Professional Documents
Culture Documents
دقات W
واية
ر
الشامو
b
قواعد چارتني 2
عص� الكتب
ي من موقع
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
إهداء
إىل:
رانيا خالد
()1
فاضل ر دا
ص ع
ا ري
ظل اختفاء �سبيل �أرملة لحيدر م�سار احلديث يف وادي الن�ساىل
ت ك
اجلميع ،عدا غفران التي بدا على ب
وجهها ل�لنأنها مل ولن تن�سى ما حدث
بعد يوم حتى �صار ك�أنه �أمر تنا�ساه يوما
لأيام ٍكثرية ،قبل �أن يتال�شى ً
را مثلما كانت تفعل �أبدً ا ،و�إن كان حديثها عن ذلك الأمر مل يعدشكث ًري
بالأيام الأوىل بعد اختفاء تلك الفتاة ..ما كان باد ًياوا ول
ت
الذي �ستبذله الح ًقا لبثِّ الأمل من جديد يف القلوب ز ع
اليائ�سةي �سيكون
للغاية �أن اجلهد
�أ�ضعا ًفا م�ضاعفة من اجلهد الذي بذلته خالل ال�سنوات املا�ضية يف
ذلك الوادي.
�أما بالن�سبة لريان فكان يظهر بني احلني والآخر ويختفي �إن جاء
�أي من �ضباط الأمن برفقة �أحد الأ�شراف امل�شاك�سني �إىل الوادي ..
�شعرت من احلديث معه ذات مرة �أن داخله بات ي�ؤمن ب�أنه اقرتب
للغاية من املوت على من�صة جويدا ،مثله مثل ناردين التي �أخربتني
عن امتالكها ال�شعور ذاته ..
7
وا�ضحا ..مل �أعلم للحظة واحدة �إىل متى
ً �أما �أنا فلم �أتخذ قرا ًرا
�س�أبقى يف الوادي ..كذلك مل �أجد عودتي �إىل بني عي�سى �ستكون
بالأمر املريح يل ،بالطبع هناك عائد �صار جيدً ا بعد �سنواتي هناك،
لكن من �أجل ماذا؟! � ..أن تبقى مدى احلياة يف تلك الدائرة ،ماذا
�سيفيد املال وقتها ؟! ..كما �أنني وعدت غفران بالبقاء معها ،هي
ت�ستحق الدعم بكل ت�أكيد ويف هذا التوقيت �أكرث من �أي وقت م�ضى
دا
أجن �شي ًئا من بقائي هنا �سوى الراحة التي �سكنت داخلي ..و�إنْ مل � ِ
ع ر
مع البقاء جوار هذه املر�أة القوية .كل ما كنت �أخ�شاه �أن �أفقدهم
ص
جمي ًعا يف حلظة واحدة ..هذا ما كنت �أتوقعه ،كذلك تتوقعه غفران
ال ري
� ..سي�أتي يو ٌم �ستكون فيه غفران �أعلى املن�صة من جديد ،لكن هذه
ت ك
املرة لن تكون الرامي� ،ستكون هي املذنبة التي تتلقى طلقة البارود
ش ن
ر وا تول
يف النهاية اتخذتُ قراري ب�أن �أبقى يف چارتني �إىل �أجل مل �أحدده،
و�أكملت وعدي لغفران بالذهاب �إىل باحة جويدا كل يوم غفران من
زيع
�أجل مراقبة القائم اجلانبي لعل �آدم يفعلها من جديد ويت�سلقه� ،أو
يوما
وذهبت �إىل �أيام الغفران ً
ُ �أعرث عليه �صدف ًة بني املتزاحمني ..
تلو الآخر ..ح�ضرتُ الأيام التي �أُعدم فيها باقي فتيان املدر�سة الأحد
ع�شر ،ومن بعدها �أيام غفران �أخرى �أُعدم بها ن�ساىل �آخرون مل يكن
جميعهم من الوادي الذي ن�سكن فيه ،لكن القائم اجلانبي بقي خاو ًيا
كعادته ،ومل يظهر الفتى من جديد.
كم ال�سعادة على
مع كل مرة كنت �أذهب فيها �إىل الباحة كنت �أرى َّ
وجوه الأ�شراف بتلك الإعدامات ،كذلك �إعجابهم بذلك ال�ضابط ذي
ال�شعر الرمادي والعينني الزرقاوين الذي اعتاد اعتالء املن�صة مع كل
8
يوم غفران دون �أن يكون راميها ،ليقف بطوله الفارع وكتفيه العري�ضني
فخر وتبا ٍه ..كنت �أعرفه ج ّيدً ا بعدما كان
على جانب املن�صة بكل ٍ
�سب ًبا يف اعتقال فتية املدر�سة وكذلك تلك الندبة التي تركت �أثرها
على كتف غفران يف تلك الليلة احلزينة � ..سمعت يف اليوم الأخري يل
هناك امر�أة �شابة تنظر نحوه وتقول ب�سعادة ملن جتاورها:
�إنه الفار�س كيوان � ..سمعته يق�سم ذات مرة �أنه لن يعرب
دا
�سنواته اخلم�سني �إال وقد ق ّدم كل الن�ساىل املجرمني �إىل
ر
ع
املن�صة و�أولهم اخلائنة.
ريص
ال
كنت �أعرف �أنها تق�صد غفران ،قبل �أن تكمل يف �إعجاب �شديد
ك
ملن حتدثها:
ب ت
ل ل
انظري �إليه.
ش ن
ر وا تول
كان ال�شر البادي على وجهه اجلامد يجعلني �أ�شعر �أن الأيام
ين�س لغفران قط تفوقها عليهالقادمة مع وجود ذلك الفار�س الذي مل َ
زيع
يف مدر�سة ال�ضباط واقتنا�صها من�صب رامي املن�صة منه �ستكون
�صعب ًة عليها للغاية ..ح�س ًنا �أيها الكيوان ،لرنى ماذا �ستفعل مع امر�أ ٍة
بذكاء �سيدة الن�ساىل ،ي�ساعدها رجل قذفته الأقدار من بالد اله�ضبة
واد من املنبوذين هنا ،ف�صار زاهدً ا يفالو�سطى �إىل بني عي�سى �إىل ٍ
احلياة ال ينتظر منها �شي ًئا.
b
هكذا م�ضت �أيامى يف وادي الن�ساىل يف �إطار �شبه ثابت بني
العيادة التي بناها يل ريان و�صارت وجهة مر�ضى الن�ساىل ،و�أيام
يوما واحدً ا ،ولقاءاتي مع غفران للحديث
الغفران التي مل �أف ّوت منها ً
9
معها عما تنوي فعله يف الأيام التالية ..قبل �أن ي�أتي ذلك امل�ساء حني
انتهيت من جميع املر�ضى ،و�أخربين الفتى امل�ساعد يل �أنه مل يتبقَُ
يل تلك الفتاة دون ا�ستئذان �أحد ،وكاد يطفئ امل�صابيح لوال دلفت �إ ّ
لتقول:
الطبيب!
دا
علي ،فبادرتني
بغريب ّ
ٍ حدقت مبالحمها ..كان ذلك الوجه لي�س
ُ
ر
مت�سائلة:
ص �أال ع
تذكرتها ،بالفعل ري
تتذكرين؟! �إنني َمن زرتك يف بني عي�سى ..
هي ال ..الفتاة نف�سها التي �أخربتني عن تب ّدل حال
كيفت بني عي�سى ،وكانت على ال�سفينة
ذاتها التي حملتني �أنا و�آدم �إىل ب ل
الن�ساىل يوم جاءتني مري�ضة
10
كان ذلك ال�ضابط يكن يل من الغ�ضب والكره ما يكفي �أر�ض
چارتني كلها ..لكن لوال طفلك ملا جنوتُ �أبدً ا بعدما جذب انتباه
اجلميع حينما رك�ض ،وبدوري ا�ستطعت الفرار �أنا الأخرى بني
املتزاحمني ،غري �أنني اختب�أت طوال الأ�شهر املا�ضية بعيدً ا عن
الوادي حتى ُين�سى وجهي ،ظ ًنا مني �أن ذلك ال�ضابط املتعجرف
�سي�أتي �إىل الوادي بح ًثا عني ليقدمني �إىل املن�صة ب�أي تهمة.
ر دا
ظللت �أتنقل من مكان لآخر ،وجل�أت �إىل بع�ض بيوت الرذيلة
ع
التي كنت �أعمل فيها قد ًميا و�أعرف �أن �أ�صحابها ميتلكون ً
حيل
ريص
ال
كثرية لإخفائنا � ..أخ�شى كل هذا الوقت �أن �أعود �إىل الوادي
علمت مبا حدث ملدر�سة ال�سيدة غفران ولها خا�ص ًة بعدما ُ
ت ك وللفتيان يف تلك الآونة ..
واليوم عدت ور�أيتك منذ �ساعاتبمعلل�سيدتي ..وحني ا�ستف�سرت
شأنك جئت �إىل الوادي من �إحدى الفتيات عن وجودك ن
منذ عدة �أ�شهر ..ليتني عرفت ذلك منذر
وقتوالم�ضى ..
علمت �
و ت
زيع �س�ألتها متعج ًبا:
ملاذا؟!
قالت:
منذ �أربعة �أ�شهر قابلت طفلك من جديد ..عرفته من اللحظة
الأوىل ..
ت�ساءلت يف ذهول:
ُ
�آدم؟!
11
قالت:
نعم ..
قلت:
�أين؟!
دا
قالت:
ع ر
كان �شريدً ا ب�أحد ال�شوارع على �أطراف جويدا الغربية ..كان
ريص
خائ ًفا للغاية ..خ�شي مني يف البداية لكني طم�أنته وذكرته بي
ال
� ..أدركت �أنه فقدك ..و�أدركت �أنه من ال�صعب �أن �أجدك يف
ت ك
جويدا خا�صة مع قلة حتركي بالنهار ،ظللت �أبحث عنك خل�س ًة
ر وا تول
يف الوقت ذاته كنت �أخ�شى �أن يعتقلني �ضباط الأمن و�آدم معي،
زيع
ن�سلي مثلي ،ف ُيعتقل هو الآخر ويحمل و�شمنا بدون فيظنون �أنه ٌّ
ذنب ،خا�ص ًة �أنه ال ميلك �أورا ًقا تثبت �أنه غريب عن بالدنا،
و�أنا �أعلم �أنه لي�س ن�سل ًيا ..فلم �أجد �إال �أن �أ�ستمع �إىل حديثها
و�أجعله يرافقها بعدما فقدتُ الأمل يف �إيجادك ..
ت�ساءلت �سري ًعا:
يرافق َمن ؟!
قالت:
�سريين ..فتاة التقيتها يف �أحد بيوت الرذيلة يف جويدا ..
12
وتابعت:
وعدتني ب�أنها �ستعتني به ..
قلت:
ال تعي�ش بهذا الوادي ؟
دا
هزت ر�أ�سها نف ًيا ..ف�س�ألتها على الفور:
ع ر
واد تعي�ش؟!
ب�أي ٍ
ريقالت :ص
مل تكن ن�سلية �أيها ال
ت ك
الطبيب � ..إنها امر�أة �شريفة ..
13
()2
سيرين
ر دا
صع
ا ري
كانت الرحلة من جويدا �لإىل مدينة «بريحا» ال�شمالية �شاق ًة للغاية
كت ٍ
ن
طرق جانبية كثرية الجتياز ذلك
ل ب
العدد الكبري من دوريات الفر�سان ل
علي وعلى �آدم ،خا�ص ًة مع اتخاذنا
ّ
القريبة من جويدا ،خ�شية �أن يكون ب�إحداهاش
املتناثرة على الطرق الرئي�سية
ر
باحلجارة كما �أخربتني الفتاة وال وت
ذلك ال�ضابط الذي
زيع
الن�سلية التي عرثت ّ
ه�شم الطفل �أنفه
عليه يف �شوارع جويدا.
عاما ،فتاة چارتينية �شريفة من ا�سمي �سريين� ،أربعة وثالثون ً
«طبرية»� ،أقرب املدن الچارتينية �إىل جويدا .على عك�س مدينة ُ
أحظ بحياة مرفهة قط منذ طفولتي ،كان �أبي �شريفات چارتني مل � َ
�سب ًبا رئي�س ًيا يف ذلك ،بعدما انف�صل عن �أمي قبل �أن �أكمل عامي
التا�سع ،ليرتكني �أنا و�أختي التي تكربين بعامني يف مواجهة احلياة
مبفردنا خا�ص ًة مع مر�ض �أمنا وموتها بعد ثالثة �أعوام ،لأجد نف�سي
يف �سن الثانية ع�شرة �أحمل مطرق ًة يف �إحدى ور�ش احلدادة ،تغطي
وجهي وثيابي طبق ٌة من الركام الأ�سود ،و�أعمل مرغم ًة باملهنة ال�شاقة
15
التي و ّفرها يل �أحد �أقاربنا الذي �أق ّر من نف�سه بعدم حاجتي للمدر�سة
بعد ،لتم�ضي الأيام بثقلها ال�شديد نحو بلوغي� ،أق�صى ما �أطمح �إليه
يف هذه الدنيا هو �أن ينت�شلني �أحدهم بالزواج ويريحني من تلك
املعاناة ،غري �أن �أبي النذل مل يرتك يل تلك الفر�صة حتى ،بعدما فعل
�آخر �شيء كان ينق�ص رحلة �شقائي ،واجتاز القاعدة الأوىل ،وهرب
من املدينة دون �أن يق ّدم نف�سه �إىل وادي حوران عند بلوغه عامه
دا
اخلم�سني ،ليعلن القا�ضي �إدانته بالن�سلية ،ويعلن اخت�صام الروح
ر
لأجنة ن�سله جميعهم ،و�أُحرم �أنا و�أختي من �إجناب �أطفال �أحياء قبل
ع
ص
�أن �أمت عامي اخلام�س ع�شر.
ال ري
مل �أفهم ق�سوة ما فعله �أبي بنا �إال عندما عربت عامي الع�شرين
�شاب واحد للزواج مني �أو من �أختي،
ت ك
بخم�سة �أعوام كاملة ومل يتقدم ٌ
زيع
الكثرية التفا�صيل ال�صغرية مثلنا ،رف�ضت �أختي �أن ترافقني ّ
وف�ضلت
�إكمال حياتها يف املدينة التي تعرفها� ،أما �أنا فانتقلت �إىل جويدا،
وتزوجت بالفعل من �شاب هناك يف عامي ال�ساد�س والع�شرين دون
�إخباره بع ّلتي ،ظ ًنا مني �أن حبي الذي �س�أق ّدمه له قد يع ّو�ض رغبته
يوما ما يف �إجناب �أطفال ،لكن مع والدة طفلي الأول ميتًا وكذلك ً
الثاين مل �أجد �أمامي �سوى االعرتاف له بعقوبتي ،اعتقدتُ �أنه قد
ي�ساحمني بعد ال�سنوات الثالث التي ع�شناها �سو ًيا ،لكنه مل ميهلني
دقيقة واحدة ،وجذبني من �شعري بقوة دون تفكري ،وج ّرين �إىل خارج
البيت ،قبل �أن يلقي بي يف ال�شارع ،ويغلق الباب من خلفي دون �أن
يقول كلم ًة واحدة ،لأعود لل�شقاء من جديد.
16
مل �أرغب يف العودة �إىل ُطبرية �أوالعمل يف احلدادة مرة �أخرى بعد
التوقف عنها لثالثة �أعوام ،وبني حاجتي املا�سة للمال وحالة الي�أ�س
التي �أغرقتني من ر�أ�سي �إىل �أخم�ص قدمي� ،أوقعني القدر يف �أحد
�شياطني �أ�شراف جويدا الذي �أغواين بالعمل خل�س ًة يف ٍ
بيت للرذيلة
ري من الن�سليات عن العمل هناك يف ال�سنوات ميتلكه بعد عزوف كث ٌ
اخلم�سة الأخرية ،و�أغراين بالأجر الكبري الذي �س�أتقا�ضاه كل ليلة
دا
واحلماية التي �سيوفرها يل ،خا�ص ًة مع ا�شتهاء زوار تلك البيوت
يل يف ذلك البيت
ع ر
لل�شريفات الباغيات �أكرث من الن�سليات ،لأق�ضي ليا ّ
ص
ال فرق بيني وبني الن�سليات �إال و�شم �أكتافهن� ،أحتمل كافة �أنواع
ال ري
االعتداءات دون �شكوى واحدة خو ًفا من �أن ي�شي بي �أحدهم ،و�أُعتقل
ت ك
على جرميتي مبمار�سة الرذيلة و�أ�صري ن�سلي ًة �أنا الأخرى ،لتمر خم�س
ش ن
�أ�شراف چارتني ،واكت�شفت مدى الزيف الذي تعي�شه بالدنا املكت�سية
دا
�أبعد املدن الچارتينية عن جويدا.
b ع ر
ريص
حاولت �أن �أبادله
ُ
ال
ظل الطفل �صامتًا �صمتًا غري ًبا طوال رحلتنا ..
ت ك
بكلمات قليلة ثم يعود
ٍ �أطراف احلديث �أكرث من مرة لكنه كان ينطق
ل ب
�إىل �صمته مت� ً
ل
أمل جوانب الطرق �أو جدار چارتني الذي بد�أ يظهر يف
ش ن
الأفق مع اقرتابنا من مدينة «قباال» التي تنت�صف امل�سافة بني جويدا
ر وا تول
حاولت �أن �أعرف منه �أي �شيء عن حياته ال�سابقة ،عن ُ وبريحا ..
والده ،عن الإقليم الذي كان يعي�ش فيه �شمال بحر �أكما ،لكنه مل
زيع
يجبني ب�شيء ُيذكر ،ووا�صل �صمته الغريب ..قبل �أن يخلد �إىل نومه،
ومل ينه�ض �إال مع و�صولنا بريحا.
كان �أكرث ما مييز هذه املدينة هو قلة عدد �سكانها مقارن ًة ب�أي مدينة
�أخرى من مدن چارتني ،حتى �أنني مل �أجد �أدنى �صعوبة يف �شراء بيت
�صغري لنا ،ثم دلني �أحدهم بالأيام التالية على ور�شة حدادة كربى
ميتلكها رجل ُي�سمى ال�سيد عبود ،قال ب�أنه �سيعطيني عمل ًة نحا�سية
عن اليوم الواحد بعدما اخترب مهارتي يف ت�شكيل املعادن ،فوافقت.
لأبد�أ حيا ًة جديدة بعيدة عن الذل والقهر الذي ع�شته خالل �سنواتي
املا�ضية ،ي�ؤن�س وحدتي �آدم ال�ساكت �أغلب الوقت.
18
حد
وعلى مدار ال�شهور التالية كان كل �شيء يبدو طبيع ًيا �إىل ٍ
كبري ،ومل �أ�شغل بايل كث ًريا بتجنب الطفل يل� ،أو جتنبه للتحدث مع
�أي من جرياننا ظ ًنا مني �أنه يحتاج مزيدً ا من الوقت ال �أكرث ..قبل
�أن حتدث �أكرث الأ�شياء غراب ًة ،عندما نه�ضت من نومي مفزوع ًة على
تلك الطرقات امل�ستمرة وذلك ال�صوت الغريب الذي كان ي�أتي من
غرفته ليتداخل مع عويل الرياح التي مل تهد�أ يف تلك الليلة املطرية،
دا
أ�سرعت �إليه وجدته ُملقى على الأر�ضُ ،مزق الثياب ،بارز ُ وحني �
قب�ضتي يده.
ّ
ع ر
الع�ضالت ب�شكل غريب ،ت�سيل الدماء من
ريص
ال b
ت ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
زيع
19
()3
غفران
ر دا
ص ع
ا ري
مرت �أربعة �أ�شهر منذ لذلك اليوم الذي �أعلنوين به ن�سلية ،كان
كت�صار قدوم �أ�شقياء الأ�شراف �إىل
وادينا يرافقهم رجال ال�شرطة �أكرثبمنلل �نأي وقت م�ضى ،و�صارت
كل يوم منها يحمل حز ًنا جديدً ا ..
ي ز و لنا كي يج ّروا املزيد منا �إىل من�صة �إعدامهم ..
ع
يحدث �أن حيدر و�سبيل �أننا �سنواجه املزيد من املتاعب لكن ما بات
أديب لنا على تلك الفعلة ..ك�أنها اجلرمية
الأمر �صار وك�أنه انتقا ٌم وت� ٌ
الكربى التي ارتكبناها وبات على كيوان ورجاله معاقبتهم لنا عليها
مدى احلياة.
ظالما وخوا ًء بعدما �أ�صبح �صوت بارود
�صارت ليايل الوادي �أكرث ً
رجال ال�شرطة م�ألو ًفا ب�سماء وادينا لي�صيب كل من ت�س ّول له نف�سه �أو
ت�س ّول لها نف�سها حق االعرتا�ض على ما يطلبه ال�شريف ،وا�ضطرت
�أغلبية الفتيات ممن ترف�ضن ممار�سة الرذيلة �إىل الهروب مع غروب
واد مظلم باجلوار حتى تنتهي �ساعات الليل ل�ضمان ال�شم�س نحو ٍ
21
مغادرة �أولئك ال�سفلة � ..أما النهار فكان �أكرث �أما ًنا و�إ�شرا ًقا رمبا لأن
حرارة ال�شم�س احلارقة كانت تقينا �شر ه�ؤالء الأ�شقياء املدللني ..
مل يعرت�ضني �أحد من �أولئك الأ�شقياء ،لكني عزمت بيني وبني
نف�سي �أنني و�إن ُو�ضعت يف مثل ذلك الأمر ،فلن �أتوانى عن تك�سري
�صفوف �أ�سنانه العلوية وال�سفلية م ًعا و�إن كان �آخر يوم يف عمري.
على مدار تلك الأيام حاولت قدر امل�ستطاع �أن �أوا�صل ما بد�أته ،و�أن
�أحافظ على بث الأمل يف قلوب الن�ساىل ،لكني و�إن كنت �أرى من
ر دا
ع
ال�شبان والفتيات حما�ستهم الكبرية لإكمال ما بد�أناه ..كان اخلوف
ص
ال ري
وا�ضحا لعيني كل الو�ضوح ،لأ�شعر داخل ً والت�شتت البادي يف �أعينهم
نف�سي �أن جهد ال�سنوات املا�ضية �صار ح ًقا يف مهب الريح.
كتb
ن ل �أكملنا العمل نها ًرا ي�ساعدين ريانب ل
ش
بالبقاء فاطم�أن قلبي ..كنت يف حاجة �إىلركلو م�ساعدة ممكنة،
وناردين والطبيب الذي وعدين
ري ص
اجلنود معي فيعاين طوال حياته ..مل �أكن �أعرف �أنه ن�سلي..
عرفت من ال
ك
الطبيب بالأم�س �أنه ن�سلي مثلنا ذهبت على وعندما ُ
الذيتقابلتها فيه بح ًثا عنها ،فعرفت
ب لتخرب �أحدً ا عن وجهتها ..
الفور �إىل بيت الرذيلة
ش ل
أذنت لها باالن�صراف ن
�أنها تركت جويدا ب�أكملها دون �أن
ر
وال وت
قلت
فا�ضل معي ..ثم ُ وظل �صمت ً
قليل ،و� ُ ُّ
زيع
بعد فرتة من ال�صمت:
يوما ما ..
رمبا يعود ً
�أخرج فا�ضل زفريه ببطء ،وقال:
اليعرف �أنه ن�سلي ..وال تعرف الفتاة التي �أخذته كذلك ..
فقلت بنربة �شاردة:
على الأقل �سيهن�أ بعي�شة كرمية معها �إن مل ت�شك يف �أمره ،ومل
يوما ما �إىل اجلنود.
تقم بت�سليمه ً
23
b
حاولت �أن �أتنا�سى الأمر ،مل �أكن �أعلم ح ًقا حاجتي يف جميء �آدم
�إىل وادينا ..وحاولت �أن �أقنع نف�سي �أن عودته لن تعني �أبدً ا عودة
ندمي ..و�أن ندمي قد مات بال رجعة كمن ماتوا قبله ..ومرت �أيام
�أخرى كثرية مل تختلف عن الأيام ال�صعبة التي �أح ّلت بنا ،قبل �أن
ُتلقى يف مياهنا الراكدة ال�صخرة الكربى ،وت�أتي تلك الليلة حني ُطرق
بابي ُقبيل �شروق ال�شم�س ،وعندما نه�ضت من فرا�شي وفتحته وجدت
دا
�سبيل زوجة حيدر التي اختفت قبل �شهور تقف �أمامي ،وقبل �أن �أنطق
ر
�إنني حبلىع
ب�شيء من املفاج�أة التي �أ�صابتني ،قالت وهي ت�شري �إىل بطنها:
ص
ري ال
روحا خارج باحة جويدا.
بجنني ح�صد ً
ت ك
ن ل بلb
ر ش
وال وت
زيع
24
�أدخلت �سبيل �إىل كوخي على الفور ..كان ظهورها �أمامي مفاج�أ ًة
كبرية مل �أكن لأتوقعها� ،أما حديثها عن جنينها فكان كربى املفاج�آت
قلت و�أنا
دا
يل منذ قدومي �إىل وادي الن�ساىل �أو رمبا يف حياتي كلهاُ ،
ر
ع
�أبتلع ريقي من املفاج�أة بعدما �أجل�ستها �أمامي:
زيع
الوادي الذي ن�ش�أتُ به ،لكني خ�شيت �أن �أرى يف �أعينهم نظرات
يديك من
ال�شماتة بعدما تركتهم من �أجل املجيء للتعلم على ِ
�أجل تغيري م�صريي ..فقررتُ يف حلظة تغيري وجهتي والذهاب
�إىل ن�ساىل الوديان الغربية ،كنت �أعرف بع�ض فتياتهم قد ًميا
..كما �أنهم بعيدون للغاية عن هنا ..
إليك يا �سيدتي لكن بعد �أيامي الأوىل هناك فكرت يف العودة � ِ
خماويف من ذكرياتي ال�سيئة ظ ّلت حاجزً ا بيني وبني هذا
املكان ،ف�آثرتُ البقاء هناك ..يف البداية كنت �أقتات معهم من
�سرقات �صغرية ل�سفن الب�ضائع ،قبل �أن �أقرر ب�أن �أبد�أ يف تعليم
ٍ
25
فعلت يا �سيدتي مع �أبناء هذا
بع�ضهم القراءة والكتابة كما ِ
الوادي ،وبد�أت بالفعل مع بع�ض �أطفالهم وبناتهم ..
ذات يوم �شعرتُ ب�إعياءٍ �شديد و�أ�صابني الدوار والقيء ..
ظننت الأمر عاد ًيا �أو �إرها ًقا من وقويف امل�ستمر �أمام الأطفال،
ُ
اهتماما ،لكن �إعيائي
ً و�أكملت يومي دون �إعطاء ذلك التعب
تكرر �أكرث من مرة ،وبد�أت بع�ض التغريات حتدث يف ج�سدي
ر ا
لتبد�أ �شكوكي تتزايد بداخلي ..
د
حاولت �أنعا�ستبعد تلك الأفكار من ر�أ�سي لكني يف نهاية الأمر
ألت امر�أةصتكربين �س ًنا عما يحدث يل ،ف�أخربتني ب�أنها
ا ري
لي�ست �إال �أعرا�ض لللحمل ،مل �أ�ص ّدقها كما مل �أ�ص ّدق نف�سي،
�س� ُ
ش
وبني نف�سي« :معقول !! ..لقد فعلناها يارحيدر ..لقد فعلناها
كادت الفرحة ت�صيبني باجلنون
وال وت
متالكت نف�سي كان كل تفكريي يدور عن زيع
»..
كيفية ح�صاد ُ حني
جنيني لروحه ..تعودت ن�ساء الن�ساىل على الذهاب �إىل الباحة
أرواحا لأجنتهن � ..أما طفلي فكنت �أعلم �أنه
من �أجل ح�صد � ً
متاما ..لكني و�إن كنت �أعرف قواعد چار ِتني ،كنت �شرعي ً
روحا نقية
�أخ�شى �أن تكمل الأر�ض ظلمها يل و�أال يح�صد طفلي ً
كما وعدتني يا �سيدتي ،و�أن يكون الذهاب به �إىل الباحة �أيام
روحا تكون ن�سلية ،كما ُولدت
الغفران هو ال�سبيل الوحيد لينال ً
�أنا وكل من �أعرفهم ..
26
�شك من �أمري� ،إن كان جنيني هذا ن�سل ًيا لكوين �صرتُ يف ٍ
�أنا وحيدر ن�سليني؟! �أم �أنه ح ًقا �شرعي لزواجنا يف الباحة،
وبد�أت احلرية تدق داخلي بقوة؛ ي ّلح �أحد جوانبي ب�أن �أذهب
روح هناك �إىل الباحة كل يوم غفران لع ّله ي�ضمن ح�صاد ٍ
و�إن عا�ش ن�سلي ،بينما ي�صرخ جانب �آخر ّيف يف غ�ضب ب�أن
�أبقى بعيدة كل البعد عن الباحة يف انتظار �أن ت�سري الأمور
دا
كما خططنا لها ل ُيولد �شري ًفا ..ومع اقرتاب نهاية كل �شهر
ع ر
كانت تلك احلرية ت�شتعل داخلي من جديد بعدما ظل اجلانب
ص
اخلائف مني يخ�شى �أن �أبقى بعيدة عن الباحة ،فتمر �أ�شهر
روح ،و ُيولد اجلنني ميتًا و�أفقد
ال ري
تباعا دون �أن �أح�صد �أي ٍ
احلمل ً
ت ك
�آخر ما تبقى يل من رائحة حيدر ،وخا�صة بعدما زارين �أكرث
ل ب
كابو�س كنت �أرى فيهم ب�أنني �أ�ضع جني ًنا ميتًا لأنه�ض من
ل
ٍ من
ر وا تول
أق�سمت
حتى قررت يف النهاية ب�أن �أنهى ذلك ال�صراع بداخلي ،و� ُ
زيع
بروح حيدر ب�أنني لن �أذهب بجنيني �إىل الباحة مهما كانت
النتيجة وا�ضع ًة �أمامي م�صري �أبيه الذي �أُعدم ظل ًما.
وانفرجت �أ�ساريرها وهي تقول:
�إىل �أن جاء الأم�س ،كنت يف جل�س ٍة مع الأطفال �أقر�أ لهم عندما
�شعرتُ بتلك احلركة املفاجئة داخل بطني ،لأدرك �أن جنيني
قد فعلها وح�صد روحه بعيدً ا عن الباحة ويف يوم لي�س يوم
غفران ،مثل باقي �أ�شراف چار ِتني ..وقتها مل �أخرب �أحدً ا ،ومل
إليك يا�سيدتي ..
�أفكر �سوى يف �شيء واحد فقط وهو العودة � ِ
و�أردفت بحما�س ٍكبري والدموع تلمع بعينيها:
27
لقد �أن�صفتنا �أر�ض چار ِتني �سيدتي ..
b
ال �أ�ستطيع �أن �أ�صف ال�سعادة التي اجتاحت داخلي حني انتهت
الفتاة من كلماتها حتى �أنني نه�ضت واحت�ضنتها و�أطلت احت�ضانها
ثم ق ّبلت ر�أ�سها ك�أنني �صرت �أمتلك �سعادة الدنيا كلها ..ثم �أ�شرقت
دا
و�شاحا �أعطيته لها فوق ر�أ�سها كي ال
ً ال�شم�س ف�س�ألتها �أن ترتدي
ع ر
يعرفها �أحد ،واجتهنا �سو ًيا يف خفية �إىل كوخ الطبيب الذي تعجب
ريص
حني فتح بابه بعينني ن�صف ُمغلقتني ووجدين �أمامه يف ذلك التوقيت
ال
املبكر جدً ا من النهار ..مل �أنطق ب�شيء لكني �أ�شرت �إىل �سبيل كي
ت ك
تتقدم �إىل الداخل ،وحني نزعت و�شاح ر�أ�سها �س�ألني الطبيب يف
ش ن
ر وا تول
�أرملة حيدر؟!
هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا ..ثم �أغلقت الباب من خلفنا ،وقلت يف فرحة
ز
�شريفي..ع
كبرية:
لقد حدثت املعجزة � ..إن �سبيل حبلى بجنني
ات�سعت حدقتا عينيه ك�أنه ال ي�صدق ما �أقوله ،و�س�ألها على الفور �أن
ت�صعد �إىل �سرير الك�شف دون �أن ي�سمع مني املزيد ،وبد�أ يف �س�ؤالها
�أ�سئلة كثرية متتالية عن بع�ض الأعرا�ض الطبية ،قبل �أن ي�ستخدم
وقفت
�سماعته الطبية وميررها على بطنها يف تركيز �شديد ،بينما ُ
يل وقد انفرجت مكاين �أ�شاهد ما يفعله يف ترقب ،حتى انتهى فالتفت �إ ّ
�أ�سارير وجهه بدرجة مل �أرها عليه من قبل ،وقال يف حما�س كبري:
28
تغي م�صري الن�ساىل ..
لقد ّ
لكنه �صمت بعد حلظة واحدة ،وتب ّدلت مالمح وجهه ك�أنه ف ّكر
فيما كنت �أفكر به �أثناء فح�صه لها ،ف�س�ألتُه ب�صوت ي�شوبه القلق:
للأح�سن� ،ألي�س كذلك؟!
نظر �إ ّ
يل ،و�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا بدون �أن يتحدث.
ر دا
b ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
زيع
29
()4
سيرين
ر دا
ص ع
ال ري
ت ك
�أ�صابني الفزع ال�شديد حني ر�أيت �آدم ُملقى على الأر�ض ت�سيل
زيع
فلم �أ�ستطع اال�ستعانة ب�أحد خا�ص ًة مع �سوء طق�س تلك الليلة وعدم
توقف املطر عن هطوله ،فحملته �إىل �سريره بعدما عادت عروق
ج�سده املنتفخة وع�ضالته �إىل هيئتها الطبيعية ..و�أخذت �أناديه
مرات كثرية يف قلق حذر لعله يفيق� ،إىل �أن فتح عينيه �أخ ًريا،با�سمه ٍ
فتنف�ست ال�صعداء ..
با�ستغراب �إىل الغرفة من
ٍ نظر �إ ّ
يل متع ًبا زائغ العينني ،ثم نظر
حوله ك�أنه ال يدري ماذا حدث ،بعدها نظر �إىل يديه ووجهه ُيعت�صر
من الأمل ..فقلت حماول ًة �أن �أهدئ من روعه:
31
�ستكون بخري يا �صغريي ..
مهرو�سا
ً ثم نه�ضت و�أح�ضرت �إنا ًء �صغ ًريا من املاء وع�ش ًبا طب ًيا
لدي وقط ًعا قما�شية نظيفة ،وعدت �إليه ،وبد�أت �أنظف جروح كان ّ
يديه باملاء ،قبل �أن �أغطيها بالع�شب املهرو�س و�أ�ض ّمدها بقطع
القما�ش .وك�أن ت�ضميدي ليديه قد خ ّفف من حدة ت�أمله� ،أغم�ض عينيه
دا
وغاب يف �سبات عميق.
b ع ر
ريص
ال
جل�ست بجواره �أراقبه وهو نائم ،و�أفكر فيما حدث له قبل قليل،
ت ك
�سمعت كث ًريا عن غرابة بع�ض الأطفال ،واعتقدت �أن �آدم مثلهم ،لذا
ُ
زيع
نوم عميق ،ثم ارتديت ثيابي الثقيلة وحذاء املطر ،و�أ�سرعت �إىل يف ٍ
طبيب �شاب دلتني �إليه �إحدى جاراتي ،و�أح�ضرته �إىل بيتنا ..
قام ب�إزالة ال�ضمادة التي �صنعتها بعدما �أيقظت �آدم ..تعجب حني
ر�أى مدى �إ�صاباته و�س�أله عما �أ�صاب يديه بتلك اجلروح البالغة ..
قال ال�صبي �أنه ال يتذكر كيف �أ�صيب بها ..كان ال�صدق باد ًيا على
وجه �آدم فتعجب الطبيب وبد�أ يفح�ص فمه ول�سانه قبل �أن يفح�ص
يديه جمددًا ويقوم بتطهريها وت�ضميدها من جديد ،ثم التفت �إ ّ
يل
وقال:
32
حني �أخربتني �أنه قد �أُ�صيب وهو فاقد للوعي جال بخاطري
وجرحت يده نتيجة يف الطريق �أنها قد تكون نوب ًة لل�صرع ُ
ال�سقوط � ..أما �إ�صابة مثل هذه لي�ست ً
منطا معتادًا للإ�صابة
بعد ال�سقوط على الأر�ض ..
وتابع حائ ًرا:
ر دا
ال �أعلم كيف ي�صيب املرء نف�سه �إىل هذا احلد دون ال�شعور
ع
وعاد �إىل �آدم و�س�ص
ب�أمل يجعله يتوقف عن �إحداث املزيد من الإ�صابة ..
ال ريأله:
ت ك
ب
�أال تتذكر ح ًقا كيف �أُ�صيبت يداك؟
ن ل ل
ش
ر وا تول
هز ال�صبي ر�أ�سه �إيجا ًبا ،فالتفت �إ ّ
يل الطبيب وقال:
زيع
نوعا من �أنواع الهياج خا�صة مع انتفاخ عروقه قد يكون ً
بال�صورة التي حدثتني عنها ،لكني ال �أ�ستطيع اجلزم بذلك ..
�أعدك �أنني �س�أبحث يف كتبي عن اجتماع هذه الأعرا�ض �سو ًيا
و�س�أخربك �إن وجدت �شي ًئا يفوتني � ..سنهتم بهذه اجلروح الآن
عليك �أن تراقبيه جيدً ا .. ً
م�ستقبل ،لكن ِ ونتمنى �أال يكررها
�أوم�أت بر�أ�سي �إيجا ًبا ،وقلت:
ح�س ًنا� ،س�أفعل.
b
33
يف الأيام التالية انتقلت للمبيت معه يف غرفته ،مل يتكرر ما حدث
له تلك الليلة خالل �أيام مبيتي معه ،فقررت �أن �أبقى معه ً
ليل ،و�آخذه
معي نها ًرا �إىل ور�شة احلدادة التي كنت �أعمل بها بعدما ا�ست�أذنت
ال�سيد عبود �صاحب الور�شة ..
على عك�س بقية ال�صبية كان �آدم يجل�س جان ًبا ينظر �إ ّ
يل و�أنا �أعمل
دا
دون �أن يتحرك كث ًريا ،حتى �أن باقي الن�ساء ممن يعملن معي قد
ع ر
الحظن ذلك .قبل �أن �أنتبه �إىل عالمات الفرحة التي كانت تظهر على
ريص
ال
حدوات منا�سبة
ٍ وجهه ك ّلما �أتى �أحد الزبائن بح�صانه لأ�صنع لأقدامه
ك
ب�شغف كبري تدرك معه تعلق ذلك الطفل ..كان ينظر �إىل الأح�صنة ٍ
ب ت
ل
يوما ينه�ض من مو�ضعه ويحاول باخليول ،لذا مل �أتعجب حني وجدته ً
ر وا تول
بيده امل�ضمدة على غرة ر�أ�سه دون خوف ،وك�أن احل�صان قد �ألفه مل
زيع
يل وابت�سم يل حني �ساكن ..ما تعجبت منه ح ًقا �أنه نظر �إ ّ
يحرك �أي ٍ
خ�ضع له احل�صان ..وقتها تركت ما بيدي وم�سحت يدي املت�سخة
برفق �أنا
مبالب�سي واقرتبت منه ،ومررت يدي على ر�أ�س احل�صان ٍ
الأخرى ،ف�ضحك يل من جديد ومرر يده هو الآخر.
�صرت �أحب قدوم الأح�صنة �إىل ور�شتنا من �أجل �آدم ،و�صرت �أحب
�صناعة حدوات الأح�صنة عن �صناعة ال�سكاكني واخلناجر و�أى �شيء
ويوما بعد
�آخر يف الور�شة ،ومتنيت لو �أتى ح�صان جديد كل دقيقةً ،
يوم وجدته ي�شرتك معي يف بع�ض الأعمال من تلقاء نف�سه ..والحظت
�أنا واجلميع �أنه ي�ستطيع حمل �أكرث مما يحمله �أي طفل يف �سنه دون
34
�أدنى عناء ،حتى �أن ال�سيد عبود قال له حمفزً ا عندما ر�آه يحمل �إطا ًرا
حديد ًيا ً
ثقيل ال يقوى الكثريون على حمله:
يبدو �أنك ُخلقت للأعمال القوية �أيها الفتى � ..س�أعطيك قطعة
ف�ضية يف نهاية اليوم.
يعط حلديث الرجل �أي اهتمام ،كان كل تركيزه مع لكن �آدم مل ِ
دا
طفل �آخر يف مثل عمره دلف �إىل فناء الور�شة وهو يج ّر ب�صعوبة ٍ
ر
ح�صا ًنا عنيدً ا ..كان ذلك احل�صان ً
هائجا للغاية ،يقاوم -بعناد
ص ع
كبري -التقدم خطوة واحدة ،وال يكف عن ال�صهيل ،بينما كانت
ال ري
مالمح ال�ضيق وقلة احليلة على وجه الطفل تقول ب�أنه قد تورط يف
ت ك
جلب ذلك احل�صان �إلينا ،فنه�ضت من مكاين لأ�ساعد الطفل يف جر
ل ب
احل�صان �إىل الداخل ،لكني ما �إن اقرتبت منه حتى باغتنا احل�صان
ر وا تول
جلامه ،ويف ملح الب�صر كان احل�صان قد ا�ستدار ورك�ض فا ًرا �إىل
اخلارج عرب بوابة الفناء يف اجتاه اجلبال و�سط �صراخ الطفل ب�أن
زيع
�أباه �سيقتله ،لأفاجئ ب�آدم يرتك ما بيده ويرك�ض ب�سرعة كبرية وراء
احل�صان � ..صرخت فيه خو ًفا كي يتوقف ،لكنه كان قد عرب ال�سور
الطوبي املحيط بالفناء.
رك�ضت �أنا الأخرى وراءه ،وكذلك بع�ض الرجال الذين �شاهدوا
احل�صان يفر ،لكنا كنا مت�أخرين للغاية عن احل�صان وعن �آدم الذ ْين
اختفيا مع انعطاف املمر اجلبلي خلف اجلبل �أمامنا ..ثم توقفت
حني �صاح ّيف ال�سيد عبود غا�ض ًبا كي �أعود �إىل الور�شة لإجناز �أعمالنا
املت�أخرة و�أترك �أمره للرجال الذين رك�ضوا خلفه.
b
35
عدت م�ضطر ًة �إىل الور�شة و�أنا �أنظر بكل ٍ
غيظ واحتقا ٍر �إىل
�صاحبها الذي منعني من اللحاق ب�آدم ..وحملت مطرقتي ،وبد�أت
غ�ضب وعيني باخلارج تبحث عن عودته ،كنت �أدق احلديد امل�شتعل يف ٍ
كل ما �أخ�شاه �أن يفقد الرجال �أثره بني املنعطفات اجلبلية املت�شعبة
التي ال يعرفها �سوى �أهل بريحا .كانت عيني تذهب بني احلني والآخر
�إىل الطفل الباكي �أمام الور�شة ،والذي مل يكف عن العويل وال�صراخ
دا
بكلمات عن العقاب الذي ينتظره من �أبيه �إن مل يعد ذلك احل�صان .. ٍ
ر
وكان قلبي ينخلع ك ّلما عاد �أحد الرجال من وراء اجلبل مبفرده ُمعل ًنا
ع
ص
ي�أ�سه من اللحاق باحل�صان الهارب بدون �أن يتحدث عن �آدم ،ومع
ال ري
مرور الوقت عادوا جمي ًعا واحدً ا وراء الآخر ،قالوا ب�أنهم فقدوا �أثر
ت ك
احل�صان والفتى ..رجوت ال�سيد عبود ب�أن ي�سمح يل بالذهاب ،لكنه
ش ن
مرة �أخرى ..عدت �إىل مطرقتي لأطرق احلديد بقوة ك�أنني �أطرق
ر وا تول
ألقيت باملطرقة
جمجمة ر�أ�س ذلك الرجل ،حتى فا�ض بي الكيل ،ف� ُ
جان ًبا ،وكدت �أ�صرخ به لأخربه ب�أنني ذاهبة �إىل خلف اجلبل للبحث
زيع
عن طفلي ..لكني مل �أكد �أخطو خطوة واحدة حتى وجدت الطفل
الباكي قد توقف فج�أة عن عويله ،ونه�ض من رقدته على الرمال،
فرحا:
يل ًلي�صرخ �إ ّ
لقد عاااد ..
قبل �أن يرك�ض مبتعدً ا عنا ،نظرنا جمي ًعا بعيدً ا ،كان �آدم قد ظهر
يف الأفق يركب على �صهوة الفر�س بكل ثقة ،وي�سري به نحونا يف ت�ؤدة
وهدوء بالغ و�سط تعجب اجلميع و�أولهم �أنا ،حتى اقرتب منه ال�صبي
الباكي فنزل عن احل�صان ،و�أم�سك بيده لريبت بها على مقدمة ر�أ�سه
36
مثلما اعتاد �أن يفعل مع اخليول ..م�شيت بخطوات مت�سارعة نحوهما
دون �أن �أ�ست�أذن ال�سيد عبود ..كانا قد بد�آ حديثهما و�أنا يف الطريق
�إليهما ..ثم اقرتبت منهما عندما �ش ّبك �آدم يديه بجوار احل�صان
لي�ساعد ال�صبي الآخر على ارتقائه � ..أتذكر نظرات الإعجاب يف
�أعني ذلك ال�صبي جتاه �آدم وهو يبتعد بح�صانه عنا ،بينما وقف
�آدم بجواري يودعه بيده مبت�س ًما ،لي�صريا منذ ذلك اليوم �صديقني
دا
حقيقني مل �أ َر يف �صداقتهما قط ،الطفل الباكي زهري وطفلي �آدم .مل
ع ر
يفرتقا حتى و�صال �سن البلوغ وحدث ما حدث.
ريص
ال b
ت ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
زيع
37
()5
فاضل
ر دا
عص
ري
مل �أعرف ما �أقوله حنيال�س�ألتني غفران �إن كان م�صري الن�ساىل
كاتمن حمل �سبيل بجن ٍني حي ،كل
ما جال يف ذهني هو ما قد يفعله � ب
أ�شرافللچارتني بعد معرفتهم ب�أن
تغي للأح�سن �أم ال بعدما تيق َّن
قد ّ
قد انق�شع عن داخلها ،لتبقى احلقيقة التي ال بد و�أن نعرتف يعبها؛ لن
ير�ضى �سادة چارتني بوجود هذا اجلنني �أبدً ا.
ا�ستغرقت يف تفكريي ومل
ُ ثم كررت �س�ؤالها يل مرة �أخرى بعدما
�أجبها:
تغي م�صرينا للأح�سن� ،ألي�س كذلك؟
ّ
فنظرت لها ،وقلت يف ابت�سام ٍة مطمئنة:
بلى ،للأح�سن.
39
ألت �سبيل �أن تغطي بطنها املك�شوفة ،وتنه�ض من �سرير بعدها �س� ُ
الك�شف ،وتابعت كالمي و�أنا �أوجهه �إىل غفران:
ما زال �أمام والدة الطفل قرابة �أربعة �شهور� ،س�أح�سن العناية
ب�سبيل حتى ُيولد طفلها.
نظرت غفران �إىل �سبيل وهي تنه�ض من على �سرير الك�شف،
جل�ست على مقعدي:
ُ وهزت ر�أ�سها �إيجا ًبا يف �صمت ،ف�س�ألتُها بعدما
ٌ
�شريف؟
ر دا
ماذا �سيثبت �أن هذا اجلنني
ص ع
نطقت �سبيل ب�سرعة:
ال ري
�أق�سم �أنني مل �أذهب �إىل الباحة بعد �إعدام حيدر ..
ت ك
ب
قلت:
ن ل ل
ش
ال �أ�شكك يف قولك يا �سبيل ،لكني �أق�صد كيف �سنثبت للأ�شراف
ر وا تول
ذلك؟
زيع
قالت غفران:
ال يوجد � ُأي توثيق لدخول ن�ساء الن�ساىل �إىل الباحة �أو ت�سجي ٌل
روحا جلنينها داخل �أ�سوارها ،لكن القواعد �أو�صت ملن حت�صد ً
بانتماء املولود للأ�شراف �إن كان هناك زواج �شرعي لوالديه يف
باحة جويدا قبل والدته على الأقل ب�سبعة �أ�شهر ،وهم يعلمون
جيدً ا وخا�ص ًة كيوان �أن ذلك الزواج قد مت بالفعل هناك و�إن مل
يتم على املن�صة ..
ت�ساءلت و�أنا �أعلم �إجابة �س�ؤايل:
ُ
هل �سيعرتفون بذلك الزواج؟
40
�سكتت لهنيهة ثم قالت:
ير�ض قا�ضي املن�صة يومها ب�أن يتم الزواج على ال �أعرف ،مل َ
من�صة الباحة ً
قائل ب�أنها لي�ست مكا ًنا للأجنا�س الن�ساىل ..
و�أ�ضافت واجمة:
يقولون �أنهم ي�سريون طب ًقا لقواعد چارتني ،لكنهم يف احلقيقة
ي�أخذون منها ما يخدم م�صاحلهم فقط ،ف�إن عار�ضت قاعدة
ر دا
ع
واحدة م�صاحلهم ُ�ضرب بها عر�ض احلائط مربرين ذلك
ريص
ل�ضمائرهم ب�أنه ال مانع من جتاوزها يف �سبيل �أمانهم ..
ونظرت �إىل �سبيل وهي التقول:
كتقد تز ّوج من �سبيل داخل الباحة،
ب
و�أن هذا اجلنني لي�س �إال �شري ًفا للنطب ًقا للقواعد ذاتها التي
يعلم اجلميع هنا �أن حيدر
ر ش
و�صمتت للحظة ،ثم تابعت بنربة قلقة :وال وت
جعلتنا ن�ساىل ..
زي
لكن كيوان الذي ج ّر �أحد ع�شر �شا ًبا ل ُيعدموا ظل ًما على عاملن�صة
لن يتوانى عن تقدمي اثنني �آخرين �إىل املن�صة ذاتها� ،أو قتلهما
ب�سالحه الناري �إن اقت�ضى الأمر ،وهذا ما ي�شغل تفكريي ..
�إن �أعل ّنا للن�ساىل خرب حمل �سبيل �سيزداد حما�سهم وي�ستعيدون
ثقتهم التي فقدوها ب�أنف�سهم منذ يوم احلريق ،وقد يقدم
املزيد منهم على الزواج وتكرار جتربة حيدر و�سبيل ..لكن
�سيكون هناك من ي�س ّرب الأمر �إىل الأ�شراف ،ووقتها �ستكون
�سبيل وجنينها يف خطر حقيقي ..
41
و�إن �أخفينا الأمر قد ن�ضمن �سالمة �سبيل وجنينها ،لكنه �س ُيولد
و�سيعي�ش مثل الن�ساىل �إىل �أجل ال نعرفه ،ويبقى دم الأحد ع�شر
الذين �أُعدموا قد �ضاع هبا ًء.
وزمت �شفتيها حري ًة و�سكتت تفكر ..ثم نظرت �إىل �سبيل من
جديد وقالت:
ما ر�أيك يا �سبيل؟
ر دا
ع
�أجابت الفتاة:
ريص
ال
روح له دون �أن
لذهبت �إىل باحة جويدا حل�صد ٍ ُ لو �أردته ن�سل ًيا
�أنتظر ..
