You are on page 1of 304

‫دقات الشامو‬

‫دقات ‪W‬‬
‫واية‬
‫ر‬

‫الشامو‬
‫‪b‬‬
‫قواعد چارتني ‪2‬‬

‫عمرو عبد احلميد‬


‫تم التحميل‬

‫عص� الكتب‬
‫ي‬ ‫من موقع‬

‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫إهداء‬

‫إىل‪:‬‬

‫رانيا خالد‬
‫(‪)1‬‬
‫فاضل‬ ‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫ظل اختفاء �سبيل �أرملة لحيدر م�سار احلديث يف وادي الن�ساىل‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫اجلميع‪ ،‬عدا غفران التي بدا على ب‬
‫وجهها ل�لنأنها مل ولن تن�سى ما حدث‬
‫بعد يوم حتى �صار ك�أنه �أمر تنا�ساه‬ ‫يوما‬
‫لأيام ٍكثرية‪ ،‬قبل �أن يتال�شى ً‬

‫را مثلما كانت تفعل‬ ‫�أبدً ا‪ ،‬و�إن كان حديثها عن ذلك الأمر مل يعدشكث ًري‬
‫بالأيام الأوىل بعد اختفاء تلك الفتاة ‪ ..‬ما كان باد ًياوا ول‬
‫ت‬
‫الذي �ستبذله الح ًقا لبثِّ الأمل من جديد يف القلوب ز ع‬
‫اليائ�سةي �سيكون‬
‫للغاية �أن اجلهد‬

‫�أ�ضعا ًفا م�ضاعفة من اجلهد الذي بذلته خالل ال�سنوات املا�ضية يف‬
‫ذلك الوادي‪.‬‬
‫�أما بالن�سبة لريان فكان يظهر بني احلني والآخر ويختفي �إن جاء‬
‫�أي من �ضباط الأمن برفقة �أحد الأ�شراف امل�شاك�سني �إىل الوادي ‪..‬‬
‫�شعرت من احلديث معه ذات مرة �أن داخله بات ي�ؤمن ب�أنه اقرتب‬
‫للغاية من املوت على من�صة جويدا‪ ،‬مثله مثل ناردين التي �أخربتني‬
‫عن امتالكها ال�شعور ذاته ‪..‬‬
‫‪7‬‬
‫وا�ضحا ‪ ..‬مل �أعلم للحظة واحدة �إىل متى‬
‫ً‬ ‫�أما �أنا فلم �أتخذ قرا ًرا‬
‫�س�أبقى يف الوادي ‪ ..‬كذلك مل �أجد عودتي �إىل بني عي�سى �ستكون‬
‫بالأمر املريح يل‪ ،‬بالطبع هناك عائد �صار جيدً ا بعد �سنواتي هناك‪،‬‬
‫لكن من �أجل ماذا؟! ‪� ..‬أن تبقى مدى احلياة يف تلك الدائرة‪ ،‬ماذا‬
‫�سيفيد املال وقتها ؟! ‪ ..‬كما �أنني وعدت غفران بالبقاء معها‪ ،‬هي‬
‫ت�ستحق الدعم بكل ت�أكيد ويف هذا التوقيت �أكرث من �أي وقت م�ضى‬

‫دا‬
‫أجن �شي ًئا من بقائي هنا �سوى الراحة التي �سكنت داخلي‬ ‫‪ ..‬و�إنْ مل � ِ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫مع البقاء جوار هذه املر�أة القوية‪ .‬كل ما كنت �أخ�شاه �أن �أفقدهم‬
‫ص‬
‫جمي ًعا يف حلظة واحدة ‪ ..‬هذا ما كنت �أتوقعه‪ ،‬كذلك تتوقعه غفران‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫‪� ..‬سي�أتي يو ٌم �ستكون فيه غفران �أعلى املن�صة من جديد‪ ،‬لكن هذه‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫املرة لن تكون الرامي‪� ،‬ستكون هي املذنبة التي تتلقى طلقة البارود‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بني حاجبيها‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫يف النهاية اتخذتُ قراري ب�أن �أبقى يف چارتني �إىل �أجل مل �أحدده‪،‬‬
‫و�أكملت وعدي لغفران بالذهاب �إىل باحة جويدا كل يوم غفران من‬

‫زيع‬
‫�أجل مراقبة القائم اجلانبي لعل �آدم يفعلها من جديد ويت�سلقه‪� ،‬أو‬
‫يوما‬
‫وذهبت �إىل �أيام الغفران ً‬
‫ُ‬ ‫�أعرث عليه �صدف ًة بني املتزاحمني ‪..‬‬
‫تلو الآخر ‪ ..‬ح�ضرتُ الأيام التي �أُعدم فيها باقي فتيان املدر�سة الأحد‬
‫ع�شر‪ ،‬ومن بعدها �أيام غفران �أخرى �أُعدم بها ن�ساىل �آخرون مل يكن‬
‫جميعهم من الوادي الذي ن�سكن فيه‪ ،‬لكن القائم اجلانبي بقي خاو ًيا‬
‫كعادته‪ ،‬ومل يظهر الفتى من جديد‪.‬‬
‫كم ال�سعادة على‬
‫مع كل مرة كنت �أذهب فيها �إىل الباحة كنت �أرى َّ‬
‫وجوه الأ�شراف بتلك الإعدامات‪ ،‬كذلك �إعجابهم بذلك ال�ضابط ذي‬
‫ال�شعر الرمادي والعينني الزرقاوين الذي اعتاد اعتالء املن�صة مع كل‬
‫‪8‬‬
‫يوم غفران دون �أن يكون راميها‪ ،‬ليقف بطوله الفارع وكتفيه العري�ضني‬
‫فخر وتبا ٍه ‪ ..‬كنت �أعرفه ج ّيدً ا بعدما كان‬
‫على جانب املن�صة بكل ٍ‬
‫�سب ًبا يف اعتقال فتية املدر�سة وكذلك تلك الندبة التي تركت �أثرها‬
‫على كتف غفران يف تلك الليلة احلزينة ‪� ..‬سمعت يف اليوم الأخري يل‬
‫هناك امر�أة �شابة تنظر نحوه وتقول ب�سعادة ملن جتاورها‪:‬‬
‫ �إنه الفار�س كيوان ‪� ..‬سمعته يق�سم ذات مرة �أنه لن يعرب‬
‫دا‬
‫�سنواته اخلم�سني �إال وقد ق ّدم كل الن�ساىل املجرمني �إىل‬
‫ر‬
‫ع‬
‫املن�صة و�أولهم اخلائنة‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫كنت �أعرف �أنها تق�صد غفران‪ ،‬قبل �أن تكمل يف �إعجاب �شديد‬

‫ك‬
‫ملن حتدثها‪:‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ انظري �إليه‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫كان ال�شر البادي على وجهه اجلامد يجعلني �أ�شعر �أن الأيام‬
‫ين�س لغفران قط تفوقها عليه‬‫القادمة مع وجود ذلك الفار�س الذي مل َ‬

‫زيع‬
‫يف مدر�سة ال�ضباط واقتنا�صها من�صب رامي املن�صة منه �ستكون‬
‫�صعب ًة عليها للغاية ‪ ..‬ح�س ًنا �أيها الكيوان‪ ،‬لرنى ماذا �ستفعل مع امر�أ ٍة‬
‫بذكاء �سيدة الن�ساىل‪ ،‬ي�ساعدها رجل قذفته الأقدار من بالد اله�ضبة‬
‫واد من املنبوذين هنا‪ ،‬ف�صار زاهدً ا يف‬‫الو�سطى �إىل بني عي�سى �إىل ٍ‬
‫احلياة ال ينتظر منها �شي ًئا‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫هكذا م�ضت �أيامى يف وادي الن�ساىل يف �إطار �شبه ثابت بني‬
‫العيادة التي بناها يل ريان و�صارت وجهة مر�ضى الن�ساىل‪ ،‬و�أيام‬
‫يوما واحدً ا‪ ،‬ولقاءاتي مع غفران للحديث‬
‫الغفران التي مل �أف ّوت منها ً‬
‫‪9‬‬
‫معها عما تنوي فعله يف الأيام التالية ‪ ..‬قبل �أن ي�أتي ذلك امل�ساء حني‬
‫انتهيت من جميع املر�ضى‪ ،‬و�أخربين الفتى امل�ساعد يل �أنه مل يتبقَ‬‫ُ‬
‫يل تلك الفتاة دون ا�ستئذان‬ ‫�أحد‪ ،‬وكاد يطفئ امل�صابيح لوال دلفت �إ ّ‬
‫لتقول‪:‬‬
‫ الطبيب!‬

‫دا‬
‫علي‪ ،‬فبادرتني‬
‫بغريب ّ‬
‫ٍ‬ ‫حدقت مبالحمها ‪ ..‬كان ذلك الوجه لي�س‬
‫ُ‬
‫ر‬
‫مت�سائلة‪:‬‬

‫ص‬ ‫ �أال ع‬
‫تذكرتها‪ ،‬بالفعل ري‬
‫تتذكرين؟! �إنني َمن زرتك يف بني عي�سى ‪..‬‬
‫هي ال‪ ..‬الفتاة نف�سها التي �أخربتني عن تب ّدل حال‬
‫كيفت بني عي�سى‪ ،‬وكانت على ال�سفينة‬
‫ذاتها التي حملتني �أنا و�آدم �إىل ب ل‬
‫الن�ساىل يوم جاءتني مري�ضة‬

‫ش لأفقد �آدم حينها بعدما‬


‫ن‬ ‫ل‬
‫چارتني‪ ،‬قبل �أن يقوم �ضابط امليناء‬
‫ر‬
‫ف ّر هار ًبا من ذلك ال�ضابط ‪ ..‬فقلت يف �سعادة‪ :‬وال وت‬
‫ب�شكل خا�ص‪،‬‬
‫باالعتداء على الن�ساىل وعليها ٍ‬

‫زيع‬ ‫ نعم �أتذكرك‪..‬‬


‫و�أ�شرت لها كي جتل�س‪ ،‬فقالت‪:‬‬
‫ مل تخربين يومها �أنك قادم �إىل وادي الن�ساىل ‪..‬‬
‫ابت�سمت وقلت‪:‬‬
‫أخربك‪ ،‬لوال ذلك ال�ضابط ‪..‬‬
‫بك يومها و� ِ‬
‫ �أردت �أن �أحلق ِ‬
‫هزت ر�أ�سها �ضي ًقا وقالت‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫ كان ذلك ال�ضابط يكن يل من الغ�ضب والكره ما يكفي �أر�ض‬
‫چارتني كلها ‪ ..‬لكن لوال طفلك ملا جنوتُ �أبدً ا بعدما جذب انتباه‬
‫اجلميع حينما رك�ض‪ ،‬وبدوري ا�ستطعت الفرار �أنا الأخرى بني‬
‫املتزاحمني‪ ،‬غري �أنني اختب�أت طوال الأ�شهر املا�ضية بعيدً ا عن‬
‫الوادي حتى ُين�سى وجهي‪ ،‬ظ ًنا مني �أن ذلك ال�ضابط املتعجرف‬
‫�سي�أتي �إىل الوادي بح ًثا عني ليقدمني �إىل املن�صة ب�أي تهمة‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ظللت �أتنقل من مكان لآخر‪ ،‬وجل�أت �إىل بع�ض بيوت الرذيلة‬
‫ع‬
‫التي كنت �أعمل فيها قد ًميا و�أعرف �أن �أ�صحابها ميتلكون ً‬
‫حيل‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫كثرية لإخفائنا ‪� ..‬أخ�شى كل هذا الوقت �أن �أعود �إىل الوادي‬
‫علمت مبا حدث ملدر�سة ال�سيدة غفران ولها‬ ‫خا�ص ًة بعدما ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫وللفتيان يف تلك الآونة ‪..‬‬
‫واليوم عدت ور�أيتك منذ �ساعاتبمعلل�سيدتي ‪ ..‬وحني ا�ستف�سرت‬
‫شأنك جئت �إىل الوادي‬ ‫من �إحدى الفتيات عن وجودك ن‬
‫منذ عدة �أ�شهر ‪ ..‬ليتني عرفت ذلك منذر‬
‫وقتوالم�ضى ‪..‬‬
‫علمت �‬

‫و‬ ‫ت‬
‫زيع‬ ‫�س�ألتها متعج ًبا‪:‬‬
‫ ملاذا؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ منذ �أربعة �أ�شهر قابلت طفلك من جديد ‪ ..‬عرفته من اللحظة‬
‫الأوىل ‪..‬‬
‫ت�ساءلت يف ذهول‪:‬‬
‫ُ‬
‫ �آدم؟!‬
‫‪11‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �أين؟!‬

‫دا‬
‫قالت‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ كان �شريدً ا ب�أحد ال�شوارع على �أطراف جويدا الغربية ‪ ..‬كان‬

‫ري‬‫ص‬
‫خائ ًفا للغاية ‪ ..‬خ�شي مني يف البداية لكني طم�أنته وذكرته بي‬
‫ال‬
‫‪� ..‬أدركت �أنه فقدك ‪ ..‬و�أدركت �أنه من ال�صعب �أن �أجدك يف‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫جويدا خا�صة مع قلة حتركي بالنهار‪ ،‬ظللت �أبحث عنك خل�س ًة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يف حانات جويدا ال�شهرية لكنني مل �أعرث عليك ‪ ..‬مل ي� ِأت يف‬
‫ش‬
‫بايل قط �أن تتواجد يف وادي الن�ساىل ‪..‬‬

‫ر وا تول‬
‫يف الوقت ذاته كنت �أخ�شى �أن يعتقلني �ضباط الأمن و�آدم معي‪،‬‬

‫زيع‬
‫ن�سلي مثلي‪ ،‬ف ُيعتقل هو الآخر ويحمل و�شمنا بدون‬ ‫فيظنون �أنه ٌّ‬
‫ذنب‪ ،‬خا�ص ًة �أنه ال ميلك �أورا ًقا تثبت �أنه غريب عن بالدنا‪،‬‬
‫و�أنا �أعلم �أنه لي�س ن�سل ًيا ‪ ..‬فلم �أجد �إال �أن �أ�ستمع �إىل حديثها‬
‫و�أجعله يرافقها بعدما فقدتُ الأمل يف �إيجادك ‪..‬‬
‫ت�ساءلت �سري ًعا‪:‬‬
‫ يرافق َمن ؟!‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �سريين ‪ ..‬فتاة التقيتها يف �أحد بيوت الرذيلة يف جويدا ‪..‬‬
‫‪12‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ وعدتني ب�أنها �ستعتني به ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ ال تعي�ش بهذا الوادي ؟‬

‫دا‬
‫هزت ر�أ�سها نف ًيا ‪ ..‬ف�س�ألتها على الفور‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫واد تعي�ش؟!‬
‫ ب�أي ٍ‬

‫ري‬‫قالت‪ :‬ص‬
‫ مل تكن ن�سلية �أيها ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الطبيب ‪� ..‬إنها امر�أة �شريفة ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ر‬ ‫‪ b‬ش‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪13‬‬
‫(‪)2‬‬
‫سيرين‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬‫ع‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫كانت الرحلة من جويدا �لإىل مدينة «بريحا» ال�شمالية �شاق ًة للغاية‬
‫كت ٍ‬
‫ن‬
‫طرق جانبية كثرية الجتياز ذلك‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫العدد الكبري من دوريات الفر�سان ل‬
‫علي وعلى �آدم‪ ،‬خا�ص ًة مع اتخاذنا‬
‫ّ‬
‫القريبة من جويدا‪ ،‬خ�شية �أن يكون ب�إحداهاش‬
‫املتناثرة على الطرق الرئي�سية‬
‫ر‬
‫باحلجارة كما �أخربتني الفتاة وال وت‬
‫ذلك ال�ضابط الذي‬

‫زيع‬
‫الن�سلية التي عرثت‬ ‫ّ‬
‫ه�شم الطفل �أنفه‬
‫عليه يف �شوارع جويدا‪.‬‬
‫عاما ‪ ،‬فتاة چارتينية �شريفة من‬ ‫ا�سمي �سريين‪� ،‬أربعة وثالثون ً‬
‫«طبرية»‪� ،‬أقرب املدن الچارتينية �إىل جويدا‪ .‬على عك�س‬ ‫مدينة ُ‬
‫أحظ بحياة مرفهة قط منذ طفولتي‪ ،‬كان �أبي‬ ‫�شريفات چارتني مل � َ‬
‫�سب ًبا رئي�س ًيا يف ذلك‪ ،‬بعدما انف�صل عن �أمي قبل �أن �أكمل عامي‬
‫التا�سع‪ ،‬ليرتكني �أنا و�أختي التي تكربين بعامني يف مواجهة احلياة‬
‫مبفردنا خا�ص ًة مع مر�ض �أمنا وموتها بعد ثالثة �أعوام‪ ،‬لأجد نف�سي‬
‫يف �سن الثانية ع�شرة �أحمل مطرق ًة يف �إحدى ور�ش احلدادة‪ ،‬تغطي‬
‫وجهي وثيابي طبق ٌة من الركام الأ�سود‪ ،‬و�أعمل مرغم ًة باملهنة ال�شاقة‬
‫‪15‬‬
‫التي و ّفرها يل �أحد �أقاربنا الذي �أق ّر من نف�سه بعدم حاجتي للمدر�سة‬
‫بعد‪ ،‬لتم�ضي الأيام بثقلها ال�شديد نحو بلوغي‪� ،‬أق�صى ما �أطمح �إليه‬
‫يف هذه الدنيا هو �أن ينت�شلني �أحدهم بالزواج ويريحني من تلك‬
‫املعاناة‪ ،‬غري �أن �أبي النذل مل يرتك يل تلك الفر�صة حتى‪ ،‬بعدما فعل‬
‫�آخر �شيء كان ينق�ص رحلة �شقائي‪ ،‬واجتاز القاعدة الأوىل‪ ،‬وهرب‬
‫من املدينة دون �أن يق ّدم نف�سه �إىل وادي حوران عند بلوغه عامه‬

‫دا‬
‫اخلم�سني‪ ،‬ليعلن القا�ضي �إدانته بالن�سلية‪ ،‬ويعلن اخت�صام الروح‬
‫ر‬
‫لأجنة ن�سله جميعهم‪ ،‬و�أُحرم �أنا و�أختي من �إجناب �أطفال �أحياء قبل‬
‫ع‬
‫ص‬
‫�أن �أمت عامي اخلام�س ع�شر‪.‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫مل �أفهم ق�سوة ما فعله �أبي بنا �إال عندما عربت عامي الع�شرين‬
‫�شاب واحد للزواج مني �أو من �أختي‪،‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫بخم�سة �أعوام كاملة ومل يتقدم ٌ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ومع �سخافة الزبائن يف تلك املدينة وانتهازهم �ضعفنا وعدم كفهم‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫عن التحر�ش بنا �أخربت �أختي برغبتي يف االنتقال للعي�ش يف جويدا‪،‬‬
‫املدينة الكربى التي ال يعرف �سكانها بع�ضهم ً‬
‫بع�ضا‪ ،‬وتتوه بني �أخبارها‬

‫زيع‬
‫الكثرية التفا�صيل ال�صغرية مثلنا‪ ،‬رف�ضت �أختي �أن ترافقني ّ‬
‫وف�ضلت‬
‫�إكمال حياتها يف املدينة التي تعرفها‪� ،‬أما �أنا فانتقلت �إىل جويدا‪،‬‬
‫وتزوجت بالفعل من �شاب هناك يف عامي ال�ساد�س والع�شرين دون‬
‫�إخباره بع ّلتي‪ ،‬ظ ًنا مني �أن حبي الذي �س�أق ّدمه له قد يع ّو�ض رغبته‬
‫يوما ما يف �إجناب �أطفال‪ ،‬لكن مع والدة طفلي الأول ميتًا وكذلك‬ ‫ً‬
‫الثاين مل �أجد �أمامي �سوى االعرتاف له بعقوبتي‪ ،‬اعتقدتُ �أنه قد‬
‫ي�ساحمني بعد ال�سنوات الثالث التي ع�شناها �سو ًيا‪ ،‬لكنه مل ميهلني‬
‫دقيقة واحدة‪ ،‬وجذبني من �شعري بقوة دون تفكري‪ ،‬وج ّرين �إىل خارج‬
‫البيت‪ ،‬قبل �أن يلقي بي يف ال�شارع‪ ،‬ويغلق الباب من خلفي دون �أن‬
‫يقول كلم ًة واحدة‪ ،‬لأعود لل�شقاء من جديد‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫مل �أرغب يف العودة �إىل ُطبرية �أوالعمل يف احلدادة مرة �أخرى بعد‬
‫التوقف عنها لثالثة �أعوام‪ ،‬وبني حاجتي املا�سة للمال وحالة الي�أ�س‬
‫التي �أغرقتني من ر�أ�سي �إىل �أخم�ص قدمي‪� ،‬أوقعني القدر يف �أحد‬
‫�شياطني �أ�شراف جويدا الذي �أغواين بالعمل خل�س ًة يف ٍ‬
‫بيت للرذيلة‬
‫ري من الن�سليات عن العمل هناك يف ال�سنوات‬ ‫ميتلكه بعد عزوف كث ٌ‬
‫اخلم�سة الأخرية‪ ،‬و�أغراين بالأجر الكبري الذي �س�أتقا�ضاه كل ليلة‬

‫دا‬
‫واحلماية التي �سيوفرها يل‪ ،‬خا�ص ًة مع ا�شتهاء زوار تلك البيوت‬
‫يل يف ذلك البيت‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫لل�شريفات الباغيات �أكرث من الن�سليات‪ ،‬لأق�ضي ليا ّ‬

‫ص‬
‫ال فرق بيني وبني الن�سليات �إال و�شم �أكتافهن‪� ،‬أحتمل كافة �أنواع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫االعتداءات دون �شكوى واحدة خو ًفا من �أن ي�شي بي �أحدهم‪ ،‬و�أُعتقل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫على جرميتي مبمار�سة الرذيلة و�أ�صري ن�سلي ًة �أنا الأخرى‪ ،‬لتمر خم�س‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫أيت فيها كافة �أنواع الفا�سدين من‬‫�سنوات كاملة يل بني تلك البيوت ر� ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�أ�شراف چارتني‪ ،‬واكت�شفت مدى الزيف الذي تعي�شه بالدنا املكت�سية‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫بالقواعد ً‬


‫�شكل ‪..‬‬
‫و‬ ‫�إىل �أن التقيت �شهد‪ ،‬الفتاة الن�سلية التي حدثتنيت‬
‫�أعلم ماذا �أ�صابني حني ر�أيت ذلك الطفل‪ ،‬وملاذا تع ّلق بهزيع‬
‫عن �آدم ‪ ..‬ال‬
‫قلبي �إىل‬
‫ذلك احلد‪ ،‬وحني �أخربتني ق�صته وعما فعله معها بامليناء اجلنوبي‬
‫وحدثتني عن تخ ّوفها ب�أن ُيعتقل معها فيكون و�شم الن�ساىل م�صريه‬
‫دون ذنب وجدت عقلي يفكر بالقرار الذي �أجلته ل�سنوات‪ ،‬وبد�أ داخلي‬
‫على ب�أن الوقت قد حان لرتك بيوت الرذيلة‪ ،‬بل ترك جويدا‬ ‫يلح ّ‬
‫ب�أكملها واالنطالق بعيدً ا عن هذه املدينة التي حملت يل كث ًريا من‬
‫أ�ست يف الو�صول‬
‫فعر�ضت عليها �أن �أتوىل رعايته بعدما ي� ْ‬
‫ُ‬ ‫الأيام امل�ؤملة‪،‬‬
‫وتزايد �شعورها بقرب اعتقالها مع احلمالت الكثرية الأخرية‬
‫َ‬ ‫�إىل �أبيه‬
‫بفار�س فا�سد‬
‫�ضد الن�ساىل‪ ،‬فوافقت دون جدال ‪ ..‬ثم انتهزتُ معرفتي ٍ‬
‫‪17‬‬
‫كان دائم الرتدد على بيت الرذيلة الذي كنت �أعمل فيه‪ ،‬ف�ساعدين‬
‫�شرف ُمز ّور با�سم �آدم على �أنه ابن �أختي بعدما‬ ‫على ا�ستخراج �صك ٍ‬
‫ت�أكد بنف�سه �أن الطفل ال يحمل و�ش ًما‪ ،‬ونال مني وعدً ا ب�أن �أغادر‬
‫جويدا يف خالل �أيام ‪ ..‬انتظرتُ �أن �أرى الفتاة الن�سلية من جديد‬
‫لأخربها عن وجهتي‪ ،‬لكني مل �ألتقيها جمددًا‪ ،‬فج ّمعت ما اكت�سبته‬
‫من مال‪ ،‬وا�شرتيت ح�صا ًنا وعرب ًة‪ ،‬وبد�أت رحلتنا �أنا و�آدم �إىل بريحا‪،‬‬

‫دا‬
‫�أبعد املدن الچارتينية عن جويدا‪.‬‬
‫‪b‬‬ ‫ع‬ ‫ر‬
‫ري‬‫ص‬
‫حاولت �أن �أبادله‬
‫ُ‬
‫ال‬
‫ظل الطفل �صامتًا �صمتًا غري ًبا طوال رحلتنا ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫بكلمات قليلة ثم يعود‬
‫ٍ‬ ‫�أطراف احلديث �أكرث من مرة لكنه كان ينطق‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�إىل �صمته مت� ً‬
‫ل‬
‫أمل جوانب الطرق �أو جدار چارتني الذي بد�أ يظهر يف‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫الأفق مع اقرتابنا من مدينة «قباال» التي تنت�صف امل�سافة بني جويدا‬

‫ر وا تول‬
‫حاولت �أن �أعرف منه �أي �شيء عن حياته ال�سابقة‪ ،‬عن‬ ‫ُ‬ ‫وبريحا ‪..‬‬
‫والده‪ ،‬عن الإقليم الذي كان يعي�ش فيه �شمال بحر �أكما‪ ،‬لكنه مل‬
‫زيع‬
‫يجبني ب�شيء ُيذكر‪ ،‬ووا�صل �صمته الغريب ‪ ..‬قبل �أن يخلد �إىل نومه‪،‬‬
‫ومل ينه�ض �إال مع و�صولنا بريحا‪.‬‬
‫كان �أكرث ما مييز هذه املدينة هو قلة عدد �سكانها مقارن ًة ب�أي مدينة‬
‫�أخرى من مدن چارتني‪ ،‬حتى �أنني مل �أجد �أدنى �صعوبة يف �شراء بيت‬
‫�صغري لنا‪ ،‬ثم دلني �أحدهم بالأيام التالية على ور�شة حدادة كربى‬
‫ميتلكها رجل ُي�سمى ال�سيد عبود‪ ،‬قال ب�أنه �سيعطيني عمل ًة نحا�سية‬
‫عن اليوم الواحد بعدما اخترب مهارتي يف ت�شكيل املعادن‪ ،‬فوافقت‪.‬‬
‫لأبد�أ حيا ًة جديدة بعيدة عن الذل والقهر الذي ع�شته خالل �سنواتي‬
‫املا�ضية‪ ،‬ي�ؤن�س وحدتي �آدم ال�ساكت �أغلب الوقت‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫حد‬
‫وعلى مدار ال�شهور التالية كان كل �شيء يبدو طبيع ًيا �إىل ٍ‬
‫كبري‪ ،‬ومل �أ�شغل بايل كث ًريا بتجنب الطفل يل‪� ،‬أو جتنبه للتحدث مع‬
‫�أي من جرياننا ظ ًنا مني �أنه يحتاج مزيدً ا من الوقت ال �أكرث ‪ ..‬قبل‬
‫�أن حتدث �أكرث الأ�شياء غراب ًة‪ ،‬عندما نه�ضت من نومي مفزوع ًة على‬
‫تلك الطرقات امل�ستمرة وذلك ال�صوت الغريب الذي كان ي�أتي من‬
‫غرفته ليتداخل مع عويل الرياح التي مل تهد�أ يف تلك الليلة املطرية‪،‬‬

‫دا‬
‫أ�سرعت �إليه وجدته ُملقى على الأر�ض‪ُ ،‬مزق الثياب‪ ،‬بارز‬ ‫ُ‬ ‫وحني �‬
‫قب�ضتي يده‪.‬‬
‫ّ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫الع�ضالت ب�شكل غريب‪ ،‬ت�سيل الدماء من‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال ‪b‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪19‬‬
‫(‪)3‬‬
‫غفران‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫مرت �أربعة �أ�شهر منذ لذلك اليوم الذي �أعلنوين به ن�سلية‪ ،‬كان‬
‫كت�صار قدوم �أ�شقياء الأ�شراف �إىل‬
‫وادينا يرافقهم رجال ال�شرطة �أكرثبمنلل �نأي وقت م�ضى‪ ،‬و�صارت‬
‫كل يوم منها يحمل حز ًنا جديدً ا ‪..‬‬

‫رإخراج �أ�سو�أ رد فعل‬ ‫وقبحا ك�أنهم ش‬


‫و‬
‫كنتال�تأعلم يوم تزوج‬
‫م�ضايقاتهم �أكرث فظاظ ًة ً‬
‫يتعمدون �‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫لنا كي يج ّروا املزيد منا �إىل من�صة �إعدامهم ‪..‬‬
‫ع‬
‫يحدث �أن‬ ‫حيدر و�سبيل �أننا �سنواجه املزيد من املتاعب لكن ما بات‬
‫أديب لنا على تلك الفعلة ‪ ..‬ك�أنها اجلرمية‬
‫الأمر �صار وك�أنه انتقا ٌم وت� ٌ‬
‫الكربى التي ارتكبناها وبات على كيوان ورجاله معاقبتهم لنا عليها‬
‫مدى احلياة‪.‬‬
‫ظالما وخوا ًء بعدما �أ�صبح �صوت بارود‬
‫�صارت ليايل الوادي �أكرث ً‬
‫رجال ال�شرطة م�ألو ًفا ب�سماء وادينا لي�صيب كل من ت�س ّول له نف�سه �أو‬
‫ت�س ّول لها نف�سها حق االعرتا�ض على ما يطلبه ال�شريف‪ ،‬وا�ضطرت‬
‫�أغلبية الفتيات ممن ترف�ضن ممار�سة الرذيلة �إىل الهروب مع غروب‬
‫واد مظلم باجلوار حتى تنتهي �ساعات الليل ل�ضمان‬ ‫ال�شم�س نحو ٍ‬
‫‪21‬‬
‫مغادرة �أولئك ال�سفلة ‪� ..‬أما النهار فكان �أكرث �أما ًنا و�إ�شرا ًقا رمبا لأن‬
‫حرارة ال�شم�س احلارقة كانت تقينا �شر ه�ؤالء الأ�شقياء املدللني ‪..‬‬
‫مل يعرت�ضني �أحد من �أولئك الأ�شقياء‪ ،‬لكني عزمت بيني وبني‬
‫نف�سي �أنني و�إن ُو�ضعت يف مثل ذلك الأمر‪ ،‬فلن �أتوانى عن تك�سري‬
‫�صفوف �أ�سنانه العلوية وال�سفلية م ًعا و�إن كان �آخر يوم يف عمري‪.‬‬
‫على مدار تلك الأيام حاولت قدر امل�ستطاع �أن �أوا�صل ما بد�أته‪ ،‬و�أن‬
‫�أحافظ على بث الأمل يف قلوب الن�ساىل‪ ،‬لكني و�إن كنت �أرى من‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫ال�شبان والفتيات حما�ستهم الكبرية لإكمال ما بد�أناه ‪ ..‬كان اخلوف‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وا�ضحا لعيني كل الو�ضوح‪ ،‬لأ�شعر داخل‬ ‫ً‬ ‫والت�شتت البادي يف �أعينهم‬
‫نف�سي �أن جهد ال�سنوات املا�ضية �صار ح ًقا يف مهب الريح‪.‬‬
‫كت‪b‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫�أكملنا العمل نها ًرا ي�ساعدين ريانب ل‬
‫ش‬
‫بالبقاء فاطم�أن قلبي ‪ ..‬كنت يف حاجة �إىلركلو م�ساعدة ممكنة‪،‬‬
‫وناردين والطبيب الذي وعدين‬

‫ووجود فا�ضل بيننا كان مبثابة دعم حقيقي جاءالتيفو موعده ً‬


‫‪ ..‬وددتُ لو عرث على �آدم يف زياراته املتتالية �إىل باحةزيع‬
‫متاما‬
‫جويدا �أيام‬
‫الغفران‪ ،‬لكنه مل يجده‪ ،‬و�صارت معظم �أحاديثنا عن تلك النظرات‬
‫احلادة التي يراها يف �أعني الفار�س كيوان وعن نواياه ال�سيئة املُعلنة‬
‫قبول كب ًريا من عامة الأ�شراف ‪ ..‬كان جوابي له‬‫جتاهنا والتي تلقى ً‬
‫كل مرة ب�أنه لي�س علينا �سوى �إكمال طريقنا الذي بد�أناه وليحدث ما‬
‫يحدث ‪..‬‬
‫يل ومعه الفتاة الن�سلية �شهد‬‫ثم جاء �صباح ذلك اليوم حني دلف �إ ّ‬
‫التي عادت �إىل وادينا بعد غياب‪ ،‬و�أخربين بنربة حمبطة ب�أنه مل‬
‫‪22‬‬
‫يعد هناك فائدة من ذهابه �إىل الباحة‪ ،‬و�أتبع قوله ب�أن �آدم قد غادر‬
‫ت�ساءلت بعيني دون �أن �أنطق‪:‬‬
‫ُ‬ ‫جويدا ‪..‬‬
‫ كيف عرفت؟!‬
‫نظر �إىل الفتاة‪ ،‬فقالت يف حزن‪:‬‬
‫ نعم يا �سيدتي‪ ،‬لقد كان معي قبل �أن ت�أخذه فتاة �شريفة مني كي‬
‫دا‬
‫تعتني به بعد ف�شلي يف العثور على الطبيب ‪� ..‬أردتُ �أن �أرد له‬
‫ر‬
‫ع‬
‫اجلميل بعدما �أ�صاب ال�ضابط من �أجلي‪ ،‬وخ�شيت �أن مي�سك به‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫اجلنود معي فيعاين طوال حياته ‪ ..‬مل �أكن �أعرف �أنه ن�سلي‪..‬‬
‫عرفت من ال‬
‫ك‬
‫الطبيب بالأم�س �أنه ن�سلي مثلنا ذهبت على‬ ‫وعندما ُ‬
‫الذيتقابلتها فيه بح ًثا عنها‪ ،‬فعرفت‬
‫ب لتخرب �أحدً ا عن وجهتها ‪..‬‬
‫الفور �إىل بيت الرذيلة‬

‫ش‬ ‫ل‬
‫أذنت لها باالن�صراف ن‬
‫�أنها تركت جويدا ب�أكملها دون �أن‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫قلت‬
‫فا�ضل معي ‪ ..‬ثم ُ‬ ‫وظل‬ ‫�صمت ً‬
‫قليل‪ ،‬و� ُ‬ ‫ُّ‬

‫زيع‬
‫بعد فرتة من ال�صمت‪:‬‬
‫يوما ما ‪..‬‬
‫ رمبا يعود ً‬
‫�أخرج فا�ضل زفريه ببطء‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ اليعرف �أنه ن�سلي ‪ ..‬وال تعرف الفتاة التي �أخذته كذلك ‪..‬‬
‫فقلت بنربة �شاردة‪:‬‬
‫  على الأقل �سيهن�أ بعي�شة كرمية معها �إن مل ت�شك يف �أمره‪ ،‬ومل‬
‫يوما ما �إىل اجلنود‪.‬‬
‫تقم بت�سليمه ً‬

‫‪23‬‬
‫‪b‬‬
‫حاولت �أن �أتنا�سى الأمر‪ ،‬مل �أكن �أعلم ح ًقا حاجتي يف جميء �آدم‬
‫�إىل وادينا ‪ ..‬وحاولت �أن �أقنع نف�سي �أن عودته لن تعني �أبدً ا عودة‬
‫ندمي ‪ ..‬و�أن ندمي قد مات بال رجعة كمن ماتوا قبله ‪ ..‬ومرت �أيام‬
‫�أخرى كثرية مل تختلف عن الأيام ال�صعبة التي �أح ّلت بنا‪ ،‬قبل �أن‬
‫ُتلقى يف مياهنا الراكدة ال�صخرة الكربى‪ ،‬وت�أتي تلك الليلة حني ُطرق‬
‫بابي ُقبيل �شروق ال�شم�س‪ ،‬وعندما نه�ضت من فرا�شي وفتحته وجدت‬

‫دا‬
‫�سبيل زوجة حيدر التي اختفت قبل �شهور تقف �أمامي‪ ،‬وقبل �أن �أنطق‬
‫ر‬
‫ �إنني حبلىع‬
‫ب�شيء من املفاج�أة التي �أ�صابتني‪ ،‬قالت وهي ت�شري �إىل بطنها‪:‬‬
‫ص‬
‫ري ال‬
‫روحا خارج باحة جويدا‪.‬‬
‫بجنني ح�صد ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬‫‪b‬‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪24‬‬
‫�أدخلت �سبيل �إىل كوخي على الفور ‪ ..‬كان ظهورها �أمامي مفاج�أ ًة‬
‫كبرية مل �أكن لأتوقعها‪� ،‬أما حديثها عن جنينها فكان كربى املفاج�آت‬
‫قلت و�أنا‬
‫دا‬
‫يل منذ قدومي �إىل وادي الن�ساىل �أو رمبا يف حياتي كلها‪ُ ،‬‬
‫ر‬
‫ع‬
‫�أبتلع ريقي من املفاج�أة بعدما �أجل�ستها �أمامي‪:‬‬

‫ري‬‫ ماذا حدث؟ ص‬


‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫قالت‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ بعدما �أُعدم حيدر �أمام عيني يف باحة جويدا كنت يف حاجة‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�إىل الفرار من كل �شيء هنا ‪ ..‬فاتخذتُ قراري بالرحيل دون �أن‬
‫�أعرف يل وجهة‪� ..‬أردتُ الرحيل فح�سب ‪ ..‬فكرتُ يف العودة �إىل‬

‫زيع‬
‫الوادي الذي ن�ش�أتُ به‪ ،‬لكني خ�شيت �أن �أرى يف �أعينهم نظرات‬
‫يديك من‬
‫ال�شماتة بعدما تركتهم من �أجل املجيء للتعلم على ِ‬
‫�أجل تغيري م�صريي ‪ ..‬فقررتُ يف حلظة تغيري وجهتي والذهاب‬
‫�إىل ن�ساىل الوديان الغربية‪ ،‬كنت �أعرف بع�ض فتياتهم قد ًميا‬
‫‪ ..‬كما �أنهم بعيدون للغاية عن هنا ‪..‬‬
‫إليك يا �سيدتي لكن‬ ‫بعد �أيامي الأوىل هناك فكرت يف العودة � ِ‬
‫خماويف من ذكرياتي ال�سيئة ظ ّلت حاجزً ا بيني وبني هذا‬
‫املكان‪ ،‬ف�آثرتُ البقاء هناك ‪ ..‬يف البداية كنت �أقتات معهم من‬
‫�سرقات �صغرية ل�سفن الب�ضائع‪ ،‬قبل �أن �أقرر ب�أن �أبد�أ يف تعليم‬
‫ٍ‬
‫‪25‬‬
‫فعلت يا �سيدتي مع �أبناء هذا‬
‫بع�ضهم القراءة والكتابة كما ِ‬
‫الوادي‪ ،‬وبد�أت بالفعل مع بع�ض �أطفالهم وبناتهم ‪..‬‬
‫ذات يوم �شعرتُ ب�إعياءٍ �شديد و�أ�صابني الدوار والقيء ‪..‬‬
‫ظننت الأمر عاد ًيا �أو �إرها ًقا من وقويف امل�ستمر �أمام الأطفال‪،‬‬
‫ُ‬
‫اهتماما‪ ،‬لكن �إعيائي‬
‫ً‬ ‫و�أكملت يومي دون �إعطاء ذلك التعب‬
‫تكرر �أكرث من مرة‪ ،‬وبد�أت بع�ض التغريات حتدث يف ج�سدي‬

‫ر‬ ‫ا‬
‫لتبد�أ �شكوكي تتزايد بداخلي ‪..‬‬
‫د‬
‫حاولت �أنعا�ستبعد تلك الأفكار من ر�أ�سي لكني يف نهاية الأمر‬
‫ألت امر�أةصتكربين �س ًنا عما يحدث يل‪ ،‬ف�أخربتني ب�أنها‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫لي�ست �إال �أعرا�ض لللحمل‪ ،‬مل �أ�ص ّدقها كما مل �أ�ص ّدق نف�سي‪،‬‬
‫�س� ُ‬

‫ت‬ ‫و�س� ُألت �أخرى عجوز ف�ك‬


‫ب‪..‬للنوخرجت �أهرول و�أ�صرخ بيني‬
‫أخربتني هي الأخرى كذلك ‪..‬‬

‫ش‬
‫وبني نف�سي‪« :‬معقول !! ‪ ..‬لقد فعلناها يارحيدر ‪ ..‬لقد فعلناها‬
‫كادت الفرحة ت�صيبني باجلنون‬

‫وال وت‬
‫متالكت نف�سي كان كل تفكريي يدور عن زيع‬
‫‪»..‬‬
‫كيفية ح�صاد‬ ‫ُ‬ ‫حني‬
‫جنيني لروحه ‪ ..‬تعودت ن�ساء الن�ساىل على الذهاب �إىل الباحة‬
‫أرواحا لأجنتهن ‪� ..‬أما طفلي فكنت �أعلم �أنه‬
‫من �أجل ح�صد � ً‬
‫متاما ‪ ..‬لكني و�إن كنت �أعرف قواعد چار ِتني‪ ،‬كنت‬ ‫�شرعي ً‬
‫روحا نقية‬
‫�أخ�شى �أن تكمل الأر�ض ظلمها يل و�أال يح�صد طفلي ً‬
‫كما وعدتني يا �سيدتي‪ ،‬و�أن يكون الذهاب به �إىل الباحة �أيام‬
‫روحا تكون ن�سلية‪ ،‬كما ُولدت‬
‫الغفران هو ال�سبيل الوحيد لينال ً‬
‫�أنا وكل من �أعرفهم ‪..‬‬

‫‪26‬‬
‫�شك من �أمري‪� ،‬إن كان جنيني هذا ن�سل ًيا لكوين‬ ‫�صرتُ يف ٍ‬
‫�أنا وحيدر ن�سليني؟! �أم �أنه ح ًقا �شرعي لزواجنا يف الباحة‪،‬‬
‫وبد�أت احلرية تدق داخلي بقوة؛ ي ّلح �أحد جوانبي ب�أن �أذهب‬
‫روح هناك‬ ‫�إىل الباحة كل يوم غفران لع ّله ي�ضمن ح�صاد ٍ‬
‫و�إن عا�ش ن�سلي‪ ،‬بينما ي�صرخ جانب �آخر ّيف يف غ�ضب ب�أن‬
‫�أبقى بعيدة كل البعد عن الباحة يف انتظار �أن ت�سري الأمور‬

‫دا‬
‫كما خططنا لها ل ُيولد �شري ًفا ‪ ..‬ومع اقرتاب نهاية كل �شهر‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫كانت تلك احلرية ت�شتعل داخلي من جديد بعدما ظل اجلانب‬
‫ص‬
‫اخلائف مني يخ�شى �أن �أبقى بعيدة عن الباحة‪ ،‬فتمر �أ�شهر‬
‫روح‪ ،‬و ُيولد اجلنني ميتًا و�أفقد‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫تباعا دون �أن �أح�صد �أي ٍ‬
‫احلمل ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�آخر ما تبقى يل من رائحة حيدر‪ ،‬وخا�صة بعدما زارين �أكرث‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫كابو�س كنت �أرى فيهم ب�أنني �أ�ضع جني ًنا ميتًا لأنه�ض من‬
‫ل‬
‫ٍ‬ ‫من‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫نومي مفزوع ًة ‪..‬‬

‫ر وا تول‬
‫أق�سمت‬
‫حتى قررت يف النهاية ب�أن �أنهى ذلك ال�صراع بداخلي‪ ،‬و� ُ‬

‫زيع‬
‫بروح حيدر ب�أنني لن �أذهب بجنيني �إىل الباحة مهما كانت‬
‫النتيجة وا�ضع ًة �أمامي م�صري �أبيه الذي �أُعدم ظل ًما‪.‬‬
‫وانفرجت �أ�ساريرها وهي تقول‪:‬‬
‫ �إىل �أن جاء الأم�س‪ ،‬كنت يف جل�س ٍة مع الأطفال �أقر�أ لهم عندما‬
‫�شعرتُ بتلك احلركة املفاجئة داخل بطني‪ ،‬لأدرك �أن جنيني‬
‫قد فعلها وح�صد روحه بعيدً ا عن الباحة ويف يوم لي�س يوم‬
‫غفران‪ ،‬مثل باقي �أ�شراف چار ِتني ‪ ..‬وقتها مل �أخرب �أحدً ا‪ ،‬ومل‬
‫إليك يا�سيدتي ‪..‬‬
‫�أفكر �سوى يف �شيء واحد فقط وهو العودة � ِ‬
‫و�أردفت بحما�س ٍكبري والدموع تلمع بعينيها‪:‬‬
‫‪27‬‬
‫  لقد �أن�صفتنا �أر�ض چار ِتني �سيدتي ‪..‬‬
‫‪b‬‬
‫ال �أ�ستطيع �أن �أ�صف ال�سعادة التي اجتاحت داخلي حني انتهت‬
‫الفتاة من كلماتها حتى �أنني نه�ضت واحت�ضنتها و�أطلت احت�ضانها‬
‫ثم ق ّبلت ر�أ�سها ك�أنني �صرت �أمتلك �سعادة الدنيا كلها ‪ ..‬ثم �أ�شرقت‬

‫دا‬
‫و�شاحا �أعطيته لها فوق ر�أ�سها كي ال‬
‫ً‬ ‫ال�شم�س ف�س�ألتها �أن ترتدي‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫يعرفها �أحد‪ ،‬واجتهنا �سو ًيا يف خفية �إىل كوخ الطبيب الذي تعجب‬

‫ري‬‫ص‬
‫حني فتح بابه بعينني ن�صف ُمغلقتني ووجدين �أمامه يف ذلك التوقيت‬
‫ال‬
‫املبكر جدً ا من النهار ‪ ..‬مل �أنطق ب�شيء لكني �أ�شرت �إىل �سبيل كي‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫تتقدم �إىل الداخل‪ ،‬وحني نزعت و�شاح ر�أ�سها �س�ألني الطبيب يف‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ت�شكك‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫ �أرملة حيدر؟!‬
‫هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا ‪ ..‬ثم �أغلقت الباب من خلفنا‪ ،‬وقلت يف فرحة‬
‫ز‬
‫�شريفي‪..‬ع‬
‫كبرية‪:‬‬
‫ لقد حدثت املعجزة ‪� ..‬إن �سبيل حبلى بجنني‬
‫ات�سعت حدقتا عينيه ك�أنه ال ي�صدق ما �أقوله‪ ،‬و�س�ألها على الفور �أن‬
‫ت�صعد �إىل �سرير الك�شف دون �أن ي�سمع مني املزيد‪ ،‬وبد�أ يف �س�ؤالها‬
‫�أ�سئلة كثرية متتالية عن بع�ض الأعرا�ض الطبية‪ ،‬قبل �أن ي�ستخدم‬
‫وقفت‬
‫�سماعته الطبية وميررها على بطنها يف تركيز �شديد‪ ،‬بينما ُ‬
‫يل وقد انفرجت‬ ‫مكاين �أ�شاهد ما يفعله يف ترقب‪ ،‬حتى انتهى فالتفت �إ ّ‬
‫�أ�سارير وجهه بدرجة مل �أرها عليه من قبل‪ ،‬وقال يف حما�س كبري‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫تغي م�صري الن�ساىل ‪..‬‬
‫ لقد ّ‬
‫لكنه �صمت بعد حلظة واحدة‪ ،‬وتب ّدلت مالمح وجهه ك�أنه ف ّكر‬
‫فيما كنت �أفكر به �أثناء فح�صه لها‪ ،‬ف�س�ألتُه ب�صوت ي�شوبه القلق‪:‬‬
‫ للأح�سن‪� ،‬ألي�س كذلك؟!‬
‫نظر �إ ّ‬
‫يل‪ ،‬و�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا بدون �أن يتحدث‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫‪b‬‬ ‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪29‬‬
‫(‪)4‬‬
‫سيرين‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫�أ�صابني الفزع ال�شديد حني ر�أيت �آدم ُملقى على الأر�ض ت�سيل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الدماء من قب�ضت ّيه ‪ ..‬و�أ�سرعت نحوه وجثوت على ركبتي بجواره‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫لأت�أكد �أنه ال يزال ح ًيا ‪ ..‬كان قلبه يدق بقوة حني و�ضعت راحة يدي‬
‫على �صدره فيما كانت �أنفا�سه هادئ ًة للغاية ‪ ..‬كان الوقت مت�أخ ًرا جدً ا‬

‫زيع‬
‫فلم �أ�ستطع اال�ستعانة ب�أحد خا�ص ًة مع �سوء طق�س تلك الليلة وعدم‬
‫توقف املطر عن هطوله‪ ،‬فحملته �إىل �سريره بعدما عادت عروق‬
‫ج�سده املنتفخة وع�ضالته �إىل هيئتها الطبيعية ‪ ..‬و�أخذت �أناديه‬
‫مرات كثرية يف قلق حذر لعله يفيق‪� ،‬إىل �أن فتح عينيه �أخ ًريا‪،‬‬‫با�سمه ٍ‬
‫فتنف�ست ال�صعداء ‪..‬‬
‫با�ستغراب �إىل الغرفة من‬
‫ٍ‬ ‫نظر �إ ّ‬
‫يل متع ًبا زائغ العينني‪ ،‬ثم نظر‬
‫حوله ك�أنه ال يدري ماذا حدث‪ ،‬بعدها نظر �إىل يديه ووجهه ُيعت�صر‬
‫من الأمل ‪ ..‬فقلت حماول ًة �أن �أهدئ من روعه‪:‬‬
‫‪31‬‬
‫ �ستكون بخري يا �صغريي ‪..‬‬
‫مهرو�سا‬
‫ً‬ ‫ثم نه�ضت و�أح�ضرت �إنا ًء �صغ ًريا من املاء وع�ش ًبا طب ًيا‬
‫لدي وقط ًعا قما�شية نظيفة‪ ،‬وعدت �إليه‪ ،‬وبد�أت �أنظف جروح‬ ‫كان ّ‬
‫يديه باملاء‪ ،‬قبل �أن �أغطيها بالع�شب املهرو�س و�أ�ض ّمدها بقطع‬
‫القما�ش‪ .‬وك�أن ت�ضميدي ليديه قد خ ّفف من حدة ت�أمله‪� ،‬أغم�ض عينيه‬

‫دا‬
‫وغاب يف �سبات عميق‪.‬‬
‫‪b‬‬ ‫ع‬ ‫ر‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫جل�ست بجواره �أراقبه وهو نائم‪ ،‬و�أفكر فيما حدث له قبل قليل‪،‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫�سمعت كث ًريا عن غرابة بع�ض الأطفال‪ ،‬واعتقدت �أن �آدم مثلهم‪ ،‬لذا‬
‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كنت �أجتاهل عن عمد �أي رد فعل غريب له جتاهي‪ ،‬لكن مع ما حدث‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫طفل غريب الأطوار‪ ،‬وبقي‬ ‫تلك الليلة �شعرت �أن الأمر يتجاوز كونه ً‬
‫تفكريي �شاردًا يف هذا الأمر �إىل �أن طلع النهار‪ ،‬فت�أكدت �أنه يغط‬

‫زيع‬
‫نوم عميق‪ ،‬ثم ارتديت ثيابي الثقيلة وحذاء املطر‪ ،‬و�أ�سرعت �إىل‬ ‫يف ٍ‬
‫طبيب �شاب دلتني �إليه �إحدى جاراتي‪ ،‬و�أح�ضرته �إىل بيتنا ‪..‬‬
‫قام ب�إزالة ال�ضمادة التي �صنعتها بعدما �أيقظت �آدم ‪ ..‬تعجب حني‬
‫ر�أى مدى �إ�صاباته و�س�أله عما �أ�صاب يديه بتلك اجلروح البالغة ‪..‬‬
‫قال ال�صبي �أنه ال يتذكر كيف �أ�صيب بها ‪ ..‬كان ال�صدق باد ًيا على‬
‫وجه �آدم فتعجب الطبيب وبد�أ يفح�ص فمه ول�سانه قبل �أن يفح�ص‬
‫يديه جمددًا ويقوم بتطهريها وت�ضميدها من جديد‪ ،‬ثم التفت �إ ّ‬
‫يل‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪32‬‬
‫ حني �أخربتني �أنه قد �أُ�صيب وهو فاقد للوعي جال بخاطري‬
‫وجرحت يده نتيجة‬ ‫يف الطريق �أنها قد تكون نوب ًة لل�صرع ُ‬
‫ال�سقوط ‪� ..‬أما �إ�صابة مثل هذه لي�ست ً‬
‫منطا معتادًا للإ�صابة‬
‫بعد ال�سقوط على الأر�ض ‪..‬‬
‫وتابع حائ ًرا‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫  ال �أعلم كيف ي�صيب املرء نف�سه �إىل هذا احلد دون ال�شعور‬
‫ع‬
‫وعاد �إىل �آدم و�س�ص‬
‫ب�أمل يجعله يتوقف عن �إحداث املزيد من الإ�صابة ‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬‫أله‪:‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ �أال تتذكر ح ًقا كيف �أُ�صيبت يداك؟‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫هز ال�صبي ر�أ�سه �إيجا ًبا‪ ،‬فالتفت �إ ّ‬
‫يل الطبيب وقال‪:‬‬

‫زيع‬
‫نوعا من �أنواع الهياج خا�صة مع انتفاخ عروقه‬ ‫ قد يكون ً‬
‫بال�صورة التي حدثتني عنها‪ ،‬لكني ال �أ�ستطيع اجلزم بذلك ‪..‬‬
‫�أعدك �أنني �س�أبحث يف كتبي عن اجتماع هذه الأعرا�ض �سو ًيا‬
‫و�س�أخربك �إن وجدت �شي ًئا يفوتني ‪� ..‬سنهتم بهذه اجلروح الآن‬
‫عليك �أن تراقبيه جيدً ا ‪..‬‬ ‫ً‬
‫م�ستقبل‪ ،‬لكن ِ‬ ‫ونتمنى �أال يكررها‬
‫�أوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪� ،‬س�أفعل‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪33‬‬
‫يف الأيام التالية انتقلت للمبيت معه يف غرفته‪ ،‬مل يتكرر ما حدث‬
‫له تلك الليلة خالل �أيام مبيتي معه‪ ،‬فقررت �أن �أبقى معه ً‬
‫ليل‪ ،‬و�آخذه‬
‫معي نها ًرا �إىل ور�شة احلدادة التي كنت �أعمل بها بعدما ا�ست�أذنت‬
‫ال�سيد عبود �صاحب الور�شة ‪..‬‬
‫على عك�س بقية ال�صبية كان �آدم يجل�س جان ًبا ينظر �إ ّ‬
‫يل و�أنا �أعمل‬

‫دا‬
‫دون �أن يتحرك كث ًريا‪ ،‬حتى �أن باقي الن�ساء ممن يعملن معي قد‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫الحظن ذلك‪ .‬قبل �أن �أنتبه �إىل عالمات الفرحة التي كانت تظهر على‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫حدوات منا�سبة‬
‫ٍ‬ ‫وجهه ك ّلما �أتى �أحد الزبائن بح�صانه لأ�صنع لأقدامه‬

‫ك‬
‫ب�شغف كبري تدرك معه تعلق ذلك الطفل‬ ‫‪ ..‬كان ينظر �إىل الأح�صنة ٍ‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫يوما ينه�ض من مو�ضعه ويحاول‬ ‫باخليول‪ ،‬لذا مل �أتعجب حني وجدته ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�أن يطعم �أحد الأح�صنة ع�ش ًبا اقتلعه من فناء الور�شة‪ ،‬قبل �أن يربت‬

‫ر وا تول‬
‫بيده امل�ضمدة على غرة ر�أ�سه دون خوف‪ ،‬وك�أن احل�صان قد �ألفه مل‬

‫زيع‬
‫يل وابت�سم يل حني‬ ‫�ساكن ‪ ..‬ما تعجبت منه ح ًقا �أنه نظر �إ ّ‬
‫يحرك �أي ٍ‬
‫خ�ضع له احل�صان ‪ ..‬وقتها تركت ما بيدي وم�سحت يدي املت�سخة‬
‫برفق �أنا‬
‫مبالب�سي واقرتبت منه‪ ،‬ومررت يدي على ر�أ�س احل�صان ٍ‬
‫الأخرى‪ ،‬ف�ضحك يل من جديد ومرر يده هو الآخر‪.‬‬
‫�صرت �أحب قدوم الأح�صنة �إىل ور�شتنا من �أجل �آدم‪ ،‬و�صرت �أحب‬
‫�صناعة حدوات الأح�صنة عن �صناعة ال�سكاكني واخلناجر و�أى �شيء‬
‫ويوما بعد‬
‫�آخر يف الور�شة‪ ،‬ومتنيت لو �أتى ح�صان جديد كل دقيقة‪ً ،‬‬
‫يوم وجدته ي�شرتك معي يف بع�ض الأعمال من تلقاء نف�سه ‪ ..‬والحظت‬
‫�أنا واجلميع �أنه ي�ستطيع حمل �أكرث مما يحمله �أي طفل يف �سنه دون‬
‫‪34‬‬
‫�أدنى عناء‪ ،‬حتى �أن ال�سيد عبود قال له حمفزً ا عندما ر�آه يحمل �إطا ًرا‬
‫حديد ًيا ً‬
‫ثقيل ال يقوى الكثريون على حمله‪:‬‬
‫ يبدو �أنك ُخلقت للأعمال القوية �أيها الفتى ‪� ..‬س�أعطيك قطعة‬
‫ف�ضية يف نهاية اليوم‪.‬‬
‫يعط حلديث الرجل �أي اهتمام‪ ،‬كان كل تركيزه مع‬ ‫لكن �آدم مل ِ‬

‫دا‬
‫طفل �آخر يف مثل عمره دلف �إىل فناء الور�شة وهو يج ّر ب�صعوبة‬ ‫ٍ‬
‫ر‬
‫ح�صا ًنا عنيدً ا ‪ ..‬كان ذلك احل�صان ً‬
‫هائجا للغاية‪ ،‬يقاوم ‪-‬بعناد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كبري‪ -‬التقدم خطوة واحدة‪ ،‬وال يكف عن ال�صهيل‪ ،‬بينما كانت‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫مالمح ال�ضيق وقلة احليلة على وجه الطفل تقول ب�أنه قد تورط يف‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫جلب ذلك احل�صان �إلينا‪ ،‬فنه�ضت من مكاين لأ�ساعد الطفل يف جر‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫احل�صان �إىل الداخل‪ ،‬لكني ما �إن اقرتبت منه حتى باغتنا احل�صان‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ورفع قائمتيه الأماميتني فج�أ ًة‪ ،‬ف�سقط الطفل على ظهره خو ًفا و�أفلت‬

‫ر وا تول‬
‫جلامه‪ ،‬ويف ملح الب�صر كان احل�صان قد ا�ستدار ورك�ض فا ًرا �إىل‬
‫اخلارج عرب بوابة الفناء يف اجتاه اجلبال و�سط �صراخ الطفل ب�أن‬

‫زيع‬
‫�أباه �سيقتله‪ ،‬لأفاجئ ب�آدم يرتك ما بيده ويرك�ض ب�سرعة كبرية وراء‬
‫احل�صان ‪� ..‬صرخت فيه خو ًفا كي يتوقف‪ ،‬لكنه كان قد عرب ال�سور‬
‫الطوبي املحيط بالفناء‪.‬‬
‫رك�ضت �أنا الأخرى وراءه‪ ،‬وكذلك بع�ض الرجال الذين �شاهدوا‬
‫احل�صان يفر‪ ،‬لكنا كنا مت�أخرين للغاية عن احل�صان وعن �آدم الذ ْين‬
‫اختفيا مع انعطاف املمر اجلبلي خلف اجلبل �أمامنا ‪ ..‬ثم توقفت‬
‫حني �صاح ّيف ال�سيد عبود غا�ض ًبا كي �أعود �إىل الور�شة لإجناز �أعمالنا‬
‫املت�أخرة و�أترك �أمره للرجال الذين رك�ضوا خلفه‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪35‬‬
‫عدت م�ضطر ًة �إىل الور�شة و�أنا �أنظر بكل ٍ‬
‫غيظ واحتقا ٍر �إىل‬
‫�صاحبها الذي منعني من اللحاق ب�آدم ‪ ..‬وحملت مطرقتي‪ ،‬وبد�أت‬
‫غ�ضب وعيني باخلارج تبحث عن عودته‪ ،‬كنت‬ ‫�أدق احلديد امل�شتعل يف ٍ‬
‫كل ما �أخ�شاه �أن يفقد الرجال �أثره بني املنعطفات اجلبلية املت�شعبة‬
‫التي ال يعرفها �سوى �أهل بريحا‪ .‬كانت عيني تذهب بني احلني والآخر‬
‫�إىل الطفل الباكي �أمام الور�شة‪ ،‬والذي مل يكف عن العويل وال�صراخ‬

‫دا‬
‫بكلمات عن العقاب الذي ينتظره من �أبيه �إن مل يعد ذلك احل�صان ‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫ر‬
‫وكان قلبي ينخلع ك ّلما عاد �أحد الرجال من وراء اجلبل مبفرده ُمعل ًنا‬
‫ع‬
‫ص‬
‫ي�أ�سه من اللحاق باحل�صان الهارب بدون �أن يتحدث عن �آدم‪ ،‬ومع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫مرور الوقت عادوا جمي ًعا واحدً ا وراء الآخر‪ ،‬قالوا ب�أنهم فقدوا �أثر‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫احل�صان والفتى ‪ ..‬رجوت ال�سيد عبود ب�أن ي�سمح يل بالذهاب‪ ،‬لكنه‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أق�سم ب�أنني لو حتركت خطوة واحدة خارج الور�شة لن �أعود �إليها‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫مرة �أخرى ‪ ..‬عدت �إىل مطرقتي لأطرق احلديد بقوة ك�أنني �أطرق‬

‫ر وا تول‬
‫ألقيت باملطرقة‬
‫جمجمة ر�أ�س ذلك الرجل‪ ،‬حتى فا�ض بي الكيل‪ ،‬ف� ُ‬
‫جان ًبا‪ ،‬وكدت �أ�صرخ به لأخربه ب�أنني ذاهبة �إىل خلف اجلبل للبحث‬
‫زيع‬
‫عن طفلي ‪ ..‬لكني مل �أكد �أخطو خطوة واحدة حتى وجدت الطفل‬
‫الباكي قد توقف فج�أة عن عويله‪ ،‬ونه�ض من رقدته على الرمال‪،‬‬
‫فرحا‪:‬‬
‫يل ً‬‫لي�صرخ �إ ّ‬
‫ لقد عاااد ‪..‬‬
‫قبل �أن يرك�ض مبتعدً ا عنا‪ ،‬نظرنا جمي ًعا بعيدً ا‪ ،‬كان �آدم قد ظهر‬
‫يف الأفق يركب على �صهوة الفر�س بكل ثقة‪ ،‬وي�سري به نحونا يف ت�ؤدة‬
‫وهدوء بالغ و�سط تعجب اجلميع و�أولهم �أنا‪ ،‬حتى اقرتب منه ال�صبي‬
‫الباكي فنزل عن احل�صان‪ ،‬و�أم�سك بيده لريبت بها على مقدمة ر�أ�سه‬
‫‪36‬‬
‫مثلما اعتاد �أن يفعل مع اخليول ‪ ..‬م�شيت بخطوات مت�سارعة نحوهما‬
‫دون �أن �أ�ست�أذن ال�سيد عبود ‪ ..‬كانا قد بد�آ حديثهما و�أنا يف الطريق‬
‫�إليهما ‪ ..‬ثم اقرتبت منهما عندما �ش ّبك �آدم يديه بجوار احل�صان‬
‫لي�ساعد ال�صبي الآخر على ارتقائه ‪� ..‬أتذكر نظرات الإعجاب يف‬
‫�أعني ذلك ال�صبي جتاه �آدم وهو يبتعد بح�صانه عنا‪ ،‬بينما وقف‬
‫�آدم بجواري يودعه بيده مبت�س ًما‪ ،‬لي�صريا منذ ذلك اليوم �صديقني‬

‫دا‬
‫حقيقني مل �أ َر يف �صداقتهما قط‪ ،‬الطفل الباكي زهري وطفلي �آدم‪ .‬مل‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫يفرتقا حتى و�صال �سن البلوغ وحدث ما حدث‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال ‪b‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪37‬‬
‫(‪)5‬‬
‫فاضل‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬‫ص‬
‫ري‬
‫مل �أعرف ما �أقوله حنيال�س�ألتني غفران �إن كان م�صري الن�ساىل‬
‫كاتمن حمل �سبيل بجن ٍني حي‪ ،‬كل‬
‫ما جال يف ذهني هو ما قد يفعله � ب‬
‫أ�شرافللچارتني بعد معرفتهم ب�أن‬
‫تغي للأح�سن �أم ال بعدما تيق َّن‬
‫قد ّ‬

‫ش ًة بعد ما ر�أيته يحدث‬ ‫ن‬


‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫هناك �شريف �س ُيولد من ن�سل الن�ساىل‪ ،‬وخا�ص‬
‫ت‬
‫جاءت مع �سبيل يحمل وجهها كل حما�س الدنيا‪ ،‬بدت وكو�أنزحما�سها‬
‫حتى غفران التي‬ ‫للن�ساىل خالل ال�شهور القليلة التي ع�شتها بينهم‪،‬‬

‫قد انق�شع عن داخلها‪ ،‬لتبقى احلقيقة التي ال بد و�أن نعرتف يعبها؛ لن‬
‫ير�ضى �سادة چارتني بوجود هذا اجلنني �أبدً ا‪.‬‬
‫ا�ستغرقت يف تفكريي ومل‬
‫ُ‬ ‫ثم كررت �س�ؤالها يل مرة �أخرى بعدما‬
‫�أجبها‪:‬‬
‫تغي م�صرينا للأح�سن‪� ،‬ألي�س كذلك؟‬
‫  ّ‬
‫فنظرت لها‪ ،‬وقلت يف ابت�سام ٍة مطمئنة‪:‬‬
‫ بلى‪ ،‬للأح�سن‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫ألت �سبيل �أن تغطي بطنها املك�شوفة‪ ،‬وتنه�ض من �سرير‬ ‫بعدها �س� ُ‬
‫الك�شف‪ ،‬وتابعت كالمي و�أنا �أوجهه �إىل غفران‪:‬‬
‫ ما زال �أمام والدة الطفل قرابة �أربعة �شهور‪� ،‬س�أح�سن العناية‬
‫ب�سبيل حتى ُيولد طفلها‪.‬‬
‫نظرت غفران �إىل �سبيل وهي تنه�ض من على �سرير الك�شف‪،‬‬
‫جل�ست على مقعدي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫وهزت ر�أ�سها �إيجا ًبا يف �صمت‪ ،‬ف�س�ألتُها بعدما‬
‫ٌ‬
‫�شريف؟‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ ماذا �سيثبت �أن هذا اجلنني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫نطقت �سبيل ب�سرعة‪:‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ �أق�سم �أنني مل �أذهب �إىل الباحة بعد �إعدام حيدر ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫قلت‪:‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ ال �أ�شكك يف قولك يا �سبيل‪ ،‬لكني �أق�صد كيف �سنثبت للأ�شراف‬

‫ر وا تول‬
‫ذلك؟‬

‫زيع‬
‫قالت غفران‪:‬‬
‫ ال يوجد � ُأي توثيق لدخول ن�ساء الن�ساىل �إىل الباحة �أو ت�سجي ٌل‬
‫روحا جلنينها داخل �أ�سوارها‪ ،‬لكن القواعد �أو�صت‬ ‫ملن حت�صد ً‬
‫بانتماء املولود للأ�شراف �إن كان هناك زواج �شرعي لوالديه يف‬
‫باحة جويدا قبل والدته على الأقل ب�سبعة �أ�شهر‪ ،‬وهم يعلمون‬
‫جيدً ا وخا�ص ًة كيوان �أن ذلك الزواج قد مت بالفعل هناك و�إن مل‬
‫يتم على املن�صة ‪..‬‬
‫ت�ساءلت و�أنا �أعلم �إجابة �س�ؤايل‪:‬‬
‫ُ‬
‫ هل �سيعرتفون بذلك الزواج؟‬
‫‪40‬‬
‫�سكتت لهنيهة ثم قالت‪:‬‬
‫ير�ض قا�ضي املن�صة يومها ب�أن يتم الزواج على‬ ‫ ال �أعرف‪ ،‬مل َ‬
‫من�صة الباحة ً‬
‫قائل ب�أنها لي�ست مكا ًنا للأجنا�س الن�ساىل ‪..‬‬
‫و�أ�ضافت واجمة‪:‬‬
‫ يقولون �أنهم ي�سريون طب ًقا لقواعد چارتني‪ ،‬لكنهم يف احلقيقة‬
‫ي�أخذون منها ما يخدم م�صاحلهم فقط‪ ،‬ف�إن عار�ضت قاعدة‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫واحدة م�صاحلهم ُ�ضرب بها عر�ض احلائط مربرين ذلك‬

‫ري‬‫ص‬
‫ل�ضمائرهم ب�أنه ال مانع من جتاوزها يف �سبيل �أمانهم ‪..‬‬
‫ونظرت �إىل �سبيل وهي التقول‪:‬‬
‫كتقد تز ّوج من �سبيل داخل الباحة‪،‬‬
‫ب‬
‫و�أن هذا اجلنني لي�س �إال �شري ًفا للنطب ًقا للقواعد ذاتها التي‬
‫  يعلم اجلميع هنا �أن حيدر‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫و�صمتت للحظة‪ ،‬ثم تابعت بنربة قلقة‪ :‬وال وت‬
‫جعلتنا ن�ساىل ‪..‬‬

‫زي‬
‫ لكن كيوان الذي ج ّر �أحد ع�شر �شا ًبا ل ُيعدموا ظل ًما على عاملن�صة‬
‫لن يتوانى عن تقدمي اثنني �آخرين �إىل املن�صة ذاتها‪� ،‬أو قتلهما‬
‫ب�سالحه الناري �إن اقت�ضى الأمر‪ ،‬وهذا ما ي�شغل تفكريي ‪..‬‬
‫�إن �أعل ّنا للن�ساىل خرب حمل �سبيل �سيزداد حما�سهم وي�ستعيدون‬
‫ثقتهم التي فقدوها ب�أنف�سهم منذ يوم احلريق‪ ،‬وقد يقدم‬
‫املزيد منهم على الزواج وتكرار جتربة حيدر و�سبيل ‪ ..‬لكن‬
‫�سيكون هناك من ي�س ّرب الأمر �إىل الأ�شراف‪ ،‬ووقتها �ستكون‬
‫�سبيل وجنينها يف خطر حقيقي ‪..‬‬
‫‪41‬‬
‫و�إن �أخفينا الأمر قد ن�ضمن �سالمة �سبيل وجنينها‪ ،‬لكنه �س ُيولد‬
‫و�سيعي�ش مثل الن�ساىل �إىل �أجل ال نعرفه‪ ،‬ويبقى دم الأحد ع�شر‬
‫الذين �أُعدموا قد �ضاع هبا ًء‪.‬‬
‫وزمت �شفتيها حري ًة و�سكتت تفكر ‪ ..‬ثم نظرت �إىل �سبيل من‬
‫جديد وقالت‪:‬‬
‫ ما ر�أيك يا �سبيل؟‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫�أجابت الفتاة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫روح له دون �أن‬
‫لذهبت �إىل باحة جويدا حل�صد ٍ‬ ‫ُ‬ ‫  لو �أردته ن�سل ًيا‬
‫�أنتظر ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫يل‪ ،‬و�س�ألتني‪:‬‬‫ونظرت �إ ّ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ ور�أيك يا فا�ضل؟! ‪� ..‬إنني يف حرية كبرية ‪..‬‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫و‬ ‫لنلق بالكرة يف ملعب الن�ساىل ‪� ..‬أعلم � ِأنكت‬
‫قلت‪:‬‬
‫�سكت لبع�ض الوقت مفك ًرا‪ ،‬ثم ُ‬ ‫ُ‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬


‫تخافني عليهم‬
‫وتخ�شني على �سبيل وطفلها من معانا ٍة حقيقية قادمة‪ ،‬لكن‬
‫  ِ‬

‫�أعتقد �أن الأوان قد جاء ليختار الن�ساىل م�صريهم ‪..‬‬


‫ال بد �أن يعلموا بحمل �سبيل ‪ ..‬وال بد �أن يدركوا �أن معاناتهم‬
‫ومعانا ِتك ال�شهور املا�ضية مل ت�ضع هبا ًء‪ ،‬و�أن �أمامهم خيارين‬
‫ال ثالث لهما ‪� ..‬إما �أن يكون م�ستقبل �أرواحهم كلهم مثل هذا‬
‫اجلنني ‪� ..‬أو يق�ضوا لياليهم فارين من �أ�شقياء الأ�شراف‬
‫وفر�سانهم �إىل �أن حت�صدهم طلقاتهم النارية واحدً ا وراء‬
‫الآخر‪.‬‬
‫‪42‬‬
‫أردت ر�أيي ‪ ..‬ف�أنا �أرى �أنه تبقى �سبيل بيننا‪ ،‬وليعرف َمن‬
‫لو � ِ‬
‫يعرف‪ ،‬بل �سنعمل نحن على انت�شار خرب حملها بجنني �شريف‬
‫�إىل كل �أرجاء چارتني ‪ ..‬و�أن يكون حملها م�سار حديث كافة‬
‫جمال�س الأ�شراف‪.‬‬
‫ل�سنوات طويلة‪ ،‬وتعلمني �أنهم ي ّدعون دائ ًما �أن‬
‫ٍ‬ ‫ع�شت بينهم‬
‫لقد ِ‬
‫القواعد ال تظلم �أحدً ا‪ ،‬يف كتبهم‪ ،‬يف مدار�سهم‪ ،‬يف خطبهم‪،‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫يتغنون ب�أن الن�ساىل لهم حقوق الأ�شراف طاملا �ساروا على‬
‫ع‬
‫ال�صراط امل�ستقيم ومل يرتكبوا اجلرمية ‪ ..‬ح�س ًنا‪� ،‬سيعلم كل‬
‫ص‬
‫ري‬
‫�سي�سلطون �أنظارهم ال‬
‫�شريف يف هذا البلد �أن هناك ن�سلية حتمل جني ًنا �شري ًفا ‪..‬‬

‫ت‬ ‫حديثهم ًفعل ‪ ..‬ك‬


‫نحو حكامهم لريوا ردة فعلهم ومدى �صدق‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ش‬
‫ لن ي�ستطيعوا فعل �شيء ل�سبيل من �أجل �أنر‬
‫أكملت بهدوء‪:‬‬
‫و� ُ‬

‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫نظر العامة كمحققني للعدالة ‪ ..‬حان الوقت ت‬
‫تبقى �صورتهم يف‬

‫زيع‬
‫لن�ستغل عدالتهم‬
‫املزيفة‪.‬‬
‫أردفت لها با�س ًما‪:‬‬
‫و� ُ‬
‫ لقد فعل ِتها من قبل دون �أن تدري يا غفران ‪ ..‬حكى يل ريان عن‬
‫أنت وندمي ‪ ..‬كان خري ما فعل ِته وقتها �أن خرب حبكما‬
‫ق�صتك � ِ‬
‫قد انتقل للعامة‪ ،‬كان ذلك حماي ًة له ‪..‬كان �أمركما على و�شك‬
‫الإمتام لوال اجلرمية التي ارتكبها ندمي قبلها ب�شهر‪.‬‬
‫�أوم�أت غفران بر�أ�سها �إيجا ًبا‪ ،‬ثم قالت بنربة قلقة‪:‬‬
‫‪43‬‬
‫ رمبا مل يكن لكيوان هذا النفوذ وقتها ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ لو كنت مكان كيوان وعرفت �أن �إحدى الن�سليات حتمل جني ًنا‬
‫�شري ًفا �س�أنتظر خوف الفتاة مني و�أن تختفي بجنينها‪ ،‬لأبحث‬
‫عنها‪ ،‬و�أقتلها هي وجنينها دون �أن يدري �أحد من الأ�شراف‬

‫دا‬
‫ولتكن عربة للن�ساىل ‪ ..‬لكني لن �أتوقع �أبدً ا �أن يواجهني‬
‫ر‬
‫الن�ساىل حمتمني برتقب الأ�شراف لردة فعلي‪� ،‬س�أ�صاب‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫باالرتباك و�س�أفكر كث ًريا يف كل خطو ٍة قبل اتخاذها ‪� ..‬س�أعمل‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫فقط على �أال يتكرر الأمر ‪� ..‬س�أزيد جرعة الظلم للباقني‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�س�أجعلهم يكرهون اليوم الذي حملت فيه �سبيل ‪ ..‬ويف الوقت‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ذاته �س�أنتظر فر�صة خط�أ واحد لتلك الفتاة ‪ ..‬وقتها �س�أقتلها‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫بيدي على من�صة الباحة ‪..‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ و�أنا لن �أخطئ خط�أً واحدً ا �إىل �أن ي�أتي الت‬
‫فقالت �سبيل‪:‬‬
‫جنيني‪.‬و‬
‫زيع‬ ‫فقلت لها‪:‬‬
‫ُ‬
‫منك‪.‬‬
‫ �سيجنّ جنون كيوان مع باقي الن�ساىل‪ ،‬لكنه لن يقرتب ِ‬
‫يل غفران‪ ،‬وبدا على وجهها االقتناع مبا قلته‪ ،‬وقالت‬ ‫فنظرت �إ ّ‬
‫با�سمة‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪ ،‬لن�ستغل عدالة چارتني املزيفة ‪ ..‬ول ُنعلم الن�ساىل � ًإذا ما‬
‫ينتظرهم‪.‬‬
‫‪b‬‬ ‫‪44‬‬
‫ري من �شبان الن�ساىل وفتياتهم قد‬ ‫مع منت�صف النهار كان كث ٌ‬
‫ح�ضروا �إىل الفناء الأمامي ملدر�سة غفران التي بناها ريان ومن معه‬
‫‪ ..‬مل يكن يعرف �أحد ما الأمر �سواي �أنا وغفران‪ ،‬حتى ريان الذي كان‬
‫قد ح�ضر وجل�س يف ال�صف الأمامي بجواري بدت على وجهه عالمات‬
‫التعجب من ذلك االجتماع املفاجئ‪ ،‬و�س�ألني عن الأمر ‪ ..‬فلم �أرد �أن‬
‫هاما تود غفران �إخبارنا‬‫�أف�سد له املفاج�أة‪ ،‬و�أجبته ب�أن هناك �أم ًرا ً‬

‫دا‬
‫به‪ ،‬دون �أن �أقول �أي �شيء عن �سبيل وطفلها‪.‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫امتلأ الفناء عن �آخره بالن�ساىل‪ ،‬ووقف كثريون �آخرون يف املنطقة‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫املت�سعة خارجه لعلهم ي�سمعوا ما �ستتحدث به ال�سيدة ‪ ..‬ثم خرجت‬
‫�إلينا غفران يف ثوبها املنزوع الكتف يلمع و�شمها الأزرق مع �أ�شعة‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ال�شم�س املتقدة فوقنا ‪ ..‬ف�أ�شار ال�شبان �إىل بع�ضهم البع�ض كي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ي�صمتوا‪ ،‬وهد�أ �ضجيجهم ‪..‬‬


‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ما كنت �أحبه ح ًقا يف غفران �أنها قد تبدي قلقها �أو تخوفها من‬
‫أمر ما يف حوارها معك بالغرف املغلقة‪� ،‬أما ما �إن تظهر للعامة فلن‬ ‫� ٍ‬
‫زيع‬
‫جتد �إال تلك الفتاة القوية‪ ،‬فتاة املن�صة التي ال يعرف االرتباك مو�ض ًعا‬
‫فابت�سمت م�شج ًعا لها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫على وجهها‪ .‬نظرت نحوي �أنا وريان لثاني ٍة‪،‬‬
‫فحركت عينيها �إىل احلا�ضرين وقالت‪:‬‬
‫أوجه حديثي �إليكم و�أنا �ضيفة لديكم‪� ،‬أما اليوم‬
‫  قد ًميا كنت � ّ‬
‫ف�أحدثكم و�أنا واحدة منكم‪ ،‬ن�سلي ٌة ي�سري عليها ما ي�سري‬
‫عليكم ‪..‬‬
‫كان حلم ندمي قبل ع�شر �سنوات �أن تتح�سن �أو�ضاع الن�ساىل‪،‬‬
‫و�سعى جاهدً ا لذلك ‪ ..‬وبيدي �أ�ضعت ذلك احللم ‪ ..‬ثم جئت‬
‫يوما وراء‬
‫�إىل هنا لأحيي حلمه مرة �أخرى ‪� ..‬سعينا �إليه م ًعا ‪ً ..‬‬
‫‪45‬‬
‫عاما بعد عام ‪ ..‬كي نذيب ذلك احلاجز بيننا وبني‬ ‫�آخر‪ً ..‬‬
‫�أ�شراف چارتني‪ ،‬و�أن نزيل الق�شرة التي لطاملا غ ّلفتنا وغ ّلفت‬
‫من �سبقونا‪ ،‬والتي �سمحت للأ�شراف ب�أن يك ّنوا لنا كل هذا‬
‫اال�ضطهاد ‪..‬‬
‫اقتنع الأ�شراف �أننا الطبقة الدنيا يف هذا العامل ‪ ..‬وعا�شوا‬

‫دا‬
‫جيل �إىل جيل‪ ،‬يف‬
‫على ذلك الأ�سا�س ينقلون كرههم لنا من ٍ‬

‫ع‬
‫كتبهم‪ ،‬يف جل�ساتهم‪ ،‬يف حكاياتهم ‪ ..‬وانتقل ذلك ال�شعور‬
‫ر‬
‫ري‬‫ص‬
‫�إلينا‪ ،‬فقدنا الإح�سا�س ب�أننا ب�شر و�ص ّدقنا �أننا بهائم نعي�ش‬
‫ال‬
‫من �أجل ال�شهوة فقط ال غري ‪ ..‬قتل ‪ ..‬رذيلة ‪ ..‬قطع طرق ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�سرقة‪ ،‬ويف النهاية ُنقتل كالنعاج على من�صة چارتني بذنب �أو‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بدون ذنب‪ ،‬لن�س ّلم �أرواحنا الآثمة �إىل �أطفال قادمني ينتهجون‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫الطريق ذاته ‪ ..‬دائر ٌة ال تنتهي‪ ،‬ك�أنه امل�سار الإجباري الذي‬
‫مل يكن علينا خمالفته قط ‪� ..‬إىل �أن انحرفنا �أخ ًريا عن ذلك‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫امل�سار بزواج حيدر من �سبيل قبل خم�سة �أ�شهر ‪..‬‬
‫وعلي ‪ ..‬ولكني‬
‫�أعلم �أنها كانت �شهو ًرا �صعبة للغاية ‪ ..‬عليكم ّ‬
‫من اليوم الأول كنت �أعلم �أن تغيري م�صائر الأقوام لطاملا‬
‫ارتبط ب�أكرث الآالم �شدة ‪ ..‬وما زلت �أ�ؤمن ب�أن ذلك الأمر مهما‬
‫طال �سيمر‪.‬‬
‫وعادت خطوتني �إىل اخللف‪ ،‬وا�ستدارت لت�شري �إىل �سبيل التي‬
‫كانت متوارية بداخل كوخها‪ ،‬فتقدمت �سبيل ووقفت �أمامنا‪ ،‬ف�شهق‬
‫ب�صوت قوي‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫اجلميع وهمهموا غري م�صدقني عودتها‪ ،‬ف�أكملت غفران‬
‫‪46‬‬
‫ �أيها ال�سادة �إنكم هنا اليوم لأخربكم ب�أن �أر�ض چارتني قد‬
‫�أوفت بوعدها لنا‪ ،‬وتركت م�صريكم ب�أياديكم ‪� ..‬إن �سبيل‬
‫حتمل بداخلها �أول جنني �شريف من ن�سل الن�ساىل‪.‬‬
‫حد غري م�سبوق‪ ،‬وا�ستحالت تعابري الوجوه‬
‫زادت الهمهمات �إىل ٍ‬
‫من حويل �إىل وجوه غري م�صدقة و�أخرى م�شدوهة مرتقبة‪ ،‬و�أخرى‬
‫فرحة‪ ،‬و�أخرى قلقة‪ ،‬و�أخرى متحم�سة ‪ ..‬كنت ت�ستطيع ر�ؤية كافة‬
‫دا‬
‫تعابري الوجوه يف ذلك الوقت‪ ،‬كان �أكرثهم حما�س ًة ريان الذي‬
‫ر‬
‫ع‬
‫احت�ضنني بعدما �أردفت غفران‪:‬‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ ح�صدت �سبيل روح جنينها خارج �أ�سوار الباحة يف يوم غري‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أيام الغفران ‪ ..‬و�أقر الطبيب فا�ضل �سالمة اجلنني ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫و�أ�ضافت يف حما�س‪:‬‬


‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫حلم كنا نراه �صعب‬ ‫ �أيها ال�سادة ‪ ..‬قبل هذا اليوم كنا ن�سعى نحو ٍ‬
‫املنال ون�شكك يف وجوده ‪� ..‬أما اليوم ف�صار احللم واق ًعا بينا ‪..‬‬

‫زيع‬ ‫و�أ�شارت بيدها يف اجتاه جويدا حني قالت‪:‬‬


‫ الآن بات لديكم اخليار‪� ،‬إما ن�س ٌل يعي�ش بكرامته مثلهم ‪..‬‬
‫فتيات للرذيلة ومرتكبني للجرائم‪،‬‬
‫�أو نبقى للأبد بني كوننا ٍ‬
‫ت�سعدهم كث ًريا فقرة �إعدامنا على املن�صة‪.‬‬
‫ونظرت �إىل �سبيل وقالت‪:‬‬
‫ تعلمون ما �سيحدث حني يعرف �أ�شراف چارتني ب�أمر هذا‬
‫ف�صل جديد عنكم‪ ،‬اليوم‬
‫اجلنني ‪ ..‬اليوم يبد�أ التاريخ كتابة ٍ‬
‫يبد�أ الأمل احلقيقي‪ ،‬و�إن كنا قد حتملنا ما ال يطاق خالل‬
‫‪47‬‬
‫ال�شهور املا�ضية ‪ ..‬فالقادم �سيكون �أمله م�ضاع ًفا مرات املرات‬
‫أمل انتظرناه ً‬
‫طويل‪.‬‬ ‫من �أجل � ٍ‬
‫جاءت الفتاة لتحموها وحتموا طفلها ‪ ..‬لن حتموا ابنها فح�سب‬
‫بل �ستحمون ن�سلكم القادم ‪ ..‬ب�أياديكم �س ُيحدد م�صري هذا‬
‫الطفل‪� ،‬إما �أن ي�صري مثلكم ويعاين الويالت على مدار �سنوات‬
‫و�شم لي�أتي يو ٌم ننزع فيه جمي ًعا الأو�شام‬
‫عمره‪� ،‬أو يعي�ش بدون ٍ‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫عن �أكتافنا ‪..‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫أنفا�سها‪ ،‬وقالت بنربة هادئة م�سموعة‪:‬‬ ‫والتقطت �‬
‫تخرجت من مدر�سة ال�ضباط و�أق�سمت‬
‫ُ‬ ‫ قبل خم�سة ع�شرري ال ً‬
‫عاما‬

‫كتإىل �آخر نف�س يل حتى يح�صل على‬


‫�أن �أدافع عن قواعد چارتني ‪ ..‬اليوم �أق�سم �أمامكم �أنني‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫حقوقه الكاملة مثله مثل �أي ل‬
‫�شريفن چارتيني ‪..‬‬
‫�س�أدافع عن هذا اجلنني �‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫�سيدتي‪..‬من ال�صفوف اخللفية‪ :‬وال وت‬
‫�صاح �صوت مفاجئ‬

‫زيع‬ ‫معك‬
‫ و�أنا ِ‬
‫ثم �صاح �صوت �آخر‪:‬‬
‫ و�أنا كذلك �سيدتي ‪..‬‬
‫و�صاحت �أخرى‪:‬‬
‫ و�أنا كذلك ‪..‬‬
‫�صاح ريان‪:‬‬
‫ و�أنا كذلك ‪..‬‬
‫‪48‬‬
‫�صحت �أنا الآخر‪:‬‬
‫ و�أنا كذلك ‪..‬‬
‫�صاح كثريون من بعدي‪ ،‬وبد�أت الفتيات يطلقن زغاريدهن‪ ،‬فيما‬
‫وقفت غفران �أمامنا بثباتها املعهود تنظر نحونا‪ ،‬ثم نه�ض الن�ساىل‬
‫بع�ضا‪ ،‬ويهنئون �سبيل‪ ،‬وتوالت الفتيات‬ ‫من جلو�سهم يحم�سون بع�ضهم ً‬

‫دا‬
‫فاقرتبت من غفران التي حتركت جان ًبا لتف�سح‬ ‫ُ‬ ‫على احت�ضانها‪،‬‬
‫ر‬
‫املجال للفتيات الالتي التففن حول �سبيل‪ ،‬وقلت لها با�س ًما‪:‬‬

‫ص‬ ‫فعلت ع‬
‫فقالت بابت�سام ٍة رائعة‪:‬ري ال‬
‫ال�صواب‪.‬‬ ‫  ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫اقتب�ست كث ًريا من حديثك يل بال�صباح ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫قلت‪:‬‬

‫زيع‬
‫إنك �سيدة هذا الوادي ح ًقا ‪..‬‬
‫  � ِ‬
‫�ضحكت وقالت‪:‬‬
‫  ُ ِ‬
‫لن كيوان �أن تفوقي عليه باملدر�سة العليا مل يكن حم�ض �صدفة‪.‬‬

‫‪b‬‬

‫‪49‬‬
‫(‪)6‬‬
‫زهير‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫ال زالت ال�سيدة �سريين لتدعوين بال�صبي الباكي منذ ذلك اليوم‬
‫كتوكامت �أ�سراري �آدم‪ ،‬و�إن م ّر على‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫عرفت فيه �صديقي الأوحد‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫ا�سمي زهري ‪ ..‬االبن الأو�سط لأبي‪ ،‬بني � ٍش‬
‫ذلك اليوم وقت طويل‪.‬‬
‫ر‬
‫ُي�سمى كرم و� ٍأخت ت�صغرين بثالثة �أعوام ُت�سمى وال‬
‫فريوزتو‪� ..‬صرتُ �أنا‬
‫يكربين بعام واحد‬ ‫أخ‬

‫ربح كان‬‫�ضرب ُمزيع‬


‫و�آدم �صديقني بعد ذلك اليوم الذي �أنقذين فيه من ٍ‬
‫يف انتظاري عندما �أعاد يل ح�صان �أبي الهارب‪ ،‬ومن يومها ومل مير‬
‫يوم دون �أن نلتقي ‪..‬‬
‫كنا نلتقي قبل غروب ال�شم�س بعدما يفرغ من عمله‪� ،‬أحدثه عما‬
‫در�سته يف التاريخ بينما كان حديثه كله عن املهام اجلديدة التى ك ّلفه‬
‫بها �صاحب الور�شة �أو اخليول التي ركبها‪ .‬يف البداية كنت ا�ستغرب‬
‫�شريف وال يلقى تعلي ًما مثلنا‪ ،‬لكني مع الوقت عرفت مدى حبه‬‫ٌ‬ ‫�أنه‬
‫للعمل يف ور�شة احلدادة عن القدوم �إىل مدر�ستنا‪ ،‬كعادة ال�صبية‬
‫‪51‬‬
‫عرفت من‬
‫ُ‬ ‫العاملني الذين يجنون � ً‬
‫أموال يف �سن �صغرية ‪ ..‬كذلك‬
‫الأيام الأوىل �أن �أباه و�أمه قد ماتا يف جويدا‪ ،‬وتو ّلت تربيته خالته‬
‫ال�سيدة �سريين التي فرحت كث ًريا ب�صداقتنا بعدما كان يتجنب‬
‫احلديث �إىل الكثريين‪ ،‬و�صار ً‬
‫طفل طبيع ًيا على حد قولها ‪..‬‬
‫بارعا للغاية يف ركوب اخليل ‪..‬‬ ‫متاما كان �آدم ً‬ ‫على عك�سي ً‬

‫دا‬
‫و�أدركت من اليوم الأول �أنه لو ا�ستمر بهذه الرباعة �سيكون فار�س‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫چارتني الأول قبل �أن يتم عامه الع�شرين ‪ ..‬كانت براعته تلك تذكرين‬

‫ري‬‫ص‬
‫برباعة عمي كيوان ‪� ..‬أف�ضل من ي�ص ّوب ب�سالحه الناري يف چارتني‪،‬‬
‫ال‬
‫دوما �أن �أ�صري مثله و�ألتحق مبدر�سة �ضباط الأمن‪ ،‬لكني‬‫�أرادين �أبي ً‬
‫فار�سا �أو حتى كيميائ ًيا مثل �أبي‪،‬‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ً‬
‫�ضابطا لل�شرطة �أو ً‬ ‫مل �أُخلق لأكون‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ُخلقت لأدر�س التاريخ ‪� ..‬أحبه كث ًريا وقر�أت الكثري من كتبه رغم �سني‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ال�صغرية‪ ،‬و�أعلم �أن هناك املزيد واملزيد من بحر تاريخ چارتني ما‬
‫زال يف انتظاري لأ�سرب �أغواره‪ .‬و�إن كان عمي كيوان يف طريقه لي�صري‬

‫زيع‬
‫�ضابط چارتني الأول‪ ،‬و�أبي من خرية كيميائي چارتني‪ ،‬ف�إنني �س�أ�سعى‬
‫جاهدً ا لأكون م�ؤرخ چارتني الأول قبل بلوغي اخلم�سني‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫كان �آدم فط ًنا للغاية رغم �أنه مل يتعلم القراءة والكتابة‪ ،‬ومع كل‬
‫مهاما �إ�ضافية و�أج ًرا �أكرب‬
‫يوم كان ينال �إعجاب ال�سيد عبود فيعطيه ً‬
‫حاولت كث ًريا خالل مرات لقائنا �أن �أع ّلمه كيفية كتابة احلروف‬
‫ُ‬ ‫‪..‬‬
‫يغي جمرى‬ ‫وقراءتها لكنه كان �سريع التململ وال يدعنا نكمل‪ ،‬قبل �أن ّ‬
‫احلديث �إىل �أي �شيء �آخر �أو ينه�ض لريكب فر�سه التي ا�شرتاها من‬
‫‪52‬‬
‫�أجره‪ ،‬ويرك�ض بها جيئ ًة وذها ًبا بال�سهل املنب�سط �أمام التلة الرملية‬
‫التي كنا جنل�س عليها ‪ ..‬كررتُ حماوالتي معه‪ ،‬كان يفعل ما يفعله كل‬
‫مرة �إىل �أن ي�أ�ست من رغبته يف التعلم ‪..‬‬
‫يف �أحايني كثرية عندما كنت �أ�صحبه معي �إىل بيتنا كان �أخواي‬
‫ي�سخران منه ب�سبب عدم تعلمه‪� ،‬إال �أنه كان يقابل �سخريتهما ب�ضحكة‬
‫�صافية‪ ،‬ذات مرة �سخر منه �أخي كرم ً‬
‫دا‬
‫قائل‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �إنك ت�شبه الن�ساىل ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وتابع‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬‫ �إنهم ال يتعلمون ‪ ..‬مثلك ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وقتها احم ّر وجهي ملا ت�سبب به �أخي من �إحراج �صديقي و�إهانته‪،‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫لكن �آدم نظر �إليه حينها‪ ،‬وقال بعدما �صمت لهنيهة‪:‬‬

‫زيع‬
‫ ال �أعتقد �أن هناك ن�سل ًيا ي�ستطيع �صنع �سالح ناري مثلي ‪..‬‬
‫نظرنا بانبهار نحو �آدم �أنا و�أخي و�أختي‪ ،‬و�س�ألته �أختي بت�شكك‪:‬‬
‫ هل ت�ستطيع ح ًقا �صناعة �سالح ناري؟!‬
‫�أجابها �آدم هاد ًئا‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬نقلني ال�سيد عبود �إىل ور�شة الأ�سلحة النارية ‪..‬‬
‫فقالت متباهية‪:‬‬
‫ بدون �أبي ال قيمة لأ�سلحتكم التي ت�صنعونها ‪..‬‬

‫‪53‬‬
‫متخ�ص�صا يف �صناعة‬
‫ً‬ ‫كانت حمق ًة بع�ض ال�شيء‪ ،‬كان �أبي كيميائ ًيا‬
‫البارود الذي ُتعب�أ به طلقات الأ�سلحة النارية وقذائف املدافع ب�شتى‬
‫�أنواعها ‪..‬‬
‫�أوم�أ �آدم بر�أ�سه �إيجا ًبا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬هكذا ُخلقت الدنيا ملختلف الأعمال ‪� ..‬س�أكون �صان ًعا‬

‫دا‬
‫ماه ًرا للأ�سلحة النارية ‪ ..‬والدك ومن معه ي�صنعون البارود ‪..‬‬
‫ر‬
‫أنت رمبا ت�صريين طبيبة ‪ ..‬ك ٌل‬ ‫دار�سا للتاريخ ‪ ..‬و� ِ‬
‫زهري �سيكون ً‬
‫ص‬
‫له عمل خم�ص�ص يخدم به چارتني و�أهلها ‪..‬‬‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫و�صمت لثانية و�أكمل‪:‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ �أو ال يخدمها ‪� ..‬إن كان غب ًيا متعجر ًفا ‪..‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫كنت �أعلم �أنه يل ّمح �إىل كرم ‪ ..‬كان �أخي ي�شبه عمي كيوان �إىل‬

‫ر وا تول‬
‫حد كبري‪ ،‬متعجرف منذ �صغره‪ ،‬كثري امل�شاكل مع زمالئه باملدر�سة‬

‫زيع‬
‫ومعلميه‪ ،‬يكره بريحا وينتظر اليوم الذي يذهب به �إىل جويدا‪ ،‬و�إن‬
‫أي�ضا كنت �أمتنى الذهاب �إىل جويدا حيث‬ ‫كان ذلك ال يعيبه ف�أنا � ً‬
‫وتقدما عن مدينتنا ال�صغرية البعيدة‪ ،‬والباحة‬
‫ً‬ ‫املدينة الأكرث حت�ض ًرا‬
‫التي حكى يل �أبي عنها كث ًريا‪ ،‬واالحتفاالت التي تدور فيها‪ ،‬ون�ساء‬
‫أرواحا لأطفالهن ‪ ..‬حكيت لآدم‬
‫الن�ساىل ال�سافالت الالتي يح�صدن � ً‬
‫ذات مرة عن حلمي بالذهاب �إىل هناك‪ ،‬كنت �أعلم �أنه عا�ش لفرتة‬
‫هناك قبل �أن ت�أتي به ال�سيدة �سريين �إىل مدينتنا ‪ ..‬قال �أنه يتذكر‬
‫الباحة وروعتها‪ ،‬وحدثني عن القائم اجلانبي الذي ت�سلقه ذات مرة‬
‫كي يرى ما يحدث على من�صتها ‪� ..‬س�ألته يف ترقب وقتها �إن كان قد‬
‫ر�أى ن�سل ًيا ُيقتل على املن�صة‪ ،‬قال وهو يتذكر‪:‬‬
‫‪54‬‬
‫ بكل ت�أكيد ‪ ..‬لقد ر�أيت �أحدهم ُيقتل ‪..‬‬
‫ليل‪ ،‬وكانت ال�سماء �صافي ًة ممتلئ ًة‬ ‫كنا يومها جنل�س فوق التلة ً‬
‫بالنجوم‪ ،‬فا�ستلقيت بظهرى على الرمال‪ ،‬وقلت و�أنا �أنظر �إىل ال�سماء‪:‬‬
‫يوما ما ‪ ..‬هناك ُيكتب تاريخ چارتني‬
‫ �س�أذهب �إىل جويدا ً‬
‫احلقيقي ‪..‬‬

‫دا‬
‫ونظرتُ �إىل �صديقي‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ر‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ هل �ست�أتي معي �إىل هناك وقتها؟‬

‫ال‬ ‫ري‬ ‫قال �ضاح ًكا‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ �أظن �أن �سريين لن تر�ضى بذلك �أبدً ا ‪..‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫�ضحكت‪ ،‬وحدثته عن عمي �ضابط الأمن املُكلف بق�ضايا الن�ساىل‬ ‫ُ‬

‫ر وا تول‬
‫يف جويدا‪ ،‬وعن �سالحه الناري الذي يردي من يعرت�ض ً‬
‫قتيل من‬

‫زيع‬
‫ت�صويب ٍة واحدة‪ ،‬وعن حكاياته التي ت�صلنا مع القادمني من هناك‪،‬‬
‫وق�سمه على املن�صة ب�أال يرتك ن�سل ًيا واحدً ا من ن�ساىل چارتني‪ ،‬وقلت‬
‫با�س ًما‪:‬‬
‫ �س�أكتب يوما كتا ًبا كب ًريا عن چارتني ‪ ..‬رمبا �أذكر فيه ً‬
‫ف�صل‬
‫كامل عن عمي كيوان ‪..‬‬ ‫ً‬
‫و�أكملت بعدما الحظت �أن �آدم قد �شرد بنجوم ال�سماء‪:‬‬
‫ �س�أذكر احلقيقة ال غري ‪ ..‬لن �أجامله و�إن كان عمي ‪..‬‬
‫مازحا وهو يلتقط حج ًرا �صغ ًريا ليدحرجه‬
‫ابت�سم �صديقي وقال ً‬
‫من فوق التلة كعادته‪:‬‬
‫‪55‬‬
‫تن�س �أن تكتب ً‬
‫ف�صل عني �أنا الآخر ‪..‬‬ ‫ ال َ‬
‫�ضحكت وقلت‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪ ،‬ف�ص ٌل كامل با�سم �آدم ‪ ..‬فار�س چارتني الأول ‪..‬‬
‫ف�ضحك‪ ،‬وا�ستلقى بظهره هو الآخر �إىل الرمال‪ ،‬ليوا�صل �شروده‬
‫بني �أفكاره‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫هكذا مرت �ع‬
‫ا‬ ‫�سالم بني مزيج منري‬
‫أيامنا �سو ًيا ك�أي �صبيني يف عمرنا ت�سري �أيامهما يف‬
‫اجلد واللهو ‪ ..‬ومع مرورها ازدادت معرفتي‬ ‫ل‬
‫ك‬
‫يف ظل تكليف ال�سيد عبود له ب� ت ٍ‬
‫مبعلومات �أكرث عن تاريخ بلدنا‪ ،‬كذلك ازدادت قوة �آدم الع�ضلية‬ ‫ٍ‬

‫لي�صنعلنبه ما ي�شاء م�سار حديث‬


‫ب‬
‫تروي�ض املعادن �أ�سفل مطرقته ل‬
‫أعمال �أكرث قو ًة وتعقيدً ا‪ ،‬حتى �صار‬
‫اجلميع يف مدينتنا و�أولهم زمالئي يف ش‬
‫املدر�سةر‪� ..‬إىل �أن بلغت عامي‬
‫ال�ساد�س ع�شر ومعه كانت زيارة عمي كيوان الوال‬
‫أوىلت�وإىل بريحا منذ‬
‫زيع‬ ‫�سنوات طويلة ‪..‬‬
‫أدركت من الوهلة الأوىل �أن زيارة عمي مل تكن جمرد زيارة عائلية‬ ‫� ُ‬
‫لأخيه و�أبنائه‪ ،‬بل بدا �أن هناك �سب ًبا �آخر قو ًيا وراء تلك الزيارة‪،‬‬
‫وخا�ص ًة بعدما اجتمع ب�أبي يف غرفته املكتبية مبفردهما لقرابة‬
‫ال�ساعتني بعد تناولنا الغذاء ‪ ..‬لأوقن وقتها �أن �ش�أ ًنا عظي ًما قد حدث‬
‫يف جويدا‪ ،‬ومعه احتاج عمي �إىل اال�ستعانة بر�أي �أبي �أو رمبا اال�ستعانة‬
‫مبا ي�صنعه يف معامله ‪ ..‬لكن ما جعل الدماء تندفع �إىل عروقي ح ًقا‪،‬‬
‫فدلفت‬
‫ُ‬ ‫حني �س�ألتني �أمي �أن �أق ّدم لهما م�شرو ًبا �ساخ ًنا قامت ب�إعداده‬
‫�إىل غرفتهما فج�أ ًة دون ا�ستئذان‪ ،‬فوجدتهما يقفان حائرين �أمام‬
‫‪56‬‬
‫خمطوطة جلدية قدمية بدا �أن عمي قد �أح�ضرها معه من جويدا‪،‬‬
‫ثم توقفا عن الكالم ملّا دخلت عليهما بغت ًة ‪ ..‬ف� ُ‬
‫أدركت �أهمية ما‬
‫يتحدثان ب�ش�أنه واعتذرت عن دخويل املفاجئ‪ ،‬لكن عيني ذهبت �إىل‬
‫ل�شخ�ص‬
‫ٍ‬ ‫الر�سمة ذات الألوان الوا�ضحة املر�سومة باملخطوطة ‪..‬كانت‬
‫متاما مفتول الع�ضالت يبدو كوح�ش ‪ ..‬خا�ص ًة مع عروق ج�سده‬ ‫عا ٍر ً‬
‫ب�سال�سل‬
‫ٍ‬ ‫املنتفخة وفمه املفتوح عن �آخره كحيوان يز�أر ‪ ..‬كان ُم ً‬
‫كبل‬

‫دا‬
‫حديدية غليظة من رقبته و�أطرافه الأربع‪ ،‬فيما مي�سك ب�أطراف‬
‫أ�شخا�ص عاديني مثلنا يبدون �أقل حج ًما‬
‫ٍ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫ال�سال�سل الأخرى ب�ضعة �‬
‫ص‬
‫بالن�سبة له‪ ،‬وتظهر على وجوههم مالمح اخلوف منه ‪ ..‬قبل �أن �أنتبه‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�إىل و�شم الن�ساىل املتواجد على �صدر ذلك الوح�ش املر�سوم‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ش‬ ‫‪ b‬ب للن‬
‫وال‬ ‫ر‬
‫و‬ ‫ت‬
‫ع‬‫زي‬

‫‪57‬‬
‫(‪)7‬‬
‫ريان‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫كان الوقت قد اقرتب لمن غروب ال�شم�س حني ان�صرفت �آخر‬
‫كتالذين جتمعوا مبدر�سة ال�سيدة‬
‫ب‬
‫غفران‪ ،‬مل يبقَ غريي �أنا وناردين و�سبيل للمعن الطبيب وال�سيدة ‪ ..‬كان‬
‫جمموعة من ال�شبان والفتيات‬
‫وجه ال�سيدة ال يزال �شاردًا بع�ض ال�شيء ش‬
‫فيماروقف الطبيب جان ًبا‬
‫يراقب تعبريات ًوجهها يف �صمت ك�أنه يعرف ما وا ول‬
‫تفكرت به‪،‬‬
‫زيع‬
‫فقطعت‬
‫ُ‬
‫ذلك ال�صمت قائل‪:‬‬
‫ �سي�سري خرب حمل �سبيل كالنار يف اله�شيم بني �أرجاء وادينا‬
‫ووديان الن�ساىل الأخرى ومن ّثم �إىل مدن چارتني ‪� ..‬ستعرف‬
‫چارتني كلها هذا اخلرب قبل �شروق ال�شم�س ‪..‬‬
‫فابت�سمت �سيدتي وقالت مازحة‪:‬‬
‫ لنحافظ على �سبيل � ًإذا حتى �شروق ال�شم�س ‪..‬‬
‫قالت ناردين‪:‬‬
‫‪59‬‬
‫ ت�ستطيع �أن ت�أتي معنا �إىل الوادي املظلم الليلة ‪..‬‬
‫قالت �سيدتي‪:‬‬
‫ لن ت�أتي معكم �سبيل مبفردها‪� ،‬س�آتي �أنا الأخرى‪ ،‬وقد يرافقنا‬
‫الطبيب �إن �أراد ‪ ..‬علينا �أن نحتفل بهذا الطفل ال�شريف ‪..‬‬

‫دا‬
‫ورمقت الطبيب بطرف عينها وهي تقول‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫  ال �أعتقد �أن الطبيب قد �سمع مو�سيقا ال�شامو من قبل ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫فرحا‪:‬‬
‫�ضحك الطبيب و�أوم�أ بر�أ�سه ناف ًيا‪ ،‬فقلت ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ ح�س ًنا �س�أخرب ال�شبان ب�أننا �سرنق�ص ال�شامو الليلة ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫قالت ال�سيدة‪:‬‬

‫ر وا تول‬
‫ من الغد �ستبقى �سبيل معي يف كوخي ‪� ..‬أعتقد �أنني ما زلت‬

‫زيع‬
‫�أ�ستطيع ركل م�ؤخرة �أحدهم �إن حاول االقرتاب منا ‪..‬‬
‫�ضحكنا جمي ًعا‪ ،‬ثم تركتهم لأ�سرع ب�إبالغ ال�شبان �أن ال�سيدة‬
‫والطبيب �سيتواجدان معنا تلك الليلة بالوادي املظلم‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫كان الطق�س يف تلك الليلة رائ ًعا خا�ص ًة مع ل�سعة الهواء الباردة‬
‫التي كانت تداعب وجوهنا‪ ،‬ك�أنه �أراد �أن يهن�أنا هو الآخر بحدثنا‬
‫الهام‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫�أُ�شعلت النريان يف �إطا ٍر دائري يف الوادي املظلم ‪ ..‬كان ال�شبان‬
‫والفتيات قد ح�ضروا قبل ح�ضور ال�سيدة والطبيب و�سبيل ليكون‬
‫ح�ضو ًرا هو الأكرب منذ جلوئنا �إىل الوادي املظلم ‪ ..‬فيما كان العدد‬
‫قليل للغاية بني رجال ن�ساىل مل يرغبوا يف‬ ‫الذي تبقى بوادي الن�ساىل ً‬
‫القدوم معنا ون�ساءٍ �أخريات كان �أغلبهن �أكرب �س ًنا‪ ،‬كنا نعلم �أنهن مل‬
‫يوما ما ‪ ..‬بل كنَّ من منتظري الأ�شراف لينالوا‬ ‫يتخذن م�سارنا قط ً‬
‫دا‬
‫عمالتهم النحا�سية مقابل ما يقدمهن لهم يف املقابل‪ ،‬كما عودتنا‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ال�سيدة غفران مل نحجر على فعل �أحد ‪ ..‬كل واحد حر فيما يفعله‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫خ�صي�صا‬
‫ً‬ ‫وله احلق يف اختيار حياته‪ ،‬غري �أن بقاءهن تلك الليلة‬
‫كان �سي�ساعد يف انت�شار خرب حمل �سبيل بطفلها ال�شريف �إىل رجال‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫الأ�شراف بق�صد �أو بدون ق�صد ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫كانت تلك الليلة املر َة الأوىل التي ُي�ضاء فيها الوادي املظلم بهذا‬

‫ر وا تول‬
‫ال�شكل ‪ ..‬لطاملا اعتربناه خمب�أً من عيون الأ�شقياء‪� ،‬أما ذلك اليوم‬

‫زيع‬
‫فكان لالحتفال وح�سب‪ ،‬ولي� ِأت َمن ي�أتي من الأ�شقياء اجلبناء �أو‬
‫من رجال ال�شرطة �إلينا ‪ ..‬كنت �أعلم �أن ذلك لن يحدث‪ ،‬هم جبناء‬
‫للغاية‪ ،‬يعلمون جيدً ا �أن قدومهم �إىل ذلك الوادي لن يكون نتيجته‬
‫�إال لقاء حتفهم‪ ،‬رمبا كانت تلك امليزة الوحيدة من �سمعة الن�ساىل‬
‫ال�سيئة ‪ ..‬و�إن مل يرتكب �أحد من احلا�ضرين جرمية قتل من قبل‪.‬‬
‫نكتف بالنريان امل�شتعلة فقط بل ان�ضم �إلينا العازفون تاركني‬ ‫مل ِ‬
‫احلانة تلك الليلة‪ ،‬كان اجلميع يف قرارة نف�سه يود �أن ي�شاركنا‬
‫فرحتنا‪ ،‬ثم ح�ضرت ال�سيدة والطبيب و�سبيل فد ّقت املو�سيقا‪ ،‬كانت‬
‫املرة الأوىل التي تدق فيها مو�سيقا ال�شامو منذ ليلة احلريق الهائل‬
‫ب�شوق كالظم�آن الذي تذوق ما ًء عذ ًبا بعد‬
‫بالوادي ‪ ..‬تلقتها �آذاننا ٍ‬
‫‪61‬‬
‫�أيام طويلة من ت�شقق حلقه ً‬
‫عط�شا ‪ ..‬ثم نه�ض �أول ال�شبان ومد يده‬
‫�إىل فتاة كانت جتل�س على بعد خطوات منه فنه�ضت وتق ّدمت معه‬
‫�إىل منت�صف الدائرة �أمامنا حيث غطى كل منهما عينيه بع�صب ٍة‬
‫قما�شية ليبد�آ رق�صتهما ‪ ..‬ثم نه�ض فتى وفتاة �آخران‪ ،‬وبعدها نه�ض‬
‫ري من ال�شبان والفتيات ‪ ..‬كان الطبيب يراقب حركات الراق�صني‬ ‫كث ٌ‬
‫وهم يتحركون بان�سيابية بالغة دون �أن يرتطم �أحدهم بالآخر وهم‬
‫دا‬
‫مع�صوبي الأعني‪ ،‬بينما ت�صدح مو�سيقانا يف �سماء الوادي دون � ّأي‬
‫قدوم مفاجئ لأ�شقياء الأ�شراف �أو �ضباطهم بعدما‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫خوف �أو قلق من ٍ‬
‫ري‬‫ص‬
‫ك ّلفت ال�سيدة بع�ض ال�شبان مبراقبة اجلهة املواجهة لوادينا والإبالغ‬
‫ال‬
‫�شخ�ص �أو عربة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫عن قدوم �أي‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫كانت عالمات الده�شة على وجه الطبيب ت�ضحكني للغاية ‪..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫�ساب ًقا ر�أيت تلك العالمات على وجه ال�سيدة حني ر�أت رق�صتنا للمرة‬

‫ر وا تول‬
‫الأوىل‪ ،‬لكني فوجئت ح ًقا عندما وجدت الطبيب ينه�ض وميد يده �إىل‬

‫زيع‬
‫ال�سيدة غفران كي تنه�ض وترق�ص معه ‪ ..‬وقتها نظرت �أنا وناردين‬
‫و�سبيل �إليهما غري م�صدقني ما يحدث يف انتظار ردة فعل ال�سيدة‪،‬‬
‫فنظرت �إلينا و�ضحكت‪ ،‬وقالت مازحة‪:‬‬
‫  يبدو �أن الطبيب ال يكف عن تذكريي بكوين ن�سل ّية ‪..‬‬
‫ثم مدت �إليه يدها ونه�ضت‪ ،‬ف�صرخنا مهللني من الفرحة عندما‬
‫تق ّدما �إىل منت�صف الدائرة‪ ،‬حتى �أن بع�ض ال�شبان قد �أزالوا ع�صبهم‬
‫القما�شية عن �أعينهم لريوا �سبب ذلك ال�صياح املفاجئ‪ ،‬وه ّللوا معنا‬
‫حني وجدوا ال�سيدة والطبيب يقفان بجوارهم يف انتظار بدء رق�صتهما‬
‫ألقيت ع�صب ًة قما�شية �إىل الطبيب‪ ،‬و�ألقت ناردين ع�صبتها �إىل‬
‫‪ُ � ..‬‬
‫‪62‬‬
‫ال�سيدة‪ ،‬وقام كل منهما ب�إخفاء عينيه‪ ،‬ثم بد�آ رق�صهما على مو�سيقا‬
‫العازفني‪ ،‬فو�ضع باقي ال�شبان ُع�صبهم من جديد‪ ،‬و�أكملوا رق�صهم‬
‫يف حما�س هم الآخرون ‪ ..‬بينما جل�ست �أنا وناردين و�سبيل وعدد قليل‬
‫من ال�شبان والفتيات ن�شاهدهم وهم يرق�صون ‪ ..‬ون�ضحك مقهقهني‬
‫ب�شاب �أو فتا ٍة بجواره ‪ ..‬غري �أننا‬
‫كلما ارتطم الطبيب بني حني و�آخر ٍ‬
‫الحظنا جمي ًعا �أن ال�سيدة غفران جتيد الرق�ص وك�أنها ُولدت ن�سل ّية ‪..‬‬
‫دا‬
‫كنت �سعيدً ا للغاية بتلك ال�ضحكة البادية على وجهها وهي ترق�ص ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫كنت �أعرف �أنها ت�ستحق كل حلظة �سعيدة بعد ما تكبدته من �أحزان‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫داخل وادينا ‪..‬‬

‫ك‬
‫حد ما وق ّل معدل‬
‫ت‬
‫مع الوقت �صار رق�ص الطبيب �أف�ضل �إىل ٍ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫حد معقول‪ ،‬ف�أطلقنا �صفرينا ن�شجعهما‪ ،‬وك�أن‬ ‫ارتطامه مبن حوله �إىل ٍ‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ذلك قد �أثار حما�س ال�سيدة ففاجئتنا بدورانها ليتطاير ف�ستانها مع‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫فرحا ‪..‬‬


‫الهواء‪ ،‬ف�صرخت الفتيات ً‬
‫و‬ ‫نه�ضت ومددت يدي �إىل ناردين لرنق�ص نحن ال ت‬
‫زيعنرق�ص‬
‫آخرين‪ ،‬مل نكن‬ ‫ُ‬
‫لنف ّوت تلك الرق�صة التاريخ ّية من رق�صة ال�شامو‪ ،‬ومكثنا‬
‫أزلت ع�صبتي القما�شية كان‬
‫جمي ًعا �إىل �أن متكن التعب منا ‪ ..‬حني � ُ‬
‫العرق قد ب ّلل وجه الطبيب بينما ظلت مالمح ال�سعادة منطبعة على‬
‫وجه �سيدتي‪ ،‬ملحتها تنظر �إىل الطبيب بامتنان ك�أنها ت�شكره بعدما‬
‫�أتاح لها تلك اللحظات من ال�سعادة‪ ،‬بعدها عدنا �إىل �أماكننا‪،‬‬
‫وجل�سنا نتحدث عن �أمو ٍر كثرية ب�ش�أن ما ن�ص ّنعه حتى وقت مت�أخر‬
‫من تلك الليلة‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪63‬‬
‫فعل‬
‫مرت تلك الليلة والليايل التي تليها دون �أي جديد ُيذكر �أو ردة ٍ‬
‫خمتلفة من الأ�شراف ‪ ..‬تو ّلت �سبيل تعليم الفتيات ال�صغريات مع‬
‫ليل فواظبت على احل�ضور �إىل الوادي املظلم مع‬ ‫ناردين نها ًرا‪� ،‬أما ً‬
‫ال�سيدة‪ ،‬لكننا مل ن�شعل النريان �أو نرق�ص ال�شامو مرة �أخرى‪.‬‬
‫مكان جديد‬
‫مع كل يوم كنا نت�أكد �أن خرب طفل �سبيل ينت�شر �إىل ٍ‬

‫دا‬
‫‪ ..‬يف احلقيقة �ساعدت فتيات الرذيلة يف انت�شار ذلك الأمر ب�صور ٍة‬

‫ر‬
‫كبرية‪� ،‬أ َّما العامل الأكرب النت�شاره فكان وجود يوم الغفران على بعد‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�ستة �أيام فقط من �إعالن ال�سيدة عن حمل �سبيل‪ ،‬وخرب مثل هذا‬
‫�صباحا لتجد كل الأل�سنة‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫يكفيه �أن ينطق به ل�سا ٌن واحد داخل الباحة ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن�سلي ح�ضر �إىل‬
‫�شاب ٌ‬
‫تتحدث به قبل حلول منت�صف النهار ‪� ..‬أخربين ٌ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫الباحة �أنه الحظ هبوط الفار�س كيوان عن املن�صة و�صعوده مرتني يف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ذلك اليوم‪ ،‬على عك�س عادته‪ ،‬بعدما ُعرف عنه �أنه يقف منت�ص ًبا‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫كالتمثال ال يغادر املن�صة قبل انتهاء مرا�سمها ‪..‬‬
‫و‬ ‫مع �صباح اليوم الثالث من يوم الغفران حدث ت‬
‫كنت �أقف على مع�صرة الزيتون اليدوية بالقرب من زيع‬
‫ما كنا ننتظره‪،‬‬
‫مدر�سة ال�سيدة‬
‫حني �صاح �أحد الأطفال وهو ي�شري بعيدً ا نحو غبار كثيف يت�صاعد‬
‫أدركت �أن هناك �صحب ًة غري م�ستحبة يف طريقها �إلينا‬
‫�إىل ال�سماء‪ ،‬ف� ُ‬
‫‪ ..‬انتبهت ال�سيدة غفران هي الأخرى ف�أمرت ب�إدخال امل�صنوعات‬
‫حملت‬
‫ُ‬ ‫و�أدواتنا �إىل كوخ التخزين الذي قمنا ببنائه قبل �أ�شهر‪،‬‬
‫مع�صرة الزيتون �إىل الداخل‪ ،‬كذلك حملت الفتيات �سجاجيدهن غري‬
‫املكتملة وخيوطهن �إىل الداخل ‪ ..‬قبل �أن يتجهن �إىل �أكواخهن حني‬
‫�شاب يهرول و�أخربنا ب�أن فر�سان الأ�شراف يرك�ضون بخيولهم‬
‫جاءنا ٌ‬
‫أعداد كبرية ‪..‬‬
‫نحو وادينا ب� ٍ‬
‫‪64‬‬
‫مل يكن الفرار �إىل الوديان املجاورة ذا فائدة مع �أولئك الفر�سان‬
‫لذا مل �أغادر مكاين ‪� ..‬أمرت ال�سيدة بان�صراف الأطفال و�إدخالهم‬
‫متتال ُ�أطلق قبل‬
‫ٍ‬ ‫�إىل الأكواخ القريبة بعدما �سمعنا �صوت بارود‬
‫و�صولهم �إىل الوادي ‪ ..‬مل �أكن �أعلم �إن كانت تلك الطلقات �إعال ًنا‬
‫منهم عن و�صولهم �أم �أنهم قد �أ�صابوا �أحدً ا حاول الفرار ‪ ..‬ت�أكدنا‬
‫جمي ًعا �أن �أو�شامنا ظاهرة‪ ،‬مل يكن يغطي ن�صفه العلوي من الرجال‬
‫دا‬
‫�إال الطبيب فا�ضل الذي يحمل �أورا ًقا تثبت انتماءه �إىل ٍ‬
‫بلد �آخر‪ ،‬غري‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ذلك كانت �صدورنا جميعها عارية‪ ،‬وكذلك �أكتاف الفتيات الي�سرى‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫مبا فيهن ال�سيدة غفران ‪ ..‬كذلك ت�أكدنا �سري ًعا �أنه مل يبقَ �أح ٌد من‬
‫الأطفال خارج الأكواخ ‪ ..‬كانت حلظات ارتباك �شديدة رغم �أننا كنا‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ننتظر حدوث ذلك الأمر‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫ظلت �أ�صوات الطلقات النارية م�ستمرة على نحو منتظم بني كل‬

‫ر وا تول‬
‫طلق ٍة و�أخرى مدة ثابتة من الوقت‪ ،‬كانت �أ�صواتها تزداد �أكرث ف�أكرث‬

‫زيع‬
‫مع اقرتابهم‪� ،‬إىل �أن ظهرت املجموعة الأوىل من الفر�سان ومعهم‬
‫�أُطلق وابل من الطلقات النارية �إىل ال�سماء ‪ ..‬مل �أح�ضر الليلة التي‬
‫ح�ضر بها الفار�س كيوان �إىل الوادي للمرة الأوىل حني اعتقل الأحد‬
‫ع�شر ن�سل ًيا‪ ،‬لكنهم حكوا يل عنها كث ًريا‪ ،‬ومع تقدم الفر�سان نحونا‬
‫كنت �أ�شعر �أن ذلك النهار �سيكون �أ�سو�أ و�أ�سو�أ ‪..‬‬
‫هبطت جمموعة اجلنود الأوىل عن خيولها‪ ،‬وبد�أت يف �إخراج‬
‫بعنف �شديد‪ ،‬و�أوقفوهم �أمام �أبوابها ‪ ..‬يف خالل‬
‫الن�ساىل من الأكواخ ٍ‬
‫وقت ق�صري كانت الفتيات قد �أُخرجن جمي ًعا �إىل الطرقة املمتدة �أمام‬
‫ٍ‬
‫الأكواخ وكذلك الأطفال الذين حاولنا �إخفاءهم قبل قليل ‪..‬كذلك‬
‫‪65‬‬
‫�أُخرجت ال�سيدة غفران و�سبيل و�أوقفهما �أحد اجلنود بغلظ ٍة �أمام‬
‫باب كوخ �سيدتي‪ ،‬قام الطبيب من تلقاء نف�سه بالوقوف �أمام كوخ‬
‫وقفت مكاين �أمام باب كوخ التخزين املغلق ‪..‬‬
‫عيادته‪ ،‬بينما ُ‬
‫ملحت بعيني جمموعة‬ ‫�أُمرنا جمي ًعا بالركوع فركعنا على ركبنا‪ُ ،‬‬
‫�أخرى من الفر�سان يتجهون �إىل �شارع �آخر غري الذي نتواجد به‪،‬‬

‫دا‬
‫فعلمت �أن ما يحدث لنا �سيحدث لكافة ن�ساىل الوادي ‪..‬‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ظللنا راكعني على ركبنا ملدة طويلة دون �أن يحدث �أي جديد‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫راكعني ُم�سلطة الأ�سلحة النارية نحو ر�ؤو�سنا فح�سب‪ ،‬بينما يرك�ض‬
‫ال‬
‫�أحد الفر�سان بح�صانه �أمامنا جيئ ًة وذها ًبا ل ُيرتب وجوهنا و�أج�سادنا‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫بغبار �أقدام ح�صانه عن ق�صد‪ ،‬بني ح ٍني و�آخر كنا ن�سمع �صوت طلقة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫نارية باجلانب الآخر من الوادي‪ ،‬كنت �أخ�شى �أن يكون مع كل واحدة‬
‫ش‬‫ر‬
‫منها قتيل‪ ،‬كان ذلك �سيعني �أننا فقدنا على الأقل ت�سعة منا خالل‬

‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫وقت �آخر مل يتغري فيه �سوى �أن عدد ت‬
‫الوقت الذي ركعناه ‪..‬‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫بخيولهم �أمامنا جي ًئة وذها ًبا قد زاد من فار�س واحد �عإىل �أربعة‬
‫الفر�سان الراك�ضني‬ ‫م�ضى ٌ‬

‫فر�سان‪ ،‬كان بينهم امر�أة ‪ ..‬دون �أي جديد �آخر‪ ،‬حاول طفل ال يبلغ‬
‫ال�ساد�سة الرك�ض‪ ،‬فركله �أحد اجلنود بق�سوة‪ ،‬ف�سقط مو�ضعه ين�شج‬
‫عال ‪ ..‬مل ي�ستطع �أحدنا فعل �أي �شيء‪ ،‬من ينه�ض من مو�ضعه‬
‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬
‫متاما �أنه لن يتحرك خطوة واحدة �إال وقد اخرتقت ر�صا�صة‬ ‫يعلم ً‬
‫�أحدهم م�ؤخرة ر�أ�سه‪.‬‬
‫هد�أ نحيب الطفل مع الوقت ومل تهد�أ طلقات البارود الآتية من‬
‫املناطق الأخرى من الوادي‪ ،‬كنت �أملح بعيني وجه ال�سيدة غفران‬
‫‪66‬‬
‫املتجهم وهي راكعة تنظر �إىل الفراغ �أمامها دون �أن حترك ر�أ�سها‬
‫ميي ًنا �أو ي�سا ًرا خالل املدة الطويلة التي �أركعنا بها الفر�سان ‪ ..‬بينما‬
‫كانت نظرات الطبيب تتجه بني ح ٍني و�آخر �إىل �سبيل التي بدا وك�أنها‬
‫خ�شيت وقتها �أن يكون �سر ذلك الركوع الطويل‬
‫ُ‬ ‫تقاوم الركوع ب�أ ٍمل بالغ‪،‬‬
‫هو �إجها�ض �سبيل‪ ،‬وبد�أتُ �أ�صرخ �إليها داخل نف�سي‪:‬‬

‫دا‬
‫ـوك ‪..‬‬
‫ متـ ـ ـ ــا�سكي يا�سبي ـ ــل‪ ،‬ا�صمـ ـ ــدي �أرج ـ ـ ـ ِ‬

‫ع‬
‫وك�أن �سيدتي قد تنبهت �إىل الأمل البادي على وجه �سبيل‪ ،‬مدت‬
‫ر‬
‫ري‬‫ص‬
‫يدها �إىل فخذها وربتت عليها ك�أنها تناجيها هي الأخرى ب�أن تتما�سك‪،‬‬
‫ال‬
‫ف�صاح �إليها �أحد اجلنود لرتفع يديها فوق ر�أ�سها‪ ،‬ففعلت �سيدتي ما‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫�أمر به اجلندي على م�ض�ض‪ ،‬و�ش ّبكت يديها خلف م�ؤخرة ر�أ�سها‪،‬‬
‫فالتقطت �أنفا�سي ‪..‬‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ب‬
‫فهزت الفتاة �إلينا ر�أ�سها �إيجا ًبا ب�أنها بخري‪،‬‬
‫شمل �أعد �أ�شعر ب�أقدامي‬
‫أخذل م�سارها نحو‬‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫وا�صلنا ركوعنا لفرتة �أخرى طويلة حتى �أنني‬

‫زاجلوعى‬ ‫ت‬
‫الغروب وظهر ال�شفق الأحمر بال�سماء‪ ،‬فزاد عويل ال و‬
‫من ِالدر الذي �أ�صابها ‪ ..‬ثم بد�أت ال�شم�س ت�‬
‫ي‬
‫دون �أن يحرك ذلك �أي ذرة عاطفة لدى جنود الأ�شراف ‪ ..‬عبالعك�س‬
‫أطفال‬

‫تناوب معظمهم على ركل َمن يعلو نحيبه من الأطفال ‪ ..‬كذلك �ضرب‬
‫طفل يبكي ب�سوطه من فوق ح�صانه‪ ،‬قبل �أن يوا�صل‬ ‫�أحد الفر�سان ً‬
‫رك�ضه بفر�سه ك�أن �شي ًئا مل يحدث ‪..‬‬
‫ثم توقفت اخليول الراك�ضة �أمامنا عن حركتها �أخ ًريا وهد�أت‬
‫معها اجللبة التي كانت حتدثها‪ ،‬و�سكت الأطفال عن نحيبهم كذلك‬
‫بكلمات مت�سارعة اعتدل معها كافة اجلنود الذين‬
‫ٍ‬ ‫عندما �صاح جندي‬
‫يقفون خلفنا يف وقفتهم‪ ،‬ومل متر حلظات �إال وظهر من بعيد على‬
‫‪67‬‬
‫فر�سه الفار�س كيوان ‪ ..‬مي�شي ح�صانه ال�ضخم �إىل داخل الوادي‬
‫بت�ؤدة‪ ،‬يتبعه من خلفه على بعد خطوات �أربع ٌة من اخليول حتمل‬
‫فر�سانها فوق �صهوتها‪ ،‬ثم توقف بح�صانه وهبط عنه وتركه لأحد‬
‫اجلنود‪ ،‬فيما توقف مرافقيه من الفر�سان عن التقدم دون �أن يهبطوا‬
‫عن �أح�صنتهم‪ ،‬ثم وجدته يتقدم مبفرده بني الراكعني امل�صطفني‬
‫على اجلانبني‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫كنا يف نهاية الطرقة وكنت �أعلم �أنه قد �أتى من �أجلنا نحن‪� ،‬أو من‬
‫عيني‬
‫ري‬‫ص‬
‫�أجل �سيدتي و�سبيل على وجه التحديد ‪ ..‬كان ال�شر البادي يف ّ‬
‫ال‬
‫ذلك الرجل يجعلك ت�شم رائحة املوت وك�أنه قد ُخلق مراف ًقا لظله ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫كانت عيني تتجه �إىل ال�سيدة التي كانت تنظر �إىل الأر�ض دون �أن‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ترفع عينيها �إليه وهو قادم‪ ،‬بينما بدا وجه �سبيل مرتع ًبا ‪� ..‬صرخ طف ٌل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫فج�أة‪ ،‬فتوقف الفار�س كيوان عن �سريه‪� ،‬شعرتُ �أنه �سيلتفت ليخرج‬
‫�سالحه الناري لي�سكت ذلك الطفل �إىل الأبد‪ ،‬لكنه وا�صل خطواته‬
‫زيع‬
‫جتاهنا بعد حلظ ٍة واحدة‪ ،‬دون �أن يلتفت �إىل الطفل‪ ،‬ثم اقرتب مني‬
‫م�سرعا‪ ،‬ومل �أرفعها �إال عندما جتاوزين‬
‫ً‬ ‫فخف�ضت عيني �إىل الأر�ض‬
‫ُ‬
‫‪ ..‬مل يع ّلق على ارتداء الطبيب قمي�صه‪ ،‬كان يعلم كل �شيءٍ عن‬
‫وادينا‪ ،‬ويعرف �أن الطبيب من بالد �أخرى فتجاوزه هو الآخر دون‬
‫اكرتاث‪� ،‬إىل �أن وقف �أمام ال�سيدة غفران و�سبيل الراكعتني ‪� ..‬ألقى‬
‫نظر ًة مطولة نحو الو�شم املر�سوم على كتف �سيدتي‪ ،‬فرفعت �سيدتي‬
‫عينيها �إليه يف تلك اللحظة ‪ ..‬كانت نظرة التحدي يف عينيها توحي‬
‫ب�أن هزميتها لن تكون بتلك ال�سهولة التي يت�صورها �أبدً ا ‪..‬‬
‫‪68‬‬
‫لثوان قبل �أن يحرك نظره �إىل �سبيل ‪ ..‬مل‬
‫نظر يف عني �سيدتي ٍ‬
‫يكن �أحدنا يعرف فيما يفكر ذلك الرجل ‪ ..‬ظل واق ًفا �أمامهما لدقائق‬
‫يح ّدق يف �سبيل‪ ،‬قبل �أن يحرك نظره �إىل ال�سيدة غفران مرة �أخرى ‪..‬‬
‫فوجئت به ي�ستدير ويعود مبتعدً ا عن ال�سيدة غفران و�سبيل دون �أن‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫م�سرعا ‪ ..‬بكى طفل �آخر �أثناء‬
‫ً‬ ‫ي�صيبهما مبكروه‪ ،‬فنظرت نحو الأر�ض‬
‫عودته‪ ،‬لكنه مل ميهله هذه املرة‪� ،‬أخرج �سالحه الناري وبر�صا�ص ٍة‬
‫دا‬
‫واحدة �أ�سكت الطفل و�أ�سكت جميع الأ�صوات من حوله‪ ،‬قبل �أن‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫يح�ضر له اجلندي ح�صانه وميتطيه ويغادر مبتعدً ا ‪ ..‬ومن بعده غادر‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫جميع اجلنود والفر�سان‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لن‬‫بل‬ ‫‪b‬‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪69‬‬
‫(‪)8‬‬
‫ريان‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫يفل ذلك اليوم ثالث ًة من �شبان الن�ساىل‬
‫ري‬
‫كانت ح�صيلة املوتى ا‬
‫يكملت اخلام�سة من عمره والذي قتله‬‫بالإ�ضافة �إىل الطفل الذي ملك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫كيوان‪� ،‬أربع ٌة �آخرون �أ�صابتهم طلقاتب ل‬
‫ر‬ ‫من �أج�سادهم لكنهم مل ميوتوا‪ ،‬كان جميعهمش‬
‫اجلنود يف �أماكن متفرقة‬

‫الوادي و�أتى بهم باقي ال�شبان م�سرعني �إىل كوخ وال وت‬
‫بال�شوارع الأخرى من‬

‫اجلنود‪ ،‬والذي ق�ضى ليلته يف �إ�سعافهم و�إخراج تلك زيع‬


‫الطبيب بعد رحيل‬
‫الطلقات من‬
‫�أج�سادهم وت�ضميد جراحهم‪ ،‬قال عندما انتهى ب�أن �أحدهم �سيظل‬
‫عاجزً ا عن ا�ستخدام قدميه باقي حياته بعدما �أ�صابت الر�صا�صة‬
‫عموده الفقري‪ ،‬بينما كان الثالثة الآخرون �أف�ضل ً‬
‫حال ‪..‬‬
‫مل تع ّلق ال�سيدة على ما قاله الطبيب‪ ،‬كنت �أ�شعر يف قرارة نف�سي‬
‫�أنها حت ّمل نف�سها م�سئولية قتلى رجال كيوان‪ ،‬فالذت بال�صمت ‪ ..‬ثم‬
‫ت�ساءل الطبيب �إليها وهو يخلع معطفه املُت�سخ بالدماء‪:‬‬
‫‪71‬‬
‫ �أال يوجد بني القواعد قاعدة جت ّرم قتل الن�سلي دون وجه حق؟‬
‫�أجابته واجم ًة‪:‬‬
‫الن�سلي‬
‫ُّ‬ ‫  ُيوجد‪ ،‬ولكن �أ�سهل �شيء يف هذا البلد �أن تقول لقد فعل‬
‫كذا ‪ ..‬لقد قاوم اجلندي‪ ،‬فا�ضطر اجلندي �إىل قتله ‪..‬‬

‫دا‬
‫قال الطبيب م�ستنك ًرا‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ وذلك الطفل‪َ ،‬من قاوم؟!‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قالت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫  ُ�سيقال ر�صا�صة طائ�شة كانت متجهة �إىل �أحد املقاومني‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬‫�أ�صابته باخلط�أ ‪..‬‬


‫ش‬
‫ر وال‬
‫و�أ�ضافت يف ي� ٍأ�س‪:‬‬
‫و‬ ‫ت‬
‫ع‬ ‫زي‬
‫قول لنا ‪..‬‬
‫ لن جنر�ؤ على ال�شكوى‪ ،‬حتى و�إن فعلنا فلن ُيعتد ب�أي ٍ‬
‫هناك قانون ن�ش�أ مواز ًيا للقواعد يقول ب�أن ال�شريف �أ�صدق ‪..‬‬
‫قال الطبيب‪:‬‬
‫ � ًإذا يبقى هذا القانون �أ�سا�س بالء الن�ساىل ‪..‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫  ما حدث اليوم كان �إ�شعا ًرا من كيوان ب�أنه لن مي ّرر ما فعلناه‬
‫تعمد بقاءنا طيلة اليوم راكعني ليذكرنا �أننا ن�ساىل و�سنظل‬‫‪َ ..‬‬
‫ن�ساىل �إن كنا قد ن�سينا ‪ ..‬لكنك حمق‪ ،‬كانت نظرات عينيه‬
‫‪72‬‬
‫أيت‬
‫�إىل �سبيل تقول �أنه تلقى �أم ًرا حا�س ًما بعدم �إيذائها ‪ ..‬ر� ُ‬
‫الغيظ باد ًيا يف عينيه كنا ٍر م�شتعلة يحاول بكل طاقته ال�سيطرة‬
‫عليها‪..‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ لن نغادر �أنا و�سبيل �إىل الوادي املظلم جمددًا‪� ،‬سنبقى يف كوخي‬

‫ر‬
‫من الليلة ولن يقرتب منا �أي �شريف‪ ،‬على الأقل لن يقرتب من‬
‫دا‬
‫ع‬
‫�سبيل‪� ،‬أما �أنا ف�س�أتوىل �أمر َمن يفكر فقط يف االقرتاب مني‪،‬‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫و�إن كنت �أعتقد �أن كيوان قد �أمر بعدم �إيذائي � ً‬
‫أي�ضا‪� ،‬إنه لي�س‬

‫ك‬
‫من ذلك النوع الذي ينهي حربه مبك ًرا ‪� ..‬سيو ُّد �أن ي�ستمتع‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫بهزميتي ‪..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ر وا تول‬
‫و�صمتت للحظة‪ ،‬و�أ�ضافت‪:‬‬
‫ �أتوقع �أن يحاول �إيذاءك قري ًبا ‪..‬‬
‫زيع‬ ‫مازحا‪:‬‬
‫ابت�سم الطبيب‪ ،‬وقال ً‬
‫ �إن �ضايقه ارتدائي لقمي�صي فلي�أخذه �إذن ‪..‬‬
‫قالت ال�سيدة بجدية‪:‬‬
‫  �سيحاول جتريدي من كافة ُ�سبل دعمي هنا ‪ ..‬ويعلم �أنك داع ٌم‬
‫ري يل ‪..‬‬
‫كب ٌ‬
‫فقال الطبيب بلهج ٍة جادة‪:‬‬

‫‪73‬‬
‫ لن يختلف املوت هنا عن املوت يف بني عي�سى عن املوت يف‬
‫بالدي القدمية ‪� ..‬إين �أ�ؤمن مبا تفعلينه يا غفران‪ ،‬و�أ�ؤمن‬
‫متاما بحق ه�ؤالء الب�شر يف حياة �شريفة مثل باقي �أهل چارتني‬
‫ً‬
‫‪ ..‬لن �أترك الوادي �أو �أتركك مهما حدث‪ ،‬ليوا�صل ك ٌل منا عمله‬
‫من �أجل هذا الوادي ونا�سه‪ ،‬وليفعل ما يف و�سعه ‪� ..‬س ُيولد هذا‬
‫متاما �أنه لن يكون املولود الأخري‬
‫اجلنني على يدي‪ ،‬و�أنا �أثق ً‬

‫دا‬
‫ال�شريف من ن�سل الن�ساىل ‪..‬‬
‫‪b‬‬ ‫ع‬ ‫ر‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫يف خالل الأيام التالية �أ�صبحت �أحاديثنا كلها عن ال�شهور املتبقية‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لوالدة �سبيل ‪� ..‬أعتقد �أن كل ن�سلي يف وادينا بد�أ ي�شعر وك�أن ذلك‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الطفل املنتظر هو طفله الذي ا�شتاق كث ًريا �إىل قدومه ‪ ..‬يف مدر�سة‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ال�سيدة كان اجلميع ي�ساعد �سبيل على �أال تبذل �أي جهد �إ�ضايف ‪..‬‬

‫ر وا تول‬
‫و�إن حدث لها �أي �إعياء انتظر اجلميع بكل قلق خرب ت�أكيد الطبيب‬
‫فا�ضل ب�أنها بخري ‪� ..‬صار ذلك الطفل حمور احلكايات يف جمال�سنا‪،‬‬
‫زيع‬
‫ي�شب ليجد كل �أهله ن�ساىل‪ ،‬ع ّما �إن كانت‬
‫ع ّما �سي�شعر به جتاهنا حني ّ‬
‫�سبيل �ستذهب به �إىل جويدا للعي�ش بني ال�شرفاء بعيدً ا عن حياتنا‬
‫املكفرة �أم �ستبقى به بيننا‪ ،‬عما �إن كان �سيتزوج �إحدى بنات �أ�شراف‬
‫جويدا �أم �سيتزوج ن�سلي ًة مثل �أبيه‪ ،‬فت�صري زوجته �شريف ًة � ً‬
‫إكراما له‬
‫‪� ..‬أو يكون ذلك اجلنني �أنثى فتتزوج ن�سل ًيا‪ ،‬في�صري زوجها �شري ًفا‬
‫إكراما لها‪.‬‬
‫� ً‬
‫وزاد بنا الأمر �أننا تراه ّنا �إن كان ذلك اجلنني ذك ًرا �أم �أنثى ‪..‬كان‬
‫رهاين �أنه ذك ٌر‪ ،‬كذلك تراهن بع�ضنا على اال�سم الذي قد تختاره له‬
‫�أمه �سبيل �أو ال�سيدة غفران‪� ،‬إن تركت لها �سبيل ذلك الأمر‪.‬‬
‫‪74‬‬
‫مع تلك الأحاديث �صار الذهاب �إىل الوادي املظلم �أم ًرا ممت ًعا‬
‫بالن�سبة لنا‪ ،‬وباتت لياليه �أف�ضل كث ًريا من �أيام ال�سهر يف حانات‬
‫وادي الن�ساىل ‪� ..‬شعرتُ �أن كثريين قد بد�أوا يفكرون يف تكرار ما‬
‫فعله حيدر و�سبيل لكنهم �آثروا انتظار مرور الأ�شهر التالية لريوا ماذا‬
‫�سيحدث مع والدة ذلك الطفل‪ ،‬غري �أننا فوجئنا �صباح �أحد الأيام‬
‫واد �آخر ا�سمه « ُزردق» ي�أتي �إىل وادينا ليخرب ال�سيدة‬
‫ب�شاب ن�سلي من ٍ‬
‫ٍ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫عن نيته يف الزواج من فتاة ن�سلية تنتمي �إىل واديه كانت قد �أتت معه‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ ..‬و�أردف ب�أنهما تعلما على يد �أحد ال�شبان الذين قد تعلموا مبدر�سة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ال�سيدة غفران قبل �أن يعود �إىل واديهم ‪� ..‬أتذكر مالمح الفرحة التي‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ظهرت على وجه �سيدتي وهي تقول ب�أن ذلك ما �أرادته ح ًقا ب�إعالن‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫خرب حمل �سبيل‪� ،‬أن يقدم املزيد على تلك اخلطوة‪ ،‬ثم قالت بعدما‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ا�ستغرقت يف التفكري‪:‬‬

‫ لن نفعل ما فعلناه يوم زواج حيدر و�سبيل ‪..‬ر وا تول‬


‫زيع‬ ‫و�أ�ضافت‪:‬‬
‫ �سينتبه الأ�شراف هذه املرة‪ ،‬و�سيمنعون حدوث مثل ذلك الأمر‬
‫مرة �أخرى ‪� ..‬سيذهب �سوار قا�ضينا ال�شاب فقط معهم‪ ،‬ولن‬
‫نعلن عن الزواج �إال بعد عودتهم �إىل وادينا ‪..‬‬
‫وتابعت بعد حلظة �أخرى من التفكري‪:‬‬
‫ �سنف ّوت يوم الغفران القادم � ً‬
‫أي�ضا ‪ ..‬على �أن يذهبوا �إىل الباحة‬
‫يوم الغفران الذي يليه ‪..‬‬
‫‪75‬‬
‫وافقنا �سيدتي فيما قالته‪ ،‬وبقي ُزردق وعرو�سه املنتظرة «وداد»‬
‫يف وادينا خالل الأيام التي �سبقت يوم الغفران الذي حددته ال�سيدة‬
‫‪..‬كانا يعمالن معنا نها ًرا خا�ص ًة �أننا كنا ن�ستعد حلزم ب�ضائعنا‬
‫املُ�صنعة من �أجل �إر�سالها للبيع ب�أ�سواق بلدان ال�شمال‪ ،‬ويغادران معنا‬
‫ليل ‪ ..‬كان ُزردق ذا وجه �أبي�ض م�ستدير وج�سد‬ ‫�إىل الوادي املظلم ً‬
‫بدين ال ينبت بن�صفه العلوي �شعر ٌة واحدة‪ ،‬ولوال الو�شم املنقو�ش‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫على �صدره‪ ،‬وبنطاله البايل املمزق لظننت �أنه من مدللي الأ�شراف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫‪ ..‬غري �أنه كان ميتلك ل�سا ًنا ال يتوقف عن �إلقاء املزاح والنكات �أبدً ا‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أما خطيبته فكانت نحيف ًة للغاية‪ ،‬قد يكون ً‬
‫ذراعا واحدً ا منه �أ�سمن‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ح�سا فكاه ًيا جعلها ال تكف‬ ‫من خ�صرها‪ ،‬كانت هي الأخرى متتلك ً‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫عن ال�سخرية عن ج�سدها النحيف و�ساقيها الطويلتني الرفيعتني‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫اللتني ت�شبهان عيدان الذرة على حد قولها ‪ ..‬كانت تلك الفتاة مت�شي‬

‫ر وا تول‬
‫مهرول ًة �أمامنا �أثناء ذهابنا �إىل الوادي املظلم ب�سرع ٍة كبرية بينما‬

‫زيع‬
‫أنفا�س �صاخب ٍة الهثة جتعلك تنده�ش‬‫بثقل كبري و� ٍ‬ ‫يتحرك ُزردق خلفنا ٍ‬
‫كيف تالقى هذان االثنان ‪..‬‬
‫‪b‬‬
‫نوعا من املرح �إىل جل�ساتنا يف الوادي‪� ،‬ضحكنا‬
‫�أ�ضاف هذا الثنائي ً‬
‫حني قال ُزردق ذات مرة �أنهما قررا الزواج بعدما ف�شال فيما ُخلقا‬
‫من �أجله‪ ،‬وعندما �س�أله �أحدنا م�ستفه ًما عما يق�صده‪ ،‬قالت الفتاة‪:‬‬
‫ ف�شلنا يف �أن نبقى ن�ساىل حقيقني ‪ ..‬هو بدينٌ جدً ا ال ي�صلح‬
‫لل�سرقة �أو للهروب �إن ارتكب جرمي ًة ‪..‬‬
‫‪76‬‬
‫و�أ�ضافت بلهجة مفتخرة‪:‬‬
‫ و�أنا قبيح ٌة للغاية‪ُ ،‬ي�صاب الأ�شراف بالقرف واال�شمئزاز �إن‬
‫ر�أوا ج�سدي ‪ ..‬قال يل �أحدهم ذات مرة �أن رائحتي ال تٌطاق‬
‫وتركني وم�ضى‪ ،‬ومن يومها مل يزرين �أي �شريف ‪� ..‬أ�ستطيع‬
‫�أن �أبقى يف واديكم كل ليلة دون املجيء �إىل الوادي املظلم‪،‬‬

‫دا‬
‫ٌ‬
‫�شريف واحد ‪..‬‬ ‫و�أراهنكم �إن اقرتب مني‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫وقتها قفزت يف ر�أ�سي فكر ٌة غريبة قد تغني فتياتنا عن الهروب‬

‫ري‬‫ص‬
‫كل ليلة �إىل الوادي املظلم‪ ،‬وعدت بعدما انتهينا �إىل وادي الن�ساىل‪،‬‬
‫ال‬
‫واجتهت �إىل كوخ الطبيب‪ ،‬و�أيقظته من نومه فتعجب‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫  ماذا لو كره الأ�شراف ممار�سة الرذيلة مع فتياتنا؟‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ر وا تول‬
‫ف�س�ألني‪:‬‬
‫  كيف؟‬

‫زيع‬ ‫قلت‪:‬‬
‫  ُتقام ال�شهوة على الرغبة‪ ،‬ماذا لو كانت رائحة فتياتنا كريه ًة‬
‫حد ال ُيطاق فتزول عنهم رغبة ه�ؤالء الأ�شقياء؟‬
‫�إىل ٍ‬
‫انتبه �إ ّ‬
‫يل الطبيب ك�أنه يريدين �أن ا�ستطرد يف حديثي‪ ،‬فتابعت‪:‬‬
‫  ماذا لو انغم�ست ن�سا�ؤنا كل ليلة يف �أحوا�ض روث البهائم بعد‬
‫انتهاء �أعمالنا‪� ،‬أو رمبا �أحوا�ض جتميع ف�ضالتنا ‪ ..‬تخ ّيل هذا‪،‬‬
‫لن يقرتب �أي �شريف من فتاة رائحتها كذلك ‪..‬‬
‫‪77‬‬
‫امتع�ض الطبيب مما �أقوله‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �سينجني من الأ�شراف لكنهم لن ينجني من املر�ض ‪ ..‬ومع‬
‫الوقت �س ُي�صاب رجال الن�ساىل باالمتعا�ض منهن كذلك‪ ،‬ولن‬
‫ُيقبلوا على الزواج منهن‪� ،‬سنكون قد رجعنا للخلف خطوات ‪..‬‬
‫ال تروق يل هذه الفكرة‪ ،‬و �أعتقد �أنها لن تروق لغفران �أو لفتيات‬

‫دا‬
‫الن�ساىل‪ ،‬يبقي هروبهن �إىل الوادي املظلم مع حمايتكم لهن‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫هناك خري احللول �إىل الآن ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قلت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ �إىل متى �أيها الطبيب؟ �إىل متى �سيظل هذا حالنا؟‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫قال‪:‬‬

‫ر وا تول‬
‫  ال �أعلم �إىل �أي وقت �سيطول هذا ‪ ..‬لكن من قراءاتي القدمية‬

‫زيع‬
‫تغيت فيها �أحوال املنبوذين ‪ ..‬مل يحدث الأمر بني‬ ‫للبالد التي ّ‬
‫ليلة و�ضحاها‪ ،‬ا�ستغرق الأمر جهد �سنوات ‪ ..‬ما علينا �سوى‬
‫احلفاظ عما فعلته غفران وزرعته يف هذا الوادي منذ جميئها‪،‬‬
‫رمبا ي�أخذ الأمر �سنوات لكننا �سنوا�صل البناء‪ ،‬و�أعني هنا بناء‬
‫أ�شخا�صا متعلمني يعرفون حقوقهم ‪ ..‬ن�ستغل كافة‬
‫ً‬ ‫الأ�شخا�ص‪� ،‬‬
‫الفر�ص التي قد ُتتاح لتعليم كل �صغري ن�سلي‪ ،‬وتربيته على كونه‬
‫�شري ًفا داخل عقله‪ ،‬ليكون م�صطلح الن�ساىل لي�س �إال كلم ًة‬
‫ميحوها الزمن مع تق ّدم �سنواته ‪ ..‬قد تت�أخر النتيجة لكن طاملا‬
‫ن�سري على ال�صراط ال�صحيح �سن�صل ال حمالة ‪..‬‬
‫‪78‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  �أمل ي� ِأت موعد مقاومتهم بعد؟!‬
‫كانت املرة الأوىل التي �أ�ص ّرح فيها برغبتي احلقيقية يف مقاومة‬
‫الأ�شراف ‪ ..‬فقال الطبيب با�س ًما‪:‬‬

‫دا‬
‫ �سيكون انتحا ًرا حقيق ًيا ال مقاومة ‪� ..‬ستكون فر�ص ًة لكيوان‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ومن معه لقتل املزيد واملزيد ‪ ..‬لن تفيد �أيادينا العزىل �ضد‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫�أ�سلحتهم النارية ‪� ..‬أرى �أن غفران تدرك هذا جيدً ا ‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫قلت و�أنا �أتذكر‪:‬‬


‫طفل يف العا�شرة كنتب نل‬
‫ل‬
‫يبقى عليها ال�سيد ندمي وقتما كانت تثورش‬
‫ارتعب للغاية من احلالة التي‬ ‫ حني كنت ً‬
‫ر‬
‫هذه الأيام �أمتنى لو كان بيننا بهذه الهيئة‪ ،‬وال‬
‫روحه ‪ ..‬حني �أتذكره‬
‫رمبا وت‬
‫زيع‬
‫حار�سا‬
‫ل�صار ً‬
‫لهذا الوادي مبفرده ‪..‬‬
‫وبد�أت �أحكي للطبيب ب�إ�ضافات من خيايل عن الهيئة التي كان‬
‫مازحا بعدما‬
‫يظهر عليها �سيدي حني تثور روحه‪ ،‬فقال الطبيب ً‬
‫انتهيت‪:‬‬
‫علي �أال �أفقد �آدم � ًإذا ‪..‬‬
‫ كان ّ‬
‫و�أ�ضاف‪:‬‬
‫‪79‬‬
‫ على حد قولك وقول غفران كان ندمي �شا ًبا طي ًبا يخ�شى �أن‬
‫ت�سيطر عليه تلك الروح ‪ ..‬ما بالك لو كانت تلك الروح قد‬
‫انتقلت �إىل �آدم الذي ُولد لأم ن�سلية وجتري يف عروقه دماء‬
‫�أبيه الغجرية ‪..‬كان الأمر لي�صبح مغاي ًرا كث ًريا ‪..‬‬
‫وابت�سم وهو يكمل‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ كنت وقتها لن تفكر بتلك الفكرة ذات الرائحة الكريهة �أبدً ا ‪..‬‬

‫ص‬ ‫�ضحكنا ثم �ع‬


‫�أح ّدث �أحدً ا بعدها ري‬
‫أكملنا حديثنا عن �أمو ٍر �أخرى حتى طلوع ال�صباح ‪ ..‬مل‬
‫بتلك الالفكرة ‪ ..‬و�س� ُ‬
‫ألت الطبيب �أال يخرب ال�سيدة‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫تباعا‬
‫فوعدين بذلك ‪ ..‬ثم مرت الأيام ً‬ ‫ب�أنني قد اقرتحت ذلك الأمر‪،‬‬
‫حددته ل ال�سيدة غفران لزواج ُزردق‬
‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫�إىل �أن ح ّل يوم الغفران الذي‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫وفتاته‪.‬‬

‫يف �صباح ذلك اليوم تيقنت �سيدتي من �سوار ب�أنه الزيع‬


‫‪b‬‬
‫يزال يحفظ‬
‫حديث الزواج ف�أجابها ب�أنه يحفظه عن ظهر قلب‪ ،‬وبد�أ يف ترديد‬
‫كلماته �أمامنا‪ ،‬ف�س�ألته �أن يعقد قرانهما هذه املرة خل�س ًة �أثناء‬
‫احتفاالت املهرجني على املن�صة‪ ،‬ولي�س �أثناء عقد الزيجات �أمام‬
‫القا�ضي الكبري‪ ،‬هز ر�أ�سه مواف ًقا‪ ،‬ثم غادر مع ُزردق وعرو�سه‪� ،‬أما‬
‫نحن فوا�صلنا عملنا يف جتميع الب�ضائع املُ�صنعة طوال النهار وعقولنا‬
‫من�شغل ٌة مبا يحدث يف الباحة‪ ،‬وخا�ص ًة �سيدتي‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫كنا ننتظر حلول الغروب وعودة �سوار مع ُزردق وزوجته بفارغ‬
‫ال�صرب‪ ،‬كان ذلك �سيكون االنت�صار احلقيقي الثالث لنا بعد زواج‬
‫حيدر و�سبيل وحمل �سبيل بجنني �شريف‪ ،‬ثم انتهينا من �أعمالنا‬
‫ف�أ�سرعنا ُقبيل غروب ال�شم�س �إىل الوادي املظلم‪ ،‬و�أعددنا �أوجه‬
‫االحتفال هناك ‪ ..‬كانت �سيدتي قد �أخربتني ب�أنها �ست�أتي بهم �إىل‬
‫احتفال يليق بهذا احلدث‬‫ً‬ ‫الوادي مبجرد عودتهم لنحتفل جمي ًعا‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ال�سار‪ ،‬لكنهم ت�أخروا كث ًريا ومل يظهر � ٌأي منهم مع حلول الليل ‪..‬‬
‫هبطت الوادي �عإىل �سيدتي لعلهم قد عادوا �إليها و�آثروا �أال ي�صعدوا‬
‫ص‬
‫�إىل الوادي املظلم‪ ،‬ف� ري‬
‫ُ‬
‫افرت�ضت‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫أخربتني �أنهم مل يعودوا �إليها كذلك ‪..‬‬
‫ك‬
‫قلق ب�أن �سوار مل يعد هو الآخر‪ � ،‬ت ُ‬
‫�أن يكون زردق وزوجته قد عادا �إىل واديهما الذي جاءا منه‪ ،‬فقالت يف‬
‫ب�إىل احلانة حيث كان هناك‬
‫ل‬
‫احتفا ٌل ب�إحدى ن�ساء الن�ساىل التي ح�صدتلنشً‬
‫أ�سرعت‬

‫ال�صباح‪ ،‬و�س�ألتُها �إن كان حدث �شيء غريب يفر‬


‫روحا ن�سلية جلنينها ذلك‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫قد ر�أت �سوار هناك‪� ،‬أجابت املر�أة ب�أنها مل تالحظ ت�وأي �شيء غري‬
‫الباحة‪� ،‬أو �إن كانت‬
‫ز‬
‫ألت غريها ممن ذهنب �إىل هناك كانت �يعإجابتهن‬ ‫معتاد بالباحة ‪� ..‬س� ُ‬
‫جمي ًعا ال�شيء ذاته ‪ ..‬عدت �إىل �سيدتي و�أخربتها مبا قالته الن�ساء ‪..‬‬
‫�سكتت تفكر‪ ،‬كنت �أعلم �أنها مثلي تفرت�ض بداخلها �أ�سو�أ الظنون ‪..‬‬
‫ثم مرت �ساعات �أخرى من الليل عاد معها معظم من كانوا ينتظرون‬
‫االحتفال بالوادي املظلم �إىل كوخ ال�سيدة‪ ،‬وملّا علموا بعدم عودة �سوار‬
‫و ُزردق وعرو�سه اقرتح بع�ضهم ب�أن يذهبوا �إىل جويدا ملعرفة الأمر‪،‬‬
‫لكن �سيدتي رف�ضت ذلك‪ ،‬و�س�ألتنا �أن نعود �إىل �أكواخنا لننال ً‬
‫ق�سطا‬
‫من الراحة‪ ،‬وقالت يف جتهم‪:‬‬
‫‪81‬‬
‫  رمبا يحمل النهار اجلديد �أخبا ًرا حتتاج �إىل كامل قوانا ‪..‬‬
‫ذهبت �إىل كوخي و�أنا �أعلم �أنها لن يغم�ض لها جفن يف تلك الليلة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجل�ست يف انتظار طلوع النهار حتى غلبني النعا�س ‪..‬‬
‫ُ‬
‫بالفعل حمل ذلك النهار خ ًربا ال ُين�سى �إلينا‪ ،‬حني خرجنا مع‬
‫�شروق ال�شم�س على �صراخ �إحدى ن�ساء الوادي‪ ،‬لنجد ر�ؤو�س الثالثة‬

‫دا‬
‫بحبال تتدىل من عار�ضة‬ ‫ٍ‬ ‫�سوار و ُزردق وعرو�سه مقطوع ًة و ُمعلق ًة‬
‫ر‬
‫خ�شبية ُثبتت بني قائمني مرتفعني عند مدخل وادينا ‪ ..‬مل تكن هناك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ر�سال ٌة �أو�ضح لنا من كيوان مثل تلك الر�سالة‪.‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وقفنا جمي ًعا ن�شاهد بوجو ٍه مرتعبة تلك الر�ؤو�س ال�شاحبة وهي‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫تت�أرجح لرتتطم ببع�ضها مع اهتزاز احلبال بفعل الهواء‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫‪ b‬شر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪82‬‬
‫(‪)9‬‬
‫زهي ـ ـ ــر‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬‫ع‬
‫ري‬
‫قدمت ال�شراب ال�ساخن ا�لإىل �أبي وعمي وتركتهما يكمالن حديثهما‬
‫كت ً‬
‫ُ‬

‫ب لكل ًلينا‪� ،‬إىل �أن �أخرجت دفرتي‬


‫مر�سوما بالقطعة اجللدية‪ ،‬ثم عدت‬ ‫دون �أن �أُظهر �أنني ر�أيت ما كان‬

‫ش‬
‫وحاولت �أن �أر�سم مثلها‪ .‬مل �أكنرج ّيدً ا بالر�سم لكني‬
‫�إىل غرفتي وتلك الر�سمة ت�شغل تفكريي‬
‫و‬
‫على الأقل ر�سمت �صور ًة ت�شبهها وخا�ص ًة و�شم الت‬
‫الن�ساىلو الذي كنت‬
‫ُ‬ ‫وقلمي الر�صا�ص‬

‫زيع‬ ‫دائ ًما �أجيد ر�سمه‪.‬‬


‫يف يومي التايل باملدر�سة �س�ألت معلمي ال�سيد «�شقري» �إن كان قد‬
‫ر�أى ر�سم ًة �شبيهة لر�سمتي من قبل‪ ،‬ابت�سم ب�سخرية حني ر�أى و�شم‬
‫الن�ساىل على ج�سد �أكربهم‪ ،‬و�س�ألني عن التعبريات الغريبة التي‬
‫ر�سمتها على وجوه َمن مي�سكون به‪ ،‬فقلت �إنهم � ٌ‬
‫أ�شراف خائفون‪،‬‬
‫أحد من زمالء‬
‫�ضحك وهن�أين على خيايل القوي‪ ،‬ون�صحني �أال �أريها ل ٍ‬
‫�صفي كي ال ي�سخروا مني‪ ،‬ف�أ�صابني ال�ضجر من �سخريته‪ ،‬و�أخربته‬
‫كاذ ًبا ب�أن عمي كيوان َمن قام بر�سم تلك اللوحة‪ ،‬و�أنه من �أر�سلني‬
‫‪83‬‬
‫خ�صي�صا �إليه ليعرف �إن كان قد قابل لوحة مثيلة لها من قبل‪ ،‬ارتعب‬
‫ً‬
‫حني �سمع ا�سم عمي‪ ،‬وقال باقت�ضاب ب�أنه مل ي َر مثلها‪ ،‬ولكنه �سيبحث‬
‫يف كتبه التي ورثها عن �أبيه و�أجداده �إن كانت �إحداها قد احتوت‬
‫ر�سم ًة ت�شبهها‪.‬‬
‫بعدها عدت �إىل بيتي من�شغل الذهن‪ ،‬ويف الطريق �إليه مل ي� ِأت‬

‫دا‬
‫يف بايل �إال �صديقي �آدم‪ ،‬مررتُ عليه يف ور�شة ال�سيد عبود كانت‬

‫ر‬
‫جبهته مبللة بالعرق من تلك احلرارة التي تت�صاعد من الكري �أمامه‪،‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫أطلقت �صفارتي �إليه‪ ،‬وحني انتبه �إ ّ‬
‫يل �أخربته ب�أنني �س�أنتظره يف‬ ‫ف� ُ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫بيتي عندما يفرغ من عمله كي �أريه �شي ًئا ً‬
‫هاما‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قبيل غروب ال�شم�س جاء �آدم �إىل بيتي‪ ،‬و�س�ألني متله ًفا عن ذلك‬
‫ودلفت به �إىل‬
‫ُ‬ ‫أخوي‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ال�شيء الذي �أردته �أن يراه‪ ،‬ت�أكدتُ من ان�شغال � ّ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫أخرجت دفرتي و�أريته ر�سمتي‪ ،‬فت�ساءل‪:‬‬
‫ُ‬ ‫غرفتي‪ ،‬ثم �‬
‫ ما هذا؟‬
‫زيع‬ ‫قلت‪:‬‬
‫مت بها ر�سمة ت�شبه هذه‬ ‫  �أح�ضر عمي من جويدا خمطوط ًة ُ‬
‫ر�س ْ‬
‫بن�سلي غريب ال�شكل‬ ‫‪ٌ � ..‬‬
‫أ�شراف مي�سكون ٍ‬
‫قال‪:‬‬
‫ ما الغريب فيها؟! ‪ ..‬تعلم ما يحدث للن�ساىل على من�صة الباحة‬
‫نهاية كل �شهر‪ ،‬يبدو �أنهم يج ّرونه �إىل من�صة الإعدام‪.‬‬
‫قلت ً‬
‫حمبطا‪:‬‬
‫‪84‬‬
‫ يبدو �أن ر�سمتي لي�ست وا�ضح ًة بالقدر الذي �أردته‪� ،‬أو مل تو�ضح‬
‫ال�شيء الهام فيها ‪..‬كان الن�سلي املر�سوم غري ًبا للغاية ‪ ..‬بدا‬
‫وك�أن اعتقاله ن�ص ٌر ثمني للأ�شراف ‪..‬‬
‫هز كتفيه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ قد ت�أتي �أخبا ٌر من جويدا ب�ش�أنه خالل الأيام القادمة ‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي ناف ًيا وقلت‪:‬‬
‫ص قدمية‪ ،‬تبدو �أثرية كالقطع اجللدية املعرو�ضة‬ ‫  ال �إنها ع‬
‫ري ال‪� ..‬أعتقد �أنها ُ‬
‫خمطوط ٌة‬
‫ر�سمت منذ مئات ال�سنني‬ ‫يف متحف «« ِقباال»»‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫وعرث عليها عمي حدي ًثا‪.‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ وملاذا تهتم بها �إىل هذا احلد؟ ش‬
‫ف�س�ألني متعج ًبا‪:‬‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬ ‫قلت‪:‬‬
‫خ�صي�صا من �أجل �أن يريه �شي ًئا‬
‫ً‬ ‫ �أن ي�أتي عمي كيوان �إىل �أبي‬
‫كهذا‪ ،‬ثم يتحدثان ب�ش�أنه دون �أن يريدا �أن ي�سمعهما �أح ٌد �آخر‬
‫هاما يخ�ص تلك‬ ‫و�إن كانوا �أوالد �أخيه‪ ،‬يعني �أن هناك �شي ًئا ً‬
‫املخطوطة ‪..‬‬
‫ابت�سم �آدم وقال‪:‬‬
‫  يبدو �أنكم عائلة ُخلقت لتنام وت�صحو حتلم بالن�ساىل فح�سب‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ متنيت لو �أ�ستطيع �أن �أريك الر�سمة الأ�صلية لتفهم ق�صدي ‪..‬‬
‫توقفت عن الكالم حني �سمعت �صوت �أبي وعمي خارج الغرفة‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫فقطعت الورقة التى ر�سمتها من‬
‫ُ‬ ‫فعرفت �أنهما قد عادا من اخلارج‪،‬‬
‫إحكام و�أعطيتها لآدم كي يبقيها معه‬
‫دفرتي على نح ٍو �سريع‪ ،‬ولففتها ب� ٍ‬

‫دا‬
‫خ�شية �أن يراها �أبي وهو ي�ستذكر يل درو�سي فيعرف �أنني قد تدخلت‬
‫ر‬
‫فد�سها �آدم �أ�سفل �سرتته‪ ،‬قبل‬
‫ب�أمو ٍر مل يكن من �ش�أين التدخل بها‪ّ ،‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫�أن �أهم�س �إليه‪:‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫  ال تخرب �أحدً ا مبا �أخربتك به ‪ ..‬ال يعرف �أبي �أنني ر�أيت تلك‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫الر�سمة ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫فهز ر�أ�سه موافقني‪ ،‬كنت �أعرف �أنه لن يفعل بالطبع‪ ،‬ثم �س�ألني‬

