Professional Documents
Culture Documents
الحركة الكونية للإنسان في رؤية القرآن للعالم
الحركة الكونية للإنسان في رؤية القرآن للعالم
فهرس الكتاب
الصفحة الموضوع
2 -1المقدمة المنهجية
12 -2رؤية القرآن للعالم(خطة الخلق العامة)
30 -3الحركة الكونية في رؤية القرآن للعالم
31 -1.3األسئلة الوجودية
-1.1.3السؤال األول :التكافؤ بين العمل اإلنساني والخلق الكوني
31
-2.1.3السؤال الثاني :البعد الزماني لإلنسان في األرض وداللته الكونية
38
48 -2.3الفرضيات العلمية المجيبة عن األسئلة الوجودية
48 -1.2.3الفرضية األولى
60 -2.2.3الفرضية الثانية
67 -4الخاتمة
1
-1المقدمة المنهجية
هذا بحث في القرآن الكريم إليجاد رابط موضوعي ومنهجي يربط بين
العمل اإلنساني والخلق الكوني ،ألن الكون(السماوات واألرض وما بينهما)
كلّه لم يخلق إال البتالء الناس أيهم أحسن عمال كما يخبرنا القرآن الكريم:
(
واألرض) مسخرا للفعل والعمل اإلنساني ،وهو كذلك كما يخبرنا القرآن
الكريم ( :
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
2
( :كذلك كما يخبرنا القرآن الكريم
والثاني نختم به هذه، األول نورده اآلن،هذا الربط البد منه لسببين
أما السبب األول فهو أن هناك تداخل سببي بين الفعل اإلنساني من.المقدمة
جهة وبين الظواهر االجتماعية والطبيعية التي تكتنف حياة اإلنسان من جهة
وهو تداخل ينجم سببيا عن تداخل آخر يسبقه بين الفعل اإلنساني في.أخرى
( : والفعل اإللهي المهيمن والمصدق من جهة أخرى،الكون من جهة
( )(السجدة)؛
( )(األحزاب)؛
3
( )(األعراف)؛
4
اجتماعية ،أو بكليهما ،إلى نتائج يقدّرها هللا تعالى قد تكون
مطابقة ،أو مخالفة ،لما قصده الفرد ،أو الجماعة من فعلهم ،وقد
يخص تأثيرها الفرد الفاعل ،أو يعم كل ،أو بعض الجماعة ،وقد
يكون التأثير مباشرا ينحصر في الفاعلين ،وقد يكون غير مباشر
يتجاوزهم إلى محيطهم االجتماعي والطبيعي".
هذا التعريف لمفهوم "سنة هللا" كما وردت في القرآن الكريم يأتي في
إطار جهود بحثية يقوم بها كاتب هذا البحث تحت مس ّمى "رؤية القرآن
للعالم" ،وهو برنامج بحث علمي يهدف إلى بناء رؤية قرآنية للعالم تستوفي
اإلجابة عن األسئلة الضرورية التي يتضمنها المفهوم ،ومعايير االختبار التي
البد أن تجتازها رؤية العالم المحددة حتى تثبت جدواها ،وصالحها للعمل
بمقتضاها .وقد اختار الباحث ،من بين عدد من التعريفات التي تقدمها األدبيات
العالمية لمفهوم رؤية العالم ،التعريف الذي مفاده أن "رؤية العالم عبارة
عن مجموعة مترابطة من المفاهيم والنظريات التي يجب أن
تمكننا من بناء صورة كلية للعالم ،وبهذه الطريقة نستطيع أن
نفسّر أكبر عدد ممكن من عناصر خبراتنا .وهكذا فإن رؤية العالم
هي إطار مرجعي يمكن أن نضع فيه كل ما يواجهنا من خبرات
متنوعة في الحياة".
وقد انصب الجهد في تلك البحوث على تبيّن معالم رؤية القرآن لعالم
االجتماع اإلنساني ،وقد أمكن ،بفضل هللا تعالى ،إنجاز إطار نظري ،يستوفي
إلى درجة كبيرة محددات تعريف رؤية العالم أعاله ،أطلقت عليه مصطلح
"خطة الخلق العامة" مما سوف أبينه في القسم الثاني أدناه .وقد استخدمت
مصطلح "خطة الخلق العامة" للداللة على التدبير اإللهي الخاص بخلق
اإلنسان واستخالفه تمكينا في األرض ،ومقتضى هذا االستخالف من تسخير
ما في السموات وما في األرض جميعا له ،وتحميله ،تكليفا ،أمانة أبت
السماوات واألرض والجبال أن يحملنها ،وأشفقن منها ،وحملها هو ،وما
يترتب على هذا الحمل من مسؤولية وجزاء .وقد أخبرنا القرآن الكريم أن
"خطة الخلق العامة" هذه قبل أن تحكم حياة اإلنسان في األرض جرت وقائعها
في المأل األعلى ،وانتهت بإغواء إبليس آلدم عليه السالم مما أدى إلى خروجه
5
وزوجه من الجنة ومعهم إبليس ،وهبوطهم جميعا إلى األرض ،بعضهم لبعض
عدو.
السبب الثاني ألهمية الربط بين الفعل والعمل اإلنساني من جهة والخلق
الكوني من جهة أخرى هو أن استخالف اإلنسان يتم في إطار متغيرين كونيين
أساسيين هما متغير "المكان" ومتغير "الزمان" ،مما يقتضي إعطاء أهمية
بالغة لما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة بشأنهما .ذلك أن من
يجهل المكان والزمان الم ّحددين لتكليفه سوف يفشل حتما في القيام بحق ذلك
التكليف .إن عقد االستخالف بين هللا تعالى وبين بني آدم يمكن تصوره
باعتباره عقد معاوضة حيث أحد العوضين(عمل اإلنسان في األرض) مع ّجل،
والعوض الثاني(الجزاء من هللا تعالى) مؤ ّجل .فالعوض المع ّجل هو عمل
اإلنسان في هذه الحياة الدنيا ابتال ًء في زينة األرض(المال والبنون) ،شكرا ،أو
كفرا( :ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ)(الكهف)؛
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞﭟ)(الكهف)؛ (ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ)(اإلنسان) .أما
العوض المؤ ّجل فهو جزاء هللا تعالى في الدار اآلخرة لكل إنسان على عمله
ﮡﮢ الدنيوي ،فالجنة لمن شكر ،والنار لمن كفر ،جزا ًء وفاقا( :ﮞﮟ ﮠ
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ)(آل عمران).
إن محل عقد االستخالف متعين تحديدا في األرض ،ولكن األرض
ليست هي فقط أرض السماء الدنيا التي يحيى فيها البشر اآلن ،بل ندعي،
تأسيسا على القرآن الكريم ،أنها سبع أرضين تتوزع في الكون ،مما يجعل
الكون كله مجاال لحركة اإلنسان وهو يسعى فاعال ومنفعال بهذا التدبير اإللهي
العظيم(خطة الخلق العامة) .وتقوم الفرضيات األساسية لهذا البحث على أن
أرض التمكين لإلنسان ليست أرض السماء الدنيا هذه وحدها ،ولكن تمدها من
بعدها ست أرضين تتوزع بين السموات السبع ،وجميعها مستخلف فيها
اإلنسان ،وأن اإلنسان سوف تتوالى جهوده االستخالفية حتى يبلغ بعلمه وعمله
6
جميع األرضين السبع .وها هو اإلنسان وقد تسارعت حركته الكونية بحثا عن
امتداداته األرضية ،مستغال في ذلك تسخير هللا تعالى له ما في السموات وما
في األرض جميعا.
هناك أمدان زمانيان ومديان مكانيان حاسمان يحكمان ويحددان حركة
اإلنسان في هذه الحياة الدنيا وهو يتقلب في ابتالءات االستخالف؛ أمد زماني
ومدى مكاني خاص بكل إنسان في شخصه ،وأمد زماني ومدى مكاني يحكم
البشرية جمعاء .وفيما يلي استعراض موجز للمدى المكاني ثم من بعده لألمد
الزماني آلحاد الناس ،وللناس جميعا.
المدى المكاني لإلنسان الفرد يمتد من مكان مولده إلى كل األرض،
يمشي في مناكبها ليحقق مغزى استخالفه ،توحيديا كان أم دنيويا .لقد أخفى هللا
تعالى نوع ومقدار ومكان وزمان رزق كل إنسان في هذه الحياة الدنيا ،فال
تدري نفس ماذا تكسب غدا ،كما أخفى المكان الذي تعيّن على كل إنسان الموت
فيه فال تدري نفس بأي أرض تموت ،كل ذلك حتى يضرب الناس ،مؤمنين
وكافرين ،في األرض مبتغين من فضل هللا ،دون خوف من موت قد يتربص
بهم ،ودون يأس من رزق قد ينتظرهم .هكذا ينتشر اإلنسان في األرض جميعا
مستوطنا ومستعمرا ،وقد تواردت آيات القرآن الكريم مؤكدة هذه الحقيقة( :ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ)(الملك)؛
(ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ)(هود)؛ (ﱰ ﱱ ﱲ
ﱾ ﲀﲁ
ﱿ ﱸﱺﱻﱼﱽ
ﱹ ﱳ ﱴﱵﱶﱷ
ﲋﲍﲎﲏ
ﲌ ﲇﲉﲊ
ﲈ ﲂﲃﲄﲅﲆ
ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ
ﲚ ﲛ ﲜ )(النساء)؛ (ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ )(العنكبوت)؛ (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
7
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
)(النساء)؛ (...ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮫ )(المزمل)؛ (ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ )(لقمان).
أما المدى المكاني للبشرية جمعاء فيتمدد في الكون المسخر لإلنسان
بسماواته السبع وأرضيه السبع جميعا ،كما صرح بذلك القرآن الكريم( :ﰄ
ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ
)(الجاثية)؛ (ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ
ﰑ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛﰜ)(الطالق)؛ (ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ
ﰂ )(فصلت) .وكلمة "جميعا" في اآلية األولى هي صيغة الجمع التي يعبر
بها الخالق سبحانه وتعالى عن قصده األرضين السبع بإضافته "جميعا" إلى
كلمة "األرض" في كل القرآن الكريم كما سوف نبين الحقا في هذا البحث ،إن
شاء هللا تعالى.
ولن يصل مغزى االستخالف البشري إلى تمامه حتى يستوفي اإلنسان
رحلته الكونية ليسكن ويعمر األرضين السبع التي خلق هللا له ما فيها جميعا،
كما سنثبت ذلك أدناه بإذن هللا تعالى ،فمن األرض خلق اإلنسان ،وفيها يحيى،
وفيها يموت ،ومنها يخرج تارة أخرى .وآيات القرآن الكريم صريحة في هذا
المعنى( :ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ )(البقرة)؛ (ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ
8
ﰇﰈﰉ ﰊ)(هود)؛ (ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ )(األعراف).
أما األمد الزماني الخاص باستخالف كل فرد مكلف فهو مدة أجله الذي
أ ّجله هللا له في هذه الحياة الدنيا ،فمن مات فقد قامت قيامته ،وأما األمد الزماني
الستخالف البشرية فيمتد إلى قيام الساعة .قد أخفى هللا تعالى اللحظة التي
يموت فيها كل إنسان في إطار مداه الزماني الخاص به(...ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ)(األعراف) ،ولكنه جعل العلم بجملة
األمد الزماني الذي تتمدد فيه حياة المكلّف في هذه األرض ممكنا على وجه
التقريب .فكل إنسان يعلم علم اليقين أنه قد يموت ليومه أو غده ،ولكنه يعلم
أيضا ،من خالل التجربة الحياتية الممتدة لمليارات البشر ،أن اإلنسان الفرد في
هذا الزمان ،إذا سلم من اآلفات ،يمكن أن يحيى ويعيش حتى المائة عام ،أو
تزيد ،ومن ثم فإن متوسط العمر االستخالفي المنتج لإلنسان في األرض
يتراوح بين الخمسين والسبعين عاما .هذا المتوسط يشكل األمد الزماني
االستراتيجي الحاسم للفرد ،وعلى أساسه يخطط لحياته االستخالفية في
األرض ،وهو الذي يسمح بعمارة األرض ،إذ لو أن كل إنسان خطط حياته
على أنه يموت غدا ،أو بعد غد ،وقد يموت فعال ،لما عمر أحد الدنيا ،والنتفت
حكمة هللا تعالى من إنشاء الناس من األرض واستعمارهم فيها ،ولما عاد
لالستخالف مغزى ،وال للحساب والجزاء األخروي معنى .بل إن كل
المجتمعات المعاصرة ترتب شؤون أفرادها في كل مجاالت الحياة بناء على
هذا المتوسط الزماني العمري .ولو افترضنا أن هذا األمد العمري تغير فجأة
فبلغ ما كان عليه في عهد نبي هللا نوح ،عليه السالم ،وهو األلف سنة ،تزيد أو
تنقص قليال بحسب اإلفادة القرآنية ،الرتبكت حياة األفراد والمجتمعات في هذا
الزمان أيما ارتباك.
إن األمد والمحدّد الزماني الستخالف البشرية جمعاء في األرض هو
قيام الساعة ،وينطبق عليه تحليلنا لدالالت األمد الزماني الخاص بالفرد أعاله،
فقد أخفى هللا تعالى لحظة قيام الساعة التي ال يجلّيها لوقتها إال هو ،وال تأتينا
ﭧ ﭦ إال بغتة ،وما أمرها إال كلمح البصر ،أو هو أقرب(ﭣ ﭤ ﭥ
9
ﭪ ﭫ ﭬﭭ)(طه) .ولكن لما قال هللا تعالى إنها اقتربت، ﭨ ﭩ
وأكدت السنة النبوية ذلك ،صار من الممكن المقاربة النسبية لمقدار اقترابها
حسابا ،إما من خالل التقديرات النسبية لما مضى ولما تبقى من عمر الكون
التي تأتي من علم الفيزياء الفلكية ،وقد أذن هللا تعالى بالنظر العلمي في خلق
السموات واألرض ،وإما بالجمع بين الدالالت الحسابية للحديث النبوي
الصحيح بهذا الخصوص ،والتقديرات الزمانية لما مضى من عمر الكون
بحسب علم الفيزياء الفلكية .وقد تبين أن األمد الزماني القتراب الساعة يبدأ
باللحظة ،أو اليوم الواحد ،ويمتد إلى مليارات السنين كما يتضح لنا من الجدول
أدناه ،وهو المحدد الزماني لما بقي من استخالف البشرية في األرض .إذن،
كما في شأن األمد الزماني الخاص بعمر الفرد في هذه الحياة الدنيا ،فإن
الساعة قد تأتي البشرية غدا ،أو بعد غد ،فذلك على هللا تعالى يسير ،ولكنها قد
تأتي بعد مليارات السنين ،تماما كما قد يموت الفرد غدا ،أو بعد غد ،ولكنه
أيضا قد يموت بعد مائة عام.
إذن ،كما في حال التوقعات الفردية ،لو أن كل المجتمعات البشرية تبني
تقديراتها ،فيما يتعلق بنهاية الكون وقيام الساعة ،على أن ذلك قد يتم غدا ،أو
بعد غد ،لما أثاروا األرض وعمروها ،ولما أقاموا على ظهرها حضارة ،ولما
انطلق اإلنسان يجوب الكون بسفنه ومسابيره الفضائية ،والنتفت حكمة هللا
تعالى الثاوية في "خطة الخلق العامة" ،التي هي أساس االستخالف .لكن
غالب المجتمعات البشرية تقيم رؤيتها للعالم إما على أن هذا الكون خالد ال
يزول ،وإما أنه سوف يزول ولكن بعد أمد بعيد ،وكلتا الرؤيتين الزمانيتين
تسمح بالعمارة والحضارة التي تتراكم وتتوارث جيال بعد جيل .أما تلك
المجتمعات التي تدير أمرها على أن األمد الزماني لعمر الكون ال يعنيها ،أو
تلك التي ترى أن نهاية الكون باتت وشيكة ،وأن األمر أعجل من أن ننظر ماذا
في السموات واألرض ،أو أن نتفكر في خلقها ،فهي مجتمعات سوف تظل على
الدوام هامشية ،وخارج التاريخ والفعل الحضاري ،وسوف تبقى أبدا مجتمعات
مفعول بها ال فاعلة .إن الوعي باألمد الزماني والمدى المكاني النسبي الذي
يتحرك فيه اإلنسان ،وتتمدد فيه حياته ،سواء في ذلك األفراد والمجتمعات ،أمر
مصيري فيما يتعلق بالتصور والتخطيط ثم التنفيذ لما يمكن فعله في هذه الحياة
الدنيا ،في إطار المحددات الزمانية والمكانية.
