Professional Documents
Culture Documents
إهداء
بلوغ الحقيقة أُهدي هذا...
ِ لِمن َرفض الزيف وآمن بقدرته على
***
-1إن كان الخوف يرغم اإلنسان على الصمت والخضوع ،فإن الحب يحمله
على الثورة والتمرد.
خي َّم وقار الموت على القرية؛ عندما بلغها نبأ موت الحكيم المعزول ،فتجمع
سكانها في الساحة الكبرى ينتظرون وصول جثمانه برفقة رهطٍ من الشباب
هرعوا إلى أعلى الجبل بعد أن جاءهم أحد الرعاة بخبر موته ،وكيف وجده
ا
منزًل في عزلته ،وبينما هم يفترش الصخر على باب المغارة التي اتخذها
منتظرون بعضهم ينشج بصمت والبعض اآلخر تملؤه الغبطة ،ولم يحملهم
5
عمر غبرا إفك األسياد
على الركون تحت شمس الصيف الحارقة سوى تل ُّه ِف ِهم لرؤية العدالة اإللهية
مستظًل بنافورة المياه المستديرة التي ا وقد تحققت ،جلس "جورج" الجزار
تتوسط الساحة مولياا وجهه إلى دُكانه ،يحملق بالدماء المتقاطرة من جسد
جاهزا لوليمة الدفن ،و"جورج" هذا رج ٌل هزيل ا عجل قطع رأسه ليكون ٍ
الجسد ،تساقط شعره الذي كان أحمر اللون مثل جميع أبناء الجبل ولم يبق
سوى بضع شعرات تُغطي جلد رأسه ،سمع شاباا يتوسط أربعة آخرين يقول
قتيًل،ضاح اكا :إن الحكيم تلقَّى طعنةا بقلبه من قِبل أحد اللصوص أودت به ا
على العموم هذه الميتة تبقى أقل من الجزاء الذي يستحقه ،وهبّ آخر يقول:
عجوزا أمردَ احدودب ظهرهً :ل ،بلغني أن ذئباا نهش رقبته بعد عراك ا وكان
وأضاف آخر :لماذا يأتون به إلى القرية؟ فليدفنوه في َ بينهما، دار طويل
المغارة أو يتركوه للطير يأكل لحمه ،رج ٌل مثله ًل ينبغي أن تُقام له مراسم
دفن؛ وًل أن يمس جسده مدافن الحكماء ،إن في ذلك تكري اما له ،وصاح
بعض الجمع مؤيدين له :نعم يجب أًل يدفن ،ولم يكد يُكمل قوله حتى صدح
ت كهزيم الرعد :أًل تكفوا عن ذاك ا
قليًل ...أًل تكتفوا من قائًل بصو ٍالجزار ا
الكًلم ،أليس للصمت إليكم سبي ٌل يا معشر البشر!!؟ ول ْم يَكد يُنهي كًلمه
عصافير
ٍ حتى ران صمتٌ على الساحة ،فًل يكاد يسمع بها سوى زقزقة
بمحاذاة البركة ترتشف من مياهها ،وحفيف أوراق شجرة الصفصاف
بجانبها ،وسكن الجميع يحملقون به وقد فقد أعصابه وبينما هو يصرخ
ويزب د نادى أحدهم :ها قد وصلوا ،انظروا أعلى الطريق ،إنهم فرسان القرية
برفقة "يعقوب" واآلخرون أتوا بالحكيم المعزول.
كانت هالةٌ يرتعش القلب لها تحيط بالشبان السائرين ،وبمقدمتهم "يعقوب"
رر من جديلة شعره األحمر على وجنتيه ،و"يعقوب" هذا شاب يتطاير ما ُح َ
فطن ،حسن الوجه بل شديد الجمال يطغى احمرار شعره على بياض وجه
صباح صيفي ،وكونه أحد العاملين عند ٍ فيجعله كورد ٍة حمراء بللها الندى في
الحكيم األكبر "أوندال" كحارس ليلي لحقله ،أرسله الحكيم األكبر ليتبين أمر
موت الحكيم المعزول واإلتيان به إلى القرية ،حط الجمع رحاله في منتصفِ
السا َحة ،وحاول الفرسان إبعاد الناس الذين تزاحموا لرؤية الحكيم ال ُمسجى
بمقبض
ِ فوق لوح خشبي ،ونجحوا بتهذيبهم بعد أن نال أحد الحضور ضربة
السيف على مؤخرة رأسه جعلته يتكور على نفسه من شدة األلم ،ولم يمض
الكثير من الوقت حتى وصل الحكيم األكبر برفقة أعيان القرية والحكماء
السبعة ،وهو رج ٌل طويل القامة أملس الوجه ينسد ُل شعره األحمر على
كتفيه ويتناثر القليل من النمش حول أنفه ،يرتدي ثوباا أسود ينسد ُل حتى
طرزَ عليها أسماء الحكماء من قدميه ويلتف منه حول رقبته قطعة قماش ُ
6
عمر غبرا إفك األسياد
قبله ،وإذ إنه لباس القادة الحكماء الذين توالوا على تسيير أمور قُرى الجبل
والبت في شؤونها ،فإن للثوب وحده قوة تأثير على أبناءِ القرية.
خ
ضرب بعصاه على األرض وهو يمشي ليقف فوق رأس الميت؛ فصا َ
الجميع بأسماعهم وطغى الهدوء على الحدث ،وقال بصوت جهور يزخرفه
قليًل :أيا سكان قريتي الطيبين ،أيا أيها الجمع الكريم! إن هذا اإلنسان اللين ا
ال ُمسجى أمامكم قد انتهت مهمته في هذه الحياة ورحل منها دون عودة ،فًل
خيره يُرجى وًل شره يُخشى ،وقد بلغني أن بعضكم اعترض على دفنه في
مدافن الحكماء وله ُكل الحق في أن يعترض على ذلك وهو عين الصواب،
أهًل بأن يُرمى في أعلى الجبل لتأك َل منه إذ إن ما ارتكبه من خطايا يجعله ا
أناس ما أوفينا علماءنا حق قدرهم!...؟
ٌ الطير ،لكن أتقبلون أن يقال إننا
ا
إن هذا الرجل أنقذ بعلمه أروا احا ،وحفظ بدينه بيوتا ،ونال بذلك مجداا
وسطوة ا فيما مضى ،سعى لإلتيان بفرسان القرية وحفظ األمن بهم حتى
أصبح الرجل منكم ينام وباب بيته مفتو احا فًل يخشى على ماله وروحه شيئاا.
بذل جهده في طلب العلم والحكمة منذ طفولته وشاخ على ذلك ،فنال العلوم
فتور أو ملل ،ولكن زلت قدمه وشاء الرب أن أكون شاهداا وبذلها لغيره دون ٍ
على خ طيئته قبل أن يخفيها ،فعزلناه من المجلس الموقر بما كسبت يمينه،
وأخذتنا به الرأفة والرحمة فأَمرنا بأن ينفى بعيداا عنا ،ومن منا حصينٌ من
الخطيئة!...؟ من نفسه تحصين ويملك الزلة،
أخذ الحكيم شهيقاا واستأنف قوله وهو ينفث زفيره :هذه الحياة قد تنال بها
ُرفعةا حتى تظن أن ًل علو ألحد عليك بعدها ،فتمسي وأنت مع السافلين ،أيها
القوم دعونا نوقره ونتجاوز عن خطيئته وللمرة األخيرة ،جزا اء لما قدمه من
إحسان لهذه القرية الغالية علينا جميعاا في أيامه الغابرة،
أدخلوه إلى المعبد لنقم بمراسم الدفن.
انصاع الجمع لما قيل ورضخ له ،وعلى الفور هم الشبان بنقل الجثمان إلى
المعبد الذي يتصدر ساحة القرية ،وتزاحم الرجال والنسوة بالسير خلف
ِدم الدهر ،نُقشتأعيان القرية وحكمائها حتى دخلوا المعبد ،وهو معبد ٌ قديم ق َ
على جدرانه ألسنة اللهب ،ووضعت الشمعدانات الذهبية على جانبي البهو
الواسع ،وأوقِدت نار المشاعل فأينما وليت وجهك ترى به ألسنة النار
صا ووعا اء مِ ن العاج ال ُمذهب ،فقص من شعره تسعى ،أخذ الحكيم األكبر مق ا
خصلة وتابع مروره بالحكماء السبعة الذين اتخذ ك ٌل منهم المقص وشارك
بخصل ٍة من شعره ووضعها في الصولجان ،وقام "يعقوب" بتحسين هيئة
تنهش
ُ الجثة التي وضعت في صندوق الدفن ونظرات الحسد من طلبة المعبد
7
عمر غبرا إفك األسياد
لحمه للحظوةِ التي نالها عند َ كبير الحكماء ،دنا الحكيم من الجثة ورا َح
خصل الشعر المشتعلة ،فاقترب "يعقوب" منه ِ يباركها بالدخان ال ُمنبعث من
وقد شحب وجهه وقال بصوت حذر :سيدي أترى ما أرى؟ ها هنا أثر يدين
ق وجهه !،قُتل أجزم بذلك ،لم يمت ميتةا تنقضان على رقبتهْ ،
واز ِرقَا ِ
طبيعية ،سمع بعض الحكماء ما قيل فأخذوا ينظرون لبعضهم البعض وقد
اعترتهم الدهشة ،أما الجمع فقد كان بعيد اا لدرجة أنهم لم يسمعوا ما تفوه به
"يعقوب" ،عض الكاهن على شفته وعقد حاجبيه وهو يُحسن من ثوب
الميت سريعاا ،وخًلل دقائق تمتم اآليات التي اعتاد قولها في مثل هذه
المراسم وطلب من اآللهة أن تدفئه بنارها وتبعده عن جحيمها ،وتفرق
الجمع بعد أن تم الدفن مطمئنين بأن لديهم قصة يستأنسون بها في ليلتهم هذه.
غربت الشمس ،وانطلقت نسمات الليل الباردة تجول في القرية وبهذه األثناء
فرس أبيض ،يعدو باتجاه المنزل الذي يتوسطه، ٌ شق حق َل الحكيم "أوندال"
وبينما الفرس أطلق أرجله لبلوغ المنزل البعيد ،واجتياز الحقل الكبير،
سارع "يعقوب" ًلعتراضه إذ كان قريباا من منتصف الطريق يت َفقد الحقل
شد لجا ُم الفرس من قِبل فارسه وترنحت عنه وبيده فانوس ينير به طريقهُ ،
فتاة ٌ كشفت عن وجهها عندما رأت "يعقوب" ينتصف الطريق ،وبادرته
لم يخفي الظًلم نور بالقول وهي تهم لعناقه عناق المفارق بعد عودتهَ :
وجهك يا "يعقوب"!!
َظر مجيئك.
قال "يعقوب" وهو يشد على يديها :كنت أنت ُ
-ها قد أتيت ...لَكني وصلت متأخرة ،أين ذَلك القذر ...أهو في الداخِ ل؟
-أتقصدين الحكيم؟
-وهل ت َحيد القذارة عن أصحابها؟ بلى أقصد ُ الحكيم ،لقد بلغني برسالته أن
والدي قد توفي وأن مراسم الدفن تمت على الفور ،ألم يستطع أن ينتظر
قدومي؟! لقد آثر والدي العزلة بسبب الترهات التي لُفقت له وحرمنا من
صحبته في الدنيا أنا وأمي بسبب ذاك القذر ،وماتت أمي كمداا وحزنا على ُ
ما حل بنا ،وها هو ذلك الغبي األحمق يكرر حماقته مرة ا أخرى ،ويدفنه قبل
رؤيتي إياه.
طردت وأمها من القرية كانت "أراس" اًلبنة الوحيدة للحكيم المعزول ،وقد ُ
بعد قرار عزل أبيها ونفيه وعائلته خارج القرية ،فصحبتها أمها للعيش في
قرية أخرى؛ بعد أن رفض أبوها أن ينضما إليه في الكهف ،وهي فتاة في
فارس وصًلبة ُمقاتل ولين فتاة بالسابعة ٍ العشرين من عمرها لها هيئةُ
ورقة زهرة ،ضمت شعرها األحمر بجديلة تصل ألسفل وجمال ظبي ٍ ِ
كفرس جميل عنيد ًل يقوى أحد على أن يُمسك لجامه. ٍ ظهرها فبدت
8
عمر غبرا إفك األسياد
ا
قائًل :سينت َقم َمسحت دمعة انهمرت من عينها عندما قاطعها "يعقوب"
ت أيضاا ثقي بأن اإلله لن ينسى أباك ولن الرب لهً ،ل أشك بذلك أبداا ،وأن ِ
غفر ل ْ
ِمن أذاه. يَ َ
سب له.
َ ُ ن مما أبي ُبرأ ي أن قبل األمر يمضي لن -
-دعكِ من هذا اآلن وهدئي من نَفسك ،لن تنالي شيئاا من لقاء الحكيمُ ،خذي
برأيي وعودي أدراجك الليلة.
قال "يعقوب" ُمحدثاا نفسه عندما جلست "أراس" على قارعة الطريق،
مريحةا رأسها على ركبتيها ،مخفيةا بذلك وجهها محاولةا أن تُداري صوت
ظ ٍلم هذانشيجها :ماذا لو أخبرتها أنه قُتل ولم يَ ُمت بأجله ،أتراها تُجن!؟ أي ُ
الذي أحاط بها ،وأي عناءٍ ترفض حمله الجبال ،قد حط رحاله على منكبيها؟
يَفنى المحبوب وًل يفنى حبه في صدر ال ُمحِ ب ،كَيف إذاا إن كان المحبوب أباا
ورفيقا!!
همس يقول :إن كان لقياكِ للحكيم َ دنا منها حتى إذا ًلمست يده رأسها
ت بعد أن أُبلغه سيجلب لنَفسك السكون؛ هَلمي نلقاه سوياا ،ستدخلين أن ِ
بقدومك ،لم أره اليوم من بعد مراسم الدفن أبد اا ولم يُفارق المنزل على غير
المنزل أبداا.
ِ عادته ،إًل أنني رأيت قائِد الحرس قد أتاه ولم ألحظ خروجه من
واصًل السير باتجاه المنزل وكًلهما ممسكٌ بلجام الفرس الذي كان بينهما،
ولم يتفوه أي منهما ببنت شَفة ،إًل عندما رأيا رجلين خرجا من المنزل وبدآ
يمشيان الهوينة ُك ٌل على فرسه.
قالت "أراس" :ها قد خَرج قائدُ الحرس.
نَظر "يعقوب" وقد ضاقت جفناه وتوسعت حدقتاه وهو يقول :إنهما
الحكيمان الطيب إبراهيم وأظن أن اآلخر هو صادق ،نعم إنه الحكيم صادق،
لم ألحظ قدومهما!
-أوه مساء الخير "يعقوب" من الجيد أنني رأيتك هنا يا بُني ،هكذا قال
الطيب إبراهيم وهو ر ُجل بدين ومعتدل الطول ،رأسه المستدير خًل من
الشعر لكنه لم يخلو من الحكمة والدهاء أيضاا إن لَزم األمر ،وصادق الذي
كان برفقت ٍه هو شبيهه بالشكل والدهاء إًل أن صادق كان فظ الطباع على
العكس تما اما من نظيره.
أمر أنجزه لك ،لكن قبل ذلك أظن أنه يجب ٌ لك هل -ليلة سعيدة يا سيدي،
أن تعرفا السيدة التي في حضرتكم هي "أراس" ابنة الحكيم.
نظر كًلهما إلى بعضهما وقد زاد القلق الذي كان بادياا في وجهيهما لحظة
الوصول.
9
عمر غبرا إفك األسياد
10
عمر غبرا إفك األسياد
سنتحدث في كل شيءٍ ًلحقاا ،وأنت يا "أراس" اذهبي معه اآلن ،واحذرا أن
يراكما أحد سوياا ،ائويا إلى كهف أبيك اآلن وابتعدا عن العيون،
أطلقت "أراس" العنان لفرسها وخًلل لحظات اختفيا من الطريق ،ولم يبقَ
من أثرهما سوى القليل من الغبار الذي أخلفه الفرس من خلفه.
والذي جرى قبل اعتراض الحكيمين لـ"أراس" و"يعقوب" هو أن كبير
الحكماء "أوندال" ما بر َح حجرته ُمذ عاد من مراسم الدفن ،إًل أنه كان بين
ا
طوًل فترةٍ وأخرى يقوم من على ُكرسيه الذي ترأس الطاولة ويقطع الحجرة
وعرضا ،شارد اللب مشتت الفكر ،ومضت سويعات قليلة وهو على حالته
طلب رئيس الحرس ،وما إن وصل رئيس الحرس هذه قبل أن يُرسل في َ
"سفيان" وقد رافقته خادمة الحكيم إلى غرفة اًلستقبال الذي استقر بها
ونادرا ما كان يُجري اجتماعاته بها ،إذ إنه كان يقضي ُجل وقته في ا الحكيم،
مبنى الحكماء أو في المعبد ،وكًلهما متجاوران ًل يجد المتنقل بينهما أي
عناء بتنقله هذا ،وهي غرفة طويلة بعض الشيء ،يغطي حائطها األيسر
مئات الكتب والمخطوطات التي ًل تعادل عُشر الكتب الموجودة في مبنى
الحكماء ،أما الطرف األيمن فقد كان من نصيبه أن تعلق عليه األيقونات،
وتوسط الغرفة طاولة مستطيلة في منتصفها شمعدان صغير تتراقص نيرانه
أحياناا وتنطفئ في أخرى.
أشار الحكيم بيده فانصرفت الخادمة بهدوء ،ثم قال وهو ممسك بتًلبيب
طوًل وضخامةا ،ال ُحب وحده القادر على أن يَفضح ا "سفيان" الذي يفوقه
ُ ا
أمرنا ،تراجع "سفيان" خطوة للخلف وهو يحك أنفه المعقوف قليًل ثم ن َطقَ
سائًل :ماذا تعني يا سيدي؟ا
-أعني "يعقوب" األبله ،أصغِ إلي جيد اا يا أسدي ،قد رأى "يعقوب" أثار
القتل على الحكيم ،وقد حذرته من أن يثرثر فيما رأى ،لكن ًلً ،ل أظن أنه
طويًل ،وقد بلغني منه في إحدى المرات أنه و"أراس" ا سيظ ُل وفياا للصمت
ابنة الحكيم يُحب ُكل منهما اآلخر ،حتى وإن كانا لم يعترفا لبعضيهما بشكل
صريح وواضح إًل أن هناك حباا دفيناا في صدريهما ،وما توقفت الرسائل
بينهما مذ خرجت من القرية ،وقد كانت طفلةا صغيرة صديقة ا له تلهو معه
في هذا الحقل عندما كان ُمل اكا ألبيها.
-يكفي أن نرى بعينيه الخوف حتى ت َطمئن نفسك ،وقبضتي ستتكفل لك
بذلك.
-إن كان الخوف يرغم اإلنسان على الصمت والخضوع ،فإن الحب يحمله
على الثورة والتمرد ،دعك من التهديد وأن ِه أمره الليلة قبل بلوغ الفجر.
11
عمر غبرا إفك األسياد
-قتيل يتبعه آخر !! ...دعنا من هذا يا سيدي و ُكن مطمئناا ،لقد انتهينا من
الحكيم عارف وطلبته جميعا ،ودُفن كبير الحكماء المعزول ،هُم الخطر
وحدهم ،وها قد رحلوا.
-قُلت لك ًل ،لن أغامر في شرف العائلة من أجل أبله يعمل لدي ويقتات
من فتات مائدتي ،لن يبقى بعد فنائه شيء يُعيد لنا شبح الماضي وذكراه ،دنا
"أوندال" من "سفيان" ،وأخذ يبين له ما حاكه في رأسه بغية التخلص من
"يعقوب" ،وبعد دقائق قليلة قُضيت باألخذ والرد بين الحكيم ورئيس الحرس
طرق الباب ودخلت عليهما الخادمة ،قال "أوندال" بِضجر :ماذا هناك؟ ُ
-الحكيمان صادق والطيب إبراهيم يستأذنا بالدخول عليك يا سيدي.
-أي طائر ُ
ش ٍئم رماهما علينا الليلة ،أدخليهما لنرى ما األمر.
بادر صادق بالقول بعد أن ألقى التحية ورفيقه على الحكيم ورئيس الحرس
واتخذا مكاناا على الطاولة التي ترأسها الحكيم "أوندال" :قد تع َجب يا سيدي
يكثر به
ُ وتركنا للمعبد ومبنى الحكماء في هذا الوقت الذي من قدومنا إليك ْ
رواد المبنى القادمون من قُرى الجبل بغية تقديم النذور ،وبذل العطايا
لآللهة ،لما في هذه األيام من أهمي ٍة لدى الناس فإنه موسم الحصاد ،ومن
صلَ َح حصاده!...
خيرا و َ
أرضى اآللهة نال ا
ولَكن قد ت َها َمس الحكماء فيما بينهم ،وتساقط صالح األفكار وطالحها على
رؤوسهم ،ودخل الهلع أفئدة َ بعضهم ،وحطت الحيرة على عقولهم ،فأخذت
بيد الطيب إبراهيم وأتينا إليك كي نسألك؛ فتبين لنا ُمب َه َم األمر ،وتوضح لنا
خَفي العمل ،فهل الحكيم المعزول مات مقتوًل...؟ أمعَنَ "أوندال" النظر في
عيني صادق اللتين تحملقان به بو ٍد وسكون وسأله بهدوء :من قال لك ذلك؟
أثار بنفوسنا
أثر على رقبة الحكيم؛ َ -لم يحدثني بذاكَ أحد إًل أن ما رأينا من ٍ
سمع بعض الحكماء ومنهم الطيب إبراهيم حارس الحقل الشكوك وقد َ
"يعقوب" وهو يحدثك باألمر! ورأى كيف أنك لم تكترث له بل عجلتَ في
ب من الميت أحد ،أوليس هذا ما رأيته أيها الطيب؟ قتر َ
الدفن ،وتحاشيت أن يَ ِ
هز الطيبُ برأسه واضعاا كلتا يديه على كرشه الصغير ،ومولياا بعينيه
أقحم نفسه في الحوار القائم وتصن َع اًلنفعال َ صوب رئيس الحرس الذي َ
عمل كهذا يا سيدي،ٍ والغَضب وهو يصيح كالديك الغاضب :من يجرؤ على
إن ُكنت ت َعرف من الجاني ف َدلني عليه؛ آتيك به ونَقتص منه ونعلق جسده
على شجرة الصفصاف في منتصف الساحة ،حتى يكون عبرة ا لمن تسول له
نفسه التعدي على الغير أو المساس بالقانون ،وإن كنت تجه ُل الفاعل دَع
األمر لي ،فإني أستطيع أن أجد المجرم حتى وإن ًلذ بجحر ضب،
ضرب الطاولة بيده ثم تابع :هي الشعوب إن جئتها باللين تمادت وعثرت،
12
عمر غبرا إفك األسياد
وخرج منها ما يُفسد شأنها ويَخِ ل بنظامها ،وإن ًلحقتها كما يًلحق الحداد
استقام أمرها.
َ قطعة الحديد فوق سنديانه
هز "أوندال" برأسه ُمتعباا وكأنه خرج من عراكٍ طويل مع أفكاره ثُم أردف
يقول :قد وصلني في األسابيع المنصرمة رسالةا من حكماء الجبل الشرقي
يستغيثون بها ،ويطلبون العون على وباءٍ أصابهم ،وهو وباء جديد من
ا
نحوًل نوعه ،لم نألفه أو يصلنا عنه خبر من ُكتب األولين ،يزداد المصاب به
ويرفض جسده دخول الطعام إليه ،ومن عًلماته األولى أن يفقد المصاب
لونه الطبيعي ويخلفه ُزرقةا في الوجه وشحوباا في الجسد واحمرار بعض
صليت بسيخ من نار ،وقد حدثتُك بذلك أنت أيها الطيب أعضائه كأنها ُ
إبراهيم كي تبحث في األمر!!...
-صحيح أنك أعلمتني باألمر ،لكن ما عًلقة الوباء فيما نتحدث به من أمر
الحكيم المعزول؟
جلًل أخشى أنه أخذ شهيقا كناجٍ من ُ
ظلمة الماء ثُم تابع :أيها اإلخوة إن حدثاا ا
سيحل علينا ،وإن لم نُوله وافر اًلهتمام ونبذل في سبيله كثير الجهد والعمل،
تبادر إلى خَلدي لحظة رؤيتي للحكيم َ ستفنى القرية وما حولها ،إذ إن أو َل ما
قتل قد َوقعت ،لَكن اآللهة أرشدتني إلى أنه مات بالوباء الذي هو أن جريمة ٍ
توا ،لذلِكَ أيها األخوة سارعوا بالعمل ،علنا نجد له دوا اء يقينا
قد تحدثنا عنه ا
شره ،فما موت الحكيم في عزلته إًل إشارة ا من الرب على أن الوباء قد
تخوم القرية.
َ َوصل
جزع الحكيم صادق مما سمع وشحب وجهه ،ونطق وشفتاه تعتليهما الرجفة:
أحقاا ما تقول؟
قائًل :يجب أن يسعى جميع الحكماء في هذا المرض وأردف الطيب إبراهيم ا
العضال إن صح ما تقول ،حتى الطلبة يجب أن يشاركونا العمل ،عدا عن
ذلك ينبغي أن نحذر عامة الناس من مخالطة الذي يشكون بمرضه ،وإن أي
شخص يلحظون به ما يثير الريبة يؤتى به إلى مبنى الحكماء للحجر عليه
وعزله عن الناس كي نحد من انتشاره.
قاطعهما الحكيم األكبر ُملو احا بيده رافضاا ما قيل ،وعلى ثغره ابتسامة
أمرا صائباا بهذا الوقت، المنتصرً :لً ...ل أظن أن إخبار الناس سيكون ا
علم
سرا فيما بيننا اآلن ،على أًل يخرج من بين الحكماء ،فلو َ دعوا األمر ا
الناس به لعمت الفوضى بينهم ،وأكلوا بعضهم بعضاا ،ولذلك ت َعمدت أًل
يرى جسد الحكيم أحد ،وكتمت خبره حتى أتحقق من صحة ما رأته عيني،
قتيًل وًل يص ُح ما نتحدث به عن ذلك وكم أتمنى أن يكون الحكيم قد مات ا
13
عمر غبرا إفك األسياد
الوباء ،حتى إنني قد أرسلتُ الحكيم عارف منذ أيام إلى الجبل الشرقي؛
ليكون عوناا لحكمائه وأمرته بأن يكتُم األمر عنكم.
استمر النقاش بينهم لبعض الوقت ،إلى أن أذن "أوندال" للحكيمين
بالمغادرة ،بينما بقي "سفيان" في مجلسه ،وقد أشار الحكيم في ختام المجلس
أن لديه بعض المشكًلت الواجب حلها مع رئيس الحرس ،وبعد أن فارق
الحكيمان المنزل وركب ك ٌل منهما على فرسه ،فتح الطيب إبراهيم ورقة
صغيرة كانت قد وضعتها الخادمة بيده عندما غادر حجرة المجلس ،وقد
كَتبت تلك الجاسوسة التي تعمل لصالحه أن رئيس الحرس سوف يقتل
بنوم هادئ.
"يعقوب" قبل فجر الغد ،كي ينعَم الحكيم ٍ
-2عليكَ أن ت َقتفي أثر العدالة ،فإن بدأت باقتفاء أثرها لن تضيع أبد اا.
باب الكهف ،وقد راعهما نور ينبثق من داخله ،فأخذا يدنوان بَلغا الصاحبان َ
منه بحذر ،حتى بان لهما رجل أعياه التعب وانتصر عليه النعاس ،فراح
نائ اما وعلى صدره بعض األوراق يعانقها بكلتا يديه ،والنار بجانبه أخذت
ضغت ما في مصرانها من حطب ،اتخذا مجلساا أمام النار، تخبو بعدما َم َ
ت هذا الرجل؟وهمس "يعقوب" وهو يتنفس الصعداء ،هل عرف ِ
أجابت وعيناها تحملقان بالنائم ال ُمتعب :بلى عرفته ،أتذكر بعض ما جمعني
به في طفولتي ،وأيضا كنت قد التقيت به في بعض زياراتي لوالدي هنا،
قال "يعقوب" وهو يضع بعض الخشب فوق النار الهادئةً :ل أفهم ما الذي
جاء به إلى هنا؟
مسح النائم وجهه بكفه وعدل من وضعيته ثم أردف :رائحة الصديق يا
ا
...أهًل بك يا "أراس". عزيزي
هز برأسه ُمحيياا الفتاة أمامه ،وتابع بعد تنهيدة طويلة :ريح الصديق يا
"يعقوب" ،ريح الصديق بعد موته تبقى ُمًلحقة لنا وتجبرنا على اتباعها،
وما إن نتبعها حتى تتًلشى وتحل مكانها ذكريات جمعتنا به ،فتنفطر القلوب
من وقع األلم وت َضيق الصدور على فيض الشوق بأعماقها ،وما إن يهدأ
قليًل وينساب العقل مع الحياة راجيا السلوى؛ حتى تعود تلك الريح الفكر ا
لتداعب آًلمنا ،آ ٍه ما أكبر جرحنا يا ابنتي ،فليغفر الرب له.
