Professional Documents
Culture Documents
ولدت البيروقراطية مع نشوء الدولة الحديثة المعززة بجيش ضخم من الموظفين ورجال اإلدارة ذوي االختصاص
بالمهام الموكلة إليهم ،أو سياسيين ،كانوا شريحة مؤثرة ذات نفوذ في الدولة وقراراتها 5السياسية ،معبرين بذلك عن
تحقيق مكاسب خاصة ،أو توجيه السياسة العامة ،وتلك السلطة والقوة تمارس على المواطنين.
مع أن الحضارات القديمة في مصر الفرعونية أو الصين قد شهدت نوعا من البيروقراطية البدائية ،حيث أن
المجتمعات التي تكونت على أساس العائلة والقبلية لم تكن تعرف اإلدارة المعقدة ،وكانت أغلب األوامر 5الشفوية
واألعراف تنقل مباشرة دون واسطة ،وعليه فإن اإلدارة لم تظهر إال مع مؤسسة الدولة في نموذجها األول ،الدولة-
المدينة ،حيث ظهرت الحاجة إلى وجود 5إدارة تشرف على إيجاد الموارد المالية لتمويل حاجات الدولة وإشباع
خزيتنها.
لقد توطدت البيروقراطية أكثر منذ نهاية عصر النهضة في أوربا ،حيث ظهرت تحوالت سياسية واجتماعية وتقنية،
ومع تحوالت القرن التاسع عشر ،وخصوصا ظهور 5الفكر الليبرالي والثورة الصناعية ،ركزت البيروقراطية وجودها5،
وارتبطت فكرتها 5باألساس بالتنظيم اإلداري ،أي سلطة وحكم 5المكاتب ،ولم يثر ذلك أي إشكالية لحاجة الدولة إلى
أجهزة ومؤسسات إلدارة دواليبها.5
لكن البيروقراطية أصبحت مشكلة ،وأهم موضوعات علم االجتماع السياسي عندما طرحت التساؤالت حولها في
المجتمع الذي يكون فيه الشعب هو صاحب القرار ،لذلك ال نجد غرابة في أن يكون كارل ماركس من أوائل من وجه
النقد للبيروقراطية مبينا أنها تعبير وتجسيد 5للدولة البرجوازية ،وهو يشدد الذكر على هيغل الذي يرى أن الدولة تمثل
التعبير النهائي عن المصالح العامة ،ويرى ماركس أن هناك انفصاال بين الدولة والمجتمع ،وإن أجهزة الدولة-
البيروقراطية ال تمثل المجتمع ،كما أن البيروقراطية كتجسيد 5للمصلحة العامة تقابل المصلحة الشخصية لألفراد ،هو
تعارض وهمي يستخدمه البيروقراطيون لخدمة أوضاعهم الشخصية.
في حين أكد لينين على حاجة الحزب الثوري لقواعد بيروقراطية رسمية لضرورة وجود ضبط مركز قوي،
وديكتاتورية بروليتاريا 5قادر على قيادة الحركة الثورية ،وهو في ذلك ينظر إليها (كمبدأ تنظيمي ،)5إال أن هذا الموقف
تعرض النتقادات شديدة أدى إلى دعوته في المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي السوفياتي 5سنة 1912م إلى محاربة
البيروقراطية وانتخاب األفراد 5الذين يشغلون المناصب اإلدارية.
ومن مفارقات التاريخ أن تكون األحزاب الشيوعية الحاكمة أعتى قالع البيروقراطية ،وهذا ما قتل الروح اإلبداعية
والتجديد ،ومن ثم انهيار األنظمة الشيوعية بشكل تراجيدي.5
واعتبر (جون ستيوارت 5مل) أن البيروقراطية أخذت دالالت متعددة ال تقتصر على الجهاز اإلداري 5في الدولة ،أي
على شكل من أشكال التنظيم الحكومي ،بل أخذت معاني ،مختلفة ،فهي شكل من أشكال الحكم ،أو صفة تطلق على
نظام حكم تميزا له عن األنظمة األخرى كالديمقراطية واألرستقراطية.
