You are on page 1of 108

‫المقدمة‬

‫لكل منا حكايته الخاصة ‪ .‬حكاية ينسجها هو يعيشها بكل تفاصيلها بألمها‬
‫وسعادتها ‪ ..‬بوجعها ‪ ..‬بضحكاتها ‪ ..‬لكل منا تلك الحكاية أحيانا تكون‬
‫سرية ال يعلم بها أحدا وأحيانا أخرى نتشاركها مع شخص أخر شخص‬
‫ربما يكون هو البطل الرئيسي لتلك الحكاية ‪ ..‬بالنهاية كلنا أبطال بإحدى‬
‫الروايات وحياتنا من تحدد نوع البطولة التي قد نعيشها ‪ ..‬ربما تكون‬
‫بطولة قاسية مغلفة باأللم والهجران وربما كانت بطولة شيقة ممتعة رغم‬
‫كل مطباتها خرجنا منها منتصرين ‪..‬‬
‫حكاياتنا تلك التي ال بد أن تغلف بالحب ‪ ..‬الحب الذي هو أساس كل شيء‬
‫في الحياة ‪ ...‬ال يمكنك أن تقوم بأي فعل دون الحب ‪ ..‬ربما بعضنا يأخذ‬
‫تلك الكلمة ويختزلها فقط بين شخصين ومشاعرهما الجياشة ولكن الحب ال‬
‫يقتصر على عالقاتنا الغرامية ‪ ..‬أن فكرنا قليال بهذه الكلمة سنرى أنها‬
‫تشمل كل شيء ‪ ..‬العمل ‪ ..‬األبوة ‪ ..‬البنوة ‪ ..‬الدين ‪ ..‬األحالم ‪ ..‬المستقبل‬
‫‪ ..‬الماضي ‪ ..‬الوطن ‪..‬االستمرارية ‪ ..‬حتى الكسل يحتاج إلى حب ‪ ...‬ال‬
‫يمكنك أن تقوم بأي شيء دون الحب ‪ ..‬فما يميزنا عن الحيوانات هو‬
‫امتالكنا للحب والمشاعر ‪ ..‬الحب هو ما يختبر إنسانيتنا ومن هنا تبدأ‬
‫انطالقتنا في الحياة ‪ ..‬نبحث عن المشاعر فينا ‪ ..‬أي نوع ال يهم فكل ما‬
‫يهم هو الشيء الذي يبقينا أحياء ‪ ..‬حتى لو كانت تلك المشاعر ألم ومعاناة‬
‫‪ ..‬فنحن البشر نتعشق الشعور باأللم ونجد فيه مرفأ يبقينا موجودين وكأن‬
‫لذة األلم تعجبنا أكثر من لذة السعادة ‪ ..‬نتفنن بالعيش معها لوقت طويل‬
‫بينما السعادة تكون لحظية ‪ ..‬ومع كل هذا ال يمكننا أن ننكر أننا من داخلنا‬
‫نسعى دوما للوصول للسعادة المطلقة ونحارب كثيرا للحصول ولو على‬
‫جزء منها وهنا يكمن التناقض ‪ ..‬لماذا نتفنن العيش باأللم ونتجاوز السعادة‬
‫فورا ثم نعود منتفضين من جديد للبحث عن تلك السعادة التي لن تبقى‬
‫داخلنا سوى لفترة قليلة ‪.‬؟‬
‫هي طبيعة البشر ‪ ..‬ألسنا أكثر الكائنات خطرا ووحشية في هذا الكوكب ‪..‬‬
‫فاإلنسان باختصار منبع الشرور وها هنا اآلن أضيف لكل تلك المعلومات‬
‫أننا نحن البشر مركز اآلالم واألوجاع ‪ ..‬نحن صناع الحزن ‪ ..‬نحن بناة‬
‫القهر والفقدان ‪ ..‬الهجران واألشواق ‪ ..‬نحن المسبب والمتألم ‪ ..‬نحن من‬
‫نصنع السم ونتجرعه ‪...‬‬
‫حكايتي هذه عن الحب بأنواع ليست معتادة ‪ ..‬حب للماضي وتاريخه ‪..‬‬
‫حب للوطن ‪ ..‬تعشق برائحة أرض كانت وما زالت تستمر بالحب‬
‫واألشواق ‪ ..‬حكاية تمزج األلم باألمل ‪ ..‬الماضي بالحاضر ‪ ..‬حين يمتزج‬
‫ما هو عتيق بالتقدم والتكنولوجيا ‪ ..‬حكاية حب لكل ما هو أصيل ‪ ..‬وما‬
‫هو فطري فينا ‪ ..‬ففطرتنا السليمة ال يمكنها أن تتناقض مع التقدم المزعوم‬
‫والحريات الكاذبة ‪...‬‬

‫‪...................................................................................‬‬

‫الفصل األول‬
‫بابتسامة منتصر رفع السماعة على أذنه ‪ ..‬فهذه المكالمة كان ينتظرها منذ‬
‫أكثر من شهر ‪ ..‬لم يكن يعلم أن البحث عن أصحاب الحرف التقليدية‬
‫أصعب من البحث عن إبرة في كومة قش ولكن ال بأس أال يقولون كلما‬
‫تعبت في الوصول لشيء كانت حالوة الوصول أجمل وأحلى وها هو على‬
‫موعد مع تلك الحالوة ‪.‬‬
‫أخرجه الصوت على الطرف األخر وهو يرحب به ويعتذر عن طول فترة‬
‫رده على المكالمة ليقبل اعتذاره بلباقة لطالما عرف بها ليقول للشخص‬
‫على الطرف األخر ‪ :‬سيدي الكريم لقد كنت ابحث عنك منذ مدة وألكون‬
‫صريح فأنا أرغب بشراء سيف من عندك فكما عرفت أنك أفضل شخص‬
‫يصنع السيوف الدمشقية‬
‫همهم الشخص على الهاتف ليجيبه بأسلوب عملي ‪ :‬لقد وصلت للمكان‬
‫الصحيح ‪ ..‬فصنع السيوف الدمشقية هي مهنتي عن أجدادي ‪ ..‬عليك أن‬
‫تعطيني المواصفات التي تطلبها ألصنع لك سيف وخالل أقل من ثالثة‬
‫أشهر سيكون جاهز للشحن عندك في ألمانيا‬
‫اعتدل يوسف في جلسته على الكرسي وشعور داخله يخبره أن هذه‬
‫المكالمة لن تعطي الثمار التي يسعى لقطافها ليجيب الرجل ‪ :‬نعم أنا أرغب‬
‫في شراء سيف وال يهمني الثمن الذي قد تطلبه ولكنني ال أريد سيف‬
‫مصنوع حديثا ‪ ..‬أنا ببساطة أريد شراء أقدم سيف تمتلكه وال أكترث‬
‫بشيء أخر ‪..‬‬
‫صمت ‪ ..‬لدقيقة ثم عدة دقائق ويوسف يشعر بالتوتر وكأنه مقدم على‬
‫امتحان فاصل في حياته ليسمع همهمة الرجل فيترك قلمه الذي كان ينقر به‬
‫على الدفتر الجلدي أمامه ليجيبه ‪ :‬أنا أسف سيد يوسف لن أستطيع أن‬
‫أخدمك بهذا الشأن ‪ ..‬فعائلتي تمتلك سيف قديم واحد يعود تاريخه لثالث‬
‫مئة عام وهذا يعتبر أرث خاص ال يمكننا بيعه أو حتى إخراجه من العائلة‬
‫ولكن يمكنني أن اصنع لك واحد بنفس المواصفات فال يمكن ألحد التفريق‬
‫بينهما ‪.‬‬
‫عض على شفتيه بإحباط ليسأله ‪ :‬وأين يمكنني أن أجد واحد قديم ويمكنني‬
‫شرائه ؟‬
‫أجابه الرجل ‪ :‬العائالت الشامية التي تقتني هذا النوع من السيوف يصعب‬
‫عليها بيعه ولكن مع ظروف الحرب اعتقد أنك يمكن أن تجد احد يبيعه لك‬
‫‪.‬‬
‫أغمض عينيه بألم لكلماته فهو أكثر ما يكره أن يستغل ظروف الناس‬
