You are on page 1of 140

‫صادق بكَّة‬

‫‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫‪.‬‬
‫ردمك‪ 7 :‬ـ ‪ 1‬ـ ‪ 999‬ـ ‪ 99966‬ـ ‪ISBN 978‬‬

‫‪C‬‬

‫‪ 1439‬ـه ـ ‪2018‬م‬

‫َ د َ َ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اساتْ‬
‫ال ْر ْ‬
‫ِلحْثْ ْو ْ‬
‫داد ْ‬ ‫رْ‬
‫م ْكزْ مْ ْ‬

‫ص‪ .‬ب‪ 12362 :‬ــ الشامية ‪ 71654‬الكويت‬


‫‪midadQ8‬‬
‫صادق بكَّة‬

‫وجدان العلي‬

‫‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫املقدمة‬

‫‪J‬‬

‫من علينا بسيدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬


‫الحمد هلل الذي َّ‬
‫وشرفنا باالنتساب لهذه األمة التي‬
‫وعلى آله وصحبه وسلم‪َّ ،‬‬
‫ابتعثها اهلل من رقدة الفناء إلى فلق الحياة باصطفاء رحمته وصفوته‬
‫من خلقه؛ سيدنا رسول اهلل ‘‪.‬‬
‫فتوهجت بالحياة وماجت بالنور في الصدور والعقول‪،‬‬
‫ونضت عنها ثياب الذل والهوان وأسمال الخرافة والكهانة‪،‬‬
‫ونصبت في ميدان الوجود حضار ًة كانت هي الصورة األمثل‬
‫وقياما‬
‫لما يمكن أن يبلغه اإلنسان في هذا الوجود؛ عل ًما وع ًمال ً‬
‫بالقسط والعدل الذي يسع الناس جمي ًعا‪.‬‬
‫وقياما ببعض الشكر الذي ال يليق بنا غيره بين يدي هذه‬
‫ً‬
‫النعمة العظمى‪ ،‬التي كست حياتنا معناها‪ ،‬وجعلت لوجودنا‬
‫قيمة‪ ،‬وبسطت على هذا العالم ضوء الهداية ونورها وروحها؛‬
‫كان هذا الكتاب الصغير‪ ،‬الذي يحاول أن يلج معارج النور‬
‫‪.‬‬
‫املقدمة‬ ‫‪6‬‬

‫والرحمة بخفقات الحب‪ ،‬وحرفه المتوقد بالصدق‪ ،‬وكلماته‬


‫المتوضئة بكوثر الشوق‪ ،‬بعي ًدا عن يابسة الجفاف الذي تقتضيه‬
‫األبحاث العلمية‪ ،‬وصخب الحجاج والجدال‪.‬‬
‫تركت هذا كله بعي ًدا عن القلم‪ ،‬غير بعي ٍد عن ضوابطه‬
‫صا بنفسه‬
‫وقواعده‪ ،‬وأردت أن يكون سيدنا أبو القاسم ‘ شاخ ً‬
‫وسنَ ِّته وحياته في هذا الكتاب‪..‬‬
‫ُ‬
‫فلم أقمه كتا ًبا في سيرة النبي ‘‪ ،‬فما لهذا أردت؛ فإن‬
‫ذلك يطول ج ًدا‪ ،‬ولم أستعن بقلم أحد‪ ،‬أو نقل كالمه عن‬
‫النبي ‘‪ ،‬وإنما أتيت إلى حياته ‘‪ ،‬ونظرت فيها نظرة الذي‬
‫ٍ‬
‫لوحات معلقة‬ ‫يتلمس طريقه للهداية والتعرف إلى الحق‪ ،‬عبر‬
‫على جدار األفق من حياة نبينا ‘‪ ،‬تصلنا به‪ ،‬وتسمو بقلوبنا‬
‫إلى مطالعة نفسه الشريفة وشمائله وأخالقه‪ ،‬التي تقوم وحدها‬
‫دليال على أنه كان أعظم البشر صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ،‬وكل‬ ‫ً‬
‫هذا في إيجا ٍز يسير ُّ‬
‫يخف على قراء أيامنا‪ ،‬ويدلهم بإشاراته وما‬
‫فيه على ما وراء ذلك من دالئل نبوته وعظمته ‘(‪.)1‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تخريج أهل الفن‪ ،‬ولكن لم أستشهد إال بالصحيح أو‬
‫َ‬ ‫خرج األحاديث‬ ‫(‪ )1‬لم أُ ِّ‬
‫بما استفاض عند أهل السير‪ .‬ولم أستكثر من المصادر‪ ..‬فكل هذا لم يكن‬
‫مقصو ًدا في هذا الكتاب‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫قبل البدء‬

‫قبل البدء‬

‫ماذا كانت تخبئ عباءة الرمل المتلهبة بناسها وصخورها‪،‬‬


‫ونفوس أهلها الذين تناثروا قبائل متصارع ًة مجدب ًة من نور‬
‫الرساالت وأضواء الهدايات‪ ،‬إال ضوءا خاف ًتا يوشك يبلى في‬
‫صافيا‬
‫ً‬ ‫صدور بعض أهل الكتاب من الذين ورثوا الدين العتيق‬
‫من ألواث الشرك وكدر الوثنية؟!‬
‫يوما ما ستصير هذه الحصيرة الساخنة قبلة الضوء‪ ،‬ومحراب‬
‫الحياة في هذا العالم كل ِّه!‬
‫تلك دهشة خضراء في هذا المحيط اليابس‪ ،‬كانت!‬
‫الملونة‬
‫َّ‬ ‫لقد اجتمع هذا الحشد الهائل من أمشاج النفوس‬
‫بعقائد ضاربةٍ بجذورها في آباد العناد‪ ،‬كأ َّن صدر كل واح ٍد منهم‬
‫صار معب ًدا عليه نقوش اآلباء العتيقة من األعراف والتقاليد‪،‬‬
‫وميراث ال ِّترات(‪ )1‬وفورة العصبية؛ وصارت كل هذه األمشاج‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني الثارات‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫قبل البدء‬ ‫‪8‬‬

‫ضا<‪ ،‬فيه ما في خصائص البنيان‬‫بعضه بع ً‬


‫>بنيا ًنا واح ًدا ُيش ُّد ُ‬
‫الواحد من الجمال والتماسك والتكامل الذي ال يمحو ذاتية‬
‫كل عض ٍو فيه وسمته الذي يميزه عن أخيه‪.‬‬
‫نفوس لم يزل عالمنا إلى‬
‫ٌ‬ ‫ونبت في أرض جزيرة العرب‬
‫اليوم مدي ًنا لهم بالفضل في تعريفه معنى >اإلنسان<‪ ،‬ومعنى أن‬
‫ٍ‬
‫بحضارة كانت التجل َِّي األسمى للعمران‬ ‫يقوم هذا اإلنسان‬
‫بمعناه الجليل؛ إنسا ًنا وبنيا ًنا‪ ،‬و{ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ}!‬
‫كيف كان ذلك؟! وما الذي أخرج هذه الحواشي الصغيرة‬
‫التي كانت تعيش كاألوراق الممزقة من بقايا كتاب با ٍل‪ ،‬لتكون‬
‫ِ‬
‫والسج َّل الخالد لإلنسانية؟!‬ ‫هي النص والمعنى‬
‫يسيرا على لسا ٍن أعجمي ُم ْع ِر ٍق في ُع ْجمته‪ ،‬غار ٍق‬
‫أيكون ً‬
‫خطيبا فصي ًحا‬
‫ً‬ ‫بلعثمته؛ أن يقوم بين الناس‬ ‫في التأتأة‪ ،‬مقي ٍد ْ‬
‫شعرا يُ َناصي(‪ )1‬بيا َن امرئ القيس أو أبي الطيب‪ ،‬أو‬ ‫يرتجل ً‬
‫يترسل بقل ٍم كأنما يقبس من دواة أبي عثمان الجاحظ؟!‬ ‫َّ‬
‫معصوب العينين‪ ،‬لم يبق‬
‫ِ‬ ‫إن األمر أشبه بمريض ُم ْق َع ٍد عاج ٍز‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني يُباري‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫قبل البدء‬

‫خفقات فانية‪ ،‬يفجأُ َ‬


‫الناس بصعوده على قمة‬ ‫ٌ‬ ‫فيه من الحياة إال‬
‫يحج ُل(‪ )1‬بقدميه ويم ُّد عينيه في المدى‬
‫جبل إفرست‪ ،‬وهو ِ‬
‫يطالع الدهشة في وجوه الناس الذين يرقبون هذا المشهد الغريب!‬
‫كيف تم ذلك؟!‬
‫تلك كانت قصة اإلنسانية العظمى‪ ،‬يوم ‪ ‬ببعثة أعظم‬
‫إنسان في تاريخ الدنيا‪ ،‬وهو رسول اهلل ‘‪..‬‬
‫كلمات< يسيرة ٌ كزاد الراكب‪ ،‬تجوز‬ ‫ٌ‬ ‫وهذه بين يديك >‬
‫صراط الزمان؛ لت ِق َفك على شخصه في رسالته ودعوته وسيرته‪،‬‬
‫فتعلم كيف خرجت جزيرة العرب وقام العالم من تابوت الموتى‬
‫إلى فلق الحياة بهذا النور الذي أقام >ال ِقيم َة< في هذه الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬بعد أن كادت تبلى فيها معالم اإلنسان!‬
‫وقد جرى الكتاب على سمت اإليجاز‪ ،‬فلم أستكثر فيه من‬
‫داال باإلشارة العابرة‪ ،‬والعبارة‬‫األدلة ليكون خفي ًفا على قارئه‪ ،‬ا‬
‫شيء من جمال الرحمة المهداة ‘‪ ،‬ونفح ٍة من‬ ‫المختصرة على ٍ‬
‫وهج الصدق الذي كانت تنطق به كل حياته بأفعالها وأقوالها وطبيعتها!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني يقفز فر ًحا‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫هناك‬ ‫‪10‬‬

‫هـنـالـك‬

‫هنالك في قبة مكة‪ ،‬يجلس هذا اإلنسان ومن حوله سكينة‬


‫نفسه‪ ،‬يتلمس الطريق إلى المأل األعلى‪ ،‬بعي ًدا عن صخب‬
‫أصناما تحاصر‬
‫ً‬ ‫مكة‪ ،‬وضجيجها‪ ،‬وغبا ِر الوثنية الذي تناثر‬
‫حصارا ناط ًقا بسلطان الشرك‪ ،‬وهيمنة الخرافة‬
‫ً‬ ‫البيت الحرام‪،‬‬
‫على الحق‪ ،‬وتكاثرها من بين يديه ومن حوله‪ ،‬ووقوفها على‬
‫وقوف الحارس الذي يرقب ميراث الوثنيةِ في نفوس‬ ‫َ‬ ‫بوابته‬
‫الداخلين!‬
‫مرتف ًعا جلس هنالك في عزلته‪ ،‬يطالع األفق الذي يليق به‪،‬‬
‫ذوات العدد‪ ،‬في غار حراء‪ ،‬وقد خلت نفسه من طلب‬‫ِ‬ ‫الليالي‬
‫َ‬
‫شيء‪ ،‬إال أن يكون عب ًدا للذي فطر السموات واألرض!‬‫ٍ‬

‫ناضر ال يخفت‬
‫وهذا الفراغ الشريف في نفسه ‘؛ برها ٌن ٌ‬
‫على صدقه وخلوص مع ِدنه من ألواث الجاه وأثقال التطلع إلى‬
‫الدنيا وزخارفها!‬
‫‪11‬‬ ‫هناك‬

‫شريف اصطفاه اهلل ‪ ،‬فليس تعلَق به ذرة مما يعلق‬


‫معد ٌن ٌ‬
‫بقلوب الناس!‬
‫واست ْخ ِرج منه‬
‫صغيرا على يد جبريل‪ُ ،‬‬‫ً‬ ‫لقد ط ُِّهر ِ‬
‫وغسل قلبه‬
‫حظ الشيطان‪ ،‬فما وراء ذلك إال النور ناب ًعا من قلبه الشريف‬
‫‘!‬
‫صاعد يدأب في طلب المعالي‪ ،‬فهو‬ ‫ٌ‬ ‫والنور في القلب‬
‫دائ ًما في معراج سمو تنطق به األخالق واألقوال واألعمال‪..‬‬
‫فما كان رسول اهلل ‘ يطرق مكا ًنا أو يحل بمنزل‪ ،‬إال‬
‫وبين يديه نعت الناس له بالصدق واألمانة‪ ،‬يقولون‪ :‬جاء الصادق!‬
‫جاء األمين!‬
‫وحسب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نعتان يجمعان كل خير‪ ،‬فالصدق ليس حركة لسا ٍن‬
‫جناحيه على حركة حياة اإلنسان‬
‫ْ‬ ‫سمت ُم َحل ٌِّق يبسط‬
‫ٌ‬ ‫بل هو‬
‫كلها!‬
‫واألمانة ذلك الخلق العاصم من التردي في حمأة الخيانة‬
‫بصورها كلها‪ ،‬فليس يغدر‪ ،‬وال يغش‪ ،‬وال يكذب‪ ،‬وال يشارك‬
‫في إثم أو قطيعة رحم‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫هناك‬ ‫‪12‬‬

‫فما هو إال الخير المحض‪ ،‬والشرف المحض‪ ،‬والعظمة‬


‫في تجليها اإلنساني السامي!‬
‫وسبحان اهلل!‬
‫بنعت يجمع َخ ْصلَ َت ْين هما ِعماد دعوة‬‫ٍ‬ ‫قد أنطقهم اهلل تعالى‬
‫أي رسول‪ ،‬فمن كان صاد ًقا أمي ًنا‪ ،‬كان ُم َص َّد ًقا مأمونا في خبره‬ ‫ِّ‬
‫وإرشاده!‬
‫حطبها الذي حجبته يابسة العناد عن‬
‫ولك َّن جهنم تصطنع َ‬
‫االرتواء من كوثر الهدى ونوره الفياض!‬
‫هنالك يجلس ِجلسة السراج في محله األعلى‪ ،‬عب ًدا يلوذ‬
‫مدبرا عن الذين أعرضوا وأدبروا عن الهدى‪ ..‬ال‬
‫ضا ً‬ ‫بربه‪ ،‬معر ً‬
‫خاطر من الدنيا‪ ،‬كأن الغار‬
‫ٌ‬ ‫تحدثه نفسه بمنصب‪ ،‬وال يعبر به‬
‫قطعة هاربة من السماء يأوي إليها هذا القلب الذي هرب من‬
‫األرض!‬
‫‪13‬‬ ‫رجفة الغار‬

‫رجـفـة الـغـار‬

‫منتصبا‬
‫ً‬ ‫وفي سبحات التأمل في غار حراء‪ ،‬يفجؤه جبريل ‪‬‬
‫بين يديه في ظلمة الليل‪ ،‬فيقول له‪ :‬اقرأ!‬
‫تلك الفجأة التي ُت َد ِّوي في هذا السكون الصامت‪ ،‬وتدع‬
‫يرج ُف َر ْج ًفا متتاب ًعا‪ ،‬تتداعى بين يديه ُك ُّل السكينة التي‬
‫قلبه ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫وتهاوت أمام هذه ال ُف َجاءة التي حملها هذا‬
‫ْ‬ ‫كانت في نفسه‪،‬‬
‫طالبا هذا الطلب الغريب!‬‫وانتصب أمامه ً‬
‫َ‬ ‫سكينته‬
‫َ‬ ‫الذي ولج عليه‬
‫أكبر من المعنى العابر في أذهان البشر‬
‫لقد علم أن األمر ُ‬
‫الناس ُكلُّهم‪.‬‬
‫للقراءة‪ ،‬إنها لقراءة ٌ أخرى مفارق ٌة لما عليه ُ‬
‫فيجيب وفي نفسه ما فيها‪> :‬ما أنا بقارئ<!‬
‫يحسن يتنفس‪ ،‬ثم يرسله‬
‫ُ‬ ‫الملَ ُك إليه حتى ال يكاد‬
‫فيضمه َ‬
‫فيقول له مقالته األولى نفسها‪ :‬اقرأ!‬
‫فيجيب جوابه األول ال زيادة فيه وال نقصان ــ وأنَّى له في‬
‫‪.‬‬
‫رجفة الغار‬ ‫‪14‬‬

‫ٍ‬
‫مرتجف يمور‬ ‫قلب‬
‫تلك الحال زيادة ٌ‪ ،‬وإن الكلمة لتخرج من ٍ‬
‫بما فيه من صخب األسئلة الثقيلة؟! ــ‪> :‬ما أنا بقارئ<!‬
‫فيأخذه فيضمه إليه حتى ال يكاد يحسن يتنفس ثم يفجؤه‬
‫{ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ‬ ‫بميثاق الجالل وهيبته وعظمته فيقول‪:‬‬
‫ﲊ ﲋﲌﲍﲎﲏ ﲐﲑﲒﲓ ﲔﲕﲖ‬

‫ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ}‪.‬‬

‫ذلك المشهد الهائل بسطوته‪ ،‬وجالله‪ ،‬وهيبته الشاهقة في‬


‫نفس النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم؛ ال يُبقي في النفس مكا ًنا‬
‫تأوي إليه شبهة شك في أن ذلك هو رسول اهلل ‘‪ ،‬صد ًقا!‬
‫رجل يرجع مرتج ًفا‪ ،‬ال رجف َة الفرح‪ ،‬بل رجف َة الخوف‬
‫هذا ٌ‬
‫ويؤوب إلى أهله فار ًغا من أهازي ِج االحتفال وصنعة‬
‫ُ‬ ‫والفزع‪،‬‬
‫ألمين تا ُّم األمانة حتى في خفقاته ومشاعره وسره‬
‫ٌ‬ ‫االفتعال‪ ..‬إنه‬
‫الذي في صدره!‬
‫لقد خاف وأبان لزوجه عن هذا الخوف بيا ًنا عار ًيا من‬
‫س أمينةٍ‪ :‬لقد خشيت على نفسي!‬
‫التجمل‪ ،‬بيا َن نف ٍ‬
‫ّ‬ ‫أصباغ‬
‫‪15‬‬ ‫رجفة الغار‬

‫س صائمةٍ عن‬ ‫تلك الكلمة المدهشة ما هي إال بيا ُن نف ٍ‬


‫>قوت الدعاوى<! نفس عب ٍد أسكتته العبودية عن مشاهدة نفسه‪،‬‬
‫وش َر ًفا‪ :‬مح ِت ًدا‬
‫وعمال‪َ ،‬‬
‫ً‬ ‫عال‬ ‫ومقاال ِ‬
‫وف ً‬ ‫ً‬ ‫حاال‬
‫وتذ ُّك ِر ما هو عليه ً‬
‫وبين قومه!‬
‫سبا‪ ،‬ومكان ًة لقومه‪َ ،‬‬ ‫ونَ ً‬
‫َط ِف َئ كل هذا أمام ضوء الوحي الباهر في نفس رسول اهلل ‘!‬
‫وبَ ِل َي ْت تلك المشاهدات التي كان يعلمها من نفسه ‘‬
‫وغابت في جالل التلقي األول‪ ،‬فغاب عنه‪:‬‬‫ْ‬
‫صغيرا وهو في بني َس ْع ٍد‪ ،‬ومشه ُد َ‬
‫الح َج ِر‬ ‫ً‬ ‫صدرِه‬
‫مشه ُد َش ِّق ْ‬
‫الذي كان يُ َسلِّم عليه بالنبوة قبل البعثة‪ ،‬ومشه ُد أمه السيد ِة‬
‫قصور الشام!‬
‫َ‬ ‫آمن َة‪ ،‬وهي ُت َح ِّدث عن نو ٍر خرج منها أضاء‬
‫وتوارت عن ذاكرته الرؤى التي كان يراها فتأتي متحقق ًة في‬
‫ميدان الوجود كفلق الصباح ال كذب فيها‪ ،‬وكل ما كان من‬
‫ُوي كل هذا من‬ ‫ِ‬
‫وصحبت َم ْقد َمه ‘‪ ..‬ط َ‬
‫ْ‬ ‫سبقت‬
‫ْ‬ ‫إرهاصات‬
‫يكن!‬
‫قط حينها كأن لم ْ‬ ‫نفسه‪ ،‬ولم يحضره ُّ‬
‫وهذا عجيب!‬
‫شواهد‬
‫َ‬ ‫إن الصادق ال يتكئ على رؤيته لنفسه‪ ،‬وال يصحب‬
‫‪.‬‬
‫رجفة الغار‬ ‫‪16‬‬

‫نفس نبي‪،‬‬
‫الشاهق إال ُ‬
‫َ‬ ‫الصدق‬
‫َ‬ ‫ودالئل اصطفائه‪ ،‬وال يطيق هذا‬
‫رسول اهلل ‘!‬
‫ُ‬ ‫هو‬
‫هذا المشهد الباذخ هو مفتاح كل شيء في النظر إلى رسول‬
‫بخلو ِه من بهرج االدعاء‪ ،‬وزيف التزيد‪ ،‬وبمعنى‬
‫ِّ‬ ‫اهلل ‘‪،‬‬
‫اإلخبات الساجد الخاشع الذي يغشاه كله بتفاصيله كلها‪..‬‬
‫مس من الجنون‪.‬‬
‫خشي على نفسه أن يكون أصابه ٌّ‬
‫َ‬
‫فيهلِك‪.‬‬
‫تتلف ْ‬
‫وخشي على نفسه أن َ‬
‫َ‬
‫وخشي على نفسه أن يكون ما يراه وه ًما ال حقيقة له‪.‬‬
‫ويقصر في أداء ما‬
‫َ‬ ‫وخشي أن ال يقوم بحق الرسالة عليه‪،‬‬
‫َفر َض ُه ربُّه عليه‪.‬‬
‫تلك خشي ٌة كبرى تنطق بفراغ نفسه من التطلع إلى هذه‬
‫المنة العظمى!‬
‫وإذا كان القرءان المجيد مفع ًما بمواطن السجدات التي‬
‫يقوم بها العبد تعظي ًما للمتكلم به سبحانه؛ فإ َّن اهلل تعالى ال‬
‫قلب تحقق فيه‬‫أعظم ٍ‬ ‫َ‬ ‫يصطفي لحمل هذا القرءان المجيد إال‬
‫معنى السجود!‬
‫‪17‬‬ ‫رجفة الغار‬

‫لقد قضت هذه الكلمات اليسيرة على كل دعاوى التشكيك‬


‫في صدق هذا النبي ‘!‬
‫الدعي ال يقول مثل هذا الكالم قط!‬
‫َّ‬ ‫إن‬
‫والكذب ينسج له‬
‫ِ‬ ‫الدعي يتلهف إلى الوه ِم يجعله حقيق ًة؛‬
‫ُّ‬
‫ردا ًء زائ ًفا من الصدق؛ والضال ِل يزخرفه ويزينه حتى لكأنه من‬
‫الهدى!‬ ‫ُش َع ِب ُ‬
‫بينما شأن الصادق أن يديم التثبت والتحري‪ ،‬ويظل يجمع‬
‫أسباب الحق إلى الحق؛ ليزداد به قو ًة!‬
‫وحس ُب العاقل إنعام النظر في هذا المشهد األول ما شاء‬ ‫ْ‬
‫بالبصر المتأني والعقل المتفكر والنفس المتجردة؛ ليئوب من‬
‫هذا النظر الطويل المتأني شاه ًدا شهادة اليقين أن هذا الرجل ال‬
‫نبيا‪ ،‬تمت فيه أجلى شواهد االصطفاء‪.‘ ،‬‬ ‫يكون إال ًّ‬
‫وما أدرت عقلي في حياته ‘ كلها منذ البدء حتى ال َّن َفس‬
‫األخير بين يدي الرفيق األعلى؛ إال وجدته على سمت‬
‫العبودية ال يفارقها ولو في نصف حرف طرفة عين!‬
‫ضا على‬
‫وما تدبرت القرءان حتى وجدته يلح إلحا ًحا مستفي ً‬
‫‪.‬‬
‫رجفة الغار‬ ‫‪18‬‬

‫تلك الحقيقة التي تجعل اإليمان بأن هذا الرجل نبي‪ ،‬والقرءان‬
‫كالم اهلل؛ بداه ًة عقلي ًة ال يملك إنسا ٌن لها دف ًعا!‬
‫ُ‬
‫هذا اإللحاح القرءاني الراسخ على أن اهلل هو الذي علمه‪،‬‬
‫وأنه لم يكن ليعلم لوال أن اهلل علمه‪ ،‬وأن اهلل هو الذي تفضل‬
‫عليه‪ ،‬وهو الذي م َّن عليه بالنبوة والكتاب‪ ،‬وأنه هو الذي يثبته‪،‬‬
‫وأنه هو الذي يحفظه‪ ،‬وأنه هو الذي يؤيده بنصره‪ ،‬وأنه هو الذي‬
‫جمع القلوب عليه‪ ،‬وهو الذي ألَّف بينها بميثاق الحب واإلخاء‪:‬‬
‫{ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ‪.}..‬‬
‫{ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ‪.}..‬‬
‫{ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ‪.}..‬‬
‫{ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ‪.}..‬‬
‫{ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ‪.}..‬‬
‫{ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ‪.}..‬‬
‫{ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ‪.}..‬‬
‫{ﲮﲯﲰﲱﲲﲳﲴﲵ ﲶ ﲷ‪.}..‬‬
‫‪19‬‬ ‫رجفة الغار‬

‫{ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ‪.}..‬‬
‫{ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ‪.}..‬‬
‫{ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ‬

‫ﲚ ﲛ ﲜ‪.}..‬‬
‫{ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙ‪ }..‬إلخ‪.‬‬
‫تلك اآليات التي لو ذهبت أسرد أمثالها هنا لطال األمر‬
‫جدا؛ ألن كل ما في القرءان ينطق بأنه كالم الرب تعالى‪ ،‬وكل‬
‫ما في القرءان ينطق أن محم ًدا عبد اهلل ورسوله!‬
‫>إنما أنا عبد<!‬
‫منذ اليوم األول تتجلى هذه الصفة؛ ألنها صفته األعظم‪،‬‬
‫ضا في دروب‬ ‫ومن وراء ذلك اليوم سنوات تمتد طوال وعر ً‬
‫الزمان‪ ،‬ال تزيد هذه الحقيق َة إال ِجال ًء ورسو ًخا بأقواله وأفعاله‬
‫وأعماله وأحواله ‘!‬
‫ورسولِ َّي َته‬
‫ولو شئت لقلت‪ :‬إن عبوديته ناطق ٌة بأنه رسول اهلل‪ُ ،‬‬
‫نعت العبودية ‘!‬ ‫ناطق ٌة بأنه أعظم من تحقق فيه ُ‬
‫‪.‬‬
‫كال واهلل !‬ ‫‪20‬‬

‫كـال واهلل!‬

‫عابرا سرعان ما ينطفئ‪ ،‬بل آب إلى بيته‬


‫لم يكن ما به شي ًئا ً‬
‫‘‪ ،‬وقد أثقله ما لقي في الغار‪ ،‬وجعل ينادي أهلَه يقول لها‪:‬‬
‫زملوني زملوني!‬
‫وزوجه المباركة ‪ ‬تمسح عن نفسه الشريفة القلق‪ ،‬وتم ُّد‬
‫ظالال من السكينة والحنان والرحمة‪ ،‬وتصطفي له‬ ‫ً‬ ‫من حوله‬
‫وص َد ْت فيها منافذ الهدوء‪،‬‬‫تطيب به النفس إذا أُ ِ‬
‫ُ‬ ‫أطيب ما‬
‫َ‬
‫والقلق‪َ ،‬فت ْع ِرض له في مرآة الثناء الصافيةِ‬
‫ُ‬ ‫وص ِخب فيها الخوف‬‫َ‬
‫الخير كله في رجل واح ٍد‪ ،‬هو هو رسول‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫صفات خم ًسا جمعت‬
‫اهلل ‘!‬
‫وقلمي ال يطيق مغادر َة هذا الموضع حتى يحمل عني ما‬
‫يعتمل في صدري من أصداء هذا الموقف الجليل‪ ،‬وقد رآني‬
‫مأخوذًا بجمال هذه النفس الشريفة المصطفاة التي ُص ِن ْ‬
‫عت على‬
‫مثاال ًّفذا فيه القو ُة أجمل ما تكون‪،‬‬
‫عين اهلل تعالى‪ ،‬فخرجت ً‬
‫‪21‬‬ ‫كال واهلل !‬

‫والرق ُة أعظم ما تكون!‬


‫فيتعالى على شدائد الدنيا وألوائها‪ ،‬ويكون أرق ما يكون‬
‫عند تلقي الوحي وتدبر آياته!‬
‫زوجه الربانية أمنا خديجة ‪ ،‬فجعلت‬
‫وقد علمت ذلك منه ُ‬
‫ترصد له معالم شرفه‪ ،‬وسمو معدنه‪ ،‬وتعدد له بالعطف الجميل‬
‫والتكرار الحنون مناقبه المنيفة التي وسعت الناس كلهم بالرحمة‬
‫واإلحسان‪ ،‬وللتكرار هاهنا وسرد الصفات المنتقاة بالبصيرة‬
‫أثر بالغ في سكب عطر الطمأنينة على نفسه المرهقة‬ ‫المرهفة؛ ٌ‬
‫‘ بتبعات الغار‪ ،‬فقالت له‪:‬‬
‫كال واهلل ال يخزيك اهلل أب ًدا!‬
‫قابل بتتابُع سرد نعوت الطمأنينة‬
‫وتتابُع الرجفات ال بد وأن يُ َ‬
‫الماحية آلثار تلك الرجفات‪.‬‬
‫وفي هذه العبارة من بالغة الصدق‪ ،‬ومن جمال النفي‬
‫القاطع‪ ،‬ومن جالل القسم‪ ،‬ومن يقين التوكيد والتأبيد‪ ،‬ومن‬
‫تكرار اسم اهلل وإظهاره؛ ما يدل على عناية اهلل تعالى بنبيه إذ‬
‫اصطفى له هذه الزوجة الربانية التي تضع الحرف موضعه‪ ،‬وتوغل‬
‫‪.‬‬
‫كال واهلل !‬ ‫‪22‬‬

