You are on page 1of 320

‫قواعد چارتين‬

‫‪3‬‬
‫عد‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ق‬
‫ن‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫چ‬
‫ر واية‬

‫عمرو عبد احلميد‬


‫مت حتميل الكتاب‬

‫من موقع ع�صري الكتب‬

‫للمزيد من الكتب احل�رصية‬


‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫إهداء‬

‫ُ‬
‫تعلمت منه الكثري على امل�ستويني الإن�ساين واملهني‬ ‫�إىل َمن‬

‫�أ�ستاذي‪:‬‬

‫�أ‪.‬د‪ /‬حممد ر�شاد غنيم‬


‫(‪)1‬‬

‫«كل رجل ينهار عند نقطة معينة‪».‬‬


‫كانت هذه هي جملتي الأخرية التي كتبتها ب�أوراقي قبل �أن ُيطلق‬
‫القطار �صافرته ويعلو �صخب حركته ُمعل ًنا رحيلي عن بلدتي‪.‬‬
‫ا�سمي فا�ضل �أمني زيدان‪ ،‬طبيب ب�شري‪ ،‬تخرجت قبل ثالث‬
‫�سنوات من اجلامعة اجلنوبية‪ ،‬جنوب بالد النهر القدمي‪� ،‬شاب ريفي‬
‫طموح يف بالد غري طموحة باملرة‪ ،‬يقول التاريخ �أنها كانت غري ذلك‬
‫مزيجا من الفقر واجلهل‬ ‫ً‬ ‫قبل قرون طويلة لكنها اليوم لي�ست �إال‬
‫واخلراب ‪ ..‬تقدمتُ ب�أوراقي للعمل ب�أكرث من م�ست�شفى �أو دعني �أقل‬
‫خرائب امل�ست�شفيات‪ ،‬ومل يتم قبويل‪ ،‬كعادة باقي الوظائف ال ت�ستطيع‬
‫البالد دفع مقابل لعاملني جدد‪ ،‬ولأن النا�س ال ي�ستطيعون العالج على‬
‫نفقاتهم �صار الف�شل م�صري كل م�شاريعي الطبية اخلا�صة ومل يعد �إال‬
‫الرحيل ‪� ..‬إىل �أين ؟‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫مل �أكن �أعرف �إىل �أين‪ ،‬قبل ذلك اليوم حني جاءين �صديقي‬
‫و�أخربين �أن بالدنا تريد �إر�سال �أطباء �إىل �إقليم غربي بعيد مل �أ�سمع‬
‫عنه من قبل ُي�سمى «بنو عي�سى»‪ ،‬ومع ال�ضائقة املادية التي ح ّلت بي‬
‫كانت تلك الوظيفة البعيدة طوقي للنجاة و�إن كان م�ؤقتًا ‪..‬‬

‫قدمتُ �أوراقي‪ ،‬وبالفعل مت قبويل بني املتقدمني‪ ،‬يف احلقيقة مل‬


‫يكن هناك متقدمون للوظيفة غريي‪ ،‬ومل ي�ستلزم قبويل �أكرث من‬
‫دقائق قليلة‪� ،‬أخربين ذلك الأ�شيب الذي كان يحاورين �أنني ُقبلت‬
‫علي اللحاق بالقطار احلربي الذي ي�شق ال�صحراء الغربية للنهر‬ ‫و�أنه ّ‬
‫القدمي‪ ،‬من يعملون به يعلمون جيدً ا الطريق �إىل ذلك الإقليم ‪ ..‬وفور‬

‫‪9‬‬
‫و�صويل هناك �س�ألتقي من �سيتدبر �أموري املادية ‪ ..‬لأجد نف�سي �أجل�س‬
‫ب�أر�ضية عربة قطار �شبه مظلمة يهتز ج�سدي بني كثريين من اجلنود‬
‫نحيلي الأج�ساد حممري الوجوه والأذرع‪ ،‬يف انتظار �إ�شارة �أحدهم يل‬
‫باقرتاب القطار من مكان عملي اجلديد‪.‬‬

‫كانت عيناي قد غلبهما النعا�س مع �سكون العربة واختناق هوائها‬


‫م�صباحا زيت ًيا‬
‫ً‬ ‫برائحة جوارب اجلنود قبل �أن يلكزين �أحدهم يحمل‬
‫لأنه�ض‪ ،‬وي�س�ألني �أن �أحمل حقيبتي و�أتبعه �إىل باب العربة ‪ ..‬ما كنت‬
‫�أخ�شاه قد حدث بالفعل‪ ،‬لقد تزامن موعد و�صويل �إىل ذلك املكان‬
‫الغريب مع منت�صف الليل ‪ ..‬حاولت �أن �أحتدث �إىل اجلندي ف�أ�شار‬
‫�إ ّ‬
‫يل كي �أ�صمت‪ ،‬و�أ�شار ب�سبابته �إىل �أذنه ك�أنه ين�صت �إىل �شيء ما‪،‬‬

‫‪‬‬
‫وطالبني �أن �أن�صت �أنا الآخر‪،‬كان �صدى �صوت بعيد لطبول تدق‬
‫ومزامري ي�أتي من خلف اجلبال على جانبي ال�سكة احلديدية ‪ ..‬كان‬
‫يزداد �شي ًئا ف�شي ًئا مع تقدم القطار ‪ ..‬ثم هم�س �إ ّ‬
‫يل بعدما �أدرك �أنني‬
‫�سمعت ال�صوت ذاته‪:‬‬
‫ يقولون �أن �أفراحهم ال تتوقف �أبدً ا ‪..‬‬
‫ف�أوم�أت �إليه بر�أ�سي �إيجا ًبا وعيناي تقوالن ماذا �أفعل ؟!‬
‫فقال‪:‬‬
‫ �سي�ضطر القطار �إىل الإبطاء بعد قليل ‪..‬‬
‫�س�ألته‪:‬‬
‫ لن يتوقف ؟!‬
‫قال ‪:‬‬
‫ ال ‪ ..‬عليك �أن تقفز حني �أخربك ‪..‬‬
‫فنظرت �إليه يف ده�شة مما يقول‪ ،‬ف�أكمل يف برود ‪:‬‬
‫ لي�س هناك ح ٌل �آخر ‪..‬‬
‫مت�ض ب�ضع دقائق حتى �أ�صدرت عجالت القطار �صري ًرا �شديدً ا‬
‫ومل ِ‬
‫و�أبط�أ من �سرعته‪ ،‬فنطق اجلندي �إ ّ‬
‫يل بلهجة �آمرة‪:‬‬
‫ اقفز!‬

‫‪‬‬
‫فج ُمد ج�سدي و�أنا �أنظر �إليه‪ ،‬فنزع احلقيبة من يدي و�ألقاها‬‫َ‬
‫خارج القطار‪ ،‬ثم �أم�سك بيدي و�أعطاين امل�صباح الذي يحمله‪ ،‬و�صرخ‬

‫‪9‬‬
‫ّيف جمددًا ‪:‬‬
‫ اقفز!‬
‫فقفزت‪.‬‬

‫دقائق من القلق مل �أمر مبثلها يف حياتي بعدما غادرتُ القطار‬


‫وم�صباحا قد تنطفئ ناره يف‬
‫ً‬ ‫ومل �أجد نف�سي �إال وحيدً ا يحمل حقيبة‬
‫قليل هو ا�ستمرار �أ�صوات دقات الطبول‬ ‫�أي وقت‪ ،‬كان املطمئن يل ً‬
‫واملزامري مما يعني وجود ب�شر قريبني‪ ،‬ووجود تلك ال�سكة احلديدية‬
‫وا�ضطرار القطارات �إىل الإبطاء يف ذلك املكان مما يعني �إمكانية‬
‫رحيلي يف �أي وقت ‪ ..‬فو�ضعتُ م�صباحي جان ًبا‪ ،‬وجل�ستُ م�سندً ا ظهري‬
‫�إىل حقيبتي يف انتظار طلوع النهار ‪� ..‬إىل �أن قفزت من مو�ضعي حني‬
‫�سمعتُ فج�أة �صوت حمرك �سيارة كانت تقرتب مني بنورها اخلافت‬
‫وك�أن �صاحبها كان يعلم بوجودي ‪� ..‬سيارة بي�ضاء قدمية ذات �صندوق‬
‫خلفي ما �إن توقفت �أمامي حتى �أخرج �سائقها ر�أ�سه وحدثني بلهجة‬
‫�سريعة مل �أفهمها‪ ،‬فاقرتبتُ مب�صباحي منه‪ ،‬كان عجو ًزا نحي ًفا ّ‬
‫يلف‬
‫ب�شال منقو�ش كعادة �أهل ال�صحاري‪ ،‬تغو�ص عيناه يف وجهه‬ ‫ر�أ�سه ٍ‬
‫فتظن �أنه بالكاد يرى �أمامه‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ بني عي�سى ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫ف�أ�شار يل بيده كي �أ�صعد �إىل �صندوق عربته دون �أن ينطق‪ ،‬لينطلق‬
‫بي بعيدً ا عن �سكة القطار ‪..‬‬

‫كان الطريق �إىل بني عي�سى �أطول مما تخيلت ‪ ..‬ظل العجوز يتقدم‬
‫بي عرب ممرات ومدقات جبلية مظلمة قرابة الثالث �ساعات‪ ،‬حتى‬
‫ظننتُ �أنه �ضل طريقه خا�صة مع تال�شي �أ�صوات الطبول واملزامري‪،‬‬
‫يل �أكمل‬ ‫وك ّلما طرقتُ �سقف ال�سيارة املعدين كي يتوقف ويتحدث �إ ّ‬
‫طريقه دون اكرتاث بي وب�صياحي‪ ،‬حتى �أنه كاد ي�سقطني لوال ت�شبثي‬
‫جيدً ا حني مرت ال�سيارة م�سرع ًة ب�أر�ض �صخرية غري م�ستوية‪ ،‬ف�ضربت‬
‫�سقف ال�سيارة بيدي مرة �أخرى غا�ض ًبا‪ ،‬وكدتُ �أم ُّد يدي عرب نافذتها‬
‫لأم�سك ر�أ�سه كي يتوقف بعدما �أيقنت بفقداننا طريقنا ورمبا طريق‬

‫‪9‬‬
‫العودة �إىل ال�سكة احلديدية � ً‬
‫أي�ضا ‪ ..‬لكني تراجعتُ حني �أب�صرتُ �أنوا ًرا‬
‫بعيدة قد الحت يف الأفق كانت ال�سيارة يف طريقها �إليها ‪ ..‬كانت �أنوار‬
‫بني عي�سى ‪ ..‬الأر�ض ال�صامتة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)2‬‬

‫توقفت ال�سيارة بالقرب من رقعة زراعية �صغرية كانت على م�شارف‬


‫البلدة مع بزوغ النهار‪ ،‬ثم وجدتُ العجوز يخرج يده عرب نافذتها وي�شري‬
‫يل كي �أغادر �صندوق �سيارته‪ ،‬فقفزت مع حقيبتي‪ ،‬و�س�ألته عما يريده‬ ‫�إ ّ‬
‫من املال‪ ،‬فتجاهل حديثي ونظر خلفه‪ ،‬وعاد ب�سيارته ب�ضعة �أمتار قبل‬
‫�أن ي�ستدير بها‪ ،‬وينطلق �سري ًعا مبتعدً ا عني يف غرابة �شديدة‪ ،‬فالتفتُ‬
‫نحو البلدة و�أكملتُ طريقي �س ًريا �إىل داخلها‪.‬‬
‫من النظرة الأوىل �أدركتُ �صغر م�ساحة تلك البلدة مقارن ًة مبدن‬
‫مبان �صغرية من الطوب الأبي�ض والأ�سقف اخل�شبية مرتا�صة‬‫بالدي ‪ٍ ..‬‬
‫بانتظام على جوانب �شوارع رملية‪ ،‬تتناثر بينها قطع من الأرا�ضي‬
‫الزراعية و�آبار املياه الدائرية ‪ ..‬كان ال�سكون ميلأ �أركانها يف ذلك‬
‫التوقيت فبد�أت �أجتول بني �شوارعها يف انتظار �أن يظهر �أحد من‬
‫�سكانها ليخربين عن مبنى الطبيب ‪ ..‬ثم وجدتُ عدم حاجتي �إىل من‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫يدلني �إليه بعدما �أب�صرتُ بنا ًء ال يختلف كث ًريا عن باقي الأبنية يحمل‬
‫الفتة خ�شبية قدمية ُكتب عليها باللغة العربية «مركز الرعاية الطبية»‪.‬‬

‫حني طرقتُ باب ذلك املبنى راودين �شعور خالئه من �أي �شخ�ص‬
‫بعدما �أطلتُ طرقاتي ومل يجبني �أحد‪ ،‬كذلك راودين �شعور خالء‬
‫البلدة كلها من �أي �أ�شخا�ص بعدما بزغ النهار ومل يظهر فرد واحد‬
‫ب�شوارعها ‪ ..‬حتى اطم�أن قلبي عندما ظهر ال�شخ�ص الأول ‪ ..‬رجل‬
‫م�سرعا يف طريقه دون �أن يلتفت جان ًبا ‪ ..‬فوا�صلتُ طرقي‬
‫ً‬ ‫كان يهم‬
‫للباب دون توقف ‪ ..‬حتى �أخرجتُ زفريي بعدما جاءين الرد �أخ ًريا من‬
‫الداخل و ُفتح الباب ‪ ..‬كانت املرة الأوىل التي �ألتقي فيها «�صالح» ‪..‬‬
‫خادم عيادتي الطبية‪� ،‬س�ألني وهو مغم�ض العينني ‪:‬‬
‫ من �أنت ؟!‬
‫كان �شا ًبا ي�صغرين �س ًنا‪ ،‬ق�صري القامة‪ ،‬داكن الب�شرة ‪ ..‬قلت‪:‬‬
‫ دكتور فا�ضل ‪ ..‬الطبيب اجلديد ‪..‬‬
‫فتح عينيه غري م�صدق‪ ،‬وحاول �أن يهندم ثيابه �سري ًعا‪ ،‬و�صاح‬
‫ُمرح ًبا بي ‪ ..‬ثم حمل حقيبتي وا�صطحبني �إىل داخل املبنى ‪ ..‬كان‬
‫الطابق ال�سفلى ُمكو ًنا من ردهة كبرية بها عدة مقاعد خ�شبية ُمرتبة‪،‬‬
‫وحجرتان ‪ ..‬دلفتُ �إىل الأوىل فوجدتها غرفة الك�شف اخلا�صة‬
‫بالطبيب‪ ،‬ك�أي غرفة ك�شف تقليدية ‪� ..‬سرير للمر�ضى‪ ،‬مكتب للطبيب‪،‬‬
‫مقعدان‪� ،‬سماعة طبية وجهاز قيا�س ل�ضغط الدم ‪ ..‬تعجبتُ من وجود‬

‫‪‬‬
‫جهاز للك�شف بالأ�شعة التلفزيونية‪ ،‬ف�س�ألته بتعجب و�أنا �أم�سح الرتاب‬
‫الذي يغطيه‪:‬‬
‫ هل توجد كهرباء ؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬لدينا مو ّلد يعمل بالوقود ‪ ..‬ن�ستطيع ت�شغيله �ساعتني يف‬
‫اليوم �إن �أردنا ‪..‬‬
‫ارحتتُ ً‬
‫قليل لذلك ‪ ..‬ثم حترك بي �إىل الغرفة املجاورة‪ ،‬مل تكن‬
‫حتتوي �إال على خزانة خ�شبية‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ �إنها خزانة الأع�شاب اجلافة واملُ�سالة ‪..‬‬
‫ف�س�ألته ‪:‬‬
‫ من �أين ت�أتي هذه الأع�شاب ؟‬
‫قال‪:‬‬
‫طبيب واحد‬
‫ ال �أعلم‪ ،‬منذ جئت �إىل هذا املكان ومل ي� ِأت �إىل هنا ٌ‬
‫ٌ‬
‫مري�ض واحد ‪..‬‬ ‫�أو‬
‫ً‬
‫منده�شا ‪ ..‬ثم �صعدتُ معه �إىل الطابق‬ ‫ابت�سمتُ وهززتُ ر�أ�سي‬
‫العلوي ‪ ..‬كان مبيتًا للطبيب وجد ُته ُمر�ض ًيا يل ‪ ..‬ثم وجدته يهم بجمع‬
‫�أغرا�ضه املتناثرة للرحيل‪ ،‬ف�س�ألته �أن يبقى ‪ ..‬مل �أرد �أن �أكون هذا‬
‫الغريب الذي ي�أتي ليبعرث الأوراق‪ ،‬وكان املبيت يكفي لكلينا ‪ ..‬لكنه‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫�أ�صر على نقل �أغرا�ضه �إىل غرفة الأع�شاب بالطابق الأر�ضي‪ ،‬و�أكمل‬
‫با�س ًما وهو يغادر‪:‬‬
‫ لن ي�أتي �إلينا مر�ضى على �أي حال ‪..‬‬

‫مزاحا حني �أخربين بعدم جميء املر�ضى‬ ‫كنت �أظن حديث �صالح يل ً‬
‫متاما ‪ ..‬مرت �أيامي الأوىل هناك‬ ‫�إىل العيادة الطبية‪ ،‬لكنه كان حقيق ًيا ً‬
‫ومل ُيطرق بابنا مرة واحدة ‪ ..‬ظننتُ يف البداية �أن ال�سبب هو عدم علم‬
‫�أهل البلدة بقدومي ف�أكرثتُ من جتوايل ب�شوارعها مع �صالح الذي بات‬
‫�صديقي الأوحد يف ذلك املكان ‪� ..‬س�ألتُه يف يوم جتوالنا الأول عن كيفية‬
‫�إح�ضار طعامنا �أخربين �أن حاكم البلدة يتكفل به كما يتكفل براتبه‪،‬‬
‫�أما راتبي فلم يعلم بعد عمن �سيتكفل به ‪ ..‬انده�شتُ و�أخرب ُته �أنني‬
‫ُب ّلغت بوجود من �سيدفع يل هنا ‪� ..‬أجابني متعج ًبا ‪:‬‬
‫ رمبا �سيدفع لك احلاكم مع بداية ال�شهر اجلديد ‪ ..‬و�إن كنت‬
‫ال �أظن‪.‬‬
‫وحت ّدث كث ًريا عن بخله ‪..‬‬
‫كنت �أظن حال بالدنا جنوب النهر القدمي هو الأ�سو�أ‪ ،‬لكني بعدما‬
‫ر�أيت تلك البلدة وفقر مبانيها و�أ�سواقها علمتُ �أن هناك من يعانون‬
‫كث ًريا ‪ ..‬عرفتُ �أن تلك البلدة لي�ست �إال واد ًيا واحدً ا من وديان بني‬
‫عي�سى ال�سبعة ‪ ..‬الإقليم الأكرب ‪ ..‬وديان مت�شابهة متناثرة ‪ ..‬يعي�ش‬
‫معظم �سكانها كرحالة بال�صحراء مع خيولهم وجمالهم و�أغنامهم‬
‫�أما بقيتهم فيزرعون �أرا�ضيهم القليلة اعتمادًا على مياه الآبار‬
‫‪‬‬
‫والأمطار ‪� ..‬س�ألتُ �صالح عن وجود �سيارات للتنقل بني الوديان قال‬
‫�أنه مل ي َر �سيارة من قبل ‪� ..‬أخربته عن ذلك العجوز املجنون الذي �أتى‬

‫‪9‬‬
‫بي ليلة و�صويل فتعجب ‪� ..‬س�ألته عن الأفراح و�أ�صوات دقات الطبول‬
‫واملزامري التي ال تتوقف والتي مل �أ�سمعها منذ قدومي‪ ،‬هن�أين �ساخ ًرا‬
‫على خيايل الوا�سع ‪ ..‬و�أردف ً‬
‫قائل وهو ي�شري �إىل ال�سماء بعيدً ا‪:‬‬
‫ حني يح ُّل امل�ساء لن ت�سمع �إال �صوت �صفافري الرياح ‪..‬‬

‫يوما حتى ظننت‬ ‫يدق بابنا مري�ض واحد بعد مرور ثمانية ع�شر ً‬ ‫مل ّ‬
‫�أن �أهل تلك الوديان ال مير�ضون‪ ،‬واجتاحني ال�شعور بامللل يف كل‬
‫�أوقاتي‪ ،‬و�صارت �أحاديث �صالح فاترة ال تق ّدم �أي جديد ‪ ..‬ثم قررتُ‬
‫يف يومي التا�سع ع�شر �أن �أذهب �إىل حاكم البلدة �أو �شيخ الوادي كما‬
‫بخيل فح�سب بل كان من نوعية ه�ؤالء‬ ‫كان يلقبه البع�ض ‪ ..‬مل يكن ً‬
‫الأ�شخا�ص اللزجني الذين ال ت�ستطيع حتمل اجللو�س معهم دقيقتني‬
‫رجل �سمي ًنا ذا حلية كثيفة تغطي وجهه املرتهل‬ ‫متتاليتني ‪ ..‬كان ً‬
‫يرتدي عباءة وا�سعة ‪ ..‬بادرين بغري اكرتاث قبل �أن �أحدثه عن راتبي‬
‫ب�أنه مل يعلم �شي ًئا عن قدومي لذا لن يتحمل عني قر�شا واحدً ا‪ ،‬ما قد‬

‫‪9‬‬
‫يفعله هو �أن يزيد ح�صة الطعام املر�سلة �إىل �صالح ‪� ..‬أما �إن �أردت‬
‫فعلي �أن �أجنيه من مر�ضاي ‪ ..‬وقتها �أدركت �أنه مل يعد‬ ‫ً‬
‫مقابل لعملي ّ‬
‫هناك وقت لالنتظار بذلك الإقليم ‪ ..‬وعدتُ حان ًقا �إىل مبيتي و�أخربت‬
‫�صالح ب�أنني �س�أغادر‪ ،‬فلم ينطق ‪ ..‬وج ّمعتُ �أغرا�ضي وحملتُ حقيبتي‬
‫�إىل مدخل البلدة يف انتظار من يق ّلني �إىل �سكة القطار احلربي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫يف بداية انتظاري متنيتُ �أن يظهر يل العجوز الذي �أق ّلني ب�سيارته‬
‫�إىل هناك مرة �أخرى ‪ ..‬وبعد مرور �ساعتني دون �أن يهتم �أحد لوجودي‬
‫بات �أملي �أن ي�صحبني �أي �شخ�ص من �أهل الوادي على جمله �أو ح�صانه‬
‫�إىل وجهتي ‪ ..‬ثم خاب �أملي �سري ًعا بعدما رف�ض اجلميع ذلك‪ ،‬وتعلل‬
‫الكثريون منهم ب�أنهم ال يعرفون الطريق �إىل ال�سكة احلديدية التي‬
‫�أق�صدها ‪ ..‬ومرت الدقائق وال�ساعات واحدة تلو الأخرى‪ ،‬واقرتبت‬
‫ال�شم�س من املغيب ‪ ..‬وقتها �أدركتُ �أنني علقتُ يف ذلك املكان �إىل الأبد‬
‫بطا نحو بيوت الوادي وركلتُ الرمال بقدمي غا�ض ًبا‪،‬‬ ‫‪ ..‬والتفتُ ُم ً‬

‫‪9‬‬
‫وقررت �أن �أعود �إىل �صالح جمددًا يف انتظار فر�صة �أخرى قد تلوح‬
‫رك�ضا من بعيد ‪ ..‬حتى اقرتب‬ ‫للرحيل ‪ ..‬قبل �أن �أملحه ي�أتي جتاهي ً‬
‫ً‬
‫حماول �أن يلتقط �أنفا�سه‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫مني‪ ،‬وتوقف �أمامي وهو يلهث‬
‫ هناك مري�ضة تبحث عنك ‪..‬‬

‫كانت فرحتي بوجود املري�ض الأول تفوق كل �شيء حتى �أنها �أن�ستني‬
‫ال�ساعات التي انتظرتها على م�شارف الوادي للرحيل ‪ ..‬وعزمتُ داخل‬
‫نف�سي ب�أنني لن �أتقا�ضى ً‬
‫مقابل لتلك الزيارة الأوىل ‪..‬‬
‫دلفتُ �إىل غرفة الك�شف‪ ،‬كانت جتل�س يف انتظاري ‪� ..‬شاب ٌة جميل ٌة‬
‫يف منت�صف الع�شرينات ذات �شعر �أ�سود مموج طويل ‪ ..‬يتدىل من‬
‫�أذنيها قرطان دائريان كبريان ‪ ..‬نه�ضت حني ر�أتني فظهرت �ألوان‬
‫ف�ستانها املزرك�ش الطويل ‪� ..‬شعرتُ من نظرتي الأوىل �إليها �أنها لي�ست‬

‫‪‬‬
‫مري�ضة ‪ ..‬رمبا جاءت لت�صحبني �إىل بيتها حيث يوجد من هو مري�ض‬
‫بالفعل ‪� ..‬س�ألتُها �أن جتل�س جمددًا وجل�ستُ خلف مكتبي ‪ ..‬ثم �أوم�أت‬
‫لها بر�أ�سي كي تتحدث‪ ،‬فقالت بجدية بالغة‪:‬‬
‫علي املجيء �إليك‬
‫ �أعتذر �أنني ت�أخرتُ كل هذا الوقت ‪ ..‬كان ّ‬
‫قبل �أيام ‪..‬‬
‫مل �أفهم ما تق�صده باعتذارها‪ ،‬وبدا ذلك على وجهي‪ ،‬ف�أكملت‬
‫كي�سا قما�ش ًيا �صغ ًريا �أدركتُ �أنه يحتوي عمالت معدنية ‪..‬‬
‫وهي تخرج ً‬
‫وو�ضعته على املكتب �أمامي‪:‬‬
‫ �أنا من طلبتُ جميئك �إىل بني عي�سى ‪..‬‬
‫ثم فتحت فوهة الكي�س �أمامي فلمعت العمالت الذهبية بداخله مع‬
‫عيني قد ملعتا من املفاج�أة ‪..‬‬
‫نور م�صباح الغرفة الزيتي‪ ،‬وال �أخفي �أن ّ‬
‫وقالت‪:‬‬
‫ �أيكفي هذا الذهب ليكون ً‬
‫مقابل لك ؟‬
‫تعجبتُ من حديثها‪ ،‬ووا�صلتُ �صمتي كي تكمل حديثها ‪ ..‬ف�أكملت‪:‬‬
‫ ا�سمي دميا ‪� ..‬أو ت�ستطيع �أن تقول مثلما يقولون ‪ ..‬دميا الغجرية‬
‫‪ ..‬جئتُ �إليك من وادي الغجر حيث �أعي�ش ‪..‬‬
‫كان �صالح قد �أخربين ذات مرة �أن وادي الغجر هو �أبعد وديان بني‬
‫عي�سى ال�سبعة ‪ ..‬وتابعت‪:‬‬
‫ �أريدك �أن ت�ساعدين ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ بكل ت�أكيد ‪..‬‬
‫قالت وهي ت�شري �إىل بطنها‪:‬‬
‫ �أريدك �أن تفح�صه ‪..‬‬
‫الحظتُ للمرة الأوىل ِكرب بطنها ً‬
‫قليل‪ ،‬ف�س�ألتها‪:‬‬
‫ حبلى؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سي مبت�س ًما‪ ،‬و�س�ألتها �أن ت�صعد �إىل �سرير الك�شف ‪..‬‬
‫ثم �صحتُ �إىل �صالح الذي كان ينتظر بالردهة كي يقوم بت�شغيل مولد‬
‫الكهرباء ‪ ..‬وبد�أتُ ك�شفي الروتيني ب�سماعتي الطبية ‪ ..‬ثم ا�ضطربتُ‬
‫ونظرتُ يف عينيها بعدما و�ضعتُ �سماعتي لأ�سمع نب�ض اجلنني ومل‬
‫�أ�سمعه ‪ ..‬مل �أنطق بكلم ٍة حتى ‪ ..‬ثم �سمعتُ �صوت املو ّلد خارج نافذة‬
‫الغرفة ومعه �أ�ضاءت ملبة �صغرية بجهاز الك�شف التلفزيوين‪ ،‬ف�شرعتُ‬
‫يف ا�ستخدامه لفح�ص اجلنني ‪ ..‬لكني كما توقعتُ ‪ ،‬كان قلب اجلنني‬
‫متوق ًفا ً‬
‫متاما ‪ ..‬فو�ضعتُ يد اجلهاز جان ًبا‪ ،‬و�س�ألتها �أن تعود �إىل‬
‫مقعدها ‪ ..‬وعدتُ �إىل مقعدي ‪ ..‬و�أ�شحت بيدي كي�س الذهب جتاهها‪،‬‬
‫وقلتُ هاد ًئا يف حزن‪:‬‬
‫ للأ�سف ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫نظرت �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬ف�أكملتُ ‪:‬‬
‫ �إنه جنني ميت ‪..‬‬
‫�صمتت ومل حترك �ساك ًنا و�ساد ال�صمت بيننا للحظات‪ ،‬حتى‬
‫قطعته قائلة‪:‬‬
‫ كما توقعت ‪ ..‬لذا جئتُ �إليك ‪..‬‬
‫نظرتُ �إليها بطرف عيني ‪ ..‬فقالت بهدوء �شديد‪:‬‬
‫ مل تدب فيه احلياة بعد ‪..‬‬
‫�أ�شفقتُ عليها من �صدمتها ‪ ..‬لكنها كانت احلقيقة التي البد �أن‬
‫تعلمها ‪ ..‬فقلت‪:‬‬
‫ ال بد و�أن تنزيل هذا اجلنني يف �أ�سرع وقت ‪..‬‬
‫قالت وهي تنظر يف عيني‪:‬‬
‫ �إنه لي�س ميتًا ‪..‬‬
‫وقالت مرة �أخرى‪:‬‬
‫  مل تدب فيه احلياة بعد ‪..‬‬
‫ثم �أ�شاحت كي�س الذهب جتاهي مرة �أخرى‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ لذا �أر�سلتُ يف طلبك للمجيء �إىل هنا ‪ ..‬و�أردفت‪:‬‬
‫ كنت �آمل �أن يكون حملي طبيع ًيا كباقي ن�ساء وادي الغجر‪ ،‬لكنه‬
‫قدري الذي ال مفر منه ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫وح ّدثت نف�سها هائمة‪:‬‬
‫ متنيت �أال �أعود �إىل هناك مرة �أخرى ‪..‬‬
‫ثم نظرت �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ مل � ِآت �إليك �أيها الطبيب لتخربين �أنه مل تدب فيه احلياة بعد‬
‫فح�سب ‪ ..‬بل جئتك لرتافق رحلتي الطويلة �إىل هناك ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫و�أكملت مبرار ٍة وهي تنظر �إىل الفراغ �أمامها‪:‬‬
‫ �س�أذهب به �إىل چارتني‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)3‬‬
‫چارتين‬
‫«غفران»‬

‫كان �صياح الأطفال لبع�ضهم البع�ض يف الزقاق املقابل ل�شرفة‬


‫غرفتي العلوية �صاخ ًبا للغاية ذلك ال�صباح‪ ،‬كعادتهم اليومية مل يجدوا‬
‫احلي مكا ًنا للعب بكرتهم القما�شية �إال ذلك املكان‪ ،‬حتى �أنني‬
‫بني �أزقة ّ‬
‫اعتدت �صراخهم‪ ،‬و�صار بالن�سبة يل حد ًثا ثابتًا �إن غاب ً‬
‫يوما �شعرت‬
‫�أن هناك ما ينق�ص يومي‪.‬‬
‫ما كان يده�شني ح ًقا هي الطريقة التي يت�سلل بها �أخي الأ�صغر‬
‫«زين» �صاحب ال�سبع �سنوات من فرا�شنا كل �صباح كي يلحق بهم دون‬
‫�أن �أ�شعر به‪ ،‬قبل �أن يوقظني �صياحه يل من ال�شارع ب�صوته الرفيع ؛‬
‫غفراااان‪ ،‬كي �أخرج �إىل ال�شرفة لأكافئه بحبة من احللوى �إن �أحرز‬
‫هد ًفا كما اعتدت �أن �أفعل ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كانت �أمي تفعل ال�شيء ذاته قبل رحيلها منذ عام ‪ ..‬كان هذا �أكرث‬
‫ما ت�شابهتُ به معها بعدما ت�شابهت مالحمي ال�شكلية مع مالمح �أبي‪،‬‬
‫وورثتُ عنه ال�شعر البني الناعم والعينني اخل�ضراوتني‪ ،‬بينما ورث‬
‫زين عن �أمنا �شعره الأ�سود وعينيه البنيتني الداكنتني ‪ ..‬ما زلت �أتذكر‬
‫كلماتها القدمية مع �أبي ب�أنها مت ّنت قبل زواجهما هذا املرياث العادل‬
‫لل�شبه ‪ ..‬اجلمال للبنت وال�صرامة للولد ‪ ..‬مل تكن تعلم �أنني �س�أمتلك‬
‫ال�صفتني م ًعا مبرور ال�سنوات ‪..‬‬
‫تذكرت كلماتها و�أنا �أنظر �إىل الأطفال الالعبني وهم يتهام�سون‬
‫حما�سا‬
‫ً‬ ‫عندما رفعتُ �إليهم يدي بكي�س احللوى‪ ،‬قبل �أن ي�شتعلوا‬
‫هدف ينالون به‬‫ويرك�ضوا جمي ًعا �صارخني وراء الكرة من �أجل �إحراز ٍ‬
‫حما�سا‪ ،‬ال بد و�أن‬
‫مكاف�أتي ‪ ..‬غري �أن �صياحهم هذا ال�صباح كان �أكرث ً‬

‫‪9‬‬
‫زين قد �أخربهم �أن اليوم يحمل حدثني خا�صني يل ‪ ..‬الأول �أنني قد‬
‫بلغت عامي الرابع والع�شرين ‪ ..‬والثاين �أن ال�سيدة �سامرية �ست�أتي �إىل‬
‫منزلنا بعد الظهرية لت�أخذ مقا�سات ف�ستان زفايف ‪� ..‬س ُيعلن زواجي يف‬
‫باحة جويدا �أمام �أهل چارتني نهاية هذا ال�شهر‪.‬‬

‫جويدا هي مدينتنا التي ن�سكن بها‪� ،‬أرقى مدن چارتني الأربعة ع�شر‬
‫ً‬
‫اكتظاظا بال�سكان ‪ ..‬نعلم جمي ًعا هنا �أن ال�سبب هو مناخها‬ ‫و�أكرثهم‬
‫املعتدل و�أر�ضها اخل�صبة التي تختلف عن باقي �أر�ضنا ال�صخرية ‪..‬‬
‫كما در�سنا يف مادة التاريخ كان نهر جويدا اجلاف قد ترك ما يكفيها‬
‫من طمي قبل جفافه منذ �أكرث من �ألفي عام‪ ،‬مثلما ترك �أخدوده‬
‫‪‬‬
‫الذي ي�شق �أر�ضنا �إىل ن�صفني �شر ًقا وغر ًبا‪ ،‬بد ًءا من اجلبال احلمراء‬
‫باجلنوب حتى جدار چارتني العظيم بال�شمال ‪..‬‬
‫تقول الكتب �أن چارتني كانت يف الأ�صل بلدين متجاورين يف�صلهما‬
‫النهر اجلاف ‪ ..‬بلدان مت�شابهان يف كل �شيء قامت ح�ضارتهما على‬
‫الزراعة حول �ضفاف ذلك النهر ‪� ..‬ألوف ال�سنوات من الرخاء والنعيم‬
‫والقوة امتلكت فيها كل بلد منهما حكمها امل�ستقل من �أبنائها ‪ ..‬قبل‬
‫�أن ي�سوء قدرهما م ًعا‪ ،‬ويتوىل العجزة مقاليد احلكم بهما لثالثة قرون‬
‫كاملة‪ ،‬انهار معها كل �شيء ‪..‬‬
‫قر�أت ذات مرة يف �أحد كتب التاريخ مبكتبة �أبي �أن �أحد احلكام‬
‫القدامى كان قد �أُ�صيب بداء الن�سيان‪ ،‬وتك ّور ج�سده املتيب�س بعدما‬
‫عاما‪ ،‬ومع ذلك ظل مم�س ًكا مبقاليد احلكم‬ ‫جتاوز عمره الت�سعني ً‬
‫مدعوما بحا�شيته ومنافقيه الذين �أف�سدوا كل �شيء بدورهم‪ ،‬فتب ّدل‬
‫ً‬
‫الرخاء والنعيم �إىل فقر مدقع ظل يت�سلل �إىل �أرجاء البلدين لي�سكن‬
‫بيوتها‪ ،‬وا�ستحال الأمان ب�شوارعها �إىل عنف وجرائم مل ت�شهدها‬
‫البالد قط ‪..‬‬
‫حقبة دموية مل يع ُل فيها غري �صوت قرقعة البطون اخلاوية‪ ،‬و�صوت‬
‫جوعا ‪ ..‬ثم غ�ضبت الأر�ض‬
‫البارود ملن �آثروا املوت بالر�صا�ص عن املوت ً‬
‫يوما بعد يوم حتى ّ‬
‫جف عن �آخره ‪..‬‬ ‫على �أجدادنا فق ّل من�سوب النهر ً‬
‫وح ّلت املجاعة الكربى التي ُ�سميت ب�سنوات اخلراب الأربعني ‪ ..‬مات‬
‫و�سجن من ُ�سجن‪ ،‬وتبقى من تبقى‬ ‫بها من مات‪ ،‬ورحل من رحل‪ُ ،‬‬
‫ممن ارت�ضوا ذلك اجلوع �آملني �أن تعود بالدهم �إىل �سابق عهدها فلم‬
‫وتغي املناخ فج�أة‪ ،‬وهاج بحر «�أكما»‬
‫متهلهم الطبيعة فر�صة �أخرى‪ّ ،‬‬
‫‪‬‬
‫الذي يحيط بالبلدين من كافة اجلوانب عدا اجلنوب ليغمر كل �شيء‪،‬‬
‫ولي� َأتي على من تبقى وما تبقى من البلدين ‪..‬‬
‫ُغطيت بالدنا باملاء لقرنني من الزمان ‪ ..‬قبل �أن يتبدل املناخ‬
‫وينح�سر املاء لتظهر �إىل احلياة جمددًا‪ ،‬فعاد �إليها من رحل �أجدادهم‬
‫و�شتتوا بال�صحاري والبلدان الأخرى جنوب اجلبال احلمراء ‪..‬‬ ‫عنها ُ‬
‫وانهال معهم الرحالة والقبائل من كل حدب و�صوب ‪ ..‬وحفروا �آبار‬
‫املياه اجلوفية لتحل حمل النهر اجلاف ‪ ..‬و�أ�صبح البلدان بلدً ا واحدا‬
‫ُ�سمي باجلارتني ‪ُ ..‬حرف مع الزمن �إىل چار ِتني ‪..‬‬
‫وليحموا بالدنا �شر بحر «�أكما» الثائر بد�أوا يف بناء جدار چارتني‬
‫العظيم ‪� ..‬س ٌد �صخري رهيب يحيط بالدنا من ال�شمال وال�شرق‬
‫والغرب ‪ ..‬ا�ستغرق بنا�ؤه �أكرث من قرنني كاملني ‪� ..‬أخربتني �أمي وهي‬
‫مت�سد �شعري ذات مرة‪ ،‬وكنت وقتها يف ال�سابعة من عمري‪� ،‬أن تاريخنا‬
‫ينق�سم �إىل ما قبل جدار چارتني وما بعده ‪ ..‬و�أننا ندين لذلك اجلدار‬
‫بحياتنا حيث يحجز من ماء البحر الثائر خلفه ما يكفي لهالك چارتني‬
‫كلها يف �ساعات قليلة‪ ،‬ثم �أرتني لوحة مر�سومة يف �أحد الكتب عنه ‪..‬‬
‫كانت لوح ًة للنقو�ش التي دُونت على قواعده ‪ ..‬نقو�ش قوانني بالدنا‪� ،‬أو‬
‫ما يعرفها العامة با�سم «قواعد چارتني» ‪ ..‬ما زلت �أتذكر �صوتها وهي‬
‫تقول‪:‬‬
‫  �إن تلك القوانني ُنق�شت على قواعد اجلدار على مر ال�سنوات‪،‬‬
‫وك�أن انهيار قاعدة واحدة منها لن يختلف كث ًريا عن انهيار‬
‫قواعد جدارنا العظيم ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫مل �أكن �أدرك وقتها �أنها �ستخ�ضع ذات يوم للقاعدة نف�سها التي‬
‫ُكتبت �أ�سفل تلك اللوحة‪ ،‬كانت قاعدة چارتني الأوىل التي تقول‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫«�إن چارت�ين مل تن�� َ�س �أب�دًا م��ا فعل��ه العج��زة بح�ضارته��ا ‪..‬‬
‫لذا ال يعي���ش على �أر�ضها من يعرب عامه اخلم�س�ين»‬

‫‪‬‬
‫(‪)4‬‬

‫كانت اجلد ّية البالغة التي ظهرت على وجه مري�ضتي الغجرية وهي‬
‫تقول �أنها �ستذهب بجنينها �إىل چارتني توحي ب�أنها قد اتخذت قرارها‬
‫قبل املجيء �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬ومل ت� ِأت �إال لإخباري ب�أن ا�ستعد ملرافقتها يف رحلتها‬
‫فح�سب ‪ ..‬ف�س�ألتها م�ستفه ًما‪:‬‬
‫ چارتني؟! ‪ ..‬هل هذا مكان؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫  �إنه بلد كبري ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ مل �أ�سمع عنه من قبل‪� ،‬ش�أنها �ش�أن بني عي�سى قبل جميئي �إىل‬
‫هنا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كانت هذه حقيقة م�ؤ�سفة‪ ،‬كانت ثقافتنا عن البلدان الأخرى‬
‫�ضعيفة للغاية ‪ ..‬مل يكن م�سموح لنا بقراءة �أي كتب غري مناهجنا‬
‫الدرا�سية ‪ ..‬وال �أذكر �أن مناهجنا قد ذكرت �شي ًئا عن چارتني تلك ‪..‬‬
‫كانت بلدنا ت�ضع الكثري من القيود على ما يقر�ؤه العامة‪ ،‬حتى �أنني مل‬
‫�أت�صفح ورقة واحدة من كتبي الطبية قبل موافقة �ضابط �أمن بلدتي ‪..‬‬
‫قالت الفتاة‪:‬‬
‫ رمبا لأنها بعيدة للغاية ‪ ..‬ال يعرفها الكثريون هنا � ً‬
‫أي�ضا‪� ،‬إنها‬
‫على بعد م�سرية �شهر كامل �إىل اجلنوب‪ ،‬ع�شرة �أيام على‬
‫الياب�سة وع�شرون يف البحر ‪..‬‬
‫ف�صمتُ ‪ ،‬وكان �ضجيج املو ّلد قد توقف قبل �أن �أ�س�ألها‪:‬‬
‫ وملاذا �سنذهب �إىل هناك؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫تدب احلياة يف طفلي �أبدً ا ‪ .‬هناك قد‬
‫ خارج ذلك البلد لن ّ‬
‫ميتلك فر�صة للنجاة ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  �سحر؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال ‪� ..‬إنها ذات طبيعة وقوانني خا�صة تختلف عن باقي البلدان‪،‬‬
‫و�أردفت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ رمبا �ستجد كالمي غري ًبا‪ ،‬لكن عليك �أن تعلم �أن كل ما‬
‫متاما ‪..‬‬
‫�س�أخربك به لي�س �إال حقيق ًيا ً‬
‫ثم قالت بخجل‪:‬‬
‫ �إن جنيني لي�س �شرع ًيا ‪..‬‬
‫و�صمتت للحظة‪ ،‬ف�أوم�أت لها بر�أ�سي كي تكمل حديثها‪ ،‬ف�أكملت‪:‬‬
‫ �أعي�ش بوادي الغجر كما �أخربتك‪ ،‬لكني ال �أنتمي �إليهم ‪..‬كان‬
‫حبيبي �أحدهم فح�سب ‪� ..‬أما �أنا فانتقلت للعي�ش معه منذ �شهور‬
‫من �أجل زواجنا‪ ،‬لكنه مات قبل �أن نتم هذا الزواج بعدما ترك‬
‫ب�أح�شائي هذا اجلنني ‪�..‬إنني �أنتمي �إىل ذلك البلد البعيد ‪..‬‬
‫چارتني‪ ،‬ثم ابت�سمت مبرارة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ كنت �أظن �أنني تخليت �أخ ًريا عن �صفاتي الچارتينية بابتعادي‬
‫عنها ‪ ..‬لكن كما قالت يل �أمي ذات يوم؛ �إن چارتني قدرنا‬
‫الذي مل ولن نفر منه ‪..‬‬
‫ثم توقفت عن احلديث حني طرق �صالح باب الغرفة و�سمحتُ له‬
‫يل ً‬
‫حامل م�شرو ًبا �ساخ ًنا �أعده من �أجلي ثم خرج‪،‬‬ ‫بالدخول‪ ،‬فدلف �إ ّ‬
‫ف�س�ألتها على الفور‪:‬‬
‫ � ًإذا � ِ‬
‫أنت چارتينية ؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال ‪� ..‬إنني من ن�ساىل چارتني ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫و�أخرجت زفريها قائلة‪:‬‬
‫ كم �أكره ذلك املكان ‪�..‬أتدري �شي ًئا �سيدي ‪ ..‬جئتُ من چارتني‬
‫�إىل وادي الغجر وقطعت تلك امل�سافة كلها كي �أحترر من كوين‬
‫ن�سلية‪ ،‬ولو كانت امل�سافة �أطول لفعلت ذلك ‪ ..‬ال تفهم �شي ًئا‪،‬‬
‫�ألي�س كذلك ؟!‬
‫فهززت ر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ الن�ساىل هم حاملو العار يف چارتني ‪� ..‬إن قواعد چارتني‬
‫تخت�ص جميعها ب�أرواح الب�شر ‪ ..‬يقولون �أن قبل بناء جدار‬
‫چارتني كانت البالد قد �شهدت من اجلرائم واخلطايا ما مل‬
‫ت�شهده بلد قط‪ ،‬فكانت القاعدة الثانية من قواعد بلدنا؛ ُيلحق‬
‫العار بالروح املذنبة للأبد ‪..‬‬
‫وتابعت بعدما توقفت لهنيهة‪:‬‬
‫ ال ُيولد جنني حي خارج چارتني ‪ ..‬وقد تيقنتُ من ذلك اليوم‬
‫بعد فح�صك جلنيني ‪ ..‬تبقى �أجنة ن�ساء چارتني بال روح ‪..‬‬
‫�إن كان احلمل عن زواج �شرعي يف باحة ُت�سمى باحة جويدا‬
‫ينال اجلنني روحه الطاهرة ممن ميوتون ميت ًة طبيعية ب�أرجاء‬
‫البالد ‪ ..‬وال ت�ضطر حاملته �إىل الذهاب �إىل باحة جويدا‬
‫من �أجل ذلك ‪ ..‬كما يقولون هناك؛ تختار الروح حاملها ‪..‬‬
‫حمل غري �شرعي‪ ،‬و�أرادت حاملته له النجاة‪ ،‬فال‬ ‫�أما �إن كان ً‬
‫بد �أن تتجه �إىل الباحة يوم الغفران ‪ُ ..‬يقام يوم الغفران نهاية‬
‫كل �شهر ‪ ..‬هناك ُيعدم �أمام �أهل چارتني من �أقر الق�ضاة‬
‫‪‬‬
‫�إعدامهم ‪ ..‬لي�س لأجنة الزنا فر�صة للنجاة �إال �أرواح �أولئك‬
‫املذنبني ‪ ..‬لذا على احلبلى �إن �أرادت النجاة لطفلها �أن تتواجد‬
‫بالباحة يف ذلك التوقيت ‪ ..‬هكذا ينجو اجلنني‪ ،‬وحتمل روح‬
‫املعدوم العار بج�سد نتج عن اخلطيئة ‪..‬‬
‫و�أخرجت زفريها جمددًا‪ ،‬وقالت متربمة‪:‬‬
‫ عدالة چارتني ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ وماذا �إن مل يكن هناك َمن ُيعدم ؟‬
‫�أجابت‪:‬‬
‫ تنتظر احلبلى �شه ًرا �آخر لتعود مرة �أخرى �إىل الباحة ‪ ..‬و�إن مل‬
‫يكن هناك به � ً‬
‫أي�ضا َمن ُيعدم تنتظر �شه ًرا �آخر ‪ ..‬حتمل املر�أة‬
‫ت�سعة �أ�شهر‪ ،‬حت�صد الأجنة الأرواح بداية من ال�شهر اخلام�س‪،‬‬
‫روحا خالل الأ�شهر الأربع الأخرية ُيولد ميتًا‬
‫�إن مل ينل اجلنني ً‬
‫‪� ..‬أرجوك‪� ،‬أريدك �أن ترافقني �إىل هناك ‪� ..‬أريده �أن ينجو ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ وما حاجتك �إ ّ‬
‫يل؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ لقد ورثتُ عن �أمي مر�ضها بال�صرع ‪� ..‬أفقد وعيي كث ًريا ‪..‬‬
‫ذات مرة ابتلعت ل�ساين حني فقدت وعيي‪ ،‬لكن حبيبي �أنقذين‬
‫‪‬‬
‫ب�إعجوبة ‪� ..‬إن الرحلة �إىل چارتني طويلة ‪ ..‬و�أخ�شى �أن ت�أتيني‬
‫نوبة ال�صرع فابتلع ل�ساين مرة �أخرى‪ ،‬ف�أموت قبل �أن �أ�صل �إىل‬
‫هناك وينال جنيني روحه ‪ ..‬كما �أريدك �أن ترعاين �أنا وطفلي‬
‫يف طريق العودة �إىل هنا ‪..‬‬
‫ونظرت �إىل كي�س املال القما�شي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ �س�أ�ضاعف لك هذا القدر من الذهب ‪� ..‬س�أجعلك تعود �إىل‬
‫بلدك ثر ًيا ‪..‬‬
‫فقلت �ساخ ًرا‪:‬‬
‫ لي�س هناك طريق للعودة �إىل بلدي ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �إن رفقاء حبيبي رحالة يجوبون البلدان ‪� ..‬سي�صحبك �أحدهم‬
‫�إىل بلدك بعد عودتنا �ساملني �أنا وطفلي ‪ ..‬هذا وعد مني ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ال وعد للغجر ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �أخربتك �أنني ل�ست غجرية ‪..‬‬
‫ثم نه�ضت‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ �س�أعود �إليك بعد يومني‪� ،‬أمتنى �أن �أجد موافقتك ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫ثم حتركت نحو باب الغرفة دون �أن ت�أخذ ذهبها‪ ،‬وكادت تغادر‪،‬‬
‫ف�س�ألتها و�أنا �أجل�س مكاين‪:‬‬
‫ وما الذي يجعلك تثقني ب�أن طفلك �سينجو؟‬

‫‪9‬‬
‫فتوقفت وا�ستدارت يل‪ ،‬وقالت بهدوء‪:‬‬
‫ لأنني ُولدتُ بالطريقة ذاتها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)5‬‬

‫كنت �أرتدي ثيابي الداخلية حني بد�أت ال�سيدة �سامرية يف �أخذ‬


‫مقا�سات ج�سمي وتدوينها يف �أوراقها ‪ ..‬امر�أة يف �أوائل الأربعينات من‬
‫عمرها ُت�شعرك من اللحظة الأوىل بوقارها البالغ‪ ،‬غري �أنك مبجرد‬
‫متاما‬
‫بدء احلديث معها لن تكف عن الرثثرة حتى يذوب ذلك الوقار ً‬
‫‪ ..‬ظ ّلت حتكي يل عن الف�ساتني التي �صممتها �ساب ًقا لأمي‪ ،‬وعن ف�ساتني‬
‫فتيات چارتني التي تطورت مع مرور ال�سنوات‪ ،‬ثم �ضحكت وهي ّ‬
‫تلف‬
‫�شريط القيا�سات حول خ�صري‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫أنك الفتاة ذاتها التي‬
‫ من يرى هذه الأنوثة لن ي�صدق �أبدً ا � ِ‬
‫نراها يف باحة جويدا ‪..‬‬
‫ف�ضحكتُ ‪ ،‬ونظرتُ �إىل ج�سدي يف املر�آة ‪ ..‬لطاملا كانت باحة جويدا‬
‫قدري‪ ،‬ل�ست �أنا فقط‪ ،‬بل قدري �أنا وندمي ‪ ..‬تلك الباحة ال�شا�سعة‬
‫على �أطراف منطقتنا التي ُخ�ص�صت ملرا�سم چارتني جميعها‪ ،‬والتي‬
‫�صارت مقر عملي منذ �سنوات ‪ ..‬ن�سميها هنا �أر�ض چارتني املقد�سة ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫عاما‪ ،‬كنت يف الثامنة من‬
‫ر�أيته هناك للمرة الأوىل قبل �ستة ع�شر ً‬
‫عمري وقتها‪ ،‬طفلة متجهمة خائفة من الوجوه الكثرية املختلفة التي‬
‫تراها للمرة الأوىل‪ ،‬يحملها �أبوها فوق كتفيه كي يج ّنبها االرتطام‬
‫ب�أرجل �أهل چارتني املتزاحمني يف الباحة لي�شهدوا يوم الغفران ‪-‬‬
‫�أخربتني �أمي قبل ذهابي يومها �أنني ُ�سميت «غفران» ن�سبة �إىل ذلك‬
‫اليوم ‪.. -‬‬
‫�أتذكر �أن �أبي قد �شقّ بي اجلموع �إىل ال�صفوف الأمامية‪ ،‬ولكنه ما‬
‫لبث �أن توقف عن التقدم بعدما ح ّل ال�صمت فج�أة‪ ،‬فت�شبثتُ ب�شعره‬
‫رجل ً‬
‫مكبل فوق املن�صة‪،‬‬ ‫بقوة‪ ،‬وت�سارعت دقات قلبي عندما ر�أيت ً‬
‫مغطى الر�أ�س بغطاء �أ�سود‪ ،‬قبل �أن �أجفل ويرتع�ش ج�سدي حني �سمعتُ‬
‫�صوت البارود للمرة الأوىل ‪ ..‬كان حكم الإعدام قد ُنفذ على ذلك‬
‫الرجل ‪� ..‬أدركت فيما بعد �أنه ل�ص من الن�ساىل‪ ،‬وبينما ان�شغل النا�س‬
‫باحلديث‪ ،‬وعال �ضجيجهم بعدما د ّوت زغرودة بعيدة كنت �أنا �أنظر‬
‫�إليه هناك ‪..‬‬
‫كان يجل�س عال ًيا مت�شب ًثا ب�ساقيه النحيفتني بقمة قائم حديدي‬
‫قدما على جانب الباحة ‪ ..‬طف ٌل داكن‬ ‫رفيع ي�صل ارتفاعه ع�شرين ً‬
‫الب�شرة‪� ،‬أ�سود ال�شعر‪ ،‬يف مثل عمري �أو يكربين �سنة �أو �سنتني على‬
‫الأكرث‪ ،‬يجل�س بثبات بالغ ب�سرواله الق�صري على قمة ذلك القائم‪،‬‬
‫مرتفع عن اجلميع ك�أنه ي�سيطر على الباحة كلها ‪..‬‬
‫وك�أن عقلي قد جتاهل اجلميع من حويل مل �أح ّرك ب�صري عنه‪،‬‬
‫لدي املقدرة واجلر�أة على ت�سلق ذلك‬
‫ومتنيتُ داخل نف�سي لو كانت ّ‬
‫يل فج�أة‪ ،‬فا�ضطرب وجهي‪ ،‬ثم‬ ‫القائم مثله ‪ ..‬حتى وجد ُته ينظر �إ ّ‬
‫‪‬‬
‫يل بيده ‪ ..‬ال �أتذكر �أنني فعلت �شي ًئا �سوى �أنني حدقتُ‬
‫�ضحك و�أ�شار �إ ّ‬
‫بوجهه بتجهم‪ ،‬ثم �أبعدتُ ب�صري �إىل املن�صة حيث كانوا يج ّرون جثة‬
‫املعدوم �إىل خارجها‪ ،‬ثم عدتُ بعد حلظة لأنظر �إليه بطرف عيني‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫يل جمددًا‪ ،‬فلكزتُ ر�أ�س �أبي‪ ،‬و�صحتُ �إليه يف خجل‪:‬‬ ‫ف�أ�شار �إ ّ‬
‫ �أبي‪� ،‬إنه ي�شري �إ ّ‬
‫يل ‪..‬‬
‫لكن �أبي مل ي�سمعني وقتها ‪..‬‬

‫على مدار �أيام الغفران التالية كان مكانه ثابتًا‪ ،‬الطفل ذاته فوق‬
‫العمود اجلانبي لل�ساحة ‪ ..‬حتى ظننتُ �أنه يبيت ليايل �أيام الغفران‬
‫بالباحة من �أجل اللحاق مبكانه‪ ،‬وكعادته منذ يومي الأول كان ي�شري‬
‫يل وي�ضحك‪ ،‬وبعد ب�ضعة �أيام من الغفران مل �أجد نف�سي �إال �أن‬ ‫�إ ّ‬
‫�أ�ضحك و�أبادله الإ�شارة ذاتها بيدي ‪..‬‬
‫يوما عن ح�ضور �أيام الغفران ‪ ..‬كان اجلميع‬ ‫بعدها مل �أت�أخر ً‬
‫إعداما ‪� ..‬أما‬
‫زواجا �أو � ً‬
‫يذهبون لي�شهدوا مرا�سم املن�صة �سواء كان ً‬

‫‪9‬‬
‫�أنا فكنت �أذهب لأراه هو ‪� ..‬صديقي الذي ال �أعرف ا�سمه‪ ،‬الذي يجل�س‬
‫متاما وك�أن زحام چارتني قد‬‫�شاخما فوق اجلميع ‪ ..‬قبل �أن يختفي ً‬ ‫ً‬
‫وبقي القائم اجلانبي لل�ساحة خال ًيا وك�أن �أحدً ا مل يجر�ؤ على‬
‫ابتلعه‪َ ،‬‬
‫�أخذ مكانه‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مع كل يوم يل كنت �أعرف �أكرث عن قوانني بالدي‪ ،‬علمني �أبي‬
‫الكثري‪ ،‬وكذلك �أمي ‪� ..‬أدركتُ مع الوقت �أننا مل نكن من �أغنياء چارتني‬
‫�أبدً ا‪ ،‬لكننا على الأقل مل نكن ن�ساىل ‪ ..‬ما كنت �أ�شعر به ح ًقا مع مرور‬
‫�أيامي �أنني �أتع ّلق كل يوم بباحة جويدا عن اليوم الذي ي�سبقه ‪ ..‬ال �أذكر‬
‫يوما واحدً ا من �أيام الغفران منذ ا�صطحبني �أبي يومنا الأول‬‫�أنني ف ّوتُ ً‬
‫و�أنا يف الثامنة ‪ ..‬وال �أذكر �أن عيني مل تهرب كل يوم من تلك الأيام �إىل‬
‫العمود اجلانبي لل�ساحة ع ّلها جتد ذلك ال�صديق الغائب مرة �أخرى‪،‬‬
‫ولكن دون جدوى‪ ،‬ظ ّل العمود خال ًيا ‪..‬‬
‫�أدركتُ �أن معظم املعدومني من جمرمي الن�ساىل ً‬
‫رجال ون�سا ًء‪،‬‬
‫وعرفتُ �أن الزغاريد التي ُتطلق بعد �إعدام كل م�سجون هي لن�ساءٍ‬
‫فاحا‪ ،‬و�شعرن بحركة �أجنتهن ببطونهن بعد حلظات من‬ ‫حملن ِ�س ً‬
‫دوما‪:‬‬
‫الإعدام ‪ ..‬كانت �أمي تقول عنهم ً‬
‫ يعي�شون ل ُيعدموا بعد ذلك ‪ ..‬ال تكف الروح املذنبة عن ارتكاب‬
‫اجلرمية �أبدً ا ‪..‬‬
‫كان �س�ؤايل لها و�أنا يف العا�شرة‪ ،‬وكنا نعد الطعام وقتها‪:‬‬
‫ �ألي�س بني الن�ساىل رجل �صالح �أو امر�أة �صاحلة ؟!‬
‫قالت وهي ت�ضع الأطباق على الطاولة‪:‬‬
‫ الروح تقود اجل�سد‪ ،‬وروح �آثمة لن تقوده �إال ملن�صة �إعدام‬
‫الباحة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ق�ص�صا عن ن�ساىل ارتكبوا �أب�شع اجلرائم من قتل‬
‫ً‬ ‫وحكت يل‬
‫و�سطو و�سرقات ‪..‬‬
‫قليل ما كنا ن�سمع عن �إعدام �أحد من �شرفاء‬‫كانت �أمي حمقة ‪ً ..‬‬
‫چارتني الذين ُولدوا عن زواج �شرعي يف باحة جويدا ‪� ..‬أخربنا معلمنا‬
‫فر�صا �أخرى لل�شرفاء‬
‫يف املدر�سة ذات مرة �أن ق�ضاة چارتني مينحون ً‬
‫املخطئني �إال يف حاالت القتل �أو ارتكاب خيانة كربى يف حق چارتني �أو‬
‫رما �صغ ًريا قد ُيعاقب بال�سجن‬ ‫جدارها‪� ،‬أما �إن �سرق ً‬
‫مثل �أو ارتكب ُج ً‬
‫�أو دفع جزء من املال فح�سب ‪� ..‬أما الن�ساىل فم�صريهم معروف ‪..‬‬
‫جرما �صغ ًريا‬
‫يوما ما‪ ،‬لذا �إن ارتكب �أحدهم ً‬
‫�سريتكبون اجلرمية حت ًما ً‬
‫قد يكلفه ذلك حياته ‪ ..‬ال�سارق منهم ُيعدم ‪ ..‬من ميتلك البارود ُيعدم‬
‫‪ ..‬التعدي على چارتيني �شريف دون حق ُيعدم ‪ ..‬القاتل ُيعدم بالطبع ‪..‬‬
‫�أذكر �أنني �س�ألت املعلم وقتها‪:‬‬
‫  وملاذا ال نقتلهم منذ والدتهم طاملا �سريتكبون اجلرمية؟‬
‫�أجابني �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ �إنها عدالة چارتني ‪ ..‬لهم احلق يف احلياة ‪ ..‬رب �أحدهم‬
‫ي�ستطيع �أن يق ّوم روحه الآثمة ‪..‬‬
‫�شفتي‪ ،‬قبل �أن يكمل لنا �أن كل مولود‬
‫ّ‬ ‫مل �أقتنع بتلك الإجابة وزممتُ‬
‫�شريف ُي�سجل يوم والدته يف �أوراق دار الق�ضاء يف چارتني ‪� ..‬أما الن�ساىل‬
‫فال ُي�سجل لهم �أوراق ‪ ..‬ينالون فقط �أو�شامهم الزرقاء على �أكتافهم‬
‫و�صدورهم بالعام الذي ُولدوا فيه ‪ ..‬وال يعي�شون بيننا‪ ،‬ينت�شرون على‬
‫�أطراف املدن �أو وديانها يف جتمعات ‪� ..‬إن فقرهم �شديد رغم �أنهم‬
‫‪‬‬
‫ل�صو�ص وهجامون ‪ ..‬ال ي�أتون �إىل املدينة �إال لل�سرقة �أو حل�ضور يوم‬
‫أرواحا لأطفالهم ‪ ..‬هم يتعاي�شون مع طبيعتهم‪ ،‬وكما �أتوا‬‫الغفران لنيل � ً‬
‫حمل غري �شرعي اليكفون عن �إجناب �أطفال مثلهم غري �شرعيني‬ ‫من ٍ‬
‫‪ ..‬مل يذكر تاريخ چارتني حالة واحدة لزواج �شرعي بني رجل وامر�أة‬
‫من الن�ساىل‪ ،‬و�أردف ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ حتى هم ال يثقون يف بع�ضهم ‪..‬‬
‫قاطعته مرة �أخرى وقتها‪ ،‬وقلت‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ لكنهم ينجبون !‬
‫قال‪:‬‬
‫ �إنهم خطائون بالفطرة ‪ ..‬ت�سري الرذيلة يف دمائهم ‪..‬‬

‫قرون طويلة �صار عددهم بالآالف ‪ ..‬قد ت�صبح روح‬ ‫على مر ٍ‬


‫ال�شريف من الن�ساىل �إن �أُعدم‪ ،‬وح�صدتها �أم �أحدهم‪� ،‬أما �أن ي�صري‬
‫�أحد الن�ساىل من ال�شرفاء مل يحدث ذلك قط‪ ،‬رغم �أن هناك قاعدة‬
‫ن�سلي من �شريفة چارتينية ي�صري‬‫من قواعد چارتني تقول؛ �إن تزوج ّ‬
‫�أوالدهم �شرفا ًء ‪ ..‬وقد مينح القا�ضي ذلك الن�سلي حك ًما خمف ًفا �إن‬
‫جرما �صغ ًريا تكر ًميا لزوجته‪ ،‬لكن َمن تلك التي تر�ضى بالزواج‬
‫ارتكب ً‬
‫من �أحدهم‪ ،‬وخا�صة �أن هناك قاعدة �أخرى تو�صي بتحول �أوالدها‬
‫لن�ساىل �إن ارتكب �أبوهم جرمية �أخرى قبل وفاته يف عامه اخلم�سني ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫مل ُتخلق امر�أة يف چارتني ت�ستطيع �أن تثق برجل ال يخطئ على‬
‫مر خم�سني عام ‪ ..‬خا�صة �أنه م�ؤهل لذلك اخلط�أ ‪� ..‬أي امر�أة �شريفة‬
‫جتعل �أوالدها عر�ضة للعار يف �أي وقت من الأوقات؟!‬

‫معدوم �إىل �آخر �س ُيعدم ذات يوم ‪ ..‬روح‬


‫ٍ‬ ‫�أروا ٌح �آثمة تنتقل من‬
‫ُمعذبة لن ترتاح �أبدً ا �إال �إن جاء يوم �إعدامها ومل يكن بني احلا�ضرين‬
‫بالباحة امر�أة حتمل جني ًنا عن زنا‪� ،‬سواء كانت ن�سلية �أو من �شريفات‬
‫چارتني الالتي مار�سن الرذيلة ومل يدركن �أن هناك جني ًنا قد نبت‬
‫داخل بطونهن ‪..‬‬
‫تف�ضل ن�ساء چارتني ال�شريفات �أن ُيولد ابنها ميتًا عن والدته بروح‬
‫�آثمة ‪� ..‬أن ي�صبح العقاب العار فذلك �أ�شد العقاب ‪ ..‬و�أن ي�صيب العار‬
‫العائلة جميعها ب�سببها لن يك ّلفها �إال االبتعاد بطفلها �إىل الوديان‪ ،‬لذا‬
‫ق ّلت الرذيلة بني ال�شريفات ‪..‬‬
‫القوانني �صارمة ‪ ..‬البد من زواج �شرعي قبل والدة الطفل على‬
‫الأقل ب�سبعة �أ�شهر‪ ،‬غري ذلك ي�صري املولود ن�سل ًيا ولو كانت �أمه‬
‫ابنة حاكم چارتني نف�سه ‪ ..‬ت�سري قواعد چارتني على كل خملوق يف‬
‫�أر�ضها‪ ،‬لذلك اعتادت ن�سا�ؤنا على تربية �أبنائهن وتعليمهن جيدً ا ع ّلهم‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫ال يالقون م�صري الإعدام �أو اخلطيئة ً‬
‫ال�شيء الأخري عن الن�ساىل �أنه ال يحق لأي چارتيني �أن مينع ن�سل ًيا‬
‫من التواجد يف �شوارع املدينة‪� ،‬إنهم يف احلقيقة چارتينيون مثلهم‬
‫متاما‪ ،‬ولهم كافة احلقوق ملن يخطئ يف حقهم‪ ،‬لكن يبقى على‬ ‫مثلنا ً‬
‫‪‬‬
‫كل واحد منهم �أن ي�سري على �صراطه امل�ستقيم دون ارتكاب جرم‬
‫�صغري طاملا يتواجد باملدينة بعد بلوغه عامه ال�ساد�س ع�شر ‪ ..‬ق�ضاة‬
‫بالدنا بال رحمة معهم ذكو ًرا �أو �إنا ًثا بعد ذلك ال�سن ‪ ..‬لذا يف�ضلون‬
‫هم االبتعاد من �أنف�سهم ‪..‬‬
‫ما يثري تعجبي كث ًريا �أن بالدنا ت�سمح ببيوت الرذيلة �إن كانت‬

‫‪9‬‬
‫الن�ساء التي تعمل بها من الن�ساىل‪ ،‬ك�أنها �ضامن حقيقي لإجناب‬
‫�أطفال غري �شرعيني مبا يكفي لأعداد املعدومني ‪ ..‬يف الوقت الذي‬
‫ُتعاقب فيه ال�شريفة بال�سجن �إن عملت بتلك البيوت ‪ ..‬دعني �أقل �أن‬
‫الن�ساىل هنا هم الطبقة الدنيا يف كل �شيء ‪..‬‬

‫كنت �أحفظ قواعد چارتني عن ظهر قلب‪ ،‬لذا كنت طالبة متفوقة‬
‫علي �أن �أ�شكر �أبي و�أمي على اهتمامهما بثقافتي يف‬
‫بني زميالتي ‪..‬كان ّ‬
‫يوما عن م�ساعدتي الدرا�سية‪ ،‬حتى بعدما‬ ‫طفولتي ‪ ..‬كما مل يت�أخرا ً‬
‫هُ دمت مدر�ستنا املتو�سطة مل يتوانيا عن نقلي �إىل مدر�سة �أخرى كانت‬
‫تبعد م�سافة ميل عن بيتنا القدمي ‪ ..‬كان �أبي ي�صحبني �إليها بعربته‬
‫اخل�شبية ذات احل�صان كل يوم ‪..‬‬
‫كانت تلك املدر�سة تختلف كث ًريا عن مدر�ستي القدمية حيث‬
‫ُق�سمت فرتاتها مع التكد�س ال�شديد �إىل فرتة �صباحية للإناث و�أخرى‬
‫وا�ضحا ‪ ..‬تفو ٌق‬
‫ً‬ ‫بعد الظهرية للذكور ‪ ..‬مل �أهتم بذلك ‪ ..‬كان هديف‬
‫درا�سي ي�ؤهلني للعمل بدار الق�ضاء يف چارتني كما مت ّنى �أبي ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫�أيام كانت ت�شبه بع�ضها ‪ ..‬طالبات كثريات وخمتلفات ‪ ..‬طالب‬
‫ذكور ينتظرون خارج املدر�سة ملغازلتنا قبل رحيلنا ‪ ..‬معلمون مثقفون‬
‫للغاية ‪ ..‬فتاة متجهمة نحيفة ذات �شعر بني ق�صري وعينني خ�ضراوتني‬
‫حتمل كتبها وت�سري مبفردها كل يوم ب�سرتتها البي�ضاء وتنورتها‬
‫الرمادية التي تعرب الركبة بقليل دون �أن تنجو من �سخرية غريها من‬
‫الطالبات ‪ ..‬كانت �أنا‪ ،‬ذات مرة �سمعتُ �إحداهن تقول عني �ساخرة؛‬

‫‪9‬‬
‫وجه البومة ‪ ..‬فبكيتُ ‪ ..‬مل �أكن �أ�ضحك فح�سب‪ ،‬ومل �أكن �أمتلك‬
‫�صديقات بعد ‪..‬‬
‫كل �شيء كان ثابتًا ال يتغري عدا الأيام التي متر فتنق�ص العمر‬
‫التغي �أخ ًريا ‪..‬‬
‫أياما �أ�ضافية‪� ،‬إىل �أن حدث ّ‬
‫� ً‬

‫كنا قد انتهينا من يومنا الدرا�سي‪ ،‬وكنا يف طريقنا للخروج من‬


‫مدر�ستنا ‪ ..‬كانت اجللبة بني الطالب الذكور باخلارج �شديدة للغاية‬
‫ذلك اليوم ‪� ..‬أدركتُ �أن هناك �شجا ًرا بني بع�ضهم كعادتهم‪ ،‬فوا�صلتُ‬
‫طريقي مبتعدة دون اكرتاث‪ ،‬ثم ت�سمرتُ مكاين حني وجدتُ الدماء‬
‫مت�سارعا ‪ ..‬مل تت�سارع دقات قلبي‬
‫ً‬ ‫ت�سيل من ر�أ�س �أحدهم فدق قلبي‬
‫خو ًفا بل ت�سارعت عندما التقت عينه بعيني‪ ،‬فت�سمر مكانه هو الآخر‪،‬‬
‫و�أبعد يده عن مكان جرحه النازف لت�سيل الدماء على وجهه بغزارة‬
‫دون اكرتاث‪ ،‬كان هو ‪ ..‬الفتى الأ�سمر ذاته الذي اختفى قبل �ستة‬
‫�سنوات كاملة ‪ ..‬مت�سلق القائم اجلانبي للباحة‪� ،‬أو كما كنت �أ�سميه‬
‫بيني وبني نف�سي ‪� ..‬سيد باحة جويدا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫وك�أن الزمن قد تو ّقف بنا‪ ،‬وهد�أت �أ�صوات اجللبة من حولنا حتى‬
‫متواجهي ُممدة �أج�سادنا نحدق ببع�ضنا‬
‫ْ‬ ‫تال�شت و�سكنت ‪ ..‬وقفنا‬
‫البع�ض‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)6‬‬

‫حلظات من اجلمود �أ�صابتنا وك�أننا مل نكن ن�صدق �أننا �سنلتقي‬


‫بعد تلك ال�سنوات ‪ ..‬تذكرته بكافة تفا�صيل وجهه التي تبد ّلت ً‬
‫قليل‪،‬‬
‫لكن ما فاجئني �أن تعابري وجهه قالت بو�ضوح �أنه تذكرين � ً‬
‫أي�ضا رغم‬
‫�أن مالحمي ال�شكلية واجل�سدية قد تغريت كث ًريا عما كنت عليه قبل‬
‫خجل‪ ،‬فابت�سم يل هو الآخر‬ ‫�ستة �أعوام ‪ ..‬فوجدت نف�سي �أبت�سم ً‬
‫ن�سي �أمر ال�شجار والدماء التي غطت جبهته‪ ،‬وت�سمرتُ مكاين ال‬ ‫وك�أنه َ‬
‫بيد على كتفي ‪ ..‬كانت يد �أبي ف�أم�سكت‬ ‫�أعرف ماذا �أفعل‪ ،‬حتى �شعرت ٍ‬
‫بيده و�سرت معه جتاه عربتنا �ألتفت بني كل خطوة و�أخرى لأنظر �إىل‬
‫�صديقي الذي ظل واق ًفا مبو�ضعه ينظر �إ ّ‬
‫يل ‪ ..‬وما لبثنا �أن و�صلنا �إىل‬
‫العربة وحتركت بنا بعيدً ا عن املدر�سة‪ ،‬فا�ستدرت بجذعي‪ ،‬ونظرت‬
‫�إىل اخللف �أبحث عنه‪ ،‬ف�س�ألني �أبى بعدما مل �أنتبه �إىل حديثه‪:‬‬
‫ ماذا هناك؟!‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫فاعتدلتُ يف جل�ستي‪ ،‬وقلت �ضاحك ًة‪:‬‬
‫ ال �شيء ‪..‬‬

‫كنت قبل ذلك اليوم �أحب التعليم وال �أحب مدر�ستي اجلديدة‬
‫كث ًريا‪� ،‬أما بعده ف�صرتُ �أحب التعليم واملدر�سة �أكرث من �أي وقت م�ضى‬
‫‪� ..‬أم�ضيت تلك الليلة �أفكر يف �صديقي �سيد الباحة القدمي‪ ،‬ومتنيتُ‬
‫لو جل�ستُ معه و�س�ألته؛ �أين كنت تلك ال�سنوات؟! وكيف عرفتني؟!‬
‫‪� ..‬أردت �أن �أحكي له كم ذهبت �إىل باحة جويدا لأراه على القائم‬
‫اجلانبي ومل �أجده‪� ،‬أردت �أن �أخربه عن حبي للباحة الذي ن�ش�أ ذلك‬
‫اليوم عندما ر�أيته للمرة الأوىل ‪� ..‬أردت �أن �أح ّدثه عن كل �شيء ‪� ..‬أبي‬
‫و�أمي ومدر�ستي القدمية ‪� ..‬أتذكر �أنني مل �أمن جيدً ا ليلتها‪ ،‬وظلت عيني‬
‫م�ستيقظة تنظر �إىل نافذة الغرفة‪ ،‬ترتقب بفارغ ال�صرب طلوع النهار‪.‬‬
‫يف يومي التايل كان حما�سي للذهاب �إىل املدر�سة غري م�سبوق ‪..‬‬
‫كنت �أنتظر ب�شغف بالغ انتهاء يومنا الدرا�سي لع ّلي �أخرج و�أراه كما‬
‫حدث بيومي ال�سابق ‪ ..‬كان �شرودي ذلك اليوم يفوق �أيام درا�ستي‬
‫فرحا ك ّلما م ّرت دقيقة واقرتبنا من موعد‬
‫كلها ‪ ..‬كان قلبي يرق�ص ً‬
‫التفت �صدف ًة �إىل نافذة‬
‫االن�صراف‪ ،‬ثم كاد ي�سقط يف قدمي عندما ُّ‬
‫الف�صل فوجدته يتوارى بجانبها ال يظهر منه �إال ر�أ�سه‪ ،‬ف�شهقتُ من‬
‫املفاج�أة‪ ،‬واندفعت الدماء �إىل وجهي فازدادت حمرته‪ ،‬كان مقعدي‬
‫مبنت�صف ال�صف الأو�سط‪ ،‬وكان ف�صلنا بالدور الأر�ضي كباقي‬
‫الف�صول جميعها ‪ ..‬غري �أن هناك �سو ًرا �شاه ًقا كان يحيط مبدر�ستنا‬

