You are on page 1of 98

‫‪1‬‬

‫كلية الحقوق سال‬

‫المدخل للشريعة اإلسالمية‬


‫لطلبة السداسية الولى‬

‫ذ‪.‬فمدم لفريخي‬

‫موسم‪2021/2020 :‬‬
‫‪2‬‬

‫الباب الول‪ :‬الشريعة اإلسالمية ومصادرها‬

‫الفصل الول‪ :‬المدخل إلى الشريعة اإلسالمية الهمية والخصائص‬

‫من المناسب قبل الحديث عن مصادر الشريعة اإلسالمية وأحكامها أن يقف‬


‫الطالب(ة) على أهمية المدخل إلى الشريعة اإلسالمية والسياق التاريخي لهذه‬
‫الشريعة ( المبحث األول) قبل تحديد مفهومها وخصائصها ( المبحث الثاني)‪.‬‬

‫المبحث الول‪ :‬المدخل إلى الشريعة اإلسالمية الهمية والسياق‬

‫يستمد المدخل إلى الشريعة اإلسالمية أهميته من أمرين أساسين‪:‬‬

‫األول‪ :‬من موضوعه حيث إنه يعرض ألهم مباحث الشريعة اإلسالمية‪ ،‬واألمر‬
‫الثاني‪ :‬عالقته بتخصص الطالب الحقوقي‪ ،‬وعليه ينبغي الحديث عن أهمية‬
‫الشريعة اإلسالمية في ذاتها‪ ،‬وعن أهمية المدخل إلى الشريعة باعتباره مادة مقررة‬
‫للطالب الحقوقي( المطلب األول) قبل اإلشارة إلى السياق التاريخي للشريعة‬
‫اإلسالمية ( المطلب الثاني‪).‬‬

‫المطلب الول‪ :‬أهمية الشريعة اإلسالمية‬

‫تجد الشريعة اإلسالمية أهميتها في‪:‬‬

‫‪ ‬مصدرها اإللهي‪.‬‬
‫‪3‬‬

‫‪ ‬في خصائصها ومبادئها المنبثقة عن مصدرها وستأتي الحقا‪.‬‬


‫‪ ‬باإلضافة إلى اعتبارها تشريعا حقوقيا متكامال ومتمي از‪.‬‬

‫ولن نقف في الحديث عن هذه األهمية مع النصوص الشرعية وما أكثرها‪ ،‬وإنما‬
‫نسوق خالصات وشهادات للمتخصصين في المجال الحقوقي بالخصوص من‬
‫خالل مجموعة من المؤتمرات الحقوقية‪ ،‬من ذلك‪:‬‬

‫أوال‪ :‬ما صدر عن مؤتمر الحقوق المقارنة الهاي ‪1391‬م‪.‬‬

‫تضمن القرار الصادر عن هذا المؤتمر ما يلي‪:‬‬

‫‪ " ‬اعتبار الشريعة اإلسالمية مصد ار من مصادر التشريع العام‪.‬‬


‫‪ ‬اعتبارها حية قابلة للتطور‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪ ‬اعتبارها تشريعا قائما بذاته ليس مأخوذا من غيره‪".‬‬

‫فالشريعة اإلسالمية تعتبر تشريعا عاما يمكن لكل التشريعات والتقنينات‬


‫األخذ عنها واالستمداد واالستنباط مما تنص عليه من مبادئ حقوقية هامة‪ ،‬كما‬
‫أنها قابلة للتطور ومسايرة كل المستجدات بفضل مرونة مبادئها التي تؤطر‬
‫المعامالت‪ ،2‬من ذلك المبدأ المتعلق بالمعامالت المالية الذي ينص على أن‬
‫المعامالت المالية مباحة ومشروعة شريطة التقيد بمبدأ حقوقي هام وهو‪ :‬عدم‬
‫االعتداء على حق الغير وأخذه بدون حق‪ ،‬واعتبار التراضي المتبادل في مشروعية‬

‫‪1‬‬
‫‪ -‬مجلة المجمع العلمي العربي‪ ،‬ج ‪3131 ،82‬هـ‪3591 -‬م‪.....‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬كما سنرى الحقا‪.‬‬
‫‪4‬‬

‫العقود‪ ،‬وهذا معنى قوله تعالى‪ ( :‬يأيها الذين آمنوا ال تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل‬
‫‪3‬‬
‫إال أن تكون تجارة عن ت ارض منكم)‬

‫ثانيا‪ :‬ما صدر عن مؤتمر المحامين الدولي ‪1391‬م‪.‬‬

‫" اعترافا بما للتشريع اإلسالمي من مرونة وما له من شأن‪ ،‬يجب على جمعية‬
‫المحامين الدولية أن تقوم بتبني الدراسة المقارنة لهذا التشريع وبالتشجيع عليها"‪4‬‬

‫ثالثا‪ :‬ما صدر عن مجمع الحقوق المقارنة الدولي باريس ‪1392‬م‪.‬‬

‫ترج َمته‪ " :‬إن المؤتمرين بناء على الفائدة المتحققة من‬
‫والذي ورد فيه ما َ‬
‫المباحث التي عرضت أثناء أسبوع الفقه اإلسالمي وما جرى حولها من المناقشات‬
‫التي تلخص منها بوضوح ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1‬أن مبادئ الفقه اإلسالمي لها قيمة ال يمارى فيها‪.‬‬


‫‪ -2‬أن اختالف المذاهب الفقهية في هذه المجموعة الحقوقية العظمى ينطوي على‬
‫ثروة من المفاهيم والمعلومات‪ ،‬ومن األصول الحقوقية‪ ،‬وهي مناط إعجاب وبها‬
‫يتمكن الفقه اإلسالمي أن يستجيب لجميع مطالب الحياة الحديثة والتوفيق بين‬
‫حاجاتها‪"..‬‬

‫ومن أهم المبادئ والنظريات التي يشير إليها القرار‪ :‬نظريات الملكية‪ ،‬ونظرية‬
‫العقد‪ ،‬واألهلية‪ ،‬ومبدأ التراضي واإلرادة‪..‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ -‬سورة النساء اآلية‪.85:‬‬
‫‪4‬‬
‫‪-‬‬
‫‪5‬‬

‫وفي سياق المناقشات قال نقيب المحامين ببارس‪ " :‬أنا ال أعرف كيف أوفق‬
‫بين ما يحكى لنا عن جمود الفقه اإلسالمي وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي‬
‫بحاجات المجتمع العصري المتطور‪ ،‬وبين ما نسمعه اآلن في المحاضرات‬
‫ومناقشاتها مما يثبت خالف ذلك تماما ببراهين النصوص والمبادئ"‪5‬‬

‫إذن فما يحكيه غير المتخصص شيء‪ ،‬والحقيقة العلمية والواقعية شيء آخر" فما‬
‫‪6‬‬
‫ر ٍاء كمن سمع"‪.‬‬

‫إذا ثبتت هذه األهمية بالنسبة للشريعة اإلسالمية‪ ،‬فما هي أهمية المدخل إلى‬
‫الشريعة اإلسالمية باعتبارها مادة علمية مقررة للطالب الحقوقي؟‬

‫المطلب الثاني‪ :‬أهمية المدخل للشريعة اإلسالمية‬

‫المدخل ألي علم هو باب معنوي يطل من خالله الطالب على تعريف العلم‬
‫وأهميته ومباحثه وغاياته ومصادره وأهدافه وثمراته‪ ،‬وهي ما يسمى بمبادئ العلوم‪.‬‬
‫وألهمية ذلك وجدت عدة مداخل يدرسها الطالب الحقوقي قبل الخوض في المواد‬
‫والتفاصيل والجزئيات‪ ،‬فنجد المدخل إلى الشريعة اإلسالمية‪ ،‬والمدخل إلى العلوم‬
‫القانونية والمدخل إلى االقتصاد‪...‬وتتجلى أهمية المدخل إلى الشريعة اإلسالمية‬
‫بالنسبة للطالب(ة) الحقوقي باعتباره مادة مقررة في اآلتي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الهمية العلمية للمدخل إلى الشريعة اإلسالمية‬

‫‪5‬‬
‫‪-‬‬
‫‪ -6‬لمزيد مما يدل على األهمية تراجع خصائص ومبادئ الشريعة اإلسالمية التي ستأتي‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫مادة المدخل إلى الشريعة اإلسالمية لها أهمية علمية كبيرة بالنسبة للدارس‬
‫والباحث والطالب‪ ،‬من أجل التعرف على أهم األسس والقواعد والمبادئ الحقوقية‪،‬‬
‫والنظريات الفقهية‪ ،‬ومعرفة مرجيعتها‪ ،‬وتقييم أهميتها ومقارنة ذلك بغيره‪ ،‬ومما يدل‬
‫على هذه األهمية أيضا مايلي‪:‬‬

‫إدراك مفهوم الشريعة والفقه المستنبط منها والعالقة بين ذلك وبين القانون‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫معرفة أهم خصائص ومبادئ الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وإدراك أهميتها في‬ ‫‪-2‬‬
‫االجتهاد والتجديد والتطوير‪.‬‬
‫التعرف على مصادر األحكام الشرعية‪.‬‬ ‫‪-9‬‬

‫معرفة أهم قواعد الفهم والتفسير واالستنباط واالجتهاد‪.‬‬ ‫‪-9‬‬

‫االستئناس ببعض قواعد أصول الفقه وأهميتها في الفهم والتأويل واالجتهاد‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫معرفة المذاهب والمدارس الفقهية وأسباب االختالف بينها‪ ،‬والمصطلحات‬ ‫‪-6‬‬
‫األصولية والفقهية‪.‬‬
‫الوقوف على التطور التاريخي لمصادر الشريعة اإلسالمية والفقه‬ ‫‪-1‬‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫‪.....‬‬ ‫‪-1‬‬

‫ثانيا‪ :‬أهمية المدخل إلى الشريعة اإلسالمية بالنسبة للدارس(الطالب) الحقوقي‬

‫مما يؤكد أهمية مادة المدخل إلى الشريعة اإلسالمية هو عالقته الوطيدة‬
‫بمجموعة من القوانين التي يدرسها الطالب(ة) الحقوقي‪ ،‬حيث تعتبر الشريعة‬
‫‪7‬‬

‫اإلسالمية وما استنبط منها من فقه مصد ار أساسيا لمجموعة من القوانين‪ ،‬ومن‬
‫ذلك‪:‬‬

‫قانون السرة؛ فهذا القانون يجد مصدريته في الشريعة اإلسالمية والفقه‬ ‫‪-1‬‬
‫اإلسالمي المالكي‪ ،‬مع االنفتاح على المذاهب األخرى في كل ما يحقق المقاصد‬
‫الحقوقية لألسرة‪ .‬فقواعد الزواج والطالق واألهلية والنفقة والحضانة وغيرها مستمدة‬
‫من الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫قانون االلتزامات والعقود؛ وباألخص نظرية االلتزام ونظرية العقد والعقود‬ ‫‪-2‬‬
‫المسماة‪ ،‬فالقواعد المؤطرة لكل هذا تجد مصدريتها في الشريعة اإلسالمية والفقه‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وقد اعتمد "سانتيانا" الفرنسي في وضع مشروع قانون االلتزامات‬
‫والعقود المغربي على الفقه اإلسالمي المالكي‪.‬‬
‫المواريث والوصايا؛ وتستمد أحكامها من الشريعة اإلسالمية‪ ،‬على أساس‬ ‫‪-9‬‬
‫الموازنة بين الحقوق والواجبات تحقيقا لمبدأ العدل في توزيع الثروة وتداولها‪.‬‬
‫قانون الحقوق العينية؛ الذي يتحدث عن أسباب الملكية العقارية وكيفية‬ ‫‪-9‬‬
‫انتقالها وانتهائها‪ ،‬وقد اعتمد على الفقه المالكي المستمد الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫قانون الوقاف؛ فمدونة األوقاف تعتبر تدوينا للفقه المالكي في األحكام‬ ‫‪-9‬‬
‫الموضوعية للوقف‪.‬‬
‫‪.....‬‬ ‫‪-6‬‬
‫‪8‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬السياق التاريخي للشريعة اإلسالمية‬

‫للحديث عن السياق التاريخي للشريعة تنبغي اإلشارة إلى السياق التاريخي‬


‫للتشريعات بصفة عامة؛ على اعتبار أنه وجدت تشريعات سماوية قبل مجيء‬
‫الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫الفقرة الولى‪ :‬مرحلة ما قبل الشريعة اإلسالمية‬

‫يقول ابن خلدون‪ " :‬اإلنسان اجتماعي بطبعه" فاجتماعية اإلنسان فطرة‬
‫وغريزة جبل عليها‪ ،‬واإلنسان في اجتماعيته هذه تسيطر عليه غريزتان‪:‬‬

‫النانية‪ ،‬لكنها مهما بلغت فهو ال يمكنه أن يعيش في عزلة وال يستطيع‬ ‫‪-1‬‬

‫تحملها إال مع أضرار تلحقه إما نفسية وإما غيرها؛ ألنه من المجتمع يتعلم السلوك‬
‫وكيفية تلبية الحاجات‪ ،‬وكيفية الوصول إليها‪ ،‬وكيفية التواصل بشأنها‪...‬‬
‫الغيرية‪ ،‬أي االرتباط بالغير‪ ،‬فاإلنسان مرتبط بغيره كما أشرنا سابقا‪ ،‬فهو في‬ ‫‪-2‬‬
‫نسبة كبيرة جدا من حاجاته يحتاج إلى غيره‪ ،‬لكن مهما بلغت حاجته إلى اآلخر‬
‫فهو يسعى إلى تحقيق ذاته‪.‬‬

‫إذن اإلنسان تتجاذبه غريزتان األنانية والغيرية‪ ،‬وهذه طبيعة كل فرد من أفراد‬
‫المجتمع‪ ،‬ومن شأن هذا أن يحدث تنافسا من أجل تحقيق الذات‪ ،‬و هذا التنافس‬
‫يولد صراعا؛ ألن اإلنسان يريد تلبية حاجاته من الطبيعة ومما في يد اآلخرين‪،‬‬
‫فتتعارض اإلرادات والحريات من أجل تحقيق الذات‪ ،‬فكان ال بد من تشريع ينظم‬
‫‪9‬‬

‫حدود هذه اإلرادات ويعمل على تحقيق التوازن بينها‪ ،‬ومن هنا وجدت التشريعات‪.‬‬
‫وعرفت اإلنسانية مراحل متنوعة في تنظيم العالقات والوصول إلى الحاجات‪.‬‬

‫أوال‪ :‬مرحلة الصراع من أجل الوصول إلى الحاجات‪:‬‬

‫وقد كان اإلنسان يصل إلى تحقيق ما يريد بنفسه‪ ،‬فأدى ذلك إلى القتل‬
‫أحيانا(قصة ابني آدم عندما قتل قابل أخاه هابل وغيرها كثير ‪ ) ..‬فقد عانت‬
‫األنسانية من مرحلة الصراع والعدالة الخاصة‪ ،‬إال أن اإلنسان لما أنهكته‬
‫الصراعات فكر في توافقات يحتكم إليها‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مرحلة اللجوء إلى التوافق على أعراف وعادات يحتكم إليها‪:‬‬

‫وهذا يعتبر تطو ار في تنظيم العالقات وتحقيق التوازن بين الرغبات‪ ،‬إال أنه مع‬
‫ذلك بقيت الصراعات وتضاربت المصالح‪ ،‬فغلب رأي جهة دون أخرى؛ ألن من‬
‫طبيعة اإلنسان أن ال يتسم بالحياد التام‪ ،‬مما تطلب تشريعا وتنظيما محايدا‪ ،‬ولهذا‬
‫الغرض جاءت الشرائع السماوية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬مرحلة تدوين العراف والعادات‪:‬‬

‫وهي مرحلة تضمنت ماقبل وما بعد وحين مجيء الشرائع‪ ،‬بل ال تخلو من تأثير‬
‫للشرائع عليها شكال ومضمونا‪ ،‬ومرحلة تدوين األعراف والعادات كان الغرض منها‬
‫تحقيق الثبات واالستقرار‪ ،‬إال أنه نظ ار لكثرة األعراف والعادات فقد بقي الكثير غير‬
‫مدون إلى عصرنا هذا‪.‬‬
‫‪10‬‬

‫رابعا‪ :‬مرحلة مجئ الشرائع السماوية‬

‫قبل مجيء الشريعة اإلسالمية وجدت قبلها مجموعة من الشرائع السماوية‪،‬‬


‫وقد بلغ عدد الرسل الذين أوحي إليهم وأمروا بالتبليغ ‪ 423‬رسوال‪ ،‬ذكر منهم في‬
‫القرآن ‪ 22‬رسوال‪ ،‬إال أن هذه الشرائع كانت خاصة بأقوام معينين وبأزمنة وأمكنة‬
‫معينة‪ ،‬فكان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة‪ ،‬فبعث سيدنا إبراهيم إلى قومه‪،‬‬
‫وسيدنا موسى إلى قومه وسيدنا عيسى إلى قومه‪ ،‬وهكذا كان حال بقية الرسل‬
‫عليه السالم‪.‬‬

‫ولما بلغت اإلنسانية مبلغا من الوعي والتطور والتفكير الحقوقي جاءت شريعة‬
‫عامة لجميع اإلنسانية لما اشتملت عليه هذه الشريعة من خصائص ومبادئ‬
‫تمكنها من العالمية والعموم كما سنبينه‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬مرحلة مجيء الشريعة اإلسالمية‪:‬‬

‫أوال‪ :‬الشريعة اإلسالمية تتويج للشرائع السماوية السابقة ‪:‬‬

‫كان مجيء الشريعة اإلسالمية تتويجا لما حققته الشرائع السماوية السابقة من وعي‬
‫عام ونضج لدى اإلنسان بسبب مدارك اإلنسان وتطوره وبسبب الشرائع السماوية‬
‫السابقة لها‪ ،‬يقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬مثلي ومثل النبياء من قبلي كمثل رجل‬
‫بنى بيتا فأجمله وأحسنه إال موضع لبنة فجعل الناس يطوفون حوله ويعجبون‬
‫ويقولون هال وضعت هذه اللبنة‪ ،‬فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيئين"‪ 7‬وهذا يعني أن‬
‫‪7‬‬
‫‪-‬‬
‫‪11‬‬

‫العالقة بين الشرائع السماوية عالقة تكامل زيادة عن العالقات األخرى‪ .‬ويقوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إنما بعثت لتمم مكارم الخالق"‪ 8‬وهذا يعني أن الرسل‬
‫عليهم السالم قبله بدأوا الدعوة إلى األخالق والرسول صلى هللا عليه وسلم أتم‬
‫ذلك‪.‬‬

‫كما أن الشريعة اإلسالمية جاءت تصحيحا لما عرفته بعض الشرائع من‬
‫تحريفات وافتراءات باسم هذه الشرائع‪ ،‬مما انعكس سلبا على العالقات االجتماعية‬
‫وأعاد التطور اإلنساني إلى نقطة البداية من خالل التقاتل والتناحر في ظل تنافس‬
‫اإلرادات وتعارض الرغبات‪ .‬فجاءت الشريعة اإلسالمية بمبادئ وقواعد تشريعية‬
‫تسمح لإلنسانية بتنظيم كل العالقات‪ ،‬سواء في عالقة اإلنسان بربه أو بنفسه أو‬
‫بغيره من اإلنسان وكل ما يوجد في الكون‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬النطاق العام للشريعة اإلسالمية‬

‫الشريعة اإلسالمية تنظم‪:‬‬


‫‪ ‬عالقة اإلنسان بربه من خالل العقائد والعبادات‪.‬‬
‫‪ ‬عالقة اإلنسان بنفسه من خالل احترام حقوق النفس‪.‬‬
‫‪ ‬عالقة اإلنسان بغيره من خالل األخالق والمعامالت ومراعات الحقوق العامة(‬
‫حقوق اإلنسان) والحقوق الخاصة( العالقات التعاقدية)‪.‬‬

‫والمتأمل ألحكامها وتشريعاتها يجدها تتغيى ثالث غايات‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪-‬‬
‫‪12‬‬

‫الغاية الولى‪ :‬تحرير العقل والفكر البشري من التقليد والخرافة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫ربطه باإليمان باهلل وحده‪ ،‬وتوجيه عقله نحو الدالئل والبراهين الكونية الدالة على‬
‫ذلك‪ ،‬والمتأمل في اآليات المتعلقة بتحرير العقول وإرساء العقائد الصحيحة وإبطال‬
‫الخرافات والعقائد الفاسدة يجد هذ اآليات ترتكز على خطاب العقول بالبراهين‬
‫المنطقية‪ ،‬والدالئل الكونية‪.‬‬
‫الغاية الثانية‪ :‬إعداد اإلنسان نفسيا وخلقيا‪ ،‬وتوجيهه نحو الخير واإلحسان حتى ال‬
‫تطغى شهواته ومطامعه على عقله وواجباته‪ ،‬وهذا يتحقق بالتوجيهات المتعلقة‬
‫باألخالق وبالعبادات التي أوجبها هللا تعالى‪ ،‬فمن أهم غاياتها تزكية األنفس‬
‫وتطهيرها من الرذائل والعادات السيئة‪.‬‬
‫الغاية الثالثة‪ :‬وضع مبادئ وقواعد تنظم المعامالت بين اإلنسانية جمعاء يراعى‬
‫فيها العدل والمساواة‪ ،‬والموازنة بين الحقوق والواجبات‪ ،‬تحقيقا لمبدأ التعاون‬
‫والتكامل اإلنساني قال تعالى‪ ( :‬وجعلنا بعضكم لبعض سخريا)‪ .9‬أي بعضكم‬
‫مسخر لخدمة بعض حسب النوع واالختصاصات في إطار تكاملي يخدم اإلنسانية‬
‫جمعاء‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-‬‬
‫‪13‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬مفهوم الشريعة اإلسالمية وخصائصها‬

‫لتصور مفهوم الشريعة اإلسالمية ينبغي تعريفها‪ ،‬وتمييزها عن غيرها من المفاهيم‬


‫المشابهة لها( المطلب األول) ثم الوقوف على أهم خصائصها (المطلب الثاني)‬

‫المطلب الول‪ :‬مفهوم الشريعة اإلسالمية‬

‫إدراك مفهوم الشيء يتوقف على معرفة الداللة اللغوية واالصطالحية له مع‬
‫وتمييزه عن غيره من المفاهيم المشابهة له‪.‬‬

‫الفقرة الولى‪ :‬تعريف الشريعة‪:‬‬

‫هذا المصطلح مركب من كلمتين‪ :‬الشريعة‪ ،‬اإلسالمية‪ ،‬وهذا يقتضي‬


‫تعريف كل مفردة على حدة قبل تعريفه باعتباره لقبا‪.‬‬

‫أوال‪ :‬الشريعة في اللغة واالصطالح‪:‬‬

‫الشريعة في اللغة‬ ‫‪-1‬‬

‫قال أحمد ابن فارس في األصل الداللي لمادة (شرع)‪ " :‬الشين والراء والعين أصل‬
‫واحد‪ ،‬وهو شيء يفتح في امتداد يكون فيه‪ .‬من ذلك الشريعة"‪ .10‬ومن المعاني اللغوية‬
‫للشريعة‪:‬‬

‫‪ -‬الدنو والقرب‪ :‬ومنه" شرع المنزل‪ :‬دنا وقرب"‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫‪ -‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬باب الشين وما يثلثه من الراء والعين‪.‬‬
‫‪14‬‬

