Professional Documents
Culture Documents
.
.
.
.
ردمك 7 :ـ 1ـ 999ـ 99966ـ ISBN 978
C
1439ـه ـ 2018م
َ د َ َ ر َ َ َ
اساتْ
ال ْر ْ
ِلحْثْ ْو ْ
داد ْ رْ
م ْكزْ مْ ْ
وجدان العلي
.
5 املقدمة
J
قبل البدء
هـنـالـك
ناضر ال يخفت
وهذا الفراغ الشريف في نفسه ‘؛ برها ٌن ٌ
على صدقه وخلوص مع ِدنه من ألواث الجاه وأثقال التطلع إلى
الدنيا وزخارفها!
11 هناك
رجـفـة الـغـار
منتصبا
ً وفي سبحات التأمل في غار حراء ،يفجؤه جبريل
بين يديه في ظلمة الليل ،فيقول له :اقرأ!
تلك الفجأة التي ُت َد ِّوي في هذا السكون الصامت ،وتدع
يرج ُف َر ْج ًفا متتاب ًعا ،تتداعى بين يديه ُك ُّل السكينة التي
قلبه ُ
َ
ِ
وتهاوت أمام هذه ال ُف َجاءة التي حملها هذا
ْ كانت في نفسه،
طالبا هذا الطلب الغريب!وانتصب أمامه ً
َ سكينته
َ الذي ولج عليه
أكبر من المعنى العابر في أذهان البشر
لقد علم أن األمر ُ
الناس ُكلُّهم.
للقراءة ،إنها لقراءة ٌ أخرى مفارق ٌة لما عليه ُ
فيجيب وفي نفسه ما فيها> :ما أنا بقارئ<!
يحسن يتنفس ،ثم يرسله
ُ الملَ ُك إليه حتى ال يكاد
فيضمه َ
فيقول له مقالته األولى نفسها :اقرأ!
فيجيب جوابه األول ال زيادة فيه وال نقصان ــ وأنَّى له في
.
رجفة الغار 14
ٍ
مرتجف يمور قلب
تلك الحال زيادة ٌ ،وإن الكلمة لتخرج من ٍ
بما فيه من صخب األسئلة الثقيلة؟! ــ> :ما أنا بقارئ<!
فيأخذه فيضمه إليه حتى ال يكاد يحسن يتنفس ثم يفجؤه
{ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ بميثاق الجالل وهيبته وعظمته فيقول:
ﲊ ﲋﲌﲍﲎﲏ ﲐﲑﲒﲓ ﲔﲕﲖ
ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ}.
نفس نبي،
الشاهق إال ُ
َ الصدق
َ ودالئل اصطفائه ،وال يطيق هذا
رسول اهلل ‘!
ُ هو
هذا المشهد الباذخ هو مفتاح كل شيء في النظر إلى رسول
بخلو ِه من بهرج االدعاء ،وزيف التزيد ،وبمعنى
ِّ اهلل ‘،
اإلخبات الساجد الخاشع الذي يغشاه كله بتفاصيله كلها..
مس من الجنون.
خشي على نفسه أن يكون أصابه ٌّ
َ
فيهلِك.
تتلف ْ
وخشي على نفسه أن َ
َ
وخشي على نفسه أن يكون ما يراه وه ًما ال حقيقة له.
ويقصر في أداء ما
َ وخشي أن ال يقوم بحق الرسالة عليه،
َفر َض ُه ربُّه عليه.
تلك خشي ٌة كبرى تنطق بفراغ نفسه من التطلع إلى هذه
المنة العظمى!
وإذا كان القرءان المجيد مفع ًما بمواطن السجدات التي
يقوم بها العبد تعظي ًما للمتكلم به سبحانه؛ فإ َّن اهلل تعالى ال
قلب تحقق فيهأعظم ٍ َ يصطفي لحمل هذا القرءان المجيد إال
معنى السجود!
17 رجفة الغار
تلك الحقيقة التي تجعل اإليمان بأن هذا الرجل نبي ،والقرءان
كالم اهلل؛ بداه ًة عقلي ًة ال يملك إنسا ٌن لها دف ًعا!
ُ
هذا اإللحاح القرءاني الراسخ على أن اهلل هو الذي علمه،
وأنه لم يكن ليعلم لوال أن اهلل علمه ،وأن اهلل هو الذي تفضل
عليه ،وهو الذي م َّن عليه بالنبوة والكتاب ،وأنه هو الذي يثبته،
وأنه هو الذي يحفظه ،وأنه هو الذي يؤيده بنصره ،وأنه هو الذي
جمع القلوب عليه ،وهو الذي ألَّف بينها بميثاق الحب واإلخاء:
{ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ.}..
{ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ.}..
{ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ.}..
{ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ.}..
{ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ.}..
{ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ.}..
{ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ.}..
{ﲮﲯﲰﲱﲲﲳﲴﲵ ﲶ ﲷ.}..
19 رجفة الغار
{ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ.}..
{ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ.}..
{ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ
ﲚ ﲛ ﲜ.}..
{ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ }..إلخ.
تلك اآليات التي لو ذهبت أسرد أمثالها هنا لطال األمر
جدا؛ ألن كل ما في القرءان ينطق بأنه كالم الرب تعالى ،وكل
ما في القرءان ينطق أن محم ًدا عبد اهلل ورسوله!
>إنما أنا عبد<!
منذ اليوم األول تتجلى هذه الصفة؛ ألنها صفته األعظم،
ضا في دروب ومن وراء ذلك اليوم سنوات تمتد طوال وعر ً
الزمان ،ال تزيد هذه الحقيق َة إال ِجال ًء ورسو ًخا بأقواله وأفعاله
وأعماله وأحواله ‘!
ورسولِ َّي َته
ولو شئت لقلت :إن عبوديته ناطق ٌة بأنه رسول اهللُ ،
نعت العبودية ‘! ناطق ٌة بأنه أعظم من تحقق فيه ُ
.
كال واهلل ! 20
كـال واهلل!
.
بيان ورقة ! 24
بـيـان ورقـة!
.
فرتة الصدق ! 26
فترة الصدق !
ويفتر الوحي!
لقد كان المشهد األول كله بيا ًنا واض ًحا ال ريب فيه عند
بشريا قط ،وال هو من
كل عاقل على أن هذا الوحي ليس شأنا ًّ
َك ْس ِب حاملِه ‘ ُّ
قط!
بشريا وهو يذهب مرتج ًفا إلى بيته ،ويبث
كيف يكون شأ ًنا ًّ
زوجه ما به ،ويذهب يحمل السؤال ،ويستفصل عن الحال؟!
بشريا ومن تهيأ لشيء يخترعه ،وابتدع
ًّ كيف يكون شأ ًنا
نشره في العالمين؛ يتلبس به الهم والكرب عند بدءأمرا يرجو َ
ً
مهموما وقد شرع في تحقيق مأربِه؟!