‫‪‬‬
‫من كافة اجلهات ‪ ..‬كيف عربه؟!‪ ،‬وكيف امتلك تلك اجلر�أة لالقرتاب‬
‫منا لذلك احلد؟ ‪..‬‬
‫ما �إن �إلتفتُ �إليه حتى �أ�شار يل‪ ،‬فزاد ارتباكي وانتف�ضت دقات قلبي‬
‫ا�ضطرا ًبا‪ ،‬ودار يف ذهني حينذاك �أن ذلك الفتى لي�س �إال جمنو ًنا �أو‬
‫خوف �إىل املعلمة التي كانت تقر�أ لنا �أحد الدرو�س‬
‫متهو ًرا ‪ ..‬ونظرتُ يف ٍ‬
‫و�أنا �أخ�شى �أن تراه طالبة �أخرى فتخربها ‪ ..‬وقتها قد ي�صل عقابه �إىل‬
‫ترك مدر�سته ورمبا �أُعاقب �أنا كذلك ‪ ..‬متنيتُ لو امتلكتُ بيدي حج ًرا‬
‫ف�أقذفه به كي يبتعد ‪..‬‬
‫ونظرت يف كتابي وج�سدي ال يتمالك نف�سه من الرع�شة التي �س َرت‬
‫وجهت نظري �إىل املعلمة مرة �أخرى بحذر‪ ،‬ثم نظرت �إىل‬ ‫به‪ ،‬ثم ّ‬
‫النافذة بطرف عيني فلم �أجده‪ ،‬فهد�أت دقات قلبي والتقطتُ �أنفا�سي‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫التغي على وجهي‪ ،‬و�س�ألتني �إن كان هناك‬ ‫غري �أن املعلمة قد الحظت ّ‬
‫خطب ما بي‪ ..‬فهززتُ ر�أ�سي نف ًيا يف توتر‪ ،‬وقلت �أنني بخري ‪ ..‬ثم انتهى‬
‫يومنا الدرا�سي فلملمتُ كتبي �سري ًعا‪ ،‬و�أ�سرعتُ �إىل اخلارج مهرول ًة‬
‫أمل ‪..‬‬‫يدق �سرو ًرا وفرحة‪ ،‬وتب ّدلت تعابري وجهي بهج ًة و� ً‬
‫‪..‬كان قلبي ّ‬
‫اليوم ظهرت ابت�سامتي للجميع ‪� ..‬ضحكت البومة �أخ ًريا ‪..‬‬

‫ظننتُ �أنني �س�أراه ما �إن �أخرج من بوابة املدر�سة احلديدية‪ ،‬لكن‬


‫ذلك مل يحدث ‪ ..‬فتعمدتُ التلك�ؤ والإبطاء من خطواتي ع ّله يظهر‪،‬‬
‫فلم يفعل ‪ ..‬فدارت ال�شكوك والو�ساو�س بر�أ�سي ‪ ..‬رمبا �أم�سك به‬
‫معلم وهو يقف بجانب النافذة ‪ ..‬رمبا �سقط من ال�سور العايل �أثناء‬
‫عبوره للجهة الأخرى ف ُك�سرت قدمه ‪ ..‬رمبا اكتفى بر�ؤيتي اليوم لتلك‬
‫اللحظات ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫حتى �أبي قد فعل ما كنت �أمتناه ذلك ال�صباح وت�أخر عني على غري‬
‫عادته‪ ،‬لكن دون جدوى ‪ ..‬مل يظهر الفتى‪ ،‬وانتهى خروج الفتيات من‬
‫املدر�سة‪ ،‬ودلف جميع الفتية �إىل داخلها‪ ،‬ومل يتبقَ �أمام البوابة غريي‬
‫‪ ..‬ثم و�صلت �أمي‪ ،‬واعتذرت يل عن ان�شغال �أبي ب�أمر طارئ‪ ،‬فابت�سمتُ‬

‫‪9‬‬
‫مطمئنة لها و�أم�سكتُ بيدها‪ ،‬وغادرنا �سو ًيا دون �أن تعلم �شي ًئا عن خيبة‬
‫�أملي لغياب �شخ�ص �آخر ‪ ..‬فكرتُ �أن �أح ّدثها عنه لكني تراجعت ‪..‬‬
‫كنت �أعلم جيدً ا ما �ستقوله يل؛ ن�ساء چارتني ال يتعلقن �إال ب�أزواجهن‪،‬‬
‫غري ذلك لن يجلب لهن الرجال �إال امل�صائب ‪..‬‬

‫بدل من حتول ب�صري كل يوم غفران‬ ‫علي الرتقب ‪ً ..‬‬


‫وك�أنه قد ُكتب ّ‬
‫�إىل القائم اجلانبي للباحة طيلة �ستة �أعوام‪� ،‬صار حتوله كل يوم �إىل‬
‫النافذة اجلانبية للف�صل بني كل دقيقة و�أخرى ع ّله ي�أتي جمددًا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫والزم اال�ضطراب دقات قلبي ك ّلما حدثت جلبة مفاجئة خارج النافذة‬
‫‪ ..‬واعتادت عيني على تفح�ص �أوجه الطلبة خل�س ًة خارج املدر�سة قبل‬
‫جميء �أبي ‪ ..‬لكنه مل يظهر من جديد‪ ،‬لقد فعلها ثانية ‪ ..‬لقد اختفى‬
‫مرة �أخرى ‪..‬‬

‫�شه ٌر كامل دون �أن يظهر ‪ ..‬حتى ظننت �أنني مل �أره قط‪ ،‬و�أن ما‬
‫حدث كان �سرا ًبا و�أن خميلتي الوا�سعة هي من �صنعت ذلك الفتى ‪..‬‬
‫ويوما بعد يوم �أقنعت عقلي ب�أن �أن�ساه‪ ،‬و�أن �أ�ضع تركيزي ً‬
‫كامل �صوب‬ ‫ً‬
‫تدب الأمواج باملياه ال�ساكنة فج�أة‪.‬‬
‫درا�ستي‪ ،‬لكن كعادة حياتي‪ُّ ،‬‬

‫‪‬‬
‫كان ذلك اليوم حني جل�ستُ مبقعدي بالف�صل‪ ،‬و�شرعتُ كي �أخرج‬
‫كتبي عندما ملحتُ تلك اجلملة املكتوبة بالقلم الر�صا�ص على ميني‬
‫�سطح التختة اخل�شبية �أمامي‪:‬‬
‫تغي ِت كث ًريا عن �أيام الباحة‪� ،‬أيتها الفتاة ‪..‬‬
‫ لقد ّ‬
‫تلفت �إىل الطالبات املنتبهات �إىل املعلم من حويل‪ ،‬و�أحطتُ اجلملة‬
‫ُّ‬
‫املكتوبة بذراعي‪ ،‬و�أعدتُ قراءتها ثاني ًة ثم ثالثة‪ ،‬ثم انتبهت �إىل املعلم‬
‫حينما ارتفعت نربة �صوته وهو يقر�أ‪ ،‬ثم عدت لأقر�أ اجلملة مرات‬
‫�أخرى ‪ ..‬وانفرجت �أ�سارير وجهى من جديد‪ ،‬وك�أنني ن�سيتُ فج�أة ما‬
‫قررته قبل �أيام عن جتاهل التفكري به ‪ ..‬ووجدتني �أنتظر ب�شغف مرور‬
‫ال�ساعات وحلول وقت االن�صراف‪ ،‬وحدث ما توقعته‪ ،‬لقد ظهر الفتى‬
‫�أخ ًريا بني زمالئه باخلارج‪.‬‬
‫ما �إن عربت البوابة حتى ظهر يل من بينهم ‪ ..‬ال �أعلم �إن كان يدرك‬
‫عيني كانتا تبحثان عنه هو الآخر �أم ال ‪ ..‬التقت عينانا فابت�سم وهو‬
‫�أن ّ‬
‫طويل‪ ،‬فابت�سمتُ وهززتُ ر�أ�سي فى‬‫ر�صا�صا ً‬
‫ً‬ ‫يح ّرك بني �أ�صابعه قل ًما‬
‫خجل‪ ،‬و�أكملتُ طريقي نحو �أبي الذي كان يف انتظاري ‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫يف اليوم التايل وجدتُ اجلملة التي ُكتبت باليوم ال�سابق قد‬
‫ُم�سحت‪ ،‬و ُكتب ً‬
‫بدل منها‪:‬‬
‫ ما ا�سمك؟‬
‫�شفتي ُمفكرة ‪ ..‬ثم �أخرجتُ املمحاة‪ ،‬وحموتُ‬
‫ّ‬ ‫�ضحكتُ ‪ ،‬وزممتُ‬
‫�س�ؤاله‪ ،‬وكتبتُ مكانه بقلمي الر�صا�ص‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ غفران ‪..‬‬
‫ثم ملحتُ على اجلانب الأي�سر من �سطح التختة‪:‬‬
‫كنت �ست�س�ألينني عن ا�سمي ‪..‬‬
‫ ا�سمي ندمي‪� ،‬إن ِ‬
‫هكذا عرفتُ ا�سمه �أخ ًريا ‪ ..‬فابت�سمت‪ ،‬وا�ستخدمت املمحاة ملحي‬
‫ما كتبه‪ ،‬وكتبتُ مو�ضعه‪:‬‬
‫ �أين كنت؟!‬
‫ثم انتبهتُ �إىل معلمي الذي �س�ألني ب�أن �أقف و�أقر�أ للجميع من‬

‫‪9‬‬
‫كتابي‪ ،‬فنه�ضتُ وبد�أتُ �أقر�أ يف تلعثم على غري عادتي حتى انتهيت‬
‫وجل�ستُ ‪ ،‬فم�سحتُ ما كتبته يف ارتباك دون �أن يالحظني �أحد‪ ،‬لكني‬
‫عدت وكتبته جمددًا يف نهاية اليوم قبل موعد االن�صراف بدقيقة‬
‫واحدة ‪..‬‬

‫كان ندمي يف انتظاري خارج املدر�سة مثل اليوم ال�سابق ‪ ..‬ر�أيته‬


‫ينظر نحوي يف ترقب ‪ ..‬كانت تعابري وجهه ت�س�ألني �إن كنت ر�أيت‬
‫�س�ؤاله عن ا�سمي �أم ال ‪ ..‬ف�أكملتُ طريقي دون �أن �أنظر �إليه مرة �أخرى‬
‫قليل مما ذقته من االنتظار قبل ذلك ‪ ..‬وركبتُ مع �أبي‬ ‫ع ّله يتذوق ً‬
‫تغمرين �سعادة بالغة ولذة انت�صار عابرة بعد جتاهلي امل�ؤقت له ‪..‬‬
‫ً‬
‫من�شغل به وبحديثنا املكتوب على التختة‬ ‫لكن يف البيت �صار عقلي‬
‫اخل�شبية‪..‬‬

‫‪‬‬
‫باتت كلمات كتبي جميعها مت�شابهة ‪ ..‬حتججتُ �إىل �أمي ب�أن �أ�ؤجل‬
‫حفظ درو�سي ذلك اليوم‪ ،‬تعجبت مني لكنها وافقتني يف النهاية ‪..‬‬
‫كان كل تفكريي يف �إجابته على �س�ؤايل ‪� ..‬أردت �أن �أعرف �سر غيابه‬
‫ل�شهر كامل ‪ ..‬وتعمدتُ ليلتها النوم مبك ًرا ع ّل �ساعات الليل متر �سري ًعا‬
‫‪ ..‬ونه�ضتُ �صباح اليوم التايل‪ ،‬و�أعددتُ نف�سي للذهاب ‪ ..‬كان �أبي ما‬
‫زال نائ ًما‪ ،‬فدلفتُ �إىل حجرته‪ ،‬وهززته يف تذمر‪:‬‬
‫ �أبى‪� ،‬أن�سيت �أمر ذهابي �إىل املدر�سة؟!‬
‫فنظر �إ ّ‬
‫يل متعج ًبا بعني ن�صف مغلقة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫أنت �أن اليوم هو يوم �أجازة مدر�ستكم الأ�سبوعية؟!‬
‫أن�سيت � ِ‬
‫ � ِ‬
‫حرجا يف مكاين‪ ،‬لقد ن�سيتُ �أن اليوم هو نهاية الأ�سبوع‬

‫‪9‬‬
‫فت�سمرتُ ً‬
‫بالفعل‪ ،‬وحدثتُ نف�سي يف �ضيق‪:‬‬
‫على �أن �أنتظر �أنا جمددًا ‪ُ ..‬كتب ّ‬
‫علي االنتظار ‪..‬‬ ‫  ّ‬
‫وعدت �إىل غرفتي وب ّدلت ثيابي‪ ،‬وان�سللتُ �أ�سفل فرا�شي حمبطة ‪..‬‬

‫يف اليوم التايل كانت �إجابته قد ُكتبت بالر�صا�ص �أمامي‪ ،‬كتب يل‪:‬‬
‫علي �أن �أر�سب ‪ ..‬ومل يكن هناك حل للر�سوب �إال الغياب‬
‫ كان ّ‬
‫ل�شهر كامل ‪ ..‬و�إن �س�ألتني عن رغبتي بالر�سوب انظري �إىل‬
‫ٍ‬
‫اجلانب الآخر ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫فنظرتُ �إىل اجلانب الأي�سر من �سطح التختة‪ ،‬فوجدته قد كتب‪:‬‬
‫ �إن هذا الف�صل الذي جتل�سني به هو ف�صل الرا�سبني مبدر�ستنا‪،‬‬
‫مدر�سة الفتيان ‪ ..‬كان ر�سوبي هو ال�سبيل الوحيد لالنتقال‬
‫�إليه‪ ،‬واجللو�س بنف�س مقعدك بعد م�ساوم ٍة ب�سيطة مع �صاحب‬
‫املقعد ‪ ..‬ال تن�سي ا�ستخدام املمحاة يا غفران ‪..‬‬
‫ب�صوت هام�س‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫�ضحكتُ ‪ ،‬وقلت لنف�سي‬
‫ لقد ر�سب من �أجلي ‪..‬‬
‫فنظرت �إ ّ‬
‫يل فتا ٌة جماورة‪ ،‬ف�أوحيتُ لها ب�أنني �أقر�أ من كتابي ‪..‬‬ ‫ْ‬
‫اليوم �صرت �أحب ح ًقا ذلك املكان‪ ،‬وذلك الف�صل ‪ ..‬ثم بد�أت �أحمو‬
‫كلماته عندما انتبهت الطالبات مع املعلمة غري �أن كلمة غفران مل‬
‫ُي َح �أثرها ‪ ..‬لقد حفر ا�سمي ب�آلة حادة على اخل�شب ‪ ..‬وقتها متنيتُ‬
‫لو وقفتُ مبنت�صف الف�صل وقلت لزميالتي عالنية بكل جر�أة؛ �أيها‬
‫ال�سيدات‪ ،‬لقد بد�أت ق�صة حبي للتو ‪ ..‬ثم و�ضعتُ جبهة ر�أ�سي على‬
‫راحة يدي‪ ،‬و�أم�سكتُ بقلمي الر�صا�ص ‪ ..‬وفكرتُ ً‬
‫قليل فيما �أكتبه‪ ،‬ثم‬
‫كتبتُ على اجلانب الأمين من �سطح التختة‪:‬‬
‫ لن �أ�س�ألك �أين كنت الأعوام املا�ضية‪ ،‬لكن عدين �أال تختفي مرة‬
‫�أخرى ‪..‬‬
‫وتركت جملتي‪ ،‬وغادرتُ الف�صل مع انتهاء ح�ص�صنا ‪ ..‬كان قلبي‬
‫مت�سارعا ‪ ..‬وت�ضاربت م�شاعري داخلي بقوة ‪ ..‬مل �أكن �أعلم �إن‬
‫ً‬ ‫يدق‬
‫كان ما فعلته �صائ ًبا �أم ال ‪� ..‬سرتُ وعقلي ال يتوقف عن التفكري ‪ ..‬كيف‬
‫�أطلب منه وعدً ا كهذا دون �أن �أعرف عنه �أي �شيء ‪ ..‬كل ما عرفته عنه‬
‫‪‬‬
‫هو ا�سمه فح�سب ‪ ..‬ملاذا ت�سرعتُ بكتابتي تلك اجلملة لأبوح له بتعلقي‬
‫به بعد �أيام فقط من حديثنا املكتوب؟!‬
‫وقبل �أن �أعرب البوابة احلديدية وجدتُ نف�سي �أ�ستدير‪ ،‬وقررتُ �أن‬

‫‪9‬‬
‫�أعود �أدراجي لأم�سح ما كتبته قبل دخول الطالب ‪ ..‬واجتهت م�سرع ًة‬
‫�إىل ف�صلي اخلايل ‪ ..‬وما �إن دلفت �إليه و�أغلقتُ الباب من خلفي حتى‬
‫كاد قلبي يتوقف بعدما وجدتُ معلمتي جتل�س مكاين‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)7‬‬

‫كاد قلبي يتوقف عن النب�ض بعدما ر�أيت معلمتي ال�سيدة «بيان»‬


‫جتل�س مكاين‪ ،‬كذلك تب ّدل وجهها هي الأخرى بعدما ر�أتني �أعود‬
‫جمددًا �إىل الف�صل‪ ،‬وك�أنها مفاج�أة مل تكن تتوقعها قط ‪ ..‬فت�سمرتُ‬
‫مكاين �أنتظر منها �أي ردة فعل‪ ،‬فبادرتني يف تعجب‪:‬‬
‫ هل هناك �أمر ما يا غفران؟!‬
‫فقلت بارتباك وا�ضح‪:‬‬
‫ ال ‪..‬‬
‫ثم �أردفت كذ ًبا يف تلعثم‪:‬‬
‫ لقد فقدتُ كي�س نقودي ‪� ..‬أظن �أنه �سقط �أ�سفل مقعدي ‪..‬‬
‫واقرتبتُ منها بحذر حني قامت بتفقد �أ�سفل املقعد ودُرج التختة‬
‫اخل�شبية‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ ال �شيء هنا ‪..‬‬
‫فاوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬و�أظهرت حزين وقلت‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪� ،‬س�أبحث عنه يف مكان �آخر ‪..‬‬
‫بينما كنت �أراقب تعبريات وجهها بطرف عيني‪ ،‬ويدور عقلي بخلق‬
‫مربرات حت�س ًبا لأي �س�ؤال لها عن كتاباتي على �سطح التختة ‪ ..‬لكنها مل‬
‫تتفوه ب�شيء‪ ،‬بل ملحتُ ملعة بعينيها توحي بدموع �أو�شكت على ال�سقوط‪،‬‬
‫والحظت �شرودها وعدم مباالتها ب�أمري � ً‬
‫أ�صل‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ �سيدتي‪ ،‬هل هناك خطب ما؟!‬
‫فابت�سمت ابت�سامة حزينة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ كل �شيء بخري عزيزتي ‪� ..‬أ�صابني �أ ٌمل مفاجئ يف �صدري فقط‬
‫بعد انتهاء ح�صتكم فجل�ستُ حتى يزول ‪..‬‬
‫ثم نه�ضت وم�سحت على �شعري‪ ،‬وقالت با�سمة‪:‬‬
‫ حني يعرب عمرك الأربعني لن يراودك �إال �شعور واحد ‪� ..‬أن‬
‫العمر مل يبقَ فيه �إال القليل جدً ا‪ ،‬ومل تفعلي يف حياتك �إال‬
‫الأقل‪..‬‬
‫فالتقطتُ �أنفا�سي‪ ،‬واطم�أن قلبي بعدما تيقنتُ �أنها مل تنتبه �إىل‬
‫كتاباتي‪ ،‬و�س�ألتها‪:‬‬
‫ كم عمرك الآن �سيدتي؟‬
‫فقالت‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ جتاوزت الأربعني منذ �أيام ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  ح�س ًنا ‪ِ ..‬‬
‫لديك ع�شر �سنوات لتفعلي كل �شيء ‪..‬‬
‫و�أردفت �إليها يف حما�س‪:‬‬
‫ �س�أفعل كل �شيء قبل �أن يحني موعد رحيلي ‪..‬‬
‫فقالت‪:‬‬
‫لك ذلك‬‫ ال جتري الأمور كما نخطط لها �أبدً ا ‪ ..‬لكني �أمتنى ِ‬
‫على � ّأي حال ‪ ..‬هيا بنا‪ ،‬لقد بد�أ الطالب يف دخولهم �إىل‬
‫املدر�سة ‪..‬‬
‫فنظرت خل�س ًة �إىل تختتي ‪ ..‬متنيت لو تركتني حلظة واحدة �أحمو‬
‫فيها ما كتبته‪ ،‬لكنها �أم�سكت بيدي وهي تقول‪:‬‬
‫ هيا ‪ ..‬ال ت�ضعي ه ًما لنقودك املفقودة ‪� ..‬س�أ�س�أل زميالتك عنها‬
‫غدً ا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫ثم خرجنا م ًعا ‪ ..‬و�سرنا يف طريقنا �إىل خارج املدر�سة ‪ ..‬كان ندمي‬
‫قد قابلنا يف الردهة قبل عبورنا البوابة‪ ،‬والتقت عينه عيني فهربت‬
‫عيني �سري ًعا ‪ ..‬ووا�صلتُ طريقي مع ال�سيدة بيان‪ ،‬ثم ودعتها ومتنيت‬
‫لها ال�شفاء‪ ،‬قبل �أن �أجته �إىل �أبي الذي كان يقف يف انتظاري‪.‬‬

‫‪‬‬
‫ً‬
‫من�شغل مبا كتبته �إىل ندمي ‪ ..‬ودار عقلي‬ ‫يف املنزل ظل بايل‬
‫بخياالت كثرية عن رده املنتظر‪ ،‬لكني عدت وحدثت نف�سي ب�أن القدر‬
‫من �أراد ذلك‪،‬كان من املمكن �أن �أحمو كلماتي عندما عدت �إىل الف�صل‬
‫لكن القدر و�ضع يل ال�سيدة بيان مبقعدي لتم�ضي ق�صتنا يف طريقها‬
‫دون توقف ‪ ..‬ثم جال ببايل حديثها عن حياتها التي �ستنتهي بعد ع�شر‬
‫�سنوات ‪..‬‬
‫مل �أفكر من قبل يف ذلك الأمر كث ًريا ‪� ..‬إنها تقارب �سن �أبي و�أمي‬
‫تقري ًبا ‪ ..‬لقد جتاوز �أبي الأربعني منذ عامني‪ ،‬و�أمي ت�صغره بعام واحد‬
‫‪ ..‬هذا يعني �أنني بعد �أقل من ت�سعة �أعوام �س�أم�سي وحيدة ‪ ..‬كانت‬
‫املرة الأوىل التي �أدرك فيها �أن قاعدة بالدنا الأوىل قا�سية للغاية ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫�أتذكر تلك الرع�شة التي �سرت بج�سدي مبجرد تخيلي كوين وحيدة يف‬
‫هذا العامل ‪ ..‬وقتها انزويت �أ�سفل فرا�شي دون �أن يتوقف ر�أ�سي عن‬
‫الو�ساو�س واخلياالت املوح�شة ‪ ..‬وظل النوم مفار ًقا لعيني حتى وقت‬
‫مت�أخر من الليل‪.‬‬

‫يف بداية اليوم التايل �س�ألتني ال�سيدة بيان قبل دخويل �إىل الف�صل‬
‫�إن كنت قد عرثتُ على نقودي املفقودة‪ ،‬فهززت ر�أ�سي �إيجا ًبا بابت�سامة‬
‫مزيفة‪ ،‬وقلت؛ نعم ‪ ..‬واجتهت �إىل تختتي اخل�شبية �شاردة ‪ ..‬كان �أثر‬
‫تفكريي يف الليلة املا�ضية ال يزال ي�شو�ش عقلي ‪� ..‬أتذكر �أنها املرة‬
‫الأوىل التي �أ�شعر فيها ب�ضيق �إىل ذلك احلد ‪ ..‬ثم جل�ستُ على مقعدي‬
‫‪‬‬
‫ونظرتُ �إىل �سطح التختة �أمامي ‪ ..‬فوجدتُ �س�ؤايل قد ُمي‪ ،‬و ُكتب‬
‫ً‬
‫بدل منه‪:‬‬
‫ �أعدك ب�أنني �س�أخربك قبل غيابي املرة القادمة ‪..‬‬
‫مل يكن ذلك الوعد الذي �أنتظره ‪ ..‬هذا يعني �أنه قد يغيب جمددًا‬
‫‪ ..‬ماذا �سيختلف وقتها �إن �أخربين عن غيابه قبلها �أم مل يخربين ‪..‬‬
‫النتيجة واحدة‪ ،‬فزادت �إجابته من �شعوري بال�ضيق‪ ،‬ووجدت نف�سي‬
‫�أحمو ما كتبه يف غ�ضب دون �أن �أكتب �إليه �شي ًئا ‪ ..‬ثم �أخرجت كتبي‬
‫وانتبهت �إىل معلمتي ‪ ..‬حتى انتهى يومنا وعدت �إىل بيتي‪ ،‬وهناك‬
‫�س�ألت �أمي‪:‬‬
‫أنت و�أبي وترتكاين وحيدة؟‬
‫ هل �سرتحالن � ِ‬
‫فقالت �أمي متعجبة‪:‬‬
‫ من قال ذلك؟!‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �سيبلغ �أبي اخلم�سني بعد ثمانية �أعوام‪ ،‬و�ستلحقني به بعدها‬
‫بعام ‪..‬‬
‫فانتبهت �أمي �إىل مق�صدي‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫عليك �أن تفكري بهذا الأمر ‪� ..‬إنها القواعد يا غفران ‪..‬‬
‫ ال ِ‬
‫قلت ب�صوت خمتنق بالدموع‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ لكني �س�أبقى وحيدة ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �س�أحر�ص �أنا ووالدك على �إجناب ما يكفي من �أطفال قبل‬
‫موعد رحيلنا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ولكني �أريدكما �أنتما ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �ستكربين ومع الوقت �ستدركني �أن هناك �أمو ًرا ال ن�ستطيع‬
‫تغيريها �أبدً ا ‪� ..‬إن �أرواحنا چارتينية‪ ،‬وطاملا بقت چارتينية‬
‫�صار عليها االكتفاء بخم�سني عام فقط ‪ ..‬هناك الكثري من‬
‫املواليد ال�شرفاء لهم احلق يف نيل �أرواحهم ‪..‬‬
‫و�أكملت‪:‬‬
‫عاما لي�ست بالقليل ‪..‬‬
‫ وخم�سون ً‬
‫ثم ق ّبلت �شعري‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ لن �أموت قبل �أن �أطمئن �أن هناك َمن �سيبقى بجوارك حياتك‬
‫كلها ‪..‬‬
‫ف�س�ألتها‪:‬‬
‫ كيف �ستموتون؟‬
‫‪‬‬
‫كانت املرة الأوىل التي �أ�س�أل فيها ذلك ال�س�ؤال �أو يدور فى ذهني‬
‫حتى‪ .‬ف�صمتت �أمي ثم قالت‪:‬‬
‫ �إن مل يهزمنا املر�ض قبل بلوغنا اخلم�سني �صار علينا التوجه‬
‫�شر ًقا �إىل وادي حوران‪ ،‬هناك �سيجد رجال الدين طريقة غري‬
‫م�ؤملة حل�صاد �أرواحنا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ وماذا لو مل تذهبوا �إىل هناك؟‬
‫ابت�سمت وقالت‪:‬‬
‫أبوك �ضيو ًفا على من�صة �إعدام جويدا‪،‬‬
‫ وقتها �س�أ�صبح �أنا و� ِ‬
‫وبدل من �أن تذهب �أرواحنا �إىل �شرفاء چارتني �سيح�صدها‬ ‫ً‬
‫�أطفال الن�ساىل ‪� ..‬إن قوانني چارتني وا�ضحة يا ابنتي ‪ ..‬خا�صة‬
‫ما تعلق منها ب�ش�أن �أرواحنا ‪ ..‬لقد ُخلقت قواعدنا لبقاء بالدنا‬
‫ون�سلنا ‪..‬‬
‫قلت و�أنا �أم�سح دمعة هربت �إىل وجنتي‪:‬‬
‫ وماذا لو رحلنا عن چارتني وعربنا �إىل �آخر العمر؟‬
‫قالت بهدوء‪:‬‬
‫ وقتها �ستنقطع الروح عن ن�سل عائلتنا للأبد ‪� ..‬سي�صيب‬
‫العار العائلة ب�أكملها ‪� ..‬ستخت�صم الروح �أج ّنتنا ‪� ..‬إن رحلت‬
‫أبوك وخالفنا القاعدة الأوىل لن ي�ستطيع �أي َمن‬ ‫ً‬
‫مثل �أنا �أو � ِ‬
‫‪‬‬
‫يحمل دماءنا �إجناب �أطفال �أبدً ا‪ ،‬حتى تزول �ساللتنا ‪..‬‬
‫�إننا �سنموت �سنموت ‪ ..‬لكن موتنا هنا طب ًقا لقوانيننا ي�ضمن‬
‫نوعا من الأنانية‬
‫لأبنائنا البقاء من بعدنا ‪� ..‬أما هروبنا لي�س �إال ً‬
‫‪� ..‬سننجو ب�أرواحنا عدة �أعوام لكن �سيبقى �أوالدنا وحيدين‬
‫حتى ميوتوا هم الآخرون ‪..‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫و� ْ‬
‫ �إن �أف�ضل ما يف الأمر �أننا �سنموت يف �أعز عمرنا قبل �أن ت�شيخ‬
‫�أج�سادنا‪ .‬و�س�ألتني‪:‬‬
‫أيت من قبل ن�سل ًيا عجو ًزا على من�صة الإعدام؟‬
‫ هل ر� ِ‬
‫فهززت ر�أ�سي نف ًيا‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ �سرتين مع الوقت ‪ ..‬ال يخ�ضع الن�ساىل للقاعدة الأوىل ‪ ..‬ترى‬
‫القواعد �أن �إخ�ضاعهم لهذه القاعدة راحة لأرواحهم الآثمة‬
‫قدما يف �أعمارهم‬
‫وتلويث لوادي «حوران» ‪ ..‬ي�ستطيعون امل�ضي ً‬
‫البائ�سة طاملا ال تط�أ �أقدامهم املدينة بعد عبورهم اخلم�سني ‪..‬‬
‫و�إال كانت من�صة الإعدام م�صريهم ‪ ..‬لذا يظلون م�شردين يف‬
‫ال�صحاري والوديان حتى تَنفق �أج�سادهم ‪..‬‬
‫�إننا بلد ال�شباب ‪ ..‬انظري �إىل اجلانب الإيجابي من هذا الأمر‬
‫‪� ..‬إن بلدنا بلد قوي متقدم ‪ ..‬ال ي�ستطيع �أي بلد �آخر االقرتاب‬
‫منا‪ ،‬وعقول حكامنا ال�شباب متجددة با�ستمرار ‪� ..‬إن جاء �أي‬
‫غريب �إىل بلدنا اجل�سي معه وا�س�أليه عن حال البلدان الأخرى‬
‫يف ظل وجود العجزة على ر�أ�س حكمها‪.‬‬
‫‪‬‬
‫وابت�سمت وهي تتابع‪:‬‬
‫ لقد جل�ستُ هذه اجلل�سة ذاتها مع �أمي حني كنت مبثل عمرك‬
‫‪ ..‬ومع الوقت �أدركت ح ًقا �أنها على حق ‪ ..‬لقد ذهبت �أمي‬
‫و�أبي �إىل وادي حوران من �أجل بقائي وبقائك وبقاء �ساللتك‬
‫‪ ..‬وهكذا �س�أفعل و�سيفعل والدك ‪� ..‬إننا نحبك ونحب بلدنا ‪..‬‬
‫و�إن كان لنا هدف يف هذه احلياة فهو �أن تبقى �ساللتنا على‬
‫�أر�ض چارتني �ساللة �شريفة هدفها �أن ُتبقي بالدنا خري بالد‬
‫هذا العامل ‪� ..‬ستجدين حبي ًبا �سيبقى معك للأبد‪� ،‬ستعي�شني‬
‫معه حتى انتهاء �أعوامكما‪ ،‬و�ستزرعني حب قواعد بالدنا يف‬
‫�أوالدكما ليزرعوها يف �أوالدهم ‪..‬‬
‫و�ضمتني �إىل �صدرها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ �أمتنى �أن �أ�صل �إىل ذلك اليوم الذي �أح�ضر فيه زفافك ‪..‬‬
‫وق ّبلت ر�أ�سي من جديد‪ ،‬ووا�صلت‪:‬‬
‫بك العمر‬
‫ ال تتعجلي اختيارك ل�شريكك فح�سب ‪ ..‬مهما بلغ ِ‬

‫‪9‬‬
‫أعواما معدودة ‪ ..‬اختاري من يجعل منها‬
‫ف�سيظل يف النهاية � ً‬
‫العام الواحد ي�ساوي مائة عام ‪..‬‬
‫ف�ضحكت وق ّبلت خ ّدها ‪ ..‬وعدت �إىل غرفتي‪ ،‬وهد�أ تفكريي حتى‬
‫�أن النوم قد غلبني بعدما فارقني الليلة ال�سابقة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫يف اليوم التايل كان احلما�س الذي �أ�شعر به خمتل ًفا ً‬
‫متاما ‪ ..‬كانت‬
‫كلمات �أمي عن ح�سن اختياري ل�شريكي ال تزال ترن يف �أذين‪ ،‬وجل�ستُ‬
‫على مقعدي يف الف�صل ‪ ..‬لأجد ندمي قد كتب يل ر�سالة‪:‬‬
‫لك ب�أال �أغيب جمددًا ‪ ..‬لكني‬
‫عدم وعدي ِ‬‫ «قد يكون �أحزنك ُ‬
‫اعتدت �أال �أعد ب�شيء ال �أوقن بتحقيقه ‪ ..‬ح�س ًنا‪� ،‬إن ا�ضطررت‬
‫�إىل الغياب مرة �أخرى �س�أ�سعى �أال تطول فرتة غيابي ‪ ..‬غري‬
‫ذلك �س�أبقى معك للأبد ‪»..‬‬
‫ابت�سمت وحموت ما كتبه‪ ،‬وكتبت دون تفكري‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ للأبد؟‬
‫�أجابني يف اليوم التايل‪:‬‬
‫ نعم ‪� ..‬س�أظل معك للأبد حتى تنتهي �سنوات عمري ‪..‬‬

‫هكذا �أخذت ق�صتنا م�سا ًرا جديدً ا‪ ،‬م�سا ٌر عنوانه «للأبد»‪ ،‬وبد�أنا‬
‫نكتب عن كل �شيء ‪ ..‬ما نحبه‪ ،‬ما نكرهه‪ ،‬ما يحبه �أهلنا‪ ،‬ما يكرهونه‪،‬‬
‫�أيام الغفران وما يحدث فيها‪ ،‬مدر�ستي القدمية‪ ،‬عربة �أبي ومكتبته‪،‬‬
‫�صديقاتي القدميات‪،‬كل �شيء ‪� ..‬أخربته �أنني من جويدا و�أخربين �أنه‬
‫من اجلنوب ‪� ..‬أخربته �أنني ال �أملك �صديقات يف مدر�ستي اجلديدة‬
‫متاما يف ذلك ‪� ..‬صار �صديقي الأوحد‪،‬‬ ‫بعد‪ ،‬ف�أخربين �أنه ي�شبهني ً‬
‫و�صارت املدر�سة متنف�سي احلقيقي للبوح بكل �شيء ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ما كنت �أتعجب منه حقا �أنه رغم ان�شغايل الذهني التام بندمي‬
‫�صار حت�صيلي الدرا�سي �أف�ضل كث ًريا عما كنت عليه قبله‪ ،‬ونلت ثناء‬
‫املعلمني جميعهم على الرغم من قلة �ساعات درا�ستي املنزلية كل‬

‫‪9‬‬
‫م�ساء ‪ ..‬حتى ظننت �أن القدر قد �أعاد ذلك الفتى �إىل حياتي يف ذلك‬
‫قدما نحو حتقيق حلمي بااللتحاق باملدر�سة العليا‬
‫التوقيت كي يدفعني ً‬
‫لدار الق�ضاء يف چارتني‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)8‬‬

‫على نحو �أربعة �أ�شهر مل مير يوم درا�سي دون �أن نكتب �إىل بع�ضنا‬
‫البع�ض ‪ ..‬قل ٌم ر�صا�ص يكتب ‪ ..‬يقر�أ �أحدنا ما كتبه الآخر‪ ،‬يقوم مبحوه‬
‫على الفور ليكتب ما يريد �إخبار �شريكه به ‪� ..‬صرتُ �أكره �أيام الأجازات‬
‫املدر�سية و�أنتظر مرور �ساعاتها بفارغ ال�صرب ‪ ..‬حتى عندما �أُ�صبت‬
‫باحلمى �إثر التهاب حلقي �أ�ص ّرت �أمي علي تغييبي من املدر�سة لكني‬
‫كنت �أكرث �إ�صرا ًرا على الذهاب‪ ،‬وفعلتُ ذلك وذهبتُ �إىل املدر�سة يغلي‬
‫يوما واحدً ا من حديثنا الذي �أحبه ‪..‬‬
‫ج�سدي من احلرارة كي ال �أ�ضيع ً‬
‫�أربعة �أ�شهر كان كل يوم منها يحمل معلومة جديدة عن الآخر ‪..‬‬
‫�أيام متتابعة مل نتحدث فيها وج ًها لوجه مرة واحدة‪� ،‬أو ي�سمع �أي منا‬
‫�صوت الآخر ‪ ..‬متنيت داخل نف�سي لو �أوقفته ذات مرة �أثناء تالقي‬
‫يوما‬
‫�أعيننا خارج املدر�سة وحتدثنا �أمام زمالئنا جمي ًعا‪� ،‬أو لو نلتقي ً‬
‫بباحة جويدا التي ال يحب �أن يزورها‪ ،‬لكننا وا�صلنا حديثنا املكتوب ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ولأن لكل طريق عقباته‪ ،‬جاء ذلك اليوم يف نهاية ال�شهر الرابع‬
‫حني دلف �إلينا املعلم‪ ،‬و�أخربنا �أن الأجازة املو�سمية �ستبد�أ بعد �أ�سبوع‬
‫من ذلك اليوم ملدة �شهر كامل ‪ ..‬فبدت الفرحة على وجوه جميع‬
‫الطالبات بالف�صل عدا وجهي الذي جتهم‪ ،‬وبينما زادت همهمات‬
‫زميالتي ال�سارة من حويل بعد انتهاء املعلم من حديثه كان قلمي‬
‫الر�صا�ص يكتب على �سطح التختة دون مقدمات‪:‬‬
‫  هل لنا �أن نتقابل بباحة جويدا يوم الغفران القادم؟‬
‫جاءين الرد يف اليوم التايل بكلمة واحدة فقط على اجلانب الأمين‬
‫من �سطح التختة‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫وعلى اجلانب الأي�سر كتب‪:‬‬
‫ �أين �سنتقابل ؟‬
‫فمحوت �س�ؤاله �سري ًعا يف فرحة‪ ،‬وكتبت‪:‬‬
‫  املدخل ال�شرقي الأو�سط ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫اعتقد �أنني �أكرث �أهل چارتني معرف ًة مبداخل وخمارج باحة جويدا‬
‫زحاما على الدوام بني‬
‫‪ ..‬وكنت �أعرف �أن ذلك املدخل هو الأكرث ً‬
‫مداخل الباحة الثمانية‪ ،‬كما �أن �أبي و�أمي قد اعتادا الذهاب �إىل هناك‬
‫عرب املدخل اجلنوبي‪ ،‬ومل �أردهما �أن يرياين تلك املرة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كان يوم الغفران بعد �ستة �أيام فقط من ذلك اليوم ‪ ..‬ق�ضيت �أربعة‬
‫منها يف حرية بالغة عن الثياب التي �س�أرتديها يومها‪ ،‬كل ما جال يف‬
‫ذهني �أن �أبدو جميلة يف ذلك اليوم ‪ ..‬حتى انتهى بي الأمر �إىل ف�ستاين‬
‫ال�سماوي الق�صري ذي الأكمام الق�صرية واخل�صر ال�ضيق والذي يعرب‬
‫ركبتي بقليل‪ ،‬وحذاء جلدي �أ�سود كانت �أمي قد �أهدته يل قبل �سنة وما‬
‫زال بحالة جيدة ‪..‬‬
‫ثم �أخربت �أبي �أثناء تناولنا الع�شاء ليلة يوم الغفران �أنني لن‬
‫�أرافقهما غد ذلك اليوم ‪ ..‬و�أردفت له عن اتفاق عقدته بيني وبني‬
‫زميالت مدر�ستي للقاء يف باحة جويدا بعيدً ا عن �أهالينا ‪ ..‬فاقرتح‬
‫�أن نذهب ثالثتنا �سو ًيا ثم �أفرتق عنهم هناك‪ ،‬لكني حتججت ب�أنني‬

‫‪9‬‬
‫�س�ألتقي �صديقاتي مت�أخ ًرا ً‬
‫قليل عن بدء مرا�سم الباحة‪ ،‬و�س�ألته �أن‬
‫قليل ثم رحب‬ ‫يذهب هو مع �أمي و�أن �أتدبر ذهابي مبعرفتي ‪ ..‬ففكر ً‬
‫بحديثي‪ ،‬و�س�ألني �أن �أحر�ص على �سالمتي بني زحام الباحة‪ ،‬فوعدته‬
‫بذلك‪ ،‬غري �أن االرتياح مل يجد مو�ض ًعا على وجه �أمي‪.‬‬

‫كانت باحة جويدا تقع على م�سافة ميل ون�صف من بيتنا القدمي‪،‬‬
‫وكانت املرة الأوىل يف �سنواتي الأربع ع�شرة التي �أذهب بها �إليها‬
‫مبفردي دون �أبي ‪ ..‬ت�أكدت يف ال�صبيحة من مغادرة �أبي و�أمي‪ ،‬ثم‬
‫انتظرت ً‬
‫قليل قبل �أن �أغادر بيتي �إىل هناك ‪ ..‬كانت هناك على الدوام‬
‫عربات خ�شبية جمرورة ب�أح�صنة تنقل �سكان چارتني �إىل الباحة مقابل‬
‫قدر �ضئيل من املال‪ ،‬فالتحقت ب�إحداها خو ًفا من �إف�سادي لثيابي‬
‫وحذائي �إن قطعت الطريق �س ًريا على �أقدامي ‪ ..‬و�س�ألت قائد العربة‬
‫‪‬‬
‫�أن ُينزلني علي بعد �أمتار قبل الو�صول �إىل حرم الباحة اجلنوبي الذي‬
‫تتجمع فيه العربات املجرورة اململوكة لأ�صحابها من �أهل چارتني ‪ ..‬ثم‬
‫اجتهت �س ًريا على قدمي �إىل اجلهة ال�شرقية عرب ممر ترابي بي�ضاوي‬
‫يحيط بالباحة ‪..‬‬
‫كان الزحام �شديدً ا كعادة �أيام الغفران يف ف�صل اخلريف ‪..‬‬
‫�ألوف من ال�سكان‪ ،‬فتيان وفتيات ي�سريون حمت�شدين ‪ ..‬ن�سا ٌء ورجال‬
‫زحاما‬
‫و�أطفالهم ‪ ..‬ال يف ّوتون �أيام عيدنا ‪ ..‬وكان املمر ال�شرقي الأكرث ً‬
‫كعادته حتى �أنني خ�شيت �أال يجدين ندمي و�سط الزحام‪ ،‬وندمت على‬
‫اختيار ذلك املدخل حتديدً ا‪.‬‬
‫كانت الباحة ُماطة ب�سياج حجري ترتا�ص علي قمته ر�ؤو�س‬
‫حديدية حادة للغاية ال مت ّكن �أحدً ا من عبوره دون �أن ُي�صاب ‪ ..‬كان‬
‫يحيط بها على امتداد حميطها عدا مداخلها الثمانية ‪ ..‬كان ذلك‬
‫ال�سياج ق�ص ًريا حيث ي�ستطيع من بداخل حميط الباحة ر�ؤية من‬
‫متاما ‪ ..‬حتى �أنه مع �أيام الزحام ال�شديد‬
‫بخارجها والعك�س �صحيح ً‬

‫‪9‬‬
‫وعدم وجود �أي حيز داخل الباحة كانت املمرات اجلانبية خارجها‬
‫متتلئ بالكثري من الأهايل الذين مل يتمكنوا من اللحاق ب�أماكن لهم‬
‫أرواحا لأطفالهن كان‬
‫داخلها ‪ ..‬غري �أن احلوامل ممن �أردن ح�صد � ً‬
‫عليهن التواجد داخل حميط ذلك ال�سياج الذي ال تعربه روح املعدوم‪.‬‬

‫و�صلتُ �إىل البوابة ال�شرقية الو�سطى‪ ،‬ووقفتُ بجانبها على �أطراف‬


‫قدمي لع ّلي �أ�صبح �أكرث ً‬
‫طول‪ ،‬وبحثتُ بعيني بني وجوه املارين عربها‬

‫‪‬‬
‫والقادمني �إليها دون �أن �أجنو من تعليقات ال�شبان الذين مل يكفوا عن‬
‫م�ضايقة الفتيات ‪ ..‬ومر قليل من الوقت دون �أن يظهر‪ ،‬وبد�أت �أ�شعر‬
‫ب�أ ٍمل يف مف�صل قدمي �سوا ًء من الوقوف علي �أطرافها �أو من تكرار‬
‫ده�سها من العابرين‪ ،‬قبل �أن �أ�سمع �صوته للمرة الأوىل يناديني‪:‬‬
‫  غفران ‪..‬‬
‫فالتفتُ نحو ال�صوت املميز و�سط �ضجيج الباحة ‪ ..‬كان هو‪ ،‬يقف‬
‫على اجلانب الآخر من ال�سور داخل الباحة‪ ،‬تعلو وجهه ابت�سامة‬
‫عري�ضة‪ ،‬ف�ضحكت واجتهت �إىل داخل الباحة يف اجتاهه‪ ،‬حتى اقرتبت‬
‫�صامتي لهنيهة‪ ،‬قبل �أن‬
‫ْ‬ ‫منه ومل يعد بيننا �إال خطوة واحدة‪ ،‬فوقفنا‬
‫ينطق‪:‬‬
‫ كان الطريق �إىل هذه البوابة مزدح ًما للغاية فدلفتُ �إىل الباحة‬
‫إليك ‪..‬‬
‫عرب البوابة اجلنوبية‪ ،‬وتخطيت احل�شود حتى �أ�صل � ِ‬
‫فهززت ر�أ�سي با�سم ًة دون �أن �أنطق‪ ،‬كنت �أ�شعر �أن وجهي ي�شع‬
‫�صهدً ا حتى كدت �أ�س�أله �إن كان وجهي حمم ًرا �أم ال ‪..‬‬
‫كانت املرة الأوىل يف حياتي التي �ألتقي فيها �شا ًبا و�أحدثه وج ًها‬
‫لوجه‪ ،‬و�أي �شاب ! ‪ ..‬ال�شاب نف�سه الذي تع ّلق به قلبي منذ �سنوات يف‬
‫ذلك املكان نف�سه ‪ ..‬دون �أن �أعرف ا�سمه �أو �صوته �أو �أي �شيء عنه ‪..‬‬
‫ح ّرك يده �أمامي بعدما طال �صمتي ك�أنه يت�أكد �أنني ما زلت واعية‪،‬‬
‫ف�ضحكت‪ ،‬فقال وهو ينظر �إىل ثيابي‪:‬‬
‫ ف�ستا ٌن جميل ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫قلت يف خجل‪:‬‬
‫ ح ًقا؟!‪..‬‬
‫قال با�س ًما‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬تبدين جميلة للغاية ‪..‬‬
‫بوجه �أكرث احمرا ًرا‪:‬‬
‫قلت ٍ‬
‫ �شك ًرا ‪..‬‬
‫كان النا�س يوا�صلون تدفقهم �إىل الباحة‪ ،‬وارتطم بنا �أكرث من‬
‫�شخ�ص‪ ،‬فقال ندمي‪:‬‬
‫ هيا بنا ‪..‬‬
‫فاوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ �أي مكان تف�ضلني؟‬
‫قلت و�أنا �أ�شري بيدي �إىل منت�صف الباحة‪:‬‬
‫متاما ‪..‬‬
‫ املنت�صف ً‬
‫فوجدته مي�سك بيدي‪ ،‬ثم بد�أنا ن�شق احل�شود �إىل و�سط الباحة‬
‫يف �صعوبة �شديدة ‪ ..‬كان ذلك املكان الأن�سب لنا ‪ ..‬بعيدً ا عن املكان‬
‫الذي ّ‬
‫يف�ضله �أبي مبقدمة الباحة‪ ،‬كما �أنه يتو�سط البوابتني ال�شرقية‬
‫والغربية الو�سطتني �إن �أردنا الرحيل يف �أي حلظة ‪ ..‬كان ندمي يعتذر‬
‫�إن ارتطمت قدمه ب�أي �شخ�ص‪ ،‬وبينما كان يعتذر هو كانت العيون‬
‫‪‬‬
‫تتفح�صني �أنا‪ ،‬مما زاد توتري ‪ ..‬حتى توقفنا يف منت�صف الباحة‬
‫خلف رجلني ق�صريين ‪ ..‬ثم دقت الطبول‪ ،‬فهد�أ �ضجيج احلا�ضرين‪،‬‬
‫فقلت لندمي‪:‬‬
‫  �ستبد�أ مرا�سم �إحدى الزيجات الآن ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  مل � ِآت �إىل الباحة منذ �أعوام ‪..‬‬
‫ف�س�ألته بتلقائية‪:‬‬
‫ ملاذا ؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ ي�ستغرق طريقي �إىل هنا وقتًا ً‬
‫طويل ‪ ..‬وكانت �أمي مري�ضة‬
‫دائ ًما ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ اها ‪..‬‬
‫ثم نظرت �إىل القائم اجلانبي الطويل الذي كان يت�شبث بقمته قبل‬
‫�ستة �أعوام ‪ ..‬كانت راية بي�ضاء كبرية قد ُعلقت على قمته ‪ ..‬فقلت‬
‫�ضاحك ًة و�أنا �أ�شري نحوها‪:‬‬
‫ �أتتذكر مكانك �أم ن�سيت؟‬
‫فقال �ضاح ًكا وهو ينظر جتاهها‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ بكل ت�أكيد ‪..‬‬
‫ثم �س�ألني بعدما ح ّول ب�صره �إىل املن�صة‪:‬‬
‫ هل يعرف النا�س ماذا �سيحدث على املن�صة اليوم ؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ال ‪..‬‬
‫و�أردفتُ ‪:‬‬
‫ لكن �إن مل يكن هناك زواج �أو �إعدام �أحد املجرمني لن تخلو‬
‫املن�صة من عرو�ض املهرجني والبهلوانات والفرق الراق�صة ‪..‬‬
‫�سيبقى اليوم ممت ًعا على �أي حال ‪� ..‬إنه يوم عيدنا ح ًقا ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫أنك حتبني هذا املكان كث ًريا ‪..‬‬
‫ �أرى � ِ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫وكان القا�ضي الكبري الذي يقرتب عمره من اخلم�سني قد �صعد‬
‫�إىل مقعده على جانب املن�صة الأمين بعد �صعود اثنني من م�ساعديه‪،‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫ �أتريد �أن �أخربك �س ًرا؟‬

‫‪‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قلت و�أنا �أ�شري �إىل القا�ضي‪:‬‬
‫ �إن هذا حلمي ‪..‬‬
‫و�أكملتُ ‪:‬‬
‫ �أريد �أن التحق باملدر�سة العليا لدار ق�ضاء چارتني لأ�صبح‬
‫قا�ضية املن�صة ذات يوم ‪..‬‬
‫فابت�سم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �ست�صبحني �أ�شهر امر�أة بچارتني � ًإذا ‪..‬‬
‫فقلت �ضاحك ًة‪:‬‬
‫ �س�أ�سعى �إىل ذلك بكل ت�أكيد ‪..‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫  �سيكون ذلك �شي ًئا ي�سعدين ‪..‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫  وما حلمك ؟‬
‫ز ّم �شفتيه و�صمت ً‬
‫قليل قبل �أن يقول‪:‬‬
‫ ال �أعلم ‪ ..‬مل �أمتلك حل ًما بعد ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫�س�ألته يف تعجب‪:‬‬
‫ ح ًقا؟!‬
‫قال مفك ًرا‪:‬‬
‫لدي حلم ‪..‬‬
‫ انتظري ‪ّ ..‬‬
‫�س�ألته علي الفور‪:‬‬
‫ ما هو؟‬
‫قال با�س ًما‪:‬‬
‫ �س�أخربك به الح ًقا ‪..‬‬
‫فقلت يف غيظ‪:‬‬
‫ لقد �أخربتك عن حلمي ‪� ..‬أريد �أن �أعرف حلمك ‪..‬‬
‫فقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ الح ًقا الح ًقا ‪..‬‬
‫فزممت �شفتي مازحة ‪ ..‬ثم بد�أت املو�سيقا يف عزف حلن �أعرفه‬
‫عن ظهر قلب‪ ،‬وبد�أ احلا�ضرون بالت�صفيق املتنا�سق مع ذلك اللحن‪،‬‬
‫وبد�أت �أ�صفق بيدي مثلهم ‪ ..‬ف�ضحك ندمي‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ زوا ٌج �أم �إعدام؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ زوا ٌج بالطبع ‪..‬‬
‫ً‬
‫�سروال رماد ًيا ‪..‬‬ ‫ثم �صعد �إىل املن�صة �شاب عاري ال�صدر يرتدي‬
‫مي�سك بيد عرو�سه التي ترتدي ف�ستا ًنا �أبي�ض عاري الكتفني ‪ ..‬قبل‬
‫�أن يقفا �أمام اجلميع على املن�صة‪ ،‬ثم ركعا على ركبتيهما‪ ،‬ف�ضجت‬
‫ري من‬ ‫احل�شود بالتهليل والت�صفيق‪ ،‬ود ّوت ال�صافرات التي �أطلقها كث ٌ‬
‫ال�شبان بالباحة ‪ ..‬ثم نه�ض القا�ضي الكبري وحترك على املن�صة يف‬
‫اجتاه احلافة القريبة من اجلمهور ‪ ..‬و�أعلن ب�صوته الذي مل ي�صلنا‬
‫من ال�ضجيج عن زواج ذلك ال�شاب ال�شريف بتلك الفتاة ال�شريفة من‬
‫�أهل چارتني ‪ ..‬لي�صري من بعدهما �أبنا�ؤهما �شرفاء خا�ضعني لقواعد‬
‫چارتني ح ًقا وواج ًبا ‪ ..‬لتعلو املو�سيقا املرحة من جديد‪ ،‬بينما كنت‬
‫�أراقب بعيني ندمي الذي اندمج للغاية مع مرا�سم الزواج حتى �أنه �سكت‬
‫متاما عن احلديث‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ً‬
‫ ما الذي يده�شك �إىل هذا احلد ‪ ..‬لقد تزوج كل �أهل چارتني‬
‫بهذه الطريقة ‪..‬‬
‫قال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ نعم ‪� ..‬أعرف ذلك‪ ،‬مل �أ�شاهد املرا�سم منذ كنت ً‬
‫طفل‬
‫فح�سب‪..‬‬
‫ثم بد�أت عرو�ض فرقة البهلوانات على املن�صة بعد مغادرة‬
‫العرو�سني‪ ،‬كان ثمة مه ّرجني ذوي وجوه ملونة و�شعر م�ستعار يقومون‬
‫بحركات وقفزات م�ضحكة بالتنا�سق مع املو�سيقا اخلا�صة بهم ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كنت قد �شاهدت ذلك العر�ض ع�شرات املرات مثل باقي ح�ضور‬
‫الباحة لكن هذه املرة بالذات كنت �أ�ضحك كث ًريا ك ّلما ر�أيت ندمي‬
‫ي�ضحك على حرك ٍة يقوم بها �أحدهم ‪ ..‬ثم انتهت العرو�ض ال�ضاحكة‬
‫فانطلقت الأبواق املتقاطعة مع دقات الطبول ‪ٌ ..‬‬
‫عزف �آخر نعرفه‬
‫جمي ًعا ‪..‬‬
‫مرا�سم �إعدام �أحد املذنبني ‪ ..‬فهد�أ �ضجيج احلا�ضرين مرة‬
‫�أخرى‪ ،‬ثم �صعد �إىل املن�صة مع انتهاء العزف زو ٌج من اجلنود ‪..‬‬
‫يج ّرون امر�أة مغطاة الر�أ�س بغطاء قما�شي �أ�سود‪ ،‬وتوقفوا مبنت�صف‬
‫املن�صة ثم قام �أحدهما بنزع غطاء الر�أ�س‪ ،‬فان�سدل �شعرها على‬
‫وجهها‪ ،‬قبل �أن ينه�ض القا�ضي جمددًا ‪ ..‬و ُيلقي خطا ًبا جديدً ا لي�صعد‬
‫�ضابط �إعدام الباحة �إىل املن�صة ‪� ..‬أو ما ن�سميه «رامى املن�صة»‪ ،‬ويقف‬
‫منت�ص ًبا كالقائم على ُبعد خطوات من تلك املر�أة ينظر �إىل احل�شود‬
‫لي�سود ال�صمت كافة الأرجاء‪ ،‬فهم�ستُ �إىل ندمي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �ست�سمع الآن �صوت البارود‪ ،‬ومن بعده �ست�سمع �إحدى الزغاريد‬
‫ملن ح�صدت روح هذه املر�أة لطفلها ‪..‬‬
‫قال وهو يرتقب املن�صة‪:‬‬
‫ �أعرف ذلك ‪ ..‬ل�ست غري ًبا عن هذا البلد ‪� ..‬إنني چارتيني �أنا‬
‫الآخر ‪..‬‬
‫فقلت مازحة‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ ح�س ًنا �أيها الچارتيني ‪ ..‬تو ّقع � ًإذا من �أي مكان بالباحة �ستُطلق‬
‫الزغرودة ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ال �أدري ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  �أراهنك �أنها �ست�أتي من هناك ‪ ..‬و�أ�شرتُ ناحية �شرق املقدمة‪،‬‬
‫فقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫  وما قيمة رهانك � ًإذا ؟‬
‫�سكتُ ثم قلت‪:‬‬
‫  مل �أفكر بقيمة الرهان ‪ ..‬مل �أراهن �أحدً ا من قبل ‪ ..‬لكن اخرت‬
‫مكا ًنا و�إن فزت �س�ألبي لك �أي طلب‪.‬‬
‫مكر‪:‬‬
‫قال يف ٍ‬
‫ �أي طلب ؟!‬
‫قلت بثقة‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ح�س ًنا ‪� ..‬ستُطلق الزغرودة من منت�صف الباحة ‪ ..‬على ُبعد‬
‫خطوات قليلة منا ‪ ..‬و�أ�شار ناحية مييننا‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ �سرنى ‪..‬‬
‫و مل متر حلظات حتى انتهى القا�ضي من كلمته‪ ،‬وا�ستدار الرامي‬
‫نحو املذنبة‪ ،‬ورفع يده ب�سالحه الناري قبل �أن يدوي �صوت البارود يف‬
‫�سماء الباحة وي�سقط ج�سد املر�أة �صري ًعا مبو�ضعه‪ ،‬ومعه ازداد ال�صمت‬
‫�صمتًا ‪ ..‬وك�سا الرتقب وجوه َمن بالباحة‪ ،‬قبل �أن يقطع ذلك ال�سكون‬
‫زغرودة عالية طويلة �أُطلقت مبنت�صف الباحة على بعد خطوات من‬
‫متاما ‪ ..‬فنظرت �إليه يف باله ٍة‬
‫اجلهة اليمنى لنا ‪ ..‬كما �أ�شار ندمي ً‬
‫غري م�صدقة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ لقد ربحتُ الرهان � ًإذا ‪..‬‬
‫كانت الده�شة ال تزال تعرتي وجهي‪ ،‬ف�أردف‪:‬‬
‫ الآن �أريد جائزتي ‪..‬‬
‫ف�أوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا يف انتظار ما يطلبه ‪ ..‬فقال وهو ي�شري نحو‬
‫اجلهة التي �أُطلقت منها الزغرودة‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ انظري هناك ‪..‬‬
‫فالتفتُ نحو ما �أ�شار �إليه ‪ ..‬فطبع على خدي الأي�سر ُقبلة ‪ ..‬وانطلق‬
‫جر ًيا بني احل�شود‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)9‬‬

‫ق ّبلني ندمي وانطلق ً‬


‫راك�ضا بني احل�شود‪ ،‬ثم توقف على بعد �أمتار‪،‬‬
‫وارتقى بر�أ�سه بني الر�ؤو�س‪ ،‬و�صاح �إ ّ‬
‫يل‪:‬‬
‫  �سنلتقي يوم الغفران القادم مثلما التقينا اليوم‪ ،‬و�أردف‬
‫ب�صوته العايل وهو يل ّوح بيده‪:‬‬
‫  �أجازة مدر�سية �سعيدة ‪..‬‬
‫كان الذهول ال يزال منطب ًعا على وجهي �إثر قبلته املفاجئة‪ ،‬وحني‬
‫�أفقتُ من ذهويل كان قد اختفى ومل يعد له �أثر‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫يوما ان�شغلت‬
‫ثم بد�أت الأجازة املدر�سية يومنا التايل ‪ ..‬ثالثون ً‬
‫بها مع �أمي ب�أعمال املنزل نها ًرا‪ ،‬وق�ضيت �أم�سياتي مع �أبي نناق�ش كل‬
‫فتاي‬
‫ليلة كتا ًبا من كتب مكتبته‪� ،‬أما �أوقات ما قبل النوم فقد انفرد بها ّ‬
‫يوما وراء يوم دون �أن يتغري �أي �شيء‪ ،‬حتى جاء‬‫كامل ًة ‪ ..‬ومرت الأيام ً‬
‫يوم الأجازة الأخري الذي وافق يوم الغفران اجلديد ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫حتججتُ �إىل �أبي و�أمي بحجة ال �أتذكرها ‪� ..‬أعتقد �أنني �أخربتهم‬
‫عن اتفاق جديد مع زميالتي ب�أن نكرر لقاءنا يوم الغفران ال�سابق ‪..‬‬
‫كان �أبي مرح ًبا كعادته خا�ص ًة �أنني �أظهرت �أنني قد اكت�سبت �صديقات‬
‫جددًا وهو الأمر الذي كان يراه جيدً ا ‪..‬‬
‫يحتاج املرء يف چارتني �إىل �أ�صدقاء يف مثل عمره على الدوام ‪..‬‬
‫عند وقت ما لن يبقى �أي من الوالدين �أو الأقارب الأكرب �س ًنا ‪ ..‬لكن‬
‫�أمي �أ�صرت تلك املرة �أن �أرافقهما بعربة �أبي �إىل الباحة ‪ ..‬وهناك‬
‫ميكنني �أن �أفرتق عنهما‪ ،‬على �أن �أعود �إليهما مع انتهاء مرا�سم‬
‫اليوم ‪ ..‬فقبلتُ مبا قالته ‪ ..‬ثم اجتهت مبجرد و�صويل جنوب الباحة‬
‫�إىل املكان ذاته الذي التقيت به ندمي قبل �شهر ‪ ..‬البوابة ال�شرقية‬
‫الو�سطى‪ ،‬فوجد ُته يف انتظاري‪� .‬ضحك حني ر�آين �أقرتب منه‪ ،‬فقلت‬
‫حم ّذرة له ب�سبابتي بعدما مد يده لي�صافحني‪:‬‬
‫  ال قبالت ‪..‬‬
‫فوا�صل �ضحكه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫عليك �أن تك�سبي الرهان � ًإذا ‪..‬‬
‫  ِ‬
‫ف�ضحكت‪ ،‬ثم �سرنا �سو ًيا �إىل داخل الباحة جتاه منت�صفها ‪ ..‬مل‬
‫إعداما واحدً ا ذلك اليوم ‪ ..‬بل كان �إعدام ثالثة مذنبني جميعهم‬
‫يكن � ً‬
‫رجال ‪ ..‬ومل يكن هناك زواج‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫  �أتعرف ملاذا يكرث الرجال عن الن�ساء يف الن�ساىل؟‬
‫قال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫  ملاذا؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ لأن معظم املذنبني رجال ‪..‬‬
‫و�أكملت مو�ضح ًة‪:‬‬
‫  تذهب روح املعدوم الذكر للجنني الذكر ‪ ..‬وكذلك روح الأنثى‬
‫للأنثى ‪ ..‬لوال تلك الن�ساء الالتي يرتكنب جرمية كل ب�ضعة‬
‫�أ�شهر ملاتت معظم الأجنة الإناث‪.‬‬
‫قال بغري اقتناع‪:‬‬
‫ رمبا ‪..‬‬
‫ثم �أ�ضاف‪:‬‬
‫ �إنه قد ٌر لي�س �إال ‪..‬‬
‫قلت �ساخرة‪:‬‬
‫ ح�س ًنا �أيها احلكيم ‪ ..‬من �أي املناطق تتوقع �أن تنطلق الزغاريد‬
‫الثالثة اليوم؟‬
‫�صمت مفك ًرا ‪ ..‬ثم قال بجدية‪:‬‬
‫ ميني املقدمة ‪..‬‬
‫و�أ�شار بيده �إىل هناك‪ ،‬ثم تابع‪:‬‬

‫‪‬‬
‫  وي�سار املنت�صف ‪ -‬و�أ�شار �إىل ي�سارنا ‪ -‬كانت امر�أة حامل تقف‬
‫على بعد خطوات منا ‪ ..‬ر�أيتها تنظر برتقب بالغ نحو املن�صة‬
‫دون �أن يرم�ش لها جفن ‪..‬‬
‫ثم �صمت ً‬
‫قليل مرة �أخرى‪ ،‬وقال هاد ًئا بعدها‪:‬‬
‫  وجنوب الباحة ‪ ..‬لكني ال �أدري ي�سارها �أم ميينها ‪..‬‬
‫قلت له �ضاحكة‪:‬‬
‫ عليك �أن حتدد و�إال تخ�سر رهانك ‪..‬‬
‫قال با�س ًما‪:‬‬
‫  ي�سارها � ًإذا ‪ ..‬لكني لن �أرتّب لك �أي منهم �ستنطلق بالبداية‪،‬‬
‫أنت ماذا تتوقعني؟!‬‫و� ِ‬
‫�ضحكتُ وقلت‪:‬‬
‫�صحيحا مثل‬
‫ً‬ ‫  ال ‪ ..‬لن �أتوقع‪� ،‬س�أرى فقط �إن كان توقعك اليوم‬
‫املرة ال�سابقة �أم ال ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  و�إن فزت؟!‬
‫قلت مازحة‪:‬‬
‫  �س�أ�ضع يدي على خدي وقتها ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم دوى �صوت الر�صا�صة الأوىل‪ ،‬وهد�أت الأ�صوات من حولنا قبل‬
‫�أن تنطلق زغرودة من ال�سيدة بجانبنا حيث �أ�شار ندمي ‪ ..‬ف�ضحك‬
‫بثقة‪ ،‬و�أنا ال �أ�ص ّدق �أن ذلك قد حدث ‪ ..‬ثم ُجر القتيل الأول �إىل خارج‬
‫املن�صة ‪ ..‬وبعد حلظات د ّوت الر�صا�صة الثانية‪ ،‬فانطلقت زغرودة‬
‫باملقدمة لكني مل �أ�ستطع حتديد من �أي جهة انطلقت‪ ،‬اجلهة اليمنى‬
‫�أم الي�سرى‪ ،‬لكنها جاءت من املقدمة على �أي حال كما تو ّقع‪ ،‬ثم‬
‫د ّوت الطلقة الثالثة‪ ،‬و�ساد ال�صمت �أرجاء الباحة يف انتظار انطالق‬
‫الزغرودة الأخرية‪ ،‬لكن ال�صمت قد طال دون �أن تنطلق �أي زغرودة‪،‬‬
‫فقال با�س ًما وهو ينظر �إ ّ‬
‫يل‪:‬‬
‫  لقد خذلني اجلنوب ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫مظلوما ‪ ..‬لقد ارتاحت روحه‬
‫ً‬ ‫ �إنها روح طاهرة ‪� ..‬أعتقد �أنه كان‬
‫للأبد ‪..‬‬
‫فهز ر�أ�سه �إيجا ًبا يف �صمت وهو ينظر �إىل جثة املعدوم الأخري ‪ ..‬ثم‬
‫�ضجيجا‬
‫ً‬ ‫بد�أت الهمهمات من حولنا‪ ،‬وزادت �شي ًئا ف�شي ًئا حتى �صارت‬
‫أرواحا‬
‫وا�ضحا �أنهم قد جتاهلوا �أمر ال�سيدتني اللتني ح�صدتا � ً‬
‫ً‬ ‫‪ ..‬كان‬
‫لأطفالهما و�صار حديثهم جمي ًعا عن الروح الثالثة التي ُج ِنبت العار ‪..‬‬
‫وكانت ال�شم�س قد حتركت عن منت�صف ال�سماء بقليل عندما دقت‬
‫املو�سيقا لتعلن عن بدء عرو�ض فرقة البهلوانات‪ ،‬ف�أم�سك ندمي بيدي‬
‫ووجدته ي�سري بي ناحية البوابة ال�شرقية الو�سطى التي دلفنا عربها‬
‫قبل �ساعات‪ ،‬ف�س�ألته متعجبة‪:‬‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫ ما الأمر؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫  هناك مرج رائع بجوار الباحة تفقدته قبل �أيام ‪..‬‬

‫�سرنا عرب املرج ال�شرقي الذي يف�صل الباحة عن النهر اجلاف ‪..‬‬
‫هب ن�سيم منع�ش ُممل برائحة زهوره الربية ف�أدركتُ معه �أن‬ ‫وهناك ّ‬
‫متاما ‪ ..‬حتى توقفنا على �ضفة‬‫اختيار ندمي لذلك املكان كان �صائ ًبا ً‬
‫النهر اجلاف ‪ ..‬مل يكن يتواجد هناك وقتها �سوانا‪ ،‬ثم جل�س �صديقي‬
‫مو�ضعه على حافة ال�ضفة‪ ،‬و�أ�شار يل �أن �أجل�س بجواره‪ ،‬فجل�ست‪ ،‬و�ساد‬
‫ال�صمت ً‬
‫قليل قبل �أن �أ�س�أله بجدية‪:‬‬
‫ كيف تعرف �أماكن انطالق الزغاريد؟!‬
‫فقال‪:‬‬
‫  �صدفة لي�س �إال ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  ال �أ�صدق ذلك ‪ ..‬ال ت�صيب ال�صدفة على الدوام ‪..‬‬
‫قال با�س ًما‪:‬‬
‫  ح�س ًنا ‪ ..‬لقد خذلت �إحدى الأرواح �صدفتي ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫روحا �آثمة حل�صدتها حبلى تقف باجلنوب‬
‫  �أعتقد �أنها لو كانت ً‬
‫كما توقعت ‪..‬‬
‫قال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ ل�ست عرا ًفا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪� ،‬سرنى ذلك �أيام الغفران القادمة ‪..‬‬
‫فهز ر�أ�سه با�س ًما قبل �أن ُيلقي بحجر �صغري جتاه الربزخ �أمامنا‪،‬‬
‫فتدحرج حتى ا�ستقر �أ�سفل منا بعيدً ا ‪ ..‬فقلت و�أنا �أنظر �إليه‪ ،‬وكنت قد‬
‫�ضممت ركبتي �إىل �صدري و�أحطتهما بذراعي‪:‬‬
‫  هل ر�سبت ح ًقا من �أجلي؟!‬
‫هز ر�أ�سه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫فابت�سمت واحم ّر وجهي‪ ،‬ونظرت بعيدً ا �إىل البيوت املتال�صقة على‬
‫اجلانب الآخر من النهر اجلاف‪ ،‬وقلت بعدما �صمتُ لربهة‪:‬‬
‫  كيف جاءتك تلك الفكرة ‪ ..‬فكرة املحادثة املكتوبة ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  قفزت يف خيايل فج�أة حني وقفت لك بجوار النافذة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫فقلت �ضاحكة و�أنا �أتذكر ذلك اليوم‪:‬‬
‫ متهور‪..‬‬
‫ثم لكمت كتفه بلطف‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �إياك �أن تفعل ذلك مرة �أخرى ‪ ..‬خ�شيتُ �أن يراك �أحد‬
‫املعلمني‪..‬‬
‫يل ‪ ..‬فو�ضعت يدي على خدي بعدما �شعرت �أنه‬ ‫ف�ضحك ونظر �إ ّ‬
‫ينوي تقبيلي مرة �أخرى ‪ ..‬فعاد بب�صره �إىل اجلانب الآخر من ال�ضفة‬
‫‪ ..‬فرفعتُ يدي عن وجهي‪ ،‬و�س�ألته‪:‬‬
‫  ماذا يعمل والدك؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ لقد مات منذ �أعوام ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  القاعدة الأوىل؟!‬
‫زاما �شفتيه‪:‬‬
‫لثوان ك�أنه يتذكر‪ ،‬ثم هز ر�أ�سه وقال ً‬
‫�صمت ٍ‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قلت يف حزن‪:‬‬
‫  �سيموت �أبي �أي�ضا طب ًقا لها ‪ ..‬و�أردفتُ ‪:‬‬

‫‪‬‬
‫  و�أمك ماذا تعمل؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ �إنها مزارعة ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  ال تعمل �أمي ‪ ..‬تهتم ب�شئون بيتنا فح�سب ‪..‬‬
‫ابت�سم �شاردًا كعادته ذلك النهار ومل يقل �شي ًئا ‪ ..‬فقاطعت �شروده‪،‬‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ �سنعود �إىل مالذنا غدً ا ‪ ..‬التختة اخل�شبية ‪..‬‬
‫ف�ضحك وقال‪:‬‬
‫ يوم غفران واحد �أف�ضل من عام كامل من املحادثة املكتوبة ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫متاما ‪..‬‬
‫  �أوافقك ً‬
‫ثم وثبتُ من مو�ضعي عندما توقفت �أ�صوات املو�سيقا البعيدة‬
‫ال�صادرة من الباحة ‪ ..‬وقلت و�أنا �أبتعد عنه مهرولة‪:‬‬
‫ لقد انتهى يوم الغفران ‪ ..‬قالت �أمي �أنها �ستنتظرين ب�ساحة‬
‫العربات لنغادر �سو ًيا ‪..‬‬
‫وهرعتُ عرب املرج جتاه الباحة دون �أن انتظره كي ي�أتي معي‪،‬‬
‫ف�صاح �إ ّ‬
‫يل‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ هل نلتقي يوم الغفران القادم؟‬

‫‪9‬‬
‫فا�ستدرت �إليه و�أنا �أجري‪ ،‬و�صحت‪:‬‬
‫  بكل ت�أكيد ‪..‬‬
‫ثم وا�صلتُ طريقي م�سرعة‪.‬‬

‫عدنا �إىل لقاء الأعني وحمادثاتنا املكتوبة مع بدء الدرا�سة‬


‫جمددًا ‪ ..‬مل يعد حديثنا املكتوب مقت�ص ًرا على مغازالته يل فح�سب‪،‬‬
‫تو�سع لنتحدث عن مدن چارتني الأخرى‪ ،‬و�أيام الغفران التي �صارت‬ ‫بل ّ‬
‫مبثابة املكاف�أة ال�شهرية التي تنتظر كلينا نهاية كل �شهر ‪..‬‬
‫و�صارت ال�ضفة الغربية للنهر اجلاف وجهتنا كل يوم غفران بعد‬
‫انتهاء مرا�سم الإعدام‪ .‬جنل�س هناك‪ ،‬وت�سمع �آذاننا �أ�صوات املو�سيقا‬
‫ال�صادرة من الباحة خلفنا بعيدً ا‪ ،‬فنعرف ماذا يدور على من�صتها‬
‫دون �أن نتواجد بداخلها ‪ ..‬و�شي ًئا ف�شي ًئا �صرنا نلتقي عند البوابة‬
‫وبدل من الدخول �إىل الباحة‬ ‫ال�شرقية الو�سطى �صباح �أيام الغفران ً‬
‫كنا نتجه على الفور عرب املرج ال�شرقي �إىل هناك دون �أن نق�ضي دقيقة‬
‫واحدة داخل الباحة ‪ ..‬ثم نفرتق عندما تتوقف املو�سيقا عن العزف مع‬
‫اقرتاب ال�شم�س من املغيب ‪..‬‬
‫�شهر وراء الآخر �صار عقلي م�ؤم ًنا ً‬
‫متاما �أن قواعد بالدي الأوىل‬
‫قد ُو�ضعت ليجد ك ٌل منا رفيقه الذي ُيكمل معه حياته بعد رحيل والديه ‪..‬‬
‫و�صار قلبي مطمئ ًنا ً‬
‫متاما �أنّ ذلك الفتي اليافع الذي �أواعده هو خليل‬
‫‪‬‬
‫�سنواتي اخلم�س والثالثني املتبقية من عمري �إن ُكتب يل العي�ش �إىل‬
‫اخلم�سني دون مر�ض ‪ ..‬وتعالت الأ�صوات بداخلي تطالبني ب�أن �أعلن‬
‫له عن حبي �صراح ًة داخل �أ�سوار الباحة بعدما مل �أفعلها طوال الأ�شهر‬
‫املا�ضية‪.‬‬
‫ثم ح ّل يوم الغفران احلادي ع�شر لذلك العام‪ ،‬ويف الطريق �إىل‬
‫هناك كان ل�ساين ينطق بكلمة واحدة بيني وبني نف�سي؛ «�أحبك» ‪ ..‬ثم‬
‫التقيته مبكاننا املعهود عند بوابتنا ال�شرقية‪ً ،‬‬
‫وبدل من اجتاهنا �إىل‬
‫�ضفة النهر اجلاف كعادتنا ‪� ..‬أم�سكتُ بيده ودلفتُ به �إىل الباحة‪،‬‬
‫متاما ‪ ..‬كان ال�ضجيج من حولنا �صاخ ًبا‬
‫وحتركت به �إىل منت�صفها ً‬
‫‪ ..‬فانتظرت بدء مرا�سم املن�صة كي تهد�أ الأ�صوات من حولنا‪ ،‬بعدها‬
‫�أخربه �صراح ًة بحبي ‪..‬‬
‫مل يتحدث كث ًريا كعادته ومل �أحتدث �أنا الأخرى ك�أن ا�ضطرا ًبا‬
‫داخل ًيا قد �أن�ساين الكلمات جميعها ‪ ..‬ثم بد�أت املرا�سم بزواجني ‪..‬‬
‫كنت �أنظر �إليه بطرف عيني وهو ي�صب كل تركيزه نحو املن�صة ‪ ..‬دون‬
‫�أن يلتفت �إ ّ‬
‫يل حتى ‪ ..‬ثم تب ّدلت املو�سيقا لتبد�أ مرا�سم �إعدام �سيدة‬
‫مذنبة ‪ ..‬ف�س�ألته مازحة عن �أي مكان �ستنطلق منه الزغرودة‪� ،‬أجابني‬
‫واج ًما ب�أنه ال يعرف ‪ ..‬ثم طالبني ب�أن نذهب �إىل خارج الباحة ‪..‬‬
‫ف�س�ألته �أن ننتظر ً‬
‫قليل حتى تتم عملية الإعدام‪ ،‬لكنه �أ�صر �أن نغادر‪،‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫  لكننا �سنعود �سو ًيا قبل انتهاء املرا�سم ‪..‬‬
‫هز ر�أ�سه �إيجا ًبا ‪ ..‬ف�سرت بجانبه مم�سكة بيده‪ ،‬وتخطينا من‬
‫حولنا حتى و�صلنا ب�صعوبة �إىل البوابة ال�شرقية الو�سطى ‪ ..‬واجتهنا‬
‫‪‬‬
‫نحو مكاننا على �ضفه النهر اجلاف ‪ ..‬وبينما كنا نعرب املرج �صامتني‬
‫دوى �صوت البارود‪ ،‬فالحظت �أنه �أجفل على غري عادته ‪ ..‬فتعجبتُ‬
‫داخل نف�سي‪ ،‬لكني وا�صلت طريقي دون �أن �أنطق ‪..‬‬
‫كان �صامتًا �صمتًا غري ًبا مل �أعتده من قبل ‪ ..‬فجال بخاطري �أنه‬
‫�سيخربين هو الآخر عن حبه يل‪ ،‬يقولون �أن املحبني يفكرون بالطريقة‬
‫ذاتها ‪� ..‬إىل �أن و�صلنا �إىل �ضفة النهر‪ ،‬وهناك وا�صل �صمته‪ ،‬فقلت يف‬
‫تعجب‪:‬‬
‫ جئنا لن�صمت ‪ ..‬ها؟!‬
‫مل يقل �شي ًئا‪ ،‬ونظر بعيدً ا �إىل اجلانب الآخر من النهر اجلاف‪،‬‬
‫ف�أكملتُ متذمرة‪:‬‬
‫ ح�س ًنا لنعد �إىل الباحة ‪..‬‬
‫قال بلهجة جادة‪:‬‬
‫ ال �أريد �أن �أعود �إىل هناك ‪..‬‬
‫فزممتُ �شفتي‪ ،‬و�سكتُ �أنا الأخرى حتى نطق‪:‬‬
‫  لقد وعدتك من قبل ب�أن �أخربك م�سب ًقا �إن ا�ضطررت للرحيل‪..‬‬
‫فدق قلبي بقوة‪ ،‬و�س�ألته‪:‬‬
‫  هل �سرتحل؟!!‬
‫قال بهدوء‪:‬‬

