You are on page 1of 5

‫هيجل … وهوية إفريقيا الشمالية‬

‫يقول هيجل في كتابه “العقل في التاريخ” متحدثا عن شمال إفريقيا وس كانها‪“ :‬إن‬
‫هذا الجزء من إفريقيا هو الجزء غير المستقل فيها‪ ،‬إنه الجزء الذي كان دائما في عالقة مع الخارج‪.‬‬

‫‪  ‬لم يكن‪ ،‬هو نفسه‪ ،‬مسرحا ألحداث تاريخية ولكنه كان دائما مرتبطا بالتقلبات الخارجية الكبرى‪ .‬فقد كان‪،‬‬
‫أوال‪،‬مستعمرة للفينيقين الذين استطاعوا تأسيس قوة مستقلة في قرطاجنة ثم صار بعد ذلك مستعمرة‬
‫للرومانيين واالمبراطورية البيزنطية والعرب واألتراك الذي تحول تحت حكمهم إلى مجموعة من دويالت‬
‫القرصان األمازيغية ‪ berbère‬إنه بلد ال يفعل غير اتباع قدر ‪ destin‬كل من يصله من العظماء‪ ،‬دون‬
‫أن تكون له مالمح محددة وخاصة به”‪ ‬وهيجل‪ ،‬لمن فاته التعرف على أشهر الفالسفة‪ ،‬تبعا الستراتيجية‬
‫التهميش التي طالت الفلسفة في العقود األخيرة‪ ،‬هو أحد أكبر أقطاب الفالسفة النسقيين‪ .‬وهو‪ ،‬في المجال‬
‫الذي نحن بصدده عالمة بارزة في فلسفة التاريخ إنه مبدع الجدل (ليس بالمعنى األفالطوني)‪ ،‬بعد‬
‫هيراقليتس الذي أرسى أسسه األولى‪ .‬وهو نفسه الذي تتلمذ عليه كارل ماركس مؤسس المادية الجدلية‬
‫وهو القائل ‪“ :‬كل ما هو عقلي فهو واقعي وكل ما هو واقعي فهو عقلي” في إشارة إلى إمكانية تعقل كل‬
‫الوقائع وأشكال تجلي الواقع‪ ،‬بما في ذلك واقع كتاباته‪.‬‬
‫لذلك كان من المفيد‪ ،‬تبعا لذلك أن نتأمل الفهم الفلسفي لهيجل لسكان شمال إفريقيا والتصنيف الذي اعتمده‬
‫في هذا الفهم إن الفكرة األساسية في النص هي أن سكان شمال إفريقيا ال هوية لهم‪ ،‬وأنهم كانوا دائما‬
‫مواطنين في الصف الثاني أو يشتغلون في كواليس مسرح التاريخ‪ .‬بل نكاد نستشف انعدام السكان‬
‫“األصليين” أمام توالي الوافدين باستثناء ذكرهم كقراصنة‪ .‬فهل هذا القول صحيح؟ إذا كان الجواب‬
‫باإليجاب‪ ،‬ما هي تجليات تفاصيل ما اختصره هيجل في “فقد كان‪ ،‬أوال‪ ،‬مستعمرة للفينيقين ثم صارت بعد‬
‫ذلك مستعمرة للرومانيين واالمبراطورية البيزنطية والعرب واألتراك”‪.‬‬
‫لقد توفي هيجل سنة ‪ ،1831‬عن سن يناهز الواحد والستين‪ ،‬ولهذا السبب لم يتحدث عن االستعمار‬
‫البرتغالي واإلسباني والفرنسي وكان هذا األخير قد دخل الجزائر سنة ‪ ،1830‬أي سنة واحدة قبل وفاة‬
‫هيجل إن المتتبع لتفاصيل اليومي والمعيش‪ ،‬في شمال إفريقيا‪ ،‬يالحظ آليات التبخيس المتكررة التي‬
‫يمارسها الناس تجاه بعضهم البعض‪ ،‬وتجاه لغاتهم وثقافاتهم‪ .‬بل هناك من يقول بأن كل األمازيغ الذين‬
‫دخلوا التاريخ دخلوه من باب “اآلخر” فبقدر ما يكون األمازيغي بخسا بين أهله‪ ،‬يكون في غاية التقدير‬
‫بعد وجوده “مهما” في لوائح “اآلخر” فهناك من الناس من يفتخر بكسوة ثم ال يلبث أن يتخلى عنها‬
‫عندما يعرف أنها صنعت على أرض إفريقيا الشمالية‪.‬‬
‫وإذا كان هذا يصدق على األغنياء فإن التشوف إلى ما يعيشه األميركي وقبله الفرنسي يعد أحد مميزات‬
‫بعض ساكنة إفريقيا الشمالية‪ ،‬بغض النظر عن “تواجدهم االجتماعي” ‪ .‬وما لباس األفغان الذي وجد له‬
‫أجسادا تستبدل به الجلباب والبرنس إال أحد تجليات الموضوع نفسه‪ .‬على المستوى اللسني والثقافي‪،‬‬
‫يالحظ أن الذي يسأل أحد سكان شمال إفريقيا بلغة ال يفهمها هذا األخير‪ ،‬أن اإلفريقي الشمالي يبذل كل ما‬
‫في وسعه‪ ،‬وبما له من كلمات معدودات‪ ،‬لكي يجيب السائل بلغة سؤاله وهذه خاصية ال تالحظ عند كل‬
‫الشعوب وقد يفهم بأنه دليل على عدم جاذبية “الهوية الشمالية اإلفريقية”‪ .‬وتنتشر اللغات األجنبية بشكل‬
‫ملفت للنظر في ربوع هذه األقطار ويمكن اعتبار غياب “اللكنة” في استعمال الشمال إفريقي للغات‬
‫األجنبية أحد مظاهر التبعية اللسانية (بالمعنى الحرفي) بل إن الكثير من الكتابات المؤسسة في األدب‬
‫العالمي كتبها األمازيغ بلغات “الخارج”‪.‬‬
‫فأفوالي (وهنا يستحسن أن نسميه أبوليوس) أسس لجنس أدبي هو الرواية كما هي متعارف عليها اليوم‪،‬‬
‫إنطالقا من “الجحش الذهبي” وجدد القديس أوغسطين المسيحية وأعطاها نفسا عظيما من خالل “مدينة‬
‫هللا” وغيرها‪ ،‬ودائما بكلمات وحروف التينية‪ .‬وابن رشد‪ ،‬الذي أسس للرشدية في أوروبا‪ ،‬كتب بالعربية‪،‬‬
