Professional Documents
Culture Documents
3
عد ا و ق
ن ي ت ر ا چ
ر واية
ُ
تعلمت منه الكثري على امل�ستويني الإن�ساين واملهني �إىل َمن
�أ�ستاذي:
9
مل �أكن �أعرف �إىل �أين ،قبل ذلك اليوم حني جاءين �صديقي
و�أخربين �أن بالدنا تريد �إر�سال �أطباء �إىل �إقليم غربي بعيد مل �أ�سمع
عنه من قبل ُي�سمى «بنو عي�سى» ،ومع ال�ضائقة املادية التي ح ّلت بي
كانت تلك الوظيفة البعيدة طوقي للنجاة و�إن كان م�ؤقتًا ..
9
و�صويل هناك �س�ألتقي من �سيتدبر �أموري املادية ..لأجد نف�سي �أجل�س
ب�أر�ضية عربة قطار �شبه مظلمة يهتز ج�سدي بني كثريين من اجلنود
نحيلي الأج�ساد حممري الوجوه والأذرع ،يف انتظار �إ�شارة �أحدهم يل
باقرتاب القطار من مكان عملي اجلديد.
وطالبني �أن �أن�صت �أنا الآخر،كان �صدى �صوت بعيد لطبول تدق
ومزامري ي�أتي من خلف اجلبال على جانبي ال�سكة احلديدية ..كان
يزداد �شي ًئا ف�شي ًئا مع تقدم القطار ..ثم هم�س �إ ّ
يل بعدما �أدرك �أنني
�سمعت ال�صوت ذاته:
يقولون �أن �أفراحهم ال تتوقف �أبدً ا ..
ف�أوم�أت �إليه بر�أ�سي �إيجا ًبا وعيناي تقوالن ماذا �أفعل ؟!
فقال:
�سي�ضطر القطار �إىل الإبطاء بعد قليل ..
�س�ألته:
لن يتوقف ؟!
قال :
ال ..عليك �أن تقفز حني �أخربك ..
فنظرت �إليه يف ده�شة مما يقول ،ف�أكمل يف برود :
لي�س هناك ح ٌل �آخر ..
مت�ض ب�ضع دقائق حتى �أ�صدرت عجالت القطار �صري ًرا �شديدً ا
ومل ِ
و�أبط�أ من �سرعته ،فنطق اجلندي �إ ّ
يل بلهجة �آمرة:
اقفز!
فج ُمد ج�سدي و�أنا �أنظر �إليه ،فنزع احلقيبة من يدي و�ألقاهاَ
خارج القطار ،ثم �أم�سك بيدي و�أعطاين امل�صباح الذي يحمله ،و�صرخ
9
ّيف جمددًا :
اقفز!
فقفزت.
9
ف�أ�شار يل بيده كي �أ�صعد �إىل �صندوق عربته دون �أن ينطق ،لينطلق
بي بعيدً ا عن �سكة القطار ..
كان الطريق �إىل بني عي�سى �أطول مما تخيلت ..ظل العجوز يتقدم
بي عرب ممرات ومدقات جبلية مظلمة قرابة الثالث �ساعات ،حتى
ظننتُ �أنه �ضل طريقه خا�صة مع تال�شي �أ�صوات الطبول واملزامري،
يل �أكمل وك ّلما طرقتُ �سقف ال�سيارة املعدين كي يتوقف ويتحدث �إ ّ
طريقه دون اكرتاث بي وب�صياحي ،حتى �أنه كاد ي�سقطني لوال ت�شبثي
جيدً ا حني مرت ال�سيارة م�سرع ًة ب�أر�ض �صخرية غري م�ستوية ،ف�ضربت
�سقف ال�سيارة بيدي مرة �أخرى غا�ض ًبا ،وكدتُ �أم ُّد يدي عرب نافذتها
لأم�سك ر�أ�سه كي يتوقف بعدما �أيقنت بفقداننا طريقنا ورمبا طريق
9
العودة �إىل ال�سكة احلديدية � ً
أي�ضا ..لكني تراجعتُ حني �أب�صرتُ �أنوا ًرا
بعيدة قد الحت يف الأفق كانت ال�سيارة يف طريقها �إليها ..كانت �أنوار
بني عي�سى ..الأر�ض ال�صامتة ..
()2
9
يدلني �إليه بعدما �أب�صرتُ بنا ًء ال يختلف كث ًريا عن باقي الأبنية يحمل
الفتة خ�شبية قدمية ُكتب عليها باللغة العربية «مركز الرعاية الطبية».
حني طرقتُ باب ذلك املبنى راودين �شعور خالئه من �أي �شخ�ص
بعدما �أطلتُ طرقاتي ومل يجبني �أحد ،كذلك راودين �شعور خالء
البلدة كلها من �أي �أ�شخا�ص بعدما بزغ النهار ومل يظهر فرد واحد
ب�شوارعها ..حتى اطم�أن قلبي عندما ظهر ال�شخ�ص الأول ..رجل
م�سرعا يف طريقه دون �أن يلتفت جان ًبا ..فوا�صلتُ طرقي
ً كان يهم
للباب دون توقف ..حتى �أخرجتُ زفريي بعدما جاءين الرد �أخ ًريا من
الداخل و ُفتح الباب ..كانت املرة الأوىل التي �ألتقي فيها «�صالح» ..
خادم عيادتي الطبية� ،س�ألني وهو مغم�ض العينني :
من �أنت ؟!
كان �شا ًبا ي�صغرين �س ًنا ،ق�صري القامة ،داكن الب�شرة ..قلت:
دكتور فا�ضل ..الطبيب اجلديد ..
فتح عينيه غري م�صدق ،وحاول �أن يهندم ثيابه �سري ًعا ،و�صاح
ُمرح ًبا بي ..ثم حمل حقيبتي وا�صطحبني �إىل داخل املبنى ..كان
الطابق ال�سفلى ُمكو ًنا من ردهة كبرية بها عدة مقاعد خ�شبية ُمرتبة،
وحجرتان ..دلفتُ �إىل الأوىل فوجدتها غرفة الك�شف اخلا�صة
بالطبيب ،ك�أي غرفة ك�شف تقليدية � ..سرير للمر�ضى ،مكتب للطبيب،
مقعدان� ،سماعة طبية وجهاز قيا�س ل�ضغط الدم ..تعجبتُ من وجود
جهاز للك�شف بالأ�شعة التلفزيونية ،ف�س�ألته بتعجب و�أنا �أم�سح الرتاب
الذي يغطيه:
هل توجد كهرباء ؟!
قال:
نعم ..لدينا مو ّلد يعمل بالوقود ..ن�ستطيع ت�شغيله �ساعتني يف
اليوم �إن �أردنا ..
ارحتتُ ً
قليل لذلك ..ثم حترك بي �إىل الغرفة املجاورة ،مل تكن
حتتوي �إال على خزانة خ�شبية ،فقال:
�إنها خزانة الأع�شاب اجلافة واملُ�سالة ..
ف�س�ألته :
من �أين ت�أتي هذه الأع�شاب ؟
قال:
طبيب واحد
ال �أعلم ،منذ جئت �إىل هذا املكان ومل ي� ِأت �إىل هنا ٌ
ٌ
مري�ض واحد .. �أو
ً
منده�شا ..ثم �صعدتُ معه �إىل الطابق ابت�سمتُ وهززتُ ر�أ�سي
العلوي ..كان مبيتًا للطبيب وجد ُته ُمر�ض ًيا يل ..ثم وجدته يهم بجمع
�أغرا�ضه املتناثرة للرحيل ،ف�س�ألته �أن يبقى ..مل �أرد �أن �أكون هذا
الغريب الذي ي�أتي ليبعرث الأوراق ،وكان املبيت يكفي لكلينا ..لكنه
9
�أ�صر على نقل �أغرا�ضه �إىل غرفة الأع�شاب بالطابق الأر�ضي ،و�أكمل
با�س ًما وهو يغادر:
لن ي�أتي �إلينا مر�ضى على �أي حال ..
مزاحا حني �أخربين بعدم جميء املر�ضى كنت �أظن حديث �صالح يل ً
متاما ..مرت �أيامي الأوىل هناك �إىل العيادة الطبية ،لكنه كان حقيق ًيا ً
ومل ُيطرق بابنا مرة واحدة ..ظننتُ يف البداية �أن ال�سبب هو عدم علم
�أهل البلدة بقدومي ف�أكرثتُ من جتوايل ب�شوارعها مع �صالح الذي بات
�صديقي الأوحد يف ذلك املكان � ..س�ألتُه يف يوم جتوالنا الأول عن كيفية
�إح�ضار طعامنا �أخربين �أن حاكم البلدة يتكفل به كما يتكفل براتبه،
�أما راتبي فلم يعلم بعد عمن �سيتكفل به ..انده�شتُ و�أخرب ُته �أنني
ُب ّلغت بوجود من �سيدفع يل هنا � ..أجابني متعج ًبا :
رمبا �سيدفع لك احلاكم مع بداية ال�شهر اجلديد ..و�إن كنت
ال �أظن.
وحت ّدث كث ًريا عن بخله ..
كنت �أظن حال بالدنا جنوب النهر القدمي هو الأ�سو�أ ،لكني بعدما
ر�أيت تلك البلدة وفقر مبانيها و�أ�سواقها علمتُ �أن هناك من يعانون
كث ًريا ..عرفتُ �أن تلك البلدة لي�ست �إال واد ًيا واحدً ا من وديان بني
عي�سى ال�سبعة ..الإقليم الأكرب ..وديان مت�شابهة متناثرة ..يعي�ش
معظم �سكانها كرحالة بال�صحراء مع خيولهم وجمالهم و�أغنامهم
�أما بقيتهم فيزرعون �أرا�ضيهم القليلة اعتمادًا على مياه الآبار
والأمطار � ..س�ألتُ �صالح عن وجود �سيارات للتنقل بني الوديان قال
�أنه مل ي َر �سيارة من قبل � ..أخربته عن ذلك العجوز املجنون الذي �أتى
9
بي ليلة و�صويل فتعجب � ..س�ألته عن الأفراح و�أ�صوات دقات الطبول
واملزامري التي ال تتوقف والتي مل �أ�سمعها منذ قدومي ،هن�أين �ساخ ًرا
على خيايل الوا�سع ..و�أردف ً
قائل وهو ي�شري �إىل ال�سماء بعيدً ا:
حني يح ُّل امل�ساء لن ت�سمع �إال �صوت �صفافري الرياح ..
يوما حتى ظننت يدق بابنا مري�ض واحد بعد مرور ثمانية ع�شر ً مل ّ
�أن �أهل تلك الوديان ال مير�ضون ،واجتاحني ال�شعور بامللل يف كل
�أوقاتي ،و�صارت �أحاديث �صالح فاترة ال تق ّدم �أي جديد ..ثم قررتُ
يف يومي التا�سع ع�شر �أن �أذهب �إىل حاكم البلدة �أو �شيخ الوادي كما
بخيل فح�سب بل كان من نوعية ه�ؤالء كان يلقبه البع�ض ..مل يكن ً
الأ�شخا�ص اللزجني الذين ال ت�ستطيع حتمل اجللو�س معهم دقيقتني
رجل �سمي ًنا ذا حلية كثيفة تغطي وجهه املرتهل متتاليتني ..كان ً
يرتدي عباءة وا�سعة ..بادرين بغري اكرتاث قبل �أن �أحدثه عن راتبي
ب�أنه مل يعلم �شي ًئا عن قدومي لذا لن يتحمل عني قر�شا واحدً ا ،ما قد
9
يفعله هو �أن يزيد ح�صة الطعام املر�سلة �إىل �صالح � ..أما �إن �أردت
فعلي �أن �أجنيه من مر�ضاي ..وقتها �أدركت �أنه مل يعد ً
مقابل لعملي ّ
هناك وقت لالنتظار بذلك الإقليم ..وعدتُ حان ًقا �إىل مبيتي و�أخربت
�صالح ب�أنني �س�أغادر ،فلم ينطق ..وج ّمعتُ �أغرا�ضي وحملتُ حقيبتي
�إىل مدخل البلدة يف انتظار من يق ّلني �إىل �سكة القطار احلربي.
يف بداية انتظاري متنيتُ �أن يظهر يل العجوز الذي �أق ّلني ب�سيارته
�إىل هناك مرة �أخرى ..وبعد مرور �ساعتني دون �أن يهتم �أحد لوجودي
بات �أملي �أن ي�صحبني �أي �شخ�ص من �أهل الوادي على جمله �أو ح�صانه
�إىل وجهتي ..ثم خاب �أملي �سري ًعا بعدما رف�ض اجلميع ذلك ،وتعلل
الكثريون منهم ب�أنهم ال يعرفون الطريق �إىل ال�سكة احلديدية التي
�أق�صدها ..ومرت الدقائق وال�ساعات واحدة تلو الأخرى ،واقرتبت
ال�شم�س من املغيب ..وقتها �أدركتُ �أنني علقتُ يف ذلك املكان �إىل الأبد
بطا نحو بيوت الوادي وركلتُ الرمال بقدمي غا�ض ًبا، ..والتفتُ ُم ً
9
وقررت �أن �أعود �إىل �صالح جمددًا يف انتظار فر�صة �أخرى قد تلوح
رك�ضا من بعيد ..حتى اقرتب للرحيل ..قبل �أن �أملحه ي�أتي جتاهي ً
ً
حماول �أن يلتقط �أنفا�سه ،وقال: مني ،وتوقف �أمامي وهو يلهث
هناك مري�ضة تبحث عنك ..
كانت فرحتي بوجود املري�ض الأول تفوق كل �شيء حتى �أنها �أن�ستني
ال�ساعات التي انتظرتها على م�شارف الوادي للرحيل ..وعزمتُ داخل
نف�سي ب�أنني لن �أتقا�ضى ً
مقابل لتلك الزيارة الأوىل ..
دلفتُ �إىل غرفة الك�شف ،كانت جتل�س يف انتظاري � ..شاب ٌة جميل ٌة
يف منت�صف الع�شرينات ذات �شعر �أ�سود مموج طويل ..يتدىل من
�أذنيها قرطان دائريان كبريان ..نه�ضت حني ر�أتني فظهرت �ألوان
ف�ستانها املزرك�ش الطويل � ..شعرتُ من نظرتي الأوىل �إليها �أنها لي�ست
مري�ضة ..رمبا جاءت لت�صحبني �إىل بيتها حيث يوجد من هو مري�ض
بالفعل � ..س�ألتُها �أن جتل�س جمددًا وجل�ستُ خلف مكتبي ..ثم �أوم�أت
لها بر�أ�سي كي تتحدث ،فقالت بجدية بالغة:
علي املجيء �إليك
�أعتذر �أنني ت�أخرتُ كل هذا الوقت ..كان ّ
قبل �أيام ..
مل �أفهم ما تق�صده باعتذارها ،وبدا ذلك على وجهي ،ف�أكملت
كي�سا قما�ش ًيا �صغ ًريا �أدركتُ �أنه يحتوي عمالت معدنية ..
وهي تخرج ً
وو�ضعته على املكتب �أمامي:
�أنا من طلبتُ جميئك �إىل بني عي�سى ..
ثم فتحت فوهة الكي�س �أمامي فلمعت العمالت الذهبية بداخله مع
عيني قد ملعتا من املفاج�أة ..
نور م�صباح الغرفة الزيتي ،وال �أخفي �أن ّ
وقالت:
�أيكفي هذا الذهب ليكون ً
مقابل لك ؟
تعجبتُ من حديثها ،ووا�صلتُ �صمتي كي تكمل حديثها ..ف�أكملت:
ا�سمي دميا � ..أو ت�ستطيع �أن تقول مثلما يقولون ..دميا الغجرية
..جئتُ �إليك من وادي الغجر حيث �أعي�ش ..
كان �صالح قد �أخربين ذات مرة �أن وادي الغجر هو �أبعد وديان بني
عي�سى ال�سبعة ..وتابعت:
�أريدك �أن ت�ساعدين ..
قلت:
بكل ت�أكيد ..
قالت وهي ت�شري �إىل بطنها:
�أريدك �أن تفح�صه ..
الحظتُ للمرة الأوىل ِكرب بطنها ً
قليل ،ف�س�ألتها:
حبلى؟
قالت:
نعم ..
�أوم�أت بر�أ�سي مبت�س ًما ،و�س�ألتها �أن ت�صعد �إىل �سرير الك�شف ..
ثم �صحتُ �إىل �صالح الذي كان ينتظر بالردهة كي يقوم بت�شغيل مولد
الكهرباء ..وبد�أتُ ك�شفي الروتيني ب�سماعتي الطبية ..ثم ا�ضطربتُ
ونظرتُ يف عينيها بعدما و�ضعتُ �سماعتي لأ�سمع نب�ض اجلنني ومل
�أ�سمعه ..مل �أنطق بكلم ٍة حتى ..ثم �سمعتُ �صوت املو ّلد خارج نافذة
الغرفة ومعه �أ�ضاءت ملبة �صغرية بجهاز الك�شف التلفزيوين ،ف�شرعتُ
يف ا�ستخدامه لفح�ص اجلنني ..لكني كما توقعتُ ،كان قلب اجلنني
متوق ًفا ً
متاما ..فو�ضعتُ يد اجلهاز جان ًبا ،و�س�ألتها �أن تعود �إىل
مقعدها ..وعدتُ �إىل مقعدي ..و�أ�شحت بيدي كي�س الذهب جتاهها،
وقلتُ هاد ًئا يف حزن:
للأ�سف ..
نظرت �إ ّ
يل ،ف�أكملتُ :
�إنه جنني ميت ..
�صمتت ومل حترك �ساك ًنا و�ساد ال�صمت بيننا للحظات ،حتى
قطعته قائلة:
كما توقعت ..لذا جئتُ �إليك ..
نظرتُ �إليها بطرف عيني ..فقالت بهدوء �شديد:
مل تدب فيه احلياة بعد ..
�أ�شفقتُ عليها من �صدمتها ..لكنها كانت احلقيقة التي البد �أن
تعلمها ..فقلت:
ال بد و�أن تنزيل هذا اجلنني يف �أ�سرع وقت ..
قالت وهي تنظر يف عيني:
�إنه لي�س ميتًا ..
وقالت مرة �أخرى:
مل تدب فيه احلياة بعد ..
ثم �أ�شاحت كي�س الذهب جتاهي مرة �أخرى ،وقالت:
لذا �أر�سلتُ يف طلبك للمجيء �إىل هنا ..و�أردفت:
كنت �آمل �أن يكون حملي طبيع ًيا كباقي ن�ساء وادي الغجر ،لكنه
قدري الذي ال مفر منه ..
وح ّدثت نف�سها هائمة:
متنيت �أال �أعود �إىل هناك مرة �أخرى ..
ثم نظرت �إ ّ
يل ،وقالت:
مل � ِآت �إليك �أيها الطبيب لتخربين �أنه مل تدب فيه احلياة بعد
فح�سب ..بل جئتك لرتافق رحلتي الطويلة �إىل هناك ..
9
و�أكملت مبرار ٍة وهي تنظر �إىل الفراغ �أمامها:
�س�أذهب به �إىل چارتني.
()3
چارتين
«غفران»
كانت �أمي تفعل ال�شيء ذاته قبل رحيلها منذ عام ..كان هذا �أكرث
ما ت�شابهتُ به معها بعدما ت�شابهت مالحمي ال�شكلية مع مالمح �أبي،
وورثتُ عنه ال�شعر البني الناعم والعينني اخل�ضراوتني ،بينما ورث
زين عن �أمنا �شعره الأ�سود وعينيه البنيتني الداكنتني ..ما زلت �أتذكر
كلماتها القدمية مع �أبي ب�أنها مت ّنت قبل زواجهما هذا املرياث العادل
لل�شبه ..اجلمال للبنت وال�صرامة للولد ..مل تكن تعلم �أنني �س�أمتلك
ال�صفتني م ًعا مبرور ال�سنوات ..
تذكرت كلماتها و�أنا �أنظر �إىل الأطفال الالعبني وهم يتهام�سون
حما�سا
ً عندما رفعتُ �إليهم يدي بكي�س احللوى ،قبل �أن ي�شتعلوا
هدف ينالون بهويرك�ضوا جمي ًعا �صارخني وراء الكرة من �أجل �إحراز ٍ
حما�سا ،ال بد و�أن
مكاف�أتي ..غري �أن �صياحهم هذا ال�صباح كان �أكرث ً
9
زين قد �أخربهم �أن اليوم يحمل حدثني خا�صني يل ..الأول �أنني قد
بلغت عامي الرابع والع�شرين ..والثاين �أن ال�سيدة �سامرية �ست�أتي �إىل
منزلنا بعد الظهرية لت�أخذ مقا�سات ف�ستان زفايف � ..س ُيعلن زواجي يف
باحة جويدا �أمام �أهل چارتني نهاية هذا ال�شهر.
جويدا هي مدينتنا التي ن�سكن بها� ،أرقى مدن چارتني الأربعة ع�شر
ً
اكتظاظا بال�سكان ..نعلم جمي ًعا هنا �أن ال�سبب هو مناخها و�أكرثهم
املعتدل و�أر�ضها اخل�صبة التي تختلف عن باقي �أر�ضنا ال�صخرية ..
كما در�سنا يف مادة التاريخ كان نهر جويدا اجلاف قد ترك ما يكفيها
من طمي قبل جفافه منذ �أكرث من �ألفي عام ،مثلما ترك �أخدوده
الذي ي�شق �أر�ضنا �إىل ن�صفني �شر ًقا وغر ًبا ،بد ًءا من اجلبال احلمراء
باجلنوب حتى جدار چارتني العظيم بال�شمال ..
تقول الكتب �أن چارتني كانت يف الأ�صل بلدين متجاورين يف�صلهما
النهر اجلاف ..بلدان مت�شابهان يف كل �شيء قامت ح�ضارتهما على
الزراعة حول �ضفاف ذلك النهر � ..ألوف ال�سنوات من الرخاء والنعيم
والقوة امتلكت فيها كل بلد منهما حكمها امل�ستقل من �أبنائها ..قبل
�أن ي�سوء قدرهما م ًعا ،ويتوىل العجزة مقاليد احلكم بهما لثالثة قرون
كاملة ،انهار معها كل �شيء ..
قر�أت ذات مرة يف �أحد كتب التاريخ مبكتبة �أبي �أن �أحد احلكام
القدامى كان قد �أُ�صيب بداء الن�سيان ،وتك ّور ج�سده املتيب�س بعدما
عاما ،ومع ذلك ظل مم�س ًكا مبقاليد احلكم جتاوز عمره الت�سعني ً
مدعوما بحا�شيته ومنافقيه الذين �أف�سدوا كل �شيء بدورهم ،فتب ّدل
ً
الرخاء والنعيم �إىل فقر مدقع ظل يت�سلل �إىل �أرجاء البلدين لي�سكن
بيوتها ،وا�ستحال الأمان ب�شوارعها �إىل عنف وجرائم مل ت�شهدها
البالد قط ..
حقبة دموية مل يع ُل فيها غري �صوت قرقعة البطون اخلاوية ،و�صوت
جوعا ..ثم غ�ضبت الأر�ض
البارود ملن �آثروا املوت بالر�صا�ص عن املوت ً
يوما بعد يوم حتى ّ
جف عن �آخره .. على �أجدادنا فق ّل من�سوب النهر ً
وح ّلت املجاعة الكربى التي ُ�سميت ب�سنوات اخلراب الأربعني ..مات
و�سجن من ُ�سجن ،وتبقى من تبقى بها من مات ،ورحل من رحلُ ،
ممن ارت�ضوا ذلك اجلوع �آملني �أن تعود بالدهم �إىل �سابق عهدها فلم
وتغي املناخ فج�أة ،وهاج بحر «�أكما»
متهلهم الطبيعة فر�صة �أخرىّ ،
الذي يحيط بالبلدين من كافة اجلوانب عدا اجلنوب ليغمر كل �شيء،
ولي� َأتي على من تبقى وما تبقى من البلدين ..
ُغطيت بالدنا باملاء لقرنني من الزمان ..قبل �أن يتبدل املناخ
وينح�سر املاء لتظهر �إىل احلياة جمددًا ،فعاد �إليها من رحل �أجدادهم
و�شتتوا بال�صحاري والبلدان الأخرى جنوب اجلبال احلمراء .. عنها ُ
وانهال معهم الرحالة والقبائل من كل حدب و�صوب ..وحفروا �آبار
املياه اجلوفية لتحل حمل النهر اجلاف ..و�أ�صبح البلدان بلدً ا واحدا
ُ�سمي باجلارتني ُ ..حرف مع الزمن �إىل چار ِتني ..
وليحموا بالدنا �شر بحر «�أكما» الثائر بد�أوا يف بناء جدار چارتني
العظيم � ..س ٌد �صخري رهيب يحيط بالدنا من ال�شمال وال�شرق
والغرب ..ا�ستغرق بنا�ؤه �أكرث من قرنني كاملني � ..أخربتني �أمي وهي
مت�سد �شعري ذات مرة ،وكنت وقتها يف ال�سابعة من عمري� ،أن تاريخنا
ينق�سم �إىل ما قبل جدار چارتني وما بعده ..و�أننا ندين لذلك اجلدار
بحياتنا حيث يحجز من ماء البحر الثائر خلفه ما يكفي لهالك چارتني
كلها يف �ساعات قليلة ،ثم �أرتني لوحة مر�سومة يف �أحد الكتب عنه ..
كانت لوح ًة للنقو�ش التي دُونت على قواعده ..نقو�ش قوانني بالدنا� ،أو
ما يعرفها العامة با�سم «قواعد چارتني» ..ما زلت �أتذكر �صوتها وهي
تقول:
�إن تلك القوانني ُنق�شت على قواعد اجلدار على مر ال�سنوات،
وك�أن انهيار قاعدة واحدة منها لن يختلف كث ًريا عن انهيار
قواعد جدارنا العظيم ..
مل �أكن �أدرك وقتها �أنها �ستخ�ضع ذات يوم للقاعدة نف�سها التي
ُكتبت �أ�سفل تلك اللوحة ،كانت قاعدة چارتني الأوىل التي تقول:
9
«�إن چارت�ين مل تن�� َ�س �أب�دًا م��ا فعل��ه العج��زة بح�ضارته��ا ..
لذا ال يعي���ش على �أر�ضها من يعرب عامه اخلم�س�ين»
()4
كانت اجلد ّية البالغة التي ظهرت على وجه مري�ضتي الغجرية وهي
تقول �أنها �ستذهب بجنينها �إىل چارتني توحي ب�أنها قد اتخذت قرارها
قبل املجيء �إ ّ
يل ،ومل ت� ِأت �إال لإخباري ب�أن ا�ستعد ملرافقتها يف رحلتها
فح�سب ..ف�س�ألتها م�ستفه ًما:
چارتني؟! ..هل هذا مكان؟!
قالت:
�إنه بلد كبري ..
قلت:
مل �أ�سمع عنه من قبل� ،ش�أنها �ش�أن بني عي�سى قبل جميئي �إىل
هنا ..
كانت هذه حقيقة م�ؤ�سفة ،كانت ثقافتنا عن البلدان الأخرى
�ضعيفة للغاية ..مل يكن م�سموح لنا بقراءة �أي كتب غري مناهجنا
الدرا�سية ..وال �أذكر �أن مناهجنا قد ذكرت �شي ًئا عن چارتني تلك ..
كانت بلدنا ت�ضع الكثري من القيود على ما يقر�ؤه العامة ،حتى �أنني مل
�أت�صفح ورقة واحدة من كتبي الطبية قبل موافقة �ضابط �أمن بلدتي ..
قالت الفتاة:
رمبا لأنها بعيدة للغاية ..ال يعرفها الكثريون هنا � ً
أي�ضا� ،إنها
على بعد م�سرية �شهر كامل �إىل اجلنوب ،ع�شرة �أيام على
الياب�سة وع�شرون يف البحر ..
ف�صمتُ ،وكان �ضجيج املو ّلد قد توقف قبل �أن �أ�س�ألها:
وملاذا �سنذهب �إىل هناك؟!
قالت:
تدب احلياة يف طفلي �أبدً ا .هناك قد
خارج ذلك البلد لن ّ
ميتلك فر�صة للنجاة ..
قلت:
�سحر؟!
قالت:
ال � ..إنها ذات طبيعة وقوانني خا�صة تختلف عن باقي البلدان،
و�أردفت:
رمبا �ستجد كالمي غري ًبا ،لكن عليك �أن تعلم �أن كل ما
متاما ..
�س�أخربك به لي�س �إال حقيق ًيا ً
ثم قالت بخجل:
�إن جنيني لي�س �شرع ًيا ..
و�صمتت للحظة ،ف�أوم�أت لها بر�أ�سي كي تكمل حديثها ،ف�أكملت:
�أعي�ش بوادي الغجر كما �أخربتك ،لكني ال �أنتمي �إليهم ..كان
حبيبي �أحدهم فح�سب � ..أما �أنا فانتقلت للعي�ش معه منذ �شهور
من �أجل زواجنا ،لكنه مات قبل �أن نتم هذا الزواج بعدما ترك
ب�أح�شائي هذا اجلنني �..إنني �أنتمي �إىل ذلك البلد البعيد ..
چارتني ،ثم ابت�سمت مبرارة ،وقالت:
كنت �أظن �أنني تخليت �أخ ًريا عن �صفاتي الچارتينية بابتعادي
عنها ..لكن كما قالت يل �أمي ذات يوم؛ �إن چارتني قدرنا
الذي مل ولن نفر منه ..
ثم توقفت عن احلديث حني طرق �صالح باب الغرفة و�سمحتُ له
يل ً
حامل م�شرو ًبا �ساخ ًنا �أعده من �أجلي ثم خرج، بالدخول ،فدلف �إ ّ
ف�س�ألتها على الفور:
� ًإذا � ِ
أنت چارتينية ؟
قالت:
ال � ..إنني من ن�ساىل چارتني ..
و�أخرجت زفريها قائلة:
كم �أكره ذلك املكان �..أتدري �شي ًئا �سيدي ..جئتُ من چارتني
�إىل وادي الغجر وقطعت تلك امل�سافة كلها كي �أحترر من كوين
ن�سلية ،ولو كانت امل�سافة �أطول لفعلت ذلك ..ال تفهم �شي ًئا،
�ألي�س كذلك ؟!
فهززت ر�أ�سي �إيجا ًبا ،فقالت:
الن�ساىل هم حاملو العار يف چارتني � ..إن قواعد چارتني
تخت�ص جميعها ب�أرواح الب�شر ..يقولون �أن قبل بناء جدار
چارتني كانت البالد قد �شهدت من اجلرائم واخلطايا ما مل
ت�شهده بلد قط ،فكانت القاعدة الثانية من قواعد بلدنا؛ ُيلحق
العار بالروح املذنبة للأبد ..
وتابعت بعدما توقفت لهنيهة:
ال ُيولد جنني حي خارج چارتني ..وقد تيقنتُ من ذلك اليوم
بعد فح�صك جلنيني ..تبقى �أجنة ن�ساء چارتني بال روح ..
�إن كان احلمل عن زواج �شرعي يف باحة ُت�سمى باحة جويدا
ينال اجلنني روحه الطاهرة ممن ميوتون ميت ًة طبيعية ب�أرجاء
البالد ..وال ت�ضطر حاملته �إىل الذهاب �إىل باحة جويدا
من �أجل ذلك ..كما يقولون هناك؛ تختار الروح حاملها ..
حمل غري �شرعي ،و�أرادت حاملته له النجاة ،فال �أما �إن كان ً
بد �أن تتجه �إىل الباحة يوم الغفران ُ ..يقام يوم الغفران نهاية
كل �شهر ..هناك ُيعدم �أمام �أهل چارتني من �أقر الق�ضاة
�إعدامهم ..لي�س لأجنة الزنا فر�صة للنجاة �إال �أرواح �أولئك
املذنبني ..لذا على احلبلى �إن �أرادت النجاة لطفلها �أن تتواجد
بالباحة يف ذلك التوقيت ..هكذا ينجو اجلنني ،وحتمل روح
املعدوم العار بج�سد نتج عن اخلطيئة ..
و�أخرجت زفريها جمددًا ،وقالت متربمة:
عدالة چارتني ..
قلت:
وماذا �إن مل يكن هناك َمن ُيعدم ؟
�أجابت:
تنتظر احلبلى �شه ًرا �آخر لتعود مرة �أخرى �إىل الباحة ..و�إن مل
يكن هناك به � ً
أي�ضا َمن ُيعدم تنتظر �شه ًرا �آخر ..حتمل املر�أة
ت�سعة �أ�شهر ،حت�صد الأجنة الأرواح بداية من ال�شهر اخلام�س،
روحا خالل الأ�شهر الأربع الأخرية ُيولد ميتًا
�إن مل ينل اجلنني ً
� ..أرجوك� ،أريدك �أن ترافقني �إىل هناك � ..أريده �أن ينجو ..
قلت:
وما حاجتك �إ ّ
يل؟!
قالت:
لقد ورثتُ عن �أمي مر�ضها بال�صرع � ..أفقد وعيي كث ًريا ..
ذات مرة ابتلعت ل�ساين حني فقدت وعيي ،لكن حبيبي �أنقذين
ب�إعجوبة � ..إن الرحلة �إىل چارتني طويلة ..و�أخ�شى �أن ت�أتيني
نوبة ال�صرع فابتلع ل�ساين مرة �أخرى ،ف�أموت قبل �أن �أ�صل �إىل
هناك وينال جنيني روحه ..كما �أريدك �أن ترعاين �أنا وطفلي
يف طريق العودة �إىل هنا ..
ونظرت �إىل كي�س املال القما�شي ،وقالت:
�س�أ�ضاعف لك هذا القدر من الذهب � ..س�أجعلك تعود �إىل
بلدك ثر ًيا ..
فقلت �ساخ ًرا:
لي�س هناك طريق للعودة �إىل بلدي ..
قالت:
�إن رفقاء حبيبي رحالة يجوبون البلدان � ..سي�صحبك �أحدهم
�إىل بلدك بعد عودتنا �ساملني �أنا وطفلي ..هذا وعد مني ..
قلت:
ال وعد للغجر ..
قالت:
�أخربتك �أنني ل�ست غجرية ..
ثم نه�ضت ،وقالت:
�س�أعود �إليك بعد يومني� ،أمتنى �أن �أجد موافقتك ..
ثم حتركت نحو باب الغرفة دون �أن ت�أخذ ذهبها ،وكادت تغادر،
ف�س�ألتها و�أنا �أجل�س مكاين:
وما الذي يجعلك تثقني ب�أن طفلك �سينجو؟
9
فتوقفت وا�ستدارت يل ،وقالت بهدوء:
لأنني ُولدتُ بالطريقة ذاتها.
()5
9
يل جمددًا ،فلكزتُ ر�أ�س �أبي ،و�صحتُ �إليه يف خجل: ف�أ�شار �إ ّ
�أبي� ،إنه ي�شري �إ ّ
يل ..
لكن �أبي مل ي�سمعني وقتها ..
على مدار �أيام الغفران التالية كان مكانه ثابتًا ،الطفل ذاته فوق
العمود اجلانبي لل�ساحة ..حتى ظننتُ �أنه يبيت ليايل �أيام الغفران
بالباحة من �أجل اللحاق مبكانه ،وكعادته منذ يومي الأول كان ي�شري
يل وي�ضحك ،وبعد ب�ضعة �أيام من الغفران مل �أجد نف�سي �إال �أن �إ ّ
�أ�ضحك و�أبادله الإ�شارة ذاتها بيدي ..
يوما عن ح�ضور �أيام الغفران ..كان اجلميع بعدها مل �أت�أخر ً
إعداما � ..أما
زواجا �أو � ً
يذهبون لي�شهدوا مرا�سم املن�صة �سواء كان ً
9
�أنا فكنت �أذهب لأراه هو � ..صديقي الذي ال �أعرف ا�سمه ،الذي يجل�س
متاما وك�أن زحام چارتني قد�شاخما فوق اجلميع ..قبل �أن يختفي ً ً
وبقي القائم اجلانبي لل�ساحة خال ًيا وك�أن �أحدً ا مل يجر�ؤ على
ابتلعهَ ،
�أخذ مكانه.
مع كل يوم يل كنت �أعرف �أكرث عن قوانني بالدي ،علمني �أبي
الكثري ،وكذلك �أمي � ..أدركتُ مع الوقت �أننا مل نكن من �أغنياء چارتني
�أبدً ا ،لكننا على الأقل مل نكن ن�ساىل ..ما كنت �أ�شعر به ح ًقا مع مرور
�أيامي �أنني �أتع ّلق كل يوم بباحة جويدا عن اليوم الذي ي�سبقه ..ال �أذكر
يوما واحدً ا من �أيام الغفران منذ ا�صطحبني �أبي يومنا الأول�أنني ف ّوتُ ً
و�أنا يف الثامنة ..وال �أذكر �أن عيني مل تهرب كل يوم من تلك الأيام �إىل
العمود اجلانبي لل�ساحة ع ّلها جتد ذلك ال�صديق الغائب مرة �أخرى،
ولكن دون جدوى ،ظ ّل العمود خال ًيا ..
�أدركتُ �أن معظم املعدومني من جمرمي الن�ساىل ً
رجال ون�سا ًء،
وعرفتُ �أن الزغاريد التي ُتطلق بعد �إعدام كل م�سجون هي لن�ساءٍ
فاحا ،و�شعرن بحركة �أجنتهن ببطونهن بعد حلظات من حملن ِ�س ً
دوما:
الإعدام ..كانت �أمي تقول عنهم ً
يعي�شون ل ُيعدموا بعد ذلك ..ال تكف الروح املذنبة عن ارتكاب
اجلرمية �أبدً ا ..
كان �س�ؤايل لها و�أنا يف العا�شرة ،وكنا نعد الطعام وقتها:
�ألي�س بني الن�ساىل رجل �صالح �أو امر�أة �صاحلة ؟!
قالت وهي ت�ضع الأطباق على الطاولة:
الروح تقود اجل�سد ،وروح �آثمة لن تقوده �إال ملن�صة �إعدام
الباحة ..
ق�ص�صا عن ن�ساىل ارتكبوا �أب�شع اجلرائم من قتل
ً وحكت يل
و�سطو و�سرقات ..
قليل ما كنا ن�سمع عن �إعدام �أحد من �شرفاءكانت �أمي حمقة ً ..
چارتني الذين ُولدوا عن زواج �شرعي يف باحة جويدا � ..أخربنا معلمنا
فر�صا �أخرى لل�شرفاء
يف املدر�سة ذات مرة �أن ق�ضاة چارتني مينحون ً
املخطئني �إال يف حاالت القتل �أو ارتكاب خيانة كربى يف حق چارتني �أو
رما �صغ ًريا قد ُيعاقب بال�سجن جدارها� ،أما �إن �سرق ً
مثل �أو ارتكب ُج ً
�أو دفع جزء من املال فح�سب � ..أما الن�ساىل فم�صريهم معروف ..
جرما �صغ ًريا
يوما ما ،لذا �إن ارتكب �أحدهم ً
�سريتكبون اجلرمية حت ًما ً
قد يكلفه ذلك حياته ..ال�سارق منهم ُيعدم ..من ميتلك البارود ُيعدم
..التعدي على چارتيني �شريف دون حق ُيعدم ..القاتل ُيعدم بالطبع ..
�أذكر �أنني �س�ألت املعلم وقتها:
وملاذا ال نقتلهم منذ والدتهم طاملا �سريتكبون اجلرمية؟
�أجابني �ضاح ًكا:
�إنها عدالة چارتني ..لهم احلق يف احلياة ..رب �أحدهم
ي�ستطيع �أن يق ّوم روحه الآثمة ..
�شفتي ،قبل �أن يكمل لنا �أن كل مولود
ّ مل �أقتنع بتلك الإجابة وزممتُ
�شريف ُي�سجل يوم والدته يف �أوراق دار الق�ضاء يف چارتني � ..أما الن�ساىل
فال ُي�سجل لهم �أوراق ..ينالون فقط �أو�شامهم الزرقاء على �أكتافهم
و�صدورهم بالعام الذي ُولدوا فيه ..وال يعي�شون بيننا ،ينت�شرون على
�أطراف املدن �أو وديانها يف جتمعات � ..إن فقرهم �شديد رغم �أنهم
ل�صو�ص وهجامون ..ال ي�أتون �إىل املدينة �إال لل�سرقة �أو حل�ضور يوم
أرواحا لأطفالهم ..هم يتعاي�شون مع طبيعتهم ،وكما �أتواالغفران لنيل � ً
حمل غري �شرعي اليكفون عن �إجناب �أطفال مثلهم غري �شرعيني من ٍ
..مل يذكر تاريخ چارتني حالة واحدة لزواج �شرعي بني رجل وامر�أة
من الن�ساىل ،و�أردف ً
قائل:
حتى هم ال يثقون يف بع�ضهم ..
قاطعته مرة �أخرى وقتها ،وقلت:
9
لكنهم ينجبون !
قال:
�إنهم خطائون بالفطرة ..ت�سري الرذيلة يف دمائهم ..
9
مل ُتخلق امر�أة يف چارتني ت�ستطيع �أن تثق برجل ال يخطئ على
مر خم�سني عام ..خا�صة �أنه م�ؤهل لذلك اخلط�أ � ..أي امر�أة �شريفة
جتعل �أوالدها عر�ضة للعار يف �أي وقت من الأوقات؟!
9
الن�ساء التي تعمل بها من الن�ساىل ،ك�أنها �ضامن حقيقي لإجناب
�أطفال غري �شرعيني مبا يكفي لأعداد املعدومني ..يف الوقت الذي
ُتعاقب فيه ال�شريفة بال�سجن �إن عملت بتلك البيوت ..دعني �أقل �أن
الن�ساىل هنا هم الطبقة الدنيا يف كل �شيء ..
كنت �أحفظ قواعد چارتني عن ظهر قلب ،لذا كنت طالبة متفوقة
علي �أن �أ�شكر �أبي و�أمي على اهتمامهما بثقافتي يف
بني زميالتي ..كان ّ
يوما عن م�ساعدتي الدرا�سية ،حتى بعدما طفولتي ..كما مل يت�أخرا ً
هُ دمت مدر�ستنا املتو�سطة مل يتوانيا عن نقلي �إىل مدر�سة �أخرى كانت
تبعد م�سافة ميل عن بيتنا القدمي ..كان �أبي ي�صحبني �إليها بعربته
اخل�شبية ذات احل�صان كل يوم ..
كانت تلك املدر�سة تختلف كث ًريا عن مدر�ستي القدمية حيث
ُق�سمت فرتاتها مع التكد�س ال�شديد �إىل فرتة �صباحية للإناث و�أخرى
وا�ضحا ..تفو ٌق
ً بعد الظهرية للذكور ..مل �أهتم بذلك ..كان هديف
درا�سي ي�ؤهلني للعمل بدار الق�ضاء يف چارتني كما مت ّنى �أبي ..
�أيام كانت ت�شبه بع�ضها ..طالبات كثريات وخمتلفات ..طالب
ذكور ينتظرون خارج املدر�سة ملغازلتنا قبل رحيلنا ..معلمون مثقفون
للغاية ..فتاة متجهمة نحيفة ذات �شعر بني ق�صري وعينني خ�ضراوتني
حتمل كتبها وت�سري مبفردها كل يوم ب�سرتتها البي�ضاء وتنورتها
الرمادية التي تعرب الركبة بقليل دون �أن تنجو من �سخرية غريها من
الطالبات ..كانت �أنا ،ذات مرة �سمعتُ �إحداهن تقول عني �ساخرة؛
9
وجه البومة ..فبكيتُ ..مل �أكن �أ�ضحك فح�سب ،ومل �أكن �أمتلك
�صديقات بعد ..
كل �شيء كان ثابتًا ال يتغري عدا الأيام التي متر فتنق�ص العمر
التغي �أخ ًريا ..
أياما �أ�ضافية� ،إىل �أن حدث ّ
� ً
9
وك�أن الزمن قد تو ّقف بنا ،وهد�أت �أ�صوات اجللبة من حولنا حتى
متواجهي ُممدة �أج�سادنا نحدق ببع�ضنا
ْ تال�شت و�سكنت ..وقفنا
البع�ض.
()6
9
فاعتدلتُ يف جل�ستي ،وقلت �ضاحك ًة:
ال �شيء ..
كنت قبل ذلك اليوم �أحب التعليم وال �أحب مدر�ستي اجلديدة
كث ًريا� ،أما بعده ف�صرتُ �أحب التعليم واملدر�سة �أكرث من �أي وقت م�ضى
� ..أم�ضيت تلك الليلة �أفكر يف �صديقي �سيد الباحة القدمي ،ومتنيتُ
لو جل�ستُ معه و�س�ألته؛ �أين كنت تلك ال�سنوات؟! وكيف عرفتني؟!
� ..أردت �أن �أحكي له كم ذهبت �إىل باحة جويدا لأراه على القائم
اجلانبي ومل �أجده� ،أردت �أن �أخربه عن حبي للباحة الذي ن�ش�أ ذلك
اليوم عندما ر�أيته للمرة الأوىل � ..أردت �أن �أح ّدثه عن كل �شيء � ..أبي
و�أمي ومدر�ستي القدمية � ..أتذكر �أنني مل �أمن جيدً ا ليلتها ،وظلت عيني
م�ستيقظة تنظر �إىل نافذة الغرفة ،ترتقب بفارغ ال�صرب طلوع النهار.
يف يومي التايل كان حما�سي للذهاب �إىل املدر�سة غري م�سبوق ..
كنت �أنتظر ب�شغف بالغ انتهاء يومنا الدرا�سي لع ّلي �أخرج و�أراه كما
حدث بيومي ال�سابق ..كان �شرودي ذلك اليوم يفوق �أيام درا�ستي
فرحا ك ّلما م ّرت دقيقة واقرتبنا من موعد
كلها ..كان قلبي يرق�ص ً
التفت �صدف ًة �إىل نافذة
االن�صراف ،ثم كاد ي�سقط يف قدمي عندما ُّ
الف�صل فوجدته يتوارى بجانبها ال يظهر منه �إال ر�أ�سه ،ف�شهقتُ من
املفاج�أة ،واندفعت الدماء �إىل وجهي فازدادت حمرته ،كان مقعدي
مبنت�صف ال�صف الأو�سط ،وكان ف�صلنا بالدور الأر�ضي كباقي
الف�صول جميعها ..غري �أن هناك �سو ًرا �شاه ًقا كان يحيط مبدر�ستنا
من كافة اجلهات ..كيف عربه؟! ،وكيف امتلك تلك اجلر�أة لالقرتاب
منا لذلك احلد؟ ..
ما �إن �إلتفتُ �إليه حتى �أ�شار يل ،فزاد ارتباكي وانتف�ضت دقات قلبي
ا�ضطرا ًبا ،ودار يف ذهني حينذاك �أن ذلك الفتى لي�س �إال جمنو ًنا �أو
خوف �إىل املعلمة التي كانت تقر�أ لنا �أحد الدرو�س
متهو ًرا ..ونظرتُ يف ٍ
و�أنا �أخ�شى �أن تراه طالبة �أخرى فتخربها ..وقتها قد ي�صل عقابه �إىل
ترك مدر�سته ورمبا �أُعاقب �أنا كذلك ..متنيتُ لو امتلكتُ بيدي حج ًرا
ف�أقذفه به كي يبتعد ..
ونظرت يف كتابي وج�سدي ال يتمالك نف�سه من الرع�شة التي �س َرت
وجهت نظري �إىل املعلمة مرة �أخرى بحذر ،ثم نظرت �إىل به ،ثم ّ
النافذة بطرف عيني فلم �أجده ،فهد�أت دقات قلبي والتقطتُ �أنفا�سي،
9
التغي على وجهي ،و�س�ألتني �إن كان هناك غري �أن املعلمة قد الحظت ّ
خطب ما بي ..فهززتُ ر�أ�سي نف ًيا يف توتر ،وقلت �أنني بخري ..ثم انتهى
يومنا الدرا�سي فلملمتُ كتبي �سري ًعا ،و�أ�سرعتُ �إىل اخلارج مهرول ًة
أمل ..يدق �سرو ًرا وفرحة ،وتب ّدلت تعابري وجهي بهج ًة و� ً
..كان قلبي ّ
اليوم ظهرت ابت�سامتي للجميع � ..ضحكت البومة �أخ ًريا ..
9
مطمئنة لها و�أم�سكتُ بيدها ،وغادرنا �سو ًيا دون �أن تعلم �شي ًئا عن خيبة
�أملي لغياب �شخ�ص �آخر ..فكرتُ �أن �أح ّدثها عنه لكني تراجعت ..
كنت �أعلم جيدً ا ما �ستقوله يل؛ ن�ساء چارتني ال يتعلقن �إال ب�أزواجهن،
غري ذلك لن يجلب لهن الرجال �إال امل�صائب ..
9
والزم اال�ضطراب دقات قلبي ك ّلما حدثت جلبة مفاجئة خارج النافذة
..واعتادت عيني على تفح�ص �أوجه الطلبة خل�س ًة خارج املدر�سة قبل
جميء �أبي ..لكنه مل يظهر من جديد ،لقد فعلها ثانية ..لقد اختفى
مرة �أخرى ..
�شه ٌر كامل دون �أن يظهر ..حتى ظننت �أنني مل �أره قط ،و�أن ما
حدث كان �سرا ًبا و�أن خميلتي الوا�سعة هي من �صنعت ذلك الفتى ..
ويوما بعد يوم �أقنعت عقلي ب�أن �أن�ساه ،و�أن �أ�ضع تركيزي ً
كامل �صوب ً
تدب الأمواج باملياه ال�ساكنة فج�أة.
درا�ستي ،لكن كعادة حياتيُّ ،
كان ذلك اليوم حني جل�ستُ مبقعدي بالف�صل ،و�شرعتُ كي �أخرج
كتبي عندما ملحتُ تلك اجلملة املكتوبة بالقلم الر�صا�ص على ميني
�سطح التختة اخل�شبية �أمامي:
تغي ِت كث ًريا عن �أيام الباحة� ،أيتها الفتاة ..
لقد ّ
تلفت �إىل الطالبات املنتبهات �إىل املعلم من حويل ،و�أحطتُ اجلملة
ُّ
املكتوبة بذراعي ،و�أعدتُ قراءتها ثاني ًة ثم ثالثة ،ثم انتبهت �إىل املعلم
حينما ارتفعت نربة �صوته وهو يقر�أ ،ثم عدت لأقر�أ اجلملة مرات
�أخرى ..وانفرجت �أ�سارير وجهى من جديد ،وك�أنني ن�سيتُ فج�أة ما
قررته قبل �أيام عن جتاهل التفكري به ..ووجدتني �أنتظر ب�شغف مرور
ال�ساعات وحلول وقت االن�صراف ،وحدث ما توقعته ،لقد ظهر الفتى
�أخ ًريا بني زمالئه باخلارج.
ما �إن عربت البوابة حتى ظهر يل من بينهم ..ال �أعلم �إن كان يدرك
عيني كانتا تبحثان عنه هو الآخر �أم ال ..التقت عينانا فابت�سم وهو
�أن ّ
طويل ،فابت�سمتُ وهززتُ ر�أ�سي فىر�صا�صا ً
ً يح ّرك بني �أ�صابعه قل ًما
خجل ،و�أكملتُ طريقي نحو �أبي الذي كان يف انتظاري .. ٍ
يف اليوم التايل وجدتُ اجلملة التي ُكتبت باليوم ال�سابق قد
ُم�سحت ،و ُكتب ً
بدل منها:
ما ا�سمك؟
�شفتي ُمفكرة ..ثم �أخرجتُ املمحاة ،وحموتُ
ّ �ضحكتُ ،وزممتُ
�س�ؤاله ،وكتبتُ مكانه بقلمي الر�صا�ص:
غفران ..
ثم ملحتُ على اجلانب الأي�سر من �سطح التختة:
كنت �ست�س�ألينني عن ا�سمي ..