‫‪‬‬
‫  نعم ‪� ..‬س�أرحل نهاية الأ�سبوع القادم ‪..‬‬
‫قلت يف ا�ستغراب‪ ،‬و�أنا بالكاد �أمتالك نف�سي‪:‬‬
‫ ملاذا؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ �س�أرحل فح�سب ‪ ..‬لن يفيدك معرفة ال�سبب يف �شيء ‪..‬‬
‫ف�صرخت به‪:‬‬
‫  �أريد �أن �أعرف ال�سبب ‪ ..‬و�أردفتُ و�أنا �أ�صرخ به‪:‬‬
‫ مل يعد قرار الرحيل قرارك وحدك ‪..‬‬
‫ف�سكت برهة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ �س�أمت عامي ال�ساد�س ع�شر نهاية الأ�سبوع القادم ‪..‬‬
‫وتابع بعد حلظة‪:‬‬
‫علي القواعد ‪..‬‬
‫  لقد وجبت ّ‬
‫�س�ألته بعدما مل �أفهم مق�صده‪:‬‬
‫ �أي قواعد؟!‬
‫�سكت حلظة �أخرى نظر فيها بعيدً ا نحو الباحة بعينني ملتمعتني‬
‫بالدموع‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫ قواعد چارتني ‪..‬‬
‫ثم فك �أزرار قمي�صه ليك�شف �صدره ‪ ..‬كان ثمة و�شم �أزرق على‬
‫جانبه الأي�سر فوق القلب مبا�شرة ‪ ..‬مل يكن �إال و�شم الن�ساىل‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)10‬‬
‫«فاضل»‬

‫كانت ال�سماء �صافية على غري العادة يف هذا الوقت من ف�صل‬


‫ال�شتاء عندما �شرعتُ يف حزم �أمتعتي ملرا َفقة دميا ‪ -‬املري�ضة الوحيدة‬
‫التي زارتني قبل �أ�سبوع ‪ -‬يف رحلتها �إىل بلدها چارتني ‪ ..‬بعدما �أر�سلتُ‬
‫كي�سا �آخر‬
‫�إليها ردي باملوافقة مع ر�سولها الغجري الذي جاءين يحمل ً‬
‫من النقود الذهبية‪.‬‬
‫وما �إن انتهيتُ من حزم �أغرا�ضي حتى د�س�ستُ بحقيبتي ثالث‬
‫زجاجات كربى من الأع�شاب امل�سالة املهدئة‪ ،‬كنت قد فكرتُ يف‬
‫�إعطائها �إليها كجرعات على مدار الطريق وفق �أوقات منتظمة لتجنب‬

‫‪9‬‬
‫�أي نوبة من نوبات ال�صرع‪ ،‬ثم �أعطيتُ �صالح خم�س قطع ذهبية‬
‫نظري ح�سن �ضيافته يل بالأيام ال�سابقة‪ ،‬وحملتُ حقيبتي‪ ،‬واجتهتُ‬
‫�إىل مدخل الوادي حيث �أخربين ر�سولها ب�أن عربة جمرورة بح�صان‬
‫متاما ‪..‬‬
‫�ستكون يف انتظاري هناك وقت الظهرية ً‬

‫‪‬‬
‫كان يف انتظاري �سائق العربة‪ ،‬رجل �آخر ثالثيني غليظ الوجه‪،‬‬
‫يرتدي �سرتة �سوداء بدون �أكمام تظهر ع�ضالته ال�ضخمة ‪� ..‬س�ألني‬
‫ب�صوت �أج�ش حني اقرتبتُ منه‪:‬‬
‫ الطبيب؟!‬
‫قلت و�أنا �أ�ضع حقيبتي على �سطح العربة‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫كانت العربة ُمملة بحقائب قما�شية و�أجولة احتلت الن�صف‬
‫اخللفي من �سطحها بالكامل‪ ،‬ف�أدركتُ �أن دميا قد وفرت لنا ما يكفينا‬
‫من طعام و�شراب خالل رحلتنا التي �ست�ستغرق �شه ًرا ً‬
‫كامل كما قالت‪،‬‬
‫كما �أن العربة قد ُ�سقفت ب�سقف قما�شي �أبي�ض كان كاف ًيا لوقايتنا من‬
‫حرارة ال�شم�س ‪ ..‬فقلتُ و�أنا �أ�صعد العربة لأجل�س على اجلانب الآخر‬
‫الذي ال يجل�س به ال�سائق‪:‬‬
‫ �أين دميا؟!‬
‫قال‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ �سن�أخدها يف طريقنا من وادي الغجر ‪� ..‬إنها يف انتظارنا‬
‫هناك‪..‬‬
‫ثم لكز ح�صانه‪ ،‬وبد�أت العربة يف حتركها‪ ،‬لتبتعد رويدً ا رويدً ا عن‬
‫ذلك املكان الذي مكثتُ به ُقرابة �شهر‪.‬‬

‫‪‬‬
‫كانت امل�سافة �إىل وادي الغجر كافية لبدء ثرثرة مع ال�سائق‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ ما ا�سمك؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ �ص ّديق ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ وكم تك ّلف الرحلة �إىل چارتني؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ لل�سيدة دميا بدون مقابل ‪..‬‬
‫ثم �أردف‪:‬‬
‫  كانت زوجة �أخينا ‪..‬‬
‫الغجري الذي مات قبل زواجهما‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كنت �أعلم �أنها مل تتزوج ذلك‬
‫لكني يف احلقيقة �أعجبتُ م�ؤقتًا ب�شهامة ذلك الرجل‪ ،‬وبد�أت رهبتي‬
‫من �ضخامته تقل‪ ،‬و�أكملنا ثرثرتنا عن وديان بني عي�سى ك ّلما ظهرت‬
‫�أمامنا �أو على جانبينا جتمعات متناثرة من البيوت �أو الأرا�ضي‬
‫املزروعة‪ ،‬ثم مر مزي ٌد من الوقت قبل �أن تظهر �أمامنا بع�ض اخليام‬
‫املتال�صقة خلف رقعة زراعية �صغرية‪ ،‬ووجد ُته ينحرف بالعربة‬
‫جتاهها‪ ،‬فت�ساءلتُ ‪:‬‬
‫ وادي الغجر؟‬

‫‪‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ �إنها م�شارفه ‪ ..‬ت�سكن تلك اخليام عائلة واحدة‪� ،‬أما الباقي‬
‫فخلف ذلك اجلبل‪ ،‬و�أ�شار نحو جبل كان يظهر يف الأفق ‪..‬‬
‫و�أكمل وهو يتجه بنا نحو اخليام‪:‬‬
‫ لن ن�ضطر للدخول �إىل الوادي نف�سه ‪� ..‬إنها تنتظرنا هناك ‪..‬‬
‫و�أ�شار �إىل اخليام القريبة‪ ،‬ثم اقرتبنا من ذلك املكان‪ ،‬فخرجت‬

‫‪9‬‬
‫لنا دميا على الفور من �إحدى اخليام ‪ ..‬وك�أنها ال تريد �أن ت�ضيع ثانية‬
‫فد�سها‬
‫واحدة �أعطت اللفة القما�شية التي كانت حتملها �إىل �ص ّديق‪ّ ،‬‬
‫بني حقائب العربة‪ ،‬ثم قفزت بخفة �إىل العربة خلفنا‪ ،‬وقالت له‪:‬‬
‫ لنبد�أ طريقنا �إىل چارتني‪.‬‬

‫كنتُ �أمتنى بداخلي لو مررنا بال�سكة احلديدية التي جئت عن‬


‫طريقها �إىل بني عي�سى‪ ،‬لكني حني �س�ألت �ص ّديق �أثناء ثرثرتنا قبل‬
‫مالقاة دميا قال‪:‬‬
‫ ال يعرف الطريق �إليها �إال القليلون ‪ ..‬ل�ستُ واحدً ا منهم‪ ،‬لكن‬
‫مبجرد عودتنا �ساملني مع دميا وطفلها �س�أد ّلك على �أحدهم‪.‬‬
‫و�أنهى حديثه ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫ لكن على كل حال لن نقابل �أي �سكك حديدية حتى �شاطئ بحر‬
‫�أكما ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫ف�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا دون �أن �أحتدث‪ ،‬كنت �أريد فقط االطمئنان‬
‫ب�أن هناك َمن يعرف الطريق �إليها‪ ،‬لكني مل �أكن لأترك دميا و�أعود‬
‫�إىل بلدي قبل �أن �أرافقها يف رحلتها‪ ،‬و�أعود بها �ساملة هي وجنينها كما‬
‫وعدتها ‪..‬‬

‫ظل ال�صمت خمي ًما على العربة بعد التحاق دميا بنا ‪ ..‬مكثت‬
‫الفتاة �شارد ًة �أغلب الأوقات بينما ان�شغل تفكريي ب�أيامي ال�سابقة‬
‫التي ع�شتها بدون �أي عمل حقيقي‪ ،‬وعن خط�أي باملجيء من الأ�سا�س‬
‫�إىل ذلك الوادي‪ ،‬و�أيامي القادمة التي ال �أعرف كيف �ستكون‪ ،‬وبد�أ‬
‫عقلي يك ّون �صو ًرا خمتلفة عن چارتني ‪� ..‬صور ُم�شتتة ُمبهمة مل تكن‬
‫لتثبت �إال بر�ؤيتي لها ‪ ..‬مل �أكن �أدري �إن كانت ت�شبه بالدي التي تقوم‬
‫على بقايا ح�ضارة تال�شت‪� ،‬أم َ�ستُ�شبه وديان بني عي�سى ال�صحراوية‬
‫وبيوتها الفقرية املتناثرة فحدثتُ نف�سي؛ �شه ٌر واحد و�س�أرى بعيني‪� ،‬أما‬
‫�ص ّديق فبد�أ ي�ص ّفر حل ًنا بفمه‪ ،‬وك�أنه �أراد �أن يك�سر �صمتنا اململ‪� ،‬إىل‬
‫�أن غربت ال�شم�س‪ ،‬وح ّل الليل‪ ،‬فتوقف بنا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �سنبيت هنا ‪� ..‬سنتحرك نها ًرا فقط ‪..‬‬
‫م�صباحا زيت ًيا‬
‫ً‬ ‫ثم حرر ح�صان العربة‪ ،‬وربطه مب�ؤخرتها‪ ،‬و�أ�شعل‬
‫يل بقطعة قما�شية ملفوفة وغطاء �صويف‬ ‫كان ُمعل ًقا ب�أ�سفلها‪ ،‬ثم �ألقى �إ ّ‬
‫ثقيل‪ ،‬وفرد قطعة �أخرى لنف�سه بجوار العربة وا�ستخدم �إحدى احلقائب‬
‫كو�سادة‪ ،‬واند�س �أ�سفل غطائه‪ ،‬ففعلتُ مثله‪ ،‬بينما نامت دميا مدثرة‬
‫بغطائها فوق العربة‪ ،‬فتذكرتُ �أع�شابي فنه�ضتُ و�أيقظتها‪ ،‬و�س�ألتُها‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫�أن تتناول ر�شفة واحدة من �إحدى الزجاجات‪ ،‬ثم عدتُ �إىل فرا�شي‬
‫الأر�ضي‪ ،‬ومل يتحدث �أي منا حتى �أ�سدلتُ جفوين‪.‬‬

‫وا�صلنا رحلتنا مع طلوع النهار‪ ،‬ويف �أيامنا التالية بد�أ حديثنا يكرث‬
‫قليل ‪ ..‬حتدثتُ �إىل دميا عن حياتي يف بالدي‪ ،‬بالد النهر القدمي‬ ‫ً‬
‫‪ ..‬تعجبت عندما �أخربتها �أنني مل �أجد فر�صة واحدة للعمل كطبيب‬
‫يف بالدي‪ ،‬و�أخربتني �أنها من �أر�سلت �أحد �أتباع حبيبها بكي�س من‬
‫الذهب �إىل من اختارين لآتي �إىل بني عي�سى‪ ،‬بالطبع مل تكن تق�صدين‬
‫�أنا بالذات ‪ ..‬لكن القدر َمن اختارين‪ ،‬كانت تريد طبي ًبا من بالدنا‬
‫فح�سب ‪ ..‬هناك من �أخربتها عن مهارة �أطبائنا‪ ،‬و�أردفت لتقول‪:‬‬
‫  َمن �أر�سل الذهب �إىل َمن اختارك‪ ،‬هو ذاته الذي �سيعود بك‬
‫�إىل بلدك ‪..‬‬
‫فقلت � ً‬
‫آمل‪:‬‬
‫ �أمتنى ذلك ‪..‬‬
‫ثم حدثتني عن چارتني واحلياة بها‪ ،‬وعن قواعدها الغريبة‬
‫بتفا�صيل �أكرث عن املرة التي حتدثنا بها عنها ‪ ..‬ف�س�ألتُها بت�شكك‪:‬‬
‫نلت ح ًقا روحك بتلك الطريقة؟!‬
‫ هل ِ‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬و�أخي من �أمي كذلك ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫يف احلقيقة �أمام وعد بعودتي �إىل بالدي‪ ،‬وكي�سني من النقود‬
‫الذهبية اخلال�صة كان البد من �إيقاف العقل عمدً ا عن ت�سا�ؤالته‪ ،‬و�أن‬
‫�أ�ص ّدق كل ما تقوله حتى ن�صل �إىل وجهتنا‪ ،‬وهناك �سيت�ضح كل �شيء‪،‬‬
‫وقلت‪:‬‬
‫ ومن �صاحبة الروح التي �أخذ ِتها؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال �أعرف ‪ ..‬امر�أة مت �إعدامها فح�سب‪ ،‬ال يهم َمن كانت ‪..‬‬
‫ت�ساءلتُ ‪:‬‬
‫ هل تتذكرين �شي ًئا عن حياتها‪ ،‬ذكرياتها؟‬
‫قالت وهي تق�ضم قطعة من اخلبز‪:‬‬
‫الن�سلي �أي �شيء عن حياة �صاحب الروح الأ�صلية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ ال ‪ ..‬ال يتذكر‬
‫�أي �شيء على الإطالق‪� ،‬إنها حياة م�ستقلة بذاتها ‪..‬‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫ تظل الروح حاملة ل�صفاته ال�سيئة فح�سب‪� ،‬أرى �أن حاملة‬
‫روحي كانت تدمن ال�سرقة ‪..‬‬
‫و�أكملت �ضاحكة‪:‬‬
‫متاما ‪..‬‬
‫ مثلي ً‬

‫‪‬‬
‫فجال بخاطري �أكيا�س الذهب التي توزعها‪ ،‬لكني وا�صلتُ حديثي‬
‫�إليها‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ لكنك ال تتذكرين حتى َمن �أحبتهم �صاحبة الروح الأ�صلية؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫متاما‬
‫ن�سلي مب�شاعر جديدة‪ ،‬تنتهي امل�شاعر ً‬
‫ ال ‪ُ ..‬يولد كل ّ‬
‫بانتزاع الروح من اجل�سد ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ وهل تكفي الإعدامات لبقائكم؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ حتى يومنا هذا تكفي ‪ ..‬ال يخلو يوم غفران واحد من الإعدامات‬
‫‪� ..‬سرتى �أنها �سنة احلياة هناك ‪..‬‬
‫قلت �ضاح ًكا‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ �إنني مت�شو ٌق للغاية لر�ؤية ذلك البلد ‪..‬‬
‫فقالت وهي تغمز يل‪:‬‬
‫  ال تقلق �س�أحقق لك ما تريده ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫مرت الأيام التالية جميعها مت�شابهة ‪ ..‬نتحرك نها ًرا‪ ،‬نتحدث عن‬
‫أحلان خمتلفة‪ ،‬نتوقف ً‬
‫ليل لننال‬ ‫�أي �شيء‪ ،‬يوا�صل �ص ّديق ت�صفريه ب� ٍ‬
‫ق�سطا من النوم حتى طلوع فجر اليوم اجلديد‪ ،‬فنوا�صل طريقنا‬ ‫ً‬
‫مل برائحة‬ ‫مرة �أخرى ‪ ..‬ثم ح ّل اليوم العا�شر ومعه بات الهواء ُم ً‬
‫يود البحر‪ ،‬وبد�أ ال�سقف القما�شي يرفرف بقوة مع ن�سمات الهواء‬
‫املتوا�صلة‪ ،‬ف�أدركتُ �أننا �شارفنا على الو�صول �إىل �شاطئ البحر ‪..‬‬
‫ثم ظهر امل�سطح املائي ال�شا�سع �أمامنا حني اتخذت العربة منحد ًرا‬
‫هبطناه ببطء �شديد‪ ،‬كما ظهرت البنايات اخل�شبية التي ترتا�ص على‬
‫مقربة من ال�ساحل ‪ ..‬بينما وقفت ثالث �سفن �صغرية را�سية باملاء على‬
‫مقربة من ال�شاطئ ‪..‬‬
‫وا�صلت العربة اقرتابها حتى و�صلنا �إىل ال�شاطئ‪ ،‬وهناك �أوقفها‬
‫�ص ّديق‪ ،‬وتركنا ليقوم برتتيب كل �شيء مع �أ�صحاب ال�سفينة املتجهة‬
‫�إىل چارتني‪ ،‬وغاب ً‬
‫قليل من الوقت قبل �أن يعود �إلينا ومعه رجل‬
‫ً‬
‫�سروال وا�س ًعا و�سرتة مفتوحة تك�شف بطنه الكبرية‪،‬‬ ‫ق�صري يرتدي‬
‫فقال الرجل‪:‬‬
‫ ع�شرون قطعة ذهبية لكل فرد‪ ،‬و�أربعون للعربة ‪..‬‬
‫كان ذلك املبلغ مبال ًغا فيه كث ًريا ‪ ..‬حتى دميا التي كانت تف ّرق‬
‫الذهب ك�أنها متتلك كن ًزا قد �أظهرت من التعجب على وجهها ما يوحي‬
‫ب�أنها مل تتوقع ب�أن يبالغ الرجل �إىل ذلك احلد‪ ،‬وقالت معرت�ضة‪:‬‬
‫ري للغاية ‪..‬‬
‫ �إن هذا كث ٌ‬
‫قال وهو ينظر �إىل بطنها‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ لي�س كث ًريا مقابل طفل ن�سلي �أيتها الچارتينية ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫و�أكمل بل� ٍؤم وا�ضح‪:‬‬
‫ تعلمني �أن �سعر هذا الطفل حني ُيولد �سي�صل �إىل �أ�ضعاف‬
‫م�ضاعفة من الذهب‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)11‬‬

‫كانت اللحظة التي ك�شف بها ندمي عن و�شمه هي املعنى احلريف‬


‫لتوقف الزمن ‪� ..‬سكنت احل�شائ�ش من حويل عن حركتها فج�أة‪،‬‬
‫واختفى طنني احل�شرات املحلقة فوقها‪ ،‬بل اختفت الأ�صوات جميعها‬
‫وك�أن �أذين قد ُ�ص َّمت ‪ ..‬واختنق �صدري وك�أن الهواء قد انقطع عن‬
‫حميطنا‪ ،‬كل �شيء جتمد يف مو�ضعه‪ ،‬عدا تلك الدموع التي ترقرقت‬
‫وجنتي بغري توقف ‪ ..‬ومل �أد ِر بنف�سي �إال و�أنا‬
‫ّ‬ ‫بعيني قبل �أن تت�ساقط �إىل‬
‫�أ�ستدير و�أرك�ض مبتعدة يف فزع ‪..‬‬
‫كانت قدمي تهرول بغري اتزان حتى �أنني �سقطتُ �أكرث من مرة ‪..‬‬
‫كنت �أنه�ض و�أوا�صل رك�ضي م�سرعة‪ ،‬فتختل ع�ضالت �ساقي جمددًا‬
‫ف�أ�سقط من جديد‪ ،‬لأنه�ض و�أجري دون تفكري ‪ ..‬كان قلبي يدق بقوة‬
‫مل �أ�شعر بها من قبل‪ ،‬وعيني متتلئ بالدموع‪ ،‬بينما تع�صف بعقلي كلمة‬
‫واحدة‪:‬‬
‫ ن�سلي! ‪ ..‬ن�سلي!‬

‫‪‬‬
‫�أتذكر �أنني مل �أجته �إىل الباحة �أو �ساحة العربات حيث كانت �أمي‬
‫تنتظرين‪ ،‬بل وا�صلتُ هرولتي �إىل البيت مبا�شرة حتى و�صلتُ �إىل‬
‫�سريري بف�ستاين املرتب‪ ،‬وان�سللتُ �أ�سفل فرا�شي يرتعد ج�سمي لأكمل‬
‫بكائي‪.‬‬
‫بعد �ساعات ُفتح باب غرفتي فج�أة ‪ ..‬كانت �أمي غا�ضبة ب�شدة‪،‬‬
‫و�صاحت بي بعدما زاد قلقها لعدم لقائي بها وب�أبي بعد انتهاء مرا�سم‬
‫اليوم ب�ساحة العربات كما كان اتفاقنا‪ ،‬لكن تعابري وجهها الغا�ضبة‬
‫فزع �شديد بعدما ر�أت هيئتي‪ ،‬وخا�ص ًة عندما‬
‫�سرعان ما حتولت �إىل ٍ‬
‫رفعت عني غطائي لتجد �أن ركبتي قد ُجرحت �إثر �سقوطي املتكرر‬
‫حذر‪:‬‬
‫�أثناء هرولتي‪ ،‬ف�س�ألتني يف قلق ِ‬
‫بك؟!‬
‫ غفران ‪ ..‬ماذا حل ِ‬
‫مل �أجب ‪ ..‬ظل وجهي جامدً ا �شاردًا‪ ،‬فكررت �س�ؤالها وهي تتفح�ص‬
‫ركبتي والدماء املتجلطة عليها وعلى ف�ستاين‪:‬‬
‫ ماذا حل بك؟!‬
‫ف�سالت الدموع على وجهي جمددًا‪ ،‬قبل �أن �أقول و�شفتي ترجتف‪:‬‬
‫ �إنني بخري يا �أمي‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫بك هذا؟‬
‫  من فعل ِ‬
‫م�سحتُ دموعي ب�أ�صبعي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ ال �أحد ‪� ..‬إنني بخري فح�سب ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫  لن �أتركك حتى تخربيني بالأمر ‪..‬‬
‫قلت و�أنا �أ�صرخ‪:‬‬
‫ دعيني و�ش�أين يا �أمي ‪ ..‬ووا�صلتُ بكائي مرة �أخرى وقلت‪:‬‬
‫لك �أنني بخري ‪..‬‬
‫لك �أنني بخري ‪� ..‬إنني بخري ‪� ..‬أق�سم ِ‬
‫ قلت ِ‬
‫فهزت ر�أ�سها �ضي ًقا‪ ،‬ثم غادرت الغرفة وهي تقول‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫عدت �إىل املنزل ‪ ..‬لقد‬
‫أنك ِ‬ ‫أبيك يخربه � ِ‬
‫  �س�أر�سل �أحدهم �إىل � ِ‬
‫�آثر البقاء بال�ساحة خ�شية �أن تذهبي �إىل هناك فال جتدين �أ ًيا‬
‫منا ‪..‬‬
‫ثم �أغلقت الباب من خلفها‪.‬‬

‫مرت �ساعات �أربع قبل �أن �أنه�ض عن فرا�شي‪ ،‬و�أجته �إىل غرفة‬
‫علي ‪ ..‬كان‬
‫�أمي‪ ،‬كنت �أعلم �أنها لن تذوق للنوم طع ًما قبل �أن تطمئن ّ‬
‫�أبي نائ ًما بغرفته بعدما عاد �إىل املنزل‪ ،‬ف�أدركتُ �أنها مل تخربه ب�شيء‬
‫عن حالتي‪ ،‬ودلفتُ �إىل غرفتها بعدما �أذنت يل بالدخول‪ ،‬كانت جتل�س‬
‫علي �سريرها ترتقب وجهي‪ ،‬فوقفتُ �أمامها وقلت مبا�شرة و�أنا �أنظر‬
‫�إىل الأر�ض‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ �إنني �أحب ن�سل ًيا ‪..‬‬
‫جزع �شديد مل �أ َر مثيله على وجهها من قبل‪:‬‬
‫فت�ساءلت يف ٍ‬
‫  ماذا؟!‬
‫ب�صوت خمتنق بالدموع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫قلت‬
‫ �إنني �أحب ن�سل ًيا ‪..‬‬
‫فوثبت من مو�ضعها‪ ،‬وقالت وهي حت ّدق بي‪:‬‬
‫ كيف؟! ‪ ..‬كيف حدث ذلك؟!!‬
‫فان�سابت الدموع من عيني‪ ،‬وارمتيتُ يف ح�ضنها و�أنا �أن�شج بقوة ‪..‬‬
‫فربتت على ظهري‪ ،‬ثم هد�أتُ �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬وبد�أتُ �أروي لها ما حدث‬
‫بيني وبني ندمي منذ ر�أيته للمرة الأوىل خارج املدر�سة حتى ظهرية يوم‬
‫الغفران ذلك النهار‪.‬‬
‫ظلت �أمي �صامتة ال تنطق بكلمة واحدة ‪ ..‬كانت ت�سمعني فح�سب‪،‬‬
‫حتى انتهيتُ ف�سكتت للحظات‪ ،‬ثم قالت و�أنا يف ح�ضنها‪:‬‬
‫ الن�ساىل خائنون ‪ ..‬كاذبون ‪� ..‬أنانيون ‪ ..‬كان يعلم من اليوم‬
‫لك كي يع ّلق‬
‫أنك امر�أة �شريفة‪ ،‬ومع ذلك وا�صل غوايته ِ‬‫الأول � ِ‬
‫قلبك به‪� ،‬شيطان من �شياطينهم ‪..‬‬
‫ال حتزين ‪ ..‬هذه هي احلياة‪ ،‬ال بد و�أن منر بتجارب قا�سية‬
‫تع�صف بنا‪ ،‬لتُثقل خرباتنا التي تعرب بنا �سنواتنا املتبقية‬
‫ب�أمان ‪�..‬ستكربين‪ ،‬و�ستتذكرين هذه الأيام لت�ضحكي عليها‬
‫‪‬‬
‫ّ‬
‫و�سيدق بابنا الكثريون من الرجال‬ ‫إنك جميلة‪،‬‬‫فيما بعد ‪ِ � ..‬‬
‫الأ�شراف لتكملي ذريتنا ب�أبناء �شرفاء يحملون دماءنا النقية ‪..‬‬
‫ال تذهبي �إىل املدر�سة الأيام القادمة ‪� ..‬س�أذهب غدً ا لأخرب‬
‫أبوك كل جهدنا‬‫أنك مري�ضة ‪ ..‬و�س�أبذل �أنا و� ِ‬‫كبري املعلمني � ِ‬
‫أنك‬
‫مل�ساعدتك الفرتة القادمة يف درا�ستك ‪ ..‬و�أعدك ب� ِ‬
‫�ستحققني نتائج �أف�ضل من اختباراتك ال�سابقة ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫فهززتُ ر�أ�سي بابت�سامة حزينة‪ ،‬ثم منتُ بجانبها ‪� ..‬أتذكر �أن‬
‫�أحالمي يف تلك الليلة كانت كثرية ومت�شابكة للغاية‪ ،‬غري �أن جميعها‬
‫كانت ت�ضج بجملة واحدة‪:‬‬
‫ الن�ساىل خائنون ‪..‬‬

‫مل �أذهب �إىل املدر�سة الأيام التالية ‪ ..‬وحاولت �أمي �أن ت�شغل‬
‫وقتي بكل �شيء متاح‪� ،‬سواء ب�أعمال املنزل‪� ،‬أو ا�ستذكار درو�سي �سو ًيا‬
‫ب�ساعات �أكرث من املعتاد‪� ،‬أو اخلروج م ًعا ومع �أبي م�ساء بع�ض الليايل‬
‫لنتجول ب�شوارع جويدا امل�ضاءة بامل�صابيح الزيتية قبل التوجه �إىل‬
‫حانة قريبة كانت �إحدى الفرق البهلوانية تق ّدم عرو�ضها الفكاهية كل‬
‫م�ساءٍ هناك‪.‬‬
‫مل تخرب �أمي �أبي ب�أي �شيء‪ ،‬كانت تعلم مدى القلق الذي �سينتابه‬
‫�إن علم بالأمر ‪ ..‬هذا �آخر �شيء كان من املتوقع �أن يحدث يف بيتنا ‪..‬‬
‫تعمدت �أمي �أن تقر�أ يل كت ًبا مبكتبة �أبي كانت جميعها تدور عن جرائم‬
‫الن�ساىل وخياناتهم و�إعداماتهم‪ ،‬كانت تظن �أن ذلك �سيجعلني �أكرث‬
‫‪‬‬
‫كرهً ا لندمي ‪ ..‬لكن ما حدث كان غري ذلك‪ ،‬مع كل يوم كنت �أ�شتاق �إليه‬
‫�أكرث‪ ،‬كنت �أعلم �أنه قد غادر جويدا ولن يعود حت�س ًبا الرتكاب �أي خط�أ‬
‫يودي به �إىل من�صة الباحة‪ ،‬ولكنني متنيت لو مل يفعل ذلك‪.‬‬
‫دوما �أن هناك �شي ًئا به يختلف عن الن�ساىل‬ ‫كانت نف�سي حتدثني ً‬
‫الذين تقر�أ يل �أمي عنهم ‪ ..‬يكفي �أنه متعلم ومل �أ َر منه �أي �سوء ‪ ..‬لكن‬
‫نف�سي عادت لتقول‪:‬‬
‫ ال يتعلق الأمر به‪ ،‬بل بروحه الآثمة التي حتمل طبع الآثمني منذ‬
‫�آالف ال�سنوات ‪..‬‬
‫ثم راود خميلتي �أكرث من مرة وقوفه على من�صة الإعدام بينما‬
‫كنت �أنا قا�ضية املن�صة التي تعطي الإذن لرامي املن�صة ب�إطالق‬
‫الر�صا�ص على ر�أ�سه‪ ،‬فينقب�ض قلبي ب�شدة ‪..‬‬
‫مل �أخرب �أمي �أنني ما زلت �أفكر به‪ ،‬لكنها كانت احلقيقة‪ ،‬مل �أ�ستطع‬
‫�أن �أبعده عن خيايل حلظة واحدة‪ ،‬حتى �أحالم نومي �صارت جميعها‬
‫عنه ‪..‬‬
‫كنت �أقول لنف�سي �أنها �أعرا�ض ان�سحاب �ستقل مع مرور الوقت‪،‬‬
‫لكن ما كان يحدث �أنه ك ّلما مر يو ٌم زاد ا�شتياقي �إليه �أكرث‪ ..‬ثم عدتُ‬
‫�إىل املدر�سة بعد انقطاع �شهر كامل الجتياز االختبارات النهائية لذلك‬
‫العام‪ ،‬وك�أن القدر �أراد �أن ي�ساعدين على ن�سيانه‪ ،‬وجدتُ مكاين قد‬
‫بف�صل �آخر ‪ ..‬وهكذا اختفت عن ب�صري‬ ‫ٍ‬ ‫مبقعد �آخر‬
‫ٍ‬ ‫تب ّدل و�صار‬
‫التختة اخل�شبية للأبد‪ ،‬حيث كنت �أعلم �أن املدر�سة العليا يف العام‬
‫متاما‪ ،‬بعيد عن تلك املدر�سة ‪..‬‬ ‫التايل �ستكون يف مكان �آخر ً‬
‫‪‬‬
‫�صباحا‪ ،‬ثم �أخرج من املدر�سة ظه ًرا �أنظر‬
‫كنت �أخو�ض االختبارات ً‬
‫�إىل الأر�ض �أثناء عبوري جتمعات الأوالد خارج املدر�سة ‪ ..‬كنت �أعلم‬

‫‪9‬‬
‫�أنه غري موجود بينهم‪ ،‬لكني مل �أرد �أن �أعطي لنف�سي فر�صة واحدة‬
‫متاما‬
‫حتى‪ ،‬ثم �ألتحق بعربة �أبي �إىل بيتنا ليتكرر كل يوم مثل �سابقه ً‬
‫‪ ..‬حتى انتهت االختبارات‪ ،‬ونلنا الأجازة املو�سمية التي متتد ل�شهرين‬
‫كاملني‪ ،‬وبقينا يف انتظار النتائج لاللتحاق باملدار�س العليا ‪..‬‬

‫كانت الأجازة تلك املرة هي الأكرث �صعوبة يف حياتي‪ ،‬مل ت�ستطع‬


‫العرو�ض الرتفيهية الليلية يف احلانة �أن تزيح عن عقلي ذلك الفراغ‬
‫الذي كنت �أ�شعر به‪ ،‬حتى نتائج االختبارات مل �أكن يف قلق �شديد منها‬
‫�أو تر ّقب لها كما كنت ً‬
‫دوما خالل �سنواتي املا�ضية رغم �أن تلك النتائج‬
‫كانت الأهم يف �سنوات درا�ستي ‪..‬‬
‫كنت �أفتقده فح�سب‪� ،‬أفتقد �أيام الغفران معه‪� ،‬أفتقد كتابات املقعد‬
‫اخل�شبي وا�سمي املنقو�ش بخطه �أمامي‪ ،‬حتى نف�سي التي كانت تخربين‬
‫على الدوام �أنني �س�أن�ساه مع الوقت بدت �أنها ا�ست�سلمت‪ ،‬وا�شتعل الأمر‬
‫وهجا عندما �صادفتُ ب�أحد الكتب‬ ‫بداخلي من جديد‪ ،‬ثم �صار �أكرث ً‬
‫القاعدة التي جتيز زواج رجال الن�ساىل من �شريفات چارتني ‪..‬‬
‫ووجدتُ نف�سي �أبحث عن كتب �أخرى تتحدث عن تلك القاعدة‬
‫بالذات‪ ،‬ثم انتهزتُ فر�صة خروج �أمي �إىل ال�سوق ودلفت �إىل غرفة‬
‫�أبي‪ ،‬و�س�ألته و�أنا �أم�سك بكتاب منهم‪:‬‬
‫‪‬‬
‫  هل �شهدت من قبل زواج ن�سلي من �شريفة بباحة جويدا؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ ال ‪..‬‬
‫قلت و�أنا �أملّح �إىل الكتاب بيدي‪:‬‬
‫ ولكن ال يوجد ما مينع ذلك ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬ال متنع القواعد ذلك ‪ ..‬لرجال الن�ساىل احلق يف‬
‫الزواج �سوا ًء من ن�سلية �أو من �شريفة �إن بلغوا عامهم اخلام�س‬
‫متاما‪ ،‬ولكن �أين تلك‬
‫والع�شرين‪ ،‬مثلهم مثل رجال الأ�شراف ً‬
‫العائلة التي ت�ضحي ب�سمعتها وتزوج ابنتها من ن�سلي؟!‬
‫قلت‪:‬‬
‫ قر�أتُ �أن زواج الن�سلي من �شريفة يزيح عنه �صفة الن�سلية‬
‫ويعطي لأبنائه ال�شرف من بعده ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬تق ّدر چارتني �شريفاتها ‪ ..‬قد ميحو ذلك الزواج �إن‬
‫مت عقوبات الإعدام عن جرمية �صغرى و�إن كانت قد �صدرت‬
‫بالفعل ‪ ..‬ويكتفي الق�ضاة ب�إ�صدار حكم خمفف كتحذير ملرة‬
‫واحدة تكر ًميا لزوجته ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم تابع‪:‬‬
‫رما �صغري ‪ ..‬ف�سي�صبح م�صريه‬ ‫ لكن �إن تكرر الأمر‪ ،‬وارتكب ُج ً‬
‫الإعدام ‪ ..‬لي�س ذلك فقط‪ ،‬بل �س ُيحال �أوالده �إىل �صفة الن�سلية‬
‫مثله لأنهم يحملون دمه ‪� ..‬إنه �أم ٌر ُمعقد‪� ،‬أن يظل م�صري عائلة‬
‫كاملة مرتبط ب�سلوك عائلها ومدى حتجيمه لروحه ‪..‬‬
‫ت�ساءلت‪:‬‬
‫ لكن ماذا �إن مل يرتكب �أي جرم طوال حياته؟!‬
‫ قال‪:‬‬
‫ وقتها ي�ستحق �أن ميوت كال�شرفاء ‪ ..‬حتمل ذريته من بعده‬
‫كامل ال�شرف ‪ ..‬لكني يف احلقيقة مل �أ َر �أو �أ�سمع عن ذلك‬
‫طوال �سنوات عمري ال يف جويدا وال يف �أي مدينة �أخرى من‬
‫مدن چارتني‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ رمبا لأن �أحدً ا مل ينل فر�صة ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ال ي�ستطيع �أحد �أن ي�سري على ال�صراط امل�ستقيم مدى حياته‬
‫‪� ..‬إن الب�شر بطبعهم خطائون‪ ،‬فما بالك بالن�ساىل ‪ ..‬كنا‬
‫حمظوظني بكوننا �شرفاء ‪ ..‬يتجاوز الكثري عن �أخطائنا ‪� ..‬أما‬
‫�أن تعي�ش حياتك كلها يف خوف من ارتكاب خط�أ واحد ‪� ..‬إنها‬
‫حلياة بائ�سة‪ ،‬ال متعة فيها ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫و�أردف‪:‬‬
‫ لو كنت واحدً ا منهم لف�ضلتُ �أن �أق�ضي حياتي كاملة يف وديانهم‬
‫جوعا‪.‬‬
‫املقفرة ولو كلفني ذلك املوت ً‬
‫فكررتُ جملتي‪:‬‬
‫ لكن لو نال �أحدهم فر�ص ًة‪ ،‬و�سار على ال�صراط امل�ستقيم كما‬
‫تقول‪ ،‬دون ارتكاب خط�أ واحد �سيموت �شري ًفا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  نعم ‪..‬‬
‫فهززتُ ر�أ�سي مبت�سمة‪ ،‬ونه�ضتُ منفرجة �أ�ساريري ‪ ..‬وتوجهتُ �إىل‬
‫غرفتي يدق قلبي بفرحة كنت �أظن �أنها لن ت�أتي مرة �أخرى ‪..‬‬

‫واحد فقط ‪ ..‬ماذا �إن �أ�صبح‬‫أمر ٍ‬ ‫ً‬


‫من�شغل ب� ٍ‬ ‫يف غرفتي �صار عقلي‬
‫ندمي ذلك الن�سلي الأول الذي ميوت �شري ًفا ‪ ..‬مما ر�أيته �أيامنا ال�سابقة‬
‫�أن روحه طيبة ال حتمل �ش ًرا على الإطالق ‪ ..‬وحدثتُ نف�سي‪:‬‬
‫ مالذي يجعله ي�صر على �إكمال تعليمه حتى يومه الأخري قبل‬
‫بلوغه ال�ساد�سة ع�شر �إال �إن كانت روحه طيبة م�ؤهلة لت�صبح‬
‫�شريفة ‪..‬‬
‫متاما عن �إرادته هي ما جعلته ن�سل ًيا ‪..‬‬
‫ �إن الظروف اخلارجة ً‬
‫كنت قد �أكون مثله �إن ُولدتُ بطريقة غري �شرعية لأم �آثمة ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫  �إن بقاءه خارج جويدا بني غريه من املجرمني هو طريقه املمهد‬
‫�إىل من�صة الإعدام ‪..‬‬
‫ندما كوين تركته ذلك اليوم عندما �أخربين‬ ‫و�ضربتُ ر�أ�سي بيدي ً‬
‫علي �أن �أبقى لأ�ستمع �إليه حتى ‪ ..‬ثم و�ضعتُ نف�سي‬ ‫�أنه ن�سلي ‪..‬كان ّ‬
‫مكانه يف خميلتي وو�ضعته مكاين ‪� ..‬إن كنت ن�سلية راغبة �أن �أ�صري‬
‫�شريفة و�أحببتُ ً‬
‫رجل �شري ًفا‪� ،‬إن �أعانني على ذلك ل�صرتُ �أكرث ُم�ض ًيا‬
‫يف حتقيق حلمي ‪� ..‬أما �إن تخلى عني ملجرد معرفته �أنني ن�سلية ل�صرتُ‬
‫�أكرث �سو ًءا بكل ت�أكيد ‪ ..‬و�سي�صبح طريقي �إىل من�صة الإعدام �أكرث‬
‫�سرعة ‪..‬‬
‫�إن الي�أ�س قاتل ‪ ..‬رمبا �أخربين عن رحيله لأنه �أرادين �أن �أ�س�أله‬
‫البقاء ‪ ..‬كان من املمكن �أن يغادر فج�أ ًة كعادته ليح ّملني الكثري من‬
‫احلرية واالرتباك لغيابه املفاجئ �إىل الأبد‪ ،‬لكنه كان �أف�ضل مني‬
‫‪� ..‬أوفى بوعده و�أخربين عن ذهابه‪ ،‬وا�ستحيا �أن يحملني على طلب‬
‫البقاء منه ‪ ..‬رمبا انتظر مني �أن �أعطيه وم�ضة واحدة من الأمل لأ�صري‬
‫ً‬
‫متورطا به دون ذنب‬ ‫طريقه للخال�ص من ذلك العار الذي وجد نف�سه‬
‫‪ ...‬ثم نظرتُ �إىل �صورتي باملر�آة‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ ماذا �إن كنت جمرد طريق له للتخل�ص من عاره فح�سب ‪ ..‬لي�س‬
‫خال�صا‪ ،‬بل ح ًبا من �أجل م�صلحة ما ‪..‬‬
‫ح ًبا ً‬
‫لكن عدت وتذكرت �إ�شاراته يل حني كنا �أطفال بالباحة‪� ،‬إنه حب‬
‫بريء �شاءت الأقدار �أن ينبت ب�أر�ض باحتنا ‪ ..‬كما �أنني مل �أ َر فيه �أي‬

‫‪‬‬
‫�صفة دنيئة من �صفات ه�ؤالء اال�ستغالليني‪ ،‬حني �أدرك �أن عليه الذهاب‬
‫�أخربين بذلك فح�سب ‪ ..‬وقلت و�أنا �أهز ر�أ�سي �إيجاب ًا ل�صورتي باملر�آة‪:‬‬
‫علي �أن �أطالبه‬ ‫فعل ال ً‬
‫قول‪،‬كان ّ‬ ‫  �إنني �أحبه ‪ ..‬و�إن كان احلب ً‬
‫بالبقاء‪ ،‬و�أكون �سبيله للتخل�ص من عاره الذي الحقه �سنوات‬
‫عمره جميعها ‪..‬‬
‫ثم تخيلته �أمامي يف الغرفة‪ ،‬فنظرتُ �إليه‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ هل ت�ستطيع �أن تخو�ض معي الرهان الأكرب بحياتنا‪ ،‬وتعي�ش‬
‫معي دون ارتكاب �أي خطيئة حتى تبلغ عامك اخلم�سني؟!‬
‫وقبل �أن يرد‪ ،‬قطع تفكريي طرقات �أمي على باب غرفتي‪ ،‬ف�أجفلتُ‬
‫على‪ ،‬ف�أجبتها‪:‬‬
‫‪ ..‬ثم كررت طرقاتها ونادت ّ‬
‫ �إنني هنا يا �أمي ‪..‬‬
‫ونه�ضتُ ‪ ،‬وفتحتُ بابي‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ لقد ظهرت نتائج اختباراتك باملدر�سة املتو�سطة ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫فنظرتُ �إليها يف ترقب‪ ،‬ووم�ضت يف عقلي املدر�سة العليا للق�ضاء‪،‬‬
‫يل ب�صوت هادئ‪ ،‬وك�أنها كانت تدرك �أن حلم حياتي قد‬ ‫ف�أكملت �إ ّ‬
‫تبخر‪:‬‬
‫ لقد مت اختيارك لاللتحاق باملدر�سة العليا ل�ضباط الأمن‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)12‬‬

‫ال�ضربة الثانية خالل �أقل من �شهرين ‪ ..‬حاولت �أمي �أن توا�سيني‬


‫لكني طلبتُ منها �أن �أبقى مبفردي‪ ،‬و�أغلقتُ بابي وعدتُ يف �صمت �إىل‬
‫علي‬
‫�سريري ‪ ..‬انتهت كل �أحالمي املتعلقة مبن�صة باحة جويدا‪ ،‬و�صار ّ‬
‫اخل�ضوع الختبارات مدر�سة �ضباط الأمن رمبا لأنني كنت متفوقة‬
‫باملواد اخلا�صة بقواعد چارتني �أكرث من املواد املتعلقة بالعلوم ‪..‬‬
‫ثم ابت�سمتُ بيني وبني نف�سي حني حدثتني نف�سي عن اجلانب‬
‫الإيجابي من ف�شلي يف اللحاق مبدر�سة الق�ضاة ‪ ..‬لن �أكون �أبدً ا من‬
‫يحكم على ندمي بالإعدام كما تخيلتُ �أيامي ال�سابقة‪ ،‬ووجدتُ نف�سي‬
‫بعد قليل من الوقت ال �أ�شعر بال�ضيق الذي كنت �أتوقع �أن �أكون عليه �إن‬
‫ف�شلتُ يف حتقيق حلمي‪.‬‬
‫وك�أن ما �أ�صابني �أيامي املا�ضية قد جعل بداخلي ح�ص ًنا تع ّود �أخ ًريا‬
‫على ال�صدمات املتتالية‪ ،‬ثم خرجتُ �إىل �أبي و�أمي‪ ،‬ومل �أحتدث عن‬
‫الأمر على الإطالق‪ ،‬بل جتاهلنا الأمر جمي ًعا‪ ،‬وحتدثنا عن �أ�شياء‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫�أخرى م�ضحكة جعلتنا نتذكر ليالينا املبهجة التي مل نذقها منذ �أيام‬
‫عديدة‪.‬‬

‫خ�ضتُ اختبارات مدر�سة �ضباط الأمن بعدها ب�أيام ‪ ..‬كان‬


‫االختبار ال�شفهي فيما تعلقّ مبعرفتي عن القواعد �أكرث �سهولة بينما‬
‫علي‬
‫عانيتُ كث ًريا يف االختبار البدين‪ ،‬لكنني جنحتُ يف النهاية‪ ،‬و�صار ّ‬
‫االن�ضمام �إىل املدر�سة التي تقع يف مدينة « ِقباال» �شمال غرب چارتني‬
‫بعد �أ�سبوعني من االختبارات ‪..‬‬
‫حيا ٌة جديدة كنت �أدرك ً‬
‫متاما �أنها �ستختلف كل ًيا عما ع�شته من‬
‫قبل ‪ ..‬ما جعل الأمر مث ًريا بداخلي �أنني �س�أمتكن من حمل �سالح ناري‬
‫ُمعب�أ بالبارود بعد �أربعة �أعوام مبدر�سة ال�ضباط ‪ ..‬ال ُي�سمح لأحد يف‬
‫چارتني �أ ًيا كان بحمل �أ�سلحة نارية �إال �ضباط الأمن ‪ ..‬عقوبة ُمغلظة‬
‫على ال�شرفاء ‪� ..‬إعدام للن�ساىل �إن ارتكبوا هذا اجلرم ‪..‬‬
‫وبد�أت �أحالمي تت�شكل من جديد‪ ،‬غفران �ضابطة الأمن يف جويدا‬
‫‪ ..‬ذات الوجه احلازم والكلمة امل�سموعة‪ ،‬حاملة �أ�صفاد االعتقال‪،‬‬
‫وبد�أتُ �أتخيل نف�سي يف الثياب الع�سكرية‪ ،‬لكن بايل ظل ُمعل ًقا به ‪..‬‬
‫فلت من حكمي‬ ‫ذلك الفتى الغائب عني ملدة �شهرين كاملني‪ ،‬ها قد ُّ‬
‫املنطوق على املن�صة ‪ ..‬لكن هل �س�أ�صري �أنا من يعتقلك ذات يوم �أم‬
‫ماذا �أيها الن�سلي املتعلم ؟‬
‫ثم ح ّل يوم الغفران لذلك ال�شهر‪ ،‬وكنت قد انقطعت عن الباحة‬
‫ال�شهرين ال�سابقني ‪ ..‬كان من يعرفني �أو يعرف والدتي يهنئونني‬
‫‪‬‬
‫بالتحاقي باملدر�سة العليا يف طريقنا �إىل الباحة ‪ ..‬ثم �ضحكتُ بيني‬
‫وبني نف�سي حني و�صلنا �إىل هناك فوجدتُ قدمي تريد �أن ت�أخذين‬
‫�شر ًقا �إىل البوابة ال�شرقية الو�سطى كما تعودت‪.‬‬
‫لكنني وا�صلتُ طريقي �إىل حرمها عرب البوابة اجلنوبية كما اعتدت‬
‫قبل �شهور مع �أبي و�أمي ‪ ..‬وكعادة زحام الباحة و�صلنا �إىل مقدمتها‬
‫ب�صعوبة‪� ،‬شعرتُ �أنني �أفتقد ذلك املكان كث ًريا‪ ،‬غري �أنني كنت �أعرف‬
‫�أنني �س�أفتقده �أكرث الأ�شهر القادمة ‪..‬‬
‫�أخربين �أبي �أن املدر�سة العليا لل�ضباط �ستمنعني من احلياة‬
‫املدنية طوال �سنوات درا�ستي الأربعة‪ ،‬ولي�س يل مغادرة �أ�سوارها �إال‬
‫لأجازة �أ�سبوعني مرة كل �ستة �أ�شهر ‪ ..‬مل �أجد ذلك الأمر مي ّثل فار ًقا‬
‫كب ًريا يل‪ ،‬ال �أمتلك الكثري من الأ�صدقاء على �أي حال ‪ ..‬و�أبي و�أمي‬
‫�أظهرا يل �سعادتهما بالتحاقي بتلك املدر�سة‪ ،‬ومل يعد هناك ندمي ‪..‬‬
‫�س�أفتقد الباحة فح�سب ‪ ..‬كل ما متنيته داخل نف�سي �أن تتزامن مواعيد‬
‫�أجازاتي مع �أيام الغفران‪.‬‬
‫كنت �أقف ذلك اليوم و�أد ّقق بتفا�صيل كل �شيء ‪ ..‬وجوه املحيطني‬
‫بي‪ ،‬املن�صة ومن يرتقونها‪� ،‬سماء الباحة و�أر�ضها �أ�سفل قدمي وك�أنني‬
‫�أودعها‪ ،‬قبل �أن �أهم�س �إليها‪:‬‬
‫ لن �أغيب عنك كث ًريا يا �صديقتي ‪ ..‬ال �أعلم �إن كنت �س�أتغري‬
‫ح ًقا بعد مرور ال�سنوات الأربع كما يظن اجلميع‪� ،‬أم �س�أبقى‬
‫كما �أنا غفران ذات القلب الرحيم الذي ال يغريه �شيء �أبدً ا ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫ثم انتهت العرو�ض الفكاهية‪ ،‬و�صعد �إىل املن�صة القا�ضي‪ ،‬و�أ�صدر‬
‫حك ًما بالإعدام على رجل ن�سلي ‪ ..‬وقتها ا�ست�أذنتُ �أمي و�أبي كي �أغادر‬
‫على �أن �أحلق بهما يف �ساحة العربات مع انتهاء املرا�سم‪.‬‬
‫عب�ست �أمي‪ ،‬لكن �أبي قد وافق فوافقت بالنهاية‪ ،‬فقب�ضتُ بيدي‬
‫على يدها �أطمئنها ‪ ..‬ثم وجدتُ نف�سي �أجته �شر ًقا بني احل�شود �إىل‬

‫‪9‬‬
‫البوابة ال�شرقية الو�سطى و�أتخطاها نحو املرج ال�شرقي ‪ ..‬قابلني‬
‫ن�سيمه ك�صديق يرحب بي بعد غياب طويل‪ ،‬فملأتُ �صدري بهوائه‪،‬‬
‫عاما‬
‫يوما �أو اثنني‪ ،‬كان ً‬‫و�أكملتُ طريقي جتاه النهر اجلاف‪ ،‬مل يكن ً‬
‫ً‬
‫كامل هنا ‪..‬‬

‫ثوان قليلة تذكرتُ كل الأحاديث التي دارت بيننا عند ذلك‬ ‫يف ٍ‬
‫املكان ‪ ..‬مل يكن يتحدث كث ًريا ‪ ..‬لكني كنت �أحب ذلك ال�صمت‬
‫الطويل الذي دائما ما تخلل حديثه ‪ ..‬متن ُيت لو كانت الظروف �أف�ضل‬
‫وكان �شري ًفا مثلي‪ ،‬لكن ليتنا نحقق كل ما نتمناه ‪� ..‬أم�سكتُ حج ًرا‬
‫�صغ ًريا‪ ،‬ودحرجته �إىل جرف �ضفة النهر كما تع ّود �أن يفعل ‪ ..‬ثم‬
‫جل�ستُ مو�ضعي على رقعة �صغرية من الع�شب اجلاف‪ ،‬و�ضممتُ ركبتي‬
‫�إىل �صدري‪ ،‬ونظرت �إىل البيوت البعيدة على اجلانب الآخر من برزخ‬
‫النهر ‪ ..‬وغ�صتُ يف �شرودي و�أفكاري املتعلقة ب�أيامي ال�سابقة هناك ‪..‬‬
‫وكان �صوت البارود قد دوى بال�سماء ف�أفاقني من �شرودي‪ ،‬قبل �أن‬
‫�أ�ستدير فج�أة حينما �شعرتُ ب�أقدام تدو�س الع�شب من خلفي‪ ،‬ولوال �أن‬
‫متا�سكت قدمي التي تراجعت من املفاج�أة وانزلقت‪ ،‬لكنت قد �سقطتُ‬

‫‪‬‬
‫من على حافة املنحدر بعدما وجدته يقف خلفي ‪ ..‬عاري ال�صدر‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫يك�شف عن و�شمه كما تن�ص القواعد ب�أن يك�شف الن�سلي عن و�شمه‬
‫بعد عبوره ال�ساد�سة ع�شر طاملا تواجد باملدينة ‪ -‬يك�شف الذكر �صدره‬
‫وتك�شف الأنثى كتفها الأي�سر ‪ -‬وك�أن الكلمات جميعها قد تطايرت من‬
‫ل�ساين وقفتُ �صامتة �أمامه ال �أنب�س ببنت َ�ش َفة‪.‬‬

‫فكرتُ يف �أن �أغادر لكن هذا ما مل يرده داخلي ‪ ..‬كنت �أعلم نف�سي‬
‫جيدً ا ‪ ..‬كان ذلك ال�شعور الذي طاملا �أحببته قد بد�أ ي�سري يف ج�سدي‬
‫بعد زوال ارتباك املفاج�أة ‪ ..‬فرح ٌة وبهج ٌة تختلفان عن �أي فرحة‬
‫وبهجة �أخرى ‪ ..‬لكني بقيتُ �صامت ًة وبقي هو الآخر �صامتًا‪ ،‬قبل �أن‬
‫يقول بوجه جامد‪:‬‬
‫أخربتك ذات يوم �أنني ال �أعد بوعد ال �أ�ستطيع تنفيذه ‪ ..‬لذا‬
‫ِ‬ ‫ �‬
‫وعدتك م�سب ًقا ‪ ..‬لكنني كنت قد‬
‫ِ‬ ‫أخربتك عن رحيلي كما‬ ‫ِ‬ ‫�‬
‫وعدتك � ً‬
‫أي�ضا ب�أن �أبقى بجوارك للأبد ‪..‬‬
‫و�سكت‪ ،‬فقلتُ �ساخرة‪:‬‬
‫ �أي �أبد؟! ‪� ..‬سنواتك حتى قدومك �إىل املن�صة ُم ً‬
‫كبل؟ ‪..‬‬
‫فنظر �إ ّ‬
‫يل يف حرج‪ ،‬فتابعتُ ك�أنني �أعتذر‪:‬‬
‫ �أم �سنواتك اخلم�سني؟!‬
‫فارتبك وك�أنه مل ينتظر �أن �أ�س�أله مثل ذاك ال�س�ؤال ‪ ..‬ثم قال دون‬
‫مقدمات وهو ينظر �إىل الأر�ض‪:‬‬

‫‪‬‬
‫  ال تتيح قواعد چارتني زواج الرجال قبل بلوغ منت�صف العمر ‪..‬‬
‫و�صمت ثانية و�أكمل‪:‬‬
‫ هل تقبلني بالزواج مني �إن و�صلتُ عامي اخلام�س والع�شرين‬
‫دون جرمية؟‬
‫ف�أجبته م�سرعة دون تفكري وك�أنني كنت �أنتظر منه ب�أن ينطق تلك‬
‫اجلملة دون �أي حديث �آخر‪:‬‬
‫ هل لك �أن تعدين ب�أن تظل نق ًيا حتى بلوغك ذلك العمر ؟ ‪ ..‬ثم‬
‫بقائك معي نق ًيا حتى يحني موعد رحيلك؟!‬
‫فهز ر�أ�سه وقال‪:‬‬
‫ نعم ‪� ..‬س�أفعلها من �أجلك ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  �أتعدين بذلك؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫  نعم �سيدتي ‪� ..‬أعدك ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ل�ستُ �سيدتك يا ندمي ‪ ..‬افعلها من �أجلي فح�سب ‪ ..‬و�أنا �س�أزيل‬
‫بخنجر �أمام �أهل چارتني جميعهم ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫هذا الو�شم‬

‫‪‬‬
‫مازحا‪:‬‬
‫فابت�سم �أخ ًريا ثم قال ً‬
‫ و�إن نكثتُ وعدي؟!‬
‫قلت بكل جدية‪:‬‬
‫ �س�أقتلك باخلنجر ذاته �أمام �أهل چارتني � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫كان ح ًبا �أم جنو ًنا؟! ‪ ..‬مل �أفهم نف�سي حلظتها ‪ ..‬ما كنت �أعرفه‬
‫�أنني كنت �أكرث �سعادة من �أي وقت م�ضى‪ .‬لقد قبلتُ بذلك التحدي ‪..‬‬
‫لن �أقبل بالزواج من �أي رجل چارتيني طاملا كان ندمي على قيد احلياة‬
‫‪ ..‬و�إن مرت �أعوامه الت�سع املتبقية دون و�صوله �إىل من�صة الإعدام ف َمن‬
‫غريه ي�ستحق �أن ينال حيا ًة �شريفة ‪ ..‬ثم �س�ألته بعدها عما يفعله‪ ،‬قال‬
‫�أنه �سيم�ضي �سنواته يع ّلم ن�ساىل الوديان ما تعلمه يف مدار�س چارتني‪،‬‬
‫ت�ساءلتُ ‪:‬‬
‫ ملاذا ال يفعلون مثلك؟!‬
‫�أجابني‪:‬‬
‫ �إن الأمهات هناك ال ترى فائدة للعلم طاملا امل�صري واحد ‪..‬‬
‫كانت �أمي تختلف عنهن و�أ�صرت على تعليمي ‪ ..‬و�س�أ�صر �أنا‬
‫على تعليمهم ‪� ..‬سيكون العلم �سبيلهم الوحيد للنجاة من‬
‫من�صة الباحة ‪..‬‬
‫انده�شتُ ب�إعجاب من حديثه‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �أرى �أنك متفائل ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫قال بجدية‪:‬‬
‫ �أعلم �أن الأمر �سيكون �صع ًبا ‪ ..‬لكنه لن يكون �أكرث �صعوبة من‬
‫وعد بالزواج من امر�أة �شريفة ‪..‬‬‫ٍ‬
‫ف�ضحكتُ ‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ وبعد الت�سع �سنوات؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫معك ‪..‬‬
‫ �س�آتي �إىل املدينة هنا للعي�ش ِ‬
‫فقلت �ساخرة عن رغبته بتعليم غريه من الن�ساىل‪:‬‬
‫ وترتك حلمك؟!‬
‫وكانت املرة الأوىل التي �أحتدث معه عن حلمه ‪ ..‬فقال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ وقتها �س�أكون قد ع ّلمتُ من ي�ستطيعون حمل امل�سئولية من‬
‫ورائي ‪..‬‬
‫فقلت مبكر‪:‬‬
‫ � ًإذا �سنعي�ش �سو ًيا يف جويدا بعد ت�سع �سنوات ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬امر�أة �شريفة ورجل �شريف ‪..‬‬
‫فقلت حمذرة ب�سبابتي‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ تعلم القواعد جيدً ا؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫  اطمئني ‪� ..‬إنني �أحفظها عن ظهر قلب و�أعيها جيدً ا ‪ ..‬كنت‬
‫متفو ًقا يف درو�سي للغاية‪ ،‬ر�سبتُ من �أجلك فقط ‪..‬‬
‫ف�ضحكتُ ‪ ،‬ثم �أخربته عن التحاقي مبدر�سة ال�ضباط ب ِقباال‪ ،‬و�أنني‬
‫�س�أغيب �ستة �أ�شهر كاملة بداية من الأ�سبوع القادم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ ح�س ًنا ‪� ..‬س�أنتظرك هنا بيوم الغفران لل�شهر ال�سابع من اليوم‪..‬‬
‫فقلت با�سمة‪:‬‬
‫ و�أنا �س�آتي من �أجلك ‪..‬‬
‫فقال يف حما�س‪:‬‬
‫ �س�أخربك يومها كم علمتُ من الن�ساىل ‪..‬‬
‫ف�ضحكتُ من احلما�سة التي حتدث بها ‪ ..‬ثم هد�أت مو�سيقا الباحة‬
‫ف�أدركتُ �أن املرا�سم يف طريقها �إىل االنتهاء‪ ،‬فمددتُ يدي له و�أنا‬
‫�أغادر‪ ،‬وقلت بكل �صدق‪:‬‬
‫ �أمتنى �أن حتافظ على وعدك يل يا ندمي ‪..‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫ �س�أفعل ذلك ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ف�أوم�أتُ بر�أ�سي‪ ،‬ثم غادرتُ جتاه الباحة مبفردي ‪ ..‬واجتهتُ �إىل‬
‫�ساحة العربات‪ ،‬وارتقيتُ عربتنا يف انتظار �أبي و�أمي‪ ،‬حتى جاءا بعد‬
‫وقت قليل ‪� ..‬س�ألتني �أمي عما فعلته‪� ،‬أخربتها �أنني جت ّولتُ باجلوار‬
‫فح�سب‪ ،‬مل �أخربها �شي ًئا عن ندمي‪� ،‬صار ذلك الوعد منذ تلك اللحظة‬
‫�شي ًئا يخ�صنا نحن االثنني فقط ‪ ..‬ال يخ�ص �أ ًيا �سوانا ‪ ..‬لن يخرج‬
‫عن داخلي حتى يوم الغفران بعد ت�سع �سنوات ‪ ..‬وقتها �س�أعلن �أمام‬

‫‪9‬‬
‫ه�ؤالء الب�شر جمي ًعا ‪� ..‬أن ذلك الفتى الذي �أحببته و�أحبني �صار �شري ًفا‬
‫مثلهم يتمتع بحقوق �أهل چارتني كاملة عما فعله من �أجلي طوال تلك‬
‫ال�سنوات‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)13‬‬

‫ما زلت �أتذكر اليوم الأول يل يف مدر�سة ال�ضباط‪� ،‬أ�صر �أبي �أن‬
‫ي�صحبني بعربته �إىل هناك ‪ ..‬حتركنا من جويدا مع منت�صف الليل‬
‫متاما‪ ،‬وو�صلنا �إىل « ِقباال» مع ظهرية اليوم التايل ‪ ..‬كانت املرة‬
‫ً‬
‫الأوىل التي �أرى فيها جدار چارتني العظيم بعيني املجردة بعدما مر‬
‫الطريق هناك مبحازاته‪ ،‬كان �أ�ضخم كث ًريا مما تخيله عقلي طوال‬
‫مفتوحا من انبهاري بعظمة بنائه‬
‫ً‬ ‫�سنواتي املا�ضية‪ ،‬حتى �أن فاهي ظل‬
‫وب�أحجاره ال�ضخمة التي قد يده�س احلجر الواحد منها ع�شرين ً‬
‫رجل‬
‫�إن �سقط فوقهم ‪..‬‬
‫�أما ِقباال فكانت مدينة �صغرية للغاية مقارنة بجويدا‪ ،‬غري �أن‬
‫زحاما‪ ،‬وهناك توقف �أبي �أمام بوابة‬
‫�شوارعها كانت �أو�سع كث ًريا و�أقل ً‬
‫حديدية تنت�صف �سو ًرا طوب ًيا مرتف ًعا كان ميتد بعيدً ا على جانبيها‪،‬‬
‫ويحمل عددًا من الأبراج على م�سافات مت�ساوية يقف بكل برج منها‬
‫جندي يحمل �سالحه الناري‪ ،‬مل تكن �إال مدر�ستي اجلديدة‪.‬‬‫ّ‬

‫‪‬‬
‫ودعني �أبي ووعدين �أنه �سي�أتي لي�صحبني �إىل منزلنا بعد �ستة‬
‫�أ�شهر‪ ،‬فودعته وغادرتُ العربة‪ ،‬و�سرتُ بف�ستاين الذي قابلتُ به‬

‫‪9‬‬
‫ندمي املرة الأويل �أحمل حقيبتي جتاه البوابة‪ ،‬ثم �صاح اجلندي الذي‬
‫يقف ب�أقرب �أبراج ال�سور فج�أة‪ ،‬قبل �أن ُتفتح البوابة احلديدية على‬
‫حذرة يدق قلبي‬
‫م�صراعيها �أمامي لأعرب �إىل الداخل بخطوات بطيئة ِ‬
‫بقوة‪ ،‬وك�أنني قد عربتُ �إىل منطقة �أخرى من حياتي ‪..‬‬

‫كنت �أظن �أنني �س�أجد من يرحب بي فور و�صويل‪ ،‬لكن مبجرد‬


‫دخويل �صار كل �شيء �سري ًعا جدً ا ‪ ..‬اذهبي �إىل هناك لتنتهي‬
‫من �إعداد �أوراق التحاقك ‪ ..‬اذهبي �إىل هناك ال�ستالم مالب�سك‬
‫الع�سكرية وحذائك الع�سكري ‪ ..‬اذهبي �إىل هناك ليقوم اخلياط‬
‫بت�ضييق مقا�ساتك‪ ،‬ثم كانت �صدمتي الكربى؛ اذهبي �إىل هناك لق�ص‬
‫�شعرك الطويل‪ ،‬وهناك توقفتُ ‪:‬‬
‫ ماذا؟!!‬
‫كان طول �شعري يبلغ �أ�سفل خ�صري‪ ،‬ال �أريد ق�صه‪ ،‬ف�صرخت بي‬
‫�ضابطة الأمن حني تلك�أتُ ‪:‬‬
‫ هيا ‪ ..‬ال ت�ضيعي وقتك ‪..‬‬
‫ثوان‪� ،‬صار‬
‫ثم قام �أحدهم بفرد �شعري امللفوف وق�صه يف ب�ضع ٍ‬
‫�ضيق بالغ‪،‬‬
‫بالكاد يبلغ �أكتايف‪ ،‬بعدها حملتُ �أمتعتي جميعها يف ٍ‬
‫واجتهتُ �إىل بناء املبيت للراحة من عناء ذلك اليوم يف انتظار بدء‬
‫العمل الفعلي باليوم التايل ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫كان بناء املبيت ُمكو ًنا من غرف وا�سعة متجاورة‪ ،‬ت�ضم الغرفة‬

‫‪9‬‬
‫الواحدة ع�شرة من ال ِأ�سرة املزدوجة‪ ،‬يحمل كل �سرير فوقه فتا ًة تغط‬
‫نوم‬
‫يف نوم عميق‪ ،‬ف�أويتُ �إىل �سريري بعدما بدلتُ ف�ستاين بثياب ٍ‬
‫ً‬
‫وبنطال‪ -‬لت�صبح املرة الأخرية التي‬ ‫ا�ستلمتها هناك ‪� -‬سرتة قطنية‬
‫�أرتدي بها ف�ستا ًنا ‪..‬‬

‫مع اليوم التايل �صار كل �شيء �أقوم به وفق بوقٍ ثابت ‪ ..‬مواعيد‬
‫اال�ستيقاظ‪ ،‬مواعيد التدريبات‪ ،‬مواعيد الطعام‪ ،‬مواعيد الدرو�س‬
‫النظرية‪ ،‬مواعيد النوم‪ ،‬كل �شيء باملعني احلريف ال بد و�أن ي�سبقه‬
‫ذلك البوق ‪..‬‬
‫طويل للغاية‪� ،‬أن ت�ستيقظ مع �شروق ال�شم�س وتظل‬ ‫�صار اليوم ً‬
‫قائ ًما ب�أ�شياء كثرية متتابعة حتى موعد طعام الع�شاء‪ ،‬ثم ت�أوي �إىل‬
‫فرا�شك ليغم�ض جفنك يف حلظات من التعب‪ ،‬ثم يبد�أ يومك التايل مع‬
‫ثوان قليلة‪ ،‬وتع ّد �سريرك وتقف منت�ص ًبا بجواره‬
‫البوق ذاته لتنه�ض يف ٍ‬
‫حيث �ستمر �ضابطة الأمن امل�سئولة عن الغرفة ملعاقبة َمن مل ت�ستيقظ‬
‫�أو مل تعد �سريرها‪ ،‬قبل �أن ُيطلق بوق جديد لنب ّدل ثياب نومنا ب�أخرى‬
‫خم�ص�صة للتدريبات الريا�ضية‪ ،‬ونغت�سل �سري ًعا‪ ،‬ثم نندفع ً‬
‫رك�ضا �إىل‬
‫�ساحة ا�صطفاف الطالب حيث ن�صطف جمي ًعا ذكو ًرا و�إنا ًثا لنبد�أ‬
‫تدريباتنا ‪..‬‬
‫وع َل ْقتُ به ‪ ..‬مل ت�ستطع‬
‫كان الأمر �أ�شبه بالكابو�س الذي وجلتُ �إليه َ‬
‫�أغطية الر�أ�س �أن تقينا حرارة ال�شم�س ال�شديدة ‪ ..‬و�صارت التدريبات‬

‫‪‬‬
‫اليومية عنا ًء حقيق ًيا ال بد منه ‪ ..‬كانت الرمال من �أ�سفلنا �ساخنة‬
‫للغاية‪ ،‬حتى ظننتُ �أن يدي �أو�شكت على االحرتاق مع تدريبات �أيامي‬
‫الأوىل‪ ،‬وبات وجهي �شديد احلمرة ثم ا�ستحال لونه �إىل الأ�سود‪ ،‬و�صار‬
‫�شعري ً‬
‫ها�شا للغاية مع حرارة ال�شم�س ‪..‬‬
‫مع �أ�سابيعي الأوىل انخف�ض وزين ب�صورة �شديدة حتى �أنني ذهبت‬
‫مرتني �إىل خياط املدر�سة من �أجل ت�ضييق مقا�ساتي‪ ،‬ومع مرور‬
‫الأ�سابيع �صار كتفاي �أكرث ً‬
‫عر�ضا‪ ،‬و�أ�صبحت ذراعاي �أكرث قوة‪ ،‬وبد�أت‬

‫‪9‬‬
‫الدهون يف ج�سدي تت�شكل من جديد فق ّل حميط خ�صري ب�صورة‬
‫ملحوظة حتى �شعرتُ �أنني �صرتُ �أكرث ً‬
‫طول‪ ،‬ورغم �أن الأمل الذي كنت‬
‫�أ�شعر به مع التدريبات �أخذ يقل كل يوم عن اليوم الذي ي�سبقه ظل‬
‫بكابو�س ال يفارقني حلظة واحدة ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫تفكريي ب�أنني عالقة‬

‫يوما بعد يوم بد�أتُ �أتعرف على رفيقات غرفتي‪ ،‬و�صار الوقت‬ ‫ً‬
‫القليل الذي يف�صل بني وجبة امل�ساء وموعد النوم حلق ًة لل�سمر بيننا‬
‫‪ ..‬نتحدث عن �أ�شياء كثرية كان �أغلبها عن الفتيان ‪..‬‬
‫ق�ص�صا كثرية من بع�ضهن مل �أ�صدق �أنها قد حتدث ‪ ..‬كان‬
‫ً‬ ‫�سمعتُ‬
‫وجهي يحمر ً‬
‫خجل من تلك اجلر�أة التي امتلكنها‪ ،‬حتى �أن �إحداهن‬
‫�أخربتنا �أنها مار�ست الرذيلة مع فتاها ذات مرة‪ ،‬وكادت متوت قه ًرا‬
‫بعدها‪ ،‬خ�شية �أن حتمل بطفل ي�صري ن�سل ًيا‪ ،‬لكنها جنت من ذلك ومل‬
‫حتمل ‪..‬‬
‫وقالت �ساخرة‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ مل �أذهب �إىل باحة جويدا ت�سعة �أ�شهر كاملة خو ًفا �أن يكون‬
‫روحا ن�سلية ‪..‬‬
‫حمل‪ ،‬وينال طفلي ً‬‫هناك ً‬
‫و�أكملت بتقزز‪:‬‬
‫ ن�سلي؟!! كنت �أقتله و�أقتل نف�سي �أف�ضل من ذلك ‪..‬‬
‫وقتها ال �أعلم ملاذا �أ�صابني ال�ضيق واال�شمئزاز‪ ،‬وان�سحبتُ من‬
‫النقا�ش �إىل �سريري ‪ ..‬كانت املرة الأوىل التي �أ�شعر فيها �أن التقزز من‬
‫الن�ساىل ك�أنه تقزز من ندمي ‪ ..‬مل �أعد �أفهم نف�سي‪� ،‬أنا التي كنت �أكره‬
‫الن�ساىل كرهً ا ال حدود له �صار مع �أي �إ�ساءة من �إحداهن لهم مي ّثل‬

‫‪9‬‬
‫�ضي ًقا حقيق ًيا بداخلي‪ ،‬ال يزول �إال بعد وقت طويل ‪ ..‬يومها و�ضعتُ‬
‫غطائي على ر�أ�سي‪ ،‬وبد�أتُ �أفكر يف ندمي وهو يعمل معل ًما يف عامه‬
‫ال�ساد�س ع�شر‪ ،‬ويقوم بتدري�س عددًا ال ب�أ�س به من �أطفال الوديان‬
‫حتى ان�سدلت جفوين‪.‬‬