قالت "أراس" ولم تستطع أن تمسك دمعها :أتيتَ متبعاا رائحة صديقك إذن!
الحقيقة أنني قد أرسلتُ ولدي أثناء الدفن؛ ليرى ما لدى الحكيم من ممتلكات
في الكهف ويأتيني بها ،وعندما تفقدت األشياء التي عاد بها تذكرت أنني في
إحدى المرات التي زرته بها دخلتُ عليه الكهف ُملقيا التحية ،وكان جالسا
14
عمر غبرا إفك األسياد
هنا في مكاني هذا ،وأمامه جذع شجرة عليه أوراق ومحبرة ،وبعد أن
َجلستُ بجواره وقلبي يرتعد كفتاة في حضرة معشوقها ،والحقيقة أنني على
قدر حبي لمجالسته ومحادثته كان قدر خشيتي من الحديث أمامه والنظر في
لم! لكن هذا الذي ُكنت أشعر به ،إن اإلنسان حين ي ُحب عينيهً ،ل أدري َ
يجعل على نفسه سُلطاناا يخشاه ،يُعذبه تارة ا وأخرى يُنعمه ،دون أن يدري
المحبوب بذلك ،المهم يا عزيزتي بعد أن َجلستُ بجواره وتحدثنا ا
قليًل سألته
عما في الورق ،فقال وهو يهذب لحيته البيضاء بيده :إنها الحقيقة يا
"جورج"!
بكًلم ًل أدرك معناه،
ٍ لم أفهم ما يعنيه للوهلة األولى ،ولطالما كان يتفوه
شعورا يَصعب وصفه.ا ولكنها كانت حروفاا تُخلف لدي
اقترب "يعقوب" من النار ،وكذلك فعلت "أراس" ُمشكلين بأجسادهم دائرةا
صد تمنع دفئ النار من التسلل دون أن يمر بهم ويًلمس أطرفهم ،تابع
ت مألها الشك والتحدي :سألته "جورج" وهو ينظر إلى "يعقوب" نظرا ٍ
على عجل حقيقة ماذا؟ فأجاب وما زالت كلماته في أذنَي إلى اليوم :إن
الحقيقة تُذكر اإلنسان بخطيئته ،وهي كالرجل الضعيف المحطم تتجنب
ى قد يُصيبها ولو بنظرة من عين أحدهم ،لذلك تراها تختبئ الظهور خشية أذ ا
إلى أن يشتد جذعها ويرمم ُحطامها ،فًل تسألني عنها شيئاا ودعها ترمم
حطامها وتُخيط جراحها ،فعلمتُ حينها أنه يقصد الحقيقة التي تبرئه مما
حيك له ،وتجنبت الحديث عن قصته القديمة مراعاة ا لطلبه عندما عزل ،بأن
ًل يحدثه أحد عن مجريات ما حدث.
فَقلتُ له :يا سيدي مر زمن ونحنُ ننتظر أن تأخذ العدالة مجراها ،تلك
العدالة التي نبأتنا بها ،وقد أفلت سنوات وشهور وأيام ولم نلحظ من العدالة
أثرا.
ا
-عندما يحين الوقت عليكَ أنت أن ت َقتفي أثر العدالة ،فإن بدأت باقتفاء
أثرها لن تضيع أبداا.
وكان ذلك آخر الحديث بيننا ،وقد علمت أن حقيقة ما حدث تختبئ بتلك
األوراق ،ودائ اما ما ُكنت أفكر بها ،وأن على عاتقي مسؤولية إيجادها ،وإذ
طلبت من ولدي أن يأتيني بممتلكات الحكيم قبل أن يسبقني إليها أحد ،كانت
األوراق هي المبتغى ،فَتفقدت ممتلكاته على عجل ،ولم أجد ضالتي؛ ف َهممتُ
ُمسرعاا أُنقب عنها ،إلى أن وجدتها بعد أن فقدت أمل العثور عليها ،تحت
تلك الصخرة ،وأشار بيده إلى صخرة في عُمق المغارة ،وقد حوت على
مذكرات له شَرعت بقراءتها ،لَكن النعاس طاغيةٌ ُمستبد ،أتاني ولم أستطع
رفض حضوره.
15
عمر غبرا إفك األسياد
سمعت ،ولو كان الحزن هو منبت سرورها ،ومدت يدها سُرت "أراس" بما َ
لتأخذ بناصية الورق الذي تكدس فوق بعضة وأخذ أرقا اما بشكل متسلسل
وهي تقول :دعني أرى.
أمسك "جورج" بيدها بحنو وهمس لها :سنقرأها سويا دعيها اآلن وأخبريني
لم أتيتما ا
ليًل إلى هنا؟ بأمركماَ !...
قَص "يعقوب" ما حصل لهما إلى "جورج" ،الذي بدوره تحولت مشاعر
ق على ذلك الشاب ال ُمطارد ،فَهاج وماج كالبحر الشك لديه إلى عطفٍ وإشفا ٍ
في حضرة العاصفة ،وأخذ يروح ويغدو في طول المغارة وعرضها وهو
ت ًل تُفهم ،ومضت دقائق والصمت يمأل المغارة إًل من تمتمة يتمتم بكلما ٍ
"جورج" وتفرقع الخشب المنحرق ،إلى أن قطع الصمت وقال :إذاا
"أوندال" هو من قت َ َل الحكيم المعزول ،ولوًل ذلك لما ت َخفى على حقيقة
أمر بقتل "يعقوب".موته ،ولما َ
ً -ل يحتاج األمر إلى الكثير من التفكير ،هكذا قالت "أراس" وصمتت
ب ما قي َل عن سبب عزله، ل ُهنيهة ثم تابعت ،منذ أن عُز َل والدي وكذَ َ
فصدقناه نحن أحبته وبقينا بجانبه ،مع أنه رفض أن يوجه اًلتهام ألحد ،أو
أن يظهر حقيقة األمر ،والحقد يملؤني اتجاه من تولى بعده ،حتى إنه حقدٌ
يمتد ليشمل جميع أفراد القرية الذين صدقوا ما قيل" ،أوندال" من غيره!؟
دبر وفعل ،وهو من قت َل واحتمى ...احتمى بحرس القرية وقربهم هو من َ
ق له أخذه منه عنوةا ،حتى ترى حراس القرية منه ،فما من أحد يطالبُ بح ٍ
هبوا إلسكاته وإيداعه السجن.
وحش ًل ٌ -هي السلطة يا ابنتي ،تُثير الوحش الكامن بالنفس وتوقظه،
يُغلب؛ طالما أن له في الديار أعواناا يرونه مًلكاا أنزلته اآللهة ،حكّ
قائًل :صباح الغد تذهبين إلى"جورج" رأسه وقد عاد لمكان جلوسه ثم تابع ا
الحكيم وتلتقين به دون أن يشعر أنك التقيت بأحد من أهل القرية فتزورين
الحكماء... مدفن
خطرا عليها ،ولن يحيد ذكاء الحكيم عن ا قاطعه "يعقوب" :سيكون ذلك
الحقيقة ،فهو يعلم أن صلتي بها وطيدة راسخة.
-لَكن عدم ظهورها واختفاءك سيجعله يعلم أن حرباا عليه ستبدأ ،وبذلِكَ
سيدفع جميع من ينصاعون ألمره للبحث عنك ،كما أنه لن يضر بها في
وضح النهار وعلى مرأى من الناس.
ي
-وما أدراك أًل يُرسل لها أحد اا يُخفيها عن األعين؛ إلى أن يعثر عل ّ
ليضمن بذلك عدم لقائي بها؟
16
عمر غبرا إفك األسياد
صمت الجميع لدقائق ونظرات األسى تتناقل بين "يعقوب" و"أراس" إلى
أن قال "جورج" :اتخذوا مكاناا آخر لًلختفاء عن األعين ريثما نعلم إلى ما
سيؤول األمر ،في أعلى الجبل مغارة ا يختبئ بابها خلف أغصان األشجار،
أخبرني عنها أبوك ذات يوم ونحن نتسلق الجبل ،فسألته عن سبب عدم
مكوثه بها واختياره هذا الكهف ،فكان رده( :إن اإلنسان بطبيعته ًل يطيق
بمكان تأبى الشمس دخوله ،وًل يدفعه إلى ذلك سوى ُمستبد ظالم) ٍ المكوث
وأنتما اآلن قد حل بكما الظلم وغاب عنكما نور الحقيقة ،فًل بأس إن
قليًل ،وإنها لفرصةٌ مواتية لتقرئي بها المذكرات علَّ احتميتما في الظًلم ا
وثأر أبيكِ ،أما أنا سأوافيكما بأخبار
َ الخًلص يكون بها ،خًلص "يعقوب"
القرية وأتصيد لكما أخبار كبير الحكماء وأعوانه ،قاطعه "يعقوب" :وتحدث
إلى الطيب إبراهيم وصادق ،ستجد عندهما ما يفيد ،وًل تأمن لغيرهما من
مستنكرا :وهل يعلم الطيب إبراهيم عن ا الجزار حاجبيه وقال
ُ الحكماء ،عقد
مكان تواجدكما اآلن؟
-نعم يعلم ،فقد أشار إلينا الحكيم صادق أن نأتي إلى هنا ...وكان الطيب
إبراهيم بجانبه آنذاك.
يبحث عن اليتامى في القُرى
ُ -يُروى في القري ِة أنه نال لقب الطيب ألنه كان
محصورا ليتامى
ا فيجزل لهم العطاء ،وبعض الناس يقولون إن عطاءه كان
األب فقط؛ فيتقرب بذلك من األرامل الحسناوات ،ويمسك يده عمن فقدت
جمالها ،الوقح الخسيس يتخذ ُ من حاجة األطفال وجوعهم وسيلة ا لكسر
عنفوان أمهاتهم ،وكذلك شأنه في حقله يُقاسم العامًلت به أرباحه لتحقيق
ي ب ُكما أًل تثقان بذاك الوغد ،فإن صح ما يتناقله األهالي غاياته الدنيئة ،فحر ٌ
عنه في القرية فإن نهايةا وخيمة ستًلقيه.
أضاف "يعقوب" :ولكنها تبقى أقاويل ،ولم نر شيئاا مما تقوله أنت.
-يبدو أنه َكبَ َح جماح شهوته إًل فيما يناله بعيد اا عن األعين ،ومن يدري!...؟
عقليكما ،وفي الصباح اخلدا إلى النوم هنا فقد نال التعب من جسديكما و َ
تصعدان إلى المغارة التي تحدثنا عنها ،لن تضيعا ستجدانها في أعلى
الطريق ،وقبل قمة الجبل بقليل هناك خمسة أشجار تنحني ك ُل واحدة على
األخرى وخلف أغصانها الدانية ستجدان مطلبكما ،أما اآلن فإني أستودعكما
اآللهة.
ا
قالت "أراس" وهي تنهض من مجلسها :انتظر قليًل ،سآخذ بعض األشياء
بقيت على فرسي ،ولتأخذه أنت معك ،كي ًل يلفت نظر المارة ،ولن نستطيع
أن ندخله المغارة ونبقيه برفقتنا.
17
عمر غبرا إفك األسياد
ً -ل تخشي المارة ،فصعود الجبل شاق ومتعب ،وقًلئل هم من يمرون
بطريقه ،على أي حال سيكون من األفضل أن أصطحبه معي.
غادر "جورج" المكان ،وافترشَت "أراس" و"يعقوب" األرض ،والنار
بينهما تتراقص ًلنضمام قصائص خشب جديدة إلى حفلتها ...وبعد فترة
طويلة من سكون المكان وضجة العقول قال "يعقوب" ضاح اكا :سبق
رجًل يمنحك الحياة ،وأنت اليوم سبباا يُقربني من ا وتمنيت أن أكون
الموت!!...
ضحكت "أراس" ثم سألته وعيناها نحو السقف تنظران :وهل تخشى
الموت؟
-يخشى الموت من كان له أناس يُ َح ِبذُ رفقتهم ،فكلما زاد مقدار تعلق المرء
بأشياء في دنياه؛ زاد بذلك مقدار خشيته من الموت ،أما الذين ًل تتعلق
قلوبهم بشيءٍ من الدنيا ،والذين لم يبق لهم في الحياة أمر يقاتلون من أجله
ق أو فكرة ،نراهم يقبلون على الموت دون خشي ٍة أو هلع. ولو بمقدار عش ٍ
-وهل لك من تخشى الموت ألجله؟
-ربما أنتِ.
إن ُكنت أنا فقط ،فًل خشيةا عليك وًل قلق.
ضج صدر "يعقوب" بالضحك لتلكَ الكلمات الواثقة التي ألقتها "أراس"،
وراح القلق واألرق اللذان غلفا عقله وعيناه ،ولم تمض دقائق حتى وافاه
نوم عميق ولو أنهما يعلمان ما يُحاك لهما النوم وكذلك "أراس" غطت في ٍ
سبيًل ،وًل عرفت الطمأنينة إلىا في هذه األثناء؛ لما وجد النوم إلى عينيهما
نفر منمدخًل ،ففي تلك األثناء عاد َ رئيس الحرس "سفيان" برفقة ٍ ا قلبيهما
جنوده إلى منزل كبير الحكماء "أوندال" ووجهه يُنذر بكارث ٍة حصلت ،كان
الشطر األول من الليل قد انقضى وعم السكون في األرجاء وراحت
الخفافيش تجول الحقول مؤنسةا بصوتها الساهرين أولئك الذين وجدوا في
ظًلم الليل حجابا للحب وما تفيض به نفوسهم من العشق ،وميقظة الجزع
والفزع في أفئدة َمن وجدوه ستارة لما ت َطفح به نفوسهم مِ ن رديء العمل،
قَرع الباب على عجل واستمر بفعله هذا لعدة دقائق دون أن يجيبه أحد ،وإذ
ت يأتيه من طريق الحقل خلفه :على ِرسلك أيها الطارق...على ِرسلك! بصو ٍ
استدار فرأى الحكيم "أوندال" يعدو باتجاهه إلى أن تعداه باتجاه باب المنزل
وقال وهو يلتقط أنفاسهْ :ال َحق بي ودع حراسك يراقبون الحقل.
ُ
أومأ "سفيان" برأسه للحكيم ،وأشار لجنوده أن نفذوا ما سمعتم ثم لحق بسيده
نحو الحجرة ،مرت عليه بضع دقائق وهو ينظر إلى سيده وقد وقف بجوار
الجدار وولَّى وجهه إلى الحائط؛ بعد أن أشعل سرا اجا عُلق عليه وشمعاا على
18
عمر غبرا إفك األسياد
الطاولة ،وقال بعد صمت :سيدي إنني خرجت من عندك الليلة وذهبت إلى
خلو الطرقات مما تبقى من أعين الساهرين ،وبعد مقر الحرس كي أنتظِ ر ّ
ذلك استبدلت ثياب الحرس بأخرى كي أتجنب أن أُعرف لو أن عيناا يقظة
لمحتني ،وكان برفقتي أحد الحرس وهو من أقرب الرجال لي وأشدهم بأساا
صا ،وأتينا سوياا إلى الحقل لننهي األمر كما شئت أنت وخططت، وإخًل ا
ث طويل...وبَعد بح ٍ
ث طويل لم تعثُر على قاطعه "أوندال" وهو يلتفت إليه :وبعد بح ٍ
"يعقوب"!...
-لم أترك مكاناا إًل وبحثت بهِ ،جلت الحقل كله حتى التراب كدت أن أقلبه
أثرا له ،وخلعت باب حجرته في أول الحقل فلم أجده، رأساا على عقب ألجد ا
نفرا من الجنود وعندما
ا ليحضر رجلي وأرسلت فخرجت لساحة القرية
وصل لي برفقتهم أمرتهم ليتبينوا أثره في القرية وما وجدوا أكثر مما وجد
الباحث عن إبرة في ك َْوم ِة قش.
قال "أوندال" وقد ه ّم للجلوس وأشار لـ"سفيان" ليجلس أيضا :أما أنا فقد
تفسيرا لما سمع بينما تابع "أوندال"
ا وجدت أثره ،هز "سفيان" رأسه يريد
كًلمه :خَرجت خلفكم وقد انقضى الوقت الذي اتفقنا عليه لتنفيذ األمر ،شي ٌء
ما دفعني للخروج ورؤية الحقل وقد خًل من "يعقوب" ،ذلك الخوف الذي
أخلفه بصدري حارس الحقل ،فوصلت حجرته ورأيت بابها مفتو احا على
مصراعيه وقد خلت من ساكنها فعلمت حينها أن األمر قد تم ،وعُدت
أدراجي ماشياا في الحقل ُمطرقاا رأسي أرضاا والشكُ ما زال يجول في
صدري ،وأثناء ذلك لمحت على األرض هذا الكيس ،وأخرج من تحت
ردائه كيساا ذهبي اللون بحجم الكف ،فشدني لونه في ذاك الظًلم وبدى وقد
سقط من أحدهم ،فدنوت وانتشلته من موضع سقوطه ،وبعد أن فككت الوثاق
ختم
الذي عليه وجدت أن به خِ ت اما وأنت تعلم أن ما من أح ٍد يُسمح له بامتًلك ٍ
كهذا إًل الحكماء والبعض من العائًلت الرفيعة في قرانا وهم قًلئل؛ دققت
به النظر مستعينا بضوء القمر والذي بدوره كشف لي أنه ملكٌ للحكيم
المعزول فلبثت هناك أفكر لدقائق حتى سمعت صهيل خيول قادمة ،فتداريت
عن الطريق وتجنبت أن أُرى قبل أن أعرف من اآلتي ،فرأيتك برفقة الجنود
وعندها تأكدت من الظنون والمخاوف التي كانت تجول برأسي ،ضم يده
وضرب الطاولة برفق وحسرة ،كات اما غضبه ثُم أردف يقول :كان يجب أن
أنتهي من أمره قبل أن أرسل في طلب "أراس".
19
عمر غبرا إفك األسياد
-أتقصد أنهما التقيا سوياا ورحًل معاا ...ومما تخاف الفتاة حتى ترحل !...لو
أنها على دراية باألمر لجاءت إليك وحدثتك فيما علمت.
-وهنا بيت القصيد ...قد أتت الفتاة حقلي ووصلت باب منزلي وما من
تفسير آخر لوجود ختم أبيها وعائلتها في الحقل؛ إًل أنها قد مرت منه هذه
الليلة ،فلماذا رحلت قبل أن تراني؟ فإن كان "يعقوب" قد أفضى إليها بما
رأى من أثار القتل على جسد أبيها فيجب أن تحدثني في األمر وتتبين حقيقة
تكتُّمي عليه ،أما وقد اختفيا سويا فهذا يعني أن هناك ا
أمرا يحيكانه معاا ،وأنا
األحمق قد أثبت صحة مقتل الحكيم عندما هددت "يعقوب" كي أضمن
صمته.
-ليتك أخبرته أن تلك األثار التي شاهدها كانت بسبب الوباء الذي تفشى
بالجبل الشرقي لكنا قد انتهينا من أمره كما فعلت مع الحكماء ،وأرى أنك
بهذه الحيلة جعلتنا في منأى عن الشكوك في اختفاء الحكيم عارف وطلبته.
-لم يسعفني عقلي بذاك المخرج إًل عندما واجهني الحكماء بما يعرفون ،أما
بعد الدفن فقد كان الخوف مستحوذا على عقلي وقلبي ولم أستطع التفكير ،لم
بث الخوف في صدره وسيلة للنجاةً ،ل تحاسبني اآلن وأنصت أجد سوى ّ ِ
ليستقصي لنا إن
َ "أراس " تسكنها التي القرية إلى جنودك أحد إلي! سترسل
عادت إلى بيتها أم ًل؛ وإن عادت دعه يتأكد إن كان "يعقوب" برفقتها...
وحت اما سيجدهما هناك سوي اا.
-سأذهب أنا ،وإن كان "يعقوب" هناك سأنهي أمره بنفسي ،وهي فرصة ٌ لنا
أن نتخلص منه بعيد اا عن القرية.
ي أيها األبله ...لن نستفيد شيئاا
ّلوح الحكيم بيده وهو يقول بضجر :أنصت إل ّ
من قتل "يعقوب" إن كان قد أفضى بما رأى وبما قلت إلى "أراس" فإن
هدفنا األهم هو الفتاة اآلن ،وًل أظن أن الفتاة ستكون لقمةا هينة فإن لها
أعوانا ومحبين في القرية هنا وفي قرى الجبل أجمع ،يقدسونها كما يقدسون
أباها ،أرسل أحد جنودك الذين يعرفون "يعقوب" كي يتأكد لنا من تواجدهما
أوًل ،ويُراسلك بأخبارهما وما ينجزان ،وليبقى في مقر الحرس الخاص معاا ا
بتلك القرية.
مأل كأساا من النبيذ لنفسه وآخر لـ"سفيان" وحمل كأسه ثُم وقف أمام أحد
األيقونات يتأمل ما فيها ويحدث نفسه بصمت :ماذا لو كان أبوها قد أخبرها
بشيءٍ من أمري لكانت قد اعتزلته ولم تجلب لنفسها الشقاء في إقناع الناس
بمقتل أبيها؛ فًل أظنها سوفِ وضعتُ ضمنَ دائرةِ الشكِ به ،أما اآلن وقد ِ
يمر دونَ أن تثأر لمقتله ،وما كان يعلمه أبوها كفي ٌل بأن يجعل األمر ُ
َ تجعل
جميع قُرى الجبل تقف مطالبةا بقتلي ،كَم من المصائب نوقع بها أنفسنا بسبب
20
عمر غبرا إفك األسياد
بعض الخيارات التي نتخذها ،لن يعيد لنا الندم تلك الخيارات الخاطئة لن َ ْعد َل
ي بنا أن نُكمل ما بدأناه ،استدار إلى "سفيان" عندما سمعه يقول: عنها ،فحر ٌ
أتدري يا سيدي صدق من قال :إن ما تراه نقمةا وعذابا يراه غيرك مكرمةا
ونجاة.
ى بطيئة وضاقت عيناه وأشار بيده ُمستفهما. ا بخط نحوه الحكيم تقدم
ا
الختم الذي وجدته سيَض ُع بين أيدينا أمواًل ًل بأس بها.
َ -أعني أن
مسح الحكيم رأسه بكفه ثُم زفر ما بصدره من هواء وضحك حتى ارتجت
لضحكه جدران الحجرة ،واستوى على كرسيه وهو يقول :ويضمن لنا أن
"أراس" و"يعقوب" إن ظهرا وأسمعا أهل القرية وجبالها وسماءها وتحدثا
للطيور في أعشاشها لن يُصدقهما أحد ،وسيرفع عن كاهلنا أيضاا ما نخشى
أعمال َمضت.
ٍ ظهوره من
ثُم تابع بهدوء :وإني أرى أهل القرية يصلبون "أراس" و"يعقوب" في
ساحة القرية كما أراك اآلن.
_3المذكرة األولى
أُدعى الحكيم األكبر ،أو هذا هو اللقب الذي نلته في مبنى الحكماء وقد سُلب
عمل الشيطان ،حتى إذا أراد أحدٌ ذكري في قرى مني فيما بعد بمكيدةٍ من َ
القديس الفاسق ،قرى الجبل هذه التي دخلتها
ُ الجبل قال الحكيم المعزول أو
ي في بادئ األمر شاباا يافعاا طالباا الحكمة والعلم في مبنى الحكماء ،هُيئ إل ّ
أني قد سلكت طريقاا سأنتشي من رائحة الزهور المرصوفة على جانبيه،
ولكن ما وجدت سوى الصعاب المطرزة باألشواك فيما بعد ،وما حسبته هيناا
عسيرا ،ولكن الشغف الذي ت َملكني جعل ألشواك الطريق ا ليناا كان صعباا
عطرا ،ولعثراته أيا ٍد تدفعني للنهوض إذ أسقط وتمسح على جراحي بحنان ا
ورفق. ِ
خضتُ في شتى العلوم وًلحقت أصحابها كصغير الظبي يهرول خلف أمه
لتعطيه حاجته من الغذاء واألمان ،كَثر من حولي األصدقاء وراح حب
وافرا
ا القرية وساكنيها يعلو في فؤادي ،وبعد أن توفي والدي نلت ميراثاا
21
عمر غبرا إفك األسياد
ا
عماًل مخلصين ،باغياا بذلك أًل ا
حقًل كبير ،وائتمنت عليه فأخذت لنفسي
أنشغل عن مقصدي الذي أتيتُ ألجله في مبنى الحكماء ،فما أزور الحقل إًل
ليًل قاصداا النوم ،وغالباا ما كنت أقضي الليالي في مبنى الحكماء برفقة ا
صحبتي من الطلبة ،وتوالت األيام وطوت بعضها بعضاا وكان لي أن أُصبح ُ
قدر رفيع ًل
واحداا من الحكماء الثمانية الذين يحكمون قرى الجبل ،وذاك ٌ
يناله إًل من صلح دينه وكثر علمه ،وجرت العادة على أن يكون الحكيم
كبيرا
ا الجديد من اختيار الحكماء أنفسهم ،وهم أيضاا يرشحون أحدهم ليكون
لهم ،بيده األمر والنهي وله يرجع فصل الخطاب ،وبعد سنوات قضيتها
حكي اما اجتهدت في عملي قدر ما أستطيع دُفعت إلي الرئاسة واندفعت إليها
أمر أبدي به رأياا حتى
فنِلت بها السلطة على الناس ،فما من كلم ٍة أقولها أو ٍ
صاحب السلطة !!...فالمرء
َ ينصاع الجمع له فرحين ُمستبشرين ،وما أشقى
يلتزم بحمائد األخًلق إما حباا لآللهة أو خشية الناس أو بِ َرادعٍ من ضميره
فإن نسي دينه وزالت خشيته للناس بسلطته عليهم فَلن يقوى الضمير على
ردعه حينذاك.
فُتحت الدنيا أمامي وكثُر من حولي المتملقين ،وكان ُحب العامة من الناس
لي يزداد ُ يوما بعد يوم ،والحقد في قلوب أصحاب المصالح يتكاثر وينمو،
سائرا أنشر حق اإلله في خلقه وأرضه، ا فلم أكترث لهم وأكملت في طريقي
ا
حتى دفعني القدر إلى هذا الكهف ،واليوم َوقد أصبحت وحيد اا ونسي ذِكري
من قلوب الناس أقول :إن اتباع الحق دون محاسبة من يضعون العثرات في
طريقه ،عم ٌل يهدم أكثر مما يبني ،على أية حال اًلعتراف بالخطأ بعد
خير من السكوت ،ويواسيني في مجلسي هذا أني قد مرور سنوات عليه ٌ
وجدت نفسي ،وما من شيءٍ أعظم من أن يجد المر ُء نفسه ويعرف خباياها،
بشر قريب ،والحقيقة
تلك الخبايا التي تخشى الظهور إن كان في األرجاء ٌ
أنني ًل أكتبُ هذه المذكرات كي أبينَ وأُخَلدَ ما قمت به في تلك األيام
المنصرمة ،إنما أكتُب ألجل الحقيقة فقط ،يقال :إن شر القريب كالسيف إن
لم يقطع فإنه يجرح ويُهشم ،ومن شر القريب أمسيتُ بمكاني هذا مهشما
باطًل أحسبه زائًل وإن طال مقامه ،والحق أنه كان ا ا
معزوًل ونال مني
بإمكاني أن أضع حد اا لذاك الشيطان ًل يقوى على تجاوزه ،فالمصائب
الكبرى ًل تولد في لحظة وأخرى ،إنما هي تراكمات ألمور صغيرة يحسبها
المرء سفاسف يمكنه تجاوزها وأخطاء يستطيع إصًلحها ،حتى يجدها وقد
سيًل جارفاا يحمل ما يعترض طريقه،أصبحت ا
ا
بدأ األمر بموت أحد الحكماء وكان صديقا ُمحبباا لي ،وذاك بعد أن مر زمان
كبيرا للحكماء ،ووفقاا لما جرت عليه العادة رشحت طالبين ا على تنصيبي
22
عمر غبرا إفك األسياد
ممن كان لهم سابقة حسنة بعلوم الطب والفلك والحساب ،ولديهم من الورع
ما يحيل بينهم وبين الخطيئة ،ومن حب اآللهة ما يدفعهم لإلخًلص في
العمل وخدمة الناس القاصدين ألبوابهم ،وبعد تصويت الحكماء للمرشحين
كان الظفر لـ"أوندال" ،ونال لقب الحكيم الذي يستحق حينها ،وبذلك بدأ ذلك
الرجل رحلته في مجلس الحكماء ،وفيما سأذكره ًلحقاا من أفعال الشيطان
الذي تطوع "أوندال" للقيام بها سوف يتساءل من سيمر على هذه المذكرات
سبب ترشيحي لـ"أوندال" كي يكون مستقصيا عن الحقيقة بين حروفها عن َ
حكيما ورجل دين ُمتبَعا ،يداوي الناس ويًلحق ُمشكًلتهم ،ويخوض في
شؤونهم كاألب يخوض في شؤون أطفاله ،وللسؤال إجابة تعود إلى قبل عام
يوم ُمثلج من ذاك العام،
من انضمام "أوندال" لمجلس الحكماء وفي مساءِ ٍ
عُدت إلى البيت فَسمعت نحيب زوجتي قبل أن أنتهي من اجتياز الحقل،
الذي كان الثلج يعلو أرضه فَيعيق حركة الجياد ،والريح ت َعصف وتقصف
وتًلطم أجسادنا كامرأة تنهال بالضرب على معت ٍد قصدها ،فكان صوت
صدر رجل أعزل، ِ كرمح أطلق على
ٍ زوجتي يخترق جميع األصوات
وصلتُ إلى المنزل بعد أن تركت الفرس وانطلقت قدماي تهرول ،وجدت
الخدم ُمجتمعين وزوجتي على األرض تنحب وتناجي ابنتها ،أن ًل تموت،
اقتربت من الفتاة وأدنيت رأسها نحوي ،فنظرت إلي نظرة ا مألها األلم
ضت جفنيها الناعسين ومال رأسها الصغير على َحسبتها األخيرة ،وأغ َم َ
ي.
