Professional Documents
Culture Documents
com/
كتاب نحو التوبة
إن التوبة ال ُتقدَّم بشغف فحسب،
أٌضا
بل وبسرعة ً
القدٌس امبروسٌوس
أرجوكـــم ٌا أح ّبـــائـــً
بـاســم ٌســوع المسٌـــح
أالّ ُت ْهمِلـــوا خالصـــكـم
https://coptic-treasures.com/
القدٌس أنطونٌوس
مدخل
الحٌاة الٌوم أصبحت وادي من القلق .وإنسان الٌوم أصبح َقلِ ًقا أكثر من أيّ وق ٍ
ت
ضى ،فالتم ُّدن والتحوُّ ل الذي طرأ على الحٌاة مُحوِّ الً إٌّاها إلى مُجْ َت َمع م َ
بشكل مباشر على ٍ استهبلكًّ قد غٌَّر من خصابص السلوك البشري بل وأثــَّر
ُمز ًقا بٌن ما ٌراه وماتفكٌره وقراراته وقناعاته وأولوٌاته ،ممّا جعل اإلنسان م َّ
ٌرٌده .ح ّتى إرادة اإلنسان نفسها قد طالتها ثقافة المدنٌَّة واالستهبلك فؤصبحت
َّبة مُتلقٌ ًَّة ،وك ّل هذا قد آل فً نهاٌة األمر إلى التغرُّ ب
شة مُغٌ ًُشو ً إراد ًة ه َّش ًة م َّ
الكٌانً الذي استوطن خرابِب قلب اإلنسان .ح ّتى النهضة التً كانت تهدف إلى
شوكة فً كٌانه ال ٌستطٌع أن ٌنتزعها، ً سعادة وراحة ورفاهٌَّة اإلنسان أصبحت
ً
مركزا وذلك ألن النهضة أعادت توزٌع األدوار الكونٌَّة ،فجعلت من اإلنسان
للوجود ،علٌه أن ٌُح ِّقق بنفسه االستقرار للكون وللطبٌعة ولِذاته ،وهو ما ٌفوق
قدراته وٌتع َّدى اختصاصاته فً هذه الحٌاة .فتنا َمى القلق الوجدانً وتسلَّل إلى
وتحول إلى قلق كٌانً ال ٌهدأ وال ٌتو َّقفٌُ ،حاصِ ر اإلنسان لٌل نهار، َّ الكٌان
ٌُ ْبعِده عن هوٌته الذاتٌَّة ،وٌُعمً بصٌرته عن معرفة دوره فً الحٌاة والوجود.
والقلق بحسب تعرٌف كٌركجارد (الفٌلسوف الدانماركً) هو [ التحدٌد الدقٌق
تجذر للخطٌبة فً كٌاننا اإلنسانً وما ٌَ ْت َبعه من للخطٌبة ] .فالقلق هو نتٌجة ُّ
تغرُّ ب اإلنسان عن هللا .فالخطٌبة هً تو ُّتر إنسانً ٌنشؤ حٌنما ننحرف عن
ضى بمدار الحٌاة الزمنً والتم ُّتع مسارنا ،ونشوِّ ه خ ِْلقتنا بالتحالُف مع العالم والر َ
بلذات الحواس المادٌَّة .وهذا التو ُّتر ٌستمر طالما اإلنسان قانع بمركزٌَّته الوقتً َّ
فً الحٌاة رافضًا تسلٌم دفة القٌادة هلل مرّة أخرى .وهذا عٌنه ما وصفه القدٌس
مكارٌوس الكبٌر بؤنه السقوط فً [ فقر الخطٌبة المُرعب ] .
إن مؤساتنا المعاصرة هً أننا ابتعدنا عن كوننا صورة هللا ،محاولٌن أن نخلق
أسطورتنا الشخصٌَّة ونرسم لوحتنا الفردٌَّة بمنؤى عن هللا .ولكن ما ٌغٌب عن
أذهان نا هو أنه ال مركزٌَّة مطلقة لئلنسان فً الحٌاة!! إنها مركزٌَّة الشٌطان
المُتخفً وراء تطلُّعات وطموح اإلنسان .فحٌنما ُنقصً هللا عن مركزٌَّة حٌاتنا
فإننا ندعو الشٌطان لٌتسلَّم القٌادة بدالً منه ،متوهمٌن أنه ٌمكننا ـ بمفردنا ـ
امتبلك حق االختٌار والقرار فً الحٌاة دون تدخـُّل إلهً!!
https://coptic-treasures.com/
من هنا ندرك أن الحل الوحٌد لنزع فتٌل القلق من كٌاننا اإلنسانً هو أن ُنسلِّم
هللا حق القٌادة ونعٌد تتوٌجه ُد ْف َعة أخرى على الحٌاة برُمتها .وهذا هو التعرٌف
الشامل لمفهوم التوبة .وهذا سٌكون مِحور حدٌثنا فً الصفحات القادمة.
لماذا الخطٌئة؟
إنه سإال حابر ٌتر َّدد صداه فً قلوب متؤلمة تشتهً وتشتاق أن َّ
تتذوق حٌاة
البرّ ،بٌنما ٌَ ْن َشب مار ُد اإلثم أظافره فً كٌانها اإلنسانً الرقٌق .سإال تطرحه
ترى اإلرادة حاضرة والشوق جارف والرغبة عارمة النفس فً دهشةٍ ،حٌنما َ
فً اقتفاء آثار الرب ،بٌنما ُتبصِ ر الس قوط واالنهزام فً واقعها الٌومً ،وترى
طٌور الحزن مُحلِّقة على فردوس القلب المفقود والنقاوة التابهة فً الصراع
الدابر بٌن الب ّر واإلثم.
وٌشتد إلحاح هذا التساإل ،حٌنما تجد نفسك تسٌر خطوة على درب النور،
وتنفتح بصٌرتك فً لحظات الصبلة الصادقة على األبدٌَّة .و ُتعاٌن فً نشوةٍ،
الفرح ومجد الحٌاة المُسْ َتتِرة فً المسٌح؛ ولكنك تصطدم فجؤة بحجر عثرة
آثمة على الطرٌق!! وترى ف ًّخا مخف ًٌّا تحتٌ ٌعترض مسٌرتك؛ حجر ألقته ٌ ٌد
أعشاب النواٌا الحسنة والغاٌات الطٌِّبة ،فتسقط فٌه ،وتجد أنه ٌَه َْوى بك إلى
ومظلم ،حٌث روح الظلمة ٌَ ِرفُّ على عتبته الرطبة الباردة؛ إنه
ٍ ضٌق
ٍ سردا ٍ
ب
سرداب الخطٌبة الذي ٌنتهً بهاوٌة الموت!!
وتجد أصوات المحٌطٌن تدعوك ألن تقرأ الكلمة اإللهٌَّة ،حٌنما ٌستولً علٌك
جو ٌع ونه ٌم للحٌاة الجدٌدة ،ف ُت ْبصِ ر برٌ ًقا أخـ َّ ًاذا ٌَشِ ع من بٌن السطور والحروف
والكلمات ،وفٌما تبدأ حبّات الحٌاة فً تكوٌن أولى براعم اإلنسان الجدٌد ،حسب
منطق ملكوت هللا غٌر المادي ،داخل قلبك ،تجد شو ًكا ٌخرج فً غفلة النفس عن
الوصٌَّةٌ ،لتقط براعم الحٌاة الجدٌدةٌ ،خنقها وهً بعد صغٌرة ،قبل أن ت ُش ّق
طرٌقها نحو النور!!
فإذ بك ُتسْ ِرع ل ُتلقً بذاتك فً َم ْخدَ ع الصبلة ،فهناك ٌدا المُخلِّص مبسوطة على
الدوام .ف َتسْ ُكب دموعك بل طِ ٌ َبك ،وإذ بالفرح والراحة ٌؤتٌان لٌستقرا بٌن جدران
قلبك ،وكؤنك خلعت ثوب األرض ،وتسلَّ َ
قت جبل تابور ،حٌث ضٌاء المجد ٌَ ْغمُر
ٌ
كشفة أمام بصٌرة الروح. الحضور ،وأسرار الملكوت ُم ْن
https://coptic-treasures.com/
وحٌنما تخرج من َم ْخ َدع الصبلة ،تجد لسان حالك ٌرجو المُخلِّص بكلمات
بطرس على جبل التجلً ،قاببلًٌ « :ارب جٌد أن نكون ههنا » (مت)4 :17؛
فههنا النور والبهجة وال ُنصرة والمجد والقوَّ ة ،وههنا الرجاء ٌتجسَّد واق ًعا
بحضور هللا .ولكن األرض والزمن والجسد ٌؤبون أن ُتحلِّق الروح بعٌ ًدا عن
ُرغمة من على جبل المجد المُستعْ لَن فً الصبلة، ً سلطان المادة ،فتنزل م
واللذة والمال معجونون َّ لتصطدم بحٌا ٍة منسوج ٍة بخٌوطٍ عبث ٌَّةٍ؛ فالشهوة والسلطة
روح سابح ٍة فً بحار ٍ بتراب األرضٌُ ،ش ِّكلون مار ًدا ٌطؤ بقسوة إبلٌسٌَّة ك ّل
افعة شِ راع وشرٌعة المحبّة فً وجه الحٌاة. الرجاء غٌر المنظور .ك ّل روح ر ٌ
ٍ
تذهب إلى الكنٌسة ،حٌث َج ْم ُع الرب ُم َّتحِد معًا ،فترفع صلواتك لتمزجها مع
صلوات جسد المسٌح التً ٌُصعِدها الروح الحاضر فً الكنٌسة إلى اآلب،
ارك اآلب على الجماعة المُصلٌَِّّة ،وٌهبها عربون الحٌاة الجدٌدة؛ جسد ٌسوع ف ٌُ َب ِ
احتوت الملكوت!! وأن الخطٌبة لن ْ ودمه .فتتقوَّ ى النفس وتستشعر وكؤنها قد
تستطٌع أن تتربَّص بها من جدٌد ،وأن الشٌطان سٌُعْ لِن هزٌمته أمام مجد
الخبلص الذي استق ّر فً قلوب َمنْ نالوا سِ ّر الحٌاة المُق َّدم فً اإلفخارستٌا.
ولكنك بعد قلٌل تجد شهوات الجسد تثور من جدٌد ،ومُغرٌات الحٌاة ُتعاود
ب من تراب ،لتجعل منه إلحاحها ،ومطالب األرض تبدأ م ّرة أخرى فً نسج ثو ٍ
شرنقة تحجز فٌها روحك الوثــَّابة نحو هللا ،لتحرمها من انطبلقها نحو الرب،
محبوب النفس وج َّل مشتهاها.
ثنائٌة الحٌاة
ووسط ك ّل هذا التناقض الذي ٌحٌط بالنفس ،تتسابل :أما من َح ٍّل للخطٌبة؟ أما
ُبرق ،لٌصٌر هو سِ مة نور أبدي ٌ ِ
من انكسار نهابً إلبلٌس وأعوانه؟ أما من ٍ
الحٌاة التً ال َتقبل الظلمة؟؟
وفً وسط حٌرتك وتر ُّقبك إجابة لتساإالتك ،تجد صو ًتا خاف ًتا هاد ًبا ٌتر َّدد صداه
فً أعماقك القصٌَّة ،صو ًتا ٌقول لك « :إن ُم َّدة ك ّل أٌام األرض ،زرع وحصاد،
برد وحر ،صٌف وشتاء ،نهار ولٌل ،ال تزال » .فإذ بك تنتبه أن تلك الكلمات
لٌست سوى الكلمات التً وردت بفم الرب فً سفر التكوٌن ( .)22 :8إنها
الكلمات التً َخ َت َم بها الرب على قصة الطوفان بعد أن قرَّ ر أن ٌحتمل تغرُّ ب
https://coptic-treasures.com/
اإلنسان عنه فً ال َشرِّ ،وأنه لن ٌعود ٌفنٌه ،ألن نسٌ َج ال َشرِّ قد تو َّغل فً كٌان
اإلنسان ٌوم سقط .وأصبح اإلنسان ٌحٌا بٌن قطبً النور والظلمة .وصارت
الحٌاة كلها ثنابٌات تتجاذب البشرٌَّة؛ ثنابٌات ما بٌن:
السقوط والقٌام،
االبتعاد واالقتراب،
االنكسار واالنتصار،
الحزن والفرح،
الضٌق والسعة،
األنٌن والبهجة،
الموت والحٌاة،
الجسد والروح،
األنا واآلخر،
الفرد ٌَّة والشخصان ٌَّة،
الكٌنونة والتملُّك،
المحدود وال ُمطلَق،
العدم والوجود،
الزمن واألبد ٌَّة.
إنها الحٌاة النسبٌَّة التً نحٌاها ،التً هً مزٌ ٌج من متناقضاتٍ .فالتراب ٌجاور
الروح فً الكابن البشري .إنها واقعٌَّة الحٌاة التً ٌُرٌدنا الروح القدس أن نعٌها
ونتعلَّمها .فالحٌاة لٌست أُحادٌَّة الجانب؛ فهً لٌست مادٌَّة مُتكثــِّفة فقط ،كما أنها
ضا .إنها مجموعة من الثنابٌات .وما ٌُش ِّكل توجُّ هنا
لٌست روحٌَّة بسٌطة فقط أٌ ً
https://coptic-treasures.com/
اإلنسانً فً مسٌرتنا بٌن ثنابٌات الوجود هو مٌلنا صوب أحد طرفـً الحٌاة،
وصراعنا للتحرُّ ر من الطرف اآلخر.
لذا ٌجب أن ننتبه إلى أنه بعد السقوط الذي أفسد الطبٌعة كلها ،دخلت الخطٌَّة إلى
البلُّورٌَّة التً ال تشوبها شاببة هو حل ٌم
صمٌم المادة المخلوقة .لذا فإن وهم النقاوة ِ
بعٌد المنال طالما أننا أسرى الزمن والتراب .كما أن هللا ال ٌطالبنا بالنتابج ولكنه
ٌطالبنا بالحركة والدفاع عن ثوب الخبلص.