ا�سمي ندمي� ،إن ِ
هكذا عرفتُ ا�سمه �أخ ًريا ..فابت�سمت ،وا�ستخدمت املمحاة ملحي
ما كتبه ،وكتبتُ مو�ضعه:
�أين كنت؟!
ثم انتبهتُ �إىل معلمي الذي �س�ألني ب�أن �أقف و�أقر�أ للجميع من
9
كتابي ،فنه�ضتُ وبد�أتُ �أقر�أ يف تلعثم على غري عادتي حتى انتهيت
وجل�ستُ ،فم�سحتُ ما كتبته يف ارتباك دون �أن يالحظني �أحد ،لكني
عدت وكتبته جمددًا يف نهاية اليوم قبل موعد االن�صراف بدقيقة
واحدة ..
باتت كلمات كتبي جميعها مت�شابهة ..حتججتُ �إىل �أمي ب�أن �أ�ؤجل
حفظ درو�سي ذلك اليوم ،تعجبت مني لكنها وافقتني يف النهاية ..
كان كل تفكريي يف �إجابته على �س�ؤايل � ..أردت �أن �أعرف �سر غيابه
ل�شهر كامل ..وتعمدتُ ليلتها النوم مبك ًرا ع ّل �ساعات الليل متر �سري ًعا
..ونه�ضتُ �صباح اليوم التايل ،و�أعددتُ نف�سي للذهاب ..كان �أبي ما
زال نائ ًما ،فدلفتُ �إىل حجرته ،وهززته يف تذمر:
�أبى� ،أن�سيت �أمر ذهابي �إىل املدر�سة؟!
فنظر �إ ّ
يل متعج ًبا بعني ن�صف مغلقة ،وقال:
أنت �أن اليوم هو يوم �أجازة مدر�ستكم الأ�سبوعية؟!
أن�سيت � ِ
� ِ
حرجا يف مكاين ،لقد ن�سيتُ �أن اليوم هو نهاية الأ�سبوع
9
فت�سمرتُ ً
بالفعل ،وحدثتُ نف�سي يف �ضيق:
على �أن �أنتظر �أنا جمددًا ُ ..كتب ّ
علي االنتظار .. ّ
وعدت �إىل غرفتي وب ّدلت ثيابي ،وان�سللتُ �أ�سفل فرا�شي حمبطة ..
يف اليوم التايل كانت �إجابته قد ُكتبت بالر�صا�ص �أمامي ،كتب يل:
علي �أن �أر�سب ..ومل يكن هناك حل للر�سوب �إال الغياب
كان ّ
ل�شهر كامل ..و�إن �س�ألتني عن رغبتي بالر�سوب انظري �إىل
ٍ
اجلانب الآخر ..
فنظرتُ �إىل اجلانب الأي�سر من �سطح التختة ،فوجدته قد كتب:
�إن هذا الف�صل الذي جتل�سني به هو ف�صل الرا�سبني مبدر�ستنا،
مدر�سة الفتيان ..كان ر�سوبي هو ال�سبيل الوحيد لالنتقال
�إليه ،واجللو�س بنف�س مقعدك بعد م�ساوم ٍة ب�سيطة مع �صاحب
املقعد ..ال تن�سي ا�ستخدام املمحاة يا غفران ..
ب�صوت هام�س:
ٍ �ضحكتُ ،وقلت لنف�سي
لقد ر�سب من �أجلي ..
فنظرت �إ ّ
يل فتا ٌة جماورة ،ف�أوحيتُ لها ب�أنني �أقر�أ من كتابي .. ْ
اليوم �صرت �أحب ح ًقا ذلك املكان ،وذلك الف�صل ..ثم بد�أت �أحمو
كلماته عندما انتبهت الطالبات مع املعلمة غري �أن كلمة غفران مل
ُي َح �أثرها ..لقد حفر ا�سمي ب�آلة حادة على اخل�شب ..وقتها متنيتُ
لو وقفتُ مبنت�صف الف�صل وقلت لزميالتي عالنية بكل جر�أة؛ �أيها
ال�سيدات ،لقد بد�أت ق�صة حبي للتو ..ثم و�ضعتُ جبهة ر�أ�سي على
راحة يدي ،و�أم�سكتُ بقلمي الر�صا�ص ..وفكرتُ ً
قليل فيما �أكتبه ،ثم
كتبتُ على اجلانب الأمين من �سطح التختة:
لن �أ�س�ألك �أين كنت الأعوام املا�ضية ،لكن عدين �أال تختفي مرة
�أخرى ..
وتركت جملتي ،وغادرتُ الف�صل مع انتهاء ح�ص�صنا ..كان قلبي
مت�سارعا ..وت�ضاربت م�شاعري داخلي بقوة ..مل �أكن �أعلم �إن
ً يدق
كان ما فعلته �صائ ًبا �أم ال � ..سرتُ وعقلي ال يتوقف عن التفكري ..كيف
�أطلب منه وعدً ا كهذا دون �أن �أعرف عنه �أي �شيء ..كل ما عرفته عنه
هو ا�سمه فح�سب ..ملاذا ت�سرعتُ بكتابتي تلك اجلملة لأبوح له بتعلقي
به بعد �أيام فقط من حديثنا املكتوب؟!
وقبل �أن �أعرب البوابة احلديدية وجدتُ نف�سي �أ�ستدير ،وقررتُ �أن
9
�أعود �أدراجي لأم�سح ما كتبته قبل دخول الطالب ..واجتهت م�سرع ًة
�إىل ف�صلي اخلايل ..وما �إن دلفت �إليه و�أغلقتُ الباب من خلفي حتى
كاد قلبي يتوقف بعدما وجدتُ معلمتي جتل�س مكاين.
()7
ال �شيء هنا ..
فاوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا ،و�أظهرت حزين وقلت:
ح�س ًنا� ،س�أبحث عنه يف مكان �آخر ..
بينما كنت �أراقب تعبريات وجهها بطرف عيني ،ويدور عقلي بخلق
مربرات حت�س ًبا لأي �س�ؤال لها عن كتاباتي على �سطح التختة ..لكنها مل
تتفوه ب�شيء ،بل ملحتُ ملعة بعينيها توحي بدموع �أو�شكت على ال�سقوط،
والحظت �شرودها وعدم مباالتها ب�أمري � ً
أ�صل ،فقلت:
�سيدتي ،هل هناك خطب ما؟!
فابت�سمت ابت�سامة حزينة ،وقالت:
كل �شيء بخري عزيزتي � ..أ�صابني �أ ٌمل مفاجئ يف �صدري فقط
بعد انتهاء ح�صتكم فجل�ستُ حتى يزول ..
ثم نه�ضت وم�سحت على �شعري ،وقالت با�سمة:
حني يعرب عمرك الأربعني لن يراودك �إال �شعور واحد � ..أن
العمر مل يبقَ فيه �إال القليل جدً ا ،ومل تفعلي يف حياتك �إال
الأقل..
فالتقطتُ �أنفا�سي ،واطم�أن قلبي بعدما تيقنتُ �أنها مل تنتبه �إىل
كتاباتي ،و�س�ألتها:
كم عمرك الآن �سيدتي؟
فقالت:
جتاوزت الأربعني منذ �أيام ..
قلت:
ح�س ًنا ِ ..
لديك ع�شر �سنوات لتفعلي كل �شيء ..
و�أردفت �إليها يف حما�س:
�س�أفعل كل �شيء قبل �أن يحني موعد رحيلي ..
فقالت:
لك ذلك ال جتري الأمور كما نخطط لها �أبدً ا ..لكني �أمتنى ِ
على � ّأي حال ..هيا بنا ،لقد بد�أ الطالب يف دخولهم �إىل
املدر�سة ..
فنظرت خل�س ًة �إىل تختتي ..متنيت لو تركتني حلظة واحدة �أحمو
فيها ما كتبته ،لكنها �أم�سكت بيدي وهي تقول:
هيا ..ال ت�ضعي ه ًما لنقودك املفقودة � ..س�أ�س�أل زميالتك عنها
غدً ا ..
9
ثم خرجنا م ًعا ..و�سرنا يف طريقنا �إىل خارج املدر�سة ..كان ندمي
قد قابلنا يف الردهة قبل عبورنا البوابة ،والتقت عينه عيني فهربت
عيني �سري ًعا ..ووا�صلتُ طريقي مع ال�سيدة بيان ،ثم ودعتها ومتنيت
لها ال�شفاء ،قبل �أن �أجته �إىل �أبي الذي كان يقف يف انتظاري.
ً
من�شغل مبا كتبته �إىل ندمي ..ودار عقلي يف املنزل ظل بايل
بخياالت كثرية عن رده املنتظر ،لكني عدت وحدثت نف�سي ب�أن القدر
من �أراد ذلك،كان من املمكن �أن �أحمو كلماتي عندما عدت �إىل الف�صل
لكن القدر و�ضع يل ال�سيدة بيان مبقعدي لتم�ضي ق�صتنا يف طريقها
دون توقف ..ثم جال ببايل حديثها عن حياتها التي �ستنتهي بعد ع�شر
�سنوات ..
مل �أفكر من قبل يف ذلك الأمر كث ًريا � ..إنها تقارب �سن �أبي و�أمي
تقري ًبا ..لقد جتاوز �أبي الأربعني منذ عامني ،و�أمي ت�صغره بعام واحد
..هذا يعني �أنني بعد �أقل من ت�سعة �أعوام �س�أم�سي وحيدة ..كانت
املرة الأوىل التي �أدرك فيها �أن قاعدة بالدنا الأوىل قا�سية للغاية ..
9
�أتذكر تلك الرع�شة التي �سرت بج�سدي مبجرد تخيلي كوين وحيدة يف
هذا العامل ..وقتها انزويت �أ�سفل فرا�شي دون �أن يتوقف ر�أ�سي عن
الو�ساو�س واخلياالت املوح�شة ..وظل النوم مفار ًقا لعيني حتى وقت
مت�أخر من الليل.
يف بداية اليوم التايل �س�ألتني ال�سيدة بيان قبل دخويل �إىل الف�صل
�إن كنت قد عرثتُ على نقودي املفقودة ،فهززت ر�أ�سي �إيجا ًبا بابت�سامة
مزيفة ،وقلت؛ نعم ..واجتهت �إىل تختتي اخل�شبية �شاردة ..كان �أثر
تفكريي يف الليلة املا�ضية ال يزال ي�شو�ش عقلي � ..أتذكر �أنها املرة
الأوىل التي �أ�شعر فيها ب�ضيق �إىل ذلك احلد ..ثم جل�ستُ على مقعدي
ونظرتُ �إىل �سطح التختة �أمامي ..فوجدتُ �س�ؤايل قد ُمي ،و ُكتب
ً
بدل منه:
�أعدك ب�أنني �س�أخربك قبل غيابي املرة القادمة ..
مل يكن ذلك الوعد الذي �أنتظره ..هذا يعني �أنه قد يغيب جمددًا
..ماذا �سيختلف وقتها �إن �أخربين عن غيابه قبلها �أم مل يخربين ..
النتيجة واحدة ،فزادت �إجابته من �شعوري بال�ضيق ،ووجدت نف�سي
�أحمو ما كتبه يف غ�ضب دون �أن �أكتب �إليه �شي ًئا ..ثم �أخرجت كتبي
وانتبهت �إىل معلمتي ..حتى انتهى يومنا وعدت �إىل بيتي ،وهناك
�س�ألت �أمي:
أنت و�أبي وترتكاين وحيدة؟
هل �سرتحالن � ِ
فقالت �أمي متعجبة:
من قال ذلك؟!
قلت:
�سيبلغ �أبي اخلم�سني بعد ثمانية �أعوام ،و�ستلحقني به بعدها
بعام ..
فانتبهت �أمي �إىل مق�صدي ،وقالت:
عليك �أن تفكري بهذا الأمر � ..إنها القواعد يا غفران ..
ال ِ
قلت ب�صوت خمتنق بالدموع:
لكني �س�أبقى وحيدة ..
قالت:
�س�أحر�ص �أنا ووالدك على �إجناب ما يكفي من �أطفال قبل
موعد رحيلنا ..
قلت:
ولكني �أريدكما �أنتما ..
قالت:
�ستكربين ومع الوقت �ستدركني �أن هناك �أمو ًرا ال ن�ستطيع
تغيريها �أبدً ا � ..إن �أرواحنا چارتينية ،وطاملا بقت چارتينية
�صار عليها االكتفاء بخم�سني عام فقط ..هناك الكثري من
املواليد ال�شرفاء لهم احلق يف نيل �أرواحهم ..
و�أكملت:
عاما لي�ست بالقليل ..
وخم�سون ً
ثم ق ّبلت �شعري ،وقالت:
لن �أموت قبل �أن �أطمئن �أن هناك َمن �سيبقى بجوارك حياتك
كلها ..
ف�س�ألتها:
كيف �ستموتون؟
كانت املرة الأوىل التي �أ�س�أل فيها ذلك ال�س�ؤال �أو يدور فى ذهني
حتى .ف�صمتت �أمي ثم قالت:
�إن مل يهزمنا املر�ض قبل بلوغنا اخلم�سني �صار علينا التوجه
�شر ًقا �إىل وادي حوران ،هناك �سيجد رجال الدين طريقة غري
م�ؤملة حل�صاد �أرواحنا ..
قلت:
وماذا لو مل تذهبوا �إىل هناك؟
ابت�سمت وقالت:
أبوك �ضيو ًفا على من�صة �إعدام جويدا،
وقتها �س�أ�صبح �أنا و� ِ
وبدل من �أن تذهب �أرواحنا �إىل �شرفاء چارتني �سيح�صدها ً
�أطفال الن�ساىل � ..إن قوانني چارتني وا�ضحة يا ابنتي ..خا�صة
ما تعلق منها ب�ش�أن �أرواحنا ..لقد ُخلقت قواعدنا لبقاء بالدنا
ون�سلنا ..
قلت و�أنا �أم�سح دمعة هربت �إىل وجنتي:
وماذا لو رحلنا عن چارتني وعربنا �إىل �آخر العمر؟
قالت بهدوء:
وقتها �ستنقطع الروح عن ن�سل عائلتنا للأبد � ..سي�صيب
العار العائلة ب�أكملها � ..ستخت�صم الروح �أج ّنتنا � ..إن رحلت
أبوك وخالفنا القاعدة الأوىل لن ي�ستطيع �أي َمن ً
مثل �أنا �أو � ِ
يحمل دماءنا �إجناب �أطفال �أبدً ا ،حتى تزول �ساللتنا ..
�إننا �سنموت �سنموت ..لكن موتنا هنا طب ًقا لقوانيننا ي�ضمن
نوعا من الأنانية
لأبنائنا البقاء من بعدنا � ..أما هروبنا لي�س �إال ً
� ..سننجو ب�أرواحنا عدة �أعوام لكن �سيبقى �أوالدنا وحيدين
حتى ميوتوا هم الآخرون ..
أكملت:
و� ْ
�إن �أف�ضل ما يف الأمر �أننا �سنموت يف �أعز عمرنا قبل �أن ت�شيخ
�أج�سادنا .و�س�ألتني:
أيت من قبل ن�سل ًيا عجو ًزا على من�صة الإعدام؟
هل ر� ِ
فهززت ر�أ�سي نف ًيا ،فقالت:
�سرتين مع الوقت ..ال يخ�ضع الن�ساىل للقاعدة الأوىل ..ترى
القواعد �أن �إخ�ضاعهم لهذه القاعدة راحة لأرواحهم الآثمة
قدما يف �أعمارهم
وتلويث لوادي «حوران» ..ي�ستطيعون امل�ضي ً
البائ�سة طاملا ال تط�أ �أقدامهم املدينة بعد عبورهم اخلم�سني ..
و�إال كانت من�صة الإعدام م�صريهم ..لذا يظلون م�شردين يف
ال�صحاري والوديان حتى تَنفق �أج�سادهم ..
�إننا بلد ال�شباب ..انظري �إىل اجلانب الإيجابي من هذا الأمر
� ..إن بلدنا بلد قوي متقدم ..ال ي�ستطيع �أي بلد �آخر االقرتاب
منا ،وعقول حكامنا ال�شباب متجددة با�ستمرار � ..إن جاء �أي
غريب �إىل بلدنا اجل�سي معه وا�س�أليه عن حال البلدان الأخرى
يف ظل وجود العجزة على ر�أ�س حكمها.
وابت�سمت وهي تتابع:
لقد جل�ستُ هذه اجلل�سة ذاتها مع �أمي حني كنت مبثل عمرك
..ومع الوقت �أدركت ح ًقا �أنها على حق ..لقد ذهبت �أمي
و�أبي �إىل وادي حوران من �أجل بقائي وبقائك وبقاء �ساللتك
..وهكذا �س�أفعل و�سيفعل والدك � ..إننا نحبك ونحب بلدنا ..
و�إن كان لنا هدف يف هذه احلياة فهو �أن تبقى �ساللتنا على
�أر�ض چارتني �ساللة �شريفة هدفها �أن ُتبقي بالدنا خري بالد
هذا العامل � ..ستجدين حبي ًبا �سيبقى معك للأبد� ،ستعي�شني
معه حتى انتهاء �أعوامكما ،و�ستزرعني حب قواعد بالدنا يف
�أوالدكما ليزرعوها يف �أوالدهم ..
و�ضمتني �إىل �صدرها ،وقالت:
�أمتنى �أن �أ�صل �إىل ذلك اليوم الذي �أح�ضر فيه زفافك ..
وق ّبلت ر�أ�سي من جديد ،ووا�صلت:
بك العمر
ال تتعجلي اختيارك ل�شريكك فح�سب ..مهما بلغ ِ
9
أعواما معدودة ..اختاري من يجعل منها
ف�سيظل يف النهاية � ً
العام الواحد ي�ساوي مائة عام ..
ف�ضحكت وق ّبلت خ ّدها ..وعدت �إىل غرفتي ،وهد�أ تفكريي حتى
�أن النوم قد غلبني بعدما فارقني الليلة ال�سابقة ..
يف اليوم التايل كان احلما�س الذي �أ�شعر به خمتل ًفا ً
متاما ..كانت
كلمات �أمي عن ح�سن اختياري ل�شريكي ال تزال ترن يف �أذين ،وجل�ستُ
على مقعدي يف الف�صل ..لأجد ندمي قد كتب يل ر�سالة:
لك ب�أال �أغيب جمددًا ..لكني
عدم وعدي ِ «قد يكون �أحزنك ُ
اعتدت �أال �أعد ب�شيء ال �أوقن بتحقيقه ..ح�س ًنا� ،إن ا�ضطررت
�إىل الغياب مرة �أخرى �س�أ�سعى �أال تطول فرتة غيابي ..غري
ذلك �س�أبقى معك للأبد »..
ابت�سمت وحموت ما كتبه ،وكتبت دون تفكري:
9
للأبد؟
�أجابني يف اليوم التايل:
نعم � ..س�أظل معك للأبد حتى تنتهي �سنوات عمري ..
هكذا �أخذت ق�صتنا م�سا ًرا جديدً ا ،م�سا ٌر عنوانه «للأبد» ،وبد�أنا
نكتب عن كل �شيء ..ما نحبه ،ما نكرهه ،ما يحبه �أهلنا ،ما يكرهونه،
�أيام الغفران وما يحدث فيها ،مدر�ستي القدمية ،عربة �أبي ومكتبته،
�صديقاتي القدميات،كل �شيء � ..أخربته �أنني من جويدا و�أخربين �أنه
من اجلنوب � ..أخربته �أنني ال �أملك �صديقات يف مدر�ستي اجلديدة
متاما يف ذلك � ..صار �صديقي الأوحد، بعد ،ف�أخربين �أنه ي�شبهني ً
و�صارت املدر�سة متنف�سي احلقيقي للبوح بكل �شيء ..
ما كنت �أتعجب منه حقا �أنه رغم ان�شغايل الذهني التام بندمي
�صار حت�صيلي الدرا�سي �أف�ضل كث ًريا عما كنت عليه قبله ،ونلت ثناء
املعلمني جميعهم على الرغم من قلة �ساعات درا�ستي املنزلية كل
9
م�ساء ..حتى ظننت �أن القدر قد �أعاد ذلك الفتى �إىل حياتي يف ذلك
قدما نحو حتقيق حلمي بااللتحاق باملدر�سة العليا
التوقيت كي يدفعني ً
لدار الق�ضاء يف چارتني.
()8
على نحو �أربعة �أ�شهر مل مير يوم درا�سي دون �أن نكتب �إىل بع�ضنا
البع�ض ..قل ٌم ر�صا�ص يكتب ..يقر�أ �أحدنا ما كتبه الآخر ،يقوم مبحوه
على الفور ليكتب ما يريد �إخبار �شريكه به � ..صرتُ �أكره �أيام الأجازات
املدر�سية و�أنتظر مرور �ساعاتها بفارغ ال�صرب ..حتى عندما �أُ�صبت
باحلمى �إثر التهاب حلقي �أ�ص ّرت �أمي علي تغييبي من املدر�سة لكني
كنت �أكرث �إ�صرا ًرا على الذهاب ،وفعلتُ ذلك وذهبتُ �إىل املدر�سة يغلي
يوما واحدً ا من حديثنا الذي �أحبه ..
ج�سدي من احلرارة كي ال �أ�ضيع ً
�أربعة �أ�شهر كان كل يوم منها يحمل معلومة جديدة عن الآخر ..
�أيام متتابعة مل نتحدث فيها وج ًها لوجه مرة واحدة� ،أو ي�سمع �أي منا
�صوت الآخر ..متنيت داخل نف�سي لو �أوقفته ذات مرة �أثناء تالقي
يوما
�أعيننا خارج املدر�سة وحتدثنا �أمام زمالئنا جمي ًعا� ،أو لو نلتقي ً
بباحة جويدا التي ال يحب �أن يزورها ،لكننا وا�صلنا حديثنا املكتوب ..
ولأن لكل طريق عقباته ،جاء ذلك اليوم يف نهاية ال�شهر الرابع
حني دلف �إلينا املعلم ،و�أخربنا �أن الأجازة املو�سمية �ستبد�أ بعد �أ�سبوع
من ذلك اليوم ملدة �شهر كامل ..فبدت الفرحة على وجوه جميع
الطالبات بالف�صل عدا وجهي الذي جتهم ،وبينما زادت همهمات
زميالتي ال�سارة من حويل بعد انتهاء املعلم من حديثه كان قلمي
الر�صا�ص يكتب على �سطح التختة دون مقدمات:
هل لنا �أن نتقابل بباحة جويدا يوم الغفران القادم؟
جاءين الرد يف اليوم التايل بكلمة واحدة فقط على اجلانب الأمين
من �سطح التختة:
نعم ..
وعلى اجلانب الأي�سر كتب:
�أين �سنتقابل ؟
فمحوت �س�ؤاله �سري ًعا يف فرحة ،وكتبت:
املدخل ال�شرقي الأو�سط ..
9
اعتقد �أنني �أكرث �أهل چارتني معرف ًة مبداخل وخمارج باحة جويدا
زحاما على الدوام بني
..وكنت �أعرف �أن ذلك املدخل هو الأكرث ً
مداخل الباحة الثمانية ،كما �أن �أبي و�أمي قد اعتادا الذهاب �إىل هناك
عرب املدخل اجلنوبي ،ومل �أردهما �أن يرياين تلك املرة ..
كان يوم الغفران بعد �ستة �أيام فقط من ذلك اليوم ..ق�ضيت �أربعة
منها يف حرية بالغة عن الثياب التي �س�أرتديها يومها ،كل ما جال يف
ذهني �أن �أبدو جميلة يف ذلك اليوم ..حتى انتهى بي الأمر �إىل ف�ستاين
ال�سماوي الق�صري ذي الأكمام الق�صرية واخل�صر ال�ضيق والذي يعرب
ركبتي بقليل ،وحذاء جلدي �أ�سود كانت �أمي قد �أهدته يل قبل �سنة وما
زال بحالة جيدة ..
ثم �أخربت �أبي �أثناء تناولنا الع�شاء ليلة يوم الغفران �أنني لن
�أرافقهما غد ذلك اليوم ..و�أردفت له عن اتفاق عقدته بيني وبني
زميالت مدر�ستي للقاء يف باحة جويدا بعيدً ا عن �أهالينا ..فاقرتح
�أن نذهب ثالثتنا �سو ًيا ثم �أفرتق عنهم هناك ،لكني حتججت ب�أنني
9
�س�ألتقي �صديقاتي مت�أخ ًرا ً
قليل عن بدء مرا�سم الباحة ،و�س�ألته �أن
قليل ثم رحب يذهب هو مع �أمي و�أن �أتدبر ذهابي مبعرفتي ..ففكر ً
بحديثي ،و�س�ألني �أن �أحر�ص على �سالمتي بني زحام الباحة ،فوعدته
بذلك ،غري �أن االرتياح مل يجد مو�ض ًعا على وجه �أمي.
كانت باحة جويدا تقع على م�سافة ميل ون�صف من بيتنا القدمي،
وكانت املرة الأوىل يف �سنواتي الأربع ع�شرة التي �أذهب بها �إليها
مبفردي دون �أبي ..ت�أكدت يف ال�صبيحة من مغادرة �أبي و�أمي ،ثم
انتظرت ً
قليل قبل �أن �أغادر بيتي �إىل هناك ..كانت هناك على الدوام
عربات خ�شبية جمرورة ب�أح�صنة تنقل �سكان چارتني �إىل الباحة مقابل
قدر �ضئيل من املال ،فالتحقت ب�إحداها خو ًفا من �إف�سادي لثيابي
وحذائي �إن قطعت الطريق �س ًريا على �أقدامي ..و�س�ألت قائد العربة
�أن ُينزلني علي بعد �أمتار قبل الو�صول �إىل حرم الباحة اجلنوبي الذي
تتجمع فيه العربات املجرورة اململوكة لأ�صحابها من �أهل چارتني ..ثم
اجتهت �س ًريا على قدمي �إىل اجلهة ال�شرقية عرب ممر ترابي بي�ضاوي
يحيط بالباحة ..
كان الزحام �شديدً ا كعادة �أيام الغفران يف ف�صل اخلريف ..
�ألوف من ال�سكان ،فتيان وفتيات ي�سريون حمت�شدين ..ن�سا ٌء ورجال
زحاما
و�أطفالهم ..ال يف ّوتون �أيام عيدنا ..وكان املمر ال�شرقي الأكرث ً
كعادته حتى �أنني خ�شيت �أال يجدين ندمي و�سط الزحام ،وندمت على
اختيار ذلك املدخل حتديدً ا.
كانت الباحة ُماطة ب�سياج حجري ترتا�ص علي قمته ر�ؤو�س
حديدية حادة للغاية ال مت ّكن �أحدً ا من عبوره دون �أن ُي�صاب ..كان
يحيط بها على امتداد حميطها عدا مداخلها الثمانية ..كان ذلك
ال�سياج ق�ص ًريا حيث ي�ستطيع من بداخل حميط الباحة ر�ؤية من
متاما ..حتى �أنه مع �أيام الزحام ال�شديد
بخارجها والعك�س �صحيح ً
9
وعدم وجود �أي حيز داخل الباحة كانت املمرات اجلانبية خارجها
متتلئ بالكثري من الأهايل الذين مل يتمكنوا من اللحاق ب�أماكن لهم
أرواحا لأطفالهن كان
داخلها ..غري �أن احلوامل ممن �أردن ح�صد � ً
عليهن التواجد داخل حميط ذلك ال�سياج الذي ال تعربه روح املعدوم.
والقادمني �إليها دون �أن �أجنو من تعليقات ال�شبان الذين مل يكفوا عن
م�ضايقة الفتيات ..ومر قليل من الوقت دون �أن يظهر ،وبد�أت �أ�شعر
ب�أ ٍمل يف مف�صل قدمي �سوا ًء من الوقوف علي �أطرافها �أو من تكرار
ده�سها من العابرين ،قبل �أن �أ�سمع �صوته للمرة الأوىل يناديني:
غفران ..
فالتفتُ نحو ال�صوت املميز و�سط �ضجيج الباحة ..كان هو ،يقف
على اجلانب الآخر من ال�سور داخل الباحة ،تعلو وجهه ابت�سامة
عري�ضة ،ف�ضحكت واجتهت �إىل داخل الباحة يف اجتاهه ،حتى اقرتبت
�صامتي لهنيهة ،قبل �أن
ْ منه ومل يعد بيننا �إال خطوة واحدة ،فوقفنا
ينطق:
كان الطريق �إىل هذه البوابة مزدح ًما للغاية فدلفتُ �إىل الباحة
إليك ..
عرب البوابة اجلنوبية ،وتخطيت احل�شود حتى �أ�صل � ِ
فهززت ر�أ�سي با�سم ًة دون �أن �أنطق ،كنت �أ�شعر �أن وجهي ي�شع
�صهدً ا حتى كدت �أ�س�أله �إن كان وجهي حمم ًرا �أم ال ..
كانت املرة الأوىل يف حياتي التي �ألتقي فيها �شا ًبا و�أحدثه وج ًها
لوجه ،و�أي �شاب ! ..ال�شاب نف�سه الذي تع ّلق به قلبي منذ �سنوات يف
ذلك املكان نف�سه ..دون �أن �أعرف ا�سمه �أو �صوته �أو �أي �شيء عنه ..
ح ّرك يده �أمامي بعدما طال �صمتي ك�أنه يت�أكد �أنني ما زلت واعية،
ف�ضحكت ،فقال وهو ينظر �إىل ثيابي:
ف�ستا ٌن جميل ..
قلت يف خجل:
ح ًقا؟!..
قال با�س ًما:
نعم ..تبدين جميلة للغاية ..
بوجه �أكرث احمرا ًرا:
قلت ٍ
�شك ًرا ..
كان النا�س يوا�صلون تدفقهم �إىل الباحة ،وارتطم بنا �أكرث من
�شخ�ص ،فقال ندمي:
هيا بنا ..
فاوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا ،فقال:
�أي مكان تف�ضلني؟
قلت و�أنا �أ�شري بيدي �إىل منت�صف الباحة:
متاما ..
املنت�صف ً
فوجدته مي�سك بيدي ،ثم بد�أنا ن�شق احل�شود �إىل و�سط الباحة
يف �صعوبة �شديدة ..كان ذلك املكان الأن�سب لنا ..بعيدً ا عن املكان
الذي ّ
يف�ضله �أبي مبقدمة الباحة ،كما �أنه يتو�سط البوابتني ال�شرقية
والغربية الو�سطتني �إن �أردنا الرحيل يف �أي حلظة ..كان ندمي يعتذر
�إن ارتطمت قدمه ب�أي �شخ�ص ،وبينما كان يعتذر هو كانت العيون
تتفح�صني �أنا ،مما زاد توتري ..حتى توقفنا يف منت�صف الباحة
خلف رجلني ق�صريين ..ثم دقت الطبول ،فهد�أ �ضجيج احلا�ضرين،
فقلت لندمي:
�ستبد�أ مرا�سم �إحدى الزيجات الآن ..
قال:
مل � ِآت �إىل الباحة منذ �أعوام ..
ف�س�ألته بتلقائية:
ملاذا ؟
قال:
ي�ستغرق طريقي �إىل هنا وقتًا ً
طويل ..وكانت �أمي مري�ضة
دائ ًما ..
قلت:
اها ..
ثم نظرت �إىل القائم اجلانبي الطويل الذي كان يت�شبث بقمته قبل
�ستة �أعوام ..كانت راية بي�ضاء كبرية قد ُعلقت على قمته ..فقلت
�ضاحك ًة و�أنا �أ�شري نحوها:
�أتتذكر مكانك �أم ن�سيت؟
فقال �ضاح ًكا وهو ينظر جتاهها:
بكل ت�أكيد ..
ثم �س�ألني بعدما ح ّول ب�صره �إىل املن�صة:
هل يعرف النا�س ماذا �سيحدث على املن�صة اليوم ؟
قلت:
ال ..
و�أردفتُ :
لكن �إن مل يكن هناك زواج �أو �إعدام �أحد املجرمني لن تخلو
املن�صة من عرو�ض املهرجني والبهلوانات والفرق الراق�صة ..
�سيبقى اليوم ممت ًعا على �أي حال � ..إنه يوم عيدنا ح ًقا ..
قال:
أنك حتبني هذا املكان كث ًريا ..
�أرى � ِ
قلت:
نعم ..
وكان القا�ضي الكبري الذي يقرتب عمره من اخلم�سني قد �صعد
�إىل مقعده على جانب املن�صة الأمين بعد �صعود اثنني من م�ساعديه،
فقلت:
�أتريد �أن �أخربك �س ًرا؟
قال:
نعم ..
قلت و�أنا �أ�شري �إىل القا�ضي:
�إن هذا حلمي ..
و�أكملتُ :
�أريد �أن التحق باملدر�سة العليا لدار ق�ضاء چارتني لأ�صبح
قا�ضية املن�صة ذات يوم ..
فابت�سم ،وقال:
�ست�صبحني �أ�شهر امر�أة بچارتني � ًإذا ..
فقلت �ضاحك ًة:
�س�أ�سعى �إىل ذلك بكل ت�أكيد ..
فقال:
�سيكون ذلك �شي ًئا ي�سعدين ..
فقلت:
وما حلمك ؟
ز ّم �شفتيه و�صمت ً
قليل قبل �أن يقول:
ال �أعلم ..مل �أمتلك حل ًما بعد ..
�س�ألته يف تعجب:
ح ًقا؟!
قال مفك ًرا:
لدي حلم ..
انتظري ّ ..
�س�ألته علي الفور:
ما هو؟
قال با�س ًما:
�س�أخربك به الح ًقا ..
فقلت يف غيظ:
لقد �أخربتك عن حلمي � ..أريد �أن �أعرف حلمك ..
فقال �ضاح ًكا:
الح ًقا الح ًقا ..
فزممت �شفتي مازحة ..ثم بد�أت املو�سيقا يف عزف حلن �أعرفه
عن ظهر قلب ،وبد�أ احلا�ضرون بالت�صفيق املتنا�سق مع ذلك اللحن،
وبد�أت �أ�صفق بيدي مثلهم ..ف�ضحك ندمي ،وقال:
زوا ٌج �أم �إعدام؟
قلت:
زوا ٌج بالطبع ..
ً
�سروال رماد ًيا .. ثم �صعد �إىل املن�صة �شاب عاري ال�صدر يرتدي
مي�سك بيد عرو�سه التي ترتدي ف�ستا ًنا �أبي�ض عاري الكتفني ..قبل
�أن يقفا �أمام اجلميع على املن�صة ،ثم ركعا على ركبتيهما ،ف�ضجت
ري من احل�شود بالتهليل والت�صفيق ،ود ّوت ال�صافرات التي �أطلقها كث ٌ
ال�شبان بالباحة ..ثم نه�ض القا�ضي الكبري وحترك على املن�صة يف
اجتاه احلافة القريبة من اجلمهور ..و�أعلن ب�صوته الذي مل ي�صلنا
من ال�ضجيج عن زواج ذلك ال�شاب ال�شريف بتلك الفتاة ال�شريفة من
�أهل چارتني ..لي�صري من بعدهما �أبنا�ؤهما �شرفاء خا�ضعني لقواعد
چارتني ح ًقا وواج ًبا ..لتعلو املو�سيقا املرحة من جديد ،بينما كنت
�أراقب بعيني ندمي الذي اندمج للغاية مع مرا�سم الزواج حتى �أنه �سكت
متاما عن احلديث ،فقلت:
ً
ما الذي يده�شك �إىل هذا احلد ..لقد تزوج كل �أهل چارتني
بهذه الطريقة ..
قال �ضاح ًكا:
نعم � ..أعرف ذلك ،مل �أ�شاهد املرا�سم منذ كنت ً
طفل
فح�سب..
ثم بد�أت عرو�ض فرقة البهلوانات على املن�صة بعد مغادرة
العرو�سني ،كان ثمة مه ّرجني ذوي وجوه ملونة و�شعر م�ستعار يقومون
بحركات وقفزات م�ضحكة بالتنا�سق مع املو�سيقا اخلا�صة بهم ..
كنت قد �شاهدت ذلك العر�ض ع�شرات املرات مثل باقي ح�ضور
الباحة لكن هذه املرة بالذات كنت �أ�ضحك كث ًريا ك ّلما ر�أيت ندمي
ي�ضحك على حرك ٍة يقوم بها �أحدهم ..ثم انتهت العرو�ض ال�ضاحكة
فانطلقت الأبواق املتقاطعة مع دقات الطبول ٌ ..
عزف �آخر نعرفه
جمي ًعا ..
مرا�سم �إعدام �أحد املذنبني ..فهد�أ �ضجيج احلا�ضرين مرة
�أخرى ،ثم �صعد �إىل املن�صة مع انتهاء العزف زو ٌج من اجلنود ..
يج ّرون امر�أة مغطاة الر�أ�س بغطاء قما�شي �أ�سود ،وتوقفوا مبنت�صف
املن�صة ثم قام �أحدهما بنزع غطاء الر�أ�س ،فان�سدل �شعرها على
وجهها ،قبل �أن ينه�ض القا�ضي جمددًا ..و ُيلقي خطا ًبا جديدً ا لي�صعد
�ضابط �إعدام الباحة �إىل املن�صة � ..أو ما ن�سميه «رامى املن�صة» ،ويقف
منت�ص ًبا كالقائم على ُبعد خطوات من تلك املر�أة ينظر �إىل احل�شود
لي�سود ال�صمت كافة الأرجاء ،فهم�ستُ �إىل ندمي ،وقلت:
�ست�سمع الآن �صوت البارود ،ومن بعده �ست�سمع �إحدى الزغاريد
ملن ح�صدت روح هذه املر�أة لطفلها ..
قال وهو يرتقب املن�صة:
�أعرف ذلك ..ل�ست غري ًبا عن هذا البلد � ..إنني چارتيني �أنا
الآخر ..
فقلت مازحة:
ح�س ًنا �أيها الچارتيني ..تو ّقع � ًإذا من �أي مكان بالباحة �ستُطلق
الزغرودة ..
قال:
ال �أدري ..
قلت:
�أراهنك �أنها �ست�أتي من هناك ..و�أ�شرتُ ناحية �شرق املقدمة،
فقال �ضاح ًكا:
وما قيمة رهانك � ًإذا ؟
�سكتُ ثم قلت:
مل �أفكر بقيمة الرهان ..مل �أراهن �أحدً ا من قبل ..لكن اخرت
مكا ًنا و�إن فزت �س�ألبي لك �أي طلب.
مكر:
قال يف ٍ
�أي طلب ؟!
قلت بثقة:
نعم ..
قال:
ح�س ًنا � ..ستُطلق الزغرودة من منت�صف الباحة ..على ُبعد
خطوات قليلة منا ..و�أ�شار ناحية مييننا ،فقلت:
�سرنى ..
و مل متر حلظات حتى انتهى القا�ضي من كلمته ،وا�ستدار الرامي
نحو املذنبة ،ورفع يده ب�سالحه الناري قبل �أن يدوي �صوت البارود يف
�سماء الباحة وي�سقط ج�سد املر�أة �صري ًعا مبو�ضعه ،ومعه ازداد ال�صمت
�صمتًا ..وك�سا الرتقب وجوه َمن بالباحة ،قبل �أن يقطع ذلك ال�سكون
زغرودة عالية طويلة �أُطلقت مبنت�صف الباحة على بعد خطوات من
متاما ..فنظرت �إليه يف باله ٍة
اجلهة اليمنى لنا ..كما �أ�شار ندمي ً
غري م�صدقة ،فقال:
لقد ربحتُ الرهان � ًإذا ..
كانت الده�شة ال تزال تعرتي وجهي ،ف�أردف:
الآن �أريد جائزتي ..
ف�أوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا يف انتظار ما يطلبه ..فقال وهو ي�شري نحو
اجلهة التي �أُطلقت منها الزغرودة:
9
انظري هناك ..
فالتفتُ نحو ما �أ�شار �إليه ..فطبع على خدي الأي�سر ُقبلة ..وانطلق
جر ًيا بني احل�شود.
()9
9
يوما ان�شغلت
ثم بد�أت الأجازة املدر�سية يومنا التايل ..ثالثون ً
بها مع �أمي ب�أعمال املنزل نها ًرا ،وق�ضيت �أم�سياتي مع �أبي نناق�ش كل
فتاي
ليلة كتا ًبا من كتب مكتبته� ،أما �أوقات ما قبل النوم فقد انفرد بها ّ
يوما وراء يوم دون �أن يتغري �أي �شيء ،حتى جاءكامل ًة ..ومرت الأيام ً
يوم الأجازة الأخري الذي وافق يوم الغفران اجلديد ..
حتججتُ �إىل �أبي و�أمي بحجة ال �أتذكرها � ..أعتقد �أنني �أخربتهم
عن اتفاق جديد مع زميالتي ب�أن نكرر لقاءنا يوم الغفران ال�سابق ..
كان �أبي مرح ًبا كعادته خا�ص ًة �أنني �أظهرت �أنني قد اكت�سبت �صديقات
جددًا وهو الأمر الذي كان يراه جيدً ا ..
يحتاج املرء يف چارتني �إىل �أ�صدقاء يف مثل عمره على الدوام ..
عند وقت ما لن يبقى �أي من الوالدين �أو الأقارب الأكرب �س ًنا ..لكن
�أمي �أ�صرت تلك املرة �أن �أرافقهما بعربة �أبي �إىل الباحة ..وهناك
ميكنني �أن �أفرتق عنهما ،على �أن �أعود �إليهما مع انتهاء مرا�سم
اليوم ..فقبلتُ مبا قالته ..ثم اجتهت مبجرد و�صويل جنوب الباحة
�إىل املكان ذاته الذي التقيت به ندمي قبل �شهر ..البوابة ال�شرقية
الو�سطى ،فوجد ُته يف انتظاري� .ضحك حني ر�آين �أقرتب منه ،فقلت
حم ّذرة له ب�سبابتي بعدما مد يده لي�صافحني:
ال قبالت ..
فوا�صل �ضحكه ،وقال:
عليك �أن تك�سبي الرهان � ًإذا ..
ِ
ف�ضحكت ،ثم �سرنا �سو ًيا �إىل داخل الباحة جتاه منت�صفها ..مل
إعداما واحدً ا ذلك اليوم ..بل كان �إعدام ثالثة مذنبني جميعهم
يكن � ً
رجال ..ومل يكن هناك زواج ،قلت:
�أتعرف ملاذا يكرث الرجال عن الن�ساء يف الن�ساىل؟
قال:
ملاذا؟
قلت:
لأن معظم املذنبني رجال ..
و�أكملت مو�ضح ًة:
تذهب روح املعدوم الذكر للجنني الذكر ..وكذلك روح الأنثى
للأنثى ..لوال تلك الن�ساء الالتي يرتكنب جرمية كل ب�ضعة
�أ�شهر ملاتت معظم الأجنة الإناث.
قال بغري اقتناع:
رمبا ..
ثم �أ�ضاف:
�إنه قد ٌر لي�س �إال ..
قلت �ساخرة:
ح�س ًنا �أيها احلكيم ..من �أي املناطق تتوقع �أن تنطلق الزغاريد
الثالثة اليوم؟
�صمت مفك ًرا ..ثم قال بجدية:
ميني املقدمة ..
و�أ�شار بيده �إىل هناك ،ثم تابع:
وي�سار املنت�صف -و�أ�شار �إىل ي�سارنا -كانت امر�أة حامل تقف
على بعد خطوات منا ..ر�أيتها تنظر برتقب بالغ نحو املن�صة
دون �أن يرم�ش لها جفن ..
ثم �صمت ً
قليل مرة �أخرى ،وقال هاد ًئا بعدها:
وجنوب الباحة ..لكني ال �أدري ي�سارها �أم ميينها ..
قلت له �ضاحكة:
عليك �أن حتدد و�إال تخ�سر رهانك ..
قال با�س ًما:
ي�سارها � ًإذا ..لكني لن �أرتّب لك �أي منهم �ستنطلق بالبداية،
أنت ماذا تتوقعني؟!و� ِ
�ضحكتُ وقلت:
�صحيحا مثل
ً ال ..لن �أتوقع� ،س�أرى فقط �إن كان توقعك اليوم
املرة ال�سابقة �أم ال ..
قال:
و�إن فزت؟!
قلت مازحة:
�س�أ�ضع يدي على خدي وقتها ..
ثم دوى �صوت الر�صا�صة الأوىل ،وهد�أت الأ�صوات من حولنا قبل
�أن تنطلق زغرودة من ال�سيدة بجانبنا حيث �أ�شار ندمي ..ف�ضحك
بثقة ،و�أنا ال �أ�ص ّدق �أن ذلك قد حدث ..ثم ُجر القتيل الأول �إىل خارج
املن�صة ..وبعد حلظات د ّوت الر�صا�صة الثانية ،فانطلقت زغرودة
باملقدمة لكني مل �أ�ستطع حتديد من �أي جهة انطلقت ،اجلهة اليمنى
�أم الي�سرى ،لكنها جاءت من املقدمة على �أي حال كما تو ّقع ،ثم
د ّوت الطلقة الثالثة ،و�ساد ال�صمت �أرجاء الباحة يف انتظار انطالق
الزغرودة الأخرية ،لكن ال�صمت قد طال دون �أن تنطلق �أي زغرودة،
فقال با�س ًما وهو ينظر �إ ّ
يل:
لقد خذلني اجلنوب ..
قلت:
مظلوما ..لقد ارتاحت روحه
ً �إنها روح طاهرة � ..أعتقد �أنه كان
للأبد ..
فهز ر�أ�سه �إيجا ًبا يف �صمت وهو ينظر �إىل جثة املعدوم الأخري ..ثم
�ضجيجا
ً بد�أت الهمهمات من حولنا ،وزادت �شي ًئا ف�شي ًئا حتى �صارت
أرواحا
وا�ضحا �أنهم قد جتاهلوا �أمر ال�سيدتني اللتني ح�صدتا � ً
ً ..كان
لأطفالهما و�صار حديثهم جمي ًعا عن الروح الثالثة التي ُج ِنبت العار ..
وكانت ال�شم�س قد حتركت عن منت�صف ال�سماء بقليل عندما دقت
املو�سيقا لتعلن عن بدء عرو�ض فرقة البهلوانات ،ف�أم�سك ندمي بيدي
ووجدته ي�سري بي ناحية البوابة ال�شرقية الو�سطى التي دلفنا عربها
قبل �ساعات ،ف�س�ألته متعجبة:
9
ما الأمر؟!
قال:
هناك مرج رائع بجوار الباحة تفقدته قبل �أيام ..
�سرنا عرب املرج ال�شرقي الذي يف�صل الباحة عن النهر اجلاف ..
هب ن�سيم منع�ش ُممل برائحة زهوره الربية ف�أدركتُ معه �أن وهناك ّ
متاما ..حتى توقفنا على �ضفةاختيار ندمي لذلك املكان كان �صائ ًبا ً
النهر اجلاف ..مل يكن يتواجد هناك وقتها �سوانا ،ثم جل�س �صديقي
مو�ضعه على حافة ال�ضفة ،و�أ�شار يل �أن �أجل�س بجواره ،فجل�ست ،و�ساد
ال�صمت ً
قليل قبل �أن �أ�س�أله بجدية:
كيف تعرف �أماكن انطالق الزغاريد؟!
فقال:
�صدفة لي�س �إال ..
قلت:
ال �أ�صدق ذلك ..ال ت�صيب ال�صدفة على الدوام ..
قال با�س ًما:
ح�س ًنا ..لقد خذلت �إحدى الأرواح �صدفتي ..
قلت:
روحا �آثمة حل�صدتها حبلى تقف باجلنوب
�أعتقد �أنها لو كانت ً
كما توقعت ..
قال �ضاح ًكا:
ل�ست عرا ًفا ..
قلت:
ح�س ًنا� ،سرنى ذلك �أيام الغفران القادمة ..
فهز ر�أ�سه با�س ًما قبل �أن ُيلقي بحجر �صغري جتاه الربزخ �أمامنا،
فتدحرج حتى ا�ستقر �أ�سفل منا بعيدً ا ..فقلت و�أنا �أنظر �إليه ،وكنت قد
�ضممت ركبتي �إىل �صدري و�أحطتهما بذراعي:
هل ر�سبت ح ًقا من �أجلي؟!
هز ر�أ�سه ،وقال:
نعم ..
فابت�سمت واحم ّر وجهي ،ونظرت بعيدً ا �إىل البيوت املتال�صقة على
اجلانب الآخر من النهر اجلاف ،وقلت بعدما �صمتُ لربهة:
كيف جاءتك تلك الفكرة ..فكرة املحادثة املكتوبة ..
قال:
قفزت يف خيايل فج�أة حني وقفت لك بجوار النافذة ..
فقلت �ضاحكة و�أنا �أتذكر ذلك اليوم:
متهور..
ثم لكمت كتفه بلطف ،وقلت:
�إياك �أن تفعل ذلك مرة �أخرى ..خ�شيتُ �أن يراك �أحد
املعلمني..
يل ..فو�ضعت يدي على خدي بعدما �شعرت �أنه ف�ضحك ونظر �إ ّ
ينوي تقبيلي مرة �أخرى ..فعاد بب�صره �إىل اجلانب الآخر من ال�ضفة
..فرفعتُ يدي عن وجهي ،و�س�ألته:
ماذا يعمل والدك؟!
قال:
لقد مات منذ �أعوام ..
قلت:
القاعدة الأوىل؟!
زاما �شفتيه:
لثوان ك�أنه يتذكر ،ثم هز ر�أ�سه وقال ً
�صمت ٍ
نعم ..
قلت يف حزن:
�سيموت �أبي �أي�ضا طب ًقا لها ..و�أردفتُ :
و�أمك ماذا تعمل؟
قال:
�إنها مزارعة ..
قلت:
ال تعمل �أمي ..تهتم ب�شئون بيتنا فح�سب ..
ابت�سم �شاردًا كعادته ذلك النهار ومل يقل �شي ًئا ..فقاطعت �شروده،
وقلت:
�سنعود �إىل مالذنا غدً ا ..التختة اخل�شبية ..
ف�ضحك وقال:
يوم غفران واحد �أف�ضل من عام كامل من املحادثة املكتوبة ..
قلت:
متاما ..
�أوافقك ً
ثم وثبتُ من مو�ضعي عندما توقفت �أ�صوات املو�سيقا البعيدة
ال�صادرة من الباحة ..وقلت و�أنا �أبتعد عنه مهرولة:
لقد انتهى يوم الغفران ..قالت �أمي �أنها �ستنتظرين ب�ساحة
العربات لنغادر �سو ًيا ..
وهرعتُ عرب املرج جتاه الباحة دون �أن انتظره كي ي�أتي معي،
ف�صاح �إ ّ
يل:
هل نلتقي يوم الغفران القادم؟
9
فا�ستدرت �إليه و�أنا �أجري ،و�صحت:
بكل ت�أكيد ..
ثم وا�صلتُ طريقي م�سرعة.
نعم � ..س�أرحل نهاية الأ�سبوع القادم ..
قلت يف ا�ستغراب ،و�أنا بالكاد �أمتالك نف�سي:
ملاذا؟!
قال:
�س�أرحل فح�سب ..لن يفيدك معرفة ال�سبب يف �شيء ..
ف�صرخت به:
�أريد �أن �أعرف ال�سبب ..و�أردفتُ و�أنا �أ�صرخ به:
مل يعد قرار الرحيل قرارك وحدك ..
ف�سكت برهة ،ثم قال:
�س�أمت عامي ال�ساد�س ع�شر نهاية الأ�سبوع القادم ..
وتابع بعد حلظة:
علي القواعد ..
لقد وجبت ّ
�س�ألته بعدما مل �أفهم مق�صده:
�أي قواعد؟!
�سكت حلظة �أخرى نظر فيها بعيدً ا نحو الباحة بعينني ملتمعتني
بالدموع ،ثم قال:
9
قواعد چارتني ..
ثم فك �أزرار قمي�صه ليك�شف �صدره ..كان ثمة و�شم �أزرق على
جانبه الأي�سر فوق القلب مبا�شرة ..مل يكن �إال و�شم الن�ساىل.
