Professional Documents
Culture Documents
هل للعرب مكان في مستقبل العالم
هل للعرب مكان في مستقبل العالم
تاوالت خاص
الباعث على طرح السؤال أعاله هو ما يمكن ألي مالحظ أن يلمسه في سلوك العرب خالل القرن الماضي
ومطلع األلفية الثالثة ،مقارنة بغيرهم من الشعوب والبلدان ،فخالل الفترة المذكورة عرفت ش55عوب األرض
انتصارات 5وهزائم ونكسات وثورات 5انبعاث ،لكن ما يلفت اإلنتباه هو أن الش55عوب ال55تي خ55رجت من حال55ة
األزمة إلى حالة الرفاه والتقدم ،قد فعلت عبر ن55وع من الحس55م النه5ائي في اتخ55اذ الق55رار باختي55ار المس55تقبل
وتجاوز أسباب تخلفها ،وذلك بعد اإلعتراف بخطئها في نقد ذاتي صريح ال لبس في55ه وال الت55واء .ويب55دو أن
هذه الفضيلة هي ما ينقص العرب ،الذين ظلوا حتى أيامنا هذه متشبثين ح ّد الجنون بأسباب تخلفهم.
لق55د ع55رفت الياب55ان نهض55ة حض55ارية ك55برى جعلته55ا الي55وم في مص55اف ال55دول العظمى ،لكن خروجه5ا 5من
ظلمات تقاليدها العتيقة حصل بع55د ص55دمات جعلت الياب55انيين يحس55مون في اختي55ار التح55ديث ،ولم يتم ذل55ك
بدون مقاومة من قوى التقليد ،فجموع 5الساموراي 5ق55اومت بض55راوة قب55ل أن تنه55زم وتستس55لم تارك55ة ت55اريخ
اليابان يتقرر في اتجاه مغاير .وعندما انهزمت الياب5ان بع5د ذل5ك في الح5رب العالمي5ة الثاني5ة أم5ام أمريك5ا،
وقعت استسالمها 5وحسمت في اختيار مستقبلها مرة أخرى ،فقد أخطأت في حساباتها 5الحربي5ة وك5ان عليه55ا
اإلنص55راف إلى القي55ام ب55أمرين اث55نين :إع55ادة بن55اء م55ا خربت55ه الح55رب المروع55ة بع55د اح55تراق هيروش55يما5
وناكازاكي ،وذلك بإرادة صلبة وتعبئة نادرة في صفوف الشعب الياباني من شباب وأطف5ال وش5يوخ ،ومن
جهة ثانية ،السعي إلى امتالك المعرفة والمهارة والخبرة التكنولوجية العصرية ،وذلك اعتمادا على أمريكا
ذاتها العدو الذي انهزمت أمامه ،ولم يفكر أحد من الياب55انيين في إض55اعة ال55وقت في هج55اء أمريك55ا وت55ذبيج
الخطب الرنانة في التحريض ضدها ،لم يعد الناس إلى المعابد القديمة أو استنجدوا 5بالس55اموراي 5أو ذرف55وا
الدموع على أمجاد القتال بالسيف والعصا ،ولم يقوموا بتنظيم 5عصابات مسلحة ووض 5ع 5ل55وائح اإلغتي55االت
وصنع األحزمة الناسفة لقتل ذوي القربى ،لم يكن ثمة وقت إلضاعته في الكالم واألحالم ،وك55ان ال ب55د من
إعادة بناء كل شيء وخاصة على المستوى 5المعنوي ،حيث كانت ثمة ع55والم وأفك55ار انه55دمت داخ55ل العق55ل
الياباني ،وكان ال ب ّد من نقد ذاتي قاس وصريح ليتسنّى تج55اوز 5األخط55اء وتض55ميد الج55راح والم55رور 5نح55و
المستقبل.
كما عرفت أوروب55ا ب55دورها ويالت الح55رب العالمي55ة الثاني55ة ال55تي أش55علتها وتح55الفت فيه55ا أنظم55ة فاشس55تية
كألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإسبانيا الفرنكاوية ،وبعد سنوات من حمى التح55ريض والعس55كرة الخرق55اء
انهارت كل األحالم التي لم يكن لها مكان في غير مزبلة التاريخ ،ووقفت 5الشعوب المهزومة وس5ط 5أطالل
المدن ودخ5ان الخ5رائب تتأم5ل حالته5ا ،وانتهت ب5دورها 5إلى الحس5م النه5ائي :اإلع5تراف بالخط5إ واختي5ار
الديمقراطية وقيم 5اإلنسان المثلى عوض األوه55ام األمبراطوري55ة والعنص55رية القديم55ة ،وه55و م55ا حتم عليه55ا
مغادرة مستعمراتها 5وترك الشعوب المستضعفة تقرر مصيرها 5بنفسها.