يد َ ّ
َمضت ثًلثة أيام والفتاة ملقاة في سريرها ،كَشمعة تذوب في أناة ،فًل تأكلُ
توغًل في جسدها العليل ،فَحرت بهاا من الطعام إًل القليل ،والمرض يزداد
وحار في مرضها أصحابي من الحكماء واألطباء ،فًل الدواء يُجدي وًل
اًلنتظار ينفع ،حتى جاءني "أوندال" وفي وجهه فرحة المنتصر وقد كان
طالب اا في مبنى الحكماء حينها وقال بصوت منخفض خشية إزعاج الفتاة
الراقدة :سيدي قرأت في إحدى الكتُب عن عشب ٍة سامة تهتك جسد الماضغ
لبعضها وتستنزف قواه فيرقد في سريره ًل يقوى على شيء حتى تَخرج
روحه فين عم بذلك بالسًلم ،وأعراض اإلصابة بها تشابهت بالتي ظهرت عند
ابنتكم ،فًل ينفع معها سوى هذا الترياق ،وأشار إلى دواءٍ ضمه في يده كُنت
حينها كتائ ٍه في صحراء وأتاني "أوندال" كالماء الزًلل؛ أذهب عطشي
وروى ظمئي ،فأعطيتها الترياق ونالت به الفتاة شفاءها ،ولم تمض أيام
حتى عادت تسرح بالحقل وتتًلعب بالثلج برفقة صحبتها من أبناء الخدم
والحرس ،وبذَلك أثار هذا الطالبُ األلمعي إعجابي ،لما لديه من النباه ِة
23
عمر غبرا إفك األسياد
24
عمر غبرا إفك األسياد
يشغل عقولكم ...وما أقَف أمامكم هذا الموقف إًل ألفص َح لكم عما جرى،
وشوقاا لرؤية العدالة تُطبق على من أغرته نفسه وسلكَ دروب الشيطان!
َجميعكم يعرف "يعقوب" ،أليس كذلك؟؟ نعم جميعكم يعرفه ،فقد كان لي
بمثابة اليد اليمنى ،فهو وحق اإلله ًل يق ُل شأناا عن ولدي عباس ،فما من ٍ
أمر
أحتاج به للمساعدة في سبيل خدمتكم إًل وكان أول الباذلين أنفسهم في
سبيلي ،واليوم رمانا الدهر بخيان ٍة هي العظمى والقاسمة للظهر ،خيانة
تُذهب المروءة من رؤوس األشراف ،نَعم أيها السادة الطيبون ،إن "يعقوب"
هذا ،ارتكب إث اما ًل يُغفر ،إث اما يوجبُ عليكم أنتم أن تنزلوا به أشد العقوبات
صا عليه.قصا ا
َوكيف ًل وقد اعتدى على دينكم ،وسعى لتدنيس مقدساتكم ،فهذا الذي ائتمناه
صغيرا حتى اشتد عوده وبلغ أشده رمانا بدهائه ومكره ،فَمنذُ أيام ا ورعيناهُ
اختفى كتابنا المقدس الذي خطه سيدنا بيده منذ آًلف السنين ،وأنتم تعلمون
القيمة الدينية التي يحملها هذا الكتاب! وإن آخرين ليبذلون أموالهم وأرواح
أبنائهم كي يحظوا به ،استل "يعقوب" مفتاح الحجرة التي تَشَرفَت بِضم
الكتاب بين جدرانها وتسلل إليها دون أن يلحظه أحد فسرقه قبل أن يغادر
القرية.
صرخ بعض الجمع :القتل للخائن ...القتل للخائن.
أشار "أوندال" بكلتا يديه للجمع الملتف من حوله يهدئه ويحضه على
اإلنصات ثُم تابع :والحقيقة أنني اكتشفت ما حدث بعد أن فقدت أرباح الحقل
لهذا العام ،والتي كانت مخصصة لكم أنتم وألبنائكم ،وكما جرت العادة هذه
األموال يتم توزي عها كل عام على من يحتاجها ،إنها أموال الفقراء والجوعى
إلنسان ذي شرف ومروءة أن يتجرأ على ٍ من أبناء قريتنا ،آه آه ...كيف
سلب الرغيف من أبناء جلدته الحالمين بحبة حنطة!!...؟ وبعد أن علمت
ورئيس الحرس أن "يعقوب" هو الجاني وهو المختلس لرغيف أطفالنا ذهبنا
لتفقد حجرته ،وهناك بتلك الحجرة المشؤومة كانَ الخبر اليقين والجواب
الشافي لكل ما حدث.
أخرج "أوندال" من ردائه خطاباا ملفوفاا وأخذ شهيقا وراح يقرأ ما فيه على
مسامع الخلق المحتشد(( :عزيزي "يعقوب" أرجو أن تكون بخير وهذا ما
أتمناه دائ اما ،أخط لك هذه الرسالة وقد فاض شوقي إلى لقياك ،قد ًل أجيد
البوح بحقيقة المشاعر التي تعتريني كما تُحسن أنت ولكن على أية حال
يكفي أن ت َعلم بأني لن أتخلى عنك أبد اا مهما كلفني األمر وإن كان نصيبك
الشقاء سوف أشاركك به وإن كان النعيم فيكفي أني أراك به سعيداا ُمطمئناا،
وأتمنى أن تُدرك القيمة الكبيرة لما طلبتُ منك اإلتيان به ،ففيه الخًلص
25
عمر غبرا إفك األسياد
آمًل في أن يجدك وقد انتهيت والنعيم لكلينا ،وقد زارني الرجل مرات عديدة ا
من مهمتك المطلوبة وأشار إلى أن األموال ستكون بين بنانك تتراقص
لحظة استًلمه لمطلبه ،تلك األموال التي ستجعل من كلينا أسياداا نرضي بها
نفوسنا ونسد رغباتها وتستريح أنت من عناء الحراسة ومتطلبات سيدك
وأخيرا لك مني وافر الحب)) المخلصة دائ اما "أراس".
ا الخرف
َص رسالة عثرنا عليه بحجرة "يعقوب" ،وكانت أيها السادة األخيار ،هذا ن ُ
مشيئة اآللهة أن ينساه "يعقوب" ويغفل عن إخفائه أو إتًلفه ،فما من عاقل
يتركُ ا
دليًل كهذا على نفسه ،ولكنها مشيئة اإلله وحده.
خَرج "جورج" من وسط الحشد وتقدم إلى "أوندال" وكأنه مقد ٌم إلى
ُمشاجرة وصاح به بأعًل صوته" :أراس" ًل تقدم على مثل هذا الفعل
الخبيث ،ما هذا التجني أتراك ُجننت وًل تعقل ما تقول!...؟
وأشار بيده نحو الحشد وتابع :وأنتم ما لكم تُصفقون وتحزنون وتزمجرون
كما الذئاب بعد وقوع أي خبر على مسامعكم أًل تتبينوا حقيقة ما يروى على
مسامعكم ،أوليس لكم عقول ترشدكم نحو الصواب!؟ لماذا إذاا تسمحون
لغيركم في تسييرها مثلما يشاء؟ جميعكم يَعلم أن "يعقوب" رجل لم يؤذ أحداا
فيما سبق ولو حتى بكلمة ،وما وجدنا منه سوى الخير فنعم الشاب هو،
سيأتي "يعقوب" وستظهر "أراس" ونتبين الصدق فيما قُص علينا ،وللصدق
منازل أعًلها ما يقال بدافع الضمير وصفاء السريرة ،وأدناها ما يُقال بغية
شر أو تحقيق مصلحة ،وأنا اآلن بينكم أقول لكم بدافع الضمير إن تزين ٍ
"يعقوب" و"أراس" بريئان مما قيل عنهما و ُمنزهان عن مثل تلك الخِ سة.
ضم "أوندال" كفيه إلى بعضهما وقال :كَم أتمنى لو كان كًلمك صحي احا يا َ
سيدي ،ولكن أنى لنا أن نغمض األعين عن الحجة ،وهل تُحجب الشمس
بالتمني؟
ثُم التفت إلى الحشد وتابع :الكثير منكم يا أحبائي ًل يعلم أن "أراس" هذه
التي نذكرها هي ابنة الحكيم المعزول ،ذاك الحكيم الذي كان له سابقةا في
سرقة المقدسات والتنعم بأموالها ،وانظروا بأعينكم إلى خِ تم العائلة التي
وضعته الفتاة أسفل الرسالة ،انظر يا "جورج" أليس هذا ختم الحكيم األكبر
وعائلته ،ومن تبقى من عائلته سوى الفتاة...؟! وقد ورثته عن أبيها بعد َ أن
تم تجريده من ممتلكاته ومزاياه.
صمت "جورج" والغضب يعمل بصدره كما يعمل المحراث في األرض
قائًل :فمن هذه اللحظة يجب أن ولم ينبس ببنت شفة ،بينما تابع "أوندال" ا
يشارك جميع أهل القرية في السعي خلف ذلك العاصي الذي استخف
أمواًل كانت ستسدا بمقدساته وسعى إلى تدنيسها ،ذلك الذي سرق ونهب
26
عمر غبرا إفك األسياد
خبرا ويخفيه عن رئيس الحرس؛ سننزل به رمق أطفالكم ،ومن يعلم عنه ا
خبرا عنأشد العقوبات وسيلقى ما يستحق من األلم والحرمان ،والذي يقدم ا
مكان تواجده سيفتح له النعيم أبوابه وسينال مني عطا اء تعجز عن وصفه
الشعراء.
هب الجمع يردد خلف أحد حرس القرية الذي كان جهور الصوت :الموت
للخائن ...الويل لسارق الرغيف...
الموت للخائن ...الويل لسارق الرغيف...
عاد "جورج" إلى دكانه بعد أن تفرق الجمع وتمسمر على بابها ويداه تشد
إحداهما على األخرى خلف ظهره ،وأخذ يحدث نفسه :ماذا لو كان ذلك النبأ
صحي احا...؟! كيف يصح وقد رأيتهما بنفسي سوياا ليلة هربا ...وما هربا إًل
على غرار التحذير الذي وصلهما من الحكماء ولوًل ذلك لكان "يعقوب"
قتيًل اآلن أو اآللهة وحدها التي كانت تعلم بحاله ،ذلك التافه الخرف من أين ا
ا
أتى بالرسالة إذا...؟
قُطع حديث نفسه بصوت عباس وهو يقول :هيه "جورج" من سمعك اليوم
وأنت تدافع عن اللصين يظ ُن أنهم سيعطونك نصف ما كسبوا.
وعباس هذا اًلبن الوحيد للحكيم "أوندال" وقد توفيت أمه بعد وًلدته فَلم ينل
منها سوى حياتها التي بذلتها في وًلدته وقبلةا على جبينه أودعته إياها قُبيل
ي البشرة ،فتان الطلة، رحيلها ،وهو شاب طويل القامة ،عريض الصدر ،نق ُ
مرح اللقاء ،اتسعت له قلوب الرحماء من الناس وضاق عنه قلب أبيه ،هكذا
كان يتحدث عنه المشفقون عليه من أهل قريته والمحيطون بأخباره.
أهًل بك يا بُني وربت على أهًل عباس ...اقائًل :ا
التفت إليه "جورج" وحياه ا
كتفه ثُم تابع :متى عُدت إلى القرية هل وصلت اليوم؟
ً -ل منذُ يومين ،وكان لي بعض الشؤون في مبنى الحكماء انشغلت بها
وبوالدي بعض الشيء ،خرجت إلى الساحة كي ألقي السًلم عليك فَرأيت ما
كان ،أدنى رأسه من أذن "جورج" وتابع وهو يضحك :خشيت أن يصل
األمر بينك وبين والدي إلى العراك فأحار مع أيكما أقف ،أًل تُهدئ من نفسك
يا رجلً ،ل أراك إًل وأنت غاضب تشاجر أحدهم وتضرب آخر أو يعلو
برمتها.
صياحك في إحدى شؤونك فتسمعه قرى الجبل ُ
أمر اعتدته واعتاد الناس على -هى هى هىً ...ل عليك ًل عليك هو ٌ
طبعي ،تعال فاجلس وحدثني عن رحلتك ،كيف كانت؟
-كما هي في كل مرة أخرج من القرية برفقة الطلبة نترحل بين قُرى الجبل
يبحث عنه ،فمنا منُ نُقدم العًلج لمن أراد ،ونبذل ما بحوزتنا من علم لمن
لشأن يقصده واآلخرون يتابعون الترحال، ٍ يستقر بيه الحال في إحدى القُرى
27
عمر غبرا إفك األسياد
وفي موسم الحصاد نعود إلى مبنى الحكماء برفقة طلب ٍة جدد أثروا العلم على
القنوط بصحبة األهل.
-أراك منشرح الصدر لما تقوم به من عمل!
-هى هى هى ...تقصد مشكلتي وأبي ،في بادئ األمر تطوعت لقيادة هذا
مجبرا حانقاا كي أبقى بعيد اا عنه ،وأنت تعلم لما ...فرج ٌل مثلي ًلا العمل
ا
يقوى على أن يبقى مستظًل تحت شجرةٍ ثمارها فاسدة ،وكلما ناقشته في
ي بالتوبيخ كما شأن من شؤون العمل وتعارض رأيي ورأيه ،انحدر عل ّ ٍ
ينحدر الصخر من أعلى الجبل ...وهو يتمتم بأنها شؤون السلطة ويجب أن
ي الغضب مع كل رحلة أتقنها كما يفعل ،لذلك في البداية كان يستحوذ عل ّ
أقوم بها ألنها كانت وسيلة اتخذتها للهروب من القرية ومن أعمال والدي،
أما اآلن فإني أحبُ ما أعمل وأحزن ويضيق صدري عندما أعود للقرية...
حذار يا سيدي ،لو سمع أبي ما أقول عنه لصلبني على تيك الشجرة. ٍ
ضحك "جورج" وربت على ركبة صاحبه الجاثم أمامه وهو يقول :لو كان
برفقتي ثًلثة رجال على شاكلتك ألطحت بأبيك وجلست مكانه.
-إذاا ألُصلِّي لآللهة وأشكرها على خلقي منفرد اا دون أشباه ،قُل لي لماذا
وقفت اليوم موقف المدافع عن "يعقوب" وتيك األخرى؟ رج ٌل سرق كتاباا
ُمقدساا ُخط من آًلف السنين قاصد اا بيعه والتمتع بثمنه واختفى بعد ذلك
والدليل واضح لمن أمعن النظر ،وعم ٌل كهذا يأتي على صاحبه بالهًلك
والموت ،إن فيه خيانةا لقرى الجبل وساكنيها ومساسا بمقدساتهم.
-تقول هذا الكًلم عن صديق لك نشأت وإياه سوياا ولو كان على ما أذكر
يكبرك ببضع سنين ،وأنت عال ٌم وواثق بأن "يعقوب" رج ٌل صالح!!
-لكل جوا ٍد كبوة.
-ما الذي تُريد أن تصل إليه يا عباس؟
-ما ُكنت لتخرج وتدافع عنه بين جمع من الناس المؤمن ِة بصدق ما يقول
والدي إًل وأنت واثق مما تقول ،فما الذي يدفع كبير الحكماء للتجني على
ح ارس حقل بسيط ،وما الذي يدفع الجزار لمخالفة كبير الحكماء والتشكيك
بصحة ما روى؟!
ا
سؤاًل يا عباس. دعني أسألك
-تفضلُ ...كلي أذا ٌن صاغية.
-هل ت َثقُ بي؟
ا
أخذ عباس شهيقا وأراح ظهره حتى سمع طقطقة تخرج من بين فقراته ثما
أجاب :أنت تعرف أن ما من أحد أثق به في القرية كلها كما أثق بك أنت.
28
عمر غبرا إفك األسياد
29
عمر غبرا إفك األسياد
كانَ هًلك والدي وزوال ما لنا من السلطة وعظيم الشأن بين الناس ...أين
المخرج وفي نجاة أحدهما هًلك اآلخر!؟
ب، أطر َق رأسه أرضاا ،وتابع سيره يجر قدما من خلفه ساغباا متعباا شارد َ الل ِ
حتى اجتاز حقل أبيه ولم يلحظ الشبان الثًلثة خلفاء "يعقوب" بحراسة الحقل
عندما مر بهم ،حتى إن أحدهم ألقى عليه التحيةَ لكنها لم تجد أذاناا ُمرحبة،
والحقل في طبيعته ًل يحتاج إلى عدد من الحراس ،ولم يسبق ألحد المًلك
أن استأجر لحقله حارساا ،فغالباا ما يكون بالحقل بعض الفًلحين ينامون به
نهارا ،لكن الميل عن الحق واستًلل سيف الظلم يجعل ليًل ويعملون بأرضه ا ا
أقدام صاحبه ترتعد حتى من زقزقة العصافير وتغريد البًلبل ،وفي األيام
القًلئل الماضية انساب الخوف إلى عقل "أوندال" كما ينساب الماء في
الترعة ،لذلك كان منه أن استأجر ثًلثةا من شبان القرية األشداء المخلصين
قليًل ،دخ َل عباس المنزل لنقود سيدهم أي اا كان ما يريده ،ليردع بهم مخاوفه ا
ليجد أباه وقد استوى على األريكة ،و ِوضعت أمامه مائدة ٌ تزدحم بألوان
اللحوم وقد ه ّم بمضغ اللقمة األولى ،ت َقدم نحوه وجلس بجانبه وشرع بتناول
طعامه دون أن يتفوه َ بكلم ٍة واحدة ،وبعد أن فَ ِرغ من العراك مع الديك
الموضوع أمامه وتغلب عليه ولم يُبق من أثره شيئاا في الطبق أراح ظهره
على مسند األريكة وقال وهو ينظر إلى والده الذي كان قد فرغ هو اآلخر
من تناول طعامه :وقد ُكنت دائما تُحبذ التحدث على مائدة الطعام ،فمالي
أراك عدلت عن ذلك؟ على أية حال كان الطعام شهياا ليناا ،وكنت جائعاا متعباا
ولو حدثتني لما سمعت منك كلمةا واحدة.
بنهم وشعرت أنك لن تُصغي لشيءٍ سوى صوت اللحم يتقطع -رأيتُكَ تأ ُكل ٍ
تحت نواجذك ،فأثرت الصمت على الكًلم.
-لدي الكثير من الكًلم الذي أود أن أفضي به إليك يا أَبَتِ.
مرارا أًل تخلوا أخبرك صرخ "أوندال" :أيتها الفتاة ائتني بإناء النبيذ ،ألم
مائدة العشاء منه.
أتت الخادمة بإناء النبيذ النحاسي مطرقةا رأسها أرضاا؛ لتتجنب نظرات
الحكيم المؤنبة ،ووضعتها على المائدة وعادت إلى المطبخ وقد أطلقت أذنيها
ت وأخبار ،لتنقلهم إلى الطيب إبراهيم عندما لتتصيد ما يحمله الهواء من كلما ٍ
لم ل ْم أرك اليوم في مبنى َ ا
أوًل ك ُ ل أسأ دعني تلتقيه ،تابع "أوندال" حديثه:
ُ
الحكماء؟ بحثت عنك فلم أجدك ...كنت أود أن تكون بجانبي عندما خرجت
للناس وأخبرتهم بسرقة الكتاب المقدس وفرار "يعقوب" ،فأين ُكنت؟ ويبدو
لًل ستمر به القرية في األيام المقبلة وأنا أريدك هنا بجانبي فًل أمرا َج ا
أن ا
30
عمر غبرا إفك األسياد
31
عمر غبرا إفك األسياد
ثور هائج لم "أوندال" أن الغضب والتهديدات لن تُجدي نفعا في ترويض ٍ ع ََ
ق وصوت هادئ :اجلُس يا بني ...اجلس وهدئ من روعك ا
قليًل. فقال له برف ٍ
ثم نهض ومأل ًلبنه ولنفسه كأس نبي ٍذ من اإلناء الموضوع في الجهة
قليًل من كأسه :أنت يا بني كان لك األخرى للمائدة ،وقال بعد أن ارتشف ا
نصيب التجوال بين الكثير من القرى والمدن ،ومن يُكثر الترحال يؤمن
بقرارة نفسه أن الحياة ت َبسط يديها لألقوى ،ذاك الذي يمتلك المال والنفوذ،
وهما ُكل ما يرتجيه العاقل كي يسود بهما الناس ،ويوصلهم إلى بر األمان
ي أحد، ط ُرق التغيير فأشير لها فًل يصغي إل ّ برفقته ،وأنا ُكنتُ تابعاا أرى ُ
واآلن وقد أمسيتُ متبوعا ولو سِرت في طريق الهًلك لتبعني الناس دون أن
فلم ًل نزيد من قوتنا ونعلو بها أكثر فًل تتوقف سلطتنا عند يعترضني أحدَ ،
هذا الجبل وحسب بل تمتد حتى تشمل الجبل الشرقي أيضاا ولن يطول الوقت
قبل أن ينصاع لسلطة مجلس الحكماء وستكون أنت عامل المجلس فيه،
كًِلنا أنا وأنت يُريد الخير لهذا الجبل الذي نحكم ،أليس كذلك؟! فًل تحفل بما
تراه من سيئ العمل وقد أقدمت عليه ،فهي وسائل قد تراها سيئة وأنا أراها
بديًل يعينني على الوصول للغاية ا كذلك أيضاا لكن أين الحل ولم أجد لها
العليا ،وإن تحقيق أنبل الغايات يجبرنا على الخوض في القذارة أحياناا.
ضحك عباس وقال ساخرا :أين الخير الذي تُريده؟ أتحسبني أحمق ًل أرى
الذي يجري ألولئك المساكين في أرضك وتحت سلطتك!؟ فالفقير هنا يزدادُ
ئ أعوانك يتصيدون قوتَ أخوتهم في هذه شا ،وما فتِ َ فقرا والقوي يزداد ُ بط اا
صلح من أتباعك ًل يجرؤ على معارضة من ف َ ِسدَ األرض باسم الرب ،ومن َ
خشيةا على نفسه وسلطته ،أهكذا يكون الخير الذي تدعو إليه ،أهكذا يكون
الصًلح ،بأن يقتاتَ الشعب على الفتات وللحاكم نصيبُ األسد من خيرات
شعبهً ،ل تحدثني عن الغايات النبيلة إن كانت الطرق إليها دنيئة مليئة
بالخِ سة.
ُ
-لماذا ًل تقنع بأنك خلقت لغير ذلك يا فتى ،هي الحياة منذ األزل بها الحاكم
والمحكوم بها الخير والشر ،وقلي ٌل من الشر الذي ت َصفني أنت به يدفع عنا
شرورا ًل طاقة لنا وألهل الجبل بتحملها ،فلو أننا واجهنا وبا اء أو عدواناا من ا
أين سيقتاتُ أولئك المساكين ،هي أموا ٌل ندخرها لنسموا وإياهم ،ولو أنهم
كامًل وما وجدنا عند ا ت ُخفيت عنهم لطالب ُك ٌل منهم بنصيبه علموا بخيرا ٍ
الشدة ما يعيننا وإياهم على تجاوزه.
عقيم َمعك بهذا األمر ،أريدك فقط أن ت َكف عن أمر ٍ -لن أخوض بجدال
"يعقوب" والفتاة وليكن ما تُريد.
32
عمر غبرا إفك األسياد
أمر قد بدأته وعواقب التراجع عنه أكبر وأعظم ،انس ً -ل أستطيع ،هو ٌ
قائًل وهو ينظر في عيني عباس ا أمرهما ،احتد صوت "أوندال" وتابع
والغضب قد أخذ منه ُكل مأخذ :إما أن تنسى ما رأيت وتبقى بجانبي أو أن
تسير بقافلة الطلبة من جديد ومن صباح الغد ،ولو ت َخلفت عنها ألمرت
أمر المجلس ،ولن أش ِف َق عليك رئيس الحرس بإيداعِك السجن لعصيانِك َ
ألنك ولدي بل ستنال من العقاب أشده ،ومن الحرمان أعظمه ،اغرب عن
وج هي اآلن وًل تدعني أراك ولتغضب عليك اآللهة ،ولد ٌ عنيد ٌ أحمق.
وقف عباس وه ّم بالخروج وًل يدري أين يذهب بنفسه وما إن ابتعدَ عن أبيه َ
قائًل بملء صوته :ومن أخبرك أني أحفل بك أيها قليًل حتى استدار إليه اا
الخرف الفاسِدُ ،كنت سأرحل اآلن وسأغادر القرية كما أريدُ أنا ًل كما تُريد
أنت ،ولتعلم أننا إن التقينا مجدداا لن تلتقي بولدك الذي عهدت ،إنما ستلتقي
بكابوسك الذي سيضيق عليك الفضاء بوسعه.
خرج عباس من المنزل وأغلق الباب خلفه بقوةٍ ارتجت الجدران من وقعها،
وبقي "أوندال" على األريك ِة متعباا وكأن صخرة ا قد رميت على صدره
لم ما سيكون له فيما بعد من ولده هذا ع َ
فأعيت عليه التنفس لدقائق ،ولو أنه َ
لكان قد أقدم على شيءٍ آخر يختلف عن طرده وتعنيفه.
-5المذكرة الثانية.
تولى "أوندال" مجلس الحكيم ويو اما بعد يوم كان يُبهر أهل القرية بأخًلقه
دين وعلم ،إنما الغريب
الحسنة ،وليس غريباا أن تكون تلك األخًلق لرجل ٍ
يخرج على رأس قوافل ت ليست من واجباته ،كأن ُ هو تطوعه لبذل خدما ٍ
مقتصرا على
ا أمر استحدثه الحكماء وكان
الشفاء التي تجوب الجبل ،وهذا ٌ
الطلبة ،وكم كانت سعادة العوام كبيرة إذ يرون حكيما يتجول بينهم ،فيقدم
العًلج لمن يريد ،ويصلي لآللهة لترفع البًلء عنهم ،ويُكثر البذل من أموال
المعبد للفقراء من الناس ،حتى إن أقرانه من الحكماء كانوا ي ُظهرون
اإلعجاب بما يفعل ،حتى وإن كانت الغيرة والحسد تجول بصدورهم ،ليس
علينا أن نُخمن ما في الصدور؛ اإلنسان مجهول ،بوجوه عدة ،ولنا منها ما
نراه فقط ،قال لي أحد ُ الطلبة الذين رافقوا "أوندال" في سفره األخير ويُدعى
إبراهيم :إن الحكيم دخل بنا قريةا لم نعرفها من قبل وراح الناس يتجمهرون
حوله ويتدافعون إليه إذ وصل معبدهم ،وعرفوه بأنه حكيم من مجلس
الحكماء ،وكالعادة افترق الطلبة في القرية يلتمسون حوائج الناس ليقضوها
لهم ،ومن كان عنده طفل عليل تراكض به نحو الحكيم ليقرأ عليه الصلوات
ا
سبيًل لشفائه ،وبينما الناس ينتظرون خروج الحكيم ويباركه؛ عسى أن يكون
33
عمر غبرا إفك األسياد
إليهم على بوابة المعبد ،راعني أن رأيتُ امرأة ا برفقة طفلها تجلس على
وأنواع شتى ،والناس
ٍ جدار صغير يحوي على طوله وروداا بألوان مختلفة ٍ
بعيون مألتها الدهشة إليها وإلىٍ النظر ويختلسون منها اًلقتراب يتجنبون
ا
طفًل ًل ابنها ،الذي وصفه أحدهم بأنه لعنة اآللهة على األرض ،وكان
الناظر
ُ يتجاوز السابعة من عمره ،انتشر الشعر بجسده ووجهه حتى يظنه
ذئباا من فرط الشعر الذي عليه ،وأخذت األم تذرف الدمع وتمس ُح على رأسه
وتحمي وجهه من نظرات الحاضرين ،وما هي إًل دقائق حتى خرج الحكيم
إليهم ،فتهافت الناس عليه يرجون التبرك به وقضاء حوائجهم ،هرولت
كظامئ في الصحراء رأى بئر ماء ،وارتمت عند قدميه ٍ المرأة باتجاهه
وأمسكت بثوبه وقالت وهي تنوح :خلصنا يا سيدي مما نحنُ فيه ،أنت التقي
وبيدكَ خًلصناَ ،مسح "أوندال" على رأسها برفق وأخذ الطفل من يدها ،لم
يسبق له أن رأى إنساناا به هذه الصفات الغريبة ،استأنفت المرأة قولها :هذا
طفلي وقد ولد على هذه الحالة ،أهو عقابٌ من اآللهة...؟ البعض يصفونه
بالشيطان ،وآخرون يقولون إننا ارتكبنا إث اما فعاقبتنا اآللهة عليه ،لكن ًل يا
سيدي أنا تقيةٌ ورعة أخشى اآللهة وأحبها ،ليس عندي من اآلثام غير الذي
يرتكبها ُكل البشر ،أظن أنه أبوه ،ذلك الوغد لم تُفلت فتاة ٌ من تحت يده ،حتى
العفيفات منهن ،كان يجد ُ باباا يلج منه إلى قلوبهن ،حتى وجده أحد األزواج
بصحبة زوجته ،فانهال عليه ضربا بالعصا حتى فُتح رأسه ومات على
إثرها ،وكنت حبلى بهذا الطفل حينذاك ،ارفع عنا اللعنة أيها التقي النقي ،ما
ذنب هذا الطفل كي يعيش بوج ٍه حيواني وكيف له أن يتحمل سخرية البشر
صحن والدموع تطفح من وقسوتهم !...وتهافتت بعض النسوة إلى جانبها يَ ِ
أعينهن :خلصها من بًلئها يا سيدي ،إنها امرأة مسكينة لم يبق لها أحد ٌ سوى
هذا الطفل المستذئب.