ً نشره بين الناس؟! أفيكون
بشريا ويفتر عنه الوحي ،ويجد في قلبه
كيف يكون شأ ًنا ًّ
ألم الحزن ولذع الوحشة ،حتى لقد كان يصعد شواهق الجبال
ليتردى منها ،أفيكون األمر منه ،وبتدبيره ومكره واختالقه
27 فرتة الصدق !
ما الذي يحمله على هذا إال أن األمر ُكلَّه ليس منه وال ْ
بكسبِه
وال بطاقَ ِته أبدا؟!
هذا هو محض العقل ،ومحض النظر السوي عند كل عاق ٍل
في دنيا الناس.
بشريا ويفتر الوحي من بع ُد بعد أن استعلن ا أيكون شأ ًنا
بدعوته ،وهو يرى ويسمع تطاول السفهاء وسخريتهم من ذلك،
وهم يقولون :لقد قلى( )2محم ًدا ربُّه!
عجيب ذلك التقدير اإللهي!
ٌ
لقد جعل عليهم من أنفسهم شهو ًدا؛ إذ أقروا واستعلنوا
للض ْغن الذي يحملونه على بفتور الوحي ،واتخذوه ُم َت َن َّف ًسا ِّ
النبي ‘.
ولو عقلوا لكان في فتور الوحي َم ْقنَ ٌع لكل ذي عقل؛ أن
األمر ليس من محم ٍد ‘ ،وال هو من قوله ،ولو كان ،وحاشاه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1تنبيه :خبر التردي من الجبال ال يصح سن ًدا ،وهو َه َدر ،ولكني أدرجته هنا
حتى ال يتمسك به الطاعنون؛ فإنه داللة صدق ال شيء فيه!
( )2يعني :أبغضه ،وحاشاه سبحانه!
.
فرتة الصدق ! 28
ناس الصحراء
مبايع ًة بعد الفتح قالت للنبي ‘ وهو يأخذ العهد على النساء
وأرج ِله َِّن ،فقالت بلهجة
ُ أن ال يأتين ببهتا ٍن يفترينه بين أيديهن
الح َّرة؟!
الغضوب :أوتزني ُ
ِ المستنكر
وقد اتكأوا على عف ٍة عن المحارم أورثتهم رفع ًة بين األمم،
وفي ذلك يقول عنترة:
ـي جــارتي
ـدت لـ َ وأَ ُغـ ُّ
ـض طرفــي إن بـ ْ
حتــــى يــــواري جــــارتي مأواهــــا!
.
ناس الصحراء 34
فطرتها وأفرغت عليها إفرا ًغا ساب ًغا غير األمة العربية.
َ
جاشت نفوس العرب وتفتقت قرائحهم عن ْ ومن ههنا
روائع الفلسفة الوصفية للصحراء وأرضها وسمائها وليلها
ونهارها وأغوارها وأنجادها وبراريها القاحلة وشجراتها ومعايشها
وصرها وحيوانها ونباتها!
وقيظها ّ
وليس ألم ٍة من األمم ما للعرب في وصف النجوم ،حتى
َّقربتها تشبيهاتهم إلى اإلدراك البشري ،واعتب ِْر ما قالوه في سهيل
والس َماكين؛ األعز ِل والرام ِح ،والثريا والخضيب ِّ والجوزاء
وال َّدبَ َران والنَّ ْس َر ْين الواقع والطائر ،على كثرة النجوم وكثرة ما
قالوه فيها ،وإذا كانت النجوم ال ُت ْح َصى ع ًّدا ،ف ُق ْل ذلك فيما
قالته العرب فيها.
ومن بدائع تشبيهاتهم في النجوم أخذ المعري تلك المنازع
الغريبة وتلك النظرات الفلسفية البعيدة الغور المنبثَّ َة في لزومياته،
باب على ِح َد ٍة من فلسفته الكونية ،وما نبع ذلك ال ُّزالل،وهي ٌ
الس ْح ُر الحالل إال مما تركه العرب من تشبيهاتهم لها ونبغ ذلك ِّ
َ
وتخيالتهم فيها.
.
ناس الصحراء 36
.
ناس السماء 40
ناس السماء
فقال له أبو جهل :ال يرضى عنك قومك حتى تقول فيه!
فقال له الوليد :دعني أفكر فيه.
معشر قريش!
َ فلما اجتمع بقومه قال وقد حضر الموسم :يا
إنه قد حضر هذا الموسم ،وإن وفود العرب ست ْق َد ُم عليكم فيه،
فأج ِم ُعوا فيه رأ ًيا واح ًدا ،وال
وقد سمعوا بأمر صاحبِكم هذاْ ،
ضا!
بعضكم بع ً
ِّب ُ
تختلفوا فيكذ َ
إنهم ليعلمون أن ال سبيل إال الكذب أمام من ال سبيل
ألح ٍد إذا سمع منه إال اإليمان به!
قالوا :فأنت يا أبا عبد شمس أقِ ْم لنا رأ ًيا نقوله فيه!
قال :بل أنتم فقولوا ْأس َم ْع.
قالوا :نقول كاهن.
ِ()1
قال :واهلل ما هو بكاهن؛ فقد رأينا ال ُك َّهان فما هو بزمزمة
الكاهن وال َس ْج ِعه.
قالوا :فنقول مجنون!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الكالم المبهم غير المفهوم.
.
ناس السماء 46
ربيع الوحي
العالم بدعوتهم إلى اهلل تبارك اسمه توحي ًدا َ فجأ النبي ‘
وعمال
ً وعبودي ًة ،ونبذ كل ما ال يكون به اإلنسان إنسا ًنا اعتقا ًدا
ولْ :اع ُب ُدوا اهلل َو ْح َد ُه َوالَ ُت ْشرِ ُكوا بِه ِ َش ْي ًئاَ ،وا ْت ُر ُكوا َما َي ُق ُ
ول >يَ ُق ُ
الصلَةِ<ف َو ِّ الع َفا ِ
الص ْد ِق َو َ الصالَ ِة َوال َّز َكا ِة َو ِّ َآبا ُؤ ُك ْمَ ،و َي ْأ ُم ُر َنا بِ َّ
كما قال أبو سفيان في جوابه عن سؤال هرقل :ماذا يأمركم؟
وهي وصايا تعيد بناء اإلنسان على قواعد الفطرة ،وخلع
األوثان الفكرية والعقدية من تقاليد بالية وتصورات خرافية
يأنف من قبولها كل عقل سوي.
موغال في أصل دعوة النبي ‘ً جذرا
ويحضر الصدق ً
وأصال راس ًخا تنبع منه كل الفضائل التي تتمم معنى
ً الناس،
َ
اإلنسان في الوجود!