ت ك
ب
يل ،و�س�ألتني:ونظرت �إ ّ
ن ل ل
ش
ور�أيك يا فا�ضل؟! � ..إنني يف حرية كبرية ..
ر دا
يتغنون ب�أن الن�ساىل لهم حقوق الأ�شراف طاملا �ساروا على
ع
ال�صراط امل�ستقيم ومل يرتكبوا اجلرمية ..ح�س ًنا� ،سيعلم كل
ص
ري
�سي�سلطون �أنظارهم ال
�شريف يف هذا البلد �أن هناك ن�سلية حتمل جني ًنا �شري ًفا ..
زيع
لن�ستغل عدالتهم
املزيفة.
أردفت لها با�س ًما:
و� ُ
لقد فعل ِتها من قبل دون �أن تدري يا غفران ..حكى يل ريان عن
أنت وندمي ..كان خري ما فعل ِته وقتها �أن خرب حبكما
ق�صتك � ِ
قد انتقل للعامة ،كان ذلك حماي ًة له ..كان �أمركما على و�شك
الإمتام لوال اجلرمية التي ارتكبها ندمي قبلها ب�شهر.
�أوم�أت غفران بر�أ�سها �إيجا ًبا ،ثم قالت بنربة قلقة:
43
رمبا مل يكن لكيوان هذا النفوذ وقتها ..
قلت:
ُ
لو كنت مكان كيوان وعرفت �أن �إحدى الن�سليات حتمل جني ًنا
�شري ًفا �س�أنتظر خوف الفتاة مني و�أن تختفي بجنينها ،لأبحث
عنها ،و�أقتلها هي وجنينها دون �أن يدري �أحد من الأ�شراف
دا
ولتكن عربة للن�ساىل ..لكني لن �أتوقع �أبدً ا �أن يواجهني
ر
الن�ساىل حمتمني برتقب الأ�شراف لردة فعلي� ،س�أ�صاب
ص ع
باالرتباك و�س�أفكر كث ًريا يف كل خطو ٍة قبل اتخاذها � ..س�أعمل
ال ري
فقط على �أال يتكرر الأمر � ..س�أزيد جرعة الظلم للباقني،
ت ك
�س�أجعلهم يكرهون اليوم الذي حملت فيه �سبيل ..ويف الوقت
ل ب
ذاته �س�أنتظر فر�صة خط�أ واحد لتلك الفتاة ..وقتها �س�أقتلها
و ر
و�أنا لن �أخطئ خط�أً واحدً ا �إىل �أن ي�أتي الت
فقالت �سبيل:
جنيني.و
زيع فقلت لها:
ُ
منك.
�سيجنّ جنون كيوان مع باقي الن�ساىل ،لكنه لن يقرتب ِ
يل غفران ،وبدا على وجهها االقتناع مبا قلته ،وقالت فنظرت �إ ّ
با�سمة:
ح�س ًنا ،لن�ستغل عدالة چارتني املزيفة ..ول ُنعلم الن�ساىل � ًإذا ما
ينتظرهم.
b 44
ري من �شبان الن�ساىل وفتياتهم قد مع منت�صف النهار كان كث ٌ
ح�ضروا �إىل الفناء الأمامي ملدر�سة غفران التي بناها ريان ومن معه
..مل يكن يعرف �أحد ما الأمر �سواي �أنا وغفران ،حتى ريان الذي كان
قد ح�ضر وجل�س يف ال�صف الأمامي بجواري بدت على وجهه عالمات
التعجب من ذلك االجتماع املفاجئ ،و�س�ألني عن الأمر ..فلم �أرد �أن
هاما تود غفران �إخبارنا�أف�سد له املفاج�أة ،و�أجبته ب�أن هناك �أم ًرا ً
دا
به ،دون �أن �أقول �أي �شيء عن �سبيل وطفلها.
ع ر
امتلأ الفناء عن �آخره بالن�ساىل ،ووقف كثريون �آخرون يف املنطقة
ريص
ال
املت�سعة خارجه لعلهم ي�سمعوا ما �ستتحدث به ال�سيدة ..ثم خرجت
�إلينا غفران يف ثوبها املنزوع الكتف يلمع و�شمها الأزرق مع �أ�شعة
ت ك
ال�شم�س املتقدة فوقنا ..ف�أ�شار ال�شبان �إىل بع�ضهم البع�ض كي
دا
جيل �إىل جيل ،يف
على ذلك الأ�سا�س ينقلون كرههم لنا من ٍ
ع
كتبهم ،يف جل�ساتهم ،يف حكاياتهم ..وانتقل ذلك ال�شعور
ر
ريص
�إلينا ،فقدنا الإح�سا�س ب�أننا ب�شر و�ص ّدقنا �أننا بهائم نعي�ش
ال
من �أجل ال�شهوة فقط ال غري ..قتل ..رذيلة ..قطع طرق ..
ت ك
�سرقة ،ويف النهاية ُنقتل كالنعاج على من�صة چارتني بذنب �أو
ع زي امل�سار بزواج حيدر من �سبيل قبل خم�سة �أ�شهر ..
وعلي ..ولكني
�أعلم �أنها كانت �شهو ًرا �صعبة للغاية ..عليكم ّ
من اليوم الأول كنت �أعلم �أن تغيري م�صائر الأقوام لطاملا
ارتبط ب�أكرث الآالم �شدة ..وما زلت �أ�ؤمن ب�أن ذلك الأمر مهما
طال �سيمر.
وعادت خطوتني �إىل اخللف ،وا�ستدارت لت�شري �إىل �سبيل التي
كانت متوارية بداخل كوخها ،فتقدمت �سبيل ووقفت �أمامنا ،ف�شهق
ب�صوت قوي:
ٍ اجلميع وهمهموا غري م�صدقني عودتها ،ف�أكملت غفران
46
�أيها ال�سادة �إنكم هنا اليوم لأخربكم ب�أن �أر�ض چارتني قد
�أوفت بوعدها لنا ،وتركت م�صريكم ب�أياديكم � ..إن �سبيل
حتمل بداخلها �أول جنني �شريف من ن�سل الن�ساىل.
حد غري م�سبوق ،وا�ستحالت تعابري الوجوه
زادت الهمهمات �إىل ٍ
من حويل �إىل وجوه غري م�صدقة و�أخرى م�شدوهة مرتقبة ،و�أخرى
فرحة ،و�أخرى قلقة ،و�أخرى متحم�سة ..كنت ت�ستطيع ر�ؤية كافة
دا
تعابري الوجوه يف ذلك الوقت ،كان �أكرثهم حما�س ًة ريان الذي
ر
ع
احت�ضنني بعدما �أردفت غفران:
ص
ال ري
ح�صدت �سبيل روح جنينها خارج �أ�سوار الباحة يف يوم غري
ت ك
�أيام الغفران ..و�أقر الطبيب فا�ضل �سالمة اجلنني ..
ص ع
أنفا�سها ،وقالت بنربة هادئة م�سموعة: والتقطت �
تخرجت من مدر�سة ال�ضباط و�أق�سمت
ُ قبل خم�سة ع�شرري ال ً
عاما
ل ب
حقوقه الكاملة مثله مثل �أي ل
�شريفن چارتيني ..
�س�أدافع عن هذا اجلنني �
ر ش
�سيدتي..من ال�صفوف اخللفية :وال وت
�صاح �صوت مفاجئ
زيع معك
و�أنا ِ
ثم �صاح �صوت �آخر:
و�أنا كذلك �سيدتي ..
و�صاحت �أخرى:
و�أنا كذلك ..
�صاح ريان:
و�أنا كذلك ..
48
�صحت �أنا الآخر:
و�أنا كذلك ..
�صاح كثريون من بعدي ،وبد�أت الفتيات يطلقن زغاريدهن ،فيما
وقفت غفران �أمامنا بثباتها املعهود تنظر نحونا ،ثم نه�ض الن�ساىل
بع�ضا ،ويهنئون �سبيل ،وتوالت الفتيات من جلو�سهم يحم�سون بع�ضهم ً
دا
فاقرتبت من غفران التي حتركت جان ًبا لتف�سح ُ على احت�ضانها،
ر
املجال للفتيات الالتي التففن حول �سبيل ،وقلت لها با�س ًما:
ص فعلت ع
فقالت بابت�سام ٍة رائعة:ري ال
ال�صواب. ِ
ت ك
ن ل ل ب
اقتب�ست كث ًريا من حديثك يل بال�صباح ..
ُ
ش
ر وا تول
قلت:
زيع
إنك �سيدة هذا الوادي ح ًقا ..
� ِ
�ضحكت وقالت:
ُ ِ
لن كيوان �أن تفوقي عليه باملدر�سة العليا مل يكن حم�ض �صدفة.
b
49
()6
زهير
ر دا
ص ع
ا ري
ال زالت ال�سيدة �سريين لتدعوين بال�صبي الباكي منذ ذلك اليوم
كتوكامت �أ�سراري �آدم ،و�إن م ّر على
ن ل ل ب عرفت فيه �صديقي الأوحد
ُ الذي
ا�سمي زهري ..االبن الأو�سط لأبي ،بني � ٍش
ذلك اليوم وقت طويل.
ر
ُي�سمى كرم و� ٍأخت ت�صغرين بثالثة �أعوام ُت�سمى وال
فريوزتو� ..صرتُ �أنا
يكربين بعام واحد أخ
دا
و�أدركت من اليوم الأول �أنه لو ا�ستمر بهذه الرباعة �سيكون فار�س
ع ر
چارتني الأول قبل �أن يتم عامه الع�شرين ..كانت براعته تلك تذكرين
ريص
برباعة عمي كيوان � ..أف�ضل من ي�ص ّوب ب�سالحه الناري يف چارتني،
ال
دوما �أن �أ�صري مثله و�ألتحق مبدر�سة �ضباط الأمن ،لكني�أرادين �أبي ً
فار�سا �أو حتى كيميائ ًيا مثل �أبي،
ت ك ً
�ضابطا لل�شرطة �أو ً مل �أُخلق لأكون
زيع
�ضابط چارتني الأول ،و�أبي من خرية كيميائي چارتني ،ف�إنني �س�أ�سعى
جاهدً ا لأكون م�ؤرخ چارتني الأول قبل بلوغي اخلم�سني.
b
كان �آدم فط ًنا للغاية رغم �أنه مل يتعلم القراءة والكتابة ،ومع كل
مهاما �إ�ضافية و�أج ًرا �أكرب
يوم كان ينال �إعجاب ال�سيد عبود فيعطيه ً
حاولت كث ًريا خالل مرات لقائنا �أن �أع ّلمه كيفية كتابة احلروف
ُ ..
يغي جمرى وقراءتها لكنه كان �سريع التململ وال يدعنا نكمل ،قبل �أن ّ
احلديث �إىل �أي �شيء �آخر �أو ينه�ض لريكب فر�سه التي ا�شرتاها من
52
�أجره ،ويرك�ض بها جيئ ًة وذها ًبا بال�سهل املنب�سط �أمام التلة الرملية
التي كنا جنل�س عليها ..كررتُ حماوالتي معه ،كان يفعل ما يفعله كل
مرة �إىل �أن ي�أ�ست من رغبته يف التعلم ..
يف �أحايني كثرية عندما كنت �أ�صحبه معي �إىل بيتنا كان �أخواي
ي�سخران منه ب�سبب عدم تعلمه� ،إال �أنه كان يقابل �سخريتهما ب�ضحكة
�صافية ،ذات مرة �سخر منه �أخي كرم ً
دا
قائل:
ع ر
�إنك ت�شبه الن�ساىل ..
ريص
ال
وتابع:
زيع
ال �أعتقد �أن هناك ن�سل ًيا ي�ستطيع �صنع �سالح ناري مثلي ..
نظرنا بانبهار نحو �آدم �أنا و�أخي و�أختي ،و�س�ألته �أختي بت�شكك:
هل ت�ستطيع ح ًقا �صناعة �سالح ناري؟!
�أجابها �آدم هاد ًئا:
نعم ..نقلني ال�سيد عبود �إىل ور�شة الأ�سلحة النارية ..
فقالت متباهية:
بدون �أبي ال قيمة لأ�سلحتكم التي ت�صنعونها ..
53
متخ�ص�صا يف �صناعة
ً كانت حمق ًة بع�ض ال�شيء ،كان �أبي كيميائ ًيا
البارود الذي ُتعب�أ به طلقات الأ�سلحة النارية وقذائف املدافع ب�شتى
�أنواعها ..
�أوم�أ �آدم بر�أ�سه �إيجا ًبا ،وقال:
نعم ..هكذا ُخلقت الدنيا ملختلف الأعمال � ..س�أكون �صان ًعا
دا
ماه ًرا للأ�سلحة النارية ..والدك ومن معه ي�صنعون البارود ..
ر
أنت رمبا ت�صريين طبيبة ..ك ٌل دار�سا للتاريخ ..و� ِ
زهري �سيكون ً
ص
له عمل خم�ص�ص يخدم به چارتني و�أهلها ..ع
ال ري
و�صمت لثانية و�أكمل:
ت ك
ب
�أو ال يخدمها � ..إن كان غب ًيا متعجر ًفا ..
ن ل ل
ش
كنت �أعلم �أنه يل ّمح �إىل كرم ..كان �أخي ي�شبه عمي كيوان �إىل
ر وا تول
حد كبري ،متعجرف منذ �صغره ،كثري امل�شاكل مع زمالئه باملدر�سة
زيع
ومعلميه ،يكره بريحا وينتظر اليوم الذي يذهب به �إىل جويدا ،و�إن
أي�ضا كنت �أمتنى الذهاب �إىل جويدا حيث كان ذلك ال يعيبه ف�أنا � ً
وتقدما عن مدينتنا ال�صغرية البعيدة ،والباحة
ً املدينة الأكرث حت�ض ًرا
التي حكى يل �أبي عنها كث ًريا ،واالحتفاالت التي تدور فيها ،ون�ساء
أرواحا لأطفالهن ..حكيت لآدم
الن�ساىل ال�سافالت الالتي يح�صدن � ً
ذات مرة عن حلمي بالذهاب �إىل هناك ،كنت �أعلم �أنه عا�ش لفرتة
هناك قبل �أن ت�أتي به ال�سيدة �سريين �إىل مدينتنا ..قال �أنه يتذكر
الباحة وروعتها ،وحدثني عن القائم اجلانبي الذي ت�سلقه ذات مرة
كي يرى ما يحدث على من�صتها � ..س�ألته يف ترقب وقتها �إن كان قد
ر�أى ن�سل ًيا ُيقتل على املن�صة ،قال وهو يتذكر:
54
بكل ت�أكيد ..لقد ر�أيت �أحدهم ُيقتل ..
ليل ،وكانت ال�سماء �صافي ًة ممتلئ ًة كنا يومها جنل�س فوق التلة ً
بالنجوم ،فا�ستلقيت بظهرى على الرمال ،وقلت و�أنا �أنظر �إىل ال�سماء:
يوما ما ..هناك ُيكتب تاريخ چارتني
�س�أذهب �إىل جويدا ً
احلقيقي ..
دا
ونظرتُ �إىل �صديقي ،وقلت:
ر
ص ع
هل �ست�أتي معي �إىل هناك وقتها؟
ت ك
ب
�أظن �أن �سريين لن تر�ضى بذلك �أبدً ا ..
ن ل ل
ش
�ضحكت ،وحدثته عن عمي �ضابط الأمن املُكلف بق�ضايا الن�ساىل ُ
ر وا تول
يف جويدا ،وعن �سالحه الناري الذي يردي من يعرت�ض ً
قتيل من
زيع
ت�صويب ٍة واحدة ،وعن حكاياته التي ت�صلنا مع القادمني من هناك،
وق�سمه على املن�صة ب�أال يرتك ن�سل ًيا واحدً ا من ن�ساىل چارتني ،وقلت
با�س ًما:
�س�أكتب يوما كتا ًبا كب ًريا عن چارتني ..رمبا �أذكر فيه ً
ف�صل
كامل عن عمي كيوان .. ً
و�أكملت بعدما الحظت �أن �آدم قد �شرد بنجوم ال�سماء:
�س�أذكر احلقيقة ال غري ..لن �أجامله و�إن كان عمي ..
مازحا وهو يلتقط حج ًرا �صغ ًريا ليدحرجه
ابت�سم �صديقي وقال ً
من فوق التلة كعادته:
55
تن�س �أن تكتب ً
ف�صل عني �أنا الآخر .. ال َ
�ضحكت وقلت:
ح�س ًنا ،ف�ص ٌل كامل با�سم �آدم ..فار�س چارتني الأول ..
ف�ضحك ،وا�ستلقى بظهره هو الآخر �إىل الرمال ،ليوا�صل �شروده
بني �أفكاره.
b
ر دا
ص هكذا مرت �ع
ا �سالم بني مزيج منري
أيامنا �سو ًيا ك�أي �صبيني يف عمرنا ت�سري �أيامهما يف
اجلد واللهو ..ومع مرورها ازدادت معرفتي ل
ك
يف ظل تكليف ال�سيد عبود له ب� ت ٍ
مبعلومات �أكرث عن تاريخ بلدنا ،كذلك ازدادت قوة �آدم الع�ضلية ٍ
دا
حديدية غليظة من رقبته و�أطرافه الأربع ،فيما مي�سك ب�أطراف
أ�شخا�ص عاديني مثلنا يبدون �أقل حج ًما
ٍ
ع ر
ال�سال�سل الأخرى ب�ضعة �
ص
بالن�سبة له ،وتظهر على وجوههم مالمح اخلوف منه ..قبل �أن �أنتبه
ال ري
�إىل و�شم الن�ساىل املتواجد على �صدر ذلك الوح�ش املر�سوم.
ت ك
ش bب للن
وال ر
و ت
عزي
57
()7
ريان
ر دا
ص ع
ا ري
كان الوقت قد اقرتب لمن غروب ال�شم�س حني ان�صرفت �آخر
كتالذين جتمعوا مبدر�سة ال�سيدة
ب
غفران ،مل يبقَ غريي �أنا وناردين و�سبيل للمعن الطبيب وال�سيدة ..كان
جمموعة من ال�شبان والفتيات
وجه ال�سيدة ال يزال �شاردًا بع�ض ال�شيء ش
فيماروقف الطبيب جان ًبا
يراقب تعبريات ًوجهها يف �صمت ك�أنه يعرف ما وا ول
تفكرت به،
زيع
فقطعت
ُ
ذلك ال�صمت قائل:
�سي�سري خرب حمل �سبيل كالنار يف اله�شيم بني �أرجاء وادينا
ووديان الن�ساىل الأخرى ومن ّثم �إىل مدن چارتني � ..ستعرف
چارتني كلها هذا اخلرب قبل �شروق ال�شم�س ..
فابت�سمت �سيدتي وقالت مازحة:
لنحافظ على �سبيل � ًإذا حتى �شروق ال�شم�س ..
قالت ناردين:
59
ت�ستطيع �أن ت�أتي معنا �إىل الوادي املظلم الليلة ..
قالت �سيدتي:
لن ت�أتي معكم �سبيل مبفردها� ،س�آتي �أنا الأخرى ،وقد يرافقنا
الطبيب �إن �أراد ..علينا �أن نحتفل بهذا الطفل ال�شريف ..
دا
ورمقت الطبيب بطرف عينها وهي تقول:
ع ر
ال �أعتقد �أن الطبيب قد �سمع مو�سيقا ال�شامو من قبل ..
ريص
ال
فرحا:
�ضحك الطبيب و�أوم�أ بر�أ�سه ناف ًيا ،فقلت ً
ت ك
ح�س ًنا �س�أخرب ال�شبان ب�أننا �سرنق�ص ال�شامو الليلة ..
ر وا تول
من الغد �ستبقى �سبيل معي يف كوخي � ..أعتقد �أنني ما زلت
زيع
�أ�ستطيع ركل م�ؤخرة �أحدهم �إن حاول االقرتاب منا ..
�ضحكنا جمي ًعا ،ثم تركتهم لأ�سرع ب�إبالغ ال�شبان �أن ال�سيدة
والطبيب �سيتواجدان معنا تلك الليلة بالوادي املظلم.
b
كان الطق�س يف تلك الليلة رائ ًعا خا�ص ًة مع ل�سعة الهواء الباردة
التي كانت تداعب وجوهنا ،ك�أنه �أراد �أن يهن�أنا هو الآخر بحدثنا
الهام.
60
�أُ�شعلت النريان يف �إطا ٍر دائري يف الوادي املظلم ..كان ال�شبان
والفتيات قد ح�ضروا قبل ح�ضور ال�سيدة والطبيب و�سبيل ليكون
ح�ضو ًرا هو الأكرب منذ جلوئنا �إىل الوادي املظلم ..فيما كان العدد
قليل للغاية بني رجال ن�ساىل مل يرغبوا يف الذي تبقى بوادي الن�ساىل ً
القدوم معنا ون�ساءٍ �أخريات كان �أغلبهن �أكرب �س ًنا ،كنا نعلم �أنهن مل
يوما ما ..بل كنَّ من منتظري الأ�شراف لينالوا يتخذن م�سارنا قط ً
دا
عمالتهم النحا�سية مقابل ما يقدمهن لهم يف املقابل ،كما عودتنا
ع ر
ال�سيدة غفران مل نحجر على فعل �أحد ..كل واحد حر فيما يفعله
ريص
ال
خ�صي�صا
ً وله احلق يف اختيار حياته ،غري �أن بقاءهن تلك الليلة
كان �سي�ساعد يف انت�شار خرب حمل �سبيل بطفلها ال�شريف �إىل رجال
ت ك الأ�شراف بق�صد �أو بدون ق�صد ..
ر وا تول
ال�شكل ..لطاملا اعتربناه خمب�أً من عيون الأ�شقياء� ،أما ذلك اليوم
زيع
فكان لالحتفال وح�سب ،ولي� ِأت َمن ي�أتي من الأ�شقياء اجلبناء �أو
من رجال ال�شرطة �إلينا ..كنت �أعلم �أن ذلك لن يحدث ،هم جبناء
للغاية ،يعلمون جيدً ا �أن قدومهم �إىل ذلك الوادي لن يكون نتيجته
�إال لقاء حتفهم ،رمبا كانت تلك امليزة الوحيدة من �سمعة الن�ساىل
ال�سيئة ..و�إن مل يرتكب �أحد من احلا�ضرين جرمية قتل من قبل.
نكتف بالنريان امل�شتعلة فقط بل ان�ضم �إلينا العازفون تاركني مل ِ
احلانة تلك الليلة ،كان اجلميع يف قرارة نف�سه يود �أن ي�شاركنا
فرحتنا ،ثم ح�ضرت ال�سيدة والطبيب و�سبيل فد ّقت املو�سيقا ،كانت
املرة الأوىل التي تدق فيها مو�سيقا ال�شامو منذ ليلة احلريق الهائل
ب�شوق كالظم�آن الذي تذوق ما ًء عذ ًبا بعد
بالوادي ..تلقتها �آذاننا ٍ
61
�أيام طويلة من ت�شقق حلقه ً
عط�شا ..ثم نه�ض �أول ال�شبان ومد يده
�إىل فتاة كانت جتل�س على بعد خطوات منه فنه�ضت وتق ّدمت معه
�إىل منت�صف الدائرة �أمامنا حيث غطى كل منهما عينيه بع�صب ٍة
قما�شية ليبد�آ رق�صتهما ..ثم نه�ض فتى وفتاة �آخران ،وبعدها نه�ض
ري من ال�شبان والفتيات ..كان الطبيب يراقب حركات الراق�صني كث ٌ
وهم يتحركون بان�سيابية بالغة دون �أن يرتطم �أحدهم بالآخر وهم
دا
مع�صوبي الأعني ،بينما ت�صدح مو�سيقانا يف �سماء الوادي دون � ّأي
قدوم مفاجئ لأ�شقياء الأ�شراف �أو �ضباطهم بعدما
ع ر
خوف �أو قلق من ٍ
ريص
ك ّلفت ال�سيدة بع�ض ال�شبان مبراقبة اجلهة املواجهة لوادينا والإبالغ
ال
�شخ�ص �أو عربة.
ٍ عن قدوم �أي
ت ك
ل ب
كانت عالمات الده�شة على وجه الطبيب ت�ضحكني للغاية ..
ر وا تول
الأوىل ،لكني فوجئت ح ًقا عندما وجدت الطبيب ينه�ض وميد يده �إىل
زيع
ال�سيدة غفران كي تنه�ض وترق�ص معه ..وقتها نظرت �أنا وناردين
و�سبيل �إليهما غري م�صدقني ما يحدث يف انتظار ردة فعل ال�سيدة،
فنظرت �إلينا و�ضحكت ،وقالت مازحة:
يبدو �أن الطبيب ال يكف عن تذكريي بكوين ن�سل ّية ..
ثم مدت �إليه يدها ونه�ضت ،ف�صرخنا مهللني من الفرحة عندما
تق ّدما �إىل منت�صف الدائرة ،حتى �أن بع�ض ال�شبان قد �أزالوا ع�صبهم
القما�شية عن �أعينهم لريوا �سبب ذلك ال�صياح املفاجئ ،وه ّللوا معنا
حني وجدوا ال�سيدة والطبيب يقفان بجوارهم يف انتظار بدء رق�صتهما
ألقيت ع�صب ًة قما�شية �إىل الطبيب ،و�ألقت ناردين ع�صبتها �إىل
ُ � ..
62
ال�سيدة ،وقام كل منهما ب�إخفاء عينيه ،ثم بد�آ رق�صهما على مو�سيقا
العازفني ،فو�ضع باقي ال�شبان ُع�صبهم من جديد ،و�أكملوا رق�صهم
يف حما�س هم الآخرون ..بينما جل�ست �أنا وناردين و�سبيل وعدد قليل
من ال�شبان والفتيات ن�شاهدهم وهم يرق�صون ..ون�ضحك مقهقهني
ب�شاب �أو فتا ٍة بجواره ..غري �أننا
كلما ارتطم الطبيب بني حني و�آخر ٍ
الحظنا جمي ًعا �أن ال�سيدة غفران جتيد الرق�ص وك�أنها ُولدت ن�سل ّية ..
دا
كنت �سعيدً ا للغاية بتلك ال�ضحكة البادية على وجهها وهي ترق�ص ..
ع ر
كنت �أعرف �أنها ت�ستحق كل حلظة �سعيدة بعد ما تكبدته من �أحزان
ريص
ال
داخل وادينا ..
ك
حد ما وق ّل معدل
ت
مع الوقت �صار رق�ص الطبيب �أف�ضل �إىل ٍ
ل ب
حد معقول ،ف�أطلقنا �صفرينا ن�شجعهما ،وك�أن ارتطامه مبن حوله �إىل ٍ
دا
..يف احلقيقة �ساعدت فتيات الرذيلة يف انت�شار ذلك الأمر ب�صور ٍة
ر
كبرية� ،أ َّما العامل الأكرب النت�شاره فكان وجود يوم الغفران على بعد
ص ع
�ستة �أيام فقط من �إعالن ال�سيدة عن حمل �سبيل ،وخرب مثل هذا
�صباحا لتجد كل الأل�سنة
ال ري
يكفيه �أن ينطق به ل�سا ٌن واحد داخل الباحة ً
ت ك
ن�سلي ح�ضر �إىل
�شاب ٌ
تتحدث به قبل حلول منت�صف النهار � ..أخربين ٌ
ل ب
الباحة �أنه الحظ هبوط الفار�س كيوان عن املن�صة و�صعوده مرتني يف
ع ر
ذلك كانت �صدورنا جميعها عارية ،وكذلك �أكتاف الفتيات الي�سرى
ريص
ال
مبا فيهن ال�سيدة غفران ..كذلك ت�أكدنا �سري ًعا �أنه مل يبقَ �أح ٌد من
الأطفال خارج الأكواخ ..كانت حلظات ارتباك �شديدة رغم �أننا كنا
ت ك ننتظر حدوث ذلك الأمر.
ر وا تول
طلق ٍة و�أخرى مدة ثابتة من الوقت ،كانت �أ�صواتها تزداد �أكرث ف�أكرث
زيع
مع اقرتابهم� ،إىل �أن ظهرت املجموعة الأوىل من الفر�سان ومعهم
�أُطلق وابل من الطلقات النارية �إىل ال�سماء ..مل �أح�ضر الليلة التي
ح�ضر بها الفار�س كيوان �إىل الوادي للمرة الأوىل حني اعتقل الأحد
ع�شر ن�سل ًيا ،لكنهم حكوا يل عنها كث ًريا ،ومع تقدم الفر�سان نحونا
كنت �أ�شعر �أن ذلك النهار �سيكون �أ�سو�أ و�أ�سو�أ ..
هبطت جمموعة اجلنود الأوىل عن خيولها ،وبد�أت يف �إخراج
بعنف �شديد ،و�أوقفوهم �أمام �أبوابها ..يف خالل
الن�ساىل من الأكواخ ٍ
وقت ق�صري كانت الفتيات قد �أُخرجن جمي ًعا �إىل الطرقة املمتدة �أمام
ٍ
الأكواخ وكذلك الأطفال الذين حاولنا �إخفاءهم قبل قليل ..كذلك
65
�أُخرجت ال�سيدة غفران و�سبيل و�أوقفهما �أحد اجلنود بغلظ ٍة �أمام
باب كوخ �سيدتي ،قام الطبيب من تلقاء نف�سه بالوقوف �أمام كوخ
وقفت مكاين �أمام باب كوخ التخزين املغلق ..
عيادته ،بينما ُ
ملحت بعيني جمموعة �أُمرنا جمي ًعا بالركوع فركعنا على ركبناُ ،
�أخرى من الفر�سان يتجهون �إىل �شارع �آخر غري الذي نتواجد به،
دا
فعلمت �أن ما يحدث لنا �سيحدث لكافة ن�ساىل الوادي ..
ُ
ع ر
ظللنا راكعني على ركبنا ملدة طويلة دون �أن يحدث �أي جديد،
ريص
راكعني ُم�سلطة الأ�سلحة النارية نحو ر�ؤو�سنا فح�سب ،بينما يرك�ض
ال
�أحد الفر�سان بح�صانه �أمامنا جيئ ًة وذها ًبا ل ُيرتب وجوهنا و�أج�سادنا
ت ك
بغبار �أقدام ح�صانه عن ق�صد ،بني ح ٍني و�آخر كنا ن�سمع �صوت طلقة
ي ز
بخيولهم �أمامنا جي ًئة وذها ًبا قد زاد من فار�س واحد �عإىل �أربعة
الفر�سان الراك�ضني م�ضى ٌ
فر�سان ،كان بينهم امر�أة ..دون �أي جديد �آخر ،حاول طفل ال يبلغ
ال�ساد�سة الرك�ض ،فركله �أحد اجلنود بق�سوة ،ف�سقط مو�ضعه ين�شج
عال ..مل ي�ستطع �أحدنا فعل �أي �شيء ،من ينه�ض من مو�ضعه
ب�صوت ٍ
ٍ
متاما �أنه لن يتحرك خطوة واحدة �إال وقد اخرتقت ر�صا�صة يعلم ً
�أحدهم م�ؤخرة ر�أ�سه.
هد�أ نحيب الطفل مع الوقت ومل تهد�أ طلقات البارود الآتية من
املناطق الأخرى من الوادي ،كنت �أملح بعيني وجه ال�سيدة غفران
66
املتجهم وهي راكعة تنظر �إىل الفراغ �أمامها دون �أن حترك ر�أ�سها
ميي ًنا �أو ي�سا ًرا خالل املدة الطويلة التي �أركعنا بها الفر�سان ..بينما
كانت نظرات الطبيب تتجه بني ح ٍني و�آخر �إىل �سبيل التي بدا وك�أنها
خ�شيت وقتها �أن يكون �سر ذلك الركوع الطويل
ُ تقاوم الركوع ب�أ ٍمل بالغ،
هو �إجها�ض �سبيل ،وبد�أتُ �أ�صرخ �إليها داخل نف�سي:
دا
ـوك ..
متـ ـ ـ ــا�سكي يا�سبي ـ ــل ،ا�صمـ ـ ــدي �أرج ـ ـ ـ ِ
ع
وك�أن �سيدتي قد تنبهت �إىل الأمل البادي على وجه �سبيل ،مدت
ر
ريص
يدها �إىل فخذها وربتت عليها ك�أنها تناجيها هي الأخرى ب�أن تتما�سك،
ال
ف�صاح �إليها �أحد اجلنود لرتفع يديها فوق ر�أ�سها ،ففعلت �سيدتي ما
ت ك
�أمر به اجلندي على م�ض�ض ،و�ش ّبكت يديها خلف م�ؤخرة ر�أ�سها،
فالتقطت �أنفا�سي ..
ُ
ن ل لب
فهزت الفتاة �إلينا ر�أ�سها �إيجا ًبا ب�أنها بخري،
شمل �أعد �أ�شعر ب�أقدامي
أخذل م�سارها نحوا و ر وا�صلنا ركوعنا لفرتة �أخرى طويلة حتى �أنني
زاجلوعى ت
الغروب وظهر ال�شفق الأحمر بال�سماء ،فزاد عويل ال و
من ِالدر الذي �أ�صابها ..ثم بد�أت ال�شم�س ت�
ي
دون �أن يحرك ذلك �أي ذرة عاطفة لدى جنود الأ�شراف ..عبالعك�س
أطفال
تناوب معظمهم على ركل َمن يعلو نحيبه من الأطفال ..كذلك �ضرب
طفل يبكي ب�سوطه من فوق ح�صانه ،قبل �أن يوا�صل �أحد الفر�سان ً
رك�ضه بفر�سه ك�أن �شي ًئا مل يحدث ..
ثم توقفت اخليول الراك�ضة �أمامنا عن حركتها �أخ ًريا وهد�أت
معها اجللبة التي كانت حتدثها ،و�سكت الأطفال عن نحيبهم كذلك
بكلمات مت�سارعة اعتدل معها كافة اجلنود الذين
ٍ عندما �صاح جندي
يقفون خلفنا يف وقفتهم ،ومل متر حلظات �إال وظهر من بعيد على
67
فر�سه الفار�س كيوان ..مي�شي ح�صانه ال�ضخم �إىل داخل الوادي
بت�ؤدة ،يتبعه من خلفه على بعد خطوات �أربع ٌة من اخليول حتمل
فر�سانها فوق �صهوتها ،ثم توقف بح�صانه وهبط عنه وتركه لأحد
اجلنود ،فيما توقف مرافقيه من الفر�سان عن التقدم دون �أن يهبطوا
عن �أح�صنتهم ،ثم وجدته يتقدم مبفرده بني الراكعني امل�صطفني
على اجلانبني.
ر دا
ع
كنا يف نهاية الطرقة وكنت �أعلم �أنه قد �أتى من �أجلنا نحن� ،أو من
عيني
ريص
�أجل �سيدتي و�سبيل على وجه التحديد ..كان ال�شر البادي يف ّ
ال
ذلك الرجل يجعلك ت�شم رائحة املوت وك�أنه قد ُخلق مراف ًقا لظله ..
ت ك
ب
كانت عيني تتجه �إىل ال�سيدة التي كانت تنظر �إىل الأر�ض دون �أن
ن ل ل
ترفع عينيها �إليه وهو قادم ،بينما بدا وجه �سبيل مرتع ًبا � ..صرخ طف ٌل
ش
ر وا تول
فج�أة ،فتوقف الفار�س كيوان عن �سريه� ،شعرتُ �أنه �سيلتفت ليخرج
�سالحه الناري لي�سكت ذلك الطفل �إىل الأبد ،لكنه وا�صل خطواته
زيع
جتاهنا بعد حلظ ٍة واحدة ،دون �أن يلتفت �إىل الطفل ،ثم اقرتب مني
م�سرعا ،ومل �أرفعها �إال عندما جتاوزين
ً فخف�ضت عيني �إىل الأر�ض
ُ
..مل يع ّلق على ارتداء الطبيب قمي�صه ،كان يعلم كل �شيءٍ عن
وادينا ،ويعرف �أن الطبيب من بالد �أخرى فتجاوزه هو الآخر دون
اكرتاث� ،إىل �أن وقف �أمام ال�سيدة غفران و�سبيل الراكعتني � ..ألقى
نظر ًة مطولة نحو الو�شم املر�سوم على كتف �سيدتي ،فرفعت �سيدتي
عينيها �إليه يف تلك اللحظة ..كانت نظرة التحدي يف عينيها توحي
ب�أن هزميتها لن تكون بتلك ال�سهولة التي يت�صورها �أبدً ا ..
68
لثوان قبل �أن يحرك نظره �إىل �سبيل ..مل
نظر يف عني �سيدتي ٍ
يكن �أحدنا يعرف فيما يفكر ذلك الرجل ..ظل واق ًفا �أمامهما لدقائق
يح ّدق يف �سبيل ،قبل �أن يحرك نظره �إىل ال�سيدة غفران مرة �أخرى ..
فوجئت به ي�ستدير ويعود مبتعدً ا عن ال�سيدة غفران و�سبيل دون �أن
ُ ثم
م�سرعا ..بكى طفل �آخر �أثناء
ً ي�صيبهما مبكروه ،فنظرت نحو الأر�ض
عودته ،لكنه مل ميهله هذه املرة� ،أخرج �سالحه الناري وبر�صا�ص ٍة
دا
واحدة �أ�سكت الطفل و�أ�سكت جميع الأ�صوات من حوله ،قبل �أن
ع ر
يح�ضر له اجلندي ح�صانه وميتطيه ويغادر مبتعدً ا ..ومن بعده غادر
ريص
ال
جميع اجلنود والفر�سان.
ت ك
لنبل b
ر ش
وال وت
زيع
69
()8
ريان
ر دا
ص ع
يفل ذلك اليوم ثالث ًة من �شبان الن�ساىل
ري
كانت ح�صيلة املوتى ا
يكملت اخلام�سة من عمره والذي قتلهبالإ�ضافة �إىل الطفل الذي ملك
ن ل كيوان� ،أربع ٌة �آخرون �أ�صابتهم طلقاتب ل
ر من �أج�سادهم لكنهم مل ميوتوا ،كان جميعهمش
اجلنود يف �أماكن متفرقة
الوادي و�أتى بهم باقي ال�شبان م�سرعني �إىل كوخ وال وت
بال�شوارع الأخرى من
دا
قال الطبيب م�ستنك ًرا:
ع ر
وذلك الطفلَ ،من قاوم؟!
ريص
ال
قالت:
ت ك
ُ�سيقال ر�صا�صة طائ�شة كانت متجهة �إىل �أحد املقاومني
ر
من الليلة ولن يقرتب منا �أي �شريف ،على الأقل لن يقرتب من
دا
ع
�سبيل� ،أما �أنا ف�س�أتوىل �أمر َمن يفكر فقط يف االقرتاب مني،
ص
ال ري
و�إن كنت �أعتقد �أن كيوان قد �أمر بعدم �إيذائي � ً
أي�ضا� ،إنه لي�س
ك
من ذلك النوع الذي ينهي حربه مبك ًرا � ..سيو ُّد �أن ي�ستمتع
ب ت
ل
بهزميتي ..
73
لن يختلف املوت هنا عن املوت يف بني عي�سى عن املوت يف
بالدي القدمية � ..إين �أ�ؤمن مبا تفعلينه يا غفران ،و�أ�ؤمن
متاما بحق ه�ؤالء الب�شر يف حياة �شريفة مثل باقي �أهل چارتني
ً
..لن �أترك الوادي �أو �أتركك مهما حدث ،ليوا�صل ك ٌل منا عمله
من �أجل هذا الوادي ونا�سه ،وليفعل ما يف و�سعه � ..س ُيولد هذا
متاما �أنه لن يكون املولود الأخري
اجلنني على يدي ،و�أنا �أثق ً
دا
ال�شريف من ن�سل الن�ساىل ..
b ع ر
ريص
ال
يف خالل الأيام التالية �أ�صبحت �أحاديثنا كلها عن ال�شهور املتبقية
ت ك
لوالدة �سبيل � ..أعتقد �أن كل ن�سلي يف وادينا بد�أ ي�شعر وك�أن ذلك
ش ن
ال�سيدة كان اجلميع ي�ساعد �سبيل على �أال تبذل �أي جهد �إ�ضايف ..
ر وا تول
و�إن حدث لها �أي �إعياء انتظر اجلميع بكل قلق خرب ت�أكيد الطبيب
فا�ضل ب�أنها بخري � ..صار ذلك الطفل حمور احلكايات يف جمال�سنا،
زيع
ي�شب ليجد كل �أهله ن�ساىل ،ع ّما �إن كانت
ع ّما �سي�شعر به جتاهنا حني ّ
�سبيل �ستذهب به �إىل جويدا للعي�ش بني ال�شرفاء بعيدً ا عن حياتنا
املكفرة �أم �ستبقى به بيننا ،عما �إن كان �سيتزوج �إحدى بنات �أ�شراف
جويدا �أم �سيتزوج ن�سلي ًة مثل �أبيه ،فت�صري زوجته �شريف ًة � ً
إكراما له
� ..أو يكون ذلك اجلنني �أنثى فتتزوج ن�سل ًيا ،في�صري زوجها �شري ًفا
إكراما لها.
� ً
وزاد بنا الأمر �أننا تراه ّنا �إن كان ذلك اجلنني ذك ًرا �أم �أنثى ..كان
رهاين �أنه ذك ٌر ،كذلك تراهن بع�ضنا على اال�سم الذي قد تختاره له
�أمه �سبيل �أو ال�سيدة غفران� ،إن تركت لها �سبيل ذلك الأمر.
74
مع تلك الأحاديث �صار الذهاب �إىل الوادي املظلم �أم ًرا ممت ًعا
بالن�سبة لنا ،وباتت لياليه �أف�ضل كث ًريا من �أيام ال�سهر يف حانات
وادي الن�ساىل � ..شعرتُ �أن كثريين قد بد�أوا يفكرون يف تكرار ما
فعله حيدر و�سبيل لكنهم �آثروا انتظار مرور الأ�شهر التالية لريوا ماذا
�سيحدث مع والدة ذلك الطفل ،غري �أننا فوجئنا �صباح �أحد الأيام
واد �آخر ا�سمه « ُزردق» ي�أتي �إىل وادينا ليخرب ال�سيدة
ب�شاب ن�سلي من ٍ
ٍ
ر دا
عن نيته يف الزواج من فتاة ن�سلية تنتمي �إىل واديه كانت قد �أتت معه
ص ع
..و�أردف ب�أنهما تعلما على يد �أحد ال�شبان الذين قد تعلموا مبدر�سة
ال ري
ال�سيدة غفران قبل �أن يعود �إىل واديهم � ..أتذكر مالمح الفرحة التي
ت ك
ظهرت على وجه �سيدتي وهي تقول ب�أن ذلك ما �أرادته ح ًقا ب�إعالن
ر دا
على �صدره ،وبنطاله البايل املمزق لظننت �أنه من مدللي الأ�شراف
ص ع
..غري �أنه كان ميتلك ل�سا ًنا ال يتوقف عن �إلقاء املزاح والنكات �أبدً ا،
ال ري
�أما خطيبته فكانت نحيف ًة للغاية ،قد يكون ً
ذراعا واحدً ا منه �أ�سمن
ت ك
ح�سا فكاه ًيا جعلها ال تكف من خ�صرها ،كانت هي الأخرى متتلك ً
ش ن
اللتني ت�شبهان عيدان الذرة على حد قولها ..كانت تلك الفتاة مت�شي
ر وا تول
مهرول ًة �أمامنا �أثناء ذهابنا �إىل الوادي املظلم ب�سرع ٍة كبرية بينما
زيع
أنفا�س �صاخب ٍة الهثة جتعلك تنده�شبثقل كبري و� ٍ يتحرك ُزردق خلفنا ٍ
كيف تالقى هذان االثنان ..
b
نوعا من املرح �إىل جل�ساتنا يف الوادي� ،ضحكنا
�أ�ضاف هذا الثنائي ً
حني قال ُزردق ذات مرة �أنهما قررا الزواج بعدما ف�شال فيما ُخلقا
من �أجله ،وعندما �س�أله �أحدنا م�ستفه ًما عما يق�صده ،قالت الفتاة:
ف�شلنا يف �أن نبقى ن�ساىل حقيقني ..هو بدينٌ جدً ا ال ي�صلح
لل�سرقة �أو للهروب �إن ارتكب جرمي ًة ..
76
و�أ�ضافت بلهجة مفتخرة:
و�أنا قبيح ٌة للغايةُ ،ي�صاب الأ�شراف بالقرف واال�شمئزاز �إن
ر�أوا ج�سدي ..قال يل �أحدهم ذات مرة �أن رائحتي ال تٌطاق
وتركني وم�ضى ،ومن يومها مل يزرين �أي �شريف � ..أ�ستطيع
�أن �أبقى يف واديكم كل ليلة دون املجيء �إىل الوادي املظلم،
دا
ٌ
�شريف واحد .. و�أراهنكم �إن اقرتب مني
ع ر
وقتها قفزت يف ر�أ�سي فكر ٌة غريبة قد تغني فتياتنا عن الهروب
ريص
كل ليلة �إىل الوادي املظلم ،وعدت بعدما انتهينا �إىل وادي الن�ساىل،
ال
واجتهت �إىل كوخ الطبيب ،و�أيقظته من نومه فتعجب ،فقلت:
ُ
ت ك
ل ب
ماذا لو كره الأ�شراف ممار�سة الرذيلة مع فتياتنا؟
زيع قلت:
ُتقام ال�شهوة على الرغبة ،ماذا لو كانت رائحة فتياتنا كريه ًة
حد ال ُيطاق فتزول عنهم رغبة ه�ؤالء الأ�شقياء؟
�إىل ٍ
انتبه �إ ّ
يل الطبيب ك�أنه يريدين �أن ا�ستطرد يف حديثي ،فتابعت:
ماذا لو انغم�ست ن�سا�ؤنا كل ليلة يف �أحوا�ض روث البهائم بعد
انتهاء �أعمالنا� ،أو رمبا �أحوا�ض جتميع ف�ضالتنا ..تخ ّيل هذا،
لن يقرتب �أي �شريف من فتاة رائحتها كذلك ..
77
امتع�ض الطبيب مما �أقوله ،وقال:
�سينجني من الأ�شراف لكنهم لن ينجني من املر�ض ..ومع
الوقت �س ُي�صاب رجال الن�ساىل باالمتعا�ض منهن كذلك ،ولن
ُيقبلوا على الزواج منهن� ،سنكون قد رجعنا للخلف خطوات ..
ال تروق يل هذه الفكرة ،و �أعتقد �أنها لن تروق لغفران �أو لفتيات
دا
الن�ساىل ،يبقي هروبهن �إىل الوادي املظلم مع حمايتكم لهن
ع ر
هناك خري احللول �إىل الآن ..
ريص
ال
قلت:
ت ك
�إىل متى �أيها الطبيب؟ �إىل متى �سيظل هذا حالنا؟
ر وا تول
ال �أعلم �إىل �أي وقت �سيطول هذا ..لكن من قراءاتي القدمية
زيع
تغيت فيها �أحوال املنبوذين ..مل يحدث الأمر بني للبالد التي ّ
ليلة و�ضحاها ،ا�ستغرق الأمر جهد �سنوات ..ما علينا �سوى
احلفاظ عما فعلته غفران وزرعته يف هذا الوادي منذ جميئها،
رمبا ي�أخذ الأمر �سنوات لكننا �سنوا�صل البناء ،و�أعني هنا بناء
أ�شخا�صا متعلمني يعرفون حقوقهم ..ن�ستغل كافة
ً الأ�شخا�ص� ،
الفر�ص التي قد ُتتاح لتعليم كل �صغري ن�سلي ،وتربيته على كونه
�شري ًفا داخل عقله ،ليكون م�صطلح الن�ساىل لي�س �إال كلم ًة
ميحوها الزمن مع تق ّدم �سنواته ..قد تت�أخر النتيجة لكن طاملا
ن�سري على ال�صراط ال�صحيح �سن�صل ال حمالة ..
78
قلت:
�أمل ي� ِأت موعد مقاومتهم بعد؟!
كانت املرة الأوىل التي �أ�ص ّرح فيها برغبتي احلقيقية يف مقاومة
الأ�شراف ..فقال الطبيب با�س ًما:
دا
�سيكون انتحا ًرا حقيق ًيا ال مقاومة � ..ستكون فر�ص ًة لكيوان
ع ر
ومن معه لقتل املزيد واملزيد ..لن تفيد �أيادينا العزىل �ضد
ريص
ال
�أ�سلحتهم النارية � ..أرى �أن غفران تدرك هذا جيدً ا .
ر دا
كنت وقتها لن تفكر بتلك الفكرة ذات الرائحة الكريهة �أبدً ا ..
80
كنا ننتظر حلول الغروب وعودة �سوار مع ُزردق وزوجته بفارغ
ال�صرب ،كان ذلك �سيكون االنت�صار احلقيقي الثالث لنا بعد زواج
حيدر و�سبيل وحمل �سبيل بجنني �شريف ،ثم انتهينا من �أعمالنا
ف�أ�سرعنا ُقبيل غروب ال�شم�س �إىل الوادي املظلم ،و�أعددنا �أوجه
االحتفال هناك ..كانت �سيدتي قد �أخربتني ب�أنها �ست�أتي بهم �إىل
احتفال يليق بهذا احلدثً الوادي مبجرد عودتهم لنحتفل جمي ًعا
ر دا
ال�سار ،لكنهم ت�أخروا كث ًريا ومل يظهر � ٌأي منهم مع حلول الليل ..
هبطت الوادي �عإىل �سيدتي لعلهم قد عادوا �إليها و�آثروا �أال ي�صعدوا
ص
�إىل الوادي املظلم ،ف� ري
ُ
افرت�ضت
ُ ل ا
أخربتني �أنهم مل يعودوا �إليها كذلك ..
ك
قلق ب�أن �سوار مل يعد هو الآخر � ،ت ُ
�أن يكون زردق وزوجته قد عادا �إىل واديهما الذي جاءا منه ،فقالت يف
ب�إىل احلانة حيث كان هناك
ل
احتفا ٌل ب�إحدى ن�ساء الن�ساىل التي ح�صدتلنشً
أ�سرعت
دا
بحبال تتدىل من عار�ضة ٍ �سوار و ُزردق وعرو�سه مقطوع ًة و ُمعلق ًة
ر
خ�شبية ُثبتت بني قائمني مرتفعني عند مدخل وادينا ..مل تكن هناك
ص ع
ر�سال ٌة �أو�ضح لنا من كيوان مثل تلك الر�سالة.
ال ري
وقفنا جمي ًعا ن�شاهد بوجو ٍه مرتعبة تلك الر�ؤو�س ال�شاحبة وهي
ت ك
تت�أرجح لرتتطم ببع�ضها مع اهتزاز احلبال بفعل الهواء.
82
()9
زهي ـ ـ ــر
ر دا
صع
ري
قدمت ال�شراب ال�ساخن ا�لإىل �أبي وعمي وتركتهما يكمالن حديثهما
كت ً
ُ
ش
وحاولت �أن �أر�سم مثلها .مل �أكنرج ّيدً ا بالر�سم لكني
�إىل غرفتي وتلك الر�سمة ت�شغل تفكريي
و
على الأقل ر�سمت �صور ًة ت�شبهها وخا�ص ًة و�شم الت
الن�ساىلو الذي كنت
ُ وقلمي الر�صا�ص
دا
يف بايل �إال �صديقي �آدم ،مررتُ عليه يف ور�شة ال�سيد عبود كانت
ر
جبهته مبللة بالعرق من تلك احلرارة التي تت�صاعد من الكري �أمامه،
ص ع
أطلقت �صفارتي �إليه ،وحني انتبه �إ ّ
يل �أخربته ب�أنني �س�أنتظره يف ف� ُ
ال ري
بيتي عندما يفرغ من عمله كي �أريه �شي ًئا ً
هاما.