أما ماكس فيبر -ألمع منظري 5علم االجتماع السياسي -فيعد أهم من وضع نظرية حول البيروقراطية ،وقد عرفها من
خالل خصائصها 5معتبرا إياها تعبيرا عن العقالنية في النظام الرأسمالي ،فهي ميكانزم عمل الرأسمالية ،والخاصية
الجوهرية لها ،وقد حدد تلك الخصائص بما يلي:
تقاضي أفرادها للرواتب اعتمادا على جدول مرتبات معين ،وتتطلب الوظيفة في الجهاز البيروقراطي 5إخالصا
موضوعيا 5والتزامات مفروضة على القائم بها وخصوصا 5أن هناك استقالال نسبيا عن الدولة من خالل النظام
المؤسساتي ،فضال عن وجود درجة معينة من التخصيص الوظيفي ،وتقسيم للعمل على أساس فردي 5،كما أن ارتباط5
البيروقراطية بالتكنولوجيا 5تساعد على تطوير وسائل فنية تيسر التبادل ،كالمال والتسليف 5والبنوك ،وأخيرا 5وليس أخرا
فإن البيروقراطية تشكل الظاهرة المحورية في النسق وأساس التفاعل االجتماعي.
لقد حثت دراسة ماكس فيبر الباحثين االجتماعيين والسياسيين على االهتمام بالتأثير 5الذي يلعبه الجهاز البيروقراطي 5في
النسق االجتماعي ،وعلى النسق السياسي 5بوجه خاص في المجتمعات الحديثة ،ومن أبرز من درس البيروقراطية بعد
فيبر وأهم من كتب فيها (ميشيل كروزيه).
يعد كروزيه من الذين تناولوا البيروقراطية من خالل المدخل اإلنساني ،حيث ربط بين تطورها وتضاؤل الحرية
الفردية ،فهي بالنسبة له مكونة من دوائر 5الدولة يعمل بها موظفون معنيون ،ومنظمة بشكل تسلسلي وتعتمد على سلطة
حاكمة.
وربما عبر كروزيه عن شعور 5باألسى لواقع البيروقراطية في أوربا ،على عكس فيبر 5الذي أضفى صفات إيجابية
عليها ألنه نظر إليها في سياق الدفاع عن النظام الرأسمالي في مواجهة النظم األخرى وخصوصا الشيوعية.
ومن ثم يرى كروزيه (أن البيروقراطية هي تنظيم ال يستطيع تصحيح سلوكه عن طريق 5إدراك أخطائه السابقة ،إذ أن
القواعد التي تعتمد عليها البيروقراطية غالبا ما يستخدمها 5األفراد 5لتحقيق أغراضهم الشخصية).
ويأتي 5موريس دفرجيه بعد كروزيه من حيث األهمية ،وقد اعتبر دفرجيه البيروقراطية جماعة من الموظفين المهنيين،
يقومون بمهنة ذات مظهر 5خاص ،ويتم 5الدخول والتدرج واالنضباط والتعويضات والمخالفات تنظيما دقيقا ،وتكون
المنافسات ذات صفة شخصية محدودة ،كما تكون الكفاءات محدودة في كل الدرجات بمعايير 5موضوعية بواسطة
الشهادات واالمتحانات والمباراة ،وبصورة عامة يعمل التنظيم البيروقراطي 5بأكمله وفقا لقواعد محدودة بدقة ،وتكون
موضوعية سواء تعلق األمر بالعالقات السلطوية الداخلية ،أو بالعالقات مع الموظفين ،أو الصالت مع المتعاملين.
وبصورة عامة هناك سبعة مفاهيم حديثة للبيروقراطية ،كل منها يعد تطويرا 5لسابقه ،هي:
المفهوم األول :هو الذي ينظر 5إلى البيروقراطية بوصفها تنظيما 5عقليا ،وقد تأثر أنصار هذا االتجاه بالتفسير الفيبري
للبيروقراطية ،وحالوا فهم العالقة بين العقالنية التي هي سمة للنظام الرأسمالي ،والخصائص التي حددها ماكس فيبر
للبيروقراطية ،وتساءلوا 5إلى أي حد تعبر هذه الخصائص عن النظام الرأسمالي؟ وقالوا بأنه ال توجد عالقة ضرورية
بين هذه الخصائص والعقالنية وإن كالهما ال يدخالن ضمن تعريف 5البيروقراطية ،فالعالقة بين خصائص نظام
اجتماعي بالذات والنتائج المترتبة عليه مسألة يحددها البحث االمبريقي (العلمي) ،وعموما فإن البيروقراطية من هذا
المنظور تشير إلى نموذج للتنظيم 5الرشيد يالئم تحقيق االستقرار والكفاءة اإلدارية.