‫والحرب في سوريا شرعت للناس التخلي عن كل شيء ‪ ..‬أبنائهم وبيوتهم‬
‫ووطنهم واآلن تاريخهم ‪ ..‬ما أكره الحرب وأقساه فهي تجور على البشر‬
‫والحجر ‪ ..‬تقتل الحاضر وتشوه الماضي ليصبح الماضي على شفا النار‬
‫غير معروف هل هو أسوء من قبل أو ربما فيه شعاع من نور يمكنه أن‬
‫يضمد تلك الجروح التي تركها بهؤالء الناس ‪..‬‬
‫تنهد ليقول أخيرا ‪ :‬هل يمكنك أن تساعدني بهذا األمر ‪ ..‬وفي نفس الوقت‬
‫سأطلب منك أن تصنع لي واحد أيضا ؟‬
‫قاطعه الرجل متسائال ‪ :‬أن كنت ستبحث عن سيف قديم لماذا تريد من‬
‫صنع واحد ؟‬
‫ابتسم يوسف وكان الشخص أمامه ويراه لينقل الهاتف إلى أذنه األخرى‬
‫مجيبا ‪ :‬أريد أن أهديه لصديق ألماني ‪ ..‬كم سيكون ثمنه ؟‬
‫رد عليه الرجل ‪ :‬على حسب طلبك ولكن لن يتجاوز العشرين ألف دوالر‬
‫‪ ..‬أن كنت تريد أن أنقش على نصله بيت شعر أو آية قرآنية ولكن بما أنه‬
‫لصديق ألماني أعتقد أن الشعر سيكون أفضل ‪ ..‬وهل ترغب أن يكون‬
‫الغمد مغطى بنقوش من فضة أو ذهب ؟‬
‫تنهد من جديد ليجيبه ‪ :‬أريد األفضل واألجمل وسأترك األمر لك ‪ ..‬ولكن‬
‫أرجوك ال تنسى موضوع السيف القديم ‪..‬‬
‫أغلق المكالمة وهو يستمع لوعد الرجل له بالبحث عن سيف قديم يعود‬
‫لمئات السنين ووعده بأن ينهي له صنع السيف ليرسله له ‪..‬‬
‫لقد شعر منذ البداية انه لن يصل لمراده ‪ ..‬لم يكن يتوقع أن الموضوع معقد‬
‫لهذه الدرجة ‪ ..‬لقد مرت سنوات عمره وهو يقتني التحف الفنية القديمة وال‬
‫سيما العربية ‪ ..‬كبر في هذا البلد األوربي وحمل جنسيته ولكن عشق كل‬
‫ما هو شرقي كان يفوق كل تلك العواطف الباردة التي تغلفه بها هذه‬
‫المدينة ليجد أنه شغوف بتلك األثريات واألنتيكا كما يطلق عليها ‪ ..‬كان‬
‫دوما يحاول شراء كل شيء له عالقة بالشرق أحيانا تكون القطعة أصلية‬
‫ونادرة وأحيانا تكون مقلدة ولكن هذا لم يكفه أبدا عن هذه الهواية ‪ ..‬فبرأيه‬
‫ال يهم وحتى أن كانت التحفة مزورة فمن صنعها مؤكد أنه كان متيم‬
‫بالقطعة األصلية لتخرج معه بكل تلك الدقة والجمال حتى وصل إلى رغبة‬
‫قوية باقتناء سيف دمشقي ولكنه هذه المرة يصر أن يكون قطعة نادرة‬
‫وقديمة جدا ‪ ..‬هو يعلم أن صناع السيوف الدمشقية سوف يبدعون بصنع‬
‫واحد له ولكن رغبته بأن يمسك قطعة كهذه مرت عليها مئات السنين ال‬
‫تعادلها رغبة ‪ ..‬كيف يمكن أن يتساوى شعور بحمل سيف صنع منذ أشهر‬
‫بسيف مرت عليه مئات السنين وما زال متحفظ بهيبته ووقاره ‪ ..‬ذلك‬
‫الوقار الذي جال العالم كله ‪ ..‬وسمعته سبقته إلى كل الممالك القديمة ‪ ..‬تلك‬
‫التحفة الفنية التي زلزلت قلوب الصليبيون ذلك الوقت وسببت لهم الرعب‬
‫لتحاك حوله الحكايا الكثيرة واألساطير المثيرة ‪ ..‬نعم لم يكن يمانع‬
‫بالحصول على قطع مقلدة ومزورة لشغفه بجمالها ولكن بالنسبة للسيف‬
‫فهو يريده قديم قدم تلك الحرفة ‪ ..‬محمل بتلك األسرار التي لم تكشف بعد‬
‫وبقيت محصورة بتلك األسر الشامية التي خبأتها بحذر ومنعت خروجها‬
‫ألحد ليصطفي أهل دمشق بتلك الميزة الفريدة التي تضاف لميزات كثيرة‬
‫ال يمكن أن تكون إال لدمشق وأهلها وعراقتها ‪.‬‬
‫سمع صوت صديقه والذي يعمل لديه وهو أيضا يحمل جذوره العربية‬
‫نفسها ‪ :‬لماذا هذا العبوس يوسف ؟‬
‫رمى الهاتف بال مباالة مجيبا ‪ :‬لقد قال لي الرجل أن لديه سيف وال يمكنه‬
‫بيعه لي ألنه أرث عائلي خاص ‪ ..‬ولكنه سيبحث لي‬
‫قاطعه حسام ‪ :‬وهل هذا سبب للعبوس ‪ ..‬أنت تعلم أن أصحاب هذه المهن‬
‫يعرفون أين يبحثون‬
‫أومأ له يوسف قائال ‪ :‬أنا أعلم ولكنني لم أشعر بثقته ليجد لي السيف ‪ ..‬ال‬
‫يهم سوف انتظر فال أملك سبيل سوى االنتظار ‪.‬‬
‫قال له مقترحا ‪ :‬أنت تعلم أن هناك عدد كبير من الالجئين السوريين هنا ‪..‬‬
‫وكما علمت أن الحكومة األلمانية ترتب لهم مهرجانات يكون فيها عرض‬
‫ألعمالهم اليدوية ‪ ..‬لماذا ال نجرب ؟‬
‫رفع يوسف رأسه نحو صديقه مفسرا كلماته ‪ :‬أنت تقصد أن يكون أحد من‬
‫هذه العائالت هنا ؟‬
‫وافق حسام على ما قاله لينفي يوسف تلك الفكرة فورا ‪ :‬ال أعتقد ‪ ..‬أن‬
‫هؤالء الناس مرتبطين بدمشق كالعروة الوثقى ال يغادروها مهما حدث ‪..‬‬
‫أشعر أن هذه الفكرة غير سليمة‬
‫قاطعه صديقه من جديد ‪ :‬ليس بالضرورة أن يكون صاحب السيف نفسه‬
‫هنا ‪ ..‬ربما أحد أبنائه أو أقاربه ‪ ..‬نحن نحاول ولن نخسر شيء من هذه‬
‫المحاولة ‪ ..‬ثم ال تنسى أن الحرب تهدم أي ارتباط فحتى نحن خرجنا من‬
‫بالدنا رغم تعلقنا بها ‪ ..‬حين نكون بين خيار الوطن أو الحياة جميعنا‬
‫نختار الحياة رغم تغلغل الوطن فينا ‪.‬‬
‫هز يوسف رأسه وفكرة صديقه بدأت تقنعه ليومئ له أخيرا بالموافقة‬
‫واألخر يعده بالبحث عن ذلك الشخص الذين ال يعرفون من هو أو هل هو‬
‫موجود فعال أم أنها مجرد تخمينات ‪.‬‬
‫أغلق باب سيارته وهو يتأمل المباني العالية من حوله لتأتي إليه فكرة‬
‫كانت غائبة تماما عن باله ليمشي بثقة اكتسبها منذ أن غادر بالده وأصبح‬
‫يعيش هنا ‪ ..‬وكأن بالدنا العربية تحكم علينا أن نبقى مطأطئين الرأس‬
‫طالما نحن تحت سقف الوطن وحين نغادره نصبح على مقدرة لرفع رأسنا‬