وتنادت قريش فيما بينها ،معاداة للنبي ‘ ،وانتصا ًرا للزيف
.
ربيع الوحي 50
نبي؛ فإن
خاصا ال يطيقه إال ٌّ
صبرا ًّ
ولقد صبر في هذا األمر ً
القلب
القلب الذي صنعه اهلل تعالى ليسع العالمين برحمته؛ هو هو ُ
الذي يحتاج إلى صبر شاه ٍق يسع آالم هذه الرحمة وجراحاتها
ض الناس عن جمال النور إلى جحيم النار!عندما يُ ْع ِر ُ
إنه ليصعد الجبال ويمشي في األسواق ويتعرض للناس في
المواسم ،ويجلس إلى كبارهم ،ويغشى أندي َة القوم ومجتمعاتهم
وجهرا ،ال يصبر عن دعوتهم ،كأنما تتسع ً سرا
ونهاراًّ ،
ً ليال
ً
نفسه الشريفة بالفعل في جغرافيا الوجود ،كما اتسع قلبه
بالرحمة في جغرافيا الروح!
عن جعفر بن عبد اهلل بن أبي الحكم قال :لما نزلت على
النبي{ :ﱯ ﱰ ﱱ} اشتد ذلك على النبي ‘
وضاق به ذر ًعا ،فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته ،حتى
اشتكيت
ُ ٍ
عائدات فقال :ما عم ُاته أنه شا ٍك( )1فدخلن عليه ظن َّ
شي ًئا ،لك َّن اهلل أمرني أن أُ ْن ِذ َر عشيرتي األقربين ،فأردت َج ْم َع
بني عبد المطلب ألدعوهم إلى اهلل تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1يعني :مريض بأبي هو وأمي ‘.
.
ربيع الوحي 52
أهواءهم!
وجواب
ٍ لقد ل َّخص تاريخ أخالقه معهم في سؤال واحد منه
واح ٍد منهم!
فلما أعطوه ميثاق الصدق وقع عليهم بهذا البيان الرحيم
الذي ينطق بالصدق الالهب ،والشفقة المتوقدة التي تعصف
لتئوب ناضر ًة إلى
َ وت َهيِّ ُئها
بمعابد الوثنية في صدورهم عص ًفاُ ،
صبا:
المضيء ًّ
َ محراب التوحيد ،فقال يصب في قلوبهم بيانَه
يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال أُ ْغني
عنكم من اهلل شي ًئا!
يا بني عب ِد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال أُغني
عنكم من اهلل شي ًئا!
يا بني عبد شمس! أن ِق ُذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال أُغني
عنكم من اهلل شي ًئا!
يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال
عم رسول اهلل ‘! أن ِقذْ أُغني عنكم من اهلل شي ًئا! يا ُ
عباس َّ
نفسك من النار؛ فإني ال أغني عنك من اهلل شي ًئا!
َ
57 ربيع الوحي
ملكوت الرحمات
وخ ْس ٍ
ف ،فال يلتفت ال َغلَ َبةِ إن أراد على أعدائه بسقيا عذاب َ
عن صراط الرحمة ونهج اإلحسان!
ض عليه األمر ُم َؤ َّي ًدا باإلذن اإللهي ،فيستعيذ لهم
وإنه ل َ ُي ْع َر ُ
برحمة اهلل من عذاب اهلل طام ًعا في هداية أبنائهم وإن أوصدوا
هم أبواب الهداية عن أنفسهم!
وهم الذين آذوه بمشه ٍد من الناس ،فعفا عنهم وليس هنالك
أحد من الناس ،ولو أراد لذهب إليهم فجمعهم فخيرهم ممت ًنا ٌ
عليهم ،وما فعل ..وما كان لرحمة اهلل للعالمين أن يفعل!
إ َّن عظمته ليست عظمة المكافئ على اإلحسان باإلحسان
وحسب ،بل إنها ُلتضعف اإلحسان لمن آذى واشتد في األذى!
ِ
علياء أخالقِه ال يهبط إلى َس ْف ِح المعاندة واألَثَ َرة وإنه في
ومنازلة المشركين في ميدان األخالق؛ فإن ذلك ال يليق بأعظ ِم
قلبا!‘ ،
ال َخ ْلق ُخل ًقا ،وأرح ِم الناس ً
فما كان للنجم أن يصل منه إلى األرض إال الضوء الذي
يمزق ستور العتمة في نفوس الشاردين عن الحق والحقيقة!
والعفو يكون عظيما عند وجود األلم ،والقدرة على العقاب؛
.
ملكوت الرمحات 64
اغتياال وقتال!
ً المشركين وتتعقبهم
ٍ
سيف بل كان الوحي وحده مهيم ًنا ،فخلت مكة من صليل
مسل ٍم ،فلو شارك السيف في البدء األول لجعله من يحب الثرثرة
مجال اشتباه أن يكون من أسلم أسلم تحت بارقة السيف ،وما
أسلم من أسلم إال بضياء الوحي ونور حامله وحسب!
لقد شهدت مكة غيابين لكل من:
* السيف مع قوة الباعث إليه من أذى المشركين..
* والمغنم الدنيوي!
سبيال واح ًدا لإليمان بالنبي ‘.
وبقيت بوابة الوحي ً
بعض الصور من هذا الذي كان لتعلم أن لو لم يكن
َ وإليك
غامرا؛ لكان
باهرا ،ولو لم يكن ضوء الوحي ً صدق النبي ‘ ً
من العقل البعد عن سبيل هذا اإلنسان الذي يزعم أنه نبي؛ ألن
من وراء اإليمان به والسير خلفه معاداة الناس ،ونار األذى،
وعقارب البغضاء التي تهيج في صحارى مكة وشعابها!
هذا أبو ذر يحكي لك طرفا مما كان:
67 ملكوت الرمحات
فت(ً )1
رجال منهم ،فقلت :أين هذا قال فأتيت مكة فتض َّع ُ
الذي تدعونه الصابئ؟
إلي ،فقال :الصابئ!
فأشار َّ
خررت
ُ علي أهل الوادي بكل َم َد َر ٍة َ
وع ْظ ٍم ،حتى فمال َّ
مغشيا علي ،قال :فارتفعت حين ارتفعت ،كأني نُ ُصب أحمر(!)2
ا
وشربت من مائها.
ُ قال :فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء:
ولقد لبثت ،يا ابن أخي ثالثين ،بين ليل ٍة ويوم ،ما كان لي
فس ِم ْن ُت حتى َّ
تكسرت ُع َك ُن بطني( ،)3وما طعام إال ماء زمزمَ ،
ٌ
وجدت على كبدي َس ْخ َفة جوع(!)4
راء إضحيان( ،)5إذ ُضرب ٍ
قال :فبينا أهل مكة في ليلة قَ ْم َ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوي عليه ودفعه عنه.