فالنقاوة التً ٌجب أن نس َعى إلٌها هً ولٌدة صراع مستمر ،آنً ،متواصل.
وهذا الصراع هو الذي ٌستقطِ ب هبات الروح المجانٌَّة لنا ،خا ِتمًا إٌاها بالنقاوة
والطهر .لكن ٌب َقى هبوب نسٌم الروح على أعتاب قلوبنا مرهو ًنا بٌقظتنا ُ
وصراخنا ورجاإنا فً نوال المعونة والخبلص ،وٌب َقى نداإنا الذي ٌنطلق ،لٌل
نهار ،من صمٌم قلوبنا المتر ِّقبة شعاعًا من نور ،ومن وسط غٌمات شتاء
س ] (من ِق َطعالخطٌبة القارس ،هو [ :هل ّم تفضَّل ،حِل فٌنا ،وطهِّرنا من ك ّل دن ٍ
الساعة الثالثة /صلوات السواعً) .الروح هو مُطهِّرنا من الدنس والخطٌبة
ولٌس جهادنا .أالَّ ُنطفِا الروح داخلنا ٌب َقى هو غاٌة ك ّل جها ٍد ض ّد أعداء النور.
ًإذا مطلب هللا م َّنا لٌس هو التخلُّص من الخطٌبة ولكنه الصراع ض ّد الخطٌبة،
بٌنما التخلُّص من الخطٌبة هو الثمرة التً ٌقتطفها لنا الروح من شجرة الحٌاة
التً ال ٌموت آكلوها.
من هنا ٌمكننا أن نعرف أن سِ ّر انكسار الخطٌبة ٌكمن فً ٌقظتنا إِبَّان الصراع
على الدوام ودببنا على التخلُّص من ك ّل خطٌبة َعلِ َقت بثوبنا النقً الذي لبسناه
ٌوم معمودٌتنا .فبل نقاوة بدون صراع مع الظلمة ،وذلك ألن نقاوتنا مُه َّددة على
الدوام من أعدا ٍء ال ٌنامون وال ٌهدأون وال ٌضجرون من كثرة الهزابم.
ثنائٌة التوبة
آن
إن التوبة ذاتها هً إحدَى ثنابٌات الحٌاة .فهً تعبٌر عن المٌل والصراع فً ٍ
واحد .إنها مٌ ٌل لمشورة الروح بالعودة إلى هللا ،كما أنها ـ فً ذات الوقت ـ
صرا ٌع ض ّد خٌوط الشٌطان التً ترٌد أن ُتعرْ قِل تلك الحركة نحو هللا .إنها
ُتمثــِّل ثنابٌَّة داخلٌَّة فً قلب اإلنسان؛ فاالقتراب من مدار النور اإللهً هو فً
نفس الوقت إظهار مُإلم لحالة النفس المُتد ِّنسة بالخطاٌا والتع ّدٌات ،تلك التً
https://coptic-treasures.com/
لَ ِح َقت بها من جرّاء الخضوع للعالم وقانونه المادي .فالنور وحده هو المُخبِّر
عن الظلمة .وهذا ما ٌجعلنا فً حالة نِزاع دابم بٌن رجاء االقتراب ورهبة
االقتراب ،شوق اللقاء َ
وخشٌْة اللقاء!!
وعن ذلك النزاع الذي تجوزه النفس حٌنما ٌَب ُرق نور هللا فً أُفـ ُ ِق الروحٌُ ،ح ِّدثنا
صفرونً سخاروف (الراهب الروسً) فً كتابه (معاٌنة هللا كما هو) ،قاببلً:
… ٌُصبـِـح اإلنسـان ُم َم َّزقــًا؛
من جهــةٍ ،هو غـارق فً هلعـه
من رؤٌـة ذاتـه على ما هً علٌـه من قباحـات،
قـو ٍة لم ٌعرفهـا من قبـل،
ومن جهــ ٍة أخرى ،فهو ٌشعـر بفٌـض َّ
الحـً …
ّ ناجمــة عن رؤٌــة اإللـه
كما ٌكتب كالٌستوس وٌر فً كتابه (الملكوت الداخلً) ،قاببلً:
آن معــًا
التوبــة ال ُمفعمــة ألمــًا وفرحــًا فً ٍ
ُتعبــِّر عن التو ُّتـر الخـالَّق
الذي طالما طبـع الحٌـاة المسٌحٌــَّة على هذه األرض.
إنَّ تلك الثنابٌَّة الضرورٌَّة التً ُتش ِّكل توبتنا هً بالفعل تو ُّتر خبلَّق ،ألنه من بٌن
ألم رإٌة النفس على حقٌقتهاْ ٌَ ،برُق النور اإللهً علٌها ،فتذوب فً نشوة التبلقً
مع هللا ،مُتناسٌ ًَّة ذاتها وحالتها وحقٌقتها .تلك هً أولى خطوات مغادرة الذات
باتجاه هللا ،وهو ما ٌضمن النجاة من فِخاخ الٌؤس المُتربِّصة بالخاطِ ا حٌنما ٌُعْ لِن
عودته ألحضان هللا األبوٌَّة من جدٌد.
إن مشاعر التوبة تتؤرجح دابمًا ما بٌن قطبٌْن ،وهما:
قُطب النور (الحاضر) :وهو ٌُمثــِّل فرح النفس بعودتها إلى هللا.
https://coptic-treasures.com/
قُطب ظلمة الماضً :وهو ٌُمثــِّل ألم النفس لما سببته لقلب هللا من جراح
https://coptic-treasures.com/
ولكن هل هذا ٌعنً أنه ٌجب علٌنا قبول حقٌقة وجود الخطٌبة فً حٌاتنا؟!
بشكل لحظًٍّ ،
ٍ بالطبع ال .ولكن ٌجب أن ُن ْد ِرك مدار الصراع الذي نجتازه
وأٌضًا طبٌعة األعداء ال ُم َتربِّصٌن بنا ،وكذلك طبٌعة الصراع نفسه ،بل وطبٌعة
ضا ،ح ّتى ٌمكننا القٌام بعد االنطراح والصمود بعد السقوط ذواتنا نحن أٌ ً
واالنتصار بعد االنكسارٌ .جب أن ُن ْد ِرك أن الخطٌبة ُتحاصِ ر وجودنا الترابً
فتور
ٍ منفذا للدخول واإلنبات ،تتلمَّس لحظات بجُملته ،تتسلَّق جدران القلب لتجد ً
ف ل َت ْد ُخل و ُتقٌِّد النفس والروح معًا بقٌود بها
تراخ أو حٌر ٍة أو ضع ٍ
ٍ ملل أو
أو ٍ
رابحة الجحٌم والموت .واإلنسان مابل لل َشرِّ منذ حداثته كما أعلن الكتاب ،لذا
فإن الخطٌبة لم ٌنج منها شخصًا على مرِّ العصور!!
ٌبقى أن ُنإ ِّكد م َُج َّد ًدا أن ما ٌطلبه هللا م َّنا هو العمل ولٌس النتٌجة ،الجهاد ولٌس
الخبلص.
لقد تح َّدث القدٌس بولس أٌضًا عن نزاع ثنابً داخلً؛ إنه النزاع بٌن اإلرادة
والفعل ،بٌن االشتٌاق القلبً والجمود الحٌاتً .وهو ما نجده حٌنما ُنطالع رسالته
لحم
إلى أهل رومٌة ،التً ٌُدوِّ ن فٌها أنٌنه بلسان ك ّل البشرٌَّة المرتدٌَّة لِباسًا من ٍ
ُ
فلست أجد » ودم ،قاببلً « :ألن اإلرادة حاضرة عندي ،وأما أن أفعل الحُس َنى، ٍ
(رو.)18 :7
إن هذا الصراع بٌن اإلرادة المُترجٌَّة أبدٌَّة النور ولِباس الفضٌلة ،من جهةٍ،
وبٌن العمل المُلوَّ ث بالتعدي والخطٌبة ،من جه ٍة أخرى ،هو بالفعل ِمحْ َور الجهاد
اإلنسانً .إن ال ُنصرة َت ْكمُنُ فً الجهاد ،والنعمة دورها أن ُتتوِّ ج هذا الجهاد
بالنقاوة والتحرُّ ر من الخطٌبة .لذا فإن االنفبلت من حبابل الهاوٌة هو نتٌجة
شراكة بٌن جهادك المُستمِر ،وبٌن النعمة التً ُتعٌِن و ُتكافِا .لذا ال تجعل من
ِّطا لعزٌمتكٌ ،جب أال ّ تتو َّقف عن الصراخ إلى هللا من الضعف والسقوط مُثب ً
أجل الحصول على نعمة التحرُّ ر ،وطالما قلبك ٌصرخ طالما أنت مُنتصِ ر .فقط
الهزٌمة فً تو ُّقفك عن الصُراخ والجهاد ،والرجاء فً ال ُنصرة.
ولع ّل هذا المفهوم نجده بوضوح فً الصبلة التً ٌتلوها الكاهن قبل التق ُّدم للخدمة
اللٌتورجٌَّة الخاصة باإلفخارستٌا ،إذ ٌقول (صبلة االستعداد /قُ َّداس القدٌس
باسٌلٌوس):
https://coptic-treasures.com/
أٌهـا الرب العـارف قلـب كل ّ أحـدٍ،
القدوس ال ُمسترٌـح فً قدٌسٌـه،
الذي بال خطٌــَّة وحـده ،القـادر على مغفـرة الخطاٌـا،
أنت ٌا سٌد َت ْعلَـ ُم أنً غٌر ُمستحـق وال ُمستعـد وال ُمستوجـب لهذه الخدمـة
ال ُمق َّدسـة التً لك،
ولٌس لً وجـه أن أقـترب وأفتـح فاي أمـام مجـدك المـُق َّدس،
بل ككثرة رأفاتـك اغفـر لً أنا الخاطِ ئ …
إن تلك الصبلة الممتلبة ب االنسحاق الشدٌد أمام المجد األقدس ،هً بالفعل لسان
حال ك ّل التاببٌن الذٌن لم ٌَصِ لوا إلى التحرُّ ر الكامل من الخطٌبة ،ولكن
صرختهم الدابمة والمُسْ َتمِرة هً [ :ككثرة رأفاتك اغفر لً أنا الخاطِ ا ] .وتلك
الصرخة وحدها تحمل على جناحٌها سِ ّر ُنصرة الخاطِ ا ،على الذات ،التً ترٌد
أن تتبرَّ ر ،وعلى الشٌطان ،الذي ٌرٌد أن ٌَ ْخدَع النفس ببرِّ ها تار ًة ،وبعدم جدوى
الوقوف أمام هللا تار ًة أخرى .إنها الصبلة التً ُتهٌِّا اإلنسان للوقوف أمام هللا ،إذ
ب منسوج برقة وعذوبة االتضاع. أنها تكسوه بثو ٍ
ٌوم وك ّل ساع ٍة بل وك ّل وعلى الجانب اآلخر ،نجد أن الثنابٌات التً ُتبلحقنا ك ّل ٍ
لحظ ٍة فً حٌاتنا ،هً السبب الربٌسً والمُباشر لنمونا ونضوجنا .فلوال األسود
للطهر والنقاء ،ولوال الظلمة لما كان ابتهاج الطبٌعة رمزا ُ
ً لما كان األبٌض
بٌقظة النور ،ولوال القتال والصراع لما احتفل البشر باالنتصار .فالتتوٌج لن
الجهد المبذول ٌؤتً إال ّ عقب القتال .كما أن ال َطعْ م الحقٌقً لل ُنصرة ٌَ ْكمُن فً َّلذة َ
أثناء الصراع .إنه التعلٌم الذي كان ٌحرص القدٌس مو َسى األسود أن ٌُلَ ِّقنه لك ّل
َمنْ كان ٌؤتً إلٌه شاكًٌا ضراوة القتال ،إذ اعتاد أن ٌقول:
لو لم تــكن حـروب وقتــال،
ما كــانت فضٌلــة
https://coptic-treasures.com/
فالفضٌلة ًإذا هً نِتاج الصراع المُحْ َتدِم بٌن قطبً المادة والروح ،حٌنما ٌمٌل
اإلنسان بالروح ،لٌسمو عن جذب المادة المُستمر والدابم .كما أن اإلكلٌل
تكتس بالعرق والجهد فً سعٌها الٌومً.
ِ رإوس لم
ٍ الختامً لن ٌستقر على
وكذلك الغلبة لن تكون إال ّ لمن استطاعوا أن ٌقولوا [ ال ] للعالم الحاضر
الموضوع فً الشرٌر.
إن هذا الصراع بٌن المادة والروح هو فً حقٌقته صراع تجري أحداثه فً
العالم اإلنسانً الصغٌر ،microcosmosداخل الكٌان البشري ،بٌن خواطر
إبلٌسٌَّة تتسلَّل ،فً ظلمة الضمٌر ،لتجذِب اإلنسان تجاه الهاوٌة ،ولتتجسَّد فً
شكل خطٌبة ،وبٌن نفحات الروح القدس التً تبغً إشعال القلب الذي قاربت
فتٌلته على االنطفاء ،ل ٌُ ْبصِ ر من جدٌد نور الحٌاة .وهذا الصراع فً عقل وقلب
اإلنسان ٌجعله فً حالة نزاع دابم ،بٌن قوَّ ة هابلة تجتذبه لمن هو غٌر منظور،
بحواس الجسد ،ولكنه مربً ببصٌرة الروح النقٌَّة ،وبٌن قوى أخرى تستخدم
الحواس لتستمٌله نحوها.