‫االبتداء والشروع في الشيء‪" :‬شرع فالن يفعل كذا‪ :‬أخذا يفعله"‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الشيء‪ :‬أعاله وأظهره"‪.‬‬
‫َ‬ ‫اإلعالء للشيء وإظهاره‪" :‬شرع‬ ‫‪-‬‬
‫التشريع والبيان‪ :‬ومنه "شرع الدين‪ :‬سنه وبينه‪ ،‬ومنه قوله عز وجل‪ ( :‬شرع لكم‬ ‫‪-‬‬
‫من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك)‪ .11‬وشرع الشيء جعله مسنونا‬
‫ومشروعا"‪.‬‬
‫مد الشيء وتمهيده‪ :‬ومنه " شرع الطريق‪ :‬مده ومهده"‪ .12‬أي جعله سهال ممهدا‬ ‫‪-‬‬
‫مستقيما‪ .‬ومنه قول عز وجل‪ ( :‬ثم جعلناك على شريعة من المر فاتبعها وال تتبع‬
‫أهواء الذين ال يعلمون)‪ 13‬وقوله سبحانه‪( :‬لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)‪.14‬‬
‫‪15‬‬
‫الوضوح‪ :‬قال الراغب األصفهاني‪ " :‬الشرع نهج الطريق الواضح"‬ ‫‪-‬‬
‫فهذه مجموع المعاني اللغوية‪ ،‬فكلها ترجع إلى معنى الظهور والعلو والبيان والقرب‪،‬‬
‫وهذه المعاني اللغوية للشريعة لها عالقة بالمعنى االصطالحي‪ ،‬فالشريعة فيها معنى‬
‫مبينة ألنها نزلت بلسان عربي مبين‪،‬‬
‫البيان والقرب والوضوح والظهور والعلو؛ فهي َّ‬
‫ومبينة لمجموعة من األحكام‪.‬‬
‫ولبيان الرسول صلى هللا عليه وسلم لها‪ ،‬ة‬
‫وفيها معنى الوضوح والظهور أيضا لما سبق في البيان‪ ،‬ومعنى العلو ألن مصدرها‬
‫قرب معانيها لإلنسانية‬
‫هللا عز وجل‪ ،‬وفيها معنى القرب ألن الرسول صلى هللا عليه َّ‬
‫وجسدها في الحياة‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪12‬‬
‫انظر ‪ :‬إبراهيم مصطفى وحامد عبد القادر وأحمد حسن الزيات ودمحم علي النجار‪ ،‬المعجم الوسيط‪ ،‬مادة "شرع"‬
‫‪13‬‬
‫‪-‬‬
‫‪14‬‬
‫‪-‬‬
‫‪15‬‬
‫معجم مفردات ألفاظ القرآن‪ ،‬ص‪.869 :‬‬
‫‪15‬‬

‫الشريعة في االصطالح‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫قال التهاوني‪ " :‬الشرع ما شرع هللا لعباده من األحكام التي جاء بها نبي من‬
‫األنبياء‪ ،‬سواء أكانت متعلقة بكيفية عمل‪ ،‬وتسمى فرعية عملية(عبادات‪ ،‬أخالق‪،‬‬
‫معامالت)‪ ،‬ودون لها علم الفقه‪ ،‬أو بكيفية اعتقاد‪ ،‬وتسمى أصلية واعتقادية‪ ،‬ودون لها‬
‫‪16‬‬ ‫علم الكالم‪ .‬ويسمى الشرع أيضا بالشريعة وبالدين والملة"‪.‬‬

‫ويقول ابن األثير‪ " :‬الشرع والشريعة‪ :‬ما شرعه هللا لعباده من الدين‪ ،‬أي سنه لهم‪،‬‬
‫‪17‬‬ ‫وافترضه عليهم"‪.‬‬

‫إذن فالشرع والشريعة هي‪ :‬مجموع األحكام العقدية واألخالقية وأحكام العبادات‬
‫وأحكام المعامالت األسرية والمالية وأحكام ما قد يرتبط بذلك من جنايات‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬تعريف الشريعة اإلسالمية‬

‫الشريعة اإلسالمية نسبة إلى اإلسالم وهو الدين الذي جاء به سيدنا دمحم صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬قال تعالى‪ (:‬إن الدين عند هللا اإلسالم)‪ 18‬وقال عز وجل‪( :‬ومن يبتغ‬
‫‪19‬‬
‫غير اإلسالم دينا فلن يقبل منه)‬

‫‪16‬‬
‫‪ -‬كشاف اصطالحات الفنون‪.395/1 :‬‬
‫‪17‬‬
‫‪-‬النهاية‪.064/8 ،‬‬
‫‪18‬‬
‫‪-‬‬
‫‪19‬‬
‫‪-‬‬
‫‪16‬‬

‫والشرع والشريعة يطلقان بمعنى عام‪ ،‬ويقصد بها‪ :‬مجموع األحكام العقدية‬
‫واألخالقية وأحكام العبادات وأحكام المعامالت األسرية والمالية الذي جاء بها‬
‫سيدنا دمحم صلى هللا عليه وسلم عن طريق الوحي‪.‬‬

‫فالشريعة تنظم المجاالت اآلتية‪:‬‬

‫مجال العقائد‪ ،‬ما يجب على اإلنسان اعتقاده واإليمان به في حق هللا تعالى وفي‬ ‫أ‪-‬‬
‫حق الرسل‪ ،‬وما يجب اإليمان به من األمور الغيبية كالجنة والنار والحساب والصراط‬
‫والميزان‪..‬‬
‫ب‪ -‬مجال العبادات‪ ،‬وهي األحكام التي تنظم الصالة والزكاة والصوم والحج وغيرها‬
‫مما يدخل في العبادات‪.‬‬
‫ج‪ -‬مجال الخالق‪ ،‬وهي األحكام التي تنظم ما ينبغي أن يكون عليه سلوك اإلنسان‬
‫مع نفسه ومع غيره‪ ،‬كالصدق والوفاء والتعاون والتضامن‪ ،‬والعدل والمحبة وحسن الجوار‬
‫وبر الولدين‪..‬‬
‫مجال المعامالت السرية‪ ،‬وهي األحكام التي تنظم كل ما يتعلق بالزواج والطالق‬ ‫د‪-‬‬
‫والحضانة والنسب والرضاعة والنفقة والميراث وغيرها‪..‬‬

‫هـ‪ -‬مجال المعامالت المالية‪ ،‬وهي األحكام التي تنظم المبادالت المالية العوضية‬
‫والتبرعية‪ ،‬سواء تعلق األمر بالمعامالت العادية أو المعامالت التجارية‪.‬‬

‫بقية المعامالت‪ ،‬مما يرتبط باإلدارة والقضاء والحكم والسلم والحربى وغيره‬ ‫و‪-‬‬
‫والجنايات‪.‬‬
‫‪17‬‬

‫وبذلك فهي تنظم عالقة اإلنسان بربه من خالل العقائد والعبادات‪ ،‬وعالقة اإلنسان‬
‫بغيره من خالل األخالق والمعامالت‪ ،‬والقيام بذلك كله ينعكس إيجابا على عالقة‬
‫اإلنسان بنفسه وبمجتمعه‪.‬‬

‫وقد تطلق الشريعة بإطالق خاص ويقصد به األحكام العملية فقط‪ ،‬أي تطلق على‬
‫العبادات والمعامالت‪ ،‬دون األحكام االعتقادية واألخالقية‪.‬‬

‫الفقرة الثانية‪ :‬تمييز الشريعة اإلسالمية عن المفاهيم المشابهة لها‪:‬‬

‫أوال‪ :‬تمييز الشريعة اإلسالمية عن الدين والملة والفقه اإلسالمي‪:‬‬

‫‪ -1‬الشريعة والدين والملة واإلسالم‬

‫هذه األلفاظ معناها واحد‪ ،‬لكنها قد تطلق باعتبارات أخرى‪ ،‬فلقد سمى هللا سبحانه‬
‫اإلسالم دينا والدين إسالما في قوله عز وجل‪ ( :‬إن الدين عند هللا اإلسالم)‪ 20‬وقال عز‬
‫وجل‪( :‬ومن يبتغ غير اإلسالم دينا فلن يقبل منه)‪ 21‬وقال أيضا‪ ( :‬اليوم أكملت لكم‬
‫دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا)‪.22‬‬

‫لكن الشريعة تسمى شريعة باعتبار ما تبينه وتسنه وتوضحه من التشريعات‬


‫واألحكام‪ ،‬وتسمى دينا باعتبار التدين بها والخضوع لها وعبادة هللا بها‪ ،‬وتسمى ملة‬
‫‪23‬‬ ‫باعتبار إمالئها على الناس‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫‪-‬‬
‫‪21‬‬
‫‪-‬‬
‫‪22‬‬
‫‪-‬‬
‫‪23‬‬
‫‪ -‬انظر قريبا من هذا‪ ،‬دمحم رشيد رضا‪ ،‬تفسير المنار‪.893 /8:‬‬
‫‪18‬‬

‫وال مانع من إطالق هذه المصطلحات بعضها مكان البعض بقصد الداللة على‬
‫األحكام التي جاء بها سيدنا دمحم صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫‪ -2‬تمييز الشريعة عن مفهوم الفقه اإلسالمي‪:‬‬

‫لتمييز الشريعة عن الفقه ينبغي تعريف الفقه أوال ليتبين مفهومه الذي‬
‫نستطيع به تمييز عن غيره‪.‬‬

‫أ‪ -‬تعريف الفقه اإلسالمي‪:‬‬


‫الفقه لغة ‪ :‬مطلق المعرفة اإلدراك والفهم‪ ،‬وقد يطلق على فهم غرض‬
‫المتكلم من خطابه ومنه قوله تعالى‪ ( :‬فمال هؤالء القوم ال يكادون يفقهون‬
‫‪25‬‬
‫حديثا )‪ 24‬وقوله حكاية عن قوم شعيب‪( :‬قالوا ياشعيب ما نفقه كثي ار مما تقول)‬
‫كما يطلق على الفهم واإلدراك الدقيق‪.‬‬

‫والفقه اصطالحا عرف مرحلتين أساسيتين‪:‬‬

‫المرحلة الولى كان يطلق على األحكام التي جاءت بها الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫سواء تعلقت بالعقائد أو العبادات أو األخالق أو المعامالت‪.‬‬

‫المرحلة الثانية‪ :‬وهي التي استقر عليها اإلطالق إلى يومنا هذا‪ ،‬أن الفقه هو‪:‬‬
‫العلم بالحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية‪.‬‬

‫فالعلم ‪ :‬هو إدراك األشياء أو المعلومات واإلحاطة بها سواء كانت يقينية قطعية‬
‫أو ظنية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪-‬‬
‫‪25‬‬
‫‪-‬‬
‫‪19‬‬

‫والشرعية‪ :‬نسبة إلى الشرع والشريعة‪.‬‬

‫والعملية‪ :‬أي التي تتعلق بأعمال الناس وتصرفاتهم كالصالة والصيام والبيع‬
‫والشراء وغيرهما‪.‬‬

‫والمكتسبة‪ :‬أي المأخوذة عن طريق النظر واالستنباط واالجتهاد في األدلة‬


‫والنصوص الشرعية‪ .‬فيخرج من ذلك علم هللا وعلم األنبياء فليس بمكتسب بل‬
‫مصدره الوحي‪ .‬وخرج علم المالئكة وعلم المقلد فهو غير مكتسب‪.‬‬

‫من أدلتها التفصيلية ‪ :‬أي من النصوص التي يعرض كل واحد منها لحكم‪.‬‬

‫إذن فالفقه هو األحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات والمعامالت دون العقائد‬


‫واألخالق فال تسمى فقها‪.‬‬

‫ب‪ -‬تمييز الشريعة عن الفقه‬


‫حسب التعريف السابق للفقه والشريعة‪ ،‬نالحظ أن مفهوم الشريعة أعم من الفقه‪،‬‬
‫ومفهوم الفقه أخص‪ ،‬فالفقه جزء من أحكام الشريعة؛ ألن الفقه يقتصر على العبادات‬
‫والمعامالت وال تدخل فيه العقائد‪.‬‬
‫وهكذا فكل فقه شريعة؛ ألنه جزء منها‪ ،‬وليس كل شريعة فقه؛ ألن هناك ماهو من‬
‫الشريعة وليس فقها كالعقائد‪.‬‬

‫فالفقه يسمى فقها ويسمى شريعة‪ ،‬والشريعة تشمل الفقه وغيره كما تقدم‪.‬‬
‫‪20‬‬

‫ثانيا‪ :‬تمييز الشريعة اإلسالمية عن القانون الوضعي‬

‫لنميز الشريعة عن القانون الوضعي ينبغي إدراك مفهومها‪ ،‬وقد سبق لنا مفهوم‬
‫الشريعة‪ ،‬فما هو مفهوم القانون الوضعي؟‬

‫‪ -1‬مفهوم القانون الوضعي‬

‫القانون في المفهوم الحقوقي هو‪" :‬مجموع القواعد الملزمة‪ ،‬المجردة والعامة‪،‬‬


‫المقترنة بجزاء مادي‪ ،‬المنظمة لسلوك المجتمع‪(،‬المعامالت) المستندة إلى ما يؤمن‬
‫‪26‬‬ ‫به المجتمع من مثل وقيم في ضميره الجماعي العام"‬

‫فالقانون بهذا المفهوم يقتصر على تنظيم سلوك المجتمع‪ ،‬أي ما يتصل بسلوكه‬
‫في المعامالت األسرية والمالية والجنائية‪ ،‬دون العقائد واألخالق والعبادات‪ ،‬فالقانون‬
‫الينظم العبادات وال األخالق وال العقائد‪ ،‬وإن كان قد يتضمن بعض األحكام المرتبطة‬
‫بذلك‪ ،‬كالعقاب على المساس بحرية التدين وغيرها‪ ،‬مما هو في بعض القوانين كالقانون‬
‫المغربي مثال‪.‬‬

‫‪ -2‬تمييز الشريعة عن القانون‬


‫تتميز الشريعة اإلسالمية عن القانون بمجموعة من المميزات مع االتفاق في بعض‬
‫المجاالت‪ .‬ومن أهم مايميز الشريعة عن القانون ما يأتي‪:‬‬
‫أ‪ -‬من حيث المصدر‪ ،‬الشريعة مصدرها رباني فهي وحي من هللا عز وجل أو اجتهاد‬
‫فقهي يجد مصدريته في الوحي‪ ،‬أما القانون فهو من حيث األصل مصدره بشري‪ ،‬لكن‬
‫هناك بعض القوانين تجد مصدريتها في الشريعة اإلسالمية كما هو األمر بالنسبة‬
‫‪26‬‬
‫‪ -‬عن أستاذنا عبد الحميد أخريف‪ ،‬بتصرف‪،‬مدخل لدراسة القانون طبعة سنة ‪،8441-8448‬ص‪.9:‬‬
‫‪21‬‬

‫للدول المسلمة‪ .‬وذلك مثل القانون المدني وقانون األسرة ومدونة األوقاف ومدونة‬
‫الحقوق العينية وغيرها مما أشرنا إليه في الحديث عن عالقة المدخل للشريعة‬
‫بتخصص الدارس الحقوقي‪.‬‬
‫ب‪ -‬من حيث الجزاء‪ ،‬الجزاء في الشريعة اإلسالمية جزاء دنيوي وأخروي‪ ،‬أما في‬
‫القانون فالجزاء دنيوي فقط‪.‬‬
‫ج‪ -‬من حيث الموضوعات‪ ،‬الموضوعات التي تنظمها الشريعة اإلسالمية أعم وأشمل‬
‫وأكثر من الموضوعات التي ينظمها القانون‪ ،‬فالشريعة كما تقدم تشتمل على أحكام‬
‫عقدية وعبادات وأخالق ومعامالت‪ ،‬في حين أن القانون يقتصر على مجال‬
‫المعامالت فقط‪.‬‬
‫هذا باإلضافة إلى ما سنشير إليه في خصائص الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫د‪ -‬من حيث الغاية‪ ،‬غاية الشريعة اإلسالمية تنظيم عالقة اإلنسان بربه وبنفسه وبغيره‬
‫من اإلنسان والكون بأكمله‪ ،‬في حين أن القانون يكتفي بتنظيم عالقة اإلنسان بغيره فقط‪.‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬خصائص الشريعة اإلسالمية‪:‬‬

‫خصائص الشريع اإلسالمية هي المميزات التي تتميز بها عن غيرها من التشريعات‪،‬‬


‫وهذه الخصائص كثيرة نقتصر على أشملها باعتبار أنها كلها ترجع إلى خاصية ربانية‬
‫المصدر‪.‬‬

‫أوال‪ :‬خاصية ربانية المصدر‪:‬‬


‫‪22‬‬

‫تعتبر هذه الخاصية مصد ار لكل الخصائص فكل الخصائص التي تتميز بها الشريعة‬
‫اإلسالمية هي منبثقة ومتفرعة عن هذه الخاصية‪ ،‬فما المقصود بهذه الخاصية؟ وماذا‬
‫يترتب عن كون الشريعة اإلسالمية ربانية المصدر؟‬

‫‪ -1‬المراد بربانية المصدر‪:‬‬

‫المقصود بربانية مصدر الشريعة اإلسالمية‪ :‬أنها من عند هللا عز وجل‪ ،‬فمصدرها‬
‫الوحي الرباني عن طريق القرآن أو السنة النبوية ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم ال‬
‫يتكلم أو يفعل مما هو تشريع من تلقاء نفسه‪ ،‬قال تعالى‪( :‬وما ينطق عن الهوى إن هو‬
‫إال وحي يوحى علمه شديد القوى)‪.27‬‬

‫وبقية المصادر من إجماع وقياس وغيرها من مصادر التشريع االجتهادية كلها مقيدة‬
‫بما في الكتاب والسنة وما يحقق المقاصد الشرعية‪ ،‬وبالتالي فهي نابعة ومتفرعة عن‬
‫الوحي‪.‬‬

‫‪ -2‬النتائج المترتبة عن ربانية المصدر‬


‫يترتب عن الطبيعة الربانية للشريعة اإلسالمية مجموعة من النتائج أهمها‪:‬‬
‫الخلو من الجور والنقص واتباع الهواء؛ وذلك أن مشرعها هو هللا عز وجل‬ ‫أ‪-‬‬
‫وهو ليست له منفعة لنفسه فيما يشرعه لعباده حتى يتأثر تشريعه بالتحيز والظلم‪ ،‬بل هو‬
‫يشرع لمصلحة عباده قال عز وجل‪ ( :‬وما ربك بظالم للعبيد)‪.28‬‬
‫ب‪ -‬االتصاف بالعدل؛ لنفس التعليل السابق ألن هللا سبحانه تنزه عن أن يتحيز‬
‫لمصلحة طرف على حساب طرف آخر‪ ،‬بل إنزاله لهذه الشريعة من أجل تجنب‬
‫‪27‬‬
‫‪-‬‬
‫‪28‬‬
‫‪-‬‬
‫‪23‬‬

‫التحيزات والميوالت البشرية‪ ،‬حتى ولو تعلق األمر بالنفس أو الوالدين واألقربين‪ ،‬قال عز‬
‫‪29‬‬
‫والمراد بالقسط‪:‬‬ ‫وجل‪( :‬كونوا قوامين بالقسط ولو على أنفسكم أو الوالدين واالقربين)‬
‫العدل‪ .‬وقال أيضا‪ ( :‬وال يجرمنكم شنئان قوم على أن ال تعدلوا اعدلو هو أقرب‬
‫أي ال يحملنكم خصامكم مع أي قوم على أن ال تعدلوا بل الواجب العدل حتى‬ ‫‪30‬‬
‫للتقوى)‬
‫مع العدو والمخاصم‪.‬‬
‫وفي زمنه صلى هللا عليه وسلم سرقت امرأة شريفة وذات مكانة في قومها من بني‬
‫مخزوم‪ ،‬فأراد القوم أن يشفعوا لها بأن ال تطبق عليها عقوبة السرقة فطلبوا ذلك من‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقام الرسول فخطب الناس فقال‪ " :‬أيها الناس إنما أهلك‬
‫من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم‬
‫‪31‬‬
‫الشريف تركوه‪ ،‬وأيمن هللا لو أن فاطمة بنت فمدم سرقت لقطعت يدها"‬
‫ج‪ -‬االتصاف بالمساواة؛ فالشريعة اإلسالمية تتسم بالمساواة لكونها تشريعا ربانيا‪ ،‬قال‬
‫عز وجل‪ ( :‬يايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن‬
‫أكرمكم عند هللا أتقاكم)‪ 32‬أي أن أصلكم واحد وال فرق بينكم وال فضل ألحدكم على‬
‫اآلخر إال بالتقوى‪ ،‬ويقول الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬أال ال فضل لعربي على عجمي‬
‫‪33‬‬
‫وال لعجمي على عربي وال لبيض على أسود وال لسود على أبيض إال بالتقوى"‬
‫د‪ -‬الهبة واالحترام في النفوس؛ ألن لها صفة الدين‪ ،‬وألنها مصدرها هللا عز وجل‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫‪-‬‬
‫‪30‬‬
‫‪-‬‬
‫‪31‬‬
‫‪-‬‬
‫‪32‬‬
‫‪-‬‬
‫‪33‬‬
‫‪-‬‬
‫‪24‬‬

‫ثانيا‪ :‬خاصية العموم‬

‫‪ -1‬المراد بالعموم‬
‫المراد بذلك عموم وشمول أحكام الشريعة اإلسالمية لكل مجاالت الحياة ولكل‬
‫األزمنة واألمكنة‪ ،‬ويسمى هذا العموم الزماني والمكاني بالعالمية‪.‬‬
‫فالشريعة اإلسالمية شملت كل المجاالت‪ ،‬فهي تنظم عالقة اإلنسان بربه‬
‫وبنفسه وبغيره‪.‬‬

‫‪ -2‬مستلزمات العموم وأدلته‬


‫العموم من حيث الموضوعات والزمان والمكان( العالمية) يقتضي أن هذه الشريعة‬
‫اإلسالمية تحقق مصلحة الجميع وتراعي حقوق الجميع مهما اختلفت األمكنة‬
‫واألزمنة واألحوال واألجناس والمخلوقات‪.‬‬

‫أن يكون العموم والعالمية يحقق المصلحة العامة؛‬ ‫أ‪-‬‬


‫ففي وقتنا المعاصر نجد المجتمع الدولي يعمل على عولمة االقتصاد وعولمة‬
‫القوانين‪ ،‬بل تسعى بعض الدول إلى عولمة نموذجها السياسي واالقتصادي‬
‫والفكري والثقافي وغير ذلك‪.‬‬
‫ففي عولمة القوانين وتقاربها الذي تسعى إليه الدول من خالل اتفاقيات ومعاهدات‬
‫ومبادالت وشراكات مصلحة مشتركة؛ فكلما تقاربت األنظمة القانونية كلما سهلت‬
‫المبادالت والشراكات التجارية واالقتصادية وتقاربت أحكام القضاء‪ ،‬وال شك أن هذا‬
‫يحقق مصلحة متى احترمت فيه المصالح المشتركة‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫وإذا كان هذا بالنسبة لقوانين وتشريعات وضعية‪ ،‬فإنه ال ينبغي لإلنسانية أن تنكر‬
‫هذه العالمية بالنسبة للتشريع اإلالهي؛ ألنه يحقق المصلحة اإلنسانية ال محالة‪.‬‬
‫وفي يأتي أدلة على ذلك‪.‬‬