‫وبالعربية “ثاقورارث”‪ .‬وتم االحتفاظ ببعض كتبه بالعربية وبحروف عبرية‪.‬‬
‫وأبسط من هذا وذاك‪ ،‬يمكنك اليوم أن تقف على برامج التلفزيون لتخال نفسك أمام بث لن يخطر لك ببال‬
‫أنه من شمال إفريقيا‪ ،‬سواء تعلق األمر بتلفزيون المغرب أو الجزائر أو تونس أو موريطانيا‪ ،‬وذلك طبعا‬
‫بدرجات‪.‬‬
‫أما الكتب المدرسية‪ ،‬فهي تعرفك بما تشتهي من بقاع الدنيا‪ ،‬جغرافيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتتركك‬
‫في “أعلى درجات” الظمأ من حيث المعلومات المتعلقة بإفريقيا الشمالية وفي دراسة تحليلية سابقة‪،‬‬
‫أنجزتها أواخر التسعينيات‪ ،‬حول دراسة تحليلية ثالثة كتب للسنة الخامسة ثانوي (سابقا)‪ ،‬تهم العربية‬
‫والفرنسية واإلنجليزية وقفت على “المغرب في صورة المغرب” فكتاب العربية ال يتضمن أية معلومة‬
‫ثقافية عن إفريقيا الشمالية‪.‬بينما يتحدث كتاب اإلنجليزية عن معلومات تهم سكان شمال المغرب‪ .‬أما كتاب‬
‫الفرنسية فيقدم بعض المعلومات التاريخية والثقافية عن إفريقيا الشمالية وبذلك أثبت هذا النوع من الكتب‬
‫المقررة تحليل هيجل‪ ،‬من حيث انتظار “اآلخر” ليخبر سكان “هذا الجزء من إفريقيا” بتاريخهم وثقافتهم‬
‫بما أراد وما يريد من معطيات‪.‬‬
‫أما في السياسة فإننا نجد ظالل كل تحركات “اآلخر” في شمال إفريقيا من يسار ويمين وقوميين وأممين‬
‫ومتدينين وعلمانيين وواقعيين وطوباويين‪.‬وال بد أن هيجل قد اطلع على “فتوحات” المرابطين والموحدين‬
‫التي نظمت ومولت نشر اإلسالم في شبه الجزيرة اإليبيرية من مراكش (بلد هللا) والبد تبعا لذلك أن يعتبر‬
‫تلك الحركات تأكيدا لالرتباط مع “اآلخر” القادم من الشرق‪ .‬كما أن كل “الدايات” و”البايات” هي‬
‫المقصود بالترك‪ .‬وفي هذا السياق تم استعمال هؤالء “القرصان األمازيغ” من أجل النهب وإغراق السفن‪.‬‬
‫ومن طرائف األمور‪ ،‬أن االتفاقية الوحيدة التي وقعتها الواليات المتحدة األميركية بالتركية (وليس‬
‫باألمازيغية) كانت من أجل تحرير األسرى والفرقاطات األميركية‪ .‬وكما كانت البونية (البونيقية سابقا) هي‬
‫اللغة الرسمية وهي الوافدة من سواحل لبنان (حاليا)‪ ،‬كذلك كانت الالتينية هي اللغة الرسمية وهي التي‬
‫زفت لتضاريس إفريقيا الشمالية فوق أسنة الرماح وبصليل السيوف‪.‬‬
‫ولو قدر لهيجل أن يزور المغرب في نهاية القرن العشرين لوجد من يسانده في أن “األمازيغية ليست لغة‬
‫وال ثقافة لها” كما سيجد من يتحدث عن التعدد اللغوي في ارتباط بالتلوث اللغوي وبنفس اليسر سيدلونه‬
‫على أن “إماتة اللهجات البربرية” شرط ضروري لقيام الحضارة في “هذا الجزء من إفريقيا”‪ .‬وهي كلها‬
‫دالئل‪ ،‬تضاف إلى دالئله‪ ،‬على أن األمر يتعلق فعال بـ “الجزء غير المستقل فيها (أي إفريقيا)‪ ،‬إنه الجزء‬
‫الذي كان دائما في عالقة مع الخارج” ويصل عدم االستقالل مداه‪ ،‬عندما تنظر بعض “الجمعي”ات‬
‫الحقوقية‪ ،‬ومن خالل قادتها‪ ،‬لضرورة التمييز بين “مشكل اللغة ومشكل الحقوق”‪ .‬ألن الحقوق مشروعة‬
‫أما تأهيل اللغة األمازيغية فسيفتحهم على نوافذ ال تتفق مع السقف الذي حدده لهم “اآلخر”‪.‬‬
‫وكانت الحقوق أمرا شموليا ال يستقيم الواحد منها دون حضور النظر إليها كوحدة متفاعلة‪ .‬وهكذا تتقزم‬
‫هذه الخطابات “الحقوقية” إلى درجة كاريكاتورية‪ ،‬بمعيار العقل والواقع وهذا التقزم واالستقزام هو نفسه‬
‫الذي مكن هيجل من النظر إلى سكان إفريقيا الشمالية كمجموعة فارغة أو كالماء يأخذ شكل الوعاء الذي‬
‫يحتويه‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬وغيره من األسس‪ ،‬يمكن القول إن التاريخ يتجه نحو تحقيق فكرة العقل المطلق إنها‬
‫فكرة بقدر ما تعي الهوامش كموجودات تعي قيمتها كهوامش ألن معقولية التاريخ تفرض أن يتجه النظر‬
‫إلى التمييز بين الرئيسي (حاليا الرئيس) وبين الثانوي‪ .‬ألن الوعي بهذا الفرق بين الذات باعتبارها مركزا‬
‫وبين غيرها من “الكائنات غير المستقلة” هو الذي يجعل من العقل حركة حرة ومتجهة باستمرار نحو‬
‫المزيد من التحرر؛ أي التحقيق الجدلي لفكرة العقل المطلق إن مسلسل انقراض كل األشياء الالمعقولة يبدأ‬
‫بمجرد وجودها رغم أننا لم نجد تفسيرا لوجودها أصال‪ .‬بينما يبدأ مسلسل جدلية االكتمال عند األشياء‬