‫يو ٌم وراء يوم ‪ ..‬ا�ستيقاظ‪ ،‬اغت�سال‪� ،‬إفطار‪ ،‬تدريبات‪ ،‬تدريبات‬


‫مرة �أخرى‪ ،‬غداء‪ ،‬راحة م�ؤقتة‪ ،‬تدريبات مرة ثالثة‪ ،‬تدريبات مرة‬
‫رابعة‪ ،‬وجبة امل�ساء‪� ،‬أحاديثنا الليلية‪ ،‬بوق النوم‪ ،‬بوق اال�ستيقاظ‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫�ضباط و�ضابطات ي�صرخون بنا‪ ،‬كل �شيء �سريع‪ ،‬كل �شيء ثابت‪ ،‬يو ٌم‬
‫واحد مكرر ب�أحداثه‪ ،‬ب�أفراده‪ ،‬بجماده ‪� ..‬أيام متر‪� ،‬أ�سابيع‪� ،‬أ�شهر‪.‬‬
‫�إىل �أن ح ّلت �أجازتنا الأوىل بعد �ستة �أ�شهر ‪� ..‬أ�سبوعان من احلياة‬
‫القدمية جمددًا‪ ،‬كنت �أظن �أنني لن �أدركها �أبدً ا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كان الهواء خارج ال�سور يختلف عن داخله‪ ،‬عب�أتُ �صدري بالهواء‬
‫و�أنا �أ�سري بحقيبتي مع غروب ال�شم�س بني الطالبات مبتعدة عن البوابة‬
‫التي �أُغلقت من خلفنا ‪ ..‬كان �أبي يف انتظاري كما وعدين‪� ،‬ضحك وهو‬
‫يحت�ضنني‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ يبدو �أن ابنتي قد كربت �أخ ًريا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ لقد �أ�صبحت ابنتك ذك ًرا ‪..‬‬
‫�ضحك وق ّبل جبيني‪ ،‬ثم حمل حقيبتي �إىل عربته‪ ،‬وانطلقنا يف‬
‫طريقنا �إىل جويدا‪ ،‬ومل يتوقف عن طرح �أ�سئلته عما مررتُ به داخل‬
‫تلك اجلدران‪ ،‬ثم تركني للنوم مع حلول امل�ساء بعدما �أُغلقت جفوين ال‬
‫�إراد ًيا يف املوعد ذاته الذي اعتدتُ فيه النوم خالل الأ�شهر ال�سابقة ‪..‬‬
‫تغي‪ ،‬لكنني وجد ُته كما هو ‪..‬‬ ‫كنت �أظن �أن الكون باخلارج قد ّ‬
‫البيوت نف�سها يف جويدا‪ ،‬النا�س نف�سهم‪ ،‬الأطفال الالعبون بكراتهم‪،‬‬
‫يوما واحدً ا فقط وعدت‪ ،‬مل يتغري �إال �أنا ‪..‬‬
‫ك�أنني تركتهم ً‬
‫ثم �أفقتُ من �شرودي على �صراخ �أمي حني ر�أتني وهي تقف ب�شرفة‬
‫منزلنا قبل �أن تعود �إىل الداخل م�سرعة‪ ،‬وتظهر �أمام باب بيتنا‪،‬‬
‫لأهبط العربة و�أ�سرع ً‬
‫رك�ضا �إىل ح�ضنها‪ ،‬فرتكت كل �شيء‪ ،‬وهم�ست‬
‫يف �أذين‪:‬‬
‫حلقت بيوم غفران هذا ال�شهر ‪..‬‬
‫متنيت ‪ ..‬لقد ِ‬
‫ كما ِ‬

‫‪‬‬
‫كنت �أعلم ذلك ‪ ..‬كان اليوم ذاته هو يوم الغفران‪ ،‬كنت �أح�سب‬
‫الأيام جيدً ا‪ ،‬و�شعرتُ بفرحة عارمة ملّا علمتُ �أن موعد �أجازتي تلك‬
‫املرة �سيوافق امل�ساء ال�سابق ليوم الغفران وهذا ما حدث ‪ ..‬ق�ضينا‬
‫�صباحا �إىل مدينتنا‬
‫الليل كله يف طريقنا من ِقباال �إىل جويدا‪ ،‬وو�صلنا ً‬
‫لأحلق بذلك اليوم ‪..‬‬
‫ً‬
‫م�ستيقظا طوال‬ ‫قرر �أبي �أن ي�سرتيح من عناء ال�سفر بعد بقائه‬
‫الطريق ليلتنا املا�ضية‪ ،‬بينما �أخربتني �أمي �أنها �سرتافقني �إىل‬
‫طعاما كانت قد �أع ّدته من �أجلي‪ ،‬فتناولتُه على‬
‫الباحة‪ ،‬و�أح�ضرت يل ً‬
‫نحو �سريع‪ ،‬ثم اجتهنا �سو ًيا �إىل الباحة ب�إحدى العربات املخ�ص�صة‬
‫للذهاب �إىل هناك مقابل �أجر ب�سيط‪.‬‬
‫داخل نف�سي مل �أحب �أن ترافقني �أمي لكني مل �أ�ستطع منعها من‬
‫ذلك ‪ ..‬كنت يف الطريق �إىل هناك ال �أفكر �إال ب�شيء واحد‪ ،‬كيف‬
‫�س�أحتدث �إىل ندمي و�أمي �إىل جانبي ‪ ..‬ولأنني �أعرف �أمي جيدً ا‪ ،‬كنت‬
‫�أعلم �أنها لن توافق على رحيلي لبع�ض الوقت كما كان يفعل �أبي‪ ،‬فلم‬
‫�أجد �إال �أن �أ�ست�سلم للواقع و�أنتظر �أي فر�صة قد ت�سنح ‪..‬‬
‫عندما و�صلنا الباحة وجدتُ �أمي تقب�ض على يدي‪ ،‬وتريدنا �أن‬
‫ن�صل �إىل املقدمة بالقرب من املن�صة‪ ،‬لكني تلك�أتُ وحتججتُ �إليها‬
‫ب�أن منت�صف الباحة �أف�ضل كث ًريا‪ ،‬و�أ�صررتُ على ر�أيي حتى ان�صاعت‬
‫لكالمي ‪ ..‬وجودنا مبقدمة الباحة كان يعني انعدام فر�صة �أن يراين‬
‫ندمي‪� ،‬أما منت�صفها فقد ي�أتي �إىل هناك بعد ت�أكده من عدم ذهابي‬
‫�إىل املرج ال�شرقي‪ ،‬وهذا ما حدث بالفعل ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫مرت �ساعات قليلة ونحن ن�شاهد مرا�سم اليوم‪ ،‬كانت �أمي منتبهة‬
‫للغاية مع ما يحدث على املن�صة‪ ،‬بينما كنتُ �أتلفت ميي ًنا وي�سا ًرا و�إىل‬
‫اهتماما ملا يحدث على‬ ‫ً‬ ‫اخللف طوال الوقت بح ًثا عنه دون �أن �أ�ضع‬
‫املن�صة ‪..‬‬
‫�س�ألتُ �أمي �أن �أذهب لبع�ض الوقت فرف�ضت‪� ،‬س�ألتُها مرات �أخرى‬
‫فوا�صلت رف�ضها حتى ي�أ�ستُ من قبولها‪ ،‬فلزمتُ ال�صمت ووا�صلتُ‬
‫تلفتي ع ّلي �أراه‪ ،‬ثم انتهت مرا�سم �إعدام �أحدهم‪ً ،‬‬
‫وبدل من �سماعنا‬
‫زغرودة �إحدى الن�ساىل �سمعنا �صراخ امر�أة ي�أتي من جوارنا تقول ب�أن‬
‫كي�س نقودها قد ُ�سرق ‪..‬‬
‫ثوان قليلة حدثت حالة من الهرج واملرج من املحت�شدين‬ ‫ويف ٍ‬
‫مبحيطنا جعلتني �أنف�صل عن �أمي ب�أمتار‪ ،‬وقبل �أن �أ�صيح �إليها‪ ،‬وجدتُ‬
‫يدً ا �صغرية جتذب �سرتتي‪ ،‬فالتفتُ نحو �صاحبها‪ ،‬كان ً‬
‫طفل �صغ ًريا‬
‫قد يبلغ الثامنة من عمره‪ُ ،‬مرتب الوجه والثياب‪ ،‬ما �إن نظرتُ �إليه‬
‫حتى �أ�شار يف �صمت �إىل جانب �صدره الأي�سر ثم �أ�شار بيده جتاه ال�شرق‬
‫لثوان‪،‬‬
‫‪ ..‬ف�أدركتُ وقتها �أن ندمي ينتظر هناك باملرج ال�شرقي ففكرتُ ٍ‬
‫ثم نظرتُ بطرف عيني جتاه �أمي‪ ،‬كانت حالة الهرج واملرج ال تزال‬
‫قائمة‪ ،‬فان�سللتُ بني اجلمهور ناحية البوابة ال�شرقية الو�سطى‪.‬‬
‫كان الطفل ي�سري �أمامي يف مرونة وا�ضحة بني �أرجل املتزاحمني‪،‬‬
‫حتى و�صلتُ �إىل البوابة‪ ،‬فرتكني وعاد �إىل الباحة‪ ،‬و�أكملتُ طريقي �إىل‬
‫�ضفة النهر اجلاف عرب املرج ال�شرقي‪ ،‬حيث كان ندمي يف انتظاري‪،‬‬
‫فقلتُ ‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ كنت �أظن �أنني لن �أراك اليوم ‪..‬‬
‫قال �ضاح ًكا‪:‬‬
‫ كنت �أظن ذلك � ً‬
‫أي�ضا حني وجدتُ �أمك تقف بجوارك ‪..‬‬
‫قلت يف ده�شة‪:‬‬
‫ هل كنت بالباحة؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫لكنك مل تب�صريني حني‬
‫ نعم ‪ ..‬مبنت�صف الباحة بجوارك ‪ِ ..‬‬
‫التفت �أكرث من مرة ‪..‬‬
‫ِ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ظللتُ �أبحث عنك ‪ ..‬حتى حدثت حالة من الهرج واملرج بعد‬
‫�سرقة �إحداهن وقتها �أدركتُ �أن عدم تواجدك هناك خري‪،‬‬
‫�سيم�سك �ضباط الأمن مبن يجدونه من الن�ساىل حتى يظهر‬
‫ال�سارق ‪..‬‬
‫فقال با�س ًما يف هدوء‪:‬‬
‫ مل ُي�سرق �أحد ‪� ..‬إن ريان و�أخته الكربي َمن دبروا كل �شيء ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  َمن ريان؟!‬

‫‪‬‬
‫قال‪:‬‬
‫بك �إىل هنا‪� ،‬إنه �أحد تالميذي‪ ،‬و�أخته دميا‬
‫ الطفل الذي جاء ِ‬
‫هي َمن �صرخت لإحداث تلك اجللبة ‪..‬‬
‫زممتُ �شفتي يف تعجب‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �ستنال تلك الفتاة عقا ًبا كب ًريا من �ضباط الأمن ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ هذا �إن �أم�سكوا بها‪� ،‬إنهما بارعان للغاية يف الهرب ‪..‬‬
‫فقلت �ضاحكة‪:‬‬
‫ كل هذا من �أجل �أن تلتقيني ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫إليك ‪..‬‬
‫ نعم ‪ ..‬كان ال بد �أن �أحتدث � ِ‬
‫فابت�سمتُ ‪ ،‬ثم جل�سنا مبكاننا املعهود‪ ،‬وبد�أتُ �أحدثه عما حدث‬
‫يل الأ�شهر املا�ضية‪ ،‬وبدوره �أخربين �أن لديه �ستة ع�شر ً‬
‫تلميذا يقوم‬
‫بتعليمهم‪ ،‬بينهم ريان‪ ،‬ذلك الطفل الذكي ال�شقي ‪ ..‬حدثني عن‬
‫يوما بعد يوم زاد العدد‬
‫�صعوبة تق ّبل ن�ساء الن�ساىل تعليم �أبنائهن‪ ،‬لكن ً‬
‫�شي ًئا ف�شي ًئا ‪..‬‬
‫هن�أته على ما فعله‪ ،‬كنت ح ًقا �سعيدة للغاية من داخلي‪ ،‬ثم �س�ألتُه‬
‫علي �أن �أعود �إىل منت�صف الباحة‪ ..‬كنت �أعلم‬‫بعدها �أن �أغادر‪ ،‬كان ّ‬
‫‪‬‬
‫�أن �أمي �ستُجن من غيابي ‪ ..‬فه ّز ر�أ�سه موافقني‪ ،‬فوعدته �أن نلتقي‬
‫جمددًا يوم الغفران الذي يوافق �أجازتي القادمة بعد �ستة �أ�شهر‪ ،‬فقال‬
‫بكل ثقة‪:‬‬
‫لدي تالميذ �أكرث ‪..‬‬
‫ وقتها �سيكون قد �أ�صبح ّ‬
‫ف�ضحكتُ و�أنا �أنه�ض وقلتُ ‪:‬‬
‫ �أمتنى ذلك �أيها املعلم ‪..‬‬
‫ثم نه�ض هو الآخر‪ ،‬و�سرنا �سو ًيا جتاه الباحة‪� ،‬أخربين �أنه لن يدلف‬
‫مقرف�صا‬
‫ً‬ ‫�إىل حميطها ‪� ..‬سيعود �أدراجه‪ ،‬كان الطفل ذاته يجل�س‬
‫بالقرب من اجلهة اخلارجية للبوابة ال�شرقية يف انتظاره‪ ،‬فهم�ستُ‬
‫�إىل ندمي‪:‬‬
‫ �إنه هناك ‪� ..‬صديقك ‪..‬‬
‫ف�ضحك‪ ،‬واقرتبنا منه‪ ،‬ثم كاد قلبي ينخلع من مو�ضعه حني �صاح‬
‫�صوت خ�شن مفاجئ ب�أن نتوقف ‪..‬‬
‫ً‬
‫�ضابطا للأمن جامد الوجه �ضخم البنيان‪،‬‬ ‫التفت جان ًبا‪ ،‬كان‬
‫ُّ‬
‫تخطاين واقرتب من ندمي‪ ،‬وقال بكل ا�ستهزاء وهو ينظر �إىل و�شم‬
‫�صدره‪:‬‬
‫ ن�سلي؟! ‪� ..‬إىل �أين تذهب؟‬
‫نظر ندمي �إىل الأر�ض‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �إنني �س�أرحل �سيدي ‪..‬‬
‫فدار حوله يتفح�ص ج�سده‪ ،‬ثم قام بتفتي�ش �سرواله بطريقة‬
‫مهينة‪ ،‬فقال ندمي‪:‬‬
‫ ال �شيء هناك �سيدي ‪..‬‬
‫فلكم ال�شرطي �صدر ندمي بقب�ضة يده‪ ،‬وقال بلهجة �آمرة‪:‬‬
‫ ا�صمت ‪..‬‬
‫ووا�صل تفتي�شه‪ ،‬كان ندمي ينظر �إىل الأر�ض دون �أن يرفع عينه �أو‬
‫يحرك ج�سده ‪..‬‬
‫مل يجد ال�شرطي �شي ًئا ب�سرواله‪ ،‬وظننتُ �أنه �سيرتكه مي�ضي‪ ،‬لكنه‬
‫وقف �أمامه ومبجرد �أن رفع ندمي نظره عن الأر�ض ونظر يف عينه حتى‬
‫متفح�صا يل‪ ،‬قبل �أن يلتفت فج�أة �إىل ندمي‬
‫ً‬ ‫ا�ستدار ناحيتي ونظر �إ ّ‬
‫يل‬
‫وي�صفع وجهه �صفع ًة مفاجئة كادت تطيح ب�أ�سنانه ‪ ..‬وقال‪:‬‬
‫ ال تعد �إىل هنا جمددًا �أيها القذر ‪ ..‬يلزم الن�ساىل جحورهم ‪..‬‬
‫مل يتحرك ندمي‪ ،‬ونظر �إىل الأر�ض ثابتًا يف مو�ضعه ‪ ..‬بينما وثب‬
‫خطوات جتاه بوابة الباحة وعيناه‬
‫ٍ‬ ‫الطفل ريان من جل�سته خائ ًفا‪ ،‬وعاد‬
‫ترتقب ما يحدث ‪ ..‬ثم جت ّمع بع�ض �شبان چارتني بالقرب منا‪ ،‬وبد�أوا‬
‫يف �إلقاء تعليقاتهم ال�ساخرة عن الن�ساىل‪ ،‬فنظر ال�شرطي �إليهم يف‬
‫تبا ٍه‪ ،‬و�ضحك وهو يدور حول ندمي‪ ،‬حتى توقف مرة �أخرى و�صفع‬
‫اجلانب الآخر من وجه ندمي �صفع ًة �أقوى من الأوىل ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كان قلبي يدق بقوة‪ ،‬وت�سارعت دقاته �أكرث حني ر�أيتُ ً‬
‫خيطا من‬
‫الدماء قد بد�أ ي�سيل على وجه ندمي‪ ،‬لكنها بلغت ذروتها حني وجدتُ‬

‫‪9‬‬
‫حتد‬
‫ذل بالغ ‪ ..‬قبل �أن يحرك ب�صره يف ٍ‬ ‫ندمي يرفع طرف عينه �إ ّ‬
‫يل يف ٍ‬
‫�إىل ال�شرطي‪ ،‬وتنتفخ عروق رقبته وذراعه بالدماء بعدما ك ّور قب�ضة‬
‫يده ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)14‬‬

‫كاد قلبي ينخلع من �صدري حني ر�أيتُ ندمي يك ّور قب�ضة يده‬
‫ا�ستعدادًا للكم ال�شرطي ردًا على �إيذائه و�إهاناته دون �سبب‪ ،‬فلم �أجد‬
‫أزج بج�سدي �أمام ندمي لأقف ً‬
‫حائل بينهما‪ ،‬و�أنطق‬ ‫نف�سي �إال و�أنا � ّ‬
‫ب�سرعة �إىل ال�شرطي‪:‬‬
‫ �سيدي ‪� ..‬إنني طالبة باملدر�سة العليا ل�ضباط الأمن ب ِقباال‪.‬‬
‫لدي ما يثبت كالمي‬ ‫يل بغ�ضب ك�أنه ال ي�صدقني ‪ ..‬مل يكن ّ‬ ‫نظر �إ ّ‬
‫لكنني الحظتُ �أنه نظر �إىل ذلك املثلث الداكن من جلدي �أ�سفل‬
‫عنقي‪ ،‬والذي ال حتميه ثيابي الع�سكرية من �أثر ال�شم�س احلارقة �أثناء‬
‫تدريباتي ‪ ..‬فهد�أت مالحمه وك�أنه تيقن من كالمي حني ر�آه‪ ،‬فتابعتُ ‪:‬‬
‫ �إن �صديقي مل يفعل �شي ًئا ‪ ..‬مل يتواجد بالباحة من الأ�سا�س ‪..‬‬
‫ز ّم �شفتيه وغمغم �ساخ ًرا‪:‬‬
‫ �صديقي؟!‬
‫‪‬‬
‫كان الفتية ال�ساخرون ما زالوا يراقبون ما يحدث‪ ،‬ومن خلفهم‬
‫ريان الذي مل يحرك عينه عنا‪ ،‬فقال ال�شرطي‪:‬‬
‫ اغربا عن وجهي‪.‬‬
‫ف�أوم�أتُ بر�أ�سي قبل �أن يقول يل‪:‬‬
‫ ال ت�صادق ال�شريفات الن�ساىل ‪ ..‬لن ت�صدقي كالمي حتى‬
‫يغت�صبك بعدما ينال ثقتك‪ ،‬وقتها �ستفعلني بهم �أكرث مما‬
‫�أفعله‪.‬‬
‫مل �أع ّلق على حديثه‪� ،‬أم�سكتُ ب ّيد ندمي وغادرنا فح�سب‪ ،‬بينما مل‬
‫يتوقف الفتيان عن الغمغمة بتعليقاتهم ال�سخيفة عني وعن ندمي ‪..‬‬
‫ثم حلق بنا ريان �إىل ال�ساحة اجلنوبية للباحة املخ�ص�صة للعربات‪،‬‬
‫فتوقفنا هناك ونظرتُ �إىل ندمي الذي مل يرفع ر�أ�سه �إ ّ‬
‫يل منذ ابتعدنا‬
‫عن ال�ضابط‪ ،‬وقلتُ ‪:‬‬
‫ ال عليك ‪�..‬سنجد من ال�صعاب الكثري يف طريق هدفنا ‪..‬‬
‫ لقد تر ّبوا على نظرة واحدة جتاه الن�ساىل ‪� ..‬أعلم �أن الأمر‬
‫�صعب للغاية‪ ،‬لكن خط�أ واحدً ا �سيدمر كل ما ن�سعى نحوه‪ ،‬و�أنا‬
‫ال �أريد ذلك ‪ ..‬وال �أنت ‪..‬‬
‫ظل �صامتًا ‪ ..‬كانت ثمة دموع تلمع بعينيه‪ ،‬كنت �أدرك �أنه يجاهد‬
‫بقوة كي ال ت�سقط �أمامي ‪ ..‬املرة الأوىل التي �أ�شعر فيها باخلزي الذي‬
‫لدي �سوى �أن �أوا�سيه‪ ،‬ثم مر وقت قليل‬
‫يحمله الن�سلي ‪ ..‬لكني مل يكن ّ‬
‫قبل �أن ينطق‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ ح�س ًنا يا غفران ‪� ..‬س�أعود �إىل حيثما جئت ‪� ..‬س� ِ‬
‫أراك بعد �ستة‬
‫�أ�شهر ‪� ..‬أمتنى �أن تظلي بخري ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ و�أمتنى لك ذلك ‪..‬‬
‫ثم �أ�شار �إىل ريان ب�أنه �سيغادر‪ ،‬ف�أطلق الفتى �صفارته‪ ،‬فظهرت‬

‫‪9‬‬
‫�أخته من بني العربات ‪ ..‬كانت يف مثل عمري تقري ًبا‪ ،‬ثم انطلقوا‬
‫مغادرين عرب الطريق الرتابي جنوب الباحة ‪ ..‬ووقفتُ �أراقبهم حتى‬
‫اختفوا عن ب�صري‪ ،‬فعدتُ �إىل منت�صف الباحة‪ ،‬وعرثتُ على �أمي بعد‬
‫جهد كبري‪.‬‬

‫يف الأ�شهر التالية مبدر�سة ال�ضباط �صار الأمر ممت ًعا �إىل حد ما‬
‫بعدما بد�أنا تدريبات الأ�سلحة النارية والفرو�سية واللتني وجدتُ نف�سي‬
‫وفار�سا ظال حبي�سني طوال ال�سنوات املا�ضية‬
‫بهما‪ ،‬وك�أن بداخلي رام ًيا ً‬
‫حتى وجدا خمرجيهما �أخ ًريا بني جدران تلك املدر�سة‪ .‬غري �أنني مل‬
‫أن�س قط ما حدث ب�آخر يوم غفران التقيتُ به ندمي‪ ،‬وما فعله ذلك‬ ‫� َ‬
‫ال�ضابط بنا يومها‪ ،‬وظلت �أحالمي لفرتة طويلة تدور جميعها عما‬
‫حدث ذلك اليوم ‪� ..‬صفعات متكررة على وجه ندمي‪ ،‬دماء ت�سيل من‬
‫وجهه‪ ،‬قب�ضة يده تتكور لت�أخذ طريقها �إىل وجه من يهينه‪ ،‬لكنها قبل‬
‫ذلك ت�صطدم بي لتحطمني �إىل �أجزاء �صغرية تتناثر كقطع الزجاج‪،‬‬
‫بعدها يحاول �أن يج ّمعها فال ي�ستطيع‪ ،‬بينما يجثو ال�ضابط بجوار تلك‬
‫القطع ليقول‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ لن ت�صدقي كالمي حتى يغت�صبك بعدما ينال ثقتك ‪ ..‬وقتها‬
‫�ستفعلني بهم �أكرث مما �أفعل ‪..‬‬
‫فزع رهيب ال �أريد �أن �أنام جمددًا‪ ،‬و�أظل‬
‫فا�ستيقظ من نومي على ٍ‬
‫جال�سة على �سريري يف انتظار بوق اال�ستيقاظ ‪ ..‬حتى �أن خميلتي‬
‫قد �صنعت من لوحة الأهداف املخ�ص�صة لتدريبات الأ�سلحة النارية‬
‫�صورة ذلك ال�ضابط ‪ ..‬لت�صيب طلقاتي ر�أ�سه كل مرة ‪ ..‬الغريب‬
‫يف الأمر �أنني ُر�شحت يف خالل ثالثة �أ�شهر ك�أف�ضل رامية يف �صفي‬
‫الدرا�سي لأخو�ض مناف�سة داخلية بيني وبني �أف�ضل الرماة بال�صفوف‬
‫الأكرب مني ‪..‬‬
‫ظل وجه ال�ضابط ال يفارق خميلتي ك ّلما �صوبتُ جتاه اللوحة‪ ،‬ومع‬
‫كل مرة كنت �أحقق �أف�ضل النتائج‪ ،‬وذاع �صيتي باملدر�سة عندما و�صلتُ‬
‫رام بال�صف الأخري‪ ،‬والذي مل‬ ‫للمناف�سة النهائية بيني وبني �أف�ضل ٍ‬
‫ي�سبق و�أن خ�سر من قبل �أمام طالب �آخر منذ التحاقه باملدر�سة ‪..‬‬
‫كان ذلك اليوم هو اليوم الأخري يف ال�ستة �أ�شهر التالية ‪ ..‬انت�صبت‬
‫لوحتان خ�شبيتان مبنت�صف �ساحة املدر�سة ‪ ..‬كانت كل لوحة منحوتة‬
‫على هيئة رجل ‪ ..‬بينما وقفتُ �أنا ومناف�سي على بعد ثالثني مرتًا ‪..‬‬
‫وابتعد الطالب عنا ب�أمتار قليلة م�صطفني بكل اجلهات عدا اجلهة‬
‫التي ن�ص ّوب نحوها ‪ ..‬وجل�س كبري معلمي املدر�سة وغريه من ال�ضباط‬
‫أقداما قليلة عن الأر�ض يف انتظار‬
‫املعلمني على من�صة جانبية ارتفعت � ً‬
‫بدء مناف�ستنا ‪..‬‬
‫كان لكل مت�سابق منا خم�س ت�صويبات‪ ،‬الفائز من يطلق ت�صويباته‬
‫ب�أكرث دقة و�أ�سرع وقت ‪ ..‬وتنتهي امل�سابقة مبجرد �أن ينتهي �أحدنا من‬
‫‪‬‬
‫ت�صويباته ‪� ..‬شعرتُ �أن الطالب الآخر ميتلك من الثقة بالنف�س ما‬
‫يجعله ي�صيب ر�أ�س الهدف على م�سافة �أكرث من مائة مرت ال ثالثني ‪..‬‬
‫لكنني متا�سكتُ ونظرتُ �إىل لوحة هديف وحاولتُ ا�ستح�ضار وجه‬
‫ال�ضابط الذي �أكرهه ليحل حملها‪ ،‬وانفرجت �أ�سارير وجهي حني‬
‫ا�ستح�ضرها ذهني �سري ًعا‪ ،‬ثم هد�أت همهمات الطلبة من حولنا بعدما‬
‫�أ�شار �إليهم �أحد ال�ضباط بالهدوء ‪..‬‬
‫ثم التف ذلك ال�ضابط �إىل كبري املعلمني‪ ،‬قبل �أن ي�ستدير �إلينا‬
‫وي�صيح ب�أن نبد�أ‪ ،‬فرفعتُ �سالحي الناري �أمام عيني‪ ،‬و�أغم�ضتُ‬
‫عيني الي�سري وبد�أتُ الت�صويب نحو وجه ال�ضابط الذي ا�ستح�ضرته‬
‫خميلتي‪ ،‬لكني فوجئت ب�أنه تب ّدل فج�أة �إىل وجه ندمي‪ ،‬ووجدتُ يدي‬
‫تطلق الزناد ‪ ..‬خم�س �ضربات متتالية دون توقف‪ ،‬ليخ ّيم ال�صمت على‬
‫املكان‪ ،‬فنظرتُ خلفي‪ ،‬كان اجلميع يحدقون بي غري م�صدقني وك�أنهم‬
‫قد فتحوا �أفواههم ون�سوا �أن يغلقوها ‪..‬‬
‫كان الطالب الآخر مل يطلق �إال طلقتني فقط‪ ،‬فنظر �إ ّ‬
‫يل غري‬
‫م�صدق ملا حدث ‪� ..‬أما �أنا فالتفتُ جمددًا‪ ،‬ونظرتُ �إىل هديف يف ذهول‬
‫‪ ..‬مل �أكن �أراه لوحة خ�شبية‪ ،‬كانت عيني تراه يقف �أمامي‪ ،‬ب�صدره‬
‫العاري وو�شم �صدره‪ ،‬تنزف ر�أ�سه من منت�صفها وهو يحملق بي مك�سور‬
‫العني ‪..‬‬
‫وبينما كان جميع الطالبات يندفعن نحوي ليحطن بي يف فرحة‬
‫عارمة‪ ،‬كانت عيني ال تزال ُمع ّلقة على اللوحة اخل�شبية التي يتفح�صها‬
‫�ضابطان لإعالن النتيجة دون �أن ت�سمع �أذين �أي تهليالت مما قالتهن‬
‫زميالتي‪ ،‬وك�أنني قد انف�صلتُ عن العامل لدقائق ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم هد�أ اجلميع مرة �أخرى حني انتهى ال�ضابطان من فح�ص‬
‫اللوحتني وعادا �إىل من�صة كبري املعلمني و�أخرباه بالنتيجة‪ ،‬لتظهر‬
‫مالمح الده�شة على وجهه‪ ،‬قبل �أن يهبط من املن�صة ويتجه نحوي‪،‬‬
‫ويقول يل يف �سعادة بالغة‪:‬‬
‫ثوان قليلة جميعها بالر�أ�س ‪� ..‬شيء مل‬
‫ خم�س ت�صويبات يف ٍ‬
‫إنك الرامي الأف�ضل مبدر�ستنا ‪..‬‬
‫يحدث من طالب من قبل ‪ِ � ..‬‬

‫‪9‬‬
‫ثم نظر نحو الطالب وقال‪:‬‬
‫ يبدو �أن رامي من�صة الباحة �سي�صبح �سيد ًة للمرة الأوىل يف‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫‪‬‬
‫«ريان»‬

‫ن�سلي يعي�ش بالوادي ذاته الذي كان يعي�ش به‬ ‫ا�سمي ريان ‪ّ ..‬‬
‫ال�سيد ندمي ‪ ..‬التحقتُ بالتعلم على يده يف عمر الثامنة‪ ،‬ومن بعدي‬
‫�صار العدد يزداد �شي ًئا ف�شي ًئا ‪ ..‬حتى �أ�صبحنا �ستة ع�شر طال ًبا بعد‬
‫وخم�سا وخم�سني مع‬
‫ً‬ ‫ال�ستة �أ�شهر الأوىل‪ ،‬وثالثني بنهاية العام الأول‪،‬‬
‫نهاية العام الثاين‪ ،‬وظل العدد يف تزايد م�ستمر مع �شهورنا املتتالية‬
‫‪ ..‬مل �أعرف قط كيف كان يقنع �سيدي �أمهاتنا ب�أن نلتحق مبدر�سته‬
‫ال�صغرية التي مل تتجاوز ً‬
‫حو�شا �صغ ًريا �أمام كوخه املتطرف بوادينا‪،‬‬
‫لكنه جنح يف ذلك على �أي حال ‪..‬‬
‫كنت �أقرب الطالب �إليه‪ ،‬و�صار يهتم بكل �ش�أن يل ك�أنه �ش�أنه‬
‫متاما‪ ،‬وا�ست�أمنني على �سر عالقته بال�سيدة غفران يف �أ�شهري الأوىل‬‫ً‬
‫من التعلم حتت يده ‪� ..‬أتذكر اخلطة البدائية التي ر�سمناها �سو ًيا‬
‫�أنا وهو و�أختي دميا لن�شتت انتباه �أم ال�سيدة غفران عنها لي�ستطيع‬
‫مقابلتها‪ ،‬قبل �أن ينتهي ذلك اليوم بنهاية �أف�سدت علينا كل �شيء ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫يومها عدنا �س ًريا عرب الطريق الرتابي �إىل وادينا ‪ ..‬ال �أتذكر �أنه‬
‫نطق بكلمة واحدة طوال الطريق ‪ ..‬مل تعلم �أختي حينذاك ما حدث‬
‫ف�س�ألتني يف تعجب عن �سبب ذلك ال�صمت ال�شديد والتجهم اللذين‬
‫كفيل ب�أن يهدم كل ما‬‫�سادا طريقنا‪ ،‬فلم �أجبها ب�شيء ‪ ..‬كان ما ر�أيته ً‬
‫تعلمته ب�أ�شهري ال�ستة التي �سبقت تلك الواقعة ‪ ..‬كنت ً‬
‫طفل �صغ ًريا‬
‫لكنني �أدركتُ �أننا نحن الن�ساىل مهما و�صل بنا احلال �سنظل ن�ساىل‬
‫‪ ..‬الطبقة املنبوذة يف هذا البلد‪� ،‬س�ألتُه حني �أ�صبحنا على م�شارف‬
‫الوادي‪ ،‬وكانت دميا قد ت�أخرت بخطوات عنا‪:‬‬
‫ ملاذا ال نغادر چارتني؟! ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  لن يكون لنا قيمة يف �أي مكان �آخر ‪ ..‬طاملا ال قيمة لنا يف‬
‫بلدنا‪..‬‬
‫قلت �ساخ ًرا‪:‬‬
‫  بلدنا؟!‬
‫ثم تابعتُ عندما حلقت بنا دميا‪:‬‬
‫  �سنظل دون قيمة طاملا ُوجدت القواعد ‪..‬‬
‫قال بعدما �سرنا ب�ضعة خطوات �صامتني‪:‬‬
‫  �ستتغري القواعد يوما ما ‪..‬‬
‫ف�أطلقت دميا �ضحكتها ال�ساخرة‪ ،‬وقالت بتهكم‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ تتغري القواعد؟! ‪ ..‬يحلم ندمي الن�سلي‪.‬‬
‫مل ير ّد �سيدي على ما قالته‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬
‫  لو كنت مكانك مل �أكن لأتقبل ما فعله �ضابط الأمن و�إن كلفني‬
‫حياتي ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫رما قد ي�صل‬
‫ كنت �س�أفعلها ‪ ..‬لكني وعدتُ غفران ب�أال �أرتكب ُج ً‬
‫بي �إىل من�صة الإعدام ‪..‬‬
‫تربمنا �أنا و�أختي‪ ،‬و�آثرنا �أن نكمل طريقنا �صامتني‪.‬‬
‫رغم �صغر �سني وقتها �إال �أن داخلي كان ي�ؤمن ب�شيء واحد؛ موتٌ‬
‫على من�صة الباحة �أف�ضل �ألف مرة من حياة دون كرامة‪ ،‬لكني عاودتُ‬
‫ي�سيها كما ي�شاء ‪ ..‬وتابعتُ‬
‫نف�سي وقلت؛ لكل امرئ حياته له احلق �أن ّ‬
‫درو�سي مع �سيدي‪ ،‬وحاولتُ �أن �أتنا�سى ما ر�أيته ذلك اليوم ‪..‬‬
‫ثم مرت �ستة �أ�شهر �أخرى‪ ،‬وح ّل يوم الغفران لل�شهر ال�سابع‪،‬‬
‫وذهبنا �سو ًيا �إىل باحة جويدا ملقابلة ال�سيدة غفران ‪ ..‬كانت تلك‬
‫املرة �أ�سهل كث ًريا من املرة الأوىل‪ ،‬كانت ال�سيدة غفران قد جاءت‬
‫مبفردها �إىل �ضفة النهر اجلاف حيث انتظرها �سيدي ‪ ..‬غري �أن ما‬
‫حدث ب�آخر لقاء بينهما قد حدث جمددًا من �أحد �شبان چارتني‪ ،‬لكن‬
‫بعدما غادرتنا ال�سيدة ‪ ..‬كنا يف طريقنا �إىل مغادرة جويدا عندما‬
‫اعرت�ض طريقنا ذلك الأخرق‪ ،‬وحاول �إيذاء �سيدي عندما ر�أى َو ْ�شمه‪،‬‬
‫ومثل املرة ال�سابقة كتم �سيدي غيظه �إىل �أق�صى حد‪ ،‬فوا�صل ال�شاب‬
‫‪‬‬
‫�إهاناته‪ ،‬ولكم �سيدي مبنت�صف �صدره بقوة‪ ،‬فوا�صل �سيدي كتمان‬
‫غيظه‪ ،‬ثم ر�أيتُ قب�ضة يده تتكور و�شعرتُ �أنه على و�شك �أن يرد لكمته‪،‬‬
‫�صب علينا ً‬
‫وابل من‬ ‫لكنه متالك نف�سه بالنهاية‪ ،‬وتركنا الفتى بعدما ّ‬
‫ال�شتائم ‪..‬‬
‫مل �أحب ما حدث وكرهتُ كوننا ن�ساىل‪ ،‬وبد�أت كراهيتي لأهل‬
‫چارتني تزداد يف قلبي كل يوم عن اليوم الذي ي�سبقه ‪ ..‬ومل �أجد نف�سي‬
‫�إال و�أنا �أ�صرخ به دون وعي‪:‬‬
‫ ملاذا مل تفعل ذلك �سيدي؟ ‪..‬‬
‫قال هاد ًئا‪:‬‬
‫  من �أجلكم ‪..‬‬
‫قلت با�ستنكار بالغ‪:‬‬
‫ ال �أريد ذلك ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  �ستفهم كل �شيء حني تكرب يا ريان ‪..‬‬
‫ركلتُ حج ًرا بقدمى يف طريقنا يف حنق �شديد‪ ،‬ثم رك�ضتُ غا�ض ًبا‬
‫مبتعدً ا عنه دون �أن �أنظر خلفي‪ ،‬كان داخلي ي�صرخ‪:‬‬
‫ ال �أريد �أن �أ�صري مثل �سيدي ‪ ..‬بئ�س ذلك احلب الذي يجعلني‬
‫�ضعي ًفا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كان كل ما يدور يف ر�أ�سي �صفعات �ضابط الأمن على وجهه‪،‬‬
‫وتهكمات ال�شاب الچارتيني‪ ،‬ولكمته القوية له مبنت�صف �صدره دون �أن‬
‫ي�صدر �سيدي �أي ردة فعل‪ ،‬وعدتُ اله ًثا �إىل كوخ �أمي‪ ،‬وانزويتُ ب�أحد‬
‫�أركانه باك ًيا‪ ،‬وحدثتُ نف�سي و�أنا �أن�شج‪:‬‬
‫ �أكره چارتني و�أهلها ‪� ..‬أكرههم و�أكره ال�سيدة التي تفعل ذلك‬
‫ب�سيدي ‪ ..‬كان عليها �أن ترتكه و�ش�أنه فح�سب‪ ،‬يعي�ش مثل باقي‬
‫الن�ساىل ‪..‬‬
‫وبقيتُ يف تلك احلالة املزرية حتى ح ّل الليل وخ ّيم الظالم الدام�س‬
‫على وادينا‪ ،‬ومع كل حلظة كان الغيظ يزداد بداخلي جتاه ال�سيد ندمي‪،‬‬
‫�إىل �أن وثب بعقلي قراري ب�أال �أكمل درو�سي معه‪ ،‬وا�شتعل الغ�ضب‬
‫بداخلي �ساعتها‪ ،‬ونه�ضتُ من مو�ضعي لأذهب �إليه يف منت�صف الليل‬
‫لأفرغ له ما يف جعبتي من كلمات الذعة و�أخربه �صراحة �أنني ال �أر�ضى‬
‫خارجا من كوخنا‪ ،‬و�أنا �أم�سح‬
‫م�سرعا ً‬‫ً‬ ‫�أن �أكمل درو�سي معه ‪ ..‬وخطوتُ‬
‫دموعي و�أهم�س �إىل نف�سي مبا �س�أقوله‪:‬‬
‫ لن �أتعلم معك بعد اليوم �أيها ال�ضعيف ‪ ..‬كنت �أقرب ال�سادة يل‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫‪ ..‬لكنني لن �أر�ضى ب�أن �أكون مثلك ً‬
‫و�أكملتُ طريقي بني الطرقات املظلمة ال�ساكنة �إىل حد املوت حتى‬
‫و�صلتُ �إىل كوخه القابع بالطرف الآخر من الوادي ‪ ..‬كان ثمة م�صباح‬
‫ي�ضيء داخله‪ ،‬ف�أدركتُ �أنه بالداخل‪ ،‬وتوقفتُ �أمام الكوخ �أحاول �أن‬
‫�أراجع ما �أقوله ‪ ..‬قبل �أن تندفع الدماء �إىل وجهي وتت�سارع دقات قلبي‬
‫ارتعا ًبا حني اخرتق �سمعي فج�أة �صوت طرقات م�ستمرة كانت ت�أتي من‬

‫‪‬‬
‫داخل كوخه ‪ ..‬طرقات قوية ك�أن �أحدهم يهدم جدا ًرا‪ ،‬حتى �أن نور‬
‫امل�صباح ال�صادر داخل الكوخ قد اهتز معها‪ ،‬ثم كدتُ �أبلل بنطايل‬
‫حني �صدر �صوت �صراخ �شديد مفاجئ مع تلك الطرقات ‪ ..‬فعدتُ‬
‫خطوات بظهري �إىل اخللف‪ ،‬وجل�ستُ على الأر�ض من الرعب الذي‬
‫انتابني ‪..‬‬
‫ظلت الطرقات م�ستمرة بنف�س القوة دون توقف ‪ ..‬بينما كان‬
‫ال�صراخ يزداد مع كل طرقة ك�أن �أحدهم يز�أر بالداخل ‪ ..‬ما كان‬
‫يقتلني خو ًفا �أنني كنت �أعلم �أن ذلك الزئري هو �صوت �سيدي نف�سه‪ ،‬ثم‬
‫متالكتُ �أع�صابي‪ ،‬ونه�ضتُ واقرتبتُ بحذر على �أطراف �أ�صابعي من‬
‫باب الكوخ اخل�شبي ‪ ..‬ود�س�ستُ عيني بني �شقوق الباب لأرى ما مل �أره‬
‫يف حياتي ‪..‬‬
‫متاما ‪ ..‬تربز عيناه ب�شدة‪ ،‬وتنتفخ‬ ‫كان �سيدي عاري اجل�سد ً‬
‫عروقه وع�ضالت ج�سده ب�صورة مل ي�سبق يل �أن ر�أيتها ‪ ..‬كان يلكم‬
‫بلكمات متتالية �شديدة للغاية جعلت الدماء ت�سيل من‬ ‫ٍ‬ ‫جدار الكوخ‬
‫قب�ضته‪ ،‬لكنه كان يوا�صل �ضرباته وك�أنه ال ي�شعر ب�أي �أمل‪ ،‬بينما تز�أر‬

‫‪9‬‬
‫يرج اجلدران من حوله مع كل �ضربة ي�ضربها‬ ‫حنجرته ب�صوت �صارخ ّ‬
‫‪� ..‬ضربات م�ستمرة دون توقف ‪ ..‬زئري متوا�صل ي�صل عنان ال�سماء ‪..‬‬
‫دماء ت�سيل من قب�ضة يده دون �أمل ‪ ..‬رعب حقيقي يجتاحني و�أنا �أرى‬
‫بعيني كيف بد�أت الروح الن�سلية تثور داخل ج�سد �سيدي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)15‬‬
‫«غفران»‬
‫�أ�صابت الفرحة العارمة زميالت �صفي عندما �صدر لفظ رامي‬
‫بوابل من املباركات‬
‫املن�صة من كبري �ضباط املدر�سة‪ ،‬وغمرنني ٍ‬
‫والتهاين‪� ،‬أما �أنا فاجتاحتني حالة من الذهول والت�شتت ال�شديد ما‬
‫بني فرحتي مبا حدث قبل حلظات وبزوغ �أمل مفاجئ للعمل بالباحة‬
‫مرة �أخرى‪ ،‬وبني وجه ندمي الذي ظهر يل على الهدف اخل�شبي‬
‫لأحقق نتيجة ت�صويب وتوقيت مل ي�سبق لطالب و�أن حققها ‪ ..‬وملّا طال‬
‫ذلك الت�شتت على مالحمي �س�ألتني �إحدى زميالتي �إن كنت ال �أ�شعر‬
‫بالفرحة‪ ،‬و�إن كان كل �شيء بي على ما يرام ‪ ..‬فطم�أنتُها‪ ،‬قبل �أن �أغادر‬
‫م�شتتة البال و�أعود �إىل فرا�شي بعنرب النوم‪.‬‬
‫يوما‪،‬‬
‫يف اليوم التايل كان موعد �أجازتنا املو�سمية ‪� ..‬أربعة ع�شر ً‬
‫ح�ضرتُ بها يوم الغفران‪ ،‬ومتكنتُ من مقابلة ندمي ب�سهولة عن �آخر‬
‫مرة‪ ،‬مل يحدث �شيء عندما كنا م ًعا‪ ،‬حتى تركته وعدتُ �إىل والداي‪،‬‬
‫ال �أتذكر �أنني حتدثتُ كث ًريا تلك املرة‪ ،‬كنتُ �شاردة للغاية على عك�س‬
‫العادة ‪ ..‬كنت ك ّلما �أنظر �إليه �أتذكر وجهه املنطبع على الهدف‬
‫اخل�شبي وتلك الإ�صابة الدقيقة بني حاجبيه‪ ،‬وقتها �أ�صابني ال�ضيق‬
‫‪‬‬
‫من نف�سي‪ ،‬و�آثرتُ �أن �أعود �إىل الباحة بعد فرتة ق�صرية جدً ا من لقائنا‬
‫‪ ..‬كان الطفل ريان ينتظره �أمام البوابة ال�شرقية مثل املرة ال�سابقة‪،‬‬
‫حتى غادرا �سو ًيا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫ثم بد�أ عامي الثاين يف املدر�سة‪ ،‬ومعه تغري �شيئان كانا �إيجابيني‬
‫للغاية ‪ ..‬الأول �أن �أمي �صارت حبلى ب�أخي زين‪ ،‬والثاين �أنني �أ�صبحتُ‬
‫الأكرث �شهرة بني طالب املدر�سة املتجاوزين الألف طالب بعدما مل‬
‫يتمكن �أحد من االقرتاب من معديل يف الت�صويب‪.‬‬

‫يوما بعد يوم تبهر كل من ي�شاهدين‪ ،‬حتى �أن‬ ‫ظلت ت�صويباتي ً‬


‫بع�ضهم �أخربوين خل�س ًة �أنني �أف�ضل من معلمينا‪ .‬بعدها التحقتُ بفريق‬
‫الرماية املتميز باملدر�سة لأرتاح كث ًريا من التدريبات البدنية ال�شاقة‪.‬‬
‫مع كل م�سابقة للرماية كانت هناك ثالثة �أمور ثابتة ‪ ..‬وجه ندمي‬
‫املنطبع �أمام عيني على الهدف اخل�شبي ‪ ..‬املركز الأول دق ًة وتوقيتًا‬
‫بفارق كبري عن املراكز الأخرى ‪ ..‬ثناء كبري ال�ضباط وت�أكيده يل ب�أنني‬
‫رامي املن�صة القادم‪ .‬وهذا ما حدث بالفعل ‪..‬‬
‫عدتُ �إىل باحة جويدا بعد �أربعة �سنوات كرامي من�صتها ‪� ..‬أربعة‬
‫�سنوات فاتتني فيها �أيام كثرية من �أيام الغفران‪ ،‬لكني �صرتُ خاللها‬
‫ون�ضجا عما كنت عليه قبلها ‪� ..‬أربعة �سنوات مل ُيخ ّل‬
‫ً‬ ‫�أكرث قو ًة وجر�أ ًة‬
‫فيها ندمي بوعده الذي قطعه يل‪ ،‬وظل على قيد احلياة يع ّلم �أبناء‬
‫الن�ساىل ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫�أتذكر يومي الأول على املن�صة هناك ‪ ..‬تلك الهمهمات التي‬
‫�صدرت ومل تنقطع حني ارتقيتُ املن�صة مبالب�سي الع�سكرية ‪ ..‬بدلتي‬
‫ال�صوفية الرمادية ذات الأكمام الطويلة‪ ،‬والبنطال ال�ضيق الذي‬
‫يحمل نف�س اللون ويند�س �أ�سفل حذاء جلدي طويل العنق‪ ،‬بينما يحيط‬
‫خ�صري حزا ٌم �أ�سود �سميك ُتعلق به حافظة �سالحي الناري املُعب�أ‬
‫بالبارود احلي ‪..‬‬
‫كانت خطواتي الأوىل على املن�صة ثابت ًة واثقة ‪ ..‬مل �أجد قلبي‬
‫يدق رهب ًة مثلما كان �سيفعل �إن حدث هذا الأمر قبل �سنوات ‪ ..‬وقفتُ‬
‫مواجهة للجمهور �شاهقة الر�أ�س قبل �أن �ألتفت جتاه القا�ضي الكبري‬
‫بثبات بالغ‬
‫ألتف ٍ‬ ‫لألقي حتيتي الع�سكرية‪ ،‬ثم تلقيتُ �أمر الإعدام منه ل ّ‬
‫�إىل الن�سلي الأول يف حياتي املهنية‪ ،‬و�صوبتُ �سالحي نحو ر�أ�سه لينطلق‬
‫البارود حمط ًما ما بني حاجبيه ‪ ..‬وقتها فقط توقفت الهمهمات لي�سود‬
‫�صمت رهيب مل يقطعه �إال �صوت زغرودة انطلقت من م�ؤخرة الباحة ‪..‬‬
‫كانت املرة الأوىل التي �أقتل فيها �أحدهم‪ ،‬ومل تكن الأخرية ‪..‬‬
‫يوم غفران وراء �آخر بد�أت يدي تعتاد �إطالق النار على الن�ساىل‬
‫فوق املن�صة ‪� ..‬إعدا ٌم واحد بكل مرة‪ ،‬اثنان‪ ،‬ثالثة ‪ ..‬رجال‪ ،‬ن�ساء ‪ ..‬مل‬
‫يكن عقلي يفكر بهم على الإطالق ‪ ..‬كلهم واحد‪ ،‬جمرم ا�ستحق القتل‪،‬‬
‫وجاء دوري لأحقق عدالة چارتني ‪..‬‬
‫�صار الأمر بالن�سبة يل طلقة بارود ُتطلق ‪ ..‬جثة تت�ساقط ‪ ..‬زغرودة‬
‫تدوي من خلفي ‪ ..‬لأنتقل �إىل �إعدام �آخر وك�أن �شي ًئا مل يحدث ‪ ..‬ذات‬
‫يوم �سمعتُ امر�أة تقول �أن �أطفال جويدا باتوا يخافون مني ومن جمود‬
‫اهتماما لذلك ‪ ..‬لكني مع مرور‬
‫ً‬ ‫أعط‬
‫وجهي ومالحمه القا�سية ‪ ..‬مل � ِ‬
‫‪‬‬
‫الأيام �صرتُ ح ًقا الفتاة التي يخ�شاها �أهل جويدا جميعهم ‪ ..‬وهذا ما‬
‫�أ�سعد داخلي للغاية‪.‬‬
‫على عك�س �أمي التي كانت ترى �أن وظيفتي تلك كانت �ستقلل فر�صي‬
‫بالزواج ‪ ..‬وبد�أ اجلدال ي�شتعل بيننا ك ّلما جاء ٌ‬
‫عري�س خلطبتي ورف�ضي‬
‫للأمر دون حتى التحدث معه ‪ ..‬ثم ح ّلت فاجعتنا الكربى حني مات �أبي‬
‫ً‬
‫مر�ضا قبل و�صوله اخلم�سني بثالثة �أعوام ‪ ..‬ومن بعدها �صار اجلدال‬
‫طق�سا يوم ًيا ال بد و�أن يخو�ضه كالنا ‪ ..‬حتى فا�ض بي‬
‫بيني وبني �أمي ً‬
‫الأمر ذات مرة و�صرختُ بها‪:‬‬
‫  �س�أتزوج ندمي ‪..‬‬
‫قالت م�ستفهمة‪:‬‬
‫  ندمي من؟! ‪..‬‬
‫قلت ب�صوت خافت‪:‬‬
‫ الن�سلي ‪..‬‬
‫قالت غري م�صدقة‪:‬‬
‫ �أمل ينت ِه ذلك الأمر منذ �أعوام؟!!‬
‫هززتُ ر�أ�سي نف ًيا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬مل ينت ِه ‪..‬‬
‫ظلت تنظر نحوي يف ذهول حينما ر�أت اجلدية التي �أحتدث بها‪،‬‬
‫ثم �صرخت بي‪:‬‬

‫‪‬‬
‫  لن يحدث هذا الأمر ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ لقد وعد ُته بذلك‪ ،‬و�أق�سم ِ‬
‫لك لو �أنه عرب �إىل عامه اخلام�س‬
‫والع�شرين دون جرمية �س�أتزوجه �أمام �أهل چارتني جميعهم‬
‫لي�صري �شري ًفا مثلنا ‪..‬‬
‫فجل�ست على مقعدها �أمام الطاولة وو�ضعت ر�أ�سها بني يديها‪،‬‬
‫ومتتمت‪:‬‬
‫ لن يحدث هذا الأمر ‪ ..‬لن يحدث ‪..‬‬
‫كان �أخي قد بلغ �أربع �سنوات وقتها ‪ ..‬وكان يراقب جدالنا بخوف‬
‫‪ ..‬ف�أكملت وهي تنظر �إليه‪:‬‬
‫ لن ي�صيب العار عائلتنا �أبدً ا ‪..‬‬
‫فغادرتُ غا�ضبة ‪ ..‬وزاد الأمر عنادًا بي �أنني �صرتُ �أقابل ندمي عل ًنا‬
‫�أمام النا�س جميعهم بعدما �أ�صبح لقا�ؤنا ب�أيام الغفران �أم ًرا ً‬
‫حمال‬
‫ويوما بعد يوم انت�شر خرب مقابالتنا‬ ‫لبقائي بالباحة طوال اليوم ‪ً ..‬‬
‫بني �أهل جويدا‪ ،‬و ُلقب ندمي بالن�سلي الذي يواعد ال�سيدة غفران ‪..‬‬
‫رامي املن�صة ‪ ..‬و�سمعتُ �أن كث ًريا من احلكايات والق�ص�ص املختلفة‬
‫قد تناقلت ب�ش�أننا ‪..‬‬
‫متاما �أنني ال �أخالف قواعد بالدي بتلك‬
‫غري �أنني كنت �أعرف ً‬
‫املقابالت‪ ،‬و�أنه ال ُتوجد قاعدة واحدة متنع �أن يقابل ن�سلي �شريفة ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫ف�ألقيتُ بهرائهم كله وراء ظهري‪ ،‬لأكمل وعدي الذي وعد ُته به قبل‬
‫�سنوات ب�أنني �س�أوا�صل معه طريقه نحو عامه اخلام�س والع�شرين‪،‬‬
‫لأزيل وقتها و�شمه بخنجري على من�صة باحتنا املف�ضلة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫«ريان»‬

‫عدتُ بقدمي خطوات �إىل اخللف دون �أن �أ�صدر �أي �صوت‪ ،‬ثم‬
‫ركبتي �إىل �صدري‬
‫ّ‬ ‫�ضاما‬
‫جل�ستُ على بعد �أمتار قليلة من باب الكوخ ً‬
‫يرجتف ج�سدي ب�شدة بعدما مل تتوقف الطرقات �أو الأ�صوات‬
‫ال�صارخة ال�صادرة من �سيدي ‪ ..‬كنت خائ ًفا للغاية من االقرتاب من‬
‫الباب اخل�شبي جمددًا‪ ،‬لكنني قررتُ �أال �أغادر و�أترك �سيدي‪ ،‬ومكثتُ‬
‫مكاين ينتف�ض ج�سدي مع كل �صرخة‪ ،‬وتدور بعقلي خياالت كثرية‬
‫قليل من الأعوام ‪..‬‬
‫بعدما تخيلتُ نف�سي مبو�ضعه بعد ٍ‬
‫ثم مر الوقت �ساعة وراء �أخرى وبد�أت الطرقات تهد�أ �شي ًئا‬
‫ف�شي ًئا و�أ�صبحت على فرتات متباعدة وهد�أ ال�صريخ معها‪ ،‬فعلمتُ‬
‫متاما‪ ،‬فنه�ضتُ واقرتبتُ بحذر‬ ‫توقفت ً‬
‫ْ‬ ‫�أن الإنهاك قد �أ�صابه‪� ،‬إىل �أن‬
‫لأنظر عرب �شقوق الباب‪ ،‬فوجدته ملقى على بطنه ممددًا عار ًيا �ساك ًنا‬
‫ُتغطي الدماء ظهر يديه امل�صابتني ب�شدة‪ ،‬فمددتُ �سبابتي يف حذر‬
‫ب�شق كبري بني قطعتي من �أخ�شاب الباب لأالم�س قطعة خ�شبية �صغرية‬ ‫ٍ‬
‫�أفقية كانت تغلقه‪ ،‬وبد�أتُ بتحريكها حركة ن�صف دائرية حتى متكنتُ‬
‫‪‬‬
‫باحرتا�س‪ ،‬وجثوتُ على ركبتي‬
‫ٍ‬ ‫من فتحه ببطء‪ ،‬ودلفتُ �إىل الكوخ‬
‫بجواره ‪ ..‬وقلت‪:‬‬
‫ �سيدي ‪..‬‬
‫قمي�صا قما�ش ًيا كان ُملقى على‬
‫ً‬ ‫مل يجبني‪ ،‬فنه�ضتُ و�أح�ضرتُ‬
‫الأر�ض‪ ،‬وغطيتُ به خ�صره العاري‪ ،‬وهم�ستُ �إليه جمددًا‪:‬‬
‫ �سيدي ‪..‬‬
‫ثم مددتُ يدى �إىل كتفه‪ ،‬وهزز ُته بحذر وقلبي يدق خو ًفا‪:‬‬
‫ �سيدي ‪..‬‬
‫بعدها كاد قلبي يتوقف حني فتح عينيه املحمرتني فج�أة ونظر يف‬
‫عيني مبا�شرة‪ ،‬ف�أجفلتُ وعدتُ م�ضطر ًبا �إىل اخللف ف�سقطتُ على‬
‫ظهري ‪ ..‬فقال متع ًبا‪:‬‬
‫ ما الذي جاء بك �إىل هنا يا ريان ‪ ..‬حان وقت الدر�س ؟! ‪..‬‬
‫قلت با�ضطراب‪:‬‬
‫  ال يا �سيدي ‪� ..‬إنني فقط ‪...‬‬
‫فنظر �إىل يديه املجروحتني وقال خائ ًفا‪:‬‬
‫ ماذا حدث؟! ‪..‬‬
‫مل �أقل �شي ًئا ‪ ..‬ثم وجد ُته ينه�ض فج�أة‪ ،‬ف�سقط القمي�ص عن‬
‫خ�صره‪ ،‬فرفعه على الفور ليغطي ج�سده �أمامي‪ ،‬ثم �س�ألني جمددًا وهو‬
‫يتفقد الكوخ املُحطم من حوله‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ ماذا حدث؟! ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ً‬
‫�صراخا مل �أ�سمعه من‬ ‫ ر�أيتُك ت�ضرب اجلدران بقوة وت�صرخ‬
‫قبل ‪..‬‬
‫�سكت وهو يتفح�ص يده اليمنى امل�صابة �إ�صابة بالغة‪ ،‬ثم قال‬
‫�شاردًا‪:‬‬
‫ ال �أتذكر �أي �شيء ‪..‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا دون �أن �أقول �شي ًئا ‪ ..‬ثم نه�ضتُ وحتركتُ‬
‫بنطال من �صندوق خ�شبي كان‬ ‫بني �أركان كوخه ال�ضيق‪ ،‬و�أح�ضرتُ له ً‬
‫مفتوحا‪ ،‬فارتداه يف الوقت الذي �أح�ضرتُ به �إنا ًء من املاء كان بركن‬
‫ً‬
‫بعيد‪ ،‬و�أخذتُ �أغ�سل جروح يده و�أزيل الدماء املتجلطة عنها ‪ ..‬كنت قد‬
‫ر�أيت �أحدهم يفعل ذلك يف �إحدى املرات التي ذهبت فيها �إىل جويدا‬
‫‪..‬‬
‫كان ينظر �إ ّ‬
‫يل و�أنا �أقوم بذلك فح�سب‪ ،‬حتى انتهيتُ فوجدته يقول‪:‬‬
‫ ال تخرب �أحدً ا مبا حدث ‪..‬‬
‫فهززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬ثم قال ب�صوت هادئ حمد ًثا نف�سه‪:‬‬
‫ لن �أدعها تنت�صر ‪..‬‬
‫فنظرتُ �إليه و�أنا �أعلم �أنه يق�صد الروح الن�سلية‪ ،‬قبل �أن يتابع‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ �س�أكمل وعدي �إىل غفران ‪..‬‬
‫قلت وقتها‪:‬‬
‫ �أي وعد �سيدي؟! ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ثمان �سنوات ‪..‬‬
‫  �سنتزوج بعد ِ‬
‫فرحا‪:‬‬
‫عيني‪ ،‬وقلتُ ً‬
‫ات�سعت حدقتا ّ‬

‫‪9‬‬
‫ ح ًقا؟! ‪� ..‬س�أ�صري وقتها يف ال�سابعة ع�شر ‪..‬‬
‫فربت على ر�أ�سي بيده‪ ،‬فنه�ضتُ وق ّبلتُ ر�أ�سه فابت�سم‪ ،‬ثم غلبه‬
‫النعا�س بعد ذلك الإنهاك الذي مر بج�سده‪ ،‬فعدتُ �إىل كوخنا ‪..‬‬

‫ً‬
‫م�ستيقظا �أفكر مبا حدث حتى‬ ‫مل �أخرب دميا يومها ب�شيء ‪ ..‬ظللتُ‬
‫وقت طلوع النهار التايل ‪ ..‬ووجد ُتني �أعود �إىل مدر�سة ال�سيد ندمي‬
‫لأكمل درو�سي معه ‪ ..‬وك�أنني ن�سيتُ ما كنت �أفكر به الليلة املا�ضية حني‬
‫ذهبتُ �إىل كوخه غا�ض ًبا ‪ ..‬ال �أعلم ما الذي ح ّل بداخلي‪� ،‬صارت ّ‬
‫لدي‬
‫رغبة عارمة لكي يحقق �سيدي حلمه ‪..‬‬
‫ر�أيتُ بعيني كيف كان يقاوم روحه الن�سلية ‪ ..‬و�أدركتُ جيدً ا �أن‬
‫نف�سه �أمام من تعمدوا �إيذاءه مل يكن �إال قو ًة فح�سب‪ ،‬لو ترك‬‫َ َتا ُل َك ِ‬
‫املجال لتلك الروح بداخله لتقود ج�سده لقتلهم على الفور‪ ،‬لكن حينها‬
‫لن يكون جل�سده �سبيل �إال املن�صة امللعونة ليرتكنا جمي ًعا ‪ ..‬هذا الذي‬
‫‪‬‬
‫أ�شخا�صا عاديني ال نقل عن ال�شرفاء‬
‫ً‬ ‫أمل كب ًريا لنم�سي �‬ ‫�أعطى لنا � ً‬
‫يف �شيء ‪ ..‬كان بتعليمه لنا يد ّرب نفو�سنا لل�سيطرة على الروح الآثمة‬
‫وقتما يكن الأمر ُمتعل ًقا ببقائنا �أحياء ‪..‬‬
‫مل �أعلم وقتها �إن كان يفعلها لأجله �أم لأجل ال�سيدة غفران �أم‬
‫لأجلنا ‪ ..‬لكني كنت متيق ًنا ً‬
‫متاما �أن ما كان يفعله �سيبقى نقطة فارقة‬
‫يف حياة الن�ساىل ‪ ..‬وزاد الفخر بداخلي ب�أنني �أول من تعلمتُ على يديه‬
‫‪ ..‬وزاد تعلقي به وك�أنه والدي الذي ال �أعرفه ‪ ..‬و�صرتُ �أذهب كل م�ساءٍ‬
‫�إىل كوخه لأطمئن عليه دون �أن يراين‪ ،‬كنت �أنظر من �شقوق الباب‬
‫فح�سب ‪� ..‬إن كان نائ ًما تركته نائ ًما و�أغادر‪ ،‬و�إن هاجت روحه ظللتُ‬

‫‪9‬‬
‫منتظ ًرا خارج الكوخ حتى تهد�أ‪ ،‬ف�أدلف �إىل الكوخ و�أ�ض ّمد جراح يديه‬
‫و�أغادر قبل �أن يفيق من غفوته ‪..‬‬
‫كان يعلم بالطبع �أنني من يفعل ذلك في�أتي لي�شكرين باليوم التايل‬
‫ف�أر ّد كالمه بابت�سامة �صادقة ‪..‬‬

‫عا ٌم وراء �آخر �صار ال�سيد ندمي ح ًقا هو حلم الن�ساىل ‪� ..‬أ�صبح‬
‫طالب ‪ ..‬فق�سمنا �إىل جماعات‬ ‫عددنا مع العام الرابع مائة وع�شرة ٍ‬
‫على مدار النهار‪ ،‬وجعلني �أتوىل تعليم الأطفال الأ�صغر �س ًنا ‪..‬‬
‫جمرما‬
‫ً‬ ‫مع الوقت �صار حلمي �أنا الآخر �أن �أ�صري �شري ًفا ً‬
‫يوما ما ال‬
‫ميوت �أمام �أهل چارتني ‪ ..‬و�شعرتُ ب�أن ذلك بات حلم الكثريين غريي‬
‫ممن يتعلمون على يد معلمنا ‪ ..‬خا�ص ًة بعدما �أ�صبحت ال�سيدة غفران‬
‫رامي املن�صة و�أعلنت بكل جر�أة عن عالقتها بال�سيد ندمي‪ ،‬لتنت�شر‬
‫‪‬‬
‫احلكايات والق�ص�ص عنهما بني �أكواخنا‪ ،‬وليت�ضخم معها الأمل‬
‫بيننا جمي ًعا ‪� ..‬أنا الذي كنت �أخ�شى �أن تثور روحي الن�سلية �صار قلبي‬
‫مطمئ ًنا ب�أنني �س�أخ�ضعها ل�سيطرتي حينما تثور‪ ،‬و�إن كلفني ذلك‬
‫دوما‬
‫�إ�صابات بالغة بيدي ‪ ..‬متنيتُ لو مل تغادر دميا ‪ ..‬كنت �أقول لها ً‬
‫رمبا يتغري حالنا‪ ،‬لكنها مل ت�ؤمن بذلك‪ ،‬وغادرت مع غجري رح ّال من‬
‫بالد �أخرى ‪..‬‬
‫ها هي ال�سنوات توا�صل مرورها‪ ،‬وعرب �سيدي عامه الرابع‬
‫والع�شرين‪ ،‬وبات حلمنا جمي ًعا على و�شك التحقق يا دميا ‪ ..‬لكن‬
‫احلقيقة التي ال يعرفها غريي ‪� ..‬أنه ك ّلما مر يوم واقرتب �سيدي من‬
‫عامه اخلام�س والع�شرين كان الأمر ي�صري �أكرث �صعوبة ‪..‬‬
‫مع اليوم الأول يف ذلك العام �صار هناك �شيء خمتلف �إىل حد‬
‫ما ‪ ..‬وقتها كنت قد بلغتُ عامي ال�ساد�س ع�شر وا�شتد عودي كث ًريا ‪..‬‬
‫رك�ضا‪ ،‬ويطلب مني اله ًثا �أن �أق ّيده‪،‬‬
‫ووجدتُ �سيدي ي�أتي �إىل كوخي ً‬
‫يل كي �أ�سرع‪ ،‬ففعلتُ ما �أمرين به‪،‬‬ ‫تو�سل �إ ّ‬
‫فتعجبتُ مما يطلبه‪ ،‬لكنه ّ‬
‫وقيد ُته بحبل �سميك‪ ،‬وجل�ستُ على مقرب ٍة منه يف ترقب �شديد ‪..‬‬
‫عاد �سيدي �إىل انتفا�ضاته وزئريه ال�صارخ املتوا�صل ‪ ..‬كان الزئري‬
‫تلك املرة �أقوى من املرات الكثرية املا�ضية ‪ ..‬ومعه انتفخت عروق‬
‫ج�سده وخا�صة رقبته ب�صورة مرعبة جعلتني �أظن �أن الدماء �ستنفجر‬
‫ً‬
‫مهرول �إىل ركن بعيد‬ ‫علي‪ ،‬فابتعدتُ‬
‫منها ‪ ..‬حتى �أن اخلوف قد �سيطر ّ‬
‫بالكوخ‪ ،‬وا�ستعددتُ للهروب بعدما ظننتُ �أنه �سيقطع احلبل ال�سميك‬
‫الذي قيدته به‪ ،‬لكنه انهار بعد فرتة من الوقت ‪ ..‬وهو يقول يل‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ هناك �شيء ما يتحرك بداخلي ‪..‬‬
‫كنت �أ�شفق عليه كث ًريا‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬
‫ �ستعرب هذا العام ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫لكنه وا�صل همهمته وهو يلهث‪:‬‬
‫ هناك �شيء ما يتحرك بداخلي بقوة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)16‬‬
‫«غفران»‬

‫ما كنتُ �أخ�شاه قد حدث‪ ،‬حني بلغتُ عامي الثالث والع�شرين وبلغ‬
‫ندمي عامه الرابع والع�شرين كانت �أمي قد و�صلت عامها اخلم�سني ‪..‬‬
‫�أيقظتنا ذلك ال�صباح طرقات على بابنا كنا ننتظرها بح�سرة‬
‫�شديدة‪ ،‬قبلها ب�أيام ظلت �أمي باقية بحجرتها ترتدي ف�ستا ًنا �أبي�ض‬
‫وحتت�ضن زين‪ ،‬بينما مل �أغادر بيتنا حلظة واحدة تلك الفرتة‪ ،‬وك�أنني‬
‫وددتُ لو عو�ضني نومي بح�ضنها يف �آخر �أيامها عن �سنواتي التي‬
‫�س�أعي�شها بدونها ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫مل ن�ش�أ �أن يدور �أي جدال بيننا ب�ش�أن زواجي ‪ ..‬كنا ابنة و�أم على‬
‫و�شك املوت فح�سب‪ ،‬ليبقى ثالثتنا على �سرير واحد نتبادل دفء‬
‫�أج�سادنا ُقبيل �أن نفقد الدفء الأكرب ‪ ..‬ال�صفعة احلقيقية امل�ؤملة يل‬
‫من قواعد چارتني ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫مع ذلك ال�صباح ح�ضر �ضابطان �إىل بيتنا معهما �أوراق ثبوت‬
‫بلوغ �أمي اخلم�سني‪ ،‬مل يعرت�ض �أي منا �إال بدموعنا التي �سالت على‬
‫وجوهنا‪ ،‬ال ي�ستطيع �أح ٌد االعرتا�ض ‪ ..‬ال ا�ستثناءات يف هذه القاعدة‪،‬‬
‫ومن �أجل بقاء ن�سلنا �شري ًفا كان على �أمي �إنهاء حياتها طب ًقا للقواعد‬
‫ذلك ال�صباح ‪..‬‬
‫غادرت �أمي مع ال�ضابطني الذين رف�ضا مرافقتي لهما‪ ،‬حتى و�إن‬
‫كنت �أعلى منهما رتب ًة‪ ،‬وبقيتُ �أنا وزين يف بيتنا ‪� ..‬س�ألني بخوف‪:‬‬
‫ �إىل �أين تذهب؟‬
‫قلت كاذبة‪:‬‬
‫ �ستعود قري ًبا ‪..‬‬
‫ال يعلم �أي من �أهل چارتني �شي ًئا عن طريقة موتنا بوادي حوران‬
‫بال�شمال ال�شرقي‪ ،‬يخت�ص رجال الدين بذلك الأمر ويبقونه �س ًرا ‪..‬‬
‫�أكرث الأقاويل قالت �أنه �س ٌم مريح يو ّفر ميتة مريحة دون �أمل‪ ،‬لكن مل‬
‫ي�ستطع �أحد �أن ي�ؤكد ذلك الأمر‪� ،‬س�أعرف حت ًما حني �أبلغ موعدي‪،‬‬
‫�أمتنى فقط �أن تذهب روح �أمي النقية �إىل ج�سد طاهر �شريف يحافظ‬

‫‪9‬‬
‫عليها ‪..‬‬
‫هذه هي �سنة احلياة يف چارتني ‪� ..‬أ ٌمل حقيقي من فراق �أقرب‬
‫النا�س لك عليك �أن تعتاده‪ ،‬هكذا ُخلقنا وهكذا نعي�ش وهكذا نرتكها‬
‫ملن بعدنا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫بعد موت �أمي تركتُ بيتنا القدمي‪ ،‬وانتقلتُ مع �أخي �إىل بيت جديد‬
‫لبدء حياة جديدة‪ ،‬حاولتُ تدريج ًيا �أن �أع ّو�ضه عن غياب �أمي و�أن �أهتم‬
‫متاما‪ .‬م�سكني هذا الطفل جاءت به �أمي‬ ‫به ك�أن �أبي و�أمي موجودان ً‬
‫ليمنع عني وحدتي لكنها تنا�ست �أنه �س ُيحرم �صغ ًريا منها ومن �أبي ‪..‬‬
‫مل �أهتم بتعليمه القواعد كما تعلمتُ يف �صغري‪ ،‬وتركتُه يعي�ش‬
‫حياته كطفل يحب اللعب مثل �أقرانه يف ذلك ال�سن‪ ،‬وفرحتُ كث ًريا حني‬
‫وجد مبنطقتنا اجلديدة �صحبة اعتادت لعب الكرة �أ�سفل �شرفتي‪ ،‬مع‬
‫مرور الأيام تعودتُ على �صياحهم ال�صباحي‪ ،‬كذلك �أ�صبحتُ املُكاف ِئة‬
‫لهم بحبات احللوى �إن �أحرز �أحدهم هد ًفا ‪ ..‬كنت �أ�شعر �أنهم يحبونني‬
‫ح ًقا عك�س ما يردده البع�ض ب�أن �أطفال جويدا يخ�شونني‪.‬‬
‫اليوم كانت �سعادتهم بي �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة‪ ،‬كنت �أعلم �أن زين‬
‫قد �أخربهم �أنني بلغتُ عامي الرابع والع�شرين‪ ،‬و�أن ال�سيدة �سامرية‬
‫�ست�أتي لأخذ مقا�سات ج�سدي بعدما اتفقتُ مع ندمي �آخر مرة التقينا‬
‫بها ب�أن ُيقام زواجنا بباحة جويدا بيوم الغفران نهاية هذا ال�شهر ‪ ..‬ما‬
‫كنت �أ�صدق ح ًقا �أن ندمي �سي�صل �إىل عامه اخلام�س والع�شرين دون‬
‫�أن يكون �أحد قتالي على املن�صة ‪ ..‬لقد فعلها من �أجلي‪ ،‬قالت ال�سيدة‬
‫�سامرية مازحة وهيا تنظر �إىل ج�سدي‪:‬‬
‫أنك الفتاة ذاتها التي‬
‫ من يرى هذه الأنوثة لن ي�ص ّدق �أبدً ا � ِ‬
‫نراها يف باحة جويدا ‪..‬‬
‫�ضحكتُ و�أنا �أنظر �إىل املر�آة‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ ل�ستُ �شريرة �سيدتي ‪� ..‬إنه عملي فح�سب ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫فتاك حديث �أهل چارتني‬‫ �سي�صبح زواجك على املن�صة من ِ‬
‫ل�سنوات‪ ،‬هذا �إن مل يكن قد �صار حديثهم الآن بالفعل ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �إنها ق�صة كبرية‪� ،‬سي�أتي يوم ما لكتابتها ليقر�أها كل �أهل‬
‫چارتني ‪..‬‬
‫غمغمت مازحة وهي تقي�س حميط �صدري‪:‬‬
‫ رامي املن�صة تتزوج الن�سلي لي�صري �شري ًفا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫�شريف ح ًقا‪ ،‬وي�ستحق ذلك ‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫ �إنه‬
‫�ضحكت‪ ،‬ثم ت�ساءلت‪:‬‬
‫ ولكن يوم الزفاف‪ ،‬من �سيقوم بدور الرامي لإعدام املذنبني؟!!‬
‫قلتُ با�سمة‪:‬‬
‫ �سيكون هناك بديل عني حت ًما‪ ،‬لن �أقتل �أحدهم بف�ستان زفايف‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫إنك قوية ح ًقا �سيدتي‪� ،‬س�أكون �أول احلا�ضرين بالباحة يوم‬
‫ � ِ‬
‫الغفران القادم ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم انتهت وحملت �أغرا�ضها وهي تقول‪:‬‬
‫ �س�أعمل جاهد ًة على االنتهاء من ف�ستانك قبل يوم الغفران‬
‫كاف ‪..‬‬
‫بوقت ٍ‬
‫ٍ‬
‫ابت�سمتُ و�أنا �أومئ لها �إيجا ًبا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �أمتنى ذلك ‪..‬‬
‫ثم غادرت‪ ،‬وجل�ستُ مع زين الذي ناق�شني بطفولة عن زواجي من‬
‫ندمي‪� ،‬أخرب ُته �أن ندمي �سيعي�ش معنا يف بيتنا ابتدا ًء من يوم الزفاف‪،‬‬
‫قائل ب�أن هناك من �سيلعب معه �أخ ًريا باليوم كله‬ ‫ففرح لذلك كث ًريا ً‬
‫طفل بري ًئا ال يحمل �ضغينة نحو �أي ن�سلي‪.‬‬
‫‪..‬كان ال يزال ً‬
‫تباعا‪ ،‬التقيتُ خاللها بندمي مرة واحدة‪ ،‬كان متغ ًريا‬ ‫مرت الأيام ً‬
‫نوعا ما ‪ ..‬لكني حني �س�ألتُه �أخربين �أنه بخري‪ ،‬وا�ستطرد مف�س ًرا تغ ّريه‬‫ً‬
‫ب�أن اللحظة الفارقة قد اقرتبت للغاية وهذا ما يجعل ا�ضطرابه �أم ًرا‬
‫طبيع ًيا‪ ،‬فوافقته ‪..‬‬
‫يف ذلك اليوم توجهتُ و�أنا عائدة �إىل بيتي �إىل بائع ال�سكاكني‪،‬‬
‫وا�شرتيتُ خنج ًرا ثمي ًنا دون �أن �أخربه‪ ،‬وعندما عدتُ علقتُ ذلك‬
‫اخلنجر داخل حافظته بجوار ف�ستان زفايف الذي �أعدته ال�سيدة‬
‫�سامرية ب�أحد �أركان غرفتي‪ ،‬ومتنيتُ و�أنا �أنظر �إليهما لو �أن طبي ًبا‬
‫تواجد بالباحة يومها ليعالج اجلرح والأمل الناجتني عن �إزالة و�شم‬
‫ندمي ‪ ..‬لكن �أعرف حبيبي جيدً ا‪ ،‬لديه من قوة التحمل ما يجعله يف‬
‫عدم حاجة �إىل �أي طبيب �أو دواء ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كنت يف انتظار يوم الغفران بفارغ ال�صرب‪ ،‬ال �أعلم ملا �صارت الأيام‬
‫وائت‬
‫بطيئة �إىل هذا احلد ‪� ..‬أيها الوقت الثقيل ُمر �سري ًعا يف �سالم‪ِ ،‬‬
‫بيوم الغفران الذي انتظرته ت�سع �سنوات كاملة ‪ ..‬لكنه �أتى يل بالفتى‬
‫الذي مل �أره منذ عامني تقري ًبا‪ ،‬ريان !! ‪..‬‬
‫انده�شتُ عندما ر�أيته �أمامي حني فتحتُ الباب‪ ،‬كان م�ضطر ًبا‬
‫ومتوت ًرا للغاية يبلل العرق ن�صفه العلوي العاري‪ ،‬ف�س�ألته يف توج�س‬
‫حني ر�أيته يلهث‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ هل حدث خطب لندمي؟!!‬
‫قال الفتى‪:‬‬
‫  ُاعتقل �سيدي للتو‪.‬‬