‫ب‪ -‬قيام الشريعة اإلسالمية على تحقيق المصالح ودفع المفاسد‬

‫جميع أحكام الشريعة اإلسالمية مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد‪ ،‬وهذا‬
‫ثابت بالقطع في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬فالشريعة جاءت لتحقيق مقاصد كبرى وهي‪:‬‬
‫حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال ‪ ،‬بل جاءت رحمة للعالمين باإلنسان وغيره‬
‫من المخلوقات والكائنات‪ ،‬قال تعالى‪ ( :‬وما أرسلناك إال رحمة للعالمين)‪ 34‬والرحمة‬
‫هذه تتحقق بالمعاملة الحسنة واحترام الحقوق والواجبات والقيم واألخالق‪ ،‬ولهذا قال‬
‫‪35‬‬
‫وباألخالق تتحقق‬ ‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬إنما بعثت لتمم مكارم الخالق"‬
‫المعاملة الحسنة فيرتقي المجتمع ويتقدم‪.‬‬

‫ج‪ -‬النص على غايات الشريعة اإلسالمية وتعليل أحكامها‬

‫‪ -‬الرسول أرسل رحمة للعالمين كما تقدم‪.‬‬


‫‪ -‬الخمر والمسكرات حرمت لما فيها من مضار‪ ،‬قال تعالى‪( :‬إنما الخمر والميسر‬
‫واالنصاب واال زالم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون)‪ ( 36‬يسألونك عن‬
‫الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)‪ 37‬وكلما‬
‫كثرت مضاره وآثامه كان ممنوعا وهذا يتفق عليه كل العقالء‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪-‬‬
‫‪35‬‬
‫‪-‬‬
‫‪36‬‬
‫‪-‬‬
‫‪37‬‬
‫‪-‬‬
‫‪26‬‬

‫‪ -‬العقوبات شرعت لضمان الحياة الحقيقية التي يطبعها األمن واالستقرار واحترام الحقوق‪،‬‬
‫قال عز وجل‪( :‬ولكم في القصاص حياة يا أولي اللباب)‪.38‬‬
‫‪ -‬الزواج شرع لما يحققه من مصالح للفرد والمجتمع‪ ،‬ففيه حفظ لألعراض وفيه حفظ‬
‫للمجتمع من األمراض النفسية والجسدية‪ ،‬فأي عالقة غير الزواج لها تكون لها آثار‬
‫سلبية على الصحة النفسية وغيرها‪ ،‬وقد أكد هذا الطب الحديث‪.‬‬
‫‪ -‬وهكذا فكل األحكام لغاية ولمصلحة‪...‬‬

‫د‪ -‬طبيعة أحكام الشريعة اإلسالمية؛‬


‫فالشريعة اإلسالمية لم تسلك منهجا واحدا في بيان األحكام‪ ،‬ففي أغلب األحكام‬
‫وبالخصوص المتعلقة بالمعامالت تنص على مبادئ كلية وعامة ؛ مما يجعلها تنطبق‬
‫على كل التطورات والمستجدات‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬في المعامالت المالية‪ ،‬نصت على التراضي وعدم أخذ مال الغير بدون حق‪ ،‬قال‬
‫عزوجل‪ (:‬ياأيها الذين آمنوا ال تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إال أن تكون تجارة عن‬
‫‪39‬‬
‫ولم تنص بتفصيل على كيفية التعاقد ووسائله وأنواعه‪...‬‬ ‫تراض منكم)‬
‫‪ -‬في القضاء‪ ،‬نصت على تحقيق العدل‪ ،‬لقوله عز وجل‪ (:‬إن هللا يامر بالعدل )‪ 40‬لكن‬
‫لم تفصل في درجات التقاضي والتخصص القضائي وإجراءاته؛ ألن هذا يختلف حسب‬
‫األزمنة واألمكنة فالجوهر هو تحقيق العدل‪.‬‬
‫‪ -‬في الحكم‪ ،‬ينبغي العمل على مبدأ الشورى‪ ،‬لكن كيف تكون هذه الشورى‪ ،‬هل عن‬
‫طريق االنتخاب أو االستفتاء أو غير من الوسائل؟ المهم أن تتحقق الشورى‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪-‬‬
‫‪39‬‬
‫‪-‬‬
‫‪40‬‬
‫‪-‬‬
‫‪27‬‬

‫في بقية األعمال والمعامالت‪ ،‬من غرس وبناء ومبادالت وغيرها‪ ،‬ينبغي مراعاة مبدأ "ال‬ ‫‪-‬‬
‫ضرر وال ضرار"‪.‬‬

‫وهذا يجعلها قابلة‬ ‫هـ‪ -‬اتصاف مصادر الشريعة اإلسالمية بالمرونة‪،‬‬


‫لالجتهاد ومسايرة كل التطورات المعاصرة والمالئمة لكل زمان ومكان‪.‬‬

‫و‪ -‬تشريع الرخص واالستثناءات؛‬


‫وفي هذا مراعاة لكل األحوال والظروف ومراعاة لتحقيق المصلحة‪ ،‬ففي العبادة نجد‬
‫رخصة اإلفطار في رمضان للمريض والمسافر والمرأة المرضع والحامل‪ ،‬ألن في هذه‬
‫الحاالت أصبح الصيام يحقق مضرة ال مصلحة فشرع اإلفطار دفعا للمضرة‪.‬‬
‫وفي الصالة؛ الترخيص بالقصر بالنسبة للمسافر‪ ،‬والصالة جلوسا أو باإلشارة لمن لم‬
‫يستطع القيام‪.‬‬
‫وفي الضرورة؛ شرع أكل الحرام وشربه حفاظا على الحياة‪.‬‬
‫وفي المعامالت المالية؛ رخص في بيع السلم وغيره مراعاة ألحوال ذوي الحاجة من‬
‫الفالحين‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬خاصية المرونة والقابلية للتجديد‬

‫‪ -1‬المراد بالمرونة والقابلية للتجديد‬


‫المرونة في اللغة هي‪ :‬السهولة والليونة‪ ،‬وفي القوانين نقول تشريع مرن أو جامد‪،‬‬
‫فالمرن هو الذي ينص على مبادئ عامة تستوعب كل ما يتعلق بموضوعها‪ ،‬وقد‬
‫‪28‬‬

‫يوصف بالمرونة من حيث مساطر تعديله‪ .‬وهذا عكس الجامد فهو غير قابل‬
‫لالستيعاب من حيث داللته‪ ،‬أو مساطره معقدة إذا أردنا تعديله‪.‬‬
‫والمراد بالمرونة في االصطالح‪ :‬قدرة وقابلية الشريعة اإلسالمية ألن تسوعب بمبادئها‬
‫وقواعدها كل المستجدات والتطورات التي تعرفها المجتمعات‪.‬‬

‫‪ -2‬مظاهر المرونة‬
‫من أهم مظاهر المرونة ما يأتي‪:‬‬

‫ويتجلى ذلك في اآلتي‪:‬‬ ‫اتساع مجال العفو والجائز والمباح؛‬ ‫أ‪-‬‬

‫‪ -‬األصل في األشياء اإلباحة؛ فما لم يحرمه الشرع وال يمس بقصد شرعي فهو مباح‪.‬‬
‫‪ -‬التكاليف والواجبات أقل بكثير من المباحات؛ فإذا حرم أكل شيء أو شربه في حالة‬
‫فتجد الحالل من المأكوالت والمشروبات ال تعد وال تحصى‪ ،‬فالشرع مثال حرم شرب‬
‫الخمر لكن أحل الكثير من المشروبات‪ ،‬وحرم أكل لحم الميتة والدم ولحم الخنزير لكنه‬
‫أحل الكثير من اللحوم‪.‬‬
‫‪ -‬ما دلت النصوص الشرعية على حكمه أقل بكثير من المسكوت عنه‪ ،‬وفي ذلك رحمة‬
‫باإلنسان؛ لقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فال‬
‫تبحثوا عنها"‪.41‬‬

‫ب‪ -‬التركيز على الكليات هو الصل في الشريعة اإلسالمية‬


‫فالشريعة اإلسالمية ركزت على الكليات وفتحت المجال للتجديد واالجتهاد‪ ،‬ومن‬
‫مظاهر ذلك ما يأتي‪:‬‬

‫‪41‬‬
‫‪-‬‬
‫‪29‬‬

‫‪ -‬في القضاء نصت على أن المطلوب هو العدل؛ لكن كيف يتحقق وبأي وسائل‪ ،‬تركت‬
‫المجال لالجتهاد وما يناسب كل مكان وزمان‪ ،‬فلم تفصل في التقاضي ودراجاته وال‬
‫إجراءاته‪..‬‬
‫‪ -‬في الحكم نصت على مبدأ الشورى؛ ولكن كيف يتم تطبيقه؟ هذا يختلف حسب األزمنة‬
‫واألمكنة واألحوال والظروف‪ ،‬فقد يكون بطريقة االستفتاء أو االنتخاب أو غير ذلك‪،‬‬
‫وهل الحكم رئاسي أو برلماني؟ المهم أن تتحقق الغاية الشرعية من الحكم‪.‬‬
‫‪ -‬في المعامالت المالية نصت الشريعة اإلسالمية على التراضي وعدم أكل أموال الناس‬
‫بالباطل والوفاء بالعقود‪ ،‬ولكن لم تفصل في كيفية التعاقد ووسائله وإجراءاته ألن هذا‬
‫يختلف بحسب األزمنة واألمكنة‪.‬‬
‫‪ -‬في بقية المعامالت نصت على عدم الضرر والضرار‪ ،‬سواء في الفالحة أو التصنيع أو‬
‫البناء أو الغرس أو غير ذلك‪.‬‬
‫وبهذا فالشريعة اإلسالمية ال تضيق قواعدها ومبائها على أي نظام عصري مهما‬
‫تطورت المجتمعات والعصور‪ ،‬وهذا يدل على عالميتها وعمومها ومرونتها‪.‬‬

‫ج‪ -‬قابلية النصوص الظنية لتعدد الفهام‬


‫‪ -‬بالنسبة للصريح منها‪ ،‬غير قابل لتعدد الفهم في الداللة وإنما في التطبيق ووسائله‬
‫وكيفياته‪.‬‬
‫‪ -‬بالنسبة لغير الصريح‪ ،‬قابل لتعدد الرأي والفهم‪ ،‬ومن أمثلة ذلك‪ ،‬القرء هل المراد به‬
‫الحيض كما يقول الحنفية أو الطهر كما يقول المالكية‪ ،‬وكذلك الطالق الثالث في كلمة‬
‫واحدة هل يعتبر طلقة واحدة حفاظا على تماسك األسرة أو ثالثا تخويفا للناس من‬
‫اإلقدام عليه‪.‬‬
‫‪30‬‬

‫د‪ -‬مراعاة الظروف والعذار والحوال‬


‫‪ -‬ففي السفر أباح الشرع للمسافر الفطر لرمضان والقصر للصالة الرباعية‪.‬‬
‫‪ -‬وفي المرض المؤثر‪ ،‬أباح الشرع للمريض الفطر في رمضان والصالة كيفما تأتى له إن‬
‫لم تكن له قدرة على القيام وغيره‪.‬‬
‫‪ -‬وفي حال الشيخوخة أباح أيضا اإلفطار في رمضان‪.‬‬
‫‪ -‬وبالنسبة للحامل أو المرضع التي يؤثر الصيام على جنينها أو رضيعها يمكن لها‬
‫اإلفطار‪.‬‬
‫‪ -‬وبالنسبة للحائض أعفاها الشرع من الصالة ومن الصيام على أن تعيد الصيام‪.‬‬

‫وفي حال الضرورة أقر الشرع أن الضرورات تبيح المحظورات‪ ،‬والحاجة قد تنزل منزلة‬ ‫‪-‬‬
‫الضرورة‪.‬‬
‫‪ -‬مراعاة حالتى اإلكراه غير المشروع في إقرار األحكام‪ .‬ومراعاة حالة النسيان؛ لقوله صلى‬
‫‪42‬‬
‫هللا عليه وسلم‪ " :‬إن هللا رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"‬

‫هـ‪ -‬مراعاة الحوال والزمان والمكان في إصدار الفتاوى‬


‫ومن هنا وجد فقه خاص ببعض الظروف كوقف عقوبة السرقة في زمن عمر ابن‬
‫الخطاب رضي هللا عنه‪ ،‬كما وجد فقه خاص باألقليات المسلمة مراعاة ألحوالهم‬
‫وظروفهم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪-‬‬
‫‪31‬‬

‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫مصادر الشريعة اإلسالمية‬


‫‪32‬‬

‫الفصل الثاني ‪ :‬مصادر الشريعة اإلسالمية‬


‫المراد بمصادر التشريع اإلسالمي مجموع المصادر التي تستقى منها األحكام‬
‫الشرعية ‪ ،‬فهي بمنزلة المنبع لهذه األحكام‪ ،‬حيث يرجع إليها في كل أمر نبحث‬
‫عن حكمه الشرعي‪.‬‬

‫وتسمى أيضا أصول الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وأدلة الفقه اإلسالمي‪ ،‬كما تسمى أدلة‬
‫التشريع اإلسالمي‪.‬‬

‫وتنقسم تقسيمات متعددة حسب اعتبارات مختلفة منها‪:‬‬

‫‪-‬أصول نقلية وأصول اجتهادية‪.‬‬

‫‪ -‬أصول نقلية وأصول عقلية‪.‬‬

‫‪-‬أصول أساسية وأصول تبعية‪.‬‬

‫المصادر الساسية‪:‬‬

‫وهي الكتاب والسنة واإلجماع والقياس‬

‫المصادر التبعية‪:‬‬

‫وهي االستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف واالستصحاب وعمل‬


‫أهل المدينة‪.‬‬
‫‪33‬‬

‫المبحث الول ‪ :‬المصادر الساسية‬

‫المصادر األساسية هي األصول التي ترجع إليها وتستند إليها أو تتفرع عنها‬
‫باقي األصول‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫‪-‬القرآن‬

‫‪-‬السنة‬

‫‪-‬اإلجماع‬

‫‪-‬القياس‪.‬‬

‫المطلب الول‪ :‬الكتاب‪/‬القرآن الكريم‬

‫الكتاب أو القرآن الكريم يعتبر أصال لباقي األصول والمصادر‪ ،‬فهو‬


‫المرجع األساس في التشريع اإلسالمي‪.‬‬

‫" وهو في الشريعة اإلسالمية كالدستور في الشرائع الوضعية لدى األمم‪ ،‬وهو‬
‫القدوة للنبي نفسه صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فمن بعده ‪ ،‬ولذا كان هو المصدر‬
‫التشريعي األصلي‪.‬‬

‫غير أن الكتاب بصفته الدستورية(هذه) إنما يتناول األحكام بالنص اإلجمالي ‪ ،‬وال‬
‫يتصدى للجزئيات وتفصيل الكيفيات إال قليال؛ ألن هذا التفصيل يطول به ويخرجه‬
‫عن أغراضه القرآنية األخرى من البالغة وغيرها"‪43‬‬

‫‪43‬‬
‫د‪.‬عبد الكريم زيدان ‪،‬المدخل لدراسة الشريعة اإلسالمية ‪،‬مكتبة القدس العراق ‪3038‬هـ‪3558-‬م‪.‬ص‪30-31:‬‬
‫‪34‬‬

‫فما هو القرآن الكريم؟ وماهي األحكام التي اشتمل عليها؟ وما منهجه في‬
‫بيانها وداللته عليها؟‬

‫أوال‪ :‬مفهوم القرآن الكريم ومميزاته‬

‫‪ -1‬مفهوم القرآن الكريم‬

‫القرآن الكريم لغة‪ :‬هو في األصل مصدر ق أر يق أر إذا تابع وجمع‪ ،‬فالقرآن‬
‫مصدر بمعنى الجمع والقراءة‪.‬‬

‫وسمي القرآن بذلك لما فيه من تتابع الحروف وجمعها عند القراءة والتالوة‪،‬‬
‫ولكونه جامعا لكل األحكام إما إجماال أو تفصيال‪.‬‬

‫أما في اإلصطالح فهو‪ :‬كالم هللا المنزل بلفظه العربي ومعناه‪ ،‬على سيدنا‬
‫دمحم صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬المتعبد بتالوته‪ ،‬المنقول إلينا بالتواتر المتحدى بإعجازه‬
‫المكتوب بين دفتي المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمختتم بسورة الناس‪.‬‬

‫‪ -2‬مميزات القرآن الكريم‬

‫تتلخص هذه المميزات في اآلتي‪:‬‬

‫‪ ‬الكالم المنزل من هللا‪ ،‬يخرج به ما لم ينزله هللا عز وجل فال يسمى قرآنا‪.‬‬
‫‪ ‬كونه منزال بلفظه ومعناه العربي‪ ،‬فالقرآن منزل من هللا عن طريق جبريل‪ ،‬منزل‬
‫بلفظه ومعناه على عكس السنة فإنها منزلة بمعناها ال بلفظها‪..‬‬
‫‪35‬‬

‫‪ ‬كونه منزال على سيدنا دمحم صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فالمنزل على غيره من الرسل ال‬
‫يسمى قرآنا وإنما يسمى بتسميات أخرى‪..‬‬
‫‪ ‬كونه متعبدا بتالوته‪.‬‬
‫‪ ‬كونه منقوال كله بالتواتر‪.‬‬
‫‪ ‬كونه متحدى بإعجازه‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬حجية القرآن الكريم‬

‫القرآن الكريم حجة على اإلنسانية جمعاء‪ ،‬فأحكامه واجبة االتباع لكونه هدي‬
‫هللا تعالى لإلنسانية جمعاء‪ ،‬واألدلة على كونه حجة كثيرة منها‪:‬‬

‫‪ ‬أنه معجز بلفظه ومعانيه‪ :‬فمبانيه ال يمكن اإلتيان بمثلها ‪ ،‬ومعانيه وإشاراته‬
‫العلمية كذلك قال تعالى‪ (:‬قل لئن اجتمعت االنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا‬
‫ر)‪44‬‬
‫ظهي ا‬ ‫القرآن ال ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض‬
‫‪ ‬انطباق ما يخبر به على الكثير من النظريات العلمية‪ ،‬من ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬قوله عز وجل‪ ( :‬وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع هللا‬
‫شيء)‪45‬‬ ‫الذي أتقن كل‬
‫‪ -‬وقوله عز وجل‪ ( :‬وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما‬
‫بخازينين)‪46‬‬ ‫أنتم له‬

‫‪44‬‬
‫‪45‬‬
‫‪46‬‬
‫‪36‬‬

‫‪ -‬وقوله عز وجل‪ ( :‬أولم ير الذين كفروا أن السماوات والرض كانتا رتقا‬


‫ففتقناهما)‪47‬‬

‫‪ -‬وقوله عز وجل‪ ( :‬مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ ال يبغيان)‪48‬‬


‫‪ -‬وقوله عز وجل‪( :‬ولقد خلقنا اإلنسان من ساللة من طين ثم جعلناه نطفة في‬
‫قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ثم خلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما‬
‫فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك هللا أحسن الخالقين)‪49‬‬
‫‪ ‬إخباره بوقائع عن األمم السابقة أو بأخرى عن أمم الحقة‪ ،‬كقوله عزوجل‪( :‬ألم‬
‫غلبت الروم في أدنى الرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)‪50‬‬

‫وقوله‪ (:‬لتدخلن المسجد الحرام إن شاء هللا آمنين)‪51‬‬

‫(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ماكنت تعلمها أنت وال قومك من قبل هذا)‪52‬‬

‫‪.... ‬‬
‫‪‬‬

‫ثالثا‪ :‬منهج القرآن في بيان الحكام ودالته عليها‬

‫منهج القرآن في بيان الحكام‬ ‫‪-1‬‬


‫سلك القرآن منهج اإلجمال في بيان األحكام في الغالب ومنهج التفصيل أحيانا‪،‬‬
‫فالقرآن يدل على األحكام بشكل عام وكلي في الغالب‪ ،‬وقد يسلك منهج التفصيل‬
‫‪47‬‬
‫‪48‬‬
‫‪49‬‬
‫‪50‬‬
‫‪51‬‬
‫‪52‬‬
‫‪37‬‬

‫والتجزيء أحيانا أخرى‪ ،‬ولكل من ذلك مقاصده وغاياته تناسب كونه بمنزلة‬
‫الدستور واألصل لكل المصادر التشريعية وكل األحكام‪.‬‬

‫أ‪ -‬داللة القرآن على الحكام من حيث اإلجمال والتفصيل‬


‫‪ ‬منهج اإلجمال والغاية منه‬
‫منهج اإلجمال في القرآن الكريم‬
‫يسلك القرآن منهج اإلجمال بالنص على المبادىء والقواعد الكلية حسب ما يناسب‬
‫كل مجال من مجاالت األحكام‪ ،‬في حين يترك التفصيل لمصادر أخرى كالسنة‬
‫النبوية وغيرها من المصادر االجتهادية ‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬األمر بالصالة‪.‬‬
‫‪ -‬األمر بالزكاة‬
‫‪ -‬األمر الحج‪.‬‬
‫فقد جاء كل هذا مجمال‪ ،‬فلم يبن القرآن كيفياته وال مقاديره وال كل أحكامه‪ ،‬وإنما‬
‫تولت ذلك السنة النبوية‪.‬‬
‫‪ -‬األمر بأحكام العقود‪ ،‬من حيث أساس قيامها(التراضي) ووجوب الوفاء بها‪،‬‬
‫وكون البيع حالال والربا حراما ‪ ،‬لكنه لم يبن كيفية إبرام العقود وال إجراءات ذلك‪،‬‬
‫كما لم يفصل في الصحيحة منها‪ ،‬والباطلة أو الفاسدة وما يترتب عنها‪.‬‬
‫‪ -‬األمر بإقامة العدل في آيات قرآنية كثيرة‪ ،‬لكنه لم يفصل طريقة التقاضي‬
‫وإجراءاته‪ ،‬وال شكل المحاكم وعدد قضاتها وال درجاتها وال غير ذلك مما يختلف‬
‫من زمان إلى زمان ومن جيل آلخر‪.‬‬
‫‪38‬‬

‫* الغاية من اإلجمال الوارد في القرآن الكريم‬

‫إجمال القرآن الكريم للكثير من األحكام له غايات كثيرة أهمها‪:‬‬

‫دستور لباقي المصادر‬


‫ا‬ ‫‪ -‬أن تفصيل القرآن الكريم في كل شيء ال يناسب باعتباره‬
‫واألصول الفقهية التي تكفلت بالبيان والتنزيل للقواعد واألوامر المجملة‪ ،‬ومن ذلك‬
‫السنة النبوية التي من أغراضها البيان كما سيأتينا في عالقة السنة بالقرآن‪.‬‬
‫‪ -‬أن اعتبار الشريعة اإلسالمية صالحة لكل زمان ومكان يقتضي اإلجمال من خالل‬
‫النص على المبادئ الكبرى والقواعد الكلية‪ ،‬مما تتميز معه النصوص الشرعية‬
‫بالمرونة التي تسمح باالجتهاد والتجديد حسب المستجدات وما يناسب‬
‫المجتمعات‪..‬‬
‫‪ -‬أن الوقائع والقضايا كثيرة ومتطورة والنص في القرآن على جميعها يمس بالغة‬
‫القرآن ويؤدي إلى تضخمه في عرض كل القضايا حسب كل زمان‬
‫ومكان‪..‬ويخرجه عن هديه المنهجي الكلي في البيان‪.‬‬
‫‪ -‬أن اإلجمال هو األنسب في المعامالت المدنية والنظم السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية والحقوقية مما يساعد على فهم النصوص المجملة وتطبيقها بصور‬
‫مختلفة وفق ما يالئم كل زمان ومكان‪.‬‬
‫‪..... -‬‬
‫‪39‬‬

