Professional Documents
Culture Documents
إنّ قصةَ إبراهيم عليه السّلام هي أطول قصة قرآنية بعد قصة سيدنا موسى عليه السّلام
إنّ قصةَ إبراهيم عليه السّلام هي أطول قصة قرآنية بعد قصة سيدنا موسى عليه السّلام
كشفت قصة إبراهيم عليه السّالم عن مالمح الشخصية السويّة القدوة التي ينبغي أن تكون المثل األعلى في التزام اإلسالم،
ان ُأم ًَّة} [النحل ،]120:وقال تعالى: قال تعالىِ{ :إ ِّني َجاعِ لُ َ
ك لِل َّن ِ
اس ِإ َمامًا} [البقرة ،]124:وقال تعالىِ{ :إنَّ ِإب َْراهِي َم َك َ
{وِإب َْراهِي َم الَّذِي َو َّفى} [النجم.]37: َ
التوحيد الخالص
أظهرت قصة إبراهيم عليه السالم أن دين األنبياء جمي ًع ا هو التوحيد الخالص والدين الحنيف من لدن إبراهيم عليه السّالم
حتى محمد (صلّى هللا عليه وسلّم) ،وهذا يعمق ثقة المسلمين بدينهم أنه أحسن دين ،قال تعالىِ { :ملَّ َة َأ ِبي ُك ْم ِإب َْراهِي َم} [الحج:
{و َمنْ َأحْ َسنُ دِي ًنا ِممَّنْ َأسْ لَ َم َوجْ َه ُه هَّلِل ِ َوه َُو مُحْ سِ نٌ َوا َّت َب َع ِملَّ َة ِإب َْراهِي َم َحنِي ًفا} [النساء.]125:
،]78وقال تعالىَ :
ضا أن أي انحراف عن التوحيد الخالص يفقد اإلنسان صلته ك ال ِّدينُ ْال َق ِّي ُم} [يوسف ،]40:وبيّنت القصة أي ً
وقال تعالىَ { :ذلِ َ
باألنبياء حتى لو كانوا حقيقة من صلبه فهذا إبراهيم عليه السّالم يتبرأ من أبيه عندما انحرف عن دينه التوحيدَ { :فلَمَّا َت َبي ََّن
لَ ُه َأ َّن ُه َع ُد ٌّو هَّلِل ِ َتبَرَّ َأ ِم ْنهُ} [التوبة ،]114:فكيف بالمنحرفين عن دين إبراهيم عليه السّالم في األجيال الالحقة؟
وهكذا تكون قصة إبراهيم عليه السّالم ر ًّد ا على كل منحرف عن دين التوحيد كالعرب المشركين واليهود والنصارى الذين
انحرفوا عن رسالة موسى وعيسى عليهما السالم ،واستغلّوا الدين في إضفاء شيء من القدسية عليهم لقيادة البشرية.
ورثته ،وليس لهم أي صلة ولقد أثبتت قصة إبراهيم عليه السّالم أن هؤالء ليسوا على دين إبراهيم وال من أتباعه أو َ
َّ َ َأ
بإبراهيم عليه السالم ألن الوراثة الحقيقية إلبراهيم هي الوراثة اإليمانية فقط ،قال تعالىِ{ :إنَّ ْولى الن ِ
اس بِِإب َْراهِي َم} [آل
عمران.]68:
عمّقت القصة الصلة بين إبراهيم عليه ال ّسالم أبي األنبياء والمسلمين أتباع خاتم األنبياء سيدنا محمد عليه الصالة والسالم،
فذكر إبراهيم في القرآن الكريم تكرر 69مرة في 25سورة مكيّة ومدنيّة )،ومشاهد قصته موزعة في ثنايا القرآن الكريم
على مدى 17جزءًا ،وهذا يعني أنَّ ذِكر إبراهيم عليه السّالم حاض ٌر في الذهن ال يغيب عن ذاكرة المسلم أب ًدا ألنه رمز
من رموز التوحيد ورمز من رموز اإلسالم وقدوة المسلمين جمي ًعا ،ويؤكد هذا التعقيب على قصة إبراهيم عليه السّالم في
ِين َه َدى هَّللا ُ َف ِب ُهدَا ُه ُم ا ْق َت ِدهِ} [األنعام ،]90:وهذا المعنى محمدا (صلّى هللا عليه وسلّم) فقالُ{ :أولَِئ َ