ت ك
قبيل غروب ال�شم�س جاء �آدم �إىل بيتي ،و�س�ألني متله ًفا عن ذلك
ودلفت به �إىل
ُ أخوي
ن ل ل ب
ال�شيء الذي �أردته �أن يراه ،ت�أكدتُ من ان�شغال � ّ
ش
ر وا تول
أخرجت دفرتي و�أريته ر�سمتي ،فت�ساءل:
ُ غرفتي ،ثم �
ما هذا؟
زيع قلت:
مت بها ر�سمة ت�شبه هذه �أح�ضر عمي من جويدا خمطوط ًة ُ
ر�س ْ
بن�سلي غريب ال�شكل ٌ � ..
أ�شراف مي�سكون ٍ
قال:
ما الغريب فيها؟! ..تعلم ما يحدث للن�ساىل على من�صة الباحة
نهاية كل �شهر ،يبدو �أنهم يج ّرونه �إىل من�صة الإعدام.
قلت ً
حمبطا:
84
يبدو �أن ر�سمتي لي�ست وا�ضح ًة بالقدر الذي �أردته� ،أو مل تو�ضح
ال�شيء الهام فيها ..كان الن�سلي املر�سوم غري ًبا للغاية ..بدا
وك�أن اعتقاله ن�ص ٌر ثمني للأ�شراف ..
هز كتفيه ،وقال:
قد ت�أتي �أخبا ٌر من جويدا ب�ش�أنه خالل الأيام القادمة ..
ر دا
�أوم�أتُ بر�أ�سي ناف ًيا وقلت:
ص قدمية ،تبدو �أثرية كالقطع اجللدية املعرو�ضة ال �إنها ع
ري ال� ..أعتقد �أنها ُ
خمطوط ٌة
ر�سمت منذ مئات ال�سنني يف متحف «« ِقباال»»
ت ك وعرث عليها عمي حدي ًثا.
ن ل ل ب
وملاذا تهتم بها �إىل هذا احلد؟ ش
ف�س�ألني متعج ًبا:
ر
وال وت
زيع قلت:
خ�صي�صا من �أجل �أن يريه �شي ًئا
ً �أن ي�أتي عمي كيوان �إىل �أبي
كهذا ،ثم يتحدثان ب�ش�أنه دون �أن يريدا �أن ي�سمعهما �أح ٌد �آخر
هاما يخ�ص تلك و�إن كانوا �أوالد �أخيه ،يعني �أن هناك �شي ًئا ً
املخطوطة ..
ابت�سم �آدم وقال:
يبدو �أنكم عائلة ُخلقت لتنام وت�صحو حتلم بالن�ساىل فح�سب.
85
قلت:
متنيت لو �أ�ستطيع �أن �أريك الر�سمة الأ�صلية لتفهم ق�صدي ..
توقفت عن الكالم حني �سمعت �صوت �أبي وعمي خارج الغرفة ُ ثم
فقطعت الورقة التى ر�سمتها من
ُ فعرفت �أنهما قد عادا من اخلارج،
إحكام و�أعطيتها لآدم كي يبقيها معه
دفرتي على نح ٍو �سريع ،ولففتها ب� ٍ
دا
خ�شية �أن يراها �أبي وهو ي�ستذكر يل درو�سي فيعرف �أنني قد تدخلت
ر
فد�سها �آدم �أ�سفل �سرتته ،قبل
ب�أمو ٍر مل يكن من �ش�أين التدخل بهاّ ،
ص ع
�أن �أهم�س �إليه:
ال ري
ال تخرب �أحدً ا مبا �أخربتك به ..ال يعرف �أبي �أنني ر�أيت تلك
ت ك الر�سمة ..
ر وا تول
�أن يغادر كي ال يت�أخر عن خالته �سريين ،وخرجنا من غرفتي ،كان
�أخي و�أختي يجل�سان مع عمي و�أبي� ،ألقى �آدم حتيته �إىل اجلال�سني
زيع
بخجل ،ف�ضحك كرم �ساخ ًرا وقال:
�إنه حداد بلدتنا يا عمي ..
وتابع:
ي�شبه الن�ساىل الذين تقتلهم ..
�ضحكت �أختي ،بينما مل يعجب �أبي قول �أخي ونهره بعينه ،ثم
فوجئت بعمي يتوقف عن �شرب �شرابه وينادي �آدم ،توقف �آدم ونظر
�إليه حائ ًرا ،فنه�ض عمي عن مو�ضعه ،وحترك �إليه واقرتب منه،
و�س�أله عن ا�سمه ،رد �أدم هاد ًئا:
86
�آدم.
�ألقى عمي نظر ًة مطولة على وجهه ،و�س�أله:
�أي �شئ ت�صنعه يف ور�شتك؟
قال �آدم:
دا
كل �شيء يا �سيدي ..
ع ر
مد عمي يده �إليه فمد �آدم يده� ،شعرتُ �أن عمي ي�ضغط بقوة على
ري ص
يد �آدم ،لكن تعبريات وجه �صديقي ظلت جامدة ،فقال عمي:
�إنني �أحب الرجال الالأقوياء ..ملاذا ال تن�ضم �إىل جنود بريحا؟
ت ك
ل �إنني �أحب عملي �سيدي ..ب ل
قال �آدم:
ش ن
ر
ب�صوت
ٍ ابت�سمأخي:عمي ابت�سامة باردة ،و�أ�شار �إليه وا وت
ب�سبابتهل وقال
زيع �سمعه �
ال تدع �أحدً ا يدعوك ب�أنك ت�شبه الن�ساىل مرة �أخرى � ..إن قالها
مرة �أخرى ال تتنازل عن حتطيم فكه ..
مب�شبك
ٍ اكتفى �آدم باالبت�سامة ،وكاد يغادر لوال �أن عينه قد تع ّلقت
ف�ضي يث ّبته عمي على اجلانب الأمين من �صدر �سرتته ،كان ر�أ�س ذلك
�شكل بحرف ّية على هيئة �سالح ناري .الحظ عمي هو الآخر امل�شبك ُم ً
�شروده وهو ينظر نحو م�شبكه ،ف�س�أله با�س ًما:
يعجبك �شعار رامي املن�صة؟
87
حرجا ،فتابع عمي:
فاحم ّر وجه �آدم ً
هل ت�ستطيع �أن ت�صنع مثله؟!
هز �آدم ر�أ�سه ،وقال:
نعم يا �سيدي ..
دا
كنت �أعلم �أنا و�أخواي وكذلك كل �أهل چارتني �أن عمي مل ي�شغل قط
ر
من�صب رامي املن�صة ،و�أنه تق ّلد من�صبه الكبري متجاو ًزا عدة منا�صب
ص ع
كان ال بد للفر�سان �أن ي�شغلوها كي ي�صلوا �إىل من�صبه احلايل ،قالت
ال ري
يل �أمي ذات مرة �أن ذلك امل�شبك املميز ينتمي �إىل �ضابطة �شغلت
ك
من�صب الرامي قبل �سنوات ،كانت قد تركت �سرتتها الع�سكرية على
بخنجر �أمام اجلميع هناك ومت
ب ت
املن�صة بعدما ذبحت عري�سها املُدان
ل
ٍ
أحد كي ال �أثري
ش ن ل
علي ب�أال �أذكر ذلك �أمام � ٍ
عقابها على ذلك ،و�أكدت ّ
ر وا تول
غ�ضب �أبي �أو عمي.
b
زيع
متنيت لو تك ّلم عمي �أو �أبي
غادر �آدم وجل�سنا نتناول طعام الع�شاءُ ،
عما حتدثا ب�ش�أنه بعيدً ا عنا �أم�س ذلك اليوم ،لكنهما حتدثا عن �أمو ٍر
كانت جميعها عادية �سواء عن مدار�سنا �أو طفولتهما �أو �أخبار مملة
تخ�ص چارتني ،كانت عيني بني احلني والآخر تذهب �إىل امل�شبك
�شكل برباعةالف�ضي رمز الرامي املُث ّبت على �سرتة عمي ،كان ُم ً
كبرية ح ًقا ،لآدم كل احلق �أن ي�ستويل ذلك امل�شبك على تركيزه ،ولوال
�أنني �أعرف �صديقي ج ّيدً ا لقلت �أن الغرية قد �أ�صابت قلبه من �صانعه
..قطع كرم تفكريي ب�س�ؤاله �إىل عمي:
88
كم تب ّقى من الن�ساىل؟
�أجابه عمي وهو يق�ضم قطعة من اللحم:
الكثريون ..عددهم بالآالف ..
قال �أخي:
دا
وعدت اجلميع من قبل ب�أنك �ستق�ضي عليهم جمي ًعا ..
ع ر
�ضحك عمي وقال:
ريص
ال
مل �أكمل عامي اخلم�سني بعد ،ما زالت هناك �ستة �أعوام� ،إنهم
ك
كالفئران يف ال�صحاري ي�صعب �صيدهم.
ب ت
ل ل
ثم قال عمي موج ًها حديثه �إ ّ
يل على حني غرة:
ش ن
ر وا تول
عرفت �أنك ال حتب االلتحاق باملدر�سة العليا لل�ضباط ،كنت ُ
�ست�سمتع كث ًريا با�صطيادهم ..
89
منعت الباحة على رجالهم قبل �سنوات ،ومل يتقدم �أحدهم
ُ
بطلب للزواج.
ٍ
نطقت �أختي بوجه متعجب:
وكيف ينجبون؟!
�ضحكت �أنا و�أخي ونظرنا �إىل بع�ضنا خل�سة من �س�ؤال �أختنا
وغي جمرى احلديث� ،إىل
دا
الطفويل ،مل يجب عمي �س�ؤالها بالطبع ّ
ر
ع
مازحا:
�أن قال �أخي ً
ريص
ال
�س�آتي معك �إىل جويدا ..
ت ك
فقال �أبي دون �أن يرفع عينه عن طبقه:
زيع
اللهجة اجلادة التي حتدث بها �أبي ك�أنها تفاجئت مثلنا مما قاله ،حتى
�أخي الذي نطق بجملته �إىل عمى وهو يعلم �صعوبة ذلك الطلب قبل
انتهاء العام الدرا�سي تفاج�أ من رد �أبي ،فقلت بعدما �ساد ال�صمت
للحظة:
ال �أ�ستطيع �أن �أغيب عن املدر�سة �سيت�سبب ذلك يف ر�سوبي.
فقال �أبى:
�سي�ساعدك عمك على االلتحاق باملدر�سة املتو�سطة يف جويدا..
زاد تعجبي:
90
املدر�سة املتو�سطة يف جويدا!!
هذا يعني �أن مكوثنا هناك �سيكون لفرتة طويلة� ،شتتت تلك
وت�ساءلت:
ُ متاما ،ففلت ل�ساين
املفاج�أة تفكريي ً
ماذا ح ّل يف جويدا؟
دا
رمقني عمي بنظرته من غري �أن يتكلم ،فيما قال �أبي بنربة جامدة:
ع ر
التحقت بعمل جديد هناك ..
ُ
ريص
ال
قالها وهو يلمح بطرف عينه مالمح �أمي ،كنت �أعرف �أبي ج ّيدً ا
ت ك
متاما،
و�أعلم �أن طريقة �إجابته تلك توحي ب�أن جوابه مل يكن �صادقا ً
ش ن
ر وا تول
ال يريد �أن يرتك �صديقه هنا ..
زيع
ربم وجهي من �سخافتها ،كنت �أعلم �أنني �س�أذهب �إىل جويدا ت ّ
يوما ما لالن�ضمام �إىل مدر�سة الآداب هناك ،لكن �أن ي�أتي ذلك الأمر ً
فج�أة و�أن يكون �سفرنا بني يوم وليلة� ،أ�صابني ذلك بت�شتت كبري،
وابت�سموا ب�سخرية حني ر�أوا احلرية التي �أ�صابت وجهي عدا �أمي
التي بدت م�شتتة هي الأخرى ،كانت مثلي ،ل�سنا من ذلك النوع الذي
ي�ستطيع �إخفاء تعابري وجهه �أبدً ا ..قال عمي معق ًبا على كالم �أختي:
يف چارتني ال توجد �صداق ٌة للأبد ،هذا �أمر عليك معرفته
الآن قبل �أن تخربك به ال�سنوات ..ت�ستطيع العودة لزيارته يف
الإجازة املو�سمية.
91
حمبطا دون �أن �أحتدث ،و�أكملت تناويل حل�سائي، ً هززتُ ر�أ�سي
ومل �أرفع عيني بعدها عن طبقي �إىل �أن انتهينا ،ثم عدت �إىل غرفتي
جل�ست يف حرية بالغة �أمام
ُ فيما اجته �أبي وعمي �إىل الغرفة املكتبية،
نريان م�صباحي وكل ما يدور يف ذهني هو �آدم ،كذلك املعلم ال�سيد
«�شقري» الذي وعدين ب�أنه �سيبحث يف كتبه عن ر�سم ٍة ت�شبه الر�سمة
التي ر�سمتها ،كنت �س�أم�سي ً
نذل كب ًريا �إن رحلت عن بريحا دون �إخبار
�صباحا و�أ�ساريره
ً
ر دا
�آدم ،بينما كان �أخي يرتّب مالب�سه من �أجل ال�سفر
ص ع
منفرجة .قبل �أن يخلد �إىل النوم ،ففتحت باب غرفتنا برفق ..كان
ال ري
م�صباح غرفة �أبي املكتبية ال يزال م�ضا ًء فعرفت �أن �أبي وعمي ال
ت ك
أغلقت بابي من جديد ،وعدت على �أطراف �أ�صابعي يزاالن هناك ،ف� ُ
ش ن
مل يكن �أبي ي�سمح لنا باخلروج يف مثل ذلك الوقت املت�أخر يف �أيام
ي ز
حلظات فتحت ال�سيدة �سريين ،بدا �أنها مل تنم� ،س�ألتها ععن �آدم،
طرقت الباب ،بعد ً اجتهت
قالت بتعجب �أنه مل يعد بعد ،و�أ�ضافت بقلق ب�أنها ظنت �أنه معي،
فقلت:
لقد غادر بيتي بعد غروب ال�شم�س مبا�شر ًة ،لعله ذهب �إىل
مكان �آخر � ..أريدك �أن تخربيه ب�أنني �س�أغادر �إىل جويدا وقد
ٍ
يطول بقا�ؤنا هناك ،مل �أ�ستطع �أن �أغادر دون �أن �أخربه ..
و�أ�ضفت:
92
هناك معلم ا�سمه ال�سيد �شقري �سيبحث �أم ًرا حدثته ب�ش�أنه،
�أخربي �آدم ب�أن مير عليه بني احلني والآخر ،و�إن كان هناك
أنك جتيدين القراءة والكتابة..
جديد فلرتا�سليني ب�ش�أنه� ،أعلم � ِ
كانت ال�سماء قد بد�أت متطر مط ًرا خفي ًفا ،فقلت على عجل ٍة من
�أمرى:
دا
تن�سي �أن
علي �أن �أعود �إىل بيتي قبل �أن ي�شعر �أبي بغيابي ..ال ْ
ّ
ر
تخربي �آدم ب�أنني �س�أنتهز كل �أجازة للعودة �إىل هنا.
�سمعت �أبي يقول :وز عي ُ توقفت و�أ�صابها اجلمود ح ًقا حني
ل�سنا فقط من �سريحل �إىل هناك� ،سينتقل معملنا بالكامل
بعامليه �إىل جويدا �ُ ..ست�صنع �ألف قذيفة مدفعية �ضخمة ..
لقد �صدرت الأوامر ب�إبادة الن�ساىل.
b
93
()10
ريـ ـ ــان
ر دا
ص ع
ري
كانت الر�ؤو�س املُعلقة يفالالهواء تت�أرجح مع اهتزاز الأحبال عندما
ت جت ّمع كل ن�ساىل الوادي ووقفواك
ال يقوى �أحد على النطق بكلمة واحدة،ب ل
ينظرون �إليها بوجوه م�شتتة م�صدومة
فيمال تعاىل �صراخ الأطفال بني
ن
�صمتنا املطبق ..كانت �سيدتي تقف متجهمة ش
ر
�أن �أجدها تن�سحب من بينهم �إىل كوخها ،وتغلق و وت
بابهاالمن خلفها ..
الوجه بني الواقفني ،قبل
طرقتزيع
الباب مل ُ حتركت ب�صعوبة من بني ال�صفوف جتاهها، ُ
جتبني ..كانت �سبيل وناردين تقفان بني الواقفني يف اخلارج تظهر
مرات �أخرى ،مل جتبني ال�سيدة
طرقت الباب ٍُ احل�سرة على وجهيهما،
أي�ضا ،كان هناك �ش ٌق كبري بباب كوخها ر�أيتها جتل�س �إىل طاولتها� ً
وا�ضع ًة ر�أ�سها بني كفيها وتبكي بحرق ٍة �شديدة ،فعدت �أدراجي بني
املتزاحمني مط�أط�أ الر�أ�س �أخ�شى �أن �أرفع عيني �إىل عيونهم ف�أ�شعر
ب�أن ما يدور يف بايل قد بد�أ يف حدوثه بالفعل ..
b
95
مع مرور الدقائق بد�أت حالة ال�صمت املطبق امل�سيطرة على
و�ضجيج ،ثم ا�ستحالت
ٍ امل�شهد تزول وتتحول �شي ًئا ف�شي ًئا �إىل جلب ٍة
فج�أ ًة �إىل حالة من الهرج واملرج عندما ّ
�شب �شجا ٌر كبري بني بع�ض
أغلقت بابي من خلفي ،وهناك
فدخلت �إىل كوخي �أنا الآخر و� ُ ُ ال�شبان،
و�صرخت يف
ُ هياج �شديد،
ركلت بقدمي من�ضدة خ�شبية �صغرية يف ٍ ُ
دا
نف�سي غا�ض ًبا:
ع ر
�إىل متى �سي�ستمر هذا؟ � ..إىل متى؟!
ريص
ال
قبل �أن �أجل�س على الأر�ض م�سندً ا ر�أ�سي �إىل احلائط يف ب� ٍؤ�س
ت ك
�شديد ،ت�سمع �أذين ال�ضجيج القادم من اخلارج وتدور يف ر�أ�سي كافة
غريب
�صمت ٌ
ن ل ل ب
التخيالت ال�سيئة التي قد حتدث بالأيام القادمة ،ثم �ساد ٌ
ش
ر وا تول
وفتحت
ُ فنه�ضت متعج ًبا لأرى �سر ذلك ال�صمت، ُ مفاجئ باخلارج،
بابي ،فوجدتُ اجلميع يتطلعون يف ترقب �إىل �سيدتي التي كانت تت�سلق
زيع
�سل ًما خ�شب ًيا ي�ستند على �أحد القائمني اخل�شبيني ،وحني و�صلت �إىل
قمته ت�شبثت بيديها بالعار�ضة الأفقية بني القائمني ،وحتركت وهي
الحظت وقتها �أنها ت�ضع �سكي ًنا بني
ُ ت�أرجح ج�سدها �إىل احلبل الأول،
بيد واحدة و�أم�سكت بال�سكني بيدها الأخرى حني فك ّيها ..ثم تع ّلقت ٍ
�أ�صبح احلبل الأول يف متناولها ،وبد�أت حتز �أليافه ،يف هذه اللحظة
م�سرعا جتاهها� ،إىل �أن وقف �أ�سفل
ً أيت الطبيب يخرتق ال�صفوف ر� ُ
العار�ضة ،وم ّد يده ليتلقف الر�أ�س الأول قبل �سقوطه �إىل الأر�ض،
فاخرتقت ال�صفوف �إليها �أنا الآخر ..
ُ
96
انتقلت ال�سيدة �إىل احلبلني الآخرين ،وفعلت معهما ما فعلته
باحلبل الأول ،بعدها �ألقت �سكينها �إىل الأر�ض بعيدً ا عنا ،وحتركت
بخفة �إىل القائم الآخر ،وهبطته �إىل �أ�سفل كفتاة مل ُتكمل الع�شرين،
وال من اخلي�ش ،فقام الطبيب كانت ناردين قد �سارعت ب�إح�ضار ِج ٍ
بو�ضع الر�ؤو�س الثالثة بداخله ،قبل �أن ي�ضم ط ّيات فوهته بني قب�ضة
يده مغل ًقا له ،فقالت ال�سيدة ٍ
بحزن كبري:
ر دا
لن ِق ْم لهم جناز ًة تليق بهم.
b
ص ع
ال ري
كان الوادي ب�أكمله ً
رجال ون�سا ًء يقفون على مقرب ٍة من مقابر
ت ك
الن�ساىل حني انتهينا من دفن الر�ؤو�س الثالثة ،دُفن ر�أ�س زردق
زيع
عام 1628ب.ج(((» ،بينما نق�ش على حجر �سوار« :قا�ضي اجلنوب
الأول� ،شهد �أول زواجني للن�ساىل» ..
ثم عدنا �إىل الوادي� ،أخربتنا ال�سيدة �أن العمل �سيتوقف ذلك
النهار ،وكذلك املدر�سة ،حدادًا على �أرواح الثالثة ..قبل �أن مت�ضي
�إىل كوخها يف هدوء ،كانت تعرف �أن ذلك الأوان لن ُتفيد فيه خطبة
حما�سية �أو حديث نا�صح مبا يجب فعله ..ال حتتاج الأمور �إىل تو�ضيح
�أكرث من ذلك� ،سادة چارتني وقد �أعلنوا لنا �صراح ًة م�صري من
يك ّرر فعلة حيدر و�سبيل ،وكانت الر�سالة وا�ضح ًة جدً ا هذه املرة� ،إما
الرذيلة �أو ر�أ�س ٌمعلق على مدخل وادينا ..
((( طريقة التقويم يف چارتني ،وهي اختصار لـ «بعد بناء الجدار» .
97
مل �أكن �أعلم �إن كانت �سيدتي متتلك خط ًة بديلة ت�ستطيع بها
مداواة ذلك ال�شرخ الذي �صدع نفو�س الكثريين منا� ،أم �أنها مع ذلك
احلزن البادي على وجهها كانت هي �أكرث املت�ضررين بذلك ال�شرخ.
b
اجتهت �إىل كوخ الطبيب من �أجل الذهاب �إىل ال�سيدةُ يف امل�ساء
دا
ملعرفة ما �سنفعله حيال ذلك الأمر بعدما �شعرتُ �أن التفكري مبفردي
ً
م�شو�شا للغاية هو الآخر ،قال �أنه ر�أى الكثري
ع ر
�سيقتلني ..كان الطبيب
ريص
ال
من اجلرحى والدماء والقتلى ،لكنه مل ي َر قط يف حياته ب�شاع ًة مثل
واجم �أردف:
وبوجه ٍ
ٍ تلك،
ت ك
ل ل ب
أيت الي�أ�س يت�سرب �إىل الوجوه ال�شابة هذا ال�صباح ..
ن
ر� ُ
ش
ر وا تول
وت�ساءلت:
ُ للمرة الأوىل كنت �أ�شعر يف �صوته بتلك النربة املحبطة،
زيع
هل ت�سرعنا ب�إر�سال زردق وفتاته �إىل الباحة؟
ز ّم �شفتيه ،ثم قال وهو يومئ بر�أ�سه ناف ًيا:
ال �أعرف ..
جاءت ناردين و�أخربتنا �أن ال�سيدة غفران مل تربح غرفتها منذ
عادت من دفن الثالثة ،فقال لها الطبيب:
ابقي بجانبها ،و�إن �أردمتا �شي ًئا �أخربينا فح�سب.
ْ
ثم غادرت ،فقال يل:
98
�أُ�شفق على غفران � ..صارت ُت ّمل نف�سها كل ما يحدث يف هذا
الوادي ..
قلت:
نعم� ،أعرف ذلك� ،إنها امر�أ ٌة �صاحلة ،وقائد ٌة حقيقية ..
لوقت قليل ،بعدها �س�ألني:
�أوم�أ بر�أ�سه موافقني ،ثم �سكتنا ٍ
ر دا
كم عدد الن�ساىل الذين يح�ضرون يف الباحة �أيام الغفران؟
دا
�سادتهم عن �إذاقتنا �أ�شد �ألوان العذاب ..
ع ر
ثم نه�ض وحترك �إىل النافذة وفتحها ،ونظر �إىل الأكواخ املكت�سية
ريص
ال
بال�سواد مع ظالم الليل ،ثم التفت �إ ّ
يل وقال:
ك
االحتمال الآخر �أن يكونوا قد ُاعتقلوا خارج الباحة قبل دخولهم
ب ت
ل
�إىل الزحام ،وهذا يعني �أن هناك َمن و�شى بهم من الن�ساىل
دا
لن يجر�ؤ �أي �شاب �أو فتاة على املجازفة بالزواج يف الوقت
ر
أيت
احلايل ،كذلك لن يجر�ؤ �أحد ب�أن يحل حمل �سوار ..ر� ُ
ص ع
مثلك اخلوف البادي يف الأعني جميعها هذا ال�صباح ،لكن
ال ري
�أكرث ما يخيفني ح ًقا ،هو �أن يت�سرب الي�أ�س �إىل �سيدتي ..
ك
لن تبقى غفران �أبد العمر ت
قال بحدة:
زيع و�أ�ضاف:
وت�صفحت على نح ٍو �سريع
ُ مل يتوقف ر�أ�سي عن التفكري اليوم،
لدي من كتب تتحدث عن قواعد چارتني ..ال ي�صلح كل ما ّ
الزواج �إال داخل باحة جويدا ،وخارجها ي�صري رذيل ًة ال ينال
روح �أُعدم �صاحبها يف الباحة ،و�إال
معها املولود روحه �إال من ٍ
ُيولد ميتًا.
والآن بات املوت حمق ًقا ملن يذهب �إىل الباحة من الن�ساىل من
�أجل الزواج ..
101
ح�س ًنا ،ليتزوج الن�ساىل خارج الباحة ،يف هذا الوادي ،يف
بلد �آخر ،و�إن مل حت�صد �أجنتكم
الوديان الأخرى ،يف �أي ٍ
أرواحا ،لن�صنع �شريعتنا ب�أنف�سنا ،واللعنة على الباحة ومن
� ً
فيها ..
�س�أح ّدث غفران ب�ش�أن رحيلنا عن چارتني� ،إن �صحراء بلدان
دا
ال�شمال تت�سع لع�شرات الأ�ضعاف من الن�ساىل ،و�إن مل ينجبوا
ر
جني ًنا ح ًيا واحدً ا هناك ،مما ر�أيته �صارت ّ
لدي قناعة كاملة
ص
ًع
انقرا�ضا بكرامة �أف�ضل من عي�شة كهذه. ب�أن
ال ري
ابت�سمت ابت�سامة ً خفيفة حني تذكرت حديثي �إىل ال�سيد ندمي
متاما ،وقلت للطبيب:
ت ك
كالما ي�شبه ذلك ً
طفل وقلت ً عندما كنت ً
ر دا
وطلبة املدر�سة قد تغ ّينب ،كذلك مل حت�ضر تلك الفتيات �إىل الوادي
ع
ليل ..مل ي�شغلني الأمر بقدر مالمح الي�أ�س التي كانت تغطي املظلم ً
ريص
ال
وجوه الكثريين ،والأحاديث الغريبة التي بد�أت تتلفظ بها بع�ض
الأل�سنة عن احلياة الأف�ضل التي كان يعي�شها الوادي قبل جميء
ت ك
ال�سيدة غفران ،ال �أعلم �أي �أف�ضل كانوا يتحدثون عنه! تلك الليلة
بجرح
ن ل ل ب
�شب �شجا ٌر جديد بني بع�ض ال�شبان �أُ�صيب على �إثره �أحدهم ٍ ّ
ش
ر وا تول
كبري يف جبهته ،قال ال�شاب الذي �أ�صابه �أنه مل ي�ستطع متالك نف�سه
�سيئ عن ال�سيدة ،فيما ان�سحب املُ�صاب �إىل حني تلفظ الآخر بلفظ ٍ
زيع
الوادي غا�ض ًبا ،ومل يعد �إىل الوادي املظلم مرة �أخرى �أو �إىل عملنا ..
ً
ملحوظا خالل �ستة �أيام �صار عدد املتغيبني عن املدر�سة واملخزن
بربود �أنهم
ٍ حاولت �أن �أذهب و�أحتدث �إىل بع�ضهم ،قالوا ُ للغاية،
قرروا ك�سب عي�شهم مبعرفتهم بعيدً ا عن ال�سيدة ..
ثم جاءت ال�ضربة الكربى التي مل ن�ستعد لها� ،أو مل تكن يف
ح�سباننا على الأقل يف ذلك التوقيت ،عندما وجدنا فتا ًة واحدة من
بني خم�سة فتيات كنّ قد غادرن الوادي بب�ضائعنا �إىل املرف�أ اجلنوب
�شرقي حيث ال�سفينة التي اعتادت على نقل ب�ضائعنا تعود �إلينا بعد
يوم واحد فقط من رحيلها ،تتناثر اخلدو�ش وال�سحجات على وجهها
وذراعيها ،قبل �أن تدلف �إىل ال�سيدة وتقول باكي ًة:
103
لقد رف�ض �صاحب ال�سفينة �صعودنا �إىل متنها ..قال �إن �أم ًرا
قد �صدر مبعاقبة َمن يحمل مركبه �أي ن�سلي �إىل خارج چارتني،
َومن يفعل ذلك �س ُيحرق مركبه �أمام عينيه ..
ت�ساءلت ال�سيدة يف فزع حني ر�أت �إ�صابات وجهها وذراعيها:
و�أين باقي الفتيات؟
دا
قالت الفتاة:
ع ر
�أراد الواقفون هناك �سلب ب�ضائعنا عنو ًة حني ر�أوها ،حاولت
ريص
ال
الفتيات الدفاع عنها ،فقام اجلنود باعتقالهن ..
ك
ُ�سرقت الب�ضائع كلها يف غم�ضة عني ،تركني �أحد اجلنود عمدً ا
ب ت
كي �أعود و�أخربك مبا حدث ..
ن ل ل
ش
ثم قالت وهي تن�شج بقوة:
ر وا تول
م�سموحا للن�ساىل ً
رجال ون�سا ًء مبغادرة چارتني .. ً مل يعد
زيع
باهتمام �إىل كل حرف تقوله:
ٍ �س�ألها الطبيب الذي كان ي�صغي
من قام ب�سرقة الب�ضائع ..اجلنود �أم العامة؟
قالت الفتاة:
قام اجلنود باعتقال الفتيات فقط� ،أما ال�سارقون فكانوا من
�أهل جويدا ..
�سكت الطبيب مفك ًرا ،بينما �أ�شارت ال�سيدة �إىل ناردين كي
ت�صحب الفتاة �إىل غرفتها من �أجل تهدئة روعها ،ثم قال الطبيب
حني �أغلقت ناردين الباب من خلفها:
104
حتدثت مع ريان ب�ش�أنه ..هناك ما يحدث يف جويداُ هذا ما
يحرك م�شاعر الكره داخل العامة جتاه الن�ساىل �أكرث و�أكرث
مما هو عليه ،رمبا يكون املدر�سون يف املدار�س ..اخلطباء يف
املجال�س ..ال�شائعات ،عم ٌل ُمنظم ي�سري وفق خطة حمكمة،
ي�سبقنا كيوان بخطوات كثرية لقطع كل الأحبال التي قد تنجينا
مع قدوم طفل �سبيل بعد �أقل من �شهرين ..
ر دا
كنت �أفكر يف رحيل جماعي عن چارتني ،لكنه مل يدعنا ننال
ع
تلك الفر�صة حتى.
ت�ساءلت غا�ض ًبا:ص
لا ري ُ
ت ك
وملاذا ال يدعنا نرحل فح�سب ليعي�ش حيا ًة هانئة هو والأ�شراف
زيع
ُمنذ ُخلق هذا الكون ويقوم قانون احلياة بني قطبني� ،أحدهما
ظامل والآخر مظلوم � ..أما الن�ساىل فقد �شغلوا اجلانب املظلوم
جانب مظلوم �ضعيف يتما�شى بقوة مع هذا القانون يف چارتنيٌ ،
..لو تركنا نرحل لتب ّقى الأ�شراف فقط ،لكن هذا القانون لن
يتوقف عن عمله ،ولن يرحمهم � ..سينق�سمون بني �أنف�سهم �إىل
ظا ٍمل ومظلوم ميتلكان القوى نف�سها تقري ًبا � ..سي�أكلون بع�ضهم
هاما
بع�ضا �إىل �أن ينهار هذا البلد ،لذا يظل بقاء الن�ساىل ً ً
متاما ..
لبقاء چارتني ،وهو يعلم ذلك ً
متاما
�أوم�أتُ بر�أ�سي و�أنا �أنظر �إىل ال�سيدة التي ظل وجهها �شاردًا ً
وخرجت �إىل كوخي �أفكر فيما �سينتج
ُ ك�أنها يف عامل �آخر ..ثم تركتهما
105
عنه انت�شار �أخبار �سرقة الب�ضائع بني كل �أزقة الوادي ،كذلك خرب
منعنا من ال�سفر خارج چارتني ،مع رف�ض �أ�شراف چارتني التعامل
معنا ،وكيف �سي�صرب الن�ساىل على ذلك احل�صار ومل يبقَ �أمامهم
�سبيل للعي�ش وك�سب عمالت معدنية �إال الطرق القدمية؟
مل يطل الأمر كث ًريا ملعرفة �إجاباتي ..يف اليوم التايل كانت
خماويف ال�سيئة قد ظهرت بوادرها ..مل يح�ضر �إىل املدر�سة �أو
ر دا
خمزن الت�صنيع من املتعلمني �أو العمال ربع العدد تقري ًبا ..ويف خالل
ع
خم�سة �أيام فقط �صار عدد املُتعلمني باملدر�سة ُع�شر ما كان عليه قبل
ص
ال ري
يوم الغفران الأخري ،كذلك ق ّلت �أعداد الفتيات الالجئات �إىل الوادي
املظلم تدريج ًيا �إىل �أن �صار عددهن بالكاد يتجاوز الع�شرين ،قال يل
ت ك �شاب بي� ٍأ�س:
دا
الفو�ضى تعم كل �شيء من حولنا ،و�صرنا �أنا وال�سيدة والطبيب و�سبيل
ر
وناردين والقلة القليلة التي مل تتخ َّل عن مدر�سة ال�سيدة منبوذين يف
ع
ص
هذا الوادي ..انهار كل �شيء فج�أة ،وعاد الوادي �إىل ما كان عليه
وبدل من انت�صار ثالث طمعنا
ال ري
قبل �سنوات ،بل �صار �أ�سو�أ من ذلكً ،
ك
يف حتقيقه على �أ�شراف چارتني يوم الغفران ال�سابق � ..أُ�صبنا نحن
ب ت
ل ل
بال�ضربة القا�ضية.
ش ن
ر وا تول b
زيع
107
()11
ر دا
ص �صارت الأيام ع
�إقناعنا بالعودة �إىل ري
بثقل �شديد ،رف�ض كل َمن تركنا حماوالت
املدر�سةال�أو العمل مرة �أخرى ..وبني يوم و�آخر كان
مت�ضي ٍ
الأرواح �صاخ ًبا بدرجة غري م�سبوقة حتى ظننت �وأنالت�ساكني جويدا
واد �آخر ..كان االحتفال ذلك ن�سلي ٌة تنتمي �إىل ٍ
109
وا�صلت ال�سيدة غفران تلقني درو�سها �إىل ال�صبية القليلني
امل�ستمرين معها ،فيما توقف كوخ الت�صنيع عن العمل لي�س �إال من
�أعمال ب�سيطة مثل �صنع كميات قليلة من زيت الزيتون وجنب املاعز،
�أ�شيا ٌء كنا ن�صنعها من �أجل بقائنا فح�سب بعيدين عن حافة اجلوع
ب�سيطا من مر�ضاه بعد مقابل ً ..بد�أ الطبيب للمرة الأوىل يتقا�ضى ً
�أ�شهر طويلة من العمل يف الوادي بدون مقابل واالكتفاء بح�ص�صه
دا
من الطعام التي كانت توزعها ال�سيدة من نقود الب�ضائع ،قال يل يوم
ر
اتخذ ذلك القرار ب�أنه ا�ضطر �إىل ذلك ليو ّفر ً
ع
دخل يكفي ملعي�شتنا
ص
وا�ضحا من حديثه و�إن مل يقلها �صراحة �إىل �أن متر تلك الأزمة ،كان
ري
ً
ال
حمبطا جدً ا ،وال يعرف مثلي �إن كانت تلك الأيام ال�صعبة ً �أنه �صار
ت ك
�ستمر ح ًقا �أم �أننا نت�شبث ب� ٍ
أمل زائف �ستزداد معه الأو�ضاع �سو ًءا.
زيع
اجلنوبية وجويدا بعدما زاد معدل ال�سطو وال�سرقات على ب�ضائع
الأ�شراف� ،أ ًيا كانت الأ�سباب فلم يعد �أنذال الأ�شراف يف حاجة �إىل
َمن يحمونهم يف وادينا بعدما �صار ُمرح ًبا بهم وبنقودهم يف كل �أزقة
مزيد من ال�شبان كان جل ًيا لنا قبل الآخرينالوادي ..ومع ان�سحاب ٍ
ألت �سيدتي ذلك امل�ساء حني �أن �إعالن هزميتنا �صار م�س�ألة وقت � ..س� ُ
اجتمعنا يف فناء كوخها وكانت بع�ض الألعاب النارية ت�ضيء �سماء
وادينا:
هل انتهى كل �شيء؟!
قالت با�سمة:
110
ما زالت �أرواحنا حية ..وهناك �شريف قادم يف الطريق ..
قلت بنربة مت�شائمة:
مل يعد معنا �إال القليلون ..يق ّلون بدورهم ً
يوما بعد يوم.
قالت:
دا
رب �شخ�ص واحد يقلب الأمور جميعها ر� ًأ�سا على عقب ..
ّ
فرحا:
ع ر
حتولت تعابري وجهي �إىل ابت�سامة وقلت ً
ري ص
قالت بب�سمتها الطيبة :ال
منك.
ظننت �أن الي�أ�س قد متكن ِ
ت ك
ن ل ل ب
ال يعيب �إن متكن منا الي�أ�س �أحيا ًنا � ..إننا ب�شر ،لكني �أعرف
ش
ر وا تول
ح�ص ٍن داخلي.كيف �أت�صدى له قبل �أن ينخر �آخر ِ
تنهدتُ وقلت:
زيع
�إن لأ�سو�أ �شعو ٍر �أن ي�ضيع تعب �سنوات هبا ًء� ،أن ي�صري البناء
تعبت بيننا� .أنا
ركاما يف حلظة واحدة ..و�أنا �أعرف كم ِ ً
وناردين و�سبيل فكنا وال زلنا ن�ساىل ..الطبيب يبقى غري
چارتيني ال ُتطبق عليه القواعد ..
ونظرتُ �إىل و�شم كتفها ،وقلت:
�إنك �أكرب اخلا�سرين هنا ..
ابت�سمت وقالت:
111
بقيت �شريف ًة مل �أكن لأجد �صحب ًة �أف�ضل من هذه ..
رمبا لو ُ
ثم �ضحكت ونه�ضت من جل�ستها ،وانحنت �إلينا وقالت:
�أيها ال�سادة لقد ا�ستمتعت ب�صحبتكم ..
ثم جل�ست مرة �أخرى ..كان الطبيب قد انتهى من عيادته فان�ضم
�إلينا وجل�س �إىل جوار ال�سيدة ،و�ضحك حني مرت جماع ٌة من الن�ساىل
دا
ومل يلقوا �إلينا التحية حتى ،وقال �ساخ ًرا:
ر
ص ع
ما �أجمل �أن تكون ً
منبوذا من املنبوذين �أنف�سهم ..
ال ري
ثم نظر �إىل �سبيل ،وقال:
ً
ت ك
ب
أنا�سا كثريين عانوا
م�ستقبل �أن هناك � ً �أخربي ابنك �أو بنتك
ن ل ل من �أجله.
و�أ�شار بيده نحونا ..ابت�سمت �سبيل ،و�شأوم�رأت بر�أ�سها �إيجا ًبا دون
وال وت �أن تقول �شي ًئا ،ف�س�ألتُه:
زيع كم يتبقى على موعد والدته؟
�أجابني:
بني �أ�سبوعني �إىل ثالثة �أ�سابيع ..
قلت:
ُ
مع حلول يوم الغفران القادم � ًإذا ..
هز ر�أ�سه موافقني ثم قال:
112
�أو بعده ب�أيام ..
ب�صوت قلق:
ٍ فقالت �سبيل
هل ال يزال الن�ساىل ينتظرون قدومه �أم مل يعد ذا �أهمية
بالن�سبة لهم؟
قالت ال�سيدة غفران:
ر دا
كان و�سيكون ذا �أهمية للن�ساىل ..
ش ن
ر
قالت ال�سيدة بعدما د ّوت �أ�صوات الألعاب الناريةوالوتناثرت نريانها
و ت
زيع بالأعلى لت�ضيء ال�سماء من فوقنا:
عليك �أن تتقبل الهزمية يف �إحدى اجلوالت ب�صد ٍر رحب �أحيا ًنا.
ت�ساءلت ناردين يف ت�شكك:
هل هناك �أمل يف جوالت �أخرى � ًإذا؟
ابت�سمت ال�سيدة وكادت جتيبها لوال �أننا ر�أينا َمن يعرب بوابة الفناء
وهو يج ّر ح�صانه نحونا ،ف�صمتنا جمي ًعا عن احلديث يف انتظار ر�ؤية
وجهه املتواري مع ظالم الليل ،حتى اقرتب منا فظهرت مالحمه مع
نريان �أقرب امل�صابيح �إليه ،كان عجو ًزا نحي ًفا تغطي التجاعيد وجهه
113
و�صدره العاري ،تظهر عيناه كعيني �صقر �أ�سفل حاجبني كثيفني،
وتتناثر بر�أ�سه �شعريات بي�ضاء قليلة بدت �أنها ما تبقى من �شعره
خالل �سنواته الكثرية املا�ضية .مل تختلف فر�سه عنه كث ًريا ..كانت
هزيلة ُم�سنة ك�أنهما ُولدا يف اليوم ذاته ..نظر �إىل الن�ساء حني اقرتب
ب�صوت بدا قو ًيا على هيئته:
ٍ منا ،وقال
�أبحث عن ال�سيدة غفران ..
ر دا
نه�ضت �سيدتي من بيننا ،فقال:
جئت من �عأجلك �أيتها ال�سيدة� ،أريد التحدث � ِ
إليك ..
ري ص
قالت �سيدتي :ال
ت ك
ن ل ب
و�أ�شارت �إليه باجللو�س ،فجل�س ل
تف�ضل .. �إن اجلميع هنا �أهل ثقة،
ر
ناردين التي نه�ضت لتعقلجلام فر�سه ب�أحد الأوتاد اخل�شبية بالفناءش
مو�ضع
ومعها م�صباحان زيتيان �إ�ضافيان وو�ضعتهماوال وت
وتطعمها ،قبل �أن تعود
�أمامنا ،فيما �أح�ضرت �سبيل �شرا ًبا باردًا من املاء زي
املخلوطع بالع�سل
مبنت�صف الدائرة
دا
وارت�شف ر�شف ًة من �شرابه وقال:
ألت العابرين يف
عنك منذ عامني فقط ،ولطاملا �س� ُ
ع ر
بد�أتُ �أ�سمع ِ
عليك كث ًريا
أ�شفقت ِ
ريص
ال�صحاري من الن�ساىل عما تقدمينه ..و� ُ
منك بداية هذا العام .. ال
عرفت ب�أمر انتزاع �صفة ال�شرف ِحني ُ
ت ك
�إنني �أعرف جيدً ا الفارق بني احلياتني.
ر وا تول
إليك من �أجل �إعالنكنت َمن �أقنع ُزردق ووداد بالقدوم � ِ ُ
زيع
وكنت يف انتظار عودتهما �إ ّ
يل على �أمل �أن ا�ستطيع زواجهماُ ،
فعل ما ف�شلت فيه كل ال�سنوات املا�ضية ..لكن رجائي قد خاب
عرفت من �أحد العابرين مبا بد�أ يحدث
بعد ما حدث لهما ،ثم ُ
أمر احتفظت بهإليك لأخربك ب� ٍ
فجئت � ِ
يف الوادي هذه الأيام ُ ..
�سنوات طويلة ..
ٍ لنف�سي
انتبهنا جمي ًعا �إىل الرجل ،واعتدل الطبيب يف جل�سته وح ّدق به
مرتق ًبا ،وت�ساءلت ال�سيدة بتعجب:
�أي �أمر؟!
قال:
115
جيل بعد جيل دون توارثت عائلتي بع�ض املخطوطات القدمية ً
�أن يدري �أحد من �أهل چارتني بوجودها� ،أخربين �أخي الأكرب
بيوم واحد ،و�أعطاها يلعنها قبل رحيله �إىل وادي حوران ٍ
ب�صفتي وريثه الأوحد بعدما مل يتزوج ،و�س�ألني �أن �أعاهده على
يوما ما �إىل �أ�صحابها،
بقائها �أمانة لدى عائلتنا حتى ت�صل ً
دا
مثلما �أو�صاه �أبي قبل رحيله � ً
أي�ضا ..
ع
وتابع وهو يخرج قطع ًة جلدية ملفوفة ،كانت قدمية ومهرتئةر
ري ص
ما �إن مر نها ٌر ال
احلواف ك�أنها دُبغت قبل بناء اجلدار:
ر
احلرباء هجرتني بعد رحيل �أخي ب�أقل من عام ،وبعد �أكرث
دا
ص ع
من حماولة فا�شلة للزواج من امر�أة �أخرى قررتُ �أال �أتزوج ..
ال ري
وبد�أتُ �أق�ضي حياتي بني احلانات ووديان الن�ساىل من �أجل
ك
متاما ..
�صيد فتياتهم ،ون�سيت �أمر خمطوطات �أخي ً
ب ت
ن ل ل
�إىل �أن جاءت �إحدى الليايل يف عامي اخلام�س والأربعني ،وكنت
ش
ر وا تول
يف �صحبة مع �صديق يل �إىل وادي « ُمريان» الن�سلي القريب من
ُطبرية ..كان لديهم فتيات ح�سناوات ت�ستطيع الواحدة منهن
زيع
جلب لك قطعة من ال�سماء يف ليلة واحدة ،وكنت يف فرا�ش
بكوخ بعيد عن بقية الأكواخ حني �سمعت �أذين ذلك �إحداهن ٍ
الزئري للمرة الأوىل ..انتف�ضت عار ًيا ليلتها لأفتح النافذة
ن�سلي ن�صف عاري �ضخم بخوف �شديد ،فر�أيته �أمامي ٌ ..
متاما ..يجثو على
اجلثة مثل الذي ُر�سم يف هذه املخطوطة ً
ركبتيه ،وي�أكل �أح�شاء �صديقي امليت ..وبني ح ٍني و�آخر كان
ب�شكل مفاجئ حوله ليطلق زئريه �إىل ال�سماء قبل �أن
يلتفت ٍ
يوا�صل غر�س يده امللطخة بالدماء �إىل �أح�شاء �صديقي ويحمل
ما تنتزعه �إىل فمه ويلتهمه ..
117
�أتذكر �أنني تب ّولت على قدمي وقتها رع ًبا ،بينما فقدت الفتاة
الن�سلية وعيها على الفور حني ت�سللت من خلفي ور�أت ما ر�أيته،
وان�سللت �إىل �أ�سفلها،
ُ أغلقت النافذة بهدوء �شديد،
حينها � ُ
وج�سد يرتع�ش مع
ٍ أنفا�س مت�سارعة
و�أل�صقت نف�سي للحائط ب� ٍ
كل نوبة زئري يطلقها ذلك الن�سلي ..
ونه�ضت جمددًا لأختل�س
ُ فتمالكت نف�سي
ُ �إىل �أن هد�أ زئريه
بيد واحدة ما�شق بالنافذة ،فوجدته يج ّر ٍ
ر دا
النظر �إليه عرب ٍ
ع
تبقى من جثة �صديقي ويبتعد به نحو الظالم ،وقتها تذكرتُ
ص
ري
ً
ال
مهرول ..وعدت على فر�سي فارتديت ثيابي
ُ هذه الر�سمة،
ب�سرعة الربق �إىل بيتي لأخرج هذه املخطوطة واملخطوطات
ت ك
الأخرى التي تركها يل �أخي وت�صرخ يف ر�أ�سي كلماته ب�أن
زيع
بعيني قبل �ساعات ..وذلك الزئري الغريب الذي ال ي�ستطيع
ب�شر �أن ي�صدره قا�صدً ا ،و�صديقي القوي الذي بدا �صيدً ا
�ضئيل للغاية �أمام ذلك الن�سلي ..لو �أخربين �أحد عن ذلك ً
الأمر ملا �صدقته ،لكني ر�أيته بعيني ..
ب�صوت مرتع�ش و�أنا �أتفح�ص الر�سمة وكلٍ كنت �أح ّدث نف�سي
فهمت ملاذا ترتعب وجوه املم�سكني به ُ تف�صيلة فيها؛ «الآن
فهمت ملاذا مي�سك �ستة رجال بن�سلي واحد»، �إىل هذا احلدُ ،
أنفا�س مت�سارعة يف حال ٍة �أ�شبه باجلنون؛
و�صرخت �إىل نف�سي ب� ٍ
ُ
َ«من �أ�صحاب هذه املخطوطة الذين حتدث عنهم �أخي؟! ..
وملاذا كنت �أنا بالذات َمن يرى ذلك املخلوق؟»..
118
أياما كثرية
وق�ضيت � ً
ُ واجتهت �إىل جويدا،
ُ ومل يطلع ال�صباح �إال
هناك �أت�صفح كتب مكتباتها الكربى ،مل �أجد �شي ًئا عما ر�أيته
..زرت املكتبات الكربى يف مدن چارتني الأخرى لعلي �أعرث
يف�سر يل ما حدث ،مل �أجد �شي ًئا هناك خيط ّ على �شيء �أو ٍ
ألت كث ًريا من الأ�شراف الذين ميتلكون ً
ن�سخا فريدة � ً
أي�ضا � ..س� ُ
من �أمهات الكتب واملجلدات القدمية �أن ي�سمحوا يل بت�صفح
دا
بع�ضها دون �أن �أظهر لهم �صراح ًة عما �أبحث عنه ،وافق
ع ر
بع�ضهم ،لكني مل �أجد �صفح ًة واحدة تتحدث عن �إعدام ن�سلي
ص
متوح�ش قبل قرون �أو ن�ساىل ي�أكلون حلوم الب�شر ..
ليال �أخرى ..وجدتُ كوخ الفتاة ال ري
عدت �إىل وادي « ُمريان» يف ٍ
ت ك
التي رافقتها تلك الليلة قد �صار مهجو ًرا ،حتى الفتاة نف�سها
زيع
باجلوار ..قالوا �أنهم اعتادوا �سماع زئري حيوانات ال�صحاري
ق�ضيت ليا َ
يل ُ فح�سب ،وال يعلمون �شي ًئا عما �أحتدث ب�ش�أنه ..
كثرية هناك يف انتظار �أن يظهر من جديد ،لكنه مل يفعلها ..
ذهبت �إىل الباحة �أيام الغفران من �أجل م�شاهدة املعدومني ُ
وتفح�ص الن�ساىل الواقفني بني اجلمهور ،كان جميعهم
حملت �أمتعتي
ي�شبهوننا ال �شي َء غريب عنا �سوى �أو�شامهم ُ ..
وذرعت ال�صحاري اجلنوبية ووديانها لعلي ُ على �صهوة جوادي
�أعرث على �شيء يجيب �أ�س�ألتي التي �ش ّبت يف ر�أ�سي ومل تخمد ..