وهذا النزاع اإلنسانً ال ٌتو َّقف ،ولكن اإلنسان ،بمضً الزمنٌ ،صبح أكثر
ُتسربلة بثوب
ِ تبصُّرً ا بالحقٌقة ،وأكثر إدرا ًكا للخدعة التً تقبع خلف الغرٌزة الم
اللذة ،وذلك حٌنما ٌنمو وعٌه اإلٌمانً من خبلل خبرات ٌومٌَّة متبلحقة .وبقدر َّ
ما ٌمٌل اإلنسان صوب النور بقدر ما تضعف همسات الظلمة التً تجتذبه.
وبقدر ما ٌرتضً ـ فً المقابل ـ بوجود قشور الخدٌعة الشٌطانٌَّة على ناظرٌه،
ً
حالة من انعدام المع َنى تشت ّد حبابل الظلمة حول عنقه ،فٌختنق ،وٌصبح أسٌر
والقٌمة والغاٌة ،وٌصبح أقرب للهاوٌة منه للملكوت.
ٌكتب لنا باولو كوٌلهو ( Paulo Coelhoالروابً البرازٌلً) فً رواٌته
(محارب النور) عن تلك القوتٌْن اللتٌْن تجتذبان النفس ،قاببلً:
ٌعـرف محـارب النـور أنَّ المـالك والشٌـطان
ٌتنافسـان على مـقبض سٌفـه،
ٌقـول الشٌـطان « :ستضعـف ..لن تعـرف متى؟ أنت خائف »
« :ستضعـف ..لن تعـرف متى؟ أنت خائف » وٌقـول المـالك
https://coptic-treasures.com/
بـكالم واحد!!
ٍ المحـارب مندهـش؛ فالمـالك والشٌطـان تفوهـا
عندهـا ٌتابع الشٌطـان « :دعنً أساعـدك … »
وٌقول المـالك « :سأساعـدك »
فً هذه اللحظـةٌ ،فهـم المحـارب الفـرق.
فـقد تـكون الكلمـات واحـدة ،ولكن الحلٌفـٌن مختلفـٌن.
فٌختـار حٌنئ ٍذ ٌـد المـالك.
إن نصرتنا َمرْ هونة ـ أوالً وقبل ك ّل شً ٍء ـ بوعٌنا بالصراع وبؤطرافه وبوسابل
ال ُنصرة وأسباب الهزٌمة .فلقد استخدم الشٌطان كلمات الروح لخداع المسٌح،
ولكن وعً المسٌح بقصد الروح من تلك الكلمات صار هو سِ رّ انكسار الشٌطان
فً تلك الحرب التً ا َّتخذت من الجبل مكا ًنا شاه ًدا علٌها .والوعً ٌعنً تدرٌب
الحواس وشحذ المهارات الروحٌَّة القتالٌَّة ،بالصبلة وكلمة هللا واالفخارستٌا …
ولكن قبل ك ّل شًء؛ التسربُل بالتواضع كما بالجسد.
الوعً
إن وعٌنا بتلك الثنابٌات التً ُتحٌط بناٌ ،جعلنا أكثر إدرا ًكا للواقع الذي نحٌاه،
وأكثر تق ُّببلً الحتماالت التعثــُّر والسقوط .وبقبولنا طبٌعتنا البشرٌَّة المُعرَّ ضة
فعة أخرى .فالذي ٌجعل من قوة وقُدرة على النهوض ُد ً للخطؤ ،س ُنصبح أكثر َّ
شخص ما ،القٌام م ّرة أخرى بعد السقوط ،هو شعو ٌر كاذب ٍ الصعب على
باالستقرار والثبات ،والثقة فً طبٌعة بشرٌَّة عتٌقة قد تثور وتزأر فً أيِّ وقت،
ً
عنٌفة ،حٌنما ٌجد أن ثباته كان ح ُْلمًا مرَّ سرٌعًا ،وأن نقاوته قد ً
صدمة ممَّا ٌُش ِّكل
طالتها أٌدي الخطٌبة .لذا ٌنصح القدٌس بولس قاببلًَ « :منْ ٌظن أنه قابم ،فلٌنظر
أن ال ٌسقط » (1كو.)12 :10
https://coptic-treasures.com/
وٌقول القدٌس ٌوحنا ذهبً الفم:
عندمـا ٌَ ْسقُـط ال ُمتك ِّبر ٌندهـش وٌنـدم وٌفقـد الرجـاء،
أما ال ُمتضـع فهـو ٌعـرف ضعفـه،
ف أو سلـوكٍ ،
وال ٌندهـش من تصـر ٍ
حً فً رحمـة هللا.
برجـاء ٍّ
ٍ بل ٌنـدم
لذا فمن الضروري وضع هامش للخطؤ والتعثــُّر فً الحٌاة التً نحٌاها ،ممَّا
فشل
ٍ ٌَ ِهبنا القُدرة أن نتجاوز لحظات السقوط سرٌعًا ،ونتصرَّ ف بإٌجابٌَّة بعد ك ّل
قد ننحدر فٌه أثناء صراعنا الٌومً المُحْ َتدِم.
كبشر،
ٍ إن قبولنا لذواتنا لٌس تصالُحً ا مع الخطٌبة ولكنه وعً بإمكانٌَّة السقوط،
نحٌا فً خٌمة إنس انٌَّة .ولكن هذا الوعً ال ٌنبغً أن ٌنفصل عن سعً دإوب
لتغٌٌر تلك الحالة بلمسات النعمة .فكثٌرً ا ما ٌُجاهد البعض ولكن بثقة فً الثبات
دون معرفة هشاشة النفس البشرٌَّة التً تحٌط بها حٌَّات وأفاعً الخطٌبة لٌل
نهار ،وهً تتربَّص بها لتلدغها حٌنما تسهو وتغفو .كما أننا نجد أن هناك قطا ًعا
آخر من البشر ٌدركون طبٌعتهم الخاطبة وال ٌنهارون أمام قسوة السقوط،
ً
استكانة ولكنهم فً المقابل ،ال ٌعملون على تغٌٌر تلك الحالة!! فٌصبح وعٌهم
و َتصالُحً ا مع الظلمة.
لذا فمن الضروري أن ٌمتزج الوعً بالضعف اإلنسانً مع العمل والسعً للقٌام
والتوبة والتج ُّدد ،ح ّتى تكون التوبة مدفوعة بقوَّ ة الرجاء الذي ٌُو ِّفر على الخاطِ ا
جها ًدا طوٌبلً فً سعٌه للنهوض ُد ً
فعة أخرى.
https://coptic-treasures.com/
وفً ك ّل مرّة تؤتً غٌمة السقوط ل ُتحٌط بك ،و ُتب ِّدد شوقك للنقاوة؛ ٌجب علٌك أن
تقف وتــُر ِّدد فً داخلك:
فـً للموت،
إنها الطبٌعة البشر ٌَّة الخاطئة التً تعمل َّ
إنه الجسد الشقً
الذي ٌُك ِّبل روحً الثائرة على العالم المادي،
https://coptic-treasures.com/
إننا نسٌر فً الحٌاة بآنٌتنا الفخارٌَّة اله َّشة؛ التً هً أجسادنا الترابٌَّة وطبٌعتنا
المحدودة ،ولكن تب َقى اشتٌاقات قلوبنا هً سِ ّر صمودنا أمام قسوة الحٌاة .ولكن
االشتٌاق ٌجب أن ٌصٌر عمبلً ،والعمل ٌجب أن نتوجَّ ه به هلل.
ت لنا بطبٌعة خارجٌَّة جدٌدة ــ بدالً من الجسد المادي ـ ل ُتقحِمها
فالمسٌحٌَّة لم تؤ ِ
فً كٌاننا اإلنسانً ،فمدار وجود المسٌحً هو نفس المدار الزمنً والمكانً
الذي تدور فٌه باقً الخلٌقة .فنحن كسابر البشر ،لنا ما لهم وعلٌنا ما علٌهم،
جرى على إخوتكم الذٌن بحسب الطبٌعة المادٌَّة؛ « عالمٌن أن نفس تلك اآلالم ُت َ
فً العالم » (1بط .)9 :5ولكن الخلٌقة الجدٌدة التً تح َّدث عنها القدٌس بولس
لٌست سوى صورة هللا المنقوشة فً جوهر الكٌان اإلنسانً والمُتطلِّعة إلى وجه
المسٌح ،فقط حٌنما تتن َّقى تلك الصورة من شوابب الخطٌبة بدم العهد الجدٌد،
لتعود نقٌَّة بهٌَّة كسابق عهدها قبل السقوط ،تعكِس األصل اإللهً المُضِ ًء الذي
ت على شاكلته. صُوِّ َر ْ
إن الخلٌقة الجدٌدة فً المسٌح هً سِ رّ انفتاح بصٌرة اإلنسان ،فهً التً تجعله
ٌستطٌع أن ٌُ ْبصِ ر القٌامة خلف رداء الموت .فحبَّة الحنطة فً نظر المسٌحً
لٌست بذرة صغٌرة ُم ْه َملة ولكنها شجرة كبٌرة مُثمِرة!! وهذا هو سِ ّر الحٌاة
الجدٌدة .إنه تجدٌد البصٌرة للحٌاة لنرى ك ّل شً ٍء بؤعٌن هللا الساكن فٌنا .وهكذا
نجد أن األلم فً حٌاة المسٌحً هو إكلٌل مج ٍد وشهادة حٌَّة ،فقط حٌنما ٌ ُْخ َتم
بخاتم الصبر والرجاء فً الرب .وأٌضًا نرى السقوط هو َد ْف َع ٌة للقٌامة بقوَّ ة
أعظم ،أو بحسب التعبٌر الخالد للقدٌس ٌوحنا ذهبً الفم؛ هو سِ ّر [ العودة بقوَّ ة
أعظم ] .وهكذا الخطٌبة فً القاموس المسٌحً ،بالرغم من ك ّل قُب َْحها وسلبٌتها
التً ُتلقً بالضوء على االنهزام فً حٌاة اإلنسان ،نجدها تإول بالتوبة إلى
اختبار!! اختبار نعاٌن فٌه وجه هللا الرحوم.
فالخطٌبة ًإذا ،هً التعبٌر عن البشرٌَّة الملوَّ ثة بخبرة معرفة الخٌر والشر،
تتحول إلى فرصة ثمٌنة َّ بالممارسة والعمل والسقوط .ولكنها من جه ٍة أخرى ،قد
ل ُنعاٌن من خبللها عمل هللا و ُحبَّه المجانً ،وخبلصه الذي ال ٌتو َّقف على حالتنا
الراهنة ،ولكنه ٌنهال علٌنا بحسب سخاء الرحمة التً فً قلب هللا من جهتنا،
ولكن هذا البُعد نتلمسه فً حٌاتنا فقط حٌنما نبدأ بالتوبة.
https://coptic-treasures.com/
فالخطٌبة بدون توبة هً قبول دٌنونة ،ولكنها بالتوبة هً معاٌنة النعمة والمجانٌَّة
فً ك ّل تعامبلت هللا معنا «وأنتم الذٌن كنتم قببلً أجنبٌٌن وأعداء فً الفكر فً
األعمال الشرٌرة ،قد صالحكم اآلن ،فً جسم بشرٌته ،بالموت ،لٌُحْ ضِ َركم
قدٌسٌن وببل لوم وال شكوى أمامه» (كو 21 :1ــ .)22
وعن هذا المفهوم ٌكتب األب هنري بوالد فً كتابه (السبلم الداخلً) قاببلً:
النعمـة تحتـاج إلى نافـذ ٍة تمـر منهـا إلى قلـب اإلنسـان،
وقد ٌكـون جـرح الخطٌئـة هو تلك النافـذة
التً تسمـح للنعمـة بالنفـاذ إلى أعماقنـا،
ح ّتى تـروي أنفسنـا التً ُت ْ
شبـِه األرض الجافـة …
ولنا فً َمثـَل العشار نموذج لتلك الحالة الفرٌدة لعمل النعمة؛ ف ِجراح الخطٌبة قد
جار ،وتناقل
ٍ كنهر
ٍ أحْ َنت نفس ذلك العشار بال ُحزن ،فتد َّفق األنٌن من قلبه
الفضاء صدَى قرعات صدره التً زلزلت السماء ،وخرجت تلك الكلمات
البسٌطة التً فتحت الباب أمام النعمة للعمل والتبرٌر والغفران.
« وأمـا الع َّ
شـار فوقـف من بعـٌد
ال ٌشـاء أن ٌرفـع عٌنٌـه نحو السمـاء
بل قـرع على صـدره قائـالً:
اللـهم ارحـمنً أنا الخـاطِ ئ »
(لو)13 :18
https://coptic-treasures.com/
إننا فً مطالعتنا للعهد الجدٌد نجد أن هللا قد جاء فً الجسد من أجل الخطاة
واألثمة والساقطٌن ،ولٌس من أجل األبرار والكاملٌن ،كما أعلن هو قاببلً« :
ألنً لم آت ألدعو أبرارً ا بل خطاة إلى التوبة » (مت .)13 :9من هنا ندرك
وتذوق
ُّ أن األبرار فً أعٌن أنفسهم هم أبعد الخبلبق عن معاٌنة وجه هللا الرحوم
النعمة المجانٌَّة .ولنا فً تبكٌت الرب للكتبة والفرٌسٌٌن وقادة الشعب أكبر دلٌل
على خطورة الب ّر الذاتً الذي كان موضع انتقاد الرب الدابم والمستمر.