10
إن المنهج الذي سوف نتبعه في إثبات دعوانا المكانية والزمانية
الستخالف اإلنسان األرضي ،مما سبق ذكره في هذه المقدمة ،هو ما شاء هللا
تعالى أن نحيط به من علمه تدبرا في القرآن الكريم بحثا عن رؤية قرآنية كلية
للعالم الطبيعي تك ّمل الرؤية القرآنية الكلية لعالم االجتماع اإلنساني ،التي بسطنا
أهم مكوناتها المعرفية في "خطة الخلق العامة" ،2وتكون مدخال معرفيا لألمة
اإلسالمية إلى الكون الطبيعي تستطيع من خالله أن ترتاد الفضاء على بصيرة.
سر من القرآن الكريم توسلنا إليه بأسئلة وجودية أجبنا عنها بفرضيات والذي تي ّ
علمية تستند في علميتها إلى آيات بينات من القرآن الكريم ،وإلى إمكان التحقق
منها تجريبيا .إن منهجي الذي اتبعته في هذا البحث يرتكز على اإلتيان
بالمقدمات من القرآن الكريم ثم توظيف االستنباط العقلي للوصول إلى النتائج.
وأرى أن هذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع القرآن الكريم كمصدر للعلم
الكوني التجريبي ،بشقيه الطبيعي واالجتماعي ،سواء ألغراض اإليمان أو
العمران ،حيث نؤسس على رؤية القرآن للعالم نظرياتنا وفرضياتنا العلمية،
سواء استلهمناها من القرآن الكريم مباشرة ،أو من الكون بضوابط منهجية من
القرآن الكريم ،ثم نتحقق من صحتها وجوديا باستخدام المناهج التجريبية
المناسبة .فإذا استيقنّا من صحة الفرضية كنا "كأم موسى ترضع طفلها وتأخذ
أجرها" من حيث تثويرنا للطاقات العلمية التي يذخر بها القرآن الكريم ،ومن
حيث حصادنا عائدا معرفيا في الوجود .وإن لم نبلغ اليقين في اإلثبات حافظنا
على نظريتنا وثابرنا في تحسينها بنائيا وتمحيصها تجريبيا ،أما إن استيقنا من
دحضها لم يقدح ذلك في صحة الوحي ،بل في صحة فهمنا له ،أو صحة
مناهجنا في بناء النظريات واستخالص الفرضيات منه ،أو في صحة مناهجنا
التجريبية ،أو في كل ،أو بعض من ذلك .إن القرآن الكريم ،بوصفه علم من هللا
تعالى خالق الكون ،هو وحده العاصم للعلم البشري من الزلل المنهجي
واالنزالق نحو النسبية المعرفية التي انتهت إليها التجربة العلمية الغربية بعد
أن تم تحريف ما سبق من كتب سماوية .إن العقل واللغة البشرية اللذين
-2أنظر أبحاث المؤلف المتعلقة برؤية القرآن لعالم االجتماع اإلنساني ،في موقع.biraima.net :
11
يوظفهما اإلنسان لدراسة الوجود والتعبير عن حقائقه ال تكفيان وحدهما لتمكين
اإلنسان من أساس يقيني من التصورات الوجودية يبني عليه معرفة موثوقة
ليؤسس عليها حياة يطمئن بها.
إن ما أقدمه في هذا البحث يمكن أن يندرج في إطار اإلصالح العلمي
الذي ندعو إليه ،وهو إصالح يبدأ من القرآن الكريم كمصدر للعلم وفلسفته
ويتصوب نحو دراسة الكون ،الطبيعي واالجتماعي ،كدليل إيمان باهلل الواحد،
ثم باعتباره مجاال مسخرا ليبلو هللا تعالى الناس فيه أيهم أحسن عمال .والعالقة
بين الوحي وبين الكون كمصدرين للعلم اإلنساني عالقة تفاعلية يثري العلم
المتحصل من كل منهما فهم اإلنسان لكليهما .هذا اإلصالح العلمي يعبّر،
كفلسفة للعلم ،عن مرحلة االنتقال من رؤية العالم الدنيوية الغربية ونظامها
المعرفي الوضعي المهيمنان على األمة اإلسالمية اليوم إلى رؤية العالم
التوحيدية ونظامها المعرفي التوحيدي اللذان ينبغي أن يشادا على أنقاض ما
هو قائم اليوم في بالد المسلمين.
12
هو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في األموال ب ول ٌ (أعلموا أنّما الحياة الدُّنيا لع ٌ
ث أعجب الكفُار نباته ث ُّم يهيج فتراه مصفرا ً ث ُم يكون حطاما ً واألوالد كمثل غي ٍ
اب شديدٌ ومغفرة ٌ من هللا ورضوان وما الحياة الدُّنيا إالُ متاع وفي األخرة عذ ٌ
الغرور)(())20الحديد).
هذه المآالت النهائية لالجتماع اإلنساني يمكن تفصيلها في رؤية لعالم
االجتماع اإلنساني(خطة الخلق العامة) نستخلصها من القرآن الكريم على
النحو اآلتي:
المبدأ الكلي الذي تنطلق منه الرؤية القرآنية للظاهرة االجتماعية ،المعّبرة عن
حقيقة الحياة البشرية على األرض ،هو أن هللا تعالى إنما خلق اإلنسان لعبادته:
(وما خلقت الج ُن واألنس إالُ ليعبدون)(الذاريات .)56:وعبادة هللا تعالى تعني
ﳡ العلم به(ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝ ﳞ ﳟ ﳠ
)(هود)؛ (ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲃﲄﲅﲆ
ﲺﲼﲽ
ﲻ ﲰﲱﲲﲳﲴﲵ ﲶﲷﲸﲹ
ﳅﳇﳈﳉﳊﳋ
ﳆ ﲾﲿﳀﳁﳂﳃ ﳄ
ﳏﳑﳒﳓﳔﳕﳖﳗﳘ
ﳐ ﳌﳍ ﳎ
)(المائدة) .وفي هذا اإلطار فإننا نجمل األصول النظرية المنبثقة من هذا المبدأ
التوحيدي الكلي في اآلتي:
أوالً؛ إن عبادة هللا تعالى مسرحها الذي تدور فيه هو األرض( :وقلنا اهبطوا
قر ومتاعٌ إلى ض عد ٌّو ولكم في األرض مست ٌّ بعضكم لبع ٍ
ين)(البقرة)36:؛ (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها ح ٍ
تخرجون)(األعراف)25:؛
ثانياً؛ إن هذه العبادة تتم في إطار تكريم اإلنسان وتفضيله ومن ثم استخالفه
في األرض( :ولقد ك ُرمنا بني آدم وحملناهم في الب ّر والبحر ورزقناهم
13
ير م ُمن خلقنا تفضيالً)(اإلسراء)70:؛ الطيّبات وفضُلناهم على كث ٍ من ُ
(وإذ قال ربُّك للمالئكة إنّي جاع ٌل في األرض خليفةً)(البقرة.)30:
الخليفة وسط بين طرفين ،فال هو مالك أصيل مطلق التصرف والحرية
فيما استخلف فيه ،وال هو مقهور مجبور ال حول له وال قوة ،وال إرادة.
فعقد الخالفة يقتضي أن يقوم المستخلف"اإلنسان" بسياسة ما استخلف
فيه"األرض" وفق ما يحب ويرضى المستخلف"هللا تعالى" .والناس في
مهمة االستخالف سواء ،فخالقهم واحد ،وأصلهم واحد ،وإنما يتفاضلون
بمقدار قيام كل منهم بحق االستخالف فيما استخلف فيه( :يأيُّها النُاس إنُا
خلقناكم من ذك ٍر وأنثى وجعلناكم شعوبا ً وقبائل لتعارفوا إ ُن أكرمكم عند
ير)(()13الحجرات)؛ (يأيها النُّاس اتقوا ربُكم هللا أتقاكم إن هللا علي ٌم خب ٌ
ث منهما رجاالً كثيرا ً فس واحدةٍ وخلق منها زوجها وب ُ الُذي خلقكم من نُ ٍ
سآءلون به واألرحام إ ُن هللا كان عليكم ونسا ًء واتقوا هللا الّذي ت ً
رقيباً)())1النساء)؛
ثالثاً؛ إن عقد االستخالف الذي تتم في إطاره العبادة يقوم على عمارة
األرض( :هو أنشأكم من األرض واستعمركم فيها)(هود)61:؛
رابعاً؛ إن هذه الخالفة تقوم على مبدأ االمتحان واالبتالء والمحاسبة على
العمل( :الُذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عمالً)(الملك)2:؛
سماوات واألرض في ستُة أّي ٍُام وكان عرشه على (وهو الُذي خلق ال ُ
الماء ليبلوكم أيكم أحسن عمالً (())7هود) .فاإلنسان يمكنه أن يعمر
األرض وفق منهج هللا فيعمل فيها صالحاً ،أو وفق هوى نفسه فيفسد
فيها؛
خامساً؛ إن مجال االبتالء والفتنة يتمحور فيما أودع هللا سبحانه وتعالى في
األرض من زينة( :إنُا جعلنا ما على األرض زينةً لها لنبلوهم أيُّهم
أحسن عمالً)(الكهف)7:؛
سادساً؛ إن ما على األرض من زينة إنما يقوم على أصلين جامعين هما:
"المال"(موارد معدنية ،وزراعية ،وحيوانية ،تتحول في مجموعها إلى
نقود وسلع بسبب القيمة المضافة بفعل اإلنسان)؛ و"البنون"(عالقة
جنس بين رجل وامرأة تثمر أبناء ،تؤدي إلى قيام أسرة ثم أسرة
ممتدة…إلى شعوب وقبائل)( :المال والبنون زينة الحياة
الدُّنيا)(الكهف)46:؛
14
سابعاً؛ إن االبتالء في "المال" و"البنين" إنما صار ممكنا ً بسبب تزيين ما
شهوات أودع هللا فيهما من شهوات للنفس البشرية( :زيّن للنُاس حبُّ ال ُ
ساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذُهب والفضُة والخيل من النّ ً
المس ُومة واألنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدُّنيا)(آل عمران)14 :؛
ثامناً؛ إن نتيجة هذا االمتحان في نعمتي المال والبنين ،وما يترتب على
تفاعلهما مع النفس البشرية من نعم تفصيلية أخرى ترجع إليهما ،إما أن
تكون شكرا ً أو كفرا ً على نعمة هللا ،والشكر هو المطلوب من عمل
اإلنسان .والشكر على النعمة هو جوهر عبادة اإلنسان هلل تعالى في
األرض ،وهو ثمرة العمل الصالح في زينة الحياة الدنيا( :إنُا هديناه
ي سبيل إما ُ شاكرا ً وإ ُما كفوراً)(اإلنسان)3:؛ (إن تكفروا فإ ُن هللا غن ٌّ ال ُ
عنكم وال يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم)(الزمر)7:؛
تاسعاً؛ إن اإلنسان إنما أصبح قادرا ً على االختيار بين الكفر والشكر بسبب ما
هيأه هللا تعالى به من قدرة على اكتساب العلم وتوظيفه في الكون ،كفرا ً
أو شكراً ،وبسبب ما أودع هللا تعالى في النفس البشرية من ملهمات
الفجور والتقوى( :وهللا أخرجكم من بطون أ ُمهاتكم ال تعلمون شيئا ً
سمع واألّبصار واألّفئدة لعلُكم تشكرون)(النحل)78:؛ وجعل لكم ال ُ
(الُذي علُم بالقلم ،علُم األنسان ما لم يعلم)(العلق)5:؛ (ونف ٍس وما س ُواها
( )7فألهمها فجورها وتقواها ( )8قد أفلح من ز ُكاها ( )9وقد خاب من
ساها (())10الشمس .)10-7:ثم منح هللا تعالى اإلنسان الحرية وإرادة د ُ
االختيار والمشيئة في الفعل بملهمات التقوى الموجبة(اإليمان ،العلم،
الصبر ،السخاء ،العدل ،اإلحسان ،األمانة ،الصدق...إلخ) في زينة
الحياة الدنيا فيكون شاكراً ،أو بملهمات الفجور السالبة(الهلع ،العجلة،
الضعف ،الشح ،البخل ،الكبر ،الحسد...إلخ) فيكون كافراً( :فمن شا ًء
فليؤمن ومن شا ًء فليكفر)(الكهف)29:؛
عاشراً؛ الشكر هلل تعالى على نعمائه يقتضي توفر ثالثة عناصر في اإلنسان،
هي :علم وإيمان وعمل صالح .أما العلم فهو علم بالمنعم(هللا تعالى)؛
علم بالمنعم عليه(اإلنسان)؛ وعلم بالنعمة(المال ،البنون) ،والحكمة من
خلقها ،وكيف هي نعمة في حق المنعم عليه .وأما اإليمان فهو إيمان
باهلل تعالى ،أسماء وصفات ،يترتب عليه حال نفسي من االطمئنان إلى
رحمة هللا وفضله ،وإحساس بالمنة وتمني الخير لآلخرين .وأما العمل
15
الصالح فهو ذلك الذي يؤدي إلى استغالل النعم فيما يرضي المنعم،
والطمع في المزيد من المنعم يحفزه قوله تعالى( :وإذ تأذُن ربُّكم لئن
شكرتم ألزيدنكم ولئن كفرتم إ ُن عذابي لشديد ٌ (())7إبراهيم) .ولن يبلغ
العمل تمام الصالح حتى يتحقق له شرطان :أن يكون خالصا ً هلل ،وأن
يكون وفق ما شرع هللا.
المتتبع للمفاهيم المفتاحية الثالثة (النفس ،المال ،البنون) في القرآن
الكريم يجد أنها وردت أحيانا ً معبرة عن جملة المعنى الذي يحتويه الحقل
الداللي للمفهوم ،3وأحيانا ً ترد مفصلة هذا المعنى إلى عناصره األساسية ،كما
في اآلتي:
ورد مفهوم "النفس" في القرآن الكريم بمعنى كل اإلنسان ،في بعده
س ماذا تكسب غدا ً وما المادي الحيوي وبعده المعنوي الروحي( :وما تدري نف ٌ
ض تموت)(لقمان .)34:ولكن مفهوم النفس ورد أيضا ً ي أر ٍس بأ ّ
تدري نف ٌ
بمعنى ذلك العنصر غير المحسوس الثاوي في الجسد المحسوس كما في قوله
تعالى( :هللا يتوفُى األنفس حين موتها والُتي لم تمت في منامها فيمسك الُتي
قضى عليها الموت ويرسل األخرى إلى أج ٍل مس ّمى إ ُن في ذلك آليا ٍ
ت لقو ٍم
يتف ُكرون)(الزمر.)42:
ورد مفهوم "البنين" في القرآن الكريم ليعبر أحيانا ً عن مجمل عالقة
االبتالء الكامنة فيه( :المال والبنون زينة الحياة الدُّنيا)(الكهف ،)46:وهي
عالقة (رجل -امرأة– أبناء -أحفاد) .ولكنه ورد أيضا ً بمعنى األبناء ،ذكورا
وإناثا ،مقابل الزوجة( :وهللا جعل لكم من أنفسكم أزواجا ً وجعل لكم من
أزواجكم بنين وحفدةٍ)(النحل .)72:وأخيرا ً يرد مفهوم البنين بمعنى الذكور من
األبناء مقابل البنات( :فاستفتهم ألربٌك البنات ولهم البنون)( الصافات.)149:
وعرف أولمان الحقل الداللي بأنُه "قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبّر عن مجال معين من الخبرة" .ومفاده أن ّ ( -3
تصور أو رؤية أو موضوع أو فكرة ّ عن ّر بتع التي اللغة مفردات من ً ا نمكو
ّ ،ً ا مترابط ً ا داللي ً ا قطاع يشمل الداللي الحقل
أن الحقل يتض ّمن "إن الحقل الداللي هو مجموعة جزئية لمفردات اللغة" ،ومؤدّاه ُ معيّنة .ويعرفه جون ليونز قائالًُ :
أن الحقل الداللي هو مجموعة كثيرة أو قليلة من الكلمات ،تتعلّق بموضوع خاص وتعبّر عنه .ويرى جورج مونان ُ
"مجموعة من الوحدات المعجمية التي تشتمل على مفاهيم تندرج تحت مفهوم عام يحدّد الحقل" ،أي إنّه مجموع
الكلمات التي تترابط فيما بينها من حيث التقارب الداللي ،ويجمعها مفهوم عام تظ ّل متصلة ومقترنة به ،وال تفهم إالُ
يتكون من مجموعة من المعاني أو الكلمات المتقاربة التي تتميّز بوجود عناصر أو مالمح في ضوئه .والحقل الداللي ّ
ألن الكلمة ال معنى لها بمفردها ،بل ُ
إن داللية مشتركة ،وبذلك تكتسب الكلمة معناها في عالقاتها بالكلمات األخرىُ ،
معناها يتحدّد ببحثها مع أقرب الكلمات إليها في إطار مجموعة واحدة().أصول تراثية في نظرية الحقول الداللية؛ الدكتور احمد
عزوز؛ منشورات إتحاد الكتاب العرب؛ دمشق2002 -م).