‫‪ ‬منهج التفصيل في القرآن الكريم‬


‫منهج التفصيل في بيان األحكام لم يكن هو األصل في القرآن الكريم إذ أغلب‬
‫األحكام نص عليها القرآن إجماال ولم يفصل إال في أبواب يسيرة كاإلرث‬
‫والمحرمات من النساء في الزواج حتى ال تقطع األرحام وبعض المحرمات في‬
‫األكل وغير ذلك‪.‬‬
‫وهذا ال يتناقض مع قوله عز وجل‪( :‬وكل شيء فصلناه تفصيال)‪ 53‬ألن هذا‬
‫باعتبار أن القرآن لم يترك مجاال من المجاالت إال عرض للمبادئ والقواعد الكلية‬
‫التي تحكمه إما إجماال وإما تفصيال‪ ،‬فاآلية بمعنى الشمول‪ ،‬أي أن القرآن شامل‬
‫لكل شيء‪.‬‬

‫أنواع الحكام التي اشتمل عليها القرآن الكريم‬ ‫ب‪-‬‬


‫اشتمل القرآن الكريم على أنواع كثيرة من األحكام‪ ،‬يمكن تفصيلها في اآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬األحكام االعتقادية‪:‬‬
‫وتشمل ما يجب على المكلف اعتقاده في هللا والرسل والمالئكة واليوم اآلخر وبقية‬
‫األمور الغيبية‪...‬‬
‫‪ -‬أحكام العبادات‪:‬‬
‫من صالة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك مما يرتبط بها‪.‬‬
‫‪ -‬أحكام األخالق‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫‪40‬‬

‫وهي كل ما يتعلق بتزكية النفوس وحملها على التحلي بالفضائل والتخلي عن‬
‫الرذائل‪.‬‬
‫‪ -‬أحكام المعامالت‪:‬‬
‫وهي كل األحكام التي تنظم ما يصدر عن المكلفين من أقوال وأفعال وعقود‬
‫وتصرفات وجنايات وغيرها مما يتعلق بالعالقات بين األفراد‪.‬‬
‫والمعامالت أقسام كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ ‬المعامالت األسرية كالزواج والحضانة والطالق‪،..‬‬
‫‪ ‬المعامالت المالية كالبيوع واألكرية وسائر عقود المعاوضات والتبرعات واإلرث‪.‬‬
‫‪ ‬األحكام الجنائية التي تضبط وتدفع السلوك اإلجرامي‪.‬‬
‫‪ ‬أحكام القضاء‪.‬‬
‫‪ ‬أحكام متعلقة بنظم الحكم واإلدارة‪.‬‬
‫‪ ‬وأحكام االقتصاد وسياساته واألموال وتنظيمها‪..‬‬
‫‪....... ‬‬
‫‪41‬‬

‫داللة القرآن على الحكام‬ ‫‪-2‬‬

‫اختلفت داللة القرآن على األحكام باعتبارات متعددة ‪:‬‬


‫‪ -‬من حث القطع والظن ‪،‬‬
‫والعموم والخصوص‪،‬‬
‫واإلطالق والتقييد‪،‬‬
‫والوضوح وغيره وأهم أقسام هذه الداللة نبينها في اآلتي‪:‬‬

‫أ‪ -‬داللة القرآن الكريم من حيث القطع والظن‬


‫لم يسلك القرآن الكريم منهجا واحدا في الداللة على األحكام من هذه الناحية‪،‬‬
‫فتارة يدل على األحكام داللة قطعية وأحيانا يدل عليه داللة قطعية‪ ،‬وهذا مرتبط‬
‫بما ذكرناه سابقا من اإلجمال والتفصيل‪ ،‬وبخصائص الشريعة اإلسالمية‬
‫وبالخصوص خاصية المرونة والشمول والعالمية‪..‬‬

‫‪ ‬الداللة القطعية‬
‫الداللة القطعية هي التي ال تحتمل إال معنى واحدا‪ ،‬بحيث تكون األلفاظ الدالة‬
‫على المعاني مسوقة لبيان معنى واحد ال غير‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫‪42‬‬

‫‪ -‬قوله تعالى‪( :‬يوصيكم هللا في أوالدكم للذكر مثل حظ النثيين)‪ 54‬فللذكر مثل‬
‫حظ األنثيين يدل داللة قطعية ال يمكن تأويلها وإخراجها عن هذا المعنى‪.‬‬
‫‪ -‬قوله عز وجل‪( :‬فإن كن نساء فوق اثنتين فهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة‬
‫فلها النصف) فالداللة على أن الواحدة لها النصف داللة قطعية ال تحتمل غير‬
‫النصف‪.‬‬
‫وهكذا في كل أنصبة اإلرث المذكورة في القرآن وكذا في داللة األعداد الواردة فيه‬
‫أيضا‪.‬‬

‫‪ ‬الداللة الظنية‬
‫الداللة الظنية عكس الداللة القطعية‪ ،‬فإذا كانت الداللة القطعية ال تحتمل إال‬
‫معنى واحدا فإن الداللة الظنية هي التي تحتمل معنيين فأكثر‪ ،‬وقد تكون راجحة‬
‫في أحد المعاني‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك لفظ القرء في قوله عز وجل‪( :‬والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثالثة‬
‫قروء)‪ 55‬فالقرء يطلق على الطهر من الحيض ويطلق على الحيضة نفسها‪.‬‬
‫ومن هنا اختلف الفقهاء في عدة المطلقة التي تحيض هل هي بعدد الحَيض أو‬
‫بعدد الطهر من الحيض وبهذا األخير أخذ المالكية ومدونة األسرة المغربية‪.‬‬

‫‪ ‬الفرق بين الداللة القطعية والداللة الظنية‬


‫عند المقارنة بين الداللة القطعية والداللة الظنية نجد أن هناك الكثير من‬
‫الفروق أهمها‪:‬‬

‫‪54‬‬
‫‪55‬‬
‫‪43‬‬

‫‪ -‬من حيث المفهوم‪:‬‬


‫الداللة القطعية ال تحتمل إال معنى واحدا في حين أن الداللة الظنية تحتمل أكثر‬
‫من معنى‪.‬‬
‫‪ -‬الداللة القطعية بمنزلة األمور االعتقادية ال يجوز إنكارها وال تأويلها ألنها ال‬
‫تحتمل إال معنى واحدا‪ ،‬على عكس الداللة الظنية فقد يختلف المجتهدون في‬
‫المراد منها كما في المراد بالقرء في السابقة‪.‬‬
‫‪ -‬الداللة القطعية من قبيل الواجب العيني بالنسبة للمجتهدين بحيث يجب على‬
‫الجميع األخذ بها‪ ،‬على عكس الداللة الظنية فإن أنظار المجتهدين قد تختلف‬
‫فيها‪ ،‬فيأخذ كل مجتهد بما ترجح لديه حسب قواعد الرجيح‪ ،‬وعامة الناس تابعون‬
‫للعلماء المجتهدين في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬فائدة معرف الداللة القطعية والظنية في المجال القانوني‪.‬‬

‫داللة القرآن الكريم من حيث الشمول وعدمه‬ ‫ب‪-‬‬


‫‪ ‬داللة العام والخاص‬
‫من أنواع الداللة في القرآن الكريم الداللة عن طريق العموم والداللة عن طريق‬
‫الخصوص‪ ،‬فقد تدل ألفظ القران داللة عامة وقد تدل داللة خاصة‪.‬‬
‫فما المراد بالعموم والخصوص؟‬

‫*مفهوم العام وألفاظه‬


‫‪ -‬مفهوم العام‬
‫‪44‬‬

‫العام لغة‪ :‬الشامل ‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده الصالحة له‬
‫بدون حصر لهذه األفراد‪ .‬أو هو شمول األمر لمتعدد غير محصور‪.‬‬
‫فما ال يتناول إال فردا واحدا ال يسمى عاما كأسماء األعالم‪ ،‬كما أن ما يتناول‬
‫أفردا متعدة لكنها محصورة ال يسمى عاما وذلك كأسماء األعداد( مثل‪ :‬عشرة –‬
‫مائة ‪ -‬ألف‪)..‬‬

‫‪ -‬من ألفاظ وأمثلة العموم‪:‬‬


‫للعموم ألفاظ كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ ‬األلفاظ التي تدل على العموم بمادتها مثل‪ " :‬كل – جميع –كافة‪ -‬عامة –‬
‫قاطبة‪..‬‬
‫‪ ‬أسماء الشرط‪:‬‬
‫مثل "من" كما في قوله عز وجل‪( :‬من عمل صالحا فلنفسه)‪56‬‬
‫‪ ‬أسماء االستفهام‪ :‬مثل "من" كما في قوله عز وجل‪( :‬فمن ياتيكم بماء معين)‪57‬‬
‫‪ ‬األسماء الموصولة‪:‬‬
‫كما في قوله عز وجل‪( :‬هلل ما في السماوات وما في االرض)‪58‬‬
‫( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)‪59‬‬
‫‪ ‬النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو االستفهام اإلنكاري‬
‫من ذلك‪ :‬قوله تعالى‪(:‬وما من إله إال هللا)‪60‬‬
‫(إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن هللا كان بكل شيء عليما)‪61‬‬
‫‪56‬‬
‫‪57‬‬
‫‪58‬‬
‫‪59‬‬
‫‪60‬‬
‫‪45‬‬

‫‪... ‬‬

‫*مفهوم الخاص وأمثلته‬


‫الخاص لغة‪ :‬ضد العام‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو اللفظ الدال على محصور بشخص‬
‫أو عدد‪ ،‬مثل األعداد وأسماء األعالم واإلشارة‪.‬‬
‫والتخصيص لغة عدم التعميم‪ ،‬واصطالحا هو‪ :‬إخراج بعض أفراد العام‪ ،‬فاللفظ‬
‫يكون عاما لكن يدل دليل آخر متصل بالدليل العام أو منفصل عنه على أن المراد‬
‫بعض األفراد‪.‬‬

‫‪ ‬داللة المشترك‬
‫المشترك لغة‪ :‬هو المتساوي‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو اللفظ الموضوع لحقيقتين أو‬
‫أكثر‪ ،‬مثل‪ :‬عين وضعت لتدل على الباصرة وعلى الذهب والفضة وعلى الماء‬
‫الجاري ‪..‬ومثل القرء وضع للداللة على الحيضة وعلى الطهر‪ ،‬وعسعس ألقبل‬
‫وأدبر‪..،‬‬

‫‪ ‬داللة المطلق والمقيد‬


‫*المطلق وأمثلته‬
‫‪-‬تعريف المطلق‬

‫‪61‬‬
‫‪46‬‬

‫المطلق لغة‪ :‬هو المرسل وغير المقيد‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو كل لفظ دل على فرد‬
‫شائع( غير معين) في أفراد جنسه‪ ،‬بحيث يصح شموله بدليا لجميع األفراد الذين‬
‫تجمعهم ماهية واحدة‪ ،‬فهو بمعنى النكرة‪62.‬‬
‫ومن أمثلته‪ :‬كأن يقول الموكل لوكيله مثال‪ :‬اشتر لي كتابا أو دا ار أو بقرة‪ ..‬فهذه‬
‫ألفاظ مطلقة يتحقق الوفاء فيها بحصول فرد منها أيا كان هذا الفرد‪.‬‬

‫*المقيد وأمثلته‬
‫المقيد لغة‪ :‬هو ضد المطلق واصطالحا‪ :‬هو كل لفظ ال يدل على شائع في‬
‫جنسه‪ .‬أو هو ما يدل على فرد معين في أفراد جنسه‪.‬‬
‫ويدخل تحته قسمان‪:‬‬
‫‪ -‬المعارف كمحمد وخالد وفاطمة‪.‬‬
‫‪ -‬ما يدل على غير معين لكنه موصوف بصفة زائدة تقيده عن غيره‪ ،‬مثل اشتر‬
‫لي دا ار كبيرة‪ ،‬أو قبالة البحر‪ ،‬أو بشارع كذا أو بمدينة كذا أو غير ذلك من‬
‫المقيدة‪.‬‬
‫األوصاف ة‬

‫ج‪ -‬داللة القرآن الكريم من حيث وضوح الداللة وغيرها‬

‫القرآن الكريم قد يدل على المعاني والمراد داللة واضحة وقد يدل داللة غير‬
‫واضحة وذلك لمقاصد وغايات متعددة‪ ،‬فقد يترك بيان المراد منها للسنة النبوية أو‬

‫‪62‬‬
‫ع الل‪،‬ص‪104:‬‬
‫‪47‬‬

‫للمقارنة بين نصوص القرآن أو لالجتهاد من لدن المجتهدين بما يناسب كل زمان‬
‫ومكان‪.‬‬

‫فما المراد بواضح الداللة وغير واضح الداللة؟‬

‫‪ ‬واضح الداللة‪:‬‬

‫واضح الداللة هو ما اتضح المراد منه عند السامع ‪ ،‬وهذا االتضاح ليس درجة‬
‫واحدة بل هو م ارتب وهي كاآلتي‪:‬‬

‫‪ -1‬الظاهر‬

‫‪ -2‬النص‬

‫‪ 4‬المفسر‬

‫‪ -3‬المحكم‬

‫داللة الظاهر‪:‬‬ ‫‪-1‬‬


‫وهو لغة البارز الواضح المنكشف‪ ،‬واصطالحا‪:‬هو هو الذي يسبق إلى األذهان‬
‫من غير احتياج إلى التأمل‪ ،‬وهذا السبق بمجرد الصيغة‪ ،‬ويقبل النسخ والتأويل‬
‫والتخصيص‪.‬‬
‫ويمكن تعريفه أيضا بأنه‪ :‬اللفظ الذي يدل على معنيين راجحا في أحدهما مرجوحا‬
‫في الباقي‪ ،‬فالمعنى الراجح يسمى بالظاهر‪ ،‬والمعنى المرجوح يسمى بالمؤول‪.‬‬
‫ومن أمثلته‪:‬‬
‫‪48‬‬

‫قوله عز وجل‪ ( :‬وأحل هللا البيع وحرم الربا)‪ 63‬فهو ظاهر في تحريم الربا‬
‫وإحالل البيع‪ ،‬وهذا المعنى يسبق للذهن بمجرد سماع األلفاظ‪.‬‬

‫داللة النص‬ ‫‪-2‬‬


‫هو في اللغة‪ :‬الغاية في الظهور‪ ،‬ومنه منصة العروس سميت بذلك لظهورها ‪،‬‬
‫واصطالحا‪ :‬هو اللفظ الذي ال يحتمل إال معنى واحدا بسبب السياق أو غيره‪ .‬وهو‬
‫غير قابل للتأويل لكنه يقبل النسخ والتخصيص‪.‬‬
‫ومن أمثلته‪:‬‬
‫قوله عز وجل‪ ( :‬وأحل هللا البيع وحرم الربا)‪ 64‬فهو نص في نفي المماثلة‬
‫بينهما ‪،‬ألن سياق نزول اآلية هو هذا‬
‫فالنص كالظاهر من حيث الصيغة لكنه يزداد عليه وضوحا بسبب القرينة السياقية‬
‫وبهذا يقدم عليه‪65‬‬

‫المفسر‬ ‫‪-9‬‬
‫المفسر لغة‪ :‬هو المكشوف الظاهر ‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو ما ازداد وضوحا على‬
‫النص والظاهر مع عدم قبول التخصيص والتأويل‪ ،‬لكنه يقبل النسخ‪.‬‬
‫ومن أمثلته‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫‪64‬‬
‫‪65‬‬
‫انظر مسالك الداللة ‪،‬د عبد الحميد العلمي ص‪60 :‬‬
‫‪49‬‬

‫قوله تعالى‪( :‬فسجد المالئكة كلهم أجمعون)‪" 66‬فسجد المالئكة" عام يحتمل‬
‫التخصيص‪" ،‬وكلهم" لفظ انقطع مع احتمال إرادة الخصوص‪ .‬و"أجمعون" ارتفع‬
‫معه احتمال االفتراق في السجود‪.‬‬

‫داللة المحكم‬ ‫‪-9‬‬


‫المحكم هو أعلى درجات الوضوح‪ ،‬وهو في اللغة‪ :‬المتقن‪ ،‬وفي االصطالح‪ :‬هو‬
‫ما ازداد وضوحا على المفسر‪ .‬وهو ال يقبل النسخ والتأويل والتخصيص‪.‬‬
‫وذلك بعض الصفات التي تدل عليها اآليات‪،‬‬

‫الفائدة من معرفة واضح الداللة في القرآن الكريم‬

‫‪ -‬معرفة مرتبة كل داللة من حيث الوضوح‬


‫‪ -‬الترجيح بينها عند اختالف مرتبتها حيث يقدم األوضح فاألوضح‪ ،‬مثل تقديم داللة‬
‫النص على داللة الظاهر‪ ،‬وداللة المحكم على داللة النص‪.‬‬
‫‪ -‬البحث عن مرجحات عند استواء المرتبة كأن تتعارض داللة الظاهر مع داللة‬
‫الظاهر‪ ،‬أوغير ذلك‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫‪50‬‬

‫‪ ‬غير واضح الداللة‬


‫غير واضح الداللة هو ماخفيت داللته ولم تتضح‪ ،‬وعدم الوضوح مراتب وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬الخفي‬
‫‪ -2‬المشكل‬
‫‪ -4‬المجمل‬
‫‪ -3‬المتشابه‬

‫داللة الخفي‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫الخفي لغة‪ :‬هو المستتر‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو الذي اشتبه معناه وخفي المراد منه‬
‫بعارض غير الصيغة وال يعرف معناه إال بالطلب والبحث‪.‬‬

‫ومثاله السارق مع النباش‪ ،‬فالسارق هو من أخذ مال غير خفية من حرزه‪ ،‬فهل‬
‫النباش وهو من يسرق األكفان سارق؟‬

‫ولكونه من الخفي تردد العلماء في اعتباره سارقا‪ ،‬فمنهم من اعتبره سارقا تطبق‬
‫عليه عقوبة السارق ومنهم من لم يعتبره كذلك‪.‬‬

‫داللة المشكل‪:‬‬ ‫‪-2‬‬


‫وهو في اللغة‪ :‬من أشكل أي دخل في أشكاله وأمثاله‪ ،‬وفي االصطالح‪ :‬هو الذي‬
‫اشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله وأمثاله على وجه ال يعرف المراد منه إال بدليل‬
‫يتميز به من سائر األشكال األخرى‪.‬‬
‫‪51‬‬

‫ومثاله‪ :‬قوله تعالى ‪( :‬أنى لك هذا)‪ ( 67‬أنى يحيي هذه هللا بعد موتها)‪ 68‬فأنى‬
‫تأتي بمعنى‪ :‬كيف وبمعنى أين‪.‬‬

‫داللة المجمل‬ ‫‪-9‬‬


‫وهو في اللغة‪ :‬المختلط الذي جمع مع غيره‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو ما ال يفهم المراد‬
‫منه إال باستفسار المجمل نفسه أي المتكلم به‪.‬‬
‫ومن أمثلته‪:‬‬
‫قوله تعالى‪( :‬وأقيموا الصالة)‪69‬‬
‫(وآتوه حقه يوم حصاده)‪70‬‬

‫داللة المتشابه‬ ‫‪-9‬‬

‫وهو في اللغة‪ :‬الملتبس‪ ،‬واصطالحا‪ :‬هو الي انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن‬
‫اشبه فيه عليه‪.‬‬

‫ومن أمثلته‪ :‬قوله تعالى‪( :‬الرحمان على العرش استوى)‪71‬‬

‫‪67‬‬
‫‪68‬‬
‫‪69‬‬
‫‪70‬‬
‫‪71‬‬
‫‪52‬‬

‫هـ ‪ -‬داللة المنطوق والمفهوم في القرآن الكريم‬

‫‪ ‬داللة المنطوق‬

‫المنطوق لغة‪ :‬من نطق أي تكلم واصطالحا‪ :‬المنطوق هو‪ :‬ما يدل عليه اللفظ‬
‫عند النطق والتكلم به‪.‬‬

‫فمدلول اللفظ وما نفهمه من هذا اللفظ عندما نسمعه أو نتكلم به هو الذي يسمى‬
‫منطوقا‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬قوله تعالى‪ (:‬وأحل هللا البيع وحرم الربا)‪72‬‬

‫فمدلول هذه األلفاظ عندما نسمعها أو نتكلم بها هو‪ :‬كون البيع حالال والربا حراما‪.‬‬
‫وهكذا في كل لفظ نتكلم به وننطق به‪.‬‬

‫‪ ‬داللة المفهوم‪:‬‬

‫المفهوم لغة‪ :‬من فهم الشيء إذا عقله واصطالحا‪ :‬هو ما فهم من اللفظ في‬
‫غير محل النطق‪.‬‬

‫فالمفهوم ال نأخذه من الحروف التي نتكلم بها وإنما ما نفهمه من غير ذلك‪.‬‬
‫وبالمثال سيتضح المقال ويرفع اإلشكال‪.‬‬

‫والمفهوم قسمان‪:‬‬

‫مفهوم موافقة‪ :‬وهو ما كان حكم المسكوت عنه موافقا لحكم المذكور‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫‪53‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬قوله تعالى‪ ( :‬فال تقل لهما أف وال تنهرهما)‪ 73‬فهذه اآلية تدل على‬
‫تحريم التأفيف بمنطوقها وألفاظها وتدل بمفهومها أيضا على تحريم كل أنواع‬
‫اإلذاية ‪ -‬كالضرب والشتم والسب وغير ذلك‪ -‬للوالدين‪.‬‬

‫وهذا المفهوم هو مفهوم موافقة؛ألن المسكوت عنه وهو الضرب والشتم والسب‬
‫موافق للمذكور ‪-‬وهو التأفيف‪ -‬في التحريم‪.‬‬

‫مفهوم المخالفة‪:‬‬

‫مفهوم المخالفة هو‪ :‬ما كان حكم المسكوت عنه مخالفا لحكم المذكور وله شروط‬
‫وأقسام يطول ذكرها‪.....‬‬

‫‪73‬‬
‫‪54‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السنة النبوية‬

‫السنة النبوية هي األصل الثاني من أصول التشريع اإلسالمي فهي بيان للقرآن وتفسير‬
‫له‪ ،‬وهي التي يجب على المجتهد أن يرجع إليها بعد القرآن الكريم فهي مثل القرآن من حيث‬
‫ما تدل عليه من أحكام ألن الجميع وحي من هللا عزوجل؛ لقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أال‬
‫إني أوتيت القرآن ومثله معه"‪ 74‬أي السنة النبوية‪.‬‬

‫ومن هنا تظهر أهميتها في ذاتها وفي عالقتها بالقرآن‪ ،‬فهي مصدر تشريعي بياني لما ورد‬
‫في القرآن الكريم‪ ،‬كما أنها قد تنص استقالال عن أحكام جديدة غير واردة في القرآن الكريم‪.‬‬

‫فالسنة بهذا المعنى ضرورية لفهم القرآن الكريم وتطبيقه فال يمكن االستغناء عنها بغيرها في‬
‫ذلك‪.‬‬

‫فما هي السنة؟ وما أقسامها؟ وما منزلتها من القرآن الكريم؟‬

‫المبحث األول‪ :‬مفهوم السنة وأقسامها‬

‫المطلب األول‪ :‬مفهوم السنة النبوية‬

‫السنة لغة‪ :‬هي الطريقة سواء كانت محمودة أو مذمومة‪ ،‬ومنه قوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص‬
‫من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من‬
‫غير أن ينقص من أوزارهم شيء"‪75‬‬

‫والسنة اصطالحا عرفت بتعريفات كثيرة ومختلفة حسب اصطالحات الفقهاء والمحدثين‬
‫وعلماء األصول‪ ،‬والذي يرتبط بالمدخل إلى الشريع اإلسالمية هو تعريف األصوليين‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫‪75‬‬
‫‪55‬‬