()10
«فاضل»
9
�أي نوبة من نوبات ال�صرع ،ثم �أعطيتُ �صالح خم�س قطع ذهبية
نظري ح�سن �ضيافته يل بالأيام ال�سابقة ،وحملتُ حقيبتي ،واجتهتُ
�إىل مدخل الوادي حيث �أخربين ر�سولها ب�أن عربة جمرورة بح�صان
متاما ..
�ستكون يف انتظاري هناك وقت الظهرية ً
كان يف انتظاري �سائق العربة ،رجل �آخر ثالثيني غليظ الوجه،
يرتدي �سرتة �سوداء بدون �أكمام تظهر ع�ضالته ال�ضخمة � ..س�ألني
ب�صوت �أج�ش حني اقرتبتُ منه:
الطبيب؟!
قلت و�أنا �أ�ضع حقيبتي على �سطح العربة:
نعم ..
كانت العربة ُمملة بحقائب قما�شية و�أجولة احتلت الن�صف
اخللفي من �سطحها بالكامل ،ف�أدركتُ �أن دميا قد وفرت لنا ما يكفينا
من طعام و�شراب خالل رحلتنا التي �ست�ستغرق �شه ًرا ً
كامل كما قالت،
كما �أن العربة قد ُ�سقفت ب�سقف قما�شي �أبي�ض كان كاف ًيا لوقايتنا من
حرارة ال�شم�س ..فقلتُ و�أنا �أ�صعد العربة لأجل�س على اجلانب الآخر
الذي ال يجل�س به ال�سائق:
�أين دميا؟!
قال:
9
�سن�أخدها يف طريقنا من وادي الغجر � ..إنها يف انتظارنا
هناك..
ثم لكز ح�صانه ،وبد�أت العربة يف حتركها ،لتبتعد رويدً ا رويدً ا عن
ذلك املكان الذي مكثتُ به ُقرابة �شهر.
كانت امل�سافة �إىل وادي الغجر كافية لبدء ثرثرة مع ال�سائق ،فقلت:
ما ا�سمك؟
قال:
�ص ّديق ..
قلت:
وكم تك ّلف الرحلة �إىل چارتني؟!
قال:
لل�سيدة دميا بدون مقابل ..
ثم �أردف:
كانت زوجة �أخينا ..
الغجري الذي مات قبل زواجهما،
ّ كنت �أعلم �أنها مل تتزوج ذلك
لكني يف احلقيقة �أعجبتُ م�ؤقتًا ب�شهامة ذلك الرجل ،وبد�أت رهبتي
من �ضخامته تقل ،و�أكملنا ثرثرتنا عن وديان بني عي�سى ك ّلما ظهرت
�أمامنا �أو على جانبينا جتمعات متناثرة من البيوت �أو الأرا�ضي
املزروعة ،ثم مر مزي ٌد من الوقت قبل �أن تظهر �أمامنا بع�ض اخليام
املتال�صقة خلف رقعة زراعية �صغرية ،ووجد ُته ينحرف بالعربة
جتاهها ،فت�ساءلتُ :
وادي الغجر؟
قال:
�إنها م�شارفه ..ت�سكن تلك اخليام عائلة واحدة� ،أما الباقي
فخلف ذلك اجلبل ،و�أ�شار نحو جبل كان يظهر يف الأفق ..
و�أكمل وهو يتجه بنا نحو اخليام:
لن ن�ضطر للدخول �إىل الوادي نف�سه � ..إنها تنتظرنا هناك ..
و�أ�شار �إىل اخليام القريبة ،ثم اقرتبنا من ذلك املكان ،فخرجت
9
لنا دميا على الفور من �إحدى اخليام ..وك�أنها ال تريد �أن ت�ضيع ثانية
فد�سها
واحدة �أعطت اللفة القما�شية التي كانت حتملها �إىل �ص ّديقّ ،
بني حقائب العربة ،ثم قفزت بخفة �إىل العربة خلفنا ،وقالت له:
لنبد�أ طريقنا �إىل چارتني.
ظل ال�صمت خمي ًما على العربة بعد التحاق دميا بنا ..مكثت
الفتاة �شارد ًة �أغلب الأوقات بينما ان�شغل تفكريي ب�أيامي ال�سابقة
التي ع�شتها بدون �أي عمل حقيقي ،وعن خط�أي باملجيء من الأ�سا�س
�إىل ذلك الوادي ،و�أيامي القادمة التي ال �أعرف كيف �ستكون ،وبد�أ
عقلي يك ّون �صو ًرا خمتلفة عن چارتني � ..صور ُم�شتتة ُمبهمة مل تكن
لتثبت �إال بر�ؤيتي لها ..مل �أكن �أدري �إن كانت ت�شبه بالدي التي تقوم
على بقايا ح�ضارة تال�شت� ،أم َ�ستُ�شبه وديان بني عي�سى ال�صحراوية
وبيوتها الفقرية املتناثرة فحدثتُ نف�سي؛ �شه ٌر واحد و�س�أرى بعيني� ،أما
�ص ّديق فبد�أ ي�ص ّفر حل ًنا بفمه ،وك�أنه �أراد �أن يك�سر �صمتنا اململ� ،إىل
�أن غربت ال�شم�س ،وح ّل الليل ،فتوقف بنا ،وقال:
�سنبيت هنا � ..سنتحرك نها ًرا فقط ..
م�صباحا زيت ًيا
ً ثم حرر ح�صان العربة ،وربطه مب�ؤخرتها ،و�أ�شعل
يل بقطعة قما�شية ملفوفة وغطاء �صويف كان ُمعل ًقا ب�أ�سفلها ،ثم �ألقى �إ ّ
ثقيل ،وفرد قطعة �أخرى لنف�سه بجوار العربة وا�ستخدم �إحدى احلقائب
كو�سادة ،واند�س �أ�سفل غطائه ،ففعلتُ مثله ،بينما نامت دميا مدثرة
بغطائها فوق العربة ،فتذكرتُ �أع�شابي فنه�ضتُ و�أيقظتها ،و�س�ألتُها
9
�أن تتناول ر�شفة واحدة من �إحدى الزجاجات ،ثم عدتُ �إىل فرا�شي
الأر�ضي ،ومل يتحدث �أي منا حتى �أ�سدلتُ جفوين.
وا�صلنا رحلتنا مع طلوع النهار ،ويف �أيامنا التالية بد�أ حديثنا يكرث
قليل ..حتدثتُ �إىل دميا عن حياتي يف بالدي ،بالد النهر القدمي ً
..تعجبت عندما �أخربتها �أنني مل �أجد فر�صة واحدة للعمل كطبيب
يف بالدي ،و�أخربتني �أنها من �أر�سلت �أحد �أتباع حبيبها بكي�س من
الذهب �إىل من اختارين لآتي �إىل بني عي�سى ،بالطبع مل تكن تق�صدين
�أنا بالذات ..لكن القدر َمن اختارين ،كانت تريد طبي ًبا من بالدنا
فح�سب ..هناك من �أخربتها عن مهارة �أطبائنا ،و�أردفت لتقول:
َمن �أر�سل الذهب �إىل َمن اختارك ،هو ذاته الذي �سيعود بك
�إىل بلدك ..
فقلت � ً
آمل:
�أمتنى ذلك ..
ثم حدثتني عن چارتني واحلياة بها ،وعن قواعدها الغريبة
بتفا�صيل �أكرث عن املرة التي حتدثنا بها عنها ..ف�س�ألتُها بت�شكك:
نلت ح ًقا روحك بتلك الطريقة؟!
هل ِ
قالت:
نعم ،و�أخي من �أمي كذلك ..
يف احلقيقة �أمام وعد بعودتي �إىل بالدي ،وكي�سني من النقود
الذهبية اخلال�صة كان البد من �إيقاف العقل عمدً ا عن ت�سا�ؤالته ،و�أن
�أ�ص ّدق كل ما تقوله حتى ن�صل �إىل وجهتنا ،وهناك �سيت�ضح كل �شيء،
وقلت:
ومن �صاحبة الروح التي �أخذ ِتها؟!
قالت:
ال �أعرف ..امر�أة مت �إعدامها فح�سب ،ال يهم َمن كانت ..
ت�ساءلتُ :
هل تتذكرين �شي ًئا عن حياتها ،ذكرياتها؟
قالت وهي تق�ضم قطعة من اخلبز:
الن�سلي �أي �شيء عن حياة �صاحب الروح الأ�صلية،
ّ ال ..ال يتذكر
�أي �شيء على الإطالق� ،إنها حياة م�ستقلة بذاتها ..
ثم قالت:
تظل الروح حاملة ل�صفاته ال�سيئة فح�سب� ،أرى �أن حاملة
روحي كانت تدمن ال�سرقة ..
و�أكملت �ضاحكة:
متاما ..
مثلي ً
فجال بخاطري �أكيا�س الذهب التي توزعها ،لكني وا�صلتُ حديثي
�إليها ،وقلت:
لكنك ال تتذكرين حتى َمن �أحبتهم �صاحبة الروح الأ�صلية؟!
قالت:
متاما
ن�سلي مب�شاعر جديدة ،تنتهي امل�شاعر ً
ال ُ ..يولد كل ّ
بانتزاع الروح من اجل�سد ..
قلت:
وهل تكفي الإعدامات لبقائكم؟
قالت:
حتى يومنا هذا تكفي ..ال يخلو يوم غفران واحد من الإعدامات
� ..سرتى �أنها �سنة احلياة هناك ..
قلت �ضاح ًكا:
9
�إنني مت�شو ٌق للغاية لر�ؤية ذلك البلد ..
فقالت وهي تغمز يل:
ال تقلق �س�أحقق لك ما تريده ..
مرت الأيام التالية جميعها مت�شابهة ..نتحرك نها ًرا ،نتحدث عن
أحلان خمتلفة ،نتوقف ً
ليل لننال �أي �شيء ،يوا�صل �ص ّديق ت�صفريه ب� ٍ
ق�سطا من النوم حتى طلوع فجر اليوم اجلديد ،فنوا�صل طريقنا ً
مل برائحة مرة �أخرى ..ثم ح ّل اليوم العا�شر ومعه بات الهواء ُم ً
يود البحر ،وبد�أ ال�سقف القما�شي يرفرف بقوة مع ن�سمات الهواء
املتوا�صلة ،ف�أدركتُ �أننا �شارفنا على الو�صول �إىل �شاطئ البحر ..
ثم ظهر امل�سطح املائي ال�شا�سع �أمامنا حني اتخذت العربة منحد ًرا
هبطناه ببطء �شديد ،كما ظهرت البنايات اخل�شبية التي ترتا�ص على
مقربة من ال�ساحل ..بينما وقفت ثالث �سفن �صغرية را�سية باملاء على
مقربة من ال�شاطئ ..
وا�صلت العربة اقرتابها حتى و�صلنا �إىل ال�شاطئ ،وهناك �أوقفها
�ص ّديق ،وتركنا ليقوم برتتيب كل �شيء مع �أ�صحاب ال�سفينة املتجهة
�إىل چارتني ،وغاب ً
قليل من الوقت قبل �أن يعود �إلينا ومعه رجل
ً
�سروال وا�س ًعا و�سرتة مفتوحة تك�شف بطنه الكبرية، ق�صري يرتدي
فقال الرجل:
ع�شرون قطعة ذهبية لكل فرد ،و�أربعون للعربة ..
كان ذلك املبلغ مبال ًغا فيه كث ًريا ..حتى دميا التي كانت تف ّرق
الذهب ك�أنها متتلك كن ًزا قد �أظهرت من التعجب على وجهها ما يوحي
ب�أنها مل تتوقع ب�أن يبالغ الرجل �إىل ذلك احلد ،وقالت معرت�ضة:
ري للغاية ..
�إن هذا كث ٌ
قال وهو ينظر �إىل بطنها:
لي�س كث ًريا مقابل طفل ن�سلي �أيتها الچارتينية ..
9
و�أكمل بل� ٍؤم وا�ضح:
تعلمني �أن �سعر هذا الطفل حني ُيولد �سي�صل �إىل �أ�ضعاف
م�ضاعفة من الذهب.
()11
�أتذكر �أنني مل �أجته �إىل الباحة �أو �ساحة العربات حيث كانت �أمي
تنتظرين ،بل وا�صلتُ هرولتي �إىل البيت مبا�شرة حتى و�صلتُ �إىل
�سريري بف�ستاين املرتب ،وان�سللتُ �أ�سفل فرا�شي يرتعد ج�سمي لأكمل
بكائي.
بعد �ساعات ُفتح باب غرفتي فج�أة ..كانت �أمي غا�ضبة ب�شدة،
و�صاحت بي بعدما زاد قلقها لعدم لقائي بها وب�أبي بعد انتهاء مرا�سم
اليوم ب�ساحة العربات كما كان اتفاقنا ،لكن تعابري وجهها الغا�ضبة
فزع �شديد بعدما ر�أت هيئتي ،وخا�ص ًة عندما
�سرعان ما حتولت �إىل ٍ
رفعت عني غطائي لتجد �أن ركبتي قد ُجرحت �إثر �سقوطي املتكرر
حذر:
�أثناء هرولتي ،ف�س�ألتني يف قلق ِ
بك؟!
غفران ..ماذا حل ِ
مل �أجب ..ظل وجهي جامدً ا �شاردًا ،فكررت �س�ؤالها وهي تتفح�ص
ركبتي والدماء املتجلطة عليها وعلى ف�ستاين:
ماذا حل بك؟!
ف�سالت الدموع على وجهي جمددًا ،قبل �أن �أقول و�شفتي ترجتف:
�إنني بخري يا �أمي.
قالت:
بك هذا؟
من فعل ِ
م�سحتُ دموعي ب�أ�صبعي ،وقلت:
ال �أحد � ..إنني بخري فح�سب ..
قالت:
لن �أتركك حتى تخربيني بالأمر ..
قلت و�أنا �أ�صرخ:
دعيني و�ش�أين يا �أمي ..ووا�صلتُ بكائي مرة �أخرى وقلت:
لك �أنني بخري ..
لك �أنني بخري � ..إنني بخري � ..أق�سم ِ
قلت ِ
فهزت ر�أ�سها �ضي ًقا ،ثم غادرت الغرفة وهي تقول:
9
عدت �إىل املنزل ..لقد
أنك ِ أبيك يخربه � ِ
�س�أر�سل �أحدهم �إىل � ِ
�آثر البقاء بال�ساحة خ�شية �أن تذهبي �إىل هناك فال جتدين �أ ًيا
منا ..
ثم �أغلقت الباب من خلفها.
مرت �ساعات �أربع قبل �أن �أنه�ض عن فرا�شي ،و�أجته �إىل غرفة
علي ..كان
�أمي ،كنت �أعلم �أنها لن تذوق للنوم طع ًما قبل �أن تطمئن ّ
�أبي نائ ًما بغرفته بعدما عاد �إىل املنزل ،ف�أدركتُ �أنها مل تخربه ب�شيء
عن حالتي ،ودلفتُ �إىل غرفتها بعدما �أذنت يل بالدخول ،كانت جتل�س
علي �سريرها ترتقب وجهي ،فوقفتُ �أمامها وقلت مبا�شرة و�أنا �أنظر
�إىل الأر�ض:
�إنني �أحب ن�سل ًيا ..
جزع �شديد مل �أ َر مثيله على وجهها من قبل:
فت�ساءلت يف ٍ
ماذا؟!
ب�صوت خمتنق بالدموع:
ٍ قلت
�إنني �أحب ن�سل ًيا ..
فوثبت من مو�ضعها ،وقالت وهي حت ّدق بي:
كيف؟! ..كيف حدث ذلك؟!!
فان�سابت الدموع من عيني ،وارمتيتُ يف ح�ضنها و�أنا �أن�شج بقوة ..
فربتت على ظهري ،ثم هد�أتُ �شي ًئا ف�شي ًئا ،وبد�أتُ �أروي لها ما حدث
بيني وبني ندمي منذ ر�أيته للمرة الأوىل خارج املدر�سة حتى ظهرية يوم
الغفران ذلك النهار.
ظلت �أمي �صامتة ال تنطق بكلمة واحدة ..كانت ت�سمعني فح�سب،
حتى انتهيتُ ف�سكتت للحظات ،ثم قالت و�أنا يف ح�ضنها:
الن�ساىل خائنون ..كاذبون � ..أنانيون ..كان يعلم من اليوم
لك كي يع ّلق
أنك امر�أة �شريفة ،ومع ذلك وا�صل غوايته ِالأول � ِ
قلبك به� ،شيطان من �شياطينهم ..
ال حتزين ..هذه هي احلياة ،ال بد و�أن منر بتجارب قا�سية
تع�صف بنا ،لتُثقل خرباتنا التي تعرب بنا �سنواتنا املتبقية
ب�أمان �..ستكربين ،و�ستتذكرين هذه الأيام لت�ضحكي عليها
ّ
و�سيدق بابنا الكثريون من الرجال إنك جميلة،فيما بعد ِ � ..
الأ�شراف لتكملي ذريتنا ب�أبناء �شرفاء يحملون دماءنا النقية ..
ال تذهبي �إىل املدر�سة الأيام القادمة � ..س�أذهب غدً ا لأخرب
أبوك كل جهدناأنك مري�ضة ..و�س�أبذل �أنا و� ِكبري املعلمني � ِ
أنك
مل�ساعدتك الفرتة القادمة يف درا�ستك ..و�أعدك ب� ِ
�ستحققني نتائج �أف�ضل من اختباراتك ال�سابقة ..
9
فهززتُ ر�أ�سي بابت�سامة حزينة ،ثم منتُ بجانبها � ..أتذكر �أن
�أحالمي يف تلك الليلة كانت كثرية ومت�شابكة للغاية ،غري �أن جميعها
كانت ت�ضج بجملة واحدة:
الن�ساىل خائنون ..
مل �أذهب �إىل املدر�سة الأيام التالية ..وحاولت �أمي �أن ت�شغل
وقتي بكل �شيء متاح� ،سواء ب�أعمال املنزل� ،أو ا�ستذكار درو�سي �سو ًيا
ب�ساعات �أكرث من املعتاد� ،أو اخلروج م ًعا ومع �أبي م�ساء بع�ض الليايل
لنتجول ب�شوارع جويدا امل�ضاءة بامل�صابيح الزيتية قبل التوجه �إىل
حانة قريبة كانت �إحدى الفرق البهلوانية تق ّدم عرو�ضها الفكاهية كل
م�ساءٍ هناك.
مل تخرب �أمي �أبي ب�أي �شيء ،كانت تعلم مدى القلق الذي �سينتابه
�إن علم بالأمر ..هذا �آخر �شيء كان من املتوقع �أن يحدث يف بيتنا ..
تعمدت �أمي �أن تقر�أ يل كت ًبا مبكتبة �أبي كانت جميعها تدور عن جرائم
الن�ساىل وخياناتهم و�إعداماتهم ،كانت تظن �أن ذلك �سيجعلني �أكرث
كرهً ا لندمي ..لكن ما حدث كان غري ذلك ،مع كل يوم كنت �أ�شتاق �إليه
�أكرث ،كنت �أعلم �أنه قد غادر جويدا ولن يعود حت�س ًبا الرتكاب �أي خط�أ
يودي به �إىل من�صة الباحة ،ولكنني متنيت لو مل يفعل ذلك.
دوما �أن هناك �شي ًئا به يختلف عن الن�ساىل كانت نف�سي حتدثني ً
الذين تقر�أ يل �أمي عنهم ..يكفي �أنه متعلم ومل �أ َر منه �أي �سوء ..لكن
نف�سي عادت لتقول:
ال يتعلق الأمر به ،بل بروحه الآثمة التي حتمل طبع الآثمني منذ
�آالف ال�سنوات ..
ثم راود خميلتي �أكرث من مرة وقوفه على من�صة الإعدام بينما
كنت �أنا قا�ضية املن�صة التي تعطي الإذن لرامي املن�صة ب�إطالق
الر�صا�ص على ر�أ�سه ،فينقب�ض قلبي ب�شدة ..
مل �أخرب �أمي �أنني ما زلت �أفكر به ،لكنها كانت احلقيقة ،مل �أ�ستطع
�أن �أبعده عن خيايل حلظة واحدة ،حتى �أحالم نومي �صارت جميعها
عنه ..
كنت �أقول لنف�سي �أنها �أعرا�ض ان�سحاب �ستقل مع مرور الوقت،
لكن ما كان يحدث �أنه ك ّلما مر يو ٌم زاد ا�شتياقي �إليه �أكرث ..ثم عدتُ
�إىل املدر�سة بعد انقطاع �شهر كامل الجتياز االختبارات النهائية لذلك
العام ،وك�أن القدر �أراد �أن ي�ساعدين على ن�سيانه ،وجدتُ مكاين قد
بف�صل �آخر ..وهكذا اختفت عن ب�صري ٍ مبقعد �آخر
ٍ تب ّدل و�صار
التختة اخل�شبية للأبد ،حيث كنت �أعلم �أن املدر�سة العليا يف العام
متاما ،بعيد عن تلك املدر�سة .. التايل �ستكون يف مكان �آخر ً
�صباحا ،ثم �أخرج من املدر�سة ظه ًرا �أنظر
كنت �أخو�ض االختبارات ً
�إىل الأر�ض �أثناء عبوري جتمعات الأوالد خارج املدر�سة ..كنت �أعلم
9
�أنه غري موجود بينهم ،لكني مل �أرد �أن �أعطي لنف�سي فر�صة واحدة
متاما
حتى ،ثم �ألتحق بعربة �أبي �إىل بيتنا ليتكرر كل يوم مثل �سابقه ً
..حتى انتهت االختبارات ،ونلنا الأجازة املو�سمية التي متتد ل�شهرين
كاملني ،وبقينا يف انتظار النتائج لاللتحاق باملدار�س العليا ..
ثم تابع:
رما �صغري ..ف�سي�صبح م�صريه لكن �إن تكرر الأمر ،وارتكب ُج ً
الإعدام ..لي�س ذلك فقط ،بل �س ُيحال �أوالده �إىل �صفة الن�سلية
مثله لأنهم يحملون دمه � ..إنه �أم ٌر ُمعقد� ،أن يظل م�صري عائلة
كاملة مرتبط ب�سلوك عائلها ومدى حتجيمه لروحه ..
ت�ساءلت:
لكن ماذا �إن مل يرتكب �أي جرم طوال حياته؟!
قال:
وقتها ي�ستحق �أن ميوت كال�شرفاء ..حتمل ذريته من بعده
كامل ال�شرف ..لكني يف احلقيقة مل �أ َر �أو �أ�سمع عن ذلك
طوال �سنوات عمري ال يف جويدا وال يف �أي مدينة �أخرى من
مدن چارتني.
قلت:
رمبا لأن �أحدً ا مل ينل فر�صة ..
قال:
ال ي�ستطيع �أحد �أن ي�سري على ال�صراط امل�ستقيم مدى حياته
� ..إن الب�شر بطبعهم خطائون ،فما بالك بالن�ساىل ..كنا
حمظوظني بكوننا �شرفاء ..يتجاوز الكثري عن �أخطائنا � ..أما
�أن تعي�ش حياتك كلها يف خوف من ارتكاب خط�أ واحد � ..إنها
حلياة بائ�سة ،ال متعة فيها ..
و�أردف:
لو كنت واحدً ا منهم لف�ضلتُ �أن �أق�ضي حياتي كاملة يف وديانهم
جوعا.
املقفرة ولو كلفني ذلك املوت ً
فكررتُ جملتي:
لكن لو نال �أحدهم فر�ص ًة ،و�سار على ال�صراط امل�ستقيم كما
تقول ،دون ارتكاب خط�أ واحد �سيموت �شري ًفا ..
9
قال:
نعم ..
فهززتُ ر�أ�سي مبت�سمة ،ونه�ضتُ منفرجة �أ�ساريري ..وتوجهتُ �إىل
غرفتي يدق قلبي بفرحة كنت �أظن �أنها لن ت�أتي مرة �أخرى ..
�صفة دنيئة من �صفات ه�ؤالء اال�ستغالليني ،حني �أدرك �أن عليه الذهاب
�أخربين بذلك فح�سب ..وقلت و�أنا �أهز ر�أ�سي �إيجاب ًا ل�صورتي باملر�آة:
علي �أن �أطالبه فعل ال ً
قول،كان ّ �إنني �أحبه ..و�إن كان احلب ً
بالبقاء ،و�أكون �سبيله للتخل�ص من عاره الذي الحقه �سنوات
عمره جميعها ..
ثم تخيلته �أمامي يف الغرفة ،فنظرتُ �إليه ،وقلت:
هل ت�ستطيع �أن تخو�ض معي الرهان الأكرب بحياتنا ،وتعي�ش
معي دون ارتكاب �أي خطيئة حتى تبلغ عامك اخلم�سني؟!
وقبل �أن يرد ،قطع تفكريي طرقات �أمي على باب غرفتي ،ف�أجفلتُ
على ،ف�أجبتها:
..ثم كررت طرقاتها ونادت ّ
�إنني هنا يا �أمي ..
ونه�ضتُ ،وفتحتُ بابي ،فقالت:
لقد ظهرت نتائج اختباراتك باملدر�سة املتو�سطة ..
9
فنظرتُ �إليها يف ترقب ،ووم�ضت يف عقلي املدر�سة العليا للق�ضاء،
يل ب�صوت هادئ ،وك�أنها كانت تدرك �أن حلم حياتي قد ف�أكملت �إ ّ
تبخر:
لقد مت اختيارك لاللتحاق باملدر�سة العليا ل�ضباط الأمن.
()12
9
البوابة ال�شرقية الو�سطى و�أتخطاها نحو املرج ال�شرقي ..قابلني
ن�سيمه ك�صديق يرحب بي بعد غياب طويل ،فملأتُ �صدري بهوائه،
عاما
يوما �أو اثنني ،كان ًو�أكملتُ طريقي جتاه النهر اجلاف ،مل يكن ً
ً
كامل هنا ..
ثوان قليلة تذكرتُ كل الأحاديث التي دارت بيننا عند ذلك يف ٍ
املكان ..مل يكن يتحدث كث ًريا ..لكني كنت �أحب ذلك ال�صمت
الطويل الذي دائما ما تخلل حديثه ..متن ُيت لو كانت الظروف �أف�ضل
وكان �شري ًفا مثلي ،لكن ليتنا نحقق كل ما نتمناه � ..أم�سكتُ حج ًرا
�صغ ًريا ،ودحرجته �إىل جرف �ضفة النهر كما تع ّود �أن يفعل ..ثم
جل�ستُ مو�ضعي على رقعة �صغرية من الع�شب اجلاف ،و�ضممتُ ركبتي
�إىل �صدري ،ونظرت �إىل البيوت البعيدة على اجلانب الآخر من برزخ
النهر ..وغ�صتُ يف �شرودي و�أفكاري املتعلقة ب�أيامي ال�سابقة هناك ..
وكان �صوت البارود قد دوى بال�سماء ف�أفاقني من �شرودي ،قبل �أن
�أ�ستدير فج�أة حينما �شعرتُ ب�أقدام تدو�س الع�شب من خلفي ،ولوال �أن
متا�سكت قدمي التي تراجعت من املفاج�أة وانزلقت ،لكنت قد �سقطتُ
من على حافة املنحدر بعدما وجدته يقف خلفي ..عاري ال�صدر،
9
يك�شف عن و�شمه كما تن�ص القواعد ب�أن يك�شف الن�سلي عن و�شمه
بعد عبوره ال�ساد�سة ع�شر طاملا تواجد باملدينة -يك�شف الذكر �صدره
وتك�شف الأنثى كتفها الأي�سر -وك�أن الكلمات جميعها قد تطايرت من
ل�ساين وقفتُ �صامتة �أمامه ال �أنب�س ببنت َ�ش َفة.
فكرتُ يف �أن �أغادر لكن هذا ما مل يرده داخلي ..كنت �أعلم نف�سي
جيدً ا ..كان ذلك ال�شعور الذي طاملا �أحببته قد بد�أ ي�سري يف ج�سدي
بعد زوال ارتباك املفاج�أة ..فرح ٌة وبهج ٌة تختلفان عن �أي فرحة
وبهجة �أخرى ..لكني بقيتُ �صامت ًة وبقي هو الآخر �صامتًا ،قبل �أن
يقول بوجه جامد:
أخربتك ذات يوم �أنني ال �أعد بوعد ال �أ�ستطيع تنفيذه ..لذا
ِ �
وعدتك م�سب ًقا ..لكنني كنت قد
ِ أخربتك عن رحيلي كما ِ �
وعدتك � ً
أي�ضا ب�أن �أبقى بجوارك للأبد ..
و�سكت ،فقلتُ �ساخرة:
�أي �أبد؟! � ..سنواتك حتى قدومك �إىل املن�صة ُم ً
كبل؟ ..
فنظر �إ ّ
يل يف حرج ،فتابعتُ ك�أنني �أعتذر:
�أم �سنواتك اخلم�سني؟!
فارتبك وك�أنه مل ينتظر �أن �أ�س�أله مثل ذاك ال�س�ؤال ..ثم قال دون
مقدمات وهو ينظر �إىل الأر�ض:
ال تتيح قواعد چارتني زواج الرجال قبل بلوغ منت�صف العمر ..
و�صمت ثانية و�أكمل:
هل تقبلني بالزواج مني �إن و�صلتُ عامي اخلام�س والع�شرين
دون جرمية؟
ف�أجبته م�سرعة دون تفكري وك�أنني كنت �أنتظر منه ب�أن ينطق تلك
اجلملة دون �أي حديث �آخر:
هل لك �أن تعدين ب�أن تظل نق ًيا حتى بلوغك ذلك العمر ؟ ..ثم
بقائك معي نق ًيا حتى يحني موعد رحيلك؟!
فهز ر�أ�سه وقال:
نعم � ..س�أفعلها من �أجلك ..
قلت:
�أتعدين بذلك؟!
قال:
نعم �سيدتي � ..أعدك ..
قلت:
ل�ستُ �سيدتك يا ندمي ..افعلها من �أجلي فح�سب ..و�أنا �س�أزيل
بخنجر �أمام �أهل چارتني جميعهم ..
ٍ هذا الو�شم
مازحا:
فابت�سم �أخ ًريا ثم قال ً
و�إن نكثتُ وعدي؟!
قلت بكل جدية:
�س�أقتلك باخلنجر ذاته �أمام �أهل چارتني � ً
أي�ضا ..
كان ح ًبا �أم جنو ًنا؟! ..مل �أفهم نف�سي حلظتها ..ما كنت �أعرفه
�أنني كنت �أكرث �سعادة من �أي وقت م�ضى .لقد قبلتُ بذلك التحدي ..
لن �أقبل بالزواج من �أي رجل چارتيني طاملا كان ندمي على قيد احلياة
..و�إن مرت �أعوامه الت�سع املتبقية دون و�صوله �إىل من�صة الإعدام ف َمن
غريه ي�ستحق �أن ينال حيا ًة �شريفة ..ثم �س�ألته بعدها عما يفعله ،قال
�أنه �سيم�ضي �سنواته يع ّلم ن�ساىل الوديان ما تعلمه يف مدار�س چارتني،
ت�ساءلتُ :
ملاذا ال يفعلون مثلك؟!
�أجابني:
�إن الأمهات هناك ال ترى فائدة للعلم طاملا امل�صري واحد ..
كانت �أمي تختلف عنهن و�أ�صرت على تعليمي ..و�س�أ�صر �أنا
على تعليمهم � ..سيكون العلم �سبيلهم الوحيد للنجاة من
من�صة الباحة ..
انده�شتُ ب�إعجاب من حديثه ،وقلت:
�أرى �أنك متفائل ..
قال بجدية:
�أعلم �أن الأمر �سيكون �صع ًبا ..لكنه لن يكون �أكرث �صعوبة من
وعد بالزواج من امر�أة �شريفة ..ٍ
ف�ضحكتُ ،وقلت:
وبعد الت�سع �سنوات؟!
قال:
معك ..
�س�آتي �إىل املدينة هنا للعي�ش ِ
فقلت �ساخرة عن رغبته بتعليم غريه من الن�ساىل:
وترتك حلمك؟!
وكانت املرة الأوىل التي �أحتدث معه عن حلمه ..فقال �ضاح ًكا:
وقتها �س�أكون قد ع ّلمتُ من ي�ستطيعون حمل امل�سئولية من
ورائي ..
فقلت مبكر:
� ًإذا �سنعي�ش �سو ًيا يف جويدا بعد ت�سع �سنوات ..
قال:
نعم ..امر�أة �شريفة ورجل �شريف ..
فقلت حمذرة ب�سبابتي:
تعلم القواعد جيدً ا؟!
قال:
اطمئني � ..إنني �أحفظها عن ظهر قلب و�أعيها جيدً ا ..كنت
متفو ًقا يف درو�سي للغاية ،ر�سبتُ من �أجلك فقط ..
ف�ضحكتُ ،ثم �أخربته عن التحاقي مبدر�سة ال�ضباط ب ِقباال ،و�أنني
�س�أغيب �ستة �أ�شهر كاملة بداية من الأ�سبوع القادم ،فقال:
ح�س ًنا � ..س�أنتظرك هنا بيوم الغفران لل�شهر ال�سابع من اليوم..
فقلت با�سمة:
و�أنا �س�آتي من �أجلك ..
فقال يف حما�س:
�س�أخربك يومها كم علمتُ من الن�ساىل ..
ف�ضحكتُ من احلما�سة التي حتدث بها ..ثم هد�أت مو�سيقا الباحة
ف�أدركتُ �أن املرا�سم يف طريقها �إىل االنتهاء ،فمددتُ يدي له و�أنا
�أغادر ،وقلت بكل �صدق:
�أمتنى �أن حتافظ على وعدك يل يا ندمي ..
فقال:
�س�أفعل ذلك ..
ف�أوم�أتُ بر�أ�سي ،ثم غادرتُ جتاه الباحة مبفردي ..واجتهتُ �إىل
�ساحة العربات ،وارتقيتُ عربتنا يف انتظار �أبي و�أمي ،حتى جاءا بعد
وقت قليل � ..س�ألتني �أمي عما فعلته� ،أخربتها �أنني جت ّولتُ باجلوار
فح�سب ،مل �أخربها �شي ًئا عن ندمي� ،صار ذلك الوعد منذ تلك اللحظة
�شي ًئا يخ�صنا نحن االثنني فقط ..ال يخ�ص �أ ًيا �سوانا ..لن يخرج
عن داخلي حتى يوم الغفران بعد ت�سع �سنوات ..وقتها �س�أعلن �أمام
9
ه�ؤالء الب�شر جمي ًعا � ..أن ذلك الفتى الذي �أحببته و�أحبني �صار �شري ًفا
مثلهم يتمتع بحقوق �أهل چارتني كاملة عما فعله من �أجلي طوال تلك
ال�سنوات.
()13
ما زلت �أتذكر اليوم الأول يل يف مدر�سة ال�ضباط� ،أ�صر �أبي �أن
ي�صحبني بعربته �إىل هناك ..حتركنا من جويدا مع منت�صف الليل
متاما ،وو�صلنا �إىل « ِقباال» مع ظهرية اليوم التايل ..كانت املرة
ً
الأوىل التي �أرى فيها جدار چارتني العظيم بعيني املجردة بعدما مر
الطريق هناك مبحازاته ،كان �أ�ضخم كث ًريا مما تخيله عقلي طوال
مفتوحا من انبهاري بعظمة بنائه
ً �سنواتي املا�ضية ،حتى �أن فاهي ظل
وب�أحجاره ال�ضخمة التي قد يده�س احلجر الواحد منها ع�شرين ً
رجل
�إن �سقط فوقهم ..
�أما ِقباال فكانت مدينة �صغرية للغاية مقارنة بجويدا ،غري �أن
زحاما ،وهناك توقف �أبي �أمام بوابة
�شوارعها كانت �أو�سع كث ًريا و�أقل ً
حديدية تنت�صف �سو ًرا طوب ًيا مرتف ًعا كان ميتد بعيدً ا على جانبيها،
ويحمل عددًا من الأبراج على م�سافات مت�ساوية يقف بكل برج منها
جندي يحمل �سالحه الناري ،مل تكن �إال مدر�ستي اجلديدة.ّ
ودعني �أبي ووعدين �أنه �سي�أتي لي�صحبني �إىل منزلنا بعد �ستة
�أ�شهر ،فودعته وغادرتُ العربة ،و�سرتُ بف�ستاين الذي قابلتُ به
9
ندمي املرة الأويل �أحمل حقيبتي جتاه البوابة ،ثم �صاح اجلندي الذي
يقف ب�أقرب �أبراج ال�سور فج�أة ،قبل �أن ُتفتح البوابة احلديدية على
حذرة يدق قلبي
م�صراعيها �أمامي لأعرب �إىل الداخل بخطوات بطيئة ِ
بقوة ،وك�أنني قد عربتُ �إىل منطقة �أخرى من حياتي ..
9
الواحدة ع�شرة من ال ِأ�سرة املزدوجة ،يحمل كل �سرير فوقه فتا ًة تغط
نوم
يف نوم عميق ،ف�أويتُ �إىل �سريري بعدما بدلتُ ف�ستاين بثياب ٍ
ً
وبنطال -لت�صبح املرة الأخرية التي ا�ستلمتها هناك � -سرتة قطنية
�أرتدي بها ف�ستا ًنا ..
مع اليوم التايل �صار كل �شيء �أقوم به وفق بوقٍ ثابت ..مواعيد
اال�ستيقاظ ،مواعيد التدريبات ،مواعيد الطعام ،مواعيد الدرو�س
النظرية ،مواعيد النوم ،كل �شيء باملعني احلريف ال بد و�أن ي�سبقه
ذلك البوق ..
طويل للغاية� ،أن ت�ستيقظ مع �شروق ال�شم�س وتظل �صار اليوم ً
قائ ًما ب�أ�شياء كثرية متتابعة حتى موعد طعام الع�شاء ،ثم ت�أوي �إىل
فرا�شك ليغم�ض جفنك يف حلظات من التعب ،ثم يبد�أ يومك التايل مع
ثوان قليلة ،وتع ّد �سريرك وتقف منت�ص ًبا بجواره
البوق ذاته لتنه�ض يف ٍ
حيث �ستمر �ضابطة الأمن امل�سئولة عن الغرفة ملعاقبة َمن مل ت�ستيقظ
�أو مل تعد �سريرها ،قبل �أن ُيطلق بوق جديد لنب ّدل ثياب نومنا ب�أخرى
خم�ص�صة للتدريبات الريا�ضية ،ونغت�سل �سري ًعا ،ثم نندفع ً
رك�ضا �إىل
�ساحة ا�صطفاف الطالب حيث ن�صطف جمي ًعا ذكو ًرا و�إنا ًثا لنبد�أ
تدريباتنا ..
وع َل ْقتُ به ..مل ت�ستطع
كان الأمر �أ�شبه بالكابو�س الذي وجلتُ �إليه َ
�أغطية الر�أ�س �أن تقينا حرارة ال�شم�س ال�شديدة ..و�صارت التدريبات
اليومية عنا ًء حقيق ًيا ال بد منه ..كانت الرمال من �أ�سفلنا �ساخنة
للغاية ،حتى ظننتُ �أن يدي �أو�شكت على االحرتاق مع تدريبات �أيامي
الأوىل ،وبات وجهي �شديد احلمرة ثم ا�ستحال لونه �إىل الأ�سود ،و�صار
�شعري ً
ها�شا للغاية مع حرارة ال�شم�س ..
مع �أ�سابيعي الأوىل انخف�ض وزين ب�صورة �شديدة حتى �أنني ذهبت
مرتني �إىل خياط املدر�سة من �أجل ت�ضييق مقا�ساتي ،ومع مرور
الأ�سابيع �صار كتفاي �أكرث ً
عر�ضا ،و�أ�صبحت ذراعاي �أكرث قوة ،وبد�أت
9
الدهون يف ج�سدي تت�شكل من جديد فق ّل حميط خ�صري ب�صورة
ملحوظة حتى �شعرتُ �أنني �صرتُ �أكرث ً
طول ،ورغم �أن الأمل الذي كنت
�أ�شعر به مع التدريبات �أخذ يقل كل يوم عن اليوم الذي ي�سبقه ظل
بكابو�س ال يفارقني حلظة واحدة ..
ٍ تفكريي ب�أنني عالقة
يوما بعد يوم بد�أتُ �أتعرف على رفيقات غرفتي ،و�صار الوقت ً
القليل الذي يف�صل بني وجبة امل�ساء وموعد النوم حلق ًة لل�سمر بيننا
..نتحدث عن �أ�شياء كثرية كان �أغلبها عن الفتيان ..
ق�ص�صا كثرية من بع�ضهن مل �أ�صدق �أنها قد حتدث ..كان
ً �سمعتُ
وجهي يحمر ً
خجل من تلك اجلر�أة التي امتلكنها ،حتى �أن �إحداهن
�أخربتنا �أنها مار�ست الرذيلة مع فتاها ذات مرة ،وكادت متوت قه ًرا
بعدها ،خ�شية �أن حتمل بطفل ي�صري ن�سل ًيا ،لكنها جنت من ذلك ومل
حتمل ..
وقالت �ساخرة:
مل �أذهب �إىل باحة جويدا ت�سعة �أ�شهر كاملة خو ًفا �أن يكون
روحا ن�سلية ..
حمل ،وينال طفلي ًهناك ً
و�أكملت بتقزز:
ن�سلي؟!! كنت �أقتله و�أقتل نف�سي �أف�ضل من ذلك ..
وقتها ال �أعلم ملاذا �أ�صابني ال�ضيق واال�شمئزاز ،وان�سحبتُ من
النقا�ش �إىل �سريري ..كانت املرة الأوىل التي �أ�شعر فيها �أن التقزز من
الن�ساىل ك�أنه تقزز من ندمي ..مل �أعد �أفهم نف�سي� ،أنا التي كنت �أكره
الن�ساىل كرهً ا ال حدود له �صار مع �أي �إ�ساءة من �إحداهن لهم مي ّثل
9
�ضي ًقا حقيق ًيا بداخلي ،ال يزول �إال بعد وقت طويل ..يومها و�ضعتُ
غطائي على ر�أ�سي ،وبد�أتُ �أفكر يف ندمي وهو يعمل معل ًما يف عامه
ال�ساد�س ع�شر ،ويقوم بتدري�س عددًا ال ب�أ�س به من �أطفال الوديان
حتى ان�سدلت جفوين.
9
�ضباط و�ضابطات ي�صرخون بنا ،كل �شيء �سريع ،كل �شيء ثابت ،يو ٌم
واحد مكرر ب�أحداثه ،ب�أفراده ،بجماده � ..أيام متر� ،أ�سابيع� ،أ�شهر.
�إىل �أن ح ّلت �أجازتنا الأوىل بعد �ستة �أ�شهر � ..أ�سبوعان من احلياة
القدمية جمددًا ،كنت �أظن �أنني لن �أدركها �أبدً ا ..
كان الهواء خارج ال�سور يختلف عن داخله ،عب�أتُ �صدري بالهواء
و�أنا �أ�سري بحقيبتي مع غروب ال�شم�س بني الطالبات مبتعدة عن البوابة
التي �أُغلقت من خلفنا ..كان �أبي يف انتظاري كما وعدين� ،ضحك وهو
يحت�ضنني ،وقال:
يبدو �أن ابنتي قد كربت �أخ ًريا ..
قلت:
لقد �أ�صبحت ابنتك ذك ًرا ..
�ضحك وق ّبل جبيني ،ثم حمل حقيبتي �إىل عربته ،وانطلقنا يف
طريقنا �إىل جويدا ،ومل يتوقف عن طرح �أ�سئلته عما مررتُ به داخل
تلك اجلدران ،ثم تركني للنوم مع حلول امل�ساء بعدما �أُغلقت جفوين ال
�إراد ًيا يف املوعد ذاته الذي اعتدتُ فيه النوم خالل الأ�شهر ال�سابقة ..
تغي ،لكنني وجد ُته كما هو .. كنت �أظن �أن الكون باخلارج قد ّ
البيوت نف�سها يف جويدا ،النا�س نف�سهم ،الأطفال الالعبون بكراتهم،
يوما واحدً ا فقط وعدت ،مل يتغري �إال �أنا ..
ك�أنني تركتهم ً
ثم �أفقتُ من �شرودي على �صراخ �أمي حني ر�أتني وهي تقف ب�شرفة
منزلنا قبل �أن تعود �إىل الداخل م�سرعة ،وتظهر �أمام باب بيتنا،
لأهبط العربة و�أ�سرع ً
رك�ضا �إىل ح�ضنها ،فرتكت كل �شيء ،وهم�ست
يف �أذين:
حلقت بيوم غفران هذا ال�شهر ..
متنيت ..لقد ِ
كما ِ
كنت �أعلم ذلك ..كان اليوم ذاته هو يوم الغفران ،كنت �أح�سب
الأيام جيدً ا ،و�شعرتُ بفرحة عارمة ملّا علمتُ �أن موعد �أجازتي تلك
املرة �سيوافق امل�ساء ال�سابق ليوم الغفران وهذا ما حدث ..ق�ضينا
�صباحا �إىل مدينتنا
الليل كله يف طريقنا من ِقباال �إىل جويدا ،وو�صلنا ً
لأحلق بذلك اليوم ..
ً
م�ستيقظا طوال قرر �أبي �أن ي�سرتيح من عناء ال�سفر بعد بقائه
الطريق ليلتنا املا�ضية ،بينما �أخربتني �أمي �أنها �سرتافقني �إىل
طعاما كانت قد �أع ّدته من �أجلي ،فتناولتُه على
الباحة ،و�أح�ضرت يل ً
نحو �سريع ،ثم اجتهنا �سو ًيا �إىل الباحة ب�إحدى العربات املخ�ص�صة
للذهاب �إىل هناك مقابل �أجر ب�سيط.
داخل نف�سي مل �أحب �أن ترافقني �أمي لكني مل �أ�ستطع منعها من
ذلك ..كنت يف الطريق �إىل هناك ال �أفكر �إال ب�شيء واحد ،كيف
�س�أحتدث �إىل ندمي و�أمي �إىل جانبي ..ولأنني �أعرف �أمي جيدً ا ،كنت
�أعلم �أنها لن توافق على رحيلي لبع�ض الوقت كما كان يفعل �أبي ،فلم
�أجد �إال �أن �أ�ست�سلم للواقع و�أنتظر �أي فر�صة قد ت�سنح ..
عندما و�صلنا الباحة وجدتُ �أمي تقب�ض على يدي ،وتريدنا �أن
ن�صل �إىل املقدمة بالقرب من املن�صة ،لكني تلك�أتُ وحتججتُ �إليها
ب�أن منت�صف الباحة �أف�ضل كث ًريا ،و�أ�صررتُ على ر�أيي حتى ان�صاعت
لكالمي ..وجودنا مبقدمة الباحة كان يعني انعدام فر�صة �أن يراين
ندمي� ،أما منت�صفها فقد ي�أتي �إىل هناك بعد ت�أكده من عدم ذهابي
�إىل املرج ال�شرقي ،وهذا ما حدث بالفعل ..
مرت �ساعات قليلة ونحن ن�شاهد مرا�سم اليوم ،كانت �أمي منتبهة
للغاية مع ما يحدث على املن�صة ،بينما كنتُ �أتلفت ميي ًنا وي�سا ًرا و�إىل
اهتماما ملا يحدث على ً اخللف طوال الوقت بح ًثا عنه دون �أن �أ�ضع
املن�صة ..
�س�ألتُ �أمي �أن �أذهب لبع�ض الوقت فرف�ضت� ،س�ألتُها مرات �أخرى
فوا�صلت رف�ضها حتى ي�أ�ستُ من قبولها ،فلزمتُ ال�صمت ووا�صلتُ
تلفتي ع ّلي �أراه ،ثم انتهت مرا�سم �إعدام �أحدهمً ،
وبدل من �سماعنا
زغرودة �إحدى الن�ساىل �سمعنا �صراخ امر�أة ي�أتي من جوارنا تقول ب�أن
كي�س نقودها قد ُ�سرق ..
ثوان قليلة حدثت حالة من الهرج واملرج من املحت�شدين ويف ٍ
مبحيطنا جعلتني �أنف�صل عن �أمي ب�أمتار ،وقبل �أن �أ�صيح �إليها ،وجدتُ
يدً ا �صغرية جتذب �سرتتي ،فالتفتُ نحو �صاحبها ،كان ً
طفل �صغ ًريا
قد يبلغ الثامنة من عمرهُ ،مرتب الوجه والثياب ،ما �إن نظرتُ �إليه
حتى �أ�شار يف �صمت �إىل جانب �صدره الأي�سر ثم �أ�شار بيده جتاه ال�شرق
لثوان،
..ف�أدركتُ وقتها �أن ندمي ينتظر هناك باملرج ال�شرقي ففكرتُ ٍ
ثم نظرتُ بطرف عيني جتاه �أمي ،كانت حالة الهرج واملرج ال تزال
قائمة ،فان�سللتُ بني اجلمهور ناحية البوابة ال�شرقية الو�سطى.
كان الطفل ي�سري �أمامي يف مرونة وا�ضحة بني �أرجل املتزاحمني،
حتى و�صلتُ �إىل البوابة ،فرتكني وعاد �إىل الباحة ،و�أكملتُ طريقي �إىل
�ضفة النهر اجلاف عرب املرج ال�شرقي ،حيث كان ندمي يف انتظاري،
فقلتُ :
كنت �أظن �أنني لن �أراك اليوم ..
قال �ضاح ًكا:
كنت �أظن ذلك � ً
أي�ضا حني وجدتُ �أمك تقف بجوارك ..
قلت يف ده�شة:
هل كنت بالباحة؟!
قال:
لكنك مل تب�صريني حني
نعم ..مبنت�صف الباحة بجوارك ِ ..
التفت �أكرث من مرة ..
ِ
قلت:
ظللتُ �أبحث عنك ..حتى حدثت حالة من الهرج واملرج بعد
�سرقة �إحداهن وقتها �أدركتُ �أن عدم تواجدك هناك خري،
�سيم�سك �ضباط الأمن مبن يجدونه من الن�ساىل حتى يظهر
ال�سارق ..
فقال با�س ًما يف هدوء:
مل ُي�سرق �أحد � ..إن ريان و�أخته الكربي َمن دبروا كل �شيء ..
قلت:
َمن ريان؟!
قال:
بك �إىل هنا� ،إنه �أحد تالميذي ،و�أخته دميا
الطفل الذي جاء ِ
هي َمن �صرخت لإحداث تلك اجللبة ..
زممتُ �شفتي يف تعجب ،وقلت:
�ستنال تلك الفتاة عقا ًبا كب ًريا من �ضباط الأمن ..
قال:
هذا �إن �أم�سكوا بها� ،إنهما بارعان للغاية يف الهرب ..
فقلت �ضاحكة:
كل هذا من �أجل �أن تلتقيني ..
قال:
إليك ..
نعم ..كان ال بد �أن �أحتدث � ِ
فابت�سمتُ ،ثم جل�سنا مبكاننا املعهود ،وبد�أتُ �أحدثه عما حدث
يل الأ�شهر املا�ضية ،وبدوره �أخربين �أن لديه �ستة ع�شر ً
تلميذا يقوم
بتعليمهم ،بينهم ريان ،ذلك الطفل الذكي ال�شقي ..حدثني عن
يوما بعد يوم زاد العدد
�صعوبة تق ّبل ن�ساء الن�ساىل تعليم �أبنائهن ،لكن ً
�شي ًئا ف�شي ًئا ..
هن�أته على ما فعله ،كنت ح ًقا �سعيدة للغاية من داخلي ،ثم �س�ألتُه
علي �أن �أعود �إىل منت�صف الباحة ..كنت �أعلمبعدها �أن �أغادر ،كان ّ
�أن �أمي �ستُجن من غيابي ..فه ّز ر�أ�سه موافقني ،فوعدته �أن نلتقي
جمددًا يوم الغفران الذي يوافق �أجازتي القادمة بعد �ستة �أ�شهر ،فقال
بكل ثقة:
لدي تالميذ �أكرث ..
