السؤال الثاني‪ :‬البعد الزماني لإلنسان في األرض وداللته الكونية‬
‫‪38‬‬
‫‪48‬‬ ‫‪ -2.3‬الفرضيات العلمية المجيبة عن األسئلة الوجودية‬
‫‪48‬‬ ‫‪ -1.2.3‬الفرضية األولى‬
‫‪60‬‬ ‫‪ -2.2.3‬الفرضية الثانية‬
‫‪67‬‬ ‫‪ -4‬الخاتمة‬

‫‪1‬‬
‫‪ -1‬المقدمة المنهجية‬
‫هذا بحث في القرآن الكريم إليجاد رابط موضوعي ومنهجي يربط بين‬
‫العمل اإلنساني والخلق الكوني‪ ،‬ألن الكون(السماوات واألرض وما بينهما)‬
‫كلّه لم يخلق إال البتالء الناس أيهم أحسن عمال كما يخبرنا القرآن الكريم‪:‬‬
‫(‪        ‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪()   ‬هود)‪ .‬يقتضي هذا أن يكون الكون(السماوات‬

‫واألرض) مسخرا للفعل والعمل اإلنساني‪ ،‬وهو كذلك كما يخبرنا القرآن‬
‫الكريم‪            ( :‬‬

‫‪()    ‬الجاثية)‪ .‬وفي إطار الكون‬

‫صة انطالقه إلى‬


‫المسخر لإلنسان فإن األرض تحديدا هي موضع استخالفه ومن ّ‬
‫الكون‪( :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬

‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬

‫ﭮﭯ)(البقرة)‪ .‬واالستخالف يقتضي التمكين المتضمن للتسخير‪ ،‬وهو‬

‫‪2‬‬
    ( :‫كذلك كما يخبرنا القرآن الكريم‬

.)‫)(األعراف‬       

‫ والثاني نختم به هذه‬،‫ األول نورده اآلن‬،‫هذا الربط البد منه لسببين‬
‫ أما السبب األول فهو أن هناك تداخل سببي بين الفعل اإلنساني من‬.‫المقدمة‬
‫جهة وبين الظواهر االجتماعية والطبيعية التي تكتنف حياة اإلنسان من جهة‬
‫ وهو تداخل ينجم سببيا عن تداخل آخر يسبقه بين الفعل اإلنساني في‬.‫أخرى‬
( :‫ والفعل اإللهي المهيمن والمصدق من جهة أخرى‬،‫الكون من جهة‬

           

    ( ‫)(السجدة)؛‬    

 ( ‫)(األحزاب)؛‬        

‫)(الشورى)؛‬        

        (

  ( ‫)(البقرة)؛‬    

      

3
    ( ‫)(األعراف)؛‬   

             

         

         

           

         

            

        

.)‫)(سبأ‬       

‫وقد عبّرنا عن كل ذلك من قبل من خالل مفهوم سنن االجتماع‬


1
:‫عرفنا السنة االجتماعية بأنها‬
ّ ‫ وقد‬،‫اإلنساني كما وردت في القرآن الكريم‬
‫ فيهيمن عليه‬،‫ أو الجماعة‬،‫" كل فعل إرادي راتب يأتي به الفرد‬
‫ أو‬،‫ بأسباب طبيعية‬،‫ويصدّقه فعل إلهي مناسب له لينتهي به‬
‫ الظاهرة السبئية حالة تفسيرية"؛إصدار معهد إسالم‬:‫ "العلم والمعرفة بين رؤيتين للعالم‬:‫ أنظر بشأن هذا الموضوع بحثي بعنوان‬-1
.(biraima.net) ‫ جامعة الجزيرة؛ السودان؛ مرفوع بموقعي‬،)‫م‬2016(‫المعرفة‬

4
‫اجتماعية‪ ،‬أو بكليهما‪ ،‬إلى نتائج يقدّرها هللا تعالى قد تكون‬
‫مطابقة‪ ،‬أو مخالفة‪ ،‬لما قصده الفرد‪ ،‬أو الجماعة من فعلهم‪ ،‬وقد‬
‫يخص تأثيرها الفرد الفاعل‪ ،‬أو يعم كل‪ ،‬أو بعض الجماعة‪ ،‬وقد‬
‫يكون التأثير مباشرا ينحصر في الفاعلين‪ ،‬وقد يكون غير مباشر‬
‫يتجاوزهم إلى محيطهم االجتماعي والطبيعي"‪.‬‬
‫هذا التعريف لمفهوم "سنة هللا" كما وردت في القرآن الكريم يأتي في‬
‫إطار جهود بحثية يقوم بها كاتب هذا البحث تحت مس ّمى "رؤية القرآن‬
‫للعالم"‪ ،‬وهو برنامج بحث علمي يهدف إلى بناء رؤية قرآنية للعالم تستوفي‬
‫اإلجابة عن األسئلة الضرورية التي يتضمنها المفهوم‪ ،‬ومعايير االختبار التي‬
‫البد أن تجتازها رؤية العالم المحددة حتى تثبت جدواها‪ ،‬وصالحها للعمل‬
‫بمقتضاها‪ .‬وقد اختار الباحث‪ ،‬من بين عدد من التعريفات التي تقدمها األدبيات‬
‫العالمية لمفهوم رؤية العالم‪ ،‬التعريف الذي مفاده أن "رؤية العالم عبارة‬
‫عن مجموعة مترابطة من المفاهيم والنظريات التي يجب أن‬
‫تمكننا من بناء صورة كلية للعالم‪ ،‬وبهذه الطريقة نستطيع أن‬
‫نفسّر أكبر عدد ممكن من عناصر خبراتنا‪ .‬وهكذا فإن رؤية العالم‬
‫هي إطار مرجعي يمكن أن نضع فيه كل ما يواجهنا من خبرات‬
‫متنوعة في الحياة"‪.‬‬
‫وقد انصب الجهد في تلك البحوث على تبيّن معالم رؤية القرآن لعالم‬
‫االجتماع اإلنساني‪ ،‬وقد أمكن‪ ،‬بفضل هللا تعالى‪ ،‬إنجاز إطار نظري‪ ،‬يستوفي‬
‫إلى درجة كبيرة محددات تعريف رؤية العالم أعاله‪ ،‬أطلقت عليه مصطلح‬
‫"خطة الخلق العامة" مما سوف أبينه في القسم الثاني أدناه‪ .‬وقد استخدمت‬
‫مصطلح "خطة الخلق العامة" للداللة على التدبير اإللهي الخاص بخلق‬
‫اإلنسان واستخالفه تمكينا في األرض‪ ،‬ومقتضى هذا االستخالف من تسخير‬
‫ما في السموات وما في األرض جميعا له‪ ،‬وتحميله‪ ،‬تكليفا‪ ،‬أمانة أبت‬
‫السماوات واألرض والجبال أن يحملنها‪ ،‬وأشفقن منها‪ ،‬وحملها هو‪ ،‬وما‬
‫يترتب على هذا الحمل من مسؤولية وجزاء‪ .‬وقد أخبرنا القرآن الكريم أن‬
‫"خطة الخلق العامة" هذه قبل أن تحكم حياة اإلنسان في األرض جرت وقائعها‬
‫في المأل األعلى‪ ،‬وانتهت بإغواء إبليس آلدم عليه السالم مما أدى إلى خروجه‬

‫‪5‬‬
‫وزوجه من الجنة ومعهم إبليس‪ ،‬وهبوطهم جميعا إلى األرض‪ ،‬بعضهم لبعض‬
‫عدو‪.‬‬
‫السبب الثاني ألهمية الربط بين الفعل والعمل اإلنساني من جهة والخلق‬
‫الكوني من جهة أخرى هو أن استخالف اإلنسان يتم في إطار متغيرين كونيين‬
‫أساسيين هما متغير "المكان" ومتغير "الزمان"‪ ،‬مما يقتضي إعطاء أهمية‬
‫بالغة لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة بشأنهما‪ .‬ذلك أن من‬
‫يجهل المكان والزمان الم ّحددين لتكليفه سوف يفشل حتما في القيام بحق ذلك‬
‫التكليف‪ .‬إن عقد االستخالف بين هللا تعالى وبين بني آدم يمكن تصوره‬
‫باعتباره عقد معاوضة حيث أحد العوضين(عمل اإلنسان في األرض) مع ّجل‪،‬‬
‫والعوض الثاني(الجزاء من هللا تعالى) مؤ ّجل‪ .‬فالعوض المع ّجل هو عمل‬
‫اإلنسان في هذه الحياة الدنيا ابتال ًء في زينة األرض(المال والبنون)‪ ،‬شكرا‪ ،‬أو‬
‫كفرا‪( :‬ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ)(الكهف)؛‬
‫(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ‬
‫ﭞﭟ)(الكهف)؛ (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ)(اإلنسان)‪ .‬أما‬
‫العوض المؤ ّجل فهو جزاء هللا تعالى في الدار اآلخرة لكل إنسان على عمله‬
‫ﮡﮢ‬ ‫الدنيوي‪ ،‬فالجنة لمن شكر‪ ،‬والنار لمن كفر‪ ،‬جزا ًء وفاقا‪( :‬ﮞﮟ ﮠ‬
‫ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ‬
‫ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)(آل عمران)‪.‬‬
‫إن محل عقد االستخالف متعين تحديدا في األرض‪ ،‬ولكن األرض‬
‫ليست هي فقط أرض السماء الدنيا التي يحيى فيها البشر اآلن‪ ،‬بل ندعي‪،‬‬
‫تأسيسا على القرآن الكريم‪ ،‬أنها سبع أرضين تتوزع في الكون‪ ،‬مما يجعل‬
‫الكون كله مجاال لحركة اإلنسان وهو يسعى فاعال ومنفعال بهذا التدبير اإللهي‬
‫العظيم(خطة الخلق العامة)‪ .‬وتقوم الفرضيات األساسية لهذا البحث على أن‬
‫أرض التمكين لإلنسان ليست أرض السماء الدنيا هذه وحدها‪ ،‬ولكن تمدها من‬
‫بعدها ست أرضين تتوزع بين السموات السبع‪ ،‬وجميعها مستخلف فيها‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأن اإلنسان سوف تتوالى جهوده االستخالفية حتى يبلغ بعلمه وعمله‬

‫‪6‬‬
‫جميع األرضين السبع‪ .‬وها هو اإلنسان وقد تسارعت حركته الكونية بحثا عن‬
‫امتداداته األرضية‪ ،‬مستغال في ذلك تسخير هللا تعالى له ما في السموات وما‬
‫في األرض جميعا‪.‬‬
‫هناك أمدان زمانيان ومديان مكانيان حاسمان يحكمان ويحددان حركة‬
‫اإلنسان في هذه الحياة الدنيا وهو يتقلب في ابتالءات االستخالف؛ أمد زماني‬
‫ومدى مكاني خاص بكل إنسان في شخصه‪ ،‬وأمد زماني ومدى مكاني يحكم‬
‫البشرية جمعاء‪ .‬وفيما يلي استعراض موجز للمدى المكاني ثم من بعده لألمد‬
‫الزماني آلحاد الناس‪ ،‬وللناس جميعا‪.‬‬
‫المدى المكاني لإلنسان الفرد يمتد من مكان مولده إلى كل األرض‪،‬‬
‫يمشي في مناكبها ليحقق مغزى استخالفه‪ ،‬توحيديا كان أم دنيويا‪ .‬لقد أخفى هللا‬
‫تعالى نوع ومقدار ومكان وزمان رزق كل إنسان في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬فال‬
‫تدري نفس ماذا تكسب غدا‪ ،‬كما أخفى المكان الذي تعيّن على كل إنسان الموت‬
‫فيه فال تدري نفس بأي أرض تموت‪ ،‬كل ذلك حتى يضرب الناس‪ ،‬مؤمنين‬
‫وكافرين‪ ،‬في األرض مبتغين من فضل هللا‪ ،‬دون خوف من موت قد يتربص‬
‫بهم‪ ،‬ودون يأس من رزق قد ينتظرهم‪ .‬هكذا ينتشر اإلنسان في األرض جميعا‬
‫مستوطنا ومستعمرا‪ ،‬وقد تواردت آيات القرآن الكريم مؤكدة هذه الحقيقة‪( :‬ﭤ‬
‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)(الملك)؛‬
‫(ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ‬
‫ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)(هود)؛ (ﱰ ﱱ ﱲ‬
‫ﱾ ﲀﲁ‬
‫ﱿ‬ ‫ﱸﱺﱻﱼﱽ‬
‫ﱹ‬ ‫ﱳ ﱴﱵﱶﱷ‬
‫ﲋﲍﲎﲏ‬
‫ﲌ‬ ‫ﲇﲉﲊ‬
‫ﲈ‬ ‫ﲂﲃﲄﲅﲆ‬
‫ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ‬
‫ﲚ ﲛ ﲜ )(النساء)؛ (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ‬
‫ﭼ )(العنكبوت)؛ (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ‬

‫‪7‬‬
‫ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬
‫)(النساء)؛ (‪...‬ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮫ )(المزمل)؛ (ﯫ‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬
‫ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ )(لقمان)‪.‬‬
‫أما المدى المكاني للبشرية جمعاء فيتمدد في الكون المسخر لإلنسان‬
‫بسماواته السبع وأرضيه السبع جميعا‪ ،‬كما صرح بذلك القرآن الكريم‪( :‬ﰄ‬
‫ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ‬
‫)(الجاثية)؛ (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ‬
‫ﰑ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛﰜ)(الطالق)؛ (ﯮ ﯯ ﯰ‬
‫ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ‬
‫ﰂ )(فصلت)‪ .‬وكلمة "جميعا" في اآلية األولى هي صيغة الجمع التي يعبر‬
‫بها الخالق سبحانه وتعالى عن قصده األرضين السبع بإضافته "جميعا" إلى‬
‫كلمة "األرض" في كل القرآن الكريم كما سوف نبين الحقا في هذا البحث‪ ،‬إن‬
‫شاء هللا تعالى‪.‬‬
‫ولن يصل مغزى االستخالف البشري إلى تمامه حتى يستوفي اإلنسان‬
‫رحلته الكونية ليسكن ويعمر األرضين السبع التي خلق هللا له ما فيها جميعا‪،‬‬
‫كما سنثبت ذلك أدناه بإذن هللا تعالى‪ ،‬فمن األرض خلق اإلنسان‪ ،‬وفيها يحيى‪،‬‬
‫وفيها يموت‪ ،‬ومنها يخرج تارة أخرى‪ .‬وآيات القرآن الكريم صريحة في هذا‬
‫المعنى‪( :‬ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ‬
‫ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ )(البقرة)؛ (ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ‬
‫ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ‬

‫‪8‬‬
‫ﰇﰈﰉ ﰊ)(هود)؛ (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬
‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ )(األعراف)‪.‬‬
‫أما األمد الزماني الخاص باستخالف كل فرد مكلف فهو مدة أجله الذي‬
‫أ ّجله هللا له في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬فمن مات فقد قامت قيامته‪ ،‬وأما األمد الزماني‬
‫الستخالف البشرية فيمتد إلى قيام الساعة‪ .‬قد أخفى هللا تعالى اللحظة التي‬
‫يموت فيها كل إنسان في إطار مداه الزماني الخاص به(‪...‬ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ‬
‫ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ)(األعراف)‪ ،‬ولكنه جعل العلم بجملة‬
‫األمد الزماني الذي تتمدد فيه حياة المكلّف في هذه األرض ممكنا على وجه‬
‫التقريب‪ .‬فكل إنسان يعلم علم اليقين أنه قد يموت ليومه أو غده‪ ،‬ولكنه يعلم‬
‫أيضا‪ ،‬من خالل التجربة الحياتية الممتدة لمليارات البشر‪ ،‬أن اإلنسان الفرد في‬
‫هذا الزمان‪ ،‬إذا سلم من اآلفات‪ ،‬يمكن أن يحيى ويعيش حتى المائة عام‪ ،‬أو‬
‫تزيد‪ ،‬ومن ثم فإن متوسط العمر االستخالفي المنتج لإلنسان في األرض‬
‫يتراوح بين الخمسين والسبعين عاما‪ .‬هذا المتوسط يشكل األمد الزماني‬
‫االستراتيجي الحاسم للفرد‪ ،‬وعلى أساسه يخطط لحياته االستخالفية في‬
‫األرض‪ ،‬وهو الذي يسمح بعمارة األرض‪ ،‬إذ لو أن كل إنسان خطط حياته‬
‫على أنه يموت غدا‪ ،‬أو بعد غد‪ ،‬وقد يموت فعال‪ ،‬لما عمر أحد الدنيا‪ ،‬والنتفت‬
‫حكمة هللا تعالى من إنشاء الناس من األرض واستعمارهم فيها‪ ،‬ولما عاد‬
‫لالستخالف مغزى‪ ،‬وال للحساب والجزاء األخروي معنى‪ .‬بل إن كل‬
‫المجتمعات المعاصرة ترتب شؤون أفرادها في كل مجاالت الحياة بناء على‬
‫هذا المتوسط الزماني العمري‪ .‬ولو افترضنا أن هذا األمد العمري تغير فجأة‬
‫فبلغ ما كان عليه في عهد نبي هللا نوح‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬وهو األلف سنة‪ ،‬تزيد أو‬
‫تنقص قليال بحسب اإلفادة القرآنية‪ ،‬الرتبكت حياة األفراد والمجتمعات في هذا‬
‫الزمان أيما ارتباك‪.‬‬
‫إن األمد والمحدّد الزماني الستخالف البشرية جمعاء في األرض هو‬
‫قيام الساعة‪ ،‬وينطبق عليه تحليلنا لدالالت األمد الزماني الخاص بالفرد أعاله‪،‬‬
‫فقد أخفى هللا تعالى لحظة قيام الساعة التي ال يجلّيها لوقتها إال هو‪ ،‬وال تأتينا‬
‫ﭧ‬ ‫ﭦ‬ ‫إال بغتة‪ ،‬وما أمرها إال كلمح البصر‪ ،‬أو هو أقرب(ﭣ ﭤ ﭥ‬

‫‪9‬‬
‫ﭪ ﭫ ﭬﭭ)(طه)‪ .‬ولكن لما قال هللا تعالى إنها اقتربت‪،‬‬ ‫ﭨ ﭩ‬
‫وأكدت السنة النبوية ذلك‪ ،‬صار من الممكن المقاربة النسبية لمقدار اقترابها‬
‫حسابا‪ ،‬إما من خالل التقديرات النسبية لما مضى ولما تبقى من عمر الكون‬
‫التي تأتي من علم الفيزياء الفلكية‪ ،‬وقد أذن هللا تعالى بالنظر العلمي في خلق‬
‫السموات واألرض‪ ،‬وإما بالجمع بين الدالالت الحسابية للحديث النبوي‬
‫الصحيح بهذا الخصوص‪ ،‬والتقديرات الزمانية لما مضى من عمر الكون‬
‫بحسب علم الفيزياء الفلكية‪ .‬وقد تبين أن األمد الزماني القتراب الساعة يبدأ‬
‫باللحظة‪ ،‬أو اليوم الواحد‪ ،‬ويمتد إلى مليارات السنين كما يتضح لنا من الجدول‬
‫أدناه‪ ،‬وهو المحدد الزماني لما بقي من استخالف البشرية في األرض‪ .‬إذن‪،‬‬
‫كما في شأن األمد الزماني الخاص بعمر الفرد في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬فإن‬
‫الساعة قد تأتي البشرية غدا‪ ،‬أو بعد غد‪ ،‬فذلك على هللا تعالى يسير‪ ،‬ولكنها قد‬
‫تأتي بعد مليارات السنين‪ ،‬تماما كما قد يموت الفرد غدا‪ ،‬أو بعد غد‪ ،‬ولكنه‬
‫أيضا قد يموت بعد مائة عام‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬كما في حال التوقعات الفردية‪ ،‬لو أن كل المجتمعات البشرية تبني‬
‫تقديراتها‪ ،‬فيما يتعلق بنهاية الكون وقيام الساعة‪ ،‬على أن ذلك قد يتم غدا‪ ،‬أو‬
‫بعد غد‪ ،‬لما أثاروا األرض وعمروها‪ ،‬ولما أقاموا على ظهرها حضارة‪ ،‬ولما‬
‫انطلق اإلنسان يجوب الكون بسفنه ومسابيره الفضائية‪ ،‬والنتفت حكمة هللا‬
‫تعالى الثاوية في "خطة الخلق العامة"‪ ،‬التي هي أساس االستخالف‪ .‬لكن‬
‫غالب المجتمعات البشرية تقيم رؤيتها للعالم إما على أن هذا الكون خالد ال‬
‫يزول‪ ،‬وإما أنه سوف يزول ولكن بعد أمد بعيد‪ ،‬وكلتا الرؤيتين الزمانيتين‬
‫تسمح بالعمارة والحضارة التي تتراكم وتتوارث جيال بعد جيل‪ .‬أما تلك‬
‫المجتمعات التي تدير أمرها على أن األمد الزماني لعمر الكون ال يعنيها‪ ،‬أو‬
‫تلك التي ترى أن نهاية الكون باتت وشيكة‪ ،‬وأن األمر أعجل من أن ننظر ماذا‬
‫في السموات واألرض‪ ،‬أو أن نتفكر في خلقها‪ ،‬فهي مجتمعات سوف تظل على‬
‫الدوام هامشية‪ ،‬وخارج التاريخ والفعل الحضاري‪ ،‬وسوف تبقى أبدا مجتمعات‬
‫مفعول بها ال فاعلة‪ .‬إن الوعي باألمد الزماني والمدى المكاني النسبي الذي‬
‫يتحرك فيه اإلنسان‪ ،‬وتتمدد فيه حياته‪ ،‬سواء في ذلك األفراد والمجتمعات‪ ،‬أمر‬
‫مصيري فيما يتعلق بالتصور والتخطيط ثم التنفيذ لما يمكن فعله في هذه الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬في إطار المحددات الزمانية والمكانية‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إن المنهج الذي سوف نتبعه في إثبات دعوانا المكانية والزمانية‬
‫الستخالف اإلنسان األرضي‪ ،‬مما سبق ذكره في هذه المقدمة‪ ،‬هو ما شاء هللا‬
‫تعالى أن نحيط به من علمه تدبرا في القرآن الكريم بحثا عن رؤية قرآنية كلية‬
‫للعالم الطبيعي تك ّمل الرؤية القرآنية الكلية لعالم االجتماع اإلنساني‪ ،‬التي بسطنا‬
‫أهم مكوناتها المعرفية في "خطة الخلق العامة"‪ ،2‬وتكون مدخال معرفيا لألمة‬
‫اإلسالمية إلى الكون الطبيعي تستطيع من خالله أن ترتاد الفضاء على بصيرة‪.‬‬
‫سر من القرآن الكريم توسلنا إليه بأسئلة وجودية أجبنا عنها بفرضيات‬ ‫والذي تي ّ‬
‫علمية تستند في علميتها إلى آيات بينات من القرآن الكريم‪ ،‬وإلى إمكان التحقق‬
‫منها تجريبيا‪ .‬إن منهجي الذي اتبعته في هذا البحث يرتكز على اإلتيان‬
‫بالمقدمات من القرآن الكريم ثم توظيف االستنباط العقلي للوصول إلى النتائج‪.‬‬
‫وأرى أن هذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع القرآن الكريم كمصدر للعلم‬
‫الكوني التجريبي‪ ،‬بشقيه الطبيعي واالجتماعي‪ ،‬سواء ألغراض اإليمان أو‬
‫العمران‪ ،‬حيث نؤسس على رؤية القرآن للعالم نظرياتنا وفرضياتنا العلمية‪،‬‬
‫سواء استلهمناها من القرآن الكريم مباشرة‪ ،‬أو من الكون بضوابط منهجية من‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ثم نتحقق من صحتها وجوديا باستخدام المناهج التجريبية‬
‫المناسبة‪ .‬فإذا استيقنّا من صحة الفرضية كنا "كأم موسى ترضع طفلها وتأخذ‬
‫أجرها" من حيث تثويرنا للطاقات العلمية التي يذخر بها القرآن الكريم‪ ،‬ومن‬
‫حيث حصادنا عائدا معرفيا في الوجود‪ .‬وإن لم نبلغ اليقين في اإلثبات حافظنا‬
‫على نظريتنا وثابرنا في تحسينها بنائيا وتمحيصها تجريبيا‪ ،‬أما إن استيقنا من‬
‫دحضها لم يقدح ذلك في صحة الوحي‪ ،‬بل في صحة فهمنا له‪ ،‬أو صحة‬
‫مناهجنا في بناء النظريات واستخالص الفرضيات منه‪ ،‬أو في صحة مناهجنا‬
‫التجريبية‪ ،‬أو في كل‪ ،‬أو بعض من ذلك‪ .‬إن القرآن الكريم‪ ،‬بوصفه علم من هللا‬
‫تعالى خالق الكون‪ ،‬هو وحده العاصم للعلم البشري من الزلل المنهجي‬
‫واالنزالق نحو النسبية المعرفية التي انتهت إليها التجربة العلمية الغربية بعد‬
‫أن تم تحريف ما سبق من كتب سماوية‪ .‬إن العقل واللغة البشرية اللذين‬