‫عيني‪ ،‬و�أنا �أقول‪:‬‬


‫ات�سعت حدقتا ّ‬
‫ ماذا تقول؟!!‬
‫قال بلكنة �سريعة خائفة‪:‬‬
‫ لقد ُاعتقل ‪..‬‬
‫�أدخلته �إىل ردهة املنزل وجل�ستُ �أمامه بعدما ترنحتُ وك�أن �أحدهم‬
‫�ضربني بف�أ�سه على ر�أ�سي‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ كان �سيدي يعاين منذ �سنوات‪ ،‬مل يعرف �أحد ذلك‪ ،‬كانت روحه‬
‫الن�سلية تثور كل ليلة تقري ًبا خا�ص ًة يف الأيام التي كان يتعر�ض‬
‫فيها للإيذاء من �شرفاء چارتني‪ ،‬ر�أيته بعيني وهو يحاول‬
‫حتجيمها‪ ،‬كان ينهك ج�سده من �أجل �إخمادها ‪..‬‬
‫وتابع‪:‬‬
‫ كان ج�سده ملي ًئا باجلروح لهذا ال�سبب ‪..‬‬
‫جالت بعقلي اجلروح الكثرية واخلدو�ش التي طاملا ر�أيتها بيد ندمي‬
‫�أو ذراعه �أو كتفه‪ ،‬وتذكرتُ حديثه عنها دائما ب�أنها حوادث متفرقة‬
‫نتيجة احلياة البدائية يف وديان الن�ساىل ‪..‬‬
‫�أردف الفتى وهو يبلع ريقه‪:‬‬
‫ منذ عام تقري ًبا‪ ،‬منذ عبوره عامه الرابع والع�شرين و�أخذ الأمر‬
‫منحنى �آخر‪� ،‬صار الأمر �صع ًبا للغاية ‪ ..‬مل يكن �أمامنا �إال تقييد‬
‫ليل حتى تهد�أ روحه ‪..‬‬ ‫�سيدي بحبل �سميك ً‬
‫متاما‬
‫يوما ما بعدما ت�ؤمن ً‬ ‫ كان يقول يل �أن روحه الآثمة �ستُخمد ً‬
‫علي كل مرة ب�أال �أخرب �أحدً ا مبا يحدث‬
‫ب�أنه ال جمال لها‪ ،‬وي�ؤكد ّ‬
‫له ‪..‬‬
‫كنت �أ�ستمع �إليه‪ ،‬وترتع�ش قدماي ال �إراد ًيا‪ ،‬وك�أن غفران �ضابطة‬
‫املن�صة الواثقة القوية قد عادت جمددًا �إىل الطالبة ال�صغرية اخلائفة‬
‫املرتبكة ‪ ..‬قال ريان‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ لقد كان يعاين كث ًريا‪ ،‬كث ًريا للغاية ‪ ..‬كان لديه من الأمل ما‬
‫يجعله ي�سعى للعبور �إىل يوم الزواج‪ ،‬لكنه مل ي�ستطع ‪..‬‬
‫ثم �صمت ً‬
‫قليل قبل �أن يتابع‪:‬‬
‫ كان يختفي كث ًريا بالأيام الأخرية‪ ،‬وو ّكل يل مهمة تعليم الطلبة‪،‬‬
‫مل �أكن �أعلم �إىل �أين يذهب‪ ،‬لكنه كان يطمئنني �أنه بخري بعدما‬
‫يعود‪ ،‬فظننتُ �أنه ُيع ّدين لأكون من يخلفه بتعليم �أبناء الن�ساىل‬
‫�أو ي�أتي لر�ؤيتك يف تلك الأوقات ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ مل �أره �إال مرة واحدة خالل هذا ال�شهر‪ ،‬ثم �س�ألته‪:‬‬
‫ ماذا فعل؟! ‪ ..‬ملاذا اعتقل؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ قالت يل فتاة ن�سلية �أنه كاد يقتل امر�أ ًة �شريفة‪ ،‬يقرتب عمرها‬
‫من اخلم�سني لكن �ضباط الأمن �أم�سكوا به قبل �أن يقتلها ‪..‬‬
‫ذراعي امل�سنودتني على الطاولة‪ ،‬ودارت ال�سنوات‬
‫ّ‬ ‫و�ضعتُ ر�أ�سي بني‬
‫املا�ضية جميعها بر�أ�سي‪ ،‬كل �شيء ‪� ..‬سنوات الباحة ‪ ..‬املدر�سة‬
‫املتو�سطة ‪ ..‬لقاءات املرج ال�شرقي ‪..‬كلماتنا ونحن نعد بع�ضنا بالوفاء‬
‫ثوان‪ ،‬كما �ضاع كل �شيء‬
‫بعهدنا حتى نتزوج‪ ،‬كل �شيء مر يف ر�أ�سي يف ٍ‬
‫يف الثوان ذاتها ‪� ..‬أفقتُ مما كنتُ فيه على كلمات ريان‪:‬‬

‫‪‬‬
‫عليك �أن ت�ساعديه‪ ،‬لقد عانى كث ًريا‪ ،‬لقد ر�أيتُ معاناته بعيني‪،‬‬
‫  ِ‬
‫لك �أنه كان ي�سعى جاهدً ا للو�صول �إىل هدفكما‪ ،‬لكن‬ ‫�أق�سم ِ‬
‫يبدو �أنه مل ي�ستطع التحمل‪ ،‬كان الأمر يفوق قدرته ‪..‬‬
‫طاملا مل يقتل قد ميتلك فر�صة للنجاة من الإعدام‪� ،‬إنني �أعي‬
‫قبلت بالزواج به يومها �سيكرمه القا�ضي‬ ‫القواعد جيدً ا ‪� ..‬إن ِ‬
‫أرجوك ال‬
‫وقتك لت�ساعديه‪ِ � ،‬‬ ‫لك ك�شريفة ‪ ..‬لقد حان ِ‬ ‫إكراما ِ‬
‫� ً‬
‫أرجوك ‪..‬‬
‫يتعلق الأمر بندمي فح�سب‪� ،‬إنه يتعلق بنا جمي ًعا‪ِ � ،‬‬
‫زواجك منه يف املوعد ذاته �سيخمد روحه الآثمة‪ ،‬لن يفعلها‬
‫ويرتكب �أي جرم مرة �أخرى ‪..‬‬
‫وجثا على الأر�ض وهو يبكي كي يق ّبل قدمي‪ ،‬ف�أبعد ُتها �سري ًعا ‪..‬‬
‫كان داخلي م�ضطر ًبا �إىل حد فقدان الزمان واملكان كل معانيهم‪،‬‬
‫�أظن �أنني مل �أفهم �أي كلمة من كلماته التي قالها بعد ذلك حتى ‪..‬‬
‫�صارت الكلمات جميعها فج�أ ًة ال تزيد عن همهمات ت�سمعها �أذين ‪..‬‬
‫كل ما فعلته �أنني وا�صلتُ �سكوين وجمودي يف مو�ضعي‪ ،‬حتى الدموع‬
‫نف�سها حتجرت يف عيني و�أبت �أن ت�سقط‪ ،‬كان ثمة �صوت فقط يع�صف‬
‫بداخلي‪:‬‬
‫ لقد ارتكب ندمي جرميته ‪..‬لقد ارتكب الن�سلي جرميته ‪..‬‬
‫ظ ّل ريان يتو�سل �إ ّ‬
‫يل ويقول‪:‬‬
‫إليك ‪..‬‬
‫ كان يعاين من �أجل �أن يكمل وعده � ِ‬

‫‪‬‬
‫بينما �أنا كنت يف عامل �آخر منف�صل‪ ،‬ال ي�ستطيع �أحد �أن يعرف‬
‫ماذا كنت �أم ّر به ‪� ..‬صرتُ كالبناء ال�شاهق الذي انهار يف ثانية واحدة‬
‫‪ ..‬ثم نه�ضتُ من مو�ضعي هائمة‪ ،‬واجتهتُ �إىل غرفتي‪ ،‬وتركتُ ريان‬
‫بالردهة وك�أنه غري متواجد‪ ،‬و�أغلقتُ الباب من خلفي‪ ،‬وجل�ستُ على‬
‫الأر�ض �أ�سنده بظهري ور�أ�سي ‪ ..‬كان ف�ستان زفايف ُمعلقا مكانه �أمامي‬
‫بجوار حافظة اخلنجر‪ ،‬فلم �أمتالك نف�سي و�أجه�شتُ يف البكاء‪.‬‬
‫بكيتُ هذه املرة �أكرث من �أي مرة بكيتُ بها يف حياتي‪� ،‬أكرث مما‬
‫بكيتُ يوم رحيل �أبي و�أمي ‪ ..‬ثم �أ�صابتني نوب ٌة من ال�صراخ والهياج‬
‫حطمتُ بها كل ما هو قابل للك�سر بغرفتي‪ ،‬حتى ُجرحت يدي وان�سال‬
‫الدم منها‪ ،‬فجل�ستُ جمددًا �أوا�صل بكائي ‪..‬‬
‫�سمعتُ طرقات �ضعيفة على باب الغرفة‪ ،‬فقلتُ باكية‪:‬‬
‫ ال تقلق يا زين‪� ،‬إنني بخري ‪ ..‬دعني الآن فح�سب ‪..‬‬
‫كان ب�صري ثابتًا على الف�ستان واخلنجر املتديل‪ ،‬ال يتحرك عنهما‬
‫ميي ًنا �أو ي�سا ًرا ‪ ..‬وظللتُ يف هذه احلالة �إىل �أن ا�ستيقظتُ فوجدتني على‬
‫�سريري‪ ،‬وحني حركتُ عيني جان ًبا وجدتُ زين يجل�س بجواري ومعه‬
‫امر�أتان من جرياننا ‪� ..‬أخربتني �إحداهما �أنني فقدتُ وعيي‪ ،‬وا�ستغاث‬

‫‪9‬‬
‫بهما زين‪ ،‬و�أن هناك طبي ًبا قد �أتى وطم�أنهم �أنني بخري بعدما �ض ّمد‬
‫يدي املجروحة‪� ،‬أخربهم �أنني يف حاجة �إىل الراحة فح�سب ‪ ..‬فهززتُ‬
‫ر�أ�سي �إيجا ًبا والدموع تت�ساقط على وجهي‪ ،‬ثم �أغم�ضتُ عيني ومتنيتُ‬
‫داخل نف�سي �أال �أنه�ض جمددًا �أبدً ا‪.‬‬

‫‪‬‬
‫�صارت الأيام الثقيلة البطيئة ترك�ض فج�أة وك�أنها التحقت ب�سباق‬
‫�سرعة‪ ،‬مل �أغادر غرفتي طوال تلك الأيام �إال من �أجل �إعداد الطعام‬
‫لزين‪ ،‬قبل �أن �أعود �سري ًعا �إليها‪ ،‬لأنظر �شارد ًة �إىل الفراغ �أمامي ‪..‬‬
‫يوما ً‬
‫كامل ‪ ..‬متنيتُ‬ ‫ينقب�ض قلبي مع كل نهار مير ليق ّرب يوم الغفران ً‬
‫م�سموحا لأحد‬
‫ً‬ ‫لو متكنتُ من الذهاب �إليه لكني مل �أ�ستطع ‪ ..‬لي�س‬
‫�ضابطا للأمن ‪ ..‬كان ذلك‬ ‫ً‬ ‫بزيارة امل�ساجني من الن�ساىل‪ ،‬و�إن كان‬
‫�أم ًرا ق�ضائي ال نقا�ش فيه‪.‬‬
‫ومع �سرعة الأيام الرهيبة التي فاقت �إدراكي‪ ،‬ح ّل �صباح يوم‬
‫الغفران ‪ ..‬كنتُ �أعلم �أن خرب زواجي هذا اليوم قد انت�شر بالأرجاء‬
‫وخا�ص ًة بعدما �أخربتُ بديلي يوم الغفران ال�سابق باال�ستعداد ليحل‬
‫كرام للمن�صة لإعدام املذنبني بعد زفايف ‪ ..‬ال يعلمون �أن كل‬
‫حملي ٍ‬
‫�شيء قد انتهي ‪..‬‬
‫وقفتُ بغرفتي �أمام ف�ستان الزفاف واخلنجر املُ ْ‬
‫علقي‪ ،‬و�أنا �أتذكر‬
‫حديث ريان ب�أنني الأمل الوحيد لنجاة ندمي‪ ،‬ومن ّثم جناة الن�ساىل‬
‫من بعده ‪ ..‬ثم تخ ّللت تفكريي كلمات �أمي‪ ،‬الن�ساىل خائنون ‪ ..‬لن تكف‬
‫الروح عن �آثامها �أبدً ا‪ ،‬واخرتقت كلماتها �أذين‪:‬‬
‫ لن يحمل ن�سلنا العار �أبدً ا ‪..‬‬
‫لتتداخل مع كلمات ريان‪:‬‬
‫ ال يتعلق الأمر بندمي فح�سب‪� ،‬إنه يتعلق بنا جمي ًعا ‪..‬‬
‫تداخلت معهما كلمات ندمي‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ وماذا �إن مل � ِأف بوعدي؟‬
‫لأ�سمع �صوتي‪:‬‬
‫ �س�أقتلك باخلنجر ذاته وقتها ‪..‬‬
‫عاد �صوت ريان من جديد‪:‬‬
‫عليك �أن ت�ساعديه ‪..‬‬
‫أرجوك‪ِ ،‬‬
‫ �إنه يتعلق بنا جمي ًعا ‪ِ � ..‬‬
‫�أ�سكته �صوت �أمي‪:‬‬
‫ الن�ساىل خائنون‪� ،‬سيحمل �أطفالك الروح الن�سلية ‪� ..‬سيحملون‬
‫لك ذلك �أبدً ا ‪..‬‬
‫العار ‪ ..‬لن يغفروا ِ‬
‫عاد �صوت ندمي‪:‬‬
‫ �س�أفعلها من �أجلك ‪ ..‬لن �أرتكب �أي جرمية حتى موعد زواجنا‪..‬‬
‫�صوت �أمي جمددًا‪:‬‬
‫ الن�ساىل خائنون ‪..‬‬
‫�صوت ريان‪:‬‬
‫إنك الأمل الوحيد لندمي ولنا ‪..‬‬
‫ � ِ‬
‫�صوت �أمي‪:‬‬
‫ �إنهم خائنون ‪..‬‬
‫�صوت ندمي‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ للأبد ‪..‬‬
‫�صوت الظابط الذي �أهانه �أمامي‪:‬‬
‫ �سي�أتي يو ٌم تفعلني بهم �أق�سى مما فعلتُ ‪..‬‬
‫�صوت ندمي‪:‬‬
‫  من �أجلك ‪..‬‬
‫�صوت �أمي‪:‬‬
‫ خائنون ‪..‬‬
‫�صوت ريان‪:‬‬
‫ من �أجلنا جمي ًعا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫�أ�صواتٌ متداخلة مل تتوقف عن ال�صراخ يف عقلي ك�أنني �أ�صبتُ‬
‫باجلنون ‪ ..‬حتى �أم�سكتُ بر�أ�سي‪ ،‬وجل�ستُ على �سريري �أنظر �إىل‬
‫الأر�ض �أمامي يف غري تركيز‪ ،‬ثم رفعتُ عيني �إىل الف�ستان واخلنجر‬
‫�أمامي‪ ،‬واتخذتُ قراري الذي اطم�أن �إليه داخلي ‪..‬‬

‫كانت الباحة ممتلئة عن �آخرها ذلك النهار عندما و�صلتُ �إىل‬


‫بوابتها ال�شمالية املخ�ص�صة للق�ضاة و�ضباط الأمن‪ ،‬كنتُ قد ت�أخرتُ‬
‫قليل حتى �أن العرو�ض الرتفيهية كانت قد انتهت‪ ،‬ثم مكثتُ يف مكان‬ ‫ً‬
‫متوا ٍر خلف املن�صة اخل�شبية دون �أن �أظهر لأحد ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كنت �أريد مزيدً ا من الوقت لتمالك نف�سي بعدما �شعرتُ با�ضطراب‬
‫�شديد كان الأ�صعب يف حياتي على الإطالق‪ ،‬ثم ُع ِقد الزواج الأول‬
‫وه ّلل احلا�ضرون ‪ ..‬بعده ُع ِقد الزواج الثاين وه ّللوا مرة �أخرى‪ ،‬قبل‬
‫�أن يعلن القا�ضي عن انتهاء زيجات اليوم وبدء املحاكمات لتبد�أ‬
‫زواجا �سيتم بيني وبني ندمي‬
‫همهمات اجلمهور بعدما توقعوا �أن هناك ً‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬ثم بلغت الهمهمات ذروتها بعدما �صعدتُ ال�سلم اخللفي‬
‫للمن�صة لأقف �أمامهم بثوبي الع�سكري الكامل ‪..‬‬
‫حتى �أن بديلي الذي كان يع ّد نف�سه للقيام مبهامي نظر �إ ّ‬
‫يل هو‬
‫تعجب بالغ‪ ،‬فهززتُ له ر�أ�سي �إيجا ًبا ب�أنني جاهزة للعمل‪،‬‬
‫الآخر يف ٍ‬
‫ثم حتركتُ �إىل منت�صف املن�صة و�سط الهمهمات املتوا�صلة �إىل �أن‬
‫وقفتُ مبكاين‪ ،‬و�ألقيتُ التحية الع�سكرية للقا�ضي‪ ،‬قبل �أن �ألتف و�أواجه‬
‫اجلمهور املحت�شد ‪..‬‬
‫ثم حتدث القا�ضي بكلمات مل تختلف كث ًريا عن همهمات اجلمهور‬
‫بالن�سبة يل ‪ ..‬بعدها ُجر املذنب الأول ُمكبل اليدين ومغطى الر�أ�س‬
‫حد غري م�سبوق‪ ،‬فعلمتُ �أن غطاء‬ ‫من خلفي‪ ،‬فازدادت الهمهمات �إىل ٍ‬
‫الر�أ�س قد ُنزع وظهر ر�أ�س ندمي ‪ ..‬وك�أن ج�سدي قد تناثر لأجزاء‬
‫احتاجت �إىل من يلملمها ويعيدها متال�صقة كما كانت‪ ،‬وقفتُ مت�سمر ًة‬
‫يل ب�إطالق‬ ‫مكاين �أخ�شى �أن �ألتفت �إليه ‪ ..‬ثم �صدر �أمر القا�ضي �إ ّ‬
‫الر�صا�ص‪ ،‬وقتها �سكتت الهمهمات لأ�ستدير �إليه‪ ،‬كان واق ًفا ُمره ًقا‬
‫كبل عاري ال�صدر ‪ ..‬تقول عيناه التي كانت تنظر يف عيني مبا�شرة‪:‬‬ ‫ُم ً‬
‫ �أنقذيني ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫فوجدتُ نف�سي �أرفع �سالحي الناري مب�ستوى ب�صري‪ ،‬وقتها ه ّز‬
‫ر�أ�سه والدموع تلتمع يف عينيه لتدور بر�أ�سي كلماتنا �سو ًيا‪ُ ،‬قبلته يل‬
‫بالباحة‪ ،‬تعلقه بالقائم اجلانبي للباحة‪ ،‬التختة اخل�شبية واملحادثات‬
‫املكتوبة‪ ،‬ا�سمي املنقو�ش‪ ،‬وكلمة «للأبد»‪ ..‬لأجد يدي تنخف�ض جمددًا‬
‫لتُ�سقط ال�سالح الناري على �أر�ض املن�صة اخل�شبية‪ ،‬فا�شتعلت‬
‫الهمهمات مرة �أخرى و�أنا �أقرتب خطوات منه‪� ،‬إىل �أن وقفتُ على ُبعد‬
‫خطوة واحدة منه‪ ،‬فقال ودموعه تت�ساقط‪:‬‬
‫ حاولتُ كث ًريا‪� ،‬أق�سم �أنني حاولتُ كث ًريا من �أجلك ‪..‬‬
‫كنت �أنظر �إليه والدموع تتجمع بعيني ‪ ..‬قال‪:‬‬
‫لك ‪..‬‬
‫ لن �أفعلها جمددًا ‪� ..‬أق�سم ِ‬
‫مل �أنطق ‪ ..‬فتابع‪:‬‬
‫ هناك �شيء ما حترك بداخلي دون �أن �أعي‪ ،‬مل �أكن‬
‫لك‬
‫�أنا ‪� ..‬أعطيني فر�صة واحدة �أخرى فح�سب ‪� ..‬أق�سم ِ‬
‫�س�أحافظ على وعدي ‪..‬‬
‫كنت �أنظر �إىل الأر�ض بينما هو يتو�سل �إ ّ‬
‫يل بكلماته ثم رفعتُ عيني‪،‬‬
‫وقلتُ و�أنا �أنظر يف عينيه‪:‬‬
‫  َمن يخون مرة ‪ ..‬يخون كل مرة ‪..‬‬
‫ثم �أخرجتُ خنجري الذي ظل ُمعل ًقا لأيام بجوار ف�ستان زفايف‪،‬‬
‫علي وعلى‬
‫وب�ضربة واحدة حا�سمة �شققتُ عنقه لتتناثر دما�ؤه الدافئة ّ‬
‫�أر�ض املن�صة ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫�سكون تام ‪ ..‬ال همهمات‪ ،‬ال هم�سات‪ ،‬ال �أ�صوات‪ ،‬ال �شيء ‪� ..‬أفواه‬
‫مفتوحة دون كلمات‪ ،‬وعيو ٌن مذهولة تنظر جميعها �إ ّ‬
‫ىل و�أنا �أ�ستدير‬
‫متاما عن احلركة‬ ‫نحوهم بعدما �سكنت جثة ندمي الغارقة يف دمائها ً‬
‫‪ ..‬لأنظر �إليهم و�إىل الباحة ‪ ..‬كانت املرة الأوىل التي �أمعن فيها النظر‬
‫�إىل الباحة من ذلك امل�ستوى املرتفع‪.‬‬
‫ثم نظرتُ �إىل القا�ضي بجواري والذي مل تختلف ده�شته عن غريه‬
‫من احلا�ضرين‪ ،‬ونظرتُ �إىل �سالحي الناري املُلقى على الأر�ض وعلقتُ‬
‫لثوان يف �شرود تام‪ ،‬ثم وجدتني �أخلع حزامي اجللدي املحيط‬‫به نظري ٍ‬
‫بخ�صري لألقي به على الأر�ض بجواره ‪ ..‬ثم �ألقيتُ بخنجري بجوارهما‬
‫‪ ..‬ثم فككتُ �أزرار �سرتتي الع�سكرية التي حتمل �شارتي وخلعتها‪ ،‬ثم‬
‫و�ضعتها بجوارهم‪ ،‬قبل �أن �أهبط ال�سلم اخل�شبي املواجه للمحت�شدين‪.‬‬
‫وك�أن �أذين قد ُ�ص َّمت عن العامل املحيط بي مل �أ�سمع �إال وقع‬
‫�أ�صوات خطواتي املتباطئة على خ�شب ال�سلم يتقاطع مع �صوت دقات‬
‫قلبي و�أنفا�سي ‪ ..‬لأ�سري هائمة بني املحت�شدين الذين �أف�سحوا م�سا ًرا‬
‫يل ‪ ..‬لأبتعد �أكرث و�أكرث عن املن�صة‪ ،‬ال تعي �أذين كلم ًة واحدة مما ُيقال‬
‫من حويل‪ ،‬حتى ارتطمتُ ب�أحدهم و�سقطتُ على الأر�ض‪ ،‬وقتها �أفقتُ‬

‫‪9‬‬
‫حلظ ًيا من �شرودي‪ ،‬لأدرك �شي ًئا واحدً ا ‪ ..‬مل ُتطلق �أي زغرودة بعد‬
‫مقتل ندمي‪ ،‬ت�ساقطت دموعي على وجهي و�أنا �أنه�ض بعدما م ّد �أحد‬
‫الرجال يده مل�ساعدتي‪ ،‬ثم �أكملتُ طريقي �إىل البوابة اجلنوبية للباحة‬
‫لأغادرها �إىل الأبد‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)17‬‬
‫«فاضل»‬

‫مل يختلف احلال كث ًريا يف �أيامنا ببحر «�أكما» عن �أيامنا الع�شر‬


‫التي ق�ضيناها بطريقنا يف �صحراء بني عي�سى‪ .‬حتركت بنا ال�سفينة‬
‫يف اجتاه اجلنوب‪ ،‬وعلى متنها �أويتُ �أنا و�ص ّديق �إىل غرفة �ضيقة كانت‬
‫خم�ص�صة للم�سافرين الرجال‪ ،‬بينما انف�صلت دميا عنا وان�ضمت �إىل‬
‫غرفة �أخرى ُخ�ص�صت للن�ساء ‪..‬‬
‫كنا نلتقي �أثناء النهار يف بع�ض الأيام �أت�أكد خاللها من تناول دميا‬
‫�أع�شابي يف مواعيدها‪ ،‬ونفرتق �أثناء الليل‪ ،‬غري �أن عقلي مل يتوقف قط‬
‫عن التفكري يف ذلك احلديث الذي دار �أمامي بني مالك ال�سفينة ودميا‬
‫ُقبيل �صعودنا ال�سفينة ‪ ..‬وملّا ا�شتد ال�ضجيج بر�أ�سي مل �أجد �إال �أن‬
‫�أ�س�أل �ص ّديق قبل �أن يغم�ض عينه لينام عن �صحة ما �سمعته‪ ،‬ف�أجابني‬
‫وهو �شبه نائم‪:‬‬
‫ نعم‪� ،‬إنه �صحيح ‪ُ ..‬تباع �أطفال ن�ساىل چارتني ب�أ�سعار باهظة‬
‫الثمن خارج چارتني‪� ،‬ستجني دميا الكثري من الذهب مقابل‬
‫‪‬‬
‫طفلها ‪ ..‬يرغب الكثريون من قطاع الطرق واملجرمني‬
‫كي�سا‬
‫والل�صو�ص يف �شراء ه�ؤالء الأطفال ‪ ..‬يدفع فيه اليوم ً‬
‫من الذهب‪ ،‬ويجني بعد �سنوات قليلة �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة لل�سعر‬
‫الذي دفعه‪� ،‬أكدت ال�سنوات �أنهم الأكرث موهبة يف ارتكاب‬
‫اجلرائم‪ ،‬وبقا�ؤهم داخل چارتني �إهدار لرثوة ال يعلم قيمتها‬
‫�إال ل�صو�ص البلدان الأخرى ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ال �أ�ستطيع �أن �أتخيل �أن تبيع �أم ابنها ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ �إنهن حامالت للعار‪ ،‬وحامل العار على ا�ستعداد لفعل �أي �شيء‬
‫‪ ..‬يبيعون �أنف�سهم من �أجل املال فما بالك ب�أطفال ناجتني عن‬
‫يوما ما‪ ،‬ال ت�شغل بالك بالأمر‪،‬‬
‫اخلطيئة �سيموتون �سيموتون ً‬
‫عمل لك‪ ،‬افعل ما عليك‪ ،‬وبعدها ُعد �إىل‬
‫لقد نلت �أج ًرا مقابل ٍ‬
‫بلدك �ساملًا ‪..‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي‪ ،‬ونظرتُ �إىل �سقف الغرفة اخل�شبي و�أغم�ضتُ عيني‪..‬‬
‫خالل الأيام املتبقية مل �أفتح ً‬
‫نقا�شا عن ذلك الأمر مرة �أخرى �سوا ًء‬
‫مع �ص ّديق �أو مع دميا‪ ،‬و�شغلتُ نهاري بنقا�شات �أخرى مع �أ�شخا�ص‬
‫كانوا معنا على منت ال�سفينة‪ ،‬ت�أكدتُ من خاللها �أن ما �أخربتني به‬
‫متاما يف�صلني عن ر�ؤيته بعيني �أيا ٌم‬
‫دميا عن چارتني وقواعدها واق ٌع ً‬
‫قليلة‪.‬‬

‫‪‬‬
‫يف اليوم التا�سع ع�شر ظهر �أمام عيني جدار چارتني العظيم‪ ،‬كان‬
‫البحار و�أنا �أقف بجواره‪:‬‬
‫جدا ًرا رهي ًبا �أبحرنا على مقربة منه‪ ،‬قال ّ‬
‫لقرون طويلة ‪..‬‬
‫  يتحمل هذا اجلدار عبء حماية چارتني ٍ‬
‫هائجا للغاية يف تلك الأثناء‪ ،‬ف�أبط�أت ال�سفينة من‬
‫كان املوج ً‬
‫�سرعتها وزاد ن�شاط البحارة على �سطحها‪ ،‬وهبط معظم الركاب‬
‫�إىل الغرف ال�سفلية بينما بقيتُ على �سطح ال�سفينة مع البحارة‪،‬‬
‫و�ساعد ُتهم يف نزح املياه التي كادت ت�صل �إىل م�ستوى ركبتي ‪..‬‬
‫كامل وب�ضعة �ساعات ‪ ..‬حتى‬ ‫يوما ً‬‫ظللنا ن�سري مبحاذاة اجلدار ً‬
‫و�صلنا مع غروب �شم�س اليوم الع�شرين �إىل مرف�أ جنوبي كان يقع بقرية‬

‫‪9‬‬
‫�صغرية تظهر من خلفها �سل�سلة جبلية تبتعد قلي ًال عن نهاية اجلدار‪،‬‬
‫�أخربتنا دميا ب�أنها ُت�سمى اجلبال احلمراء‪ ،‬ثم ر�ست ال�سفينة‪ ،‬وقامت‬
‫دميا بتمزيق ُكم ف�ستانها الأي�سر ليظهر و�ش ٌم �أزرق منقو�ش على كتفها‪،‬‬
‫�أدركتُ �أنه و�شم الن�ساىل ‪..‬‬

‫�سارت بنا عربة �ص ّديق يف طريق رملي امتد يف اجتاه ال�شمال‪ ،‬ثم‬
‫ظهر برزخ النهر اجلاف فقالت دميا ونحن ن�سري مبحازاته‪:‬‬
‫ � ً‬
‫أهل بك يف چارتني ‪..‬‬
‫بعدها ح ّل الليل فقررت �أن نع�سكر ليلتنا يف مكاننا‪ ،‬على �أن نوا�صل‬
‫حتركنا مع طلوع ال�شم�س نحو باحة جويدا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫يف �صباح اليوم التايل �أكملت بنا العربة طريقها جتاه ال�شمال‪،‬‬
‫كنت �أ�شعر باال�شمئزاز يتنامى بداخلي جتاه دميا ك ّلما تذكرتُ �أمر‬
‫بيعها لطفلها املنتظر لكني �آثرتُ �أن �أبقى �صامتًا ‪ ..‬حتى و�صلت بنا‬
‫العربة �إىل الباحة املن�شودة وهناك �أ�صابني الذهول كل ًيا بعدما ر�أيتُ‬
‫بعيني احت�شاد ع�شرات الآالف داخل �سور ذلك املكان يف ال�ساعات‬
‫الأوىل من ال�صباح ‪..‬‬
‫�أخربنا �ص ّديق �أنه �سيبقى بعربته‪ ،‬فغادرتُ �أنا ودميا ودلفنا من‬
‫البوابة القريبة من �ساحة العربات واتخذنا مكا ًنا بجنوب الباحة‪ ،‬كان‬
‫الكثريون يتحدثون من حويل �أثناء العرو�ض الأوىل للفرقة املو�سيقية‬
‫عن زواج �سيدة املن�صة �أو راميها كما قال بع�ضهم من �شاب ن�سلي ‪ ..‬ثم‬
‫نادتني دميا كي نتحرك خطوات �إىل الأمام مع بدء الزيجات‪ ،‬الحظتُ‬
‫اهتماما كب ًريا للزيجة الأوىل وال الثانية ‪..‬‬
‫ً‬ ‫�أن �أهل چارتني مل يعطوا‬
‫بدا �أن تركيزهم كله كان من�ص ًبا على الزواج املنتظر‪ ،‬لكني ر�أيتُ‬
‫خيبة الأمل على وجوهم بعدما انتهى زواجان ومل تكن هناك زيجة‬
‫ثالثة‪ ،‬يف ذلك التوقيت التفتُ حويل فلم �أجد دميا‪ ،‬ف�ضربتُ ر�أ�سي‬
‫م�ؤن ًبا نف�سي بعدما و�ضعتُ تركيزي مع تعبريات الوجوه من حويل ومل‬
‫�أنتبه �إىل دميا التي حتركت من جواري دون �أن تخربين ‪..‬‬
‫فارتقيتُ بر�أ�سي كي �أبحث عنها‪ ،‬ثم خطوتُ خطوات للأمام لكني‬
‫مل �أجدها‪ ،‬وتوقفتُ مكاين بعدما مل ي�سمح يل �أحد بالتقدم خطوات‬
‫�أخرى ‪ ..‬ثم انتبهتُ مرة �أخرى �إىل املن�صة حني زادت الهمهمات‬
‫عندما �صعدت املن�صة امر�أة ذات زي ع�سكري‪ ،‬قالت امر�أة بجانبي‬
‫يف ده�شة‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �إنها هي ‪ ..‬ال�سيدة غفران ‪..‬‬
‫متنيتُ داخل نف�سي لو �أمتلك الثقة التي بدت على وجه تلك‬
‫بثبات بالغ يتدىل �سالحها الناري من حزام‬
‫ال�سيدة‪ .‬كانت تقف �أمامنا ٍ‬
‫خ�صرها ‪ ..‬تنظر �أمامها دون �أن تلتقي عيناها ب�أحد من اجلمهور‬
‫املحت�شد �أمامها‪ ،‬وينت�صب كتفاها العري�ضان لتقول �أنها الأكرث قوة يف‬
‫تلك الباحة ‪..‬‬
‫رجل ُم ً‬
‫كبل ُمغطى الر�أ�س ليقف خلفها مبا�شرة‪،‬‬ ‫ثم ج ّر جنديان ً‬
‫ثم نزع �أحدهما غطاء ر�أ�سه‪ ،‬فازدادت الهمهمات من حويل‪ ،‬و�سمعتُ‬
‫ً‬
‫رجل ي�صيح‪:‬‬
‫ �إنه هو ‪ ..‬عري�سها الن�سلي ‪..‬‬
‫فبلغت الهمهمات �أق�صاها‪ ،‬وبد�أ احلا�ضرون يقفون على �أطراف‬
‫�أقدامهم ويتدافعون لي�شاهدوا ما يحدث �أمامنا‪ ،‬ووقفتُ �أنا الآخر‬
‫على �أطراف �أ�صابعي‪ ،‬لأنظر �إىل تلك ال�سيدة على املن�صة ومن خلفها‬
‫ال�شاب املُك ّبل‪ ،‬وتخ ّيل عقلي ق�صة حب عظيمة بني ذلك الثنائي انتهت‬
‫بخيانة �أحدهما للآخر ل ُيكتب م�شهد النهاية �أمامنا ‪..‬‬
‫مل ي�أخذ الأمر دقائق بعدها‪ ،‬التفتت ال�سيدة بثباتها املده�ش �إىل‬
‫رجل �أربعيني وقور كان على ي�سار املن�صة قبل �أن تلتف نحو ال�شاب‬
‫املُك ّبل‪ ،‬وقتها فقط �صمتت الهمهمات من حويل‪ ،‬وتطلعت الأعني يف‬
‫انتباه �شديد �إىل املن�صة ‪..‬‬
‫لكننا فوجئنا بها ُتلقي ب�سالحها بعدما كادت تطلق النار جتاهه‪،‬‬
‫قبل �أن تقرتب منه لتُخرج خنج ًرا �أو �سكي ًنا وت�شقّ رقبته ‪ ..‬ثم ا�ستدارت‬
‫‪‬‬
‫بهدوء‪ ،‬و�ألقت بثوبها الع�سكري وخنجرها بجانب �سالحها‪ ،‬وهبطت‬
‫�سلم املن�صة املواجه لنا‪ ،‬لتختفي عن عيني‪ ،‬فالتفتُ حويل لأبحث عن‬
‫دميا‪ ،‬وبد�أتُ �أنادي ب�صوت مرتفع ع ّلها ت�سمعني‪ ،‬غري �أن الأ�صوات‬
‫املرتفعة ل�ضجيج النا�س قد حالت دون ذلك‪.‬‬
‫فا�ستدرتُ وعدتُ خطوات �إىل اخللف‪ ،‬ووا�صلتُ ندائي ب�صوت‬
‫ارتفاعا‪ ،‬لكني توقفت فج�أة حني ا�صطدم بي �أحد الأ�شخا�ص من‬ ‫ً‬ ‫�أكرث‬
‫اخللف‪ ،‬والتفتُ نحوه و�أنا �أتفادى ال�سقوط‪ ،‬فوجدتها املر�أة ذاتها التي‬
‫كانت تقف على املن�صة ‪ ..‬ال�سيدة غفران ‪ ..‬والتي �سقطت من �أثر‬
‫االرتطام بي‪ ،‬فمددتُ لها يدي‪ ،‬و�ساعدتها على النهو�ض‪ ،‬نظرت يف‬
‫عيني للحظة واحدة‪ ،‬ر�أيتُ عينها تلتمع بالدموع لأ�شعر وقتها �أن القوة‬
‫التي �أظهرتها �أمامنا على املن�صة قد انهارت لتوها‪ ،‬وا�ستحالت �إىل‬
‫�ضعف �شديد �سينخر بقوة داخل تلك ال�سيدة ‪..‬‬
‫نه�ضت و�أكملت طريقها مبتعدة عني بني املتزاحمني الذين‬
‫�أف�سحوا لها الطريق ‪� ..‬شرد تفكريي ً‬
‫قليل و�أنا �أتابع ابتعادها‪ ،‬قبل‬
‫�أن يف ّكر عقلي جمددًا بدميا التي اختفت‪ ،‬والزغرودة التي مل �أ�سمعها‬
‫‪ ..‬وهذا ما كان يعني �أم ًرا واحدً ا‪ ،‬وهو بقائي يف هذا البلد �شه ًرا �آخر‬
‫حتى يوم الغفران القادم لينال جنني دميا فر�ص ًة �أخرى‪ ،‬وهذا ما مل‬
‫�أرده �أن يحدث على الإطالق‪ ،‬ووا�صلتُ ندائي من جديد ‪ ..‬ثم هد�أت‬
‫الهمهمات من حولنا بعد مغادرة �ضابطة الأمن الباحة‪ ،‬لتظهر جلب ٌة‬
‫جديدة على بعد �أمتار عن ي�ساري‪ ،‬و�سمعت �أذين َمن ت�صرخ بكلمة‬
‫طبيب‪ ،‬حتركتُ ب�صعوبة جتاه ال�صوت‪ ،‬وقلت ل�شخ�ص يقف يف طريقي‬
‫وال يريد �أن يتحرك‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �إنني طبيب ‪..‬‬
‫قال بعدم اكرتاث‪:‬‬
‫  �إنها ن�سلية ‪ ..‬دعها متوت ‪..‬‬
‫لكنني اجتزته‪ ،‬ووا�صلتُ طريقي ب�صعوبة بني الأج�ساد املتال�صقة‪،‬‬
‫حتى اقرتبتُ من �صوت ال�صراخ‪ ،‬كان المر�أة بدا �أنها جتل�س على‬
‫الأر�ض‪ ،‬كانت ت�صرخ بدون توقف‪:‬‬
‫ نريد طبي ًبا ‪..‬‬
‫حاولتُ مب�شقة بالغة تخطي الدائرة التي حتيط بها حتى عربتهم‪،‬‬
‫وكدتُ �أقول لها �أنني طبيب‪ ،‬فوجد ُتها فتاة يظهر و�شم الن�ساىل على‬
‫كتفها‪ ،‬جتل�س على ركبتيها وبجوارها دميا نائمة على الأر�ض فاقد ًة‬
‫وعيها‪ ،‬ف�أدركتُ �أن نوبة ال�صرع قد �أ�صابتها‪ ،‬فجثوتُ على ركبتي‬
‫�سري ًعا وفح�صتُ عالماتها احليوية‪ ،‬وت�أكدتُ �أن جمرى تنف�سها على‬
‫ما يرام‪ ،‬فه ّد�أتُ من روع الفتاة اخلائفة ‪..‬‬
‫ثم بد�أت يف �إفاقتها عن طريق �إ�صابتها ب�أ ٍمل بالغ‪ ،‬و�أخذتُ �أ�ضغط‬
‫ب�إبهامي �أ�سفل حاجبها �ضغطات �شديدة و�سط تعجب املحيطني بي‪،‬‬
‫لكنهم هد�أوا حني وجدوها ترفع يديها لتبعد يدي ال�ضاغطة عن‬
‫حاجبها‪ ،‬فوا�صلتُ �ضغطاتي حتى فتحت عينيها‪ ،‬ف�أبعدتُ يدي‪ ،‬ظلت‬
‫يل دون تركيز ك�أنها ت�ستوعب ما حدث‪ ،‬ثم �أنه�ضتها‬ ‫لثوان تنظر �إ ّ‬
‫ٍ‬
‫الفتاة لتجل�س‪ ،‬كانت ال تزال تنظر نحوي‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬

‫‪‬‬
‫عنك كث ًريا ‪..‬‬
‫فقدتك بني اجلمهور وبحثتُ ِ‬
‫ِ‬ ‫ لقد‬

‫‪9‬‬
‫فهم�ست يل ب�صوت متعب للغاية‪:‬‬
‫ لقد �شعرتُ به يف بطني‪ ،‬لقد حترك جنيني‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)18‬‬

‫�أخرجتُ �سماعتي الطبية على الفور عندما قالت دميا �أنها �شعرت‬
‫ً‬
‫متجاهل الأ�صوات ال�صاخبة‬ ‫بحركة جنينها‪ ،‬وبد�أتُ �أفح�ص بطنها‬
‫عيني حني �سمعت �أذناي نب�ضات قلبية تد ُّق‬
‫من حويل‪ ،‬فات�سعت حدقتا ّ‬
‫مبعدل �سريع‪ ،‬كانت هي الدقات القلبية التي طاملا اعتدتُ �سماعها‬
‫لأجنة الن�ساء احلوامل‪ ،‬فنظرتُ يف عينها وقلتُ غري م�صدق‪:‬‬
‫ �إن قلبه يدق بالفعل ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫فو�ضعت �سبابتها �أمام فمها املغلق يف �إ�شارة يل كي �أ�سكت‪ ،‬ثم‬
‫حذر‪:‬‬
‫ب�صوت ِ‬
‫ٍ‬ ‫اقرتبت بر�أ�سها مني‪ ،‬وهم�ست يل‬
‫ هيا بنا لنغادر الباحة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫غادرنا الباحة يف الوقت الذي كان ُينفذ به �إعدام �آخر على املن�صة‪،‬‬
‫ووا�صلنا طريقنا �إىل عربة �ص ّديق‪ ،‬وحني �أ�صبحنا على بعد �أمتار منه‬
‫توقفت دميا وقالت يل متعبة‪:‬‬
‫ �سنغادر چارتني مع �أول �سفينة متجهة �إىل ال�شمال ‪..‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬ثم قلت‪:‬‬
‫ متي ترحل تلك ال�سفينة؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �أخربين مالك ال�سفينة �أنه قد ميكث �سبعة �أيام حتى يج ّمع‬
‫عددًا من امل�سافرين ‪..‬‬
‫ت�ساءلتُ ‪:‬‬
‫ و�أين �سنق�ضي �أيامنا ال�سبع؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ بالوادي الذي ن�ش�أتُ به ‪..‬‬
‫ثم تابعت بجدية كبرية‪:‬‬
‫ ال تخرب �أحدً ا هناك مهما يكن �أن جنيني قد نال روح ذلك‬
‫املعدوم ‪..‬‬
‫قلت متعج ًبا‪:‬‬
‫ ملاذا؟!‬

‫‪‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �إنني �أعرف �صاحب هذه الروح جيدً ا‪ ،‬كان يحبه الكثريون ‪� ..‬إن‬
‫علموا �أن طفلي ميتلك روحه لن يرتكونني �أرحل لأبيعه ‪ ..‬دعهم‬
‫يظنون �أن روحه ارتاحت للأبد ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ وماذا عن الفتاة التي كانت ت�صرخ بجوارك؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �أظن �أنها مل ت�سمعني و�أنا �أخربك ‪..‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ حتى �ص ّديق ال تخربه ‪� ..‬س�أخربه بعدما نغادر چارتني ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ ح�س ًنا ‪..‬‬
‫ثم اقرتبنا من �ص ّديق الذي غادر بنا عرب طريق ترابي �أخربته‬
‫دميا ب�أن ينطلق به ‪..‬‬

‫متاما عن املدينة‪ً ،‬‬


‫بدل من‬ ‫يف وادي الن�ساىل كان كل �شيء خمتل ًفا ً‬
‫البيوت الفخمة املتال�صقة التي ترا�صت يف الأفق على �ضفتي النهر‬
‫اجلاف كان هناك ثمة �أكواخ خ�شبية وطينية ُم�س ّقفة بفروع �أ�شجار‬
‫‪‬‬
‫و�أع�شاب جافة ‪ ..‬مل ندخل �إىل الوادي بل طلبت دميا من �ص ّديق �أن‬
‫يتوقف على مقربة من كوخ متهالك مب�شارفه‪ ،‬وقالت وهي ت�شري �إليه‪:‬‬
‫ �إنه كوخنا ‪ ..‬تربيتُ هنا مع �أخي ريان ‪..‬‬
‫لكنا حني دلفنا �إىل هناك مل جند �أحدً ا‪ ،‬وبقينا حتى ح ّل الليل‪،‬‬
‫معه عاد ذلك الفتى اليافع‪ ،‬والذي بدا على وجهه البائ�س �أن الدنيا قد‬
‫انتهت بالن�سبة له ‪..‬‬
‫ ما �إن ر�أى دميا حتى �أ�صابه الذهول‪،‬‬
‫ثم احت�ضنها وهو يقول باك ًيا‪:‬‬
‫ لقد �أُعدم �سيدي اليوم ‪..‬‬
‫فقالت وهي تنظر نحوي‪:‬‬
‫ نعم �أعرف ‪..‬‬
‫ومل تنطق بكلمة �أخرى بعدما ا�شتد بكاء الفتى‪ ،‬قبل �أن تقول‪:‬‬
‫روحا جلنيني ‪ ..‬لكني مل � َ‬
‫أحظ ب�شيءٍ‬ ‫ جئتُ �إىل الباحة كي �أنال ً‬
‫اليوم ‪..‬‬
‫قال الفتى وهو ين�شج‪:‬‬
‫روحا بريئة ‪..‬‬
‫ كان �سيدي ميتلك ً‬
‫هزت ر�أ�سها وقالت يف مكر‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫تابع الفتى‪:‬‬
‫ قمنا بدفن جثته على مقربة من �أ�شجار الوادي ‪..‬‬
‫�أخربتني دميا يف وقت �سابق �أن الن�ساىل يحق لهم دفن �أج�ساد‬
‫موتاهم املعدومني �إن �أرادوا ذلك ‪..‬‬
‫ثم قالت لأخيها باقت�ضاب‪:‬‬
‫ �س�أغادر بعد �أيام‪ ،‬على �أن �أعود بعد �شهرين ‪..‬‬
‫�س�ألها‪:‬‬
‫ ومل تغادرين؟!‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫لدي �أربعة �أ�شهر كاملة قبل‬
‫ مل يعد هذا املكان مكاين‪ ،‬وما زال ّ‬
‫مولد الطفل ‪..‬‬
‫فقال الفتى يف غري اكرتاث‪:‬‬
‫ كما ت�شائني ‪..‬‬
‫كان احلزن البادي على وجهه عظي ًما‪ ،‬لكني مل �أمتلك وقتًا للتفكري‬
‫يف ذلك الأمر بعدما �أُ�صيبت دميا بنوبة �صرع مفاجئة ارمتت معها على‬
‫الأر�ض وبد�أت تت�شنج بقوة‪ ،‬ف�أ�سرعتُ نحوها و�أخرجتُ من حقيبتي‬

‫‪‬‬
‫�أ�سطوانة �صغرية مرنة وو�ضعتها بني فك ّيها كي �أحمي جمرى تنف�سها‬
‫ول�سانها ‪ ..‬ثم �أبعدتُ عنها كل �شيء قد يجرحها‪ ،‬وتركتها كي تهد�أ ‪..‬‬
‫كانت تلك النوبة هي الثانية خالل يوم واحد‪� ،‬أخذت الت�شنجات‬
‫متاما‪ ،‬بعدها تركتها نائمة ل�ساعة‬
‫فرتة ق�صرية من الوقت حتى توقفت ً‬
‫تقري ًبا قبل �أن �أعطيها جرعة من �أدويتي‪ ،‬ثم تركتها تخلد للنوم من‬
‫جديد ‪ ..‬وغادرتُ الكوخ لأجل�س مع ريان الذي كان يجل�س �أمام بابه‬
‫ينظر �إىل ال�سماء بعينني دامعتني يف �صمت �شديد‪ ،‬قال بعد حلظات‬
‫من جلو�سي بجواره‪:‬‬
‫ كان من املفرت�ض �أن يكون ُعر�سه اليوم ‪..‬‬
‫فهمتُ �أنه يق�صد ال�شاب املعدوم‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ �سمعتُ ذلك �أثناء وجودنا بالباحة ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ عرو�سه من قتلته هناك ‪..‬‬
‫وتابع‪:‬‬
‫ مل يع�ش كالن�ساىل‪ ،‬ومات مثلهم ‪ ..‬ال �أعلم ماذا حدث له كي‬
‫يرتكب جرميته ‪ ..‬لكني متيقن �أنهم ا�ستفزوه بكافة الطرق كي‬
‫يخطئ‪ ،‬كان عليه �أن يبقى بالوادي ال يغادره حتى يوم الزواج‬
‫‪� ..‬أخربته بذلك مرا ًرا‪ ،‬مل يكن لي�سمحوا له �أن يتزوج �شريفة‬
‫بهذه ال�سهولة ‪..‬‬
‫ثم هد�أ �صوته وقال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ كان �إثمه احلقيقي �أنه ن�ش�أ حاملًا ‪..‬‬
‫و�أخرج زفريه وهو يقول‪:‬‬
‫ لي�س للحاملني م�أوى غري ال�سجون �أو اجلنون ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ يف البالد الظاملة فقط يا �صديقي ‪..‬‬
‫ه ّز ر�أ�سه‪ ،‬ثم التقط حج ًرا �صغ ًريا و�ألقاه بعيدً ا �أمامه يف غ�ضب‬
‫‪ ..‬وقال‪:‬‬
‫ انتهى كل �شيء بعدما ُقتل على املن�صة‪ ،‬لن ُيكمل �أي ن�سلي‬
‫ما بد�أه قبل �سنوات ‪ ..‬عرف ك ٌل منا م�صريه احلتمي ‪� ..‬أينما‬
‫ت�أخذنا احلياة ال مفر لنا من قواعد چارتني ‪..‬‬
‫جال�سا مبفردي �أفكر يف‬
‫ً‬ ‫ثم نه�ض ودلف �إىل داخل الكوخ‪ ،‬وبقيتُ‬
‫تلك ال�سيدة التي قتلت الن�سلي قبل �أن ترتك كل �شيء وتغادر الباحة‪،‬‬
‫ثم ان�شغل بايل بنوبات دميا التي بد�أت تتزايد يف معدلها بعد و�صولنا‬
‫چارتني ‪..‬‬
‫يف الأيام الثالثة التالية تكررت نوبات ال�صرع �أكرث من مرتني �أو‬
‫ثالثة يف اليوم‪ ،‬ومع كل مرة كانت مدة الت�شنجات تزداد عن املرة التي‬
‫�سبقتها‪ ،‬و�صرتُ يف حرية بالغة بني تفكريي بزيادة اجلرعات املحددة‬
‫وبني ت�أثري تلك اجلرعات الزائدة على اجلنني‪ ،‬فا�ستقر بي الأمر �إىل‬
‫ترك اجلرعات كما هي‪ ،‬على �أن �أعتني بها جيدً ا ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ما كان يقلقني ح ًقا هي الرحلة ال�شاقة التي تنتظرنا عرب �أمواج‬
‫بحر �أكما �إىل ال�شمال ‪ ..‬مع �أي �سقوط قوي مفاجئ لها قد يكلفها‬
‫حياة ذلك اجلنني‪ ،‬وبني مياه البحر الهائج لن يكون لنا حول وال قوة‬
‫‪ ..‬فدلفتُ �إليها فجر اليوم الرابع‪ ،‬وقلتُ و�أنا �أناولها جرع ًة من دوائها‪:‬‬
‫ رمبا من الأف�ضل �أن ننتظر يف چارتني حتى ت�ستقر حالتك �أو‬
‫تلدين مولودك هنا‪ ،‬رحلتنا على ال�سفينة مع ا�شتداد مر�ضك‬
‫�إىل هذا احلد قد يكلفنا حياة طفلك ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال بد و�أن نغادر مع �أقرب �سفينة راحلة ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �إنها جمازفة حقيقة ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال تعلم اجلحيم الذي يعي�شه كل ن�سلي ون�سلية هنا‪� ،‬إن بقينا‬
‫�سي�أتي �أي �شريف ذات يوم ويطالبني ب�أن �أمار�س الرذيلة معه‪،‬‬
‫و�إن رف�ضتُ قد يتهمني ب�أي �شيء و�أُق ّدم �إىل من�صة چارتني ‪..‬‬
‫حينذاك �سيموت �سيموت ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ قد تختفني حتى تتح�سن �أحوالك ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ لقد ر�أتني الكثريات‪� ،‬سري�شحنني للأ�شراف مقابل قطعة من‬
‫الف�ضة ‪� ..‬سريغبون بي ظ ًنا منهم �أنني تعلمتُ �أ�ساليب الرذيلة‬
‫املختلفة من الغجر ‪ ..‬ال مفر لنجاة طفلي غري الرحيل ‪..‬‬
‫فلم �أجد �إال �أن �أوافق ر�أيها‪ ،‬وغادرتُ الكوخ‪ ،‬كان �ص ّديق ال يزال‬
‫نائ ًما فوق عربته‪ ،‬بينما مل �أجد ريان ‪ ..‬فد�س�ستُ كي�س نقودي ب�إحدى‬
‫على‬
‫احلقائب على العربة دون �أن ي�شعر بي �ص ّديق ‪ ..‬خ�شية �أن ي�سطو ّ‬
‫�أحد الن�ساىل بعدما عزمتُ على التجوال باجلوار ً‬
‫قليل قبل ا�شتداد‬
‫مقرف�صا �أنظر �إىل‬
‫ً‬ ‫حرارة ال�شم�س‪ ،‬ثم �صعدتُ مرتف ًعا رمل ًيا‪ ،‬وجل�ستُ‬
‫الوادي الذي ظهر هو و�أكواخه من �أ�سفلي ‪ ..‬ثم انق�شع �ضباب ال�صباح‬
‫�شي ًئا ف�شي ًئا فظهرت مباين جويدا بعيدً ا ‪َ ..‬من ي�ص ّدق �أن هذه الأكواخ‬
‫وتلك املباين ُت�سمى بلدً ا واحدً ا؟!‬
‫ثم نظرتُ �إىل جانب �آخر‪ ،‬كانت هناك �أ�شجار متناثرة بني �أكوام‬
‫قليل عن الأر�ض‪ ،‬فتذكرتُ ريان عندما قال قبل �أربعة‬ ‫رملية ترتفع ً‬
‫�أيام �أنهم قد دفنوا جثمان �سيده‪ ،‬فنه�ضتُ من جل�ستي ووجدتني �أجته‬
‫�إىل هناك ‪ ..‬وملّا اقرتبتُ حر�صتُ �أال حتتك قدمي ب�أي كومة من الأكوام‬
‫التي ترا�صت على م�سافات مت�ساوية ‪..‬‬
‫ثم توقفتُ فج�أة‪ ،‬وتواريتُ بج�سدي خلف �شجرة ق�صرية حني ر�أيتُ‬
‫�سيد ًة جتل�س �أمام كومة رطبة ب�صف بعيد‪ ،‬مل تكن ثيابها مثل ثياب‬
‫الن�سليات الالتي ر�أيتهن منذ قدومي �إىل الوادي ‪ ..‬فحاولتُ �أال �أ�صدر‬
‫�أي �صوت بعدما ظننتُ �أنها �سيدة املن�صة التي قتلت ندمي ‪ ..‬حتى‬
‫ر�أيتها تلتفت �إىل �أحد جانبيها ليظهر وجهها‪.‬‬

‫‪‬‬
‫كانت �سيدة �أخرى يقرتب عمرها من اخلم�سني ‪ّ ..‬‬
‫يخط ال�شيب‬
‫ً‬
‫قليل يف ر�أ�سها‪ ،‬كانت عيناها دامعتني و�أنفها حمم ًرا‪ ،‬فمددتُ ر�أ�سي‬
‫كي �أرى مالحمها ب�صورة �أو�ضح‪ ،‬فالتفتت نحوي فج�أ ًة حني �صدر‬
‫�صوت ع�شب جاف حتطم �أ�سفل حذائي‪ ،‬وظهر الذعر على وجهها‬
‫وه ّبت واقفة يف فزع �شديد ‪ ..‬فاقرتبتُ منها‪ ،‬فقالت خائفة‪:‬‬
‫ ال ت�ؤذين ‪..‬‬
‫فرفعتُ لها يدي كي تطمئن‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ ل�ستُ ن�سل ًيا ‪ ..‬ال تقلقي ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫وكدت �أ�س�ألها عن �سبب تواجدها �أمام ذلك القرب‪ ،‬لكنها مل‬
‫متهلني �أي وقت‪ ،‬وغادرت مهرولة �إىل عربة �صغرية كانت تتوارى خلف‬
‫�شجرتني‪ ،‬و�أ�سرعت بح�صانها مبتعدة عني وعن مقابر الن�ساىل‪.‬‬

‫‪‬‬
‫«غفران»‬

‫كرام للمن�صة‬
‫كما كان متوق ًعا‪� ،‬صدر قرار ب�إيقايف عن العمل ٍ‬
‫بدل من ال�سالح‬‫بعد خمالفتي قواعد الإعدام وا�ستخدامي اخلنجر ً‬
‫الناري‪ .‬على �أي حال مل �أكن لأعود �إىل الباحة مرة �أخرى‪ ،‬يكفيني‬
‫�سنواتي املا�ضية بها وما حدث يل خاللها ‪� ..‬إال �أن �أيامي التالية ليوم‬
‫الغفران امل�شئوم كانت �صعبة للغاية ‪..‬‬
‫مل �أغادر بيتنا بعد ذلك اليوم‪� ،‬صار الأرق �صديقي‪ ،‬والزمتني‬
‫أع�شاب مهدئة و�صفتها �إحدى‬‫الكوابي�س كل دقيقة �أنامها‪ ،‬ا�ستعنتُ ب� ٍ‬
‫جتد نف ًعا ‪ ..‬ك ّلما حاولتُ النوم د ّوت‬
‫الطبيبات لأمي قد ًميا‪ ،‬لكنها مل ِ‬
‫�صرخات ندمي بكل جانب بر�أ�سي؛ �أنقذيني ‪ ..‬لأ�صحو على الفور‪،‬‬
‫و�أنظر �إىل �صورتي يف املر�آة ‪ ..‬مل �أكن �أرى �إال امر�أ ًة قا�سية تنظر نحوي‬
‫يف جمود‪ ،‬ف�أحدثها يف توتر ك�أنني مذنبة تلتم�س الرباءة لنف�سها‪:‬‬
‫ هو من خان الوعد ‪ ..‬وعدين �أال يرتكب جرمية ‪..‬‬
‫فت�صرخ �صورتي ب�صوته املتو�سل يوم الغفران‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ مل �أكن �أنا ‪..‬‬
‫�أ�صرخ �إىل �صورتي يف خوف‪:‬‬
‫ مل �أكن لأ�ضحي ب�أطفايل من بعدي ‪..‬‬
‫ت�صرخ ال�صورة جمددًا ب�صوته‪:‬‬
‫ �أنقذيني ‪..‬‬
‫�أتناول مزيدً ا من �أع�شابي املهدئة و�أحاول �أن �أنام جمددًا ‪� ..‬أعود‬
‫�إىل الباحة يف �أحالمي ‪ ..‬همهمات احلا�ضرين‪ ،‬عيون الن�ساىل املرتقبة‬
‫حللمهم‪ ،‬تقف ن�سخ ٌة مني �أعلى املن�صة ومن خلفها يجثو ندمي على‬
‫كبل‪ ،‬طعن ٌة باخلنجر ت�شق عنقه‪ ،‬تتناثر الدماء بكل مكان‬ ‫ركبتيه ُم ً‬
‫لي�سقط �صري ًعا ‪ ..‬بينما �أقف بني احلا�ضرين �أ�شاهد ما يحدث ‪..‬‬
‫�أنظر جان ًبا بعيدً ا ف�أرى ندمي الطفل ي�شاهد ما يحدث من �أعلى‬
‫القائم اجلانبي بالباحة‪ ،‬ثم ي�سقط متهاو ًيا ببطء �شديد وهو ينظر‬
‫نحو طفلة يف الثامنة يحملها �أبوها على كتفه ‪ ..‬تنظر �إليه وهو يهوى‬
‫دون �أن حترك �ساك ًنا حتى �سقط جثة هامدة‪ ،‬قبل �أن تلتفت �إىل املن�صة‬
‫وتوا�صل ت�صفيقها �إىل الفرقة الفكاهية التي انتهت من عرو�ضها للتو‬
‫‪ ..‬نظرتُ يف �أعينها فنظرت يف عيني بقوة ‪ ..‬مل تكن �إال �أنا ‪..‬‬
‫�أفتح عيني خو ًفا لأنهي ذلك الكابو�س‪ ،‬و�أنظر �إىل �سقف غرفتي‬
‫أنفا�س مت�سارعة‪ ،‬تتثاقل جفوين من جديد بت�أثري الأع�شاب ‪� ..‬أعود‬‫ب� ٍ‬
‫�إىل املدر�سة املتو�سطة‪� ،‬أرتدي الف�ستان ال�سماوي الق�صري الذي قابلتُ‬
‫به ندمي للمرة الأوىل ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫�أ�سري �أمام بوابة املدر�سة متجهة نحو �أبي الذي كان ينتظرين‬
‫بعربته‪ ،‬يقف ندمي طالب مدر�سة الفتيان جان ًبا يحاول �أن يل ّوح يل‬
‫‪ ..‬يتلقى طعنة مفاجئة ت�شق رقبته ‪ ..‬يحاول �أن ي�ستغيث بي ‪� ..‬أكمل‬
‫طريقي �إىل �أبي و�أنا �أنظر �إىل دمائه ال�سائلة دون اكرتاث‪ ،‬ي�صرخ �إ ّ‬
‫يل‬
‫بح�شرجة؛ �أنقذيني ‪� ..‬أكمل طريقي �إىل �أبي ‪ ..‬ي�سقط جثة هامدة ‪..‬‬
‫�أ�ضحك �إىل �أبي وك�أن �شي ًئا مل يحدث ‪ ..‬تزداد �ضحكاتي ‪..‬‬
‫العيون جميعها تتجه نحوي ‪ ..‬ي�شريون ب�أيديهم �إ ّ‬
‫يل ‪ ..‬مل يكونوا‬
‫طلبة ‪ ..‬كانوا ن�ساىل حاملني كتبهم ‪ ..‬يلقون بكتبهم وي�شريون �إىل‬
‫خنجر ظهر بيدي فج�أة ‪ ..‬يقرتبون مني كاحليوانات املفرت�سة ‪..‬‬
‫�أ�صوات �أنفا�سهم متعالية للغاية ‪ ..‬ال كانت �أنفا�سي �أنا ‪� ..‬أ�صرخ �إىل‬
‫�أبي ‪ ..‬اختفى �أبي ‪� ..‬صرتُ وحيدة ‪� ..‬أنظر �إىل جثة ندمي ‪� ..‬أ�صرخ‬
‫�إليه؛ �أنقذين منهم ‪ ..‬يقرتبون مني ‪ ..‬ي�سقط اخلنجر من يدي ‪..‬‬
‫يهم �أحدهم بالإم�ساك بف�ستاين ‪ ..‬ينتزعه ‪� ..‬أفتح‬ ‫يقرتبون �أكرث ‪ُ ..‬‬
‫عيني‪ ،‬التقط �أنفا�سي ب�صعوبة‪� ،‬أنظر �إىل ال�سقف جمددًا ‪� ..‬ألوم‬
‫نف�سي ب�أنني تناولتُ تلك الأع�شاب ‪..‬‬
‫عرو�س يف ثوب الزفاف �ألقي‬
‫ٌ‬ ‫�أغم�ض عيني ال �إراد ًيا من جديد ‪..‬‬
‫بالورد نحو املحت�شدين‪ ،‬ثم �أم�سك بخنجري ‪� ..‬أقربه من �صدر ندمي‬
‫العاري ‪� ..‬أحاول �أن �أزيل الو�شم بن�صله احلاد ‪ ..‬تظهر تعبريات الأمل‬
‫على وجهه ‪ ..‬ي�صيح الواقفون من الن�ساىل �إليه كي يحتمل ‪� ..‬أ�ضحك‬
‫�إليهم و�أغمز له بعيني كي ي�ستمع �إليهم ‪ ..‬ي�ضحك ويخربين ب�أن �أكمل‬
‫‪ ..‬تظهر �أمي فج�أة على املن�صة وهي ترتدي ثوب كبري الق�ضاة ‪..‬‬
‫وت�صرخ بنا‪:‬‬

‫‪‬‬
‫إنك �شريفة وهو قاتل ‪� ..‬أراد قتل‬
‫ لن يتم هذا الزواج ‪ِ � ..‬‬
‫�أحدهم‪..‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫ �أراد قتل َمن؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال �أعلم ‪� ..‬أحدهم فح�سب ‪ ..‬هل ت�شككني بق�ضائنا؟!‬
‫نظرتُ �إليها �صامتة ‪� ..‬إن ق�ضاء چارتني الأكرث عدالة‪ ،‬لن ُيظلم‬
‫ندمي �أبدً ا ‪ ..‬ي�صرخ �إ ّ‬
‫يل ندمي وهو يجثو على ركبتيه‪:‬‬
‫ ال �أتذكر �شي ًئا‪ ،‬ل�ستُ �أنا ‪ ..‬حافظتُ على العهد الذي بيننا ‪..‬‬
‫�أ�صرخ به‪:‬‬
‫ ا�صمت �أيها اخلائن ‪..‬‬
‫�أطيح برقبته باخلنجر ‪ ..‬ت�سيل الدماء لتغطي و�شمه بالكامل ‪..‬‬
‫عال و�أنا �أل ّوح �إىل احلا�ضرين‪:‬‬
‫�أ�ضحك ب�صوت ٍ‬
‫ اختفى الو�شم ‪� ..‬صار الن�سلي �شري ًفا �أخ ًريا ‪..‬‬
‫ينطق �صوتٌ �آخر بجواري‪:‬‬
‫ ال ‪� ..‬صار ً‬
‫قتيل ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ارفع ر�أ�سي لأرى �صاحبة ال�صوت ‪ ..‬كنت �أنا يف عمر الرابعة ع�شر‪،‬‬
‫�أرتدي مالب�سي املدر�سية و�أحمل حقيبة مدر�ستي ‪� ..‬أنظر �إليها يف‬
‫ذهول ‪� ..‬أخرجت قل ًما ر�صا�ص ًيا‪ ،‬ومدت يدها و�أم�سكت بذراعي لتكتب‬
‫عليه‪:‬‬
‫  ُكتبت ِ‬
‫عليك الوحدة ‪..‬‬
‫�أفتح عيني خائفة ‪� ..‬أ�ضيء م�صباح غرفتي القريب مني ‪� ..‬أنظر‬
‫تعب �شديد من‬
‫�إىل ذراعي ‪ ..‬ال �شيء ‪� ..‬ألتقط �أنفا�سي ‪� ..‬أنه�ض يف ٍ‬
‫مقعد �أمام طاولتي ‪..‬‬
‫�سريري لأجته �إىل ردهة املنزل ‪� ..‬أجل�س على ٍ‬
‫يحيطني ال�صمت من كل جانب ‪ ..‬ي�صرخ داخلي و�أنا بالكاد �أمتالك‬
‫نف�سي‪:‬‬
‫ هو من خان ‪ ..‬هو من ا�ستحق ذلك ‪..‬‬
‫ي�صرخ �صوتٌ جديد‪:‬‬
‫عليك �أن ترتكي �أمره لبديلك ‪..‬‬
‫أنت؟ ‪ ..‬كان ِ‬
‫ ملاذا قتلته � ِ‬
‫ب�صوت خافت م�سموع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫�أقول‬
‫ هو من ا�ستحق ذلك ‪ ..‬هو من ا�ستحق ذلك ‪..‬‬
‫تتثاقل جفوين من جديد ‪� ..‬أفتحها ب�صعوبة ‪ ..‬ال لن �أنام ‪� ..‬أخ�شى‬
‫فزعا ‪� ..‬أجده‬
‫النوم ‪ ..‬ي�صيبني اجلنون‪ ،‬يد تالم�سني فيجفل ج�سدي ً‬
‫زين قد نه�ض من نومه ‪ ..‬يجل�س على رجلي يف احليز ال�ضيق الذي‬
‫يف�صلني عن الطاولة ‪ ..‬يرفع ر�أ�سه ويق ّبلني ك�أنه يحاول �أن يهد�أ من‬
‫روعي ‪ ..‬تن�سدل جفوين و�أنا جال�سة ‪� ..‬أفتحها من جديد ‪� ..‬أقول‬
‫لنف�سي‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �ستمر هذه الأوقات‪� ،‬ستمر ‪� ..‬س�أن�سى ‪ ..‬و�أمتتم‪:‬‬
‫جمرما ‪..‬‬
‫ً‬ ‫  �إنني �شريفة ‪ ..‬مل �أكن لأتزوج ن�سل ًيا‬
‫ي�ضج �صوتٌ بعيد‪:‬‬
‫كنت حتبيه وكان يحبك ‪..‬‬
‫لديك الفر�صة لتنقذيه ‪ِ ..‬‬
‫ كان ِ‬
‫�أتو�سل �إىل عقلي‪:‬‬
‫ اهد�أ �أرجوك ‪ ..‬اهد�أ �أيها التفكري ‪ ..‬ملاذا ال ي�أتي عامي‬
‫عاما‬
‫خم�سا وع�شرين ً‬
‫اخلم�سني الآن ‪ ..‬ملاذا مل جتعلها القواعد ً‬
‫فقط ‪ ..‬لرنتاح من عناء هذه احلياة ‪ ..‬اهد�أ ً‬
‫قليل �أرجوك ‪..‬‬
‫يقول �صوتٌ �صاد ٌق بداخلي‪:‬‬
‫ �إنني �أفتقده ‪� ..‬أفتقده كث ًريا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫ تت�ساقط دموعي و�أنا �أقول‪:‬‬
‫ �سيمر ‪� ..‬أعرا�ض ان�سحاب �ستمر ‪� ..‬ستن�سيني الأيام كل �شيء‬
‫‪ ..‬انتظري مرور الأيام فح�سب ‪..‬‬

‫�صرتُ �أنام من التعب يف �أي وقت‪� ،‬صار النهار كالليل و�صار الليل‬
‫كالنهار‪ ،‬فتا ٌة حتت�ضر بني �أربعة جدران‪ ،‬تنتظر �أن تن�صرها روحها‬
‫وتغادرها يف حلظة قريبة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثالث ُة �أ�شهر ال جديد عن تلك احلالة‪ ،‬مل يكن ّ‬
‫لدي �أي طاقة للمقاومة‬
‫‪ ..‬تركتُ نف�سي لل�سقوط واالنهيار فح�سب‪ ،‬فقد ج�سمي الكثري من‬
‫هزيل‪� ،‬صارت كتفاي ورقبتي �أكرث ً‬
‫نحول‪ ،‬و�صارت �ساقاي‬ ‫وزنه و�صار ً‬
‫ك�سيقان الطاولة ‪َ ..‬من يراين كان ليظن �أنني �أُ�صبت مبر�ض لعني مكث‬
‫يوما بعد يوم ‪..‬‬
‫ي�أكل ج�سدي ً‬
‫ثالث ُة �أ�شهر مل ُيدق بابنا‪ ،‬قبل ذلك اليوم حني �أتت تلك الدقات وملّا‬
‫فتحتُ وجد ُتها �أمامي ‪ ..‬ال�سيدة بيان ‪ ..‬معلمتي باملدر�سة املتو�سطة‪ ،‬مل‬
‫�أكن قد ر�أيتُها منذ ع�شر �سنوات‪ ،‬كنت �أظن �أنها قد عربت اخلم�سني‪،‬‬
‫لكنها بدت �أنها ال تزال متتلك ب�ضعة �أ�شهر بحياتها ‪..‬‬
‫رحبتُ بها و�أنا �أعتذر عن �سوء احلالة التي كان عليها بيتي‪،‬‬
‫ف�أخربتني �أنها ال تهتم مبثل هذه الأمور ‪ ..‬جال يف ذهني ت�سا�ؤالت‬
‫عن �سر زيارتها املفاجئة يل‪ ،‬وخا�ص ًة �أن عالقتي بها مل تزد ً‬
‫يوما عن‬
‫قليل عن املدر�سة املتو�سطة وما يحدث بها‬‫حدود الدرا�سة‪ ،‬حتدثنا ً‬
‫تلك الآونة‪� ،‬أخربتني �أنها �صارت كبرية املعلمني ‪ ..‬كان كالمنا ُم ً‬
‫ر�سل‬
‫من �أجل ت�ضييع الوقت فح�سب‪ ،‬كان داخلي ي�شعر ب�أن وراء زيارتها‬
‫متاما ‪ ..‬ثم �ساد ال�صمت بيننا لدقائق قبل �أن تقول‪:‬‬
‫�سب ًبا �آخر ً‬
‫أمر ما ‪..‬‬
‫أخربك ب� ٍ‬
‫إليك ل ِ‬
‫ جئتُ � ِ‬
‫انتبهتُ �إليها وقلت‪:‬‬
‫ �أي �أمر �سيدتي؟!‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ �س�أعرب عامي اخلم�سني بعد ب�ضعة �أيام ‪..‬‬
‫هززتُ ر�أ�سي ُمبينة �أ�سفي‪ ،‬ف�أردفت تقول‪:‬‬
‫بروح‬
‫ لقد �أخط�أتُ يف ح ِقك ‪ ..‬و�أريد �أن �أذهب �إىل وادي حوران ٍ‬
‫نقية ‪..‬‬
‫�س�ألتها يف تعجب‪:‬‬
‫ حقي �أنا؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ل�ست الوحيدة التي �أحبت ن�سل ًيا ‪..‬‬
‫  ِ‬
‫نظرتُ �إليها يف ترقب‪ ،‬ف�أكملت‪:‬‬
‫ لقد �أحببتُ ن�سل ًيا �أنا الأخرى قبل �سنوات طويلة‪.‬‬
‫ثم �صمتت للحظة‪ ،‬ونظرت �إىل الأر�ض وتابعت‪:‬‬
‫ كان يكتب يل على �سطح التختة اخل�شبية � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫عيني‪ ،‬ونظرتُ يف عينها مبا�شرة‪ ،‬وجال يف ذهني‬ ‫ات�سعت حدقتا ّ‬
‫ذلك اليوم حني عدتُ �إىل الف�صل بعد خروج الطالبات كي �أحمو ما‬
‫كتبته �إىل ندمي‪ ،‬فوجد ُتها جتل�س على مقعدي ممتلئة العني بالدموع‪،‬‬
‫قبل �أن تخربين �أنها بخري ‪ ..‬ف�س�ألتُها غري م�صدقة‪:‬‬
‫كنت تعلمني ب�أمري مع ندمي باملدر�سة املتو�سطة؟! ‪..‬‬
‫ هل ِ‬