وقتها �سيكون قد �أ�صبح ّ
ف�ضحكتُ و�أنا �أنه�ض وقلتُ :
�أمتنى ذلك �أيها املعلم ..
ثم نه�ض هو الآخر ،و�سرنا �سو ًيا جتاه الباحة� ،أخربين �أنه لن يدلف
مقرف�صا
ً �إىل حميطها � ..سيعود �أدراجه ،كان الطفل ذاته يجل�س
بالقرب من اجلهة اخلارجية للبوابة ال�شرقية يف انتظاره ،فهم�ستُ
�إىل ندمي:
�إنه هناك � ..صديقك ..
ف�ضحك ،واقرتبنا منه ،ثم كاد قلبي ينخلع من مو�ضعه حني �صاح
�صوت خ�شن مفاجئ ب�أن نتوقف ..
ً
�ضابطا للأمن جامد الوجه �ضخم البنيان، التفت جان ًبا ،كان
ُّ
تخطاين واقرتب من ندمي ،وقال بكل ا�ستهزاء وهو ينظر �إىل و�شم
�صدره:
ن�سلي؟! � ..إىل �أين تذهب؟
نظر ندمي �إىل الأر�ض ،وقال:
�إنني �س�أرحل �سيدي ..
فدار حوله يتفح�ص ج�سده ،ثم قام بتفتي�ش �سرواله بطريقة
مهينة ،فقال ندمي:
ال �شيء هناك �سيدي ..
فلكم ال�شرطي �صدر ندمي بقب�ضة يده ،وقال بلهجة �آمرة:
ا�صمت ..
ووا�صل تفتي�شه ،كان ندمي ينظر �إىل الأر�ض دون �أن يرفع عينه �أو
يحرك ج�سده ..
مل يجد ال�شرطي �شي ًئا ب�سرواله ،وظننتُ �أنه �سيرتكه مي�ضي ،لكنه
وقف �أمامه ومبجرد �أن رفع ندمي نظره عن الأر�ض ونظر يف عينه حتى
متفح�صا يل ،قبل �أن يلتفت فج�أة �إىل ندمي
ً ا�ستدار ناحيتي ونظر �إ ّ
يل
وي�صفع وجهه �صفع ًة مفاجئة كادت تطيح ب�أ�سنانه ..وقال:
ال تعد �إىل هنا جمددًا �أيها القذر ..يلزم الن�ساىل جحورهم ..
مل يتحرك ندمي ،ونظر �إىل الأر�ض ثابتًا يف مو�ضعه ..بينما وثب
خطوات جتاه بوابة الباحة وعيناه
ٍ الطفل ريان من جل�سته خائ ًفا ،وعاد
ترتقب ما يحدث ..ثم جت ّمع بع�ض �شبان چارتني بالقرب منا ،وبد�أوا
يف �إلقاء تعليقاتهم ال�ساخرة عن الن�ساىل ،فنظر ال�شرطي �إليهم يف
تبا ٍه ،و�ضحك وهو يدور حول ندمي ،حتى توقف مرة �أخرى و�صفع
اجلانب الآخر من وجه ندمي �صفع ًة �أقوى من الأوىل ..
كان قلبي يدق بقوة ،وت�سارعت دقاته �أكرث حني ر�أيتُ ً
خيطا من
الدماء قد بد�أ ي�سيل على وجه ندمي ،لكنها بلغت ذروتها حني وجدتُ
9
حتد
ذل بالغ ..قبل �أن يحرك ب�صره يف ٍ ندمي يرفع طرف عينه �إ ّ
يل يف ٍ
�إىل ال�شرطي ،وتنتفخ عروق رقبته وذراعه بالدماء بعدما ك ّور قب�ضة
يده ..
()14
كاد قلبي ينخلع من �صدري حني ر�أيتُ ندمي يك ّور قب�ضة يده
ا�ستعدادًا للكم ال�شرطي ردًا على �إيذائه و�إهاناته دون �سبب ،فلم �أجد
أزج بج�سدي �أمام ندمي لأقف ً
حائل بينهما ،و�أنطق نف�سي �إال و�أنا � ّ
ب�سرعة �إىل ال�شرطي:
�سيدي � ..إنني طالبة باملدر�سة العليا ل�ضباط الأمن ب ِقباال.
لدي ما يثبت كالمي يل بغ�ضب ك�أنه ال ي�صدقني ..مل يكن ّ نظر �إ ّ
لكنني الحظتُ �أنه نظر �إىل ذلك املثلث الداكن من جلدي �أ�سفل
عنقي ،والذي ال حتميه ثيابي الع�سكرية من �أثر ال�شم�س احلارقة �أثناء
تدريباتي ..فهد�أت مالحمه وك�أنه تيقن من كالمي حني ر�آه ،فتابعتُ :
�إن �صديقي مل يفعل �شي ًئا ..مل يتواجد بالباحة من الأ�سا�س ..
ز ّم �شفتيه وغمغم �ساخ ًرا:
�صديقي؟!
كان الفتية ال�ساخرون ما زالوا يراقبون ما يحدث ،ومن خلفهم
ريان الذي مل يحرك عينه عنا ،فقال ال�شرطي:
اغربا عن وجهي.
ف�أوم�أتُ بر�أ�سي قبل �أن يقول يل:
ال ت�صادق ال�شريفات الن�ساىل ..لن ت�صدقي كالمي حتى
يغت�صبك بعدما ينال ثقتك ،وقتها �ستفعلني بهم �أكرث مما
�أفعله.
مل �أع ّلق على حديثه� ،أم�سكتُ ب ّيد ندمي وغادرنا فح�سب ،بينما مل
يتوقف الفتيان عن الغمغمة بتعليقاتهم ال�سخيفة عني وعن ندمي ..
ثم حلق بنا ريان �إىل ال�ساحة اجلنوبية للباحة املخ�ص�صة للعربات،
فتوقفنا هناك ونظرتُ �إىل ندمي الذي مل يرفع ر�أ�سه �إ ّ
يل منذ ابتعدنا
عن ال�ضابط ،وقلتُ :
ال عليك �..سنجد من ال�صعاب الكثري يف طريق هدفنا ..
لقد تر ّبوا على نظرة واحدة جتاه الن�ساىل � ..أعلم �أن الأمر
�صعب للغاية ،لكن خط�أ واحدً ا �سيدمر كل ما ن�سعى نحوه ،و�أنا
ال �أريد ذلك ..وال �أنت ..
ظل �صامتًا ..كانت ثمة دموع تلمع بعينيه ،كنت �أدرك �أنه يجاهد
بقوة كي ال ت�سقط �أمامي ..املرة الأوىل التي �أ�شعر فيها باخلزي الذي
لدي �سوى �أن �أوا�سيه ،ثم مر وقت قليل
يحمله الن�سلي ..لكني مل يكن ّ
قبل �أن ينطق:
ح�س ًنا يا غفران � ..س�أعود �إىل حيثما جئت � ..س� ِ
أراك بعد �ستة
�أ�شهر � ..أمتنى �أن تظلي بخري ..
قلت:
و�أمتنى لك ذلك ..
ثم �أ�شار �إىل ريان ب�أنه �سيغادر ،ف�أطلق الفتى �صفارته ،فظهرت
9
�أخته من بني العربات ..كانت يف مثل عمري تقري ًبا ،ثم انطلقوا
مغادرين عرب الطريق الرتابي جنوب الباحة ..ووقفتُ �أراقبهم حتى
اختفوا عن ب�صري ،فعدتُ �إىل منت�صف الباحة ،وعرثتُ على �أمي بعد
جهد كبري.
يف الأ�شهر التالية مبدر�سة ال�ضباط �صار الأمر ممت ًعا �إىل حد ما
بعدما بد�أنا تدريبات الأ�سلحة النارية والفرو�سية واللتني وجدتُ نف�سي
وفار�سا ظال حبي�سني طوال ال�سنوات املا�ضية
بهما ،وك�أن بداخلي رام ًيا ً
حتى وجدا خمرجيهما �أخ ًريا بني جدران تلك املدر�سة .غري �أنني مل
أن�س قط ما حدث ب�آخر يوم غفران التقيتُ به ندمي ،وما فعله ذلك � َ
ال�ضابط بنا يومها ،وظلت �أحالمي لفرتة طويلة تدور جميعها عما
حدث ذلك اليوم � ..صفعات متكررة على وجه ندمي ،دماء ت�سيل من
وجهه ،قب�ضة يده تتكور لت�أخذ طريقها �إىل وجه من يهينه ،لكنها قبل
ذلك ت�صطدم بي لتحطمني �إىل �أجزاء �صغرية تتناثر كقطع الزجاج،
بعدها يحاول �أن يج ّمعها فال ي�ستطيع ،بينما يجثو ال�ضابط بجوار تلك
القطع ليقول:
لن ت�صدقي كالمي حتى يغت�صبك بعدما ينال ثقتك ..وقتها
�ستفعلني بهم �أكرث مما �أفعل ..
فزع رهيب ال �أريد �أن �أنام جمددًا ،و�أظل
فا�ستيقظ من نومي على ٍ
جال�سة على �سريري يف انتظار بوق اال�ستيقاظ ..حتى �أن خميلتي
قد �صنعت من لوحة الأهداف املخ�ص�صة لتدريبات الأ�سلحة النارية
�صورة ذلك ال�ضابط ..لت�صيب طلقاتي ر�أ�سه كل مرة ..الغريب
يف الأمر �أنني ُر�شحت يف خالل ثالثة �أ�شهر ك�أف�ضل رامية يف �صفي
الدرا�سي لأخو�ض مناف�سة داخلية بيني وبني �أف�ضل الرماة بال�صفوف
الأكرب مني ..
ظل وجه ال�ضابط ال يفارق خميلتي ك ّلما �صوبتُ جتاه اللوحة ،ومع
كل مرة كنت �أحقق �أف�ضل النتائج ،وذاع �صيتي باملدر�سة عندما و�صلتُ
رام بال�صف الأخري ،والذي مل للمناف�سة النهائية بيني وبني �أف�ضل ٍ
ي�سبق و�أن خ�سر من قبل �أمام طالب �آخر منذ التحاقه باملدر�سة ..
كان ذلك اليوم هو اليوم الأخري يف ال�ستة �أ�شهر التالية ..انت�صبت
لوحتان خ�شبيتان مبنت�صف �ساحة املدر�سة ..كانت كل لوحة منحوتة
على هيئة رجل ..بينما وقفتُ �أنا ومناف�سي على بعد ثالثني مرتًا ..
وابتعد الطالب عنا ب�أمتار قليلة م�صطفني بكل اجلهات عدا اجلهة
التي ن�ص ّوب نحوها ..وجل�س كبري معلمي املدر�سة وغريه من ال�ضباط
أقداما قليلة عن الأر�ض يف انتظار
املعلمني على من�صة جانبية ارتفعت � ً
بدء مناف�ستنا ..
كان لكل مت�سابق منا خم�س ت�صويبات ،الفائز من يطلق ت�صويباته
ب�أكرث دقة و�أ�سرع وقت ..وتنتهي امل�سابقة مبجرد �أن ينتهي �أحدنا من
ت�صويباته � ..شعرتُ �أن الطالب الآخر ميتلك من الثقة بالنف�س ما
يجعله ي�صيب ر�أ�س الهدف على م�سافة �أكرث من مائة مرت ال ثالثني ..
لكنني متا�سكتُ ونظرتُ �إىل لوحة هديف وحاولتُ ا�ستح�ضار وجه
ال�ضابط الذي �أكرهه ليحل حملها ،وانفرجت �أ�سارير وجهي حني
ا�ستح�ضرها ذهني �سري ًعا ،ثم هد�أت همهمات الطلبة من حولنا بعدما
�أ�شار �إليهم �أحد ال�ضباط بالهدوء ..
ثم التف ذلك ال�ضابط �إىل كبري املعلمني ،قبل �أن ي�ستدير �إلينا
وي�صيح ب�أن نبد�أ ،فرفعتُ �سالحي الناري �أمام عيني ،و�أغم�ضتُ
عيني الي�سري وبد�أتُ الت�صويب نحو وجه ال�ضابط الذي ا�ستح�ضرته
خميلتي ،لكني فوجئت ب�أنه تب ّدل فج�أة �إىل وجه ندمي ،ووجدتُ يدي
تطلق الزناد ..خم�س �ضربات متتالية دون توقف ،ليخ ّيم ال�صمت على
املكان ،فنظرتُ خلفي ،كان اجلميع يحدقون بي غري م�صدقني وك�أنهم
قد فتحوا �أفواههم ون�سوا �أن يغلقوها ..
كان الطالب الآخر مل يطلق �إال طلقتني فقط ،فنظر �إ ّ
يل غري
م�صدق ملا حدث � ..أما �أنا فالتفتُ جمددًا ،ونظرتُ �إىل هديف يف ذهول
..مل �أكن �أراه لوحة خ�شبية ،كانت عيني تراه يقف �أمامي ،ب�صدره
العاري وو�شم �صدره ،تنزف ر�أ�سه من منت�صفها وهو يحملق بي مك�سور
العني ..
وبينما كان جميع الطالبات يندفعن نحوي ليحطن بي يف فرحة
عارمة ،كانت عيني ال تزال ُمع ّلقة على اللوحة اخل�شبية التي يتفح�صها
�ضابطان لإعالن النتيجة دون �أن ت�سمع �أذين �أي تهليالت مما قالتهن
زميالتي ،وك�أنني قد انف�صلتُ عن العامل لدقائق ..
ثم هد�أ اجلميع مرة �أخرى حني انتهى ال�ضابطان من فح�ص
اللوحتني وعادا �إىل من�صة كبري املعلمني و�أخرباه بالنتيجة ،لتظهر
مالمح الده�شة على وجهه ،قبل �أن يهبط من املن�صة ويتجه نحوي،
ويقول يل يف �سعادة بالغة:
ثوان قليلة جميعها بالر�أ�س � ..شيء مل
خم�س ت�صويبات يف ٍ
إنك الرامي الأف�ضل مبدر�ستنا ..
يحدث من طالب من قبل ِ � ..
9
ثم نظر نحو الطالب وقال:
يبدو �أن رامي من�صة الباحة �سي�صبح �سيد ًة للمرة الأوىل يف
التاريخ.
«ريان»
ن�سلي يعي�ش بالوادي ذاته الذي كان يعي�ش به ا�سمي ريان ّ ..
ال�سيد ندمي ..التحقتُ بالتعلم على يده يف عمر الثامنة ،ومن بعدي
�صار العدد يزداد �شي ًئا ف�شي ًئا ..حتى �أ�صبحنا �ستة ع�شر طال ًبا بعد
وخم�سا وخم�سني مع
ً ال�ستة �أ�شهر الأوىل ،وثالثني بنهاية العام الأول،
نهاية العام الثاين ،وظل العدد يف تزايد م�ستمر مع �شهورنا املتتالية
..مل �أعرف قط كيف كان يقنع �سيدي �أمهاتنا ب�أن نلتحق مبدر�سته
ال�صغرية التي مل تتجاوز ً
حو�شا �صغ ًريا �أمام كوخه املتطرف بوادينا،
لكنه جنح يف ذلك على �أي حال ..
كنت �أقرب الطالب �إليه ،و�صار يهتم بكل �ش�أن يل ك�أنه �ش�أنه
متاما ،وا�ست�أمنني على �سر عالقته بال�سيدة غفران يف �أ�شهري الأوىلً
من التعلم حتت يده � ..أتذكر اخلطة البدائية التي ر�سمناها �سو ًيا
�أنا وهو و�أختي دميا لن�شتت انتباه �أم ال�سيدة غفران عنها لي�ستطيع
مقابلتها ،قبل �أن ينتهي ذلك اليوم بنهاية �أف�سدت علينا كل �شيء ..
يومها عدنا �س ًريا عرب الطريق الرتابي �إىل وادينا ..ال �أتذكر �أنه
نطق بكلمة واحدة طوال الطريق ..مل تعلم �أختي حينذاك ما حدث
ف�س�ألتني يف تعجب عن �سبب ذلك ال�صمت ال�شديد والتجهم اللذين
كفيل ب�أن يهدم كل ما�سادا طريقنا ،فلم �أجبها ب�شيء ..كان ما ر�أيته ً
تعلمته ب�أ�شهري ال�ستة التي �سبقت تلك الواقعة ..كنت ً
طفل �صغ ًريا
لكنني �أدركتُ �أننا نحن الن�ساىل مهما و�صل بنا احلال �سنظل ن�ساىل
..الطبقة املنبوذة يف هذا البلد� ،س�ألتُه حني �أ�صبحنا على م�شارف
الوادي ،وكانت دميا قد ت�أخرت بخطوات عنا:
ملاذا ال نغادر چارتني؟! ..
قال:
لن يكون لنا قيمة يف �أي مكان �آخر ..طاملا ال قيمة لنا يف
بلدنا..
قلت �ساخ ًرا:
بلدنا؟!
ثم تابعتُ عندما حلقت بنا دميا:
�سنظل دون قيمة طاملا ُوجدت القواعد ..
قال بعدما �سرنا ب�ضعة خطوات �صامتني:
�ستتغري القواعد يوما ما ..
ف�أطلقت دميا �ضحكتها ال�ساخرة ،وقالت بتهكم:
تتغري القواعد؟! ..يحلم ندمي الن�سلي.
مل ير ّد �سيدي على ما قالته ،فقلتُ :
لو كنت مكانك مل �أكن لأتقبل ما فعله �ضابط الأمن و�إن كلفني
حياتي ..
قال:
رما قد ي�صل
كنت �س�أفعلها ..لكني وعدتُ غفران ب�أال �أرتكب ُج ً
بي �إىل من�صة الإعدام ..
تربمنا �أنا و�أختي ،و�آثرنا �أن نكمل طريقنا �صامتني.
رغم �صغر �سني وقتها �إال �أن داخلي كان ي�ؤمن ب�شيء واحد؛ موتٌ
على من�صة الباحة �أف�ضل �ألف مرة من حياة دون كرامة ،لكني عاودتُ
ي�سيها كما ي�شاء ..وتابعتُ
نف�سي وقلت؛ لكل امرئ حياته له احلق �أن ّ
درو�سي مع �سيدي ،وحاولتُ �أن �أتنا�سى ما ر�أيته ذلك اليوم ..
ثم مرت �ستة �أ�شهر �أخرى ،وح ّل يوم الغفران لل�شهر ال�سابع،
وذهبنا �سو ًيا �إىل باحة جويدا ملقابلة ال�سيدة غفران ..كانت تلك
املرة �أ�سهل كث ًريا من املرة الأوىل ،كانت ال�سيدة غفران قد جاءت
مبفردها �إىل �ضفة النهر اجلاف حيث انتظرها �سيدي ..غري �أن ما
حدث ب�آخر لقاء بينهما قد حدث جمددًا من �أحد �شبان چارتني ،لكن
بعدما غادرتنا ال�سيدة ..كنا يف طريقنا �إىل مغادرة جويدا عندما
اعرت�ض طريقنا ذلك الأخرق ،وحاول �إيذاء �سيدي عندما ر�أى َو ْ�شمه،
ومثل املرة ال�سابقة كتم �سيدي غيظه �إىل �أق�صى حد ،فوا�صل ال�شاب
�إهاناته ،ولكم �سيدي مبنت�صف �صدره بقوة ،فوا�صل �سيدي كتمان
غيظه ،ثم ر�أيتُ قب�ضة يده تتكور و�شعرتُ �أنه على و�شك �أن يرد لكمته،
�صب علينا ً
وابل من لكنه متالك نف�سه بالنهاية ،وتركنا الفتى بعدما ّ
ال�شتائم ..
مل �أحب ما حدث وكرهتُ كوننا ن�ساىل ،وبد�أت كراهيتي لأهل
چارتني تزداد يف قلبي كل يوم عن اليوم الذي ي�سبقه ..ومل �أجد نف�سي
�إال و�أنا �أ�صرخ به دون وعي:
ملاذا مل تفعل ذلك �سيدي؟ ..
قال هاد ًئا:
من �أجلكم ..
قلت با�ستنكار بالغ:
ال �أريد ذلك ..
قال:
�ستفهم كل �شيء حني تكرب يا ريان ..
ركلتُ حج ًرا بقدمى يف طريقنا يف حنق �شديد ،ثم رك�ضتُ غا�ض ًبا
مبتعدً ا عنه دون �أن �أنظر خلفي ،كان داخلي ي�صرخ:
ال �أريد �أن �أ�صري مثل �سيدي ..بئ�س ذلك احلب الذي يجعلني
�ضعي ًفا ..
كان كل ما يدور يف ر�أ�سي �صفعات �ضابط الأمن على وجهه،
وتهكمات ال�شاب الچارتيني ،ولكمته القوية له مبنت�صف �صدره دون �أن
ي�صدر �سيدي �أي ردة فعل ،وعدتُ اله ًثا �إىل كوخ �أمي ،وانزويتُ ب�أحد
�أركانه باك ًيا ،وحدثتُ نف�سي و�أنا �أن�شج:
�أكره چارتني و�أهلها � ..أكرههم و�أكره ال�سيدة التي تفعل ذلك
ب�سيدي ..كان عليها �أن ترتكه و�ش�أنه فح�سب ،يعي�ش مثل باقي
الن�ساىل ..
وبقيتُ يف تلك احلالة املزرية حتى ح ّل الليل وخ ّيم الظالم الدام�س
على وادينا ،ومع كل حلظة كان الغيظ يزداد بداخلي جتاه ال�سيد ندمي،
�إىل �أن وثب بعقلي قراري ب�أال �أكمل درو�سي معه ،وا�شتعل الغ�ضب
بداخلي �ساعتها ،ونه�ضتُ من مو�ضعي لأذهب �إليه يف منت�صف الليل
لأفرغ له ما يف جعبتي من كلمات الذعة و�أخربه �صراحة �أنني ال �أر�ضى
خارجا من كوخنا ،و�أنا �أم�سح
م�سرعا ًً �أن �أكمل درو�سي معه ..وخطوتُ
دموعي و�أهم�س �إىل نف�سي مبا �س�أقوله:
لن �أتعلم معك بعد اليوم �أيها ال�ضعيف ..كنت �أقرب ال�سادة يل
يوما ما ..
..لكنني لن �أر�ضى ب�أن �أكون مثلك ً
و�أكملتُ طريقي بني الطرقات املظلمة ال�ساكنة �إىل حد املوت حتى
و�صلتُ �إىل كوخه القابع بالطرف الآخر من الوادي ..كان ثمة م�صباح
ي�ضيء داخله ،ف�أدركتُ �أنه بالداخل ،وتوقفتُ �أمام الكوخ �أحاول �أن
�أراجع ما �أقوله ..قبل �أن تندفع الدماء �إىل وجهي وتت�سارع دقات قلبي
ارتعا ًبا حني اخرتق �سمعي فج�أة �صوت طرقات م�ستمرة كانت ت�أتي من
داخل كوخه ..طرقات قوية ك�أن �أحدهم يهدم جدا ًرا ،حتى �أن نور
امل�صباح ال�صادر داخل الكوخ قد اهتز معها ،ثم كدتُ �أبلل بنطايل
حني �صدر �صوت �صراخ �شديد مفاجئ مع تلك الطرقات ..فعدتُ
خطوات بظهري �إىل اخللف ،وجل�ستُ على الأر�ض من الرعب الذي
انتابني ..
ظلت الطرقات م�ستمرة بنف�س القوة دون توقف ..بينما كان
ال�صراخ يزداد مع كل طرقة ك�أن �أحدهم يز�أر بالداخل ..ما كان
يقتلني خو ًفا �أنني كنت �أعلم �أن ذلك الزئري هو �صوت �سيدي نف�سه ،ثم
متالكتُ �أع�صابي ،ونه�ضتُ واقرتبتُ بحذر على �أطراف �أ�صابعي من
باب الكوخ اخل�شبي ..ود�س�ستُ عيني بني �شقوق الباب لأرى ما مل �أره
يف حياتي ..
متاما ..تربز عيناه ب�شدة ،وتنتفخ كان �سيدي عاري اجل�سد ً
عروقه وع�ضالت ج�سده ب�صورة مل ي�سبق يل �أن ر�أيتها ..كان يلكم
بلكمات متتالية �شديدة للغاية جعلت الدماء ت�سيل من ٍ جدار الكوخ
قب�ضته ،لكنه كان يوا�صل �ضرباته وك�أنه ال ي�شعر ب�أي �أمل ،بينما تز�أر
9
يرج اجلدران من حوله مع كل �ضربة ي�ضربها حنجرته ب�صوت �صارخ ّ
� ..ضربات م�ستمرة دون توقف ..زئري متوا�صل ي�صل عنان ال�سماء ..
دماء ت�سيل من قب�ضة يده دون �أمل ..رعب حقيقي يجتاحني و�أنا �أرى
بعيني كيف بد�أت الروح الن�سلية تثور داخل ج�سد �سيدي.
()15
«غفران»
�أ�صابت الفرحة العارمة زميالت �صفي عندما �صدر لفظ رامي
بوابل من املباركات
املن�صة من كبري �ضباط املدر�سة ،وغمرنني ٍ
والتهاين� ،أما �أنا فاجتاحتني حالة من الذهول والت�شتت ال�شديد ما
بني فرحتي مبا حدث قبل حلظات وبزوغ �أمل مفاجئ للعمل بالباحة
مرة �أخرى ،وبني وجه ندمي الذي ظهر يل على الهدف اخل�شبي
لأحقق نتيجة ت�صويب وتوقيت مل ي�سبق لطالب و�أن حققها ..وملّا طال
ذلك الت�شتت على مالحمي �س�ألتني �إحدى زميالتي �إن كنت ال �أ�شعر
بالفرحة ،و�إن كان كل �شيء بي على ما يرام ..فطم�أنتُها ،قبل �أن �أغادر
م�شتتة البال و�أعود �إىل فرا�شي بعنرب النوم.
يوما،
يف اليوم التايل كان موعد �أجازتنا املو�سمية � ..أربعة ع�شر ً
ح�ضرتُ بها يوم الغفران ،ومتكنتُ من مقابلة ندمي ب�سهولة عن �آخر
مرة ،مل يحدث �شيء عندما كنا م ًعا ،حتى تركته وعدتُ �إىل والداي،
ال �أتذكر �أنني حتدثتُ كث ًريا تلك املرة ،كنتُ �شاردة للغاية على عك�س
العادة ..كنت ك ّلما �أنظر �إليه �أتذكر وجهه املنطبع على الهدف
اخل�شبي وتلك الإ�صابة الدقيقة بني حاجبيه ،وقتها �أ�صابني ال�ضيق
من نف�سي ،و�آثرتُ �أن �أعود �إىل الباحة بعد فرتة ق�صرية جدً ا من لقائنا
..كان الطفل ريان ينتظره �أمام البوابة ال�شرقية مثل املرة ال�سابقة،
حتى غادرا �سو ًيا ..
9
ثم بد�أ عامي الثاين يف املدر�سة ،ومعه تغري �شيئان كانا �إيجابيني
للغاية ..الأول �أن �أمي �صارت حبلى ب�أخي زين ،والثاين �أنني �أ�صبحتُ
الأكرث �شهرة بني طالب املدر�سة املتجاوزين الألف طالب بعدما مل
يتمكن �أحد من االقرتاب من معديل يف الت�صويب.
لن يحدث هذا الأمر ..
قلت:
لقد وعد ُته بذلك ،و�أق�سم ِ
لك لو �أنه عرب �إىل عامه اخلام�س
والع�شرين دون جرمية �س�أتزوجه �أمام �أهل چارتني جميعهم
لي�صري �شري ًفا مثلنا ..
فجل�ست على مقعدها �أمام الطاولة وو�ضعت ر�أ�سها بني يديها،
ومتتمت:
لن يحدث هذا الأمر ..لن يحدث ..
كان �أخي قد بلغ �أربع �سنوات وقتها ..وكان يراقب جدالنا بخوف
..ف�أكملت وهي تنظر �إليه:
لن ي�صيب العار عائلتنا �أبدً ا ..
فغادرتُ غا�ضبة ..وزاد الأمر عنادًا بي �أنني �صرتُ �أقابل ندمي عل ًنا
�أمام النا�س جميعهم بعدما �أ�صبح لقا�ؤنا ب�أيام الغفران �أم ًرا ً
حمال
ويوما بعد يوم انت�شر خرب مقابالتنا لبقائي بالباحة طوال اليوم ً ..
بني �أهل جويدا ،و ُلقب ندمي بالن�سلي الذي يواعد ال�سيدة غفران ..
رامي املن�صة ..و�سمعتُ �أن كث ًريا من احلكايات والق�ص�ص املختلفة
قد تناقلت ب�ش�أننا ..
متاما �أنني ال �أخالف قواعد بالدي بتلك
غري �أنني كنت �أعرف ً
املقابالت ،و�أنه ال ُتوجد قاعدة واحدة متنع �أن يقابل ن�سلي �شريفة ..
9
ف�ألقيتُ بهرائهم كله وراء ظهري ،لأكمل وعدي الذي وعد ُته به قبل
�سنوات ب�أنني �س�أوا�صل معه طريقه نحو عامه اخلام�س والع�شرين،
لأزيل وقتها و�شمه بخنجري على من�صة باحتنا املف�ضلة ..
«ريان»
عدتُ بقدمي خطوات �إىل اخللف دون �أن �أ�صدر �أي �صوت ،ثم
ركبتي �إىل �صدري
ّ �ضاما
جل�ستُ على بعد �أمتار قليلة من باب الكوخ ً
يرجتف ج�سدي ب�شدة بعدما مل تتوقف الطرقات �أو الأ�صوات
ال�صارخة ال�صادرة من �سيدي ..كنت خائ ًفا للغاية من االقرتاب من
الباب اخل�شبي جمددًا ،لكنني قررتُ �أال �أغادر و�أترك �سيدي ،ومكثتُ
مكاين ينتف�ض ج�سدي مع كل �صرخة ،وتدور بعقلي خياالت كثرية
قليل من الأعوام ..
بعدما تخيلتُ نف�سي مبو�ضعه بعد ٍ
ثم مر الوقت �ساعة وراء �أخرى وبد�أت الطرقات تهد�أ �شي ًئا
ف�شي ًئا و�أ�صبحت على فرتات متباعدة وهد�أ ال�صريخ معها ،فعلمتُ
متاما ،فنه�ضتُ واقرتبتُ بحذر توقفت ً
ْ �أن الإنهاك قد �أ�صابه� ،إىل �أن
لأنظر عرب �شقوق الباب ،فوجدته ملقى على بطنه ممددًا عار ًيا �ساك ًنا
ُتغطي الدماء ظهر يديه امل�صابتني ب�شدة ،فمددتُ �سبابتي يف حذر
ب�شق كبري بني قطعتي من �أخ�شاب الباب لأالم�س قطعة خ�شبية �صغرية ٍ
�أفقية كانت تغلقه ،وبد�أتُ بتحريكها حركة ن�صف دائرية حتى متكنتُ
باحرتا�س ،وجثوتُ على ركبتي
ٍ من فتحه ببطء ،ودلفتُ �إىل الكوخ
بجواره ..وقلت:
�سيدي ..
قمي�صا قما�ش ًيا كان ُملقى على
ً مل يجبني ،فنه�ضتُ و�أح�ضرتُ
الأر�ض ،وغطيتُ به خ�صره العاري ،وهم�ستُ �إليه جمددًا:
�سيدي ..
ثم مددتُ يدى �إىل كتفه ،وهزز ُته بحذر وقلبي يدق خو ًفا:
�سيدي ..
بعدها كاد قلبي يتوقف حني فتح عينيه املحمرتني فج�أة ونظر يف
عيني مبا�شرة ،ف�أجفلتُ وعدتُ م�ضطر ًبا �إىل اخللف ف�سقطتُ على
ظهري ..فقال متع ًبا:
ما الذي جاء بك �إىل هنا يا ريان ..حان وقت الدر�س ؟! ..
قلت با�ضطراب:
ال يا �سيدي � ..إنني فقط ...
فنظر �إىل يديه املجروحتني وقال خائ ًفا:
ماذا حدث؟! ..
مل �أقل �شي ًئا ..ثم وجد ُته ينه�ض فج�أة ،ف�سقط القمي�ص عن
خ�صره ،فرفعه على الفور ليغطي ج�سده �أمامي ،ثم �س�ألني جمددًا وهو
يتفقد الكوخ املُحطم من حوله:
ماذا حدث؟! ..
قلت:
ً
�صراخا مل �أ�سمعه من ر�أيتُك ت�ضرب اجلدران بقوة وت�صرخ
قبل ..
�سكت وهو يتفح�ص يده اليمنى امل�صابة �إ�صابة بالغة ،ثم قال
�شاردًا:
ال �أتذكر �أي �شيء ..
�أوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا دون �أن �أقول �شي ًئا ..ثم نه�ضتُ وحتركتُ
بنطال من �صندوق خ�شبي كان بني �أركان كوخه ال�ضيق ،و�أح�ضرتُ له ً
مفتوحا ،فارتداه يف الوقت الذي �أح�ضرتُ به �إنا ًء من املاء كان بركن
ً
بعيد ،و�أخذتُ �أغ�سل جروح يده و�أزيل الدماء املتجلطة عنها ..كنت قد
ر�أيت �أحدهم يفعل ذلك يف �إحدى املرات التي ذهبت فيها �إىل جويدا
..
كان ينظر �إ ّ
يل و�أنا �أقوم بذلك فح�سب ،حتى انتهيتُ فوجدته يقول:
ال تخرب �أحدً ا مبا حدث ..
فهززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا ،ثم قال ب�صوت هادئ حمد ًثا نف�سه:
لن �أدعها تنت�صر ..
فنظرتُ �إليه و�أنا �أعلم �أنه يق�صد الروح الن�سلية ،قبل �أن يتابع:
�س�أكمل وعدي �إىل غفران ..
قلت وقتها:
�أي وعد �سيدي؟! ..
قال:
ثمان �سنوات ..
�سنتزوج بعد ِ
فرحا:
عيني ،وقلتُ ً
ات�سعت حدقتا ّ
9
ح ًقا؟! � ..س�أ�صري وقتها يف ال�سابعة ع�شر ..
فربت على ر�أ�سي بيده ،فنه�ضتُ وق ّبلتُ ر�أ�سه فابت�سم ،ثم غلبه
النعا�س بعد ذلك الإنهاك الذي مر بج�سده ،فعدتُ �إىل كوخنا ..
ً
م�ستيقظا �أفكر مبا حدث حتى مل �أخرب دميا يومها ب�شيء ..ظللتُ
وقت طلوع النهار التايل ..ووجد ُتني �أعود �إىل مدر�سة ال�سيد ندمي
لأكمل درو�سي معه ..وك�أنني ن�سيتُ ما كنت �أفكر به الليلة املا�ضية حني
ذهبتُ �إىل كوخه غا�ض ًبا ..ال �أعلم ما الذي ح ّل بداخلي� ،صارت ّ
لدي
رغبة عارمة لكي يحقق �سيدي حلمه ..
ر�أيتُ بعيني كيف كان يقاوم روحه الن�سلية ..و�أدركتُ جيدً ا �أن
نف�سه �أمام من تعمدوا �إيذاءه مل يكن �إال قو ًة فح�سب ،لو تركَ َتا ُل َك ِ
املجال لتلك الروح بداخله لتقود ج�سده لقتلهم على الفور ،لكن حينها
لن يكون جل�سده �سبيل �إال املن�صة امللعونة ليرتكنا جمي ًعا ..هذا الذي
أ�شخا�صا عاديني ال نقل عن ال�شرفاء
ً أمل كب ًريا لنم�سي � �أعطى لنا � ً
يف �شيء ..كان بتعليمه لنا يد ّرب نفو�سنا لل�سيطرة على الروح الآثمة
وقتما يكن الأمر ُمتعل ًقا ببقائنا �أحياء ..
مل �أعلم وقتها �إن كان يفعلها لأجله �أم لأجل ال�سيدة غفران �أم
لأجلنا ..لكني كنت متيق ًنا ً
متاما �أن ما كان يفعله �سيبقى نقطة فارقة
يف حياة الن�ساىل ..وزاد الفخر بداخلي ب�أنني �أول من تعلمتُ على يديه
..وزاد تعلقي به وك�أنه والدي الذي ال �أعرفه ..و�صرتُ �أذهب كل م�ساءٍ
�إىل كوخه لأطمئن عليه دون �أن يراين ،كنت �أنظر من �شقوق الباب
فح�سب � ..إن كان نائ ًما تركته نائ ًما و�أغادر ،و�إن هاجت روحه ظللتُ
9
منتظ ًرا خارج الكوخ حتى تهد�أ ،ف�أدلف �إىل الكوخ و�أ�ض ّمد جراح يديه
و�أغادر قبل �أن يفيق من غفوته ..
كان يعلم بالطبع �أنني من يفعل ذلك في�أتي لي�شكرين باليوم التايل
ف�أر ّد كالمه بابت�سامة �صادقة ..
عا ٌم وراء �آخر �صار ال�سيد ندمي ح ًقا هو حلم الن�ساىل � ..أ�صبح
طالب ..فق�سمنا �إىل جماعات عددنا مع العام الرابع مائة وع�شرة ٍ
على مدار النهار ،وجعلني �أتوىل تعليم الأطفال الأ�صغر �س ًنا ..
جمرما
ً مع الوقت �صار حلمي �أنا الآخر �أن �أ�صري �شري ًفا ً
يوما ما ال
ميوت �أمام �أهل چارتني ..و�شعرتُ ب�أن ذلك بات حلم الكثريين غريي
ممن يتعلمون على يد معلمنا ..خا�ص ًة بعدما �أ�صبحت ال�سيدة غفران
رامي املن�صة و�أعلنت بكل جر�أة عن عالقتها بال�سيد ندمي ،لتنت�شر
احلكايات والق�ص�ص عنهما بني �أكواخنا ،وليت�ضخم معها الأمل
بيننا جمي ًعا � ..أنا الذي كنت �أخ�شى �أن تثور روحي الن�سلية �صار قلبي
مطمئ ًنا ب�أنني �س�أخ�ضعها ل�سيطرتي حينما تثور ،و�إن كلفني ذلك
دوما
�إ�صابات بالغة بيدي ..متنيتُ لو مل تغادر دميا ..كنت �أقول لها ً
رمبا يتغري حالنا ،لكنها مل ت�ؤمن بذلك ،وغادرت مع غجري رح ّال من
بالد �أخرى ..
ها هي ال�سنوات توا�صل مرورها ،وعرب �سيدي عامه الرابع
والع�شرين ،وبات حلمنا جمي ًعا على و�شك التحقق يا دميا ..لكن
احلقيقة التي ال يعرفها غريي � ..أنه ك ّلما مر يوم واقرتب �سيدي من
عامه اخلام�س والع�شرين كان الأمر ي�صري �أكرث �صعوبة ..
مع اليوم الأول يف ذلك العام �صار هناك �شيء خمتلف �إىل حد
ما ..وقتها كنت قد بلغتُ عامي ال�ساد�س ع�شر وا�شتد عودي كث ًريا ..
رك�ضا ،ويطلب مني اله ًثا �أن �أق ّيده،
ووجدتُ �سيدي ي�أتي �إىل كوخي ً
يل كي �أ�سرع ،ففعلتُ ما �أمرين به، تو�سل �إ ّ
فتعجبتُ مما يطلبه ،لكنه ّ
وقيد ُته بحبل �سميك ،وجل�ستُ على مقرب ٍة منه يف ترقب �شديد ..
عاد �سيدي �إىل انتفا�ضاته وزئريه ال�صارخ املتوا�صل ..كان الزئري
تلك املرة �أقوى من املرات الكثرية املا�ضية ..ومعه انتفخت عروق
ج�سده وخا�صة رقبته ب�صورة مرعبة جعلتني �أظن �أن الدماء �ستنفجر
ً
مهرول �إىل ركن بعيد علي ،فابتعدتُ
منها ..حتى �أن اخلوف قد �سيطر ّ
بالكوخ ،وا�ستعددتُ للهروب بعدما ظننتُ �أنه �سيقطع احلبل ال�سميك
الذي قيدته به ،لكنه انهار بعد فرتة من الوقت ..وهو يقول يل:
هناك �شيء ما يتحرك بداخلي ..
كنت �أ�شفق عليه كث ًريا ،فقلتُ :
�ستعرب هذا العام ..
9
لكنه وا�صل همهمته وهو يلهث:
هناك �شيء ما يتحرك بداخلي بقوة ..
()16
«غفران»
ما كنتُ �أخ�شاه قد حدث ،حني بلغتُ عامي الثالث والع�شرين وبلغ
ندمي عامه الرابع والع�شرين كانت �أمي قد و�صلت عامها اخلم�سني ..
�أيقظتنا ذلك ال�صباح طرقات على بابنا كنا ننتظرها بح�سرة
�شديدة ،قبلها ب�أيام ظلت �أمي باقية بحجرتها ترتدي ف�ستا ًنا �أبي�ض
وحتت�ضن زين ،بينما مل �أغادر بيتنا حلظة واحدة تلك الفرتة ،وك�أنني
وددتُ لو عو�ضني نومي بح�ضنها يف �آخر �أيامها عن �سنواتي التي
�س�أعي�شها بدونها ..
9
مل ن�ش�أ �أن يدور �أي جدال بيننا ب�ش�أن زواجي ..كنا ابنة و�أم على
و�شك املوت فح�سب ،ليبقى ثالثتنا على �سرير واحد نتبادل دفء
�أج�سادنا ُقبيل �أن نفقد الدفء الأكرب ..ال�صفعة احلقيقية امل�ؤملة يل
من قواعد چارتني ..
مع ذلك ال�صباح ح�ضر �ضابطان �إىل بيتنا معهما �أوراق ثبوت
بلوغ �أمي اخلم�سني ،مل يعرت�ض �أي منا �إال بدموعنا التي �سالت على
وجوهنا ،ال ي�ستطيع �أح ٌد االعرتا�ض ..ال ا�ستثناءات يف هذه القاعدة،
ومن �أجل بقاء ن�سلنا �شري ًفا كان على �أمي �إنهاء حياتها طب ًقا للقواعد
ذلك ال�صباح ..
غادرت �أمي مع ال�ضابطني الذين رف�ضا مرافقتي لهما ،حتى و�إن
كنت �أعلى منهما رتب ًة ،وبقيتُ �أنا وزين يف بيتنا � ..س�ألني بخوف:
�إىل �أين تذهب؟
قلت كاذبة:
�ستعود قري ًبا ..
ال يعلم �أي من �أهل چارتني �شي ًئا عن طريقة موتنا بوادي حوران
بال�شمال ال�شرقي ،يخت�ص رجال الدين بذلك الأمر ويبقونه �س ًرا ..
�أكرث الأقاويل قالت �أنه �س ٌم مريح يو ّفر ميتة مريحة دون �أمل ،لكن مل
ي�ستطع �أحد �أن ي�ؤكد ذلك الأمر� ،س�أعرف حت ًما حني �أبلغ موعدي،
�أمتنى فقط �أن تذهب روح �أمي النقية �إىل ج�سد طاهر �شريف يحافظ
9
عليها ..
هذه هي �سنة احلياة يف چارتني � ..أ ٌمل حقيقي من فراق �أقرب
النا�س لك عليك �أن تعتاده ،هكذا ُخلقنا وهكذا نعي�ش وهكذا نرتكها
ملن بعدنا ..
بعد موت �أمي تركتُ بيتنا القدمي ،وانتقلتُ مع �أخي �إىل بيت جديد
لبدء حياة جديدة ،حاولتُ تدريج ًيا �أن �أع ّو�ضه عن غياب �أمي و�أن �أهتم
متاما .م�سكني هذا الطفل جاءت به �أمي به ك�أن �أبي و�أمي موجودان ً
ليمنع عني وحدتي لكنها تنا�ست �أنه �س ُيحرم �صغ ًريا منها ومن �أبي ..
مل �أهتم بتعليمه القواعد كما تعلمتُ يف �صغري ،وتركتُه يعي�ش
حياته كطفل يحب اللعب مثل �أقرانه يف ذلك ال�سن ،وفرحتُ كث ًريا حني
وجد مبنطقتنا اجلديدة �صحبة اعتادت لعب الكرة �أ�سفل �شرفتي ،مع
مرور الأيام تعودتُ على �صياحهم ال�صباحي ،كذلك �أ�صبحتُ املُكاف ِئة
لهم بحبات احللوى �إن �أحرز �أحدهم هد ًفا ..كنت �أ�شعر �أنهم يحبونني
ح ًقا عك�س ما يردده البع�ض ب�أن �أطفال جويدا يخ�شونني.
اليوم كانت �سعادتهم بي �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة ،كنت �أعلم �أن زين
قد �أخربهم �أنني بلغتُ عامي الرابع والع�شرين ،و�أن ال�سيدة �سامرية
�ست�أتي لأخذ مقا�سات ج�سدي بعدما اتفقتُ مع ندمي �آخر مرة التقينا
بها ب�أن ُيقام زواجنا بباحة جويدا بيوم الغفران نهاية هذا ال�شهر ..ما
كنت �أ�صدق ح ًقا �أن ندمي �سي�صل �إىل عامه اخلام�س والع�شرين دون
�أن يكون �أحد قتالي على املن�صة ..لقد فعلها من �أجلي ،قالت ال�سيدة
�سامرية مازحة وهيا تنظر �إىل ج�سدي:
أنك الفتاة ذاتها التي
من يرى هذه الأنوثة لن ي�ص ّدق �أبدً ا � ِ
نراها يف باحة جويدا ..
�ضحكتُ و�أنا �أنظر �إىل املر�آة ،وقلت:
ل�ستُ �شريرة �سيدتي � ..إنه عملي فح�سب ..
قالت:
فتاك حديث �أهل چارتني �سي�صبح زواجك على املن�صة من ِ
ل�سنوات ،هذا �إن مل يكن قد �صار حديثهم الآن بالفعل ..
قلت:
�إنها ق�صة كبرية� ،سي�أتي يوم ما لكتابتها ليقر�أها كل �أهل
چارتني ..
غمغمت مازحة وهي تقي�س حميط �صدري:
رامي املن�صة تتزوج الن�سلي لي�صري �شري ًفا ..
قلت:
�شريف ح ًقا ،وي�ستحق ذلك ..
ٌ �إنه
�ضحكت ،ثم ت�ساءلت:
ولكن يوم الزفاف ،من �سيقوم بدور الرامي لإعدام املذنبني؟!!
قلتُ با�سمة:
�سيكون هناك بديل عني حت ًما ،لن �أقتل �أحدهم بف�ستان زفايف..
قالت:
إنك قوية ح ًقا �سيدتي� ،س�أكون �أول احلا�ضرين بالباحة يوم
� ِ
الغفران القادم ..
ثم انتهت وحملت �أغرا�ضها وهي تقول:
�س�أعمل جاهد ًة على االنتهاء من ف�ستانك قبل يوم الغفران
كاف ..
بوقت ٍ
ٍ
ابت�سمتُ و�أنا �أومئ لها �إيجا ًبا ،وقلت:
�أمتنى ذلك ..
ثم غادرت ،وجل�ستُ مع زين الذي ناق�شني بطفولة عن زواجي من
ندمي� ،أخرب ُته �أن ندمي �سيعي�ش معنا يف بيتنا ابتدا ًء من يوم الزفاف،
قائل ب�أن هناك من �سيلعب معه �أخ ًريا باليوم كله ففرح لذلك كث ًريا ً
طفل بري ًئا ال يحمل �ضغينة نحو �أي ن�سلي.
..كان ال يزال ً
تباعا ،التقيتُ خاللها بندمي مرة واحدة ،كان متغ ًريا مرت الأيام ً
نوعا ما ..لكني حني �س�ألتُه �أخربين �أنه بخري ،وا�ستطرد مف�س ًرا تغ ّريهً
ب�أن اللحظة الفارقة قد اقرتبت للغاية وهذا ما يجعل ا�ضطرابه �أم ًرا
طبيع ًيا ،فوافقته ..
يف ذلك اليوم توجهتُ و�أنا عائدة �إىل بيتي �إىل بائع ال�سكاكني،
وا�شرتيتُ خنج ًرا ثمي ًنا دون �أن �أخربه ،وعندما عدتُ علقتُ ذلك
اخلنجر داخل حافظته بجوار ف�ستان زفايف الذي �أعدته ال�سيدة
�سامرية ب�أحد �أركان غرفتي ،ومتنيتُ و�أنا �أنظر �إليهما لو �أن طبي ًبا
تواجد بالباحة يومها ليعالج اجلرح والأمل الناجتني عن �إزالة و�شم
ندمي ..لكن �أعرف حبيبي جيدً ا ،لديه من قوة التحمل ما يجعله يف
عدم حاجة �إىل �أي طبيب �أو دواء ..
كنت يف انتظار يوم الغفران بفارغ ال�صرب ،ال �أعلم ملا �صارت الأيام
وائت
بطيئة �إىل هذا احلد � ..أيها الوقت الثقيل ُمر �سري ًعا يف �سالمِ ،
بيوم الغفران الذي انتظرته ت�سع �سنوات كاملة ..لكنه �أتى يل بالفتى
الذي مل �أره منذ عامني تقري ًبا ،ريان !! ..
انده�شتُ عندما ر�أيته �أمامي حني فتحتُ الباب ،كان م�ضطر ًبا
ومتوت ًرا للغاية يبلل العرق ن�صفه العلوي العاري ،ف�س�ألته يف توج�س
حني ر�أيته يلهث:
9
هل حدث خطب لندمي؟!!
قال الفتى:
ُاعتقل �سيدي للتو.
كان �سيدي يعاين منذ �سنوات ،مل يعرف �أحد ذلك ،كانت روحه
الن�سلية تثور كل ليلة تقري ًبا خا�ص ًة يف الأيام التي كان يتعر�ض
فيها للإيذاء من �شرفاء چارتني ،ر�أيته بعيني وهو يحاول
حتجيمها ،كان ينهك ج�سده من �أجل �إخمادها ..
وتابع:
كان ج�سده ملي ًئا باجلروح لهذا ال�سبب ..
جالت بعقلي اجلروح الكثرية واخلدو�ش التي طاملا ر�أيتها بيد ندمي
�أو ذراعه �أو كتفه ،وتذكرتُ حديثه عنها دائما ب�أنها حوادث متفرقة
نتيجة احلياة البدائية يف وديان الن�ساىل ..
�أردف الفتى وهو يبلع ريقه:
منذ عام تقري ًبا ،منذ عبوره عامه الرابع والع�شرين و�أخذ الأمر
منحنى �آخر� ،صار الأمر �صع ًبا للغاية ..مل يكن �أمامنا �إال تقييد
ليل حتى تهد�أ روحه .. �سيدي بحبل �سميك ً
متاما
يوما ما بعدما ت�ؤمن ً كان يقول يل �أن روحه الآثمة �ستُخمد ً
علي كل مرة ب�أال �أخرب �أحدً ا مبا يحدث
ب�أنه ال جمال لها ،وي�ؤكد ّ
له ..
كنت �أ�ستمع �إليه ،وترتع�ش قدماي ال �إراد ًيا ،وك�أن غفران �ضابطة
املن�صة الواثقة القوية قد عادت جمددًا �إىل الطالبة ال�صغرية اخلائفة
املرتبكة ..قال ريان:
لقد كان يعاين كث ًريا ،كث ًريا للغاية ..كان لديه من الأمل ما
يجعله ي�سعى للعبور �إىل يوم الزواج ،لكنه مل ي�ستطع ..
ثم �صمت ً
قليل قبل �أن يتابع:
كان يختفي كث ًريا بالأيام الأخرية ،وو ّكل يل مهمة تعليم الطلبة،
مل �أكن �أعلم �إىل �أين يذهب ،لكنه كان يطمئنني �أنه بخري بعدما
يعود ،فظننتُ �أنه ُيع ّدين لأكون من يخلفه بتعليم �أبناء الن�ساىل
�أو ي�أتي لر�ؤيتك يف تلك الأوقات ..
قلت:
مل �أره �إال مرة واحدة خالل هذا ال�شهر ،ثم �س�ألته:
ماذا فعل؟! ..ملاذا اعتقل؟!