‫عاليا كما هي أفكارنا التي تتجاوز ذلك السقف الذي اختزلنا تحته ‪ ..‬ابتسم‬
‫مبعدا تلك األفكار عن رأسه ليرحب بالرجل العجوز الذي كان قاصدا‬
‫الذهاب له ‪ ..‬جاره في البناء المقابل الحج أبو محمد رجل سوري لجئ هو‬
‫وأسرته إلى هنا منذ سنة تقريبا ولكنه لم يتعرف عليه إال منذ أشهر قليلة ‪..‬‬
‫لقد عرف أنه استطاع الوصول مع ابنتيه وزوجته عن طريق األمم المتحدة‬
‫التي اختارته كالجئ من األردن وبقي ابنه هناك مع زوجته ‪ ..‬نعم هي‬
‫القوانين تعطي فرصة لبعضهم وتترك البعض األخر ويبدو أن الحج أبو‬
‫محمد قرر أن يستغل هذه الفرصة التي تعتبر بالنسبة للسوريين طبق من‬
‫ذهب فالخروج من أي بلد عربي هو مكسب ‪ ..‬ارتفعت ابتسامة سخرية‬
‫على شفتيه فهذا هو حال العربي نتشدق باألبطال والسمات العربية ولكن‬
‫حين الخطر نجد أننا مشتتين ال أحد منا مستعد أن يتقبل األخر هذا ليس‬
‫لوما على أحد فأن فكرنا قليال سنجد أن كل شخص يحمل لقب عربي على‬
‫أرض عربية فيه من اآلالم والقيود ما يكفيه ‪ ..‬حتى أن أردنا أن ننصر‬
‫بعضنا كشعوب تنتمي لنفس الجذور ال نقدر فكلنا محكومين ‪ ..‬كلنا مكبلين‬
‫وهذا هو السبب األساسي الذي جعل أوروبا هي حلم كل شخص سوري‬
‫هرب من هول الحرب والرعب في بالده ‪ ..‬فال يمكن للمجروح ان يداوي‬
‫جروح مجروح أخر ‪ ..‬كلنا نحمل نفس الوجع مع اختالف درجاته ‪.‬‬
‫رحب به أبو محمد حين فتح الباب ووجده واقفا بعيدا عن فتحة الباب كما‬
‫هي العادات العربية ‪ ..‬وهذا شيء مميز عند العرب احترام حرمة البيوت‬
‫وخصوصيتها ‪ ..‬أن تقف بعيدا عن شق الباب وعيونك في األرض منتظرا‬
‫سماع صوت من يفتح الباب فأن كان صوت رجولي فهذه أذن لك لترفع‬
‫رأسك مبتسما تسأل عن حاجتك ‪..‬بعد تبادل السالمات واألسئلة الروتينية‬
‫عن الصحة والعائلة والوضع العام ‪..‬‬
‫طلب منه الحاج أبو محمد الدخول ليرفض بلباقة فهو لم يعتد بعد على‬
‫االختالط بالناس ليسأله ‪ :‬كنت أرغب بسؤالك عن شيء ما بما أنك سوري‬
‫هز الرجل رأسه بسماحة وهو ينتظر سؤاله ليتابع حسام كالمه ‪ :‬لقد قلت‬
‫لي أن لك ابنتين هنا تدرسان هل لك أن تسألهما إن كان هناك أي مهرجان‬
‫أو مناسبة تطوعية لألعمال اليدوية للسوريين في مدينتنا‬
‫صمت الرجل ويبدو أنه يفكر بكلماته لترتفع ابتسامته مجيبا ‪ :‬اعتقد أن‬
‫ابنتي سالم من تفيدك بهذا األمر فهي تشترك في بعض األحيان بأعمالها‬
‫الصوفية‬
‫ابتلع حسام ريقه بخجل شديد ‪ :‬هل لك بسؤالها فاألمر يخص مديري في‬
‫العمل لذك ‪...‬‬
‫قاطعه جاره بابتسامة متفهمة وهو يربت على كتفه ولكن صوت األقدام‬
‫التي كانت تتجه إليهم أوقفتهما عن الكالم ‪ ..‬لقد كانت صبية يبدو عليها‬
‫التعب بسبب الدرج الذي كانت تصعده ليستمع لصوت أبو محمد خلفه‬
‫يقول مرحبا ‪ :‬هذه صاحبة العالقة قد وصلت يمكنها أن تجيب أفضل مني‬
‫‪..‬‬
‫ليشير إليها فتقترب منهما ‪ :‬تعالي يا سالم األستاذ حسام جارنا يريد أن‬
‫يعرف عن مهرجان الصناعات اليدوية التي تشاركين به‬
‫اقتربت منه لتبدو مالمحها أوضح له ‪ ..‬كانت تبتسم بارتباك في وجهه ‪..‬‬
‫لم يكن يتوقع أن ابنه أبو محمد صبية بمثل هذا العمر لطالما سمع والدها‬
‫يتحدث عنها فاعتقد أنها صغيرة أو بعمر المراهقة ولكن من تقف أمامه‬
‫فتاة ناضجة خجلة تتنهد بصعوبة تحاول أن تخفي لهاثها ترسم ابتسامة‬
‫خجول على شفتيها ‪ ..‬كانت كما سمع طوال حياته عن الشاميات ‪...‬‬
‫ناصعة البياض أو ربما حجابها األبيض من أعطاها ذلك النور الذي يشع‬
‫منها ‪ ..‬ضئيلة الحجم ولكن مع هذا كان النضج واضحا على مالمحها ربما‬
‫تكون في منتصف العشرين أو أكبر قليال ‪..‬‬
‫شعر بأنه أطال النظر لها وهذا بعرف الشوام والعرب عموما يعتبر وقاحة‬
‫ليغض بصره بسرعة لكن حين سمع صوتها عادت نظراته بشكل ال إرادي‬
‫نحوها ‪ ..‬لكنتها الشامية ال تشبه لكنة أبوها لوهلة شعر أنه يستمع إلحدى‬
‫نساء باب الحارة لترتفع ابتسامة خفيفة إلى شفتيه قتلها فورا خجال من‬
‫والدها ليحاول أن يفهم ما تقوله بسبب اختالف اللهجات بينهما ولكن كل‬
‫ما استطاع فهمه هو أن هذا المهرجان سيكون األسبوع القادم‬
‫سعل بحرج ليسألها ‪ :‬أريد أن أعرف هل هناك أشخاص يعرضون أعمال‬
‫يدوية وال اقصد هنا الصوف أو النسيج ‪ ..‬أي شيء له عالقة بالحرف‬
‫اليدوية الحفر على الخشب أو حتى صناعة الخناجر والسيوف ‪ ..‬تلك‬
‫الحرف الشامية القديمة‬
‫أومأت الفتاة له وكـأنها تخبره أنها فهمت ما يقصد لتجيبه ‪ :‬هناك صديقة‬
‫لي تعمل بالموزاييك وبصراحة ال أعرف غيرها أعتقد انها من تبحث عنه‬
‫نظر لها هذه المرة بشكل واضح حتى تالقت أعينهما ألول مرة كانت‬
‫تمتلك عيون خضراء مما زادها جماال ليخاطب نفسه " من قال أن‬
‫الشاميات مختلفات عن كل نساء األرض كان محقا " ليتدارك نفسه بسرعة‬
‫واضعا نظراته باألرض قائال ‪ :‬هل هناك أي مشكلة إن قدمت مع مديري‬
‫في العمل و قدمتينا لهذه الفتاة ؟‬
‫أجابته بسرعة ‪ :‬أبدا ال يوجد هناك أي مشكلة ثم أنها دائما تجيب عن أي‬
‫سؤال يخص تلك الحرف اليدوية ستكون أكثر من سعيدة بالتحدث ألحد‬
‫عنها ‪.‬‬
‫أومأ لها باتفاق بعد أن أخذ عنوان ذلك المهرجان واتفق معها على ساعة‬