16
يرد كذلك مفهوم المال بذات الطريقة ولكن بتفاصيل أكثر لكثرة عناصره
المكونة له ،وكثرة تمظهرات هذه العناصر ،منفردة ومتفاعلة ،فمثال يرد
المفهوم معبرا ً عن كل معاني حقله الداللي كما في قوله تعالى( :المال والبنون
زينة الحياة الدُّنيا())46( ...الكهف) ،ثم يرد المفهوم مفصال إلى عناصره
شهوات من النساء والبنين والقناطير القنطرة من األولية( :زين للُناس حبُّ ال ُ
الذُهب والفضُة والخيل المس ُومة واألنعام والحرث ذلك متع الحياة الدُّنيا وهللا
عنده حسن المئاب (())14آل عمران).
إذن المفاهيم القرآنية الثالثة (النفس ،المال ،البنون) هي مفاهيم معرفية
جامعة ،والعناصر الكونية المعادلة لها هي أصل الظاهرة االجتماعية من حيث
العلة الظاهرة ،إذ ال تحتاج ألكثر منها علة وجود ،وال تحتمل أدنى منها ،كما
يستبين أدناه .ولكن أين وجه اإلحكام في هذا االبتالء اإللهي للبشر على
األرض بحيث يضمن دخول جميع الناس فيه؟ إن وجه اإلحكام يكمن في
الثنائية التي خلق هللا بها اإلنسان :ثنائية الجسد والنفس ،وثنائية النفس من حيث
إلهامها فجورها وتقواها ،فالثنائية األولى أدت إلى ثنائية في الدوافع بعضها
يختص به الجسد الطيني وهي الدوافع الحيوية ،وبعضها تختص به النفس وهي
الدوافع النفسية ،أو االجتماعية.
الدوافع الحيوية األساسية هي الجوع الناجم عن عدم األكل ،والعطش
الناجم عن عدم الشرب ،والعري الناجم عن عدم اللبس ،واإلضحاء الناجم عن
عدم السكن ،والعنت الجنسي الناجم عن عدم الوقاع .هذه الدوافع الحيوية
المرتبط إشباعها بعنصري "المال" و"البنين" هي دوافع ضرورية والبد من
الوفاء بمقتضياتها لحفظ أصل حياة اإلنسان على األرض ،وهي التي تضمن
دخول جميع الناس ،في كل زمان ومكان ،في فتنة المال والبنين .لذلك كانت
"النفس" و"المال" و"البنون" من األصول الكليّة المطلوب حفظها في مقاصد
الشريعة االسالمية.
الدوافع النفسية مثل الطمع ،الهلع ،الشح ،البخل ،الكبر ،العجلة،
الضعف ،هي الدوافع الضرورية التي تضمن جريان االبتالء في كل الناس،
في كل زمان ومكان .وهي اآلليات التي تضمن تدافع الناس لعمارة األرض
لتحصيل زينة الحياة الدنيا ونيل حظوظهم من شهواتها .فإذا تفاعلت العناصر
الكونية الثالثة (النفس ،المال ،البنون) ،المقابلة للمفاهيم المعرفية القرآنية،
17
بمقتضى الضرورات الحيوية ابتدا ًء ،نجم عن هذا التفاعل بروز عنصرين
آخرين كانا موجودين من قبل بالقوة في هذه العناصر الثالثة ،وهما:
" -1العلم بظاهر من الحياة الدنيا" ،وكان موجودا ً من قبل بالقوة ،من حيث
قابلية اإلنسان للتعلّم(السمع ،البصر ،الفؤاد) ،ومن حيث إمكان العلم
الثاوي في الخلق بمقتضى الحق في عالم الشهادة.
" -2الهوى" الذي تتحرك دواعيه الفطرية في "النفس" بعد أن تذوق لذة
الشهوات التي أودعها هللا تعالى في "المال" و"البنين" .و"جميع
إطالقات الهوى في االصطالح ترجع إلى ميل النفس إلى مشتهاها ،إن
كانت الذات ،أو الخالق ،أو المحبوبة ....الخ ،فجميعها ميل إلى
المحبوب...وأكثر الروايات عن السلف أن هللا تعالى ما ذكر (هوى( في
القرآن إال ذ ّمه ،كذلك هي جميع اآليات باستثناء آية واحدة ،وهي قوله
تعالى( :ومن أض ُّل ممن اتُبع هواه بغير هدى من هللا)(القصص(50 :؛
فقد قيده بأنه هوى بغير هدى ،فأشار إلى أنه يمكن للهوى أن يوافق
4
الهدى ،وهللا تعالى أعلم".
ويقول الدكتور حسن الترابي " :الهوى هو جماع الميول الفطرية التي
تتجه باإلنسان إلى متاع الحياة الدنيا ،فإذا طاوعه واتبع دواعيه أوقعه في أسر
اللذات األرضية المحسوسة حتى يصبح كل همه في أن يأكل ويتمتع كشأن
ّ
وينبت الحبل بينه وبين عالم الغيب .وال البهائم ،وحتى يذبل عنصره الروحي،
يزال الهوى بصاحبه حتى يبطل سر كرامته على سائر األشياء ،ويعطل
تعلقاته العلوية من فرط شغله بالشهوة السفلية ،بل حتى يغضي بصيرته جميعا
فال يرى إال ما تحت قدميه ،وال يعنى إال بالقريب العاجل ،ال ينظر في حياته
لمآالتها البعيدة ،وال يقدم شيئا آلجلته .وما دام عبدٌ الهوى أعماه في دنياه يأخذ
منها كيفما اتفق عاجال بعاجل ،وال يخط لها تدبيرا ،أو نهجا شامال ،فأولى أن
5
يغفل جملة واحدة عن آخرته".أه.
لما كان "العلم بظاهر من الحياة الدنيا" يتولد عن التفاعل ،بمقتضى
الدوافع الحيوية والنفسية ،بين العناصر األولية الثالثة الحاكمة للظاهرة
االجتماعية(النفس ،المال ،البنون) فإن دوره يظل وظيفيا بحتا حتى يأتي "علم
-4الهــوى :دراسة موضوعية للمصطلح القرآني؛ محسن سميح الخالدي (دراسات ،علوم الشريعة والقانون ،المجلّد 37،العدد .)2010
-5اإليمان وأثره في حياة اإلنسان؛ حسن الترابي .الدار العربية للعلوم ناشرون(بيروت؛ ط 3؛ 1430ه2009-م).
18
ليكونا معا "العلم
الوحي" من السماء فيتوحدا ،بمقتضى المنهجية التوحيديةّ ،
التوحيدي" ،الذي يكون له دوره العقدي كدليل إيمان باهلل الواحد ،بجانب دوره
الوظيفي في صالح حياة الناس ومعاشهم ،أي ذلك العلم الذي يحقق اإليمان في
القلب ،والعمل الصالح في األرض ،أي في زينة الحياة الدنيا.
"النفس" إما أن تتفاعل مع "المال" و"البنين" بمقتضى "العلم
التوحيدي" وملهمات التقوى فيتحقق "الشكر" هلل تعالى على نعمه ،وإما أن يتم
التفاعل بمقتضى "الهوى" وملهمات الفجور فيتحقق بذلك الكفر بالنعمة.
ومجمل هذا التفاعل هو المسؤول عن نشأة المجتمعات اإلنسانية ،وبروز جميع
الظواهر االجتماعية الناجمة عن التدافع البشري ،في أي زمان ومكان.
لقد اقتضت حكمة هللا تعالى خلق أول زوجين من ذكر وأنثى وهبوطهما
شي الرجل المرأة ،وما نجم إلى األرض ،وضرورة العنت الجنسي أدت إلى تغ ّ
عن هذه العالقة من أبناء اقتضى تأسيس أسرة .ثم عزز قيام األسرة ضرورات
المأكل والمشرب والملبس والمسكن ،وما تقتضيه من تقسيم العمل وتوزيع
األدوار بين أفراد األسرة .ومن البديهي أن نتصور كيف أن الضرورات
الحيوية هذه أدت محاولة إشباعها إلى أن تتسع دائرة األسرة لتصبح أسرة
ممتدة ،ثم رهطا ً وقبيلة ،حتى إذا ضاقت رقعتهم الجغرافية على تدافعهم
وأطماعهم انبثوا في فجاج األرض رجاالً ونسا ًء ،فكانت الشعوب واألمم
والمجتمعات الحضرية والبدوية ،وكان العمران.
إذن الوفاء بحق الضرورات الحيوية يضمن لنا قيام المجتمع ،وتفاعل
"النفس" بمقتضى "العلم التوحيدي" أو" الهوى" مع "المال" و"البنين" يضمن
لنا قيام االبتالء .فالنفس التي ألهمت فجورها وتقواها وزيّن لها حب الشهوات
الدنيوية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل
المسومة واألنعام والحرث ،سرعان ما تذوق لذة تلك الشهوات التي بدورها
تثير في النفس آليات االبتالء ،ونعني بها دوافع الفجور والتقوى .ونر ّجح أن
أول ما يثور من تلك الدوافع هو "الطمع" ،حيث يطمع كل شخص في
الحصول على المزيد من زينة الحياة الدنيا ،ومن ثم يصبح اإلقبال عليها
إلشباع الشهوة ال للضرورة والحاجة البدنية .ولما كانت أطماع الناس أكثر مما
هو مطموع فيه ،في أي وقت ومكان ،سرعان ما تبدأ الدوافع السالبة األخرى
تثور في النفس بسبب التدافع بين الناس لحيازة زينة الحياة الدنيا ،واالستئثار
بأكبر نصيب منها.
19
هكذا يبدأ التنازع والتصارع بين الناس بسبب التهافت على زينة الحياة
الدنيا ،فاحتاجوا إلى نظام اجتماعي يقوم بمقتضاه حاكم يسوس أمرهم ،وينظم
عالقاتهم ،ويفض نزاعاتهم ،ويجلب لهم مصالحهم ،ويدرأ عنهم المفاسد التي
تأتي من عند أنفسهم ومن عند غيرهم .واحتاج الحاكم إلى حكومة وشريعة
ونظم ومؤسسات سياسية تعينه على أداء مسئولياته .واحتاج المجتمع إلى
أعراف وتقاليد وعادات ومؤسسات اجتماعية واقتصادية تحفظ له تماسكه
وتضمن له استمراريته .وهكذا يمكننا أن نتابع تطور المجتمعات وتعددها
وتنوع مظاهر الحياة فيها ،وما يبدعه اإلنسان من علم وتقنية يس ّخر بها زينة
الحياة الدنيا إلشباع شهواته من متاعها ،وتعظيم حظوظه منها .إذن فإن أي
ظاهرة من الظواهر اإلنسانية جاءت مترتبة على نشوء المجتمعات وتطورها
من خالل تدافع أفرادها فإن مردها األخير تفسيرا ،من حيث العلة الظاهرة ،إلى
العناصر األولية للظاهرة االجتماعية (النفس ،المال ،البنون) ،وطبيعة التفاعل
بينها كما أجملناه سابقاً.
إن حقيقة االمتحان واالبتالء الذي هو قدر اإلنسان في هذه األرض
تتمثل في شكل أحكام شرعية جاءت بها الرسل من عند هللا تعالى ،طبيعتها
"أفعل" و"ال تفعل" ،وذات عالقة مباشرة وغير مباشرة باستخدام الناس لزينة
الحياة الدنيا .ورغم أن حقيقة هذه التكاليف الشرعية تقوم على جلب المصالح
ودرء المفاسد عن الناس في الدنيا واآلخرة إال أنها تتعارض في الغالب مع
هوى النفس في تفاعلها مع زينة الحياة الدنيا .إن التزام اإلنسان بتلك األوامر
والنواهي الربانية هو أساس العمل الصالح المثمر للشكر على النعمة الذي
جعله هللا تعالى ثمنا ً لالنتفاع بها( :وإذ تأذُن ربُّكم لئن شكرتم ألزيدنُكم ولئن
كفرتم إ ُن عذابي لشديدٌ (())7إبراهيم)؛ ( ُما يفعل هللا بعذابكم إن شكرتم وآمنتم
وكان هللا شاكرا ً عليما ً (())147النساء) .ولكن ملهمات الفجور السالبة التي
جعلها هللا تعالى خصائص فطرية في النفس البشرية(الهلع ،الضعف ،العجلة،
الكبر ،الشح ،البخل ،الحسد...إلخ) هي التي تجعل من طاعة هللا فيما يأمر
وينهى أمرا ً عسيرا ً على اإلنسان تكرهه النفس ،فتتمرد وتأبى زاعمة إن هي
إال حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إال الدهر ،أو كما استنكر قوم نبي هللا
شعيب( :قالوا يا شعيب أصالتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في
الرشيد)(هود.)87: أموالنا ما نشاء إنُك ألُنت الحليم ُ
20
ويستخدم القرآن الكريم مفهومي "الحياة الدنيا" و"الدار اآلخرة"
لتلخيص مداخل البشر إلى االبتالء الذي جعله هللا حكمة لخلقهم ،وجعل أصله
ومجاله زينة الحياة الدنيا( :بل تؤثرون الحياة الدُّنيا * واآلخرة خي ٌر
ب وله ٌو وللدُار اآلخرة خي ٌر وأبقى)(األعلى)17-16 :؛ (وما الحياة الدُّنيا إالُ لع ٌ
للُذين يتُقون أفال تعقلون)(األنعام)32 :؛ (من كان يريد حرث اآلخرة نزد له في
ب)(الشورى: حرثه ومن كان يريد الدُّنيا نؤته منها وما له في اآلخرة من نصي ٍ
.)20
إن مجال االمتحان واحد ،وإن مادته واحدة" :زينة الحياة الدنيا"؛ ولكن
من قال( :إن هي إالُ حياتنا الدُّنيا نموت ونحيا وما نحن
قطنا قبل يوم ُ بمبعوثين)(المؤمنون ،)37:أو قال( :ربُنا ع ّجل لنا
)(ص ،)16:فقد بنى حياته على مقصد دنيوي أساس ،أال وهو "تعظيم ّ ساب الح ً
ب وله ٌو وزينةٌ وتفاخ ٌر بينكم متاع الحياة الدنيا"( :اعلموا أنُما الحياة الدُّنيا لع ٌ
ث أعجب الكفُار نباته ث ُم يهيج فتراه وتكاث ٌر في األموال واألوالد كمثل غي ٍ
ان ومااب شديدٌ ومغفرة ٌ من هللا ورضو ٌ مصف ّرا ً ث ُم يكون حطاما ً وفي اآلخرة عذ ٌ
الحياة الدُّنيا إالُ متاع الغرور)(الحديد.)20:
أما من قال( :ربُنا آتنا في الدُّنيا حسنةً وفي اآلخرةٍ حسنةً وقنا عّذاب
ع وإ ُن اآلخرة هي النُار)(البقرة)201:؛ أو قال( :يا قوم إنُما ّهذه الحياة الدُّنيا متا ٌ
دار القرار)(غافر ،)39:فقد بنى حياته على مقصد توحيدي أساس ،أال وهو
"تعظيم اإليمان" من خالل "تعظيم العمل الصالح" في زينة الحياة الدنيا،
باعتبارها مزرعة اآلخرة ،طمعا ً في "تعظيم متاع الدار اآلخرة"( :سابقوا إلى
سماء واألرض أعدُت للُذين آمنوا مغفرةٍ من ربّكم وجنُ ٍة عرضها كعرض ال ُ
باهلل ورسله)(الحديد)21:؛ (وما أوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدُّنيا وزينتها وما
سنا ً فهو القيه كمن عند هللا خي ٌر وأبقى أفال تعقلون * أفمن وعدناه وعدا ً ح ً
متُعناه متاع الحياة الدُّنيا ث ُم هو يوم القيام ٍة من المحضرين)(القصص-60 :
.)61
لقد أرسل هللا تعالى رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم
الناس بالقسط في تدافعهم وتحصيلهم لحظوظهم من زينة الحياة الدنيا ،وتبيانا ً
ي عن بينة ،ويهلك من هلك عن بينة .وما كان لكل شيء حتى يحيى من ح ّ
الرسول الخاتم ،صلى هللا عليه وسلم ،بدعا من الرسل ،فقد جاءت شريعته في
مقاصدها الكلية داعية إلى أن يكون حفظ "اإليمان" باهلل تعالى المقصد الكلي
21
للمسلم الذي تتحدد بمقتضاه المقاصد األخرى المحققة له ،المتمثلة في حفظ
أصول الظاهرة االجتماعية التوحيدية(النفس ،المال ،البنون ،العلم التوحيدي).