‫في قلب زوجها باإليمان والحنان م ًعا‪ ،‬واإليما ُن والحنا ُن إذا‬


‫حيا في حياة زوجها!‬ ‫مهاد سكين ٍة ا‬
‫قلب الزوجة كانت َ‬ ‫اجتمعا في ِ‬
‫ثم أبانت بعد هذا اإلجمال الجميل فقالت‪:‬‬
‫الضيف(‪،)2‬‬
‫َ‬ ‫وت ْقري‬ ‫(‪)1‬‬
‫الكل ‪َ ،‬‬‫إنك َلت ِص ُل الرحم‪ ،‬وتحمل َّ‬
‫الحق(‪!)4‬‬
‫وتعين على نوائب ِّ‬
‫(‪)3‬‬
‫المعدوم ‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫وتكسب‬
‫َ‬
‫هذا خير تهدر به تلك النفس العظيمة‪ ،‬التي لم تكن معروفة‬
‫ش أو ثراء‪ ،‬ولكنها العظمة ال ترضى إال بالبذل والنفع!‬
‫برِيا ٍ‬
‫وتلك رحم ٌة تشمل الناس ُكلَّ ُهم‪ ،‬السيما َّ‬
‫الض َعفة والفقراء‬
‫والمساكين والذين ج ِه َدهم البالء وغشيتهم الكروب!‬
‫ظال يلوذ به‬
‫واجد أب ًدا عند الصادق األمي ِن ـ ‘ ـ ًّ‬
‫ٌ‬ ‫كلهم‬
‫وكرما‬
‫ً‬ ‫من هاجرة الحياة‪ ،‬ورحم ًة تؤنسه في وحشة الجفاء‪،‬‬
‫الر ِحم‪.‬‬
‫يُسبِغ عليه إحسانه‪ ،‬وصل ًة تقوم بحق َّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫هو الذي ال يستقل بأمره‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫طعامه و ُن ُزلَه‪.‬‬
‫تهيئ له َ‬
‫أي ُ‬ ‫(‪)2‬‬
‫أي تعطي الناس ما ال يجدونه عند غيرك‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫يعني‪ :‬حوادث األيام وما يعرض لإلنسان من أزمات ومضايق‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪23‬‬ ‫كال واهلل !‬

‫العط َْشى‪ ،‬ويصدرون من عنده وقد َروِيَت نفوسهم‬


‫يرِ ُده الظِّماء َ‬
‫وأرواحهم من أخالقه الشريفة وشمائله المباركة ‘!‬
‫وي‬
‫خلق ُع ْل ٌّ‬ ‫تلك السجايا الفريدة فيه ‘‪ ،‬ومن ورائها ٌ‬
‫األرض إال‬‫ُ‬ ‫اب السماء‪ ،‬نج ًما ال تعرفه‬ ‫عاما في ِش َع ِ‬
‫يمتد أربعين ً‬
‫بالضوء! ما استطال على أحد‪ ،‬وال ُعرِف ب ِكبر‪ ،‬وما َّ‬
‫تقحم‬
‫َمظلم ًة‪ ،‬وال قارف ريب ًة‪ ،‬ولم تلحقه نقيص ٌة‪ ،‬وما أعان على أذى‬
‫قط‪ ،‬يوم كانت االستطال ُة على الناس‪ ،‬والغارة عليهم في ُح ْل َكةِ‬ ‫ُّ‬
‫خارا في‬ ‫واالحتكام إلى السيف؛ َم ْح َم َد ًة ُتكسب المرء فَ ً‬
‫ُ‬ ‫الليل‪،‬‬
‫الس َّمار‬ ‫وتبقي اسمه خال ًدا في قوافي الشعراء وحكايات ُّ‬ ‫قومه‪ُ ،‬‬
‫في األندية والمحافل!‬
‫حق‬
‫أفيحتكم إلى السيف من بع ُد‪ ،‬ويُعمله في الناس بغير ٍّ‬
‫قلوبهم على صراط النجاة‪ ،‬وقريش تغلي َم ِ‬
‫راجلُها‬ ‫وهو ُيقيم َ‬
‫وح ْرقَ ًة منه؟!‬
‫غي ًظا عليه ُ‬
‫بهاء البدء األول‪،‬‬
‫سؤال عبر إلى القلم هنا‪ ،‬وهو يطالع َ‬
‫الركب قليال!‬
‫َ‬ ‫فجعلته حيث عبر‪ ،‬وإن تق َّدم‬
‫ُ‬

‫‪.‬‬
‫بيان ورقة !‬ ‫‪24‬‬

‫بـيـان ورقـة!‬

‫ومع هذا البيان الرحيم من أمنا خديجة ‪ ،‬ينهض معها‬


‫ليعرضا األمر على ورقة بن نوفل‪ ،‬يستظهر األدلة‪ ،‬ويستبين‬
‫األمر‪ ،‬ش ْأ َن الصدق إذا قام في قلب صاحبه‪ ،‬فهو يحمله على‬
‫االستبانة وبحث جذور األمر‪ ،‬حتى يطمئن إلى ثمرته في نفسه‪.‬‬
‫وكان ورقة شي ًخا كبيرا قد َع ِمي‪ ،‬فقالت له أمنا خديجة‬
‫ابن َع ّم‪ ،‬اسمع من ابن أخيك!‬‫‪ :‬يا َ‬
‫فقال له ورقة‪ :‬يا ابن أخي ماذا ترى؟‬
‫فأخبره رسول اهلل ‘ خبر ما رأى‪ ،‬فقال له ورقة‪ :‬هذا‬
‫الناموس(‪ )1‬الذي ن َّزل اهللُ على موسى‪ ،‬يا ليتني فيها جذ ًعا(‪،)2‬‬
‫حيا إ ْذ ُي ْخ ِر ُجك قومك!‬
‫ليتني أكون ًّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني‪ :‬صاحب السر‪ ،‬ويقصد سيدنا جبريل عليه السالم‪.‬‬
‫(‪ )2‬يعني‪ :‬صغير السن‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫بيان ورقة !‬

‫فقال رسول اهلل ‘‪> :‬أو ُم ْخ ِر ِج َّي ُهم<؟!‬


‫جئت به إال ُعودِي‪،‬‬
‫قط بمثل ما َ‬ ‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬لم يأت رجل ُّ‬
‫نصرا ُم َؤ َّز ًرا‪ ..‬ثم ما لبث ورقة أن‬
‫أنص ْرك ً‬ ‫وإن ُي ْد ِر ْكني ُ‬
‫يومك ُ‬ ‫ْ‬
‫مات‪.‬‬
‫هذا كل ما كان بينه وبين ورقة‪ ،‬ولم يكن منه إليه شيء‬
‫أومخرجي هم!‬
‫َّ‬ ‫سوى هذا السؤال األليم‪:‬‬

‫و ُط ِو َي بساط عمر ورقة سري ًعا‪ ،‬كأنما كان بقاؤه َ‬


‫بقاء ورقة‬
‫اإلجابة عن السؤال‪ ،‬تنتهي بانتهاء معناها‪ ،‬فيموت سري ًعا‬
‫كخفقة البرق‪ ،‬لتموت معه أسطورة الذين يزعمون وجو ًدا بشريا‬
‫في رسالة محمد ‘‪ ،‬ويشيرون إلى ورقة!‬
‫وتؤازره أمنا خديجة ‪ ،‬وتبسط عليه من حنانها وعنايتها‬
‫ما جعلها بالمحل األسمى في الكامالت من نساء العالمين ‪.‬‬

‫‪.‬‬
‫فرتة الصدق !‬ ‫‪26‬‬

‫فترة الصدق !‬

‫ويفتر الوحي!‬
‫لقد كان المشهد األول كله بيا ًنا واض ًحا ال ريب فيه عند‬
‫بشريا قط‪ ،‬وال هو من‬
‫كل عاقل على أن هذا الوحي ليس شأنا ًّ‬
‫َك ْس ِب حاملِه ‘ ُّ‬
‫قط!‬
‫بشريا وهو يذهب مرتج ًفا إلى بيته‪ ،‬ويبث‬
‫كيف يكون شأ ًنا ًّ‬
‫زوجه ما به‪ ،‬ويذهب يحمل السؤال‪ ،‬ويستفصل عن الحال؟!‬
‫بشريا ومن تهيأ لشيء يخترعه‪ ،‬وابتدع‬
‫ًّ‬ ‫كيف يكون شأ ًنا‬
‫نشره في العالمين؛ يتلبس به الهم والكرب عند بدء‬‫أمرا يرجو َ‬
‫ً‬
‫مهموما وقد شرع في تحقيق مأربِه؟!‬
‫ً‬ ‫نشره بين الناس؟! أفيكون‬
‫بشريا ويفتر عنه الوحي‪ ،‬ويجد في قلبه‬
‫كيف يكون شأ ًنا ًّ‬
‫ألم الحزن ولذع الوحشة‪ ،‬حتى لقد كان يصعد شواهق الجبال‬
‫ليتردى منها‪ ،‬أفيكون األمر منه‪ ،‬وبتدبيره ومكره واختالقه‬
‫‪27‬‬ ‫فرتة الصدق !‬

‫ــ وحاشاه ــ ويصعد فيلقي بنفسه من شاهق(‪)1‬؟!‬

‫ما الذي يحمله على هذا إال أن األمر ُكلَّه ليس منه وال ْ‬
‫بكسبِه‬
‫وال بطاقَ ِته أبدا؟!‬
‫هذا هو محض العقل‪ ،‬ومحض النظر السوي عند كل عاق ٍل‬
‫في دنيا الناس‪.‬‬
‫بشريا ويفتر الوحي من بع ُد بعد أن استعلن‬ ‫ا‬ ‫أيكون شأ ًنا‬
‫بدعوته‪ ،‬وهو يرى ويسمع تطاول السفهاء وسخريتهم من ذلك‪،‬‬
‫وهم يقولون‪ :‬لقد قلى(‪ )2‬محم ًدا ربُّه!‬
‫عجيب ذلك التقدير اإللهي!‬
‫ٌ‬
‫لقد جعل عليهم من أنفسهم شهو ًدا؛ إذ أقروا واستعلنوا‬
‫للض ْغن الذي يحملونه على‬ ‫بفتور الوحي‪ ،‬واتخذوه ُم َت َن َّف ًسا ِّ‬
‫النبي ‘‪.‬‬
‫ولو عقلوا لكان في فتور الوحي َم ْقنَ ٌع لكل ذي عقل؛ أن‬
‫األمر ليس من محم ٍد ‘‪ ،‬وال هو من قوله‪ ،‬ولو كان‪ ،‬وحاشاه‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تنبيه‪ :‬خبر التردي من الجبال ال يصح سن ًدا‪ ،‬وهو َه َدر‪ ،‬ولكني أدرجته هنا‬
‫حتى ال يتمسك به الطاعنون؛ فإنه داللة صدق ال شيء فيه!‬
‫(‪ )2‬يعني‪ :‬أبغضه‪ ،‬وحاشاه سبحانه!‬
‫‪.‬‬
‫فرتة الصدق !‬ ‫‪28‬‬

‫خوضهم فيه باألذى‪ ،‬ولنسج لنفسه در ًعا من‬ ‫لدفع عن نفسه َ‬


‫َ‬
‫اآليات ــ وليس بمستطي ٍع ــ تر ُّد عنه عادي َة سهامهم المشتعلة!‬
‫لم يكن منه إال صمت العابد الصابر المهموم‪ ،‬حتى أضاءت‬
‫نفسه بنور {ﱹ ﲰ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ}‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫ناس الصحراء‬

‫ناس الصحراء‬

‫تبث في قلبه نور‬


‫تتابع تثبيت اهلل لنبيه ‘ بقواطع األدلة ُّ‬
‫وينهض بحمل‬
‫َ‬ ‫عزمه‪،‬‬
‫اليقين أنه هو رسول اهلل ‘؛ ليقوى ُ‬
‫أمانة الهداية للبشرية كلها‪.‬‬
‫يقول ‘ عن تلك األيام األولى‪> :‬بينا أنا أمشي إذ‬
‫الملَ ُك الذي‬ ‫فرفعت بصري‪ ،‬فإذا َ‬
‫ُ‬ ‫صوتا من السماء‪،‬‬
‫سمعت ً‬
‫كرسي بين السماء واألرض! ُفر ِع ْب ُت‬ ‫جالس على‬ ‫ٍ‬
‫بحراء‬ ‫جاءني‬
‫ٍّ‬ ‫ٌ‬
‫زملوني!<‬
‫فرجعت فقلت‪ِّ :‬‬
‫ُ‬ ‫منه‪،‬‬
‫ﲞ} إلى قوله‪:‬‬ ‫{ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ‬ ‫فأنزل اهلل تعالى‪:‬‬
‫فحمي الوحي وتتابع‪.‬‬
‫َ‬ ‫{ﲦ ﲧ}‪.‬‬
‫ضا ـ ‘ ـ‪> :‬جاورت في حراء‪ ،‬فلما قضيت جواري‬ ‫وقال أي ً‬
‫فنظرت أمامي وخلفي وعن‬
‫ُ‬ ‫فاستبطنت الوادي‪ ،‬فنُوديت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫هبطت‬
‫ُ‬
‫جالس على عرش بين السماء‬
‫ٌ‬ ‫يميني وعن شمالي‪ ،‬فإذا هو‬
‫‪.‬‬
‫ناس الصحراء‬ ‫‪30‬‬

‫علي ما ًء بار ًدا‪،‬‬


‫وص ُّبوا َّ‬
‫واألرض‪ ،‬فأتيت خديجة فقلت‪َ :‬دث ِّ ُروني ُ‬
‫علي‪{ :‬ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ‬ ‫وأُن ِزل َّ‬
‫ﲤ}‪.‬‬
‫شواهد تقوم بين يديه بآيات مشهودة‪ ،‬وبواعث صدق‬
‫وتثبيت بآيات الوحي تنزل من رب العالمين على قلبه‪ ،‬فنهض‬
‫النبي ‘ نهضة الحياة تبث أنفاسها في هامد النفوس واألرواح‪.‬‬
‫وقام يرعى تلك األرواح بالرفق والرحمة‪ ،‬واألناة الهادية‪،‬‬
‫والصدق الذي ال يتلعثم‪ ،‬والنفس التي ال تتهيب شواظ قريش‬
‫ووعيدها‪ ،‬وهو يتلفت في هذا المحيط الفوار بعادات اآلباء‬
‫وناموس الوثنية العتيقة‪ ،‬يريد استخالصها من أصفاد الضنك‬
‫الء معادنها لتعود وضيئ ًة بخاللها الشريفة‬
‫وج َ‬‫وأثقال الشرك‪ِ ،‬‬
‫ومآثرها المحمودة!‬
‫نعم‪ ،‬إنها لنفوس وطئها الشرك‪ ،‬وغمسها في تياره الكالح‪،‬‬
‫نفوس تعظم الكرم‪ ،‬وتلوذ بالجود‪ ،‬وتفخر باإلباء‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫غير أنها‬
‫ض في الخير والشر‬‫أزر بع ٍ‬
‫وتتنادى عند النوائب‪ ،‬ويشد بعضها َ‬
‫م ًعا‪ ،‬ويتناصرون ظالمين ومظلومين!‬
‫نبغ فيهم أمثال عبداهلل بن جدعان‪ ،‬وحاتم طيئ‪ ،‬وهرِم بن‬
‫‪31‬‬ ‫ناس الصحراء‬

‫سنان‪ ،‬وكعب بن مامة اإليادي وغيرهم من األجواد الكرماء‪..‬‬


‫وعرِف فيهم من ل ُ ِّق ُبوا بـ(أزواد الركب)‪ ،‬وهم ثالثة نف ٍر كانوا ال‬
‫ُ‬
‫عابر سبي ٍل أو محتا ًجا يجوزهم(‪ )1‬إال أنزلوه وتكفَّلوا‬ ‫يدعون غريبا أو َ‬
‫يظعن(‪ ،)2‬وهم زمعة بن األسود بن المطلب‪ ،‬وأبو أمية‬ ‫َ‬ ‫به حتى‬
‫بن عبد اهلل بن عمر ابن مخزوم‪ ،‬ومسافر بن أبي عمرو‪.‬‬
‫وكانو أم ًة تعظم الوفاء وتستقبح الغدر‪ ،‬وتأنف من الوقوع‬
‫في الكذب‪ ،‬ولو مع من تشنؤه وتحمل في قلبها عداوته‪ ،‬وما أَ ْم ُر‬
‫أبي سفيان بين يدي هرقل وسؤاالته المشهورة؛ عنا ببعيد‪..‬‬
‫فقد قال ‪ ،‬وكان إذ ذاك مشر ًكا‪> :‬فواهلل لوال الحياء من‬
‫أن يأثروا(‪ )3‬علي كذ ًبا لكذبت عنه<!‬
‫وكانوا أم ًة تعظم الشرف وتتوهج في دمائها حرارة الغيرة‬
‫ش قط‪،‬‬ ‫حر شريف المح ِت ِد ظُلم َة الفواح ِ‬
‫يركب ٌّ‬
‫ُ‬ ‫وقَ ْي ُظها‪ ،‬وال‬
‫حتى إن النمص لم يكن في حرائر قريش‪ ،‬ويوم جاءت هند ‪‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعبر بهم‪.‬‬
‫(‪ )2‬يرتحل‪.‬‬
‫(‪ )3‬ينقلوا‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ناس الصحراء‬ ‫‪32‬‬

‫مبايع ًة بعد الفتح قالت للنبي ‘ وهو يأخذ العهد على النساء‬
‫وأرج ِله َِّن‪ ،‬فقالت بلهجة‬
‫ُ‬ ‫أن ال يأتين ببهتا ٍن يفترينه بين أيديهن‬
‫الح َّرة؟!‬
‫الغضوب‪ :‬أوتزني ُ‬
‫ِ‬ ‫المستنكر‬
‫وقد اتكأوا على عف ٍة عن المحارم أورثتهم رفع ًة بين األمم‪،‬‬
‫وفي ذلك يقول عنترة‪:‬‬
‫ـي جــارتي‬
‫ـدت لـ َ‬ ‫وأَ ُغـ ُّ‬
‫ـض طرفــي إن بـ ْ‬
‫حتــــى يــــواري جــــارتي مأواهــــا!‬

‫وكانوا من أش ِّد الناس تعظي ًما للجار وح ِّقه‪ ،‬يبسط الرجل‬


‫جواره على آخر‪ ،‬فيغدو ويروح آم ًنا مطمئ ًنا ال يخشى شي ًئا ولو‬
‫وض ِر َب المثل‬
‫كان دربه منصو ًبا بين نواصي سيوفهم ورماحهم‪ُ ،‬‬
‫برجاالت أجاروا من الذ بهم‪ ،‬كقولهم‪> :‬جار أبي دؤاد<‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫ويعنون كعب بن مامة‪ ،‬الذي آثر صاحبه بالماء على نفسه‪،‬‬
‫حتى قضى‪ ،‬ولهم في ذلك أعاجيب ليست ألم ٍة من األمم!‬
‫وكانوا أهل أَنَ َف ٍة ال يُسامون خس ًفا‪ ،‬وال ُي َس ِّودون عليهم من‬
‫ال يرتضونه‪ ،‬ولو تفانوا حتى آخ ِر رج ٍل فيهم‪ ،‬ولقد استعرت‬
‫عاما من أجل ناقة وبعير‪ ،‬مثل الذي كان في‬ ‫سيوفهم أربعين ً‬
‫‪33‬‬ ‫ناس الصحراء‬

‫حرب داحس والغبراء!‬


‫وما كان يسود الرجل فيهم إذ يسود إال بحلمه وكرمه وسداد‬
‫عقله‪ ،‬وما آلت السيادة فيهم للئيم قط!‬
‫الخالل الشريفة‪:‬‬ ‫أبيات مضيئة بتلك ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يقول حاتم طيئ في‬
‫ـــــت بليـــــ ٍل تلـــــومني‬‫هب ْ‬ ‫وعاذلـــــة َّ‬
‫ـــر َدا‬
‫عيــــوق الثر َريَّــــا فعـ َّ‬
‫وقــــد غــــاب ر‬
‫تلـــوم علـــى إعطـــائي المـــال ِضـــلَّ ًة‬
‫إذا ضـــن بالمـــال البخيـــل وصـــردا‬
‫تقــــول‪ :‬أال أمســــك عليــــك فــــ نني‬
‫أرى المـــال عنـــد الممســـكين ُم َع َّبـــ َدا‬
‫وافــــر‬
‫ٌ‬ ‫ذرينــــي ومــــالي! إن مالــــك‬
‫ــل امـــر ٍ جـــار علـــى مـــا تعـ َّ‬
‫ــو َدا‬ ‫وكـ ر‬
‫لعرضـــي ُجنَّـــ ًة‬
‫َ‬ ‫ذرينـــي يكـــن مـــالي‬
‫يقــي المــال ِعرضــي قبــل أن يتبــددا‬
‫ــز ًال‪ ،‬لعلنـــي‬ ‫أرينـــي جـــوادا مـــات ُهـ ْ‬
‫ـــيال ُم َخلَّــــ َدا‬
‫أرى مــــا تــــرين‪ ،‬أو بخـ ً‬

‫‪.‬‬
‫ناس الصحراء‬ ‫‪34‬‬

‫ألــم تعلمـــي أنـــي إذا الضـــيف نـــابني‬


‫وع َّز ال ِقرى= أ ْقرِي َّ‬
‫الس ِد َيف ُ‬
‫الم َس ْر َهدا‬
‫ـت مالَــك فا ْق َت ِصـ ْـد!‬
‫يقولــون لــي‪ :‬أهلكـ َ‬
‫كنــت لــوال مــا تقولــون ســيِّدا!‬
‫ومــا ُ‬
‫أهل بيان‪ ،‬ينبض بخفقات‬ ‫قوما َ‬
‫وكانوا من وراء هذا كله ً‬
‫ض ما في النفس اإلنسانية من أسرار‪ ،‬فلقد كانت‬
‫شعورهم‪ ،‬وأغم ِ‬
‫الصحراء معب َد ِ‬
‫نفوسهم الشاعرة‪ ،‬وأرواحهم النافذة في ُح ُج ِب‬
‫الكون وآياته المنتصبة في الفلوات‪ ،‬فكان لهم مع الصحراء شأ ٌن‬
‫ساحر!‬
‫ويعجبني هنا أن أتحفك بهذا النص الشريف ألحد أئمة‬
‫العلم‪ ،‬وهو العالمة محمد البشير اإلبراهيمي‪ ،‬وهو يتحدث عن‬
‫هذه األمة الشاعرة وما صنعته الصحراء فيهم وما صنعوه معها‪،‬‬
‫فيقول ‪> :‬فإن هذه الصحراء التي هي آية من آيات اهلل‪ .‬في‬
‫أرضه‪ ،‬أو هي باب الفلسفة من هذا الكتاب األرضي لم يعمرها‬
‫روحها‬
‫تشربت معانيها‪ ،‬وتغلغلت في دقائقها‪ ،‬والءمت ُ‬ ‫اهلل بأمة ّ‬
‫روحها مثل األمة العربية!‬
‫َ‬
‫وسل التاريخ ينبئك‪ ،‬فهو لم يعرف أم ًة خلعت عليها الصحراء‬
‫‪35‬‬ ‫ناس الصحراء‬

‫فطرتها وأفرغت عليها إفرا ًغا ساب ًغا غير األمة العربية‪.‬‬
‫َ‬
‫جاشت نفوس العرب وتفتقت قرائحهم عن‬ ‫ْ‬ ‫ومن ههنا‬
‫روائع الفلسفة الوصفية للصحراء وأرضها وسمائها وليلها‬
‫ونهارها وأغوارها وأنجادها وبراريها القاحلة وشجراتها ومعايشها‬
‫وصرها وحيوانها ونباتها!‬
‫وقيظها ّ‬
‫وليس ألم ٍة من األمم ما للعرب في وصف النجوم‪ ،‬حتى‬
‫َّقربتها تشبيهاتهم إلى اإلدراك البشري‪ ،‬واعتب ِْر ما قالوه في سهيل‬
‫والس َماكين؛ األعز ِل والرام ِح‪ ،‬والثريا والخضيب‬ ‫ِّ‬ ‫والجوزاء‬
‫وال َّدبَ َران والنَّ ْس َر ْين الواقع والطائر‪ ،‬على كثرة النجوم وكثرة ما‬
‫قالوه فيها‪ ،‬وإذا كانت النجوم ال ُت ْح َصى ع ًّدا‪ ،‬ف ُق ْل ذلك فيما‬
‫قالته العرب فيها‪.‬‬
‫ومن بدائع تشبيهاتهم في النجوم أخذ المعري تلك المنازع‬
‫الغريبة وتلك النظرات الفلسفية البعيدة الغور المنبثَّ َة في لزومياته‪،‬‬
‫باب على ِح َد ٍة من فلسفته الكونية‪ ،‬وما نبع ذلك ال ُّزالل‪،‬‬‫وهي ٌ‬
‫الس ْح ُر الحالل إال مما تركه العرب من تشبيهاتهم لها‬ ‫ونبغ ذلك ِّ‬
‫َ‬
‫وتخيالتهم فيها‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ناس الصحراء‬ ‫‪36‬‬

‫وانظر أوصافهم البديعة لظلمة الليل وروعته وأثرها في‬


‫بعض السر‬ ‫ُ‬ ‫ينكشف لك‬
‫ْ‬ ‫نفوسهم وقارن ذلك بوصفهم للنجوم؛‬
‫من تلك النفوس وارتباطها بكونها وامتزاجها به‪ ،‬وال أُ ْب ِع ُد إذا‬
‫قلت‪ :‬إنه ليس لألمم مجتمع ًة ما للعرب في هذا الباب‪.‬‬
‫ُ‬
‫وليس ألمة من األمم ما لهم في وصف الحيوانات الضارية‪.‬‬
‫الضواري‬
‫َ‬ ‫س‬
‫تدر ِ‬
‫وإن أمم الحضارة على وفرة أدواتها لم ُ‬
‫وفاتهم أن التدجين يذهب بكثي ٍر من‬
‫إال بعد أن د َّجنتها‪َ ،‬‬
‫كثير من‬
‫الخصائص الطبيعية لها‪ ،‬فيفوت بذلك على الدارس ٌ‬
‫النتائج‪ ،‬واعتبر ذلك بِتدجيننا ــ ونحن ٌ‬
‫بشر ــ كيف اغتال خصائصنا‬
‫ومقوماتنا‪ ،‬ومسخ معنوياتنا حتى أصبحنا أحط من بعض أنواع‬ ‫ّ‬
‫الحيوان!!‬
‫أما العرب فخالطوا الضواري في أغيالها واقتحموا ِ‬
‫مآس َد‬
‫وت ْرج(‪ )1‬وغيرها‪ ،‬وذللت أرضها أقدامهم‪ ،‬ومنهم‬ ‫َخفَّا َن وال َّثرِ ّية َ‬
‫من عايش الضواري حتى ألفها وألفته وجمع بينهما عالم كعالم‬
‫السب ِع َّية ِ‬
‫وش َّر ُتها‬ ‫المثال عند الصوفية‪ ،‬فلطفت في السبع َس ْو َرة َّ ُ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬مواضع كثيرة األُسد‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫ناس الصحراء‬

‫وامتدت في العربي الميزة الحيوانية‪ ،‬وتقاربت الغرائز في الجو‬


‫الحيواني الوسط‪ ،‬فصدق الوصف وحق التصوير‪ .‬ولو لم يكن‬
‫أميا وكان ممن يدرس األشياء على المناهج العلمية‪ ،‬ألتى‬
‫العربي ا‬
‫العالم بالمعجزات‪.‬‬
‫وليس ألمةٍ من األمم ما للعرب في وصف الحشرات والزواحف‬
‫واإللمام بطبائعها ووجوه تصرفاتها وسعيها في معائشها وتناسلها‬
‫وصف عن ِعيا ٍن ودراسة‬
‫ٌ‬ ‫ودراسة ما بينها من امتزاج وتنافر؛‬
‫في الجو الطبيعي‪.‬‬
‫بعض السر في خصيصة العرب في‬ ‫َ‬ ‫وإذا أردت أن تفهم‬
‫الوصف‪ ،‬فاعلم أ ّن الصحراء لبستهم ولبسوها‪ ،‬حتى أصبحت‬
‫سميناها ملكة‬
‫التأمل‪ ،‬ولو ّ‬
‫حياتهم جز ًءا منها فأورثتهم ملكة ّ‬
‫الحس‬
‫ّ‬ ‫الحواس لكان هذا هو الصحيح‪ ،‬ومنها جاءتهم دقة‬
‫ولطافة الشعور وصدق التصوير‪ ،‬وال نشترط على التاريخ أن‬
‫يأتينا بأمةٍ أُ ِّم َّيةٍ من أُ َم ِمه يطاول بها أمة العرب في هذا الباب‪،‬‬
‫بل نتنازل وندعوه ألن يأتينا بأمة من أمم الحضارة تستطيع أن‬
‫تقف بجانب العرب في هذا الميدان<(‪!)1‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬من رسالة الضب في أعمال الكاملة‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ناس الصحراء‬ ‫‪38‬‬