‫‪ -2‬أنظر أبحاث المؤلف المتعلقة برؤية القرآن لعالم االجتماع اإلنساني‪ ،‬في موقع‪.biraima.net :‬‬

‫‪11‬‬
‫يوظفهما اإلنسان لدراسة الوجود والتعبير عن حقائقه ال تكفيان وحدهما لتمكين‬
‫اإلنسان من أساس يقيني من التصورات الوجودية يبني عليه معرفة موثوقة‬
‫ليؤسس عليها حياة يطمئن بها‪.‬‬
‫إن ما أقدمه في هذا البحث يمكن أن يندرج في إطار اإلصالح العلمي‬
‫الذي ندعو إليه‪ ،‬وهو إصالح يبدأ من القرآن الكريم كمصدر للعلم وفلسفته‬
‫ويتصوب نحو دراسة الكون‪ ،‬الطبيعي واالجتماعي‪ ،‬كدليل إيمان باهلل الواحد‪،‬‬
‫ثم باعتباره مجاال مسخرا ليبلو هللا تعالى الناس فيه أيهم أحسن عمال‪ .‬والعالقة‬
‫بين الوحي وبين الكون كمصدرين للعلم اإلنساني عالقة تفاعلية يثري العلم‬
‫المتحصل من كل منهما فهم اإلنسان لكليهما‪ .‬هذا اإلصالح العلمي يعبّر‪،‬‬
‫كفلسفة للعلم‪ ،‬عن مرحلة االنتقال من رؤية العالم الدنيوية الغربية ونظامها‬
‫المعرفي الوضعي المهيمنان على األمة اإلسالمية اليوم إلى رؤية العالم‬
‫التوحيدية ونظامها المعرفي التوحيدي اللذان ينبغي أن يشادا على أنقاض ما‬
‫هو قائم اليوم في بالد المسلمين‪.‬‬

‫‪ -2‬رؤية القرآن للعالم(خطة الخلق العامة)‬


‫المبدأ الكلي الذي ترتكز عليه رؤية القرآن للعالم(خطة الخلق العامة) هو‬
‫صمد(‪ )2‬لم يلد ولم يولد(‪ )3‬ولم يكن لُه‬
‫مبدأ التوحيد‪( :‬قل هو هللا أحد(‪ )1‬هللا ال ُ‬
‫كفوا ً أحد(‪())4‬اإلخالص)‪ .‬فاهلل تعالى ليس كمثله شيء‪ ،‬غني بذاته مفتقر إليه‬
‫جميع خلقه‪ ،‬وهو خالق كل شيء‪ ،‬خالق السماوات واألرض وما بينهما بالحق‬
‫وأجل مسمى؛ وهو الذي تسبح له السماوات السبع واألرض ومن فيهن؛ وإن‬
‫من شيء إال يسبح بحمده‪ .‬وهو الذي أخبر أن السماوات واألرض كانتا رتقا‬
‫ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي؛ وهو الذي قال يوم نطوي السماء‬
‫كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده‪ .‬وهو الذي أنشأ اإلنسان من‬
‫األرض واستعمره فيها‪ ،‬وفيها يعيده ومنها يخرجه تارة أخرى؛ وهو الذي‬
‫أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط؛ وهو‬
‫الذي أخبر الناس في كتبه التي جاء بها رسله أن كل نفس ذائقة الموت وإنما‬
‫توفون أجوركم يوم القيامة‪ ،‬فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز‪ .‬وقد‬
‫بين هللا تعالى حقيقة الحياة الدنيا‪ ،‬ومآالت أمور الناس فيها وفي اآلخرة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫هو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال‬ ‫ب ول ٌ‬ ‫(أعلموا أنّما الحياة الدُّنيا لع ٌ‬
‫ث أعجب الكفُار نباته ث ُّم يهيج فتراه مصفرا ً ث ُم يكون حطاما ً‬ ‫واألوالد كمثل غي ٍ‬
‫اب شديدٌ ومغفرة ٌ من هللا ورضوان وما الحياة الدُّنيا إالُ متاع‬ ‫وفي األخرة عذ ٌ‬
‫الغرور)(‪())20‬الحديد)‪.‬‬
‫هذه المآالت النهائية لالجتماع اإلنساني يمكن تفصيلها في رؤية لعالم‬
‫االجتماع اإلنساني(خطة الخلق العامة) نستخلصها من القرآن الكريم على‬
‫النحو اآلتي‪:‬‬
‫المبدأ الكلي الذي تنطلق منه الرؤية القرآنية للظاهرة االجتماعية‪ ،‬المعّبرة عن‬
‫حقيقة الحياة البشرية على األرض‪ ،‬هو أن هللا تعالى إنما خلق اإلنسان لعبادته‪:‬‬
‫(وما خلقت الج ُن واألنس إالُ ليعبدون)(الذاريات‪ .)56:‬وعبادة هللا تعالى تعني‬
‫ﳡ‬ ‫العلم به(ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ‬

‫)(‪ ،)19‬ثم القيام بأمره ونهيه في‬ ‫ﳢﳤﳥﳦﳧﳨ‬


‫ﳣ‬
‫ﲀ ﲂ‬
‫ﲁ‬ ‫أرضه بمقتضى شرعه(ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ‬

‫)(هود)؛ (ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ‬ ‫ﲃﲄﲅﲆ‬

‫ﲺﲼﲽ‬
‫ﲻ‬ ‫ﲰﲱﲲﲳﲴﲵ ﲶﲷﲸﲹ‬

‫ﳅﳇﳈﳉﳊﳋ‬
‫ﳆ‬ ‫ﲾﲿﳀﳁﳂﳃ ﳄ‬

‫ﳏﳑﳒﳓﳔﳕﳖﳗﳘ‬
‫ﳐ‬ ‫ﳌﳍ ﳎ‬
‫)(المائدة)‪ .‬وفي هذا اإلطار فإننا نجمل األصول النظرية المنبثقة من هذا المبدأ‬
‫التوحيدي الكلي في اآلتي‪:‬‬
‫أوالً؛ إن عبادة هللا تعالى مسرحها الذي تدور فيه هو األرض‪( :‬وقلنا اهبطوا‬
‫قر ومتاعٌ إلى‬ ‫ض عد ٌّو ولكم في األرض مست ٌّ‬ ‫بعضكم لبع ٍ‬
‫ين)(البقرة‪)36:‬؛ (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها‬ ‫ح ٍ‬
‫تخرجون)(األعراف‪)25:‬؛‬
‫ثانياً؛ إن هذه العبادة تتم في إطار تكريم اإلنسان وتفضيله ومن ثم استخالفه‬
‫في األرض‪( :‬ولقد ك ُرمنا بني آدم وحملناهم في الب ّر والبحر ورزقناهم‬

‫‪13‬‬
‫ير م ُمن خلقنا تفضيالً)(اإلسراء‪)70:‬؛‬ ‫الطيّبات وفضُلناهم على كث ٍ‬ ‫من ُ‬
‫(وإذ قال ربُّك للمالئكة إنّي جاع ٌل في األرض خليفةً)(البقرة‪.)30:‬‬
‫الخليفة وسط بين طرفين‪ ،‬فال هو مالك أصيل مطلق التصرف والحرية‬
‫فيما استخلف فيه‪ ،‬وال هو مقهور مجبور ال حول له وال قوة‪ ،‬وال إرادة‪.‬‬
‫فعقد الخالفة يقتضي أن يقوم المستخلف"اإلنسان" بسياسة ما استخلف‬
‫فيه"األرض" وفق ما يحب ويرضى المستخلف"هللا تعالى"‪ .‬والناس في‬
‫مهمة االستخالف سواء‪ ،‬فخالقهم واحد‪ ،‬وأصلهم واحد‪ ،‬وإنما يتفاضلون‬
‫بمقدار قيام كل منهم بحق االستخالف فيما استخلف فيه‪( :‬يأيُّها النُاس إنُا‬
‫خلقناكم من ذك ٍر وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا إ ُن أكرمكم عند‬
‫ير)(‪()13‬الحجرات)؛ (يأيها النُّاس اتقوا ربُكم‬ ‫هللا أتقاكم إن هللا علي ٌم خب ٌ‬
‫ث منهما رجاالً كثيرا ً‬ ‫فس واحدةٍ وخلق منها زوجها وب ُ‬ ‫الُذي خلقكم من نُ ٍ‬
‫سآءلون به واألرحام إ ُن هللا كان عليكم‬ ‫ونسا ًء واتقوا هللا الّذي ت ً‬
‫رقيباً)(‪))1‬النساء)؛‬
‫ثالثاً؛ إن عقد االستخالف الذي تتم في إطاره العبادة يقوم على عمارة‬
‫األرض‪( :‬هو أنشأكم من األرض واستعمركم فيها)(هود‪)61:‬؛‬
‫رابعاً؛ إن هذه الخالفة تقوم على مبدأ االمتحان واالبتالء والمحاسبة على‬
‫العمل‪( :‬الُذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عمالً)(الملك‪)2:‬؛‬
‫سماوات واألرض في ستُة أّي ٍُام وكان عرشه على‬ ‫(وهو الُذي خلق ال ُ‬
‫الماء ليبلوكم أيكم أحسن عمالً (‪())7‬هود)‪ .‬فاإلنسان يمكنه أن يعمر‬
‫األرض وفق منهج هللا فيعمل فيها صالحاً‪ ،‬أو وفق هوى نفسه فيفسد‬
‫فيها؛‬
‫خامساً؛ إن مجال االبتالء والفتنة يتمحور فيما أودع هللا سبحانه وتعالى في‬
‫األرض من زينة‪( :‬إنُا جعلنا ما على األرض زينةً لها لنبلوهم أيُّهم‬
‫أحسن عمالً)(الكهف‪)7:‬؛‬
‫سادساً؛ إن ما على األرض من زينة إنما يقوم على أصلين جامعين هما‪:‬‬
‫"المال"(موارد معدنية‪ ،‬وزراعية‪ ،‬وحيوانية‪ ،‬تتحول في مجموعها إلى‬
‫نقود وسلع بسبب القيمة المضافة بفعل اإلنسان)؛ و"البنون"(عالقة‬
‫جنس بين رجل وامرأة تثمر أبناء‪ ،‬تؤدي إلى قيام أسرة ثم أسرة‬
‫ممتدة…إلى شعوب وقبائل)‪( :‬المال والبنون زينة الحياة‬
‫الدُّنيا)(الكهف‪)46:‬؛‬

‫‪14‬‬
‫سابعاً؛ إن االبتالء في "المال" و"البنين" إنما صار ممكنا ً بسبب تزيين ما‬
‫شهوات‬ ‫أودع هللا فيهما من شهوات للنفس البشرية‪( :‬زيّن للنُاس حبُّ ال ُ‬
‫ساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذُهب والفضُة والخيل‬ ‫من النّ ً‬
‫المس ُومة واألنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدُّنيا)(آل عمران‪)14 :‬؛‬
‫ثامناً؛ إن نتيجة هذا االمتحان في نعمتي المال والبنين‪ ،‬وما يترتب على‬
‫تفاعلهما مع النفس البشرية من نعم تفصيلية أخرى ترجع إليهما‪ ،‬إما أن‬
‫تكون شكرا ً أو كفرا ً على نعمة هللا‪ ،‬والشكر هو المطلوب من عمل‬
‫اإلنسان‪ .‬والشكر على النعمة هو جوهر عبادة اإلنسان هلل تعالى في‬
‫األرض‪ ،‬وهو ثمرة العمل الصالح في زينة الحياة الدنيا‪( :‬إنُا هديناه‬
‫ي‬ ‫سبيل إما ُ شاكرا ً وإ ُما كفوراً)(اإلنسان‪)3:‬؛ (إن تكفروا فإ ُن هللا غن ٌّ‬ ‫ال ُ‬
‫عنكم وال يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)(الزمر‪)7:‬؛‬
‫تاسعاً؛ إن اإلنسان إنما أصبح قادرا ً على االختيار بين الكفر والشكر بسبب ما‬
‫هيأه هللا تعالى به من قدرة على اكتساب العلم وتوظيفه في الكون‪ ،‬كفرا ً‬
‫أو شكراً‪ ،‬وبسبب ما أودع هللا تعالى في النفس البشرية من ملهمات‬
‫الفجور والتقوى‪( :‬وهللا أخرجكم من بطون أ ُمهاتكم ال تعلمون شيئا ً‬
‫سمع واألّبصار واألّفئدة لعلُكم تشكرون)(النحل‪)78:‬؛‬ ‫وجعل لكم ال ُ‬
‫(الُذي علُم بالقلم‪ ،‬علُم األنسان ما لم يعلم)(العلق‪)5:‬؛ (ونف ٍس وما س ُواها‬
‫(‪ )7‬فألهمها فجورها وتقواها (‪ )8‬قد أفلح من ز ُكاها (‪ )9‬وقد خاب من‬
‫ساها (‪())10‬الشمس‪ .)10-7:‬ثم منح هللا تعالى اإلنسان الحرية وإرادة‬ ‫د ُ‬
‫االختيار والمشيئة في الفعل بملهمات التقوى الموجبة(اإليمان‪ ،‬العلم‪،‬‬
‫الصبر‪ ،‬السخاء‪ ،‬العدل‪ ،‬اإلحسان‪ ،‬األمانة‪ ،‬الصدق‪...‬إلخ) في زينة‬
‫الحياة الدنيا فيكون شاكراً‪ ،‬أو بملهمات الفجور السالبة(الهلع‪ ،‬العجلة‪،‬‬
‫الضعف‪ ،‬الشح‪ ،‬البخل‪ ،‬الكبر‪ ،‬الحسد‪...‬إلخ) فيكون كافراً‪( :‬فمن شا ًء‬
‫فليؤمن ومن شا ًء فليكفر)(الكهف‪)29:‬؛‬
‫عاشراً؛ الشكر هلل تعالى على نعمائه يقتضي توفر ثالثة عناصر في اإلنسان‪،‬‬
‫هي‪ :‬علم وإيمان وعمل صالح‪ .‬أما العلم فهو علم بالمنعم(هللا تعالى)؛‬
‫علم بالمنعم عليه(اإلنسان)؛ وعلم بالنعمة(المال‪ ،‬البنون)‪ ،‬والحكمة من‬
‫خلقها‪ ،‬وكيف هي نعمة في حق المنعم عليه‪ .‬وأما اإليمان فهو إيمان‬
‫باهلل تعالى‪ ،‬أسماء وصفات‪ ،‬يترتب عليه حال نفسي من االطمئنان إلى‬
‫رحمة هللا وفضله‪ ،‬وإحساس بالمنة وتمني الخير لآلخرين‪ .‬وأما العمل‬

‫‪15‬‬
‫الصالح فهو ذلك الذي يؤدي إلى استغالل النعم فيما يرضي المنعم‪،‬‬
‫والطمع في المزيد من المنعم يحفزه قوله تعالى‪( :‬وإذ تأذُن ربُّكم لئن‬
‫شكرتم ألزيدنكم ولئن كفرتم إ ُن عذابي لشديد ٌ (‪())7‬إبراهيم)‪ .‬ولن يبلغ‬
‫العمل تمام الصالح حتى يتحقق له شرطان‪ :‬أن يكون خالصا ً هلل‪ ،‬وأن‬
‫يكون وفق ما شرع هللا‪.‬‬
‫المتتبع للمفاهيم المفتاحية الثالثة (النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون) في القرآن‬
‫الكريم يجد أنها وردت أحيانا ً معبرة عن جملة المعنى الذي يحتويه الحقل‬
‫الداللي للمفهوم‪ ،3‬وأحيانا ً ترد مفصلة هذا المعنى إلى عناصره األساسية‪ ،‬كما‬
‫في اآلتي‪:‬‬
‫ورد مفهوم "النفس" في القرآن الكريم بمعنى كل اإلنسان‪ ،‬في بعده‬
‫س ماذا تكسب غدا ً وما‬ ‫المادي الحيوي وبعده المعنوي الروحي‪( :‬وما تدري نف ٌ‬
‫ض تموت)(لقمان‪ .)34:‬ولكن مفهوم النفس ورد أيضا ً‬ ‫ي أر ٍ‬‫س بأ ّ‬
‫تدري نف ٌ‬
‫بمعنى ذلك العنصر غير المحسوس الثاوي في الجسد المحسوس كما في قوله‬
‫تعالى‪( :‬هللا يتوفُى األنفس حين موتها والُتي لم تمت في منامها فيمسك الُتي‬
‫قضى عليها الموت ويرسل األخرى إلى أج ٍل مس ّمى إ ُن في ذلك آليا ٍ‬
‫ت لقو ٍم‬
‫يتف ُكرون)(الزمر‪.)42:‬‬
‫ورد مفهوم "البنين" في القرآن الكريم ليعبر أحيانا ً عن مجمل عالقة‬
‫االبتالء الكامنة فيه‪( :‬المال والبنون زينة الحياة الدُّنيا)(الكهف‪ ،)46:‬وهي‬
‫عالقة (رجل‪ -‬امرأة– أبناء‪ -‬أحفاد)‪ .‬ولكنه ورد أيضا ً بمعنى األبناء‪ ،‬ذكورا‬
‫وإناثا‪ ،‬مقابل الزوجة‪( :‬وهللا جعل لكم من أنفسكم أزواجا ً وجعل لكم من‬
‫أزواجكم بنين وحفدةٍ)(النحل‪ .)72:‬وأخيرا ً يرد مفهوم البنين بمعنى الذكور من‬
‫األبناء مقابل البنات‪( :‬فاستفتهم ألربٌك البنات ولهم البنون)( الصافات‪.)149:‬‬