ال ضعيف البنية حتى إذا أراد إيذاءه َ
تخير رج ً
يعني َّ ()1
المدر :قطع الطين اليابس .يعني :جمعوا كل ما يستطيعون فضربوه ضر ًبا ()2
احمر من كثرة دماء
دم شديد ،حتى جعلوه كالصنم الذي َّ شدي ًدا فسال منه ٌ
القرابين.
سمن حتى تثنى بطنه من اللحم. ()3
أحس جو ًعا.
رقة الجوع ،يعني أشبعه ماء زمزم فما َّ ()4
مضيئة مقمرة. ()5
.
ملكوت الرمحات 70
قال :قلت :من غفار ،قال :فأهوى بيدهِ فوضع أصابِ َعه على
جبهته ،فقلت في نفسي :كره أن انتميت إلى غفار! فذهبت
()1
أعلم به مني.
آخذ بيده ،فقدعني صاحبه ،وكان َ
ثم رفع رأسه ،ثم قال> :متى كنت هاهنا؟< قال :قلت :قد
كنت هاهنا منذ ثالثين بين ليلة ويوم.
قال> :فمن كان يطعمك؟<
ماء زمزم فس ِم ُ
نت حتى طعام إال ُ
ٌ قال :قلت :ما كان لي
تكسرت ُع َك ُن بطني ،وما ِ
أج ُد على كبدي َسخفة جوع! َّ
قال> :إنها مباركة ،إنها طعام ط ُْعم<.
فقال أبو بكر :يا رسول اهلل ائذن لي في طعامه الليل َة.
فانطلق رسول اهلل ‘ وأبو بكر ،وانطلقت معهما ،ففتح
يقبض لنا من زبيب الطائف ،وكان ذلك أبو بكر با ًبا ،فجعل ُ
غبرت ،ثم أتيت رسول
ُ أكلته بها ،ثم َغ َب ْر ُت( )2ما
أول طعامٍ ُ
َ
اهلل ‘.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كف يده ودفعها بشدة ،إجال ًال للنبي ‘ وخشية أن يكون أراد به سو ًءا.
(َّ )1
( )2يعني بقيت مدة.
.
ملكوت الرمحات 72
جئتنا
وص ِّدقتمَ ،
فص َد ْق ُتم ُ
ثم قال ‘> :واهلل لو شئتم لقلتم َ
ومخذوال
ً فأم َّناك،
وعائال فآسيناك ،وخائفا ًَّ طري ًدا فآويناك،
وم َك َّذ ًبا فص َّدقناك< فقالواّ :
المن هلل ـ تعالى ـ ورسوله! فنصرناكُ ،
حديث بلغني عنكم؟< فسكتوا ،فقال> :ما ٌ فقال> :وما
حديث بلغني عنكم<؟ فقال فقهاء األنصارّ :أما رؤساؤنا فلم ٌ
أناس ِمنَّا حديثةٌ أسنانهم قالوا :يغفر اهلل
ٌ وأما
يقولوا شيئاَّ ،
ـ تعالى ـ لرسوله ـ ‘ ـ يُعطي قريشا ويتركنا ،وسيوفنا تقطر
من دمائهم؟!
رجاال حديثي عه ٍد ب ُك ْف ٍر
فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ >إ ّني ألعطي ً
ألتألَّفهم بذلك<
وفي رواية :إ ّن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة ،وإني
أردت أن أَ ْج ُب َرهم( )1وأتألَّفهم! أوجدتم يا معشر األنصار في
اعةٍ من ال ّدنيا تأل ُ
()2
ّفت بها قوما أسلموا، أنفسكم في لُ َع َ
قس َم اهلل ـ تعالى ـ لكم من اإلسالم؟!
وو َك ْل ُتكم إلى ما َ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1يعني تطييب خواطرهم وجبر قلوبهم رحم ًة منه بهم ‘.
( )2يعني قليلة فانية زائلة.
.
ملكوت الرمحات 82
ما كان لمثل هذا المشهد ،وغيره كثير في حياة النبي ‘؛ أن
يقوم إال في نفوس توثقت فيها أواصر اآلخرة ،وصاغها الوحي
صياغ ًة فريد ًة ،ليس فيها من أصباغ الدنيا شيء.
وما كان لهذا المعنى أن يربو في نفوسهم وينمو ،لو لم
ماثال بين أعينهم في حياة النبي ‘..
حيا ًيكن ًّ
.
اصطفاء 84
اصطفاء
حضور ذلك ال ُخلق في الناس ،وتلك دقيق ٌة هام ٌة ج ًّدا البد من
االنتباه إليها عند النظر في شخص النبي ‘.
ولقد نطق بذلك من كان عري ًقا في كفره ،فآبت نفسه إلى
اإلسالم بلمح تلك الخصيصة الشريفة..
انظر معي هنا:
الج َمحي ،أقبل على النبي ‘ ما حمله
هذا صفوان بن أمية ُ
على الخروج إال ابتغاء الغنائم ..يقول:
ما زال رسول اهلل ـ ‘ ـ يعطيني من غنائم حنين وهو
إلي حتى ما خلق اهلل ـ تعالى ـ شيئا هو أحب إلي
أبغض الخلق ّ
منه .وفي صحيح مسلم أنه ـ ‘ ـ أعطاه مائة من الغنم ،ثم
مائة ،ثم مائة!
وكان صفوان طاف مع رسول اهلل ـ ‘ ـ يتص ّفح الغنائم إذ
مما أفاء اهلل به على رسوله ـ ‘ ـ فيه ّمر ِ
بش ْع ٍب مملوء إبال ّ
غنم وإبل ورعاؤها مملوء ،فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه،
الشعب يا أبا وهب؟< فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ> :أعجبك هذا ّ
قال :نعم .قال> :هو لك بما فيه< فقال صفوان :أشهد أنك
.
اصطفاء 86
نبي! ٍ ُّ
نفس أحد قط إال ٌ
رسول اهلل ـ ‘ ـ ما طابت بهذا ُ
وصدق! ما من خصلة من خصال الخير إال ولها في نفس
سموا في مدارج الكمال.
رسول اهلل ‘ معراج آخر يعلو بها ًّ
ضا بالتواضع ،غير أن لهذا الخلق
ولقد يصف بعض الناس بع ً
علويا في نفس النبي ‘:
فل ًكا ًّ
لقد كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ،ويحلب شاته،
ويكون في مهنة أهله!