‫ر وا تول‬
‫�أن يغادر كي ال يت�أخر عن خالته �سريين‪ ،‬وخرجنا من غرفتي‪ ،‬كان‬
‫�أخي و�أختي يجل�سان مع عمي و�أبي‪� ،‬ألقى �آدم حتيته �إىل اجلال�سني‬

‫زيع‬
‫بخجل‪ ،‬ف�ضحك كرم �ساخ ًرا وقال‪:‬‬
‫ �إنه حداد بلدتنا يا عمي ‪..‬‬
‫وتابع‪:‬‬
‫ ي�شبه الن�ساىل الذين تقتلهم ‪..‬‬
‫�ضحكت �أختي‪ ،‬بينما مل يعجب �أبي قول �أخي ونهره بعينه‪ ،‬ثم‬
‫فوجئت بعمي يتوقف عن �شرب �شرابه وينادي �آدم‪ ،‬توقف �آدم ونظر‬
‫�إليه حائ ًرا‪ ،‬فنه�ض عمي عن مو�ضعه‪ ،‬وحترك �إليه واقرتب منه‪،‬‬
‫و�س�أله عن ا�سمه‪ ،‬رد �أدم هاد ًئا‪:‬‬
‫‪86‬‬
‫  �آدم‪.‬‬
‫�ألقى عمي نظر ًة مطولة على وجهه‪ ،‬و�س�أله‪:‬‬
‫ �أي �شئ ت�صنعه يف ور�شتك؟‬
‫قال �آدم‪:‬‬

‫دا‬
‫  كل �شيء يا �سيدي ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫مد عمي يده �إليه فمد �آدم يده‪� ،‬شعرتُ �أن عمي ي�ضغط بقوة على‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫يد �آدم‪ ،‬لكن تعبريات وجه �صديقي ظلت جامدة‪ ،‬فقال عمي‪:‬‬
‫ �إنني �أحب الرجال الالأقوياء ‪ ..‬ملاذا ال تن�ضم �إىل جنود بريحا؟‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ �إنني �أحب عملي �سيدي ‪ ..‬ب ل‬
‫قال �آدم‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر‬
‫ب�صوت‬
‫ٍ‬ ‫ابت�سمأخي‪:‬عمي ابت�سامة باردة‪ ،‬و�أ�شار �إليه وا وت‬
‫ب�سبابتهل وقال‬
‫زيع‬ ‫�سمعه �‬
‫ ال تدع �أحدً ا يدعوك ب�أنك ت�شبه الن�ساىل مرة �أخرى ‪� ..‬إن قالها‬
‫مرة �أخرى ال تتنازل عن حتطيم فكه ‪..‬‬
‫مب�شبك‬
‫ٍ‬ ‫اكتفى �آدم باالبت�سامة‪ ،‬وكاد يغادر لوال �أن عينه قد تع ّلقت‬
‫ف�ضي يث ّبته عمي على اجلانب الأمين من �صدر �سرتته‪ ،‬كان ر�أ�س ذلك‬
‫�شكل بحرف ّية على هيئة �سالح ناري‪ .‬الحظ عمي هو الآخر‬ ‫امل�شبك ُم ً‬
‫�شروده وهو ينظر نحو م�شبكه‪ ،‬ف�س�أله با�س ًما‪:‬‬
‫ يعجبك �شعار رامي املن�صة؟‬
‫‪87‬‬
‫حرجا‪ ،‬فتابع عمي‪:‬‬
‫فاحم ّر وجه �آدم ً‬
‫ هل ت�ستطيع �أن ت�صنع مثله؟!‬
‫هز �آدم ر�أ�سه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫  نعم يا �سيدي ‪..‬‬

‫دا‬
‫كنت �أعلم �أنا و�أخواي وكذلك كل �أهل چارتني �أن عمي مل ي�شغل قط‬

‫ر‬
‫من�صب رامي املن�صة‪ ،‬و�أنه تق ّلد من�صبه الكبري متجاو ًزا عدة منا�صب‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كان ال بد للفر�سان �أن ي�شغلوها كي ي�صلوا �إىل من�صبه احلايل‪ ،‬قالت‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يل �أمي ذات مرة �أن ذلك امل�شبك املميز ينتمي �إىل �ضابطة �شغلت‬

‫ك‬
‫من�صب الرامي قبل �سنوات‪ ،‬كانت قد تركت �سرتتها الع�سكرية على‬
‫بخنجر �أمام اجلميع هناك ومت‬
‫ب‬ ‫ت‬
‫املن�صة بعدما ذبحت عري�سها املُدان‬
‫ل‬
‫ٍ‬
‫أحد كي ال �أثري‬
‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫علي ب�أال �أذكر ذلك �أمام � ٍ‬
‫عقابها على ذلك‪ ،‬و�أكدت ّ‬

‫ر وا تول‬
‫غ�ضب �أبي �أو عمي‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫زيع‬
‫متنيت لو تك ّلم عمي �أو �أبي‬
‫غادر �آدم وجل�سنا نتناول طعام الع�شاء‪ُ ،‬‬
‫عما حتدثا ب�ش�أنه بعيدً ا عنا �أم�س ذلك اليوم‪ ،‬لكنهما حتدثا عن �أمو ٍر‬
‫كانت جميعها عادية �سواء عن مدار�سنا �أو طفولتهما �أو �أخبار مملة‬
‫تخ�ص چارتني‪ ،‬كانت عيني بني احلني والآخر تذهب �إىل امل�شبك‬
‫�شكل برباعة‬‫الف�ضي رمز الرامي املُث ّبت على �سرتة عمي‪ ،‬كان ُم ً‬
‫كبرية ح ًقا‪ ،‬لآدم كل احلق �أن ي�ستويل ذلك امل�شبك على تركيزه‪ ،‬ولوال‬
‫�أنني �أعرف �صديقي ج ّيدً ا لقلت �أن الغرية قد �أ�صابت قلبه من �صانعه‬
‫‪ ..‬قطع كرم تفكريي ب�س�ؤاله �إىل عمي‪:‬‬

‫‪88‬‬
‫  كم تب ّقى من الن�ساىل؟‬
‫�أجابه عمي وهو يق�ضم قطعة من اللحم‪:‬‬
‫ الكثريون ‪ ..‬عددهم بالآالف ‪..‬‬
‫قال �أخي‪:‬‬

‫دا‬
‫  وعدت اجلميع من قبل ب�أنك �ستق�ضي عليهم جمي ًعا ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�ضحك عمي وقال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ مل �أكمل عامي اخلم�سني بعد‪ ،‬ما زالت هناك �ستة �أعوام‪� ،‬إنهم‬

‫ك‬
‫كالفئران يف ال�صحاري ي�صعب �صيدهم‪.‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ثم قال عمي موج ًها حديثه �إ ّ‬
‫يل على حني غرة‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫عرفت �أنك ال حتب االلتحاق باملدر�سة العليا لل�ضباط‪ ،‬كنت‬‫  ُ‬
‫�ست�سمتع كث ًريا با�صطيادهم ‪..‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫قلت �ضاح ًكا‪:‬‬


‫  ال �أ�ستطيع ركوب اخليل حتى يا عمي‪� ،‬أعتقد �أن كرم يتوق �إىل‬
‫ذلك‪� ،‬أما �أنا ف�س�ألتحق مبدر�سة الآداب العليا‪� ،‬أحب التاريخ‬
‫ودرا�سته‪.‬‬
‫ثم �س�ألته‪:‬‬
‫  �أمل يتزوج �أحدهم مرة �أخرى؟‬
‫قال وقد توقف عن م�ضغ طعامه‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫منعت الباحة على رجالهم قبل �سنوات‪ ،‬ومل يتقدم �أحدهم‬
‫  ُ‬
‫بطلب للزواج‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نطقت �أختي بوجه متعجب‪:‬‬
‫ وكيف ينجبون؟!‬
‫�ضحكت �أنا و�أخي ونظرنا �إىل بع�ضنا خل�سة من �س�ؤال �أختنا‬
‫وغي جمرى احلديث‪� ،‬إىل‬
‫دا‬
‫الطفويل‪ ،‬مل يجب عمي �س�ؤالها بالطبع ّ‬
‫ر‬
‫ع‬
‫مازحا‪:‬‬
‫�أن قال �أخي ً‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ �س�آتي معك �إىل جويدا ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فقال �أبي دون �أن يرفع عينه عن طبقه‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫  �سنذهب جمي ًعا �إىل جويدا غدً ا‪.‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫توقف الطعام يف حلقي متفاج ًئا‪ ،‬وبدا التعجب على وجه �أمي من‬

‫زيع‬
‫اللهجة اجلادة التي حتدث بها �أبي ك�أنها تفاجئت مثلنا مما قاله‪ ،‬حتى‬
‫�أخي الذي نطق بجملته �إىل عمى وهو يعلم �صعوبة ذلك الطلب قبل‬
‫انتهاء العام الدرا�سي تفاج�أ من رد �أبي‪ ،‬فقلت بعدما �ساد ال�صمت‬
‫للحظة‪:‬‬
‫  ال �أ�ستطيع �أن �أغيب عن املدر�سة �سيت�سبب ذلك يف ر�سوبي‪.‬‬
‫فقال �أبى‪:‬‬
‫  �سي�ساعدك عمك على االلتحاق باملدر�سة املتو�سطة يف جويدا‪..‬‬
‫زاد تعجبي‪:‬‬
‫‪90‬‬
‫  املدر�سة املتو�سطة يف جويدا!!‬
‫هذا يعني �أن مكوثنا هناك �سيكون لفرتة طويلة‪� ،‬شتتت تلك‬
‫وت�ساءلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫متاما‪ ،‬ففلت ل�ساين‬
‫املفاج�أة تفكريي ً‬
‫ ماذا ح ّل يف جويدا؟‬

‫دا‬
‫رمقني عمي بنظرته من غري �أن يتكلم‪ ،‬فيما قال �أبي بنربة جامدة‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫التحقت بعمل جديد هناك ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫ ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قالها وهو يلمح بطرف عينه مالمح �أمي‪ ،‬كنت �أعرف �أبي ج ّيدً ا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫متاما‪،‬‬
‫و�أعلم �أن طريقة �إجابته تلك توحي ب�أن جوابه مل يكن �صادقا ً‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫فقالت �أختي �ساخرة مني‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫ ال يريد �أن يرتك �صديقه هنا ‪..‬‬

‫زيع‬
‫ربم وجهي من �سخافتها‪ ،‬كنت �أعلم �أنني �س�أذهب �إىل جويدا‬ ‫ت ّ‬
‫يوما ما لالن�ضمام �إىل مدر�سة الآداب هناك‪ ،‬لكن �أن ي�أتي ذلك الأمر‬ ‫ً‬
‫فج�أة و�أن يكون �سفرنا بني يوم وليلة‪� ،‬أ�صابني ذلك بت�شتت كبري‪،‬‬
‫وابت�سموا ب�سخرية حني ر�أوا احلرية التي �أ�صابت وجهي عدا �أمي‬
‫التي بدت م�شتتة هي الأخرى‪ ،‬كانت مثلي‪ ،‬ل�سنا من ذلك النوع الذي‬
‫ي�ستطيع �إخفاء تعابري وجهه �أبدً ا ‪ ..‬قال عمي معق ًبا على كالم �أختي‪:‬‬
‫ يف چارتني ال توجد �صداق ٌة للأبد‪ ،‬هذا �أمر عليك معرفته‬
‫الآن قبل �أن تخربك به ال�سنوات ‪ ..‬ت�ستطيع العودة لزيارته يف‬
‫الإجازة املو�سمية‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫حمبطا دون �أن �أحتدث‪ ،‬و�أكملت تناويل حل�سائي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫هززتُ ر�أ�سي‬
‫ومل �أرفع عيني بعدها عن طبقي �إىل �أن انتهينا‪ ،‬ثم عدت �إىل غرفتي‬
‫جل�ست يف حرية بالغة �أمام‬
‫ُ‬ ‫فيما اجته �أبي وعمي �إىل الغرفة املكتبية‪،‬‬
‫نريان م�صباحي وكل ما يدور يف ذهني هو �آدم‪ ،‬كذلك املعلم ال�سيد‬
‫«�شقري» الذي وعدين ب�أنه �سيبحث يف كتبه عن ر�سم ٍة ت�شبه الر�سمة‬
‫التي ر�سمتها‪ ،‬كنت �س�أم�سي ً‬
‫نذل كب ًريا �إن رحلت عن بريحا دون �إخبار‬
‫�صباحا و�أ�ساريره‬
‫ً‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫�آدم‪ ،‬بينما كان �أخي يرتّب مالب�سه من �أجل ال�سفر‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫منفرجة‪ .‬قبل �أن يخلد �إىل النوم‪ ،‬ففتحت باب غرفتنا برفق ‪..‬كان‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫م�صباح غرفة �أبي املكتبية ال يزال م�ضا ًء فعرفت �أن �أبي وعمي ال‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫أغلقت بابي من جديد‪ ،‬وعدت على �أطراف �أ�صابعي‬ ‫يزاالن هناك‪ ،‬ف� ُ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بخفة كي ال ي�ستيقظ �أخي‪ ،‬ثم فتحت نافذة غرفتنا وعربتها بعدما‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫مل يكن �أبي ي�سمح لنا باخلروج يف مثل ذلك الوقت املت�أخر يف �أيام‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫م�سرعا �إىل بيت �آدم وال�سيدة �سريين‪ ،‬تو ُ‬
‫الدرا�سة‪.‬‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫حلظات فتحت ال�سيدة �سريين‪ ،‬بدا �أنها مل تنم‪� ،‬س�ألتها ععن �آدم‪،‬‬
‫طرقت الباب‪ ،‬بعد‬ ‫ً‬ ‫اجتهت‬

‫قالت بتعجب �أنه مل يعد بعد‪ ،‬و�أ�ضافت بقلق ب�أنها ظنت �أنه معي‪،‬‬
‫فقلت‪:‬‬
‫  لقد غادر بيتي بعد غروب ال�شم�س مبا�شر ًة‪ ،‬لعله ذهب �إىل‬
‫مكان �آخر ‪� ..‬أريدك �أن تخربيه ب�أنني �س�أغادر �إىل جويدا وقد‬
‫ٍ‬
‫يطول بقا�ؤنا هناك‪ ،‬مل �أ�ستطع �أن �أغادر دون �أن �أخربه ‪..‬‬
‫و�أ�ضفت‪:‬‬
‫‪92‬‬
‫ هناك معلم ا�سمه ال�سيد �شقري �سيبحث �أم ًرا حدثته ب�ش�أنه‪،‬‬
‫�أخربي �آدم ب�أن مير عليه بني احلني والآخر‪ ،‬و�إن كان هناك‬
‫أنك جتيدين القراءة والكتابة‪..‬‬
‫جديد فلرتا�سليني ب�ش�أنه‪� ،‬أعلم � ِ‬
‫كانت ال�سماء قد بد�أت متطر مط ًرا خفي ًفا‪ ،‬فقلت على عجل ٍة من‬
‫�أمرى‪:‬‬

‫دا‬
‫تن�سي �أن‬
‫علي �أن �أعود �إىل بيتي قبل �أن ي�شعر �أبي بغيابي ‪ ..‬ال ْ‬
‫  ّ‬
‫ر‬
‫تخربي �آدم ب�أنني �س�أنتهز كل �أجازة للعودة �إىل هنا‪.‬‬

‫ص‬ ‫ثم عدت �إىل ع‬


‫النافذة مرة �أخرى و� ري‬
‫ودلفت عرب‬ ‫بيتي قبل �أن يتمكن الوحل من ال�شوارع‪،‬‬
‫ا‬
‫ُ‬
‫ل‬
‫أغلقتها‪ ،‬اطم�أننت �أن �أخي ال يزال نائ ًما‪� ،‬أدع ّيت‬

‫غرفةت�أبي املكتبية قد �أُطفئ‪ ،‬ف�أكملت‬ ‫م�ستيقظني‪ ،‬فوجدت م�صباحك‬


‫�أنني ذاهب �إىل دورة املياه للت�أكد ما �إن كان عمي و�أبي ال يزاالن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫طريقي �إىل دورة املياه بعدما �شعرتُ ب ل‬


‫شأبيريتجادالن يف غرفة‬
‫برغبتي يف ق�ضاء حاجتي ً‬
‫فعل‬
‫و‬
‫نومهما‪ ،‬كنت �أعلم بعدم رغبة �أمي يف ترك بريحا‪،‬التلكن قدمي قد‬
‫�سمعت �أمي و�‬
‫ُ‬ ‫‪ ..‬يف طريق عودتي �إىل غرفتي‬

‫�سمعت �أبي يقول‪ :‬وز عي‬ ‫ُ‬ ‫توقفت و�أ�صابها اجلمود ح ًقا حني‬
‫ ل�سنا فقط من �سريحل �إىل هناك‪� ،‬سينتقل معملنا بالكامل‬
‫بعامليه �إىل جويدا ‪�ُ ..‬ست�صنع �ألف قذيفة مدفعية �ضخمة ‪..‬‬
‫لقد �صدرت الأوامر ب�إبادة الن�ساىل‪.‬‬

‫‪b‬‬

‫‪93‬‬
‫(‪)10‬‬
‫ريـ ـ ــان‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫كانت الر�ؤو�س املُعلقة يفالالهواء تت�أرجح مع اهتزاز الأحبال عندما‬
‫ت‬ ‫جت ّمع كل ن�ساىل الوادي ووقفواك‬
‫ال يقوى �أحد على النطق بكلمة واحدة‪،‬ب ل‬
‫ينظرون �إليها بوجوه م�شتتة م�صدومة‬
‫فيمال تعاىل �صراخ الأطفال بني‬
‫ن‬
‫�صمتنا املطبق ‪ ..‬كانت �سيدتي تقف متجهمة ش‬
‫ر‬
‫�أن �أجدها تن�سحب من بينهم �إىل كوخها‪ ،‬وتغلق و وت‬
‫بابهاالمن خلفها ‪..‬‬
‫الوجه بني الواقفني‪ ،‬قبل‬

‫طرقتزيع‬
‫الباب مل‬ ‫ُ‬ ‫حتركت ب�صعوبة من بني ال�صفوف جتاهها‪،‬‬ ‫ُ‬
‫جتبني ‪..‬كانت �سبيل وناردين تقفان بني الواقفني يف اخلارج تظهر‬
‫مرات �أخرى‪ ،‬مل جتبني ال�سيدة‬
‫طرقت الباب ٍ‬‫ُ‬ ‫احل�سرة على وجهيهما‪،‬‬
‫أي�ضا‪ ،‬كان هناك �ش ٌق كبري بباب كوخها ر�أيتها جتل�س �إىل طاولتها‬‫� ً‬
‫وا�ضع ًة ر�أ�سها بني كفيها وتبكي بحرق ٍة �شديدة‪ ،‬فعدت �أدراجي بني‬
‫املتزاحمني مط�أط�أ الر�أ�س �أخ�شى �أن �أرفع عيني �إىل عيونهم ف�أ�شعر‬
‫ب�أن ما يدور يف بايل قد بد�أ يف حدوثه بالفعل ‪..‬‬
‫‪b‬‬
‫‪95‬‬
‫مع مرور الدقائق بد�أت حالة ال�صمت املطبق امل�سيطرة على‬
‫و�ضجيج‪ ،‬ثم ا�ستحالت‬
‫ٍ‬ ‫امل�شهد تزول وتتحول �شي ًئا ف�شي ًئا �إىل جلب ٍة‬
‫فج�أ ًة �إىل حالة من الهرج واملرج عندما ّ‬
‫�شب �شجا ٌر كبري بني بع�ض‬
‫أغلقت بابي من خلفي‪ ،‬وهناك‬
‫فدخلت �إىل كوخي �أنا الآخر و� ُ‬ ‫ُ‬ ‫ال�شبان‪،‬‬
‫و�صرخت يف‬
‫ُ‬ ‫هياج �شديد‪،‬‬
‫ركلت بقدمي من�ضدة خ�شبية �صغرية يف ٍ‬ ‫ُ‬

‫دا‬
‫نف�سي غا�ض ًبا‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �إىل متى �سي�ستمر هذا؟ ‪� ..‬إىل متى؟!‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قبل �أن �أجل�س على الأر�ض م�سندً ا ر�أ�سي �إىل احلائط يف ب� ٍؤ�س‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�شديد‪ ،‬ت�سمع �أذين ال�ضجيج القادم من اخلارج وتدور يف ر�أ�سي كافة‬
‫غريب‬
‫�صمت ٌ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫التخيالت ال�سيئة التي قد حتدث بالأيام القادمة‪ ،‬ثم �ساد ٌ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫وفتحت‬
‫ُ‬ ‫فنه�ضت متعج ًبا لأرى �سر ذلك ال�صمت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مفاجئ باخلارج‪،‬‬
‫بابي‪ ،‬فوجدتُ اجلميع يتطلعون يف ترقب �إىل �سيدتي التي كانت تت�سلق‬

‫زيع‬
‫�سل ًما خ�شب ًيا ي�ستند على �أحد القائمني اخل�شبيني‪ ،‬وحني و�صلت �إىل‬
‫قمته ت�شبثت بيديها بالعار�ضة الأفقية بني القائمني‪ ،‬وحتركت وهي‬
‫الحظت وقتها �أنها ت�ضع �سكي ًنا بني‬
‫ُ‬ ‫ت�أرجح ج�سدها �إىل احلبل الأول‪،‬‬
‫بيد واحدة و�أم�سكت بال�سكني بيدها الأخرى حني‬ ‫فك ّيها ‪ ..‬ثم تع ّلقت ٍ‬
‫�أ�صبح احلبل الأول يف متناولها‪ ،‬وبد�أت حتز �أليافه‪ ،‬يف هذه اللحظة‬
‫م�سرعا جتاهها‪� ،‬إىل �أن وقف �أ�سفل‬
‫ً‬ ‫أيت الطبيب يخرتق ال�صفوف‬ ‫ر� ُ‬
‫العار�ضة‪ ،‬وم ّد يده ليتلقف الر�أ�س الأول قبل �سقوطه �إىل الأر�ض‪،‬‬
‫فاخرتقت ال�صفوف �إليها �أنا الآخر ‪..‬‬
‫ُ‬
‫‪96‬‬
‫انتقلت ال�سيدة �إىل احلبلني الآخرين‪ ،‬وفعلت معهما ما فعلته‬
‫باحلبل الأول‪ ،‬بعدها �ألقت �سكينها �إىل الأر�ض بعيدً ا عنا‪ ،‬وحتركت‬
‫بخفة �إىل القائم الآخر‪ ،‬وهبطته �إىل �أ�سفل كفتاة مل ُتكمل الع�شرين‪،‬‬
‫وال من اخلي�ش‪ ،‬فقام الطبيب‬ ‫كانت ناردين قد �سارعت ب�إح�ضار ِج ٍ‬
‫بو�ضع الر�ؤو�س الثالثة بداخله‪ ،‬قبل �أن ي�ضم ط ّيات فوهته بني قب�ضة‬
‫يده مغل ًقا له‪ ،‬فقالت ال�سيدة ٍ‬
‫بحزن كبري‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ لن ِق ْم لهم جناز ًة تليق بهم‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫كان الوادي ب�أكمله ً‬
‫رجال ون�سا ًء يقفون على مقرب ٍة من مقابر‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الن�ساىل حني انتهينا من دفن الر�ؤو�س الثالثة‪ ،‬دُفن ر�أ�س زردق‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وامر�أته يف حفرة �صغرية‪ ،‬ودُفن ر�أ�س �سوار يف حفرة ُمنف�صلة‪ ،‬ثم‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�أتى الطبيب بحجرين �أبي�ضني �أمل�سني وو�ضع �أحدهما على القرب‬
‫الأول ونق�ش عليه ب�سن �سك ٍني �صغري‪« :‬زردق وزوجته وداد ‪ ..‬تز ّوجا‬

‫زيع‬
‫عام ‪ 1628‬ب‪.‬ج(((»‪ ،‬بينما نق�ش على حجر �سوار‪« :‬قا�ضي اجلنوب‬
‫الأول‪� ،‬شهد �أول زواجني للن�ساىل» ‪..‬‬
‫ثم عدنا �إىل الوادي‪� ،‬أخربتنا ال�سيدة �أن العمل �سيتوقف ذلك‬
‫النهار‪ ،‬وكذلك املدر�سة‪ ،‬حدادًا على �أرواح الثالثة ‪ ..‬قبل �أن مت�ضي‬
‫�إىل كوخها يف هدوء‪ ،‬كانت تعرف �أن ذلك الأوان لن ُتفيد فيه خطبة‬
‫حما�سية �أو حديث نا�صح مبا يجب فعله ‪ ..‬ال حتتاج الأمور �إىل تو�ضيح‬
‫�أكرث من ذلك‪� ،‬سادة چارتني وقد �أعلنوا لنا �صراح ًة م�صري من‬
‫يك ّرر فعلة حيدر و�سبيل‪ ،‬وكانت الر�سالة وا�ضح ًة جدً ا هذه املرة‪� ،‬إما‬
‫الرذيلة �أو ر�أ�س ٌمعلق على مدخل وادينا ‪..‬‬
‫((( طريقة التقويم يف چارتني‪ ،‬وهي اختصار لـ «بعد بناء الجدار»‪ .‬‬
‫‪97‬‬
‫مل �أكن �أعلم �إن كانت �سيدتي متتلك خط ًة بديلة ت�ستطيع بها‬
‫مداواة ذلك ال�شرخ الذي �صدع نفو�س الكثريين منا‪� ،‬أم �أنها مع ذلك‬
‫احلزن البادي على وجهها كانت هي �أكرث املت�ضررين بذلك ال�شرخ‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫اجتهت �إىل كوخ الطبيب من �أجل الذهاب �إىل ال�سيدة‬‫ُ‬ ‫يف امل�ساء‬

‫دا‬
‫ملعرفة ما �سنفعله حيال ذلك الأمر بعدما �شعرتُ �أن التفكري مبفردي‬
‫ً‬
‫م�شو�شا للغاية هو الآخر‪ ،‬قال �أنه ر�أى الكثري‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫�سيقتلني ‪ ..‬كان الطبيب‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫من اجلرحى والدماء والقتلى‪ ،‬لكنه مل ي َر قط يف حياته ب�شاع ًة مثل‬
‫واجم �أردف‪:‬‬
‫وبوجه ٍ‬
‫ٍ‬ ‫تلك‪،‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫أيت الي�أ�س يت�سرب �إىل الوجوه ال�شابة هذا ال�صباح ‪..‬‬
‫ن‬
‫ ر� ُ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫وت�ساءلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫للمرة الأوىل كنت �أ�شعر يف �صوته بتلك النربة املحبطة‪،‬‬

‫زيع‬
‫ هل ت�سرعنا ب�إر�سال زردق وفتاته �إىل الباحة؟‬
‫ز ّم �شفتيه‪ ،‬ثم قال وهو يومئ بر�أ�سه ناف ًيا‪:‬‬
‫ ال �أعرف ‪..‬‬
‫جاءت ناردين و�أخربتنا �أن ال�سيدة غفران مل تربح غرفتها منذ‬
‫عادت من دفن الثالثة‪ ،‬فقال لها الطبيب‪:‬‬
‫ابقي بجانبها‪ ،‬و�إن �أردمتا �شي ًئا �أخربينا فح�سب‪.‬‬
‫  ْ‬
‫ثم غادرت‪ ،‬فقال يل‪:‬‬
‫‪98‬‬
‫ �أُ�شفق على غفران ‪� ..‬صارت ُت ّمل نف�سها كل ما يحدث يف هذا‬
‫الوادي ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ نعم‪� ،‬أعرف ذلك‪� ،‬إنها امر�أ ٌة �صاحلة‪ ،‬وقائد ٌة حقيقية ‪..‬‬
‫لوقت قليل‪ ،‬بعدها �س�ألني‪:‬‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه موافقني‪ ،‬ثم �سكتنا ٍ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ كم عدد الن�ساىل الذين يح�ضرون يف الباحة �أيام الغفران؟‬

‫ص‬ ‫�أجبته‪ :‬ع‬


‫ري‬
‫ قد يكون ع�شرات‪ ،‬ال‬
‫الأخرى‪� ،‬أغلبهم ن�ساء‪.‬ك‬
‫�سواء من وادينا �أو من وديان مدن چارتني‬
‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ش‬
‫قال‪:‬‬
‫ ما ي�شغل بايل ‪ ..‬كيف عرف جنود جويدارب�وأمر �سوار وزردق‬
‫و‬ ‫الت‬
‫زيع‬
‫وعرو�سه؟‬
‫وتابع‪:‬‬
‫ يف زحام الباحة الرهيب‪ ،‬من ال�صعب جدً ا على اجلنود‬
‫أيت ذلك الزحام بنف�سي‪.‬‬
‫الو�صول �إليهم‪ ،‬لقد ر� ُ‬
‫وفكر للحظ ٍة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ هذا يعني احتمالني‪ ،‬االحتمال الأول �أن يكونوا قد ُاعتقلوا ً‬
‫فعل‬
‫داخل الباحة و�سط زحام احلا�ضرين‪ ،‬وهذا يعني �أن عامة‬
‫الأ�شراف َمن �أبلغوا اجلنود عنهم‪ ،‬وهذه كارثة كربى ‪ ..‬ح�سب‬
‫‪99‬‬
‫ما فهمته خالل �أ�شهري هنا �أن ال�سادة هم من يكرهون الن�ساىل‬
‫ويكيدون لهم املكائد ‪� ..‬أما العامة فتبقى عقولهم م�ؤمن ًة ب�أن‬
‫الن�ساىل چارتينيون مثلهم‪ ،‬و�إن كانوا يكرهونهم ملا تر�سب يف‬
‫عقولهم عنهم‪ ،‬لكنهم يبقون ب�ش ًرا مثل كل ب�شر الدنيا‪ ،‬حتمل‬
‫قلوبهم على الأقل ذر ًة من خري‪ ،‬وتبقى �إن�سانيتهم هي احل�صن‬
‫الأخري لنا من بط�ش ال�سادة‪� ،‬إن ذهب هذا احل�صن فلن يتوانى‬

‫دا‬
‫�سادتهم عن �إذاقتنا �أ�شد �ألوان العذاب ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ثم نه�ض وحترك �إىل النافذة وفتحها‪ ،‬ونظر �إىل الأكواخ املكت�سية‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫بال�سواد مع ظالم الليل‪ ،‬ثم التفت �إ ّ‬
‫يل وقال‪:‬‬

‫ك‬
‫ االحتمال الآخر �أن يكونوا قد ُاعتقلوا خارج الباحة قبل دخولهم‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫�إىل الزحام‪ ،‬وهذا يعني �أن هناك َمن و�شى بهم من الن�ساىل‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫من متعلمي هذا الوادي‪ ،‬وهذه كارثة هي الأخرى ‪..‬‬

‫ال‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ يبقى هذا هو االحتمال الأقرب لل�صواب‪ ،‬تملو ت�شعر الن�ساء‬
‫قلت واج ًما‪:‬‬

‫الالتي ذهنب �إىل الباحة ب�أي جلب ٍة �أثناء مرا�سمزي‬


‫يومع الغفران‬
‫هناك‪ ،‬و�إال ُكنَّ قد �أخربنني بذلك حني �س�ألتهن �أم�س يف‬
‫احلانة‪..‬‬
‫وتابعت يف ندم‪:‬‬
‫ُ‬
‫ �أخط�أنا با�صطحاب زردق وفتاته معنا �إىل الوادي املظلم‪،‬‬
‫عرف اجلميع من �أحاديثهما ال�ساخرة �أنهما ينويان الزواج ‪..‬‬
‫ووا�صلت بنربة بائ�سة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪100‬‬
‫�صحيحا‪ ،‬لن نعرف الوا�شي �أبدً ا‪� ،‬إن‬
‫ً‬ ‫ �إن كان هذا االحتمال‬
‫الأعداد كانت كثري ًة للغاية يف الوادي املظلم يف الأيام املا�ضية‪،‬‬
‫و�أخ�شى �أن ينت�شر هذا االحتمال بيننا فت�سود الفرقة والتوج�س‬
‫بني بع�ضنا البع�ض ‪..‬‬
‫و�أخرجت زف ًريا ببطء‪ ،‬ثم قلت‪:‬‬

‫دا‬
‫ لن يجر�ؤ �أي �شاب �أو فتاة على املجازفة بالزواج يف الوقت‬
‫ر‬
‫أيت‬
‫احلايل‪ ،‬كذلك لن يجر�ؤ �أحد ب�أن يحل حمل �سوار ‪ ..‬ر� ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫مثلك اخلوف البادي يف الأعني جميعها هذا ال�صباح‪ ،‬لكن‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�أكرث ما يخيفني ح ًقا‪ ،‬هو �أن يت�سرب الي�أ�س �إىل �سيدتي ‪..‬‬

‫ك‬
‫ لن تبقى غفران �أبد العمر ت‬
‫قال بحدة‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أقدامكم على الطريق ‪ ..‬ال بد لكم ل‬
‫م�سئولة عن جر قدم كل واحد منكم ‪..‬ش‬
‫الوادي‪ ،‬و�ضعت لكم هذه املر�أة‬ ‫لهذا‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫ت�سريوا �أنتم‪� ،‬إنها لي�ست‬ ‫أن‬ ‫�‬

‫زيع‬ ‫و�أ�ضاف‪:‬‬
‫وت�صفحت على نح ٍو �سريع‬
‫ُ‬ ‫ مل يتوقف ر�أ�سي عن التفكري اليوم‪،‬‬
‫لدي من كتب تتحدث عن قواعد چارتني ‪ ..‬ال ي�صلح‬ ‫كل ما ّ‬
‫الزواج �إال داخل باحة جويدا‪ ،‬وخارجها ي�صري رذيل ًة ال ينال‬
‫روح �أُعدم �صاحبها يف الباحة‪ ،‬و�إال‬
‫معها املولود روحه �إال من ٍ‬
‫ُيولد ميتًا‪.‬‬
‫ والآن بات املوت حمق ًقا ملن يذهب �إىل الباحة من الن�ساىل من‬
‫�أجل الزواج ‪..‬‬
‫‪101‬‬
‫ ح�س ًنا‪ ،‬ليتزوج الن�ساىل خارج الباحة‪ ،‬يف هذا الوادي‪ ،‬يف‬
‫بلد �آخر‪ ،‬و�إن مل حت�صد �أجنتكم‬
‫الوديان الأخرى‪ ،‬يف �أي ٍ‬
‫أرواحا‪ ،‬لن�صنع �شريعتنا ب�أنف�سنا‪ ،‬واللعنة على الباحة ومن‬
‫� ً‬
‫فيها ‪..‬‬
‫ �س�أح ّدث غفران ب�ش�أن رحيلنا عن چارتني‪� ،‬إن �صحراء بلدان‬

‫دا‬
‫ال�شمال تت�سع لع�شرات الأ�ضعاف من الن�ساىل‪ ،‬و�إن مل ينجبوا‬

‫ر‬
‫جني ًنا ح ًيا واحدً ا هناك‪ ،‬مما ر�أيته �صارت ّ‬
‫لدي قناعة كاملة‬

‫ص‬
‫ً‬‫ع‬
‫انقرا�ضا بكرامة �أف�ضل من عي�شة كهذه‪.‬‬ ‫ب�أن‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ابت�سمت ابت�سامة ً خفيفة حني تذكرت حديثي �إىل ال�سيد ندمي‬
‫متاما‪ ،‬وقلت للطبيب‪:‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫كالما ي�شبه ذلك ً‬
‫طفل وقلت ً‬ ‫عندما كنت ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ قلت ل�سيدي هذا الأمر منذ ب‬


‫يف بلد �آخر طاملا ال قيمة لنا يف بلدنا‪.‬ش‬
‫�سنوات‪ ،‬قال يل لن تبقى لنا قيمة‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫ رمبا مل يع�ش �سيدك لريى ما تتعر�ضون له الآن ‪..‬زيع‬
‫قال الطبيب‪:‬‬

‫وجل�س �إىل طاولته‪ ،‬وتابع بجد ّية‪:‬‬


‫ �س�أر�سل مع الفتيات املتجهات �إىل ال�شمال يف الأيام القادمة‬
‫ر�سال ًة �إىل من �أعرفهم يف بني عي�سى‪ ،‬رمبا ي�ساعدوننا يف‬
‫خروجنا �إىل هناك ‪� ..‬سننتظر فح�سب ال�شهرين الباقيني على‬
‫والدة �سبيل‪ ،‬ثم نتخذ قرارنا الأخري ب�ش�أن ذلك‪ ،‬و�إن �صرت‬
‫غري متفائل ‪..‬‬
‫‪102‬‬
‫و�أ�ضاف وهو مي�ضي �إىل غرفة الك�شف من �أجل فح�ص مري�ض ٍة‬
‫نادت با�سمه‪:‬‬
‫  �ستك�شف لنا الأيام القادمة عن الكثري من خباياها ‪..‬‬
‫‪b‬‬
‫الحظت �أن عددًا من فتيات الت�صنيع‬‫ُ‬ ‫يف الأيام القليلة التالية‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫وطلبة املدر�سة قد تغ ّينب‪ ،‬كذلك مل حت�ضر تلك الفتيات �إىل الوادي‬
‫ع‬
‫ليل ‪ ..‬مل ي�شغلني الأمر بقدر مالمح الي�أ�س التي كانت تغطي‬ ‫املظلم ً‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وجوه الكثريين‪ ،‬والأحاديث الغريبة التي بد�أت تتلفظ بها بع�ض‬
‫الأل�سنة عن احلياة الأف�ضل التي كان يعي�شها الوادي قبل جميء‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ال�سيدة غفران‪ ،‬ال �أعلم �أي �أف�ضل كانوا يتحدثون عنه! تلك الليلة‬
‫بجرح‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫�شب �شجا ٌر جديد بني بع�ض ال�شبان �أُ�صيب على �إثره �أحدهم ٍ‬ ‫ّ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫كبري يف جبهته‪ ،‬قال ال�شاب الذي �أ�صابه �أنه مل ي�ستطع متالك نف�سه‬
‫�سيئ عن ال�سيدة‪ ،‬فيما ان�سحب املُ�صاب �إىل‬ ‫حني تلفظ الآخر بلفظ ٍ‬

‫زيع‬
‫الوادي غا�ض ًبا‪ ،‬ومل يعد �إىل الوادي املظلم مرة �أخرى �أو �إىل عملنا ‪..‬‬
‫ً‬
‫ملحوظا‬ ‫خالل �ستة �أيام �صار عدد املتغيبني عن املدر�سة واملخزن‬
‫بربود �أنهم‬
‫ٍ‬ ‫حاولت �أن �أذهب و�أحتدث �إىل بع�ضهم‪ ،‬قالوا‬ ‫ُ‬ ‫للغاية‪،‬‬
‫قرروا ك�سب عي�شهم مبعرفتهم بعيدً ا عن ال�سيدة ‪..‬‬
‫ثم جاءت ال�ضربة الكربى التي مل ن�ستعد لها‪� ،‬أو مل تكن يف‬
‫ح�سباننا على الأقل يف ذلك التوقيت‪ ،‬عندما وجدنا فتا ًة واحدة من‬
‫بني خم�سة فتيات كنّ قد غادرن الوادي بب�ضائعنا �إىل املرف�أ اجلنوب‬
‫�شرقي حيث ال�سفينة التي اعتادت على نقل ب�ضائعنا تعود �إلينا بعد‬
‫يوم واحد فقط من رحيلها‪ ،‬تتناثر اخلدو�ش وال�سحجات على وجهها‬
‫وذراعيها‪ ،‬قبل �أن تدلف �إىل ال�سيدة وتقول باكي ًة‪:‬‬
‫‪103‬‬
‫ لقد رف�ض �صاحب ال�سفينة �صعودنا �إىل متنها ‪ ..‬قال �إن �أم ًرا‬
‫قد �صدر مبعاقبة َمن يحمل مركبه �أي ن�سلي �إىل خارج چارتني‪،‬‬
‫َومن يفعل ذلك �س ُيحرق مركبه �أمام عينيه ‪..‬‬
‫ت�ساءلت ال�سيدة يف فزع حني ر�أت �إ�صابات وجهها وذراعيها‪:‬‬
‫ و�أين باقي الفتيات؟‬

‫دا‬
‫قالت الفتاة‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �أراد الواقفون هناك �سلب ب�ضائعنا عنو ًة حني ر�أوها‪ ،‬حاولت‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫الفتيات الدفاع عنها‪ ،‬فقام اجلنود باعتقالهن ‪..‬‬

‫ك‬
‫  ُ�سرقت الب�ضائع كلها يف غم�ضة عني‪ ،‬تركني �أحد اجلنود عمدً ا‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫كي �أعود و�أخربك مبا حدث ‪..‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ثم قالت وهي تن�شج بقوة‪:‬‬

‫ر وا تول‬
‫م�سموحا للن�ساىل ً‬
‫رجال ون�سا ًء مبغادرة چارتني ‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ مل يعد‬

‫زيع‬
‫باهتمام �إىل كل حرف تقوله‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫�س�ألها الطبيب الذي كان ي�صغي‬
‫ من قام ب�سرقة الب�ضائع ‪ ..‬اجلنود �أم العامة؟‬
‫قالت الفتاة‪:‬‬
‫  قام اجلنود باعتقال الفتيات فقط‪� ،‬أما ال�سارقون فكانوا من‬
‫�أهل جويدا ‪..‬‬
‫�سكت الطبيب مفك ًرا‪ ،‬بينما �أ�شارت ال�سيدة �إىل ناردين كي‬
‫ت�صحب الفتاة �إىل غرفتها من �أجل تهدئة روعها‪ ،‬ثم قال الطبيب‬
‫حني �أغلقت ناردين الباب من خلفها‪:‬‬
‫‪104‬‬
‫حتدثت مع ريان ب�ش�أنه ‪ ..‬هناك ما يحدث يف جويدا‬‫ُ‬ ‫ هذا ما‬
‫يحرك م�شاعر الكره داخل العامة جتاه الن�ساىل �أكرث و�أكرث‬
‫مما هو عليه‪ ،‬رمبا يكون املدر�سون يف املدار�س ‪ ..‬اخلطباء يف‬
‫املجال�س ‪ ..‬ال�شائعات‪ ،‬عم ٌل ُمنظم ي�سري وفق خطة حمكمة‪،‬‬
‫ي�سبقنا كيوان بخطوات كثرية لقطع كل الأحبال التي قد تنجينا‬
‫مع قدوم طفل �سبيل بعد �أقل من �شهرين ‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ كنت �أفكر يف رحيل جماعي عن چارتني‪ ،‬لكنه مل يدعنا ننال‬
‫ع‬
‫تلك الفر�صة حتى‪.‬‬
‫ت�ساءلت غا�ض ًبا‪:‬ص‬
‫لا‬ ‫ري‬ ‫ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ وملاذا ال يدعنا نرحل فح�سب ليعي�ش حيا ًة هانئة هو والأ�شراف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫كما يريدون ‪..‬‬


‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫قال الطبيب‪:‬‬

‫زيع‬
‫  ُمنذ ُخلق هذا الكون ويقوم قانون احلياة بني قطبني‪� ،‬أحدهما‬
‫ظامل والآخر مظلوم ‪� ..‬أما الن�ساىل فقد �شغلوا اجلانب املظلوم‬
‫جانب مظلوم �ضعيف يتما�شى بقوة مع هذا القانون‬ ‫يف چارتني‪ٌ ،‬‬
‫‪ ..‬لو تركنا نرحل لتب ّقى الأ�شراف فقط‪ ،‬لكن هذا القانون لن‬
‫يتوقف عن عمله‪ ،‬ولن يرحمهم ‪� ..‬سينق�سمون بني �أنف�سهم �إىل‬
‫ظا ٍمل ومظلوم ميتلكان القوى نف�سها تقري ًبا ‪� ..‬سي�أكلون بع�ضهم‬
‫هاما‬
‫بع�ضا �إىل �أن ينهار هذا البلد‪ ،‬لذا يظل بقاء الن�ساىل ً‬ ‫ً‬
‫متاما ‪..‬‬
‫لبقاء چارتني‪ ،‬وهو يعلم ذلك ً‬
‫متاما‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي و�أنا �أنظر �إىل ال�سيدة التي ظل وجهها �شاردًا ً‬
‫وخرجت �إىل كوخي �أفكر فيما �سينتج‬
‫ُ‬ ‫ك�أنها يف عامل �آخر ‪ ..‬ثم تركتهما‬
‫‪105‬‬
‫عنه انت�شار �أخبار �سرقة الب�ضائع بني كل �أزقة الوادي ‪ ،‬كذلك خرب‬
‫منعنا من ال�سفر خارج چارتني‪ ،‬مع رف�ض �أ�شراف چارتني التعامل‬
‫معنا‪ ،‬وكيف �سي�صرب الن�ساىل على ذلك احل�صار ومل يبقَ �أمامهم‬
‫�سبيل للعي�ش وك�سب عمالت معدنية �إال الطرق القدمية؟‬
‫مل يطل الأمر كث ًريا ملعرفة �إجاباتي ‪ ..‬يف اليوم التايل كانت‬
‫خماويف ال�سيئة قد ظهرت بوادرها ‪ ..‬مل يح�ضر �إىل املدر�سة �أو‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫خمزن الت�صنيع من املتعلمني �أو العمال ربع العدد تقري ًبا ‪ ..‬ويف خالل‬
‫ع‬
‫خم�سة �أيام فقط �صار عدد املُتعلمني باملدر�سة ُع�شر ما كان عليه قبل‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫يوم الغفران الأخري‪ ،‬كذلك ق ّلت �أعداد الفتيات الالجئات �إىل الوادي‬
‫املظلم تدريج ًيا �إىل �أن �صار عددهن بالكاد يتجاوز الع�شرين‪ ،‬قال يل‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫�شاب بي� ٍأ�س‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫حانات‬
‫ٍ‬ ‫ متتلئ بهن احلان ُة الآن ‪ ..‬وهناك �أقاويل تنت�شر ب�أن‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬‫�أخرى �ستُبنى لت�سع تلك الأعداد الكبرية‪.‬‬


‫�صارت �ضحكات الفتيات جتلجل مع �سكون تالليل‪ ،‬و�صارت‬
‫زيعما كانت‬
‫و‬
‫�أعداد الأ�شراف القادمني �إىل حانات الوادي �أ�ضعاف‬
‫عليه قبل �شهر واحد ‪ ..‬كذلك ت�ضاعفت �أعداد ن�ساء الن�ساىل‬
‫بثياب خليعة قبيل غروب ال�شم�س بح ًثا عن‬ ‫املتجهات �إىل جويدا ٍ‬
‫بيوت الرذيلة‪ ،‬كانت بينهن الكثريات من الفتيات الالتي تعلمن‬
‫أيت �إحداهن متار�س الرذيلة عل ًنا‬‫يف مدر�سة ال�سيدة ل�سنوات ‪ ..‬ر� ُ‬
‫�أمام �أحد الأكواخ قبل �أن يلقي �إليها ال�شاب الچارتيني بقطعة‬
‫يل حتى‪ ،‬ونهرتني وهي‬ ‫حاولت التحدث �إليها مل ت�ستمع �إ ّ‬
‫ُ‬ ‫نحا�سية‪،‬‬
‫تهندم ثيابها العارية‪ ،‬قبل �أن ترتكني لتبحث عن �شريف �آخر ‪..‬‬
‫عرفت �أن كث ًريا من ال�شبان قد عادوا �إىل قطع طرق اجلنوب و�سرقة‬
‫ُ‬
‫‪106‬‬
‫خمازن الأ�شراف ودكاكينهم ‪ ..‬كذلك ُاعتقل ثالثة رجال يف يوم واحد‬
‫الرتكابهم ثالث جرائم قتل خمتلفة ‪ ..‬ثم كانت ال�صفعة امل�ؤملة حني‬
‫�شرع بع�ض ال�شبان يف اغت�صاب ثالثة فتيات من الوادي ممن �آثرن‬
‫البقاء يف �أكواخهن بعيدً ا عن احلانات �أو الوادي املظلم‪ ،‬حاول ُ�ش ّبان‬
‫�شب �شجا ٌر رهيب‬‫�آخرون الدفاع عن الفتيات من �أولئك الأنذال ‪ّ ..‬‬
‫تنج �أخرى من االغت�صاب ‪� ..‬صارت‬ ‫ُقتل على �إثره �شابان وفتاة‪ ،‬ومل ُ‬

‫دا‬
‫الفو�ضى تعم كل �شيء من حولنا‪ ،‬و�صرنا �أنا وال�سيدة والطبيب و�سبيل‬
‫ر‬
‫وناردين والقلة القليلة التي مل تتخ َّل عن مدر�سة ال�سيدة منبوذين يف‬
‫ع‬
‫ص‬
‫هذا الوادي ‪ ..‬انهار كل �شيء فج�أة‪ ،‬وعاد الوادي �إىل ما كان عليه‬
‫وبدل من انت�صار ثالث طمعنا‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫قبل �سنوات‪ ،‬بل �صار �أ�سو�أ من ذلك‪ً ،‬‬

‫ك‬
‫يف حتقيقه على �أ�شراف چارتني يوم الغفران ال�سابق ‪� ..‬أُ�صبنا نحن‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫بال�ضربة القا�ضية‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬ ‫‪b‬‬
‫زيع‬

‫‪107‬‬
‫(‪)11‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫�صارت الأيام ع‬
‫�إقناعنا بالعودة �إىل ري‬
‫بثقل �شديد‪ ،‬رف�ض كل َمن تركنا حماوالت‬
‫املدر�سةال�أو العمل مرة �أخرى ‪ ..‬وبني يوم و�آخر كان‬
‫مت�ضي ٍ‬

‫ت‬ ‫�أُعدم �أربعة �شبان وامر�أتان ك‬


‫يتخلى عنا فرد جديد ممن بقوا معنا ‪ ..‬يف يوم غفران ذلك ال�شهر‬

‫بأنللنالروح ال�ساد�سة ح�صدتها‬


‫جميعهم من وادينا‪ ،‬ح�صدت �أرواحهم‬

‫ر امل�ساء بحا�صدات‬ ‫ش‬ ‫خم�سة ن�سليات من وادينا � ً‬


‫أي�ضا‪ ،‬وقيل �‬

‫الأرواح �صاخ ًبا بدرجة غري م�سبوقة حتى ظننت �وأنالت�ساكني جويدا‬
‫واد �آخر ‪ ..‬كان االحتفال ذلك‬ ‫ن�سلي ٌة تنتمي �إىل ٍ‬

‫ي�ستطيعون بكل و�ضوح �سماع مو�سيقا حانات الوادي من و�شدةز عي‬


‫�صخبها‪،‬‬
‫فيما ظللنا نحن قابعني يف �أكواخنا بائ�سني ال نعرف ماذا �سيحمل لنا‬
‫الغد �أو ال�ساعة التالية حتى‪� ،‬صرنا فج�أ ًة كمن �ضاعوا يف عر�ض بحر‬
‫هائج بعد غرق �سفينتهم وال يعلمون ماذا �ستفعل بهم املوجة القادمة‪.‬‬
‫يف خالل تلك الأيام تزايد �إعياء �سبيل مبعدل كبري‪ ،‬لكن ال�سيدة مل‬
‫تهمل رعايتها للحظة واحدة‪ ،‬وكذلك الطبيب الذي طم�أننا ب�أن ذلك‬
‫�أمر طبيعي مع اقرتاب موعد و�ضعها‪ ،‬كانت �أملنا الوحيد املتبقي لعل‬
‫الن�ساىل يعودون �إىل ر�شدهم مرة �أخرى‪� ،‬أو رمبا هذا ما كنا نظنه‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫وا�صلت ال�سيدة غفران تلقني درو�سها �إىل ال�صبية القليلني‬
‫امل�ستمرين معها‪ ،‬فيما توقف كوخ الت�صنيع عن العمل لي�س �إال من‬
‫�أعمال ب�سيطة مثل �صنع كميات قليلة من زيت الزيتون وجنب املاعز‪،‬‬
‫�أ�شيا ٌء كنا ن�صنعها من �أجل بقائنا فح�سب بعيدين عن حافة اجلوع‬
‫ب�سيطا من مر�ضاه بعد‬ ‫مقابل ً‬ ‫‪ ..‬بد�أ الطبيب للمرة الأوىل يتقا�ضى ً‬
‫�أ�شهر طويلة من العمل يف الوادي بدون مقابل واالكتفاء بح�ص�صه‬

‫دا‬
‫من الطعام التي كانت توزعها ال�سيدة من نقود الب�ضائع‪ ،‬قال يل يوم‬
‫ر‬
‫اتخذ ذلك القرار ب�أنه ا�ضطر �إىل ذلك ليو ّفر ً‬
‫ع‬
‫دخل يكفي ملعي�شتنا‬
‫ص‬
‫وا�ضحا من حديثه و�إن مل يقلها �صراحة‬ ‫�إىل �أن متر تلك الأزمة‪ ،‬كان‬
‫ري‬
‫ً‬
‫ال‬
‫حمبطا جدً ا‪ ،‬وال يعرف مثلي �إن كانت تلك الأيام ال�صعبة‬ ‫ً‬ ‫�أنه �صار‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�ستمر ح ًقا �أم �أننا نت�شبث ب� ٍ‬
‫أمل زائف �ستزداد معه الأو�ضاع �سو ًءا‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مع مرور �أيام ذلك ال�شهر ق ّل قدوم جنود الأ�شراف �إىل الوادي‪،‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫هناك من قال �أنهم اجتهوا �إىل وديان �أخرى من وديان الن�ساىل‪،‬‬
‫و�آخرون قالوا �أنهم ُكلفوا بحماية الطرق اجلنوبية املمتدة بني املوانئ‬

‫زيع‬
‫اجلنوبية وجويدا بعدما زاد معدل ال�سطو وال�سرقات على ب�ضائع‬
‫الأ�شراف‪� ،‬أ ًيا كانت الأ�سباب فلم يعد �أنذال الأ�شراف يف حاجة �إىل‬
‫َمن يحمونهم يف وادينا بعدما �صار ُمرح ًبا بهم وبنقودهم يف كل �أزقة‬
‫مزيد من ال�شبان كان جل ًيا لنا قبل الآخرين‬‫الوادي ‪ ..‬ومع ان�سحاب ٍ‬
‫ألت �سيدتي ذلك امل�ساء حني‬ ‫�أن �إعالن هزميتنا �صار م�س�ألة وقت ‪� ..‬س� ُ‬
‫اجتمعنا يف فناء كوخها وكانت بع�ض الألعاب النارية ت�ضيء �سماء‬
‫وادينا‪:‬‬
‫ هل انتهى كل �شيء؟!‬
‫قالت با�سمة‪:‬‬
‫‪110‬‬
‫ ما زالت �أرواحنا حية ‪ ..‬وهناك �شريف قادم يف الطريق ‪..‬‬
‫قلت بنربة مت�شائمة‪:‬‬
‫ مل يعد معنا �إال القليلون ‪ ..‬يق ّلون بدورهم ً‬
‫يوما بعد يوم‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬

‫دا‬
‫رب �شخ�ص واحد يقلب الأمور جميعها ر� ًأ�سا على عقب ‪..‬‬
‫  ّ‬
‫فرحا‪:‬‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫حتولت تعابري وجهي �إىل ابت�سامة وقلت ً‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫قالت بب�سمتها الطيبة‪ :‬ال‬
‫منك‪.‬‬
‫  ظننت �أن الي�أ�س قد متكن ِ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ ال يعيب �إن متكن منا الي�أ�س �أحيا ًنا ‪� ..‬إننا ب�شر‪ ،‬لكني �أعرف‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ح�ص ٍن داخلي‪.‬‬‫كيف �أت�صدى له قبل �أن ينخر �آخر ِ‬
‫تنهدتُ وقلت‪:‬‬
‫زيع‬
‫  �إن لأ�سو�أ �شعو ٍر �أن ي�ضيع تعب �سنوات هبا ًء‪� ،‬أن ي�صري البناء‬
‫تعبت بيننا‪� .‬أنا‬
‫ركاما يف حلظة واحدة ‪ ..‬و�أنا �أعرف كم ِ‬ ‫ً‬
‫وناردين و�سبيل فكنا وال زلنا ن�ساىل ‪ ..‬الطبيب يبقى غري‬
‫چارتيني ال ُتطبق عليه القواعد ‪..‬‬
‫ونظرتُ �إىل و�شم كتفها‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫  �إنك �أكرب اخلا�سرين هنا ‪..‬‬
‫ابت�سمت وقالت‪:‬‬

‫‪111‬‬
‫بقيت �شريف ًة مل �أكن لأجد �صحب ًة �أف�ضل من هذه ‪..‬‬
‫ رمبا لو ُ‬
‫ثم �ضحكت ونه�ضت من جل�ستها‪ ،‬وانحنت �إلينا وقالت‪:‬‬
‫ �أيها ال�سادة لقد ا�ستمتعت ب�صحبتكم ‪..‬‬
‫ثم جل�ست مرة �أخرى ‪ ..‬كان الطبيب قد انتهى من عيادته فان�ضم‬
‫�إلينا وجل�س �إىل جوار ال�سيدة‪ ،‬و�ضحك حني مرت جماع ٌة من الن�ساىل‬
‫دا‬
‫ومل يلقوا �إلينا التحية حتى‪ ،‬وقال �ساخ ًرا‪:‬‬
‫ر‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ ما �أجمل �أن تكون ً‬
‫منبوذا من املنبوذين �أنف�سهم ‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ثم نظر �إىل �سبيل‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ً‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫أنا�سا كثريين عانوا‬
‫م�ستقبل �أن هناك � ً‬ ‫ �أخربي ابنك �أو بنتك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫من �أجله‪.‬‬
‫و�أ�شار بيده نحونا ‪ ..‬ابت�سمت �سبيل‪ ،‬و�شأوم�رأت بر�أ�سها �إيجا ًبا دون‬
‫وال وت‬ ‫�أن تقول �شي ًئا‪ ،‬ف�س�ألتُه‪:‬‬
‫زيع‬ ‫ كم يتبقى على موعد والدته؟‬
‫�أجابني‪:‬‬
‫  بني �أ�سبوعني �إىل ثالثة �أ�سابيع ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫  مع حلول يوم الغفران القادم � ًإذا ‪..‬‬
‫هز ر�أ�سه موافقني ثم قال‪:‬‬

‫‪112‬‬
‫  �أو بعده ب�أيام ‪..‬‬
‫ب�صوت قلق‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫فقالت �سبيل‬
‫ هل ال يزال الن�ساىل ينتظرون قدومه �أم مل يعد ذا �أهمية‬
‫بالن�سبة لهم؟‬
‫قالت ال�سيدة غفران‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫  كان و�سيكون ذا �أهمية للن�ساىل ‪..‬‬

‫ص‬ ‫و�أكملت بعد ع‬


‫ رمبا ي�أتي جي ٌل ري‬
‫برهة من ال�صمت‪:‬‬
‫جديدالي�ستطيع فعل ما ف�شلنا يف فعله ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ هكذا نعلن هزميتنا � ًإذا؟! ب ل‬
‫قلت‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر‬
‫قالت ال�سيدة بعدما د ّوت �أ�صوات الألعاب الناريةوالوتناثرت نريانها‬
‫و‬ ‫ت‬
‫زيع‬ ‫بالأعلى لت�ضيء ال�سماء من فوقنا‪:‬‬
‫ عليك �أن تتقبل الهزمية يف �إحدى اجلوالت ب�صد ٍر رحب �أحيا ًنا‪.‬‬
‫ت�ساءلت ناردين يف ت�شكك‪:‬‬
‫ هل هناك �أمل يف جوالت �أخرى � ًإذا؟‬
‫ابت�سمت ال�سيدة وكادت جتيبها لوال �أننا ر�أينا َمن يعرب بوابة الفناء‬
‫وهو يج ّر ح�صانه نحونا‪ ،‬ف�صمتنا جمي ًعا عن احلديث يف انتظار ر�ؤية‬
‫وجهه املتواري مع ظالم الليل‪ ،‬حتى اقرتب منا فظهرت مالحمه مع‬
‫نريان �أقرب امل�صابيح �إليه‪ ،‬كان عجو ًزا نحي ًفا تغطي التجاعيد وجهه‬
‫‪113‬‬
‫و�صدره العاري‪ ،‬تظهر عيناه كعيني �صقر �أ�سفل حاجبني كثيفني‪،‬‬
‫وتتناثر بر�أ�سه �شعريات بي�ضاء قليلة بدت �أنها ما تبقى من �شعره‬
‫خالل �سنواته الكثرية املا�ضية‪ .‬مل تختلف فر�سه عنه كث ًريا ‪ ..‬كانت‬
‫هزيلة ُم�سنة ك�أنهما ُولدا يف اليوم ذاته ‪ ..‬نظر �إىل الن�ساء حني اقرتب‬
‫ب�صوت بدا قو ًيا على هيئته‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫منا‪ ،‬وقال‬
‫ �أبحث عن ال�سيدة غفران ‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫نه�ضت �سيدتي من بيننا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ جئت من �عأجلك �أيتها ال�سيدة‪� ،‬أريد التحدث � ِ‬
‫إليك ‪..‬‬
‫ري‬ ‫ص‬
‫قالت �سيدتي‪ :‬ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫و�أ�شارت �إليه باجللو�س‪ ،‬فجل�س ل‬
‫تف�ضل ‪..‬‬ ‫ �إن اجلميع هنا �أهل ثقة‪،‬‬

‫ر‬
‫ناردين التي نه�ضت لتعقل‬‫جلام فر�سه ب�أحد الأوتاد اخل�شبية بالفناءش‬
‫مو�ضع‬
‫ومعها م�صباحان زيتيان �إ�ضافيان وو�ضعتهماوال وت‬
‫وتطعمها‪ ،‬قبل �أن تعود‬
‫�أمامنا‪ ،‬فيما �أح�ضرت �سبيل �شرا ًبا باردًا من املاء زي‬
‫املخلوطع بالع�سل‬
‫مبنت�صف الدائرة‬

‫بحثت بعيني عن و�شم �صدره‪ ،‬كان باهتًا‬


‫وقدمته �إىل ذلك العجوز‪ُ ،‬‬
‫جدً ا لدرجة جعلتني �أحتار �إن كانت �ألوان و�شمه قد اختفت من جلده‬
‫مع الزمن �أم �أنه مل ُيو�شم � ً‬
‫أ�صل وكانت تلك الآثار على �صدره ً‬
‫مر�ضا‬
‫�أ�صاب جلده‪.‬‬
‫قال الراجل مقاطع ًا تفكريي‪:‬‬
‫ �أدعى ُخ�شيب‪ ،‬كنت من �أ�شراف مدينة ُطبرية قبل �أن �أخرتق‬
‫القاعدة الأوىل ‪..‬‬
‫‪114‬‬
‫اندها�شا وت�شك ًكا بعدما ع�شت �سنوات عمري‬
‫ً‬ ‫ات�سعت حدقتا عيني‬
‫�ضرب من �ضروب اخليال‪،‬‬
‫�أظن �أن اخرتاق الأ�شراف لتلك القاعدة ٌ‬
‫وا�صل الرجل حديثه دون انقطاع‪:‬‬
‫بلغت عامي ال�سبعني هذا العام‪ ،‬ع�شت منهم ع�شرين يف‬ ‫  ُ‬
‫�صحاري اجلنوب ووديانها البعيدة ‪..‬‬

‫دا‬
‫وارت�شف ر�شف ًة من �شرابه وقال‪:‬‬
‫ألت العابرين يف‬
‫عنك منذ عامني فقط‪ ،‬ولطاملا �س� ُ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫ بد�أتُ �أ�سمع ِ‬
‫عليك كث ًريا‬
‫أ�شفقت ِ‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال�صحاري من الن�ساىل عما تقدمينه ‪ ..‬و� ُ‬
‫منك بداية هذا العام ‪..‬‬ ‫ال‬
‫عرفت ب�أمر انتزاع �صفة ال�شرف ِ‬‫حني ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫�إنني �أعرف جيدً ا الفارق بني احلياتني‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫ابت�سمت �إليه ال�سيدة ابت�سامة حانية‪ ،‬ف�أكمل‪:‬‬

‫ر وا تول‬
‫إليك من �أجل �إعالن‬‫كنت َمن �أقنع ُزردق ووداد بالقدوم � ِ‬ ‫  ُ‬

‫زيع‬
‫وكنت يف انتظار عودتهما �إ ّ‬
‫يل على �أمل �أن ا�ستطيع‬ ‫زواجهما‪ُ ،‬‬
‫فعل ما ف�شلت فيه كل ال�سنوات املا�ضية ‪ ..‬لكن رجائي قد خاب‬
‫عرفت من �أحد العابرين مبا بد�أ يحدث‬
‫بعد ما حدث لهما‪ ،‬ثم ُ‬
‫أمر احتفظت به‬‫إليك لأخربك ب� ٍ‬
‫فجئت � ِ‬
‫يف الوادي هذه الأيام ‪ُ ..‬‬
‫�سنوات طويلة ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫لنف�سي‬
‫انتبهنا جمي ًعا �إىل الرجل‪ ،‬واعتدل الطبيب يف جل�سته وح ّدق به‬
‫مرتق ًبا‪ ،‬وت�ساءلت ال�سيدة بتعجب‪:‬‬
‫ �أي �أمر؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫‪115‬‬
‫جيل بعد جيل دون‬ ‫ توارثت عائلتي بع�ض املخطوطات القدمية ً‬
‫�أن يدري �أحد من �أهل چارتني بوجودها‪� ،‬أخربين �أخي الأكرب‬
‫بيوم واحد‪ ،‬و�أعطاها يل‬‫عنها قبل رحيله �إىل وادي حوران ٍ‬
‫ب�صفتي وريثه الأوحد بعدما مل يتزوج‪ ،‬و�س�ألني �أن �أعاهده على‬
‫يوما ما �إىل �أ�صحابها‪،‬‬
‫بقائها �أمانة لدى عائلتنا حتى ت�صل ً‬

‫دا‬
‫مثلما �أو�صاه �أبي قبل رحيله � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬

‫ع‬
‫وتابع وهو يخرج قطع ًة جلدية ملفوفة‪ ،‬كانت قدمية ومهرتئة‬‫ر‬
‫ري‬ ‫ص‬
‫ ما �إن مر نها ٌر ال‬
‫احلواف ك�أنها دُبغت قبل بناء اجلدار‪:‬‬

‫كتتلك املخطوطات خا�ص ًة مع اجلدية‬


‫واحد على رحيل �أخي حتى انتف�ض الف�ضول‬

‫كلنتلك الأعوام على حد قوله‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫التي حتدث بها واحتفاظه بها ل‬
‫بداخلي كي �أرى ما حتتويه‬

‫ر‬ ‫دون �إخباري عنها‪ ،‬فوجدتُ بينها هذهش‬


‫بحر�ص �شديد وهو يقول‪ :‬وال وت‬
‫املخطوطة‪.‬‬

‫زيع‬ ‫ٍ‬ ‫وبد�أ يفتحها �أمامنا‬


‫  �أثارت هذه الر�سمة ف�ضويل كث ًريا ‪..‬‬
‫فق ّرب الطبيب امل�صباح منها كي نرى ما يتحدث ب�ش�أنه‪ ،‬فت�سارعت‬
‫دقات قلبي واندفعت الدماء �إىل وجهي‪ ،‬مل تكن تلك الر�سمة حتتاج‬
‫متاما ال�سيد‬
‫�شرح بالن�سبة يل ‪ ..‬كانت لرجل ن�سلي عا ٍر ي�شبه ً‬
‫�إىل ٍ‬
‫ندمي حينما كانت تثور روحه وتنتفخ ع�ضالته وعروقه‪ ،‬حتى وجهه‬
‫متاما‪ ،‬كانت بقية‬
‫كان قد ُر�سم وهو يز�أر مثلما كان �سيدي يفعل ً‬
‫رجال �أ�شراف مي�سكون ب�سال�سل حديدية ق ّيدت‬
‫الر�سمة عبارة عن ٍ‬
‫‪116‬‬
‫�أطراف ورقبة ذلك الن�سلي ‪ ..‬وكدت �أ�صرخ �إليهم و�أقول �أنه ي�شبه‬
‫�سيدي لوال �أن الطبيب رمقني بنظرته ك�أنه فهم ما �أفكر فيه و�أرادين‬
‫�أال �أنطق ب�شيء �إىل �أن ينتهي ذلك الرجل من حديثه‪ ،‬ف�أوم�أتُ بر�أ�سي‬
‫�إليه يف خل�سة مواف ًقا له ومل �أنطق‪� ،‬أكمل الرجل‪:‬‬
‫علي �أنا الآخر‬
‫ يقرتب عمر هذه املخطوطة من �ألفي عام ‪ ..‬كان ّ‬
‫تنفيذا لو�صية �أخي ‪ ..‬لكن زوجتي‬‫�أن �أو ّرثها �إىل �أحد �أبنائي ً‬

‫ر‬
‫احلرباء هجرتني بعد رحيل �أخي ب�أقل من عام‪ ،‬وبعد �أكرث‬
‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫من حماولة فا�شلة للزواج من امر�أة �أخرى قررتُ �أال �أتزوج ‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وبد�أتُ �أق�ضي حياتي بني احلانات ووديان الن�ساىل من �أجل‬

‫ك‬
‫متاما ‪..‬‬
‫�صيد فتياتهم‪ ،‬ون�سيت �أمر خمطوطات �أخي ً‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫�إىل �أن جاءت �إحدى الليايل يف عامي اخلام�س والأربعني‪ ،‬وكنت‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫يف �صحبة مع �صديق يل �إىل وادي « ُمريان» الن�سلي القريب من‬
‫ُطبرية ‪ ..‬كان لديهم فتيات ح�سناوات ت�ستطيع الواحدة منهن‬

‫زيع‬
‫جلب لك قطعة من ال�سماء يف ليلة واحدة‪ ،‬وكنت يف فرا�ش‬
‫بكوخ بعيد عن بقية الأكواخ حني �سمعت �أذين ذلك‬ ‫�إحداهن ٍ‬
‫الزئري للمرة الأوىل ‪ ..‬انتف�ضت عار ًيا ليلتها لأفتح النافذة‬
‫ن�سلي ن�صف عاري �ضخم‬ ‫بخوف �شديد‪ ،‬فر�أيته �أمامي ‪ٌ ..‬‬
‫متاما ‪ ..‬يجثو على‬
‫اجلثة مثل الذي ُر�سم يف هذه املخطوطة ً‬
‫ركبتيه‪ ،‬وي�أكل �أح�شاء �صديقي امليت ‪ ..‬وبني ح ٍني و�آخر كان‬
‫ب�شكل مفاجئ حوله ليطلق زئريه �إىل ال�سماء قبل �أن‬
‫يلتفت ٍ‬
‫يوا�صل غر�س يده امللطخة بالدماء �إىل �أح�شاء �صديقي ويحمل‬
‫ما تنتزعه �إىل فمه ويلتهمه ‪..‬‬
‫‪117‬‬
‫�أتذكر �أنني تب ّولت على قدمي وقتها رع ًبا‪ ،‬بينما فقدت الفتاة‬
‫الن�سلية وعيها على الفور حني ت�سللت من خلفي ور�أت ما ر�أيته‪،‬‬
‫وان�سللت �إىل �أ�سفلها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أغلقت النافذة بهدوء �شديد‪،‬‬
‫حينها � ُ‬
‫وج�سد يرتع�ش مع‬
‫ٍ‬ ‫أنفا�س مت�سارعة‬
‫و�أل�صقت نف�سي للحائط ب� ٍ‬
‫كل نوبة زئري يطلقها ذلك الن�سلي ‪..‬‬
‫ونه�ضت جمددًا لأختل�س‬
‫ُ‬ ‫فتمالكت نف�سي‬
‫ُ‬ ‫�إىل �أن هد�أ زئريه‬
‫بيد واحدة ما‬‫�شق بالنافذة‪ ،‬فوجدته يج ّر ٍ‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫النظر �إليه عرب ٍ‬
‫ع‬
‫تبقى من جثة �صديقي ويبتعد به نحو الظالم‪ ،‬وقتها تذكرتُ‬
‫ص‬
‫ري‬
‫ً‬
‫ال‬
‫مهرول ‪ ..‬وعدت على فر�سي‬ ‫فارتديت ثيابي‬
‫ُ‬ ‫هذه الر�سمة‪،‬‬
‫ب�سرعة الربق �إىل بيتي لأخرج هذه املخطوطة واملخطوطات‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الأخرى التي تركها يل �أخي وت�صرخ يف ر�أ�سي كلماته ب�أن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أعده ب�أن تظل تلك املخطوطات لدى عائلتنا �إىل �أن تذهب �إىل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�أ�صحابها‪ ،‬وتع�صف بعقلي كافة الت�سا�ؤالت عن ذلك الت�شابه‬
‫بني الن�سلي املر�سوم قبل مئات ال�سنني والن�سلي الذي ر�أيته‬

‫زيع‬
‫بعيني قبل �ساعات ‪ ..‬وذلك الزئري الغريب الذي ال ي�ستطيع‬
‫ب�شر �أن ي�صدره قا�صدً ا‪ ،‬و�صديقي القوي الذي بدا �صيدً ا‬
‫�ضئيل للغاية �أمام ذلك الن�سلي ‪ ..‬لو �أخربين �أحد عن ذلك‬ ‫ً‬
‫الأمر ملا �صدقته‪ ،‬لكني ر�أيته بعيني ‪..‬‬
‫ب�صوت مرتع�ش و�أنا �أتفح�ص الر�سمة وكل‬‫ٍ‬ ‫كنت �أح ّدث نف�سي‬
‫فهمت ملاذا ترتعب وجوه املم�سكني به‬ ‫ُ‬ ‫تف�صيلة فيها؛ «الآن‬
‫فهمت ملاذا مي�سك �ستة رجال بن�سلي واحد»‪،‬‬ ‫�إىل هذا احلد‪ُ ،‬‬
‫أنفا�س مت�سارعة يف حال ٍة �أ�شبه باجلنون؛‬
‫و�صرخت �إىل نف�سي ب� ٍ‬
‫ُ‬
‫َ«من �أ�صحاب هذه املخطوطة الذين حتدث عنهم �أخي؟! ‪..‬‬
‫وملاذا كنت �أنا بالذات َمن يرى ذلك املخلوق؟»‪..‬‬
‫‪118‬‬
‫أياما كثرية‬
‫وق�ضيت � ً‬
‫ُ‬ ‫واجتهت �إىل جويدا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ومل يطلع ال�صباح �إال‬
‫هناك �أت�صفح كتب مكتباتها الكربى‪ ،‬مل �أجد �شي ًئا عما ر�أيته‬
‫‪ ..‬زرت املكتبات الكربى يف مدن چارتني الأخرى لعلي �أعرث‬
‫يف�سر يل ما حدث‪ ،‬مل �أجد �شي ًئا هناك‬ ‫خيط ّ‬ ‫على �شيء �أو ٍ‬
‫ألت كث ًريا من الأ�شراف الذين ميتلكون ً‬
‫ن�سخا فريدة‬ ‫� ً‬
‫أي�ضا ‪� ..‬س� ُ‬
‫من �أمهات الكتب واملجلدات القدمية �أن ي�سمحوا يل بت�صفح‬

‫دا‬
‫بع�ضها دون �أن �أظهر لهم �صراح ًة عما �أبحث عنه‪ ،‬وافق‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫بع�ضهم‪ ،‬لكني مل �أجد �صفح ًة واحدة تتحدث عن �إعدام ن�سلي‬
‫ص‬
‫متوح�ش قبل قرون �أو ن�ساىل ي�أكلون حلوم الب�شر ‪..‬‬
‫ليال �أخرى ‪ ..‬وجدتُ كوخ الفتاة‬ ‫ال‬ ‫ري‬
‫عدت �إىل وادي « ُمريان» يف ٍ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫التي رافقتها تلك الليلة قد �صار مهجو ًرا‪ ،‬حتى الفتاة نف�سها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مل �أرها مرة �أخرى ك�أن الأر�ض قد ان�ش ّقت وابتلعتها ‪� ..‬س� ُ‬
‫ألت‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫الن�ساىل هناك �إن كان �أحدهم قد ر�أى �شا ًبا �أو كائ ًنا بتلك‬
‫ال�صفات‪� ،‬أو �إن كانوا قد �سمعوا زئ ًريا مبناطق الوادي املظلمة‬

‫زيع‬
‫باجلوار ‪ ..‬قالوا �أنهم اعتادوا �سماع زئري حيوانات ال�صحاري‬
‫ق�ضيت ليا َ‬
‫يل‬ ‫ُ‬ ‫فح�سب‪ ،‬وال يعلمون �شي ًئا عما �أحتدث ب�ش�أنه ‪..‬‬
‫كثرية هناك يف انتظار �أن يظهر من جديد‪ ،‬لكنه مل يفعلها ‪..‬‬
‫ذهبت �إىل الباحة �أيام الغفران من �أجل م�شاهدة املعدومني‬ ‫ُ‬
‫وتفح�ص الن�ساىل الواقفني بني اجلمهور‪ ،‬كان جميعهم‬
‫حملت �أمتعتي‬
‫ي�شبهوننا ال �شي َء غريب عنا �سوى �أو�شامهم ‪ُ ..‬‬
‫وذرعت ال�صحاري اجلنوبية ووديانها لعلي‬ ‫ُ‬ ‫على �صهوة جوادي‬
‫�أعرث على �شيء يجيب �أ�س�ألتي التي �ش ّبت يف ر�أ�سي ومل تخمد ‪..‬‬
‫يوما وراء يوم ‪ ..‬ليلة وراء ليلة ‪� ..‬شه ًرا وراء �آخر‪.‬‬
‫ً‬
‫‪119‬‬
‫و�صمت للحظات ليلتقط �أنفا�سه‪ ،‬ثم �أكمل‪:‬‬
‫ �إىل �أن جاء يو ٌم �أمطرت فيه ال�سماء بقوة‪ ،‬وكنت وقتها جنوب‬
‫اجلبال احلمراء بالقرب من وادي «عقيل» الن�سلي حني �سمعت‬
‫رك�ضت كاملجنون �أ�سفل الأمطار‬
‫ُ‬ ‫�أذين ذلك الزئري مرة �أخرى‪،‬‬
‫يف اجتاه ال�صوت‪ ،‬لكني مل �أ�ستطع اللحاق به تلك املرة كذلك‪،‬‬
‫فقررتُ �أن �أبقى يف ذلك الوادي لعل ذلك الن�سلي يظهر من‬

‫ر‬ ‫ا‬
‫جديد ‪..‬‬
‫د‬
‫مع �أياميعهناك � ُ‬
‫ذلك الواديصبعدما ر�أيتهم يتعر�ضون لأق�صى �أنواع اال�ضطهاد‬
‫أدركت املعاناة احلقيقية التي يحياها �أهل‬
‫والعنف من �أحد �ري ال‬
‫ت‬ ‫يف هذا الوادي الآن ‪..‬ك‬
‫أثرياء الأ�شراف‪ ،‬بدرجة كانت تفوق ما يحدث‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ونظر �إىل الن�سلي املر�سوم ب ل‬


‫ب�صوت‬
‫ٍ‬ ‫فخر‪ ،‬وقال‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫باملخطوطة نظرة ٍ‬

‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫ �إىل �أن عرثنا ذات �صباح على جثة ذلك الرثيوالظامل مت�آكلة‬
‫َف ِرح‪:‬‬

‫الأح�شاء والأطراف ب�صورة ب�شعة يف �إحدى زي‬


‫املناطقع القريبة‬
‫من الوادي‪.‬‬
‫أخفيت مع الن�ساىل بقايا تلك اجلثة عن عيون الأ�شراف خ�شية �أن‬
‫� ُ‬
‫ت�صبح جرعات العذاب �أ�ضعا ًفا م�ضاعفة‪ ،‬ومل يعرف �أحد بهذا‬
‫�إىل الآن ‪ ..‬كان الن�ساىل يجهلون كيف ُقتل ذلك الرجل بتلك‬
‫الوح�شية ‪ ..‬و�أق�سم جميعهم �أنهم مل يفعلوها‪ ،‬كنت �أعرف �أن‬
‫ما كنت �أبحث عنه هو َمن فعلها‪ ،‬لكن عقلي وقتها ان�شغل ب�شئ‬
‫�آخر وتذ ّكر �أن �صديقي الذي ُقتل بوح�شية على يد الن�سلي كان‬
‫‪120‬‬
‫�أكرث من عرفتهم يف �شبابي ا�ضطهادًا و�أذى للن�ساىل ‪ ..‬حينها‬
‫أ�شخا�ص‬
‫ٍ‬ ‫فكرت �أن تلك املخلوقات �أو الن�ساىل املتحولني لي�سوا ب�‬
‫خمتلفني عن الن�ساىل الذين عاي�شتهم‪ ،‬بل قد يكونوا هم‬
‫�أنف�سهم‪ ،‬و�أن تعر�ضهم للظلم كان ما يجعلهم ي�صريون هكذا‬
‫من �أجل انتقام يعجزون عنه بهيئتهم العادية ‪..‬‬
‫ووددتُ لو بقيت �أكرث يف ذلك الوادي من �أجل �إثبات ما فكرتُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫به‪ ،‬لكن قواعد چارتني مل متهلني‪ ،‬وداهمني عامي اخلم�سني ‪..‬‬
‫‪b‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫و�شققت طريقي نحو ُطبرية‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫ري‬
‫ركبت يومها فر�سي تار ًكا الوادي‪،‬‬
‫  ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫من �أجل انتظار َمن يرافقونني �إىل وادي حوران‪ ،‬وعقلي يفكر‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يف الن�ساىل الذين �أحببتهم‪ ،‬وما تعر�ضوا له من ظلم خالل فرتة‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫تواجدي معهم‪ ،‬واجلثة املت�آكلة بوح�شية‪ ،‬و�أ�صوات الزئري التي‬
‫لطاملا ارتبطت ب�أكرث الأماكن ً‬
‫تعر�ضا للظلم ‪ ..‬واملخطوطة التي‬

‫زيع‬
‫مل تفارقني ل�سنوات و�أ�صحابها الذين ال �أعتقد �أن �أخي يعرفهم‬
‫من الأ�سا�س‪ ،‬هو �أو �أي فرد من �أفراد عائلتي القدامى ‪ ..‬وجال‬
‫بع�ض من �أجدادي قد �أفنوا �سنواتهم مثلي‬ ‫بخاطري �أن يكون ٌ‬
‫يف البحث عن �سر تلك املخطوطات و�سر الن�ساىل الزائرين‬
‫�إىل �أن توقفوا عن بحثهم رغ ًما عنهم مع بلوغهم اخلم�سني‬
‫وخ�ضوعهم للقاعدة الأوىل‪ ،‬ثم وجدتُ نف�سي �أوقف فر�سي‬
‫لأ�س�أل نف�سي م�ستنك ًرا‪ ،‬و�أنا �أنظر �إىل الطريق املمتد �أمامي‬
‫وبيوت املدينة التي بد�أت تلوح يف الأفق‪:‬‬
‫ما الذي يحملني على الإكمال يف هذا الطريق؟! ‪ ..‬ملاذا �أذهب‬
‫ب�أقدامي �إىل املوت؟! ‪� ..‬إنني ال �أحب �أن �أموت الآن ‪ ..‬كما �أنني‬
‫‪121‬‬
‫يف حاجة �إىل معرفة �إجابات الأ�سئلة الكثرية التي تدور يف‬
‫يل من خ�ضوعي للقاعدة الأوىل؟!‬ ‫ر�أ�سي‪ ،‬ما الذي �س ُي�ضاف ّ‬
‫تنتقل روحي �إىل طفل �شريف �سخيف ال يتذكر �أي �شيء عما‬
‫حدث يل خالل تلك ال�سنوات؟!!‬
‫ووجدت نف�سي فج�أ ًة �ألعن القواعد وچارتني كلها‪ ،‬وبد�أ ل�ساين‬
‫ي�سبها ب�أقذر ال�سباب‪ ،‬ثم ا�ستدرت بح�صاين ولكزته بقدمي‬
‫لريك�ض بي جتاه ال�صحراء اجلنوبية ووديانها من جديد‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫مبتعدً ا عن مدن چارتني‪ ،‬غري �أنني ابتعدت عن وديان الن�ساىل‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫القريبة من املدن يف تلك الأونة‪ ،‬وكذلك الوديان املعروفة بزيارة‬
‫الأ�شراف واجلنود وكذلك وادي «عقيل» خو ًفا من و�شاية بع�ض‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الأنذال عني مقابل مك�سب �ضئيل من العمالت املعدنية ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫واد �صغري متطرف ال يتعدى �سكانه مائتي �شخ�ص‪،‬‬ ‫وجل�أتُ �إىل ٍ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�ساعدتني هناك �إحدى ن�سائه على نق�ش و�شم الن�ساىل على‬
‫�صدري ليعتقد َمن يراين من ن�ساىل الوديان الأخرى �أو اجلنود‬