‫وعرف أولمان الحقل الداللي بأنُه "قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبّر عن مجال معين من الخبرة"‪ .‬ومفاده أن‬ ‫‪ّ ( -3‬‬
‫تصور أو رؤية أو موضوع أو فكرة‬ ‫ّ‬ ‫عن‬ ‫ّر‬ ‫ب‬‫تع‬ ‫التي‬ ‫اللغة‬ ‫مفردات‬ ‫من‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫مكو‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬‫ً‬ ‫ا‬ ‫مترابط‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫داللي‬ ‫ً‬ ‫ا‬ ‫قطاع‬ ‫يشمل‬ ‫الداللي‬ ‫الحقل‬
‫أن الحقل يتض ّمن‬ ‫"إن الحقل الداللي هو مجموعة جزئية لمفردات اللغة"‪ ،‬ومؤدّاه ُ‬ ‫معيّنة‪ .‬ويعرفه جون ليونز قائالً‪ُ :‬‬
‫أن الحقل الداللي هو‬ ‫مجموعة كثيرة أو قليلة من الكلمات‪ ،‬تتعلّق بموضوع خاص وتعبّر عنه‪ .‬ويرى جورج مونان ُ‬
‫"مجموعة من الوحدات المعجمية التي تشتمل على مفاهيم تندرج تحت مفهوم عام يحدّد الحقل"‪ ،‬أي إنّه مجموع‬
‫الكلمات التي تترابط فيما بينها من حيث التقارب الداللي‪ ،‬ويجمعها مفهوم عام تظ ّل متصلة ومقترنة به‪ ،‬وال تفهم إالُ‬
‫يتكون من مجموعة من المعاني أو الكلمات المتقاربة التي تتميّز بوجود عناصر أو مالمح‬ ‫في ضوئه‪ .‬والحقل الداللي ّ‬
‫ألن الكلمة ال معنى لها بمفردها‪ ،‬بل ُ‬
‫إن‬ ‫داللية مشتركة‪ ،‬وبذلك تكتسب الكلمة معناها في عالقاتها بالكلمات األخرى‪ُ ،‬‬
‫معناها يتحدّد ببحثها مع أقرب الكلمات إليها في إطار مجموعة واحدة‪().‬أصول تراثية في نظرية الحقول الداللية؛ الدكتور احمد‬
‫عزوز؛ منشورات إتحاد الكتاب العرب؛ دمشق‪2002 -‬م)‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫يرد كذلك مفهوم المال بذات الطريقة ولكن بتفاصيل أكثر لكثرة عناصره‬
‫المكونة له‪ ،‬وكثرة تمظهرات هذه العناصر‪ ،‬منفردة ومتفاعلة‪ ،‬فمثال يرد‬
‫المفهوم معبرا ً عن كل معاني حقله الداللي كما في قوله تعالى‪( :‬المال والبنون‬
‫زينة الحياة الدُّنيا‪())46( ...‬الكهف)‪ ،‬ثم يرد المفهوم مفصال إلى عناصره‬
‫شهوات من النساء والبنين والقناطير القنطرة من‬ ‫األولية‪( :‬زين للُناس حبُّ ال ُ‬
‫الذُهب والفضُة والخيل المس ُومة واألنعام والحرث ذلك متع الحياة الدُّنيا وهللا‬
‫عنده حسن المئاب (‪())14‬آل عمران)‪.‬‬
‫إذن المفاهيم القرآنية الثالثة (النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون) هي مفاهيم معرفية‬
‫جامعة‪ ،‬والعناصر الكونية المعادلة لها هي أصل الظاهرة االجتماعية من حيث‬
‫العلة الظاهرة‪ ،‬إذ ال تحتاج ألكثر منها علة وجود‪ ،‬وال تحتمل أدنى منها‪ ،‬كما‬
‫يستبين أدناه‪ .‬ولكن أين وجه اإلحكام في هذا االبتالء اإللهي للبشر على‬
‫األرض بحيث يضمن دخول جميع الناس فيه؟ إن وجه اإلحكام يكمن في‬
‫الثنائية التي خلق هللا بها اإلنسان‪ :‬ثنائية الجسد والنفس‪ ،‬وثنائية النفس من حيث‬
‫إلهامها فجورها وتقواها‪ ،‬فالثنائية األولى أدت إلى ثنائية في الدوافع بعضها‬
‫يختص به الجسد الطيني وهي الدوافع الحيوية‪ ،‬وبعضها تختص به النفس وهي‬
‫الدوافع النفسية‪ ،‬أو االجتماعية‪.‬‬
‫الدوافع الحيوية األساسية هي الجوع الناجم عن عدم األكل‪ ،‬والعطش‬
‫الناجم عن عدم الشرب‪ ،‬والعري الناجم عن عدم اللبس‪ ،‬واإلضحاء الناجم عن‬
‫عدم السكن‪ ،‬والعنت الجنسي الناجم عن عدم الوقاع‪ .‬هذه الدوافع الحيوية‬
‫المرتبط إشباعها بعنصري "المال" و"البنين" هي دوافع ضرورية والبد من‬
‫الوفاء بمقتضياتها لحفظ أصل حياة اإلنسان على األرض‪ ،‬وهي التي تضمن‬
‫دخول جميع الناس‪ ،‬في كل زمان ومكان‪ ،‬في فتنة المال والبنين‪ .‬لذلك كانت‬
‫"النفس" و"المال" و"البنون" من األصول الكليّة المطلوب حفظها في مقاصد‬
‫الشريعة االسالمية‪.‬‬
‫الدوافع النفسية مثل الطمع‪ ،‬الهلع‪ ،‬الشح‪ ،‬البخل‪ ،‬الكبر‪ ،‬العجلة‪،‬‬
‫الضعف‪ ،‬هي الدوافع الضرورية التي تضمن جريان االبتالء في كل الناس‪،‬‬
‫في كل زمان ومكان‪ .‬وهي اآلليات التي تضمن تدافع الناس لعمارة األرض‬
‫لتحصيل زينة الحياة الدنيا ونيل حظوظهم من شهواتها‪ .‬فإذا تفاعلت العناصر‬
‫الكونية الثالثة (النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون)‪ ،‬المقابلة للمفاهيم المعرفية القرآنية‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫بمقتضى الضرورات الحيوية ابتدا ًء‪ ،‬نجم عن هذا التفاعل بروز عنصرين‬
‫آخرين كانا موجودين من قبل بالقوة في هذه العناصر الثالثة‪ ،‬وهما‪:‬‬
‫‪" -1‬العلم بظاهر من الحياة الدنيا"‪ ،‬وكان موجودا ً من قبل بالقوة‪ ،‬من حيث‬
‫قابلية اإلنسان للتعلّم(السمع‪ ،‬البصر‪ ،‬الفؤاد)‪ ،‬ومن حيث إمكان العلم‬
‫الثاوي في الخلق بمقتضى الحق في عالم الشهادة‪.‬‬
‫‪" -2‬الهوى" الذي تتحرك دواعيه الفطرية في "النفس" بعد أن تذوق لذة‬
‫الشهوات التي أودعها هللا تعالى في "المال" و"البنين"‪ .‬و"جميع‬
‫إطالقات الهوى في االصطالح ترجع إلى ميل النفس إلى مشتهاها‪ ،‬إن‬
‫كانت الذات‪ ،‬أو الخالق‪ ،‬أو المحبوبة‪ ....‬الخ‪ ،‬فجميعها ميل إلى‬
‫المحبوب‪...‬وأكثر الروايات عن السلف أن هللا تعالى ما ذكر (هوى( في‬
‫القرآن إال ذ ّمه‪ ،‬كذلك هي جميع اآليات باستثناء آية واحدة‪ ،‬وهي قوله‬
‫تعالى‪( :‬ومن أض ُّل ممن اتُبع هواه بغير هدى من هللا)(القصص‪(50 :‬؛‬
‫فقد قيده بأنه هوى بغير هدى‪ ،‬فأشار إلى أنه يمكن للهوى أن يوافق‬
‫‪4‬‬
‫الهدى‪ ،‬وهللا تعالى أعلم"‪.‬‬
‫ويقول الدكتور حسن الترابي‪ " :‬الهوى هو جماع الميول الفطرية التي‬
‫تتجه باإلنسان إلى متاع الحياة الدنيا‪ ،‬فإذا طاوعه واتبع دواعيه أوقعه في أسر‬
‫اللذات األرضية المحسوسة حتى يصبح كل همه في أن يأكل ويتمتع كشأن‬
‫ّ‬
‫وينبت الحبل بينه وبين عالم الغيب‪ .‬وال‬ ‫البهائم‪ ،‬وحتى يذبل عنصره الروحي‪،‬‬
‫يزال الهوى بصاحبه حتى يبطل سر كرامته على سائر األشياء‪ ،‬ويعطل‬
‫تعلقاته العلوية من فرط شغله بالشهوة السفلية‪ ،‬بل حتى يغضي بصيرته جميعا‬
‫فال يرى إال ما تحت قدميه‪ ،‬وال يعنى إال بالقريب العاجل‪ ،‬ال ينظر في حياته‬
‫لمآالتها البعيدة‪ ،‬وال يقدم شيئا آلجلته‪ .‬وما دام عبدٌ الهوى أعماه في دنياه يأخذ‬
‫منها كيفما اتفق عاجال بعاجل‪ ،‬وال يخط لها تدبيرا‪ ،‬أو نهجا شامال‪ ،‬فأولى أن‬
‫‪5‬‬
‫يغفل جملة واحدة عن آخرته‪".‬أه‪.‬‬
‫لما كان "العلم بظاهر من الحياة الدنيا" يتولد عن التفاعل‪ ،‬بمقتضى‬
‫الدوافع الحيوية والنفسية‪ ،‬بين العناصر األولية الثالثة الحاكمة للظاهرة‬
‫االجتماعية(النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون) فإن دوره يظل وظيفيا بحتا حتى يأتي "علم‬
‫‪ -4‬الهــوى ‪ :‬دراسة موضوعية للمصطلح القرآني؛ محسن سميح الخالدي (دراسات‪ ،‬علوم الشريعة والقانون‪ ،‬المجلّد ‪37،‬العدد ‪.)2010‬‬
‫‪ -5‬اإليمان وأثره في حياة اإلنسان؛ حسن الترابي‪ .‬الدار العربية للعلوم ناشرون(بيروت؛ ط ‪3‬؛ ‪1430‬ه‪2009-‬م)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ليكونا معا "العلم‬
‫الوحي" من السماء فيتوحدا‪ ،‬بمقتضى المنهجية التوحيدية‪ّ ،‬‬
‫التوحيدي"‪ ،‬الذي يكون له دوره العقدي كدليل إيمان باهلل الواحد‪ ،‬بجانب دوره‬
‫الوظيفي في صالح حياة الناس ومعاشهم‪ ،‬أي ذلك العلم الذي يحقق اإليمان في‬
‫القلب‪ ،‬والعمل الصالح في األرض‪ ،‬أي في زينة الحياة الدنيا‪.‬‬
‫"النفس" إما أن تتفاعل مع "المال" و"البنين" بمقتضى "العلم‬
‫التوحيدي" وملهمات التقوى فيتحقق "الشكر" هلل تعالى على نعمه‪ ،‬وإما أن يتم‬
‫التفاعل بمقتضى "الهوى" وملهمات الفجور فيتحقق بذلك الكفر بالنعمة‪.‬‬
‫ومجمل هذا التفاعل هو المسؤول عن نشأة المجتمعات اإلنسانية‪ ،‬وبروز جميع‬
‫الظواهر االجتماعية الناجمة عن التدافع البشري‪ ،‬في أي زمان ومكان‪.‬‬
‫لقد اقتضت حكمة هللا تعالى خلق أول زوجين من ذكر وأنثى وهبوطهما‬
‫شي الرجل المرأة‪ ،‬وما نجم‬ ‫إلى األرض‪ ،‬وضرورة العنت الجنسي أدت إلى تغ ّ‬
‫عن هذه العالقة من أبناء اقتضى تأسيس أسرة‪ .‬ثم عزز قيام األسرة ضرورات‬
‫المأكل والمشرب والملبس والمسكن‪ ،‬وما تقتضيه من تقسيم العمل وتوزيع‬
‫األدوار بين أفراد األسرة‪ .‬ومن البديهي أن نتصور كيف أن الضرورات‬
‫الحيوية هذه أدت محاولة إشباعها إلى أن تتسع دائرة األسرة لتصبح أسرة‬
‫ممتدة‪ ،‬ثم رهطا ً وقبيلة‪ ،‬حتى إذا ضاقت رقعتهم الجغرافية على تدافعهم‬
‫وأطماعهم انبثوا في فجاج األرض رجاالً ونسا ًء‪ ،‬فكانت الشعوب واألمم‬
‫والمجتمعات الحضرية والبدوية‪ ،‬وكان العمران‪.‬‬
‫إذن الوفاء بحق الضرورات الحيوية يضمن لنا قيام المجتمع‪ ،‬وتفاعل‬
‫"النفس" بمقتضى "العلم التوحيدي" أو" الهوى" مع "المال" و"البنين" يضمن‬
‫لنا قيام االبتالء‪ .‬فالنفس التي ألهمت فجورها وتقواها وزيّن لها حب الشهوات‬
‫الدنيوية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل‬
‫المسومة واألنعام والحرث‪ ،‬سرعان ما تذوق لذة تلك الشهوات التي بدورها‬
‫تثير في النفس آليات االبتالء‪ ،‬ونعني بها دوافع الفجور والتقوى‪ .‬ونر ّجح أن‬
‫أول ما يثور من تلك الدوافع هو "الطمع"‪ ،‬حيث يطمع كل شخص في‬
‫الحصول على المزيد من زينة الحياة الدنيا‪ ،‬ومن ثم يصبح اإلقبال عليها‬
‫إلشباع الشهوة ال للضرورة والحاجة البدنية‪ .‬ولما كانت أطماع الناس أكثر مما‬
‫هو مطموع فيه‪ ،‬في أي وقت ومكان‪ ،‬سرعان ما تبدأ الدوافع السالبة األخرى‬
‫تثور في النفس بسبب التدافع بين الناس لحيازة زينة الحياة الدنيا‪ ،‬واالستئثار‬
‫بأكبر نصيب منها‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫هكذا يبدأ التنازع والتصارع بين الناس بسبب التهافت على زينة الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬فاحتاجوا إلى نظام اجتماعي يقوم بمقتضاه حاكم يسوس أمرهم‪ ،‬وينظم‬
‫عالقاتهم‪ ،‬ويفض نزاعاتهم‪ ،‬ويجلب لهم مصالحهم‪ ،‬ويدرأ عنهم المفاسد التي‬
‫تأتي من عند أنفسهم ومن عند غيرهم‪ .‬واحتاج الحاكم إلى حكومة وشريعة‬
‫ونظم ومؤسسات سياسية تعينه على أداء مسئولياته‪ .‬واحتاج المجتمع إلى‬
‫أعراف وتقاليد وعادات ومؤسسات اجتماعية واقتصادية تحفظ له تماسكه‬
‫وتضمن له استمراريته‪ .‬وهكذا يمكننا أن نتابع تطور المجتمعات وتعددها‬
‫وتنوع مظاهر الحياة فيها‪ ،‬وما يبدعه اإلنسان من علم وتقنية يس ّخر بها زينة‬
‫الحياة الدنيا إلشباع شهواته من متاعها‪ ،‬وتعظيم حظوظه منها‪ .‬إذن فإن أي‬
‫ظاهرة من الظواهر اإلنسانية جاءت مترتبة على نشوء المجتمعات وتطورها‬
‫من خالل تدافع أفرادها فإن مردها األخير تفسيرا‪ ،‬من حيث العلة الظاهرة‪ ،‬إلى‬
‫العناصر األولية للظاهرة االجتماعية (النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون)‪ ،‬وطبيعة التفاعل‬
‫بينها كما أجملناه سابقاً‪.‬‬
‫إن حقيقة االمتحان واالبتالء الذي هو قدر اإلنسان في هذه األرض‬
‫تتمثل في شكل أحكام شرعية جاءت بها الرسل من عند هللا تعالى‪ ،‬طبيعتها‬
‫"أفعل" و"ال تفعل"‪ ،‬وذات عالقة مباشرة وغير مباشرة باستخدام الناس لزينة‬
‫الحياة الدنيا‪ .‬ورغم أن حقيقة هذه التكاليف الشرعية تقوم على جلب المصالح‬
‫ودرء المفاسد عن الناس في الدنيا واآلخرة إال أنها تتعارض في الغالب مع‬
‫هوى النفس في تفاعلها مع زينة الحياة الدنيا‪ .‬إن التزام اإلنسان بتلك األوامر‬
‫والنواهي الربانية هو أساس العمل الصالح المثمر للشكر على النعمة الذي‬
‫جعله هللا تعالى ثمنا ً لالنتفاع بها‪( :‬وإذ تأذُن ربُّكم لئن شكرتم ألزيدنُكم ولئن‬
‫كفرتم إ ُن عذابي لشديدٌ (‪())7‬إبراهيم)؛ ( ُما يفعل هللا بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‬
‫وكان هللا شاكرا ً عليما ً (‪())147‬النساء)‪ .‬ولكن ملهمات الفجور السالبة التي‬
‫جعلها هللا تعالى خصائص فطرية في النفس البشرية(الهلع‪ ،‬الضعف‪ ،‬العجلة‪،‬‬
‫الكبر‪ ،‬الشح‪ ،‬البخل‪ ،‬الحسد‪...‬إلخ) هي التي تجعل من طاعة هللا فيما يأمر‬
‫وينهى أمرا ً عسيرا ً على اإلنسان تكرهه النفس‪ ،‬فتتمرد وتأبى زاعمة إن هي‬
‫إال حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إال الدهر‪ ،‬أو كما استنكر قوم نبي هللا‬
‫شعيب‪( :‬قالوا يا شعيب أصالتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في‬
‫الرشيد)(هود‪.)87:‬‬ ‫أموالنا ما نشاء إنُك ألُنت الحليم ُ‬

‫‪20‬‬
‫ويستخدم القرآن الكريم مفهومي "الحياة الدنيا" و"الدار اآلخرة"‬
‫لتلخيص مداخل البشر إلى االبتالء الذي جعله هللا حكمة لخلقهم‪ ،‬وجعل أصله‬
‫ومجاله زينة الحياة الدنيا‪( :‬بل تؤثرون الحياة الدُّنيا * واآلخرة خي ٌر‬
‫ب وله ٌو وللدُار اآلخرة خي ٌر‬ ‫وأبقى)(األعلى‪)17-16 :‬؛ (وما الحياة الدُّنيا إالُ لع ٌ‬
‫للُذين يتُقون أفال تعقلون)(األنعام‪)32 :‬؛ (من كان يريد حرث اآلخرة نزد له في‬
‫ب)(الشورى‪:‬‬ ‫حرثه ومن كان يريد الدُّنيا نؤته منها وما له في اآلخرة من نصي ٍ‬
‫‪.)20‬‬
‫إن مجال االمتحان واحد‪ ،‬وإن مادته واحدة‪" :‬زينة الحياة الدنيا"؛ ولكن‬
‫من قال‪( :‬إن هي إالُ حياتنا الدُّنيا نموت ونحيا وما نحن‬
‫قطنا قبل يوم‬ ‫ُ‬ ‫بمبعوثين)(المؤمنون‪ ،)37:‬أو قال‪( :‬ربُنا ع ّجل لنا‬
‫)(ص‪ ،)16:‬فقد بنى حياته على مقصد دنيوي أساس‪ ،‬أال وهو "تعظيم‬ ‫ّ‬ ‫ساب‬ ‫الح ً‬
‫ب وله ٌو وزينةٌ وتفاخ ٌر بينكم‬ ‫متاع الحياة الدنيا"‪( :‬اعلموا أنُما الحياة الدُّنيا لع ٌ‬
‫ث أعجب الكفُار نباته ث ُم يهيج فتراه‬ ‫وتكاث ٌر في األموال واألوالد كمثل غي ٍ‬
‫ان وما‬‫اب شديدٌ ومغفرة ٌ من هللا ورضو ٌ‬ ‫مصف ّرا ً ث ُم يكون حطاما ً وفي اآلخرة عذ ٌ‬
‫الحياة الدُّنيا إالُ متاع الغرور)(الحديد‪.)20:‬‬
‫أما من قال‪( :‬ربُنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي اآلخرةٍ حسنةً وقنا عّذاب‬
‫ع وإ ُن اآلخرة هي‬ ‫النُار)(البقرة‪)201:‬؛ أو قال‪( :‬يا قوم إنُما ّهذه الحياة الدُّنيا متا ٌ‬
‫دار القرار)(غافر‪ ،)39:‬فقد بنى حياته على مقصد توحيدي أساس‪ ،‬أال وهو‬
‫"تعظيم اإليمان" من خالل "تعظيم العمل الصالح" في زينة الحياة الدنيا‪،‬‬
‫باعتبارها مزرعة اآلخرة‪ ،‬طمعا ً في "تعظيم متاع الدار اآلخرة"‪( :‬سابقوا إلى‬
‫سماء واألرض أعدُت للُذين آمنوا‬ ‫مغفرةٍ من ربّكم وجنُ ٍة عرضها كعرض ال ُ‬
‫باهلل ورسله)(الحديد‪)21:‬؛ (وما أوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدُّنيا وزينتها وما‬
‫سنا ً فهو القيه كمن‬ ‫عند هللا خي ٌر وأبقى أفال تعقلون * أفمن وعدناه وعدا ً ح ً‬
‫متُعناه متاع الحياة الدُّنيا ث ُم هو يوم القيام ٍة من المحضرين)(القصص‪-60 :‬‬
‫‪.)61‬‬
‫لقد أرسل هللا تعالى رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم‬
‫الناس بالقسط في تدافعهم وتحصيلهم لحظوظهم من زينة الحياة الدنيا‪ ،‬وتبيانا ً‬
‫ي عن بينة‪ ،‬ويهلك من هلك عن بينة‪ .‬وما كان‬ ‫لكل شيء حتى يحيى من ح ّ‬
‫الرسول الخاتم‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬بدعا من الرسل‪ ،‬فقد جاءت شريعته في‬
‫مقاصدها الكلية داعية إلى أن يكون حفظ "اإليمان" باهلل تعالى المقصد الكلي‬