‫‪‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬ملحت ُِك �صدف ًة تقومني بالأمر ذاته الذي كنتُ �أقوم به‬
‫مغادرتك يومها ‪ ..‬لتعود �إ ّ‬
‫يل‬ ‫ِ‬ ‫‪ ..‬وقر�أتُ كتاباتكما املكتوبة بعد‬
‫عاما �أنتظر �أن ت�أتي تلك‬
‫الروح جمددًا ‪ ..‬ظللتُ خم�سة ع�شر ً‬
‫الفر�صة لأعرف الن�سلي الذي ح�صد روح من �أحبه ‪ ..‬بعدها‬
‫اجتهتُ �إىل مدر�سة الفتيان لأعرف من هو ‪..‬‬
‫ت�ساءلتُ ب�صوت �ضعيف‪:‬‬
‫ ندمي؟!‪..‬‬
‫هزّت ر�أ�سها �إيجا ًبا وقالت‪:‬‬
‫ كل الدالئل قالت يل �أنه هو ‪ ..‬الطريقة التي كان يكتب بها على‬
‫�سطح التختة ‪ ..‬عمره‪ ،‬وفق بياناته باملدر�سة ُولد ندمي يف العام‬
‫الذي �أُعدم به حبيبي ‪..‬‬
‫ثم ملأت �صدرها بالهواء و�أخرجت زفريها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫أمر عار�ض ‪ ..‬مل‬ ‫يوما وحدثتُه ب� ٍ‬
‫ لكنه مل يتذكرين ‪ ..‬ا�ستوقفته ً‬
‫يعرف من �أنا ‪ ..‬لكني كنت �أوقن �أنه هو ‪ ..‬ظللتُ �أقر�أ ما يدور‬
‫لك ‪ ..‬حتى ترك‬ ‫بينكما ‪ ..‬كنت �أ�شعر �أن الكالم موج ًها يل لي�س ِ‬
‫املدر�سة املتو�سطة‪ ،‬حاولتُ �أن �أتنا�سى الأمر‪ ،‬ومل �أفلح ‪ ..‬بحثتُ‬
‫عنه يف وادي الن�ساىل ‪ ..‬عر�ضتُ م�ساعدته يف تعليم الأطفال‬
‫لكنه رف�ض ‪ ..‬حدثتُه �صراح ًة ذات يوم عما حدث بيننا من‬
‫قبل‪ ،‬تركني وم�ضى بعيدً ا ‪� ..‬أخربين �أنه لي�س من �أبحث‬
‫‪‬‬
‫عنه ‪ ..‬و�أنه ال يحب �إال فتاة ُت�سمى غفران فح�سب ‪ ..‬لكنني مل‬
‫يوما ‪ ..‬وظل �أملي بالعودة �إليه قائ ًما ‪ ..‬مل يهز هذا‬
‫أن�س حبه ً‬
‫� َ‬
‫الأمل �سوى معرفتي بنيتكما للزواج ‪..‬‬
‫مع اقرتاب يوم زواجكما واقرتابي يف الوقت ذاته من‬
‫اخلم�سني ‪ -‬املوت احلتمي ‪ -‬جاءتني فكرة �أنانية‪ ،‬تعلمني �أن‬
‫ال�شريف منا �إذا انتحر قبل بلوغه اخلم�سني تنتقل روحه �إىل‬
‫�أطفال الن�ساىل عقوب ًة له‪ ،‬فجال بخاطري لو �أنهيتُ حياتي‬
‫متعمدة يف باحة جويدا يف الوقت الذي ُيعدم به ندمي لعل‬
‫ً‬
‫م�ستقبل ‪ ..‬ال �أعرف �أين كان‬ ‫�أرواحنا جتد �أج�سادًا تتالقى‬
‫عقلي وقتها ‪..‬‬
‫ثم �أكملت ب�صوت خمتنق بالدموع‪:‬‬
‫أنك يف انتظاره‬
‫ �أر�سلتُ �أحدهم �إىل وادي الن�ساىل ليخرب ندمي ب� ِ‬
‫‪ ..‬قابلتُه وحدثتُه مرة �أخرى عن حياتي مع �صاحب روحه ‪..‬‬
‫�س�ألني �أن �أبتعد عنه‪� ،‬صرختُ به ‪� ..‬أهنتُه‪ ،‬متالك نف�سه ‪ ..‬كنت‬
‫�أنتظر منه �أي ردة فعل �شريرة فلم يفعل ‪ ..‬كان يريد الرحيل‬
‫فقط‪ ،‬ثم فوجئتُ بعروقه تنتف�ض دون مقدمات‪ ،‬ووجد ُته ينظر‬
‫نحوي بعينني بارزتني ‪ ..‬وعاد بخطوات �إىل اخللف ليبتعد عني‪،‬‬
‫دق قلبي خو ًفا وقتها ‪ ..‬لكني �أدركتُ �أنه يحاول �أن يتجنبني ‪..‬‬‫ّ‬
‫مل �أغادر مكاين ‪ ..‬و�أغلقتُ بابي جيدً ا ‪ ..‬ظل يحطم كل �شيء‬
‫من حوله ‪� ..‬صار يف حلظة واحدة �شي ًئا �آخر ال �أ�ستطيع و�صف‬
‫مدى وح�شيته‪ ،‬لكنه هد�أ بعد فرتة ق�صرية‪ ،‬وفقد وعيه ‪..‬‬
‫هناك كانت الفر�صة الأعظم الدعاء �أنه جاء ل�سرقتي وال�شروع‬
‫يف قتلي ‪ ..‬جرمي ٌة كاملة الأركان ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫نظرتُ �إليها وقلت يف ذهول‪:‬‬
‫ مل يرتكب �أي جرمية؟!! ‪..‬‬
‫قالت ب�صوت هادئ دون �أن تنظر نحوي‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قلت وكان الذهول ال يزال منطب ًعا على وجهي‪:‬‬
‫ً‬
‫م�ستقبل؟!‬ ‫أردت �أن ُيعدم من �أجل �أن جتدي معه فر�صة �أخرى‬
‫ � ِ‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا وهي تنظر �إىل الأر�ض بعينني دامعتني‪،‬‬
‫فقلتُ لنف�سي ذاهلة و�أنا �أتذكر كلماته يل قبل موته‪:‬‬
‫ ظنّ �أنه ارتكب جرميته دون �أن يدري!‬
‫كانت ال�سيدة ال تزال جتل�س �أمامي ينطبع على وجهها ند ٌم �شديد‬
‫‪ ..‬فقلتُ لها‪:‬‬
‫ وملاذا مل تن ِه حيا ِتك � ًإذا يف اليوم ذاته بباحة جويدا؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ حني �أو�شكتُ على قتل نف�سي ‪ ..‬كانت هناك ن�سلية تقف على‬
‫بعد خطوات مني ‪ ..‬نظرتُ �إليها و�إىل و�شم كتفها‪� ،‬أ�صاب‬
‫اال�ضطراب داخلي وقتها‪ ،‬واجتاحني اخلوف ذاته الذي ر�أيتُه‬
‫يف عينك يومها ‪ُ ..‬‬
‫خوف التحول �إىل ن�سلية ‪ ..‬ثم �أفقتُ من‬
‫خويف على قتلك له بخنجرك‪ ،‬فوجد ُتني �أهرول مبتعدة عن‬
‫الباحة �أو ُد �أن �أنهي حياتي كامر�أة �شريفة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫قلت لها با�ستنكار‪:‬‬
‫ �شريفة؟! ‪� ..‬أي �شرف فيما فعلته؟! ‪ ..‬هل تدركني ما فعلته بنا؟!‬
‫فعلت‬
‫‪ ..‬هل تدركني ماذا لو اكتمل زواجنا؟! ‪� ..‬أتدركني ماذا ِ‬
‫مبئات من الن�ساىل كانوا يطمحون لي�صريوا مثله؟! ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫ثم �أ�شرتُ �إىل ج�سدي الهزيل‪ ،‬وقلت ب�صوت �ضعيف‪:‬‬
‫ �أتدركني ماذا ح ّل بي الثالثة �أ�شهر املا�ضية؟!‬
‫ظلت ال�سيدة �صامتة قبل �أن �أ�صرخ بها و�أ�س�ألها �أن تغادر من �أمامي‬
‫على الفور ‪ ..‬كانت تتطلع يل باكية وهي تغادر ت�س�ألني �أن �أ�ساحمها‪،‬‬
‫ومتتمت وهي تبكي ب�أنها ذهبت �إىل قرب ندمي بوادي الن�ساىل بعد �أيام‬
‫من موته لتك ّفر عما فعلته ‪ ..‬ف�أغلقتُ الباب بقوة من خلفها ‪ ..‬و�أ�سندتُ‬
‫ظهري �إليه ُمغم�ضة عيني ‪ ..‬يعلو �صدري ويهبط ببطء ‪ ..‬وتهم�س‬
‫�شفتاي مع كل نف�س �أخرجه‪:‬‬
‫ كان بري ًئا ‪ ..‬كان بري ًئا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫ثم وجد ُتني �أفتح باب البيت‪ ،‬و�أرك�ض ب�أق�صى �سرعة يل دون‬
‫وعي‪ ،‬لت�أخذين قدمي �إىل هناك للمرة الأوىل يف حياتي ‪� ..‬إىل وادي‬
‫الن�ساىل‪..‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)19‬‬

‫وقفتُ مكاين على م�شارف وادي الن�ساىل يت�صبب العرق من جبيني‬


‫من �أثر الرك�ض ‪ ..‬وك�أن تفكريي قد ُ�شل مل �أعرف ماذا �أفعل ‪ ..‬ثم‬
‫وجدتني �أتقدم ببطء �إىل داخل الوادي دون �أن �أكرتث مبا قد يحدث ‪..‬‬
‫لكن دقات قلبي �سرعان ما �أ�صابها اال�ضطراب عندما �أب�صرتُ ً‬
‫بع�ضا‬
‫من ن�ساء الن�ساىل وفتيانهم و�أطفالهم قد بد�أوا يخرجون من جحورهم‬
‫ليقفوا على جانب الطريق وعلى وجوههم ارت�سمت مالمح اخلوف‬
‫والده�شة ‪ٌ ..‬‬
‫خوف من هذه املر�أة التي ُوكلت دائما بقتل �أحبابهم‪،‬‬
‫وده�ش ٌة من تواجدها ب�آخر مكان قد تكون هي به ‪..‬‬
‫وا�صلتُ طريقي الذي مل �أكن �أعرف له وجه ًة‪ ،‬ومع كل خطوة كانت‬
‫جانبي دون �أن ينطق �أحدهم �أو ي�صدر له‬
‫ّ‬ ‫�أعداد الن�ساىل تتزايد على‬
‫�صوت‪ ،‬ظ ّلوا ينظرون �إ ّ‬
‫يل يف �صمت بالغ فح�سب‪ ،‬و�أنا �أتقدم �أمامهم يف‬
‫خزي �شديد‪ ،‬لأ�شعر للمرة الأوىل ب�أنني من يحمل العار ال هم ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫كنت �أنظر �إىل وجوههم‪ ،‬وتتقافز الكلمات من عيني �إليهم يف‬
‫تو�سل‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �أريد �أن �أخربكم �أن اخلوف هو ما جعلني �أفعل ذلك ب�سيدكم‪،‬‬
‫�ساحموين ‪� ..‬أعلم �أنني َمن اغتلتُ �أحالمكم‪ ،‬لكني هنا الآن‬
‫بينكم لطلب الغفران ‪..‬‬
‫وا�صلوا حتديقهم بي من غري �أي ردة فعل‪ .‬لكن ذلك مل يدم ً‬
‫طويل‪،‬‬
‫بعدما ارتطم بر�أ�سي فج�أ ًة حج ٌر �صغري قذفه �أحدهم بقوة لي�صيب‬
‫حاجبي الأي�سر‪ ،‬ف�سالت الدماء على وجهي‪ ،‬ودارت بي الدنيا للحظات‪،‬‬
‫فتوقفتُ مكاين بعدما كدتُ �أ�سقط ‪..‬‬
‫قبل �أن �أمتالك نف�سي و�أم�سح بكم ف�ستاين الدماء عن عيني‪،‬‬
‫علي قد ًرا من روث املا�شية‬
‫و�أوا�صل طريقي بينهم‪ ،‬ف�ألقت امر�أة �أخرى ّ‬
‫ف�أغرقتني بها‪ ،‬لكني تابعتُ طريقي دون �أن �ألتفت �إليها حتى ‪ ..‬كان‬
‫داخلي يقول؛ افعلوا ما �شئتم ‪ ..‬لن �أج ّر �أحدكم �إىل من�صة الإعدام ‪..‬‬
‫هيا �ألقوا ب�أحجاركم نحوي ‪ ..‬ال ي�ضر الأمل املوتى على كل حال‪ ،‬و�أنا‬
‫ُمت بالفعل منذ ثالثة �أ�شهر‪ ،‬ال يتبقى يل فقط �سوى مغادرة روحي‬

‫‪9‬‬
‫لت�سكن ج�سدً ا �آخر ‪ ..‬هيا‪� ،‬ألقوا ب�أحجاركم‪� ،‬ساعدوها على الرحيل ‪..‬‬
‫ثم �أ�صابني حج ٌر �آخر ‪ ..‬ال �أتذكر �أنني تقدمتُ بعده �إال ب�ضعة‬
‫قواي‬
‫خطوات‪ ،‬قبل �أن تدور بي الدنيا وتت�سارع دقات قلبي‪ ،‬وتخور ّ‬
‫تدريج ًيا‪ ،‬و�أفقد وعيي‪.‬‬

‫ق�شي داخل جدران كوخ‬ ‫�أفقتُ من �إغمائتي لأجدين على �سرير ٍ‬


‫�صغري ُعلق ب�سقفه م�صباح زيتي �أ�ضاء املكان من حويل ‪ ..‬وكان ع�ش ًبا‬
‫مهرو�سا قد ُو�ضع على حاجبي فرتك �أثره على �سبابتي حني حت�س�ستُ‬
‫ً‬
‫‪‬‬
‫جرحي ‪ ..‬ما �إن نه�ضتُ وجل�ستُ على ال�سرير و�أ�سقطتُ قدمي �إىل‬
‫متاما حتى ُفتح باب الكوخ ودلف �إ ّ‬
‫يل الفتى‬ ‫الأر�ض �أحاول �أن �أ�ستفيق ً‬
‫الن�سلي ريان‪ ،‬وقف �صامتًا �أمامي ك�أنه ي�ستجمع ما �سيقوله‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ تركك اجلميع بالطريق فاقد ًة للوعي ت�سيل دما�ؤك ‪..‬‬
‫و�أ�صدر �إمياءة وهو يقول‪:‬‬
‫ ال �أعلم ملاذا مل �أتركك مثلهم ‪..‬‬
‫و�أكمل‪:‬‬
‫بك �إىل جويدا يف حالتك هذه‪ ،‬فيظنون �أنني‬ ‫ وخفتُ �أن �أعود ِ‬
‫بك �إىل هنا ‪� ..‬إىل كوخ‬
‫بك فيعتقلونني ‪ ..‬فجئتُ ِ‬
‫َمن فعلت ذلك ِ‬
‫�سيدي ندمي ‪..‬‬
‫تلفت حويل لأتفح�ص الكوخ على الفور وقلتُ يف ده�شة‪:‬‬
‫ُّ‬
‫ كوخ ندمي ‪ ..‬كان يعي�ش هنا؟! ‪..‬‬
‫قال الفتى‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬حر�صتُ طوال الأ�شهر املا�ضية على االعتناء به ونظافته‪،‬‬
‫مات �سيدي لكني �أحب كل �شيء يخ�صه ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �إنك طيب مثله يا ريان ‪..‬‬
‫قال يف توتر‪:‬‬
‫‪‬‬
‫وعليك �أن ترحلي الآن �سيدتي ‪ ..‬ال نريد �أن‬
‫ِ‬ ‫ ال ‪ ..‬ل�ستُ مثله‪،‬‬
‫ُيقدم �أحد �إىل املن�صة ب�سببك جمددًا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ هل مر وقت طويل على نومي؟! ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ب�ضع �ساعات ‪..‬‬
‫كانت املرة الأوىل التي �أنام فيها دون قلق منذ �إعدام ندمي‪ ،‬فقلتُ‬
‫ب�صوت هادئ‪:‬‬
‫ ال �أريد �أن �أعود �إىل هناك ‪..‬‬
‫قال يف نربة حادة‪:‬‬
‫أراك اليوم متنيتُ‬
‫ومكانك لي�س هنا �سيدتي ‪� ..‬أتعلمني‪ ،‬قبل �أن � ِ‬
‫ِ‬ ‫ ‬
‫كل حلظة لو جاءتني الفر�صة لأقتلك مبا فعلته ب�سيدي ‪ ..‬لكني‬
‫الآن ال �أعلم ماذا �أ�صابني ‪ ..‬ارحلي فح�سب‪ ،‬دعينا و�ش�أننا‬
‫ويكفينا ما حدث ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫علي �أن �أ�ستمع‬
‫علي فعل ذلك‪ ،‬كان ّ‬
‫ �أخط�أتُ بقتل ندمي ‪ ..‬مل يكن ّ‬
‫�إىل كالمك ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪‬‬
‫‪..‬‬ ‫ ال يفيد الندم‪ ،‬ولن يغري بالواقع �شي ًئا ‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ‪ ..‬وقلت‪:‬‬
‫ هل لك �أن تدعني هنا ‪� ..‬س�أحر�ص على نظافة الكوخ ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ لن يرتكك �أهل الوادي ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �إن �أرادوا قتلي فليفعلوا ‪� ..‬أرجوك �إنني �أ�شعر باالطمئنان هنا‪..‬‬
‫�أخرج الفتى زفريه حان ًقا ‪ ..‬ثم تركني وغادر الكوخ‪ ،‬بعدها حتركتُ‬
‫�إىل خارجه لأنظر جتاه الوادي ‪ ..‬كان الظالم الدام�س ي�سود الأفق‬
‫لي�س �إال من م�صابيح متناثرة بدت بعيدة‪ ،‬فعدتُ �إىل داخل الكوخ‪،‬‬
‫وانتزعتُ ف�ستاين املُ�ش ّبع برائحة روث املا�شية‪ ،‬وان�سللتُ �أ�سفل ٍ‬
‫فرا�ش‬
‫خ�شن لأخلد �إىل النوم مرة �أخرى ‪..‬‬
‫ا�ستيقظتُ مع طلوع ال�شم�س‪ ،‬كان نور النهار قد ت�س ّلل �إىل‬
‫داخل الكوخ من كل جانب ف�أ�ضاءه بالكامل‪ ،‬لأرى الأدوات التي كان‬
‫ي�ستخدمها ندمي يف تعليم طلبته ‪� ..‬أقالم ر�صا�صية قدمية ‪� ..‬أوراق‬
‫بالية �صفراء ‪ ..‬كتب ممزقة الأغلفة ‪ ..‬قطعة خ�شبية مل�ساء مطلية‬
‫بلون �أ�سود ‪� ..‬أحجار بي�ضاء �صغرية ُا�ستخدمت للكتابة عليها ‪..‬‬
‫ثم مر وقت قليل مل يتوقف به عقلي عن التفكري‪ ،‬قبل �أن �أنه�ض‬
‫و�أرتدي ف�ستاين و�أجته للبحث عن كوخ ريان‪� ،‬س�ألت الكثريين عنه‪،‬‬
‫‪‬‬
‫بح ٍنق‬
‫رف�ض �أغلبهم امل�ساعدة‪ ،‬وظل الباقون �صامتني ينظرون نحوي ُ‬
‫�شديد ‪..‬‬
‫مل جتبني �إال طفلة يف العا�شرة‪� ،‬شكر ُتها‪ ،‬وو�صلتُ �إىل كوخه‪ ،‬دلفتُ‬
‫�إليه بعدما مل يجب طرقاتي‪ ،‬كان ال يزال نائ ًما‪ ،‬فهزز ُته كي ي�صحو‪،‬‬
‫يل بعني ن�صف مفتوحة يف تعجب‪ ،‬وت�ساءل‪:‬‬ ‫فنظر �إ ّ‬
‫ ماذا تفعلني هنا؟! ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ انه�ض‪� ،‬أريد �أن �أخربك ب�شيء ‪..‬‬
‫نه�ض من نومته‪ ،‬فناولتُه �إناء ماء كان يوجد جان ًبا‪ ،‬ف�ضرب وجهه‬
‫باملاء‪ ،‬ثم نظر �إ ّ‬
‫يل وقال‪:‬‬
‫ ماذا تريدين؟! ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �أريدك �أن ت�ساعدين ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ �أ�ساعدك يف ماذا؟! ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ لأك ّفر عما فعلته ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫متربما‪ ،‬و�أراد �أن يعود �إىل النوم‪ ،‬ف�أم�سكتُ به‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ً‬ ‫هز ر�أ�سه‬
‫ �أخربتني �ساب ًقا عن حلم مئات الن�ساىل كي ي�صبحوا‬
‫مثل �سيدهم ندمي‪ ،‬الأم�س وبعدما ر�أيتُ تلك الطيبة منك‬
‫وم�ساعدتي رغم غ�ضبك ال�شديد جتاهي‪� ،‬أدركتُ �أن ما فعله‬
‫غي التعليم‬
‫ندمي طوال ال�سنوات املا�ضية مل يذهب هبا ًء ‪ ..‬لقد ّ‬
‫داخلك‪ ،‬وبالت�أكيد هناك الع�شرات مثلك ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ لقد انتهى كل �شيء مبقتل �سيدي‪ ،‬مل يبقَ هناك طالب واحد‪،‬‬
‫اجته الفتيان لل�سرقة‪ ،‬واجتهت الفتيات للرذيلة ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ لكنك هنا‪ ،‬ال ت�سرق ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ال تعرفني �شي ًئا عني ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �ساعدين لأحل حمله ‪..‬‬
‫�أطلق امياءة �ساخرة وقال‪:‬‬
‫ حمله؟! �إن اجلميع هنا يكرهونك ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �أريد �أن �أبقى بينكم‪� ،‬أريد �أن �أكمل ما بد�أه ندمي‪ ،‬ال تعلم ماذا‬
‫حدث يل خالل الأ�شهر املا�ضية‪� ،‬أ�ستطيع �أن �أع ّلم الن�ساىل‬
‫الكثري من الأمور‪ ،‬قد ي�أتي الوقت الذي يتزوج به ن�سلي �آخر من‬
‫امر�أة �شريفة غريي ‪..‬‬
‫اعتدل ريان يف جل�سته على �سريره‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �أتعرفني �شي ًئا؟! ‪ ..‬مات �سيدي مرتني‪ ،‬الأوىل عندما �أعطيتيه‬
‫� ً‬
‫أمل ب�أن ن�سل ًيا قد يتزوج �شريفة و�صار عليه �أن يعي�ش حياته‬
‫دون خط�أ واحد‪ ،‬والثانية �أمامنا على املن�صة حني قتلته‬
‫بخنجرك‪� ،‬أتريدين املزيد من القتلى؟!‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪ ،‬دعك من �ش�أن الزواج من ال�شريفات‪ ،‬يكفي �أن ندمي قد‬
‫جنح يف الو�صول �إىل عامه اخلام�س والع�شرين دون جرمية‪،‬‬
‫و�أرى ذلك فيك‪ ،‬وقد ينجح الأمر مع الكثريين ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ينج �سيدي من روحه الآثمة وارتكب جرميته ‪..‬‬
‫ مل ُ‬
‫كدتُ �أنطق و�أقول له ما دار بيني وبني ال�سيدة بيان‪ ،‬لكني خ�شيتُ‬
‫�أن ي�شعل ذلك �أمر االنتقام منها بداخله‪ ،‬ويودي بنف�سه �إىل من�صة‬
‫الإعدام‪ ،‬فقلتُ يف تراجع‪:‬‬
‫ كاد يفعلها وينجو‪� ،‬ساعدين يف عودة الطلبة �إىل كوخ ندمي من‬
‫جديد‪ ،‬لقد انتهت املر�أة التي كنتم ترونها على املن�صة‪ ،‬لقد‬
‫ذهبت بال عودة ‪ ..‬لن تخ�سر �شي ًئا‪� ،‬أعطني فر�صة واحدة ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫هز ر�أ�سه متهك ًما‪� ،‬أدركتُ �أنه تذ ّكر كالمه يل حني تو�سل �إ ّ‬
‫يل كي‬
‫�أعطي ندمي فر�صة واحدة‪ ،‬لكنه قال‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪ ،‬اذهبي � ِ‬
‫أنت �إىل �أكواخ الن�ساىل وطالبي الن�ساء بعودة‬
‫�أطفالهم �إىل كوخ ال�سيد ندمي‪ ،‬لن �أتدخل بهذا الأمر ‪..‬‬
‫و�سكت ثم �أكمل بعد حلظات‪:‬‬
‫ لكني �س�أو ّفر ِ‬
‫لك الطعام خالل هذا ال�شهر ‪..‬‬
‫وربت على �شعره‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ابت�سمتُ ُّ‬
‫ �س�أفعل ذلك ‪..‬‬
‫ثم نه�ضتُ ‪ ،‬وكدتُ �أغادر فقال‪:‬‬
‫ انتظري ‪� ..‬إن كانت امر�أة املن�صة قد ذهبت بال عودة‪ ،‬فاتركي‬
‫كل ما يتعلق بها ‪..‬‬
‫ثم نه�ض وحترك �إىل �صندوق خ�شبي بركن بعيد‪ ،‬و�أخرج منه‬
‫ف�ستا ًنا منزوع الكتف الأي�سر‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �إنه ف�ستان �أختي‪ ،‬غادرت منذ ثالثة �أ�شهر‪� ،‬أعتقد �أنه منا�سب‬
‫ملقا�سك ‪..‬‬
‫ابت�سمتُ و�أنا �آخذه منه‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �س�أرتديه ‪..‬‬
‫التفت وكدت �أغادر‪ ،‬فتوقفتُ مرة ثانية وقلت‪:‬‬
‫ثم ُّ‬
‫‪‬‬
‫ هل يل �أن �أطلب طلب �أخري؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ ماذا؟!‬
‫ قلت‪:‬‬
‫ �أريدك �أن جتعل �إحدى الفتيات الالتي يذهنب �إىل جويدا �أن‬
‫حتمل ر�سالة �إىل �إحدى جرياين هناك ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ �أي ر�سالة؟!‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ �أريد �أن �أخرب �إحدى قريبات �أمي ب�أن تعتني ب�أخي زين يف‬
‫غيابي ‪..‬‬
‫هز ر�أ�سه مواف ًقا‪ ،‬ف�أخرب ُته مبكان قريبتي‪ ،‬وغادرتُ الكوخ �أحمل‬
‫بيدي ف�ستان �أخته‪.‬‬

‫نزعتُ ف�ستاين الذي جئتُ به من جويدا‪ ،‬وارتديتُ ف�ستان �أخت‬


‫ريان‪ ،‬كان قد ًميا ذا لون �أرجواين باهت‪ ،‬لكنه كان منا�س ًبا �إىل حد‬
‫قواي و�أخرج‬
‫كبري ‪ ..‬ظللتُ متوج�سة لفرتة ق�صرية قبل �أن �أ�ستجمع ّ‬
‫�إىل وادي الن�ساىل مرة �أخرى ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كانت نظرات الده�شة تتفح�صني‪ ،‬وخا�ص ًة عندما دلفتُ �إىل‬
‫اجلزء املكتظ من الوادي عارية الكتف‪ ،‬كان كوخ ندمي وكوخ ريان‬
‫يقعان بامل�شارف التي ال يتواجد بها الكثري من الأكواخ‪� ،‬أما داخل‬
‫الوادي فتال�صقت الأكواخ وتفرعت الطرقات وال�شوارع بينها‪ ،‬وك�أن‬
‫قرية كبرية قد ن�ش�أت داخل �أح�ضان ذلك الوادي ‪..‬‬
‫حتدثتُ مع امر�أة ن�سلية قابلتني عن نيتي ال�ستكمال ما بد�أه ندمي‪،‬‬
‫تركتني وم�ضت ‪ ..‬حتدثتُ مع �أخرى فعلت ما فعلته الأوىل‪ ،‬طرقتُ‬
‫باب �أحد الأكواخ وحتدثتُ �إىل امر�أة ثالثة كادت تلقي مبا يف يدها يف‬
‫وجهي‪ ،‬لكنها اكتفت ب�إغالق الباب بوجهي‪ ،‬كوخ �آخر‪ ،‬ن�ساء �أخريات‪،‬‬
‫أجن �إال التجاهل �أو الإهانة ‪..‬‬
‫كلهن فعلن ال�شيء ذاته‪ ،‬مل � ِ‬
‫مل �أي�أ�س‪ ،‬ووا�صلتُ �سريي بني الطرقات والأكواخ‪ ،‬لكني مل �أ�ستطع‬
‫�إقناع امر�أة واحدة �أو فتى واحد‪ ،‬وعدتُ مع غروب ال�شم�س �إىل كوخ‬
‫ندمي الذي �صار كوخي‪ ،‬كانت قطعة من اخلبز واجلنب قد ُو�ضعت على‬
‫�سريري‪ ،‬فعلمتُ �أن ريان قد �أوفى بوعده ‪..‬‬
‫كنت �أعلم داخل نف�سي �أنهم حمقون‪ ،‬لو كنت مكانهم لفعلتُ ال�شيء‬
‫ذاته‪ ،‬لكني �أردت م�ساعدتهم ح ًقا كما �أراد ندمي ‪..‬‬
‫يف اليوم الثاين فعلتُ ما فعلته يف اليوم الذي �سبقه‪ ،‬كما �أنني‬
‫واد �آخر قريب كان به بع�ض الأكواخ‪ ،‬غري �أنني عدتُ كما‬‫اجتهتُ �إىل ٍ‬
‫متاما‪ ،‬فعلتُها مرة ثالثة باليوم الثالث‪ ،‬مرة رابعة‬
‫عدتُ يومي ال�سابق ً‬
‫باليوم الرابع‪ ،‬مرة خام�سة‪ ،‬مرات كثريات ب�أيامي املتتابعة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫مل �أك ّل يف الذهاب كل يوم �إىل ن�ساء الن�ساىل‪ ،‬ومل تكل ن�ساء‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬ومل يكل ريان عن الإتيان بطعامي‬ ‫الن�ساىل يف �صدي ً‬
‫اليومي دون �أن يلتقيني معظم الأيام‪ ،‬حتى و�إن التقينا‪ ،‬مل ي�س�ألني قط‬
‫عن نتيجة ما �أفعله‪ ،‬كان يح�ضر يل الطعام ويغادر دون �أي حديث ‪..‬‬
‫�صار نومي منتظ ًما‪ ،‬مل تعد الكوابي�س تطاردين‪ ،‬ورحل عن ج�سدي‬
‫الهزال الذي �أ�صابه الأ�شهر املا�ضية وك�أنني وجدتُ �ضالتي وراحتي يف‬
‫هذا املكان‪ ،‬ثم جاء ذلك ال�صباح حني بد�أتُ رحلتي اليومية للذهاب‬
‫�إىل �أكواخ الن�ساىل فلم �أجد الكثريات منهن‪ ،‬ثم ر�أيتُ امر�أة ن�سلية‬
‫تهرول م�سرعة فحاولتُ �أن �أ�ستوقفها‪ ،‬ف�أبعدتني عن طريقها‪ ،‬وغمغمت‬
‫ب�أنها ال تريد �أن تف ّوت يوم الغفران ‪..‬‬
‫يوم الغفران !!‪ ،‬تناهت الكلمة �إىل م�سامعي ك�أنها حتدثت فج�أ ًة‬
‫�شخ�ص �أعرفه‪ ،‬كان ل�سنوات طويلة �صديقي املقرب ‪ ..‬وابتعدتُ‬
‫ٍ‬ ‫عن‬
‫عن طريقها‪ ،‬وجل�ستُ على جانب الطريق �أنظر �إليها و�إىل الن�ساء‬
‫الأخريات املت�سارعات للحاق بباحة جويدا‪ ،‬وت�ساءل عقلي وقتها‪،‬‬
‫�أيحبون ذلك املكان �أم يكرهونه؟!‬

‫‪9‬‬
‫�إن كانوا يكرهونه فلماذا يهرولون �إليه هكذا؟! ‪ ..‬و�إن كانوا يحبونه‬
‫فلماذا يكرهونني ومل �أكن �سوى جزء منه؟! ‪ ..‬لأنني قتلت ندمي؟! ‪..‬‬
‫�أعلم �أن النا�س ال ي�ساحمون �أبدً ا من يقتل �أحالمهم‪ ،‬لكني جئت لأحيي‬
‫�أحالمهم من جديد‪� ،‬أريد فر�صة فح�سب ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫بقيتُ يف مو�ضعي وقتًا ً‬
‫طويل‪ ،‬قبل �أن �أعود �إىل الكوخ مع الظهرية‪،‬‬
‫ومل �أغادره حتى حلول امل�ساء‪ ،‬بعدما �سمعتُ الزغاريد تدوي بدون‬
‫توقف مع �سكون الليل ‪ ..‬فارتديتُ ف�ستاين الأرجواين على نحو �سريع‪،‬‬
‫وخرجتُ يف اجتاه الزغاريد التي �أخذت تختلط باملو�سيقا ك ّلما تقدمت‬
‫قدمي يف اجتاه املنطقة املكتظة من الوادي ‪..‬‬
‫وعلقت بالطرقات على‬ ‫فوجئتُ ب�أن امل�شاعل وامل�صابيح قد ا�شتعلت ُ‬
‫عك�س الأيام ال�سابقة‪ ،‬فوا�صلتُ طريقي حتى اقرتبتُ من بناء خ�شبي‬
‫كانت املو�سيقا ت�أتي من داخله‪ ،‬فاقرتبتُ �أكرث و�أكرث‪ ،‬ودلفتُ �إىل داخله‬
‫‪ ..‬بدا �أنه حانة كربي‪ ،‬ترتا�ص بها املقاعد اخل�شبية حول الطاوالت‪،‬‬
‫و ُيق ّدم ال�شراب �إىل اجلال�سني‪ ،‬بينما ترتاق�ص الفتيات على �أنغام‬
‫مو�سيقا كان يعزفها عد ٌد من العازفني الذين تواجدوا ب�أحد الأركان‬
‫بالقرب من امر�أة مل تتوقف عن �إطالق الزغاريد ‪..‬‬
‫يل اجلميع يف جتهم‪ ،‬لكنهم مل‬ ‫مقعد قريب‪ ،‬فنظر �إ ّ‬
‫تقدمتُ �إىل ٍ‬
‫اهتماما كب ًريا‪ ،‬ووا�صلوا احتفاالتهم‪ ،‬حتى ريان الذي ملحته‬
‫ً‬ ‫يعطوا يل‬
‫بينهم تظاهر ب�أنه ال يعرفني‪ ،‬ووا�صل رق�صه مع فتاة يف مثل عمره‪ ،‬ثم‬
‫تغيت املو�سيقا �إىل �إيقاع خمتلف كنت �أ�سمعه للمرة الأوىل‪ ،‬لكنه كان‬
‫ّ‬
‫مبهجا على نحو كبري‪ ،‬ومعه و�ضع كل فتى وفتاة ُع�صبة قما�شية على‬ ‫ً‬
‫عينيه‪ ،‬وبد�أوا يف الرتاق�ص على ذلك الإيقاع دون �أن يخطئ �أحدهم‬
‫�أو يرتطم بالآخر ‪..‬‬
‫�أدركتُ مع هيئة بع�ض الن�ساء اجلال�سات �أن ذلك احلفل احتفا ٌل‬
‫أرواحا لأطفالهن ذلك ال�صباح بالباحة ‪ ..‬فوا�صلتُ‬
‫مبن ح�صدن � ً‬
‫ا�ستمتاعي و�أنا �أنظر �إليهم وهم يخلقون لأنف�سهم حلظات من ال�سعادة‬
‫‪‬‬
‫مل تكن لتوفرها لهم چارتني �أبدً ا‪ ،‬وراقبتُ الفتيان والفتيات وهم‬
‫يرق�صون مع�صوبي الأعني يف خفة وتنا�سق‪ ،‬ومتنيتُ داخل نف�سي لو‬
‫و�ضعتُ ُع�صابة على عيني مثلهم‪ ،‬وتراق�صتُ �أنا وندمي بينهم ‪..‬‬
‫ظل االحتفال ممتدً ا ل�ساعات‪ ،‬وبقيتُ مكاين �أ�شاهد فح�سب‪� ،‬إىل �أن‬
‫د ّوت جلب ٌة مفاجئة خارج احلانة‪ ،‬ف�سكتت املو�سيقا واندفع الكثريون �إىل‬
‫اخلارج‪ ،‬وبدوري خرجتُ لأرى ما يحدث‪ ،‬ثم وقفتُ خلف امر�أة ن�سلية‬
‫حني وجدتُ �ضابط �أمن �أعرفه‪ ،‬ومعه رجل �شريف يف الثالثينيات من‬
‫عمره يج ّر فتاة ال تكمل اخلام�سة ع�شر من �شعرها‪ ،‬وهي ت�صرخ ب�أنها‬
‫ال تريد فعل ذلك‪ ،‬وتتو�سل �إىل من حولها ب�أن ينقذوها‪ ،‬غري �أنهم ظ ّلوا‬
‫واقفني يف جمود و�أعينهم على �ضابط الأمن دون �أن يتحرك �أحدهم ‪..‬‬
‫كانت الفتاة تزحف على ركبتيها حماول ًة �أن تقاوم الرجل ب�أق�صى ما‬
‫لديها‪ ،‬وت�صرخ �إليه باكي ًة‪:‬‬
‫ ال �أريد �أن �أفعلها �سيدي‪� ،‬أرجوك ‪..‬‬
‫لكنه وا�صل ج ّرها ناحية عرب ٍة كانت تقف يف انتظاره على بعد‬
‫�أمتار‪ ،‬وبد�أ ال�ضابط يف �ضربها بع�صاه كي تتخلى عن مقاومتها‪،‬‬
‫حينئذ �سمعتُ امر�أة بجواري تقول‪:‬‬
‫ هذا ما جنته من تعليم ندمي ‪..‬‬
‫ ال تريد �أن تعي�ش عي�شتنا ‪ ..‬عليها �أن تر�ضى بواقعها فح�سب‪،‬‬
‫مزيد من الأمل ‪� ..‬سيمار�س معها‬
‫لن تفيدها املقاومة غري ٍ‬
‫الرذيلة �شاءت �أم �أبت‪ ،‬طاملا متتلك هذا الو�شم على كتفها ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كانت �صرخات الفتاة تتزايد مع كل خطوة يج ّرها بها الرجل‬
‫نحو العربة‪ ،‬بينما ت�أخر عنهما ال�ضابط خطوات‪ ،‬وان�شغل مبراقبة‬
‫من ت�س ّول له نف�سه من الن�ساىل ب�أن يتحرك نحو ذلك ال�شريف‪ ،‬فلم‬
‫�أجد نف�سي �إال و�أنا �أحترك من وراء املر�أة الن�سلية‪ ،‬لأقف �أمام العربة‬
‫متاما ليلتفت �إ ّ‬
‫يل غا�ض ًبا‪ ،‬وك�أن الظالم مل‬ ‫الواقفة يف مواجهة الرجل ً‬
‫يريه وجهي فلم يعرف من �أنا‪ ،‬ف�صاح بي‪:‬‬
‫أخذتك معها ‪..‬‬
‫ ابتعدي و�إال � ِ‬
‫فقلتُ با�سمة‪:‬‬
‫ حظك �سيئ ‪ ..‬ال امتلك و�ش ًما ‪..‬‬
‫ثم لكمتُ وجهه لكم ًة قوية حملت معها كافة ذكريات تدريباتي‬
‫ال�شاقة مبدر�سة �ضباط الأمن‪ ،‬لتطيح به خطوات �إىل اخللف‪ ،‬قبل �أن‬
‫يل �ضابط الأمن وميد يده �إىل �سالحه‪ ،‬فتحركتُ خطوة نحوه‪،‬‬ ‫يلتفت �إ ّ‬
‫فظهر وجهي �أمامه فح ّدق بي يف ده�شة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ ال�سيدة غفران!!‬
‫فقلتُ يف جتهم‪:‬‬
‫ اغرب عن وجهي ‪..‬‬
‫كان الرجل ال�شريف قد رقد على ظهره يحاول �أن يوقف �سيل‬
‫ىل غري م�صدق‪،‬‬‫الدماء الذي �سال من وجهه �إثر لكمتي‪ ،‬وظل ينظر �إ ّ‬
‫بينما هرولت الفتاة زاحفة لتقف ورائي حمتمية بي‪ ،‬وظل �ضابط الأمن‬
‫يح ّدق بي ويده على �سالحه و�سط مراقبة �أعني الن�ساىل الذين وقفوا‬
‫‪‬‬
‫أنفا�س حمتب�سة‪ ،‬قبل �أن يبعد يده عن‬
‫ي�شاهدون ما يحدث �أمامهم ب� ٍ‬
‫�سالحه‪ ،‬وي�صيح �إىل الرجل الغريب كي يغادرا ‪ ..‬ثم ركبا عربتهما‪،‬‬
‫وانطلقا مبتعدين‪ ،‬ف�أ�سرعت الفتاة من خلفي �إىل امر�أة �أخرى تكربها‬
‫�س ًنا وح�ضنتها وهي تبكي ‪..‬‬
‫وا�صل احلا�ضرون حتديقهم بي دون �أن ينطق �أحدهم ب�أي كلمة‪،‬‬
‫ومل �أنطق �أنا الأخرى ب�شيء ‪ ..‬ظللتُ فقط �أنظر �إىل الفتاة الباكية‪،‬‬
‫وترتدد بعقلي كلمات املر�أة الن�سلية ب�أن تعليمها على يد ندمي هو من‬
‫جعلها ترف�ض ممار�سة الرذيلة‪ ،‬وزاد �شعوري بداخلي ب�أن ما فعله‬
‫يغي واقعهم للأبد‬‫ندمي لهم مل يكن �إال �أم ًرا عظي ًما كان من �ش�أنه �أن ّ‬
‫‪ ..‬فغادرتُ �إىل الكوخ وبداخلي عزم قوي ي�صرخ ب�أعلى �صوت ب�أنني‬
‫لن �أتنازل �أبدً ا عن موا�صلة ما بد�أه ندمي‪ ،‬و�إن �أكملت �سنواتي املتبقية‬
‫جميعها �أطرق كل يوم �أبواب الن�ساىل ‪..‬‬
‫لكن بابي هو من ُطرق يف �صباح اليوم التايل‪ ،‬وملا فتحته كاد قلبي‬
‫يطري من الفرحة بعدما وجدتُ الفتاة التي �أنقذتها من الرجل ال�شريف‬
‫بكتاب قدمي يف يدها وتنظر �إ ّ‬

‫‪9‬‬
‫يل �صامتة‪ ،‬نظرتُ‬ ‫تقف �أمامي ومت�سك ٍ‬
‫�إليها ال �أ�صدق نف�سي‪ ،‬فهزّت ر�أ�سها با�سم ًة وهي تقول‪:‬‬
‫يديك �سيدتي ‪..‬‬
‫ �أر�سلتني �أمي لأكمل تعليمي على ِ‬

‫‪‬‬
‫(‪)20‬‬
‫«ريان»‬

‫كنت يف طريقي �إىل ال�سيدة غفران �أحمل طعامها اليومي الذي‬


‫اعتدتُ �أن �أو ّفره لها على مدار ذلك ال�شهر‪ ،‬حتى توقفتُ �أمام باب‬
‫كوخها املفتوح بعدما ر�أيتها جتل�س ُم�سك ًة ب�أحد �أقالم �سيدي‪ ،‬وجتل�س‬
‫�أمامها الفتاة التي كاد ال�شريف يغت�صبها ليلتنا ال�سابقة‪ ،‬وبدا �أمامي‬
‫�أنها تقوم بتعليمها كما كان ال�سيد ندمي يفعل معنا‪ ،‬فظللتُ �أراقبها‬
‫للحظات‪ ،‬قبل �أن �أترك طعامي حني ملحتني‪ ،‬و�أغادر �سري ًعا دون �أن‬
‫�أقول �شي ًئا‪..‬‬
‫ال �أخفي �أنني مل �أتوقع قط �أن ي�ستجيب ن�سلي واحد �أو ن�سلية ل�سيدة‬
‫املن�صة‪ ،‬لكن ذلك قد حدث‪ ،‬بد�أ الأمر بالفتاة الأوىل‪ ،‬بعد �أيام قليلة‬
‫وجدتُ فتا ًة �أخرى قد ان�ضمت �إليها‪ ،‬ثم �أيام �أخرى و�صارت الفتاتان‬
‫�أربعة‪ ،‬ثم ان�ضم طفالن مل يبلغا ال�سابعة من عمرهما قبل �أن مير‬
‫�شهرها الأول‪ ،‬حتى �أ�صبح عدد ما يتعلم معها مع حلول يوم الغفران‬
‫اجلديد �أحد ع�شر طال ًبا ‪ ..‬وك�أن ما حدث م�ساء يوم الغفران �أمام‬
‫‪‬‬
‫احلانة كان البداية احلقيقية لإذابة احلاجز اجلليدي بينها وبني‬
‫الكثريين منا ‪..‬‬
‫مع كل مرة كنت �أذهب �إليها بالطعام كانت عيني تتحرك ال �إراد ًيا‬
‫�إىل الأطفال من �أجل �إح�صاء عددهم‪ ،‬وال �أنكر �أن داخلي كان ي�شعر‬
‫ب�سعادة كبرية مع كل تزايد ب�أعدادهم ‪� ..‬أق�سم �أنني مل �أتخيل يوم‬
‫يوم واحد‬ ‫حملتها فاقد َة الوعي �إىل كوخ ال�سيد ندمي �أن تبقى �أكرث من ٍ‬
‫ترتد غري ف�ستان‬‫بيننا‪ ،‬لكنها فعلتها ومل تغادرنا منذ ذلك احلني‪ ،‬ومل ِ‬
‫�أختي دميا وف�ستانها الذي جاءت به بعدما نزعت كتفه الأي�سر هو‬
‫الآخر ‪ ..‬ثم وجد ُتني بنهاية ال�شهر الأول �أذهب �إليها لأخربها ب�أنني‬
‫�س�أو ّفر لها الطعام ل�شهر �آخر‪ ،‬مل �أخربها عن م�صدر الطعام الذي‬
‫�آتي به كي ال تعرت�ض‪ ،‬لكني وعد ُتها ب�إكمال �شهر �آخر على �أي حال ‪..‬‬
‫املثري �أنها رغم تزايد الأعداد لديها ب�صورة يومية كانت توا�صل‬
‫مرورها بني ن�ساء الن�ساىل يف وادينا والوديان الأخرى ترافقها الفتاة‬
‫الأوىل التي التحقت بها �أو من عرفتُ ا�سمها فيما بعد «ناردين»‪ ..‬لتعود‬
‫بطالب جديد على الأقل‪ ،‬ثم �أدركتُ‬
‫ٍ‬ ‫�إىل مدر�ستها ال�صغرى كل م�ساء‬
‫�أن احلال قد تب ّدل حني ح�ضرت �إىل احلانة م�ساء يوم الغفران اجلديد‬
‫أرواحا لأطفالهن ‪..‬‬
‫لالحتفال مبن ح�صدن � ً‬
‫يف تلك الليلة اتخذت مكانها بالطاولة ذاتها التي جل�ست عليها يوم‬
‫االحتفال ال�سابق‪ ،‬وظلت تنظر �إىل الراق�صني من الفتيان والفتيات يف‬
‫�سعادة بالغة‪ ،‬وخا�ص ًة بعدما دقت مو�سيقا «ال�شامو» وو�ضع كل منهم‬
‫ُع�صبته القما�شية على عينيه‪ ،‬وددتُ لو اقرتبت منها و�أخربتها �أن‬
‫مو�سيقا ال�شامو هي مو�سيقانا التي ورثناها يف ودياننا‪ ،‬وال ي�ستطيع �أن‬
‫‪‬‬
‫يرتاق�ص على �إيقاعها بتلك الرباعة غرينا‪ ،‬لكني بقيتُ مكاين �أراقب‬
‫تعبريات وجهها‪ ،‬و�أراقب نظرات الن�ساىل �إليها بني احلني والآخر‪ ،‬مل‬

‫‪9‬‬
‫تكن قط النظرات ذاتها حني وط�أت قدمها هذا املكان للمرة الأوىل‬
‫قبل �شهر‪ .‬ولأنني �أعرف الن�ساىل جيدً ا و�أعرفهم حني يكرهون‬
‫�شخ�صا وحني يتقبلونه‪� ،‬أيقنتُ تلك الليلة �أن هذه ال�سيدة قد وجدت‬
‫ً‬
‫طريقها �إىل قلوب الن�ساىل ‪..‬‬

‫يوما عن �إعطاء درو�سها‪ ،‬ومل �أتوقف‬ ‫مل تتوقف ال�سيدة غفران ً‬


‫بدوري عن الذهاب بداية كل �شهر لأخربها �أنني �س�أوفر طعامها‬
‫عن ذلك ال�شهر فقط‪ ،‬قبل �أن ت�ضحك �إ ّ‬
‫يل ك�أنها تعلم �أنني �س�أتراجع‬
‫و�س�أعود �إليها مع بداية ال�شهر اجلديد لأخربها ب�أنني �س�أ�ستمر ل�شهر‬
‫�آخر‪ ،‬وهذا ما كان يحدث بالفعل ‪..‬‬
‫دق حذا�ؤها الأنيق �أخ�شاب‬ ‫يوما �أن املر�أة التي ّ‬
‫َمن كان يت�صور ً‬
‫بف�ستان قدمي وحذاء ممزق بني‬ ‫ٍ‬ ‫ل�سنوات �صارت تتنقل‬
‫ٍ‬ ‫من�صة جويدا‬
‫طلبة هزاىل ُي�س ّود الفقر وجوههم‪ ،‬لتقر�أ لكل واحد منهم على حدة ما‬
‫ال ي�ستطيع قراءته‪ ،‬ثم تعانقه وهي ت�ضحك‪ ،‬قبل �أن تنتقل �إىل �آخر �أو‬
‫�أخرى لتفعل معهم ال�شيء ذاته‪ ،‬لت�صبح مدر�ستها ال�صغرية يف خالل‬
‫أ�شهر قليلة مهدً ا حقيق ًيا للحياة يف وادينا الفقري ‪..‬‬
‫� ٍ‬
‫كنت �أحب الذهاب �إىل ذلك املكان‪ ،‬بل �صرتُ �أحتجج كل مرة‬
‫ب�شيء ما من �أجل �إطالة فرتة تواجدي هناك‪ ،‬حتى �أنني بد�أتُ ب�إح�ضار‬
‫الطعام �أكرث من مرة باليوم و�إن مل �أوفره لنف�سي‪ ،‬ثم بد�أتُ �أ�ستغل‬

‫‪‬‬
‫وجودي هناك لتلتقط �أذين ً‬
‫بع�ضا مما تتحدث به ال�سيدة غفران �إىل‬
‫طلبتها ‪..‬‬
‫كانت حتدثهم عن �أمور كثرية‪ ،‬لكني مل �أ�سمعها حتدثهم عن قواعد‬
‫يل وت�ضحك حني تراين �أ�ستمع �إليها وهي‬ ‫چارتني مطل ًقا‪ ،‬كانت تنظر �إ ّ‬
‫تتحدث �إىل الطلبة اجلال�سني �أمامها‪ ،‬فاتظاهر ب�أنني من�شغل ب�شيء‬
‫�آخر‪ ،‬و�أغادر �سري ًعا يف حرج‪ ،‬كنتُ �أعلم �أنها ُت ِكن يل حمب ًة خا�صة‪،‬‬
‫رمبا لأنني من �ساعدها بالبداية‪� ،‬أو لأنني �أم ّثل لها جز ًءا كب ًريا من‬
‫�سيدي الراحل‪ ،‬لكني مل �أجر�ؤ �أن �أ�س�ألها كي �ألتحق مبدر�ستها‪ ،‬وهي‬
‫كذلك مل ت�س�ألني ذلك ‪..‬‬
‫كانت ترتكني للحظ ِة التي �أقرر بها االن�ضمام �إليها برغبتي الكاملة‪،‬‬
‫ك�أنها تدرك �أن تلك اللحظة �ستكون مبثابة �إعالن م�ساحمتي لها ‪ ..‬كنت‬
‫كامل مثله‬‫طيب مثل �سيدي كما قالت‪ ،‬و�إن مل �أكن نق ًيا ً‬ ‫�أعرف �أنني ٌ‬
‫مع قيامي ببع�ض ال�سرقات اخلفيفة من عربات جتار الأ�شراف التي‬
‫متر بالطرق اجلنوبية لأو ّفر لها ويل طعامنا اليومي ‪ ..‬حاولتُ كث ًريا �أن‬
‫�أمتنع عن الذهاب �إىل مدر�ستها لكني ف�شلتُ ً‬
‫ف�شل ذري ًعا‪ ،‬ثم ح ّل ذلك‬
‫امل�ساء حني ذهبتُ �إليها بالطعام بعد مغادرة الطلبة جميعهم‪ ،‬ف�س�ألتها‬
‫دون مقدمات‪:‬‬
‫ ملاذا ال تعلمينهم القواعد؟‬
‫قالت با�سمة‪:‬‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫ قد تتغري القواعد ً‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫تذكرتُ كلمات �سيدي حني �أجابني ذات يوم بالإجابة نف�سها‪،‬‬
‫ف�ضحكتُ ‪ ،‬ووجدتُ نف�سي يف ال�صباح التايل �أذهب �إليها بال طعام‪،‬‬
‫�أخرب ُتها �أنني �أريد االن�ضمام �إليها‪.‬‬

‫أعواما‪ ،‬و�صارت مدر�سة ال�سيدة غفران وجهة‬ ‫�صارت ال�شهور � ً‬


‫�أطفال الن�ساىل‪ ،‬و ُل ِقبت ال�سيدة غفران بني الوديان بـ «ال�سيدة»‪،‬‬
‫و�صارت طاولتها م�ساء كل يوم غفران باحلانة مق�صد الكثريين من‬
‫الن�ساىل لكي يق ّدموا لها التحية‪ ،‬و�صرتُ �أنا وناردين م�ساعديها بعدما‬
‫حد مل تكن لت�ستطيع �أن تعلمهم جميعهم‬ ‫�أ�صبح العدد كب ًريا جدً ا �إىل ٍ‬
‫وحدها‪ ،‬ف ُق�سم الأطفال الأ�صغر عم ًرا بيني وبني ناردين‪ ،‬وتولت‬
‫ال�سيدة غفران الأكرب �س ًنا ‪..‬‬
‫ثم الحظت ال�سيدة مع عامنا اخلام�س �أن بع�ض الفتيات قد ان�سحنب‬
‫بال رجعة‪� ،‬س�ألتنا عن ال�سبب‪ ،‬قالت ناردين‪:‬‬
‫ لقد بلغن �سن الع�شرين �سيدتي‪ ،‬ومعظمهن كربت �أمهاتهن‪،‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ اعتاد �شرفاء چارتني �أال يوفروا �أي عمل المر�أة ن�سلية خ�شي ًة‬
‫من ال�سرقة‪ ،‬فتلج�أ ن�سا�ؤنا �إىل بيوت الرذيلة من �أجل مقابل‬
‫يكفي للمعي�شة‪ ،‬ت�ستطيعني القول �أنها م�صدر العي�ش الرئي�سي‬
‫لن�ساء الن�ساىل ‪ ..‬لكن تلك البيوت ال تتوانى عن طردهن ما �إن‬
‫يكربن يف ال�سن‪ ،‬لتحل بناتهن مكانهن من �أجل احلفاظ على‬
‫ذلك املقابل ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫هزّت ال�سيدة ر�أ�سها �إيجا ًبا يف �شرود‪ ،‬ثم نظرت �إ ّ‬
‫يل و�أخربتني �أنها‬
‫تود الذهاب �إىل جويدا للمرة الأوىل بعد خم�س �سنوات من وجودها‬
‫بالوادي‪ ،‬وقتها خ�شيتُ �أن �أرافقها بعدما بلغ عمري الثانية والع�شرين‪،‬‬
‫لكنها طم�أنتني ب�أنني �س�أكون معها ‪..‬‬
‫مل �أعرف مق�صدها من تلك الزيارة‪ ،‬جال بذهني يف بادئ الأمر‬
‫�أنها تود الذهاب �إىل هناك من �أجل االطمئنان على �أخيها‪ ،‬حدث‬
‫ذلك بالفعل ‪ ..‬لكنها اكتفت ب�شكر قريبتها‪ ،‬وحتدثتا عن املقابل الذي‬
‫تتقا�ضاه تلك ال�سيدة مقابل تربية �أخيها‪ ،‬كنت �أعرف منذ الر�سالة‬
‫التي �أر�سلتها لها قبل �سنوات �أن قريبتها تنال النقود جميعها التي‬
‫�شريف ميوت بطريقة �شرعية عند �سن‬ ‫ٍ‬ ‫ت�صرفها چارتني لأهل كل‬
‫اخلم�سني ‪..‬‬
‫جل�ست ً‬
‫قليل مع �أخيها‪ ،‬كان قد بلغ عامه الثاين ع�شر‪� ،‬أخربته �أنها‬
‫�ستعود من �أجله‪ ،‬ثم �أدركتُ هدف زيارتها الأ�سا�سي حني دلفت بي �إىل‬
‫بيتها‪ ،‬وفتحت باب �إحدى الغرف لأجد مكتب ًة عظيمة بها املئات من‬
‫الكتب‪ ،‬وقالت يل حني ر�أت الذهول على وجهي‪:‬‬
‫ �سننقل كل هذه الكتب �إىل الوادي ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫التفت �إليها‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا و�أنا �أنظر نحو الكتب‪ ،‬لكني حني ُّ‬
‫ور�أيتها وهي تنظر نحو الكتب �شاردة �أدركتُ �أن غاية ال�سيدة غفران‬
‫من مدر�ستها بوادينا مل يعد تعليمنا فح�سب‪ ،‬بل بدا �أمام تلك النظرة‬
‫�أنها كانت تنوي ما هو �أكرث من ذلك بكثري‪.‬‬

‫‪‬‬
‫حملنا الكتب �إىل الوادي‪ ،‬وهناك �س�ألتني �أن �أج ّمع الطلبة جميعهم‬
‫�أمام الكوخ‪ ،‬ثم خرجت �إلينا واختارت اثني ع�شر فتى وفتاة من بينهم‪،‬‬
‫كنت �أعرف �أنهم الأف�ضل‪ ،‬ثم �ضمتني �إليهم �أنا وناردين‪ ،‬و�س�ألتنا �أن‬
‫نقوم بن�سخ عددًا من الكتب‪ ،‬كانت قد عكفت على انتقائها وو�ضعتها‬
‫جان ًبا ‪..‬‬
‫بلدان �أخرى �أو‬
‫تنوعا �شديدً ا �إما عن ٍ‬
‫كانت الكتب املنتقاة تتنوع ً‬
‫عن تاريخ چارتني �أو عن بع�ض الفال�سفة القدامى‪ ،‬مل يتحدث كتاب‬
‫واحد عن القواعد �أو عن الفرق بني الچارتيني ال�شريف والچارتيني‬
‫الن�سلي ‪ ..‬مل يق ّلل كتاب واحد مما اختارته ال�سيدة من قدرنا‪ ،‬وك�أنها‬
‫�أرادت �أن تن�سينا �أننا حاملو العار يف هذا البلد‪ ،‬و�أننا ب�شر كاملون لنا‬
‫من احلقوق ما ميتلكها �أي ب�شر ُ‬
‫تدق قدماه هذه الأر�ض ‪..‬‬
‫ثم �أخربتني ناردين �أن الكتب التي ُكلفت الفتيات بن�سخها كانت‬
‫حرف يدوية �صغرية‪ ،‬و�أ�ضافت الفتاة �ضاحكة‬‫تخت�ص جميعها بتعلم ٍ‬
‫ب�أنها تظن �أنها باتت متتلك املقدرة ل�صنع �سجادة كبرية �إن اتبعت ما‬
‫ُكتب يف الكتاب الذي ُكلفت بن�سخه‪ ،‬فقلت يف �سري‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ هذا ما �أرادته ال�سيدة ‪ ..‬لن ت�أمر فتاة ب�أن ترتك الرذيلة‬
‫بطريقة مبا�شرة‪ ،‬بل �ستجد لكل امر�أة ن�سلية ً‬
‫�سبيل �آخر جلني‬
‫الأموال بعيدً ا عن ارتكابها مرغمة ‪..‬‬
‫وقتها �س�ألتُ ناردين‪:‬‬
‫ هل يخربك الكتاب مبا حتتاجينه من �أجل �صنع �سجادتك ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ فلتكتبي يل � ًإذا ما حتتاجينه ‪..‬‬
‫وقبل �أن مير يومان كنت قد �أح�ضرتُ لها ما كتبت يل من خيوط‪،‬‬
‫نعم �سرقتها من �أحد املغازل ب�شمال جويدا مب�ساعدة �شاب �آخر‪ ،‬لكني‬
‫نويتُ داخل نف�سي �أن �أر ُد املال �إىل �صاحب املغزل مبجرد �أن �أمتلكه ‪..‬‬
‫تعمدت ال�سيدة غفران �أن تو ّزع كتب احلرف املن�سوخة على َمن‬
‫ي�ستطيعون القراءة والكتابة لن�سخها مرات ومرات‪ ،‬و�إن ا�ستغرق‬
‫الكتاب للفرد الواحد عدة �أ�سابيع‪ ،‬قالت يل‪:‬‬
‫ لي�س الهدف ن�سخ الكتاب على قدر ما قد يتعرث �أحدهم داخله‬
‫ب�شيء ي�ألفه ‪..‬‬
‫مع �شهرنا الثاين‪ ،‬كانت ناردين قد �صنعت �سجادتها الأوىل‪ ،‬مل‬
‫تكن جيدة �إىل حد كبري‪ ،‬لكنها تبقى ال�شيء امل�صنوع الأول بني �أح�ضان‬
‫‪‬‬
‫وادينا ‪ ..‬جل�سنا م�ساء ذلك اليوم نحتفل بذلك الأمر‪ ،‬كانت تتو�سطنا‬
‫ال�سيدة غفران‪ ،‬والتففنا جمي ًعا حولها يف �صفوف ن�صف دائرية‪،‬‬
‫�أخربتنا حني هد�أ �ضجيجنا �أن چارتني �ستظل فخورة بنا ‪..‬‬
‫كانت كلمة غريبة على م�سامعنا‪ ،‬فخر؟!‪� ،‬ضحكنا‪ ،‬لكن مالمح‬
‫اجلدية التي ظهرت على وجه �سيدتي جعلت كل منا يت�ساءل داخل‬
‫نف�سه �إن كانت تق�صد الكلمة حرف ًيا؟!!‪ ،‬لطاملا حملنا العار �إىل هذا‬
‫البلد‪ ،‬هل جاء الوقت ح ًقا لن�صبح حاملني لل�شرف؟! ‪� ..‬صمتنا جمي ًعا‬
‫ونحن نق ّلب الكلمة بعقولنا‪ ،‬ونختل�س النظرات �إىل بع�ضنا البع�ض‪،‬‬
‫وك�أننا نتذوق حالوتها للمرة الأوىل ‪..‬‬
‫ثم نه�ضت ال�سيدة �إىل داخل الكوخ وعادت‪ ،‬و�أخرجت �إلينا �صندو ًقا‬
‫خ�شب ًيا �صغ ًريا‪ ،‬كنت قد ر�أيتها حت�ضره من بيتها حني ذهبنا �سو ًيا �إىل‬
‫هناك‪ ،‬وقالت وهي تفتحه ليظهر عقد ثمني بداخله‪:‬‬
‫ كان هذا عقد �أمي‪� ،‬سيكفي ثمنه لإح�ضار املزيد من اخليوط‪،‬‬
‫ت�ستطيع كل فتاة �أن جتني ثمن ما ت�صنعه ً‬
‫كامل‪ ،‬ثمن هذا‬
‫العقد مني �إليكم‪ ،‬لن يكون ثمنه كب ًريا جدً ا‪ ،‬لكن جيد كبداية ‪..‬‬
‫هللنا جمي ًعا يف فرحة‪ ،‬ثم قالت فتاة قد تبلغ اخلام�سة ع�شر مازحة‪:‬‬
‫ هكذا لن جتربين �أمي على ممار�سة الرذيلة ‪..‬‬
‫�ضحكت ال�سيدة وقالت‪:‬‬
‫عليك �أن ت�ص ّنعي الكثري � ًإذا ‪..‬‬
‫  ِ‬

‫‪‬‬
‫علي من قبل‪ ،‬لكن‬
‫�ضحكنا جمي ًعا ثم جال ببايل �س�ؤال مل يخطر ّ‬
‫�شا ًبا �آخر ي�صغرين �س ًنا �سبقني و�س�أله لل�سيدة عندما قال‪:‬‬
‫لدي �س�ؤال ‪..‬‬
‫ �سيدتي‪ّ ،‬‬
‫فهزّت ر�أ�سها كي ي�س�ألها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ �إن مل متار�س الفتيات الرذيلة‪ ،‬لن حتمل فتياتنا‪ ،‬و�إن مل يحملن‬
‫لن يذهنب �إىل باحة جويدا‪ ،‬و�سكت ‪..‬‬
‫فهزت ر�أ�سها مرة �أخرى كي يكمل وك�أنها تفهم ما يرمي �إليه‪ ،‬فتابع‬
‫الفتى‪:‬‬
‫ �إن مل يذهنب �إىل هناك لن يكون هناك مزيد من �أطفال‬
‫الن�ساىل‪ ،‬هكذا �سينتهي ن�سلنا ‪..‬‬
‫زادت الهمهمات بني الفتية والفتيات من حولنا‪ ،‬وك�أنهم مل يفكروا‬
‫بهذا الأمر‪ ،‬و�أن ممار�سة الرذيلة هي ال�ضمان احلقيقي لبقاء ن�سلنا‪،‬‬
‫لكن ال�سيدة قالت بهدوء �شديد‪:‬‬
‫ نعم‪� ،‬سينتهي ن�سل الن�ساىل ‪..‬‬
‫ثم تابعت بعد حلظة من ال�صمت‪:‬‬
‫ لكن ن�سلكم �أنتم لن ينتهي ‪..‬‬
‫فارت�سمت مالمح احلرية على وجوهنا‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ �سينتهي الن�سل الناجت عن الرذيلة‪ ،‬لكن �سيبقى ن�س ٌل �شريف‬
‫ناجت عن الزواج ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ا�شتعلت الهمهمات من جديد بيننا‪ ،‬ومعها تدفقت الدماء �إىل‬
‫عروقنا‪ ،‬ك�أن ما قالته ال�سيدة قد �ضرب بكل جانب من جوانب‬
‫حلم‬
‫�صمت مطبق‪ ،‬وك�أننا يف ٍ‬
‫�أج�سادنا‪ ،‬ونظرنا جمي ًعا �إىل ال�سيدة يف ٍ‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫مل نكن لنجر�ؤ على التفكري به ً‬

‫‪9‬‬
‫وبينما وا�صل ك ٌل منا �صمته و�شروده يف حلمه اخلا�ص الذي طرقته‬
‫له ال�سيدة‪ ،‬مل يكن يعرف �أحدنا �أن لكل حلم ثمنه‪ ،‬و�أن ما حدث تلك‬
‫الليلة مل يكن �إال بداي ًة جللب املزيد من املتاعب‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)21‬‬

‫ح�صلنا على مزيد من اخليوط نظري ثمن عقد ال�سيدة الذي‬


‫باعته بنف�سها خ�شية �أن ُيعتقل �أحد منا بتهمة �سرقته‪ ،‬ومن بعده مل‬
‫تعد املدر�سة مكا ًنا لتعليم القراءة والكتابة فقط‪ ،‬بل �صار وقت ما‬
‫خم�ص�صا للفتيات من �أجل �صناعة ما ميكن �صناعته‬ ‫ً‬ ‫بعد الظهرية‬
‫مما تعلمنه من الكتب املن�سوخة ‪ ..‬و ُكلفت �أنا و�شابان �آخران ب�إح�ضار‬
‫الطعام لكافة الطالبات يف ذلك التوقيت‪ ،‬بينما خ�ص�صتُ �صباح كل‬
‫نهار من �أجل �إكمال تعليم ال�صغار ون�سخ املزيد من الكتب ‪..‬‬
‫مع مرور الوقت ا�ستطاعت الفتيات �إنتاج عدد من امل�شغوالت‬
‫وا�ستحداث طرق جديدة ال�ستخال�ص زيت الزيتون من �أ�شجار الزيتون‬
‫املثمرة باجلانب ال�شرقي لوادينا‪� ،‬أكدت لنا ال�سيدة �أنه �أكرث جودة من‬
‫زيوت جويدا ‪..‬‬
‫كذلك قامت بع�ض الفتيات با�ستخال�ص كميات كربى من زيت‬
‫ال�سم�سم من �أجولة ال�سم�سم التي �أح�ضرتها امر�أة ن�سلية قالت �أنها‬
‫‪‬‬
‫قد ا�شرتتها من �أحد دكاكني العطارة‪ ،‬كما متكن عدد من الفتيان من‬
‫أوان فخارية مميزة ال�شكل من طمي التالل املجاورة ‪..‬‬
‫�صنع � ٍ‬
‫مع كل يوم كان هناك جديد ي�صنعه فتى �أو فتاة ن�سلية‪ ،‬وك�أن‬
‫الن�ساىل قد وجدوا �أنف�سهم يعي�شون فج�أة‪ ،‬ثم جاء التحدي الرئي�سي‬
‫بعدما عادت الفتيات من ال�سوق الكبري بجويدا ومل يبعن �أي �شيء مما‬
‫�صنعناه‪ ،‬بعدما رف�ض الأ�شراف التعامل معهن ‪..‬‬
‫ظللنا جمي ًعا يف خيبة �أمل لدقائق بيننا ال�سيدة غفران‪ ،‬قبل �أن‬
‫ينطق �شاب ويقول‪:‬‬
‫بلدان �أخرى يف�صلها عنا بحر �أكما ً‬
‫�شمال‬ ‫  ُكلفت بن�سخ كتاب عن ٍ‬
‫وجنو ًبا‪ ،‬هناك لن يهتموا ما �إذا كنا ن�ساىل �أو ال‪ ..‬ن�ستطيع حمل‬
‫ب�ضائعنا �إىل هناك‪.‬‬
‫فقالت امر�أة بجواري‪:‬‬
‫ �ستكون تكلفة الرحلة �إىل تلك البلدان باهظ ًة للغاية‪ ،‬لقد‬
‫اعتاد مالكو ال�سفن تلقي مقابل كبري من الن�ساء الالتي يبعن‬
‫�أوالدهن‪ ،‬وحم ُل ب�ضائع مثل ب�ضائعنا �سوف جتعلهم يطمعون‬
‫ويطلبون � َ‬
‫أ�ضعاف ما تدفعه الن�ساء ‪..‬‬
‫جال يف باىل �أختي دميا فحدثتُ نف�سي‪:‬‬
‫ لو كانت هنا ال�ستف�سرتُ منها عن �أ�شياءٍ كثرية ب�ش�أن بالد‬
‫الغجر ال�شمالية وال�سفن التي تبحر �إليها‪ ،‬غري �أنها مل تعد منذ‬
‫غادرت بحملها �أيام موت �سيدي قبل �سنوات ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫وكدتُ �أنطق و�أخرب �سيدتي عنها لكني تراجعتُ ‪ ،‬مل �أجد �أن احلديث‬
‫بحل‬
‫عنها �سيفيدنا ب�شيء‪ ،‬ووا�صلتُ �صمتي‪ ،‬و�صمت اجلميع يفكرون ٍ‬
‫جديد‪ ،‬حتى �أخربتنا ال�سيدة ب�أن نكمل ما نفعله دون �أي تغيري حتى‬
‫يظهر لنا ح ٌل يف الأفق‪.‬‬

‫يوما بعد يوم دلف �إىل مدر�ستنا املزيد من ن�ساىل الوديان الأخرى‪،‬‬
‫ً‬
‫يوما �أننا‬
‫و�صار معظم طالبنا قادرين على �صنع �أ�شياء مل نكن لنفكر ً‬
‫يكتف ال�شبان بالتعليم و�صناعة الفخار‬
‫منتلك املقدرة ل�صنعها‪ ،‬مل ِ‬
‫فح�سب‪ ،‬بل ناف�سوا الفتيات يف زراعة الأر�ض اخل�صبة املجاورة‬
‫لأ�شجار الزيتون والقريبة من البئر ال�شرقي ‪ ..‬وبعد �أ�شهر قليلة‬
‫كانت تلك الأر�ض قد �أخرجت لنا من خريها ما يكفي وادينا ويفي�ض‪،‬‬
‫و�صارت االحتفاالت باحلانة ُتقام ب�صورة �شبه يومية بعدما كانت ُتقام‬
‫�أيام الغفران فقط ‪..‬‬
‫الغريب يف الأمر �أنه وبعد مرور �أ�شهر قليلة �أخرى‪ ،‬ق ّلت االحتفاالت‬
‫�أيام الغفران‪ ،‬وك�أننا بد�أنا ندرك �شي ًئا ف�شي ًئا �أنه مل يعد �أم ًرا ُيحتفل‬
‫به‪ ،‬و�أن حيا ًة لطفل ناجت عن الرذيلة ال ت�ستحق منا تلك الفرحة‪ ،‬بل ما‬
‫ي�ستحق احلزن هي تلك الروح التي ُفقدت ب�إعدام �أحدنا‪ ،‬حتى �صارت‬
‫االحتفاالت بكل الأيام عدا يوم الغفران ‪..‬‬
‫بع�ض من طلبة الوديان الأخرى �إىل‬ ‫مع نهاية ذلك العام عاد ٌ‬
‫وديانهم‪ ،‬ر�أيتهم وهم يعدون ال�سيدة ب�أنهم لن يتوانوا عن تعليم املزيد‬
‫من �أبناء واديهم قبل �أن يحت�ضنوها ويغادروا ‪ ..‬ثم كانت الفرحة‬

‫‪‬‬
‫بواد �آخر �إىل‬
‫�شاب ن�سلي يعي�ش ٍ‬
‫تو�صل ٌ‬‫احلقيقية واالحتفال الأكرب بعدما ّ‬
‫اتفاق مع مالك �إحدى ال�سفن يق�ضي بنقل ب�ضائعنا �إىل بالد ال�شمال‬
‫مقابل جزء من ربحنا‪ ،‬وقتها ه ّبت ن�سائم الفرحة لتملأ �صدورنا � ً‬
‫أمل‬
‫وك�أننا �أخذنا خطوتنا الأوىل �أخ ًريا للتحرر من قيود �أ�شراف چارتني ‪..‬‬
‫متنيتُ لو اختارتني ال�سيدة مع َمن يبحرون �إىل ال�شمال‪ ،‬لكنها‬
‫�آثرت �أن �أبقى بالوادي‪ ،‬واختارت ً‬
‫بع�ضا من الفتية الآخرين الأقوياء‬

‫‪9‬‬
‫للذهاب بب�ضائعنا‪ ،‬معهم ثالثة ن�ساء كنا قد ذهنب �إىل ال�شمال من‬
‫قبل‪ ،‬حينذاك حدثتُ �إحداهن عن �أختي التي ت�سكن مع غجر تلك‬
‫البالد ع ّلها جتدها وتخربها عن ّ‬
‫التغي الذي �أ�صابنا بعد رحيلها‪ ،‬رمبا‬
‫تقتنع ب�أن تعود للعي�ش هنا ‪..‬‬

‫حملت ال�سفينة الأوىل ب�ضائعنا بعد �أكرث من عام ون�صف على �صنع‬
‫ناردين �سجادتها الأوىل‪ ،‬وبعد ثالثة �أ�شهر �أخرى عاد �إلينا ال�شبان‬
‫والفتيات حاملني من القطع الذهبية ما �أدركنا معه �أن عهد ارتكاب‬
‫الرذيلة ُكرهً ا بني �أبنية چارتني قد ّول‪ ،‬بل عهد ارتكاب جرائم‬
‫الن�ساىل من �أجل املال قد �آن رحيله ‪..‬‬
‫وزعت ال�سيدة غفران املال على الفتيات والفتيان دون �أن ترتك �أي‬
‫قطعة معدنية لنف�سها‪ ،‬كما وزعت املواد اخلام التي �أتى بها ال�شبان‬
‫من ال�شمال‪ ،‬والتي ا�ستخدمناها الح ًقا يف �صناعاتنا ‪� ..‬أخربنا ال�شبان‬
‫عن الأ�سواق الالتي وجدوها ببلدان ال�شمال‪ ،‬وعن تهافت جتارها‬
‫على ب�ضائعنا ‪ ..‬كنت �أرى احلما�سة التي يتحدثون بها و�أنا �أتطلع �إىل‬

‫‪‬‬
‫الوجوه الآملة التي كانت تن�صت �إليهم وتتحفز ل�صنع املزيد‪ ،‬وكذلك‬
‫كنت �أختل�س النظرات �إىل مالمح ال�سيدة املبتهجة بكل ما يحدث ‪..‬‬
‫يف الأيام القليلة التالية قمنا ببناء بناءين؛ �أحدهما جماور لكوخ‬
‫�سياجا طوب ًيا كب ًريا لتت�سع باحته للمزيد من‬‫ال�سيدة و�شيدنا حوله ً‬
‫الطلبة‪ ،‬و�آخر على اجلهة اخللفية للكوخ خ�ص�صناه لتخزين ما ن�صنعه‬
‫من �أجل حمله �إىل بلدان ال�شمال ‪ ..‬وك�أن العجلة قد دارت بدون توقف‪،‬‬
‫مل تتوقف الفتيات عن �صناعة �شيء جديد كل يوم‪ ،‬ومل تتوقف �أر�ض‬
‫وادينا عن اجلود بكل ما ت�ستطيع به �إعطاءنا‪ ،‬وزاد توافد الن�ساىل �إىل‬
‫ً‬
‫ورجال‪ ،‬ومعه ُ�شيدت �أكوا ٌخ جديدة‬ ‫وادينا من كل حدب و�صوب ن�سا ًء‬
‫حتى ات�سعت م�ساحة الوادي لت�صري �ضعف م�ساحته قبل عام واحد‬
‫فقط ‪..‬‬
‫ر�أيتُ للمرة الأوىل رج ً‬
‫اال ن�ساىل تعرب �أعمارهم الأربعني واخلم�سني‬
‫وواحدً ا كان يعرب ال�ستني‪ ،‬كانوا قد ُ�شردوا يف �صحاري چارتني خ�شية‬
‫بط�ش مدنها ‪ ..‬خ�شيتُ لوهلة �أن يعود بنا ذلك التدفق املفاجئ خطوات‬
‫�إىل اخللف يف ظل �أرواحهم الآثمة التي مل جتد من يهذبها مثلنا‪،‬‬
‫فتُف�سد ما تعبت به �سيدتي ل�سنوات‪ ،‬وحدثتُ �سيدتي عن خماويف‪،‬‬
‫فطم�أنتني‪ ،‬و�س�ألتني �أن نرتكهم ليعملوا معنا‪ ،‬و�أ�ضافت‪:‬‬
‫  يه ّذب العمل ال�صالح املجرمني كالعلم ً‬
‫متاما‪ ،‬دعهم يجدون‬
‫�أنف�سهم التائهة منذ �سنوات طويلة‪ ،‬البد و�أن �أرواحهم قد‬
‫عانت كث ًريا ‪..‬‬
‫أعان‬
‫انتبهتُ حلظتها �أنني و�صلتُ �إىل عامي الرابع والع�شرين ومل � ِ‬
‫مثلما ر�أيتُ �سيدي يعاين‪ ،‬مل �أ�ضرب اجلدران بر�أ�سي �أو تثور روحي‪،‬‬
‫‪‬‬
‫هل هُ ِذبت روحي تدريج ًيا ال�سنوات املا�ضية �أم ماذا ؟! ‪� ..‬س�ألتُ ناردين‬
‫�إن كانت قد �أُ�صيبت بنوبات م�شابهة لنوبات �سيدي وو�صفتُها لها‪،‬‬
‫ف�أخربتني ب�أن ذلك مل يحدث‪ ،‬و�إن حدث فلن تتوانى عن املقاومة ‪..‬‬
‫�س�ألتُ الكثريين �إن مر �أحدهم بنوبات م�شابهة‪ ،‬ف�أنكر اجلميع ‪ ..‬لتمر‬
‫بنا الأيام �سري ًعا‪ ،‬و�أجد نف�سي �أعرب عامي اخلام�س والع�شرين دون �أن‬
‫ُاعتقل‪� ،‬أو يحدث يل مثلما حدث ل�سيدي‪ ،‬وكذلك الكثريون مثلي ‪..‬‬
‫وا�ضحا لل َعيان �أن �إعدامات الباحة قد ق ّلتُ ب�صورة‬
‫الأمر الذي بات ً‬
‫إعداما واحدً ا‪ ،‬بل مرت‬
‫ملحوظة‪ ،‬و�صار يوم الغفران بالكاد يحمل � ً‬
‫إعداما واحدً ا ‪� ..‬سمعتُ �أن ن�سا ًء من‬
‫�أيام متتابعة منه دون �أن ت�شهد � ً‬
‫الن�ساىل كن قد حملن من الرذيلة‪ ،‬وذهنب مرا ًرا �إىل الباحة حل�صد‬
‫خائبات‪ُ ،‬وولدت �أطفالهن موتى ‪ ..‬لكن‬ ‫ٍ‬ ‫أرواحا لأطفالهن‪ ،‬فرجعن‬
‫� ً‬
‫كبيا‪ ،‬وا�سيناهم فح�سب ‪..‬‬ ‫ذلك مل يرتك يف نفو�سنا حز ًنا ً‬
‫ثم كانت املفاجئة الكربي حني خرجت �إلينا ال�سيدة غفران لتخربنا‬
‫ب�أن هناك خ ًربا �سا ًرا �ستقوله‪ ،‬وملا انتبهنا �إليها قالت‪ ،‬وقد خرج من‬
‫ورائها فتى ن�سلي يف مثل عمري ُي�سمى «حيدر»‪ ،‬وفتا ٌة ن�سلية ت�صغرنا‬
‫ب�أعوام قليلة ُت�سمى «�سبيل»‪:‬‬
‫ عليكم �أن تقدموا �إليهما املباركات ‪ ..‬لقد �أخرباين للتو عزمهما‬
‫على الزواج يف باحة جويدا ‪..‬‬
‫هللنا جمي ًعا غري م�صدقني ‪ ..‬بات احللم الذي حلمناه قبل �أربعة‬
‫�سنوات حقيقة يف تلك اللحظة‪ ،‬واجتهنا جمي ًعا �إىل حانة الوادي‪،‬‬
‫ومبجرد دخولنا دقت مو�سيقا ال�شامو لي�سرع اجلميع �إىل من�صة‬