وما ذكرتُ هذه القصة إًل توضي احا لما آل إليه "أوندال" من عظم ٍة نتاج ما
جل حتى وإن كان آلت إليه أحوال الناس من جهل ،فهل يكون الشفاء بيد ر ٍ
تقياا ،قد يكون عال اما فيصف الدواء الشافي لمن يحتاجه ،أما ما قالته تلك األم
وضعت به "أوندال" بمنزلة اآللهة الذي بيده رفع البًلء وجلب الهناء ،وما
جهل تفشى بعقولهم ،وعلمتُ حينها أن البًلء طرق أبوابنا، ٍ هذا سوى نتاج
ب ينزل أسياده منزلة اإلله إًل ويلقى بًلءه.فما من شع ٍ
وحين سمعت تلك القصة من فم إبراهيم زاد ارتيابي من ذلك الرجل فأرسلت
في طلبه على الفور وما هي إًل دقائق حتى قرع باب حجرتي في مبنى
مستبشرا وهو يقول :اعذرني يا سيدي كُنت ا الحكماء ودخل إليها ضاحكاا
سآتي إليك البارحة فور وصولي ولكن مشقة السفر حالت بيني وبين ذلك،
34
عمر غبرا إفك األسياد
35
عمر غبرا إفك األسياد
فقلتُ له :في العمل الصالح والتفاف الناس حولك ،فإن لم تجدها فعليك
رجل يقاتلون من أجلك، ٍ بال ُحب فإن امرأة ا تتقوى بحبها تُغنيك عن ألف
والقوة تُشترى بالمال أيضاا وتلك قوة ٌ زائلة ًل تطول لصاحبها ،وخير القوة
تلك التي يستمدها اإلنسان من أعماق نفسه ،فما رأيتُ أحد اا قط علم مكامن
القوة بداخله وهُزم بعدها ،و"أوندال" هذا أخذ من ُكل ٍ
نور قبسا ،إًل أنه ابتعد
عن شراء القوة بالمال وابتاعها ب ُحلم رجل لنيل السلطة ،فبعد مضي زمن
على منعه مرافقة القوافل بلغنا أن رئيس الحرس طريح الفراش وقد أعياه
المرض ،فتطوع "أوندال" لإلشراف على عًلجه ،وكانَ له ذلك حقاا ،وما
خبرا
ا هي إًل أيام حتى أُحضر الرجل للمعبد لتقام له مراسم الدفن ،وكان
برمتها ،فاجتمع المجلس بعد الدفن ًلختيار من يخلفه في مفجعاا للقرية ُ
رئاسة الحرس فقلتُ والحكماء السبعة ملتفون من حولي على المنضدة :قد
وجدير بنا أن نجد من يسد مكانه دون تباطؤ؛ فهل هناكَ من ٌ توفي الرجل
ترونه مناسباا لرئاسة الحرس أيها السادة؟
ضاقت الطاولة باألسماء الملقاة عليها ،وك ٌل يصف محاسن مرشحه ويزينه
ب ترجوه لها َعرض محاس َن ابنتها لشا ٍ
ُ كأم ت
ليتناسب مع المنصب المنتظر ٍ
زو اجا ،واستطاع "أوندال" بكلماته الرنانة ودهائه الفريد أن يُقنع الجمع
بمرشحه المدعو "سفيان" ،ولو كان لنا القدرة على رؤية المستقبل ومعرفة
خباياه؛ لما تم قبوله لرئاسة الحرس ،كم من األمور لو علمنا خواتيمها لما
ير
ث ال ِهزبر ،وفي النهاية مص ُ أقدمنا عليها وفررنا منها كغزال ٍة تفُ ُر من اللي ِ
الخبايا أن ت َظهر للعلن واضحة ا جلية ،تتراقص أمام األعين حتى يشب ُع منها
الناظر ،ومن تلك الخبايا هي تلك العشبةُ السامة التي كادت أن تقتُل ابنتي في
سالف الزمان ،من كان يدري أن بعد مرور سنوات على شفائها من السقم
الذي كاد أن يودي بها؛ أن يرتفع الحجاب عن السبب األول إلصابتها؟!
الهجر.
ِ -6وما وجد َ المحبون ا
عدوا ألد ُ منَ
ت شجية بُعثت من ناي في صبيحة اليوم التالي استيقظ "يعقوب" على ترنيما ٍ
ت ُخضر يحض ُن ُكل "أراس" ،فخرج من باب الكهف ليرى أربع شجرا ٍ
منهما اآلخرة وخامسةٌ وحيدة مال جذعها إلى الفتاة وكأنه رق لحالها فانحنى
عليها يحميها بأوراقه العطوفة ويحضنها بغصونه الهزيلة ،انكبت الفتاة على
تبث فيه أنفاساا محملةا بمزيج الحسرة واأللم؛ لتخر َج من قصبته على نايها ُ
ت تنكأ ما التأم من جروح في أفئدةِ المنصتين ،ركن "يعقوب" شكل تعويذا ٍ
ِ
شدَ حتى على جذع الشجرة بجوار الفتاة وقد ضل قلبه مما يسمع ،وما َر َ
تًلشت األنغام من فضائه وحل صوت "أراس" الدافئ مكانها وهي تقول:
استيقظ الشقي.
36
عمر غبرا إفك األسياد
37
عمر غبرا إفك األسياد
-وما أدراكِ أًل يكون قد خر َج للناس بعد ذلك وأطلق عنان لسانه وأطلعهم
خبر من القرية اليوم عبر "جورج" أو ابنه ،سأتسلل إليها عليه ،إن لم يأت ٌ
ليًل علِّي أعل ُم ما جرى ،فقد طا َل المقام بنا هنا و"جورج" منقطع عنا. ا
-آه يا "يعقوب"ُ ،كل شيءٍ جائزً ...ل تحفل بما مضى قد انقضى األمر ولم
يصبنا مكروه.
ي من أن يُصيبك ما صدِئ ،أحبُ إل ّ بنصل َ ٍ -وتاهلل إن انتزاع أطرافي
تكرهينه.
سمعت وأردفت تقول :ألهذا الحد؟! عقدت الفتاة حاجبيها وقلبها يخفق لما َ
تمشاعر مات أهلها قبل أن يجدوا كلما ٍٍ -هو شعُور أعمقُ مما قيل ،وكم من
تفيها حقها في الوصف.
بتعرقِها وتابع يقولُّ شعر بعدما الحمراء لحيته على مسح "يعقوب" بكفيه
ت ُ
والبسمة قد ارتسمت على ثغره :من األفضل أن أصمت أو أن تصمتيني أن ِ
قبل أن أ ْست َرسل في حديثي هذا ،فعندها لن أستطيع كبح جماح لساني،
استدارت الفتاة باتجاهه وقالت بعد أن ت ََربعتً :ل عليك ًل عليك ،قُل ما
ث روحٍ صافي ٍة نقية ،وفي ي من حدي ِ تريد ،فما من شيءٍ في الحياة أحبُ إل ّ
عينيك أرى نقاء الروح واض احا جلياا ،وبما أن لسانك قد انطلق ،على غير
ب
عادته ،فإني أراك ...أو دعني أقول أشعر أننا ...أنا وأنت ندور حول ُح ٍ
شعورا حبيس الصدور وًل نبوح به ،فمنذُ رحلنا ا فلم نبقيه
كبرنا وإياه سويااَ ،
من القري ِة وأنت مِ لء جفوني ،وأشعر أنني أنا أيضاا رفيقةُ أحًلمك والمؤنسةَ
لك في لياليكَ الموحشة ،أليس كذلك؟
هز "يعقوب" رأسه مؤكدا صحة ما قالته الفتاة ،بينما تابعت هي األخرى
متسائلة :فلماذا إذاا تبتعد ُ بعد اقتراب ،تميل بعد استقامة ،تترنح بعد
ثبات...؟!!! حتى رسائلك لي في السنوات المنصرمة ،تارة ا أراكَ فيها
عاشقاا ،وأخرى ًل يزيد كًلمك عن سؤال الغريب عن أحوال فتاةٍ استوقفها
ليسترشدَ طريقه ،ليمضي بعدَ ذلك في سبيله ،وعندما ألقاك تعود ُ إلى حالتك
فلم هذا التقلب...؟
األولى َ
-مال "يعقوب" بنظره إلى السهل المتسع من تحته ثُم قال وشفتاه ترتعش:
رجًل عشق حد التعب ،هل تراه يرضى البؤس لمعشوقه؟ ا لو أن
-بل يرفعه عنه بما أوتي من قدرة.
-نعم ...يرفعه عنه ويحول بينه وبين البؤس بما أوتي من قوةٍ وقدرة.
هزت الفتاة رأسها وكأنها أدركت ما يصبو إليه "يعقوب" ،والذي بدوره تابع
قائًل :أنا يا عزيزتي ِعشتُ في كَنف أبيكِ منذ ُ ولدت ،وتوفي والداي قبل أن ا
تفارق الطفولة جسدي ،وكم ُكنت أتمنى أن ألجأ لكِ ولعائلتك حينذاك ،ولكن
38
عمر غبرا إفك األسياد
39
عمر غبرا إفك األسياد
بركان هائج،
ٍ كلمة تسمو بالروح فوق السحاب وأخرى تهبط بها في جوف
وقد سما بي قولك ،وفك وثاقَ روح قيدها خوفها من الغد.
تمايل رأس الفتاة يمنةا ويسرة وتخضّب خدها ،وبينما هي تقول :دعنا ندخل
المغارة اآلن فهذا وقتٌ يكثر به المتجولون ،قام "يعقوب" راكضاا إلى
المغارة ،فصرخت به :ما بك وكأنك لُسعت من أفعى...؟ وعادَ بالقوس
ب ...أين هو؟ ًل بد أنه حولنا، قائًل بفرح :سمعتُ ضغيب أرن ٍ واألسهم ا
ُ
صمت اًلثنان وسكن ك ٌل منهما في مكانه ًل يتحرك به سوى حدقتيه
الباحثتين ،وبعد دقائق قليلة عاد ضغيب األرنب ضيفاا على األذان المترقبة،
أخيرا من خلف صخرةٍ بنية محاطة بالعشب أرنبٌ أبيض اللون ،كبير ا وظهر
الحجم ،و أخذ يقضم ما تيسر له من وليمة الصباح الفاخرة ،وينظر باتجاه
الفتاة بعينين سوداوين ًلمعتين ،سحب الرجل قوسه وأطلق السهم في الريح
ليحلق باتجاه طريدته ،فمر بقربها وارتطم بالصخرة ،وبقي األرنب يدور
حول العشب قلق النفس من هؤًلء الغرباء الذين انتهكوا خصوصيته ،عاجل
بسهم آخر وأحكم عليه الخناق بين أصابعه ،والفتاة بجانبه ٍ القوس
َ "يعقوب"
ترتقب ذلك الصيد وعيناها تتنقل بين السهم تارة ا وبين الطريدة تارة ا أخرى،
أخيرا برقبة األرنب الذي مشى ا كتم "يعقوب" نفسه وأطلق السهم ليستقر
سريعاا ثُم هوى بجسده على األرض ،وانتفضت قدماه عدة مرات وما هي إًل
لحظات حتى خرجت روحه وبقي جسده وليمةا للمنتظرين ،ذهب "يعقوب"
ليأتي بصيده وعاد وهو يحمله من قدميه بيده اليمنى وشاد اا على القوس باليد
األخرى ،ورفعه إلى موازاة وجهه وهو يقول :ها قد أتيت بطعام اليوم ،لن
نضطر للخروج ا
ليًل بغية البحث عن صي ٍد يسد ُ رمقنا.
أجابت الفتاة ولو أنها تعلم ما الذي سيصادفها هناك لتراجعت عن قرارها
هذا :سنخرج إلى القرية الليلة ...قد يكون لنا صيد من نوع آخر.
-أخشى أن نكون نحن الصيد ولسنا الصائدين ها ها ها.
سلخ "يعقوب" صيده وبدأ بتقليبه فوق النار التي أوقدتها الفتاة بالمغارة قبل َ
أن تذهب إلحضار الماء من عين متفجرة في صخرة ًل تبعد عن المغارة
زًلًل يروي ُكل ما يعترض طريقه فترى ا كثيرا ويخرج منها الماء رطباا
ا
حبًل ُمتموجا من النباتات الخضراء على جانبيه حتى أسفل الجبل ،وما إن ا
عادت حتى كان الصيد قاب قوسين أو أدنى من النضوج ،فأكًل حتى شبعا
وشربا حتى ارتويا ،وما هي إًل أن مالت الشمس في السماء إلى الغروب
حتى نال النعاس من الشاب ،واستسلم للنوم ،وأخذت الفتاة تُقلب في مذكرات
أبيها بتمعن ،فتارة ا ت َضحك لتذكرها األيام الخالية وتارة تذرف الدموع حتى
تروي وجنتيها فتدفع بما يأتيها من دموع متتالية إلى الفضاء ،استيقظ
40
عمر غبرا إفك األسياد
"يعقوب" على صوت نحيبها المكتوم ،فنظر إليها وآثار النوم مازالت على
وجهه ،لم يسألها عما فيها فاإلجابة معروفة عنده وحزنها ليس يجهله عاقلٌ،
ظا :هيا لنخرج ،فالطريق قال لها وقد استجمعت نفسها بعدما رأته مستيق ا
طويل وما من داب ٍة تُعيننا على سلوكه ،أم أحسب أن األفضل أن تبقَ ْي هنا،
أذهب أنا وأعود لك باألخبار.
ا
قالت الفتاة وقد رفعت حاجبها وأسدلت اآلخر كما تفعل عادة عند رفضها
للموقفً :ل سنذهب معاا.
-7المذكرة الثالثة.
● ظن الحكيم "أوندال" أنه قد نال قوة ا بتعيين "سفيان" رئيساا للحرس،
والحقيقة أني لم أعلم بالعًلقة الوطيدة بينهما إًل بعد فوات األوان ،فقد
أيام على تسلمه مرور ٍ
ِ أمر ُخطط له بعد شككت بأن ترشيح "سفيان" هو ٌ
ليًل أتفقد ُ فتاتي النائمة قبل أن أخلُد إلى
لرئاسة الحرس ،إذ ُكنت في منزلي ا
النوم أيضاا ،نظرتُ إليها فبدت بفراشها ساكنةا ثابتة كريشة طوقتها حباتُ
المطر ،لتخرج في الصباح التالي وقد تحررت من قيود التعب ،فتنجز ما
طرقَ الباب ،فذهبت ألرى من القادم في هذا تريد في انشراحٍ وسكينةُ ،
الوقت المتأخر وال ُكل نيام ،دخل الرعب قلبي للحظات عندما رأيتُ رجًلا
يظهر منه سوى عينيه الًلمعتين في سواد الليل الحالك ،ثَبت أمامه ُ ملث اما ًل
إحساس انتابني بأن لي معرفةا
ٌ ممس اكا الباب بيدي ،وبقيتُ أنظر في عينيه،
ت متراقصً :ل سابقةا بتيكَ العينين ،وزاد هذا الشك إذ بدأني القول بصو ٍ
تجزع أيها الحكيم فما أنا سوى مًلك أرسلته اآللهة لمساعدتك.
-وما اسمك أيها المًلك؟
ذب وقتل ألن اسمه ُ
-إن أسماء الرجال تُفسد ما يودون قوله ،فكم من رجل ك َ
دل على شأنه وكم من زيفٍ استحال حقيقةا باسم الناطق به؛ خذ الحكمة أياا
ُ
كان صاحبها.
-كان واض احا أنه يحاول أن يُغير من نبرة صوته كي ًل أعرفها ،قلتُ له وقد
شوقتني إجابته ألعرف ما الذي يريده :وماذا عندك لي من الحكمة أيها
أوًل كيف وصلت إلى هنا دون أن يراك الرجل أو أيها المًلك؟ قُل لي ا
حارس الحقل؟
-النوم فتنة؛ للساهرين عنوة.
-أها ...هاتي ما عندك فإني مصغٍ إليك.
-هل تعلم سبب موت رئيس الحرس؟
41
عمر غبرا إفك األسياد
-نال منه المرض فماتً ،ل أعل ُم ما الذي عان منه على وجه التحديد وما
هو مرضه فقد كان األمر سريعا ،وأرجو أن تكون سريعاا في الكًلم كسرعة
رئيس الحرس في الموت.
ً -ل ت َضجر ،فعندي لك من الكًلم ما يسليك ،منذُ سنوات َمرضت ابنتُك
ق للعشبة التي وكادت أن تُفارق الحياة لوًل أن أحد الطلبة لديك أتى لك بتريا ٍ
ُ
تسممت بها ،وقد أصبح ذاك الشاب حكيما في مجلس الحكماء ،تذكر هذا
أليس كذلك...؟ أومأت له مؤكداا كًلمه ،بينما تابع هو بأريحي ٍة أدهشتني أن
تكون لرجل بموقفه هذا :والر ُجل الذي أوصل تلك العشبة إلى فم ابنتك هو
ذاته الذي وضعها من جديد في فم رئيس الحرس ،نعم يا سيدي أريد أن
أكون معك صري احا قدر ما أستطيع ،فكما تعلم ًل يوجد صراحةا مطلقة،
واألحمق من يخبر الناس بكل شيء يعرفه ،يجب أن يبقى لدى العاقل بعض
عاقًل فإني أخشى إن ا األمور المبهمة لمن حوله ،لكنني اآلن ًل أريد أن أكون
ُكنت كذلك أن أكون سبباا لهًلكك وهًلك قريتي التي أحب ،يا سيدي إن
لم أنت الحكيم "أوندال" هو الذي ساق السم إلى منزلك منذ ُ سنوات ،وًل أعلم َ
أمر كهذا ولم تُوله اهتما اما لتصل إلى الحقيقة ،وها هو اليوم قد تغاضيت عن ٍ
نال من رئيس الحرس ،هل تعلم لماذا...؟ كي يُقدم "سفيان" ويكون له عوناا
شرور قادمة ،اآللهة وحدها التي تعرف ما هي. ٍ على
لبثت دقائق أفكر بما يقول وهو ُمسهبٌ بالكًلم حتى إنه أدهشني إذ أنزل
اللثام عن وجهه وأخذ يقول وهو ممسك بكفي والغيظُ جلياا بعينيه :لن أخاف
سل ّ ْمتُ
من أح ٍد يا سيدي سأقف معك وأقول ُكل ما أعرفه فإن كانت لك الغلبة َ
الجبل جميعاا ،وإن كان نصيبك الهًلك فإننا هالكون بطريقة أو ِ وأه َل
بأخرى.
كان ذاك الرجل إبراهيم أحد الطلبة القدامى في مبنى الحكماء ،لم أجد جواباا
حينها ،أومأت له بيدي فدخل المنزل وهو يتلفتُ يمنةا ويسرة وقلتُ له بعد أن
استوى على األريكة وجلست بجانبه :إن ُكنت تعلم أن "أوندال" كان خلف
أفض ب ُكل ما في جعبتك من ِ فلم سكت ُكل هذه السنوات...؟ مرض ابنتي َ
كًلم وًل تخش شيئاا.
أخذ شهيقاا وقال :لن أخفي عنك شيئاا يا سيدي أعدك بذلك ،إنني إن أخفيت
خوار جبان ،نعم أنا جبا ٌن يا سيدي ٌ عنك أمر "أوندال" فيما سبق فذلك ألني
أقولها لك دون خجل! ُكنت أيضاا أقرب األمر لك دون توضيح وقد طمعت
بفطنتك وذكائك أن تكتشف أن ذاك الرجل وغد ولكن حبك له حال دون
ذلك ،ال ُجبن قيد اإلنسان والشجاعة حريته ،نعم ُكنت جباناا لتلك اللحظة التي
قررت نزع اللثام بها عن وجهي ،بل لتلك اللحظة التي عزمت بها على أن
42
عمر غبرا إفك األسياد
آتي إليك وأخبرك باألمر ،أما اآلن فإني رج ٌل شجاع ،أقولها بملء فمي
شرا شد لجامهاخيرا طاوعها عليه وإذا أرادت ا
فالشجاع من إذا أرادت نفسه ا
ومنعها منه ،إن "أوندال" يا سيدي له أصدقاء في الجبل الشرقي هم الذين
أتوا له بتلك العشبة ،وشاءت اآللهة أن يكون أحدهم من أقربائي ،هم
مجموعة يا سيدي ليس لهم من يردعهم عن أذية الناس ،وقريبي هذا هو ولد ٌ
طيب يقوم بخدمتهم وشحذ سيوفهم ويجودون عليه بالمال بعد ُكل سط ٍو
ا
رجًل يقومون به ،وقد سمعهم يتحدثون في إحدى الليالي المنصرمة أن
منهم كان هنا في المعبد وطلب الحكيم "أوندال" منه تلك العشبة السامة
أجر طبعاا ،وعندما قال الرجل وأرشده إلى كيفية العثور عليها وذاك مقابل ٍ
ضعَها،اسمها صاح أحدهم :تلك كفيلة بأن تسلب حياة رجل إن هو تناول ِب ْ
فلم يكترث البقية لهذا القول ،فهدفهم المال وحده ،ولما سمع قريبي باألمر
هاله ما وصل أذنيه وأرسل على الفور رسالة ا لي شرح بها ما سمع ،وعندما
قرأت نص الرسا لة تبادر إلى ذهني على الفور ما رأيته من حادثة ابنتك
حيث إنني كنت شاهد اا على "أوندال" عندما قدم لفتاتك قطعة حلوة اشتراها
من بائع متجول ووضع بداخلها القليل من تلك العشبة ،وكانت حينها في
المعبد برفقة أمها التي انشغلت عنها لدقائق فكان ما كان ،وبعد أن قرأت
نص الرسالة علمت أن ضحيةا أخرى ستسقط في األيام القادمة ،فكرتُ ملياا
َمن مِ ن الممكن أن تكون ،لم أعثر على إجابة لذاك السؤال إًل عندما توفي
رئيس الحرس فعلمتُ أن "أوندال" خلف األمر ،ومن غيره ،سألت بعض
الحرس عن األعراض التي كان يعاني منها رئيس الحرس قبل موته فتأكدت
من ظنوني ،لم أستطع يا سيدي إًل أن آتي إليك وأخبرك بما أعلم ،فهذا هو
ما لك عندي ،الذي يجرؤ على إنهاء حياة بريء لمرة واحدة لن يمنعه شيء
من أن يعيد فعلته مئات المرات.
كان إبراهيم يتراقص أمامي ويتفَصد ُ رأسه األملس عرقا ويختلج وجهه
خوفا وتي اها ،شعرتُ بدوار ،وكلماته تتساقطُ على مسامعي كاألسهم
المشتعلة ،تبادلنا الصمت لدقائق ثم قلتُ :لك أن تذهب واحفظ لسانك كيًل
يُفلت بما فيه ،عش كما لو أنك لم تر أو تعرف شيئاا.
فأجابني وقد نهض ومال بجسده :ولكن هل ستدع األمر دون حراك...؟
أخبرني يا سيدي فإني خادمك المطيع ،قلتُ له حينها :إن الحياة تُقصي من
يعيشها بقلبه وتُهلك من يعيشها بعقله وتُكثر العطاء لمن استطاع إشراك قلبه
وعقله معاا في معتركها" ،أوندال" ذاك هالك ًل ريب ،وإذ إن رئيس الحرس
فجدير بنا أن نقطع أوصاله بادئ ذي بدء.
ٌ من أتباعه
43
عمر غبرا إفك األسياد
44
عمر غبرا إفك األسياد
45
عمر غبرا إفك األسياد
الجزار حتى أومأت بيدها إلى "يعقوب" الذي بدوره هبّ يهرول ورأسه
باألرض بعد أن شد اللثام عليه ،وإذ به قطع نصف المسافة ،سمع جلبةا من
خلفه فاستدار ليتبين األمر فتعثر بقدميه وطاح على وجهه ،ركضت الفتاة
إليه وجذبته من يده وتابعا السير دون أن يلتفتا ،ولو أنهما نظرا خلفهما
كثيرا من الشرور القادمة ،وصًل إلى منزل الجزار ،وهو منز ٌل من ا لتجنبا
بعض غرفٍ متًلصقة ،يجب على الداخل إليه أن يمر بفسح ٍة سماوية تحوي
بعض األغنام والدجاج واأل َ ِو ّز ،وبابها ُمغلق بإحكام ولها سور قصير يحيط
بها ويفصلها عن الطريق ،قفز اًلثنان إليها ،وإذ أصبحا في مأمن جلسا على
األرض واستندا إلى السور والصدور حينها تعلو وتهبط ،قالت "أراس"
لم نظرت خلفك أيه ا الغبي ،أتعلم أن الصوت الذي أصدرته بحدةٍ خافتةَ :
بتعثرك هذا كفي ٌل بأن يوقظ طلبة المعبد ويجذب الحراس إلينا؟ ولحظة
انتهت من قولها بدأ جيش األوز يزبط بأعًل صوته قلقاا من وجود الغرباء،
إذ إن من أراد أن ينام مطمئن البال على حديقته ومنزله من أهل القرية؛ كان
ومزعج يصدره عندما يلمح
ٍ ت حا ٍد
يضع بها عدداا من األوز لما له من صو ٍ
شيئاا بجواره فيوقظ النائم وينبه الغافل ،اتجه "يعقوب" والفتاة إلى باب
طه ،وإذ بالفتى يرفع يده كي يدق على المنزل سريعا كي يكف األوز عن زَ بَ َ
الباب ،فُتح له وخرج الجزار وهو يرفع ساطوره بيده وكاد أن يهوي على
القادم لوًل أن صرخت الفتاة وهي تمسك بيده :أنا "أراس" ما خطبك يا
رجل!!...
ذُهل الجزار وقال :ابنتي !...ما الذي أتى بكما اآلن؟؟ تفضًل بالدخول.
دخلت الفتاة وحيت الشاب الذي يقف خلف الجزار وهو ابنه لقمان ،وكذلك
فعل "يعقوب" ،ولقمان هذا شابٌ بدين ضخم الساعدين ،له خصال الثور إن
غضب ،ولعله اتخذ من الثيران تلك الخصال لكثرة ما تناوله من لحومها،
تلف جدران الحجرة الثًلثة ،وكانت فرصةا جلس الجميع على األرائك التي ّ
للزائرين بأن يلتقطا أنفاسهما ،أما الجزار فقد بادر بالقول :استعجلتما
المجيء يا بني ،كا َن يجب أن أوافيكما على الفور بما حدث.
نظرت الفتاة إلى "يعقوب" بدهشة والذي بدوره بادلها النظرة ذاتها ثُم
أردفت تقول :ما لك تتكلم وكأن سخط اآللهة سيحل علينا ،ما الذي حدث؟
-أرجو أًل يكون ذلك سخطا من اآللهة يا ابنتي ،حدث أن "أوندال" خرج
للناس وأعلن أن "يعقوب" سرق كتاب القديس ومردود حقول المعبد،
أجاب "يعقوب" بهدوء وعيناه تنظران نحو زخارف الحصير الممدود من
تحتهُ :كنا قد توقعنا مكيدة ا منه ،ولكن ما الحل ،أين المهرب من مصائب ذاك
الوغد؟
46
عمر غبرا إفك األسياد
-قد هاجمته في منتصف الساحة وعلى أعين الناس جميعا ...لكنه استشهد
بنص رسال ٍة وجدها في حجرتك!...
