You are on page 1of 2

‫هل للعرب مكان في مستقبل العالم ؟‬

‫األستاذ ‪ :‬أحمد عصيد‬

‫تاوالت خاص‬

‫الباعث على طرح السؤال أعاله هو ما يمكن ألي مالحظ أن يلمسه في سلوك العرب خالل القرن الماضي‬
‫ومطلع األلفية الثالثة‪ ،‬مقارنة بغيرهم من الشعوب والبلدان‪ ،‬فخالل الفترة المذكورة عرفت ش‪55‬عوب األرض‬
‫انتصارات‪ 5‬وهزائم ونكسات وثورات‪ 5‬انبعاث‪ ،‬لكن ما يلفت اإلنتباه هو أن الش‪55‬عوب ال‪55‬تي خ‪55‬رجت من حال‪55‬ة‬
‫األزمة إلى حالة الرفاه والتقدم‪ ،‬قد فعلت عبر ن‪55‬وع من الحس‪55‬م النه‪5‬ائي في اتخ‪55‬اذ الق‪55‬رار باختي‪55‬ار المس‪55‬تقبل‬
‫وتجاوز أسباب تخلفها‪ ،‬وذلك بعد اإلعتراف بخطئها في نقد ذاتي صريح ال لبس في‪55‬ه وال الت‪55‬واء‪ .‬ويب‪55‬دو أن‬
‫هذه الفضيلة هي ما ينقص العرب ‪ ،‬الذين ظلوا حتى أيامنا هذه متشبثين ح ّد الجنون بأسباب تخلفهم‪.‬‬

‫لق‪55‬د ع‪55‬رفت الياب‪55‬ان نهض‪55‬ة حض‪55‬ارية ك‪55‬برى جعلته‪55‬ا الي‪55‬وم في مص‪55‬اف ال‪55‬دول العظمى‪ ،‬لكن خروجه‪5‬ا‪ 5‬من‬
‫ظلمات تقاليدها العتيقة حصل بع‪55‬د ص‪55‬دمات جعلت الياب‪55‬انيين يحس‪55‬مون في اختي‪55‬ار التح‪55‬ديث‪ ،‬ولم يتم ذل‪55‬ك‬
‫بدون مقاومة من قوى التقليد‪ ،‬فجموع‪ 5‬الساموراي‪ 5‬ق‪55‬اومت بض‪55‬راوة قب‪55‬ل أن تنه‪55‬زم وتستس‪55‬لم تارك‪55‬ة ت‪55‬اريخ‬
‫اليابان يتقرر في اتجاه مغاير‪ .‬وعندما انهزمت الياب‪5‬ان بع‪5‬د ذل‪5‬ك في الح‪5‬رب العالمي‪5‬ة الثاني‪5‬ة أم‪5‬ام أمريك‪5‬ا‪،‬‬
‫وقعت استسالمها‪ 5‬وحسمت في اختيار مستقبلها مرة أخرى‪ ،‬فقد أخطأت في حساباتها‪ 5‬الحربي‪5‬ة وك‪5‬ان عليه‪55‬ا‬
‫اإلنص‪55‬راف إلى القي‪55‬ام ب‪55‬أمرين اث‪55‬نين‪ :‬إع‪55‬ادة بن‪55‬اء م‪55‬ا خربت‪55‬ه الح‪55‬رب المروع‪55‬ة بع‪55‬د اح‪55‬تراق هيروش‪55‬يما‪5‬‬
‫وناكازاكي ‪ ،‬وذلك بإرادة صلبة وتعبئة نادرة في صفوف الشعب الياباني من شباب وأطف‪5‬ال وش‪5‬يوخ‪ ،‬ومن‬
‫جهة ثانية ‪ ،‬السعي إلى امتالك المعرفة والمهارة والخبرة التكنولوجية العصرية‪ ،‬وذلك اعتمادا على أمريكا‬
‫ذاتها العدو الذي انهزمت أمامه‪ ،‬ولم يفكر أحد من الياب‪55‬انيين في إض‪55‬اعة ال‪55‬وقت في هج‪55‬اء أمريك‪55‬ا وت‪55‬ذبيج‬
‫الخطب الرنانة في التحريض ضدها ‪ ،‬لم يعد الناس إلى المعابد القديمة أو استنجدوا‪ 5‬بالس‪55‬اموراي‪ 5‬أو ذرف‪55‬وا‬
‫الدموع على أمجاد القتال بالسيف والعصا‪ ،‬ولم يقوموا بتنظيم‪ 5‬عصابات مسلحة ووض ‪5‬ع‪ 5‬ل‪55‬وائح اإلغتي‪55‬االت‬
‫وصنع األحزمة الناسفة لقتل ذوي القربى‪ ،‬لم يكن ثمة وقت إلضاعته في الكالم واألحالم‪ ،‬وك‪55‬ان ال ب‪55‬د من‬
‫إعادة بناء كل شيء وخاصة على المستوى‪ 5‬المعنوي‪ ،‬حيث كانت ثمة ع‪55‬والم وأفك‪55‬ار انه‪55‬دمت داخ‪55‬ل العق‪55‬ل‬
‫الياباني‪ ،‬وكان ال ب ّد من نقد ذاتي قاس وصريح ليتسنّى تج‪55‬اوز‪ 5‬األخط‪55‬اء وتض‪55‬ميد الج‪55‬راح والم‪55‬رور‪ 5‬نح‪55‬و‬
‫المستقبل‪.‬‬