يوما وراء يوم ..ليلة وراء ليلة � ..شه ًرا وراء �آخر.
ً
119
و�صمت للحظات ليلتقط �أنفا�سه ،ثم �أكمل:
�إىل �أن جاء يو ٌم �أمطرت فيه ال�سماء بقوة ،وكنت وقتها جنوب
اجلبال احلمراء بالقرب من وادي «عقيل» الن�سلي حني �سمعت
رك�ضت كاملجنون �أ�سفل الأمطار
ُ �أذين ذلك الزئري مرة �أخرى،
يف اجتاه ال�صوت ،لكني مل �أ�ستطع اللحاق به تلك املرة كذلك،
فقررتُ �أن �أبقى يف ذلك الوادي لعل ذلك الن�سلي يظهر من
ر ا
جديد ..
د
مع �أياميعهناك � ُ
ذلك الواديصبعدما ر�أيتهم يتعر�ضون لأق�صى �أنواع اال�ضطهاد
أدركت املعاناة احلقيقية التي يحياها �أهل
والعنف من �أحد �ري ال
ت يف هذا الوادي الآن ..ك
أثرياء الأ�شراف ،بدرجة كانت تفوق ما يحدث
ر دا
به ،لكن قواعد چارتني مل متهلني ،وداهمني عامي اخلم�سني ..
b
ص ع
و�شققت طريقي نحو ُطبرية
ُ ال ري
ركبت يومها فر�سي تار ًكا الوادي،
ُ
ت ك
من �أجل انتظار َمن يرافقونني �إىل وادي حوران ،وعقلي يفكر
زيع
مل تفارقني ل�سنوات و�أ�صحابها الذين ال �أعتقد �أن �أخي يعرفهم
من الأ�سا�س ،هو �أو �أي فرد من �أفراد عائلتي القدامى ..وجال
بع�ض من �أجدادي قد �أفنوا �سنواتهم مثلي بخاطري �أن يكون ٌ
يف البحث عن �سر تلك املخطوطات و�سر الن�ساىل الزائرين
�إىل �أن توقفوا عن بحثهم رغ ًما عنهم مع بلوغهم اخلم�سني
وخ�ضوعهم للقاعدة الأوىل ،ثم وجدتُ نف�سي �أوقف فر�سي
لأ�س�أل نف�سي م�ستنك ًرا ،و�أنا �أنظر �إىل الطريق املمتد �أمامي
وبيوت املدينة التي بد�أت تلوح يف الأفق:
ما الذي يحملني على الإكمال يف هذا الطريق؟! ..ملاذا �أذهب
ب�أقدامي �إىل املوت؟! � ..إنني ال �أحب �أن �أموت الآن ..كما �أنني
121
يف حاجة �إىل معرفة �إجابات الأ�سئلة الكثرية التي تدور يف
يل من خ�ضوعي للقاعدة الأوىل؟! ر�أ�سي ،ما الذي �س ُي�ضاف ّ
تنتقل روحي �إىل طفل �شريف �سخيف ال يتذكر �أي �شيء عما
حدث يل خالل تلك ال�سنوات؟!!
ووجدت نف�سي فج�أ ًة �ألعن القواعد وچارتني كلها ،وبد�أ ل�ساين
ي�سبها ب�أقذر ال�سباب ،ثم ا�ستدرت بح�صاين ولكزته بقدمي
لريك�ض بي جتاه ال�صحراء اجلنوبية ووديانها من جديد
ر دا
ع
مبتعدً ا عن مدن چارتني ،غري �أنني ابتعدت عن وديان الن�ساىل
ص
ال ري
القريبة من املدن يف تلك الأونة ،وكذلك الوديان املعروفة بزيارة
الأ�شراف واجلنود وكذلك وادي «عقيل» خو ًفا من و�شاية بع�ض
ت ك
الأنذال عني مقابل مك�سب �ضئيل من العمالت املعدنية ..
زيع
الذين ال يعرفونني �أنني ن�سلي م�سن يف م�أمن من قواعد چارتني
طاملا بقيت بعيدً ا عن مدنها الأربع ع�شرة ..
ثم �سكت حلظ ًة و�أخرج زفريه وقال ب�صوت هادئ:
كان قراري باخرتاق القاعدة الأوىل �أكرث القرارات �إ�صاب ًة
عانيت ب�سببه كث ًريا ..لكن كل هذا العناء قد
ُ يف حياتي و�إن
ظللت �أبحث عنه ل�سنوات ..كانزال حني عرثتُ بالنهاية عما ُ
�أجدادي حمقني ب�إخفاء تلك املخطوطة كل هذه ال�سنوات ..
نظرتُ �إليه متله ًفا يف انتظار ما �سينطق به ،و�أنا �أفكر عما �إن
كان ما عرث عليه يتعلق ب�سيدي ندمي ،ولهذا جاء �إلينا بعد كل هذه
122
ال�سنوات ،قبل �أن ي�سبقني الطبيب وي�س�أله يف ترقب:
ما الذي عرثت عليه يف النهاية؟!
فقال العجوز وهو ينظر �إىل بطن �سبيل:
�إنني �أعرف كيف ي�ستطيع الن�ساىل �إنهاء قواعد چارتني للأبد.
ر دا
ع
b
ريص
ال
ت ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
زيع
123
()12
سي ـ ـ ـ ـ ــرين
ر دا
ع
ص
ري
كنت يف طريقي �إىل ال
عن �آدم ليو ّدعه قبل �سفره �إىلك
دق زهري باب بيتي باح ًثا
ت
�سريري عندما ّ
فجل�ست ي
قليلة ويتم عامه ال�ساد�س ع�شر� ،سن البلوغ يف چارتني ..ع ُ
تبقَ �
دا
الو�ساو�س ب�أن يكون ما �أفكر فيه �صائ ًبا ،و�أن يكون هياجه يرتبط
فنه�ضت من مو�ضعي لأخرج باحث ًة عنه ،ومل �أكد ُ
ع ر
با�شتداد املطر،
ص
�أرتدي حذائي اجللدي طويل العنق لأخطو �إىل اخلارج حتى وجدتُ
يل �آدم مبتل ال�شعر والثياب يحمل حذا�ؤه
ال ري
باب البيت ُيفتح ،ويدلف �إ ّ
ت ك
فت�ساءلت
ُ أكواما من الوحل ،كانت مالمح وجهه متبدلة �إىل حد كبري، � ً
ش ن
ر وا تول
هل هناك خطب ما؟!
خلع حذاءه املُوحل ،وجل�س على الكر�سي الذي كنت �أجل�س عليه
زيع
قبلها بدقائق ،ثم �أخرج من �سرتته ورق ًة ُمبتلة احلواف ملفوفة
ب�إحكام ،وقال بوجهه ال�شارد ب�أنها تخ�ص �صديقه زهري ،قبل �أن يخلع
أ�سرعت و�أح�ضرتُ �إليه �سرت ًة �أخرى ومن�شف ًة قما�شية
ُ �سرتته املُبتلة ،ف�
أ�شعلت نريان امل�ستوقد وقتما يرتديجفف بها �شعره وج�سمه ،ثم � ُ
وجل�ست �أمامه و�س�ألته جمددًا:
ُ ال�سرتة اجلافة،
هل هناك خطب ما؟
بذهن م�شتت:
فقال ٍ
حدث �أم ٌر غريب للغاية اليوم.
126
وربت على يده امل�ستندة على الطاولة ،وقلت بلطف:
مددتُ يدي ُّ
�أعرف ما حدث ..
أردفت:
نظر نحوي متعج ًبا ،ف� ُ
�أخربين زهري �أنه �سيغادر مع �أهله.
دا
نظر �إ ّ
يل بنظر ٍة �أكرث تعج ًبا ك�أنه مل يعرف ب�أمر رحيل زهري،
ع ر
وت�ساءل يف ده�شة:
ريص
ال
�إىل �أين؟!!
ت ك
قلت:
زيع
فتابعت حديثي:
ُ ب�إ�صبعه برفق،
مل ي�ستطع �أن يغادر دون �أن يخربك.
هز ر�أ�سه �إيجا ًبا ،وز ّم �شفتيه حز ًنا ..كنت �أعلم مدى احلزن الذي
ي�شعر به يف ذلك الأوان ،يحتاج املرء �سنوات طويلة لتعوي�ض �صديق
طفولته وخا�ص ًة �إن كان �صدي ًقا ج ّيدً ا مثل زهري ..ثم � ُ
أردفت و�أنا
�أنظر �إىل الورقة امللفوفة على الطاولة �أمامي:
أي�ضا ب�أن �أذ ّكرك بالذهاب �إىل معلمه بني كل حني �أو�صاين � ً
و�آخر ..قال �إنك تعرف بهذا الأمر ..
127
�أوم�أ بر�أ�سه �إيجا ًبا دون �أن يقول �شي ًئا ،ثم غاب يف �شروده مرة
�أخرى ،وانطبع وجهه مبالحمه التي عاد بها من اخلارج ك�أن حديثي
عن زهري ورحيله مل يب ّدل ما كان ي�شغله� ،أو على الأقل مل يتبدل وجهه
فت�ساءلت:
ُ بالقدر الذي كنت �أتوقعه
�أهناك �أمر �آخر؟
د
رفع عينه �إ ّ
نعم.ا
يل وقال:
ع ر
ريص
ال
نظرتُ �إليه برتقب كي يكمل حديثه عن ذلك ال�ش�أن الذي ي�شغل
ك
تفكريه بدرجة فاقت رحيل �صديقه ،وتوقعت �أن يتحدث عن �إغماء
ب ت
�أ�صابه باخلارج ،لكنه �أخرج زفريه وقال بهدوء:
ن ل ل
ش
ذلك الكابو�س.
ر وا تول b
زيع
ا�صطحبت �آدم �إىل بريحا وتعودتُ على غرابته ..بد�أ الأمر
ُ منذ
مبا حدث يوم املطر العظيم مرو ًرا بتوا�صله مع اخليل و�إجادته ركوبها
بتلك الرباعة ،وكذلك قوته التي م ّكنته من حمل �أ�شياءٍ مل يكن ٍ
لطفل
يف �سنه ب�أن يحملها� ،إىل الأمر الأكرث غرابة وهو تلك الكوابي�س التي
بد�أت تزوره قبل ثالثة �أعوام ..ال زلت �أتذكر تلك الليلة حني �أيقظني
من نومي حائر الوجه ليقول �أن الكابو�س قد زاره جمددًا ،نظرتُ �إليه
متعجبة وقتها ،و�س�ألته:
�أي كابو�س؟!
128
قال:
كابو�س تكررت زيارته يل �أثناء نومي ،الكابو�س ذاته ال يتغري ..
ٌ
ثم بد�أ يحكي يل عن �ساح ٍة رملية عظيمة يرك�ض فيها حايف
القدمني ب�سرعة ق�صوى ال ي�ستطيع �أح ٌد معها اللحاق به ،يرك�ض �إىل
ما ال نهاية ك�أنه هارب من �شيءٍ ما ،بينما تنظر �إليه �أعني �أنا�س واقفني
دا
ميي ًنا وي�سا ًرا ال تظهر مالمح وجوههم� ،إىل �أن ي�صل جدار چارتني
كحيوان منهك القوى �أ�سفل �أقدام
ٍ
ع ر
وقد متكن التعب منه ،حيث يخ�ضع
م�شحوذا وينحر عنقه كذبيحة اجلزارين دون ً
ريص �أحدهم يخرج �سكي ًنا
ال
�أي مقاومة منه ،لتتناثر دما�ؤه على �صخور قاعدة اجلدار ،فتنطفئ
و ر
ال�سكاكني ،قال ب�إ�صرار كبري ً
مرتبطا بعملنا يف ور�شة �صناعة الأمر
ت ل ا
كل �أحالمه كان يتذكر ذلك الكابو�س ،حدثتُه �أن الأمر و
يخربين ،و�أنه من بني ب�أن الكابو�س ذاته تكرر معه لأيام �سابقة ومل
ي ز
�أحكي له كذ ًبا عن كوابي�س خميفة كانت تزورين كث ًريا ع
طبيعي ،وبد�أتُ
بالفرتة التي
هرب فيها �أبي من القاعدة الأوىل� ،إىل �أن اطم�أن ونام جمددًا ..
لليال �أخرى متتالية مل �أ�ستطع
ظل ذلك الكابو�س يطارده يف منامه ٍ
معها خلق املزيد من احلكايات� ،إىل �أن �أخربين متعج ًبا ذات �صباح
ليال �أخرى
�أن الكابو�س مل ي�أته يف ليلته ال�سابقة ،وبعدها مرت ٍ
كثرية مل يظهر ذلك الكابو�س بها� ،سعدتُ بذلك كث ًريا ،وظننت �أن
قرار ال�سيد عبود بانتقاله �إىل ور�شة الأ�سلحة النارية وتركه لور�شة
ال�سكاكني وحدوات الأح�صنة كان �سب ًبا رئي�س ًيا يف ذلك ،ولوال �أنني مل
129
وقدمت
ُ �أخرب �أحدً ا عن ذلك الأمر لكنت قد ذهبت �إىل ال�سيد عبود
له امتناين الكبري عما فعله من �أجل �آدم ..
غري �أن الأمر نف�سه قد تكرر مرة �أخرى بعد �سبعة �أو ثمانية �أ�شهر،
ووجدتُ �آدم يخربين ب�أن الكابو�س ذاته قد عاوده من جديد ،ال�ساحة
ذاتها التي يرك�ض فيها ..الأعني التي تراقبه ،لكن تلك املرة ر�أى
دا
�أيادي �أولئك الأ�شخا�ص ال�صامتني ترتفع لت�شري �إليه وهو يوا�صل
ع ر
رك�ضه ،قبل �أن يذبحه ال�شخ�ص ذاته �أ�سفل جدار چارتني.
ريص
ال
ليال �أخرى حدثني �أن �أفواه املراقبني له قد بد�أت يف الظهور،يف ٍ
ك
يف ليلة جديدة ر�أى �أفواههم ت�صرخ بكلمات غري مفهومة كانت ت�صل
ب ت
ل
عنان ال�سماء مع ا�شتداد املطر من فوقهم ،بينما كان يوا�صل رك�ضه
دا
التغريات ،الأمر الذي كنت �أحبه من تلك الكوابي�س �أنها كانت �سب ًبا
لليال عديدة
ع ر
كب ًريا لتقرب �آدم مني بعدما �صارت جمال ت�سامرنا ٍ
ص
وبدايات حلكايات �أخرى كثرية حدثت يل يف طفولتي حدثته عنها
ال ري
بعدما مل �أخرب �أحدً ا بها من قبل ،كذلك كان يتحدث يل عن �أمور
ت ك
كثرية يحبها ويطمح �إليها ،حتى �صرنا �صديقني حقيقيني بف�ضل تلك
ش ن
ر وا تول
كنت �أعلم �أن اجلميع يف الور�شة يح�سدونني على وجود �آدم معي،
علي ،قبل عام حاول �أحد الزبائن التحر�ش وحبه الكثري يل وخوفه ّ
زيع
ً
حماول بج�سدي ،وحني وبخته �صفعني على وجهي ،و�أم�سك بثيابي
متزيقها ت�أدي ًبا يل حلظة عودة �آدم �إىل الور�شة ،مل ي�س�أل �آدم عما
حدث ،لكنه �أم�سك بذلك الرجل يف هدوء ،قبل �أن ي�ضرب ر�أ�سه يف
حبل قري ًبا منه ،وك ّبل قدمي الرجل�أحد جدران الور�شة ،ثم اقتلع ً
ببع�ضهما البع�ض �أمام الواقفني ،و�سحبه �إىل اخلارج وهو يحاول
التمل�ص منه ،ثم فوجئنا به يعقل ذلك احلبل ب�سرج ح�صان الرجل
وي�ضرب م�ؤخرة احل�صان ،لريك�ض احل�صان جتاه اجلبال جا ًرا
�صاحبه الذي ظل ي�صرخ مع ان�سالخ ظهره بالأر�ض ال�صلبة� ،إىل �أن
فتاي �إىل عمله وك�أن �شي ًئا مل يحدث،
اختفى عن �أنظارنا ،بعدها عاد ّ
من يومها مل يجر�ؤ �أحد على النظر �إ ّ
يل حتى بنظرة ال �أحبها ..
131
مل يعد يل يف هذا العامل �إال هذا الفتى ..وكذلك مل يكن له �إال
وبقيت �أنا مبفردي،
�أنا و�صديقه زهري ،واليوم قد �أعلن زهري رحيلهُ ،
ت�ساءلت �إليه:
ُ لأخفف عنه همومه مهما كرثت،
ماذا ب�ش�أن الكابو�س؟
مل يكن حدثني عن زيارته له يف منامه قبل �أربعة �أ�شهر على الأقل،
قال ب�شرود:
ر دا
ع
هذا ال�شخ�ص الذي يقتلني يف منامي ..
ريص
ال
قلت:
ك
ماذا به؟
ب ت
ن ل ل
قال:
ش
ر وا تول
لطاملا و�ضع على �سرتته قطع ًة ف�ضية �صغرية ُم�شكلة على هيئة
�سالح ناري ،مل �أرها يف حياتي من قبل ..
زيع
نظرت نحوه با�ستغراب ،مل �أتذكر �أنه �أخربين عن ذلك الأمر من
قبل ،فتابع:
أيت هذه القطعة اليوم ..
ر� ُ
قطبت جبيني يف ت�شكك ،وبد�أ قلبي يدق خو ًفا من اللهجة ال�صادقةُ
متاما ..ف�أ�ضاف ب�صوت حائر:
التي حتدث بها ،والتي �أعرفها ً
عم زهري ،الفار�س كيوان ،كبري �ضباط چارتني ..كانت تلك
القطعة تز ّين قمي�صه ،ر�أيتها اليوم عندما قابلته يف بيت
زهري ،وعندما تع ّلق ب�صري بها رغ ًما عني ..قال �إنها �شعار
رامي املن�صة ..
132
و�أردف وهو يطرق ب�إ�صبعه طرقات مت�سارعة متوترة على الطاولة:
مل �أ َر قط وجه من يقتلني يف �أحالمي ..لكن مبجرد ر�ؤيتي
لتلك القطعة اليوم ،تذكرتُ �أن ثياب قاتلي كانت ت�شبه � ً
أي�ضا
ثياب ذلك الرجل يف هيئتها ولونها ..
ثم قال ب�صوت هادئ وهو يرفع عينيه يف عيني:
دا
ذلك الرجل من يقتلني يف �أحالمي ..
ع ر
قبل �أن ي�ضيف بعدها بلحظة واحدة:
ريص
ال
هذا الرجل �سيقتلني ..
دا
كما فعل �أبي � ..س�أر�سل لك من تنال روحي لتحطم ر�أ�سك �إن
ع ر
فكرت يف الرحيل من چارتني ..لن متوت �إال يف وادي حوران،
ريص
ومن يف ّكر يف �إيذائك �س�أطحن ر�أ�سه �أ�سفل مطرقتي ..
ابت�سم وهو يربت علىاليدي،
كتبد �أن الربد قد �أ�صابك بجوع عظيم
فنه�ضت متحم�سة:
ُ
ل
تنتظرن التهامك لها منذ غروب ب
..هناك دجاجة ب�أكملها ل
�س�أح�ضر لك الطعام ..ال
ر ش
وا تول ال�شم�س.
زيع b
يف الأيام التالية مل يحدث �أي جديد ،غادر زهري وعائلته �إىل
جويدا ،واقت�صر يوم �آدم على الور�شة والعودة �إىل البيت ُقبيل غروب
ال�شم�س لنجل�س ونت�سامر حتى ينال النعا�س منا ،يف الأيام التي كان
ينتهي بها من عمله مبك ًرا كان يركب فر�سه ويرك�ض به �إىل منطقة
اجلبال وال يعود �إال مع حلول الليل ..بدا �أن ذلك الكابو�س مل يزره
خالل تلك الأيام و�إال كان حدثني عنه يف جل�سات ت�سامرنا .بعد �شهر
تقري ًبا من مغادرة زهري �س�ألني �آدم �أن �أكتب ر�سالة �إىل جويدا ،بعدما
م�شابه
ٍ �أخربه ال�سيد �شقري معلم املدر�سة ب�أنه مل يعرث على �شيء
134
لر�سمة �صديقه يف كتبه ،مل حتت ِو ر�سالتي �إىل �صديقه �إال على جملة
واحدة؛ «مل يجد ال�سيد �شقري �شي ًئا عما �س�ألته ب�ش�أنه».
مل يردين �أن �أكتب �شي ًئا �آخر ،فوافقته ،ثم �س�ألته �إن كان �سري�سل
معها الورقة امللفوفة التي عاد بها يوم املطر ال�سابق وظ ّلت بلفتها
قابعة على طاولته بغرفته ،قال:
دا
ال ..ال يريد زهري �أن يعرف عمه �أو �أبوه بها ،قد ير�سم مثلها
ر
هناك ..رمبا ي�ساعده معلمو جويدا بذلك ال�ش�أن.
ص ع
ري
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا قبل �أن �أطوي الر�سالة و�أ�ضعها جان ًبا من
ال
�أجل ت�سليمها لأحد امل�سافرين �إىل جويدا � ..ضحك وهو مي�سك الورقة
ت ك
امللفوفة ،وقال:
زيع
عنها �أف�ضل..
ثم فتح ورقة �صاحبه للمرة الأوىل �أمامي منذ جاء بها ،كانت
ر�سم ٌة بدائية مر�سوم ًة بها ،فقال وهو ي�شري ب�إ�صبعه �إىل رجل مر�سوم
مبنت�صفها:
يقول �أن هذا ن�سلي بينما يخاف مم�سكوه منه ..
فقلت و�أنا �أنه�ض لأ�ضع الر�سالة يف جيب ثيابي كي ال �أن�ساها:
وملاذا يخافه كل ه�ؤالء الرجال؟
قال:
135
مل ي�ستطع تو�ضيح ذلك بر�سمته ..قال ب�أن الر�سمة الأ�صلية
كان بها ال�شاب الن�سلي مفتول الع�ضالت بارز العروق ،يفتح
فمه بقوة ك�أنه يز�أر ..
هنا توقفت قدمي بعدما ابتعدت خلطوات،كان �آدم يكمل:
مي�سك ه�ؤالء الرجال ب�سال�سل حديدية �أحاطت برقبته
ومع�صميه و�ساقيه.
ر دا
ع
عدت بتوج�س ونظرت �إىل الر�سمة و�شيء وحيد يدور يف ر�أ�سي ..
ص
�صوت الزئري الذي �سمعتُه يخرج من غرفة �آدم يوم املطر العظيم
ال ري
قبل �ست �سنوات ،وهيئته التي ال زلت �أتذكرها ك�أين ر�أيتها البارحة ..
ت ك
ع�ضالته البارزة وعروقه املنتفخة رغم �أنه مل يكمل العا�شرة وقتها ..
ل ب
ونظرت �إىل �آدم بخوف وهو يقول:
ر وا تول
الأ�شراف ..
زيع
يل ً
مكمل حديثه: ونظر �إ ّ
ال بد �أنه �سي�شعر بالأ�سف حني ت�صله ر�سالتنا ب�أن معلمه مل
يعرث على �شيء ي�شبهها ..
ثم توقف عن الكالم وظهر التعجب على وجهه حني الحظ تب ّدل
مالحمي ،و�س�ألني �إن كان هناك �شيء ما� ،أو �إن كنت �أعرف �شي ًئا عن
تلك الر�سمة ،هززتُ ر�أ�سي نافي ًة يف ا�ضطراب ،قبل �أن �أخربه ب�أن
عيني يغلبها النعا�س فح�سب ،و�أن علي الذهاب �إىل �سريري ،ثم تركتُه
واجتهت �إىل غرفتي مهرول ًة دون قول املزيد من الكلمات. ُ
b
136
جل�ست على �سريري والأفكار تتالطم يف ر�أ�سي ..كانت �ساقاي ُ
تهتزان من التوتر الذي ظفر بي فيما كانت �أذين ت�سمع �صوت الزئري
املتداخل مع �أ�صوات املطر املنهمر بكل مكان حويل ..ثم تداعى
�إىل ذهني فج�أ ًة يوم املطر العظيم ،ذلك اليوم الذي ارتبط بزيارة
الن�سلية �إىل بريحا لوال ا�شتداد املطر الذي �أف�سد �إكمال �أحداثه ..
حلظتها �شعرتُ ب�أن ر�أ�سي بد�أت تع�صف ب�أفكار مل ت�أتني قط من قبل
دا
وحدثت نف�سي ب�صوت خفي�ض وقلبي يدق بقوة:
ُ ..
ع ر
هل هذا حقيقي؟!! ..هل كذبت الفتاة الن�سلية يف بيت الرذيلة
ريص
حينذاك وثب �إىل ذهني الحديثه عن كيوان يف كوابي�سه ،ومعه بد�أت
ب�ش�أن انتماء �آدم �إىل بلد غري چارتني؟!
137
أكملت هام�س ًة �إىل نف�سي ب� ٍ
أنفا�س الهثة: و� ُ
ُذبح ذلك الن�سلي ب�سكني على يد حبيبته رامية املن�صة ..
أغم�ضت عيني
ُ أغلقت بابي ب�إحكام ،وا�ستدرت و�أ�سندته بظهري ،و�
� ُ
عندما تعالت �أنفا�سي �أكرث و�أكرث ..وتعالت من حويل �أ�صوات الزئري
طرقات ال �أعرف م�صدرها ،ثم
ٍ املتداخلة مع �أ�صوات املطر مع �أ�صوات
ر دا
فتحت عيني من جديد ،بد�أت �أرى كابو�س �آدم �أمامي ..يجري عاري ُ
ع
اجل�سد ،تدق قدماه رمال الأر�ض بقوة ،يبلل العرق ج�سده بالكامل
ص
ال ري
التماعا وجعل ع�ضالته وعروقه �أكرث ظهو ًرا ،بينما يقف
جانبي طريقه �صارخني با�سمه� ،إىل �أن ي�سقط ً
ً فجعله �أكرث
ك
قتيل يف ّ الن�ساىل على
ب ت
نهاية الأمر ..مل ُيقتل عند جدار چارتني ،بل ُقتل على املن�صة حيث
ن ل ل
ش
القواعد التي ُنق�شت على جدار بلدنا ،ومل يكن قاتله كيوان ،كانت
ل ا و ر قاتلته تلك ال�ضابطة ،رامية املن�صة ..
أغم�ضت عيني من جديد ..كانت �أنفا�سي قد ت
بلغت �وأق�صاها ،وكان
زيأناع�أعود �إىل
ُ �
اخلوف يجتاح كل ذرة بداخلي � ..شعرتُ �أنني �س�أ�سقط و�
جل�ست على حافته م�سند ًة �ساقي املرتع�شتني �إىل الأر�ض،
ُ �سريري ،ثم
أم�سكت بر�أ�سي بقوة لعله يتوقف عن التفكري ،لكني ك ّلما هد�أت ً
قليل و� ُ
ع�صف ر�أ�سي بو�ساو�سه من جديد ..انتظرتُ طلوع الفجر بفارغ
وانطلقت جنو ًبا
ُ ركبت ح�صاين
ال�صرب ،وقبل �شروق ال�شم�س كنت قد ُ
�إىل « ِقباال» ..
b
138
كان متحف الأمن يف « ِقباال» يقع على مقربة من املدر�سة العليا
ل�ضباط الأمن ..بنا ٌء كبري يحتوي من الأزياء واملعدات والأ�سلحة
القدمية ما يجعل زائري چارتني ي�أتون �إليه من كل مدنها ،كذلك
ا�شتمل �أحد �أجنحته العلوية على كتب كربى كان يحق للزائرين
ت�صفحها ليقر�أوا بع�ض الكلمات املُد ّونة عن رجال الأمن العظماء
ممن �شغلوا املنا�صب الكربى يف چارتني ..كنت قد زرته من قبل
دا
و�أنا يف عمر العا�شرة مع �أمي و�أختي ،يف زيارة كانت الأوىل يل خارج
رُطبرية.
�أمام �سو ٍر ع
ص
عنه ،قبل �أن �أعقله ب�أحدري
ل ا
وهبطت
ُ أوقفت ح�صاين
تتو�سطه بوابة حديدية � ُ حجري
القوائم احلديدية املُخ�ص�صة لربط اجلياد،
دا
ُمعل ًقا على احلائط فوق �أحد الكتب ،ومن �أ�سفله ُكتب بالف�ضة« :رامي
ر
م�سموحاع
املن�صة» ..
ت ك
وعدتُ �إىل ال�صفحات الأوىل ،قر�أتُ بعيني ال�سطور التى ُكتبت يف
ل ب
ا�ستخدمها رماة املن�صة منذ ُا�ستحدث لن
عن املن�صب ذاته ،وعن الأ�سلحة التي ال�صفحة الأوىل ،كانت تتحدث
ر
ترك الأول من�صب الرامي عام 1613بعد اجلدار ..
دا
عإىل �صفحة الآخر:
ص
ري العام 1618بعد اجلدار ..
وقلت و�أنا �أنظر �
ُ
ر ش
ت�صفحت الكتاب على عجل ٍة يف مرة �أخرية لعلهاو ُذالكرت يف مو�ضع
زيأة واحدة
ت
رجال ال توجد بينهموامر�
ُ
إحباط �إىل �أعلى حيث ال�سالح الناري ع
�آخر ،غري �أنني مل �أجدهم جمي ًعا �إال ً
الف�ضي .. ..فنظرتُ بعيني يف � ٍ
ثم نظرتُ �إىل ال�شعارات الأخرى عن ميينه وي�ساره والتي يقع ب�أ�سفل
التففت وعدتُ
ُ من�صب �آخر ..ثم
ٍ كتاب يتحدث عنكل واحد منها ٌ
�أدراجي خائبة الرجاء لأعرب املمر بني الرفوف الذي عربته قبل
دقائق ،وكدت �أغادر ،لكني متهلت حني ف ّكر ر�أ�سي فيما يحتويه كل
ذلك الكم من الكتب ،وقبل �أن �أعرب الباب �س�ألت الرجل الذي كان
يجل�س ب�أقرب الطاوالت �إليه ،والذي بدت تلك القاعة م�سئوليته:
141
�أي الكتب حتتوي �أ�سماء خريجي مدر�سة ال�ضباط العليا؟
مل �أكن �أعرف �إن كان ما �س�ألت عنه موجودًا بالفعل �أم ال ..لكني
وجدته ي�شري بغري اكرتاث ناحية �أحد الرفوف ،ويقول:
هناك جميعها ..
دا
نظرتُ بعيني نحو اجلهة التي �أ�شار نحوها ،وترددتُ قبل �أن �أ�س�أله
ر
مرة �أخرى ،لكني مل �أجد مف ًرا من �س�ؤاله ،فقلت:
ت ك
ل بل
ينطق ليجيبني لوال �أن �أحد الزائرين رمقني بنظرة غريبة ،وكاد
ر دا
الربق ت�صفحت عيني قائمة الأ�سماء يف ال�صفحات الأوىل ..كان
ص ع
داخلي يخ�شى �أن يكون ا�سمها قد ُمي من ذلك الكتاب � ً
أي�ضا ..
ً
وهبوطا� ،إىل �أن توقفت و�أنا �أقر�أ
ال ري
وحركت �إ�صبعي بني الأ�سماء �صعودًا
ُ
ك
ا�سمها:
ب ت
ن ل ل
غفران ابنة خ ّيال بن ُق�سيم ،رقمها ثمانية و�أربعون ..
ش
ر وا تول
قلبت ال�صفحات على نح ٍو �سريع� ،إىل �أن وجدتُ �صورتها املر�سومة
ُ
فقلت وقلبي يدق بقوة:بالفحم �أماميُ ،
زيع
نعم هي � ..أتذكر تلك الفتاة جيدً ا ..غفران ابنة جويدا ..
رامية املن�صة ..لطاملا اعتلت املن�صة بثيابها الع�سكرية يف
�أيام الغفران القليلة التي ح�ضر ُتها بالباحة قبل انتقايل للعي�ش
�سمعت الفتيات من حويل يح�سد ّنها على
ُ يف جويدا ..ولطاملا
ذلك..
ا�ضطرب داخلي و�أنا اقر�أ ال�سطور التي ُكتبت عنها ..حمل
ميالدها؛ جويدا ،مقر عملها القادم؛ باحة جويدا ،من�صبها القادم؛
أمر مبا�شر من كبري مدر�سة ال�ضباط ..وقلت لنف�سي: رامي املن�صة ب� ٍ
143
يبدو �أن َمن �أزالها من قائمة ال�شرف بكتاب الرماة قد فاته
وجودها بهذا الكتاب ..
نظرتُ كث ًريا �إىل ال�صورة ،وتداعى �إىل ذهني ما كنت �أف ّكر فيه
ً
من�شغل ب�أحد ليلتي ال�سابقة ..قبل �أن �ألتفت �إىل العامل اجلال�س
قطعت الورقة املر�سوم به �صورتها ،ود�س�ستها
ُ وبحر�ص �شديد
ٍ دفاتره،
�أ�سفل كم �سرتتي الطويل.
ر دا
ص ع
ري
b
ال
ت ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
زيع
144
()13
فاضـ ـ ـ ـ ــل
ر دا
صع
ال ري
ت ك
نطقنا جمي ًعا يف � ٍآن واحد بنربة غري م�صدقة حني قال العجوز �أنه
زيع
قال:
�ست�أتون معي �إىل اجلنوب � ..س�أريكم ما ال يعرف به �أحد
�سواي.
�س�ألته غفران:
�إىل �أين؟
�أ�شار ب�إ�صبعه �إىل قمة جبل بي�ضاء باهتة ُر�سمت مبخطوطته بعيدً ا
وراء الن�سلي املُكبل والأ�شراف ،مل نكن قد انتبهنا �إليها بعدما جذبت
�صورة الن�سلي كل انتباهنا ،وقال:
145
ظللت �أكرث من ع�شر �سنوات اخرتقت القاعدة الأوىل ُ ُ بعدما
م�شردًا بالوديان اجلنوبية باح ًثا عن �أي ن�سلي زائر� ،إال �أنني مل
�سمعت فيها الزئري
ُ �أ�سمع �صوت زئري واحد حتى بالوديان التي
من قبل .
يف خالل تلك ال�سنوات فكرتُ كث ًريا يف العودة �إىل جويدا كي
كعا�ص ُيحاكم على ذنبه ،لكن ثمة �أق ّدم نف�سي �إىل الباحة ٍ
قليل قبل اتخاذ �صوت كان ينادي بداخلي دائ ًما ب�أن �أنتظر ً
ر دا
ع
هذه اخلطوة ..لتمر الأعوام واحدا وراء الآخر ،اعتدت فيها
ص
ال ري
حياة ال�صحاري ،واعتدت كوين ن�سل ًيا �سيموت بعيدً ا عن الباحة
لتنتهي روحه �إىل الأبد دون �أن يح�صدها �أحد ،وبد�أتُ �أن�سى ما
ت ك
بقيت من �أجله مع مرور ال�سنوات وتقدم العمر بي � ..إىل �أن ُ
دا
تقدمت ً
راك�ضا ُ عاما �إىل الوراء،
..وك�أن عمري قد عاد ثالثني ً
ر
�إىل هناك ،كان الو�صول �إليها �شا ًقا للغاية خا�ص ًة �أن املطر قد
عاود هطوله من جديد وزاد وحل احل�صى الناعمة ً
وحل ..
ص ع
وا�صلت طريقي نحوهاُ
ال ري
فانزلقت قدمي �أكرث من مرة �إال �أنني
ك
..كنت م�ؤم ًنا جدً ا بر�سائل القدر وكنت �أعلم �أن ال�صدف ال
ب ت
ل
أ�سرعت اخلطى و�أنا على يقني ب�أنني ت�أتي �إال ملن ي�ستحقها ،لذا �
ل
ُ
ش ن
�س�أجد هناك ما �سري�شدين �إىل �إجابة �أ�س�ألتي العالقة يف ذهني
ر وا تول
طوال تلك ال�سنوات.
زيع
وابت�سم وهو يقول:
كدت �أكره املطر ذلك اليوم ..لكن لواله ملا انتبهت �إىل ذلك
الكهف �أبدً ا ..
جبل يتو�سط اجلزء العلوي فيه ور�سم ب�إ�صبعه على الرمال �أمامنا ً
مرب ًعا ،وقال:
جعل املطر احل�صى التي تغطي اجلبل تنجرف عن �صخوره،
لتت�شبع تلك ال�صخور باملاء وت�أخذ لو ًنا �أبي�ض داك ًنا.
و�أ�شار �إىل املربع الذي ر�سمه ب�أعلى ر�سمته ،وهو يقول:
147
�أما ال�صخور التي �أغلقت ذلك الكهف فظهرت رمادي ًة خال�صة.
ثم �أكمل:
بد�أتُ ال�صعود جتاه الكهف عندما بد�أ هطول الأمطار يف
أنفا�س متقطعة ..كان احلما�س الرتاجع �إىل �أن و�صلت بابه ب� ٍ
دا
وقفت �أمامه �ألتقط �أنفا�سي بدقات بداخلي غري م�سبوق ُ ..
ع ر
قلب تنتف�ض بداخلي لت�صرخ يف؛ هيا ..تق ّدم ،ثم بد�أتُ �أزيل
ريص
ال�صخور متو�سطة احلجم التي ترا�صت ب�إحكام لتغلق مدخله،
هاما ينتظرين وراءها ..وهذا ما حدث ال
و�أعرف �أن �ش�أ ًنا ً
ت ك بالفعل ..
ر وا تول
بل هناك تاريخ كامل داخل ذلك الكهفُ ،ر�سم و ُد ّون قبل قرون
زيع
على جدرانه و�سراديبه الداخلية املت�شعبة بباطن اجلبل ،هناك
ت�أكدتُ �أن �أ�صحاب الأمانة احلقيقيني هم الن�ساىل �أنف�سهم،
و�أن تاريخ هذا البلد فيه من احلقائق الكثرية ما مت تزييفها ..
و�أنه قد �آن للن�ساىل �أن ي�سرتدوا حقهم الغائب لقرون الطويلة.
ثم �أ�صابته نوب ٌة من ال�سعال احلاد احتقن معها وجهه ،ف�أخرج
كي�سا قما�ش ًيا �صغ ًريا ،وفتح فوهته و�سكب منه م�سحو ًقا ع�شبيا على
ً
راحة يده وقام بارت�شافه ،قبل �أن ميلأ �صدره بالهواء ويخرجه ببطء
مرات متتالية ..و�أكمل ب�صوت متعب:
148
ن�ستطيع التحرك مع �أول �ضوء لل�شم�س لن�صل �إىل هناك مع
حكيت لكم لن ي�صل خيالكم ُ منت�صف النهار تقري ًبا ..مهما
لننل ً
ق�سطا من الراحة يف الوقت القليل املتبقي �إىل ما �سرتونهْ ،
�إىل طلوع ال�شم�س.
وتابع وهو مي�سح الر�سمة التي ر�سمها على الرمال بجانبه قبل �أن
مي ّهد م�ساحة �أخرى من الأر�ض بيديه:
ر دا
لقد �أ�صابني التعب ..مل �أحتدث بهذا القدر املتوا�صل منذ
ص ع
�سنوات كثرية ..
ال ري
ونظر �إىل �سبيل وقال:
ر وا تول
ً
مفرت�شا الأر�ض لكنه جتاهل تعجبنا ومال بجزعه لينام على جنبه
التي مهدها ،و�أغم�ض عينيه وهو مي�سك القطعة اجللدية بني يديه،
زيع
بدل من نومه على هززتُ كتفه برفق كي �أوقظه لينام داخل كوخي ً
الرمال� ،أجابني بع ٍني �شبه مغلقة ب�أنه �سيوا�صل نومه يف مو�ضعه ..
�س�أله ريان:
هل يتعلق الأمر بالأرواح الن�سلية الثائرة؟!
أنفا�س عالية ،فنظرنا �إىل بع�ضنا
لكنه كان قد وا�صل نومه ب� ٍ
البع�ض بوجوه حائرة ..ال ندري هل ن�ص ّدق ذلك الرجل الذي هبط
فخا جديدً ا قد ُن�صب لنا من �أ�شراف�إلينا من حيث ال ندري �أم يكون ً
چارتني وداهيتهم الذي ُيدعى كيوان.
b
149
نه�ضنا ودخلنا �إىل كوخ غفران بعيدً ا عن ذلك الرجل بعدما غاب
يف �سباته ك�أنه مل ينم من قبل ،فقلت:
�أخ�شى �أن يكون ً
فخا مدب ًرا لنا ..
قال ريان حائ ًرا:
حكيت لكم مرا ًرا
متاما ُ .. ت�شبه ر�سمة املخطوطة �سيدي ندمي ً
دا
عن احلالة التي كانت تنتابه حني تثور روحه ..والآن �أقول لكم
ر
ع
كان ي�شبه ذلك الن�سلي املر�سوم بكل تفا�صيله ..
زيع
عنك �سيدتي �إال منذ عامني فقط ،رمبا كان قال �أنه مل يعرف ِ
عنك � ..أو رمبا �شي ٌء ما
ينتظر �أمر ما� ،أو يريد فعل �شيء بعيد ِ
ثار بداخله بعد مقتل ُزردق الذي كان َمن �أر�سله على حد قوله.
قال ريان:
كانت روح �سيدي تثور بالأيام التي يتعر�ض فيها للإهانة ..
�أتتذكرين يوم ال�ضابط الذي �أهانه؟ ..ويوم ال�شاب؟ ..كان
هذا الرجل حم ًقا يف تفكريه الذي ف ّكر به قبل بلوغه اخلم�سني.
وجل�س القرف�صاء وقال:
�أنني �أ�ص ّدق هذا الرجل ..
150
قلت:
ُ
ملاذا �أ�شار �إىل ذهاب �سبيل معه؟
قالت غفران:
�سنبلغه برف�ضنا هذا الأمر حني ي�ستيقظ ..لن ت�أتي �سبيل
معنا..
دار
قلت:
ص ع
�أوم�أت بر�أ�سها �إيجا ًبا،ري ال
قبلت بالذهاب معه ؟!
أنك ِ هذا يعني � ِ
دا
فجل�ست
ُ معنا تقاوم النعا�س بجفون تت�ساقط رغ ًما عنها� ،أما �أنا
ع ر
�أراقب غفران التي ظ ّلت مو�ضعها �شارد ًة تنظر عرب باب الكوخ املفتوح
ص
�إىل الرجل الراقد نائ ًما يف فنائها ،كانت دمع ٌة هاربة قد ت�ساقطت
فت�صنعت النوم
ُ يل،
ال ري
على وجنتها فم�سحتها �سري ًعا ،وكادت تنظر �إ ّ
ت ك
بعقل م�ستيقظ
وغ�صت يف �شرودي �أنا الآخر ٍ ُ حرجا،
كي ال �أ�س ّبب لها ً
بل
وعينني مغلقتني� ،إىل �أن طلع الفجر ووجدنا العجوز ينه�ض من تلقاء
ن ل
نف�سه باح ًثا عنا ،وابت�سم حني وجدنا جنل�س يف انتظاره بالداخل.
bشر
وال وت
زيع
كانت غفران قد ا�ستعدت للذهاب عندما �أتى ريان بح�صان وعربة
خ�شبية ال �أعرف كيف �أتى بهما ،ف�س�ألها الرجل عن �سبيل ،ف�أجابته:
لن ت�أتي معنا ..يتبقى على والدتها �أيا ٌم قليلة ولن ت�ستطيع
حتمل الرحلة �إىل اجلنوب ..
قال الرجل ب�إ�صرا ٍر كبري:
ال بد لها �أن ت�أتي ..
تعجبنا من �إ�صراره ،ونظرتُ �إىل غفران بعدما تزايدت �شكوكي،
فقالت ال�سيدة:
152
ملاذا ي�ستوجب عليها املجيء معنا؟
قال:
�ستعرفني هناك ..لكني لن �أغادر بدونها.
قلت:
دا
�إنني طبيبها و�أقول لك �أن قدومها خطر كبري عليها ..و�أنا
ر
�أرف�ض ذلك.
ش ن
ر وا تول
ال ..
قال:
لن �أغادر بدونها � ًإذا ..ثمة �أمر ب�إحدى ز
جدارياتيعالكهف
املر�سومة يتعلق بها ..ال بد لها �أن تراه.
ت�ساءلت غفران:
ماذا ب�ش�أنه؟!
قال:
�ستعلمني كل �شيء هناك ..ال بد �أن نرحل قبل طلوع النهار لئال
ينتبه الن�ساىل �إىل رحيلكم ..عليكم �أن تثقوا بي ..
153
�سكتنا جمي ًعا ونظرنا �إىل بع�ضنا البع�ض ،كان الوقت ينفد منا
ح ًقا� ،إىل �أن قالت غفران:
ح�س ًنا� ،ست�أتي معنا ..
ونظرت نحوي وقالت:
دا
�سريافقنا الطبيب ويبقى ريان مع ناردين هنا ..
ع ر
ص
معرت�ضا ،هم�ست �إ ّ
يل ً تعجبت من قرارها ،وقبل �أن �أنطق �إليها
ُ
ت ك
ب
ال منلك خيا ًرا �آخر ..لي�س �أمامنا �سوى ت�صديقه ..
ن ل ل
ش
ر وا تول
ثم قالت لناردين:
�أيقظي �سبيل و�أخربيها ب�أن ت�ستعد للرحيل معنا ..
زيع
�أوم�أت الفتاة بر�أ�سها ،ودخلت �إىل الكوخ لتخرب �سبيل مبا قالته
غفران ،فيما قالت غفران لريان:
احر�ص على �سالمتك �أنت وناردين� ،سنعود ومعنا �أخبار قد
تغي م�صرينا �إن �صدق هذا الرجل ..
ّ
قال:
�س�أفعل ..
154
بعدها خرجت �إلينا �سبيل ،وركبنا العربة ،معنا العجوز الذي
�أم�سك بلجام ح�صانها ليتوىل القيادة بنف�سه بعدما عقل ح�صانه
الهزيل مب�ؤخرة العربة.
b
كانت ال�شم�س قد بد�أت رحلة �شروقها حني حترك بنا العجوز،
دا
كانت طرقات الوادي يف ذلك التوقيت خاوي ًة ً
متاما و�ساكنة حتى
ع ر
املوت ،حتى الكالب ال�ضالة التي كانت نائمة على جوانبها تكا�سلت
ريص
عن �إطالق نباحها وتركتنا من�ضي يف �صمت �إىل الطريق الرملي
ال
املمهد خارج ناحية الوادي اجلنوبية ،قال الرجل حني بلغناه:
ت ك
�سن�أخذ طر ًقا �أخرى بعيدة عن باقي الوديان.
ن ل ل ب
ش
مل نع ّقب على كالمه �سوى ب�إمياءة توحي مبوافقتنا ،وتركناه ّ
يوجه
ر وا تول
ح�صان العربة كيفما ي�شاء ،ربتت غفران على يد �سبيل بابت�سامة ك�أنها
تعتذر عن قرارها مبوافقتها على ا�صطحابها معنا ،فابت�سمت الفتاة
زيع
..وبد�أ العجوز يرثثر مع م�ضي العربة عن الأهوال التي قابلها بني
�صحاري اجلنوب ووديانها ،مل نكن يف حاجة ل�سماع املزيد عن معاناته
بقدر ما كنا يف ت�شوق �إىل معرفة ما ينتظرنا داخل كهفه املزعوم ..
فالذ كل واحد منا ب�صمته دون �أن نقاطع الرجل ولو ملرة واحدة ..
تذكرتُ حني ارتفعت اجلبال من حولنا رحلتي مع دميا و�ص ّديق عرب
�صحراء بني عي�سى قبل ت�سعة �سنوات ،ومعها ان�شغل تفكريي بتذكر
كل ما حدث يل منذ تلك الرحلة ،كانت غفران هي الأخرى هائم ًة يف
�أفكارها بعيدً ا عن حديث العجوز ،فيما بدا على وجه �سبيل تركيزها
مع كل كلمة يقولها ذلك الرجل.
155
مل نقابل يف طريقنا �أي جتمعات لوديان �أو �سهول منب�سطة ت�صلح
دروب وممرات جبلية
ملعي�شة التجمعات بعدما وا�صلنا التقدم عرب ٍ
مهجورة ومت�شعبة ..كنت �أ�شعر بالقلق ك ّلما انعطف بنا �إىل ٍ
درب
متاما �أن هذا العجوز لو �أ�صيب ب�أي مكروه �سيكون
جديد ..كنت �أعلم ً
ال�ضياع م�صرينا ال حمالة ..
عرفت ذلكُ مع الوقت بد�أت قمم اجلبال احلمراء يف الظهور ..
دا
اليوم �سبب ت�سميتها بهذا اال�سم بعدما كانت �صخورها تكت�سب لو ًنا
ر
ع
�أحمر باهتًا مع انعكا�س ال�شم�س عليها � ..أخربين ريان من قبل �أن
ص
ال ري
الوديان املنب�سطة بني تلك اجلبال حتتوي كث ًريا من جتمعات الن�ساىل
الذين جتمعوا حول الينابيع العذبة التي تناثرت هناك .ثم حت ّولت
ت ك
الرمال من �أ�سفلنا �إىل �صخور �صغرية متك�سرة بعدما قطعنا م�سافة
ن
ألت العجوز �أن يبطئ من �سرعة
ل ل ب
لي�ست ق�صرية خلف تلك اجلبال ،ف�س� ُ
ش
ر وا تول
العربة حماي ًة ل�سبيل وجنينها ففعل ذلك مرح ًبا.
مل يقبل داخلي ذلك الرجل قط ،وبد�أ عقلي يفرت�ض كافة
زيع
أدركت
االحتماالت التي �أ�ص ّر من �أجلها على تواجد �سبيل معنا ،كذلك � ُ
احتمال خليانته رغم زعمها بت�صديقه عندما ً �أن غفران قد و�ضعت
ملحت خنج ًرا ُمثبتًا بحزام جلدي حول �ساقها اليمنى ،ظهر حني ُ
بدرب �ضيق بالكاد ميرر العربة ،ا�ضطرت معه �إىل رفع �ساقيها مررنا ٍ
�إىل ظهر العرب فانك�شف جزء من غمده بعدما ارتفع ف�ستناها ً
قليل
عن �ساقيها ،دون �أن يراه العجوز �أو تعلم �أنني ر�أيته.
بعد اجتيازنا دروب اجلبال احلمراء �س�ألت غفران الرجل فج�أة
�أن ي�سمح لها بتفقد قطعته اجللدية ف�أعطاها �إياها ،فظلت تتفح�صها
ب�إمعان �شديد دون �أن تف�صح لنا عما تفكر فيه �أو ما يدور يف ر�أ�سها
156
..كانت تغتاظ فقط ك ّلما حاولت �س�ؤال الرجل عن �شيء فيجيبها
ب�أنها �ستجد كل الإجابات يف خالل �ساعات� ،إىل �أن حتولت ال�صخور
أر�ض من احل�صى الناعمة حني هبطت املتك�سرة من �أ�سفلنا �إىل � ٍ
العربة ببطء �شديد در ًبا �شديد االنحدار ،انتهى بنا �إىل ممر مت�سع
م�ست ٍو حتيطه التالل من كل جانب فتوقف بنا ..ثم �أ�شار نحو قمة
�صدع بني قمتني �صغريتني على مييننا ،وقال:
جبل ظهرت خلف ٍ
زيع وتابع:
لن ت�ستطيع العربة التقدم �أكرث من ذلك � ..سنكمل التقدم
�إليها �س ًريا على �أقدامنا ..