-نص رسالة؟
وفيرا ،إنا أمر ستنال منه ا
ماًل ٍ عن بها تحدثك " أراس " من رسالة -أجل،
أنت أتيتَ به ،وما إلى ذلك حتى نهاية الرسالة ،فتلك الرسالة التي أرسلتِها
إليه لشيءٍ بينكما ُمبهم ،كانت ا
دليًل عليكما.
أجابت "أراس" باستنكار :عن أي رسالة يتحدث ذاك األحمق ...ما من اتفاق
مثل ذلك بيني وبين "يعقوب" ...عدا أن الرسائل بيننا منذ ُ سنوات لم تطرأ
لمثل هذا الذي تقول.
كيف ًل ...وختم العائلة موضوعاا على َ كفيه: يبسط قال الجزار وهو
الرسالة ،فمن المهم أن تتذكرا ما هو الشيء المقصود بالرسالة ،علَّنا...
قطع "جورج" كًلمه إذ وجد "أراس" هبّت واقفة ومطّت عنقها لألمام
عال :الختم ...الختم ،ذلك الوغد األخرق. وأخذت تزبد وهي تقول بصوت ٍ
نهض "يعقوب" لجانب "أراس" وحاله حال الجميع لم يفهم شيئاا مما قيل،
وقال لها وهو يمسك بزندها :ما األمر...؟!
-افتقدت الختم في يومنا األول بالمغارة ،فعادة ا يكون بجيبي أينما ذهبت،
فحسبت أنني قد نسيته في الصندوق ولم أحمله عندما وصلتني رسالة الوغد
التي أخبرني بها بموت والدي ،وعندما ذهبنا إلى المنزل منذ ُ أيام بحثت عنه
وكنا على عجل ٍة من أمرنا فلم أجده ،ولم أُعط لألمر اهتما اما ،ولكن اآلن قد
اتضح األمر ،يبدو أن ذلك األخرق األبله قد داهم بيتي وسلب الختم منه.
قال "جورج" :اجلسي يا ابنتي ...اجلسي وهدِّئي من روعك ا
قليًل.
كيف تُريد مني أن أهدأ ،ترى األوغاد يتًلعبون بنا ويأكلون قوتنا، َ -
ويستبيحون دماءنا وكأن من أعطاهم ال ُملك علينا أعطاهم اإلذن لسحْ قنا
أيضاا ،ذلك يُقتل ألنه رأى ،وآخر يسحق ألنه سمع ،وأخرى تُداس باألقدام
لكلم ٍة نطقتها أزعجت أُذن السلطان ،أخبرني ما الحل وسأنصاع لما تقول،
ا
احتماًل أننا لم نرتكب خطيئة ا ولم نؤ ِذ نفساا قط ،لكن كبير الحكماء وضع
طق ونستبين ،سنتكلم ونسأل ،فانهال علينا بالمكائد والتُهم ،وهيهات سنن ُ
هيهات أن نعلم عند أي ح ٍد سيقف ،أتدري ماذا يعني أن يكون بحوزته خِ تم
العائلة أي إنه يستطيع أن ي ُلفق لنا ما يحلو لخاطره ،ويَسلب به حتى الثياب
التي أرتديها ،ولمن نلجأ إن كان هو الخصم والحكم!؟
شد "يعقوب" يد الفتاة لتجلس بينما قال "جورج" :الخوف على النفس
ومتاعها يدفع اإلنسان إلى الجنون وارتكاب الحماقاتً ،ل أخفيك يا ابنتي إن
الكثير من أهل القرية قد ضاقوا ذرعاا مما ينالونه من حراس القرية ،وكثر
47
عمر غبرا إفك األسياد
التهامس بينهم عن الجوع الذي أدمى بطونهم ورغد العيش الذي ينعم به
الحكماء ،قد يرى القوي الظلم حوله ًل يبقي وًل يذر فًل يُحرك لردعه
ساكناا ،حتى إذا ما وصل إلى بطون أطفاله ثار الوحش الكامن بنفسه وهب
ينادي على العدل الغائب ،خذي من كًلمي وعد اا لن أُخِ ل به :سأجمع ُكل
يوم ستتناقل أخباره األحفاد ا
جيًل إثر جيل ،لن مظلوم في الجبل لنصرتك في ٍ
ا
تقفي وحدك في وجه ذلك األخرق ،سيكون لك عونا من الناس يشتركون
ت خرجت للحكيم وكشفت عنه الغطاء؛ لكِ أن معك في البًلء ذاته ،فإن أن ِ
تتخيلي حينها ما سيقدم عليه حرس القرية ،وهيهات أن نكون نداا لهم ونحن
أفرادٌ مشتتون.
أضاف "يعقوب" وهو ينقل نظره من الفتاة إلى الجزار :أتعني أن ندفع
بالقرية للتمرد على الحكماء...؟!
ظلم هو نتاج لخضوعنا ،آن لنا أن ننهض ونرمي عن أكتافنا -ما نناله من ٍ
من اتخذها موطئاا ألقدامه ،وقد أصبح في صفنا من سيكسر شوكةَ ذاك
الوغد ويفض ُح أًلعيبه.
ت واحد :من؟! قال "يعقوب" والفتاة بصو ٍ
-عباس ابن "أوندال" الوحيد ،إن ُكنت ًل تعرفينه يا "أراس" فإن "يعقوب"
صديقه وهو أدرى الناس به ،أتاني ليلة َ البارحة قبل انبًلج الفجر وهو في
استقر في عينيه ،أدهشني حضوره في َّ حال ٍة يرثى لها ،وكأن بؤس العالم قد
مثل ذاك الوقت وعلمتُ من وجهه أنه ًل يريد الكًلم ،فقط يُريد الملجأ الذي
طلب
َ يريح به جسده وعقله ،وبعد َ أن نال طلبه من الراحة وحظه من النوم
أن أرشده إلى مكان "يعقوب" أو أن أرتب لقا اء يجمع بينهما وأل ّح في طلبه
أيما إلحاح ،حرتُ في معالجته كي يبين لي غايته من اللقاء ،فأبى ولم يَبُح.
قال "يعقوب" :وهل أخبرته ،أينَ هو؟ أجمعني به ،يجبُ أن ألتقيه قد جا َل
وسينكر على أبيه الذي جرى إن سمع منا ،ثُم ُ بخاطري أنه سيساعدني حقاا
متى وصل إلى القرية ،حسبت أنه لن يعود قبل الشتاء!
-هو عندكم في المغارة يا بني ،أو أحسب أنه في طريقه للمغارة ،لذلك كُنت
قد سألتكما إن لقيكما أحد في طريقكما الليلة ،لم يَمض الكثير على خروجه
انتظر فلول النور وانحسار الناس عن الطرقات وخرج ،وأخبرني َ من هنا،
لم وما الذي جرى بينهما؟ أن أباه سيرسل العيون خلفه للبحث عنهً ،ل أدري َ
أردفت "أراس" :إن كان قد فر من أبيه وقصد لقاءنا فإن أمره ملتح ٌم بأمرنا
ًل ريب!
48
عمر غبرا إفك األسياد
فكرتُ بهذا أيضاا ،أياا كان يا ابنتي ستعودان إلى المغارة اآلن وتعلمان األمر
ت في ُمذكرات أبيكِ ما ينفعنا؟ منه ،ولكن أخبريني ا
أوًل هل وجد ِ
-لم أنت ِه من قراءتها بعد ،ففي اليوم الذي تًل إقامتنا في المغارة دبت الحمى
في جوانبي وأثقلت رأسي ،وما زلتُ كذلك أتقلب في آًلمها أيا اما متتالية،
قائًل :هي كذلك حقاا ،حتى إني وددتُ أن آتي إليك علّكَ تكون تابع "يعقوب" ا
معينا لي في شفائها ولكن خشيتُ إن أنا تركتها وحدها أن يصبها ما ليس في
الحسبان فخرجتُ إلى الجبل وجمعتُ بعض األعشاب التي أعل ُم نفعها في رد
الحمى ومقاومتها ،فحضرتُ لها بما أعل ُم شراباا تتداوى به وتتقوى ،حتى إذا
ما عادت قوتها وزالت أثار الحمى من بدنها هبت للخروج إلى منزلها وكانَ
لنا في ذلك شقا ٌء عظيم ،واليوم ها نحنُ عند بابك.
ثُم تابعت "أراس" :لم أنته من قراءتها ،لكني قرأت ما سيثير دهشة الجميع،
أوًل هل التقيت بالطيب إبراهيم وحدثته أو حدثك بشأننا؟ دعني أسألك ا
-أخبرتُك أنه ليس موضع ثقة لدي ،والحقيقة أني ما طلبتُ منكما عدم
المكوث في مغارة أبيك السابقة والخروج إلى أخرى أعلى الجبل إًل ألن
إبراهيم يعلم أنكما ستقصدان مغارة أبيكِ ،هل ذكره أبوكِ في مذكراته؟
-أزل تلك الشكوك من رأسك ،بيد أن إبراهيم سيكون عونا لنا فيما نريد،
أنهت الفتاة كًلمها عندما بدأ الطرق على باب المنزل الخارجي فشحبت
وجوه الجميع ،قال "يعقوب" والطرق يزداد قوة :هل تنتظر أحد اا؟!
أجاب "جورج" وهو يمسك بساطورهً :ل تصدرا صوتاا.
-9المذكرة الرابعة.
خرج إبراهيم من منزلي في تلك الليلة ومضيت أنا في األمر كما يمضي
الماء في النهر ،رحتُ أتنقل من مكان لمكان دون أن أخبر أحدا بما َ
علمت
من أمر "أوندال" ،أستقصي أخباره ،وأراقب أعماله ،ولم ترف عيني عن
ا
أعماًل مريبة! وعلى العكس رئيس الحرس الجديد ،والحقيقة لم ألحظ منهما
كانا في سكون ًل نظير له ،وكأنه السكون الذي يسبق العاصفة ،مضى
أسبوعان وأنا أحيك الخطة التي ستطيح بـ"أوندال" ورئيس الحرس دون
49
عمر غبرا إفك األسياد
مقاومة ومخاطرة ،لم أكن أستطيع المجازفة بعزله ورئيس الحرس طوع
بنانه ،وإن أنا أقدمت على عزل رئيس الحرس فًل أعلم ردة فعله حينها،
ط خطوة واحدة دون دراسة وتمعّن بها ،وقد مضى أكثر من لذلك لم أخ ُ
أربعة عشر يوما وأنا أقلب األمر برأسي إلى أن استهديت لما يجب أن
أفعله ،فاجتمعت بالحكماء الستة في المعبد ك ٌل على حِ دة وأخبرتهم بأن يأتوا
ألمر أحتاجهم به ،انقضى النهار وزحف ظًلم ٍ لمنزلي عندما ينتصف الليل
الليل وبدأ الحكماء يتوافدون وأخذتهم الدهشة جميعاا إذ إن ك ٌل منهم كان
يعتقد أن األمر خاص وأن الدعوة فردية ،كان ُك ُل شيءٍ محك اما بسرية
طارئ يُفسد ما أودُ فعله ،لم أكن على ثق ٍة تامة ٍ وكتمان خشيةا من أي
بالحكماء عندما دعوتهم لكن لم يكن باليد حيلة وكان إخبارهم باألمر
وإشراكهم القرار مجازفة ا ًل مفر منها ،وبعد عناء التفكير بجميع اًلحتماًلت
التي يمكن أن تقع والجهد لبلوغ الهدف حصل ما ًل يخطر على بال بشر،
وما إن اكتمل النصاب وجلست بينهم حتى بادرني أحدهم القول :ما األمر يا
لم هذه السرية في الدعوة، أمر جلل ،وإًل َ
سيدي إن لم يخطئ حدسي فإنه ٌ
فلم لم يكن بوضح النهار وفي مبنى الحكماء كما وإن كان اجتماعاا للحكماء َ
اعتدنا ،أخبرنا يا سيدي فليس لنا على الفضول سلطةا.
ت عال :ادخل علينا يا إبراهيم. هززت رأسي ثم قلت بصو ٍ
سدًل يديه أمامه ورافعاا ذقنه إلى األعلى ،أشرت إليه فجلس دخل إبراهيم ُم ا
على الطرف اآلخر للطاولة ،وقلتُ له والحكماء ينقلون أنظارهم بين
ا
مفصًل ،بهدوء دون ا
كامًل وجهينا :أعد علينا ما أخبرتني به منذ أيام ،أعده
خوف من شيء فها نحن نُصغي لك ،أخذ شهيقاا وابتسم حتى ظهرت نواجذه
ثُم بدأ يلقي على مسامع الحضور كًلمه بقوة ،ويلوح بيديه يمنةا ويسرة ،كان
صوته يرتجف ووجهه يُظلم للحظات خًلل تحدثه ثُم يعود لحالته األولى من
ُ
فتبعث في نفسه ت كان يُخيطها عقله تنزل عليه رباطة الجأش ،وكأن خياًل ٍ
الخوف ،يتعاركُ معها فيغلبها بجول ٍة وتقهره بجوًلت ،انصدم الحكماء بما
بجدار ُخلق أمامه فجأة ا فًل يدري الناظر
ٍ يسمعونه كما ينصدم حصا ٌن مسرع
إليه هل الحطام في الجدار أشد أم في الحصان ،كادت عيون أحدهم أن
تخرج من محلها لشدة إذعانه وتركيزه بالقائل وكلماته ،وفغر آخر فاه،
وابتسم آخر ِبخبث بينما تكتف آخر وأطرق رأسه أرضاا يفكر بما يسمع،
رجًل أكثر صدقاا من
ا أنهى إبراهيم كًلمه وهو يقول :لن تجدوا في الحياة
ر ُج ٍل نَزَ عَ عن أكتافه رداء الخوف في سبيل الحق ،قاتلوا في سبيل الحق
تجدوا خًلصكم.
50
عمر غبرا إفك األسياد
51
عمر غبرا إفك األسياد
األيمن ليخرج من الجانب اآلخر ،راح البعض يصرخ ،وآخرون نسوا كيف
يخرج الكًلم من األفواه ،وكنت من الناسين أيضاُ ،حاول الرجل تقييد رقبته
بكفيه ليمنع دمه من الهروب بينما بقي السيف محاطا ُ بلحم الرجل ودمائه
النافرة ،أخذ رئيس الحرس يتفرس بوجوهنا ،وكأنه يقول انظروا تمعنوا
واعلموا مصيركم إن أنتم تفوهتم بكلمة تخالفنا ،ثُم شطر الحنجرة التي تعيق
خروج سيفه من دائرة اللحم والدم ،وسقط الحكيم أرضاا والدم ينفر من رقبته
بين اللحظة واألخرى ،ركض حكيم آخر نحو القتيل الذي ما زال يصارع
باألرض ،وكأن روحه تأبى مفارقة الجسد وتأبى مفارقة الحجرة واًلنسحاب
من هذا المكان قبل أن تُنزل اللعنة على من أذاها ،أخذ الحكيم يُمسك بساعد
نظيره المسجى دون أن يعرف ماذا يفعل ،هو بقرارة نفسه كان مدر اكا أنه ًل
يستطيع أن يُقدم شيئاا لصديقه ،ولكن أبى إًل أن يكون بجانب من شاركه
الحب والعلم لسنوات طوال ،فطاوع سيف المجرم تلك اإلرادة ،هجم
"سفيان" عليه من خلفه وحز عنقه بحرك ٍة خاطفة فارتمى فوق صديقه
ينزف العقل لذكراها،
ُ بصورةٍ
مرت دقائق سكنت األجساد بها بعد صراع الحياة والموت ،وعم هدير
وحش أشد ُ فت اكا من اإلنسان ،كم وددت بتلك
ٌ الصدور الخائفة ،ليس هناك
شا حافظوا على ذاك اللحظة أن أخرج للعالم فأقول لهمً :ل تكونوا وحو ا
اإلنسان الخيّر بداخلكم ،الذي خلقتم لتعيشوا به ،في العالم ما يكفي من
الحيوانات خلقوا دون قدرة على التمييز بين الخير والشر فًل تشاركوهم ما
خلقوا عليه ،راح العرق يتفصد من جبيني وكأن قطراته اشتمت رائحة
الدماء الزكية التي تلطخ بها فهرولت مسرعةا لتحتضنها من كل صوب.
تغيرت مًلمح "أوندال" ،كان له وجه آخر لم آلفه قبل تلك الليلة ،وجه
انغمس بالخسة فتكحلت عيناه بسواد الظلم واحمرت وجنتاه بالدماء التي
سفكت بأمره ،و"سفيان" كذلك ،للظالمين مًلمح وقلوب متشابهة ،هذا ما
خطر لذهني وأنا أجول بنظري بينهما ،قال "أوندال" بهدوءِ الخائِف الذي
ينظر للجسدين الصامتين :كم أحزنُ على تلك الحالة التيُ يقاوم خوفه وهو
لم الثرثرة؟! ألم يعلما أن الثرثرة تودي بصاحبها إلى َ إليها، ساقا نفسيهما
التهلكة ،والصمت رفيق السًلم ًل يفارقه أبد اا! ثُم نظر إلى "سفيان" وأخذ
يقول :سلمت يداك يا "سفيان" ،سلمت يداك يا عزيزي ،كم سيفخر أبناء
قريتنا بك ويتراقصون فر احا لما حققت في أيامك األولى من تولي رئاسة
الحرس ،سيحزنون في البداية نعم ًل شك بذلك ،سيحزنون عندما يعلمون أن
كبير الحكماء خان األمانة التي على عاتقه ،سيثور الغضب بصدورهم
عندما نُخبرهم أنه أراد المتاجرة بمقدساتهم ،ثُم التفت "أوندال" نحوي وتابع
52
عمر غبرا إفك األسياد
وهو يُدني جسده باتجاهي :أيعقل يا رجل أن تتاجر بكتاب القديس ،ألهذا الحد
بلغت من الجشع ،أشكر اآللهة على أنني علمت باألمر قبل فوات األوان
فأتيتُ برفقة هؤًلء الحكماء و"سفيان" البطل لنحول بينك وبين إتمام األمر،
فَغر الحكماء أفواههم وقد أدركوا ما يرمي إليه "أوندال" ،كان صمت األفواه
وتقاطع النظرات وهلع القلوب اللغة التي نتحدث بها ،لم يجرؤ منا أحدٌ على
الكًلم ولطالما كان الرجل منا يفاخر بقوته وثباته ويتغنى بعدم خشيته
رخوا
ا خوارا والصلب
ا الموت ،وما إن يحض َُر شبح الموت حتى تجد الشجاع
والخطيب أبكما ،هو اإلنسان منذ ُ األزل ليس بوسعه أن يتخلى عن حبه
للحياة حتى وإن كانت حياته بائسة ا محفوفة بالشقاء والكمدَ ،رفع "أوندال"
ا
قائًل :لم يبق مكان للمحاباة أيها سيفه وهو ينهض عن كرسيه وصرخ
األوغاد انظروا أمامكم إلى تلك األجساد النتنة ،اتعظوا منها واشكروا اآللهة
إذ مازلتم أحيا اء ،أقولها لكم وبصراح ٍة ًل نظير لها :لن تطول حياة الذي
يعترضني منكم أكثر من الوقت الذي يستغرقه سيفي لقطع المسافة بينه وبين
أعناقكم.
-10من الضعفاء تستمد ُ الحقيقة قوة الظهور ،ومن أجسادهم الجائعة تتخذُ
جسرا للعبور.
ا
الطرق على الباب وتسلل صوتُ صهيل األحصنة من أول الزقاق إلى ْ زاد َ
األذان فعلم "جورج" وزواره أن حرس القري ِة خلف هذه الجلبة ،فهم
للخروج وهم معه إلى ساحة المنزل وراح صوتُ األوز يرتفع بارتفاع
صوت األجساد التي ترتطم بالباب لخلعه ،تلفت "جورج" يمنةا ويسرة ،حتى
ت ًلهث وهو يشير بيده إلى جدار مرتفع يحد الساحة قال "يعقوب" بصو ٍ
من الخلف :اتبعيني...
ربّت "جورج" على كتف الفتاة فركضت باتجاه الجدار وإذ إنه يشقُ على
المرء تسلقه دون مساعدة ،شبك "يعقوب" كفيه فوضعت الفتاة قدمها عليهما
وارتقت بالثانية كتف "يعقوب" حتى بلغت أعلى الجدار وبهذه األثناء سقط
عدد من الحرس في ساحة المنزل من الجدار المقابل وما إن وطئت قدم أحد
أفراد الحرس أرض الساحة حتى مد ذراعه وفتح الباب لصحبته ،خاف
"يعقوب" إذ رآهم يتجهون نحوه وكان لقمان قد هيأ جسده وصنع من كفيه
53
عمر غبرا إفك األسياد
درجة ليساعده في تسلق الجدار واللحاق بالفتاة ،وإذ رف َع قدمه اليمنى على
ي لقمان وعيناه شاخصةا نحو الحرس ،انقضَّ عليه أحدهم وأرداه أرضاا، كف ّ
كانت "أراس" ما تزال على حافة الجدار ،وعيناها تتخبطان مثل كرة
تتقاذفها األرجل لتعي ما يحد ُث من تحتها ولبره ٍة اكتملت لديها الصورة،
ساحة المنزل يتوافد ُ الحرس إليها كماءٍ انفجر سدهُ ،ولقمان يصرخ على
"يعقوب" بينما جمد "جورج" مكانه بعد أن ضربه أحد الحرس وانتزع منه
ساطوره ،ولمحت عددا من الجنود يرمونها بنظراتهم وهم عند الباب قبل أن
يلتفوا ويركضوا نحو أحصنتهم في الزقاق ،فعلمت أنهم يقصدون اًللتفاف
ح في يده طرح أرضا ،فراح يصرخ ويلو ُ عليها ،نظرت نحو "يعقوب" وقد ُ
امض في سبيلك ،هل ِ امض في سبيلك ... ِ التي فلتت من قبضة الجنود فوقه:
تتركه وحيداا ليلقى مصيره منفرداا دونها ،وما نَفع الصحبة إن تخلى
ت كان الصاحب عن صاحبه في لحظات الضعف والعِوز ،منذُ ساعا ٍ
حديثهما تحفُّه وعود ال ُحب والبذل ،فهل تترك محبوبها تحتَ أقدام العميان
لتدهسه ،إن بقي بين أيديهم فليس بينه وبين أجله سوى نصل السيف ،لو لم
أظهر أمامه لما حل به شي ٌء من ذاك ،كانت نفسها تحدثها بذلك بينما مدت
جسدها الهزيل على ارتفاع الوجه اآلخر للجدار ثُم أفلتت يداها لتستقبلها
أرض الحقل اللينة ،وخًلل لحظات أطلقت قدميها للرياح واختفت بين ثمار
الذرة وتحت سواد الليل.
تحركَ "جورج" من مكانه وأخذ يُمسك بالجنود الذين انهالوا بالضرب على
رجال يُفرغون ما ٍ "يعقوب" بأيدهم وأرجلهم وبالسيوف المغمدة ،خمسةُ
نفوسهم على جس ٍد هزيل ليشبعوا لذة َ الوجود لديهم ،را َح ِ تراكم من حق ٍد في
يصرخ في الثواني األولى ،واللكمات واب ٌل عليه ثُم خانته العبرات وراح
ينبعث من ُكل موضعٍ بجسده ،وكأن ُكل عض ٍو لديه و ُكل قطعة جل ٍد ُ األنينُ
مر بها،ّ من إًل يفهمها ًل ات َّ نأ يطلقُ لسان؛ دون فم
ٍ إلى استحال ق ُمزر
استطاع "جورج" أن يَقذف أحد الرجال بعيداا عن الشاب وطرحه أرضا
فها َج من بقي من الجنود بالخلف وطالت أيديهم حتى أمسكوا بالرجل
وضموه إلى صاحبه واشتدت عاصفة البطش والفتك ،هاج لقمان لرؤية أبيه
يتقلبُ فوق التراب من ألمه ،والجنود منتشرة ا بالساحة كالنحل بخليته ،ركض
إلى زاوية الساحة وعيون بعض الجنود تًلحقه وأمسك منجًل كان مسنداا
إلى الجدار وبسرعته ذاتها عاد كالنسر الطائر إلى فريسته رفع منجله
ومقصده رأس أحد الجنود ،لم ي ُكن يريد إبعاده فحسب إنما يُريد روحه ،يريدُ
أن ينال رو احا إزاء ُكل لكم ٍة نالها أبوه ،كان الجيران قد استيقظوا وتهافتوا
54
عمر غبرا إفك األسياد
إلى مصدر تلك الجلبة الدائرة وأخذوا يسترقون النظر إلى ما يجري داخل
المنزل من عتبة الباب.
رفع الشاب منجله إلى السماء عالياا وارتفعت روحه قبل أن ينزله على رأس
عدوه ،غرس قائد مجموعة الحرس سيفه بظهر الشاب فهوى والمنجل
أرضاا ،صمت المكان بمن فيه ،فأشار قائد المجموعة واسمه سليم وهو رجلٌ
طويل أمرد دميم الخلقة دنيء ال ُخلق ،لجنوده بأخذ "يعقوب" واًلنسحاب،
فتراكضت أيدي الجنود لحمل الشاب وقد فقد وعيه واختلط احمرار جسده
باحمرار دمائه ،وخرجوا من المكان وعيونهم معلقة ا بجس ِد األب وابنه ،كان
ألم كابده منذ ُ ولد،
"جورج" يجاهد ُ نفسه كي ًل يَفقد الوعي ،زال منه ُكل ٍ
وكأن األلم قد خجل من البقاء فأفسح الطريق وأخلى النفس لينزل بها األلم
األعظم ،أل ُم الفقد ،لم يَعرف اإلنسان أل اما أعظم من الفقد ،فقد األب ًلبنه ،إنه
أل ٌم يُهتك النفس ،يجعلها هشةا كورقة يابسة تذروها الرياح ،ت َخفتُ ألوان
الحياة عند حلوله وتزول فًل يبقى منها إًل األسود ال ُمظلم ،يُخفف البكاء
وطأة الحزن على النفوس ،أما الدموع التي تُذرف على موت اًلبن وفقده
تكون كالوقود فًل تزيد النفس إًل لهيباا وتوقد اا ،وًل تجف إًل والنفس من
بعدها رماد اا يتطاير.
ا
ركض الجيران إلى الداخل نسا اء ورجاًل ،أطلقت الجارات أصواتهن
للصراخ وكأنهن ينتظرن عزا اء للنواح به ومأتمه يجزلن بها الدموع ،صرا ٌخ
زلزل القرية واهتزت له أشجار السنديان الباسقة وقلوب العصافير الغضة
صاحب الشبان وهم يرفعون جسد لقمان وقد لفظ آخر أنفاسه ليدخلوه المنزل َ
فيقضي به ليلته األخيرة ،مددوه على األريكة التي كان يشغلها منذ ُ قليل،
شبر مر منه ،وكأنه أثرا على ُكل ٍ ودمه يتسربُ من تحت قميصه ليضع ا
يقول :دعوني ألتصق بهذا التراب وأغير ألوان الحصير الذي تطؤونه
بأقد امكم ،دعوني هنا على تلك األرائك أنعم بالراحة األبدية خذوني ألتقاطر
شبرا أمام الجنود المتكبرين ،واألطفال السُّذج فيشبرا ا
ت القرية ا على طرقا ِ
حيث ال ُمقدسون ،فأقدم لذلك الجسد الذي ُ ساحتها العطرة ،وداخل المعبد
غادرته منفعةا هي األعظم وإن كانت األخيرة فُ ُكل ما يرجوه ذاك الميت أن
ًل يُنسى بعد أن يُغلفه التراب ،تقدم "جورج" بخطى ثابتة ،صمتت النساء
تخر عندهاوالتف الشبان حوله يرقبون ما سيفعل إزاء ما يرى في لحظة ّ
الجبابرة ويَضعف لها اكل شديد ،وقف عند الباب ينظر ًلبنه عاقد اا حاجبيه ًل
يُسمع منه سوى صرير أسنانه ،مرت به السنوات التي صنعت من ابنه
رجًل ،مر بوًلدته إلى أن مشى ،تذكر ميتة زوجته لتحمله دور األم إلى ا
55
عمر غبرا إفك األسياد
جوار أبويته ،تذكر أول مرةٍ ناداه فيها يا أبي ونطقت شفتاه الرطبتان
بحروف اسمه ،دارت به الذكريات إلى أن علمه الذبح واشتد عوده وأصبح
سنداا يعينه في دكانه ،سنوات عديدة ارتسمت بين عينيه بلحظات ،مر أحد
الجيران من جانبه وربت على كتفه بحنان لمواساته ،فهبط برأسه على
أرض صلبة حتى ٌخي َل للرائي أن ٍ الجدار كصخر ٍة هبطت من السماء على
ُ
الجدار سينقض ،وراح يصرخ باكياا بأعًل صوته :ولدي ...ولدي ...قم وًل
تكن أول من يكسر ظهري.