‫أما البيان! وأما الشعر! وأما الحرف يتهادى من فم أحدهم‬


‫كامال‬
‫ماثال يتوهج بالحياة‪ ،‬مضي ًئا ينبض بالنور‪ً ،‬‬ ‫يدع المعنى ً‬
‫كأنما صب فيه صاحبه روحه كلها وما فيها من عبقرية الوصف‬
‫صا لهم من بين‬ ‫وجمال البيان ونفاذ الشعور؛ فهذا كاد يكون خال ً‬
‫األمم‪ ،‬سب ًقا وإمام ًة وبراع ًة ال ينتهي جمالها‪ ،‬وعبقري ًة يُبلس‬
‫أمامها كل ذي بيان!‬
‫هؤالء كانوا العرب‪ ،‬على وجازة ما أبنته لك‪ ،‬وهؤالء هم‬
‫الذين ُبعث فيهم النبي ‘‪.‬‬
‫قليال؛ ألن في بيان هذه‬‫وقد جعلت القلم يتنفس هنا ً‬
‫النفوس بيا ًنا لدعوة النبي ‘‪ ،‬كيف جاس خالل هذه النفوس‬
‫فخلصها من رهق الوثنية‪ ،‬ثم ألني رأيت أن صورة العرب في‬
‫هذا الموضع قد أعتمت في صفحات كثي ٍر من الذين لقفوا‬
‫صورة العرب عن غيرهم‪ ،‬فطمسوا فيهم كل خير‪ ،‬وجعلوهم‬
‫كالحصى البشري ليس منه إال األذى والقسوة والشر‪.‬‬
‫المع ِجبة التي مرت بين يديك؛‬‫وللعرب من بعد هذه الخالل ُ‬
‫وبليت رسومه‪ ،‬وتهاوت إلى‬‫ْ‬ ‫نفوس َط ِف َئ ْت فيها معالم التوحيد‪،‬‬
‫ٌ‬
‫خرافات اآلباء وأساطير الكهنة تجعلها دي ًنا تعتقده‪ ،‬فكأن هذه‬ ‫ِ‬
‫‪39‬‬ ‫ناس الصحراء‬

‫الخالل الشريفة من الكرم والنجدة وحسن الجوار والعفة وسائر‬


‫ما يدور في هذا الفلك؛ كانت كاإلنسان المثقل بقيوده في‬
‫ممدد في تلك الظلمة التي خلَّفه فيها اآلباء‬
‫ٌ‬ ‫تابوت الشرك‪ ،‬وهو‬
‫ينتظر اليد التي تكسر عنه خشبة تابوته وحديدة قيده؛ ليعود إلى‬
‫اهلل موح ًدا‪ ،‬فتعود فيه الحياة عابدا!‬

‫‪.‬‬
‫ناس السماء‬ ‫‪40‬‬

‫ناس السماء‬

‫حمل النبي ‘ نور الوحي في صحراء مك َة يصحبه ُخلُ َقا ِن‬


‫ال يتخلفان عنه‪:‬‬
‫* تعظيم الحق‪ :‬الذي يحمله فال يلتوي في بيانه‪ ،‬وال‬
‫يتلعثم في تبليغه‪ ،‬وال يداهن في اعتقاده‪.‬‬
‫* الرحمة التامة‪ :‬فال يجلس قط عن استنقاذ النفوس من‬
‫جاحمة النار‪ ،‬ويحتمل في سبيل فَ َكا ِكهم من عذاب اهلل قيظَ األذى‬
‫ومرار َة الخوض فيه بالكذب ممن كانوا باألمس ال يذكرونه إال‬
‫بالصادق األمين!‬
‫يصعد الجبال‪ ،‬ويفارق الظالل‪ ،‬ويعرض نفسه على القبائل‪،‬‬
‫حامال ظل الهداية‪ ،‬وربيع‬
‫ويخوض فجاج الجمر في رمضاء مكة ً‬
‫التوحيد في صحرائها التي يبست تحت سطوة الشرك‪ ،‬باللسان‬
‫الفصيح‪ ،‬والوجه الباش‪ ،‬والصبر المعجز!‬
‫‪41‬‬ ‫ناس السماء‬

‫وما كان معه في هذا الميدان إال القرءان يبعث به موات‬


‫نفوسهم‪ ،‬ويعصف بظلمات الوثنية وكهنتها‪ ،‬وال يدع في‬
‫الوضاء!‬
‫النفوس مكا ًنا لغير فجر الوحي ونوره َّ‬
‫ولقد ساوموه وجادلوه‪ ،‬وكذبوا عليه‪ ،‬وآذوه في نفسه‬
‫وأصحابه‪ ،‬وسلطوا عليه سفه َاء ُهم وأطلقوا ألسنة شعرائهم وذوي‬
‫اعتصاما باهلل تعالى‪،‬‬
‫ً‬ ‫اللَّ َس ِن فيهم بالسوء‪ ،‬فما زاده ذلك إال‬
‫دعي كذاب‪،‬‬
‫ساميا بالحق ال تكون ذرة ٌ منه أب ًدا في قلب ٍّ‬
‫وتعاليا ً‬
‫ً‬
‫قلب عرفت الدنيا إليه سبيال!‬‫ورحم ًة غامرة ال تنبع من ٍ‬
‫إ َّن من خصائص النبي ‘ التي يلحظها كل من أوى إلى‬
‫ٍ‬
‫عبارة يلقيها‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬
‫موقف منه‪ ،‬أو‬ ‫صا‪ :‬أن كل‬
‫حياته دار ًسا متفح ً‬
‫حال من أحواله؛ يقوم وحده‪ ،‬بذاته‪ ،‬شاه ًدا على صدقه ونبوته‬
‫‘!‬
‫وزورا عليه‪ ،‬فما زاده‬
‫ً‬ ‫لقد أشعلوا مكة وما حولها كذ ًبا‬
‫سبا أو‬
‫سعيا في الناس بالنور وحده‪ ،‬فلم يسمعوا منه ًّ‬ ‫ذلك إال ً‬
‫ُه ْج ًرا‪ ،‬وما وجدوه إال ساميا على الحق‪ ،‬رحي ًما بتلك العقول‬
‫التي ُغ ِم َس ْت في ت ُّنور الخرافة والشرك!‬
‫ناجيا من شراك الكذب‬
‫وكل من عرف النبي ‘‪ ،‬وعاينه ً‬
‫‪.‬‬
‫ناس السماء‬ ‫‪42‬‬

‫والتضليل التي نصبتها قريش بين الناس وبين دعوته ‘؛ آمن‬


‫به إيما ًنا أسرع من البرق وأسلس من الماء!‬
‫فإ َّن شمائله وصفاته وحدها شاهدة ٌ على نبوته‪ ،‬ثم إنهم‬
‫ألهل بيا ٍن‪ ،‬فما هو إال أن يطرق القرءا ُن قلب الواحد منهم‬
‫ُ‬
‫قبل!‬
‫يلج إلى بوابة اإليمان وإن كان عري ًقا في كفره من ُ‬
‫حتى َ‬
‫كالص ِّديق‪ ،‬وأمنا‬
‫ِّ‬ ‫ولذلك كان إيمان السابقين األولين‬
‫خديجة‪ ،‬وعثمان وعلي وابن مسعود وسعد وعبدالرحمن بن‬
‫نبي‪ ،‬وأن القرءان‬‫رهوا؛ ألن اإليمان بأن محم ًدا ٌّ‬
‫سهال ً‬
‫عوف؛ ً‬
‫ليس كالم البشر؛ تجلى في قلوبهم كالبداهة العقلية التي ال‬
‫يجادل فيها إال مطموس القلب أو العقل‪.‬‬
‫ولقد ضيق النبي ‘ عليهم السبل‪ ،‬فأغلقها بين يدي سماسرة‬
‫الكذب وكهنة المداهنة‪ :‬أي ٍ‬
‫شيء يتوسلون به ليصرفوه عن هذا‬
‫الحق؟!‬
‫إنه ليقف من الدنيا بعي ًدا وقوف النجم هنالك في عليائه‪،‬‬
‫فكل إغراءتهم وأموالهم الالمعة‪ ،‬تلتمع التماع السراب الكذاب‬
‫بين يدي من مأل سقاءه وجراره بالماء‪ ،‬فليس يبالي به‪ ،‬وال‬
‫يلتفت إليه!‬
‫‪43‬‬ ‫ناس السماء‬

‫إنهم ليعالجون من صدقه عن ًتا ومشقة‪:‬‬


‫هذا رجل ماتت الدنيا في قلبه فال تعرف إليه سبيال‪..‬‬
‫حي لكمال األخالق وتمام الرجولة فال يجدون‬
‫وهذا مثال ٌّ‬
‫فيه مغم ًزا بالسوء‪ ،‬وإنما يتنفسون باالفتراء الكاذب الذي هم‬
‫أول من يعلم أنه كذب وافتراء!‬
‫كالم‬
‫وإنهم ليعلمون أن الذي يتلوه ويبلغه عن اهلل تعالى؛ ٌ‬
‫وشعرا ورج ًزا وقصي ًدا‪ ،‬شهد‬
‫ً‬ ‫مفارق لسمت كالم البشر نثرا‬
‫ٌ‬
‫بذلك عليهم سمعهم ونطقت به أفئدتهم‪ ،‬ووجد أحيا ًنا سبيله‬
‫عجبا في نعت القرءان‬ ‫إلى ألسنتهم التي أقرت فقالت بيا ًنا ً‬
‫المجيد!‬
‫ودونك هذه القصة الفريدة وفيها ما يُغني عن غيرها‪:‬‬
‫عن ابن عباس ‪ ‬قال‪ :‬لما أنزلت على النبي ‘ سورة‬
‫غافر قرأها النبي ‘ في المسجد‪ ،‬فسمعها الوليد ثم انطلق إلى‬
‫مجلس بني مخزوم فقال‪ :‬واهلل لقد سمعت من محمد كال ًما آن ًفا‪،‬‬
‫ما هو من كالم اإلنس وال من كالم الجن‪ ،‬إ ّن أسفله ُلم ْغ ِدق(‪،)1‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ال َغدق‪ :‬المطر الكثير القطر والخير‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ناس السماء‬ ‫‪44‬‬

‫وإن أعاله ُلمونِق(‪ ،)1‬وإن له لحالو ًة‪ ،‬وإن عليه ل ُط َالوة(‪،)2‬‬


‫وإنه يعلو وال يُعلَى‪ .‬ثم انصرف‪.‬‬
‫فقالت قريش‪ :‬لقد صبأ الوليد! واهلل لئن صبأ الوليد لتصبأ َّن‬
‫قريش كلُّها‪ ،‬وكان يقال للوليد ريحان َة قريش‪ .‬فقال أبو جهل‪:‬‬ ‫ٌ‬
‫أنا أكفي ُكموه‪.‬‬
‫فانطلق إليه بدهائه وخبثه‪ ،‬حتى دخل عليه وهو حزين فقال‪:‬‬
‫قومك يريدون أن يجمعوا لك ماال ُليعطوكه؛ فإنك‬ ‫عم! إن َ‬
‫يا ّ‬
‫تتعرض لِما قِ َبلَه!‬
‫أتيت محمدا ّ‬
‫عرض أنه قال ما قال من أجل المال!‬
‫يريد أن يثير غضبه ُفي ِّ‬
‫فقال‪ :‬لقد علمت قريش أني من أكثرها ماال‪.‬‬
‫قومك >أنك كاره له<!‬
‫قال‪ :‬فقل فيه قوال يبلغ َ‬
‫قال‪ :‬وماذا أقول فيه؟! واهلل إنه ليس من كالم اإلنس وال‬
‫من كالم الجن!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫عجب‪.‬‬ ‫حسن ُم ِ‬
‫ٌ‬ ‫(‪)1‬‬
‫الحسن والقبول‪.‬‬
‫(‪ُ )2‬‬
‫‪45‬‬ ‫ناس السماء‬

‫فقال له أبو جهل‪ :‬ال يرضى عنك قومك حتى تقول فيه!‬
‫فقال له الوليد‪ :‬دعني أفكر فيه‪.‬‬
‫معشر قريش!‬
‫َ‬ ‫فلما اجتمع بقومه قال وقد حضر الموسم‪ :‬يا‬
‫إنه قد حضر هذا الموسم‪ ،‬وإن وفود العرب ست ْق َد ُم عليكم فيه‪،‬‬
‫فأج ِم ُعوا فيه رأ ًيا واح ًدا‪ ،‬وال‬
‫وقد سمعوا بأمر صاحبِكم هذا‪ْ ،‬‬
‫ضا!‬
‫بعضكم بع ً‬
‫ِّب ُ‬
‫تختلفوا فيكذ َ‬
‫إنهم ليعلمون أن ال سبيل إال الكذب أمام من ال سبيل‬
‫ألح ٍد إذا سمع منه إال اإليمان به!‬
‫قالوا‪ :‬فأنت يا أبا عبد شمس أقِ ْم لنا رأ ًيا نقوله فيه!‬
‫قال‪ :‬بل أنتم فقولوا ْأس َم ْع‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬نقول كاهن‪.‬‬
‫ِ(‪)1‬‬
‫قال‪ :‬واهلل ما هو بكاهن؛ فقد رأينا ال ُك َّهان فما هو بزمزمة‬
‫الكاهن وال َس ْج ِعه‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فنقول مجنون!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الكالم المبهم غير المفهوم‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ناس السماء‬ ‫‪46‬‬

‫قال‪ :‬واهلل ما هو بمجنون؛ فقد رأينا الجنون وعرفناه‪ ،‬فما‬


‫هو بخنقه وال تخالُ ِجه(‪ )1‬وال وسوسته‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فنقول شاعر!‬
‫وقريضه‬
‫َ‬ ‫وه َز َجه‬
‫قال‪ :‬ما هو بشاعر‪ ،‬لقد عرفنا الشعر كله رجزه َ‬
‫ومقبوضه ومبسوطَه(‪ ،)2‬فما هو بشاعر‪.‬‬
‫َ‬
‫قالوا‪ :‬فنقول ساحر‪.‬‬
‫الس َّحار ِ‬
‫وس ْح َرهم‪ ،‬فما‬ ‫قال‪ :‬واهلل ما هو بساحر‪ ،‬لقد رأينا ُّ‬
‫هو بنَ ْف ِثه وال ُع َق ِده‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬فما نقول يا أبا عبد شمس؟‬
‫قال‪ :‬واهلل إن لقوله حالو ًة‪ ،‬وإن عليه طالوة‪ ،‬وإن أصله‬
‫لمغدق‪ ،‬وإن فرعه لمثمر‪ ،‬وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إال‬
‫وأنا أعرف أنه باطل‪ ،‬وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر؛‬
‫فما يقول سحر يفرق بين المرء وابنه‪ ،‬وبين المرء وأخيه‪ ،‬وبين‬
‫المرء وزوجه‪ ،‬وبين المرء وعشيرته‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬اضطرابه‪.‬‬
‫(‪ )2‬يعني أنوا ًعا من الشعر وأوزانه‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫ناس السماء‬

‫فتفرقوا عنه بذلك‪ ،‬وجعلوا يجلسون بطري ِق الناس حين‬‫ّ‬


‫يمر بهم أحد إال حذّ روه إياه وذكروه لهم!‬
‫قدموا الموسم ال ّ‬
‫فلقد حاولوا حجب الناس عنه بالكذب‪ ،‬وحجبه عن الناس‬
‫باألذى‪ ،‬وصرفه عن الحق بالرهبة والرغبة‪ ،‬وحجب المؤمنين‬
‫به عن الحق بالتعذيب والنفي والحصار!‬
‫أحد من‬
‫فما نالوا من وراء هذا كله إال الفشل‪ ،‬فما ارتد ٌ‬
‫أصحاب النبي ‘ سخط ًة لدينه‪ ،‬وما نفعتهم كلمات السوء ودعايا‬
‫التضليل‪ ،‬وما وجدوا با ًبا يصلهم إلى النبي ‘ ليساوموه‬
‫فيداهنهم!‬
‫عقيل بن أبي طالب ‪:‬‬
‫قال ُ‬
‫جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا‪ :‬أرأيت أحمد؟ يؤذينا‬
‫في نادينا‪ ،‬وفي مسجدنا‪ ،‬فا ْن َه ُه عن أذانا‪ ،‬فقال‪ :‬يا عقيل‪،‬‬
‫ائتني بمحمد!‬
‫فذهبت فأتيته به‪ ،‬فقال‪ :‬يا ابن أخي إن بني عمك زعموا‬
‫أنك تؤذيهم في ناديهم‪ ،‬وفي مسجدهم‪ ،‬فانته ِ عن ذلك‪ ،‬قال‪:‬‬
‫بأقدر على‬
‫َ‬ ‫فلحظ رسول اهلل ‘ ببصره إلى السماء فقال‪> :‬ما أنا‬
‫‪.‬‬
‫ناس السماء‬ ‫‪48‬‬

‫أن أد َع لكم ذلك على أن ُتشعلوا لي منها ُش ْعلَ ًة<‪ .‬يعني‬


‫الشمس!‬
‫قال‪ :‬فقال أبو طالب‪ :‬ما كذب ابن أخي‪ .‬فارجعوا‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫ربيع الوحي‬

‫ربيع الوحي‬

‫العالم بدعوتهم إلى اهلل تبارك اسمه توحي ًدا‬ ‫َ‬ ‫فجأ النبي ‘‬
‫وعمال‬
‫ً‬ ‫وعبودي ًة‪ ،‬ونبذ كل ما ال يكون به اإلنسان إنسا ًنا اعتقا ًدا‬
‫ول‪ْ :‬اع ُب ُدوا اهلل َو ْح َد ُه َوالَ ُت ْشرِ ُكوا بِه ِ َش ْي ًئا‪َ ،‬وا ْت ُر ُكوا َما َي ُق ُ‬
‫ول‬ ‫>يَ ُق ُ‬
‫الصلَةِ<‬‫ف َو ِّ‬ ‫الع َفا ِ‬
‫الص ْد ِق َو َ‬ ‫الصالَ ِة َوال َّز َكا ِة َو ِّ‬ ‫َآبا ُؤ ُك ْم‪َ ،‬و َي ْأ ُم ُر َنا بِ َّ‬
‫كما قال أبو سفيان في جوابه عن سؤال هرقل‪ :‬ماذا يأمركم؟‬
‫وهي وصايا تعيد بناء اإلنسان على قواعد الفطرة‪ ،‬وخلع‬
‫األوثان الفكرية والعقدية من تقاليد بالية وتصورات خرافية‬
‫يأنف من قبولها كل عقل سوي‪.‬‬
‫موغال في أصل دعوة النبي ‘‬‫ً‬ ‫جذرا‬
‫ويحضر الصدق ً‬
‫وأصال راس ًخا تنبع منه كل الفضائل التي تتمم معنى‬
‫ً‬ ‫الناس‪،‬‬
‫َ‬
‫اإلنسان في الوجود!‬
‫وتنادت قريش فيما بينها‪ ،‬معاداة للنبي ‘‪ ،‬وانتصا ًرا للزيف‬
‫‪.‬‬
‫ربيع الوحي‬ ‫‪50‬‬

‫الذي جعل نفوسهم هشيما تتقاذفه رياح العصبية أنى شاءت‪،‬‬


‫سرا بدعوته أربع سنوات‪،‬‬ ‫والنبي ‘ على صراط الصبر يهمس ا‬
‫ليس له شأن إال استنقاذ النفوس من غش الجاهلية وزيفها وأثقالها‬
‫السوداء‪ ،‬ونقلها إلى فلق التوحيد وبحبوحة اإليمان باهلل تعالى‪،‬‬
‫بالوحي وحده ليس يصحبه شيء من زينة الدنيا وبهرجها!‬
‫{ﱯ‬ ‫ثم جاء األمر اإللهي صريحا في اإلعالن بالنذارة‪:‬‬
‫ﱰ ﱱ}!‬
‫كبيرا على نفس النبي ‘!‬
‫أمرا ً‬
‫وكان ً‬
‫إن في نفسه من الرحمة بالناس ما يكسوه غ ًّما كاويا عند‬
‫إعراضهم عن الوحي خشية تعرضهم لعقاب اهلل األليم!‬
‫وهؤالء قومه بين يديه‪ ،‬حصى متناثر في رمضاء مكة‪ ،‬قد‬
‫أكلت الوثنية عقول كبارهم‪ ،‬ولفحهم ُش َواظُها األثيم‪ ،‬فكيف يُطيق‬
‫الموص َد ِة؛ ليستقر فيها ضوء الوحي وهدايته؟!‬
‫َ‬ ‫النَّ َفا َذ إلى قلوبهم‬
‫تلك الألواء الرابضة في صدره لم يزل يعاني َح َّرها وآالمها‬
‫حزي ًنا كظيما أن يراهم يتفلتون منه إلى ميراث اآلباء واألجداد‬
‫المحترق!‬
‫‪51‬‬ ‫ربيع الوحي‬

‫نبي؛ فإن‬
‫خاصا ال يطيقه إال ٌّ‬
‫صبرا ًّ‬
‫ولقد صبر في هذا األمر ً‬
‫القلب‬
‫القلب الذي صنعه اهلل تعالى ليسع العالمين برحمته؛ هو هو ُ‬
‫الذي يحتاج إلى صبر شاه ٍق يسع آالم هذه الرحمة وجراحاتها‬
‫ض الناس عن جمال النور إلى جحيم النار!‬‫عندما يُ ْع ِر ُ‬
‫إنه ليصعد الجبال ويمشي في األسواق ويتعرض للناس في‬
‫المواسم‪ ،‬ويجلس إلى كبارهم‪ ،‬ويغشى أندي َة القوم ومجتمعاتهم‬
‫وجهرا‪ ،‬ال يصبر عن دعوتهم‪ ،‬كأنما تتسع‬ ‫ً‬ ‫سرا‬
‫ونهارا‪ًّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ليال‬
‫ً‬
‫نفسه الشريفة بالفعل في جغرافيا الوجود‪ ،‬كما اتسع قلبه‬
‫بالرحمة في جغرافيا الروح!‬
‫عن جعفر بن عبد اهلل بن أبي الحكم قال‪ :‬لما نزلت على‬
‫النبي‪{ :‬ﱯ ﱰ ﱱ} اشتد ذلك على النبي ‘‬
‫وضاق به ذر ًعا‪ ،‬فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته‪ ،‬حتى‬
‫اشتكيت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫عائدات فقال‪ :‬ما‬ ‫عم ُاته أنه شا ٍك(‪ )1‬فدخلن عليه‬ ‫ظن َّ‬
‫شي ًئا‪ ،‬لك َّن اهلل أمرني أن أُ ْن ِذ َر عشيرتي األقربين‪ ،‬فأردت َج ْم َع‬
‫بني عبد المطلب ألدعوهم إلى اهلل تعالى‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني‪ :‬مريض بأبي هو وأمي ‘‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ربيع الوحي‬ ‫‪52‬‬

‫وهذا ال يكون إال قلب نبي صاد ٍق يتدفق بنور الرحمة‪،‬‬


‫فيثقل عليه هم هداية الناس!‬
‫الع َّزى فيهم ــ يعنى‬
‫فقلن له عماته‪ :‬فادعهم وال تجعل عب َد ُ‬
‫أبا لهب ــ؛ فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه‪.‬‬
‫وخرجن من عنده‪ ،‬فلما أصبح رسول اهلل ‘ بعث إلى‬
‫بني عبد المطلب‪ ،‬فحضروا ومعهم ِع َّدة ٌ من بني عبد مناف‬
‫وجميعهم خمسة وأربعون رجال‪.‬‬
‫وسارع إليه أبو لهب وهو يظن أنه يريد أن ينزع عما يكرهون‬
‫يحبون‪ ،‬فلما اجتمعوا قال أبو لهب ما بين الترغيب‬ ‫إلى ما ّ‬
‫والترهيب بنفث مصبو ٍغ بروحه المظلمة‪:‬‬
‫هؤالء عمومتك وبنو عمك‪ ،‬فتكّلم بما تريد ودع الصالة‪،‬‬
‫أحب َمن‬
‫َّ‬ ‫واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطب ًة طاقةٌ‪ ،‬وإ َّن‬
‫أخذ َك فحبسك؛ أُ ْس َر ُتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك‪ ،‬فهو‬
‫وت ُم َّدها العرب‪ ،‬فما‬
‫أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش َ‬
‫جئتهم به!‬
‫بشر مما َ‬ ‫رأيت يا ابن أخي أح ًدا قط جاء بني أبيه وقومه ٍّ‬
‫ُ‬
‫فأوى رسول اهلل ‘ إلى األناة والحلم واعتصم بالصبر‬
‫‪53‬‬ ‫ربيع الوحي‬

‫أياما وكثر عليه كالم أبي‬


‫فلم يتكلم في ذلك المجلس‪ ،‬ومكث ً‬
‫وشجعه‬
‫لهب‪ ،‬فنزل عليه جبريل ‪ ‬فأمره بإمضاء ما أمره اهلل به ّ‬
‫عليه‪ ،‬وليس معه من الدنيا شيء‪ ،‬إال جوار اهلل وحفظه!‬
‫ماتت فيها الهداية‪،‬‬
‫بيداء ْ‬ ‫ِ‬
‫البعث في‬ ‫فنهض بالصدق نهض َة‬
‫َ‬
‫قومه ثاني ًة فقال‪ :‬الحمد للَّه‪ ،‬أحمده وأستعينه وأومن به‬
‫وجمع َ‬
‫وأتوكل عليه‪ ،‬وأشه ُد ْأن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ .‬ثم‬
‫كذبت الناس جمي ًعا‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬إن الرائد ال يكذب أهلَه‪ ،‬واهلل لو‬
‫ررتكم‪ ،‬واهلل الذي ال‬
‫الناس ما َغ ُ‬
‫غررت َ‬
‫ُ‬ ‫كذبتكم‪ ،‬ولو‬
‫ما ُ‬
‫إله إال هو إني لرسول اهلل إليكم خاص ًة وإلى الناس كافة!‬
‫اس ُب َّن‬
‫ولت َح َ‬
‫ولت ْب َع ُث َّن كما تستيقظون‪ُ ،‬‬
‫واهلل لتمو ُت َّن كما تنامون‪ُ ،‬‬
‫ولت ْج َز ُو َّن باإلحسان إحسا ًنا وبالسوء سو ًءا‪ ،‬وإنها‬
‫بما تعملون‪ُ ،‬‬
‫للجن ُة أب ًدا أو النار أبدا!‬
‫ِ‬
‫وم َثلِي َ‬
‫وم َثلُكم كمث ِل رج ٍل رأى العدو‬ ‫ألول من أُ ْنذر‪َ ،‬‬
‫وإنكم ُ‬
‫فانطلق يربأُ(‪ )1‬أهله فخشي‪ ،‬أن يسبقوه فجعل يهتف‪ :‬يا صباحاه!‬
‫وم َرافَ َد َتك(‪ ،)2‬وأَ ْق َبلَ َنا‬
‫معاونتك ُ‬
‫َ‬ ‫أحب إلينا‬
‫فقال أبو طالب‪ :‬ما ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يحفظ‪.‬‬
‫(‪ )2‬عونك وصلتك‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ربيع الوحي‬ ‫‪54‬‬

‫ُلن ْص ِحك‪ ،‬وأش َّد تصدي َقنا لحديثك!‬


‫وهؤالء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم‪ ،‬غير أني واهلل‬
‫ض لِما أُ ِم ْر َت به‪ ،‬فو اهلل ال أزال‬
‫تحب‪ ،‬فام ِ‬
‫أسرعهم إلى ما ُّ‬
‫ُ‬
‫تطو ُع إلى فراق دين‬
‫أحوطك وأمنعك‪ ،‬غير أني ال أجد نفسي َّ‬
‫عبد المطلب حتى أموت على ما مات عليه‪.‬‬
‫وتكلم القوم كالما ّلينا غير أبي لهب‪ ،‬فإنه قال‪ :‬يا بني‬
‫السوءة! ُخذوا على يديه قبل أن يأخذ‬ ‫عبد المطلب! هذه واهلل َّ‬
‫على يديه غير ُكم‪ ،‬ف ن أسلمتموه حينئذ َذلِ ْل ُتم‪ ،‬وإن منعتموه قُ ِت ْل ُتم!‬
‫فقال أبو طالب‪ :‬واهلل لنَ ْمنَ َعنَّه ما ب ِق َينا‪.‬‬
‫أيحسن‬
‫وقالت صفية بنت عبد المطلب ألبي لهب‪ :‬أي أخي! ُ‬
‫وإسالمه(‪)1‬؟ فواهلل ما زال العلماء ُيخبرون‬
‫ُ‬ ‫بك ِخذْ الن ابن أخيك‬
‫(‪)2‬‬
‫نبي‪ ،‬فهو هو‪.‬‬‫أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب ٌّ‬
‫واألماني وكالم النساء في‬
‫ُّ‬ ‫متكبرا‪ :‬هذا واهلل الباطل‬
‫ً‬ ‫فقال‬
‫الح َجال(‪ ،)3‬إذا قامت بطون قريش كلها وقامت معها العرب‬ ‫ِ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني‪ :‬تسليمه لألعداء‪.‬‬
‫(‪ )2‬يعني‪ :‬من ُصلبه وأصله‪.‬‬
‫(‪ )3‬يعني بيوت النساء التي لها ستور‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫ربيع الوحي‬

‫فما ّقوتنا بهم؟! فو اهلل ما نحن عندهم إال أكلَة رأس(‪.)1‬‬


‫وروى الشيخان والبالذري عن ابن عباس‪ ،‬والشيخان عن‬
‫أبي هريرة‪ ،‬ومسلم عن قبيصة ابن المخارق ‪ ،‬أن رسول‬
‫اهلل ‘ لما أنزل عليه {ﱯ ﱰ ﱱ} قام على‬
‫الصفا(‪ )2‬فعال أعالها حجرا ثم نادى‪ :‬يا صباحاه(‪!)3‬‬
‫ّ‬
‫فقالوا من هذا؟‬
‫لينظر‬
‫رسوال َ‬
‫ً‬ ‫وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يُ ْر ِس ُل‬
‫ما هو‪.‬‬
‫فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا إليه‪ ،‬فقال رسول اهلل ‘‪:‬‬
‫إن أخبر ُتكم أن خيال تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن ُت ِغ َير‬
‫عليكم أكنتم ُم َص ِّد ِق َّي؟ قالوا يشهدون على أنفسهم شهادة الحق‬
‫في نعته بالصدق الخالص ‘‪ :‬ما جربنا عليك كذبا‪.‬‬
‫حج َته عليهم إن عصوه وأطاعوا‬
‫فهو يستنطقهم ‘ بما يكون َّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني‪ :‬قلة العدد‪.‬‬
‫(‪ )2‬جبل بمكة‪.‬‬
‫عدوه‪ ،‬ألنهم أكثر ما يغيرون عند‬
‫ال عن ّ‬ ‫(‪ )3‬كلمة تقال عند استنفار من كان غاف ً‬
‫الصباح‪.‬‬
‫ويسمون يوم الغارة يوم ّ‬
‫الصباح‪ّ ،‬‬
‫‪.‬‬
‫ربيع الوحي‬ ‫‪56‬‬