‫زيع‬
‫الذين ال يعرفونني �أنني ن�سلي م�سن يف م�أمن من قواعد چارتني‬
‫طاملا بقيت بعيدً ا عن مدنها الأربع ع�شرة ‪..‬‬
‫ثم �سكت حلظ ًة و�أخرج زفريه وقال ب�صوت هادئ‪:‬‬
‫ كان قراري باخرتاق القاعدة الأوىل �أكرث القرارات �إ�صاب ًة‬
‫عانيت ب�سببه كث ًريا ‪ ..‬لكن كل هذا العناء قد‬
‫ُ‬ ‫يف حياتي و�إن‬
‫ظللت �أبحث عنه ل�سنوات ‪ ..‬كان‬‫زال حني عرثتُ بالنهاية عما ُ‬
‫�أجدادي حمقني ب�إخفاء تلك املخطوطة كل هذه ال�سنوات ‪..‬‬
‫نظرتُ �إليه متله ًفا يف انتظار ما �سينطق به‪ ،‬و�أنا �أفكر عما �إن‬
‫كان ما عرث عليه يتعلق ب�سيدي ندمي‪ ،‬ولهذا جاء �إلينا بعد كل هذه‬
‫‪122‬‬
‫ال�سنوات‪ ،‬قبل �أن ي�سبقني الطبيب وي�س�أله يف ترقب‪:‬‬
‫ ما الذي عرثت عليه يف النهاية؟!‬
‫فقال العجوز وهو ينظر �إىل بطن �سبيل‪:‬‬
‫ �إنني �أعرف كيف ي�ستطيع الن�ساىل �إنهاء قواعد چارتني للأبد‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫‪b‬‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪123‬‬
‫(‪)12‬‬
‫سي ـ ـ ـ ـ ــرين‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫ص‬
‫ري‬
‫كنت يف طريقي �إىل ال‬
‫عن �آدم ليو ّدعه قبل �سفره �إىلك‬
‫دق زهري باب بيتي باح ًثا‬
‫ت‬
‫�سريري عندما ّ‬

‫بعدما كنت �أظن �أن �سبب ت�أخر �آدم هوب‬


‫بقال�لؤهما م ًعا‪ ،‬و�إن مل ميكثا �إىل‬
‫جويدا‪ ،‬ومعه تطاير النوم من عيني‬
‫ن‬
‫ذلك الوقت املت�أخر من قبل‪ ،‬ثم بد�أ هطول الشأمطار باخلارج ففكرتُ‬
‫ر �وأنالذلك �سي�صيبه‬
‫زإال �أ�شهر‬ ‫ت‬
‫بغ�ضب �شديد بعدما مل يعد يعترب نف�سه �صغ ًريا‪ ،‬مل و‬
‫يف اخلروج بح ًثا عنه‪ ،‬لكني تراجعت‪ .‬كنت �أعلم‬

‫فجل�ست‬ ‫ي‬
‫قليلة ويتم عامه ال�ساد�س ع�شر‪� ،‬سن البلوغ يف چارتني ‪ ..‬ع ُ‬
‫تبقَ �‬

‫على مقعدي املواجه للم�ستوقد املنطفئ‪ ،‬و�أ�سندتُ ذراعي �إىل الطاولة‬


‫اخل�شبية �أمامي يف انتظار عودته بقلق كبري‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫مر مزي ٌد من الوقت ا�شتعلت معه الو�ساو�س يف ر�أ�سي ‪،‬كان جان ًبا‬
‫مطمئ ًنا بداخلي يف ّكر ب�أن يكون �سبب ت�أخره هو معرفته برحيل‬
‫بحزن �شديد مل يردين‬‫�صديقه املفاجئ‪ ،‬و�أن يكون ذلك قد �أ�صابه ٍ‬
‫�أن �أراه على وجهه‪� ،‬أما اجلانب ال�سيئ مني فان�شغل بهطول الأمطار‪،‬‬
‫‪125‬‬
‫ومع ا�شتدادها ت�صاعد اخلوف بداخلي بعدما جال يف خاطري يوم‬
‫املطر العظيم وحالة الهياج التي �أ�صابته ليلتها وفقدانه وعيه بعدها‪،‬‬
‫نعم مل يحدث ذلك الأمر بعدها خالل ال�ست �سنوات املا�ضية لكني‬
‫أن�س قط تلك الليلة‪ ،‬و�إن مل �أخربه �أو �أحدثه عنها بعدما ت�أكدتُ‬
‫مل � َ‬
‫�أنه ال يتذكر عنها �شي ًئا‪� ،‬إال �أن القلق قد بلغ مبلغه مني مع اجتياز‬
‫الوقت منت�صف الليل‪ ،‬وتغ ّلب اجلانب املت�شائم بداخلي وازدادت معه‬

‫دا‬
‫الو�ساو�س ب�أن يكون ما �أفكر فيه �صائ ًبا‪ ،‬و�أن يكون هياجه يرتبط‬
‫فنه�ضت من مو�ضعي لأخرج باحث ًة عنه‪ ،‬ومل �أكد‬ ‫ُ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫با�شتداد املطر‪،‬‬
‫ص‬
‫�أرتدي حذائي اجللدي طويل العنق لأخطو �إىل اخلارج حتى وجدتُ‬
‫يل �آدم مبتل ال�شعر والثياب يحمل حذا�ؤه‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫باب البيت ُيفتح‪ ،‬ويدلف �إ ّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فت�ساءلت‬
‫ُ‬ ‫أكواما من الوحل‪ ،‬كانت مالمح وجهه متبدلة �إىل حد كبري‪،‬‬ ‫� ً‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يف قلق وقد دار بذهني �أن يكون ذلك الهياج �أ�صابه‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫  هل هناك خطب ما؟!‬
‫خلع حذاءه املُوحل‪ ،‬وجل�س على الكر�سي الذي كنت �أجل�س عليه‬

‫زيع‬
‫قبلها بدقائق‪ ،‬ثم �أخرج من �سرتته ورق ًة ُمبتلة احلواف ملفوفة‬
‫ب�إحكام‪ ،‬وقال بوجهه ال�شارد ب�أنها تخ�ص �صديقه زهري‪ ،‬قبل �أن يخلع‬
‫أ�سرعت و�أح�ضرتُ �إليه �سرت ًة �أخرى ومن�شف ًة قما�شية‬
‫ُ‬ ‫�سرتته املُبتلة‪ ،‬ف�‬
‫أ�شعلت نريان امل�ستوقد وقتما يرتدي‬‫جفف بها �شعره وج�سمه‪ ،‬ثم � ُ‬
‫وجل�ست �أمامه و�س�ألته جمددًا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ال�سرتة اجلافة‪،‬‬
‫ هل هناك خطب ما؟‬
‫بذهن م�شتت‪:‬‬
‫فقال ٍ‬
‫ حدث �أم ٌر غريب للغاية اليوم‪.‬‬
‫‪126‬‬
‫وربت على يده امل�ستندة على الطاولة‪ ،‬وقلت بلطف‪:‬‬
‫مددتُ يدي ُّ‬
‫ �أعرف ما حدث ‪..‬‬
‫أردفت‪:‬‬
‫نظر نحوي متعج ًبا‪ ،‬ف� ُ‬
‫ �أخربين زهري �أنه �سيغادر مع �أهله‪.‬‬

‫دا‬
‫نظر �إ ّ‬
‫يل بنظر ٍة �أكرث تعج ًبا ك�أنه مل يعرف ب�أمر رحيل زهري‪،‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫وت�ساءل يف ده�شة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ �إىل �أين؟!!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قلت‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ب‬


‫  جاء قبل �ساعات ليخربك ب�أمر رحيله �إىل جويدا‪.‬‬
‫ش وبد�أ يطرق الطاولة‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫الذ ب�صمته من جديد‪ ،‬وعاد �إىل �شروده‪،‬‬

‫زيع‬
‫فتابعت حديثي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ب�إ�صبعه برفق‪،‬‬
‫ مل ي�ستطع �أن يغادر دون �أن يخربك‪.‬‬
‫هز ر�أ�سه �إيجا ًبا‪ ،‬وز ّم �شفتيه حز ًنا ‪ ..‬كنت �أعلم مدى احلزن الذي‬
‫ي�شعر به يف ذلك الأوان‪ ،‬يحتاج املرء �سنوات طويلة لتعوي�ض �صديق‬
‫طفولته وخا�ص ًة �إن كان �صدي ًقا ج ّيدً ا مثل زهري ‪ ..‬ثم � ُ‬
‫أردفت و�أنا‬
‫�أنظر �إىل الورقة امللفوفة على الطاولة �أمامي‪:‬‬
‫أي�ضا ب�أن �أذ ّكرك بالذهاب �إىل معلمه بني كل حني‬‫ �أو�صاين � ً‬
‫و�آخر ‪ ..‬قال �إنك تعرف بهذا الأمر ‪..‬‬

‫‪127‬‬
‫�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا دون �أن يقول �شي ًئا‪ ،‬ثم غاب يف �شروده مرة‬
‫�أخرى‪ ،‬وانطبع وجهه مبالحمه التي عاد بها من اخلارج ك�أن حديثي‬
‫عن زهري ورحيله مل يب ّدل ما كان ي�شغله‪� ،‬أو على الأقل مل يتبدل وجهه‬
‫فت�ساءلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫بالقدر الذي كنت �أتوقعه‬
‫  �أهناك �أمر �آخر؟‬

‫  د‬
‫رفع عينه �إ ّ‬
‫نعم‪.‬ا‬
‫يل وقال‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫نظرتُ �إليه برتقب كي يكمل حديثه عن ذلك ال�ش�أن الذي ي�شغل‬

‫ك‬
‫تفكريه بدرجة فاقت رحيل �صديقه‪ ،‬وتوقعت �أن يتحدث عن �إغماء‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫�أ�صابه باخلارج‪ ،‬لكنه �أخرج زفريه وقال بهدوء‪:‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ ذلك الكابو�س‪.‬‬

‫ر وا تول‬ ‫‪b‬‬
‫زيع‬
‫ا�صطحبت �آدم �إىل بريحا وتعودتُ على غرابته ‪ ..‬بد�أ الأمر‬
‫ُ‬ ‫منذ‬
‫مبا حدث يوم املطر العظيم مرو ًرا بتوا�صله مع اخليل و�إجادته ركوبها‬
‫بتلك الرباعة‪ ،‬وكذلك قوته التي م ّكنته من حمل �أ�شياءٍ مل يكن ٍ‬
‫لطفل‬
‫يف �سنه ب�أن يحملها‪� ،‬إىل الأمر الأكرث غرابة وهو تلك الكوابي�س التي‬
‫بد�أت تزوره قبل ثالثة �أعوام ‪ ..‬ال زلت �أتذكر تلك الليلة حني �أيقظني‬
‫من نومي حائر الوجه ليقول �أن الكابو�س قد زاره جمددًا‪ ،‬نظرتُ �إليه‬
‫متعجبة وقتها‪ ،‬و�س�ألته‪:‬‬
‫ �أي كابو�س؟!‬

‫‪128‬‬
‫قال‪:‬‬
‫كابو�س تكررت زيارته يل �أثناء نومي‪ ،‬الكابو�س ذاته ال يتغري ‪..‬‬
‫ٌ‬ ‫ ‬
‫ثم بد�أ يحكي يل عن �ساح ٍة رملية عظيمة يرك�ض فيها حايف‬
‫القدمني ب�سرعة ق�صوى ال ي�ستطيع �أح ٌد معها اللحاق به‪ ،‬يرك�ض �إىل‬
‫ما ال نهاية ك�أنه هارب من �شيءٍ ما‪ ،‬بينما تنظر �إليه �أعني �أنا�س واقفني‬

‫دا‬
‫ميي ًنا وي�سا ًرا ال تظهر مالمح وجوههم‪� ،‬إىل �أن ي�صل جدار چارتني‬
‫كحيوان منهك القوى �أ�سفل �أقدام‬
‫ٍ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫وقد متكن التعب منه‪ ،‬حيث يخ�ضع‬
‫م�شحوذا وينحر عنقه كذبيحة اجلزارين دون‬ ‫ً‬
‫ري‬‫ص‬ ‫�أحدهم يخرج �سكي ًنا‬
‫ال‬
‫�أي مقاومة منه‪ ،‬لتتناثر دما�ؤه على �صخور قاعدة اجلدار‪ ،‬فتنطفئ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫الأعني التي تراقبه يف �صمت‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫حاولت �أن �أخفف من روعه وقتها‪،‬ب‬


‫ش‬
‫وجاء يف بايل �أن يكون ذلك‬ ‫ُ‬

‫و‬ ‫ر‬
‫ال�سكاكني‪ ،‬قال ب�إ�صرار كبري‬ ‫ً‬
‫مرتبطا بعملنا يف ور�شة �صناعة‬ ‫الأمر‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫كل �أحالمه كان يتذكر ذلك الكابو�س‪ ،‬حدثتُه �أن الأمر و‬
‫يخربين‪ ،‬و�أنه من بني‬ ‫ب�أن الكابو�س ذاته تكرر معه لأيام �سابقة ومل‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫�أحكي له كذ ًبا عن كوابي�س خميفة كانت تزورين كث ًريا ع‬
‫طبيعي‪ ،‬وبد�أتُ‬
‫بالفرتة التي‬
‫هرب فيها �أبي من القاعدة الأوىل‪� ،‬إىل �أن اطم�أن ونام جمددًا ‪..‬‬
‫لليال �أخرى متتالية مل �أ�ستطع‬
‫ظل ذلك الكابو�س يطارده يف منامه ٍ‬
‫معها خلق املزيد من احلكايات‪� ،‬إىل �أن �أخربين متعج ًبا ذات �صباح‬
‫ليال �أخرى‬
‫�أن الكابو�س مل ي�أته يف ليلته ال�سابقة‪ ،‬وبعدها مرت ٍ‬
‫كثرية مل يظهر ذلك الكابو�س بها‪� ،‬سعدتُ بذلك كث ًريا‪ ،‬وظننت �أن‬
‫قرار ال�سيد عبود بانتقاله �إىل ور�شة الأ�سلحة النارية وتركه لور�شة‬
‫ال�سكاكني وحدوات الأح�صنة كان �سب ًبا رئي�س ًيا يف ذلك‪ ،‬ولوال �أنني مل‬
‫‪129‬‬
‫وقدمت‬
‫ُ‬ ‫�أخرب �أحدً ا عن ذلك الأمر لكنت قد ذهبت �إىل ال�سيد عبود‬
‫له امتناين الكبري عما فعله من �أجل �آدم ‪..‬‬
‫غري �أن الأمر نف�سه قد تكرر مرة �أخرى بعد �سبعة �أو ثمانية �أ�شهر‪،‬‬
‫ووجدتُ �آدم يخربين ب�أن الكابو�س ذاته قد عاوده من جديد‪ ،‬ال�ساحة‬
‫ذاتها التي يرك�ض فيها ‪ ..‬الأعني التي تراقبه‪ ،‬لكن تلك املرة ر�أى‬

‫دا‬
‫�أيادي �أولئك الأ�شخا�ص ال�صامتني ترتفع لت�شري �إليه وهو يوا�صل‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫رك�ضه‪ ،‬قبل �أن يذبحه ال�شخ�ص ذاته �أ�سفل جدار چارتني‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ليال �أخرى حدثني �أن �أفواه املراقبني له قد بد�أت يف الظهور‪،‬‬‫يف ٍ‬

‫ك‬
‫يف ليلة جديدة ر�أى �أفواههم ت�صرخ بكلمات غري مفهومة كانت ت�صل‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫عنان ال�سماء مع ا�شتداد املطر من فوقهم‪ ،‬بينما كان يوا�صل رك�ضه‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫جتاه جدار چارتني ‪ ..‬وقال م�ستغر ًبا ك�أنه بات ي�ؤمن ب�أن ذلك الكابو�س‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫واقع ً‬


‫فعل‪:‬‬
‫  كان �صوت املطر يتداخل مع �أ�صواتهم بقوةتولي�ش ّو�ش �سمعي‪،‬‬
‫زيعبا�سم �آدم‬
‫يل‪ ،‬لكنهم مل ينطقوا‬ ‫كنت �أعلم �أنهم ي�صرخون �إ ّ‬
‫اللتفت �إليهم ‪..‬‬
‫ُّ‬ ‫قط‪ ،‬لو نطقوا به‬
‫يف ليلة �أخرى قال �شاردًا؛ ر�أيتهم ي�صرخون وهم ي�شريون �إ ّ‬
‫يل‬
‫با�سم �آخر ‪ ..‬مل يتذكر ذلك اال�سم قط‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أيام دون تفا�صيل �إ�ضافية على حد قوله‪،‬‬
‫تكرر الكابو�س بعدها ل ٍ‬
‫ً‬
‫حماول تذكر اال�سم الذي كان ُينادى‬ ‫كنت �أ�ضحك حني ي�ضرب ر�أ�سه‬
‫به‪ ،‬لكنه مل ي�ستطع فعلها‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫وعرفت منه �أنه �أخرب‬
‫ُ‬ ‫�صارت تلك الكوابي�س حديثنا لفرتة طويلة‬
‫حامل لذكريات �صاحب روحه‬ ‫زهري بها ‪ ..‬قال له زهري ب�أنه قد يكون ً‬
‫نفيت له ذلك الأمر‬ ‫الأ�صلية و�إن مل يحدث هذا الأمر من قبل‪ ،‬لكني ُ‬
‫‪ ..‬يظن زهري �أن �آدم چارتيني مثلنا باعتباره ابن �أختي ‪ ..‬لكني و�آدم‬
‫ورجحت يومها يف‬ ‫نعرف �أنه من بالد �أخرى بعيدة عن چارتني ‪ّ ..‬‬
‫حديثي معه �أن تكون اختالف طبائع البلدين �سب ًبا يف �إ�صابته بتلك‬

‫دا‬
‫التغريات‪ ،‬الأمر الذي كنت �أحبه من تلك الكوابي�س �أنها كانت �سب ًبا‬
‫لليال عديدة‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫كب ًريا لتقرب �آدم مني بعدما �صارت جمال ت�سامرنا ٍ‬
‫ص‬
‫وبدايات حلكايات �أخرى كثرية حدثت يل يف طفولتي حدثته عنها‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫بعدما مل �أخرب �أحدً ا بها من قبل‪ ،‬كذلك كان يتحدث يل عن �أمور‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫كثرية يحبها ويطمح �إليها‪ ،‬حتى �صرنا �صديقني حقيقيني بف�ضل تلك‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الكوابي�س‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫كنت �أعلم �أن اجلميع يف الور�شة يح�سدونني على وجود �آدم معي‪،‬‬
‫علي‪ ،‬قبل عام حاول �أحد الزبائن التحر�ش‬ ‫وحبه الكثري يل وخوفه ّ‬

‫زيع‬
‫ً‬
‫حماول‬ ‫بج�سدي‪ ،‬وحني وبخته �صفعني على وجهي‪ ،‬و�أم�سك بثيابي‬
‫متزيقها ت�أدي ًبا يل حلظة عودة �آدم �إىل الور�شة‪ ،‬مل ي�س�أل �آدم عما‬
‫حدث‪ ،‬لكنه �أم�سك بذلك الرجل يف هدوء‪ ،‬قبل �أن ي�ضرب ر�أ�سه يف‬
‫حبل قري ًبا منه‪ ،‬وك ّبل قدمي الرجل‬‫�أحد جدران الور�شة‪ ،‬ثم اقتلع ً‬
‫ببع�ضهما البع�ض �أمام الواقفني‪ ،‬و�سحبه �إىل اخلارج وهو يحاول‬
‫التمل�ص منه‪ ،‬ثم فوجئنا به يعقل ذلك احلبل ب�سرج ح�صان الرجل‬
‫وي�ضرب م�ؤخرة احل�صان‪ ،‬لريك�ض احل�صان جتاه اجلبال جا ًرا‬
‫�صاحبه الذي ظل ي�صرخ مع ان�سالخ ظهره بالأر�ض ال�صلبة‪� ،‬إىل �أن‬
‫فتاي �إىل عمله وك�أن �شي ًئا مل يحدث‪،‬‬
‫اختفى عن �أنظارنا‪ ،‬بعدها عاد ّ‬
‫من يومها مل يجر�ؤ �أحد على النظر �إ ّ‬
‫يل حتى بنظرة ال �أحبها ‪..‬‬
‫‪131‬‬
‫مل يعد يل يف هذا العامل �إال هذا الفتى ‪ ..‬وكذلك مل يكن له �إال‬
‫وبقيت �أنا مبفردي‪،‬‬
‫�أنا و�صديقه زهري‪ ،‬واليوم قد �أعلن زهري رحيله‪ُ ،‬‬
‫ت�ساءلت �إليه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫لأخفف عنه همومه مهما كرثت‪،‬‬
‫ ماذا ب�ش�أن الكابو�س؟‬
‫مل يكن حدثني عن زيارته له يف منامه قبل �أربعة �أ�شهر على الأقل‪،‬‬
‫قال ب�شرود‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫  هذا ال�شخ�ص الذي يقتلني يف منامي ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قلت‪:‬‬

‫ك‬
‫  ماذا به؟‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫قال‪:‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫  لطاملا و�ضع على �سرتته قطع ًة ف�ضية �صغرية ُم�شكلة على هيئة‬
‫�سالح ناري‪ ،‬مل �أرها يف حياتي من قبل ‪..‬‬

‫زيع‬
‫نظرت نحوه با�ستغراب‪ ،‬مل �أتذكر �أنه �أخربين عن ذلك الأمر من‬
‫قبل‪ ،‬فتابع‪:‬‬
‫أيت هذه القطعة اليوم ‪..‬‬
‫ ر� ُ‬
‫قطبت جبيني يف ت�شكك‪ ،‬وبد�أ قلبي يدق خو ًفا من اللهجة ال�صادقة‬‫ُ‬
‫متاما ‪ ..‬ف�أ�ضاف ب�صوت حائر‪:‬‬
‫التي حتدث بها‪ ،‬والتي �أعرفها ً‬
‫ عم زهري‪ ،‬الفار�س كيوان‪ ،‬كبري �ضباط چارتني ‪ ..‬كانت تلك‬
‫القطعة تز ّين قمي�صه‪ ،‬ر�أيتها اليوم عندما قابلته يف بيت‬
‫زهري‪ ،‬وعندما تع ّلق ب�صري بها رغ ًما عني ‪ ..‬قال �إنها �شعار‬
‫رامي املن�صة ‪..‬‬
‫‪132‬‬
‫و�أردف وهو يطرق ب�إ�صبعه طرقات مت�سارعة متوترة على الطاولة‪:‬‬
‫ مل �أ َر قط وجه من يقتلني يف �أحالمي ‪ ..‬لكن مبجرد ر�ؤيتي‬
‫لتلك القطعة اليوم‪ ،‬تذكرتُ �أن ثياب قاتلي كانت ت�شبه � ً‬
‫أي�ضا‬
‫ثياب ذلك الرجل يف هيئتها ولونها ‪..‬‬
‫ثم قال ب�صوت هادئ وهو يرفع عينيه يف عيني‪:‬‬

‫دا‬
‫ ذلك الرجل من يقتلني يف �أحالمي ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قبل �أن ي�ضيف بعدها بلحظة واحدة‪:‬‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ هذا الرجل �سيقتلني ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫قلت مطمئنة له‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ �إنها �أحالم فح�سب‪ ،‬رمبا ر�أيت ذلك ال�شعار يف مكان �آخر‪� ،‬أو‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫حكى لك زهري عنه من قبل‪ ،‬وارتبط يف ذهنك بحكاياته عن‬
‫عمه الذي ا�شتهر بكرثة من يقتلهم‪.‬‬

‫زيع‬ ‫قال م�ص ًرا‪:‬‬


‫  اليوم املرة الأوىل التي �أرى فيها ذلك ال�شعار‪� ،‬أوقن بذلك ‪..‬‬
‫قلت با�سمة‪:‬‬
‫  ال تدع هذا الأمر ينل من تفكريك ‪� ..‬إنها �سنوات البلوغ‪ ،‬دائ ًما‬
‫ما تت�سم بخياالتنا الوا�سعة‪� ،‬سريحل هو وعائلته غدً ا �إىل‬
‫جويدا‪ ،‬ونحن ال نحتاج جويدا يف �شيء ‪ ..‬هم يف حالهم ونحن‬
‫يف حالنا‪ ،‬و�إن ر�أيت زهري يف زياراته املو�سمية �إىل بريحا ال‬
‫حتدثه عن هذا الأمر حتى‪� ،‬ستجد مع الوقت �أنها جمرد‬
‫خياالت �ستختفي مع الزمن‪.‬‬
‫‪133‬‬
‫و�أ�ضفت مازحة‪:‬‬
‫ �أو رمبا تكت�شف يف الكابو�س القادم �أنك خمطئ و�أن قاتلك‬
‫ي�ضع على �سرتته �شي ًئا �آخر ‪ ..‬ال �أعلم ملاذا يقتل النا�س بع�ضهم‬
‫عاما وينال منا وادي حوران‪� ،‬أم ن�سيت �أنك‬ ‫وكلها خم�سون ً‬
‫حتمل �أوراق انتمائك للأ�شراف ‪ ..‬ال تفكر ب�أنني �س�أدعك تفعل‬

‫دا‬
‫كما فعل �أبي ‪� ..‬س�أر�سل لك من تنال روحي لتحطم ر�أ�سك �إن‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫فكرت يف الرحيل من چارتني ‪ ..‬لن متوت �إال يف وادي حوران‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ومن يف ّكر يف �إيذائك �س�أطحن ر�أ�سه �أ�سفل مطرقتي ‪..‬‬
‫ابت�سم وهو يربت علىاليدي‪،‬‬
‫كتبد �أن الربد قد �أ�صابك بجوع عظيم‬
‫فنه�ضت متحم�سة‪:‬‬
‫ُ‬

‫ل‬
‫تنتظرن التهامك لها منذ غروب‬ ‫ب‬
‫‪ ..‬هناك دجاجة ب�أكملها ل‬
‫ �س�أح�ضر لك الطعام ‪ ..‬ال‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫وا تول‬ ‫ال�شم�س‪.‬‬

‫زيع‬ ‫‪b‬‬
‫يف الأيام التالية مل يحدث �أي جديد‪ ،‬غادر زهري وعائلته �إىل‬
‫جويدا‪ ،‬واقت�صر يوم �آدم على الور�شة والعودة �إىل البيت ُقبيل غروب‬
‫ال�شم�س لنجل�س ونت�سامر حتى ينال النعا�س منا‪ ،‬يف الأيام التي كان‬
‫ينتهي بها من عمله مبك ًرا كان يركب فر�سه ويرك�ض به �إىل منطقة‬
‫اجلبال وال يعود �إال مع حلول الليل ‪ ..‬بدا �أن ذلك الكابو�س مل يزره‬
‫خالل تلك الأيام و�إال كان حدثني عنه يف جل�سات ت�سامرنا‪ .‬بعد �شهر‬
‫تقري ًبا من مغادرة زهري �س�ألني �آدم �أن �أكتب ر�سالة �إىل جويدا‪ ،‬بعدما‬
‫م�شابه‬
‫ٍ‬ ‫�أخربه ال�سيد �شقري معلم املدر�سة ب�أنه مل يعرث على �شيء‬
‫‪134‬‬
‫لر�سمة �صديقه يف كتبه‪ ،‬مل حتت ِو ر�سالتي �إىل �صديقه �إال على جملة‬
‫واحدة؛ «مل يجد ال�سيد �شقري �شي ًئا عما �س�ألته ب�ش�أنه»‪.‬‬
‫مل يردين �أن �أكتب �شي ًئا �آخر‪ ،‬فوافقته‪ ،‬ثم �س�ألته �إن كان �سري�سل‬
‫معها الورقة امللفوفة التي عاد بها يوم املطر ال�سابق وظ ّلت بلفتها‬
‫قابعة على طاولته بغرفته‪ ،‬قال‪:‬‬

‫دا‬
‫ ال ‪ ..‬ال يريد زهري �أن يعرف عمه �أو �أبوه بها‪ ،‬قد ير�سم مثلها‬
‫ر‬
‫هناك ‪ ..‬رمبا ي�ساعده معلمو جويدا بذلك ال�ش�أن‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا قبل �أن �أطوي الر�سالة و�أ�ضعها جان ًبا من‬
‫ال‬
‫�أجل ت�سليمها لأحد امل�سافرين �إىل جويدا ‪� ..‬ضحك وهو مي�سك الورقة‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫امللفوفة‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ ي�شغل زهري باله كث ًريا بتاريخ چارتني وتاريخ الن�ساىل‪،‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ؤرخا كب ًريا‪� ،‬س�أتباهى به بني من �أعرفهم‬ ‫يوما ما م� ً‬
‫�سي�صبح ً‬
‫‪ ..‬و�إن كان يف حاجة �إىل تطوير موهبة الر�سم لديه‪� ،‬أو التخلي‬

‫زيع‬
‫عنها �أف�ضل‪..‬‬
‫ثم فتح ورقة �صاحبه للمرة الأوىل �أمامي منذ جاء بها‪ ،‬كانت‬
‫ر�سم ٌة بدائية مر�سوم ًة بها‪ ،‬فقال وهو ي�شري ب�إ�صبعه �إىل رجل مر�سوم‬
‫مبنت�صفها‪:‬‬
‫ يقول �أن هذا ن�سلي بينما يخاف مم�سكوه منه ‪..‬‬
‫فقلت و�أنا �أنه�ض لأ�ضع الر�سالة يف جيب ثيابي كي ال �أن�ساها‪:‬‬
‫ وملاذا يخافه كل ه�ؤالء الرجال؟‬
‫قال‪:‬‬
‫‪135‬‬
‫  مل ي�ستطع تو�ضيح ذلك بر�سمته ‪ ..‬قال ب�أن الر�سمة الأ�صلية‬
‫كان بها ال�شاب الن�سلي مفتول الع�ضالت بارز العروق‪ ،‬يفتح‬
‫فمه بقوة ك�أنه يز�أر ‪..‬‬
‫هنا توقفت قدمي بعدما ابتعدت خلطوات‪،‬كان �آدم يكمل‪:‬‬
‫ مي�سك ه�ؤالء الرجال ب�سال�سل حديدية �أحاطت برقبته‬
‫ومع�صميه و�ساقيه‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫عدت بتوج�س ونظرت �إىل الر�سمة و�شيء وحيد يدور يف ر�أ�سي ‪..‬‬
‫ص‬
‫�صوت الزئري الذي �سمعتُه يخرج من غرفة �آدم يوم املطر العظيم‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫قبل �ست �سنوات‪ ،‬وهيئته التي ال زلت �أتذكرها ك�أين ر�أيتها البارحة ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ع�ضالته البارزة وعروقه املنتفخة رغم �أنه مل يكمل العا�شرة وقتها ‪..‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ونظرت �إىل �آدم بخوف وهو يقول‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ ينده�ش زهري من �أن ن�سل ًيا واحد قد يخيف �ستة رجال من‬

‫ر وا تول‬
‫الأ�شراف ‪..‬‬

‫زيع‬
‫يل ً‬
‫مكمل حديثه‪:‬‬ ‫ونظر �إ ّ‬
‫ ال بد �أنه �سي�شعر بالأ�سف حني ت�صله ر�سالتنا ب�أن معلمه مل‬
‫يعرث على �شيء ي�شبهها ‪..‬‬
‫ثم توقف عن الكالم وظهر التعجب على وجهه حني الحظ تب ّدل‬
‫مالحمي‪ ،‬و�س�ألني �إن كان هناك �شيء ما‪� ،‬أو �إن كنت �أعرف �شي ًئا عن‬
‫تلك الر�سمة‪ ،‬هززتُ ر�أ�سي نافي ًة يف ا�ضطراب‪ ،‬قبل �أن �أخربه ب�أن‬
‫عيني يغلبها النعا�س فح�سب‪ ،‬و�أن علي الذهاب �إىل �سريري‪ ،‬ثم تركتُه‬
‫واجتهت �إىل غرفتي مهرول ًة دون قول املزيد من الكلمات‪.‬‬ ‫ُ‬
‫‪b‬‬
‫‪136‬‬
‫جل�ست على �سريري والأفكار تتالطم يف ر�أ�سي ‪ ..‬كانت �ساقاي‬ ‫ُ‬
‫تهتزان من التوتر الذي ظفر بي فيما كانت �أذين ت�سمع �صوت الزئري‬
‫املتداخل مع �أ�صوات املطر املنهمر بكل مكان حويل ‪ ..‬ثم تداعى‬
‫�إىل ذهني فج�أ ًة يوم املطر العظيم‪ ،‬ذلك اليوم الذي ارتبط بزيارة‬
‫الن�سلية �إىل بريحا لوال ا�شتداد املطر الذي �أف�سد �إكمال �أحداثه ‪..‬‬
‫حلظتها �شعرتُ ب�أن ر�أ�سي بد�أت تع�صف ب�أفكار مل ت�أتني قط من قبل‬

‫دا‬
‫وحدثت نف�سي ب�صوت خفي�ض وقلبي يدق بقوة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ هل هذا حقيقي؟!! ‪ ..‬هل كذبت الفتاة الن�سلية يف بيت الرذيلة‬

‫ري‬‫ص‬
‫حينذاك وثب �إىل ذهني الحديثه عن كيوان يف كوابي�سه‪ ،‬ومعه بد�أت‬
‫ب�ش�أن انتماء �آدم �إىل بلد غري چارتني؟!‬

‫ت‬ ‫اخليوط املت�شابكة تنف�صل عنك‬


‫ل‬ ‫وحتركت �إىلب‬
‫بع�ضها لترتابط يف ر�أ�سي رغ ًما عني‬
‫بابلالغرفة لأنظر عرب �شقوقه‬
‫ن‬
‫�إىل �آدم الذي كان ال يزال يجل�س بالردهة ش‬
‫ُ‬ ‫فنه�ضت عن �سريري‬
‫ُ‬ ‫‪..‬‬
‫ر‬
‫كنت �أرى ر�سمة �صديقه وا�ضح ًة يف خميلتي و‪..‬ال�تآدم وهو يز�أر‬
‫ينظر �إىل ر�سمة �صديقه‪.‬‬

‫مقيدً ا بال�سال�سل احلديدية بينما مي�سك به جنود چارتنيوزي‬


‫ليج ّرعوه �إىل‬
‫املن�صة‪ ،‬ثم ولج �إىل ر�أ�سي فج�أ ًة �شعار رامي املن�صة ‪ ..‬وا�ستدعت‬
‫عاما للن�سلي الذي �أراد‬
‫ذاكرتي ما حدث يف جويدا قبل �ستة ع�شر ً‬
‫الزواج من �ضابطة املن�صة‪ ،‬وكان م�سار �أحاديث چارتني كلها يف ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬حينها ت�صاعدت �أنفا�سي وات�سعت حدقتا عيني و�شعرتُ �أن‬
‫قلبي ي�ضخ دماءه ب�أق�صى طاقته و�أنا �أهم�س‪:‬‬
‫ كان ذلك مقار ًبا لعمر �آدم ‪ ..‬مل �أكن بالباحة يومها‪ ،‬لكني‬
‫عرفت ما حدث ‪..‬‬
‫ُ‬

‫‪137‬‬
‫أكملت هام�س ًة �إىل نف�سي ب� ٍ‬
‫أنفا�س الهثة‪:‬‬ ‫و� ُ‬
‫  ُذبح ذلك الن�سلي ب�سكني على يد حبيبته رامية املن�صة ‪..‬‬
‫أغم�ضت عيني‬
‫ُ‬ ‫أغلقت بابي ب�إحكام‪ ،‬وا�ستدرت و�أ�سندته بظهري‪ ،‬و�‬
‫� ُ‬
‫عندما تعالت �أنفا�سي �أكرث و�أكرث ‪ ..‬وتعالت من حويل �أ�صوات الزئري‬
‫طرقات ال �أعرف م�صدرها‪ ،‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫املتداخلة مع �أ�صوات املطر مع �أ�صوات‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫فتحت عيني من جديد‪ ،‬بد�أت �أرى كابو�س �آدم �أمامي ‪ ..‬يجري عاري‬ ‫ُ‬
‫ع‬
‫اجل�سد‪ ،‬تدق قدماه رمال الأر�ض بقوة‪ ،‬يبلل العرق ج�سده بالكامل‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫التماعا وجعل ع�ضالته وعروقه �أكرث ظهو ًرا‪ ،‬بينما يقف‬
‫جانبي طريقه �صارخني با�سمه‪� ،‬إىل �أن ي�سقط ً‬
‫ً‬ ‫فجعله �أكرث‬

‫ك‬
‫قتيل يف‬ ‫ّ‬ ‫الن�ساىل على‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫نهاية الأمر ‪ ..‬مل ُيقتل عند جدار چارتني‪ ،‬بل ُقتل على املن�صة حيث‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫القواعد التي ُنق�شت على جدار بلدنا‪ ،‬ومل يكن قاتله كيوان‪ ،‬كانت‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫قاتلته تلك ال�ضابطة‪ ،‬رامية املن�صة ‪..‬‬
‫أغم�ضت عيني من جديد ‪ ..‬كانت �أنفا�سي قد ت‬
‫بلغت �وأق�صاها‪ ،‬وكان‬
‫زيأناع�أعود �إىل‬
‫ُ‬ ‫�‬
‫اخلوف يجتاح كل ذرة بداخلي ‪� ..‬شعرتُ �أنني �س�أ�سقط و�‬
‫جل�ست على حافته م�سند ًة �ساقي املرتع�شتني �إىل الأر�ض‪،‬‬
‫ُ‬ ‫�سريري‪ ،‬ثم‬
‫أم�سكت بر�أ�سي بقوة لعله يتوقف عن التفكري‪ ،‬لكني ك ّلما هد�أت ً‬
‫قليل‬ ‫و� ُ‬
‫ع�صف ر�أ�سي بو�ساو�سه من جديد ‪ ..‬انتظرتُ طلوع الفجر بفارغ‬
‫وانطلقت جنو ًبا‬
‫ُ‬ ‫ركبت ح�صاين‬
‫ال�صرب‪ ،‬وقبل �شروق ال�شم�س كنت قد ُ‬
‫�إىل « ِقباال» ‪..‬‬

‫‪b‬‬
‫‪138‬‬
‫كان متحف الأمن يف « ِقباال» يقع على مقربة من املدر�سة العليا‬
‫ل�ضباط الأمن ‪ ..‬بنا ٌء كبري يحتوي من الأزياء واملعدات والأ�سلحة‬
‫القدمية ما يجعل زائري چارتني ي�أتون �إليه من كل مدنها‪ ،‬كذلك‬
‫ا�شتمل �أحد �أجنحته العلوية على كتب كربى كان يحق للزائرين‬
‫ت�صفحها ليقر�أوا بع�ض الكلمات املُد ّونة عن رجال الأمن العظماء‬
‫ممن �شغلوا املنا�صب الكربى يف چارتني ‪ ..‬كنت قد زرته من قبل‬

‫دا‬
‫و�أنا يف عمر العا�شرة مع �أمي و�أختي‪ ،‬يف زيارة كانت الأوىل يل خارج‬
‫ر‬‫ُطبرية‪.‬‬
‫�أمام �سو ٍر ع‬
‫ص‬
‫عنه‪ ،‬قبل �أن �أعقله ب�أحدري‬
‫ل‬ ‫ا‬
‫وهبطت‬
‫ُ‬ ‫أوقفت ح�صاين‬
‫تتو�سطه بوابة حديدية � ُ‬ ‫حجري‬
‫القوائم احلديدية املُخ�ص�صة لربط اجلياد‪،‬‬

‫وظيفتهتاحلفاظ على اجلياد من ال�سرقة‬ ‫تلك القوائم‪ ،‬كنت �أعرف �أن ك‬


‫ثم �أخرجت قطعة معدنية و�أعطيتها ل�صبي كان يقف على مقربة من‬

‫عربلنبوابة املتحف الرئي�سية‪,‬‬ ‫دلفتب ل‬


‫ر‬ ‫ش‬ ‫حتى عودة �أ�صحابها ‪ ..‬بعدها ُ‬
‫و‬
‫يكن هناك زحام كبري �إال من قليلني ح�ضروا باك ًرا الت‬
‫كان الوقت مبك ًرا فلم‬
‫مثلي‪،‬وكان �أغلبهم‬
‫وعربت املمر املغطى �إىل بوابة البناء نف�سه ‪..‬‬

‫القدمية‬‫ع‬ ‫مراهقني يف �سن املدر�سة املتو�سطة ‪ ..‬الت ّفوا حول الأ�سلحةزي‬


‫املعرو�ضة داخل �صناديق زجاجية بالقاعة ال�سفلية‪ ،‬بينما كان �أحد‬
‫الأ�شخا�ص يقوم ب�شرح لهم تاريخ تلك الأ�سلحة‪.‬‬
‫كنت �أعرف طريقي ‪� ..‬صعدتُ ال�سلم �إىل الطابق العلوي‪ ,‬كان ثمة‬
‫جناح ُكتب على الفتة بابه «قاعة ال�شرف»‪ ،‬عربتُ ذلك الباب‪ ،‬كان‬
‫ً‬
‫من�شغل ببع�ض الأوراق‬ ‫هناك �شخ�ص وحيد ُيوجد بالداخل يجل�س‬
‫وتقدمت ب�ضعة خطوات �إىل الداخل ‪ ..‬مل‬
‫ُ‬ ‫ألقيت حتيتي‬
‫�أمامه ‪ ..‬ف� ُ‬
‫تختلف القاعة كث ًريا ع ّما تع ّلق بذهني من زيارتي القدمية للمتحف‬
‫الكتب منت�صب ًة ومتوازي ًة‬
‫ري من الأرفف التي حتمل َ‬ ‫‪ ..‬كان هناك كث ٌ‬
‫‪139‬‬
‫ك�أنها بنيان مر�صو�ص‪ ،‬عربتُ مم ًرا بني زوج من تلك الأرفف �إىل‬
‫ات�ساعا بعدما مل يتواجد على‬
‫ً‬ ‫اجلهة الأخرى للقاعة‪ ،‬كانت �أكرث‬
‫خم�س طاوالت معدنية �صغرية حتمل كل واحدة منها‬ ‫�أطرافها �إال ُ‬
‫اقرتبت‬
‫ُ‬ ‫متاما ‪..‬‬
‫كتا ًبا كب ًريا �سميك الأوراق ينا�سب حجمه �سطحها ً‬
‫وحركت عيني بينهم بلمحة خاطفة‪� ،‬إىل �أن تع ّلق‬
‫ُ‬ ‫من تلك الطاوالت‪،‬‬
‫ب�صري به ‪ ..‬ذلك ال�سالح الناري الف�ضي‪� ،‬شعار رامي املن�صة ‪ ..‬كان‬

‫دا‬
‫ُمعل ًقا على احلائط فوق �أحد الكتب‪ ،‬ومن �أ�سفله ُكتب بالف�ضة‪« :‬رامي‬
‫ر‬
‫م�سموحاع‬
‫املن�صة» ‪..‬‬

‫مفتوحا من منت�صفه ‪ ..‬مددتُ يدي وقلبي يدق‬


‫ص‬
‫الطاولة‪ ،‬كان الكتاب ري ال ً‬
‫للزائرين بت�صفح كلمات الكتاب ما مل يحملونه عن‬ ‫ً‬ ‫كان‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وعدتُ �إىل ال�صفحات الأوىل‪ ،‬قر�أتُ بعيني ال�سطور التى ُكتبت يف‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫ا�ستخدمها رماة املن�صة منذ ُا�ستحدث لن‬
‫عن املن�صب ذاته‪ ،‬وعن الأ�سلحة التي‬ ‫ال�صفحة الأوىل‪ ،‬كانت تتحدث‬

‫رأ�سماء من �شغلوا ذلك‬


‫ذلك املن�صب مع عهد ما بعد‬
‫ش‬
‫و‬ ‫و‬
‫بخط كبري �أو�سط قمة كل �صفحة ‪ ..‬و� ال‬
‫أ�سفلهات‬
‫اجلدار ‪ ..‬ق ّلبت ال�صفحات �سري ًعا‪ ،‬بد�أ ظهور �‬

‫�صاحب اال�سم‪ ،‬وعدد املعدومني الذين �أعدمهم‪ ،‬زي‬


‫املدة التي �شغلها‬ ‫املن�صب ٍ‬
‫ع‬
‫واملن�صب الذي‬
‫تق ّلده بعد ذلك ‪ ..‬ويف ال�صفحة املُقابلة ُر�سمت بالفحم �صورة لوجهه‬
‫ون�صفه العلوي ‪ ..‬كانت جميع �سرتهم حتمل �شعار الرامي ‪ ..‬ق ّلبت‬
‫جميع ال�صفحات املكتوبة دفعة واحدة �إىل �آخر الكتاب‪ ..‬كان �آخر‬
‫ال�صفحات املكتوبة عن الرامي احلايل‪ ،‬ومل ُيكتب بها �إال ا�سمه ووقت‬
‫ا�ستالمه تلك الوظيفة ‪ ..‬بينما ُر�سمت �صورته يف ال�صفحة املُقابلة‪،‬‬
‫رام �آخر قد �شغل املن�صب قبل ثالث �سنوات‪,‬‬ ‫ق ّلبت للأمام ‪ ..‬كان ٍ‬
‫رام �آخر ت�س ّلم مهامه قبل �ستة‬
‫ق ّلبت �أربعة �صفحات �أخرى للأمام ‪ٍ ..‬‬
‫دق قلبي بقوة و�أنا �أق ّلب �صفحة واحدة �أخرى للأمام‬
‫عاما ‪ّ ..‬‬
‫ع�شر ً‬
‫‪140‬‬
‫برام �آخر غري الذي كنت �أنتظره‬‫و�أعلم ما �س�أجده‪ ،‬لكنني فوجئت ٍ‬
‫‪ ..‬كدت �أق ّلب للأمام �صفحة جديدة‪ ,‬لكني توقفت عندما الحظت �أن‬
‫عاما ‪ ..‬ق ّلبت ب�ضعة‬
‫ذلك الرامي قد ترك من�صبه قبل واحد وع�شرين ً‬
‫أوقات‬
‫�صفحات �أخرى‪ ،‬كان جميع من بها قد �شغلوا ذلك املن�صب ب� ٍ‬
‫وفح�صت ما‬
‫ُ‬ ‫ي�سبقونه ‪ ..‬عدت �إىل ذلك الرامي والرامي الذي يليه ‪..‬‬
‫وحدثت نف�سي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫كتب عنهما �أكرث من مرة‪،‬‬

‫ر‬
‫ ترك الأول من�صب الرامي عام ‪ 1613‬بعد اجلدار ‪..‬‬
‫دا‬
‫عإىل �صفحة الآخر‪:‬‬
‫ص‬
‫ري العام ‪ 1618‬بعد اجلدار ‪..‬‬
‫وقلت و�أنا �أنظر �‬
‫ُ‬

‫كت�شغلتها تلك ال�ضابطة من الكتاب‪،‬‬


‫ وت�س ّلم هذا من�صبه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أزالوا كل �شيء يخ�صها ‪ ..‬ل‬
‫�أزالوا ال�سنوات اخلم�س التي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫ت�صفحت الكتاب على عجل ٍة يف مرة �أخرية لعلهاو ُذالكرت يف مو�ضع‬
‫زيأة واحدة‬
‫ت‬
‫رجال ال توجد بينهموامر�‬
‫ُ‬
‫إحباط �إىل �أعلى حيث ال�سالح الناري ع‬
‫�آخر‪ ،‬غري �أنني مل �أجدهم جمي ًعا �إال ً‬
‫الف�ضي ‪..‬‬ ‫‪ ..‬فنظرتُ بعيني يف � ٍ‬
‫ثم نظرتُ �إىل ال�شعارات الأخرى عن ميينه وي�ساره والتي يقع ب�أ�سفل‬
‫التففت وعدتُ‬
‫ُ‬ ‫من�صب �آخر ‪ ..‬ثم‬
‫ٍ‬ ‫كتاب يتحدث عن‬‫كل واحد منها ٌ‬
‫�أدراجي خائبة الرجاء لأعرب املمر بني الرفوف الذي عربته قبل‬
‫دقائق‪ ،‬وكدت �أغادر‪ ،‬لكني متهلت حني ف ّكر ر�أ�سي فيما يحتويه كل‬
‫ذلك الكم من الكتب‪ ،‬وقبل �أن �أعرب الباب �س�ألت الرجل الذي كان‬
‫يجل�س ب�أقرب الطاوالت �إليه‪ ،‬والذي بدت تلك القاعة م�سئوليته‪:‬‬

‫‪141‬‬
‫ �أي الكتب حتتوي �أ�سماء خريجي مدر�سة ال�ضباط العليا؟‬
‫مل �أكن �أعرف �إن كان ما �س�ألت عنه موجودًا بالفعل �أم ال ‪ ..‬لكني‬
‫وجدته ي�شري بغري اكرتاث ناحية �أحد الرفوف‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫ هناك جميعها ‪..‬‬

‫دا‬
‫نظرتُ بعيني نحو اجلهة التي �أ�شار نحوها‪ ،‬وترددتُ قبل �أن �أ�س�أله‬

‫ر‬
‫مرة �أخرى‪ ،‬لكني مل �أجد مف ًرا من �س�ؤاله‪ ،‬فقلت‪:‬‬

‫ص‬ ‫ ما ا�سم ع‬


‫املن�صة؟ ري ال‬
‫ال�ضابطة التي ُعزلت قبل �أعوام من من�صب رامي‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫بل‬
‫ينطق ليجيبني لوال �أن �أحد الزائرين‬ ‫رمقني بنظرة غريبة‪ ،‬وكاد‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ال�شبان �سبقه و�أجابني‪:‬‬

‫وا تول‬ ‫ر‬ ‫ كانت ُت�سمى غفران‪.‬‬


‫زي�أ�شار �إليه‬
‫اجلال�س‪.‬إليه و�شكرته‪ ،‬قبل �أن �أجته �إىل الرف الذي ع‬
‫ابت�سمت �‬
‫الرجل‬
‫‪b‬‬
‫�أح�ضرت كافة الكتب املر�صو�صة على ذلك الرف �إىل الطاولة‬
‫القريبة و�سط ده�شة ذلك الرجل‪ ،‬لكنه تركني بعدما قلت له �أنني‬
‫�س�أعيدها جميعها برتتيبها‪ ،‬كان كل كتاب ُمغل ًفا بغالف ُكتب عليه‬
‫عام التخرج‪ ،‬ويحتوي ب�صفحاته الأوىل قائمة بكل خريجي ذلك‬
‫العام ‪ ..‬ثم حتتوي كل �صفحة من �صفحاته التالية على بيانات �أولئك‬
‫‪142‬‬
‫اخلريجني‪ ،‬وكذلك �صور مر�سومة لهم بالفحم مثل التي ُر�سمت‬
‫بكتاب الرماة‪� ،‬إال �أنها كانت �أ�صغر حج ًما وال حتتوي �سرتهم على �أي‬
‫ُرتب �أو �شعارات ‪..‬‬
‫ح�سبت يف ر�أ�سي �أن تلك ال�ضابطة قد تركت من�صب الرامي قبل‬ ‫ُ‬
‫فبحثت عن كتاب‬ ‫ُ‬ ‫عاما‪ ،‬وتو ّلته قبلها بخم�سة �أعوام ‪..‬‬
‫�ستة ع�شر ً‬
‫عاما‪� ،‬إىل �أن عرثتُ عليه‪ .‬ب�سرعة‬ ‫اخلريجني قبل واحد وع�شرين ً‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫الربق ت�صفحت عيني قائمة الأ�سماء يف ال�صفحات الأوىل ‪ ..‬كان‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫داخلي يخ�شى �أن يكون ا�سمها قد ُمي من ذلك الكتاب � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫ً‬
‫وهبوطا‪� ،‬إىل �أن توقفت و�أنا �أقر�أ‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وحركت �إ�صبعي بني الأ�سماء �صعودًا‬
‫ُ‬

‫ك‬
‫ا�سمها‪:‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ غفران ابنة خ ّيال بن ُق�سيم‪ ،‬رقمها ثمانية و�أربعون ‪..‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫قلبت ال�صفحات على نح ٍو �سريع‪� ،‬إىل �أن وجدتُ �صورتها املر�سومة‬
‫ُ‬
‫فقلت وقلبي يدق بقوة‪:‬‬‫بالفحم �أمامي‪ُ ،‬‬

‫زيع‬
‫ نعم هي ‪� ..‬أتذكر تلك الفتاة جيدً ا ‪ ..‬غفران ابنة جويدا ‪..‬‬
‫رامية املن�صة ‪ ..‬لطاملا اعتلت املن�صة بثيابها الع�سكرية يف‬
‫�أيام الغفران القليلة التي ح�ضر ُتها بالباحة قبل انتقايل للعي�ش‬
‫�سمعت الفتيات من حويل يح�سد ّنها على‬
‫ُ‬ ‫يف جويدا ‪ ..‬ولطاملا‬
‫ذلك‪..‬‬
‫ا�ضطرب داخلي و�أنا اقر�أ ال�سطور التي ُكتبت عنها ‪ ..‬حمل‬
‫ميالدها؛ جويدا‪ ،‬مقر عملها القادم؛ باحة جويدا‪ ،‬من�صبها القادم؛‬
‫أمر مبا�شر من كبري مدر�سة ال�ضباط ‪ ..‬وقلت لنف�سي‪:‬‬ ‫رامي املن�صة ب� ٍ‬
‫‪143‬‬
‫  يبدو �أن َمن �أزالها من قائمة ال�شرف بكتاب الرماة قد فاته‬
‫وجودها بهذا الكتاب ‪..‬‬
‫نظرتُ كث ًريا �إىل ال�صورة‪ ،‬وتداعى �إىل ذهني ما كنت �أف ّكر فيه‬
‫ً‬
‫من�شغل ب�أحد‬ ‫ليلتي ال�سابقة ‪ ..‬قبل �أن �ألتفت �إىل العامل اجلال�س‬
‫قطعت الورقة املر�سوم به �صورتها‪ ،‬ود�س�ستها‬
‫ُ‬ ‫وبحر�ص �شديد‬
‫ٍ‬ ‫دفاتره‪،‬‬
‫�أ�سفل كم �سرتتي الطويل‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫‪b‬‬
‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪144‬‬
‫(‪)13‬‬
‫فاضـ ـ ـ ـ ــل‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫نطقنا جمي ًعا يف � ٍآن واحد بنربة غري م�صدقة حني قال العجوز �أنه‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يعرف كيف ي�ستطيع الن�ساىل �إنهاء قواعد چارتني للأبد‪:‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ كيف؟!‬

‫زيع‬
‫قال‪:‬‬
‫  �ست�أتون معي �إىل اجلنوب ‪� ..‬س�أريكم ما ال يعرف به �أحد‬
‫�سواي‪.‬‬
‫�س�ألته غفران‪:‬‬
‫  �إىل �أين؟‬
‫�أ�شار ب�إ�صبعه �إىل قمة جبل بي�ضاء باهتة ُر�سمت مبخطوطته بعيدً ا‬
‫وراء الن�سلي املُكبل والأ�شراف‪ ،‬مل نكن قد انتبهنا �إليها بعدما جذبت‬
‫�صورة الن�سلي كل انتباهنا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪145‬‬
‫ظللت �أكرث من ع�شر �سنوات‬ ‫اخرتقت القاعدة الأوىل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ بعدما‬
‫م�شردًا بالوديان اجلنوبية باح ًثا عن �أي ن�سلي زائر‪� ،‬إال �أنني مل‬
‫�سمعت فيها الزئري‬
‫ُ‬ ‫�أ�سمع �صوت زئري واحد حتى بالوديان التي‬
‫من قبل ‪.‬‬
‫ يف خالل تلك ال�سنوات فكرتُ كث ًريا يف العودة �إىل جويدا كي‬
‫كعا�ص ُيحاكم على ذنبه‪ ،‬لكن ثمة‬ ‫�أق ّدم نف�سي �إىل الباحة ٍ‬
‫قليل قبل اتخاذ‬ ‫�صوت كان ينادي بداخلي دائ ًما ب�أن �أنتظر ً‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫هذه اخلطوة ‪ ..‬لتمر الأعوام واحدا وراء الآخر‪ ،‬اعتدت فيها‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫حياة ال�صحاري‪ ،‬واعتدت كوين ن�سل ًيا �سيموت بعيدً ا عن الباحة‬
‫لتنتهي روحه �إىل الأبد دون �أن يح�صدها �أحد‪ ،‬وبد�أتُ �أن�سى ما‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫بقيت من �أجله مع مرور ال�سنوات وتقدم العمر بي ‪� ..‬إىل �أن‬ ‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫لعبت ال�صدفة �أو رمبا القدر دوره معي ‪..‬‬

‫ر‬ ‫ كان ذلك يف يوم �أمطرت به ال�سماء ُش‬


‫اجلنوبي قبيلوال وت‬
‫بغزارة غري معهودة وكنت‬
‫غروب ال�شم�س حني‬ ‫يف طريق عودتي �إىل الوادي‬
‫ز عي‬ ‫اعرت�ضني بع�ض ل�صو�ص الن�ساىل ‪..‬‬
‫و�أم�سك مبخطوطته وهو يقول‪:‬‬
‫�ضحيت من �أجله بكل‬
‫ُ‬ ‫ كان كل ما ي�شغل بايل �أن ي�سرقوا ما‬
‫ورك�ضت به عرب درب �صخري على‬‫ُ‬ ‫�شيء‪ ،‬فا�ستدرتُ بح�صاين‬
‫دروب �أخرى وممرات جبلية مت�شعبة‬
‫جانب الطريق قادين �إىل ٍ‬
‫دون �أن �أعرف �إىل �أين �أجته‪ ،‬كان كل ما يهمني هو الإفالت‬
‫جنحت فيه بالفعل ‪� ..‬إال �أنني ا�ضطررت �إىل‬
‫ُ‬ ‫منهم وهذا ما‬
‫التوقف واملبيت يف �أحد تلك الدروب بعدما ح ّل ظالم الليل ‪..‬‬
‫لأفتح عيني مع �شروق اليوم التايل وتوقف املطر على هذه ‪..‬‬
‫‪146‬‬
‫ونظر بعينيه �إىل قمة اجلبل املر�سومة ‪ ..‬و�أكمل‪:‬‬
‫ كانت الوحيدة بني باقي قمم ما وراء اجلبال احلمراء التي‬
‫أخرجت املخطوطة حينها ونظرتُ �إىل القمة‬ ‫ُ‬ ‫يغطيها الثلوج‪� ،‬‬
‫متاما التي تظهر �أمامي عن بعد‬ ‫اجلبلية املر�سومة‪ ،‬كانت هي ً‬
‫أم�سكت بر�أ�سي غري م�صدق‬
‫بت�ضاري�سها والثلوج التي تغطيها ‪ُ � ..‬‬

‫دا‬
‫تقدمت ً‬
‫راك�ضا‬ ‫ُ‬ ‫عاما �إىل الوراء‪،‬‬
‫‪ ..‬وك�أن عمري قد عاد ثالثني ً‬

‫ر‬
‫�إىل هناك‪ ،‬كان الو�صول �إليها �شا ًقا للغاية خا�ص ًة �أن املطر قد‬
‫عاود هطوله من جديد وزاد وحل احل�صى الناعمة ً‬
‫وحل ‪..‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫وا�صلت طريقي نحوها‬‫ُ‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫فانزلقت قدمي �أكرث من مرة �إال �أنني‬

‫ك‬
‫‪ ..‬كنت م�ؤم ًنا جدً ا بر�سائل القدر وكنت �أعلم �أن ال�صدف ال‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫أ�سرعت اخلطى و�أنا على يقني ب�أنني‬ ‫ت�أتي �إال ملن ي�ستحقها‪ ،‬لذا �‬
‫ل‬
‫ُ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�س�أجد هناك ما �سري�شدين �إىل �إجابة �أ�س�ألتي العالقة يف ذهني‬

‫ر وا تول‬
‫طوال تلك ال�سنوات‪.‬‬

‫زيع‬
‫وابت�سم وهو يقول‪:‬‬
‫ كدت �أكره املطر ذلك اليوم ‪ ..‬لكن لواله ملا انتبهت �إىل ذلك‬
‫الكهف �أبدً ا ‪..‬‬
‫جبل يتو�سط اجلزء العلوي فيه‬ ‫ور�سم ب�إ�صبعه على الرمال �أمامنا ً‬
‫مرب ًعا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ جعل املطر احل�صى التي تغطي اجلبل تنجرف عن �صخوره‪،‬‬
‫لتت�شبع تلك ال�صخور باملاء وت�أخذ لو ًنا �أبي�ض داك ًنا‪.‬‬
‫و�أ�شار �إىل املربع الذي ر�سمه ب�أعلى ر�سمته‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫‪147‬‬
‫ �أما ال�صخور التي �أغلقت ذلك الكهف فظهرت رمادي ًة خال�صة‪.‬‬
‫ثم �أكمل‪:‬‬
‫ بد�أتُ ال�صعود جتاه الكهف عندما بد�أ هطول الأمطار يف‬
‫أنفا�س متقطعة ‪ ..‬كان احلما�س‬ ‫الرتاجع �إىل �أن و�صلت بابه ب� ٍ‬

‫دا‬
‫وقفت �أمامه �ألتقط �أنفا�سي بدقات‬ ‫بداخلي غري م�سبوق ‪ُ ..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قلب تنتف�ض بداخلي لت�صرخ يف؛ هيا ‪ ..‬تق ّدم‪ ،‬ثم بد�أتُ �أزيل‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال�صخور متو�سطة احلجم التي ترا�صت ب�إحكام لتغلق مدخله‪،‬‬
‫هاما ينتظرين وراءها ‪ ..‬وهذا ما حدث‬ ‫ال‬
‫و�أعرف �أن �ش�أ ًنا ً‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫بالفعل ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫كما �آمن داخلي دائ ًما‪ ،‬ال يقت�صر الأمر على هذه املخطوطة‪،‬‬

‫ر وا تول‬
‫بل هناك تاريخ كامل داخل ذلك الكهف‪ُ ،‬ر�سم و ُد ّون قبل قرون‬

‫زيع‬
‫على جدرانه و�سراديبه الداخلية املت�شعبة بباطن اجلبل‪ ،‬هناك‬
‫ت�أكدتُ �أن �أ�صحاب الأمانة احلقيقيني هم الن�ساىل �أنف�سهم‪،‬‬
‫و�أن تاريخ هذا البلد فيه من احلقائق الكثرية ما مت تزييفها ‪..‬‬
‫و�أنه قد �آن للن�ساىل �أن ي�سرتدوا حقهم الغائب لقرون الطويلة‪.‬‬
‫ثم �أ�صابته نوب ٌة من ال�سعال احلاد احتقن معها وجهه‪ ،‬ف�أخرج‬
‫كي�سا قما�ش ًيا �صغ ًريا‪ ،‬وفتح فوهته و�سكب منه م�سحو ًقا ع�شبيا على‬
‫ً‬
‫راحة يده وقام بارت�شافه‪ ،‬قبل �أن ميلأ �صدره بالهواء ويخرجه ببطء‬
‫مرات متتالية ‪ ..‬و�أكمل ب�صوت متعب‪:‬‬

‫‪148‬‬
‫ ن�ستطيع التحرك مع �أول �ضوء لل�شم�س لن�صل �إىل هناك مع‬
‫حكيت لكم لن ي�صل خيالكم‬ ‫ُ‬ ‫منت�صف النهار تقري ًبا ‪ ..‬مهما‬
‫لننل ً‬
‫ق�سطا من الراحة يف الوقت القليل املتبقي‬ ‫�إىل ما �سرتونه‪ْ ،‬‬
‫�إىل طلوع ال�شم�س‪.‬‬
‫وتابع وهو مي�سح الر�سمة التي ر�سمها على الرمال بجانبه قبل �أن‬
‫مي ّهد م�ساحة �أخرى من الأر�ض بيديه‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫  لقد �أ�صابني التعب ‪ ..‬مل �أحتدث بهذا القدر املتوا�صل منذ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�سنوات كثرية ‪..‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ونظر �إىل �سبيل وقال‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫ �ست�أتي معنا ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫تعجبت �سبيل‪ ،‬كذلك ظهرت مالمح التعجب على وجوهنا جمي ًعا‪،‬‬

‫ر وا تول‬
‫ً‬
‫مفرت�شا الأر�ض‬ ‫لكنه جتاهل تعجبنا ومال بجزعه لينام على جنبه‬
‫التي مهدها‪ ،‬و�أغم�ض عينيه وهو مي�سك القطعة اجللدية بني يديه‪،‬‬

‫زيع‬
‫بدل من نومه على‬ ‫هززتُ كتفه برفق كي �أوقظه لينام داخل كوخي ً‬
‫الرمال‪� ،‬أجابني بع ٍني �شبه مغلقة ب�أنه �سيوا�صل نومه يف مو�ضعه ‪..‬‬
‫�س�أله ريان‪:‬‬
‫  هل يتعلق الأمر بالأرواح الن�سلية الثائرة؟!‬
‫أنفا�س عالية‪ ،‬فنظرنا �إىل بع�ضنا‬
‫لكنه كان قد وا�صل نومه ب� ٍ‬
‫البع�ض بوجوه حائرة ‪ ..‬ال ندري هل ن�ص ّدق ذلك الرجل الذي هبط‬
‫فخا جديدً ا قد ُن�صب لنا من �أ�شراف‬‫�إلينا من حيث ال ندري �أم يكون ً‬
‫چارتني وداهيتهم الذي ُيدعى كيوان‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪149‬‬
‫نه�ضنا ودخلنا �إىل كوخ غفران بعيدً ا عن ذلك الرجل بعدما غاب‬
‫يف �سباته ك�أنه مل ينم من قبل‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫ �أخ�شى �أن يكون ً‬
‫فخا مدب ًرا لنا ‪..‬‬
‫قال ريان حائ ًرا‪:‬‬
‫حكيت لكم مرا ًرا‬
‫متاما ‪ُ ..‬‬‫ ت�شبه ر�سمة املخطوطة �سيدي ندمي ً‬
‫دا‬
‫عن احلالة التي كانت تنتابه حني تثور روحه ‪ ..‬والآن �أقول لكم‬
‫ر‬
‫ع‬
‫كان ي�شبه ذلك الن�سلي املر�سوم بكل تفا�صيله ‪..‬‬

‫ري‬‫قالت غفران‪ :‬ص‬


‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ ما ي�شغل تفكريي ملاذا انتظر كل هذا الوقت لي�أتي �إىل هنا �إن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كان وجد ما يتحدث عنه قبل �سنوات؟!‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫قالت ناردين‪:‬‬

‫زيع‬
‫عنك �سيدتي �إال منذ عامني فقط‪ ،‬رمبا كان‬‫ قال �أنه مل يعرف ِ‬
‫عنك ‪� ..‬أو رمبا �شي ٌء ما‬
‫ينتظر �أمر ما‪� ،‬أو يريد فعل �شيء بعيد ِ‬
‫ثار بداخله بعد مقتل ُزردق الذي كان َمن �أر�سله على حد قوله‪.‬‬
‫قال ريان‪:‬‬
‫ كانت روح �سيدي تثور بالأيام التي يتعر�ض فيها للإهانة ‪..‬‬
‫�أتتذكرين يوم ال�ضابط الذي �أهانه؟‪ ..‬ويوم ال�شاب؟ ‪ ..‬كان‬
‫هذا الرجل حم ًقا يف تفكريه الذي ف ّكر به قبل بلوغه اخلم�سني‪.‬‬
‫وجل�س القرف�صاء وقال‪:‬‬
‫ �أنني �أ�ص ّدق هذا الرجل ‪..‬‬
‫‪150‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ ملاذا �أ�شار �إىل ذهاب �سبيل معه؟‬
‫قالت غفران‪:‬‬
‫ �سنبلغه برف�ضنا هذا الأمر حني ي�ستيقظ ‪ ..‬لن ت�أتي �سبيل‬
‫معنا‪..‬‬

‫دار‬
‫قلت‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا‪،‬ري ال‬
‫قبلت بالذهاب معه ؟!‬
‫أنك ِ‬‫ هذا يعني � ِ‬

‫ نعم �أيها الطبيب ‪� ..‬س�ك‬


‫وقالت‪:‬‬
‫أذهبت�أنا وريان معه‪ ،‬و�ستبقى �أنت مع‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫�سبيل خ�شية �أن ي�صيبها تعب ‪..‬ب ل‬
‫ش‬
‫و�ستبقى ناردين برفقتكم ‪..‬‬
‫ر‬
‫منده�ش�ا‪:‬أمره غري ًبا بالن�سب ِة ِلك؟! وا تول‬ ‫ً‬ ‫قلت‬

‫زيع‬ ‫ �أال يبدو‬


‫هزّت ر�أ�سها نافي ًة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫ �إن قلبي ي�ص ّدقه ‪ ..‬و�أ�ص ّدق الأمور الغريبة التي حتدث عنها ‪..‬‬
‫و�صمتت للحظة ملعت بها يف عينيها دمعة ‪ ..‬ك�أنها تذكرت ندمي‪،‬‬
‫ثم وا�صلت‪:‬‬
‫ ميتلك ما يوحي ب�صدق حديثه ‪..‬‬
‫فقلت بقلة حيلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪151‬‬
‫ ح�س ًنا ‪� ..‬أمتنى �أن يكون الق�شة التي تنقذنا ح ًقا ‪..‬‬
‫قال ريان‪:‬‬
‫وح�صان يحملنا �إىل هناك ‪� ..‬إن‬
‫ٍ‬ ‫ �س�أد ّبر لنا �أمر عربة خ�شبية‬
‫فر�سه حتتاج �إىل َمن يحملها ‪..‬‬
‫وغادرنا‪ ،‬فيما غادرت �سبيل �إىل غرفتها لتنام‪ ،‬وبقيت ناردين‬

‫دا‬
‫فجل�ست‬
‫ُ‬ ‫معنا تقاوم النعا�س بجفون تت�ساقط رغ ًما عنها‪� ،‬أما �أنا‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�أراقب غفران التي ظ ّلت مو�ضعها �شارد ًة تنظر عرب باب الكوخ املفتوح‬
‫ص‬
‫�إىل الرجل الراقد نائ ًما يف فنائها‪ ،‬كانت دمع ٌة هاربة قد ت�ساقطت‬
‫فت�صنعت النوم‬
‫ُ‬ ‫يل‪،‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫على وجنتها فم�سحتها �سري ًعا‪ ،‬وكادت تنظر �إ ّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫بعقل م�ستيقظ‬
‫وغ�صت يف �شرودي �أنا الآخر ٍ‬ ‫ُ‬ ‫حرجا‪،‬‬
‫كي ال �أ�س ّبب لها ً‬

‫بل‬
‫وعينني مغلقتني‪� ،‬إىل �أن طلع الفجر ووجدنا العجوز ينه�ض من تلقاء‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫نف�سه باح ًثا عنا‪ ،‬وابت�سم حني وجدنا جنل�س يف انتظاره بالداخل‪.‬‬
‫‪ b‬شر‬
‫وال وت‬
‫زيع‬
‫كانت غفران قد ا�ستعدت للذهاب عندما �أتى ريان بح�صان وعربة‬
‫خ�شبية ال �أعرف كيف �أتى بهما‪ ،‬ف�س�ألها الرجل عن �سبيل‪ ،‬ف�أجابته‪:‬‬
‫ لن ت�أتي معنا ‪ ..‬يتبقى على والدتها �أيا ٌم قليلة ولن ت�ستطيع‬
‫حتمل الرحلة �إىل اجلنوب ‪..‬‬
‫قال الرجل ب�إ�صرا ٍر كبري‪:‬‬
‫ ال بد لها �أن ت�أتي ‪..‬‬
‫تعجبنا من �إ�صراره‪ ،‬ونظرتُ �إىل غفران بعدما تزايدت �شكوكي‪،‬‬
‫فقالت ال�سيدة‪:‬‬
‫‪152‬‬
‫ ملاذا ي�ستوجب عليها املجيء معنا؟‬
‫قال‪:‬‬
‫  �ستعرفني هناك ‪ ..‬لكني لن �أغادر بدونها‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫دا‬
‫ �إنني طبيبها و�أقول لك �أن قدومها خطر كبري عليها ‪ ..‬و�أنا‬

‫ر‬
‫�أرف�ض ذلك‪.‬‬

‫ص‬ ‫ت�ساءل‪ :‬ع‬


‫ري‬
‫ هل هناك امر�أة � ال‬
‫أخرى حتمل جنينا �شري ًفا من ن�سل الن�ساىل؟‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫بل‬
‫قالت غفران‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫  ال ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  لن �أغادر بدونها � ًإذا ‪ ..‬ثمة �أمر ب�إحدى ز‬
‫جدارياتيعالكهف‬
‫املر�سومة يتعلق بها ‪ ..‬ال بد لها �أن تراه‪.‬‬
‫ت�ساءلت غفران‪:‬‬
‫ ماذا ب�ش�أنه؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ �ستعلمني كل �شيء هناك ‪ ..‬ال بد �أن نرحل قبل طلوع النهار لئال‬
‫ينتبه الن�ساىل �إىل رحيلكم ‪ ..‬عليكم �أن تثقوا بي ‪..‬‬
‫‪153‬‬
‫�سكتنا جمي ًعا ونظرنا �إىل بع�ضنا البع�ض‪ ،‬كان الوقت ينفد منا‬
‫ح ًقا‪� ،‬إىل �أن قالت غفران‪:‬‬
‫ ح�س ًنا‪� ،‬ست�أتي معنا ‪..‬‬
‫ونظرت نحوي وقالت‪:‬‬

‫دا‬
‫ �سريافقنا الطبيب ويبقى ريان مع ناردين هنا ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ص‬
‫معرت�ضا‪ ،‬هم�ست �إ ّ‬
‫يل‬ ‫ً‬ ‫تعجبت من قرارها‪ ،‬وقبل �أن �أنطق �إليها‬
‫ُ‬

‫ال‬ ‫ري‬ ‫وقالت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ ال منلك خيا ًرا �آخر ‪ ..‬لي�س �أمامنا �سوى ت�صديقه ‪..‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ثم قالت لناردين‪:‬‬
‫ �أيقظي �سبيل و�أخربيها ب�أن ت�ستعد للرحيل معنا ‪..‬‬
‫زيع‬
‫�أوم�أت الفتاة بر�أ�سها‪ ،‬ودخلت �إىل الكوخ لتخرب �سبيل مبا قالته‬
‫غفران‪ ،‬فيما قالت غفران لريان‪:‬‬
‫ احر�ص على �سالمتك �أنت وناردين‪� ،‬سنعود ومعنا �أخبار قد‬
‫تغي م�صرينا �إن �صدق هذا الرجل ‪..‬‬
‫ّ‬
‫قال‪:‬‬
‫  �س�أفعل ‪..‬‬
‫‪154‬‬
‫بعدها خرجت �إلينا �سبيل‪ ،‬وركبنا العربة‪ ،‬معنا العجوز الذي‬
‫�أم�سك بلجام ح�صانها ليتوىل القيادة بنف�سه بعدما عقل ح�صانه‬
‫الهزيل مب�ؤخرة العربة‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫كانت ال�شم�س قد بد�أت رحلة �شروقها حني حترك بنا العجوز‪،‬‬

‫دا‬
‫كانت طرقات الوادي يف ذلك التوقيت خاوي ًة ً‬
‫متاما و�ساكنة حتى‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫املوت‪ ،‬حتى الكالب ال�ضالة التي كانت نائمة على جوانبها تكا�سلت‬

‫ري‬‫ص‬
‫عن �إطالق نباحها وتركتنا من�ضي يف �صمت �إىل الطريق الرملي‬
‫ال‬
‫املمهد خارج ناحية الوادي اجلنوبية‪ ،‬قال الرجل حني بلغناه‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ �سن�أخذ طر ًقا �أخرى بعيدة عن باقي الوديان‪.‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫مل نع ّقب على كالمه �سوى ب�إمياءة توحي مبوافقتنا‪ ،‬وتركناه ّ‬
‫يوجه‬

‫ر وا تول‬
‫ح�صان العربة كيفما ي�شاء‪ ،‬ربتت غفران على يد �سبيل بابت�سامة ك�أنها‬
‫تعتذر عن قرارها مبوافقتها على ا�صطحابها معنا‪ ،‬فابت�سمت الفتاة‬
‫زيع‬
‫‪ ..‬وبد�أ العجوز يرثثر مع م�ضي العربة عن الأهوال التي قابلها بني‬
‫�صحاري اجلنوب ووديانها‪ ،‬مل نكن يف حاجة ل�سماع املزيد عن معاناته‬
‫بقدر ما كنا يف ت�شوق �إىل معرفة ما ينتظرنا داخل كهفه املزعوم ‪..‬‬
‫فالذ كل واحد منا ب�صمته دون �أن نقاطع الرجل ولو ملرة واحدة ‪..‬‬
‫تذكرتُ حني ارتفعت اجلبال من حولنا رحلتي مع دميا و�ص ّديق عرب‬
‫�صحراء بني عي�سى قبل ت�سعة �سنوات‪ ،‬ومعها ان�شغل تفكريي بتذكر‬
‫كل ما حدث يل منذ تلك الرحلة‪ ،‬كانت غفران هي الأخرى هائم ًة يف‬
‫�أفكارها بعيدً ا عن حديث العجوز‪ ،‬فيما بدا على وجه �سبيل تركيزها‬
‫مع كل كلمة يقولها ذلك الرجل‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫مل نقابل يف طريقنا �أي جتمعات لوديان �أو �سهول منب�سطة ت�صلح‬
‫دروب وممرات جبلية‬
‫ملعي�شة التجمعات بعدما وا�صلنا التقدم عرب ٍ‬
‫مهجورة ومت�شعبة ‪ ..‬كنت �أ�شعر بالقلق ك ّلما انعطف بنا �إىل ٍ‬
‫درب‬
‫متاما �أن هذا العجوز لو �أ�صيب ب�أي مكروه �سيكون‬
‫جديد ‪ ..‬كنت �أعلم ً‬
‫ال�ضياع م�صرينا ال حمالة ‪..‬‬
‫عرفت ذلك‬‫ُ‬ ‫مع الوقت بد�أت قمم اجلبال احلمراء يف الظهور ‪..‬‬
‫دا‬
‫اليوم �سبب ت�سميتها بهذا اال�سم بعدما كانت �صخورها تكت�سب لو ًنا‬
‫ر‬
‫ع‬
‫�أحمر باهتًا مع انعكا�س ال�شم�س عليها ‪� ..‬أخربين ريان من قبل �أن‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫الوديان املنب�سطة بني تلك اجلبال حتتوي كث ًريا من جتمعات الن�ساىل‬
‫الذين جتمعوا حول الينابيع العذبة التي تناثرت هناك‪ .‬ثم حت ّولت‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الرمال من �أ�سفلنا �إىل �صخور �صغرية متك�سرة بعدما قطعنا م�سافة‬

‫ن‬
‫ألت العجوز �أن يبطئ من �سرعة‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫لي�ست ق�صرية خلف تلك اجلبال‪ ،‬ف�س� ُ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫العربة حماي ًة ل�سبيل وجنينها ففعل ذلك مرح ًبا‪.‬‬
‫مل يقبل داخلي ذلك الرجل قط‪ ،‬وبد�أ عقلي يفرت�ض كافة‬

‫زيع‬
‫أدركت‬
‫االحتماالت التي �أ�ص ّر من �أجلها على تواجد �سبيل معنا‪ ،‬كذلك � ُ‬
‫احتمال خليانته رغم زعمها بت�صديقه عندما‬ ‫ً‬ ‫�أن غفران قد و�ضعت‬
‫ملحت خنج ًرا ُمثبتًا بحزام جلدي حول �ساقها اليمنى‪ ،‬ظهر حني‬ ‫ُ‬
‫بدرب �ضيق بالكاد ميرر العربة‪ ،‬ا�ضطرت معه �إىل رفع �ساقيها‬ ‫مررنا ٍ‬
‫�إىل ظهر العرب فانك�شف جزء من غمده بعدما ارتفع ف�ستناها ً‬
‫قليل‬
‫عن �ساقيها‪ ،‬دون �أن يراه العجوز �أو تعلم �أنني ر�أيته‪.‬‬
‫بعد اجتيازنا دروب اجلبال احلمراء �س�ألت غفران الرجل فج�أة‬
‫�أن ي�سمح لها بتفقد قطعته اجللدية ف�أعطاها �إياها‪ ،‬فظلت تتفح�صها‬
‫ب�إمعان �شديد دون �أن تف�صح لنا عما تفكر فيه �أو ما يدور يف ر�أ�سها‬
‫‪156‬‬
‫‪ ..‬كانت تغتاظ فقط ك ّلما حاولت �س�ؤال الرجل عن �شيء فيجيبها‬
‫ب�أنها �ستجد كل الإجابات يف خالل �ساعات‪� ،‬إىل �أن حتولت ال�صخور‬
‫أر�ض من احل�صى الناعمة حني هبطت‬ ‫املتك�سرة من �أ�سفلنا �إىل � ٍ‬
‫العربة ببطء �شديد در ًبا �شديد االنحدار‪ ،‬انتهى بنا �إىل ممر مت�سع‬
‫م�ست ٍو حتيطه التالل من كل جانب فتوقف بنا ‪ ..‬ثم �أ�شار نحو قمة‬
‫�صدع بني قمتني �صغريتني على مييننا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫جبل ظهرت خلف ٍ‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫ هناك ‪..‬‬
‫نظرت نحو ما �عأ�شار �إليه ثم نظرت �إىل القطعة اجللدية بيد غفران‬
‫‪ ..‬مل يكن هناك ثلجصعلى القمة التي �أ�شار نحوها لكنها ت�شبهها يف‬
‫ت�ضاري�سها‪ ،‬فقالت �سبيل‪:‬ري ال‬
‫ت‬ ‫ �أال ُيفرت�ض وجود ثلج علىك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫قمتها؟!‬
‫ش‬
‫ لي�س يف كل �أيام العام يا�صغريتي ‪ ..‬ر وا تول‬
‫قال‪:‬‬

‫زيع‬ ‫وتابع‪:‬‬
‫ لن ت�ستطيع العربة التقدم �أكرث من ذلك ‪� ..‬سنكمل التقدم‬
‫�إليها �س ًريا على �أقدامنا ‪..‬‬
‫وثبت �إىل الأر�ض‪ ،‬ثم �ساعدتُ �سبيل يف نزولها‪ ،‬فيما حررت غفران‬
‫ُ‬
‫احل�صان من العربة‪ ،‬وربطته مب�ؤخرتها يف حلقة معدنية منف�صلة عن‬
‫احللقة التي ُربط بها ح�صانه العجوز‪ ،‬بعدها �سرنا خلف العجوز‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪157‬‬
‫أم�سكت بيد �سبيل عندما عربنا ربو ًة ترتفع ً‬
‫قليل عن الأر�ض كانت‬ ‫� ُ‬
‫احل�صى وال�صخور التي تغطيها قد ت�سبب انزالق قدميها �إن �صعدتها‬
‫مبفردها ‪ ..‬فيما ابتعد عنا العجوز بخطوات تتبعه غفران‪ ،‬وبعد‬
‫اجتياز ب�ضعة ممرات بني تالل �صخرية متو�سطة االرتفاع‪ ،‬وعبور‬
‫�أخرى منخف�ضة االرتفاع‪ ،‬و�صلنا �أخ ًريا �إىل قاع اجلبل املق�صود ‪ ..‬ثم‬
‫نظرنا �إىل �أعلى بعدما �أ�شار العجوز بيده عال ًيا‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫ر‬
‫ ذلك الكهف هناك‪.‬‬
‫ا‬ ‫د‬
‫فقلت بعدما عت�شابهت �صخور اجلبل جميعها يف عيني‪:‬‬
‫ري‬‫ ال �أرى �شي ًئا ‪..‬ص‬
‫ال‬
‫أظهرت غفرانك‬
‫و�سبيلت�أنهما ال تريان �شي ًئا هما الأخريتان‬
‫ب نل‬
‫وكذلك �‬
‫ل‬
‫ �إنه يف الأعلى ‪� ..‬ستظهر �صخوره معش‬
‫‪ ..‬فقال الرجل‪:‬‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫�صعودنا ‪..‬‬

‫زي‬
‫ ي�ستحيل على �سبيل ال�صعود ‪� ..‬سيت�سبب ذلك يفع�إجها�ض‬
‫قلت‪:‬‬

‫الطفل ال حمالة ‪..‬‬


‫�سكتت غفران‪ ،‬كانت تعرف �أنني حمق فيما قلته‪ ،‬فعاد العجوز‬
‫خطوات �إىل �سبيل وو�ضع خد ّيها بني راحتي يده وقال بلطف‪:‬‬
‫عليك �أن تثقي بي ‪..‬‬
‫ �ست�ستطيعني فعلها يا�صغريتي ‪ِ ..‬‬
‫قلت لغفران حمتدً ا‪:‬‬
‫ علينا �أن نعود ‪� ..‬إنني ال �أ�ص ّدق هذا الرجل ‪..‬‬
‫‪158‬‬
‫كانت احلرية وا�ضح ًة ب�شدة على وجه غفران فوا�صلت �صمتها‪،‬‬
‫فكررتُ ما قلته‪:‬‬
‫ علينا �أن نعود ‪� ..‬إن هذا ف ٌخ مدبر ب�إحكام لإجها�ض طفل �سبيل‪.‬‬
‫ً‬
‫منفعل‪:‬‬ ‫فقال العجوز‬
‫  ُمدبر ِمنْ َمنْ �أيها الطبيب؟! ‪� ..‬إنك ل�ست مت�ضر ًرا من القواعد‬
‫دا‬
‫مثلنا ‪ ..‬ال بد للفتاة �أن ت�صعد �إىل الكهف‪ ،‬هناك �شيء ال بد �أن‬
‫ر‬
‫ع‬
‫تراه بنف�سها ال �أن يحكي لها �أحد عنه ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وتابع بعدما رمقني بنظرة لوم‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ �إن �آخر �شيء قد يفكر فيه رجل عا�ش م�شردًا ل�سنوات ب�سبب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫�شخ�صا با�ستطاعته �أن ينهي تلك‬
‫ً‬
‫ب‬ ‫قواعد ظاملة‪� ،‬أن ي�ؤذي‬
‫ش‬
‫القواعد التي ت�سببت يف معاناته ومعاناة الكثريين مثله ‪..‬‬