وكان يقوم فيحمل التراب مع أصحابه في بناء المسجد
وشق الخندق ،ويجلس حيث ينتهي به المجلس ال يتمايز عنهم
بثياب أو هيئة!
ليست العظمة هنا في أن يكون هذا الكبير بين الناس،
يجلسون إليه ويجلس إليهم ،بل إن أحد أكبر جوانب عظمته أنه
استثنائيا أن يماثلهم مشارك ًة في
ًّ أمرا
ال يُشعرهم أنه يفعل ً
حياتهم وثيابهم وجلساتهم أعظم الخلق!
فلطالما رأينا المحبين يتسابقون إلى إرضاء محبوبهم ،فهو
جالس في ِظالل خدمتهم له ،قد كفوه مؤنة أن يباشر ً
عمال بيده
87 اصطفاء
آية يجريها اهلل تعالى على يديه ،إال أن يكون ذلك مع المشركين
والمعاندين..
رسوال ،وليس شأ ُن العبد الصادق أن يصخب
ً لقد كان عب ًدا
بالنعم أو يختال بها مستعرضا بين الناس!
لقد فارق مكانه ال لعظي ٍم من الناس ،وإنما لجما ٍد ذهب
يواسيه مواسا ًة نقول فيها ما قاله صفوان بن أمية :واهلل ما طابت
نبي! ٍ
بهذا نفس أحد إال ٌّ
لقد احتضنه وجعل يُ َسكِّنُه حتى سكن ،ثم استفاض برحمته
الغامرة فقال له:
كنت فيه فتكو َن كما > ْاخ َت ْر أن أغرسك في المكان الذي َ
فتشرب من أنهارها َ شئت أن ْأغ ِر َس َك في الجنة، نت ،وإن َ ُك َ
فيأكل منك الصالحون< فاختار َ وت ْث ِم َر
فيحسن نَ ْب ُتك ُ
َ وعيونها،
أح َت ِض ْن ُه َّ
لحن إلى اآلخرة على الدنيا ..فقال النبي ‘> :لو لم ْ
يوم القيامة<!
متواترا مقطو ًعا
ً لم يكن عب ًثا أن يكون هذا الحديث حدي ًثا
بص َّح ِته ،وهو ٍ
كاف وح َده للداللة على أ َّن محم ًدا هو رسول اهلل ِ
‘.
91 اصطفاء
ثُ َّم َخ َر َج أَ ُبو بَ ْك ٍر ،فَ َج َع َل النَّب ُِّي ـ ‘ ـ يَ َت َر َّض َاهاَ ،وقَ َال:
ك؟). الر ُج ِل َوبَ ْينَ ِ
(أَلَ ْم َت َر ْي ِني ُح ْل ُت بَ ْي َن َّ
ثُ َّم ْاس َت ْأ َذ َن أَ ُبو بَ ْك ٍر َم َّر ًة أُ ْخ َرى ،فَ َس ِم َع َت َض ُ
اح َك ُه َما ،فَ َق َال:
أَ ْش ِر َكانِي ِفي ِس ْل ِم ُك َماَ ،ك َما أَ ْش َر ْك ُت َمانِي ِفي َح ْربِ ُك َما<.
فقد قطَ َع عنها النبي ‘ ما يؤذيها ،ولو من والدها َح ِم َّي ًة
تطييبا لخاطرها ،وإسعا ًدا لنفسها ،وفي هذا له ،وجعل يترضاها ً
ما فيه من حبه لها .
ويأتي الحبشة إلى مسجد النبي ‘ ،فتحب الصديقة أن
تنظر إلى لعبهم بالحراب ،وال يكون إطاللها على هذا المشهد
الطريف ،إال وهي مسندة رأسها على كتف النبي ‘ ،ما بين
أذنه وعاتقه ،وهي تطيل الوقوف ،ال استزادة من النظر ،بل
إظهارا لمكانتها عند النبي ‘ ،فتقول أمنا> :فقال رسول اهلل
ك< ،فقلت :يا رسول اهلل ،ال تعجل ،فقام لي ،ثم‘َ > :ح ْسب ِ
ُ
فقلت :ال ْتع َجل يا رسول اهلل .قالت :وما بي
ك<ُ ، قالَ > :ح ْسب ِ
ُ
مقامه لي،
النساء ُ
َ يبلغ
حب النظر إليهم ،ولكني أحببت أن َ
ومكاني منه<.
ففي هيئة الوقوف ما فيها من حنان النبي ‘ ،وحبه لها،
95 اصطفاء
السيف !
وأرح ُم الناس.
َ وأو َص ُل الناس،
ْ
فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ >كذب سعد يا أبا سفيان ،اليوم
يوم المرحمة ،اليوم يوم يعظم اهلل فيه الكعبة ،اليوم يوم ُت ْكسى
يوم أع َّز اهلل فيه قُ َر ْيشا!
فيه الكعبة ،اليوم ٌ
مع أن الناس يُحمل منهم في مثل هذه المالحم ما ُي ْحمل
في غيرها؛ ألنها موطن فخا ٍر وغلب ٍة واستعالء على األعداء،
السيما من ساموهم سوء العذاب ،وسعوا كل مسعى في إيذائهم
والقضاء عليهم..
ولكنها النبو ُة في سموها وجاللها!
ويوم أخطأ حبيبه وابن حبيبه أسامة بن زيد فقتل من
قال ال إله إال اهلل في ميدان المعركة!
غضب النبي ‘ غض ًبا عظيما ُعرِف في وجهه ومنطقه،
وجعل يهدر بالغضب فيقول:
يوم القيامة<؟!
لك بال إله إال اهلل َ
> َم ْن َ
فقال أسامة :يا رسول اهلل ،إنما قالها مخافَ َة السالح!
.
السيف ! 100
فما التفت النبي ‘ لقوله وال اعتذر عنه ،بل قال> :أفال
تعلم ِمن أج ِل ذلك قالها أم ال؟ َمن َ
لك َشق ْق َت عن قلبه حتى َ
يوم القيامةِ<؟!
بال إله إال اهللُ َ
زال يقولُها حتى و ِد ْدت أني لم أُسلم
قال أسامة :فما َ
إال يومئذ!
لقد كان يحاصر النبي ‘ الجاهلية في عقائدها ،وتسللها
إلى النفوس والقلوب واألرواح ،وما جعل للسيف موض ًعا فيه
دوما إلى الرحمة..
انتقام أو ُن ْع َرة ٌ جاهلي ٌة ،بل ينحاز ً
ٌ ثأر أو
ٌ
وهذا صاحبه سيدنا حذيفة ال يطيق الخروج من مكة إال
بميثاق يعطيه المشركين حتى يتركوه يخرج ،فيقول:
ما منعني أن أشهد بدرا إال أني خرجت أنا وأبي ُح َس ْيل،
فأَ َخ َذ َنا ُكفَّار قريش ،فقالوا :إنكم تريدون ُم َح َّم ًدا!