وكأن تلك الربتةُ الحانية كانت إيذاناا إلشهار حزنه ،وكأنه قد شد الوثاق على
نفسه كي ًل ت َضعف وأخذ عليها المواثيق بأن تبقى غليظةا شديدة مهما نزل
بها من النوازل أو أصابها من المصائب ،فَقطعت تلك الربتة الحانية ذاك
نفس
رجًل مكسو ارا ذا ٍ ا الوثاق المحكم ،ونقضت المواثيق المبذولة ،فظهر
جريحة لم يبق من صًلبته أكثر مما بقي من صًلبة غصن شجرة يابسة
نخر السوس داخله ،واستمر بالنواح وفقد اتزانه فراح يترنح يمنةا ويسرة
والرجال حوله يشيعونه بدموعهم ،واستأنفت النساء نزف الدموع وغزل
تلوعاا على ذاك الشيخ البائس المسكين ،فكأنه كَبر بتلك اللحظات اآلهات ُّ
حتى بلغ أرذل العُمر.
تجاوزت "أراس" حقل المعبد وأفضت إلى الطريق الذي سيوصلها إلى سفح
الجبل ،انتشر حرس القرية في أصقاع الجبل وعلى طرقات القرية وحقولها
بحثاا عنها ،إًل أن سواد الليل كان عطوفاا فحماها تحت ردائه ،وكأن الغيوم
في السماء قد أشفقت ع لى حالها فراحت تتشابك ببعضها البعض لتمنع ضوء
الهًلل من الوصول لها ،استمرت بالجري حتى بلغت شجرة التوت التي
استضافتها عند نزولها الجبل و"يعقوب" ،فصعدت عليها تلتقط أنفاسها،
وأسندت رأسها إلى غصن الشجرة من خلفها ومدت قدميها على الجذع
الممتد من تحتها ،وحدها أصوات الليل كانت ترافق صوت أنفاسها الًلهثة،
بدأ عقلها يعود أدراجه بعد أن فر من الخوف ،وهي كذلك إذ فاجأتها دموعٌ
تنهمر واحدة ا تلو األخرى وتقطر من ذقنها، ُ انفجرت من مقلتيها وراحت
وهي ساكنة ًل يُسمع لها صوتٌ وًل يرمش لها جفن ،لم تُكن دموع ُحزن
وكمد ،بل دموع عدم الحول وفقدان الحيلة ،ليس هناك طريقةا تُعلمها بما
حدثَ في بيت الجزار بعد خروجها" ،يعقوب" وما آل إليه حاله أصبح
طا يجلدُ ظهرها ،راودها الندم على وجودها في حياته ،كأنها السبب سو ا
ضيف وقح ًل يسعه إًل أن يجلد َ ُمضيفه.
ُ الوحيد لما ح ّل به ،الندم
استأنفت سيرها وعيناها ماطرة ،وهي تتلفتُ خلفها مع كل خطوة تخطوها،
ا
خياًل له يُطمئنها علَّها تجدُ ذاك الشاب الذي تُحب وقد لحق بها ،علَّها تلح ُ
ظ
56
عمر غبرا إفك األسياد
عليه ،أو ت َسمع له همسا عذباا يناديها بأن تنتظر ،ولكن أَنى لمن قيدته
السًلسل أن يمضي نحو من يُحب ويطأ األرض التي يهوى ويلتقي بمن
لف بهما يؤنسه لقاؤه ،ففي تلك األثناء فتح "يعقوب" عينيه لثوان قِصار َّ
أكناف الزنزانة التي حوته ،وإذ لم يلحظ سوى الظًلم الذي كفنه وخيوط من
نور تسللت من تحت شق الباب ،أغمض عينيه ثانية ا وهو ُملقى على صدره
أرض ُمبللة وراح يرسُم المشهد في خياله ليكون صورة ا للحالة التي ٍ فوق
صار إليها ،أرض ُموحلة اختلط ترابها بماء لم يعرف أصله ،تسارعت إلى
شمس حارقة، ٍ ب ميت رمي تحت أنفه رائحتها التي تكاد ُ تشبه رائحة كل ٍ
غبشت الرائحةُ على عقله فحاول أن يرفع يده اليمنى ليسند جسمه ويعينه
على الجلوس ولكن األلم كان أقوى من إرادته فأراح جسده على التراب
الذي تحته حتى امتزجا فكأنه من التراب وكأن التراب قُد منه وأخذ يقول
لنفسه :إن أنا نهضتُ وأبعدت أنفي عن مصدر الرائحة هل سأفلتُ منهاً ،ل
أظن ذلك ،فقد قُدر لها أن ت َس ُكن المكان وما أنا سوى زائر استباح حماها
عنوةا.
غمض عينيه خوفاا من مجهول المكان ٌ َمضى عليه بعض الوقت وهو ُم
والمستقبل ،وكأنه َحسِب أن السكون سيبقيه في مأمن من فوضى القادم
وصدم ِة المجهول فراح يُجاهد ُ نفسه لتقتحم ما صارت إليه بقوة ،فيفت ُح عينيه
ت من البعيد ال ُمبهم ليسترق النظر حوله فًل يُجبه سوى الظًلم وأصوا ٍ
أخيرا على النهوض وأخذ يتحسس ا تتسارع همساا إلى أذنيه ،أعانته ذراعاه
طوًل وعرضاا ،جاثي اا على ُركبتيه حتى علم ما تحتويه الغرفة ا األرض بكفيه
ا ٌ
الخالية ،فراغٌ فقط له أرضية نتنة تفوح منها رائحة تن ُم عما بها ت َضيقُ
بنفسها ذرعاا فًل ت َجدُ منفذاا للخروج سوى ذاكَ الباب المحكم بين لحظتي
جدران خشنة تجو ُل عليها العناكب مطمئنة كما ٍ فتحه وإغًلقه ،وأربعة
الماعز فوق الجبال الوعرة ،استند إلى الجدار وراحت أصابعه تجول ُ تجو ُل
ق يُهي ُج بها األلم ،فكف عن ذلك على مواضع الجروح والكدمات بجسده برف ٍ
بعد أن فشل بإحصائها وآثر أن تبقى أل اما واحداا ُمجتمعا ًل تُعرف علته وًل
يحدُّه موضع على أن يفرقها فتكون آًل اما شتى معلومة الموضع ُمتباينة
الحدة ،خر َق الصمتُ تمتمات الجنود وسمع وقع ٍ
أقدام تزداد ُ اقتراباا إليه حتى
ت جال بخاطره العديد ُ من األسئلة ،هل هو بلغت باب الزنزانة ،للحظا ٍ
"أوندال" أم قائد الحرس جا َء ليكمل مهمته الناقصة ،أم لعلهم الجنود يريدون
س ْوقه إلى الحقل...؟ وتوالت األسئلة على عقله حتى فُتح الباب وولج إليه َ
الطيب إبراهيم ،ولم يبدُ منه للوهلة األولى سوى رأسه األصلع لمعت عليه
بفعل النور من خلفه ،دنا من "يعقوب" وقد بدأت مًلمح ٍ قطرات العرق
57
عمر غبرا إفك األسياد
بأس عليكَ يا بُني ت خافتً :ل َ اًلشمئزاز ترتسم على وجهه وأخذ يقول بصو ٍ
ًل بأس عليك ،آ ٍه ما أشقاك ...ما الذي دفعك للقدوم اآلن وأين اختفيت كل
ذاك الوقت...؟ بحثتُ عنكَ في مغارة الحكيم المعزول فلم أجدك هناك ،أهكذا
تحجبُ نَفسك عمن مد إليك يد العون!؟ ليس المقام مناسباا للعتاب اآلن ،أعل ُم
هذا ،ولكن لساني يأبى أن يخفي ما في نفسي!
أخفض "يعقوب" رأسه ثم قال :وها قد ساقني القدر إليك...
يخر -لماذا تقولها بائساا وكأن نهايتك قد حانت ،أهكذا أصبح الرج ُل منا ُّ
باكياا ويلوح برايات اًلستسًلم عند أول عارض يعترضه؟
سب لي ،أعلم أنك لن تدعني منفرداا وحيد اا. -بيدك خًلصي مما نُ َ
-آ ٍه يا بني األحمق ما الذي أتى بكَ إلى القرية وها أنت تعل ُم ما لُفق لك؟!
مرارا أن أصل إليك أو للفتاة ا خلتُ للوهلة األولى أنك لم تعلم بعد ،وحاولت
كي أحميكما ولم أستطع.
-القدر!...
شارف َ -يمشي اإلنسان إلى الهاوية فإن نجا قال هذا من صنع يدي ،وإن
على الهًلك قال هذا من صنع القدر ،يبدو أنها ليست المرة األولى التي تأتي
بها للقرية ولكن ما الذي دفع "جورج" لمزاحمة المخاطر ألجلك ،أما كنت
لتتعقل!؟
ظل ينصره، ُ
يبحث الوحيد عن ظ ٍل يأنس به ،كذلك يبحث المظلوم عن ٍ ُ -
ا ُ
كيف حاله ،هل رأيته؟ ًل أذكر شيئا مما كان إًل صراخ الجنود َ أخبرني
وصوت هِراواتهم وهي تحتك بالريح في طريقها لجسدي وبعد ذلك وجدتُ
خبر عنها؟؟؟؟ نفسي هنا ،هل ساقوه إلى هنا أيضاا و"أراس" هل عندكَ ٌ
كيف َ المسكينة تلك -الجزار بأحسن حالً ،ل تخشى عليه ولكن "أراس"
سيكون حالها وحيدة ا بتلك القفار؟! ومع ذلك يبقى حالها أحسن من حالك هنا.
-وحدك والحكيم صادق اللذان تعلمان حقيقة األمر ،وبأنني ما خرجت من
القرية إًل بعدما أخبرتماني أن كبير الحكماء يريد قتلي.
-قولك هذا يا بُني سيودي بي وبالحكيم صادق أيضاا فًل تعيده مرة ا أخرى
فإنه لن ينفعك أكثر مما سيضرنا ،وكيف للعين أن تقاوم المِ ْخ َرز.
-ماذا تعني!!!
-هل من أح ٍد يعلم الذي جرى بيننا غيركما أنت و"أراس"؟
-الجزار "جورج" فقط ...أعنِّي على الخروج من هنا أيها الحكيم ولن تكون
وحدك في مواجهة كبير الحكماء.
قال إبراهيم وكأنه عثر على كنزه المفقود :وبمن أستعين يا بني ،بتلك الفتاة
أرض ستكون اآلن؟ ٍ الضعيفة التي ًل أعل ُم في أي
58
عمر غبرا إفك األسياد
يغرك ضعفها فعندها ما يغنيك عن مائة رجلُ ،كنا قد عقدنا العزم على ً -ل ُ
جمع أهل القرية وبعض من نالهم األذى من أهل قرى الجبل لنصرتنا على
كبير الحكماء ،وكان الرأي بأن نستعين بمن نثقُ بهم من الحكماء مثلك أنت
والحكيم صادق.
ابتسم إبراهيم ولمعت أسنانه في الظًلم كخيطِ النور في السماء المظلمة،
وانحنى إلى "يعقوب" ليسمع همسه ويعيه جيداا بينما تابع "يعقوب" ا
قائًل:
ت لكبير الحكماء أظنها ستكون عونا لنا في إتمام وقد عثرنا على ُمذكرا ٍ
األمر.
ب حاجبيه وهو يسأل :أي ُمذكرات؟ انحسرت البسمة عن شفاه الطيب وقطَّ َ
-مذكرات وجدناها في مغارة الحكيم المعزول.
-وهل بها ما سينفعنا حقاا؟
-لم أقرأها ...لكن الذي أريدُ قوله اآلن :إنكم وإن استطعتم إشهار السيف في
ا
طويًل ليحين وقته، وجه كبير الحكماء فإن ذلك قد يحتاج وقتا
استنشق "يعقوب" الهواء بجوع وتابع وشفتاه تختلجان :وإلى ذلك الوقت...
ًل أعلم ما أقول ،ولكنك تعلم أن "أوندال" سيقتص مني لحظة رؤيتي ،فما
هي إًل ليلةٌ وضحاها ويسلبني حياتي.
هز إبراهيم رأسه وهو يمرر أص ابعه على ذقنه الملساء بينما تابع "يعقوب"
داًل على المكان الذي يؤي "أراس" وما إن انتهى حتى استدار الطيب قوله ا
نحو باب الزنزانة وخرج منها بخطى ثقيلة هادئة ،و"يعقوب" يشيعه بعينيه
اللتين بقيتا معلقتين بأهداب النور المارة خلف الباب المفتوح ،كأنهما عينا
النظر لمحبوبته ،وما إن مضت بض ُع دقائق حتى دخل جسدُ َ ق يسترقُ عاش ٍ
قائد المجموعة سليم الذي حال بين عيون العاشق ومحبوبته ،تماما مثلما
حال بين الهواء ورئتي "يعقوب" بعد ذلك ليتركه جثةا صارخة في هدوء
المكان وفوضى الزمان تقول :نحن أنصار الحقيقة المسلوبة ،نبذ ُل في سبيلها
الروح وبقايا الجسد.
جسرا
ا من الضعفاء تستمدُ الحقيقة قوة الظهور ،ومن أجسادهم الجائعة تتخذُ
للعبور ،ولن تصل إلى عنان السماء لتكون منارة ا للشعوب إًل إذا صعدت
على آًلف األجساد وصحبتها آًلف األرواح تحفها من كل جانب وتحميها
من عيون اللصوص وأيدي العابثين.
كذلك خرج الطيب إبراهيم من الزنزانة وأودع أمره وثمرة َ قلبه الخائف في
59
عمر غبرا إفك األسياد
إذن قائد المجموعة ومضى بعيداا وهو يقول لنفسه :ذاك المجد ُ الذي نسعى
إليه يأبى أن نبلغه بأيا ٍد بيضاء نظيفة.
-11المذكرة الخامسة.
يوم شمسه صالية وحره يذيب النفوس تًل المجزرة التي وقعت في ● وفي ٍ
منزلي ساقني حرس القرية بعرب ٍة يجرها فَرسان ،والفُرسان من حولي ترمح
على خيولها بعدد يصعب إحصاؤه ،أنزلني الجنود قبل أن نصل الساحة،
كانوا قد وضعوا األصفاد حول عنقي وفي أقدامي ويدي ،التفوا حولي
جمع كبير من الناس لم أر مثله في ٍ ودخلنا ساحة القرية التي احتوت على
حياتي قط ،مشى الفرسان على خيولهم بالمقدمة بينما ُكنت أسير خلفهم
بفرسان مترجلين ،أما الحكماء الذين بقوا على قيد الحياة فقد خرجوا ٍ محا ا
طا
ب مهيب شق طريقه من المنزل برفقة الجثتين عند بلوغ الفجر ،دخلنا بموك ٍ
ي بالشتائم ،رأيت بعيون البعض نظرات بين الجمع الغفير وإنهال البعض عل ّ
الشفقة والعطف ،اشتركت جميع العيون حينها بنظرات الغضب ،بعضها
ي ،أخذ الناس بالصراخ والتدافع كانت غاضبة ألجلي وأخرى غاضبة عل ّ
ُ
حيث ي ،إلى أن بلغت ّ إل وصولهم بينما كان الفرسان يحولون بينهم وبين
وقف "أوندال" والحكماء من خلفه ،التف الفرسان حولنا بدائرةٍ واسعة ضاق
بها صدري ،لم أكن أعلم ما الذي سيًلقيني ،إذ إنني أدركتُ من كًلم
"أوندال" في الليلة المنصرمة أنني سارق وخائن ،أما مصيري بعد ذلك كان
مكان
ٍ مبه اما ،كان يراودني أم ٌل بالخًلص من هذا كله ،وأن ا
نورا سينبل ُج من
يتشبث باألمل،ُ ما فيزيل سواد دنياي الحالك ،الغريق يتشبث بقش ٍة والبائس
ليس غبا اء منهما ،لكنه أقصى ما يستطيعان بلوغه ،سكت الجمع وحط على
لم كبير رؤوسهم الطير إذ بدأ "أوندال" يقول :أنصتوا ...أنصتوا لتعلموا َ
الحكماء والولي عليكم استحال أمره إلى هذا الموقف ال ُمشين ،لقد سمعتم من
أقواًل فالتبس عليكم وتهتم عن الحقيقة فاستلموا القول الذي فيه بيان ا األمر
األمر وفصل الخطاب.
أيها السادة :منذ أيام مضت رأيت كبير الحكماء هذا الماثل أمامكم خار اجا من
الحجرة التي تضم النصوص المقدسة في مبنى المعبد ،وكما تعلمون فقد
ب
صحفٍ فريدة وكت ٍ ظا على ما فيها من ُ ُحظر على عامة الناس دخولها حفا ا
مقدسة ،فًل يدخلها سوى الحكماء بعد أن ينالوا اإلذن من كبيرهم ،فتقدمتُ
نحوه أللقي عليه التحية وأسأله إن كان له حاجةا فأقضيها ،فرأيتُ وجهه
شاحباا يعتريه التوتر ،ابتسم لي وحاول أن يُطلق لسانه للكًلم ،كان واض احا
60
عمر غبرا إفك األسياد
أيها السادة أنه يريد الهروب من التوتر الذي سيطر عليه بالتحدث عن أي
شيء ،دهشت للحالة التي كان عليها لكني لم أ ُ ِ
ول األمر اهتما اما في تلك
اللحظات فحييته وهممت بالمغادرة ،وشاءت اآللهة أن أرى أنه يخفي كتاب
القديس تحت ثوبه وأنا أمضي في سبيلي ،شككت أن في األمر خطباا ما،
كيف ًل وهذا كبير الحكماء على وجهه من القلق ما يجذبُ نظر الطفل ،وقد
أخفى أعظم ما نملك تحت ثوبه وخرج به من المعبد ،وقد ُحظر على
الحكماء أن يخرجوا صحيفةا واحدة خارج الحجرة.
كان الجمع منصتاا يلتقط كلمات "أوندال" بعناية وشوق الذي تابع ا
قائًل بثقة
حتى كدت أن أصدقه :زاد فضولي ألعرف مصدر األمر ونهايته ،فترصدت
لكبير الحكماء وراقبته كما تراقب اللبؤة فريستها ،وصح ما كنت أقوله دو اما،
إن الفضول يودي إلى المعرفة والمعرفة تودي إلى الشقاء ،وشقاء العارفين
ي وبدأت الشكوك تراودني خير من شقاء الجهلة ،زاد التباس األمر عل ّ ٌ
والتساؤًلت تجول في عقلي ،وإذ إن الجميع يعلم أن هناك خًلفاا بيننا وبين
المعبد في الجبل الشرقي حول أحقية اًلحتفاظ بكتاب القديس ،ولطالما كادوا
لنا كي يحصلوا عليه ولم يستطيعوا ،وما خِ فته وشككت به قد حصل ا
فعًل،
ُكنت أدفع هذه األفكار عني وأقول لهاً :ل ...إنه رج ٌل صالح ومخلص إلى
أبناء قومه ،حتى رأيتُ اثنين من الحكماء ليلةَ البارحة يأخذان فرسين من
اسطبل المعبد ،وأخبرني أحدهما بعد أن تحدثتُ معه ا
قليًل أنهما ذاهبان إلى
منزل كبير الحكماء وسيخرجان في طريق السفر بعد ذلك ،لم يُفصحا عن ِ
وجهتهما ،وكان من المريب أيضاا أن يخرج حكيم من الحكماء لوحده دون
أن يعلم البقية غايته ومستقره ،فعلمت أن األمر ًل يُسكت عنه ،وأن في
السكوت وإغماض األعين عما يجري خيانةٌ ألهل قريتي ولمقدساتنا،
وعندها أيها السادة هرولتُ إلى رئيس الحرس في مقره ،هذا الرجل المقدام
الشجاع "سفيان" ،وبعدَ أن أخبرتهُ بما جرى أرسلنا للحكماء كي يلحقوا بي
إلى منزل كبير الحكماء وخر َج هو إلى الطريق كي يلحق الحكماء
المغادرين ،وبمشيئة اآللهة استطاع أن يمسك بأولئك الخونة األوغاد وبعد
مقاوم ٍة منهما ورفضهما تسليم كتاب القديس جرى عراك بينهما وبين
"سفيان" وجنوده ،وقد لقيا حتفهما على أثره.
ت واحد :المجد لرئيس الحرس المجد صاح بعض الشبان والنسوة بصو ٍ
لحامي المقدسات ،وبقوا يكررون مقولتهم هذه حتى أشار "أوندال" لهما بيده
قائًل :لحق بنا ذاك البطل "سفيان" إلى منزل كبير الحكماء فصمتوا ثُم تابع ا
ُكنت حينها برفقة هؤًلء الحكماء الشرفاء نحاول إقناع كبير الحكماء بأن
يعود إل ى رشده ويعترف بما أراد أن يفعل إلى أن دخل علينا "سفيان"
61
عمر غبرا إفك األسياد
وأخبرنا بأن أحد الحكماء قبل أن يلفظ أنفاسه األخيرة أخبره بأن كتاب
ق أجراه كبير الحكماء مع القديس كان سيصل إلى الجبل الشرقي بعد اتفا ٍ
بعض السماسرة ،وهم بدورهم سيفاوضون المعبد لبيعهم إياه،
كانت الشمس ت َشتد غيظاا ،والجروح التي أخلفها اعتداء "سفيان" على
موضع في جسدي،ٍ وجهي ت َنزف د اما ،أل ٌم انبعث من أعماقي ليفتك بكل
أبحث في وجوه الناس عن نظرة شفقة أسلي بها نفسي، ُ أصابني الدوار وأنا
لم أستطع أن أجد طريقاا أسير به مع ما يُلفق لي ،نظرتُ في وجوه الحكماء
من خلفي ،عض أحدهم على شفته السفلى ،بينما أشار اآلخر بيده لي أن أهدأ
وآخر اختلس نظرة لي بطرف عينه حذار أن يًلحظه أحد ،كانوا جميعا
خائفين وفهمت أنهم يقولون لي :ارضخ لما وقع عليك اآلن ،فليس لنا ولك
استمر "أوندال" بالتحدُث ولم أعِ ما يقول إذ جال بخاطري
َ ثقبٌ نهرب منه،
طيف عائلتي فشعرت لدقائق وكأني انتشلت من موقع الحدث ورحت
برفقتهم ،استعدت صراخ ابنتي ونوح زوجتي والحرس يسوقونني من
المنزل ،هل يخفف البكاء على المظلوم عناءه ،لو كان يُجدي لبكينا حتى ًل
يبقى مظلوم على وجه البسيطة ،ولكن أنى للدموع أن تُعيد للمظلوم حقه
وأنى للكلمات أن تشفي غليله وتُخمد ناره ،أين هما وأي جدران
احتضنتهما...؟
عُدت إلى رشدي وبعض الجمع يصرخون ملء أفواههم :المجد لرئيس
الحرس ...المجد للحكماء.
أولئك الحالمون المساكين ،أرثي لحالهم ،أرثي ألعناقهم التي جلبوا األصفاد
لها بأيديهم ،يُمجدون الرجل عند شروق الشمس ويصلبونه عند أفولها! دون
وعي ٍ ومعرفة ،هو الجهل ًل ريب سبب ُكل داء ورذيلة يجلبُ اله ّم على
ط من قدره ويُسقم معيشته ،يُتيح للظالم أن ي ُزين صاحبه فيفقر جيبه ويح ُ
ظلمه فيظهره كفاتن ٍة تنسدل عليها الفضيلة ،وحدهم العارفون الذين يسبرون
أغوارها فًل يخدعهم الزيف وًل تُسيرهم الكلمات ،وأنى لهؤًلء البسطاء
المساكين أن يدركوا الوجه الحقيقي لـ"أوندال".
62
عمر غبرا إفك األسياد
عنهم ،لعل "أوندال" رماهم بنظرةٍ مؤنبة فانتصر الخوف على اإلنسان
بداخلهم ،تسللت لوجنتي بسمةٌ ساخرة ًل أدري كيف وصلتني في زحام
حافل
ٍ اآلًلم التي أكابدهاُ ،رحت أقول لنفسي ساخرا من ُكل شيءٍ كان وغير
بما يكون :البارحة ُكنت بينهم يلتمسون رضا اآللهة من بين أذرعي ،لم أظلم
منهم أحداا ،أو على األقل هذا الذي ُكنت أظنه بقرارة نفسي ،لم أترك باباا
للخير فيهم إًل طرقته وًل طريقاا لمنفعتهم إًل سلكته ولم أحفل بجه ٍد ومشقة
في سبيل منفعتهم ،أتمنى لو أنهم ينقلبون على الشر بسرعة انقًلبهم على
الخير ،ليت الناس ت َقنع بأن أسوأ الخير ما كان الباطل طريقاا لبلوغه.
63
عمر غبرا إفك األسياد
-12أ ُكتب على المحبين الفراق وكانَ حرا اما عليهم أن يأمنوا بقر ٍ
ب أو ألفة؟
قال "أوندال" وهو يمس ُح أثار النوم عن وجهه :آه أخبرني ما الذي أتى بك
في هذا الوقت الباكر ،أما ُكنت لتنتظر حتى تراني في المعبد!؟
أمر ًل يحتمل التأجيل يا سيدي ،وبه شطران أجاب إبراهيم :أحسبُ أنه ٌ
طر ستُسر له وآخر أظنه لن يُعجبك! ش ٌ
فحوى الموضوع فأشار برأسه علم بفطنته َ قطب "أوندال" حاجبيه وكأنه َ َ
قائًل" :يعقوب" يا سيدي خادمك الذي سرق إلبراهيم ليكمل ،فتابع اآلخر ا
كتاب القديس وغلةَ حقول المعبد ،هو اآلن في مبنى الحرس. َ
-منذُ متى؟
-لم يمض على األمر ساعات.
-وهل علم أه ُل القرية بذلك؟
-هذا هو شطر األمر المحزن يا سيدي ،إذ إن في الوقت الذي اجتمع حرس
القرية في منزل الجزار لإلمساك بـ"يعقوب" دار بينهم معركةا صغيرة
وتعالت األصوات في الحي حتى تجمع الجيران في منزل الجزار وشهدوا
على ما حدث.
-ما الذي تعنيه؟
-لقد قُتل ابن الجزار ،قتله قائد ُ المجموعة ،عندما بلغني أن "يعقوب" في
القرية وأنه دخل منزل الجزار وقد ُكنت في مبنى المعبد حينها ذهبتُ بنفسي
ألخبر "سفيان" باألمر فلم أجده ،وكان قائدُ المجموعة نائب اا عنه ،فبلغته أن
64
عمر غبرا إفك األسياد
يمسكهما مهما كلف األمر ،وأجز ُم أنه لم يقصد قتله ،ولكنها مشيئةُ اآللهة
التي ًل رادَ لها ،أعتقدُ أن الناس حانقةا اآلن على مقتل الشاب ويجبُ تهدئتها!
-آ ٍه "سفيان" لقد أرسلته في مهم ٍة ليقضيها ،سيرجع اليوم ،والفتاة أين هي؟
-لقد هربت من بين أيديهم ،ولكن ًل عليكَ يا سيدي "يعقوب" شابٌ رخو لن
يبقى فمه مقفوًل أمام جنود "سفيان".
-اخرج اآلن إلى المعبد وقم أنت والحكماء بتهدئة الناس ،سيخر ُج بعض
الطائشين ليثيروا المشاكل على موت ابن الجزار قف لهم وهدئ من
روعهم ،وعجّل بالدفن ،فما إن يتساقط التراب على جسد الرجل حتى ينسى
الناس شأنه ،وما له عليهم من حقوق.
ُ -كنت أريد أن أسألك عن الحكيم عارف ،قد طالت غيبته ولم نعلم منه أو
خبرا؟!
عنه ا
-سأرسل من يتحسس لنا أخباره ًل عليك.
خرج إبراهيم وبقي "أوندال" وحده في الحجرة ،وقد اختلطت األمور عليه
كما لم تختلط من قبل ،وأخذ يقول لنفسه بينما نسيم الصباح البارد بدأ بالتسلل
ت واحد كما لم يحدُث من النافذة إلى صدره :تكاثفت األحداث و َكب َُرت بوق ٍ
ئ تحته ألسنةَ اللهب وأن المروج من قبلَ ،من كان يعلم أن الرماد الواهن يخب ُ
ولم ًل؟ إن كان الهدوء والوداعة الوديعة ستكون ساحة لنشوب األعاصير! َ
زيف صدقته ونَسيتُ أن الفوضى والخراب هما أصل األمر وأساسه ،وأن
ُ ُ
الزيف يتًلشى كحبات األرز في أطباق الفقراء! آ ٍه ما أشد بؤس المولود َ
وسط األعاصير ،يرفضهُ السًلم ويبصقه كلما لجأ إليه ،فليس لهُ من حظوةِ
ومأمن يرتاح فيه إًل بأن يتحد مع تلك الزوابع الثائرة فًل يُفرق ِ يستظل بها
إعصارا
ا الناظر بينهما ،حتى إذا ما وجد َ الثائرة وقد هدأت سارعَ ليفتعل ُ
ُدمر ما يمر به ،ويبث الرعب في أفئدة من يراه ،وبذلك يأمن على ُ ي أقوى
المتربصين، أيدي من خًلصه ويكون نفسه
اآلن زاد غيظ الناس لمقتل ابن الجزار وانبعثت النار من تحت الرماد ُ
فاألحرى بي أن أدُس لها أصناف الحطب التي بجعبتي حتى إذا علَت ألسنة
ئ لهيبهم ويبدله برداا وسًلما، اللهب وثاروا ،رميتُ لهم ا
أمرا يُطف ُ
طويًل ،ولن أجد وقتا مناسباا إلفشاء ا هو الحكيم عارف ! أجلتُ خبر مقتله
الخبر أكثر من هذا الوقت ،ليكن هو الحطب وليكن العثور على كتاب
القديس الماء الذي سيخمد نيرانهم ويغسل صدورهم من بقاياها.