‫كما عرفت أوروب‪55‬ا ب‪55‬دورها ويالت الح‪55‬رب العالمي‪55‬ة الثاني‪55‬ة ال‪55‬تي أش‪55‬علتها وتح‪55‬الفت فيه‪55‬ا أنظم‪55‬ة فاشس‪55‬تية‬
‫كألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وإسبانيا الفرنكاوية‪ ،‬وبعد سنوات من حمى التح‪55‬ريض والعس‪55‬كرة الخرق‪55‬اء‬
‫انهارت كل األحالم التي لم يكن لها مكان في غير مزبلة التاريخ ‪ ،‬ووقفت‪ 5‬الشعوب المهزومة وس‪5‬ط‪ 5‬أطالل‬
‫المدن ودخ‪5‬ان الخ‪5‬رائب تتأم‪5‬ل حالته‪5‬ا‪ ،‬وانتهت ب‪5‬دورها‪ 5‬إلى الحس‪5‬م النه‪5‬ائي ‪ :‬اإلع‪5‬تراف بالخط‪5‬إ واختي‪5‬ار‬
‫الديمقراطية وقيم‪ 5‬اإلنسان المثلى عوض األوه‪55‬ام األمبراطوري‪55‬ة والعنص‪55‬رية القديم‪55‬ة‪ ،‬وه‪55‬و م‪55‬ا حتم عليه‪55‬ا‬
‫مغادرة مستعمراتها‪ 5‬وترك الشعوب المستضعفة تقرر مصيرها‪ 5‬بنفسها‪.‬‬
‫لم تقم البلدان األوروبية المهزومة (ألمانيا ـ إيطاليا) ب‪55‬التفكير في اإلنتق‪55‬ام‪ ،‬لم تنص‪55‬رف إلى ت‪55‬برير هزائمه‪55‬ا‬
‫بالشعر‪ 5‬والخطابة وإشاعة الكراهية‪ ،‬لم تلجأ إلى الكنائس واألديرة ولم تعانق الصليب أو تتحسر على أمجاد‬
‫روما‪ 5‬أو الوندال‪ ،‬ولكنها انصرفت بتع‪5‬اون م‪5‬ع البل‪5‬دان ال‪5‬تي هزمته‪5‬ا إلى بن‪5‬اء معج‪5‬زات اقتص‪5‬ادية أث‪5‬ارت‬
‫اإلعجاب وظلت نماذج تقتدى‪.‬‬

‫فماذا فعل العرب الذين حصدوا‪ 5‬الهزائم تلو األخرى على امتداد القرن العش‪55‬رين‪ ،‬وم‪5‬اذا‪ 5‬يفعل‪55‬ون ح‪55‬تى اآلن‬
‫وهم الذين لم يبرحوا‪ 5‬تخلفهم‪ ،‬لقد سبقت مصر اليابان إلى تبني نموذج الدولة الحديث‪55‬ة م‪55‬ع محم‪55‬د علي باش‪55‬ا‬
‫خالل القرن التاسع عشر‪ ،‬فماذا جرى؟ كيف تقدمت اليابان بعد هزيمتها وعادت مصر خطوات مخيف‪55‬ة إلى‬
‫الوراء؟‬

‫كانت بلدان الخليج عشائر رعوية تائهة في الصحراء المترامية‪ ،‬اكتُشف‪ 5‬البترول في أرض‪55‬ها وه‪55‬و مح‪55‬رك‬
‫الحضارة الحديثة منذ مائة ع‪5‬ام‪ ،‬وتح‪55‬ولت العش‪5‬ائر‪ 5‬الرعوي‪5‬ة من الخيم‪5‬ة إلى العم‪5‬ارات الزجاجي‪55‬ة دون أن‬
‫تستطيع‪ 5‬التخلص من الصورة الكاريكاتورية التي صنعها لها العالم المتقدم‪ ،‬ألنها ظلت غارقة في التخلف‪.‬‬