قلنا :ما نريده ..ما نريد إال المدينة.
فأخذوا منا عهد اهلل وميثاقَه ل َ َن ْن َص ِرفَ َّن إلى المدينة ،وال
نقاتل معه.
ُ
فأتينا رسول اهلل ‘ فأخبرناه الخبر ،فقال:
101 السيف !
إنا لم نجىء لقتال أحد ،ولكنا جئنا معتمرين ،وإ َّن قري ًشا
ماد ْد ُتهم مد ًة،
وأضرت بهم ،فإن شاؤوا َ َّ قد َن ِه َك ْت ُهم الحرب،
أظه ْر ،ف ن شاؤوا أن يدخلوا فيما ويُ َخلروا بيني وبين الناس ،ف ن َ
وإن ُه ْم أَ َب ْوا ،فوالذي
دخل فيه الناس فعلوا ،وإال فقد َج رمواْ ،
نفسي بيده؛ ألقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي،
ول َ ُي ْن ِف َذ َّن اهلل ْأم َره<!
وهو كالم يشهد أن قائله نبي ،تآزرت فيه الرحمة السماوية
التي تحرص على األرواح وترحم األعداء قبل األولياء؛ مع
الثبات الف ِّذ الذي ال ُيدا ِهن الشرك ،واليتخلى عن الحق ولو
ِ
كان وح َد ُه في الكون!
وما من خصم يريد لعدوه راح ًة بل يحب رهقه وتعبه حتى
يكون قريب المنال ،سهال سائ ًغا على أ َكلَةِ أعمار الناس
بسيوفهم وأسلحتهم قدي ًما وحدي ًثا ،ولكنه بُ ِعث رحم ًة صبغت
السيف صبغ َة الدواء الذي يشفي المرض ،ويستأصل الداء،
وال يوغل فيكون طاعو ًنا يفني الناس ويهدم أعمارهم!
وما اشتد فأغلظ إال على من ُقب َح ُج ْرمه واستفحل شره،
فكان في الخالص من شره أما ٌن الناسِ ،
وح ْفظُ َح َي َواتِهم.
103 السيف !
المجسد،
َّ ويوم ْأن كلَّمه بعض الصحابة في قتل هذا الداء
في مثل ابن أبي ،أو َن ْب ِع الخوارج الذي قال له :اع ِدل؛ فإنك
لم تع ِد ْل!
إجابته التي بقيت على ناصية التاريخ
فما كان يجيب ذلك إال َ
عنوا ًنا على جاللة قدره:
يقت ُل أصحابَه<!
الناس أ َّن ُم َح َّم ًدا ُ
>ال ..ال يتحدث ُ
لقد كانت العرب تقتل من أجل نظرة عابرة ،أو ناق ٍة شاردة،
وتثور الحروب بينهم سنين عد ًدا في الشأن الذي يكون أهون
وأقل من هذا كله! فكيف بال ِع ْرض؟!
وتمم جمال صبره
نعم! َص َبر َص ْب َر النبوة الذي ال يُلحقَّ ،
باإلحسان الذي ال ُيدرك!
يوما عن قالة السوء
وقد مات اآلن عدوه الذي ما تباطأ ً
ونفخ النار في نفوس المسلمين ،فما كان منه سوى اإلحسان
مضاع ًفا!
لقد كان سكوته وح َده عن موته آية إحسان كافي ًة في البيان
عن جميل خلقه!
.
السيف ! 110
فقلت :يا رسول اهلل! أتصلي عليه وهو منافق؟! وقد نهاك اهلل
أن تستغفر لهم؟! فقال> :إنما َخ َّيرني اهلل ،فقال{ :ﱁ ﱂ ﱃ
َ
ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ} ،فقال:
>سأزيده على سبعين<!
غارق في البكاء بين يدي هذا الموقف الذي
ٌ صمت
ٌ بي
يبس منه الحرف في يدي ،فما أحسن الكتابة والبيان ،فأي
شاحب متهالك ال قيمة له!
ٌ بيا ٍن هنا
يجيب فيعطي الرداء ،وال ُي ْعرض عن الصالة عليه وهو من
أشد الناس عدا ًء له ،ويلتمس من ابنه إعالمه بوقت صالتهم
عليه ،فال يتباطؤ عن ذلك ،ويذهب ومن بين يديه أحد أحب
الخلق إليه وهو الفاروق ،فال يجيبه إلى المنع ،فيعدد
عليه الفاروق قوارص ذلك المجرم ،فيتبسم النبي ‘!
ال أستطيع مفارقة هذه المفردة في هذا السياق> ..يتبسم<!
هذه المفردة هنا تكتسب معنى آخر غير االبتسام وهو
جمال تلك النفس واشتمالها على رحم ٍة ال تنزعج من العفو،
وت ْقب ُِل عليه بغير تكلُّف ،وإنما هي الرحمة
وال تضيق بالصفحُ ،
في تجليها األجمل!
.
السيف ! 112
إن هاهنا آلية نبوة عظيمة تنطق في القلب أن هذا نبي حقا
‘.
الس ْرح ،عفا عنه استجاب ًة
دمه كاب ِن أبي َّ
حتى َمن أهدر َ
لشفاعة صاحبه وحبيبه عثمان ..
فإن ابن أبي السرح لما علم أن الرسول ‘ أهدر دمه
الناس
رسول اهلل ‘ َ
ُ اختبأ عند عثمان بن عفان ،فلما دعا
إلى البيعة؛ جاء به عثمان حتى أوقفه على النبي ‘ ،فقال:
يا رسول اهلل! با ِي ْع عب َد اهلل!
فرفع رسول اهلل ـ ‘ ـ رأسه فنظر إليه ثال ًثاُ ،ك َّل ذلك
يأبى ،ثم بايعه بعد ثالث!
ثم لما مضى التفت إلى أصحابه ليجدد فيهم َع ْق َد الطاعة
ال شهوة القتل ،فقال:
كففت
ُ رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني
ٌ رجل
>أما كان فيكم ٌ
يدي عن بيعته فيقتلَه<؟!
أومات
َ هال
فقالوا :وما يدرينا يا رسول اهلل ما في نفسك؟ َّ
إلينا بعي ِنك؟
.
السيف ! 114
عن عب ِد الرحمن بن عبد اهلل ،عن أبيه ،قال :كنا مع رسو ِل
اهلل ـ ‘ ـ في َس َف ٍر ،فانطَلق لحاج ِته ،فرأينا ُح َّمر ًة معها فَ ْر َخا ِن،
ش ،فجاء النبي ِ
تفر ُ فجعلت ُ
ْ الح َّمرة
فجاءت ُ فرخيها،
فأخذْ نا َ
ـ ‘ ـ فقال> :من فَ َج َع هذ ِه بولَدها؟ ُر ُّدوا ول َدها إليها<!