ونقصد بالظاهرة االجتماعية التوحيدية مجتمع التوحيد الذي يدخل بجميع
تمظهراته في السلم ،وهو كليّة "الدين" المقصود حفظها في مقاصد الشريعة
اإلسالمية .وهكذا جاءت أمهات الكتاب مؤكدة حفظ "اإليمان" والعمل الصالح:
صالحات (والعصر* إ ُن األنسان لفي خس ٍر * إالُ الُذين آمنوا وعملوا ال ُ
صبر)(العصر)؛ وحفظ مدخالت اإليمان من وتواصوا بالح ّق وتواصوا بال ُ
س الُتي ح ُرم هللا إالُ بالح ّق)(اإلسراء)33:؛ و"البنين": "النفس"( :وال تقتلوا النُف ً
ق نحن نرزقهم وإيُاكم إ ُن قتلهم كان خطئا ً كبيرا ً (وال تقتلوا أّوالدكم خشية إمال ٍ
سبيالً)(األسراء)32-31 ،؛ الزنى إنّه كان فاحشةً وساء ً * وال تقربوا ّ
و"المال"( :وال تأكلوا أموالك بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الح ُكام لتأكلوا فريقا ً
من أموال النُاس باإلثم وأنتم تعلمون)(()188البقرة)؛ و"العلم"( :وال تقف ما
سمع والبصر والفؤاد ك ُّل أولئك كان عنه ليس لك به علم إ ُن ال ُ
مسئوالً)(اإلسراء.)36:
إن العالقة بين "اإليمان" من جهة وبين "النفس"" ،العلم"" ،المال"
و"البنون" من جهة أخرى هي عالقة بين ناتج ومدخالته الضرورية ،حيث
تتفاعل هذه األخيرة لينتج عن هذا التفاعل "التوحيد" بوجهيه ،العقدي(اإليمان)
والعملي(الشكر) .وال يمكن حفظ "اإليمان" إال بحفظ هذه المدخالت
الضرورية ،كما ال يمكن حفظ مجتمع التوحيد(الدين) على الدوام إال بحفظ
اإليمان ومدخالته ،وحفظ ميزان التفاعل بينها على الدوام ،وهو معنى قوله
سبل فتف ُرق بكم عن تعالى( :وأ ُن هذا صراطي مستقيما ً فاتبعوه وال تتُبعوا ال ُّ
صآكم به لعلُكم تتُقون)(األنعام .)153:لذلك يمكننا أن نفهم لماذا سبيله ذلكم و ُ
أصبحت المصالح التي تتأتى من هذه األصول هي أصول المصالح الشرعية،
وأن حفظ هذه األصول الكلية هو األصل الذي تتأسس عليه مقاصد الشريعة
اإلسالمية.
ولن يتأتى فهم المعنى الجامع للحفظ لهذه الكليات إال من خالل تحليل
التفاعل الكلي بين المتغيرات الكونية التي هي أصول الظاهرة االجتماعية
بمقتضى "العلم التوحيدي" ،أو "الهوى" .وإذا كانت المقاصد الكلية للشريعة
منزلة على األصول الكونية الكلية للظاهرة االجتماعية فإن اإلسالمية جاءت ّ
وسائل تحقيق تلك المقاصد من أحكام شرعية(عبادات ،عادات ،معامالت،
22
جنايات) جاءت متوافقة مع التفاعل الكلي لمتغيرات (النفس ،المال ،البنون)
بمقتضى "العلم التوحيدي" وما يتعلق به من ملهمات التقوى ،أو بمقتضى
"الهوى" وما يتعلق به من ملهمات الفجور .فكانت العبادات (صالة ،زكاة،
صوم ،حج) آليات لتزكية النفس من "الهوى" الذي تتعلق به ملهمات الفجور،
وتمكينا ً "للعلم التوحيدي" الذي تتعلق به ملهمات التقوى .وكانت العادات تبيانا ً
لما هو أحسن في عالقة النفس بالمال والبنين من عادات المأكل والمشرب
والملبس والمسكن والمنكح..إلخ .وكانت المعامالت تبيانا ً لما هو أصلح من
عالقات بين الناس تحكم وتنظم تدافعهم في تحصيلهم لزينة الحياة الدنيا .وكانت
الجنايات ،حدودا ً وتعازير ،حياة ألولي األلباب من حيث قطعها الطريق على
النفوس التي ألجمها "الهوى" فأرادت أن تفسد في األرض بعد إصالحها،
جناية في حق المعبود"هللا تعالى" ،أو في حق العباد .وكانت من قبل شهادة "ال
إله إال هللا" إيذانا ً بتوقيع عقد االستخالف ،اختيارا ً دون إكراه ،والتزاما ً بالوفاء
بمقتضياته من واجب الشكر للمستخلف"هللا تعالى" من قبل
المستخلف"اإلنسان" فيما استخلف فيه"األرض" .وعلى الجملة فإن الشريعة
الربانية -بمعناها القرآني ال االصطالحي -التي هي شرعة(مقاصد) ،ومنهاج
(وسائل) ،هي الميزان الذي يقيم الوزن بالقسط في التفاعل بين المتغيرات التي
هي أصول االجتماع اإلنساني(اإليمان ،المتاع الدنيوي ،النفس ،العلم ،الهوى،
المال ،البنون) ،ولكن اإلنسان هو المسؤول تكليفا عن إقامة هذا الميزان بالقسط
أو إخساره.
إن خيار "الحياة الدنيا" وخيار "الدار اآلخرة" يمثالن رؤى كونية
متباينة في تفاعل النفس مع زينة الحياة الدنيا(المال ،البنون) ،األول من
منطلقات الهوى والكفر في النفس ،والثاني من منطلقات العلم واإليمان
كال من هاتين الرؤيتين الكونيتين نظام معرفي المفضية إلى الشكر .ويقابل ّ
ترتب في إطاره المشاهدات الحسية ،وتختمر في بوتقته التجارب الشخصية مع
العالم الخارجي ألولئك الذين يستبطنونه ،فتتحدد بذلك األسئلة العلمية التي
تستحق االثتثارة والبحث في مجال الطبيعة والمجتمع ،ويتحدد تبعا ً لذلك نوع
اإلجابة العلمية المقبولة لتلك األسئلة ،ومن ثم توضع السياسات المناسبة ،العام
منها والخاص.
إن جميع التحديات التي تواجه البشرية اليوم إنما تتم صياغتها كقضايا
معرفية تتم دراستها وتحدد السياسات العالمية والقومية تجاهها من خالل النظام
23
المعرفي الوضعي الدنيوي المنبثق تاريخيا من خيار "الحياة الدنيا" ،أو بتعبير
توطن في التجربةّ آخر من "رؤية العالم الدنيوية" ،والذي نما وترعرع ثم
الحضارية الغربية المعاصرة ،المهيمنة بطغيانها اليوم على جميع المجتمعات
البشرية عبر مؤسسات األمم المتحدة ،وشركات ومؤسسات ومنظمات الدول
الغربية والرأسمالية العالمية.
نختتم هذا اإلطار النظري ألصول االجتماع اإلنساني في التصور
القرآني بتلخيصه في الرسم البياني في الشكل أدناه ،الذي يغني بوضوحه عن
شرحه .تتجاوز رؤية العالم التي يلخصها هذا النظام الخصوصية اإلسالمية
إلى العالمية اإلنسانية؛ والذاتية إلي الموضوعية العلمية ،ألنها تم ّكن من تأسيس
علوم اجتماعية ذات قدرة تفسيرية لكل الظواهر االجتماعية ،سواء الناجمة عن
التمظهرات التاريخية لنظام االجتماع التوحيدي ،أو تلك الناجمة عن التجليات
التاريخية لنظام االجتماع الدنيوي .كذلك تم ّكن من تأسيس علوم معيارية تنبني
على تعظيم العمل الصالح في زينة الحياة الدنيا في إطار نظام االجتماع
التوحيدي ،أو على تعظيم المتاع الدنيوي في إطار نظام االجتماع الدنيوي.
24
25
تتكون من رؤيتين
ّ إن هذه الرؤية الشاملة لعالم االجتماع اإلنساني
معياريتين هما" :رؤية العالم التوحيدية" التي يمثلها عمود الصناديق (أ) في
أقصى يمين الرسم ،و"رؤية العالم الدنيوية" التي يمثلها عمود الصناديق (ج)
في أقصى يسار الرسم؛ وما بينهما (ب) فضاء اجتماعي تتداخل وتتدافع فيه
قوى التأثير من كال الرؤيتين.
إن جوهر الرؤية التوحيدية هو الدالة التوحيدية(دالة اإليمان) التي يمثل
"اإليمان" متغيرها المقصود بالتعظيم ،ومتغيرات "النفس المطمئنة"؛ "العلم
التوحيدي"؛ "المال"؛ "البنون"؛ متغيراتها التي تتفاعل فيما بينها بما يحقق
تعظيم "اإليمان"؛ فهي إذن دالة تعبر عن عالقة بين ناتج ومدخالته .هذه الدالة
تتأسس عليها نظرية المسلم الراشد الذي توحدت مقاصده الحياتية مع مقاصد
الشارع ،ويوظف أكثر الوسائل المشروعة فعالية وبفاعلية في سبيل تحقيقها،
فهو بذلك عقالني أيضا .الضرورات الحيوية(الجوع ،العطش ،العري،
اإلضحاء ،العنت) تدفع المؤمن إلى الوفاء بمقتضياتها من زينة الحياة
الدنيا(المال ،البنون) ،وال يكون ذلك عادة إال بعمل .والعلم ،الذي تو ّحد فيه
الدور العقدي والدور الوظيفي ،يبّين آيات هللا في المال والبنين ،دليل إيمان باهلل
الواحد ،ويبيّن النعمة فيهما ،مصالح يطلبها المؤمن شكرا ً ،والفتنة فيهما
صل هذا العلم األحكام الشرعية الضابطة للعمل ليعمل فيتجنبها رشداً .ثم يف ّ
المؤمن بمقتضاها جلبا ً لمصالحه ،في العاجل واآلجل ،ويحدد هذا العلم نوع
العمل الراشد ووسائطه المؤسسية األحكم ،ووسائله الطبيعية األفعل في تحقيق
تلك المصالح .هذه جميعها حلقات من العلم الضروري ال تنفصم عراها دون
أن تترك عجزا ً كامالً لدى المؤمن عن العمل الحضاري الراشد في زينة الحياة
الدنيا .واإليمان المتجذّر في النفس التي تز ّكت يدفع المؤمن الراشد لتحري
قصد الشارع في المال والبنين فيقف عنده ،استعصاما ً من فتنة الشهوة فيهما.
والعمل الصالح الذي ت ّم ،والمصلحة التي تحققت ،شكرا ً هلل ،يعود أثرهما على
اإليمان فيزداد المؤمن إيمانا ً مع إيمانه ،وتزداد النعمة وتدوم بإذن هللا.
26
إن جوهر الرؤية الدنيوية هو الدالة الدنيوية(دالة المتاع الدنيوي) التي
يمثل "المتاع الدنيوي" متغيرها المقصود بالتعظيم ،وتمثل "النفس الفاجرة"؛
"الهوى"؛ "المال"؛ "البنون" متغيراتها التي يؤدي تفاعلها فيما بينها إلى تعظيم
المتاع الدنيوي؛ فهي إذا دالة تعبر عن عالقة بين ناتج ومدخالته .هذه الدالة
تتأسس عليها نظرية اإلنسان الدنيوي العقالني الذي توحدت مقاصده في
"تعظيم متاع الحياة الدنيا" ،ويوظف أكثر الوسائل فعالية وبفاعلية في سبيل
تحقيقها ،ومن هنا جاءت الصفة عقالني.
ضرب هللا تعالى لنا أمثاال في القرآن الكريم قارن فيها بين أهم مخرجات نظام
االجتماع التوحيدي متمثلة في المسلم الراشد ،وبين أهم مخرجات نظام
َّللا مثالً عبدا ًاالجتماع الدنيوي متمثلة في اإلنسان الدنيوي ،فقال( :ضرب ُ
ُمملوكا ً الُ يقدر على شيءٍ ومن ُرزقناه منُا رزقا ً حسنا ً فهو ينفق منه سرا ً
وجهرا ً هل يستون الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون)()75؛ (وضرب هللا مثالً
ُرجلين أّحدهما أبكم ال يقدر على شيءٍ وهو ك ٌّل على موال أينما يوج ّههُّ ال يأت
ير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ بخ ٍ
ُّمستق ٍيم)(()76النحل)؛ (ضرب هللا مثالً ُرجالً فيه شركاء متشاكسون ورجالً
سلما ً لّرج ٍل هل يًستويان مثالً الحمد هلل بل أكثرهم ال يعلمون)(()29الزمر).
اإلسالم الذي جاء به محمد ،صلى هللا عليه وسلم ،هو التجلي التاريخي
األتم لرؤية العالم التوحيدية ،من حيث التطبيق المنهجي ،القائم على العلم
التوحيدي ،ألصولها الكلية وتفاصيلها الجزئية ،ومن حيث مآالتها ونتائجها
الحتمية .الرأسمالية الغربية المعاصرة ،في رأي الباحث ،هي التجلي التاريخي
األتم حتى اآلن للرؤية الدنيوية ،من حيث التطبيق المنهجي ،القائم على العلم
بظاهر من الحياة الدنيا ،ألصولها الكلية وتفاصيلها الجزئية ،ومن حيث مآالتها
ونتائجها الحتمية.