‫محددة وبعد شكر عميق لوالدها ووعد بزيارة اخرى تكون لمنزلهم وليس‬
‫فقط بابهم غادر المكان وسالم بقيت تراقبه ‪..‬‬
‫لطالما سمعت والدها وهو يحكي عن جارهم العراقي حسام ‪ ...‬تعرف عليه‬
‫في الجامع ‪ ..‬شاب في مقتبل العمر دائما يراه في صالة المغرب والعشاء‬
‫وذلك بسبب ظروف عمله فال يستطيع إال أن يصلي إال بهذين الوقتين‬
‫جماعة ‪ ..‬تحدث عنه والدها أكثر من مرة كيف لشاب مثله وحيد يحافظ‬
‫على إسالمه صحيح ‪ ..‬لم ينقطع عن الصالة حتى حديثه كان عذب‬
‫ومحترم ‪ ..‬ولكن أن تراه اآلن كان مفاجئ لها ‪ ..‬كان كما قال والدها‬
‫خجول جدا ولبق أيضا ‪ ..‬راقبته حتى اختفى من أمام ناظريه بطوله الفارع‬
‫كنخلة عراقية شامخة ‪ ..‬و سمار سومري يحمل سحر تلك األرض وعبقها‬
‫‪ ..‬كأنه يحمل عراقة العراق وشموخه حتى صوته كان يحمل حزن بلده‬
‫وشجنها ‪..‬‬
‫شعرت بحركة والدها نحو الباب ليتجه إلى الداخل لتتبعه بصمت وصورة‬
‫ذلك الجار تنطبع في عقلها ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫سار مع صديقه بين تلك األكشاك المنتشرة في كل مكان ‪ ..‬كان اإلبداع هو‬
‫عنوان كل ما يروه ‪ ..‬أن كان عمل بالصوف والتطريز أو حتى بالرسم‬
‫وتلك النقوش التي كانت على قطع الزجاج وذلك الشاب الذي يعمل‬
‫بالرسم على الخشب وحرقه ‪ ..‬كان كل شيء جميل ارتفعت ابتسامة تلقائية‬
‫على شفتيه ليقول ‪ :‬أن الشعوب العربية والدة ‪ ..‬رغم كل األسى والقهر‬
‫هناك دائما طريقة لإلبداع ‪ ..‬أنظر حولك لكل هذا الجمال والروعة كيف‬
‫لمثل هذا الشعب أن يدمر ويهجر ‪ ..‬شعب خلق ليبدع ‪.‬‬
‫وافق حسام على كلمات يوسف وهو يبحث عنها بعينيه ‪ ..‬ال يمكنه أن‬
‫ينكر أن جارته لفتت نظره وها هي اآلن عيونه تبحث عنها لترتفع ابتسامته‬
‫حين وجدها ‪ ..‬تجلس بصمت تراقب كل من حولها وبعض من أعمالها‬
‫متناثرة أمامها على الطاولة ‪ ..‬نكز يوسف مشيرا لها ليسأله يوسف ‪ :‬أهذه‬
‫هي جارتك‬
‫أومئ له ليسيرا نحوها ونظرة ماكرة من يوسف لصديقه ولكن دون أي‬
‫تعليق منه لتبتسم لهما سالم حين رأتهما يقفان أمامها لترحب ‪ :‬أهال أستاذ‬
‫حسام‬
‫ابتسم لها حسام وهو يعرفها على صديقه ‪ :‬يوسف الكسواني وهذه اآلنسة‬
‫سالم‬
‫أومأ لها يوسف بترحاب ليسألها مباشرة ‪ :‬هل يمكنك أن تعرفينا على الفتاة‬
‫صاحبة حرفة الدمشقية‬
‫ابتسمت له سالم لتشير على أحد الفتيات القريبات منها لينظر االثنان‬
‫ناحيتها ‪ ..‬كانت تبدو صغيرة بالسن ‪ ,‬ترتب بعض الصناديق الصغيرة‬
‫أمامها دون اكتراث لما حولها ‪ ..‬سارت سالم وقربها يوسف وحسام لتقف‬
‫قرب الفتاة وهي تشير إليهما ‪ :‬كرمل انظر السيد يوسف والسيد حسام من‬
‫يبحثان عن عملك‬
‫رفع يوسف حاجبه وخيبة من األمل تغزو خاليا جسمه لينطق بصوت‬
‫يائس ‪ :‬أنت فلسطينية ؟‬
‫نظرت نحوه لتجيبه باستغراب ‪ :‬ال شامية ولكن لما تسأل ؟‬
‫انتشرت الراحة بنفسه وغادره اإلحباط فورا لكنه أجاب ‪ :‬أن أسمك هو اسم‬
‫مدينة فلسطينية لذلك شعرت بقليل من االستغراب‬
‫ابتسمت له متسائلة ‪ :‬إذن أنت فلسطيني‬
‫أومأ لها بفخر وكأن صفة فلسطيني التي نادرا ما يسمعها تجعل في قلبه‬
‫شعور من االعتزاز فاالنتماء لتلك األرض هو فخر ال يشابهه فخر ‪ ..‬هل‬
‫هناك أجمل من االنتماء ألرض كلها أنبياء أن تتشابك أصولك من حيث‬
‫عرج الرسول حيث كانت أولى القبلتين ليجيبها ‪ :‬أنا فلسطيني وصديقي‬
‫حسام عراقي‬
‫ضحكت بخفة مجيبة ‪ :‬ونحن سوريات وكلنا اجتمعنا في أرض أوربية‬
‫قاطعها حسام ضاحكا ‪ :‬كان يجب أن يأتي معنا بديع فهو لبناني الجنسية‬
‫علت ضحكة الجميع لتعلق سالم ‪ :‬لتكون جامعة للدول العربية ولكن‬
‫جامعة فعالة ليست مثل تلك التي تدعي أنها تمثلنا ‪.‬‬
‫قاطعت كلماتها كرمل تسأل ‪ :‬بماذا يمكنني أن أخدمك سيد يوسف ؟‬
‫تحولت مالمحه فورا من الضحك والمزاح إلى الجدية والتوتر ليسألها ‪ :‬لقد‬
‫الحظت أنك تعملين بالخشب‬
‫قاطعته مصححة ‪ :‬أنه الموزاييك الدمشقي‬
‫رد عليها يوسف بخجل ‪ :‬أسف لقد فقدت اسمه من على لساني‬
‫ليقاطعه حسام يسألها ‪ :‬هل لي أن أسلك عنه فأنا ليس لي معرفة كبيرة‬
‫بالحرف الشامية وقد اثارت فضولي هذه القطع أمامك‬
‫أمسكت علبة صغيرة مزينة بنقوش جميلة تخطف األنظار لتناوله إياها‬
‫مجيبة ‪ :‬هو فن تطعيم الخشب بالخشب حيث أن قطعة واحدة تجمع عدة‬
‫أنواع من الخشب مع اختالف ألوانها وميزاتها فتطعم مع بعضها لنشكل‬
‫هذه القطع التي أمامك وفي بعض األحيان بالصدف وهذا النوع نسميه‬
‫بالتصديف وفيه نطعم الخشب باألصداف أما هذه القطعة بين يديك فهي‬
‫مطعمة بالخشب فقط‬
‫راقب العلبة بين يديه متقنة الصنع مبهرة يندمج فيها عدة ألوان غامقة‬
‫وفاتحة ولون أصفر وأخر قريب من األبيض لترسم نموذج مميز بأشكال‬
‫هندسية دقيقة ‪ ..‬ألوانها جميلة تحمل أصالة دمشق وتاريخها ‪ ..‬كان‬
‫مبهور جدا وكرمل مبتسمة بسعادة فكيف لها أال تكون سعيدة وهي تراقب‬
‫نظرات االنبهار في وجوه من يحمل قطعها ‪ ..‬لقد عشقت هذه الفنون منذ‬
‫الصغر ‪ ..‬من المسلسالت الشامية القديمة حيث كان كل شيء فيها قديم و‬
‫اصيل لتكبر وتقرر احتراف العمل بها وبالفعل استطاعت ان تنجح بهذا‬
‫العمل رغم كل الصعوبات التي واجهتها لتشاء االقدار وتأتي الحرب وتقتل‬
