Professional Documents
Culture Documents
هيجل
هيجل
يقول هيجل في كتابه “العقل في التاريخ” متحدثا عن شمال إفريقيا وس كانها“ :إن
هذا الجزء من إفريقيا هو الجزء غير المستقل فيها ،إنه الجزء الذي كان دائما في عالقة مع الخارج.
لم يكن ،هو نفسه ،مسرحا ألحداث تاريخية ولكنه كان دائما مرتبطا بالتقلبات الخارجية الكبرى .فقد كان،
أوال،مستعمرة للفينيقين الذين استطاعوا تأسيس قوة مستقلة في قرطاجنة ثم صار بعد ذلك مستعمرة
للرومانيين واالمبراطورية البيزنطية والعرب واألتراك الذي تحول تحت حكمهم إلى مجموعة من دويالت
القرصان األمازيغية berbèreإنه بلد ال يفعل غير اتباع قدر destinكل من يصله من العظماء ،دون
أن تكون له مالمح محددة وخاصة به” وهيجل ،لمن فاته التعرف على أشهر الفالسفة ،تبعا الستراتيجية
التهميش التي طالت الفلسفة في العقود األخيرة ،هو أحد أكبر أقطاب الفالسفة النسقيين .وهو ،في المجال
الذي نحن بصدده عالمة بارزة في فلسفة التاريخ إنه مبدع الجدل (ليس بالمعنى األفالطوني) ،بعد
هيراقليتس الذي أرسى أسسه األولى .وهو نفسه الذي تتلمذ عليه كارل ماركس مؤسس المادية الجدلية
وهو القائل “ :كل ما هو عقلي فهو واقعي وكل ما هو واقعي فهو عقلي” في إشارة إلى إمكانية تعقل كل
الوقائع وأشكال تجلي الواقع ،بما في ذلك واقع كتاباته.
لذلك كان من المفيد ،تبعا لذلك أن نتأمل الفهم الفلسفي لهيجل لسكان شمال إفريقيا والتصنيف الذي اعتمده
في هذا الفهم إن الفكرة األساسية في النص هي أن سكان شمال إفريقيا ال هوية لهم ،وأنهم كانوا دائما
مواطنين في الصف الثاني أو يشتغلون في كواليس مسرح التاريخ .بل نكاد نستشف انعدام السكان
“األصليين” أمام توالي الوافدين باستثناء ذكرهم كقراصنة .فهل هذا القول صحيح؟ إذا كان الجواب
باإليجاب ،ما هي تجليات تفاصيل ما اختصره هيجل في “فقد كان ،أوال ،مستعمرة للفينيقين ثم صارت بعد
ذلك مستعمرة للرومانيين واالمبراطورية البيزنطية والعرب واألتراك”.
لقد توفي هيجل سنة ،1831عن سن يناهز الواحد والستين ،ولهذا السبب لم يتحدث عن االستعمار
البرتغالي واإلسباني والفرنسي وكان هذا األخير قد دخل الجزائر سنة ،1830أي سنة واحدة قبل وفاة
هيجل إن المتتبع لتفاصيل اليومي والمعيش ،في شمال إفريقيا ،يالحظ آليات التبخيس المتكررة التي
يمارسها الناس تجاه بعضهم البعض ،وتجاه لغاتهم وثقافاتهم .بل هناك من يقول بأن كل األمازيغ الذين
دخلوا التاريخ دخلوه من باب “اآلخر” فبقدر ما يكون األمازيغي بخسا بين أهله ،يكون في غاية التقدير
بعد وجوده “مهما” في لوائح “اآلخر” فهناك من الناس من يفتخر بكسوة ثم ال يلبث أن يتخلى عنها
عندما يعرف أنها صنعت على أرض إفريقيا الشمالية.