‫أهواءهم!‬
‫وجواب‬
‫ٍ‬ ‫لقد ل َّخص تاريخ أخالقه معهم في سؤال واحد منه‬
‫واح ٍد منهم!‬
‫فلما أعطوه ميثاق الصدق وقع عليهم بهذا البيان الرحيم‬
‫الذي ينطق بالصدق الالهب‪ ،‬والشفقة المتوقدة التي تعصف‬
‫لتئوب ناضر ًة إلى‬
‫َ‬ ‫وت َهيِّ ُئها‬
‫بمعابد الوثنية في صدورهم عص ًفا‪ُ ،‬‬
‫صبا‪:‬‬
‫المضيء ًّ‬
‫َ‬ ‫محراب التوحيد‪ ،‬فقال يصب في قلوبهم بيانَه‬
‫يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال أُ ْغني‬
‫عنكم من اهلل شي ًئا!‬
‫يا بني عب ِد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال أُغني‬
‫عنكم من اهلل شي ًئا!‬
‫يا بني عبد شمس! أن ِق ُذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال أُغني‬
‫عنكم من اهلل شي ًئا!‬
‫يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني ال‬
‫عم رسول اهلل ‘! أن ِقذْ‬ ‫أُغني عنكم من اهلل شي ًئا! يا ُ‬
‫عباس َّ‬
‫نفسك من النار؛ فإني ال أغني عنك من اهلل شي ًئا!‬
‫َ‬
‫‪57‬‬ ‫ربيع الوحي‬

‫بنت محم ٍد! أن ِق َذا أن ُف َس ُك َما‬


‫يا صفية َع َّم َة محم ٍد! ويا فاطم ُة َ‬
‫من النار؛ ف ني ال أملك لكما من اهلل شي ًئا‪ ،‬غير أ َّن لكما َر ِح ًما‬
‫سأَبُلُّها بب َِاللِها(‪ ،)1‬إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد!‬
‫فقال أبو لهب‪ّ :‬تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟‬
‫فنزلت‪{ :‬ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ} إلى آخرها‪.‬‬
‫ثم قال رسول اهلل ‘‪> :‬يا بني عبد المطلب! إني واهلل ما‬
‫جئتكم به‪ ،‬إني قد‬
‫بأفضل مما ُ‬
‫َ‬ ‫شابا من العرب جاء َقومه‬
‫أعلم ًّ‬
‫جئتكم بأمر الدنيا واآلخرة<‪.‬‬
‫الص ْد ُع بالحق عار ًيا من زوائد ال َّزيف والنَّ ْفس‪،‬‬
‫بيا ٌن فيه َّ‬
‫حيا بالصدق‪ ،‬تكسوه‬ ‫هادرا بالنور‪ًّ ،‬‬
‫يتهادى في النفوس بقوته ً‬
‫الرحم ُة من بدئِه إلى منتهاه!‬
‫ينادي عليهم كلهم كأنما يمر بين قلوبهم وأعصابهم وأرواحهم‬
‫ليصب فيها الحياة التي جفَّت تحت ركام القرون المثقلة‬ ‫َّ‬
‫بالشرك والخرافة!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫واليبس بمعنى القطيعة‪.‬‬ ‫(‪ )1‬يعني ِ‬
‫أصلُها‪ ،‬فاستعاروا البلَّ بمعنى الوصل‪ُ ،‬‬
‫‪.‬‬
‫ربيع الوحي‬ ‫‪58‬‬

‫حرف يتعلق بمغنم‪ ،‬أو طم ٍع شخصي‪ ،‬أو‬ ‫وليس في كالمه ٌ‬


‫شيء مما يسعى الناس إليه في دنياهم‪ ،‬فكان بذاته داعي ًة إلى‬‫ٍ‬
‫الحق‪ ،‬وكان بكالمه داعي ًة إلى الحق‪.‬‬
‫الحق‪،‬‬
‫كالما يحوطه الصدق‪ ،‬وترعاه الرحم ُة‪ ،‬ويؤازره ر‬ ‫وإ َّن ً‬
‫وينبع من مشكاة السمو‪ ،‬وتترادف فيه النِّذارة من النار‪ ،‬وإعالن‬
‫كالم ال تجد الروح عن‬
‫ٌ‬ ‫العبودية التي ال تغني عنهم شيئا؛‬
‫متابعته واالنقياد إليه ُب ًّدا‪ ،‬والشهادة باهلل لصاحبه بأنه أصدق‬
‫الخلق ‘!‬
‫فما أطمعهم بدنيا‪ ،‬وال فاوضهم‪ ،‬وما خال َلع ْق ِد ِ‬
‫الح َي ِل مع‬
‫ِكبارهم مداهن ًة وخضو ًعا‪ ،‬بل َ‬
‫بادأَ ُهم بالحق ُم َب َاد َء َة الشمس‬
‫الكو َن بالضياء!‬
‫‪59‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫ملكوت الرحمات‬

‫وقد قام رسول اهلل ‘ في شعاب مكة بحق الرسالة‪ ،‬ال‬


‫يبالي بما يعرض له من أذى المخالف‪ ،‬وتربص العدو‪ ،‬وطعن‬
‫الكارهين‪ ،‬بل سار فيهم وقلبه في السماء ال تنال منه سهام التهديد‬
‫وال تصرفه عما ابتعثه اهلل إليه من هداية الناس‪ ،‬ورحمتهم من شقاء‬
‫الدنيا واآلخرة‪..‬‬
‫وعلى ما كان من األذى والسعير الذي لحقه وأصحابه؛ ما‬
‫انتصر لنفسه قط‪ ،‬وما َض ُع َف عن َحمل بشارة النور مهما أوقدوا‬
‫حوله من نار األذى والتضييق الذي تفننوا فيه بكل ما تحمله‬
‫عبقرية الشر من عداء وعنت!‬
‫وهذا بعض بوحه إلى أحب الناس إليه أمنا الصديقة ‪،‬‬
‫تبيا ًنا لبعض ما لحقه من األذى‪:‬‬
‫يوما‪:‬‬
‫فقد سألته ً‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪60‬‬

‫هل أتى عليك يوم كان أش ّد عليك من يوم أحد؟‬


‫فقال ‘‪:‬‬
‫لقد لقيت من قومك!‪ ..‬وهي كلمة تدل على صنوف شتى‬
‫من األذى كالذي يقول لك‪ :‬لقد رأيت من األهوال ما رأيت!‬
‫ثم قال ‘‪:‬‬
‫عرضت نفسي على‬
‫ُ‬ ‫يوم العقبة(‪ ،)1‬إذ‬
‫وكان أش َّد ما لقيت منهم ُ‬
‫أحد!‬ ‫ابن عب ِد يالِ َيل ب ِن عبد ُك َال ٍل‪ ،‬فلم ُيجبني إلى ما ْ‬
‫أرد ُت ٌ‬
‫ثم شرع النبي ‘ يقول كالما ينبض بالهم وكأن كل حرف‬
‫منه قد اكتوى أل ًما وأذى‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫فانطلقت على وجهي وأنا مهموم‪ ،‬فلم أستفق إال وأنا ب َق ْر ِن‬
‫الثعالب(‪!)2‬‬
‫قلبا قد غمرته الرحمة فجاش باأللم‬
‫هم ال يسكن إال ً‬
‫هذا ٌّ‬
‫حز ًنا على إعراض الناس!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬لعل األرجح أنه مكان مخصوص في الطائف‪.‬‬
‫(‪ )2‬اسم موضع بقرب مكة‪.‬‬
‫‪61‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫وتلك كلمة ال يقولها إال من اختصه اهلل تعالى برحمةٍ محت‬


‫من نفسه كل شوائب الضغينة والغلبة واالنتقام!‬
‫لقد انخلع من قيد الزمن ومقاييس األرض‪ ،‬ودخل في‬
‫زمن قلبه وروحه ومشا ِعرِه!‬
‫وجهه الشريف ‘ وقد كساه َه ُّم الصدق‪،‬‬ ‫فكأني أُ ْب ِصر َ‬
‫وغشيته عاطفة الرحمة‪ ،‬فسار مطر ًقا ال يكاد يرفع عينيه عن‬
‫األرض من شدة ما يحمل من أثقال الهم!‬
‫فكانت صورته وحدها آي ًة دال ًة على أن هذا الرجل نبي‪،‬‬
‫وأن هذا الرجل أرحم الناس بأعدائه قبل أوليائه!‬
‫ثم قال ‘‪:‬‬
‫فرفعت رأسي‪ ،‬فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلّتني‪ ،‬فنظرت فإذا‬ ‫ُ‬
‫قول قو ِمك‬ ‫فيها جبريل‪ ،‬فناداني وقال‪ :‬إن اهلل تعالى قد سمع َ‬
‫بعث إليك َم َلك الجبال َلت ْأ ُم َره بما‬
‫لك وما ر ُّدوا عليك‪ ..‬وقد َ‬
‫شئت فيهم!‬‫َ‬
‫علي‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا محمد! إن اهلل‬
‫فناداني َملَ ُك الجبال فسلّم َّ‬
‫قول قو ِمك‪ ،‬وأنا َملَ ُك الجبال‪ ،‬قد بعثني اهلل ‪‬‬ ‫سمع َ‬
‫َ‬ ‫قد‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪62‬‬

‫شئت أن أُ ْطب َِق عليهم األَ ْخ َش َب ْين(‪!)1‬‬


‫شئت‪ :‬إن َ‬
‫لتأمرني بما َ‬
‫تلك إذن ساح ٌة يتنفس فيها القلب باالنتقام‪ ،‬ويختال فيها‬
‫الحقد ونوازع الغلبة والثأر من الذين آذوه في نفسه وأصحابه!‬
‫وقد امتدت بين يديه تلك الساحة‪ ،‬ومن حولها إذن اهلل‬
‫احه‪ ،‬وفي ذلك ما يسقط عن النفس تبع َة الطلب‬ ‫وس َم ُ‬
‫تعالى َ‬
‫باالنتقام‪ ،‬وقد ضيقت قريش عليه منافذ العفو‪ ،‬فابتني لهم من‬
‫نفسه حصون رحمة وإحسان تحول بينهم وبين عقاب اهلل لهم!‬
‫فقال النبي ‘‪ :‬بل أرجو أن يخرج اهلل ‪ ‬من أصالبهم‬
‫من يعبد اهلل ‪ ‬وال يشرك به شي ًئا‪.‬‬
‫وهذا مشهد خالد ال يبلى‪ ،‬فياض برحم ٍة ال تنتهي أبدا!‬
‫عفو‬ ‫ٍ‬
‫إنه حديث عهد بأذى المشركين‪ ،‬فليس عفوه عنهم َ‬
‫ناعم في ظالل النعمة!‬
‫المتك ِئ على أريكته‪ ،‬يقول ما يقول وهو ٌ‬
‫مستغرق‬
‫ٌ‬ ‫أرض ٍ‬
‫بعيدة وهو‬ ‫وإنه ليحمل من الهم ما حمله إلى ٍ‬
‫في ألمه وحزنه وهمه‪ ،‬فالتمعت فوق رأسه سحابة فيها بشارة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني جبلي مكة‪ :‬أبي قبيس ومقابله قيقعان‪ُ ،‬س ِّميا بذلك لصالبتهما ِ‬
‫وغلَظ‬ ‫ْ‬
‫حجارتهما‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫وخ ْس ٍ‬
‫ف‪ ،‬فال يلتفت‬ ‫ال َغلَ َبةِ إن أراد على أعدائه بسقيا عذاب َ‬
‫عن صراط الرحمة ونهج اإلحسان!‬
‫ض عليه األمر ُم َؤ َّي ًدا باإلذن اإللهي‪ ،‬فيستعيذ لهم‬
‫وإنه ل َ ُي ْع َر ُ‬
‫برحمة اهلل من عذاب اهلل طام ًعا في هداية أبنائهم وإن أوصدوا‬
‫هم أبواب الهداية عن أنفسهم!‬
‫وهم الذين آذوه بمشه ٍد من الناس‪ ،‬فعفا عنهم وليس هنالك‬
‫أحد من الناس‪ ،‬ولو أراد لذهب إليهم فجمعهم فخيرهم ممت ًنا‬ ‫ٌ‬
‫عليهم‪ ،‬وما فعل‪ ..‬وما كان لرحمة اهلل للعالمين أن يفعل!‬
‫إ َّن عظمته ليست عظمة المكافئ على اإلحسان باإلحسان‬
‫وحسب‪ ،‬بل إنها ُلتضعف اإلحسان لمن آذى واشتد في األذى!‬
‫ِ‬
‫علياء أخالقِه ال يهبط إلى َس ْف ِح المعاندة واألَثَ َرة‬ ‫وإنه في‬
‫ومنازلة المشركين في ميدان األخالق؛ فإن ذلك ال يليق بأعظ ِم‬
‫قلبا‪!‘ ،‬‬
‫ال َخ ْلق ُخل ًقا‪ ،‬وأرح ِم الناس ً‬
‫فما كان للنجم أن يصل منه إلى األرض إال الضوء الذي‬
‫يمزق ستور العتمة في نفوس الشاردين عن الحق والحقيقة!‬
‫والعفو يكون عظيما عند وجود األلم‪ ،‬والقدرة على العقاب؛‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪64‬‬

‫عسيرا على غير النفس العظيمة!‬


‫ً‬ ‫فإنهما إذا تصاحبا كان العفو‬
‫ولقد كان عفوه نابعا من قلب يسكن جس ًدا لم تزل فيه‬
‫جراحات األذى‪ ،‬ولم يزل يدوي في أذنه الشريفة سبهم وشتمهم‬
‫وهجوهم وافتراؤهم!‬
‫ولم يزل يلوح في عينه مشاهد أصحابه يلقون األذى والتعذيب‬
‫فال يملك لهم إال دعوتهم للصبر!‬
‫ما نسي أصحابه يخافتون بإسالمهم ويسرونه‪ ،‬وما ذهبت‬
‫عنه مشاهد االستخفاء باإليمان والفرار من المشركين‪ ،‬ولم َير‬
‫ذلك التخيير فسح ًة للتوسعة على النفس والصحابة‪ ،‬فما كانت‬
‫تتسع نفسه وفي الناس من يعرض نفسه لعذاب اهلل‪ ،‬وما عوتب على‬
‫ٍ‬
‫شيء مثل معاتبة ربه إياه على ما يعتمل في صدره من اآلالم التي‬
‫تكاد تعصف بنفسه ويموت منها كم ًدا أنهم ال يؤمنون‪:‬‬
‫{ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ‬ ‫{ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ}‪..‬‬
‫ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ}‪{ ..‬ﱭ ﱮ ﱯ}‪..‬‬
‫{ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ}‪{ ..‬ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ}‪..‬‬
‫في آيات ٍ‬
‫كثيرة تواسيه وتمسح عن قلبه آالم صد المشركين عن‬
‫الهدى وإصرارهم على النار!‬
‫‪65‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫ولقد فقه صاحبه الصديق ‪ ‬هذا الصبر الشريف الهائل‪،‬‬


‫وعلم خبيء ما في قلبه ‘ من األلم؛ إذ القلب عندما يتسع‬
‫بالرحمة‪ ،‬فإنه وال بد يتسع باأللم حز ًنا على المعرضين‪..‬‬
‫فقد روى عبداهلل بن عمر ‪ ‬قال‪ :‬جاء أبو بكر رحمة اهلل‬
‫عليه بأبي قحافة يقوده إلى رسول اهلل ‘ شيخا أعمى يوم فتح‬
‫نأتيه؟ قال‪:‬‬
‫الشيخ حتى َ‬
‫َ‬ ‫تركت‬
‫َ‬ ‫مكة فقال رسول اهلل ‘‪ :‬أال‬
‫يأجر ُه اهلل! أما والذي بعثك بالحق ألنا‬
‫أردت يا رسول اهلل أن َ‬
‫ُ‬
‫كنت أش َّد فر ًحا بإسالم أبي طالب مني بإسالم أبي‪ ،‬ألتمس‬ ‫ُ‬
‫صدقت(‪.)1‬‬
‫َ‬ ‫بذلك قرة عينك! قال‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بحرف زائد فيه استعالء‪،‬‬ ‫وما عاد من موقفه هذا إلى قومه‬
‫أو بكلمة جارح ٍة فيها التهديد‪ ،‬بل هو الوحي بنوره ورحمته‬
‫وهدايته‪ ،‬يحمله في قلبه‪ ،‬ويبلغه في الناس‪.‬‬
‫ولقد كانت مكة ساح ًة للوحي يصادم كهنة الشر وحملة‬
‫سيف بيد مسلم‪ ،‬وما هوى سو ٌط‬
‫مشاعل النار‪ ..‬فما ارتفع فيها ٌ‬
‫ٍ‬
‫جماعات ترصد‬ ‫إال على جسد مسلم‪ ،‬وما تفرق المسلمون‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البزار‪ ،‬وأصل القصة صحيح‪ ،‬وهذه رواية ضعيفة‪ .‬وفي الحديث ما‬
‫فيه من جمال وجالل ال تسعه تلك التذكرة الصغيرة!‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪66‬‬

‫اغتياال وقتال!‬
‫ً‬ ‫المشركين وتتعقبهم‬
‫ٍ‬
‫سيف‬ ‫بل كان الوحي وحده مهيم ًنا‪ ،‬فخلت مكة من صليل‬
‫مسل ٍم‪ ،‬فلو شارك السيف في البدء األول لجعله من يحب الثرثرة‬
‫مجال اشتباه أن يكون من أسلم أسلم تحت بارقة السيف‪ ،‬وما‬
‫أسلم من أسلم إال بضياء الوحي ونور حامله وحسب!‬
‫لقد شهدت مكة غيابين لكل من‪:‬‬
‫* السيف مع قوة الباعث إليه من أذى المشركين‪..‬‬
‫* والمغنم الدنيوي!‬
‫سبيال واح ًدا لإليمان بالنبي ‘‪.‬‬
‫وبقيت بوابة الوحي ً‬
‫بعض الصور من هذا الذي كان لتعلم أن لو لم يكن‬
‫َ‬ ‫وإليك‬
‫غامرا؛ لكان‬
‫باهرا‪ ،‬ولو لم يكن ضوء الوحي ً‬ ‫صدق النبي ‘ ً‬
‫من العقل البعد عن سبيل هذا اإلنسان الذي يزعم أنه نبي؛ ألن‬
‫من وراء اإليمان به والسير خلفه معاداة الناس‪ ،‬ونار األذى‪،‬‬
‫وعقارب البغضاء التي تهيج في صحارى مكة وشعابها!‬
‫هذا أبو ذر ‪ ‬يحكي لك طرفا مما كان‪:‬‬
‫‪67‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫خرجنا من قومنا غفار‪ ،‬وكانوا ُي ِح ُّلون الشهر الحرام‪،‬‬


‫س وأُ ُّمنا‪ ،‬فنزلنا على خا ٍل لنا‪ ،‬فأ ْك َر َم َنا‬
‫فخرجت أنا وأخي أُ َن ْي ٌ‬
‫قومه فقالوا‪ :‬إنك إذا خرجت عن‬ ‫فح َس َد َنا ُ‬
‫خالُنا وأحسن إلينا‪َ ،‬‬
‫أهلك خال َ َف إليهم أُنَ ْيس!‬
‫فجاء خالنا فنثا(‪ )1‬علينا الذي قيل له‪ ،‬فقلت‪َّ :‬أما ما مضى‬
‫من معروفك فقد َك َّد ْر َته‪ ،‬وال ِج َما َع(‪ )2‬لك فيما بعد‪ ،‬فقربنا‬
‫ِص ْر َم َت َنا‪ ،‬فاحتملنا عليها‪ ،‬وتغطى خالُنا ثوبَه فجعل يبكي‪،‬‬
‫(‪)4‬‬
‫فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة‪ ،‬فنافَ َر(‪ )3‬أُنيس عن صرمتنا‬
‫بصرمتنا‬‫فخي َر(‪ )5‬أُ َن ْي ًسا‪ ،‬فأتانا أُنَ ْيس ِ‬
‫وعن مثلها‪ ،‬فأتيا الكاهن‪َّ ،‬‬
‫ومث ِلها معها‪.‬‬
‫صليت‪ ،‬يا ابن أخي‪ ،‬قبل أن ألقى رسول اهلل‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬وقد‬
‫‘ بثالث سنين!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫يعني أخبرنا وبثنا‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫لن نصلك ونجتمع معك بعد ذلك‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫والمحا َكمة‪ ،‬فيفخر كل واحد من الرجلين على‬ ‫المنافرة هي المفاخرة ُ‬ ‫(‪)3‬‬
‫خير وأع ُّز ن َف ًرا‪.‬‬
‫عرا‪ ،‬ثم يتحاكمان إلى رجل َلي ْحكم ُّأيهما ٌ‬ ‫اآلخر ِش ً‬
‫ضا على القطعة من الغنم‪.‬‬ ‫الصرمة هي القطعة من اإلبل‪ ،‬و ُتطْلق أي ً‬
‫ّ‬ ‫(‪)4‬‬
‫جعل الغلبة له على خصمه‪ ،‬فحكم بأنه ِ‬
‫الخيار واألفضل‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪68‬‬

‫قلت‪ :‬لمن؟ قال‪ :‬هلل!‬


‫قلت‪ :‬فأين َت َو َّج ُه؟ قال‪ :‬أتوجه حيث يوجهني ربي‪ ،‬أصلي‬
‫ُ‬
‫ِ (‪)1‬‬
‫عشاء حتى إذا كان من آخر الليل أُ ْل ِق ُ‬
‫يت كأني خفاء ‪ ،‬حتى‬
‫تعلوني الشمس‪.‬‬
‫فقال أُنيس‪ :‬إن لي حاج ًة بمكة فاكفني‪ ،‬فانطلق أنيس حتى‬
‫علي(‪ ،)2‬ثم جاء‪ ،‬فقلت‪ :‬ما صنعت؟‬ ‫أتى مكة‪ ،‬فراث َّ‬
‫رجال بمكة على دينك‪ ،‬يزعم أن اهلل أرسله‪.‬‬
‫لقيت ً‬
‫قال‪ُ :‬‬
‫قلت‪ :‬فما يقول الناس؟‬
‫قال‪ :‬يقولون‪ :‬شاعر‪ ،‬كاهن‪ ،‬ساحر! وكان أُنيس أح َد الشعراء‪.‬‬
‫سمعت قول ال َك َه ِنة‪ ،‬فما هو بقولِهم‪ ،‬ولقد‬
‫ُ‬ ‫قال أنيس‪ :‬لقد‬
‫أقراء(‪ )3‬الشعر‪ ،‬فما يلتئم على لسان أح ٍد‬ ‫ِ‬ ‫وضعت قوله على‬
‫ُ‬
‫بعدي أنه شعر‪ ،‬واهلل إنه لصادق‪ ،‬وإنهم لكاذبون!‬
‫فأنظر‪.‬‬
‫أذهب َ‬‫َ‬ ‫قال‪ :‬قلت‪ :‬فاك ِفني حتى‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ثوب َم ْر ِم ٌّي‪.‬‬
‫متعبا من كثرة ما صلى كأنه ٌ‬
‫(‪ )1‬يعني يسقط ً‬
‫(‪ )2‬يعني تأخر وأبطأ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أنواعه‪.‬‬
‫‪69‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫فت(‪ً )1‬‬
‫رجال منهم‪ ،‬فقلت‪ :‬أين هذا‬ ‫قال فأتيت مكة فتض َّع ُ‬
‫الذي تدعونه الصابئ؟‬
‫إلي‪ ،‬فقال‪ :‬الصابئ!‬
‫فأشار َّ‬
‫خررت‬
‫ُ‬ ‫علي أهل الوادي بكل َم َد َر ٍة َ‬
‫وع ْظ ٍم‪ ،‬حتى‬ ‫فمال َّ‬
‫مغشيا علي‪ ،‬قال‪ :‬فارتفعت حين ارتفعت‪ ،‬كأني نُ ُصب أحمر(‪!)2‬‬
‫ا‬
‫وشربت من مائها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء‪:‬‬
‫ولقد لبثت‪ ،‬يا ابن أخي ثالثين‪ ،‬بين ليل ٍة ويوم‪ ،‬ما كان لي‬
‫فس ِم ْن ُت حتى َّ‬
‫تكسرت ُع َك ُن بطني(‪ ،)3‬وما‬ ‫طعام إال ماء زمزم‪َ ،‬‬
‫ٌ‬
‫وجدت على كبدي َس ْخ َفة جوع(‪!)4‬‬
‫راء إضحيان(‪ ،)5‬إذ ُضرب‬ ‫ٍ‬
‫قال‪ :‬فبينا أهل مكة في ليلة قَ ْم َ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫قوي عليه ودفعه عنه‪.‬‬
‫ال ضعيف البنية حتى إذا أراد إيذاءه َ‬
‫تخير رج ً‬
‫يعني َّ‬ ‫(‪)1‬‬
‫المدر‪ :‬قطع الطين اليابس‪ .‬يعني‪ :‬جمعوا كل ما يستطيعون فضربوه ضر ًبا‬ ‫(‪)2‬‬
‫احمر من كثرة دماء‬
‫دم شديد‪ ،‬حتى جعلوه كالصنم الذي َّ‬ ‫شدي ًدا فسال منه ٌ‬
‫القرابين‪.‬‬
‫سمن حتى تثنى بطنه من اللحم‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫أحس جو ًعا‪.‬‬
‫رقة الجوع‪ ،‬يعني أشبعه ماء زمزم فما َّ‬ ‫(‪)4‬‬
‫مضيئة مقمرة‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪70‬‬

‫على ْأس ِم َخ ِتهم(‪ ،)1‬فما يطوف بالبيت أحد!‬


‫علي في‬
‫وامرأتان منهم تدعوان إسافا‪ ،‬ونائل َة‪ ،‬قال‪ :‬فأتتا َّ‬
‫طوافهما فقلت‪ :‬أ ْن ِك َحا َ‬
‫أح َد ُه َما األخرى!‬
‫فقلت‪َ :‬ه ٌن‬
‫علي‪ُ ،‬‬
‫قال‪ :‬فما تناهتا عن قولهما‪ ،‬قال‪ :‬فأتتا َّ‬
‫مثل الخشبة(‪ !)2‬غير أني ال أكني فانطلقتا ُت َو ْل ِو َالن‪ ،‬وتقوالن‪:‬‬
‫ُ‬
‫لو كان هاهنا أحد من أنفارنا!‬
‫قال‪ :‬فاستقبلهما رسول اهلل ‘ وأبو بكر‪ ،‬وهما هابطان‪،‬‬
‫الصابئ بين الكعبةِ وأستارِها!‬
‫ُ‬ ‫قال‪> :‬ما لكما؟< قالتا‪:‬‬
‫قال‪> :‬ما قال لكما؟< قالتا‪ :‬إنه قال لنا كلمة تمأل الفم(‪،)3‬‬
‫الح َجر‪ ،‬وطاف بالبيت هو‬ ‫وجاء رسول اهلل ‘ حتى استلم َ‬
‫وصاحبه‪ ،‬ثم صلى‪ ،‬فلما قضى صالته ــ قال أبو ذر ــ فكنت‬ ‫ُ‬
‫حياه بتحية اإلسالم‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬السالم عليك يا‬ ‫أول من َّ‬‫أنا َ‬
‫رسول اهلل فقال‪> :‬وعليك ورحمة اهلل< ثم قال‪> :‬من أنت؟<‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ال‪.‬‬
‫نوما ثقي ً‬
‫(‪ )1‬أي ناموا ً‬
‫(‪ )2‬يستهزئ بآلهتهم يريد أن تنصرفا ولو بكالم قبيح ليكون وحده في البيت‬
‫الحرام‪.‬‬
‫(‪ )3‬يعني قبيحة مستشنعة‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫قال‪ :‬قلت‪ :‬من غفار‪ ،‬قال‪ :‬فأهوى بيدهِ فوضع أصابِ َعه على‬
‫جبهته‪ ،‬فقلت في نفسي‪ :‬كره أن انتميت إلى غفار! فذهبت‬
‫(‪)1‬‬
‫أعلم به مني‪.‬‬
‫آخذ بيده‪ ،‬فقدعني صاحبه‪ ،‬وكان َ‬
‫ثم رفع رأسه‪ ،‬ثم قال‪> :‬متى كنت هاهنا؟< قال‪ :‬قلت‪ :‬قد‬
‫كنت هاهنا منذ ثالثين بين ليلة ويوم‪.‬‬
‫قال‪> :‬فمن كان يطعمك؟<‬

‫ماء زمزم فس ِم ُ‬
‫نت حتى‬ ‫طعام إال ُ‬
‫ٌ‬ ‫قال‪ :‬قلت‪ :‬ما كان لي‬
‫تكسرت ُع َك ُن بطني‪ ،‬وما ِ‬
‫أج ُد على كبدي َسخفة جوع!‬ ‫َّ‬
‫قال‪> :‬إنها مباركة‪ ،‬إنها طعام ط ُْعم<‪.‬‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬يا رسول اهلل ائذن لي في طعامه الليل َة‪.‬‬
‫فانطلق رسول اهلل ‘ وأبو بكر‪ ،‬وانطلقت معهما‪ ،‬ففتح‬
‫يقبض لنا من زبيب الطائف‪ ،‬وكان ذلك‬ ‫أبو بكر با ًبا‪ ،‬فجعل ُ‬
‫غبرت‪ ،‬ثم أتيت رسول‬
‫ُ‬ ‫أكلته بها‪ ،‬ثم َغ َب ْر ُت(‪ )2‬ما‬
‫أول طعامٍ ُ‬
‫َ‬
‫اهلل ‘‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫كف يده ودفعها بشدة‪ ،‬إجال ًال للنبي ‘ وخشية أن يكون أراد به سو ًءا‪.‬‬
‫(‪َّ )1‬‬
‫(‪ )2‬يعني بقيت مدة‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪72‬‬