‫‪‬‬
‫الرتاق�ص‪ ،‬بينما جل�ست ال�سيدة بطاولتها‪ ،‬وجل�ستُ بجوارها ‪ ..‬مل‬
‫تكن ال�سيدة حتب �أن ترق�ص‪ ،‬وكذلك مل �أجد يل ً‬
‫بال للرق�ص ذلك‬
‫اليوم‪ ،‬ومكثتُ يف مكاين �أراقب ال�شبان الآخرين و�أنظر بطرف عيني‬
‫�إىل ال�سيدة وهي تنظر �إىل الزوجني املنتظرين وهما يرتاق�صان يف‬
‫�سعادة كبرية ‪..‬‬
‫هد�أت املو�سيقا فقلتُ يف الوقت الذي ان�ضمت فيه ناردين �إىل‬
‫طاولتنا‪:‬‬
‫ متي �سيتزوجان؟‬
‫قالت �سيدتي‪:‬‬
‫ مثل باقي �أهل چارتني‪ ،‬يوم الغفران القادم ‪..‬‬
‫فقالت ناردين يف فرحة كبرية‪:‬‬
‫ على من�صة جويدا؟!‬
‫قالت �سيدتي با�سمة‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫ثم �شردت ‪� ..‬أدركتُ �أن عقلها قد ذهب �إىل هناك‪ ،‬كنت �أعرف‬
‫�أنها مل تط�أ �أر�ض الباحة منذ موت �سيدي قبل ت�سع �سنوات‪ ،‬وملحتُ يف‬
‫دموعا ملتمعة‪ ،‬فمددتُ يدي �إليها لأربت على يدها‪ ،‬فابت�سمت‬
‫عينيها ً‬
‫�إ ّ‬
‫يل بعينها الدامعة‪ ،‬فابت�سمتُ �إليها ‪ ..‬امر�أة �أخرى غريها لكانت قد‬
‫تزوجت �شا ًبا �آخر �شري ًفا‪ ،‬و�أجنبت من ال�شرفاء ما يحملون ال�شرف‬
‫‪‬‬
‫والفخر لعائلتها‪ ،‬لكنها جاءت �إلينا لتحمل ال�شرف �إىل الكثريين‬
‫منا ‪ ..‬ووجدتُ نف�سي حتدثني؛ نعم مات �سيدي‪ ،‬لكن موته مبجيئها‬
‫�إلينا بات بداي ًة لكثري من احليوات‪ ،‬مل تكن لتحيا قط لوال وجود هذه‬
‫ال�سيدة الطيبة بيننا ‪ ..‬ثم قاطعت تفكريي عندما قالت ب�صوت خمتنق‬
‫بالدموع‪:‬‬
‫ �ستذهبون بهما �إىل الباحة ‪..‬‬
‫فقالت ناردين يف تعجب‪:‬‬
‫ �ألن تذهبي معنا؟!!‬
‫هزت ر�أ�سها نف ًيا وقالت‪:‬‬
‫ �س�أنتظر هنا يف الوادي‪ ،‬لن �أعود �إىل الباحة جمددًا ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ ال �سيدتي‪ ،‬لن ُيبارك ذلك الزواج �إال بوجودك ‪ ..‬وجودك قوة‬
‫لهما ولنا جمي ًعا ‪..‬‬
‫�سكتت‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬
‫ْ‬
‫زلت تلومني نف�سك على ما حدث قبل ت�سع �سنوات‪،‬‬
‫أنك ما ِ‬
‫ �أعلم � ِ‬
‫لكن ما حدث قد حدث ‪..‬‬
‫ثم تابعتُ ‪:‬‬
‫ انظري حولك‪ ،‬انظري �إىل من جتاوز عمرهم اخلام�س‬
‫أنت‪ ،‬ال �أحد غريك ‪..‬‬
‫والع�شرين ‪ ..‬ب�سببك � ِ‬
‫‪‬‬
‫و�أكملتُ ناط ًقا مبا حدثتني به نف�سي‪:‬‬
‫ كان موت �سيدي بداية حليوات �أخرى كثرية ‪..‬‬
‫ربتت على يدي‪ ،‬وامتلأت عيناها بالدموع‪ ،‬فنه�ضت ناردين وق ّبلت‬
‫ر�أ�سها ‪ ..‬الحظتُ للمرة الأوىل �أن ال�شيب قد بد�أ يخط يف �شعر �سيدتي‬
‫رغم �أنها مل تتجاوز الثالثة والثالثني‪ ،‬حتى ناردين قد الحظت ذلك‬
‫هي الأخرى‪ ،‬فقالت مازحة‪:‬‬
‫ هناك بع�ض ال�شعريات البي�ضاء �سيدتي ‪..‬‬
‫فم�سحت ال�سيدة دموعها‪ ،‬و�أجابت با�سمة‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬يبدو �أنني ورثتُ ال�شيب عن �أمي ‪..‬‬
‫�أكملت ناردين مزاحها‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫عري�سا � ًإذا قبل �أن ي�شيب ب�أكمله ‪..‬‬
‫لك ً‬ ‫ لنجد ِ‬
‫�ضحكت �سيدتي‪ ،‬وكادت تنطق ب�شيء لكنها بدت وك�أنها �أم�سكت‬
‫بكلماتها قبل �أن تفر من ل�سانها‪ ،‬و�أوم�أت بر�أ�سها و�سكتت‪ ،‬فقلتُ ً‬
‫مبدل‬
‫احلديث‪:‬‬
‫ �سي�صبح زواج الن�ساىل حد ًثا كب ًريا من �ش�أنه �أن ّ‬
‫يرج چارتني‬
‫ب�أكملها ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫ نعم‪ ،‬مبجرد �أن يعلم كبري الق�ضاة �أنه �سي�شهد على هذا الزواج‪،‬‬
‫�سينت�شر اخلرب بچارتني مثلما تنت�شر النار يف اله�شيم ‪..‬‬

‫�صرنا جمي ًعا يف انتظار يوم الغفران اجلديد ب�شوقٍ مل يكن له مثيل‪،‬‬
‫أيام منه غادرت ال�سيدة �إىل جويدا من �أجل �إبالغ كبري الق�ضاة‬
‫وقبل � ٍ‬
‫عن �إمتام الزواج على من�صة باحة جويدا‪ ،‬وعادت بعد غروب ال�شم�س‪،‬‬
‫غري �أننا الحظنا جمي ًعا تبدل وجهها‪ .‬دلفتُ �إليها‪ ،‬كان الغ�ضب ي�سيطر‬
‫على مالحمها‪ ،‬بينما جل�ست ناردين �صامتة‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ مل يقبلوا؟! ‪..‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا دون �أن تنطق ‪..‬‬
‫كفي يف خيبة �أمل ‪..‬‬
‫�أخرجتُ زفريي‪ ،‬وجل�ستُ وا�ض ًعا ر�أ�سي بني ّ‬
‫قالت ال�سيدة بعد فرت ٍة من ال�صمت وهي تنظر �إىل القمر املكتمل‬
‫بال�سماء عرب نافذة عالية بجدار الكوخ‪:‬‬
‫ رمبا تن�صفنا الأر�ض بعدما مل يفعل �أهلها ‪..‬‬
‫�س�ألتها م�ستفه ًما‪:‬‬
‫ كيف؟!‬
‫التفتت �إ ّ‬
‫يل وقالت‪:‬‬
‫ تق�ضي القواعد ب�أن يتم الزواج ال�شرعي بالباحة وكفى‪ ،‬مل‬
‫ن�ص �صري ٌح عن �ضرورة �إمتامه على املن�صة ‪..‬‬
‫ُيذكر ٌ‬
‫‪‬‬
‫ثم �أكملت بجدية كبرية‪:‬‬
‫ �سنذهب �إىل الباحة لإمتام الزواج يوم الغفران القادم دون‬
‫�صعود املن�صة ‪� ..‬سيبقى حيدر وعرو�سه بني اجلمهور‪ ،‬وهناك‬
‫�سريددان حديث الزواج ‪..‬‬
‫ت�ساءلت ناردين يف تعجب‪:‬‬
‫قا�ض ليعلن زواجهما؟!‬
‫ �ألي�سا يف حاجة �إىل ٍ‬
‫قالت‪:‬‬
‫ مل يوافق كبري الق�ضاة رغم �أنهما ي�ستوفيان �شروط الزواج‬
‫جميعها ‪ ..‬قال �إن املن�صة لي�ست مكا ًنا للأجنا�س‪ ،‬رف�ض‬
‫الزواج ملجرد �أنهما ن�سليان ‪..‬‬
‫ثم نظرت �إلينا وقالت‪:‬‬
‫نعي قا�ض ًيا لنا � ًإذا ‪..‬‬
‫ �صار علينا �أن ّ‬
‫قلتُ يف تعجب‪:‬‬
‫ قا�ض ًيا ن�سل ًيا؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫عيني مما قالته ال�سيدة‪ ،‬وقلتُ يف لهفة‪:‬‬
‫ات�سعت حدقتا ّ‬

‫‪‬‬
‫ ح�س ًنا ‪ ..‬لتكوين � ِ‬
‫أنت هذا القا�ضي ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال‪ ،‬يكفيني املدر�سة و�شئونها‪ ،‬كما �أنني �أريده �أن يكون منكم ‪..‬‬
‫يتجاوز عدد من يجيدون القراءة والكتابة ممن بلغوا اخلام�سة‬
‫والع�شرين ثالثمائة ‪� ..‬أعتقد �أن الكثريين منهم م�ؤهلون ل�شغل‬
‫هذا املن�صب ‪..‬‬
‫قلتُ يف حما�سة‪:‬‬
‫ �س�أقوم بن�شر اخلرب � ًإذا لع ّل �أحدهم يريد �أن ي�صبح قا�ضي‬
‫الن�ساىل الأول ‪..‬‬
‫قالت �سيدتي با�سمة‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ قا�ضي اجلنوب ‪..‬‬
‫�ضحكتُ و�أنا �أتذوق الكلمة‪:‬‬
‫ نعم �سيدتي‪ ،‬قا�ضي اجلنوب ‪..‬‬

‫قا�ض للن�ساىل قد انت�شر‬ ‫يف خالل �ساعات قليلة كان خرب اختيار ٍ‬
‫بني �أرجاء الوادي‪ ،‬وبني مالمح اخلوف واحلرية نظر �إلينا اجلميع‬
‫ك�أنهم ال ي�صدقون ما يحدث ‪ ..‬ا�ستهان البع�ض مبا نفعله لكننا جتاهلنا‬
‫�سخريتهم‪ ،‬ومع مرور ثالثة �أيام كان �أربعة ع�شر �شا ًبا متعل ًما قد �أعلنوا‬
‫ا�ستعدادهم لي�صريوا قا�ضي الزواج‪ ،‬وهناك تركت لنا ال�سيدة حرية‬
‫‪‬‬
‫اختيار القا�ضي الذي نريده‪ ،‬اقرتح �أحد ال�شبان �أن ُي�سمح ملن يتجاوز‬
‫عامه العا�شرة منا بحق االختيار �سواء كان متعل ًما �أو ال‪ ،‬فوافقت‬
‫ال�سيدة على ذلك االقرتاح ووافقنا نحن بدورنا ‪..‬‬
‫كان الأمر غري ًبا جدً ا بالن�سبة لنا‪� ،‬أن منتلك حق االختيار �أخ ًريا!!‬
‫�شاب ُي�سمى‬‫م�شاعر م�ضطربة و�أخرى حاملة قمنا باختيار ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫‪ ..‬وبني‬
‫«�سوار» لي�صبح قا�ضينا الأول ‪ ..‬ثم �أخربته ال�سيدة عن حديث الزواج‬

‫‪9‬‬
‫الذي طاملا �سمعت كبري ق�ضاة املن�صة يردده‪ ،‬وظلت تردده �أمامه حتى‬
‫ت�أكدت من حفظه له بالكامل‪ ،‬وو�ضعت له �أمامنا م�سئوليته عن ت�سجيل‬
‫كل زيجات الن�ساىل بد ًءا من يوم الغفران التايل ‪ ..‬ثم حدثتني عما‬
‫�سنفعله بني �أ�سوار الباحة‪.‬‬

‫جتمعنا �صباح يوم الغفران املنتظر ‪ ..‬كان عددنا يقدر بالع�شرات‬


‫وفتيات ون�سا ًء و� ً‬
‫أطفال ‪ ..‬حتركنا جمي ًعا �س ًريا على �أقدامنا‬ ‫ٍ‬ ‫فتيا ًنا‬
‫�إىل باحة جويدا‪ ،‬بيننا حيدر وعرو�سه �سبيل والقا�ضي اجلديد �سوار‬
‫وال�سيدة غفران ‪ ..‬كنت �أرى مالمح التوتر على وجهها تزداد ك ّلما‬
‫اقرتبنا من الباحة‪ ،‬حتى �أنها مل تنطق بكلمة واحدة بعد و�صولنا �إىل‬
‫م�شارف جويدا‪ ،‬كنت �أعرف ما ت�شعر به دون �أن تقول ‪..‬‬
‫�أخربين �سيدي ذات مرة عن تعلقها ال�شديد بالباحة منذ �صغرها‪،‬‬
‫ً‬
‫حماول طم�أنتها ف�أح�س�ستُ برع�شة ج�سدها‬ ‫مددتُ يدي لأم�سك بيدها‬
‫وهي تقب�ض على يدي ‪ ..‬ثم دلفنا �إىل الباحة عرب البوابة اجلنوبية‪،‬‬
‫كانت نظرات الأ�شراف �إلينا حتمل الكثري من الده�شة بعدما دلفنا‬

‫‪‬‬
‫بهذا العدد الكبري كجماعة واحدة وهو ما مل يحدث من قبل‪ ،‬الحظتُ‬
‫كذلك نظراتهم الأكرث ده�شة �إىل ال�سيدة غفران وك�أنهم ظنوا �أنها‬
‫ماتت بعدما مل تزر الباحة طوال ال�سنوات املا�ضية ‪..‬‬
‫وقفنا يف اجلزء اجلنوبي ال�شرقي للباحة يف �صفوف دائرية من‬
‫الن�ساىل فقط‪ ،‬يتو�سطنا ال�شاب وعرو�سه وبجوارهم القا�ضي ال�شاب‬
‫�سوار ‪ ..‬ثم بد�أت احتفاالت املن�صة وان�شغل اجلميع معها‪ ،‬حاول بع�ض‬
‫�أ�شقياء الأ�شراف ورجال الأمن التحر�ش بنا‪ ،‬لكننا متالكنا �أنف�سنا ومل‬
‫بعمل ُيوجب اعتقاله ‪..‬‬
‫يفقد �أي منا �أع�صابه �أو يقوم ٍ‬
‫�إىل �أن انتهت االحتفاالت‪ ،‬وبد�أ كبري الق�ضاة يردد حديث الزواج‬
‫�إىل �شاب �شريف وفتاة على املن�صة‪ ،‬يف ذلك التوقيت �أ�شارت ال�سيدة‬
‫غفران بر�أ�سها �إىل �سوار كي يبد�أ حديثه �إىل عر�ساننا ‪ ..‬وبينما كان‬
‫املحت�شدون ينظرون �إىل املن�صة يف انتبا ٍه �شديد‪ ،‬كانت �أعيننا ُمعلقة‬
‫مبا يحدث بيننا‪ ،‬وب�شفاه �سوار التي كانت تردد كلمات ال ن�سمعها من‬
‫ال�ضجيج‪ ،‬و�شفاه حيدر وعرو�سه الالتي تردد هي الأخرى ما يقوله‬
‫قا�ضينا اجلديد‪ ،‬حتى انتهيا قبل �أن ينتهي القا�ضي الكبري على املن�صة‪،‬‬
‫ف�أطلقت �إحدى الفتيات زغرودة طويلة انده�ش معها املحيطني بنا من‬
‫�أ�شراف چارتني‪ ،‬والذين مل يعتادوا من قبل �سماع زغاريد الن�ساىل قبل‬
‫مرا�سم الإعدام ‪..‬‬
‫حاولنا �أن نكتم �ضحكاتنا‪ ،‬لكنا مل ن�ستطع‪ ،‬و�ضحكنا جمي ًعا‬
‫واحت�ضن بع�ضنا البع�ض يف �سرور �شديد‪ ،‬وارت�سمت البهجة على‬
‫وجوهنا ونحن ننظر �إىل العرو�سني‪ ،‬لتغمرهم �أعيننا باملباركات دون‬
‫�أن ينطق �أحدنا �أو يفهم غرينا من �أ�شراف چارتني ما يدور بيننا‪،‬‬
‫‪‬‬
‫ثم د ّوت املو�سيقا على املن�صة فلم جند �أنف�سنا �إال ونحن نرتاق�ص‬
‫ونحتفل ون�ضرب الأر�ض ب�أقدامنا يف غري اهتمام مبا حتمله نظرات‬
‫الأ�شراف �إلينا‪ ،‬وبينما نحن نرتاق�ص وتدوي �أل�سنة ن�سائنا بزغاريدها‬
‫يف فرحة عارمة نظرتُ �إىل �سيدتي‪ ،‬لأجد �أن وجهها قد تب ّدل و�صار‬

‫‪9‬‬
‫طفل قد يبلغ الثامنة‪ ،‬كان يت�شبث‬
‫�أكرث احمرا ًرا وهي حت ّدق بعيدً ا نحو ٍ‬
‫بقمة عمود مرتفع للغاية على جانب الباحة ‪ ..‬قبل �أن تتخطى احل�شود‬
‫م�سرع ًة يف اجتاهه‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)22‬‬
‫«غفران»‬

‫يدري �أح ٌد من �شرفاء‬


‫كان كل �شيء يحدث كما خططنا له دون �أن َ‬
‫چارتني مبا يدور بيننا‪� ،‬إىل �أن انتهى �سوار من ترديد حديث الزواج‬
‫لل�شاب وعرو�سه‪ ،‬وبد�أ الن�ساىل من حويل يف �إطالق زغاريدهم‬
‫والرتاق�ص على �أنغام مو�سيقا املن�صة‪ ،‬حتى ازدادت الهمهمات‬
‫املتعجبة من حولنا ‪..‬‬
‫وبينما كنتُ �أتلفت لأرى �أنّ كل الأمور كانت ت�سري على ما يرام‪ ،‬حتى‬
‫َج ُمدت حوا�سي جميعها حني ملحته عيني بعيدً ا ‪ ..‬العمود املرتفع ذاته‬
‫على اجلانب الغربي من الباحة‪ ،‬يت�شبث فوقه طف ٌل بالطريقة ذاتها‬
‫التي كان يت�شبث بها ندمي‪ ،‬وقتها ابتلعتُ ريقي يف �صعوبة‪ ،‬ونظرتُ‬
‫بعيدً ا بعيني �إىل املن�صة يف ذهول‪ ،‬ثم عدتُ بب�صري �إليه بعد حلظات‬
‫متنى فيها داخلي �أن تكون عيني قد �أخط�أت ‪..‬‬
‫كان الطف ُل ال يزال موجودًا بالفعل‪ ،‬فت�سارعت �أنفا�سي‪ ،‬مل تكن‬
‫خياالت �صنعها عقلي‪ ،‬لأ�شعر �أن كل �شيء توقف من حويل‪ ،‬ال �أ�صوات‪،‬‬
‫‪‬‬
‫ال همهمات‪ ،‬ال حركات‪ ،‬فقط كان وحده اال�ضطراب الذي بد�أ يع�صف‬
‫بداخلي ‪ ..‬ظللتُ �أنظر نحوه‪ ،‬وب�سرعة الربق دار بر�أ�سي ما حدث بيني‬
‫وبني ندمي من املرة الأوىل التي ر�أيته بها يتعلق على قمة ذلك العمود‬
‫حتى املرة الأخرية التي �شقّ فيها خنجري عروق رقبته على املن�صة ‪..‬‬
‫كانت املرة الأوىل التي ي�شعر فيها ج�سدي بالربودة �إىل هذا احلد‪،‬‬
‫حاولتُ �أن �أمتالك نف�سي‪ ،‬والتفتُ �إىل الن�ساىل الراق�صني من حويل‬
‫لع ّلي �أن�شغل بهم‪ ،‬لكني وجدتني �أنظر �إليه جمددًا ‪ ..‬قبل �أن �أندفع يف‬
‫وجنتي ‪..‬‬
‫ّ‬ ‫اجتاهه متتلئ عيني بدموعها التي �سرعان ما ت�ساقطت على‬
‫م�سرعا و�أنا �أم ُّر بني املتزاحمني وعيني ُمعلقة به‪ ،‬ثم‬
‫ً‬ ‫كان قلبي يدق‬
‫تعالت مو�سيقا املن�صة ك�أنها تقول يل ارك�ضي‪ ،‬ارك�ضي ‪ ..‬فرك�ضتُ بني‬
‫ارتطام يل‬
‫ٍ‬ ‫املحت�شدين يردد ل�ساين كلمات االعتذار كل ثانية مع كل‬
‫ب�أحدهم ‪ ..‬كان الأمر يزداد �صعوب ًة ك ّلما اقرتبتُ من منت�صف الباحة‪،‬‬
‫حاولتُ �أن �أمر بني الواقفني هناك لكنهم تعمدوا �أال يف�سحوا يل طري ًقا‬
‫‪ ..‬ظن �أغلبهم �أنني ن�سلية مع ذلك الف�ستان الذي كنت �أرتديه‪ ،‬وبعدما‬
‫حتققوا �أنني هي غفران فتاة املن�صة القدمية تنحوا عن طريقي‬
‫مهمهمني كي �أمر‪ ،‬لكن الأوان كان قد فات ‪..‬‬
‫هابطا ويرتك مكانه‪،‬‬ ‫ر�أيتُ الطفل ينظر �أ�سفله‪ ،‬قبل �أن ينزلق ً‬
‫�صرختُ نحوه يف ي�أ�س؛ انتظر‪� ،‬أرجوك ‪ ..‬وتابعتُ تقدمي �إىل اجلهة‬
‫الغربية‪ ،‬حتى و�صلتُ الهث ًة �إىل �أ�سفل العمود‪ ،‬مل �أجد له �أث ًرا ‪� ..‬س�ألتُ‬
‫بع�ضا من ال�شبان الواقفني على مقربة منه �إن كان �أحدهم قد ر�أى‬ ‫ً‬
‫االجتاه الذي ذهب به الطفل الذي كان يرتقي قمة ذلك العمود‪ ،‬نظروا‬
‫�إىل هيئتي مت�أففني و�صمتوا ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫�صرختُ بهم‪ ،‬مل يكن ذلك وقتًا للده�شة ‪ ..‬مل يعريوين �أي اهتمام‪،‬‬
‫ووا�صلوا انتباههم �إىل ما يحدث على املن�صة ‪ ..‬ظللتُ �أتلفت حويل بكل‬
‫االجتاهات وداخلي يتمنى �أال يكون قد دخل بني املحت�شدين‪ ،‬ثم حتركتُ‬
‫خطوات �إىل كل جهة خارج الباحة لأبحث عنه‪ ،‬لكنني مل �أجده‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جل�ستُ مكاين و�أ�سندتُ ظهري �إىل �سور الباحة الغربي و�أغم�ضت‬
‫عيني �ألتقط �أنفا�سي ‪ ..‬ثم �سمعتُ �صوت ريان ينادي �إ ّ‬
‫يل وهو يعرب‬
‫البوابة القريبة مني‪ ،‬فم�سحتُ دموعي �سري ًعا بكم ف�ستاين الأمين قبل‬
‫�أن يقرتب‪� ،‬س�ألني يف قلق‪:‬‬
‫أنت بخري �سيدتي؟!‬
‫ هل � ِ‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫ثم �شرد ذهني ‪ ..‬ظل ينظر يل دون �أن يقول �شي ًئا ‪ ..‬كان يدور يف‬
‫عقلي حينذاك حديث ال�سيدة بيان يل قبل �سنوات عن ندمي الذي فعل‬
‫ال�شيء ذاته الذي متيز به �صاحب الروح الذي كانت حتبه‪ ،‬ثم قلتُ‬
‫لريان يف ارتباك‪:‬‬
‫ هل كنت بالباحة يوم �إعدام ندمي؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ هل �أطلقت �أي ن�سلية زغرودة بعدها؟!‬
‫قال دون تفكري‪:‬‬
‫ ال ‪ ..‬كانت روح �سيدي نقية‪ ،‬مل تذهب لأي طفل ‪..‬‬
‫ثم �س�ألني جمددًا‪:‬‬
‫ هل هناك خطب ما؟!‬
‫قلتُ ب�صوت متعب‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫علي املجيء معكم ‪..‬‬
‫ مل يكن ّ‬
‫ثم نظرتُ بطرف عيني �إىل قمة العمود‪ ،‬وقلتُ لريان‪:‬‬
‫ هيا بنا ‪ ..‬لنعد �إىل الوادي ‪..‬‬

‫يف امل�ساء كانت االحتفاالت بحانة الوادي يف �أوجها‪ ،‬جل�س حيدر‬


‫و�سبيل يتقبالن التهاين من غريهم من ال�شبان‪ ،‬بينما قام العازفون‬
‫بعزف مقطوعات جديدة من املو�سيقا‪ ،‬وجل�ستُ �أنا وريان وناردين‬
‫بطاولتنا املعتادة‪ ،‬حاولتُ �أن �أن�سى ما حدث بال�صباح‪ ،‬لكني مل �أفلح‪،‬‬
‫وظ ّل ذهني م�شتتًا ً‬
‫متاما ‪ ..‬حتى �أن ناردين �س�ألتني هي الأخرى �إن كان‬
‫خطب بي‪ ،‬فهززتُ ر�أ�سي نافية‪ ،‬وحاولتُ �أن �أر�سم ابت�سامتي‬‫ٌ‬ ‫هناك‬
‫على وجهي لع ّلها ُتظهر فرحتي بالزوجني اجلديدين‪ ،‬لكن حوا�سي‬
‫خذلتني‪ ،‬وباءت حماوالتي لالبت�سام بالف�شل‪ ،‬ف�أخرب ُتها �أنني متعبة‬
‫ً‬
‫قليل ‪ ..‬ثم نظرتُ �إىل ريان الذي كان منهم ًكا بال�شراب‪ ،‬و�س�ألته‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ هل تعرف �أين دُفن ندمي؟‬
‫�أجابني‪:‬‬
‫ نعم بكل ت�أكيد‪� ،‬إنني من قمتُ بدفنه ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ �أريد �أن �أذهب �إىل هناك ‪..‬‬
‫قال وهو ي�ضع كوبه على الطاولة‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪� ،‬س�آتي معك يف الغد ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ ال‪� ،‬أرجوك ‪� ..‬أريد �أن �أكون مبفردي‪� ،‬أخربين فقط عن مكان‬
‫قربه ‪..‬‬
‫فقال متعج ًبا‪:‬‬
‫ ح�س ًنا ‪..‬‬
‫ثم قام بو�صف يل مو�ضع قرب ندمي بني قبور الن�ساىل‪ ،‬بعدها بقليل‬
‫وهم حيدر وزوجته باملغادرة �إىل كوخهما‪ ،‬فهممتُ �أنا‬‫هد�أت املو�سيقا‪ّ ،‬‬
‫الأخرى باالن�صراف‪ ،‬وحتججتُ �إىل الباقني ب�أنني م�صابة بالإرهاق ‪..‬‬
‫كنت يف حاجة ما�سة �إىل �أن �أكون مبفردي ‪..‬‬
‫اجتهتُ �إىل كوخي‪ ،‬ويف الطريق مل متر حلظة واحدة من غري �أن‬
‫�أف ّكر يف طفل الباحة الذي ظهر يل فج�أة‪ ،‬ثم و�صلتُ �إىل الكوخ‪ ،‬ولكني‬
‫‪‬‬
‫مل �أدلف �إىل داخله‪ ،‬بل حملتُ امل�صباح الزيتي املُع ّلق على جانب بابه‬
‫اخل�شبي‪ ،‬وذهبتُ �إىل مقابر الن�ساىل ‪ ..‬كان قرب ندمي الرابع بال�صف‬
‫الأول من ناحية الوادي على ح�سب و�صف ريان‪ ،‬ت�أكدتُ منه بعدما‬
‫وجدتُ احلجر الأمل�س املد�سو�س بطرف كومته منحوتًا عليه بخط‬
‫يدوي رديء؛ «ال�سيد ندمي» ‪ ..‬قال يل ريان باحلانة �أنه من كتبه‪،‬‬
‫فجل�ستُ �أمامه و�ضممتُ ركبتي �إىل �صدري‪ ،‬ومكثتُ �أنظر �إليه ‪ ..‬مل‬
‫أعوام‬
‫�أ�صدق �أنها املرة الأوىل التي �أذهب بها �إىل هناك بعد ت�سعة � ٍ‬
‫ب�صوت هادئ‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫كاملة بالوادي ‪ ..‬بقيتُ �صامت ًة لفرتة قبل �أن �أنطق‬
‫ �أعلم �أنني ت�أخرتُ كث ًريا عن املجيء �إىل هنا ‪ ..‬لكم متنيتُ �أن‬
‫�آتي �إليك يف �أوقات �سابقة‪ ،‬لكني كنت �أ�شعر باخلجل منك ‪..‬‬
‫�أتعلم؟! ‪ ..‬ذهبتُ �إىل الباحة اليوم لأول مرة منذ افرتاقنا بها‪،‬‬
‫زوج من الن�ساىل كما كنت حتلم‪� ،‬أردتُ �أن‬ ‫اليوم مت زواج �أول ٍ‬
‫�أخربك بهذا لأنني �أعلم �أنه �سيفرحك ‪..‬‬
‫طفل يرتقي القائم اجلانبي كما كنت تفعل‬ ‫هناك ر�أيتُ ً‬
‫دوما يف طفولتك‪ ،‬ظننتُ لوهل ٍة �أنه طفل ن�سلي يحمل روحك‪،‬‬ ‫ً‬
‫و�أ�سرعتُ �إليه‪ ،‬لكني مل �أمتكن من اللحاق به‪ ،‬كما تعرف‪،‬‬
‫الباحة مزدحمة على الدوام‪..‬‬
‫ثم بد�أت بع�ض دموعي تت�ساقط و�أنا �أقول‪:‬‬
‫ �أعلم �أن روحك مل ينلها �أحد‪ ،‬لكني متنيتُ حلظتها لو كان ذلك‬
‫قد حدث‪ ،‬متنيتُ لو جاءتني فر�صة لأك ّفر بها عما حدث مني ‪..‬‬
‫ثم زاد بكائي واهتزت �شفتاي‪:‬‬

‫‪‬‬
‫غا�ضب مني‪ ،‬ال تطيق وجودي هنا‪ ،‬لكنني �أموت كل‬ ‫ٌ‬ ‫ �أعلم �أنك‬
‫يوم ك ّلما تذكرتُ ما فعلتُه ‪� ..‬أتعلم‪ ،‬لو عاد بي الزمن مل �أكن‬
‫لأفعل ما فعلته �أبدً ا‪ ،‬وجلئتُ معك �إىل هنا لنكمل �سو ًيا ما بد�أته‬
‫قبلي ‪..‬‬
‫ثم ابت�سمتُ و�أنا �أبكي‪:‬‬
‫ كان �سي�صبح لدينا �أطفال يف عمر ال�سابعة �أو الثامنة يلعبون‬
‫وي�صرخون ‪..‬‬
‫كوخ �صغري يلعب‬
‫ثم �أغم�ضتُ عيني وذهب خياىل بعيدً ا �إىل ٍ‬
‫الأطفال بحو�شه‪ ،‬طف ٌل �صغري وطفلتان‪ ،‬بينما �أقف �أنا وندمي بنافذة‬
‫كوخنا ننظر �إليهم وعلى وجهينا مالمح ال�سعادة ‪..‬‬
‫قبل �أن ندلف �إىل الداخل ونغلق النافذة من خلفنا ويحت�ضنني ثم‬
‫يقبلني‪ ،‬فانطلقت �صرخات �أطفالنا املعتادة حني نبتعد عن �أعينهم‪،‬‬
‫فحاولتُ التمل�ص منه لر�ؤيتهم ف�أم�سك بي ووا�صل تقبيلي‪ ،‬لكن‬
‫�صرخات الأطفال ظ ّلت تتزايد‪ ،‬بل تداخلت معها �صرخات �أخرى وك�أن‬
‫�أطفال الوادي باتوا ي�صرخون كلهم ت�ضام ًنا معهم ‪..‬‬
‫الأطفال الأ�شقياء‪ ،‬ال بد يل و�أن �أعاقبهم على �صراخهم امل�ستمر‪،‬‬
‫ف�ضحك حني ر�أى الغ�ضب على وجهي‪ ،‬لكن �سرعان ما حتولت تعابري‬
‫فزع �شديد عندما نظرتُ يف عينيه وحدقتُ بهما‪ ،‬مل تكن‬ ‫وجهي �إىل ٍ‬
‫هناك �إال �أل�سنة نريان م�شتعلة‪ ،‬تعالت معها ال�صرخات الآتية من خارج‬
‫الكوخ‪ ،‬لأدرك لوهلة �أنها �صرخات حقيقية ت�أتي من بعيد ‪ ..‬فتحتُ‬

‫‪‬‬
‫عيني‪ ،‬وجد ُتني ال زلتُ �أجل�س �أمام قرب ندمي‪ ،‬بينما ت�أتي ال�صرخات‬
‫املتوا�صلة من ناحية الوادي ‪..‬‬
‫وثبتُ من مو�ضعي‪ ،‬ورك�ضتُ يف اجتاه الوادي ‪� ..‬صعدتُ مهرول ًة‬
‫اجلبل الرملي الذي يف�صل بني الوادي واملقابر‪ ،‬لأقف مكاين مت�سمرة‬
‫يف ذهول بعدما ر�أيتُ نريا ًنا عظيمة على امتداد ب�صري‪ ،‬تلتهم كوخي‬
‫وبناء املدر�سة وخمزن الب�ضائع ً‬
‫وبع�ضا من الأكواخ املجاورة‪ ،‬بينما‬
‫يرك�ض الفتيان والفتيات �صارخني يحاولون �إطفائها ب�أواين املياه‬
‫جانب بعيد‬ ‫والرمال‪ ،‬ويحمل بع�ضهم َمن �أ�صابتهم النريان ‪ ..‬على ٍ‬

‫‪9‬‬
‫كانت عرب ٌة ل�ضباط الأمن تقف ي�شاهد �ضباطها عمليات الكر والفر‬
‫ملن يحاولون �إطفاء النريان دون �أن يحرك �أحدهم �ساك ًنا‪� ،‬أدركتُ‬
‫�ساعتها �أن چارتني مل تكن لتمرر زواج الن�ساىل بتلك ال�سهولة التي‬
‫ظنناها �أبدً ا ‪..‬‬

‫بارتباك �شديد‬
‫ٍ‬ ‫هبطتُ مهرولة �إىل الوادي �أج ّر �أقدامي‪ ،‬واجتهتُ‬
‫�إىل البئر التي ميلأ اجلميع �أوانيهم منها‪ ،‬هناك ا�ستوقفتني فتا ٌة‬
‫و�صرخت وهي تنظر يف وجهي‪:‬‬
‫ �إن ال�سيدة بخري‪ ،‬ال�سيدة بخري ‪..‬‬
‫فالتفت اجلميع نحوي غري م�صدقني �أنف�سهم‪� ،‬أدركتُ حينها �أن‬
‫الكثريين قد ظنوا �أن النريان التهمت الكوخ و�أنا بداخله ‪ ..‬و�سرعان ما‬
‫تبدلت مالحمهم اليائ�سة �إىل حما�سة �شديدة‪ ،‬وخا�ص ًة بعدما حملتً‬

‫‪‬‬
‫�إنائي املمتلئ باملاء‪ ،‬و�أ�سرعتُ به ً‬
‫رك�ضا جتاه النريان‪ ،‬فحمل كل منهم‬
‫�إناءه‪ ،‬ووا�صلوا غمر النريان باملياه والرمال ‪..‬‬
‫حد مل تكن �أوانينا ال�صغرية لتفعل معه‬
‫كان احلريق عظي ًما �إىل ٍ‬
‫�شي ًئا‪ ،‬لكننا مل نتوقف للحظة واحدة عن حماوالت الإطفاء‪ ،‬و�إخالء‬
‫ي�شب‬
‫الأكواخ القريبة التي مل ت�صلها النريان‪ ،‬و�إخماد �أي حريق �صغري ّ‬
‫ب�أحدها قبل �أن ت�أكله النريان بالكامل ‪..‬‬
‫ظللنا الليل ب�أكمله نحاول �أن نطفئ تلك النريان‪ ،‬حتى متك ّنا‬
‫من �إخمادها �أخ ًريا مع طلوع النهار‪ ،‬بعدما التهمت كوخي واملدر�سة‬
‫كوخا‪ ،‬بينهم كوخ حيدر‬ ‫وخمزن الب�ضائع املُخزنة و�سبعة ع�شر ً‬
‫وعرو�سه ‪ ..‬كانت الوجوه من حويل واجمة وهي تنظر يف �صمت �إىل‬
‫الدخان املت�صاعد من الركام الأ�سود املغمور باملياه‪ ،‬بينما مل ت�ستطع‬
‫الفتيات متالك �أنف�سهن من البكاء‪.‬‬
‫مل يكن با�ستطاعتي �أن �أنطق بكلمة واحدة‪ ،‬ظللتُ �أنظر �إىل �آثار‬
‫اخلراب فح�سب‪ ،‬ثم فرت دموعي �إىل خدي حني ارتطمت بقدمي بقايا‬
‫كتاب حمرتق ‪ ..‬وجال يف ذهني الكتب التي �أُحرقت جميعها ومل ُ‬
‫ينج‬
‫بيد مت�سك بيدي ‪..‬‬ ‫منها كتاب واحد‪ ،‬ثم م�سحتُ دموعي حني �شعرتُ ٍ‬
‫كانت يد نارين‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫ �سي�صبح كل �شيء على ما يرام �سيدتي ‪..‬‬
‫و�أكملت‪:‬‬
‫أنت بخري‪� ،‬سي�صبح كل �شيء على ما يرام ‪..‬‬
‫ طاملا � ِ‬

‫‪‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي يف ي�أ�س‪ ،‬ثم تذكرتُ عربة ال�ضباط التي كانت تقف‬
‫بعيدً ا ت�شاهد ما يحدث لنا دون حراك‪ ،‬فقلتُ لها‪:‬‬
‫ �أين ريان؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �إنه باحلانة‪ُ ،‬نقل الكثري من امل�صابني �إىل هناك ‪..‬‬
‫�س�ألتها يف لهفة‪:‬‬
‫ هل �أُ�صيب ؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ ال �أدري ‪..‬‬
‫اجتهتُ م�سرع ًة �إىل هناك‪ ،‬كان اختيار احلانة منا�س ًبا للغاية كونه‬
‫بعيدً ا عن مكان احلريق املختنق بالدخان‪ ،‬كما �أن ردهتها الوا�سعة‬
‫مكان واحد ‪ ..‬حني و�صلتُ �إىل‬ ‫كانت تكفي جلمع امل�صابني كلهم يف ٍ‬
‫مقرف�صا بجوار �أحد امل�صابني‪ ،‬ونه�ض حني‬
‫ً‬ ‫هناك ر�أيتُ ريان يجل�س‬
‫ر�آين‪ ،‬فالتقطتُ �أنفا�سي‪ ،‬واطم�أن قلبي عندما وجد ُته �ساملًا‪ ،‬ثم اقرتب‬
‫ق�سم امل�صابني ك ُّل ح�سب �إ�صابته‪ ،‬و�أ�شار �إىل ٍ‬
‫ركن‬ ‫مني و�أخربين �أنه ّ‬
‫بعيد يرقد به عدد من امل�صابني وقال‪:‬‬
‫ هناك �إ�صابات احلروق ‪..‬‬
‫و�أ�شار �إىل ركن �آخر‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ وهنا اجلروح‪ ،‬ممن �أ�صيبوا �أثناء الإطفاء ‪..‬‬
‫و�أ�شار �إىل الراقدين مبنت�صف احلانة‪:‬‬
‫ وهنا ال نعلم ماذا �أ�صابهم‪ ،‬رمبا االختناق ‪ ..‬ال �أدري‪ ،‬مل �أجد‬
‫جروحا �أو حرو ًقا ب�أج�سادهم‪ ،‬لكنهم مري�ضون للغاية‪ ،‬رمبا‬ ‫ً‬
‫نحتاج �إىل طبيب ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫طبيب من الأ�شراف باملجيء �إىل هنا ‪..‬‬
‫ لن ير�ضى ٌ‬
‫�شخ�ص غريب‬
‫ٌ‬ ‫هز ر�أ�سه م�صد ًقا على كالمي‪ ،‬قبل �أن يدلف �إلينا‬
‫�أ�شعث ال�شعر واللحية‪ ،‬يحمل حقيبة قما�شية �صغرية‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ �إنني طبيب ‪..‬‬
‫نظرتُ �إليه يف ده�شة‪ ،‬مل �أتذكر �أنني ر�أيته من قبل يف جويدا‪ ،‬ومل‬
‫يب ُد يل �أنه من الن�ساىل‪ ،‬لكن ريان �صرخ �إليه وهو يحدق به‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ �إنني �أتذكرك ‪..‬‬
‫ثم نظر �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬وقال يف فرحة‪:‬‬
‫ �إنه الطبيب الذي رافق �أختي يف املرة الأخرية التي جاءت بها‬
‫�إىل الوادي‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)23‬‬
‫«فاضل»‬

‫كان خط ًئا ج�سي ًما مني حني ان�صعتُ �إىل كالم دميا‪ ،‬ووافقتُ على‬
‫مغادرتنا چارتني وهي يف تلك احلالة ال�سيئة من مر�ضها ‪..‬‬
‫ركبنا ال�سفينة يف اليوم ال�سابع من يوم الغفران الذي ح�صدت به‬
‫روحا جلنينها‪ ،‬ومبجرد �أن حتركت بنا �إىل ال�شمال ا�شتد بها املر�ض‬
‫ً‬
‫بطريق ٍة مل �أكن لأتوقعها‪ ،‬و�صار معدل نوبات الت�شنج التي ت�صيبها‬
‫�ضعف ما كان يحدث يف وادي الن�ساىل‪ ،‬حتى �أن اخلوف قد ت�سرب‬
‫�إىل امل�سافرين‪ ،‬وانت�شرت الأقاويل بينهم ب�أن �شيطا ًنا ي�سكن ج�سد‬
‫تلك الفتاة‪ ،‬وطالبوا �صاحب ال�سفينة ب�أن ُيبعدها عنهم‪ ،‬فخ�ص�ص لها‬
‫غرفة �ضيقة على م�ض�ض كنت �أراها جيدة بعدما مكنتني من مرافقتها‬
‫طوال الوقت بعيدً ا عن �صخب امل�سافرين ‪..‬‬
‫يف الأيام التالية باتت الأوقات التي ت�ستعيد بها وعيها قليلة للغاية‪،‬‬
‫ومع معدل النوبات الذي تزايد ب�صورة جنونية بد�أت الأع�شاب املهدئة‬
‫يف النفاد مني‪ ،‬وتزايدت �شكوكي ب�أن هناك نهاية قا�سية تنتظر الفتاة‬
‫وجنينها ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫يف اليوم العا�شر ا�ستجمعتُ �شجاعتي‪ ،‬ودلفتُ �إىل دميا‪ ،‬و�أخربتها‬
‫ب�ضرورة �إنهاء حملها و�إنزال ذلك اجلنني ً‬
‫حفاظا على حياتها ‪ ..‬مل‬
‫�أكن �أمتلك الأدوات الكافية للقيام بذلك على منت ال�سفينة‪ ،‬لكني‬
‫وجدتُ الأمر ي�ستحق املجازفة‪ ،‬كان باد ًيا للغاية �أنها لن ت�ستطيع �إكمال‬
‫الرحلة �إىل ال�شاطئ ال�شمايل بذلك التدهور ال�سريع‪ ،‬لكنها رف�ضت‬
‫ً‬
‫رف�ضا قاط ًعا ‪..‬‬
‫حتدثتُ مع �ص ّديق بهذا الأمر‪ ،‬فتحدث معها هو الآخر‪ ،‬فوا�صلت‬
‫رف�ضها‪ ،‬وظلت تردد باكية يف تعب �شديد‪:‬‬
‫ �سنظل بخري‪� ،‬سنظل بخري ‪..‬‬
‫فلم �أجد �سوى �أن �ألبي رغبتها‪ ،‬و�أبقى برفقتها �أناولها يف قلة حيلة‬

‫‪9‬‬
‫جرعات خمففة من الأع�شاب كي تكفي ما تبقى من �أيام‪ ،‬وتناوبتُ‬ ‫ٍ‬
‫�أنا و�ص ّديق على مرافقتها بالغرفة والإم�ساك بها �أثناء النوبات‪ ،‬حتى‬
‫ا�ستطعنا الو�صول �إىل �شاطئ بني عي�سى مع اليوم الع�شرين وهي‬
‫وجنينها على قيد احلياة‪ ،‬يف �أمر كان �أ�شبه باملعجزة ‪..‬‬

‫نقلناها �سري ًعا �إىل ال�شاطئ‪ ،‬ثم �أح�ضر �ص ّديق عربته وح�صانه ‪..‬‬
‫�س�ألتُه حينذاك �أن ينتظرين‪ ،‬وذهبتُ للبحث بني البيوت اخل�شبية على‬
‫ال�شاطئ لع ّلي �أجد مكا ًنا يبيع �أع�شا ًبا مماثلة للتي كنت �أ�ستخدمها ‪..‬‬
‫كنت �أعلم �أن هناك ع�شرة �أيام �أخرى تنتظرنا داخل �صحراء بني‬
‫عي�سى قبل الو�صول �إىل ذلك الوادي‪ ،‬وبغري تلك الأع�شاب لن نتمكن‬
‫من الو�صول بها حية �إىل هناك ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫ظللتُ �أبحث و�أ�س�أل َمن يقابلني‪ ،‬مل �أجد ذلك املكان الذي �أريده‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫لكن �أحد الأ�شخا�ص د ّلني على �سفينة كانت على و�شك الإبحار‪ ،‬يبحر‬
‫عليها الكثري من التجار رمبا �أجد بينهم تاج ًرا للأع�شاب‪ ،‬ف�صعدتُ‬
‫�إىل منت تلك ال�سفينة ً‬
‫راك�ضا‪ ،‬وبالفعل وجدتُ هناك من باعني قد ًرا‬
‫كاف ًيا من الأع�شاب التي �أريدها مقابل ثالثة قطع ذهبية‪ ،‬وعدتُ‬
‫�سري ًعا �إليهم لنبد�أ رحلتنا �إىل بني عي�سى ‪..‬‬

‫يف الطريق �إىل بني عي�سى �س�ألني �ص ّديق �إن كنت �أعتقد ب�أن‬
‫مولودها �س ُيولد �سلي ًما بعد كل ما �أ�صابها‪ ،‬زممتُ �شفتي و�أجبتُه ب�أن‬
‫و�صولها ملوعد الوالدة بتلك احلالة املتدهورة �سيكون معجز ًة �أخرى‬
‫يف حد ذاته‪ ،‬ثم �أخربته ب�أنني �س�أذهب بها �إىل العيادة الطبية التي‬
‫كنت �أعمل بها قبل ذهابنا �إىل چارتني‪ ،‬هناك من الأدوات الطبية‬
‫والأع�شاب ما مي ّكنني من االعتناء بها‪ ،‬غري �أن داخلي كان يحمل �سب ًبا‬
‫�آخر مل �أكن لأخربه به ‪..‬‬
‫و�صلنا بعد ع�شرة �أيام �إىل العيادة‪ ،‬ا�ستقبلني �صالح بده�شة كبرية‪،‬‬
‫ظن الفتى �أنني عدتُ �إىل بلدي‪ ،‬وما لبث �أن ا�ستفاق من ده�شته‪،‬‬
‫فح�ضنني مرح ًبا بي‪ ،‬قبل �أن ي�ساعدنا يف حمل دميا و�أغرا�ضها �إىل‬
‫الداخل‪� ،‬أخرب ُته �أنها �ستبقى معنا حتى موعد و�ضعها بعد ثالثة �أ�شهر‪،‬‬
‫مل يعار�ضني‪ ،‬وخا�ص ًة بعدما �أظهرتُ له خم�س قطع ذهبية‪ ،‬و�أ�ضاف‬
‫�ضاح ًكا‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪ ،‬بات لدينا مر�ضى �أخ ًريا‪� ،‬س�أعد لها �سري ًرا بغرفة‬
‫الأع�شاب املجاورة لغرفة الك�شف ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫هم �ص ّديق باملغادرة �إىل وادي الغجر‪ ،‬و�أخربين �أنه �سيعاود‬‫بينما ّ‬
‫حمافظا على وعده يل‬ ‫ً‬ ‫املجيء بني احلني والآخر‪� ،‬س�ألتُه �إن كان‬

‫‪9‬‬
‫ب�إر�شادي �إىل َمن يعرف الطريق �إىل بلدي‪� ،‬أجابني ب�أنه �سيحملني �إليه‬
‫مبجرد �أن ت�أتي دميا بطفلها �إىل احلياة‪ ،‬و�أ�ضاف بل� ٍؤم وهو يع ّد عربته‬
‫من �أجل الرحيل‪:‬‬
‫ على كل منا �أن يفي بوعده �أيها الطبيب ‪..‬‬

‫بكتب طبية قدمية وجد ُتها‬


‫يف خالل تلك الأ�سابيع حاولتُ اال�ستعانة ٍ‬
‫يل كثرية �أبحث بني‬ ‫�أ�سفل �سرير �صالح مغطا ًة بالأتربة‪ ،‬وق�ضيتُ ليا َ‬
‫خلطات من الأع�شاب لع ّلها تفيد دميا‬
‫ٍ‬ ‫�صفحاتها عن طرق ال�ستح�ضار‬
‫وتقلل عدد نوبات مر�ضها‪ ،‬لكن �شي ًئا مل يفلح ‪..‬‬
‫و�أمام رغبتها احلتمية ب�إبقاء حملها قائ ًما ظللتُ مكتوف الأيدي‬
‫�أكتفي فقط مبتابعتها ومتابعة جنينها‪ ،‬بينما تك ّفل �صالح باحلفاظ‬
‫على تغذيتها اجليدة بقدر امل�ستطاع ‪ ..‬الغريب يف الأمر �أن بابنا قد‬
‫ٌ‬
‫مري�ض جديد‪ ،‬وبعد �أيام �أخرى زارنا‬ ‫ُطرق يف ال�شهر الثاين‪ ،‬وزارنا‬
‫مر�ضى �آخرون‪ ،‬وك�أن وجود تلك الفتاة بني جنبات عيادتنا اخلاوية قد‬
‫�أعاد �إليها احلياة‪.‬‬
‫ظل �ص ّديق يرتدد علينا على فرتات‪ ،‬ومع مرور الوقت مل �أ َر يف عينيه‬
‫�أنه بات يهتم بحياة دميا على قدر ما يهتم بحياة الطفل‪� ،‬أخرب ُته �أنني‬
‫ال �أتو ّقع �أي تقدم بحالتها و�إن كانت تعرب الأيام نحو موعد والدتها‪،‬‬

‫‪‬‬
‫‪9‬‬
‫هن�أين بغري اكرتاث على املر�ضى اجلدد‪ ،‬وغادر على �أن يعود بعدها‬
‫ب�أيام ‪..‬‬

‫يف الأ�سبوع الثاين من ال�شهر الثالث فوجئتُ بتح�سن الفتاة ن�سب ًيا‪،‬‬
‫أغي �شي ًئا‬
‫ق ّل معدل النوبات فج�أ ًة وتباعد الوقت بينها رغم �أنني مل � ّ‬
‫من جرعات عالجي‪ ،‬حتى �أن �صالح �أخربين �أنه يو ُد �أن يرك�ض ب�شوارع‬
‫بني عي�سى ليخرب اجلميع �أن الفتاة احلبلى قد حت�سنت ُقبيل موعد‬
‫الوالدة‪ ،‬يومها اقرتبتُ منها‪ ،‬فنظرت �إ ّ‬
‫يل متعبة‪ ،‬وقالت با�سمة‪:‬‬
‫ كنت تريدين �أن �أقتله؟!‬
‫�ضحكتُ وقلتُ ‪:‬‬
‫طب خا�ص بهم ‪..‬‬
‫ يبدو �أن الن�ساىل يحتاجون �إىل ٍ‬
‫�أم�سكت بيدي وقالت‪:‬‬
‫ كنت �أعلم �أنه �سينجو ‪..‬‬
‫ربت على يدها وقلتُ ‪:‬‬
‫ُّ‬
‫ لقد اقرتب موعد و�صوله للغاية ‪..‬‬
‫ف�ضحكت‪ ،‬غري �أن تلك ال�ضحكة مل تبقَ ل ٍ‬
‫أيام كثرية ‪ ..‬فوجئتُ‬
‫مفزوعا‬
‫ً‬ ‫بعدها بثالثة �أيام ب�صالح يوقظني مبنت�صف الليل‪ ،‬ويخربين‬
‫ً‬
‫مهرول �إىل‬ ‫ب�أن نوب ًة �شديدة ت�صيب دميا ‪ ..‬وثبتُ من نومي‪ ،‬و�أ�سرعتُ‬
‫غرفتها‪ ،‬كانت النوبة قد انتهت مع و�صويل �إليها‪ ،‬لكن مالحمي �سرعان‬
‫‪‬‬
‫ما ا�ضطربت حني وجدتُ �صدرها قد توقف عن الهبوط واالرتفاع قبل‬
‫�أن يت�سرب اللون الأزرق �إىل �شفتيها‪.‬‬
‫خطفتُ �سماعتي الطبية‪ ،‬وحاولتُ �سماع دقات قلبها‪ ،‬مل يكن‬
‫هناك �شيء �سوى ال�سكون‪ ،‬نظرتُ بتوتر يف عينها الغائرة ذات احلدقة‬
‫املت�سعة‪ ،‬وحتركتُ بال�سماعة �إىل بطنها‪ ،‬كانت دقات اجلنني ال�سريعة‬
‫ً‬
‫مذهول بعدما ر�أى تعبريات وجهي وحركاتي‬ ‫ال تزال تدق‪� ،‬س�ألني �صالح‬
‫املنفعلة‪:‬‬
‫ ماتت؟!‬
‫مل �أجبه‪ ،‬كنت �أحاول الرتكيز على دقات قلب اجلنني‪ ،‬قبل �أن �أُلقي‬
‫ب�سماعتي �إىل ال�سرير بجانبها‪ ،‬و�أرك�ض �إىل املطبخ الذي يعد به �صالح‬
‫م�سرعا ب�سك ٍني‬
‫ً‬ ‫طعامنا ومنه �إىل غرفة الك�شف املجاورة‪ ،‬و�أعود �إليها‬
‫وعدد من الآالت اجلراحية كنت قد ج ّمعتها يف �إناءٍ واحد قبلها‬ ‫حاد ٍ‬
‫ب�أيام‪ ،‬قال �صالح مذعو ًرا‪:‬‬
‫ ماذا تفعل؟!!‬
‫قلتُ و�أنا �أح ّرك يدي الي�سرى على بطنها الكبرية لأحدد املكان‬
‫الذي �أغر�س فيه طرف �سكيني‪:‬‬
‫ ال يزال اجلنني ح ًيا ‪..‬‬
‫ثم الم�ستُ طرف ال�سكني جللد بطنها مبحاذاة �سبابتي‪ ،‬قبل �أن‬
‫�أ�شق بن�صله طبقاتها طبق ًة وراء الأخرى و�صالح يقف بجانبي ينظر‬
‫�إ ّ‬
‫يل فح�سب‪ ،‬حتى اندفع ال�سائل املحيط باجلنني و�أغرق الفرا�ش من‬
‫‪‬‬
‫�أ�سفلها‪ ،‬ف�أ�سرعتُ بتو�سيع ال�شق الذي �صنعته‪ ،‬و�أبعدتُ طرفيه بيدي‬
‫بقوة‪ ،‬ليظهر اجلنني �أمامنا ‪..‬‬
‫�أخرجتُ اجلنني برفق‪ ،‬وم�سحتُ بيدي ال�سوائل التي تب ّلل ج�سده‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫طرقات خفيفة على ظهره‪ ،‬بينما وا�صل‬‫ٍ‬ ‫ظل �صامتًا للحظات‪ ،‬طرقتُه‬
‫�صالح نظراته احلائرة �إ ّ‬
‫يل و�إىل الطفل‪ ،‬قبل �أن تنفرج �أ�ساريره عندما‬
‫انطلقت �أوىل �صرخات الطفل الباكية ليلتقط معها �أول �أنفا�سه بهذه‬
‫احلياة ‪..‬‬

‫�أ�سرع �صالح بتجفيف ج�سد الطفل وتدفئته‪ ،‬ول ّفه داخل غطاءٍ‬
‫�صويف اعتاد �أن ي�ستخدمه بالأوقات الباردة‪ ،‬بينما مكثتُ �أخ ّيط الطبقة‬
‫اخلارجية من بطن دميا با�ستخدام خيوط طبية �أخربين �صالح �أنها‬
‫ظ ّلت ل�سنوات بخزانة الأع�شاب دون ا�ستخدام‪ ،‬ثم انتهيتُ ‪ ،‬ف�س�ألني‬
‫وهو ينظر �إىل وجه دميا‪:‬‬
‫ كان حت�سنها الأ�سبوع املا�ضي �صحوة املوت؟!‬
‫�شفتي‪:‬‬
‫زاما ّ‬‫قلتُ ً‬
‫ ال �أعرف ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ �س�أذهب يف ال�صباح �إىل �شيخ الوادي لإخباره عن موت الفتاة ‪..‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي‪ ،‬ثم غادرنا غرفة دميا و�صعدنا �إىل غرفتنا بالطابق‬
‫العلوي‪ ،‬قال �صالح وهو ي�ضع الطفل على �سريري �أنه مل ي َر يف جر�أتي‬
‫‪‬‬
‫بعدما اتخذتُ قراري ب�شق بطن الفتاة امليتة‪ ،‬كان غريي ليرتكها‬
‫ويرتك جنينها‪ ،‬قلتُ و�أنا �أتفقد الطفل‪:‬‬
‫  ُكتبت له النجاة فح�سب ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫وتابع‪:‬‬
‫ �سيفرح �ص ّديق بذلك ‪..‬‬
‫ثم تثاءب‪ ،‬وزحف �أ�سفل فرا�شه و�أغم�ض عينيه وك�أن �شي ًئا مل‬
‫يحدث‪� ،‬أما �أنا فجل�ستُ يف �سريري �أنظر �إىل الطفل بجواري‪ ،‬و�أف ّكر يف‬
‫�ص ّديق الذي �سي�صل يف �أي وقت لأخذ الطفل �إىل وادي الغجر ‪ ..‬ثم مر‬
‫وقت ثقي ٌل مل يتوقف به عقلي عن ال�ضجيج‪ ،‬قبل �أن �أنه�ض و�أهبط �إىل‬ ‫ٌ‬
‫غرفة دميا مرة �أخرى ‪..‬‬
‫�أ�شعلتُ امل�صباح الزيتي‪ ،‬وقربتُه من �سريرها‪ ،‬ثم ك�شفتُ بطنها‬
‫ليظهر جرحها الكبري �أمامي‪ ،‬ثم بد�أتُ �أزيل الغرز اجلراحية التي‬
‫قمت بخياطتها قبل �ساعة واحدة‪ ،‬و�أبعدتُ بيدي حافتي اجلرح لأ�صنع‬
‫بينهما فجو ًة كبرية ‪..‬‬
‫ثم �سحبتُ الفرا�ش املل ّوث بالدماء وماء اجلنني من �أ�سفلها‪،‬‬
‫وجذبتُ و�سادة �صغرية كانت بجوارها‪ ،‬وا�ستخدمتُ املق�ص اجلراحي‬
‫لتمزيقها و�إخراج ح�شوها املُك ّون من قطع قما�شية قدمية‪ ،‬ثم ك ّور ُتها‬

‫‪‬‬
‫مع الفرا�ش لأ�صنع كرة قما�شية ذات حجم منا�سب‪ ،‬وو�ضعتُها بداخل‬
‫جتويف بطن الفتاة‪ ،‬وهم�ستُ �إليها و�أنا �أقوم بح�شرها‪:‬‬
‫عليك وعلى‬
‫ �ساحميني �أيتها الفتاة‪� ،‬أعطيتُك وعدً ا باحلفاظ ِ‬
‫طفلك ‪ ..‬مل �أ�ستطع �إنقاذك‪ ،‬لكن هناك فر�صة لإنقاذ طفلك ‪..‬‬
‫حافتي ال�شق البطني‪ ،‬وقمتُ بخياطته من جديد لتعود‬ ‫ّ‬ ‫ثم قربتُ‬
‫البطن �إىل حجمها الكبري كما كانت ُقبيل موتها‪ ،‬ثم �ألب�ستها ثو ًبا‬
‫نظي ًفا كان بني �أغرا�ضها‪ ،‬وحملتُها �إىل غرفة الك�شف املجاورة‪ ،‬وهناك‬
‫لففتُها مبالءة بي�ضاء ‪ ..‬ثم �صعدتُ �إىل غرفتي‪ ،‬وجل�ستُ على �سريري‬
‫�أنظر �إىل �صالح النائم و�أنا �أحاول متالك �أع�صابي‪ ،‬ثم هم�ستُ �إليه‬
‫كي ي�ستيقظ‪ ،‬تعجب مني‪ ،‬و�س�ألني يف تذمر بعني ن�صف مغلقة �إن كان‬
‫خطب ما ‪ ..‬قلتُ ‪:‬‬
‫هناك ٌ‬
‫ حني تذهب �إىل �شيخ الوادي ال تخربه ب�أن هناك ً‬
‫طفل قد ُولد‬
‫‪..‬‬
‫فرك عينه وت�ساءل با�ستغراب‪:‬‬
‫ ملاذا؟!‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ �أخربه فقط �أن الفتاة قد ماتت قبل و�ضعها ‪..‬‬
‫فاعتدل يف جل�سته وحاول �أن يج ّمع ما �أقوله له‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬
‫ ال �أريد �أن يعرف �أحد ب�أن جنني دميا قد جنا ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ لكن �ص ّديق �سي�أتي لأخذه ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ �سنخرب �ص ّديق بذلك � ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬ماتت الفتاة وجنينها ‪..‬‬
‫فنظر �إ ّ‬
‫يل و�سكت ثم قال‪:‬‬
‫ ال �أعلم ما الذي تف ّكر به‪ ،‬لكن �إن مل يح�صل �ص ّديق على الطفل‬

‫‪9‬‬
‫لن يد ّلك على َمن ير�شدك �إىل بلدك ‪..‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬وقلتُ ‪:‬‬
‫ �أعرف ذلك‪ ،‬لكني لن �أترك هذا الطفل ل ُيباع للغجر‪.‬‬

‫‪‬‬
‫«غفران»‬

‫�ساعدنا الطبيب الذي ظهر لنا فج�أة باحلانة يف ت�ضميد بع�ض‬


‫احلاالت‪ ،‬ثم ت�أكد من تعلمي �أنا وريان كيفية تنظيف اجلروح‬
‫�شاب �آخر �إىل جوار الوادي‪ ،‬وقال �أنه‬
‫واحلروق‪ ،‬فرتكنا وذهب مع ٍ‬
‫�سيبحث عن بع�ض الأع�شاب التي قد تفيد املر�ضى وخا�صة الذين‬
‫�أُ�صيبوا باالختناق‪..‬‬
‫أنواعا‬
‫ثم عاد �إلينا بعد منت�صف النهار‪ ،‬و�أخرج من حقيبته � ً‬
‫خمتلفة من الأع�شاب‪ ،‬وقام مب�ضغ كل ع�شب على حدة قبل �أن يخلطها‬
‫أوان �صغرية �أح�ضرها له فتى احلانة‪ ،‬ثم تنقل بني‬ ‫باملاء داخل � ٍ‬
‫توجه �إىل‬ ‫املر�ضى‪ ،‬وناول ً‬
‫كل منهم مقدا ًرا �صغ ًريا من �إحداها‪ ،‬ثم ّ‬
‫وفك ال�ضمادات التي و�ضعناها �أنا وريان‪ّ ،‬‬
‫ولطخ اجلروح‬ ‫امل�صابني‪ّ ،‬‬
‫ب�أع�شابه املهرو�سة‪ ،‬ثم �ضمدها من جديد‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �ست�ساعد هذه الأع�شاب على تقليل الأمل والتئام اجلروح ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫مل نقل �شي ًئا‪ ،‬تركناه يفعل ما يراه‪ ،‬حتى انتهى‪ ،‬فجل�س قبالتنا‪ ،‬كان‬
‫ال�صمت واحلزن يخيمان علينا جمي ًعا‪ ،‬ظل م�شهد احلريق ومالمح‬
‫اخلوف املنطبعة على وجوه الن�ساىل ي�سيطرون على كل تفكريي‪ ،‬ثم‬
‫نطق ريان مقاط ًعا ل�صمتنا‪:‬‬
‫ �شك ًرا �أيها الطبيب كنا يف حاجة ما�سة �إليك ‪..‬‬
‫قال الطبيب يف توا�ضع كبري‪:‬‬
‫ مل �أفعل �شي ًئا ‪� ..‬سيكونون بخري جميعهم ‪..‬‬
‫�صمتنا مر ًة �أخرى‪ ،‬حتى حتدث ريان جمددًا‪:‬‬
‫ ما الذي عاد بك �إىل هنا؟! ‪ ..‬هل حدث مكروه لدميا؟!‬
‫قال الطبيب يف حزن بعدما ز ّم �شفتيه‪:‬‬
‫ لقد ماتت دميا منذ �سنوات طويلة ‪..‬‬
‫و�أردف‪:‬‬
‫ يف العام الذي رحلنا به ‪..‬‬
‫انتبهتُ حلظتها �إىل حديثهما‪ ،‬و�أكمل الطبيب‪:‬‬
‫ بلغ مر�ضها حدً ا �سي ًئا للغاية مع حملها ‪� ..‬أخرب ُتها �أنها يف‬
‫حفاظا على حياتها‪ ،‬لكنها‬ ‫حاجة �ضرورية �إىل �إنزال اجلنني ً‬
‫يوما بعد يوم‪ ،‬حتى‬ ‫رف�ضت �أن جته�ضه ‪ ..‬ظلت حالتها ت�سوء ً‬
‫فارقت احلياة قبل �أيام من موعد والدتها ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫كفي‪،‬‬
‫كانت الدموع قد ظهرت بعني ريان‪ ،‬فو�ضعتُ ر�أ�سي بني ّ‬
‫حزن �إىل الطاولة �أمامي‪ ،‬قبل �أن يت�ساءل �إىل الطبيب‬
‫ونظرتُ يف ٍ‬
‫ب�صوت يخنقه الدموع‪:‬‬
‫ ملاذا مل ِترد الت�ضحية بجنني ميت؟!‬
‫قال الطبيب ب�صوت هادئ‪:‬‬
‫ مل يكن ميتًا ‪..‬‬
‫�س�أله ريان على الفور يف تعجب‪:‬‬
‫غفران �آخر خالف اليوم الذي‬
‫ٍ‬ ‫ هل جاءت �إىل الباحة بيوم‬
‫جئتم به؟!‬
‫قال الطبيب‪:‬‬
‫ ال‪.‬‬
‫و�صمت بره ًة‪ ،‬ثم تابع‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫روحا جلنينها ‪..‬‬
‫يوم كنا هنا �أنها قد ح�صدت ً‬
‫ �أخفت دميا عنك َ‬
‫حلظتها رفعتُ �إليه عيني يف ذهول‪ ،‬وح ّدق به ريان كذلك‪ ،‬قبل �أن‬
‫يل وينظر يف عيني‪ ،‬وك�أن عقولنا قد ع�صفت بال�شيء‬ ‫يح ّرك عينه �إ ّ‬
‫ذاته‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)24‬‬

‫نطق ريان يف لهف ٍة مبا مل ا�ستطع النطق به‪:‬‬


‫ ح�صدت دميا روح ال�سيد ندمي جلنينها؟!‬
‫قال الطبيب‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫و�أردف‪:‬‬
‫ �أخربتني يومها �أن الكثريين وخا�ص ًة �أنت يحبون �صاحب الروح‬
‫كث ًريا‪ ،‬وخافت �أن مينعها �أحدكم من مغادرة الوادي ‪..‬‬
‫كان الذهول ي�سيطر على وجهينا‪ ،‬لكن ريان مل ي�ستطع متالك‬
‫�أع�صابه‪ ،‬وركل مقعدً ا �أمامه بقدمه و�صرخ‪:‬‬
‫ ملاذا فعلت ذلك؟!‬

‫‪‬‬
‫ثم حمل املقعد وقذفه � ً‬
‫أر�ضا فته�شم‪ ،‬قبل �أن يلتفت �إىل الطبيب يف‬
‫ترقب حني تابع حديثه يف هدوء وقال‪:‬‬
‫ متكنتُ من �إنقاذ الطفل بعد موتها ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫و�س�أله وهو يح ّدق به‪:‬‬
‫ �أين هو؟!‬

‫‪‬‬
‫«فاضل»‬

‫كنتُ �أقف على باب غرفة الك�شف عندما �س�ألني �ص ّديق وهو‬
‫يتفح�ص وجه جثة دميا‪:‬‬
‫ كيف حدث ذلك؟!‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نوب ٌة قوية من الت�شنجات مل ُ‬
‫تنج منها ‪..‬‬
‫نظر �إىل ج�سدها امللفوف باملالءة و�إىل انبعاج بطنها نظر ًة مطولة‪،‬‬
‫ثم غطى وجهها‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ هل �أبلغتم �شيخ الوادي؟‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬ذهب �صالح لإبالغه ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫هز ر�أ�سه مت�أث ًرا وقال‪:‬‬
‫ كادت تفعلها ‪..‬‬
‫اوم�أتُ بر�أ�سي‪ ،‬ثم قلتُ ‪:‬‬
‫ �سيتوىل �صالح �أمر دفنها مبقابر هذا الوادي ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ افعلوا ما �شئتم ‪..‬‬
‫وهم ليغادر‪ ،‬قلتُ ‪:‬‬
‫ّ‬
‫ �أريدك �أن تر�شدين �إىل َمن ي�صحبني �إىل بالدي ‪..‬‬
‫قال ما كنت �أتوقعه‪:‬‬
‫ كان عليك �أن تفي بوعدك ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ تعلم �أنه مل يكن بيدي �شيء ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫وا�ضحا‪� ،‬أن تعتني بها وبطفلها مقابل �أن‬
‫ً‬ ‫ كان وع ُد دميا لك‬
‫�أر�شدك �إىل َمن يعود بك �إىل بلدك ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫قلتُ يف تربم �ساخر‪:‬‬
‫ ال وعد للغجر ‪..‬‬
‫نظر �إ ّ‬
‫يل نظر ًة غا�ضبة �شعرتُ معها �أنه قد يلكمني‪ ،‬لكنه غمغم‬
‫بكلماته‪ ،‬و�أكمل طريقه مغادًرا ‪ ..‬ف�أغلقتُ الباب من خلفه‪ ،‬وتنف�ستُ‬
‫بوقت قليل عاد �صالح من اخلارج‪ ،‬و�س�ألني على‬‫ال�صعداء ‪ ..‬بعدها ٍ‬
‫الفور‪:‬‬
‫ هل �أتى �ص ّديق؟!‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ماذا قال؟!‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ ال �شيء‪ ،‬عرف �أن دميا وجنينها قد ماتا‪ ،‬وتركني وغادر‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ مل ي�شك ب�شيء؟!‬
‫اوم�أتُ بر�أ�سي ناف ًيا‪ ،‬وقلتُ ‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ هل وجدت املر�أة التي �أخربتني عنها؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫كان �صالح قد �أخربين يف �ساعة مبكرة من اليوم عن امر�أة و�ضعت‬
‫طفل منذ �شهر بوادي جماور من وديان بني عي�سى غري وادي الغجر‪،‬‬ ‫ً‬
‫وقد توافق على �إر�ضاع الطفل مقابل ب�ضع ٍة من القطع الذهبية‪� ،‬أردف‪:‬‬
‫ �أخربتها �أن �أمه قد ماتت و�أن �أباه من �أر�سلني �إليها‪ ،‬و�أعطيتُها‬
‫القطع الذهبية التي �أعطيتها �إ ّ‬
‫يل‪� ،‬س�ألتني عن ا�سمه‪ ،‬مل �أد ِر ما‬
‫�أقول‪ ،‬فقلتُ «�آدم» ‪..‬‬
‫ابت�سمتُ ‪ ،‬فتابع‪:‬‬
‫ و�أخربتُ �شيخ الوادي عن موت الفتاة وجنينها كما �أخربتني‬
‫‪� ..‬سري�سل من ي�ساعدين بنقلها �إىل مقابر الوادي قبل غروب‬
‫ال�شم�س ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ خري ما فعلت ‪..‬‬
‫قال وهو يجل�س لي�سرتيح‪:‬‬
‫ �ستبقى بوادينا � ًإذا؟!‬

‫‪‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ يبدو �أنه قدري ‪..‬‬
‫ثم تابعتُ ‪:‬‬
‫ على كل حال‪� ،‬صار لدينا عد ٌد جيد من املر�ضى‪ ،‬ي�ستحقون �أن‬
‫�أبقى من �أجلهم ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ والطفل؟!‬
‫فكرتُ ً‬
‫قليل‪ ،‬ثم قلتُ ‪:‬‬
‫ ال �أعلم بعد‪ ،‬لكنه �سيبقى لدى املر�أة حتى يتم ر�ضاعته على �أقل‬
‫تقدير‪ ،‬ال �أحد يعلم بعدها ماذا قد يحدث ‪..‬‬
‫وتابعتُ يف تردد‪:‬‬
‫ رمبا �آخده معي �إن �سنحت يل فر�ص ٌة للعودة �إىل بالدي ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ لي�س لديك خطة وا�ضحة ب�شانه � ًإذا؟‬
‫قلتُ واج ًما و�أنا �أنظر نحو ج�سد �أمه املُغطى‪:‬‬
‫لدي‪.‬‬
‫ نعم‪ ،‬ال خطة ّ‬