‫‪21‬‬
‫للمسلم الذي تتحدد بمقتضاه المقاصد األخرى المحققة له‪ ،‬المتمثلة في حفظ‬
‫أصول الظاهرة االجتماعية التوحيدية(النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون‪ ،‬العلم التوحيدي)‪.‬‬
‫ونقصد بالظاهرة االجتماعية التوحيدية مجتمع التوحيد الذي يدخل بجميع‬
‫تمظهراته في السلم‪ ،‬وهو كليّة "الدين" المقصود حفظها في مقاصد الشريعة‬
‫اإلسالمية‪ .‬وهكذا جاءت أمهات الكتاب مؤكدة حفظ "اإليمان" والعمل الصالح‪:‬‬
‫صالحات‬ ‫(والعصر* إ ُن األنسان لفي خس ٍر * إالُ الُذين آمنوا وعملوا ال ُ‬
‫صبر)(العصر)؛ وحفظ مدخالت اإليمان من‬ ‫وتواصوا بالح ّق وتواصوا بال ُ‬
‫س الُتي ح ُرم هللا إالُ بالح ّق)(اإلسراء‪)33:‬؛ و"البنين"‪:‬‬ ‫"النفس"‪( :‬وال تقتلوا النُف ً‬
‫ق نحن نرزقهم وإيُاكم إ ُن قتلهم كان خطئا ً كبيرا ً‬ ‫(وال تقتلوا أّوالدكم خشية إمال ٍ‬
‫سبيالً)(األسراء‪)32-31 ،‬؛‬ ‫الزنى إنّه كان فاحشةً وساء ً‬ ‫* وال تقربوا ّ‬
‫و"المال"‪( :‬وال تأكلوا أموالك بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الح ُكام لتأكلوا فريقا ً‬
‫من أموال النُاس باإلثم وأنتم تعلمون)(‪()188‬البقرة)؛ و"العلم"‪( :‬وال تقف ما‬
‫سمع والبصر والفؤاد ك ُّل أولئك كان عنه‬ ‫ليس لك به علم إ ُن ال ُ‬
‫مسئوالً)(اإلسراء‪.)36:‬‬
‫إن العالقة بين "اإليمان" من جهة وبين "النفس"‪" ،‬العلم"‪" ،‬المال"‬
‫و"البنون" من جهة أخرى هي عالقة بين ناتج ومدخالته الضرورية‪ ،‬حيث‬
‫تتفاعل هذه األخيرة لينتج عن هذا التفاعل "التوحيد" بوجهيه‪ ،‬العقدي(اإليمان)‬
‫والعملي(الشكر)‪ .‬وال يمكن حفظ "اإليمان" إال بحفظ هذه المدخالت‬
‫الضرورية‪ ،‬كما ال يمكن حفظ مجتمع التوحيد(الدين) على الدوام إال بحفظ‬
‫اإليمان ومدخالته‪ ،‬وحفظ ميزان التفاعل بينها على الدوام‪ ،‬وهو معنى قوله‬
‫سبل فتف ُرق بكم عن‬ ‫تعالى‪( :‬وأ ُن هذا صراطي مستقيما ً فاتبعوه وال تتُبعوا ال ُّ‬
‫صآكم به لعلُكم تتُقون)(األنعام‪ .)153:‬لذلك يمكننا أن نفهم لماذا‬ ‫سبيله ذلكم و ُ‬
‫أصبحت المصالح التي تتأتى من هذه األصول هي أصول المصالح الشرعية‪،‬‬
‫وأن حفظ هذه األصول الكلية هو األصل الذي تتأسس عليه مقاصد الشريعة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬
‫ولن يتأتى فهم المعنى الجامع للحفظ لهذه الكليات إال من خالل تحليل‬
‫التفاعل الكلي بين المتغيرات الكونية التي هي أصول الظاهرة االجتماعية‬
‫بمقتضى "العلم التوحيدي"‪ ،‬أو "الهوى"‪ .‬وإذا كانت المقاصد الكلية للشريعة‬
‫منزلة على األصول الكونية الكلية للظاهرة االجتماعية فإن‬ ‫اإلسالمية جاءت ّ‬
‫وسائل تحقيق تلك المقاصد من أحكام شرعية(عبادات‪ ،‬عادات‪ ،‬معامالت‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫جنايات) جاءت متوافقة مع التفاعل الكلي لمتغيرات (النفس‪ ،‬المال‪ ،‬البنون)‬
‫بمقتضى "العلم التوحيدي" وما يتعلق به من ملهمات التقوى‪ ،‬أو بمقتضى‬
‫"الهوى" وما يتعلق به من ملهمات الفجور‪ .‬فكانت العبادات (صالة‪ ،‬زكاة‪،‬‬
‫صوم‪ ،‬حج) آليات لتزكية النفس من "الهوى" الذي تتعلق به ملهمات الفجور‪،‬‬
‫وتمكينا ً "للعلم التوحيدي" الذي تتعلق به ملهمات التقوى‪ .‬وكانت العادات تبيانا ً‬
‫لما هو أحسن في عالقة النفس بالمال والبنين من عادات المأكل والمشرب‬
‫والملبس والمسكن والمنكح‪..‬إلخ‪ .‬وكانت المعامالت تبيانا ً لما هو أصلح من‬
‫عالقات بين الناس تحكم وتنظم تدافعهم في تحصيلهم لزينة الحياة الدنيا‪ .‬وكانت‬
‫الجنايات‪ ،‬حدودا ً وتعازير‪ ،‬حياة ألولي األلباب من حيث قطعها الطريق على‬
‫النفوس التي ألجمها "الهوى" فأرادت أن تفسد في األرض بعد إصالحها‪،‬‬
‫جناية في حق المعبود"هللا تعالى"‪ ،‬أو في حق العباد‪ .‬وكانت من قبل شهادة "ال‬
‫إله إال هللا" إيذانا ً بتوقيع عقد االستخالف‪ ،‬اختيارا ً دون إكراه‪ ،‬والتزاما ً بالوفاء‬
‫بمقتضياته من واجب الشكر للمستخلف"هللا تعالى" من قبل‬
‫المستخلف"اإلنسان" فيما استخلف فيه"األرض"‪ .‬وعلى الجملة فإن الشريعة‬
‫الربانية‪ -‬بمعناها القرآني ال االصطالحي‪ -‬التي هي شرعة(مقاصد)‪ ،‬ومنهاج‬
‫(وسائل)‪ ،‬هي الميزان الذي يقيم الوزن بالقسط في التفاعل بين المتغيرات التي‬
‫هي أصول االجتماع اإلنساني(اإليمان‪ ،‬المتاع الدنيوي‪ ،‬النفس‪ ،‬العلم‪ ،‬الهوى‪،‬‬
‫المال‪ ،‬البنون)‪ ،‬ولكن اإلنسان هو المسؤول تكليفا عن إقامة هذا الميزان بالقسط‬
‫أو إخساره‪.‬‬
‫إن خيار "الحياة الدنيا" وخيار "الدار اآلخرة" يمثالن رؤى كونية‬
‫متباينة في تفاعل النفس مع زينة الحياة الدنيا(المال‪ ،‬البنون)‪ ،‬األول من‬
‫منطلقات الهوى والكفر في النفس‪ ،‬والثاني من منطلقات العلم واإليمان‬
‫كال من هاتين الرؤيتين الكونيتين نظام معرفي‬ ‫المفضية إلى الشكر‪ .‬ويقابل ّ‬
‫ترتب في إطاره المشاهدات الحسية‪ ،‬وتختمر في بوتقته التجارب الشخصية مع‬
‫العالم الخارجي ألولئك الذين يستبطنونه‪ ،‬فتتحدد بذلك األسئلة العلمية التي‬
‫تستحق االثتثارة والبحث في مجال الطبيعة والمجتمع‪ ،‬ويتحدد تبعا ً لذلك نوع‬
‫اإلجابة العلمية المقبولة لتلك األسئلة‪ ،‬ومن ثم توضع السياسات المناسبة‪ ،‬العام‬
‫منها والخاص‪.‬‬
‫إن جميع التحديات التي تواجه البشرية اليوم إنما تتم صياغتها كقضايا‬
‫معرفية تتم دراستها وتحدد السياسات العالمية والقومية تجاهها من خالل النظام‬

‫‪23‬‬
‫المعرفي الوضعي الدنيوي المنبثق تاريخيا من خيار "الحياة الدنيا"‪ ،‬أو بتعبير‬
‫توطن في التجربة‬‫ّ‬ ‫آخر من "رؤية العالم الدنيوية"‪ ،‬والذي نما وترعرع ثم‬
‫الحضارية الغربية المعاصرة‪ ،‬المهيمنة بطغيانها اليوم على جميع المجتمعات‬
‫البشرية عبر مؤسسات األمم المتحدة‪ ،‬وشركات ومؤسسات ومنظمات الدول‬
‫الغربية والرأسمالية العالمية‪.‬‬
‫نختتم هذا اإلطار النظري ألصول االجتماع اإلنساني في التصور‬
‫القرآني بتلخيصه في الرسم البياني في الشكل أدناه‪ ،‬الذي يغني بوضوحه عن‬
‫شرحه‪ .‬تتجاوز رؤية العالم التي يلخصها هذا النظام الخصوصية اإلسالمية‬
‫إلى العالمية اإلنسانية؛ والذاتية إلي الموضوعية العلمية‪ ،‬ألنها تم ّكن من تأسيس‬
‫علوم اجتماعية ذات قدرة تفسيرية لكل الظواهر االجتماعية‪ ،‬سواء الناجمة عن‬
‫التمظهرات التاريخية لنظام االجتماع التوحيدي‪ ،‬أو تلك الناجمة عن التجليات‬
‫التاريخية لنظام االجتماع الدنيوي‪ .‬كذلك تم ّكن من تأسيس علوم معيارية تنبني‬
‫على تعظيم العمل الصالح في زينة الحياة الدنيا في إطار نظام االجتماع‬
‫التوحيدي‪ ،‬أو على تعظيم المتاع الدنيوي في إطار نظام االجتماع الدنيوي‪.‬‬

‫‪24‬‬
25
‫تتكون من رؤيتين‬
‫ّ‬ ‫إن هذه الرؤية الشاملة لعالم االجتماع اإلنساني‬
‫معياريتين هما‪" :‬رؤية العالم التوحيدية" التي يمثلها عمود الصناديق (أ) في‬
‫أقصى يمين الرسم‪ ،‬و"رؤية العالم الدنيوية" التي يمثلها عمود الصناديق (ج)‬
‫في أقصى يسار الرسم؛ وما بينهما (ب) فضاء اجتماعي تتداخل وتتدافع فيه‬
‫قوى التأثير من كال الرؤيتين‪.‬‬
‫إن جوهر الرؤية التوحيدية هو الدالة التوحيدية(دالة اإليمان) التي يمثل‬
‫"اإليمان" متغيرها المقصود بالتعظيم‪ ،‬ومتغيرات "النفس المطمئنة"؛ "العلم‬
‫التوحيدي"؛ "المال"؛ "البنون"؛ متغيراتها التي تتفاعل فيما بينها بما يحقق‬
‫تعظيم "اإليمان"؛ فهي إذن دالة تعبر عن عالقة بين ناتج ومدخالته‪ .‬هذه الدالة‬
‫تتأسس عليها نظرية المسلم الراشد الذي توحدت مقاصده الحياتية مع مقاصد‬
‫الشارع‪ ،‬ويوظف أكثر الوسائل المشروعة فعالية وبفاعلية في سبيل تحقيقها‪،‬‬
‫فهو بذلك عقالني أيضا‪ .‬الضرورات الحيوية(الجوع‪ ،‬العطش‪ ،‬العري‪،‬‬
‫اإلضحاء‪ ،‬العنت) تدفع المؤمن إلى الوفاء بمقتضياتها من زينة الحياة‬
‫الدنيا(المال‪ ،‬البنون)‪ ،‬وال يكون ذلك عادة إال بعمل‪ .‬والعلم‪ ،‬الذي تو ّحد فيه‬
‫الدور العقدي والدور الوظيفي‪ ،‬يبّين آيات هللا في المال والبنين‪ ،‬دليل إيمان باهلل‬
‫الواحد‪ ،‬ويبيّن النعمة فيهما‪ ،‬مصالح يطلبها المؤمن شكرا ً‪ ،‬والفتنة فيهما‬
‫صل هذا العلم األحكام الشرعية الضابطة للعمل ليعمل‬ ‫فيتجنبها رشداً‪ .‬ثم يف ّ‬
‫المؤمن بمقتضاها جلبا ً لمصالحه‪ ،‬في العاجل واآلجل‪ ،‬ويحدد هذا العلم نوع‬
‫العمل الراشد ووسائطه المؤسسية األحكم‪ ،‬ووسائله الطبيعية األفعل في تحقيق‬
‫تلك المصالح‪ .‬هذه جميعها حلقات من العلم الضروري ال تنفصم عراها دون‬
‫أن تترك عجزا ً كامالً لدى المؤمن عن العمل الحضاري الراشد في زينة الحياة‬
‫الدنيا‪ .‬واإليمان المتجذّر في النفس التي تز ّكت يدفع المؤمن الراشد لتحري‬
‫قصد الشارع في المال والبنين فيقف عنده‪ ،‬استعصاما ً من فتنة الشهوة فيهما‪.‬‬
‫والعمل الصالح الذي ت ّم‪ ،‬والمصلحة التي تحققت‪ ،‬شكرا ً هلل‪ ،‬يعود أثرهما على‬
‫اإليمان فيزداد المؤمن إيمانا ً مع إيمانه‪ ،‬وتزداد النعمة وتدوم بإذن هللا‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫إن جوهر الرؤية الدنيوية هو الدالة الدنيوية(دالة المتاع الدنيوي) التي‬
‫يمثل "المتاع الدنيوي" متغيرها المقصود بالتعظيم‪ ،‬وتمثل "النفس الفاجرة"؛‬
‫"الهوى"؛ "المال"؛ "البنون" متغيراتها التي يؤدي تفاعلها فيما بينها إلى تعظيم‬
‫المتاع الدنيوي؛ فهي إذا دالة تعبر عن عالقة بين ناتج ومدخالته‪ .‬هذه الدالة‬
‫تتأسس عليها نظرية اإلنسان الدنيوي العقالني الذي توحدت مقاصده في‬
‫"تعظيم متاع الحياة الدنيا"‪ ،‬ويوظف أكثر الوسائل فعالية وبفاعلية في سبيل‬
‫تحقيقها‪ ،‬ومن هنا جاءت الصفة عقالني‪.‬‬
‫ضرب هللا تعالى لنا أمثاال في القرآن الكريم قارن فيها بين أهم مخرجات نظام‬
‫االجتماع التوحيدي متمثلة في المسلم الراشد‪ ،‬وبين أهم مخرجات نظام‬
‫َّللا مثالً عبدا ً‬‫االجتماع الدنيوي متمثلة في اإلنسان الدنيوي‪ ،‬فقال‪( :‬ضرب ُ‬
‫ُمملوكا ً الُ يقدر على شيءٍ ومن ُرزقناه منُا رزقا ً حسنا ً فهو ينفق منه سرا ً‬
‫وجهرا ً هل يستون الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون)(‪)75‬؛ (وضرب هللا مثالً‬
‫ُرجلين أّحدهما أبكم ال يقدر على شيءٍ وهو ك ٌّل على موال أينما يوج ّههُّ ال يأت‬
‫ير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ‬ ‫بخ ٍ‬
‫ُّمستق ٍيم)(‪()76‬النحل)؛ (ضرب هللا مثالً ُرجالً فيه شركاء متشاكسون ورجالً‬
‫سلما ً لّرج ٍل هل يًستويان مثالً الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون)(‪()29‬الزمر)‪.‬‬
‫اإلسالم الذي جاء به محمد‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬هو التجلي التاريخي‬
‫األتم لرؤية العالم التوحيدية‪ ،‬من حيث التطبيق المنهجي‪ ،‬القائم على العلم‬
‫التوحيدي‪ ،‬ألصولها الكلية وتفاصيلها الجزئية‪ ،‬ومن حيث مآالتها ونتائجها‬
‫الحتمية‪ .‬الرأسمالية الغربية المعاصرة‪ ،‬في رأي الباحث‪ ،‬هي التجلي التاريخي‬
‫األتم حتى اآلن للرؤية الدنيوية‪ ،‬من حيث التطبيق المنهجي‪ ،‬القائم على العلم‬
‫بظاهر من الحياة الدنيا‪ ،‬ألصولها الكلية وتفاصيلها الجزئية‪ ،‬ومن حيث مآالتها‬
‫ونتائجها الحتمية‪.‬‬
‫إن خطة الخلق العامة‪ ،‬على المستوى المعرفي‪ ،‬هي تجريد نظري كلي‬ ‫ّ‬
‫للتصور القرآني لالجتماع اإلنساني‪ ،‬يبين الحقيقة المطلقة لمتغيراتها‪ ،‬وحقيقة‬
‫التفاعل الدائم بينها‪ ،‬والسنن اإللهية التي تحكم ذلك التفاعل‪ ،‬ومآالته المختلفة‪،‬‬
‫في الدنيا واآلخرة‪ .‬وهي على الصعيد الوجودي تدبير إلهي محكم خرج من‬
‫مشكاة العلم اإللهي قضاء إلى مجال التحقق الفعلي في الزمان والمكان قدرا‪،‬‬
‫سماوات‬ ‫وهي السبب في خلق السماوات واألرض‪( :‬وهو الُذي خلق ال ُ‬
‫واألرض في ستُة أّي ٍُام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أّيُّكم أّحسن عمالً ولئن‬

‫‪27‬‬
‫قلت إنُكم ُمبعوثون من بعد الموت ليقول ُن الُذين كفروا إن هذا إالُ س ٌ‬
‫حر‬
‫شف لحظة بلحظة منذ بداية خلق الكون إلى قيام‬ ‫ين)(‪()7‬هود)‪ .‬وهي تتك ّ‬ ‫ُّمب ٌ‬
‫الساعة‪ ،‬فليست هناك لحظة واحدة يكون فيها الكون على حالته التي كان عليها‬
‫قبلها‪ .‬وهللا تعالى هو القائم عليها يدبّر أمرها‪ ،‬وهو سبحانه الضامن لتحققها‬
‫قدرا كما قضاها علما‪ ،‬ويصدّق القرآن ذلك في آيات بينات‪( :‬وما تكون في‬
‫ان وال تعملون من عم ٍل إالُ كنُا عليكم شهودا ً إذ‬ ‫أن وما تتلوا منه من قرء ٍ‬ ‫ش ٍ‬
‫سماء وال‬ ‫تفيضون فيه وما يعزب عن ُربك من مثقال ذ ُرةٍ في األرض وال في ال ُ‬
‫ين)(‪()61‬يونس)؛ (وعنده مفاتح الغيب‬ ‫أصغر من ذلك وال أكبر إالُ في كتا ٍ‬
‫ب ُّمب ٍ‬
‫ال يعلمها إالُ هو ويعلم ما في البّر والبحر وما تسقط من ورق ٍة إالُ حبُ ٍة في‬
‫ين)(‪() 59‬األنعام)؛ (هللا‬ ‫ب وال ياب ٍس إالُ في كت ٍ‬
‫ب ُّمب ٍ‬ ‫ظلمات األرض وال رط ٍ‬
‫الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها‪ ،‬ثم استوى على العرش‪ ،‬وسخر الشمس‬
‫والقمر كل يجري ألجل مسمى‪ ،‬يدبر األمر يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم‬
‫وم هو في‬ ‫سماوات واألّرض ك ُل ي ٍ‬ ‫توقنون)(‪2‬؛ الرعد)؛ (يسئله من في ال ُ‬
‫سماوات واألرض وإذا قضى أمرا ً فإنُما يقول له‬ ‫أن)(‪()29‬الرحمن)؛ (بديع ال ُ‬ ‫ش ٍ‬
‫س ُخر لكم ُما في األرض والفلك‬ ‫كن فيكون)(‪()117‬البقرة)؛ (ألم تر أ ُن هللا ً‬
‫سماء أن تقع على األرض إالُ بإذنه إ ُن هللا‬ ‫تجري في البحر بأمره ويمسك ال ُ‬
‫ي القيُّوم ال تأخذه سنةٌ‬‫وف ُرحي ٌم)(‪()65‬الحج)؛ (هللا ال إله إالُ هو الح ُّ‬ ‫بالنُاس لرء ٌ‬
‫سماوات وما في األرض من ذا الُذي يشفع عنده إالُ بإذنه‬ ‫وال نو ٌم لُه ما في ال ُ‬
‫يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وال يحيطون بشيءٍ من علمه إالُ بما شاء وسع‬
‫سماوات واألرض وال يؤده حفظهما وهو العلُّي‬ ‫كرسيُّه ال ُ‬
‫العظيم)(‪()255‬البقرة)‪ .‬لذلك فإن البحث العلمي في التمظهرات التاريخية‬
‫لخطة الخلق العامة سوف يثري فهمنا لحقيقتها النسبية المقيّدة بالزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وحقيقة التفاعالت بين متغيراتها المتجلية في الزمان والمكان‪،‬‬
‫والكيفيات التي يتم بها ذلك التفاعل عبر التاريخ‪ ،‬وكيفية عمل آيات هللا في‬
‫األنفس واآلفاق بما يكيّف ذلك التفاعل‪ ،‬حتى يتبين لنا أنه الحق‪.‬‬
‫أن الظواهر االجتماعية‪ ،‬مهما بدا تنوع تمظهراتها الالمتناهي في‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬ينتهي أمر تفسيرها إلى التفاعل‪ ،‬في ذلك الزمان والمكان‪،‬‬
‫بين كل‪ ،‬أو بعض المتغيرات الضرورية الكلية المنشئة لالجتماع اإلنساني كما‬
‫تبينها "خطة الخلق العامة"‪ ،‬وهي المتغيرات السبعة المنحصرة في‪ :‬اإليمان؛‬

‫‪28‬‬
‫المتاع الدنيوي؛ النفس؛ العلم؛ الهوى؛ المال؛ البنون‪ .‬والسبب في قدرة هذه‬
‫المتغيرات المحدودة على إنتاج هذا التنوع الالمحدود في التمظهرات‬
‫االجتماعية يرجع إلى الخاصية الفريدة للنفس البشرية من حيث تميّز كل نفس‬
‫عن غيرها من األنفس‪ ،‬فليست هناك نفسان تتطابقان في خصائصهما‪ ،‬بل كل‬
‫نفس تمثل بصمة خاصة بصاحبها‪ ،‬وتصبغ كل فعل يفعله بصبغتها الفريدة‪.‬‬
‫لذلك إذا كان لدينا مليار شخص‪ ،‬مثال‪ ،‬متواصلين في الزمان والمكان فهذا‬
‫يعني أن لدينا مليار متغير "نفس" تصبغ كل واحدة منها بقية المتغيرات الستة‬
‫بصبغتها‪ ،‬مما يعني أن لدينا عمليا سبعة مليار متغير تتفاعل مع بعضها في‬
‫الزمان والمكان‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -3‬الحركة الكونية لإلنسان في رؤية القرآن للعالم‬
‫اآلن أنتقل من الحديث عن رؤية القرآن لعالم االجتماع اإلنساني(خطة الخلق‬
‫العامة) إلى مآالتها فيما يتعلق بحركة اإلنسان الكونية كضرورة حتمية‬
‫للتفاعالت الزمانية والمكانية للمتغيرات المنتجة لخطة الخلق العامة على‬
‫المستوى الوجودي‪ .‬وسوف أبدأ بطرح األسئلة الوجودية الضرورية من وحي‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬واإلجابة الالحقة عنها سوف تؤكد حتمية الحركة الكونية‬
‫لإلنسان‪.‬‬

‫‪ -1.3‬األسئلة الوجودية‬

‫‪ -1.1.3‬السؤال األول‪ :‬التكافؤ بين العمل اإلنساني والخلق‬


‫الكوني‬
‫سماوات‬‫هذا السؤال نشأ من فهمي لقول هللا تعالى‪( :‬وهو الُذي خلق ال ُ‬
‫واألرض في ستُة أي ٍُام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيُّكم أحسن عم ًال ولئن‬
‫قلت إنُكم مبعوثون من بعد الموت ليقول ُن الُذين كفروا إن هذا إ ُال سح ٌر‬

‫‪6‬‬
‫‪ -‬نسخة مختصرة من هذا الجزء من البحث كانت قد نشرت في مجلة إسالمية المعرفة‪ ،‬السنة الحادية والعشرون‪ ،‬العدد‪ ،83‬شتاء‬
‫‪1437‬ه‪1016/‬م (ص ‪.)179 -151‬‬

‫‪29‬‬
‫ين)(هود)‪ .‬و"ليبلوكم أيكم أحسن عمالً" هذه أفهم أن من ضمن دالالتها في‬
‫مب ٌ‬
‫هذا السياق هو تعليل خلق السموات واألرض‪ ،‬ولذلك جعل هللا تعالى‬
‫الكون(السموات واألرض وما بينهما) مسخرا لإلنسان‪   ) :‬‬