‫ذات نخل‪ ،‬ال أُ َراها إال‬


‫أرض ُ‬
‫ٌ‬ ‫فقال‪> :‬إنه قد ُو ِّج َه ْت لي‬
‫يثرب‪ ،‬فهل أنت ُم َبل ٌِّغ عني قومك؟ عسى اهلل أن ينفعهم بك‬ ‫َ‬
‫ويَ ْأ ُج َرك فيهم<‪.‬‬
‫أسلمت‬
‫ُ‬ ‫فأتيت أُنَ ْي ًسا فقال‪ :‬ما صنعت؟ قلت‪ :‬صنعت أني قد‬
‫أسلمت‬
‫ُ‬ ‫وص َّد ْقت‪ ،‬قال‪ :‬ما بي رغب ٌة عن دينك‪ ،‬ف ني قد‬
‫وص َّد ْق ُت‪ ،‬فأتينا أُ َّمنا‪ ،‬فقالت‪ :‬ما بي رغبة عن دينكما‪ ،‬فإني قد‬
‫فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا‪ ،‬فأسلم‬
‫َ‬ ‫أسلمت وصدقت‪،‬‬
‫نصفهم‪ ،‬وكان يؤمهم أيماء بن َر ْحضة الغفاري وكان سيدهم‪.‬‬
‫وقال نصفهم‪ :‬إذا قدم رسول اهلل ‘ المدينة ْأسلَ ْمنا‪ ،‬فقدم‬
‫رسول اهلل ‘ المدينة‪ ،‬فأسلم نص ُفهم الباقي وجاءت ْأسلَ ُم‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل! ْإخ َو ُتنا‪ ،‬نسلم على الذي أسلموا عليه‪،‬‬
‫فأسلموا‪ ،‬فقال رسول اهلل ‘‪> :‬غفار غفر اهلل لها‪ ،‬وأسلم‬
‫سالمها اهلل<!‬
‫ويروي ابن عباس ‪ ‬طر ًفا آخر من قصة أبي ذر ‪ ‬فيقول‪:‬‬
‫مبعث النبي ‘ بمكة قال ألخيه‪ :‬اركب‬ ‫ُ‬ ‫ذر‬
‫لما بلغ أبا ٍّ‬
‫إلى هذا الوادي‪ ،‬فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه‬
‫الخبر من السماء‪ ،‬فاسمع من قوله ثم ائتني‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫فانطلق اآلخر حتى قدم مكة‪ ،‬وسمع من قوله‪ ،‬ثم رجع‬


‫وكالما ما هو‬
‫ً‬ ‫إلى أبي ذر فقال‪ :‬رأيته يأمر بمكارم األخالق‪،‬‬
‫بالشعر!‬
‫أردت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫فقال‪ :‬ما شفيتني فيما‬
‫فتزود وحمل َش َّنة(‪ )1‬له فيها ماء‪ ،‬حتى قدم مك َة‪ ،‬فأتى‬
‫النبي ‘ وال يعرفه‪ ،‬وكره أن يسأل عنه‪،‬‬‫َّ‬ ‫المسج َد فالتمس‬
‫علي فعرف أنه غريب‪،‬‬
‫حتى أدركه ــ يعني الليل ــ فاضطجع‪ ،‬فرآه ٌّ‬
‫واحد منهما صاحبه عن شيء‪ ،‬حتى‬‫ٌ‬ ‫فلما رآه تب َِعه‪ ،‬فلم يسأل‬
‫أصبح‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬وال‬ ‫ثم احتمل قِ ْربَ َته َ‬
‫وزاده إلى المسجد‪ ،‬فظل ذلك َ‬
‫يرى النبي ‘‪ ،‬حتى أمسى‪ ،‬فعاد إلى مضجعه‪.‬‬
‫فمر به علي‪ ،‬فقال‪ :‬ما آن للرجل أن يعلم منزله؟!‬
‫صاحبه عن‬
‫َ‬ ‫واحد منهما‬
‫ٌ‬ ‫فأقامه‪ ،‬فذهب به معه‪ ،‬وال يسأل‬
‫علي معه‪،‬‬
‫يوم الثالث فعل مثل ذلك‪ ،‬فأقامه ٌّ‬
‫شيء‪ ،‬حتى إذا كان ُ‬
‫ثم قال له‪ :‬أال تحدثني؟ ما الذي أقدمك هذا البلد؟ قال‪ :‬إن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ِ )1‬ق ْربة‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪74‬‬

‫أعطيت ِني عه ًدا وميثاقا ُلت ْر ِش َدنِّي‪ُ ،‬‬


‫فعلت‪ ،‬ففعل‪.‬‬ ‫َ‬
‫أصبحت‬
‫َ‬ ‫حق وهو رسول اهلل ‘‪ ،‬فإذا‬
‫فأخبره فقال‪ :‬فإنه ٌّ‬
‫أريق‬
‫فاتبعني‪ ،‬فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك‪ ،‬قمت كأني ُ‬
‫مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الماء‪ ،‬فإن‬
‫ففعل‪ ،‬فانطلق يقفوه(‪ ،)1‬حتى دخل على النبي ‘ ودخل‬
‫معه‪ ،‬فسمع من قوله‪ ،‬وأسلم مكانَه‪ ،‬فقال له النبي ‘‪> :‬ارجع‬
‫يأتيك أمري<‪.‬‬‫إلى قومك فأخبرهم حتى َ‬
‫فقال‪ :‬والذي نفسي بيده ألَ ْص ُر َخ َّن بها بين ظهرانَ ْيهِم! فخرج‬
‫حتى أتى المسجد‪ ،‬فنادى بأعلى صوته‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪،‬‬
‫وأ َّن محم ًدا رسول اهلل‪ ،‬وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه!‬
‫فأكب عليه‪ ،‬فقال‪ :‬ويلكم! ألستم تعلمون أنه‬‫فأتى العباس َّ‬
‫من ِغفار‪ ،‬وأ َّن طريق ُت َّجاركم إلى الشام عليهم‪ ،‬فأنقذه منهم‪،‬‬
‫ثم عاد من الغد بمثلها‪ ،‬وثاروا إليه فضربوه‪ ،‬فأكب عليه‬
‫العباس فأنقذه‪.‬‬
‫تلك قصاصة صغيرة ٌ من سجل ضخم من المعاناة والعنت‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يتبعه‪.‬‬
‫‪75‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫والمشقة التي كانت تحاصر كل من أراد متابعة النبي ‘‪.‬‬


‫وقد كان الذين يتركون جذور الوثنية التي نبتوا فيها‪،‬‬
‫الشركي‪ ،‬يعلمون أ َّن م َّد‬
‫ِّ‬ ‫وينخلعون من ميراث اآلباء واألجداد‬
‫اليد إلى النبي ‘ ببيعة اإلسالم تعني مفارقة الراحة‪ ،‬ومواجه َة‬
‫الع ِسر الذي أهونه االفتراء والكذب‪ ،‬وأشده التعذيب‪،‬‬ ‫الكيد َ‬
‫وأعاله القتل والتهجير ومفارقة األهل والدار والخروج من‬
‫المال‪ ،‬والهرب من الرصد‪ ،‬وذهاب السكينة‪ ..‬وما زاد ذلك‬
‫قلوبهم إال بري ًقا وضيا ًء!‬
‫قال ابن إسحاق‪ :‬وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم‬
‫لما اجتمعوا لبيعة رسول اهلل ‘ ــ يعني بيعة العقبة الثالثة ــ قال‬
‫العباس بن ُعبادة بن نَ ْضلة األنصاري أخو بني سالم بن عوف‪:‬‬
‫عالم ُتبايعون هذا الرجل؟<‬
‫>يا معشر الخزرج‪ ،‬هل تدرون َ‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪> :‬إنكم تبايعونه على َح ْر ِب األحم ِر واألسودِ من الناس‪،‬‬
‫ف ن ُك ْن ُتم تريدون(‪ )1‬أنكم إذا نَ ِه َك ْت أموالَكم مصيب ٌة وأشرافَكم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬وفي بعض الروايات‪ :‬ترون‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪76‬‬

‫قتل؛ أسلمتموه‪ ،‬فمن اآلن! فهو واهلل إن فعلتم خزي الدنيا‬


‫ٌ‬
‫واآلخرة!‬
‫وإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما عاهدتموه على نَ ْه َكةِ‬
‫وقت ِل األشراف فخذوه‪ ،‬فهو واهلل خير الدنيا واآلخرة<!‬
‫األموال ْ‬
‫قالوا‪> :‬فإنا نأخذه على مصيبة األموال وقتل األشراف‪ ،‬فما‬
‫لنا بذلك يا رسول اهلل<؟‬
‫قال‪> :‬الجنة<‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ابسط يدك‪ .‬فبسط يده‪ ،‬فبايعوه‪.‬‬
‫وقال له العباس بن نضلة بعدما بايعوه‪> :‬واهلل الّذي بعثك‬
‫لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا< فقال رسول‬
‫ّ‬ ‫بالحق إن شئت‬
‫اهلل ‘‪> :‬لم نُ ْؤ َمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم<‪.‬‬
‫الخروج من معنى الدنيا كان شأن الذين آمنوا بالنبي ‘‪،‬‬
‫فما كان لقاعدة الدعوة في مكة أن تبنى على ٍ‬
‫شيء من الدنيا‪،‬‬
‫بل كانت البين ُة‪:‬‬
‫في ضياء الوحي ال بارقة السيف!‬
‫‪77‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫وكان الوعد أخرويا ال دنيو ًيا‪ ..‬الجنة!‬


‫فكانت مكة كلها عنوان الصدق والصبر واإليمان!‬
‫ورهبا‪..‬‬
‫رغبا ً‬
‫فكل من أقبل عليه فقد أقبل بقلبه ال بشهوته ً‬
‫فمن سأله‪ :‬مالي إن آمنت بك وأسلمت‪ ،‬لم يكن معه من‬
‫إجابة سوى كلمة واحدة‪ :‬الجنة!‬
‫نفوس‬
‫ٌ‬ ‫وهو وعد ال يبرق إال في نفس صفَّاها اإليمان‪ ،‬وتلك‬
‫َط ِف َئت فيها الدنيا‪ ،‬واستبدت بها اآلخرة؛ فهي ال تزن إال‬
‫أوت اآلخرة إلى صدر‪ ،‬حتى‬ ‫بميزان يوم البعث وحسب‪ ،‬وما ِ‬
‫شيء عليه‪ ،‬وتلك ِخ ِّصيصة الوحي‬ ‫ٍ‬ ‫تكون الدنيا وناسها أهو َن‬
‫ِ‬
‫خفقات القلوب!‬ ‫نوره‬
‫إذا خالط ُ‬
‫واآليات المكية عامرة بتلك القواعد اإليمانية التي تقيم‬
‫القلب في مشهد اآلخرة‪ ،‬حتى إذا جاءت الدنيا من بع ُد جاءت‬
‫لتالمس ال ِج ِبلَّة اإلنسانية‪ ،‬ال معد َن اإليمان وجذره لتزيفه!‬
‫لقد فطمهم النبي ‘ عن الشرك بنور الوحي؛ فذاقوا حالوة‬
‫اإليمان!‬
‫وفطمهم عن الدنيا بغمس قلوبهم في كوثر اآلخرة؛ فاستقامت‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪78‬‬

‫أحد سخط ًة‬


‫نفوسهم على صراط الصدق والثبات‪ ،‬فما ارتد منهم ٌ‬
‫لدينه!‬
‫أحب أن ننظر هنالك م ًعا في مشهد يأتي بعد ذلك بسنين؛‬
‫لترى كيف أرسى النبي ‘ دعائم الوحي وميزان اآلخرة في‬
‫نفوس أصحابه‪:‬‬
‫روى ابن إسحاق‪ ،‬واإلمام أحمد عن أبي سعيد الخدري‪،‬‬
‫واإلمام أحمد‪ ،‬والشيخان من طريق أنس بن مالك‪ ،‬والشيخان‬
‫عن عبد اهلل بن يزيد بن عاصم ـ ‪ ‬ـ أن رسول اهلل ـ ‘ ـ‬
‫أصاب غنائم حنين‪ ،‬وقسم للمتألّفين من قريش وسائر العرب‬
‫ما قسم‪ ،‬وفي رواية‪:‬‬
‫طفق يعطي رجال المائة من اإلبل‪ ،‬ولم يكن في األنصار‬
‫منها شيء قليل وال كثير‪ ،‬فوجد هذا الحي من األنصار في‬
‫أنفسهم‪ ،‬حتى كثر فيهم القالة ح ّتى قال قائلهم‪ :‬يغفر اهلل ـ تعالى ـ‬
‫لرسول اهلل ـ ‘ ـ إ َّن هذا لهو العجب يعطي قريشا‪ ،‬وفي لفظ‬
‫الطّلقاء والمهاجرين‪ ،‬ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم‪ ،‬إذا‬
‫كانت شديدة ٌ فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا وددنا أ ّنا نعلم‬
‫ممن كان هذا‪ ،‬فإن كان من أمر اهلل تعالى صبرنا‪ ،‬وإن كان من‬
‫‪79‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫رأي رسول اهلل ـ ‘ ـ استعتبناه‪.‬‬


‫وفي حديث أبي سعيد‪ :‬فقال رجل من األنصار ألصحابه‪:‬‬
‫لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت األمور لقد آثر عليكم‪ .‬فر ّدوا‬
‫عليه ر ّدا عنيفا‪ .‬قال أنس‪ :‬فح ّدث رسول اهلل ـ ‘ ـ بمقالتهم‪.‬‬
‫وقال أبو سعيد‪ :‬فمشى سعد بن عبادة إلى رسول اهلل ـ ‘ ـ‬
‫الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم‪.‬‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل! إن هذا ّ‬
‫قال‪> :‬فيم<؟‬
‫الغنائم في قومك وفي سائر‬
‫َ‬ ‫قال‪ :‬فيما كان من قَ ْسمك هذه‬
‫العرب‪ ،‬ولم يكن فيهم من ذلك شيء‪.‬‬
‫فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ‪> :‬فأين أنت من ذلك يا سعد<؟‬
‫امرؤ من قومي‪.‬‬
‫قال‪ :‬ما أنا إال ٌ‬
‫فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ‪> :‬فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة‬
‫القبة ــ فإذا اجتمعوا فأعلمني<‪.‬‬
‫ــ وفي رواية ّ‬
‫فخرج سعد يصرخ فيهم ح ّتى جمعهم في تلك الحظيرة‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪80‬‬

‫وقال أنس‪ :‬فأرسل إلى األنصار فجمعهم في ُّقبة من أَ َد ٍم‬


‫(‪)1‬‬

‫غيرهم‪ ،‬فجاء رجال من المهاجرين فأ ِذن لهم فيهم‪،‬‬ ‫ولم يد ُع َ‬


‫أحد من األنصار‬ ‫يبق ٌ‬
‫فدخلوا‪ ،‬وجاء آخرون فر َّدهم‪ ،‬حتى إذا لم َ‬
‫ّإال اجتمع له‪ ،‬أتاه فقال يا رسول اهلل‪ :‬قد اجتمع لك هذا الحي من‬
‫أمرتني أن أَ ْج َم َعهم‪.‬‬
‫األنصار حيث َ‬
‫أحد من غيركم<؟‬
‫فخرج رسول اهلل ـ ‘ ـ فقال‪> :‬هل منكم ٌ‬
‫ابن أختنا‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ال يا رسول اهلل إال ُ‬
‫قال‪> :‬ابن أخت القوم منهم<‪.‬‬
‫خطيبا‪ ،‬فح ِمد اهللَ وأثنى عليه بما‬
‫ً‬ ‫فقام رسول اهلل ـ ‘ ـ‬
‫هو أهلُه‪ ،‬ثم قال‪> :‬يا معشر األنصار! ألم آتكم ُض َّال ًال فهداكم‬
‫اهلل ـ تعالى ـ‪ ،‬وعال ًة فأغناكم اهلل‪ ،‬وأعدا ًء فألَّف بين قلوبِكم؟‬
‫وأفضل‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أمن‬
‫قالوا‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ ،‬اهلل ورسوله ُّ‬
‫وفي رواية قال رسول اهلل ـ ‘ ـ‪> :‬أال تجيبون يا معشر‬
‫األنصار؟< قالوا‪ :‬وما نقول يا رسول اهلل؟ وماذا نجيبك؟‬
‫المن هلل ـ تعالى ـ ولرسوله ـ ‘!‬
‫ّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ِ )1‬جلد‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫جئتنا‬
‫وص ِّدقتم‪َ ،‬‬
‫فص َد ْق ُتم ُ‬
‫ثم قال ‘‪> :‬واهلل لو شئتم لقلتم َ‬
‫ومخذوال‬
‫ً‬ ‫فأم َّناك‪،‬‬
‫وعائال فآسيناك‪ ،‬وخائفا َّ‬‫ً‬ ‫طري ًدا فآويناك‪،‬‬
‫وم َك َّذ ًبا فص َّدقناك< فقالوا‪ّ :‬‬
‫المن هلل ـ تعالى ـ ورسوله!‬ ‫فنصرناك‪ُ ،‬‬
‫حديث بلغني عنكم؟< فسكتوا‪ ،‬فقال‪> :‬ما‬ ‫ٌ‬ ‫فقال‪> :‬وما‬
‫حديث بلغني عنكم<؟ فقال فقهاء األنصار‪ّ :‬أما رؤساؤنا فلم‬ ‫ٌ‬
‫أناس ِمنَّا حديثةٌ أسنانهم قالوا‪ :‬يغفر اهلل‬
‫ٌ‬ ‫وأما‬
‫يقولوا شيئا‪َّ ،‬‬
‫ـ تعالى ـ لرسوله ـ ‘ ـ يُعطي قريشا ويتركنا‪ ،‬وسيوفنا تقطر‬
‫من دمائهم؟!‬
‫رجاال حديثي عه ٍد ب ُك ْف ٍر‬
‫فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ >إ ّني ألعطي ً‬
‫ألتألَّفهم بذلك<‬
‫وفي رواية‪ :‬إ ّن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة‪ ،‬وإني‬
‫أردت أن أَ ْج ُب َرهم(‪ )1‬وأتألَّفهم! أوجدتم يا معشر األنصار في‬
‫اعةٍ من ال ّدنيا تأل ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫ّفت بها قوما أسلموا‪،‬‬ ‫أنفسكم في لُ َع َ‬
‫قس َم اهلل ـ تعالى ـ لكم من اإلسالم؟!‬
‫وو َك ْل ُتكم إلى ما َ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني تطييب خواطرهم وجبر قلوبهم رحم ًة منه بهم ‘‪.‬‬
‫(‪ )2‬يعني قليلة فانية زائلة‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫ملكوت الرمحات‬ ‫‪82‬‬

‫الناس إلى رحالهم‬


‫أفال ترضون يا معشر األنصار أن يذهب ّ‬
‫بالشاة والبعير وتذهبون برسول اهلل ـ ‘ ـ إلى رحالكم‪،‬‬ ‫ّ‬
‫مما ينقلبون‬
‫خير ّ‬
‫تحوزونه إلى بيوتكم؟! فو اهلل َلم ْن تنقلبون به ٌ‬
‫به!‬
‫ِ‬
‫وسلكت‬ ‫الناس سلكوا ِش ْع ًبا‬
‫فو الذي نفسي بيده لو أ ّن ّ‬
‫لسلكت شعب األنصار‪.‬‬
‫ُ‬ ‫األنصار ِش ْع ًبا‬
‫والناس دِثار‪ ،‬األنصار َكرِ ِشي وعيبتي‪،‬‬
‫ّ‬
‫(‪)1‬‬
‫الشعار‬
‫أنتم ِّ‬
‫ولوال أ ّنها الهجر ُة لكنت امر ًأ من األنصار‪ّ ،‬‬
‫اللهم ارحم األنصار‪،‬‬
‫وأبناء األنصار!‬
‫فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬رضينا باهلل ورسوله‬
‫حظّا وقسما‪.‬‬
‫ور ِض َي عنهم‪ ،‬فكانوا بالذي قال‬
‫فبكى النبي ‘ معهم‪َ ،‬‬
‫وأفضل عندهم من كل مال!‬
‫َ‬ ‫لهم أش َّد اغتبا ًطا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني أنتم الخاصة المقربون مني والناس العامة‪ .‬والشعار‪ :‬ما ولي الجسد‬
‫من الثياب‪ .‬وكذلك معنى كرشي وعيبتي‪ ،‬يعني خاصتي من الناس‬
‫سري‪.‬‬
‫وموضع ّ‬
‫‪83‬‬ ‫ملكوت الرمحات‬

‫ما كان لمثل هذا المشهد‪ ،‬وغيره كثير في حياة النبي ‘؛ أن‬
‫يقوم إال في نفوس توثقت فيها أواصر اآلخرة‪ ،‬وصاغها الوحي‬
‫صياغ ًة فريد ًة‪ ،‬ليس فيها من أصباغ الدنيا شيء‪.‬‬
‫وما كان لهذا المعنى أن يربو في نفوسهم وينمو‪ ،‬لو لم‬
‫ماثال بين أعينهم في حياة النبي ‘‪..‬‬
‫حيا ً‬‫يكن ًّ‬

‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪84‬‬

‫اصطفاء‬

‫كثيرا وأنا سائر في حديثه وسيرته ‘ أمام هذا‬


‫كنت أقف ً‬
‫المعنى الذي ال تخطئه بصيرة أبدا‪..‬‬
‫تحتشد الغنائم بين يديه حتى تكون كالكومة فال يقوم حتى‬
‫يفرقها في أيدي المسلمين‪ ،‬وال يصيب منها من شيء!‬
‫ويجود بالخير جو ًدا د ِهش له العرب الذين كانوا يعرفون‬
‫قصص وقصص‪ ،‬غير‬ ‫ٌ‬ ‫معنى الجود كيف يكون‪ ،‬ولهم في أخباره‬
‫أن جوده ‘ كان جو ًدا فيه بذل المعروف‪ ،‬مع الزهد في الدنيا‪،‬‬
‫فكان وال شك آخ ًذا بألبابهم أخ ًذا كان سببا في إسالم الكثيرين!‬
‫نظرا مجر ًدا‬
‫إن النظر إلى أخالقه ‘ ال ينبغي أن يكون ً‬
‫للخلق ذاته‪ ،‬ولكن للخلق في نفسه هو ‘‪..‬‬
‫حيي‪ ،‬رحيم‪ ،‬متواضع؛ ف ن تلك‬
‫ف ذا قيل إنه كريم‪ ،‬زاهد‪ٌ ،‬‬
‫الخصال الشريفة تكتسب في شخصه حضو ًرا آخر يفارق نسق‬
‫‪85‬‬ ‫اصطفاء‬

‫حضور ذلك ال ُخلق في الناس‪ ،‬وتلك دقيق ٌة هام ٌة ج ًّدا البد من‬
‫االنتباه إليها عند النظر في شخص النبي ‘‪.‬‬
‫ولقد نطق بذلك من كان عري ًقا في كفره‪ ،‬فآبت نفسه إلى‬
‫اإلسالم بلمح تلك الخصيصة الشريفة‪..‬‬
‫انظر معي هنا‪:‬‬
‫الج َمحي‪ ،‬أقبل على النبي ‘ ما حمله‬
‫هذا صفوان بن أمية ُ‬
‫على الخروج إال ابتغاء الغنائم‪ ..‬يقول‪:‬‬
‫ما زال رسول اهلل ـ ‘ ـ يعطيني من غنائم حنين وهو‬
‫إلي حتى ما خلق اهلل ـ تعالى ـ شيئا هو أحب إلي‬
‫أبغض الخلق ّ‬
‫منه‪ .‬وفي صحيح مسلم أنه ـ ‘ ـ أعطاه مائة من الغنم‪ ،‬ثم‬
‫مائة‪ ،‬ثم مائة!‬
‫وكان صفوان طاف مع رسول اهلل ـ ‘ ـ يتص ّفح الغنائم إذ‬
‫مما أفاء اهلل به على رسوله ـ ‘ ـ فيه‬ ‫ّمر ِ‬
‫بش ْع ٍب مملوء إبال ّ‬
‫غنم وإبل ورعاؤها مملوء‪ ،‬فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه‪،‬‬
‫الشعب يا أبا وهب؟<‬ ‫فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ‪> :‬أعجبك هذا ّ‬
‫قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪> :‬هو لك بما فيه< فقال صفوان‪ :‬أشهد أنك‬
‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪86‬‬

‫نبي!‬ ‫ٍ ُّ‬
‫نفس أحد قط إال ٌ‬
‫رسول اهلل ـ ‘ ـ ما طابت بهذا ُ‬
‫وصدق! ما من خصلة من خصال الخير إال ولها في نفس‬
‫سموا في مدارج الكمال‪.‬‬
‫رسول اهلل ‘ معراج آخر يعلو بها ًّ‬
‫ضا بالتواضع‪ ،‬غير أن لهذا الخلق‬
‫ولقد يصف بعض الناس بع ً‬
‫علويا في نفس النبي ‘‪:‬‬
‫فل ًكا ًّ‬
‫لقد كان ‪ ‬يخصف نعله ويرقع ثوبه‪ ،‬ويحلب شاته‪،‬‬
‫ويكون في مهنة أهله!‬
‫وكان يقوم فيحمل التراب مع أصحابه في بناء المسجد‬
‫وشق الخندق‪ ،‬ويجلس حيث ينتهي به المجلس ال يتمايز عنهم‬
‫بثياب أو هيئة!‬
‫ليست العظمة هنا في أن يكون هذا الكبير بين الناس‪،‬‬
‫يجلسون إليه ويجلس إليهم‪ ،‬بل إن أحد أكبر جوانب عظمته أنه‬
‫استثنائيا أن يماثلهم مشارك ًة في‬
‫ًّ‬ ‫أمرا‬
‫ال يُشعرهم أنه يفعل ً‬
‫حياتهم وثيابهم وجلساتهم أعظم الخلق!‬
‫فلطالما رأينا المحبين يتسابقون إلى إرضاء محبوبهم‪ ،‬فهو‬
‫جالس في ِظالل خدمتهم له‪ ،‬قد كفوه مؤنة أن يباشر ً‬
‫عمال بيده‬
‫‪87‬‬ ‫اصطفاء‬

‫شأن الناس مع من يحبونه أو يعظمونه أو يرهبونه‪.‬‬

‫ولذا كان ُم ْد ِه ًشا ْأن يَ ُم َّر به ٌ‬


‫أحد فيراه يحلب شاته‪ ،‬أو‬
‫يسابق هو إلى كفايته هذا‬
‫َ‬ ‫يخصف نعله‪ ،‬أو يرقع ثوبه؛ فال‬
‫األمر‪.‬‬
‫القلبي َة بعظمته الصامتة التي‬
‫َّ‬ ‫أسكت هذه البداه َة‬
‫َ‬ ‫غير أنه‬
‫أسكنت في نفوسهم ذلك المعنى الذي يتجاوز أُفُ َق التواضع‪:‬‬ ‫ْ‬
‫أنا مثلكم‪ ،‬أحمل التراب‪ ،‬وأحفر الخندق‪ ،‬وأضع الحجر على‬
‫وأح ِل ُب شاتي‪ ،‬وأرقع ثوبي ْ‬
‫وأخ ِص ُف‬ ‫بطني‪ ،‬وأُ ْط ِع ُم دابتي‪ْ ،‬‬
‫نعلي‪ ،‬وأداعب الصغار‪ ،‬وأمشي في األسواق‪ ،‬وتأخذ الجارية‬
‫بيدي فال أردها‪ ،‬وأنام على الحصير!‬
‫ليست عظمته في فعل هذا وحسب‪ ،‬بل وفي ترويضه‬
‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫قلوبَهم على اعتياد هذا منه‪ ،‬وك ِّفها عن َم ْن ِعه ِ من مباشرة‬
‫بنفسه‪َ ،‬و ْف َق قانون الحب الذي عند الناس!‬
‫الح ُج َب أُزيلت‪ ،‬وسافرت األزمنة بالناس فوقفت‬
‫ولو أن ُ‬
‫إجهاد‬
‫َ‬ ‫محب‬
‫ٌّ‬ ‫بين يديه ‘‪ ،‬ورأته يخصف نعله‪ ،‬لما أطاق‬
‫حبيبِه وأعظم الخلق ‘!‬
‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪88‬‬

‫حبا له ــ أطاقوا ذلك‪،‬‬


‫س ًّ‬
‫ولكن الصحابة ــ وهم أعظم النا ِ‬
‫وما أ ْق َد َر َهم على هذا الصبر الذي ال يطيقه ُم ِح ٌّب‪ ،‬إال هو ‘!‬
‫إ َّن األمر هنا يتجاوز سقف التواضع إلى آفاق أخرى ال تنتهي‬
‫من الجالل‪ ،‬أن يجلس بيننا أعظم الخلق‪ ،‬وال نرتاع أنه هنا‬
‫بجوارنا!‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪..‬‬
‫فال تمرر مواقف مثل ضحك المقداد ‪ ‬بين يديه حتى‬
‫يستلقي على ظهره‪ ،‬أو مثل ضحك عمر ‪ ‬حتى استلقى من‬
‫قول هند بنت عتبة عند مبايعة النبي ‘ النساء في فتح مكة‪،‬‬
‫األمر من أمور الجاهلية وضح َكهم بين يديه‬
‫َ‬ ‫أو ِذ ْكر الصحابة‬
‫ومزاحهم‪ ..‬كل‬ ‫وضح َكه معهم‪ ،‬وارتجا َز من يرتجز بين يديه‪ُ ،‬‬
‫هذا ال تمرره بعي ًدا عن ذلك األصل الذي استبان لك‪ :‬ما كان‬
‫لهم أن يفعلوا هذا مطمئنين غير متكلفين مع هيبته وجالل قدره‬
‫في نفوسهم؛ إال بسببه ‘!‬
‫ضا بالرحمة‪ ،‬ولكن الرحمة‬ ‫وإن الناس ليصف بعضهم بع ً‬
‫معجز مهما أدرت في تبيانه قلمي فإنه‬
‫ٌ‬ ‫في نفس النبي ‘ شأ ٌن‬
‫حسير عاثر!‬
‫ٌ‬
‫‪89‬‬ ‫اصطفاء‬