إن خطة الخلق العامة ،على المستوى المعرفي ،هي تجريد نظري كلي ّ
للتصور القرآني لالجتماع اإلنساني ،يبين الحقيقة المطلقة لمتغيراتها ،وحقيقة
التفاعل الدائم بينها ،والسنن اإللهية التي تحكم ذلك التفاعل ،ومآالته المختلفة،
في الدنيا واآلخرة .وهي على الصعيد الوجودي تدبير إلهي محكم خرج من
مشكاة العلم اإللهي قضاء إلى مجال التحقق الفعلي في الزمان والمكان قدرا،
سماوات وهي السبب في خلق السماوات واألرض( :وهو الُذي خلق ال ُ
واألرض في ستُة أّي ٍُام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أّيُّكم أّحسن عمالً ولئن
27
قلت إنُكم ُمبعوثون من بعد الموت ليقول ُن الُذين كفروا إن هذا إالُ س ٌ
حر
شف لحظة بلحظة منذ بداية خلق الكون إلى قيام ين)(()7هود) .وهي تتك ّ ُّمب ٌ
الساعة ،فليست هناك لحظة واحدة يكون فيها الكون على حالته التي كان عليها
قبلها .وهللا تعالى هو القائم عليها يدبّر أمرها ،وهو سبحانه الضامن لتحققها
قدرا كما قضاها علما ،ويصدّق القرآن ذلك في آيات بينات( :وما تكون في
ان وال تعملون من عم ٍل إالُ كنُا عليكم شهودا ً إذ أن وما تتلوا منه من قرء ٍ ش ٍ
سماء وال تفيضون فيه وما يعزب عن ُربك من مثقال ذ ُرةٍ في األرض وال في ال ُ
ين)(()61يونس)؛ (وعنده مفاتح الغيب أصغر من ذلك وال أكبر إالُ في كتا ٍ
ب ُّمب ٍ
ال يعلمها إالُ هو ويعلم ما في البّر والبحر وما تسقط من ورق ٍة إالُ حبُ ٍة في
ين)(() 59األنعام)؛ (هللا ب وال ياب ٍس إالُ في كت ٍ
ب ُّمب ٍ ظلمات األرض وال رط ٍ
الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ،ثم استوى على العرش ،وسخر الشمس
والقمر كل يجري ألجل مسمى ،يدبر األمر يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم
وم هو في سماوات واألّرض ك ُل ي ٍ توقنون)(2؛ الرعد)؛ (يسئله من في ال ُ
سماوات واألرض وإذا قضى أمرا ً فإنُما يقول له أن)(()29الرحمن)؛ (بديع ال ُ ش ٍ
س ُخر لكم ُما في األرض والفلك كن فيكون)(()117البقرة)؛ (ألم تر أ ُن هللا ً
سماء أن تقع على األرض إالُ بإذنه إ ُن هللا تجري في البحر بأمره ويمسك ال ُ
ي القيُّوم ال تأخذه سنةٌوف ُرحي ٌم)(()65الحج)؛ (هللا ال إله إالُ هو الح ُّ بالنُاس لرء ٌ
سماوات وما في األرض من ذا الُذي يشفع عنده إالُ بإذنه وال نو ٌم لُه ما في ال ُ
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وال يحيطون بشيءٍ من علمه إالُ بما شاء وسع
سماوات واألرض وال يؤده حفظهما وهو العلُّي كرسيُّه ال ُ
العظيم)(()255البقرة) .لذلك فإن البحث العلمي في التمظهرات التاريخية
لخطة الخلق العامة سوف يثري فهمنا لحقيقتها النسبية المقيّدة بالزمان
والمكان ،وحقيقة التفاعالت بين متغيراتها المتجلية في الزمان والمكان،
والكيفيات التي يتم بها ذلك التفاعل عبر التاريخ ،وكيفية عمل آيات هللا في
األنفس واآلفاق بما يكيّف ذلك التفاعل ،حتى يتبين لنا أنه الحق.
أن الظواهر االجتماعية ،مهما بدا تنوع تمظهراتها الالمتناهي في
الزمان والمكان ،ينتهي أمر تفسيرها إلى التفاعل ،في ذلك الزمان والمكان،
بين كل ،أو بعض المتغيرات الضرورية الكلية المنشئة لالجتماع اإلنساني كما
تبينها "خطة الخلق العامة" ،وهي المتغيرات السبعة المنحصرة في :اإليمان؛
28
المتاع الدنيوي؛ النفس؛ العلم؛ الهوى؛ المال؛ البنون .والسبب في قدرة هذه
المتغيرات المحدودة على إنتاج هذا التنوع الالمحدود في التمظهرات
االجتماعية يرجع إلى الخاصية الفريدة للنفس البشرية من حيث تميّز كل نفس
عن غيرها من األنفس ،فليست هناك نفسان تتطابقان في خصائصهما ،بل كل
نفس تمثل بصمة خاصة بصاحبها ،وتصبغ كل فعل يفعله بصبغتها الفريدة.
لذلك إذا كان لدينا مليار شخص ،مثال ،متواصلين في الزمان والمكان فهذا
يعني أن لدينا مليار متغير "نفس" تصبغ كل واحدة منها بقية المتغيرات الستة
بصبغتها ،مما يعني أن لدينا عمليا سبعة مليار متغير تتفاعل مع بعضها في
الزمان والمكان.
6
-3الحركة الكونية لإلنسان في رؤية القرآن للعالم
اآلن أنتقل من الحديث عن رؤية القرآن لعالم االجتماع اإلنساني(خطة الخلق
العامة) إلى مآالتها فيما يتعلق بحركة اإلنسان الكونية كضرورة حتمية
للتفاعالت الزمانية والمكانية للمتغيرات المنتجة لخطة الخلق العامة على
المستوى الوجودي .وسوف أبدأ بطرح األسئلة الوجودية الضرورية من وحي
القرآن الكريم ،واإلجابة الالحقة عنها سوف تؤكد حتمية الحركة الكونية
لإلنسان.
-1.3األسئلة الوجودية
6
-نسخة مختصرة من هذا الجزء من البحث كانت قد نشرت في مجلة إسالمية المعرفة ،السنة الحادية والعشرون ،العدد ،83شتاء
1437ه1016/م (ص .)179 -151
29
ين)(هود) .و"ليبلوكم أيكم أحسن عمالً" هذه أفهم أن من ضمن دالالتها في
مب ٌ
هذا السياق هو تعليل خلق السموات واألرض ،ولذلك جعل هللا تعالى
الكون(السموات واألرض وما بينهما) مسخرا لإلنسان ) :
-6أنظر أبحاثنا التي تحيط بموضوع االبتالء(خطة الخلق العامة) في موقعنا على اإلنترنت (.)biraima.net
30
ان فقال لهاسماء وهي دخ ٌ سائلين * ث ُم استوى إلى ال ُ أربعة أي ٍُام سوا ًء لل ُ
ت في عا أو كر ًها قالتا أتينا طائعين * فقضاه ُن سبع سموا ٍ ولألرض ائتيا طو ً
ظا ذلك سماء الدُّنيا بمصابيح وحف ً
يومين وأوحى في ك ّل سماءٍ أمرها وزيُنُا ال ُ
تقدير العزيز العليم * فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عا ٍد
وثمود) .وقد أخبرنا هللا تعالى أن خلق الماء كان قبل خلق السماوات
سماوات واألرض في ستُة أي ٍُام وكان عرشه على واألرض( :وهو الُذي خلق ال ُ
الماء ليبلوكم أيُّكم أحسن عم ًال ولئن قلت إنُكم مبعوثون من بعد الموت ليقول ُن
ماض دل على سبق خلق ٍ ين) .كان هنا فعل الُذين كفروا إن هذا إ ُال سح ٌر مب ٌ
العرش والماء ،ثم خلق السموات واألرض من بعد ذلك؛ وخلق األرض
وجعلها تم قبل خلق وجعل السموات السبع رغم أنهما كانتا رتقا ثم فتقتا.
ونستنتج من ذلك أن المادة التي خلقت منها السماوات واألرض واحدة في
أصلها.
لقد وصف هللا تعالى في القرآن الكريم األرض ،من حيث خلقها ومن
حيث جعلها ،وصفا دقيقا كما لم يصف مخلوقا آخر ،وإنما ذلك ألهميتها
المركزية في (خطة الخلق العامة) التي من أجلها خلق هللا السماوات
واألرض ،وذكر أنه خلق ما في األرض جميعا للناس .ونسوق بعض اآليات
التي تبين الخصائص البيئية لألرض التي بها تباين باقي الكواكب والنجوم في
الكون:
( -1
()النازعات)؛
( -2
31
)(الرعد)؛
)(طه)؛
32
( -5
() فصلت).
لذلك نسلّم بأنه حيثما ذكرت األرض في القرآن الكريم ،باستثناء يوم
تبدل األرض غير األرض والسماوات ،وهو يوم القيامة ،فالمقصود هو هذه
صل القرآن الكريم وصف بيئتها ،وأخبر أن هللا تعالى بارك فيها
األرض التي ف ّ
وأصلحها لتناسب حياة البشر وما خلق لهم فيها من حيوان ونبات.
من عالم الغيب المطلق ،ومن علم هللا تعالى في أم الكتاب ،جاء الكون
إلى الوجود ،متحيزا في الزمان والمكان ،ومتشكال عبر مليارات السنين،
محكوما بقضاء هللا وقدره(كن فيكون) لينتهي يوما ما كما بدأ ( :
() األنبياء) .والحمد هلل أن العلم لم يعد
ينازع في النهاية المحتومة للكون الذي نعرفه .وفي إطار هذه التمظهرات
الوجودية والصيرورة الزمانية يأتي اإلنسان أيضا من عالم الغيب ليستقر في
األرض محققا مغزى االبتالء ،وحكمة خلق السماوات واألرض .وقد نح ّ
ت
مصطلحا لكل هذا التفاعل والنبأ العظيم في أبحاثي التي أشرت إليها أعاله،
وهو مصطلح "خطة الخلق العامة" .وكما يعود الكون من حيث بدأ) :
33
()األنعام) ،إذ يقوم الناس ليوم الحساب فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة
فقد فاز.
ولكي يستقيم منطق "خطة الخلق العامة" مع هذه البدايات والنهايات
العظيمة للكون فإن العقل يحكم بأنه فيما بينهما يتوقع أن يأتي اإلنسان ،الذي
من أجل عمله خلق هذا الكون ،بأعمال عظيمة في صالحها ،أو في فسادها،
تكافئ عظمة هذا الكون والحكمة من خلقه ،وتكافئ نهايته وزلزلة الساعة:
(ﭑ ﭒ ﭓ ﭔﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨﭩ ﭪ
لإلنسان() ( :الشورى) ،خالدين فيها ما
34
دامت السموات واألرض إال ما شاء ربك .من هذه القضية بالتحديد جاء
السؤال الوجودي األول ،وهو اآلتي:
أوال؛ إن هذه األرض التي نعرفها ونعيش فيها ،هي من الصغر
الجغرافي(مطلقا ،أو منسوبة إلى الكل الكوني) بحيث أنها ،أوال؛ ال تستحق
وحدها أن يخلق من أجلها ومن أجل ما يجري فيها كل هذا الكون المهيب
ببداياته ونهاياته العظيمة التي ذكرناها آنفا .ثم ،ثانيا؛ إنها بصغر حجمها هذا ال
تم ّكن البشر من الزيادة العددية المناسبة ،أو أن يأتوا من األعمال ما يكافئ في
عظمته عظمة الخلق الكوني هذا .إذن ما هي حقيقة األرض المستخلف فيها
اإلنسان المحققة لمبدأ التكافؤ بين العمل اإلنساني والخلق الكوني؟
النتيجة هي :البد من إعادة فهمنا لحقيقة األرض كما وردت في
القرآن الكريم.
ثانيا؛ إن األعمال التي جاء بها اإلنسان منذ تمكينه في أرض السماء الدنيا التي
دونته األقالم ،في صالحها نعيش فيها وإلى اليوم؛ مما وثّقه القرآن ،أو ّ
وفسادها ،إذا استثنينا الرسل وحوارييهم وقليال من اآلخرين من أهل الصالح
والفساد ،من التواضع بحيث يحكم العقل ،ما لم يناقض الوحي ،أنها ال تساوي
الحد األدنى الذي يكافئ عظمة بدايات ونهايات الخلق الكوني المرتبطة ،من
حيث العلّة ،بهذا العمل اإلنساني .وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المفارقة بين
تواضع الفعل اإلنساني التاريخي وبين المطلوب منه بما يكافئ عظمة الخلق
الكوني ،بداية ونهاية ،فقال تعالى ( :
()ص).
35
الكوني الذي يمكن أن تتحقق فيه ،بما يحقق التكافؤ المطلوب
بين العمل اإلنساني والخلق الكوني.
له ،وتوظيفها فيما يعمل من صالح ،أو فساد ،وال سبيل إلى ذلك بصورة فعالة
إال بالحصول على علم دقيق بحقيقتها ومتاحاتها ،ويقتضي ذلك الوصول إلى
مصادر تلك القوى المسخرة من سماوات وأرض .يعزز هذه الدعوى الكثير
من آيات القرآن الكريم من مثل قوله تعالى ( :
36
() الطالق) .فلكي نعلم حقيقة
تنزل األمر اإللهي بين هذه العوالم المهيبة يقتضي ذلك أن يجوب اإلنسان هذه
العوالم مستكشفا .كذلك قول هللا تعالى في سورة نوح عليه السالم ( :
() نوح) ،ال مغزى له وال حجة فيه إال إذا كان
اإلنسان قادرا على االستكشاف العلمي لهذه السموات السبع ليرى كيف خلقت
طباقا ،وكيف جعل هللا في كل منها الشمس سراجا والقمر نورا ،تماما كقول هللا
تعالى ( :
المتعلقة بهذه المخلوقات ،وإذا كان اإلنسان متمكنا اليوم من النظر العلمي في
الكيفيات المتعلقة باإلبل والجبال واألرض ألنها في متناوله فإن منطق الخطاب
القرآني المتسق يقتضي أن تكون السماء في متناوله كذلك ،ولو بعد حين.
النتيجة :يقتضي هذا إعادة فهمنا لما جاء في القرآن الكريم عن
عالقة اإلنسان بهذا الكون المسخّر ،وأبعاد فاعليته فيه.
37
-2.1.3السؤال الثاني :البعد الزماني لإلنسان في األرض وداللته
على حركته الكونية
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد
رضي هللا عنه قال ( :رأيت رسول هللا ،صلى هللا عليه وسلم ،قال بأصبعيه
هكذا بالوسطى والتي تلي اإلبهام :بعثت أنا والساعة كهاتين) ،8أي الفارق بين
بعثتي وقيام الساعة كالفرق بين األصبعين في الطول .ويؤكد القرآن الكريم
قرب الساعة() ( :القمر) ،وأيضا قوله
تعالى ( :
قبل أن أوضح ما يدل عليه هذا الحديث بالنسبة لي فيما يلي موضوع هذا
البحث أنقل اآلتي عن داللة الحديث من الموقع اإللكتروني (اإلسالم سؤال
وجواب) المشرف عليه الشيخ محمد صالح المنجد:
"أو ًال؛ أخرج هذا الحديث اإلمام البخاري في صحيحه( )6140عن أبي هريرة
رضي هللا عنه أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال( :بعثت أنا وال ُساعة
كهاتين) ،يعني :إصبعين ،وجاء عن سهل بن سع ٍد الساعدي رضي هللا عنه
مرفوعا بلفظ (بعثت أنا وال ُساعة هكذا -ويشير بأصبعيه فيمدُّ بهما) ،رواه
البخاري( ،)6138ومسلم( ،)2950وأخرجه اإلمام مسلم في صحيحه()867
عن جابر بن عبد هللا قال :كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إذا خطب
8
-البخاري ،أبو عبد هللا محمد بن اسماعيل .صحيح البخاري ،تحقيق :عبد العزيز بن عبد هللا بن باز ،بيروت :دار الفكر للطباعة والنشر
والتوزيع ،ط1411 ،1ه1991/م ،كتاب :تفسير القرآن ،باب :يوم ينفخ في الصور فتاتون أفواجا ،ج ،6حديث رقم ،4936ص .94
38
احمرت عيناه وعال صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول "صبُحكم ُ
وم ُساكم" ،ويقول( :بعثت أنا وال ُساعة كهاتين) ويقرن بين إصبعيه السبابة
والوسطى .وخرج اإلمام أحمد( )36/38بإسناد حسن من حديث بريدة (بعثت
ساعة جميعا إن كادت لتسبقني). أنا وال ُ
ثانيا؛ً أما بخصوص من يقول إن بيننا وبين ورود الحديث أكثر من ألف
وأربعمائة سنة فكيف يقول هللا تعالى ( اقتربت الساعة ) ،ويقول النبي صلى
هللا عليه وسلم (بعثت أنا وال ُساعة كهاتين)؟ فالجواب عليه من وجوه ،أبرزها:
-1أن المعنى :أنه ليس هناك نبي آخر بعد النبي صلى هللا عليه وسلم.
قال أبو حاتم بن حبان رحمه هللا:
"يشبه أن يكون معنى قوله صلى هللا عليه وسلم ( بعثت أنا وال ُساعة كهاتين )
أراد به :أني بعثت أنا والساعة كالسبابة والوسطى من غير أن يكون بيننا نبي
آخر؛ ألني آخر األنبياء وعلى أمتي تقوم الساعة"انتهى" ،من صحيح ابن
حبان(.(13/15
وقال القرطبي رحمه هللا :أول أشراط الساعة :النبي صلى هللا عليه وسلم ؛ ألنه
نبي آخر الزمان ،وقد بعث وليس بينه وبين القيامة نبي"انتهى من التذكرة
(ص ."(111
-2أن المعنى :هو القرب الذي في علم هللا تعالى وحسابه ،ال في علم البشر
وحسابهم .قال الشيخ عمر األشقر حفظه هللا" :قد يقال :كيف يكون قريباً ما
مضى على اإلخبار بقرب وقوعه ألف وأربعمائة عام؟
والجواب :أنه قريب في علم هللا وتقديره ،وإن كانت المقاييس البشرية تراه
بعيد ًا (إ ُنهم يرونه بعيدًا ،ونراه قريبًا)( المعارج " ،)7 - 6 ،انتهى من " القيامة
الصغرى" (ص .)115
-3أن المعنى :أن بين بعثة النبي ،صلى هللا عليه وسلم ،وقيام الساعة شيء
39
يسير بالنسبة لما مضى من الزمان.