وإذا كان هذا يصدق على األغنياء فإن التشوف إلى ما يعيشه األميركي وقبله الفرنسي يعد أحد مميزات
بعض ساكنة إفريقيا الشمالية ،بغض النظر عن “تواجدهم االجتماعي” .وما لباس األفغان الذي وجد له
أجسادا تستبدل به الجلباب والبرنس إال أحد تجليات الموضوع نفسه .على المستوى اللسني والثقافي،
يالحظ أن الذي يسأل أحد سكان شمال إفريقيا بلغة ال يفهمها هذا األخير ،أن اإلفريقي الشمالي يبذل كل ما
في وسعه ،وبما له من كلمات معدودات ،لكي يجيب السائل بلغة سؤاله وهذه خاصية ال تالحظ عند كل
الشعوب وقد يفهم بأنه دليل على عدم جاذبية “الهوية الشمالية اإلفريقية” .وتنتشر اللغات األجنبية بشكل
ملفت للنظر في ربوع هذه األقطار ويمكن اعتبار غياب “اللكنة” في استعمال الشمال إفريقي للغات
األجنبية أحد مظاهر التبعية اللسانية (بالمعنى الحرفي) بل إن الكثير من الكتابات المؤسسة في األدب
العالمي كتبها األمازيغ بلغات “الخارج”.
فأفوالي (وهنا يستحسن أن نسميه أبوليوس) أسس لجنس أدبي هو الرواية كما هي متعارف عليها اليوم،
إنطالقا من “الجحش الذهبي” وجدد القديس أوغسطين المسيحية وأعطاها نفسا عظيما من خالل “مدينة
هللا” وغيرها ،ودائما بكلمات وحروف التينية .وابن رشد ،الذي أسس للرشدية في أوروبا ،كتب بالعربية،
وبالعربية “ثاقورارث” .وتم االحتفاظ ببعض كتبه بالعربية وبحروف عبرية.
وأبسط من هذا وذاك ،يمكنك اليوم أن تقف على برامج التلفزيون لتخال نفسك أمام بث لن يخطر لك ببال
أنه من شمال إفريقيا ،سواء تعلق األمر بتلفزيون المغرب أو الجزائر أو تونس أو موريطانيا ،وذلك طبعا
بدرجات.
أما الكتب المدرسية ،فهي تعرفك بما تشتهي من بقاع الدنيا ،جغرافيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتتركك
في “أعلى درجات” الظمأ من حيث المعلومات المتعلقة بإفريقيا الشمالية وفي دراسة تحليلية سابقة،
أنجزتها أواخر التسعينيات ،حول دراسة تحليلية ثالثة كتب للسنة الخامسة ثانوي (سابقا) ،تهم العربية
والفرنسية واإلنجليزية وقفت على “المغرب في صورة المغرب” فكتاب العربية ال يتضمن أية معلومة
ثقافية عن إفريقيا الشمالية.بينما يتحدث كتاب اإلنجليزية عن معلومات تهم سكان شمال المغرب .أما كتاب
الفرنسية فيقدم بعض المعلومات التاريخية والثقافية عن إفريقيا الشمالية وبذلك أثبت هذا النوع من الكتب
المقررة تحليل هيجل ،من حيث انتظار “اآلخر” ليخبر سكان “هذا الجزء من إفريقيا” بتاريخهم وثقافتهم
بما أراد وما يريد من معطيات.
أما في السياسة فإننا نجد ظالل كل تحركات “اآلخر” في شمال إفريقيا من يسار ويمين وقوميين وأممين
ومتدينين وعلمانيين وواقعيين وطوباويين.وال بد أن هيجل قد اطلع على “فتوحات” المرابطين والموحدين
التي نظمت ومولت نشر اإلسالم في شبه الجزيرة اإليبيرية من مراكش (بلد هللا) والبد تبعا لذلك أن يعتبر
تلك الحركات تأكيدا لالرتباط مع “اآلخر” القادم من الشرق .كما أن كل “الدايات” و”البايات” هي
المقصود بالترك .وفي هذا السياق تم استعمال هؤالء “القرصان األمازيغ” من أجل النهب وإغراق السفن.