ٌتذوق الرحمة حٌنما ٌستعطف صبلح هللا َّ فالخاطِ ا التابب وحده هو الذي
النتشاله من مستنقع الخطٌبة .حٌنما ٌدرك إنه ال شًء فً مواجهة الخطٌبة
ومواجهة قوات الظلمة ،ولسان حاله ٌقتبس من كلمات القدٌس أنطونٌوس ،حٌنما
كان ٌواجه إبلٌس وجنوده ،فٌقول [ :أنا أضعف من أصغركم ] .فالضعف الذي
ٌُعْ لِنه القدٌس أنطونٌوس هو ضعف الذات بقدراتها اإلنسانٌَّة فً مواجهة الظلمة،
تتدخل النعمة وتقود النفس َّ ولكن هذا الضعف ٌتحوَّ ل إلى قوَّ ة ُنصرة هابلة حٌنما
فً هذا الصِ راع ،لتصبح المواجهة بٌن هللا والشٌطان .حٌنبذ َت ِف ّل ك ّل قوات
الظلمة من أمام وجه الرب المدافع عن الصارخٌن إلٌه لٌبلً ونهارً ا.
وٌُدوِّ ن لنا القدٌس أثناسٌوس فً كتابه (حٌاة األنبا أنطونٌوس بقلم البابا
أثناسٌوس /فصل ) 10،11تفاصٌل الصراع بٌن أنطونٌوس والشٌاطٌن ،والذي
ُّ
بتدخل مباشر للرب ،فٌقول: انت َهى
وهـكذا إذ تطلـَّع (أنطونٌـوس) إلى السـقف إلى فـوق
رأى السـقف كأنـه قد انفتـح،
نـور نازل ٍة علٌـه،
وأشعـة من ٍ
وللحـال اختفـت الشٌـاطٌن،
وانقشـع ألم جسـده ،وعـاد البنـاء سلٌمـًا …
وٌضٌف القدٌس أثناسٌوس ،قائالً:
وفً الٌـوم التـالً خـرج أشـ َّد َم ٌْـالً لخدمـة هللا.
https://coptic-treasures.com/
آهٌ ،ا لٌتنا ُن ْد ِرك عِ َظم النعمة والمعونة التً ُتحٌط بناٌ ،ا لٌتنا ُن ْد ِرك مجد ال ُنصرة
التً تتر َّقب صرخات قلوبنا لتستحضِ ر هللا فً قلوبنا ،حٌنها فقط لن ُتخٌفنا
الخطٌبة ولن ُتقٌِّدنا فً قضبان الٌؤس الحدٌدٌَّة ،ألن أبصارنا ستظل ُم َعلَّقة
بالسماء ،تترجَّ ى المعونة وتبتهج بها .لن ٌستطٌع جنود الشر أمام األعٌن المُح ِّدقة
فً غٌر المنظور سوى أن ٌَفِروا مهرولٌن نحو هاوٌة مصٌرهم ،وهم ٌَ ُجرون
أذٌال الخٌبة والهزٌمة.
التوبة
من األمور التً ٌجب علٌنا أن ننتبه لها ،هً أن السقوط فً خطٌب ٍة ولٌدة
الضعف لٌس كالسقوط فً خطٌبة ناتجة عن قساوة واستهانة .وأن العناد فً
الخطٌبة ٌُ ْفقِد الروح قدرته!! على التدخـُّل إلنقاذ ذلك اإلنسان .ولنا فً َمثــَل
فرعون ،الذي عاند دعوة هللا لشعبه إلى البرٌَّة ،شهاد ًة على عنا ٍد إنسانًٍّ ٌمكنه
أن ٌصل بالنفس إلى الغرق والهبلك.
ولكن على الجانب اآلخر ،حٌنما ٌجثو الخاطِ ا أمام هللا ،ولٌس فً فمه كلمات،
ال ٌدري ماذا ٌفعل ،فحٌنما تكلَّم قببلً كانت كلماته وعو ًدا وعهو ًدا ،ولكن الخطٌبة
وألم ،فً محضرٍ قد أذابت ك ّل تلك الوعود وطرحت النفس عارٌة ،فً خزيٍّ
هللا .ولم ٌتبق لذلك اإلنسان إال ّ أنْ ٌرفع عٌنٌه إلى السماء؛ أعٌن تمتزج فٌها
الحٌرة والندم مع الشوق .تصٌر نظراته التً ٌُرْ سِ لها إلى األعالً هً صبلته
« ونحن ال نعلم ماذا نعمل؟ الصامتة التً تعكس حالته وحٌرته ورجاءه
ولكن نحوك أعٌننا » ( 2أخ .)12 :20هنا ال ٌملك هللا أمام تلك النفس التً
ُعزي قلبها الكسٌر بل وٌمنحها الغفران. ترٌد وال تستطٌع ،إال ّ أنْ ٌُش ِّدد ضعفها وٌ ِّ
ِطة فً رجاء الفجر رات مُتساق ً
فاهلل ال ٌحتمل قلبًا مُنس ِح ًقا وعٌ ًنا مُنكسر ًة و َع َب ً
اآلتً.
إنها التوبة التً تفتح ُكوى السماء لتؤتً لنا بالمطر الروحانً (النعمة) فتبتل
عطش وحدبٍ.
ٍ أرض الروح اإلنسان ٌَّة المقفرة وترتوى بعد
والتوبة الكتابٌَّة لٌست حالة من الحزن ،بقدر ما هً لحظة انفتاح على حقٌقة
الحٌاة .ترى فٌها النفس ،الحق والباطلُ ،تبصِ ر من خبللها ،النور والظلمة ،تضع
َّ
وملذات األرضٌات. ٌدها على الهوَّ ة التً تفصل بٌن مجد السماوٌات
https://coptic-treasures.com/
إنها نظرة إلى فوق برجاء حً مُتج ِّدد ال ُتعرْ قِله أثقال الخطٌبة وال ٌُوقِفه هول
التعدٌات ،ألنه رجاء فً ثالوث الحبّ .إن مثل تلك النظرة إلى أورشلٌم العلٌا
تجتذب اإلنسان للجمال غٌر المادي؛ جمال الحق والنور والقٌامة.
كما أن التوبة لٌست موق ًفا سلبًٌا نذرف فٌه الدموع على اللبن المسكوب ،دون
التحرُّ ك لؤلمام .إنها لٌست لحظات ساكنة نقضٌها فً التحسُّر على الماضً
ال ُم ْنقضً ،ولكنها حركة دإوبة ُتشعِل النفس لتغٌٌر موقفها من الحٌاة بؤبعادها
الثبلثة (الذات واآلخر وهللا).
إنها لحظات فرح وسبلم وإن كان تعبٌر الجسد عنها دموع وأنٌن .فؤنٌن وألم
وأحزان التوبة ُمب ِْهجة و ُم ْف َعمة بالسبلم القلبً .لذا عبَّر الرسول بولس عن هذا
ال ُحزن ال ُمب ِْهج قاببلً عنه إنه « :ال ُحزن الذي بحسب مشٌبة هللا » الذي « ٌُنشِ ا
لخبلص ببل ندامة » (2كو .)10 :7فتوبة الخبلص ال ترتكز على الندامة، ٍ ً
توبة
بل على ال ُحزن الفعال اإلٌجابً ال ُم ْنطلِق إلى األمام بعمل روح هللا.
وإن كان تعرٌف الخطٌبة كما كتب كٌركجارد هو القلق ،نجد أن مٌرالوت
بورودٌن فً كتابها (سِ ّر عطٌَّة الدموع فً الشرق المسٌحً) تكتب أن [ ال ُحزن
المسٌحً ال ٌقلق ألنه ال ٌٌؤس ].
إن االختبلف بٌن ال ُحزن الناتج عن الخطٌبة ،والحُزن المسٌحً الذي بحسب
مشٌبة هللا ،هو أن األوَّ ل ُحزنٌ َقلِق بٌنما األخٌر ُحزنٌ ال ٌعترٌه القلق ألنه مُمتلِا
بالسبلم ،نتٌجة الثقة فً صبلح هللا وغفرانه .لذا فإن الحُزن المسٌحً ال ٌقود
للٌؤس كما أشارت مٌرالوت .فالٌؤس هو فقدان الثقة ،بٌنما التوبة هً استعادة
الثقة ُد ً
فعة أخرى.
إن تلك النظرة الجدٌدة تضع اإلنسان أمام محك اختٌار؛ فؤمجاد األبدٌَّة قد
انكشفت للنفس كعربون فً لحظات صفاء الروح .وفً المقابل تقف خبرة َّ
ملذات
الحٌاة الحاضرة ،المُلوَّ ثة بنكهة الموتُ ،م ْنتصِ بة بجموحها وصخبها .فإن اختار
اإلنسان الحٌاة التً مركزها هللا ،انطرحت خطاٌاه فً بحر النسٌان ،ل ُت ْل َقى فً
اللذة وأسٌرة َّ
اللذة، العدم الدهري وتتبل َشى .وإن اختار اللحظة الحاضرة ولٌدة َّ
ت إلى دركات العالم المادي الذي تث َّقلَت نفسه باألكثر بؤغبلل الخطٌبة و َه َو ْ
https://coptic-treasures.com/
ٌتمركز حول ربٌس العالم الموُ َكل بظلمة هذا الدهر .فالتوبة ًإذا هً خٌار ٌتوقف
علٌه وجهتنا.
وعن هذا المفهوم الخاص بالتوبةٌُ ،ح ِّدثنا كالٌستوس وٌر ،فً كتابه (الملكوت
الداخلً) قاببلً:
سـف على الماضـً،
إنهـا (التوبـة) لٌسـت مجـرد التأ ُّ
بل تغٌٌـر جـذري لنظرتنـا،
وطرٌقـة جـدٌدة ننـظر بهـا إلى أنفسـنا وإلى اآلخـرٌن وإلى هللا …
إنهـا لٌسـت بالضـرورة أزمـة انفعالٌـَّة،
لٌسـت نوبـة من الـندم والعطـف على الـذات،
تحـول،
ُّ بل هً
هً إعـادة جعـل الثالـوث القـدوس مـركز حٌاتنـا ومحـورها.
باشتٌـاق …
ٍ هً لٌسـت قنوطـًا ،بل هً توقـُّع وانتظـار
طـرٌق مسـدودٍ،
ٍ لٌسـت الشعـور بالوصـول إلى
بل أن تـجد الـطرٌق للـخروج،
أن أتـوب هو أن أنـظر ال إلى أسفـل …
إلى نقائـصً وعـٌوبً الخاصـَّة،
بل أنظـر إلى أعلـَى إلى مح ّبـة هللا …
ال أن أنـظر إلى الخلـف أللـوم نفسً،
بل أن أنـظر إلى األمـام بثقـ ٍة …
https://coptic-treasures.com/
التوبـة لٌسـت هً أن أرى مـا هو الذي فشـلت فً أن أكونـه،
بل أرى ما الذي أستطٌـع أن أصـٌره ،بنعمـة المسٌـح.
مرة واحـدة،
إنها لٌست مـجرد حـدث ٌـحدث ّ
مستمـرا.
ً بل هً موقفـًا
وبالرجوع إلى النهج اإللهً فً تعامل هللا مع شعبه فً العهد القدٌم ،نجد أن بنً
إسرابٌل لم ٌتو َّقفوا ـ ح ّتى مجًء المسٌح ـ عن تقدٌم الذبابح فً الخٌمة والهٌكل،
وذلك ألن الخطٌبة لم تتو َّقف فً حٌاتهم .فكما وضع الرب لبنً إسرابٌل،
الذبابح ،للتكفٌر عن الخطٌبة ،حٌنما ٌتعثرون فً الطرٌق وٌمٌلون لسلوك
ب لنا الرب، وعبادات لؤلمم ،هكذا نحن الذٌن صرنا مسك ًنا للروح ،قد َو َه َ
التوبة ،ذبٌحته ال ُم َفضَّلة ،إل عادة النقاوة لثوب معمودٌتنا األبٌض ،ولٌعلن لنا أنه
ر ًّبا « غن ًٌّا لجمٌع الذٌن ٌدعونه » (رو ،)12 :10فاهلل دابمًا أغ َنى من أقصى
طموحاتنا فً طلب الرحمة.
وعن غنى النعمة التً تنساب ببل حسابٌ ،كتب القدٌس ٌوحنا ذهبً الفم ( تفسٌر
متى ،)4 /118فٌقول:
النعمـة ال ُتستن َفـذ وال تضٌـع ،فهً ٌنبـوع دائـم الجرٌـان
فإن كان طلبك هو الرحمة ٌعطٌك معها ـ بحسب غناه ـ النعمة ،وإن طلبت
الخبلص زٌَّنه لك بالبهجة ،وإن التمست ال ُم َّتكؤ األخٌر ،رفعك إلى مابدة الملوك،
وإن سعٌت فً التوبة وهبك معها القداسة .فاهلل دابمًا هو القادر « أن ٌفعل أكثر
ج ًّدا ممّا نطلب أو نفتكر » (أف ،)20 :3وعطٌته دابمًا « بحسب كرم الملك »
(1مل )13 :10ولٌس بحسب طلبة واستحقاق العبٌد.
https://coptic-treasures.com/
التحول
ُّ
لقد كانت صرخة ٌوحنا المعمدان المُدوٌَّة وال ُم َشبَّعة برابحة الصحراء هً« :
توبوا ألنه قد اقترب ملكوت السموات » (مت .)2 :3لقد كانت تلك الكلمات
بداٌة لعه ٍد جدٌ ٍد ُم ْن َفتِح على األسرار العلوٌَّة ولٌس أسٌر نصوص وأحرف ً
وتقالٌد .فالتوبة هً األساس ل ُب ْن ٌَان الملكوت الجدٌد ،الذي سٌُعْ لِنه المسٌح فً
قلوب الذٌن اجتذبهم الروح ،وصاروا مُسْ تغرقٌن فً هللا وفً الملكوت.
لقد كان نداء ٌوحنا بالتوبة ٌحمل فً َطٌَّاته دعوة للتحوُّ ل تهٌُّبــًا لقبول مسٌَّا لم
تع ُل هامته هالة من ضٌاء ولم ٌرت ِد ثٌابًا من برفٌر ولم ٌحمل سبلحً ا ف َّتا ًكا
مدعومًا بقوى مبلبكٌَّة لدحر األعداء .ولكنه جاء فً ثٌاب مُغبَّرة لنجار ناصري
بسٌطٌ ،تؤلأل عرقه من عناء الطرٌق تحت لهٌب شمس الٌهودٌَّة!!