وثبت �إىل الأر�ض ،ثم �ساعدتُ �سبيل يف نزولها ،فيما حررت غفران
ُ
احل�صان من العربة ،وربطته مب�ؤخرتها يف حلقة معدنية منف�صلة عن
احللقة التي ُربط بها ح�صانه العجوز ،بعدها �سرنا خلف العجوز.
b
157
أم�سكت بيد �سبيل عندما عربنا ربو ًة ترتفع ً
قليل عن الأر�ض كانت � ُ
احل�صى وال�صخور التي تغطيها قد ت�سبب انزالق قدميها �إن �صعدتها
مبفردها ..فيما ابتعد عنا العجوز بخطوات تتبعه غفران ،وبعد
اجتياز ب�ضعة ممرات بني تالل �صخرية متو�سطة االرتفاع ،وعبور
�أخرى منخف�ضة االرتفاع ،و�صلنا �أخ ًريا �إىل قاع اجلبل املق�صود ..ثم
نظرنا �إىل �أعلى بعدما �أ�شار العجوز بيده عال ًيا ،وقال:
ر
ذلك الكهف هناك.
ا د
فقلت بعدما عت�شابهت �صخور اجلبل جميعها يف عيني:
ري ال �أرى �شي ًئا ..ص
ال
أظهرت غفرانك
و�سبيلت�أنهما ال تريان �شي ًئا هما الأخريتان
ب نل
وكذلك �
ل
�إنه يف الأعلى � ..ستظهر �صخوره معش
..فقال الرجل:
ر
وال وت
�صعودنا ..
زي
ي�ستحيل على �سبيل ال�صعود � ..سيت�سبب ذلك يفع�إجها�ض
قلت:
ريص
ال
وتابع بعدما رمقني بنظرة لوم:
ت ك
�إن �آخر �شيء قد يفكر فيه رجل عا�ش م�شردًا ل�سنوات ب�سبب
ر وا تول قلت:
دا
�سن�صعد ..
ع ر
قاطعته غفران �صارخة يف وجهه بغ�ضب:
ريص
ال
لن نخطو خطو ًة واحدة قبل �أن تخربنا ..
كb
برل�أى ذلك الإ�صرار على وجه
ت
ش غفران املحتقن غ�ض ًبا ..ثم نزع ل
القطعةن
ز ّم العجوز �شفتيه غا�ض ًبا بعدما
ر وا تول
اجللدية من يدها وغمغم
ً
قائل:
دا
و�أ�ضافت ك�أنها تربر لنف�سها ت�صديقها له:
ع ر
�إن قمة اجلبل ح ًقا ت�شبه القمة املر�سومة مبخطوطته ،وحديثه
ريص
عن الن�ساىل الزائرين ي�شبه حديث ريان عن ندمي ..
ال
و�أكملت وهي تنظر نحوه بعدما ت�س ّلق لأقدام كثرية:
ت ك
ل ل ب
هناك مزيد من الأ�سرار ال تزال يف جعبة ذلك العنيد � ..أ�سرار
ن
ش
قد نكون يف �أم�س احلاجة �إليها ..
161
قالت الفتاة:
ح�س ًنا ..
حتركت
ُ ثم بد�أنا ن�صعد يف امل�سار ذاته الذي حترك فيه العجوز ..
مهل �شديد مت�سك يدي يدها ،فيما �سبقتنا غفران �أنا و�سبيل على ٍ
بعدة �أقدام ..كان ال�صعود �أ�سهل مما �أملنا ،ووجدنا �أنف�سنا قد
دا
قطعنا ثلث امل�سافة يف وقت ق�صري جدً ا ،وبني حني و�آخر كانت غفران
ر
تلتفت �إلينا وتت�ساءل �إن كان كل �شيءٍ على ما يرام ،فتجيبها �سبيل
ص ع
ب�أنها بخري ،قبل �أن نوا�صل �صعودنا �أكرث و�أكرث ..كان العجوز قد
ال ري
انتبه �إىل �صعودنا ف�أكمل طريقه �إىل الكهف املحفور يف وجه اجلبل،
ك
والذي بد�أت �صخور بابه يف الظهور ك ّلما �صعدنا �إىل �أعلى ..
ب ت
ن ل ل
عندما و�صل العجوز �إىل الكهف بد�أ يزيل ال�صخور التي تغلق بابه
ش
ر وا تول
..ثم دلف �إىل داخله ،قبل �أن يخرج من جديد ليقف �أمامه يف انتظارنا
..كانت غفران �أول الوا�صلني منا �إليه بالطبع ..وبعدها بفرتة لي�ست
زيع
و�صلت �أنا و�سبيل �إليهما بعدما نالت الفتاة فرتتني من الراحة
ق�صرية ُ
يف الن�صف الأعلى من ال�صعود.
b
التقطت �أنفا�سي �أنا و�سبيل ثم تق ّدم بنا العجوز �إىل داخل الكهف،
ُ
كانت �شعل ٌة ُمعلق ٌة على احلائط تنري املدخل ،بدا �أن العجوز قد �أ�شعلها
حني دلف �إليه لدقائق �أثناء �صعودنا ..
�شق
حامل ال�شعلة عرب ٍ بعد عبورنا باب الكهف قادنا العجوز ً
�ضيق للغاية تنحدر �أر�ضه مبيل طفيف �إىل الأ�سفل ،حتى خرجنا
ات�ساعا ،كانت جدران ذلك ً �سرداب �أكرث
ٍ منه بعد ب�ضعة �أقدام �إىل
162
ال�سرداب مل�ساء وباردة كالزجاج حني الم�ستها بيدي ،لكن العجوز
مل يعطني مهلة للتفكري بهذا الأمر بعدما �أ�شعل �شعل ًة �أخرى كانت
ُمثبتة على مييننا و�ألقاها يل كي �أم�سك بها ،ثم تقدم عرب ال�سرداب
ف�سرنا وراءه ،كانت بع�ض الكلمات املنقو�شة قد بد�أت يف الظهور على ِ
اجلدران �أمامنا ،فتمهلنا ،فطالبنا ب�أن ن�سرع اخلطى لرنى ما هو �أهم
..بد�أ عقلي وقتها يت�أكد ب�أن هناك ما هو عظيم ح ًقا ينتظرنا ،و�أننا
دا
على �أعتاب معرفة �سر هزمية الأ�شراف كما قال ذلك الرجل الذي
ر
انتهى ال�سردابع
�أظهر معرفته بكل بو�ص ٍة داخل ذلك الكهف منذ وجلنا �إليه.
ري ص
هناك �سلم حجري ..التوخوا احلذر �أثناء نزوله.
بباب �ضيق ،فتوقف قبل �أن يعربه وقال:
كت ُ
ن
قربت �شعلتي من الأر�ض �أمامهما
ل ب
لرييا درجاته بو�ضوح �أثناء نزولهما ،ل
�أم�سكت غفران بيد �سبيل فيما
ب�شعلته برو ًزا �صخر ًيا كان يربز من احلائط على وا ول
ت
واقرتبنا منه ..فالم�س
زيع�صخر ًيا
ارتفاع قدم واحد
عن الأر�ض ،لنجد �أن النريان قد امتدت عربه لت�ضيء ً
حو�ضا
�ضي ًقا ازدادت معه الإ�ضاءة ب�صورة كبرية ..
أحوا�ضا �أخرى امتدت �أمام اجلدران تن ّقل الرجل و�أ�شعل � ً
الدائرية ،لنجد �أنف�سنا داخل غرفة دائرية وا�سعة تنريها النريان
من كل جانب ،ومعها �شهقت �سبيل ،كان متثال منحوت لرجل �ضخم
طويل ال�شعر واللحية ينظر �إىل ال�سماء فاغ ًرا فاه يتو�سط الغرفة
�أمامنا ..كانت تفا�صيل ج�سده منحوت ًة برباعة كبرية ..كذلك و�شم
حتركت نحوه منبه ًرا
ُ الن�ساىل املنحوت على جانب �صدره الأي�سر ..
والم�ست �صخوره املل�ساء ليزداد انبهاري
ُ بالرباعة التي ُنحت بها،
163
..ثم تل ّف ُّت �إىل غفران لأرى ردة فعلها ،لكني وجد ُتها تقف �أمام
ألوان زاهية على جدران تلك الغرفة .. �أوىل اجلداريات املر�سومة ب� ٍ
حتركت �إىل جانبها ،كانت الرباعة التي ُر�سمت بها تلك اجلدارية
ال تقل براع ًة عن نحت التمثال ..كانت لأُ ٍ
نا�س يبنون جدا ًرا كب ًريا،
عرفت من النظرة الأوىل �أنه جدار چارتني ،وكانت بع�ض ال�سطور ُ
قد ُنق�شت بحروف عربية على جانبها ..فاقرتبت غفران منها
دا
أف�سر
اقرتبت �أنا الآخر لكني مل �أ�ستطع �أن � ّ
ُ لتقر�أ ما ُكتب ،كذلك
ع ر
�سط ًرا واحدً ا ،كذلك بدت عالمات التعجب على وجه غفران ..
ص
قال الرجل من خلفنا:
ال ري
ُكتبت بالعامية الچارتينية القدمية التي يختلف فيها ترتيب
ت ك
حروف كثري من الكلمات عن كلمات لغتنا احلالية ،كذلك ال
زيع
ت�ساءلت غفران متعجبة:
هل �أُعيد بناء اجلدار من قبل؟!
قال الرجل:
نعم..
وتابع:
لرتي باقي اجلداريات ،ثم �س�أخربك بالق�صة الكاملة املكتوبة
ْ
على جدران هذا الكهف و�سراديبه ..
164
أنا�س ملت ّفون حول طاولة،
انتقلنا �إىل اجلدارية التالية ،كانت ل ٍ
كان باد ًيا �أنه اجتماع ذو طابع ر�سمي بني الأ�شراف �أ�صحاب الثياب
الفاخرة والن�ساىل ن�صف العارين الذين يبدو عليهم احلياة البدائية
..حتركنا �إىل اجلدارية الثالثة ..كانت �ساحة عظيمة ،ت�ساءلت
غفران بده�شة:
باحة جويدا؟!
ر دا
قال الرجل:
ر
أكوام من اجلثث العارية ،تظهر �أو�شام جباههمُ ،مك ّومني
دا
..كانت ل ٍ
ص ع
رجال ون�سا ًء و� ً
أطفال ،وحتوم فوقهم الطيور اجلارحة .. فوق بع�ضهم ً
ال ري
ثم يف النهاية كانت الر�سمة ذاتها التي ُر�سمت يف خمطوطة العجوز
ك
كبل بال�سال�سل من كافة �أطرافهُ ،ر�سمت اجللدية ..ن�سلي يز�أر ُم ً
ب ت
ل
بحجم �أكرب يف �آخر اجلداريات ،فنظرنا �إىل الرجل ،فقال:
ل
ٍ
ش ن
ر
�س�أبد�أ معكم باجلدارية الأوىل ،لكني �س�أعود بالزمن ل�سنوات
ر دا
يف الهياج كل ليلة ..ارتعب الن�ساىل حني ر�أوا هيئته و�سمعوا
ع
زئريه للمرة الأوىل ..لكنهم اعتقدوا وقتها �أن �أر�ض چارتني
ص
ال ري
قد وهبتهم ذلك الن�سلي الزائر لتنتقم من �أفعال �أ�شرافها ..
وتناقلت احلكايات بينهم ب�أنه يقتل يف الليلة الواحدة �سبع ًة
ت ك
من رجال الأ�شراف ،ثم عرفوا ق�صته احلقيقية من امر�أ ٍة
زيع
وقيل �أنه قد هرب �إىل جبال �أق�صى اجلنوب حيث كانت تعي�ش
ف�صيلته من منور ال�شامو ،غري �أنهم مل ين�سوه قط يف حكاياتهم
و�أغانيهم الالتي تناقلوها بينهم لعقود ..
قالت �سبيل يف ا�ستغراب �شديد:
مل �أ�سمع قط بهذه الق�صة ..
قال الرجل:
�إنها جز ٌء من تاريخ كبري مت حموه برباعة ..
ووا�صل:
167
قبل �ألفي عام تقري ًبا كانت �أعداد الن�ساىل تفوق �أعداد
الأ�شراف بكثري ،و�إن حتكم الأ�شراف بكل �شيء مثل وقتنا
احلايل ،بل كان بط�شهم وظلمهم للن�ساىل يفوق ما يتعر�ضون
له الآن �آالف املرات يف ع�صور ُ�سميت بع�صور التعذيبُ ،كتب
عنها �أن الأ�شراف ا�ستخدموا �أ�شد �ألوان التعذيب بعدما �أعلن
الن�ساىل اعرتا�ضهم على القاعدة التي تن�ص على حمل �أجنتهم
دا
الأرواح املذنبة � ..إىل �أن ر�ضخ الن�ساىل يف نهاية الأمر بعدما
ع ر
مل تتحمل �أج�سادهم مزيدً ا من العذاب ..
ريص
ال
ثم حترك �إىل �أمام اجلدارية الأوىل ..وقال وهو ينظر �إليها:
ت ك
ثم �أتت الفر�صة على طبق من ذهب للن�ساىل عندما انهار جزء
زيع
فعلها قبل بناء اجلدار ..فلم يكن �أمامهم �سوى اال�ستعانة
بالن�ساىل كي ي�ساعدوهم يف �إعادة بناء ذلك اجلزء املهدوم ..
كان الن�ساىل �أكرث عددًا وقوة ،و�أكرث خربة يف تقطيع �صخور
جبال اجلنوب ونقلها �إىل ال�شمال ،على عك�س الأ�شراف
�أ�صحاب الأيدي الناعمة � ..إال �أن الن�ساىل قد احتدوا جمي ًعا
على الرف�ض وحتملوا �ألوا ًنا �أخرى من العذاب يف �سبيل
مت�سكهم برف�ضهم ..وملّا كان هياج بحر �أكما يتزايد ً
يوما بعد
يوم و�أجزم حكماء الأ�شراف ب�أنه �س ُينهي چارتني �إىل الأبد ال
عهد
حمالة ،فوجئ الن�ساىل ب�إعالن ملك چارتني موافقته لعقد ٍ
168
دموي معهم يف وادي حوران ،يتعهد فيه بتحقيق ما يطلبونه،
ليجد الن�ساىل �أنف�سهم للمرة الأوىل يف مو�ضع قوة ي�ستطيعون
من خالله �إمالء �شروطهم ..كان ذلك بعد �أربعة قرون من
اختفاء الن�سلي الزائر الأول ..
ثم �أ�شار �إىل اجلدارية الثانية التي يجتمع فيها الأ�شراف والن�ساىل
حول طاول ٍة حجرية وقال:
ر دا
مت العهد الدموي بالفعل يف وادي حوران بني ملك الأ�شراف
ص ع
واثنني من وزرائه ،وثالثة من رجال الن�ساىل ُاختريوا من بني
وا�ضحا ال جدال
ً
ال ري
وديان الن�ساىل الثمانية ..كان �شرط الن�ساىل
ك
فيه؛ �أن ُتلغى القاعدة املخت�صة بانتقال الأرواح الآثمة لأجنة
ب ت
ل
أرواحا نقية مثل التي يحملها الأ�شراف
الن�ساىل ،و�أن يحملوا � ً
ر وا تول
بناء اجلدار ،و�أن ُتنق�ش قاعدة بذلك بني قواعد چارتني بعد
اكتمال البناء ..
زيع
وافق الأ�شراف على ذلك ،لكن الن�ساىل �أ�ضافوا طل ًبا �آخر غري ًبا
�ضما ًنا لتنفيذ الأ�شراف عهدهم ،وحماي ًة لهم من التنكيل بهم
�إن خان الأ�شراف عهدهم ..
والتفت �إلينا العجوز وهو يكمل:
ين�س الن�ساىل قط الن�سلي الزائر الذي وهبته لهم �أر�ض مل َ
چارتني من قبل ،فا�شرتطوا لإمتام ذلك العهد �أن حت�صد �ألف
ن�سلية حامل من وديان الن�ساىل الثمانية �أرواح �ألف حيوان بري
من حيوانات ال�صحاري اجلنوبية ال�ضارية يف باحة جويدا ..
169
تظل تلك الأرواح خامدة يف �أج�ساد حا�صديها غري مكتملة
القوى �إن حافظ الأ�شراف على عهدهم ..وتكتمل قواها وتثور
داخل �أج�سادهم �إن خان الأ�شراف عهدهم ..
اعرت�ض الأ�شراف على ذلك ال�شرط رغم عدم ت�صديقهم
رف�ضا قاط ًعا ،لكن مع �إ�صرار لإمكانية حدوثه ،ورف�ضوه ً
الن�ساىل حتى املوت لإ�ضافته �إىل العهد الدموي ،وتوارد �أخبار
ر دا
البحارة بارتفاع �أمواج بحر �أكما ،اقرتح �أحد وزيري امللك �أن
ع
يكون العهد هكذا؛ �أن يح�صد الن�ساىل �أرواح ال�ضواري كما
ص
ال ري
�أرادوا ،لكن ال تكتمل تلك الأرواح بداخل �أج�ساد الن�ساىل �إال
ب�شرطني؛ الأول� :إن خان الأ�شراف عهدهم ،والثاين� :أن يق ّدم
ت ك
فعل نيتهم يف عي�ش حياة �شريفة بعيدة عن الن�ساىل ما يثبت ً
مولود
�شريف ٍ ٍ طفل
ن ل ل ب
حياتهم ال�سابقة ،وذلك بتقدمي الن�ساىل ٍ
كذبيح تروي دما�ؤه
ٍ
ر ش
عن زواج �شرعي لأبوين ن�سليني خال�صني
ل ا و
فهمت حينها ملاذا �أ�ص ّر العجوز على ت
ا�صطحابوز�سبيل معنا،
�صخور وادي حوران ال�شاهدة على هذا العهد.
دا
جانب �آخر منهم با�صطياد �ألف حيوان مفرت�س من �صحاريتكفل ٌ
ر
وجبال اجلنوب� ،أ�سود ومنور وفهود و�ضباع ،و�أخرى ال �أعرفها..
ص ع
و�أ�شار �إىل قف�ص مر�سوم به حيوان ي�شبه الأ�سد لكنه يف حجم
ال ري قط ..
ش ل
بحرا�سة ملكية يف �سرية كبرية ..ثمن
أقفا�ص ب�أفواه ُمك ّبلة
حملوها يف � ٍ
ر
بعهدهم ب�إمتام بناء اجلدار ..وخالل تلك ال�شهور ال�سبعة
دا
ع
كانت كل الن�ساء قد و�ضعت �أجنتها ب�سالم عدا الثمانية الالتي
ص
ال ري
ح�صدن �أرواح منور ال�شاموُ ،منت جمي ًعا �أثناء و�ضعهن ..غري
�أن �أطفالهن قد جنوا ..
ت ك
ل ب
وقال وهو يتحرك �إىل اجلدارية التي يظهر فيها ن�سليان يتزوجان:
زيع
�أزواج من العر�سان خالل �أيام غفران تلك ال�شهور ..ومل يتبقَ
يف هذا العهد �إال �أن ُتنق�ش القاعدة اجلديدة بانتهاء عهد
انتقال الأرواح الآثمة �إىل الن�ساىل ..فنق�ش البناءون على
�إحدى القواعد ال�صخرية يف اجلزء الذي بنوه قاعدة تقول:
«يبقى الن�ساىل مثلهم مثل الأ�شراف ال مت ّيز بينهم الروح
النقية».
نظرنا م�شدوهني �إىل اجلدارية التالية التي ُر�سمت فيها قاعدة
ف�سرها لنا العجوز ،قبل ً
منقو�شا عليها الكلمات التي ّ اجلدار البي�ضاء
�أن يكمل:
172
�إال �أن الأ�شراف قد خانوا عهدهم كعادتهم ،بعد يوم واحد من
اكتمال بناء اجلدار ..
وا�ضحا �أمام �أعيننا باجلدارية التي ُر�سمت فيها �أكوام
ً كان ذلك
اجلثث العارية حتوم فوقها الطيور اجلارحة ،قال الرجل بعدما �أخرج
زفريه:
دا
الطغيان مر�ض ،من ي�صبه ال يفارقه حتى ميوت ..كذلك
ريص
ال
ُقرب انتهاء اجلدار ا�ستكرث الأ�شراف على الن�ساىل �أن يت�ساووا
معهم يف حق ح�صاد الروح النقية ،وبد�أت الأل�سنة داخل غرف
ت ك
ال�سادة املغلقة تتحدث خو ًفا عن م�صريهم �إن امتلك الن�ساىل
زيع
�صريحا،
ً الالتي تزوجن يف الباحة ..رغم �أن العهد كان
نحوا ُي�شرتط خيانة الأ�شراف لثورة تلك الأرواح � ..إال �أنهم ّ
عقولهم جان ًبا ،وفجر اليوم الذي تال اكتمال بناء اجلدار
�صدر �أمر ملكي ب�إزالة الكلمات املنقو�شة التي نق�شها الن�ساىل
ووجه قا�ضي الأ�شراف �إىل الن�ساىل تهمة على قاعدة اجلدارّ ،
خيانة چارتني بعدما ا�ستغلوا حاجتها �إليهم ليفر�ضوا قاعدتهم
اجلديدة ،ومل ي�أت م�ساء ذلك اليوم �إال وكان جنود چارتني
وفر�سانهم قد انطلقوا �إىل وديان الن�ساىل الثمانية ب�أوامر
وا�ضحة؛
173
ُيقتل كل من تزوج يف الباحة خالل الأ�شهر املا�ضية ً
رجال
ون�سا ًءُ ،تقتل كل الن�سليات احلوامل �سوا ًء عن زواج �أو رذيلة،
ُيعتقل الن�ساىل البالغون و ُيقتادون �إىل �سجون جويدا مقطوعي
الأل�سنةُ ،يقتل كل الأطفال الر�ضع الذين ُولدوا خالل تلك
الأ�شهر و ُتذاب �أج�سادهم امللعونة يف قوارير �ضخمة من الزيت
املغلي ..
دا
�أما الأطفال الأكرب �س ًنا ممن مل يبلغوا الع�شر �سنوات ف�أمر
ر
ع
امللك برتكهم �أحياء لي�صبحوا ب�أعدادهم الكبرية نوا ًة لن�سل
ص
ري
جديد من الن�ساىل ال يعرف �شي ًئا عن العهد الدموي يف حوران
ال
م�ؤيدً ا ن�صيحة �أحد م�ساعديه باحتمالية حاجة اجلدار �إليهم
ت ك
م�ستقبل ..ف ُاقتيدت الفتيات يف �سن ال�سابعة والثامنة �إىل
ً
زيع
ل ُيعدم وتنتقل روحه �إىل ن�سلي جديد ُيولد ال يعرف �شي ًئا عن
عهد �أ�سالفه ..
ثم هد�أ �صوت الرجل ،ونظر �إىل متثال الن�سلي الزائر املنت�صب يف
منت�صف الغرفة:
مل يعرف الأ�شراف وملكهم �أن كث ًريا من �أولئك الر�ضع حا�صدي
الأرواح الزائرة قد مت تهريبهم �إىل اجلبال قبل قدوم اجلنود
..قيل �أن الوزير احلكيم الذي �صاغ العهد الدموي هو من �أبلغ
الن�ساىل بقدوم الأ�شراف ..كما قيل �أن ذلك الوزير َمن قام
برعايتهم يف اجلبال �إىل �أن �ش ّبوا واختلطوا مع جيل الن�ساىل
174
اجلديد من غري �أن يخربهم ع ّما حتمله �أج�سادهم ..
كانت جميعها افرتا�ضات ..مل يعرف مد ّونو ال�سطور داخل
هذا الكهف حقيقة ما حدث لأولئك الأطفال بعد تهريبهم� ،أو
�أعداد الناجني منهم ،لكن الأمر امل�ؤكد �أن الأ�شراف مل يعرثوا
عليهم قط ،واكتفوا بتحقيق ما �أرادوه ب�إن�شاء جيل ن�سلي جديد
يبقى �أبد العمر خان ًعا �أ�سفل �أقدام الأ�شراف ..ن�سل ُح ّرم
ر
عليه الذهاب �إىل وادي حوران ،وال يعرف معجم كلماته معنى
دا
ع
الزواج يف باحة جويدا ..
ص
ال ري
ُطم�س كل �شيء بخ�صو�ص ذلك العهد الدموي ..مل يعرف
ت ك
الأ�شراف كتا ًبا واحدً ا حتدث عنه ..ومل تتكلم �أغنية واحدة
ل ب
عن يوم الغفران الذي ُذبحت فيه حيوانات ال�صحاري ..كان
ر وا تول
باق بعدما خ�ضع �إليهاثم تكفلت القاعدة الأوىل مبحي كل �أثر ٍ
يف خالل ع�شر �سنوات كل من �شهدوا ذلك العهد من �سادة
زيع
الأ�شراف ..لي�صري رمادًا ذ ّرته رياح ال�سنوات وك�أن �شي ًئا مل
يكن ..
قالت ال�سطور بجوار اجلدارية الأخرية �أن حاملي الأرواح
الزائرة اخلامدة قد �ش ّبوا واندجموا بني الن�ساىل دون معرفة
ما ميتلكون بداخلهم ،عا�شوا ن�ساىل وماتوا ن�ساىل تتناقل
�أرواحهم بالباحة من جيل �إىل جيل.
ثم توقف عن احلديث ،والتقط �أنفا�سه من جديد ..فقالت غفران:
من د َّون هذا التاريخ؟!
175
قال الرجل:
مل ُيذكر �شيء عنهم ..امل�ؤكد يل �أنهم من �أجيال متفاوتة،
كذلك �أعتقد �أنهم من الأ�شراف ولي�س الن�ساىل ،رمبا �شريف
�صار ن�سل ًيا ..رمبا كان �أحد �أجدادي الذين �أو�صوا بتوريث
جيل بعد جيل ،ال �أعرف ،لكنه يبقى ً
تاريخا خمطوطاتهم ً
حقيق ًياُ ،قدر يل �أن �أجده.
ر دا
ثم جل�س لريت�شف م�سحوقه الع�شبي بعدما �أ�صابته نوبة ال�سعال
ص ع
التي �أ�صابته يف الليلة املا�ضية ،وتوقف عن احلديث لدقائق ليرتكنا
ال ري
لأفكارنا ..كان ما حتدث به ذلك الرجل يفوق ما كنا نتوقعه ،فوقفنا
ت ك
مبهوتني ننظر �إىل اجلداريات يف حالة من الذهول والت�شتت � ..إىل
ل ب
�أن �س�ألته غفران:
ر وا تول
يل؟!
قال الرجل:
ر دا
جميعهم يف حما�س نحو قائدهم الذي وقف �أمامهم على رابية مرتفعة
ع
ينظر �إليهم راف ًعا يده اليمنى �إىل ال�سماء بقب�ضة مغلقة ،فاغ ًرا فاه.
ص
ري
لقد �آن للن�ساىل �أن ا
تزل�أر �أرواحهم.
فقال العجوز :
ت ك
لن بل b
ر ش
وال وت
زيع
177
()14
غفران
ر دا
ع ص
ري
ت�ساءلت يف ذهول و�أنا �الأح ّدق يف الن�ساىل املر�سومني على امتداد
احلائط الدائري للغرفة ك�أنني �ك
أقفتبينهم:
ُ
ت ك
الأخرية ،مل �أحدثكم عنها لكنها لن�سلي ثارت روحه يف وقت
ل ب
بعيد عن حقبة العهد الدموي � ..أُعتقل و�أُعدم بالباحة ،وهناك
ن ل
ش
من د ّون ور�سم حلظة اعتقاله هنا ..
ر وا تول
كتب املد ِّون �أن الأ�شراف مل يفهموا قط ما به وقتها ،و�إال مل
زيع
يكونوا قد �أعدموه بالباحة لتنتقل روحه �إىل ن�سلي جديد يف
جهل �شديد منهم� ،إال �أنهم تعمدوا �إخفاء ذلك امل�شهد يف
تاريخهم وكتبهم فيما بعد خ�شية �أن تنتقل ال�شجاعة التي
�أظهرها �إىل الن�ساىل ..
لكن ذلك احلدث مل مير مرور الكرام على مد ِّون ال�سطور
واجلداريات هنا ،فظل يبحث ل�سنوات طويلة عن �آخرين زائرين
يف ال�صحاري ،خا�ص ًة بالوديان التي زاد بها بط�ش الأ�شراف،
ليد ِّون م�ؤكدً ا �أن هناك بع�ض الأرواح قد �ش ّذت عن خمودها
ورجح هو
بالفعل مع عدم حتمل حا�صديها لإيذاء الأ�شرافّ ،
الآخر �أن حا�صدي �أرواح منور ال�شامو كانوا هم �أ�صحاب تلك
180
الأرواح الثائرة خالل القرون املا�ضية م�ستندً ا �إىل زئري �سمعه
لأحدهم كتب �أنه مل ي�سمع يف قوته قط ،ثم �أكد يف �سطوره �أن
قواهم مل تكتمل قط ،لديهم قوة �أكرب من باقي الن�ساىل ..
�سرعة �أكرب حني تثور �أرواحهم ..لكنها ال تزال خامدة ،تكتمل
قواها بعد �أن تروي دماء الطفل �صخور وادي حوران.
جتاهلت نظرته اللئيمة �إىل �سبيل ،و�س�ألتُه:
ُ
ر دا
هل هناك ما مي ّيز حا�صدي �أرواح منور ال�شامو؟
هز ر�أ�سته ناف ًيا،ع وقال:
ري ص
يبقى حا�صدو ال ال
ك
أرواح كلهم مثلهم مثل باقي الن�ساىل ..لن
�صادفتت�سماع زئريه.
متنيت لو كان ريان بيننا لي�ؤكد ب
تعريف �أحدهم �إال �إن
لذلك ل
ِ
ش ن
الرجل ما ر�آه وما حكاه لنا ل ُ
مرا ًرا عما كان يحدث لندمي ،لكن الطبيب قاطعرتفكريي عندما �س�أل
وال وت
هل ي�ستطيع حاملو �أرواح ال�شامو ا�ستنفار باقي الأرواحزيع
الرجل:
اخلامدة
ح ًقا؟
قال:
جميعها تنب�ؤات مبنية على معرفة الن�ساىل القدامى لطبيعة
تلك النمور ..كما �أن حاملي هذه الأرواح ال يعرفون ما ميلكونه
بداخلهم ..
و�أ�ضاف:
181
�إنني مل �أ�سمع زئ ًريا واحدً ا منذ �آخر زئري �سمعته قبل ع�شرين
عاما ..تبقى احتمالية موتهم خارج الباحة لتنتهي روحهم دون ً
أج�ساد �أخرى واردة � ..إنهم ثمانية فقط عرب تلك
االنتقال �إىل � ٍ
القرون جميعها ..
�إن يف يدنا الآن القدرة على �إيقاظ الأرواح الزائرة كلها دون
احلاجة �إىل �أي منهم ..
ر دا
وتابع بحما�س:
لن حتتاجع�سبيل �إىل الذهاب �إىل وادي حوران ..جنح بناة هذا
ري الكهف يف �أنص
روا للن�ساىل ما ي�ضمن لهم �إمتام عهدهم هنا ل ا ّ
ف يو
ت ك
..لقد �صنعوا متثال الن�سلي الزائر الذي ر�أيتموه يف الغرفة
ر ش
وا ول
انتهى الرجل من جملته ،لكن
ت الطبيب وا�صل �أ�سئلته:
قلت �أن الأم التي ح�صدت روح منر ال�شامو الز
أولي والأمهات
ع
الثماين الالتي ح�صدن �أرواح النمور من تلك الف�صيلة قد ُمنت
جمي ًعا �أثناء و�ضعهن ..
قال الرجل:
نعم ..
قال الطبيب:
هل ذكرت التدوينات كيف ماتت تلك الأمهات؟
182
قليل ،ثم �أ�شار لنا -وك�أنه تذكر �شي ًئا -ب�أن ن�سري من
فكر الرجل ً
خلفه نحو �سرداب كنا قد عربناه من قبل ..نظرتُ �إىل الطبيب بعدما
يل ووا�صل حتركه خلف الرجل� ،إىل فهمت ما يفكر فيه ،لكنه مل ينتبه �إ ّ
�أن وقف بنا �أمام جدار منقو�ش ب�أكمله بالكلمات الچارتينية القدمية،
وبد�أ يقر�أ بعينه ما تظهره �أمامه �شعلته ،ثم حترك خطوة بعد خطوة
�أمام اجلدار وهو يقر�أ ما �أمامه ب�شفاه متحركة دون �أن ي�صدر �صوت،
دا
حتى �أ�شار ب�سبابته نحو بع�ض ال�سطور ،وقال:
ع
أعرا�ض واحدة حدثت مع الثماين ،ت�شنجات قوية بد�أت يفر � ٌ
ريص
ال
ال�ساعات التي تلت ح�صدهن الأرواح ..وازدادت قوة مع
اقرتاب موعد والدتهن ب�صورة مل ينجح معها �أي ع�شب بري
ت ك
� ..إىل �أن بلغت ذروتها �أثناء و�ضعهن ..مل ي�ستطعن النجاة
زيع
الأوىل �أنها الأعرا�ض ذاتها التي حكاها يل ب�أنها حدثت لدميا �أخت
ريان الكربى حا�صدة روح ندمي لطفلها ،وظن �أنها نوع من �أنواع
ال�صرع ،فهززتُ ر�أ�سي �إليه خل�س ًة ..ثم عاد بنا الرجل �إىل غرفة
اجلداريات ومتثال الن�سلي الزائر ،وهناك قال ل�سبيل:
إنك الأمل الوحيد
يديك يا �صغريتيِ � ،
الآن �صار الأمر يف ِ
طفلك هنا و�أن ّ
تلطخ دما�ؤه �أحجار للن�ساىل ..ال بد و�أن ُيذبح ِ
هذا التمثال من �أجل قومك.
نظرت الفتاة �إ ّ
يل بعينني ممتلئتني بالدموع واخلوف ك�أنها تنتظرين
�صمت مفكرة ب�أ�شياء �شغلت بايل
بدل عنها ..فقلت بعدما ُّ �أن �أقرر ً
183
منذ بد�أ العجوز ق�صته:
قلت �إنك ر�أيت ن�سليني زائرين من قبل ..كان �أحدهما ي�أكل
�أح�شاء �صديقك ،والآخر �أكل جز ًءا من ج�سد �أحد �أثرياء
الأ�شراف الظاملني ..
قال الرجل:
ك �تأيقظنا �إال ً
وحو�شا �ضارية لن تف ّرق
ن ل ب
بني الأ�شراف والن�ساىل ..و�إن ل
بداخل الن�ساىل فلن نكون
الأ�شراف فلن مي ّيزوا بني �صاحلي الش
ا�ستطاعوا التفرقة بيننا وبني
ر
يف ّرقوا بني طفل وامر�أة وبني جندي يحملوال وت
أ�شراف وفا�سديهم ..لن
هياجازي
ال�سالح �ضدهم ..
عظيع ًما لبحر �سي�أتون على الأخ�ضر والياب�س� ،سيكونون ً
�أكما يف �صورة �آكلي حلوم الب�شر ،لت�صبح چارتني اجلحيم
بذاته ..
�أيها ال�سيد� ،أعلم �أنك عانيت كث ًريا بعد جتاوزك القاعدة
الأوىل ..وعانيت حتى و�صلت �إىل هذا الكهف ..و�أعلم �أنك
متاما ..
كنت تنتظر قدوم الطفل الأول بفارغ ال�صرب مثلنا ً
لكني لن �أ�سامح نف�سي ما حييت �إن كنت �سب ًبا يف موت هذا
الطفل وموت الكثريين من بعده �إن ثارت تلك الوحو�ش ..
184
أكملت:
ونظرتُ �إىل �سبيل و� ُ
�إن كان هناك �أمل للن�ساىل فهو بقاء طفل هذه الفتاة ح ًيا
لي�سعى الن�ساىل ليكونوا مثله �أ�شرا ًفا طيبني بعيدين عن حياة
القتل وال�سرقة والرذيلة و�إن هزمتهم �أنف�سهم اخلائفة هذه
الأيام ..
دا
�إنني �أرف�ض عر�ضك �سيدي ..وكذلك �أرى �أن �صاحبة ال�ش�أن
ر
توافقني يف هذا القرار.
ص ع
ري
�أوم�أت �سبيل بر�أ�سها موافق ًة على الفور ،ف�صاح الرجل نحوي
ال بانفعال:
ت ك
ب
عر�ضا مني � ..إنه حق الن�ساىل الذين عانوا من الظلم �إنه لي�س ً
ن ل ل
ش
كل هذه ال�سنوات ..ماذا تنتظرين؟!! �أن يحقق الأ�شراف
ر وا تول
العدالة بينهم وبني الن�ساىل ب�أنف�سهم؟! � ..إن التاريخ ال يكذب،
أنت خري من تعرفني �صدق كل كلمة هنا .. و� ِ
ر دا
ف�صرخت فيه:
ُ
ص لن � ع
ففوجئت به يجذبري ال
أفعلها.
ك
�سبيل نحوه فج�أ ًة ،وي�ضم عنقها �أ�سفل ذراعه ُ
ت
بل
وي�ضع ن�صله على بطنها ،ويقول اله ًثا بقوة ،ويخرج �سكي ًنا من ثيابه،
ن ل
لن تخرج الفتاة من هنا حتى ت�ضعش
بعينني غا�ضبتني:
ر
�إىل �شق بطنها و�إخراجه وذبحه الآن .وال وت
مولودها ..و�إن ا�ضطررتُ
دا
حماول تهدئته ليقف ً
حائل بيننا ،ثم وجد ُته ً اقرتب منه راف ًعا يده
ر
يقول للعجوز:
ص ع
ري
قائد
�أيها ال�سيد � ..إن غفران حمقة� ،إن ثار ه�ؤالء بدون ٍ
ال
يحجم قواهم �سيكون اجلحيم ذاته ،ولن تغفر �أبدً ا لنف�سك ّ
ت ك
ما �سيحدث � ..أيها ال�سيد ،هناك فر�صة �أخرى ال�ستنفارهم
ش ن
يحجم قواهم � ..أرجوك ،ما زال هناك َمن يحمل وجود من ّ
ر وا تول
روح �أحد منور ال�شامو على قيد احلياة � ..أق�سم لك بذلك
..قتلته غفران على من�صة الباحة ،و ُولد على يدي ..ماتت
زيع
�أمه بالت�شنجات نف�سها التي �أ�صابت الأمهات الثماين ..كنت
خمط ًئا حني ظننتها ً
نوعا من �أنواع ال�صرع ..
نظر الرجل �إىل الطبيب بعينني مت�شككتني � ..أما �أنا فهززتُ ر�أ�سي
خائبة الرجاء ،مل �أرد قط �أن يخربه فا�ضل بهذا الأمر ..تابع فا�ضل
�إىل الرجل:
�أرجوك اتركها ..قد يعود ذلك ال�صبي �إلينا ..كان حامل
الروح من قبله با�ستطاعته حتجيم روحه من �أجل غفران ..
لقد حكى لنا ريان الذي ر�أيته معنا بالأم�س كث ًريا عن ذلك
الأمر ومل نكن ن�ص ّدقه ..
187
ف�صرخت يف الطبيب مقاطع ًة له:
ُ
�إنه لي�س ندمي ُ ..يولد كل طفل بطباع خمتلفة ..وهذا الطفل
ُولد لأب غجري � ..سيكون �أ�سو�أ و�أ�سو�أ ..
جتاهل العجوز �صراخي ،و�س�أل الطبيب:
�أين هو؟!
ر دا
ارتبك وجه فا�ضل وهو يقول:
ص ع
ري
لقد فقد ُته منذ عام ..لكنه يبقى يف چارتني ..
�أطلق العجوز �إمياءة البذيئة وقب�ض بذراعه ب�شدة على عنق �سبيل
ت ..فقال الطبيب :ك
�أق�سم �أنه يحمل ًروحا من ب
تلك للانلأرواح ..ر� ُ
جدار چارتني حني ر�آه للمرة الأوىلش
أيت نظرته �إىل
أيت القوة يف ر
عينيه وهو ي�صيب �أنف �أحد ال�ضباط وا ول
هنا ..ور� ُ
املعتدينتعلى الن�ساىل ..
ع
هناك �شريفةي ز أيت ال�سرعة التي كان يفر بها من اجلنود ..
ور� ُ
�أخذته �إىل حيث ال نعرف ..لكنه �سيعود� ..إن ال�ضواري دائ ًما
ما حتن �إىل �أوطانها ..
نظر الرجل نحوي فج�أ ًة ،وقال:
يحجم روحه من �أجلك؟!
كان يحبك؟! هذا الذي كان ّ
�أوم�أتُ بر�أ�سي يف انفعال ،وقلت:
نعم.
188
نظر �إيل الطبيب ،و�س�أله:
كم عمر حا�صد روحه الآن؟!
قال فا�ضل:
ع�شر �سنوات.
دا
قال:
ع ر
لن تهيج روحه �إال بعد �ستة �سنوات �إنْ هاجت � ..سيكون
ريص
الأ�شراف قد �أذاقوا الن�ساىل �ألوا ًنا �أخرى من العذاب والذل ..
ال
وقب�ض بذراعه غا�ض ًبا على عنق �سبيل ،فتهاوت الفتاة ُمغلق ًة
ت ك
ب
عينيها ك�أنها فقدت وعيها ،وانزلقت بقدميها �إىل �أ�سفل ،ف�صرخ
ن ل ل
فا�ضل نحوه ب�أنها �ستموت ،فارتبك الرجل ك�أنه مل يت�أهب حلدوث
ش
ر وا تول
ذلك ..حاول فا�ضل االقرتاب منه ،لكنه �صرخ به ب�أال يتحرك ،وحاول
حتركت خطوتني جان ًبا
ُ جذبها بذراع واحدة �إىل �أعلى من جديد ..
زيع
عن مكاين دون �أن ي�شعر ،كانت الفر�صة �سانحة للغاية يل وهو م�شتت
قلت يف �سري:
الذهن بني حركة فا�ضل وجذب الفتاة �إىل الأعلى ُ ..
�أعلم �أيها ال�سيد �أنك حتب الن�ساىل وتكره القواعد مثلي ..
لكني لن �أ�سمح لأحد ب�أن يقتل �آخر �أمل يل ..
رفعت �ساقي اليمنى نحو يدي لينك�شف عنها ُ وبخفة �شديدة
أخرجت خنجري وقذفتُه جتاهه بكل ُ طرف ف�ستاين ،ويف ملح الب�صر �
طاقتي ،ليخرتق ن�صله فخذه الأمين �أعلى ر�أ�س �سبيل مبا�شرة ..
�صرخ الرجل من الأمل ،و�سقط �إىل اخللف تار ًكا �سبيل ،فوثب الطبيب
اقرتبت من �سبيل وهززتُ
ُ نحوه و�أم�سك بيده ليلقي ب�سكينه بعيدً ا ..
189
كتفها كي حتدثني ،فتحت عينها ،فقلت لفا�ضل؛ �أنها بخري ،فوجد ُته
يخلع قمي�صه لريبطه حول فخذ العجوز دون �أن يخرج اخلنجر منه ..
حملت ال�شعلة التي كان مي�سك بها�ساعدتُ �سبيل على النهو�ض ،ثم ُ
وتقدمت �أمام �سبيل ،ثم تبعنا فا�ضل
ُ العجوز �أثناء عبورنا ال�سراديب ..
بعدما انتهى من ربط فخذ العجوز الذي تركناه راقدً ا ي�صرخ نحونا
ب�أن كيوان �سيقتلنا و�سيقتل كل الن�ساىل ،وظل ي�س ّبنا ب�أقذر ال�سباب.
ر دا
وا�صلنا تقدمنا عرب ال�سراديب التي دلفنا عربها �إىل �أن و�صلنا
ع
ال�شق ال�ضيق الذي كنا قد عربناه عند دخولنا ذلك الكهف ،عربناه
ص
ال ري
واحد وراء الآخر لنخرج �إىل خارج الكهف .كانت ال�شم�س على و�شك
أم�سكت �أنا بيدها الأخرى،
الغروب � ..أم�سك الطبيب بيد �سبيل فيما � ُ
ت ك
وهبطنا منحدر اجلبل بتمهل �شديد ..كان الهبوط �أكرث �صعوبة من
زيع
�إىل العربة واحل�صانني اللذ ْين افرت�شا الأر�ض بج�سديهما ..تركنا
ح�صان العجوز ،وحتركنا بالعربة يج ّرها احل�صان الذي جاء به ريان
..قال الطبيب الذي �أم�سك باللجام:
�أخ�شى �أن نتوه بني املمرات املت�شعبة التي جئنا عربها ..
فقالت �سبيل:
وع�شت بني الوديان ،و�أ�ستطيع اقتفاء �آثار الأقدام ..
ُ ُولدت
�س�أقتفي �آثار الطريق الذي جئنا عربه �إن �ضللنا.
لكن الليل كان قد ح ّل بعد حتركنا بفرتة ق�صرية ،فا�ضطررنا
190
�إىل املبيت مكاننا ،على �أن نتحرك من جديد مع �شروق �شم�س اليوم
التايل ..
قال الطبيب حني جل�سنا بجوار العربة بالكاد نرى وجوه بع�ضنا
البع�ض مع ظالم الليل:
�سيموت هذا الرجل من نزيف فخذه ..
دا
قلت:
ع ر
مل �أمتنَ �أن تنتهي الأمور هكذا ،لكني مل �أكن لأ�سمح له �أن
زيع
وخفت �أن يطعن بطن �سبيل ح ًقا ..
اجلنون يتطاير من عينيهُ ،
كانت �سبيل ال تزال يف حالة ال�صدمة التي �أ�صابتها ،وظلت �صامتة
فابت�سمت �إليها و�أنا �أربت على فخذها وقلت:
ُ ..
ان�سي ما قاله ذلك الرجل.
طفلك ب�سالم ْ .. �ست�ضعني ِ
وجهت حديثي �إليهما ،وقلت: ُ ثم
ال �أريد �أن يعرف �أحد غرينا مبا قاله العجوز ..حتى ريان
وناردين� ،أعلم حبهما الكثري للخري لكن النفو�س خائنة ،ليبقَ
هذا ال�سر بيننا ..و�س�أختلق لهما ق�صة �أخرى غري التي قالها
العجوز.
191
�أوم�أ الطبيب و�سبيل بر�أ�سيهما موافقاين ..ثم قال الطبيب م�ؤن ًبا
نف�سه:
لو مل �أفقد �آدم!!
مل �أ�ش�أ �أن �أدخل معه يف جدال عن رغبته الظاهرة لإيقاظ �أرواح
الن�ساىل �إن عاد �آدم �إلينا وا�ستطاع حتجيم روحه وا�ستنفارهم،
دا
فاكتفيت بقويل:
ُ
ع ر
�إنها �أقدا ٌر فح�سب ..
ريص
ال
أكملت بعدما �صمتنا لفرتة:
ثم � ُ
خي بني
ت ك
يوما �أن �أُو�ضع يف مثل هذا املوقف � ..أن �أُ ّ
مل �أمتنَ ً
ر وا تول
وفا�سديهم �إىل �أن تفنى چارتني ..
زيع
وتابعت متذكرة:
ُ
حني كنت طالب ًة يف املدر�سة العليا ل�ضباط الأمن حكى لنا
حرب عظيمة قامت قبل قرون طويلة بني معلمنا ق�ص ًة عن ٍ
بلدان بعيدة عن چارتني ،كانت وقتها الأ�سلحة يف تلك البالد
�أكرث تطو ًرا عن ع�صرنا احلايل ،وكان جند ًيا �صغ ًريا يف جي�ش
بحرق �شديد �إثر قذيفة كيميائية ٍ �أحد البلدين قد �أُ�صيب
ُا�ستخدمت يف تلك احلروب ..ثم �شاء القدر �أن ي�صبح هو قائد
جي�ش بالده بعد �سنوات ،وا�ستطاع بدهائه ح�صار مئات الآالف
من جنود عدوه ..تو ّقع اجلميع �أن يقوم ب�إحراق �أج�سادهم
بال�سالح الكيماوي ذاته الذي �أحرق ج�سده يف �صغره ُمنه ًيا
192
حربه ..لكنه على عك�س ما تو ّقع اجلميع مل يفعل ذلك ،واكتفى
ب�أ�سرهم ً
قائل ب�أنه يعرف مدى الأمل التي ت�سببه تلك احلروق،
ل�شخ�ص مهما كان �أن ي�شعر بها ..و�أكمل حربه
ٍ وال يتمنى
خططا �أخرى �ضد بقيتهم � ..إىل �أن خ�سر احلربم�ستخدما ً
ً
يف النهاية.
وقتها نعتناه كلنا بالغباء ،كيف ي�أتي لإن�سان فر�صة الق�ضاء على
دا
ي�ستطيع �أحد معرفة احلقيقة.
ع ر
كانت �سبيل قد عادت وجل�ست بجواري عندما قال فا�ضل:
ريص
ال
لكنه يبقى حاول حتجيمها من �أجلك.
ت ك
ب
وتابع:
ن ل ماذا لو كان باقي املتعلمني ل
ش
مثله؟!
زيع
ال �أق�صد الت�ضحية بطفل �سبيل بكل ت�أكيد ،لكني �أفرت�ض �إنْ
ا�ستطاع �أحد حاملي تلك الأرواح ا�ستنفار الباقني ً
فعل ..
قلت بحدة:
ُ
لن يعلم بهذا الأمر غرينا �أيها الطبيب ،لن �أراهن على تروي�ض
الوحو�ش.
وت�صنعت رغبتي يف النوم لأنهي ذلك احلوار ،ف�سكت هو
ُ تثاءبت
ُ ثم
نه�ضت �أنا و�سبيل لننام على ظهر العربة ،بينما افرت�ش
ُ الآخر ،بعدها
194
وظللت �أنظر �إىل ال�سماء وجنومها من
ُ هو الأر�ض ونام على الرمال،
فوقي � ..إىل �أن غلبني النعا�س ،ومل �أنه�ض �إال مع ا�شتداد حرارة �شم�س
النهار التايل.
b
عدنا �إىل الوادي مع منت�صف ذلك النهار ،قابلنا ريان بلهف ٍة كبرية
دا
وانتظرين �أن �أخربه مبا حدث ..فقلت:
ع ر
مل يق ّدم العجوز كث ًريا عما قاله هنا ،ثمة ن�ساىل تثور �أرواحهم
ريص
مع ا�شتداد ظلم الأ�شراف ُر�سمت �أج�سادهم املُقيدة ب�سال�سل
ال
حديدية على جدران ذلك الكهف.
ت ك
ب
ف�س�ألني متعج ًبا:
ن ل ل
ش
وما حاجته �إىل �سبيل؟!
زيع
اعتقد الرجل �أن ذلك اجلبل ي�ضع قوة تلك الأرواح بالأجنة
ال�شريفة من ن�سل الن�ساىل ،و�أراد ل�سبيل �أن تظل هناك حتى
و�ضعها ،فرف�ضنا هذا الأمر وتركناه وعدنا ..ليتنا مل ُن�ضع
هذه الليلة يف هذا الهراء.