ومن طرائف األمور ،أن االتفاقية الوحيدة التي وقعتها الواليات المتحدة األميركية بالتركية (وليس
باألمازيغية) كانت من أجل تحرير األسرى والفرقاطات األميركية .وكما كانت البونية (البونيقية سابقا) هي
اللغة الرسمية وهي الوافدة من سواحل لبنان (حاليا) ،كذلك كانت الالتينية هي اللغة الرسمية وهي التي
زفت لتضاريس إفريقيا الشمالية فوق أسنة الرماح وبصليل السيوف.
ولو قدر لهيجل أن يزور المغرب في نهاية القرن العشرين لوجد من يسانده في أن “األمازيغية ليست لغة
وال ثقافة لها” كما سيجد من يتحدث عن التعدد اللغوي في ارتباط بالتلوث اللغوي وبنفس اليسر سيدلونه
على أن “إماتة اللهجات البربرية” شرط ضروري لقيام الحضارة في “هذا الجزء من إفريقيا” .وهي كلها
دالئل ،تضاف إلى دالئله ،على أن األمر يتعلق فعال بـ “الجزء غير المستقل فيها (أي إفريقيا) ،إنه الجزء
الذي كان دائما في عالقة مع الخارج” ويصل عدم االستقالل مداه ،عندما تنظر بعض “الجمعي”ات
الحقوقية ،ومن خالل قادتها ،لضرورة التمييز بين “مشكل اللغة ومشكل الحقوق” .ألن الحقوق مشروعة
أما تأهيل اللغة األمازيغية فسيفتحهم على نوافذ ال تتفق مع السقف الذي حدده لهم “اآلخر”.
وكانت الحقوق أمرا شموليا ال يستقيم الواحد منها دون حضور النظر إليها كوحدة متفاعلة .وهكذا تتقزم
هذه الخطابات “الحقوقية” إلى درجة كاريكاتورية ،بمعيار العقل والواقع وهذا التقزم واالستقزام هو نفسه
الذي مكن هيجل من النظر إلى سكان إفريقيا الشمالية كمجموعة فارغة أو كالماء يأخذ شكل الوعاء الذي
يحتويه.
وعلى هذا األساس ،وغيره من األسس ،يمكن القول إن التاريخ يتجه نحو تحقيق فكرة العقل المطلق إنها
فكرة بقدر ما تعي الهوامش كموجودات تعي قيمتها كهوامش ألن معقولية التاريخ تفرض أن يتجه النظر
إلى التمييز بين الرئيسي (حاليا الرئيس) وبين الثانوي .ألن الوعي بهذا الفرق بين الذات باعتبارها مركزا
وبين غيرها من “الكائنات غير المستقلة” هو الذي يجعل من العقل حركة حرة ومتجهة باستمرار نحو
المزيد من التحرر؛ أي التحقيق الجدلي لفكرة العقل المطلق إن مسلسل انقراض كل األشياء الالمعقولة يبدأ
بمجرد وجودها رغم أننا لم نجد تفسيرا لوجودها أصال .بينما يبدأ مسلسل جدلية االكتمال عند األشياء
المعقولة بمجرد وعيها بمعقوليتها ولكن كيف تصدق أحكام هيجل على سكان الشمال اإلفريقي وهم
الشعوب والبطون واألجذام العظيمة بتعبير ابن خلدون؟ كيف يمكن االستكانة إلى هذه الخالصات ونحن أما
وجود ثقافي وحضاري صاحب كل الحضارات التي شهدها حوض البحر األبيض المتوسط؟ إن الواقعية
والمعقولية تفرض علينا النظر إلى الموضوع من زاوية نظر أخرى.
-2-
يمكن الدخول ،مع هيجل ،في جدل عقيم شهدته العديد من المنازالت بأسماء متعددة كالعنصرية
والشعوبية ،من هذا الطرف وذاك (وليس أو ذاك) ،كما يمكن أن نعود للكتابات المبجلة لسكان إفريقيا
الشمالية من قبيل “مفاخر البربر” لنجد ما يكفي من الدالئل على أن هوية إفريقيا الشمالية استمرت على
الساحل الجنوبي للبحر المتوسط والحال أن العديد من الهويات التي عاصرتها قد انقرضت.