للتحول
ُّ َّ
تخطت توبة الخطاٌا؛ فهً ـ جوهر ًٌّا ـ ندا ٌء والتوبة التً نادى بها ٌوحنا
الذهنً لقبول مسٌحً ا غٌر اعتٌادي ،لم ٌرتسمه الكهنة وعلماء الشرٌعة وقادة
الشعب بهذا المظهر المُخٌِّب لآلمال.
ولعلنا فً هذا العصر المُشوَّ ه والمُر َتبـِك نقتبس من المفهوم المعمدانً للتوبة
لنراها تحوُّ الً فكر ًٌّا لقبول مسٌحً ا غٌر الذي تصورناه وتوهمناه فً مراهقتنا
الروحٌَّةً .إذا فتوبتنا ُتبلمس قناعتنا الماضٌَّة عن المسٌح ،لتبعث فٌها حٌاة تنبثق
من حٌاة المسٌح نفسه ،حٌنما ٌؤتً بعذوبةٍ ،للنفس المُتلمِّسة الحق وسط ضبابٌَّة
الباطل المُستشرٌَّة فً أذهان العالم المعاصر.
فالتوبة من هذا ال ُم ْن َط َلق هً تغٌُّر فً قناعاتنا الماضٌَّة وتحوُّ ل فً مواقفنا
بحثا عن ٌسوع .إنها لٌست مرحلة ولكنها نمط حٌاتً دابم متواصل .إنها الراهنة ً
شرٌعة جدٌدة أكثر من كونها وصٌَّة عابرة .هً حِراك بشري نحو هللا ولٌست
انغماسًا ساك ًنا فً الحزن والقنوط.
وال أنا أدٌنك
فً صباح أحد األٌام ،بٌنما كان ٌسوع ٌُعلِّم فً الهٌكل ،وكانت الجموع م ُْل َت َّفة
حوله كالمعتاد ،إذ بجماع ٍة من الكتبة والفرٌسٌٌن ٌتجهون إلٌه فً صخ ٍ
ب
وضجٌجٌ ،تبعهم جم ٌع من عامَّة الشعب ،وحالما وصلوا إلٌه ألقوا بفتاة أمامه!!
ٍ
https://coptic-treasures.com/
كانت تلك الفتاة فً ال َع ْقد الثالث من عمرها على ما ٌبدو ،متوسِّطة الطول ،ذات
مبلمح شرقٌَّة ،إال ّ إنَّ وجهها لم ٌكن مرب ًٌّا خلف الدموع التً كانت تنهمر منها
فً صمتٍ .خلف مبلمح الرعب والجزع التً َّلونت وجهها بصُفرة شاحبة،
وخلف شعرها الذي تناثرت خصبلته على وجهها ح ّتى أعادت تشكٌل َقس َماته.
بدأ الكتبة والفرٌسٌون ٌكٌلون االتهامات لتلك المرأة ،فً صرام ٍة وقسوةٍ ،ولم
ٌكن ٌخلو كبلمهم من ِذ ْكر مُفردات؛ مو َسى والناموس والز َنى والرجم .بٌنما كان
ٌزداد وجه تلك الفرٌسة المُلقاة فً الوسط ،شحوبًا.
بدأت الجموع تتوافد وتتهامس فٌما بٌنها .منهم من ٌُشفقون علٌها ،ولكن خوفهم
من بطش الكتبة والفرٌسٌون ٌُكبِّل ألسنتهم فٌإثرون الصمت ،ومنهم من كان
ٌُطالِب بتطبٌق عقوبة الناموس كما هً .ولكن السواد األعظم من الجمع كانت
نظراتهم ُتبلحق ٌسوع الذي وجدوه مُنحن ًٌّا ٌُدوِّ ن بعض الكلمات بؤصبعه على
األرض العارٌة ،والناس فً حالة تر ُّقب لما سٌقوله المُعلِّم.
لم تكن حالة التر ُّقب تلك هً حالة الجمع المُحْ تشِ د فقط ،ولكنها كانت حالة الكتبة
والفرٌسٌٌن ،الذٌن ٌقفون فً اعتداد ،وعٌونهم ال تخلو من النشوة والدهاء …
فلو وافقهم ٌسوع على َرجْ م تلك المرأة النض َّم لقافلة مُطبقً الناموس ،خاسرً ا
تؤٌٌد الشعب له فً رإٌته الجدٌدة لمعنى الوصٌَّة .وإن رفض عقوبة المرأة لكان
بذلك ٌُإ ِّكد أنه لٌس مُإم ًنا بالناموس وال اب ًنا للشرٌعة ،وسٌحشدون الجموع ض ّده
لكونه ض ّد الناموس ،وٌصبح هو الفرٌسة!!
كانت تلك هً األفكار التً جعلت الكتبة والفرٌسٌٌن ٌؤتون بتلك المرأة إلٌه.
ووسط كلمات الكتبة والفرٌسٌٌن الرنــَّانة المُقتبسة بدق ٍة من نصوص التوراة
والممزوجة بنصوص التقلٌد ،وبعد خطبتهم الرابعة عن قٌمة العقوبة التً ٌَ ُنص
علٌها الناموس إلحداث توازن فً المجتمع الٌهودى ،وارضاء هللا الثابر على
هذا النوع من التعدي!! ولِ َم ال؟ ألٌسوا أبناء ٌهوذا الذي دَ َخ َل على امرأة ابنه وقد
حرق!! » ( تك حسبها زانٌة؟ وحٌنما سمع أن ك َّنته قد زنت ،قال « :أخرجوها ف ُت َ
.) 38
https://coptic-treasures.com/
واألسى:
َ وإذ بٌسوع ٌنتصب وٌقول بصو ٍ
ت لم ٌخ ُل من نبرة الحزن
https://coptic-treasures.com/
كسر ٌسوع حاجز الصمت والحٌاء قاببلً لها:
« أٌن هـم أولبـك المشتكـون علٌـك ،أمـا دانـك أحـد؟؟ »
ُطرقة الرأس إلى أسفل:
فجاوبته وهً م َ
« ال أحـد ٌا سـٌِّد »
فقال لها :
https://coptic-treasures.com/
ٌشتاق لرجوع النفس إلٌه ،وهو ٌَعْ لَ ُم أن القانون الصارم ال ٌجتذب النفوس،
ولكنه اللطف اإللهً الذي ٌجعل الخاطِ ا ٌذوب خجبلً من خطٌبته ،وٌتم َّنى لو
ٌنال القدرة أن ٌُ َق ِّدم نفسه ذبٌحة لذاك الذي ٌُحبّ النفس حُبــ ًّا قدر هذا.
حٌنما قال أحد اإلخوة للقدٌس مكارٌوس الكبٌر:
ُ
سقطـت فً خطٌئـ ٍة ٌا أبـً لقد
كان جوابه :
ارجــع ٌا ابنـً
وحـٌنئذ سـترى شـخص ربنـا ٌسـوع المسٌـح المملـوء حـالوة
ووجهـه المملـوء فرحـًا
ِّ
الحث على التوبة؛ فشعور الخاطِ ا إن هذا هو النهج األرثوذكسً األصٌل فً
ب ُحبِّ هللا ،وبإشراقة وجه المسٌح من جدٌد فً حٌاتهٌ ،جعله ٌثور على ضعفة
وانهزامه ،فتنح ّل قٌود الظلمة أمام مجد الحبّ المتر ِّقب عودته ،ذاك المجد الذي
ٌُداعب قلبه المجروح ،لٌُعٌد له الحٌاة .وهذا ما ٌُإ ِّكده صفرونً سخاروف ،إذ
ٌقول:
إن نعمـة التوبـة هً انخطـاف الـروح إلى هللا،
إذ تكـون مشـدودة إلٌه بظهـور النـور.
وٌضٌف كالٌستوس قاببلً:
من المستحٌـل أن نرى خطاٌانـا قبل رؤٌة نـور المسٌـح
فالتوبة هً انجذاب اإلنسان كٌانًٌا نحو المصدر الوحٌد الذي ٌحمل له شعلة
الرجاء وسط لٌل الظلمة الحالك .فٌظهر ال ُمخلِّص بنوره الفابق الوصف لٌحمل
الروح نحو مدارات النور األبدي لٌُر ِّسخ فٌها جمال وبهجة الحٌاة الجدٌدة بعٌ ًدا
عن الظلمة والخطٌبة .وتلك هً الخبرة التً ٌسٌر بها التابب فً مسٌرته الٌومٌَّة
محاوالً االنفبلت من الفخاخ المنصوبة والسهام ال ُم ْنطلِقة إلسقاطه.
https://coptic-treasures.com/
لقد رسم فنانان فرنسٌان لوحتٌن عن َمثـَل االبن الضال؛ كان أولهما دي شافان
وقد ر َّكز فٌها على حالة االبن التعِسة ،والثانً رامبرندت ر َّكز فٌها على موقف
األب .ولقد علَّق Cerfaux .Lفً كتابه (المسٌح فً الهوت القدٌس بولس Le
)thèologie de st. Paul Christ dans laعلى لوحة رامبرندت قاببلً:
[ الشاب ٌب َقى فً الظ ِّل مُدٌرً ا ظهره للمُشاهِد ،ورأسه على ركبتً والده ،وعلى
ثٌابه الرثــَّة وحذابه المتهرِّ ئ ٌتدفق نو ٌر ٌبدو أنه ٌنبعث من وجنتً األب فً
وسط اللوحة ،ومن وجهه الوقور ذي العٌنٌن المنطفؤتٌن بسبب البكاء والمفعمتٌن
حنا ًناٌ ،بس ط الشٌخ معطفه لٌستر شقاء االبن الضابع ،وٌداه تستندان مرتجفتٌن
على كتفً االبن ،كؤنه ٌخشى علٌه أن ٌعود فٌرحل ثانٌة .أما االبن البكر فٌقف
قاس ومُقطب احتقارً ا لضعف األب!! .لقد اكتشف رامبرندت ح ًقا ٍ جانبًا بوج ٍه
النقطة المركزٌَّة فً ال َمثــَل ،أعنً األب الحنون ].
إنَّ أبوة هللا ال ُم ِحبَّة هً التً ُتش ِّكل ك ّل حركة إلهٌَّة نحونا ح ّتى ونحن خطاة .كما
أن ضٌاء النور المُنب ِعث من وجه حضوره فً لحظات أسفنا على الخطٌبة هً
الدافع األكبر لنهوضنا والجاذب األعظم لقلوبنا نحو الملكوت.
وقد ٌتسابل البعض فلماذا ًإذا الناموس والقانون والعقوبة؟!
إن العقوبة لٌست للتاببٌن ..لٌست للذٌن لهم نفوس مُر َه َفة تحتاج فقط أن
ٌستحثها وٌُشجِّ عها لُطف هللا لكٌما تستقٌم مرّة أخرى ..لٌست للذٌن لدٌهم الرغبة
بٌنما ٌجتذبهم الجسد ،للعالم ،دون قدرة على االنفبلت ..لٌست للباحثٌن عن هللا
لتذوق َطعْ َم ال ُنصرة.
الذٌن ٌفتشون الكتب ح ّتى ٌستنٌروا فً حروبهم الروحٌَّة ُّ
والعقوبة فً المقابل ،هً للمعاندٌن والقساة القلوب الذٌن ال ٌستشعرون اللطف
اإللهً .إنها للذٌن فقدوا الحس وأماتوا ضمابرهم وك َّفنوها!! .هً للذٌن فً
قسوتهم الذاتٌَّة ٌحتاجون إلى ش ّدة هللا لكٌما ٌعودوا إلى صوابهم وٌرجعوا عن
طرقهم الردٌبة.
https://coptic-treasures.com/
لطف هللا
ت أمام كلمات داود النبى ،بعد أن نجَّ اه الرب من أعدابِه،هل سبق لك أن تو َّق ْف َ
عظم ٌسوع حٌنما قال مُخاطِ بًا هللا « :لطفك ٌعظمنً » (مز .)35 :18لقد َّ
انكسار قلب المرأة الخاطبة ،لم ٌتو َّقف عند خطٌبتها لٌ ِّ
ُعظمها للدٌنونة ،ولكنه
تو َّقف عند انكسارها وانسحاق نفسها لٌ ِّ
ُعظمه للغفران …
فاهلل دابمًا ٌبحث فً حٌاتك عن أٌَّة ثمرة ولو صغٌرة ،لكً ما ٌُثنً علٌها
لحقل مُثمِر وممتلِا بثمار الروح المتنوِّ عةٌُ .ف ِّتش
ٍ وٌُشجِّ عها وٌجعل منها باكور ًة
عن أٌَّة بادرة خضراء مُب ِّشرة لٌروٌها وٌجعلها شجرة كبٌرة تتآوى بٌن أغصانها
ُعظم هللا فلسٌنا الصغٌرٌْن ،وتوبتنا الغٌر كاملة ،وصلواتنا الطٌور .ولكن ،متى ٌ ِّ
التً لم ترتق بعد لتكون صرخات الروح فٌنا؟؟
تتلخص فً كلمتٌن وهما؛ التسلٌم والحبّ .إن التسلٌم والحبّ إن اإلجابة نجدها َّ
هما د َّفتا الشراع اللذان نرفعهما عالًٌا فً رحلتنا الدهرٌِّة .فالتسلٌم الواثق فً
الرب لٌقود هو د ّفة الحٌاة لٌُوجِّ هها لتحقٌق مشٌبته بما ٌتوافق مع خبلص
اإلنسان ،هو الطرٌق الوحٌد الذي ٌُحوِّ ل مٌزان األمور لٌُرجِّ ح ك َّفة الخبلص
لصالحنا مهما كانت المُعوِّ قات .فالرٌاح العاتٌة التً ُتحاول أن تضرب سفٌنة
سرع من قوة دفع ُت ِ حٌاتك ،ستتحول ـ حٌنما ُتسلِّم كٌانك بكلٌَّته للثالوث ـ إلى َّ
مسٌرتك وترسو بها على شاطِ ا الحٌاة .ستحملك وكؤنها جناحا مبلك أرسله هللا
لٌُو ِّفر لك العون والحماٌة .وسترى أن الرٌاح بجموحها وقسوتها لن تستطٌع أن
تخرج عن إطار الخبلص ال ُم َعد لك .ال ولن تصٌر عابق على الطرٌق ،ألن
مشٌبة الرب مُختفٌَّة هناك .فرٌاح التجارب ستقودك إلى شواطِ ا لٌست فً
ُخطط ارتحالك ،ولكنك ستعاٌن على تلك الشواطِ ا أن لك رسالة لتإدٌها ،وأن م َّ
هذا التحوُّ ل فً المسٌرة هو المسٌرة ذاتها التً أع َّدها الرب ل ٌُث ِّقل بها المجد
المُع ّد لك فً األبدٌَّة.