‫هذا جذع كان يخطب عليه في الناس‪ ،‬ففارقه إلى منبر‬


‫ُص ِن َع له ــ ولم يطلبه ــ فلما كان يوم خطبته وقف رسول اهلل‬
‫صوت حني ٍن وبكاء‬
‫ُ‬ ‫‘ في الناس خطيبا من على منبره‪ ،‬وإذا‬
‫يمأل فضاء المسجد النبوي‪ ،‬فتناثرت األعين بح ًثا عن الصوت‬
‫الهبا كأنما هو خوار ثور‪ ،‬أو حنين ناقةٍ‪،‬‬
‫الذي كان حزي ًنا ألي ًما ً‬
‫صبي ملتاع!‬
‫أو صياح ٍّ‬
‫وإذا هو الجذع‪!..‬‬
‫جماد ال يضر وال ينفع‪ ،‬وليس مثله ممن إذا أُحسن إليه‬
‫انطلق بقصائد الثناء ومدائح الشعر!‬
‫وليس هو بالذي يذهب فيشكو إلى أح ٍد من الناس لو كان‬
‫أعرض عنه النبي ‘!‬
‫وقد كان ممك ًنا أن يشير إليه النبي ‘ من مكانه ليسكن!‬
‫وقد كان ممك ًنا أن يستأنف الكالم مبي ًنا تلك المعجزة‪،‬‬
‫كيف خرق اهلل له العادة!‬
‫إن من الالفت للنظر ح ًقا أنك ما ترى النبي ‘ ُّ‬
‫قط ــ في‬
‫حياته كلها ــ دعا أح ًدا من أصحابه إلى مشاهدة معجزة أو معاينةِ‬
‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪90‬‬

‫آية يجريها اهلل تعالى على يديه‪ ،‬إال أن يكون ذلك مع المشركين‬
‫والمعاندين‪..‬‬
‫رسوال‪ ،‬وليس شأ ُن العبد الصادق أن يصخب‬
‫ً‬ ‫لقد كان عب ًدا‬
‫بالنعم أو يختال بها مستعرضا بين الناس!‬
‫لقد فارق مكانه ال لعظي ٍم من الناس‪ ،‬وإنما لجما ٍد ذهب‬
‫يواسيه مواسا ًة نقول فيها ما قاله صفوان بن أمية‪ :‬واهلل ما طابت‬
‫نبي!‬ ‫ٍ‬
‫بهذا نفس أحد إال ٌّ‬
‫لقد احتضنه وجعل يُ َسكِّنُه حتى سكن‪ ،‬ثم استفاض برحمته‬
‫الغامرة فقال له‪:‬‬
‫كنت فيه فتكو َن كما‬ ‫> ْاخ َت ْر أن أغرسك في المكان الذي َ‬
‫فتشرب من أنهارها‬ ‫َ‬ ‫شئت أن ْأغ ِر َس َك في الجنة‪،‬‬ ‫نت‪ ،‬وإن َ‬ ‫ُك َ‬
‫فيأكل منك الصالحون< فاختار‬ ‫َ‬ ‫وت ْث ِم َر‬
‫فيحسن نَ ْب ُتك ُ‬
‫َ‬ ‫وعيونها‪،‬‬
‫أح َت ِض ْن ُه َّ‬
‫لحن إلى‬ ‫اآلخرة على الدنيا‪ ..‬فقال النبي ‘‪> :‬لو لم ْ‬
‫يوم القيامة<!‬
‫متواترا مقطو ًعا‬
‫ً‬ ‫لم يكن عب ًثا أن يكون هذا الحديث حدي ًثا‬
‫بص َّح ِته‪ ،‬وهو ٍ‬
‫كاف وح َده للداللة على أ َّن محم ًدا هو رسول اهلل‬ ‫ِ‬
‫‘‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫اصطفاء‬

‫فلقد تلق َّْته قلوب الصحابة ‪ ،‬وانطلقت به ألسنتهم‪،‬‬


‫ِ‬
‫ومساحات الزمن آي ًة ناطقة بنبوة‬ ‫وشاع في الناس وعبر التاريخ‬
‫النبي ‘‪ ،‬ال لحنين الجذع وسماع صوته وحسب‪ ،‬بل لفعله‬
‫هو وسلوكه معه ‘‪ ،‬وهو أعظم آي ًة من حنين الجذع‪.‬‬
‫كما أني أرى أن مقتضى هذه الشمائل الشريفة أن يكون‬
‫حظه من النساء أكبر من ح ِّظ بقية أمته؛ ألن من أعظم المرايا‬
‫الكاشفة عن أخالق الرجل؛ أهل بيته‪ ،‬وقد قال ‘ ذلك‪:‬‬
‫>خيركم خيركم ألهله‪ ،‬وأنا خيركم ألهلي<‪.‬‬
‫وتلك الخيرية ال بد وأن يتسع معناها بتوسعها في المصاهرة‬
‫توسعا ال ينافي الزهد‪ ،‬وال يحجب عظمة القيام بتلك الخيرية‬
‫في شأن الزواج!‬
‫فلم يكن النبي ‘ مستكثرا استكثار المتطلع إلى الدنيا‪،‬‬
‫وال السالك مسالك الذين جعلوا مقياس عظمة الرجل على قدر‬
‫تبتله وانقطاعه عن الزواج ونفرته من المرأة!‬
‫ولسن ُكلُّهن نم ًطا واح ًدا من الصفات‪ ،‬ولو قصر نفسه على‬
‫وصبرا!‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫واحدة لقيل لو كان معه غيرها لما وسعتهم نفسه إحسا ًنا‬
‫واحدة منهن على نمط مستقل من‬ ‫ٍ‬ ‫ولكنه تزوج نساءه‪ ،‬وكل‬
‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪92‬‬

‫صفات جاراتها‪ ،‬وما كان منه إال الشمائل المعجزة واألخالق‬


‫بسر‬
‫التي جعلت زو ًجا من زوجاته تقول ــ والزوجة أعلم الناس ِّ‬
‫وأخب ُرهم بدخيلة نفسه ــ‪> :‬كان خلقه القرءان<!‬
‫زوجها‪َ ،‬‬
‫وليس يعرف الناس في دنيا األخالق نع ًتا وراء ذلك‬
‫وت َطالِع سره!‬
‫وأعلى‪ ،‬تقوله امرأة عن زوجها الذي تعلم خبأه ُ‬
‫وإليك قط ًفا من هذا الخلق العظيم مع أحب زوجاته أمنا‬
‫الصديقة ‪:‬‬
‫فقد كان يدنيها منه ‘‪ ،‬ويبسط عليها من حنانه ورحمته‪،‬‬
‫شريف تأنس به أمنا ‪ ،‬فيتتبع مواضع‬ ‫ٍ‬ ‫ويترجم قوله إلى فع ٍل‬
‫طعامها وشرابها ليشرب منها‪ ،‬ويُلطف لها الخطاب‪> ،‬فيقول‪:‬‬
‫ت َعلَ َّي َغ ْض َبى<‬ ‫اض َي ًة‪َ ،‬و ِإ َذا ُك ْن ِ‬
‫ت َعنِّي َر ِ‬ ‫ِإنِّي َألَ ْع َل ُم ِإ َذا ُك ْن ِ‬
‫ت َعنِّي‬ ‫َقالَ ْت‪ :‬فَ ُق ْل ُت‪ِ :‬م ْن أَ ْي َن َت ْع ِر ُف َذ ِل َك؟ فَ َق َال‪> :‬أَ َّما ِإ َذا ُك ْن ِ‬
‫ت َعلَ َّي‬‫ين‪ :‬الَ َو َر ِّب ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬و ِإ َذا ُك ْن ِ‬ ‫ك َت ُقولِ َ‬ ‫اض َي ًة‪ ،‬فَ ِإ َّن ِ‬‫َر ِ‬
‫يم< َقال َ ْت‪ :‬قُ ْل ُت‪ :‬أَ َج ْل َواهلل َيا‬ ‫ِ‬ ‫َغ ْضبى‪ ،‬قُ ْل ِ‬
‫ت‪ :‬الَ َو َر ِّب ِإ ْب َراه َ‬ ‫َ‬
‫ول اهلل‪َ ،‬ما أَ ْه ُج ُر ِإ َّال ْاس َم َك<‪..‬‬ ‫َر ُس َ‬
‫بلطف ‘‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بحب‪ ،‬ولُ ْط ًفا‬ ‫حبا ٍّ‬ ‫فبادلته ًّ‬
‫‪93‬‬ ‫اصطفاء‬

‫قافال من َغ َز ٍاة‪ ،‬وقد صحبته أمنا الصديقة ‪ ‬فيأمر‬ ‫ويكون ً‬


‫الجيش أن يتقدموا ليفسح للصديقة مجاال للمؤانسة واللطف‪،‬‬
‫وفضال ‘‪،‬‬
‫ً‬ ‫فيدعوها إلى مسابقته‪ ،‬فيسابقها فتسبقه‪ ،‬تن ُّز ًال منه‬
‫وإينا ًسا لقلبها بالفرحة الطاهرة‪ ،‬والبسمة المضيئة تشرح‬
‫صدرها‪ ،‬وتغمره بالسعادة!‬
‫داعيا إياها‬ ‫ثم تمر قوافل األيام ويعيد النبي ‘ ال َك َّرة ً‬
‫ونسيت ما كان‪ ،‬والنسيان هاهنا‬ ‫ْ‬ ‫للمسابقة‪ ،‬وقد بدنت ‪،‬‬
‫لتتابع اإلحسان؛ فكل شأنه معها حب ورحمة‪ ،‬وإنما يذكر‬
‫ولكن‬
‫َّ‬ ‫اإلنسان األمر إذا كان فري ًدا يقع في الفرط والندرة‪،‬‬
‫إحسانه ‘ كان سما ًء ال ينتهي أمدها في عيون الناظرين!‬
‫فتقول‪ :‬فَ َق َال لِلنَّا ِ‬
‫س‪َ > :‬ت َق َّد ُموا< فَ َت َق َّد ُموا‪ ،‬ثُ َّم قَ َال‪َ > :‬ت َعال َ ْي َح َّتى‬
‫ول‪َ > :‬ه ِذ ِه‬
‫ك< فَ َس َاب ْق ُت ُه‪ ،‬فَ َس َب َق ِني‪ ،‬فَ َج َع َل َي ْض َح ُك‪َ ،‬و ُه َو َي ُق ُ‬ ‫أُ َسابِ َق ِ‬
‫بِ ِت ْل َك<!‬
‫هم بها والدها الصديق ‪ ‬حين سماع ارتفاع‬ ‫ويوم أن َّ‬
‫صوتها وهي تتحدث مع رسول اهلل ‘ في بيتهما‪> ،‬فقال لها‪:‬‬
‫ك َعلَى َر ُس ْو ِل اهلل ِ ــ ‘؟!‬
‫يَا بِ ْن َت فُالَنَ ٍة‪َ ،‬ت ْرفَ ِع ْي َن َص ْو َت ِ‬

‫فَ َح َال النَّب ُِّي ـ ‘ ـ بَ ْينَ ُه َو َب ْي َن َها‪.‬‬


‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪94‬‬

‫ثُ َّم َخ َر َج أَ ُبو بَ ْك ٍر‪ ،‬فَ َج َع َل النَّب ُِّي ـ ‘ ـ يَ َت َر َّض َاها‪َ ،‬وقَ َال‪:‬‬
‫ك؟)‪.‬‬ ‫الر ُج ِل َوبَ ْينَ ِ‬
‫(أَلَ ْم َت َر ْي ِني ُح ْل ُت بَ ْي َن َّ‬
‫ثُ َّم ْاس َت ْأ َذ َن أَ ُبو بَ ْك ٍر َم َّر ًة أُ ْخ َرى‪ ،‬فَ َس ِم َع َت َض ُ‬
‫اح َك ُه َما‪ ،‬فَ َق َال‪:‬‬
‫أَ ْش ِر َكانِي ِفي ِس ْل ِم ُك َما‪َ ،‬ك َما أَ ْش َر ْك ُت َمانِي ِفي َح ْربِ ُك َما<‪.‬‬
‫فقد قطَ َع عنها النبي ‘ ما يؤذيها‪ ،‬ولو من والدها َح ِم َّي ًة‬
‫تطييبا لخاطرها‪ ،‬وإسعا ًدا لنفسها‪ ،‬وفي هذا‬ ‫له‪ ،‬وجعل يترضاها ً‬
‫ما فيه من حبه لها ‪.‬‬
‫ويأتي الحبشة إلى مسجد النبي ‘‪ ،‬فتحب الصديقة أن‬
‫تنظر إلى لعبهم بالحراب‪ ،‬وال يكون إطاللها على هذا المشهد‬
‫الطريف‪ ،‬إال وهي مسندة رأسها على كتف النبي ‘‪ ،‬ما بين‬
‫أذنه وعاتقه‪ ،‬وهي تطيل الوقوف‪ ،‬ال استزادة من النظر‪ ،‬بل‬
‫إظهارا لمكانتها عند النبي ‘‪ ،‬فتقول أمنا‪> :‬فقال رسول اهلل‬
‫ك<‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ال تعجل‪ ،‬فقام لي‪ ،‬ثم‬‫‘‪َ > :‬ح ْسب ِ‬
‫ُ‬
‫فقلت‪ :‬ال ْتع َجل يا رسول اهلل‪ .‬قالت‪ :‬وما بي‬
‫ك<‪ُ ،‬‬ ‫قال‪َ > :‬ح ْسب ِ‬
‫ُ‬
‫مقامه لي‪،‬‬
‫النساء ُ‬
‫َ‬ ‫يبلغ‬
‫حب النظر إليهم‪ ،‬ولكني أحببت أن َ‬
‫ومكاني منه<‪.‬‬
‫ففي هيئة الوقوف ما فيها من حنان النبي ‘‪ ،‬وحبه لها‪،‬‬
‫‪95‬‬ ‫اصطفاء‬

‫وقد كان بوسعه أن يجعلها تشاهد المشهد وحدها‪ ،‬بتهيئة مكان‬


‫تطل منه على لعب الحبشة بال ِحراب‪ ،‬وقد كان ممكنا أن يقف‬
‫إلى جوارها‪ ،‬دون أن يجعل من كتفه الكريم موئال لرأسها‬
‫ضا‬
‫تستند عليه وتطل على المشهد من خالله‪ ،‬وقد كان ممك ًنا أي ً‬
‫أن ال يقف معها حتى تنتهي ــ وقد أطالت ــ بل كان مقبوال أن‬
‫يقف قليال ثم ينصرف لشأنه‪ ،‬وقد ُح ِّمل ما ُح ِّم َل من أعباء‬
‫الدعوة وأمر األمة!‬
‫لكن هذا اإلمكان َ ُكلَّه من ِف ٌّي في حق الصديقة‪ ،‬ففي إفساحه‬
‫حب ال يتلعثم‪ ،‬وفي إطالة الوقوف‪ ،‬شاهد‬ ‫الوقت لها‪ ،‬شاهد ٍّ‬
‫آخر‪ ،‬وفي هيئة الوقوف‪ ،‬شا ِه ٌد ثالث‪ ،‬وفي احتماله إطالة‬
‫الوقوف شاهد رابع‪ ،‬وفي رعايته لحداثة سنها‪ ،‬وصبره الودود‪،‬‬
‫ولطفه الحاني شاه ٌد وشاه ٌد‪ ،‬فهو موقف زاخر بشواهد الفضل‬
‫مثاال ًّفذا بين العالمين في معاملته‬
‫التي ال تنتهي على أنه كان ً‬
‫أزواجه ــ ‘‪.‬‬
‫لقد أوت إليه األرملة (أمنا خديجة وأمنا أم سلمة وأمنا‬
‫والم َطلَّ َقة (أمنا حفصة وأمنا‬
‫زينب بنت خزيمة وأمنا سودة)‪ُ ،‬‬
‫زينب بنت جحش)‪ ،‬والمهاجرة الفارة بدينها (أم حبيبة)‬
‫‪.‬‬
‫اصطفاء‬ ‫‪96‬‬

‫اب ُسلطان أهلها (أمنا صفية وأمنا جويرية)‪،‬‬ ‫والمنكسرة َبذ َه ِ‬


‫بكر غير (أمنا‬
‫والس ِّرية (السيدة مارية)‪ ،‬ولم يكن له زوج ٌ‬ ‫ُّ‬
‫فوج ْد َن كلُّ َّ‬
‫هن عنده أمان‬ ‫الصديقة) رضي اهلل عنهن جميعا؛ َ‬
‫وشرف الصحبة‪ ،‬وجمال العشرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫السكينة‪ ،‬وجالل الرحمة‪،‬‬
‫وروعة االحتمال والصبر واإلحسان‪.‬‬
‫حتى إذا حانت لحظة التخيير بين العيش معه رضا به‬
‫وصبرا عن الدنيا‪ ،‬أو مفارقته والتمتع بمباهج الدنيا؛ كان‬
‫ً‬
‫الخيار األول واألخير هو اهلل ورسوله ‘!‬
‫مع أن بيوتاته ‘ كانت تسرد الصوم عن الدنيا فليس ُيو َقد‬
‫والشهرين‪ ،‬وما فيها إال الماء والتمر‪ ،‬زه ًدا ال‬
‫ْ‬ ‫الشهر‬
‫َ‬ ‫نار‬
‫فيها ٌ‬
‫فَ ْق ًدا!‬
‫غير أن هذه البيوت التي خلت منها الدنيا لخلو نفس قيِّمها‬
‫والنفوس‬
‫َ‬ ‫واألرواح‬
‫َ‬ ‫القلوب‬
‫َ‬ ‫من الدنيا؛ كانت معمور ًة بما ُي ِق ُ‬
‫يت‬
‫بسعاد ٍة ُت ِط ُّل بهم على مثل ُش ُرفَات الجنة‪ ،‬وليس ُيعقل أن ُت ْت َرك‬
‫الجن ُة لحفنةٍ من ُح َطام الدنيا!‬
‫و{ﳀ ﳁ ﳂ ﳃ ﳄ}‪..‬‬
‫‪97‬‬ ‫السيف !‬

‫السيف !‬

‫كانت مكة خالي ًة من نبت السيف‪ُ ،‬م ْج ِد َب ًة من آثاره؛‬


‫َلي ْخلُ َص الوحي قائ ًما في النفوس بنوره يهديها ويزكيها‪ ،‬مع‬
‫إمكان القدرة على إعمال السيف واصطفاء نفوس المشركين‬
‫واالحتكام إلى الغضب والثأر ُمهيم ًنا على العقل وحاك ًما على‬
‫السيف!‬
‫دعوتهم‬
‫َ‬ ‫والتعذيب ما يجعل‬
‫ِ‬ ‫الع َن ِ‬
‫ت‬ ‫لقد لقي أصحابه من َ‬
‫ٍ‬
‫شيء وأقربَه‬ ‫أحب‬
‫إلى السيف تسيل منه مكة وشعابها بالدم؛ َّ‬
‫إلى نفوسهم العزيزة المتألمة!‬
‫ولكن هذا لم يكن منه ‘ في تربيته إياهم‪.‬‬
‫َّ‬
‫ومن َعلِ َم نفس العربي وما ُجبِلت عليه من األنفة‪ ،‬وما في‬
‫أطوائها من رفض الضيم ومصادمته؛ علم أن هذا الصبر الذي‬
‫قلوب تط َّه َر ْت بالوحي‪.‬‬
‫صبر ال تطيقه إال ٌ‬
‫رباهم عليه النبي ‘‪ٌ ،‬‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪98‬‬

‫لقد َص ِل َي ْت نفوس الصحابة من حر الصبر وجمراته ما‬


‫خلَّ َصها من شوائب الجاهلية‪َّ ،‬‬
‫وحررها من نوازع التطلع إلى‬
‫الغلبة‪ ،‬واالحتكام إلى السيف‪.‬‬
‫وما كان للسيف أن تحمله ٌيد غير موصول ٍة ٍ‬
‫بقلب ُم َصفًّى‬
‫من غدرات الجاهلية وسوادها‪ ،‬حتى إذا حملته ف ِل ِحراسة‬
‫وحطْم األسوار ِالتي تحول بين الناس ونوره‪ ،‬ومتى‬ ‫الحق‪َ ،‬‬
‫ٍ‬
‫حرف أو ِشعا ٍر؛ نفاه النبي ‘ ووضعه‬ ‫أطلت الجاهلية بكلم ٍة أو‬
‫تحت قدمه‪.‬‬
‫هذا سعد بن ُعبادة يعطيه النبي ‘ رايته‪ ،‬فهو أمام الكتيبة‪،‬‬
‫فلما ّمر سعد براية رسول اهلل ـ ‘ ـ نادى أبا سفيان فقال‪:‬‬
‫الح ْر َمة! اليوم َّ‬
‫أذل اهلل قري ًشا!‬ ‫يوم الملحمة‪ ،‬اليوم ُت ْس َت َح ُّل ُ‬
‫اليوم ُ‬
‫َ‬
‫فلما مر رسول اهلل ـ ‘ ـ بأبي سفيان‪ ،‬قال‪ :‬يا رسول اهلل!‬
‫أمرت بقتل قومك؟!‬
‫َ‬
‫ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟‬
‫قال‪> :‬ما قال<؟‬

‫قال‪ :‬كذا وكذا‪ ،‬وإني أَ ُنشدك اهلل في قومك‪ ،‬فأنت ر‬


‫أبر الناس‪،‬‬
‫‪99‬‬ ‫السيف !‬

‫وأرح ُم الناس‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأو َص ُل الناس‪،‬‬
‫ْ‬
‫فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ >كذب سعد يا أبا سفيان‪ ،‬اليوم‬
‫يوم المرحمة‪ ،‬اليوم يوم يعظم اهلل فيه الكعبة‪ ،‬اليوم يوم ُت ْكسى‬
‫يوم أع َّز اهلل فيه قُ َر ْيشا!‬
‫فيه الكعبة‪ ،‬اليوم ٌ‬
‫مع أن الناس يُحمل منهم في مثل هذه المالحم ما ُي ْحمل‬
‫في غيرها؛ ألنها موطن فخا ٍر وغلب ٍة واستعالء على األعداء‪،‬‬
‫السيما من ساموهم سوء العذاب‪ ،‬وسعوا كل مسعى في إيذائهم‬
‫والقضاء عليهم‪..‬‬
‫ولكنها النبو ُة في سموها وجاللها!‬
‫ويوم أخطأ حبيبه وابن حبيبه أسامة بن زيد ‪ ‬فقتل من‬
‫قال ال إله إال اهلل في ميدان المعركة!‬
‫غضب النبي ‘ غض ًبا عظيما ُعرِف في وجهه ومنطقه‪،‬‬
‫وجعل يهدر بالغضب فيقول‪:‬‬
‫يوم القيامة<؟!‬
‫لك بال إله إال اهلل َ‬
‫> َم ْن َ‬
‫فقال أسامة ‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنما قالها مخافَ َة السالح!‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪100‬‬

‫فما التفت النبي ‘ لقوله وال اعتذر عنه‪ ،‬بل قال‪> :‬أفال‬
‫تعلم ِمن أج ِل ذلك قالها أم ال؟ َمن َ‬
‫لك‬ ‫َشق ْق َت عن قلبه حتى َ‬
‫يوم القيامةِ<؟!‬
‫بال إله إال اهللُ َ‬
‫زال يقولُها حتى و ِد ْدت أني لم أُسلم‬
‫قال أسامة ‪ :‬فما َ‬
‫إال يومئذ!‬
‫لقد كان يحاصر النبي ‘ الجاهلية في عقائدها‪ ،‬وتسللها‬
‫إلى النفوس والقلوب واألرواح‪ ،‬وما جعل للسيف موض ًعا فيه‬
‫دوما إلى الرحمة‪..‬‬
‫انتقام أو ُن ْع َرة ٌ جاهلي ٌة‪ ،‬بل ينحاز ً‬
‫ٌ‬ ‫ثأر أو‬
‫ٌ‬
‫وهذا صاحبه سيدنا حذيفة ال يطيق الخروج من مكة إال‬
‫بميثاق يعطيه المشركين حتى يتركوه يخرج‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫ما منعني أن أشهد بدرا إال أني خرجت أنا وأبي ُح َس ْيل‪،‬‬
‫فأَ َخ َذ َنا ُكفَّار قريش‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنكم تريدون ُم َح َّم ًدا!‬
‫قلنا‪ :‬ما نريده‪ ..‬ما نريد إال المدينة‪.‬‬
‫فأخذوا منا عهد اهلل وميثاقَه ل َ َن ْن َص ِرفَ َّن إلى المدينة‪ ،‬وال‬
‫نقاتل معه‪.‬‬
‫ُ‬
‫فأتينا رسول اهلل ‘ فأخبرناه الخبر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪101‬‬ ‫السيف !‬

‫>انصرفا! نفي لهم بعهدهم‪ ،‬ونستعين اهلل عليهم<!‬


‫حرب‪ ،‬يسقط فيها أول ما يسقط أخالق الناس‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وتلك‬
‫كل قاعدة أخالقية‪،‬‬
‫وتغيب في د َّوامة صليل السيوف وفورة الدم ُّ‬
‫جنديا في ظالل‬
‫ًّ‬ ‫غير أن الذي أعاد السيف إلى هذا العالم‬
‫الحق‪ ،‬ال حك ًما يسعى بين الناس بالباطل؛ هو محمد رسول‬
‫اهلل ‘‪.‬‬
‫أوليا في حياة رسول اهلل ‘‪،‬‬ ‫خيارا ًّ‬
‫ً‬ ‫السيف‬
‫َ‬ ‫وما رأيت‬
‫ولعل هذا من بركات نصر اهلل تعالى إياه بالرعب؛ صيان ًة لألرواح‪،‬‬
‫ور َغ ًبا!‬
‫ورد ًعا لشياطين اإلنس ممن ال يخضعون إال َر َه ًبا َ‬
‫ْ‬
‫وما من طريق سوى السيف يكون فيه تعظيم حرمات اهلل‪،‬‬
‫ونصرة المستضعفين إال كان النبي ‘ أسرع الناس إلى‬
‫سلوكها والرضا بها‪.‬‬
‫*‬ ‫*‬ ‫*‬

‫ويوم أراد النبي ‘ وأصحابه العمرة‪ ،‬فجاءه ُب َد ْيل بن‬


‫َو ْرقاء وأخبره أنهم صا ُّدوه عن المسجد الحرام فمقاتلوه؛ قال له‬
‫الفذ على الحق‪:‬‬ ‫النبي ‘ بيا ًنا فيه الرحمة الهادية‪ ،‬والثبات ُّ‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪102‬‬

‫إنا لم نجىء لقتال أحد‪ ،‬ولكنا جئنا معتمرين‪ ،‬وإ َّن قري ًشا‬
‫ماد ْد ُتهم مد ًة‪،‬‬
‫وأضرت بهم‪ ،‬فإن شاؤوا َ‬ ‫َّ‬ ‫قد َن ِه َك ْت ُهم الحرب‪،‬‬
‫أظه ْر‪ ،‬ف ن شاؤوا أن يدخلوا فيما‬ ‫ويُ َخلروا بيني وبين الناس‪ ،‬ف ن َ‬
‫وإن ُه ْم أَ َب ْوا‪ ،‬فوالذي‬
‫دخل فيه الناس فعلوا‪ ،‬وإال فقد َج رموا‪ْ ،‬‬
‫نفسي بيده؛ ألقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي‪،‬‬
‫ول َ ُي ْن ِف َذ َّن اهلل ْأم َره<!‬
‫وهو كالم يشهد أن قائله نبي‪ ،‬تآزرت فيه الرحمة السماوية‬
‫التي تحرص على األرواح وترحم األعداء قبل األولياء؛ مع‬
‫الثبات الف ِّذ الذي ال ُيدا ِهن الشرك‪ ،‬واليتخلى عن الحق ولو‬
‫ِ‬
‫كان وح َد ُه في الكون!‬
‫وما من خصم يريد لعدوه راح ًة بل يحب رهقه وتعبه حتى‬
‫يكون قريب المنال‪ ،‬سهال سائ ًغا على أ َكلَةِ أعمار الناس‬
‫بسيوفهم وأسلحتهم قدي ًما وحدي ًثا‪ ،‬ولكنه بُ ِعث رحم ًة صبغت‬
‫السيف صبغ َة الدواء الذي يشفي المرض‪ ،‬ويستأصل الداء‪،‬‬
‫وال يوغل فيكون طاعو ًنا يفني الناس ويهدم أعمارهم!‬
‫وما اشتد فأغلظ إال على من ُقب َح ُج ْرمه واستفحل شره‪،‬‬
‫فكان في الخالص من شره أما ٌن الناس‪ِ ،‬‬
‫وح ْفظُ َح َي َواتِهم‪.‬‬
‫‪103‬‬ ‫السيف !‬

‫الج ْس ُر الذي يعبر عليه سي ُفه ‘ إلى رقاب‬ ‫ولقد كان ِ‬


‫طويال من الصبر واإلغضاء‬ ‫ً‬ ‫أولئك المجرمين العتاة؛ ِج ً‬
‫سرا‬
‫واالحتمال الذي ليس وراءه إال ال ِّذلَّة‪ ،‬وال تكون منه ذل ٌة أب ًدا‪.‬‬
‫فلم يكن لمن أفحش في طغيانه‪ ،‬وتعرض ألعراض‬
‫وجبروتا إال أن يكون عبر ًة‪ ،‬أمثال‬
‫ً‬ ‫المسلمين‪ ،‬وزاده الحلم عتوا‬
‫الح َق ْيق‪ ،‬وكعب بن األشرف‪ ،‬وعبداهلل بن‬ ‫سالم بن أبي ُ‬ ‫َّ‬
‫َخطل‪ ،‬وأبي جهل‪ ،‬وسائر من تعدى كفره إلى االستهزاء‬
‫واالعتداء واألذى والتشهير‪ ،‬والخيانة التي بها ذهاب الحياة؛‬
‫فال يٌفتن المسلمون فيشتبه عندهم الحلم بالخنوع‪ ،‬والصبر‬
‫بالذلة!‬
‫المثال َّ‬
‫الفذ الذي ال ُيدرك في الصبر واالحتمال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مع ضربه‬
‫والحرص على سالمة الدعوة من َد َخن المتربصين!‬
‫{ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ‬ ‫ولربما كان في قوله تعالى‪:‬‬
‫ﱆ} ما يتسع به المعنى فيتجاوز كراهة النفوس القتال لما‬
‫تعبيرا عما في نفس‬
‫فيه من ذهاب الروح أو ألم الجسد‪ ،‬ليكون ً‬
‫حب هداية الناس‪ ،‬وكراهة أن يحملوه على‬ ‫النبي ‘ من ِّ‬
‫حربهم‪ ،‬وفي حياته شواهد هذا المستفيضة‪:‬‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪104‬‬