‫المعقولة بمجرد وعيها بمعقوليتها ولكن كيف تصدق أحكام هيجل على سكان الشمال اإلفريقي وهم‬
‫الشعوب والبطون واألجذام العظيمة بتعبير ابن خلدون؟ كيف يمكن االستكانة إلى هذه الخالصات ونحن أما‬
‫وجود ثقافي وحضاري صاحب كل الحضارات التي شهدها حوض البحر األبيض المتوسط؟ إن الواقعية‬
‫والمعقولية تفرض علينا النظر إلى الموضوع من زاوية نظر أخرى‪.‬‬
‫‪-2-‬‬
‫يمكن الدخول‪ ،‬مع هيجل‪ ،‬في جدل عقيم شهدته العديد من المنازالت بأسماء متعددة كالعنصرية‬
‫والشعوبية‪ ،‬من هذا الطرف وذاك (وليس أو ذاك)‪ ،‬كما يمكن أن نعود للكتابات المبجلة لسكان إفريقيا‬
‫الشمالية من قبيل “مفاخر البربر” لنجد ما يكفي من الدالئل على أن هوية إفريقيا الشمالية استمرت على‬
‫الساحل الجنوبي للبحر المتوسط والحال أن العديد من الهويات التي عاصرتها قد انقرضت‪.‬‬
‫ولكننا نفضل أن نجعل من هذه المناسبة لحظة تفكير ومحاكمة عقلية للحصول على أكثر المعطيات‬
‫موضوعية حول المالمح السوسيو ثقافية ألهل إفريقيا الشمالية وذلك قصد تحقيق فهم أفضل لطبيعة‬
‫هويتهم على المستوى النظري والوقوف على إسهاماتهم في بناء القيم اإلنسانية اإليجابية الضابطة‬
‫لسلوكاتهم على المستوى العملي‪ .‬من حيث المبدأ‪ ،‬على األقل هناك اعتراضان على أحكام هيجل ‪ :‬ـ يؤسس‬
‫هيجل نظره على مفهوم محلي وتام للطبيعة البشرية فهذا المفهوم يشمل األمة البروسية وال يشمل باقي‬
‫األمم من جهة ويشملها في حالة تمام تطورها الجدلي الذي ينتهي عندها من جهة أخرى‪.‬‬
‫وينتج عن ذلك أن حكمه على اآلخرين ليس جدليا بل نابعا من جبلة تحدد للغير حاضره وماضيه‬
‫ومستقبله‪ ،‬بعد أن تسلبه كل فاعلية إن النزوع إلى وسم شعب أو أمة أو رعيل أو قبيل بسمات ثابتة‬
‫و”أزلية” هو أحد تجليات الفكر المثالي‪ .‬وهو الفكر الذي يشتغل في اتساق مع ذاته دون حاجة إلى تحقق‬
‫أو استرشاد بالواقع والوقائع ذلك أن هذه األخيرة تؤكد أن التحول والتغير هما أولى البديهيات التي‬
‫نكتشفها بمجرد االحتكام إلى “العقل والتاريخ” ‪ .‬وكتاب التاريخ (أي كل األحداث المدونة منذ اكتشاف‬
‫الكتابة) يبين أن الشعوب‪ ،‬جميع الشعوب‪ ،‬تطورت وتقدمت عن أشكال أقل تمكنا من الواقع والسيطرة‬
‫عليه إن الثبات هو أحد األوهام الناتجة عن الثقة الزائدة وغير المبررة في الفكر‪ ،‬من جهة حسن النية‪.‬‬
‫وهو أحد األوهام التي تهدف إلى الحيلولة دون االنخراط في التاريخ من جهة سوء النية‪.‬‬
‫وينتج عن االعتبار السابق اعتماد مفهوم تمييزي لإلنسان‪ ،‬ال يتساوى فيه البعض مع اآلخر‪ ،‬فهناك‬
‫اإلنسان المستقل وهناك اإلنسان غير المستقل‪ .‬ولو تعلق األمر بمعاينة واقع ما لكان األمر مقبوال وعاديا‪،‬‬
‫ألن ما هو غير منطقي وغير واقعي هو أن تكون هذه الصفة نهائية‪ .‬والواقع أن اإلنسان يختلف عن‬
‫اإلنسان بقدر عمله وجهده المبذول من أجل تحسين ظروف عيشه وأسلوب حياته‪ ،‬تماما كما يختلف عن‬
‫بعضه البعض بنزوعاته “األمبرالية” ومن حق اإلنسان‪ ،‬باعتباره كذلك‪ ،‬أن يعمل على الحد من هذه‬
‫النزوعات واستبدالها بقيم العدالة والمساواة‪ .‬ومن واجب “أهل الحل والعقد” الفكريين أن يجتهدوا‬
‫لصياغة المشاريع المجتمعية المنصفة للجميع بدل تكريس الحيف واالزدراء‪ ،‬كما يفعل هيجل من حيث‬
‫االعتبارات الواقعية‪.‬‬
‫كتب إنجلز في نيو أمريكان أنسيكلوبيديا سنة ‪“ : 1858‬منذ احتل الفرنسيون الجزائر ألول مرة حتى‬
‫اآلن‪ ،‬كانت هذه البالد البائسة ميدانا ألعمال متواصلة من إراقة الدماء والسلب والعنف‪ .‬لقد احتلت كل‬
‫مدينة‪ ،‬كبيرة أو صغيرة‪ ،‬الواحدة تلو األخرى‪ ،‬لقاء تضحيات هائلة‪ .‬إن القبائل العربية واألمازيغية التي‬
‫تقدر االستقالل بأغلى األثمان والتي تشكل كراهية السيطرة األجنبية مبدأ أعز من الحياة نفسها بالنسبة‬
‫إليها‪ ،‬قد سحقت من جراء غزوات رهيبة أحرقت ودمرت خاللها مساكنها وممتلكاتها‪ ،‬وأتلفت مزروعاتها‪.‬‬
‫بينما أولئك البائسون من أفرادها الذين بقوا على قيد الحياة قد سقطوا ضحية القتل الجماعي أو فريسة‬
‫أهوال العهر الوحشية” وتخبرنا الشذرات التي وصلتنا أن كل “الغزوات الرهيبة” كانت كذلك في كل‬
‫فصولها وعصورها‪ .‬لقد واجه سكان إفريقيا الشمالية عمليات غزو متعددة‪ ،‬ولكنها لم تتجل لهيجل كذلك ‪.‬‬