إن الفخ الذي سٌنصبه لك إبلٌس ،سٌتحوَّ ل إلى سور حصٌن .فالمٌاه التً أغرقت
فرعون وجنوده ،كانت هً هً المٌاه التً صارت سورً ا لبنً إسرابٌل فً
العبور األشهر على مرِّ التارٌخ .ولكن ٌجب أوالً أن ُتسلِّم قٌادة النفس للرب
لٌُحارب عنها و ٌَعْ بُر بها بحار التجارب ،فٌُرسل سٌفه (كلمته) لٌُبلشً وٌبٌد
https://coptic-treasures.com/
األعداء .لن ٌب َقى (وال واحد) ٌقف أمامك ،طالما أنك ُتإمن أن هللا ٌستطٌع ،وأنك
بالمسٌح ،تستطٌع ك ّل شً ٍء … ك ّل شً ٍء (فً إطار التوبة) …
« فرجـع المـاء و غ َّطى مركبـات وفرسـان جمٌـع جـٌش فرعـون
الذي دخـل ورائهـم فً البحـر
لم ٌبـق منهـم وال واحـد.
وأ َّمـا بنـو إسرائٌـل
فمشـوا على الٌابسـة فً وسـط البحـر
والمـاء سـور لهـم عن ٌمٌنهـم وعن ٌسـارهم »
(خر 28 :14ـ )29
وتؤتً محبّة هللا لتإ ِّكد على المبدأ األول (التسلٌم) .فالمحبّة تس ُتر الخطٌبة،
و ُتشعِل الروح ،وتقود إلى هللا من أقصر الطرق.
شكرً ا لقد أعلن داود عن محبّته هلل القوي فً مُسْ َتهل المزمور الذي َن َظمْه ُ
وتسبٌحً ا للرب الذي نجَّ اه من ٌد شاول الذي كان ٌبلحقه ،إذ قال« :أحبّك ٌارب
ٌا قوتً» (مز ،) 1 :18إنه تعبٌر عن شوق قلب ٌرٌد أن ٌتجسد فً كلمات .هو
بقوةإعبلن عن حبّ ٌُولَد ،من جدٌد ،من َرحِم ال ُنصرة ،وتلك ال ُنصرة لٌست َّ
بقوة إلهٌَّة مُتداخلة فً حٌاتنا ،تل َمس ضعف اإلنسان وحٌرته ذاتٌَّة بشرٌَّة بل َّ
ف ُتش ِّدده لٌنهض وٌُحارب وٌنتصر.
لذا فإن محبّة الرب المستحوذة على شِ غاف القلب ٌجب أن ٌبلزمها إعبلن عن
ثقة النفس فً قٌادته لحٌاتها ،وحٌنها س ُتعاٌن النفس عٌنًْ هللا التً ُت ِّ
عظم القلٌل،
« ألنه لٌس للرب مانع عن أن ٌُخلِّص بالكثٌر أو بالقلٌل» (1صم.)6 :14
فالحُبّ النابت من أرض التسلٌم ال ِخصْ بة ،وحده ٌستطٌع أن ٌُعوِّ ض نقص ال َك ْم!!
فصبلة قصٌرة مملإة بالشوق واالحتٌاج إلى هللا ،والمُتولِّدة من خضم صراع
شرس مع الشٌطان ،الذي ٌحاول بش َّتى الطرق تضلٌلها عن َم ْخدَع الصبلة ،لهً
https://coptic-treasures.com/
أفضل من صبل ٍة طوٌل ٍة جاف ٍة نابت ٍة من وهم السبلم الزابف ،تإول إلى تنمٌة البرّ
ضره ُتصلًِّ!!
الذاتً فً النفس ،و ُتبعدها عن هللا وهً مُتوهِّمة أنها فً َمحْ َ
فحٌنما ٌكون الحبّ هو شرٌعتنا فً تعاملنا مع هللا ،والتسلٌم هو موقفنا من ك ّل ما
ٌُجابهنا فً الحٌاةٌ ،كون اللطف هو منظار هللا الذي ٌُكبِّر أعمالنا الصغٌرة،
وٌُنمٌها وٌُصٌِّرها فضابل مثمرة .وتلك هً ال ُنصرة الحقٌقٌَّة المرهونة بقدرتنا
على الحبّ والتسلٌم .ال ُنصرة التً نتذوَّ قها أثناء مسٌرتنا خلف المسٌح ،ربَّان
النفس وقابدها .لذا ٌكتب القدٌس مكارٌوس قاببلً:
حٌـث ٌركـب الـرب وٌمسـك بزمـام النفـس بٌدٌـه،
فإنـه دائمـًا ٌغلـب ،ألنه بمهـارة ٌدٌـر وٌقـود مركبـة النفـس
سـماوي ُملهـَم إلى األبـد.
ٍّ ذهـن
ٍ إلى
فإن كان لنا ذلك الذهنُ السماويُّ الذي ٌخلقه فٌنا الروح ،حٌنما ٌستلم المسٌح د ّفة
النفس ،نبدأ فً التحرُّ ر من الخطٌبة والتعرُّ ف على وجه ٌسوع ،وهنا تبدأ التوبة.
حالة الخطٌئة
إنَّ اإلخفاق الذي ٌُصٌبنا فً مسٌرتنا الٌومٌَّة الحٌاتٌَّة والذي ُنعرِّ فه بؤنه «
الخطٌبة » لٌس ختام األمر .فمن م َّنا لم ٌُخطِ ا؛ [ لٌس أحد ببل خطٌبة ولو كانت
واحدا على األرض ] هكذا ُنصلًِّ فً القُ َّداس .ولكن الخطر الحقٌقًً حٌاته ٌومًا
الذي ٌُحْ دِق بنا هو البقاء فً حالة الخطٌبة ،أن ٌصٌر اإلخفاق موق ًفا ٌوم ًٌّا
مُتكرِّ رً ا وكؤنه عقٌدة نعتنقها ،واألخطر من ذلك أن تصٌر الخطٌبة غٌر ُم َب ِّكتة
واع عن الحِراك لضمابرنا وال مإلمة لقلوبنا .إن مثل تلك الحالة هً تو ُّقف ٍ
الٌومً ض ّد الشهوة والضعف واالنكسار ،إنها تو ُّقف عن حركة التوبة وما
التلذذ بالشهوة والتحالف معها تجنبًا لخوض حر ٍ
ب ٌصاحب ذلك بالضرورة من ُّ
ض ّدها!! إذ قد ٌصاحب تلك الحرب بعض الخسابر ممَّا نحبّه ونرتبط به ،وهذا
هو الهاجس الذي ٌجعل الكثٌرٌن ٌهربون من مٌدان المعركة .إنه الخوف من
خسارة ما قد ارتبطوا به فً الحٌاة ،بل وظ ُّنوه ضرورة من ضرورات الحٌاة.
وهذا ٌإ ِّدي إلى تو ُّقف الخاطِ ا عن الحٌاة ،إذ ٌجتاز مرحلة الموت الروحً على
ضى ،فٌصبحون أقرب للموت غِ رار الموت االكلٌنٌكً الذي ٌمرُّ به بعض المر َ
https://coptic-treasures.com/
منهم للحٌاة .والموت الروحً هو حالة من الجفاف الكٌانً الداخلً ،تجف فٌها
ٌنابٌع الدماء النقٌَّة التً َت ِم ّد قلب اإلنسان الجدٌد ،المولود من الماء والروح،
بالوجود الروحً .نتٌجة فقدان الصلة مع نبع الحٌاةٌ ،سوع المُخلِّص.
وٌإ ِّكد القدٌس ٌوحنا ذهبً الفم فً رسالته إلى ثٌإدوروس على أن خسارة
السقوط أقل ضررً ا من حالة السقوط ،إذ ٌقول:
حــــزن
ِ سقــوط اإلنســان لـٌس باألمــر ال ُم
كمثـل بقائـه طوٌـالً فً هـذا السقـوط
وٌضٌف فً نفس الرسالة قاببلً:
أن تـُخطِ ئ فهـذا ضعـف بشـري،
أمـا أن تستمـر فً الخطٌئـة،
شٌطانٌــّا
ً بشرٌــّا بل
ً فلـم ٌعـد األمـر
وأٌ ً
ضا القدٌس مرقس الناسكٌ ،كتب لنا فً مقالته عن سبب الدٌنونة الحقٌقً،
قاببلً:
نحـن ال ُنـدان بسـبب تعدٌاتنـا الكـثٌرة،
بل بسـبب رفضنـا التـوبـة
فبل رٌب أنَّ اإلنسان الذي استوطن الخطٌبة وتحوَّ لت الخطٌبة فً حٌاته من
عارض إلى حال ٍة مستدٌمةٌٍ ،تحوَّ ل إلى روحً ا تابهة ببل رجاء وال بصٌرة
ٍ موق ٍ
ف
َّ
الملذات التً ٌغوص فٌها َطواعِ ٌَة. وال هدف أعلى وأسمى ٌجتذبه خارج دابرة
هنا وٌؤتً الشٌطان لٌُقٌم عشاءه على جدران هذا القلب الشاحب ،الرازح تحت
ِث َقل الخطٌبة .فٌصٌر ذلك اإلنسان َمسْ ك ًنا للظلمة ،التً تتكثــَّف وتتكثــَّف ح ّتى
تصل به إلى الع َمى الروحً الكامل ،وهو ما وصفه القدٌس بولس قاببلً « :الذٌن
فٌهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غٌر المإمنٌن لببل ُتضًء لهم إنارة إنجٌل
مجد المسٌح » (2كو.)4 :4
https://coptic-treasures.com/
فحٌنما ٌخبو نور الرجاء فً القلبٌ ،تحجَّ ر وٌصٌر مذبحً ا ُتق ِّدم علٌه الشٌاطٌن
مختلف أنواع الذبابح النجسة .وٌجد الخاطِ ا نفسه فً قبر الشهوة مُقٌَّد ،أسٌر
للخطٌبة والتعدي ،محرومًا من الحق فً الرجاء إذ أن الظلمة قد سلبته أبسط
حقوقه أال وهً التفكٌر وتقرٌر المصٌر.
ومن خبلل إدراك الشٌطان لخطورة الرجاء على مملكته المترامٌة األطراف ،لم
ٌهتم الشٌطان بالخطٌبة قدر اهتمامه بنفسٌَّة الخاطِ ا .فالشٌطان بعد أن ٌُس ِقط
اإلنسان فً التعديٌ ،بدأ بممارسة دوره األخطر ،وهو غلق باب الرجاء أمام
الخاطِ اٌ .بدأ فً إقناع النفس بدهابه األسود أن نور الحٌاة ال ٌمكن له أن ٌسكن
مرّة أخرى فً جسد سكنته الخطٌبة ٌومًا ،وأن هللا القدوس لن ٌستمع من جدٌد
لصلوات خاطِ ا قد داس دم العهد وازدرى بالنعمة وأنكر ابن هللا بالشهوة.
وحٌنما ٌنجح فً إقناع النفس باستحالة العودة ،أو على األقل بصعوبتهاٌ ،تهلَّل،
ألنه قد أسقط النفس فً أخطر خطٌبة قد سبق وحذرنا منها الرب؛ إنها التجدٌف
على الروح القدس « .لذلك أقول لكم ك ّل خطٌَّة وتجدٌف ٌُغ َفر للناس وأما
التجدٌف على الروح فلن ٌُغ َفر للناس » (مت.)31 :12
والتجدٌف على الروح القدس هو باألساس عدم اإلٌمان بقدرته على تغٌٌر وضع
اإلنسان ،من كابن قد ث َّقلته الظلمة لتقوده نحو الهاوٌة التً تجتذبه بقوَّ ة جذب
الخطٌبة ،إلى كابن قادر أن ٌتحرَّ ر وٌنفض عن نفسه غبار الخطٌبة وٌُغٌِّر
مسٌرته صوب ملكوت التاببٌن .وحٌنما ٌفقد اإلنسان ثقته فً الروح القدسٌ ،فقد
تِبعًا لذلك ،المُعٌن الوحٌد القادر أن ٌنتشله من تلك الحفرة التً سقط فٌها ،فٌب َقى
وحٌ ًدا تتطاٌر حوله طٌور الٌؤس لتصل به إلى مٌناء الموت ،وسط شماتة
الشٌطان ،الذي استطاع أن ٌخدع الن فس وٌحجب عنها نور الرجاء بل وقوَّ ة
الرجاء.
https://coptic-treasures.com/
وعن التجدٌف على الروح القدس ٌكتب القدٌس أغسطٌنوس (.vol ;NPNF
) 21 sermon ,vفٌقول:
القلب غٌر التائب ٌنطق بكلمة ض ّد الروح القدس،
ض ّد هذه العط ٌَّة المجان ٌَّة ،وض ّد النعمة اإلله ٌَّة.