قال:
قالت يل فتاة ن�سلية �أنه كاد يقتل امر�أ ًة �شريفة ،يقرتب عمرها
من اخلم�سني لكن �ضباط الأمن �أم�سكوا به قبل �أن يقتلها ..
ذراعي امل�سنودتني على الطاولة ،ودارت ال�سنوات
ّ و�ضعتُ ر�أ�سي بني
املا�ضية جميعها بر�أ�سي ،كل �شيء � ..سنوات الباحة ..املدر�سة
املتو�سطة ..لقاءات املرج ال�شرقي ..كلماتنا ونحن نعد بع�ضنا بالوفاء
ثوان ،كما �ضاع كل �شيء
بعهدنا حتى نتزوج ،كل �شيء مر يف ر�أ�سي يف ٍ
يف الثوان ذاتها � ..أفقتُ مما كنتُ فيه على كلمات ريان:
عليك �أن ت�ساعديه ،لقد عانى كث ًريا ،لقد ر�أيتُ معاناته بعيني،
ِ
لك �أنه كان ي�سعى جاهدً ا للو�صول �إىل هدفكما ،لكن �أق�سم ِ
يبدو �أنه مل ي�ستطع التحمل ،كان الأمر يفوق قدرته ..
طاملا مل يقتل قد ميتلك فر�صة للنجاة من الإعدام� ،إنني �أعي
قبلت بالزواج به يومها �سيكرمه القا�ضي القواعد جيدً ا � ..إن ِ
أرجوك ال
وقتك لت�ساعديهِ � ، لك ك�شريفة ..لقد حان ِ إكراما ِ
� ً
أرجوك ..
يتعلق الأمر بندمي فح�سب� ،إنه يتعلق بنا جمي ًعاِ � ،
زواجك منه يف املوعد ذاته �سيخمد روحه الآثمة ،لن يفعلها
ويرتكب �أي جرم مرة �أخرى ..
وجثا على الأر�ض وهو يبكي كي يق ّبل قدمي ،ف�أبعد ُتها �سري ًعا ..
كان داخلي م�ضطر ًبا �إىل حد فقدان الزمان واملكان كل معانيهم،
�أظن �أنني مل �أفهم �أي كلمة من كلماته التي قالها بعد ذلك حتى ..
�صارت الكلمات جميعها فج�أ ًة ال تزيد عن همهمات ت�سمعها �أذين ..
كل ما فعلته �أنني وا�صلتُ �سكوين وجمودي يف مو�ضعي ،حتى الدموع
نف�سها حتجرت يف عيني و�أبت �أن ت�سقط ،كان ثمة �صوت فقط يع�صف
بداخلي:
لقد ارتكب ندمي جرميته ..لقد ارتكب الن�سلي جرميته ..
ظ ّل ريان يتو�سل �إ ّ
يل ويقول:
إليك ..
كان يعاين من �أجل �أن يكمل وعده � ِ
بينما �أنا كنت يف عامل �آخر منف�صل ،ال ي�ستطيع �أحد �أن يعرف
ماذا كنت �أم ّر به � ..صرتُ كالبناء ال�شاهق الذي انهار يف ثانية واحدة
..ثم نه�ضتُ من مو�ضعي هائمة ،واجتهتُ �إىل غرفتي ،وتركتُ ريان
بالردهة وك�أنه غري متواجد ،و�أغلقتُ الباب من خلفي ،وجل�ستُ على
الأر�ض �أ�سنده بظهري ور�أ�سي ..كان ف�ستان زفايف ُمعلقا مكانه �أمامي
بجوار حافظة اخلنجر ،فلم �أمتالك نف�سي و�أجه�شتُ يف البكاء.
بكيتُ هذه املرة �أكرث من �أي مرة بكيتُ بها يف حياتي� ،أكرث مما
بكيتُ يوم رحيل �أبي و�أمي ..ثم �أ�صابتني نوب ٌة من ال�صراخ والهياج
حطمتُ بها كل ما هو قابل للك�سر بغرفتي ،حتى ُجرحت يدي وان�سال
الدم منها ،فجل�ستُ جمددًا �أوا�صل بكائي ..
�سمعتُ طرقات �ضعيفة على باب الغرفة ،فقلتُ باكية:
ال تقلق يا زين� ،إنني بخري ..دعني الآن فح�سب ..
كان ب�صري ثابتًا على الف�ستان واخلنجر املتديل ،ال يتحرك عنهما
ميي ًنا �أو ي�سا ًرا ..وظللتُ يف هذه احلالة �إىل �أن ا�ستيقظتُ فوجدتني على
�سريري ،وحني حركتُ عيني جان ًبا وجدتُ زين يجل�س بجواري ومعه
امر�أتان من جرياننا � ..أخربتني �إحداهما �أنني فقدتُ وعيي ،وا�ستغاث
9
بهما زين ،و�أن هناك طبي ًبا قد �أتى وطم�أنهم �أنني بخري بعدما �ض ّمد
يدي املجروحة� ،أخربهم �أنني يف حاجة �إىل الراحة فح�سب ..فهززتُ
ر�أ�سي �إيجا ًبا والدموع تت�ساقط على وجهي ،ثم �أغم�ضتُ عيني ومتنيتُ
داخل نف�سي �أال �أنه�ض جمددًا �أبدً ا.
�صارت الأيام الثقيلة البطيئة ترك�ض فج�أة وك�أنها التحقت ب�سباق
�سرعة ،مل �أغادر غرفتي طوال تلك الأيام �إال من �أجل �إعداد الطعام
لزين ،قبل �أن �أعود �سري ًعا �إليها ،لأنظر �شارد ًة �إىل الفراغ �أمامي ..
يوما ً
كامل ..متنيتُ ينقب�ض قلبي مع كل نهار مير ليق ّرب يوم الغفران ً
م�سموحا لأحد
ً لو متكنتُ من الذهاب �إليه لكني مل �أ�ستطع ..لي�س
�ضابطا للأمن ..كان ذلك ً بزيارة امل�ساجني من الن�ساىل ،و�إن كان
�أم ًرا ق�ضائي ال نقا�ش فيه.
ومع �سرعة الأيام الرهيبة التي فاقت �إدراكي ،ح ّل �صباح يوم
الغفران ..كنتُ �أعلم �أن خرب زواجي هذا اليوم قد انت�شر بالأرجاء
وخا�ص ًة بعدما �أخربتُ بديلي يوم الغفران ال�سابق باال�ستعداد ليحل
كرام للمن�صة لإعدام املذنبني بعد زفايف ..ال يعلمون �أن كل
حملي ٍ
�شيء قد انتهي ..
وقفتُ بغرفتي �أمام ف�ستان الزفاف واخلنجر املُ ْ
علقي ،و�أنا �أتذكر
حديث ريان ب�أنني الأمل الوحيد لنجاة ندمي ،ومن ّثم جناة الن�ساىل
من بعده ..ثم تخ ّللت تفكريي كلمات �أمي ،الن�ساىل خائنون ..لن تكف
الروح عن �آثامها �أبدً ا ،واخرتقت كلماتها �أذين:
لن يحمل ن�سلنا العار �أبدً ا ..
لتتداخل مع كلمات ريان:
ال يتعلق الأمر بندمي فح�سب� ،إنه يتعلق بنا جمي ًعا ..
تداخلت معهما كلمات ندمي:
وماذا �إن مل � ِأف بوعدي؟
لأ�سمع �صوتي:
�س�أقتلك باخلنجر ذاته وقتها ..
عاد �صوت ريان من جديد:
عليك �أن ت�ساعديه ..
أرجوكِ ،
�إنه يتعلق بنا جمي ًعا ِ � ..
�أ�سكته �صوت �أمي:
الن�ساىل خائنون� ،سيحمل �أطفالك الروح الن�سلية � ..سيحملون
لك ذلك �أبدً ا ..
العار ..لن يغفروا ِ
عاد �صوت ندمي:
�س�أفعلها من �أجلك ..لن �أرتكب �أي جرمية حتى موعد زواجنا..
�صوت �أمي جمددًا:
الن�ساىل خائنون ..
�صوت ريان:
إنك الأمل الوحيد لندمي ولنا ..
� ِ
�صوت �أمي:
�إنهم خائنون ..
�صوت ندمي:
للأبد ..
�صوت الظابط الذي �أهانه �أمامي:
�سي�أتي يو ٌم تفعلني بهم �أق�سى مما فعلتُ ..
�صوت ندمي:
من �أجلك ..
�صوت �أمي:
خائنون ..
�صوت ريان:
من �أجلنا جمي ًعا ..
9
�أ�صواتٌ متداخلة مل تتوقف عن ال�صراخ يف عقلي ك�أنني �أ�صبتُ
باجلنون ..حتى �أم�سكتُ بر�أ�سي ،وجل�ستُ على �سريري �أنظر �إىل
الأر�ض �أمامي يف غري تركيز ،ثم رفعتُ عيني �إىل الف�ستان واخلنجر
�أمامي ،واتخذتُ قراري الذي اطم�أن �إليه داخلي ..
كنت �أريد مزيدً ا من الوقت لتمالك نف�سي بعدما �شعرتُ با�ضطراب
�شديد كان الأ�صعب يف حياتي على الإطالق ،ثم ُع ِقد الزواج الأول
وه ّلل احلا�ضرون ..بعده ُع ِقد الزواج الثاين وه ّللوا مرة �أخرى ،قبل
�أن يعلن القا�ضي عن انتهاء زيجات اليوم وبدء املحاكمات لتبد�أ
زواجا �سيتم بيني وبني ندمي
همهمات اجلمهور بعدما توقعوا �أن هناك ً
ذلك اليوم ،ثم بلغت الهمهمات ذروتها بعدما �صعدتُ ال�سلم اخللفي
للمن�صة لأقف �أمامهم بثوبي الع�سكري الكامل ..
حتى �أن بديلي الذي كان يع ّد نف�سه للقيام مبهامي نظر �إ ّ
يل هو
تعجب بالغ ،فهززتُ له ر�أ�سي �إيجا ًبا ب�أنني جاهزة للعمل،
الآخر يف ٍ
ثم حتركتُ �إىل منت�صف املن�صة و�سط الهمهمات املتوا�صلة �إىل �أن
وقفتُ مبكاين ،و�ألقيتُ التحية الع�سكرية للقا�ضي ،قبل �أن �ألتف و�أواجه
اجلمهور املحت�شد ..
ثم حتدث القا�ضي بكلمات مل تختلف كث ًريا عن همهمات اجلمهور
بالن�سبة يل ..بعدها ُجر املذنب الأول ُمكبل اليدين ومغطى الر�أ�س
حد غري م�سبوق ،فعلمتُ �أن غطاء من خلفي ،فازدادت الهمهمات �إىل ٍ
الر�أ�س قد ُنزع وظهر ر�أ�س ندمي ..وك�أن ج�سدي قد تناثر لأجزاء
احتاجت �إىل من يلملمها ويعيدها متال�صقة كما كانت ،وقفتُ مت�سمر ًة
يل ب�إطالق مكاين �أخ�شى �أن �ألتفت �إليه ..ثم �صدر �أمر القا�ضي �إ ّ
الر�صا�ص ،وقتها �سكتت الهمهمات لأ�ستدير �إليه ،كان واق ًفا ُمره ًقا
كبل عاري ال�صدر ..تقول عيناه التي كانت تنظر يف عيني مبا�شرة: ُم ً
�أنقذيني ..
فوجدتُ نف�سي �أرفع �سالحي الناري مب�ستوى ب�صري ،وقتها ه ّز
ر�أ�سه والدموع تلتمع يف عينيه لتدور بر�أ�سي كلماتنا �سو ًياُ ،قبلته يل
بالباحة ،تعلقه بالقائم اجلانبي للباحة ،التختة اخل�شبية واملحادثات
املكتوبة ،ا�سمي املنقو�ش ،وكلمة «للأبد» ..لأجد يدي تنخف�ض جمددًا
لتُ�سقط ال�سالح الناري على �أر�ض املن�صة اخل�شبية ،فا�شتعلت
الهمهمات مرة �أخرى و�أنا �أقرتب خطوات منه� ،إىل �أن وقفتُ على ُبعد
خطوة واحدة منه ،فقال ودموعه تت�ساقط:
حاولتُ كث ًريا� ،أق�سم �أنني حاولتُ كث ًريا من �أجلك ..
كنت �أنظر �إليه والدموع تتجمع بعيني ..قال:
لك ..
لن �أفعلها جمددًا � ..أق�سم ِ
مل �أنطق ..فتابع:
هناك �شيء ما حترك بداخلي دون �أن �أعي ،مل �أكن
لك
�أنا � ..أعطيني فر�صة واحدة �أخرى فح�سب � ..أق�سم ِ
�س�أحافظ على وعدي ..
كنت �أنظر �إىل الأر�ض بينما هو يتو�سل �إ ّ
يل بكلماته ثم رفعتُ عيني،
وقلتُ و�أنا �أنظر يف عينيه:
َمن يخون مرة ..يخون كل مرة ..
ثم �أخرجتُ خنجري الذي ظل ُمعل ًقا لأيام بجوار ف�ستان زفايف،
علي وعلى
وب�ضربة واحدة حا�سمة �شققتُ عنقه لتتناثر دما�ؤه الدافئة ّ
�أر�ض املن�صة ..
�سكون تام ..ال همهمات ،ال هم�سات ،ال �أ�صوات ،ال �شيء � ..أفواه
مفتوحة دون كلمات ،وعيو ٌن مذهولة تنظر جميعها �إ ّ
ىل و�أنا �أ�ستدير
متاما عن احلركة نحوهم بعدما �سكنت جثة ندمي الغارقة يف دمائها ً
..لأنظر �إليهم و�إىل الباحة ..كانت املرة الأوىل التي �أمعن فيها النظر
�إىل الباحة من ذلك امل�ستوى املرتفع.
ثم نظرتُ �إىل القا�ضي بجواري والذي مل تختلف ده�شته عن غريه
من احلا�ضرين ،ونظرتُ �إىل �سالحي الناري املُلقى على الأر�ض وعلقتُ
لثوان يف �شرود تام ،ثم وجدتني �أخلع حزامي اجللدي املحيطبه نظري ٍ
بخ�صري لألقي به على الأر�ض بجواره ..ثم �ألقيتُ بخنجري بجوارهما
..ثم فككتُ �أزرار �سرتتي الع�سكرية التي حتمل �شارتي وخلعتها ،ثم
و�ضعتها بجوارهم ،قبل �أن �أهبط ال�سلم اخل�شبي املواجه للمحت�شدين.
وك�أن �أذين قد ُ�ص َّمت عن العامل املحيط بي مل �أ�سمع �إال وقع
�أ�صوات خطواتي املتباطئة على خ�شب ال�سلم يتقاطع مع �صوت دقات
قلبي و�أنفا�سي ..لأ�سري هائمة بني املحت�شدين الذين �أف�سحوا م�سا ًرا
يل ..لأبتعد �أكرث و�أكرث عن املن�صة ،ال تعي �أذين كلم ًة واحدة مما ُيقال
من حويل ،حتى ارتطمتُ ب�أحدهم و�سقطتُ على الأر�ض ،وقتها �أفقتُ
9
حلظ ًيا من �شرودي ،لأدرك �شي ًئا واحدً ا ..مل ُتطلق �أي زغرودة بعد
مقتل ندمي ،ت�ساقطت دموعي على وجهي و�أنا �أنه�ض بعدما م ّد �أحد
الرجال يده مل�ساعدتي ،ثم �أكملتُ طريقي �إىل البوابة اجلنوبية للباحة
لأغادرها �إىل الأبد.
()17
«فاضل»
يف اليوم التا�سع ع�شر ظهر �أمام عيني جدار چارتني العظيم ،كان
البحار و�أنا �أقف بجواره:
جدا ًرا رهي ًبا �أبحرنا على مقربة منه ،قال ّ
لقرون طويلة ..
يتحمل هذا اجلدار عبء حماية چارتني ٍ
هائجا للغاية يف تلك الأثناء ،ف�أبط�أت ال�سفينة من
كان املوج ً
�سرعتها وزاد ن�شاط البحارة على �سطحها ،وهبط معظم الركاب
�إىل الغرف ال�سفلية بينما بقيتُ على �سطح ال�سفينة مع البحارة،
و�ساعد ُتهم يف نزح املياه التي كادت ت�صل �إىل م�ستوى ركبتي ..
كامل وب�ضعة �ساعات ..حتى يوما ًظللنا ن�سري مبحاذاة اجلدار ً
و�صلنا مع غروب �شم�س اليوم الع�شرين �إىل مرف�أ جنوبي كان يقع بقرية
9
�صغرية تظهر من خلفها �سل�سلة جبلية تبتعد قلي ًال عن نهاية اجلدار،
�أخربتنا دميا ب�أنها ُت�سمى اجلبال احلمراء ،ثم ر�ست ال�سفينة ،وقامت
دميا بتمزيق ُكم ف�ستانها الأي�سر ليظهر و�ش ٌم �أزرق منقو�ش على كتفها،
�أدركتُ �أنه و�شم الن�ساىل ..
�سارت بنا عربة �ص ّديق يف طريق رملي امتد يف اجتاه ال�شمال ،ثم
ظهر برزخ النهر اجلاف فقالت دميا ونحن ن�سري مبحازاته:
� ً
أهل بك يف چارتني ..
بعدها ح ّل الليل فقررت �أن نع�سكر ليلتنا يف مكاننا ،على �أن نوا�صل
حتركنا مع طلوع ال�شم�س نحو باحة جويدا ..
يف �صباح اليوم التايل �أكملت بنا العربة طريقها جتاه ال�شمال،
كنت �أ�شعر باال�شمئزاز يتنامى بداخلي جتاه دميا ك ّلما تذكرتُ �أمر
بيعها لطفلها املنتظر لكني �آثرتُ �أن �أبقى �صامتًا ..حتى و�صلت بنا
العربة �إىل الباحة املن�شودة وهناك �أ�صابني الذهول كل ًيا بعدما ر�أيتُ
بعيني احت�شاد ع�شرات الآالف داخل �سور ذلك املكان يف ال�ساعات
الأوىل من ال�صباح ..
�أخربنا �ص ّديق �أنه �سيبقى بعربته ،فغادرتُ �أنا ودميا ودلفنا من
البوابة القريبة من �ساحة العربات واتخذنا مكا ًنا بجنوب الباحة ،كان
الكثريون يتحدثون من حويل �أثناء العرو�ض الأوىل للفرقة املو�سيقية
عن زواج �سيدة املن�صة �أو راميها كما قال بع�ضهم من �شاب ن�سلي ..ثم
نادتني دميا كي نتحرك خطوات �إىل الأمام مع بدء الزيجات ،الحظتُ
اهتماما كب ًريا للزيجة الأوىل وال الثانية ..
ً �أن �أهل چارتني مل يعطوا
بدا �أن تركيزهم كله كان من�ص ًبا على الزواج املنتظر ،لكني ر�أيتُ
خيبة الأمل على وجوهم بعدما انتهى زواجان ومل تكن هناك زيجة
ثالثة ،يف ذلك التوقيت التفتُ حويل فلم �أجد دميا ،ف�ضربتُ ر�أ�سي
م�ؤن ًبا نف�سي بعدما و�ضعتُ تركيزي مع تعبريات الوجوه من حويل ومل
�أنتبه �إىل دميا التي حتركت من جواري دون �أن تخربين ..
فارتقيتُ بر�أ�سي كي �أبحث عنها ،ثم خطوتُ خطوات للأمام لكني
مل �أجدها ،وتوقفتُ مكاين بعدما مل ي�سمح يل �أحد بالتقدم خطوات
�أخرى ..ثم انتبهتُ مرة �أخرى �إىل املن�صة حني زادت الهمهمات
عندما �صعدت املن�صة امر�أة ذات زي ع�سكري ،قالت امر�أة بجانبي
يف ده�شة:
�إنها هي ..ال�سيدة غفران ..
متنيتُ داخل نف�سي لو �أمتلك الثقة التي بدت على وجه تلك
بثبات بالغ يتدىل �سالحها الناري من حزام
ال�سيدة .كانت تقف �أمامنا ٍ
خ�صرها ..تنظر �أمامها دون �أن تلتقي عيناها ب�أحد من اجلمهور
املحت�شد �أمامها ،وينت�صب كتفاها العري�ضان لتقول �أنها الأكرث قوة يف
تلك الباحة ..
رجل ُم ً
كبل ُمغطى الر�أ�س ليقف خلفها مبا�شرة، ثم ج ّر جنديان ً
ثم نزع �أحدهما غطاء ر�أ�سه ،فازدادت الهمهمات من حويل ،و�سمعتُ
ً
رجل ي�صيح:
�إنه هو ..عري�سها الن�سلي ..
فبلغت الهمهمات �أق�صاها ،وبد�أ احلا�ضرون يقفون على �أطراف
�أقدامهم ويتدافعون لي�شاهدوا ما يحدث �أمامنا ،ووقفتُ �أنا الآخر
على �أطراف �أ�صابعي ،لأنظر �إىل تلك ال�سيدة على املن�صة ومن خلفها
ال�شاب املُك ّبل ،وتخ ّيل عقلي ق�صة حب عظيمة بني ذلك الثنائي انتهت
بخيانة �أحدهما للآخر ل ُيكتب م�شهد النهاية �أمامنا ..
مل ي�أخذ الأمر دقائق بعدها ،التفتت ال�سيدة بثباتها املده�ش �إىل
رجل �أربعيني وقور كان على ي�سار املن�صة قبل �أن تلتف نحو ال�شاب
املُك ّبل ،وقتها فقط �صمتت الهمهمات من حويل ،وتطلعت الأعني يف
انتباه �شديد �إىل املن�صة ..
لكننا فوجئنا بها ُتلقي ب�سالحها بعدما كادت تطلق النار جتاهه،
قبل �أن تقرتب منه لتُخرج خنج ًرا �أو �سكي ًنا وت�شقّ رقبته ..ثم ا�ستدارت
بهدوء ،و�ألقت بثوبها الع�سكري وخنجرها بجانب �سالحها ،وهبطت
�سلم املن�صة املواجه لنا ،لتختفي عن عيني ،فالتفتُ حويل لأبحث عن
دميا ،وبد�أتُ �أنادي ب�صوت مرتفع ع ّلها ت�سمعني ،غري �أن الأ�صوات
املرتفعة ل�ضجيج النا�س قد حالت دون ذلك.
فا�ستدرتُ وعدتُ خطوات �إىل اخللف ،ووا�صلتُ ندائي ب�صوت
ارتفاعا ،لكني توقفت فج�أة حني ا�صطدم بي �أحد الأ�شخا�ص من ً �أكرث
اخللف ،والتفتُ نحوه و�أنا �أتفادى ال�سقوط ،فوجدتها املر�أة ذاتها التي
كانت تقف على املن�صة ..ال�سيدة غفران ..والتي �سقطت من �أثر
االرتطام بي ،فمددتُ لها يدي ،و�ساعدتها على النهو�ض ،نظرت يف
عيني للحظة واحدة ،ر�أيتُ عينها تلتمع بالدموع لأ�شعر وقتها �أن القوة
التي �أظهرتها �أمامنا على املن�صة قد انهارت لتوها ،وا�ستحالت �إىل
�ضعف �شديد �سينخر بقوة داخل تلك ال�سيدة ..
نه�ضت و�أكملت طريقها مبتعدة عني بني املتزاحمني الذين
�أف�سحوا لها الطريق � ..شرد تفكريي ً
قليل و�أنا �أتابع ابتعادها ،قبل
�أن يف ّكر عقلي جمددًا بدميا التي اختفت ،والزغرودة التي مل �أ�سمعها
..وهذا ما كان يعني �أم ًرا واحدً ا ،وهو بقائي يف هذا البلد �شه ًرا �آخر
حتى يوم الغفران القادم لينال جنني دميا فر�ص ًة �أخرى ،وهذا ما مل
�أرده �أن يحدث على الإطالق ،ووا�صلتُ ندائي من جديد ..ثم هد�أت
الهمهمات من حولنا بعد مغادرة �ضابطة الأمن الباحة ،لتظهر جلب ٌة
جديدة على بعد �أمتار عن ي�ساري ،و�سمعت �أذين َمن ت�صرخ بكلمة
طبيب ،حتركتُ ب�صعوبة جتاه ال�صوت ،وقلت ل�شخ�ص يقف يف طريقي
وال يريد �أن يتحرك:
�إنني طبيب ..
قال بعدم اكرتاث:
�إنها ن�سلية ..دعها متوت ..
لكنني اجتزته ،ووا�صلتُ طريقي ب�صعوبة بني الأج�ساد املتال�صقة،
حتى اقرتبتُ من �صوت ال�صراخ ،كان المر�أة بدا �أنها جتل�س على
الأر�ض ،كانت ت�صرخ بدون توقف:
نريد طبي ًبا ..
حاولتُ مب�شقة بالغة تخطي الدائرة التي حتيط بها حتى عربتهم،
وكدتُ �أقول لها �أنني طبيب ،فوجد ُتها فتاة يظهر و�شم الن�ساىل على
كتفها ،جتل�س على ركبتيها وبجوارها دميا نائمة على الأر�ض فاقد ًة
وعيها ،ف�أدركتُ �أن نوبة ال�صرع قد �أ�صابتها ،فجثوتُ على ركبتي
�سري ًعا وفح�صتُ عالماتها احليوية ،وت�أكدتُ �أن جمرى تنف�سها على
ما يرام ،فه ّد�أتُ من روع الفتاة اخلائفة ..
ثم بد�أت يف �إفاقتها عن طريق �إ�صابتها ب�أ ٍمل بالغ ،و�أخذتُ �أ�ضغط
ب�إبهامي �أ�سفل حاجبها �ضغطات �شديدة و�سط تعجب املحيطني بي،
لكنهم هد�أوا حني وجدوها ترفع يديها لتبعد يدي ال�ضاغطة عن
حاجبها ،فوا�صلتُ �ضغطاتي حتى فتحت عينيها ،ف�أبعدتُ يدي ،ظلت
يل دون تركيز ك�أنها ت�ستوعب ما حدث ،ثم �أنه�ضتها لثوان تنظر �إ ّ
ٍ
الفتاة لتجل�س ،كانت ال تزال تنظر نحوي ،فقلتُ :
عنك كث ًريا ..
فقدتك بني اجلمهور وبحثتُ ِ
ِ لقد
9
فهم�ست يل ب�صوت متعب للغاية:
لقد �شعرتُ به يف بطني ،لقد حترك جنيني.
()18
�أخرجتُ �سماعتي الطبية على الفور عندما قالت دميا �أنها �شعرت
ً
متجاهل الأ�صوات ال�صاخبة بحركة جنينها ،وبد�أتُ �أفح�ص بطنها
عيني حني �سمعت �أذناي نب�ضات قلبية تد ُّق
من حويل ،فات�سعت حدقتا ّ
مبعدل �سريع ،كانت هي الدقات القلبية التي طاملا اعتدتُ �سماعها
لأجنة الن�ساء احلوامل ،فنظرتُ يف عينها وقلتُ غري م�صدق:
�إن قلبه يدق بالفعل ..
9
فو�ضعت �سبابتها �أمام فمها املغلق يف �إ�شارة يل كي �أ�سكت ،ثم
حذر:
ب�صوت ِ
ٍ اقرتبت بر�أ�سها مني ،وهم�ست يل
هيا بنا لنغادر الباحة ..
غادرنا الباحة يف الوقت الذي كان ُينفذ به �إعدام �آخر على املن�صة،
ووا�صلنا طريقنا �إىل عربة �ص ّديق ،وحني �أ�صبحنا على بعد �أمتار منه
توقفت دميا وقالت يل متعبة:
�سنغادر چارتني مع �أول �سفينة متجهة �إىل ال�شمال ..
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ،ثم قلت:
متي ترحل تلك ال�سفينة؟
قالت:
�أخربين مالك ال�سفينة �أنه قد ميكث �سبعة �أيام حتى يج ّمع
عددًا من امل�سافرين ..
ت�ساءلتُ :
و�أين �سنق�ضي �أيامنا ال�سبع؟
قالت:
بالوادي الذي ن�ش�أتُ به ..
ثم تابعت بجدية كبرية:
ال تخرب �أحدً ا هناك مهما يكن �أن جنيني قد نال روح ذلك
املعدوم ..
قلت متعج ًبا:
ملاذا؟!
قالت:
�إنني �أعرف �صاحب هذه الروح جيدً ا ،كان يحبه الكثريون � ..إن
علموا �أن طفلي ميتلك روحه لن يرتكونني �أرحل لأبيعه ..دعهم
يظنون �أن روحه ارتاحت للأبد ..
قلت:
وماذا عن الفتاة التي كانت ت�صرخ بجوارك؟
قالت:
�أظن �أنها مل ت�سمعني و�أنا �أخربك ..
وتابعت:
حتى �ص ّديق ال تخربه � ..س�أخربه بعدما نغادر چارتني ..
قلت:
9
ح�س ًنا ..
ثم اقرتبنا من �ص ّديق الذي غادر بنا عرب طريق ترابي �أخربته
دميا ب�أن ينطلق به ..
نعم ..
تابع الفتى:
قمنا بدفن جثته على مقربة من �أ�شجار الوادي ..
�أخربتني دميا يف وقت �سابق �أن الن�ساىل يحق لهم دفن �أج�ساد
موتاهم املعدومني �إن �أرادوا ذلك ..
ثم قالت لأخيها باقت�ضاب:
�س�أغادر بعد �أيام ،على �أن �أعود بعد �شهرين ..
�س�ألها:
ومل تغادرين؟!..
قالت:
لدي �أربعة �أ�شهر كاملة قبل
مل يعد هذا املكان مكاين ،وما زال ّ
مولد الطفل ..
فقال الفتى يف غري اكرتاث:
كما ت�شائني ..
كان احلزن البادي على وجهه عظي ًما ،لكني مل �أمتلك وقتًا للتفكري
يف ذلك الأمر بعدما �أُ�صيبت دميا بنوبة �صرع مفاجئة ارمتت معها على
الأر�ض وبد�أت تت�شنج بقوة ،ف�أ�سرعتُ نحوها و�أخرجتُ من حقيبتي
�أ�سطوانة �صغرية مرنة وو�ضعتها بني فك ّيها كي �أحمي جمرى تنف�سها
ول�سانها ..ثم �أبعدتُ عنها كل �شيء قد يجرحها ،وتركتها كي تهد�أ ..
كانت تلك النوبة هي الثانية خالل يوم واحد� ،أخذت الت�شنجات
متاما ،بعدها تركتها نائمة ل�ساعة
فرتة ق�صرية من الوقت حتى توقفت ً
تقري ًبا قبل �أن �أعطيها جرعة من �أدويتي ،ثم تركتها تخلد للنوم من
جديد ..وغادرتُ الكوخ لأجل�س مع ريان الذي كان يجل�س �أمام بابه
ينظر �إىل ال�سماء بعينني دامعتني يف �صمت �شديد ،قال بعد حلظات
من جلو�سي بجواره:
كان من املفرت�ض �أن يكون ُعر�سه اليوم ..
فهمتُ �أنه يق�صد ال�شاب املعدوم ،فقلت:
�سمعتُ ذلك �أثناء وجودنا بالباحة ..
قال:
عرو�سه من قتلته هناك ..
وتابع:
مل يع�ش كالن�ساىل ،ومات مثلهم ..ال �أعلم ماذا حدث له كي
يرتكب جرميته ..لكني متيقن �أنهم ا�ستفزوه بكافة الطرق كي
يخطئ ،كان عليه �أن يبقى بالوادي ال يغادره حتى يوم الزواج
� ..أخربته بذلك مرا ًرا ،مل يكن لي�سمحوا له �أن يتزوج �شريفة
بهذه ال�سهولة ..
ثم هد�أ �صوته وقال:
كان �إثمه احلقيقي �أنه ن�ش�أ حاملًا ..
و�أخرج زفريه وهو يقول:
لي�س للحاملني م�أوى غري ال�سجون �أو اجلنون ..
قلت:
يف البالد الظاملة فقط يا �صديقي ..
ه ّز ر�أ�سه ،ثم التقط حج ًرا �صغ ًريا و�ألقاه بعيدً ا �أمامه يف غ�ضب
..وقال:
انتهى كل �شيء بعدما ُقتل على املن�صة ،لن ُيكمل �أي ن�سلي
ما بد�أه قبل �سنوات ..عرف ك ٌل منا م�صريه احلتمي � ..أينما
ت�أخذنا احلياة ال مفر لنا من قواعد چارتني ..
جال�سا مبفردي �أفكر يف
ً ثم نه�ض ودلف �إىل داخل الكوخ ،وبقيتُ
تلك ال�سيدة التي قتلت الن�سلي قبل �أن ترتك كل �شيء وتغادر الباحة،
ثم ان�شغل بايل بنوبات دميا التي بد�أت تتزايد يف معدلها بعد و�صولنا
چارتني ..
يف الأيام الثالثة التالية تكررت نوبات ال�صرع �أكرث من مرتني �أو
ثالثة يف اليوم ،ومع كل مرة كانت مدة الت�شنجات تزداد عن املرة التي
�سبقتها ،و�صرتُ يف حرية بالغة بني تفكريي بزيادة اجلرعات املحددة
وبني ت�أثري تلك اجلرعات الزائدة على اجلنني ،فا�ستقر بي الأمر �إىل
ترك اجلرعات كما هي ،على �أن �أعتني بها جيدً ا ..
ما كان يقلقني ح ًقا هي الرحلة ال�شاقة التي تنتظرنا عرب �أمواج
بحر �أكما �إىل ال�شمال ..مع �أي �سقوط قوي مفاجئ لها قد يكلفها
حياة ذلك اجلنني ،وبني مياه البحر الهائج لن يكون لنا حول وال قوة
..فدلفتُ �إليها فجر اليوم الرابع ،وقلتُ و�أنا �أناولها جرع ًة من دوائها:
رمبا من الأف�ضل �أن ننتظر يف چارتني حتى ت�ستقر حالتك �أو
تلدين مولودك هنا ،رحلتنا على ال�سفينة مع ا�شتداد مر�ضك
�إىل هذا احلد قد يكلفنا حياة طفلك ..
قالت:
ال بد و�أن نغادر مع �أقرب �سفينة راحلة ..
قلت:
�إنها جمازفة حقيقة ..
قالت:
ال تعلم اجلحيم الذي يعي�شه كل ن�سلي ون�سلية هنا� ،إن بقينا
�سي�أتي �أي �شريف ذات يوم ويطالبني ب�أن �أمار�س الرذيلة معه،
و�إن رف�ضتُ قد يتهمني ب�أي �شيء و�أُق ّدم �إىل من�صة چارتني ..
حينذاك �سيموت �سيموت ..
قلت:
قد تختفني حتى تتح�سن �أحوالك ..
قالت:
لقد ر�أتني الكثريات� ،سري�شحنني للأ�شراف مقابل قطعة من
الف�ضة � ..سريغبون بي ظ ًنا منهم �أنني تعلمتُ �أ�ساليب الرذيلة
املختلفة من الغجر ..ال مفر لنجاة طفلي غري الرحيل ..
فلم �أجد �إال �أن �أوافق ر�أيها ،وغادرتُ الكوخ ،كان �ص ّديق ال يزال
نائ ًما فوق عربته ،بينما مل �أجد ريان ..فد�س�ستُ كي�س نقودي ب�إحدى
على
احلقائب على العربة دون �أن ي�شعر بي �ص ّديق ..خ�شية �أن ي�سطو ّ
�أحد الن�ساىل بعدما عزمتُ على التجوال باجلوار ً
قليل قبل ا�شتداد
مقرف�صا �أنظر �إىل
ً حرارة ال�شم�س ،ثم �صعدتُ مرتف ًعا رمل ًيا ،وجل�ستُ
الوادي الذي ظهر هو و�أكواخه من �أ�سفلي ..ثم انق�شع �ضباب ال�صباح
�شي ًئا ف�شي ًئا فظهرت مباين جويدا بعيدً ا َ ..من ي�ص ّدق �أن هذه الأكواخ
وتلك املباين ُت�سمى بلدً ا واحدً ا؟!
ثم نظرتُ �إىل جانب �آخر ،كانت هناك �أ�شجار متناثرة بني �أكوام
قليل عن الأر�ض ،فتذكرتُ ريان عندما قال قبل �أربعة رملية ترتفع ً
�أيام �أنهم قد دفنوا جثمان �سيده ،فنه�ضتُ من جل�ستي ووجدتني �أجته
�إىل هناك ..وملّا اقرتبتُ حر�صتُ �أال حتتك قدمي ب�أي كومة من الأكوام
التي ترا�صت على م�سافات مت�ساوية ..
ثم توقفتُ فج�أة ،وتواريتُ بج�سدي خلف �شجرة ق�صرية حني ر�أيتُ
�سيد ًة جتل�س �أمام كومة رطبة ب�صف بعيد ،مل تكن ثيابها مثل ثياب
الن�سليات الالتي ر�أيتهن منذ قدومي �إىل الوادي ..فحاولتُ �أال �أ�صدر
�أي �صوت بعدما ظننتُ �أنها �سيدة املن�صة التي قتلت ندمي ..حتى
ر�أيتها تلتفت �إىل �أحد جانبيها ليظهر وجهها.
كانت �سيدة �أخرى يقرتب عمرها من اخلم�سني ّ ..
يخط ال�شيب
ً
قليل يف ر�أ�سها ،كانت عيناها دامعتني و�أنفها حمم ًرا ،فمددتُ ر�أ�سي
كي �أرى مالحمها ب�صورة �أو�ضح ،فالتفتت نحوي فج�أ ًة حني �صدر
�صوت ع�شب جاف حتطم �أ�سفل حذائي ،وظهر الذعر على وجهها
وه ّبت واقفة يف فزع �شديد ..فاقرتبتُ منها ،فقالت خائفة:
ال ت�ؤذين ..
فرفعتُ لها يدي كي تطمئن ،وقلت:
ل�ستُ ن�سل ًيا ..ال تقلقي ..
9
وكدت �أ�س�ألها عن �سبب تواجدها �أمام ذلك القرب ،لكنها مل
متهلني �أي وقت ،وغادرت مهرولة �إىل عربة �صغرية كانت تتوارى خلف
�شجرتني ،و�أ�سرعت بح�صانها مبتعدة عني وعن مقابر الن�ساىل.
«غفران»
كرام للمن�صة
كما كان متوق ًعا� ،صدر قرار ب�إيقايف عن العمل ٍ
بدل من ال�سالحبعد خمالفتي قواعد الإعدام وا�ستخدامي اخلنجر ً
الناري .على �أي حال مل �أكن لأعود �إىل الباحة مرة �أخرى ،يكفيني
�سنواتي املا�ضية بها وما حدث يل خاللها � ..إال �أن �أيامي التالية ليوم
الغفران امل�شئوم كانت �صعبة للغاية ..
مل �أغادر بيتنا بعد ذلك اليوم� ،صار الأرق �صديقي ،والزمتني
أع�شاب مهدئة و�صفتها �إحدىالكوابي�س كل دقيقة �أنامها ،ا�ستعنتُ ب� ٍ
جتد نف ًعا ..ك ّلما حاولتُ النوم د ّوت
الطبيبات لأمي قد ًميا ،لكنها مل ِ
�صرخات ندمي بكل جانب بر�أ�سي؛ �أنقذيني ..لأ�صحو على الفور،
و�أنظر �إىل �صورتي يف املر�آة ..مل �أكن �أرى �إال امر�أ ًة قا�سية تنظر نحوي
يف جمود ،ف�أحدثها يف توتر ك�أنني مذنبة تلتم�س الرباءة لنف�سها:
هو من خان الوعد ..وعدين �أال يرتكب جرمية ..
فت�صرخ �صورتي ب�صوته املتو�سل يوم الغفران:
مل �أكن �أنا ..
�أ�صرخ �إىل �صورتي يف خوف:
مل �أكن لأ�ضحي ب�أطفايل من بعدي ..
ت�صرخ ال�صورة جمددًا ب�صوته:
�أنقذيني ..
�أتناول مزيدً ا من �أع�شابي املهدئة و�أحاول �أن �أنام جمددًا � ..أعود
�إىل الباحة يف �أحالمي ..همهمات احلا�ضرين ،عيون الن�ساىل املرتقبة
حللمهم ،تقف ن�سخ ٌة مني �أعلى املن�صة ومن خلفها يجثو ندمي على
كبل ،طعن ٌة باخلنجر ت�شق عنقه ،تتناثر الدماء بكل مكان ركبتيه ُم ً
لي�سقط �صري ًعا ..بينما �أقف بني احلا�ضرين �أ�شاهد ما يحدث ..
�أنظر جان ًبا بعيدً ا ف�أرى ندمي الطفل ي�شاهد ما يحدث من �أعلى
القائم اجلانبي بالباحة ،ثم ي�سقط متهاو ًيا ببطء �شديد وهو ينظر
نحو طفلة يف الثامنة يحملها �أبوها على كتفه ..تنظر �إليه وهو يهوى
دون �أن حترك �ساك ًنا حتى �سقط جثة هامدة ،قبل �أن تلتفت �إىل املن�صة
وتوا�صل ت�صفيقها �إىل الفرقة الفكاهية التي انتهت من عرو�ضها للتو
..نظرتُ يف �أعينها فنظرت يف عيني بقوة ..مل تكن �إال �أنا ..
�أفتح عيني خو ًفا لأنهي ذلك الكابو�س ،و�أنظر �إىل �سقف غرفتي
أنفا�س مت�سارعة ،تتثاقل جفوين من جديد بت�أثري الأع�شاب � ..أعودب� ٍ
�إىل املدر�سة املتو�سطة� ،أرتدي الف�ستان ال�سماوي الق�صري الذي قابلتُ
به ندمي للمرة الأوىل ..
�أ�سري �أمام بوابة املدر�سة متجهة نحو �أبي الذي كان ينتظرين
بعربته ،يقف ندمي طالب مدر�سة الفتيان جان ًبا يحاول �أن يل ّوح يل
..يتلقى طعنة مفاجئة ت�شق رقبته ..يحاول �أن ي�ستغيث بي � ..أكمل
طريقي �إىل �أبي و�أنا �أنظر �إىل دمائه ال�سائلة دون اكرتاث ،ي�صرخ �إ ّ
يل
بح�شرجة؛ �أنقذيني � ..أكمل طريقي �إىل �أبي ..ي�سقط جثة هامدة ..
�أ�ضحك �إىل �أبي وك�أن �شي ًئا مل يحدث ..تزداد �ضحكاتي ..
العيون جميعها تتجه نحوي ..ي�شريون ب�أيديهم �إ ّ
يل ..مل يكونوا
طلبة ..كانوا ن�ساىل حاملني كتبهم ..يلقون بكتبهم وي�شريون �إىل
خنجر ظهر بيدي فج�أة ..يقرتبون مني كاحليوانات املفرت�سة ..
�أ�صوات �أنفا�سهم متعالية للغاية ..ال كانت �أنفا�سي �أنا � ..أ�صرخ �إىل
�أبي ..اختفى �أبي � ..صرتُ وحيدة � ..أنظر �إىل جثة ندمي � ..أ�صرخ
�إليه؛ �أنقذين منهم ..يقرتبون مني ..ي�سقط اخلنجر من يدي ..
يهم �أحدهم بالإم�ساك بف�ستاين ..ينتزعه � ..أفتح يقرتبون �أكرث ُ ..
عيني ،التقط �أنفا�سي ب�صعوبة� ،أنظر �إىل ال�سقف جمددًا � ..ألوم
نف�سي ب�أنني تناولتُ تلك الأع�شاب ..
عرو�س يف ثوب الزفاف �ألقي
ٌ �أغم�ض عيني ال �إراد ًيا من جديد ..
بالورد نحو املحت�شدين ،ثم �أم�سك بخنجري � ..أقربه من �صدر ندمي
العاري � ..أحاول �أن �أزيل الو�شم بن�صله احلاد ..تظهر تعبريات الأمل
على وجهه ..ي�صيح الواقفون من الن�ساىل �إليه كي يحتمل � ..أ�ضحك
�إليهم و�أغمز له بعيني كي ي�ستمع �إليهم ..ي�ضحك ويخربين ب�أن �أكمل
..تظهر �أمي فج�أة على املن�صة وهي ترتدي ثوب كبري الق�ضاة ..
وت�صرخ بنا:
إنك �شريفة وهو قاتل � ..أراد قتل
لن يتم هذا الزواج ِ � ..
�أحدهم..
قلت لها:
�أراد قتل َمن؟
قالت:
ال �أعلم � ..أحدهم فح�سب ..هل ت�شككني بق�ضائنا؟!
نظرتُ �إليها �صامتة � ..إن ق�ضاء چارتني الأكرث عدالة ،لن ُيظلم
ندمي �أبدً ا ..ي�صرخ �إ ّ
يل ندمي وهو يجثو على ركبتيه:
ال �أتذكر �شي ًئا ،ل�ستُ �أنا ..حافظتُ على العهد الذي بيننا ..
�أ�صرخ به:
ا�صمت �أيها اخلائن ..
�أطيح برقبته باخلنجر ..ت�سيل الدماء لتغطي و�شمه بالكامل ..
عال و�أنا �أل ّوح �إىل احلا�ضرين:
�أ�ضحك ب�صوت ٍ
اختفى الو�شم � ..صار الن�سلي �شري ًفا �أخ ًريا ..
ينطق �صوتٌ �آخر بجواري:
ال � ..صار ً
قتيل ..
ارفع ر�أ�سي لأرى �صاحبة ال�صوت ..كنت �أنا يف عمر الرابعة ع�شر،
�أرتدي مالب�سي املدر�سية و�أحمل حقيبة مدر�ستي � ..أنظر �إليها يف
ذهول � ..أخرجت قل ًما ر�صا�ص ًيا ،ومدت يدها و�أم�سكت بذراعي لتكتب
عليه:
ُكتبت ِ
عليك الوحدة ..
�أفتح عيني خائفة � ..أ�ضيء م�صباح غرفتي القريب مني � ..أنظر
تعب �شديد من
�إىل ذراعي ..ال �شيء � ..ألتقط �أنفا�سي � ..أنه�ض يف ٍ
مقعد �أمام طاولتي ..
�سريري لأجته �إىل ردهة املنزل � ..أجل�س على ٍ
يحيطني ال�صمت من كل جانب ..ي�صرخ داخلي و�أنا بالكاد �أمتالك
نف�سي:
هو من خان ..هو من ا�ستحق ذلك ..
ي�صرخ �صوتٌ جديد:
عليك �أن ترتكي �أمره لبديلك ..
أنت؟ ..كان ِ
ملاذا قتلته � ِ
ب�صوت خافت م�سموع:
ٍ �أقول
هو من ا�ستحق ذلك ..هو من ا�ستحق ذلك ..
تتثاقل جفوين من جديد � ..أفتحها ب�صعوبة ..ال لن �أنام � ..أخ�شى
فزعا � ..أجده
النوم ..ي�صيبني اجلنون ،يد تالم�سني فيجفل ج�سدي ً
زين قد نه�ض من نومه ..يجل�س على رجلي يف احليز ال�ضيق الذي
يف�صلني عن الطاولة ..يرفع ر�أ�سه ويق ّبلني ك�أنه يحاول �أن يهد�أ من
روعي ..تن�سدل جفوين و�أنا جال�سة � ..أفتحها من جديد � ..أقول
لنف�سي:
�ستمر هذه الأوقات� ،ستمر � ..س�أن�سى ..و�أمتتم:
جمرما ..
ً �إنني �شريفة ..مل �أكن لأتزوج ن�سل ًيا
ي�ضج �صوتٌ بعيد:
كنت حتبيه وكان يحبك ..
لديك الفر�صة لتنقذيه ِ ..
كان ِ
�أتو�سل �إىل عقلي:
اهد�أ �أرجوك ..اهد�أ �أيها التفكري ..ملاذا ال ي�أتي عامي
عاما
خم�سا وع�شرين ً
اخلم�سني الآن ..ملاذا مل جتعلها القواعد ً
فقط ..لرنتاح من عناء هذه احلياة ..اهد�أ ً
قليل �أرجوك ..
يقول �صوتٌ �صاد ٌق بداخلي:
�إنني �أفتقده � ..أفتقده كث ًريا ..
9
تت�ساقط دموعي و�أنا �أقول:
�سيمر � ..أعرا�ض ان�سحاب �ستمر � ..ستن�سيني الأيام كل �شيء
..انتظري مرور الأيام فح�سب ..
�صرتُ �أنام من التعب يف �أي وقت� ،صار النهار كالليل و�صار الليل
كالنهار ،فتا ٌة حتت�ضر بني �أربعة جدران ،تنتظر �أن تن�صرها روحها
وتغادرها يف حلظة قريبة ..
ثالث ُة �أ�شهر ال جديد عن تلك احلالة ،مل يكن ّ
لدي �أي طاقة للمقاومة
..تركتُ نف�سي لل�سقوط واالنهيار فح�سب ،فقد ج�سمي الكثري من
هزيل� ،صارت كتفاي ورقبتي �أكرث ً
نحول ،و�صارت �ساقاي وزنه و�صار ً
ك�سيقان الطاولة َ ..من يراين كان ليظن �أنني �أُ�صبت مبر�ض لعني مكث
يوما بعد يوم ..
ي�أكل ج�سدي ً
ثالث ُة �أ�شهر مل ُيدق بابنا ،قبل ذلك اليوم حني �أتت تلك الدقات وملّا
فتحتُ وجد ُتها �أمامي ..ال�سيدة بيان ..معلمتي باملدر�سة املتو�سطة ،مل
�أكن قد ر�أيتُها منذ ع�شر �سنوات ،كنت �أظن �أنها قد عربت اخلم�سني،
لكنها بدت �أنها ال تزال متتلك ب�ضعة �أ�شهر بحياتها ..
رحبتُ بها و�أنا �أعتذر عن �سوء احلالة التي كان عليها بيتي،
ف�أخربتني �أنها ال تهتم مبثل هذه الأمور ..جال يف ذهني ت�سا�ؤالت
عن �سر زيارتها املفاجئة يل ،وخا�ص ًة �أن عالقتي بها مل تزد ً
يوما عن
قليل عن املدر�سة املتو�سطة وما يحدث بهاحدود الدرا�سة ،حتدثنا ً
تلك الآونة� ،أخربتني �أنها �صارت كبرية املعلمني ..كان كالمنا ُم ً
ر�سل
من �أجل ت�ضييع الوقت فح�سب ،كان داخلي ي�شعر ب�أن وراء زيارتها
متاما ..ثم �ساد ال�صمت بيننا لدقائق قبل �أن تقول:
�سب ًبا �آخر ً
أمر ما ..
أخربك ب� ٍ
إليك ل ِ
جئتُ � ِ
انتبهتُ �إليها وقلت:
�أي �أمر �سيدتي؟!
قالت:
�س�أعرب عامي اخلم�سني بعد ب�ضعة �أيام ..
هززتُ ر�أ�سي ُمبينة �أ�سفي ،ف�أردفت تقول:
بروح
لقد �أخط�أتُ يف ح ِقك ..و�أريد �أن �أذهب �إىل وادي حوران ٍ
نقية ..
�س�ألتها يف تعجب:
حقي �أنا؟!
قالت:
ل�ست الوحيدة التي �أحبت ن�سل ًيا ..
ِ
نظرتُ �إليها يف ترقب ،ف�أكملت:
لقد �أحببتُ ن�سل ًيا �أنا الأخرى قبل �سنوات طويلة.
ثم �صمتت للحظة ،ونظرت �إىل الأر�ض وتابعت:
كان يكتب يل على �سطح التختة اخل�شبية � ً
أي�ضا ..
عيني ،ونظرتُ يف عينها مبا�شرة ،وجال يف ذهني ات�سعت حدقتا ّ
ذلك اليوم حني عدتُ �إىل الف�صل بعد خروج الطالبات كي �أحمو ما
كتبته �إىل ندمي ،فوجد ُتها جتل�س على مقعدي ممتلئة العني بالدموع،
قبل �أن تخربين �أنها بخري ..ف�س�ألتُها غري م�صدقة:
كنت تعلمني ب�أمري مع ندمي باملدر�سة املتو�سطة؟! ..