‫وقد عرف علماء األصول السنة بأنها‪ :‬أقوال النبي صلى هللا عليه وسلم وأفعاله وتقريراته‪.‬‬

‫فكل ما يصدر عن النبي صلى هللا عليه وسلم من أقوال وأفعال وما يقر عليه غيره من أقوال‬
‫أو أفعال يسمى سنة‪ .‬هي بهذا المعنى مرادفة للحديث‪.‬‬

‫وقد تطلق على الواقع العملي في تطبيقات الشريعة اإلسالمية في عصر الرسول صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ،‬أي الحالة التي جرى عليها التعامل اإلسالمي في ذلك العصر األول‪76‬‬

‫والفرق بين المعنيين في النتيجة أنه قد ينقل عن الرسول عليه الصالة والسالم حديث لفظي‪،‬‬
‫ولكن يثبت للعلماء تاريخيا أن عمل الناس في عصر النبوة أو في امتداد زمن الخلفاء‬
‫الراشدين كان جاريا على خالف مدلول ذلك الحديث المنقول فيقال عندئذ‪ :‬جاء في الحديث‬
‫(كذا)ولكن السنة على (كذا)‪77‬‬

‫المطلب الثاني‪ :‬أنواع السنة النبوية‬

‫تنقسم السنة إلى أقسام باعتبارات مختلفة‪ ،‬فمن حيث مفهومها تتنوع إلى سنة قولية وفعلية‬
‫وتقريرية‪ ،‬ومن حيث سندها تتنوع إلى سنة متواترة وسنة آحاد ومن حيث درجتها تنقسم إلى‬
‫سنة صحيحة وحسنة وضعيفة‪.‬‬

‫أوال‪ :‬أقسام السنة باعتبار مفهومها‬

‫تنقسم السنة بهذا االعتبار إلى سنة قولية وسنة فعلية وسنة تقريرية‪.‬‬

‫‪-1‬السنة القولية‬

‫وهي ما نقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم من أقوال مما يقتضي التشريع‪.‬‬

‫ومن أمثلتها‪:‬‬

‫‪76‬‬
‫مصطفى أحمد الزرقا المدخل الفقهي العام ص‪.39:‬‬
‫‪77‬‬
‫المرجع السابقص‪.36 :‬‬
‫‪56‬‬

‫‪ -‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬بني اإلسالم عى خمس شهادة أن ال إله إال هللا وأن دمحم رسول‬
‫هللا ‪78"...‬‬
‫‪ -‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال إيمان لمن ال أمانة له"‪79‬‬
‫‪ -‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪ ":‬ال ضرر وال ضرار"‪80‬‬
‫‪ -‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪ ":‬ال يرث القاتل"‪81‬‬
‫‪... -‬‬

‫‪ -2‬السنة الفعلية‬

‫وهي ما نقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم من أفعال‪.‬‬

‫كأفعال وكيفيات العبادات من صالة وصوم وحج وطهارة وغيرها‪.‬‬

‫وما نقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم من األفعال المبينة للتشريع كثيرة جدا ولها أهميتها‬
‫وهي أبلغ في البيان‪ ،‬ولذلك قال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬صلوا كما رأيتموني أصلي"‪ 82‬أي‬
‫كما تروني أفعل في الصالة‪ ،‬وكذا قوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬خذوا عني مناسككم"‪83‬‬

‫لكن هل كل ما ينقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم من أفعال يقتضي التشريع؟‬

‫للجواب على هذا نعرض ألنواع أفعال النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫أ‪-‬األفعال الجبلية‬

‫وهو ما يقوم به النبي صلى هللا عليه وسلم بصفته وطبيعته الجبلية‪،‬كالقيام والقعود واألكل‬
‫والشرب‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫‪79‬‬
‫‪80‬‬
‫‪81‬‬
‫‪82‬‬
‫‪83‬‬
‫‪57‬‬

‫وحكمه اإلباحة فال تكليف فيه وال تشريع بالنسبة لألمة‪.‬‬

‫ب‪ -‬األفعال الخاصة به‬

‫وذلك كالزواج بدون صداق والزيادة على أربع ووجوب التهجد وجواز الوصال في الصيام‬
‫ووجوب صالة الضحى‪..‬‬

‫وهذا النوع من األفعال ليس تشريعا لنا على الوجه الذي تعبد به الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫وقد يكون بعضها تشريعا لنا على وجه آخر‪.‬‬

‫ج‪ -‬األفعال البيانية‬

‫وهي ما كان من أفعاله بيانا‪ ،‬كأفعاله في الصالة ومناسك الحج ومقدار المسح في التيمم‪،‬‬
‫فكل هذا بيانا لنصوص شرعية‪.‬‬

‫وحكم هذا حكم المبيَّن فهو تشريع في حقنا‪.‬‬

‫د‪ -‬ما فعلة ابتداء وليس بيانا لشيء آخر وعلمت صفته الشرعية‬

‫إذا فعل النبي صلى هللا عليه وسلم فعال وعرفت صفته الشرعية من وجوب أو استحباب أو‬
‫غيره فهذا تشريع في حقنا أيضا‪.‬‬

‫هـ‪ -‬األفعال التي ترددت بين الجبلي والشرعي‬

‫وهو مالم تظهر جبليته المحضة وال شرعيته المحضة ‪ ،‬وهذا النوع اختلف فيه هل نحن‬
‫مطالبين به أم ال‪.‬‬

‫‪-4‬السنة التقريرية‬

‫وهي سكوت النبي صلى هللا عليه وسلم على فعل فعل بحضرته أو بغيبته وبلغه ذلك‬
‫وسكت عنه ولم ينكره‪.‬‬
‫‪58‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬

‫‪-‬اق ارره لما ذكره معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن فقال له‪ :‬بم تقضي إذا عرض‬
‫لك‪84.......‬‬

‫‪ -‬اق ارره للصحابي الذي خاف على نفسه في ليلة باردة فتيمم‪..‬فبلغ ذلك للنبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم ولم ينكر عليه‪.85‬‬

‫‪.. -‬إق ارره لسلمان الفارسي في قضية أبي الدرداء‪86‬‬

‫ثانيا‪ :‬أنواع السنة باعتبار سندها‬

‫تنقسم السنة باعتبار رواتها وسندها إلى قسمين أساسيين‪ :‬سنة متواترة وسنة آحاد‪.‬‬

‫‪-1‬السنة المتواترة‪:‬‬

‫المتواترة لغة‪ :‬من التواتر وهو التتابع واصطالحا‪ :‬هي رواية جمع عن جمع يستحيل‬
‫تواطؤهم على الكذب عادة من بداية السند إلى نهايته متى كان مستند روايتهم الحس‪.‬‬

‫‪-2‬السنة اآلحاد‪:‬‬

‫السنة اآلحاد وتسمى خبر اآلحاد هي التي لم يبلغ عدد رواتها حد التواتر‪.‬‬

‫فكل ما لم يصل إلى درجة التواتر يكون في مرتبة اآلحاد‪ ،‬والسنة اآلحاد أقسام وهي‪:‬‬

‫المشهور وهو التي روها ثالثة فما فوق‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫‪ -‬العزيز وهو الذي راوه اثنان‪.‬‬
‫‪ -‬الغريب وهو الذي راو واحد‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫‪85‬‬
‫‪86‬‬
‫‪59‬‬

‫ثانيا‪ :‬أقسام السنة باعتبار درجتها وقبولها‬

‫تنقسم السنة بهذا االعتبار إلى سنة صحيح وسنة حسنة وسنة ضعيفة‪.‬‬

‫‪-1‬السنة الصحيحة‪ :‬هي ماكان رواتها في أعلى مراتب الضبط والعدالة‪.‬‬

‫‪-2‬السنة الحسنة‪ :‬هي ماكان رواتها كلهم عدوال ضابطين‪ ،‬في درجة دون مرتبة الصحيح‪.‬‬

‫‪-4‬السنة الضعيفة‪ :‬هي التي لم يبلغ رواتها شروط الحسن والصحة وهي أقسام كثيرة‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬حجية السنة‬

‫سبق أ ذكرنا أن السنة النبوية هي األصل الثاني من أصول التشريع وهي بمنزلة القرآن من‬
‫حيث وجوب العمل بها ويدل على ذلك ما يلي‪:‬‬

‫‪-‬الدليل من القران الكريم‪ :‬قال تعالى‪( :‬يأيها الذين آمنوا أطيعوا هللا وأطيعوا الرسول)‪87‬‬
‫وطاعة الرسول تكون باتباع سنته‪.‬‬

‫وقال عز وجل‪(:‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)‪88‬‬

‫وقال تعالى‪( :‬وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي يوحى) فما يصدر عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم هو وحي يوحى إليه من هللا وليس كالما من هواه‪.‬‬

‫‪-‬الدليل من السنة النبوية‪ :‬مما يدل على حجية السنة قوله صلى هللا عليه وسلم‪ ":‬تركتكم‬
‫فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب هللا وسنتي"‬

‫‪87‬‬
‫‪88‬‬
‫‪60‬‬

‫وقوله صلى هللا عليه وسلم‪ ":‬يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديثي فيقوا بيننا وبينكم‬
‫كتاب هللا ما وجدنا فيه من حالل استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه‪ ،‬أال وإن ما‬
‫رسول هللا مثل ما حرم هللا"‬

‫و قوله صلى هللا عليه وسلم‪ ":‬أال إني أوتيت القرآن ومثله معه" يريد السنة‬

‫‪ -‬دليل اإلجماع‪ :‬أجمع علماء األمة على وجوب العمل بالسنة النبوية ولم يخالف في ذلك‬
‫أحد‪.‬‬

‫‪-‬الدليل من المعقول‪:‬‬

‫السنة بيان للقرآن والبيان ال ينفك عن المبيَّن‪ ،‬قال عز وجل ‪( :‬لتبين للناس ما نزل‬
‫إليهم) وهذا البيان كان بوحي من هللا تعالى لقوله‪( :‬وما ينطق عن الهوى إن هو إال وحي‬
‫يوحى)‬

‫وما دام القرآن جاء للعمل به وال يتحقق هذا إال بالبيان وال يكون البيان إال من الرسول‬
‫صلى هللا عليه وسلم ألنه بعث من أجل ذلك‪ ،‬وال يجوز العمل بخالف ما يبيه صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ 89.‬فإن ها البيان ملزم‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫الزع بتصرف‬
‫‪61‬‬

‫المحاضرة التاسعة‬

‫المبحث الثالث‪ :‬منزلة السنة من القرآن‬

‫سبقت اإلشارة إلى أن السنة هي األصل الثاني من أصول التشريع اإلسالمي فهي من‬
‫حيث االعتبار تأتي ثانية بعد القرآن‪.‬‬

‫فما منزلتها وعالقتها بالقرآن الكريم؟‬

‫السنة مصدر بياني للقرآن الكريم وهذا البيان له أوجه عدة وهي‪:‬‬

‫أوال‪ :‬السنة المؤكدة لما ورد في القرآن الكريم‬

‫وهي التي يكون بيانها بيان تأكيد وتقرير لما جاء في الكريم فيكون الحكم منصوصا عليه في‬
‫القرآن وفي السنة‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬األحاديث التي تدل على وجوب الصالة والزكاة والحج والصوم وغيرذلك مما‬
‫هو ثابت بالكتاب والسنة‪.‬‬

‫ثانيا‪:‬السنة المفصلة لمجمل القرآن‬

‫وهي التي يكون البيان فيها عن طريق تفصيل ما ورد مجمال في القرآن الكريم‪.‬‬

‫ومن أمثلتها‪:‬‬

‫‪-‬الصالة وردة مجملة في القرآن الكريم لكن السنة بينت هذا اإلجمال حيث حددت أركانها‬
‫وسننها وشروطها وكيفياتها كما يشير إلى ذلك قوله صلى هللا عليه وسلم‪ ":‬صلوا كما‬
‫رأيتموني أصلي"‪90‬‬

‫‪90‬‬
‫سبق تخريجه‬
‫‪62‬‬

‫‪-‬الزكاة وردة مجملة في القرآن الكريم لكن السنة بينت هذا اإلجمال حيث حددت شروطها‬
‫والنصاب فيها والقدر الواجب إخراجه وغير ذلك‪.‬‬

‫الحج وردة مجمال في القرآن الكريم لكن السنة بينت هذا اإلجمال حيث حددت أركانه‬
‫وشروطه وكيفيته ‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬السنة المقيدة لمطلق القرآن‬

‫وهي السنة التي تبين أن مطلق القرآن ليس على إطالقه بل هو مقيد ‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬تقييد الوصية في حدود الثلث لقوله صلى هللا عليه وسلم لسعد‪ " :‬الثلث‬
‫والثلث كثير"‪ 91‬وقد وردت في القرآن مطلقة في قوله عز وجل‪ (:‬من بعد وصية يوصي بها‬
‫أو دين)‬

‫رابعا‪ :‬السنة المخصصة لعام القرآن‬

‫وهي التي تبين القرآن عن طريق تخصيص عامه‪ ،‬حيث يرد الحكم في القرآن عاما لكن‬
‫السنة تخصصه وتقصره على بعض األفراد‪.‬‬

‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬

‫‪-‬تخصيص عموم ميراث األوالد من اآلباء واألمهات الوارد في قوله تعالى‪(:‬يوصيكم هللا في‬
‫أوالدكم)‪ 92‬بقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬نحن معاشر األنبياء ال نورث ما تركناه فهو‬
‫صدقة"‪93‬‬

‫‪-‬تخصيص هذه اآلية باعتبار آخر حيث قصرت اإلرث على غير القاتل في قوله صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ ":‬ال يرث القاتل"‪.94‬‬

‫‪91‬‬
‫‪92‬‬
‫‪93‬‬
‫‪63‬‬

‫خامسا‪:‬السنة المبية ألحكام جديدة غير منصوصة في القرآن‬

‫ومن أمثلتها‪:‬‬

‫‪ -‬تحريم زواج المرأة على عمتها في قوله صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬ال تنكح الرأة على عمتها وال‬
‫على خالتها وال على ابنة أخيها وال على ابنة أختها"‪.95‬‬
‫‪ -‬منع القاتل من الميراث لقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يرث القاتل"‪96‬‬
‫‪ -‬وجوب زكاة الفطربقوله صلى هللا عليه وسلم‪ " :‬فرض رسول هللا زكاة الفطر‪97"..‬‬
‫‪ - -‬ثبوت حق الشفعة‪98....‬‬

‫اإلجماع( ‪)....................‬‬ ‫المبحث الثالث ‪:‬‬

‫‪94‬‬
‫‪95‬‬
‫‪96‬‬
‫سبق تخريجه قريبا‬
‫‪97‬‬
‫‪98‬‬
‫‪64‬‬

‫المحاضرة العاشرة‬

‫المبحث الرابع‪ :‬القياس‬


‫القياس هو المصدر الرابع من األدلة واألصول الشرعية‪ ،‬وإنما أتى رابعا‪ ،‬ألنه متفرغ‬
‫عن المصادر السابقة التي هي‪ :‬الكتاب والسنة واإلجماع‪.‬‬

‫فهذه المصادر الثالثة هي أصل للقياس‪ ،‬لذلك فيه مقدمة عليه في الترتيب؛ ألنه فرع‬
‫عنها والفرع ال يقوى قوة األصل؛ بل لم يكن ليوجد القياس في المسائل الشرعية لو لم توجد‬
‫المصادر التي يرجع ويستند إليها القياس‪.‬‬

‫وللقياس أهمية بالغة يتميز بها عن أصوله‪ ،‬وتتجلى هذه األهمية في كونه مصد ار‬
‫تعرف به أسرار الشريعة ومزاياها ودقائق حكمها‪ ،‬فهو المرشد إلى علل األحكام‪ ،‬والوسيلة‬
‫إلى اإلحاطة‪ ،‬بمقاصد الشريعة في جلب المصالح ودفع المفاسد‪.‬‬

‫كما أنه مصدر يتميز بتفاصيل أحكام جميع الحوادث من غير حد وال حصر‪ ،‬ذلك أن‬
‫الحوادث كثيرة ومتعددة ومتنوعة وغير متناهية‪ ،‬وهي قطعا ال تخلو من حكم هللا تعالى‪،‬‬
‫والقيا س هو الذي يكشف الغطاء عن أحكامها‪ ،‬ما حدث منها وما سيحدث ويتجدد في‬
‫المستقبل‪ ،‬ألن نصوص الكتاب والسنة محصورة ومقصورة‪ ،‬ومواقع اإلجماع محدودة‪.‬‬

‫وهذا بخالف القياس؛ النبنائه على المصالح والمفاسد وعلل األحكام وبه تتحقق شمولية‬
‫الشريعة اإلسالمية وصالحيتها لكل زمان ومكان‪ ،‬وعليه فالحاجة للقياس في غاية األهمية‬
‫والحاجة إليه أشد في باب االجتهاد‪.99‬‬

‫وإذا كان كذلك فما هو القياس؟ وماذا عن حجيته؟ وما هي أركانه وشروطها؟‬

‫أوال‪ :‬مفهوم القياس‬

‫ـ انظر‪ :‬العربي اللوه في أصول الفقه‪ ،‬ص ‪.301‬‬ ‫‪99‬‬


‫‪65‬‬

‫القياس لغة‪ :‬من المقارنة والتقدير‪ ،‬تقول قست الثوب بالمتر أي قدرته به‪ ،‬وقست الشيء‬
‫بالشيء أي قارنته به‪.‬‬

‫واصطالحا‪ :‬عرف بتعريفات مختلفة منها‪ " :‬إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بآخر‬
‫منصوص على حكمه الشتراكهما في العلة التي بني عليها الحكم"‬

‫إذن القياس يتطلب أم ار نص الشرع على حكمه في الكتاب أو السنة‪ ،‬وهذا هو الي يسمى‬
‫األصل أو المقيس عليه‪ .‬وأم ار آخر لم ينص الشرع على حكمه‪ ،‬ويسمى الفرع أو المقيس‪،‬‬
‫وعلة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه‪.‬‬

‫فهذه هي أركان القياس‪ :‬المقيس عليه‪ ،‬حكمه ودليله‪،‬المقيس‪ ،‬العلة المشتركة‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬الخمر محرم لقوله عز وجل‪ ( :‬يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر واألنصاب‬
‫وعلة تحريمه اإلسكار‪.‬‬ ‫تفلحون)‪100‬‬ ‫واالزالم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم‬

‫والنبيذ وهو عصير التين المتخمر فيه العلة نفسها وهي اإلسكار فنقيس النبيذ في الحكم‬
‫على الخمر الشتراكهما في نفس العلة‪.‬‬

‫ونوضح هذه األركان في اآلتي‪:‬‬

‫‪ ‬الخمر = المقيس عليه‬


‫‪ ‬التحريم = حكم الخمر‬
‫‪ ‬النبيذ = المقيس‬
‫‪ ‬اإلسكار = العلة المشتركة‬

‫ثانيا‪ :‬حجية القياس‬

‫‪ :1‬حجية القياس في األمور الدنيوية‬


‫‪100‬‬
‫‪66‬‬

‫قال ابن السبكي رحمه هللا تعالى‪'' :‬وهو حجة في األمور الدنيوية‪ ،‬قال اإلمام اتفاقا''‬

‫فاألصوليون يميزون في حجية القياس بين األمور الدنيوية واألمور الشرعية‪.‬‬

‫ففي األمور الدنيوية القياس حجة اتفاقا‪.‬‬

‫ومعنى كون القياس حجة في األمور الدنيوية أي أنه حجة في األغذية واألدوية‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫فالقياس مركوز ومغروس في طبيعة اإلنسان‪ ،‬فكل عمل يريد أن يقدم عليه اإلنسان أو‬
‫يم تنع عنه يعمد فيه إلى القياس‪ ،‬كما في التجارة في عالقتها بالربح والخسارة‪ ،‬فإذا ربح فالن‬
‫فهو سيربح‪ ،‬وإذا خسر‪ ،‬فإنه سيخسر‪ ،‬وكذلك شفاء الدواء وضرره‪ ،‬وكذلك الطعام‪.101‬‬

‫إذن فالقياس في األمور الدنيوية متفق ومجمع عليه‪.‬‬

‫واالتفاق واإلجماع مصدره التتبع والبحث واستطالع اآلراء‪.102‬‬

‫‪-2‬حجية القياس في األمور الدينية‬

‫القياس حجة شرعية ودليل ومصدر من المصادر الشرعية المعتبرة‬


‫ولم يخالف في هذا إال بعض الظاهرية والشيعة‪.‬‬

‫قال ابن السبكي‪'' :‬والصحيح حجة إال العادية والخلقية‪ ،‬وإال في كل األحكام‪ ،‬وإال‬
‫القياس على منسوخ‪ ،‬خالفا للمعممين''‪.‬‬

‫وهذا هو مذهب الجمهور ومنهم األئمة األربعة وغيرهم‪ ،‬ولهم في ذلك أدلة عدة‪ ،‬من‬
‫كتاب وسنة وإجماع وعقل‪.‬‬

‫‪‬أدلتهم من الكتاب‪:‬‬

‫ـ عن ش‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫ـ عن ش‪.‬‬ ‫‪102‬‬
‫‪67‬‬

‫أدلتهم من القرآن كثيرة منها قوله عز وجل‪ :‬فاعتبروا يا أولي األبصار‪.103‬‬

‫فبعدما ذكر سبحانه ما أصاب بني النضر قال ''فاعتبروا'' أي قارنوا ما وقع لهم‪،‬‬
‫واالعتبار هو إلحاق الشيء بمثله والتسوية بينهما‪ ،‬وهذا أمر بالقياس‪ ،‬ولهذا اختاره المحلي‬
‫دون غيره من األدلة‪.‬‬

‫ومن األدلة أيضا‪ :‬قوله عز وجل‪ :‬فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤالء‬
‫سيصيبهم سيئات ما كسبوا‪.104‬‬

‫فاهلل عز وجل تحدث عن األمم السابقة بأن سبب هالكهم هو العمل السيئ‪ ،‬وهؤالء‬
‫يرتكبون العمل السيئ‪ ،‬فسيصيبهم‪ ،‬ما أصاب من سبقهم‪.‬‬

‫وكذلك قوله عز وجل‪ :‬كما بدأكم تعودون‪.105‬‬

‫فكل هذا فيه الجم بين المتماثلين‪.106‬‬

‫‪ ‬أدلتهم من السنة‪:‬‬

‫عن ابن عباس ‪ -‬رضي هللا عنهما ‪ -‬أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي ‪ -‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم ‪ -‬فقالت ‪ ( :‬إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها ؟ قال ‪:‬‬
‫نعم حجي عنها ‪ ،‬أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا هللا فاهلل أحق‬
‫‪.‬‬ ‫بالوفاء‪107‬‬

‫ـ قوله صلى هللا عليه وسلم‪ :‬للرجل الذي جاء وأخبره بأن امرأته ولدت ولدا أسود‪ ،‬فقال‬
‫له‪ :‬هل لك من إبل؟ فقال نعم‪ ،‬فقال‪ :‬وما ألوانها؟ فقال‪ :‬حمر‪ ،‬فقال هل فيها من أورق؟ قال‬

‫ـ‬ ‫‪103‬‬
‫‪104‬‬

‫ـ‬ ‫‪105‬‬

‫ـ عن شي‪.‬‬ ‫‪106‬‬

‫رواه البخاري ‪.‬‬


‫‪107‬‬
‫‪68‬‬

‫نعم‪ ،‬فقال‪ :‬وأنى كان ذلك‪ ،‬فقال‪ :‬لعله نزعه عرق‪ ،‬فقال له‪'' :‬وابنك هذا لعله نزعه‬
‫عرق''‪.108‬‬