‫فبين يدي صلح الحديبية يقول ألصحابه ‘‪:‬‬


‫ِ‬
‫حرمات‬ ‫>والذي نفسي بيده‪ ،‬ال يسألوني ِخطَّ ًة ُي َعظ ُِّمون فيها‬
‫أعطيتهم إيَّاها<‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اهلل إال‬
‫ضا‪> :‬إنا لم نجىء لقتال أحد‪ ،‬ولكنا جئنا معتمرين‪،‬‬ ‫وقال أي ً‬
‫وإن قريشا قد َن ِه َك ْت ُهم الحرب‪ ،‬وأضرت بهم‪ ،‬فإن شاؤوا‬
‫ماد ْد ُتهم مد ًة‪ ،‬ويُ َخلُّوا بيني وبين الناس‪ ،‬فإن َ‬
‫أظه ْر‪ ،‬فإن شاؤوا‬ ‫َ‬
‫أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا‪ ،‬وإال فقد َج ُّموا(‪ْ ،)1‬‬
‫وإن‬
‫ُه ْم أَ َب ْوا‪ ،‬فوالذي نفسي بيده؛ ألقاتلنهم على أمري هذا حتى‬
‫تنفرد سالفتي(‪ ،)2‬ول َ ُي ْن ِف َذ َّن اهلل ْأم َره<!‪..‬‬
‫ومال في شأن أسرى بدر إلى مشورة الصديق ‪ ‬وأعرض‬
‫عن رأي عمر ‪ ‬القاضي بقتلهم!‬
‫وشأن المرء في معاملته أعداءه الذين يتربصون به في‬
‫واقعته األولى أن يرهب ويقتل ليثير الفزع‪ ..‬بينما انحاز رسول‬
‫ٍ‬
‫وقت لم يكن غري ًبا من زعماء‬ ‫اهلل ‘ إلى المرحمة‪ ،‬في‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني استراحوا من عناء الحرب‪.‬‬
‫(‪ )2‬السالفة‪ :‬صفحة العنق‪ ،‬يعني‪ :‬ولو بقيت وحدي ليس معي أحد‪ ،‬فسأقاتلهم‪،‬‬
‫وثباتا ال يتلوى ‘‪.‬‬
‫ثقة بربه ً‬
‫‪105‬‬ ‫السيف !‬

‫الحروب أن يعمل الواحد سيفه في أعدائه قتال وإذالال!‪..‬‬


‫ٍ‬
‫موقف آي ًة باقي ًة تشهد له بالرسالة‬ ‫لكنه يدع من ورائه في كل‬
‫والصدق‪..‘ ،‬‬
‫منهيا عنه فقال‪ :‬ال تتمنوا لقاء‬
‫بل جعل تمني لقاء العدو ًّ‬
‫العدو‪ ،‬فإذا لقيتموه فسلوا اهلل التثبيت‪..‬‬
‫وضرب المثل الناطق بشفقته الرحيمة بالناس فقال‪:‬‬
‫نارا‪ ،‬فجعل الفراش‬‫كم َث ِل رج ٍل أوق َد ً‬ ‫> َم َث ِلي َ‬
‫وم َثلُكم َ‬
‫والج َنادِ ُب ي َق ْعن فيها<‪ ،‬قال‪> :‬وهو َي ُذ ُّب ُه َّن عنها<‪ ،‬قال‪> :‬وأنا‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫آخ ٌذ بِ ُح َج ِز ُكم عن النار‪ ،‬وأنتم َت َفلَّ ُتون من يدي<‬
‫ٍ‬
‫ميسورة لكل‬ ‫وفي يوم فتح مكة َعلَّق األمان على أمو ٍر‬
‫أحد‪> :‬من دخل المسجد الحرام فهو آمن‪..‬‬
‫ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪.‬‬
‫َ‬
‫دار ُه فهو آمن<!‬
‫ومن أغلق عليه َ‬
‫فلم يتعنت تعنت الجبابرة‪ ،‬ولم يستذلهم ويسومهم سوء‬
‫العذاب‪ ،‬ولم تبدر منه كلمة فيها تقريع ولوم وتوبيخ‪ ،‬بل جعل‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪106‬‬

‫عاما في مكة‪ ،‬وجعل يوم دخوله إياها تاري ًخا‬


‫األمان سم ًتا ًّ‬
‫جدي ًدا للعفو الفريد!‬
‫وإذا حاد السيف عن صراط الرحمة‪ ،‬ولو باسم الدين‪ ،‬قام‬
‫الفاعل أح َد قادة اإلسالم الكبار‬
‫ُ‬ ‫فر َّده ببيان ال يشتبه‪ ،‬ولو كان‬
‫كخالد بن الوليد ‪..‬‬
‫فقد بعثه النبي ‘ إلى بني جذيمة ليدعوهم إلى اإلسالم‪،‬‬
‫قتال‬
‫فما أحسنوا يقولون أسلمنا‪ ،‬فقالوا‪ :‬صبأنا‪ ،‬فقام خالد فيهم ً‬
‫وأس ًرا‪ ،‬فقدموا على النبي ‘ فقال أمام العالم‪ ،‬يُسمع‬ ‫ْ‬
‫التاريخ‪ ،‬ويبقيها ميثا ًقا صاد ًقا في ميدان الحياة‪:‬‬
‫اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد!‬
‫اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد!‬
‫يقولها مرتين‪..‬‬
‫تبريرا لفعل قائد من كبار‬
‫فلم نر منه مداهن ًة‪ ،‬أو تسوي ًغا أو ً‬
‫قواده!‬
‫ولم نر منه اختالء به في اجتماع خاص‪ ،‬بعي ًدا عن أعين‬
‫محمد ‘ أخالق الغرف المغلقة!‬
‫ٌ‬ ‫الجماهير‪ ،‬فليس يعرف‬
‫‪107‬‬ ‫السيف !‬

‫إن أي فلسف ٍة دفاعي ٍة تدافع عن فعل خالد كانت ستكون‬


‫محمد ‘!‬
‫ٌ‬ ‫هدما لقواعد الحقيقة التي أرساها‬
‫ً‬
‫هذا إنسا ٌن ال يحابي في أعمار الناس ودمائهم‪ ،‬كما يحابي‬
‫أولئك الذين بنوا حوائط مجدهم من جماجم الشعوب!‬
‫قادته الكبار خشي َة انقالبهم عليه؛ ألن الميثاق‬
‫وال يداهن َ‬
‫الذي بينه وبينهم ميثاق الحق والصدق‪ ،‬ال ميثاق الزعامة‬
‫والجبروت!‬
‫كثيرا موقفه ‘ من موت أحد كبار أعداء اإلسالم‪،‬‬
‫ويدهشني ً‬
‫رأس المنافقين؛ عبد اهلل بن أبي ابن سلول!‬
‫فإن في إعراضه عنه مع اتساع صحيفته بسواد أعماله؛‬
‫حيا على أنه أبعد الناس عن إغراءات السيف وطموحات‬
‫دليال ًّ‬
‫ً‬
‫المستكبرين في األرض!‬
‫الس ْت ِر‪ ،‬فكان ِس ُّره وما‬
‫الوحي عنه ُح ُج َب َّ‬
‫ُ‬ ‫رجل رفَ َع‬
‫هذا ٌ‬
‫يُخافت به في مجالسه من السب واالستهزاء والمكر والغدر؛‬
‫كل ذلك كان عالني ًة عند رسول اهلل ‘ بخبر الوحي!‬
‫يعلم أنه قال‪ُ :‬لي ْخ ِر َج َّن األع ُّز منها َّ‬
‫األذل‪..‬‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪108‬‬

‫غبر علينا ابن أبي كبش َة؛ شأن العرب عند‬


‫وأنه قال‪ :‬لقد َّ‬
‫تنقُّص رج ٍل بنسبته إلى غير مشهور من أهله!‬
‫الص ِّدي َقة بنت الصديق؛‬
‫وعلم أنه خاض في عرض زوجه ِّ‬
‫أحب الناس إليه!‬
‫وعلم أنه كان يميل إلى يهود ويحالفهم ِض َّده!‬
‫فصبر ما ال يصبره أحد‪ ،‬حتى ابن عبد اهلل بن أبي!‬
‫فعن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬مر رسول اهلل ‘ على عبد اهلل بن أبي‬
‫ابن سلول وهو في ظل أَ َج َم ٍة‪ ،‬فقال‪ :‬قد َغ َّب َر علينا ابن أبي كبشة!‬
‫فقال ابنه عبد اهلل بن عبد اهلل‪ :‬والذي أكرمك‪ ،‬والذي أنزل‬
‫شئت آلتِي َّن َك ِ‬
‫برأسه!‬ ‫الكتاب‪ ،‬لئن َ َ‬ ‫َ‬ ‫عليك‬
‫فقال رسول اهلل ‘‪> :‬ال‪ ،‬ولكن بِ َّر أبا َك‪ ،‬وأَ ْح ِس ْن ُص ْح َب َته<!‬
‫أبي الذي نبت من َد ِمه‪،‬‬
‫ابن عبد اهلل بن ٍّ‬
‫فصبر ما لم يصبر ُ‬
‫ونبع منه!‬
‫َص َب َر َص ْب َر النبو ِة الذي ال يُلحق‪ ،‬وت َّم َم جمال صبره باإلحسان‬
‫الذي ال ُيدرك!‬
‫‪109‬‬ ‫السيف !‬

‫المجسد‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ويوم ْأن كلَّمه بعض الصحابة في قتل هذا الداء‬
‫في مثل ابن أبي‪ ،‬أو َن ْب ِع الخوارج الذي قال له‪ :‬اع ِدل؛ فإنك‬
‫لم تع ِد ْل!‬
‫إجابته التي بقيت على ناصية التاريخ‬
‫فما كان يجيب ذلك إال َ‬
‫عنوا ًنا على جاللة قدره‪:‬‬
‫يقت ُل أصحابَه<!‬
‫الناس أ َّن ُم َح َّم ًدا ُ‬
‫>ال‪ ..‬ال يتحدث ُ‬
‫لقد كانت العرب تقتل من أجل نظرة عابرة‪ ،‬أو ناق ٍة شاردة‪،‬‬
‫وتثور الحروب بينهم سنين عد ًدا في الشأن الذي يكون أهون‬
‫وأقل من هذا كله! فكيف بال ِع ْرض؟!‬
‫وتمم جمال صبره‬
‫نعم! َص َبر َص ْب َر النبوة الذي ال يُلحق‪َّ ،‬‬
‫باإلحسان الذي ال ُيدرك!‬
‫يوما عن قالة السوء‬
‫وقد مات اآلن عدوه الذي ما تباطأ ً‬
‫ونفخ النار في نفوس المسلمين‪ ،‬فما كان منه سوى اإلحسان‬
‫مضاع ًفا!‬
‫لقد كان سكوته وح َده عن موته آية إحسان كافي ًة في البيان‬
‫عن جميل خلقه!‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪110‬‬

‫وكان َيس ُعه أن يجعل أصحابه في جنازته ُم َع ِّزين ُم َصل ِّين‪،‬‬


‫وكان هذا فوق اإلحسان!‬
‫كفن عدوه اللدود! وتقدم‬
‫الخاص ليكون َ‬
‫َّ‬ ‫بل أرسل قميصه‬
‫الصفوف ُلي َصلِّي عليه!‬
‫جدا‪ ..‬لكنه من محمد رسول اهلل عظيم‬
‫هذا شيء غريب ًّ‬
‫ج ًّدا ج ًّدا!‬
‫هذا صاحبه الفاروق يحكي المشهد الباذخ!‬
‫لما مات عبد اهلل بن أبي ابن سلول‪ ،‬جاء ابنه إلى النبي‬
‫قميصك أُ َك ِّف ْنه فيه‪َ ،‬‬
‫وص ِّل‬ ‫َ‬ ‫ـ ‘ ـ فقال‪ :‬يا رسول اهلل أعطني‬
‫واست ْغ ِفر له!‬
‫عليه‪َ ،‬‬
‫فأعطاه رسول اهلل ـ ‘ ـ قميصه‪ ،‬وقال‪> :‬إذا فرغتم‬
‫فآ ِذنُونِي< فآ َذنَه‪ ،‬فلما أراد أن يصلي عليه وثَ ْب ُت إليه‪ ،‬حتى ُ‬
‫قمت‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول اهلل! أتصلي على عدو اهلل عبد اهلل‬ ‫في صدره‪ُ ،‬‬
‫بن أُ َب ٍّي‪ ،‬وقد قال يوم كذا وكذا‪ ،‬كذا وكذا؟! أُ َع ِّد ُد عليه قوله!‬
‫أكثرت عليه قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬ورسول اهلل ـ ‘ ـ يتبسم! حتى إذا‬
‫>أَ ِّخر عني يا عمر<!‬
‫‪111‬‬ ‫السيف !‬

‫فقلت‪ :‬يا رسول اهلل! أتصلي عليه وهو منافق؟! وقد نهاك اهلل‬
‫أن تستغفر لهم؟! فقال‪> :‬إنما َخ َّيرني اهلل‪ ،‬فقال‪{ :‬ﱁ ﱂ ﱃ‬
‫َ‬
‫ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ}‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫>سأزيده على سبعين<!‬
‫غارق في البكاء بين يدي هذا الموقف الذي‬
‫ٌ‬ ‫صمت‬
‫ٌ‬ ‫بي‬
‫يبس منه الحرف في يدي‪ ،‬فما أحسن الكتابة والبيان‪ ،‬فأي‬
‫شاحب متهالك ال قيمة له!‬
‫ٌ‬ ‫بيا ٍن هنا‬
‫يجيب فيعطي الرداء‪ ،‬وال ُي ْعرض عن الصالة عليه وهو من‬
‫أشد الناس عدا ًء له‪ ،‬ويلتمس من ابنه إعالمه بوقت صالتهم‬
‫عليه‪ ،‬فال يتباطؤ عن ذلك‪ ،‬ويذهب ومن بين يديه أحد أحب‬
‫الخلق إليه وهو الفاروق ‪ ،‬فال يجيبه إلى المنع‪ ،‬فيعدد‬
‫عليه الفاروق ‪ ‬قوارص ذلك المجرم‪ ،‬فيتبسم النبي ‘!‬
‫ال أستطيع مفارقة هذه المفردة في هذا السياق‪> ..‬يتبسم<!‬
‫هذه المفردة هنا تكتسب معنى آخر غير االبتسام وهو‬
‫جمال تلك النفس واشتمالها على رحم ٍة ال تنزعج من العفو‪،‬‬
‫وت ْقب ُِل عليه بغير تكلُّف‪ ،‬وإنما هي الرحمة‬
‫وال تضيق بالصفح‪ُ ،‬‬
‫في تجليها األجمل!‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪112‬‬

‫كثيرا منا متى سمع الكلمة الجارحة‪ ،‬واللفظ الخشن‬


‫إن ً‬
‫ينال منه أو من أهله‪ ،‬تغير وجهه والبد!‬
‫رجل يصر على االنحياز للرحمة حتى في هيئته‬
‫لكن هذا ٌ‬
‫وصورة وجهه‪..‘ ،‬‬
‫ما سمعت بمثل هذا‪ ..‬وإن في هذا لبيا ًنا خاصا عما في‬
‫نفسه الرحبة من رحمات ال تنتهي!‬
‫ثم إن هاهنا شاه ًدا آخر من شواهد الرحمة؛ فإن النبي ‘‬
‫أفصح الناس وأعلمهم بمنازل البيان وأساليب الكالم وطرائقه‪،‬‬
‫فهو يعلم أن >السبعين< للتكثير ال لتحديد العدد‪ ،‬لكنه النحيازه‬
‫التام لمعاني الرحمة أجرى العدد مجرى الظاهر؛ ألن هذا القلب‬
‫الذي امتأل بالرحمة ففاض‪ ،‬يتعلل بكل ما يصله بأسبابها‪،‬‬
‫ولذلك كان يقبل من الناس عالنيتهم ويكل سرائرهم إلى ربهم‬
‫سبحانه وبحمده‪..‬‬
‫ويصلي عليه‪ ،‬وفي صالة الجنازة ما فيها من َم َعارِج الدعاء‬
‫والضراعة للميت!‬
‫وي ْتب ُِع الصال َة استغفا ًرا ينفي كل شبهة تكلُّ ٍ‬
‫ف‪ ،‬أو كراهةٍ في‬ ‫ُ‬
‫هذا الفعل النبوي الجليل!‬
‫‪113‬‬ ‫السيف !‬

‫إن هاهنا آلية نبوة عظيمة تنطق في القلب أن هذا نبي حقا‬
‫‘‪.‬‬
‫الس ْرح‪ ،‬عفا عنه استجاب ًة‬
‫دمه كاب ِن أبي َّ‬
‫حتى َمن أهدر َ‬
‫لشفاعة صاحبه وحبيبه عثمان ‪..‬‬
‫فإن ابن أبي السرح لما علم أن الرسول ‘ أهدر دمه‬
‫الناس‬
‫رسول اهلل ‘ َ‬
‫ُ‬ ‫اختبأ عند عثمان بن عفان ‪ ،‬فلما دعا‬
‫إلى البيعة؛ جاء به عثمان حتى أوقفه على النبي ‘‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا رسول اهلل! با ِي ْع عب َد اهلل!‬
‫فرفع رسول اهلل ـ ‘ ـ رأسه فنظر إليه ثال ًثا‪ُ ،‬ك َّل ذلك‬
‫يأبى‪ ،‬ثم بايعه بعد ثالث!‬
‫ثم لما مضى التفت إلى أصحابه ليجدد فيهم َع ْق َد الطاعة‬
‫ال شهوة القتل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫كففت‬
‫ُ‬ ‫رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني‬
‫ٌ‬ ‫رجل‬
‫>أما كان فيكم ٌ‬
‫يدي عن بيعته فيقتلَه<؟!‬
‫أومات‬
‫َ‬ ‫هال‬
‫فقالوا‪ :‬وما يدرينا يا رسول اهلل ما في نفسك؟ َّ‬
‫إلينا بعي ِنك؟‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪114‬‬

‫فقال كلمة النبوة في جاللها الكبير‪ ،‬وصدقها العظيم‪،‬‬


‫لنبي أن تكون له خائن ُة أعين<!‬
‫وأمانتها السامقة‪> :‬إنه ال ينبغي ٍّ‬
‫عجيبا‪..‬‬
‫وتلك قصة أخرى تفيض حنا ًنا ً‬
‫عن ابن عباس‪ :‬أن النبي ‘ بعث سرية فغنموا وفيهم‬
‫عشقت امرأ ًة فلحقتها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رجل‪ ،‬فقال لهم‪ :‬إني لست منهم‪،‬‬
‫فدعوني أنظر إليها نظرة‬
‫ثم اصنعوا بي ما بدا لكم!‬
‫فنظروا فإذا امرأة طويلة أدماء‪ ،‬فقال لها‪ :‬اس َل ِمي ُح َب ْيش‪،‬‬
‫قبل نفاد العيش!‬
‫شعرا عذ ًبا يفيض حبا‪ ،‬ثم قدموه فقتلوه!‬
‫وقال لها ً‬
‫فجاءت المرأة فوقفت عليه‪ ،‬فشه َق ْت شهق ًة ثم ماتت!‬
‫غاضبا‬
‫ً‬ ‫فلما قدموا على رسول اهلل ‘ أُخبر بذلك‪ ،‬فقال‬
‫يهدر بحنانه ورحمته >أما كان فيكم رجل رحيم؟!<‬
‫بل في طائر ال يهتم به أحد!‬
‫‪115‬‬ ‫السيف !‬

‫عن عب ِد الرحمن بن عبد اهلل‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع رسو ِل‬
‫اهلل ـ ‘ ـ في َس َف ٍر‪ ،‬فانطَلق لحاج ِته‪ ،‬فرأينا ُح َّمر ًة معها فَ ْر َخا ِن‪،‬‬
‫ش‪ ،‬فجاء النبي‬ ‫ِ‬
‫تفر ُ‬ ‫فجعلت ُ‬
‫ْ‬ ‫الح َّمرة‬
‫فجاءت ُ‬ ‫فرخيها‪،‬‬
‫فأخذْ نا َ‬
‫ـ ‘ ـ فقال‪> :‬من فَ َج َع هذ ِه بولَدها؟ ُر ُّدوا ول َدها إليها<!‬
‫بل في نملة ال يلتفت إليها أحد!‬
‫يقول عبداهلل‪ :‬ورأى قري َة نم ٍل قد َح َر ْقناها‪ ،‬فقال‪> :‬من‬
‫نحن‪ ،‬قال‪> :‬إنه ال ينبغي أن يعذِّب بالنار‬ ‫َح َرق هذه؟< قلنا‪ُ :‬‬
‫إال َر ُّب النار<!‬
‫ويأتيه السائل ليسأل(‪َ :)1‬ما ال ِق َت ُال ِفي َسبِي ِل اهلل؟ فَ ِإ َّن أَ َح َد َنا‬
‫يُ َقاتِ ُل َغ َض ًبا‪َ ،‬ويُ َقاتِ ُل َح ِم َّي ًة‪ ،‬فَ َرفَ َع ِإل َ ْيه ِ َر ْأ َس ُه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬و َما َرفَ َع ِإل َ ْيه ِ‬
‫َر ْأ َس ُه ِإ َّال أَنَّ ُه َكا َن َقائِ ًما‪ ،‬فَ َق َال‪َ > :‬م ْن َق َات َل لِ َت ُكو َن َكلِ َم ُة اهلل ِه َي‬
‫الع ْل َيا‪ ،‬فَ ُه َو ِفي َسبِي ِل اهلل ‪<‬‬ ‫ُ‬
‫أفلو كان من زعماء الحرب‪ ،‬وسماسرة الدم والكذب‪،‬‬
‫صا على االستكثار من الجند‪ ،‬ال يبالي بنية‬
‫أليس سيكون حري ً‬
‫الواحد منهم وال غايته‪ ،‬شأن الذين يبحثون عن سطوة السلطة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الحديث في الصحيحين‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫السيف !‬ ‫‪116‬‬

‫بال الواحد‬
‫وبذخ الجاه‪ ،‬فيستكثرون من األجساد وال يشغل َ‬
‫منهم عمل قلب من معه‪ ،‬طالما أنه ال يتطلع إلى منازعته‬
‫السياد َة والسلطان!‬
‫لكن رسول اهلل ‘ يجدد في الكون معالم العدل والحق‬
‫الذي تؤازره الرحمة التي غايتها هداية اإلنسان ال هدمه!‬
‫إن سي ًفا في يد هذه الرحمة أما ٌن للبشرية من طوفان الدماء‬
‫التي سالت بالسالح الذي كفر باإلنسان قبل كفره باهلل‪،‬‬
‫فتناثرت جثث الماليين(‪ )1‬في العالم الذي صارت األبجدي ُة فيه‬
‫والصاروخ وأفران الغاز!‬
‫َ‬ ‫ال ُقنبل َة والرصاص َة‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬عدد الضحايا في الحرب العالمية الثانية وحدها أكثر من أربعين مليو ًنا‪،‬‬
‫سوى الجرحى والمغتصبات!‬
‫‪117‬‬ ‫اقرتاب‬

‫اقتراب‬

‫كان دفتر حياة ذلك النبي مفتو ًحا للكل‪ ،‬ليس فيه سطر‬
‫غائب عن كل من طالع سيرته ‘‪..‬‬‫سر ٌ‬ ‫مخبوء‪ ،‬أو ٌّ‬
‫سرا‪،‬‬
‫فهو اإلنسان الوحيد في تاريخ البشرية الذي ال يملك ًّ‬
‫وسموا حتى عند عقالء‬
‫ًّ‬ ‫كل البشر عظم ًة‬
‫وهو مع ذلك يسبق َّ‬
‫الذين لم يسلموا!‬
‫إنسان ال يملك سرا‪ ،‬فال تزداد له غير الحب واإلجالل‬
‫واإلكبار‪..‬‬
‫زوجاته وهن أخص الناس به‪ ،‬وأهل بيته وهم الذين يطالعونه‬
‫في جميع حاالته‪ ،‬وأعداؤه الذين يرقبون منه هفو ًة أو حر ًفا‪..‬‬
‫كل هؤالء ما طالعوا منه أو فيه شي ًئا فيه نقيصة يعتذر عنها‪ ،‬أو‬
‫صا يخجل منه!‬‫نق ً‬
‫وخلُ ِقه‪..‬‬
‫كل من اقترب منه وجد إنسا ًنا فري ًدا في جمال َخ ْل ِقه ُ‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪118‬‬

‫حتى من الحيوانات!‬
‫كان ظل السكينة الوارف بالرحمة في صحراء الوجود!‬
‫وحن إليه الجذع!‬
‫فأوى إليه الطير يشكو‪ ،‬والجمل‪َّ ،‬‬
‫كانت األرض وال شك مبتهج ًة أن في أبناء آدم مثل هذا‬
‫اإلنسان العظيم!‬
‫وكان من أعظم ما فيه أنه ال يصوغ الناس صياغة القالب‬
‫الذي يطبعهم طبعة واحدة تمسح الفروق التي بين األشخاص‬
‫في صفاتهم وقدراتهم وطبقاتهم النفسية‪.‬‬
‫يستثمر أحسن ما ُيحسنه اإلنسان ليكون فر ًدا صال ًحا‪ ،‬وال‬
‫يأمره بمفارقة شيء سوى الشيء الذي ال يكون به إنسا ًنا‪.‬‬
‫فاستبقى كل واحد على طبيعته وعمله وكسبه ومعاشه‪،‬‬
‫وأخلى هذا ُكلَّه من قوادح العالقة بالخالق أو العالقة بالمخلوق!‬
‫فالتاجر لم يزل يمارس تجارته‪ ،‬والزارع في حقله يتابع‬
‫زرعه‪ ،‬والرحالة الضارب في األرض يتابع سفره لكسب معاشه‪،‬‬
‫والشاعر لم يزل ينسج أشعاره‪ ،‬والنجار في صحبة أخشابه‪ ..‬ال‬
‫يحس الواحد منهم عن ًتا ومشقة أن صار مسلما!‬
‫‪119‬‬ ‫اقرتاب‬

‫لقد جاءهم بدين ٍال يعزلهم عن الحياة ليكونوا رهبا ًنا‬


‫متباعدين عن كسب الحالل وفعل الحالل وطلب الحالل‪.‬‬
‫حياتهم هي هي‪ ،‬لكنها حياة ٌ خالية من منغصات الوثنية‬
‫مناف لكل خلق حميد‪.‬‬‫وكل ما يجمع العقالء بأنه ٍ‬
‫ِّ ُ‬
‫يجلســون فيمزحــون ويــذكرون األمــر مــن أمــور الجاهليــة‬
‫فيضحكون فيتبسم لهم!‬
‫يُنشدون الشعر بين يديه فيسمع ويثني على ما فيه من خير‬
‫وبالغة‪..‬‬
‫يتسابقون بين يديه فينظر ويتبسم‪..‬‬
‫غالما يفعل شيئا على غير الصواب‪،‬‬
‫يكون في الطريق فيرى ً‬
‫فيرشده إلى فعله بطريقة صحيحة‪..‬‬
‫أحب أن تنظر معي في هذه األحاديث‪ ،‬ثم أحب أن أعلق‬
‫عليها بعد أن تمر عليها بعينك وعقلك‪:‬‬
‫عن أبي سعيد الخدري‪ :‬أن رسول اهلل ‘ مر على غال ٍم‬
‫يَسلَ ُخ شا ًة‪ ،‬فقال له ـ ‘ ـ‪َ > :‬تنَ َّح ح َّتى أُرِيَ َك< َ‬
‫فأدخ َل َي َد ُه بين‬
‫ثم مضى‪..‬‬ ‫اإلبط‪َّ ،‬‬
‫وارت إلى ْ‬ ‫الجل ِد واللَّح ِم‪ ،‬ف َد َح َس بها ح َّتى َت َ‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪120‬‬

‫وهذا سلمة بن األكوع يقول وقت رجوعهم المدينة‪ :‬فلما‬


‫كان بيننا وبينها قريبا من ضحوة وفي القوم رجل من األنصار‬
‫رجل يسابق إلى‬
‫كان ال ُي ْس َبق جعل ينادي‪ :‬هل من مسابق؟ أال ٌ‬
‫المدينة؟‬
‫فأعاد ذلك مرارا وأنا وراء رسول اهلل ‘ ُم ْردِ ِفي‪ ،‬قلت‬
‫له‪ :‬أما تكرم كريما‪ ،‬وال تهاب شريفا؟‬
‫قال‪ :‬ال‪ ،‬إال رسول اهلل ‘‪.‬‬
‫قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬بأبي أنت وأمي خلني فألسابق‬
‫الرجل‪ ،‬قال‪> :‬إن شئت<!‬
‫قلت‪ :‬أذهب إليك‪ ،‬فطفر عن راحلته‪ ،‬وثنيت رجلي‬
‫فطفرت عن الناقة‪ ،‬ثم إني ربطت عليها َش َر ًفا أو َش َرفَ ْين‪ ،‬يعني‬
‫استبقيت نفسي‪ ،‬ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه‬
‫بيدي‪ ،‬قلت‪ :‬سبقتك واهلل‪ ،‬أو كلمة نحوها‪ ،‬قال‪ :‬فضحك‬
‫وقال‪ :‬إن أظن‪ ،‬حتى قدمنا المدينة‪.‬‬
‫حياتهم سائرة ٌ في يسر ليس فيه غلو‪..‬‬
‫يعيش بينهم‪ ،‬وال يحاصرهم بالتكاليف‪ ،‬وال يرصد خطوات‬
‫‪121‬‬ ‫اقرتاب‬