‫‪           ‬‬

‫‪() ‬الجاثية)‪ .‬وفهمي هذا يؤيده ما جاء في التفاسير بخصوص‬


‫هذه اآلية‪ ،‬ففي روح المعاني لأللوسي جاء ما يلي‪ ( :‬ليبلوكم الالم للتعليل‬
‫مجازا متعلقة ب خلق أي خلق السماوات واألرض وما فيهما من المخلوقات‬
‫التي من جملتها أنتم‪ ،‬ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم‬
‫وأسباب معاشكم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع‬
‫والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم)‪ .‬وجاء في تفسير ابن‬
‫كثير اآلتي‪( :‬وقوله تعالى‪{ :‬ليبلوكم أيُّكم أحسن عمال} أي‪ :‬خلق ال ُسموات‬
‫واألرض لنفع عباده ا ُلذين خلقهم ليعبدوه وحده ال شريك له‪ ،‬ولم يخلق ذلك‬
‫عب ًثا‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬وما خلقنا ال ُسماء واألرض وما بينهما باطال ذلك ظ ُّن‬
‫ا ُلذين كفروا فوي ٌل ل ُلذين كفروا من ال ُنار} [ص‪ )6( ، ]27:‬وقال تعالى‪:‬‬
‫{أفحسبتم أ ُنما خلقناكم عب ًثا وأ ُنكم إلينا ال ترجعون فتعالى ُ‬
‫َّللا الملك الح ُّق ال إله‬
‫إال هو ربُّ العرش الكريم} [المؤمنون‪.)، ]116 ،115:‬‬
‫إذا صح هذا الفهم فإن هذا يعني أن هللا تعالى خلق السموات واألرض‬
‫لحكمة تتعلق باإلنسان‪ ،‬وهذه الحكمة تتعلق تحديدا بابتالء وامتحان اإلنسان في‬
‫صلناه في‬
‫عمله‪ .‬وهناك الكثير من التفاصيل التي تتعلق بهذا االبتالء وطبيعته ف ّ‬
‫صلناه في بحوثنا‬ ‫القسم السابق عند الحديث عن "خطة الخلق العامة"‪ ،‬وكذلك ف ّ‬
‫األخرى المنشورة والمرفوعة على موقعي باإلنترنت‪ ،7‬ولكن الشاهد في هذا‬
‫الحديث وما سوف أرتبه عليه الحقا من استنتاجات علمية أن هللا سبحانه‬
‫وتعالى قد أخبرنا عن بداية خلق الكون(السموات واألرض) كيف كان فقال‪:‬‬
‫(قل أئنُكم لتكفرون بالُذي خلق األرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك ربُّ‬
‫العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدُر فيها أقواتها في‬

‫‪ -6‬أنظر أبحاثنا التي تحيط بموضوع االبتالء(خطة الخلق العامة) في موقعنا على اإلنترنت (‪.)biraima.net‬‬

‫‪30‬‬
‫ان فقال لها‬‫سماء وهي دخ ٌ‬ ‫سائلين * ث ُم استوى إلى ال ُ‬ ‫أربعة أي ٍُام سوا ًء لل ُ‬
‫ت في‬ ‫عا أو كر ًها قالتا أتينا طائعين * فقضاه ُن سبع سموا ٍ‬ ‫ولألرض ائتيا طو ً‬
‫ظا ذلك‬ ‫سماء الدُّنيا بمصابيح وحف ً‬
‫يومين وأوحى في ك ّل سماءٍ أمرها وزيُنُا ال ُ‬
‫تقدير العزيز العليم * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عا ٍد‬
‫وثمود)‪ .‬وقد أخبرنا هللا تعالى أن خلق الماء كان قبل خلق السماوات‬
‫سماوات واألرض في ستُة أي ٍُام وكان عرشه على‬ ‫واألرض‪( :‬وهو الُذي خلق ال ُ‬
‫الماء ليبلوكم أيُّكم أحسن عم ًال ولئن قلت إنُكم مبعوثون من بعد الموت ليقول ُن‬
‫ماض دل على سبق خلق‬ ‫ٍ‬ ‫ين)‪ .‬كان هنا فعل‬ ‫الُذين كفروا إن هذا إ ُال سح ٌر مب ٌ‬
‫العرش والماء‪ ،‬ثم خلق السموات واألرض من بعد ذلك؛ وخلق األرض‬
‫وجعلها تم قبل خلق وجعل السموات السبع رغم أنهما كانتا رتقا ثم فتقتا‪.‬‬
‫ونستنتج من ذلك أن المادة التي خلقت منها السماوات واألرض واحدة في‬
‫أصلها‪.‬‬
‫لقد وصف هللا تعالى في القرآن الكريم األرض‪ ،‬من حيث خلقها ومن‬
‫حيث جعلها‪ ،‬وصفا دقيقا كما لم يصف مخلوقا آخر‪ ،‬وإنما ذلك ألهميتها‬
‫المركزية في (خطة الخلق العامة) التي من أجلها خلق هللا السماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وذكر أنه خلق ما في األرض جميعا للناس‪ .‬ونسوق بعض اآليات‬
‫التي تبين الخصائص البيئية لألرض التي بها تباين باقي الكواكب والنجوم في‬
‫الكون‪:‬‬
‫‪      ‬‬ ‫(‪‬‬ ‫‪-1‬‬

‫‪     ‬‬ ‫‪ ‬‬

‫‪()‬النازعات)؛‬

‫(‪          ‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪           ‬‬

‫‪31‬‬
       

       

        

       

‫)(الرعد)؛‬

        ( -3

         

‫)(طه)؛‬

        ( -4

         

        

‫)(عبس)؛‬      

32
‫(‪        ‬‬ ‫‪-5‬‬

‫‪          ‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪() ‬فصلت)‪.‬‬
‫لذلك نسلّم بأنه حيثما ذكرت األرض في القرآن الكريم‪ ،‬باستثناء يوم‬
‫تبدل األرض غير األرض والسماوات‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ ،‬فالمقصود هو هذه‬
‫صل القرآن الكريم وصف بيئتها‪ ،‬وأخبر أن هللا تعالى بارك فيها‬
‫األرض التي ف ّ‬
‫وأصلحها لتناسب حياة البشر وما خلق لهم فيها من حيوان ونبات‪.‬‬
‫من عالم الغيب المطلق‪ ،‬ومن علم هللا تعالى في أم الكتاب‪ ،‬جاء الكون‬
‫إلى الوجود‪ ،‬متحيزا في الزمان والمكان‪ ،‬ومتشكال عبر مليارات السنين‪،‬‬
‫محكوما بقضاء هللا وقدره(كن فيكون) لينتهي يوما ما كما بدأ‪ ( :‬‬

‫‪          ‬‬

‫‪()      ‬األنبياء)‪ .‬والحمد هلل أن العلم لم يعد‬

‫ينازع في النهاية المحتومة للكون الذي نعرفه‪ .‬وفي إطار هذه التمظهرات‬
‫الوجودية والصيرورة الزمانية يأتي اإلنسان أيضا من عالم الغيب ليستقر في‬
‫األرض محققا مغزى االبتالء‪ ،‬وحكمة خلق السماوات واألرض‪ .‬وقد نح ّ‬
‫ت‬
‫مصطلحا لكل هذا التفاعل والنبأ العظيم في أبحاثي التي أشرت إليها أعاله‪،‬‬
‫وهو مصطلح "خطة الخلق العامة"‪ .‬وكما يعود الكون من حيث بدأ‪) :‬‬

‫‪33‬‬
‫‪         ‬‬

‫‪()‬إبراهيم)‪ ،‬يعود اإلنسان الفاعل في هذا الكون من حيث جاء‪( :‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪()‬األنعام)‪ ،‬إذ يقوم الناس ليوم الحساب فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة‬

‫فقد فاز‪.‬‬
‫ولكي يستقيم منطق "خطة الخلق العامة" مع هذه البدايات والنهايات‬
‫العظيمة للكون فإن العقل يحكم بأنه فيما بينهما يتوقع أن يأتي اإلنسان‪ ،‬الذي‬
‫من أجل عمله خلق هذا الكون‪ ،‬بأعمال عظيمة في صالحها‪ ،‬أو في فسادها‪،‬‬
‫تكافئ عظمة هذا الكون والحكمة من خلقه‪ ،‬وتكافئ نهايته وزلزلة الساعة‪:‬‬
‫(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ‬

‫ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨﭩ ﭪ‬

‫ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ)(الحج)‪ ،‬والمصير النهائي‬

‫لإلنسان‪()      ( :‬الشورى)‪ ،‬خالدين فيها ما‬

‫‪34‬‬
‫دامت السموات واألرض إال ما شاء ربك‪ .‬من هذه القضية بالتحديد جاء‬
‫السؤال الوجودي األول‪ ،‬وهو اآلتي‪:‬‬
‫أوال؛ إن هذه األرض التي نعرفها ونعيش فيها‪ ،‬هي من الصغر‬
‫الجغرافي(مطلقا‪ ،‬أو منسوبة إلى الكل الكوني) بحيث أنها‪ ،‬أوال؛ ال تستحق‬
‫وحدها أن يخلق من أجلها ومن أجل ما يجري فيها كل هذا الكون المهيب‬
‫ببداياته ونهاياته العظيمة التي ذكرناها آنفا‪ .‬ثم‪ ،‬ثانيا؛ إنها بصغر حجمها هذا ال‬
‫تم ّكن البشر من الزيادة العددية المناسبة‪ ،‬أو أن يأتوا من األعمال ما يكافئ في‬
‫عظمته عظمة الخلق الكوني هذا‪ .‬إذن ما هي حقيقة األرض المستخلف فيها‬
‫اإلنسان المحققة لمبدأ التكافؤ بين العمل اإلنساني والخلق الكوني؟‬

‫النتيجة هي‪ :‬البد من إعادة فهمنا لحقيقة األرض كما وردت في‬
‫القرآن الكريم‪.‬‬
‫ثانيا؛ إن األعمال التي جاء بها اإلنسان منذ تمكينه في أرض السماء الدنيا التي‬
‫دونته األقالم‪ ،‬في صالحها‬ ‫نعيش فيها وإلى اليوم؛ مما وثّقه القرآن‪ ،‬أو ّ‬
‫وفسادها‪ ،‬إذا استثنينا الرسل وحوارييهم وقليال من اآلخرين من أهل الصالح‬
‫والفساد‪ ،‬من التواضع بحيث يحكم العقل‪ ،‬ما لم يناقض الوحي‪ ،‬أنها ال تساوي‬
‫الحد األدنى الذي يكافئ عظمة بدايات ونهايات الخلق الكوني المرتبطة‪ ،‬من‬
‫حيث العلّة‪ ،‬بهذا العمل اإلنساني‪ .‬وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المفارقة بين‬
‫تواضع الفعل اإلنساني التاريخي وبين المطلوب منه بما يكافئ عظمة الخلق‬
‫الكوني‪ ،‬بداية ونهاية‪ ،‬فقال تعالى‪      ( :‬‬

‫‪()‬ص)‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬نتيجة‪ :‬ينبغي إعادة النظر من المنظور القرآني في طبيعة‬


‫األعمال العظيمة التي يمكن أن يأتي بها اإلنسان‪ ،‬والمجال‬

‫‪35‬‬
‫الكوني الذي يمكن أن تتحقق فيه‪ ،‬بما يحقق التكافؤ المطلوب‬
‫بين العمل اإلنساني والخلق الكوني‪.‬‬

‫ثالثا؛ إن تسخير ما في السماوات وما في األرض جميعا لإلنسان‪( :‬‬

‫‪             ‬‬

‫‪()  ‬الجاثية)‪ ،‬واعتبار ذلك ضمن مغزى التكليف‬

‫‪    ‬‬ ‫االبتالئي‪   ( :‬‬

‫‪       ‬‬

‫‪((‬هود)‪ ،‬يقتضي أن يم ّكن اإلنسان من الوصول إلى تلك القوى المسخرة‬

‫له‪ ،‬وتوظيفها فيما يعمل من صالح‪ ،‬أو فساد‪ ،‬وال سبيل إلى ذلك بصورة فعالة‬
‫إال بالحصول على علم دقيق بحقيقتها ومتاحاتها‪ ،‬ويقتضي ذلك الوصول إلى‬
‫مصادر تلك القوى المسخرة من سماوات وأرض‪ .‬يعزز هذه الدعوى الكثير‬
‫من آيات القرآن الكريم من مثل قوله تعالى‪    ( :‬‬

‫‪           ‬‬

‫‪36‬‬
‫‪()        ‬الطالق)‪ .‬فلكي نعلم حقيقة‬

‫تنزل األمر اإللهي بين هذه العوالم المهيبة يقتضي ذلك أن يجوب اإلنسان هذه‬
‫العوالم مستكشفا‪ .‬كذلك قول هللا تعالى في سورة نوح عليه السالم‪ ( :‬‬

‫‪          ‬‬

‫‪()   ‬نوح)‪ ،‬ال مغزى له وال حجة فيه إال إذا كان‬

‫اإلنسان قادرا على االستكشاف العلمي لهذه السموات السبع ليرى كيف خلقت‬
‫طباقا‪ ،‬وكيف جعل هللا في كل منها الشمس سراجا والقمر نورا‪ ،‬تماما كقول هللا‬
‫تعالى‪        ( :‬‬

‫‪          ‬‬

‫‪ .) ‬الخطاب هنا واحد بالنظر والرؤية العلمية في الكيفيات‬

‫المتعلقة بهذه المخلوقات‪ ،‬وإذا كان اإلنسان متمكنا اليوم من النظر العلمي في‬
‫الكيفيات المتعلقة باإلبل والجبال واألرض ألنها في متناوله فإن منطق الخطاب‬
‫القرآني المتسق يقتضي أن تكون السماء في متناوله كذلك‪ ،‬ولو بعد حين‪.‬‬

‫النتيجة‪ :‬يقتضي هذا إعادة فهمنا لما جاء في القرآن الكريم عن‬
‫عالقة اإلنسان بهذا الكون المسخّر‪ ،‬وأبعاد فاعليته فيه‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ -2.1.3‬السؤال الثاني‪ :‬البعد الزماني لإلنسان في األرض وداللته‬
‫على حركته الكونية‬
‫جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد‬
‫رضي هللا عنه قال‪ ( :‬رأيت رسول هللا‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال بأصبعيه‬
‫هكذا بالوسطى والتي تلي اإلبهام‪ :‬بعثت أنا والساعة كهاتين)‪ ،8‬أي الفارق بين‬
‫بعثتي وقيام الساعة كالفرق بين األصبعين في الطول‪ .‬ويؤكد القرآن الكريم‬
‫قرب الساعة‪()    ( :‬القمر)‪ ،‬وأيضا قوله‬

‫تعالى‪          ( :‬‬

‫‪()      ‬محمد)‪.‬‬

‫قبل أن أوضح ما يدل عليه هذا الحديث بالنسبة لي فيما يلي موضوع هذا‬
‫البحث أنقل اآلتي عن داللة الحديث من الموقع اإللكتروني (اإلسالم سؤال‬
‫وجواب) المشرف عليه الشيخ محمد صالح المنجد‪:‬‬
‫"أو ًال؛ أخرج هذا الحديث اإلمام البخاري في صحيحه(‪ )6140‬عن أبي هريرة‬
‫رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪( :‬بعثت أنا وال ُساعة‬
‫كهاتين)‪ ،‬يعني‪ :‬إصبعين‪ ،‬وجاء عن سهل بن سع ٍد الساعدي رضي هللا عنه‬
‫مرفوعا بلفظ (بعثت أنا وال ُساعة هكذا‪ -‬ويشير بأصبعيه فيمدُّ بهما)‪ ،‬رواه‬
‫البخاري(‪ ،)6138‬ومسلم(‪ ،)2950‬وأخرجه اإلمام مسلم في صحيحه(‪)867‬‬
‫عن جابر بن عبد هللا قال‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا خطب‬

‫‪8‬‬
‫‪ -‬البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا محمد بن اسماعيل‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد العزيز بن عبد هللا بن باز‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الفكر للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬ط‪1411 ،1‬ه‪1991/‬م‪ ،‬كتاب‪ :‬تفسير القرآن‪ ،‬باب‪ :‬يوم ينفخ في الصور فتاتون أفواجا‪ ،‬ج‪ ،6‬حديث رقم ‪ ،4936‬ص ‪.94‬‬

‫‪38‬‬
‫احمرت عيناه وعال صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول "صبُحكم‬ ‫ُ‬
‫وم ُساكم"‪ ،‬ويقول‪( :‬بعثت أنا وال ُساعة كهاتين) ويقرن بين إصبعيه السبابة‬
‫والوسطى‪ .‬وخرج اإلمام أحمد(‪ )36/38‬بإسناد حسن من حديث بريدة (بعثت‬
‫ساعة جميعا إن كادت لتسبقني)‪.‬‬ ‫أنا وال ُ‬
‫ثانيا؛ً أما بخصوص من يقول إن بيننا وبين ورود الحديث أكثر من ألف‬
‫وأربعمائة سنة فكيف يقول هللا تعالى ( اقتربت الساعة )‪ ،‬ويقول النبي صلى‬
‫هللا عليه وسلم (بعثت أنا وال ُساعة كهاتين)؟ فالجواب عليه من وجوه‪ ،‬أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن المعنى‪ :‬أنه ليس هناك نبي آخر بعد النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫قال أبو حاتم بن حبان رحمه هللا‪:‬‬
‫"يشبه أن يكون معنى قوله صلى هللا عليه وسلم ( بعثت أنا وال ُساعة كهاتين )‬
‫أراد به‪ :‬أني بعثت أنا والساعة كالسبابة والوسطى من غير أن يكون بيننا نبي‬
‫آخر؛ ألني آخر األنبياء وعلى أمتي تقوم الساعة"انتهى"‪ ،‬من صحيح ابن‬
‫حبان(‪.(13/15‬‬
‫وقال القرطبي رحمه هللا‪ :‬أول أشراط الساعة‪ :‬النبي صلى هللا عليه وسلم ؛ ألنه‬
‫نبي آخر الزمان ‪ ،‬وقد بعث وليس بينه وبين القيامة نبي"انتهى من التذكرة‬
‫(ص ‪."(111‬‬
‫‪ -2‬أن المعنى‪ :‬هو القرب الذي في علم هللا تعالى وحسابه‪ ،‬ال في علم البشر‬
‫وحسابهم‪ .‬قال الشيخ عمر األشقر حفظه هللا‪" :‬قد يقال‪ :‬كيف يكون قريباً ما‬
‫مضى على اإلخبار بقرب وقوعه ألف وأربعمائة عام؟‬
‫والجواب‪ :‬أنه قريب في علم هللا وتقديره‪ ،‬وإن كانت المقاييس البشرية تراه‬
‫بعيد ًا (إ ُنهم يرونه بعيدًا‪ ،‬ونراه قريبًا)( المعارج‪ " ،)7 - 6 ،‬انتهى من " القيامة‬
‫الصغرى" (ص ‪.)115‬‬
‫‪ -3‬أن المعنى‪ :‬أن بين بعثة النبي‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقيام الساعة شيء‬

‫‪39‬‬
‫يسير بالنسبة لما مضى من الزمان‪.‬‬
‫ٌ‬
‫قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه هللا‪:‬‬
‫"وهذا يدل على قربها‪ ،‬لكن مع ذلك كم بيننا وبين الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم؟ نحن في القرن الخامس عشر الهجري بعد بعثة الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بثالث عشرة سنة‪ ،‬ومع ذلك ما زالت الدنيا باقية مما يدل على أن ما‬
‫مضى طويل جدّ ًا‪ ،‬حتى إن الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬عند غروب الشمس‬
‫قال (إ ُنه لم يبق من الدُّنيا‪ -‬يعني‪ :‬بالنسبة لمن سبقكم‪ -‬فيما مضى منها إ ُال كما‬
‫بقي من يومكم هذا)‪ ،‬رواه الترمذي وح ُسنه "وضعفه األلباني في "ضعيف‬
‫الترغيب والترهيب" برقم (‪ .)1641‬انتهى من " تفسير القرآن من الحجرات‬
‫إلى الحديد"( ص ‪.)361‬‬
‫وقال الشيخ عمر األشقر حفظه هللا‪:‬‬
‫"واألمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه‪ :‬أن الباقي من الدنيا قليل بالنسبة لما مضى‬
‫ال كأن توجله خمسين عاماً‪-‬‬ ‫ال طوي ً‬‫منها‪ ،‬فإنك إذا وضعت لمن لك عليه دين أج ً‬
‫ال‪ ،-‬فإذا انقضى من الخمسين خمسة وأربعون فيكون موعد السداد قد اقترب‬ ‫مث ً‬
‫بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب‪ ،‬واألحاديث النبوية الشريفة تشير إلى‬
‫هذه الحقيقة التي بي ُناها هنا‪ ،‬ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبد هللا بن عمر‬
‫رضي هللا عنهما أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال (إ ُنما أجلكم فى أجل‬
‫من خال من األمم ما بين صالة العصر إلى مغرب ال ُشمس )‪ ،9‬وفي لفظ (إ ُنما‬
‫بقاؤكم فيما سلف قبلكم من األمم كما بين صالة العصر إلى غروب‬
‫ال ُشمس)[تنبيه‪ :‬رواه البخاري باللفظين دون مسلم)‪.‬‬
‫إن الحديث يمثل الوجود اإلنساني بيوم من أيام الدنيا‪ ،‬ابتدأ وجود األمة‬
‫اإلسالمية فيه عند العصر فيكون الماضي من عمر الوجود اإلنساني بنسبة ما‬
‫مضى من ذلك اليوم من الفجر إلى العصر‪ ،‬ويكون الباقي من عمر الزمن حتى‬
‫‪9‬‬
‫‪ -‬المرجع السابق‪ ،‬كتاب‪ :‬فضائل القرآن‪ ،‬باب‪ :‬فضل القرآن على سائر الكالم‪ ،‬ج‪ ،6‬حديث رقم ‪ ،5021‬ص ‪.130‬‬

‫‪40‬‬
‫تقوم الساعة كما بين العصر والمغرب‪ ،‬ذلك أن النصوص صريحة الداللة‬
‫على أننا آخر األمم وجود ًا‪ ،‬وأن نهاية وجود هذه األمة يتحقق بقيام الساعة‪.‬‬
‫وجاء في حديث آخر يرويه البخاري ومسلم عن سهل رضي هللا عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (بعثت أنا وال ُساعة كهاتين)‪ -‬ويشير بأصبعيه‬
‫فيمدهما‪ ،-‬ورواه مسلم عن سهل بلفظ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫ساعة هكذا)‪.‬‬ ‫يشير بإصبعه التي تلي اإلبهام والوسطى وهو يقول (بعثت أنا وال ُ‬
‫والمعنى‪ :‬أننا لو قدُرنا عمر الزمن باألصبع الوسطى فإن ما بقي منه عند‬
‫مبعث الرسول صلى هللا عليه وسلم يكون بمقدار ما تزيد الوسطى عن السبابة‪،‬‬
‫س‬‫وما مضى منه بمقدار السبابة من األصبع الوسطى‪ .‬قد يكون الباقي في ح ّ‬
‫ال ألن إدراكهم محدود ونظرتهم قاصرة‪ ،‬ولكنه في ميزان هللا قريب‬ ‫البشر طوي ً‬
‫َّللا فال تستعجلوه)(النحل‪( ،)1،‬وما أمر ال ُساعة إ ُال كلمح‬ ‫وقصير(أتى أمر ّ‬
‫البصر أو هو أقرب )(النحل‪.(77 ،‬‬
‫وروى اإلمام أحمد عن عتبة بن غزوان قال‪ :‬خطبنا رسول هللا‪ ،‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬قال‪ :‬فحمد هللا وأثنى عليه ثم قال‪( :‬أ ُما بعد فإ ُن الدُّنيا قد آذنت بصر ٍم‬
‫وو ُلت ح ُذاء ولم يبق منها إ ُال صباب ٌة كصبابة اإلناء يتصابُّها صاحبها وإ ُنكم‬
‫ار ال زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم‪ ،)...‬انفرد به‬ ‫منتقلون منها إلى د ٍ‬
‫مسلم" انتهى من "القيامة الصغرى"‪( ،‬ص ‪.)117 -116‬‬
‫ثالثاً؛ ال يشك مسلم في ثبوت قرب الساعة‪ ،‬وكيف يفعل ذلك وقد ذكر هللا تعالى‬
‫ذلك في كتابه الكريم بأوضح عبارة وأجلى بيان؟! قال تعالى‪( :‬اقترب لل ُناس‬
‫حسابهم وهم في غفل ٍة معرضون)(األنبياء‪ ،)1 ،‬وقال جل وعال‪( :‬اقتربت‬
‫ال ُساعة وانش ُق القمر)(القمر‪ ،)1 ،‬وقال‪( :‬وما يدريك لع ُل ال ُساعة تكون قريباً)(‬
‫األحزاب‪ ، )63 ،‬وقال جل وعال‪( :‬أزفت اآلزفة ليس لها من دون ُ‬
‫َّللا‬
‫كاشف ٌة)(الذاريات‪ .(57،‬تفسير القرآن "من الحجرات إلى الحديد" للشيخ ابن‬
‫عثيمين رحمه هللا(ص ‪ ( 361‬أه‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫أوال؛ ليس من أغراضي‪ ،‬وال ينبغي لي‪ ،‬الخوض في متى تقوم الساعة فقد قال‬
‫هللا تعالى في ذلك‪        ( :‬‬