ك الَّذ َ ً سورة األنعام مخاطبًا
ان صِ ِّدي ًقا َن ِب ًّيا} [مريم.]41: ب ِإب َْراهِي َم ِإ َّن ُه َك َ ْ
{واذ ُكرْ فِي ْال ِك َتا ِما قصده القرآن الكريمَ :
ولقد جاءت الصالة المكتوبة والنافلة لتعمّق هذا المعنى في نفوس المؤمنين )،في بدايتها نتوجه للقبلة جهة الكعبة المشرّفة
التي بناها إبراهيم عليه ال ّسالم ،وفي خاتمتها في الجلوس األخير نختم بالدعاء المأثور (الصالة اإلبراهيمية) ،وجاءت
مناسك الحج لتعمّق هذا المعنى أيضً ا ،ففي بداية المناسك يجب اإلحرام الذي من مظاهره التلبية :لبيك اللهم لبيك ..إلخ
{وَأ ِّذنْ فِي ال َّن ِ
اس ِب ْال َحجِّ} [الحج: استجابة لألذان الذي رفعه إبراهيم عليه السّالم مناديًا بالحج ،وذلك كما أمره هللا ّ
عز وجلَ :
،]27وفي ختام المناسك يجب طواف الوداع حول الكعبة المش ّرفة التي بناها إبراهيم عليه السّالم.
هذا فضال عن المناسك األخرى في الحج ،التي تذ ّكرنا بإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السالم ،وزوجه هاجر عليها
السالم ،كالسعي بين الصفا والمروة ،وبئر زمزم ،ومقام إبراهيم ،واألضحية وهي قصة الفداء العظيم وغيرها من
المناسك.
كذلك جاءت األذكار تذ ّكرنا بإبراهيم الخليل عليه السّالم ،فعن ابن مسعود رضي هللا عنه عن النبي (صلّى هللا عليه وسلّم)
قال :لقيت إبراهيم ليلة ُأسري بي ،فقال :يا محمد أقرئ أمّتك مني السالم ،وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ،عذبة الماء،
وأنها قيعان ،وأن غِ راسها سبحان هللا والحمد هلل وال إله إال هللا وهللا أكبر .
وكشفت لنا قصة الخليل إبراهيم عليه السّالم عن بعض صفات المالئكة ووظائفهم ،وهذا جزء من عقيدتنا اإلسالمية
"اإليمان بالمالئكة" ،وهذه الصفات ظهرت في مشهد ضيوف إبراهيم عندما أتى رسل هللا يب ّشرون إبراهيم بالغالم العليم
"إسحاق" عليه السّالم ،ومن ورائه "يعقوب" عليه ال ّسالم ،فالقصة أثبتت أن المالئكة ال يأكلون وال يشربون وعندهم القدرة
على التش ّك ل بصورة إنسان ،وهم عباد مكرمون ال يعصون هللا ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ،وغير ذلك من الصفات.
استطاعت قصة إبراهيم عليه السّالم أن تزودنا بتجارب قيّمة إلبراهيم في مجال الحوار والدعوة إلى هللا ،والتزام أوامره،
ضا زودتنا بتجارب قيمة آلخرين تربّوا على يد إبراهيم عليه السّالم كزوجه فهو القدوة منذ صغره وحتى الكبر ،وأي ً
وأبنائه ،فالقصة أثبتت أن هذه األسرة مباركة ،وأنها مدرسة للتربية اإلسالمية ،ومحضن من محاضنها ،ال نستغني عن
مناهجها أب ًد ا في أي تربية إسالمية ،وميزة هذه التجارب أنها خالصة لوجه هللا الكريم ونابعة من عقيدة ثابتة ،وميزة
أراض مختلفة وفي بيئات مختلفة لشخصية سويّة قدوة للمسلمين ،وهكذا تعمّق ٍ أخرى :أنها تجارب متنوعة جرت على
قصة إبراهيم الوعي عند المسلمين وتزيدهم خبرة في أكثر من مجال.