هل ِ
قالت:
نعم ..ملحت ُِك �صدف ًة تقومني بالأمر ذاته الذي كنتُ �أقوم به
مغادرتك يومها ..لتعود �إ ّ
يل ِ ..وقر�أتُ كتاباتكما املكتوبة بعد
عاما �أنتظر �أن ت�أتي تلك
الروح جمددًا ..ظللتُ خم�سة ع�شر ً
الفر�صة لأعرف الن�سلي الذي ح�صد روح من �أحبه ..بعدها
اجتهتُ �إىل مدر�سة الفتيان لأعرف من هو ..
ت�ساءلتُ ب�صوت �ضعيف:
ندمي؟!..
هزّت ر�أ�سها �إيجا ًبا وقالت:
كل الدالئل قالت يل �أنه هو ..الطريقة التي كان يكتب بها على
�سطح التختة ..عمره ،وفق بياناته باملدر�سة ُولد ندمي يف العام
الذي �أُعدم به حبيبي ..
ثم ملأت �صدرها بالهواء و�أخرجت زفريها ،وقالت:
أمر عار�ض ..مل يوما وحدثتُه ب� ٍ
لكنه مل يتذكرين ..ا�ستوقفته ً
يعرف من �أنا ..لكني كنت �أوقن �أنه هو ..ظللتُ �أقر�أ ما يدور
لك ..حتى ترك بينكما ..كنت �أ�شعر �أن الكالم موج ًها يل لي�س ِ
املدر�سة املتو�سطة ،حاولتُ �أن �أتنا�سى الأمر ،ومل �أفلح ..بحثتُ
عنه يف وادي الن�ساىل ..عر�ضتُ م�ساعدته يف تعليم الأطفال
لكنه رف�ض ..حدثتُه �صراح ًة ذات يوم عما حدث بيننا من
قبل ،تركني وم�ضى بعيدً ا � ..أخربين �أنه لي�س من �أبحث
عنه ..و�أنه ال يحب �إال فتاة ُت�سمى غفران فح�سب ..لكنني مل
يوما ..وظل �أملي بالعودة �إليه قائ ًما ..مل يهز هذا
أن�س حبه ً
� َ
الأمل �سوى معرفتي بنيتكما للزواج ..
مع اقرتاب يوم زواجكما واقرتابي يف الوقت ذاته من
اخلم�سني -املوت احلتمي -جاءتني فكرة �أنانية ،تعلمني �أن
ال�شريف منا �إذا انتحر قبل بلوغه اخلم�سني تنتقل روحه �إىل
�أطفال الن�ساىل عقوب ًة له ،فجال بخاطري لو �أنهيتُ حياتي
متعمدة يف باحة جويدا يف الوقت الذي ُيعدم به ندمي لعل
ً
م�ستقبل ..ال �أعرف �أين كان �أرواحنا جتد �أج�سادًا تتالقى
عقلي وقتها ..
ثم �أكملت ب�صوت خمتنق بالدموع:
أنك يف انتظاره
�أر�سلتُ �أحدهم �إىل وادي الن�ساىل ليخرب ندمي ب� ِ
..قابلتُه وحدثتُه مرة �أخرى عن حياتي مع �صاحب روحه ..
�س�ألني �أن �أبتعد عنه� ،صرختُ به � ..أهنتُه ،متالك نف�سه ..كنت
�أنتظر منه �أي ردة فعل �شريرة فلم يفعل ..كان يريد الرحيل
فقط ،ثم فوجئتُ بعروقه تنتف�ض دون مقدمات ،ووجد ُته ينظر
نحوي بعينني بارزتني ..وعاد بخطوات �إىل اخللف ليبتعد عني،
دق قلبي خو ًفا وقتها ..لكني �أدركتُ �أنه يحاول �أن يتجنبني ..ّ
مل �أغادر مكاين ..و�أغلقتُ بابي جيدً ا ..ظل يحطم كل �شيء
من حوله � ..صار يف حلظة واحدة �شي ًئا �آخر ال �أ�ستطيع و�صف
مدى وح�شيته ،لكنه هد�أ بعد فرتة ق�صرية ،وفقد وعيه ..
هناك كانت الفر�صة الأعظم الدعاء �أنه جاء ل�سرقتي وال�شروع
يف قتلي ..جرمي ٌة كاملة الأركان ..
نظرتُ �إليها وقلت يف ذهول:
مل يرتكب �أي جرمية؟!! ..
قالت ب�صوت هادئ دون �أن تنظر نحوي:
نعم ..
قلت وكان الذهول ال يزال منطب ًعا على وجهي:
ً
م�ستقبل؟! أردت �أن ُيعدم من �أجل �أن جتدي معه فر�صة �أخرى
� ِ
�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا وهي تنظر �إىل الأر�ض بعينني دامعتني،
فقلتُ لنف�سي ذاهلة و�أنا �أتذكر كلماته يل قبل موته:
ظنّ �أنه ارتكب جرميته دون �أن يدري!
كانت ال�سيدة ال تزال جتل�س �أمامي ينطبع على وجهها ند ٌم �شديد
..فقلتُ لها:
وملاذا مل تن ِه حيا ِتك � ًإذا يف اليوم ذاته بباحة جويدا؟!
قالت:
حني �أو�شكتُ على قتل نف�سي ..كانت هناك ن�سلية تقف على
بعد خطوات مني ..نظرتُ �إليها و�إىل و�شم كتفها� ،أ�صاب
اال�ضطراب داخلي وقتها ،واجتاحني اخلوف ذاته الذي ر�أيتُه
يف عينك يومها ُ ..
خوف التحول �إىل ن�سلية ..ثم �أفقتُ من
خويف على قتلك له بخنجرك ،فوجد ُتني �أهرول مبتعدة عن
الباحة �أو ُد �أن �أنهي حياتي كامر�أة �شريفة ..
قلت لها با�ستنكار:
�شريفة؟! � ..أي �شرف فيما فعلته؟! ..هل تدركني ما فعلته بنا؟!
فعلت
..هل تدركني ماذا لو اكتمل زواجنا؟! � ..أتدركني ماذا ِ
مبئات من الن�ساىل كانوا يطمحون لي�صريوا مثله؟! ..
ٍ
ثم �أ�شرتُ �إىل ج�سدي الهزيل ،وقلت ب�صوت �ضعيف:
�أتدركني ماذا ح ّل بي الثالثة �أ�شهر املا�ضية؟!
ظلت ال�سيدة �صامتة قبل �أن �أ�صرخ بها و�أ�س�ألها �أن تغادر من �أمامي
على الفور ..كانت تتطلع يل باكية وهي تغادر ت�س�ألني �أن �أ�ساحمها،
ومتتمت وهي تبكي ب�أنها ذهبت �إىل قرب ندمي بوادي الن�ساىل بعد �أيام
من موته لتك ّفر عما فعلته ..ف�أغلقتُ الباب بقوة من خلفها ..و�أ�سندتُ
ظهري �إليه ُمغم�ضة عيني ..يعلو �صدري ويهبط ببطء ..وتهم�س
�شفتاي مع كل نف�س �أخرجه:
كان بري ًئا ..كان بري ًئا ..
9
ثم وجد ُتني �أفتح باب البيت ،و�أرك�ض ب�أق�صى �سرعة يل دون
وعي ،لت�أخذين قدمي �إىل هناك للمرة الأوىل يف حياتي � ..إىل وادي
الن�ساىل..
()19
9
لت�سكن ج�سدً ا �آخر ..هيا� ،ألقوا ب�أحجاركم� ،ساعدوها على الرحيل ..
ثم �أ�صابني حج ٌر �آخر ..ال �أتذكر �أنني تقدمتُ بعده �إال ب�ضعة
قواي
خطوات ،قبل �أن تدور بي الدنيا وتت�سارع دقات قلبي ،وتخور ّ
تدريج ًيا ،و�أفقد وعيي.
.. ال يفيد الندم ،ولن يغري بالواقع �شي ًئا
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ..وقلت:
هل لك �أن تدعني هنا � ..س�أحر�ص على نظافة الكوخ ..
قال:
لن يرتكك �أهل الوادي ..
قلت:
�إن �أرادوا قتلي فليفعلوا � ..أرجوك �إنني �أ�شعر باالطمئنان هنا..
�أخرج الفتى زفريه حان ًقا ..ثم تركني وغادر الكوخ ،بعدها حتركتُ
�إىل خارجه لأنظر جتاه الوادي ..كان الظالم الدام�س ي�سود الأفق
لي�س �إال من م�صابيح متناثرة بدت بعيدة ،فعدتُ �إىل داخل الكوخ،
وانتزعتُ ف�ستاين املُ�ش ّبع برائحة روث املا�شية ،وان�سللتُ �أ�سفل ٍ
فرا�ش
خ�شن لأخلد �إىل النوم مرة �أخرى ..
ا�ستيقظتُ مع طلوع ال�شم�س ،كان نور النهار قد ت�س ّلل �إىل
داخل الكوخ من كل جانب ف�أ�ضاءه بالكامل ،لأرى الأدوات التي كان
ي�ستخدمها ندمي يف تعليم طلبته � ..أقالم ر�صا�صية قدمية � ..أوراق
بالية �صفراء ..كتب ممزقة الأغلفة ..قطعة خ�شبية مل�ساء مطلية
بلون �أ�سود � ..أحجار بي�ضاء �صغرية ُا�ستخدمت للكتابة عليها ..
ثم مر وقت قليل مل يتوقف به عقلي عن التفكري ،قبل �أن �أنه�ض
و�أرتدي ف�ستاين و�أجته للبحث عن كوخ ريان� ،س�ألت الكثريين عنه،
بح ٍنق
رف�ض �أغلبهم امل�ساعدة ،وظل الباقون �صامتني ينظرون نحوي ُ
�شديد ..
مل جتبني �إال طفلة يف العا�شرة� ،شكر ُتها ،وو�صلتُ �إىل كوخه ،دلفتُ
�إليه بعدما مل يجب طرقاتي ،كان ال يزال نائ ًما ،فهزز ُته كي ي�صحو،
يل بعني ن�صف مفتوحة يف تعجب ،وت�ساءل: فنظر �إ ّ
ماذا تفعلني هنا؟! ..
قلت:
انه�ض� ،أريد �أن �أخربك ب�شيء ..
نه�ض من نومته ،فناولتُه �إناء ماء كان يوجد جان ًبا ،ف�ضرب وجهه
باملاء ،ثم نظر �إ ّ
يل وقال:
ماذا تريدين؟! ..
قلت:
�أريدك �أن ت�ساعدين ..
قال:
�أ�ساعدك يف ماذا؟! ..
قلت:
لأك ّفر عما فعلته ..
متربما ،و�أراد �أن يعود �إىل النوم ،ف�أم�سكتُ به ،وقلت:
ً هز ر�أ�سه
�أخربتني �ساب ًقا عن حلم مئات الن�ساىل كي ي�صبحوا
مثل �سيدهم ندمي ،الأم�س وبعدما ر�أيتُ تلك الطيبة منك
وم�ساعدتي رغم غ�ضبك ال�شديد جتاهي� ،أدركتُ �أن ما فعله
غي التعليم
ندمي طوال ال�سنوات املا�ضية مل يذهب هبا ًء ..لقد ّ
داخلك ،وبالت�أكيد هناك الع�شرات مثلك ..
قال:
لقد انتهى كل �شيء مبقتل �سيدي ،مل يبقَ هناك طالب واحد،
اجته الفتيان لل�سرقة ،واجتهت الفتيات للرذيلة ..
قلت:
لكنك هنا ،ال ت�سرق ..
قال:
ال تعرفني �شي ًئا عني ..
قلت:
�ساعدين لأحل حمله ..
�أطلق امياءة �ساخرة وقال:
حمله؟! �إن اجلميع هنا يكرهونك ..
قلت:
�أريد �أن �أبقى بينكم� ،أريد �أن �أكمل ما بد�أه ندمي ،ال تعلم ماذا
حدث يل خالل الأ�شهر املا�ضية� ،أ�ستطيع �أن �أع ّلم الن�ساىل
الكثري من الأمور ،قد ي�أتي الوقت الذي يتزوج به ن�سلي �آخر من
امر�أة �شريفة غريي ..
اعتدل ريان يف جل�سته على �سريره ،وقال:
�أتعرفني �شي ًئا؟! ..مات �سيدي مرتني ،الأوىل عندما �أعطيتيه
� ً
أمل ب�أن ن�سل ًيا قد يتزوج �شريفة و�صار عليه �أن يعي�ش حياته
دون خط�أ واحد ،والثانية �أمامنا على املن�صة حني قتلته
بخنجرك� ،أتريدين املزيد من القتلى؟!
قلت:
ح�س ًنا ،دعك من �ش�أن الزواج من ال�شريفات ،يكفي �أن ندمي قد
جنح يف الو�صول �إىل عامه اخلام�س والع�شرين دون جرمية،
و�أرى ذلك فيك ،وقد ينجح الأمر مع الكثريين ..
قال:
ينج �سيدي من روحه الآثمة وارتكب جرميته ..
مل ُ
كدتُ �أنطق و�أقول له ما دار بيني وبني ال�سيدة بيان ،لكني خ�شيتُ
�أن ي�شعل ذلك �أمر االنتقام منها بداخله ،ويودي بنف�سه �إىل من�صة
الإعدام ،فقلتُ يف تراجع:
كاد يفعلها وينجو� ،ساعدين يف عودة الطلبة �إىل كوخ ندمي من
جديد ،لقد انتهت املر�أة التي كنتم ترونها على املن�صة ،لقد
ذهبت بال عودة ..لن تخ�سر �شي ًئا� ،أعطني فر�صة واحدة ..
هز ر�أ�سه متهك ًما� ،أدركتُ �أنه تذ ّكر كالمه يل حني تو�سل �إ ّ
يل كي
�أعطي ندمي فر�صة واحدة ،لكنه قال:
ح�س ًنا ،اذهبي � ِ
أنت �إىل �أكواخ الن�ساىل وطالبي الن�ساء بعودة
�أطفالهم �إىل كوخ ال�سيد ندمي ،لن �أتدخل بهذا الأمر ..
و�سكت ثم �أكمل بعد حلظات:
لكني �س�أو ّفر ِ
لك الطعام خالل هذا ال�شهر ..
وربت على �شعره ،وقلت:
ابت�سمتُ ُّ
�س�أفعل ذلك ..
ثم نه�ضتُ ،وكدتُ �أغادر فقال:
انتظري � ..إن كانت امر�أة املن�صة قد ذهبت بال عودة ،فاتركي
كل ما يتعلق بها ..
ثم نه�ض وحترك �إىل �صندوق خ�شبي بركن بعيد ،و�أخرج منه
ف�ستا ًنا منزوع الكتف الأي�سر ،وقال:
�إنه ف�ستان �أختي ،غادرت منذ ثالثة �أ�شهر� ،أعتقد �أنه منا�سب
ملقا�سك ..
ابت�سمتُ و�أنا �آخذه منه ،وقلت:
�س�أرتديه ..
التفت وكدت �أغادر ،فتوقفتُ مرة ثانية وقلت:
ثم ُّ
هل يل �أن �أطلب طلب �أخري؟
قال:
ماذا؟!
قلت:
�أريدك �أن جتعل �إحدى الفتيات الالتي يذهنب �إىل جويدا �أن
حتمل ر�سالة �إىل �إحدى جرياين هناك ..
قال:
�أي ر�سالة؟!
قلت:
9
�أريد �أن �أخرب �إحدى قريبات �أمي ب�أن تعتني ب�أخي زين يف
غيابي ..
هز ر�أ�سه مواف ًقا ،ف�أخرب ُته مبكان قريبتي ،وغادرتُ الكوخ �أحمل
بيدي ف�ستان �أخته.
كانت نظرات الده�شة تتفح�صني ،وخا�ص ًة عندما دلفتُ �إىل
اجلزء املكتظ من الوادي عارية الكتف ،كان كوخ ندمي وكوخ ريان
يقعان بامل�شارف التي ال يتواجد بها الكثري من الأكواخ� ،أما داخل
الوادي فتال�صقت الأكواخ وتفرعت الطرقات وال�شوارع بينها ،وك�أن
قرية كبرية قد ن�ش�أت داخل �أح�ضان ذلك الوادي ..
حتدثتُ مع امر�أة ن�سلية قابلتني عن نيتي ال�ستكمال ما بد�أه ندمي،
تركتني وم�ضت ..حتدثتُ مع �أخرى فعلت ما فعلته الأوىل ،طرقتُ
باب �أحد الأكواخ وحتدثتُ �إىل امر�أة ثالثة كادت تلقي مبا يف يدها يف
وجهي ،لكنها اكتفت ب�إغالق الباب بوجهي ،كوخ �آخر ،ن�ساء �أخريات،
أجن �إال التجاهل �أو الإهانة ..
كلهن فعلن ال�شيء ذاته ،مل � ِ
مل �أي�أ�س ،ووا�صلتُ �سريي بني الطرقات والأكواخ ،لكني مل �أ�ستطع
�إقناع امر�أة واحدة �أو فتى واحد ،وعدتُ مع غروب ال�شم�س �إىل كوخ
ندمي الذي �صار كوخي ،كانت قطعة من اخلبز واجلنب قد ُو�ضعت على
�سريري ،فعلمتُ �أن ريان قد �أوفى بوعده ..
كنت �أعلم داخل نف�سي �أنهم حمقون ،لو كنت مكانهم لفعلتُ ال�شيء
ذاته ،لكني �أردت م�ساعدتهم ح ًقا كما �أراد ندمي ..
يف اليوم الثاين فعلتُ ما فعلته يف اليوم الذي �سبقه ،كما �أنني
واد �آخر قريب كان به بع�ض الأكواخ ،غري �أنني عدتُ كمااجتهتُ �إىل ٍ
متاما ،فعلتُها مرة ثالثة باليوم الثالث ،مرة رابعة
عدتُ يومي ال�سابق ً
باليوم الرابع ،مرة خام�سة ،مرات كثريات ب�أيامي املتتابعة ..
مل �أك ّل يف الذهاب كل يوم �إىل ن�ساء الن�ساىل ،ومل تكل ن�ساء
يوما بعد يوم ،ومل يكل ريان عن الإتيان بطعامي الن�ساىل يف �صدي ً
اليومي دون �أن يلتقيني معظم الأيام ،حتى و�إن التقينا ،مل ي�س�ألني قط
عن نتيجة ما �أفعله ،كان يح�ضر يل الطعام ويغادر دون �أي حديث ..
�صار نومي منتظ ًما ،مل تعد الكوابي�س تطاردين ،ورحل عن ج�سدي
الهزال الذي �أ�صابه الأ�شهر املا�ضية وك�أنني وجدتُ �ضالتي وراحتي يف
هذا املكان ،ثم جاء ذلك ال�صباح حني بد�أتُ رحلتي اليومية للذهاب
�إىل �أكواخ الن�ساىل فلم �أجد الكثريات منهن ،ثم ر�أيتُ امر�أة ن�سلية
تهرول م�سرعة فحاولتُ �أن �أ�ستوقفها ،ف�أبعدتني عن طريقها ،وغمغمت
ب�أنها ال تريد �أن تف ّوت يوم الغفران ..
يوم الغفران !! ،تناهت الكلمة �إىل م�سامعي ك�أنها حتدثت فج�أ ًة
�شخ�ص �أعرفه ،كان ل�سنوات طويلة �صديقي املقرب ..وابتعدتُ
ٍ عن
عن طريقها ،وجل�ستُ على جانب الطريق �أنظر �إليها و�إىل الن�ساء
الأخريات املت�سارعات للحاق بباحة جويدا ،وت�ساءل عقلي وقتها،
�أيحبون ذلك املكان �أم يكرهونه؟!
9
�إن كانوا يكرهونه فلماذا يهرولون �إليه هكذا؟! ..و�إن كانوا يحبونه
فلماذا يكرهونني ومل �أكن �سوى جزء منه؟! ..لأنني قتلت ندمي؟! ..
�أعلم �أن النا�س ال ي�ساحمون �أبدً ا من يقتل �أحالمهم ،لكني جئت لأحيي
�أحالمهم من جديد� ،أريد فر�صة فح�سب ..
بقيتُ يف مو�ضعي وقتًا ً
طويل ،قبل �أن �أعود �إىل الكوخ مع الظهرية،
ومل �أغادره حتى حلول امل�ساء ،بعدما �سمعتُ الزغاريد تدوي بدون
توقف مع �سكون الليل ..فارتديتُ ف�ستاين الأرجواين على نحو �سريع،
وخرجتُ يف اجتاه الزغاريد التي �أخذت تختلط باملو�سيقا ك ّلما تقدمت
قدمي يف اجتاه املنطقة املكتظة من الوادي ..
وعلقت بالطرقات على فوجئتُ ب�أن امل�شاعل وامل�صابيح قد ا�شتعلت ُ
عك�س الأيام ال�سابقة ،فوا�صلتُ طريقي حتى اقرتبتُ من بناء خ�شبي
كانت املو�سيقا ت�أتي من داخله ،فاقرتبتُ �أكرث و�أكرث ،ودلفتُ �إىل داخله
..بدا �أنه حانة كربي ،ترتا�ص بها املقاعد اخل�شبية حول الطاوالت،
و ُيق ّدم ال�شراب �إىل اجلال�سني ،بينما ترتاق�ص الفتيات على �أنغام
مو�سيقا كان يعزفها عد ٌد من العازفني الذين تواجدوا ب�أحد الأركان
بالقرب من امر�أة مل تتوقف عن �إطالق الزغاريد ..
يل اجلميع يف جتهم ،لكنهم مل مقعد قريب ،فنظر �إ ّ
تقدمتُ �إىل ٍ
اهتماما كب ًريا ،ووا�صلوا احتفاالتهم ،حتى ريان الذي ملحته
ً يعطوا يل
بينهم تظاهر ب�أنه ال يعرفني ،ووا�صل رق�صه مع فتاة يف مثل عمره ،ثم
تغيت املو�سيقا �إىل �إيقاع خمتلف كنت �أ�سمعه للمرة الأوىل ،لكنه كان
ّ
مبهجا على نحو كبري ،ومعه و�ضع كل فتى وفتاة ُع�صبة قما�شية على ً
عينيه ،وبد�أوا يف الرتاق�ص على ذلك الإيقاع دون �أن يخطئ �أحدهم
�أو يرتطم بالآخر ..
�أدركتُ مع هيئة بع�ض الن�ساء اجلال�سات �أن ذلك احلفل احتفا ٌل
أرواحا لأطفالهن ذلك ال�صباح بالباحة ..فوا�صلتُ
مبن ح�صدن � ً
ا�ستمتاعي و�أنا �أنظر �إليهم وهم يخلقون لأنف�سهم حلظات من ال�سعادة
مل تكن لتوفرها لهم چارتني �أبدً ا ،وراقبتُ الفتيان والفتيات وهم
يرق�صون مع�صوبي الأعني يف خفة وتنا�سق ،ومتنيتُ داخل نف�سي لو
و�ضعتُ ُع�صابة على عيني مثلهم ،وتراق�صتُ �أنا وندمي بينهم ..
ظل االحتفال ممتدً ا ل�ساعات ،وبقيتُ مكاين �أ�شاهد فح�سب� ،إىل �أن
د ّوت جلب ٌة مفاجئة خارج احلانة ،ف�سكتت املو�سيقا واندفع الكثريون �إىل
اخلارج ،وبدوري خرجتُ لأرى ما يحدث ،ثم وقفتُ خلف امر�أة ن�سلية
حني وجدتُ �ضابط �أمن �أعرفه ،ومعه رجل �شريف يف الثالثينيات من
عمره يج ّر فتاة ال تكمل اخلام�سة ع�شر من �شعرها ،وهي ت�صرخ ب�أنها
ال تريد فعل ذلك ،وتتو�سل �إىل من حولها ب�أن ينقذوها ،غري �أنهم ظ ّلوا
واقفني يف جمود و�أعينهم على �ضابط الأمن دون �أن يتحرك �أحدهم ..
كانت الفتاة تزحف على ركبتيها حماول ًة �أن تقاوم الرجل ب�أق�صى ما
لديها ،وت�صرخ �إليه باكي ًة:
ال �أريد �أن �أفعلها �سيدي� ،أرجوك ..
لكنه وا�صل ج ّرها ناحية عرب ٍة كانت تقف يف انتظاره على بعد
�أمتار ،وبد�أ ال�ضابط يف �ضربها بع�صاه كي تتخلى عن مقاومتها،
حينئذ �سمعتُ امر�أة بجواري تقول:
هذا ما جنته من تعليم ندمي ..
ال تريد �أن تعي�ش عي�شتنا ..عليها �أن تر�ضى بواقعها فح�سب،
مزيد من الأمل � ..سيمار�س معها
لن تفيدها املقاومة غري ٍ
الرذيلة �شاءت �أم �أبت ،طاملا متتلك هذا الو�شم على كتفها ..
كانت �صرخات الفتاة تتزايد مع كل خطوة يج ّرها بها الرجل
نحو العربة ،بينما ت�أخر عنهما ال�ضابط خطوات ،وان�شغل مبراقبة
من ت�س ّول له نف�سه من الن�ساىل ب�أن يتحرك نحو ذلك ال�شريف ،فلم
�أجد نف�سي �إال و�أنا �أحترك من وراء املر�أة الن�سلية ،لأقف �أمام العربة
متاما ليلتفت �إ ّ
يل غا�ض ًبا ،وك�أن الظالم مل الواقفة يف مواجهة الرجل ً
يريه وجهي فلم يعرف من �أنا ،ف�صاح بي:
أخذتك معها ..
ابتعدي و�إال � ِ
فقلتُ با�سمة:
حظك �سيئ ..ال امتلك و�ش ًما ..
ثم لكمتُ وجهه لكم ًة قوية حملت معها كافة ذكريات تدريباتي
ال�شاقة مبدر�سة �ضباط الأمن ،لتطيح به خطوات �إىل اخللف ،قبل �أن
يل �ضابط الأمن وميد يده �إىل �سالحه ،فتحركتُ خطوة نحوه، يلتفت �إ ّ
فظهر وجهي �أمامه فح ّدق بي يف ده�شة ،وقال:
ال�سيدة غفران!!
فقلتُ يف جتهم:
اغرب عن وجهي ..
كان الرجل ال�شريف قد رقد على ظهره يحاول �أن يوقف �سيل
ىل غري م�صدق،الدماء الذي �سال من وجهه �إثر لكمتي ،وظل ينظر �إ ّ
بينما هرولت الفتاة زاحفة لتقف ورائي حمتمية بي ،وظل �ضابط الأمن
يح ّدق بي ويده على �سالحه و�سط مراقبة �أعني الن�ساىل الذين وقفوا
أنفا�س حمتب�سة ،قبل �أن يبعد يده عن
ي�شاهدون ما يحدث �أمامهم ب� ٍ
�سالحه ،وي�صيح �إىل الرجل الغريب كي يغادرا ..ثم ركبا عربتهما،
وانطلقا مبتعدين ،ف�أ�سرعت الفتاة من خلفي �إىل امر�أة �أخرى تكربها
�س ًنا وح�ضنتها وهي تبكي ..
وا�صل احلا�ضرون حتديقهم بي دون �أن ينطق �أحدهم ب�أي كلمة،
ومل �أنطق �أنا الأخرى ب�شيء ..ظللتُ فقط �أنظر �إىل الفتاة الباكية،
وترتدد بعقلي كلمات املر�أة الن�سلية ب�أن تعليمها على يد ندمي هو من
جعلها ترف�ض ممار�سة الرذيلة ،وزاد �شعوري بداخلي ب�أن ما فعله
يغي واقعهم للأبدندمي لهم مل يكن �إال �أم ًرا عظي ًما كان من �ش�أنه �أن ّ
..فغادرتُ �إىل الكوخ وبداخلي عزم قوي ي�صرخ ب�أعلى �صوت ب�أنني
لن �أتنازل �أبدً ا عن موا�صلة ما بد�أه ندمي ،و�إن �أكملت �سنواتي املتبقية
جميعها �أطرق كل يوم �أبواب الن�ساىل ..
لكن بابي هو من ُطرق يف �صباح اليوم التايل ،وملا فتحته كاد قلبي
يطري من الفرحة بعدما وجدتُ الفتاة التي �أنقذتها من الرجل ال�شريف
بكتاب قدمي يف يدها وتنظر �إ ّ
9
يل �صامتة ،نظرتُ تقف �أمامي ومت�سك ٍ
�إليها ال �أ�صدق نف�سي ،فهزّت ر�أ�سها با�سم ًة وهي تقول:
يديك �سيدتي ..
�أر�سلتني �أمي لأكمل تعليمي على ِ
()20
«ريان»
9
تكن قط النظرات ذاتها حني وط�أت قدمها هذا املكان للمرة الأوىل
قبل �شهر .ولأنني �أعرف الن�ساىل جيدً ا و�أعرفهم حني يكرهون
�شخ�صا وحني يتقبلونه� ،أيقنتُ تلك الليلة �أن هذه ال�سيدة قد وجدت
ً
طريقها �إىل قلوب الن�ساىل ..
وجودي هناك لتلتقط �أذين ً
بع�ضا مما تتحدث به ال�سيدة غفران �إىل
طلبتها ..
كانت حتدثهم عن �أمور كثرية ،لكني مل �أ�سمعها حتدثهم عن قواعد
يل وت�ضحك حني تراين �أ�ستمع �إليها وهي چارتني مطل ًقا ،كانت تنظر �إ ّ
تتحدث �إىل الطلبة اجلال�سني �أمامها ،فاتظاهر ب�أنني من�شغل ب�شيء
�آخر ،و�أغادر �سري ًعا يف حرج ،كنتُ �أعلم �أنها ُت ِكن يل حمب ًة خا�صة،
رمبا لأنني من �ساعدها بالبداية� ،أو لأنني �أم ّثل لها جز ًءا كب ًريا من
�سيدي الراحل ،لكني مل �أجر�ؤ �أن �أ�س�ألها كي �ألتحق مبدر�ستها ،وهي
كذلك مل ت�س�ألني ذلك ..
كانت ترتكني للحظ ِة التي �أقرر بها االن�ضمام �إليها برغبتي الكاملة،
ك�أنها تدرك �أن تلك اللحظة �ستكون مبثابة �إعالن م�ساحمتي لها ..كنت
كامل مثلهطيب مثل �سيدي كما قالت ،و�إن مل �أكن نق ًيا ً �أعرف �أنني ٌ
مع قيامي ببع�ض ال�سرقات اخلفيفة من عربات جتار الأ�شراف التي
متر بالطرق اجلنوبية لأو ّفر لها ويل طعامنا اليومي ..حاولتُ كث ًريا �أن
�أمتنع عن الذهاب �إىل مدر�ستها لكني ف�شلتُ ً
ف�شل ذري ًعا ،ثم ح ّل ذلك
امل�ساء حني ذهبتُ �إليها بالطعام بعد مغادرة الطلبة جميعهم ،ف�س�ألتها
دون مقدمات:
ملاذا ال تعلمينهم القواعد؟
قالت با�سمة:
يوما ما ..
قد تتغري القواعد ً
9
تذكرتُ كلمات �سيدي حني �أجابني ذات يوم بالإجابة نف�سها،
ف�ضحكتُ ،ووجدتُ نف�سي يف ال�صباح التايل �أذهب �إليها بال طعام،
�أخرب ُتها �أنني �أريد االن�ضمام �إليها.
9
التفت �إليها
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا و�أنا �أنظر نحو الكتب ،لكني حني ُّ
ور�أيتها وهي تنظر نحو الكتب �شاردة �أدركتُ �أن غاية ال�سيدة غفران
من مدر�ستها بوادينا مل يعد تعليمنا فح�سب ،بل بدا �أمام تلك النظرة
�أنها كانت تنوي ما هو �أكرث من ذلك بكثري.
حملنا الكتب �إىل الوادي ،وهناك �س�ألتني �أن �أج ّمع الطلبة جميعهم
�أمام الكوخ ،ثم خرجت �إلينا واختارت اثني ع�شر فتى وفتاة من بينهم،
كنت �أعرف �أنهم الأف�ضل ،ثم �ضمتني �إليهم �أنا وناردين ،و�س�ألتنا �أن
نقوم بن�سخ عددًا من الكتب ،كانت قد عكفت على انتقائها وو�ضعتها
جان ًبا ..
بلدان �أخرى �أو
تنوعا �شديدً ا �إما عن ٍ
كانت الكتب املنتقاة تتنوع ً
عن تاريخ چارتني �أو عن بع�ض الفال�سفة القدامى ،مل يتحدث كتاب
واحد عن القواعد �أو عن الفرق بني الچارتيني ال�شريف والچارتيني
الن�سلي ..مل يق ّلل كتاب واحد مما اختارته ال�سيدة من قدرنا ،وك�أنها
�أرادت �أن تن�سينا �أننا حاملو العار يف هذا البلد ،و�أننا ب�شر كاملون لنا
من احلقوق ما ميتلكها �أي ب�شر ُ
تدق قدماه هذه الأر�ض ..
ثم �أخربتني ناردين �أن الكتب التي ُكلفت الفتيات بن�سخها كانت
حرف يدوية �صغرية ،و�أ�ضافت الفتاة �ضاحكةتخت�ص جميعها بتعلم ٍ
ب�أنها تظن �أنها باتت متتلك املقدرة ل�صنع �سجادة كبرية �إن اتبعت ما
ُكتب يف الكتاب الذي ُكلفت بن�سخه ،فقلت يف �سري:
هذا ما �أرادته ال�سيدة ..لن ت�أمر فتاة ب�أن ترتك الرذيلة
بطريقة مبا�شرة ،بل �ستجد لكل امر�أة ن�سلية ً
�سبيل �آخر جلني
الأموال بعيدً ا عن ارتكابها مرغمة ..
وقتها �س�ألتُ ناردين:
هل يخربك الكتاب مبا حتتاجينه من �أجل �صنع �سجادتك ..
قالت:
نعم ..
قلت:
فلتكتبي يل � ًإذا ما حتتاجينه ..
وقبل �أن مير يومان كنت قد �أح�ضرتُ لها ما كتبت يل من خيوط،
نعم �سرقتها من �أحد املغازل ب�شمال جويدا مب�ساعدة �شاب �آخر ،لكني
نويتُ داخل نف�سي �أن �أر ُد املال �إىل �صاحب املغزل مبجرد �أن �أمتلكه ..
تعمدت ال�سيدة غفران �أن تو ّزع كتب احلرف املن�سوخة على َمن
ي�ستطيعون القراءة والكتابة لن�سخها مرات ومرات ،و�إن ا�ستغرق
الكتاب للفرد الواحد عدة �أ�سابيع ،قالت يل:
لي�س الهدف ن�سخ الكتاب على قدر ما قد يتعرث �أحدهم داخله
ب�شيء ي�ألفه ..
مع �شهرنا الثاين ،كانت ناردين قد �صنعت �سجادتها الأوىل ،مل
تكن جيدة �إىل حد كبري ،لكنها تبقى ال�شيء امل�صنوع الأول بني �أح�ضان
وادينا ..جل�سنا م�ساء ذلك اليوم نحتفل بذلك الأمر ،كانت تتو�سطنا
ال�سيدة غفران ،والتففنا جمي ًعا حولها يف �صفوف ن�صف دائرية،
�أخربتنا حني هد�أ �ضجيجنا �أن چارتني �ستظل فخورة بنا ..
كانت كلمة غريبة على م�سامعنا ،فخر؟!� ،ضحكنا ،لكن مالمح
اجلدية التي ظهرت على وجه �سيدتي جعلت كل منا يت�ساءل داخل
نف�سه �إن كانت تق�صد الكلمة حرف ًيا؟!! ،لطاملا حملنا العار �إىل هذا
البلد ،هل جاء الوقت ح ًقا لن�صبح حاملني لل�شرف؟! � ..صمتنا جمي ًعا
ونحن نق ّلب الكلمة بعقولنا ،ونختل�س النظرات �إىل بع�ضنا البع�ض،
وك�أننا نتذوق حالوتها للمرة الأوىل ..
ثم نه�ضت ال�سيدة �إىل داخل الكوخ وعادت ،و�أخرجت �إلينا �صندو ًقا
خ�شب ًيا �صغ ًريا ،كنت قد ر�أيتها حت�ضره من بيتها حني ذهبنا �سو ًيا �إىل
هناك ،وقالت وهي تفتحه ليظهر عقد ثمني بداخله:
كان هذا عقد �أمي� ،سيكفي ثمنه لإح�ضار املزيد من اخليوط،
ت�ستطيع كل فتاة �أن جتني ثمن ما ت�صنعه ً
كامل ،ثمن هذا
العقد مني �إليكم ،لن يكون ثمنه كب ًريا جدً ا ،لكن جيد كبداية ..
هللنا جمي ًعا يف فرحة ،ثم قالت فتاة قد تبلغ اخلام�سة ع�شر مازحة:
هكذا لن جتربين �أمي على ممار�سة الرذيلة ..
�ضحكت ال�سيدة وقالت:
عليك �أن ت�ص ّنعي الكثري � ًإذا ..
ِ
علي من قبل ،لكن
�ضحكنا جمي ًعا ثم جال ببايل �س�ؤال مل يخطر ّ
�شا ًبا �آخر ي�صغرين �س ًنا �سبقني و�س�أله لل�سيدة عندما قال:
لدي �س�ؤال ..
�سيدتيّ ،
فهزّت ر�أ�سها كي ي�س�ألها ،فقال:
�إن مل متار�س الفتيات الرذيلة ،لن حتمل فتياتنا ،و�إن مل يحملن
لن يذهنب �إىل باحة جويدا ،و�سكت ..
فهزت ر�أ�سها مرة �أخرى كي يكمل وك�أنها تفهم ما يرمي �إليه ،فتابع
الفتى:
�إن مل يذهنب �إىل هناك لن يكون هناك مزيد من �أطفال
الن�ساىل ،هكذا �سينتهي ن�سلنا ..
زادت الهمهمات بني الفتية والفتيات من حولنا ،وك�أنهم مل يفكروا
بهذا الأمر ،و�أن ممار�سة الرذيلة هي ال�ضمان احلقيقي لبقاء ن�سلنا،
لكن ال�سيدة قالت بهدوء �شديد:
نعم� ،سينتهي ن�سل الن�ساىل ..
ثم تابعت بعد حلظة من ال�صمت:
لكن ن�سلكم �أنتم لن ينتهي ..
فارت�سمت مالمح احلرية على وجوهنا ،فقالت:
�سينتهي الن�سل الناجت عن الرذيلة ،لكن �سيبقى ن�س ٌل �شريف
ناجت عن الزواج ..
ا�شتعلت الهمهمات من جديد بيننا ،ومعها تدفقت الدماء �إىل
عروقنا ،ك�أن ما قالته ال�سيدة قد �ضرب بكل جانب من جوانب
حلم
�صمت مطبق ،وك�أننا يف ٍ
�أج�سادنا ،ونظرنا جمي ًعا �إىل ال�سيدة يف ٍ
يوما ما ..
مل نكن لنجر�ؤ على التفكري به ً
9
وبينما وا�صل ك ٌل منا �صمته و�شروده يف حلمه اخلا�ص الذي طرقته
له ال�سيدة ،مل يكن يعرف �أحدنا �أن لكل حلم ثمنه ،و�أن ما حدث تلك
الليلة مل يكن �إال بداي ًة جللب املزيد من املتاعب.
()21
يوما بعد يوم دلف �إىل مدر�ستنا املزيد من ن�ساىل الوديان الأخرى،
ً
يوما �أننا
و�صار معظم طالبنا قادرين على �صنع �أ�شياء مل نكن لنفكر ً
يكتف ال�شبان بالتعليم و�صناعة الفخار
منتلك املقدرة ل�صنعها ،مل ِ
فح�سب ،بل ناف�سوا الفتيات يف زراعة الأر�ض اخل�صبة املجاورة
لأ�شجار الزيتون والقريبة من البئر ال�شرقي ..وبعد �أ�شهر قليلة
كانت تلك الأر�ض قد �أخرجت لنا من خريها ما يكفي وادينا ويفي�ض،
و�صارت االحتفاالت باحلانة ُتقام ب�صورة �شبه يومية بعدما كانت ُتقام
�أيام الغفران فقط ..
الغريب يف الأمر �أنه وبعد مرور �أ�شهر قليلة �أخرى ،ق ّلت االحتفاالت
�أيام الغفران ،وك�أننا بد�أنا ندرك �شي ًئا ف�شي ًئا �أنه مل يعد �أم ًرا ُيحتفل
به ،و�أن حيا ًة لطفل ناجت عن الرذيلة ال ت�ستحق منا تلك الفرحة ،بل ما
ي�ستحق احلزن هي تلك الروح التي ُفقدت ب�إعدام �أحدنا ،حتى �صارت
االحتفاالت بكل الأيام عدا يوم الغفران ..
بع�ض من طلبة الوديان الأخرى �إىل مع نهاية ذلك العام عاد ٌ
وديانهم ،ر�أيتهم وهم يعدون ال�سيدة ب�أنهم لن يتوانوا عن تعليم املزيد
من �أبناء واديهم قبل �أن يحت�ضنوها ويغادروا ..ثم كانت الفرحة
بواد �آخر �إىل
�شاب ن�سلي يعي�ش ٍ
تو�صل ٌاحلقيقية واالحتفال الأكرب بعدما ّ
اتفاق مع مالك �إحدى ال�سفن يق�ضي بنقل ب�ضائعنا �إىل بالد ال�شمال
مقابل جزء من ربحنا ،وقتها ه ّبت ن�سائم الفرحة لتملأ �صدورنا � ً
أمل
وك�أننا �أخذنا خطوتنا الأوىل �أخ ًريا للتحرر من قيود �أ�شراف چارتني ..
متنيتُ لو اختارتني ال�سيدة مع َمن يبحرون �إىل ال�شمال ،لكنها
�آثرت �أن �أبقى بالوادي ،واختارت ً
بع�ضا من الفتية الآخرين الأقوياء
9
للذهاب بب�ضائعنا ،معهم ثالثة ن�ساء كنا قد ذهنب �إىل ال�شمال من
قبل ،حينذاك حدثتُ �إحداهن عن �أختي التي ت�سكن مع غجر تلك
البالد ع ّلها جتدها وتخربها عن ّ
التغي الذي �أ�صابنا بعد رحيلها ،رمبا
تقتنع ب�أن تعود للعي�ش هنا ..
حملت ال�سفينة الأوىل ب�ضائعنا بعد �أكرث من عام ون�صف على �صنع
ناردين �سجادتها الأوىل ،وبعد ثالثة �أ�شهر �أخرى عاد �إلينا ال�شبان
والفتيات حاملني من القطع الذهبية ما �أدركنا معه �أن عهد ارتكاب
الرذيلة ُكرهً ا بني �أبنية چارتني قد ّول ،بل عهد ارتكاب جرائم
الن�ساىل من �أجل املال قد �آن رحيله ..
وزعت ال�سيدة غفران املال على الفتيات والفتيان دون �أن ترتك �أي
قطعة معدنية لنف�سها ،كما وزعت املواد اخلام التي �أتى بها ال�شبان
من ال�شمال ،والتي ا�ستخدمناها الح ًقا يف �صناعاتنا � ..أخربنا ال�شبان
عن الأ�سواق الالتي وجدوها ببلدان ال�شمال ،وعن تهافت جتارها
على ب�ضائعنا ..كنت �أرى احلما�سة التي يتحدثون بها و�أنا �أتطلع �إىل
الوجوه الآملة التي كانت تن�صت �إليهم وتتحفز ل�صنع املزيد ،وكذلك
كنت �أختل�س النظرات �إىل مالمح ال�سيدة املبتهجة بكل ما يحدث ..
يف الأيام القليلة التالية قمنا ببناء بناءين؛ �أحدهما جماور لكوخ
�سياجا طوب ًيا كب ًريا لتت�سع باحته للمزيد منال�سيدة و�شيدنا حوله ً
الطلبة ،و�آخر على اجلهة اخللفية للكوخ خ�ص�صناه لتخزين ما ن�صنعه
من �أجل حمله �إىل بلدان ال�شمال ..وك�أن العجلة قد دارت بدون توقف،
مل تتوقف الفتيات عن �صناعة �شيء جديد كل يوم ،ومل تتوقف �أر�ض
وادينا عن اجلود بكل ما ت�ستطيع به �إعطاءنا ،وزاد توافد الن�ساىل �إىل
ً
ورجال ،ومعه ُ�شيدت �أكوا ٌخ جديدة وادينا من كل حدب و�صوب ن�سا ًء
حتى ات�سعت م�ساحة الوادي لت�صري �ضعف م�ساحته قبل عام واحد
فقط ..
ر�أيتُ للمرة الأوىل رج ً
اال ن�ساىل تعرب �أعمارهم الأربعني واخلم�سني
وواحدً ا كان يعرب ال�ستني ،كانوا قد ُ�شردوا يف �صحاري چارتني خ�شية
بط�ش مدنها ..خ�شيتُ لوهلة �أن يعود بنا ذلك التدفق املفاجئ خطوات
�إىل اخللف يف ظل �أرواحهم الآثمة التي مل جتد من يهذبها مثلنا،
فتُف�سد ما تعبت به �سيدتي ل�سنوات ،وحدثتُ �سيدتي عن خماويف،
فطم�أنتني ،و�س�ألتني �أن نرتكهم ليعملوا معنا ،و�أ�ضافت:
يه ّذب العمل ال�صالح املجرمني كالعلم ً
متاما ،دعهم يجدون
�أنف�سهم التائهة منذ �سنوات طويلة ،البد و�أن �أرواحهم قد
عانت كث ًريا ..
أعان
انتبهتُ حلظتها �أنني و�صلتُ �إىل عامي الرابع والع�شرين ومل � ِ
مثلما ر�أيتُ �سيدي يعاين ،مل �أ�ضرب اجلدران بر�أ�سي �أو تثور روحي،
هل هُ ِذبت روحي تدريج ًيا ال�سنوات املا�ضية �أم ماذا ؟! � ..س�ألتُ ناردين
�إن كانت قد �أُ�صيبت بنوبات م�شابهة لنوبات �سيدي وو�صفتُها لها،
ف�أخربتني ب�أن ذلك مل يحدث ،و�إن حدث فلن تتوانى عن املقاومة ..
�س�ألتُ الكثريين �إن مر �أحدهم بنوبات م�شابهة ،ف�أنكر اجلميع ..لتمر
بنا الأيام �سري ًعا ،و�أجد نف�سي �أعرب عامي اخلام�س والع�شرين دون �أن
ُاعتقل� ،أو يحدث يل مثلما حدث ل�سيدي ،وكذلك الكثريون مثلي ..
وا�ضحا لل َعيان �أن �إعدامات الباحة قد ق ّلتُ ب�صورة
الأمر الذي بات ً
إعداما واحدً ا ،بل مرت
ملحوظة ،و�صار يوم الغفران بالكاد يحمل � ً
إعداما واحدً ا � ..سمعتُ �أن ن�سا ًء من
�أيام متتابعة منه دون �أن ت�شهد � ً
الن�ساىل كن قد حملن من الرذيلة ،وذهنب مرا ًرا �إىل الباحة حل�صد
خائباتُ ،وولدت �أطفالهن موتى ..لكن ٍ أرواحا لأطفالهن ،فرجعن
� ً
كبيا ،وا�سيناهم فح�سب .. ذلك مل يرتك يف نفو�سنا حز ًنا ً
ثم كانت املفاجئة الكربي حني خرجت �إلينا ال�سيدة غفران لتخربنا
ب�أن هناك خ ًربا �سا ًرا �ستقوله ،وملا انتبهنا �إليها قالت ،وقد خرج من
ورائها فتى ن�سلي يف مثل عمري ُي�سمى «حيدر» ،وفتا ٌة ن�سلية ت�صغرنا
ب�أعوام قليلة ُت�سمى «�سبيل»:
عليكم �أن تقدموا �إليهما املباركات ..لقد �أخرباين للتو عزمهما
على الزواج يف باحة جويدا ..
هللنا جمي ًعا غري م�صدقني ..بات احللم الذي حلمناه قبل �أربعة
�سنوات حقيقة يف تلك اللحظة ،واجتهنا جمي ًعا �إىل حانة الوادي،
ومبجرد دخولنا دقت مو�سيقا ال�شامو لي�سرع اجلميع �إىل من�صة
الرتاق�ص ،بينما جل�ست ال�سيدة بطاولتها ،وجل�ستُ بجوارها ..مل
تكن ال�سيدة حتب �أن ترق�ص ،وكذلك مل �أجد يل ً
بال للرق�ص ذلك
اليوم ،ومكثتُ يف مكاين �أراقب ال�شبان الآخرين و�أنظر بطرف عيني
�إىل ال�سيدة وهي تنظر �إىل الزوجني املنتظرين وهما يرتاق�صان يف
�سعادة كبرية ..
هد�أت املو�سيقا فقلتُ يف الوقت الذي ان�ضمت فيه ناردين �إىل
طاولتنا:
متي �سيتزوجان؟
قالت �سيدتي:
مثل باقي �أهل چارتني ،يوم الغفران القادم ..
فقالت ناردين يف فرحة كبرية:
على من�صة جويدا؟!
قالت �سيدتي با�سمة:
نعم ..
ثم �شردت � ..أدركتُ �أن عقلها قد ذهب �إىل هناك ،كنت �أعرف
�أنها مل تط�أ �أر�ض الباحة منذ موت �سيدي قبل ت�سع �سنوات ،وملحتُ يف
دموعا ملتمعة ،فمددتُ يدي �إليها لأربت على يدها ،فابت�سمت
عينيها ً
�إ ّ
يل بعينها الدامعة ،فابت�سمتُ �إليها ..امر�أة �أخرى غريها لكانت قد
تزوجت �شا ًبا �آخر �شري ًفا ،و�أجنبت من ال�شرفاء ما يحملون ال�شرف
والفخر لعائلتها ،لكنها جاءت �إلينا لتحمل ال�شرف �إىل الكثريين
منا ..ووجدتُ نف�سي حتدثني؛ نعم مات �سيدي ،لكن موته مبجيئها
�إلينا بات بداي ًة لكثري من احليوات ،مل تكن لتحيا قط لوال وجود هذه
ال�سيدة الطيبة بيننا ..ثم قاطعت تفكريي عندما قالت ب�صوت خمتنق
بالدموع:
�ستذهبون بهما �إىل الباحة ..
فقالت ناردين يف تعجب:
�ألن تذهبي معنا؟!!
هزت ر�أ�سها نف ًيا وقالت:
�س�أنتظر هنا يف الوادي ،لن �أعود �إىل الباحة جمددًا ..
قلتُ :
ال �سيدتي ،لن ُيبارك ذلك الزواج �إال بوجودك ..وجودك قوة
لهما ولنا جمي ًعا ..
�سكتت ،فقلتُ :
ْ
زلت تلومني نف�سك على ما حدث قبل ت�سع �سنوات،
أنك ما ِ
�أعلم � ِ
لكن ما حدث قد حدث ..
ثم تابعتُ :
انظري حولك ،انظري �إىل من جتاوز عمرهم اخلام�س
أنت ،ال �أحد غريك ..
والع�شرين ..ب�سببك � ِ
و�أكملتُ ناط ًقا مبا حدثتني به نف�سي:
كان موت �سيدي بداية حليوات �أخرى كثرية ..
ربتت على يدي ،وامتلأت عيناها بالدموع ،فنه�ضت ناردين وق ّبلت
ر�أ�سها ..الحظتُ للمرة الأوىل �أن ال�شيب قد بد�أ يخط يف �شعر �سيدتي
رغم �أنها مل تتجاوز الثالثة والثالثني ،حتى ناردين قد الحظت ذلك
هي الأخرى ،فقالت مازحة:
هناك بع�ض ال�شعريات البي�ضاء �سيدتي ..
فم�سحت ال�سيدة دموعها ،و�أجابت با�سمة:
نعم ،يبدو �أنني ورثتُ ال�شيب عن �أمي ..