‫األحالم لتقرر أن تحمل هذه الحرفة وعشقها وتغادر بلدها إلى هنا ‪ ..‬حيث‬
‫التقدم والتكنولوجيا حيث تخلو هذه البالد من اإلبداع التاريخي المستمر‬
‫وعواطف الماضي ‪.‬‬
‫اقترب حسام من الطاولة أمامها ليختر بعض األعمال يحدثها ‪ :‬أرغب‬
‫بشراء البعض منها ‪..‬‬
‫لم تجبه لتتركه يختار براحته ويوسف يسألها ‪ :‬بصراحة أنا هنا السألك عن‬
‫حرفة دمشقية أخرى ال أعلم أن كان لديك أي معلومات عنها ؟‬
‫رفعت حاجبها نحوه تنتظره أن يكمل ليتابع ‪ :‬أريد أن أعرف عن السيف‬
‫الدمشقي‬
‫ابتسمت بثقة لتقول ‪ :‬طبعا فمن لم يسمع بعبارة سيف العرب حرا ال يهان‬
‫اقترب منها خطوة وعالمات السعادة ترتسم على محياه أخيرا قائال ‪ :‬إذن‬
‫لديك القدر الكافي من المعلومات عنه‬
‫قاطعته سالم متسائلة ‪ :‬هل هذه العبارة قيلت في حق السيف الدمشقي ؟‬
‫لطالما استمعت لها ولكن لم أكن أعرف أنها تقصد سيوف دمشق‬
‫أومأت لها كرمل مجيبة ‪ :‬أنها عبارة صالح الدين األيوبي وكان معروف‬
‫استخدامه للسيف الدمشقي كسالح له حتى أنه قالها وهو يقطع قضيبين من‬
‫حديد بسيفه‬
‫توقف حسام عن البحث بين القطع وقد شده الحديث الدائر بينهم ليسألها ‪:‬‬
‫يقطع قضيب من حديد ؟‬
‫أجابته بثقة ‪ :‬لقد قيل أيضا انه كان يقطع الشعرة لنصفين أن سقطت على‬
‫حده‬
‫ارتسمت الدهشة على وجوه الجميع لتتابع كالمها ‪ :‬لطالما عرف السيف‬
‫الدمشقي بقوته وأصالته ولكن أكثر ما كان يميزه هو السر الخفي في‬
‫صنعه فقد كان شيء غريب على الناس في ذلك الوقت وال سيما خصائصه‬
‫الفريدة والمميزة التي جعلت منه أقوى األسلحة وأشدها قوة حتى أنه كان‬
‫يمثل رعبا للصليبين ونسجوا كثيرا من األساطير حوله وقد كان سببا من‬
‫أسباب خسارة الحمالت الصليبية في ذلك الوقت‬
‫تأملها يوسف المصدوم من كم المعلومات التي تمتلكها لقد كان يعرف‬
‫شهرة السيف ولكنه اعتقد أن شهرته أتت من شكله وقوته ولم يكن يعرف‬
‫أن له حكايات وخبايا كثيرة ‪ ..‬لطالما سمع أبوه يتغنى بصالح الدين فاتح‬
‫القدس وأنه كان يحمل سيف دمشقي متعلال ذلك بعشقه ألمه السورية فقد‬
‫كان يقول لها سيوفكم كانت سبب رئيسي النتصار المسلمين وفتح بيت‬
‫المقدس على يد صالح الدين ‪ ..‬ومن هنا جاء عشقه ورغبته باقتناء سيف‬
‫دمشقي من أجل أحياء حب أبيه لهذا السيف وتغزله بأمه وهو يحكي تلك‬
‫القصة ‪..‬لذلك قرر البحث عن أقدم سيف واقتنائه وكأنه بذلك يوشم عشق‬
‫أبويه بذكرى خالدة لطالما كانت تتردد في بيتهم ‪.‬‬
‫قاطعت كرمل أفكاره متسائلة ‪ :‬ولكن ماذا يريد السيد يوسف أن يعرف عنه‬
‫؟‬
‫ابتلع ريقه يحاول أن يمحو تلك الذكريات من مخيلته حاليا ليجيبها ‪ :‬أريد‬
‫شراء واحد فهل تعرفين أحد من أصحاب تلك السيوف بما أن تعملين بنفس‬
‫الدائرة تقريبا ؟‬
‫عضت شفتها بتفكير لتجيبه ‪ :‬أنا أعلم أنه في دمشق القديمة هناك عدة‬
‫ورش ما زالت تصنع تلك السيوف‬
‫قاطعها فورا ‪ :‬ال أريد صنع واحد أرغب بواحد قديم مرت عليه مئات‬
‫السنين‬
‫رفعت حاجبها له باستغراب لم يدم لثوان لتجيبه بلباقة ‪ :‬أنا ال أعرف ولكن‬
‫أعتقد أن أمي ممكن أن تساعدك فهي تعلم أصحاب تلك الحرف وعائالتهم‬
‫أكثر مني‬
‫مد يده ليخرج بطاقة يعطيها لها ‪ :‬سأكون اكثر من شاكرا لك أن ساعديني‬
‫بهذا األمر‪ ..‬هذه بطاقة عملي وفيها رقم هاتفي يمكنك التواصل معي فور‬
‫حصولك على أي معلومة‬
‫أمسكت البطاقة من بين أصابعه لتخفيها بحقيبتها بوعد منها بالمساعدة‬
‫قريبا‬
‫انتقلت نظراته إلى صديقه حسام الذي عادت نظراته إلى أعمال كرمل‬
‫فيختار عدة قطعة منها نالت استحسانه ليبتاعها منها بسعادة غامرة ‪..‬‬
‫كانت تراقب هي وسالم ذهاب الرجالن لتعلق سالم فور ابتعادهما ‪ :‬هل‬
‫حقا ستساعديه ؟‬
‫رفعت كرمل رأسها لصديقتها ‪ :‬بالطبع ‪ ..‬ليس من عادتي خذالن أحد‬
‫فكرت رفيقتها لثوان لتقول أخيرا ‪ :‬ال أعتقد أن أحد سيقبل بيعه سيف قديم‬
‫‪ ..‬فهذا يعتبر أرث حضاري وأنت أكثر من يعلم أن الشوام لديهم تمسك‬
‫غريب بمثل تلك األمور فهم يعتقدون أنها رمز لعائالتهم ‪ ..‬من يفقدها فقد‬
‫ما يميز أسرته‬
‫همهمت كرمل توافق على ما تقوله صديقتها ‪ ..‬فأهل الشام أكثر الناس‬
‫ارتباطا بكل ما هو قديم وتمسكا به ولكن مع الحرب كل شيء تغير ‪..‬‬
‫نفوس الناس ومعتقداتهم حتى مبادئهم اختلفت ‪ ..‬لتجيبها ‪ :‬كل ما علي هو‬
‫أن أعرف له أصحاب تلك السيوف واألمر متروك له وألصحابها ربما‬
‫بعضهم فقد شغفه بالعائلة وارتباطها وال سيما أن سعر السيف الواحد يمكن‬
‫أن ينتشل عائلة كاملة ويغير وضعها من حال لحال ‪.‬‬
‫تنهدت سالم بوجع معلقة ‪ :‬تبا للحرب التي تقودنا لبيع تاريخنا وحضارتنا‬
‫‪ ..‬تبا للحرب التي أيقظت أسوء ما فينا وهو تخلينا على أخر شيء قد‬
‫يربطنا بعراقة الشام وجذورها ‪.‬‬
‫‪....................................................................‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫أن تكون إنسان مهجر عن بلدك بيتك أرضك ‪ .‬كان بالنسبة لها مجرد‬
‫قصائد تستمع لها طوال فترتها الدراسية ‪ ..‬قصائد أشواق وحنين لكل‬
‫مغترب حتى أتى الوقت وأصبحت هي المغتربة ولكنها ال تقدر أن تنظم‬