بل في نملة ال يلتفت إليها أحد!
يقول عبداهلل :ورأى قري َة نم ٍل قد َح َر ْقناها ،فقال> :من
نحن ،قال> :إنه ال ينبغي أن يعذِّب بالنار َح َرق هذه؟< قلناُ :
إال َر ُّب النار<!
ويأتيه السائل ليسأل(َ :)1ما ال ِق َت ُال ِفي َسبِي ِل اهلل؟ فَ ِإ َّن أَ َح َد َنا
يُ َقاتِ ُل َغ َض ًباَ ،ويُ َقاتِ ُل َح ِم َّي ًة ،فَ َرفَ َع ِإل َ ْيه ِ َر ْأ َس ُهَ ،ق َالَ :و َما َرفَ َع ِإل َ ْيه ِ
َر ْأ َس ُه ِإ َّال أَنَّ ُه َكا َن َقائِ ًما ،فَ َق َالَ > :م ْن َق َات َل لِ َت ُكو َن َكلِ َم ُة اهلل ِه َي
الع ْل َيا ،فَ ُه َو ِفي َسبِي ِل اهلل < ُ
أفلو كان من زعماء الحرب ،وسماسرة الدم والكذب،
صا على االستكثار من الجند ،ال يبالي بنية
أليس سيكون حري ً
الواحد منهم وال غايته ،شأن الذين يبحثون عن سطوة السلطة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1الحديث في الصحيحين.
.
السيف ! 116
بال الواحد
وبذخ الجاه ،فيستكثرون من األجساد وال يشغل َ
منهم عمل قلب من معه ،طالما أنه ال يتطلع إلى منازعته
السياد َة والسلطان!
لكن رسول اهلل ‘ يجدد في الكون معالم العدل والحق
الذي تؤازره الرحمة التي غايتها هداية اإلنسان ال هدمه!
إن سي ًفا في يد هذه الرحمة أما ٌن للبشرية من طوفان الدماء
التي سالت بالسالح الذي كفر باإلنسان قبل كفره باهلل،
فتناثرت جثث الماليين( )1في العالم الذي صارت األبجدي ُة فيه
والصاروخ وأفران الغاز!
َ ال ُقنبل َة والرصاص َة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( )1عدد الضحايا في الحرب العالمية الثانية وحدها أكثر من أربعين مليو ًنا،
سوى الجرحى والمغتصبات!
117 اقرتاب
اقتراب
كان دفتر حياة ذلك النبي مفتو ًحا للكل ،ليس فيه سطر
غائب عن كل من طالع سيرته ‘..سر ٌ مخبوء ،أو ٌّ
سرا،
فهو اإلنسان الوحيد في تاريخ البشرية الذي ال يملك ًّ
وسموا حتى عند عقالء
ًّ كل البشر عظم ًة
وهو مع ذلك يسبق َّ
الذين لم يسلموا!
إنسان ال يملك سرا ،فال تزداد له غير الحب واإلجالل
واإلكبار..
زوجاته وهن أخص الناس به ،وأهل بيته وهم الذين يطالعونه
في جميع حاالته ،وأعداؤه الذين يرقبون منه هفو ًة أو حر ًفا..
كل هؤالء ما طالعوا منه أو فيه شي ًئا فيه نقيصة يعتذر عنها ،أو
صا يخجل منه!نق ً
وخلُ ِقه..
كل من اقترب منه وجد إنسا ًنا فري ًدا في جمال َخ ْل ِقه ُ
.
اقرتاب 118
حتى من الحيوانات!
كان ظل السكينة الوارف بالرحمة في صحراء الوجود!
وحن إليه الجذع!
فأوى إليه الطير يشكو ،والجملَّ ،
كانت األرض وال شك مبتهج ًة أن في أبناء آدم مثل هذا
اإلنسان العظيم!
وكان من أعظم ما فيه أنه ال يصوغ الناس صياغة القالب
الذي يطبعهم طبعة واحدة تمسح الفروق التي بين األشخاص
في صفاتهم وقدراتهم وطبقاتهم النفسية.
يستثمر أحسن ما ُيحسنه اإلنسان ليكون فر ًدا صال ًحا ،وال
يأمره بمفارقة شيء سوى الشيء الذي ال يكون به إنسا ًنا.
فاستبقى كل واحد على طبيعته وعمله وكسبه ومعاشه،
وأخلى هذا ُكلَّه من قوادح العالقة بالخالق أو العالقة بالمخلوق!
فالتاجر لم يزل يمارس تجارته ،والزارع في حقله يتابع
زرعه ،والرحالة الضارب في األرض يتابع سفره لكسب معاشه،
والشاعر لم يزل ينسج أشعاره ،والنجار في صحبة أخشابه ..ال
يحس الواحد منهم عن ًتا ومشقة أن صار مسلما!
119 اقرتاب
يده على عيني زاهر وهو يقف خلفه ،يالطفه ،ويصيح ماز ًحا:
من يشتري هذا العبد؟!
فيعرفه زاهر بحنانه ورحمته ،فيقول:
تجدني يا رسول اهلل كاس ًدا!
فيقول له :بل أنت عند اهلل غا ٍل!
يسأله الرجل من أصحابه قضاء شيء له ،فيجيبه ولو كان
فقيرا ضعي ًفا أو عجو ًزا كبيرة..
ً
عن أنس بن مالك ،أن جدته مليكة دعت النبي ‘ لطعام
صنعته له ،قال :فأكل ،ثم قال> :قوموا فألصلي لكم< قال:
فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لُب َِس ،فنضحته بماء،
وصففت أنا واليتيم وراءه ،والعجوز وراءنا،
ُ فقام رسول اهلل ‘،
فصلى لنا ركعتين ،ثم انصرف.
ويجيب الدعوة إلى طعام ولو كان دهنا متغير الرائحة من
طول مكثه!
خيا ًطا دعا النبي ‘ إلى طعام ،فأتاه
يقول خادمه أنس :إن َّ
123 اقرتاب
بطعام وقد جعله بإهالة سنخة وقرع> .فرأيت النبي ‘ ،يَ ْت َبع
الص ْح َفة< ،قال أنس> :فما زلت يعجبني القرع منذال َقر َع من َّ
رأيت رسول اهلل ‘ يعجبه<.
يتجاوب مع الناس ويتبسط لهم ،وال يشعرهم أنه بعيد عنهم..