‫وأمام مثل هذه الوضعيات غير المتكافئة‪ ،‬بين جبروت الطامعين وبساطة األهالي‪ ،‬يجد الفرد نفسه أمام‬
‫احتمالين ‪ :‬إما أن ينهزم أمام المعتدي أو يقاومه حتى يدحض المعتدي‬
‫وفي الحالة األولى إما أن يعيد بناء قوته أو يستسلم فإن استسلم‪ ،‬فإما أن يعمل معه أو أن يتوحد معه‪.‬‬
‫وتسمى الحالة األولى في القاموس الحديث ‪ :‬العمالة والظاهر أن هيجل لم ير في شمال إفريقيا غير‬
‫العمالء‪ ،‬وهذا بالضبط ما يفنده التاريخ وفي الحالة الثانية تتحرك اآللية السوسيوثقافية المسماة استيالبا‪.‬‬
‫لقد تحدث هيجل عن جدلية العبد والسيد‪ ،‬ولكن نفسه المثالي الجارف لم يمكنه من معاينة أن األمر‪ ،‬في‬
‫هذا الجدل‪ ،‬ال يتعلق إال “بأعلى درجات” االستيالب فالعبد الذي يتوحد مع السيد ال يمكن بأي حال من‬
‫األحوال أن يصل إلى االنعتاق‪ ،‬ولكنه يطفأ آخر أمل فيه‪.‬‬