�أكملت ناردين مزاحها ،وقالت:
عري�سا � ًإذا قبل �أن ي�شيب ب�أكمله ..
لك ً لنجد ِ
�ضحكت �سيدتي ،وكادت تنطق ب�شيء لكنها بدت وك�أنها �أم�سكت
بكلماتها قبل �أن تفر من ل�سانها ،و�أوم�أت بر�أ�سها و�سكتت ،فقلتُ ً
مبدل
احلديث:
�سي�صبح زواج الن�ساىل حد ًثا كب ًريا من �ش�أنه �أن ّ
يرج چارتني
ب�أكملها ..
قالت:
9
نعم ،مبجرد �أن يعلم كبري الق�ضاة �أنه �سي�شهد على هذا الزواج،
�سينت�شر اخلرب بچارتني مثلما تنت�شر النار يف اله�شيم ..
�صرنا جمي ًعا يف انتظار يوم الغفران اجلديد ب�شوقٍ مل يكن له مثيل،
أيام منه غادرت ال�سيدة �إىل جويدا من �أجل �إبالغ كبري الق�ضاة
وقبل � ٍ
عن �إمتام الزواج على من�صة باحة جويدا ،وعادت بعد غروب ال�شم�س،
غري �أننا الحظنا جمي ًعا تبدل وجهها .دلفتُ �إليها ،كان الغ�ضب ي�سيطر
على مالحمها ،بينما جل�ست ناردين �صامتة ،فقلت:
مل يقبلوا؟! ..
�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا دون �أن تنطق ..
كفي يف خيبة �أمل ..
�أخرجتُ زفريي ،وجل�ستُ وا�ض ًعا ر�أ�سي بني ّ
قالت ال�سيدة بعد فرت ٍة من ال�صمت وهي تنظر �إىل القمر املكتمل
بال�سماء عرب نافذة عالية بجدار الكوخ:
رمبا تن�صفنا الأر�ض بعدما مل يفعل �أهلها ..
�س�ألتها م�ستفه ًما:
كيف؟!
التفتت �إ ّ
يل وقالت:
تق�ضي القواعد ب�أن يتم الزواج ال�شرعي بالباحة وكفى ،مل
ن�ص �صري ٌح عن �ضرورة �إمتامه على املن�صة ..
ُيذكر ٌ
ثم �أكملت بجدية كبرية:
�سنذهب �إىل الباحة لإمتام الزواج يوم الغفران القادم دون
�صعود املن�صة � ..سيبقى حيدر وعرو�سه بني اجلمهور ،وهناك
�سريددان حديث الزواج ..
ت�ساءلت ناردين يف تعجب:
قا�ض ليعلن زواجهما؟!
�ألي�سا يف حاجة �إىل ٍ
قالت:
مل يوافق كبري الق�ضاة رغم �أنهما ي�ستوفيان �شروط الزواج
جميعها ..قال �إن املن�صة لي�ست مكا ًنا للأجنا�س ،رف�ض
الزواج ملجرد �أنهما ن�سليان ..
ثم نظرت �إلينا وقالت:
نعي قا�ض ًيا لنا � ًإذا ..
�صار علينا �أن ّ
قلتُ يف تعجب:
قا�ض ًيا ن�سل ًيا؟!
قالت:
نعم ..
عيني مما قالته ال�سيدة ،وقلتُ يف لهفة:
ات�سعت حدقتا ّ
ح�س ًنا ..لتكوين � ِ
أنت هذا القا�ضي ..
قالت:
ال ،يكفيني املدر�سة و�شئونها ،كما �أنني �أريده �أن يكون منكم ..
يتجاوز عدد من يجيدون القراءة والكتابة ممن بلغوا اخلام�سة
والع�شرين ثالثمائة � ..أعتقد �أن الكثريين منهم م�ؤهلون ل�شغل
هذا املن�صب ..
قلتُ يف حما�سة:
�س�أقوم بن�شر اخلرب � ًإذا لع ّل �أحدهم يريد �أن ي�صبح قا�ضي
الن�ساىل الأول ..
قالت �سيدتي با�سمة:
9
قا�ضي اجلنوب ..
�ضحكتُ و�أنا �أتذوق الكلمة:
نعم �سيدتي ،قا�ضي اجلنوب ..
قا�ض للن�ساىل قد انت�شر يف خالل �ساعات قليلة كان خرب اختيار ٍ
بني �أرجاء الوادي ،وبني مالمح اخلوف واحلرية نظر �إلينا اجلميع
ك�أنهم ال ي�صدقون ما يحدث ..ا�ستهان البع�ض مبا نفعله لكننا جتاهلنا
�سخريتهم ،ومع مرور ثالثة �أيام كان �أربعة ع�شر �شا ًبا متعل ًما قد �أعلنوا
ا�ستعدادهم لي�صريوا قا�ضي الزواج ،وهناك تركت لنا ال�سيدة حرية
اختيار القا�ضي الذي نريده ،اقرتح �أحد ال�شبان �أن ُي�سمح ملن يتجاوز
عامه العا�شرة منا بحق االختيار �سواء كان متعل ًما �أو ال ،فوافقت
ال�سيدة على ذلك االقرتاح ووافقنا نحن بدورنا ..
كان الأمر غري ًبا جدً ا بالن�سبة لنا� ،أن منتلك حق االختيار �أخ ًريا!!
�شاب ُي�سمىم�شاعر م�ضطربة و�أخرى حاملة قمنا باختيار ٍ ٍ ..وبني
«�سوار» لي�صبح قا�ضينا الأول ..ثم �أخربته ال�سيدة عن حديث الزواج
9
الذي طاملا �سمعت كبري ق�ضاة املن�صة يردده ،وظلت تردده �أمامه حتى
ت�أكدت من حفظه له بالكامل ،وو�ضعت له �أمامنا م�سئوليته عن ت�سجيل
كل زيجات الن�ساىل بد ًءا من يوم الغفران التايل ..ثم حدثتني عما
�سنفعله بني �أ�سوار الباحة.
بهذا العدد الكبري كجماعة واحدة وهو ما مل يحدث من قبل ،الحظتُ
كذلك نظراتهم الأكرث ده�شة �إىل ال�سيدة غفران وك�أنهم ظنوا �أنها
ماتت بعدما مل تزر الباحة طوال ال�سنوات املا�ضية ..
وقفنا يف اجلزء اجلنوبي ال�شرقي للباحة يف �صفوف دائرية من
الن�ساىل فقط ،يتو�سطنا ال�شاب وعرو�سه وبجوارهم القا�ضي ال�شاب
�سوار ..ثم بد�أت احتفاالت املن�صة وان�شغل اجلميع معها ،حاول بع�ض
�أ�شقياء الأ�شراف ورجال الأمن التحر�ش بنا ،لكننا متالكنا �أنف�سنا ومل
بعمل ُيوجب اعتقاله ..
يفقد �أي منا �أع�صابه �أو يقوم ٍ
�إىل �أن انتهت االحتفاالت ،وبد�أ كبري الق�ضاة يردد حديث الزواج
�إىل �شاب �شريف وفتاة على املن�صة ،يف ذلك التوقيت �أ�شارت ال�سيدة
غفران بر�أ�سها �إىل �سوار كي يبد�أ حديثه �إىل عر�ساننا ..وبينما كان
املحت�شدون ينظرون �إىل املن�صة يف انتبا ٍه �شديد ،كانت �أعيننا ُمعلقة
مبا يحدث بيننا ،وب�شفاه �سوار التي كانت تردد كلمات ال ن�سمعها من
ال�ضجيج ،و�شفاه حيدر وعرو�سه الالتي تردد هي الأخرى ما يقوله
قا�ضينا اجلديد ،حتى انتهيا قبل �أن ينتهي القا�ضي الكبري على املن�صة،
ف�أطلقت �إحدى الفتيات زغرودة طويلة انده�ش معها املحيطني بنا من
�أ�شراف چارتني ،والذين مل يعتادوا من قبل �سماع زغاريد الن�ساىل قبل
مرا�سم الإعدام ..
حاولنا �أن نكتم �ضحكاتنا ،لكنا مل ن�ستطع ،و�ضحكنا جمي ًعا
واحت�ضن بع�ضنا البع�ض يف �سرور �شديد ،وارت�سمت البهجة على
وجوهنا ونحن ننظر �إىل العرو�سني ،لتغمرهم �أعيننا باملباركات دون
�أن ينطق �أحدنا �أو يفهم غرينا من �أ�شراف چارتني ما يدور بيننا،
ثم د ّوت املو�سيقا على املن�صة فلم جند �أنف�سنا �إال ونحن نرتاق�ص
ونحتفل ون�ضرب الأر�ض ب�أقدامنا يف غري اهتمام مبا حتمله نظرات
الأ�شراف �إلينا ،وبينما نحن نرتاق�ص وتدوي �أل�سنة ن�سائنا بزغاريدها
يف فرحة عارمة نظرتُ �إىل �سيدتي ،لأجد �أن وجهها قد تب ّدل و�صار
9
طفل قد يبلغ الثامنة ،كان يت�شبث
�أكرث احمرا ًرا وهي حت ّدق بعيدً ا نحو ٍ
بقمة عمود مرتفع للغاية على جانب الباحة ..قبل �أن تتخطى احل�شود
م�سرع ًة يف اجتاهه.
()22
«غفران»
9
علي املجيء معكم ..
مل يكن ّ
ثم نظرتُ بطرف عيني �إىل قمة العمود ،وقلتُ لريان:
هيا بنا ..لنعد �إىل الوادي ..
غا�ضب مني ،ال تطيق وجودي هنا ،لكنني �أموت كل ٌ �أعلم �أنك
يوم ك ّلما تذكرتُ ما فعلتُه � ..أتعلم ،لو عاد بي الزمن مل �أكن
لأفعل ما فعلته �أبدً ا ،وجلئتُ معك �إىل هنا لنكمل �سو ًيا ما بد�أته
قبلي ..
ثم ابت�سمتُ و�أنا �أبكي:
كان �سي�صبح لدينا �أطفال يف عمر ال�سابعة �أو الثامنة يلعبون
وي�صرخون ..
كوخ �صغري يلعب
ثم �أغم�ضتُ عيني وذهب خياىل بعيدً ا �إىل ٍ
الأطفال بحو�شه ،طف ٌل �صغري وطفلتان ،بينما �أقف �أنا وندمي بنافذة
كوخنا ننظر �إليهم وعلى وجهينا مالمح ال�سعادة ..
قبل �أن ندلف �إىل الداخل ونغلق النافذة من خلفنا ويحت�ضنني ثم
يقبلني ،فانطلقت �صرخات �أطفالنا املعتادة حني نبتعد عن �أعينهم،
فحاولتُ التمل�ص منه لر�ؤيتهم ف�أم�سك بي ووا�صل تقبيلي ،لكن
�صرخات الأطفال ظ ّلت تتزايد ،بل تداخلت معها �صرخات �أخرى وك�أن
�أطفال الوادي باتوا ي�صرخون كلهم ت�ضام ًنا معهم ..
الأطفال الأ�شقياء ،ال بد يل و�أن �أعاقبهم على �صراخهم امل�ستمر،
ف�ضحك حني ر�أى الغ�ضب على وجهي ،لكن �سرعان ما حتولت تعابري
فزع �شديد عندما نظرتُ يف عينيه وحدقتُ بهما ،مل تكن وجهي �إىل ٍ
هناك �إال �أل�سنة نريان م�شتعلة ،تعالت معها ال�صرخات الآتية من خارج
الكوخ ،لأدرك لوهلة �أنها �صرخات حقيقية ت�أتي من بعيد ..فتحتُ
عيني ،وجد ُتني ال زلتُ �أجل�س �أمام قرب ندمي ،بينما ت�أتي ال�صرخات
املتوا�صلة من ناحية الوادي ..
وثبتُ من مو�ضعي ،ورك�ضتُ يف اجتاه الوادي � ..صعدتُ مهرول ًة
اجلبل الرملي الذي يف�صل بني الوادي واملقابر ،لأقف مكاين مت�سمرة
يف ذهول بعدما ر�أيتُ نريا ًنا عظيمة على امتداد ب�صري ،تلتهم كوخي
وبناء املدر�سة وخمزن الب�ضائع ً
وبع�ضا من الأكواخ املجاورة ،بينما
يرك�ض الفتيان والفتيات �صارخني يحاولون �إطفائها ب�أواين املياه
جانب بعيد والرمال ،ويحمل بع�ضهم َمن �أ�صابتهم النريان ..على ٍ
9
كانت عرب ٌة ل�ضباط الأمن تقف ي�شاهد �ضباطها عمليات الكر والفر
ملن يحاولون �إطفاء النريان دون �أن يحرك �أحدهم �ساك ًنا� ،أدركتُ
�ساعتها �أن چارتني مل تكن لتمرر زواج الن�ساىل بتلك ال�سهولة التي
ظنناها �أبدً ا ..
بارتباك �شديد
ٍ هبطتُ مهرولة �إىل الوادي �أج ّر �أقدامي ،واجتهتُ
�إىل البئر التي ميلأ اجلميع �أوانيهم منها ،هناك ا�ستوقفتني فتا ٌة
و�صرخت وهي تنظر يف وجهي:
�إن ال�سيدة بخري ،ال�سيدة بخري ..
فالتفت اجلميع نحوي غري م�صدقني �أنف�سهم� ،أدركتُ حينها �أن
الكثريين قد ظنوا �أن النريان التهمت الكوخ و�أنا بداخله ..و�سرعان ما
تبدلت مالحمهم اليائ�سة �إىل حما�سة �شديدة ،وخا�ص ًة بعدما حملتً
�إنائي املمتلئ باملاء ،و�أ�سرعتُ به ً
رك�ضا جتاه النريان ،فحمل كل منهم
�إناءه ،ووا�صلوا غمر النريان باملياه والرمال ..
حد مل تكن �أوانينا ال�صغرية لتفعل معه
كان احلريق عظي ًما �إىل ٍ
�شي ًئا ،لكننا مل نتوقف للحظة واحدة عن حماوالت الإطفاء ،و�إخالء
ي�شب
الأكواخ القريبة التي مل ت�صلها النريان ،و�إخماد �أي حريق �صغري ّ
ب�أحدها قبل �أن ت�أكله النريان بالكامل ..
ظللنا الليل ب�أكمله نحاول �أن نطفئ تلك النريان ،حتى متك ّنا
من �إخمادها �أخ ًريا مع طلوع النهار ،بعدما التهمت كوخي واملدر�سة
كوخا ،بينهم كوخ حيدر وخمزن الب�ضائع املُخزنة و�سبعة ع�شر ً
وعرو�سه ..كانت الوجوه من حويل واجمة وهي تنظر يف �صمت �إىل
الدخان املت�صاعد من الركام الأ�سود املغمور باملياه ،بينما مل ت�ستطع
الفتيات متالك �أنف�سهن من البكاء.
مل يكن با�ستطاعتي �أن �أنطق بكلمة واحدة ،ظللتُ �أنظر �إىل �آثار
اخلراب فح�سب ،ثم فرت دموعي �إىل خدي حني ارتطمت بقدمي بقايا
كتاب حمرتق ..وجال يف ذهني الكتب التي �أُحرقت جميعها ومل ُ
ينج
بيد مت�سك بيدي .. منها كتاب واحد ،ثم م�سحتُ دموعي حني �شعرتُ ٍ
كانت يد نارين ،قالت:
�سي�صبح كل �شيء على ما يرام �سيدتي ..
و�أكملت:
أنت بخري� ،سي�صبح كل �شيء على ما يرام ..
طاملا � ِ
�أوم�أتُ بر�أ�سي يف ي�أ�س ،ثم تذكرتُ عربة ال�ضباط التي كانت تقف
بعيدً ا ت�شاهد ما يحدث لنا دون حراك ،فقلتُ لها:
�أين ريان؟!
قالت:
�إنه باحلانةُ ،نقل الكثري من امل�صابني �إىل هناك ..
�س�ألتها يف لهفة:
هل �أُ�صيب ؟!
قالت:
ال �أدري ..
اجتهتُ م�سرع ًة �إىل هناك ،كان اختيار احلانة منا�س ًبا للغاية كونه
بعيدً ا عن مكان احلريق املختنق بالدخان ،كما �أن ردهتها الوا�سعة
مكان واحد ..حني و�صلتُ �إىل كانت تكفي جلمع امل�صابني كلهم يف ٍ
مقرف�صا بجوار �أحد امل�صابني ،ونه�ض حني
ً هناك ر�أيتُ ريان يجل�س
ر�آين ،فالتقطتُ �أنفا�سي ،واطم�أن قلبي عندما وجد ُته �ساملًا ،ثم اقرتب
ق�سم امل�صابني ك ُّل ح�سب �إ�صابته ،و�أ�شار �إىل ٍ
ركن مني و�أخربين �أنه ّ
بعيد يرقد به عدد من امل�صابني وقال:
هناك �إ�صابات احلروق ..
و�أ�شار �إىل ركن �آخر ،وقال:
وهنا اجلروح ،ممن �أ�صيبوا �أثناء الإطفاء ..
و�أ�شار �إىل الراقدين مبنت�صف احلانة:
وهنا ال نعلم ماذا �أ�صابهم ،رمبا االختناق ..ال �أدري ،مل �أجد
جروحا �أو حرو ًقا ب�أج�سادهم ،لكنهم مري�ضون للغاية ،رمبا ً
نحتاج �إىل طبيب ..
قلتُ :
طبيب من الأ�شراف باملجيء �إىل هنا ..
لن ير�ضى ٌ
�شخ�ص غريب
ٌ هز ر�أ�سه م�صد ًقا على كالمي ،قبل �أن يدلف �إلينا
�أ�شعث ال�شعر واللحية ،يحمل حقيبة قما�شية �صغرية ،ويقول:
�إنني طبيب ..
نظرتُ �إليه يف ده�شة ،مل �أتذكر �أنني ر�أيته من قبل يف جويدا ،ومل
يب ُد يل �أنه من الن�ساىل ،لكن ريان �صرخ �إليه وهو يحدق به:
9
�إنني �أتذكرك ..
ثم نظر �إ ّ
يل ،وقال يف فرحة:
�إنه الطبيب الذي رافق �أختي يف املرة الأخرية التي جاءت بها
�إىل الوادي.
()23
«فاضل»
كان خط ًئا ج�سي ًما مني حني ان�صعتُ �إىل كالم دميا ،ووافقتُ على
مغادرتنا چارتني وهي يف تلك احلالة ال�سيئة من مر�ضها ..
ركبنا ال�سفينة يف اليوم ال�سابع من يوم الغفران الذي ح�صدت به
روحا جلنينها ،ومبجرد �أن حتركت بنا �إىل ال�شمال ا�شتد بها املر�ض
ً
بطريق ٍة مل �أكن لأتوقعها ،و�صار معدل نوبات الت�شنج التي ت�صيبها
�ضعف ما كان يحدث يف وادي الن�ساىل ،حتى �أن اخلوف قد ت�سرب
�إىل امل�سافرين ،وانت�شرت الأقاويل بينهم ب�أن �شيطا ًنا ي�سكن ج�سد
تلك الفتاة ،وطالبوا �صاحب ال�سفينة ب�أن ُيبعدها عنهم ،فخ�ص�ص لها
غرفة �ضيقة على م�ض�ض كنت �أراها جيدة بعدما مكنتني من مرافقتها
طوال الوقت بعيدً ا عن �صخب امل�سافرين ..
يف الأيام التالية باتت الأوقات التي ت�ستعيد بها وعيها قليلة للغاية،
ومع معدل النوبات الذي تزايد ب�صورة جنونية بد�أت الأع�شاب املهدئة
يف النفاد مني ،وتزايدت �شكوكي ب�أن هناك نهاية قا�سية تنتظر الفتاة
وجنينها ..
يف اليوم العا�شر ا�ستجمعتُ �شجاعتي ،ودلفتُ �إىل دميا ،و�أخربتها
ب�ضرورة �إنهاء حملها و�إنزال ذلك اجلنني ً
حفاظا على حياتها ..مل
�أكن �أمتلك الأدوات الكافية للقيام بذلك على منت ال�سفينة ،لكني
وجدتُ الأمر ي�ستحق املجازفة ،كان باد ًيا للغاية �أنها لن ت�ستطيع �إكمال
الرحلة �إىل ال�شاطئ ال�شمايل بذلك التدهور ال�سريع ،لكنها رف�ضت
ً
رف�ضا قاط ًعا ..
حتدثتُ مع �ص ّديق بهذا الأمر ،فتحدث معها هو الآخر ،فوا�صلت
رف�ضها ،وظلت تردد باكية يف تعب �شديد:
�سنظل بخري� ،سنظل بخري ..
فلم �أجد �سوى �أن �ألبي رغبتها ،و�أبقى برفقتها �أناولها يف قلة حيلة
9
جرعات خمففة من الأع�شاب كي تكفي ما تبقى من �أيام ،وتناوبتُ ٍ
�أنا و�ص ّديق على مرافقتها بالغرفة والإم�ساك بها �أثناء النوبات ،حتى
ا�ستطعنا الو�صول �إىل �شاطئ بني عي�سى مع اليوم الع�شرين وهي
وجنينها على قيد احلياة ،يف �أمر كان �أ�شبه باملعجزة ..
نقلناها �سري ًعا �إىل ال�شاطئ ،ثم �أح�ضر �ص ّديق عربته وح�صانه ..
�س�ألتُه حينذاك �أن ينتظرين ،وذهبتُ للبحث بني البيوت اخل�شبية على
ال�شاطئ لع ّلي �أجد مكا ًنا يبيع �أع�شا ًبا مماثلة للتي كنت �أ�ستخدمها ..
كنت �أعلم �أن هناك ع�شرة �أيام �أخرى تنتظرنا داخل �صحراء بني
عي�سى قبل الو�صول �إىل ذلك الوادي ،وبغري تلك الأع�شاب لن نتمكن
من الو�صول بها حية �إىل هناك ..
ظللتُ �أبحث و�أ�س�أل َمن يقابلني ،مل �أجد ذلك املكان الذي �أريده،
9
لكن �أحد الأ�شخا�ص د ّلني على �سفينة كانت على و�شك الإبحار ،يبحر
عليها الكثري من التجار رمبا �أجد بينهم تاج ًرا للأع�شاب ،ف�صعدتُ
�إىل منت تلك ال�سفينة ً
راك�ضا ،وبالفعل وجدتُ هناك من باعني قد ًرا
كاف ًيا من الأع�شاب التي �أريدها مقابل ثالثة قطع ذهبية ،وعدتُ
�سري ًعا �إليهم لنبد�أ رحلتنا �إىل بني عي�سى ..
يف الطريق �إىل بني عي�سى �س�ألني �ص ّديق �إن كنت �أعتقد ب�أن
مولودها �س ُيولد �سلي ًما بعد كل ما �أ�صابها ،زممتُ �شفتي و�أجبتُه ب�أن
و�صولها ملوعد الوالدة بتلك احلالة املتدهورة �سيكون معجز ًة �أخرى
يف حد ذاته ،ثم �أخربته ب�أنني �س�أذهب بها �إىل العيادة الطبية التي
كنت �أعمل بها قبل ذهابنا �إىل چارتني ،هناك من الأدوات الطبية
والأع�شاب ما مي ّكنني من االعتناء بها ،غري �أن داخلي كان يحمل �سب ًبا
�آخر مل �أكن لأخربه به ..
و�صلنا بعد ع�شرة �أيام �إىل العيادة ،ا�ستقبلني �صالح بده�شة كبرية،
ظن الفتى �أنني عدتُ �إىل بلدي ،وما لبث �أن ا�ستفاق من ده�شته،
فح�ضنني مرح ًبا بي ،قبل �أن ي�ساعدنا يف حمل دميا و�أغرا�ضها �إىل
الداخل� ،أخرب ُته �أنها �ستبقى معنا حتى موعد و�ضعها بعد ثالثة �أ�شهر،
مل يعار�ضني ،وخا�ص ًة بعدما �أظهرتُ له خم�س قطع ذهبية ،و�أ�ضاف
�ضاح ًكا:
ح�س ًنا ،بات لدينا مر�ضى �أخ ًريا� ،س�أعد لها �سري ًرا بغرفة
الأع�شاب املجاورة لغرفة الك�شف ..
هم �ص ّديق باملغادرة �إىل وادي الغجر ،و�أخربين �أنه �سيعاودبينما ّ
حمافظا على وعده يل ً املجيء بني احلني والآخر� ،س�ألتُه �إن كان
9
ب�إر�شادي �إىل َمن يعرف الطريق �إىل بلدي� ،أجابني ب�أنه �سيحملني �إليه
مبجرد �أن ت�أتي دميا بطفلها �إىل احلياة ،و�أ�ضاف بل� ٍؤم وهو يع ّد عربته
من �أجل الرحيل:
على كل منا �أن يفي بوعده �أيها الطبيب ..
9
هن�أين بغري اكرتاث على املر�ضى اجلدد ،وغادر على �أن يعود بعدها
ب�أيام ..
يف الأ�سبوع الثاين من ال�شهر الثالث فوجئتُ بتح�سن الفتاة ن�سب ًيا،
أغي �شي ًئا
ق ّل معدل النوبات فج�أ ًة وتباعد الوقت بينها رغم �أنني مل � ّ
من جرعات عالجي ،حتى �أن �صالح �أخربين �أنه يو ُد �أن يرك�ض ب�شوارع
بني عي�سى ليخرب اجلميع �أن الفتاة احلبلى قد حت�سنت ُقبيل موعد
الوالدة ،يومها اقرتبتُ منها ،فنظرت �إ ّ
يل متعبة ،وقالت با�سمة:
كنت تريدين �أن �أقتله؟!
�ضحكتُ وقلتُ :
طب خا�ص بهم ..
يبدو �أن الن�ساىل يحتاجون �إىل ٍ
�أم�سكت بيدي وقالت:
كنت �أعلم �أنه �سينجو ..
ربت على يدها وقلتُ :
ُّ
لقد اقرتب موعد و�صوله للغاية ..
ف�ضحكت ،غري �أن تلك ال�ضحكة مل تبقَ ل ٍ
أيام كثرية ..فوجئتُ
مفزوعا
ً بعدها بثالثة �أيام ب�صالح يوقظني مبنت�صف الليل ،ويخربين
ً
مهرول �إىل ب�أن نوب ًة �شديدة ت�صيب دميا ..وثبتُ من نومي ،و�أ�سرعتُ
غرفتها ،كانت النوبة قد انتهت مع و�صويل �إليها ،لكن مالحمي �سرعان
ما ا�ضطربت حني وجدتُ �صدرها قد توقف عن الهبوط واالرتفاع قبل
�أن يت�سرب اللون الأزرق �إىل �شفتيها.
خطفتُ �سماعتي الطبية ،وحاولتُ �سماع دقات قلبها ،مل يكن
هناك �شيء �سوى ال�سكون ،نظرتُ بتوتر يف عينها الغائرة ذات احلدقة
املت�سعة ،وحتركتُ بال�سماعة �إىل بطنها ،كانت دقات اجلنني ال�سريعة
ً
مذهول بعدما ر�أى تعبريات وجهي وحركاتي ال تزال تدق� ،س�ألني �صالح
املنفعلة:
ماتت؟!
مل �أجبه ،كنت �أحاول الرتكيز على دقات قلب اجلنني ،قبل �أن �أُلقي
ب�سماعتي �إىل ال�سرير بجانبها ،و�أرك�ض �إىل املطبخ الذي يعد به �صالح
م�سرعا ب�سك ٍني
ً طعامنا ومنه �إىل غرفة الك�شف املجاورة ،و�أعود �إليها
وعدد من الآالت اجلراحية كنت قد ج ّمعتها يف �إناءٍ واحد قبلها حاد ٍ
ب�أيام ،قال �صالح مذعو ًرا:
ماذا تفعل؟!!
قلتُ و�أنا �أح ّرك يدي الي�سرى على بطنها الكبرية لأحدد املكان
الذي �أغر�س فيه طرف �سكيني:
ال يزال اجلنني ح ًيا ..
ثم الم�ستُ طرف ال�سكني جللد بطنها مبحاذاة �سبابتي ،قبل �أن
�أ�شق بن�صله طبقاتها طبق ًة وراء الأخرى و�صالح يقف بجانبي ينظر
�إ ّ
يل فح�سب ،حتى اندفع ال�سائل املحيط باجلنني و�أغرق الفرا�ش من
�أ�سفلها ،ف�أ�سرعتُ بتو�سيع ال�شق الذي �صنعته ،و�أبعدتُ طرفيه بيدي
بقوة ،ليظهر اجلنني �أمامنا ..
�أخرجتُ اجلنني برفق ،وم�سحتُ بيدي ال�سوائل التي تب ّلل ج�سده،
9
طرقات خفيفة على ظهره ،بينما وا�صلٍ ظل �صامتًا للحظات ،طرقتُه
�صالح نظراته احلائرة �إ ّ
يل و�إىل الطفل ،قبل �أن تنفرج �أ�ساريره عندما
انطلقت �أوىل �صرخات الطفل الباكية ليلتقط معها �أول �أنفا�سه بهذه
احلياة ..
�أ�سرع �صالح بتجفيف ج�سد الطفل وتدفئته ،ول ّفه داخل غطاءٍ
�صويف اعتاد �أن ي�ستخدمه بالأوقات الباردة ،بينما مكثتُ �أخ ّيط الطبقة
اخلارجية من بطن دميا با�ستخدام خيوط طبية �أخربين �صالح �أنها
ظ ّلت ل�سنوات بخزانة الأع�شاب دون ا�ستخدام ،ثم انتهيتُ ،ف�س�ألني
وهو ينظر �إىل وجه دميا:
كان حت�سنها الأ�سبوع املا�ضي �صحوة املوت؟!
�شفتي:
زاما ّقلتُ ً
ال �أعرف ..
قال:
�س�أذهب يف ال�صباح �إىل �شيخ الوادي لإخباره عن موت الفتاة ..
�أوم�أتُ بر�أ�سي ،ثم غادرنا غرفة دميا و�صعدنا �إىل غرفتنا بالطابق
العلوي ،قال �صالح وهو ي�ضع الطفل على �سريري �أنه مل ي َر يف جر�أتي
بعدما اتخذتُ قراري ب�شق بطن الفتاة امليتة ،كان غريي ليرتكها
ويرتك جنينها ،قلتُ و�أنا �أتفقد الطفل:
ُكتبت له النجاة فح�سب ..
قال:
نعم ..
وتابع:
�سيفرح �ص ّديق بذلك ..
ثم تثاءب ،وزحف �أ�سفل فرا�شه و�أغم�ض عينيه وك�أن �شي ًئا مل
يحدث� ،أما �أنا فجل�ستُ يف �سريري �أنظر �إىل الطفل بجواري ،و�أف ّكر يف
�ص ّديق الذي �سي�صل يف �أي وقت لأخذ الطفل �إىل وادي الغجر ..ثم مر
وقت ثقي ٌل مل يتوقف به عقلي عن ال�ضجيج ،قبل �أن �أنه�ض و�أهبط �إىل ٌ
غرفة دميا مرة �أخرى ..
�أ�شعلتُ امل�صباح الزيتي ،وقربتُه من �سريرها ،ثم ك�شفتُ بطنها
ليظهر جرحها الكبري �أمامي ،ثم بد�أتُ �أزيل الغرز اجلراحية التي
قمت بخياطتها قبل �ساعة واحدة ،و�أبعدتُ بيدي حافتي اجلرح لأ�صنع
بينهما فجو ًة كبرية ..
ثم �سحبتُ الفرا�ش املل ّوث بالدماء وماء اجلنني من �أ�سفلها،
وجذبتُ و�سادة �صغرية كانت بجوارها ،وا�ستخدمتُ املق�ص اجلراحي
لتمزيقها و�إخراج ح�شوها املُك ّون من قطع قما�شية قدمية ،ثم ك ّور ُتها
مع الفرا�ش لأ�صنع كرة قما�شية ذات حجم منا�سب ،وو�ضعتُها بداخل
جتويف بطن الفتاة ،وهم�ستُ �إليها و�أنا �أقوم بح�شرها:
عليك وعلى
�ساحميني �أيتها الفتاة� ،أعطيتُك وعدً ا باحلفاظ ِ
طفلك ..مل �أ�ستطع �إنقاذك ،لكن هناك فر�صة لإنقاذ طفلك ..
حافتي ال�شق البطني ،وقمتُ بخياطته من جديد لتعود ّ ثم قربتُ
البطن �إىل حجمها الكبري كما كانت ُقبيل موتها ،ثم �ألب�ستها ثو ًبا
نظي ًفا كان بني �أغرا�ضها ،وحملتُها �إىل غرفة الك�شف املجاورة ،وهناك
لففتُها مبالءة بي�ضاء ..ثم �صعدتُ �إىل غرفتي ،وجل�ستُ على �سريري
�أنظر �إىل �صالح النائم و�أنا �أحاول متالك �أع�صابي ،ثم هم�ستُ �إليه
كي ي�ستيقظ ،تعجب مني ،و�س�ألني يف تذمر بعني ن�صف مغلقة �إن كان
خطب ما ..قلتُ :
هناك ٌ
حني تذهب �إىل �شيخ الوادي ال تخربه ب�أن هناك ً
طفل قد ُولد
..
فرك عينه وت�ساءل با�ستغراب:
ملاذا؟!
قلتُ :
�أخربه فقط �أن الفتاة قد ماتت قبل و�ضعها ..
فاعتدل يف جل�سته وحاول �أن يج ّمع ما �أقوله له ،فقلتُ :
ال �أريد �أن يعرف �أحد ب�أن جنني دميا قد جنا ..
قال:
لكن �ص ّديق �سي�أتي لأخذه ..
قلتُ :
�سنخرب �ص ّديق بذلك � ً
أي�ضا ،ماتت الفتاة وجنينها ..
فنظر �إ ّ
يل و�سكت ثم قال:
ال �أعلم ما الذي تف ّكر به ،لكن �إن مل يح�صل �ص ّديق على الطفل
9
لن يد ّلك على َمن ير�شدك �إىل بلدك ..
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ،وقلتُ :
�أعرف ذلك ،لكني لن �أترك هذا الطفل ل ُيباع للغجر.
«غفران»
مل نقل �شي ًئا ،تركناه يفعل ما يراه ،حتى انتهى ،فجل�س قبالتنا ،كان
ال�صمت واحلزن يخيمان علينا جمي ًعا ،ظل م�شهد احلريق ومالمح
اخلوف املنطبعة على وجوه الن�ساىل ي�سيطرون على كل تفكريي ،ثم
نطق ريان مقاط ًعا ل�صمتنا:
�شك ًرا �أيها الطبيب كنا يف حاجة ما�سة �إليك ..
قال الطبيب يف توا�ضع كبري:
مل �أفعل �شي ًئا � ..سيكونون بخري جميعهم ..
�صمتنا مر ًة �أخرى ،حتى حتدث ريان جمددًا:
ما الذي عاد بك �إىل هنا؟! ..هل حدث مكروه لدميا؟!
قال الطبيب يف حزن بعدما ز ّم �شفتيه:
لقد ماتت دميا منذ �سنوات طويلة ..
و�أردف:
يف العام الذي رحلنا به ..
انتبهتُ حلظتها �إىل حديثهما ،و�أكمل الطبيب:
بلغ مر�ضها حدً ا �سي ًئا للغاية مع حملها � ..أخرب ُتها �أنها يف
حفاظا على حياتها ،لكنها حاجة �ضرورية �إىل �إنزال اجلنني ً
يوما بعد يوم ،حتى رف�ضت �أن جته�ضه ..ظلت حالتها ت�سوء ً
فارقت احلياة قبل �أيام من موعد والدتها ..
كفي،
كانت الدموع قد ظهرت بعني ريان ،فو�ضعتُ ر�أ�سي بني ّ
حزن �إىل الطاولة �أمامي ،قبل �أن يت�ساءل �إىل الطبيب
ونظرتُ يف ٍ
ب�صوت يخنقه الدموع:
ملاذا مل ِترد الت�ضحية بجنني ميت؟!
قال الطبيب ب�صوت هادئ:
مل يكن ميتًا ..
�س�أله ريان على الفور يف تعجب:
غفران �آخر خالف اليوم الذي
ٍ هل جاءت �إىل الباحة بيوم
جئتم به؟!
قال الطبيب:
ال.
و�صمت بره ًة ،ثم تابع:
9
روحا جلنينها ..
يوم كنا هنا �أنها قد ح�صدت ً
�أخفت دميا عنك َ
حلظتها رفعتُ �إليه عيني يف ذهول ،وح ّدق به ريان كذلك ،قبل �أن
يل وينظر يف عيني ،وك�أن عقولنا قد ع�صفت بال�شيء يح ّرك عينه �إ ّ
ذاته.
()24
ثم حمل املقعد وقذفه � ً
أر�ضا فته�شم ،قبل �أن يلتفت �إىل الطبيب يف
ترقب حني تابع حديثه يف هدوء وقال:
متكنتُ من �إنقاذ الطفل بعد موتها ..
9
و�س�أله وهو يح ّدق به:
�أين هو؟!
«فاضل»
كنتُ �أقف على باب غرفة الك�شف عندما �س�ألني �ص ّديق وهو
يتفح�ص وجه جثة دميا:
كيف حدث ذلك؟!
قلتُ :
نوب ٌة قوية من الت�شنجات مل ُ
تنج منها ..
نظر �إىل ج�سدها امللفوف باملالءة و�إىل انبعاج بطنها نظر ًة مطولة،
ثم غطى وجهها ،وقال:
هل �أبلغتم �شيخ الوادي؟
قلتُ :
نعم ،ذهب �صالح لإبالغه ..
هز ر�أ�سه مت�أث ًرا وقال:
كادت تفعلها ..
اوم�أتُ بر�أ�سي ،ثم قلتُ :
�سيتوىل �صالح �أمر دفنها مبقابر هذا الوادي ..
قال:
افعلوا ما �شئتم ..
وهم ليغادر ،قلتُ :
ّ
�أريدك �أن تر�شدين �إىل َمن ي�صحبني �إىل بالدي ..
قال ما كنت �أتوقعه:
كان عليك �أن تفي بوعدك ..
قلتُ :
تعلم �أنه مل يكن بيدي �شيء ..
قال:
وا�ضحا� ،أن تعتني بها وبطفلها مقابل �أن
ً كان وع ُد دميا لك
�أر�شدك �إىل َمن يعود بك �إىل بلدك ..
قلتُ يف تربم �ساخر:
ال وعد للغجر ..
نظر �إ ّ
يل نظر ًة غا�ضبة �شعرتُ معها �أنه قد يلكمني ،لكنه غمغم
بكلماته ،و�أكمل طريقه مغادًرا ..ف�أغلقتُ الباب من خلفه ،وتنف�ستُ
بوقت قليل عاد �صالح من اخلارج ،و�س�ألني علىال�صعداء ..بعدها ٍ
الفور:
هل �أتى �ص ّديق؟!
قلتُ :
نعم ..
قال:
ماذا قال؟!
قلتُ :
ال �شيء ،عرف �أن دميا وجنينها قد ماتا ،وتركني وغادر..
قال:
مل ي�شك ب�شيء؟!
اوم�أتُ بر�أ�سي ناف ًيا ،وقلتُ :
هل وجدت املر�أة التي �أخربتني عنها؟
قال:
نعم ..
كان �صالح قد �أخربين يف �ساعة مبكرة من اليوم عن امر�أة و�ضعت
طفل منذ �شهر بوادي جماور من وديان بني عي�سى غري وادي الغجر، ً
وقد توافق على �إر�ضاع الطفل مقابل ب�ضع ٍة من القطع الذهبية� ،أردف:
�أخربتها �أن �أمه قد ماتت و�أن �أباه من �أر�سلني �إليها ،و�أعطيتُها
القطع الذهبية التي �أعطيتها �إ ّ
يل� ،س�ألتني عن ا�سمه ،مل �أد ِر ما
�أقول ،فقلتُ «�آدم» ..
ابت�سمتُ ،فتابع:
و�أخربتُ �شيخ الوادي عن موت الفتاة وجنينها كما �أخربتني
� ..سري�سل من ي�ساعدين بنقلها �إىل مقابر الوادي قبل غروب
ال�شم�س ..
قلتُ :
خري ما فعلت ..
قال وهو يجل�س لي�سرتيح:
�ستبقى بوادينا � ًإذا؟!
قلتُ :
يبدو �أنه قدري ..
ثم تابعتُ :
على كل حال� ،صار لدينا عد ٌد جيد من املر�ضى ،ي�ستحقون �أن
�أبقى من �أجلهم ..
قال:
والطفل؟!
فكرتُ ً
قليل ،ثم قلتُ :
ال �أعلم بعد ،لكنه �سيبقى لدى املر�أة حتى يتم ر�ضاعته على �أقل
تقدير ،ال �أحد يعلم بعدها ماذا قد يحدث ..
وتابعتُ يف تردد:
رمبا �آخده معي �إن �سنحت يل فر�ص ٌة للعودة �إىل بالدي ..
قال:
9
لي�س لديك خطة وا�ضحة ب�شانه � ًإذا؟
قلتُ واج ًما و�أنا �أنظر نحو ج�سد �أمه املُغطى:
لدي.
نعم ،ال خطة ّ
مرت �أيام �أخرى كثرية ،تزايد خاللها عدد املر�ضى �أكرث و�أكرث
ب�صور ٍة مل �أكن �أتوقعها ،و�صرتُ �أنال ً
مقابل جيدً ا للغاية ،خ�ص�صتُ
منه جز ًءا لل�سيدة التي تو ّلت تربية الطفل ..وبني ح ٍني و�آخر كنت
وا�ضحا للغاية مع نف�سي،
ً �أتردد �إليها من �أجل االطمئنان عليه ..كنتُ
�أنني مل �أكن �أ�ستطيع االعتناء به كما وجدتُ تلك املر�أة تفعل ،فعر�ضتُ
عليها �أن تكمل تربيته بعد �إمتام ر�ضاعته مقابل ا�ستمرار ما �أدفعه
لها..
مع مرور الأيام زادت ثقة الكثريين من �أهل الوديان بي ،و�صرتُ
معرو ًفا بينهم بطبيب الوادي ،ومع ذلك مل �أجد قط من يوافق على
ا�صطحابي �إىل ال�سكة احلديدية ،حتى �أدركتُ نهاية املطاف �أنني
�س�أق�ضي حياتي هناك ..
مل �أ َر �ص ّديق منذ �آخر مرة ر�أيتُه فيها ،وترك �صالح املعي�شة معي
ببيت �صغري جماور ،وبات يرتدد على العمل نها ًرا فقط .. وتزوج ٍ
�أما �أنا فمكثتُ �أق�ضي �أيامي بني املر�ضى والوادي املجاور مع �آدم ..
كانت ُمربيته امر�أ ًة �صاحلة ،لطاملا جل�ستُ معها نتحدث ب�ش�أنه ،كانت
حتدثني دائ ًما عن رف�ضه الت�أقلم مع باقي �أطفالها ،وعن ذلك احلزن
املدفون الذي تراه يف �أعينه� ،أو كما كانت تقول؛ �شعور دائم بالغربة
ُيغ ّلف كل �أفعاله رغم �صغر �سنه ..
كنت �أخربها كل مرة �أن موعد ا�ستعادته منها قد اقرتب� ،أيا ٌم
قليلة فح�سب ،لكن الأيام �صارت �شهو ًرا ،وتال�صقت ال�شهور و�صارت
�سنوات ،لأجده قد بلغ التا�سعة من عمره يف غم�ضة عني ،دون �أن يعرف
ٍ
داخلي �أبدً ا خطوتي اجلديدة ب�ش�أنه ..
�إىل �أن جاء ذلك اليوم حني دلفت �إىل العيادة فتا ٌة مري�ضة كانت
تعاين من �أ ٍمل حاد ببطنها ،وعندما �شرعتُ يف فح�صها توقفتُ �شاردًا
بعدما ملحتُ ذلك الو�شم على كتفها الأي�سر ،وقلتُ متعج ًبا:
ن�سلية؟!
قالت:
نعم ..
�أخرب ُتها �أنني زرتُ چارتني من قبل� ،س�ألتني عن �سبب زيارتي ،مل
�أخربها عن دميا ،وقلتُ �أنها كانت زيارة من �أجل الإطالع فح�سب،
حتدثنا عن الن�ساىل ،قالت يف فرحة ب�أن تغي ًريا كب ًريا قد حدث بني
فتيان وفتيات الن�ساىل خالل ال�سنوات القليلة املا�ضية بعد قدوم ما
�أ�سمتها ال�سيدة غفران �إىل واديهم ..و�أنها مل ت� ِأت �إىل بني عي�سى �إال
بع�ض من ب�ضائعهم ،لكنها �شعرت ب�أ ٍمل مفاجئ ف�أخربتها من �أجل بيع ٍ
امر�أ ٌة عني� ،س�ألتُها و�أنا �أحاول تذ ّكر ا�سمه:
هناك �شاب ٌي�سمى ريان ،ما زال على قيد احلياة؟!
قالت:
نعم ،م�ساعد ال�سيدة� ،إنه �أكرثنا براع ًة يف تعليم ال�صغار
القراءة والكتابة ..
ابت�سمتُ يف ده�شة ،وقلتُ :
عاما
قابلتُه من قبل ،كان وقتها يبلغ خم�سة ع�شر �أو �ستة ع�شر ً
..لكني مل �أتوقع �أنه ال يزال على قيد احلياة ،لطاملا �سمعتُ �أن
القليلني من فتيان الن�ساىل من ي�ستطيعون النجاة من من�صة
چارتني بعد بلوغهم ..
قالت:
�شاب �صالح ،اجلميع يحبونه هناك ..
�إنه ٌ
كدتُ �أخربها يف تلك اللحظة عن طفل دميا ،لكني �أم�سكتُ بل�ساين
وتراجعتُ ،مل �أكن �أمتلك الثقة الكاملة بها لكونها ن�سلية ..وتركتُها
تغادر بعدما انتهينا ،ثم وقفتُ بالنافذة �أراقبها وهي ت�سري جتاه فتاتني
أحمال ُمغطاة بالقما�ش فوق ر�ؤو�سهن ،ثم �آخرتني كانتا حتمالن � ً
يل �صالح يخربين ب�أن هناك حملت هي الأخرى ِحملها ،وقتها دلف �إ ّ
9
ً
مري�ضا �آخر يف انتظاري ..مل �أنتبه �إىل ما يقوله ،وظللتُ �شاردًا و�أنا
�أراقب الفتيات وهن يبتعدن ،حتى غنب عن نظري ،فتعجب حني طال
فالتفت �إليه ،وقلتُ :
ُّ خطب ما،
�شرودي ،و�س�ألني �إن كان هناك ٌ
�س�أعود ب�آدم �إىل چارتني ..
د ّلني �صالح �إىل �أحد الرجال الذي ا�صطحبني �أنا و�آدم �إىل �شاطئ
بحر �أكما ،وهناك ركبنا ال�سفينة املتجهة �إىل چارتني كما فعلتُ مع �أمه
و�ص ّديق قبل ت�سع �سنوات ..كانت املرة الأوىل التي �أبقى بها مع الطفل
ملدة طويلة ،مل يكن يتحدث كث ًريا ،فرتكته يتج ّول على �سطح ال�سفينة،
وبقيتُ �أراقبه من بعيد ..
كانت ال�سفينة حتمل الكثري من امل�سافرين ،وكان اجلميع يرتدون
ثيا ًبا متقاربة ،فلم �أ�ستطع تفريق �أهل چارتني عن الن�ساىل ،غري �أنني
ملحتُ الفتاة الن�سلية التي جاءتني مري�ض ًة قبل �أ�سبوعني ،وحني ر�أتني
اقرتبت مني متعجبة ،و�س�ألتني عن �سبب ذهابي� ،ضحكتُ و�أخرب ُتها
كاذ ًبا �أنني �أود الذهاب بطفلي �إىل چارتني من �أجل م�شاهدة يوم
الغفران ..حتدثنا كث ًريا ،حدثتني بتفا�صيل �أكرث عما يدور داخل وادي
الن�ساىل يف تلك الأيام ،وعن ان�صراف �أغلبية الفتيات عن ممار�سة
الرذيلة ،ثم �أح�ضرت يل بع�ض الب�ضائع التي مل تتمكن من بيعها لت�ؤكد
كالمها ،وددتُ لو ا�شرتيتُ منها ،لكني مل �أكن يف حاجة �إىل �أي �شيء
مما تبيعه ..
�أتذكر حني عربنا مبحاذاة جدار چارتني العظيم قامت هي َومن
معها من فتيات الن�ساىل بك�شف �أكتافهن لتبدو �أوا�شمهن ظاهر ًة
للغاية ،كما قام الفتيان بخلع ُ�سرتهم ،لتظهر �أو�شام �صدورهم ..يف
تلك اللحظة فقط ا�ستطعت معرفة َمن هم الن�ساىل من امل�سافرين،
َومن هم غري ذلك ،قلتُ لآدم بعدما ر�أيته يح ّدق �شاردًا نحو اجلدار:
�إنه بلدك ..
وا�صل نظراته �إىل اجلدار ك�أنه مل ي�سمعني ..ثم ظهرت يف اليوم
التايل بيوت القرية اجلنوبية واجلبال احلمراء املط ّلة على البحر حني
اقرتبنا من امليناء اجلنوبي ،وملا ر�ست ال�سفينة كانت حالة الهرج واملرج
�شديد ًة للغاية ب�سبب التزاحم الكثيف ..ف�أم�سكتُ ِ
بيد الطفل جيدً ا،
وهبطنا بحذ ٍر �إىل الزحام الذي ينتظرنا ،وبينما كنتُ �أتلفت لأبحث
بعيني عن الفتاة الن�سلية كي �أخربها يف تلك اللحظة �أنني �س�أذهب
ي�صم �آذاننا ..
معها �إىل وادي الن�ساىل ،فوجئتُ ب�صوت البارود و�صداه ّ
�ضابط �شاب من �ضباط الأمن ي�ص ّوب �سالحه الناري �إىلٌ كان
ال�سماء ،ويطلق طلقاته واحدة تلو الأخرى دون توقف ،فهد�أ �ضجيج
املتزاحمني وقتها ..توقعتُ مما يحدث �أمامي �أن هناك من ُ�سرق
ماله ،ومن ّثم �سيبد�أ ذلك ال�ضابط ومن معه بتفتي�ش امل�سافرين ..يف
هذه اللحظة ملحتُ الفتاة ،كانت تقف على بعد �أمتار مني ،تنظر نحو
ال�ضابط ويرت�سم اخلوف على وجهها ،ثم تقدمنا ً
قليل �إىل الأمام ..
الحظتُ �أن ال�ضابط ي�سمح مبرور �أ�شراف چارتني دون تفتي�ش
وي�ستوقف الن�ساىل فقط ،قبل �أن ي�صفع وجه الن�سلي الذي ي�ستوقفه
بعنف �شديد ،و�إن رفع ر�أ�سه ال
حتى يجثو �أمامه ،ثم يقوم بتفتي�شه ٍ
يت�أخر عن �ضربه بع�صا ٍة ق�صرية كان مي�سك بها� ،أو ركل ج�سده بقوة..
ظ ّل يفتّ�ش الن�ساىل واحدً ا تلو الآخر دون �أن ُيبدي � ٌأي منهم
اعرتا�ضه على الطريقة املهينة التي ي�ستخدمها ،ثم جاء دور الفتاة،
جثت على ركبتيها بينما قام ال�ضابط بتفتي�شها ،وحني رفعت عينها
�إليه �أم�سك ب�شعرها بقوة ،وقام ب�صفع وجهها �صفع ًة �أجفل معها
ج�سدي من �شدتها ،ثم كرر الأمر دون �أي مربر ..جال يف ذهني
وقتها �أنه يقوم بت�أديبهم بعدما و�شى عليهم �أحد الأ�شراف لأنهم �أخفوا
�أو�شامهم خارج چارتني ،لكنها كانت جمرد �أفكار بر�أ�سي ..