و ُتعمّق قصة إبراهيم عليه السّالم صلة المسلمين ببيت المقدس ،وتجعله جزءًا من عقيدة المسلمين التي ال يمكن التنازل
عنها بأي حال من األحوال ،فقد هاجر إبراهيم من العراق إلى بيت المقدس وما حولها واستق ّر فيها ،وعاش بين ربوعها،
ومات فيها ودفن فيها ،ومكان قبره ثابت في مدينة الخليل ،ومن فلسطين انطلقت رحالت إبراهيم عليه السّالم إلى مصر
وإلى الحجاز وإلى غيرها من البلدان ،وأكثر الرحالت تكرارً ا هي رحالته من فلسطين ومكة المكرّ مة ،ليتف ّقد ابنه وزوجه
هناك ،وليؤدي فريضة الحج التي أمره هللا بها وأراه مناسكها ،فهذه الرحالت المتكررة إلبراهيم عليه السّالم عمّقت الصلة
بين المسجد الحرام والمسجد األقصى المبارك وأصبحت جز ًءا من عقيدة المسلمين ال يجوز التنازل عنها أو التفريط بها
ً
أبدا.
ً
تأكيدا لهذه الصلة مرة ثانية ،وتعميقا لهذا المعنى وجاءت حادثة اإلسراء والمعراج لسيدنا محمد (صلّى هللا عليه وسلّم)
تمام التعميق )،وجاءت القبلة للمسجد األقصى أشهرا عدة لتزيد صلة المسلمين بالمسجد األقصى ،وجاء الفتح العمري لبيت
المقدس وإتيانه شخص ًّيا الستالم مفاتيحها ليؤكد أهمية بيت المقدس في نفوس المؤمنين )،وهكذا تأتي قصة إبراهيم ل ُتثبت أن
صلة المسلمين ببيت المقدس قديمة ج ًدا وعميقة الجذور في التاريخ اإلنساني منذ إبراهيم عليه السالم .
وأثبتت قصة إبراهيم أن القرآن الكريم من عند هللا العليم الخبير ،ونسجّ ل بعض اإلثباتات -على سبيل المثال -كما يأتي:
عدم تناقض مشاهد قصة إبراهيم مع بعضها رغم اختالف مواضيع السور التي ذكرتها ،ورغم اختالف المدة
{ولَ ْو ك َ
ان َ الزمنية التي نزلت فيها ،وهذا يدل داللة واضحة أن القرآن الكريم من عند هللا كما قال سبحانه وتعالىَ :
اخ ِتاَل ًفا َكثِيرً ا} [النساء.]82: مِنْ عِ ْن ِد َغي ِْر هَّللا ِ َل َو َج ُدوا فِي ِه ْ
هذا التناسق العجيب بين كل مشهد من مشاهد قصة إبراهيم وبين السورة التي ذكرته من حيث الموضوع
والسّبك في السياق يؤكد أن القرآن الكريم من عند هللا ألن هذا التناسق ضربٌ من اإلعجاز.
ْأ اس ِب ْال َح ِّج َيْأ ُت َ
ِين مِنْ ُك ِّل َف ٍّج
ضام ٍِر َ َ
ت ي وك ِر َجااًل َو َعلَى ُك ِّل َ {وَأ ِّذنْ فِي ال َّن ِ
من خواتيم قصة إبراهيم عليه السّالم َ
ِيق} [الحج ،]27:وهذه من أواخر المشاهد في حياة إبراهيم عليه السّالم ،وهو مشهد يصلح أن يكون خاتمة َعم ٍ
فنية للقصة ألنه مشهد قوي ومؤثر ونهايته مفتوحة تجعل الخيال منشغاًل بصورة مستمرة ومتواصلة بعد إغالق
معان بعد ذلك ٍ ضا تحقيق ما في الخاتمة من الستارة ،وهذا ضرب من اإلعجاز يؤكد أن القرآن من عند هللا ،وأي ً
يؤكد أن القرآن من عند هللا :من الذي أوصل صوت إبراهيم للناس أجمعين ،فجاؤوا ملبّين هذا النداء في الحج
والعمرة من كل فج عميق؟ طب ًعا هو هللا سبحانه وتعالى ،األمر الذي يؤكد أن القرآن من عند هللا.
وأخيرً ا ،فإن هذه النقاط الثماني ألهمية قصة إبراهيم في القرآن الكريم ُذكرت على سبيل المثال ال الحصر ألن كل مشهد
من مشاهد القصة القرآنية جاء في مكانه ليعالج حالة معينة) في واقع الحياة ويحقق أكثر من هدف وأكثر من مقصد.