ب�سر مي ّكننا من
بائ�سا بعدما ظن �أننا �سنعود �إليه ح ًقا ٍ
زم �شفتيه ً َّ
هزمية الأ�شراف ،ف�أخرب ُته عن حاجتي �إىل النوم بعد تلك الرحلة
املُجهدة ،ف�سمح يل ب�أن �أوا�صل طريقي �إىل كوخي ..فيما تركني
الطبيب وم�ضى �إىل كوخه دون �أن يقول �أي �شيء.
b
195
ألتق الطبيب كث ًريا ،كنت
يف خالل الأيام التي تلت ذلك اليوم مل � ِ
ليل ،وك ّلما جالت بخاطري �أُع ّلم ال�صبية نها ًرا و�أخلد �إىل كوخي ً
الأفكار والو�ساو�س ب�أن العجوز حم ٌق فيما قاله كنت �أ�ضرب ر�أ�سي
م�ؤنب ًة له لأطرد تلك الأفكار عنه ،قبل �أن �أُ�شغل نف�سي بقراءة �أي
كنت قد قر�أته من قبل ،ان�شغل الطبيب هو الآخر بعيادته كتاب ولو ُ
وبزياراته ال�سريعة �إىل مر�ضى الوديان القريبة الذين مل ي�ستطيعوا
دا
يل الكوابي�س مرة �أخرى بعدما القدوم �إليه ،يف تلك الأيام عادت �إ ّ
كابو�س واحد لأكرث من مرة ،كنت �أ�سري فيه عارية
ع
ٌ
ر اقتحم نومي
ص
اجل�سد مثل الن�سليات القدامى منقو�ش على جبهتي و�شم الن�ساىل
ال ري
بطريق طويل متطر فيه ال�سماء دما ًء بغزارة ،نادى �صوتٌ بعيد ب�أنها
ٍ
ك
دماء الن�ساىل التي �أُهدرت ب�سببي ،ومن بعده تعالت �أ�صوات الزئري
ب ت
ل ل
جانبي الطريق دون �أن يظهر من يز�أرون� ،أوا�صل طريقي �أ�سفل ّ على
ش ن
الدماء �إىل �أن تب�صر عيني �سبيل تقف بنهاية الطريق حامل ًة ر�ضيعها
ر وا تول
وتنظر نحوي يف خوف ،فتتعاىل �أ�صوات الزئري �أكرث و�أكرث ك�أنهم
ينتظرونني �أن �أطلق �سراحهم ،ف�أتقدم نحو الفتاة وطفلها بعدما
زيع
ني فج�أة ،و�أقرتب منها �أكرث و�أكرث ،قبل �أن تتوقف
�سمعت من خلفي زئريه العايل الذي غطى ُ
يظهر يف يدي �سك ٌ
قدماي لأنظر ورائي حني
على باقي الأ�صوات جميعها ،كان منر �أبي�ض �ضخم يرك�ض نحوي
ب�أق�صى �سرعته ..ظننته �سيفرت�سني ..لكنه ما �إن اقرتب مني حتى
قدمي متع ًبا ،ونظر يف عيني بنظر ٍة كنت �أعرفها جيدً ا،
خ�ضع �أ�سفل ّ
هبطت على ركبتي �أمامه ،ومددتُ يدي لأالم�س وجهه املُ ّلطخ بالدماء ُ
املنهمرة من ال�سماء ،لكنه �أطلق زئريه العايل يف وجهي ..ف�أنه�ض من
نومي مفزوع ًة ،و�أذهب �إىل غرفة �سبيل لأطمئن عليها ،ثم �أخرج �إىل
فناء كوخي ،و�أجل�س مبفردي �إىل �أن يطلع النهار التايل.
196
مل �أخرب �أحدً ا عن تلك الأحالم ال�سيئة� ،إىل �أن م�ضت الأيام
ونه�ضت على �صرخات �سبيل بعد �ستة �أيام من يوم غفران ذلك ُ تباعا،
ً
ال�شهر � ..أ�سرعت ناردين ب�إح�ضار الطبيب فيما اجتمع �صبية وفتيات
املدر�سة �أمام باب الكوخ يف انتظار قدوم ذلك املولود الذي انتظرناه
وتركت ناردين لت�ساعده بعدما ُ ..مل �أ�ستطع �أن �أبقى مع الطبيب
أغلقت بابي
أ�سرعت عائدة �إىل غرفتي ،و� ُُ �شعرتُ �أنني متوترة للغاية ،و�
دا
من خلفي يرجتف ج�سدي من �شدة توتري مع كل �صرخة من �صرخات
ع ر
�سبيل ،حتى هد�أ �صراخها لي�صرخ بعدها بلحظات �صوت �آخر ..كان
ريص
ال
�شريف من ن�سل الن�ساىل ..مل �أ�ستطع متالك دموعي و�أنا ٍ �صوت �أول
�أ�سمع �صراخ الطفل ،ثم وجدتُ ناردين ت�أتي به �إ ّ
يل ملفو ًفا يف قطع ٍة
نه�ضت وعدتُ
ُ
ت ك
من ال�صوف املن�سوج ،فحملتُه �إىل �صدري وق ّبلتُه ،ثم
ن ل لب به �إىل �أمه ،وق ّب ُلت ر�أ�سها وقلت:
شا لهذا الطفل.
ر
ابت�سمت �إ ّيل الفتاة قبل �أن ت�ضم مولودها �إىل والت
انتماءك �إىل الأ�شراف تكر ًمي
ِ لك
مبارك ِ
�صدرهاو وتنظر �إليه
زيع � ..س�ألني الطبيب:
ما اخلطوة التالية؟
نظرتُ �إىل ريان الذي كان يقف هائم الوجه ينظر �إىل �سبيل
وطفلها ،وقلت:
�أخرب اجلميع �أن طفل �سبيل ال�شريف قد جاء �إىل الدنيا.
b
197
مل ننتظر كث ًريا حتى نعرف رد فعل الأ�شراف بعد والدة �سبيل ،يف
م�ساء ذلك اليوم �أتى �إىل الوادي جماع ٌة من فر�سان ال�ضباط كانت
ت�سبقهم �أ�صوات طلقاتهم النارية مثل اليوم الذي �أركعونا فيه ،مل يكن
بينهم كيوان هذه املرة ..كان قائدهم زميل �صفي باملدر�سة العليا،
حد ما ..دلف �إىل كوخي ،وقالوكنت �أعرف �أنه ميتلك قل ًبا لي ًنا �إىل ٍ
باقت�ضاب دون �أن ينظر يف عيني:
أمر من القا�ضي ..
ر دا
�سينتقل هذا الطفل و�أمه للعي�ش يف جويدا ب� ٍ
ص عنظرت �إ ّ
يل �سبيل بحرية ،بينما �أكمل ال�ضابط:
ال ري
�سيعي�ش هذا الطفل بني الأ�شراف.
ت ك
ب
فهززتُ �إليها ر�أ�سي �إيجا ًبا مطمئن ًة لها ،كان هذا ما ي�ستحقه ذلك
ن ل ل
الطفل و�أمه التي عانت كث ًريا من �أجل جميئه .وكانت عرب ٌة فاره ٌة
ش
ر وا تول
جمهزة قد جاءت مع ال�ضباط �إىل الوادي من �أجل حمل الطفل
و�سبيل ،ف�أخربتُ ناردين ب�أن ت�ساعد �سبيل يف حزم �أمتعتها ،لكن
زيع
ال�ضابط فاج�أنا بعدما انتهى من حديثه �إىل �سبيل حني نظر �إىل
الطبيب ،وقال:
�أيها الطبيب لقد قمت بعملك على �أكمل وجه يف رعاية الفتاة
م�سموحا لك بالبقاء يف چارتني �أكرث
ً حتى و�ضعها ،لكن مل يعد
من ذلك.
ً
مذهول ،وقال: نظر �إليه الطبيب
ماذا؟!
قال ال�ضابط:
198
�ست�أتي معنا �إىل جويدا ،و�سرتحل على منت �أوىل ال�سفن املتجهة
�إىل ال�شمال.
ً
معرت�ضا: قال الطبيب
لن �أرحل.
قال ال�ضابط:
ر دا
�أ�صدر الفار�س كيوان �أم ًرا باعتقالك واقتيادك �إىل �سجن
ص ع
جويدا �إن مل تغادر الليلة الوادي.
عيني ناردين
ال ري
يل الطبيب حائ ًرا فيما بد�أت الدموع تلتمع يف ّ نظر �إ ّ
ر دا
على الأقل �ضم ّنا خروج �أحدنا �ساملًا ..
ص ع
ري
يل متفاج ًئا من قويل ،وقال: نظر �إ ّ
�س�أموت هنا .ال
ت ك
ن ل ل ب قلت:
ش
ر وا تول
َومن يروي ق�ص�صنا �إىل الآخرين؟!
قال والدموع تتجمع يف عينيه:
ال �أحد يعرف �آدم هنا ّ ..علي �أن �أنتظر حتى يعودز..يع
قلت و�أنا �أبت�سم �إليه والدموع يف عيني:
ُ
لن يعود ..
قال:
يل ن�سلي ٌة من جويدا
�سيعود ..لقد قر�أتُ بالأم�س كتا ًبا �أح�ضرته �إ ّ
عن حيوانات چارتني املنقر�ضة � ..أتعلمني ملاذا �أحب امللوك
القدامى تربية منور ال�شامو دو ًنا عن غريها من احليوانات؟!
200
..لأن تلك احليوانات ال تن�سى �أبدً ا من يحبونها مهما طالت
بهم ال�سنوات ..كانت روح ندمي حتبك ح ًبا حقيق ًيا � ..سيعود
�سيتذكرك ال حمالة ..
ِ إليك حني تثور روحه ..
�آدم � ِ
وجنتي
ّ مل �أ�ستطع �أن �أحب�س دموعي �أكرث من ذلك فت�ساقطت على
..قبل �أن يدلف �إلينا ال�ضابط من جديد ،ويحثنا على الإ�سراع ،كان
اخليار الأ�ص ّوب هذه املرة �أن منتثل لأمر الأ�شراف ..احت�ضنته من
ر دا
جديد و�أنا �أقول:
ص ع
�س�أبقى بخري � ..أعدك بذلك َ ..
عليك �أن ترحل ..
ال ري
حاول ال�ضابط بعدها �أن يجذبه من ذراعه عنو ًة ..لكنه �أخربه
ت ك
هاد ًئا ب�أنه �سريافقه ،قبل �أن يخرج مع اجلنود ويركب بالعربة ذاتها
زيع b
201
()15
سبيل
ر دا
ص ع
ال ري
ت ك
ركبت العربة اخل�شبية التي جاءت �إىل وادي الن�ساىل برفقة ُ
يوما واحدً ا ،ثم حلق
ن ل ل ب
ذراعي طفلي الذي يبلغ ً ّ ال�ضباط �أحمل بني
ش
ر وا تول
بي الطبيب بعد قليل من الوقت ،وجل�س على املقعد املقابل يل ينظر
بعينني ملتمعتني بالدموع عرب نافذة العربة �إىل ال�سيدة غفران التي
ع زي
كانت تقف تنظر نحونا ،قبل �أن تنطلق بنا العربة �إىل جويدا.
كان احلزن البادي على وجه الطبيب عظيما ،وبدا من �صمته
ً
املُطبق �أنه يغو�ص يف �أعماق �أفكاره ..كنت �أعرف �أنه مل يرد الرحيل
قط وترك �سيدتي مبفردها لكنه ان�صاع �إىل رغبتها يف النهاية
جندي واحد داخل العربة يجل�س
ملزيد من الآالم .كان برفقتنا ٌّ
تقلي�صا ًٍ
بجواري ،فقطع الطبيب �صمته و�س�أله بعد حتركنا بفرتة ق�صرية:
متى ترحل �أوىل ال�سفن �إىل ال�شمال؟
203
�أجابه اجلندي ب�أنه ال يعرف ،ف�أكمل الطبيب �شروده ونظراته عرب
النافذة �إىل ظالم الطريق املحيط بنا �إىل �أن ظهرت �أنوار جويدا وق ّلت
اهتزازات العربة بعدما �صار الطريق ُمعبدً ا من �أ�سفلنا ،ف�س�ألني:
ماذا �ست�سميه؟
قلت:
ُ
دا
�أخربتُ �سيدتي �أنني �س�أ�سميه حيدر ..على ا�سم �أبيه ..
ر
ص ع
ابت�سم يل وقال:
ال ري
�أمتنى لكما حياة �سعيدة.
ت ك
ب
ومتنيت له حيا ًة �أكرث �سعادة هو الآخر يف
ُ ف�شكر ُته على لطفه
ن
وقت قليل توقفت العربة ،وطرق
ل ل البالد التي �سيذهب �إليها ،وبعد ٍ
ش
ر وا تول
�ضابط �أمر الطبيب ب�أن ينزل ملرافقة فار�سني ٌ بابها من اخلارج
�آخرين �سي�صحبانه �إىل القرية اجلنوبية حيث مرف�أ ال�سفن ،ف�أوم�أ
زيع
بر�أ�سه �إليه ،ثم احت�ضنني وهم�س �إىل �أذين ببع�ض الكلمات دون �أن
قت به متعجب ًة مماي�سمعها اجلندي املجاور ،وابت�سم يل بعدما ح ّد ُ
قاله ،بعدها غادر مع ال�ضابط ،و�أكملت العربة طريقها بي بني �شوارع
بيت �صغري من طابق واحد ،وقال جويدا ،حتى توقفت �أخ ًريا �أمام ٍ
نزلت من العربة:
قائد اجلنود بعدما ُ
�ستعي�شني هنا مع ابنك ..
ودلفت ب�أ�سارير
ُ مل �أ�ص ّدق �أن يخ�ص�ص الأ�شراف يل بيتًا ..
منفرجة وراء ال�ضابط عرب الباب الذي فتحه �أحد اجلنود ،لكني
أجفلت حني وجدتُ الفار�س كيوان يجل�س يف ردهة البيت يف انتظاري
� ُ
204
وقفت يرتع�ش
..بعدها ان�صرف بقية ال�ضباط ب�إ�شار ٍة منه ،فيما ُ
ذراعي عندما اقرتب مني
ّ ج�سمي من اخلوف و�أنا �أم�سك بطفلي فوق
و�ألقى نظر ًة خاطفة عليه ،وقال:
�سجل �صباح الغد بني مواليد هذا العام ،و�ستح�صلني على �س ُي َ
ميكنك تغطية كتفك.
ِ �صك انتما ِئك للأ�شراف ،وبعدها
دا
هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا خو ًفا دون �أن �أنطق ..فتحرك بعيدً ا عني
ر
خطوة واحدة ،وتابع:
ص ع
ري
ُ�ستقام احتفالي ٌة به يف الباحة خالل يوم الغفران القادم ب� ٍ
أمر
ال
من احلاكم � ..ست�صعدين �إىل املن�صة بعد انتهاء الإعدامات،
ت ك
و�سيعزف العازفون مو�سيقا االحتفاالت الوطنية ..
ر وا تول
نطق �أي كلمة ،غري �أنه �أجاب ت�سا�ؤيل حني ا�ستدار فج�أ ًة و�صفعني
�صفعة قوية للغاية على وجهي كادت ت�سقط طفلي من يدي ،وقال:
ِزيع
ارتكبت خط�أً واحدً ا فقط
حتدثت �إىل أنك
ِ �سيظل و�شمك على كتفك ،و�إن
إياك �أن �أعرف � ِ
كنت ،و� ِ
�سيعيدك �إىل حيثما ِ
خرجت �إىل اجلنوب مرة
ِ �أحد من الن�ساىل الأجنا�س � ..أو
�أخرى ..
�أوم�أتُ بر�أ�سي �إيجا ًبا يف رعب ،فقال:
�أمر احلاكم � ً
أي�ضا ب�أن جتوبي باقي مدن چارتني خالل ال�شهور
عليك االبت�سام �إىل اجلماهري فح�سب ..ال حديث
القادمة ِ ..
مع �أحد ..
205
و�أ�ضاف با�شمئزاز:
أنت وطفلك لعامني ..ال
تكفيك � ِ
ِ �ست�سل ح�صة من الطعام ُ
حاجة للرذيلة � ًإذا ..
قلت:
ُ
مل �أمار�س الرذيلة من قبل �سيدي ..
ر
ف�صفع وجهي بظهر يده ،وقال:دا
ص حني � ع
ريوا�لأنا �أبكي ..ثم تركني بعدها وغادر ،لأجل�س
أحتدث تن�صتني فح�سب �أيتها العاهرة ..
الن�ساىل.ك
هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا
ت
ب نل
ويجتاحني ٌ
خوف مل �أ�شعر به منذ اليوم الذي مكاين يرتع�ش ج�سمي،
كان �شعوري خمتل ًفا ح ًقا و�أنا �أ�سري يف �شوارع املدينة مغطاة الكتف
يل من قبل يل �أحد با�شمئزاز �أو قرف مثلما كان ُينظر �إ ّ ال ينظر �إ ّ
�إن �أتيت �إىل املدينة عارية الكتف ،لكن ذلك ال�شعور مل يدم �إال ليوم
غفران ذلك ال�شهر عندما حدث ما حتدث ب�ش�أنه ال�ضابط كيوان،
ووجدتُ امر�أة �أربعينية تزورين قبله ب�أيام لت�أخذ مقا�سات ج�سمي من
ف�ستان قالت ب�أن الفار�س َمن �أو�صاها بنف�سه ب�سرعة ٍ �أجل ت�صميم
ت�صميمه ،وجدتُ ذلك الف�ستان �صبيحة ذلك اليوم يظهر و�شمي و�إن
206
كان ت�صميمه رائ ًعا ..ثم حملتني �أنا وطفلي عرب ٌة خ�شبية �إىل الباحة
حيث عربت بي �إىل داخلها من املدخل املخ�ص�ص لكبار ال�سادة ..
�سمعت �أ�صوات بارود
ُ وهناك انتظرتُ بداخلها طوال اليوم حتى
بوقت قليل
فعلمت باقرتاب �صعودي �إىل املن�صة ،بعدها ٍ ُ الإعدام،
قادين جندي �إىل ال�سلم اخللفي للمن�صة ،وبعد حديث احلاكم بنف�سه
�أ�شار يل جندي �آخر بال�صعود �إىل املن�صة وما �إن �صعدتُ حتى انطلقت
دا
التهليالت و�أنا �أقف �أمامهم بف�ستاين املتلألئ مع �أ�شعة ال�شم�س ،مل
ع ر
�أن�شغل ب�صيحات اجلماهري وتهليالتهم بقدر ما كانت عيني ت�سرتق
ص
النظرات �إىل الفار�س كيوان الواقف كالتمثال على ي�ساري واحلاكم
ال ري
اجلال�س على مقعده الفخم ب�أق�صى املن�صة على الي�سار � ً
أي�ضا ..
ت ك
متنيت وقتها لو كانت ال�سيدة غفران تقف بني هذه اجلماهري لرتى ُ
عرفت فيما بعد �أن
ُ
ن ل ل ب
ثمار جهدها ال�سنوات املا�ضية وهو يتحقق ،لكني
ش
ر وا تول
ذلك اليوم ُمنع فيه الن�ساىل من دخول الباحة �أو من االقرتاب من
جويدا حتى .ثم عزف العازفون مو�سيقاهم الوطنية ف�صمت اجلميع،
زيع
وبعدها غادرتُ املن�صة حيث عادت بي العربة �إىل بيتي.
منذ ذلك اليوم �صار وجهي معرو ًفا للجميع ،وعلى عك�س ما ظ ّنه
أجن من احتفالهم بي �إال مزيدً ا من لفت االنتباهعقلي يف الباحة مل � ِ
والتحديق عند مروري يف �أي مكان هناك ،ومل �أجد نظراتهم يل
بعدها �إال نظرات ازدراء وقرف ،النظرات نف�سها التي اعتدتها يف
حياتي منهم ،كذلك مل تعرف الأل�سنة التي تتحدث عني �إال كلمات
واحدة؛ «الن�سلية التي �صارت �شريفة» ،ومل ي�سلم طفلي هو الآخر من
�شهقاتهم ال�سخيفة ك ّلما ر�أوه على ذراعي:
�أووه ..ال�شريف من ن�سل الن�ساىل.
207
�سمعت امر�أة تقول لأخرى با�شمئزاز عندما ر�أته على ذراعي:
ُ
لن ير�ضى �أحد ب�أن يز ّوجه ابنته� ،إن دماء الن�ساىل ت�سري يف
عروقه ..هذا �إن و�صل �إىل �سن الزواج � ً
أ�صل.
ال �أعلم كيف حتكم بلهاء كهذه على طفل مل يكمل �شه ًرا من عمره.
ثم بد�أتُ جوالتي التي حت ّدث ب�ش�أنها الفار�س كيوان بال�شهور التالية،
دا
ثالث ع�شرة جولة يف ثالث ع�شرة مدينة كنت �أزورها للمرة الأوىل يف
ر
حياتي.
كانت جميعهاعت�سري على النمط نف�سه ..احتفالية كبرية يف كربى
�ساحات تلك املدن،صري
قبل ا�لأن ي�شري يل �أحد املنظمني ب�أن �أ�صعد �إىل
ت �أن تدق مو�سيقا االحتفاالتك
املن�صة حامل ًة طفلي بثوبي الذي يظهر كتفي لتح ّدق بنا احل�شود ،قبل
ر
حتديد يوم جديد للذهاب �إىل
ش
و ل ا و
مل ترحمني عيون الأ�شراف مر ًة واحدة ،و�إن ت
مدينة �أخرى.
زإىل بع�ضهم
البع�ض متفاخرين بعدالة بالدهم� .أما �أنا فكنت �أ�شعر � يع
أنني وطفلي
نظروا �
ع
عمره قرابة ت�سع �أو ع�شر �سنوات حتمله �أمه بال�صفوف الأوىل القريبة
ص
ال ري
من املن�صة� ،شعرتُ يف نظرته يل بنوع من التعاطف ال �أعلم ملاذا!
..قبل �أن متطر ال�سماء بغزار ٍة مل �أعتدها من قبل ،فحاول اجلميع
ت ك
االختباء من الأمطار ال�شديدة ،وبد�أوا يف ّرون �إىل بيوتهم حتى انف�ضوا
زيع
وثياب طفلي الغارقة �إىل العربة لتنتهي هذه املهزلة ..
ظل املطر ينهمر بغزارة طوال ذلك اليوم حتى �أننا ُعلقنا داخل
العربة هناك ومل ن�ستطع التحرك �إال مع م�ساء اليوم التايل ُ ..عرف
هذا اليوم بعد ذلك بيوم املطر العظيم من كرثة الأمطار التي �شهدها
والأ�ضرار التي حلقت ببيوت تلك املدينة يومها.
خ�صي�صا لأن حيدر مر�ض ليلتها هناكً زلت �أتذكر ذلك اليوم
ال ُ
و�أ�صابته حمى �شديدة كادت تودي بحياته لوال طبيب �شاب هناك ظل
برفقتي �إىل �أن جاءت امر�أة لت�أخذه �إىل بيتها من �أجل طفلها املري�ض
متنيت لو �أمطرت
ُ بال�صرع ..ورغم مر�ض طفلي يومها �إال �أنني
209
ال�سماء بهذه الغزارة يف كل يوم وط�أت فيه �أقدامي �ساحات تلك املدن
لتحمي �أج�سادنا من نظراتهم الأ�شد ق�سوة.
b
ظننت �أن الأمور �ستتح�سن مع الوقت بعد انتهاء تلك اجلوالت ُ
وا�ستقراري يف جويدا ،لكن ذلك مل يحدث قط ،يف �أي مكان كان
دا
اجلميع ينفر مني ويرتددون يف معامالتهم معي ك�أنني جمذومة �أو
ع ر
م�صابة مبر�ض جلدي ..وعندما داعبت طفلة ال يتجاوز عمرها
ريص
ال�ست �سنوات طفلي ذات مرة يف ال�سوق جذبتها �أمها ونهرتها حني
ال
وجدتني �أم هذا الطفل ،وقتها ح�ضرت �إىل ذهني كلمات الطبيب
ت ك
فا�ضل الأخرية يل يوم ر�أيته للمرة الأخرية ،لكني كنت �أنظر �إىل
ش ن
يوما بعد يوم خويف من اخلروج من بيتي �شه ًرا وراء �آخر يتزايد معها ً
ر وا تول
جتن ًبا لنظر ٍة من هذا �أو كلمة من ذاك ،واعتمدتُ على الفتات الذي
متنيت لو حملت كان ُير�سل يل بداية كل �شهر من �أجلي �أنا وطفلي ..
زيع
ُ
يوما خرب حمل فتاة ن�سلية �أخرى بجنني �شريف لكن ذلك الأخبار ً
مل يحدث قط ،بل قالت يل امر�أة ثرثارة �أتت �إىل بيتي حتمل ح�صة
بدل من زوجها اجلندي: الغذاء ً
در�سا كب ًريا هذه الأيام على يد زوجي ورفقائه.
أهلك يتلقون ً
�إن � ِ
فكرتُ حلظتها �أن �أزور وادي الن�ساىل خفي ًة ،لكني عدت وخ�شيت
�أن يعرف الفار�س كيوان فيعاقبني ب�إلغاء �صك انتمائي للأ�شراف
�أو رمبا ب�إبعادي عن طفلي ،وانتظرتُ حلول يوم الغفران التايل،
وغامرتُ باند�سا�سي بني اجلماهري املحت�شدة بالباحة و�أنا �أغطي
210
ر�أ�سي بقلن�سوة معطف �صويف لب�سته رغم ا�شتداد حرارة ذلك اليوم
وقفت بجانب فتاة ن�سلية كانت بني
ووا�صلت حتركي بينهم �إىل �أن ُُ ..
فتيات مدر�سة ال�سيدة قبل تركها لها ،و�س�ألتُها عن ال�سيدة غفران
وريان وناردين ،قالت �أن ال�سيدة غفران تلزم كوخها منذ رحيلي �أنا
والطبيب عن الوادي ،فيما اختفى ريان بعد مطاردة اجلنود لكل َمن
عربوا اخلام�سة والع�شرين من الذكور� ،أما ناردين فال تعرف عنها
دا
�شي ًئا ..ف� ُ
أبلغت معها ال�سالم �إىل ال�سيدة وناردين قبل �أن �أغادر �إىل
ع ر
مكان �آخر يف الباحة.
ريص
يف ذلك النهار �أُعلن على املن�صة تر ّقي ال�ضابط كيوان من الفار�س
ال
املخت�ص ب�ش�ؤون الن�ساىل �إىل كبري �ضباط جويدا رغم عمره الذي
ت ك
مل يكمل الأربعني ..فغادرتُ الباحة مع �أ�صوات طلقات البارود التي
ل ب
�صاحبه �أمام بابه الكبري ي�ضحك ل
وي�شرين�إ ّ
كان بيت من بيوت الرذيلة
دا
أم�سكت مبقب�ض ال�سكني
ب�أ�سناين على قطعة من اجللد ال�سميك ،و� ُ
ع ر
وال�صقت بن�صله جلد كتفي الأي�سر فوق و�شمي و�أنا �أ�صرخ �صرخات ُ
ص
عيني �ستخرجان من مقلتيهما ،حتى �ألقيت مكتومة �شعرتُ معها �أن ّ
و�سقطت على الأر�ض
ُ
ال ري
أر�ضا مع احرتاق جلد و�شمي ب�أكمله، �سكيني � ً
ت ك
�ألهث و�أت�أوه من �شدة الأمل ..لكن داخلي �أق�سم �أنني �س�أكمل ما بد�أته
ل bب ل
�سيدتي حتى موتي.
ش ن
ووا�صلت بحثير وا تول
أكملت �أيامي يف املدينة التي �أكرهها و�أكره �أهلها،
� ُ
زيع
ُ
�ضئيل من املال ،كانت النتيجة نف�سها عن عمل يجلب يل ولو قد ًرا ً
يل حني فوجئت بعد �أيام �أخرى من البحث مبن ينحني �إ ّ ُ ..غري �أنني
جل�ست بطفلي متعبة على جانب الطريق ،ويخربين ب�أنه يريدين ُ
�أن �أعمل خادمة له يف منزله ،كان �شا ًبا يف املدر�سة العليا مل يكمل
الع�شرين يعي�ش مبفرده على ما تق ّدمه له چارتني من منحة مقابل
خ�ضوع �أبويه للقاعدة الأوىل ،قال �أنه �سيتوىل �إطعامي �أنا وطفلي
و�إن ا�ستطاع ادخار �شي ًئا من نقوده �سيعطيني ثالث عمالت نحا�سية
فوافقت على الفور � ..شعرتُ
ُ مقابل اهتمامي بنظافة بيته وطعامه،
�أنني �أعرفه �أو رمبا ر�أيته من قبل ،ف�س�ألتُه �إن كنا قد حتدثنا �ساب ًقا،
213
ف�أنكر ذلك ..لكني منذ اليوم الأول يف بيته عرفت �أين ر�أيته عندما
أيت �صورتها قبل �سنوات يف �إحدى اخلزانات اخل�شبية ،كانت �صورة ر� ُ
مر�سومة لل�سيدة غفران يف ثوب مدر�ستها املتو�سطة ..ومعها عاد
ذهني �إىل ذلك اليوم الذي ح�ضر فيه ال�ضابط كيوان للمرة الأوىل
�إىل وادي الن�ساىل و�ألقى القب�ض على �أحد ع�شر ن�سل ًيا بينهم زوجي
حيدر فيما �أح�ضر معه �شا ًبا �صغ ًريا �أعلن لل�سيدة غفران عن موافقته
ر دا
ب�إزالة �صفة الأ�شراف عنها ..كان �أخاها زين ،وقتها ت�ساءل عقلي
ندما على ما فعله يف حقها� ،أم
ص ع
متعج ًبا �إن كان موافقته لأعمل معه ً
ال ري
�أنه من قبيل ال�صدفة� ،أم تكون ال�سيدة غفران من ا�ستعطفته ب�ش�أين
ت ك
ووا�صلت عملي يف بيته � ..أنظف غرفه ُ ..مل �أحدثه عن هذا الأمر
ب
و�أُعد له طعامه نها ًرا قبل �أن �أعود �إىل بيتي مع طفلي مع حلول امل�ساء
ن ل ل
ش
�أغطي ر�أ�سي بقلن�سوة معطفي خ�شية �أن يعرفني �أحدهم فيقوم بنزع
ر وا تول
ثيابي لل�سخرية مني ،كان يف داخله الطيبة نف�سها التي لطاملا �شعرتُ
زيع
بها داخل �سيدتي ..حتن الدماء لبع�ضها ح ًقا ..حني ر�آين ذات مرة
�أنظر �إىل �صورة ال�سيدة غفران القدمية مل يع ّقب على الأمر و�س�ألني
ع ّما �إن كان طفلي بخري ،هززتُ ر�أ�سي �إيجا ًبا �إليه ،وقلت و�أنا �أنظر
�إىل ال�صورة:
مل �أجد يف نقاء قلبها ..
قال بجمود:
ال �أتذكر مواق ًفا يل معها ..تركتني �صغ ًريا جدً ا لتعي�ش بينكم.
قلت:
214
رمبا �أرادت لك اخلري بالبقاء هنا ،ال تعرف املعاناة التي
يواجهها كل طفل هناك ..
قال باجلمود ذاته:
رمبا ..
ثم تركني وغادر.
ر دا
عرفت الح ًقا �أنه كان يتابع �أخبارها � ًأول ب�أول على مر ال�سنوات
ُ
ص ع
املا�ضية ،وال �أدري �إن كانت تعرف باهتمامه ب�أخبارها �إىل هذا احلد
ال ري
�أم ال ،حتى �أنني �صرت �أعرف �أخبار الوادي و�أخبار ال�سيدة منه دون
ك
احلاجة �إىل الذهاب �إىل باحة جويدا من �أجل لقاء �أي ن�سلية هناك
ب ت
خل�س ًة ،كنت كل ما �أخ�شاه �أن ي�ؤذيه الفار�س كيوان لإيوائي من املوت
ن ل ل
ش
جوعا ..لكنه طم�أنني حني حدثته عن هذه املخاوف ب�أن الفار�س ً
ر وا تول
كيوان يوا�صل ترقيته يف املنا�صب بني مدن چارتني وال ي�شغل باله بي
..لكن بال الأ�شراف الآخرين مل ين�سني قط ،وا�ستمرت امل�ضايقات
زيع
�إن ر�أوين دون انقطاع حتى �أنني �صرت �ألب�س معطفي ذا القلن�سوة
�صي ًفا و�شتا ًء اختبا ًء منهم ..كنت �أعرف �أن طفلي �سينمو م�صا ًبا
متاما عن الظهور للنا�س،با�ضطراب يف �شخ�صيته بعدما عزلتُه ً
لكنني ا�ضطررت �إىل ذلك خو ًفا من تعر�ضه لأي نوع من �أنواع الأذى
..لتم�ضي ال�سنني دون توقف و�أجده قد بلغ يف غم�ضة عني عامه
ال�ساد�س � ..سن االلتحاق باملدر�سة الأ�سا�سية يف جويدا ..فكرتُ
كث ًريا يف هذه اخلطوة خو ًفا مما قد يتعر�ض له هناك ،حتى انتهيت
�إىل قراري بان�ضمامه �إىل غريه من الأ�شراف لعدم اختالفه عنهم،
غري �أنه عاد يل يف اليوم الأول ُمزق الثياب مر�سوم على جبهته
بالر�صا�ص الأ�سود ر�سمة قريبة من و�شم الن�ساىل ..ظل ين�شج بقوة
215
يومها وهو يغمغم عن اعتداء من يكربونه �س ًنا عليه دون �سبب ..كنت
يوما ما �سين�سون �أن �أباه و�أمه كانا
�أنا املخطئة لأنني ظننت �أنهم ً
حاملني للعار ..وقررتُ يومها �أن �أع ّلمه بنف�سي مثلما فعلنا مع �أطفال
الن�ساىل يف الوادي ..كنت على ا�ستعداد �أن �أ�صرب و�أ�صرب و�أ�صرب و�إن
يوما
كامل ًعانى طفلي مع هذا ال�صرب ..على �أمل �أن ي�ستعيد حقه ً
دوما ..
ما ،كما علمتني �سيدتي ً
ر دا
لكن الرياح التي ه ّبت فج�أ ًة لتقتلع كل �شيء جاءت ذلك ال�صباح
ص ع
كنت يف طريقي �إىل بيت ال�سيد زين �أغطي ر�أ�سي بقلن�سوة حني ُ
ال ري
وفوجئت بذلك الزحام الغريب للكثريين من �أهل جويدا ُ معطفي
يف الطريق امل�ؤدي �إىل دار الأمن ،وقتها �أ�صابني الف�ضول لأرى �سر
ت ك
زحامهم الغريب يف يوم غري يوم الغفران ،فوجد ُتهم يتطلعون يف
زيع
وجد ُته ذلك العجوز الذي �أراد �شق بطني يف كهفه قبل �ست �سنوات.
b
216
()16
سيرين
ر دا
ص ع
ا ري
خرجت من متحف الأمن لب« ِقباال» بعد �أن
ك �تأ�سفل كم �سرتتي،
د�س�ست �صورة ال�ضابطةُ ُ
وركبت فر�سي
ُ
ن ل ب
عائد ًة �إىل بريحا ،ال يف ّكر ر�أ�سي �إال يف ل
التي انتزعتها من كتاب اخلريجني
�أ�صل؟! وتت�شاجر يف ر�أ�سي �أفكاري �إن كان ما ش
�شيء واحد؛ ماذا �أفعل حني
ر
�صحيحا �أم جمرد خياالت �ستودي بي �والإىلت �شر �أعمايل،
افرت�ضه عقلي من و�ساو�س
على �صورتها وكانت روحه ن�سلي ًة كما �أعتقد؟! ..ماذا �سيرتتب على
ذلك؟! ..وماذا لو عرف �أ�شراف بريحا وال�سيد عبود بذلك و�أبلغوا
رجال الأمن؟! هل �س�أ�صري �أنا الأخرى ن�سلي ًة �أعاين الويالت بعد كل
ميت يل ب�صلة و�أترب�أ منه،
هذه ال�سنني؟! �أم �أعرتف من الآن �أنه ال ُّ
جذبت
ُ ً
م�ستقبل؟ ..يف هذه اللحظة فيعفون عني �إن عرفوا حقيقته
جلام ح�صاين بقو ٍة فج�أة �أثناء رك�ضه فرفع قائمتيه الأماميتني وكاد
عال يف غ�ضب:
ب�صوت ٍ
ٍ وحدثت نف�سي
ُ ي�سقطني،
217
�سيغي �إن كان �آدم ن�سل ًيا �أو �شري ًفا يف �شيء؟!
ماذا ّ
فيم تفكرين �أيتها الغبية؟! � ..إنني �أحب كونه معي و�إن كان
َ
�شيطا ًنا حتى ..
ألقيت نظرة
أخرجت الورقة املر�سوم فيها �صورة ال�ضابطة ،و� ُ ُ و�
بغ�ضب �شديد ،و�ألقيها
ٍ طويلة على وجهها قبل �أن �أك ّورها يف يدي
دا
بكل طاقتي بعيدً ا عني ،ثم لكزتُ ح�صاين بقدمي ،ووا�صلت طريقي
ر
ب�سرع ٍة �أقل مما كانت عليه قبل توقفي ،لكن �شيطا ًنا بداخلي جعلني
ص ع
�أتوقف من جديد بعد �أمتا ٍر قليلة لأ�ستدير بح�صاين ،و�أعود و�ألتقط
ال ري
الورقة من جديد ،ثم فرد ُتها ونظرتُ �إىل وجه ال�ضابطة وعينيها
ت ك
بحر�ص ،و�أ�ضعها �أ�سفل كم �سرتتي مرة
ٍ القويتني قبل �أن �أطويها
ل ب
�أخرى ،و�أوا�صل طريقي بدون توقف هذه املرة.
زيع
�أخفيت ال�صورة بني �أغرا�ضي بغرفتي وخلعت ف�ستاين حتى وجدته
يعود وي�س�ألني م�ستغر ًبا:
كنت؟
�أين ِ
قلت:
ذهبت �إىل « ِقباال» �صبيحة اليوم لأزور �صديق ًة يل هناك ..مل
ُ
�أرد �أن �أقلق منامك باك ًرا ،لذا ذهبت دون �إخبارك ..
قال غا�ض ًبا:
لقد �أقلقتني بالفعل ..
218
حاولت اللحاق به لكني
ُ ثم خرج و�أغلق الباب من خلفه بقوة،
مل �أجتاوز عتبة الباب بعدما مل ت�سمح ثيابي الداخلية الق�صرية
وبقيت يف غرفتي �أنتظر عودته �إىل البيت مرة �أخرى و�ألوم
باخلروجُ ،
نف�سي ب�صورة �أكرب مما كنت عليه �أثناء طريق عودتي.
يف ذلك امل�ساء ت�أخر كث ًريا يف اخلارج مثل اليوم الذي عاد فيه
بر�سمة �صديقه� ،إىل �أن عاد مع منت�صف الليل ،ثم فتح باب غرفتي
فت�صنعت النوم ،ف�أغلق الباب برفق واجته �إىل
ُ علي
ر دا
ليلقي نظر ًة ّ
ال ري
يف الأيام التالية كان الت�شو�ش الذي يع�صف بعقلي يف�ضح تعابري
ك
وجهي رغ ًما عني� ،أحيا ًنا كنت �أجد ل�ساين يفلت ب�أ�سئلتي �إىل الزبائن
ب ت
ع ّما �إن كانوا يعرفون �شي ًئا عن م�صري ال�ضابطة التي تركت املن�صة
ن ل ل
ش
قبل �سنوات ،كان �أغلبهم ال يعرف .و�أحيا ًنا كانت عيني ال ترى �آدم �إال
ر وا تول
عاري ال�صدر حامل الو�شم علي �صدره خا�ص ًة مع مراقبتي الال�إرادية
له يف الور�شة �أو البيت مع كل حركة يفعلها ،ف�آثرتُ �أن �أجتنبه تلك
زيع
الفرتة حتى تهد�أ �أفكاري� ،س�ألني ب�أحد الأيام على غفلة �أثناء تناولنا
الع�شاء:
هل هناك خطب ما يا خالتي �سريين ؟
قلت مبكر:
ماذا تق�صد؟!
قال:
�ضايقك؟!
ِ أذاك �أح ٌد �أو
�أجد حالك متبدلة منذ �أيام ..هل � ِ
219
قلت والطعام يف حلقي دون �أن �أرفع عيني �إليه:
ُ
�إنني بخري ..
ثم �س�ألته لأب ّدل جمرى احلديث:
كيف �أحوالك بعد رحيل زهري؟
دا
قال:
ع ر
�صارت الأيام طويلة ومملة ..ال �شيء غري العمل والعودة �إىل
ريص
هنا � ..أحيا ًنا �أذهب بفر�سي �إىل التلة التي كنا جنل�س عليها
ال
قبل غروب ال�شم�س.
ت ك
ب
قلت:
ن ل وماذا ب�ش�أن �أحالمك ال�سيئة؟ ل
ش ر
ل ا و
مل ت� ِأت منذ زمن ،ظننتها �سرتاودين من تو
قال:
زيبعد ر�ؤيتي
ذلك ال�شعار على �سرتة الفار�س كيوان لكنها مل ت� ِأت..ع
جديد
قلت با�سمة:
ُ
متاما ..
مع الوقت �ستذهب عنك ً
قال:
�أمتنى ذلك.
ً
مت�سائل: ثم تابع
220
�أمل يعد من ذهب بر�سالتي �إىل زهري من جويدا؟
قلت:
ُ
ال �أعرف ..ملاذا؟
قال:
دا
رحيل و�شيك لباقي العاملني
حدثني �أحد الزبائن اليوم عن ٍ
ر
مبعامل الذخرية �إىل هناك بعد رحيل كبريهم ،والد زهري ..
زيع
وادي الن�ساىل املجاور جلويدا ..
ب�صوت قلق بع�ض ال�شيء:
ٍ وتابع
�أخ�شى �أن ُي�صاب زهري ب�أي �أذى ..
قلت:
ُ
�سي�ؤ ّمن له عمه كل احلماية � ..إنه كبري ال�ضباط الآن ولن يجد
�صعوبة يف حمايته هو وعائلته ..
�سكت حلظات ،ثم قال:
221
هناك �أمر �أو ُّد �إخبارك به ..
�س�ألته:
ماذا؟!
قال:
دا
اقرتح الرجل نف�سه الذي �أخربين عن رحيل �صانعي الذخرية
ر
�أن �أذهب برفقتهم �إىل جويدا ..قد حتتاج الأح�صنة �إىل تبديل
ص ع
حدواتها �أو العربات �إىل �إ�صالح عجالتها �أثناء الطريق الطويل
حداد يرافقهم
ال ري
�إىل هناك� ،سيحدثون ال�سيد عبود ب�ش�أن �إر�سال ٍ
ك
بالطريق ..
ب ت
ن ل ل
وتابع وهو يرتقب رد تعابري وجهي:
ش
ر وا تول
ربحا من الور�شة التي
وهناك يف جويدا �سيكون العمل �أكرث ً
نعمل فيها ،و�س�أكون قري ًبا من زهري حلمايته من �أي مكروه.
دا
إليك ،ما زلت �أتذكر تلك الآونة رغم مرور �سنوات عليها ..
� ِ
ع ر
قلت ب�صوت هادئ و�أنا �أنظر نحو طبقي:
زيع
فقلت و�أنا �أختل�س النظر �إليه:
قد �أ�صري ن�سلي ًة �إن ارتكبت خط�أً واحدً ا بعدما ت�سبب �أبي يف
اختزال حماية �صفة ال�شرف لنا بهروبه من القاعدة الأوىل.
قال بابت�سامة رائعة:
�صرت قردة حتى.
�س�أظل �أحبك خالتي �سريين و�إن ِ
وقلت
�ضحكت ،كانت الفطرة التي عليها �آدم �أكرث ما �أحبه فيهُ ،
ُ
يف �سري:
و�أنا �س�أظل �أحبك يا �صغريي مهما كنت ..
223
متاما �أفكاري ال�سيئة ،وعلىأق�سمت لنف�سي �أنني �س�أن�سى ً
ليلتها � ُ
متاما تلك الو�ساو�س التي مل جتلب مر الأ�سابيع التالية بد�أتُ �أتنا�سى ً
يل �سوى وجع الر�أ�س وت�شتت الذهن ،ووا�صلنا حياتنا يف بريحا بني
الور�شة وبيتنا .يف �أوقات كثرية كنت �أذهب معه �إىل التلة التي كان
يعتاد اجللو�س عليها هو وزهري بعدما ق ّل حجم عملنا يف ور�شة احلدادة
مع رحيل معظم راكبي اخليول �إىل جويدا �سواء كانوا فر�سا ًنا �أو من
دا
�صانعي الذخرية � ..س�ألني ذات م�ساء ونحن ن�شق طريقنا عائدين
ر
ماذا يفعلع
منها �إىل البيت:
ص
وقلت :ري ال
الرجل حني ي�صل �سن البلوغ؟!
ر دا
مل �أ�س�أله عن هذا الأمر ،مل � َ
أحظ بوقت طويل معه � ..إنه يرافق
ص ع
عمه على الدوام ..واجلنود هناك ينت�شرون بكرثة حول بيتهم،
ال ري
كما ينت�شرون ب�صورة كبرية للغاية يف جويدا بعدما ُحدد يوم
ت ك
الغفران القادم ملحاكمة الن�سلية التي كانت رامية املن�صة قبل
ش ن
ر وا تول
و�أ�ضاف:
تتناثر الأخبار هناك �أن الن�ساىل يك ّنون ح ًبا كب ًريا لتلك ال�سيدة
زيع
وقد يحدث نوع من ال�شغب �إن �أقر القا�ضي �إعدامها.
قال �آدم:
ماذا ارتكبت تلك الن�سلية؟!
نظرتُ حلظتها �إىل �آدم ،كانت تعابري وجهه عادية وبدا �أن �س�ؤاله
لال�ستف�سار فح�سب� ،أجابه الرجل:
ال �أعرف ،مل �أ�شغل بايل ..الأجواء يف جويدا خانقة هذه الأيام،
وكرثة اجلنود هناك زادها اختنا ًقا.
225
�شكرتُ الرجل على اعتنائه بتو�صيل ر�سالتنا لأُنهي ذلك احلديث،
فرحب ب�شكري ،قبل �أن يرتكنا ومي�ضي ،و�أكملنا طريقنا �إىل بيتنا
اختل�س بعيني النظرات بني احلني والآخر على وجه �آدم ،ثم �س�ألني
عندما دخلنا �إىل البيت:
ما ق�صة الن�سلية التي كانت رامية املن�صة؟
دا
قلت بعد حلظة من التفكري:
ُ
ع ر
كانت رامية املن�صة قبل �سنوات ،قبل �أن ُتتهم بجرمي ٍة ما،
ريص
ال
وحكم قا�ضي املن�صة بنزع �صفة ال�شرف عنها لتكون عرب ًة
للآخرين من �أ�صحاب املنا�صب الرفيعة ،هذا ما �أعرفه ..
ت ك
ل ل ب
قال:
ش ن
ر وا تول
ال بد �أنها فعلت الكثري للن�ساىل حتى يحبونها ذلك احلب الذي
حتدث عنه الرجل.
ر دا
ال �أعتقد.
ر ا
كنت م�ست�سل ًما للغاية � ..أنظر يف عينيها فح�سب.
د
ع
كما قلت لك،صري
وقلت با�سمة:
فحاولت �إخفاء توتريُ ،ُ التوتر مما قاله، �أ�صابني
تتعلقال كوابي�سك مبا يدور حولنا ..
ت ك
مل �أ َر وج ًها بهذا الو�ضوح يف �ب ل
قال �شاردًا:
لكنك حمقة .. ن ل
لوال حديث ذلك الرجل منذ �أيام عنش
أحالمي من قبلِ ،
ر
وال وت
�ضابطة املن�صة الن�سلية
زيع
ملا زارين ذلك احللم ..
و�ضم �شفتيه و�أردف بنربة حزينة:
ظننت �أن تلك الأحالم �ستختفي مع اقرتابي من عامي ال�ساد�س
ع�شر ..
ثم حول نربته احلزينة �إىل نربة �ساخرة وهو يقول ً
مغتاظا:
كدتُ �أعرف ما يناديني به املحدقون بي يف احللم ..لوال �أنها
متاما ..
قتلتني قبل و�ضوح �أ�صواتهم ً
قلت بابت�سامتي ذاتها و�أنا �أحمل معطفي لأ�سبقه �إىل الور�شة:
228
�ستعرف احللم القادم � ًإذا ..
مل ي�ستطع عقلي جتاهل ذلك التطور يف �أحالم �آدم ،وخا�ص ًة مع
الت�شتت الكبري الذي ارت�سم على وجهه طيلة ذلك اليوم ،فانتهزتُ
فر�صة عدم تواجد ال�سيد عبود بالور�شة ،و�أخربت �آدم �أنني ذاهبة
من �أجل �شراء بع�ض الفاكهة من ال�سوق ال�شرقي ،واجتهت �إىل
دا
الطبيب ذاته الذي فح�ص �آدم قبل �ست �سنوات حني �أ�صابه ذلك
ر
الهياج ،و�س�ألته:
هل ي�ستطيع �عأحد تذكر حياة حا�صد روحه ال�سابقة؟
ري ص
قال بكل هدوء وثقة :ال
ت ك
ن ل ل ب ال
ش
ر وا تول
قلت:
زيع
وال يف �أحالم نومه؟
قال:
ت�سجل كتب الطب التي قر�أتها حالة م�شابهة.
مل ّ
قلت:
ُ
و�إن حدثت؟ ..ماذا �سيحدث �إن حمل �أحدنا ذكريات حا�صد
روحه؟
قال:
229
�سيعي�ش اجلحيم ذاته بني املا�ضي واحلا�ضر � ..سيكون فري�س ًة
لل�ضياع بني َمن يحبهم ويكرههم يف حياته احلقيقية َومن
�أحبهم وكرههم قد ًميا � ..ستطيح به �أمرا�ض ا�ضطراب النف�س
�إن ُحو�صر يف ذلك اخلندق من التخبطات ،و�إن مل يكن عقله
قو ًيا مبا يكفي �سيهوي �إىل برزخ اجلنون ال حمالة ..
فقلت له بعدما خطرت يف بايلزاد ما قاله الطبيب من خماويفُ ،
ت ك
ن ل ل ب قال:
ش
ثم نه�ض وملأ يل ًكي�سا قما�ش ًيا �صغ ًريا ر
و
نعم ..
ل ا
الأواين الزجاجية املرتا�صة على جانب من الغرفة ،تو
زيوهو يناوله
م�سحوق كان ب�أحد بع�شب
ٍ
ع وقال
يل:
اخلطيه مع املاء قبل النوم � ..سيجعل نومك هاد ًئا للغاية� ،إن
مفعول هذه الأع�شاب �سحر حقيقي ..
فقلت و�أنا �أخرج له كل ما يف جيبي من عمالت نحا�سية:
اعطني ما يكفيني ملدة �شهر كامل.
ففعل ذلك مرح ًبا ..ثم �شكر ُته وعدت �إىل الور�شة ،قبل �أن �أعود
أذبت
�أنا و�آدم �إىل البيت بعد انتهاء عملنا ،وانتظرت حتى امل�ساء ثم � ُ
230
جرع ًة من ع�شب الطبيب يف �شرابه ال�ساخن دون �أن يدري ..وحني
قلت يف �سري:
نظرتُ �إليه وهو يتجرعه ُ
�ساحمني يا �آدم � ..أعرف �أنك �سرتف�ض الأمر �إن �أخربتك به،
لكنني �أحبك وال �أريدك �أن تخ�سر عقلك ..ال يتبقى �إال ثالثة
�أ�سابيع على يوم الغفران القادم و�إعدام الرامية غفران كما
نوما هاد ًئا كل
يتوقع اجلميع � ..ست�ضمن لك هذه الأع�شاب ً
ليلة خال ًيا من ومي�ض ذكرياتك حتى متر هذه الأيام ،بعدها
ر دا
ع
�ستن�سى �أر�ض چارتني تلك الرامية للأبد ،وبدورها �ستن�ساك
ص
ال ري
يف �أحالمك ،لتكمل حياتك قو ًيا كما �أنت دائ ًما ،يفتخر بك �أهل
بريحا جميعهم ..لقد خ�سرت اجلميع على امتداد �سنواتي وال
ت ك �أريد �أن �أخ�سرك �أنت � ً
أي�ضا ..