ولكننا نفضل أن نجعل من هذه المناسبة لحظة تفكير ومحاكمة عقلية للحصول على أكثر المعطيات
موضوعية حول المالمح السوسيو ثقافية ألهل إفريقيا الشمالية وذلك قصد تحقيق فهم أفضل لطبيعة
هويتهم على المستوى النظري والوقوف على إسهاماتهم في بناء القيم اإلنسانية اإليجابية الضابطة
لسلوكاتهم على المستوى العملي .من حيث المبدأ ،على األقل هناك اعتراضان على أحكام هيجل :ـ يؤسس
هيجل نظره على مفهوم محلي وتام للطبيعة البشرية فهذا المفهوم يشمل األمة البروسية وال يشمل باقي
األمم من جهة ويشملها في حالة تمام تطورها الجدلي الذي ينتهي عندها من جهة أخرى.
وينتج عن ذلك أن حكمه على اآلخرين ليس جدليا بل نابعا من جبلة تحدد للغير حاضره وماضيه
ومستقبله ،بعد أن تسلبه كل فاعلية إن النزوع إلى وسم شعب أو أمة أو رعيل أو قبيل بسمات ثابتة
و”أزلية” هو أحد تجليات الفكر المثالي .وهو الفكر الذي يشتغل في اتساق مع ذاته دون حاجة إلى تحقق
أو استرشاد بالواقع والوقائع ذلك أن هذه األخيرة تؤكد أن التحول والتغير هما أولى البديهيات التي
نكتشفها بمجرد االحتكام إلى “العقل والتاريخ” .وكتاب التاريخ (أي كل األحداث المدونة منذ اكتشاف
الكتابة) يبين أن الشعوب ،جميع الشعوب ،تطورت وتقدمت عن أشكال أقل تمكنا من الواقع والسيطرة
عليه إن الثبات هو أحد األوهام الناتجة عن الثقة الزائدة وغير المبررة في الفكر ،من جهة حسن النية.
وهو أحد األوهام التي تهدف إلى الحيلولة دون االنخراط في التاريخ من جهة سوء النية.
وينتج عن االعتبار السابق اعتماد مفهوم تمييزي لإلنسان ،ال يتساوى فيه البعض مع اآلخر ،فهناك
اإلنسان المستقل وهناك اإلنسان غير المستقل .ولو تعلق األمر بمعاينة واقع ما لكان األمر مقبوال وعاديا،
ألن ما هو غير منطقي وغير واقعي هو أن تكون هذه الصفة نهائية .والواقع أن اإلنسان يختلف عن
اإلنسان بقدر عمله وجهده المبذول من أجل تحسين ظروف عيشه وأسلوب حياته ،تماما كما يختلف عن
بعضه البعض بنزوعاته “األمبرالية” ومن حق اإلنسان ،باعتباره كذلك ،أن يعمل على الحد من هذه
النزوعات واستبدالها بقيم العدالة والمساواة .ومن واجب “أهل الحل والعقد” الفكريين أن يجتهدوا
لصياغة المشاريع المجتمعية المنصفة للجميع بدل تكريس الحيف واالزدراء ،كما يفعل هيجل من حيث
االعتبارات الواقعية.
كتب إنجلز في نيو أمريكان أنسيكلوبيديا سنة “ : 1858منذ احتل الفرنسيون الجزائر ألول مرة حتى
اآلن ،كانت هذه البالد البائسة ميدانا ألعمال متواصلة من إراقة الدماء والسلب والعنف .لقد احتلت كل
مدينة ،كبيرة أو صغيرة ،الواحدة تلو األخرى ،لقاء تضحيات هائلة .إن القبائل العربية واألمازيغية التي
تقدر االستقالل بأغلى األثمان والتي تشكل كراهية السيطرة األجنبية مبدأ أعز من الحياة نفسها بالنسبة
إليها ،قد سحقت من جراء غزوات رهيبة أحرقت ودمرت خاللها مساكنها وممتلكاتها ،وأتلفت مزروعاتها.