‫ومعنى هذا الحديث‪ ،‬فكما جاء أوالد اإلبل على خالف ألوان أبائها‪ ،‬فكذلك في األبناء‬
‫من غير اإلبل‪.109‬‬

‫‪ ‬اإلجمــاع‪:‬‬

‫فاإلجماع السكوتي من الصحابة على اختالف مواقفهم‪ ،‬يدل على جواز القياس‪،‬‬
‫فالصحابة يتحاجون في القضايا فيما بينهم بالقياس‪ ،‬وال ينكر بعضهم على بعض في‬
‫القياس‪ ،‬وإن كان يطعن بعضهم لبعض في كيفية القياس‪ ،‬لكن مبدأ القياس ال ينكره بعضهم‬
‫عن بعض‪ ،‬فهو مبدأ مسلم عندهم ومتعارف عليه ومسكوت عنه‪.‬‬

‫وهذا يدل على صحة اعتماد القياس في استنباط األحكام وتشريعها‪.110‬‬

‫‪ ‬األدلة العقلية‪:‬‬

‫فالنصوص محدودة‪ ،‬والقضايا ال حصر لها‪ ،‬فإذا لم نقل بالقياس فنسهمل الشريعة‬
‫اإلسالمية ومقاصدها ومبادئها وأحكامها الكلية ونحدث فراغا كبيرا‪ ،‬حيث ستكون قضايا‬
‫ومستجدات بدون حكم‪ ،‬وهذا ال يجوز وال يصح القول به‪.‬‬

‫لكن هذه الحجية لها مستثنات فما هي؟‬

‫‪108‬‬

‫ـ عن شي‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫ـ عن شيخنا وانظر‪ :‬المحلي‪.845/8 ،‬‬ ‫‪110‬‬


‫‪69‬‬

‫ثالثا‪ :‬أركان القياس وشروطه‬

‫إلمكانية القياس البد من تحقق أركانه وتوفر شروطه‪ ،‬فماهي أركان القياس وشروط كل‬
‫ركن؟‬

‫للقياس أربعة أركان كما تقدم وهي‪:‬‬

‫‪-‬األصل أو المقيس عليه‬

‫‪-‬حكم األصل أو المقيس عليه‬

‫‪ -‬الفرع أو المقيس‬

‫‪-‬العلة المشتركة بين األصل والفرع‬

‫‪-1‬األصل أو المقيس عليه‬

‫وهو الذي دل دليل شرعي على حكمه‪ .‬ويشترط فيه ما يلي‪:‬‬

‫أ‪ -‬أن يكون ثابتا بنص من الكتاب أو السنة أو اإلجماع‪.‬‬


‫أن ال يكون فرعا مقيسا على غيره‪ ،‬فالقياس يكون على األصل‪.‬‬ ‫ب‪-‬‬

‫‪ -2‬حكم األصل‬

‫وهو الذي ورد به الدليل الشرعي من كتاب أو سنة أو إجماع‪ .‬ويشترط فيه ما يأتي‪:‬‬

‫أ‪ -‬أن يثبت هذا الحكم بالكتاب أو السنة أو اإلجماع‪.‬‬


‫‪70‬‬

‫أن ال يكون هذا الحكم منسوخا؛ ألن النسخ يبطل الحكم الشرعي‬ ‫ب‪-‬‬
‫فيصبح في حكم العدم وال قياس حينئذ‪.‬‬

‫ج‪ -‬أن يكون الحكم معقول المعنى؛ بأن ندرك علته‪ ،‬أما إذا لم نتعقل معناه وعلته فال يمكن‬
‫القياس‪ ،‬فمثال عدد الركعات في الصالة ال ندرك العلة في ذلك وبالتالي ال يمكن القياس‬
‫على هذا‪.‬‬

‫د‪-‬أن ال يكون الحكم خاصا‪ ،‬كاألحكام الخاصة بالرسول صلى هللا عليه وسلم فال قياس‬
‫عليها‪ ،‬وقد يكون الحكم مختصا بأمر معين لعدم وجود العلة في غيره‪.‬‬

‫‪-‬الفرع المقيس‬

‫وهو الذي لم يرد دليل على على حكمه ونريد أن نلحقه بحكم األصل‪ ،‬كالنبيذ في المثال‬
‫السابق‪ .‬ومن شروطه‪:‬‬

‫‪-‬أن ال يكون منصوصا على حكمه‪ ،‬ألنه إذا كان منصوصا على حكمه فال حاجة‬
‫للقياس؛ألنه ال قياس وال اجتهاد مع وجود النص‪.‬‬

‫‪-‬أن توجد فيه علة األصل بتمامها‪ ،‬وذلك ألن العلة هي التي سمحت بإلحاق الفرع غير‬
‫المنصوص باألصل المنصوص‪.‬‬

‫وإذا لم توجد العلة فلن يكون هناك مشترك بين األصل والفرع ويكون القياس غير صحيح‬
‫لوجود الفارق‪ ،‬وال قياس مع وجود الفارق‪.‬‬

‫‪-3‬العلة المشتركة بين األصل والفرع‬

‫وهي الوصف الذي بنى عليه الشرع الحكم‪ ،‬فإذا وجدت في الفرع أعطي نفس حكم األصل‪،‬‬
‫ومن شروطها‪:‬‬
‫‪71‬‬

‫‪-‬أن تشتمل على مصلحة يريد الشرع تحقيقها من تشريع الحكم‪.‬‬

‫‪ -‬أن تكون وصفا ظاه ار يمكن التحقق من وجوده في األصل والفرع‪.‬‬

‫‪ -‬أن تكون وصفا منضبطا ال يتغير بتغير الزمان والمكان واألحوال واألشخاص‪ ،‬فعلة القتل‬
‫تحرم القاتل من الميراث‪ ،‬وهي وصف منضبط يمكن أن نقيس عليه قتل الموصى له‬
‫للموصي فيحرم من الوصية لعلة القتل‪111‬‬

‫‪-‬أن تكون وصفا متعديا بأن التقتصر على األصل وإنما توجد في الفرع أيضا وإال فال‬
‫قياس‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬مجاالت القياس‬

‫‪ -‬األمور الدنيوية‪.‬‬
‫‪ -‬األمور الدينية‪.‬‬

‫المستثنيات من حجية القياس‬

‫قال ابن السبكي‪ '' :‬إال في العادية والخلقية‪ ،‬وإال في كل األحكام‪ ،‬وإال القياس على‬
‫منسوخ''‬

‫ذكر هنا مستثنيات حجية القياس وهي‪:‬‬

‫‪ ‬عدم القياس في العادية والخلقية‪:‬‬

‫فهذه ال يدخلها القياس‪ ،‬ألنها تختلف من شخص آلخر ومن بلد آلخر‪ ،‬ومن زمن‬
‫آلخر وال يدرك فيها المعنى‪.‬‬

‫ومن ذلك البلوغ‪ ،‬فال يمكن أن نقول‪ :‬فالن بلغ على عشر سنوات‪ ،‬فكذلك يقاس عليه‬
‫الباقي‪ .‬ولذلك تحدد التشريعات الحد األقصى للبلوغ‪.‬‬
‫‪111‬‬
‫الز‬
‫‪72‬‬

‫وكذلك في مدة النفاس‪ ،‬والحيض‪ ،‬ووضع الحامل من ستة أشهر‪.‬‬

‫فهذه األشياء تختلف الختالف طبائع وعادات الناس‪.112‬‬

‫أمثلة تطبيقية في القياس‬

‫ـ عن شي‪.‬‬ ‫‪112‬‬
‫‪73‬‬

‫المحاضرة الحادية عشر‬

‫الفصل الثاني‪ :‬األصول التبعية‬

‫األصول أو المصادر التبعية للتشريع اإلسالمي هي المصادر التي ترجع للمصادر‬


‫األساسية‪ ،‬فيهي منبثقة ومتفرعة عن المصادر األساسية‪ ،‬كما أنها امتداد لها وتطبيق‬
‫لروحها‪.‬‬

‫والمصادر التبعية هي‪:‬‬

‫‪-‬االستحسان‬

‫‪-‬المصلحة المرسلة‬

‫‪-‬سد الذرائع‬

‫‪-‬العرف‬

‫‪-‬عمل أهل المدينة‪.‬‬

‫وهذه األصول متكاملة فيما بينها ويتداخل بعضها مع بعض على أساس أنها تقوم على‬
‫أساس تحقيق المقاصد الشرعية‪.‬‬

‫وسنقف عند أهمها مع إشارات إلى الباقي‬


‫‪74‬‬

‫األصل األول‪ :‬االستحسان‬

‫يقتضي الحديث عن هذا األصل تعريفه وذكر مستنده ثم شروط األخذ به‪.‬‬

‫أوال‪ :‬تعريف االستحسان ومستنده‪.‬‬

‫قال الشاطبي – رحمه هللا‪" :-‬وهو في مذهب المالكية األخذ بمصلحة جزئية في مقابلة‬
‫دليل كلي‪.‬‬

‫ومقتضاه الرجوع إلى تقديم االستدالل المرسل على القياس‪ ،‬فإن من استحسن لم يرجع‬
‫إلى مجرد ذوقه وتشهيه وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك‬
‫األشياء المفروضة"‪ .113‬وله تعاريف أخرى يطول ذكرها‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬أنواع االستحسان‬

‫إن أنواع االستحسان ثالثة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ استحسان سنده العرف‪ :‬كمن حلف ال يأكل لحما فأكل سمكا ال يحنث مع أن‬
‫السمك لحم وسماه القرآن لحما في قوله تعالى‪ :‬ومن كل تأكل لحما طريا ‪ 114‬ولكن‬
‫العرف ال يسمى السمك لحما فاعتبر العرف إيثا ار على الدليل الذي هو القياس‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ استحسان سنده المصلحة‪ :‬فاألجير المشترك إذا هلك المال في يده فالقياس أنه ال‬
‫يضمن ولكن حكم بضمانه لمصلحة المحافظة على أموال الناس‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ استحسان سنده رفع الحرج وإيثار التوسعة على الناس‪ :‬فقد أجازوا التفاضل اليسير‬
‫في المراطلة ‪ ..‬كما أجازوا الغبن اليسير في المعامالت‪ 115..‬وتوريث األخ الشقيق في‬
‫المشتركة واألمثلة كثيرة جدا منها ما ذكره الشاطبي في الموافقات‪.116‬‬

‫ـ الموافقات‪.968/0 :‬‬ ‫‪113‬‬

‫ـ سورة فاطر‪ ،‬من اآلية ‪.38‬‬ ‫‪114‬‬

‫ـ مقاصد الشريعة ومكارمها لعالل الفاسي‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪3033‬هـ ‪3553 -‬م‪ ،‬ص ‪.304 – 385‬‬ ‫‪115‬‬
‫‪75‬‬

‫ثالثا‪ :‬حجية االستحسان‬

‫قوله تعالى‪ :‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‪. 117‬‬

‫وقوله ‪" :‬ما رآه المسلمون حسنا فهو عند هللا حسن"‪.118‬‬

‫‪ -‬أن في إعماله أخذا بمقاصد الشارع وذلك مثل رفع الحرج والمحافظة على أموال‬
‫الناس‪.‬‬

‫‪ -‬وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال االستحسان تسعة أعشار العلم‪.119‬‬

‫واشترط عدم األخذ به عن طريق التشهي‪.120‬‬

‫وبهذا االشتراط تم تحقيق مقاصد الشرع وسد الذريعة المؤدية إلى الفساد‪.‬‬

‫ـ الموافقات‪ 968/0 :‬وما بعدها‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫ـ سورة الزمر‪ ،‬من اآلية ‪.32‬‬ ‫‪117‬‬


‫‪118‬‬

‫ـ انظر‪ :‬الموافقات للشاطبي ‪.996/0 :‬‬ ‫‪119‬‬

‫ـ محاضرات في أصول الفقه لمحمد بن معجوز‪ ،‬طبعة ‪3036‬هـ ‪3556 -‬م‪ ،‬ص ‪.312‬‬ ‫‪120‬‬
‫‪76‬‬

‫األصل الثاني‪ :‬المصلحة المرسلة‬

‫المصالح أو المقاصد الشرعية إما أن يدل دليل على اعتبارها إما بعينها وإما بنوعها‬
‫وهذه كثيرة في نصوص الشرع‪ ،‬وقد ال يدل الشرع على اعتبار بعض المصالح ال عينا وال‬
‫نوعا لكن عند التأمل والتتبع نجدها تحقق مصلحة من المصالح أو تدفع مضرة‪ ،‬فهل يعتبر‬
‫هذا كاف في اعتبارها مشروعة أم ال؟ وما معيار المصلحة والمفسدة؟ وما دواعيها‬
‫وضوابطها؟‬

‫أوال‪ :‬مفهوم المصلحة المرسلة‬

‫المصلحة لغة‪ :‬هي المنفعة في ضد المفسدة والمضرة‪ ،‬والمصلحة اصطالحا لها‬


‫تعريفات عدة منها ما قاله اإلمام الغزالي ‪-‬رحمه هللا‪ -‬في تعريفها‪» :‬هي جلب المنفعة ودفع‬
‫المضرة"‪121‬‬

‫والمرسلة لغة‪ :‬المطلقة‪،‬وسميت المصلحة مرسلة ألنها لم ينص عليها عينا وال نوعا لكنها‬
‫تحقق مصلحة شرعية‪.‬‬

‫والمصلحة المرسلة اصطالحا‪:‬هي كل مصلحة داخلة في مقاصد الشرع دون أن يكون لها‬
‫شاهد باالعتبار أو اإللغاء‪ .‬قال القرافي‪" :‬وما لم يشهد له شاهد باالعتبار وال باإللغاء هو‬
‫المصلحة المرسلة "‪.122‬‬

‫"فإذا كانت المصلحة قد جاء بها نص بعينها ككتابة القرآن صيانة له من الضياع وكتعليم‬
‫الكتابة والقراءة‪ ،‬أو كانت مما جاء نص عام في نوعها يشهد له باالعتبار كوجوب تعليم‬
‫العلم ونشره بوجه عام‪ ،‬وكاألمر بكل أنواع المعروف والنهي عن جميع فنون المنكر‪ ،‬فعندئذ‬
‫تكون من المصالح المنصوص عليها عينا أو نوعا ال من المصالح المرسلة ويعتبر حكمها‬

‫‪121‬المستصفى ‪315/8‬‬
‫ـ شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪.006‬‬ ‫‪122‬‬
‫‪77‬‬

‫ثابتا بذلك النص ال بقاعدة االستصالح"‪123‬‬


‫يرد في الشرع‬
‫أما إذا كانت المصلحة مرسلة‪ ،‬وهي كل مصلحة داخلة في مقاصد الشرع ولم ْ‬
‫نص على اعتبارها بعينها أو بنوعها‪ ،‬وال على استبعادها‪ 124‬فهذا النوع من المصالح المرسلة‬
‫ٌ‬
‫معتبر في حقيقته ضمن مقاصد الشريعة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬معيار المصلحة والمفسدة وضوابطها‬

‫معيار المصلحة والمفسدة‬ ‫‪-1‬‬


‫لتحديد المصلحة معيار ذاتي شخصي ومعيار موضوعي شرعي‪ ،‬فما المراد بكل منهما؟ وما‬
‫المعيار المناسب لتحديد المصلحة والمفسدة؟‬
‫‪ ‬المعيار الذاتي للمصلحة‪:‬‬
‫تفسر المصلحة حسب هذا المعيار بالمنفعة كما تفسر المفسدة بالمضرة مطلقا سواء كان‬
‫الضرر أو النفع شخصيا أو عاما‪ ،‬غالبا أو مغلوبا‪ ،‬عاجال أو آجال‪..‬‬
‫وعليه فالعلم والربح واللذة والراحة والمتعة والصحة ونحوها كلها مصالح في ذاتها نافعة‬
‫ألصحابها بأي طريق حصلت‪.‬‬
‫والجهل والخسارة واأللم والتعب‪..‬كلها مفاسد في ذاتها مضرة بأصحابها ألي غاية وبأي‬
‫طريقة حصلت‪125.‬‬
‫لكن هذا المعيار قاصر ومعيب؛ ألن اللذة الوقتية مثال قد تترتب عليها آالم ومضار‬
‫لصاحبها ولغيره في نفسه أو شرفه أو ماله‪،‬كشرب المسكرات مثال‪ ،‬كما أن الراحة قد يترتب‬
‫عليها خسارة او تعب ‪ ،‬وإن الربح في بعض صوره أو طرقه قد يقوم على ظلم الغير‬
‫واستغالله أو اإلضرار به أو على طرق غير شريفة ضررها أكبر من ربحها‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫مصطفى أحمد الزرقاء ص‪344 :‬‬
‫انظر ‪ :‬االستصالح والمصلحة المرسلة د‪ .‬الزرقا ص ‪ ، 15‬السياسة الشرعية د‪ .‬القرضاوي ص‪28‬‬
‫‪124‬‬
‫)‬
‫‪125‬‬
‫مصطفى أحمد الزرقاء ص‪ 348-343 :‬بتصرف‬
‫‪78‬‬

‫وعلى عكس ذلك قد تجد بعض اآلالم أحسن نتيجة من عدمها كآالم العالج والمداواة‪،‬‬
‫وكذلك بعض المتاعب والمصاعب قد تتوقف عليه أطيب الثمرات‪..‬‬
‫ولهذا وجب أن يتخذ للمصالح والمفاسد التي يبنى عليها التشريع العام مقياس آخر غير‬
‫المعنى الذاتي يأخذ بالحسبان مصلحة الفرد والمجتمع ويوازن بين عاجل الحوائج وآجل‬
‫النتائج‪ ،‬فال يعتبر مصلحة أو مفسدة إال ما اعتبره الشرع كذلك دفعا لفوضى المقاييس‬
‫الشخصية وتضاربها‪126‬‬
‫‪ ‬المعيار الموضوعي الشرعي للمصلحة والمفسدة‬

‫يعتمد هذا المعيار على المقاصد الكونية التي جاء من أجلها الشرع اإلسالمي‪ ،‬فالمصالح‬
‫هي التي تتفق مع مقاصد الشرع والمفاسد هي التي تتنافى مع مقاصد الشرع‪.‬‬

‫وعليه فما كان من التصرفات يحقق الضروريات ويحافظ عليها ويدفع المفاسد‬
‫عنها فهو مصلحة شرعية وما كان يهدد وجودها واستمرارها فهو مفسدة‪.‬‬

‫ويعتبر من المصالح المشروعة أيضا األعمال والتصرفات التي ال تتوقف عليها الضروريات‬
‫لكن تتطلبها الحاجة لتحقيق التوسعة ورفع الحرج كإجارة المنافع والخدمات المدنية ألنها‬
‫تحقق التعاون والتكامل اإلنساني وهو ما يسمى بالحاجيات‪.‬‬

‫كما يعتبر من المصالح التكميليات أو التحسينيات وهي ما يعد من مكارم األخالق وحسن‬
‫اآلداب ومحاسن العادات كاالعتدال في المظاهر واالقتصاد في المصارف وهكذا‪127‬‬

‫ضوابط المصلحة المرسلة‬ ‫‪-2‬‬


‫العتبار المصلحة مجموعة من الضوابط والشروط أهمها‪:‬‬

‫‪126‬‬
‫المرجع السابق ص‪ 348‬بتصرف‬
‫‪127‬‬
‫انظر المرجع السابق ص‪341:‬‬
‫‪79‬‬

‫أوالا‪ :‬اندراجها ضمن مقاصد الشريعة‪.‬‬


‫ينص عليها ال بد أن تكون قائمة على حفظ مقاصد التشريع الخمسة‪:‬‬
‫فالمصلحة التي لم ة‬
‫حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال‪ ،‬وكل ما يفوت هذه األصول أو بعضها فهو مفسدة‪،‬‬
‫ثم إن درجة حفظ هذه المقاصد يتدرج إلى ثالث مراحل بحسب األهمية‪ ،‬وهي ما أطلق عليه‬
‫والتحسينيات‪128‬‬ ‫الحاجيات‬
‫علماء األصول اسم‪ :‬الضرورةيات و‬
‫ة‬ ‫ة‬
‫ثانيا ‪ :‬أن ال تخالف نصوص الكتاب والسنة‪.‬‬
‫ويدل على ذلك عقالا ‪ :‬أن المصلحة ليست بذاتها دليل مستقل بل هي مجموع جزئيات األدلة‬
‫التفصيلية من القرآن والسنة التي تقوم على حفظ الكليات الخمس‪ ،‬فيستحيل عقالا أن تخالف‬
‫حجيتها عن طريقه‪ ،‬وذلك من قبيل معارضة‬
‫المصلحة مدلولها‪ ،‬أو تعارضه‪ ،‬وقد أثبتنا ة‬
‫المدلول لدليله إذا جاء بما يخالفه وهو باطل ‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬تحليل الربا باعتباره مصلحة اقتصادية مهمة‪ ،‬وإباحة الزنا وبيع الخمور تشجيعا‬
‫للسياحة واستقطاب األموال‪.‬‬
‫فالمصلحة إذا خالفت ما هو منصوص عليه أو مجمع عليه فهي فاسدة غير معتبرة‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن تكون المصلحة يقينية‪:‬‬
‫قطعية وجودها ال أن يظن أو يتوهم أويشك‬
‫ة‬ ‫بمعنى أن يعلم المجتهد أو الناظر في اعتبارها‬
‫وجود المصلحة المبحوثة في المسألة‪ ،‬ثم يحكم باعتبارها من خالل هذا الظن غير المعتبر‬
‫في الشرع‪.‬‬
‫أما إذا كان الظن بوجود المصلحة ظن ا راجح ا ناشئ ا عن االجتهاد فإنه ي ةنزل منزلة اليقين؛‬
‫ألن غلبة الظن معتبرة شرعا إذا عدم القطع‬
‫رابعا‪ :‬أن تكون المصلحة كلية‪.‬‬

‫‪128‬انظر المستصفى ‪ ،303/3‬شرح تنقيح الفصول ص‪ ،006‬البحر المحيط‪،35-32/6‬تقريب الوصول ص‪ ،038‬شرح‬


‫الكوكب المنير‪ ،018/0‬ضوابط المصلحة للبوطي ص‪ 334‬ومابعدها ‪..‬‬
‫‪80‬‬

‫هللا‪129‬‬ ‫بمعنى أالة تقتصر على فئة وتضر أخرى‪ ،‬وهذا الشرط ذكره الغزالي ‪-‬رحمه‬
‫تعم األمة جمعاء‪ ،‬بل المراد‬
‫ومما يجدر التنبيه له هنا أن المقصود بكلية المصلحة ليس بأن َّ‬
‫أن المصلحة المتوخاة لفئة معينة ال ينبغي أن ينظر فيها إلى قوم منهم دون اعتبار بعضهم‬
‫فالمصلحة الكلية هنا ال تنفي اعتبار المصلحة‬ ‫المصلحة‪130،‬‬ ‫ممن هم شهود على هذه‬
‫ٍ‬
‫حينئذ إلى المصلحة الجزئية في مقابل‬ ‫الجزئية؛ ولكن إذا حصل التعارض بينهما فال ينظر‬
‫الكلية‪.131‬‬
‫خامسا‪ :‬عدم تفويت المصلحة الحاصلة لمصلحة أهم منها أو مساوية لها‪.‬‬
‫قدم هو األهم‬
‫قدم‪ ،‬وال شك أن الذي ي ة‬
‫وهذا الضابط معتبر عند تعارض المصالح في أيهما ي ة‬
‫واألولى في االعتبار‪.‬‬