ٌ
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه هللا:
"وهذا يدل على قربها ،لكن مع ذلك كم بيننا وبين الرسول ،صلى هللا عليه
وسلم؟ نحن في القرن الخامس عشر الهجري بعد بعثة الرسول ،صلى هللا عليه
وسلم ،بثالث عشرة سنة ،ومع ذلك ما زالت الدنيا باقية مما يدل على أن ما
مضى طويل جدّ ًا ،حتى إن الرسول ،صلى هللا عليه وسلم ،عند غروب الشمس
قال (إ ُنه لم يبق من الدُّنيا -يعني :بالنسبة لمن سبقكم -فيما مضى منها إ ُال كما
بقي من يومكم هذا) ،رواه الترمذي وح ُسنه "وضعفه األلباني في "ضعيف
الترغيب والترهيب" برقم ( .)1641انتهى من " تفسير القرآن من الحجرات
إلى الحديد"( ص .)361
وقال الشيخ عمر األشقر حفظه هللا:
"واألمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه :أن الباقي من الدنيا قليل بالنسبة لما مضى
ال كأن توجله خمسين عاماً- ال طوي ًمنها ،فإنك إذا وضعت لمن لك عليه دين أج ً
ال ،-فإذا انقضى من الخمسين خمسة وأربعون فيكون موعد السداد قد اقترب مث ً
بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب ،واألحاديث النبوية الشريفة تشير إلى
هذه الحقيقة التي بي ُناها هنا ،ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبد هللا بن عمر
رضي هللا عنهما أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال (إ ُنما أجلكم فى أجل
من خال من األمم ما بين صالة العصر إلى مغرب ال ُشمس ) ،9وفي لفظ (إ ُنما
بقاؤكم فيما سلف قبلكم من األمم كما بين صالة العصر إلى غروب
ال ُشمس)[تنبيه :رواه البخاري باللفظين دون مسلم).
إن الحديث يمثل الوجود اإلنساني بيوم من أيام الدنيا ،ابتدأ وجود األمة
اإلسالمية فيه عند العصر فيكون الماضي من عمر الوجود اإلنساني بنسبة ما
مضى من ذلك اليوم من الفجر إلى العصر ،ويكون الباقي من عمر الزمن حتى
9
-المرجع السابق ،كتاب :فضائل القرآن ،باب :فضل القرآن على سائر الكالم ،ج ،6حديث رقم ،5021ص .130
40
تقوم الساعة كما بين العصر والمغرب ،ذلك أن النصوص صريحة الداللة
على أننا آخر األمم وجود ًا ،وأن نهاية وجود هذه األمة يتحقق بقيام الساعة.
وجاء في حديث آخر يرويه البخاري ومسلم عن سهل رضي هللا عنه قال :قال
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم (بعثت أنا وال ُساعة كهاتين) -ويشير بأصبعيه
فيمدهما ،-ورواه مسلم عن سهل بلفظ :سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم
ساعة هكذا). يشير بإصبعه التي تلي اإلبهام والوسطى وهو يقول (بعثت أنا وال ُ
والمعنى :أننا لو قدُرنا عمر الزمن باألصبع الوسطى فإن ما بقي منه عند
مبعث الرسول صلى هللا عليه وسلم يكون بمقدار ما تزيد الوسطى عن السبابة،
سوما مضى منه بمقدار السبابة من األصبع الوسطى .قد يكون الباقي في ح ّ
ال ألن إدراكهم محدود ونظرتهم قاصرة ،ولكنه في ميزان هللا قريب البشر طوي ً
َّللا فال تستعجلوه)(النحل( ،)1،وما أمر ال ُساعة إ ُال كلمح وقصير(أتى أمر ّ
البصر أو هو أقرب )(النحل.(77 ،
وروى اإلمام أحمد عن عتبة بن غزوان قال :خطبنا رسول هللا ،صلى هللا عليه
وسلم ،قال :فحمد هللا وأثنى عليه ثم قال( :أ ُما بعد فإ ُن الدُّنيا قد آذنت بصر ٍم
وو ُلت ح ُذاء ولم يبق منها إ ُال صباب ٌة كصبابة اإلناء يتصابُّها صاحبها وإ ُنكم
ار ال زوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم ،)...انفرد به منتقلون منها إلى د ٍ
مسلم" انتهى من "القيامة الصغرى"( ،ص .)117 -116
ثالثاً؛ ال يشك مسلم في ثبوت قرب الساعة ،وكيف يفعل ذلك وقد ذكر هللا تعالى
ذلك في كتابه الكريم بأوضح عبارة وأجلى بيان؟! قال تعالى( :اقترب لل ُناس
حسابهم وهم في غفل ٍة معرضون)(األنبياء ،)1 ،وقال جل وعال( :اقتربت
ال ُساعة وانش ُق القمر)(القمر ،)1 ،وقال( :وما يدريك لع ُل ال ُساعة تكون قريباً)(
األحزاب ، )63 ،وقال جل وعال( :أزفت اآلزفة ليس لها من دون ُ
َّللا
كاشف ٌة)(الذاريات .(57،تفسير القرآن "من الحجرات إلى الحديد" للشيخ ابن
عثيمين رحمه هللا(ص ( 361أه.
41
أوال؛ ليس من أغراضي ،وال ينبغي لي ،الخوض في متى تقوم الساعة فقد قال
هللا تعالى في ذلك ( :
()النحل) ،فذلك أمر اختص به هللا تعالى كما قال ( :
() األعراف).
42
منذ بداية خلقه إلى نهايته وقيام الساعة ،بينما األصبع السبابة في طولها تعبر
عما مضى من عمر الكون إلى عهد بعثته ،صلى هللا عليه وسلم ،وأجد فيما
نقلت سابقا من أقوال العلماء المسلمين ما يدعم هذا الفهم .فالحديث إذا ً ينسب ما
مضى من عمر الكون إلى جملته ،وأن هذه النسبة تساوي نسبة األصبع السبابة
إلى األصبع الوسطى ،من حيث الطول ،مما يعني أننا لو استطعنا علميا أن
نقدّر ما مضى من عمر الكون فإننا نستطيع كذلك أن نقدر ما تبقى منه إذا
استطعنا أن نقدر نسبة األصبع السبابة إلى الوسطى كما جاء في الحديث
الشريف .نحن إذن نعتمد فيما نحن مقدمون عليه على صحيحين ،صحيح
الحديث الشريف فيما بقي من عمر الكون ،وصحيح علم الفيزياء الفلكية فيما
مضى منه.
بالنسبة إلى صحيح علم الفيزياء الفلكية في تقدير ما مضى من عمر
الكون ،فأستشهد هنا بهذا المقطع باللغة اإلنجليزية من موسوعة ويكيبيديا:
(In physical cosmology, the age of the universe is
the time elapsed since the Big Bang. The best
measurement of the age of the universe
is13.798±0.037 billion years (13.798±0.037×109 years
or 4.354±0.012×1017 seconds) within the Lambda-CDM
concordance model.[1][2] The uncertainty of 37 million years
has been obtained by the agreement of a number of
scientific research projects, such as microwave background
radiation measurements by the Planck satellite,
the Wilkinson Microwave Anisotropy Probe and other
probes. Measurements of the cosmic background radiation
give the cooling time of the universe since the Big
Bang,[2] and measurements of the expansion rate of the
43
universe can be used to calculate its approximate age by
extrapolating backwards in time).
ولتأكيد هذه األرقام التقديرية التي جاءت في النص أعاله عما مضى من عمر
الكون يمكن الرجوع إلى عدد من المراجع العلمية الموثوقة وكذلك إلى الموقع
10
اإللكتروني الحكومي لوكالة ناسا الفضائية.
ليس غرضي دقة األرقام وإنما الصورة الكلية للتقدير الزمني وهو أن ما
مضى من عمر الكون يقدر علميا حتى اآلن بمليارات السنين .الجدول أدناه
يلخص التمرين الذي قمنا به لمقاربة األمد الزماني القتراب الساعة جمعا بين
ب
صحيح الحديث الشريف وصحيح علم الفيزياء الفلكية ،وذلك بافتراض نس ٍ
مختلفة تعبّر عن نسبة األصبع السبابة إلى األصبع الوسطى رأي العين ،لتفيد
نسبة ما مضى من عمر الكون إلى جملته ،ثم حساب ما بقي من عمر الكون
بقسمة ما مضى منه( 13.8مليار سنة) بحسب علم الفيزياء الفلكية على (بسط)
النسب المفترضة في الجدول .فمثال إذا قدّرنا أن نسبة السبابة إلى الوسطى
تساوي تسعة أعشار فهذا يعني أن تسعين في المائة من عمر الكون قد مضى،
ولم يبق على نهاية الدنيا إال عشرة في المائة فقط ،وهذا يفيد معنى القرب حقا،
ولكن هذا القرب الشديد عندما نترجمه إلى أرقام زمنية( )13.8/9فإنه يقاس
بمليارات السنين( .)1.5لذلك فإن األمد الزمني القتراب الساعة ،ونهاية
االستخالف اإلنساني على األرض ،بحسب حساباتنا هذه ،يمتد من يوم واحد
إلى مليارات السنين ،بينما األمد الزمني الفردي يمتد من يوم واحد إلى مائة
عام .والقضية الجوهرية التي أريد التأكيد عليها هي أن نتصور ،إنطالقا من
10
- Dinwiddie, Robert, and Others. Universe, New York: DK; Rev Upd edition(September 17, 2012), page
;27
- Adams, Fred, and Laughlin, Greg. The Five Ages of the Universe: Inside the Physics of Eternity, Free
;Press 2000, p xiii
- http:/www.nasa.gov/mission_Pages/planck/multimedia/pia 16873.html#.VrZk3P197Z4.
44
إنجازات وإخفاقات الواقع البشري الحالي ،ما يمكن أن يفعله ويعمله اإلنسان
من صالح وفساد في األرض خالل هذا األمد الزماني المتطاول لعمر الكون
الذي يمتد إلى مليارات السنين ،وما يمكن أن ينجزه في مجال العلم
والتكنولوجيا وتوظيفاتهما الكونية ،وما سوف يؤول إليه أمر األرض من حيث
العمران وتدافع اإلنسان ،وسنن هللا تعالى الحاكمة لهذا التدافع.
45
التقدير النسبي للمدى الزمني القتراب الساعة
األمد الزمني القتراب الساعة تقدير ما حساب ما تبقى تقدير ما مضى نسبة
تبقىمن عمر من عمر الكون من عمر الكون األصبع السبابة
الكون(مليارات (مليارات إلى األصبع
السنين) السنين) الوسطى
الذي استخلصه مما سبق ،ومما سوف يلحق في هذا البحث إن شاء هللا
تعالى ،هو أن استخالف اإلنسان القائم على االبتالء الذي من أجله خلق هللا
تعالى السماوات واألرض كما يخبرنا القرآن الكريم إنما هو في بداياته،
وسوف يمتد زمانا ،تفاعال وتدافعا ،حتى يبلغ أمده الزماني الملياري ،وسوف
يمتد مكانا حتى يبلغ مداه الكوني السماوي.
هذه الدالالت الحسابية يحتملها الحديث النبوي الشريف ،وال تناقض
الداللة المعنوية التي وردت في حديث (أنا وكافل اليتيم كهاتين) المستخدم فيه
ذات األصبعين ،فهما يشتركان في معنى القرب ،إال أن القرب في الحديث
األول يمكن ،من حيث المبدأ ،قياسه رقميا بينما القرب في الحديث الثاني ال
46
يمكن إال اإلحساس به معنويا .وعلينا أن نتذكر أنه يمكننا أن نحسب بدقة كبيرة
بعضا مما تبقى من عمر الساعة الذي ورد في الحديث ،وهي الفترة ما بين
رواية الحديث إلى يومنا هذا مما يعطي ،من حيث المبدأ ،المشروعية لتوظيف
العلم في تقدير آجال عمر الكون ومن ثم قرب الساعة ،وليس لحظة قيامها.
هناك أيضا قضية الفجوة الزمنية الهائلة بين عمر الكون التقديري(13.8
مليار عام) بحسب علم الفيزياء الفلكية ،وعمر قدوم اإلنسان إلى األرض(5
مليون عام) بحسب ما كشفت عنه حتى اآلن حفريات وتقديرات علماء
األنثروبولوجيا.
نحن ال نحسن الظن بنظريات األنثروبولوجيين فيما يتعلق بأصل
اإلنسان ونسبته إلى القرود وتطوره بعد ذلك ،فالقرآن الكريم حسم هذا األمر
بآيات كثيرة تتعلق بأصل بني آدم الذي هو نبي مكرم خلقه هللا في أحسن تقويم
وعلمه األسماء كلها ثم أهبطه إلى األرض ،واألطوار التي يمر بها اإلنسان
وذكرها القرآن الكريم هي أطوار من داخل النوع اإلنساني ال من خارجه.
ولكن ما يهم بحثنا هذا من مقوالت األنثروبولوجيا هو العمر الزمني لإلنسان
في األرض ،فليست هناك إشارة في القرآن الكريم ،أو السنة النبوية الصحيحة،
حسب علمي ،إلى كم مضى من الزمان منذ أن هبط اإلنسان إلى األرض إلى
بعثته صلى هللا عليه وسلم ،إال أن القرآن الكريم يعطي موجهات منهجية
بالسير في األرض والنظر في كيف بدأ الخلق ،وكيف كان عاقبة الذين من
قبل ،مما يعطي مشروعية علمية لعلم األنثروبولوجيا فيما ليس فيه نص موحى
من تاريخ اإلنسان على األرض .لذلك يظل تقدير خمسة مليون عام على وجود
اإلنسان في األرض ،رغم افتقاره إلى الدقة العلمية ،هو أفضل تخمين علمي
لدينا حتى اآلن ،ال سيما وأن اآلثار التي تركها األقدمون وراءهم في األرض
ال توحي بمدى زمني هو أبعد من ذلك.
واإلشكال الوجودي الذي يطرحه البعد الزماني لإلنسان يأتي من فهمنا
القرآني أن الكون(السماوات واألرض وما بينهما) إنما خلق لحكمة تتعلق بخلق
47
اإلنسان واستخالفه في األرض ،فكيف نعقل أن الكون الذي خلق من أجل
اإلنسان ظل في انتظاره متشكال عبر مليارات السنين ثم يأتي اإلنسان
يتعرف اإلنسان بعد
ّ المستخلف في آخر خمسة مليون عام لتقوم الساعة ،ول ّما
حتى على األرض التي هو مستخلف فيها دعك عن كل الكون الذي من أجله
خلق ،وفيه يبتلى ،وبعمله فيه يحاسب؟ أضف إلى ذلك أن عدد سكان األرض
خالل هذه الفترة الزمنية المحدودة من عمر اإلنسان كان قليال جدا ،حتى من
إشارات القرآن الكريم بهذا الخصوص ( :
جغرافيا ً مساحات شاسعة من اليابسة والبحار ،ولم تتكاثر أعداد البشرية لتصل
إلى ما هي عليه اليوم إال في القرون األخيرة.
إذن ماذا نستنتج من كل هذه الدالالت الحسابية فيما يتعلق بموضوعنا؟
48
بين عمر األرض وعمر اإلنسان المستخلف فيها بما يزيل نسبيا
إشكال الفجوة الزمنية بين عمريهما ،ثم ثانيا؛ توقّع نتائج عظيمة
من فعل اإلنسان في هذا الكون ،فيما تبقى من عمره ،تكافئ
عظمة الخلق الكوني ،بداية ونهاية.
هذه النتائج العظيمة المتوقعة لعمل اإلنسان ،في فسادها وصالحها ،هي
موضوع استشرافنا للحركة الكونية لإلنسان في القرآن الكريم فيما تبقى من
عمره الدنيوي ،مما سوف نستعرضه فيما يلي من هذا البحث.
-1.2.3الفرضية األولى:
49
( -1
)(الرحمن)؛
( -4
)(البقرة)؛
50
( -5
( -6
(ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ -7
ﯺ ﯻ ﯼ)(الشورى).