بينما أولئك البائسون من أفرادها الذين بقوا على قيد الحياة قد سقطوا ضحية القتل الجماعي أو فريسة
أهوال العهر الوحشية” وتخبرنا الشذرات التي وصلتنا أن كل “الغزوات الرهيبة” كانت كذلك في كل
فصولها وعصورها .لقد واجه سكان إفريقيا الشمالية عمليات غزو متعددة ،ولكنها لم تتجل لهيجل كذلك .
وأمام مثل هذه الوضعيات غير المتكافئة ،بين جبروت الطامعين وبساطة األهالي ،يجد الفرد نفسه أمام
احتمالين :إما أن ينهزم أمام المعتدي أو يقاومه حتى يدحض المعتدي
وفي الحالة األولى إما أن يعيد بناء قوته أو يستسلم فإن استسلم ،فإما أن يعمل معه أو أن يتوحد معه.
وتسمى الحالة األولى في القاموس الحديث :العمالة والظاهر أن هيجل لم ير في شمال إفريقيا غير
العمالء ،وهذا بالضبط ما يفنده التاريخ وفي الحالة الثانية تتحرك اآللية السوسيوثقافية المسماة استيالبا.
لقد تحدث هيجل عن جدلية العبد والسيد ،ولكن نفسه المثالي الجارف لم يمكنه من معاينة أن األمر ،في
هذا الجدل ،ال يتعلق إال “بأعلى درجات” االستيالب فالعبد الذي يتوحد مع السيد ال يمكن بأي حال من
األحوال أن يصل إلى االنعتاق ،ولكنه يطفأ آخر أمل فيه.
اعتمد هيجل ،في بناء حكمه ،على األخبار التي روج لها المستعمرون والطغاة إن ما يعتبره هيجل تبعية
ليس إال تأريخا للمستعمر (بالكسر) أما تاريخ الحياة السياسية واالجتماعية وتاريخ القطاعات والثقافات
والمعاناة فذلك كتاب لم يقرأه هيجل .ويعود ذلك لسبب بسيط هو سيادة التأريخ للوقائع الحربية من جهة
المنتصر أكثر من سيادة التأريخ للوقائع ،كل الوقائع ومن كل المواقع.
إن ما يعتبره هيجل تبعية لآلخر هو “الوجه الداكن” للحقيقة ،أما الوجه المضيء فهو اعتبار تلك السمات
من قلب المقاومة إن المقاومة في شمال إفريقيا هي التي جعلت كل محاوالت مسخ شخصيتها بالقوة تبوء
بالفشل .وهذا الفشل ،بالجمع ،لم يكن أحد عوامل إثراء الرصيد الوطني في سجل المقاومة فحسب ،بل كان
في حاالت متعددة مصدر إغناء للرصيد العالمي من المقاومة .فتجربة األرض المحروقة وحرب العصابات
كما هي متعارف عليها عالميا ،قد تشكلت في إفريقيا الشمالية .إن اإلنسان بطبعه يسعى نحو التقدم
وتحسين أساليب العيش وتطوير العالقات مع اآلخر ،سعيه نحو المزيد من تأسيس عالقاته على التعاون
واالحترام المتبادل ولكن هذا الطبع يواجه بالتطبع الهادف إلى عرقلة هذا المسار .وهذا ما يفسر المنع
المتعدد والمتنوع للمعارف المؤهلة إلى تحسين السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح اإلنسان.
يقول الوزان في وصف إفريقيا “ :إن األفارقة الذين يسكنون مدن بالد األمازيغ ،والسيما مدن ساحل
البحر المتوسط ،يهتمون كثيرا بالتعلم ويتعاطون الدراسة بكامل العناية ،وفي طليعة ما يدرسون اآلداب
والكالم والفقه .وكان من عاداتهم في القديم أن يدرسوا الرياضيات والفلسفة وحتى علم الفلك ،غير أنه
منذ أربعمائة سنة خلت منعهم فقهاؤهم وملوكهم من تعاطي معظم هذه العلوم” .