وهو كذلك يجول بالحجرة بصحبة أفكاره وقد مضت عليه عدة ساعات
غارقاا بها في عُزل ٍة عما يدور حوله ،دخل عليه قائد الحرس "سفيان" ومن
يخبر
ُ كطفل
ٍ فوره بادره بالقول :مات "يعقوب" يا سيدي ،كان وجهه شاحباا
65
عمر غبرا إفك األسياد
ُ
تهتز جنباته رؤية الموتى للمرة األولى ،لم يكن أحد ٌ ليتخيل أن هذا القاتل
رجًل ميتاا ،وكأن الموتى يعيدون له ذكرى أعماله، ا وترتعد أركانه إن رأى
ويرسمون في حدقتيه لوحةا مرعبة بأجسا ِد من قتلهم ،لم يكن يخشى سفكَ
عقب سفكها ،كانت النشوة ُ َ بقدر ما يخشى الشعور الذي يطارده ِ الدماء
والتلذذ بالقتل ينسيانه تلك اآلًلم ويض ُع حجاباا عن المعانة التي سيكابدها بعد
ذلك.
قائًل :وجده الجنود وقد ت شَفة بينما تابع "سفيان" ا لم ينبس "أوندال" ببن ِ
فارق الحياة في زنزانته ،تفحصتُ وجهه وجسده فور عودتي وإخباري
باألمر ،يبدو يا سيدي أن جسده كان أضعف من أن يحتمل قسوتهم.
اضطرب للحظات وسار خياله بعيدااَ أشار "أوندال" لـ"سفيان" بالجلوس وقد
أليام وسنوات ليفتت قسوة اللحظة ويزيل حقد األيامّ ،لوح بيده أمام عينيه ٍ
ليطرد صورة "يعقوب" البديعة من أمامه ثُم قال ووجهه إلى الجدار وكأنه
يريد استعادة رباطة جأشه شيئاا فشيئا :وعباس ...هل وجدته؟
-اختفى يا سيدي وضاع أثره.
عاد "أوندال" لدوامة أفكاره ،تلك الضوضاء أخلفت لديه صمتاا عميقاا كبئر،
وندبات كأس ٍد هرم ،بقي حبيساا في منزله وأوكل مهامه للحكماء ،خارت قواه
بخروج ابنه عن طاعته كما خارت قوى "جورج" بسلب ابنه من حياته،
أمام
َ األبُ رج ٌل ضعيف أمام ولده ،مهما بلغت قسوته وقوته يبقى ضعيفاا
الفقد أو خيب ِة األمل ،وكأن األطفال بذور يزرعها فًل ٌح فقير يسره أن يراها
تنمو بدفء عينيه وأن تكون ثمرة ا كما رسم لها في خياله ،يقتاتُ منها بأيام
ئ وبدد تلك الضعف والعوز ويتكئ عليها باأليام العاصفة ،فإن طرأ طار ٌ
منكسرا وحيد اا وكأن الحياة تبددت مع ذاك الخيال ،بقي الحكماء ا األحًلم تراه
يترددون عليه وقائد الحرس فيخبروه بما يجري وقد حق توقعه وعم
الغضب لمقتل ابن الجزار وتأججت النار أكثر عندما علم الحكماء أن الحكيم
عارف اعترضه قطاع الطرق واللصوص فنهبوه وقتلوه وطلبته في طريقه
للجبل الشرقي ،فزاد َ حنق الناس على حرس القرية ،وكيف ًل والحرس
يصول ويجول ويتعدى على المنازل ،والطرقات تعمها الفوضى واللصوص
واستمر
َ يكف أيديهم عن الضعفاء،ُ يعيثون بها فساد اا دون أن تجد رادعاا
األمر كذلك أليام قليلة حتى خرج الحكماء فأعلنوا العثور على كتاب القديس
وموت "يعقوب" الذي سرقه ،فهدأت الناس وارتفعت زغاريد النسوة وأدعية
المؤمنين وهتافات الرجال لحرس القرية الذي صان دينهم!
كانت "أراس" قد التقت بعباس عشيةَ هروبها من منزل الجزار ،لم يجرؤ
66
عمر غبرا إفك األسياد
ي منهما على النزول إلى القرية أو الخروج من باب المغارة ،أخذ الحديث أ ٌ
بينهما مجراه ،وراح يسير كماء النهر ًل يعيقه إًل أمور كانت تسلبُ ألباب
أصحابها ،بقي اًلثنان على أمل خروج أح ٍد من القرية إليهما ،وفي ُكل ٍ
يوم
يمضي يجددان بنفسيهما أمل الخًلص ،وكم تمنيا أن يستيقظا وكأن شيئاا لم
ي ُكن ،وكأن ما مر ما هو إًل ُحل ٌم ثقيل وقد انتهى ،ولكن أَنى لألحًلم أن تكون
واقعاا ،وأَنى للواقع أن يستحيل حل اما ،وانكب اًلثنان على قراءة المذكرات
وتمحيصها ،حرفاا إثر حرف وكلمةا إثر أختها ،حتى اتضح أمامهما المشهد،
صا بعض الشيء إًل أنه فيه من المًلمح ما يكفي إلعانتهم ،ع ّم وإن كان ناق ا
صدر "أراس" إذ تأكدت من شكوك "جورج" الجزار بالطيب ِ الرعبُ في
إبراهيم عبر ما قرأته في مذكرات أبيها ،وكان ُجل ما تخشاه أن يقع
"يعقوب" في شباكه الخبيثة وهو ما حصل في الحقيقة ،وما سيحصل لها
عقب ذلك أيضاا ،وهي كذلك وفي اليوم الذي تًل ظهور كتاب القديس
دم المنعزًلن برؤية الطيب ص َ
وانتشار نبأ موت "يعقوب" في زنزانتهُ ،
إبراهيم يل ُج إليهما من باب المغارة بهدوء الواثق وحذر الخائف ،فلم تزد
"أراس" على أن رحبت به وقد علمت بقرارةِ نفسها أنه ما كان له أن يصل
سبيل أمامها إًل أن
ٍ إلى المغارة لوًل أن "يعقوب" قد أرسله ،وأنه ما من
تُبدي له الثقة وإن أبطنت غير ذلك ،وعلم عباس ما يدور بخلدها إذ رآها
تُرحبُ به فحذا حذوها.
جلس الطيب إبراهيم وقد حاول جاهد اا أن يستقدم مًلم َح الغضب والحزن َ
واستقدم مًلمح تستنط ُق من يراها ،وكذلكَ فعلت َ إلى وجهه فنجح بذلك
بـ"أراس" التي بادرت تقول بعد أن رأت حالته :أظنُ أن األمر الذي أتى بك
خيرا!
ليس ا
-وهل للخير ُمتس ٌع في بًل ٍد توًلها السفلة! اعذرني يا عباس لكن ًل أظن
أنك في مقامك هذا إًل وأنت ُمدركٌ صدقَ ما أقول.
ناعس متألم وأخذ يقص عليهما ما جرى بالقرية ٍ تتابع إبراهيم كًلمه بصو ٍ
وموت "يعقوب" وابن الجزار وفرح األهالي بالقبض على سارق كتاب
ا لقديس وموته ،واسترسل في حديثه ووصفه للتفاصيل و"أراس" تستمع
وكأن عشرات السكاكين تُقطع بلحمها ،انقبض صدرها ووقع قلبها في ٍ
بئر ًل
قرار له ،لم تستطع أن تتمالك نفسها فراحت دموعها ا
سيًل من الحمم ،وأخذ
كنسر يأكل من فريسته ،أوقفت سيل الدموع ٍ ينقر رأس عباس ُ الغضب
بحاجز التوق لًلنتقام وأفرغت بجوفها الماء البارد ثُم قالت :واآلن ما الذي
سيجري؟
67
عمر غبرا إفك األسياد
محاوًل جرهما إلى طلب العون منهً :ل شيء ،انتهى األمر الذي ا قال إبراهيم
أمر يثير "أوندال" عليكِ ،أما أنت كنتما به منشغليْن ،مات "يعقوب" وما من ٍ
يا عباس فقد علمتُ أن أباك أرسل "سفيان" للبحث عنك ولن يتوقف عن
ذلك ،فإن عُدت إلى طاعته هان األمر عليك ،هذا ُكل ما لدي لكما ،وًل
علم بسبب خروجكَ من القرية ،وقد أخبرني "يعقوب" قبل أخفيك أني على ٍ
موته أنني سأجدكَ هُنا واتفقت أنت وهو أن تكون عونا لنا إلظهار براءته
والحكيم صادق كان سيشهد أننا من دفعنا "يعقوب" للهرب من القرية ،ولكنه
الخًلص على طريقتها ،أما اآلن فًل َ مات ذاك البائس ،شاءت اآللهة له
أظنكما أنداد اا لـ"أوندال".
-لم ينته شيء بعد بالنسبة لي ،وهناك "جورج" وآخرون يتوقون لًلنتقام،
ُكنا قد عقدنا العزم وعباس معنا للنزول إلى القرية في حال تمت محاكمة
"يعقوب" ليدلي عباس بما رأى ،ولكن قد فاتَ األوان ،تابعت "أراس"
وكأنها ترى أن إبراهيم القشة األخيرة التي ستنجيها من الغرق ،مجازفةا بما
ت أبيها :هل لك بنصرتنا أيها الطيب؟ قرأت بمذكرا ِ
-ما هذا السؤال يا بُنيتي لو لم يكن هذا مقصدي لما وجدتني هُنا ،إنني أشفقُ
عاجز عن نصرتكما ،قولي ما الذي تريدينه ولن أخيبك أبد اا. ٌ عليكما ولكنني
-قبل ذلك هل ت َعلم كيف قُتل الحكيم عارف ،فأنت اللبيبُ الفطن الذي له
ت وعلى ُكل حجر ،اصدقني القول. عيون في ُكل بي ٍ
-آه يا ابنتي لقد علمتُ وكان األوان قد فات ،دائ اما تصلنا األشياء التي نُريد
في الوقت الخطأ ،هل هو فع ُل القدر أم من سعينا البطيء ًل أعلم ،لو
أخبرني أبوكِ بما قد نوى؛ لو تحدث الحكيم عارف بما أراد ل ُكنت في
جانبهما ،لكنها مشيئةُ اآللهة على ُكل حال وليس لي بأن أعترض عليها،
ت له يروي بها ما حدث ،أفلم تجدي بها ضالتك؟! أعل ُم أن أباكِ تركَ مذكرا ٍ
-ليست كافية!...
-أعل ُم أن الحكيم عارف كان قد خرج برفق ِة بعض الشبان من الطلبة الذين
يثقُ بهم فقط ،للنظر في وباءٍ ظهر في الجبل الشرقي ،فعلمتُ من أح ِد هؤًلء
قبل خروجه أن الغاية جم ُع الشبان األشداء واستئجارهم لًلنقًلب على
"أوندال" ،فكتمتُ األمر وما هي إًل أيام وعلمتُ بما جرى ألبيكِ ،أظنُ أن
الحكيم عارف وكبير الحكماء المعزول كانا قد خططا سوياا ووصل األمر
لـ"أوندال" ،لذلك قُتًل في ٍ
أيام ُمتقاربة ،تلك البًلدُ اللعينة ًل يُكتم بها سر ،هل
ذكر أبوكِ شيئاا عن عارف؟
ا ا
وأجاب بدًل من الفتاة وهو يلوح بيده متخيًل المشهد َ تدخل عباس من فوره
ِكر في المذكرات ،لم يزد الحكيم المعزول أمامهً :ل ًل ليس للحكيم عارف ذ ٌ
68
عمر غبرا إفك األسياد
عن سرد المذبحة التي حصلت في بيته بحق الحكماء ،وعن فضلك في
كشف حقيق ِة والدي له قبل ذلك ،هذا ُكل ما في األمر.
-آه يا ولدي تلك الليلة ُ اللعينة ًل تُنسى ،كم تمنيتُ أن أكون بين الجثث على
أن أحيا ويداي قاصرتان عن الظالمين.
-ستطول إلى أعناقهم ،لعله لم يكن الوقت حينها مناسباا ،وقد أتى وقتنا فلن
ننتظر كي يفوت.
-أتقول هذا على والدك ،آ ٍه ما أشد َ قلبك !...تُعجبني أيها الشاب أيما إعجاب
لو كان لي نصف ما لك من الصًلبة والحزم ،قولي يا "أراس" ما الذي
تريدينه؟
-الجزار ...اذهب إليه وحدثه في شأن الشباب الذي أراد جمعهم.
-ذلك المسكين يكادُ يفقدُ عقله.
-لن يفقد عقله إًل إن بقي صامتا.ا
-وأنا أيضاا بعض الجنود من فرسان القرية يدينون ليُ ،كنت قد كسبتُ
ليوم مث َل هذا.ودهم طيلةَ تلك السنين ٍ
بقدر ما أريد ُ أن أتحدث ألهل القرية دون أن يعترضني ً -ل أريدُ معركةا ِ
أحد ،فإن جمعتَ الحكماء إلى جانبكَ أيضاا ها َن علينا األمر.
-هُم إلى جانبي جميعهم طيلةَ السنين الماضية وأنا أجود ُ لهم بالوًلئم وأمأل
بطونهم بما لذ وطاب حتى أصبح الرج ُل منهم يرتجي أن أطلب منه طلباا،
امأل بطن الجائع تجده عبداا ،أعط اللذة ا لمشتهيها ي ُكن خاد اما لك.
هز عباس رأسه على مضض وقد أثارت حنقه تلك الكلمات ثُم قال :إذاا
ئ عندكَ إلى أن يتم األمر. سأنزل إلى القري ِة برفقتك وأختب ُ
أجابت "أراس" وقد أخذ رأسها يدور كأنها لم ت َفق بعد من خبر موت
"يعقوب"ً :ل ًل ،لن تنزل إلى أي مكان.
األمر
ُ يحتاج لن جديد، بكل وسأوافيكما -هو كذلك يا بني ،ابق هنا في مأمن
كثيرا من ال ُجهد ،فأبوكَ لم يخرج من المنزل بعد هروبك من القرية أما عن ا
الحرس فإن لي بينهم عُصبةٌ ستذود عنا ،وال ُحكماء يرونَ ما يجري و ُكلٌ
عار أن خائف من أن يبدأ القول ،وأنا منهم ُكنت ومازالتُ خائفاا ،ولكن ٌ ٌ منهم
مظلوم وعندي ما ينصفه ،أقولها لكم حتى وإن تخلف ٍ أرفض نصرة َ
"جورج" الجزار فإن من معنا يكفون لدفع أهل القرية لنصرتنا ،فانتظروا
سبعة أيام وسأرسل من يؤمن دخولكما القرية في اليوم الثامن.
ف من بعده صدمةا ًل يسعها الجبل إن فُرغت خر َج الطيب إبراهيم و َخلَ َ
أحشاؤه ،فكيف لصدر فتاةٍ وديعة بأن يسعها؟ خرجت من المغارة واتكأت
على الشجرة التي اعتادت الركون إلي فيئها ،ورمت بحملها على جذع
69
عمر غبرا إفك األسياد
يتوقف الدم عن التدفق في ُ أحقاا ماتَ "يعقوب"...الذي مثله ًل يموتً ،ل
عروقه البارزة ،تأبى الدماء أن تُفارقه ،فكيف للروح أن يهون عليها مفارقة
ذلك الجسد الطاهر العذب!!؟ هو أقوى من أن تعَصف به بعض األحداث،
وأجم ُل من أن تشوهه بعض الجروح ،وأوفى من أن يرحل بصم ِ
ت
جميًل كصفح ِة السماء قبل الغروب ،ومر احا كطف ٍل لم يخبر ا الخائنين ،كا َن
ُخبث الحياة ،نقيا كالثلج كماء النبع ،كا َن إذا ضحكَ رقصت له الغيوم ،وإن
ثيرمر تمايلت عليه األشجار ،وأنشدت له البًلبل ألحان العشقُ ،حمرة ُ خده ت ُ ُ
ت يا بالناظر له ُحباا ًل يُكبح وود اا ًل يسعه المكان ،أيرحل األنقياء بصم ٍ
عباس!!؟ هكذا ،دون جلبة ،أيخشون إزعاج من يحبون فيرحلون بهدوءٍ
كهذا ،أما عل ُموا أن رحيلهم سيثير بنفوسنا عواصف تهد ُم أركانها ،ذاكَ
الجمي ُل النقي لمن يكلني من بعده ،أ ُكتب على المحبين الفراق وكا َن حرا اما
ب أو ألفة!!؟
عليهم أن يأمنوا بقر ٍ
-13المذكرة السادسة.
●صخبٌ ُمد ٍو ،ضجي ٌج ًل يُحتمل ،خيبة تنبش في قلبي بعد أن أودت به ،آًلم
ت َعصف بي ُكل حين ،أيادي حسبتها ستنتشلني من غرقي فراحت تز ّج بي
ب في العشرين ينازل في األعماق ،ظل ٌم ًل طاقةَ لي به ،يصارعني كشا ٍ
امرأة ا في أرذل العمر ،هذا ما أخلفته بي تلك الحادثةَ ،كث ُ َر الكًل ُم الذي وددت
البوح به دون أن أجد أذناا صاغية فلذتُ بالصمت ،الصمتُ فضيلة مجهدة
وهنيئاا لمن قدر عليها ،لم أستطع الصمود بين البشر ونظراتهم تجلدني
أقو على تخيل أن تلك الليلة يُمكن أن تتكرر هنا في منزلي صبا َح مساء ،لم َ
الجديد مرة ا أخرى وأمام عائلتي ،خوفي من "أوندال" ومما سيقدم عليه
دفعني لًلقتراب منه أكثرً ،ل أدري ما هذا التناقض الذي أل ّم بي ،وًل أدري
س ِلبَتْ ا
لهوا ولم خوف من "أوندال" أم خوف من أرواح الحكماء التي ُ ٌ هل هو
70
عمر غبرا إفك األسياد
يقتص لها أحد ،كان يجب أن يخر َج للناس رج ٌل يخبرهم الحقيقة ويسعى
ظلم ،خرجتُ لمغارةٍ قريبة من القرية بعد أن تركت عائلتي للثأر لمن قُتل و ُ
في َمسكنهم الجديد أو منفاه ُم إن صح القولُ ،كنتُ موقناا أن اقترابي من
اطًلع بما يدور في فلكه ،وعن مقصده بعد ٍ "أوندال" والقرية سيجعلني علي
الذي أحرزه ،اطمأنت القريةُ في السنوات األولى التي تلت تعيين "أوندال"
قبل أن يُضيقَ الخناق عليهم شيئاا فشيئا ،لم ي ُكن يشغل بال الناس شاغ ٌل سوى
ُّ
أخط حياتهم وسُبل عيشهم ،لكن "أوندال" لم ي ُكن هادئاا وإلى هذا الوقت الذي
به هذه الصحيفة مازال على حاله يكيدُ لمن شهدوا تلك الليلة الدامية.
اعتزلتُ في المغارة ألجد سكون نفسي وسبيًل للثورةِ على "أوندال" ،حرت
قادرا على سلبها دون أن يعترضه أحد في سبب إبقائه على حياتي وقد كا َن ا
وفي الساحة على مرأى من عيون أهل القرية والحكماء ،أجابني على هذا
التساؤل إبراهيم وقد أتاني إلى المغارة بعد أن ع ّم خبر اعتزالي في قرى
الجبل أجمع ،وبعد أن أخبرني أنه كان من الحكماء الذين تم ضمهم للمجلس
صبيحة الليلة الدامية ،وكان ضمهُ للمجلس شيئا من العجب أثار الدهشة في
صدري حينها ،أخذ يقول واألسى ظاهر عليه وأحسبُ أنه ممث ٌل بارع ي ُجيدُ
يرقص فر احا :إن "أوندال" يا سيدي كان قد عقد َ العزم على ُ البكاء وقلبه
أمام أهل القرية جزا اء للتهمة التي لفقها لك ،وقد حدث َ مضى قتلك فيما
الحكماء بذلك بعد أن خرجوا من منزلك برفقته في تلك الليلة المشؤومة،
وكنت معه م حينها ،لكنهم رفضوا وأبوا ذلك وقايضوا روحك وأرواحهم
وإقرار ما يدعي ،فهل يا سيديَ بالسكوت عليه والخضوع له وتلبية ما يشاء
لديك ما ستُقدم عليه أم أحسب أن نفسك أنفت هذه الحياة فاخترت العزلة هنا
إلى أن تشاء اآللهة ما سيكون؟
لم أجبه حين اهاُ ،كنت حقاا ًل أدري إ لى أين سأتجه ،ما الذي سأفعله في قادم
األيام ،فَقدتُ األمل في بعض األوقات فرحتُ أقو ُل لنفسي :جذعُ الشجرة
نارا تُنير الظلمات وتُدفئ
اليابسة ًل أمل في أن يُثمر لكنه يُمكن أن يكون ا
األحًلم وت َصلي األيدي العابثة ،فما خطبُك أنت تدعي عدم الحول والحيلة؟!
َحسبتُ أن العزل ِة ستُعيد لي هدوئي المسلوب ،فزاد الضجي ُج وتكاثرت
سموم،
ٍ األفكار برأسي وكأني في صحراء تتخبطني الرياح بما تحمله من
وعجزت عن إيجاد ملجأ يحميني منها ،تداوم على زيارتي لفترةٍ وجيزة
ي ،كُنتبعض الطلبة والقليل من أهل القري ِة الذين لم يُصدقوا ما نُسب إل ّ
أخشى إن أنا رفعت لهم الحجاب عما في صدري أن تدور الدائرة عليهم
فيهلكوا؛ فرحتُ ألوذ بالصمت ،لم أخبر أحداا ممن سألني عن أصل ما
71
عمر غبرا إفك األسياد
جرى ،وحدها العيون التي كانت تنطق متوسلةا الخًلص راجيةا الشفقة ،لم
ينطلق لساني في الحديث مع أح ٍد كما هو الحال مع إبراهيم ،كان يبدأ حديثه
كحكيم في المجلس ،ويطلبُ مني المشورة َ ٍ فيخبرني بأعماله التي يقوم بها
إلنجاز ما يستعصي عليه من أمور العمل ،حتى إذا فرغَ من كًلمه رحتُ
بشكل يدفع المتحدث إلى
ٍ أفضي إليه عن القليل مما في صدري وهو ُمنصت
ُ
اإلكثار من قوله ،وفي النهاية يُخرج من جعبته الكتب التي طلبتها منه فيأخذ
ما أنهيته ليعيده إلى موضعه في مبنى الحكماء ويعطيني ما طلبت ،الكتاب
ملجأ لكل تائه ،و ُمتكأ لكل ُمتعب ،هو الطريق لمن مل الضياع ،واألنيس لمن
ومعلم
ٍ ق يسمع دون عذل، ب فقد حظي بصدي ٍ أوحشته الوحدة ،من حظي بكتا ٍ
يرشد دون قسوة ،قرأت عن مئات العظماء ممن قادوا العالم وانصاع الناس
سر غامض ألفكارهم ،جميعهم كان الكتاب رفيقهم والقراءة متنفسهم ،العالم ٌ
شعور بالحزن على منٌ معقد ولن يُحل عقده جم ٌع من الجهلة ،ينتابني أحياناا
وشعور عدواني على من يُجيدها وتأنف نفسه صحبة ٌ ًل يُجيد القراءة،
الكتاب ،فطالما أن اإلنسان ليس وحده على وجه البسيطة فإن جهله خطيئة،
وطلبُ المعرفة واجبٌ عليه اتجاه أقرانه.
سبعةَ أعوام مرت وأنا في هذه المغارةَ ،مضت سنون ثقيلة مرهقة في بادئ
األمر ثم ما لبثت وأن صارت سريعةا خاطفة كالبرق ،اعتدتُ العزلة وألفتها
نفسي ،ت َساقط ثًلثةٌ من الحكماء الذين شهدوا الحادثةَ واحد اا تلو اآلخر،
ومات السر بموتهم ،لم يبق سوى الطيب إبراهيم وحكي ٌم آخر شاهدٌ على ما
جرى ،بقي إبراهيم على حاله يترددُ لزيارتي بين الفينة واألخرى في ُجنح
ُ
يتحدث عن تلك ح
الظًلم بعيد اا عن األعينَ ،وفي آخر لقاءٍ جمعني به ،را َ
الليل ِة المشؤومة ،مر زمانٌ مديد وزيارات طوال ت َجنبت الحديث عنها معه،
بعدم اًلكتراث ودواخلنا تحترق لألمر،نتظاهر ِ
ُ إنه الخوف والشتات يجعلنا
ت عديدة في السنوات األولى فرفضوا طلبتُ منه أن يأتيني بالحكماء لمرا ٍ
ذلك ،لم أحزن لرفضهم وحسبت أن حالي وحالهم سواء ،جميعنا خَشي على
عائلته وعنقه وقلت لنفسي ربما ت َشجع أحدهم وخط الحقيقة قبل موته على
صحفٍ ناصعة ،كما أفعل أنا اآلن ليكون بعين نفسه المقا ِو َم الشجاع ويموت ُ
وأنفه يُعان ُق السماء عزة ا وشمو اخا ،ولكن ظني كا َن خاطئاا بما حسبته عنهم
وبما حسبته عن "أوندال" وعن إبراهيم أيضاا ،إذ إن أحد طلبة المعبد
القدامى ومازال مواظباا على زيارتي بين الحين واآلخر ،ولم يزد حديثه
طوال السبع سنوات الفائتة عن السؤال في أمور العلم والدين التي يصبو
لمعرفتها ،ومنذُ فترةٍ ليست بالبعيدة أتاني بنص رسال ٍة من الحكيم عارف
72
عمر غبرا إفك األسياد
وهو آخر األحياء الذين شهدوا تلك الليلة إن استثنينا إبراهيم ،وقد أورد في
رسالته أنه والحكماء الذين وافاهم الموت قد وقعوا ضحيةَ خديع ٍة لفَّقها
إبراهيم طيلة َ السبع سنوات الغابرة ،وأخذ يشر ُح في مكتوبه أنها خديعةٌ
رجل ذي عقل ذكي وفكر ُمتقد ودهاء ًل ٍ محكمة الجوانب ًل يخرج بها سوى
ينضب ،خديعة حالت بينهم وبين اتصالهم بي ورؤيتي ،دون أن يعلموا
الهدف منها والغاية التي يطلبها الرجل ،وقد أسهب الحكيم في تحذيري من
شخص آخر غير ٍ ُ
يتحدث عن إبراهيم وجاد بوصف فظائعه حتى حسبتُ أنه
يصف ُخبث إبراهيم :واعلم يا صديقي أنه الذي أعرفه وقال بإحدى رسائله ِ
كامًل إلى نساء ا قد انتشر بين الناس أن الطيب إبراهيم قد بذل نتاجِ حقله
الجبل اللواتي ًل ُمعيل لهن شَرط أن يعملوا بها بما لديهم من قوةٍ على ذلك،
فهرولت النساء إلى بابه يطلبون العون والمدد ،ويدعون له اآللهة على هذه
الفرصة التي تأمنُ عيشهم وتقيهم الجوع ،فأخذ بدوره ينتقي الحسناوات
جمال يجذبُ الرجل ،أما اللواتي ٍ صغار السن ومن كان بوجهها بصيص
ظا من نعمة الجمال فكان ذهب الدهر بنضارة وجوههن واللواتي لم ينلن ح ا
رجًل بين عشرات ا يُقدم لهن األعذار ويصرفهن بعيد اا عنه ،وبذلك أصبح
حقل كان يحل ُم بأن يمتلك ظل شجرةٍ فيه ،وأخذت النساء تهرب ٍ النساء في
من دياره واحدة ا تلو األخرى ،وانتشر خبر تحرشه بنساء حقله حتى انقسم
ومنكر يبجله ،فلم يبق في دياره إًل من ملت العوز ٍ ق يشتمه،
الناس بين ُمصد ٍ
ونهش لحمها الفقر ،فآثرت المال على شرفها والشبع على عفتها ،وهذا دأبُ
جماًل وغابت عفتها ا ماًل وغاب ضميره من الرجال ومن امتلكت من امتلك ا
من النساء ،فًل تأمن لذلك الخبيث واحفظ لسانك إن حضر مجلسك ،ولتعلم
لب على أمرنا ولم يعد ينفع القول والوعظ فأمر أننا نحنُ الحكماء قد غُ َ
"أوندال" نافذ وإبراهيم تحت جناحه راقد.