أستنبط من اآلية األولى أن هللا تعالى خلق سبع سماوات تماثلهن من
حيث العدد سبع من األرض ،وأستشهد لذلك بما جاء في تفسير ابن كثير لهذه
اآلية ،إذ يقول" :يقول تعالى مخب ًرا عن قدرته التُا ُمة وسلطانه العظيم ،ليكون
{َّللا ا ُلذي خلق سبعُ ذلك باع ًثا على تعظيم ما شرع من الدّين القويم:
ت طباقاً}؟ ،وقوله سماواتٍ} ،كقوله تعالى{ :ألم تروا كيف خلق ُ
َّللا سبع سماوا ٍ
صحيحين« :من ضا ،كما ثبت في ال ُ تعالى{ :ومن األرض مثله ُن} أي سبعًا أي ً
ي: ظلم قيد شبر في األرض ط ّوقه من سبع أرضين» .وفي صحيح البخار ّ
«خسف به إلى سبع أرضين» .وقد تقدم في سورة الحديد ذكر األرضين ال ُسبع
وبعد ما بينه ُن وكثافة ك ّل واحدةٍ منه ُن خمسمائة عا ٍم ،وهكذا قال ابن مسعو ٍد
وغيره ،وكذا في الحديث اآلخر« :ما ال ُسماوات ال ُسبع وما فيه ُن وما بينه ُن
ي إ ُال كحلق ٍة ملقاةٍ بأرضواألرضون ال ُسبع وما فيه ُن وما بينه ُن في الكرس ّ
ت ومن فالةٍ» ،وقال ابن جرير ،عن ابن عباس في قوله تعالى{ :سبع سماوا ٍ
األرض مثله ُن} قال :لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم ،وكفركم تكذيبكم بها" (رواه
ُاس رضي ُ
َّللا عنهما).11 ابن جرير عن مجاه ٍد عن ابن عب ٍ
11
-ابن كثير ،عماد الدين ابو الفداء إسماعيل .تفسير القرآن العظيمن القاهرة :الدار المصرية اللبنانية ،ط1410 ،2ه1990 /م ،ج.385 ،4
51
وجاء في "التحرير والتنوير" إلبن عاشور قوله "وجمهور المف ّسرين
ت فمنهم من قال هي جعلوا المماثلة في عدد ال ُسبع وقالوا :إن األرض سبع طبقا ٍ
ُاس من روايةي عن ابن عب ٍ ت منبسط ٍة تفرق بينها البحار .وهذا مرو ٌّ سبع طبقا ٍ
ضق بعضها فوق بع ٍ ي عن أبي صالح ٍ عنه ،ومنهم من قال هي سبع طبا ٍ الكلب ّ
وهو قول الجمهور .وهذا يقرب من قول علماء طبقات األرض (الجيولوجيا) ،
ت".12ت أرضيُ ٍة لك ُنها ال تصل إلى سبع طبقا ٍ
من إثبات طبقا ٍ
إذن جمهور المفسرين يجعل المماثلة في العدد من حيث هي سبع
أرضين ،غير أنه سبحانه وتعالى استخدم صيغة الجمع للسماوات ولم
يستخدمها لألرض مما يدل على أن كل سماء تختلف بصورة من الصور عن
السماوات األخرى ،واألحاديث النبوية الواردة بشأنها تؤكد ذلك ،ولكن األرض
ي
واحدة بسبع نسخ متماثلة بيئيا ومن حيث الغرض .مثال ذلك أن تكون لد ّ
صورة فوتغرافية واحدة ولكن لي منها سبع نسخ ،فال أقول لدي سبع صور بل
صورة واحدة منها سبع نسخ ،ولكن إن كانت لدي سبع صور فوتوغرافية
تختلف عن بعضها من حيث هيئتي التي في كل منها ،أو األمكنة المختلفة التي
صورت فيها فهنا البد من استخدام صيغة الجمع بشأنها .الحقيقة المضطردة في
القرآن الكريم هي استخدام صيغة المفرد لألرض حيثما وردت مع مقابلتها
بالسماوات بصيغة الجمع غالبا.
في اآلية الثانية أيضا ما يدعم الفرضية األولى بأن في كل سماء أرض
مماثلة بيئيا ألرضنا هذه ،فبجانب ذكر األرض مفردة مقابل السموات نجد أن
التحدي بالنفاذ لم يقتصر فقط على أقطار السموات وإنما امتد ليشمل أقطار
األرض ،ولو كانت األرض المقصودة هي أرضنا هذه وحدها لما كان في ذلك
تح ٍدّ إذ لطالما نفذ الجن من أقطارها ،وها هم اإلنس يفعلون ذلك اآلن بصورة
راتبة .وفي تفسير األلوسي(روح المعاني) ما يدعم فرضيتنا أعاله فقد جاء فيه:
( أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا رضي
هللا تعالى عنه قال :بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال« :هذه
األرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة ،واألرض الثانية فوق السماء الدنيا
والسماء الثانية فوقها قبة ،واألرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة
12
-ابن عاشور ،محمد الطاهر .التحرير والتنوير ،تونس :الدار التونسية للنشر ،1984 ،ج ،28ص .340
52
فوقها قبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال :واألرض السابعة فوق
السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرش الرحمن فوق السماء
ت ومن األرض مثلهن).13السابعة ،وهو قوله تعالى :سبع سماوا ٍ
اآلية الثالثة تدعم أيضا فرضية السبع المتماثالت من األرض ،ذلك أن
هللا تعالى ذكر السبع سماوات وطيّها يوم القيامة ولكنه ذكر بجانبها األرض
مفردة مضافا إليها كلمة "جميعا" ليدلل على أنها عديدة متماثلة الصفات.
ويدعم فهمنا هذا ما جاء عن ذلك في الكشاف للزمخشري حيث يقول( :والمراد
باألرض :األرضون السبع ،يشهد لذلك شاهدان :قوله جميعاً وقوله وال ُسماوات
وألن الموضع موضع تفخيم وتعظيم ،فهو مقتض للمبالغة ،ومع القصد إلى ّ
الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر ،ليعلم ّأول األمر
أن الخبر الذي يرد ال يقع عن أرض واحدة ،ولكن عن األراضي كلهن).14
اآلية الرابعة تؤكد بوضوح أن استخالفنا نحن البشر الذين في هذه
األرض يمتد إلى كل هذه األراضي السبع المتماثلة بيئيا ،والدليل على ذلك أن
الخطاب موجه إلينا بأن كل ما في األرض خلق لنا ،ولما كانت كلمة (جميعا)
راجعة إلى األرض ،كما في اآلية الثالثة أعاله ،فهي دليل على االستقصاء لكل
ما خلق في كل المتماثالت السبع من األرض ،وأن كل ذلك لنا .وجميع
التفاسير مما اطلعت عليه تفسر كلمة (جميعا) في هذه اآلية باعتبارها حال من
(ما) ،أي خلق لكم جميع ما في األرض ،والذي أراه أنها ترجع إلى األرض
باعتبار ما ذكرت أعاله من تفسير الزمخشري لآلية رقم( ،)3وهو أبلغ في
الداللة على كثرة النعم ،واتساع رقعتها ،وسخاء المنعم ،ولكن لما لم يكن أمر
استخالف اإلنسان في كل المتماثالت السبع من األرض متخيال عندهم ،بحكم
مقتضى الزمان الذي عاشوا فيه ،كان منطقيا وسليما أن يصرفوا المعنى إلى
المخلوقات المتعددة في أرضنا الواحدة هذه .وأرى أن جمالً مثل (ما في
السماوات وما في األرض جميعا؛ ما في األرض جميعا؛ واألرض جميعا)
13
-االلوسي ،شهاب الدين بن عبد هللا الحسيني .روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ،تحقيق :علي عبد الباري عطية،
بيروت :دار الكتب العلمية ،ط1415 ،1ه ج ،14ص.339
14
-الزمخشري ،أبو القاسم محمود بن عمر بن احمد .الكشاف ،بيروت :دار المعرفة ،د .ت ،ج ،3ص .356
53
حيثما وردت في القرآن الكريم ينصرف معنى الجمع فيها ،فيما يلي األرض،
إلى المتماثالت السبع من األرض ما لم يقم شاهد يصرف المعنى إلى أرضنا
الواحدة هذه ،وليس إلى جميع المخلوقات المتعددة في األرض الدنيا هذه ،إذ
المعنى األول يستوعب ويتجاوز المعنى الثاني.
اآلية الخامسة هي التي تعطينا الدليل على توزع األرضين السبع على
السماوات السبع ،ولكنه دليل غير مباشر ومفاده اآلتي:
أوال؛ الشمس والقمر عالقتهما باألرض عالقة ضرورية ،فهما الزمان لها
لتكون األرض صالحة للحياة ،فحيثما توجد األرض البد أن يوجد معها الشمس
والقمر؛
ثانيا؛ تماثل األرضين السبع بيئيا يقتضي بالضرورة تماثل في شمسها وقمرها،
إذ لو اختلفت الشمس والقمر في كل أرض عنها في األخرى النتفى التماثل
األرضي المفترض ألنهما عامالن أساسيان في اكتساب األرض خصائصها
البيئية المميزة؛
ثالثا؛ تقتضي النقطة ثانيا أن ترد في القرآن الكريم لفظتا (الشمس) و(القمر)
بصيغة المفرد دائما ،رغم أنهما بعدد األرضين السبع ،للتأكيد على التماثل كما
هو الحال مع كلمة (األرض) ،وهو الحاصل فعال في القرآن الكريم؛ وال
يقتضي ذلك إضافة كلمة (جميعا) إليهما للتدليل على التعدد كما أضيفت إلى
األرض ،إذ يكفي في ذلك إضافة الكلمة إلى األرض ألنها هي األهم ،وهما لها
تبع في ذلك؛
رابعا؛ حيث ما ذكر الشمس والقمر في القرآن الكريم فذلك باعتبار عالقتهما
باألرض ،إذ ال ميزة لهما في ذاتهما كنجم وكوكب عن غيرهما من مليارات
النجوم والكواكب التي يعج بها الكون وتماثلهما في الخصائص الفيزيائية .إن
األرض لخصوصيتها التي تميزها عن سائر الكواكب والنجوم ،ومركزيتها في
خطة الخلق اإللهية العامة للكون كله ،هي التي تكسب الشمس والقمر
54
خصوصيتهما عن سائر النجوم والكواكب .لذلك يقتضي ذكر اسم العلم
(الشمس) و(القمر) في القرآن الكريم وجود (األرض) معهما ،فإذا ذكر القرآن
الكريم أن الشمس والقمر توجدان في كل سماء ،أو أنهما بحسبان ،دل ذلك على
وجود األرض معهما ،وأن ذكرهما إنما يرد بغرض التذكير بدورهما في المنّة
اإللهية العظمى على اإلنسان وهي األرض ،وما تم فيها من إصالح بيئي
يناسب حياة اإلنسان ،وما خلق فيها من نعم لمعاشه؛
خامسا؛ اآلية الخامسة أعاله تشير إلى أن في كل سماء من السماوات السبع
الطباق قمرا منيرا وشمسا سراجا ،وهو المعنى اللغوي المباشر ،وال داعي
لصرف المعنى إلى ما ذهب إليه المفسرون ال لشيئ إال الستبعادهم في األصل
القضية التي هي موضوع هذا البحث؛
سادسا؛ إذا سلمنا بسالمة المنطق والمضمون الذي حوته النقاط أعاله حصل
التسليم بأن األرض توجد في كل سماء ،وأننا نحن البشر مستخلفون فيها
جميعا ،والحمد هلل رب العالمين .وال تتعارض هذه النتيجة مع ما جاء من تأكيد
في القرآن الكريم أن اإلنسان خلق من األرض ،وفيها يحيى وفيها يموت ومنها
يخرج تارة أخرى ،وأن مستقره ال يكون إال في األرض ،ألن لفظة األرض
تستخدم هنا في عمومها وليس هناك ما يحصر المعنى في أرضنا هذه ،ولنتذكر
أن اإلنسان هبط إلى هذه األرض الدنيا من أرض أخرى .لذلك نقول ،وباهلل
التوفيق ،من عاش من بني آدم في أي من األرضين السبع ومات فيها فمنها
يبعث .كذلك فإن تواصل الناس بين هذه األرضين السبع عبر رحالت
واتصاالت كونية تيسرها علوم وتقنية ال تخطر على بال أحد اآلن سوف يجعل
من اليسير ،فيما يخص المسلمين ،الحج إلى مكة من أي أرض كانوا فيها ،كما
سوف يبدع العقل المسلم علوما شرعية جديدة ،تنكسف أمامها علومنا الشرعية
الموروثة والمستجدة اآلن ،وتنح ّل بها التحديات التي تواجه المسلم في العالم
الجديد.
55
اآلية السادسة تعزز معنى اآلية الخامسة وتدعم فرضية تو ّزع األرضين
السبع بين السماوات السبع ،وذلك بذكر هللا تعالى عدم قدرة الناس على
إعجازه ،سواء في األرض ،أو في السماء .ولما كان مفهوما عدم اإلعجاز فيما
يتعلق باألرض ،وهي مستقر الناس ،فكيف نفهم عدم إعجازهم هلل في السماء؟
المفسرون ،لعدم تصورهم بلوغ اإلنسان يوما ما أقطار السماوات ،ردوا
المعنى إلى يوم القيامة رغم أنه يوم تبدل األرض غير األرض والسماوات،
ويوم ال فوت ويؤخذ الناس من مكان قريب .والراجح لدينا أن اآلية تنبؤ بأن
طغيان اإلنسان وظنه بأنه مستغن عن هللا تعالى وخارج عن قدرته لن يقتصر
على األرض التي هو ظاهر فيها اليوم ،بل سيصحبه في رحلته الكونية وهو
يجوب أرجاء ما س ّخر له من السماوات واألرض جميعا .وداللة اآلية على
قضيتنا هي أنه لما قضى هللا تعالى أن األرض وحدها هي التي فيها يحيى
اإلنسان وفيها يموت ومنها يخرج فإن حركة اإلنسان الكونية تقتضي
بالضرورة أن تكون هناك أرضون تتوزع على الكون كله حتى يستقر اإلنسان
فيما يصل إليه منها ويعمرها ثم يستأنف مسيرته إلى ما وراءها من أرجاء
الكون الفسيح .ليس ممكنا من حيث المسافة الزمانية والجغرافية أن يعود
اإلنسان من أطراف الكون إلى أرضه الدنيا ليتزود منها ويقضي حوائجه ثم
يعود من حيث أتى ،ولنا في رحالت الفضاء الحالية المحدودة خير شاهد حيث
بدأ اإلنسان ينشئ محطات في الفضاء تكون له مرتكزا يقلل من حاجته إلى
العودة إلى األرض في كل رحلة كونية يقوم بها.
اآلية السابعة تثبت وجود الدواب في كل السماوات واألرض جميعا دون
تمييز لدواب دون دواب ،ولما كانت كل دابة مخلوقة من ماء ،بما في ذلك
ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ اإلنسان ،كما يخبرنا القرآن الكريم( :ﭝ ﭞ ﭟ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
56
فاألولى مخلوقة من نور ،والثانية مخلوقة من مارج من نار .ولكن الدواب
بطبيعتها تحتاج إلى هواء للتنفس ،وإلى ماء للشرب ،وإلى طعام للغذاء ،مما
يعني بيئة صالحة للحياة كبيئتنا األرضية هذه ،وهذا بدوره له داللة هامة على
قول هللا تعالى( :ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ
57
إلى الفرضيات األولية التي تتكون من مجموعها ،ثم نلحق بكل فرضية األدلة
القرآنية المنشئة لها .الفرضيات األولية الرافدة لهذه الفرضية األم هي أربع:
-1فرضية (التماثل العددي بين األرض والسماوات)؛
-2فرضية (التماثل البيئي بين األرضين السبع)؛
-3فرضية (استخالف اإلنسان في األرضين السبع)؛
-4فرضية (تو ّزع األرضين السبع بين السماوات السبع).
إن فوائد هذا المنهج التفكيكي هي اآلتي:
أوال؛ لكي ندحض الفرضية األم إنطالقا من القرآن الكريم فالبد من دحض
كل ،أو بعض الفرضيات األولية من حيث رد أدلتها القرآنية؛
ثانيا؛ يمكن اآلن التخلي عن فرضية (توزع األرضين السبع على السماوات
السبع) دون دحض الفرضية األم ،بينما دحض أي من الفرضيات األخرى
يؤدي مباشرة إلى دحض الفرضية األم ذاتها؛
ثالثا؛ تقلصت المسافة كثيرا بين مصدر التنظير وهو القرآن الكريم وبين عملية
التنظير ذاتها.