إن ما وقع أيام ابن رشد تم “تجديده” في أواخر القرن العشرين لقد أهينت الفلسفة وقبلها العلوم
االجتماعية في حملة ممنهجة وفي غاية الخطورة ليأتي “الهيجيليون الجدد” ،بخطاباتهم المتيامنة
والمتياسرة ،ويتعجبوا من غياب االستقالل الفكري دون أن يعلموا (وربما كانوا يعلمون ولكنهم يعملون
“عملهم”) أن قمع الفلسفة جزء من القمع العام المسلط على “الجماهير”.
ما ذنب شمال إلفريقيا ،بشريا وجغرافيا ،إذا كانت كل معارضة للحكم تعني ،عبر التاريخ ،مالحقة كل أثر
مادي أو معنوي سابق باإلعدام والنفي ،حتى تخال المعارض ،الذي يستولي على مقاليد الحكم يستولي في
الوقت نفسه على عقارب الساعة وكأن التاريخ يبدأ مع أول قرار عسكري يوقعه .وهكذا أعدمت آثار أزمنة
السابقين وسابقي السابقين ومن تالهم من العلماء والصناع والمبدعين على عهود الفينيقيين والرومان
واألدارسة والبورغواطيين والمرابطين والموحدين وما تالها من حياة اقتصادية واجتماعية وثقافية
عاصرت هيجل وما تاله من السلطان األكبر.
إن شمولية الحقوق السياسية والمدنية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية وتفاعلها وتأسس بعضها على
بعض أمر في غاية البداهة وهو أمر ليس صعب التفسير من الناحية “الكالمية” ،ولكنه في غاية الصعوبة
من ناحية “البراكسيس”لذلك نجد “الهيجيليين الجدد” ،ولو بمساحيق متيامنة أو متياسرة ،يحتقرون لغة
الشعب ويمنعونه بكل الوسائل من التمتع بالحقوق االقتصادية واالجتماعية والثقافية ،أي من كل الحقوق
يوميا ،يمكن للمالحظ بالعين المجردة أن يعاين تمسك سكان إفريقيا الشمالية بلغاتهم وبهويتهم ،سواء من
حيث الملبس أو المأكل أو المنطوق والمتعقل.
فرغم التهميش المتواتر والتآمر المتكرر ،ما زالت األمازيغية تنبض في شرايين الوطن .وما زال البرنس
مالذا يعود إليه كل الواقفون في وجه كل الفظاعات وما زال الك *** أحد األطباق الشهية التي تخلد إنسان
إفريقيا الشمالية .إن البرنس والك *** ،هنا ،ينوبان عن كل ما تم إبداعه عبر التاريخ في هذه الربوع كما
أن اللغات الشمال إفريقية التي نتحدث عنها ،ليست كائنات هالمية بل كائنات حية تزود بالحياة يوميا بعرق
العمال في األوراش والحقول ومختلف الميادين المعرفية
وهكذا يتضح أن االتكال على الغير من أجل اإلنصاف هو أحد األوهام التي تروج لها اإليديولوجيا السائدة.
ألن هذه األخيرة ،بتهافتها تعبر عن الخلل االقتصادي واالجتماعي الذي يجد جذوره في البنيات التحتية
“فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم االجتماعي ولكن هذا الوجود هو الذي يحدد وعيهم” إن
التحليل الملموس للواقع الملموس هو وحده الكفيل بالكشف عن كل االختالالت سواء في االقتصاد أو
السياسة أو الثقافة.
وكل االتجاهات االقتصادية والثقافية ،التي تعمل على تبخيس مكونات الوطن البشرية والثقافية يلزم أن
تصنف في خانة “الكائنات الهيجيلية” التي تكرس هامش عدم االستقالل وتعمل على تحويله إلى محتل
لقلب الهوية في إفريقيا الشمالية ،وهي منه براء.
ولكن…
بودريس بلعيد
أستاذ التعليم العالي
boudris@gmx.fr