وأشار في ختام مرساله إلى أن وقت البدار والثأر قد حان وأن ساعده بجانب
ونبش ما مضى بعد َ أن غفل عن ذكره الناس،
ِ ساعدي إن أنا شئت التحرك
وما زال هذا الطالب إلى يومي هذا صلة وص ٍل بيني وبين الحكيم ،يأخذ
مرساًل ويعود بآخر وأحسبُ أني إن استطعت أن أنفذَ ما يدور في خلديا
ستُكشف الحقيقةُ بلسان مالكها ًل بقلمه ،القلم صوت المستضعفين حين يعلو
صوت الظلم على أصوات حناجرهم ،أما من امتلك القوة فًل شيء يعلو
عليه.
73
عمر غبرا إفك األسياد
مستنقع من
ٍ -14ما مِ ن شيءٍ أشد ُ وطأة ا على اإلنسان من أن يجد نفسه في
الزيف والوهم.
ب وصوب ،مع وصول قائد بدأ توافد األهالي إلى ساحة القرية من ُكل حد ٍ
الحرس "سفيان" مصفداا بالقيود ممتلئا بالجروح يجره قائدُ المجموعة سليم
وحوله بعض الجنود والشبان المسلحين من طلبة المعبد وسكان القرية ،وهم
كذلك اقتحم الساحةَ عدد ٌ من الخيول تحم ُل عباس و"أراس" وجنود اا آخرين
كان قد أرسلهم الطيب إبراهيم لحماية الشاب والفتاة وإيصالهما إلى القرية
بسًلم ،كثُر الكًلم بين الناس وراحت العيون تترقبُ اإلجابة عما يجري من
وجوه العارفين والثائرين ،وهم كذلك يقلبون أنظارهم بين قائد الحرس وقد
أتعبته قيوده وبين الفتاة التي اقتحمت الجمع لتقف عند رأس الرجل الراكع
كشعاع من نور اقتحم طريقاا ُمظل اما ومن
ٍ على ركبتيه ،وصل حكماء القرية
خلفهم "أوندال" كبير الحكماء وقد صار إلى ما صار إليه صاحبه "سفيان"
كانت الدهشة ُ والخوف يجوًلن بوجهه كما تجو ُل الخي ُل في أرضها فتسرق
أنظار الحاضرين ،وكذلك الحكماء لم يُخفف عنهم الخوف مما أقدموا عليه،
إًل وعُود الطيب إبراهيم بتقسيم حقول المعبد عليهم إن هو تولى رئاسة
الحكماء ،فأقبلوا وتشجعوا ،وقالوا بملء أفواهِهم :هيهات للظلم أن يجد
أرض نحنُ بها ،امض أيها الطيب فإننا لك من الناصرين ،ومن ٍ مطر احا في
خلفنا طلبة ينصاعون ألمرنا وفرسان في عهدتنا ،وكذلك اجتمع األمر ا
فدبر وسجن من الجنو ِد أصحاب الوًلء لـ"سفيان" َ والكلمةُ للطيب إبراهيم،
وتولى قائد المجموعة أمر "سفيان" بنفسه ،لينقضّ على كبير الحكماء بعد
ذلك دون عناء ،وخًلل ذلك كان "جورج" الجزار قد أعد العدة ،وبدأ بشحذ
نفوس من يثقُ بهم من شباب الجبل عقب دفن ولده ليكون انتقامه القشة التي
ب إبراهيم فيما بعدَ ،مضت سنواتٌ وإبراهيم يخطو لغايته ستكسر ظهر الطي ِ
ُ
وتنظر إليها
ُ النسماتُ ا
رويداا رويدا ،بدا النصر ثمرة ناضجة ،تراقصها
العيو ُن بشهوة ،فتأبى أن يلمسها إًل من رعاها ،وهو الطيبُ رعاها بخبثه
وينعم
َ وكاد َ المكائد َ لتنضُج وخاض الوحل ليصل إليها ويستأثر بها وحده،
بمذاقها في هدأةِ الليل ،وها هو قاب قوسين أو أدنى مِ ن الظفر بها ،فلم ي ُكن
ينقصه سوى بطول ٍة ترفعه بأعين الناس وتدفع ُهم لرفع ِه فوقَ األيدي ليصل
ظهر بها وتُشرعُ لهإلى ثمرته المبتغاة ،فوجد من حكاية "أراس" بطولةا يَ ُ
وصوله لقيادة الحكماء.
كان الجو رطبا ندياا ،لم تفارقه برودة ُ الليل المنصرم ولم يحظ بدفء النهار
والشمس ما زالت مختبئةا خلف مبنى المعبد الشاهق ،يصل شعاعٌ ُ بعد،
ح الديك ِة يعلو من المنازل خفيف منها ليزينَ الجبل في األفق البعيد ،وصيا ُ
74
عمر غبرا إفك األسياد
بحذر وت ََرقُب حول دكان الجزار لتحظى ٍ المجاورة ،بينما تجول القطط
بوجبتها الصباح ية كما اعتادت ،ولم يمنعها من ذلك ازدحام الناس حولها
وارتفاع أصواتهم وحِ دّتها.
ت َقدم الطيب إبراهيم من صف الحكماء ضا اما كلتا يديه وأخذ يقول بصوت
مرتفع خجول تغلفه الرجفة :ما مِ ن شيءٍ أشد ُ وطأة ا على النفس من أن يجد ٍ
اإلنسان نفسه في مستنقعٍ من الزيف والوهم ،نَعم أيها الكِرام الطيبون لقد
وهم وغرقتُم في الخديعة حتى استحال علي ُكم عِشتُم طيلةَ هذه السنين في ٍ
عمرا ًل ينضُب وأنها ا رؤية الحقيقة ،إًل قًلئل منكم علموا أن للحقيق ِة
ستظهر مهما طال غيابها ،ولكنه الخوف كانَ قيد اا على أفواهِهم.ُ
ينبش أحداث المذبحةَ التي قام بها "أوندال" في ُ سكن المكان وراح الطيبُ َ
تلك الليل ِة الملعونة ،ومع ُكل كلم ٍة يلقيها كان الند ُم يشقُ طريقه بقسوةٍ في
قلوب سادةِ القرية ممن آذوا الحكيم المعزول ،والعيون تتقد نيرانها ت َْوقاا
لحرق من خدعهم ،حتى إذا ما انتهى من كًلمه تقدمه عباس ابن "أوندال"
وكأنه في محكم ٍة يُدلي بشهادته ،وقف شام اخا وانهال الكًلم من فاه ِه ُمشيعاا
ب القديس، بدموع عينيه ليقص على اآلذان الصاغية حقيقةَ ما جرى لكتا ِ ِ
فوجئ الجمي ُع بما يسمعون وراحت دموع بعض الشباب تسيل كأنها ُحم ٌم
حارقة على صديق ُهم الذي ظُلم ،لَم يحتمل أحد الشبان ما يسمع وأخذته
الحمية وكأن "يعقوب" رج ٌل من أسرته كان حقاا عليه الثأر له ،لم يَكن على
ُنصر ألجله وليس ألجل أصحابه ،هاج عًلق ٍة بـ"يعقوب" إًل أن الحق ي ُ
حجر كبير مأل ٍ الرجل كالبحر إن غضب ولم يجد ما ينفث به غضبه سوى
به كفه ورماه بقوةِ حقده على "أوندال" ًل بقوة ذراعة فشق به رأسه ،وكأن
ذاكَ الحجر كان إيذاناا للغاضبين لتنفيس غضبهم ،فراحت األحجار
بالعشرات تتطاير باتجاه "أوندال" و"سفيان" ،ابتعد َ الحكماء وقد كانوا صفاا
خلف الرجلين واحتمى من كان في طريق األحجار المترامية وعًل الصراخ
والشتائم دون أن يجرؤ أحد على إيقاف المندفعين ،حتى اخترق عباس ذلك
السيل المتطاير حامياا وجهه بكفيه وهو يصرخ ملء فمه :ارحموه...
ارحموه ،فكف الشبان إشفاقاا على صاحبهم وقد هدأت ثائرتهم ،ارتمى
تنزف من ُك ِل موضع ،كان ُ عباس على جس ِد أبيه وأسندهُ على جسده ودماؤه
بحجر شق رأسه نصفين ،لينال ٍ صاحبه "سفيان" قد فارق الحياة على الفور
ت ُ
"أوندال" القدر األكبر من العذاب :وقال وهو يلفظ أنفاسه األخيرة بكلما ٍ
مألتها الخيبة ُمحملقاا بولده :وعدتني أن تكون كابوسي عندما تعود ...وها قد
وفيت بوعدك.
75
عمر غبرا إفك األسياد
سكن المكان واتسع لنشوةِ النصر وغبط ِة الصدور كما اتسع للرهبة والشفقة،
ث ُمنفرد ،بَكت أحوا ٌل متعددة ومشاعر متناقضة انبثقت من الصدور لحد ٍ
ب إبراهيم "أراس" فر احا وقد انتصفت من قاتل أبيها ،وارتعدت ركبتا الطي ِ
لما جرى ،كان الحكماء جميعهم ينظرون لما يَحد ُث وكأن الدائرة َ ستدور
عليهم ،يَعل ُم الطاغية نهايته الدنيئة فيرسُم لنفسه من الزيف نهايةا كريمة
ليسلي بها نفسه ،خشي إبراهيم أن تفلت األمور من قبضته وأراد َ لنفسه أن
ث يُقام أو يظهر بصورة القائد الجديد الممسك بزمام األمور ،وأن ما من حد ٍ
ب الجثتين ولحق به قائ ِد أمر يُفعل إًل بمشيئته وتحت رضاه ،فعاد إلى جان ِ ٍ
فهم مخاوفه فأراد أن يُبددها ،ربتت "أراس" على َ وكأنه سليم المجموعة
كتف عباس وشدت ذراعه ليقف بجانبها ويتمالك نفسه إذ بدأ إبراهيم يصدح
القصاص من الظلمة المتآمرين ،ليس ُ قائًل :ها قد تحققت العدالة اإللهية وتم
هيناا ما َحصل أيها السادة ولكن لن يُحاسب أحد ممن أقدموا على رجم
الملعونين ،فأنتُم أصحاب القرار في شأن من خدعكم.
علت بعض األصوات :المجد ُ للطيب ...المجد ُ للطيب...
وهم كذلك يصيحون وقد دخلت الغبطة صدر إبراهيم وتنفس الصعداء على
وقع ما يسمع ،رفعت "أراس" يداها مشيرة ا للجمع بالهدوء ،وأخذت تقول
األمر بعد... ُ وهي تُنق ُل عينيها بين وجوه األهالي ووجهه إبراهيم :لم يَكتمل
سمعتُم وقائع المذبحة بلسان الطيب وسمعتم ما كان من إنكم أيها األخيار قد َ
الكثير قيد الكتمان ومنه وهو ما يَهم لتسمعوه ُ أمر كتاب القديس ولكن قد بقي
أن الحكيم عارف كان قد خرج من القرية ليحضر قوة ا تُعينه على اًلنتصاف
من "أوندال" ولم يعلم باألمر سوى الطيب إبراهيم وآخر نقل األمر
لـ"أوندال" لم نَعلم من هو ،ولو أنكم تريثتُم في قتل "سفيان" وصاحبه لفُتِ َح
كبطل قضى ٍ فجدير بنا أن نذ ُكر الحكيم عارفٌ لنا المجال لمعرفة ما نجهل،
في طريقه لتحقيق العدالة كما قضى أبي ،وها هي آخر مذكراته (وأشارت
إلى صحيف ٍة بيدها أظهرتها للحاضرين) كتب بها بأنه سيخرج لمًلقاة الحكيم
مقتوًل! أما وقد سلكنا طريقَ ا وعقب ذلك وجدَ مداخل القرية
ِ عارف عند
ظالم جزاءه ،فمن يرمي ي بنا أن نمضي به حتى النهاية لينال ُك ُل ٍ الحق فحر ٌ
المجداف في منتصف الرحلة سيكون وجبةا لسمك البحر...
ثُم تابعت وهي تعتلي حائط نافورة المياه وأشارت بيدها نحو قائد المجموعة
يقفأيام ابن صاحبكم الجزار ،وها هو اليوم ُ سليم :هذا الر ُجل قد قتل منذ ُ ٍ
ا
منتصب القوام شام َخ األنفِ بيننا وكأنه لم يرتكب جر اما ولم يُبكِ عيونا، َ
ي بنا أن نَقت َص منه وأن يجري عليه سيف العدل كما جرى على الذين فحر ٌ
من قبله.
76
عمر غبرا إفك األسياد
اضطرب سليم وتقلصت أعصابه ،وراحت يده تشدُ على مِ قبض سيفه َ
ال ُمغمد ،وهو يُنقّ ُل عيونه بين الحضور كأس ٍد ينتظر من سيبدؤه بالهجوم
ليزرع نابيه بعنقه ،كان "جورج" يقف بالمؤخرةِ عند دكانه ومن خلفه ما
يزيدُ عن سبع ِة شبان أشداء يقفون كس ٍد يحجبُ باب الدكان ،حيته "أراس"
برأسها وقد بان لها بعد أن ارتفعت فوق الجمع ،فردَ التحية بالمثل ،قاطعها
الطيبُ إبراهيم وكأنها تُريدُ أن تنزع روحه من بين كتفيه ورا َح يصر ُخ
ُمصطنعا اللين :على ِرسلكِ ...على ِرسلكِ يا بُنيتي ،إن هذا الر ُجل الطيب
الذي تنعتينه بال ُمجرم قد أصبح سيفاا للعدل اليوم فلوًله لما أحكمنا القبضة
على "سفيان" ولوًله لما استطعنا أن ننال من كبير الحكماء ،أيكون هذا
جزاءه بعد الذي كان منه!!!؟ إنه وإن قَتل البارحة وسفك الدماء فما هذا إًل
ي عليه طاعةُ أسياده ،أليس كذلك ذنب يُحاسبُ عليه كبير الحكماء ،فهو جند ٌ
أيها السادة ...لم يَ ُكن بوسعه أن يَعترض على ما يأمره به أسياده وذلكَ
يُحسبُ له وًل يُحسبُ عليه ،لقد انخدعَ بكبير الحكماء وبقائِ ِد الحرس كما
انخدع ُجل أهل القرية ،فإن كُان ظال اما فما بهذه القرية إًل ظالم.
دخل المستمعون في دوام ِة الحيرة تتقاذف ُهم اآلراء يمنةا ويُسرة ،فكثُر الهر ُج
وساد َ الضجيج لتًُلشيه "أراس" بصوتها :لتَقِف جانباا أيها الطيب فإنك
واردها كصاحبيك.
كيف تجرئين َ شحب لونه وتابع غاضباا:َ َ هربت الدماء من وجنتي الطيب ف
على مثل هذا القول ،أيخاطبُ الحكماء هكذا ،أي َن هيبةُ المعبد؟!
بعض األصوات المؤنبة ُمناصرة ا ُ أنكر الناس على "أراس" قولها فارتفعت
استنفر الحكماء جميعهم إلسكات الفتاة وتنحيتها عن َ ب إبراهيم كما
للطي ِ
الساحة ،وكأنها ثقبت سد النهر وجعلتهم عرضةا للغرق ،كان الجنود يجولون
كالنمل في جحرهُ ،منتظرين إشارة ا من قائدهم الجديد الذي ًلذ بالصمت،
يتجنب النظر إلى َ بحذر شديدُ ،م ا
حاوًل أن ٍ وأخذ يراقبُ مجريات األمر
وتكاثف عليهما
َ الجثتين الملقتين أمامه ،وقد أحاطتهما دائرة من الدماء
ت ضعف الفتاة وقد حطام نفسه في أشد لحظا َِ الذباب ،وقف عباس وقد لملم
وجدت أن جميع أهل القرية وحكمائها قد اجتمعوا عليها ،وقف ليشد ساعدها
ت مبحوح وهو يُمسك بساعده ويزيد َ قوتها مما تبقى من قوته فقال بصو ٍ
مأمن خلفهً :ل تكونوا ظلمةَ ،فلتسمعوا تتمةَ األمر من ٍ بيدها ويبعدها إلى
ُ ا ا
أصحابه فإما أن تكونوا رجاًل وتنصروا من ترونه أهًل للنصرة وإما أن
سبُ َل األمان فًل تقو ُم لكُم قائمة ت َصمتوا وتتبعوا الكًلم ال ُمزخرف وتسلكوا ُ
ت لين يُخفي لحناا باكياا :لقد راهنتُ بعد ذلك ،فقاطعته "أراس" قائلةا بصو ٍ
على حمايت ُكم لنا ،أفتخذلوا ابنة من كانَ يو اما خادم ُكم؟! إن لم يَ ُكن فعل ُكم
77
عمر غبرا إفك األسياد
إذاا. ب
للذن ِ تكفيرا
ا لي ُكن للجميل، رداا المبتغى
وتاب َع عباس بعد أن رأى كًلمه وقد استفزَ السامعين وحركَ فضولهم :ائتنا
ِب َمن عِندك أيها الجزار.
ف الشبان الذين خلف الجزار ففتح باب دُكانه فَخرجت مِ نه ثًلثةُ ص ُانشق َ
ُّ
شيْنَ باتجاه الجمع والشبان يحفونهم من الجانبين ،والجم ُع مندهش نسوة و َم َ
لما يرى ،كانت وجوههن مألوفةا ومعروفةا ألهل القرية ،فلم يتنكر الفرع
والجار لجاره ،إنما اتّقد الفضول في صدور الناظرين وراحت ُ لنظيره
العيون تُلقي للعيون األسئلة ،شقت النسوة طريقهن ووصلوا إلى جان ِ
ب
تلف حول عنقها شريطةا بنفسجية، "أراس" ،كانت األولى ذاتَ طو ٍل فارع ُ
وأما الثانية فإن الجوع قد جال وجلس في جسدها فبانت عليها آثاره ،فبدت
كستينية وهي في العق ِد الرابع من عمرها ،والثالثة ابنتها ،إًل أن جمالها كان
ث به.
أقوى من أن يسم َح للبؤس بالعب ِ
ت لوصولهن جوار عباس وقد ه ّم ليقول ما عنده ،حتى وما هي إًل لحظا ٍ
اقتحم الجنود صفوف الجمع كالثيران المستنفرة ت َغز قرونها في ُكل ما
تجر العادة على يعترضها ،فلجانب سيف ُكل جندي كانت هناك هراوة ،لم ِ
استخدامها إًل أن األمر قد ُخطط له قبل وقوعه ،فبعدَ إشارةٍ من الطي ِ
ب
إبراهيم ألقاها على قائ ِد المجموعة وانتشرت بين الجنود كالنار في الهشيم
بدأت الهراوات تمضي في طريقها إلى جباه الجمع وأجسادهِم ،كان
"جورج" في المؤخرة ،لم يشأ أن يقترب من قائ ِد المجموعة الذي قتل ابنه
إًل في لحظة انتقامه فخشي أن ًل يتمالك نفسه فتنقلبُ الدائرة ُ على جماعته
ويحالف ُهم الفشل ،إذ إنه وفي اليوم التالي لزيارة الطيب إبراهيم لـ"أراس" أتاه
ت الحكيم عباس ليخبره بوع ِد الطيب إبراهيم ،وما وجدوه في مذكرا ِ
المعزول إزاءه من وصفٍ بال ُخبث والمكر ،فقال الجزار وقد خرج من نوبة
اليوم األول الذي عُين به
ِ بقدوم عباس :ذلك وغدٌ نجسُ ،منذُ
ِ بكاءٍ هيستيرية
حكي اما لم يتغير رأيي به ،وما يُدرينا لعله قد حاك وخطط ل ُكل ما حصل
والحكيم المعزول
ِ بالخفاء ،وإن لم ي ُكن كذلك فلماذا حال بين الحكماء القُدامى
إذاا!!!
-لكننا اآلن بحاجته...
أعرف عدة َ نساءٍ
ُ بدًل من أن نستأمنه، -نَعم نحنُ بحاجته ،ولكن لنستعمله ا
عمِ لن في حقله ،وخرجن أذِلة بعد أن هتك أعراضهن ،ومأل أفواههن َ
بالخوف فلم يبُحن ألح ٍد بما جرى ،لوًل أن فتاة ا كانت تتسول ما يَسد ُ رمقها،
78
عمر غبرا إفك األسياد
وكنتُ على دراي ٍة بأنها قد كانت تعمل في حقله ،فأثار فضولي بقاؤها دون
عمل ،وعلمتُ بقرارةِ نَفسي أصل األمر وألححتُ عليها أيما إلحاح حتى
انطلق لسانها وقص بلَ ْو َ
ع ٍة ما كان منه بحقها وعد ٍد من نسوةِ القرية الًلتي ًل
سند لهن يتكئن عليه ،فإن اقتنعن هؤًلء النسوة ِبقص األمر على أهل القرية
نلنا منه وتمكنا من رقبته ،وذلك بعد أن نستعين بقوته للتم ُكن من أمر
"أوندال" وقائد الحرس.
مرت دقائق ُملئت بها الساحةُ بدماء األهالي فهربت النسوة واألطفال وبقي
ب "جورج" وجوقته ،واستل الجنود سيوفهم شبان القرية األشداء بجان ِ ُ
ورموا الهراوات بعد أن أنهكوا الجمع ضرباا ،ولم تُج ِد سيوف األهالي
ب ما يزيدُ عن أربعة جنود يلتفون وسواطيرهم نفعا ،فكان من نصيب ُكل شا ٍ
حوله ويبرحونه ضرباا بعد أن يجردوه من سًلحه ،وهُم كذلك كالذئاب
الساغبة كانت "أراس" تقف فاغرة ا فاهها مندهشةا بالجنون الذي أصاب
ِف مداريةا نِصف جسدها خلف عباس الطيب إبراهيم عند رؤيته للنسوة ،تَق ُ
الذي كان يدفع عنه األجساد المتعاركة كي ًل يُداس تحت األقدام ،حدجها
إبراهيم بنظرةٍ غاضبة بعد َ أن انتهى من عركِ أحد الشبان تحت قدميه،
ت قضينها فأشار للجنود عليها وصاحبها ،فدارت الدائرة ُ عليهما وبعد لحظا ٍ
تحت هراوات الجنود وأقدامهم مرت وكأنها سنون ُمهلكة ،فقدن الوعي
والشعور باأللم ،فأصبحن كأجسا ِد الموتى ًل يضيرهن ما يُفعل بهن.
-15المذكرة السابعة.
ط هذه الصحيفة وقد بدأت النهاية تتجلى لي ،لم يبق بيني وبينها سوى أخ ُ
بضع خطوات ،فإما أن تكون مخاض وًلدةٍ جديدة لي ولقرى الجبل ،أو أن
ألقى بها حتفي ،أخبرني الحكيم عارف أنه سيخر ُج للناس ويخبرهم بما
جرى بعد أن يُلقي القبض على رئيس الحرس "سفيان" وسيده "أوندال"،
أرض صلبة ًل تمي ُل تحت أقدامه ويستندُ
ٍ ولكن قبل ذلك عليه أن يقف على
جدار قويم ًل يخشى أن ينقض عليه من خلفه ،ولن يكون ذلك إًل بجمعٍ إلى
الرجال من حوله ،وجمع الناس من قرى الجبل على "أوندال" أصبح ممكناا
لما يعانونه منه ،ولكن الخوف من الخيانة أو بلوغ الخبر لـ"أوندال" قبل
أخيرا على
ا وضعه تحت سيف العدالة جعلني أرفض ذلك الخيار ،فاعتمدنا
ج الحكيم عارف إلى الجبل الشرقي فيستأجر الرجال ويعينه على أن يَخر َ
أموًل توفر رغد العيش لهم بعد ا ذلك وعودٌ يبذلها لهم على منحهم
اًلنقضاض على "أوندال"ً ،ل أعلم حقيقةا إن كان المرتزقةُ يعرضون
79
عمر غبرا إفك األسياد
حياتهم للخطر واحتمال خسارتهم قائ اما بقوة ،قد يَصعب األمر عليه
واألموال بين كفيه قليلة ،كان بإمكان عارف أن يتزود بالمال من المعبد أو
يجذب األنظار إليه منعته َ أن يستلف من أحد المرابين ،ولكن خشيتهُ من أن
من ذلك ،فقد ع ُِرف عنه زهده في الحياة ورفضه لملذاتها ،والرضا بما يبقيه
على قيد الحياة دون زيادة أو نقصان فيكفي أن يتساءل أحدهم عن حاجته
لهذا المبلغ الكبير من المال حتى تتسارع العيون خلفه وتكثُر عليه األقوال،
وهذا ما ًل نريده! أما عن مبرر خروجه فلديه من المبررات المقنعة ما يكفي
ليخرج من القرية سال اما هنيئ ا ،فإن استطاع جمع الرجال واإلتيان بهم
سيرسل من يخبرني بقدومه قبل أن يصل مشارف القرية ألخرج وألتقيه
فندخل القرية سوياا ،ولم يبق لوصوله حسب ما أخمن سوى نهار وليلته،
سيُلبس الرجال مًلبس الطلبة وضمن ما تحادثنا به في الرسائل ال ُمتعاقبة أنه َ
ويُخفي أسلحتهم ،أما أنا سأكون في عربته حتى إذا ما وصلنا القرية اختبأت
في إسطبل الخيول ،وسنُرس ُل قبل وصولنا من يتأكد من وجود "أوندال" في
المعبد ،فإن لم يكن؛ ذهب هذا الطالبُ الذي ينقل بيننا الرسائل فأخبره
ألمر مستعجل ،فبذلك نضمن ابتعاده عن ُحراس ٍ بضرورةِ حضوره للمعبد
القرية ،فإ ذا ما وضعنا السيوف على عنقه وخرجنا للناس وصدحت أصواتنا
بالحقيقة سل الرجال سيوفهم وحالوا بين الحرس وبيننا ،ولن يَقبل أه ُل القرية
بأن تُقطع ألسنتنا وينتهي أمرنا قبل أن يعلموا أصل المسألة ،فإن علم الناس
والتفوا حولنا استطعنا أن نُضيق الحبل على رأس "سفيان" ومن يعينه من
الحرس ،إن اجتمع الناس مرة ا فًل مفرق لهم سوى أنفسهم ،وهذا هو بيتُ
القصيد أن يُنصت الناس ،فتجذبهم الحقيقة وتدفعهم لنصرتها ،يو ٌم واحد
وربما أقل يفصلني عن الدخول إلى قريتي.
زارتني ابنتي منذُ أيام ،أصبحت شابة ،مازال حزنها على موت أمها بادياا
فيختار
ُ وينظر ل ُكل البشر
ُ ط على ُكل البقاعطائر يح ُ
ٌ في مًلمحها ،هو الموت
منهم األجمل واألنقى ليهاجروا سوي اا مع الطيور وأدعية الخلق ال ُمحلقة ،لم
ا
مقفًل أخبرها عن شيءٍ مما جرى وما سيجري ،طوال تلك السنين بقي فمي
كعروس تتزينُ لليلة زفافها ٍ يرتبُ الكلمات لتكون جاهزة ا في موعد خروجها
فتمنع عريسها من رؤية زينتها قبل اللقاء ،حتى إذا ما حان الوقت سلبت لبه
لتبقى تلك اللحظات راسخةا في ذهنه إلى انتهاء العمر ،أيقنتُ بعد سبع
سنوات من العزلة أن العائلة مدفأة الروح ،ومن فقد عائلته فقد ِد ْفئه ،ليس
هناك ما هو أصعبُ على النفس البشرية من الوحدة إن دُفعت إليه عنوةا ،أن
تنظر لوجهه وإن كان غليظا شاحباا ،على ُ تنام وتصحو دون أن تجد من
بأناس يستطيع أن يبوح لهم ،ويتعرى من صًلبته ٍ المرء أن يحيط نفسه
80
عمر غبرا إفك األسياد
أمامهم دون خوف من شيء ،حتى وإن كانت العائلة من فردين اثنين ،فإنها
تكفي لتعطيك قوة ا لمجابه ِة العالم ،وتلك فتاتي ًل ريب أنها تقاسي الشعور
نفسه وها قد شارف وقتُ الدفء من جديد ،أما الوحدة الهنيئة فهي التي
يخطو إليها المرء بين الفينة واألخرى فتكون كالمصفاة لعقله وفصًل تُثمر
به أفكاره.
نهار وليلة وأعود إلى مبنى الحكماء حيث األصدقاء والطلبة أتوا من ُكل ٌ
ب ليبحروا في العلوم ،ليس هنالك أعظم من طالب العلم إًل باذله، صو ٍ
سيُنشدُ الناس لحن التعظيم لمن شتموه وظلموه ،سينحنون طلباا للمغفرة
نكرا
والصفح وسأبذلها لهم دون حق ٍد وكراهية ،يتوق المر ُء إلى العزلة ُم ا
على الناس أعمالهم حتى إذا ما صار وحده وبلغ ُمراده طلبت نفسه العودة
واشتاقت إلى أسوأ ما يُمكن للمجتمع ارتكابه ،ليس ازدواجية ا في الرأي
جتمع
ٍ والفكر إنما طبيعة اإلنسان التي ًل انفكاك له عنها :هي أنه ُخل َق في ُم
وبين كثرة وما انعزاله إًل خروج عن هذه الطبيعة.
انتهتْ
الزرقاء – األردن
2019/8/14
81