‫قصيدة تعبر عما يدور داخلها ‪ ..‬بل داخل الماليين من أبناء شعبها ‪ ..‬لقد‬
‫أمضت أربع سنوات في ألمانيا ترثي حالها وحال أبناء جنسيتها ولكن‬
‫البارحة حين رأت يوسف وحسام شعرت أن هذا الوجع لم يكن اختصار‬
‫على السوريين بل على العرب عموما مع فارق بسيط أنهم اقدم منها في‬
‫هذا المجال ‪ ..‬فكرت كثيرا هل ينظر الناس إلى وجعهم كما كانت هي‬
‫وزميلتها يفعلن ‪ ..‬مجرد خبر على الشاشة أو قصيدة حنين في فرض‬
‫دراسي ينتهي تأثيرها مع انتهاء وقت عرضها ‪ ..‬لماذا تلوم العرب وهم‬
‫من تعاملوا بنفس الطريقة مع األلم الفلسطيني والعراقي ‪ ..‬كانوا‬
‫متضامنين بشكل كبير ‪ ..‬يدعون لهم ‪ ..‬يتعاطفون معهم ولكن لم يكن بيدهم‬
‫فعل شي ء ‪ ..‬فهم في النهاية شعب عربي والشعوب العربية ليس لها‬
‫السلطة لفعل ما تريد ‪ ..‬وهذا ما يحدث اآلن الحكومات من تجور على‬
‫الناس والشعوب تحاول أن تعيش بأي طريقة ممكنة ‪.‬‬
‫تنهدت وكل هذه األفكار تؤلمها ‪ ..‬ال تريد أن تفكر كثيرا ‪ ..‬فل تنظر‬
‫للنصف المشرق من الصورة ‪ ..‬استطاعت أن تستقر أخيرا مع والدتها هنا‬
‫‪ ..‬تعلمت اللغة األلمانية وها هي اآلن تعمل بشيء تحبه ‪ ..‬رغم أنها كانت‬
‫تحبذ أن تنقل شغفها بحرفة الموزاييك ألشخاص من بلدها ولكن ال بأس‬
‫فعملها في مركز االحتياجات الخاصة سهل جدا ‪ ..‬والناس هنا لطيفة ‪..‬‬
‫مجرد ساعات قليلة في اليوم تدرس هؤالء المتألمين األلمان الحرفة‬
‫الشامية العريقة ‪ ..‬تتغنى بالشام وتحكي لهم عنها ‪..‬تصورها لهم كقطعة‬
‫من الجنة وهي كذلك فعال فهناك حيث تجتمع األضداد ‪..‬أقدم عاصمة‬
‫مأهولة بالتاريخ ‪ ..‬تضج باألصالة والجمال مع تقدم البشر وامتزاج‬
‫حاضرهم مع ذلك الماضي العريق ‪ ..‬ومنها تلك الحرف الدمشقية التي‬
‫بقيت محافظة على أسرارها وعملها اليدوي ‪ ..‬فكانت مزيج غريب جدا ‪..‬‬
‫تبقي ماضيك شامخ كالجبل وتعيش الحاضر بتقدمه لتبني المستقبل ‪..‬‬
‫مستقبل لآلن مجهول ‪ ..‬ربما يكون مدمر ولكنها دوما تحاول أن تبتعد عن‬
‫هذه النقطة وهذا التشاؤم ‪ ..‬الدمار ما هي إال مرحلة يجب أن نقطع بها ‪..‬‬
‫فكل الحضارات القديمة بنيت وازدهرت بعد دمار وحروب طويلة ولكنها‬
‫في النهاية تركت أثر بقي ليومنا هذا ‪ ..‬لذلك قررت أن تتجاوز أمر الحرب‬
‫ولتجعل حديثها دوما عن جمال دمشق ‪ ..‬دمشق بعيون نزار قباني فقط‬
‫وعيونها هي أيضا ‪ ..‬فلتجعل األلمان يشتاقون لزيارتها ‪ ..‬فمديتنا تختلف‬
‫عن مدنهم التي ال تحمل تاريخ دمشق وسنين عمرها الطويلة ‪ ..‬مدننا‬
‫العربية رغم كل أوجاعها اآلن ولكنها تحمل الكثير من المفاخر بين طيات‬
‫حاراتها ‪ ..‬مدن تعبق بالتاريخ والجمال ‪ ..‬تركت لنا اإلبداع ‪ ..‬والحضارة‬
‫‪ ..‬أشياء ال تعتقد أن األوربيين قد عاشوها من قبل ‪ ...‬وهذا ما تراه في‬
‫عيونهم حين تتكلم عن دمشق القديمة التي تعانق دمشق الجديدة بأبنيتها‬
‫وأسواقها ‪ ..‬لذلك قررت أن توسع عباراتها لتشمل البالد العربية كلها ‪ ..‬ألم‬
‫يصدع األوربيين رؤوسنا بتقدمهم والنهضة التي حدثت في بالدهم وال‬
‫سيما األلمان الذين يحيكون األساطير عن قوتهم بعد الحرب العالمية وأنهم‬
‫أصحاب فكر وعمل ‪ ..‬وهي اآلن تحاربهم برصاصها الناعم ‪ ..‬هي ال‬
‫تنكر أنها تعيش بينهم في أمان ولكن عربيتها تنتصر على أمانها ‪ ..‬إن‬
‫كانت بالدكم أمنة اليوم فنحن بناة الحضارة ونحن من صنع التاريخ وربما‬
‫كنا السبب األساسي لما وصلت إليه اليوم ‪ .‬حكت لهم عن بغداد الجميلة‬
‫أرض الحضارات وعن فلسطين أرض الرسل أما مصر فكان حديثها طول‬
‫وهي أرض الكنوز ‪ ..‬الفراعنة وإنجازاتهم ‪ ..‬هناك حيث تعيش بين إرث‬
‫الفراعنة وأهرامهم ومعابدهم لتكون لديك متحف طبيعي من صنع البشر ‪..‬‬
‫ترى فيه اإلعجاز والجمال ‪..‬‬
‫في كل بلد من بالدنا حكاية خاصة ‪ ..‬لكل منها خاصة مختلفة عن غيرها‬
‫‪ ..‬وكلهم يجتمعون في أرضنا ‪ ..‬من أكاد لسومر حتى األشوريين‬
‫والمصريين القدماء ‪ ..‬هناك حيث كل شبر من أرضنا له حكاية خاصة‬
‫وأسرار ما زالت مدفونة ‪..‬‬
‫كانت تحول عملها من تعليمهم حرفة يدوية ولملئ فراغهم لدرس عن‬
‫التاريخ ‪ ..‬تاريخ خصت به العرب فقط وتحاول دائما أن تبتعد عن بالدهم‬
‫وتاريخها ‪ ..‬حتى متاحفهم مليئة بما خبئت أرضنا ‪ ..‬فمسلة حمورابي أول‬
‫من وضع الشريعة في األرض تزين متحف فرنسا ‪ ..‬ورأس نفرتيتي من‬
‫أكثر القطع الحجرية إتقان شامخ في ألمانيا ‪ ..‬وبوابة عشتار بألوانها‬
‫الجذابة التي تأسر اللب نقلت أللمانيا ‪ ..‬وهذا حجر الرشيد الذي اختارته‬
‫بريطانيا ليعطي هيبة ووقار لتلك البلد والعديد من أثارانا التي تشتت في‬
‫متاحف الدول األوربية تماما كما يحدث معهم اآلن ‪ ..‬وكأن هذه الدول لم‬
‫تكتفي بخطف ماضينا بل تحاول أن تخطف حاضرنا لتضمنا لها فتصبح‬
‫المتحكم في مستقبلنا ‪.‬‬
‫شعرت بخطوات أحدهم يقترب منها ‪..‬لترفع رأسها لتتعرف عن من قطع‬
‫استراحتها ‪ ..‬ابتسمت تلقائيا بوجه سالم ‪ ..‬تلك البنت الرقيقة كبتالت‬
‫الوردة ‪ ..‬لطالما شعرت أن اسمها يليق بها ‪ ..‬فهي لم تخلق للحرب واأللم‬
‫بل للسالم والهدوء ‪ ..‬تمتلك طبعا هادئ خجول ‪ ..‬يمتاز بالرقة عكسها‬