‫ر وا تول‬ ‫قلت‪:‬‬

‫زيع‬ ‫ وهل �سبيل من �ستنهيها؟!‬


‫قال‪:‬‬
‫ نعم ‪� ..‬إنها املر�أة الوحيدة التي حتمل ً‬
‫طفل �شري ًفا من �أبوين‬
‫ن�سليني حتى النخاع ‪ ..‬لو فعلها ُزردق ووداد ملا احتجت لها ‪..‬‬
‫قالت غفران‪:‬‬
‫ وكيف �ستنهيها؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫‪159‬‬
‫ �ستعلمون كل �شيء بالأعلى ‪..‬‬
‫قالت غفران بحدة‪:‬‬
‫ لن �أ�صعد حتى تخربين كيف ت�ستطيع �سبيل �إنهاء القواعد ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬

‫دا‬
‫ �سن�صعد ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قاطعته غفران �صارخة يف وجهه بغ�ضب‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ لن نخطو خطو ًة واحدة قبل �أن تخربنا ‪..‬‬
‫ك‪b‬‬
‫برل�أى ذلك الإ�صرار على وجه‬
‫ت‬
‫ش‬ ‫غفران املحتقن غ�ض ًبا ‪ ..‬ثم نزع ل‬
‫القطعةن‬
‫ز ّم العجوز �شفتيه غا�ض ًبا بعدما‬

‫ر وا تول‬
‫اجللدية من يدها وغمغم‬
‫ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫زيع‬ ‫ظننتك ت�ستحقينها ‪..‬‬


‫  ِ‬
‫قبل �أن يرتكنا ومي�ضي بعيدً ا يف طريقه �إىل الأعلى ‪ ..‬مل يحرك‬
‫�أحدنا قدمه‪ ،‬ووقفنا يف �أماكننا ننظر �إليه وهو يبد�أ رحلة �صعوده‬
‫منحدر اجلبل ب�صعوبة دون �أن يكرتث بوقوفنا‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ �سيقتل هذا الرجل نف�سه ‪..‬‬
‫قالت غفران بلهجة جامدة‪:‬‬
‫ �س�أ�صعد خلفه �إىل ذلك الكهف ‪ ..‬انتظر هنا مع �سبيل ‪..‬‬
‫‪160‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ �أخ�شى �أن ي�صيبك مكروه بالأعلى ‪..‬‬
‫قالت بغيظ‪:‬‬
‫ لوال �أن داخلي ي�ص ّدق هذا الرجل لعدت �إىل وادينا على الفور ‪.‬‬

‫دا‬
‫و�أ�ضافت ك�أنها تربر لنف�سها ت�صديقها له‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �إن قمة اجلبل ح ًقا ت�شبه القمة املر�سومة مبخطوطته‪ ،‬وحديثه‬

‫ري‬‫ص‬
‫عن الن�ساىل الزائرين ي�شبه حديث ريان عن ندمي ‪..‬‬
‫ال‬
‫و�أكملت وهي تنظر نحوه بعدما ت�س ّلق لأقدام كثرية‪:‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ هناك مزيد من الأ�سرار ال تزال يف جعبة ذلك العنيد ‪� ..‬أ�سرار‬
‫ن‬
‫ش‬
‫قد نكون يف �أم�س احلاجة �إليها ‪..‬‬

‫ر وا تول‬ ‫ثم نظرت �إىل �سبيل بنظرة متو�سلة‪:‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫ �أت�ستطيعني فعلها يا �سبيل؟!‬


‫�أوم�أت �سبيل بر�أ�سها �إيجا ًبا بعدما ف ّكرت لثانية‪ ،‬فنظرت غفران‬
‫�إ ّ‬
‫يل‪ ،‬فهززت كتفي حري ًة بدون �أن �أنطق‪ ،‬فقالت �سبيل يل‪:‬‬
‫ �س�أفعلها �سيدي ‪..‬‬
‫تنهدتُ ‪ ،‬وقلت بقلة حيلة‪:‬‬
‫�شعرت ب�أي تعب ال‬
‫ِ‬ ‫ ح�س ًنا‪� ،‬سن�صعد ب�أبط�أ ما ميكننا‪ ،‬و�إن‬
‫تتوا ْ‬
‫ين عن �إخباري‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫قالت الفتاة‪:‬‬
‫ ح�س ًنا ‪..‬‬
‫حتركت‬
‫ُ‬ ‫ثم بد�أنا ن�صعد يف امل�سار ذاته الذي حترك فيه العجوز ‪..‬‬
‫مهل �شديد مت�سك يدي يدها‪ ،‬فيما �سبقتنا غفران‬ ‫�أنا و�سبيل على ٍ‬
‫بعدة �أقدام ‪ ..‬كان ال�صعود �أ�سهل مما �أملنا‪ ،‬ووجدنا �أنف�سنا قد‬

‫دا‬
‫قطعنا ثلث امل�سافة يف وقت ق�صري جدً ا‪ ،‬وبني حني و�آخر كانت غفران‬
‫ر‬
‫تلتفت �إلينا وتت�ساءل �إن كان كل �شيءٍ على ما يرام‪ ،‬فتجيبها �سبيل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ب�أنها بخري‪ ،‬قبل �أن نوا�صل �صعودنا �أكرث و�أكرث ‪ ..‬كان العجوز قد‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫انتبه �إىل �صعودنا ف�أكمل طريقه �إىل الكهف املحفور يف وجه اجلبل‪،‬‬

‫ك‬
‫والذي بد�أت �صخور بابه يف الظهور ك ّلما �صعدنا �إىل �أعلى ‪..‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫عندما و�صل العجوز �إىل الكهف بد�أ يزيل ال�صخور التي تغلق بابه‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫‪ ..‬ثم دلف �إىل داخله‪ ،‬قبل �أن يخرج من جديد ليقف �أمامه يف انتظارنا‬
‫‪ ..‬كانت غفران �أول الوا�صلني منا �إليه بالطبع ‪ ..‬وبعدها بفرتة لي�ست‬

‫زيع‬
‫و�صلت �أنا و�سبيل �إليهما بعدما نالت الفتاة فرتتني من الراحة‬
‫ق�صرية ُ‬
‫يف الن�صف الأعلى من ال�صعود‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫التقطت �أنفا�سي �أنا و�سبيل ثم تق ّدم بنا العجوز �إىل داخل الكهف‪،‬‬
‫ُ‬
‫كانت �شعل ٌة ُمعلق ٌة على احلائط تنري املدخل‪ ،‬بدا �أن العجوز قد �أ�شعلها‬
‫حني دلف �إليه لدقائق �أثناء �صعودنا ‪..‬‬
‫�شق‬
‫حامل ال�شعلة عرب ٍ‬ ‫بعد عبورنا باب الكهف قادنا العجوز ً‬
‫�ضيق للغاية تنحدر �أر�ضه مبيل طفيف �إىل الأ�سفل‪ ،‬حتى خرجنا‬
‫ات�ساعا‪ ،‬كانت جدران ذلك‬ ‫ً‬ ‫�سرداب �أكرث‬
‫ٍ‬ ‫منه بعد ب�ضعة �أقدام �إىل‬
‫‪162‬‬
‫ال�سرداب مل�ساء وباردة كالزجاج حني الم�ستها بيدي‪ ،‬لكن العجوز‬
‫مل يعطني مهلة للتفكري بهذا الأمر بعدما �أ�شعل �شعل ًة �أخرى كانت‬
‫ُمثبتة على مييننا و�ألقاها يل كي �أم�سك بها‪ ،‬ثم تقدم عرب ال�سرداب‬
‫ف�سرنا وراءه‪ ،‬كانت بع�ض الكلمات املنقو�شة قد بد�أت يف الظهور على‬ ‫ِ‬
‫اجلدران �أمامنا‪ ،‬فتمهلنا‪ ،‬فطالبنا ب�أن ن�سرع اخلطى لرنى ما هو �أهم‬
‫‪ ..‬بد�أ عقلي وقتها يت�أكد ب�أن هناك ما هو عظيم ح ًقا ينتظرنا‪ ،‬و�أننا‬

‫دا‬
‫على �أعتاب معرفة �سر هزمية الأ�شراف كما قال ذلك الرجل الذي‬
‫ر‬
‫انتهى ال�سردابع‬
‫�أظهر معرفته بكل بو�ص ٍة داخل ذلك الكهف منذ وجلنا �إليه‪.‬‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫ هناك �سلم حجري ‪..‬التوخوا احلذر �أثناء نزوله‪.‬‬
‫بباب �ضيق‪ ،‬فتوقف قبل �أن يعربه وقال‪:‬‬

‫كت ُ‬
‫ن‬
‫قربت �شعلتي من الأر�ض �أمامهما‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫لرييا درجاته بو�ضوح �أثناء نزولهما‪ ،‬ل‬
‫�أم�سكت غفران بيد �سبيل فيما‬

‫ر‬ ‫العجوز قد �سبقنا بخطوات‪ ،‬فاجتهنا �إليه ش‬


‫عندما بلغنا نهاية ال�سلم كان‬

‫ب�شعلته برو ًزا �صخر ًيا كان يربز من احلائط على وا ول‬
‫ت‬
‫واقرتبنا منه ‪ ..‬فالم�س‬

‫زيع�صخر ًيا‬
‫ارتفاع قدم واحد‬
‫عن الأر�ض‪ ،‬لنجد �أن النريان قد امتدت عربه لت�ضيء ً‬
‫حو�ضا‬
‫�ضي ًقا ازدادت معه الإ�ضاءة ب�صورة كبرية ‪..‬‬
‫أحوا�ضا �أخرى امتدت �أمام اجلدران‬ ‫تن ّقل الرجل و�أ�شعل � ً‬
‫الدائرية‪ ،‬لنجد �أنف�سنا داخل غرفة دائرية وا�سعة تنريها النريان‬
‫من كل جانب‪ ،‬ومعها �شهقت �سبيل‪ ،‬كان متثال منحوت لرجل �ضخم‬
‫طويل ال�شعر واللحية ينظر �إىل ال�سماء فاغ ًرا فاه يتو�سط الغرفة‬
‫�أمامنا ‪ ..‬كانت تفا�صيل ج�سده منحوت ًة برباعة كبرية ‪ ..‬كذلك و�شم‬
‫حتركت نحوه منبه ًرا‬
‫ُ‬ ‫الن�ساىل املنحوت على جانب �صدره الأي�سر ‪..‬‬
‫والم�ست �صخوره املل�ساء ليزداد انبهاري‬
‫ُ‬ ‫بالرباعة التي ُنحت بها‪،‬‬
‫‪163‬‬
‫‪ ..‬ثم تل ّف ُّت �إىل غفران لأرى ردة فعلها‪ ،‬لكني وجد ُتها تقف �أمام‬
‫ألوان زاهية على جدران تلك الغرفة ‪..‬‬ ‫�أوىل اجلداريات املر�سومة ب� ٍ‬
‫حتركت �إىل جانبها‪ ،‬كانت الرباعة التي ُر�سمت بها تلك اجلدارية‬
‫ال تقل براع ًة عن نحت التمثال ‪ ..‬كانت لأُ ٍ‬
‫نا�س يبنون جدا ًرا كب ًريا‪،‬‬
‫عرفت من النظرة الأوىل �أنه جدار چارتني‪ ،‬وكانت بع�ض ال�سطور‬ ‫ُ‬
‫قد ُنق�شت بحروف عربية على جانبها ‪ ..‬فاقرتبت غفران منها‬

‫دا‬
‫أف�سر‬
‫اقرتبت �أنا الآخر لكني مل �أ�ستطع �أن � ّ‬
‫ُ‬ ‫لتقر�أ ما ُكتب‪ ،‬كذلك‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�سط ًرا واحدً ا‪ ،‬كذلك بدت عالمات التعجب على وجه غفران ‪..‬‬
‫ص‬
‫قال الرجل من خلفنا‪:‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫  ُكتبت بالعامية الچارتينية القدمية التي يختلف فيها ترتيب‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫حروف كثري من الكلمات عن كلمات لغتنا احلالية‪ ،‬كذلك ال‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫توجد فيها نقاط على احلروف ‪� ..‬أخذت الكلمات وقتًا ً‬
‫طويل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫أف�سر ما ترويه ‪� ..‬إنها حتكي عن‬
‫جدً ا وافرتا�ضات كبرية مني ل ّ‬
‫م�شاركة الن�ساىل يف �إعادة بناء جدار چارتني‪.‬‬

‫زيع‬
‫ت�ساءلت غفران متعجبة‪:‬‬
‫ هل �أُعيد بناء اجلدار من قبل؟!‬
‫قال الرجل‪:‬‬
‫ نعم‪..‬‬
‫وتابع‪:‬‬
‫لرتي باقي اجلداريات‪ ،‬ثم �س�أخربك بالق�صة الكاملة املكتوبة‬
‫  ْ‬
‫على جدران هذا الكهف و�سراديبه ‪..‬‬
‫‪164‬‬
‫أنا�س ملت ّفون حول طاولة‪،‬‬
‫انتقلنا �إىل اجلدارية التالية‪ ،‬كانت ل ٍ‬
‫كان باد ًيا �أنه اجتماع ذو طابع ر�سمي بني الأ�شراف �أ�صحاب الثياب‬
‫الفاخرة والن�ساىل ن�صف العارين الذين يبدو عليهم احلياة البدائية‬
‫‪ ..‬حتركنا �إىل اجلدارية الثالثة ‪ ..‬كانت �ساحة عظيمة‪ ،‬ت�ساءلت‬
‫غفران بده�شة‪:‬‬
‫ باحة جويدا؟!‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫قال الرجل‪:‬‬

‫ص‬ ‫ نعم‪ ،‬باحة ع‬


‫مل تكن ت�شبه باحة ري ا‬
‫جويدا قد ًميا ‪..‬‬
‫جويدال احلالية �إال يف �أر�ضها الوا�سعة امل�ستوية‪.‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫اجلدارية فكانت الأقفا�ص التي تتواجد‬ ‫�أما الأمر الغريب يف تلك‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫مرتا�صة على جانب من الباحة‪ ،‬فيما تقف ن‬
‫ش‬
‫وحيوانات �أخرى‪� ،‬أقفا�ص كثرية‬ ‫ب�أر�ضها وبداخلها �أ�سود ومنور وفهود‬

‫اجلانب الآخر يظهر و�شم الن�ساىل على جباههنر‪..‬واقالت غفران‪:‬‬


‫ن�ساء عاريات ال�صدور يف‬

‫و‬ ‫ت‬ ‫ل‬


‫ قد ًميا كانت ن�ساء الن�ساىل عاريات ال�صدور ز ع‬
‫كالرجالي الآن ‪..‬‬
‫ومل يكن الو�شم على �أكتافهن ‪..‬‬
‫اجته بنا العجوز �إىل اجلدارية التالية وعيني ُمعلقة ب�أقفا�ص‬
‫احليوانات التي ت�شغل ن�صف الباحة تقري ًبا ‪ ..‬فت�ساءلت �سبيل فج�أة‪:‬‬
‫ تزوج الن�ساىل من قبل؟!‬
‫لرجل ن�سلي وامر�أة ن�سلية يقفان بباحة جويدا‬
‫كانت اجلدارية ٍ‬
‫على من�صة منخف�ضة تختلف عن املن�صة احلالية �أمام كثري من‬
‫احلا�ضرين ‪ ..‬هز الرجل ر�أ�سه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪165‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫ثم انتقل بنا بدون �أن يقول املزيد �إىل اجلدارية التالية‪ ،‬كانت‬
‫قاعدة �صخرية بقاع جدار چارتني منقو�ش عليها �سطور بالطريقة‬
‫ذاتها التي ُنق�شت بها الكلمات التي مل ن�ستطع قراءتها‪ُ ،‬‬
‫فهمت �أنها‬
‫�إحدى قواعد چارتني املنقو�شة على قواعد اجلدار ‪ ..‬انتظرتُ غفران‬
‫�أن تنطق ب�أي تعليق لكنها حتركت وراء الرجل �إىل اجلدارية التالية‬

‫ر‬
‫أكوام من اجلثث العارية‪ ،‬تظهر �أو�شام جباههم‪ُ ،‬مك ّومني‬
‫دا‬
‫‪ ..‬كانت ل ٍ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫رجال ون�سا ًء و� ً‬
‫أطفال‪ ،‬وحتوم فوقهم الطيور اجلارحة ‪..‬‬ ‫فوق بع�ضهم ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ثم يف النهاية كانت الر�سمة ذاتها التي ُر�سمت يف خمطوطة العجوز‬

‫ك‬
‫كبل بال�سال�سل من كافة �أطرافه‪ُ ،‬ر�سمت‬ ‫اجللدية ‪ ..‬ن�سلي يز�أر ُم ً‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫بحجم �أكرب يف �آخر اجلداريات‪ ،‬فنظرنا �إىل الرجل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل‬
‫ٍ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر‬
‫ �س�أبد�أ معكم باجلدارية الأوىل‪ ،‬لكني �س�أعود بالزمن ل�سنوات‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫وقال وهو ينظر �إىل �أقفا�ص احليوانات املفرت�سة ت‬
‫طويلة قبلها لأخربكم بق�صة د ّونتها جدران ال�سراديب هنا ‪..‬‬
‫و‬
‫ع‬ ‫زي‬
‫باجلدارية الثالثة‪:‬‬
‫ كان بني حكام چارتني القدامى ملك مولع برتبية النمور‬
‫والأ�سود‪ ،‬وكان معرو ًفا عنه ا�صطحابه لنمره املف�ضل من‬
‫ف�صيلة ال�شامو اجلبلية �إىل الباحة �أيام الغفران لريقد بجواره‬
‫هو وزوجته على املن�صة‪� ،‬إىل �أن جاء �أحد تلك الأيام‪ ،‬وهاج‬
‫ذلك النمر دون �سبب و�أفلت جلامه‪ ،‬وكاد يفرت�س زوجة ذلك‬
‫امللك لوال �أن �أقرب احلرا�س �إليها قد �أخرج �سيفه و�شق عنقه‬
‫ب�ضربة واحدة ‪ ..‬ان�شغل اجلميع وقتها مبا حدث على املن�صة‪،‬‬
‫لكن �أحد مل يعرف ب�أن جني ًنا قد حت ّرك فج�أة يف بطن فتاة‬
‫‪166‬‬
‫ن�سلية كانت يف طريقها للخروج من الباحة خائبة الرجاء‬
‫بعدما ح�صدت غريها من ن�ساء الن�ساىل كل �أرواح من �أُعدموا‬
‫ذلك اليوم ‪..‬‬
‫و�ضعت الفتاة طفلها بعد ثالثة �أ�شهر وماتت يف اليوم ذاته‪،‬‬
‫لين�ش�أ ذلك الطفل دون �أي اختالف عن باقي الن�ساىل‪ ،‬حتى‬
‫و�صل �سن بلوغه لتت�ضاعف قوته �أ�ضعا ًفا‪ ،‬وبد�أت روحه الزائرة‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫يف الهياج كل ليلة ‪ ..‬ارتعب الن�ساىل حني ر�أوا هيئته و�سمعوا‬
‫ع‬
‫زئريه للمرة الأوىل ‪ ..‬لكنهم اعتقدوا وقتها �أن �أر�ض چارتني‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫قد وهبتهم ذلك الن�سلي الزائر لتنتقم من �أفعال �أ�شرافها ‪..‬‬
‫وتناقلت احلكايات بينهم ب�أنه يقتل يف الليلة الواحدة �سبع ًة‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫من رجال الأ�شراف‪ ،‬ثم عرفوا ق�صته احلقيقية من امر�أ ٍة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كانت �أمه قد حكت لها ُقبيل موتها ما حدث لها ذلك اليوم يف‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫الباحة‪ ،‬ف�أخفوها فيما بينهم ل�سنوات طويلة ‪� ..‬إىل �أن اختفى‬
‫ذلك الن�سلي الزائر من بينهم فج�أة‪ .‬قيل �أن الأ�شراف قتلوه‪،‬‬

‫زيع‬
‫وقيل �أنه قد هرب �إىل جبال �أق�صى اجلنوب حيث كانت تعي�ش‬
‫ف�صيلته من منور ال�شامو‪ ،‬غري �أنهم مل ين�سوه قط يف حكاياتهم‬
‫و�أغانيهم الالتي تناقلوها بينهم لعقود ‪..‬‬
‫قالت �سبيل يف ا�ستغراب �شديد‪:‬‬
‫ مل �أ�سمع قط بهذه الق�صة ‪..‬‬
‫قال الرجل‪:‬‬
‫ �إنها جز ٌء من تاريخ كبري مت حموه برباعة ‪..‬‬
‫ووا�صل‪:‬‬
‫‪167‬‬
‫ قبل �ألفي عام تقري ًبا كانت �أعداد الن�ساىل تفوق �أعداد‬
‫الأ�شراف بكثري‪ ،‬و�إن حتكم الأ�شراف بكل �شيء مثل وقتنا‬
‫احلايل‪ ،‬بل كان بط�شهم وظلمهم للن�ساىل يفوق ما يتعر�ضون‬
‫له الآن �آالف املرات يف ع�صور ُ�سميت بع�صور التعذيب‪ُ ،‬كتب‬
‫عنها �أن الأ�شراف ا�ستخدموا �أ�شد �ألوان التعذيب بعدما �أعلن‬
‫الن�ساىل اعرتا�ضهم على القاعدة التي تن�ص على حمل �أجنتهم‬

‫دا‬
‫الأرواح املذنبة ‪� ..‬إىل �أن ر�ضخ الن�ساىل يف نهاية الأمر بعدما‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫مل تتحمل �أج�سادهم مزيدً ا من العذاب ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ثم حترك �إىل �أمام اجلدارية الأوىل ‪ ..‬وقال وهو ينظر �إليها‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ ثم �أتت الفر�صة على طبق من ذهب للن�ساىل عندما انهار جزء‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كبري من جدار چارتني ال�شمايل‪ ،‬وبد�أت بوادر هياج بحر �أكما‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫من جديد تظهر بو�ضوح ل�سادة الأ�شراف‪ ،‬وانت�شر اخلوف بني‬
‫العامة ب�أنه �سي�أتي على الأخ�ضر والياب�س يف چارتني مثلما‬

‫زيع‬
‫فعلها قبل بناء اجلدار ‪ ..‬فلم يكن �أمامهم �سوى اال�ستعانة‬
‫بالن�ساىل كي ي�ساعدوهم يف �إعادة بناء ذلك اجلزء املهدوم ‪..‬‬
‫كان الن�ساىل �أكرث عددًا وقوة‪ ،‬و�أكرث خربة يف تقطيع �صخور‬
‫جبال اجلنوب ونقلها �إىل ال�شمال‪ ،‬على عك�س الأ�شراف‬
‫�أ�صحاب الأيدي الناعمة ‪� ..‬إال �أن الن�ساىل قد احتدوا جمي ًعا‬
‫على الرف�ض وحتملوا �ألوا ًنا �أخرى من العذاب يف �سبيل‬
‫مت�سكهم برف�ضهم ‪ ..‬وملّا كان هياج بحر �أكما يتزايد ً‬
‫يوما بعد‬
‫يوم و�أجزم حكماء الأ�شراف ب�أنه �س ُينهي چارتني �إىل الأبد ال‬
‫عهد‬
‫حمالة‪ ،‬فوجئ الن�ساىل ب�إعالن ملك چارتني موافقته لعقد ٍ‬
‫‪168‬‬
‫دموي معهم يف وادي حوران‪ ،‬يتعهد فيه بتحقيق ما يطلبونه‪،‬‬
‫ليجد الن�ساىل �أنف�سهم للمرة الأوىل يف مو�ضع قوة ي�ستطيعون‬
‫من خالله �إمالء �شروطهم ‪ ..‬كان ذلك بعد �أربعة قرون من‬
‫اختفاء الن�سلي الزائر الأول ‪..‬‬
‫ثم �أ�شار �إىل اجلدارية الثانية التي يجتمع فيها الأ�شراف والن�ساىل‬
‫حول طاول ٍة حجرية وقال‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ مت العهد الدموي بالفعل يف وادي حوران بني ملك الأ�شراف‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫واثنني من وزرائه‪ ،‬وثالثة من رجال الن�ساىل ُاختريوا من بني‬
‫وا�ضحا ال جدال‬
‫ً‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وديان الن�ساىل الثمانية ‪ ..‬كان �شرط الن�ساىل‬

‫ك‬
‫فيه؛ �أن ُتلغى القاعدة املخت�صة بانتقال الأرواح الآثمة لأجنة‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫أرواحا نقية مثل التي يحملها الأ�شراف‬
‫الن�ساىل‪ ،‬و�أن يحملوا � ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ت�ستطيع الأمهات ح�صادها خارج باحة جويدا مقابل �إمتام‬

‫ر وا تول‬
‫بناء اجلدار‪ ،‬و�أن ُتنق�ش قاعدة بذلك بني قواعد چارتني بعد‬
‫اكتمال البناء ‪..‬‬

‫زيع‬
‫وافق الأ�شراف على ذلك‪ ،‬لكن الن�ساىل �أ�ضافوا طل ًبا �آخر غري ًبا‬
‫�ضما ًنا لتنفيذ الأ�شراف عهدهم‪ ،‬وحماي ًة لهم من التنكيل بهم‬
‫�إن خان الأ�شراف عهدهم ‪..‬‬
‫والتفت �إلينا العجوز وهو يكمل‪:‬‬
‫ين�س الن�ساىل قط الن�سلي الزائر الذي وهبته لهم �أر�ض‬ ‫ مل َ‬
‫چارتني من قبل‪ ،‬فا�شرتطوا لإمتام ذلك العهد �أن حت�صد �ألف‬
‫ن�سلية حامل من وديان الن�ساىل الثمانية �أرواح �ألف حيوان بري‬
‫من حيوانات ال�صحاري اجلنوبية ال�ضارية يف باحة جويدا ‪..‬‬
‫‪169‬‬
‫تظل تلك الأرواح خامدة يف �أج�ساد حا�صديها غري مكتملة‬
‫القوى �إن حافظ الأ�شراف على عهدهم ‪ ..‬وتكتمل قواها وتثور‬
‫داخل �أج�سادهم �إن خان الأ�شراف عهدهم ‪..‬‬
‫اعرت�ض الأ�شراف على ذلك ال�شرط رغم عدم ت�صديقهم‬
‫رف�ضا قاط ًعا‪ ،‬لكن مع �إ�صرار‬ ‫لإمكانية حدوثه‪ ،‬ورف�ضوه ً‬
‫الن�ساىل حتى املوت لإ�ضافته �إىل العهد الدموي‪ ،‬وتوارد �أخبار‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫البحارة بارتفاع �أمواج بحر �أكما‪ ،‬اقرتح �أحد وزيري امللك �أن‬
‫ع‬
‫يكون العهد هكذا؛ �أن يح�صد الن�ساىل �أرواح ال�ضواري كما‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�أرادوا‪ ،‬لكن ال تكتمل تلك الأرواح بداخل �أج�ساد الن�ساىل �إال‬
‫ب�شرطني؛ الأول‪� :‬إن خان الأ�شراف عهدهم‪ ،‬والثاين‪� :‬أن يق ّدم‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫فعل نيتهم يف عي�ش حياة �شريفة بعيدة عن‬ ‫الن�ساىل ما يثبت ً‬
‫مولود‬
‫�شريف ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫طفل‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫حياتهم ال�سابقة‪ ،‬وذلك بتقدمي الن�ساىل ٍ‬
‫كذبيح تروي دما�ؤه‬
‫ٍ‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫عن زواج �شرعي لأبوين ن�سليني خال�صني‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫فهمت حينها ملاذا �أ�ص ّر العجوز على ت‬
‫ا�صطحابوز�سبيل معنا‪،‬‬
‫�صخور وادي حوران ال�شاهدة على هذا العهد‪.‬‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ُ‬


‫وحديثه عن بقائها الن�سلية الوحيدة التي حتمل بجنني �شريف من‬
‫�أبوين ن�سليني خال�صني‪ ،‬وبدا على وجه غفران و�سبيل انتباههما �إىل‬
‫ما رمى �إليه الرجل كذلك بعدما احمر وجهيهما‪ ،‬غري �أنه �أكمل حديثه‬
‫بدون توقف‪:‬‬
‫ وافق الن�ساىل على ما اقرتحه ذلك الوزير‪ ،‬ووافق ملك‬
‫الأ�شراف كذلك‪ ،‬لكنه ا�شرتط �أن يبقى العهد املخت�ص ب�أرواح‬
‫ال�ضواري �س ًرا بينهم ال يعرفه عامة الأ�شراف‪ ،‬فوافقوا على‬
‫إمتاما لذلك العهد‪� ،‬شربوا جمي ًعا من الك�أ�س الدموية‬
‫ذلك‪ ،‬و� ً‬
‫‪170‬‬
‫التي اختلطت فيها دما�ؤهم مع دماء منر جبلي �أح�ضرها معه‬
‫�أحد الن�ساىل الثالثة‪.‬‬
‫ً‬
‫ملتقطا �أنفا�سه قبل �أن يتحرك �إىل‬ ‫ثم �صمت العجوز ً‬
‫قليل‬
‫اجلدارية الثالثة‪ ،‬ويكمل‪:‬‬
‫  فيما تك ّفلت �أعدا ٌد كبرية من الن�ساىل ب�إعادة بناء اجلدار ‪..‬‬

‫دا‬
‫جانب �آخر منهم با�صطياد �ألف حيوان مفرت�س من �صحاري‬‫تكفل ٌ‬
‫ر‬
‫وجبال اجلنوب‪� ،‬أ�سود ومنور وفهود و�ضباع‪ ،‬و�أخرى ال �أعرفها‪..‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫و�أ�شار �إىل قف�ص مر�سوم به حيوان ي�شبه الأ�سد لكنه يف حجم‬
‫ال‬ ‫ري‬ ‫قط ‪..‬‬

‫بب�لأ�صفاد حديدية �إىل الباحة‬


‫ت‬ ‫ك‬ ‫وتابع‪:‬‬

‫ش‬ ‫ل‬
‫بحرا�سة ملكية يف �سرية كبرية ‪ ..‬ثمن‬
‫أقفا�ص ب�أفواه ُمك ّبلة‬
‫ حملوها يف � ٍ‬

‫و‬ ‫�إىل هناك يف يوم غفران ُمنع فيه عامة الر‬


‫قدموا بن�سائهم احلوامل‬
‫ل‬ ‫ا‬
‫�إىل �أر�ض الباحة للمرة الأوىل يف تاريخ ت‬
‫چارتنيوب�أمر امللك‪،‬‬
‫أ�شراف من الدخول‬
‫تباعا لتتحرك �أجنة زي‬
‫الن�ساىلع داخل‬ ‫ويومها ُذبحت احليوانات ً‬
‫بطون �أمهاتهن ‪..‬‬
‫ثم �سكت ك�أنه تذكر �شي ًئا‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ كان بني احليوانات املذبوحة ثمانية منور فقط من منور ال�شامو‬
‫اجلبلية‪ ،‬الف�صيلة النادرة ذاتها التي حمل روحها الن�سلي‬
‫الزائر الأول‪ ،‬احتفل الن�ساىل ليلتها بحا�صدات �أرواحهم دو ًنا‬
‫عن غريهم من الن�ساء تيم ًنا بذلك الن�سلي‪ ،‬واعتقادًا منهم‬
‫ب�أن �أ�صحاب تلك الأرواح �سي�صبحون قاد ًة لغريهم �إن ثارت‬
‫‪171‬‬
‫يوما ما‪ ،‬حيث كان معرو ًفا عن ذلك النمر قوته‬ ‫�أرواحهم ً‬
‫الكبرية وذكا�ؤه و�سرعته‪ ،‬كذلك �صوت زئريه العايل الذي‬
‫ي�ستنفر به باقي ال�ضواري الأ�ضعف منه ‪ ..‬و ُكتب �أن مو�سيقا‬
‫وعزفت للمرة الأوىل يف‬ ‫ال�شامو ُ�سميت بهذا اال�سم لأنها �أُلفت ُ‬
‫تلك الليلة ‪..‬‬
‫بعد �سبعة �شهور من العهد الدموي كان الن�ساىل قد �أوفوا‬

‫ر‬
‫بعهدهم ب�إمتام بناء اجلدار ‪ ..‬وخالل تلك ال�شهور ال�سبعة‬
‫دا‬
‫ع‬
‫كانت كل الن�ساء قد و�ضعت �أجنتها ب�سالم عدا الثمانية الالتي‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ح�صدن �أرواح منور ال�شامو‪ُ ،‬منت جمي ًعا �أثناء و�ضعهن ‪ ..‬غري‬
‫�أن �أطفالهن قد جنوا ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫وقال وهو يتحرك �إىل اجلدارية التي يظهر فيها ن�سليان يتزوجان‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ر وا تول‬
‫ كذلك �شهدت تلك ال�شهور نية الن�ساىل ال�صادقة يف حياة‬
‫جديدة بعيدة عن حياتهم ال�سابقة‪ ،‬وق ّدموا �إىل الباحة �ستة‬

‫زيع‬
‫�أزواج من العر�سان خالل �أيام غفران تلك ال�شهور ‪ ..‬ومل يتبقَ‬
‫يف هذا العهد �إال �أن ُتنق�ش القاعدة اجلديدة بانتهاء عهد‬
‫انتقال الأرواح الآثمة �إىل الن�ساىل ‪ ..‬فنق�ش البناءون على‬
‫�إحدى القواعد ال�صخرية يف اجلزء الذي بنوه قاعدة تقول‪:‬‬
‫«يبقى الن�ساىل مثلهم مثل الأ�شراف ال مت ّيز بينهم الروح‬
‫النقية»‪.‬‬
‫نظرنا م�شدوهني �إىل اجلدارية التالية التي ُر�سمت فيها قاعدة‬
‫ف�سرها لنا العجوز‪ ،‬قبل‬ ‫ً‬
‫منقو�شا عليها الكلمات التي ّ‬ ‫اجلدار البي�ضاء‬
‫�أن يكمل‪:‬‬

‫‪172‬‬
‫ �إال �أن الأ�شراف قد خانوا عهدهم كعادتهم‪ ،‬بعد يوم واحد من‬
‫اكتمال بناء اجلدار ‪..‬‬
‫وا�ضحا �أمام �أعيننا باجلدارية التي ُر�سمت فيها �أكوام‬
‫ً‬ ‫كان ذلك‬
‫اجلثث العارية حتوم فوقها الطيور اجلارحة‪ ،‬قال الرجل بعدما �أخرج‬
‫زفريه‪:‬‬

‫دا‬
‫ الطغيان مر�ض‪ ،‬من ي�صبه ال يفارقه حتى ميوت ‪ ..‬كذلك‬

‫ع‬ ‫ر‬ ‫الغباء‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ُقرب انتهاء اجلدار ا�ستكرث الأ�شراف على الن�ساىل �أن يت�ساووا‬
‫معهم يف حق ح�صاد الروح النقية‪ ،‬وبد�أت الأل�سنة داخل غرف‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ال�سادة املغلقة تتحدث خو ًفا عن م�صريهم �إن امتلك الن�ساىل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫زمام الأمور وخرجوا عن طوعهم �إن جنحوا يف تقدمي طفلهم‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ذبيحا �إىل �صخور وادي حوران وثارت �أرواح الوحو�ش‬ ‫ال�شريف ً‬
‫داخلهم ‪ ..‬وزاد قلقهم من انت�شار �أخبار حمل ن�ساء الن�ساىل‬

‫زيع‬
‫�صريحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الالتي تزوجن يف الباحة ‪ ..‬رغم �أن العهد كان‬
‫نحوا‬ ‫ُي�شرتط خيانة الأ�شراف لثورة تلك الأرواح ‪� ..‬إال �أنهم ّ‬
‫عقولهم جان ًبا‪ ،‬وفجر اليوم الذي تال اكتمال بناء اجلدار‬
‫�صدر �أمر ملكي ب�إزالة الكلمات املنقو�شة التي نق�شها الن�ساىل‬
‫ووجه قا�ضي الأ�شراف �إىل الن�ساىل تهمة‬ ‫على قاعدة اجلدار‪ّ ،‬‬
‫خيانة چارتني بعدما ا�ستغلوا حاجتها �إليهم ليفر�ضوا قاعدتهم‬
‫اجلديدة‪ ،‬ومل ي�أت م�ساء ذلك اليوم �إال وكان جنود چارتني‬
‫وفر�سانهم قد انطلقوا �إىل وديان الن�ساىل الثمانية ب�أوامر‬
‫وا�ضحة؛‬
‫‪173‬‬
‫ُيقتل كل من تزوج يف الباحة خالل الأ�شهر املا�ضية ً‬
‫رجال‬
‫ون�سا ًء‪ُ ،‬تقتل كل الن�سليات احلوامل �سوا ًء عن زواج �أو رذيلة‪،‬‬
‫ُيعتقل الن�ساىل البالغون و ُيقتادون �إىل �سجون جويدا مقطوعي‬
‫الأل�سنة‪ُ ،‬يقتل كل الأطفال الر�ضع الذين ُولدوا خالل تلك‬
‫الأ�شهر و ُتذاب �أج�سادهم امللعونة يف قوارير �ضخمة من الزيت‬
‫املغلي ‪..‬‬

‫دا‬
‫�أما الأطفال الأكرب �س ًنا ممن مل يبلغوا الع�شر �سنوات ف�أمر‬
‫ر‬
‫ع‬
‫امللك برتكهم �أحياء لي�صبحوا ب�أعدادهم الكبرية نوا ًة لن�سل‬
‫ص‬
‫ري‬
‫جديد من الن�ساىل ال يعرف �شي ًئا عن العهد الدموي يف حوران‬
‫ال‬
‫م�ؤيدً ا ن�صيحة �أحد م�ساعديه باحتمالية حاجة اجلدار �إليهم‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫م�ستقبل ‪ ..‬ف ُاقتيدت الفتيات يف �سن ال�سابعة والثامنة �إىل‬
‫ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫بيوت الرذيلة يف مدن چارتني‪ُ ،‬كتب �أن الفتاة الن�سلية كانت‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�سفاحا يف �سن الثانية ع�شرة ‪ ..‬ومع كل حمل لإحداهن‬ ‫حتمل ً‬
‫كان ُيقدم �أحد امل�ساجني مقطوعي الأل�سن �إىل من�صة الباحة‬

‫زيع‬
‫ل ُيعدم وتنتقل روحه �إىل ن�سلي جديد ُيولد ال يعرف �شي ًئا عن‬
‫عهد �أ�سالفه ‪..‬‬
‫ثم هد�أ �صوت الرجل‪ ،‬ونظر �إىل متثال الن�سلي الزائر املنت�صب يف‬
‫منت�صف الغرفة‪:‬‬
‫ مل يعرف الأ�شراف وملكهم �أن كث ًريا من �أولئك الر�ضع حا�صدي‬
‫الأرواح الزائرة قد مت تهريبهم �إىل اجلبال قبل قدوم اجلنود‬
‫‪ ..‬قيل �أن الوزير احلكيم الذي �صاغ العهد الدموي هو من �أبلغ‬
‫الن�ساىل بقدوم الأ�شراف ‪ ..‬كما قيل �أن ذلك الوزير َمن قام‬
‫برعايتهم يف اجلبال �إىل �أن �ش ّبوا واختلطوا مع جيل الن�ساىل‬
‫‪174‬‬
‫اجلديد من غري �أن يخربهم ع ّما حتمله �أج�سادهم ‪..‬‬
‫كانت جميعها افرتا�ضات ‪ ..‬مل يعرف مد ّونو ال�سطور داخل‬
‫هذا الكهف حقيقة ما حدث لأولئك الأطفال بعد تهريبهم‪� ،‬أو‬
‫�أعداد الناجني منهم‪ ،‬لكن الأمر امل�ؤكد �أن الأ�شراف مل يعرثوا‬
‫عليهم قط‪ ،‬واكتفوا بتحقيق ما �أرادوه ب�إن�شاء جيل ن�سلي جديد‬
‫يبقى �أبد العمر خان ًعا �أ�سفل �أقدام الأ�شراف ‪ ..‬ن�سل ُح ّرم‬

‫ر‬
‫عليه الذهاب �إىل وادي حوران‪ ،‬وال يعرف معجم كلماته معنى‬
‫دا‬
‫ع‬
‫الزواج يف باحة جويدا ‪..‬‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ُطم�س كل �شيء بخ�صو�ص ذلك العهد الدموي ‪ ..‬مل يعرف‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الأ�شراف كتا ًبا واحدً ا حتدث عنه ‪ ..‬ومل تتكلم �أغنية واحدة‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫عن يوم الغفران الذي ُذبحت فيه حيوانات ال�صحاري ‪ ..‬كان‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫امللك ماك ًرا بعدم علم عامة الأ�شراف �شي ًئا عن ذلك اليوم ‪..‬‬

‫ر وا تول‬
‫باق بعدما خ�ضع �إليها‬‫ثم تكفلت القاعدة الأوىل مبحي كل �أثر ٍ‬
‫يف خالل ع�شر �سنوات كل من �شهدوا ذلك العهد من �سادة‬

‫زيع‬
‫الأ�شراف ‪ ..‬لي�صري رمادًا ذ ّرته رياح ال�سنوات وك�أن �شي ًئا مل‬
‫يكن ‪..‬‬
‫قالت ال�سطور بجوار اجلدارية الأخرية �أن حاملي الأرواح‬
‫الزائرة اخلامدة قد �ش ّبوا واندجموا بني الن�ساىل دون معرفة‬
‫ما ميتلكون بداخلهم‪ ،‬عا�شوا ن�ساىل وماتوا ن�ساىل تتناقل‬
‫�أرواحهم بالباحة من جيل �إىل جيل‪.‬‬
‫ثم توقف عن احلديث‪ ،‬والتقط �أنفا�سه من جديد ‪ ..‬فقالت غفران‪:‬‬
‫ من د َّون هذا التاريخ؟!‬
‫‪175‬‬
‫قال الرجل‪:‬‬
‫ مل ُيذكر �شيء عنهم ‪ ..‬امل�ؤكد يل �أنهم من �أجيال متفاوتة‪،‬‬
‫كذلك �أعتقد �أنهم من الأ�شراف ولي�س الن�ساىل‪ ،‬رمبا �شريف‬
‫�صار ن�سل ًيا ‪ ..‬رمبا كان �أحد �أجدادي الذين �أو�صوا بتوريث‬
‫جيل بعد جيل‪ ،‬ال �أعرف‪ ،‬لكنه يبقى ً‬
‫تاريخا‬ ‫خمطوطاتهم ً‬
‫حقيق ًيا‪ُ ،‬قدر يل �أن �أجده‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ثم جل�س لريت�شف م�سحوقه الع�شبي بعدما �أ�صابته نوبة ال�سعال‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫التي �أ�صابته يف الليلة املا�ضية‪ ،‬وتوقف عن احلديث لدقائق ليرتكنا‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫لأفكارنا ‪ ..‬كان ما حتدث به ذلك الرجل يفوق ما كنا نتوقعه‪ ،‬فوقفنا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مبهوتني ننظر �إىل اجلداريات يف حالة من الذهول والت�شتت ‪� ..‬إىل‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أن �س�ألته غفران‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ ملاذا انتظرت كل هذا الوقت لت�أتي �إ ّ‬

‫ر وا تول‬
‫يل؟!‬
‫قال الرجل‪:‬‬

‫زيع‬ ‫ لقد انتظرت الوقت املنا�سب فح�سب‪.‬‬


‫ثم نه�ض بعدما هد�أ �سعاله‪ ،‬وحمل �شعلته‪ ،‬و�أ�شار نحو باب بجانب‬
‫اجلدارية الأخرية‪ ،‬و�س�ألنا �أن نتبعه بحذر ‪� ..‬سرنا خلفه‪ ،‬كان ذلك‬
‫الباب م�ؤد ًيا �إىل �سرداب �ضيق ت�ش ّعب �إىل �سراديب مت�شعبة هبطت‬
‫بنا �إىل الأ�سفل ‪ ..‬كانت جميع جدرانها منقو�شة بالتدوينات‪ ،‬وقال‬
‫الرجل وهو يكمل تقدمه‪:‬‬
‫فوت‬
‫ �إنها الق�صة الكاملة التي حكيتها لكم ‪� ..‬أمتنى �أال �أكون قد ُّ‬
‫�شي ًئا ‪..‬‬
‫‪176‬‬
‫�إىل �أن و�صل بنا �إىل غرفة �أخرى دائرية ‪ ..‬و�أ�شعل نريان �أحوا�ضها‬
‫مثل نريان الغرفة الأوىل لتت�سع حدقات �أعيننا وتبلغ دقات قلوبنا‬
‫�أق�صاها عندما ظهرت �أمامنا جداري ٌة عظيمة واحدة ُر�سمت على‬
‫جلي�ش عظيم من الن�ساىل �أ�صحاب الأج�ساد‬
‫امتداد حوائطها الدائرية ٍ‬
‫العارية ال�ضخمة‪� ،‬أو ما �سماهم الرجل ‪ ..‬الن�ساىل الزائرين‪..‬‬
‫كان عددهم كب ًريا للغاية‪ ،‬مرتا�صني يف �صفوف كثرية‪ ،‬ينظرون‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫جميعهم يف حما�س نحو قائدهم الذي وقف �أمامهم على رابية مرتفعة‬
‫ع‬
‫ينظر �إليهم راف ًعا يده اليمنى �إىل ال�سماء بقب�ضة مغلقة‪ ،‬فاغ ًرا فاه‪.‬‬
‫ص‬
‫ري‬
‫ لقد �آن للن�ساىل �أن ا‬
‫تزل�أر �أرواحهم‪.‬‬
‫فقال العجوز ‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لن‬ ‫بل‬ ‫‪b‬‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫وال وت‬
‫زيع‬

‫‪177‬‬
‫(‪)14‬‬
‫غفران‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬ ‫ص‬
‫ري‬
‫ت�ساءلت يف ذهول و�أنا �الأح ّدق يف الن�ساىل املر�سومني على امتداد‬
‫احلائط الدائري للغرفة ك�أنني �ك‬
‫أقفتبينهم‪:‬‬
‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ من �أين يخرج هذا اجلي�ش؟! ب ل‬


‫ر‬ ‫ش‬
‫وا ول‬
‫ت‬ ‫قال العجوز‪:‬‬
‫زيالأخرى‬
‫ع‬ ‫واديك‪ ،‬ن�ساىل الوديان‬
‫ من الن�ساىل �أنف�سهم ‪ ..‬ن�ساىل ِ‬
‫تركوك وعادوا �أ�سفل �أقدام الأ�شراف‬
‫ِ‬ ‫‪ ..‬الن�ساىل الذين‬
‫خانعني خو ًفا من املوت ‪ ..‬لن ت�سمح لهم هذه الأرواح باخلنوع‬
‫مرة �أخرى ‪..‬‬
‫و�أ�ضاف‪:‬‬
‫أرواحا زائرة‪ ،‬لكن الباقني‬
‫ لي�س جميعهم بالطبع يحملون � ً‬
‫�سيكت�سبون قد ًرا كب ًريا من ال�شجاعة ما �إن يجدوا ه�ؤالء‬
‫ال�شجعان يف �صفهم‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫ف�س�أله فا�ضل وهو ينظر �إىل َمن ُر�سم واق ًفا �أمامهم‪:‬‬
‫  َومن هذا القائد؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ ال �أعرف ‪ ..‬قد يكون الن�سلي الزائر الأول ‪ ..‬قد يكون �أحد‬
‫حا�صدي �أرواح منور ال�شامو الثمانية مثلما اعتقد الن�ساىل‬
‫و�أكمل‪:‬دا‬
‫القدامى ب�أنهم ُخلقوا ليقودوا غريهم ‪..‬‬
‫ر‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫  ُر�سمت هذه اجلدارية ً‬
‫ن�سخا للن�سلي الذي ُر�سم يف اجلدارية‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الأخرية‪ ،‬مل �أحدثكم عنها لكنها لن�سلي ثارت روحه يف وقت‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫بعيد عن حقبة العهد الدموي ‪� ..‬أُعتقل و�أُعدم بالباحة‪ ،‬وهناك‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫من د ّون ور�سم حلظة اعتقاله هنا ‪..‬‬

‫ر وا تول‬
‫كتب املد ِّون �أن الأ�شراف مل يفهموا قط ما به وقتها‪ ،‬و�إال مل‬

‫زيع‬
‫يكونوا قد �أعدموه بالباحة لتنتقل روحه �إىل ن�سلي جديد يف‬
‫جهل �شديد منهم‪� ،‬إال �أنهم تعمدوا �إخفاء ذلك امل�شهد يف‬
‫تاريخهم وكتبهم فيما بعد خ�شية �أن تنتقل ال�شجاعة التي‬
‫�أظهرها �إىل الن�ساىل ‪..‬‬
‫لكن ذلك احلدث مل مير مرور الكرام على مد ِّون ال�سطور‬
‫واجلداريات هنا‪ ،‬فظل يبحث ل�سنوات طويلة عن �آخرين زائرين‬
‫يف ال�صحاري‪ ،‬خا�ص ًة بالوديان التي زاد بها بط�ش الأ�شراف‪،‬‬
‫ليد ِّون م�ؤكدً ا �أن هناك بع�ض الأرواح قد �ش ّذت عن خمودها‬
‫ورجح هو‬
‫بالفعل مع عدم حتمل حا�صديها لإيذاء الأ�شراف‪ّ ،‬‬
‫الآخر �أن حا�صدي �أرواح منور ال�شامو كانوا هم �أ�صحاب تلك‬
‫‪180‬‬
‫الأرواح الثائرة خالل القرون املا�ضية م�ستندً ا �إىل زئري �سمعه‬
‫لأحدهم كتب �أنه مل ي�سمع يف قوته قط‪ ،‬ثم �أكد يف �سطوره �أن‬
‫قواهم مل تكتمل قط‪ ،‬لديهم قوة �أكرب من باقي الن�ساىل ‪..‬‬
‫�سرعة �أكرب حني تثور �أرواحهم ‪ ..‬لكنها ال تزال خامدة‪ ،‬تكتمل‬
‫قواها بعد �أن تروي دماء الطفل �صخور وادي حوران‪.‬‬
‫جتاهلت نظرته اللئيمة �إىل �سبيل‪ ،‬و�س�ألتُه‪:‬‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ هل هناك ما مي ّيز حا�صدي �أرواح منور ال�شامو؟‬
‫هز ر�أ�سته ناف ًيا‪،‬ع وقال‪:‬‬
‫ري‬ ‫ص‬
‫ يبقى حا�صدو ال ال‬
‫ك‬
‫أرواح كلهم مثلهم مثل باقي الن�ساىل ‪ ..‬لن‬
‫�صادفتت�سماع زئريه‪.‬‬
‫متنيت لو كان ريان بيننا لي�ؤكد ب‬
‫تعريف �أحدهم �إال �إن‬
‫لذلك ل‬
‫ِ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫الرجل ما ر�آه وما حكاه لنا‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫مرا ًرا عما كان يحدث لندمي‪ ،‬لكن الطبيب قاطعرتفكريي عندما �س�أل‬
‫وال وت‬
‫ هل ي�ستطيع حاملو �أرواح ال�شامو ا�ستنفار باقي الأرواحزيع‬
‫الرجل‪:‬‬
‫اخلامدة‬
‫ح ًقا؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ جميعها تنب�ؤات مبنية على معرفة الن�ساىل القدامى لطبيعة‬
‫تلك النمور ‪ ..‬كما �أن حاملي هذه الأرواح ال يعرفون ما ميلكونه‬
‫بداخلهم ‪..‬‬
‫و�أ�ضاف‪:‬‬
‫‪181‬‬
‫ �إنني مل �أ�سمع زئ ًريا واحدً ا منذ �آخر زئري �سمعته قبل ع�شرين‬
‫عاما ‪ ..‬تبقى احتمالية موتهم خارج الباحة لتنتهي روحهم دون‬ ‫ً‬
‫أج�ساد �أخرى واردة ‪� ..‬إنهم ثمانية فقط عرب تلك‬
‫االنتقال �إىل � ٍ‬
‫القرون جميعها ‪..‬‬
‫�إن يف يدنا الآن القدرة على �إيقاظ الأرواح الزائرة كلها دون‬
‫احلاجة �إىل �أي منهم ‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫وتابع بحما�س‪:‬‬
‫ لن حتتاجع�سبيل �إىل الذهاب �إىل وادي حوران ‪ ..‬جنح بناة هذا‬
‫ري‬ ‫الكهف يف �أنص‬
‫روا للن�ساىل ما ي�ضمن لهم �إمتام عهدهم هنا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ّ‬
‫ف‬ ‫يو‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ ..‬لقد �صنعوا متثال الن�سلي الزائر الذي ر�أيتموه يف الغرفة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫كان وجه �سبيل يعت�صر رع ًبا عندما ل‬
‫حوران ‪..‬‬ ‫الأخرى من �صخور وادي‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫وا ول‬
‫انتهى الرجل من جملته‪ ،‬لكن‬
‫ت‬ ‫الطبيب وا�صل �أ�سئلته‪:‬‬
‫ قلت �أن الأم التي ح�صدت روح منر ال�شامو الز‬
‫أولي والأمهات‬
‫ع‬
‫الثماين الالتي ح�صدن �أرواح النمور من تلك الف�صيلة قد ُمنت‬
‫جمي ًعا �أثناء و�ضعهن ‪..‬‬
‫قال الرجل‪:‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫قال الطبيب‪:‬‬
‫ هل ذكرت التدوينات كيف ماتت تلك الأمهات؟‬
‫‪182‬‬
‫قليل‪ ،‬ثم �أ�شار لنا ‪-‬وك�أنه تذكر �شي ًئا‪ -‬ب�أن ن�سري من‬
‫فكر الرجل ً‬
‫خلفه نحو �سرداب كنا قد عربناه من قبل ‪ ..‬نظرتُ �إىل الطبيب بعدما‬
‫يل ووا�صل حتركه خلف الرجل‪� ،‬إىل‬ ‫فهمت ما يفكر فيه‪ ،‬لكنه مل ينتبه �إ ّ‬
‫�أن وقف بنا �أمام جدار منقو�ش ب�أكمله بالكلمات الچارتينية القدمية‪،‬‬
‫وبد�أ يقر�أ بعينه ما تظهره �أمامه �شعلته‪ ،‬ثم حترك خطوة بعد خطوة‬
‫�أمام اجلدار وهو يقر�أ ما �أمامه ب�شفاه متحركة دون �أن ي�صدر �صوت‪،‬‬

‫دا‬
‫حتى �أ�شار ب�سبابته نحو بع�ض ال�سطور‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫ع‬
‫أعرا�ض واحدة حدثت مع الثماين‪ ،‬ت�شنجات قوية بد�أت يف‬‫ر‬ ‫ � ٌ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ال�ساعات التي تلت ح�صدهن الأرواح ‪ ..‬وازدادت قوة مع‬
‫اقرتاب موعد والدتهن ب�صورة مل ينجح معها �أي ع�شب بري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫‪� ..‬إىل �أن بلغت ذروتها �أثناء و�ضعهن ‪ ..‬مل ي�ستطعن النجاة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫منها‪ ،‬لكن �أطفالهن قد ُولدوا ب�سالم ‪ ..‬حدث ذلك مع جميع‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫الأمهات‪.‬‬
‫نظر الطبيب نحوي دون �أن يقول �شي ًئا للرجل‪ُ ،‬‬
‫فهمت من اللحظة‬

‫زيع‬
‫الأوىل �أنها الأعرا�ض ذاتها التي حكاها يل ب�أنها حدثت لدميا �أخت‬
‫ريان الكربى حا�صدة روح ندمي لطفلها‪ ،‬وظن �أنها نوع من �أنواع‬
‫ال�صرع‪ ،‬فهززتُ ر�أ�سي �إليه خل�س ًة ‪ ..‬ثم عاد بنا الرجل �إىل غرفة‬
‫اجلداريات ومتثال الن�سلي الزائر‪ ،‬وهناك قال ل�سبيل‪:‬‬
‫إنك الأمل الوحيد‬
‫يديك يا �صغريتي‪ِ � ،‬‬
‫ الآن �صار الأمر يف ِ‬
‫طفلك هنا و�أن ّ‬
‫تلطخ دما�ؤه �أحجار‬ ‫للن�ساىل ‪ ..‬ال بد و�أن ُيذبح ِ‬
‫هذا التمثال من �أجل قومك‪.‬‬
‫نظرت الفتاة �إ ّ‬
‫يل بعينني ممتلئتني بالدموع واخلوف ك�أنها تنتظرين‬
‫�صمت مفكرة ب�أ�شياء �شغلت بايل‬
‫بدل عنها ‪ ..‬فقلت بعدما ُّ‬ ‫�أن �أقرر ً‬
‫‪183‬‬
‫منذ بد�أ العجوز ق�صته‪:‬‬
‫ قلت �إنك ر�أيت ن�سليني زائرين من قبل ‪ ..‬كان �أحدهما ي�أكل‬
‫�أح�شاء �صديقك‪ ،‬والآخر �أكل جز ًءا من ج�سد �أحد �أثرياء‬
‫الأ�شراف الظاملني ‪..‬‬
‫قال الرجل‪:‬‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫ نعم‪.‬‬
‫هنيهة �أخرى من ال�صمت‪:‬‬‫ع‬
‫ �أعلم كم ص‬
‫بعد‬ ‫فقلت‬
‫ري االن�ساىل للظلم وكم نحن يف حاجة �إىل َمن‬
‫يدافع عنا‪ ،‬لكن �إنل كان ما ر�أيناه حقيق ًيا وثارت تلك الأرواح‬
‫يتعر�ض‬

‫ك �تأيقظنا �إال ً‬
‫وحو�شا �ضارية لن تف ّرق‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫بني الأ�شراف والن�ساىل ‪ ..‬و�إن ل‬
‫بداخل الن�ساىل فلن نكون‬
‫الأ�شراف فلن مي ّيزوا بني �صاحلي الش‬
‫ا�ستطاعوا التفرقة بيننا وبني‬
‫ر‬
‫يف ّرقوا بني طفل وامر�أة وبني جندي يحملوال وت‬
‫أ�شراف وفا�سديهم ‪ ..‬لن‬

‫هياجازي‬
‫ال�سالح �ضدهم ‪..‬‬
‫عظيع ًما لبحر‬ ‫�سي�أتون على الأخ�ضر والياب�س‪� ،‬سيكونون ً‬
‫�أكما يف �صورة �آكلي حلوم الب�شر‪ ،‬لت�صبح چارتني اجلحيم‬
‫بذاته ‪..‬‬
‫�أيها ال�سيد‪� ،‬أعلم �أنك عانيت كث ًريا بعد جتاوزك القاعدة‬
‫الأوىل ‪ ..‬وعانيت حتى و�صلت �إىل هذا الكهف ‪ ..‬و�أعلم �أنك‬
‫متاما ‪..‬‬
‫كنت تنتظر قدوم الطفل الأول بفارغ ال�صرب مثلنا ً‬
‫لكني لن �أ�سامح نف�سي ما حييت �إن كنت �سب ًبا يف موت هذا‬
‫الطفل وموت الكثريين من بعده �إن ثارت تلك الوحو�ش ‪..‬‬
‫‪184‬‬
‫أكملت‪:‬‬
‫ونظرتُ �إىل �سبيل و� ُ‬
‫ �إن كان هناك �أمل للن�ساىل فهو بقاء طفل هذه الفتاة ح ًيا‬
‫لي�سعى الن�ساىل ليكونوا مثله �أ�شرا ًفا طيبني بعيدين عن حياة‬
‫القتل وال�سرقة والرذيلة و�إن هزمتهم �أنف�سهم اخلائفة هذه‬
‫الأيام ‪..‬‬

‫دا‬
‫�إنني �أرف�ض عر�ضك �سيدي‪ ..‬وكذلك �أرى �أن �صاحبة ال�ش�أن‬
‫ر‬
‫توافقني يف هذا القرار‪.‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫�أوم�أت �سبيل بر�أ�سها موافق ًة على الفور‪ ،‬ف�صاح الرجل نحوي‬
‫ال‬ ‫بانفعال‪:‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫عر�ضا مني ‪� ..‬إنه حق الن�ساىل الذين عانوا من الظلم‬ ‫ �إنه لي�س ً‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫كل هذه ال�سنوات ‪ ..‬ماذا تنتظرين؟!! �أن يحقق الأ�شراف‬

‫ر وا تول‬
‫العدالة بينهم وبني الن�ساىل ب�أنف�سهم؟! ‪� ..‬إن التاريخ ال يكذب‪،‬‬
‫أنت خري من تعرفني �صدق كل كلمة هنا ‪..‬‬ ‫و� ِ‬

‫زيع‬ ‫آجل �أم ً‬


‫عاجل ‪� ..‬سيقتلك‬ ‫ال تو ّدين موتهم؟!! ‪� ..‬سيقتلك كيوان � ً‬
‫و�سيقتل هذه الفتاة و�سيقتل طفلها‪ ،‬و�سنكون قد �أ�ضعنا بغبائك‬
‫ً‬
‫م�ستقبل‪ ،‬ولن ي�ساحمنا الن�ساىل‬ ‫فر�ص ًة عظيمة لن ت�أتي �أبدً ا‬
‫على �ضياعها �أبدً ا‪.‬‬
‫بثبات كبري‪:‬‬
‫قلت ٍ‬
‫أنا�سا‬
‫ لن �أفعل ذلك‪ ،‬لن ي�ستطيعوا تروي�ض �أرواحهم‪� ،‬سيقتلون � ً‬
‫�أبرياء‪.‬‬
‫�صرخ الرجل بنربة �أعلى من نربته ال�سابقة‪:‬‬
‫‪185‬‬
‫ �س ُيقتلون هُ م �إن مل ُترث �أرواحهم ‪ ..‬لو علم كيوان ب�أمر هذا‬
‫الكهف �سيقتل كل ن�سلي بالغ ‪� ..‬سيعيد تكرار ما حدث للن�ساىل‬
‫بعد �إكمالهم اجلدار ‪� ..‬سيقتل الن�ساىل جميعهم خارج باحة‬
‫جويدا لتنتهي تلك الأرواح للأبد ‪� ..‬سيبيد من تنتظرينهم‬
‫رجل �أو ً‬
‫طفل �أو امر�أ ًة هذه‬ ‫�أن يحذو حذو �سبيل ‪ ..‬لن يرتك ً‬
‫املرة‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ف�صرخت فيه‪:‬‬
‫ُ‬

‫ص‬ ‫  لن � ع‬
‫ففوجئت به يجذبري ال‬
‫أفعلها‪.‬‬

‫ك‬
‫�سبيل نحوه فج�أ ًة‪ ،‬وي�ضم عنقها �أ�سفل ذراعه‬ ‫ُ‬
‫ت‬
‫بل‬
‫وي�ضع ن�صله على بطنها‪ ،‬ويقول اله ًثا‬ ‫بقوة‪ ،‬ويخرج �سكي ًنا من ثيابه‪،‬‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫ لن تخرج الفتاة من هنا حتى ت�ضعش‬
‫بعينني غا�ضبتني‪:‬‬
‫ر‬
‫�إىل �شق بطنها و�إخراجه وذبحه الآن‪ .‬وال وت‬
‫مولودها ‪ ..‬و�إن ا�ضطررتُ‬

‫زيع‬ ‫قلت بارتباك �شديد‪:‬‬‫ُ‬


‫ �أرجوك �سيدي ‪� ..‬أرجوك ‪..‬‬
‫وكذلك �صرخ الطبيب �إليه‪:‬‬
‫ �أيها ال�سيد ‪� ..‬أرجوك ‪� ..‬إنها الأمل الوحيد املتبقي لنا ‪..‬‬
‫�صرخ الرجل بنا‪:‬‬
‫ �إن الأمل يف تلك الأرواح ‪..‬‬
‫‪186‬‬
‫كان يقب�ض ب�ساعده بقوة على رقبة �سبيل‪ ،‬وبد�أ يج ّرها خطوات‬
‫�إىل اخللف وهو يقول‪:‬‬
‫ لن تخرج من هنا ‪� ..‬س�أرعاها حتى ت�ضع مولودها ‪..‬‬
‫فكرتُ �أن �أخرج خنجري املُث ّبت حول �ساقي الأمين‪ ،‬و�أ�ص ّوبه نحوه‬
‫يف ظل التعب الذي بدا على وجهه وهو يج ّر �سبيل ‪ ..‬لكن فا�ضل‬

‫دا‬
‫حماول تهدئته ليقف ً‬
‫حائل بيننا‪ ،‬ثم وجد ُته‬ ‫ً‬ ‫اقرتب منه راف ًعا يده‬
‫ر‬
‫يقول للعجوز‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫قائد‬
‫ �أيها ال�سيد ‪� ..‬إن غفران حمقة‪� ،‬إن ثار ه�ؤالء بدون ٍ‬
‫ال‬
‫يحجم قواهم �سيكون اجلحيم ذاته‪ ،‬ولن تغفر �أبدً ا لنف�سك‬ ‫ّ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ما �سيحدث ‪� ..‬أيها ال�سيد‪ ،‬هناك فر�صة �أخرى ال�ستنفارهم‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫دون احلاجة لدماء هذا الطفل ‪ ..‬ويف الوقت ذاته �سن�ضمن‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫يحجم قواهم ‪� ..‬أرجوك‪ ،‬ما زال هناك َمن يحمل‬ ‫وجود من ّ‬

‫ر وا تول‬
‫روح �أحد منور ال�شامو على قيد احلياة ‪� ..‬أق�سم لك بذلك‬
‫‪ ..‬قتلته غفران على من�صة الباحة‪ ،‬و ُولد على يدي ‪ ..‬ماتت‬
‫زيع‬
‫�أمه بالت�شنجات نف�سها التي �أ�صابت الأمهات الثماين ‪ ..‬كنت‬
‫خمط ًئا حني ظننتها ً‬
‫نوعا من �أنواع ال�صرع ‪..‬‬
‫نظر الرجل �إىل الطبيب بعينني مت�شككتني ‪� ..‬أما �أنا فهززتُ ر�أ�سي‬
‫خائبة الرجاء‪ ،‬مل �أرد قط �أن يخربه فا�ضل بهذا الأمر ‪ ..‬تابع فا�ضل‬
‫�إىل الرجل‪:‬‬
‫ �أرجوك اتركها ‪ ..‬قد يعود ذلك ال�صبي �إلينا ‪ ..‬كان حامل‬
‫الروح من قبله با�ستطاعته حتجيم روحه من �أجل غفران ‪..‬‬
‫لقد حكى لنا ريان الذي ر�أيته معنا بالأم�س كث ًريا عن ذلك‬
‫الأمر ومل نكن ن�ص ّدقه ‪..‬‬
‫‪187‬‬
‫ف�صرخت يف الطبيب مقاطع ًة له‪:‬‬
‫ُ‬
‫ �إنه لي�س ندمي ‪ُ ..‬يولد كل طفل بطباع خمتلفة ‪ ..‬وهذا الطفل‬
‫ُولد لأب غجري ‪� ..‬سيكون �أ�سو�أ و�أ�سو�أ ‪..‬‬
‫جتاهل العجوز �صراخي‪ ،‬و�س�أل الطبيب‪:‬‬
‫ �أين هو؟!‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ارتبك وجه فا�ضل وهو يقول‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫ لقد فقد ُته منذ عام ‪ ..‬لكنه يبقى يف چارتني ‪..‬‬
‫�أطلق العجوز �إمياءة البذيئة وقب�ض بذراعه ب�شدة على عنق �سبيل‬
‫ت‬ ‫‪ ..‬فقال الطبيب‪ :‬ك‬
‫ �أق�سم �أنه يحمل ًروحا من ب‬
‫تلك للانلأرواح ‪ ..‬ر� ُ‬
‫جدار چارتني حني ر�آه للمرة الأوىلش‬
‫أيت نظرته �إىل‬
‫أيت القوة يف‬ ‫ر‬
‫عينيه وهو ي�صيب �أنف �أحد ال�ضباط وا ول‬
‫هنا ‪ ..‬ور� ُ‬
‫املعتدينتعلى الن�ساىل ‪..‬‬
‫ع‬
‫هناك �شريفة‬‫ي‬ ‫ز‬ ‫أيت ال�سرعة التي كان يفر بها من اجلنود ‪..‬‬
‫ور� ُ‬
‫�أخذته �إىل حيث ال نعرف ‪ ..‬لكنه �سيعود‪� ..‬إن ال�ضواري دائ ًما‬
‫ما حتن �إىل �أوطانها ‪..‬‬
‫نظر الرجل نحوي فج�أ ًة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫يحجم روحه من �أجلك؟!‬
‫ كان يحبك؟! هذا الذي كان ّ‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي يف انفعال‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ نعم‪.‬‬
‫‪188‬‬
‫نظر �إيل الطبيب‪ ،‬و�س�أله‪:‬‬
‫ كم عمر حا�صد روحه الآن؟!‬
‫قال فا�ضل‪:‬‬
‫ ع�شر �سنوات‪.‬‬

‫دا‬
‫قال‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ لن تهيج روحه �إال بعد �ستة �سنوات �إنْ هاجت ‪� ..‬سيكون‬

‫ري‬‫ص‬
‫الأ�شراف قد �أذاقوا الن�ساىل �ألوا ًنا �أخرى من العذاب والذل ‪..‬‬
‫ال‬
‫وقب�ض بذراعه غا�ض ًبا على عنق �سبيل‪ ،‬فتهاوت الفتاة ُمغلق ًة‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫عينيها ك�أنها فقدت وعيها‪ ،‬وانزلقت بقدميها �إىل �أ�سفل‪ ،‬ف�صرخ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫فا�ضل نحوه ب�أنها �ستموت‪ ،‬فارتبك الرجل ك�أنه مل يت�أهب حلدوث‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ذلك ‪ ..‬حاول فا�ضل االقرتاب منه‪ ،‬لكنه �صرخ به ب�أال يتحرك‪ ،‬وحاول‬
‫حتركت خطوتني جان ًبا‬
‫ُ‬ ‫جذبها بذراع واحدة �إىل �أعلى من جديد ‪..‬‬

‫زيع‬
‫عن مكاين دون �أن ي�شعر‪ ،‬كانت الفر�صة �سانحة للغاية يل وهو م�شتت‬
‫قلت يف �سري‪:‬‬
‫الذهن بني حركة فا�ضل وجذب الفتاة �إىل الأعلى ‪ُ ..‬‬
‫ �أعلم �أيها ال�سيد �أنك حتب الن�ساىل وتكره القواعد مثلي ‪..‬‬
‫لكني لن �أ�سمح لأحد ب�أن يقتل �آخر �أمل يل ‪..‬‬
‫رفعت �ساقي اليمنى نحو يدي لينك�شف عنها‬ ‫ُ‬ ‫وبخفة �شديدة‬
‫أخرجت خنجري وقذفتُه جتاهه بكل‬ ‫ُ‬ ‫طرف ف�ستاين‪ ،‬ويف ملح الب�صر �‬
‫طاقتي‪ ،‬ليخرتق ن�صله فخذه الأمين �أعلى ر�أ�س �سبيل مبا�شرة ‪..‬‬
‫�صرخ الرجل من الأمل‪ ،‬و�سقط �إىل اخللف تار ًكا �سبيل‪ ،‬فوثب الطبيب‬
‫اقرتبت من �سبيل وهززتُ‬
‫ُ‬ ‫نحوه و�أم�سك بيده ليلقي ب�سكينه بعيدً ا ‪..‬‬
‫‪189‬‬
‫كتفها كي حتدثني‪ ،‬فتحت عينها‪ ،‬فقلت لفا�ضل؛ �أنها بخري‪ ،‬فوجد ُته‬
‫يخلع قمي�صه لريبطه حول فخذ العجوز دون �أن يخرج اخلنجر منه ‪..‬‬
‫حملت ال�شعلة التي كان مي�سك بها‬‫�ساعدتُ �سبيل على النهو�ض‪ ،‬ثم ُ‬
‫وتقدمت �أمام �سبيل‪ ،‬ثم تبعنا فا�ضل‬
‫ُ‬ ‫العجوز �أثناء عبورنا ال�سراديب ‪..‬‬
‫بعدما انتهى من ربط فخذ العجوز الذي تركناه راقدً ا ي�صرخ نحونا‬
‫ب�أن كيوان �سيقتلنا و�سيقتل كل الن�ساىل‪ ،‬وظل ي�س ّبنا ب�أقذر ال�سباب‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫وا�صلنا تقدمنا عرب ال�سراديب التي دلفنا عربها �إىل �أن و�صلنا‬
‫ع‬
‫ال�شق ال�ضيق الذي كنا قد عربناه عند دخولنا ذلك الكهف‪ ،‬عربناه‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫واحد وراء الآخر لنخرج �إىل خارج الكهف‪ .‬كانت ال�شم�س على و�شك‬
‫أم�سكت �أنا بيدها الأخرى‪،‬‬
‫الغروب ‪� ..‬أم�سك الطبيب بيد �سبيل فيما � ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫وهبطنا منحدر اجلبل بتمهل �شديد ‪ ..‬كان الهبوط �أكرث �صعوبة من‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ال�صعود خا�ص ًة مع الدوار الذي �أ�صابني عند النظر �إىل قاع اجلبل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ووا�صلت هبوطي معهما بحذر‪� ،‬إىل‬
‫ُ‬ ‫متالكت نف�سي‬
‫ُ‬ ‫من �أعلى ‪ ..‬لكنني‬
‫�أن و�صلنا قاع اجلبل‪ ،‬وعربنا املمرات ال�صخرية والتالل ال�صغرية‬

‫زيع‬
‫�إىل العربة واحل�صانني اللذ ْين افرت�شا الأر�ض بج�سديهما ‪ ..‬تركنا‬
‫ح�صان العجوز‪ ،‬وحتركنا بالعربة يج ّرها احل�صان الذي جاء به ريان‬
‫‪ ..‬قال الطبيب الذي �أم�سك باللجام‪:‬‬
‫ �أخ�شى �أن نتوه بني املمرات املت�شعبة التي جئنا عربها ‪..‬‬
‫فقالت �سبيل‪:‬‬
‫وع�شت بني الوديان‪ ،‬و�أ�ستطيع اقتفاء �آثار الأقدام ‪..‬‬
‫ُ‬ ‫  ُولدت‬
‫�س�أقتفي �آثار الطريق الذي جئنا عربه �إن �ضللنا‪.‬‬
‫لكن الليل كان قد ح ّل بعد حتركنا بفرتة ق�صرية‪ ،‬فا�ضطررنا‬
‫‪190‬‬
‫�إىل املبيت مكاننا‪ ،‬على �أن نتحرك من جديد مع �شروق �شم�س اليوم‬
‫التايل ‪..‬‬
‫قال الطبيب حني جل�سنا بجوار العربة بالكاد نرى وجوه بع�ضنا‬
‫البع�ض مع ظالم الليل‪:‬‬
‫ �سيموت هذا الرجل من نزيف فخذه ‪..‬‬

‫دا‬
‫قلت‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ مل �أمتنَ �أن تنتهي الأمور هكذا‪ ،‬لكني مل �أكن لأ�سمح له �أن‬

‫ري‬‫ص‬ ‫ي�ؤذي �سبيل ‪..‬‬


‫ال‬ ‫وتابعت معاتب ًة له‪:‬‬
‫ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫ مل يكن عليك �إخباره ب�أمر �آدم ‪..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ر وا تول‬
‫قال مرب ًرا‪:‬‬
‫حاولت �أن �أ�شتّت انتباهه لنك�سب مزيدً ا من الوقت‪ ،‬كان‬ ‫  ُ‬

‫زيع‬
‫وخفت �أن يطعن بطن �سبيل ح ًقا ‪..‬‬
‫اجلنون يتطاير من عينيه‪ُ ،‬‬
‫كانت �سبيل ال تزال يف حالة ال�صدمة التي �أ�صابتها‪ ،‬وظلت �صامتة‬
‫فابت�سمت �إليها و�أنا �أربت على فخذها وقلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫‪..‬‬
‫ان�سي ما قاله ذلك الرجل‪.‬‬
‫طفلك ب�سالم ‪ْ ..‬‬ ‫ �ست�ضعني ِ‬
‫وجهت حديثي �إليهما‪ ،‬وقلت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ ال �أريد �أن يعرف �أحد غرينا مبا قاله العجوز ‪ ..‬حتى ريان‬
‫وناردين‪� ،‬أعلم حبهما الكثري للخري لكن النفو�س خائنة‪ ،‬ليبقَ‬
‫هذا ال�سر بيننا ‪ ..‬و�س�أختلق لهما ق�صة �أخرى غري التي قالها‬
‫العجوز‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫�أوم�أ الطبيب و�سبيل بر�أ�سيهما موافقاين ‪ ..‬ثم قال الطبيب م�ؤن ًبا‬
‫نف�سه‪:‬‬
‫ لو مل �أفقد �آدم!!‬
‫مل �أ�ش�أ �أن �أدخل معه يف جدال عن رغبته الظاهرة لإيقاظ �أرواح‬
‫الن�ساىل �إن عاد �آدم �إلينا وا�ستطاع حتجيم روحه وا�ستنفارهم‪،‬‬

‫دا‬
‫فاكتفيت بقويل‪:‬‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �إنها �أقدا ٌر فح�سب ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫أكملت بعدما �صمتنا لفرتة‪:‬‬
‫ثم � ُ‬
‫خي بني‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫يوما �أن �أُو�ضع يف مثل هذا املوقف ‪� ..‬أن �أُ ّ‬
‫ مل �أمتنَ ً‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أقل الأرواح خ�سارة ‪ ..‬موت بع�ض الأفراد من الن�ساىل ظل ًما‪،‬‬
‫ش‬
‫�أم اكت�ساح الوحو�ش املفرت�سة لأ�شراف چارتني �صاحليهم‬

‫ر وا تول‬
‫وفا�سديهم �إىل �أن تفنى چارتني ‪..‬‬

‫زيع‬
‫وتابعت متذكرة‪:‬‬
‫ُ‬
‫ حني كنت طالب ًة يف املدر�سة العليا ل�ضباط الأمن حكى لنا‬
‫حرب عظيمة قامت قبل قرون طويلة بني‬ ‫معلمنا ق�ص ًة عن ٍ‬
‫بلدان بعيدة عن چارتني‪ ،‬كانت وقتها الأ�سلحة يف تلك البالد‬
‫�أكرث تطو ًرا عن ع�صرنا احلايل‪ ،‬وكان جند ًيا �صغ ًريا يف جي�ش‬
‫بحرق �شديد �إثر قذيفة كيميائية‬ ‫ٍ‬ ‫�أحد البلدين قد �أُ�صيب‬
‫ُا�ستخدمت يف تلك احلروب ‪ ..‬ثم �شاء القدر �أن ي�صبح هو قائد‬
‫جي�ش بالده بعد �سنوات‪ ،‬وا�ستطاع بدهائه ح�صار مئات الآالف‬
‫من جنود عدوه ‪ ..‬تو ّقع اجلميع �أن يقوم ب�إحراق �أج�سادهم‬
‫بال�سالح الكيماوي ذاته الذي �أحرق ج�سده يف �صغره ُمنه ًيا‬
‫‪192‬‬
‫حربه ‪ ..‬لكنه على عك�س ما تو ّقع اجلميع مل يفعل ذلك‪ ،‬واكتفى‬
‫ب�أ�سرهم ً‬
‫قائل ب�أنه يعرف مدى الأمل التي ت�سببه تلك احلروق‪،‬‬
‫ل�شخ�ص مهما كان �أن ي�شعر بها ‪ ..‬و�أكمل حربه‬
‫ٍ‬ ‫وال يتمنى‬
‫خططا �أخرى �ضد بقيتهم ‪� ..‬إىل �أن خ�سر احلرب‬‫م�ستخدما ً‬
‫ً‬
‫يف النهاية‪.‬‬
‫وقتها نعتناه كلنا بالغباء‪ ،‬كيف ي�أتي لإن�سان فر�صة الق�ضاء على‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫كل �أعدائه �أو �أغلبهم يف حلظة واحدة ويرف�ضها ‪..‬‬
‫عرفتعملاذا مل يفعلها ‪ ..‬يبقى كوننا ب�ش ًرا نحمل ذرة من‬
‫خري يف قلوبناص‬
‫اليوم ُ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ري‬
‫هو الفارق بيننا وبني الوحو�ش ‪..‬‬

‫ت‬ ‫القرارات امل�صريية ك‬


‫قد �أكون خمطئة يف ر�أيي‪ ،‬لكن ال ب�أ�س بهذا ‪ ..‬لطاملا كنت �سيدة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫اخلاطئة‪.‬‬


‫�س�ألني فا�ضل بعدما نه�ضت �سبيل لتق�ضيشحاجتها يف مكان بعيد‬
‫ر وا تول‬ ‫عنا‪:‬‬

‫ ما اجلرمية التي كان ندمي قد ارتكبها؟! زيع‬


‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ اتهمته امر�أة �أنه حاول قتلها ‪ ..‬لكنها اعرتفت يل بعدها �أنه‬
‫ظللت ت�سع �سنوات �أظن �أن روحه نقية‬
‫بريء من ذلك الأمر ‪ُ ..‬‬
‫مل يح�صدها �أحد ‪� ..‬إىل �أن جئت و�أخربتنا عن ابن دميا‪ ،‬قد‬
‫يكون فعل مثل ما فعله الزائرون الذين ر�آهم العجوز وقتل �أحد‬
‫الأ�شراف �أثناء هياج روحه دون �أن يدرك ذلك‪ ،‬قال ريان �أنه‬
‫كان يختفي كث ًريا يف الأيام الأخرية التي �سبقت موعد زواجنا‪،‬‬
‫‪193‬‬
‫ال �أزال �أذكر كلماته يل على املن�صة ُقبيل موته؛ «مل �أكن �أنا» ‪..‬‬
‫�إنهم ال يدركون ما يفعلونه حني تثور �أرواحهم ‪..‬‬
‫وقد ال يكون قد ارتكب �أي جرمية وانتقلت روحه �إىل �آدم على‬
‫الرغم من ذلك‪ ،‬جال يف خاطري اليوم والعجوز يحكي �أن تكون‬
‫تلك الأرواح خمتلف ًة عن �أرواح الن�ساىل يف مثل هذا الأمر‪ ،‬ال‬

‫دا‬
‫ي�ستطيع �أحد معرفة احلقيقة‪.‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫كانت �سبيل قد عادت وجل�ست بجواري عندما قال فا�ضل‪:‬‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ لكنه يبقى حاول حتجيمها من �أجلك‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫وتابع‪:‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ ماذا لو كان باقي املتعلمني ل‬
‫ش‬
‫مثله؟!‬

‫ر وا تول‬ ‫ونظر �إىل �سبيل‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫زيع‬
‫ ال �أق�صد الت�ضحية بطفل �سبيل بكل ت�أكيد‪ ،‬لكني �أفرت�ض �إنْ‬
‫ا�ستطاع �أحد حاملي تلك الأرواح ا�ستنفار الباقني ً‬
‫فعل ‪..‬‬
‫قلت بحدة‪:‬‬
‫ُ‬
‫ لن يعلم بهذا الأمر غرينا �أيها الطبيب‪ ،‬لن �أراهن على تروي�ض‬
‫الوحو�ش‪.‬‬
‫وت�صنعت رغبتي يف النوم لأنهي ذلك احلوار‪ ،‬ف�سكت هو‬
‫ُ‬ ‫تثاءبت‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫نه�ضت �أنا و�سبيل لننام على ظهر العربة‪ ،‬بينما افرت�ش‬
‫ُ‬ ‫الآخر‪ ،‬بعدها‬
‫‪194‬‬
‫وظللت �أنظر �إىل ال�سماء وجنومها من‬
‫ُ‬ ‫هو الأر�ض ونام على الرمال‪،‬‬
‫فوقي ‪� ..‬إىل �أن غلبني النعا�س‪ ،‬ومل �أنه�ض �إال مع ا�شتداد حرارة �شم�س‬
‫النهار التايل‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫عدنا �إىل الوادي مع منت�صف ذلك النهار‪ ،‬قابلنا ريان بلهف ٍة كبرية‬

‫دا‬
‫وانتظرين �أن �أخربه مبا حدث ‪ ..‬فقلت‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ مل يق ّدم العجوز كث ًريا عما قاله هنا‪ ،‬ثمة ن�ساىل تثور �أرواحهم‬

‫ري‬‫ص‬
‫مع ا�شتداد ظلم الأ�شراف ُر�سمت �أج�سادهم املُقيدة ب�سال�سل‬
‫ال‬
‫حديدية على جدران ذلك الكهف‪.‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ف�س�ألني متعج ًبا‪:‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫ وما حاجته �إىل �سبيل؟!‬