58
شكل رقم ()3
59
الفرضية األولى أعاله تقتضي إثبات قدرة اإلنسان على الوصول ببدنه
إلى كل األرضين الست الباقية ليحقق فيها استخالفه ،وينتفع بما خلق له فيها،
وأن في القرآن الكريم من الشواهد ما يمكن أن تتولد عنه هذه الفرضية .هذه
القضية تتم معالجتها في الفرضية الثانية ،إن شاء هللا تعالى ،فإلى تلك
الفرضية.
-2.2.3الفرضية الثانية:
أوال؛ قول هللا تعالى ( :
60
في هذه اآليات تحدى هللا تعالى الجن واإلنس بالنفاذ من أقطار السموات
ولكن، ثم أكد قهرهم عن ذلك بشواظ من نار ونحاس،واألرض إن استطاعوا
هذا يدل على قدرة الجن واإلنس على بلوغ أقطار السموات واألرض ألنه ال
وعطف.معنى لتحديهم بالنفاذ منها إن كانوا عاجزين ابتدا ًء عن الوصول إليها
اإلنس على الجن في اآلية له مغزاه ألن الجن بأصل خلقتها قادرة على
، وقد وث ّق القرآن ذلك في أكثر من آية،الوصول إلى أقطار السموات واألرض
( :فمثال قوله تعالى
( :)(الجن)؛ وكذلك قوله تعالى
61
إذن عطف اإلنس على الجن ،الذين يستطيعون بأصل خلقتهم بلوغ
أقطار السماوات واألرض ،دليل على أن اإلنس يستطيعون بعلمهم وعملهم
بلوغ ما بلغته الجن بأصل خلقتهم .واإلذن للجن واإلنس ببلوغ أقطار السموات
واألرض فألن هللا تعالى قد س ّخر لهما ما في السموات وما في األرض جميعا
منه ،والتسخير القائم على االبتالء والمقتضي للحساب والجزاء يفترض تيسير
الوصول إلى تلك المس ّخرات لمن س ّخرت له .ولكن النفاذ من أقطارها ممتنع
في حقهما ،رغم تطلعهما لذلك بحكم الجبلّة ،ألنه ليس بعد السماء السابعة إال
عرش الرحمن فيما نعلم من السنة النبوية ،وهو خارج مجال التسخير.
وال نرى ما تراه تفاسير القرآن الكريم المختلفة(أنظر التحرير والتنوير
البن عاشور) من أن التحدي إنما يتعلق بيوم القيامة وليس في هذه الدنيا ،وذلك
لسببين؛ األول ،هو أن جميع اآليات التي وردت في سورة الرحمن قبل آيات
التحدي هذه تتعلق بتبيان عظمة ما خلق هللا تعالى من كائنات بما في ذلك الجن
واإلنس ،وبمنّته وآالئه على الجن واإلنس من حيث تسخيره هذا الخلق العظيم
لمنفعتهم ،وإنكاره عليهم طغيانهم وجحودهم نعمته ،وتو ّهم استغنائهم بقدراتهم
الذاتية عنه تعالى ،فتحداهم بما ليس مسخرا لهم ومن ثم ليس في مقدورهم.
السبب الثاني لردنا ما جاء في التفاسير هو أن القرآن الكريم يصف يوم القيامة
وصفا ال يسمح بأن تكون للجن واإلنس قوة ،أو حيلة يمكن تحديها بالنفاذ من
أقطار السموات واألرض ،فاألرض التي نعرفها جميعا في قبضة هللا تعالى
يوم القيامة ،والسماوات التي نعرفها مطويات بيمينه سبحانه ،والناس يخرجون
من األجداث حفاة عراة مهطعين إلى الداعي ،والمجرمون يعرفون بسيماهم
فيؤخذ بالنواصي واألقدام ،وكل نفس تأتي معها سائق وشهيد فأين المفر( :
() سبأ).
62
ثانيا؛ في السنّة والسيرة النبوية ما يدعم فرضية قدرة اإلنس ،بجانب الجن،
على بلوغ أقطار السموات واألرض متمثلة في عروجه صلى هللا عليه وسلم
بكامل هيئته البشرية وبلوغه أقطار السماء السابعة مرورا بكل السموات التي
دونها .وإذا كان الرسول ،صلى هللا عليه وسلم ،قد تم ّكن من ذلك في زمانه
بسبب ترتيبات إالهية معينة مثل دابة البراق وحاديها جبريل عليه السالم ،وفي
ذلك معجزة له ،صلى هللا عليه وسلم ،فإن اإلنسان اليوم بترتيبات إالهية معينة
كذلك ،مثل البدل الخاصة برواد الفضاء ،والسفن الفضائية وحاديها علم هللا
الكوني الذي شاء هللا تعالى أن يحيط به اإلنسان ،وغدا ً بعل ٍم يستغني به اإلنسان
في حركته الكونية عن الوسائط المادية ،يستطيع الوصول إلى ما س ّخر له من
أقطار السموات واألرض .وإنما نسبت هذه المخترعات البشرية إلى هللا تعالى
ألنه سبحانه وتعالى قال() ( :الصافات).
ثالثا؛ يمكننا أن نستنتج من القرآن الكريم أن اإلنسان يمكنه أن يبلغ درجة من
العلم تم ّكنه من نقل األجسام المادية الضخمة إلى مسافات شاسعة في لمح
البصر ،ولنقرأ قول هللا تعالى ( :
63
()النمل).
تدل اآليات على أن قدرات اإلنسان في نقل وتحريك المادة بعلمه غلبت
قدرات الجن على فعل ذلك بأصل خلقتهم ،وقد يأتي هذا العلم من كتاب هللا
المسطور(الوحي) ،وقد يأتي من كتابه المنظور(الكون) ،ولك ٍّل مناهجه التي
تناسب أخذ هذا العلم منه .والشاهد أن اإلنسان اليوم تتراكم حصيلته من هذا
العلم بصورة متسارعة عن طريق تطوير مناهج وتقنيات دراسة الكون بحيث
أصبح يقترب من السقف المعرفي الذي أثبتته اآليات السابقة فيما يتعلق بالقدرة
على نقل وتحريك األجسام المادية في الزمان والمكان بما يهيئ اإلنسان للقيام
برحلته الكونية في أقطار السماوات واألرض محققا مغزى االستخالف.
رابعا؛ يسير اإلنسان اآلن ،من خالل رحالته المأهولة وغير المأهولة إلى
كواكب مجموعتنا الشمسية ،ومن خالل استكشاف الكون البعيد عبر تيلسكوباته
المدارية ومحطاته األرضية ،بخطوات ثابتة نحو أقطار السموات واألرض،
نافذا من أقطار أرضه الدنيا التي ذرأ فيها باحثا عما يليها من أرض ،وهذا
أكبر دليل يدعم الفرضية الثانية ،والحمد هلل رب العالمين.
إن فرضيتنا العلمية تنبؤ أن اإلنسان قد بدأ للتو مسيرته الحضارية
االستخالفية التي من أجلها خلقت السموات واألرض ،وأن تاريخ الكون
وتاريخ اإلنسان فيه إن هو إال مقدمات لهذه المسيرة االستخالفية القادمة التي
سوف تشهد من األعمال اإلنسانية الكونية العظيمة في صالحها ،أو فسادها ،ما
يكافئ عظمة الخلق الكوني ببداياته ونهاياته المذكورة في القرآن الكريم .ولكن
يبقى السؤال المتعلق بما يحفز اإلنسان للخروج من أرضه الدنيا هذه ويبدأ
مسيرته الكونية ،والوسائل التي سوف تعينه على القيام بذلك .واإلجابة عن هذا
السؤال تعيدنا إلى خطة الخلق العامة التي بسطنا تفاصيلها في القسم السابق ،إذ
64
يتبين منها أن الحافز األعظم لحركة اإلنسان الكونية هو ذات الحافز الذي خلق
،) أال وهو (تعظيم متاع الحياة الدنيا،فيه فطرة ليعمر األرض وليتحقق االبتالء
وقد قال هللا تعالى في آيات كثيرة إن هذا هو دافع من آثر الحياة الدنيا على
( (ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ)(األعلى)؛ :اآلخرة
65
للبشر هو الزيادة ألن "األوالد" الذين بهم يزيد عدد سكان األرض هم م ّكون
أساسي من مكونات المتاع الدنيوي الذي يسعى الناس لتعظيمه(وتكاثر في
األموال واألوالد) .لذلك مهما اتخذ واضعوا السياسات السكانية من وسائل لمنع
التكاثر البشري فإن مآلهم إلى الفشل ،وسوف يظل الناس يتكاثرون ،ال سيما
عندما تتحسن األحوال المعيشية والصحية للمستضعفين في األرض اآلن،
ومنهم من يعتبر الزيادة في المواليد نعمة من هللا تعالى ،والتكاثر العددي منعة،
فيتزايد بسبب ذلك عدد المواليد ويقل عدد الوفيات .فإذا أضفنا إلى هذه القنبلة
السكانية الموقوتة تنافس األنفس البشرية ،ليس بتقواها ولكن بفجورها ،على
زينة الحياة الدنيا(المال والبنون) فإن فسادا عظيما يتوقع أن يعم األرض فيما
تستقبل البشرية من أيام دهرها ،بحيث يهرب كل من يستطيع الهرب إلى
الكون الفسيح للنجاة بنفسه وبمن يحب .وما االستعدادات التي تجري اآلن على
قدم وساق لذهاب الناس في سياحة فضائية ،واالستثمارات الضخمة التي تقوم
بها الشركات المتخصصة إلنتاج مركبات فضائية تجارية ،والبحث العلمي
الجاري في المجاالت الزراعية إلنتاج محاصيل ونباتات يمكنها النمو
واالزدهار في بيئات الفضاء الخارجي ،وفي مجاالت األغذية إلنتاج أنواع من
األطعمة يمكنها الصمود ألمد طويل في رحالت فضائية تمتد آلجال طويلة ،ما
كل ذلك إال إرهاصات لما تتحدث عنه هذه الورقة .واآلن هناك نفر من البشر
انتدب نفسه للسفر واإلقامة بال عودة في كوكب المريخ في إطار ترتيبات
فضائية يجري اإلعداد لها اآلن.
أما وسائل تحقيق تلك الحركة الكونية القدرية لإلنسان فهما العلم الكوني
والتقنية التي يطورها اإلنسان بأسباب من هذا العلم .علينا أن نتذكر أن التراكم
المعرفي والتقدم العلمي المدهش والمتسارع الذي تحققه البشرية اآلن ،وما
ترتب عليه من تقنية ومنجزات حضارية واستكشافات فضائية ،تم في معظمه
خالل القرنين الماضيين فقط من عمر اإلنسان على هذه األرض ،فإذا أضفنا
إلى ذلك أن األمد الزماني لما تبقى من عمر الكون ،بحسب استنتاجاتنا السابقة
في هذا البحث ،قد يمتد إلى بضع مليارات من السنين يواصل فيها اإلنسان
66
مسيرته العلمية والتقنية المتسارعة والمتراكمة ،بما يحقق في مجال المادة
مضمون اآلية (قبل أن يرتد إليك طرفك) ،توصلنا إلى نتيجة معقولة مفادها أن
الكون المسخر لإلنسان كله ،بسماواته السبع واألرض المماثلة لها عددا ،سوف
يكون في مدى االستكشاف واالستخالف اإلنساني .وهذه الرحلة االستكشافية
هي التي سوف تم ّكن اإلنسان من اإلحاطة بعلم من الكتاب الكوني ال يخطر
اآلن على قلب بشر ،ومن التحكم في مادة الكون الالمتناهية في الصغر والكبر
بحيث تصير حركة الراكب من األرض السابعة إلى األرض الدنيا كعرش
بلقيس في حضرة نبي هللا سليمان ،عليه السالم ،وإن غدا لناظره قريب.
لما كان الهوى(تعظيم متاع الحياة الدنيا) هو اإلله الذي يدفع اإلنسان
اآلن في حركته الكونية فإن القرآن الكريم يشير إلى أن ناتج هذه الحركة
الكونية سوف يكون فسادا عظيما يكافئ عظمة السماوات واألرض ،ويكاد
يفسدهن ومن فيهن لوال حفظ هللا تعالى لهن ( :
67
-4الخاتمة
هناك عدد من القضايا التي تهم األمة اإلسالمية اليوم مما يترتب على ما
جاء في هذا البحث نوجزها فيما يلي:
أوال؛ تهيئة األمة اإلسالمية للتطلع إلى اللحاق بركب السابقين إلى الفضاء
الكوني للقيام بواجب االستخالف التوحيدي في األرض جميعا ،ذلك أن الذين
يصلون إلى أقطار السماوات واألرض قبل غيرهم سوف يتحكمون في من
يلحق بهم .ليس هناك دين غير اإلسالم الذي جاء به محمد ،صلى هللا عليه
وسلم ،يهدي البشرية للتي هي أقوم في حركتها الكونية ،وليس هناك أمة غير
األمة اإلسالمية تكون شاهدة على الناس وهم يعمرون األرض جميعا من
السماء الدنيا إلى السماء السابعة.
ثانيا؛ إن العلم والتقنية العظيمة التي سوف يمتلكها من يستطيعون الوصول إلى
أقطار السماوات واألرض ،وكذلك الموارد الفضائية التي سوف تكون تحت
تصرفهم تجعلهم قادرين ،من على البعد ،على فعل ما يشاؤون بمن أخلد إلى
هذه األرض .ولما كان غير المسلمين هم المبادرون إلى الفضاء الكوني ،وليس
بينهم وبين المسلمين مودة ،وجب على األمة اإلسالمية أن تحتاط لنفسها ،وأن
تختط لنفسها طريقا إلى الفضاء.
ثالثا؛ البد من إعادة النظر الجدّي في حقيقة علوم الدين بحيث تعود لجميع
آيات القرآن الكريم حيويتها في التأسيس للعلم التوحيدي ،المحقق لإليمان
والعمران ،في جميع امتداداته التخصصية التي تفرضها شروط الزمان
والمكان ،دون تحيز باسم الدين لتخصص دون آخر .فكل علم ضروري إلقامة
الدين في الزمان والمكان فهو من علوم الدين ،وهو بذلك علم شرعي ألن
الشريعة هي الدين كله كما جاء في القرآن الكريم( :ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ
ﱮ ﱯ ﱰﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵﱶ ﱷﱸ
68
ﱹﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ
ﲇﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ)(الشورى).
69
مراجع الكتاب
البخاري ،أبو عبد هللا محمد بن اسماعيل .صحيح البخاري ،تحقيق عبد العزيز
بن عبد هللا بن باز ،بيروت :دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع( ،ط،1
1411ه1991 /م).
األلوسي ،شهاب الدين بن عبد هللا الحسيني .روح المعاني في تفسير القرآن
العظيم والسبع المثاني ،تحقيق علي عبد الباري عطية ،بيروت :دار
الكتب العلمية( ،ط1415 ،1ه).
الزمخشري ،أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد .الكشاف ،بيروت :دار
المعرفة( ،د .ت).
الترابي ،حسن عبد هللا .اإليمان وأثره في حياة اإلنسان ،الدار العربية للعلوم
ناشرون ،بيروت( ،ط1430 ،3ه2009/م).
الخالدي ،محسن سميح .الهوى :دراسة موضوعية للمصطلح القرآني،
دراسات ،علوم الشريعة والقانون( ،المجلد ،37العدد .)2010
بريمة ،محمد الحسن .العلم والمعرفة بين رؤيتين للعالم ،معهد إسالم المعرفة،
السودان( ،ط2016 ،1م).
عزوز ،أحمد .أصول تراثية في نظرية الحقول الداللية ،منشورات إتحاد
الكتاب العرب ،دمشق.
;Dinwiddie, Robert, and Others. Universe, New York: DK
Rev Upd edition(September 17, 2012).
Adams, Fred, and Laughlin, Greg. The Five Ages of the
Universe: Inside the Physics of Eternity, Free Press
2000.
http:/www.nasa.gov/mission_Pages/planck/multimedia/pia
16873.html#.VrZk3P197Z4.
70