‫اعتمد هيجل‪ ،‬في بناء حكمه‪ ،‬على األخبار التي روج لها المستعمرون والطغاة إن ما يعتبره هيجل تبعية‬
‫ليس إال تأريخا للمستعمر (بالكسر) أما تاريخ الحياة السياسية واالجتماعية وتاريخ القطاعات والثقافات‬
‫والمعاناة فذلك كتاب لم يقرأه هيجل‪ .‬ويعود ذلك لسبب بسيط هو سيادة التأريخ للوقائع الحربية من جهة‬
‫المنتصر أكثر من سيادة التأريخ للوقائع‪ ،‬كل الوقائع ومن كل المواقع‪.‬‬

‫إن ما يعتبره هيجل تبعية لآلخر هو “الوجه الداكن” للحقيقة‪ ،‬أما الوجه المضيء فهو اعتبار تلك السمات‬
‫من قلب المقاومة إن المقاومة في شمال إفريقيا هي التي جعلت كل محاوالت مسخ شخصيتها بالقوة تبوء‬
‫بالفشل‪ .‬وهذا الفشل‪ ،‬بالجمع‪ ،‬لم يكن أحد عوامل إثراء الرصيد الوطني في سجل المقاومة فحسب‪ ،‬بل كان‬
‫في حاالت متعددة مصدر إغناء للرصيد العالمي من المقاومة‪ .‬فتجربة األرض المحروقة وحرب العصابات‬
‫كما هي متعارف عليها عالميا‪ ،‬قد تشكلت في إفريقيا الشمالية‪ .‬إن اإلنسان بطبعه يسعى نحو التقدم‬
‫وتحسين أساليب العيش وتطوير العالقات مع اآلخر‪ ،‬سعيه نحو المزيد من تأسيس عالقاته على التعاون‬
‫واالحترام المتبادل ولكن هذا الطبع يواجه بالتطبع الهادف إلى عرقلة هذا المسار‪ .‬وهذا ما يفسر المنع‬
‫المتعدد والمتنوع للمعارف المؤهلة إلى تحسين السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لصالح اإلنسان‪.‬‬