‫‪‬‬
‫مرت �أيام �أخرى كثرية‪ ،‬تزايد خاللها عدد املر�ضى �أكرث و�أكرث‬
‫ب�صور ٍة مل �أكن �أتوقعها‪ ،‬و�صرتُ �أنال ً‬
‫مقابل جيدً ا للغاية‪ ،‬خ�ص�صتُ‬
‫منه جز ًءا لل�سيدة التي تو ّلت تربية الطفل ‪ ..‬وبني ح ٍني و�آخر كنت‬
‫وا�ضحا للغاية مع نف�سي‪،‬‬
‫ً‬ ‫�أتردد �إليها من �أجل االطمئنان عليه ‪ ..‬كنتُ‬
‫�أنني مل �أكن �أ�ستطيع االعتناء به كما وجدتُ تلك املر�أة تفعل‪ ،‬فعر�ضتُ‬
‫عليها �أن تكمل تربيته بعد �إمتام ر�ضاعته مقابل ا�ستمرار ما �أدفعه‬
‫لها‪..‬‬
‫مع مرور الأيام زادت ثقة الكثريين من �أهل الوديان بي‪ ،‬و�صرتُ‬
‫معرو ًفا بينهم بطبيب الوادي‪ ،‬ومع ذلك مل �أجد قط من يوافق على‬
‫ا�صطحابي �إىل ال�سكة احلديدية‪ ،‬حتى �أدركتُ نهاية املطاف �أنني‬
‫�س�أق�ضي حياتي هناك ‪..‬‬
‫مل �أ َر �ص ّديق منذ �آخر مرة ر�أيتُه فيها‪ ،‬وترك �صالح املعي�شة معي‬
‫ببيت �صغري جماور‪ ،‬وبات يرتدد على العمل نها ًرا فقط ‪..‬‬ ‫وتزوج ٍ‬
‫�أما �أنا فمكثتُ �أق�ضي �أيامي بني املر�ضى والوادي املجاور مع �آدم ‪..‬‬
‫كانت ُمربيته امر�أ ًة �صاحلة‪ ،‬لطاملا جل�ستُ معها نتحدث ب�ش�أنه‪ ،‬كانت‬
‫حتدثني دائ ًما عن رف�ضه الت�أقلم مع باقي �أطفالها‪ ،‬وعن ذلك احلزن‬
‫املدفون الذي تراه يف �أعينه‪� ،‬أو كما كانت تقول؛ �شعور دائم بالغربة‬
‫ُيغ ّلف كل �أفعاله رغم �صغر �سنه ‪..‬‬
‫كنت �أخربها كل مرة �أن موعد ا�ستعادته منها قد اقرتب‪� ،‬أيا ٌم‬
‫قليلة فح�سب‪ ،‬لكن الأيام �صارت �شهو ًرا‪ ،‬وتال�صقت ال�شهور و�صارت‬
‫‪‬‬
‫�سنوات‪ ،‬لأجده قد بلغ التا�سعة من عمره يف غم�ضة عني‪ ،‬دون �أن يعرف‬
‫ٍ‬
‫داخلي �أبدً ا خطوتي اجلديدة ب�ش�أنه ‪..‬‬
‫�إىل �أن جاء ذلك اليوم حني دلفت �إىل العيادة فتا ٌة مري�ضة كانت‬
‫تعاين من �أ ٍمل حاد ببطنها‪ ،‬وعندما �شرعتُ يف فح�صها توقفتُ �شاردًا‬
‫بعدما ملحتُ ذلك الو�شم على كتفها الأي�سر‪ ،‬وقلتُ متعج ًبا‪:‬‬
‫  ن�سلية؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫  نعم ‪..‬‬
‫�أخرب ُتها �أنني زرتُ چارتني من قبل‪� ،‬س�ألتني عن �سبب زيارتي‪ ،‬مل‬
‫�أخربها عن دميا‪ ،‬وقلتُ �أنها كانت زيارة من �أجل الإطالع فح�سب‪،‬‬
‫حتدثنا عن الن�ساىل‪ ،‬قالت يف فرحة ب�أن تغي ًريا كب ًريا قد حدث بني‬
‫فتيان وفتيات الن�ساىل خالل ال�سنوات القليلة املا�ضية بعد قدوم ما‬
‫�أ�سمتها ال�سيدة غفران �إىل واديهم ‪ ..‬و�أنها مل ت� ِأت �إىل بني عي�سى �إال‬
‫بع�ض من ب�ضائعهم‪ ،‬لكنها �شعرت ب�أ ٍمل مفاجئ ف�أخربتها‬ ‫من �أجل بيع ٍ‬
‫امر�أ ٌة عني‪� ،‬س�ألتُها و�أنا �أحاول تذ ّكر ا�سمه‪:‬‬
‫ هناك �شاب ٌي�سمى ريان‪ ،‬ما زال على قيد احلياة؟!‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ نعم‪ ،‬م�ساعد ال�سيدة‪� ،‬إنه �أكرثنا براع ًة يف تعليم ال�صغار‬
‫القراءة والكتابة ‪..‬‬
‫ابت�سمتُ يف ده�شة‪ ،‬وقلتُ ‪:‬‬
‫عاما‬
‫ قابلتُه من قبل‪ ،‬كان وقتها يبلغ خم�سة ع�شر �أو �ستة ع�شر ً‬
‫‪ ..‬لكني مل �أتوقع �أنه ال يزال على قيد احلياة‪ ،‬لطاملا �سمعتُ �أن‬
‫القليلني من فتيان الن�ساىل من ي�ستطيعون النجاة من من�صة‬
‫چارتني بعد بلوغهم ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫�شاب �صالح‪ ،‬اجلميع يحبونه هناك ‪..‬‬
‫ �إنه ٌ‬
‫كدتُ �أخربها يف تلك اللحظة عن طفل دميا‪ ،‬لكني �أم�سكتُ بل�ساين‬
‫وتراجعتُ ‪ ،‬مل �أكن �أمتلك الثقة الكاملة بها لكونها ن�سلية ‪ ..‬وتركتُها‬
‫تغادر بعدما انتهينا‪ ،‬ثم وقفتُ بالنافذة �أراقبها وهي ت�سري جتاه فتاتني‬
‫أحمال ُمغطاة بالقما�ش فوق ر�ؤو�سهن‪ ،‬ثم‬ ‫�آخرتني كانتا حتمالن � ً‬
‫يل �صالح يخربين ب�أن هناك‬ ‫حملت هي الأخرى ِحملها‪ ،‬وقتها دلف �إ ّ‬

‫‪9‬‬
‫ً‬
‫مري�ضا �آخر يف انتظاري ‪ ..‬مل �أنتبه �إىل ما يقوله‪ ،‬وظللتُ �شاردًا و�أنا‬
‫�أراقب الفتيات وهن يبتعدن‪ ،‬حتى غنب عن نظري‪ ،‬فتعجب حني طال‬
‫فالتفت �إليه‪ ،‬وقلتُ ‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫خطب ما‪،‬‬
‫�شرودي‪ ،‬و�س�ألني �إن كان هناك ٌ‬
‫ �س�أعود ب�آدم �إىل چارتني ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫د ّلني �صالح �إىل �أحد الرجال الذي ا�صطحبني �أنا و�آدم �إىل �شاطئ‬
‫بحر �أكما‪ ،‬وهناك ركبنا ال�سفينة املتجهة �إىل چارتني كما فعلتُ مع �أمه‬
‫و�ص ّديق قبل ت�سع �سنوات ‪ ..‬كانت املرة الأوىل التي �أبقى بها مع الطفل‬
‫ملدة طويلة‪ ،‬مل يكن يتحدث كث ًريا‪ ،‬فرتكته يتج ّول على �سطح ال�سفينة‪،‬‬
‫وبقيتُ �أراقبه من بعيد ‪..‬‬
‫كانت ال�سفينة حتمل الكثري من امل�سافرين‪ ،‬وكان اجلميع يرتدون‬
‫ثيا ًبا متقاربة‪ ،‬فلم �أ�ستطع تفريق �أهل چارتني عن الن�ساىل‪ ،‬غري �أنني‬
‫ملحتُ الفتاة الن�سلية التي جاءتني مري�ض ًة قبل �أ�سبوعني‪ ،‬وحني ر�أتني‬
‫اقرتبت مني متعجبة‪ ،‬و�س�ألتني عن �سبب ذهابي‪� ،‬ضحكتُ و�أخرب ُتها‬
‫كاذ ًبا �أنني �أود الذهاب بطفلي �إىل چارتني من �أجل م�شاهدة يوم‬
‫الغفران ‪ ..‬حتدثنا كث ًريا‪ ،‬حدثتني بتفا�صيل �أكرث عما يدور داخل وادي‬
‫الن�ساىل يف تلك الأيام‪ ،‬وعن ان�صراف �أغلبية الفتيات عن ممار�سة‬
‫الرذيلة‪ ،‬ثم �أح�ضرت يل بع�ض الب�ضائع التي مل تتمكن من بيعها لت�ؤكد‬
‫كالمها‪ ،‬وددتُ لو ا�شرتيتُ منها‪ ،‬لكني مل �أكن يف حاجة �إىل �أي �شيء‬
‫مما تبيعه ‪..‬‬
‫�أتذكر حني عربنا مبحاذاة جدار چارتني العظيم قامت هي َومن‬
‫معها من فتيات الن�ساىل بك�شف �أكتافهن لتبدو �أوا�شمهن ظاهر ًة‬
‫للغاية‪ ،‬كما قام الفتيان بخلع ُ�سرتهم‪ ،‬لتظهر �أو�شام �صدورهم ‪ ..‬يف‬
‫تلك اللحظة فقط ا�ستطعت معرفة َمن هم الن�ساىل من امل�سافرين‪،‬‬
‫َومن هم غري ذلك‪ ،‬قلتُ لآدم بعدما ر�أيته يح ّدق �شاردًا نحو اجلدار‪:‬‬

‫‪‬‬
‫ �إنه بلدك ‪..‬‬
‫وا�صل نظراته �إىل اجلدار ك�أنه مل ي�سمعني ‪ ..‬ثم ظهرت يف اليوم‬
‫التايل بيوت القرية اجلنوبية واجلبال احلمراء املط ّلة على البحر حني‬
‫اقرتبنا من امليناء اجلنوبي‪ ،‬وملا ر�ست ال�سفينة كانت حالة الهرج واملرج‬
‫�شديد ًة للغاية ب�سبب التزاحم الكثيف ‪ ..‬ف�أم�سكتُ ِ‬
‫بيد الطفل جيدً ا‪،‬‬
‫وهبطنا بحذ ٍر �إىل الزحام الذي ينتظرنا‪ ،‬وبينما كنتُ �أتلفت لأبحث‬
‫بعيني عن الفتاة الن�سلية كي �أخربها يف تلك اللحظة �أنني �س�أذهب‬
‫ي�صم �آذاننا ‪..‬‬
‫معها �إىل وادي الن�ساىل‪ ،‬فوجئتُ ب�صوت البارود و�صداه ّ‬
‫�ضابط �شاب من �ضباط الأمن ي�ص ّوب �سالحه الناري �إىل‬‫ٌ‬ ‫كان‬
‫ال�سماء‪ ،‬ويطلق طلقاته واحدة تلو الأخرى دون توقف‪ ،‬فهد�أ �ضجيج‬
‫املتزاحمني وقتها ‪ ..‬توقعتُ مما يحدث �أمامي �أن هناك من ُ�سرق‬
‫ماله‪ ،‬ومن ّثم �سيبد�أ ذلك ال�ضابط ومن معه بتفتي�ش امل�سافرين ‪ ..‬يف‬
‫هذه اللحظة ملحتُ الفتاة‪ ،‬كانت تقف على بعد �أمتار مني‪ ،‬تنظر نحو‬
‫ال�ضابط ويرت�سم اخلوف على وجهها‪ ،‬ثم تقدمنا ً‬
‫قليل �إىل الأمام ‪..‬‬
‫الحظتُ �أن ال�ضابط ي�سمح مبرور �أ�شراف چارتني دون تفتي�ش‬
‫وي�ستوقف الن�ساىل فقط‪ ،‬قبل �أن ي�صفع وجه الن�سلي الذي ي�ستوقفه‬
‫بعنف �شديد‪ ،‬و�إن رفع ر�أ�سه ال‬
‫حتى يجثو �أمامه‪ ،‬ثم يقوم بتفتي�شه ٍ‬
‫يت�أخر عن �ضربه بع�صا ٍة ق�صرية كان مي�سك بها‪� ،‬أو ركل ج�سده بقوة‪..‬‬
‫ظ ّل يفتّ�ش الن�ساىل واحدً ا تلو الآخر دون �أن ُيبدي � ٌأي منهم‬
‫اعرتا�ضه على الطريقة املهينة التي ي�ستخدمها‪ ،‬ثم جاء دور الفتاة‪،‬‬

‫‪‬‬
‫جثت على ركبتيها بينما قام ال�ضابط بتفتي�شها‪ ،‬وحني رفعت عينها‬
‫�إليه �أم�سك ب�شعرها بقوة‪ ،‬وقام ب�صفع وجهها �صفع ًة �أجفل معها‬
‫ج�سدي من �شدتها‪ ،‬ثم كرر الأمر دون �أي مربر ‪ ..‬جال يف ذهني‬
‫وقتها �أنه يقوم بت�أديبهم بعدما و�شى عليهم �أحد الأ�شراف لأنهم �أخفوا‬
‫�أو�شامهم خارج چارتني‪ ،‬لكنها كانت جمرد �أفكار بر�أ�سي ‪..‬‬
‫وا�صل ال�ضابط �صفعه للفتاة حتى �سالت الدماء من وجهها دون‬
‫�أن يتحرك �أي �أحد للدفاع عنها‪ ،‬بقي اجلميع يف �أماكنهم ينتظرون‬
‫دورهم‪ ،‬حتى فوجئنا جمي ًعا بذلك احلجر الذي ُ�صوب بقوة ودقة‬
‫بالغتني جتاه وجه ال�ضابط‪ ،‬فهبط على ركبتيه ُم�س ًكا ب�أنفه يف ت� ّ ٍأل‬
‫وا�ضح‪ ،‬بينما بد�أت الدماء تن�ساب دون توقف من بني �أ�صابعه ‪ ..‬ثم‬
‫رفع عينيه الناقمتني جتاهي‪ ،‬مل يكن ينظر �إ ّ‬
‫يل ‪..‬‬
‫كان ينظر �إىل �آدم الذي وجد ُته قد ترك يدي‪ ،‬ووقف على ُبعد‬
‫حتد‬
‫خطوتني مني يحمل حج ًرا �آخر‪ ،‬وينظر مت�أه ًبا نحو ال�ضابط يف ٍ‬
‫�شديد‪ ،‬قبل �أن ي�صرخ ال�ضابط غا�ض ًبا‪ ،‬وينه�ض لريك�ض بع�صاه جتاه‬
‫�آدم‪ ،‬ومعه بع�ض ال�ضباط الآخرين‪ ،‬ف�ص ّوب الطف ُل حجره الثاين نحوه‪،‬‬
‫ثم رك�ض مبتعدً ا �إىل الزحام ‪..‬‬
‫وبينما ط ّوقنا عد ٌد من رجال الأمن الآخرين و�أرغمونا على‬
‫اجللو�س مقرف�صني وا�ضعني �أيادينا فوق ر�ؤ�سنا‪ ،‬ظللتُ �أنظر �إىل‬
‫الطفل وهو يرك�ض بني املتزاحمني ويراوغ �ضباط الأمن واحدً ا وراء‬
‫الآخر يف براعة �شديدة دون �أن ي�ستطيع �أح ٌد الإم�ساك به‪ ،‬حتى اختفى‬
‫‪‬‬
‫عن نظري‪ ،‬فوقفتُ بني اجلال�سني لر�ؤيته‪ ،‬فقام �أحد ال�ضباط ب�ضربي‬
‫ركبتي جمددًا‪ ،‬لكني وا�صلتُ وقويف‬
‫ّ‬ ‫بع�صاه بغلظة كي �أهبط على‬

‫‪9‬‬
‫وحتديقي نحو �آدم وهو يوا�صل مراوغته لل�ضباط‪ ،‬حتى ابتعد عن‬
‫�أقرب ال�ضباط �إليه مب�سافة كافية‪ ،‬ليكمل رك�ضه مبتعدً ا دون �أن يلتفت‬
‫خلفه ‪ ..‬وقتها �أيقنتُ �أن ذلك الطفل قد وجد موطنه �أخ ًريا‪.‬‬

‫‪‬‬
‫(‪)25‬‬
‫«غفران»‬

‫�أكمل �إلينا الطبيب ب�أنه ُاعتقل بني كث ٍري من الن�ساىل بعدما مل يتمكن‬
‫الظباط من اللحاق بالطفل‪ ،‬وكعادة املعتقلني ُقبيل �أيام الغفران‪ ،‬مل‬
‫يكن ل ُينظر يف �أمرهم حتى االنتهاء من مرا�سمها‪ ،‬ثم �أُطلق �سراحه‬
‫يف اليوم الثاين من يوم الغفران لكونه غري ن�سلي‪ ،‬وجاء �إلينا ليخربنا‬
‫آمل �أن يجده قد عرف طريقه �إلينا‪� ،‬س�أله ريان‪:‬‬ ‫ب�أمر ذلك الطفل � ً‬
‫ هل كان يحمل و�ش ًما؟‬
‫�أجاب الطبيب‪:‬‬
‫ ال ‪..‬‬
‫�س�أله جمددًا‪:‬‬
‫ هل حدثته عن كونه ن�سلي؟!‬

‫‪‬‬
‫قال الطبيب مرة �أخرى‪:‬‬
‫ ال ‪..‬‬
‫ف�أخرج ريان زفريه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ فقدناه للأبد ‪..‬‬
‫كنتُ �أ�ستمع �إليهما فح�سب‪ ،‬مل �أ�ستطع �أن �أنطق ب�شيء‪ ،‬ما كان‬
‫يجول يف ذهني هو �شيء واحد فقط‪� ،‬أن ذلك الطفل هو نف�سه الطفل‬
‫الذي ر�أيتُه يت�شبث بقائم الباحة‪ ،‬لكني نظرتُ �إىل الطبيب وقلتُ يف‬
‫النهاية و�أنا �أحاول �أن �أظهر ثباتي �أمامهما‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ �أريدك �أن تبقى بيننا حتى يكتمل �شفاء امل�صابني‪ ،‬لن ير�ضى‬
‫�أي طبيب چارتيني باملجيء �إىل هنا‪� ،‬أ�ستطيع �أن �أو ّفر لك‬
‫ً‬
‫مقابل عن املدة التي تبقى بها بيننا ‪..‬‬
‫فنظر �إىل امل�صابني الراقدين‪ ،‬وهز ر�أ�سه مواف ًقا‪.‬‬

‫كوخا بجوار احلانة للمبيت به‪ ،‬وكذلك فعل‬ ‫د ّبر ريان للطبيب ً‬
‫يل‪ ،‬مل نتحدث كث ًريا تلك الليلة عما حدث لأكواخنا‪ ،‬و�آثرتُ �أن نخلد‬
‫�إىل الراحة ليلتها بعدما �أ�صاب الإجهاد جميعنا‪ ،‬وتركتُهم و�أويتُ �إىل‬
‫فرا�شي ‪ ..‬مل ميهل حديث الطبيب لعقلي وقتًا كي �أف ّكر مبا حدث لكوخي‬
‫ي�ضج م�ضطر ًبا بكل كلمة نطق بها‪� ،‬إىل‬
‫والأكواخ املجاورة‪ ،‬ظل تفكريي ّ‬
‫أمل زائف‪ ،‬الطفل وقد ُفقد‪ ،‬و�إن‬‫�أن حدثتني نف�سي ب�أال �أتعلق كث ًريا ب� ٍ‬
‫‪‬‬
‫عاد �إلينا لن يتذكر �شي ًئا‪ ،‬مثله مثل الن�ساىل‪ ،‬هم �أنا�س خمتلفون ً‬
‫متاما‬
‫واحد منهم حياته اجلديدة التي ن�ش�أ‬
‫عن �أ�صحاب الروح القدمية‪ ،‬لكل ٍ‬
‫عليها‪.‬‬
‫متنيتُ لو قبل الطبيب �أن يبقى بيننا مد ًة �أطول‪ ،‬ال من �أجل املر�ضى‬
‫فح�سب‪ ،‬كان داخلي يو ُّد �أن يقول ب�أنه الوحيد الذي يعرف الطفل‪ ،‬لكني‬
‫مل �أكن لأجر�ؤ ب�أن �أطالبه بذلك الأمر �صراح ًة ‪ ..‬ثم غلبني النوم‪ ،‬ومل‬
‫�أ�ستيقظ �إال مع ظهرية اليوم التايل‪ ،‬لأجد ناردين يف انتظاري ‪..‬‬
‫تعجبتُ من تركها يل نائمة كل ذلك الوقت‪ ،‬قالت �أنها وجدتني متعبة‬
‫للغاية‪ ،‬ومل ت�ش�أ �أن تزعجني ‪..‬‬
‫توجهتُ الح ًقا �إىل ريان‪ ،‬كان هو والطبيب يتفقدان �أماكن احلريق‪،‬‬
‫ّ‬
‫بينما يقوم باقي فتيان وفتيات الن�ساىل ب�إخالء الأر�ض من البقايا‬
‫املحرتقة ‪ ..‬ثم تركنا ريان وان�ضم �إليهم‪ ،‬وبقي الطبيب بجواري‪ ،‬قال‪:‬‬
‫يديك ‪..‬‬
‫ �سمعتُ كث ًريا عما دار يف هذا الوادي على ِ‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ �إنهم ي�ستحقون حياة �أف�ضل مما كانوا يعي�شونها ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ ر�أيتُ معاناتهم على �أيدي �ضباط الأمن بامليناء اجلنوبي‪،‬‬
‫وكذلك بني جدران ال�سجن عندما ُاعتقلتُ لأيام‪ ،‬ثم قال وهو‬
‫ينظر �إىل �آثار احلريق‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �شرفاء چارتني من فعلوها؟!‬
‫هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫توقعت �أن يحدث ذلك؟‬
‫ هل ِ‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫و�أردفتُ ‪:‬‬
‫ ق ّل عدد مرتكبي اجلرائم من الن�ساىل ب�صور ٍة ملحوظة‪ ،‬وق ّل‬
‫معه �إعدامات يوم الغفران‪ ،‬كانت تلك الإعدامات ُت�ضيف ً‬
‫نوعا‬
‫من الإثارة واملتعة ملرا�سم اليوم‪ ،‬ويظل احلديث عنها م�ستم ًرا‬
‫ل�شهر كامل حتى يوم الغفران الذي يليه‪ ،‬نو ٌع من �إلهاء العامة‬
‫ٍ‬
‫من �أ�شراف چارتني ‪ ..‬لكن مع فقدان تلك الإثارة �سينتبه‬
‫قليل �إىل �سادتهم‪ ،‬ومتى انتبه النا�س �إىل �سادتهم لن‬‫النا�س ً‬
‫مريح �أبدً ا ‪..‬‬
‫بنوم ٍ‬
‫يهن�أ ال�سادة ٍ‬
‫ز ّم الطبيب �شفتيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ حتليل مقنع ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫�سبب �آخر قد يكون �أكرث �أهمية يف هذا التوقيت ‪..‬‬
‫ هناك ٌ‬

‫‪‬‬
‫وتابعتُ و�أنا �أنظر �إىل فتاة حتمل بع�ض الأخ�شاب املتفحمة‪:‬‬
‫ ق ّلتُ الرذيلة بدرجة كبرية بني فتيات الن�ساىل‪ ،‬كان معظمهن‬
‫ُيجربن عليها من �أجل املال‪� ،‬أما الآن ف�صرن يعملن ويجنني‬
‫� ً‬
‫أموال مقابل �صناعتهن ‪..‬‬
‫ �سمعتُ �أن بيوت الرذيلة قد بد�أت تلج�أ يف اخلفاء �إىل ن�ساء‬
‫�شريفات‪ ،‬وهذا ما لن ير�ضى به �أبدً ا رجال چارتني‪� ،‬أن ُتر‬
‫ن�سا�ؤهم �إىل باحة جويدا لع ّلة الرذيلة‪� ،‬أو حتمل ن�سا�ؤهم ب�أجنة‬
‫غري �شرعية تنال روح املعدومني من الن�ساىل لي�صريوا مثلهم‬
‫‪ ..‬كان احلريق جمرد بداية فقط‪ ،‬هناك املزيد قادم ‪..‬‬
‫ثم ملحتُ حيدر وعرو�سه يعمالن مع بقية الفتيان يف �إزالة انقا�ض‬
‫احلريق عن كوخهما‪ ،‬فقلتُ للطبيب‪:‬‬
‫ �إنهما عرو�سان‪ ،‬كان ُعر�سهما بالباحة �أم�س ‪..‬‬
‫�ضحك وقال‪:‬‬
‫ لقد فاتني �أول زواج بني الن�ساىل � ًإذا ‪..‬‬
‫ثم ت�ساءل وهو ينظر �إليهما‪:‬‬
‫ ماذا �سيكون م�صري طفلهما �إن حملت؟! ‪ ..‬هل �ست�ضطر‬
‫روح له؟!‬
‫للذهاب �إىل الباحة من �أجل ح�صد ٍ‬

‫‪‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ مل تذكر القواعد ذلك‪ ،‬اخت�صت �أرواح الباحة طب ًقا لقواعد‬
‫چارتني بالأطفال الناجتني عن الرذيلة فقط‪� ،‬أما طفلهما‬
‫�سكت وقلتُ ‪:‬‬ ‫ف�سيكون نا ً‬
‫جتا عن زواج �شرعي‪ ،‬ثم ُّ‬
‫ ل�ستُ مت�أكدة مما �سي�صري‪ ،‬مل يحدث �شيء كهذا من قبل‪ ،‬لكن‬
‫دعنا ننتظر لوقتها ون َر ‪..‬‬
‫ب�صوت ين�ضح بالبهجة‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫فقال‬
‫ �أطفال �شرفاء من ن�سل الن�ساىل‪ ،‬يا للروعة ‪..‬‬
‫فابت�سمتُ وقلتُ ‪:‬‬
‫ �أمتنى �أن يحدث ذلك ‪..‬‬
‫لوقت ق�صري‪ ،‬ووا�صلنا جتوالنا بني الأنقا�ض‪� ،‬إىل �أن نطق‬
‫�سكتنا ٍ‬
‫الطبيب‪:‬‬
‫أنت تغادرين هائمة بني‬
‫ارتطمت بي و� ِ‬
‫ِ‬ ‫ كنتُ بالباحة يومها‪،‬‬
‫احل�شود ‪..‬‬
‫ابت�سمتُ مبرارة وقلتُ ‪:‬‬
‫ �صدق القائل ب�أن هناك حلظة ما ال تعود احلياة بعدها كما‬
‫كانت قبلها �أبدً ا‪ ،‬اتخذتُ قرا ًرا خاط ًئا يومها ندمتُ عليه حيا ًة‬
‫ب�أكملها ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ يف الأوقات احلا�سمة ينبع القرار من �أفكارنا الرا�سخة داخل‬
‫عقولنا‪� ،‬أعتقد �أن حديث َمن حو ِلك عن الن�ساىل على مدار‬
‫اتخذت قرارك وقتها ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫�سنوات ن�ش�أ ِتك قد �أ ّثر ِ‬
‫عليك حني‬
‫�سنوات طويلة‪ ،‬لتتحكم بنا‬
‫ٍ‬ ‫ترتاكم الأفكار بداخلنا على مدار‬
‫كل ًيا يف اختياراتنا بالأوقات احلا�سمة‪ ،‬لكن �سيظل الإن�سان‬
‫لك �أن تكوين هنا ‪..‬‬‫عاج ًزا عن تغيري قدره �أبدً ا‪ ،‬كان ُمقد ًرا ِ‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نعم‪� ،‬إنك حمق ‪..‬‬
‫ووا�صلنا حديثنا ونحن نتجه �إىل احلانة حيث قام هناك بفح�ص‬
‫جروح وحروق امل�صابني‪ ،‬واطم�أن على َمن �أ�صابهم االختناق‪ ،‬و�سمح‬
‫لبع�ضهم باالن�صراف ملوا�صلة حياتهم بعدما �أخربين �أنهم باتوا على‬
‫ما يرام ‪ ..‬ثم جل�س على مقعد بجواري‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬
‫ ظللنا �سنوات طويلة نعتقد �أن روح ندمي قد ارتاحت للأبد ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ لو مل �أكن هناك يومها ملا �صدقت �أن الروح تنتقل من الأ�سا�س‪،‬‬
‫لكني ر�أيتُ ذلك بعيني ‪ ..‬ما زلتُ �أتذكر ذلك امل�شهد جيدً ا‪،‬‬
‫حني بد�أت دقات قلب اجلنني يف النب�ض ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم تابع �ضاح ًكا‪:‬‬
‫أيت نظرة التحدي ب�أعني �آدم حينما �أهان ال�ضابط‬ ‫ لو ر� ِ‬
‫لقلت �أن ذلك الطفل قد عرف �أنهم ع�شريته‪ ،‬و�إن مل‬
‫الن�ساىل ِ‬
‫يوما عنهم ‪..‬‬
‫�أخربه ً‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ ر�أيتُ تلك النظرة يف عني ندمي من قبل‪ ،‬كاد يق ّدم نف�سه‬
‫�إىل الإعدام يومها‪ ،‬لوال تدخلتُ بينه وبني ال�ضابط يف الوقت‬
‫املنا�سب ‪..‬‬
‫ثم �أكملتُ ‪:‬‬
‫ �أخ�شى فقط �أن مي�سك اجلنود بالطفل‪� ،‬إنه ال ميتلك و�ش ًما‪،‬‬
‫وبالطبع لن يعرتف به �أي �شريف چارتيني‪ ،‬ت�شدد القوانني على‬
‫ذلك الأمر خ�شية �أن يختلط الن�ساىل بالأ�شراف ‪..‬‬
‫�إن �أم�سك به �أحد اجلنود �س ُي�سجن رغم عمره ال�صغري‪ ،‬و�إن‬
‫�شهر �سينال و�ش ًما‬
‫مل ُيث َبت انتما�ؤه لأي عائلة �شريفة خالل ٍ‬
‫على �صدره‪ ،‬ل ُيطلق للعراء جمددًا متى ي�شاءون ‪� ..‬أتذكر ق�ص ًة‬
‫تو�شم ابنها‪،‬‬
‫�أخربتني بها زميلتي باملدر�سة العليا عن ن�سلية مل ِ‬
‫ف�أُم�سك بها و�أُعدمت‪ ،‬ونال طفلها و�ش ًما‪ ،‬و�أُطلق �سراحه بعدما‬
‫ّمت ال�ساد�سة ع�شر‪ ،‬ل ُيعدم على جرمية قتل بعدها ب� ٍ‬
‫أ�سبوع‬
‫واحد ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ �إنه ذكي للغاية‪ ،‬لن ي�ستطيع �أي �شرطي الإم�ساك به ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ �أمتنى ذلك ‪..‬‬
‫ثم دلف �إلينا ريان مع حلول امل�ساء‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ انتهينا من �إخالء الأر�ض من البقايا املحرتقة‪ ،‬و�سنبد�أ غدً ا‬
‫أكواخا ومدر�س ًة‬
‫يف �صناعة الطوب من طمي التالل ‪� ..‬سنبني � ً‬
‫ات�ساعا مما احرتقت ‪..‬‬
‫�أكرث ً‬
‫ابت�سمتُ وقلتُ يف حما�س‪:‬‬
‫ لنفعل ذلك � ًإذا ‪..‬‬
‫فر ًحا‪:‬‬
‫قال ِ‬
‫ هناك �شيء �آخر �أو ُّد �أن تريه ‪..‬‬
‫ً‬
‫م�شتعل كان على طاول ٍة �أخرى‪ ،‬و�س�ألنا �أن‬ ‫م�صباحا‬
‫ً‬ ‫ثم حمل‬
‫نتحرك معه �إىل كوخ جماور للحانة ‪ ..‬ثم دلف بنا �إىل داخله‪ ،‬وهناك‬
‫�أ�شعل املزيد من امل�صابيح‪ ،‬لأجد �أمامي عددًا من املقاعد اخل�شبية‬
‫املدر�سية مرتا�صة يف تكد�س فوق بع�ضها‪ ،‬وب�أحد �أركان الكوخ تراكمت‬
‫�أكوا ٌم من الكتب حتى كادت ت�صل �إىل �سقفه‪ ،‬فت�ساءلتُ يف ده�شة‪:‬‬
‫ ما هذا؟!‬

‫‪‬‬
‫قال ريان‪:‬‬
‫ ال ي�ض ّيع الن�ساىل وقتًا‪ ،‬قام بع�ضنا ب�إزالة �آثار احلريق بينما‬
‫قام �آخرون ب�إح�ضار متطلبات املدر�سة اجلديدة ‪..‬‬
‫ت�ساءلت جمددًا يف ذهول‪:‬‬
‫ �سرقتموها؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬كان علينا �سرقتها قبل انتهاء الأجازة املو�سمية للمدر�سة‬
‫املتو�سطة ‪..‬‬
‫�أخذتُ امل�صباح من يده وحتركتُ جتاه املقاعد اخل�شبية‪ ،‬كانت‬
‫املقاعد ذاتها التي طاملا امتلأت بها ف�صول مدر�ستي املتو�سطة‪ ،‬ثم‬
‫�أزلتُ بيدي الغبار عن �سطح �إحداها‪ ،‬وابت�سمتُ خل�س ًة حني تذكرتُ‬
‫�سطح مماثل لها ملدة عام كامل‪،‬‬
‫حديثي املكتوب بيني وبني ندمي على ٍ‬
‫حزم‬
‫لكني حافظتُ على جمود مالمح وجهي‪ ،‬ونظرتُ �إىل ريان يف ٍ‬
‫�شديد‪ ،‬وقلتُ ‪:‬‬
‫ ال نحتاج �إليها ‪..‬‬
‫قال ‪:‬‬
‫ لكن ‪...‬‬

‫‪‬‬
‫فقاطعته غا�ضبة‪:‬‬
‫ �إنهم يريدوننا �أن نفعل ذلك‪� ،‬أن نعود �إىل ال�سرقة مرة �أخرى‬
‫‪� ..‬سنبني مقاعدنا ب�أنف�سنا‪� ،‬أما هذه املقاعد ف َمن جاء بها‬
‫�سيعيدها �إىل املدر�سة قبل طلوع الفجر ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ والكتب؟!‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ والكتب كذلك ‪..‬‬
‫ثم نظرتُ �إىل الطبيب وقلتُ ‪:‬‬
‫ ال يعلم �أح ٌد بعد بوجود الطبيب بيننا‪� ،‬إن �سمح يل ب�أن ي�ساعدنا‬
‫يف �شراء بع�ض الكتب من �أك�شاك كتب جويدا ‪ ..‬لن ميانعوا يف‬
‫بيع كتبهم �إىل الأغراب‪ ،‬وتابعتُ ‪:‬‬
‫لدي بع�ض الأموال التي تكفي لذلك ‪..‬‬
‫ ما زال ّ‬
‫وجدنا عالمات الرتحيب على وجه الطبيب مبا قلتُه ‪ ..‬فقال ريان‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪� ،‬سنعيدها كذلك ‪..‬‬
‫ثم اجته لإح�ضار الآخرين لنقل املقاعد والكتب مرة �أخرى �إىل‬
‫املكان الذي جاءت منه‪ ،‬وانتظرتُ يف مكاين حتى عاد وبد�أوا يف حملها‬
‫هام�سا وقتها‪:‬‬
‫‪ ..‬قال يل الطبيب ً‬

‫‪‬‬
‫ تغريوا ح ًقا ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫ثم توقفت �إحدى الفتيات‪ ،‬وقالت قبل �أن حتمل �أحد املقاعد‬
‫اخل�شبية‪:‬‬
‫ٌ‬
‫منقو�ش هنا ‪..‬‬ ‫ �سيدتي‪ ،‬ا�سمك‬
‫يل ‪ ..‬كانت الدماء قد اندفعت‬ ‫فتوقف اجلميع يف �أماكنهم ونظروا �إ ّ‬
‫�إىل وجهي فجعلته �أكرث احمرا ًرا‪ ،‬مل �أكن �أ�صدق �أن تلك ال�صدفة قد‬
‫حتدث‪ ،‬و�إن جالت بر�أ�سي قبلها بدقائق ‪ ..‬وا�صل اجلميع ترقبهم يل‬
‫و�أنا �أجته �إىل الفتاة و�أنظر يف توتر �إىل �سطح التختة اخل�شبية ‪ ..‬كان‬
‫�سنوات طويلة ‪ ..‬ابت�سمتُ‬
‫ٍ‬ ‫ً‬
‫منقو�شا كما نق�شه ندمي قبل‬ ‫ا�سمي ال يزال‬
‫ابت�سام ٍة حزينة‪ ،‬وع�ض�ضتُ على �شفتي حماول ًة �أن �أمتالك نف�سي و�أنا‬
‫�أحت�س�س ب�أطراف �أ�صابعي ا�سمي املنقو�ش‪ ،‬ثم حركتُ عيني نحو ريان‬
‫والطبيب‪ ،‬ففهموا ما يعني ذلك اال�سم املنقو�ش وتلك التختة بالن�سبة‬
‫يل دون �أن �أنطق بكلمة‪ ،‬وظ ّلوا يحدقون بي يف انتظار ما �أقوله‪ ،‬فقلتُ‬
‫للفتاة‪:‬‬
‫ احمليها �إىل اخلارج � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫قال ريان‪:‬‬
‫ميكنك االحتفاظ بها ‪..‬‬
‫  ِ‬
‫‪‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ ال‪ ،‬هيا �أيتها اجلميلة‪ ،‬احمليها مع الأخريات �إىل اخلارج ‪..‬‬
‫فحملتها الفتاة‪ ،‬والزمتُ ال�صمت بعدها‪ ،‬حتى انتهى الفتية‬
‫والفتيات من حمل جميع املقاعد والكتب �إىل اخلارج‪ ،‬فاقرتبتُ من‬
‫ريان قبل �أن �أغادر وقلتُ ‪:‬‬
‫ �إن ذهبت معهم‪ ،‬تفح�ص ال�شوارع جيدً ا‪ ،‬رمبا جتد ذلك الطفل‬
‫نائ ًما ب�أحد جوانبها ‪..‬‬
‫هز ر�أ�سه موافقني وقال‪:‬‬
‫ كنتُ �س�أفعل ذلك ‪..‬‬
‫ثم غادرتُ �إىل مقر �إقامتي امل�ؤقت‪ ،‬ومكثتُ ب�سريري تت�شابك‬
‫الأفكار يف ذهني‪� ،‬أحاول �أن �أج ّمع ما حدث خالل اليومني ال�سابقني؛‬
‫زواج الن�ساىل‪ ،‬ر�ؤية الطفل على القائم اجلانبي‪ ،‬جميء الطبيب يف‬
‫ذلك التوقيت حتديدً ا بعد ت�سع �سنوات كاملة‪ ،‬التختة اخل�شبية ذاتها‬
‫‪ ..‬ثم نظرتُ �إىل ال�سماء املمتلئة بالنجوم عرب نافذة الكوخ‪ ،‬وقلتُ يف‬
‫نف�سي‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫�صدف ج ّمعت كل هذا يف وقت واحد؟! ‪� ..‬أي ر�سائل‬‫ٍ‬ ‫ �أي‬
‫حتملينها �إ ّ‬
‫يل يا چارتني؟‬
‫ومل �أكد �أغم�ض عيني حتى انتف�ضتُ من �سريري حني �سمعتُ �صوت‬
‫البارود املتتايل ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫نه�ضتُ من �سريري‪ ،‬واجتهتُ م�سرع ًة �إىل اخلارج ‪ ..‬كانت‬
‫امل�صابيح الزيتية ت�ضيء ال�شارع الرئي�سي �أمام احلانة‪ ،‬فوجدتُ �ضباط‬
‫وجنود چارتني ينت�شرون ب�أ�سلحتهم �أمام �أكواخ الن�ساىل‪ ،‬يركع �أمامهم‬
‫فتيان وفتيات الن�ساىل وا�ضعني �أيديهم فوق ر�ؤو�سهم‪ ،‬بينما يقوم بع�ض‬
‫اجلنود الآخرين ب�إخراج باقي الن�ساىل عنو ًة من �أكواخهم و�إح�ضارهم‬
‫�إىل املكان املت�سع �أمام احلانة لي�صنعوا بهم �إطا ًرا ِ�شبه دائري ‪..‬‬
‫تعجبتُ حني دفعني �أحد اجلنود بغلظ ٍة لأن�ضم �إىل باقي الراكعني‪،‬‬
‫فركعتُ على ركبتي‪ ،‬وو�ضعتُ يدي فوق ر�أ�سي‪ ،‬ثم ملحتُ جند ًيا يح�ضر‬
‫مقرف�صا على اجلانب الآخر من ال�شارع �أمامي ‪..‬‬‫ً‬ ‫الطبيب ليجل�س‬
‫ُ‬
‫ثم ا�ضطربت قلوبنا و�أجفلت �أج�سادنا جمي ًعا حني �أطلقت ر�صا�ص ٌة‬
‫�شاب ن�سلي كان يقاوم �أحد اجلنود‪ ،‬ف�سقط‬ ‫مفاجئة �أ�صابت ر�أ�س ٍ‬
‫�صري ًعا من رمية واحدة‪ ،‬ومعها ظهر وجه ال�ضابط الذي �أطلقها ‪..‬‬
‫تذكر ُته‪ ،‬كان نف�سه الفتى املميز بالرماية الذي ناف�سني على‬
‫من�صب رامي املن�صة باملدر�سة العليا ل�ضباط الأمن‪ ،‬مل �أعد �أتذكر‬
‫ا�سمه‪ ،‬لكن مالمح وجهه كانت قا�سية لدرج ٍة �أ�شعرتني �أنه جاء‬
‫للق�ضاء علينا جمي ًعا ‪..‬‬
‫انتهى اجلنود من �إح�ضار الع�شرات من الن�ساىل و�ضموهم �إلينا‪،‬‬
‫حتركتُ بعيني خل�س ًة بني اخلا�ضعني منا بح ًثا عن ريان فلم �أجده‪ ،‬دار‬
‫بذهني �أنه مل يعد من جويدا‪ ،‬ومتنيتُ �أال يعود �إىل الوادي يف ذلك‬
‫الوقت ‪ ..‬لكن دقات قلبي كادت تتوقف عندما ر�أيتُ اجلنود يدفعون‬
‫أ�صفاد‬
‫�أحد ع�شر فتًى من فتيان الن�ساىل ُمكبلي الأيدي والأرجل ب� ٍ‬
‫حديدية‪ ،‬كانوا هم َمن رافقوا ريان لإعادة م�سروقات املدر�سة �إىل‬
‫‪‬‬
‫جويدا ‪ ..‬ثم �أرقدوهم على بطونهم بو�سط الدائرة �أمامنا‪ ،‬كان بينهم‬
‫أي�ضا‪ ،‬تذكرتُ حلظتها كلمات ندمي‬‫حيدر‪ ،‬لكن ريان مل يكن بينهم � ً‬
‫حني حدثني قد ًميا عن براعته يف الهروب هو و�أخته‪ ،‬ثم دار ال�ضابط‬
‫حولهم‪ ،‬و�صاح ب�صوت ر�صني‪:‬‬
‫يكف الن�ساىل عن ارتكاب اجلرائم �أبدً ا‪ ،‬لطاملا �أردنا �أن‬ ‫ ال ُّ‬
‫نعي�ش �سو ًيا يف �سالم‪ ،‬لكن حاملي العار ال يف ّوتون موعد املن�صة‬
‫مطل ًقا ‪..‬‬
‫ثم ركل بقدمه �شا ًبا راقدً ا �أمامه من ال�شبان املُكبلني‪ ،‬و�أطلق �إمياءة‬
‫بذيئة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ مدر�سة؟! ‪ ..‬ت�سرقون مدر�سة جويدا؟! ‪..‬‬
‫فخا‬‫�شاب �آخر‪� ،‬أدركتُ حلظتها �أن ً‬
‫وانهال بع�صاه على ج�سد ٍ‬
‫مدب ًرا قد ُن�صب ب�إحكام لنا‪ ،‬حاولتُ �أن �أبعد عيني عنه‪ ،‬لكني مل‬
‫�أ�ستطع اجللو�س دون ِحراك و�أنا �أراه يوا�صل �ضربه لل�شبان �أمامه‪،‬‬
‫فنه�ضتُ يف غري اكرتاث ب�سالح اجلندي الذي يقف خلفي‪ ،‬وتقدمتُ‬
‫نحوه وقلتُ بنربة حادة‪:‬‬
‫ ال يحقُ لك �أبدً ا �إيذاءهم �إىل هذا احلد ‪..‬‬
‫توقف عن �ضرب �أحدهم‪ ،‬وقال �ساخ ًرا وهو ينظر �إىل كتفي العاري‪:‬‬
‫ ال�سيدة غفران‪ ،‬رامي املن�صة ‪ ..‬ال�شخ�ص الوحيد الذي فاقني‬
‫يف الرماية ‪..‬‬
‫‪‬‬
‫جتاهلتُ ما قاله‪ ،‬وكدتُ �أحتدث عن حقوق الن�ساىل كمواطنني مثله‬
‫متاما‪ ،‬لكنه بادرين و�أ�شار �إىل جندي خلفه‪ ،‬ف�أح�ضر اجلندي �شا ًبا‬
‫ً‬
‫ن�سل ًيا من املتعلمني مبدر�ستي كان ينتظر بداخل �إحدى العربات‪ ،‬و�أ�شار‬
‫له كي يتحدث‪ ،‬فقال الفتى وهو ينظر جتاهي‪:‬‬
‫ �إن هذه ال�سيدة َمن �أمرتنا ب�سرقة املدر�سة ‪..‬‬
‫نظرتُ نحوه يف ذهول‪ ،‬وزادت همهمات الن�ساىل من حولنا‪ ،‬و�صرخ‬
‫الفتيان املُكبلني ب�أنني مل �أفعل ذلك‪ ،‬ف�أطلق ال�ضابط �أعريته بال�سماء‪،‬‬
‫ففر�ض �صوت الر�صا�ص ال�صمت على اجلميع‪ ،‬فوا�صل الفتى‪:‬‬
‫ نعم �سيدي ‪� ..‬إنها هي ‪..‬‬
‫ثم و�صل توتري مداه حني ر�أيتُ �أخي زين يظهر يل من وراء‬
‫اجلنود‪ ،‬لأنظر �إىل ال�ضابط يف جتهم بعدما مل �أفهم ما ينويه‪ ،‬فقال‬
‫ب�صوت عال‪:‬‬
‫ٍ‬
‫رت �أمر �سرقة املدر�سة‬ ‫ �شهد ثالث ٌة من الن�ساىل ب� ِ‬
‫أنك َمن د ّب ِ‬
‫جرميتك �أمام القا�ضي ‪ ..‬كان‬
‫ِ‬ ‫املتو�سطة‪ ،‬وبذلك مت ثبوت‬
‫جرميتك الأوىل ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫بك هذه املرة لكونها‬
‫القا�ضي رحي ًما ِ‬
‫ثم حترك نحوي‪ ،‬و�أخرج خنجره يف غم�ضة عني‪ ،‬و�ضرب به كتفي‬
‫الأي�سر لت�سيل دمائي بغزارة‪ ،‬فت�سارعت �أنفا�سي‪ ،‬ونظرتُ �إىل الطبيب‬
‫ووجهي يعت�صر من الأمل‪ ،‬بينما مت�سك يدي اليمنى بكتفي لع ّلها توقف‬
‫�سيل الدماء‪ ،‬حاول الطبيب �أن ينه�ض جتاهي‪ ،‬لكن اجلندي الواقف‬
‫خلفه حال دون ذلك ‪ ..‬ثم تابع ال�ضابط وهو ينظر �إ ّ‬
‫يل‪:‬‬

‫‪‬‬
‫منك‪،‬‬
‫ لقد �أ�صدر القا�ضي الكبري قرا ًرا ب�سحب �صفة ال�شرف ِ‬
‫أخيك بعدما ترب�أ من قرابتك ر�سم ًيا ب�أوراق دار‬
‫مع �إبقائها ل ِ‬
‫الق�ضاء ‪..‬‬
‫فنظرتُ �إىل �أخي غري م�صدقة‪ ،‬قبل �أن يكمل ال�ضابط‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫لك مبغادرة هذا الوادي �إىل جويدا �إال للعمل‬‫م�سموحا ِ‬
‫ً‬ ‫ مل يعد‬
‫أردت ح�صد‬
‫يف بيوت الرذيلة‪� ،‬أو �إىل الباحة �أيام الغفران �إن � ِ‬
‫عليك‬
‫روح لأطفالك الناجتني عن الرذيلة ‪ ..‬غري ذلك �ستُطبق ِ‬ ‫ٍ‬
‫قواعد چارتني اخلا�صة بالن�ساىل‪.‬‬

‫‪‬‬
‫الفصل األخير‬
‫«فاضل»‬

‫مل ت�صدق �آذاننا ما تف ّوه به ال�ضابط‪ ،‬وظ ّلت �أعيننا جميعها تراقب‬
‫يف �صمت مالمح وجه غفران امل�صدوم مما يحدث �أمامها ‪ ..‬عاد‬
‫�أخوها �إىل عربة ال�ضباط‪ ،‬ومل يظهر مرة �أخرى ‪ ..‬ثم �أمر ال�ضابط‬
‫جنوده بجر الن�ساىل املُكبلني �إىل العربات لي ُقدموا �إىل املحاكمة ‪ ..‬قبل‬
‫�أن يرحل ويغادر الوادي هو وجنوده‪.‬‬
‫رك�ضا �إىل غفران التي كانت تقف �أمامنا ال حول لها‬ ‫ف�أ�سرعتُ ً‬
‫�شاحب من‬‫ٍ‬ ‫ووجه‬
‫وال قوة تنظر �إىل الأر�ض بعينني مك�سورتني زائغتني ٍ‬
‫كرثة ما نزفته من الدماء‪ ،‬ثم �صحتُ �إىل ناردين ب�أن حت�ضر يل قطعة‬
‫قما�شية نظيفة‪ ،‬و�ساند ُتها حتى دلفتُ بها �إىل احلانة‪ ،‬وهناك بد�أتُ‬
‫�أ�ضمد جرح كتفها‪ ،‬مل يكن كب ًريا لكنه كان عمي ًقا بالقدر الذي ُينب�أ‬
‫برتك ندب ٍة وا�ضحة ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ظ ّلت ال�سيدة �صامتة فلم �أحتدث ب�شيء �أنا الآخر‪ ،‬حتى انتهيتُ من‬
‫تنظيف اجلرح وت�ضميده‪ ،‬فنظرتُ �إىل وجهها فر�أيتُ دموعها للمرة‬
‫وا�ضحا يل �أنها حتاول �أن تتما�سك �أمامنا بكل طاقتها‪،‬‬
‫ً‬ ‫الأوىل‪ ،‬كان‬
‫لكنها مل ت�ستطع بالنهاية‪ ،‬ف�أ�شرتُ �إىل ناردين ب�أن تغادرنا ففعلت‪،‬‬
‫فقلتُ يف هدوء‪:‬‬
‫ �سي�صبح كل �شيء على ما يرام ‪..‬‬
‫وتابعتُ ‪:‬‬
‫ لو مل يكن ما فعلته مع الن�ساىل عظي ًما ملا حترك �سادة چارتني‬
‫لإيقافك �إىل هذا احلد‪ ،‬كنتُ تعرفني �أنهم �سيوا�صلون عرقل ِتك‬
‫بكافة الطرق ‪..‬‬
‫ظلت �شاردة ال تقول �شي ًئا ‪ ..‬مل �أكن جيدً ا قط يف املوا�ساة‪ ،‬فلم‬
‫�أجد مزيدً ا من الكلمات لقولها‪ ،‬وجل�ستُ بجوارها يف انتظار �أن تنطق‬
‫ب�أي كلمة‪ ،‬لكنها مل تفعل‪ ،‬وظ ّلت تعابري وجهها ثابتة تنظر �إىل الفراغ‬
‫�أمامها ‪..‬‬
‫حاولت ناردين �أن ت�سقيها �شرا ًبا �ساخ ًنا �صنعه فتى احلانة‪ ،‬لكنها‬
‫مل تتناول �شرب ًة واحدة منه‪ ،‬قبل �أن حت ّول عينيها �إىل باب احلانة حني‬
‫م�سرعا نحوها‪،‬‬
‫ً‬ ‫�أ�صدر �صريره فج�أ ًة و ُفتح ليظهر �أمامنا ريان ويدلف‬

‫‪‬‬
‫فنه�ضت من جل�ستها واحت�ضنته‪ ،‬لتت�ساقط دموعها من جديد‪ ،‬فقال‬
‫وهو يلهث بقوة بني ذراعيها‪:‬‬
‫ ال نحتاج �إىل قا�ضي چارتني ملعرفة ما �إن كنتُ �شريف ًة �أم ال‬
‫ل�ست يف حاجة للذهاب �إىل جويدا‪� ،‬سيظل اجلميع هنا يف‬ ‫‪ِ ..‬‬
‫خدمتك �سيدتي ‪..‬‬
‫م�سحت غفران دموعها وعاودت جلو�سها‪� ،‬شعرتُ �أن وجود ريان‬
‫نوعا من الطم�أنينة‪ ،‬ثم قال ال�شاب بعدما التقط �أنفا�سه‪:‬‬
‫�أعطاها ً‬
‫فخا ُمدب ًرا لنا بداي ًة من حريق املدر�سة‪ ،‬ثم اقرتاح �أحد‬
‫ كان ً‬
‫ال�شبان ب�سرقة مدر�سة جويدا‪ ،‬ثم جت ّنيهم ِ‬
‫عليك �سيدتي ‪..‬‬
‫لك ب�أنني لن �أتركهم ينجون‬
‫�أعرف من قاموا بخيانتنا‪� ،‬أق�سم ِ‬
‫بفعلتهم ‪..‬‬
‫قالت غفران‪:‬‬
‫ لن يهتم �ضباط چارتني مب�صريهم‪ ،‬لكنهم �سي�سعدون بتقدمي‬
‫مزيد منا �إىل من�صة جويدا‪ ،‬اتركهم و�ش�أنهم ‪..‬‬
‫ٍ‬
‫ثم قالت‪:‬‬
‫ هناك �أحد ع�شر �شا ًبا �س ُيعدمون يوم الغفران القادم‪� ،‬سي�شهد‬
‫أياما �صعبة الفرتة القادمة ‪..‬‬‫الوادي � ً‬

‫‪‬‬
‫�سكت ريان‪ ،‬كان وجهه يغلي من الغ�ضب‪ ،‬و�ساد ال�صمت من جديد‬
‫‪ ..‬فقلتُ حني طالت فرتة ال�صمت‪:‬‬
‫ ميكنني �أن �أذهب غدً ا ل�شراء الكتب التي تريدينها ‪..‬‬
‫فنظر ثالثتهم �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬فتابعت‪:‬‬
‫ يتبقى الألوف من الن�ساىل‪ ،‬لديهم احلق يف عي�شة كرمية كما‬
‫�أخربتني‪ ،‬هل نرتكهم؟! ‪ ..‬لنكمل ما بد�أ ِته � ًإذا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫يل �أعينهم تت�ساءل �إن كنتُ واع ًيا بكل حرف نطقتُ به‪،‬‬ ‫نظرت �إ ّ‬
‫متاما ال�ستخدامي �صيغة اجلمع ‪ ..‬نعم‪،‬‬
‫مدرك ً‬ ‫ٌ‬ ‫فابت�سمتُ �إليهم ب�أنني‬
‫كان ذلك �إعال ًنا مني ب�أنني �س�أبقى يف الوادي ل ٍ‬
‫أجل مل �أحدده ‪..‬‬

‫يف الأيام القليلة التالية �شرع ريان فيما �أخرب به غفران ليلة جميء‬
‫ال�ضباط‪ ،‬وبد�أ مع غريه من الفتيان يف ت�صنيع الطوب من طمي ٍتل‬
‫قريب من الوادي‪ ،‬عرفتُ منه �أنه التل نف�سه الذي ي�ستخدمون طميه‬
‫يف �صناعة �أوانيهم الفخارية ‪ ..‬كنتُ �أتردد عليهم بني حني و�آخر‪ ،‬قبل‬
‫�أن �أجت ّول يف التالل املجاورة للبحث عن بع�ض الأع�شاب الطبية النابتة‬
‫التي �أحتاجها ‪..‬‬
‫ثم توجهتُ �إىل جويدا يف نهاية ذلك الأ�سبوع من �أجل ما ك ّلفتني‬
‫مبان‬
‫به غفران ‪ ..‬كانت املدينة خمتلفة للغاية عن باحتها ال�شهرية‪ٍ ،‬‬

‫‪‬‬
‫طوبية ذات �أ�شكال معمارية متميزة‪� ،‬شوارع نظيفة ُمعبدة بال�صخور‪،‬‬
‫ري من احلانات والدكاكني‪ ،‬حيا ٌة ذكرتني كث ًريا بعا�صمة بالدي‬ ‫كث ٌ‬
‫ا�ستبدلت‬
‫القدمية‪ ،‬غري �أن امل�صابيح الكهربائية وال�سيارات قد ُ‬
‫مب�صابيح زيتية وعربات خ�شبية جت ّرها اخليول ‪ ..‬و�صلتُ �إىل �أحد‬
‫�أك�شاك الكتب‪� ،‬أخربتُ �صاحبه �أنني غريب يف حاجة �إىل �شراء بع�ض‬
‫الكتب من �أجل العودة بها �إىل بالدي‪ ،‬تركني �أتفح�ص رفوف الكتب؛‬
‫�أدب‪ ،‬فنون‪ ،‬تاريخ‪ ،‬ح�ضارات ‪..‬‬
‫وقع بني يدي الكثري من الكتب التي ت�سيء للن�ساىل فتذكرتُ كلمات‬
‫غفران ب�أن ابتعد بقدر الإمكان عن تلك الفئة‪ ،‬ثم اخرتتُ عددًا من‬
‫الكتب املتنوعة‪ ،‬وعدتُ بها �إىل م�شارف الوادي حيث ك ّلف ريان بع�ض‬
‫الفتية مب�ساعدتي على حملها �إىل حيثما تقيم ال�سيدة ‪..‬‬
‫مل تظهر غفران كث ًريا للن�ساىل تلك الأيام‪ ،‬ظ ّلت معتكفة على قراءة‬
‫الكثري مما �أح�ضر ُته لها‪ ،‬بينما ان�شغل ريان ببناء املدر�سة والأكواخ‬
‫أغي بها �ضمادة جرحها‬ ‫املجاورة ‪ ..‬كنتُ �أنتهز الأوقات الق�صرية التي � ّ‬
‫للحديث معها عن �أي �شيء ‪� ..‬شعرتُ �أنها جتاوزت �صدمة ما حدث لها‬
‫بالأيام ال�سابقة غري �أن حزنها على الفتية الذين ُاعتقلوا كان كب ًريا‬
‫للغاية ‪..‬‬
‫قبل نهاية ذلك ال�شهر كان اجلرح قد الت�أم‪ ،‬لكنه ترك ندبة‬
‫وا�ضحة كما توقعتُ ‪ ،‬ف�س�ألتني غفران �أن � ّ‬
‫أغطيه ب�ضمادة رغم التئامه‪،‬‬
‫وانتهى ريان من بناء الأكواخ و�أخربين �أن املدر�سة �ستوا�صل عملها‪،‬‬

‫‪‬‬
‫كوخا بجوار كوخ ال�سيدة اجلديد‪ ،‬وقال‬ ‫كما �أخربين ب�أنه قد بنى يل ً‬
‫متحم�سا ب�أنه �سي�سميه كوخ الطبيب‪ ،‬ف�شكر ُته كث ًريا على ذلك ‪..‬‬
‫ً‬
‫ليلة يوم الغفران اجلديد دلفت �إ ّ‬
‫يل ناردين تخربين ب�أن ال�سيدة‬
‫حتتاجني‪ ،‬وملّا ذهبتُ �إليها قالت‪:‬‬
‫ يوم �أخربتني عن �آدم كنتُ �أنوي الذهاب �إىل الباحة كل يوم‬
‫غفران‪ ،‬لكنني و�إن مل �أعد �أ�ستطيع الذهاب �إىل هناك غري‬
‫باقي الن�ساىل وغريك‪� ،‬أريدك �أن تذهب �إىل هناك ‪ ..‬اعتاد‬
‫ندمي قد ًميا على ت�س ّلق �أحد قوائم اجلهة الغربية للباحة ‪..‬‬
‫طفل كان يت�شبث بقمة القائم‬ ‫ر�أيتُ باليوم الأخري هناك ً‬
‫متاما‪� ،‬أعتقد �أنه �آدم ‪ ..‬اذهب �إىل هناك لع ّلك‬
‫بالطريقة ذاتها ً‬
‫جتده وت�أتي به ‪..‬‬
‫ف�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا ‪ ..‬ليلتها مل �أمن حتى طلع النهار‪ ،‬واجتهتُ‬
‫مكان باجلزء الغربي منها‪،‬‬
‫باك ًرا �إىل هناك للتمكن من الوقوف يف ٍ‬
‫على مقرب ٍة من القائم اجلانبي الذي �أخربتني غفران ب�أن الطفل قد‬
‫يت�سلقه مثلما تع ّود �أن يفعل ندمي ‪..‬‬
‫كانت املرة الثانية يل بني �أ�سوار باحة جويدا‪ ،‬بد�أت املرا�سم وعيني‬
‫ُمع ّلقة على ذلك القائم دون �أن �أن�شغل ب�شيء �آخر‪ ،‬مل يظهر الطفل‬
‫قوائم �أخرى‬
‫بالأوقات الأوىل من اليوم‪ ،‬فانتظرتُ وبحثتُ بعيني عن ٍ‬
‫على جوانب الباحة لع ّلي �أكون قد �أخط�أت حتديد القائم‪ ،‬لكني مل �أجد‬
‫طفل ُمت�سلق‪ ،‬حتى انتهي زوا ٌج ُعقد على املن�صة مع منت�صف النهار‬‫�أي ٍ‬
‫ومل يظهر كذلك ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم بد�أت الإعدامات‪ ،‬توقعتُ �أن يتم �إعدام الفتية الذين �أُتهموا‬
‫ب�سرقة املدر�سة جميعهم �أمامنا‪ ،‬لكن ما حدث �أن ثالث ًة منهم فقط َمن‬
‫مت �إعدامهم‪ ،‬مل يكن بينهم حيدر‪� ،‬أدركتُ بيني وبني نف�سي �أن �سادة‬
‫ف�ضلوا �أن يتم �إعدام ثالثة فقط كل يوم غفران لي�ضمنوا‬ ‫چارتني قد ّ‬
‫ا�ستمرار �إثارة مرا�سمهم على الأقل ملدة �أربع �أ�شهر قبل �إ�ضافة املزيد‬

‫‪9‬‬
‫�إليهم ‪ ..‬الحظتُ ال�سعادة على وجوه الأ�شراف املتواجدين بالباحة‪،‬‬
‫وخا�ص ًة بعدما �أُطلقت ثالثة زغاريد ب�أماكن متفرقة بني الزحام‪� ،‬إىل‬
‫�أن انتهت مرا�سم اليوم‪ ،‬وعدتُ �إىل غفران بعدما فقدتُ الأمل يف‬
‫ظهور الطفل كما مت ّنت ‪..‬‬

‫كانت جتل�س بكوخها اجلديد بني ب�ضعة فتيات �صغريات تقر�أ لهن‬
‫�أحد الكتب‪ ،‬لكنها ما �إن ر�أتني حتى نه�ضت و�أ�سرعت نحوي‪ ،‬فقلتُ لها‬
‫يف خيبة �أمل‪:‬‬
‫ مل يظهر الطفل‪ ،‬مكثتُ هناك حتى غروب ال�شم�س ‪..‬‬
‫هزّت ر�أ�سها يف حزن‪ ،‬فتابعتُ ‪:‬‬
‫ مت �إعدام ثالثة فقط من الفتيان ‪..‬‬
‫قالت بنربة حزينة‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬عرفتُ ذلك منذ قليل‪ ،‬يريدون �ضمان ا�ستمرار متعة‬
‫أ�شهر �أخرى ‪..‬‬
‫الإعدامات ل ٍ‬

‫‪‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ فكرتُ يف ذلك � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫نظرت �إىل الفتيات اجلال�سات‪ ،‬و�أخربتْهن ب�أن ين�صرفن �إىل‬
‫ْ‬ ‫ثم‬
‫بيوتهن‪ ،‬و�س�ألتني بعدما جل�سنا �أمام كوخها‪:‬‬
‫ ملاذا بقيت يف الوادي ومل تغادر؟!‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ �أرى ما تفعلونه عظي ًما‪� ،‬أردتُ �أن �أكون جز ًءا منه‪ ،‬كما �أن‬
‫النا�س هنا يف حاجة �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬ملاذا؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �إنني منده�ش ٌة فح�سب‪ ،‬توقعتُ �أن تغادر بعد �شفاء م�صابي‬
‫مربحا بالبالد التي‬
‫عمل ً‬‫احلريق والتئام جرحي‪ ،‬كنتُ متتلك ً‬
‫جئت منها ‪..‬‬
‫�ضحكت وقلتُ ‪:‬‬
‫يوما‬
‫علي قلبي‪ ،‬كنتُ �أ�ستطيع العودة �إىل بالدي ً‬‫ �أفعل ما ميليه ّ‬
‫ما‪ ،‬لكني ف�ضلتُ �أن �أنقذ �آدم على �أن �أعود‪ ،‬ومل �أندم حلظ ًة‬
‫على ذلك‪ ،‬كذلك اختار داخلي بكل يقني �أن �أبقى هنا بينكم ‪..‬‬
‫رمبا �أرحل بعدما يعود ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ هل تظن �أنه �سيعود؟!‬
‫ابت�سمتُ وقلتُ ‪:‬‬
‫ مما ر�أيتُه يحدث �أمامي منذ التقيت �أمه‪ ،‬وجناته رغم ما مر‬
‫به منذ كان جني ًنا‪ ،‬يجعلني �أظن �أن �أي �شيء قد يحدث ‪..‬‬
‫ف�سكتت ونظرت �إىل ال�سماء ف�س�ألتُها‪:‬‬
‫ ماذا �إن عاد؟!‬
‫نظرت �إ ّ‬
‫يل ك�أنها تفاجئت من ال�س�ؤال‪� ،‬أو مل تفهم مق�صدي ‪..‬‬
‫فقلتُ ‪:‬‬
‫ ماذا �ستفعلني وقتها؟!‬
‫�ض ّمت �شفتيها ثم قالت‪:‬‬
‫ همم ‪ ..‬ال �أعلم ‪..‬‬
‫ف�ضحكتُ ‪ ،‬فقالت بوجه با�سم‪:‬‬
‫ �أعتذر له؟! ‪� ..‬سيظن �أنني حمقاء‪� ،‬إنه �شخ�ص �آخر غري ندمي‪..‬‬
‫�أروي له كل �شيء رمبا يتذكرين؟! ‪ ..‬لن يتذكر ‪ ..‬ال �أعلم‪� ،‬أريد‬
‫ر�ؤيته فح�سب ‪..‬‬
‫طفل من ندمي ‪ ..‬رمبا �أ�ساعده على‬ ‫رمبا �أهتم به كما لو �أجنبتُ ً‬
‫هذا �إن مل �أ�صل �إليها �أنا � ًأول ‪..‬‬

‫‪‬‬
‫ثم قالت وهي تنظر يل‪:‬‬
‫ �سيكون �شا ًبا عندما �أبلغ من العمر مداه ‪ ..‬رمبا يعتني بي يف‬
‫�سنواتي الأخرية ‪� ..‬صدقني ال �أعرف ‪� ..‬أمتنى �أن يعود فح�سب‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬

‫‪9‬‬
‫ �س�أذهب كل �شهر للباحة ملراقبة قوائمها اجلانبية‪� ،‬س�أعود‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫إليك به ً‬
‫� ِ‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �شك ًرا لك ‪..‬‬

‫ا�ستمرت احلياة يف وادي الن�ساىل كما كانت قبل قدومي �إىل حد‬
‫كبري‪ ،‬ا�ستعادت فتيات الن�ساىل طاقتهن بالعمل بعدما عاد فتيانهم‬
‫بخيوط ومواد �أخرى تع ّو�ض ما �أُحرقت‪ً ،‬‬
‫ويوما‬ ‫ٍ‬ ‫امل�سافرون �إىل ال�شمال‬
‫بعد يوم انتظمت �أغلب ال�صناعات التي حكت يل عنها الفتاة الن�سلية‬
‫على ال�سفينة من قبل‪ ،‬كذلك انتظم الكثريون مبدر�سة غفران‪،‬‬
‫و�صار ال�صوت املرتفع للأطفال القارئني ميقاتي املنتظم كل �صباح‬
‫لال�ستيقاظ‪ ،‬ويف امل�ساء انتظمت جل�سات الت�سامر بيني وبني غفران‬
‫وريان لنتحدث ب�ش�أن كل جديد يحدث ‪..‬‬
‫مر ال�شهر الثاين يل بالوادي دون �أي حدث كبري‪� ،‬إىل �أن ذهبتُ‬
‫بنهايته �إىل باحة جويدا من �أجل ما وعدتُ به غفران‪ ،‬مل �أجد الطفل‬

‫‪‬‬
‫يومها كذلك ‪ ..‬يف ذلك اليوم مت �إعدام �أربعة ن�ساىل كان بينهم حيدر‪،‬‬
‫ليلتها كان حزن غفران على ذلك ال�شاب بال ًغا‪� ،‬س�ألتني يومها �إن كنتُ‬
‫قد ملحتُ زوجته «�سبيل» بالباحة‪ ،‬ف�أجبتها ناف ًيا ذلك‪ ،‬عرفتُ �أن �سبيل‬
‫أيام �أخرى مل تعد كذلك ‪..‬‬ ‫مل تعد �إىل الوادي ذلك اليوم‪ ،‬وانتظرنا ل ٍ‬
‫وك�أن ق�صتها هي وحيدر ُكتبت نهايتها ذلك اليوم‪ ،‬و�إن مل تبد�أ �إال قبلها‬
‫ب�شهرين فقط ‪..‬‬
‫ثم التقينا بعد عدة �أيام باحلانة بعدما فقدنا الأمل يف عودتها‪،‬‬
‫وت�سرب اخلرب �إىل �سكان الوادي ب�أنها قد رحلت ‪ ..‬اعتقدت ناردين‬
‫ب�أنها قد تكون غادرت �إىل واديها الأ�صلي الذي جاءت منه قبل �سنوات‬
‫للتعلم مبدر�سة ال�سيدة غفران‪ ،‬فقالت غفران يف حزن‪:‬‬
‫مال‪� ،‬أخ�شى �أن تتجه �إىل بيوت الرذيلة ‪ ..‬جنح‬ ‫ ال متتلك ً‬
‫�أ�شراف چارتني يف و�أد احللم مبك ًرا ‪..‬‬
‫كانت ر�سالتهم ذلك اليوم حني �أتوا �أن يئدوا حلم زواج‬
‫الن�ساىل‪� ،‬إن مل يكن حيدر بني العائدين باملقاعد لكانوا قد‬
‫جعلوا من و�شوا بي ي�شون به حتى ُيقدم �إىل املحاكمة‪ ،‬وتبقى‬
‫عرو�سه �أمام �أهل الوادي ال حول لها وال قوة ‪..‬‬
‫ثم نظرت �إىل الن�ساىل على الطاوالت الأخرى‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ يبدو �أن ما حدث للن�ساىل خالل القرون الكثرية املا�ضية كان‬
‫ُمدب ًرا ب�إحكام من �أجل �إبقاء ذلك الو�ضع حتى نهاية الدنيا ‪..‬‬
‫كل �شيء يحدث داخل �إطا ٍر مر�سوم بعناية؛ ارتكاب اجلرائم‪،‬‬
‫‪‬‬
‫جه ٌل ُمطبق‪� ،‬أطفال غري �شرعيني‪� ،‬إعدامات للن�ساىل‪ ،‬وح�صد‬
‫ترهيب للعامة من التح ّول �إىل ه�ؤالء املنبوذين ‪� ..‬أمو ٌر‬
‫ٌ‬ ‫�أرواح‪،‬‬
‫جميعها تر�ضي كل الأطراف حتت �أعني �سادة چارتني‪ ،‬لكن �إن‬
‫تخرج عن ذلك الإطار يع ُل �صوت البارود للحفاظ على ذلك‬
‫النظام الذي ُخلق ‪..‬‬
‫قلتُ ‪:‬‬
‫ لكن كتب التاريخ تقول �أن الن�ساىل ارتكبوا كل �شيء �سيئ ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬تقول الكتب ذلك‪ ،‬لكن علينا �أن ن�ضع يف االعتبار �أن من‬
‫لديه ال�سلطة هو من يكتب التاريخ‪� ،‬إنها كلمات مكتوبة‪ ،‬ال‬
‫عليك فقط �إال �أن ترددها على م�سامع الأطفال الذين يدر�سون‬
‫عاما بعد عام‪ ،‬لتنمو معهم ك�أنها حقائق ال �شك فيها يتوارثونها‬
‫ً‬
‫ً‬
‫جيل بعد جيل ‪..‬‬
‫ن�سلي واحد‪� ،‬إنهم‬
‫�إنني �أعي�ش هنا منذ ت�سع �سنوات‪ ،‬مل ي�أذيني ٌ‬
‫مثل كل الب�شر بينهم �صاحلون وبينهم فا�سدون ‪..‬‬
‫ثم نظرت نحو بع�ض الفتية بركن احلانة‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫ لكن يبقى لكل �إطا ٍر ثقوبه‪� ،‬أتاحت القواعد حرية التعليم‬
‫للن�ساىل حتى �سن ال�ساد�سة ع�شر مبدار�س چارتني من �أجل �أن‬
‫تظهر عدالتها‪ ،‬وهم يعلمون �أن الن�ساىل �سريف�ضون ذلك الأمر‬
‫‪‬‬
‫خا�ص ًة مع ا�ستمرار م�ضايقات و�إهانات الأ�شراف �إليهم‪ ،‬لكنهم‬
‫مل ي�ضعوا يف ح�سبانهم �أن هناك من �سيتعلم ويعود �إىل الوادي‬
‫خد�ش حقيقي بذلك الإطار ‪..‬‬ ‫ليبد�أ تعليم غريه‪ ،‬وي�صنع �أول ٍ‬
‫�أدركتُ �أنها تتحدث عن ندمي‪ ،‬فهززتُ ر�أ�سي مواف ًقا حديثها‪،‬‬
‫فوا�صلت‪:‬‬
‫ فرحوا �أنني �أ�صبحتُ ن�سلية‪ ،‬ويجل�سون مبقاعدهم ينتظرون‬
‫خط�أي التايل من �أجل �إعدامي على من�صة جويدا كعربة لأي‬
‫�شريف ت�س ّول له نف�سه ب�أن يفعل ما فعلتُه‪ ،‬وو�أد �أحالم كل ن�سلي‬
‫ٍ‬
‫�س ّولت له نف�سه ب�أنه �سي�صري خمتل ًفا ً‬
‫يوما ما ‪ ..‬لكنهم ن�سوا‬
‫�أنني فقدتُ كل �شيء‪ ،‬ومل يبقَ يل �إال ه�ؤالء القوم‪ ،‬الذين �أحبهم‬
‫ويحبونني‪ ،‬ولن �أ�سمح ب�أي خط�أ لفقدانهم‪.‬‬
‫وابت�سمت وهي تقول‪:‬‬
‫ ال يعلمون �أنهم �صنعوا ن�سلي ًة عنيدة ‪..‬‬
‫ثم نزعت ال�ضمادة عن كتفها يف الوقت الذي بد�أ فيه العازفون‬
‫يف عزفهم‪ ،‬لرتت�سم على وجهي الده�شة حني وجدتُ ندبة جرحها قد‬
‫و�شم �أزرق ُنق�ش حدي ًثا ‪ ..‬ومتتمت ناردين يف‬
‫توارت بالكامل �أ�سفل ٍ‬
‫ذهول‪:‬‬
‫ و�شم الن�ساىل!!‬
‫فقالت غفران‪:‬‬
‫‪‬‬
‫ لقد قررتُ �أن �أكون الن�سلية الأوىل التي ال تكف عن نخر جدران‬
‫ذلك الإطار ‪ ..‬كان الن�ساىل يفتقدون قدو ًة منهم‪ ،‬وقد �ساعدنا‬
‫�سادة چارتني على حتقيق هذا الأمر ‪..‬‬
‫�إنني �أفخر بوجود هذا الو�شم على كتفي‪ ،‬ال �أخجل منه‪،‬‬
‫و�س�أوا�صل ما بد�أ ُته حتى �آخر حلظة من عمري‪ ،‬ومتي �شعر‬
‫الن�ساىل بهذا الفخر‪� ،‬سيوا�صلون طريقهم معي �أكرث مما‬
‫م�ضى ‪� ..‬سي�سقط منا الكثريون‪ ،‬لكن هناك �صغا ًرا قادمني‬
‫�سين�ش�أون على هذا الفخر ‪..‬‬
‫يوما حاملة عار‪ ،‬وعلى كتفي ذلك الو�شم‪ ،‬وكذلك هم‬ ‫مل �أكن ً‬

‫‪9‬‬
‫عاما وراء �آخر‪ ،‬عقودًا‬ ‫‪� ..‬سينخرون بدورهم ذلك الإطار‪ً ،‬‬
‫وراء �أخرى‪ ،‬بي �أو بدوين‪ ،‬اليوم وغدً ا وكل يوم‪ ،‬حتى يجدوا‬
‫يوما ما ‪ ..‬وقتها �سيكون‬ ‫خمرجهم ب�أنف�سهم من ذلك الإطار ً‬
‫امتالء النهر اجلاف بالدماء �أكرث �سهولة من و�ضع � ّأي �إطا ٍر‬
‫حولهم مرة �أخرى‪.‬‬

‫‪‬‬
‫مكان بعيد‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫في‬

‫كانت دوري ٌة من فر�سان �ضباط الأمن تتحرك على الطريق عندما‬


‫وقفت امر�أ ٌة �شابة بجوار عربة خ�شبية متوقفة على جانب الطريق ‪..‬‬
‫وما �إن م ّرت الدورية وابتعدت حتى ركبت املر�أة عربتها‪ ،‬و�صاحت �إىل‬
‫ح�صانها كي يوا�صل حركته‪ ،‬ثم نظرت �إىل �صندوق عربتها‪ ،‬وحركت‬
‫يدها برفق على غطاءٍ من اخلي�ش ّ‬
‫يغطي ج�سدً ا ً‬
‫�ضئيل ب�أ�سفله‪ ،‬وقالت‬
‫با�سمة‪:‬‬
‫ انه�ض �أيها الفتى ‪ ..‬لقد ابتعدوا ‪..‬‬

‫‪9‬‬
‫رفع الطفل الراقد ر�أ�سه لينظر �إىل ال�ضباط وهم يبتعدون‪ ،‬قبل‬
‫�أن يح ّرك عينه �إىل جدار چارتني العظيم‪ ،‬ويوا�صل حتديقه به حني‬
‫قالت املر�أة‪:‬‬
‫  ما زال �أمامنا الطريق ً‬
‫طويل‪.‬‬

‫نهاية الجزء األول‬

‫‪‬‬
‫مت حتميل الكتاب‬

‫من موقع ع�صري الكتب‬

‫للمزيد من الكتب احل�رصية‬


‫‪www.booksjuice.com‬‬

You might also like