عدم التوبة هو التجدٌف على الروح القدس
الذي لن ٌُغ َفر ال فً هذا العالم وال فً اآلتً.
لذا فعمل الشٌطان األخطر ،هو هدم ذلك الجسر الذهبً (عمل الروح القدس)
الذي ٌَصِ ل بٌن قلوبنا المُنهكة فً صِ راع األرض ،وقلب هللا الفابض بالمعونة.
وهو ما نجح فٌه مع ٌهوذا حٌنما هوَّ ل من قدر خطٌبته مُستصْ ِغرً ا قدرة الروح
القدس على غسله من تلك الخطٌبة ،فكانت حبال الٌؤس هً مشورة الشٌطان له،
إنسان لم ٌثق فً الروح ولم
ٍ و َق ِبلها ،ومات فً خطٌبته .بٌنما ٌتؤلم قلب هللا على
ٌستند على النعمة ولم ٌتمسَّك بالرجاء ،فجرفه التٌار نحو مصٌر الخطاة
والمُج ِّدفٌن على روح هللا!!
لقد كتب أحدهم :
الٌـأس هو كلمـة جوفـاء ال معنـَى لهـا،
فتـً ونفـس خالـدة وإلـه ٌح ّبـه
ّ لمـن لـه قلـب
فكٌف لك أن تٌؤس ولك إله جوهره الحبّ وكلماته روح وحٌاة وحركته دابمًا إلى
أسفل نحو اإلنسان .كٌف تسمح لهذا الشعور أن ٌتسلَّل إلٌك فً لحظات الخطٌبة
والضعف ،وأنت تحفظ عن ظهر قلب كلمات مٌخا النبً الذي تب َّنى صوت النفس
الساقطة ولكن المُتشبِّثة بالرجاء ،قاببلً « :ال تشمتً بً ٌا عدوتً ،إذا سقطت
أقوم ،إذا جلست فً الظلمة فالرب نور لً » (مً .)8 :7كٌف تستسلم للظلمة
وأنت َتعلَم أن النور قرٌب منك ،أقرب إلٌك من ال َن َفس الذي تتنفسه .كٌف ُتلقً
سبلحك فً المعركة وأنت ُت ْد ِرك أن هناك حش ٌد من الخ َّدام الملتهبٌن نارً ا
سٌدافعون عنك إن رفعت عٌنٌك إلى السماء ،وأطلقت أنـَّات قلبك القادرة أن
https://coptic-treasures.com/
ُتزلزل قلب اآلب السماوي المُنتظِ ر دعوتك له ،لٌقود الحرب بدالً منك ،وٌكون
لك ُترس خبلص وصخرة ملجؤ وحصن حماٌة.
كٌف تٌؤس وأنت تقرأ عن المرأة الخاطبة التً عرفت موضع أقدام ٌسوع
وسكبت دموع أشواقها علٌها ،فغفر لها تارٌخ هذا طوله فً الخطٌبة!!
وها هو القدٌس ٌوحنا ذهبً الفم ٌإ ِّكد لك عن فاعلٌَّة تلك الدموع الخارجة من
ُم ْقلَة الرجاء ،قاببلً:
الدمـوع ال ُمق َّدسـة هً بـذار الفـرح الدائـم الذي ال ٌـزول
كرمـة أفضـل من العـذارى،
هـكذا صـارت الخاطئـة ُم َّ
ل َّما تمسكـت بهـذه النـار
…
لمـَّا امتـألت بحـرارة التوبـة
صـارت محمولـة خـارج نفسهـا بلهفـة مح ّبتهـا للمسٌـح
فحلَّـت شعرهـا وب َّللـت قدمٌـه الطاهـرتٌن بدمـوعها
ومسحتهمـا بضفائرهـا،
هذه ثمـار خارجٌـَّة
أمـا ما جـرى فً قلبهـا فكـان أكـثر حـرارة من هذا،
أمـور ال ٌقـدر أحـد على معاٌنتهـا سـوى هللا.
إن كنت تسمع عن حرارة الروح التً كانت تشتعل فً قلوب القدٌسٌن وٌجرفك
الشوق لتلك الخبرة مُبتغ ًٌّا تلك النار المُطهِّرة ،ولكن واقعك ملفوف فً أكفان
باردة موسومة بالضعف واالنهزام ،ال تٌؤس ..فدموع التوبة قادرة أن ُتعٌد
https://coptic-treasures.com/
الحٌاة لقلبك الذي سكنته البرودة دهرً ا ،فتتذوق جمال حرارة الروح التً تشعلها
النعمة ،حٌنما تختبر (النعمة) مصداقٌَّة دموعك.
ٌقول األب ٌوحنا السٌنابً فً كتابه (ال ُسلَّم إلى هللا /الدرجة الخامسة):
ال شـًء ٌسـاوي رأفـات إلهنـا أو ٌفوقهـا،
لذلك فإن الذي ٌٌـأس ٌقتـل نفسـه بنفسـه.
فصاعدا أن تحذف كلمة الٌؤس من قاموس حٌاتك ،فطالما َتدبُّ ً علٌك من اآلن
الحٌاة فً جسدك ،هناك رجاء ..هناك قٌامة ..هناك تج ُّدد ..هناك دابمًا إله
ٌترقب عودتك مهما كانت حالتك.
وها هو القدٌس غرٌغورٌوس النزٌنزي فً عظته (عن الظهور اإللهً) ٌترجاك
قاببلً:
لٌتـك تسقـط فً أحضـان التوبـة بـدالً من أحضـان الٌـأس
ما بٌن سقطتٌن
إن جهادنا فً البداٌات الروحٌَّة َّ
ٌتلخص فً عملٌْن أساسٌٌْن وهما:
محاولة تقلٌص المسافة الزمنٌَّة بٌن توبتٌن ،وبالتالً إطالة المسافة
https://coptic-treasures.com/
أمام هللا هو من نصٌب الملتزمٌن سلوك ًٌّا وأخبلق ًٌّا ،والذٌن لم ٌسقطوا من قبل!!
وذلك ألن خوف الشٌطان األكبر هو أن تكون فترات تواجد الخاطِ ا فً حالة
التوبة ،أكبر من فترات تواجده فً حالة الخطٌبة .ولكن إن َفطِ ن الخاطِ ا بؤن
أقوى وسٌلة للر ّد على الخطٌبة هً اإلسراع بالتوبة ،سٌجد الشٌطان أن زمن
التوبة فً حٌاة الشخص ٌُمثــِّل الجانب األكبر من حٌاته بالرغم من تع ُّدد سقطاته
وهو ما ٌَحصُد لذلك التابب أكالٌل ال ُتح َ
صى!!
لذا ال تتوا َنى أن تنهض للصبلة واالقرار بالخطٌبة والضعف ،وإن كانت رابحة
الخطٌبة لم تبرح من ثٌابك بعد!!
نقرأ فً بستان الرهبان عن تلك ال ِقصَّة الرابعة عن عِ ناد الرجاء رغم السقوط،
ما ٌلً:
https://coptic-treasures.com/
ألن أولبك مستحقون،
أر عجب رحمتك
ولكن فـًَّ أنا غٌر المستحق ٌا سٌدي ِ
ُ
أسلمت نفسً». ألنً إلٌك
ٌوم ،أخطؤ أو لم ٌخطِ ا،
وهذا ما كان ٌقوله ك َّل ٍ
فلمَّا كان ذات ٌوم ،وهو داب ٌم فً هذه الصبلة،
ضجر الشٌطانُ من حُ سن رجاب ِه ووقاحت ِه المحمودة،
َ أن
فظهر له وجهًا لوجه وهو ٌرتل مزامٌره ،وقال له:
«أما َ
تخزى أن تقف بٌن ٌدي هللا بال ُجمل ِة
وتسمً اس َمه بفمِك النجس»؟
ً
مرزبة؟ ً
مرزبة وأنا أضربُ َ
ألست أنت تضربُ فقال له األخ« :
أنت توقعنً فً الخطٌَّة،
وأنا أطلب من هللا الرحوم أن ٌتحنن علًَّ ،
ُ
الموت. فؤنا أضاربك على هذا الصراع ح ّتى ٌدركنً
وال أقطع رجابً من إلهً ،وال أكف من االستعداد لك،
وستنظر من ٌغلب :أنت أو رحمة هللا».
فلما سمع الشٌطانُ كبل َمه قال:
«من اآلن ال أعود إلى قتالك،
لببل أُسبِّب لك أكالٌل فً رجابك بإلهك».
وتنحَّ ى الشٌطان عنه من ذلك الٌوم.
https://coptic-treasures.com/
عطل توبتنا أننا فً الكثٌر من على الجانب اآلخر ،نجد أن أحد األخطار التً ُت ِّ
األحٌان َنحْ صُر اهتمامنا ونشحذ جهودنا للخطاٌا الكبٌرة فقط ،والتً ٌبدو ظاهر ًٌّا
أنها سبب التعثــُّر الروحً الذي نعانً منه ،غٌر م ُْدركٌن أن الخطاٌا الصغٌرة
والمتراكمة قد تكون أكثر ضررً ا على مسٌرتنا الروحٌَّة من أي شًء آخر .لذا
ٌكتب الكاتب اإلنجلٌزي سً إس لوٌس C.S.Lewisفً كتابه (رسابل ُخربُر)
بلسان ُخربُر (الشٌطان الكبٌر الناضج فً الشر) الذي ٌنصح ابن أخٌه َعل َقم
(الشٌطان المبتدِئ فً حروب البشر) عن كٌفٌَّة إسقاط البشر ،قاببلً:
ال ٌه ّم كم تكون الخطاٌا صغٌرة
ما دام مجموع تأثٌراتها ٌضمن إبعاد اإلنسان عن النور
وإخراجه إلى الالشًء
…
إنَّ أضمن طرٌق إلى جهنم هو الطرٌق التدرٌجً،
ذلك ال ُمنحدَر اللطٌف ،الل ٌِّن تحت األقدام،
الخالً من المنعطفات المفاجئة،
الموجهة.
ِّ ومن المعالم الهادٌة والالفتات
لذا فإن أحد ألقاب الشٌطان هو [ ف َّتال حبال ] ،إذ أنه ٌَ ْخرُج باإلنسان عن غاٌته
روٌ ًدا روٌ ًدا دون أن ٌشعر بذلك ،وهو ٌعتمد فً ذلك على عاملٌْن وهما:
( )1طول الزمن
( )2تحوٌل مسار التوبة ل ُتر ِّكز على الخطاٌا الكبٌرة ،والتً غالبًا ما تكون
لمرض داخلًٍّ فً القلب ،قد نشؤ نتٌجة تراكمات من الخطاٌا الصغٌرة.
ٍ أعراضًا
لذا فقد َّ
حذر الكتاب ممّا أسماه « الثعالب الصِ غار المُفسْ ِِدة للكروم » (نش:2
،)15إذ أن خطورتها َت ْكمُن فً عدم انتباهنا لها وبالتالً عدم توخٌنا الحذر من
النتابج التً قد تنتج عنها .لذا فإن التوبة هً وعً بالخطٌبة كجدار ٌفصل بٌن
https://coptic-treasures.com/
اإلنسان وهللا سواء كان هذا الجدار مرتفعًا أم ال .ولكنه ٌب َقى جدارً ا ٌحتاج إلى
هدم ب ِمعْ َول التوبة.
ٍ
نور الرجاء
إن دور الروح القدس فً التوبة هو أنه ٌبدأ فً إرسال إشارات لذلك اإلنسان
الذي ٌحاول الشٌطان أن ٌُخفً عنه حقٌقة الرجاء .وتلك اإلشارات قد تتخذ
ً
وأنماطا مُتع ِّددة .ولكنك دابمًا ستجدها ُتر ِّدد فً داخل قلبك تلك الكلمات: أشكاالً
https://coptic-treasures.com/
وٌبدأ الروح القدس ٌُ ْنعِش ذاكرة اإلنسان الروحٌَّة ،من خبلل الخبرات التً
دوَّ نها التارٌخ المسٌحً عن خطاة تحرروا من قبور الشهوة وانطلقوا فً مراعً
الروح نحو شمس الحٌاة السرمدي.
فمن ذا الذي طرق أبواب مراحم إلهنا الحنون ،وتركه خارجً ا ٌعانً من الخوف
والوحدة ..
من ذا الذي تضرَّ ع فلم ٌجد أجناد مبلبكة من نور ٌحشدها الرب لٌدافع بها عن
تلك النفس الواحدة التً ال ٌعبؤ بها أحد ..
من ذا الذي تحرَّ ك فً قلبه الشوق والحنٌن إلى هللا ،ولم ٌبادله هللا الشوق أضعا ًفا
ضا َعفة ..
ُم َ
من ذا الذي رفع جرحه الدامً ـ الذي انجرح به فً معركة الحٌاة ـ إلى العبلء
ٌترجَّ ى الطبٌب األعظم ،ولم ٌجد شمس الب ّر ٌحمل له الشفاء على جناحٌه
(مبل.. )2 :4
من ذا الذي أطلق صراخه إلى السماء « ٌارب إلى من نذهب ،كبلم الحٌاة
األبدٌَّة عندك؟ » (ٌو )68 :6ولم ٌجد مسكن الرب مُع ًّدا وولٌمة الرب مُهٌَّؤة
ً
سابحة إلٌه ،لتستقر على قلبه .. وكلمات الحٌاة
من ذا الذي عاد من كورة الخنازٌر بعد أن ب َّدد مٌراثه ،إالّ وٌجد وجه اآلب
ٌُبلقٌه بلهفة الشوق على قارعة الطرٌق ،لٌؤخذ بٌده وٌُجلِسه على مابدة الغفران
البنوة ..