‫يقول الوزان في وصف إفريقيا ‪“ :‬إن األفارقة الذين يسكنون مدن بالد األمازيغ‪ ،‬والسيما مدن ساحل‬
‫البحر المتوسط‪ ،‬يهتمون كثيرا بالتعلم ويتعاطون الدراسة بكامل العناية‪ ،‬وفي طليعة ما يدرسون اآلداب‬
‫والكالم والفقه‪ .‬وكان من عاداتهم في القديم أن يدرسوا الرياضيات والفلسفة وحتى علم الفلك‪ ،‬غير أنه‬
‫منذ أربعمائة سنة خلت منعهم فقهاؤهم وملوكهم من تعاطي معظم هذه العلوم” ‪.‬‬

‫إن ما وقع أيام ابن رشد تم “تجديده” في أواخر القرن العشرين لقد أهينت الفلسفة وقبلها العلوم‬
‫االجتماعية في حملة ممنهجة وفي غاية الخطورة ليأتي “الهيجيليون الجدد”‪ ،‬بخطاباتهم المتيامنة‬
‫والمتياسرة‪ ،‬ويتعجبوا من غياب االستقالل الفكري دون أن يعلموا (وربما كانوا يعلمون ولكنهم يعملون‬
‫“عملهم”) أن قمع الفلسفة جزء من القمع العام المسلط على “الجماهير”‪.‬‬