المفهوم الثاني :وهذا المفهوم يصل إلى النتيجة التي توصل إليها ميشيل كروزيه باعتبار أن البيروقراطية شيء
يتعارض مع االبتكار اإلداري ،إذ إن العرض اآللي للسلوك اإلنساني الذي يشكل قاعدة البيروقراطية يؤدي إلى خلل
وظيفي خطير ،ألن بنية المنظمة تؤدي إلى إشراف متزايد من قبل القادة على انتظام سلوكيات المرؤوسين.
المفهوم الثالث :ينطلق هذا المفهوم من المعنى االشتقاقي للبيروقراطية ،أي حكم الموظفين ،وعليه فهو بحسب هذا
المفهوم نظام حكومي تكون الرقابة عليه متروكة كلية في يد طبقة من الموظفين الرسميين الذين تحد سلطاتهم 5من
حرية األفراد العاديين ،ويغلب على هذا الجهاز اإلداري الرغبة الشديدة إلى االلتجاء إلى الطرق الرسمية في اإلدارة
واالعتماد على المرونة من أجل تنفيذ التعليمات ،وكذلك البطء في اتخاذ القرارات والعزوف 5عن االلتجاء إلى
التجارب ،كما يتحول أعضاء (البيروقراطية) إلى طائفة تحتكر العمل الحكومي 5من أجل مصلحتها 5الخاصة ،ويتحول5
عملها إلى غاية في حد ذاته.
المفهوم الرابع :وهو المفهوم الذي استخدمته األنظمة ذات الطابع الشمولي ،التي ترى أن البيروقراطية نوع من اإلدارة
العامة ،لذلك كان االهتمام بالجماعات التي تؤدي الوظائف 5أكثر من االهتمام بالوظائف 5ذاتها.
إن ارتباط 5البيروقراطية باإلدارة العامة أصبح يمثل محاولة الستخدامها 5كوحدة للتحليل في الدراسات المقارنة ،وأغلب
الدراسات التي اعتمدت على ذلك صنفت البيروقراطية انطالقا من مدى استغراقها في العملية السياسية.
المفهوم الخامس :وهذا المفهوم تأثر بماكس فيبر 5أيضا ،ويعتبر 5البيروقراطية إدارة الموظفين ،لذلك اهتموا بفحص
كفاءة النموذج المثالي وقدرته على استيعاب كافة خصائص اإلدارة ،وكذلك ركز على فعالية الجهاز اإلداري ،لذلك
انتشر هذا المفهوم في علم اإلدارة أكثر من علم السياسة.
المفهوم السادس :وهو الذي يعتبر البيروقراطية غير مقتصرة على الجهاز الحكومي ،بل الذي يولد عندما ترسى
أصول صريحة لتنسيق 5نشاطات 5مجموعة معينة من أجل بلوغ أغراض محددة ،أو أنه وحدة اجتماعية تحقق أهدافا ً
محددة ،إال أنه يتميز -هذا التنظيم -بالتسلسل الرئاسي والتباين في التخصيص.
إال أنه يالحظ في هذا التعريف 5قد يعوم مصطلح البيروقراطية إذ إن كل المجتمعات مهيكلة في تنظيمات متباينة ،كما
يصعب الفصل بين التنظيم 5واإلدارة.
المفهوم السابع :وهو المفهوم الذي يعتبر أن البيروقراطية تعبير عن المجتمع الحديث ،كما ماركس حين أطلق عليها
لفظ المجتمعات الرأسمالية التي تعتبر مرحلة متقدمة وفق 5التفسير المادي للتاريخ.
وذهب أنصار 5هذا المفهوم بعدم وجود 5تفرقة بين رجال اإلدارة ورجال السياسة ،وعدم ضرورة لوجود ثنائية تقليدية
تفصل الدولة والبيروقراطية ،أو بين المجتمع وبين وجود عدد هائل من التنظيمات الكبرى التي تجسد البيروقراطية في
هيكلة الدولة الحديثة.
تعريف5
المظاهر التنظيمية المعقدة التي تتصف بعدم المرونة ،وعدم االهتمام باألشخاص والجمود ،والتهرب من
المسئولية ،وعدم االلتجاء للتجارب والتجديد ،والبطء في إنجاز األعمال " .