‫حياتهم ويضيق عليهم أنفاسهم‪..‬‬


‫فيتزوج الواحد منهم وال يعلم النبي ‘ إال بعد زواجه‪..‬‬
‫يدخل عليه عبدالرحمن بن عوف صاحبه‪ ،‬فيجد فيه آثار‬
‫زواج جديد‪..‬‬
‫جابرا يريد السبق إلى البيت‬
‫ويكون راجعا فيجد صاحبه ً‬
‫فيسأله عن سر ذلك‪ ،‬فيخبره جابر أن سبب ذلك أنه حديث عه ٍد‬
‫ُبعرس!‬
‫هكذا تمضي حياتهم سهل ًة هين ًة بال تعقيد‪..‬‬
‫كان رحم ًة حقيقية‪..‬‬
‫ال يعامل الناس بميزان التراب والمال والدنيا‪ ..‬بل كان‬
‫أقرب الناس إلى مسكين أو فقير!‬
‫َ‬
‫تأتيه ابنته فاطمة تسأله عو ًنا بخادم يكفيها هم التعب والخدمة‬
‫في البيت فقد طحنت حتى أثرت الرحا في يدها‪ ..‬فيعتذر عن‬
‫الصفَّة يجلسون جائعين‪ ،‬وليس‬
‫هذا ألن هنالك فقراء من أهل ُّ‬
‫يصح في ميزانه العلوي أن يهنأ بيته وفي المسلمين من يتألم!‬
‫زاهرا‪ ،‬فيحتضنه ويضع‬
‫ماشيا في السوق فيجد صاحبه ً‬
‫يكون ً‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪122‬‬

‫يده على عيني زاهر وهو يقف خلفه‪ ،‬يالطفه‪ ،‬ويصيح ماز ًحا‪:‬‬
‫من يشتري هذا العبد؟!‬
‫فيعرفه زاهر بحنانه ورحمته‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫تجدني يا رسول اهلل كاس ًدا!‬
‫فيقول له‪ :‬بل أنت عند اهلل غا ٍل!‬
‫يسأله الرجل من أصحابه قضاء شيء له‪ ،‬فيجيبه ولو كان‬
‫فقيرا ضعي ًفا أو عجو ًزا كبيرة‪..‬‬
‫ً‬
‫عن أنس بن مالك‪ ،‬أن جدته مليكة دعت النبي ‘ لطعام‬
‫صنعته له‪ ،‬قال‪ :‬فأكل‪ ،‬ثم قال‪> :‬قوموا فألصلي لكم< قال‪:‬‬
‫فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لُب َِس‪ ،‬فنضحته بماء‪،‬‬
‫وصففت أنا واليتيم وراءه‪ ،‬والعجوز وراءنا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فقام رسول اهلل ‘‪،‬‬
‫فصلى لنا ركعتين‪ ،‬ثم انصرف‪.‬‬
‫ويجيب الدعوة إلى طعام ولو كان دهنا متغير الرائحة من‬
‫طول مكثه!‬
‫خيا ًطا دعا النبي ‘ إلى طعام‪ ،‬فأتاه‬
‫يقول خادمه أنس‪ :‬إن َّ‬
‫‪123‬‬ ‫اقرتاب‬

‫بطعام وقد جعله بإهالة سنخة وقرع‪> .‬فرأيت النبي ‘‪ ،‬يَ ْت َبع‬
‫الص ْح َفة<‪ ،‬قال أنس‪> :‬فما زلت يعجبني القرع منذ‬‫ال َقر َع من َّ‬
‫رأيت رسول اهلل ‘ يعجبه<‪.‬‬
‫يتجاوب مع الناس ويتبسط لهم‪ ،‬وال يشعرهم أنه بعيد عنهم‪..‬‬
‫يناديه الرجل بصوت جهوري‪ ،‬وهم ممنوعون من رفع‬
‫الصوت فوق صوته‪ ،‬فال يغضب عليه‪ ،‬ويرحمه ويتنزل له‪..‬‬
‫يقول صفوان بن عسال المرادي‪ :‬بينا نحن معه في مسير فناداه‬
‫أعرابي بصوت جهوري‪ :‬يا محمد‪ ،‬فأجابه على نحو من كالمه‪.‬‬
‫قال‪ :‬هاؤم‪.‬‬
‫ِيت عن‬
‫ض من صوتك؛ فإنك قد ُنه َ‬
‫اغض ْ‬
‫قلنا‪ :‬ويلَك! ُ‬
‫رجال أحب‬
‫ذلك‪ .‬فأبى الرجل عليهم وسأل النبي ‘‪ :‬أرأيت ً‬
‫قوما ولم ي ْل َح ْق بهم؟‬
‫ً‬
‫فأجابه‪> :‬هو يوم القيامة مع من أحب<!‬
‫الع ْس َر منفي عن خلقه وحياته‪ ،‬وتعامله مع الناس‪ ،‬وتعليمه‬
‫إن ُ‬
‫لهم‪:‬‬

‫عن معاوية بن الحكم السلَمي‪ ،‬قال‪ :‬صلَّ ُ‬


‫يت مع رسول اهلل‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪124‬‬

‫القوم‬
‫يرح ُمك اهلل‪ ،‬فرماني ُ‬
‫فقلت‪َ :‬‬
‫ـ ‘ ـ‪ ،‬فعطس رجل من القوم ُ‬
‫فقلت‪ :‬واثُ ْك َل أُ ِّمياه! ما شأنُكم تنظرون َّ‬
‫إلي؟!‬ ‫بأبصارهم‪ُ ،‬‬
‫فعرفت أنهم‬
‫ُ‬ ‫قال‪ :‬فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم‪،‬‬
‫يُ َص ِّمتوني‪.‬‬
‫رسول اهلل ـ ‘ ـ‬
‫ُ‬ ‫سكت‪ ،‬فلما صلَى‬
‫ُّ‬ ‫رأيتهم يُسكِّتوني‬
‫فلما ُ‬
‫سبني‪ ،‬ثم قال‪> :‬إن‬
‫بأبي وأمي ــ ما ضربني وال َك َهرني وال َّ‬
‫يحل فيها شيءٌ من كالم الناس هذا‪ ،‬إنما هو‬ ‫هذه الصالة ال ُّ‬
‫والتكبير وقراء ُة القرآن<‪.‬‬
‫ُ‬ ‫التسبيح‬
‫ُ‬
‫ويبول األعرابي في مسجده‪ ..‬فانظر ماذا فعل‪:‬‬
‫فبال في طائفةِ‬
‫عن أنس بن مالك قال‪ :‬جاء أعرابي َ‬
‫المسجد‪ ،‬فزجره الناس‪ ،‬فنهاهم النبي ـ ‘ ـ فقال‪> :‬دعوه! ال‬
‫فص َّب‬ ‫ٍ‬
‫تزرموه<‪ ،‬فلما قضى بوله أمر النبي ـ ‘ ـ بدل ٍو من ماء َ‬
‫عليه!‬
‫هذه السكينة ال تكون إال في النفوس العظيمة‪ ،‬فلقد يكون‬
‫اإلنسان هادئ الخصال مع جماعة من الناس‪ ،‬سي ًئا مع غيرهم‪،‬‬
‫بينما ذلك الثبات األخالقي الفياض بالسكينة ال يكون إال في‬
‫‪125‬‬ ‫اقرتاب‬

‫س اتسعت آماد الرحمة فيها‪ ،‬فكانت نبعا لكل خير وجمال!‬


‫نف ٍ‬
‫وأنت ترى ذلك مع الذين من عادة اإلنسان التغير معهم‪،‬‬
‫كالخادم‪..‬‬
‫فماذا عن شهادة الخادم الذي اقترب منه في سره وعالنيته‬
‫عشر سنوات؟‬
‫عشر ِسنين بالمدينةِ‪،‬‬
‫خدمت النبي ـ ‘ ـ َ‬
‫ُ‬ ‫س‪ ،‬قال‪:‬‬
‫عن أن ٍ‬
‫وأنا غالم‬
‫ليس كل أمري كما يشتهي َص ِ‬
‫احبي أن أكو َن عليه‪ ،‬ما قال‬
‫لي فيها ٍّأف ق ٌّط‪ ،‬وما قال لي‪ :‬لِ َم َ‬
‫فعلت هذا؟ أالَّ َ‬
‫فعلت هذا!‬
‫فهو يعترف أن أمره لم يكن كله على ما يجب عليه‪ ،‬ولكن‬
‫ما كان من النبي ‘ شيءٌ قط من الضجر والتأفف‪ ،‬وال‬
‫اإلثقال عليه! ليس سنة وال سنتين وال ثالثا‪ ..‬بل عشر سنوات‬
‫كاملة!‬
‫جاء مصاد ًما للعسر في كل صوره‪ ،‬فنفى العسر في السلوك‬
‫والعبادة واالعتقاد‪:‬‬
‫فقد بلغه أن أصحابا له تعاهدوا فيما بينهم على التشديد‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪126‬‬

‫على أنفسهم‪ ،‬فقال واحد‪:‬‬


‫أنا أصوم وال أفطر‪..‬‬
‫وقال الثاني‪ :‬أنا أقوم الليل وال أنام‪..‬‬
‫وقال الثالث‪ :‬ال أتزوج النساء‪..‬‬
‫فغضب من ذلك وشدد في اإلنكار عليه‪ ..‬وقال‪ :‬أما واهلل؛‬
‫إني ألخشاكم هلل‪ ،‬وأتقاكم له‪ ،‬لكنى أصوم وأفطر‪ ،‬وأصلى‬
‫وأرقد‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتى؛ فليس مني!‬
‫ومر بشيخ كبير يهادى بين ابنيه‪ ،‬قال‪ :‬فقال‪ :‬ما بال هذا؟‬
‫قالوا‪ :‬نذر يا رسول اهلل أن يمشي‪ ،‬قال‪> :‬إن اهلل عن تعذيب‬
‫هذا نفسه لغني<‪ ،‬فأمره أن يركب‪ ،‬فركب!‬
‫يقول أبو هريرة ‪:‬‬
‫خطبنا رسول اهلل ـ ‘ ـ‪> :‬أيها الناس قد فرض اهلل عليكم‬
‫الحج فحجوا<‬
‫فقال رجل‪ :‬أكل عام يا رسول اهلل؟‬
‫فسكت حتى قالها ثالثا!‬
‫‪127‬‬ ‫اقرتاب‬

‫فقال بلسان المرحمة‪ :‬لو قلت‪ :‬نعم لوجبت ولما استطعتم!‬


‫ذروني ما تركتكم‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم‬
‫واختالفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا أمرتكم بشيء ــ فخذوا منه ما‬
‫استطعتم‪ ،‬وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا!‬
‫خير بين أمرين إال اختار أيسرهما ما لم يكن‬‫وكان ال ُي َّ‬
‫إث ًما! فإذا كان إث ًما كان أبعد الناس عنه!‬
‫لم يجعل من اإلسالم صخر ًة يابس ًة يحملها اإلنسا ُن في‬
‫دروب حياته ثقيل ًة قاسي ًة‪ ،‬وما جعل الطريق إلى اهلل تعالى‬
‫موح ًشا تتناثر فيه أشواك التشديد والعنت‪ ،‬ولو كان المقبل إلى‬
‫اإلسالم مغمو ًسا في سواد اإلثم!‬
‫هذا رجل يأتي كبير السن‪ ،‬يحمل في قلبه لوعة الندم على‬
‫أوراق عمره التي احترقت في سعير المخالفات‪ ،‬متشو ًقا إلى‬
‫أنفاس الرحمة تبل قلبه بالحياة بعد أن نشف حلقه وجفت‬
‫روحه من خوف العقاب!‬
‫كلما قلب دفاتر عمره وجد سواد اإلثم يلوح له من بين‬
‫ٍ‬
‫صغيرة إال ركبها جري ًئا ال يبالي!‬ ‫السطور‪ ،‬فما من معصية ٍ‬
‫كبيرة أو‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪128‬‬

‫أنفاس صغيرة إن لم تجد‬


‫ٌ‬ ‫ومضى العمر ولم يبق له إال‬
‫األمل فنيت وماتت!‬
‫ثم أقبل فسأل النبي ‘ وقد اشتعل فيه الخوف‪:‬‬
‫رجال عمل الذنوب ُكلَّها ولم يُ ْش ْ‬
‫رك باهلل شي ًئا‪ ،‬ومع‬ ‫أرأيت ً‬
‫ذلك لم يترك حا َّج ًة وال دا َّج ًة إال اقتطعها بيمينه‪ ،‬فهل لذلك‬
‫من توبة؟!‬
‫قال‪> :‬هل أسلمت<؟‬
‫قال‪ :‬أما أنا فأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له وأنك‬
‫رسول اهلل‪.‬‬
‫فقال‪> :‬نعم! ليفعل الخيرات‪ ،‬ويترك الشرك‪ ،‬يجعلهن‬
‫ٍ‬
‫خيرات ُكلَّهن<‪.‬‬
‫قال‪ :‬وغدراتي وفجراتي؟‬
‫قال‪> :‬نعم؛ فإن اهلل أكبر<‬
‫فمضى الرجل وقد طفئ الخوف في نفسه وانهمر مطر األمل‬
‫على قلبه القاحل ونفسه المستوحشة‪ ،‬وانطلق يكبر‪ ،‬فما زال‬
‫يكبر حتى توارى!‬
‫‪129‬‬ ‫اقرتاب‬

‫يجعل الدين محببا للنفوس‪ ،‬وال يبقي عقد الماضي وأثقاله‬


‫سويا ال تصطرع‬
‫ورواسبه في إناء النفس‪ ،‬فيستقبل الحياة إنسا ًنا ًّ‬
‫فيه نوازع النفس في أطالل الماضي القديم!‬
‫يأتي عمرو بن العاص‪ ،‬ويهم بمد يده باإلسالم ثم يقبضها‬
‫ويقول‪ :‬ال أبايعك يا رسول اهلل حتى تغفر لي ما تقدم من ذنبي‪..‬‬
‫أن‬ ‫علمت‬
‫َ‬ ‫قال‪ :‬فقال لي رسول اهلل ‘‪> :‬يا عمرو! أما‬
‫أن‬ ‫علمت‬
‫َ‬ ‫عمرو! أما‬
‫الهجر َة َت ُج ُّب ما قبلها من الذنوب‪ ،‬يا ُ‬
‫يج ُّب ما كان قبله من الذنوب<؟!‬
‫اإلسالم ُ‬
‫هكذا بيسر ال تعقيد فيه وال إعنات وال مشقة‪..‬‬
‫طعامهم‪ ،‬ويجوع معهم‪،‬‬
‫َ‬ ‫ثم هو يعيش معهم عيشتهم‪ ،‬يط َْع ُم‬
‫ويحفر معهم إذا حفروا‪ ،‬ويعود مريضهم‪ ،‬ويشاركهم أحزانهم‬
‫وأفراحهم‪ ،‬ويسبق إلى طمأنتهم ويسعى في مصالحهم‪ ،‬ويشفع‬
‫لهم ولو كان الذي يشفع عنده مولى من الموالي الذين لم يكن‬
‫لهم مكانة وال وزن في جزيرة العرب!‬
‫لقد حفر معهم يوم الخندق حتى وارى التراب صدره‪..‬‬
‫وقام بنقل حجارة المسجد معهم‪..‬‬
‫‪.‬‬
‫اقرتاب‬ ‫‪130‬‬

‫ويفزع الناس في المدينة ليل ًة من الليالي‪ ،‬فيقول أنس ‪:‬‬


‫كان أحسن الناس‪ ،‬وكان أجود الناس‪ ،‬وكان أشجع الناس‪،‬‬
‫ولقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلقوا ِق َبل الصوت‪ ،‬فتلقاهم‬
‫رسول اهلل ـ ‘ ـ وقد سبقهم إلى الصوت‪ ،‬وهو على فرس‬
‫ألبي طلحة ُع ْر ٍي‪ ،‬ما عليه َس ْر ٌج‪ ،‬في عنقه السيف‪ ،‬وهو يقول‪:‬‬
‫>يا أيها الناس‪ ،‬لن تراعوا< يَ ُر ُّدهم‪ ..‬ثم قال للفرس‪> :‬وجدناه‬
‫بحرا< أو‪> :‬إنه لبحر<‪.‬‬
‫واإلنسان العظيم ال تكون عظمته في عزلته عن الناس؛‬
‫ألن الحياة ومن فيها مجال حقيقي الختبار حقيقة تلك العظمة‪.‬‬
‫وهكذا كان رسول اهلل ‘‪ ..‬يغشى األسواق ويمشي في‬
‫الناس‪ ،‬وال ترى الحياة منه إال العظمة الكبرى في أبسط صورها‪،‬‬
‫وأحبها إلى النفس‪.‬‬
‫وهذا شيء يدعو للدهشة!‬
‫لقد كان موصوال بحياة الناس ودنياهم في كل تفاصيلها‪،‬‬
‫ومع ذلك لم يشهد التاريخ نظيرا لهذا اإلنسان في أخالقه مع‬
‫الناس‪ ،‬وزهده في الدنيا وعبادته لربه‪..‬‬
‫‪131‬‬ ‫اقرتاب‬

‫إن رجال يقوم بأعباء الرسالة‪ ،‬ومكابدة أثقالها وهمومها‬


‫وتحدياتها‪ ،‬هو هو ذلك الرجل الذي يقوم برعاية تسعة بيوتات‬
‫بما فيها من أهل وحياة وخالفات‪ ،‬هو هو الرجل الذي يتنزل‬
‫مع الصبيان ويتفقد المساكين ويقف للجارية الصغيرة ويمشي‬
‫معها في طرقات المدينة‪ ،‬هو هو الرجل الذي يقف في محراب‬
‫الليل ويضيء قنديل العبادة حبا وشوقا لربه وبكاء بين يديه‬
‫حتى تنفطر قدماه‪ ،‬هو هو الرجل الذي ال يغدر بعدو‪ ،‬وال‬
‫ينقض عهدا وال يهتك سترا‪ ،‬وال يداهن في حق‪ ،‬وال ُيسالِ ُم‬
‫باطال‪ ،‬هو هو الرجل الذي تتسع رحمته لتنال العصفور والشجر‬ ‫ً‬
‫والحجر والجماد‪ ،‬هو هو الرجل الذي ال يسأل الناس شيئا من‬
‫دنياهم وال من أموالهم‪ ،‬هو هو الرجل الذي يحب التماس‬
‫الرحمة بالناس‪ ،‬ويتوسل إلى ربه ليال طويال يقول أمتي أمتي‪..‬‬
‫هذا الرجل ال أملك إال حبه‪ ،‬والخضوع لعظمته‪ ،‬واإلقرار‬
‫بالبداهة العقلية والروحية والنفسية والقلبية أنه ليس بشرا عاديا‪،‬‬
‫وأنه رسول اهلل قطعا بال ريب‪..‬‬

‫‪.‬‬
‫خامتة خاصة‬ ‫‪132‬‬

‫خاتمة خاصَّة‬

‫سرا‬
‫دعني أتنفس بقلمي قليال هاهنا؛ فإن لهذا الحديث ًّ‬
‫جليال أحاول إدناءه منك واختصاره لك‪..‬‬
‫ً‬
‫لقد كان من أجل شواهد صدق هذا اإلنسان ما تراه في‬
‫حياته من بوارق الحب وخفقات الشوق هلل ‪..‬‬
‫ومن يتتبع حياة الرسول ‘ يجد حركاته وسكناته‬
‫وخلجات نفسه وأنفاسه كلها ناطق ًة بالحب!‬
‫ذلك الحب الذي ال يخرج إال من مشكاة الصدق‪ ،‬وال‬
‫ينبع إال من حبة القلب‪ ،‬فهو يتقدم أفعال صاحبه ويصيح بين‬
‫لعبد لربه‪ ،‬متشوق إلى مرضاته‪ ،‬مخبت القلب‪،‬‬
‫يديه‪ :‬إن هذا ٌ‬
‫فارغ النفس من نوازع التراب ونزغات المادة‪ ،‬واللهث خلف‬
‫سراب الشهوات اآلسنة!‬
‫حتى في األمر العابر والموقف الصغير‪ ..‬تجد عنوان العبودية‬
‫‪133‬‬ ‫خامتة خاصة‬

‫داال على ما في ذلك القلب الشريف من الحب‬


‫قائما بين يديك ًّ‬
‫األسمى‪ ،‬والمعرفة العظمى باهلل ‪!‬‬
‫هاهو يُبصر المطر نازال من السماء فيكشف عاتقه ويقول‬
‫بلسان المحب شوقا لربه‪ :‬إنه حديث عه ٍد بربه!‬
‫ويتنزل عليه الوحي مخبرا بمغفرة ما تقدم من ذنبه وما‬
‫تأخر‪ ،‬فال يركن إلى الدعة‪ ،‬وال يجلس على بساط الخمول‪،‬‬
‫طويال على قدم الشوق والحب حتى ينال‬
‫طويال ً‬ ‫الليل ً‬
‫ويقوم َ‬
‫الوص ُب من جسده فتتشقق قدماه‪ ..‬فيقال له‪ ،‬فيقول بلسان‬‫َ‬
‫المحب‪ :‬أفال أكون عب ًدا شكورا!‬
‫حتى إذا أقعده التعب صلى جال ًسا‪ ،‬وإذا فاته وِرده قضاه‬
‫ولو كان فوات ورده لقيامه بمصالح الناس وهموم الدعوة‪..‬‬
‫محب ال يصبر عن عبادة ربه واهلل!‬
‫هذا ٌّ‬
‫ولقد كان يهرول ويسبق في ميادين العبادة سب ًقا علويا‪،‬‬
‫حتى إنه ليديم الوصال صائ ًما عن الدنيا وشهواتها من الطعام‬
‫والشراب والنساء‪ ،‬فيستأذنه أصحابُه في أن يواصلوا مثله‪،‬‬
‫يت عند ربي يطعمني ويسقيني!‬ ‫حب‪ :‬إني أَبِ ُ‬
‫فيقول بيا ًنا ُكلُّه ٌّ‬
‫‪.‬‬
‫خامتة خاصة‬ ‫‪134‬‬

‫يالمبيت ذلك السيد المحب! َيط َْع ُم بوصاله من المعارف‬


‫واللطائف والتحف والهدايا اإلةيهل ما يغنيه عن طعام الدنيا‬
‫وشرابها!‬
‫إن هذه األنفاس النورانية ال تتهادى إال في صد ٍر عام ٍر‬
‫بالصدق والحب!‬
‫ولقد علم ربُّه تعالى حب عبده محمد ‘‪ ،‬فكان ُي َسل ِّيه‬
‫بوصاله! ويمسح الهم عن قلبه بمناجاته!‬
‫أفال ترى كيف يداوي حزنه بالسجود وكيف يمسح عنه‬
‫اآلالم بالتسبيح‪ ،‬فيقول‪ :‬ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما‬
‫يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين‪.‬‬
‫أليس هذا كله باهلل عليك ناط ًقا بالحب العظيم الذي سكن‬
‫قلبه الشريف ‘؟!‬
‫حبا ملك عليه ُك َّل‬ ‫واهلل ال يُسلَّى بهذا إال ٌ‬
‫قلب أحب ربه ًّ‬
‫ذراتِه!‬
‫َّ‬
‫نصبا والراحة في سجدة الوصال‪،‬‬ ‫قلب يرى الحياة كلها ً‬
‫ٌ‬
‫بالال نداء الحب‪ :‬أرحنا بها يا بالل!‬
‫فينادي صاحبه ً‬
‫‪135‬‬ ‫خامتة خاصة‬

‫وسكنى الروح وموئل الطمأنينة‪ :‬بين يدي‬


‫راحة القلب ُ‬
‫ربي الودود!‬
‫وكم تناثر في األحاديث أنه ‘ كان يسجد فيطيل حتى‬
‫يظن الصحابة أنه قد قُبِض ‘‪ ..‬وما به سوى مناجاته ربه!‬
‫انظر إليه يأتيه سبطه سيدنا الحسن طفال صغيرا فيصعد ظهر‬
‫ج ِّده ‘‪ ،‬فيتركه ويطيل السجود ويطيل‪ ..‬حتى يظن الصحابة‬
‫به شيئا‪..‬‬
‫فيعلل ذلك بقوله‪ :‬إن ابني ارتحلني(‪ )1‬فكرهت أن أُ ْع ِجله!‬
‫والناس يديرون هذا الحديث في فلك الرحمة وصدقوا‪..‬‬
‫ولكن قَ َّص ُروا‪..‬‬
‫سبب ُم ِ‬
‫وص ٍل إلى ربِّه! قد وجد في‬ ‫فالمحب يتعلل بكل ٍ‬
‫سببا لزيادة النجوى والسقيا من كوثر‬
‫ظهره ً‬
‫اعتالء حفيده َ‬
‫السجود!‬
‫إنه ليحب الصالة ويحب المناجاة ويحب الذكر! حتى إن‬
‫الحصى ُلي َس ِّبح في يده الشريفة ‘!‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يعني صعد على ظهري‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫خامتة خاصة‬ ‫‪136‬‬

‫إن في مذهب الحب بيا ًنا ال يتلعثم‪ ،‬وحر ًفا ال يكذب أن‬
‫هذا العبد نبي اهلل حقا‪ ،‬ورحمته إلى خلقه صد ًقا‪ ،‬نطق بذلك‬
‫كل شيء فيه‪ :‬خلقه وكالمه وسمته وشمائله وصفاته ومواقفه‬
‫وهديه وسمته‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫تدبرت حديثك سيدي‪> :‬إنما أنا َع ٌبد<‪ ،‬لَه َِج لساني‬ ‫ُ‬ ‫كلما‬
‫سموت‬
‫َ‬ ‫بالصالة والسالم عليك‪ ،‬ما أعظمك! وما أرفع قدرك إذ‬
‫الخماص من الدنيا‪ ..‬كم‬ ‫إلى ُس َّدة العز بعبوديتك وصفاتك ِ‬
‫بالب ْعد عنك‪ ،‬والنأ ِي عن ت َدبُّر سيرتك‪،‬‬ ‫ْيش َقى اإلنسا ُن ُ‬
‫واالنغماس في زخارف الضالل المتأنِّقة بزينة الحضارة! أو‬
‫رحيم أنت يا سيدي‪ ،‬تستأذن الشجرة‬ ‫ٌ‬ ‫الرقي!!‬
‫ِّ‬ ‫المتسترة برداء‬
‫الخضراء َلتشرف بالسالم عليك! وتهرول السحابة ُلت َظل ِّ َلك!‪،‬‬
‫حديث الشكوى وأنَّ ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫الح َّمر ُة المسكينة؛ َت ُبثُّك‬
‫وتأوي إليك ُ‬
‫رجع إليها أفراخها! وهمهم الجذع‬ ‫وت ِ‬
‫الفقد‪ ،‬فتهدهد أحزانها ُ‬
‫حني ًنا فمسحت عليه بيدك المباركة!‬
‫هل فهمت العجماوات‪ ،‬والجمادات ما ضل عنه كثير من‬
‫ِ‬
‫جماج َم ُت ْح َس ُب على العقول؟! وكم هي تعاسة‬ ‫الذين يملكون‬
‫البشرية حين حسبت أنها تكون بغير هديك‪ ،‬وتحيى بغير نورك!‬
‫‪137‬‬ ‫خامتة خاصة‬

‫يف؟! وتجبر‬‫بالس ِ‬
‫دينك َّ‬
‫أنت؟! أأنت سيدي تنشر َ‬ ‫أي عب ٍد َ‬
‫مس الخير في غير شريعتك؟! فإن‬ ‫أح ًدا على اإلسالم؟! ويُ َلت ُ‬
‫الحق فماذا؟!‬
‫دينك َّ‬ ‫فمن؟! وإن لم يكن ُ‬ ‫أنت اإلنسا َن َ‬
‫لم تكن َ‬
‫العدل فأين؟!‬
‫َ‬ ‫شريعتك‬
‫ُ‬ ‫وإن لم تكن‬
‫* * *‬

‫اللهم صل على محمد وعلى آل محمد‪ ..‬كما صليت على‬


‫إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد‪..‬‬
‫اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على‬
‫إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد‪.‬‬

‫ﺍ‬
‫ونظرا‬
‫وتحريرا ً‬
‫ً‬ ‫تم الفراغ منه مراجع ًة‬
‫ظهر الثالثاء‪ ،‬الخامس عشر من ذي القعدة ‪1438‬هـ‪،‬‬
‫الموافق‪ :‬الثامن من أغسطس لعام ‪2017‬م‪.‬‬

‫‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫فهرس‬

‫‪‬‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫المقدمة ‪5 ............ ................................‬‬
‫قبل البدء ‪7 ........... ................................‬‬
‫هـنـالـك ‪10 ........... ................................‬‬
‫رجـفـة الـغـار ‪13 .......................................‬‬
‫كـال واهلل! ‪20 ......... ................................‬‬
‫بـيـان ورقـة! ‪24 ........ ................................‬‬
‫فترة الصدق! ‪26 .......................................‬‬
‫ناس الصحراء ‪29 ......................................‬‬
‫ناس السماء ‪40 ........ ................................‬‬
‫ربيع الوحي ‪49 ........ ................................‬‬
‫ملكوت الرحمات ‪59 ....................................‬‬
‫‪.‬‬
‫فهرس‬ ‫‪140‬‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫اصطفاء ‪84 ........... ................................‬‬
‫السيف! ‪97 ........... ................................‬‬
‫اقتراب ‪117 ........... ................................‬‬
‫خاصة ‪132 ......................................‬‬
‫خاتمة َّ‬
‫فهرس ‪139 ........... ................................‬‬

You might also like