وا�صل ال�ضابط �صفعه للفتاة حتى �سالت الدماء من وجهها دون
�أن يتحرك �أي �أحد للدفاع عنها ،بقي اجلميع يف �أماكنهم ينتظرون
دورهم ،حتى فوجئنا جمي ًعا بذلك احلجر الذي ُ�صوب بقوة ودقة
بالغتني جتاه وجه ال�ضابط ،فهبط على ركبتيه ُم�س ًكا ب�أنفه يف ت� ّ ٍأل
وا�ضح ،بينما بد�أت الدماء تن�ساب دون توقف من بني �أ�صابعه ..ثم
رفع عينيه الناقمتني جتاهي ،مل يكن ينظر �إ ّ
يل ..
كان ينظر �إىل �آدم الذي وجد ُته قد ترك يدي ،ووقف على ُبعد
حتد
خطوتني مني يحمل حج ًرا �آخر ،وينظر مت�أه ًبا نحو ال�ضابط يف ٍ
�شديد ،قبل �أن ي�صرخ ال�ضابط غا�ض ًبا ،وينه�ض لريك�ض بع�صاه جتاه
�آدم ،ومعه بع�ض ال�ضباط الآخرين ،ف�ص ّوب الطف ُل حجره الثاين نحوه،
ثم رك�ض مبتعدً ا �إىل الزحام ..
وبينما ط ّوقنا عد ٌد من رجال الأمن الآخرين و�أرغمونا على
اجللو�س مقرف�صني وا�ضعني �أيادينا فوق ر�ؤ�سنا ،ظللتُ �أنظر �إىل
الطفل وهو يرك�ض بني املتزاحمني ويراوغ �ضباط الأمن واحدً ا وراء
الآخر يف براعة �شديدة دون �أن ي�ستطيع �أح ٌد الإم�ساك به ،حتى اختفى
عن نظري ،فوقفتُ بني اجلال�سني لر�ؤيته ،فقام �أحد ال�ضباط ب�ضربي
ركبتي جمددًا ،لكني وا�صلتُ وقويف
ّ بع�صاه بغلظة كي �أهبط على
9
وحتديقي نحو �آدم وهو يوا�صل مراوغته لل�ضباط ،حتى ابتعد عن
�أقرب ال�ضباط �إليه مب�سافة كافية ،ليكمل رك�ضه مبتعدً ا دون �أن يلتفت
خلفه ..وقتها �أيقنتُ �أن ذلك الطفل قد وجد موطنه �أخ ًريا.
()25
«غفران»
�أكمل �إلينا الطبيب ب�أنه ُاعتقل بني كث ٍري من الن�ساىل بعدما مل يتمكن
الظباط من اللحاق بالطفل ،وكعادة املعتقلني ُقبيل �أيام الغفران ،مل
يكن ل ُينظر يف �أمرهم حتى االنتهاء من مرا�سمها ،ثم �أُطلق �سراحه
يف اليوم الثاين من يوم الغفران لكونه غري ن�سلي ،وجاء �إلينا ليخربنا
آمل �أن يجده قد عرف طريقه �إلينا� ،س�أله ريان: ب�أمر ذلك الطفل � ً
هل كان يحمل و�ش ًما؟
�أجاب الطبيب:
ال ..
�س�أله جمددًا:
هل حدثته عن كونه ن�سلي؟!
قال الطبيب مرة �أخرى:
ال ..
ف�أخرج ريان زفريه ،وقال:
فقدناه للأبد ..
كنتُ �أ�ستمع �إليهما فح�سب ،مل �أ�ستطع �أن �أنطق ب�شيء ،ما كان
يجول يف ذهني هو �شيء واحد فقط� ،أن ذلك الطفل هو نف�سه الطفل
الذي ر�أيتُه يت�شبث بقائم الباحة ،لكني نظرتُ �إىل الطبيب وقلتُ يف
النهاية و�أنا �أحاول �أن �أظهر ثباتي �أمامهما:
9
�أريدك �أن تبقى بيننا حتى يكتمل �شفاء امل�صابني ،لن ير�ضى
�أي طبيب چارتيني باملجيء �إىل هنا� ،أ�ستطيع �أن �أو ّفر لك
ً
مقابل عن املدة التي تبقى بها بيننا ..
فنظر �إىل امل�صابني الراقدين ،وهز ر�أ�سه مواف ًقا.
كوخا بجوار احلانة للمبيت به ،وكذلك فعل د ّبر ريان للطبيب ً
يل ،مل نتحدث كث ًريا تلك الليلة عما حدث لأكواخنا ،و�آثرتُ �أن نخلد
�إىل الراحة ليلتها بعدما �أ�صاب الإجهاد جميعنا ،وتركتُهم و�أويتُ �إىل
فرا�شي ..مل ميهل حديث الطبيب لعقلي وقتًا كي �أف ّكر مبا حدث لكوخي
ي�ضج م�ضطر ًبا بكل كلمة نطق بها� ،إىل
والأكواخ املجاورة ،ظل تفكريي ّ
أمل زائف ،الطفل وقد ُفقد ،و�إن�أن حدثتني نف�سي ب�أال �أتعلق كث ًريا ب� ٍ
عاد �إلينا لن يتذكر �شي ًئا ،مثله مثل الن�ساىل ،هم �أنا�س خمتلفون ً
متاما
واحد منهم حياته اجلديدة التي ن�ش�أ
عن �أ�صحاب الروح القدمية ،لكل ٍ
عليها.
متنيتُ لو قبل الطبيب �أن يبقى بيننا مد ًة �أطول ،ال من �أجل املر�ضى
فح�سب ،كان داخلي يو ُّد �أن يقول ب�أنه الوحيد الذي يعرف الطفل ،لكني
مل �أكن لأجر�ؤ ب�أن �أطالبه بذلك الأمر �صراح ًة ..ثم غلبني النوم ،ومل
�أ�ستيقظ �إال مع ظهرية اليوم التايل ،لأجد ناردين يف انتظاري ..
تعجبتُ من تركها يل نائمة كل ذلك الوقت ،قالت �أنها وجدتني متعبة
للغاية ،ومل ت�ش�أ �أن تزعجني ..
توجهتُ الح ًقا �إىل ريان ،كان هو والطبيب يتفقدان �أماكن احلريق،
ّ
بينما يقوم باقي فتيان وفتيات الن�ساىل ب�إخالء الأر�ض من البقايا
املحرتقة ..ثم تركنا ريان وان�ضم �إليهم ،وبقي الطبيب بجواري ،قال:
يديك ..
�سمعتُ كث ًريا عما دار يف هذا الوادي على ِ
قلتُ :
�إنهم ي�ستحقون حياة �أف�ضل مما كانوا يعي�شونها ..
قال:
ر�أيتُ معاناتهم على �أيدي �ضباط الأمن بامليناء اجلنوبي،
وكذلك بني جدران ال�سجن عندما ُاعتقلتُ لأيام ،ثم قال وهو
ينظر �إىل �آثار احلريق:
�شرفاء چارتني من فعلوها؟!
هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا ،فقال:
توقعت �أن يحدث ذلك؟
هل ِ
قلتُ :
نعم ..
و�أردفتُ :
ق ّل عدد مرتكبي اجلرائم من الن�ساىل ب�صور ٍة ملحوظة ،وق ّل
معه �إعدامات يوم الغفران ،كانت تلك الإعدامات ُت�ضيف ً
نوعا
من الإثارة واملتعة ملرا�سم اليوم ،ويظل احلديث عنها م�ستم ًرا
ل�شهر كامل حتى يوم الغفران الذي يليه ،نو ٌع من �إلهاء العامة
ٍ
من �أ�شراف چارتني ..لكن مع فقدان تلك الإثارة �سينتبه
قليل �إىل �سادتهم ،ومتى انتبه النا�س �إىل �سادتهم لنالنا�س ً
مريح �أبدً ا ..
بنوم ٍ
يهن�أ ال�سادة ٍ
ز ّم الطبيب �شفتيه ،وقال:
حتليل مقنع ..
قلتُ :
�سبب �آخر قد يكون �أكرث �أهمية يف هذا التوقيت ..
هناك ٌ
وتابعتُ و�أنا �أنظر �إىل فتاة حتمل بع�ض الأخ�شاب املتفحمة:
ق ّلتُ الرذيلة بدرجة كبرية بني فتيات الن�ساىل ،كان معظمهن
ُيجربن عليها من �أجل املال� ،أما الآن ف�صرن يعملن ويجنني
� ً
أموال مقابل �صناعتهن ..
�سمعتُ �أن بيوت الرذيلة قد بد�أت تلج�أ يف اخلفاء �إىل ن�ساء
�شريفات ،وهذا ما لن ير�ضى به �أبدً ا رجال چارتني� ،أن ُتر
ن�سا�ؤهم �إىل باحة جويدا لع ّلة الرذيلة� ،أو حتمل ن�سا�ؤهم ب�أجنة
غري �شرعية تنال روح املعدومني من الن�ساىل لي�صريوا مثلهم
..كان احلريق جمرد بداية فقط ،هناك املزيد قادم ..
ثم ملحتُ حيدر وعرو�سه يعمالن مع بقية الفتيان يف �إزالة انقا�ض
احلريق عن كوخهما ،فقلتُ للطبيب:
�إنهما عرو�سان ،كان ُعر�سهما بالباحة �أم�س ..
�ضحك وقال:
لقد فاتني �أول زواج بني الن�ساىل � ًإذا ..
ثم ت�ساءل وهو ينظر �إليهما:
ماذا �سيكون م�صري طفلهما �إن حملت؟! ..هل �ست�ضطر
روح له؟!
للذهاب �إىل الباحة من �أجل ح�صد ٍ
قلتُ :
مل تذكر القواعد ذلك ،اخت�صت �أرواح الباحة طب ًقا لقواعد
چارتني بالأطفال الناجتني عن الرذيلة فقط� ،أما طفلهما
�سكت وقلتُ : ف�سيكون نا ً
جتا عن زواج �شرعي ،ثم ُّ
ل�ستُ مت�أكدة مما �سي�صري ،مل يحدث �شيء كهذا من قبل ،لكن
دعنا ننتظر لوقتها ون َر ..
ب�صوت ين�ضح بالبهجة:
ٍ فقال
�أطفال �شرفاء من ن�سل الن�ساىل ،يا للروعة ..
فابت�سمتُ وقلتُ :
�أمتنى �أن يحدث ذلك ..
لوقت ق�صري ،ووا�صلنا جتوالنا بني الأنقا�ض� ،إىل �أن نطق
�سكتنا ٍ
الطبيب:
أنت تغادرين هائمة بني
ارتطمت بي و� ِ
ِ كنتُ بالباحة يومها،
احل�شود ..
ابت�سمتُ مبرارة وقلتُ :
�صدق القائل ب�أن هناك حلظة ما ال تعود احلياة بعدها كما
كانت قبلها �أبدً ا ،اتخذتُ قرا ًرا خاط ًئا يومها ندمتُ عليه حيا ًة
ب�أكملها ..
قال:
يف الأوقات احلا�سمة ينبع القرار من �أفكارنا الرا�سخة داخل
عقولنا� ،أعتقد �أن حديث َمن حو ِلك عن الن�ساىل على مدار
اتخذت قرارك وقتها ..
ِ �سنوات ن�ش�أ ِتك قد �أ ّثر ِ
عليك حني
�سنوات طويلة ،لتتحكم بنا
ٍ ترتاكم الأفكار بداخلنا على مدار
كل ًيا يف اختياراتنا بالأوقات احلا�سمة ،لكن �سيظل الإن�سان
لك �أن تكوين هنا ..عاج ًزا عن تغيري قدره �أبدً ا ،كان ُمقد ًرا ِ
قلتُ :
نعم� ،إنك حمق ..
ووا�صلنا حديثنا ونحن نتجه �إىل احلانة حيث قام هناك بفح�ص
جروح وحروق امل�صابني ،واطم�أن على َمن �أ�صابهم االختناق ،و�سمح
لبع�ضهم باالن�صراف ملوا�صلة حياتهم بعدما �أخربين �أنهم باتوا على
ما يرام ..ثم جل�س على مقعد بجواري ،فقلتُ :
ظللنا �سنوات طويلة نعتقد �أن روح ندمي قد ارتاحت للأبد ..
قال:
لو مل �أكن هناك يومها ملا �صدقت �أن الروح تنتقل من الأ�سا�س،
لكني ر�أيتُ ذلك بعيني ..ما زلتُ �أتذكر ذلك امل�شهد جيدً ا،
حني بد�أت دقات قلب اجلنني يف النب�ض ..
ثم تابع �ضاح ًكا:
أيت نظرة التحدي ب�أعني �آدم حينما �أهان ال�ضابط لو ر� ِ
لقلت �أن ذلك الطفل قد عرف �أنهم ع�شريته ،و�إن مل
الن�ساىل ِ
يوما عنهم ..
�أخربه ً
قلتُ :
ر�أيتُ تلك النظرة يف عني ندمي من قبل ،كاد يق ّدم نف�سه
�إىل الإعدام يومها ،لوال تدخلتُ بينه وبني ال�ضابط يف الوقت
املنا�سب ..
ثم �أكملتُ :
�أخ�شى فقط �أن مي�سك اجلنود بالطفل� ،إنه ال ميتلك و�ش ًما،
وبالطبع لن يعرتف به �أي �شريف چارتيني ،ت�شدد القوانني على
ذلك الأمر خ�شية �أن يختلط الن�ساىل بالأ�شراف ..
�إن �أم�سك به �أحد اجلنود �س ُي�سجن رغم عمره ال�صغري ،و�إن
�شهر �سينال و�ش ًما
مل ُيث َبت انتما�ؤه لأي عائلة �شريفة خالل ٍ
على �صدره ،ل ُيطلق للعراء جمددًا متى ي�شاءون � ..أتذكر ق�ص ًة
تو�شم ابنها،
�أخربتني بها زميلتي باملدر�سة العليا عن ن�سلية مل ِ
ف�أُم�سك بها و�أُعدمت ،ونال طفلها و�ش ًما ،و�أُطلق �سراحه بعدما
ّمت ال�ساد�سة ع�شر ،ل ُيعدم على جرمية قتل بعدها ب� ٍ
أ�سبوع
واحد ..
قال:
�إنه ذكي للغاية ،لن ي�ستطيع �أي �شرطي الإم�ساك به ..
قلتُ :
�أمتنى ذلك ..
ثم دلف �إلينا ريان مع حلول امل�ساء ،وقال:
انتهينا من �إخالء الأر�ض من البقايا املحرتقة ،و�سنبد�أ غدً ا
أكواخا ومدر�س ًة
يف �صناعة الطوب من طمي التالل � ..سنبني � ً
ات�ساعا مما احرتقت ..
�أكرث ً
ابت�سمتُ وقلتُ يف حما�س:
لنفعل ذلك � ًإذا ..
فر ًحا:
قال ِ
هناك �شيء �آخر �أو ُّد �أن تريه ..
ً
م�شتعل كان على طاول ٍة �أخرى ،و�س�ألنا �أن م�صباحا
ً ثم حمل
نتحرك معه �إىل كوخ جماور للحانة ..ثم دلف بنا �إىل داخله ،وهناك
�أ�شعل املزيد من امل�صابيح ،لأجد �أمامي عددًا من املقاعد اخل�شبية
املدر�سية مرتا�صة يف تكد�س فوق بع�ضها ،وب�أحد �أركان الكوخ تراكمت
�أكوا ٌم من الكتب حتى كادت ت�صل �إىل �سقفه ،فت�ساءلتُ يف ده�شة:
ما هذا؟!
قال ريان:
ال ي�ض ّيع الن�ساىل وقتًا ،قام بع�ضنا ب�إزالة �آثار احلريق بينما
قام �آخرون ب�إح�ضار متطلبات املدر�سة اجلديدة ..
ت�ساءلت جمددًا يف ذهول:
�سرقتموها؟!
قال:
نعم ،كان علينا �سرقتها قبل انتهاء الأجازة املو�سمية للمدر�سة
املتو�سطة ..
�أخذتُ امل�صباح من يده وحتركتُ جتاه املقاعد اخل�شبية ،كانت
املقاعد ذاتها التي طاملا امتلأت بها ف�صول مدر�ستي املتو�سطة ،ثم
�أزلتُ بيدي الغبار عن �سطح �إحداها ،وابت�سمتُ خل�س ًة حني تذكرتُ
�سطح مماثل لها ملدة عام كامل،
حديثي املكتوب بيني وبني ندمي على ٍ
حزم
لكني حافظتُ على جمود مالمح وجهي ،ونظرتُ �إىل ريان يف ٍ
�شديد ،وقلتُ :
ال نحتاج �إليها ..
قال :
لكن ...
فقاطعته غا�ضبة:
�إنهم يريدوننا �أن نفعل ذلك� ،أن نعود �إىل ال�سرقة مرة �أخرى
� ..سنبني مقاعدنا ب�أنف�سنا� ،أما هذه املقاعد ف َمن جاء بها
�سيعيدها �إىل املدر�سة قبل طلوع الفجر ..
قال:
والكتب؟!
قلتُ :
والكتب كذلك ..
ثم نظرتُ �إىل الطبيب وقلتُ :
ال يعلم �أح ٌد بعد بوجود الطبيب بيننا� ،إن �سمح يل ب�أن ي�ساعدنا
يف �شراء بع�ض الكتب من �أك�شاك كتب جويدا ..لن ميانعوا يف
بيع كتبهم �إىل الأغراب ،وتابعتُ :
لدي بع�ض الأموال التي تكفي لذلك ..
ما زال ّ
وجدنا عالمات الرتحيب على وجه الطبيب مبا قلتُه ..فقال ريان:
ح�س ًنا� ،سنعيدها كذلك ..
ثم اجته لإح�ضار الآخرين لنقل املقاعد والكتب مرة �أخرى �إىل
املكان الذي جاءت منه ،وانتظرتُ يف مكاين حتى عاد وبد�أوا يف حملها
هام�سا وقتها:
..قال يل الطبيب ً
تغريوا ح ًقا ..
قلتُ :
نعم ..
ثم توقفت �إحدى الفتيات ،وقالت قبل �أن حتمل �أحد املقاعد
اخل�شبية:
ٌ
منقو�ش هنا .. �سيدتي ،ا�سمك
يل ..كانت الدماء قد اندفعت فتوقف اجلميع يف �أماكنهم ونظروا �إ ّ
�إىل وجهي فجعلته �أكرث احمرا ًرا ،مل �أكن �أ�صدق �أن تلك ال�صدفة قد
حتدث ،و�إن جالت بر�أ�سي قبلها بدقائق ..وا�صل اجلميع ترقبهم يل
و�أنا �أجته �إىل الفتاة و�أنظر يف توتر �إىل �سطح التختة اخل�شبية ..كان
�سنوات طويلة ..ابت�سمتُ
ٍ ً
منقو�شا كما نق�شه ندمي قبل ا�سمي ال يزال
ابت�سام ٍة حزينة ،وع�ض�ضتُ على �شفتي حماول ًة �أن �أمتالك نف�سي و�أنا
�أحت�س�س ب�أطراف �أ�صابعي ا�سمي املنقو�ش ،ثم حركتُ عيني نحو ريان
والطبيب ،ففهموا ما يعني ذلك اال�سم املنقو�ش وتلك التختة بالن�سبة
يل دون �أن �أنطق بكلمة ،وظ ّلوا يحدقون بي يف انتظار ما �أقوله ،فقلتُ
للفتاة:
احمليها �إىل اخلارج � ً
أي�ضا ..
قال ريان:
ميكنك االحتفاظ بها ..
ِ
قلتُ :
ال ،هيا �أيتها اجلميلة ،احمليها مع الأخريات �إىل اخلارج ..
فحملتها الفتاة ،والزمتُ ال�صمت بعدها ،حتى انتهى الفتية
والفتيات من حمل جميع املقاعد والكتب �إىل اخلارج ،فاقرتبتُ من
ريان قبل �أن �أغادر وقلتُ :
�إن ذهبت معهم ،تفح�ص ال�شوارع جيدً ا ،رمبا جتد ذلك الطفل
نائ ًما ب�أحد جوانبها ..
هز ر�أ�سه موافقني وقال:
كنتُ �س�أفعل ذلك ..
ثم غادرتُ �إىل مقر �إقامتي امل�ؤقت ،ومكثتُ ب�سريري تت�شابك
الأفكار يف ذهني� ،أحاول �أن �أج ّمع ما حدث خالل اليومني ال�سابقني؛
زواج الن�ساىل ،ر�ؤية الطفل على القائم اجلانبي ،جميء الطبيب يف
ذلك التوقيت حتديدً ا بعد ت�سع �سنوات كاملة ،التختة اخل�شبية ذاتها
..ثم نظرتُ �إىل ال�سماء املمتلئة بالنجوم عرب نافذة الكوخ ،وقلتُ يف
نف�سي:
9
�صدف ج ّمعت كل هذا يف وقت واحد؟! � ..أي ر�سائلٍ �أي
حتملينها �إ ّ
يل يا چارتني؟
ومل �أكد �أغم�ض عيني حتى انتف�ضتُ من �سريري حني �سمعتُ �صوت
البارود املتتايل ..
نه�ضتُ من �سريري ،واجتهتُ م�سرع ًة �إىل اخلارج ..كانت
امل�صابيح الزيتية ت�ضيء ال�شارع الرئي�سي �أمام احلانة ،فوجدتُ �ضباط
وجنود چارتني ينت�شرون ب�أ�سلحتهم �أمام �أكواخ الن�ساىل ،يركع �أمامهم
فتيان وفتيات الن�ساىل وا�ضعني �أيديهم فوق ر�ؤو�سهم ،بينما يقوم بع�ض
اجلنود الآخرين ب�إخراج باقي الن�ساىل عنو ًة من �أكواخهم و�إح�ضارهم
�إىل املكان املت�سع �أمام احلانة لي�صنعوا بهم �إطا ًرا ِ�شبه دائري ..
تعجبتُ حني دفعني �أحد اجلنود بغلظ ٍة لأن�ضم �إىل باقي الراكعني،
فركعتُ على ركبتي ،وو�ضعتُ يدي فوق ر�أ�سي ،ثم ملحتُ جند ًيا يح�ضر
مقرف�صا على اجلانب الآخر من ال�شارع �أمامي ..ً الطبيب ليجل�س
ُ
ثم ا�ضطربت قلوبنا و�أجفلت �أج�سادنا جمي ًعا حني �أطلقت ر�صا�ص ٌة
�شاب ن�سلي كان يقاوم �أحد اجلنود ،ف�سقط مفاجئة �أ�صابت ر�أ�س ٍ
�صري ًعا من رمية واحدة ،ومعها ظهر وجه ال�ضابط الذي �أطلقها ..
تذكر ُته ،كان نف�سه الفتى املميز بالرماية الذي ناف�سني على
من�صب رامي املن�صة باملدر�سة العليا ل�ضباط الأمن ،مل �أعد �أتذكر
ا�سمه ،لكن مالمح وجهه كانت قا�سية لدرج ٍة �أ�شعرتني �أنه جاء
للق�ضاء علينا جمي ًعا ..
انتهى اجلنود من �إح�ضار الع�شرات من الن�ساىل و�ضموهم �إلينا،
حتركتُ بعيني خل�س ًة بني اخلا�ضعني منا بح ًثا عن ريان فلم �أجده ،دار
بذهني �أنه مل يعد من جويدا ،ومتنيتُ �أال يعود �إىل الوادي يف ذلك
الوقت ..لكن دقات قلبي كادت تتوقف عندما ر�أيتُ اجلنود يدفعون
أ�صفاد
�أحد ع�شر فتًى من فتيان الن�ساىل ُمكبلي الأيدي والأرجل ب� ٍ
حديدية ،كانوا هم َمن رافقوا ريان لإعادة م�سروقات املدر�سة �إىل
جويدا ..ثم �أرقدوهم على بطونهم بو�سط الدائرة �أمامنا ،كان بينهم
أي�ضا ،تذكرتُ حلظتها كلمات ندميحيدر ،لكن ريان مل يكن بينهم � ً
حني حدثني قد ًميا عن براعته يف الهروب هو و�أخته ،ثم دار ال�ضابط
حولهم ،و�صاح ب�صوت ر�صني:
يكف الن�ساىل عن ارتكاب اجلرائم �أبدً ا ،لطاملا �أردنا �أن ال ُّ
نعي�ش �سو ًيا يف �سالم ،لكن حاملي العار ال يف ّوتون موعد املن�صة
مطل ًقا ..
ثم ركل بقدمه �شا ًبا راقدً ا �أمامه من ال�شبان املُكبلني ،و�أطلق �إمياءة
بذيئة ،وقال:
مدر�سة؟! ..ت�سرقون مدر�سة جويدا؟! ..
فخا�شاب �آخر� ،أدركتُ حلظتها �أن ً
وانهال بع�صاه على ج�سد ٍ
مدب ًرا قد ُن�صب ب�إحكام لنا ،حاولتُ �أن �أبعد عيني عنه ،لكني مل
�أ�ستطع اجللو�س دون ِحراك و�أنا �أراه يوا�صل �ضربه لل�شبان �أمامه،
فنه�ضتُ يف غري اكرتاث ب�سالح اجلندي الذي يقف خلفي ،وتقدمتُ
نحوه وقلتُ بنربة حادة:
ال يحقُ لك �أبدً ا �إيذاءهم �إىل هذا احلد ..
توقف عن �ضرب �أحدهم ،وقال �ساخ ًرا وهو ينظر �إىل كتفي العاري:
ال�سيدة غفران ،رامي املن�صة ..ال�شخ�ص الوحيد الذي فاقني
يف الرماية ..
جتاهلتُ ما قاله ،وكدتُ �أحتدث عن حقوق الن�ساىل كمواطنني مثله
متاما ،لكنه بادرين و�أ�شار �إىل جندي خلفه ،ف�أح�ضر اجلندي �شا ًبا
ً
ن�سل ًيا من املتعلمني مبدر�ستي كان ينتظر بداخل �إحدى العربات ،و�أ�شار
له كي يتحدث ،فقال الفتى وهو ينظر جتاهي:
�إن هذه ال�سيدة َمن �أمرتنا ب�سرقة املدر�سة ..
نظرتُ نحوه يف ذهول ،وزادت همهمات الن�ساىل من حولنا ،و�صرخ
الفتيان املُكبلني ب�أنني مل �أفعل ذلك ،ف�أطلق ال�ضابط �أعريته بال�سماء،
ففر�ض �صوت الر�صا�ص ال�صمت على اجلميع ،فوا�صل الفتى:
نعم �سيدي � ..إنها هي ..
ثم و�صل توتري مداه حني ر�أيتُ �أخي زين يظهر يل من وراء
اجلنود ،لأنظر �إىل ال�ضابط يف جتهم بعدما مل �أفهم ما ينويه ،فقال
ب�صوت عال:
ٍ
رت �أمر �سرقة املدر�سة �شهد ثالث ٌة من الن�ساىل ب� ِ
أنك َمن د ّب ِ
جرميتك �أمام القا�ضي ..كان
ِ املتو�سطة ،وبذلك مت ثبوت
جرميتك الأوىل ..
ِ بك هذه املرة لكونها
القا�ضي رحي ًما ِ
ثم حترك نحوي ،و�أخرج خنجره يف غم�ضة عني ،و�ضرب به كتفي
الأي�سر لت�سيل دمائي بغزارة ،فت�سارعت �أنفا�سي ،ونظرتُ �إىل الطبيب
ووجهي يعت�صر من الأمل ،بينما مت�سك يدي اليمنى بكتفي لع ّلها توقف
�سيل الدماء ،حاول الطبيب �أن ينه�ض جتاهي ،لكن اجلندي الواقف
خلفه حال دون ذلك ..ثم تابع ال�ضابط وهو ينظر �إ ّ
يل:
منك،
لقد �أ�صدر القا�ضي الكبري قرا ًرا ب�سحب �صفة ال�شرف ِ
أخيك بعدما ترب�أ من قرابتك ر�سم ًيا ب�أوراق دار
مع �إبقائها ل ِ
الق�ضاء ..
فنظرتُ �إىل �أخي غري م�صدقة ،قبل �أن يكمل ال�ضابط:
9
لك مبغادرة هذا الوادي �إىل جويدا �إال للعملم�سموحا ِ
ً مل يعد
أردت ح�صد
يف بيوت الرذيلة� ،أو �إىل الباحة �أيام الغفران �إن � ِ
عليك
روح لأطفالك الناجتني عن الرذيلة ..غري ذلك �ستُطبق ِ ٍ
قواعد چارتني اخلا�صة بالن�ساىل.
الفصل األخير
«فاضل»
مل ت�صدق �آذاننا ما تف ّوه به ال�ضابط ،وظ ّلت �أعيننا جميعها تراقب
يف �صمت مالمح وجه غفران امل�صدوم مما يحدث �أمامها ..عاد
�أخوها �إىل عربة ال�ضباط ،ومل يظهر مرة �أخرى ..ثم �أمر ال�ضابط
جنوده بجر الن�ساىل املُكبلني �إىل العربات لي ُقدموا �إىل املحاكمة ..قبل
�أن يرحل ويغادر الوادي هو وجنوده.
رك�ضا �إىل غفران التي كانت تقف �أمامنا ال حول لها ف�أ�سرعتُ ً
�شاحب منٍ ووجه
وال قوة تنظر �إىل الأر�ض بعينني مك�سورتني زائغتني ٍ
كرثة ما نزفته من الدماء ،ثم �صحتُ �إىل ناردين ب�أن حت�ضر يل قطعة
قما�شية نظيفة ،و�ساند ُتها حتى دلفتُ بها �إىل احلانة ،وهناك بد�أتُ
�أ�ضمد جرح كتفها ،مل يكن كب ًريا لكنه كان عمي ًقا بالقدر الذي ُينب�أ
برتك ندب ٍة وا�ضحة ..
ظ ّلت ال�سيدة �صامتة فلم �أحتدث ب�شيء �أنا الآخر ،حتى انتهيتُ من
تنظيف اجلرح وت�ضميده ،فنظرتُ �إىل وجهها فر�أيتُ دموعها للمرة
وا�ضحا يل �أنها حتاول �أن تتما�سك �أمامنا بكل طاقتها،
ً الأوىل ،كان
لكنها مل ت�ستطع بالنهاية ،ف�أ�شرتُ �إىل ناردين ب�أن تغادرنا ففعلت،
فقلتُ يف هدوء:
�سي�صبح كل �شيء على ما يرام ..
وتابعتُ :
لو مل يكن ما فعلته مع الن�ساىل عظي ًما ملا حترك �سادة چارتني
لإيقافك �إىل هذا احلد ،كنتُ تعرفني �أنهم �سيوا�صلون عرقل ِتك
بكافة الطرق ..
ظلت �شاردة ال تقول �شي ًئا ..مل �أكن جيدً ا قط يف املوا�ساة ،فلم
�أجد مزيدً ا من الكلمات لقولها ،وجل�ستُ بجوارها يف انتظار �أن تنطق
ب�أي كلمة ،لكنها مل تفعل ،وظ ّلت تعابري وجهها ثابتة تنظر �إىل الفراغ
�أمامها ..
حاولت ناردين �أن ت�سقيها �شرا ًبا �ساخ ًنا �صنعه فتى احلانة ،لكنها
مل تتناول �شرب ًة واحدة منه ،قبل �أن حت ّول عينيها �إىل باب احلانة حني
م�سرعا نحوها،
ً �أ�صدر �صريره فج�أ ًة و ُفتح ليظهر �أمامنا ريان ويدلف
فنه�ضت من جل�ستها واحت�ضنته ،لتت�ساقط دموعها من جديد ،فقال
وهو يلهث بقوة بني ذراعيها:
ال نحتاج �إىل قا�ضي چارتني ملعرفة ما �إن كنتُ �شريف ًة �أم ال
ل�ست يف حاجة للذهاب �إىل جويدا� ،سيظل اجلميع هنا يف ِ ..
خدمتك �سيدتي ..
م�سحت غفران دموعها وعاودت جلو�سها� ،شعرتُ �أن وجود ريان
نوعا من الطم�أنينة ،ثم قال ال�شاب بعدما التقط �أنفا�سه:
�أعطاها ً
فخا ُمدب ًرا لنا بداي ًة من حريق املدر�سة ،ثم اقرتاح �أحد
كان ً
ال�شبان ب�سرقة مدر�سة جويدا ،ثم جت ّنيهم ِ
عليك �سيدتي ..
لك ب�أنني لن �أتركهم ينجون
�أعرف من قاموا بخيانتنا� ،أق�سم ِ
بفعلتهم ..
قالت غفران:
لن يهتم �ضباط چارتني مب�صريهم ،لكنهم �سي�سعدون بتقدمي
مزيد منا �إىل من�صة جويدا ،اتركهم و�ش�أنهم ..
ٍ
ثم قالت:
هناك �أحد ع�شر �شا ًبا �س ُيعدمون يوم الغفران القادم� ،سي�شهد
أياما �صعبة الفرتة القادمة ..الوادي � ً
�سكت ريان ،كان وجهه يغلي من الغ�ضب ،و�ساد ال�صمت من جديد
..فقلتُ حني طالت فرتة ال�صمت:
ميكنني �أن �أذهب غدً ا ل�شراء الكتب التي تريدينها ..
فنظر ثالثتهم �إ ّ
يل ،فتابعت:
يتبقى الألوف من الن�ساىل ،لديهم احلق يف عي�شة كرمية كما
�أخربتني ،هل نرتكهم؟! ..لنكمل ما بد�أ ِته � ًإذا ..
9
يل �أعينهم تت�ساءل �إن كنتُ واع ًيا بكل حرف نطقتُ به، نظرت �إ ّ
متاما ال�ستخدامي �صيغة اجلمع ..نعم،
مدرك ً ٌ فابت�سمتُ �إليهم ب�أنني
كان ذلك �إعال ًنا مني ب�أنني �س�أبقى يف الوادي ل ٍ
أجل مل �أحدده ..
يف الأيام القليلة التالية �شرع ريان فيما �أخرب به غفران ليلة جميء
ال�ضباط ،وبد�أ مع غريه من الفتيان يف ت�صنيع الطوب من طمي ٍتل
قريب من الوادي ،عرفتُ منه �أنه التل نف�سه الذي ي�ستخدمون طميه
يف �صناعة �أوانيهم الفخارية ..كنتُ �أتردد عليهم بني حني و�آخر ،قبل
�أن �أجت ّول يف التالل املجاورة للبحث عن بع�ض الأع�شاب الطبية النابتة
التي �أحتاجها ..
ثم توجهتُ �إىل جويدا يف نهاية ذلك الأ�سبوع من �أجل ما ك ّلفتني
مبان
به غفران ..كانت املدينة خمتلفة للغاية عن باحتها ال�شهريةٍ ،
طوبية ذات �أ�شكال معمارية متميزة� ،شوارع نظيفة ُمعبدة بال�صخور،
ري من احلانات والدكاكني ،حيا ٌة ذكرتني كث ًريا بعا�صمة بالدي كث ٌ
ا�ستبدلت
القدمية ،غري �أن امل�صابيح الكهربائية وال�سيارات قد ُ
مب�صابيح زيتية وعربات خ�شبية جت ّرها اخليول ..و�صلتُ �إىل �أحد
�أك�شاك الكتب� ،أخربتُ �صاحبه �أنني غريب يف حاجة �إىل �شراء بع�ض
الكتب من �أجل العودة بها �إىل بالدي ،تركني �أتفح�ص رفوف الكتب؛
�أدب ،فنون ،تاريخ ،ح�ضارات ..
وقع بني يدي الكثري من الكتب التي ت�سيء للن�ساىل فتذكرتُ كلمات
غفران ب�أن ابتعد بقدر الإمكان عن تلك الفئة ،ثم اخرتتُ عددًا من
الكتب املتنوعة ،وعدتُ بها �إىل م�شارف الوادي حيث ك ّلف ريان بع�ض
الفتية مب�ساعدتي على حملها �إىل حيثما تقيم ال�سيدة ..
مل تظهر غفران كث ًريا للن�ساىل تلك الأيام ،ظ ّلت معتكفة على قراءة
الكثري مما �أح�ضر ُته لها ،بينما ان�شغل ريان ببناء املدر�سة والأكواخ
أغي بها �ضمادة جرحها املجاورة ..كنتُ �أنتهز الأوقات الق�صرية التي � ّ
للحديث معها عن �أي �شيء � ..شعرتُ �أنها جتاوزت �صدمة ما حدث لها
بالأيام ال�سابقة غري �أن حزنها على الفتية الذين ُاعتقلوا كان كب ًريا
للغاية ..
قبل نهاية ذلك ال�شهر كان اجلرح قد الت�أم ،لكنه ترك ندبة
وا�ضحة كما توقعتُ ،ف�س�ألتني غفران �أن � ّ
أغطيه ب�ضمادة رغم التئامه،
وانتهى ريان من بناء الأكواخ و�أخربين �أن املدر�سة �ستوا�صل عملها،
كوخا بجوار كوخ ال�سيدة اجلديد ،وقال كما �أخربين ب�أنه قد بنى يل ً
متحم�سا ب�أنه �سي�سميه كوخ الطبيب ،ف�شكر ُته كث ًريا على ذلك ..
ً
ليلة يوم الغفران اجلديد دلفت �إ ّ
يل ناردين تخربين ب�أن ال�سيدة
حتتاجني ،وملّا ذهبتُ �إليها قالت:
يوم �أخربتني عن �آدم كنتُ �أنوي الذهاب �إىل الباحة كل يوم
غفران ،لكنني و�إن مل �أعد �أ�ستطيع الذهاب �إىل هناك غري
باقي الن�ساىل وغريك� ،أريدك �أن تذهب �إىل هناك ..اعتاد
ندمي قد ًميا على ت�س ّلق �أحد قوائم اجلهة الغربية للباحة ..
طفل كان يت�شبث بقمة القائم ر�أيتُ باليوم الأخري هناك ً
متاما� ،أعتقد �أنه �آدم ..اذهب �إىل هناك لع ّلك
بالطريقة ذاتها ً
جتده وت�أتي به ..
ف�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ..ليلتها مل �أمن حتى طلع النهار ،واجتهتُ
مكان باجلزء الغربي منها،
باك ًرا �إىل هناك للتمكن من الوقوف يف ٍ
على مقرب ٍة من القائم اجلانبي الذي �أخربتني غفران ب�أن الطفل قد
يت�سلقه مثلما تع ّود �أن يفعل ندمي ..
كانت املرة الثانية يل بني �أ�سوار باحة جويدا ،بد�أت املرا�سم وعيني
ُمع ّلقة على ذلك القائم دون �أن �أن�شغل ب�شيء �آخر ،مل يظهر الطفل
قوائم �أخرى
بالأوقات الأوىل من اليوم ،فانتظرتُ وبحثتُ بعيني عن ٍ
على جوانب الباحة لع ّلي �أكون قد �أخط�أت حتديد القائم ،لكني مل �أجد
طفل ُمت�سلق ،حتى انتهي زوا ٌج ُعقد على املن�صة مع منت�صف النهار�أي ٍ
ومل يظهر كذلك ..
ثم بد�أت الإعدامات ،توقعتُ �أن يتم �إعدام الفتية الذين �أُتهموا
ب�سرقة املدر�سة جميعهم �أمامنا ،لكن ما حدث �أن ثالث ًة منهم فقط َمن
مت �إعدامهم ،مل يكن بينهم حيدر� ،أدركتُ بيني وبني نف�سي �أن �سادة
ف�ضلوا �أن يتم �إعدام ثالثة فقط كل يوم غفران لي�ضمنوا چارتني قد ّ
ا�ستمرار �إثارة مرا�سمهم على الأقل ملدة �أربع �أ�شهر قبل �إ�ضافة املزيد
9
�إليهم ..الحظتُ ال�سعادة على وجوه الأ�شراف املتواجدين بالباحة،
وخا�ص ًة بعدما �أُطلقت ثالثة زغاريد ب�أماكن متفرقة بني الزحام� ،إىل
�أن انتهت مرا�سم اليوم ،وعدتُ �إىل غفران بعدما فقدتُ الأمل يف
ظهور الطفل كما مت ّنت ..
كانت جتل�س بكوخها اجلديد بني ب�ضعة فتيات �صغريات تقر�أ لهن
�أحد الكتب ،لكنها ما �إن ر�أتني حتى نه�ضت و�أ�سرعت نحوي ،فقلتُ لها
يف خيبة �أمل:
مل يظهر الطفل ،مكثتُ هناك حتى غروب ال�شم�س ..
هزّت ر�أ�سها يف حزن ،فتابعتُ :
مت �إعدام ثالثة فقط من الفتيان ..
قالت بنربة حزينة:
نعم ،عرفتُ ذلك منذ قليل ،يريدون �ضمان ا�ستمرار متعة
أ�شهر �أخرى ..
الإعدامات ل ٍ
قلتُ :
فكرتُ يف ذلك � ً
أي�ضا ..
نظرت �إىل الفتيات اجلال�سات ،و�أخربتْهن ب�أن ين�صرفن �إىل
ْ ثم
بيوتهن ،و�س�ألتني بعدما جل�سنا �أمام كوخها:
ملاذا بقيت يف الوادي ومل تغادر؟!
قلتُ :
�أرى ما تفعلونه عظي ًما� ،أردتُ �أن �أكون جز ًءا منه ،كما �أن
النا�س هنا يف حاجة �إ ّ
يل ،ملاذا؟!
قالت:
�إنني منده�ش ٌة فح�سب ،توقعتُ �أن تغادر بعد �شفاء م�صابي
مربحا بالبالد التي
عمل ًاحلريق والتئام جرحي ،كنتُ متتلك ً
جئت منها ..
�ضحكت وقلتُ :
يوما
علي قلبي ،كنتُ �أ�ستطيع العودة �إىل بالدي ً �أفعل ما ميليه ّ
ما ،لكني ف�ضلتُ �أن �أنقذ �آدم على �أن �أعود ،ومل �أندم حلظ ًة
على ذلك ،كذلك اختار داخلي بكل يقني �أن �أبقى هنا بينكم ..
رمبا �أرحل بعدما يعود ..
قالت:
هل تظن �أنه �سيعود؟!
ابت�سمتُ وقلتُ :
مما ر�أيتُه يحدث �أمامي منذ التقيت �أمه ،وجناته رغم ما مر
به منذ كان جني ًنا ،يجعلني �أظن �أن �أي �شيء قد يحدث ..
ف�سكتت ونظرت �إىل ال�سماء ف�س�ألتُها:
ماذا �إن عاد؟!
نظرت �إ ّ
يل ك�أنها تفاجئت من ال�س�ؤال� ،أو مل تفهم مق�صدي ..
فقلتُ :
ماذا �ستفعلني وقتها؟!
�ض ّمت �شفتيها ثم قالت:
همم ..ال �أعلم ..
ف�ضحكتُ ،فقالت بوجه با�سم:
�أعتذر له؟! � ..سيظن �أنني حمقاء� ،إنه �شخ�ص �آخر غري ندمي..
�أروي له كل �شيء رمبا يتذكرين؟! ..لن يتذكر ..ال �أعلم� ،أريد
ر�ؤيته فح�سب ..
طفل من ندمي ..رمبا �أ�ساعده على رمبا �أهتم به كما لو �أجنبتُ ً
هذا �إن مل �أ�صل �إليها �أنا � ًأول ..
ثم قالت وهي تنظر يل:
�سيكون �شا ًبا عندما �أبلغ من العمر مداه ..رمبا يعتني بي يف
�سنواتي الأخرية � ..صدقني ال �أعرف � ..أمتنى �أن يعود فح�سب..
قلتُ :
9
�س�أذهب كل �شهر للباحة ملراقبة قوائمها اجلانبية� ،س�أعود
يوما ما ..
إليك به ً
� ِ
قالت:
�شك ًرا لك ..
ا�ستمرت احلياة يف وادي الن�ساىل كما كانت قبل قدومي �إىل حد
كبري ،ا�ستعادت فتيات الن�ساىل طاقتهن بالعمل بعدما عاد فتيانهم
بخيوط ومواد �أخرى تع ّو�ض ما �أُحرقتً ،
ويوما ٍ امل�سافرون �إىل ال�شمال
بعد يوم انتظمت �أغلب ال�صناعات التي حكت يل عنها الفتاة الن�سلية
على ال�سفينة من قبل ،كذلك انتظم الكثريون مبدر�سة غفران،
و�صار ال�صوت املرتفع للأطفال القارئني ميقاتي املنتظم كل �صباح
لال�ستيقاظ ،ويف امل�ساء انتظمت جل�سات الت�سامر بيني وبني غفران
وريان لنتحدث ب�ش�أن كل جديد يحدث ..
مر ال�شهر الثاين يل بالوادي دون �أي حدث كبري� ،إىل �أن ذهبتُ
بنهايته �إىل باحة جويدا من �أجل ما وعدتُ به غفران ،مل �أجد الطفل
يومها كذلك ..يف ذلك اليوم مت �إعدام �أربعة ن�ساىل كان بينهم حيدر،
ليلتها كان حزن غفران على ذلك ال�شاب بال ًغا� ،س�ألتني يومها �إن كنتُ
قد ملحتُ زوجته «�سبيل» بالباحة ،ف�أجبتها ناف ًيا ذلك ،عرفتُ �أن �سبيل
أيام �أخرى مل تعد كذلك .. مل تعد �إىل الوادي ذلك اليوم ،وانتظرنا ل ٍ
وك�أن ق�صتها هي وحيدر ُكتبت نهايتها ذلك اليوم ،و�إن مل تبد�أ �إال قبلها
ب�شهرين فقط ..
ثم التقينا بعد عدة �أيام باحلانة بعدما فقدنا الأمل يف عودتها،
وت�سرب اخلرب �إىل �سكان الوادي ب�أنها قد رحلت ..اعتقدت ناردين
ب�أنها قد تكون غادرت �إىل واديها الأ�صلي الذي جاءت منه قبل �سنوات
للتعلم مبدر�سة ال�سيدة غفران ،فقالت غفران يف حزن:
مال� ،أخ�شى �أن تتجه �إىل بيوت الرذيلة ..جنح ال متتلك ً
�أ�شراف چارتني يف و�أد احللم مبك ًرا ..
كانت ر�سالتهم ذلك اليوم حني �أتوا �أن يئدوا حلم زواج
الن�ساىل� ،إن مل يكن حيدر بني العائدين باملقاعد لكانوا قد
جعلوا من و�شوا بي ي�شون به حتى ُيقدم �إىل املحاكمة ،وتبقى
عرو�سه �أمام �أهل الوادي ال حول لها وال قوة ..
ثم نظرت �إىل الن�ساىل على الطاوالت الأخرى ،وقالت:
يبدو �أن ما حدث للن�ساىل خالل القرون الكثرية املا�ضية كان
ُمدب ًرا ب�إحكام من �أجل �إبقاء ذلك الو�ضع حتى نهاية الدنيا ..
كل �شيء يحدث داخل �إطا ٍر مر�سوم بعناية؛ ارتكاب اجلرائم،
جه ٌل ُمطبق� ،أطفال غري �شرعيني� ،إعدامات للن�ساىل ،وح�صد
ترهيب للعامة من التح ّول �إىل ه�ؤالء املنبوذين � ..أمو ٌر
ٌ �أرواح،
جميعها تر�ضي كل الأطراف حتت �أعني �سادة چارتني ،لكن �إن
تخرج عن ذلك الإطار يع ُل �صوت البارود للحفاظ على ذلك
النظام الذي ُخلق ..
قلتُ :
لكن كتب التاريخ تقول �أن الن�ساىل ارتكبوا كل �شيء �سيئ ..
قالت:
نعم ،تقول الكتب ذلك ،لكن علينا �أن ن�ضع يف االعتبار �أن من
لديه ال�سلطة هو من يكتب التاريخ� ،إنها كلمات مكتوبة ،ال
عليك فقط �إال �أن ترددها على م�سامع الأطفال الذين يدر�سون
عاما بعد عام ،لتنمو معهم ك�أنها حقائق ال �شك فيها يتوارثونها
ً
ً
جيل بعد جيل ..
ن�سلي واحد� ،إنهم
�إنني �أعي�ش هنا منذ ت�سع �سنوات ،مل ي�أذيني ٌ
مثل كل الب�شر بينهم �صاحلون وبينهم فا�سدون ..
ثم نظرت نحو بع�ض الفتية بركن احلانة ،وقالت:
لكن يبقى لكل �إطا ٍر ثقوبه� ،أتاحت القواعد حرية التعليم
للن�ساىل حتى �سن ال�ساد�سة ع�شر مبدار�س چارتني من �أجل �أن
تظهر عدالتها ،وهم يعلمون �أن الن�ساىل �سريف�ضون ذلك الأمر
خا�ص ًة مع ا�ستمرار م�ضايقات و�إهانات الأ�شراف �إليهم ،لكنهم
مل ي�ضعوا يف ح�سبانهم �أن هناك من �سيتعلم ويعود �إىل الوادي
خد�ش حقيقي بذلك الإطار .. ليبد�أ تعليم غريه ،وي�صنع �أول ٍ
�أدركتُ �أنها تتحدث عن ندمي ،فهززتُ ر�أ�سي مواف ًقا حديثها،
فوا�صلت:
فرحوا �أنني �أ�صبحتُ ن�سلية ،ويجل�سون مبقاعدهم ينتظرون
خط�أي التايل من �أجل �إعدامي على من�صة جويدا كعربة لأي
�شريف ت�س ّول له نف�سه ب�أن يفعل ما فعلتُه ،وو�أد �أحالم كل ن�سلي
ٍ
�س ّولت له نف�سه ب�أنه �سي�صري خمتل ًفا ً
يوما ما ..لكنهم ن�سوا
�أنني فقدتُ كل �شيء ،ومل يبقَ يل �إال ه�ؤالء القوم ،الذين �أحبهم
ويحبونني ،ولن �أ�سمح ب�أي خط�أ لفقدانهم.
وابت�سمت وهي تقول:
ال يعلمون �أنهم �صنعوا ن�سلي ًة عنيدة ..
ثم نزعت ال�ضمادة عن كتفها يف الوقت الذي بد�أ فيه العازفون
يف عزفهم ،لرتت�سم على وجهي الده�شة حني وجدتُ ندبة جرحها قد
و�شم �أزرق ُنق�ش حدي ًثا ..ومتتمت ناردين يف
توارت بالكامل �أ�سفل ٍ
ذهول:
و�شم الن�ساىل!!
فقالت غفران:
لقد قررتُ �أن �أكون الن�سلية الأوىل التي ال تكف عن نخر جدران
ذلك الإطار ..كان الن�ساىل يفتقدون قدو ًة منهم ،وقد �ساعدنا
�سادة چارتني على حتقيق هذا الأمر ..
�إنني �أفخر بوجود هذا الو�شم على كتفي ،ال �أخجل منه،
و�س�أوا�صل ما بد�أ ُته حتى �آخر حلظة من عمري ،ومتي �شعر
الن�ساىل بهذا الفخر� ،سيوا�صلون طريقهم معي �أكرث مما
م�ضى � ..سي�سقط منا الكثريون ،لكن هناك �صغا ًرا قادمني
�سين�ش�أون على هذا الفخر ..
يوما حاملة عار ،وعلى كتفي ذلك الو�شم ،وكذلك هم مل �أكن ً
9
عاما وراء �آخر ،عقودًا � ..سينخرون بدورهم ذلك الإطارً ،
وراء �أخرى ،بي �أو بدوين ،اليوم وغدً ا وكل يوم ،حتى يجدوا
يوما ما ..وقتها �سيكون خمرجهم ب�أنف�سهم من ذلك الإطار ً
امتالء النهر اجلاف بالدماء �أكرث �سهولة من و�ضع � ّأي �إطا ٍر
حولهم مرة �أخرى.
مكان بعيد:
ٍ في
9
رفع الطفل الراقد ر�أ�سه لينظر �إىل ال�ضباط وهم يبتعدون ،قبل
�أن يح ّرك عينه �إىل جدار چارتني العظيم ،ويوا�صل حتديقه به حني
قالت املر�أة:
ما زال �أمامنا الطريق ً
طويل.
مت حتميل الكتاب