يناديه الرجل بصوت جهوري ،وهم ممنوعون من رفع
الصوت فوق صوته ،فال يغضب عليه ،ويرحمه ويتنزل له..
يقول صفوان بن عسال المرادي :بينا نحن معه في مسير فناداه
أعرابي بصوت جهوري :يا محمد ،فأجابه على نحو من كالمه.
قال :هاؤم.
ِيت عن
ض من صوتك؛ فإنك قد ُنه َ
اغض ْ
قلنا :ويلَك! ُ
رجال أحب
ذلك .فأبى الرجل عليهم وسأل النبي ‘ :أرأيت ً
قوما ولم ي ْل َح ْق بهم؟
ً
فأجابه> :هو يوم القيامة مع من أحب<!
الع ْس َر منفي عن خلقه وحياته ،وتعامله مع الناس ،وتعليمه
إن ُ
لهم:
القوم
يرح ُمك اهلل ،فرماني ُ
فقلتَ :
ـ ‘ ـ ،فعطس رجل من القوم ُ
فقلت :واثُ ْك َل أُ ِّمياه! ما شأنُكم تنظرون َّ
إلي؟! بأبصارهمُ ،
فعرفت أنهم
ُ قال :فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم،
يُ َص ِّمتوني.
رسول اهلل ـ ‘ ـ
ُ سكت ،فلما صلَى
ُّ رأيتهم يُسكِّتوني
فلما ُ
سبني ،ثم قال> :إن
بأبي وأمي ــ ما ضربني وال َك َهرني وال َّ
يحل فيها شيءٌ من كالم الناس هذا ،إنما هو هذه الصالة ال ُّ
والتكبير وقراء ُة القرآن<.
ُ التسبيح
ُ
ويبول األعرابي في مسجده ..فانظر ماذا فعل:
فبال في طائفةِ
عن أنس بن مالك قال :جاء أعرابي َ
المسجد ،فزجره الناس ،فنهاهم النبي ـ ‘ ـ فقال> :دعوه! ال
فص َّب ٍ
تزرموه< ،فلما قضى بوله أمر النبي ـ ‘ ـ بدل ٍو من ماء َ
عليه!
هذه السكينة ال تكون إال في النفوس العظيمة ،فلقد يكون
اإلنسان هادئ الخصال مع جماعة من الناس ،سي ًئا مع غيرهم،
بينما ذلك الثبات األخالقي الفياض بالسكينة ال يكون إال في
125 اقرتاب
.
خامتة خاصة 132
خاتمة خاصَّة
سرا
دعني أتنفس بقلمي قليال هاهنا؛ فإن لهذا الحديث ًّ
جليال أحاول إدناءه منك واختصاره لك..
ً
لقد كان من أجل شواهد صدق هذا اإلنسان ما تراه في
حياته من بوارق الحب وخفقات الشوق هلل ..
ومن يتتبع حياة الرسول ‘ يجد حركاته وسكناته
وخلجات نفسه وأنفاسه كلها ناطق ًة بالحب!
ذلك الحب الذي ال يخرج إال من مشكاة الصدق ،وال
ينبع إال من حبة القلب ،فهو يتقدم أفعال صاحبه ويصيح بين
لعبد لربه ،متشوق إلى مرضاته ،مخبت القلب،
يديه :إن هذا ٌ
فارغ النفس من نوازع التراب ونزغات المادة ،واللهث خلف
سراب الشهوات اآلسنة!
حتى في األمر العابر والموقف الصغير ..تجد عنوان العبودية
133 خامتة خاصة
إن في مذهب الحب بيا ًنا ال يتلعثم ،وحر ًفا ال يكذب أن
هذا العبد نبي اهلل حقا ،ورحمته إلى خلقه صد ًقا ،نطق بذلك
كل شيء فيه :خلقه وكالمه وسمته وشمائله وصفاته ومواقفه
وهديه وسمته ،صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
تدبرت حديثك سيدي> :إنما أنا َع ٌبد< ،لَه َِج لساني ُ كلما
سموت
َ بالصالة والسالم عليك ،ما أعظمك! وما أرفع قدرك إذ
الخماص من الدنيا ..كم إلى ُس َّدة العز بعبوديتك وصفاتك ِ
بالب ْعد عنك ،والنأ ِي عن ت َدبُّر سيرتك، ْيش َقى اإلنسا ُن ُ
واالنغماس في زخارف الضالل المتأنِّقة بزينة الحضارة! أو
رحيم أنت يا سيدي ،تستأذن الشجرة ٌ الرقي!!
ِّ المتسترة برداء
الخضراء َلتشرف بالسالم عليك! وتهرول السحابة ُلت َظل ِّ َلك!،
حديث الشكوى وأنَّ ِ
ات َ الح َّمر ُة المسكينة؛ َت ُبثُّك
وتأوي إليك ُ
رجع إليها أفراخها! وهمهم الجذع وت ِ
الفقد ،فتهدهد أحزانها ُ
حني ًنا فمسحت عليه بيدك المباركة!
هل فهمت العجماوات ،والجمادات ما ضل عنه كثير من
ِ
جماج َم ُت ْح َس ُب على العقول؟! وكم هي تعاسة الذين يملكون
البشرية حين حسبت أنها تكون بغير هديك ،وتحيى بغير نورك!
137 خامتة خاصة
يف؟! وتجبربالس ِ
دينك َّ
أنت؟! أأنت سيدي تنشر َ أي عب ٍد َ
مس الخير في غير شريعتك؟! فإن أح ًدا على اإلسالم؟! ويُ َلت ُ
الحق فماذا؟!
دينك َّ فمن؟! وإن لم يكن ُ أنت اإلنسا َن َ
لم تكن َ
العدل فأين؟!
َ شريعتك
ُ وإن لم تكن
* * *
ﺍ
ونظرا
وتحريرا ً
ً تم الفراغ منه مراجع ًة
ظهر الثالثاء ،الخامس عشر من ذي القعدة 1438هـ،
الموافق :الثامن من أغسطس لعام 2017م.
.
139 فهرس
الصفحة الموضوع
المقدمة 5 ............ ................................
قبل البدء 7 ........... ................................
هـنـالـك 10 ........... ................................
رجـفـة الـغـار 13 .......................................
كـال واهلل! 20 ......... ................................
بـيـان ورقـة! 24 ........ ................................
فترة الصدق! 26 .......................................
ناس الصحراء 29 ......................................
ناس السماء 40 ........ ................................
ربيع الوحي 49 ........ ................................
ملكوت الرحمات 59 ....................................
.
فهرس 140
الصفحة الموضوع
اصطفاء 84 ........... ................................
السيف! 97 ........... ................................
اقتراب 117 ........... ................................
خاصة 132 ......................................
خاتمة َّ
فهرس 139 ........... ................................