‫وميزان األهمية يرجع إلى ثالثة أمور؛ كما ذكرها الدكتور البوطي‪:‬‬
‫أوالا ‪:‬النظر إلى قيمتها من حيث ذاتها ودرجتها في سلم المقاصد‪ .‬فالضروريات ال تقدم عليها‬
‫الحاجيات أو التحسينيات‪ ،‬كما ال تقدم التحسينيات على الحاجيات‪ ،‬وهكذا فإن كانت‬
‫ٍ‬
‫حينئذ في ‪:‬‬ ‫المصالح في درجة األهمية في سلم المقاصد واحدة؛ ينظر‬
‫الثاني وهو من حيث مقدار شمولها‪ ،‬فالمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة فإن‬
‫كانوا في الدرجة والشمول سواء اعتبر‪:‬‬
‫ثالثا مدى التأكد من وقوع نتائجها من عدمه‪ .‬فتقدم األكيدة على الظنية كما بينا سابقا‪ 132‬اً‪.‬‬

‫معايير الترجيح بين المصالح عند التعارض‬

‫المرجع السابق ‪ ،856/3‬وانظر أيض ا ‪ :‬إرشاد الفحول ص‪ ، 801‬رفع الحرج للباحسين ص ‪.869‬‬
‫‪129‬‬

‫(‪) ) 83‬البحر المحيط ‪ .. 24 /6‬انظر ‪ :‬ضوابط المصلحة للبوطي ص ‪ ، 103‬نظرية المصلحة لحسين حامد حسان ص ‪، 090‬‬
‫‪130‬‬

‫رفع الحرج للباحسين ص ‪.860‬‬

‫انظر ‪ :‬مختصر الفوائد في أحكام المقاصد البن عبد السالم ص ‪303‬و‪308‬‬


‫‪131‬‬

‫انظر‪ :‬ضوابط المصلحة للبوطي ص‪ 833‬وما بعدها‬


‫‪132‬‬
‫‪81‬‬

‫ا ‪-‬أن المصلحة الدائمة أولى من المنقطعة‪.‬‬


‫ب ‪-‬أن المصلحة المتعدية أولى من المصلحة القاصرة‪ ،‬مثل مصلحة العلم أولى من‬
‫مصلحة العبادة‪.‬‬
‫قدم على المصلحة المحدودة‪ ،‬مثل تقديم الصدقة الجارية‬
‫ج ‪-‬أن المصلحة األطول نفعا ت ة‬
‫غيرها‪133‬‬ ‫على‬
‫يقول العز بن عبد السالم ‪-‬رحمه هللا‪» : -‬والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها َّ‬
‫عزة ال‬
‫يهتدى إليها إال من وفقه هللا تعالى‪ ،‬والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت‪،‬‬
‫بالتقريب"‪134‬‬ ‫وال يمكن ضبط المصالح والمفاسد إال‬
‫ويزيد ابن القيم ‪-‬رحمه هللا‪ -‬هذه القاعدة توضيحا بقوله‪" :‬فاألعمال إما أن تشتمل على‬
‫مصلحة خاصة أو راجحة‪ ،‬وإما أن تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة‪ ،‬وإما أن تستوي‬
‫مصلحتها ومفسدتها‪ ،‬فهذه أقسام خمسة‪ :‬منها أربعة تأتي بها الشرائع؛ فتأتي بما مصلحته‬
‫خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له‪ ،‬وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي‬
‫عنه وطلب إعدامه‪ ،‬فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة وتكميلها بحسب اإلمكان‬
‫وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب اإلمكان‪ .‬فمدار الشرائع والديانات‬
‫األربعة"‪135‬‬ ‫على هذه األقسام‬
‫وهذا التقديم والتأخير للمصالح أو المفاسد قد يختلف أحيان ا باختالف أحوال الناس والعوائد‬
‫وظروف األزمنة واألمكنة‪ ،‬ولذلك كان من األمور الدقيقة المهمة‪ ،‬والتي ينبغي فيها على‬
‫المجتهد أو الناظر أن يكون في غاية التحفظ والحذر‪.‬‬
‫يقول الشنقيطي ‪-‬رحمه هللا‪" : -‬والتحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ‬

‫انظر‪ :‬مختصر الفوائد في أحكام المقاصد البن عبد السالم ص‪303‬و‪ ،308‬قواعد األحكام ‪ 66/3‬طبعة دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪133‬‬

‫الخن‪.‬‬
‫قواعد األحكام ص‪ 03‬تحقيق ة‬
‫‪134‬‬

‫مفتاح دار السعادة ‪ 30/8‬مكتبة دمحم علي صبيح ‪.‬‬


‫‪135‬‬
‫‪82‬‬

‫غاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة‪ ،‬وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة‬
‫حال"‪136‬‬ ‫أرجح منها أو مساوية لها‪ ،‬وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني‬

‫ثالثا‪ :‬حجية المصلحة المرسة ودواعي اعتبارها‬

‫‪-1‬حجية المصلحة المرسة‪:‬‬

‫وقد استدل علماء األصول على اعتبار المصالح المرسلة مصد ار من مصادر التشريع‬
‫بعدة أدلة منها‪:‬‬

‫‪ ‬أن الصحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬جروا في اجتهادهم على رعاية المصالح وبناء‬
‫وجمع المسلمين على‬
‫جمع صحف القرآن في مصحف واحد‪ْ ،‬‬ ‫األحكام عليها‪ ،‬فمن ذلك‪ْ :‬‬
‫مصحف واحد‪ ،‬وتضمين الصةناع‪ ،‬وقتل الجماعة بالواحد‪ ،‬وتعريف اإلبل الضالة‪...‬‬

‫‪ ‬أن األخذ بالمصالح المرسلة عندما تحقق ما قصد الشرع تحقيقه من المنافع يعتبر‬
‫موافقة لمقاصد الشرع‪ ،‬في حين أن إهمالها يعتبر إهماال لمقاصده‪ ،‬وال شك في أن إهمال‬
‫مقاصد الشرع باطل‪.‬‬

‫‪ ‬إذا لم يؤخذ بالمصلحة عندما تتحقق شروط اعتبارها يقع الناس في حرج وضيق وهللا‬
‫تعالى ال يريد إحراج المسلمين وإعناتهم‪ ،137‬قال تعالى‪ :‬وما جعل عليكم في الدين من‬
‫حرج‪. 138‬‬
‫وجمهور العلماء قد اعتبروا حجية المصلحة المرسلة‪ ،‬وإن أنكرها بعضهم‪ ،‬كما هو منسوب‬
‫للشافعية والحنفية إال أن كتبهم واجتهاداتهم قائمة في كثير منها على اعتبار المصلحة‬
‫المرسلة‪.139‬‬

‫المصالح المرسلة للشنقيطي ص ‪ 83‬نقالا عن معالم أصول الفقه للجيزاني ص‪..809‬‬


‫‪136‬‬

‫ـ انظر‪ :‬محاضرات في أصول الفقه‪ ،‬ص ‪.301 – 308‬‬ ‫‪137‬‬

‫ـ سورة الحج‪ ،‬من اآلية ‪.32‬‬ ‫‪138‬‬


‫‪139‬‬
‫انظر ‪ :‬إرشاد الفحول ‪242/1‬و‪ ، 245‬الوجيز د‪ .‬زيدان ص‪ ،804‬رفع الحرج د‪ .‬الباحسين ص‪834‬‬
‫‪83‬‬

‫وفي ذلك يقول اإلمام القرافي رحمه هللا ‪ ‘‘:‬وهي عند التحقيق في جميع المذاهب ألنهم‬
‫يقومون ويقعدون بالمناسبة وال يطلبون شاهدا باالعتبار ؛ وال نعني بالمصلحة المرسلة إال‬
‫فإنها وإن لم ينص دليل خاص على اعتبارها‪ ،‬لكن االستقراء التام لنصوص الشرع‬ ‫"‪140‬‬ ‫ذلك‬
‫يدل على قيام الشريعة كلها على جلب المصالح واعتبارها‪ ،‬ودرء المفاسد وإلغائها أوتخفيفه‪.‬‬
‫ويقول اإلمام الشاطبي ـ رحمه هللا ـ‪" :‬والشريعة ما وضعت إال لتحقيق مصالح العباد في‬
‫عنهم"‪141‬‬ ‫العاجل واآلجل ودرء المفاسد‬
‫ويقول ابن القيم ـ رحمه هللا ـ ‪ " :‬الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في‬
‫‪.‬‬ ‫كلها"‪142‬‬ ‫المعاش والمعاد‪ ،‬وهي عدل كلها‪ ،‬ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة‬
‫يقول اآلمدي ‪-‬رحمه هللا‪" : -‬فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضا‬
‫فيها‪143‬‬ ‫إلى خلو الوقائع عن األحكام الشرعية لعدم وجود النص أو اإلجماع أو القياس‬
‫وبذلك تبقى الشريعة مرنة صالحة للناس ال تقف بهم وسط الطريق بل تحكم أفعالهم وترفع‬
‫الحرج عنهم وهللا ‪-‬عز وجل‪ -‬قد جعلها رحمة للعالمين‪.‬‬
‫بناء عليها‬
‫حجية المصلحة المرسلة جعل جمهور الفقهاء يستخرجوا ا‬ ‫ة‬ ‫إن اعتبار‬
‫أحكاما شرعية لكثير من المسائل التي صدرت بشأنها القوانين واألنظمة‪ ،‬كقوانين العمل‬
‫والعمال وأنظمة التجارة والصناعة والزراعة‪ ،‬وفرض عقوبات رادعة لبعض الجرائم كتعاطي‬
‫المخدرات واالتجار فيها ‪ ،‬إلى غيرها من األنظمة والقوانين واللوائح التي تنظم المجتمع ولم‬
‫يرد بشأنها نص من كتاب هللا وسنة رسوله –صلى‬

‫هللا عليه وسلم‪-.‬‬

‫‪-2‬دواعي اعتبار المصلحة‬

‫العتبار المصلحة المرسلة دواع كثيرة أهمها‪:‬‬

‫تنقيح الفصول ص‪006‬‬


‫‪140‬‬

‫‪141‬انظر ‪ :‬الموافقات ‪. 5/8‬‬


‫‪142‬إعالم الموقعين ‪. 31/1‬‬
‫اإلحكام لآلمدي ‪18/0‬‬
‫‪143‬‬
‫‪84‬‬

‫‪ ‬جلب المصالح‪ :‬وهي األمور التي يحتاج إليها المجتمع إلقامة حياة الناس على أقوم أساس‪،‬‬
‫كفرض الضرائب العادلة عند الحاجة ألجل تمويل الخدمات العامة‪ ،‬والمشروعات الهامة‪.‬‬
‫‪ ‬دفع المفاسد‪ :‬وهي األمور التي تضر بالناس أفراد وجماعات سواء كان ضر ار ماديا أو‬
‫خلقيا‪...‬‬
‫‪ ‬سد الذرائع‪ :‬أي منع الطرق التي تؤدي إلى إهمال أوامر الشريعة أو االحتيال عليها‪..‬‬
‫‪ ‬تغير الزمان‪ :‬أي اختالف أحوال الناس وأوضاع الحياة العامة عما كانت عليه‪144‬‬

‫رابعا‪ :‬أمثلة تطبقية للمصالح المرسلة‬

‫‪144‬‬
‫انظر مصطفى أحمد الزرقاء ص‪343-346 :‬‬
‫‪85‬‬

‫األصل الثالث‪ :‬عمل أهل المدينة‬

‫أوال‪ :‬مفهوم عمل أهل المدينة‬

‫اختلفت آراء العلماء في تحديد مفهوم عمل أهل المدينة وإجماع أهل المدينة واعتبرهما‬
‫إال أنه حسب تتبعي لآلراء التي سأعرض لها بعد‪ ،‬ظهر‬ ‫متقاربان‪145‬‬ ‫البعض مترادفان‪ ،‬أو‬
‫لي أن هناك فرقا بين عمل أهل المدينة وإجماع أهل المدينة‪ ،‬ذلك أن عمل أهل المدينة‬
‫يطلق ويراد به ما كان أساسه النقل أي‪ :‬مما ال مجال فيه للرأي‪ ،‬فهذا هو المراد بعمل أهل‬
‫المدينة‪ ،‬أما إجماع أهل المدينة فالمراد به ما كان أساسه الرأي واالجتهاد‪ ،‬وال يخفى ما‬
‫بينهما من الفرق‪ ،‬وهذا الذي ينبغي أن تحمل عليه آراء المنكرين على مالك في األخذ بهذا‬
‫األصل‪.146‬‬

‫إذا ثبت هذا أمكن القول بأن عمل أهل المدينة وإجماعهم بينهما تخالف إن لم أقل‬
‫تباين فاألول عمل مجمع عليه عندهم لكن مصدره النقل والثاني مجمع عليه عندهم لكن‬
‫مصدره الرأي واالجتهاد‪.‬‬

‫وخالصة القول أن عمل أهل المدينة هو الذي يعتبر أصال عند المالكية‪ ،‬أما إجماع‬
‫أهل المدينة فهو مرجح عندهم‪ ،‬واختلف في كونه أصال‪ ،‬وال يخفى أن المؤلفين غالبا يطلقون‬
‫أحدهما على اآلخر‪ .‬ودليلي على هذا أيضا كيفية استداللهم على هذا األصل وهكذا يمكن‬

‫ـ ينظر‪" :‬إيصال السالك"‪ ،‬ص‪" .09‬مقاصد الشريعة اإلسالمية ومكارمها"‪ ،‬ص ‪" .398 – 393‬اإلمام مالك‬ ‫‪145‬‬

‫بن أنس إمام دار الهجرة"‪ ،‬لعبد الغني الدقر‪ ،‬دار القلم دمشق الطبعة الثانية ‪3034‬هـ ‪3554 -‬م‪ ،‬ص‬
‫‪" .333‬خبر الواحد في التشريع اإلسالمي"‪ ،‬ص ‪ 058‬وما بعدها وغيرها هؤالء كثير‪.‬‬
‫ـ ينظر نشر البنود‪.99/8 ،‬‬ ‫‪146‬‬
‫‪86‬‬

‫تعريف عمل أهل المدينة بأنه "ما ثبت العمل به من طرف أهل المدينة مما مجاله النقل"‪،‬‬
‫وأما اجتهادهم فليس بحجة‪ ،‬ولكن يقدم على اجتهاد غيرهم ‪.147..‬عند المالكية‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ المستند الشرعي لعمل أهل المدينة‪:‬‬

‫هناك أدلة وأحاديث كثيرة استند إليها المالكية في األخذ بهذا األصل أذكر منها‪:‬‬

‫أ ـ قوله ‪" :‬المدينة كالكير تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد" والخطأ خبث‬
‫فوجب نفيه عنهم‪.148..‬‬

‫ب ـ حديث أبي هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا ‪" :‬المدينة قمة اإلسالم‪،‬‬
‫ودار اإليمان وأرض الهجرة ومبدأ الحالل والح ارم"‪.‬‬

‫ج ـ قال القاضي عياض‪ :‬روي أن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه قال على المنبر‪:‬‬
‫أحرج باهلل عز وجل على رجل روى حديثا العمل على خالفه‪.149‬‬

‫د ـ أن المدينة مهبط الوحي‪ ،‬ودار الهجرة‪ ،‬ومجمع الصحابة‪ ،‬ومحل سكنى النبي ‪،‬‬
‫فأهلها أعلم باألحكام مما سواهم‪ ،‬وهم شهداء آخر العمل من رسول هللا ‪ ‬وعرفوا ما نسخ‬
‫وما لم ينسخ‪ ،150‬وهذا أقوى حجة من سابقيه – وهللا أعلم‪ -‬ألنه استدالل يرتبط بالتشريع‬
‫واألدلة السابقة فيها عموم‪.‬‬

‫ـ انظر‪ :‬مقدمة ابن القصار‪ ،‬ص ‪ .09‬و"نفائس األصول"‪ .361/3 ،‬و"منتهى الوصول" البن الحاجب‪ ،‬ص‬ ‫‪147‬‬

‫‪ .93‬والكالم في المقام يحتاج إلى تفصيل أكثر – إن شاء هللا تعالى‪.-‬‬


‫ـ نشر البنود‪ ،99/8 ،‬والحديث أخرجه البخاري ومسلم‪ ،‬وذكر ابن عبد البر في االستذكار كتاب الجامع‪،‬‬ ‫‪148‬‬

‫باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها‪.‬‬


‫ـ المدارك للقاضي عياض‪ ،00/3 ،‬و ازرة األوقاف المغرب‪.‬‬ ‫‪149‬‬

‫ـ خبر الواحد في التشريع اإلسالمي نقال عن المستصفى‪ ،‬ص ‪ .050‬انظر‪ :‬المسائل التي بناها اإلمام مالك‬ ‫‪150‬‬

‫على العمل‪.349/3 ،‬‬


‫‪87‬‬

‫ه ـ أن خلف أهل المدينة ينقل عن سلفهم فيخرج الخبر عن حيز الظن والتخمين إلى‬
‫حيز اليقين‪ ، 151‬ولهذا اعتبر المالكية عمل أهل المدينة من قبيل المتواتر‪ ،‬بل هو أقوى‬
‫أنواعه‪.‬‬

‫‪ -2‬قول مالك لما عن بعض المصطلحات التي استعملها في الموطأ إن ذلك ليس من‬
‫باب الرأي‪.152‬‬

‫ولقد أكثر المالكية في األخذ بعمل أهل المدينة‪ ،‬وقدموه على القياس‪ ،153‬وعلى خبر‬
‫اآلحاد‪ ،‬بل على المتواتر أحيانا‪ ،‬وهذا ما جعل بعض العلماء ينكرون عليهم األخذ بعمل أهل‬
‫المدينة مع وجود نصوص كخبر الواحد‪.‬‬

‫يقول عبد الحي بن الصديق‪ " :‬إن العمل الذي تحقق فيه التواتر بسبب نقله جيال عن‬
‫جيل من زمن مالك إلى زمن النبي ‪ ‬يجب تقديمه على الحديث المتواتر أيضا‪ ..‬وعمل‬
‫المدينة المنقول جيال عن جيل إلى رسول هللا متواتر قطعا‪ ،‬والمتواتر ينسخ الحديث المتواتر‬
‫وحديث اآلحاد‪ ،‬ثم قال‪ :‬فقولهم‪ :‬إن العمل ينسخ حديث اآلحاد دون المتواتر حكم تبطله‬
‫حقيقة العمل التي عرفوه بها"‪.154‬‬

‫وخالصة القول ما قاله القرافي‪" :‬وال يوجد عالم إال وقد خالف من كتاب هللا وسنة نبيه‬
‫عليه الصالة والسالم أدلة كثيرة‪ ،‬ولكن لمعارض راجح عند مخالفتها‪ ،‬وكذلك مالك ترك هذا‬
‫الحديث – يعني حديث بيع الخيار‪ -‬لمعارض راجح عليه عنده وهو عمل أهل المدينة فليس‬
‫هذا بابا اخترعه‪ ،‬وال بدعا ابتدعه‪.155"..‬‬

‫ـ نشر البنود‪.99/8 ،‬‬ ‫‪151‬‬

‫ـ المسائل التي بناها مالك على عمل أهل المدينة‪.342 – 343/3 ،‬‬ ‫‪152‬‬

‫ـ خبر الواحد في التشريع اإلسالمي‪ ،‬ص ‪ ،949‬مع الرجوع لما سبق من تفصيل للقول في ذلك حين‬ ‫‪153‬‬

‫تعارض القياس وخبر اآلحاد‪.‬‬


‫ـ نقد المقال في مسائل من علم الحديث واألصول‪ ،‬ص ‪ ..313 – 314‬خبر الواحد‪ ،‬ص ‪.056 – 059‬‬ ‫‪154‬‬

‫ـ شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪.004 – 015‬‬ ‫‪155‬‬


‫‪88‬‬

‫األصل الرابع‪ :‬سد الذرائع‬

‫أوال‪ :‬تعريف سد الذرائع‬

‫الذرائع "حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة"‪ .156‬وتجدر إلى أنه ينبغي أن‬
‫تعرف بأنها (أي الذرائع)‪" :‬ما كانت وسيلة وطريقا إلى حكم شرعي" وذلك لتشمل جميع أنواع‬
‫الذرائع سواء كانت تفضي إلى حرام أو غيره‪ . 157‬ولذا قال القرافي‪" :‬واعلم أن الذريعة كما‬
‫يجب سدها يجب فتحها ويكره ويندب ويباح‪.158‬‬

‫ومن أمثلتها‪:‬‬

‫‪ ‬تحريم حفر اآلبار في الطرق وهذه معتبرة إجماعا‪.‬‬


‫‪ ‬منع بيوع اآلجال عند المالكية‪.‬‬
‫ين َي ْدعو َن م ْن‬ ‫َّ‬
‫‪ ‬ومن أمثلة اعتبارات المآالت والذرائع في الشرع ‪ :‬قوله تعالى ( َوال تَسُّبوا الذ َ‬
‫ع ْدوا ب َغير عْل ٍم)‪159‬‬
‫َّللاَ َ ا ْ‬ ‫دون َّ‬
‫َّللا َفَيسُّبوا َّ‬
‫األْلباب)‪160‬‬ ‫صاص َحَياةٌ َياأ ْولي‬
‫َ‬ ‫‪ ‬وقوله تعالى ( َوَلك ْم في اْلق َ‬
‫‪ ‬ومنها‪ :‬النهي عن بيع العينة ألنها ذريعة للربا‪.‬‬
‫‪ ‬وعدم هدم وبناء الكعبة على قواعد إبرهيم ألن الناس كانوا حديثي عهد بالكفر‪.‬‬
‫‪ ‬ونهيه للصحابة عن إخراج األعرابي الذي بال في المسجد لما يتريب على ذلك من ضرر‬
‫عليه وأذى في المسجد‪.‬‬
‫‪ ‬ونهيه صلى هللا عليه وسلم عن التشدد في العبادة والغلو فيها حتى ال يحدث لإلنسان ملل أو‬
‫المحظور‪161.‬‬ ‫إفراط في الغلو‬

‫ـ الموافقات‪.996/0 :‬‬ ‫‪156‬‬

‫‪157‬ـ شرح تنقيح الفصول للقرافي‪ ،‬ص ‪.005 – 002‬‬

‫‪159‬‬

‫( ‪160‬البقرة ‪335:‬‬
‫‪161 ).‬انظر ‪ :‬الفكر السامي للحجوي ‪. .826/3‬‬
‫‪89‬‬

‫‪ ‬ومنها ما هو ملغى إجماعا كزراعة العنب فإنه ال يمنع خشية الخمر‪.‬‬

‫‪ ‬كراهية مالك صيام ستة أيام من شوال بعد العيد بالرغم من أنها مندوبة حسب أدلة‬
‫السنة وذلك خوفا من أن يعدها الناس من رمضان وقد وقع‪ ،‬حكاه الشاطبي في‬
‫االعتصام‪.162‬‬

‫ثانيا‪ :‬مستندها الشرعي‬

‫باإلضافة إلى ماسبق في األمثلة‬

‫‪ ‬قوله تعالى‪ :‬وال تسبوا الذين يدعون من دون هللا فيسبوا هللا عدوا بغير علم‪.163‬‬

‫‪ ‬امتناعه ‪ ‬من قتل من ظهر عليه النفاق وقال‪" :‬أخاف أن يتحدث الناس أن دمحما‬
‫يقتل أصحابه"‪ 164‬وذلك لئال يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه‪ ،‬وهناك أدلة كثيرة يطول‬
‫ذكرها‪.165‬‬

‫‪ ‬إن األخذ بهذا األصل والتوسع فيه كما مذهب الماليكية يحقق مقصدا شرعيا مهما في‬
‫التشريع‪ ،‬وذلك اعتبا ار للغايات والمآل دون تصادم الشرع ومقاصده‪.166" .‬‬