‫‪           ‬‬

‫‪()‬النحل)‪ ،‬فذلك أمر اختص به هللا تعالى كما قال‪ ( :‬‬

‫‪             ‬‬

‫‪            ‬‬

‫‪            ‬‬

‫‪() ‬األعراف)‪.‬‬

‫ثانيا؛ غرضي األساسي هنا أن أوظف الدالالت الحسابية للحديث الشريف‬


‫مستفيدا من تقديرات علم الفيزياء الفلكية لما مضى من عمر الكون لدعم‬
‫نظريتي المتعلقة بالحركة الكونية لإلنسان في القرآن الكريم‪.‬‬
‫ثالثا؛ الكثير من المسلمين اآلن يعزف عن بذل الوسع في العمران االستخالفي‬
‫ويثبطون همم غيرهم عن ذلك بدعوى قرب قيام الساعة‪ ،‬فإذا استطعنا أن‬
‫نعطي أرقاما علمية نسبية عما تبقى من عمر الكون‪ ،‬سواء باعتمادنا على علم‬
‫الفيزياء الفلكية وحده‪ ،‬أو جمعا بين الدالالت الحسابية للحديث الصحيح‪،‬‬
‫والتقديرات الحسابية لعلم الفيزياء الفلكية‪ ،‬وما يعنيه ذلك بالنسبة لقرب الساعة‪،‬‬
‫وبالنسبة لما يتوقع أن تنجزه البشرية خالل ذلك فلربما عادت األمة إلى جادة‬
‫الصواب في تحمل مسؤولياتها االستخالفية‪.‬‬
‫الداللة الحسابية لهذا الحديث الشريف بالنسبة لي هي أن األصبع‬
‫الوسطى في طولها تعبر عن جملة عمر الكون(السموات واألرض وما بينهما)‬

‫‪42‬‬
‫منذ بداية خلقه إلى نهايته وقيام الساعة‪ ،‬بينما األصبع السبابة في طولها تعبر‬
‫عما مضى من عمر الكون إلى عهد بعثته‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأجد فيما‬
‫نقلت سابقا من أقوال العلماء المسلمين ما يدعم هذا الفهم‪ .‬فالحديث إذا ً ينسب ما‬
‫مضى من عمر الكون إلى جملته‪ ،‬وأن هذه النسبة تساوي نسبة األصبع السبابة‬
‫إلى األصبع الوسطى‪ ،‬من حيث الطول‪ ،‬مما يعني أننا لو استطعنا علميا أن‬
‫نقدّر ما مضى من عمر الكون فإننا نستطيع كذلك أن نقدر ما تبقى منه إذا‬
‫استطعنا أن نقدر نسبة األصبع السبابة إلى الوسطى كما جاء في الحديث‬
‫الشريف‪ .‬نحن إذن نعتمد فيما نحن مقدمون عليه على صحيحين‪ ،‬صحيح‬
‫الحديث الشريف فيما بقي من عمر الكون‪ ،‬وصحيح علم الفيزياء الفلكية فيما‬
‫مضى منه‪.‬‬
‫بالنسبة إلى صحيح علم الفيزياء الفلكية في تقدير ما مضى من عمر‬
‫الكون‪ ،‬فأستشهد هنا بهذا المقطع باللغة اإلنجليزية من موسوعة ويكيبيديا‪:‬‬
‫‪(In physical cosmology, the age of the universe is‬‬
‫‪the time elapsed‬‬ ‫‪since‬‬ ‫‪the Big‬‬ ‫‪Bang.‬‬ ‫‪The best‬‬
‫‪measurement of‬‬ ‫‪the‬‬ ‫‪age‬‬ ‫‪of‬‬ ‫‪the‬‬ ‫‪universe‬‬
‫‪is13.798±0.037 billion years (13.798±0.037×109 years‬‬
‫‪or 4.354±0.012×1017 seconds) within the Lambda-CDM‬‬
‫‪concordance model.[1][2] The uncertainty of 37 million years‬‬
‫‪has been obtained by the agreement of a number of‬‬
‫‪scientific research projects, such as microwave background‬‬
‫‪radiation measurements by‬‬ ‫‪the Planck‬‬ ‫‪satellite,‬‬
‫‪the Wilkinson Microwave Anisotropy Probe and other‬‬
‫‪probes. Measurements of the cosmic background radiation‬‬
‫‪give the cooling time of the universe since the Big‬‬
‫‪Bang,[2] and measurements of the expansion rate of the‬‬

‫‪43‬‬
‫‪universe can be used to calculate its approximate age by‬‬
‫‪extrapolating backwards in time).‬‬
‫ولتأكيد هذه األرقام التقديرية التي جاءت في النص أعاله عما مضى من عمر‬
‫الكون يمكن الرجوع إلى عدد من المراجع العلمية الموثوقة وكذلك إلى الموقع‬
‫‪10‬‬
‫اإللكتروني الحكومي لوكالة ناسا الفضائية‪.‬‬
‫ليس غرضي دقة األرقام وإنما الصورة الكلية للتقدير الزمني وهو أن ما‬
‫مضى من عمر الكون يقدر علميا حتى اآلن بمليارات السنين‪ .‬الجدول أدناه‬
‫يلخص التمرين الذي قمنا به لمقاربة األمد الزماني القتراب الساعة جمعا بين‬
‫ب‬
‫صحيح الحديث الشريف وصحيح علم الفيزياء الفلكية‪ ،‬وذلك بافتراض نس ٍ‬
‫مختلفة تعبّر عن نسبة األصبع السبابة إلى األصبع الوسطى رأي العين‪ ،‬لتفيد‬
‫نسبة ما مضى من عمر الكون إلى جملته‪ ،‬ثم حساب ما بقي من عمر الكون‬
‫بقسمة ما مضى منه(‪ 13.8‬مليار سنة) بحسب علم الفيزياء الفلكية على (بسط)‬
‫النسب المفترضة في الجدول‪ .‬فمثال إذا قدّرنا أن نسبة السبابة إلى الوسطى‬
‫تساوي تسعة أعشار فهذا يعني أن تسعين في المائة من عمر الكون قد مضى‪،‬‬
‫ولم يبق على نهاية الدنيا إال عشرة في المائة فقط‪ ،‬وهذا يفيد معنى القرب حقا‪،‬‬
‫ولكن هذا القرب الشديد عندما نترجمه إلى أرقام زمنية(‪ )13.8/9‬فإنه يقاس‬
‫بمليارات السنين(‪ .)1.5‬لذلك فإن األمد الزمني القتراب الساعة‪ ،‬ونهاية‬
‫االستخالف اإلنساني على األرض‪ ،‬بحسب حساباتنا هذه‪ ،‬يمتد من يوم واحد‬
‫إلى مليارات السنين‪ ،‬بينما األمد الزمني الفردي يمتد من يوم واحد إلى مائة‬
‫عام‪ .‬والقضية الجوهرية التي أريد التأكيد عليها هي أن نتصور‪ ،‬إنطالقا من‬
‫‪10‬‬
‫‪- Dinwiddie, Robert, and Others. Universe, New York: DK; Rev Upd edition(September 17, 2012), page‬‬
‫;‪27‬‬
‫‪- Adams, Fred, and Laughlin, Greg. The Five Ages of the Universe: Inside the Physics of Eternity, Free‬‬
‫;‪Press 2000, p xiii‬‬
‫‪- http:/www.nasa.gov/mission_Pages/planck/multimedia/pia 16873.html#.VrZk3P197Z4.‬‬

‫‪44‬‬
‫إنجازات وإخفاقات الواقع البشري الحالي‪ ،‬ما يمكن أن يفعله ويعمله اإلنسان‬
‫من صالح وفساد في األرض خالل هذا األمد الزماني المتطاول لعمر الكون‬
‫الذي يمتد إلى مليارات السنين‪ ،‬وما يمكن أن ينجزه في مجال العلم‬
‫والتكنولوجيا وتوظيفاتهما الكونية‪ ،‬وما سوف يؤول إليه أمر األرض من حيث‬
‫العمران وتدافع اإلنسان‪ ،‬وسنن هللا تعالى الحاكمة لهذا التدافع‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫التقدير النسبي للمدى الزمني القتراب الساعة‬

‫األمد الزمني القتراب الساعة‬ ‫تقدير ما‬ ‫حساب ما تبقى‬ ‫تقدير ما مضى‬ ‫نسبة‬
‫تبقىمن عمر‬ ‫من عمر الكون‬ ‫من عمر الكون‬ ‫األصبع السبابة‬
‫الكون(مليارات‬ ‫(مليارات‬ ‫إلى األصبع‬
‫السنين)‬ ‫السنين)‬ ‫الوسطى‬

‫يوم واحد __ ‪1.56‬مليار سنة‬ ‫‪1.56‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪9‬‬


‫‪/9‬‬ ‫‪/10‬‬
‫يوم واحد___‪1.75‬مليار سنة‬ ‫‪1.75‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪/8‬‬ ‫‪/9‬‬
‫يوم واحد ___‪2.00‬مليار سنة‬ ‫‪2.00‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪/7‬‬ ‫‪/8‬‬
‫يوم واحد ___‪2.33‬مليار سنة‬ ‫‪2.33‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪/6‬‬ ‫‪/7‬‬
‫يوم واحد ___ ‪2.80‬مليار سنة‬ ‫‪2.80‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪/5‬‬ ‫‪/6‬‬
‫يوم واحد ___ ‪3.5‬مليار سنة‬ ‫‪3.5‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪/4‬‬ ‫‪/5‬‬
‫يوم واحد __ ‪4.67‬مليار سنة‬ ‫‪4.67‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪/3‬‬ ‫‪/4‬‬

‫الذي استخلصه مما سبق‪ ،‬ومما سوف يلحق في هذا البحث إن شاء هللا‬
‫تعالى‪ ،‬هو أن استخالف اإلنسان القائم على االبتالء الذي من أجله خلق هللا‬
‫تعالى السماوات واألرض كما يخبرنا القرآن الكريم إنما هو في بداياته‪،‬‬
‫وسوف يمتد زمانا‪ ،‬تفاعال وتدافعا‪ ،‬حتى يبلغ أمده الزماني الملياري‪ ،‬وسوف‬
‫يمتد مكانا حتى يبلغ مداه الكوني السماوي‪.‬‬
‫هذه الدالالت الحسابية يحتملها الحديث النبوي الشريف‪ ،‬وال تناقض‬
‫الداللة المعنوية التي وردت في حديث (أنا وكافل اليتيم كهاتين) المستخدم فيه‬
‫ذات األصبعين‪ ،‬فهما يشتركان في معنى القرب‪ ،‬إال أن القرب في الحديث‬
‫األول يمكن‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬قياسه رقميا بينما القرب في الحديث الثاني ال‬

‫‪46‬‬
‫يمكن إال اإلحساس به معنويا‪ .‬وعلينا أن نتذكر أنه يمكننا أن نحسب بدقة كبيرة‬
‫بعضا مما تبقى من عمر الساعة الذي ورد في الحديث‪ ،‬وهي الفترة ما بين‬
‫رواية الحديث إلى يومنا هذا مما يعطي‪ ،‬من حيث المبدأ‪ ،‬المشروعية لتوظيف‬
‫العلم في تقدير آجال عمر الكون ومن ثم قرب الساعة‪ ،‬وليس لحظة قيامها‪.‬‬
‫هناك أيضا قضية الفجوة الزمنية الهائلة بين عمر الكون التقديري(‪13.8‬‬
‫مليار عام) بحسب علم الفيزياء الفلكية‪ ،‬وعمر قدوم اإلنسان إلى األرض(‪5‬‬
‫مليون عام) بحسب ما كشفت عنه حتى اآلن حفريات وتقديرات علماء‬
‫األنثروبولوجيا‪.‬‬
‫نحن ال نحسن الظن بنظريات األنثروبولوجيين فيما يتعلق بأصل‬
‫اإلنسان ونسبته إلى القرود وتطوره بعد ذلك‪ ،‬فالقرآن الكريم حسم هذا األمر‬
‫بآيات كثيرة تتعلق بأصل بني آدم الذي هو نبي مكرم خلقه هللا في أحسن تقويم‬
‫وعلمه األسماء كلها ثم أهبطه إلى األرض‪ ،‬واألطوار التي يمر بها اإلنسان‬
‫وذكرها القرآن الكريم هي أطوار من داخل النوع اإلنساني ال من خارجه‪.‬‬
‫ولكن ما يهم بحثنا هذا من مقوالت األنثروبولوجيا هو العمر الزمني لإلنسان‬
‫في األرض‪ ،‬فليست هناك إشارة في القرآن الكريم‪ ،‬أو السنة النبوية الصحيحة‪،‬‬
‫حسب علمي‪ ،‬إلى كم مضى من الزمان منذ أن هبط اإلنسان إلى األرض إلى‬
‫بعثته صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬إال أن القرآن الكريم يعطي موجهات منهجية‬
‫بالسير في األرض والنظر في كيف بدأ الخلق‪ ،‬وكيف كان عاقبة الذين من‬
‫قبل‪ ،‬مما يعطي مشروعية علمية لعلم األنثروبولوجيا فيما ليس فيه نص موحى‬
‫من تاريخ اإلنسان على األرض‪ .‬لذلك يظل تقدير خمسة مليون عام على وجود‬
‫اإلنسان في األرض‪ ،‬رغم افتقاره إلى الدقة العلمية‪ ،‬هو أفضل تخمين علمي‬
‫لدينا حتى اآلن‪ ،‬ال سيما وأن اآلثار التي تركها األقدمون وراءهم في األرض‬
‫ال توحي بمدى زمني هو أبعد من ذلك‪.‬‬
‫واإلشكال الوجودي الذي يطرحه البعد الزماني لإلنسان يأتي من فهمنا‬
‫القرآني أن الكون(السماوات واألرض وما بينهما) إنما خلق لحكمة تتعلق بخلق‬

‫‪47‬‬
‫اإلنسان واستخالفه في األرض‪ ،‬فكيف نعقل أن الكون الذي خلق من أجل‬
‫اإلنسان ظل في انتظاره متشكال عبر مليارات السنين ثم يأتي اإلنسان‬
‫يتعرف اإلنسان بعد‬
‫ّ‬ ‫المستخلف في آخر خمسة مليون عام لتقوم الساعة‪ ،‬ول ّما‬
‫حتى على األرض التي هو مستخلف فيها دعك عن كل الكون الذي من أجله‬
‫خلق‪ ،‬وفيه يبتلى‪ ،‬وبعمله فيه يحاسب؟ أضف إلى ذلك أن عدد سكان األرض‬
‫خالل هذه الفترة الزمنية المحدودة من عمر اإلنسان كان قليال جدا‪ ،‬حتى من‬
‫إشارات القرآن الكريم بهذا الخصوص‪    ( :‬‬

‫‪() ‬الصافات)‪ ،‬والمجتمعات البشرية متفرقة‪ ،‬وتفصل بينها‬

‫جغرافيا ً مساحات شاسعة من اليابسة والبحار‪ ،‬ولم تتكاثر أعداد البشرية لتصل‬
‫إلى ما هي عليه اليوم إال في القرون األخيرة‪.‬‬
‫إذن ماذا نستنتج من كل هذه الدالالت الحسابية فيما يتعلق بموضوعنا؟‬

‫النتيجة األولى؛ هي أن ننفي عقال أن يكون الخالق سبحانه‬


‫وتعالى قد خلق هذا الكون‪ ،‬الموغل في القدم‪ ،‬ببداياته ونهاياته‬
‫العظيمة‪ ،‬الذي يستمد علّة خلقه من خلق اإلنسان وابتالئه عمال‬
‫وحركة فيه‪ ،‬من أجل هذه الفترة الزمنية المحدودة التي مكثها‬
‫هذا اإلنسان في هذه األرض‪ ،‬وبأعداده وأعماله المتواضعة كما‬
‫ونوعا؛‬
‫النتيجة الثانية؛ هي أن األمر يستقيم عقال إن سلّمنا بأن اقتراب‬
‫الساعة ونهاية الكون إنما يقدر بمليارات السنين كما جاء في‬
‫حساباتنا التقديرية السابقة‪ ،‬ألن هذه المليارات المتبقية لإلنسان‬
‫كخليفة عن هللا في األرض يترتب عليها‪ ،‬أوال؛ تحقيق تكافؤ نسبي‬

‫‪48‬‬
‫بين عمر األرض وعمر اإلنسان المستخلف فيها بما يزيل نسبيا‬
‫إشكال الفجوة الزمنية بين عمريهما‪ ،‬ثم ثانيا؛ توقّع نتائج عظيمة‬
‫من فعل اإلنسان في هذا الكون‪ ،‬فيما تبقى من عمره‪ ،‬تكافئ‬
‫عظمة الخلق الكوني‪ ،‬بداية ونهاية‪.‬‬
‫هذه النتائج العظيمة المتوقعة لعمل اإلنسان‪ ،‬في فسادها وصالحها‪ ،‬هي‬
‫موضوع استشرافنا للحركة الكونية لإلنسان في القرآن الكريم فيما تبقى من‬
‫عمره الدنيوي‪ ،‬مما سوف نستعرضه فيما يلي من هذا البحث‪.‬‬

‫‪ -2.3‬الفرضيات العلمية المجيبة عن األسئلة الوجودية‬


‫سوف أستعرض فيما يلي الفرضيات العلمية التي استخلصتها من القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬والتي أحسب أن مضامينها تعطي إجابة شافية لما سبق من أسئلة‬
‫وجودية‪ ،‬وسوف أدعم كل فرضية باآليات القرآنية التي استوحيتها منها‪ ،‬إن‬
‫شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫‪ -1.2.3‬الفرضية األولى‪:‬‬

‫األرض‪ ،‬بقمرها وشمسها‪ ،‬لها ما يماثلها في كل سماء من‬


‫السماوات السبع‪ ،‬وجميعها مستخلف فيها اإلنسان‪.‬‬
‫هذه فرضية قويّة ألنها تشترط أرضا في كل سماء من السماوات السبع‪،‬‬
‫وسوف نستغني الحقا عن هذا الشرط مع اإلبقاء على فرضية األرضين السبع‪.‬‬
‫هذه الفرضية تلخص استجابة القرآن الكريم‪ ،‬كما فهمتها‪ ،‬للسؤال الوجودي‬
‫المتعلق بحقيقة األرض فيه‪ ،‬وهي أن هذه األرض التي يعيش فيها البشر اآلن‬
‫هي أرض السماء الدنيا‪ ،‬ولكن لها ما يماثلها من األرض بقمرها وشمسها في‬
‫كل سماء من السماوات السبع‪ .‬هذا الفهم استنبطته من قول هللا تعالى الوارد في‬
‫اآليات اآلتية‪:‬‬

‫‪49‬‬
        ( -1

           

‫)(الطالق)؛‬    

        ( -2

       

‫)(الرحمن)؛‬

        (( -3

     

‫)(الزمر)؛‬  

         ( -4

         

‫)(البقرة)؛‬

50
‫(‪         ‬‬ ‫‪-5‬‬

‫‪()      ‬نوح)؛‬

‫(‪         ‬‬ ‫‪-6‬‬

‫‪()        ‬العنكبوت)‪.‬‬

‫(ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬ ‫‪-7‬‬

‫ﯺ ﯻ ﯼ)(الشورى)‪.‬‬

‫أستنبط من اآلية األولى أن هللا تعالى خلق سبع سماوات تماثلهن من‬
‫حيث العدد سبع من األرض‪ ،‬وأستشهد لذلك بما جاء في تفسير ابن كثير لهذه‬
‫اآلية‪ ،‬إذ يقول‪" :‬يقول تعالى مخب ًرا عن قدرته التُا ُمة وسلطانه العظيم‪ ،‬ليكون‬
‫{َّللا ا ُلذي خلق سبع‬‫ُ‬ ‫ذلك باع ًثا على تعظيم ما شرع من الدّين القويم‪:‬‬
‫ت طباقاً}؟‪ ،‬وقوله‬ ‫سماواتٍ}‪ ،‬كقوله تعالى‪{ :‬ألم تروا كيف خلق ُ‬
‫َّللا سبع سماوا ٍ‬
‫صحيحين‪« :‬من‬ ‫ضا‪ ،‬كما ثبت في ال ُ‬ ‫تعالى‪{ :‬ومن األرض مثله ُن} أي سبعًا أي ً‬
‫ي‪:‬‬ ‫ظلم قيد شبر في األرض ط ّوقه من سبع أرضين»‪ .‬وفي صحيح البخار ّ‬
‫«خسف به إلى سبع أرضين»‪ .‬وقد تقدم في سورة الحديد ذكر األرضين ال ُسبع‬
‫وبعد ما بينه ُن وكثافة ك ّل واحدةٍ منه ُن خمسمائة عا ٍم‪ ،‬وهكذا قال ابن مسعو ٍد‬
‫وغيره‪ ،‬وكذا في الحديث اآلخر‪« :‬ما ال ُسماوات ال ُسبع وما فيه ُن وما بينه ُن‬
‫ي إ ُال كحلق ٍة ملقاةٍ بأرض‬‫واألرضون ال ُسبع وما فيه ُن وما بينه ُن في الكرس ّ‬
‫ت ومن‬ ‫فالةٍ»‪ ،‬وقال ابن جرير‪ ،‬عن ابن عباس في قوله تعالى‪{ :‬سبع سماوا ٍ‬
‫األرض مثله ُن} قال‪ :‬لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم‪ ،‬وكفركم تكذيبكم بها" (رواه‬
‫ُاس رضي ُ‬
‫َّللا عنهما)‪.11‬‬ ‫ابن جرير عن مجاه ٍد عن ابن عب ٍ‬