‫ر وا تول‬ ‫قلت كذ ًبا‪:‬‬

‫زيع‬
‫ اعتقد الرجل �أن ذلك اجلبل ي�ضع قوة تلك الأرواح بالأجنة‬
‫ال�شريفة من ن�سل الن�ساىل‪ ،‬و�أراد ل�سبيل �أن تظل هناك حتى‬
‫و�ضعها‪ ،‬فرف�ضنا هذا الأمر وتركناه وعدنا ‪ ..‬ليتنا مل ُن�ضع‬
‫هذه الليلة يف هذا الهراء‪.‬‬
‫ب�سر مي ّكننا من‬
‫بائ�سا بعدما ظن �أننا �سنعود �إليه ح ًقا ٍ‬
‫زم �شفتيه ً‬ ‫َّ‬
‫هزمية الأ�شراف‪ ،‬ف�أخرب ُته عن حاجتي �إىل النوم بعد تلك الرحلة‬
‫املُجهدة‪ ،‬ف�سمح يل ب�أن �أوا�صل طريقي �إىل كوخي ‪ ..‬فيما تركني‬
‫الطبيب وم�ضى �إىل كوخه دون �أن يقول �أي �شيء‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪195‬‬
‫ألتق الطبيب كث ًريا‪ ،‬كنت‬
‫يف خالل الأيام التي تلت ذلك اليوم مل � ِ‬
‫ليل‪ ،‬وك ّلما جالت بخاطري‬ ‫�أُع ّلم ال�صبية نها ًرا و�أخلد �إىل كوخي ً‬
‫الأفكار والو�ساو�س ب�أن العجوز حم ٌق فيما قاله كنت �أ�ضرب ر�أ�سي‬
‫م�ؤنب ًة له لأطرد تلك الأفكار عنه‪ ،‬قبل �أن �أُ�شغل نف�سي بقراءة �أي‬
‫كنت قد قر�أته من قبل‪ ،‬ان�شغل الطبيب هو الآخر بعيادته‬ ‫كتاب ولو ُ‬
‫وبزياراته ال�سريعة �إىل مر�ضى الوديان القريبة الذين مل ي�ستطيعوا‬

‫دا‬
‫يل الكوابي�س مرة �أخرى بعدما‬ ‫القدوم �إليه‪ ،‬يف تلك الأيام عادت �إ ّ‬
‫كابو�س واحد لأكرث من مرة‪ ،‬كنت �أ�سري فيه عارية‬
‫ع‬
‫ٌ‬
‫ر‬ ‫اقتحم نومي‬
‫ص‬
‫اجل�سد مثل الن�سليات القدامى منقو�ش على جبهتي و�شم الن�ساىل‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫بطريق طويل متطر فيه ال�سماء دما ًء بغزارة‪ ،‬نادى �صوتٌ بعيد ب�أنها‬
‫ٍ‬

‫ك‬
‫دماء الن�ساىل التي �أُهدرت ب�سببي‪ ،‬ومن بعده تعالت �أ�صوات الزئري‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫جانبي الطريق دون �أن يظهر من يز�أرون‪� ،‬أوا�صل طريقي �أ�سفل‬ ‫ّ‬ ‫على‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫الدماء �إىل �أن تب�صر عيني �سبيل تقف بنهاية الطريق حامل ًة ر�ضيعها‬

‫ر وا تول‬
‫وتنظر نحوي يف خوف‪ ،‬فتتعاىل �أ�صوات الزئري �أكرث و�أكرث ك�أنهم‬
‫ينتظرونني �أن �أطلق �سراحهم‪ ،‬ف�أتقدم نحو الفتاة وطفلها بعدما‬
‫زيع‬
‫ني فج�أة‪ ،‬و�أقرتب منها �أكرث و�أكرث‪ ،‬قبل �أن تتوقف‬
‫�سمعت من خلفي زئريه العايل الذي غطى‬ ‫ُ‬
‫يظهر يف يدي �سك ٌ‬
‫قدماي لأنظر ورائي حني‬
‫على باقي الأ�صوات جميعها‪ ،‬كان منر �أبي�ض �ضخم يرك�ض نحوي‬
‫ب�أق�صى �سرعته ‪ ..‬ظننته �سيفرت�سني ‪ ..‬لكنه ما �إن اقرتب مني حتى‬
‫قدمي متع ًبا‪ ،‬ونظر يف عيني بنظر ٍة كنت �أعرفها جيدً ا‪،‬‬
‫خ�ضع �أ�سفل ّ‬
‫هبطت على ركبتي �أمامه‪ ،‬ومددتُ يدي لأالم�س وجهه املُ ّلطخ بالدماء‬ ‫ُ‬
‫املنهمرة من ال�سماء‪ ،‬لكنه �أطلق زئريه العايل يف وجهي ‪ ..‬ف�أنه�ض من‬
‫نومي مفزوع ًة‪ ،‬و�أذهب �إىل غرفة �سبيل لأطمئن عليها‪ ،‬ثم �أخرج �إىل‬
‫فناء كوخي‪ ،‬و�أجل�س مبفردي �إىل �أن يطلع النهار التايل‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫مل �أخرب �أحدً ا عن تلك الأحالم ال�سيئة‪� ،‬إىل �أن م�ضت الأيام‬
‫ونه�ضت على �صرخات �سبيل بعد �ستة �أيام من يوم غفران ذلك‬ ‫ُ‬ ‫تباعا‪،‬‬
‫ً‬
‫ال�شهر ‪� ..‬أ�سرعت ناردين ب�إح�ضار الطبيب فيما اجتمع �صبية وفتيات‬
‫املدر�سة �أمام باب الكوخ يف انتظار قدوم ذلك املولود الذي انتظرناه‬
‫وتركت ناردين لت�ساعده بعدما‬ ‫ُ‬ ‫‪ ..‬مل �أ�ستطع �أن �أبقى مع الطبيب‬
‫أغلقت بابي‬
‫أ�سرعت عائدة �إىل غرفتي‪ ،‬و� ُ‬‫ُ‬ ‫�شعرتُ �أنني متوترة للغاية‪ ،‬و�‬
‫دا‬
‫من خلفي يرجتف ج�سدي من �شدة توتري مع كل �صرخة من �صرخات‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�سبيل‪ ،‬حتى هد�أ �صراخها لي�صرخ بعدها بلحظات �صوت �آخر ‪ ..‬كان‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫�شريف من ن�سل الن�ساىل ‪ ..‬مل �أ�ستطع متالك دموعي و�أنا‬ ‫ٍ‬ ‫�صوت �أول‬
‫�أ�سمع �صراخ الطفل‪ ،‬ثم وجدتُ ناردين ت�أتي به �إ ّ‬
‫يل ملفو ًفا يف قطع ٍة‬
‫نه�ضت وعدتُ‬
‫ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫من ال�صوف املن�سوج‪ ،‬فحملتُه �إىل �صدري وق ّبلتُه‪ ،‬ثم‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫به �إىل �أمه‪ ،‬وق ّب ُلت ر�أ�سها وقلت‪:‬‬
‫شا لهذا الطفل‪.‬‬
‫ر‬
‫ابت�سمت �إ ّيل الفتاة قبل �أن ت�ضم مولودها �إىل والت‬
‫انتماءك �إىل الأ�شراف تكر ًمي‬
‫ِ‬ ‫لك‬
‫ مبارك ِ‬
‫�صدرهاو وتنظر �إليه‬
‫زيع‬ ‫‪� ..‬س�ألني الطبيب‪:‬‬
‫ ما اخلطوة التالية؟‬
‫نظرتُ �إىل ريان الذي كان يقف هائم الوجه ينظر �إىل �سبيل‬
‫وطفلها‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ �أخرب اجلميع �أن طفل �سبيل ال�شريف قد جاء �إىل الدنيا‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪197‬‬
‫مل ننتظر كث ًريا حتى نعرف رد فعل الأ�شراف بعد والدة �سبيل‪ ،‬يف‬
‫م�ساء ذلك اليوم �أتى �إىل الوادي جماع ٌة من فر�سان ال�ضباط كانت‬
‫ت�سبقهم �أ�صوات طلقاتهم النارية مثل اليوم الذي �أركعونا فيه‪ ،‬مل يكن‬
‫بينهم كيوان هذه املرة ‪ ..‬كان قائدهم زميل �صفي باملدر�سة العليا‪،‬‬
‫حد ما ‪ ..‬دلف �إىل كوخي‪ ،‬وقال‬‫وكنت �أعرف �أنه ميتلك قل ًبا لي ًنا �إىل ٍ‬
‫باقت�ضاب دون �أن ينظر يف عيني‪:‬‬
‫أمر من القا�ضي ‪..‬‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ �سينتقل هذا الطفل و�أمه للعي�ش يف جويدا ب� ٍ‬

‫ص‬ ‫ع‬‫نظرت �إ ّ‬
‫يل �سبيل بحرية‪ ،‬بينما �أكمل ال�ضابط‪:‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ �سيعي�ش هذا الطفل بني الأ�شراف‪.‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫فهززتُ �إليها ر�أ�سي �إيجا ًبا مطمئن ًة لها‪ ،‬كان هذا ما ي�ستحقه ذلك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫الطفل و�أمه التي عانت كث ًريا من �أجل جميئه‪ .‬وكانت عرب ٌة فاره ٌة‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫جمهزة قد جاءت مع ال�ضباط �إىل الوادي من �أجل حمل الطفل‬
‫و�سبيل‪ ،‬ف�أخربتُ ناردين ب�أن ت�ساعد �سبيل يف حزم �أمتعتها‪ ،‬لكن‬

‫زيع‬
‫ال�ضابط فاج�أنا بعدما انتهى من حديثه �إىل �سبيل حني نظر �إىل‬
‫الطبيب‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ �أيها الطبيب لقد قمت بعملك على �أكمل وجه يف رعاية الفتاة‬
‫م�سموحا لك بالبقاء يف چارتني �أكرث‬
‫ً‬ ‫حتى و�ضعها‪ ،‬لكن مل يعد‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫مذهول‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫نظر �إليه الطبيب‬
‫ ماذا؟!‬
‫قال ال�ضابط‪:‬‬
‫‪198‬‬
‫ �ست�أتي معنا �إىل جويدا‪ ،‬و�سرتحل على منت �أوىل ال�سفن املتجهة‬
‫�إىل ال�شمال‪.‬‬
‫ً‬
‫معرت�ضا‪:‬‬ ‫قال الطبيب‬
‫ لن �أرحل‪.‬‬
‫قال ال�ضابط‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ �أ�صدر الفار�س كيوان �أم ًرا باعتقالك واقتيادك �إىل �سجن‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫جويدا �إن مل تغادر الليلة الوادي‪.‬‬
‫عيني ناردين‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫يل الطبيب حائ ًرا فيما بد�أت الدموع تلتمع يف ّ‬ ‫نظر �إ ّ‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫و�سبيل ‪ ..‬فقلت ب�صوت هادئ‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ل‬
‫ ح�س ًنا �أيها ال�ضابط‪� ،‬سريحل الليلة عن الوادي ‪..‬‬
‫فوجدتُ ذلك ال�ضابط يرتكنا ويخرج �إىلش‬
‫فناءرالكوخ مع جنوده ‪..‬‬
‫وال وت‬
‫زيع‬
‫فقال الطبيب‪:‬‬
‫ لن �أتركك ‪..‬‬
‫قلت بعني تلمع بالدموع‪:‬‬‫ُ‬
‫ �أخرب ُت َك �أن كيوان �سيق ّلم �أجنحتي‪� ،‬سي�ؤذيك ح ًقا �إن بقيت‬
‫�أكرث من هذا ‪..‬‬
‫قال بت�صميم كبري‪:‬‬
‫ لن �أرحل‪.‬‬
‫احت�ضنتُه وقلت‪:‬‬
‫‪199‬‬
‫ �س�أم�سي بخري �أيها الطبيب‪ ،‬لقد قمت بدورك على �أكمل وجه‬
‫�سند يل طيلة ال�شهور املا�ضية ‪..‬‬
‫‪� ..‬شك ًرا لأنك كنت خ َري ٍ‬
‫وتابعت و�أنا �أرت�شف دموعي‪:‬‬
‫ُ‬
‫ لن جنني من �إيذائهم لك �إال مزيدً ا من الوجع‪.‬‬
‫وابت�سمت �إليه وقلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ على الأقل �ضم ّنا خروج �أحدنا �ساملًا ‪..‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫يل متفاج ًئا من قويل‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫نظر �إ ّ‬
‫ �س�أموت هنا‪ .‬ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫قلت‪:‬‬

‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫  َومن يروي ق�ص�صنا �إىل الآخرين؟!‬
‫قال والدموع تتجمع يف عينيه‪:‬‬
‫ ال �أحد يعرف �آدم هنا ‪ّ ..‬علي �أن �أنتظر حتى يعودز‪..‬يع‬
‫قلت و�أنا �أبت�سم �إليه والدموع يف عيني‪:‬‬
‫ُ‬
‫ لن يعود ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫يل ن�سلي ٌة من جويدا‬
‫ �سيعود ‪ ..‬لقد قر�أتُ بالأم�س كتا ًبا �أح�ضرته �إ ّ‬
‫عن حيوانات چارتني املنقر�ضة ‪� ..‬أتعلمني ملاذا �أحب امللوك‬
‫القدامى تربية منور ال�شامو دو ًنا عن غريها من احليوانات؟!‬
‫‪200‬‬
‫‪ ..‬لأن تلك احليوانات ال تن�سى �أبدً ا من يحبونها مهما طالت‬
‫بهم ال�سنوات ‪ ..‬كانت روح ندمي حتبك ح ًبا حقيق ًيا ‪� ..‬سيعود‬
‫�سيتذكرك ال حمالة ‪..‬‬
‫ِ‬ ‫إليك حني تثور روحه ‪..‬‬
‫�آدم � ِ‬
‫وجنتي‬
‫ّ‬ ‫مل �أ�ستطع �أن �أحب�س دموعي �أكرث من ذلك فت�ساقطت على‬
‫‪ ..‬قبل �أن يدلف �إلينا ال�ضابط من جديد‪ ،‬ويحثنا على الإ�سراع ‪ ،‬كان‬
‫اخليار الأ�ص ّوب هذه املرة �أن منتثل لأمر الأ�شراف ‪ ..‬احت�ضنته من‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫جديد و�أنا �أقول‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ �س�أبقى بخري ‪� ..‬أعدك بذلك ‪َ ..‬‬
‫عليك �أن ترحل ‪..‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫حاول ال�ضابط بعدها �أن يجذبه من ذراعه عنو ًة ‪ ..‬لكنه �أخربه‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫هاد ًئا ب�أنه �سريافقه‪ ،‬قبل �أن يخرج مع اجلنود ويركب بالعربة ذاتها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫التي ركبت فيها �سبيل وطفلها ‪ ..‬وكانت هذه هي املرة الأخرية التي‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�أرى فيها الطبيب فا�ضل‪.‬‬

‫زيع‬ ‫‪b‬‬

‫‪201‬‬
‫(‪)15‬‬
‫سبيل‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ركبت العربة اخل�شبية التي جاءت �إىل وادي الن�ساىل برفقة‬ ‫ُ‬
‫يوما واحدً ا‪ ،‬ثم حلق‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ذراعي طفلي الذي يبلغ ً‬ ‫ّ‬ ‫ال�ضباط �أحمل بني‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫بي الطبيب بعد قليل من الوقت‪ ،‬وجل�س على املقعد املقابل يل ينظر‬
‫بعينني ملتمعتني بالدموع عرب نافذة العربة �إىل ال�سيدة غفران التي‬

‫ع‬ ‫زي‬
‫كانت تقف تنظر نحونا‪ ،‬قبل �أن تنطلق بنا العربة �إىل جويدا‪.‬‬
‫كان احلزن البادي على وجه الطبيب عظيما‪ ،‬وبدا من �صمته‬
‫ً‬
‫املُطبق �أنه يغو�ص يف �أعماق �أفكاره ‪ ..‬كنت �أعرف �أنه مل يرد الرحيل‬
‫قط وترك �سيدتي مبفردها لكنه ان�صاع �إىل رغبتها يف النهاية‬
‫جندي واحد داخل العربة يجل�س‬
‫ملزيد من الآالم‪ .‬كان برفقتنا ٌّ‬
‫تقلي�صا ٍ‬‫ً‬
‫بجواري‪ ،‬فقطع الطبيب �صمته و�س�أله بعد حتركنا بفرتة ق�صرية‪:‬‬
‫ متى ترحل �أوىل ال�سفن �إىل ال�شمال؟‬

‫‪203‬‬
‫�أجابه اجلندي ب�أنه ال يعرف‪ ،‬ف�أكمل الطبيب �شروده ونظراته عرب‬
‫النافذة �إىل ظالم الطريق املحيط بنا �إىل �أن ظهرت �أنوار جويدا وق ّلت‬
‫اهتزازات العربة بعدما �صار الطريق ُمعبدً ا من �أ�سفلنا‪ ،‬ف�س�ألني‪:‬‬
‫ ماذا �ست�سميه؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫دا‬
‫  �أخربتُ �سيدتي �أنني �س�أ�سميه حيدر ‪ ..‬على ا�سم �أبيه ‪..‬‬
‫ر‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ابت�سم يل وقال‪:‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫  �أمتنى لكما حياة �سعيدة‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ومتنيت له حيا ًة �أكرث �سعادة هو الآخر يف‬
‫ُ‬ ‫ف�شكر ُته على لطفه‬
‫ن‬
‫وقت قليل توقفت العربة‪ ،‬وطرق‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫البالد التي �سيذهب �إليها‪ ،‬وبعد ٍ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�ضابط �أمر الطبيب ب�أن ينزل ملرافقة فار�سني‬ ‫ٌ‬ ‫بابها من اخلارج‬
‫�آخرين �سي�صحبانه �إىل القرية اجلنوبية حيث مرف�أ ال�سفن‪ ،‬ف�أوم�أ‬

‫زيع‬
‫بر�أ�سه �إليه‪ ،‬ثم احت�ضنني وهم�س �إىل �أذين ببع�ض الكلمات دون �أن‬
‫قت به متعجب ًة مما‬‫ي�سمعها اجلندي املجاور‪ ،‬وابت�سم يل بعدما ح ّد ُ‬
‫قاله‪ ،‬بعدها غادر مع ال�ضابط‪ ،‬و�أكملت العربة طريقها بي بني �شوارع‬
‫بيت �صغري من طابق واحد‪ ،‬وقال‬ ‫جويدا‪ ،‬حتى توقفت �أخ ًريا �أمام ٍ‬
‫نزلت من العربة‪:‬‬
‫قائد اجلنود بعدما ُ‬
‫ �ستعي�شني هنا مع ابنك ‪..‬‬
‫ودلفت ب�أ�سارير‬
‫ُ‬ ‫مل �أ�ص ّدق �أن يخ�ص�ص الأ�شراف يل بيتًا ‪..‬‬
‫منفرجة وراء ال�ضابط عرب الباب الذي فتحه �أحد اجلنود‪ ،‬لكني‬
‫أجفلت حني وجدتُ الفار�س كيوان يجل�س يف ردهة البيت يف انتظاري‬
‫� ُ‬
‫‪204‬‬
‫وقفت يرتع�ش‬
‫‪ ..‬بعدها ان�صرف بقية ال�ضباط ب�إ�شار ٍة منه‪ ،‬فيما ُ‬
‫ذراعي عندما اقرتب مني‬
‫ّ‬ ‫ج�سمي من اخلوف و�أنا �أم�سك بطفلي فوق‬
‫و�ألقى نظر ًة خاطفة عليه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫�سجل �صباح الغد بني مواليد هذا العام‪ ،‬و�ستح�صلني على‬ ‫ �س ُي َ‬
‫ميكنك تغطية كتفك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫�صك انتما ِئك للأ�شراف‪ ،‬وبعدها‬

‫دا‬
‫هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا خو ًفا دون �أن �أنطق ‪ ..‬فتحرك بعيدً ا عني‬
‫ر‬
‫خطوة واحدة‪ ،‬وتابع‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫  ُ�ستقام احتفالي ٌة به يف الباحة خالل يوم الغفران القادم ب� ٍ‬
‫أمر‬
‫ال‬
‫من احلاكم ‪� ..‬ست�صعدين �إىل املن�صة بعد انتهاء الإعدامات‪،‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫و�سيعزف العازفون مو�سيقا االحتفاالت الوطنية ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫كنت �أود �س�ؤاله �إن كان و�شمي �س ُيزال �أم ال‪ ،‬لكن خويف منعني من‬
‫ُ‬

‫ر وا تول‬
‫نطق �أي كلمة‪ ،‬غري �أنه �أجاب ت�سا�ؤيل حني ا�ستدار فج�أ ًة و�صفعني‬
‫�صفعة قوية للغاية على وجهي كادت ت�سقط طفلي من يدي‪ ،‬وقال‪:‬‬

‫ِ‬‫زيع‬
‫ارتكبت خط�أً واحدً ا فقط‬
‫حتدثت �إىل‬ ‫أنك‬
‫ِ‬ ‫ �سيظل و�شمك على كتفك‪ ،‬و�إن‬
‫إياك �أن �أعرف � ِ‬
‫كنت‪ ،‬و� ِ‬
‫�سيعيدك �إىل حيثما ِ‬
‫خرجت �إىل اجلنوب مرة‬
‫ِ‬ ‫�أحد من الن�ساىل الأجنا�س ‪� ..‬أو‬
‫�أخرى ‪..‬‬
‫�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا يف رعب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ �أمر احلاكم � ً‬
‫أي�ضا ب�أن جتوبي باقي مدن چارتني خالل ال�شهور‬
‫عليك االبت�سام �إىل اجلماهري فح�سب ‪ ..‬ال حديث‬
‫القادمة ‪ِ ..‬‬
‫مع �أحد ‪..‬‬
‫‪205‬‬
‫و�أ�ضاف با�شمئزاز‪:‬‬
‫أنت وطفلك لعامني ‪ ..‬ال‬
‫تكفيك � ِ‬
‫ِ‬ ‫�ست�سل ح�صة من الطعام‬ ‫  ُ‬
‫حاجة للرذيلة � ًإذا ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ مل �أمار�س الرذيلة من قبل �سيدي ‪..‬‬

‫ر‬
‫ف�صفع وجهي بظهر يده‪ ،‬وقال‪:‬‬‫دا‬
‫ص‬ ‫ حني � ع‬
‫ريوا�لأنا �أبكي ‪ ..‬ثم تركني بعدها وغادر‪ ،‬لأجل�س‬
‫أحتدث تن�صتني فح�سب �أيتها العاهرة ‪..‬‬

‫الن�ساىل‪.‬ك‬
‫هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا‬
‫ت‬
‫ب نل‬
‫ويجتاحني ٌ‬
‫خوف مل �أ�شعر به منذ اليوم الذي‬ ‫مكاين يرتع�ش ج�سمي‪،‬‬

‫‪ b‬ش‬‫ل‬ ‫ركعنا فيه يف وادي‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫ت‬
‫�سجلت حيدر بني مواليد الأ�شراف‪،‬و‬
‫ُ‬
‫ي‬
‫جويدا ‪..‬‬‫ز‬
‫ورقة �صفراء بها �صك انتمائي للأ�شراف من دار ق�ضاء ع‬
‫وح�صلت على‬ ‫ُ‬ ‫يف اليوم التايل‬

‫كان �شعوري خمتل ًفا ح ًقا و�أنا �أ�سري يف �شوارع املدينة مغطاة الكتف‬
‫يل من قبل‬ ‫يل �أحد با�شمئزاز �أو قرف مثلما كان ُينظر �إ ّ‬ ‫ال ينظر �إ ّ‬
‫�إن �أتيت �إىل املدينة عارية الكتف‪ ،‬لكن ذلك ال�شعور مل يدم �إال ليوم‬
‫غفران ذلك ال�شهر عندما حدث ما حتدث ب�ش�أنه ال�ضابط كيوان‪،‬‬
‫ووجدتُ امر�أة �أربعينية تزورين قبله ب�أيام لت�أخذ مقا�سات ج�سمي من‬
‫ف�ستان قالت ب�أن الفار�س َمن �أو�صاها بنف�سه ب�سرعة‬ ‫ٍ‬ ‫�أجل ت�صميم‬
‫ت�صميمه‪ ،‬وجدتُ ذلك الف�ستان �صبيحة ذلك اليوم يظهر و�شمي و�إن‬
‫‪206‬‬
‫كان ت�صميمه رائ ًعا ‪ ..‬ثم حملتني �أنا وطفلي عرب ٌة خ�شبية �إىل الباحة‬
‫حيث عربت بي �إىل داخلها من املدخل املخ�ص�ص لكبار ال�سادة ‪..‬‬
‫�سمعت �أ�صوات بارود‬
‫ُ‬ ‫وهناك انتظرتُ بداخلها طوال اليوم حتى‬
‫بوقت قليل‬
‫فعلمت باقرتاب �صعودي �إىل املن�صة‪ ،‬بعدها ٍ‬ ‫ُ‬ ‫الإعدام‪،‬‬
‫قادين جندي �إىل ال�سلم اخللفي للمن�صة‪ ،‬وبعد حديث احلاكم بنف�سه‬
‫�أ�شار يل جندي �آخر بال�صعود �إىل املن�صة وما �إن �صعدتُ حتى انطلقت‬

‫دا‬
‫التهليالت و�أنا �أقف �أمامهم بف�ستاين املتلألئ مع �أ�شعة ال�شم�س‪ ،‬مل‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�أن�شغل ب�صيحات اجلماهري وتهليالتهم بقدر ما كانت عيني ت�سرتق‬
‫ص‬
‫النظرات �إىل الفار�س كيوان الواقف كالتمثال على ي�ساري واحلاكم‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫اجلال�س على مقعده الفخم ب�أق�صى املن�صة على الي�سار � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫متنيت وقتها لو كانت ال�سيدة غفران تقف بني هذه اجلماهري لرتى‬ ‫ُ‬
‫عرفت فيما بعد �أن‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ثمار جهدها ال�سنوات املا�ضية وهو يتحقق‪ ،‬لكني‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ذلك اليوم ُمنع فيه الن�ساىل من دخول الباحة �أو من االقرتاب من‬
‫جويدا حتى‪ .‬ثم عزف العازفون مو�سيقاهم الوطنية ف�صمت اجلميع‪،‬‬

‫زيع‬
‫وبعدها غادرتُ املن�صة حيث عادت بي العربة �إىل بيتي‪.‬‬
‫منذ ذلك اليوم �صار وجهي معرو ًفا للجميع‪ ،‬وعلى عك�س ما ظ ّنه‬
‫أجن من احتفالهم بي �إال مزيدً ا من لفت االنتباه‬‫عقلي يف الباحة مل � ِ‬
‫والتحديق عند مروري يف �أي مكان هناك‪ ،‬ومل �أجد نظراتهم يل‬
‫بعدها �إال نظرات ازدراء وقرف‪ ،‬النظرات نف�سها التي اعتدتها يف‬
‫حياتي منهم‪ ،‬كذلك مل تعرف الأل�سنة التي تتحدث عني �إال كلمات‬
‫واحدة؛ «الن�سلية التي �صارت �شريفة»‪ ،‬ومل ي�سلم طفلي هو الآخر من‬
‫�شهقاتهم ال�سخيفة ك ّلما ر�أوه على ذراعي‪:‬‬
‫ �أووه ‪ ..‬ال�شريف من ن�سل الن�ساىل‪.‬‬
‫‪207‬‬
‫�سمعت امر�أة تقول لأخرى با�شمئزاز عندما ر�أته على ذراعي‪:‬‬
‫ُ‬
‫ لن ير�ضى �أحد ب�أن يز ّوجه ابنته‪� ،‬إن دماء الن�ساىل ت�سري يف‬
‫عروقه ‪ ..‬هذا �إن و�صل �إىل �سن الزواج � ً‬
‫أ�صل‪.‬‬
‫ال �أعلم كيف حتكم بلهاء كهذه على طفل مل يكمل �شه ًرا من عمره‪.‬‬
‫ثم بد�أتُ جوالتي التي حت ّدث ب�ش�أنها الفار�س كيوان بال�شهور التالية‪،‬‬

‫دا‬
‫ثالث ع�شرة جولة يف ثالث ع�شرة مدينة كنت �أزورها للمرة الأوىل يف‬
‫ر‬
‫حياتي‪.‬‬
‫كانت جميعهاعت�سري على النمط نف�سه ‪ ..‬احتفالية كبرية يف كربى‬
‫�ساحات تلك املدن‪،‬صري‬
‫قبل ا�لأن ي�شري يل �أحد املنظمني ب�أن �أ�صعد �إىل‬
‫ت‬ ‫�أن تدق مو�سيقا االحتفاالتك‬
‫املن�صة حامل ًة طفلي بثوبي الذي يظهر كتفي لتح ّدق بنا احل�شود‪ ،‬قبل‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫حيث تعود بي �إىل جويدا يف انتظارب ل‬


‫الوطنية‪ ،‬لأعود �إىل عربتي مرة �أخرى‬

‫ر‬
‫حتديد يوم جديد للذهاب �إىل‬
‫ش‬
‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫مل ترحمني عيون الأ�شراف مر ًة واحدة‪ ،‬و�إن ت‬
‫مدينة �أخرى‪.‬‬
‫زإىل بع�ضهم‬
‫البع�ض متفاخرين بعدالة بالدهم‪� .‬أما �أنا فكنت �أ�شعر � يع‬
‫أنني وطفلي‬
‫نظروا �‬

‫احليوانان اللذان يجوبان مدن چارتني من �أجل �أن ينال �سادة‬


‫متنيت لو ا�ستطعت يف مرة‬
‫ُ‬ ‫الأ�شراف الت�صفيق على �شرفنا فح�سب‪.‬‬
‫�أن �أ�صرخ �إليهم لأقول‪:‬‬
‫ �أرجوكم ‪� ..‬أوقفوا هذا الأمر‪� ،‬أرجوكم توقفوا عن النظر يل‬
‫بهذه الطريقة ‪..‬‬
‫لكن �صراخي مل يتجاوز حلقي قط‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫حتى �سماء چارتني بدت وك�أنها ت�ضامنت معي عندما غ ّيمت‬
‫ب�شدة يف زيارتي �إىل �آخر املدن و�أبعدها عن جويدا ‪ ..‬مدينة بريحا‬
‫ال�صغرية ‪..‬‬
‫وقفت‬
‫كان عدد املحت�شدين يومها ال يزيد عن ب�ضعة �آالف عندما ُ‬
‫�أمامهم بطفلي على من�صة خ�شبية ب�ساحة تلك املدينة ‪ ..‬كنت �أ�ش ّو�ش‬
‫عقلي متعمد ًة ب�أي �شيء �آخر لأجتاهل النظرات التي اعتدتها منهم ‪..‬‬
‫طفل يبلغ من‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫لكني مل �أ�ستطع جتاهل نظرة ذلك الطفل نحوي ‪ ..‬كان ً‬

‫ع‬
‫عمره قرابة ت�سع �أو ع�شر �سنوات حتمله �أمه بال�صفوف الأوىل القريبة‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫من املن�صة‪� ،‬شعرتُ يف نظرته يل بنوع من التعاطف ال �أعلم ملاذا!‬
‫‪ ..‬قبل �أن متطر ال�سماء بغزار ٍة مل �أعتدها من قبل‪ ،‬فحاول اجلميع‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫االختباء من الأمطار ال�شديدة‪ ،‬وبد�أوا يف ّرون �إىل بيوتهم حتى انف�ضوا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫جمي ًعا من �أمامي ‪ ..‬يومها �أ�ص ّر املنظمون لذلك احلدث على ا�ستمرار‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫وقويف �أنا ور�ضيعي على املن�صة �أ�سفل الأمطار دون حراك حتى تخلو‬
‫حتركت �أخ ًريا بثيابي‬
‫ُ‬ ‫متاما من �أهل تلك املدينة ‪� ..‬إىل �أن‬
‫ال�ساحة ً‬

‫زيع‬
‫وثياب طفلي الغارقة �إىل العربة لتنتهي هذه املهزلة ‪..‬‬
‫ظل املطر ينهمر بغزارة طوال ذلك اليوم حتى �أننا ُعلقنا داخل‬
‫العربة هناك ومل ن�ستطع التحرك �إال مع م�ساء اليوم التايل ‪ُ ..‬عرف‬
‫هذا اليوم بعد ذلك بيوم املطر العظيم من كرثة الأمطار التي �شهدها‬
‫والأ�ضرار التي حلقت ببيوت تلك املدينة يومها‪.‬‬
‫خ�صي�صا لأن حيدر مر�ض ليلتها هناك‬‫ً‬ ‫زلت �أتذكر ذلك اليوم‬
‫ال ُ‬
‫و�أ�صابته حمى �شديدة كادت تودي بحياته لوال طبيب �شاب هناك ظل‬
‫برفقتي �إىل �أن جاءت امر�أة لت�أخذه �إىل بيتها من �أجل طفلها املري�ض‬
‫متنيت لو �أمطرت‬
‫ُ‬ ‫بال�صرع ‪ ..‬ورغم مر�ض طفلي يومها �إال �أنني‬
‫‪209‬‬
‫ال�سماء بهذه الغزارة يف كل يوم وط�أت فيه �أقدامي �ساحات تلك املدن‬
‫لتحمي �أج�سادنا من نظراتهم الأ�شد ق�سوة‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫ظننت �أن الأمور �ستتح�سن مع الوقت بعد انتهاء تلك اجلوالت‬ ‫ُ‬
‫وا�ستقراري يف جويدا‪ ،‬لكن ذلك مل يحدث قط‪ ،‬يف �أي مكان كان‬

‫دا‬
‫اجلميع ينفر مني ويرتددون يف معامالتهم معي ك�أنني جمذومة �أو‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫م�صابة مبر�ض جلدي ‪ ..‬وعندما داعبت طفلة ال يتجاوز عمرها‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال�ست �سنوات طفلي ذات مرة يف ال�سوق جذبتها �أمها ونهرتها حني‬
‫ال‬
‫وجدتني �أم هذا الطفل‪ ،‬وقتها ح�ضرت �إىل ذهني كلمات الطبيب‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫فا�ضل الأخرية يل يوم ر�أيته للمرة الأخرية‪ ،‬لكني كنت �أنظر �إىل‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫طفلي و�أح ّدث نف�سي ب�أنني �س�أحتمل من �أجله مهما يكن‪ ،‬لتمر ال�شهور‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫يوما بعد يوم خويف من اخلروج من بيتي‬ ‫�شه ًرا وراء �آخر يتزايد معها ً‬

‫ر وا تول‬
‫جتن ًبا لنظر ٍة من هذا �أو كلمة من ذاك‪ ،‬واعتمدتُ على الفتات الذي‬
‫متنيت لو حملت‬ ‫كان ُير�سل يل بداية كل �شهر من �أجلي �أنا وطفلي ‪..‬‬
‫زيع‬
‫ُ‬
‫يوما خرب حمل فتاة ن�سلية �أخرى بجنني �شريف لكن ذلك‬ ‫الأخبار ً‬
‫مل يحدث قط‪ ،‬بل قالت يل امر�أة ثرثارة �أتت �إىل بيتي حتمل ح�صة‬
‫بدل من زوجها اجلندي‪:‬‬ ‫الغذاء ً‬
‫در�سا كب ًريا هذه الأيام على يد زوجي ورفقائه‪.‬‬
‫أهلك يتلقون ً‬
‫  �إن � ِ‬
‫فكرتُ حلظتها �أن �أزور وادي الن�ساىل خفي ًة‪ ،‬لكني عدت وخ�شيت‬
‫�أن يعرف الفار�س كيوان فيعاقبني ب�إلغاء �صك انتمائي للأ�شراف‬
‫�أو رمبا ب�إبعادي عن طفلي‪ ،‬وانتظرتُ حلول يوم الغفران التايل‪،‬‬
‫وغامرتُ باند�سا�سي بني اجلماهري املحت�شدة بالباحة و�أنا �أغطي‬
‫‪210‬‬
‫ر�أ�سي بقلن�سوة معطف �صويف لب�سته رغم ا�شتداد حرارة ذلك اليوم‬
‫وقفت بجانب فتاة ن�سلية كانت بني‬
‫ووا�صلت حتركي بينهم �إىل �أن ُ‬‫ُ‬ ‫‪..‬‬
‫فتيات مدر�سة ال�سيدة قبل تركها لها‪ ،‬و�س�ألتُها عن ال�سيدة غفران‬
‫وريان وناردين‪ ،‬قالت �أن ال�سيدة غفران تلزم كوخها منذ رحيلي �أنا‬
‫والطبيب عن الوادي‪ ،‬فيما اختفى ريان بعد مطاردة اجلنود لكل َمن‬
‫عربوا اخلام�سة والع�شرين من الذكور‪� ،‬أما ناردين فال تعرف عنها‬

‫دا‬
‫�شي ًئا ‪ ..‬ف� ُ‬
‫أبلغت معها ال�سالم �إىل ال�سيدة وناردين قبل �أن �أغادر �إىل‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫مكان �آخر يف الباحة‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫يف ذلك النهار �أُعلن على املن�صة تر ّقي ال�ضابط كيوان من الفار�س‬
‫ال‬
‫املخت�ص ب�ش�ؤون الن�ساىل �إىل كبري �ضباط جويدا رغم عمره الذي‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫مل يكمل الأربعني ‪ ..‬فغادرتُ الباحة مع �أ�صوات طلقات البارود التي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ً‬


‫احتفال بهذا التكرمي وك ّلي رجا ٌء �أن يجعله ذلك‬ ‫�أُطلقت �إىل ال�سماء‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫املن�صب ين�سى الن�ساىل وال�سيدة غفران ولو لبع�ض الوقت‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫ُ‬
‫زيع‬
‫مع انتهاء العام الثاين انقطعت عنا ح�صة الطعام والثياب املقررة‬
‫توقعت‬ ‫جوعا �أنا وطفلي‪ .‬كما‬
‫لنا‪ ،‬ومل يعد �أمامي �إال العمل �أو املوت ً‬
‫ُ‬
‫متاما‪ ،‬رف�ض اجلميع ت�شغيلي معهم و�إن �أخربتهم �أنني �أجيد القراءة‬‫ً‬
‫والكتابة كخريجي املدار�س املتو�سطة‪ ،‬لكن و�شمي ظل ً‬
‫حائل دائم‬
‫وعر�ضت على �أهلها �أن‬
‫ُ‬ ‫طرقت الأبواب‬
‫ُ‬ ‫بيني وبينهم و�إن وارته الثياب‪،‬‬
‫�أعمل خادمة لدى منازلهم ‪ ..‬قالوا �صراح ًة �أنني من القوم ال�سارقني‬
‫ورف�ض جميعهم عبوري لعتبة دورهم وك�أنهم اتفقوا على نبذي ‪..‬‬
‫فخرجت‬
‫ُ‬ ‫زادت الأمور �سو ًءا مع ندرة اللنب يف �صدري ل�سوء تغذيتي‪،‬‬
‫طعاما و�أنا �أحمل طفلي على ذراعي ‪ ..‬نظر اجلميع‬‫من جديد �أت�س ّول ً‬
‫‪211‬‬
‫نحوي و�سخروا مني ورف�ضوا �إعطائي �أي �شيء ‪ ..‬ثم �ألقى �أحدهم‬
‫بك�سرة خبز �أ�سفل قدمه و�أ�شار يل كي �آخذها ‪ ..‬ترقرقت الدموع يف‬
‫كلب �ضال‬
‫عيني و�أنا �أركع لألتقطها لكنه ركلها بقدمه بعيدً ا عني �إىل ٍ‬
‫نه�ضت و�سرتُ يف طريقي‪ ،‬فقام �شاب �آخر‬
‫ُ‬ ‫مل يت�أخر عن التهامها ‪..‬‬
‫ف�صرخت‬
‫ُ‬ ‫بنزع ف�ستاين على حني غ ّرة من اخللف فظهر و�شم كتفي‪،‬‬
‫�إليهم ب�صوت متعب‪:‬‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫  �إنني �شريفة مثلكم‪.‬‬
‫ف�أ�شار نحويع َمنْ نزع ف�ستاين ب�إ�شارة بذيئة‪ ،‬ف�أطلق الباقون‬
‫ص �أمام جندي وقف ي�شاهد ما يحدث دون �أن‬
‫ال�ساخرة ري لا‬ ‫�ضحكاتهم‬

‫كتيقع على جانب ذلك ال�شارع‪ ،‬وقف‬


‫يحرك �ساك ًنا ‪..‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�صاحبه �أمام بابه الكبري ي�ضحك ل‬
‫وي�شرين�إ ّ‬
‫كان بيت من بيوت الرذيلة‬

‫ر‬ ‫�أكملت طريقي و�أنا �أبكي بحرقة‪ ،‬قبل �أن �ش‬


‫يل ب�أن �أقرتب منه‪ ،‬لكني‬

‫منذ وقت طويل حني ناداين �صوت �أنثوي‪ :‬وال وت‬


‫أ�سمع ا�سمي للمرة الأوىل‬

‫زيع‬ ‫ �سبيل ‪..‬‬


‫التفت �إىل م�صدر ال�صوت الآتي من الأعلى‪ ،‬كانت نافذة خ�شبية‬ ‫ُّ‬
‫يف الطابق العلوي لبيت الرذيلة ‪ ..‬تقف فيها فتاة ن�سلية �ألقت نحوي‬
‫وهي تبت�سم بطيبة رغي ًفا فيه قطع ُة من اللحم التقطته من الأر�ض‬
‫وو�ضعته يف فمي ‪ ..‬قبل �أن ُتغ َلق النافذة ويتعاىل ال�صراخ من خلفها‬
‫وك�أن �أحدهم �شرع يف �ضربها ملا قامت به معي ‪..‬‬
‫يف تلك الليلة وجدتُ ِج ً‬
‫وال من الدقيق و�إنا ًء فخار ًيا كب ًريا من الع�سل‬
‫�أمام باب بيتي‪ ،‬كنت �أعرف مذاق ذلك الع�سل جيدً ا‪ ،‬كان الع�سل الذي‬
‫‪212‬‬
‫فعرفت �أن �سيدتي غفران‬
‫ُ‬ ‫لطاملا اقتطفه لنا ريان يف وادي الن�ساىل‪،‬‬
‫وبكيت‪ ،‬ال �أعلم للمرة الكم تنقذ �سيدتي طفلي من‬ ‫ُ‬ ‫من �أر�سلته �إ ّ‬
‫يل‪،‬‬
‫متنيت لو ا�ستطعت الذهاب �إليها وتقبيل قدميها لكنني كنت‬ ‫ُ‬ ‫املوت ‪..‬‬
‫�أعرف �أنها ال تريد مني �سوى �إكمال ما �سعت �إليه دائ ًما ‪ ..‬يومها‬
‫أخرجت �سكي ًنا عري�ض الن�صل وو�ضعتُه فوق‬ ‫ُ‬ ‫أ�شعلت م�ستوقدي و�‬
‫� ُ‬
‫قب�ضت‬
‫ُ‬ ‫النريان‪ ،‬وانتظرتُ حتى احم َّر ن�صله مع ا�شتداد �سخونته‪ ،‬ثم‬

‫دا‬
‫أم�سكت مبقب�ض ال�سكني‬
‫ب�أ�سناين على قطعة من اجللد ال�سميك‪ ،‬و� ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫وال�صقت بن�صله جلد كتفي الأي�سر فوق و�شمي و�أنا �أ�صرخ �صرخات‬ ‫ُ‬
‫ص‬
‫عيني �ستخرجان من مقلتيهما‪ ،‬حتى �ألقيت‬ ‫مكتومة �شعرتُ معها �أن ّ‬
‫و�سقطت على الأر�ض‬
‫ُ‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫أر�ضا مع احرتاق جلد و�شمي ب�أكمله‪،‬‬ ‫�سكيني � ً‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�ألهث و�أت�أوه من �شدة الأمل ‪ ..‬لكن داخلي �أق�سم �أنني �س�أكمل ما بد�أته‬

‫ل‬ ‫‪b‬ب ل‬
‫�سيدتي حتى موتي‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ووا�صلت بحثي‬‫ر وا تول‬
‫أكملت �أيامي يف املدينة التي �أكرهها و�أكره �أهلها‪،‬‬
‫� ُ‬
‫زيع‬
‫ُ‬
‫�ضئيل من املال‪ ،‬كانت النتيجة نف�سها‬ ‫عن عمل يجلب يل ولو قد ًرا ً‬
‫يل حني‬ ‫فوجئت بعد �أيام �أخرى من البحث مبن ينحني �إ ّ‬ ‫ُ‬ ‫‪ ..‬غري �أنني‬
‫جل�ست بطفلي متعبة على جانب الطريق‪ ،‬ويخربين ب�أنه يريدين‬ ‫ُ‬
‫�أن �أعمل خادمة له يف منزله‪ ،‬كان �شا ًبا يف املدر�سة العليا مل يكمل‬
‫الع�شرين يعي�ش مبفرده على ما تق ّدمه له چارتني من منحة مقابل‬
‫خ�ضوع �أبويه للقاعدة الأوىل‪ ،‬قال �أنه �سيتوىل �إطعامي �أنا وطفلي‬
‫و�إن ا�ستطاع ادخار �شي ًئا من نقوده �سيعطيني ثالث عمالت نحا�سية‬
‫فوافقت على الفور ‪� ..‬شعرتُ‬
‫ُ‬ ‫مقابل اهتمامي بنظافة بيته وطعامه‪،‬‬
‫�أنني �أعرفه �أو رمبا ر�أيته من قبل‪ ،‬ف�س�ألتُه �إن كنا قد حتدثنا �ساب ًقا‪،‬‬
‫‪213‬‬
‫ف�أنكر ذلك ‪ ..‬لكني منذ اليوم الأول يف بيته عرفت �أين ر�أيته عندما‬
‫أيت �صورتها قبل �سنوات يف �إحدى اخلزانات اخل�شبية‪ ،‬كانت �صورة‬ ‫ر� ُ‬
‫مر�سومة لل�سيدة غفران يف ثوب مدر�ستها املتو�سطة ‪ ..‬ومعها عاد‬
‫ذهني �إىل ذلك اليوم الذي ح�ضر فيه ال�ضابط كيوان للمرة الأوىل‬
‫�إىل وادي الن�ساىل و�ألقى القب�ض على �أحد ع�شر ن�سل ًيا بينهم زوجي‬
‫حيدر فيما �أح�ضر معه �شا ًبا �صغ ًريا �أعلن لل�سيدة غفران عن موافقته‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ب�إزالة �صفة الأ�شراف عنها ‪ ..‬كان �أخاها زين‪ ،‬وقتها ت�ساءل عقلي‬
‫ندما على ما فعله يف حقها‪� ،‬أم‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫متعج ًبا �إن كان موافقته لأعمل معه ً‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أنه من قبيل ال�صدفة‪� ،‬أم تكون ال�سيدة غفران من ا�ستعطفته ب�ش�أين‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ووا�صلت عملي يف بيته ‪� ..‬أنظف غرفه‬ ‫ُ‬ ‫‪ ..‬مل �أحدثه عن هذا الأمر‬

‫ب‬
‫و�أُعد له طعامه نها ًرا قبل �أن �أعود �إىل بيتي مع طفلي مع حلول امل�ساء‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫�أغطي ر�أ�سي بقلن�سوة معطفي خ�شية �أن يعرفني �أحدهم فيقوم بنزع‬

‫ر وا تول‬
‫ثيابي لل�سخرية مني‪ ،‬كان يف داخله الطيبة نف�سها التي لطاملا �شعرتُ‬

‫زيع‬
‫بها داخل �سيدتي ‪ ..‬حتن الدماء لبع�ضها ح ًقا ‪ ..‬حني ر�آين ذات مرة‬
‫�أنظر �إىل �صورة ال�سيدة غفران القدمية مل يع ّقب على الأمر و�س�ألني‬
‫ع ّما �إن كان طفلي بخري‪ ،‬هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا �إليه‪ ،‬وقلت و�أنا �أنظر‬
‫�إىل ال�صورة‪:‬‬
‫ مل �أجد يف نقاء قلبها ‪..‬‬
‫قال بجمود‪:‬‬
‫ ال �أتذكر مواق ًفا يل معها ‪ ..‬تركتني �صغ ًريا جدً ا لتعي�ش بينكم‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪214‬‬
‫ رمبا �أرادت لك اخلري بالبقاء هنا‪ ،‬ال تعرف املعاناة التي‬
‫يواجهها كل طفل هناك ‪..‬‬
‫قال باجلمود ذاته‪:‬‬
‫ رمبا ‪..‬‬
‫ثم تركني وغادر‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫عرفت الح ًقا �أنه كان يتابع �أخبارها � ًأول ب�أول على مر ال�سنوات‬
‫ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫املا�ضية‪ ،‬وال �أدري �إن كانت تعرف باهتمامه ب�أخبارها �إىل هذا احلد‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫�أم ال‪ ،‬حتى �أنني �صرت �أعرف �أخبار الوادي و�أخبار ال�سيدة منه دون‬

‫ك‬
‫احلاجة �إىل الذهاب �إىل باحة جويدا من �أجل لقاء �أي ن�سلية هناك‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫خل�س ًة‪ ،‬كنت كل ما �أخ�شاه �أن ي�ؤذيه الفار�س كيوان لإيوائي من املوت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫جوعا ‪ ..‬لكنه طم�أنني حني حدثته عن هذه املخاوف ب�أن الفار�س‬ ‫ً‬

‫ر وا تول‬
‫كيوان يوا�صل ترقيته يف املنا�صب بني مدن چارتني وال ي�شغل باله بي‬
‫‪ ..‬لكن بال الأ�شراف الآخرين مل ين�سني قط‪ ،‬وا�ستمرت امل�ضايقات‬

‫زيع‬
‫�إن ر�أوين دون انقطاع حتى �أنني �صرت �ألب�س معطفي ذا القلن�سوة‬
‫�صي ًفا و�شتا ًء اختبا ًء منهم ‪ ..‬كنت �أعرف �أن طفلي �سينمو م�صا ًبا‬
‫متاما عن الظهور للنا�س‪،‬‬‫با�ضطراب يف �شخ�صيته بعدما عزلتُه ً‬
‫لكنني ا�ضطررت �إىل ذلك خو ًفا من تعر�ضه لأي نوع من �أنواع الأذى‬
‫‪ ..‬لتم�ضي ال�سنني دون توقف و�أجده قد بلغ يف غم�ضة عني عامه‬
‫ال�ساد�س ‪� ..‬سن االلتحاق باملدر�سة الأ�سا�سية يف جويدا ‪ ..‬فكرتُ‬
‫كث ًريا يف هذه اخلطوة خو ًفا مما قد يتعر�ض له هناك‪ ،‬حتى انتهيت‬
‫�إىل قراري بان�ضمامه �إىل غريه من الأ�شراف لعدم اختالفه عنهم‪،‬‬
‫غري �أنه عاد يل يف اليوم الأول ُمزق الثياب مر�سوم على جبهته‬
‫بالر�صا�ص الأ�سود ر�سمة قريبة من و�شم الن�ساىل ‪ ..‬ظل ين�شج بقوة‬
‫‪215‬‬
‫يومها وهو يغمغم عن اعتداء من يكربونه �س ًنا عليه دون �سبب ‪ ..‬كنت‬
‫يوما ما �سين�سون �أن �أباه و�أمه كانا‬
‫�أنا املخطئة لأنني ظننت �أنهم ً‬
‫حاملني للعار ‪ ..‬وقررتُ يومها �أن �أع ّلمه بنف�سي مثلما فعلنا مع �أطفال‬
‫الن�ساىل يف الوادي ‪ ..‬كنت على ا�ستعداد �أن �أ�صرب و�أ�صرب و�أ�صرب و�إن‬
‫يوما‬
‫كامل ً‬‫عانى طفلي مع هذا ال�صرب ‪ ..‬على �أمل �أن ي�ستعيد حقه ً‬
‫دوما ‪..‬‬
‫ما‪ ،‬كما علمتني �سيدتي ً‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫لكن الرياح التي ه ّبت فج�أ ًة لتقتلع كل �شيء جاءت ذلك ال�صباح‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫كنت يف طريقي �إىل بيت ال�سيد زين �أغطي ر�أ�سي بقلن�سوة‬ ‫حني ُ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫وفوجئت بذلك الزحام الغريب للكثريين من �أهل جويدا‬ ‫ُ‬ ‫معطفي‬
‫يف الطريق امل�ؤدي �إىل دار الأمن‪ ،‬وقتها �أ�صابني الف�ضول لأرى �سر‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫زحامهم الغريب يف يوم غري يوم الغفران‪ ،‬فوجد ُتهم يتطلعون يف‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬


‫رجل ي�صرخ ب�أعلى �صوته ب�أنه يريد‬
‫ب‬‫ده�شة �إىل اجلنود وهم يج ّرون ً‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫مقابلة الفار�س كيوان‪ ،‬وحني جتاوزتُ بع�ض الواقفني �أمامي كى �أرى‬
‫ذلك الرجل بعدما بدا �صوته م�ألو ًفا يل‪ ،‬كدتُ �أفقد وعيي عندما‬

‫زيع‬
‫وجد ُته ذلك العجوز الذي �أراد �شق بطني يف كهفه قبل �ست �سنوات‪.‬‬

‫‪b‬‬

‫‪216‬‬
‫(‪)16‬‬
‫سيرين‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ا‬ ‫ري‬
‫خرجت من متحف الأمن لب« ِقباال» بعد �أن‬
‫ك �تأ�سفل كم �سرتتي‪،‬‬
‫د�س�ست �صورة ال�ضابطة‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وركبت فر�سي‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫عائد ًة �إىل بريحا‪ ،‬ال يف ّكر ر�أ�سي �إال يف ل‬
‫التي انتزعتها من كتاب اخلريجني‬
‫�أ�صل؟! وتت�شاجر يف ر�أ�سي �أفكاري �إن كان ما ش‬
‫�شيء واحد؛ ماذا �أفعل حني‬
‫ر‬
‫�صحيحا �أم جمرد خياالت �ستودي بي �والإىلت �شر �أعمايل‪،‬‬
‫افرت�ضه عقلي من و�ساو�س‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫منذ البارحة‬


‫أ�صل‬
‫ع‬
‫دفعني � ً‬ ‫ت�سرعت بالقدوم �إىل « ِقباال» ‪ ..‬وما الذي‬‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫�إىل انتزاع تلك ال�صورة من الكتاب؟! ‪ ..‬وماذا لو ا�ستطاع �آدم التعرف‬
‫و�إن ُ‬

‫على �صورتها وكانت روحه ن�سلي ًة كما �أعتقد؟! ‪ ..‬ماذا �سيرتتب على‬
‫ذلك؟! ‪ ..‬وماذا لو عرف �أ�شراف بريحا وال�سيد عبود بذلك و�أبلغوا‬
‫رجال الأمن؟! هل �س�أ�صري �أنا الأخرى ن�سلي ًة �أعاين الويالت بعد كل‬
‫ميت يل ب�صلة و�أترب�أ منه‪،‬‬
‫هذه ال�سنني؟! �أم �أعرتف من الآن �أنه ال ُّ‬
‫جذبت‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫م�ستقبل؟ ‪ ..‬يف هذه اللحظة‬ ‫فيعفون عني �إن عرفوا حقيقته‬
‫جلام ح�صاين بقو ٍة فج�أة �أثناء رك�ضه فرفع قائمتيه الأماميتني وكاد‬
‫عال يف غ�ضب‪:‬‬
‫ب�صوت ٍ‬
‫ٍ‬ ‫وحدثت نف�سي‬
‫ُ‬ ‫ي�سقطني‪،‬‬
‫‪217‬‬
‫�سيغي �إن كان �آدم ن�سل ًيا �أو �شري ًفا يف �شيء؟!‬
‫ ماذا ّ‬
‫فيم تفكرين �أيتها الغبية؟! ‪� ..‬إنني �أحب كونه معي و�إن كان‬
‫َ‬
‫�شيطا ًنا حتى ‪..‬‬
‫ألقيت نظرة‬
‫أخرجت الورقة املر�سوم فيها �صورة ال�ضابطة‪ ،‬و� ُ‬ ‫ُ‬ ‫و�‬
‫بغ�ضب �شديد‪ ،‬و�ألقيها‬
‫ٍ‬ ‫طويلة على وجهها قبل �أن �أك ّورها يف يدي‬

‫دا‬
‫بكل طاقتي بعيدً ا عني‪ ،‬ثم لكزتُ ح�صاين بقدمي‪ ،‬ووا�صلت طريقي‬
‫ر‬
‫ب�سرع ٍة �أقل مما كانت عليه قبل توقفي‪ ،‬لكن �شيطا ًنا بداخلي جعلني‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫�أتوقف من جديد بعد �أمتا ٍر قليلة لأ�ستدير بح�صاين‪ ،‬و�أعود و�ألتقط‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫الورقة من جديد‪ ،‬ثم فرد ُتها ونظرتُ �إىل وجه ال�ضابطة وعينيها‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫بحر�ص‪ ،‬و�أ�ضعها �أ�سفل كم �سرتتي مرة‬
‫ٍ‬ ‫القويتني قبل �أن �أطويها‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أخرى‪ ،‬و�أوا�صل طريقي بدون توقف هذه املرة‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ر وا تول‬
‫واجتهت �إىل منزيل مبا�شرة‪ ،‬كان‬
‫ُ‬ ‫و�صلت بريحا قبيل الغروب ‪..‬‬
‫فعلمت �أن �آدم مل يعد من الور�شة بعد‪ ،‬لكني ما �إن‬
‫ُ‬ ‫املنزل خاو ًيا‬

‫زيع‬
‫�أخفيت ال�صورة بني �أغرا�ضي بغرفتي وخلعت ف�ستاين حتى وجدته‬
‫يعود وي�س�ألني م�ستغر ًبا‪:‬‬
‫كنت؟‬
‫ �أين ِ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ذهبت �إىل « ِقباال» �صبيحة اليوم لأزور �صديق ًة يل هناك ‪ ..‬مل‬
‫  ُ‬
‫�أرد �أن �أقلق منامك باك ًرا‪ ،‬لذا ذهبت دون �إخبارك ‪..‬‬
‫قال غا�ض ًبا‪:‬‬
‫ لقد �أقلقتني بالفعل ‪..‬‬
‫‪218‬‬
‫حاولت اللحاق به لكني‬
‫ُ‬ ‫ثم خرج و�أغلق الباب من خلفه بقوة‪،‬‬
‫مل �أجتاوز عتبة الباب بعدما مل ت�سمح ثيابي الداخلية الق�صرية‬
‫وبقيت يف غرفتي �أنتظر عودته �إىل البيت مرة �أخرى و�ألوم‬
‫باخلروج‪ُ ،‬‬
‫نف�سي ب�صورة �أكرب مما كنت عليه �أثناء طريق عودتي‪.‬‬
‫يف ذلك امل�ساء ت�أخر كث ًريا يف اخلارج مثل اليوم الذي عاد فيه‬
‫بر�سمة �صديقه‪� ،‬إىل �أن عاد مع منت�صف الليل‪ ،‬ثم فتح باب غرفتي‬
‫فت�صنعت النوم‪ ،‬ف�أغلق الباب برفق واجته �إىل‬
‫ُ‬ ‫علي‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ليلقي نظر ًة ّ‬

‫ص‬ ‫ع‬ ‫غرفته‪.‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫يف الأيام التالية كان الت�شو�ش الذي يع�صف بعقلي يف�ضح تعابري‬

‫ك‬
‫وجهي رغ ًما عني‪� ،‬أحيا ًنا كنت �أجد ل�ساين يفلت ب�أ�سئلتي �إىل الزبائن‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ع ّما �إن كانوا يعرفون �شي ًئا عن م�صري ال�ضابطة التي تركت املن�صة‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫قبل �سنوات‪ ،‬كان �أغلبهم ال يعرف‪ .‬و�أحيا ًنا كانت عيني ال ترى �آدم �إال‬

‫ر وا تول‬
‫عاري ال�صدر حامل الو�شم علي �صدره خا�ص ًة مع مراقبتي الال�إرادية‬
‫له يف الور�شة �أو البيت مع كل حركة يفعلها‪ ،‬ف�آثرتُ �أن �أجتنبه تلك‬

‫زيع‬
‫الفرتة حتى تهد�أ �أفكاري‪� ،‬س�ألني ب�أحد الأيام على غفلة �أثناء تناولنا‬
‫الع�شاء‪:‬‬
‫ هل هناك خطب ما يا خالتي �سريين ؟‬
‫قلت مبكر‪:‬‬
‫ ماذا تق�صد؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫�ضايقك؟!‬
‫ِ‬ ‫أذاك �أح ٌد �أو‬
‫  �أجد حالك متبدلة منذ �أيام ‪ ..‬هل � ِ‬
‫‪219‬‬
‫قلت والطعام يف حلقي دون �أن �أرفع عيني �إليه‪:‬‬
‫ُ‬
‫ �إنني بخري ‪..‬‬
‫ثم �س�ألته لأب ّدل جمرى احلديث‪:‬‬
‫ كيف �أحوالك بعد رحيل زهري؟‬

‫دا‬
‫قال‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫  �صارت الأيام طويلة ومملة ‪ ..‬ال �شيء غري العمل والعودة �إىل‬

‫ري‬‫ص‬
‫هنا ‪� ..‬أحيا ًنا �أذهب بفر�سي �إىل التلة التي كنا جنل�س عليها‬
‫ال‬
‫قبل غروب ال�شم�س‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫قلت‪:‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫  وماذا ب�ش�أن �أحالمك ال�سيئة؟ ل‬
‫ش‬ ‫ر‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫  مل ت� ِأت منذ زمن‪ ،‬ظننتها �سرتاودين من تو‬
‫قال‪:‬‬
‫زيبعد ر�ؤيتي‬
‫ذلك ال�شعار على �سرتة الفار�س كيوان لكنها مل ت� ِأت‪..‬ع‬
‫جديد‬

‫قلت با�سمة‪:‬‬
‫ُ‬
‫متاما ‪..‬‬
‫  مع الوقت �ستذهب عنك ً‬
‫قال‪:‬‬
‫  �أمتنى ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫ثم تابع‬
‫‪220‬‬
‫ �أمل يعد من ذهب بر�سالتي �إىل زهري من جويدا؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫  ال �أعرف ‪ ..‬ملاذا؟‬
‫قال‪:‬‬

‫دا‬
‫رحيل و�شيك لباقي العاملني‬
‫  حدثني �أحد الزبائن اليوم عن ٍ‬

‫ر‬
‫مبعامل الذخرية �إىل هناك بعد رحيل كبريهم‪ ،‬والد زهري ‪..‬‬

‫ص‬ ‫قلت متعجبة‪ :‬ع‬


‫ري‬
‫  مل �أ�سمع عن هذا الالأمر ‪..‬‬
‫قال بغري اكرتاث‪ :‬كت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ قال هذا الزبون �أثناء ثرثرته معي �أن هذا الأمر يحدث للمرة‬
‫الأوىل‪ ،‬يظن الرجل �أن الأمر متعلق بحالة طارئة حدثت يف‬

‫زيع‬
‫وادي الن�ساىل املجاور جلويدا ‪..‬‬
‫ب�صوت قلق بع�ض ال�شيء‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫وتابع‬
‫ �أخ�شى �أن ُي�صاب زهري ب�أي �أذى ‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫  �سي�ؤ ّمن له عمه كل احلماية ‪� ..‬إنه كبري ال�ضباط الآن ولن يجد‬
‫�صعوبة يف حمايته هو وعائلته ‪..‬‬
‫�سكت حلظات‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫‪221‬‬
‫ هناك �أمر �أو ُّد �إخبارك به ‪..‬‬
‫�س�ألته‪:‬‬
‫ ماذا؟!‬
‫قال‪:‬‬

‫دا‬
‫ اقرتح الرجل نف�سه الذي �أخربين عن رحيل �صانعي الذخرية‬

‫ر‬
‫�أن �أذهب برفقتهم �إىل جويدا ‪ ..‬قد حتتاج الأح�صنة �إىل تبديل‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫حدواتها �أو العربات �إىل �إ�صالح عجالتها �أثناء الطريق الطويل‬
‫حداد يرافقهم‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�إىل هناك‪� ،‬سيحدثون ال�سيد عبود ب�ش�أن �إر�سال ٍ‬

‫ك‬
‫بالطريق ‪..‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫وتابع وهو يرتقب رد تعابري وجهي‪:‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ربحا من الور�شة التي‬
‫ وهناك يف جويدا �سيكون العمل �أكرث ً‬
‫نعمل فيها‪ ،‬و�س�أكون قري ًبا من زهري حلمايته من �أي مكروه‪.‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫وخف�ض نربة �صوته وهو يقول‪:‬‬


‫ لكني �أخربت الرجل �أنني لن �أرحل بدونك ‪ ..‬ما ر�أيك يف‬
‫الذهاب �سو ًيا �إىل هناك؟‬
‫وقلت‪:‬‬
‫�ضممت �شفتي ُ‬
‫ُ‬
‫ حتمل يل جويدا كل الذكريات ال�سيئة ‪ ..‬لن �أعود �إىل هناك‪،‬‬
‫�إن �أردت الذهاب معهم اذهب‪.‬‬
‫تعجب من نربة حديثي وقال‪:‬‬
‫‪222‬‬
‫اقرتاحا من الرجل فح�سب‪،‬‬
‫ً‬ ‫  ال لن �أذهب بدونك ‪ ..‬لقد كان‬
‫أنك قد توافقني‪.‬‬
‫وظننت � ِ‬
‫و�أكمل با�س ًما‪:‬‬
‫أ�صبت �أحد ال�ضباط هناك‬ ‫ يل ذكريات �سيئة هناك � ً‬
‫أي�ضا ‪ُ � ..‬‬
‫وظللت م�شردًا لأيام كثرية حتى اعتنت بي املر�أة التي �سلمتني‬
‫ُ‬

‫دا‬
‫إليك‪ ،‬ما زلت �أتذكر تلك الآونة رغم مرور �سنوات عليها ‪..‬‬
‫� ِ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قلت ب�صوت هادئ و�أنا �أنظر نحو طبقي‪:‬‬

‫ري‬‫ كانت ن�سلية‪ .‬ص‬


‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫قال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫  كانت امر�أة ط ّيبة على ما �أتذكر ‪� ..‬أمتنى �أال تكون قد �أُعدمت‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫يف الباحة ‪..‬‬

‫زيع‬
‫فقلت و�أنا �أختل�س النظر �إليه‪:‬‬
‫ قد �أ�صري ن�سلي ًة �إن ارتكبت خط�أً واحدً ا بعدما ت�سبب �أبي يف‬
‫اختزال حماية �صفة ال�شرف لنا بهروبه من القاعدة الأوىل‪.‬‬
‫قال بابت�سامة رائعة‪:‬‬
‫�صرت قردة حتى‪.‬‬
‫  �س�أظل �أحبك خالتي �سريين و�إن ِ‬
‫وقلت‬
‫�ضحكت‪ ،‬كانت الفطرة التي عليها �آدم �أكرث ما �أحبه فيه‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫يف �سري‪:‬‬
‫ و�أنا �س�أظل �أحبك يا �صغريي مهما كنت ‪..‬‬
‫‪223‬‬
‫متاما �أفكاري ال�سيئة‪ ،‬وعلى‬‫أق�سمت لنف�سي �أنني �س�أن�سى ً‬
‫ليلتها � ُ‬
‫متاما تلك الو�ساو�س التي مل جتلب‬ ‫مر الأ�سابيع التالية بد�أتُ �أتنا�سى ً‬
‫يل �سوى وجع الر�أ�س وت�شتت الذهن‪ ،‬ووا�صلنا حياتنا يف بريحا بني‬
‫الور�شة وبيتنا‪ .‬يف �أوقات كثرية كنت �أذهب معه �إىل التلة التي كان‬
‫يعتاد اجللو�س عليها هو وزهري بعدما ق ّل حجم عملنا يف ور�شة احلدادة‬
‫مع رحيل معظم راكبي اخليول �إىل جويدا �سواء كانوا فر�سا ًنا �أو من‬

‫دا‬
‫�صانعي الذخرية ‪� ..‬س�ألني ذات م�ساء ونحن ن�شق طريقنا عائدين‬
‫ر‬
‫ ماذا يفعلع‬
‫منها �إىل البيت‪:‬‬
‫ص‬
‫وقلت‪ :‬ري ال‬
‫الرجل حني ي�صل �سن البلوغ؟!‬

‫ت‬ ‫  ال �شيء‪ .‬ك‬


‫�ضحكت ُ‬
‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬


‫ش‬
‫  ينتظر ت�سعة �سنوات �أخرى حتى يتزوجر‬
‫و‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ُ‬
‫�شرع ًايلاتيف باحة جويدا‪.‬‬
‫وز عي‬ ‫قال‪:‬‬
‫  �س�أكمل عامي ال�ساد�س ع�شر قري ًبا جدً ا ‪ ..‬ال �أعلم يف �أي يوم‬
‫حتديدً ا ‪ ..‬لكني �أتذكر �أن الرجل الذي جاء بي �إىل چارتني‬
‫�أخربين حينها �أنني كنت �أبلغ التا�سعة ‪� ..‬أتذكر مالحمه ً‬
‫قليل‪..‬‬
‫أر�سلت معه ر�سالة �آدم �إىل زهري قبل‬ ‫وقتها ر�أيت الرجل الذي � ُ‬
‫وناديت الرجل‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫�أكرث من �شهر مير �أمامنا‪ ،‬فقاطعت حديث �آدم‬
‫�س�ألته عندما اقرتب منا �إن كان زهري قد �أر�سل �شي ًئا معه �إىل �آدم ‪..‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫‪224‬‬
‫ �أخربين �أن �ألقي �إليكما التحية‪ ،‬و�أو�صاين ب�إبالغ �شكره �إىل‬
‫معلمه ال�سيد �شقري‪.‬‬
‫�س�أله �آدم‪:‬‬
‫ هل التحق باملدر�سة املتو�سطة هناك؟‬
‫�أجابه الرجل‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ مل �أ�س�أله عن هذا الأمر‪ ،‬مل � َ‬
‫أحظ بوقت طويل معه ‪� ..‬إنه يرافق‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫عمه على الدوام ‪ ..‬واجلنود هناك ينت�شرون بكرثة حول بيتهم‪،‬‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫كما ينت�شرون ب�صورة كبرية للغاية يف جويدا بعدما ُحدد يوم‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الغفران القادم ملحاكمة الن�سلية التي كانت رامية املن�صة قبل‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�سنوات ‪..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫و�أ�ضاف‪:‬‬
‫ تتناثر الأخبار هناك �أن الن�ساىل يك ّنون ح ًبا كب ًريا لتلك ال�سيدة‬
‫زيع‬
‫وقد يحدث نوع من ال�شغب �إن �أقر القا�ضي �إعدامها‪.‬‬
‫قال �آدم‪:‬‬
‫ ماذا ارتكبت تلك الن�سلية؟!‬
‫نظرتُ حلظتها �إىل �آدم‪ ،‬كانت تعابري وجهه عادية وبدا �أن �س�ؤاله‬
‫لال�ستف�سار فح�سب‪� ،‬أجابه الرجل‪:‬‬
‫ ال �أعرف‪ ،‬مل �أ�شغل بايل ‪ ..‬الأجواء يف جويدا خانقة هذه الأيام‪،‬‬
‫وكرثة اجلنود هناك زادها اختنا ًقا‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫�شكرتُ الرجل على اعتنائه بتو�صيل ر�سالتنا لأُنهي ذلك احلديث‪،‬‬
‫فرحب ب�شكري‪ ،‬قبل �أن يرتكنا ومي�ضي‪ ،‬و�أكملنا طريقنا �إىل بيتنا‬
‫اختل�س بعيني النظرات بني احلني والآخر على وجه �آدم‪ ،‬ثم �س�ألني‬
‫عندما دخلنا �إىل البيت‪:‬‬
‫ ما ق�صة الن�سلية التي كانت رامية املن�صة؟‬

‫دا‬
‫قلت بعد حلظة من التفكري‪:‬‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ كانت رامية املن�صة قبل �سنوات‪ ،‬قبل �أن ُتتهم بجرمي ٍة ما‪،‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وحكم قا�ضي املن�صة بنزع �صفة ال�شرف عنها لتكون عرب ًة‬
‫للآخرين من �أ�صحاب املنا�صب الرفيعة‪ ،‬هذا ما �أعرفه ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫قال‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫ ال بد �أنها فعلت الكثري للن�ساىل حتى يحبونها ذلك احلب الذي‬
‫حتدث عنه الرجل‪.‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫قلت‪:‬‬


‫ُ‬
‫ رمبا‪ ،‬ولكن النا�س يف جويدا اعتادوا اختالق الق�ص�ص وتهويل‬
‫الأمور ‪..‬‬
‫فكر ً‬
‫قليل ثم قال‪:‬‬
‫ قد يتعلق ح�شد اجلنود هناك ب�صورة الن�سلي القوي يف ال�صورة‬
‫التي ر�آها زهري مع عمه‪.‬‬
‫قلت و�أنا �أ�شعل نريان امل�ستوقد‪:‬‬
‫‪226‬‬
‫ �سيت�ضح كل �شيء خالل يوم الغفران القادم ‪� ..‬إن الأحداث‬
‫الكربى يف هذا البلد لطاملا ارتبطت بهذا اليوم‪.‬‬
‫ت�ساءل ب�شغف‪:‬‬
‫رام للمن�صة من قبل؟‬ ‫ُ‬
‫ هل �أعدم ٍ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫  ال �أعتقد‪.‬‬

‫ص‬ ‫ثم تذكرتُ ع‬


‫ف�أردفت م�ؤكدة‪ :‬ري ال‬
‫الرماة بالكتاب الذي ت�صفحته يف متحف قباال‪،‬‬

‫ت‬ ‫  مل ُيعدم �أي ٍرام من قبل‪.‬ك‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ �ستكون ق�صة مثرية حت ًما للأجيال ش‬
‫قال بحما�س‪:‬‬
‫ر‬
‫القادمةو‪ ..‬لهذا ال�سبب‬
‫و‬ ‫�أحب زهري االنتقال �إىل جويدا حيث احلياة الت‬
‫زيع‬
‫املفعمة بالأحداث‬
‫املت�سارعة‪.‬‬
‫بعدها غرينا جمرى احلديث �إىل جمال �آخر حتى متكن النعا�س‬
‫ليال قليلة‪� ،‬إىل �أن جاء �صباح‬
‫منا‪ ،‬وم�ضت تلك الليلة وما بعدها من ٍ‬
‫والحظت تبدل وجهه‪ ،‬وقبل �أن �أ�س�أله‬
‫ُ‬ ‫�أحد الأيام بنهاية ذلك الأ�سبوع‬
‫عما �أ�صابه وجدته يقول بوجه حائر متقلب بعدما جل�س �إىل الطاولة‪:‬‬
‫ زارين الكابو�س بالأم�س‪.‬‬
‫انتظرته يكمل‪ ،‬لكنه �سكت للحظة‪ ،‬ثم رفع عينيه �إ ّ‬
‫يل وقال‪:‬‬
‫‪227‬‬
‫  ظهرت مالمح َمن يقتلني للمرة الأوىل‪ ،‬مل يكن ال�ضابط كيوان‬
‫من يرتدي �شعار الرامي على �سرتته ‪ ..‬كانت امر�أ ًة جميلة ‪..‬‬
‫بخنجر �أ�سفل قدميها ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫تذبح عنقي‬
‫أيت مالمح وجهها وهي تنظر يف عيني ‪ ..‬امر�أة �شابة ذات‬ ‫ر� ُ‬
‫عينني خ�ضراوين‪ ،‬و�شعر بني ملموم‪ ،‬ترتدي ثيابها الع�سكرية‪،‬‬
‫ُمثبت على �صدرها ذلك ال�شعار املعدين‪ ،‬مل �أ�ستطع املقاومة‪،‬‬

‫ر‬ ‫ا‬
‫كنت م�ست�سل ًما للغاية ‪� ..‬أنظر يف عينيها فح�سب‪.‬‬
‫د‬
‫ع‬
‫ كما قلت لك‪،‬صري‬
‫وقلت با�سمة‪:‬‬
‫فحاولت �إخفاء توتري‪ُ ،‬‬‫ُ‬ ‫التوتر مما قاله‪،‬‬ ‫�أ�صابني‬
‫تتعلقال كوابي�سك مبا يدور حولنا ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ مل �أ َر وج ًها بهذا الو�ضوح يف �ب ل‬
‫قال �شاردًا‪:‬‬
‫لكنك حمقة ‪..‬‬ ‫ن‬ ‫ل‬
‫لوال حديث ذلك الرجل منذ �أيام عنش‬
‫أحالمي من قبل‪ِ ،‬‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫�ضابطة املن�صة الن�سلية‬

‫زيع‬
‫ملا زارين ذلك احللم ‪..‬‬
‫و�ضم �شفتيه و�أردف بنربة حزينة‪:‬‬
‫ ظننت �أن تلك الأحالم �ستختفي مع اقرتابي من عامي ال�ساد�س‬
‫ع�شر ‪..‬‬
‫ثم حول نربته احلزينة �إىل نربة �ساخرة وهو يقول ً‬
‫مغتاظا‪:‬‬
‫ كدتُ �أعرف ما يناديني به املحدقون بي يف احللم ‪ ..‬لوال �أنها‬
‫متاما ‪..‬‬
‫قتلتني قبل و�ضوح �أ�صواتهم ً‬
‫قلت بابت�سامتي ذاتها و�أنا �أحمل معطفي لأ�سبقه �إىل الور�شة‪:‬‬
‫‪228‬‬
‫ �ستعرف احللم القادم � ًإذا ‪..‬‬
‫مل ي�ستطع عقلي جتاهل ذلك التطور يف �أحالم �آدم‪ ،‬وخا�ص ًة مع‬
‫الت�شتت الكبري الذي ارت�سم على وجهه طيلة ذلك اليوم‪ ،‬فانتهزتُ‬
‫فر�صة عدم تواجد ال�سيد عبود بالور�شة‪ ،‬و�أخربت �آدم �أنني ذاهبة‬
‫من �أجل �شراء بع�ض الفاكهة من ال�سوق ال�شرقي‪ ،‬واجتهت �إىل‬

‫دا‬
‫الطبيب ذاته الذي فح�ص �آدم قبل �ست �سنوات حني �أ�صابه ذلك‬

‫ر‬
‫الهياج‪ ،‬و�س�ألته‪:‬‬
‫ هل ي�ستطيع �عأحد تذكر حياة حا�صد روحه ال�سابقة؟‬
‫ري‬ ‫ص‬
‫قال بكل هدوء وثقة‪ :‬ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ ال‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫قلت‪:‬‬

‫زيع‬
‫  وال يف �أحالم نومه؟‬
‫قال‪:‬‬
‫ت�سجل كتب الطب التي قر�أتها حالة م�شابهة‪.‬‬
‫ مل ّ‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫  و�إن حدثت؟ ‪ ..‬ماذا �سيحدث �إن حمل �أحدنا ذكريات حا�صد‬
‫روحه؟‬
‫قال‪:‬‬

‫‪229‬‬
‫ �سيعي�ش اجلحيم ذاته بني املا�ضي واحلا�ضر ‪� ..‬سيكون فري�س ًة‬
‫لل�ضياع بني َمن يحبهم ويكرههم يف حياته احلقيقية َومن‬
‫�أحبهم وكرههم قد ًميا ‪� ..‬ستطيح به �أمرا�ض ا�ضطراب النف�س‬
‫�إن ُحو�صر يف ذلك اخلندق من التخبطات‪ ،‬و�إن مل يكن عقله‬
‫قو ًيا مبا يكفي �سيهوي �إىل برزخ اجلنون ال حمالة ‪..‬‬
‫فقلت له بعدما خطرت يف بايل‬‫زاد ما قاله الطبيب من خماويف‪ُ ،‬‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫فكرة مل �أفكر بها من قبل‪:‬‬
‫ تزورين �عأحالم غريبة هذا الآونة ت�شتت �أفكاري كث ًريا ‪ ..‬هل‬
‫ص جتعلني �أغط يف منامي دون قلق لأ�صحو بدون‬
‫ري‬
‫منها؟ا‬
‫تذكر �أي �شيء ل‬
‫هناك �أع�شاب‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫قال‪:‬‬
‫ش‬
‫ثم نه�ض وملأ يل ًكي�سا قما�ش ًيا �صغ ًريا ر‬
‫و‬
‫  نعم ‪..‬‬
‫ل‬ ‫ا‬
‫الأواين الزجاجية املرتا�صة على جانب من الغرفة‪ ،‬تو‬
‫زيوهو يناوله‬
‫م�سحوق كان ب�أحد‬ ‫بع�شب‬
‫ٍ‬
‫ع‬ ‫وقال‬
‫يل‪:‬‬
‫ اخلطيه مع املاء قبل النوم ‪� ..‬سيجعل نومك هاد ًئا للغاية‪� ،‬إن‬
‫مفعول هذه الأع�شاب �سحر حقيقي ‪..‬‬
‫فقلت و�أنا �أخرج له كل ما يف جيبي من عمالت نحا�سية‪:‬‬
‫  اعطني ما يكفيني ملدة �شهر كامل‪.‬‬
‫ففعل ذلك مرح ًبا ‪ ..‬ثم �شكر ُته وعدت �إىل الور�شة‪ ،‬قبل �أن �أعود‬
‫أذبت‬
‫�أنا و�آدم �إىل البيت بعد انتهاء عملنا‪ ،‬وانتظرت حتى امل�ساء ثم � ُ‬
‫‪230‬‬
‫جرع ًة من ع�شب الطبيب يف �شرابه ال�ساخن دون �أن يدري ‪ ..‬وحني‬
‫قلت يف �سري‪:‬‬
‫نظرتُ �إليه وهو يتجرعه ُ‬
‫ �ساحمني يا �آدم ‪� ..‬أعرف �أنك �سرتف�ض الأمر �إن �أخربتك به‪،‬‬
‫لكنني �أحبك وال �أريدك �أن تخ�سر عقلك ‪ ..‬ال يتبقى �إال ثالثة‬
‫�أ�سابيع على يوم الغفران القادم و�إعدام الرامية غفران كما‬
‫نوما هاد ًئا كل‬
‫يتوقع اجلميع ‪� ..‬ست�ضمن لك هذه الأع�شاب ً‬
‫ليلة خال ًيا من ومي�ض ذكرياتك حتى متر هذه الأيام‪ ،‬بعدها‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫�ستن�سى �أر�ض چارتني تلك الرامية للأبد‪ ،‬وبدورها �ستن�ساك‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫يف �أحالمك‪ ،‬لتكمل حياتك قو ًيا كما �أنت دائ ًما‪ ،‬يفتخر بك �أهل‬
‫بريحا جميعهم ‪ ..‬لقد خ�سرت اجلميع على امتداد �سنواتي وال‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫�أريد �أن �أخ�سرك �أنت � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫قال للالطبيب‪ ،‬و�إن �أ�صاب الفتى‬
‫ن‬ ‫بالفعل جنحت تلك الأع�شاب كماب‬
‫نو ٌع من اخلمول �أثناء النهار جعل ال�سيد عبودشيتذمر منه‪ ،‬لكني كنت‬
‫�أعلم �أنه لن ي�ستغني عنه �أبدً ا‪ ،‬فلم �أهتم بذلك كثر ًرياوال‪..‬‬
‫و‬ ‫ت‬
‫وبد�أت الأيام مت�ضي ًيوما وراء الآخر نحو يوم غفران زي‬
‫ذلكعال�شهر‬
‫‪ ..‬تزداد معها �سعادتي بعدما توقفت �أحالم �آدم عن زيارته خاللها‪،‬‬
‫متاما مع موت رامية املن�صة ‪ ..‬ويف ظل فرحتي‬
‫وتوقعي الكبري بتوقفها ً‬
‫فوجئت قبل يوم الغفران بخم�سة �أيام ب�أختي تطرق بابي‬ ‫ُ‬ ‫مبرور الأيام‬
‫وظننت �أنها ا�ستجابت‬
‫ُ‬ ‫تعجبت حني وجدتها �أمامي‪،‬‬‫ُ‬ ‫ً‬
‫ليل بعد نوم �آدم ‪..‬‬
‫�أخ ًريا لر�سالتي التي �أر�سلتُها �إليها قبل عامني كي ت�أتي للعي�ش معي يف‬
‫ب�شوق كبري‪ ،‬و�أدخلتها �إىل الداخل على الفور‪،‬‬‫بريحا‪ ،‬فاحت�ضنتها ٍ‬
‫وقبل �أن �أنطق ب�أي �شيء عندما جل�سنا �إىل الطاولة وجدتها تتلفت‬
‫حولها وتقول هام�س ًة‪:‬‬
‫‪231‬‬
‫ لقد ظهر والدنا من جديد ‪..‬‬
‫وت�ساءلت �إليها غري م�صدقة‪:‬‬
‫ُ‬ ‫تعجبت‬
‫ُ‬
‫عاما الآن ‪..‬‬
‫ والدنا؟! ‪� ..‬إن كان ح ًيا لكان عمره خم�سة و�سبعني ً‬
‫أردفت بعد حلظة بالتعجب ذاته‪:‬‬ ‫و� ُ‬

‫دا‬
‫ هل ُاعتقل ل ُيعدم على املن�صة بعد كل هذه ال�سنوات؟!‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫هزّت ر�أ�سها نافية يف توتر‪ ،‬وقالت‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ �أخربين �أحد �أقاربنا من جنود جويدا �أنه من ق ّدم نف�سه �إىل‬

‫ك‬
‫الفار�س كيوان ‪ ..‬وعلى عك�س املتوقع مل يقدمه الفار�س كيوان‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫�إىل القا�ضي ملحاكمته بل جعل كبار �أطباء جويدا ي�شرفون على‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫اهتمام كبري ‪..‬‬ ‫عالجه يف‬
‫ش‬
‫ٍ‬

‫ر وا تول‬
‫ت�ساءلت با�ستغراب‪:‬‬
‫ُ‬

‫زيع‬
‫ وملاذا يتغا�ضى الفار�س كيوان عن جرميته باخرتاق القاعدة‬
‫الأوىل؟‬
‫قالت هام�س ًة وهي تق ّرب ر�أ�سها مني‪:‬‬
‫ يظن الرجل �أن �أبانا لديه ما يقاي�ض به �سادة چارتني مقابل‬
‫تربئته وتربئة ن�سله من تلك اجلرمية ‪..‬‬