‫قال ابن القيم الجوزية‪" :‬وباب الذرائع أحد أرباع التكليف‪ ،‬فإنه أمر ونهي‪ ،‬واألمر‬
‫نوعان‪ :‬مقصود لنفسه والثاني وسيلة إلى المقصود والنهي نوعان‪ :‬أحدهما‪ :‬ما يكون المنهي‬
‫عنه مفسدة في نفسه‪ ،‬والثاني‪ :‬ما يكون وسيلة إلى المفسدة‪ ،‬فصار سد الذرائع المفضية إلى‬
‫الحرام أحد أرباع الدين"‪ .167‬فكيف إذا زاد المالكية على ذلك القسم المختلف فيه؟‬

‫ـ نفسه‪ ،‬ص ‪.005 – 002‬‬ ‫‪162‬‬

‫ـ سورة األنعام‪ ،‬من اآلية ‪.342‬‬ ‫‪163‬‬

‫ـ انظر‪ :‬أحكام الفصول ألبي الوليد الباجي‪ 656/8 ،‬وما بعدها‪ .‬إعالم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬البن‬ ‫‪164‬‬

‫القيم الجوزية‪ 341/1 ،‬وما بعدها‪ .‬دار الحديث القاهرة ‪8448‬م‪.‬‬


‫ـ انظر‪ :‬المرجعين السابقين‪.‬‬ ‫‪165‬‬

‫ـ انظر‪ :‬شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪ .002‬إيصال المسالك‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪166‬‬

‫ـ إعالم الموقعين‪.335/1 ،‬‬ ‫‪167‬‬


‫‪90‬‬

‫يقول اإلمام الشاطبي ‪-‬رحمه هللا‪ -‬عن المجتهد ‪" :‬ال يحكم على فعل من األفعال الصادرة‬
‫من المكلفين باإلقدام أو اإلحجام إال بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل‪ ،‬فقد يكون‬
‫مشروعا لمصلحة فيه تستجاب‪ ،‬أو لمفسدة تدرأ‪ ،‬ولكن له مآل على خالف ما قصد فيه…‬
‫فيكون هذا مانعا من إطالق القول بالمشروعية … وهو مجال للمجتهد صعب المورد إال أنه‬
‫الغب ٍ‬
‫الشرع"‪168‬‬
‫جار على مقاصد‬ ‫عذب المذاق محمود ة‬
‫إن قاعدة النظر في المآالت قاعدة معتبرة شرعا كما بينا ذلك يقول اإلمام الشاطبي ‪-‬رحمه‬
‫"‪169‬‬ ‫هللا‪" : -‬النظر في مآالت األفعال معتبر مقصود شرعا كانت األفعال موافقة أو مخالفة‬
‫واعتبار المآالت في النظر واالجتهاد أمر مهم للمجتهد يجعل نظره ممتدا إلى ما يؤول إليه‬
‫حكمه أو ما يتوقع أن يحدث من المكلف أو ما ينتج عنه في المستقبل ليراعي ذلك كله في‬
‫اجتهاده‪170‬‬

‫فإننا نجد كثي ار من دول العالم الغربي ومنذ زمن بعيد قد اهتمت بذلك األمر اهتمام ا بالغ ا‬
‫جعل من دولة السويد أن تضع حقيبة و ازرية في حكومتها لالهتمام بالمستقبل منذ عام‬
‫المستقبل‪171‬‬ ‫‪1794‬م ‪ ،‬وفي الواليات المتحدة األمريكية أكثر من ستمائة مؤسسة لدراسة‬
‫إلى غيرها من مؤسسات االستشراف الكثيرة في الغرب والشرق األسيوي في حين يفتقد عالمنا‬
‫العربي واإلسالمي إلى مثلها وهو يحمل الكثير من الهموم والمشكالت المتجذرة التي تستلزم‬
‫حلوالا بعيدة وعالجات طويلة األمد‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬أنواع الذرائع‬

‫لإلمام ابن القيم تقسيم لطيف في أنواع الذرائع ما يسد منها وما يفتح يقول فيه ‪-‬رحمه‬
‫هللا‪ » : -‬والذرائع تنقسم إلى أربعة أقسام‪:‬‬

‫انظر‪ :‬الموافقات ‪324/9‬و‪323‬‬


‫‪168‬‬

‫الموافقات ‪.333/9‬‬
‫‪169‬‬

‫انظر ‪ :‬الموافقات ‪333/9‬و‪ ، 811‬األشباه والنظائرللسيوطي ص‪ ، 189-188‬نظرية المصلحة في الفه اإلسالمي د‪ .‬حسين حامد‬
‫‪170‬‬
‫)‬
‫حسان ص‪.355-351‬‬

‫انظر ‪ :‬مدخل إلى التنمية المتكاملة د‪ .‬عبد الكريم بكار ص ‪.399‬‬


‫‪171‬‬
‫‪91‬‬

‫ٍ‬
‫مفض إلى مفسدة السكر ‪،‬‬ ‫‪ -1‬أن تكون وسيلة موضوعة لإلفضاء إلى المفسدة‪ ،‬كشرب الخمر‬
‫ٍ‬
‫مفض إلى اختالط المياه وفساد الفراش‪ ،‬وهذا النوع جاءت الشريعة بمنعه‪.‬‬ ‫والزنا‬
‫‪ -2‬أن تكون وسيلة موضوعة للمباح قصد بها التوسل إلى المفسدة ‪ ،‬كعقد النكاح بقصد التحليل‬
‫أو عقد البيع بقصد الربا‪ ،‬وهذا ممنوع‪.‬‬
‫‪ -4‬أن تكون وسيلة موضوعة للمباح ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة لكنها مفضية إليها غالب ا‬
‫‪ ،‬ومفسدتها أرجح من مصلحتها ‪ ،‬مثل الصالة في أوقات النهي ‪ ،‬وسب آلهة المشركين ‪،‬‬
‫وتزيين المتوفى عنها زوجها في زمن العدة‪ .‬وهذا ممنوع‪.‬‬
‫‪ -3‬أن تكون وسيلة موضوعة للمباح وقد تفضي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها‪،‬‬
‫كالنظر إلى المخطوبة أو المشهود عليها‪ ،‬والصالة ذات األسباب في أوقات النهي ‪ ،‬وكلمة‬
‫‪172.‬‬ ‫الحق عند سلطان جائر ‪ ،‬وهذا مشروع في الجملة‬

‫إعالم الموقعين ‪ 345/1‬بتصرف ‪.‬‬


‫‪172‬‬
‫‪92‬‬

‫األصل الخامس‪ :‬العرف‬

‫من األصول التي أخذ بها علماء األصول العرف‪ ،‬فما هو العرف؟ وماذا عن حجيته‬
‫وشروط هذ الحجية؟‬

‫أوال‪ :‬تعريف العرف ومستنده الشرعي‬

‫قال ابن فارس‪ :‬في مادة عرف "العين والراء والفاء صحيحان‪ ،‬يدل أحدهما على تتابع‬
‫الشيء متصال بعضه ببعض‪ ،‬واآلخر يدل على السكون والطمأنينة"‪.173‬‬

‫وقال في العادة‪" :‬والعادة الدربة والتمادي في الشيء حتى يصير سجية‪ ،‬ويقال‬
‫للمواظب على الشيء‪ :‬المعاود‪.174"...‬‬

‫المستحسن‪175..‬‬ ‫والعرف الشيء المعروف المألوف‬

‫ـ أما في االصطالح فقد عرفوه بتعاريف كثيرة منها‪" :‬ما استقر في النفوس من جهة‬
‫العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول"‪.176‬‬

‫أما العادة فعرفها األصوليين بأنها‪" :‬األمر المتكرر من غير عالقة عقلية "‪. 177‬ـ‬
‫ويالحظ أن الفرق بين العادة والعرف من خالل التعريفين هو العالقة العقلية وعدمها كما أنه‬
‫يمكن القول أن هناك فرقا بين العادة والعرف من حيث المفهوم وإن كان عند جمهور‬
‫األصوليين ما صدقهما واحد‪.‬‬

‫وإلى هذا ذهب معظم المالكية قال ابن عاصم‪:‬‬

‫ـ معجم المقياس في اللغة ألبي الحس ين أحمد بن فارس‪ ،‬تحقيق شهاب الدين أبو عمر‪ ،‬دار الفكر ‪3039‬هـ ‪3550 -‬م‪ ،‬ص‬
‫‪173‬‬

‫‪.395‬‬
‫ـ معجم المقاييس في اللغة البن فارس‪ ،‬ص ‪.333‬‬
‫‪174‬‬

‫‪175‬‬

‫ـ لسان العرب البن منظور‪ ،‬دار صادر بيروت ‪3122‬هـ ‪3562 -‬م‪ .816/5 ،‬مقاصد الشريعة اإلسالمية ومكارمها‪ ،‬ص ‪.399‬‬
‫‪176‬‬

‫ـ إرشاد الساري للقسطالني‪ ،‬دار صادر بدون تاريخ‪.59/0 ،‬‬


‫‪177‬‬
‫‪93‬‬

‫ومثلـه العـادة دون بـأس‪178‬‬ ‫والعرف يعرف ما بين الناس‬

‫ثانيا‪ :‬أنواع العرف (انظر المحاضرة المقدمة بالمدرج)‬

‫ثالثا‪ :‬حجية العرف‬

‫من المعلوم أن األصول كلها لها مستند شرعي وقد دأب بعض األصولين على‬
‫االستدالل لمشروعية العرف‪ ،‬بقوله تعالى‪ :‬خذ العفو وامر بالعرف‪.179‬‬

‫وقوله صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ما رآه المسلمون حسنا فهو عند هللا حسن وما رأوه سيئا‬
‫فهو عند هللا سيء"‪.180‬‬

‫وكاد المفسرون أن يجمعوا على عدم صحة االستدالل بهذه اآلية‪ ،‬والحديث المتقدم فيه‬
‫نظر من حيث صحته وداللته أيضا‪.181‬‬

‫لذا يمكن االستدالل بآيات كثيرة راعى فيها القرآن العرف منها قوله تعالى‪ :‬وعلى‬
‫المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‪ ،182‬فاآلية أرجعت اإلنفاق والكسوة إلى المعتاد في‬
‫أمر الناس من حيث التقدير‪ ،‬وغيرها من اآليات كثيرة‪.183‬‬

‫ومن السنة ما ثبت أنه ‪ ‬نهى عن بيع ما ليس عند اإلنسان فقال‪" :‬يا حكيم بن حزام‬
‫ال تبع ما ليس عندك" وعندما قدم المدينة وجدهم يتعاملون بالسلف (السلم) وهو نوع من بيع‬
‫ما ليس عند اإلنسان فأقرهم بعد أن نظمه لهم مراعيا في ذلك عرف العرب‪.184‬‬

‫ـ مرتقي الوصول بشرح نيل السول لمحمد بن يحيى الوالتي‪ ،‬دون ذكر للطبعة‪ ،‬ص ‪.352‬‬
‫‪178‬‬

‫ـ سورة األعراف‪ ،‬اآلية ‪.355‬‬


‫‪179‬‬

‫ـ مسند اإلمام أحمد‪.135/3 ،‬‬


‫‪180‬‬

‫ـ انظر العرف والعمل في المذهب المالكي‪ ،‬منشورات اللجنة المشتركة لنشر إحياء التراث اإلسالمي المغرب واإلمارات بتاريخ‬
‫‪181‬‬

‫‪ 3520 – 3040‬مطبعة فضالة‪ ،‬ص‪.63 :‬‬


‫ـ سورة الحج‪ ،‬اآلية ‪.03‬‬
‫‪182‬‬

‫ـ انظر العرف والعمل عند االستدالل للعرف‪ ،‬ص ‪ 91‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪183‬‬

‫ـ العرف والعمل‪ ،‬ص ‪.63‬‬


‫‪184‬‬
‫‪94‬‬

‫وهذا أخذ بالعرف ابتداء واعتبا ار وليس انتهاء فبعد إق ارره ‪ ‬لهم صار مصدره السنة‪،‬‬
‫وقد أخذ بالعرف الصحابة والتابعون واألئمة في تشريع ألحكام‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬أهمية العرف وسلطانه‬

‫للعرف حاكمية قديمة بين البشر فهو يعتبر بمنزلة القانون بالنسبة لتاريخ البشرية‪ ،‬لكن‬
‫بما أن هذا العرف قد يكون حسنا وقد يكون قبيحا فقد جاءت الشرائع لتقر الحسن وتنهى عن‬
‫القبيح‪.‬‬

‫والعرف والعادات إلى اليوم تعد في نظر الحقوقيين مصد ار من أهم المصادر للقوانين‬
‫الوضعية حيث استمدت من العرف الكثير من القواعد والقوانين‪185.‬‬

‫والشريعة اإلسالمية جاءت فأقرت الكثير من التصرفات والحقوق المتعارف عليها‪،‬‬


‫وهذبت بعضها أما بشكل فوري أو تدريجي‪ ،‬ونهت ومنعت أعرافا أخرى تتنافى مع كرامة‬
‫اإلنسان وحقوقه‪ ،‬فأتت بأحكام جديدة تسوعب التصرفات وااللتزامات وتراعي الحقوق‬
‫والمصالح‪186‬‬

‫وللعرف سلطان خاص في الفقه اإلسالمي حيث يتم اعتياره في الكثير من األحكام "وقد‬
‫أقام الفقهاء كبير وزن للعرف في ثبوت الحقوق وانتفائها بين الناس في نواحي شتى من‬
‫المعامالت وضوروب التصرفات‪ ،‬واعتبروا العرف والعادة أصال هاما ومصد ار عظيما واسعا‬
‫تثبت األحكام الحقوقية بين الناس على مقتضاه في كل ماال يصادم نصا تشريعيا خاصا‬
‫يمنعه‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫انظر مصطفى أحمد الزرقاء ص‪ 318:‬ومابعدها‬
‫‪186‬‬
‫بالمرجع السابق ص‪ 311:‬بتصرف كبير‬
‫‪95‬‬

‫فالعرف في نظرهم دليل شرعي كاف في ثبوت األحكام اإللزامية وااللتزامات التفصيلية‬
‫بين الناس حيثما ال دليل سواه‪ ،‬بل إنه يترك به القياس إذا عارضه‪ ،‬ألن القياس المخالف‬
‫في نتيجته للعرف يؤدي إلى حرج"‪ 187‬فالعرف معتبر ما لم يخلف نصا تشريعيا آم ار‬

‫خامسا‪ :‬شروط العرف‬

‫العتبار العرف واألخذ به شروط أهمها‪:‬‬

‫‪-1‬أن يكون العرف مطردا‪ :‬أي مستم ار ومستق ار‬

‫‪-2‬أن ال يخالف العرف نصا شرعيا‬

‫‪-4‬أن ال يصادم العرف مقصدا شرعيا‬

‫‪-3‬أن ال يناقض العرف مبدأ الوفاء بالشرط يقول العز بن عبد السالم‪ ":‬كل ماثبت‬
‫بالعرف إذا صرح المتعاقدان بخالفه بما يوافق مقصود العقد ويمكن الوفاء به صح"‪188‬‬

‫‪-2‬أن يكون العرف موجودا وقت حدوث التصرف المراد تحكيمه فيه‪189‬‬

‫سادسا‪ :‬من تطبيقات العرف‪.‬‬

‫حكى القرافي "أن العرف ليس من خواص المذهب المالكي"‪ ،190‬إال أن هذا ال يمنع‬
‫من القول بأن المالكية أكثروا من استعمال هذا األصل وتوسعوا فيه حتى خصصوا به القرآن‬
‫ورجحوا به‪ ..‬إلى غير ذلك مما يلي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ تخصيص القرآن بالعرف‪ :‬وفي هذا يقول القرافي‪" :‬وعندنا العوائد مخصصة‬
‫للعموم"‪.191‬‬

‫‪187‬‬
‫المرجع السابق ص‪309-300 :‬‬
‫‪188‬‬
‫انظر انظر‪:‬األحكام للعز بن عبد السالم‪-332/8‬‬
‫‪189‬‬
‫انظر تنقيح الفصول ص‪ 50:‬وانظر مبادء الوصول إلى علم األصول الدتورين عبد الحميد العلمي ووإدريس الزعري ص‪-383:‬‬
‫‪388‬‬
‫ـ تنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪.002‬‬
‫‪190‬‬
‫‪96‬‬

‫‪ 2‬ـ اعتباره من المرجحات قال األغاللي في منظومته‪:‬‬

‫ـوى ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــائر المرجحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات أقـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوى‪192‬‬


‫ورجحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوا ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالعرف وه ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو أق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ مـ ـ‬
‫‪ 4‬ـ اعتبار عرف المتكلم في األحكام‪ ،‬قال القرافي‪" :‬القاعدة‪ :‬أن من له عرف وعادة في‬
‫لفظ إنما يحمل لفظه على عرفه"‪.193‬‬

‫‪ 3‬ـ استحبوا في القاضي أن يكون عارفا بأحوال البلد وأحوال المتقاضين وعاداتهم‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ اشتراط المالكية في القاضي أن يالحظ العرف الجاري بين الناس‪ ،‬قال الزقاق في‬
‫الميته‪:‬‬

‫وك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن ذا ت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأن عارف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا بعوائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوأـدحـ ـ ـ ـ ــدث قضـ ـ ـ ـ ــاء للفجـ ـ ـ ـ ــور كمـ ـ ـ ـ ــا جـ ـ ـ ـ ــال‪194‬‬
‫‪ 6‬ـ نبهوا على أن األحكام تدور مع العوائد وجودا وعدما‪ ،‬قال األغاللي‪:‬‬

‫ـدورعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه وجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــودا وعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدما دور البـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدور‬


‫وكـ ـ ـ ـ ــل مـ ـ ـ ـ ــا يبنـ ـ ـ ـ ــى علـ ـ ـ ـ ــى العـ ـ ـ ـ ــرف يـ ـ ـ ـ ـ م‬
‫ـددت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــين الحك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه إذا بـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدت‪195‬‬
‫فم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـا اقتضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــته عـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادة تجـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ تع‬
‫وهكذا توسع المالكية في األخذ بهذا األصل فحققوا بذلك مقاصد كبيرة‪" :‬بل غالوا حتى‬
‫قالوا إن قطع العوائد المباحة قد يوقع في المحرمات"‪ ،196‬وال أراها مغاالة‪ ،‬ألن العرف الذي‬
‫ال يخالف الشرع ال مغاالة فيه‪.‬‬

‫ـ شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪.833‬‬


‫‪191‬‬

‫ـ نقال عن العرف والعمل‪ ،‬ص ‪.20‬‬


‫‪192‬‬

‫ـ شرح التنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪.833‬‬


‫‪193‬‬

‫ـ المجموع الكبير للمتون فيما يذكر من الفنون‪ ،‬مطبعة دار الفكر بدون تاريخ‪ ،‬ص ‪.332‬‬
‫‪194‬‬

‫ـ نقال عن صاحب العرف والعمل‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪195‬‬

‫ـ المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪196‬‬
‫‪97‬‬

‫األصل الرابع‪ :‬االستصحاب‬

‫أوال‪ :‬تعريف االستصحاب‬

‫االستصحاب في اللغة مأخوذ من طلب دوام المصاحبة ‪ ..‬وفي االصطالح قال‬


‫القرافي‪" :‬ومعناه أن اعتقاد – أي ظن‪ -‬كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن‬
‫ثبوته في الحال أو االستقبال‪ . 197‬نفيا أو إثباتا‪ ،‬وجميع المذاهب تأخذ به إجماال‪ ،‬وإن‬
‫اختلفوا في تقييده ودرجة األخذ به‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬حجية االستصحاب‬

‫ويستند اآلخذون به إلى عدة أدلة منها‪:‬‬

‫‪ ‬قوله ‪ " :‬إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم ال؟ فال‬
‫يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"‪.198‬‬

‫قال القرطبي‪" :‬القول باالستصحاب‪ ،‬الزم لكل أحد ألنه أصل تبني عليه النبوة والشريعة‬
‫فإن لم نقل باستمرار حال تلك األدلة لم يحل العلم بشيء من تلك األدلة "فاستمرار حال‬
‫األدلة التي بينت الشريعة والنبوة استصحابه ال يقبل االختالف فيه‪ . 199"...‬وقد تولى‬
‫الباجي إقامة األدلة على األخذ به وأطال في ذلك‪.200‬‬

‫ثالثا‪ :‬أقسام االستصحاب‬

‫االستصحاب أقسام وهي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ استصحاب البراءة األصلية‪ :‬وذلك كادعاء الدين على شخص‪ ،‬وكالقول بعدم‬
‫وجوب الوتر عند المالكية‪ ،‬ألن األصل براءة الذمة فمن ادعى وجوبه فعليه اإلثبات‪.‬‬

‫ـ شرح تنقيح الفصول‪ ،‬ص ‪.003‬‬


‫‪197‬‬

‫ـ أخرجه ابن خزيمة في صحيح‪ ،‬كتاب الوضوء‪.‬‬


‫‪198‬‬

‫ـ مقاصد الشريعة ومكارمها‪ ،‬ص ‪.318‬‬


‫‪199‬‬

‫ـ إحكام الفصول‪ 344/8 ،‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪200‬‬
‫‪98‬‬

‫‪ 2‬ـ استصحاب النص حتى يرد التغيير‪ :‬وذلك كاستصحاب النص حتى يرد النسخ‪،‬‬
‫واستصحاب العموم إلى أن يرد المخصص والمطلق إلى أن يرد ما يقيده‪...‬‬

‫‪ 4‬ـ استصحاب حال اإلجماع في محل الخالف‪ :‬ومثاله‪ :‬إذا تيمم شخص لفقدان الماء‬
‫ودخل الصالة وظهر الماء فصالته صحيحة إجماعا‪ ،‬ولكن إذا رأى الماء وهو يصلي؛ فهل‬
‫تكون صالته صحيحة بناء على صحتها لو لم ير الماء؟‪ ..‬واألصل هو االستصحاب فنقول‬
‫لتغير صفة اإلجماع في‬
‫باستصحاب اإلجماع في صحة صالته‪ ،‬أم نقول ببطالن صالته ة‬
‫ذلك قوالن للفقهاء‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ استصحاب الحال في الماضي‪ :‬وهو ما يسمى عند المالكية باالستصحاب‬


‫المقلوب‪ ،‬وهو ثبوت أمر في الزمن السابق بناء على ثبوته في الزمن الحاضر حتى يثبت‬
‫خالفه‪ ،‬كالزوج يكون غائبا عن زوجته دون أن يترك لها نفقة ثم يقدم فتطلب منه ما أنفقته‬
‫أثناء غيبته‪ ،‬فيدعي أنه أثناء غيبته كان معسرا‪ ،‬وتدعي هي العكس‪ ،‬فينظر إلى حال قدومه‬
‫فإن كان موس ار حكم باستصحاب يسره في زمن الغيبة وحكم عليه بما أنفقته أثناء غيبته‪ ،‬وإن‬
‫كان معس ار حال قدومه حكم باستصحاب إعساره في أثناء غيبته‪.201‬‬

‫وتستثني المذاهب السنية استصحاب الحكم التي ثبت بالعقل إذا ورد الشرع‬
‫بخالفه‪.202‬‬

‫ـ مقاصد الشريعة ومكارمها‪ ،‬بتصرف ‪ ،‬ص ‪.310‬‬


‫‪201‬‬

‫ـ انظر محاضرات في أصول الفقه‪،‬مرجع‪ ،‬ص ‪.390:‬‬


‫‪202‬‬

You might also like