قال للالطبيب ،و�إن �أ�صاب الفتى
ن بالفعل جنحت تلك الأع�شاب كماب
نو ٌع من اخلمول �أثناء النهار جعل ال�سيد عبودشيتذمر منه ،لكني كنت
�أعلم �أنه لن ي�ستغني عنه �أبدً ا ،فلم �أهتم بذلك كثر ًرياوال..
و ت
وبد�أت الأيام مت�ضي ًيوما وراء الآخر نحو يوم غفران زي
ذلكعال�شهر
..تزداد معها �سعادتي بعدما توقفت �أحالم �آدم عن زيارته خاللها،
متاما مع موت رامية املن�صة ..ويف ظل فرحتي
وتوقعي الكبري بتوقفها ً
فوجئت قبل يوم الغفران بخم�سة �أيام ب�أختي تطرق بابي ُ مبرور الأيام
وظننت �أنها ا�ستجابت
ُ تعجبت حني وجدتها �أمامي،ُ ً
ليل بعد نوم �آدم ..
�أخ ًريا لر�سالتي التي �أر�سلتُها �إليها قبل عامني كي ت�أتي للعي�ش معي يف
ب�شوق كبري ،و�أدخلتها �إىل الداخل على الفور،بريحا ،فاحت�ضنتها ٍ
وقبل �أن �أنطق ب�أي �شيء عندما جل�سنا �إىل الطاولة وجدتها تتلفت
حولها وتقول هام�س ًة:
231
لقد ظهر والدنا من جديد ..
وت�ساءلت �إليها غري م�صدقة:
ُ تعجبت
ُ
عاما الآن ..
والدنا؟! � ..إن كان ح ًيا لكان عمره خم�سة و�سبعني ً
أردفت بعد حلظة بالتعجب ذاته: و� ُ
دا
هل ُاعتقل ل ُيعدم على املن�صة بعد كل هذه ال�سنوات؟!
ع ر
هزّت ر�أ�سها نافية يف توتر ،وقالت:
ريص
ال
�أخربين �أحد �أقاربنا من جنود جويدا �أنه من ق ّدم نف�سه �إىل
ك
الفار�س كيوان ..وعلى عك�س املتوقع مل يقدمه الفار�س كيوان
ب ت
�إىل القا�ضي ملحاكمته بل جعل كبار �أطباء جويدا ي�شرفون على
ن ل ل اهتمام كبري .. عالجه يف
ش
ٍ
ر وا تول
ت�ساءلت با�ستغراب:
ُ
زيع
وملاذا يتغا�ضى الفار�س كيوان عن جرميته باخرتاق القاعدة
الأوىل؟
قالت هام�س ًة وهي تق ّرب ر�أ�سها مني:
يظن الرجل �أن �أبانا لديه ما يقاي�ض به �سادة چارتني مقابل
تربئته وتربئة ن�سله من تلك اجلرمية ..
b
232
()17
غفران
ر دا
ص ع
ري
كنت �أقف �أمام كوخي � ال
ت �إىل جويدا وال تدور يف ر�أ�سي �إالك
أنظر �إىل العربة التي �ستحمل �سبيل وفا�ضل
ك
و�أُفردت �صفحة كاملة عن حب امللوك القدامى لرتبيتها لوفائها
ب ت
ل ل
ال�شديد ملحبيها ،كذلك انتقامها العنيف بغري رحمة ممن ي�ؤذونها،
ش ن
وقتها جال يف بايل ق�صة العجوز عن زوجة امللك التي كاد يفرت�سها
ر وا تول
النمر على من�صة الباحة ،وعندما خطرت �إىل ذهني كلمات الطبيب
هم�ست �إىل نف�سي بابت�سامة حزينة
ُ حني قال �أن �آدم �سيعود من �أجلي
زيع و�أنا �أتذكر ما فعلته بندمي:
بل �سيعود ليقت�ص مني� ،أيها الطبيب ..
ثم �أخذت الكتاب �إىل كوخي ،وهناك �س�ألتني ناردين عندما
الحظت �أن عدد احلا�ضرين من الأطفال مل يزد بعدما انتقلت �سبيل
للعي�ش بني الأ�شراف وظل كما هو ال يتجاوز ع�شرة �أفراد:
ماذا �سنفعل �سيدتي؟
فابت�سمت وقلت:
234
�سنكمل ما نفعله.
قالت بنربة حمبطة وهي تنظر �إىل الأطفال:
حتى ه�ؤالء �سيرتكوننا مبجرد �أن ي�ش ّبوا ،مثل غريهم ..
قلت با�سمة:
دا
�إنهم و�إن �ض ّلوا �سيهديهم تعليم عقولهم من جديد ..لنكمل يا
ر
�صديقتي �إىل �أن تفارق �أرواحنا �أج�سادنا.
�أوم�أت بر�أ�سهاعمبت�سمة ،وبالفعل وا�صلنا درو�سنا �إىل الأطفال
ري �أنا وناردين فيما تك ّفلص
ريان بتوفري ما يعيننا على مرور الأيام من
طعام من خري الأر�ض ال
ت ك
اخل�صبة بجوار الوادي و�أقرا�ص الع�سل بكهوف ٍ
رلوأ�شراف جميعهم،
�سبيل ُ
توا�صلها بالن�ساىل ،فتقبلت ذلك ب�صدر رحب ي�ؤمن ب�أن بقاءها حية
هي وطفلها هو يف حد ذاته ن�ص ٌر كبري لنا ..
يف تلك الأيام اجته جنود الأ�شراف �إىل مطاردة �شبان الن�ساىل
الذين عربوا اخلام�سة والع�شرين و�إن مل يرتكبوا �أي جرم ك�أن بلوغهم
�سن الزواج كان اجلرمية التي ارتكبوها ،فغادر معظمهم عن وادينا،
ليال كثرية يف
ف�آثرتُ بعد نقا�ش طويل مع ريان الذي ظل يختبئ ٍ
الكهوف القريبة من الوادي ب�أن يبتعد عن وادينا هو الآخر لئال ي�ؤذيه
235
كيوان ،وبعد رف�ض ُمطلق مثل الطبيب ،ان�صاع �إىل رغبتي يف نهاية
الأمر بعدما وعد ُته ب�أنني �س�أبقى بخري ..وبهذا فقدت جناحي الثالث
يف غ�ضون �أيام قليلة ومل يتبقَ ملعاونتي �إال ناردين التي حتملت معي
�صباحا وجمع �أقرا�ص الع�سل وبع�ض الثمار من الوادي �شئون املدر�سة ً
اخل�صب املجاور م�سا ًء ،و�أحيا ًنا �س�ؤال بع�ض الفتيات الالتي يرتددن
�إىل جويدا �إن كنّ قد ر�أين �سبيل �أو �سمعن �أخبا ًرا عنها.
يوما للغفران كنت �أ�ضيف ل�سنوات �أعمارنا
ر دا
مع مرور كل اثني ع�شر ً
عاما واحدً ا ،وعندما �أمت حيدر
ع
على القطعة اخل�شبية يف غرفتي ً
ص
ري
ال�صغري عامني زاد متنف�س وادينا ً
ال
قليل بعدما ان�شغل عنا كيوان
عرفت من �إحدى الن�سليات مبا حدث ل�سبيل ُ مبن�صبه اجلديد ،لكني
ت ك
واملعاناة التي عانتها يف �شوارع جويدا ،فك ّلفت �أحد ال�شبان ال�شجعان
زيع
فاطمئن قلبي ً
قليل.
b
مل يحدث جديد خالل الأ�شهر الكثرية املتتالية بعد ذلك،
الطالب وكانوا يزيدون �أحيا ًنا و�أحايني �أخرى يق ّلون ،واحلانات
كما هي ت�صدح باملو�سيقا طوال الليل بني �ضحكات �سكارى
الأ�شراف ..والفتيات الالتي وجدن �سبيل ك�سبهن هناك،
والإعدامات التي كانت تطول َمن يعتقله اجلنود ل�سبب �أو بدون
�سبب ،والن�سليات احلوامل الذاهبات كل يوم غفران �إىل الباحة.
�أوقات كثرية كانت خميلتي تذهب �إىل عد الأيام �إىل بلوغ �آدم عامه
236
ال�ساد�س ع�شر ،ف�أجد نف�سي �أعيد فتح كتاب الطبيب الذي تركه يل
لأقر�أ ال�صفحات اخلا�صة بنمور ال�شامو من جديد ،و�أعي�ش بني خياالتي
بتذكره يل وعودته �إىل الوادي �شا ًبا ي�شبه ندمي يف كل �شيء ..مل �أمتنَ
قط �أن يعود ثائ ًرا بروحه� ،أردت �أن يعود كما هو � ..شا ًبا قو ًيا يكمل معي
الطريق يف بناء عقول القادمني من الن�ساىل .كذلك كنت �أ�شتاق كث ًريا
�إىل الطبيب وجل�سات نقا�شنا �سو ًيا كما هو احلال مع ريان الذي انقطع
دا
عن زياراته اخلفية يل فج�أة ،مل يقبل عقلي �أن يف ّكر يف احتمالية موته
وظللت متم�سكة ب�أمل
ُ
ع ر
�أثناء هروبه من �إحدى دوريات خيالة الأ�شراف،
ص
زيارته يل يف �إحدى الليايل القريبة ليحكي يل �سبب اختفائه املفاجئ ..
ال ري
لتم�ضي الأيام جميعها على هذا النحو و�أبلغ عامي الأول بعد الأربعني
ت ك
وقت كنت �أ�شعر داخل نف�سي ب�أنني جتاوزت املائة عام بعدما بد�أت يف ٍ
ش ن
ر وا تول
يف ذلك العام تر ّقى كيوان لي�صبح كبري �ضباط چارتني يف عمره
متنيت لو انق�ضت ال�سنوات ال�ست الباقية على ُ الرابع والأربعني ..
زيع
عي ً
�ضابطا بلوغه اخلم�سني �سري ًعا لرنتاح من �شره ،لكن ما حدث �أنه ّ
�شا ًبا ليخت�ص ب�شئون الن�ساىل كان ي�شبهه يف طباعه وغلظته �إىل حد
كبري ،وك�أنه �أراد �أن يبلغنا �أن هذه الدائرة لن تنتهي �أبدً ا حتى تفنى
احلياة على الأر�ض.
منذ بداية ذلك العام وبد�أ ذهني ين�شغل ال �إراد ًيا بكل ما يحدث
يف جويدا ،ووجدتُ نف�سي �أذهب بني احلني والآخر �إىل حانات
الوادي و�سط ده�شة كربى من ناردين َومن يرونني هناك ،لأ�ستمع
�إىل الأحاديث التي تتناقلها �أل�سنة فتيات الرذيلة دون �أن �ألقي �س� ًؤال
واحدً ا ،كنت �أعرف �أن خرب �سماع �صوت زئري واحد يف �أي مدينة مبدن
چارتني �سي�صري يف �سرعة الربق حديث الأل�سنة جميعها هناك ،و�إن
237
كنت �ألوم نف�سي كث ًريا لتعلقي كل هذه ال�سنوات بوهم رجوع �آدم الذي
حتى و�إن عاد لن يكون ندمي �أبدً ا ..و�أظل �أكرر ت�سا�ؤالتي �إىل نف�سي
لع ّلها تقتنع بعدم عودته:
ماذا �سيعيده �إلينا �إن كان قد عا�ش بني الأ�شراف وجت ّرع
كراهية الن�ساىل بينهم ،وما الذي �سيجعل روحه تثور من
يعان من ال�ضغط الذي عاناه ندمي؟ ..
الأ�سا�س �إن مل ِ
ر دا
ع
لكني كنت �أجد نف�سي �أفعلها جمددًا و�أذهب �إىل احلانات يف
ص
انتظار خرب �سماع ذلك الزئري ..وبني انتظاري لأي خرب � ٍآت من مدن
ال ري
الأ�شراف ،وبني �أوهامي ب�أن �أجده ذات يوم ّ
يدق بابي ليحت�ضنني بعد
ت ك
كل هذا الغياب ،وجدتُ �سبيل تعود �إ ّ
يل تلك الليلة لتخربين عن ظهور
زيع
أيت اجلنود مي�سكون به ويج ّرونه نحو دار الأمن فيما كان ر� ُ
ي�صرخ �إليهم ب�أنه جاء ملقابلة الفار�س كيوان بنف�سه ..
فخذي تهتزان من الرع�شة التي �سرت فيهما ،وقلت:
ّ وجدتُ
أنت
وقتلك � ِ
حني يعلم كيوان مبا لديه لن يت�أخر عن قتل طفلكِ ،
� ً
أي�ضا ،وقتلي ،وقد ير�سل من يقتل الطبيب يف ال�شمال ..قبل
�أن يقتل الن�ساىل جميعهم ..
قالت:
238
إليك �سيدتي ..من ح�سن حظنا �أن ال�سيد كيوان يف
لذا جئت � ِ
يلتق العجوز �إىل الآن ..
زيارة �إىل مدينة �أخرى ومل ِ
وت�ساء َلت بحنق �شديد:
ملاذا يظهر ذلك الرجل يف هذا التوقيت؟! ..ملاذا انتظر كل
تلك ال�سنوات؟!
و ر ِق
مبجرد
ت ل ا
واجلداريات و�صحتها ..و�سينتظر ذلك الرجل �وأن تثور روح
دم تلك النقو�ش ويت�أكد من ُمت�صي النقو�ش القدمية ب
زيعلت�صبح
�آدم لي�ستنفر الباقني لريدوا عدوان الأ�شراف املميت
حر ًبا لن ينجو منها �أحد ..
�صمت لهنيهة:
وتابعت بعدما ُّ
ُ
�إنّ هذا الرجل نذ ٌل كبري � ..سيق ّدم ما يعرفه �إىل كيوان مطال ًبا
ب�إخ�ضاعه للقاعدة التي تعفي املذنبني من جرائمهم �إن حموا
�أر�ض چارتني ،لن يلتفت كيوان بطي�شه �إىل اخلبث الذي يك ّنه
ذاك الرجل � ،سيظن �أنه يريد فح�سب التكفري عن ذنبه ..
فعل من ُجرمه باجتياز القاعدة الأوىل �إن د ّله على قد يربئه ً
239
كبطل �إىل �أهل چارتني ..
مكان الكهف ،وقد يق ّدمه ٍ
ثم �س�ألتها:
متى يعود كيوان �إىل جويدا؟
قالت:
دا
ال �أعرف..
ع ر
كان عقلي متوت ًرا للغاية و�أنا �أقول:
ريص
وو�سط تفكريي ال
�إن الدماء �آتية ال حمالة � ..أف�سد ذلك الرجل كل الأمور فج�أة..
كلتأوىل:
امل�شو�ش وجتمد عقلي وجدتُ �سبيل تقول بلهجة
وال وت
أ�صل
زي
و�سكت ،مل تكن حتتاج �إىلع�إجابتي،
لي�ستنفرهم؟
ُّ وزممت �شفتي
ُ نظرتُ نحوها
فقالت:
هل نق ّدم رقابنا بهذه ال�سهولة �سيدتي؟
وت�ساءلت
ُ نظرتُ نحوها يف ده�شة من اللهجة التي حتدثت بها،
داخل نف�سي:
غيت
�أتكون ال�سنوات ال�ست التي ق�ضتها بني الأ�شراف قد ّ
بداخلها �إىل هذا احلد؟!
240
فقالت م�ضيفة باللهجة ذاتها:
�سيقتلني كيوان �أنا وطفلي مبجرد معرفته ب�ش�أن ذلك العهد
الدموي ،و�إن قتلني �أمام �أ�شراف چارتني جميعهم� .سيهللون
ملقتلنا ال �أكرث ،و�سين�سوننا قبل �أن يعودوا �إىل بيوتهم ..لقد
عرفت ما بداخلهم جتاهنا� .إننا ن�ساىل و�سنظل حيواناتهم ُ
مهما فعلنا �سيدتي ..
ر دا
�س�ألتُها يف ا�ستغراب �شديد يف ت�شكك مما تفكر به:
ص هل ع
�صمتت لثانية ،وقالت:ري ال
�ستفعلينها؟!
ت ك
ل ل ب
�س�أترك لهم اخليار � ًأول � ..إن ارتكب كيوان هذا اخلط�أ �س�أعاقبه
ن
ش
حلمت كث ًريا
هذه املرة ..لن �أعود �إىل جويدا �سيدتي ..رمبا ُ
ر وا تول
ب�أن �أ�صبح �أنا وطفلي �شريفني ،لكننا جترعنا ما ال ُيطاق خالل
زيع
تلك ال�سنوات هناك ..
وتابعت بعدما �أخرجت زف ًريا هاد ًئا:
غيت الكثري بداخلي ..
لكن يح�سب لها �أنها ّ
و�أ�ضافت:
�أعرف واد ًيا بعيدً ا ال يتجاوز �سكانه الع�شرات من الرحالة
الن�ساىل ..ال �أعتقد �أن كيوان وجنوده يعرفون عنه �شي ًئا،
يرتكك
ِ أريدك �أن ت�أتي معي ،لن
�س�آخذ حيدر �إىل هناك ِ � ..
كيوان هذه املرة.
241
فابت�سمت �إليها وقلت:
ُ
أمرك
مل �أعتد الهروب يا �صغريتي � ..س�أبقى هنا ..اهتمي ب� ِ
أنت وحيدر هناك ..
� ِ
ثم وجدتني �أقول بعدما فكرتُ فيما �سيفعله كيوان مبجرد �أن
ي�ستمع �إىل العجوز:
دا
لن ت�ستطيعي االقرتاب بطفلك من الكهف بعد معرفة كيوان
ر
ع
ب�أمره � ..سيحا�صره جنوده من كل جانب ..و�سيقتل كل ن�سلي
ري ص
يقرتب منه على م�سافة ميل.
فابت�سمت يل �سبيل ال
كتإىل هناك �سيدتي � ..أدرك الطبيب
وقالت:
ب
فا�ضل �أن هذا الأمر �سيحدث ل
قبللن�ستة �أعوام.
ل�ست يف حاجة للذهاب � ُ
ر ش
bوال وت
زيع
242
()18
غفران
ر دا
ص ع
ري
ت�ساءلت يف ده�شة ا
كبرية:ل
ت ك ُ
ت ك
قلت و�أنا �أتذكر الأيام التي كان يغيب بها ُقبيل والدة حيدر بحجة
زيع
م�صباحا زيت ًيا ومع ّول
ً وحملت
ُ ثم تركنا حيدر ال�صغري مع ناردين،
يخ�صان ريان ،وذهبنا �إىل مقابر الن�ساىل
وجاروف حديديني كانا ّ
تغطي �سبيل ر�أ�سها بقلن�سوة معطف ثقيل� ،إىل �أن و�صلنا هناك.
مل ت�أخذ �سبيل حلظة يف التعرف على قرب زوجها ،فاجتهنا �إليه
مبا�شرة ،ثم بد�أتُ �أحفر رماله باملعول واجلاروف بينما �أم�سكت
بلغت عم ًقا كاف ًيا لي�صدر اجلاروف
�سبيل بامل�صباح ..وبعد جهد كبري ُ
احلديدي رني ًنا خمتل ًفا بعدما �ضرب �شي ًئا ب�أ�سفله ..ق ّربت �سبيل
امل�صباح �إىل داخل احلفرة ،كانت �إحدى عظام جثة زوجها التي
أزلت بيدي
الحظت �أن �سبيل �أجفلت حني � ُُ ته�شمت من ال�ضربة،
عظاما �أخرى و�ضلوع قف�صه ال�صدري، ً الرتاب عنها وظهرت معها
244
فيما بد�أتُ �أتيقن �أن �سبيل قد �أ�ساءت فهم كلمات الطبيب ..لكني
�أكملت حفري على امتداد القرب ناحية عظام ال�ساقني دون �أن �أ�صنع
حت�س�ست بيدي الرمال �أ�سفل العظام
ُ مزيدً ا من العمق ،وخا�ص ًة بعدما
ووجدت ملم�سها رمل ًيا ال يوحي بوجود �شيء �صلب ب�أ�سفلها ،قالت
�سبيل ب�إحباط وهي جتل�س مقرف�ص ًة تنظر �إىل العظام:
يبدو �أن الطبيب ق�صد �شي ًئا �آخر ..
قلت و�أنا �أنخر ب�سن اجلاروف الرمال التي تغطي ن�صف اجلثة
ر دا
ص ع
ال�سفلي:
ال ري
لك ذلك لق�صده بالفعل ..لكننا على الأقل عرفنا �أنه مل لو قال ِ
ت ك
يعن �أنه �أتى بالتمثال ب�أكمله.
ِ
ر وا تول
فقالت �سبيل مت�سائلة:
زيع
هل وجد ِته؟!
قلت و�أنا �أحرك اجلاروف للداخل واخلارج ليحتك برفق بذلك
ال�شيء:
غال ًبا ..
ثم بد�أتُ �أزيل على نح ٍو �سريع الرمال التي تغطيه لتظهر �أنف ر�أ�س
التمثال ..هبطت معي �سبيل �إىل احلفرة ،وثبتت قدميها بحر�ص
بعيدً ا عن العظام من �أ�سفلها ،وبد�أت تزيل بيدها الرمال �إىل جانبي
خلخلت بيدي الر�أ�س ميي ًنا وي�سا ًرا �إىل �أن اقتلعتُه ..فقلت
ُ القرب فيما
و�أنا �أنظر �إىل وجه التمثال الزائر:
245
ليغي م�صري الن�ساىل يف يبدو �أن هذا الطبيب ُولد يف بلده ّ
چارتني ..تار ًة ينقذ �آدم بعد موت �أمه قبل �أن ت�ضعه ،وتار ًة
�أخرى يحمل �صخور حوران بعيدً ا عن �أيدي كيوان.
حفرتُ مزيدً ا من الرمال ،مل �أجد �أي �صخور �أخرى ..قالت �سبيل
و�أنا �أ�ضع اجلاروف جان ًبا:
دا
�إن �صدق ذلك العجوز ب�أن ذلك التمثال ُ�صنع من �صخور
ر
حوران �سيفي هذا الر�أ�س بالغر�ض ..
صفقلت :ع
ري
زلت تو ّدين الفعلها ح ًقا؟
قالت وهي مت�سح بيدهاك
هل ال ِ
ب ت
ن ل ل
الرمال عن ر�أ�س التمثال:
ش
و�أ�ضافت بعد حلظة من ال�صمت :ر وا تول
�سيقتلنا كيوان على �أي حال �سيدتي ..
زيع
�س�أكون ردة فعل ال �أكرث � ..أمتنى �أن ي�سجن العجوز وال ي�ص ّدقه
� ..أعدك �أنني لن �أفعل �شي ًئا وقتها � ..أما �إن تركته يقتل الن�ساىل
جميعهم خو ًفا من �إيقاظ الأرواح بداخلهم ،ف�سكوتنا �سيكون
اخليانة الكربى لأهلنا ..هيا ،علينا �أن نعود �إىل الوادي ،ال بد
�أن �أرحل يف �أ�سرع وقت ..
ردمنا القرب مرة �أخرى على نحو �سريع ،ثم عدنا بثيابنا املُرتبة
�إىل الوادي ت�ضع �سبيل ر�أ�س التمثال �أ�سفل معطفها املت�سع� ،إىل �أن
و�صلنا الكوخ فو�ضعته بني �أغرا�ضها ،وقبل �أن تغادر قالت يل:
246
مثلك ،ويعرف دائ ًما
طيب ِ أخاك من �آواين يف بيته � ..إنه ٌ
�إن � ِ
جاءتك فر�صة ذات يوم مل�ساحمته فال تت�أخري
ِ أخبارك � ..إن
� ِ
يف ذلك �سيدتي.
تفاج�أت مما قالته ..كان ذلك �أ�سعد الأخبار التي �أ�سمعها منذ
وقت طويل ،ف�س�ألتُها:
دا
هل هو بخري؟
ع ر
قالت وهي تغادر:
ريص
ال
حتدثت عن
ِ يف �أف�ضل حال �سيدتي � ..إنه من ال�صاحلني الذين
ك
وجودهم بني الأ�شراف.
ب ت
ن ل ل
فقلت:
ش
ر وا تول
فلتفكري فيه � ًإذا قبل �أن ت�أخذي ذلك القرار ..
زيع
قالت:
�س�أفعل بكل ت�أكيد ..
ثم حملت طفلها وحقيبتها التي حتتوي ر�أ�س التمثال واحت�ضنتني
ثم احت�ضنت ناردين لتغادرنا ..وترتكني �أعي�ش بني خماويف و�أنا
�أتخ ّيل احلوار الذي يدور بني العجوز اخلبيث وكيوان ،قبل �أن ترى
خميلتي كيوان وهو يلم�س بيده املخطوطات التي ميلكها العجوز ..
ومي ّرر يده على اجلداريات والكلمات التي د ّونتها جدران الكهف
لي�أخذ قرا ًرا ً
كفيل مبقتل ع�شرات الآالف من الأبرياء يف �آن واحد ..
وبد�أتُ �أعد الأيام يف انتظار قدوم فر�سان الأ�شراف �إىل الوادي بح ًثا
247
عن �سبيل وطفلها ،ينتابني اخلوف الأ�شد يف حياتي كلها ،حتى �أنني مل
�أ�ستطع تقدمي درو�سي �إىل الأطفال ولو ملرة واحدة منذ زارتني الفتاة
..كنت فقط �أجل�س يف غرفتي �أنظر �إىل �أعمارنا املُد ّونة على القطعة
عاما التي و�صلها �آدم ..ونف�سي حتدثني اخل�شبية ..وال�ستة ع�شر ً
�أن نهاية چارتني التي مل �أمتناها قط قد �أو�شكت على احلدوث ..
ألت ناردين �إن كانت تعرف واد ًيا بعيدً ا لتختبئ فيه تلك الأيام ..
�س� ُ
دا
�س�ألتني باندها�ش عن ال�سبب ،فقلت �إن عا�صفة من الدماء قادمة
ع ر
�ستطيح باجلميع ..فابت�سمت وقالت:
ريص
ال
لقد مررنا بالكثري �سيدتي ..ال �أعرف مكا ًنا �آخر ،و�إن كنت
�أعرف حتى ..فهنا مكاين.
ت ك
ل ب
كنت كل م�ساء يف تلك الأيام �أنظر بعيدً ا نحو مدخل الوادي يف
ر وا تول
متنيت فقط �أن
ُ وهم ي�سريون جيئة وذها ًبا ،ال يعلمون ما هو � ٍآت ..
يكون ما فعلتُه معهم يف ال�سنوات املا�ضية قد يجدي نف ًعا �إن ثارت
248
قلت:
�أي فتاة؟!
فوجئت به ي�صفع وجهي �صفع ًة �أ�سالت الدماء من وجهي ،و�أ�شارُ
�إىل جنوده بالبحث عن الفتاة يف كل �أرجاء الوادي ..ثم دخل �إىل
كهفي ليفتّ�شه بنف�سه ،كنت �أعرف �أنه �سيبحث عن ر�أ�س متثال
دا
الن�سلي ظ ًنا منه �أنني �أخذته ..ثم خرج �إ ّ
يل ويف يده كتاب احليوانات
ر
املنقر�ضة ،بعدها �أ�شار �إىل �أحد جنوده دون �أن ينطق ،فقام اجلندي
ص ع
وقدمي بغلظة ..وكذلك قام جندي �آخر بتكبيل ناردين،ّ يدي
بتكبيل ّ
ال ري
قبل �أن ُيغطى ر�أ�سي بغطاء قما�شي �أ�سود حجب عن عيني الر�ؤية،
ك
ويدفعني �أحدهم عنو ًة �إىل �إحدى العربات التي حملتني �إىل جويدا.
ت
ب للن
b
ر ش
وال
مت اقتيادي �إىل زنزانة �ضيقة كنت �أعرف �أنها يف �سجن جويدا
ال�سجان عن
و ت
ذرعت درجاته قد ًميا عديد املرات ،وهناك ك�شف ّ ُ الذي
ُ عزي
ر�أ�سي الغطاء الأ�سود قبل �أن ُيغلق الباب احلديدي من خلفه دون �أن
وناديت اقرتبت من باب الزنزانة
ُ ينزع الأغالل عن يدي �أو قدمي ..
ب�أعلى �صوت:
ناردين ..ناردين ..
لكن �أحدً ا مل يجبني قط.
مكثت يف زنزانتي ال �أ�ستطيع عد الأيام �أبدً ا بعدما كان ظالمها ال
ُ
يف ّرق بني الليل والنهار وك�أنهم اعتربوين من �أ�شد املجرمني خطور ًة،
والذين �أُعدت من �أجلهم الزنازين ال�سفلية امل�صمتة اجلدران ،لكني
249
انتبهت مع الوقت �إىل الوجبة الواحدة التي يدفعها يل ال�سجان عرب
فتحة �صغرية بباب الزنزانة احلديدي ..لأعتمد عليها يف ع ّد �أيامي..
وبني ا�شتعال ذهني ب�ضجيج �أ�سئلته ،كنت �أقف وراء الباب حني �أ�سمع
جلبة �أقدام احلار�س لألقي �أ�سئلتي �إليه:
هل حدث �شيء يف اجلنوب �أيها ال�شاب؟!
دا
هل حترك الفار�س كيوان ب�أ�سلحته الثقيلة؟!
ع ر
لكنه مل ُي�سمعني �صوته قط.
ريص
ال
تباعا حتى جتاوزت يوم الغفران لذلك ال�شهر وبد�أت الأيام متر ً
وفق ح�سبتي للأيام ،ومل �أُق ّدم �إىل القا�ضي الذي كان �سيحكم
ت ك
ب
ب�إعدامي بالطبع ..مل �أكن �أعلم �أي جرمية �سيقولون �أنني ارتكبتُها،
ن ل ل
ش
لكن ما �أ�سهل ذلك الأمر يف چارتني ..لي�ستمر مرور الأيام و�أنا ماكثة
ر وا تول
بني ظالم اجلدران� ،إىل �أن مر �شهر �آخر ويوم غفران جديد دون �أن
علي حية كل هذا الوقت ُيفتح باب زنزانتي ..كنت على ثقة �أن الإبقاء ّ
زيع
يعني �أن كيوان مل يعرث على �سبيل ويخ�شى ح ًقا �أن تقوم ب�إيقاظ �أرواح
ال�ضواري داخل الن�ساىل ..وفكرتُ يف �أنه ي�ستخدم حب�سي ك�أداة �ضغط
على الفتاة من �أجل �أن تظهر من جديد � ..أو رمبا تركني لأكون ورقته
الرابحة �إن ثارت روح �آدم ..ورمبا تركني لأفقد �أع�صابي بني تلك
اجلدران املظلمة ف�أُعلن له هزميتي وانهياري و�أخربه مبكان الفتاة ..
فكرتُ يف ذلك الأمر بعدما مر يوم الغفران الثالث دون �أن يظهر يل
خ�شيت ح ًقا �أن ينجح فيما ينوي فعله
ُ �شخ�ص واحد �أحتدث �إليه ..
جتاهي بعدما ا�ضطرب نومي للغاية والزمني الأرق لأيام متتالية دون
حلظة نوم واحدة من كرثة التفكري ،حتى وجدتُ نف�سي �أ�صرخ �إىل
احلار�س ب�أ�سئلتي من جديد ..قبل �أن �أ�صرخ �إىل الفراغ ب�أعلى �صوت؛
250
« ناردين ..ريان ..فا�ضل ..ندمي � ..سبيل .»..قبل �أن �أ�سقط �إىل
الأر�ض و�أوا�صل نداءاتي ب�أ�سمائهم ب�صوت �ضعيف متعب ..
توقفت عن عد الأيام ،ثم مرت �أيام
ُ بعد �أيام من ال�شهر الثالث
�أخرى قبل �أن �أ�سمع و�أنا نائمة على الأر�ض من الوهن الذي �أ�صاب
ج�سدي وق َع �أقدام تقرتب من باب زنزانتي ..مل �أنه�ض عن نومتي
عندما ُفتح باب زنزانتي ظ ًنا مني �أنها هالو�س يتخيلها عقلي� ،إىل �أن
نه�ضت
ُ متقدما بخطوات عن م�ساعديه ..
ً
ر دا
وجدتُ كيوان يظهر �أمامي
وجل�ست �أنظر يف عني كيوان الذي �أمر احلار�س ب�إغالق
ص
ُ
ع عن نومتي،
ري
�أين اختفت الفتاة ال
الباب من خلفه ،ثم هبط على ركبته �أمامي وقال:
ك
أكملت حتديقي به دون �أن �أقولت�شي ًئ
وطفلها؟
با ك�أن غيام ًة غطت عقلي ..
شإىل ما قاله ،فقلت: ل ل
يل ب�س�ؤاله مرة ثانية ،ن ُ
� ُ
ر
فتنبهت � قبل �أن ي�صرخ �إ ّ
ال �أعرف ..لو �أكرمتموها مرة واحدة بينكم وملاالتفعلت ذلك.
وز عي قال:
�أين بقية متثال الن�سلي؟
هززتُ ر�أ�سي نافي ًة بجفون �شبه مت�ساقطة دون �أن �أنطق ..فقال:
�سينقذونك؟� ..إنهم هناك يرق�صون يف حاناتهم
ِ �أتظنني �أنهم
فيك ..
ال يفكر �أحدهم ِ
نظرتُ �إىل م�شبك الرامي الف�ضي املُع ّلق ب�صدر �سرتته ،فتابع:
251
أعدك ب�أنني �س�أحمو كل ما يتعلق
عمرك بينهم ،و� ِِ أ�ضعت
لقد � ِ
يذكرك
ِ بك يف جويدا ..لن
بك هناك مثلما حم ّوتُ كل ما يتعلق ِ
ِ
�أحد بعد موتك.
و�أ�ضاف بنربة حادة:
�سينتهي �أخي من ت�صنيع قذائفه قري ًبا � ..س�أقتل كل البالغني
دا
بينهم � ..س�أقتل �أطفالهم ..لن �أترك �أحدً ا ينجو هذه املرة.
ع ر
ابت�سمت وقلت:
ُ
ريص
ال
�أترى ما املمتع يف هذا الأمر؟ � ..أنني �أ�ش ُّم رائحة خوفك.
زيع
لينقذوك من بني يدي ..
ِ
وق ّبل �أطراف �إ�صبعيه ال�سبابة والو�سطى ثم الم�س بهما منت�صف
جبهتي ،وقال بربود بالغ:
إليك ك ُقبلة ..
�س�أر�سل طلقتي النارية � ِ
ب�صوت غا�ضب كي يفتح الباب، ٍ ال�سجان
بعدها وقف ونادى على ّ
يل مرة �أخرى ُقبيل مغادرته وي�س�ألني ك�أنه تذكر �شي ًئا:
قبل �أن يلتفت �إ ّ
أنك تعلمني �أمر ذلك الكهف قبل �ستة �أعوام ..
قال العجوز ب� ِ
بك كل
ملاذا مل تفعليها وتقتلي الطفل هناك لتنتقمي مما فعلته ِ
252
هذه ال�سنوات؟
قلت:
لأنني ل�ست مثلك.
فنه�ضت
ُ �أوم�أ بر�أ�سه دون �أن يقول �شي ًئا ،ثم غادر جتاه م�ساعديه،
لأقف و�أنظر �إىل الفتى الذي ال يرتدي ثياب الأمن بينهم والذي كان
دا
ينظر نحوي هو الآخر ..قبل �أن ُيغلق الباب ويح ّل الظالم جمددًا ..
ر
ع
ومتتمت �إىل
ُ أغم�ضت عيني
ُ فجل�ست و�أ�سندتُ ظهري �إىل احلائط ،و�
ُ
ري ص
نف�سي هام�س ًة حني وجدتُ �أنفا�سي تت�سارع خو ًفا:
ال تخايف �أيتها ال
ومن�صتها فح�سب ..الك
�صديقتك القدمية
ِ الفتاة � ..ستعودين �إىل
يخذلتالأ�صدقاء بع�ضهم �أبدً ا.
ن ل بل
ر bش
وال وت �
زيع
253
()19
زهير
ر دا
صع
ري
ت�سمرت قدماي وجتمدالالدم يف عروقي عندما
كب�إبادة الن�ساىل و�أن هناك قذائف
�سمعت والدي
ُ
b
موكب �صغري ..
ٍ يف �صباح اليوم التايل رحلنا عن بريحا يف
أخوي يف عربة واحدة فيما ركب �أبي مع عمي كنت مع �أمي و� ّ
يف عرب ٍة �أخرى كانت ت�سري �أمامنا ،ورافق طريقنا عد ٌد من
الفر�سان انق�سموا �إىل جمموعتني �إحداهما ت�سبقنا و�أخرى تتبعنا.
ظ ّل ال�شرود منطب ًعا على وجه �أمي طوال الطريق ومل حترك عينها عن
الفراغ املمتد خارج نافذة العربة ،وبينما ان�شغل �أخواي ب�أحاديثهما
255
جل�ست �أراقب تعبريات وجهها و�أنا �أحاول الإم�ساك بل�ساين
ُ التافهة ..
بكل طاقتي بعدما كادت الكلمات تقفز منه لال�ستف�سار ع ّما �إن كان
�أبي قد ح ّدثها عن ال�سبب الذي ينوي عمي من �أجله �إبادة الن�ساىل
و�إن كان يعني بالإبادة معناها احلريف � ..أن ُيقتل جميع الن�ساىل؟
..و�أن ت�صري چارتني بال ن�ساىل للمرة الأوىل يف التاريخ ،ووددتُ لو
وانتقلت �إىل عربة عمي و�أبي ،كنت مت�أكدً ا �أنهما
ُ تركت تلك العربة
ُ
دا
وحدثت نف�سي
ُ �سيتحدثان بخ�صو�ص ذلك الأمر طوال الطريق ..
ر
ً
لقد كربتُع مبا
مغتاظا:
ص يكفي و�أ�ستطيع امل�شاركة يف املناق�شات الهامة
و�إبداء ر�أيي ..ري ال
ت ثم تذكرتُ �صوت �أبي وهوك
فحدثت نف�سي م�ستثا ًرا :ب ل
يتحدث عن القذائف التي �سي�ص ّنعها ..
ن ل
�ألف قذيفة مدفعية؟! � ..إن القذيفةش
ُ
ا و
إننيلتملحظوظ ح ًقا �أن
الواحدة ت�ستطيع تدمري ر
و
�أعي�ش هذه اللحظات يف تاريخ بالدي ..زيع
ن�صف بريحا مبا فيها من بيوت وب�شر � ..
دا
ال�شائعات تنت�شر �إىل حد كبري جدً ا خا�ص ًة ال�شائعة التي �سرت بعد
ع ر
اختفاء الن�سلية التي �صارت �شريفة وطفلها ال�شريف �صاحب ال�ستة
ص
�أعوام ب�أن الن�ساىل هم َمن اختطفوها ،و�أن ذلك اال�ستنفار جاء من
ال ري
�أجل �إعادة الطفل و�أمه ،و�أن هناك �إعدامات باجلملة �ستحدث قري ًبا
ت ك
جلرم ،مل �أنطق لأحديف �أيام الغفران القادمة عقا ًبا لهم على ذلك ا ُ
ش ن
بيتي ت�شتعل ر�أ�سي ب�أ�سئلتها التي كانت تتزايد كل يوم عن اليوم الذي
ر وا تول
ألت �أمي ب�صوت خفي�ض عندما وجدتها جتل�س مبفردها: ي�سبقه ،ثم �س� ُ
زيع
هل �سيبيد عمي الن�ساىل ح ًقا؟!
نظرت نحوي متفاجئة من �س�ؤايل ،وبحاجبني معقودين �س�ألتني
يف ارتباك:
من قال لك هذا؟
قلت بخجل:
ُ
إليك ليلة رحيلنا عن بريحا ،و�أنا يف طريقي
�سمعت �أبي يتحدث � ِ
ُ
�إىل دورة املياه ..
�سكتت للحظة ثم قالت بوجه جامد:
257
ال �أعرف �شي ًئا عن هذا الأمر � ..إنني ال �أتدخل يف عمل �أبيك،
كما يجب �أن تفعل ذلك � ً
أي�ضا ..
و�أ�ضافت حمذرة:
ال تخرب �أباك �أنك قد �سمعت �شي ًئا ال يخ�صك حتى ال يغ�ضب
منك ويعاقبك ..و�أنا لن �أخربه مبا قلته.
دا
قلت:
ُ
ع ر
�إنني �أريد معرفة احلقيقة فح�سب ..مل �أعد �صغ ًريا يا �أمي.
ريص
ال
قالت:
ت ك
ال يتعلق الأمر بكونك �صغ ًريا �أو كب ًريا يا زهري � ..إن �أباك وعمك
ر وا تول قلت:
ُ
زيع
الأمر حقيقي � ًإذا يا �أمي ..
وتابعت:
ُ
�إننا ال نرى �أبي منذ جئنا هنا �إال كل ب�ضعة �أيام مرة.
احم ّر وجهها وقالت:
�سيفعل �أبوك ما ير�ضي �ضمريه على كل حال ..
كان القلق البادي على وجهها يظهر �أن ثمة نقا�ش طويل دار بينهما
ب�ش�أن هذا الأمر انتهى بعدم ر�ضائها ع ّما �سيحدث �أو اقتناعها على
الأدق� ،إال �أنها ان�صاعت بالنهاية لر�ؤيته.
258
ألت معلم التاريخ يف مدر�ستي اجلديدة ع ّما �إن
يف الأيام التالية �س� ُ
كان �صادف ر�سم ًة مثل ر�سمتي التي ر�سمتُها من جديد للن�سلي ال�ضخم
املك ّبل ،ف�أخربين �أنه مل ي َر مثلها من قبل ،كذلك نفى يل كبري مكتبة
جويدا الكربى �أن يحتوي �أي كتاب من كتب املكتبة املُقدرة بالآالف
على �أي ر�سمة م�شابهة ،لكنه �أعطاين وعدً ا مبزيد من البحث عندما
كذبت بها على ال�سيد �شقري يف بريحا ،و�أخربته �أن
كررتُ كذبتي التي ُ
دا
عمي يهتم ب�شخ�صه بذلك الأمر.
حاولت التقرب من عمي ،وادع ّي ُت كذ ًبا
ُ
ع ر
يف ال�شهر الثاين يل هناك
ريص
ال
لت ر�أيي ب�ش�أن م�ستقبلي و�أنني �أرغب يف االلتحاق مبدر�سة
�أنني قد ع ّد ُ
الأمن العليا بعد انتهائي من ال�سنة الباقية يل من املدر�سة املتو�سطة
ت ك
..فرحب بذلك بكل �سعادة ،وجعلني �أرافقه يف جوالته يف جويدا بدون
ري ص
اللحاق بهما �أخربين ب�أن �أنتظره �إىل �أن يعود.
عدتُ �إىل غرفته مرة ا�لأخرى و�أغلقت ُالباب من خلفي يف انتظاره،
كمنت رحيله مع باقي الفر�سان ،ت�أكدتُ
ب لالغرفة ،قبل �أن �أفتّ�ش
أننت عرب النافذة
وبعدما اطم� ُ
بخوف
ٍ
ش ل
�شديد بني الأوراق القابعة على مكتبه عنن
من ان�شغال اجلندي املتواجد خارج
و
املخطوطة التي ر�أيتُها من
ل ا بحث �سريع مل �أعرث عليها ..لكنر
ت
بع�ض الأوراق ال�صفراء القدمية املكتوبة بخط و
انتباهي قد ُجذب �إىل قبل ،وبعد ٍ
ي ز
در�سا يف ع
يدوي رديء باللغة
املدر�سة .. الچارتينية القدمية التي �سبق و�أن در�سنا عنها ً
مل �أ�ستطع فهم ما ُكتب يف تلك الأوراق ،واحلقيقة �أنني مل �أكن لأنتبه
�إليها لوال تلك الدوائر التي ُر�سمت بقلم ر�صا�ص على ظهر �إحداها
..وبداخل كل دائرة ُكتب بخط عمي الذي �أعرفه ا�س ٌم من الأ�سماء
الأربعة ..غفران ..الطبيب ُ ..خ�شيب � ..سبيل ..ويف �أ�سفل ظهر
الورقة ُر�سمت دائرة �أكرث ظهو ًرا وبداخلها ُر�سمت عالمتي ا�ستفهام،
و ُكتب« :ال يحمل و�ش ًما» ..وكان هناك �سه ٌم مر�سوم ي�صل بني هذه
الدائرة والدائرة التي ُكتبت فيها غفران ..لفتت هذه الدوائر
انتباهي خا�ص ًة مع وجود ا�سمني م�ألوفني يل هما ُخ�شيب و�سبيل،
260
�أعرف �أن ُخ�شيب هو ا�سم العائلة التي تنتمي �إليها خالتي �سريين
خالة �آدم ،و�سبيل جميع �أهل جويدا يعرفون �أنها الفتاة الن�سلية التي
�صارت �شريفة وانت�شرت ال�شائعات باختطافها من ِقبل الن�ساىل ..
و�شعرتُ وقتها �أن تلك الأوراق تت�صل ب�شكل �أو ب�آخر باملخطوطة التي
ميتلكها عمي وكذلك باحلديث الذي حتدث به �أبي �إىل �أمي ..ورمبا
بحالة اال�ستنفار الغريبة التي ت�شهدها جويدا ،فوجدتُ نف�سي �أنتزع
دا
بقلم ر�صا�ص،
أم�سكت ٍ
ورقة بي�ضاء من �أحد الدفاتر على الطاولة ،و� ُ
قمت بن�سخ �سطور الورقة التي ُر�سمت على ظهرها
ع ر
وب�سرعة كبرية ُ
ص
متاما ملا ُكتب بها دون �أن �أفهم ما تعنيه،
الدوائر بحروف م�شابهة ً
ال ري
وحدثت نف�سي و�أنا �أراقب زجاج باب الغرفة املُغلق خ�شية �أن يدلف
ُ
ت ك
اجلندي �إىل الغرفة فج�أة:
ي ز
بقلب م�ضطرب عمت�سارع
ترتيب كل �شيء ثم � ُ
كما كان على �سطح الطاولة ،قبل �أن �أعود ٍ
مقعد قريب من الباب� ،إىل �أن هد�أ توتري النب�ضات و�أجل�س على ٍ
وخرجت ،و�أخربتُ من يجل�س باخلارج �أنني �س�أعود �إىل بيتي
ُ فنه�ضت
ُ
من �أجل ا�ستذكار درو�سي بعد ت�أخر عمي.
b
مل يعد عمي ذلك اليوم �إىل البيت وكذلك �أبي ،ثم كان
احلديث كله باليوم التايل باملدر�سة عن اعتقال من ُت�سمى
غفران الن�سلية التي عملت يف يوم من الأيام رام ًيا للمن�صة،
261
وهناك من ا ّدعى �أنها كانت ُمعتقلة ب�سجن جويدا قبل ثالثة
�أ�شهر دون �أن يعرف الكثريون بذلك� ،أما �أنا فان�شغل بايل
با�سمها الذي كان بني الأ�سماء الأربعة املكتوبة على �أوراق عمي ..
وعزمت على الإ�سراع برتجمة ما ن�سختُه من كلمات لعلها تك�شف يل ُ
ون�سخت
ُ بع�ضا مما يخفى عن اجلميع ،فعدتُ �إىل البيت ذلك اليوم ً
الكلمات املكتوبة يف الورقة التي ن�سختها �إىل ع�شرة �أوراق �صغرية،
دا
كتبت يف كل ورقة ثالثة �أ�سطر منها فقط ،ثم �أعدتُ ترتيب الكلمات ُ
ع ر
برتتيب �أعرفه بعد خويف ال�شديد مما �إن كانت حتتوي على �أ�سرار
ص
وذهبت بكل يوم من الأيام التالية
ُ هامة ال يريد عمي لأحد �أن يعرفها،
ال ري
بورقة منها �إىل معلم عندي كان خب ًريا بالچارتينية القدمية من
ك
�أجل تو�ضيح ما تعنيه الكلمات بلغتنا ،قبل �أن �أعود �إىل البيت و�أُعيد
ب ت
ل ل
ترتيب الكلمات �إىل الرتتيب القدمي �أثناء نوم �أخي� ،إىل �أن انتهيت
ش ن
من �آخر املقاطع فوجدتُ �أن الورقة التي ن�سختها تتحدث عن دماءٍ
ر وا تول
تروي متثال الن�سلي الزائر املنحوت من �صخور حوران فتثور معها
�أرواح ال�ضواري ،فا�ستعادت ذاكرتي هيئة الن�سلي املُقيد املر�سوم يف
زيع
فعل، خمطوطة عمي ووجهه الزائر ،كان مثل احليوانات ال�ضارية ً
فوجدتُ وجهي يزداد احمرا ًرا وقلبي يدق خو ًفا مما قر�أ ُته ،وتزايدت
يف حلظة م�شاعر الكره بداخلي جتاه الن�ساىل املجرمني بعدما تخ ّيل
عقلي حتولهم جمي ًعا �إىل ما ي�شبه الن�سلي الذي ر�أيت �صورته ليخرجوا
عن طوع القواعد التي حتكمنا وتر�سي ا�ستقرار بالدنا بعدما يقتلون
الكثريين منا دون رحمة ،ثم قمت بتمزيق الورقة التي ن�سختها على
الفور عندما تق ّلب �أخي يف �سريره ،و�أنا �أزداد �إعجا ًبا بعمي الذي لطاملا
�أراد لچارتني و�أهلها كل الأمان ،ويف الأيام التالية �أكرثتُ من مرافقتي
له .جاءين رجل من بريحا يخربين بر�سال ٍة من �آدم عن عدم عثور
أر�سلت �شكري �إىل �صديقي
ال�سيد �شقري على �شيء يخ�ص ر�سمتي ،ف� ُ
262
علي
ومعلمي مع ذلك الرجل الذي مل �أحتدث معه كث ًريا بعدما كان ّ
اللحاق بعمي الذي كان يف طريقه �إىل �سجن جويدا ..وخا�ص ًة �أن
عمي فاج�أين بعدم رف�ضه مرافقتي له ذلك اليوم ..
كانت املرة الأوىل التي �أزور فيها ذلك ال�سجن ،وكذلك كانت املرة
الأوىل التي �أرى فيها الن�سلية غفران ،ر�أ ُيتها عندما فتح ال�سجان باب
دا
زنزانتها ،كانت امر�أة قد تبلغ الأربعني من عمرها ،تتناثر خ�صالت
ر
كثرية من ال�شعر الأبي�ض بني �شعرها البني ،وكان التعب والهزال
ص ع
باد ًيا للغاية على وجهها عندما نه�ضت من نومتها والتفتت �إلينا حني
ال ري
توقفنا جمي ًعا يف الرواق املمتد �أمام الزنازين بينما تق ّدم عمي نحوها
ت ك
مبفرده و�أغلق الزنزانة من خلفه ،فلم نعرف ع ّما حتدث به �إليها ،قبل
ل ب
�أن يخرج �إلينا بعد دقائق حمتقن الوجه من الغ�ضب فيما كانت تنظر
263
يف ذلك امل�ساء ح�ضر �أبي �إىل مكتب عمي وحتدثا منفردين بينما
جل�ست خارج الغرفة بني م�ساعديه يف انتظار انتهاء حديثهما ،ثم ّ
دق ُ
�سمعت �صوت �أبي يرتفع ك�أنه اعرت�ض على �شيء قاله عمي،
ُ قلبي حني
خارجا دون �أن يلتفت �إ ّ
يل قبل �أن يخرج �إلينا حمتقن الوجه ويهرول ً
حتى ،وك�أن نقا�شهما �أغ�ضبه للغاية.