‫‪11‬‬
‫‪ -‬ابن كثير‪ ،‬عماد الدين ابو الفداء إسماعيل‪ .‬تفسير القرآن العظيمن القاهرة‪ :‬الدار المصرية اللبنانية‪ ،‬ط‪1410 ،2‬ه‪1990 /‬م‪ ،‬ج‪.385 ،4‬‬

‫‪51‬‬
‫وجاء في "التحرير والتنوير" إلبن عاشور قوله "وجمهور المف ّسرين‬
‫ت فمنهم من قال هي‬ ‫جعلوا المماثلة في عدد ال ُسبع وقالوا‪ :‬إن األرض سبع طبقا ٍ‬
‫ُاس من رواية‬‫ي عن ابن عب ٍ‬ ‫ت منبسط ٍة تفرق بينها البحار‪ .‬وهذا مرو ٌّ‬ ‫سبع طبقا ٍ‬
‫ض‬‫ق بعضها فوق بع ٍ‬ ‫ي عن أبي صالح ٍ عنه‪ ،‬ومنهم من قال هي سبع طبا ٍ‬ ‫الكلب ّ‬
‫وهو قول الجمهور‪ .‬وهذا يقرب من قول علماء طبقات األرض (الجيولوجيا) ‪،‬‬
‫ت"‪.12‬‬‫ت أرضيُ ٍة لك ُنها ال تصل إلى سبع طبقا ٍ‬
‫من إثبات طبقا ٍ‬
‫إذن جمهور المفسرين يجعل المماثلة في العدد من حيث هي سبع‬
‫أرضين‪ ،‬غير أنه سبحانه وتعالى استخدم صيغة الجمع للسماوات ولم‬
‫يستخدمها لألرض مما يدل على أن كل سماء تختلف بصورة من الصور عن‬
‫السماوات األخرى‪ ،‬واألحاديث النبوية الواردة بشأنها تؤكد ذلك‪ ،‬ولكن األرض‬
‫ي‬
‫واحدة بسبع نسخ متماثلة بيئيا ومن حيث الغرض‪ .‬مثال ذلك أن تكون لد ّ‬
‫صورة فوتغرافية واحدة ولكن لي منها سبع نسخ‪ ،‬فال أقول لدي سبع صور بل‬
‫صورة واحدة منها سبع نسخ‪ ،‬ولكن إن كانت لدي سبع صور فوتوغرافية‬
‫تختلف عن بعضها من حيث هيئتي التي في كل منها‪ ،‬أو األمكنة المختلفة التي‬
‫صورت فيها فهنا البد من استخدام صيغة الجمع بشأنها‪ .‬الحقيقة المضطردة في‬
‫القرآن الكريم هي استخدام صيغة المفرد لألرض حيثما وردت مع مقابلتها‬
‫بالسماوات بصيغة الجمع غالبا‪.‬‬
‫في اآلية الثانية أيضا ما يدعم الفرضية األولى بأن في كل سماء أرض‬
‫مماثلة بيئيا ألرضنا هذه‪ ،‬فبجانب ذكر األرض مفردة مقابل السموات نجد أن‬
‫التحدي بالنفاذ لم يقتصر فقط على أقطار السموات وإنما امتد ليشمل أقطار‬
‫األرض‪ ،‬ولو كانت األرض المقصودة هي أرضنا هذه وحدها لما كان في ذلك‬
‫تح ٍدّ إذ لطالما نفذ الجن من أقطارها‪ ،‬وها هم اإلنس يفعلون ذلك اآلن بصورة‬
‫راتبة‪ .‬وفي تفسير األلوسي(روح المعاني) ما يدعم فرضيتنا أعاله فقد جاء فيه‪:‬‬
‫( أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا رضي‬
‫هللا تعالى عنه قال‪ :‬بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال‪« :‬هذه‬
‫األرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة‪ ،‬واألرض الثانية فوق السماء الدنيا‬
‫والسماء الثانية فوقها قبة‪ ،‬واألرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة‬
‫‪12‬‬
‫‪ -‬ابن عاشور‪ ،‬محمد الطاهر‪ .‬التحرير والتنوير‪ ،‬تونس‪ :‬الدار التونسية للنشر‪ ،1984 ،‬ج ‪ ،28‬ص ‪.340‬‬

‫‪52‬‬
‫فوقها قبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال‪ :‬واألرض السابعة فوق‬
‫السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرش الرحمن فوق السماء‬
‫ت ومن األرض مثلهن)‪.13‬‬‫السابعة‪ ،‬وهو قوله تعالى‪ :‬سبع سماوا ٍ‬
‫اآلية الثالثة تدعم أيضا فرضية السبع المتماثالت من األرض‪ ،‬ذلك أن‬
‫هللا تعالى ذكر السبع سماوات وطيّها يوم القيامة ولكنه ذكر بجانبها األرض‬
‫مفردة مضافا إليها كلمة "جميعا" ليدلل على أنها عديدة متماثلة الصفات‪.‬‬
‫ويدعم فهمنا هذا ما جاء عن ذلك في الكشاف للزمخشري حيث يقول‪( :‬والمراد‬
‫باألرض‪ :‬األرضون السبع‪ ،‬يشهد لذلك شاهدان‪ :‬قوله جميعاً وقوله وال ُسماوات‬
‫وألن الموضع موضع تفخيم وتعظيم‪ ،‬فهو مقتض للمبالغة‪ ،‬ومع القصد إلى‬ ‫ّ‬
‫الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر‪ ،‬ليعلم ّأول األمر‬
‫أن الخبر الذي يرد ال يقع عن أرض واحدة‪ ،‬ولكن عن األراضي كلهن)‪.14‬‬
‫اآلية الرابعة تؤكد بوضوح أن استخالفنا نحن البشر الذين في هذه‬
‫األرض يمتد إلى كل هذه األراضي السبع المتماثلة بيئيا‪ ،‬والدليل على ذلك أن‬
‫الخطاب موجه إلينا بأن كل ما في األرض خلق لنا‪ ،‬ولما كانت كلمة (جميعا)‬
‫راجعة إلى األرض‪ ،‬كما في اآلية الثالثة أعاله‪ ،‬فهي دليل على االستقصاء لكل‬
‫ما خلق في كل المتماثالت السبع من األرض‪ ،‬وأن كل ذلك لنا‪ .‬وجميع‬
‫التفاسير مما اطلعت عليه تفسر كلمة (جميعا) في هذه اآلية باعتبارها حال من‬
‫(ما)‪ ،‬أي خلق لكم جميع ما في األرض‪ ،‬والذي أراه أنها ترجع إلى األرض‬
‫باعتبار ما ذكرت أعاله من تفسير الزمخشري لآلية رقم(‪ ،)3‬وهو أبلغ في‬
‫الداللة على كثرة النعم‪ ،‬واتساع رقعتها‪ ،‬وسخاء المنعم‪ ،‬ولكن لما لم يكن أمر‬
‫استخالف اإلنسان في كل المتماثالت السبع من األرض متخيال عندهم‪ ،‬بحكم‬
‫مقتضى الزمان الذي عاشوا فيه‪ ،‬كان منطقيا وسليما أن يصرفوا المعنى إلى‬
‫المخلوقات المتعددة في أرضنا الواحدة هذه‪ .‬وأرى أن جمالً مثل (ما في‬
‫السماوات وما في األرض جميعا؛ ما في األرض جميعا؛ واألرض جميعا)‬

‫‪13‬‬
‫‪ -‬االلوسي‪ ،‬شهاب الدين بن عبد هللا الحسيني‪ .‬روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني‪ ،‬تحقيق‪ :‬علي عبد الباري عطية‪،‬‬
‫بيروت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪1415 ،1‬ه ج ‪ ،14‬ص‪.339‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ -‬الزمخشري‪ ،‬أبو القاسم محمود بن عمر بن احمد‪ .‬الكشاف‪ ،‬بيروت‪ :‬دار المعرفة‪ ،‬د‪ .‬ت‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.356‬‬

‫‪53‬‬
‫حيثما وردت في القرآن الكريم ينصرف معنى الجمع فيها‪ ،‬فيما يلي األرض‪،‬‬
‫إلى المتماثالت السبع من األرض ما لم يقم شاهد يصرف المعنى إلى أرضنا‬
‫الواحدة هذه‪ ،‬وليس إلى جميع المخلوقات المتعددة في األرض الدنيا هذه‪ ،‬إذ‬
‫المعنى األول يستوعب ويتجاوز المعنى الثاني‪.‬‬
‫اآلية الخامسة هي التي تعطينا الدليل على توزع األرضين السبع على‬
‫السماوات السبع‪ ،‬ولكنه دليل غير مباشر ومفاده اآلتي‪:‬‬
‫أوال؛ الشمس والقمر عالقتهما باألرض عالقة ضرورية‪ ،‬فهما الزمان لها‬
‫لتكون األرض صالحة للحياة‪ ،‬فحيثما توجد األرض البد أن يوجد معها الشمس‬
‫والقمر؛‬
‫ثانيا؛ تماثل األرضين السبع بيئيا يقتضي بالضرورة تماثل في شمسها وقمرها‪،‬‬
‫إذ لو اختلفت الشمس والقمر في كل أرض عنها في األخرى النتفى التماثل‬
‫األرضي المفترض ألنهما عامالن أساسيان في اكتساب األرض خصائصها‬
‫البيئية المميزة؛‬
‫ثالثا؛ تقتضي النقطة ثانيا أن ترد في القرآن الكريم لفظتا (الشمس) و(القمر)‬
‫بصيغة المفرد دائما‪ ،‬رغم أنهما بعدد األرضين السبع‪ ،‬للتأكيد على التماثل كما‬
‫هو الحال مع كلمة (األرض)‪ ،‬وهو الحاصل فعال في القرآن الكريم؛ وال‬
‫يقتضي ذلك إضافة كلمة (جميعا) إليهما للتدليل على التعدد كما أضيفت إلى‬
‫األرض‪ ،‬إذ يكفي في ذلك إضافة الكلمة إلى األرض ألنها هي األهم‪ ،‬وهما لها‬
‫تبع في ذلك؛‬
‫رابعا؛ حيث ما ذكر الشمس والقمر في القرآن الكريم فذلك باعتبار عالقتهما‬
‫باألرض‪ ،‬إذ ال ميزة لهما في ذاتهما كنجم وكوكب عن غيرهما من مليارات‬
‫النجوم والكواكب التي يعج بها الكون وتماثلهما في الخصائص الفيزيائية‪ .‬إن‬
‫األرض لخصوصيتها التي تميزها عن سائر الكواكب والنجوم‪ ،‬ومركزيتها في‬
‫خطة الخلق اإللهية العامة للكون كله‪ ،‬هي التي تكسب الشمس والقمر‬

‫‪54‬‬
‫خصوصيتهما عن سائر النجوم والكواكب‪ .‬لذلك يقتضي ذكر اسم العلم‬
‫(الشمس) و(القمر) في القرآن الكريم وجود (األرض) معهما‪ ،‬فإذا ذكر القرآن‬
‫الكريم أن الشمس والقمر توجدان في كل سماء‪ ،‬أو أنهما بحسبان‪ ،‬دل ذلك على‬
‫وجود األرض معهما‪ ،‬وأن ذكرهما إنما يرد بغرض التذكير بدورهما في المنّة‬
‫اإللهية العظمى على اإلنسان وهي األرض‪ ،‬وما تم فيها من إصالح بيئي‬
‫يناسب حياة اإلنسان‪ ،‬وما خلق فيها من نعم لمعاشه؛‬
‫خامسا؛ اآلية الخامسة أعاله تشير إلى أن في كل سماء من السماوات السبع‬
‫الطباق قمرا منيرا وشمسا سراجا‪ ،‬وهو المعنى اللغوي المباشر‪ ،‬وال داعي‬
‫لصرف المعنى إلى ما ذهب إليه المفسرون ال لشيئ إال الستبعادهم في األصل‬
‫القضية التي هي موضوع هذا البحث؛‬
‫سادسا؛ إذا سلمنا بسالمة المنطق والمضمون الذي حوته النقاط أعاله حصل‬
‫التسليم بأن األرض توجد في كل سماء‪ ،‬وأننا نحن البشر مستخلفون فيها‬
‫جميعا‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‪ .‬وال تتعارض هذه النتيجة مع ما جاء من تأكيد‬
‫في القرآن الكريم أن اإلنسان خلق من األرض‪ ،‬وفيها يحيى وفيها يموت ومنها‬
‫يخرج تارة أخرى‪ ،‬وأن مستقره ال يكون إال في األرض‪ ،‬ألن لفظة األرض‬
‫تستخدم هنا في عمومها وليس هناك ما يحصر المعنى في أرضنا هذه‪ ،‬ولنتذكر‬
‫أن اإلنسان هبط إلى هذه األرض الدنيا من أرض أخرى‪ .‬لذلك نقول‪ ،‬وباهلل‬
‫التوفيق‪ ،‬من عاش من بني آدم في أي من األرضين السبع ومات فيها فمنها‬
‫يبعث‪ .‬كذلك فإن تواصل الناس بين هذه األرضين السبع عبر رحالت‬
‫واتصاالت كونية تيسرها علوم وتقنية ال تخطر على بال أحد اآلن سوف يجعل‬
‫من اليسير‪ ،‬فيما يخص المسلمين‪ ،‬الحج إلى مكة من أي أرض كانوا فيها‪ ،‬كما‬
‫سوف يبدع العقل المسلم علوما شرعية جديدة‪ ،‬تنكسف أمامها علومنا الشرعية‬
‫الموروثة والمستجدة اآلن‪ ،‬وتنح ّل بها التحديات التي تواجه المسلم في العالم‬
‫الجديد‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫اآلية السادسة تعزز معنى اآلية الخامسة وتدعم فرضية تو ّزع األرضين‬
‫السبع بين السماوات السبع‪ ،‬وذلك بذكر هللا تعالى عدم قدرة الناس على‬
‫إعجازه‪ ،‬سواء في األرض‪ ،‬أو في السماء‪ .‬ولما كان مفهوما عدم اإلعجاز فيما‬
‫يتعلق باألرض‪ ،‬وهي مستقر الناس‪ ،‬فكيف نفهم عدم إعجازهم هلل في السماء؟‬
‫المفسرون‪ ،‬لعدم تصورهم بلوغ اإلنسان يوما ما أقطار السماوات‪ ،‬ردوا‬
‫المعنى إلى يوم القيامة رغم أنه يوم تبدل األرض غير األرض والسماوات‪،‬‬
‫ويوم ال فوت ويؤخذ الناس من مكان قريب‪ .‬والراجح لدينا أن اآلية تنبؤ بأن‬
‫طغيان اإلنسان وظنه بأنه مستغن عن هللا تعالى وخارج عن قدرته لن يقتصر‬
‫على األرض التي هو ظاهر فيها اليوم‪ ،‬بل سيصحبه في رحلته الكونية وهو‬
‫يجوب أرجاء ما س ّخر له من السماوات واألرض جميعا‪ .‬وداللة اآلية على‬
‫قضيتنا هي أنه لما قضى هللا تعالى أن األرض وحدها هي التي فيها يحيى‬
‫اإلنسان وفيها يموت ومنها يخرج فإن حركة اإلنسان الكونية تقتضي‬
‫بالضرورة أن تكون هناك أرضون تتوزع على الكون كله حتى يستقر اإلنسان‬
‫فيما يصل إليه منها ويعمرها ثم يستأنف مسيرته إلى ما وراءها من أرجاء‬
‫الكون الفسيح‪ .‬ليس ممكنا من حيث المسافة الزمانية والجغرافية أن يعود‬
‫اإلنسان من أطراف الكون إلى أرضه الدنيا ليتزود منها ويقضي حوائجه ثم‬
‫يعود من حيث أتى‪ ،‬ولنا في رحالت الفضاء الحالية المحدودة خير شاهد حيث‬
‫بدأ اإلنسان ينشئ محطات في الفضاء تكون له مرتكزا يقلل من حاجته إلى‬
‫العودة إلى األرض في كل رحلة كونية يقوم بها‪.‬‬
‫اآلية السابعة تثبت وجود الدواب في كل السماوات واألرض جميعا دون‬
‫تمييز لدواب دون دواب‪ ،‬ولما كانت كل دابة مخلوقة من ماء‪ ،‬بما في ذلك‬
‫ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬كما يخبرنا القرآن الكريم‪( :‬ﭝ ﭞ ﭟ‬

‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬

‫ﭾ)(النور)‪ ،‬فقد خرجت بذلك المالئكة والجنّة من أن تكون من الدواب‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫فاألولى مخلوقة من نور‪ ،‬والثانية مخلوقة من مارج من نار‪ .‬ولكن الدواب‬
‫بطبيعتها تحتاج إلى هواء للتنفس‪ ،‬وإلى ماء للشرب‪ ،‬وإلى طعام للغذاء‪ ،‬مما‬
‫يعني بيئة صالحة للحياة كبيئتنا األرضية هذه‪ ،‬وهذا بدوره له داللة هامة على‬
‫قول هللا تعالى‪( :‬ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ‬

‫ﰔ ﰕ)(الجاثية)‪ ،‬مفادها إمكان حركة اإلنسان الكونية مستفيدا من‬


‫البيئات الكونية المناسبة لمثله من الدواب‪ ،‬ومستفيدا أيضا مما بث هللا تعالى في‬
‫الكون من دابة قد يصلح بعضها لطعامه‪ .‬والنتيجة المستفادة من هذا الحجاج‬
‫هو أن أرضا صالحة لحياة اإلنسان‪ ،‬غير هذه األرض التي نحن فيها اآلن‪،‬‬
‫ومس ّخرة له‪ ،‬توجد في الكون الفسيح وتنتظر وصوله إليها وعمارتها‪ ،‬وهاهو‬
‫اإلنسان الخليفة يخطو أولى خطواته نحوها‪ ،‬وإن غدا لناظره قريب‪.‬‬
‫لفت نظري دقة التعبير القرآني في استخدام لفظة "أقطار" للنفاذ من‬
‫السموات واألرض ولم يستخدم لفظة "محيط"‪ ،‬ذلك أن األجرام السماوية‬
‫دائرية الشكل‪ ،‬وللدائرة "قطر" و"محيط"‪ ،‬وال يمكن النفاذ من الدائرة عن‬
‫طريق محيطها ألن تتبع المحيط يعيد المتتبع له من حيث بدأ‪ ،‬في دوران‬
‫دائري ال نهاية له‪ ،‬ولكن لما كان "القطر" هو الخط المستقيم الذي يمر عبر‬
‫مركز الدائرة ويربط بين نقطتين في محيطها فإن تتبعه إلى نهايته يمكن أن‬
‫يؤدي إلى النفاذ من الدائرة‪ .‬ولما كانت أي نقطة في محيط الدائرة تصلح كبداية‬
‫أو نهاية للخط المستقيم المحدّد لقطرها فهذا يعني أن لكل دائرة عددا ال نهائي‬
‫من األقطار من حيث نقطة البداية والنهاية‪ .‬هذا المعنى الفني لكلمة أقطار‬
‫ينسجم واستخدام القرآن لها بمعنى المروق من أي ناحية من نواحي الجرم‬
‫السماوي والخروج من مجال جاذبيته‪.‬‬
‫نختتم هذا الجزء من البحث المتعلق بالفرضية األولى بتلخيصه في الشكل رقم‬
‫(‪ )2‬أدناه حيث نفكك الفرضية األم التي تقول‪ ( :‬األرض‪ ،‬بقمرها وشمسها‪ ،‬لها‬
‫ما يماثلها في كل سماء من السماوات السبع‪ ،‬وجميعها مستخلف فيها اإلنسان)‬

‫‪57‬‬
‫إلى الفرضيات األولية التي تتكون من مجموعها‪ ،‬ثم نلحق بكل فرضية األدلة‬
‫القرآنية المنشئة لها‪ .‬الفرضيات األولية الرافدة لهذه الفرضية األم هي أربع‪:‬‬
‫‪ -1‬فرضية (التماثل العددي بين األرض والسماوات)؛‬
‫‪ -2‬فرضية (التماثل البيئي بين األرضين السبع)؛‬
‫‪ -3‬فرضية (استخالف اإلنسان في األرضين السبع)؛‬
‫‪ -4‬فرضية (تو ّزع األرضين السبع بين السماوات السبع)‪.‬‬
‫إن فوائد هذا المنهج التفكيكي هي اآلتي‪:‬‬
‫أوال؛ لكي ندحض الفرضية األم إنطالقا من القرآن الكريم فالبد من دحض‬
‫كل‪ ،‬أو بعض الفرضيات األولية من حيث رد أدلتها القرآنية؛‬
‫ثانيا؛ يمكن اآلن التخلي عن فرضية (توزع األرضين السبع على السماوات‬
‫السبع) دون دحض الفرضية األم‪ ،‬بينما دحض أي من الفرضيات األخرى‬
‫يؤدي مباشرة إلى دحض الفرضية األم ذاتها؛‬
‫ثالثا؛ تقلصت المسافة كثيرا بين مصدر التنظير وهو القرآن الكريم وبين عملية‬
‫التنظير ذاتها‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫شكل رقم (‪)3‬‬

‫فرضية التماثل األرضي وروافدها من الفرضيات العلمية وأدلتها القرآنية‬

‫األرض‪ ،‬بقمرها وشمسها‪ ،‬لها ما يماثلها يف كل سماء من‬


‫السماوات السبع‪ ،‬وجميعها مستخلف فيها اإلنسان‪.‬‬

‫فرضية استخالف‬ ‫فرضية توزع‬ ‫البيئ‬


‫ي‬ ‫فرضية التماثل‬ ‫فرضية التماثل العددي‬
‫اإلنسان نف األرضين‬ ‫ن‬
‫األرضي السبع عىل‬ ‫ن‬
‫األرضي السبع‬ ‫ن‬
‫بي‬ ‫بي األرض والسماوات‬‫ن‬
‫ي‬
‫السبع‬ ‫السماوات السبع‬