‫‪b‬‬
‫‪232‬‬
‫(‪)17‬‬
‫غفران‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫كنت �أقف �أمام كوخي � ال‬
‫ت‬ ‫�إىل جويدا وال تدور يف ر�أ�سي �إالك‬
‫أنظر �إىل العربة التي �ستحمل �سبيل وفا�ضل‬

‫ل‬ ‫الوحدة»‪ ،‬و�إن كان جان ًبا بداخلي ر�أى ب‬


‫بكل ل‬
‫كلمات كوابي�سي القدمية؛ « ُكتب ِ‬
‫عليك‬
‫ن‬
‫�أف�ضل ما قد نح�صل عليه طب ًقا ملا �صار يف ش‬
‫واقعية �أن ما حدث لهما هو‬
‫الفرتةرالأخرية‪.‬‬
‫و‬
‫ثم حتركت العربة وعيني ُمعلقة ب�أعني الطبيب �إىلال�تأنو اختفت عن‬
‫زي�عأفكاري‪،‬‬
‫�أنظاري‪ ،‬فعدتُ �إىل غرفتي وجل�ست على �سريري �شاردة يف‬
‫قبل �أن �أنه�ض و�أقوم بتعليق قطع ٍة خ�شبية مطلية بالأ�سود من التي‬
‫خانات‬
‫ٍ‬ ‫وق�سمتها �إىل‬
‫ن�ستخدمها يف املدر�سة على اجلدار �أمامي‪ّ ،‬‬
‫كتبت باخلانة الأوىل ا�سمي‪ ،‬ومن‬
‫بالطب�شور ال�صخري الأبي�ض‪ ،‬ثم ُ‬
‫كتبت حيدر الطفل‪،‬‬‫عاما ‪ ..‬ويف اخلانة الثانية ُ‬
‫�أ�سفله خم�سة وثالثون ً‬
‫ومن �أ�سفله يوم واحد ‪ ..‬ويف اخلانة الثالثة كتبت �آدم‪ ،‬ومن �أ�سفله‬
‫وحدثت نف�سي با�سم ًة حني انتهيت ونظرت �إىل �أعمارنا‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ع�شرة �أعوام‪،‬‬
‫ لو كنت ال �أزال �شريفة لكنت قد ذهبت �إىل وادي حوران مع‬
‫بلوغ �آدم �سن الزواج ‪..‬‬
‫‪233‬‬
‫وقبل �أن �أ�ضع الطب�شور جان ًبا وجدتُ نف�سي �أ�ضيف خان ًة رابعة‬
‫عاما ‪..‬‬
‫كتبت فيها «كيوان»‪ ،‬ومن �أ�سفله كتبت ثمانية وثالثون ً‬ ‫ُ‬
‫وجل�ست �أنظر �إىل تلك اخلانات حتى �أغم�ضت‬
‫ُ‬ ‫ثم عدت �إىل �سريري‬
‫عيني‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫دا‬
‫يف اليوم التايل وجدتُ الكتاب الذي حتدث عنه فا�ضل يف عيادته‪،‬‬
‫و�صلت �إىل ال�صفحات املكتوبة عن منور‬
‫ُ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫ت�صفحت �أوراقه �سري ًعا حتى‬
‫ُ‬
‫ص‬
‫ال�شامو اجلبلية‪ ،‬كانت مثلما قال يل قبل رحيله حتكي با�ستفا�ضة عن‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ال�صفات التي مت ّيزت بها تلك النمور من قوة افرتا�س و�سرعة وذكاء‪،‬‬

‫ك‬
‫و�أُفردت �صفحة كاملة عن حب امللوك القدامى لرتبيتها لوفائها‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ال�شديد ملحبيها‪ ،‬كذلك انتقامها العنيف بغري رحمة ممن ي�ؤذونها‪،‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫وقتها جال يف بايل ق�صة العجوز عن زوجة امللك التي كاد يفرت�سها‬

‫ر وا تول‬
‫النمر على من�صة الباحة‪ ،‬وعندما خطرت �إىل ذهني كلمات الطبيب‬
‫هم�ست �إىل نف�سي بابت�سامة حزينة‬
‫ُ‬ ‫حني قال �أن �آدم �سيعود من �أجلي‬
‫زيع‬ ‫و�أنا �أتذكر ما فعلته بندمي‪:‬‬
‫ بل �سيعود ليقت�ص مني‪� ،‬أيها الطبيب ‪..‬‬
‫ثم �أخذت الكتاب �إىل كوخي‪ ،‬وهناك �س�ألتني ناردين عندما‬
‫الحظت �أن عدد احلا�ضرين من الأطفال مل يزد بعدما انتقلت �سبيل‬
‫للعي�ش بني الأ�شراف وظل كما هو ال يتجاوز ع�شرة �أفراد‪:‬‬
‫ ماذا �سنفعل �سيدتي؟‬
‫فابت�سمت وقلت‪:‬‬

‫‪234‬‬
‫ �سنكمل ما نفعله‪.‬‬
‫قالت بنربة حمبطة وهي تنظر �إىل الأطفال‪:‬‬
‫ حتى ه�ؤالء �سيرتكوننا مبجرد �أن ي�ش ّبوا‪ ،‬مثل غريهم ‪..‬‬
‫قلت با�سمة‪:‬‬

‫دا‬
‫ �إنهم و�إن �ض ّلوا �سيهديهم تعليم عقولهم من جديد ‪ ..‬لنكمل يا‬

‫ر‬
‫�صديقتي �إىل �أن تفارق �أرواحنا �أج�سادنا‪.‬‬
‫�أوم�أت بر�أ�سهاعمبت�سمة‪ ،‬وبالفعل وا�صلنا درو�سنا �إىل الأطفال‬
‫ري‬ ‫�أنا وناردين فيما تك ّفلص‬
‫ريان بتوفري ما يعيننا على مرور الأيام من‬
‫طعام من خري الأر�ض ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫اخل�صبة بجوار الوادي و�أقرا�ص الع�سل بكهوف‬ ‫ٍ‬

‫ش بطفلها على من�صة‬


‫ب‬
‫فرحت كث ًريا عندما عرفت ب�صعود للن‬
‫اجلبال القريبة‪.‬‬

‫رلوأ�شراف جميعهم‪،‬‬
‫�سبيل‬ ‫ُ‬

‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫ومتنيت لو ر�آها الن�ساىل هناك لكنهم ُمنعوا ذلك ت‬
‫الباحة لي�صبح حيدر ال�صغري على مر�أى من �أعني ا‬
‫جويدا حتى‪ ،‬كنت �أعرف كذلك �أن كيوان �سيمنعها عن زي‬
‫زيارتناع�أو من‬
‫اليوم من دخول‬ ‫ُ‬

‫توا�صلها بالن�ساىل‪ ،‬فتقبلت ذلك ب�صدر رحب ي�ؤمن ب�أن بقاءها حية‬
‫هي وطفلها هو يف حد ذاته ن�ص ٌر كبري لنا ‪..‬‬
‫يف تلك الأيام اجته جنود الأ�شراف �إىل مطاردة �شبان الن�ساىل‬
‫الذين عربوا اخلام�سة والع�شرين و�إن مل يرتكبوا �أي جرم ك�أن بلوغهم‬
‫�سن الزواج كان اجلرمية التي ارتكبوها‪ ،‬فغادر معظمهم عن وادينا‪،‬‬
‫ليال كثرية يف‬
‫ف�آثرتُ بعد نقا�ش طويل مع ريان الذي ظل يختبئ ٍ‬
‫الكهوف القريبة من الوادي ب�أن يبتعد عن وادينا هو الآخر لئال ي�ؤذيه‬
‫‪235‬‬
‫كيوان‪ ،‬وبعد رف�ض ُمطلق مثل الطبيب‪ ،‬ان�صاع �إىل رغبتي يف نهاية‬
‫الأمر بعدما وعد ُته ب�أنني �س�أبقى بخري ‪ ..‬وبهذا فقدت جناحي الثالث‬
‫يف غ�ضون �أيام قليلة ومل يتبقَ ملعاونتي �إال ناردين التي حتملت معي‬
‫�صباحا وجمع �أقرا�ص الع�سل وبع�ض الثمار من الوادي‬ ‫�شئون املدر�سة ً‬
‫اخل�صب املجاور م�سا ًء‪ ،‬و�أحيا ًنا �س�ؤال بع�ض الفتيات الالتي يرتددن‬
‫�إىل جويدا �إن كنّ قد ر�أين �سبيل �أو �سمعن �أخبا ًرا عنها‪.‬‬
‫يوما للغفران كنت �أ�ضيف ل�سنوات �أعمارنا‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫مع مرور كل اثني ع�شر ً‬
‫عاما واحدً ا‪ ،‬وعندما �أمت حيدر‬
‫ع‬
‫على القطعة اخل�شبية يف غرفتي ً‬
‫ص‬
‫ري‬
‫ال�صغري عامني زاد متنف�س وادينا ً‬
‫ال‬
‫قليل بعدما ان�شغل عنا كيوان‬
‫عرفت من �إحدى الن�سليات مبا حدث ل�سبيل‬ ‫ُ‬ ‫مبن�صبه اجلديد‪ ،‬لكني‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫واملعاناة التي عانتها يف �شوارع جويدا‪ ،‬فك ّلفت �أحد ال�شبان ال�شجعان‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ممن كانوا يتعلمون معي قبل �سنوات بحمل ح�ص�ص من طعامنا �إليها‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫يف �أوقات الليل‪ ،‬كنت �أعلم �أنها �ستعرف �أنها منا و�أننا �سنكون دع ًما‬
‫عمل‬‫عرفت �أن �أحد الأ�شراف قد و ّفر لها ً‬ ‫ُ‬ ‫لها لإكمال هدفها‪ ،‬ثم‬

‫زيع‬
‫فاطمئن قلبي ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫مل يحدث جديد خالل الأ�شهر الكثرية املتتالية بعد ذلك‪،‬‬
‫الطالب وكانوا يزيدون �أحيا ًنا و�أحايني �أخرى يق ّلون‪ ،‬واحلانات‬
‫كما هي ت�صدح باملو�سيقا طوال الليل بني �ضحكات �سكارى‬
‫الأ�شراف ‪ ..‬والفتيات الالتي وجدن �سبيل ك�سبهن هناك‪،‬‬
‫والإعدامات التي كانت تطول َمن يعتقله اجلنود ل�سبب �أو بدون‬
‫�سبب‪ ،‬والن�سليات احلوامل الذاهبات كل يوم غفران �إىل الباحة‪.‬‬
‫�أوقات كثرية كانت خميلتي تذهب �إىل عد الأيام �إىل بلوغ �آدم عامه‬
‫‪236‬‬
‫ال�ساد�س ع�شر‪ ،‬ف�أجد نف�سي �أعيد فتح كتاب الطبيب الذي تركه يل‬
‫لأقر�أ ال�صفحات اخلا�صة بنمور ال�شامو من جديد‪ ،‬و�أعي�ش بني خياالتي‬
‫بتذكره يل وعودته �إىل الوادي �شا ًبا ي�شبه ندمي يف كل �شيء ‪ ..‬مل �أمتنَ‬
‫قط �أن يعود ثائ ًرا بروحه‪� ،‬أردت �أن يعود كما هو ‪� ..‬شا ًبا قو ًيا يكمل معي‬
‫الطريق يف بناء عقول القادمني من الن�ساىل‪ .‬كذلك كنت �أ�شتاق كث ًريا‬
‫�إىل الطبيب وجل�سات نقا�شنا �سو ًيا كما هو احلال مع ريان الذي انقطع‬

‫دا‬
‫عن زياراته اخلفية يل فج�أة‪ ،‬مل يقبل عقلي �أن يف ّكر يف احتمالية موته‬
‫وظللت متم�سكة ب�أمل‬
‫ُ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫�أثناء هروبه من �إحدى دوريات خيالة الأ�شراف‪،‬‬
‫ص‬
‫زيارته يل يف �إحدى الليايل القريبة ليحكي يل �سبب اختفائه املفاجئ ‪..‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫لتم�ضي الأيام جميعها على هذا النحو و�أبلغ عامي الأول بعد الأربعني‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫وقت كنت �أ�شعر داخل نف�سي ب�أنني جتاوزت املائة عام بعدما بد�أت‬ ‫يف ٍ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫الأحالم تذبل بداخلي‪.‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫يف ذلك العام تر ّقى كيوان لي�صبح كبري �ضباط چارتني يف عمره‬
‫متنيت لو انق�ضت ال�سنوات ال�ست الباقية على‬ ‫ُ‬ ‫الرابع والأربعني ‪..‬‬

‫زيع‬
‫عي ً‬
‫�ضابطا‬ ‫بلوغه اخلم�سني �سري ًعا لرنتاح من �شره‪ ،‬لكن ما حدث �أنه ّ‬
‫�شا ًبا ليخت�ص ب�شئون الن�ساىل كان ي�شبهه يف طباعه وغلظته �إىل حد‬
‫كبري‪ ،‬وك�أنه �أراد �أن يبلغنا �أن هذه الدائرة لن تنتهي �أبدً ا حتى تفنى‬
‫احلياة على الأر�ض‪.‬‬
‫منذ بداية ذلك العام وبد�أ ذهني ين�شغل ال �إراد ًيا بكل ما يحدث‬
‫يف جويدا‪ ،‬ووجدتُ نف�سي �أذهب بني احلني والآخر �إىل حانات‬
‫الوادي و�سط ده�شة كربى من ناردين َومن يرونني هناك‪ ،‬لأ�ستمع‬
‫�إىل الأحاديث التي تتناقلها �أل�سنة فتيات الرذيلة دون �أن �ألقي �س� ًؤال‬
‫واحدً ا‪ ،‬كنت �أعرف �أن خرب �سماع �صوت زئري واحد يف �أي مدينة مبدن‬
‫چارتني �سي�صري يف �سرعة الربق حديث الأل�سنة جميعها هناك‪ ،‬و�إن‬
‫‪237‬‬
‫كنت �ألوم نف�سي كث ًريا لتعلقي كل هذه ال�سنوات بوهم رجوع �آدم الذي‬
‫حتى و�إن عاد لن يكون ندمي �أبدً ا ‪ ..‬و�أظل �أكرر ت�سا�ؤالتي �إىل نف�سي‬
‫لع ّلها تقتنع بعدم عودته‪:‬‬
‫  ماذا �سيعيده �إلينا �إن كان قد عا�ش بني الأ�شراف وجت ّرع‬
‫كراهية الن�ساىل بينهم‪ ،‬وما الذي �سيجعل روحه تثور من‬
‫يعان من ال�ضغط الذي عاناه ندمي؟ ‪..‬‬
‫الأ�سا�س �إن مل ِ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫لكني كنت �أجد نف�سي �أفعلها جمددًا و�أذهب �إىل احلانات يف‬

‫ص‬
‫انتظار خرب �سماع ذلك الزئري ‪ ..‬وبني انتظاري لأي خرب � ٍآت من مدن‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫الأ�شراف‪ ،‬وبني �أوهامي ب�أن �أجده ذات يوم ّ‬
‫يدق بابي ليحت�ضنني بعد‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫كل هذا الغياب‪ ،‬وجدتُ �سبيل تعود �إ ّ‬
‫يل تلك الليلة لتخربين عن ظهور‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ت�ساءلت �إليها يف خوف‪:‬‬ ‫«خ�شيب» مرة �أخرى‪،‬‬‫ذلك العجوز ُ‬
‫ن‬
‫ُ‬
‫ش‬
‫هزّت ر�أ�سها نف ًيا‪ ،‬و�أ�ضافت بتجهم كبري‪ :‬ر وا تول‬
‫ �أمل ميت؟!!‬

‫زيع‬
‫أيت اجلنود مي�سكون به ويج ّرونه نحو دار الأمن فيما كان‬ ‫ ر� ُ‬
‫ي�صرخ �إليهم ب�أنه جاء ملقابلة الفار�س كيوان بنف�سه ‪..‬‬
‫فخذي تهتزان من الرع�شة التي �سرت فيهما‪ ،‬وقلت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫وجدتُ‬
‫أنت‬
‫وقتلك � ِ‬
‫ حني يعلم كيوان مبا لديه لن يت�أخر عن قتل طفلك‪ِ ،‬‬
‫� ً‬
‫أي�ضا‪ ،‬وقتلي‪ ،‬وقد ير�سل من يقتل الطبيب يف ال�شمال ‪ ..‬قبل‬
‫�أن يقتل الن�ساىل جميعهم ‪..‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪238‬‬
‫إليك �سيدتي ‪ ..‬من ح�سن حظنا �أن ال�سيد كيوان يف‬
‫ لذا جئت � ِ‬
‫يلتق العجوز �إىل الآن ‪..‬‬
‫زيارة �إىل مدينة �أخرى ومل ِ‬
‫وت�ساء َلت بحنق �شديد‪:‬‬
‫ ملاذا يظهر ذلك الرجل يف هذا التوقيت؟! ‪ ..‬ملاذا انتظر كل‬
‫تلك ال�سنوات؟!‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫قلت‪:‬‬


‫املجنون االنتقام مني ومن الأ�شراف يف وقت واحد ‪..‬‬ ‫ع‬
‫ارتكب الطبيبصخط�أً كب ًريا عندما �أخربه ب�أن �آدم الذي يحمل‬
‫ يريد هذا‬

‫روح ال�شامو كانري ال‬


‫ك‬
‫لديه ع�شرة �أعوام حينها ‪� ..‬إن هذا العام‬

‫ب لأمن چارتني ب�أكمله بني يديه‬


‫خطط له ‪� ..‬آدم وقد بلغ ال�ساد�سة‬ ‫ت‬ ‫�أن�سب توقيت له لتنفيذ ما‬

‫ش �أن يزور ذلك الكهف‬


‫ل‬
‫‪� ..‬سي�شرع كيوان يف قتل الن�ساىل ن‬
‫ع�شر‪ ،‬وكيوان الأهوج وقد �صار �‬

‫و‬ ‫ر ِق‬
‫مبجرد‬
‫ت‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫واجلداريات و�صحتها ‪ ..‬و�سينتظر ذلك الرجل �وأن تثور روح‬
‫دم تلك النقو�ش‬ ‫ويت�أكد من ُمت�صي النقو�ش القدمية ب‬

‫زيعلت�صبح‬
‫�آدم لي�ستنفر الباقني لريدوا عدوان الأ�شراف املميت‬
‫حر ًبا لن ينجو منها �أحد ‪..‬‬
‫�صمت لهنيهة‪:‬‬
‫وتابعت بعدما ُّ‬
‫ُ‬
‫ �إنّ هذا الرجل نذ ٌل كبري ‪� ..‬سيق ّدم ما يعرفه �إىل كيوان مطال ًبا‬
‫ب�إخ�ضاعه للقاعدة التي تعفي املذنبني من جرائمهم �إن حموا‬
‫�أر�ض چارتني‪ ،‬لن يلتفت كيوان بطي�شه �إىل اخلبث الذي يك ّنه‬
‫ذاك الرجل ‪� ،‬سيظن �أنه يريد فح�سب التكفري عن ذنبه ‪..‬‬
‫فعل من ُجرمه باجتياز القاعدة الأوىل �إن د ّله على‬ ‫قد يربئه ً‬
‫‪239‬‬
‫كبطل �إىل �أهل چارتني ‪..‬‬
‫مكان الكهف‪ ،‬وقد يق ّدمه ٍ‬
‫ثم �س�ألتها‪:‬‬
‫  متى يعود كيوان �إىل جويدا؟‬
‫قالت‪:‬‬

‫دا‬
‫  ال �أعرف‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫كان عقلي متوت ًرا للغاية و�أنا �أقول‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫وو�سط تفكريي ال‬
‫  �إن الدماء �آتية ال حمالة ‪� ..‬أف�سد ذلك الرجل كل الأمور فج�أة‪..‬‬

‫كلتأوىل‪:‬‬
‫امل�شو�ش وجتمد عقلي وجدتُ �سبيل تقول بلهجة‬

‫ل‬ ‫ وماذا �إن مل ترث �أرواح ب ل‬


‫جافة كنت �أ�سمعها منها للمرة ا‬
‫ن‬
‫على ما�سيفعله كيوان؟ ‪ ..‬ماذا �إنشملريكن هناك �آدم � ً‬
‫ال�ضواري بداخل الن�ساىل لري ّدوا‬

‫وال وت‬
‫أ�صل‬

‫زي‬
‫و�سكت‪ ،‬مل تكن حتتاج �إىلع�إجابتي‪،‬‬
‫لي�ستنفرهم؟‬
‫ُّ‬ ‫وزممت �شفتي‬
‫ُ‬ ‫نظرتُ نحوها‬
‫فقالت‪:‬‬
‫ هل نق ّدم رقابنا بهذه ال�سهولة �سيدتي؟‬
‫وت�ساءلت‬
‫ُ‬ ‫نظرتُ نحوها يف ده�شة من اللهجة التي حتدثت بها‪،‬‬
‫داخل نف�سي‪:‬‬
‫غيت‬
‫ �أتكون ال�سنوات ال�ست التي ق�ضتها بني الأ�شراف قد ّ‬
‫بداخلها �إىل هذا احلد؟!‬
‫‪240‬‬
‫فقالت م�ضيفة باللهجة ذاتها‪:‬‬
‫ �سيقتلني كيوان �أنا وطفلي مبجرد معرفته ب�ش�أن ذلك العهد‬
‫الدموي‪ ،‬و�إن قتلني �أمام �أ�شراف چارتني جميعهم‪� .‬سيهللون‬
‫ملقتلنا ال �أكرث‪ ،‬و�سين�سوننا قبل �أن يعودوا �إىل بيوتهم ‪ ..‬لقد‬
‫عرفت ما بداخلهم جتاهنا‪� .‬إننا ن�ساىل و�سنظل حيواناتهم‬ ‫ُ‬
‫مهما فعلنا �سيدتي ‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫�س�ألتُها يف ا�ستغراب �شديد يف ت�شكك مما تفكر به‪:‬‬

‫ص‬ ‫ هل ع‬
‫�صمتت لثانية‪ ،‬وقالت‪:‬ري ال‬
‫�ستفعلينها؟!‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫  �س�أترك لهم اخليار � ًأول ‪� ..‬إن ارتكب كيوان هذا اخلط�أ �س�أعاقبه‬
‫ن‬
‫ش‬
‫حلمت كث ًريا‬
‫هذه املرة ‪ ..‬لن �أعود �إىل جويدا �سيدتي ‪ ..‬رمبا ُ‬

‫ر وا تول‬
‫ب�أن �أ�صبح �أنا وطفلي �شريفني‪ ،‬لكننا جترعنا ما ال ُيطاق خالل‬

‫زيع‬
‫تلك ال�سنوات هناك ‪..‬‬
‫وتابعت بعدما �أخرجت زف ًريا هاد ًئا‪:‬‬
‫غيت الكثري بداخلي ‪..‬‬
‫ لكن يح�سب لها �أنها ّ‬
‫و�أ�ضافت‪:‬‬
‫ �أعرف واد ًيا بعيدً ا ال يتجاوز �سكانه الع�شرات من الرحالة‬
‫الن�ساىل ‪ ..‬ال �أعتقد �أن كيوان وجنوده يعرفون عنه �شي ًئا‪،‬‬
‫يرتكك‬
‫ِ‬ ‫أريدك �أن ت�أتي معي‪ ،‬لن‬
‫�س�آخذ حيدر �إىل هناك ‪ِ � ..‬‬
‫كيوان هذه املرة‪.‬‬
‫‪241‬‬
‫فابت�سمت �إليها وقلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫أمرك‬
‫ مل �أعتد الهروب يا �صغريتي ‪� ..‬س�أبقى هنا ‪ ..‬اهتمي ب� ِ‬
‫أنت وحيدر هناك ‪..‬‬
‫� ِ‬
‫ثم وجدتني �أقول بعدما فكرتُ فيما �سيفعله كيوان مبجرد �أن‬
‫ي�ستمع �إىل العجوز‪:‬‬

‫دا‬
‫  لن ت�ستطيعي االقرتاب بطفلك من الكهف بعد معرفة كيوان‬
‫ر‬
‫ع‬
‫ب�أمره ‪� ..‬سيحا�صره جنوده من كل جانب‪ ..‬و�سيقتل كل ن�سلي‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫يقرتب منه على م�سافة ميل‪.‬‬
‫فابت�سمت يل �سبيل ال‬
‫كتإىل هناك �سيدتي ‪� ..‬أدرك الطبيب‬
‫وقالت‪:‬‬

‫ب‬
‫فا�ضل �أن هذا الأمر �سيحدث ل‬
‫قبللن�ستة �أعوام‪.‬‬
‫ل�ست يف حاجة للذهاب �‬‫  ُ‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫‪ b‬وال وت‬
‫زيع‬

‫‪242‬‬
‫(‪)18‬‬
‫غفران‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫ت�ساءلت يف ده�شة ا‬
‫كبرية‪:‬ل‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫ُ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�ست �سنوات؟!‬
‫  ماذا �أدرك الطبيب قبل ِ‬
‫ش‬
‫ر وال‬
‫قالت �سبيل‪:‬‬
‫و‬ ‫ت‬
‫ع‬‫زي‬
‫ يبدو �أنه عرف �أن ذلك العجوز �سينجو من نزيف فخذه ‪..‬‬
‫وتو ّقع ب�أنه �سيفعل ما ينوي فعله الآن‪ ،‬فوجد ُته يقول يل ً‬
‫هام�سا‬
‫أغ�ضبوك فاذهبي �إىل‬
‫ِ‬ ‫يوم حملتنا العربة �سو ًيا �إىل جويدا؛ �إن �‬
‫قرب حيدر لتنتقمي منهم ‪..‬‬
‫أدركت حلظتها �أنه نقل متثال الن�سلي الزائر �إىل قرب حيدر‬
‫� ُ‬
‫القابع بني قبور قتالنا ‪ ..‬ومع كل ا�شتداد للمعاناة التي عانيتها‬
‫يف جويدا كانت كلماته تقفز �إىل ر�أ�سي ‪ ..‬لكني كنت �أ�صرب من‬
‫�أجل يوم ين�سى فيه الأ�شراف �أ�صلنا ‪ ..‬ويعاملون طفلي كواحد‬
‫منهم ‪..‬‬
‫‪243‬‬
‫�سكت مفكرة للحظات مت�شككة مما قالته‪� ،‬أو حتديدً ا مما فهمته‬
‫ُّ‬
‫من كالم الطبيب‪ ،‬ثم قلت‪:‬‬
‫أكدت من ذلك؟!‬
‫ هل ت� ِ‬
‫�أوم�أت بر�أ�سها نافية‪ ،‬وقالت‪:‬‬
‫�صحيحا ‪ ..‬ابت�سم يل‬
‫ً‬ ‫ ال ‪ ..‬لكني حني ملـّحت له �إن كان ما فهمته‬
‫دا‬
‫وهو يومئ بر�أ�سه قبل �أن يغادر مع اجلنود ‪..‬‬
‫ر‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫�أعتقد �أنني �أعرف تفكري الطبيب فا�ضل جيدً ا‪ ،‬و�أنا مت�أكدة �أنه‬

‫ال‬ ‫ري‬ ‫عنى ذلك ح ًقا ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫قلت و�أنا �أتذكر الأيام التي كان يغيب بها ُقبيل والدة حيدر بحجة‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ذهابه �إىل بع�ض الوديان الأخرى ملداواة مر�ضاهم‪:‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫  لنت�أكد من ذلك � ًإذا ‪..‬‬

‫زيع‬
‫م�صباحا زيت ًيا ومع ّول‬
‫ً‬ ‫وحملت‬
‫ُ‬ ‫ثم تركنا حيدر ال�صغري مع ناردين‪،‬‬
‫يخ�صان ريان‪ ،‬وذهبنا �إىل مقابر الن�ساىل‬
‫وجاروف حديديني كانا ّ‬
‫تغطي �سبيل ر�أ�سها بقلن�سوة معطف ثقيل‪� ،‬إىل �أن و�صلنا هناك‪.‬‬
‫مل ت�أخذ �سبيل حلظة يف التعرف على قرب زوجها‪ ،‬فاجتهنا �إليه‬
‫مبا�شرة‪ ،‬ثم بد�أتُ �أحفر رماله باملعول واجلاروف بينما �أم�سكت‬
‫بلغت عم ًقا كاف ًيا لي�صدر اجلاروف‬
‫�سبيل بامل�صباح ‪ ..‬وبعد جهد كبري ُ‬
‫احلديدي رني ًنا خمتل ًفا بعدما �ضرب �شي ًئا ب�أ�سفله ‪ ..‬ق ّربت �سبيل‬
‫امل�صباح �إىل داخل احلفرة‪ ،‬كانت �إحدى عظام جثة زوجها التي‬
‫أزلت بيدي‬
‫الحظت �أن �سبيل �أجفلت حني � ُ‬‫ُ‬ ‫ته�شمت من ال�ضربة‪،‬‬
‫عظاما �أخرى و�ضلوع قف�صه ال�صدري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الرتاب عنها وظهرت معها‬
‫‪244‬‬
‫فيما بد�أتُ �أتيقن �أن �سبيل قد �أ�ساءت فهم كلمات الطبيب ‪ ..‬لكني‬
‫�أكملت حفري على امتداد القرب ناحية عظام ال�ساقني دون �أن �أ�صنع‬
‫حت�س�ست بيدي الرمال �أ�سفل العظام‬
‫ُ‬ ‫مزيدً ا من العمق‪ ،‬وخا�ص ًة بعدما‬
‫ووجدت ملم�سها رمل ًيا ال يوحي بوجود �شيء �صلب ب�أ�سفلها‪ ،‬قالت‬
‫�سبيل ب�إحباط وهي جتل�س مقرف�ص ًة تنظر �إىل العظام‪:‬‬
‫ يبدو �أن الطبيب ق�صد �شي ًئا �آخر ‪..‬‬
‫قلت و�أنا �أنخر ب�سن اجلاروف الرمال التي تغطي ن�صف اجلثة‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال�سفلي‪:‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫لك ذلك لق�صده بالفعل ‪ ..‬لكننا على الأقل عرفنا �أنه مل‬ ‫ لو قال ِ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫يعن �أنه �أتى بالتمثال ب�أكمله‪.‬‬
‫ِ‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ش‬
‫توقفت عن حديثي عندما ارتطم �سن اجلاروف ب�شيء �صلب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬

‫ر وا تول‬
‫فقالت �سبيل مت�سائلة‪:‬‬

‫زيع‬
‫ هل وجد ِته؟!‬
‫قلت و�أنا �أحرك اجلاروف للداخل واخلارج ليحتك برفق بذلك‬
‫ال�شيء‪:‬‬
‫ غال ًبا ‪..‬‬
‫ثم بد�أتُ �أزيل على نح ٍو �سريع الرمال التي تغطيه لتظهر �أنف ر�أ�س‬
‫التمثال ‪ ..‬هبطت معي �سبيل �إىل احلفرة‪ ،‬وثبتت قدميها بحر�ص‬
‫بعيدً ا عن العظام من �أ�سفلها‪ ،‬وبد�أت تزيل بيدها الرمال �إىل جانبي‬
‫خلخلت بيدي الر�أ�س ميي ًنا وي�سا ًرا �إىل �أن اقتلعتُه ‪ ..‬فقلت‬
‫ُ‬ ‫القرب فيما‬
‫و�أنا �أنظر �إىل وجه التمثال الزائر‪:‬‬
‫‪245‬‬
‫ليغي م�صري الن�ساىل يف‬ ‫ يبدو �أن هذا الطبيب ُولد يف بلده ّ‬
‫چارتني ‪ ..‬تار ًة ينقذ �آدم بعد موت �أمه قبل �أن ت�ضعه‪ ،‬وتار ًة‬
‫�أخرى يحمل �صخور حوران بعيدً ا عن �أيدي كيوان‪.‬‬
‫حفرتُ مزيدً ا من الرمال‪ ،‬مل �أجد �أي �صخور �أخرى ‪ ..‬قالت �سبيل‬
‫و�أنا �أ�ضع اجلاروف جان ًبا‪:‬‬

‫دا‬
‫  �إن �صدق ذلك العجوز ب�أن ذلك التمثال ُ�صنع من �صخور‬
‫ر‬
‫حوران �سيفي هذا الر�أ�س بالغر�ض ‪..‬‬

‫ص‬‫فقلت‪ :‬ع‬
‫ري‬
‫زلت تو ّدين الفعلها ح ًقا؟‬
‫قالت وهي مت�سح بيدهاك‬
‫ هل ال ِ‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫الرمال عن ر�أ�س التمثال‪:‬‬
‫ش‬
‫و�أ�ضافت بعد حلظة من ال�صمت‪ :‬ر وا تول‬
‫ �سيقتلنا كيوان على �أي حال �سيدتي ‪..‬‬

‫زيع‬
‫  �س�أكون ردة فعل ال �أكرث ‪� ..‬أمتنى �أن ي�سجن العجوز وال ي�ص ّدقه‬
‫‪� ..‬أعدك �أنني لن �أفعل �شي ًئا وقتها ‪� ..‬أما �إن تركته يقتل الن�ساىل‬
‫جميعهم خو ًفا من �إيقاظ الأرواح بداخلهم‪ ،‬ف�سكوتنا �سيكون‬
‫اخليانة الكربى لأهلنا ‪ ..‬هيا‪ ،‬علينا �أن نعود �إىل الوادي‪ ،‬ال بد‬
‫�أن �أرحل يف �أ�سرع وقت ‪..‬‬
‫ردمنا القرب مرة �أخرى على نحو �سريع‪ ،‬ثم عدنا بثيابنا املُرتبة‬
‫�إىل الوادي ت�ضع �سبيل ر�أ�س التمثال �أ�سفل معطفها املت�سع‪� ،‬إىل �أن‬
‫و�صلنا الكوخ فو�ضعته بني �أغرا�ضها‪ ،‬وقبل �أن تغادر قالت يل‪:‬‬
‫‪246‬‬
‫مثلك‪ ،‬ويعرف دائ ًما‬
‫طيب ِ‬ ‫أخاك من �آواين يف بيته ‪� ..‬إنه ٌ‬
‫ �إن � ِ‬
‫جاءتك فر�صة ذات يوم مل�ساحمته فال تت�أخري‬
‫ِ‬ ‫أخبارك ‪� ..‬إن‬
‫� ِ‬
‫يف ذلك �سيدتي‪.‬‬
‫تفاج�أت مما قالته ‪ ..‬كان ذلك �أ�سعد الأخبار التي �أ�سمعها منذ‬
‫وقت طويل‪ ،‬ف�س�ألتُها‪:‬‬

‫دا‬
‫ هل هو بخري؟‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قالت وهي تغادر‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫حتدثت عن‬
‫ِ‬ ‫  يف �أف�ضل حال �سيدتي ‪� ..‬إنه من ال�صاحلني الذين‬

‫ك‬
‫وجودهم بني الأ�شراف‪.‬‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫فقلت‪:‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫  فلتفكري فيه � ًإذا قبل �أن ت�أخذي ذلك القرار ‪..‬‬

‫زيع‬
‫قالت‪:‬‬
‫ �س�أفعل بكل ت�أكيد ‪..‬‬
‫ثم حملت طفلها وحقيبتها التي حتتوي ر�أ�س التمثال واحت�ضنتني‬
‫ثم احت�ضنت ناردين لتغادرنا ‪ ..‬وترتكني �أعي�ش بني خماويف و�أنا‬
‫�أتخ ّيل احلوار الذي يدور بني العجوز اخلبيث وكيوان‪ ،‬قبل �أن ترى‬
‫خميلتي كيوان وهو يلم�س بيده املخطوطات التي ميلكها العجوز ‪..‬‬
‫ومي ّرر يده على اجلداريات والكلمات التي د ّونتها جدران الكهف‬
‫لي�أخذ قرا ًرا ً‬
‫كفيل مبقتل ع�شرات الآالف من الأبرياء يف �آن واحد ‪..‬‬
‫وبد�أتُ �أعد الأيام يف انتظار قدوم فر�سان الأ�شراف �إىل الوادي بح ًثا‬
‫‪247‬‬
‫عن �سبيل وطفلها‪ ،‬ينتابني اخلوف الأ�شد يف حياتي كلها‪ ،‬حتى �أنني مل‬
‫�أ�ستطع تقدمي درو�سي �إىل الأطفال ولو ملرة واحدة منذ زارتني الفتاة‬
‫‪ ..‬كنت فقط �أجل�س يف غرفتي �أنظر �إىل �أعمارنا املُد ّونة على القطعة‬
‫عاما التي و�صلها �آدم ‪ ..‬ونف�سي حتدثني‬ ‫اخل�شبية ‪ ..‬وال�ستة ع�شر ً‬
‫�أن نهاية چارتني التي مل �أمتناها قط قد �أو�شكت على احلدوث ‪..‬‬
‫ألت ناردين �إن كانت تعرف واد ًيا بعيدً ا لتختبئ فيه تلك الأيام ‪..‬‬
‫�س� ُ‬

‫دا‬
‫�س�ألتني باندها�ش عن ال�سبب‪ ،‬فقلت �إن عا�صفة من الدماء قادمة‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�ستطيح باجلميع ‪ ..‬فابت�سمت وقالت‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫  لقد مررنا بالكثري �سيدتي ‪ ..‬ال �أعرف مكا ًنا �آخر‪ ،‬و�إن كنت‬
‫�أعرف حتى ‪ ..‬فهنا مكاين‪.‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫كنت كل م�ساء يف تلك الأيام �أنظر بعيدً ا نحو مدخل الوادي يف‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫انتظار قدوم الأ�شراف يف �أي حلظة ‪ ..‬فيما �أرى �ضحكات الن�ساىل‬

‫ر وا تول‬
‫متنيت فقط �أن‬
‫ُ‬ ‫وهم ي�سريون جيئة وذها ًبا‪ ،‬ال يعلمون ما هو � ٍآت ‪..‬‬
‫يكون ما فعلتُه معهم يف ال�سنوات املا�ضية قد يجدي نف ًعا �إن ثارت‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫�أرواحهم ‪..‬‬


‫ثم حدث ما انتظرته ل�ستة �أيام ‪ ..‬ووجدتُ الطلقات النارية تدوي‬
‫يف �سماء الوادي بكرثة مل نعهدها من قبل‪ ،‬ووجدتُ جمموعة من‬
‫اخليالة يقتحمون �شوارع الوادي ظه ًرا مثلما حدث من قبل ‪ ..‬لكنهم‬
‫كانوا جمي ًعا يف طريقهم مبا�شرة �إىل كوخي ‪ ..‬كان يقودهم الفار�س‬
‫ترجل عن ح�صانه قبلهم وتق ّدم �إ ّ‬
‫يل‬ ‫ال�شاب الذي ع ّينه كيوان‪ ،‬والذي ّ‬
‫و�س�ألني بحد ٍة دون مقدمات‪:‬‬
‫ �أين الفتاة وطفلها؟‬

‫‪248‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫  �أي فتاة؟!‬
‫فوجئت به ي�صفع وجهي �صفع ًة �أ�سالت الدماء من وجهي‪ ،‬و�أ�شار‬‫ُ‬
‫�إىل جنوده بالبحث عن الفتاة يف كل �أرجاء الوادي ‪ ..‬ثم دخل �إىل‬
‫كهفي ليفتّ�شه بنف�سه‪ ،‬كنت �أعرف �أنه �سيبحث عن ر�أ�س متثال‬

‫دا‬
‫الن�سلي ظ ًنا منه �أنني �أخذته ‪ ..‬ثم خرج �إ ّ‬
‫يل ويف يده كتاب احليوانات‬
‫ر‬
‫املنقر�ضة‪ ،‬بعدها �أ�شار �إىل �أحد جنوده دون �أن ينطق‪ ،‬فقام اجلندي‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫وقدمي بغلظة ‪ ..‬وكذلك قام جندي �آخر بتكبيل ناردين‪،‬‬‫ّ‬ ‫يدي‬
‫بتكبيل ّ‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫قبل �أن ُيغطى ر�أ�سي بغطاء قما�شي �أ�سود حجب عن عيني الر�ؤية‪،‬‬

‫ك‬
‫ويدفعني �أحدهم عنو ًة �إىل �إحدى العربات التي حملتني �إىل جويدا‪.‬‬
‫ت‬
‫ب للن‬
‫‪b‬‬
‫ر‬ ‫ش‬
‫وال‬
‫مت اقتيادي �إىل زنزانة �ضيقة كنت �أعرف �أنها يف �سجن جويدا‬
‫ال�سجان عن‬
‫و‬ ‫ت‬
‫ذرعت درجاته قد ًميا عديد املرات‪ ،‬وهناك ك�شف ّ‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬

‫ُ‬ ‫ع‬‫زي‬
‫ر�أ�سي الغطاء الأ�سود قبل �أن ُيغلق الباب احلديدي من خلفه دون �أن‬
‫وناديت‬ ‫اقرتبت من باب الزنزانة‬
‫ُ‬ ‫ينزع الأغالل عن يدي �أو قدمي ‪..‬‬
‫ب�أعلى �صوت‪:‬‬
‫  ناردين ‪ ..‬ناردين ‪..‬‬
‫لكن �أحدً ا مل يجبني قط‪.‬‬
‫مكثت يف زنزانتي ال �أ�ستطيع عد الأيام �أبدً ا بعدما كان ظالمها ال‬
‫ُ‬
‫يف ّرق بني الليل والنهار وك�أنهم اعتربوين من �أ�شد املجرمني خطور ًة‪،‬‬
‫والذين �أُعدت من �أجلهم الزنازين ال�سفلية امل�صمتة اجلدران‪ ،‬لكني‬
‫‪249‬‬
‫انتبهت مع الوقت �إىل الوجبة الواحدة التي يدفعها يل ال�سجان عرب‬
‫فتحة �صغرية بباب الزنزانة احلديدي ‪ ..‬لأعتمد عليها يف ع ّد �أيامي‪..‬‬
‫وبني ا�شتعال ذهني ب�ضجيج �أ�سئلته‪ ،‬كنت �أقف وراء الباب حني �أ�سمع‬
‫جلبة �أقدام احلار�س لألقي �أ�سئلتي �إليه‪:‬‬
‫  هل حدث �شيء يف اجلنوب �أيها ال�شاب؟!‬

‫دا‬
‫ هل حترك الفار�س كيوان ب�أ�سلحته الثقيلة؟!‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫لكنه مل ُي�سمعني �صوته قط‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫تباعا حتى جتاوزت يوم الغفران لذلك ال�شهر‬ ‫وبد�أت الأيام متر ً‬
‫وفق ح�سبتي للأيام‪ ،‬ومل �أُق ّدم �إىل القا�ضي الذي كان �سيحكم‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ب�إعدامي بالطبع ‪ ..‬مل �أكن �أعلم �أي جرمية �سيقولون �أنني ارتكبتُها‪،‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫لكن ما �أ�سهل ذلك الأمر يف چارتني ‪ ..‬لي�ستمر مرور الأيام و�أنا ماكثة‬

‫ر وا تول‬
‫بني ظالم اجلدران‪� ،‬إىل �أن مر �شهر �آخر ويوم غفران جديد دون �أن‬
‫علي حية كل هذا الوقت‬ ‫ُيفتح باب زنزانتي ‪ ..‬كنت على ثقة �أن الإبقاء ّ‬

‫زيع‬
‫يعني �أن كيوان مل يعرث على �سبيل ويخ�شى ح ًقا �أن تقوم ب�إيقاظ �أرواح‬
‫ال�ضواري داخل الن�ساىل ‪ ..‬وفكرتُ يف �أنه ي�ستخدم حب�سي ك�أداة �ضغط‬
‫على الفتاة من �أجل �أن تظهر من جديد ‪� ..‬أو رمبا تركني لأكون ورقته‬
‫الرابحة �إن ثارت روح �آدم ‪ ..‬ورمبا تركني لأفقد �أع�صابي بني تلك‬
‫اجلدران املظلمة ف�أُعلن له هزميتي وانهياري و�أخربه مبكان الفتاة ‪..‬‬
‫فكرتُ يف ذلك الأمر بعدما مر يوم الغفران الثالث دون �أن يظهر يل‬
‫خ�شيت ح ًقا �أن ينجح فيما ينوي فعله‬
‫ُ‬ ‫�شخ�ص واحد �أحتدث �إليه ‪..‬‬
‫جتاهي بعدما ا�ضطرب نومي للغاية والزمني الأرق لأيام متتالية دون‬
‫حلظة نوم واحدة من كرثة التفكري‪ ،‬حتى وجدتُ نف�سي �أ�صرخ �إىل‬
‫احلار�س ب�أ�سئلتي من جديد ‪ ..‬قبل �أن �أ�صرخ �إىل الفراغ ب�أعلى �صوت؛‬
‫‪250‬‬
‫« ناردين ‪ ..‬ريان ‪ ..‬فا�ضل ‪ ..‬ندمي ‪� ..‬سبيل ‪ .»..‬قبل �أن �أ�سقط �إىل‬
‫الأر�ض و�أوا�صل نداءاتي ب�أ�سمائهم ب�صوت �ضعيف متعب ‪..‬‬
‫توقفت عن عد الأيام‪ ،‬ثم مرت �أيام‬
‫ُ‬ ‫بعد �أيام من ال�شهر الثالث‬
‫�أخرى قبل �أن �أ�سمع و�أنا نائمة على الأر�ض من الوهن الذي �أ�صاب‬
‫ج�سدي وق َع �أقدام تقرتب من باب زنزانتي ‪ ..‬مل �أنه�ض عن نومتي‬
‫عندما ُفتح باب زنزانتي ظ ًنا مني �أنها هالو�س يتخيلها عقلي‪� ،‬إىل �أن‬
‫نه�ضت‬
‫ُ‬ ‫متقدما بخطوات عن م�ساعديه ‪..‬‬
‫ً‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫وجدتُ كيوان يظهر �أمامي‬
‫وجل�ست �أنظر يف عني كيوان الذي �أمر احلار�س ب�إغالق‬
‫ص‬
‫ُ‬
‫ع‬ ‫عن نومتي‪،‬‬
‫ري‬
‫ �أين اختفت الفتاة ال‬
‫الباب من خلفه‪ ،‬ثم هبط على ركبته �أمامي وقال‪:‬‬

‫ك‬
‫أكملت حتديقي به دون �أن �أقولت�شي ًئ‬
‫وطفلها؟‬
‫با ك�أن غيام ًة غطت عقلي ‪..‬‬
‫شإىل ما قاله‪ ،‬فقلت‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫يل ب�س�ؤاله مرة ثانية‪ ،‬ن ُ‬
‫� ُ‬

‫ر‬
‫فتنبهت �‬ ‫قبل �أن ي�صرخ �إ ّ‬
‫  ال �أعرف‪ ..‬لو �أكرمتموها مرة واحدة بينكم وملاالتفعلت ذلك‪.‬‬
‫وز عي‬ ‫قال‪:‬‬
‫ �أين بقية متثال الن�سلي؟‬
‫هززتُ ر�أ�سي نافي ًة بجفون �شبه مت�ساقطة دون �أن �أنطق ‪ ..‬فقال‪:‬‬
‫�سينقذونك؟‪� ..‬إنهم هناك يرق�صون يف حاناتهم‬
‫ِ‬ ‫  �أتظنني �أنهم‬
‫فيك ‪..‬‬
‫ال يفكر �أحدهم ِ‬
‫نظرتُ �إىل م�شبك الرامي الف�ضي املُع ّلق ب�صدر �سرتته‪ ،‬فتابع‪:‬‬

‫‪251‬‬
‫أعدك ب�أنني �س�أحمو كل ما يتعلق‬
‫عمرك بينهم‪ ،‬و� ِ‬‫ِ‬ ‫أ�ضعت‬
‫ لقد � ِ‬
‫يذكرك‬
‫ِ‬ ‫بك يف جويدا ‪ ..‬لن‬
‫بك هناك مثلما حم ّوتُ كل ما يتعلق ِ‬
‫ِ‬
‫�أحد بعد موتك‪.‬‬
‫و�أ�ضاف بنربة حادة‪:‬‬
‫ �سينتهي �أخي من ت�صنيع قذائفه قري ًبا ‪� ..‬س�أقتل كل البالغني‬

‫دا‬
‫بينهم ‪� ..‬س�أقتل �أطفالهم ‪ ..‬لن �أترك �أحدً ا ينجو هذه املرة‪.‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ابت�سمت وقلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ �أترى ما املمتع يف هذا الأمر؟ ‪� ..‬أنني �أ�ش ُّم رائحة خوفك‪.‬‬

‫ت‬ ‫ك‬ ‫قال‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يكفيك من خويف ‪� ..‬س�أح ّدد يوم الغفران‬ ‫ِ‬ ‫ ح�س ًنا‪ ،‬متتعي مبا‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫القادم موعدً ا لإعدامك بتهمة اختطاف الفتاة وطفلها ‪..‬‬
‫�س�أكون �أنا الرامي يومها ليكون وجهي �آخر َمن ترينه ‪ ..‬ولي�أتوا‬

‫زيع‬
‫لينقذوك من بني يدي ‪..‬‬
‫ِ‬
‫وق ّبل �أطراف �إ�صبعيه ال�سبابة والو�سطى ثم الم�س بهما منت�صف‬
‫جبهتي‪ ،‬وقال بربود بالغ‪:‬‬
‫إليك ك ُقبلة ‪..‬‬
‫  �س�أر�سل طلقتي النارية � ِ‬
‫ب�صوت غا�ضب كي يفتح الباب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال�سجان‬
‫بعدها وقف ونادى على ّ‬
‫يل مرة �أخرى ُقبيل مغادرته وي�س�ألني ك�أنه تذكر �شي ًئا‪:‬‬
‫قبل �أن يلتفت �إ ّ‬
‫أنك تعلمني �أمر ذلك الكهف قبل �ستة �أعوام ‪..‬‬
‫ قال العجوز ب� ِ‬
‫بك كل‬
‫ملاذا مل تفعليها وتقتلي الطفل هناك لتنتقمي مما فعلته ِ‬
‫‪252‬‬
‫هذه ال�سنوات؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫  لأنني ل�ست مثلك‪.‬‬
‫فنه�ضت‬
‫ُ‬ ‫�أوم�أ بر�أ�سه دون �أن يقول �شي ًئا‪ ،‬ثم غادر جتاه م�ساعديه‪،‬‬
‫لأقف و�أنظر �إىل الفتى الذي ال يرتدي ثياب الأمن بينهم والذي كان‬
‫دا‬
‫ينظر نحوي هو الآخر ‪ ..‬قبل �أن ُيغلق الباب ويح ّل الظالم جمددًا ‪..‬‬
‫ر‬
‫ع‬
‫ومتتمت �إىل‬
‫ُ‬ ‫أغم�ضت عيني‬
‫ُ‬ ‫فجل�ست و�أ�سندتُ ظهري �إىل احلائط‪ ،‬و�‬
‫ُ‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫نف�سي هام�س ًة حني وجدتُ �أنفا�سي تت�سارع خو ًفا‪:‬‬
‫  ال تخايف �أيتها ال‬
‫ومن�صتها فح�سب ‪ ..‬الك‬
‫�صديقتك القدمية‬
‫ِ‬ ‫الفتاة ‪� ..‬ستعودين �إىل‬
‫يخذلتالأ�صدقاء بع�ضهم �أبدً ا‪.‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫بل‬
‫ر‬ ‫‪ b‬ش‬
‫وال وت‬ ‫�‬
‫زيع‬

‫‪253‬‬
‫(‪)19‬‬
‫زهير‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬‫ع‬
‫ري‬
‫ت�سمرت قدماي وجتمدالالدم يف عروقي عندما‬
‫كب�إبادة الن�ساىل و�أن هناك قذائف‬
‫�سمعت والدي‬
‫ُ‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫يقول لأمي ب�أن الأوامر قد �صدرت‬


‫ل‬ ‫ل‬
‫هو الآخر وجد ُتها قد توقفت عن الكالم‪،‬ن‬
‫ذلك‪ ،‬وك�أن ل�سان �أمي قد ت�س ّمر‬ ‫مدفعية �سي�ص ّنعها يف جويدا من �أجل‬

‫ر �وأقدام �أحدهما يف‬


‫ومل تنطق بكلمة واحدة‬ ‫ش‬
‫ل‬ ‫ا‬
‫م�سرعا على � ت‬
‫أطراف �وأ�صابعي �إىل‬
‫�سمعت �أ�صوات وقع‬
‫ُ‬ ‫ك�أنها بوغتت مما قاله �أبي‪ ،‬ثم‬

‫غرفتي حيث مل �أعرف للنوم طع ًما قط يف تلك الليلة‪ .‬زيع‬


‫ً‬ ‫فان�سللت‬
‫ُ‬ ‫الغرفة تقرتب من الباب‪،‬‬

‫‪b‬‬
‫موكب �صغري ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫يف �صباح اليوم التايل رحلنا عن بريحا يف‬
‫أخوي يف عربة واحدة فيما ركب �أبي مع عمي‬ ‫كنت مع �أمي و� ّ‬
‫يف عرب ٍة �أخرى كانت ت�سري �أمامنا‪ ،‬ورافق طريقنا عد ٌد من‬
‫الفر�سان انق�سموا �إىل جمموعتني �إحداهما ت�سبقنا و�أخرى تتبعنا‪.‬‬
‫ظ ّل ال�شرود منطب ًعا على وجه �أمي طوال الطريق ومل حترك عينها عن‬
‫الفراغ املمتد خارج نافذة العربة‪ ،‬وبينما ان�شغل �أخواي ب�أحاديثهما‬
‫‪255‬‬
‫جل�ست �أراقب تعبريات وجهها و�أنا �أحاول الإم�ساك بل�ساين‬
‫ُ‬ ‫التافهة ‪..‬‬
‫بكل طاقتي بعدما كادت الكلمات تقفز منه لال�ستف�سار ع ّما �إن كان‬
‫�أبي قد ح ّدثها عن ال�سبب الذي ينوي عمي من �أجله �إبادة الن�ساىل‬
‫و�إن كان يعني بالإبادة معناها احلريف ‪� ..‬أن ُيقتل جميع الن�ساىل؟‬
‫‪ ..‬و�أن ت�صري چارتني بال ن�ساىل للمرة الأوىل يف التاريخ‪ ،‬ووددتُ لو‬
‫وانتقلت �إىل عربة عمي و�أبي‪ ،‬كنت مت�أكدً ا �أنهما‬
‫ُ‬ ‫تركت تلك العربة‬
‫ُ‬

‫دا‬
‫وحدثت نف�سي‬
‫ُ‬ ‫�سيتحدثان بخ�صو�ص ذلك الأمر طوال الطريق ‪..‬‬
‫ر‬
‫ً‬
‫ لقد كربتُع مبا‬
‫مغتاظا‪:‬‬
‫ص يكفي و�أ�ستطيع امل�شاركة يف املناق�شات الهامة‬
‫و�إبداء ر�أيي ‪..‬ري ال‬
‫ت‬ ‫ثم تذكرتُ �صوت �أبي وهوك‬
‫فحدثت نف�سي م�ستثا ًرا‪ :‬ب ل‬
‫يتحدث عن القذائف التي �سي�ص ّنعها ‪..‬‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫ �ألف قذيفة مدفعية؟! ‪� ..‬إن القذيفةش‬
‫ُ‬

‫ا‬ ‫و‬
‫إننيلتملحظوظ ح ًقا �أن‬
‫الواحدة ت�ستطيع تدمري‬ ‫ر‬
‫و‬
‫�أعي�ش هذه اللحظات يف تاريخ بالدي ‪ ..‬زيع‬
‫ن�صف بريحا مبا فيها من بيوت وب�شر ‪� ..‬‬

‫ثم عدتُ و�س�ألت نف�سي‪:‬‬


‫ ولكن ما الذي فعله الن�ساىل من �أجل حكم بالإعدام على‬
‫اجلميع؟! ‪..‬‬
‫وظللت �شاردًا ب�أ�سئلتي �إىل �أن غلبني النعا�س بعدما مل �أذق النوم‬
‫ُ‬
‫الليلة املا�ضية‪ ،‬ومل �أنه�ض �إال مع و�صولنا جويدا‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫‪256‬‬
‫انتظمت �أنا و�أخواي يف املدر�سة‬
‫ُ‬ ‫بعد يوم واحد من الراحة‪ ،‬كنت قد‬
‫املتو�سطة هناك ‪ ..‬كان اجلميع هناك ال يتحدثون �إال عن ا�ستنفار‬
‫اجلنود يف جويدا بالأيام الأخرية ب�صورة ُمبالغ فيها ‪ ..‬حتى �أن بع�ض‬
‫زمالء �صفي اجلدد �س�ألوين عندما عرفوا �أنني ابن �أخ الفار�س كيوان‬
‫�إن كان هناك �شيء ما يحدث و�أعرفه‪ ،‬لكنني �أخربتهم بكل �صدق‬
‫عرفت من بع�ض الرثثارين �أن‬ ‫ُ‬ ‫�أنني مثلي مثلهم ال �أعرف �شي ًئا ثم‬

‫دا‬
‫ال�شائعات تنت�شر �إىل حد كبري جدً ا خا�ص ًة ال�شائعة التي �سرت بعد‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫اختفاء الن�سلية التي �صارت �شريفة وطفلها ال�شريف �صاحب ال�ستة‬
‫ص‬
‫�أعوام ب�أن الن�ساىل هم َمن اختطفوها‪ ،‬و�أن ذلك اال�ستنفار جاء من‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�أجل �إعادة الطفل و�أمه‪ ،‬و�أن هناك �إعدامات باجلملة �ستحدث قري ًبا‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫جلرم‪ ،‬مل �أنطق لأحد‬‫يف �أيام الغفران القادمة عقا ًبا لهم على ذلك ا ُ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫مبا �سمعتُه من �أبي و�أكدتُ لهم عدم معرفتي ب�أي �شيء وعدتُ �إىل‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫بيتي ت�شتعل ر�أ�سي ب�أ�سئلتها التي كانت تتزايد كل يوم عن اليوم الذي‬

‫ر وا تول‬
‫ألت �أمي ب�صوت خفي�ض عندما وجدتها جتل�س مبفردها‪:‬‬ ‫ي�سبقه‪ ،‬ثم �س� ُ‬

‫زيع‬
‫ هل �سيبيد عمي الن�ساىل ح ًقا؟!‬
‫نظرت نحوي متفاجئة من �س�ؤايل‪ ،‬وبحاجبني معقودين �س�ألتني‬
‫يف ارتباك‪:‬‬
‫ من قال لك هذا؟‬
‫قلت بخجل‪:‬‬
‫ُ‬
‫إليك ليلة رحيلنا عن بريحا‪ ،‬و�أنا يف طريقي‬
‫�سمعت �أبي يتحدث � ِ‬
‫  ُ‬
‫�إىل دورة املياه ‪..‬‬
‫�سكتت للحظة ثم قالت بوجه جامد‪:‬‬
‫‪257‬‬
‫ ال �أعرف �شي ًئا عن هذا الأمر ‪� ..‬إنني ال �أتدخل يف عمل �أبيك‪،‬‬
‫كما يجب �أن تفعل ذلك � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫و�أ�ضافت حمذرة‪:‬‬
‫ ال تخرب �أباك �أنك قد �سمعت �شي ًئا ال يخ�صك حتى ال يغ�ضب‬
‫منك ويعاقبك ‪ ..‬و�أنا لن �أخربه مبا قلته‪.‬‬

‫دا‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �إنني �أريد معرفة احلقيقة فح�سب ‪ ..‬مل �أعد �صغ ًريا يا �أمي‪.‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫قالت‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ ال يتعلق الأمر بكونك �صغ ًريا �أو كب ًريا يا زهري ‪� ..‬إن �أباك وعمك‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ي�شغالن منا�صب هامة يف چارتني‪ ،‬و�أي حديث يقوالنه بينهما‬
‫ش‬
‫ال يجب �أن ت�سمعه حتى �آذان احلوائط‪.‬‬

‫ر وا تول‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫زيع‬
‫ الأمر حقيقي � ًإذا يا �أمي ‪..‬‬
‫وتابعت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ �إننا ال نرى �أبي منذ جئنا هنا �إال كل ب�ضعة �أيام مرة‪.‬‬
‫احم ّر وجهها وقالت‪:‬‬
‫ �سيفعل �أبوك ما ير�ضي �ضمريه على كل حال ‪..‬‬
‫كان القلق البادي على وجهها يظهر �أن ثمة نقا�ش طويل دار بينهما‬
‫ب�ش�أن هذا الأمر انتهى بعدم ر�ضائها ع ّما �سيحدث �أو اقتناعها على‬
‫الأدق‪� ،‬إال �أنها ان�صاعت بالنهاية لر�ؤيته‪.‬‬
‫‪258‬‬
‫ألت معلم التاريخ يف مدر�ستي اجلديدة ع ّما �إن‬
‫يف الأيام التالية �س� ُ‬
‫كان �صادف ر�سم ًة مثل ر�سمتي التي ر�سمتُها من جديد للن�سلي ال�ضخم‬
‫املك ّبل‪ ،‬ف�أخربين �أنه مل ي َر مثلها من قبل‪ ،‬كذلك نفى يل كبري مكتبة‬
‫جويدا الكربى �أن يحتوي �أي كتاب من كتب املكتبة املُقدرة بالآالف‬
‫على �أي ر�سمة م�شابهة‪ ،‬لكنه �أعطاين وعدً ا مبزيد من البحث عندما‬
‫كذبت بها على ال�سيد �شقري يف بريحا‪ ،‬و�أخربته �أن‬
‫كررتُ كذبتي التي ُ‬

‫دا‬
‫عمي يهتم ب�شخ�صه بذلك الأمر‪.‬‬
‫حاولت التقرب من عمي‪ ،‬وادع ّي ُت كذ ًبا‬
‫ُ‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫يف ال�شهر الثاين يل هناك‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫لت ر�أيي ب�ش�أن م�ستقبلي و�أنني �أرغب يف االلتحاق مبدر�سة‬
‫�أنني قد ع ّد ُ‬
‫الأمن العليا بعد انتهائي من ال�سنة الباقية يل من املدر�سة املتو�سطة‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫‪ ..‬فرحب بذلك بكل �سعادة‪ ،‬وجعلني �أرافقه يف جوالته يف جويدا بدون‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أن �أطلبها منه ‪ ..‬لكنه مل يتحدث ولو ملرة واحدة ع ّما يحدث �أو ينوي‬
‫ش‬‫ر‬
‫فعله يف القريب العاجل‪� ،‬س�ألتُه على غفلة ذات مرة حني كنا جنل�س‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫ هل اختطف الن�ساىل الطفل ال�شريف الذي ُولد تلوأبوين ن�سليني‬
‫مبفردنا يف غرفة مكتبه‪:‬‬

‫زيع‬ ‫ح ًقا و�أمه؟‬


‫قال‪:‬‬
‫ نعم‪ ،‬لكني لن �أم ّرر هذا الأمر مرور الكرام ‪� ..‬سيدفعون ثمن‬
‫فعلتهم غال ًيا‪.‬‬
‫�شعرتُ يف حديثه بقدر من الغيظ ينبئ بنواياه ال�سيئة جتاههم‪،‬‬
‫�سمعت �أبي‬
‫ُ‬ ‫لكن عقلي مل يقتنع ب�أن تكون جرمية كتلك �سب ًبا لفعل ما‬
‫يتحدث عنه‪ ،‬ف�س�ألتُه بعد هنيهة من التفكري‪:‬‬
‫‪259‬‬
‫ هل ا�ستطاع �أحد معرفة ال�شخ�ص الذي فعلها؟‬
‫فقلت‪:‬‬
‫هز ر�أ�سه ناف ًيا وهو ينظر �إىل بع�ض الأوراق املتناثرة �أمامه‪ُ ،‬‬
‫عقاب جماعي لهم ‪..‬‬
‫ رمبا مل يفعلها �أحدهم وال حاجة �إىل ٍ‬
‫يل‪ ،‬لكنه مل يفعل بعدما طرق‬‫رمقني بنظرة غا�ضبة وكاد يتحدث �إ ّ‬
‫الباب �أحد الفر�سان ودلف �إىل الغرفة ‪ ..‬ف�أمرين عمي ب�أن �أغادر‬
‫ففعلت ذلك‪ ،‬ومل مير وقت ق�صري على جلو�سي‬‫ُ‬
‫دا‬
‫الغرفة لبع�ض الوقت‪،‬‬
‫ر‬
‫ع‬
‫�شرعت يف‬
‫ُ‬ ‫باخلارج حتى وجدتُ عمي يغادر الغرفة مع الفار�س‪ ،‬وحني‬

‫ري‬ ‫ص‬
‫اللحاق بهما �أخربين ب�أن �أنتظره �إىل �أن يعود‪.‬‬
‫عدتُ �إىل غرفته مرة ا�لأخرى و�أغلقت ُالباب من خلفي يف انتظاره‪،‬‬
‫كمنت رحيله مع باقي الفر�سان‪ ،‬ت�أكدتُ‬
‫ب لالغرفة‪ ،‬قبل �أن �أفتّ�ش‬
‫أننت عرب النافذة‬
‫وبعدما اطم� ُ‬
‫بخوف‬
‫ٍ‬
‫ش‬ ‫ل‬
‫�شديد بني الأوراق القابعة على مكتبه عنن‬
‫من ان�شغال اجلندي املتواجد خارج‬

‫و‬
‫املخطوطة التي ر�أيتُها من‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫بحث �سريع مل �أعرث عليها ‪ ..‬لكنر‬
‫ت‬
‫بع�ض الأوراق ال�صفراء القدمية املكتوبة بخط و‬
‫انتباهي قد ُجذب �إىل‬ ‫قبل‪ ،‬وبعد ٍ‬
‫ي‬ ‫ز‬
‫در�سا يف ع‬
‫يدوي رديء باللغة‬
‫املدر�سة ‪..‬‬ ‫الچارتينية القدمية التي �سبق و�أن در�سنا عنها ً‬
‫مل �أ�ستطع فهم ما ُكتب يف تلك الأوراق‪ ،‬واحلقيقة �أنني مل �أكن لأنتبه‬
‫�إليها لوال تلك الدوائر التي ُر�سمت بقلم ر�صا�ص على ظهر �إحداها‬
‫‪ ..‬وبداخل كل دائرة ُكتب بخط عمي الذي �أعرفه ا�س ٌم من الأ�سماء‬
‫الأربعة ‪ ..‬غفران ‪ ..‬الطبيب ‪ُ ..‬خ�شيب ‪� ..‬سبيل ‪ ..‬ويف �أ�سفل ظهر‬
‫الورقة ُر�سمت دائرة �أكرث ظهو ًرا وبداخلها ُر�سمت عالمتي ا�ستفهام‪،‬‬
‫و ُكتب‪« :‬ال يحمل و�ش ًما» ‪ ..‬وكان هناك �سه ٌم مر�سوم ي�صل بني هذه‬
‫الدائرة والدائرة التي ُكتبت فيها غفران ‪ ..‬لفتت هذه الدوائر‬
‫انتباهي خا�ص ًة مع وجود ا�سمني م�ألوفني يل هما ُخ�شيب و�سبيل‪،‬‬
‫‪260‬‬
‫�أعرف �أن ُخ�شيب هو ا�سم العائلة التي تنتمي �إليها خالتي �سريين‬
‫خالة �آدم‪ ،‬و�سبيل جميع �أهل جويدا يعرفون �أنها الفتاة الن�سلية التي‬
‫�صارت �شريفة وانت�شرت ال�شائعات باختطافها من ِقبل الن�ساىل ‪..‬‬
‫و�شعرتُ وقتها �أن تلك الأوراق تت�صل ب�شكل �أو ب�آخر باملخطوطة التي‬
‫ميتلكها عمي وكذلك باحلديث الذي حتدث به �أبي �إىل �أمي ‪ ..‬ورمبا‬
‫بحالة اال�ستنفار الغريبة التي ت�شهدها جويدا‪ ،‬فوجدتُ نف�سي �أنتزع‬

‫دا‬
‫بقلم ر�صا�ص‪،‬‬
‫أم�سكت ٍ‬
‫ورقة بي�ضاء من �أحد الدفاتر على الطاولة‪ ،‬و� ُ‬
‫قمت بن�سخ �سطور الورقة التي ُر�سمت على ظهرها‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫وب�سرعة كبرية ُ‬
‫ص‬
‫متاما ملا ُكتب بها دون �أن �أفهم ما تعنيه‪،‬‬
‫الدوائر بحروف م�شابهة ً‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وحدثت نف�سي و�أنا �أراقب زجاج باب الغرفة املُغلق خ�شية �أن يدلف‬
‫ُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫اجلندي �إىل الغرفة فج�أة‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ ورقة واحدة قد تكفي ‪ ..‬لي�س هناك وقت لن�سخ كل هذه الأوراق‬
‫ش‬‫ر‬
‫‪� ..‬إن �أم�سك بي ذلك اجلندي �أو عمي‪ ،‬فلن يتوانى عمي عن‬

‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬


‫أخفيت الورقة �أ�سفل جوربي الأمين‪ ،‬و�أعدتُ ت‬
‫تقدميي �إىل من�صة الباحة ‪..‬‬

‫ي‬ ‫ز‬
‫بقلب م�ضطرب عمت�سارع‬
‫ترتيب كل �شيء‬ ‫ثم � ُ‬
‫كما كان على �سطح الطاولة‪ ،‬قبل �أن �أعود ٍ‬
‫مقعد قريب من الباب‪� ،‬إىل �أن هد�أ توتري‬ ‫النب�ضات و�أجل�س على ٍ‬
‫وخرجت‪ ،‬و�أخربتُ من يجل�س باخلارج �أنني �س�أعود �إىل بيتي‬
‫ُ‬ ‫فنه�ضت‬
‫ُ‬
‫من �أجل ا�ستذكار درو�سي بعد ت�أخر عمي‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫مل يعد عمي ذلك اليوم �إىل البيت وكذلك �أبي‪ ،‬ثم كان‬
‫احلديث كله باليوم التايل باملدر�سة عن اعتقال من ُت�سمى‬
‫غفران الن�سلية التي عملت يف يوم من الأيام رام ًيا للمن�صة‪،‬‬
‫‪261‬‬
‫وهناك من ا ّدعى �أنها كانت ُمعتقلة ب�سجن جويدا قبل ثالثة‬
‫�أ�شهر دون �أن يعرف الكثريون بذلك‪� ،‬أما �أنا فان�شغل بايل‬
‫با�سمها الذي كان بني الأ�سماء الأربعة املكتوبة على �أوراق عمي ‪..‬‬
‫وعزمت على الإ�سراع برتجمة ما ن�سختُه من كلمات لعلها تك�شف يل‬ ‫ُ‬
‫ون�سخت‬
‫ُ‬ ‫بع�ضا مما يخفى عن اجلميع‪ ،‬فعدتُ �إىل البيت ذلك اليوم‬ ‫ً‬
‫الكلمات املكتوبة يف الورقة التي ن�سختها �إىل ع�شرة �أوراق �صغرية‪،‬‬

‫دا‬
‫كتبت يف كل ورقة ثالثة �أ�سطر منها فقط‪ ،‬ثم �أعدتُ ترتيب الكلمات‬ ‫ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫برتتيب �أعرفه بعد خويف ال�شديد مما �إن كانت حتتوي على �أ�سرار‬
‫ص‬
‫وذهبت بكل يوم من الأيام التالية‬
‫ُ‬ ‫هامة ال يريد عمي لأحد �أن يعرفها‪،‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫بورقة منها �إىل معلم عندي كان خب ًريا بالچارتينية القدمية من‬

‫ك‬
‫�أجل تو�ضيح ما تعنيه الكلمات بلغتنا‪ ،‬قبل �أن �أعود �إىل البيت و�أُعيد‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫ل‬ ‫ل‬
‫ترتيب الكلمات �إىل الرتتيب القدمي �أثناء نوم �أخي‪� ،‬إىل �أن انتهيت‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫من �آخر املقاطع فوجدتُ �أن الورقة التي ن�سختها تتحدث عن دماءٍ‬

‫ر وا تول‬
‫تروي متثال الن�سلي الزائر املنحوت من �صخور حوران فتثور معها‬
‫�أرواح ال�ضواري‪ ،‬فا�ستعادت ذاكرتي هيئة الن�سلي املُقيد املر�سوم يف‬
‫زيع‬
‫فعل‪،‬‬ ‫خمطوطة عمي ووجهه الزائر‪ ،‬كان مثل احليوانات ال�ضارية ً‬
‫فوجدتُ وجهي يزداد احمرا ًرا وقلبي يدق خو ًفا مما قر�أ ُته‪ ،‬وتزايدت‬
‫يف حلظة م�شاعر الكره بداخلي جتاه الن�ساىل املجرمني بعدما تخ ّيل‬
‫عقلي حتولهم جمي ًعا �إىل ما ي�شبه الن�سلي الذي ر�أيت �صورته ليخرجوا‬
‫عن طوع القواعد التي حتكمنا وتر�سي ا�ستقرار بالدنا بعدما يقتلون‬
‫الكثريين منا دون رحمة‪ ،‬ثم قمت بتمزيق الورقة التي ن�سختها على‬
‫الفور عندما تق ّلب �أخي يف �سريره‪ ،‬و�أنا �أزداد �إعجا ًبا بعمي الذي لطاملا‬
‫�أراد لچارتني و�أهلها كل الأمان‪ ،‬ويف الأيام التالية �أكرثتُ من مرافقتي‬
‫له‪ .‬جاءين رجل من بريحا يخربين بر�سال ٍة من �آدم عن عدم عثور‬
‫أر�سلت �شكري �إىل �صديقي‬
‫ال�سيد �شقري على �شيء يخ�ص ر�سمتي‪ ،‬ف� ُ‬
‫‪262‬‬
‫علي‬
‫ومعلمي مع ذلك الرجل الذي مل �أحتدث معه كث ًريا بعدما كان ّ‬
‫اللحاق بعمي الذي كان يف طريقه �إىل �سجن جويدا ‪ ..‬وخا�ص ًة �أن‬
‫عمي فاج�أين بعدم رف�ضه مرافقتي له ذلك اليوم ‪..‬‬
‫كانت املرة الأوىل التي �أزور فيها ذلك ال�سجن‪ ،‬وكذلك كانت املرة‬
‫الأوىل التي �أرى فيها الن�سلية غفران‪ ،‬ر�أ ُيتها عندما فتح ال�سجان باب‬

‫دا‬
‫زنزانتها‪ ،‬كانت امر�أة قد تبلغ الأربعني من عمرها‪ ،‬تتناثر خ�صالت‬

‫ر‬
‫كثرية من ال�شعر الأبي�ض بني �شعرها البني‪ ،‬وكان التعب والهزال‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫باد ًيا للغاية على وجهها عندما نه�ضت من نومتها والتفتت �إلينا حني‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫توقفنا جمي ًعا يف الرواق املمتد �أمام الزنازين بينما تق ّدم عمي نحوها‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫مبفرده و�أغلق الزنزانة من خلفه‪ ،‬فلم نعرف ع ّما حتدث به �إليها‪ ،‬قبل‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أن يخرج �إلينا بعد دقائق حمتقن الوجه من الغ�ضب فيما كانت تنظر‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫ال�سيدة بثبات نحوه وهو يبتعد عنها‪ ،‬قبل �أن حت ّول نظرها �إ ّ‬
‫يل وتنظر‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬


‫يف عيني‪ ،‬بعدها �أغلق ال�سجان باب زنزانتها‪ ،‬فقال عمي مل�ساعده‪:‬‬
‫و‬ ‫ �أعلن بجميع املدن تقدمي الن�سلية للمحاكمة يوم ت‬
‫زيع‬
‫الغفران القادم‬
‫‪� ..‬س�أكون �أنا الرامي الذي يعدمها‪.‬‬
‫حدقتي عيني تت�سعان‪ ،‬لكن‬
‫ّ‬ ‫كنت �أظن �أن هذا �أكرث ما �سيجعل‬
‫الدماء اندفعت �إىل عروقي عندما تابع عمي �إىل م�ساعد �آخر له قبل‬
‫�أن نغادر ممر الزنازين‪:‬‬
‫ لن ننتظر االنتهاء من �صنع جميع املقذوفات ‪� ..‬ستتحرك‬
‫املدافع الثقيلة من الغد �إىل وديان اجلنوب مبا مت ت�صنيعه من‬
‫القذائف �إىل الآن‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫يف ذلك امل�ساء ح�ضر �أبي �إىل مكتب عمي وحتدثا منفردين بينما‬
‫جل�ست خارج الغرفة بني م�ساعديه يف انتظار انتهاء حديثهما‪ ،‬ثم ّ‬
‫دق‬ ‫ُ‬
‫�سمعت �صوت �أبي يرتفع ك�أنه اعرت�ض على �شيء قاله عمي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قلبي حني‬
‫خارجا دون �أن يلتفت �إ ّ‬
‫يل‬ ‫قبل �أن يخرج �إلينا حمتقن الوجه ويهرول ً‬
‫حتى‪ ،‬وك�أن نقا�شهما �أغ�ضبه للغاية‪.‬‬
‫ألت �أمي �إن كان �أبي قد عاد فنفت‬ ‫عندما عدت �إىل البيت �س� ُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ذلك‪ ،‬ف�أخرب ُتها مبا حدث قبلها ب�ساعات بني �أبي وعمي‪ ،‬قبل �أن جند‬
‫أخوي‪ ،‬كان االرتباك والت�شتت باديني للغاية على‬
‫ع‬
‫�أبي يعود بعد نوم � ّ‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫وجهه‪ ،‬فدخل �إىل غرفته مبا�شرة وتبعته �أمي‪ ،‬مل �أكن لأف ّوت فر�صة‬
‫التل�ص�ص على حديثهما هذه املرة ‪� ..‬س�ألته �أمي عن �سر حزنه البادي‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫على وجهه‪ ،‬وعندما �أنكر كونه حزي ًنا �أخربته �أمي ب�أنني حدثتها ع ّما‬

‫ن‬‫ب‬‫ل‬ ‫ل‬
‫حدث بينه وبني �أخيه ذلك امل�ساء‪ ،‬فقال �أبي بعد فرتة من ال�صمت‪:‬‬
‫ ي ّود كيوان �إقناع من حوله ب�أن تقدميشرامية املن�صة الن�سلية �إىل‬
‫لل�ضغط‪ ..‬على الفتاة رمن �وا تول‬
‫أجل الظهور جمددًا‬ ‫املن�صة خري و�سيلة‬
‫ز عي‬ ‫�إن كانت ت ّود بقاءها حية‬
‫قالت �أمي‪:‬‬
‫ �إن هذا �أمر جيد ‪..‬‬
‫قال �أبي‪:‬‬
‫�صحيحا‪ ،‬لكن يف الوقت ذاته قد يدفع الفتاة �إىل‬
‫ً‬ ‫ قد يكون‬
‫قتل طفلها لإيقاظ �أرواح الن�ساىل ح�سب ما قر�أنا على جدران‬
‫الكهف ‪..‬‬
‫وتابع‪:‬‬
‫‪264‬‬
‫ لقد قرر �إر�سال املدافع ملحا�صرة وديان الن�ساىل من الغد لكنه‬
‫لن ي�أمر ب�إطالق القذائف �إال بعد �إعدام الرامية ‪..‬‬
‫وتغيت نربته عندما قال‪:‬‬
‫ّ‬
‫ �إن املتهور ي�ص ّر على ال�سماح للع�شرات من ذكور الن�ساىل‬
‫بح�ضور يوم الغفران القادم مع �أهل جويدا الأ�شراف الذين ال‬

‫دا‬
‫يعرفون �شي ًئا عن الأمر ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قالت �أمي بلهجة متعجبة‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ ملاذا يريد ذلك؟! ‪ ..‬ماذا �إن فعلتها الفتاة ً‬
‫فعل وكان بني‬

‫ك‬
‫أرواحا تثور لتقتل من حولها من‬
‫احلا�ضرين ن�ساىل يحملون � ً‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫الأ�شراف!!‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫�صمت �أبي ثم قال‪:‬‬

‫ر وا تول‬
‫ هذا ما يريده كيوان ‪� ..‬أن يرى الأ�شراف ب�أنف�سهم ما �ستفعله‬

‫زيع‬
‫تلك الأرواح بهم ‪ ..‬ال يهمه �أن ميوت فرد �أو اثنان �أو ع�شرة من‬
‫الأ�شراف بقدر ما يريد �أن يرى يف �أعينهم و�أعني كبري ق�ضاة‬
‫چارتني اخلوف الذي يربر له ما �سيفعله بجموع الن�ساىل بعد‬
‫حلظات من �إعدام الرامية ‪..‬‬
‫ف�س�ألته �أمي حينها بلهجة خائفة‪:‬‬
‫ هل ت�ستطيع قذائفك ً‬
‫فعل الق�ضاء عليهم وحمايتنا منهم �إن‬
‫ثارت �أرواحهم؟ ‪..‬‬
‫قال �أبي‪:‬‬
‫‪265‬‬
‫ نعم ‪..‬‬
‫لكنه تابع بعد حلظات بلهجة مرتددة‪:‬‬
‫ �إال يف حالة وحيدة ‪..‬‬

‫�‬
‫‪b‬‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪266‬‬
‫(‪)20‬‬
‫سيرين‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫�س� ُألت �أختي يف تعجب‪ :‬ال‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ �أي �شيء ي�ستطيع به �أبونا مقاي�ضة �سادة چارتني لتربئته من‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫اجتياز القاعدة الأوىل؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫زيع‬
‫ ال �أعرف ‪ ..‬قال قريبنا ب�أن تربئته من جرميته قد يتم الإعالن‬
‫عنها يوم الغفران القادم ‪ ..‬على �أن يذهب �إىل وادي حوران‬
‫بعدها ‪ ..‬وعلى الأغلب �سيتم �إعالن �إنهاء اخت�صام الأرواح‬
‫لأجنتنا يومها � ً‬
‫أي�ضا ‪..‬‬
‫وقلت‪:‬‬
‫�ضحكت �ساخرة‪ُ ،‬‬
‫ُ‬
‫ وماذا �سيفيد ذلك‪ ،‬لقد عربنا الأربعني‪ ،‬و�أو�شك �سن الإجناب‬
‫لدينا على االنتهاء ‪..‬‬
‫ف�سكتت للحظة‪ ،‬ثم قالت بنربة هادئة‪:‬‬
‫‪267‬‬
‫ قال الرجل � ً‬
‫أي�ضا �أنه ت ّو�سل �إليه حتى البكاء كي يبلغنا برغبته‬
‫إليك‪.‬‬
‫جئت � ِ‬
‫ال�شديدة يف ر�ؤيتنا قبل رحيله �إىل حوران‪ ،‬لذا ُ‬
‫و�أ�ضافت‪:‬‬
‫ رمبا �أراد ذلك ليطلب منا م�ساحمته ع ّما تكبدناه من عناءٍ‬
‫ب�سبب فعلته ‪..‬‬
‫ا�ضطربت امل�شاعر بداخلي‪ ،‬مل �أكن على ا�ستعداد لكل هذه‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫الأحداث فج�أة يف هذا الوقت القليل‪ ،‬فلذتُ ب�صمتي‪ ،‬وبد�أتُ �أنقر‬

‫ري‬‫ص‬
‫ب�إ�صبعي على الطاولة �أمامي بينما كانت �أختي تنظر نحوي يف انتظار‬
‫ال‬
‫�صمت طويل هززتُ �إليها ر�أ�سي موافق ًة‪ ،‬قبل �أن �أقول‬
‫�إجابتي ‪ ..‬وبعد ٍ‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫بغيظ‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ لو كان ً‬


‫فابت�سمت �أختي وهي تربت على يدي‪ .‬ش‬
‫رجل �آخر ل�صفعته على وجهه ع ّما فعله بنا ‪..‬‬
‫ر‬
‫وال وت‬
‫ع‬ ‫زي‬ ‫‪b‬‬
‫يف تلك الليلة ت�أخرتُ كث ًريا عن موعد نومي بعدما ان�شغل تفكريي‬
‫و�ضعت‬
‫ُ‬ ‫ب�سفري �إىل جويدا و�أنني بذهابي �إىل هناك لر�ؤية �أبي قد‬
‫نف�سي بني خيارين بالن�سبة لآدم ‪� ..‬إما �أن �أ�صحبه معي �إىل هناك ويف‬
‫هذه احلالة �سيكون قري ًبا جدً ا من ر�ؤية الرامية التي �سيتم �إعدامها‬
‫بعد خم�سة �أيام على من�صة الباحة‪ ،‬وال �أدري ماذا �سيحدث وقتها‪� ،‬أو‬
‫�أتركه يف بريحا و�أذهب مبفردي مع �أختي ووقتها لن �أكون متواجدة‬
‫لأذيب له الأع�شاب املن ّومة يف �شرابه خالل الأيام املتبقية على �إعدامها‬
‫وقد تعاوده �أحالمه املتعلقة بها من جديد ‪ ..‬وبعد جدال كبري بني‬
‫‪268‬‬
‫�أفكاري ا�ستقر عقلي على اخليار الثاين ب�أن �أذهب �إىل جويدا بدونه‬
‫على �أن �أعود قبل يوم الغفران �إن �سمحت الظروف هناك بذلك‪ ،‬حتى‬
‫�ستغي �شي ًئا كب ًريا‬
‫�إن مل �أ�ستطع فك ّلها خم�سة �أيام فقط‪ ،‬ال �أعتقد �أنها ّ‬
‫من الأمور ‪..‬‬
‫ويف ال�صباح �أخرب ُته ب�أنني �س�أرافق �أختي �إىل جويدا من �أجل �أمر‬
‫عائلي هام �س�أخربه به مبجرد عودتي‪ ،‬ف�س�ألني ب�أن �أجد زهري لأر�سل‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫حتياته �إليه‪ ،‬فوعد ُته بذلك‪.‬‬
‫‪b‬‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫ذهبت �إىل جويدا برفقة �أختي‪ ،‬كانت امل�شاعر ال تزال م�ضطربة‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫بداخلي �إىل حد كبري ي�سودها لو ٌم كبري لنف�سي على موافقتي بالذهاب‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫معها‪ ،‬حتى �أنني فكرتُ يف منت�صف الطريق يف �أن �أ�ستدير و�أعود �إىل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫بريحا بعدما مل �أجد داخلي ذرة تعاطف واحدة مع �أبي‪ ،‬حتى و�إن‬
‫حاول ت�صحيح خطئه قبل موته‪ ،‬لكن �شعو ًرا خافتًا بداخلي منعني‬