‫لم يقم أي من البلدان العربية ـ أو بتعبير أدق تلك التي يوجد بها ع‪55‬رب ويحكمه‪5‬ا‪ 5‬ع‪55‬رب وتس‪55‬ود فيه‪55‬ا ثقاف‪55‬ة‬
‫العرب ـ لم تقم بالحسم النهائي في اختي‪55‬ار مص‪55‬يرها‪ ،‬ب‪55‬ل ظلّت جميعه‪55‬ا تت‪55‬أرجح بين الرغب‪55‬ة في المكاس‪55‬ب‬
‫المادية لعصرنا‪ ،‬مع اإلصرار على الحفاظ على نظام قيمي وعلى ذهنيات ومعارف‪ 5‬م‪55‬اتت من‪55‬ذ زمن بعي‪55‬د‪.‬‬
‫لقد انهزمت مصر أمام إسرائيل في ستة أيام ‪ ،‬وانهزم‪ 5‬العراق أمام أمريك‪55‬ا في بض‪55‬عة أس‪55‬ابيع‪ ،‬ك‪55‬ان القاس‪55‬م‬
‫المشترك‪ 5‬بين النظامين المصري‪ 5‬والعراقي هو إيديولوجيا القومية العربية التي لم تكن غ‪55‬ير عقلي‪55‬ة “داحس‬
‫والغبراء” اإلنتحارية‪ ،‬ولهذا لم تحسم مصر حسما نهائيا في اختي‪5‬ار مص‪5‬يرها‪ ،‬ولم تع‪5‬ترف بأخطائه‪5‬ا‪ 5،‬ب‪5‬ل‬
‫قررت معالجة أمراضها بأمراض أخرى أكثر فتكا‪ ،‬ف‪55‬أعلن أن‪55‬ور الس‪55‬ادات نقض اإلش‪55‬تراكية القومي‪55‬ة لعب‪55‬د‬
‫الناصر‪ 5‬بتأليب اإلخوان المسلمين على الشعب المصري‪ ،‬وبإطالق‪ 5‬يد األزه‪55‬ر الع‪55‬تيق في ممتلك‪55‬ات مص‪55‬ر‬
‫الرمزية‪ ،‬وبفتح األبواب أم‪55‬ام رأس‪55‬مال الفس‪55‬اد الس‪55‬عودي الب‪55‬دوي المتخل‪55‬ف‪ ،‬فت ّم اغتي‪55‬ال مص‪55‬ر الحض‪55‬ارة‪،‬‬
‫مصر الفرعونية ومصر طه حس‪55‬ين ولطفي الس‪55‬يد‪ ،‬وتش‪55‬كيل مس‪55‬خ غ‪55‬ريب ال يع‪55‬رف الن‪55‬اس إلى أي ش‪55‬يء‬
‫سيصير‪ 5‬إليه حاله‪.‬‬

‫لم يستطع العرب أن يحسموا في اختيار المستقبل ألنهم أصرّوا‪ 5‬على المرور إليه عبر ماضيهم‪ ،‬الذي م‪55‬ات‬
‫منذ زمن بعيد دون أن يعوا ذلك‪ ،‬فتاهوا في دهاليز التاريخ وفقدوا‪ 5‬كل ب‪55‬واعث النه‪55‬وض في أنفس‪55‬هم بس‪55‬بب‬
‫عدم قدرتهم‪ 5‬على اإلعتراف باألسباب الحقيقية لتخلفهم‪ ،‬وعدم التخلص من الرغبة في اإلنتقام ألمجاد قديمة‬
‫وازدهار و َرقي‪ 5‬ع‪5‬ابر‪ ،‬وع‪5‬دم الق‪5‬درة على اإلع‪5‬تراف بعن‪5‬وان الحض‪5‬ارة المتقدم‪5‬ة حالي‪5‬ا وال‪5‬ذي ه‪5‬و العق‪5‬ل‬
‫العلمي‪ ،‬وعدم استيعابهم‪ 5‬لدروس‪ 5‬الماضي والحاضر‪ 5‬التي تقول كلها باستحالة مواجهة حضارة متألقة وحية‬
‫ببقايا حضارة ذبلت منذ ألف عام‪.‬‬

‫قد يرفض العرب تطلي‪55‬ق ماض‪55‬يهم‪ 5،‬وق‪55‬د يظل‪55‬ون غ‪55‬ارقين في لعب‪55‬ة التلفي‪55‬ق بين أص‪55‬الة محنط‪55‬ة ومعاص‪55‬رة‬
‫يري‪55‬دون قش‪55‬ورها ب‪55‬دون روح‪ ،‬لكن علين‪55‬ا نحن األم‪55‬ازيغ‪ 5‬أن نحس‪55‬م بين أن نخت‪55‬ار رهان‪55‬ا حض‪55‬اريا مغ‪55‬ايرا‬
‫وتحرريا حقا‪ ،‬أو أن نظل متورطين في المستنقع المشرقي اآلسن الذي سيظل يبعث إلين‪55‬ا بروائح‪55‬ه المنتن‪55‬ة‬
‫وبأوبئته الفتاكة حتى تجرفنا‪ 5‬أوحاله‪.‬‬

‫أحمد عصيد‬

You might also like