‫ما ذنب شمال إلفريقيا‪ ،‬بشريا وجغرافيا‪ ،‬إذا كانت كل معارضة للحكم تعني‪ ،‬عبر التاريخ‪ ،‬مالحقة كل أثر‬
‫مادي أو معنوي سابق باإلعدام والنفي‪ ،‬حتى تخال المعارض‪ ،‬الذي يستولي على مقاليد الحكم يستولي في‬
‫الوقت نفسه على عقارب الساعة وكأن التاريخ يبدأ مع أول قرار عسكري يوقعه‪ .‬وهكذا أعدمت آثار أزمنة‬
‫السابقين وسابقي السابقين ومن تالهم من العلماء والصناع والمبدعين على عهود الفينيقيين والرومان‬
‫واألدارسة والبورغواطيين والمرابطين والموحدين وما تالها من حياة اقتصادية واجتماعية وثقافية‬
‫عاصرت هيجل وما تاله من السلطان األكبر‪.‬‬

‫إن شمولية الحقوق السياسية والمدنية واالقتصادية واالجتماعية والثقافية وتفاعلها وتأسس بعضها على‬
‫بعض أمر في غاية البداهة وهو أمر ليس صعب التفسير من الناحية “الكالمية”‪ ،‬ولكنه في غاية الصعوبة‬
‫من ناحية “البراكسيس”لذلك نجد “الهيجيليين الجدد”‪ ،‬ولو بمساحيق متيامنة أو متياسرة‪ ،‬يحتقرون لغة‬
‫الشعب ويمنعونه بكل الوسائل من التمتع بالحقوق االقتصادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬أي من كل الحقوق‬
‫يوميا‪ ،‬يمكن للمالحظ بالعين المجردة أن يعاين تمسك سكان إفريقيا الشمالية بلغاتهم وبهويتهم‪ ،‬سواء من‬
‫حيث الملبس أو المأكل أو المنطوق والمتعقل‪.‬‬

‫فرغم التهميش المتواتر والتآمر المتكرر‪ ،‬ما زالت األمازيغية تنبض في شرايين الوطن‪ .‬وما زال البرنس‬
‫مالذا يعود إليه كل الواقفون في وجه كل الفظاعات وما زال الك ***‪  ‬أحد األطباق الشهية التي تخلد إنسان‬
‫إفريقيا الشمالية‪ .‬إن البرنس والك *** ‪ ،‬هنا‪ ،‬ينوبان عن كل ما تم إبداعه عبر التاريخ في هذه الربوع كما‬
‫أن اللغات الشمال إفريقية التي نتحدث عنها‪ ،‬ليست كائنات هالمية بل كائنات حية تزود بالحياة يوميا بعرق‬
‫العمال في األوراش والحقول ومختلف الميادين المعرفية‬
‫وهكذا يتضح أن االتكال على الغير من أجل اإلنصاف هو أحد األوهام التي تروج لها اإليديولوجيا السائدة‪.‬‬

‫ألن هذه األخيرة‪ ،‬بتهافتها تعبر عن الخلل االقتصادي واالجتماعي الذي يجد جذوره في البنيات التحتية‬
‫“فليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم االجتماعي ولكن هذا الوجود هو الذي يحدد وعيهم” إن‬
‫التحليل الملموس للواقع الملموس هو وحده الكفيل بالكشف عن كل االختالالت سواء في االقتصاد أو‬
‫السياسة أو الثقافة‪.‬‬

‫وكل االتجاهات االقتصادية والثقافية‪ ،‬التي تعمل على تبخيس مكونات الوطن البشرية والثقافية يلزم أن‬
‫تصنف في خانة “الكائنات الهيجيلية” التي تكرس هامش عدم االستقالل وتعمل على تحويله إلى محتل‬
‫لقلب الهوية في إفريقيا الشمالية‪ ،‬وهي منه براء‪.‬‬
‫ولكن…‬

‫بودريس بلعيد‬
‫أستاذ التعليم العالي‬
‫‪boudris@gmx.fr‬‬

You might also like