ألت �أمي �إن كان �أبي قد عاد فنفت عندما عدت �إىل البيت �س� ُ
ر دا
ذلك ،ف�أخرب ُتها مبا حدث قبلها ب�ساعات بني �أبي وعمي ،قبل �أن جند
أخوي ،كان االرتباك والت�شتت باديني للغاية على
ع
�أبي يعود بعد نوم � ّ
ص
ال ري
وجهه ،فدخل �إىل غرفته مبا�شرة وتبعته �أمي ،مل �أكن لأف ّوت فر�صة
التل�ص�ص على حديثهما هذه املرة � ..س�ألته �أمي عن �سر حزنه البادي
ت ك
على وجهه ،وعندما �أنكر كونه حزي ًنا �أخربته �أمي ب�أنني حدثتها ع ّما
نبل ل
حدث بينه وبني �أخيه ذلك امل�ساء ،فقال �أبي بعد فرتة من ال�صمت:
ي ّود كيوان �إقناع من حوله ب�أن تقدميشرامية املن�صة الن�سلية �إىل
لل�ضغط ..على الفتاة رمن �وا تول
أجل الظهور جمددًا املن�صة خري و�سيلة
ز عي �إن كانت ت ّود بقاءها حية
قالت �أمي:
�إن هذا �أمر جيد ..
قال �أبي:
�صحيحا ،لكن يف الوقت ذاته قد يدفع الفتاة �إىل
ً قد يكون
قتل طفلها لإيقاظ �أرواح الن�ساىل ح�سب ما قر�أنا على جدران
الكهف ..
وتابع:
264
لقد قرر �إر�سال املدافع ملحا�صرة وديان الن�ساىل من الغد لكنه
لن ي�أمر ب�إطالق القذائف �إال بعد �إعدام الرامية ..
وتغيت نربته عندما قال:
ّ
�إن املتهور ي�ص ّر على ال�سماح للع�شرات من ذكور الن�ساىل
بح�ضور يوم الغفران القادم مع �أهل جويدا الأ�شراف الذين ال
دا
يعرفون �شي ًئا عن الأمر ..
ع ر
قالت �أمي بلهجة متعجبة:
ريص
ال
ملاذا يريد ذلك؟! ..ماذا �إن فعلتها الفتاة ً
فعل وكان بني
ك
أرواحا تثور لتقتل من حولها من
احلا�ضرين ن�ساىل يحملون � ً
ر وا تول
هذا ما يريده كيوان � ..أن يرى الأ�شراف ب�أنف�سهم ما �ستفعله
زيع
تلك الأرواح بهم ..ال يهمه �أن ميوت فرد �أو اثنان �أو ع�شرة من
الأ�شراف بقدر ما يريد �أن يرى يف �أعينهم و�أعني كبري ق�ضاة
چارتني اخلوف الذي يربر له ما �سيفعله بجموع الن�ساىل بعد
حلظات من �إعدام الرامية ..
ف�س�ألته �أمي حينها بلهجة خائفة:
هل ت�ستطيع قذائفك ً
فعل الق�ضاء عليهم وحمايتنا منهم �إن
ثارت �أرواحهم؟ ..
قال �أبي:
265
نعم ..
لكنه تابع بعد حلظات بلهجة مرتددة:
�إال يف حالة وحيدة ..
�
b
ر دا
ص ع
ال ري
ت ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
زيع
266
()20
سيرين
ر دا
ص ع
ري
�س� ُألت �أختي يف تعجب :ال
ت ك
ن ل ل ب
�أي �شيء ي�ستطيع به �أبونا مقاي�ضة �سادة چارتني لتربئته من
ش
ر وا تول
اجتياز القاعدة الأوىل؟
قالت:
زيع
ال �أعرف ..قال قريبنا ب�أن تربئته من جرميته قد يتم الإعالن
عنها يوم الغفران القادم ..على �أن يذهب �إىل وادي حوران
بعدها ..وعلى الأغلب �سيتم �إعالن �إنهاء اخت�صام الأرواح
لأجنتنا يومها � ً
أي�ضا ..
وقلت:
�ضحكت �ساخرةُ ،
ُ
وماذا �سيفيد ذلك ،لقد عربنا الأربعني ،و�أو�شك �سن الإجناب
لدينا على االنتهاء ..
ف�سكتت للحظة ،ثم قالت بنربة هادئة:
267
قال الرجل � ً
أي�ضا �أنه ت ّو�سل �إليه حتى البكاء كي يبلغنا برغبته
إليك.
جئت � ِ
ال�شديدة يف ر�ؤيتنا قبل رحيله �إىل حوران ،لذا ُ
و�أ�ضافت:
رمبا �أراد ذلك ليطلب منا م�ساحمته ع ّما تكبدناه من عناءٍ
ب�سبب فعلته ..
ا�ضطربت امل�شاعر بداخلي ،مل �أكن على ا�ستعداد لكل هذه
ر دا
ع
الأحداث فج�أة يف هذا الوقت القليل ،فلذتُ ب�صمتي ،وبد�أتُ �أنقر
ريص
ب�إ�صبعي على الطاولة �أمامي بينما كانت �أختي تنظر نحوي يف انتظار
ال
�صمت طويل هززتُ �إليها ر�أ�سي موافق ًة ،قبل �أن �أقول
�إجابتي ..وبعد ٍ
ت ك بغيظ:
ر دا
حتياته �إليه ،فوعد ُته بذلك.
b
ص ع
ال ري
ذهبت �إىل جويدا برفقة �أختي ،كانت امل�شاعر ال تزال م�ضطربة ُ
ت ك
بداخلي �إىل حد كبري ي�سودها لو ٌم كبري لنف�سي على موافقتي بالذهاب
زيع
من العودة ودفعني لإكمال طريقي �إىل املدينة التي حتمل يل كث ًريا
من الذكريات ال�سيئة� ،إىل �أن و�صلناها مع �شروق �شم�س اليوم التايل،
بيت ا�ست�أجرناه لن�سرتيح من وعثاء ال�سفر ..
واجتهنا �إىل ٍ
يف م�ساء ذلك اليوم ذهبنا �إىل دار الأمن التي يقيم فيها �أبي ..
كانت ال�شوارع كما قال الرجل الذي حمل ر�سالتنا �إىل زهري مزدحم ًة
باجلنود ً
فعل ،كذلك كانت املرة الأوىل التي �أرى فيها املدافع الطويلة
العنق التي يج ّر الواحد منها �أربعة �أزواج من البغال ،كانت تتحرك
تعجبت
ُ بثقلها ال�شديد للخروج من املدينة جتاه �أطرافها اجلنوبية ..
�أن يكون �إعدام الرامية غفران قد ي�سبب كل هذا اال�ضطراب ..لكنني
يل ال�ساعات القليلةعدت وان�شغلت با�ضطرابي �أنا وما قد حتمله �إ ّ
269
القادمة من تغيري للم�صري ،ومل يوقظني من �أفكاري �إال اجلندي
الواقف �أمام بوابة دار الأمن عندما منعنا من جتاوز البوابة ً
متعلل
ب�أنه تلقى �أم ًرا بعدم ال�سماح بزيارة العجوز ُخ�شيب �إال ب� ٍ
إذن ُم�سبق
من الفار�س كيوان ب�شخ�صه ،وعندما مل ي�شفع لنا تو�سلنا �إليه ب�أننا لن
نق�ضي مع �أبينا �إال دقائق عدنا �أدراجنا �إىل بيت �إقامتنا يف خيبة �أمل.
مل �أ�ص ّدق �أن ذلك الإذن للقاء �أبي �سي�ستغرق ثالثة �أيام كاملة،
ر دا
ق�ضيتُها جمي ًعا يف التفكري يف كوابي�س �آدم التي بد�أت تفا�صيلها تت�ضح
ع
�أكرث و�أكرث مع و�صوله �سن البلوغ ،وما قد يراه من تفا�صيل جديدة بهذه
ص
ال ري
أوقفت جرعات الأع�شاب املنومة من �أجل املجيء �إىلالليايل بعدما � ُ
ومتنيت نادمة لو عاد بي الزمن هذه الأيام لأرف�ض مرافقة ُ جويدا،
ت ك
�أختي و�أظل بجانبه حتى عبور اليوم الذي ُتعدم فيه الرامية ،ولوال �أن
ر دا
اللعنة على الطمع يا �أبي ..يكفي �أن يوقفك الفار�س كيوان
ع
ح ًقا �أمام �أهل چارتني بهيئتك هذه ليتعظ من يف ّكر ب�أن يحذو
ص
ري
ظل ال�صمت قائ ًما بني ال
حذوك ..
ت ك
ثالثتنا لدقائق قبل �أن تنطق �أختي:
ل ب
فاقرتبت لن
لقد كربت �سريين يا �أبي ..
ر ش
يدي بيده املرتع�شة ،ثم قال ب�صوت متعب :وال وت
بخطوات متثاقلة حتى � َ
أم�سك ُ مد يده �إلينا كي نقرتب منه
زيعحقكما،
علي ترككما تعانيان ..لقد ك ّفرتُ عن ذنبي يف مل يكن ّ
�سيعلن الفار�س كيوان �إعفاء ن�سلي من جرميتي غدً ا قبل �إعدام
الرامية ..لقد وعدين بذلك ،كما وعدين ب�إعالن براءتكما
�أمام �أهل چارتني جميعهم ..
بوجه جامد:
قلت ٍُ
ماذا ق ّدمت يا �أبي من �أجل �إعفائك من جرميتك؟
قال:
271
�ستعرفان كل �شيء قري ًبا ..لكني �أريدكما �أن تبحرا على �أوىل
ال�سفن املغادرة چارتني ..
تعجبت من قوله ،وكذلك �أختي التي �س�ألته با�ستغراب:
ُ
ُنبحر؟! ..ملاذا �إن كان حقنا يف والدة �أطفال �أحياء قد عاد
�إلينا؟!
دا
نظر نحو الباب بعينني متثاقلتُني ك�أنه مل يرد �أن ي�سمعنا �أحد،
ر
ع
وقال:
ريص
ال
وقت لل�شرح ..وال حاجة
ال بد لكما �أن ترحال ..لي�س هناك ٌ
ك
حل�ضوركما يوم الغفران غدً ا � ..ستُعلن براءتكما و�إن مل
ر وا تول
لقد ت�سببت يف عي�شنا غريبتني يف بلدنا لأكرث من ن�صف
زيع
عمرنا ..واليوم حني ن�سرتد �شرفنا الناق�ص تريدنا �أن نرتك
چارتني؟!
قال ب�صوت خفي�ض:
َمن لن يرتك چارتني يف ال�ساعات القليلة القادمة �سيندم �أ�شد
الندم ..
�س�ألتُه ب�إ�صرار:
ماذا هناك يا �أبي؟!
قال:
272
حرب �شعواء �ستقوم بني الأ�شراف والن�ساىل �ستخ ّلف
هناك ٌ
وراءها ع�شرات الآالف من القتلى ..
قالت �أختي �ساخرة:
الن�ساىل؟! � ..أمل ت َر الأ�سلحة التي ميتلكها جنودنا؟!
قال �أبي م�ص ًرا:
ر دا
ع
عليكم �أن ت�ستمعوا �إىل ما �أقوله � ..إن الأيام القادمة �ستكون
ص
�صعب ًة للغاية على اجلميع ..
ري
ال قلت:
ُ
ت هذا من �أجل الرامية؟!ك
ن ل ل ب
ش
ر وا تول
قال:
الرامية �أحد �أ�سبابها ..لكن هناك كث ًريا من التفا�صيل كنت
زيع
�أنا رك ًنا �أ�سا�س ًيا فيها ..لي�س هناك جما ٌل لقولها ..اذهبا �إىل
املرف�أ اجلنوبي ،واركبا �أوىل ال�سفن املغادرة �إىل �أي بلد �آخر ..
قالت �أختي:
ال تقلق يا �أبي � ..إن التطور الذي حدث لأ�سلحة بالدنا يف
�شغب يقوم به الن�ساىل
ال�سنوات التي ق�ضيتها بعيدً ا �سيخمد �أي ٍ
يف غ�ضون دقائق ..
قال �أبي:
273
لن يكون اجلانب الآخر الن�ساىل الذين تريهم يف الباحة ..
نوع �آخر � ..سريبك زئريهم قلوب حاملي �إنهم ن�ساىل من ٍ
الأ�سلحة ..
جر�سا عمال ًقا بجوار �صوانها،
ر ّنت كلمة زئريهم يف �أذين ك َمن دق ً
ف�س�ألتُه على الفور يف توج�س:
دا
زئري َمن؟
ع ر
قال ب�صوته املتعب:
دا
�إن عرف حقيقة ما يحمل بداخله �أن ي�ستنفر الباقني ..لكنهم
ع ر
لن يكونوا بقوتهم الكاملة �إن مل تفعلها الفتاة ..
ريص
ال
كهف قدمي ُكتبت فيه كل هذه احلقائق باللغة لقد عرثتُ على ٍ
ك
أوراق �سلمتُها �إىل الفار�س
الچارتينية القدمية ،ونق�شتُها على � ٍ
ب ت
كيوان مقابل �أن يعفيني من جرميتي بعبوري عامي اخلم�سني،
ن ل ل
قبل �أن �أد ّله على مكان الكهف� ،سي�شرع كيوان يف �إبادة الن�ساىل
ش
ر وا تول
عن بكرة �أبيهم ،لكن الأمر لن يكون بال�سهولة التي يتخيلها
�أبدً ا �إن فعلتها الفتاة ..
ر دا
�إن كان هذا الفتى على قيد احلياة ..لن ترتك روحه الرامية
ص ع
متوت � ..ستثور روحه من �أجلها ..
ال ري
تذكرت التطور الكبري الذي حدث يف كوابي�س �آدم بعد �أن حدثنا
ت ك
الرجل الذي جاء من جويدا عن حتديد موعد �إعدام الرامية ..
دا
باملمر الطويل بالطابق ال�سفلي بدار الأمن �إىل اخلارج ،كان اجلميع
ع ر
ينده�شون من رك�ضي يف �شوارع جويدا ب�سرعتي الق�صوى لكني مل
ص
�أعب�أ ب�أي �شيء من حويل ،حتى و�صلت �إىل البيت الذي كنا نقيم
ال ري
فيه وهناك قفزتُ على �صهوة جوادي ،وقبل �أن �ألكزه بقدمي وجدتُ
ت ك
�أختي التي حلقت بي وبدا �أنها كانت ترك�ض هي الأخرى مت�سك جلام
ش ن
ر وا تول
�إىل �أي تذهبني؟!
قلت:
ُ
زيع �إىل بريحا.
قالت م�ستنكرة :
ملاذا تعودين �إىل هناك ؟! � ..ستو ّفر لنا چارتني منحة ذهاب
أزواجا بعد �أن يعلن
�أبينا �إىل وادي حوران � ..سنجد لنا � ً
القا�ضي غدً ا تربءتنا � ..ست�ستطيعني تكوين عائلة هنا مثلما
كنت حتلمني طوال عمرك. ِ
قلت و�أنا �ألكز ح�صاين:
ُ
�إن عائلتي هناك ..
277
ثم لكزتُ ح�صاين بقدمي لريك�ض بي يف اجتاه ال�شمال ..كانت
أدركت �أنني لن �أ�صل
ال�شم�س تقرتب من الغروب يف ذلك التوقيت ف� ُ
�إىل بريحا قبل ع�صر اليوم التايل -يوم الغفران � -إن �سرتُ بال�سرعة
ف�صرخت �إىل ح�صاين كي ي�سرع ..و�أنا �أمتتم داخل نف�سي:
ُ املعتادة،
لو نطق زهري بكلمة واحدة عن �آدم �إىل عمه �أو حدثه عن
كوابي�سه التي كان يحكيها له �سري�سل جنوده �إليه ليقتلوه ولو
دا
مل ترث روحه ..
ع ر
ص
مع حلول الظالم �أبط�أ احل�صان من �سرعته رغ ًما عني لكني مل
ووا�صلت حثه على التقدم بعدما مل تتوقف
ُ
ال ري
�أتوقف ولو ملرة واحدة ،
التخيالت ال�سيئة التي افرت�ض عقلي حدوثها مع �شروق �شم�س النهار
ت ك
ب
فدلفت
ُ التايل عن العبث بي � ..إىل �أن و�صلت �أطراف قباال مع الفجر،
ن ل ل
�إىل �شوارعها ال�ساكنة من �أجل اتخاذ طريق جبلي يف �شرقها كان
ش
ر وا تول
�أكرث اخت�صا ًرا �إىل بريحا عن الطريق الرئي�سي الذي ي�ستخدمه
أوقفت ح�صاين
اجلميع ،لكنه يف الوقت ذاته كان �شديد االنحدار ،ف� ُ
زيع
وهبطت عنه حتى يكتمل �شروق ال�شم�س لتك�شف �أماميُ للمرة الأوىل،
منحدراته اخلطرة جتن ًبا ل�سقوط فر�سي املتعب يف �إحداها ،وبعدما
�أ�سقيته و�أطعمته من الأع�شاب التي تناثرت على جانب ذلك الطريق
كان �ضباب ال�صباح قد انق�شع ً
قليل و�أر�سلت ال�شم�س �أ�شعتها ليظهر
ووثبت �إىل ظهر
ُ الطريق �أمامنا جل ًيا ،فلم �أ�ضع مزيدً ا من الوقت
وهم�ست �إليه و�أنا �أحرك يدي برفق على عنقه:
ُ ح�صاين،
هيا يا �صديقي ..مل يعد �إال القليل ..
لريك�ض بي بني التالل يف اجتاه ال�شمال.
b 278
مع تقدمي كنت �أرفع عيني �إىل ال�سماء ملعرفة الوقت من مو�ضع
ال�شم�س فيها ..اخت�صر يل ذلك الطريق ب�ضع �ساعات ح ًقا ،لكن مع
جهلي مبا يحدث يف جويدا يف ذلك الوقت �أو مبا يحدث لآدم يف بريحا
كانت الدقيقة الواحدة مت�ضي ك�أنها عمر كامل� ،إىل �أن و�صلت بريحا
قبل منت�صف النهار بقليل يف �أمر كان �أ�شبه مبعجزة بالن�سبة يل ..
وهبطت عن ح�صاين ُ اجتهت �إىل ور�شة ال�سيد عبود مبا�شر ًة، ُ
ر دا
ورك�ضت �إىل الداخل ،من نظر ٍة واحدة �إىل مكان �آدم املعتاد بالور�شة
ُ
ألت ال�سيد عبود الذي ظهر يل
ص ع
مل �أجده ،فخفق قلبي م�ضطر ًبا ،و�س� ُ
ال ري
بثيابه املت�سخة بالركام الأ�سود:
دا
احلذر �إىل الداخل ،وناديتُه
فوا�صلت تقدمي ِ
ُ مل �أ�سمع �إجابته،
ر
من جديد و�أنا �أق ّلب بعيني بني كل جانب من جوانب الردهة ،حتى
دلفت عرب باب غرفته املفتوح لأجد
ص ع
كاد قلبي ي�سقط يف قدمي عندما ُ
بخدو�ش طولية عميقة ك�أن خمال ًبا حديدية
ٍ
ال
ً
ري
خمدو�شا �أحد جدرانها
ك
قد ُغر�ست فيه ..هنا
ت
توقفت مكاين بعدما �شعرتُ �أن قواي قد خارت
ُ
ل ب
ناديت
رع ًبا ..وبد�أ �صدري يتعاىل ويهبط ب�أنفا�س عميقة متباطئة ُ ..
و ر
بج�سد متجمد يف باقي الغرفالت
�آدم ..
دا
لو كنت �أكملت بالطريق ذاته لقابلته يف الطريق ..
ر
ص ع
تنبهت �إىل �أمر مل ينتبه له عقلي ،لقد حترك �إىل جويدا يف
ُ ثم
ال ري
الوقت الذي كنت فيه هناك تقري ًبا ..لقد ثارت روحه قبل �أن تفعلها
ك
الفتاة.
ت
ن ل bب ل
ش
ر وا تول
زيع
281
الفصل األخير
زهير
ر دا
ص ع
ري
حاولت �أمي التخفيف من الخماوف �أبي بعدما ح ّدثها عن احلالة
ت ك
ب
قذائفه من القيام مبهامها كاملة .. الوحيدة التي لن ت�ستطيع وقتها
كفي،
ل
طاولتي وا�ض ًعا ر�أ�سي بني ّل
يدق قلبي خو ًفا مما �سمعتُه ،ول�ساين يردد � نإىلشنف�سي ً
وجل�ست �إىل
ُ �أما �أنا فعدتُ �إىل غرفتي
يفيعبريحا.
أم�سكت
بقلمي ،وبد�أتُ �أد ّون ما �شهد ُته من �أحداث منذ زارنا عميز
البي�ضاء و� ُ ُ أ�شعلت م�صباح طاولتي ،و�
بعدها � ُ
دا
والذي مينع عمي اجلميع زيارته ذو �صلة قرابة بها ،ووددتُ لو كان
ع ر
هناك وقت ل�س�ؤالها عن �آدم ،لكن بقاء ن�صف يوم فقط على �أهم �أيام
ص
چارتني منعني من الوقوف لتبادل احلديث معها خ�شية �أن تفوتني �أي
ومتنيت �أن �أجد وقتًا
ُ
ال ري
تف�صيلة هامة قد يتحدث عنها عمي مل�ساعديه،
ت ك
�آخر بعد مرور يوم الغفران للجلو�س ولو لوقت قليل معها.
زيع
ال�شباك اللينة
والذين قد اختارهم بنف�سه ،لكن ما �أثار انتباهي هي ِ
التي حتدث عن �إخفائها �أ�سفل رمال اجلزء اجلنوب �شرقي للباحة،
والذي �س ُيجرب الن�ساىل على الوقوف به ،لتنت�شلهم جمي ًعا �إىل الأعلى
عن طريق الرافعات الأفقية القابلة لالنت�صاب يف حلظات ،والتي
ال�شباك مبهارة كبرية حتت �إ�شراف مهند�سي ُثبتت بها �أطراف ِ
جويدا ،حت�س ًبا لأي رد فعل مفاجئ لهم.
أدركت وقتها �أن �أبي قد �أ�ساء فهم عمي ب�أنه ينوي الت�ضحية ببع�ض
� ُ
�أ�شراف چارتني ،و�أن عمي قد �أع ّد احتياطاته جيدً ا من �أجل كبت �أي
عنف قد يحدث من �أولئك املجرمني ،ثم دخل �إلينا �أحد الفر�سان
و�أخرب عمي ب�أن املدافع طويلة العنق قد اتخذت �أماكنها لدك وديان
284
وقت واحد عندما ي�صدر الأمر بذلك ،ف�أثنى الن�ساىل الثمانية يف ٍ
عمي عليه ،قبل �أن يكمل حديثه عن الرتتيب الزمني لكل �أحداث
تعجبت حني قال ب�أن الفقرة التي �ست�سبق �إعدام الرامية
ُ املن�صة ..
�ستكون �إعالن قا�ضي املن�صة لرباءة ال�سيد ُخ�شيب من جتاوز القاعدة
الأوىل و�إعالن براءة ابنتيه �سريين وهجر من اجلرمية التي ارتكبها،
وقال بغري اكرتاث لأحد م�ساعديه:
ر وا تول
مرتددة عندما انتهى من للن�ساىل� ،س�أل �أحد الفر�سان عمي بلهجة
حديثه عن العجوز:
دا
..و�أكمل:
ع ر
�سيكون �إ�شعال ال�شعلة �أعلى �سجن جويدا �أم ًرا مبا�ش ًرا مني
ريص
ل ِبدء دك الوديان بالقذائف الثقيلة دون ر�أفة � ..أما من يقفون
ال
بالباحة ف�سيتم اعتقالهم وحملهم �إىل اجلنوب ليتوىل �أقرب
ت ك
املدافع �إىل جويدا �أمرهم بت�صويب ٍة مبا�شرة ..لن ُيقتل ن�سلي
زيع
�سيح ّل بعد غد على چارتني ليكون �أول �أيام هذا البلد بدون
الن�ساىل ..
احم ّر وجه الفار�س الذي �س�أل عمي وهز ر�أ�سه مواف ًقا دون �أن يقول
�شيء ،قبل �أن ي�أمرنا عمي باالن�صراف بعدما �أراد �أن يبقى مبفرده ..
b
نت ما دار بني ع ّمي ومعاونيه يف عندما عدت �إىل البيت د ّو ُ
�أوراقي ،قبل �أن �أذهب �إىل فرا�شي و�أغط يف نومي ا�ستعدادًا لذلك
فوجئت يف ال�صباح ب�أمي متنعني �أنا و�إخوتي
ُ اليوم احلا�سم ،لكني
286
من اخلروج من البيت �إىل الباحة ،قالت ب�أن تواجدنا يف الباحة ذلك
اليوم خط ٌر �شديد دون �أن ت�شرح �سر قلقها لإخوتي ،تذ ّمر �أخي و�أختي
كث ًريا لكن تذ ّمرهم مل ميثل ذرة واحدة من الغ�ضب الذي �أ�صابني،
حاولت �إخبارها ب�أن عمي قد خ�ص�ص �أماكن حمددة للن�ساىل ُ
ال�شباك التي �ست�صطادهم �سيحيطها اجلنود من كل جانب ،غري ِ
�إن �صدر منهم �أي رد فعل عنيف لكنها �أ�ص ّرت على عدم خروجنا،
دا
حاولت التو�سل �إليها ب�أنني ال �أريد �أن �أف ّوت �أحداث هذا اليوم الفارق
ُ
ر
يف تاريخ چارتني ،لكن تو�سلي مل يفد �شي ًئا مع �إ�صرارها ..
عاد �أخواي �إىلع
ص
يف غ�ضب �شديد كان ري
ل ا
غرفتهما يائ�سني ..وكذلك عدت �أنا الآخر
يتزايد بداخلي و�أنا �أرى ال�ساعات الأوىل من
دا
ً
حمال ..
خارجا من الزحام عندما عزف املهرجون مقطوعة
ع ر
عدت بج�سدي ً
ريص
ال
وقفت على �أطراف قدمي لعلي �أجد ً
منفذا �أخرى من مو�سيقاهم ..ثم ُ
ملحت
�آخر للت�سلل عربه �إىل الداخل لكني مل �أجد ،يف تلك اللحظة ُ
ت ك
اجلنود الواقفني �أعلى �سجن جويدا بالناحية الأخرى من الباحة،
زيع
بالباحة �إىل اجلانب الغربي منها� ،إىل �أن و�صلت بوابة ال�سجن ..مل
يوقفني احلار�س الواقف �أمام البوابة بعدما ر�آين �أكرث من مرة �أرافق
عمي بل �أعطاين حتيته ،ف�س�ألتُه:
هل ُاقتيدت الرامية �إىل الباحة بعد؟
قال:
نعم �سيدي ،منذ ال�شروق.
فدلفت �إىل الداخل ً
رك�ضا ،و�صعدتُ ال�سلم وث ًبا �إىل �أعلى الطابق ُ
الأخري ،كان الفار�س الذي ك ّلفه عمي ب�إ�شعال ال�شعلة الكربى �أعلى
288
ال�سجن يقف خلف جنوده املنبطحني ب�أ�سلحتهم املُ�ص ّوبة جتاه الباحة
� ..أو على الأدق جتاه اجلزء اجلنوب ال�شرقي منها الذي يقف فيه
الن�ساىل ،والذين ظهر اختالفهم بني الواقفني بو�ضوح ب�أج�سادهم
التي كانت تلمع بقوة مع �أ�شعة ال�شم�س ،يحيطهم �صفني �أو ثالثة
من اجلنود يف �إطار دائري ،كانت خوذاتهم املعدنية تلمع ب�شدة هي
فلمحت �أبي ي�صعد �إىل
ُ الأخرى ..ثم انتهى املهرجون من عزفهم
دا
املن�صة ليجل�س بجوار بع�ض ال�سادة ،مل �أكن �أعرف منهم �إال قا�ضي
ع ر
املن�صة والذي نه�ض عن كر�س ّيه مع انت�صاف ال�شم�س ال�سماء و�أمت
ص
زواجا بني عرو�سني من �أ�شراف بالدنا ..حني انتهت مرا�سم الزواج
ري
ً
ال
�صعد عمي للمن�صة للمرة الأوىل ،وتل ّقى ترحي ًبا كب ًريا من احلا�ضرين
ت ك
الذين وا�صلوا الهتاف والتهليل له لبع�ض الدقائق املتوا�صلة ،بعدها
ل ب
�صعد العجوز ُخ�شيب �إىل املن�صة ،فاتخذ عمي مكا ًنا على جانب
ر وا تول
املن�صة وبد�أ حديثه ،مل �أ�سمع ما كان يقوله بالطبع لكني كنت �أعرف
�أنه �سيتحدث عن تربئة ذلك الرجل من اجتياز القاعدة الأوىل ،وقتها
زيع
ه ّز م�ساعد عمي الذي كنت �أقف بجواره ر�أ�سه ،وقال م�شف ًقا حني
وجد العجوز يقف على املن�صة حمني اجل�سد واه ًنا:
عاما �إال حرمان
مل ينل من هروبه طوال اخلم�سة وع�شرين ً
بناته من �إجناب �أطفال �أحياء ..
ف�س�ألتُه متعج ًبا:
عاما؟!
اجتاز القاعدة الأوىل منذ خم�سة وع�شرين ً
قال:
289
نعم ..
قلت يف ا�ستغراب:
ُ
عاما فقط ..
لكن حفيده �ستة ع�شر ً
قال الفار�س دون اكرتاث وهو ينظر جتاه الباحة:
دا
م�ستحيل.
ع ر
ص
قلت ب�إ�صرار:
ُ
ال ري
�إنني مت�أكد من ذلك � ..إنه �صديق عمري ..و�أعرفه و�أعرف
ت ك
خالته �سريين منذ �ست �سنوات � ..أال تتذكر ال�سيدة التي قابلتنا
ر دا
�أمتزح يا �سيدي؟! ..بالطبع ال ..ماذا هناك؟!
ر دا
�أيعقل؟!!
لكنني هززتُع ر�أ�سي لأطرد تلك الو�ساو�س عنها ،ونظرتُ �إىل
أيت م�ساعد عمي الذي الباحة لأن�شغل مباصري
يدور العلى من�صتها ..ر� ُ
ر ش
ال ..ال � ..إنها مهارة فح�سب ..وال وت
مل يقاطع تفكريي �إال املو�سيقا التي ت�سبق الإعدام،زيع
والتي �صمت
اقرتبت من حافة
ُ معها �ضجيج احلا�ضرين يف الباحة ..حلظتها
وهبطت مرتكزً ا على ركبتي اليمنى وعيني تراقب اجلانب ُ ال�سطح،
الواقف فيه الن�ساىل ،كذلك بد�أتُ �أبحث بعيني يف قلق عن م�ساعد
عمي الذي غا�ص بني املزدحمني من �أجل �إخباره ب�ش�أن �آدم ومل يتبق
�إال دقائق و ُتعدم الرامية وعليه �أن يعود �إىل جانبي كي ي�شعل بنف�سه
ال�شعلة الكربى خلفنا لتبد�أ املدافع الثقيلة يف تنفيذ مهمتها ،لكني مل
�أ�ستطع متييزه بني املتزاحمني ،فعدتُ بب�صري �إىل الن�ساىل ..
292
بخطوات منتظمة ثم
ٍ كان عمي قد حترك �إىل منت�صف املن�صة
وقف كالتمثال وا�ض ًعا يده على مقب�ض �سالحه الناري املُع ّلق بحزام
خ�صره ،فه ّلل اجلميع رغم عدم انتهاء العازفني من عزفهم ،ثم
تعاىل هتافهم حني تب ّدل عزف املو�سيقا ،و�صعدت �إىل املن�صة
الرامية الن�سلية ُمك ّبلة الأيدي والأرجل يج ّرها زو ٌج من اجلنود ..مل
تكن مغطاة الر�أ�س كعادة من ُيحاكمون على املن�صة �أيام الغفران ،ال
دا
�أعرف �إن كان عمي قد ق�صد ذلك �أم ماذا؟ ثم �أزال �أحد اجلنديني
ع ر
�أغالل قدميها عندما نه�ض كبري ق�ضاة چارتني �إىل جانب املن�صة
ص
الأمين ليعلن �إدانتها �أمام اجلميع ،يف هذه اللحظة حت ّول هتاف
ال ري
احلا�ضرين �إىل �ضجيج وجلبة فج�أة عندما فوجئوا و�أنا معهم باندفاع
ت ك
الن�ساىل املحتجزين يف اجلزء اجلنوب �شرقي خلف �صفوف اجلنود
ش ن
�أن يتحركوا ب�سرع ٍة كبرية وحركة ع�شوائية ب�أج�سادهم العارية بني
ر وا تول
وا�ضحا
ً �صفوف احلا�ضرين دون �أن ي�ستطيع �أحد �إيقافهم بعدما كان
�أن �أج�سادهم كانت تنزلق من �أيدي َمن يحاول الإم�ساك بهم،
زيع
وك�أنهم قد طلوا �أج�سادهم بالزيوت التي �سهلت ان�سيابية حركتهم
..كذلك مل ي�ستطع �أي جندي �سوا ًء من الذين حا�صروهم يف الباحة
�أو الراقدين بجواري �إطالق طلقة نارية واحدة مع انت�شارهم ال�سريع
املفاجئ بكل �أرجاء الباحة بني �أ�شراف چارتني ..بدا االرتباك على
وجه كبري الق�ضاة ،وكذلك ال�سادة الذين وقفوا عن كرا�سيهم يف قلق
لرياقبوا ما يحدث من هرج ومرج بني احلا�ضرين ،وجدتُ �أبي يهبط
ً
مهرول عرب ال�سلم اخللفي لها � ..أما عمي ف�أخرج �سالحه عن املن�صة
الناري وقتل اثنني من الن�ساىل كانا ي�شقان ال�صفوف لالقرتاب من
املن�صة ،و�صاح �إىل بقية الفر�سان ب�أن يهبطوا �إىل �أر�ض الباحة ..قبل
293
�أن ينظر بعينه جتاهنا �أعلى ال�سجن ..كان م�ساعده الذي هبط �إليه
مل يعد بعد ..فكرتُ �أن �أ�شعل ال�شعلة بنف�سي لكن االرتباك �أ�صابني
يل اله ًثا ..
ومل �أعرف ماذا �أفعل ..ثم وجدتُ ذلك الفار�س ي�صعد �إ ّ
وي�س�ألني:
هل �أعطى الفار�س كيوان �أم ًرا ب�إ�شعال ال�شعلة؟
دا
قلت:
ُ
ع ر
ال �أعرف ..مل ُتعدم الرامية بعد ..
ريص
ال
ب�سهم م�شتعل ينطلق من الباحة فوجئت ٍ
ُ ومل �أكد �أكمل جملتي حتى
ت ك
ظننت
�إىل ال�سماء جتاهنا ليعرب فوق ر�ؤو�سنا وي�سقط بجوار ال�شعلةُ ،
ل ب
�أن عمي َمن �أعطى �أم ًرا بذلك ،لكن الذهول �أ�صابني حني نظرتُ
ن ل
�إىل املكان الذي �أُطلق منه ال�سهم ،كان ن�سل ًيا َمن مي�سك بالقو�س
ش
ر وا تول
الذي �أطلق ال�سهم امل�شتعل يحيطه عد ٌد من الن�ساىل يف �إطار دائري
زيع
ي�شتبكون بقوة مع الأ�شراف ومينعون بكل ا�ستب�سال �أي فرد من
الو�صول �إىل ذلك الن�سلي ،فيما كان بع�ض اجلنود البعيدين يحاولون
ب�صعوبة الو�صول �إليهم ،قبل �أن �أجد ذلك الن�سلي ي�شعل �سه ًما �آخ ًرا
ويرفع عينه �إلينا ،لتنتف�ض دقات قلبي وتندفع الدماء �إىل عروقي
و�أنا �أراه ي�شد وتر قو�سه املُ�ص ّوب نحونا برتكيز �شديد ،لينطلق �سهمه
متاما ،لت�شتعلامل�شتعل جتاهنا ،وي�سقط هذه املرة مبنت�صف ال�شعلة ً
نريانها العظيمة من خلفنا يف حلظات ..
ً
مذهول: حدثت نف�سي
ُ
ماذا يحدث؟! ..ما الذي يف ّكر فيه الن�ساىل؟!
294
بعد حلظات دوى �أقوى �صوت �سمعتُه يف حياتي� ،صوت �إطالق
القذائف الثقيلة ..ظ ّلت �أ�صوات القذائف تتواىل لدقائق ،ومع كل
قذيفة كان بناء ال�سجن ير ّ
جت من �أ�سفلنا� ،إىل �أن توقفت وك�أن الدفعة
الأوىل من ال�ضربات قد انتهت ،لت�صل حالة الهرج واملرج يف الباحة
�إىل ذروتها ،وبد�أ الكثريون من الأ�شراف يندفعون �إىل البوابات
للخروج منها يف خوف �شديد ..لكن اجلميع لزم مكانه وتوقف كل
دا
�شيء عن احلركة عندما �سمعت �آذاننا �صوت دقات طبول تدق ب�إيقاع
ع ر
منتظم ي�أتي من بعيد من ناحية اجلنوب ..كانت الدقات تت�صاعد
ص
�إىل عنان ال�سماء دون توقف ك�أنها ترد على �أ�صوات القذائف التي
انتظاما ..وجدتُ م�ساعد عمي
ً
ال ري
�أُطلقت قبلها بقليل ،لكن ب�إيقاع �أكرث
ت ك
يغمغم حمد ًثا نف�سه:
و ت
زي
ال�شامو؟! ..مو�سيقا ال�شامو؟!
ع قال الرجل يف توتر:
يبدو �أن هناك من و�ضع خطة لهذا اليوم غري الفار�س كيوان ..
و�صاح يف جنوده بوجه حمتقن:
�ص ّوبوا �أ�سلحتكم نحو ر�أ�س كل ن�سلي تراه �أعينكم ..
كانت �أ�صوات الطبول تتعاىل �أكرث و�أكرث ،يعطي �إيقاعها املنتظم
إح�سا�سا باخلوف كنت على يقني �أنه بد�أ
املتداخل مع �صدى �صوتها � ً
ينتاب كل من ي�سمعه ..ثم بد�أت املدافع تطلق قذائفها من جديد
295
ّ
ليغطي �صوتها �أ�صوات الدقات� ،إىل �أن انتهت من �ضربتها الثانية ..
انتظرت �أن تدق الطبول من جديد ،لكن الدقائق قد مرت دون �أن
وتنف�ست ال�صعداء بعدما
ُ أغم�ضت عيني
ُ تلتقط �آذاننا �أي �صوت ،ف�
ظننت �أن تلك ال�ضربة قد ق�ضت على الن�ساىل حاملي تلك الطبول،
�سمعت �أ�صوات الزئري تتعاىل فج�أ ًة يف
ُ لكني فتحت عيني رع ًبا حينما
الأ�سفل ..ليتعاىل معها �صرخات الأ�شراف بدرجة غري م�سبوقة ..
أيت
م�صدق عندما ر� ُ
ٍ و�سقطت على ركبتي غري
ُ
ر دا
نظرتُ �إىل الباحة
ص ع
الع�شرات من الن�ساىل يهاجمون الأ�شراف ب�أج�ساد �صارت �أكرث قوة
ال ري
و�ضخامة ،و�أ�صوات زائرة رهيبة ترج �أر�ض الباحة ،و�أنياب بارزة كنت
ت ك
�أراها من مكاين املرتفع ..ك�أنهم ا�ستحالوا حليوانات مفرت�سة فج�أة،
ل ب
بع�ضا من �أعريته النارية جتاه ن�سلي زائر كان يت�سلق �أطلق عمي ً
ر وا تول
بعدما �أحاطهم ع�شرات اجلنود ..كانت الن�سلية الرامية ال تزال تقف
زيع
ظننت
ب�أغالل يدها على املن�صة ت�شاهد ما يحدث يف ثبات عجيبُ ،
�أن عمي �سي�ص ّوب �سالحه نحوها ويقتلها قبل �أن يغادر املن�صة ،لكنه
نظر �إليها و�أكمل هرولته بظهره �إىل ال�س ّلم اخللفي دون �أن يفعل ذلك
�صرخت يف نف�سي �إليه:
ُ �أو ي�أمر جنوده ب�إعادتها �إىل ال�سجن ..
ملاذا يا عمي ..اقتلها �أرجوك � ..إنها من �س ّببت كل هذا ..ما
الذي يحدث؟!!
كان الن�ساىل املتحولون بالباحة يهاجمون اجلنود والأ�شراف
ب�ضراوة �شديدة و�أمناط هجوم خمتلفة ك�أنهم ال ينتمون �إىل ف�صيل ٍة
واحدة ،ثم وجدتُ كث ًريا من اجلنود ي�صعدون �إىل �سطح ال�سجن،
296
وترا�صوا متال�صقني على حافته املواجهة للباحة ،قبل �أن ي�صرخ
قائدهم فيهم:
�ص ّوبوا �إىل الباحة واقتلوا من تقتلوه و�إن قتلتم الأ�شراف معهم
..ال ترتكوا �أي ن�سلي على قيد احلياة ..
يف هذه اللحظة وجدتُ ب�ضعة ن�ساىل املتحولني يرتكون مهاجمة
دا
الأ�شراف ويرك�ضون ب�سرعة كبرية �إىل �أمام املن�صة مبا�شرة حيث
ر
تقف ال�صفوف الأمامية من اجلماهري ،لأجد الن�سلية الرامية تتحرك
ص ع
للمرة الأوىل ،وجتري بيديها املكبلتني نحو مقدمة املن�صة وتقفز
ال ري
بر�شاقة �إليهم دون خوف ..لي�ستقبلها اثنان منهم على �أذرعهما ،قبل
ت ك
�أن يغطي ج�سدها الباقون ويتحركون ككتلة واحدة دون �أن يظهر �أي
ل ب
جزء من ج�سدها ،ووا�صلوا حتركهم �إىل البوابات اجلنوبية للباحة
و ت
يتجاوز اخلم�سني حني �أح�صيتهم �سري ًعا بعيني� ،أما زي
املفرت�سني منهم ال نظرتُ �إىل باقي الن�ساىل يف الباحة ،كان عدد
الن�ساىلعالذين
مل يتحولوا وبقوا كما هم يهاجمون الأ�شراف واجلنود ب�أياديهم فكان
عددهم يتجاوز املائتني� ،سقط منهم الكثريون قتلى مع �سيل الطلقات
النارية املنهمر من جنود ال�سطح بجواري ،مل �أ�ستطع �أن �أحدد عدد
القتلى من الن�ساىل الزائرين لكني كنت �أرى �آثار البارود على �أج�سادهم
وا�ضحة وهم يوا�صلون افرتا�س من بقي يف الباحة من الأ�شراف بدون
ف�صرخت يف اجلنود ب�أن
ُ أيت �أحدهم ي�سقط ً
قتيل رحمة� ،إىل �أن ر� ُ
يوا�صلوا ،و�أن ين ّفذوا ما �أمرهم به القائد� ،إن ُقتل ه�ؤالء املتوح�شون
ومعهم قلة من الأ�شراف خري من �أن يبقوا ليق�ضوا على املزيد منا
297
..لكن الدماء جتمدت يف عروقي حني نظرت بعيدً ا ناحية اجلنوب
طبول
ب�صوت �أكرث قوة وك�أنه �صاد ٌر من ٍ ٍ بعدما د ّقت الطبول من جديد
عمالقة ،قبل �أن �أجد الغبار يت�صاعد �إىل ال�سماء بعيدً ا بتلك الناحية،
وتختلط �أ�صوات الطبول ب�أ�صوات الزائرين ،وك�أن ً
جي�شا كب ًريا منهم
أدركت وقتها �أن البقاء يف جويدا �سيكون م�صريه كان يف طريقه �إليناُ � ،
أ�سرعت �إىل ال�سلم لأهبطه ً
رك�ضا كي �أعود �إىل �أمي و�إخوتي ُ الفناء ،و�
دا
على �أمل �أن يكون �أبي قد �سبقني �إليهم ليحملنا بعيدً ا عن تلك املدينة
ع ر
التي خارت قواها فج�أة ،لكن ما �إن هبطت طاب ًقا واحدً ا حتى �سمعت
ص
بخوف لأنظر
فتوقفت ومددتُ ر�أ�سي ٍ ُ �صوت الزئري يتعاىل بالأ�سفل،
ال ري
عرب هوة ال�سلم ،كان ثالثة منهم يرك�ضون �إىل الداخل ب�سرعة كبرية،
ت ك
لدي بدون
رك�ضت عرب ممر الزنازين يف ذلك الطابق ب�أق�صى �سرعة ّ ُ
ش ن
فانعطفت بني املمرات لأكرث من مرة بدون �أن �أعرف ُ الوح�ش املتعايل،
ر وا تول
�إىل �أين تقودين ،كان ثمة نوافذ ق�ضبان حديدية تتواجد بجدران
فتمنيت و�أنا �أرك�ض لو كانت تلك
ُ تلك املمرات لت�ضيئها بالكامل ..
زيع
اجلدران ُم�صمتة مثل الزنازين ال�سفلية لأختفي بني ظالمها ..ثم
تابعت الرك�ض بعد حلظة واحدة عندما توقفت لألتقط �أنفا�سي ،لكني ُ ُ
�سمعت �صوت زئري �أحدهم ي�أتي بعيدً ا من خلفي ،بعدها وجدتُ �أبواب ُ
الزنازين ُتطرق بقوة من الداخل ..لكن ما كاد يوقف قلبي ح ًقا هو
فوا�صلت رك�ضي
ُ الزئري الذي بد�أ يتعاىل من داخل بع�ض الزنازين،
توقفت ُم ًربا بعدما
ُ رعب �شديد� ،إىل �أن وانعطايف بني املمرات يف ٍ
مبزالج من اخلارج ،كنت
ٍ انتهى املمر �أمامي بزنزان ٍة كان بابها ُمغل ًقا
�أعرف �أنني لن �أ�ستطيع العودة جمددًا �إىل خارج ذلك املمر ،وكنت
فتقدمت بحذر نحو الزنزانة ،وو�ضعت ُ �أعرف �أنهم قادمون ال حمالة،
298
ري بداخلها �أم ال،
�أذين على بابها يف خوف لأت�أكد ما �إن كان هناك زئ ٌ
فلم �أ�سمع �شي ًئا بداخلها ..ثم تعاىل الزئري فج�أة يف املمر املجاور
ودفعت نف�سي �إىل داخل الزنزانة،
ُ ففتحت مزالج الباب ب�سرعة،
ُ
و�أ�سندتُ ظهري للباب مغل ًقا له و�أنا �أحاول التقاط �أنفا�سي الالهثة،
رجل كان يقف �أ�سفل لكن قلبي �سقط يف قدمي عندما وجدت �أمامي ً
نافذة الزنزانة ،ينظر عرب ق�ضبانها �إىل ال�سماء باخلارج ،كان ن�صفه
دا
العلوي عار ًيا كالن�ساىل ،وكان �شعره ً
طويل �أ�شعث ك�أنه مل ُيحلق منذ
ع ر
�سنوات ،ا�ستدار ونظر نحوي فج�أة فوجدتُ حليته كثيفة للغاية وطويلة
ص
هي الأخرى ،ف�أجفل ج�سدي وزاد رعبي رع ًبا ..لكني هد�أت ً
قليل
ال ري
عندما مل �أب�صر على �صدره و�شم الن�ساىل ..
ت ك
كان زئري الوحو�ش يتعاىل يف املمر باخلارج ،نظرتُ �إليه يف انتظار
ر دا
هام�سا يف رعب و�أنا �أبتلع ريقي:
قلت ًُ
ص ع
هل �ستفتح لهم الباب؟!
ت ك
ب
نعم.
ن ل ل
ش
قلت يف رعب:
ُ
ر وا تول
هل �أنت جمنون؟ � ..سيقتلونك و�سيقتلونني � ..إنهم يقتلون
زيع
الأ�شراف ..
قال بهدوئه الغريب:
توا َر فح�سب ..
ثم تابع بعد حلظة:
�أخرب عمك �أن عهد القواعد قد ّول ..
فانزويت �إىل
ُ قبل �أن ميد يده ليفتح الباب ويخطو �إىل اخلارج،
ركن الزنزانة خلف الباب املوا َرب وقلبي ينتف�ض رع ًبا ..نظرتُ بعيني
عرب ال�شق الرفيع بني الباب واحلائط �إليه وهو يتقدم نحوهم بثبات
300
كبري ،وجدتُ �أحد الن�ساىل غري املتحولني ينظر يف وجهه بتمعن ،قبل
فرحا:
�أن ي�صرخ �إىل الباقني ً
�إنه طبيب وادينا ..الطبيب فا�ضل ..
كان الكثري من ال�سجناء الن�ساىل يقرتبون منه ليحت�ضنوه غري
م�صدقني ،فيما كان ن�سلي زائر يقف مزجم ًرا عند بداية املمر دون �أن
دا
هم�ست
ُ يهاجم بقية الن�ساىل �أو ذلك ال�سجني ك�أنه يعرف �أنهم قومه،
ر
�إىل نف�سي يف ذهول و�أنا �أراهم يقرتبون منه دون خوف:
ص ع
ري
�إنهم يف ّكرون ،ويعرفون من معهم ومن هم �أعدا�ؤهم ..لي�سوا
ال جمرد وحو�ش ..
ت ك
ب
أغلقت
بعدها غادروا ذلك املمر دون �أن يخربهم الطبيب عني ،ف� ُ
ن ل ل
ش
أنفا�س
وجل�ست م�سندً ا ظهري �إليه �أ�ستمع ب� ٍ
ُ باب الزنزانة بحر�ص،
ر وا تول
متباطئ ٍة �إىل �أ�صوات الزئري التي كانت تبتعد �شي ًئا ف�شي ًئا ،وعقلي
ي�سرتجع ما حدث يف الباحة بعد ت�صاعد دقات ال�شامو �إىل ال�سماء،
زيع
ثم نظرتُ عرب ق�ضبان النافذة �إىل �سماء جويدا التي بد�أت متطر،
لأغو�ص بني �أفكارى التي كانت تدور جميعها حول �شيء واحد فقط
هو �أن ما مر علينا ك�أ�شراف چارتني قبل هذا اليوم �شيء ،وما هو � ٍآت
بعده �سيكون �شي ًئا �آخر ً
متاما.
b
301
تم التحميل
عص� الكتب
ي من موقع
زوروا موقعنا
www.booksjuice.com
دا
يف مكان يف اجلنوب غري وادي الن�ساىل ،كان ع�شرات الآالف
ر
رجال ون�سا ًء و� ً
أطفال ،بينهم من الن�ساىل يقفون يف �صفوف كثرية ً
ص ع
ريان والطبيب فا�ضل ،تتقدمهم ع�شرات ال�صفوف من الن�ساىل
ال ري
ذوي الع�ضالت ال�ضخمة والأنياب والعروق البارزة ،ينظرون جمي ًعا
ك
خ�صي�صا من
ً يف ترقب نحو من�صة خ�شبية مرتفعة بدت �أنها ُ�صنعت
ت
�أجل ذلك اليوم ،قبل �أن ت�صعد غفران �س ّلمها اخللفي بف�ستان منزوع
ب
ن ل ل
الكتف الأي�سر ،وتتحرك بخطى ثابتة �إىل منت�صفها ،لتقف �أمامهم،
ش
ر وا تول
لثوان يف �صمت ،قبل �أن ترفع ذراعها الأي�سر بقب�ض ٍة
وتنظر نحوهم ٍ
قوية مغلقة ،ليلمع و�شم كتفها مع �أ�شعة ال�شم�س ،ويتعاىل الزئري
زيع
�أمامها لي�صل عنان ال�سماء.
b
303