‫زيع‬
‫من العودة ودفعني لإكمال طريقي �إىل املدينة التي حتمل يل كث ًريا‬
‫من الذكريات ال�سيئة‪� ،‬إىل �أن و�صلناها مع �شروق �شم�س اليوم التايل‪،‬‬
‫بيت ا�ست�أجرناه لن�سرتيح من وعثاء ال�سفر ‪..‬‬
‫واجتهنا �إىل ٍ‬
‫يف م�ساء ذلك اليوم ذهبنا �إىل دار الأمن التي يقيم فيها �أبي ‪..‬‬
‫كانت ال�شوارع كما قال الرجل الذي حمل ر�سالتنا �إىل زهري مزدحم ًة‬
‫باجلنود ً‬
‫فعل‪ ،‬كذلك كانت املرة الأوىل التي �أرى فيها املدافع الطويلة‬
‫العنق التي يج ّر الواحد منها �أربعة �أزواج من البغال‪ ،‬كانت تتحرك‬
‫تعجبت‬
‫ُ‬ ‫بثقلها ال�شديد للخروج من املدينة جتاه �أطرافها اجلنوبية ‪..‬‬
‫�أن يكون �إعدام الرامية غفران قد ي�سبب كل هذا اال�ضطراب ‪ ..‬لكنني‬
‫يل ال�ساعات القليلة‬‫عدت وان�شغلت با�ضطرابي �أنا وما قد حتمله �إ ّ‬
‫‪269‬‬
‫القادمة من تغيري للم�صري‪ ،‬ومل يوقظني من �أفكاري �إال اجلندي‬
‫الواقف �أمام بوابة دار الأمن عندما منعنا من جتاوز البوابة ً‬
‫متعلل‬
‫ب�أنه تلقى �أم ًرا بعدم ال�سماح بزيارة العجوز ُخ�شيب �إال ب� ٍ‬
‫إذن ُم�سبق‬
‫من الفار�س كيوان ب�شخ�صه‪ ،‬وعندما مل ي�شفع لنا تو�سلنا �إليه ب�أننا لن‬
‫نق�ضي مع �أبينا �إال دقائق عدنا �أدراجنا �إىل بيت �إقامتنا يف خيبة �أمل‪.‬‬
‫مل �أ�ص ّدق �أن ذلك الإذن للقاء �أبي �سي�ستغرق ثالثة �أيام كاملة‪،‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ق�ضيتُها جمي ًعا يف التفكري يف كوابي�س �آدم التي بد�أت تفا�صيلها تت�ضح‬
‫ع‬
‫�أكرث و�أكرث مع و�صوله �سن البلوغ‪ ،‬وما قد يراه من تفا�صيل جديدة بهذه‬
‫ص‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫أوقفت جرعات الأع�شاب املنومة من �أجل املجيء �إىل‬‫الليايل بعدما � ُ‬
‫ومتنيت نادمة لو عاد بي الزمن هذه الأيام لأرف�ض مرافقة‬ ‫ُ‬ ‫جويدا‪،‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫�أختي و�أظل بجانبه حتى عبور اليوم الذي ُتعدم فيه الرامية‪ ،‬ولوال �أن‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫جند ًيا قد جاء �إلينا ع�صر اليوم الرابع ليخربنا ب�أن الفار�س كيوان قد‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ركبت ح�صاين وعدت �إىل بريحا‪.‬‬ ‫وافق على زيارتنا لأبينا لكنت قد ُ‬
‫‪b‬‬
‫زيع‬
‫قادنا اجلندي الذي منعنا من جتاوز البوابة من قبل عرب ممر‬
‫طويل انتهى ب�سلم حجري �صعدناه من خلفه �إىل الطابق العلوي بدار‬
‫الأمن‪ ،‬قبل �أن يفتح لنا با ًبا خ�شب ًيا كب ًريا لتدلف �أختي و�أنا من بعدها‬
‫غيت التجاعيد الكثري‬ ‫‪ ..‬كان �أبي راقدً ا على �سريره‪ ،‬عجو ًزا للغاية‪ّ ،‬‬
‫من بقايا وجهه العالقة يف ذاكرتي‪ ،‬كان ينظر �إىل �سقف الغرفة حني‬
‫طبيب �شاب يجل�س بجواره نه�ض‬ ‫اقرتبنا بخطوات حذرة منه‪ ،‬كان ٌ‬
‫وخرج مع اجلندي الذي رافقنا مبجرد �أن دخلنا �إىل الغرفة‪ ،‬ثم‬
‫تنحنحت �أختي فح ّرك والدنا ر�أ�سه �إلينا ليدفع بج�سده �إىل �أعلى يف‬
‫تعب �شديد ليجل�س‪ ،‬كنت �أبتلع ريقي من اال�ضطراب الذي بلغ ذروته‬ ‫ٍ‬
‫‪270‬‬
‫وخرجت بعدما �شعرت �أن‬
‫ُ‬ ‫بداخلي مبجرد ر�ؤيته‪ ،‬ووددتُ لو تركتهما‬
‫�صدري ي�ضيق من قلة الهواء يف ذلك املكان‪ ،‬لكن �أختي قب�ضت برفق‬
‫على يدي‪ .‬وجدتُ الدموع ت�سقط من عينيه قبل �أن ينطق ب�أي �شيء‪،‬‬
‫بج�سد جامد وم�شاعر‬
‫ٍ‬ ‫ليتني كنت �أ�ستطيع التعاطف ح ًقا لكني ُ‬
‫وقفت‬
‫راكدة �أنظر �إليه فح�سب‪ ،‬وعيناي حتدثاه‪:‬‬
‫ من �أجل هذه الرقدة وهذه التجاعيد �أ�ضعت حياة كلينا؟! ‪..‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫اللعنة على الطمع يا �أبي ‪ ..‬يكفي �أن يوقفك الفار�س كيوان‬
‫ع‬
‫ح ًقا �أمام �أهل چارتني بهيئتك هذه ليتعظ من يف ّكر ب�أن يحذو‬
‫ص‬
‫ري‬
‫ظل ال�صمت قائ ًما بني ال‬
‫حذوك ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ثالثتنا لدقائق قبل �أن تنطق �أختي‪:‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫فاقرتبت لن‬
‫ لقد كربت �سريين يا �أبي ‪..‬‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫يدي بيده املرتع�شة‪ ،‬ثم قال ب�صوت متعب‪ :‬وال وت‬
‫بخطوات متثاقلة حتى � َ‬
‫أم�سك‬ ‫ُ‬ ‫مد يده �إلينا كي نقرتب منه‬

‫زيعحقكما‪،‬‬
‫علي ترككما تعانيان ‪ ..‬لقد ك ّفرتُ عن ذنبي يف‬‫ مل يكن ّ‬
‫�سيعلن الفار�س كيوان �إعفاء ن�سلي من جرميتي غدً ا قبل �إعدام‬
‫الرامية ‪ ..‬لقد وعدين بذلك‪ ،‬كما وعدين ب�إعالن براءتكما‬
‫�أمام �أهل چارتني جميعهم ‪..‬‬
‫بوجه جامد‪:‬‬
‫قلت ٍ‬‫ُ‬
‫ ماذا ق ّدمت يا �أبي من �أجل �إعفائك من جرميتك؟‬
‫قال‪:‬‬
‫‪271‬‬
‫ �ستعرفان كل �شيء قري ًبا ‪ ..‬لكني �أريدكما �أن تبحرا على �أوىل‬
‫ال�سفن املغادرة چارتني ‪..‬‬
‫تعجبت من قوله‪ ،‬وكذلك �أختي التي �س�ألته با�ستغراب‪:‬‬
‫ُ‬
‫  ُنبحر؟! ‪ ..‬ملاذا �إن كان حقنا يف والدة �أطفال �أحياء قد عاد‬
‫�إلينا؟!‬

‫دا‬
‫نظر نحو الباب بعينني متثاقلتُني ك�أنه مل يرد �أن ي�سمعنا �أحد‪،‬‬
‫ر‬
‫ع‬
‫وقال‪:‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وقت لل�شرح ‪ ..‬وال حاجة‬
‫ ال بد لكما �أن ترحال ‪ ..‬لي�س هناك ٌ‬

‫ك‬
‫حل�ضوركما يوم الغفران غدً ا ‪� ..‬ستُعلن براءتكما و�إن مل‬

‫ب‬ ‫ت‬ ‫حت�ضرا ‪..‬‬


‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫قلت بحدة‪:‬‬
‫ُ‬

‫ر وا تول‬
‫ لقد ت�سببت يف عي�شنا غريبتني يف بلدنا لأكرث من ن�صف‬

‫زيع‬
‫عمرنا ‪ ..‬واليوم حني ن�سرتد �شرفنا الناق�ص تريدنا �أن نرتك‬
‫چارتني؟!‬
‫قال ب�صوت خفي�ض‪:‬‬
‫  َمن لن يرتك چارتني يف ال�ساعات القليلة القادمة �سيندم �أ�شد‬
‫الندم ‪..‬‬
‫�س�ألتُه ب�إ�صرار‪:‬‬
‫ ماذا هناك يا �أبي؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫‪272‬‬
‫حرب �شعواء �ستقوم بني الأ�شراف والن�ساىل �ستخ ّلف‬
‫ هناك ٌ‬
‫وراءها ع�شرات الآالف من القتلى ‪..‬‬
‫قالت �أختي �ساخرة‪:‬‬
‫ الن�ساىل؟! ‪� ..‬أمل ت َر الأ�سلحة التي ميتلكها جنودنا؟!‬
‫قال �أبي م�ص ًرا‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ع‬
‫ عليكم �أن ت�ستمعوا �إىل ما �أقوله ‪� ..‬إن الأيام القادمة �ستكون‬
‫ص‬
‫�صعب ًة للغاية على اجلميع ‪..‬‬
‫ري‬
‫ال‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫ت‬ ‫ هذا من �أجل الرامية؟!ك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫قال‪:‬‬
‫ الرامية �أحد �أ�سبابها ‪ ..‬لكن هناك كث ًريا من التفا�صيل كنت‬
‫زيع‬
‫�أنا رك ًنا �أ�سا�س ًيا فيها ‪ ..‬لي�س هناك جما ٌل لقولها ‪ ..‬اذهبا �إىل‬
‫املرف�أ اجلنوبي‪ ،‬واركبا �أوىل ال�سفن املغادرة �إىل �أي بلد �آخر ‪..‬‬
‫قالت �أختي‪:‬‬
‫ ال تقلق يا �أبي ‪� ..‬إن التطور الذي حدث لأ�سلحة بالدنا يف‬
‫�شغب يقوم به الن�ساىل‬
‫ال�سنوات التي ق�ضيتها بعيدً ا �سيخمد �أي ٍ‬
‫يف غ�ضون دقائق ‪..‬‬
‫قال �أبي‪:‬‬

‫‪273‬‬
‫ لن يكون اجلانب الآخر الن�ساىل الذين تريهم يف الباحة ‪..‬‬
‫نوع �آخر ‪� ..‬سريبك زئريهم قلوب حاملي‬ ‫�إنهم ن�ساىل من ٍ‬
‫الأ�سلحة ‪..‬‬
‫جر�سا عمال ًقا بجوار �صوانها‪،‬‬
‫ر ّنت كلمة زئريهم يف �أذين ك َمن دق ً‬
‫ف�س�ألتُه على الفور يف توج�س‪:‬‬

‫دا‬
‫ زئري َمن؟‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫قال ب�صوته املتعب‪:‬‬

‫ري‬‫ الن�ساىل ‪ ..‬ص‬


‫ال‬
‫ت‬ ‫ك‬ ‫وتابع بعد حلظة‪:‬‬
‫أرواحا مفرت�سة‪ ،‬ما �إن‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫نوعا من الن�ساىل يحملون � ً‬
‫اكت�شفت ً‬
‫ُ‬ ‫ لقد‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫تثور �ستقتل كل من يقابلها ‪� ..‬سيثورون مبجرد �أن تقتل الن�سلي ُة‬
‫ال�شريف ُة التي اختفت طف َلها ‪..‬‬

‫ع‬ ‫زي‬ ‫و�أكمل ك�أنه يتو�سل �إلينا‪:‬‬


‫مت�سكت بر�ؤيتكما قبل يوم الغفران من �أجل �إخباركما بهذا‬
‫ُ‬ ‫ لقد‬
‫فقط ‪� ..‬أنا �س�أذهب �إىل وادي حوران �أما �أنتما فغادرا چارتني‬
‫وال تعودا �إليها �أبدً ا ‪� ..‬إنها �أر�ض ملعونة هي وقواعدها ‪..‬‬
‫�ضحكت �أختي ونظرت �إ ّ‬
‫يل نظر ًة تقول بها �أن �أبي قد كرب و�أ�صابه‬
‫اخلرف‪� ،‬أما �أنا فازداد وجهي احمرا ًرا و�أنا �أتذكر زئري �آدم القدمي‬
‫يوم املطر العظيم‪ ،‬كذلك حلمه ب�أنه يخ�ضع كحيوان �أ�سفل �أقدام‬
‫ألت �أبي يف ترقب ب�صوت خمتنق بالدموع‪:‬‬ ‫�أحدهم ‪ ..‬ف�س� ُ‬
‫‪274‬‬
‫ هل ما ت ّدعيه �صحيح يا �أبي؟!‬
‫هز ر�أ�سه �إيجا ًبا وقال ب�صوته اخلافت‪:‬‬
‫ نعم ‪ ..‬كل من يحمل هذه الأرواح �ستثور روحه مبجرد �أن تقتل‬
‫الفتاة طفلها‪� ،‬أو يثور �أحدهم كان قد ان�س ّل بني الأ�شراف منذ‬
‫�سنوات وو�صل �سن بلوغه هذا العام ‪ ..‬قد ي�ستطيع ذلك الن�سلي‬

‫دا‬
‫�إن عرف حقيقة ما يحمل بداخله �أن ي�ستنفر الباقني ‪ ..‬لكنهم‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫لن يكونوا بقوتهم الكاملة �إن مل تفعلها الفتاة ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫كهف قدمي ُكتبت فيه كل هذه احلقائق باللغة‬ ‫لقد عرثتُ على ٍ‬

‫ك‬
‫أوراق �سلمتُها �إىل الفار�س‬
‫الچارتينية القدمية‪ ،‬ونق�شتُها على � ٍ‬

‫ب‬ ‫ت‬
‫كيوان مقابل �أن يعفيني من جرميتي بعبوري عامي اخلم�سني‪،‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫قبل �أن �أد ّله على مكان الكهف‪� ،‬سي�شرع كيوان يف �إبادة الن�ساىل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫عن بكرة �أبيهم‪ ،‬لكن الأمر لن يكون بال�سهولة التي يتخيلها‬
‫�أبدً ا �إن فعلتها الفتاة ‪..‬‬

‫زيع‬ ‫وتابع وهو يغم�ض عينيه‪:‬‬


‫ �ستكون حر ًبا عظيمة لن تنتهي �إال بق�ضاء �أحد الطرفني على‬
‫الآخر ‪..‬‬
‫اقرتبت منه �أكرث و�س�ألتُه بقلب م�ضطرب‪:‬‬
‫ُ‬
‫ والن�سلي الذي يحمل هذه الروح ويعي�ش بني الأ�شراف‪ ،‬ماذا‬
‫�سيخمد روحه �إن ثارت؟‬
‫فتح عينيه بثقل‪ ،‬وقال وهو ينظر �إىل �سقف الغرفة‪:‬‬
‫‪275‬‬
‫ ال �أحد يعرف ‪� ..‬سيتمنى الأ�شراف وقتها �أن يقتله كيوان قبل‬
‫�أن تفعلها الفتاة وت�صل قوته ذروتها ‪� ..‬أعتقد �أن كيوان قد بد�أ‬
‫بالفعل يف البحث بني الفتيان الذين و�صلوا �سن البلوغ يف كل‬
‫وا�ضحا لن يتوانى عن ف�صل‬‫ً‬ ‫املدن ‪ ..‬ومن لن يجد له ن�س ًبا‬
‫ر�أ�سه عن ج�سده ‪..‬‬
‫قبل �أن ي�ضيف‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ �إن كان هذا الفتى على قيد احلياة ‪ ..‬لن ترتك روحه الرامية‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫متوت ‪� ..‬ستثور روحه من �أجلها ‪..‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫تذكرت التطور الكبري الذي حدث يف كوابي�س �آدم بعد �أن حدثنا‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫الرجل الذي جاء من جويدا عن حتديد موعد �إعدام الرامية ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫وت�أكدتُ �أنني ارتكبت خط�أ عمري بوقف جرعات من ّومه يف الأيام‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫بخوف �شديد‪:‬‬
‫فتمتمت يف �سري �إىل نف�سي ٍ‬
‫ُ‬ ‫اخلم�سة الأخرية ‪..‬‬
‫ لو ثار �آدم كما ر�أيتُه قبل �سنوات و�سمع �أحد اجلريان زئريه‬

‫ع‬ ‫ي‬ ‫ز‬


‫�سيقتله اجلنود ال حمالة ‪ ..‬ال بد و�أنهم قد تل ّقوا �أوامر بذلك ‪..‬‬
‫ثم وجدتُ نف�سي �أترك الغرفة و�أرك�ض �إىل اخلارج لأهبط درجات‬
‫رك�ضا‪ ،‬لكني �أبط�أت من �سرعة نزويل عندما وجدتُ بع�ض‬ ‫ال�س ّلم ً‬
‫ووقفت على‬
‫ُ‬ ‫الفر�سان ي�صعدون ال�س ّلم كان يتقدمهم الفار�س كيوان‪،‬‬
‫ففوجئت‬
‫ُ‬ ‫�أحد جوانب ال�س ّلم �أنظر �إىل �أ�سفل قدمي دون �أن �أرفع عيني‪،‬‬
‫بزهري يناديني من بينهم‪:‬‬
‫ خالتي �سريين ‪..‬‬
‫علي‬
‫حاولت التما�سك كي ال يبدو ّ‬
‫ُ‬ ‫كنت �أود �أن �أوا�صل رك�ضي‪ ،‬لكني‬
‫�شيء غري طبيعي خا�ص ًة مع التفات الفار�س كيوان بعينيه القويتني‬
‫‪276‬‬
‫يل مع نداء ابن �أخيه يل‪ ،‬ف�أوم�أتُ بر�أ�سي �إليه مرحب ًة وعيني كلها‬‫�إ ّ‬
‫رجاء ب�أال ينطق بكلمة واحدة عن �آدم يف ذلك التوقيت �أمام عمه‬
‫الذي �أعرف �أنه ذكي ليعرف �أن �آدم لن يكون �أبدً ا ابن �أختي بعدما‬
‫انقطعت الروح عن ن�سل عائلتنا قبل والدته بت�سعة �سنوات‪ ،‬وهززتُ‬
‫ر�أ�سي هزات متتالية يف ا�ضطراب حتى عرب هو ومن معه يف ده�شة‬
‫رك�ضت‬
‫ُ‬ ‫ووا�صلت نزويل ال�س ّلم ً‬
‫رك�ضا‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫فتنف�ست ال�صعداء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مني‪،‬‬

‫دا‬
‫باملمر الطويل بالطابق ال�سفلي بدار الأمن �إىل اخلارج‪ ،‬كان اجلميع‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ينده�شون من رك�ضي يف �شوارع جويدا ب�سرعتي الق�صوى لكني مل‬
‫ص‬
‫�أعب�أ ب�أي �شيء من حويل‪ ،‬حتى و�صلت �إىل البيت الذي كنا نقيم‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫فيه وهناك قفزتُ على �صهوة جوادي‪ ،‬وقبل �أن �ألكزه بقدمي وجدتُ‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أختي التي حلقت بي وبدا �أنها كانت ترك�ض هي الأخرى مت�سك جلام‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ح�صاين‪ ،‬وت�س�ألني‪:‬‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫ر وا تول‬
‫ �إىل �أي تذهبني؟!‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫زيع‬ ‫ �إىل بريحا‪.‬‬
‫قالت م�ستنكرة ‪:‬‬
‫ ملاذا تعودين �إىل هناك ؟! ‪� ..‬ستو ّفر لنا چارتني منحة ذهاب‬
‫أزواجا بعد �أن يعلن‬
‫�أبينا �إىل وادي حوران ‪� ..‬سنجد لنا � ً‬
‫القا�ضي غدً ا تربءتنا ‪� ..‬ست�ستطيعني تكوين عائلة هنا مثلما‬
‫كنت حتلمني طوال عمرك‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قلت و�أنا �ألكز ح�صاين‪:‬‬
‫ُ‬
‫ �إن عائلتي هناك ‪..‬‬
‫‪277‬‬
‫ثم لكزتُ ح�صاين بقدمي لريك�ض بي يف اجتاه ال�شمال ‪ ..‬كانت‬
‫أدركت �أنني لن �أ�صل‬
‫ال�شم�س تقرتب من الغروب يف ذلك التوقيت ف� ُ‬
‫�إىل بريحا قبل ع�صر اليوم التايل ‪ -‬يوم الغفران ‪� -‬إن �سرتُ بال�سرعة‬
‫ف�صرخت �إىل ح�صاين كي ي�سرع ‪ ..‬و�أنا �أمتتم داخل نف�سي‪:‬‬
‫ُ‬ ‫املعتادة‪،‬‬
‫ لو نطق زهري بكلمة واحدة عن �آدم �إىل عمه �أو حدثه عن‬
‫كوابي�سه التي كان يحكيها له �سري�سل جنوده �إليه ليقتلوه ولو‬

‫دا‬
‫مل ترث روحه ‪..‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ص‬
‫مع حلول الظالم �أبط�أ احل�صان من �سرعته رغ ًما عني لكني مل‬
‫ووا�صلت حثه على التقدم بعدما مل تتوقف‬
‫ُ‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�أتوقف ولو ملرة واحدة ‪،‬‬
‫التخيالت ال�سيئة التي افرت�ض عقلي حدوثها مع �شروق �شم�س النهار‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫فدلفت‬
‫ُ‬ ‫التايل عن العبث بي ‪� ..‬إىل �أن و�صلت �أطراف قباال مع الفجر‪،‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫�إىل �شوارعها ال�ساكنة من �أجل اتخاذ طريق جبلي يف �شرقها كان‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�أكرث اخت�صا ًرا �إىل بريحا عن الطريق الرئي�سي الذي ي�ستخدمه‬
‫أوقفت ح�صاين‬
‫اجلميع‪ ،‬لكنه يف الوقت ذاته كان �شديد االنحدار‪ ،‬ف� ُ‬

‫زيع‬
‫وهبطت عنه حتى يكتمل �شروق ال�شم�س لتك�شف �أمامي‬‫ُ‬ ‫للمرة الأوىل‪،‬‬
‫منحدراته اخلطرة جتن ًبا ل�سقوط فر�سي املتعب يف �إحداها‪ ،‬وبعدما‬
‫�أ�سقيته و�أطعمته من الأع�شاب التي تناثرت على جانب ذلك الطريق‬
‫كان �ضباب ال�صباح قد انق�شع ً‬
‫قليل و�أر�سلت ال�شم�س �أ�شعتها ليظهر‬
‫ووثبت �إىل ظهر‬
‫ُ‬ ‫الطريق �أمامنا جل ًيا‪ ،‬فلم �أ�ضع مزيدً ا من الوقت‬
‫وهم�ست �إليه و�أنا �أحرك يدي برفق على عنقه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ح�صاين‪،‬‬
‫ هيا يا �صديقي ‪ ..‬مل يعد �إال القليل ‪..‬‬
‫لريك�ض بي بني التالل يف اجتاه ال�شمال‪.‬‬
‫‪b‬‬ ‫‪278‬‬
‫مع تقدمي كنت �أرفع عيني �إىل ال�سماء ملعرفة الوقت من مو�ضع‬
‫ال�شم�س فيها ‪ ..‬اخت�صر يل ذلك الطريق ب�ضع �ساعات ح ًقا‪ ،‬لكن مع‬
‫جهلي مبا يحدث يف جويدا يف ذلك الوقت �أو مبا يحدث لآدم يف بريحا‬
‫كانت الدقيقة الواحدة مت�ضي ك�أنها عمر كامل‪� ،‬إىل �أن و�صلت بريحا‬
‫قبل منت�صف النهار بقليل يف �أمر كان �أ�شبه مبعجزة بالن�سبة يل ‪..‬‬
‫وهبطت عن ح�صاين‬ ‫ُ‬ ‫اجتهت �إىل ور�شة ال�سيد عبود مبا�شر ًة‪،‬‬ ‫ُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ورك�ضت �إىل الداخل‪ ،‬من نظر ٍة واحدة �إىل مكان �آدم املعتاد بالور�شة‬
‫ُ‬
‫ألت ال�سيد عبود الذي ظهر يل‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫مل �أجده‪ ،‬فخفق قلبي م�ضطر ًبا‪ ،‬و�س� ُ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫بثيابه املت�سخة بالركام الأ�سود‪:‬‬

‫ت‬ ‫قال يف ع�صبية �شديدة‪ :‬ك‬


‫ �أين �آدم؟! ‪..‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ مل ي� ِأت اليوم ‪� ..‬أخربيه �أنني �س�أخ�صم �شر ً‬
‫على تغ ّيبه اليوم وعلى ما فعله �صباح الأم�س‪.‬وال وت‬
‫أ�سبوعا ً‬
‫كامل من �أجره‬

‫زيع‬ ‫�س�ألته يف تخ ّوف‪:‬‬


‫ ماذا فعل؟!‬
‫قال‪:‬‬
‫ تركنا فج�أة دون �أي مقدمات ورك�ض �إىل خارج الور�شة‪ ،‬ومل‬
‫يعد ليكمل عمله املك ّلف به‪� ،‬آه ‪ ..‬وتلك النظرات التي نظر بها‬
‫يل قبل مغادرته ‪� ..‬أخربيه �أنني لن �أ�ساحمه عليها �أبدً ا ‪ ..‬لقد‬‫�إ ّ‬
‫�أخافني ح ًقا ‪..‬‬
‫‪279‬‬
‫فهرولت �إىل اخلارج دون �أن �أقول‬
‫ُ‬ ‫�ضاعف ذلك من خماويف ‪..‬‬
‫ورك�ضت به جتاه بيتي ‪ ..‬كان‬
‫ُ‬ ‫�شي ًئا له‪ ،‬ثم ُ‬
‫ركبت ح�صاين من جديد‬
‫ترجلت‬
‫ُ‬ ‫فابتلعت ريقي خو ًفا عندما‬
‫ُ‬ ‫مفتوحا على م�صراعيه‬
‫ً‬ ‫باب البيت‬
‫ناديت يف ترقب‪:‬‬
‫وحتركت بحذر �إىل داخل البيت‪ ،‬ثم ُ‬
‫ُ‬ ‫عن ح�صاين‬
‫أنت هنا؟‬
‫ �آدم ‪ ..‬هل � َ‬

‫دا‬
‫احلذر �إىل الداخل‪ ،‬وناديتُه‬
‫فوا�صلت تقدمي ِ‬
‫ُ‬ ‫مل �أ�سمع �إجابته‪،‬‬
‫ر‬
‫من جديد و�أنا �أق ّلب بعيني بني كل جانب من جوانب الردهة‪ ،‬حتى‬
‫دلفت عرب باب غرفته املفتوح لأجد‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫كاد قلبي ي�سقط يف قدمي عندما ُ‬
‫بخدو�ش طولية عميقة ك�أن خمال ًبا حديدية‬
‫ٍ‬
‫ال‬
‫ً‬
‫ري‬
‫خمدو�شا‬ ‫�أحد جدرانها‬

‫ك‬
‫قد ُغر�ست فيه ‪ ..‬هنا‬
‫ت‬
‫توقفت مكاين بعدما �شعرتُ �أن قواي قد خارت‬
‫ُ‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫ناديت‬
‫رع ًبا ‪ ..‬وبد�أ �صدري يتعاىل ويهبط ب�أنفا�س عميقة متباطئة ‪ُ ..‬‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب�صوت �ضعيف‪:‬‬

‫و‬ ‫ر‬
‫بج�سد متجمد يف باقي الغرفالت‬
‫ �آدم ‪..‬‬

‫ي‬ ‫ز‬ ‫و‬


‫خرجت �إىل جرياين لأ�س�ألهم �إن كان �أحدهم قد ر�آه ‪ ..‬نفى ع‬
‫دون �أن �أجده ‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫قبل �أن �أبحث‬
‫يل اجلميع‬ ‫ُ‬
‫�صوت غريب �صدر من بيتي‪،‬‬
‫ر�ؤيته ‪ ..‬انتظرتُ �أن ينطق �أحدهم عن ٍ‬
‫�صبي �صغري من خلف �أمه ويقول‪:‬‬
‫لكنهم مل يفعلوا ‪ ..‬قبل �أن يظهر يل ٌ‬
‫ لقد ر�أيتُه يركب ح�صانه ليلة �أم�س‪ ،‬ويرك�ض يف ذلك االجتاه‬
‫ب�سرعة كبرية للغاية ‪..‬‬
‫و�أ�شار نحو الطريق الذي جتنبته لطوله‪ ،‬قبل �أن يتابع‪:‬‬
‫ كان عاري ال�صدر مثل الن�ساىل ‪..‬‬
‫‪280‬‬
‫ركبتي‪ ،‬وبد�أتُ �أغمغم �إىل نف�سي الهث ًة و�أنا‬
‫ّ‬ ‫�سقطت على‬
‫ُ‬ ‫وقتها‬
‫كفي‪:‬‬
‫�أ�ضع ر�أ�سي بني ّ‬
‫ لقد �صدق �أبي فيما قاله ‪ ..‬لقد ذهب �إىل جويدا من �أجل‬
‫الرامية ‪� ..‬سيقتلونه قبل �أن ي�صل �إليها ‪..‬‬
‫وتابعت نادم ًة‪:‬‬
‫ُ‬

‫دا‬
‫ لو كنت �أكملت بالطريق ذاته لقابلته يف الطريق ‪..‬‬
‫ر‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫تنبهت �إىل �أمر مل ينتبه له عقلي‪ ،‬لقد حترك �إىل جويدا يف‬
‫ُ‬ ‫ثم‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫الوقت الذي كنت فيه هناك تقري ًبا ‪ ..‬لقد ثارت روحه قبل �أن تفعلها‬

‫ك‬
‫الفتاة‪.‬‬
‫ت‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫‪b‬ب ل‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫زيع‬

‫‪281‬‬
‫الفصل األخير‬
‫زهير‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫حاولت �أمي التخفيف من الخماوف �أبي بعدما ح ّدثها عن احلالة‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫قذائفه من القيام مبهامها كاملة ‪..‬‬ ‫الوحيدة التي لن ت�ستطيع وقتها‬
‫كفي‪،‬‬
‫ل‬
‫طاولتي وا�ض ًعا ر�أ�سي بني ّ‬‫ل‬
‫يدق قلبي خو ًفا مما �سمعتُه‪ ،‬ول�ساين يردد � نإىلشنف�سي ً‬
‫وجل�ست �إىل‬
‫ُ‬ ‫�أما �أنا فعدتُ �إىل غرفتي‬

‫و‬ ‫�سي�ستطيع التعامل بذكائه مع الأمر ‪ ..‬ال داعي لكلر‬


‫هام�سا؛ �إن عمي‬

‫و‬ ‫ل‬ ‫ا‬


‫أخرجت �أوراقي ت‬
‫هذا القلق يا �أبي ‪..‬‬

‫يفيعبريحا‪.‬‬
‫أم�سكت‬
‫بقلمي‪ ،‬وبد�أتُ �أد ّون ما �شهد ُته من �أحداث منذ زارنا عميز‬
‫البي�ضاء و� ُ‬ ‫ُ‬ ‫أ�شعلت م�صباح طاولتي‪ ،‬و�‬
‫بعدها � ُ‬

‫على مدار الأيام التالية بد�أت املدافع املجرورة يف التحرك �إىل‬


‫جنوب جويدا‪ ،‬كذلك قام عمي بزيارات خاطفة �إىل املدن التي تقع‬
‫جتمعات الن�ساىل على مقربة منها ‪ ..‬ومع رف�ض �أبي لتغيبي عن‬
‫فا�ستغللت‬
‫ُ‬ ‫مدر�ستي مل �أ�ستطع مرافقته يف �أي زيارة له خارج جويدا ‪..‬‬
‫هذه الأيام يف تدوين باقي الأحداث ب�أوراقي‪.‬‬
‫مع اقرتاب يوم الغفران �أكرث و�أكرث كان اخلوف يتزايد بداخلي‬
‫خا�ص ًة مع عودة دوريات الفر�سان كل م�ساء من اجلنوب لتعلن عن‬
‫‪283‬‬
‫عدم عثورها على الفتاة الن�سلية �سبيل ك�أنها قد تبخرت هي وطفلها‬
‫قابلت خالتي‬
‫‪ ..‬ثم جاء اليوم الأخري قبل يوم الغفران املنتظر حني ُ‬
‫ا�ستغربت كث ًريا رد فعلها حني‬
‫ُ‬ ‫�سريين على �س ّلم دار الأمر �صدف ًة‪،‬‬
‫ناديتُها بعدما وجدتُ وجهها يرتبك للغاية‪ ،‬لكن عذرتُ ذلك االرتباك‬
‫مع وجود عمي وكل ه�ؤالء الفر�سان ذوي الهيبة الكبرية من خلفه‪،‬‬
‫ت�أكدتُ حينها �أن العجوز الذي يرقد يف الطابق العلوي لدار الأمن‬

‫دا‬
‫والذي مينع عمي اجلميع زيارته ذو �صلة قرابة بها‪ ،‬ووددتُ لو كان‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫هناك وقت ل�س�ؤالها عن �آدم‪ ،‬لكن بقاء ن�صف يوم فقط على �أهم �أيام‬
‫ص‬
‫چارتني منعني من الوقوف لتبادل احلديث معها خ�شية �أن تفوتني �أي‬
‫ومتنيت �أن �أجد وقتًا‬
‫ُ‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫تف�صيلة هامة قد يتحدث عنها عمي مل�ساعديه‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�آخر بعد مرور يوم الغفران للجلو�س ولو لوقت قليل معها‪.‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫يف ذلك امل�ساء وجدتُ عمي يقف مع معاونيه �أمام ُم ّ�سم �صخري‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ُم�صغر للباحة‪ ،‬و�أ�شار بيده �إىل الأماكن العالية القريبة من الباحة‬
‫التي �سين�شر فيها جنوده البارعني يف الت�صويب من امل�سافات البعيدة‪،‬‬

‫زيع‬
‫ال�شباك اللينة‬
‫والذين قد اختارهم بنف�سه‪ ،‬لكن ما �أثار انتباهي هي ِ‬
‫التي حتدث عن �إخفائها �أ�سفل رمال اجلزء اجلنوب �شرقي للباحة‪،‬‬
‫والذي �س ُيجرب الن�ساىل على الوقوف به‪ ،‬لتنت�شلهم جمي ًعا �إىل الأعلى‬
‫عن طريق الرافعات الأفقية القابلة لالنت�صاب يف حلظات‪ ،‬والتي‬
‫ال�شباك مبهارة كبرية حتت �إ�شراف مهند�سي‬ ‫ُثبتت بها �أطراف ِ‬
‫جويدا‪ ،‬حت�س ًبا لأي رد فعل مفاجئ لهم‪.‬‬
‫أدركت وقتها �أن �أبي قد �أ�ساء فهم عمي ب�أنه ينوي الت�ضحية ببع�ض‬
‫� ُ‬
‫�أ�شراف چارتني‪ ،‬و�أن عمي قد �أع ّد احتياطاته جيدً ا من �أجل كبت �أي‬
‫عنف قد يحدث من �أولئك املجرمني‪ ،‬ثم دخل �إلينا �أحد الفر�سان‬
‫و�أخرب عمي ب�أن املدافع طويلة العنق قد اتخذت �أماكنها لدك وديان‬
‫‪284‬‬
‫وقت واحد عندما ي�صدر الأمر بذلك‪ ،‬ف�أثنى‬ ‫الن�ساىل الثمانية يف ٍ‬
‫عمي عليه‪ ،‬قبل �أن يكمل حديثه عن الرتتيب الزمني لكل �أحداث‬
‫تعجبت حني قال ب�أن الفقرة التي �ست�سبق �إعدام الرامية‬
‫ُ‬ ‫املن�صة ‪..‬‬
‫�ستكون �إعالن قا�ضي املن�صة لرباءة ال�سيد ُخ�شيب من جتاوز القاعدة‬
‫الأوىل و�إعالن براءة ابنتيه �سريين وهجر من اجلرمية التي ارتكبها‪،‬‬
‫وقال بغري اكرتاث لأحد م�ساعديه‪:‬‬

‫ر‬ ‫ا‬ ‫د‬


‫ �س ُي�ؤخذ ذلك احلقري �إىل وادي حوران بنهاية اليوم‪.‬‬
‫قلت يف �سري ع ً‬
‫ ال بد و�أن �آدمص‬
‫فرحا‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ري‬
‫املنا�سبة ‪ ..‬ا‬
‫�سيكونل هنا يف جويدا من �أجل االحتفال بهذه‬
‫ت‬ ‫ومتنيت لو قابلتُه و�أو�صيتُهك‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫باالبتعادل عن الأماكن املخ�ص�صة‬
‫ش‬
‫ُ‬

‫ر وا تول‬
‫مرتددة عندما انتهى من‬ ‫للن�ساىل‪� ،‬س�أل �أحد الفر�سان عمي بلهجة‬
‫حديثه عن العجوز‪:‬‬

‫ ماذا �إن مل يحدث رد فعل من الن�ساىل بعد �إعدام زيع‬


‫الرامية؟‬
‫�صمت عمي مفك ًرا للحظة‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫ هل تريد �أن ي�أتي اليوم الذي يهاب فيه الأ�شراف من الن�ساىل؟‬
‫ه ّز الفار�س ر�أ�سه ناف ًيا وزاد التوتر على وجهه‪ ،‬فقال عمي‪:‬‬
‫ً‬
‫م�ستقبل يف �أي وقت ‪..‬‬ ‫ � ًإذا ‪� ..‬سنحمي بالدنا من ٍ‬
‫خطر قد ي�أتي‬
‫الآن نحن منتلك القوة التي ت�ساعدنا على ذلك‪ ،‬غدً ا ال نعرف‬
‫كيف �سيكون احلال ‪� ..‬إنها حلظة فارقة يف تاريخ هذا البلد ‪..‬‬
‫‪285‬‬
‫وتابع بلهجة �صارمة‪:‬‬
‫  �ستُعزف املو�سيقا الوطنية لبالدنا ما �إن ينتهي القا�ضي من‬
‫�إعالن حكمه ب�إعدام الرامية ‪� ..‬ستكون ر�صا�صتي املُ�صوبة �إىل‬
‫ر�أ�سها �إذ ًنا ب�إ�شعال ال�شعلة الكربى �أعلى �سجن جويدا ‪..‬‬
‫عرفت �أنه من �سيتوىل ذلك الأمر‬
‫ونظر بعينه نحو �أحد م�ساعديه ُ‬

‫دا‬
‫‪ ..‬و�أكمل‪:‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ �سيكون �إ�شعال ال�شعلة �أعلى �سجن جويدا �أم ًرا مبا�ش ًرا مني‬

‫ري‬‫ص‬
‫ل ِبدء دك الوديان بالقذائف الثقيلة دون ر�أفة ‪� ..‬أما من يقفون‬
‫ال‬
‫بالباحة ف�سيتم اعتقالهم وحملهم �إىل اجلنوب ليتوىل �أقرب‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫املدافع �إىل جويدا �أمرهم بت�صويب ٍة مبا�شرة ‪ ..‬لن ُيقتل ن�سلي‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫داخل الباحة غدً ا �إال ُغفران ‪� ..‬إنها الوحيدة التي ن�ضمن �أنها‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫روح �شريرة ‪..‬‬‫ال حتمل �أي ٍ‬
‫و�أخرج زفريه قبل �أن يقول‪:‬‬

‫زيع‬
‫ �سيح ّل بعد غد على چارتني ليكون �أول �أيام هذا البلد بدون‬
‫الن�ساىل ‪..‬‬
‫احم ّر وجه الفار�س الذي �س�أل عمي وهز ر�أ�سه مواف ًقا دون �أن يقول‬
‫�شيء‪ ،‬قبل �أن ي�أمرنا عمي باالن�صراف بعدما �أراد �أن يبقى مبفرده ‪..‬‬
‫‪b‬‬
‫نت ما دار بني ع ّمي ومعاونيه يف‬ ‫عندما عدت �إىل البيت د ّو ُ‬
‫�أوراقي‪ ،‬قبل �أن �أذهب �إىل فرا�شي و�أغط يف نومي ا�ستعدادًا لذلك‬
‫فوجئت يف ال�صباح ب�أمي متنعني �أنا و�إخوتي‬
‫ُ‬ ‫اليوم احلا�سم‪ ،‬لكني‬
‫‪286‬‬
‫من اخلروج من البيت �إىل الباحة‪ ،‬قالت ب�أن تواجدنا يف الباحة ذلك‬
‫اليوم خط ٌر �شديد دون �أن ت�شرح �سر قلقها لإخوتي‪ ،‬تذ ّمر �أخي و�أختي‬
‫كث ًريا لكن تذ ّمرهم مل ميثل ذرة واحدة من الغ�ضب الذي �أ�صابني‪،‬‬
‫حاولت �إخبارها ب�أن عمي قد خ�ص�ص �أماكن حمددة للن�ساىل‬ ‫ُ‬
‫ال�شباك التي �ست�صطادهم‬ ‫�سيحيطها اجلنود من كل جانب‪ ،‬غري ِ‬
‫�إن �صدر منهم �أي رد فعل عنيف لكنها �أ�ص ّرت على عدم خروجنا‪،‬‬

‫دا‬
‫حاولت التو�سل �إليها ب�أنني ال �أريد �أن �أف ّوت �أحداث هذا اليوم الفارق‬
‫ُ‬
‫ر‬
‫يف تاريخ چارتني‪ ،‬لكن تو�سلي مل يفد �شي ًئا مع �إ�صرارها ‪..‬‬
‫عاد �أخواي �إىلع‬
‫ص‬
‫يف غ�ضب �شديد كان ري‬
‫ل‬ ‫ا‬
‫غرفتهما يائ�سني ‪ ..‬وكذلك عدت �أنا الآخر‬
‫يتزايد بداخلي و�أنا �أرى ال�ساعات الأوىل من‬

‫فر�صتيتبتواجدي يف ال�صفوف الأوىل قد‬ ‫قد امتلأت عن �آخرها‪ ،‬و�أن ك‬


‫النهار متر واحدة تلو الأخرى ‪ ..‬وعقلي يفكر ب�أن الباحة البد و�أنها‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫وجل�ست �إىل طاولتي غار ًقا يفب ل‬


‫ش‬
‫التي كتبتُها‪� ،‬إىل �أن نه�ضت دون تفكري وفتحترنافذة الغرفة‪ ،‬كان‬
‫غيظي و�أنا �أنظر �إىل الأوراق‬ ‫ُ‬ ‫تال�شت‪،‬‬

‫ارتفاع الطابق الثاين كب ًريا لكني عربت النافذة والتُ‬


‫ووقفتوعلى اجلزء‬
‫كنت قد‬ ‫ع‬ ‫البارز من ال�سقف �إىل ال�شارع ‪� ..‬صرخ �أخي �إىل �أمي‪ ،‬لكنيزي‬
‫قفزتُ �إىل عربة خ�شبية حمملة بالأجولة خففت كث ًريا من �صدمة‬
‫�سقوطي‪ ،‬و�إن �آملتني �ساقي‪ ،‬ثم قفزتُ من العربة �إىل ال�شارع‪ ،‬وبد�أتُ‬
‫يف رك�ضي جتاه الباحة ب�أق�صى �سرعتي‪ ،‬كانت ال�شوارع �شبه خاوية‬
‫�إال من اجلنود الذين ترا�صوا بانتظام على م�سافات مت�ساوية على‬
‫فوا�صلت رك�ضي دون �أن يعيقني �شيء‬
‫ُ‬ ‫جانبيها مت�أهبني ب�أ�سلحتهم‪،‬‬
‫‪ ..‬حتى اقرتبت من الباحة‪ .‬كنت �أعرف �أن الزحام �سيكون �شديدً ا‬
‫هناك لكني مل �أتخ ّيل قط �أن يكون مبثل هذا ال�شكل الذي ر�أيتُه عندما‬
‫�صارت الباحة واملحت�شدون فيها يف مرمى ب�صري ‪..‬‬
‫‪287‬‬
‫أدركت �أنني قد ت�أخرتُ كث ًريا‪،‬‬
‫يائ�سا عندما � ُ‬
‫توقفت عن الرك�ض ً‬‫ُ‬
‫أكملت الطريق �إليها م�ش ًيا فيما كانت مو�سيقا املهرجني تدق على‬ ‫و� ُ‬
‫حاولت االن�سالل بني املتزاحمني لكن مع التال�صق‬ ‫ُ‬ ‫من�صتها ‪..‬‬
‫ال�شديد بني الواقفني مل �أ�ستطع �أن �أتقدم ثالث خطوات كاملة �إىل‬
‫أدركت �أن عبوري �سور الباحة يف ذلك التوقيت‬
‫�أقرب البوابات مني‪ ،‬و� ُ‬
‫للوقوف يف مكان مي ّكنني من ر�ؤية ما يحدث على املن�صة �سيكون �أم ًرا‬

‫دا‬
‫ً‬
‫حمال ‪..‬‬
‫خارجا من الزحام عندما عزف املهرجون مقطوعة‬
‫ع‬ ‫ر‬
‫عدت بج�سدي ً‬
‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫وقفت على �أطراف قدمي لعلي �أجد ً‬
‫منفذا‬ ‫�أخرى من مو�سيقاهم ‪ ..‬ثم ُ‬
‫ملحت‬
‫�آخر للت�سلل عربه �إىل الداخل لكني مل �أجد‪ ،‬يف تلك اللحظة ُ‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫اجلنود الواقفني �أعلى �سجن جويدا بالناحية الأخرى من الباحة‪،‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫فابت�سمت و�أنا �أنعت نف�سي بالغباء بعدما كان وجودي يف الباحة‬ ‫ُ‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫علي �أف�ضل الأماكن التي �س�أ�ستطيع منها م�شاهدة كل ما‬ ‫�سي�ض ّيع ّ‬
‫يحدث ‪ ..‬ثم عدت ً‬
‫راك�ضا مبتعدً ا عن الزحام لأدور عرب املمر املحيط‬

‫زيع‬
‫بالباحة �إىل اجلانب الغربي منها‪� ،‬إىل �أن و�صلت بوابة ال�سجن ‪ ..‬مل‬
‫يوقفني احلار�س الواقف �أمام البوابة بعدما ر�آين �أكرث من مرة �أرافق‬
‫عمي بل �أعطاين حتيته‪ ،‬ف�س�ألتُه‪:‬‬
‫ هل ُاقتيدت الرامية �إىل الباحة بعد؟‬
‫قال‪:‬‬
‫  نعم �سيدي‪ ،‬منذ ال�شروق‪.‬‬
‫فدلفت �إىل الداخل ً‬
‫رك�ضا‪ ،‬و�صعدتُ ال�سلم وث ًبا �إىل �أعلى الطابق‬ ‫ُ‬
‫الأخري‪ ،‬كان الفار�س الذي ك ّلفه عمي ب�إ�شعال ال�شعلة الكربى �أعلى‬
‫‪288‬‬
‫ال�سجن يقف خلف جنوده املنبطحني ب�أ�سلحتهم املُ�ص ّوبة جتاه الباحة‬
‫‪� ..‬أو على الأدق جتاه اجلزء اجلنوب ال�شرقي منها الذي يقف فيه‬
‫الن�ساىل‪ ،‬والذين ظهر اختالفهم بني الواقفني بو�ضوح ب�أج�سادهم‬
‫التي كانت تلمع بقوة مع �أ�شعة ال�شم�س‪ ،‬يحيطهم �صفني �أو ثالثة‬
‫من اجلنود يف �إطار دائري‪ ،‬كانت خوذاتهم املعدنية تلمع ب�شدة هي‬
‫فلمحت �أبي ي�صعد �إىل‬
‫ُ‬ ‫الأخرى ‪ ..‬ثم انتهى املهرجون من عزفهم‬

‫دا‬
‫املن�صة ليجل�س بجوار بع�ض ال�سادة‪ ،‬مل �أكن �أعرف منهم �إال قا�ضي‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫املن�صة والذي نه�ض عن كر�س ّيه مع انت�صاف ال�شم�س ال�سماء و�أمت‬
‫ص‬
‫زواجا بني عرو�سني من �أ�شراف بالدنا ‪ ..‬حني انتهت مرا�سم الزواج‬
‫ري‬
‫ً‬
‫ال‬
‫�صعد عمي للمن�صة للمرة الأوىل‪ ،‬وتل ّقى ترحي ًبا كب ًريا من احلا�ضرين‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الذين وا�صلوا الهتاف والتهليل له لبع�ض الدقائق املتوا�صلة‪ ،‬بعدها‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�صعد العجوز ُخ�شيب �إىل املن�صة‪ ،‬فاتخذ عمي مكا ًنا على جانب‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫املن�صة الأي�سر ليف�سح املجال للقا�ضي الذي حترك �إىل منت�صف‬

‫ر وا تول‬
‫املن�صة وبد�أ حديثه‪ ،‬مل �أ�سمع ما كان يقوله بالطبع لكني كنت �أعرف‬
‫�أنه �سيتحدث عن تربئة ذلك الرجل من اجتياز القاعدة الأوىل‪ ،‬وقتها‬
‫زيع‬
‫ه ّز م�ساعد عمي الذي كنت �أقف بجواره ر�أ�سه‪ ،‬وقال م�شف ًقا حني‬
‫وجد العجوز يقف على املن�صة حمني اجل�سد واه ًنا‪:‬‬
‫عاما �إال حرمان‬
‫  مل ينل من هروبه طوال اخلم�سة وع�شرين ً‬
‫بناته من �إجناب �أطفال �أحياء ‪..‬‬
‫ف�س�ألتُه متعج ًبا‪:‬‬
‫عاما؟!‬
‫  اجتاز القاعدة الأوىل منذ خم�سة وع�شرين ً‬
‫قال‪:‬‬

‫‪289‬‬
‫  نعم ‪..‬‬
‫قلت يف ا�ستغراب‪:‬‬
‫ُ‬
‫عاما فقط ‪..‬‬
‫  لكن حفيده �ستة ع�شر ً‬
‫قال الفار�س دون اكرتاث وهو ينظر جتاه الباحة‪:‬‬

‫دا‬
‫  م�ستحيل‪.‬‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ص‬
‫قلت ب�إ�صرار‪:‬‬
‫ُ‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫  �إنني مت�أكد من ذلك ‪� ..‬إنه �صديق عمري ‪ ..‬و�أعرفه و�أعرف‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫خالته �سريين منذ �ست �سنوات ‪� ..‬أال تتذكر ال�سيدة التي قابلتنا‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫على �س ّلم دار الأمن بالأم�س؟ ‪� ..‬إنها ابنة ذلك العجوز وخالة‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫�صديقي الذي �أمت بلوغه فقط هذا العام‪.‬‬
‫ف ّكر الفار�س و�شرد ً‬
‫زيع‬
‫قليل‪ ،‬قبل �أن ينظر يف عيني‪ ،‬وي�س�ألني‪:‬‬
‫  هل يعرف عمك بذلك؟!‬
‫انقب�ض قلبي من النربة التي �س�ألني بها‪ ،‬فقلت‪:‬‬
‫  ال ‪..‬‬
‫�س�ألني جمددًا‪:‬‬
‫  هل ر�أيت �صديقك هذا مع تلك ال�سيدة يف جويدا؟‬
‫قلت و�أنا �أخ�شى �إن كانت �إجابتي �ست�ضر �آدم يف �شيء‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪290‬‬
‫أيت خالتي �سريين �أم�س فقط ‪ ..‬ال �أعرف �إن كان هنا‬ ‫  ال ‪ ..‬ر� ُ‬
‫يف جويدا �أم ال ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫  هل ت�ستطيع ر�ؤيته بني الواقفني؟‬
‫�س�ألتُه‪:‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫ �أمتزح يا �سيدي؟! ‪ ..‬بالطبع ال ‪ ..‬ماذا هناك؟!‬

‫ص‬ ‫قال مغمغ ًما‪ :‬ع‬


‫ري‬
‫  �أمتنى �أن يكون ما � ال‬
‫أفكر فيه خاط ًئا‪.‬‬
‫ت‬ ‫ثم تابع بعد حلظة‪ :‬ك‬
‫ش‬ ‫ب ل‪..‬لن‬
‫ر‬
‫  لكن ال بد و�أن يعرف عمك بالأمر‬
‫مهرول وهبط عن ال�سطح ‪ ..‬فناديته وال ً‬
‫وت‬
‫مت�سائل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ثم تركني‬
‫زيع‬ ‫  ما دخل �آدم مبا يحدث يف چارتني؟!‬
‫ألت‬ ‫م�سرعا دون �أن يلتفت �إ ّ‬
‫يل ‪ ..‬بعدها �س� ُ‬ ‫ً‬ ‫لكنه وا�صل طريقه‬
‫نف�سي ب�شيء من التعقل‪:‬‬
‫  كيف يكون �آدم يف �سن ال�ساد�سة ع�شر �إن كان ذلك العجوز قد‬
‫عاما؟ ‪ ..‬هل هناك‬
‫جتاوز القاعدة الأوىل قبل خم�سة وع�شرين ً‬
‫ما هو خفي ب�ش�أن �صديقي؟!‬
‫وقتها ال �أعرف ملاذا خطرت �إيل بايل فج�أة �أحالم �آدم التي حكاها‬
‫يل مرا ًرا‪ ،‬وخا�ص ًة اجلزء املتعلق فيها بكونه يرك�ض متع ًبا حتى يخ�ضع‬
‫‪291‬‬
‫كحيوان �أ�سفل �أقدام �أحدهم ‪ ..‬كذلك �أح�ضرت ذاكرتي الكلمات التي‬
‫ترجمتُها من �أوراق عمي عن �إثارة �أرواح ال�ضواري‪ ،‬وحديث �أبي �إىل‬
‫�أمي عن �شرا�ستهم املتوقعة ‪ ..‬تداخل معها االرتباك الذي بدا على‬
‫وجه خالتي �سريين عندما ناديتها بالأم�س ‪ ..‬وذلك اال�ضطراب الذي‬
‫ر�أيتُه على وجه الفار�س حتى �إنه مل ينتظر �إىل نهاية اليوم ليخرب عمي‬
‫ألت نف�سي غري م�صدق‪:‬‬ ‫ب�ش�أن ما قلتُه له ‪ ..‬ف�س� ُ‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫  �أيعقل؟!!‬
‫لكنني هززتُع ر�أ�سي لأطرد تلك الو�ساو�س عنها‪ ،‬ونظرتُ �إىل‬
‫أيت م�ساعد عمي الذي‬ ‫الباحة لأن�شغل مباصري‬
‫يدور العلى من�صتها ‪ ..‬ر� ُ‬

‫كتب�ش�أن �صديقي ‪..‬‬


‫تركني قبل قليل ي�شقّ ال�صفوف جتاه البوابة ال�شمالية املخ�ص�صة‬
‫وحدثت نف�سي و�أنا‬
‫ُ‬
‫ل‬ ‫ب‬
‫�أفكر يف قدرة �آدم العجيبة على تروي�ض لناخليول منذ �صغره‪:‬‬
‫لل�سادة‪ ،‬فتزايدت �أفكاري ال�سيئة‬

‫ر‬ ‫ش‬
‫  ال ‪ ..‬ال ‪� ..‬إنها مهارة فح�سب ‪ ..‬وال وت‬
‫مل يقاطع تفكريي �إال املو�سيقا التي ت�سبق الإعدام‪،‬زيع‬
‫والتي �صمت‬
‫اقرتبت من حافة‬
‫ُ‬ ‫معها �ضجيج احلا�ضرين يف الباحة ‪ ..‬حلظتها‬
‫وهبطت مرتكزً ا على ركبتي اليمنى وعيني تراقب اجلانب‬ ‫ُ‬ ‫ال�سطح‪،‬‬
‫الواقف فيه الن�ساىل‪ ،‬كذلك بد�أتُ �أبحث بعيني يف قلق عن م�ساعد‬
‫عمي الذي غا�ص بني املزدحمني من �أجل �إخباره ب�ش�أن �آدم ومل يتبق‬
‫�إال دقائق و ُتعدم الرامية وعليه �أن يعود �إىل جانبي كي ي�شعل بنف�سه‬
‫ال�شعلة الكربى خلفنا لتبد�أ املدافع الثقيلة يف تنفيذ مهمتها‪ ،‬لكني مل‬
‫�أ�ستطع متييزه بني املتزاحمني‪ ،‬فعدتُ بب�صري �إىل الن�ساىل ‪..‬‬

‫‪292‬‬
‫بخطوات منتظمة ثم‬
‫ٍ‬ ‫كان عمي قد حترك �إىل منت�صف املن�صة‬
‫وقف كالتمثال وا�ض ًعا يده على مقب�ض �سالحه الناري املُع ّلق بحزام‬
‫خ�صره‪ ،‬فه ّلل اجلميع رغم عدم انتهاء العازفني من عزفهم‪ ،‬ثم‬
‫تعاىل هتافهم حني تب ّدل عزف املو�سيقا‪ ،‬و�صعدت �إىل املن�صة‬
‫الرامية الن�سلية ُمك ّبلة الأيدي والأرجل يج ّرها زو ٌج من اجلنود ‪ ..‬مل‬
‫تكن مغطاة الر�أ�س كعادة من ُيحاكمون على املن�صة �أيام الغفران‪ ،‬ال‬

‫دا‬
‫�أعرف �إن كان عمي قد ق�صد ذلك �أم ماذا؟ ثم �أزال �أحد اجلنديني‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�أغالل قدميها عندما نه�ض كبري ق�ضاة چارتني �إىل جانب املن�صة‬
‫ص‬
‫الأمين ليعلن �إدانتها �أمام اجلميع‪ ،‬يف هذه اللحظة حت ّول هتاف‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫احلا�ضرين �إىل �ضجيج وجلبة فج�أة عندما فوجئوا و�أنا معهم باندفاع‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫الن�ساىل املحتجزين يف اجلزء اجلنوب �شرقي خلف �صفوف اجلنود‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫ك�سيل واحد ب�صورة مفاجئة لي�صنعوا �أكرث من فجوة بينهم‪ ،‬قبل‬ ‫ٍ‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫�أن يتحركوا ب�سرع ٍة كبرية وحركة ع�شوائية ب�أج�سادهم العارية بني‬

‫ر وا تول‬
‫وا�ضحا‬
‫ً‬ ‫�صفوف احلا�ضرين دون �أن ي�ستطيع �أحد �إيقافهم بعدما كان‬
‫�أن �أج�سادهم كانت تنزلق من �أيدي َمن يحاول الإم�ساك بهم‪،‬‬
‫زيع‬
‫وك�أنهم قد طلوا �أج�سادهم بالزيوت التي �سهلت ان�سيابية حركتهم‬
‫‪ ..‬كذلك مل ي�ستطع �أي جندي �سوا ًء من الذين حا�صروهم يف الباحة‬
‫�أو الراقدين بجواري �إطالق طلقة نارية واحدة مع انت�شارهم ال�سريع‬
‫املفاجئ بكل �أرجاء الباحة بني �أ�شراف چارتني ‪ ..‬بدا االرتباك على‬
‫وجه كبري الق�ضاة‪ ،‬وكذلك ال�سادة الذين وقفوا عن كرا�سيهم يف قلق‬
‫لرياقبوا ما يحدث من هرج ومرج بني احلا�ضرين‪ ،‬وجدتُ �أبي يهبط‬
‫ً‬
‫مهرول عرب ال�سلم اخللفي لها ‪� ..‬أما عمي ف�أخرج �سالحه‬ ‫عن املن�صة‬
‫الناري وقتل اثنني من الن�ساىل كانا ي�شقان ال�صفوف لالقرتاب من‬
‫املن�صة‪ ،‬و�صاح �إىل بقية الفر�سان ب�أن يهبطوا �إىل �أر�ض الباحة ‪ ..‬قبل‬
‫‪293‬‬
‫�أن ينظر بعينه جتاهنا �أعلى ال�سجن ‪ ..‬كان م�ساعده الذي هبط �إليه‬
‫مل يعد بعد ‪ ..‬فكرتُ �أن �أ�شعل ال�شعلة بنف�سي لكن االرتباك �أ�صابني‬
‫يل اله ًثا ‪..‬‬
‫ومل �أعرف ماذا �أفعل ‪ ..‬ثم وجدتُ ذلك الفار�س ي�صعد �إ ّ‬
‫وي�س�ألني‪:‬‬
‫  هل �أعطى الفار�س كيوان �أم ًرا ب�إ�شعال ال�شعلة؟‬

‫دا‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫ ال �أعرف ‪ ..‬مل ُتعدم الرامية بعد ‪..‬‬

‫ري‬‫ص‬
‫ال‬
‫ب�سهم م�شتعل ينطلق من الباحة‬ ‫فوجئت ٍ‬
‫ُ‬ ‫ومل �أكد �أكمل جملتي حتى‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ظننت‬
‫�إىل ال�سماء جتاهنا ليعرب فوق ر�ؤو�سنا وي�سقط بجوار ال�شعلة‪ُ ،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫�أن عمي َمن �أعطى �أم ًرا بذلك‪ ،‬لكن الذهول �أ�صابني حني نظرتُ‬
‫ن‬ ‫ل‬
‫�إىل املكان الذي �أُطلق منه ال�سهم‪ ،‬كان ن�سل ًيا َمن مي�سك بالقو�س‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫الذي �أطلق ال�سهم امل�شتعل يحيطه عد ٌد من الن�ساىل يف �إطار دائري‬

‫زيع‬
‫ي�شتبكون بقوة مع الأ�شراف ومينعون بكل ا�ستب�سال �أي فرد من‬
‫الو�صول �إىل ذلك الن�سلي‪ ،‬فيما كان بع�ض اجلنود البعيدين يحاولون‬
‫ب�صعوبة الو�صول �إليهم‪ ،‬قبل �أن �أجد ذلك الن�سلي ي�شعل �سه ًما �آخ ًرا‬
‫ويرفع عينه �إلينا‪ ،‬لتنتف�ض دقات قلبي وتندفع الدماء �إىل عروقي‬
‫و�أنا �أراه ي�شد وتر قو�سه املُ�ص ّوب نحونا برتكيز �شديد‪ ،‬لينطلق �سهمه‬
‫متاما‪ ،‬لت�شتعل‬‫امل�شتعل جتاهنا‪ ،‬وي�سقط هذه املرة مبنت�صف ال�شعلة ً‬
‫نريانها العظيمة من خلفنا يف حلظات ‪..‬‬
‫ً‬
‫مذهول‪:‬‬ ‫حدثت نف�سي‬
‫ُ‬
‫  ماذا يحدث؟! ‪ ..‬ما الذي يف ّكر فيه الن�ساىل؟!‬
‫‪294‬‬
‫بعد حلظات دوى �أقوى �صوت �سمعتُه يف حياتي‪� ،‬صوت �إطالق‬
‫القذائف الثقيلة ‪ ..‬ظ ّلت �أ�صوات القذائف تتواىل لدقائق‪ ،‬ومع كل‬
‫قذيفة كان بناء ال�سجن ير ّ‬
‫جت من �أ�سفلنا‪� ،‬إىل �أن توقفت وك�أن الدفعة‬
‫الأوىل من ال�ضربات قد انتهت‪ ،‬لت�صل حالة الهرج واملرج يف الباحة‬
‫�إىل ذروتها‪ ،‬وبد�أ الكثريون من الأ�شراف يندفعون �إىل البوابات‬
‫للخروج منها يف خوف �شديد ‪ ..‬لكن اجلميع لزم مكانه وتوقف كل‬

‫دا‬
‫�شيء عن احلركة عندما �سمعت �آذاننا �صوت دقات طبول تدق ب�إيقاع‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫منتظم ي�أتي من بعيد من ناحية اجلنوب ‪ ..‬كانت الدقات تت�صاعد‬
‫ص‬
‫�إىل عنان ال�سماء دون توقف ك�أنها ترد على �أ�صوات القذائف التي‬
‫انتظاما ‪ ..‬وجدتُ م�ساعد عمي‬
‫ً‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫�أُطلقت قبلها بقليل‪ ،‬لكن ب�إيقاع �أكرث‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫يغمغم حمد ًثا نف�سه‪:‬‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫  �إنها دقات ال�شامو ب�إيقاع خمتلف!!‬
‫ش‬
‫ر وال‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫و‬ ‫ت‬
‫زي‬
‫  ال�شامو؟! ‪ ..‬مو�سيقا ال�شامو؟!‬
‫ع‬ ‫قال الرجل يف توتر‪:‬‬
‫  يبدو �أن هناك من و�ضع خطة لهذا اليوم غري الفار�س كيوان ‪..‬‬
‫و�صاح يف جنوده بوجه حمتقن‪:‬‬
‫  �ص ّوبوا �أ�سلحتكم نحو ر�أ�س كل ن�سلي تراه �أعينكم ‪..‬‬
‫كانت �أ�صوات الطبول تتعاىل �أكرث و�أكرث‪ ،‬يعطي �إيقاعها املنتظم‬
‫إح�سا�سا باخلوف كنت على يقني �أنه بد�أ‬
‫املتداخل مع �صدى �صوتها � ً‬
‫ينتاب كل من ي�سمعه ‪ ..‬ثم بد�أت املدافع تطلق قذائفها من جديد‬
‫‪295‬‬
‫ّ‬
‫ليغطي �صوتها �أ�صوات الدقات‪� ،‬إىل �أن انتهت من �ضربتها الثانية ‪..‬‬
‫انتظرت �أن تدق الطبول من جديد‪ ،‬لكن الدقائق قد مرت دون �أن‬
‫وتنف�ست ال�صعداء بعدما‬
‫ُ‬ ‫أغم�ضت عيني‬
‫ُ‬ ‫تلتقط �آذاننا �أي �صوت‪ ،‬ف�‬
‫ظننت �أن تلك ال�ضربة قد ق�ضت على الن�ساىل حاملي تلك الطبول‪،‬‬
‫�سمعت �أ�صوات الزئري تتعاىل فج�أ ًة يف‬
‫ُ‬ ‫لكني فتحت عيني رع ًبا حينما‬
‫الأ�سفل ‪ ..‬ليتعاىل معها �صرخات الأ�شراف بدرجة غري م�سبوقة ‪..‬‬
‫أيت‬
‫م�صدق عندما ر� ُ‬
‫ٍ‬ ‫و�سقطت على ركبتي غري‬
‫ُ‬
‫ر‬ ‫دا‬
‫نظرتُ �إىل الباحة‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫الع�شرات من الن�ساىل يهاجمون الأ�شراف ب�أج�ساد �صارت �أكرث قوة‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫و�ضخامة‪ ،‬و�أ�صوات زائرة رهيبة ترج �أر�ض الباحة‪ ،‬و�أنياب بارزة كنت‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أراها من مكاين املرتفع ‪ ..‬ك�أنهم ا�ستحالوا حليوانات مفرت�سة فج�أة‪،‬‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫بع�ضا من �أعريته النارية جتاه ن�سلي زائر كان يت�سلق‬ ‫�أطلق عمي ً‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫جانب املن�صة‪ ،‬قبل �أن يهرع �إىل اخللف هو َومن معه من ال�سادة‬

‫ر وا تول‬
‫بعدما �أحاطهم ع�شرات اجلنود ‪ ..‬كانت الن�سلية الرامية ال تزال تقف‬

‫زيع‬
‫ظننت‬
‫ب�أغالل يدها على املن�صة ت�شاهد ما يحدث يف ثبات عجيب‪ُ ،‬‬
‫�أن عمي �سي�ص ّوب �سالحه نحوها ويقتلها قبل �أن يغادر املن�صة‪ ،‬لكنه‬
‫نظر �إليها و�أكمل هرولته بظهره �إىل ال�س ّلم اخللفي دون �أن يفعل ذلك‬
‫�صرخت يف نف�سي �إليه‪:‬‬
‫ُ‬ ‫�أو ي�أمر جنوده ب�إعادتها �إىل ال�سجن ‪..‬‬
‫  ملاذا يا عمي ‪ ..‬اقتلها �أرجوك ‪� ..‬إنها من �س ّببت كل هذا ‪ ..‬ما‬
‫الذي يحدث؟!!‬
‫كان الن�ساىل املتحولون بالباحة يهاجمون اجلنود والأ�شراف‬
‫ب�ضراوة �شديدة و�أمناط هجوم خمتلفة ك�أنهم ال ينتمون �إىل ف�صيل ٍة‬
‫واحدة‪ ،‬ثم وجدتُ كث ًريا من اجلنود ي�صعدون �إىل �سطح ال�سجن‪،‬‬
‫‪296‬‬
‫وترا�صوا متال�صقني على حافته املواجهة للباحة‪ ،‬قبل �أن ي�صرخ‬
‫قائدهم فيهم‪:‬‬
‫  �ص ّوبوا �إىل الباحة واقتلوا من تقتلوه و�إن قتلتم الأ�شراف معهم‬
‫‪ ..‬ال ترتكوا �أي ن�سلي على قيد احلياة ‪..‬‬
‫يف هذه اللحظة وجدتُ ب�ضعة ن�ساىل املتحولني يرتكون مهاجمة‬

‫دا‬
‫الأ�شراف ويرك�ضون ب�سرعة كبرية �إىل �أمام املن�صة مبا�شرة حيث‬
‫ر‬
‫تقف ال�صفوف الأمامية من اجلماهري‪ ،‬لأجد الن�سلية الرامية تتحرك‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫للمرة الأوىل‪ ،‬وجتري بيديها املكبلتني نحو مقدمة املن�صة وتقفز‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫بر�شاقة �إليهم دون خوف ‪ ..‬لي�ستقبلها اثنان منهم على �أذرعهما‪ ،‬قبل‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫�أن يغطي ج�سدها الباقون ويتحركون ككتلة واحدة دون �أن يظهر �أي‬

‫ل‬ ‫ب‬
‫جزء من ج�سدها‪ ،‬ووا�صلوا حتركهم �إىل البوابات اجلنوبية للباحة‬

‫ش‬ ‫ن‬ ‫ل‬


‫بدون توقف‪ ،‬و�إن �أ�صابت طلقات اجلنود النارية �أج�ساد َمن يقومون‬

‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫بتغطية الرامية‪.‬‬

‫و‬ ‫ت‬
‫يتجاوز اخلم�سني حني �أح�صيتهم �سري ًعا بعيني‪� ،‬أما زي‬
‫املفرت�سني منهم ال‬ ‫نظرتُ �إىل باقي الن�ساىل يف الباحة‪ ،‬كان عدد‬
‫الن�ساىلعالذين‬
‫مل يتحولوا وبقوا كما هم يهاجمون الأ�شراف واجلنود ب�أياديهم فكان‬
‫عددهم يتجاوز املائتني‪� ،‬سقط منهم الكثريون قتلى مع �سيل الطلقات‬
‫النارية املنهمر من جنود ال�سطح بجواري‪ ،‬مل �أ�ستطع �أن �أحدد عدد‬
‫القتلى من الن�ساىل الزائرين لكني كنت �أرى �آثار البارود على �أج�سادهم‬
‫وا�ضحة وهم يوا�صلون افرتا�س من بقي يف الباحة من الأ�شراف بدون‬
‫ف�صرخت يف اجلنود ب�أن‬
‫ُ‬ ‫أيت �أحدهم ي�سقط ً‬
‫قتيل‬ ‫رحمة‪� ،‬إىل �أن ر� ُ‬
‫يوا�صلوا‪ ،‬و�أن ين ّفذوا ما �أمرهم به القائد‪� ،‬إن ُقتل ه�ؤالء املتوح�شون‬
‫ومعهم قلة من الأ�شراف خري من �أن يبقوا ليق�ضوا على املزيد منا‬
‫‪297‬‬
‫‪ ..‬لكن الدماء جتمدت يف عروقي حني نظرت بعيدً ا ناحية اجلنوب‬
‫طبول‬
‫ب�صوت �أكرث قوة وك�أنه �صاد ٌر من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بعدما د ّقت الطبول من جديد‬
‫عمالقة‪ ،‬قبل �أن �أجد الغبار يت�صاعد �إىل ال�سماء بعيدً ا بتلك الناحية‪،‬‬
‫وتختلط �أ�صوات الطبول ب�أ�صوات الزائرين‪ ،‬وك�أن ً‬
‫جي�شا كب ًريا منهم‬
‫أدركت وقتها �أن البقاء يف جويدا �سيكون م�صريه‬ ‫كان يف طريقه �إلينا‪ُ � ،‬‬
‫أ�سرعت �إىل ال�سلم لأهبطه ً‬
‫رك�ضا كي �أعود �إىل �أمي و�إخوتي‬ ‫ُ‬ ‫الفناء‪ ،‬و�‬

‫دا‬
‫على �أمل �أن يكون �أبي قد �سبقني �إليهم ليحملنا بعيدً ا عن تلك املدينة‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫التي خارت قواها فج�أة‪ ،‬لكن ما �إن هبطت طاب ًقا واحدً ا حتى �سمعت‬
‫ص‬
‫بخوف لأنظر‬
‫فتوقفت ومددتُ ر�أ�سي ٍ‬ ‫ُ‬ ‫�صوت الزئري يتعاىل بالأ�سفل‪،‬‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫عرب هوة ال�سلم‪ ،‬كان ثالثة منهم يرك�ضون �إىل الداخل ب�سرعة كبرية‪،‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫لدي بدون‬
‫رك�ضت عرب ممر الزنازين يف ذلك الطابق ب�أق�صى �سرعة ّ‬ ‫ُ‬

‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أن �أنظر خلفي ‪ ..‬كان �صراخ اجلنود يتعاىل من خلفي مع زئري‬

‫ش‬ ‫ن‬
‫فانعطفت بني املمرات لأكرث من مرة بدون �أن �أعرف‬ ‫ُ‬ ‫الوح�ش املتعايل‪،‬‬

‫ر وا تول‬
‫�إىل �أين تقودين‪ ،‬كان ثمة نوافذ ق�ضبان حديدية تتواجد بجدران‬
‫فتمنيت و�أنا �أرك�ض لو كانت تلك‬
‫ُ‬ ‫تلك املمرات لت�ضيئها بالكامل ‪..‬‬
‫زيع‬
‫اجلدران ُم�صمتة مثل الزنازين ال�سفلية لأختفي بني ظالمها ‪ ..‬ثم‬
‫تابعت الرك�ض بعد حلظة واحدة عندما‬ ‫توقفت لألتقط �أنفا�سي‪ ،‬لكني ُ‬ ‫ُ‬
‫�سمعت �صوت زئري �أحدهم ي�أتي بعيدً ا من خلفي‪ ،‬بعدها وجدتُ �أبواب‬ ‫ُ‬
‫الزنازين ُتطرق بقوة من الداخل ‪ ..‬لكن ما كاد يوقف قلبي ح ًقا هو‬
‫فوا�صلت رك�ضي‬
‫ُ‬ ‫الزئري الذي بد�أ يتعاىل من داخل بع�ض الزنازين‪،‬‬
‫توقفت ُم ًربا بعدما‬
‫ُ‬ ‫رعب �شديد‪� ،‬إىل �أن‬ ‫وانعطايف بني املمرات يف ٍ‬
‫مبزالج من اخلارج‪ ،‬كنت‬
‫ٍ‬ ‫انتهى املمر �أمامي بزنزان ٍة كان بابها ُمغل ًقا‬
‫�أعرف �أنني لن �أ�ستطيع العودة جمددًا �إىل خارج ذلك املمر‪ ،‬وكنت‬
‫فتقدمت بحذر نحو الزنزانة‪ ،‬وو�ضعت‬ ‫ُ‬ ‫�أعرف �أنهم قادمون ال حمالة‪،‬‬
‫‪298‬‬
‫ري بداخلها �أم ال‪،‬‬
‫�أذين على بابها يف خوف لأت�أكد ما �إن كان هناك زئ ٌ‬
‫فلم �أ�سمع �شي ًئا بداخلها ‪ ..‬ثم تعاىل الزئري فج�أة يف املمر املجاور‬
‫ودفعت نف�سي �إىل داخل الزنزانة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ففتحت مزالج الباب ب�سرعة‪،‬‬
‫ُ‬
‫و�أ�سندتُ ظهري للباب مغل ًقا له و�أنا �أحاول التقاط �أنفا�سي الالهثة‪،‬‬
‫رجل كان يقف �أ�سفل‬ ‫لكن قلبي �سقط يف قدمي عندما وجدت �أمامي ً‬
‫نافذة الزنزانة‪ ،‬ينظر عرب ق�ضبانها �إىل ال�سماء باخلارج‪ ،‬كان ن�صفه‬

‫دا‬
‫العلوي عار ًيا كالن�ساىل‪ ،‬وكان �شعره ً‬
‫طويل �أ�شعث ك�أنه مل ُيحلق منذ‬

‫ع‬ ‫ر‬
‫�سنوات‪ ،‬ا�ستدار ونظر نحوي فج�أة فوجدتُ حليته كثيفة للغاية وطويلة‬
‫ص‬
‫هي الأخرى‪ ،‬ف�أجفل ج�سدي وزاد رعبي رع ًبا ‪ ..‬لكني هد�أت ً‬
‫قليل‬
‫ال‬ ‫ري‬
‫عندما مل �أب�صر على �صدره و�شم الن�ساىل ‪..‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫كان زئري الوحو�ش يتعاىل يف املمر باخلارج‪ ،‬نظرتُ �إليه يف انتظار‬

‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫ب‬


‫�أي رد فعل منه‪ ،‬لكنه انحنى ومد يده �إىل قمي�ص مهرتئ كان ُملقى‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫ب�أحد �أركان الزنزانة‪ ،‬وارتداه يف هدوءٍ �شديد ‪ ..‬ثم �س�ألني‪:‬‬
‫  هل مات الكثريون من الأ�شراف؟‬

‫ف�ضم �شفتيه‪ ،‬و�س�ألني‪ :‬زيع‬


‫هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا يف خوف‪ّ ،‬‬
‫  والن�ساىل؟‬
‫قلت يف توتر‪:‬‬
‫ُ‬
‫  �إنهم قادمون يا �سيدي ‪ ..‬ادفع معي الباب ‪� ..‬سيقتلوننا هنا ‪..‬‬
‫قال‪:‬‬
‫ هل يقتل الزائرون الن�ساىل الباقني؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪299‬‬
‫  ال ‪� ..‬إنهم يقتلون الأ�شراف فح�سب ‪ ..‬لو �ساعدتني �س�أخرب‬
‫عمي كيوان بذلك ‪� ..‬سيعفو عنك مبجرد �أن متر هذه الكارثة ‪..‬‬
‫ابت�سم وهو يومئ بر�أ�سه �إيجا ًبا‪ ،‬قبل �أن تزداد �أ�صوات وقع الأقدام‬
‫يف اخلارج‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫  توا َر خلف الباب وال ت�صدر �صو ًتا‪.‬‬

‫ر‬ ‫دا‬
‫هام�سا يف رعب و�أنا �أبتلع ريقي‪:‬‬
‫قلت ً‬‫ُ‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫  هل �ستفتح لهم الباب؟!‬

‫ال‬ ‫ري‬ ‫قال‪:‬‬

‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫ نعم‪.‬‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫قلت يف رعب‪:‬‬
‫ُ‬

‫ر وا تول‬
‫  هل �أنت جمنون؟ ‪� ..‬سيقتلونك و�سيقتلونني ‪� ..‬إنهم يقتلون‬

‫زيع‬
‫الأ�شراف ‪..‬‬
‫قال بهدوئه الغريب‪:‬‬
‫ توا َر فح�سب ‪..‬‬
‫ثم تابع بعد حلظة‪:‬‬
‫ �أخرب عمك �أن عهد القواعد قد ّول ‪..‬‬
‫فانزويت �إىل‬
‫ُ‬ ‫قبل �أن ميد يده ليفتح الباب ويخطو �إىل اخلارج‪،‬‬
‫ركن الزنزانة خلف الباب املوا َرب وقلبي ينتف�ض رع ًبا ‪ ..‬نظرتُ بعيني‬
‫عرب ال�شق الرفيع بني الباب واحلائط �إليه وهو يتقدم نحوهم بثبات‬
‫‪300‬‬
‫كبري‪ ،‬وجدتُ �أحد الن�ساىل غري املتحولني ينظر يف وجهه بتمعن‪ ،‬قبل‬
‫فرحا‪:‬‬
‫�أن ي�صرخ �إىل الباقني ً‬
‫  �إنه طبيب وادينا ‪ ..‬الطبيب فا�ضل ‪..‬‬
‫كان الكثري من ال�سجناء الن�ساىل يقرتبون منه ليحت�ضنوه غري‬
‫م�صدقني‪ ،‬فيما كان ن�سلي زائر يقف مزجم ًرا عند بداية املمر دون �أن‬

‫دا‬
‫هم�ست‬
‫ُ‬ ‫يهاجم بقية الن�ساىل �أو ذلك ال�سجني ك�أنه يعرف �أنهم قومه‪،‬‬
‫ر‬
‫�إىل نف�سي يف ذهول و�أنا �أراهم يقرتبون منه دون خوف‪:‬‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ري‬
‫  �إنهم يف ّكرون‪ ،‬ويعرفون من معهم ومن هم �أعدا�ؤهم ‪ ..‬لي�سوا‬
‫ال‬ ‫جمرد وحو�ش ‪..‬‬
‫ت‬ ‫ك‬
‫ب‬
‫أغلقت‬
‫بعدها غادروا ذلك املمر دون �أن يخربهم الطبيب عني‪ ،‬ف� ُ‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫ش‬
‫أنفا�س‬
‫وجل�ست م�سندً ا ظهري �إليه �أ�ستمع ب� ٍ‬
‫ُ‬ ‫باب الزنزانة بحر�ص‪،‬‬

‫ر وا تول‬
‫متباطئ ٍة �إىل �أ�صوات الزئري التي كانت تبتعد �شي ًئا ف�شي ًئا‪ ،‬وعقلي‬
‫ي�سرتجع ما حدث يف الباحة بعد ت�صاعد دقات ال�شامو �إىل ال�سماء‪،‬‬

‫زيع‬
‫ثم نظرتُ عرب ق�ضبان النافذة �إىل �سماء جويدا التي بد�أت متطر‪،‬‬
‫لأغو�ص بني �أفكارى التي كانت تدور جميعها حول �شيء واحد فقط‬
‫هو �أن ما مر علينا ك�أ�شراف چارتني قبل هذا اليوم �شيء‪ ،‬وما هو � ٍآت‬
‫بعده �سيكون �شي ًئا �آخر ً‬
‫متاما‪.‬‬

‫‪b‬‬

‫‪301‬‬
‫تم التحميل‬

‫عص� الكتب‬
‫ي‬ ‫من موقع‬

‫لمزيد من الكتب الحرصية‬

‫زوروا موقعنا‬

‫‪www.booksjuice.com‬‬
‫دا‬
‫يف مكان يف اجلنوب غري وادي الن�ساىل‪ ،‬كان ع�شرات الآالف‬

‫ر‬
‫رجال ون�سا ًء و� ً‬
‫أطفال‪ ،‬بينهم‬ ‫من الن�ساىل يقفون يف �صفوف كثرية ً‬

‫ص‬ ‫ع‬
‫ريان والطبيب فا�ضل‪ ،‬تتقدمهم ع�شرات ال�صفوف من الن�ساىل‬

‫ال‬ ‫ري‬
‫ذوي الع�ضالت ال�ضخمة والأنياب والعروق البارزة‪ ،‬ينظرون جمي ًعا‬

‫ك‬
‫خ�صي�صا من‬
‫ً‬ ‫يف ترقب نحو من�صة خ�شبية مرتفعة بدت �أنها ُ�صنعت‬
‫ت‬
‫�أجل ذلك اليوم‪ ،‬قبل �أن ت�صعد غفران �س ّلمها اخللفي بف�ستان منزوع‬
‫ب‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫الكتف الأي�سر‪ ،‬وتتحرك بخطى ثابتة �إىل منت�صفها‪ ،‬لتقف �أمامهم‪،‬‬
‫ش‬
‫ر وا تول‬
‫لثوان يف �صمت‪ ،‬قبل �أن ترفع ذراعها الأي�سر بقب�ض ٍة‬
‫وتنظر نحوهم ٍ‬
‫قوية مغلقة‪ ،‬ليلمع و�شم كتفها مع �أ�شعة ال�شم�س‪ ،‬ويتعاىل الزئري‬

‫زيع‬
‫�أمامها لي�صل عنان ال�سماء‪.‬‬

‫‪b‬‬

‫‪303‬‬

You might also like