وٌُعٌد إلٌه خاتم َّ
https://coptic-treasures.com/
من ذا الذي ٌتف َّكر فً هول الخطٌبة ،وٌتنا َسى أن هناك بحر النسٌان اإللهً حٌث
ُت َ
طر ُح الخطاٌا واآلثام وال تعود مرّة أخرى ،ألن الرب قد سُرَّ بطرحها ..
من ذا الذي ٌتخبط فً عماه الروحً ،إال ّ وٌجد ٌديْ الرب تخلق له بصٌرة
جدٌدة ،فٌبصر باإلٌمان ما لم ٌبصره ٌومًا بالعٌان ..
ح ًقا من ذا الذي ٌحبّ الرب أكثر ممَّا ٌحبّه الرب.
إن الكنٌسة قد رصدت لنا نماذج لخطاة كانوا قد احترفوا الخطٌبة ،ولكنهم
بالرجاء والثقة فً الرب واالستسبلم الكامل لمشورة الروح القدس ،قد صاروا
قدوة حٌَّة تشهد أن الخطٌبة لٌست عاب ًقا طالما ٌتبعها توبة ،بل إن الروح قد
ً
رسوخا. ٌستخدمها إلشعال توبة أش ّد حرارة وقٌامة أش ّد
لذا ٌقول ٌوحنا السٌنابً:
طو ُ
بت الذٌن سقطوا وناحوا (لقد) َّ
أكثر من الذٌن ما سقطوا وال ناحوا
ولعلنا نجد فً سٌرة موسى اللصّ وأغسطٌنوس الفٌلسوف ومرٌم المصرٌَّة
وتاٌٌس الخاطبة ،نماذج لقوَّ ة التوبة وقدرتها أن تجوز بالنفس جبال الخطٌبة
مهما تعالت ،وتقتلع جذور الشر مهما تو َّغلت فً قلب اإلنسان .وهنا شهادتنا
لٌست شهادة لقدرات بشرٌَّة خاصة أو َملَ َكات تمٌَّز بها هإالء ع َّنا ،ولكنها شهادة
على قدرة الروح القدس غٌر المحدودة على انتزاع جدٌان الٌسار وتحوٌلهم إلى
حمبلن ٌجلسون عن ٌمٌن اآلب .كما أن تلك الشهادة تمتد لتشهد لنا عن باب
ٌتناسى
َ إلهً ال ٌُغ َلق أب ًدا فً وجه طالبٌه .تشهد على قلب متسع لكل البشرٌَّة
قُ ْب َح الماضً وقسوة األٌام السالفة ،حٌنما تتوب النفس وترجع .إنها تشهد على
صدق دعوة المسٌح القابلَ « :منْ ٌُقبل إلًَّ ال أُخرجه خارجً ا » (ٌو.)37 :6
ضا عن ساعة متؤخرة ،قد تكون الحادٌة عشر ،فٌها ٌُنت َشل الكثٌرون كما تشهد أٌ ً
من لهب الدٌنونة لٌسكنوا على أنهار الروحٌ ،رتشفوا من الحبّ اإللهً وٌسكروا
به.
https://coptic-treasures.com/
الحرب للرب
إن الشٌطان ال ٌستطٌع أن ٌستولً على أرض قد ُغمِرت بمٌاة المعمودٌَّة
ست بدهن المٌرون طالما هً محروسة بالتوبة .قد ٌنتصر فً موقعة ،قد وتكرَّ ْ
ضا من بذار الزوان ،قد ٌُرسِ ل رٌاحه ل ُتسقِط الثمر ،ولكنه ال ٌستطٌع أن ٌُلقً بع ً
ٌمتلك تلك األرض ،طالما ٌُق َّدم علٌها ذبابح لٌل نهار؛ ذبابح تضرُّ ع وابتهال
لنوال معونة من األعالً .وطالما أن قلوبنا لم تتو َّقف عن الصراخ ،ال ٌجب أن
ت الظلمة علٌنا أثناء نخشى شٌ ًبا ،ألن النعمة والمعونة آتٌة ال محالة .وإن حلَّ ْ
مسٌرتنا ،فالرب هو النور الذي ٌُضِ ا لنا الطرٌق .فمن ذا الذي ٌخ َشى من
غموض الظلمة ،بٌنما ٌُضِ ا له ضٌاء الرب مسٌرته ،وٌقود خطواته فبل تزلّ.
ك الربٌسً فً التوبة هو قدرتك على التمسُّك بسبلح الصبلة بالرغملذا فالمح ّ
من الجراح التً تثخن جسدك الروحً؛ فطالما تترجى معونة األعالً سٌخشاك
جهادا ،وسٌزٌِّن لك اكلٌبلً من مج ٍد
ً ُحسب لك
أعداإك ،ألن سقوطك وصراخك سٌ َ
طالما أنك ال ترضخ لضغط الخطٌبة التً ترٌد أن تمنع صلواتك من الصعود
إلى السماء.
ولكن بسقوط النفس فً الخطٌبة ثم توبتهاٌ ،روادها تساإل؛ هل سؤستطٌع الثبات
فً التوبة بعد سقطات هذا عددها؟؟ هل أستطٌع أن أصمد فً أرض المعركة
بعد تب ُّدد العهود والوعود التً كانت ترافق التوبة فً ك ّل مرّة؟؟ هل سٌمكننى أن
أقاوم زحف جنود الشر المتربِّصة بتوبتً؟؟ هل سؤستطٌع تفادي سهام إبلٌس
ب وحدبٍ؟؟ ال ُم َّتقِدة نارً ا والتً تنطلق من ك ّل صو ٍ
ولكن فً حقٌقة األمر ،إن السإال ٌجب أن ٌكون ،هل ٌستطٌع الرب االنتصار
فـًَّ على جحافل مملكة الظلمة؟! هل فً إمكانه تحوٌل أتون النار المُحمَّى حولً
لندى بارد؟!
إن أول ما ٌجب أن نتعلمه فً توبتنا ،أن الحرب هً للرب ،وأن الرب قادر
على إبادة أعدابنا بكلمة فمه .لذا ٌجب أالّ ننشغل بحروب الغد ومصٌرنا فٌها،
هل سنسقط أم سنصمد؟ فدورنا فً اللحظة الحاضرة أن ُنسبِّح عمل الرب فً
معونته لنا ،أمَّا الغد فهو للرب .فها هو موسى وجماعة بنً إسرابٌل ٌُسبِّحون
الرب على الخبلص الذي عاٌنوه .غٌر مكترثٌن للغد ،غٌر عاببٌن بصعوبة
https://coptic-treasures.com/
الرحلة أو أخطار المسٌرة أو مش َّقة الصحراء ،فالٌوم ٌوم الهتاف للنجاة من
فرعون الشر ،أما الغد فهو للرب.
إن الكنٌسة تلقفت تلك التسبحة مُب ِّكرً ا ج ًدا وجعلتها باكورة تسابٌحها (الهوس
األول /تسبحة نصف اللٌل بحسب الطقس القبطً) ،لتعلنها نهجً ا تسلك بمقتضاه
على الدوام .فتسبٌح ال ُنصرة قادر أن ٌُزلزل مُعس َكر ال َشرِّ المُحٌط بنا ،كما أن
هذه التسبحة تعمل على ض ِّخ روح الرجاء والثبات ،فً حٌاة الجماعة المُسبِّحة،
تخش من أخطار الغد .فتسبحة الٌوم هً نفسها ُترس الغد ض ّد األعداء وهً َ فبل
سٌف ال ُنصرة الذي تتقلَّده النفس ـ ك ّل لٌل ٍة ـ بقدر ما تستمر فً التسبٌح والهتاف.
إنه رداء التسبٌح الملوكً الذي تح َّدث عنه إشعٌاء ،عِ وضًا عن الروح الٌابسة،
القادر أن ٌُعٌدك من جدٌد للصفوف األمامٌَّة فً القتال ل ُتحارب وتنتصر« .
فرح عِ وضًا عن النوح ،ورداء تسبٌح ٍ ألعطٌهم جماالً عِ وضًا عن الرماد ،و ُدهن
عوضًا عن الروح الٌابسة ،فٌ ُْد َعون أشجار الب ّر ،غرسُ الرب للتمجٌد »
(إش.)3 :61
افتحْ كتابك المق ِّدس على (خر 1 :15ــ )18وص ِّل بتلك التسبحة .دعوتً لك
اآلن أن ُت ْنصِ ت بقلبك لتلك الكلمات .حاول أن تتحسَّس وتتذوَّ ق طعم ال ُنصرة
والبهجة التً كان ٌهتف بها الشعب الناجً من فرعون وجنوده ،حاول أن تجعل
منها تسبحتك الخاصة ،حٌنما تراودك مخاوف السقوط .فقط َسبِّح بتلك الكلمات
وال تتركها تبرح فمَّك ح ّتى ترى ُنصرة الرب فً حٌاتك ..
https://coptic-treasures.com/
وأخٌرً ا أتركك لكلمات حبقوق النبً المُف َعمة بالرجاء ،رغم قسوة الحاضر الذي
نور!! ها هو ٌقول: ال ٌحمل ولو بصٌصًا من ٍ
فمع أ َّنه ال ٌُ ْزهِر التٌن،
وال ٌكون َح ْمل ٌ فً الكروم،
ٌَ ْكذ ُ
ِب عمل الزٌتونة،
والحقول ال تصنع طعا ًما.
ٌنقطع الغنم من الحظٌرة،
وال بقر فً المذاود.
بالرب وأفرح بإله خالصً.
ِّ فإنً أبتهج
الرب الس ٌِّد قوتً
قدمً كاألٌائل
َّ وٌجعل
و ٌُ ْم ِّ
شٌنً على مرتفعاتً
(حبقوق 17 :3ـ )19
https://coptic-treasures.com/
خاتمة
ٌقول أحدهم :
الرجاء هو مبدأ ج َّبار للعمل
من أجل تحقٌق اإلنسان ٌَّة الكاملة
إننا بحاجة اآلن الستراتٌجٌَّة جدٌدة فً التوبةُ ،نجابه بها أعداءنا الذٌن ٌُلقون
بشباك الٌؤس على أرض األحٌاء فتصطاد ٌوم ًٌّا المبات ممَّن مات المسٌح من
أجلهم .نحتاج الستراتٌجٌَّة ثقة كاملة واطمبنان فً هللا ،استراتٌجٌَّة صرخات
دابمة تخترق غٌوم الٌؤس وظبلم الخطٌبة .صرخات صبلة فً ك ّل وق ٍ
ت وفً ك ّل
مكان ،دون االلتفات إلى الحالة البابسة التً قد نكون علٌها ،فالصراخ هو ٍ
وسٌلتنا لتغٌٌر تلك الحالة بقوَّ ة النعمة .نحتاج بالفعل إلى استراتٌجٌَّة رجاء ال
ٌهت ّز ثاب ًتا كالصخر ،فالرجاء هو مِرساة النفس حٌنما تخبطها األمواج و ُتوشك
على الغرق والهبلك … والرجاء المُتشوِّ ق للخبلص هو السبلح الذي نجتاز به
تلك المعركة .إنه السبلح الذي ال تستطٌع َقوى الظلمة أن َتصْ مُد أمامه.
لقد أ َّكد القدٌس بولس بوعٌه الروحً المستنٌر ،على أهمٌَّة هذا الرجاء فً ذلك
الصراع بٌن النور والظلمة ،قاببلً « :بالرجاء َخلُصْ نــَا » (رو ، )24 :8فتوبة
ببل رجاء هً مسٌرة ببل ضٌاء تنتهً عند جرف الٌؤس ..هً مسٌرة ٌدفعها
وٌُغذٌها الشٌطان ،ألنها بحسب خِطته لهبلك البشرٌَّة!!
وعن شعلة الرجاءٌ ،كتب شارل بٌجً ،Charles Peguyفٌقول:
شعلة الٌستطٌع شًء أن ٌُ ْطفِئها،
هناك ُ
وال ٌقدر مخلوق أن ٌُ ْخمِدها،
شعلة هً أب َقى من الزمن،
ألن تلك ال ُ
وأقوى من الموت.
https://coptic-treasures.com/
فلٌكن لك ذلك الرجاء بؤن الرب سٌُنٌر ظلمتك (مز )28 :18مهما اشت ّدت ومهما
طالت الظلمة ،فسٌظل نور الرب أقوى من ظلمة الخطٌبة .وحٌنما ٌؤتً سٌُعلن
للنفس قاببلً « :أنا هو نور العالم ،من ٌَ ْتبعنً ال ٌمشً فً الظلمة ،بل ٌكون له
نور الحٌاة » (ٌو ،)12 :8وبالفعل سٌهبك نور الحٌاة.
وحٌنما ٌؤتً ،س ٌَحْ مِل لك ترٌاق الحٌاة ،فٌُش ِّدد رجلٌك المُتحجِّ رة فتصٌر كرجلًَّ
األٌِّل (مز .)33 :18ستقفز فوق مرتفعات الشهوة ،وستنفتح عٌناك على آثار
المُخلِّص ،أثناء رحلتك نحو نبع النور ،لكً ال َت َز ّل قدماك (مز.)5 :17
بالقوة
َّ سٌُعرِّ فك سُبل الحٌاة وٌُشبعك بالسرور وٌغمرك بالنِعم من ٌمٌنه المُتمجِّ دة
(مز.)11 :16
حٌنها ستترنــَّم بخبلص الرب (مز ،)5 :20بل وسترفع راٌتك باسم الرب
(مز ،)5 :20راٌة شهادة للعالم أجمع؛ راٌة قد ُكتِب علٌها بدماء الحبّ المسكوبة
على مذبح الصلٌب ..
« كل ّ من عنده هذا الرجاء بهٌُ ،ط ِّهر نفسه »
(ٌ1و )3 : 3
سارافٌم البرموسً
أغسطس 2009
https://coptic-treasures.com/
https://coptic-treasures.com/