‫* (‪   ‬‬ ‫( االستتتتتتقراء الكلّتتتتتي‬


‫(‪    ‬‬ ‫)‪    ‬‬
‫آليتتتتتات األرض فتتتتتي‬
‫‪    ‬‬ ‫القتتتتتتتتترآن الكتتتتتتتتتريم‪،‬‬
‫‪   ‬‬ ‫واضتتتطراد استتتتخدام‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫صتتتتتتتتتتيغة المفتتتتتتتتتترد‬
‫‪   ‬‬ ‫(األرض)‪ ،‬مع إمكان‬ ‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫جمعهتتتتتا متتتتتن حيتتتتتث‬
‫‪  ‬‬ ‫اللغتتتتة‪ ،‬وإتبتتتتاع ذلتتتتك‬ ‫‪   ‬‬
‫‪)    ‬‬
‫بكلمتتتتتتتتتة (جميعتتتتتتتتتا)‬
‫(البقرة)‪  ( .‬‬ ‫‪()‬نوح)‪ ( .‬‬ ‫الستقصتتتتتتتاء الستتتتتتتبع‬ ‫‪   ‬‬
‫أرضتتتتتتتتين‪ ،‬مقابتتتتتتتتل‬
‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫صتتتتتتتتتتتيغة الجمتتتتتتتتتتتع‬
‫‪  ‬ا‪‬‬ ‫‪   ‬‬
‫للسماوات‪ ،‬أفاد اليقين‬
‫ن‬ ‫ِ‬
‫ِ يف‬ ‫َج ِاع ٌل‬ ‫‪().‬هود)‪(ِ .‬إ ن ين‬ ‫لدينا بتماثلها البيئي‪.‬‬
‫لسماء)(العنكبوت)‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪)    ‬‬
‫َ َ ً‬
‫ض خ ِليفة)( البقرة)‬ ‫أ َأ‬
‫األر ِ‬
‫(الطالق)‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الفرضية األولى أعاله تقتضي إثبات قدرة اإلنسان على الوصول ببدنه‬
‫إلى كل األرضين الست الباقية ليحقق فيها استخالفه‪ ،‬وينتفع بما خلق له فيها‪،‬‬
‫وأن في القرآن الكريم من الشواهد ما يمكن أن تتولد عنه هذه الفرضية‪ .‬هذه‬
‫القضية تتم معالجتها في الفرضية الثانية‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪ ،‬فإلى تلك‬
‫الفرضية‪.‬‬

‫‪ -2.2.3‬الفرضية الثانية‪:‬‬

‫سوف يبلغ اإلنسان بعلمه وعمله جميع المتماثالت من األرض في‬


‫السموات السبع ليحقق مغزى االستخالف العمراني عليها قبل‬
‫قيام الساعة‪.‬‬
‫سوف أورد‪ ،‬أوال‪ ،‬شواهدي الداعمة لهذه الفرضية العلمية ثم أتبعها‬
‫باألسباب التي أرى أنها سوف تدفع باإلنسان وتحفزه لتحقيق هذه الفرضية‪،‬‬
‫والوسائل التي سوف تمكنه من ذلك‪ ،‬وأبدأ بالشواهد من القرآن الكريم‪ ،‬ثم من‬
‫السنة النبوية‪ ،‬ثم من التجربة البشرية المعاصرة‪.‬‬

‫أوال؛ قول هللا تعالى‪      ( :‬‬

‫‪         ‬‬

‫‪          ‬‬

‫‪()   ‬الرحمن)‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫في هذه اآليات تحدى هللا تعالى الجن واإلنس بالنفاذ من أقطار السموات‬
‫ ولكن‬،‫ ثم أكد قهرهم عن ذلك بشواظ من نار ونحاس‬،‫واألرض إن استطاعوا‬
‫هذا يدل على قدرة الجن واإلنس على بلوغ أقطار السموات واألرض ألنه ال‬
‫ وعطف‬.‫معنى لتحديهم بالنفاذ منها إن كانوا عاجزين ابتدا ًء عن الوصول إليها‬
‫اإلنس على الجن في اآلية له مغزاه ألن الجن بأصل خلقتها قادرة على‬
،‫ وقد وث ّق القرآن ذلك في أكثر من آية‬،‫الوصول إلى أقطار السموات واألرض‬
      ( :‫فمثال قوله تعالى‬

            

  ( :‫)(الجن)؛ وكذلك قوله تعالى‬   

          

          

          

      ( ‫)(الصافات)؛‬

          

.)‫)(الحجر‬   

61
‫إذن عطف اإلنس على الجن‪ ،‬الذين يستطيعون بأصل خلقتهم بلوغ‬
‫أقطار السماوات واألرض‪ ،‬دليل على أن اإلنس يستطيعون بعلمهم وعملهم‬
‫بلوغ ما بلغته الجن بأصل خلقتهم‪ .‬واإلذن للجن واإلنس ببلوغ أقطار السموات‬
‫واألرض فألن هللا تعالى قد س ّخر لهما ما في السموات وما في األرض جميعا‬
‫منه‪ ،‬والتسخير القائم على االبتالء والمقتضي للحساب والجزاء يفترض تيسير‬
‫الوصول إلى تلك المس ّخرات لمن س ّخرت له‪ .‬ولكن النفاذ من أقطارها ممتنع‬
‫في حقهما‪ ،‬رغم تطلعهما لذلك بحكم الجبلّة‪ ،‬ألنه ليس بعد السماء السابعة إال‬
‫عرش الرحمن فيما نعلم من السنة النبوية‪ ،‬وهو خارج مجال التسخير‪.‬‬
‫وال نرى ما تراه تفاسير القرآن الكريم المختلفة(أنظر التحرير والتنوير‬
‫البن عاشور) من أن التحدي إنما يتعلق بيوم القيامة وليس في هذه الدنيا‪ ،‬وذلك‬
‫لسببين؛ األول‪ ،‬هو أن جميع اآليات التي وردت في سورة الرحمن قبل آيات‬
‫التحدي هذه تتعلق بتبيان عظمة ما خلق هللا تعالى من كائنات بما في ذلك الجن‬
‫واإلنس‪ ،‬وبمنّته وآالئه على الجن واإلنس من حيث تسخيره هذا الخلق العظيم‬
‫لمنفعتهم‪ ،‬وإنكاره عليهم طغيانهم وجحودهم نعمته‪ ،‬وتو ّهم استغنائهم بقدراتهم‬
‫الذاتية عنه تعالى‪ ،‬فتحداهم بما ليس مسخرا لهم ومن ثم ليس في مقدورهم‪.‬‬
‫السبب الثاني لردنا ما جاء في التفاسير هو أن القرآن الكريم يصف يوم القيامة‬
‫وصفا ال يسمح بأن تكون للجن واإلنس قوة‪ ،‬أو حيلة يمكن تحديها بالنفاذ من‬
‫أقطار السموات واألرض‪ ،‬فاألرض التي نعرفها جميعا في قبضة هللا تعالى‬
‫يوم القيامة‪ ،‬والسماوات التي نعرفها مطويات بيمينه سبحانه‪ ،‬والناس يخرجون‬
‫من األجداث حفاة عراة مهطعين إلى الداعي‪ ،‬والمجرمون يعرفون بسيماهم‬
‫فيؤخذ بالنواصي واألقدام‪ ،‬وكل نفس تأتي معها سائق وشهيد فأين المفر‪( :‬‬

‫‪()         ‬سبأ)‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫ثانيا؛ في السنّة والسيرة النبوية ما يدعم فرضية قدرة اإلنس‪ ،‬بجانب الجن‪،‬‬
‫على بلوغ أقطار السموات واألرض متمثلة في عروجه صلى هللا عليه وسلم‬
‫بكامل هيئته البشرية وبلوغه أقطار السماء السابعة مرورا بكل السموات التي‬
‫دونها‪ .‬وإذا كان الرسول‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قد تم ّكن من ذلك في زمانه‬
‫بسبب ترتيبات إالهية معينة مثل دابة البراق وحاديها جبريل عليه السالم‪ ،‬وفي‬
‫ذلك معجزة له‪ ،‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فإن اإلنسان اليوم بترتيبات إالهية معينة‬
‫كذلك‪ ،‬مثل البدل الخاصة برواد الفضاء‪ ،‬والسفن الفضائية وحاديها علم هللا‬
‫الكوني الذي شاء هللا تعالى أن يحيط به اإلنسان‪ ،‬وغدا ً بعل ٍم يستغني به اإلنسان‬
‫في حركته الكونية عن الوسائط المادية‪ ،‬يستطيع الوصول إلى ما س ّخر له من‬
‫أقطار السموات واألرض‪ .‬وإنما نسبت هذه المخترعات البشرية إلى هللا تعالى‬
‫ألنه سبحانه وتعالى قال‪()    ( :‬الصافات)‪.‬‬

‫ثالثا؛ يمكننا أن نستنتج من القرآن الكريم أن اإلنسان يمكنه أن يبلغ درجة من‬
‫العلم تم ّكنه من نقل األجسام المادية الضخمة إلى مسافات شاسعة في لمح‬
‫البصر‪ ،‬ولنقرأ قول هللا تعالى‪     ( :‬‬

‫‪          ‬‬

‫‪             ‬‬

‫‪            ‬‬

‫‪           ‬‬

‫‪63‬‬
‫‪             ‬‬

‫‪()‬النمل)‪.‬‬

‫تدل اآليات على أن قدرات اإلنسان في نقل وتحريك المادة بعلمه غلبت‬
‫قدرات الجن على فعل ذلك بأصل خلقتهم‪ ،‬وقد يأتي هذا العلم من كتاب هللا‬
‫المسطور(الوحي)‪ ،‬وقد يأتي من كتابه المنظور(الكون)‪ ،‬ولك ٍّل مناهجه التي‬
‫تناسب أخذ هذا العلم منه‪ .‬والشاهد أن اإلنسان اليوم تتراكم حصيلته من هذا‬
‫العلم بصورة متسارعة عن طريق تطوير مناهج وتقنيات دراسة الكون بحيث‬
‫أصبح يقترب من السقف المعرفي الذي أثبتته اآليات السابقة فيما يتعلق بالقدرة‬
‫على نقل وتحريك األجسام المادية في الزمان والمكان بما يهيئ اإلنسان للقيام‬
‫برحلته الكونية في أقطار السماوات واألرض محققا مغزى االستخالف‪.‬‬
‫رابعا؛ يسير اإلنسان اآلن‪ ،‬من خالل رحالته المأهولة وغير المأهولة إلى‬
‫كواكب مجموعتنا الشمسية‪ ،‬ومن خالل استكشاف الكون البعيد عبر تيلسكوباته‬
‫المدارية ومحطاته األرضية‪ ،‬بخطوات ثابتة نحو أقطار السموات واألرض‪،‬‬
‫نافذا من أقطار أرضه الدنيا التي ذرأ فيها باحثا عما يليها من أرض‪ ،‬وهذا‬
‫أكبر دليل يدعم الفرضية الثانية‪ ،‬والحمد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫إن فرضيتنا العلمية تنبؤ أن اإلنسان قد بدأ للتو مسيرته الحضارية‬
‫االستخالفية التي من أجلها خلقت السموات واألرض‪ ،‬وأن تاريخ الكون‬
‫وتاريخ اإلنسان فيه إن هو إال مقدمات لهذه المسيرة االستخالفية القادمة التي‬
‫سوف تشهد من األعمال اإلنسانية الكونية العظيمة في صالحها‪ ،‬أو فسادها‪ ،‬ما‬
‫يكافئ عظمة الخلق الكوني ببداياته ونهاياته المذكورة في القرآن الكريم‪ .‬ولكن‬
‫يبقى السؤال المتعلق بما يحفز اإلنسان للخروج من أرضه الدنيا هذه ويبدأ‬
‫مسيرته الكونية‪ ،‬والوسائل التي سوف تعينه على القيام بذلك‪ .‬واإلجابة عن هذا‬
‫السؤال تعيدنا إلى خطة الخلق العامة التي بسطنا تفاصيلها في القسم السابق‪ ،‬إذ‬

‫‪64‬‬
‫يتبين منها أن الحافز األعظم لحركة اإلنسان الكونية هو ذات الحافز الذي خلق‬
،)‫ أال وهو (تعظيم متاع الحياة الدنيا‬،‫فيه فطرة ليعمر األرض وليتحقق االبتالء‬
‫وقد قال هللا تعالى في آيات كثيرة إن هذا هو دافع من آثر الحياة الدنيا على‬
( ‫(ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ)(األعلى)؛‬ :‫اآلخرة‬

            

       ( ‫)(األنعام)؛‬ 

( ‫)(محمد)؛‬      

         

          

           

.)‫)(الحديد‬        

‫إن مليارات السنين المتبقية احتماال من عمر اإلنسان في هذه الحياة‬


‫ يتوقع أن تؤدي إلى زيادات سكانية هائلة قد تصل‬،‫ إن صحت نظريتنا‬،‫الدنيا‬
‫ ولن يكون أمام‬،‫إلى ترليونات من البشر مما تضيق به األرض بما رحبت‬
‫أصحاب االستطاعة من الناس إال الضرب في الكون الفسيح بحثا عن أرض‬
‫ والقرآن الكريم يؤكد أن األصل في العدد السكاني‬.‫أخرى للسكن والعمران‬

65
‫للبشر هو الزيادة ألن "األوالد" الذين بهم يزيد عدد سكان األرض هم م ّكون‬
‫أساسي من مكونات المتاع الدنيوي الذي يسعى الناس لتعظيمه(وتكاثر في‬
‫األموال واألوالد)‪ .‬لذلك مهما اتخذ واضعوا السياسات السكانية من وسائل لمنع‬
‫التكاثر البشري فإن مآلهم إلى الفشل‪ ،‬وسوف يظل الناس يتكاثرون‪ ،‬ال سيما‬
‫عندما تتحسن األحوال المعيشية والصحية للمستضعفين في األرض اآلن‪،‬‬
‫ومنهم من يعتبر الزيادة في المواليد نعمة من هللا تعالى‪ ،‬والتكاثر العددي منعة‪،‬‬
‫فيتزايد بسبب ذلك عدد المواليد ويقل عدد الوفيات‪ .‬فإذا أضفنا إلى هذه القنبلة‬
‫السكانية الموقوتة تنافس األنفس البشرية‪ ،‬ليس بتقواها ولكن بفجورها‪ ،‬على‬
‫زينة الحياة الدنيا(المال والبنون) فإن فسادا عظيما يتوقع أن يعم األرض فيما‬
‫تستقبل البشرية من أيام دهرها‪ ،‬بحيث يهرب كل من يستطيع الهرب إلى‬
‫الكون الفسيح للنجاة بنفسه وبمن يحب‪ .‬وما االستعدادات التي تجري اآلن على‬
‫قدم وساق لذهاب الناس في سياحة فضائية‪ ،‬واالستثمارات الضخمة التي تقوم‬
‫بها الشركات المتخصصة إلنتاج مركبات فضائية تجارية‪ ،‬والبحث العلمي‬
‫الجاري في المجاالت الزراعية إلنتاج محاصيل ونباتات يمكنها النمو‬
‫واالزدهار في بيئات الفضاء الخارجي‪ ،‬وفي مجاالت األغذية إلنتاج أنواع من‬
‫األطعمة يمكنها الصمود ألمد طويل في رحالت فضائية تمتد آلجال طويلة‪ ،‬ما‬
‫كل ذلك إال إرهاصات لما تتحدث عنه هذه الورقة‪ .‬واآلن هناك نفر من البشر‬
‫انتدب نفسه للسفر واإلقامة بال عودة في كوكب المريخ في إطار ترتيبات‬
‫فضائية يجري اإلعداد لها اآلن‪.‬‬
‫أما وسائل تحقيق تلك الحركة الكونية القدرية لإلنسان فهما العلم الكوني‬
‫والتقنية التي يطورها اإلنسان بأسباب من هذا العلم‪ .‬علينا أن نتذكر أن التراكم‬
‫المعرفي والتقدم العلمي المدهش والمتسارع الذي تحققه البشرية اآلن‪ ،‬وما‬
‫ترتب عليه من تقنية ومنجزات حضارية واستكشافات فضائية‪ ،‬تم في معظمه‬
‫خالل القرنين الماضيين فقط من عمر اإلنسان على هذه األرض‪ ،‬فإذا أضفنا‬
‫إلى ذلك أن األمد الزماني لما تبقى من عمر الكون‪ ،‬بحسب استنتاجاتنا السابقة‬
‫في هذا البحث‪ ،‬قد يمتد إلى بضع مليارات من السنين يواصل فيها اإلنسان‬

‫‪66‬‬
‫مسيرته العلمية والتقنية المتسارعة والمتراكمة‪ ،‬بما يحقق في مجال المادة‬
‫مضمون اآلية (قبل أن يرتد إليك طرفك)‪ ،‬توصلنا إلى نتيجة معقولة مفادها أن‬
‫الكون المسخر لإلنسان كله‪ ،‬بسماواته السبع واألرض المماثلة لها عددا‪ ،‬سوف‬
‫يكون في مدى االستكشاف واالستخالف اإلنساني‪ .‬وهذه الرحلة االستكشافية‬
‫هي التي سوف تم ّكن اإلنسان من اإلحاطة بعلم من الكتاب الكوني ال يخطر‬
‫اآلن على قلب بشر‪ ،‬ومن التحكم في مادة الكون الالمتناهية في الصغر والكبر‬
‫بحيث تصير حركة الراكب من األرض السابعة إلى األرض الدنيا كعرش‬
‫بلقيس في حضرة نبي هللا سليمان‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬وإن غدا لناظره قريب‪.‬‬
‫لما كان الهوى(تعظيم متاع الحياة الدنيا) هو اإلله الذي يدفع اإلنسان‬
‫اآلن في حركته الكونية فإن القرآن الكريم يشير إلى أن ناتج هذه الحركة‬
‫الكونية سوف يكون فسادا عظيما يكافئ عظمة السماوات واألرض‪ ،‬ويكاد‬
‫يفسدهن ومن فيهن لوال حفظ هللا تعالى لهن‪   ( :‬‬

‫‪       ‬‬

‫‪()     ‬المؤمنون)‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫‪ -4‬الخاتمة‬
‫هناك عدد من القضايا التي تهم األمة اإلسالمية اليوم مما يترتب على ما‬
‫جاء في هذا البحث نوجزها فيما يلي‪:‬‬
‫أوال؛ تهيئة األمة اإلسالمية للتطلع إلى اللحاق بركب السابقين إلى الفضاء‬
‫الكوني للقيام بواجب االستخالف التوحيدي في األرض جميعا‪ ،‬ذلك أن الذين‬
‫يصلون إلى أقطار السماوات واألرض قبل غيرهم سوف يتحكمون في من‬
‫يلحق بهم‪ .‬ليس هناك دين غير اإلسالم الذي جاء به محمد‪ ،‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬يهدي البشرية للتي هي أقوم في حركتها الكونية‪ ،‬وليس هناك أمة غير‬
‫األمة اإلسالمية تكون شاهدة على الناس وهم يعمرون األرض جميعا من‬
‫السماء الدنيا إلى السماء السابعة‪.‬‬
‫ثانيا؛ إن العلم والتقنية العظيمة التي سوف يمتلكها من يستطيعون الوصول إلى‬
‫أقطار السماوات واألرض‪ ،‬وكذلك الموارد الفضائية التي سوف تكون تحت‬
‫تصرفهم تجعلهم قادرين‪ ،‬من على البعد‪ ،‬على فعل ما يشاؤون بمن أخلد إلى‬
‫هذه األرض‪ .‬ولما كان غير المسلمين هم المبادرون إلى الفضاء الكوني‪ ،‬وليس‬
‫بينهم وبين المسلمين مودة‪ ،‬وجب على األمة اإلسالمية أن تحتاط لنفسها‪ ،‬وأن‬
‫تختط لنفسها طريقا إلى الفضاء‪.‬‬
‫ثالثا؛ البد من إعادة النظر الجدّي في حقيقة علوم الدين بحيث تعود لجميع‬
‫آيات القرآن الكريم حيويتها في التأسيس للعلم التوحيدي‪ ،‬المحقق لإليمان‬
‫والعمران‪ ،‬في جميع امتداداته التخصصية التي تفرضها شروط الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬دون تحيز باسم الدين لتخصص دون آخر‪ .‬فكل علم ضروري إلقامة‬
‫الدين في الزمان والمكان فهو من علوم الدين‪ ،‬وهو بذلك علم شرعي ألن‬
‫الشريعة هي الدين كله كما جاء في القرآن الكريم‪( :‬ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ‬

‫ﱮ ﱯ ﱰﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱷﱸ‬

‫‪68‬‬
‫ﱹﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ‬

‫ﲇﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ)(الشورى)‪.‬‬

‫تم بحمد هللا‬

‫‪69‬‬
‫مراجع الكتاب‬
‫البخاري‪ ،‬أبو عبد هللا محمد بن اسماعيل‪ .‬صحيح البخاري‪ ،‬تحقيق عبد العزيز‬
‫بن عبد هللا بن باز‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪( ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1411‬ه‪1991 /‬م)‪.‬‬
‫األلوسي‪ ،‬شهاب الدين بن عبد هللا الحسيني‪ .‬روح المعاني في تفسير القرآن‬
‫العظيم والسبع المثاني‪ ،‬تحقيق علي عبد الباري عطية‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫الكتب العلمية‪( ،‬ط‪1415 ،1‬ه)‪.‬‬
‫الزمخشري‪ ،‬أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد‪ .‬الكشاف‪ ،‬بيروت‪ :‬دار‬
‫المعرفة‪( ،‬د‪ .‬ت)‪.‬‬
‫الترابي‪ ،‬حسن عبد هللا‪ .‬اإليمان وأثره في حياة اإلنسان‪ ،‬الدار العربية للعلوم‬
‫ناشرون‪ ،‬بيروت‪( ،‬ط‪1430 ،3‬ه‪2009/‬م)‪.‬‬
‫الخالدي‪ ،‬محسن سميح‪ .‬الهوى‪ :‬دراسة موضوعية للمصطلح القرآني‪،‬‬
‫دراسات‪ ،‬علوم الشريعة والقانون‪( ،‬المجلد ‪ ،37‬العدد ‪.)2010‬‬
‫بريمة‪ ،‬محمد الحسن‪ .‬العلم والمعرفة بين رؤيتين للعالم‪ ،‬معهد إسالم المعرفة‪،‬‬
‫السودان‪( ،‬ط‪2016 ،1‬م)‪.‬‬
‫عزوز‪ ،‬أحمد‪ .‬أصول تراثية في نظرية الحقول الداللية‪ ،‬منشورات إتحاد‬
‫الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫;‪Dinwiddie, Robert, and Others. Universe, New York: DK‬‬
‫‪Rev Upd edition(September 17, 2012).‬‬
‫‪Adams, Fred, and Laughlin, Greg. The Five Ages of the‬‬
‫‪Universe: Inside the Physics of Eternity, Free Press‬‬
‫‪2000.‬‬
‫‪http:/www.nasa.gov/mission_Pages/planck/multimedia/pia‬‬
‫‪16873.html#.VrZk3P197Z4.‬‬

‫‪70‬‬

You might also like