‫فلطالما عرفت بقوتها ودفاعها عن قناعاتها بوجه من كان ‪..‬‬
‫جلست سالم قربها متسائلة ‪ :‬لماذا تبقين وحدك دائما ؟‬
‫ابتسمت لها كرمل وبهدوء أصبح صفتها مؤخرا ‪ :‬أنها فترة استراحة لذلك‬
‫أفضل االبتعاد عن الجميع ‪ ..‬ثم تعلمين ليس لي صديق هنا سواك‬
‫ارتفعت ابتسامة سالم لتقترب منها بمكر لتتابع كرمل حديثها ‪ :‬أعرف هذه‬
‫النظرة جيدا ‪ ..‬هيا قولي ماذا تريدين مني ؟‬
‫علت ضحكة صديقتها فها هي أصبحت تعرفها رغم أن فترة صداقتهم لم‬
‫تتجاوز العام ولكنهما أصبحتا مقربتان سريعا وال سيما أنهما تسكنان في‬
‫نفس التجمع السكني لتجيبها ‪ :‬لقد سمعت أن هناك ندوة ليوتيوبر في فندق‬
‫قريب من هنا ‪ ..‬وأريد ان أحضر وكما تعلمين أبي سيرفض إال أذا كنت‬
‫معي‬
‫اعترضت كرمل بسرعة ‪ :‬بالطبع أرفض ‪ ..‬أنت تعلمين أنني أكره هؤالء‬
‫الناس وأبغض وجودهم في المجتمع وأنت تريدين أن اذهب لحضور تجمع‬
‫لهم ‪ ..‬أأنت مجنونة صديقتي ؟‬
‫اعترضت سالم وهي تسألها ‪ :‬ال أعلم سبب رفضك لهم‬
‫قاطعتها مجيبة ‪ :‬أنهم يصدرون صورة خاطئة عن مجتمعنا ‪..‬وكأننا شعب‬
‫غير مثقف ‪ ..‬شعب السخف يسيطر عليه إضافة إلى كل ذلك هم يروجون‬
‫ألشياء مرفوضة دينيا ومجتمعيا ‪ ..‬لذلك أعتبر أن ظاهرة اليوتيوبر أخطر‬
‫من الحرب علينا ‪.‬‬
‫أمسكت سالم يديها بترجي ‪ :‬أرجوك كرمل ‪ ..‬ثم أن هذا اليوتيوبر الذي‬
‫سأذهب من أجله ينتقد هذه العادات وهو فقط ناقد بسخرية ‪ ..‬لذلك اطمئني‬
‫لن يكون شخص فارغ العقل والمنطق ‪.‬‬
‫صمتت لعدة ثوان وكأنها تفكر بكلمات صديقتها لتنظر لها ونظرة الرجاء‬
‫ما زالت تسكن عينيها ‪ ..‬لتتنهد بقلة حيلة ‪ :‬حسنا موافقة ‪..‬لن تكون أكثر‬
‫من ساعة بكل األحوال وبعد تضحيتي هذه سيكون الغداء على حسابك ؟‬
‫أومأت لها سالم بسعادة وكأنها اكتسبت كنز بموافقتها ‪.‬‬
‫‪........................‬‬
‫ال تعلم لما هي هنا وكأنها ترافق فتاة صغيرة لحفل مدرسي ‪ ..‬الشيء‬
‫الوحيد الذي ال يعجبها بسالم وهو هوسها بظاهرة اليوتيوبر التي ظهرت‬
‫في السنوات األخيرة ‪ ..‬ال تنكر أنها شاهدت عدة مقاطع لهم معها ولكن ما‬
‫هذا ؟ شباب وبنات في سنواتهم األولى من الحياة ‪ ..‬تلك السنين التي‬
‫تعتبر أهم وقت لتضع أساس لشخصيتك ولكن أساسهم ماذا كان ‪ ..‬مجرد‬
‫مقاطع سخيفة وأحيانا غبية ‪ ..‬ال تنم إال عن فراغ عاطفي وفراغ نفسي‬
‫وحسي يعيشه هؤالء الشباب ‪ ..‬وكأن الحرب وألمها النفسي ال يكفينا ليأتي‬
‫هؤالء ويشوهوا حياتنا بتلك المقاطع التي يطلقون عليها الترند ‪ ..‬مقالب‬
‫وتحديات تتذكر أنها كانت تلعبها مع أطفال الحارة في صغرها ولكنها اآلن‬
‫أصبحت محتوى مهم ويجعل الشخص من المشاهير والشخصيات العامة ‪..‬‬
‫وما أقبح المجتمع التي تحكمه شخصيات عامة ال تمتاز إال بالغباء‬
‫والضحك على الذقون ‪..‬‬
‫تنهدت بنفاذ صبر وهي تراقب صالة الفندق التي تم حجزه من قبل هؤالء‬
‫الشباب تحت شعار دعونا نجتمع في المهجر ‪ ..‬ضحكت باستخفاف وهي‬
‫تراقب كل هذه الفخامة والمبالغة بكل شيء ‪ ..‬لتردد جملة والدتها في عقلها‬
‫‪ ..‬كنا نعيب البذخ ونعتبره حرام لنذكر أنفسنا وأطفالنا ال تبالغوا هناك‬
‫أطفال تموت من الجوع ‪ ..‬هناك أناس تتمنى اللقمة التي تتكبرون عليها‬
‫ولكن اآلن أصبحت هذه المبالغة هي سمة المجتمع والبذخ هو صفة الناس‬
‫الطبيعية ‪.‬‬
‫شعرت بيد سالم تشدها لتمشي معها تجلس قربها في المكان الذي حجزته‬
‫سالم منذ قليل ‪ ..‬لتبدأ فعاليتهم بدخول عدد من الشباب والفتيات ‪..‬وجوه‬
‫بعضهم مألوفة والبعض األخر لم تتعرف عليهم ‪ ..‬راقبت سالم التي كانت‬
‫تستمع لكالم أحد الشبان عن أهمية الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل‬
‫التي اصبحت هي لغة العصر ‪ ..‬هي ال تنكر ما قاله ولكن هذا ال يعجبها‬
‫حقيقة ‪ ..‬كيف لنا ان نبرر استخدامنا الخاطئ بأنه لغة العصر ووسيلة‬
‫للتسلية وملئ الفراغ ‪ .‬نقلت بصرها للفتاة التي يبدو أنها من ستتحدث قريبا‬
‫ليشدها لباسها وشكلها وال سيما شعرها المبعثر بفوضوية وبنطالها الممزق‬
‫بمبالغة حتى أنها تضع حلقة في أنفها ‪ ..‬اقتربت قليال من سالم تسألها‬
‫بهمس ‪ :‬من هذه الفتاة ؟‬
‫الحظت امتعاض صديقتها وهي تنظر مكان ما أشارت لها كرمل لتجيبها ‪:‬‬
‫هذه ندى وهي أيضا لديها قناة على اليوتيوب ولكن شهرتها أتت من خلعها‬
‫للحجاب ‪ ..‬فقط قررت التخلي عنه بمقطع قامت بتحميله على حسابها‬
‫ليصبح عدد المشاهدات لديها بالماليين ويحدث ضجة كبيرة بين مؤيد‬
‫ومعارض ‪ ..‬أنا ال أطيقها أفكارها غريبة واألغرب هو عدد المتأثرين بها‬
‫فهم يزيدون ال ينقصون‬
‫زمت شفتيها بتفهم وهي تتأمل الفتاة التي مشت أمام الشاب الذي كان‬
‫يتحدث منذ قليل بدالل ال يتناسب أبدا مع شكلها لتقف خلف مكبر الصوت‬
‫وهي ترحب بالجميع لتبدأ كالمها عن الحجاب وعن مساوئه وأننا مكبلون‬
‫به ‪ ..‬وأنها شعرت بأنها إنسانة عندما خلعته ‪ ..‬وكل فتاة سورية وعربية‬
‫تطالب بحريتها ومساواتها مع الرجل يجب أن تتحرر من قطعة القماش‬
‫هذه ‪ ..‬فالحجاب ال شيء سوى حاجز يقف أمام أنوثتنا وحقوقنا المسلوبة‬
‫‪ ..‬أمر ليس له عالقة بالدين فالدين في القلب طالما قلوبنا صافية وال تؤذي‬