لم تقم البلدان األوروبية المهزومة (ألمانيا ـ إيطاليا) ب55التفكير في اإلنتق55ام ،لم تنص55رف إلى ت55برير هزائمه55ا
بالشعر 5والخطابة وإشاعة الكراهية ،لم تلجأ إلى الكنائس واألديرة ولم تعانق الصليب أو تتحسر على أمجاد
روما 5أو الوندال ،ولكنها انصرفت بتع5اون م5ع البل5دان ال5تي هزمته5ا إلى بن5اء معج5زات اقتص5ادية أث5ارت
اإلعجاب وظلت نماذج تقتدى.
فماذا فعل العرب الذين حصدوا 5الهزائم تلو األخرى على امتداد القرن العش55رين ،وم5اذا 5يفعل55ون ح55تى اآلن
وهم الذين لم يبرحوا 5تخلفهم ،لقد سبقت مصر اليابان إلى تبني نموذج الدولة الحديث55ة م55ع محم55د علي باش55ا
خالل القرن التاسع عشر ،فماذا جرى؟ كيف تقدمت اليابان بعد هزيمتها وعادت مصر خطوات مخيف55ة إلى
الوراء؟
كانت بلدان الخليج عشائر رعوية تائهة في الصحراء المترامية ،اكتُشف 5البترول في أرض55ها وه55و مح55رك
الحضارة الحديثة منذ مائة ع5ام ،وتح55ولت العش5ائر 5الرعوي5ة من الخيم5ة إلى العم5ارات الزجاجي55ة دون أن
تستطيع 5التخلص من الصورة الكاريكاتورية التي صنعها لها العالم المتقدم ،ألنها ظلت غارقة في التخلف.
لم يقم أي من البلدان العربية ـ أو بتعبير أدق تلك التي يوجد بها ع55رب ويحكمه5ا 5ع55رب وتس55ود فيه55ا ثقاف55ة
العرب ـ لم تقم بالحسم النهائي في اختي55ار مص55يرها ،ب55ل ظلّت جميعه55ا تت55أرجح بين الرغب55ة في المكاس55ب
المادية لعصرنا ،مع اإلصرار على الحفاظ على نظام قيمي وعلى ذهنيات ومعارف 5م55اتت من55ذ زمن بعي55د.
لقد انهزمت مصر أمام إسرائيل في ستة أيام ،وانهزم 5العراق أمام أمريك55ا في بض55عة أس55ابيع ،ك55ان القاس55م
المشترك 5بين النظامين المصري 5والعراقي هو إيديولوجيا القومية العربية التي لم تكن غ55ير عقلي55ة “داحس
والغبراء” اإلنتحارية ،ولهذا لم تحسم مصر حسما نهائيا في اختي5ار مص5يرها ،ولم تع5ترف بأخطائه5ا 5،ب5ل
قررت معالجة أمراضها بأمراض أخرى أكثر فتكا ،ف55أعلن أن55ور الس55ادات نقض اإلش55تراكية القومي55ة لعب55د
الناصر 5بتأليب اإلخوان المسلمين على الشعب المصري ،وبإطالق 5يد األزه55ر الع55تيق في ممتلك55ات مص55ر
الرمزية ،وبفتح األبواب أم55ام رأس55مال الفس55اد الس55عودي الب55دوي المتخل55ف ،فت ّم اغتي55ال مص55ر الحض55ارة،
مصر الفرعونية ومصر طه حس55ين ولطفي الس55يد ،وتش55كيل مس55خ غ55ريب ال يع55رف الن55اس إلى أي ش55يء
سيصير 5إليه حاله.
لم يستطع العرب أن يحسموا في اختيار المستقبل ألنهم أصرّوا 5على المرور إليه عبر ماضيهم ،الذي م55ات
منذ زمن بعيد دون أن يعوا ذلك ،فتاهوا في دهاليز التاريخ وفقدوا 5كل ب55واعث النه55وض في أنفس55هم بس55بب
عدم قدرتهم 5على اإلعتراف باألسباب الحقيقية لتخلفهم ،وعدم التخلص من الرغبة في اإلنتقام ألمجاد قديمة
وازدهار و َرقي 5ع5ابر ،وع5دم الق5درة على اإلع5تراف بعن5وان الحض5ارة المتقدم5ة حالي5ا وال5ذي ه5و العق5ل
العلمي ،وعدم استيعابهم 5لدروس 5الماضي والحاضر 5التي تقول كلها باستحالة مواجهة حضارة متألقة وحية
ببقايا حضارة ذبلت منذ ألف عام.
قد يرفض العرب تطلي55ق ماض55يهم 5،وق55د يظل55ون غ55ارقين في لعب55ة التلفي55ق بين أص55الة محنط55ة ومعاص55رة
يري55دون قش55ورها ب55دون روح ،لكن علين55ا نحن األم55ازيغ 5أن نحس55م بين أن نخت55ار رهان55ا حض55اريا مغ55ايرا
وتحرريا حقا ،أو أن نظل متورطين في المستنقع المشرقي اآلسن الذي سيظل يبعث إلين55ا بروائح55ه المنتن55ة
وبأوبئته الفتاكة حتى تجرفنا 5أوحاله.
أحمد عصيد