‫احد فهذا يكفي قطعة لباس لن تحدد قوة أيمانكم أو تقواه ‪ ..‬ثم أنه رمز‬
‫تخلف المرأة العربية فالمجتمع األوربي ينظر إلينا كمتخلفات وغير‬
‫منفتحات ‪ ..‬كل هذه وغيرها من السلبيات له لذلك علينا أن نتخذ الخطوة‬
‫الصحيحة نحو حريتنا وخالصنا من مجتمع عفن يرسخ رجعيتنا ‪ ..‬كانت‬
‫تتكلم وكأنها تتشاجر مع أحدهم ‪ ..‬اندفاعية جدا وهي بدأت تضجر من‬
‫كالمها وسمومها التي ترميها بكل بساطة ‪..‬‬
‫نظرت حولها لترى جموع الفتيات يبدون بسن المراهقة أو بداية العشرين‬
‫من عمرهم معظمهن محجبات والبعض منهن يومئ بالموافقة على‬
‫هجومها لتصل ألقسى مراحل غضبها وشيء ما داخلها يخبرها أنها يجب‬
‫أن تتكلم ‪ ..‬ألم تتشدق بالحرية منذ قليل لتتخذ قرارها أخيرا وهي ترفع‬
‫يدها والفتاة التي تدعى ندى تبتسم بانتصار ظنا منها أن كرمل ستكون‬
‫مؤيدة لها لتسمح لها بالكالم بكل ترحاب وهنا كانت ابتسامة كرمل قد علت‬
‫لتقول لها ‪ :‬أنا أسفة على المقاطعة ولكن كالمك عن الحريات شدني كثيرا‬
‫وقد علمت من صديقتي أنك كنت محجبة وخلعت حجابك أليس كذلك ؟‬
‫أومأت لها الفتاة بنعم لتسألها ‪ :‬أال تعرفين من أنا ؟‬
‫قاطعتها كرمل بثقة ‪ :‬مطلقا فأنا ال اهتم بالمحتوى الذي تقدمونه جميعا مع‬
‫احترامي للبعض منكم ولكن جئت لهنا مضطرة وبما أني هنا وسمعت‬
‫حديثك فأنا أرغب بحوار ودي معك واعتقد أنك لن تمانعي بما أنك تطالبي‬
‫بالحرية والمساواة ؟‬
‫سمحت لها الفتاة بالتحدث لتتابع كرمل كالمها ‪ :‬لقد قلت أن خلعك لحجابك‬
‫أمر كنت بأمس الحاجة له وأنك لم تشعري بأنك إنسانة حتى تخليت عنه ‪..‬‬
‫ولكن أريد أعرف لماذا لبسته من األصل إذن أن لم تكوني مقتنعة أنه‬
‫فرض على كل مسلمة ؟‬
‫ابتسمت الفتاة بمكر مجيبة لها ‪ :‬من قال أن الحجاب فرض ‪ ..‬دعينا نكون‬
‫واضحين الحجاب ليس له أي عالقة بالدين وهو فقط سلطة مجتمع شرقي‬
‫فرضت علينا تحت غطاء الدين ‪.‬‬
‫همهمت كرمل وهي تستمع لكلماتها بتفهم لتجيبها ‪ :‬اعتقد أنك لم تدرسي‬
‫الفقه وأنا أيضا لم أدرسه ‪ ..‬واعتقد أيضا أنه ال يحق ألمثالك أن يفتي بمثل‬
‫هذا الوضع‬
‫قاطعتها ندى بسرعة ‪ :‬الدين في القلب وليس له عالقة بأشكالنا ولباسنا ثم‬
‫الدين بالنسبة لي معاملة ال أكثر وال أقل‬
‫ابتسمت لها كرمل بخبث لتجيبها ‪ :‬حسنا ‪ ..‬لن أناقشك بشيء أنت مقتنعة به‬
‫أو بفروضه أو حتى بأركانه ‪ ..‬سوف أسألك بشيء منذ بدأت الكالم وأنت‬
‫تتغني به وهو الحرية ‪ ..‬ألست من يدعم حرية الرأي والفكر والتعبير ؟‬
‫هزت الفتاة رأسها بثقة لتجيبها ‪ :‬أنا مع الحرية حتى لو كانت ال تتناسب‬
‫مع الدين ‪ ..‬من يرغب بترك ديانته ألنه يرى نفسه مكبل بها فهذا حق له‬
‫قاطعتها مرة أخرى ‪ :‬لقد اتفقنا أننا لن نخوض بالدين ‪ ..‬دعينا نتناقش‬
‫بالحرية ‪ ..‬أليس لباسي هو حريتي كما هو حريتك ‪ ..‬لقد قلت أنك تحررت‬
‫عندما خلعت الحجاب وأن من ترتديه متخلفة مقموعة ‪ ..‬أال تناقضين نفسك‬
‫بنفسك أنستي ‪ ..‬حسنا لك الحق بخلعه ولكن ليس لديك الحق بالهجوم على‬
‫من ترتديه فهذا حق لنا وحرية لنا كما تملكين الحق والتعبير ‪.‬‬
‫صمتت الفتاة وكرمل تنتظر إجابتها ولكن صمتها لم يطل لتقول لها باندفاع‬
‫‪ :‬بسبب هذه القطعة التي تضعينها على رأسك اتهمنا أننا رجعيون‬
‫وإرهابيون ‪ ..‬بسبب حجابك وحجاب أمثالك المجتمعات المتقدمة تنظر لنا‬
‫بنظرة تخلف وازدراء‬
‫قاطعتها مرة أخرى بصوت ثابت وحاسم ‪ :‬إن كان الغرب المتحضر ذو‬
‫القيم واألخالق وثقافة تقبل األخر يراني متخلفة ورجعية بسبب قطعة‬
‫القماش هذه فهنا آسفة أن أقول لك أنهم المتخلفين ولست أنا ‪ ..‬هم‬
‫مجتمعات تطالب بالحرية ‪ .‬الحرية باختيار ما أريد ‪ ..‬طريقة عيشي ‪..‬‬
‫ديني ‪ ..‬لباسي ‪ ..‬لذلك أنا حرة في ما أرتدي أو أخلع وهم عليهم تقبلي كما‬
‫أنا طالما أنني ال أؤذي أحد ال أن أتنازل عن شيء تربيت عليه وديني‬
‫يأمرني به ألبدو متحضرة ذات عقل بينهم ‪.‬‬
‫صرخت الفتاة معترضة ‪ :‬أن لباسكم هذا يجعلهم يكرهوننا‬
‫اعتدلت كرمل في جلستها لتضع قدم فوق أخرى بكل ثقة مجيبة بهدوء ‪:‬‬
‫أمثالك من يجعلهم يكرهوننا ‪ ..‬هل تعتقدين أنك حين خلعتي حجابك‬
‫وأصبحت متحررة بلباسك ودافعت عن أفكارهم ومبادئ حياتهم ضد أبناء‬
‫بلدك وأناس من نفس دينك ومجتمعك سوف يصفقون لك ‪ ..‬أبدا عزيزتي‬
‫أنهم يضحكون عليك ‪ ..‬يرون كم أنت متلونة وسخيفة ‪ ..‬أنهم أكثر الناس‬
‫تحررا نعم ولكنهم أكثر الناس تمسكا بنظراتهم وأرائهم ودعيني أخبرك هم‬
‫ال ينظرون لنا على أساس حجابنا فراهبات الكنائس لديهم كلهن يرتدين‬
‫الحجاب ولباس فضفاض ‪ ..‬نظرتهم لنا تأتي بسبب أناس أمثالك متعطشة‬
‫النتزاع قشرتها بسهولة ‪ ..‬تستهزئ بدينها وتشتم من يخالفها ‪..‬تقدس كل ما‬
‫يفعله الغرب دون تفكير أو حتى تكوين شخصية ورأي خاص بها ‪.‬‬
‫كان جميع من في القاعة صامت وكأن ال أحد يجرأ أن يتدخل بالحرب‬
‫الدائرة بين الفتاتان وتلك المدعوة ندى أصبح وجهها محمر من الغضب‬
‫لتصرخ بها قائلة ‪ :‬انظر لشكلك هذا ‪ ..‬هل يعتبر لباسك بهذا الشكل الئق‬
‫لمجتمع كالمجتمع األلماني ‪..‬‬
‫نظرت كرمل لنفسها لثوان ثم للفتاة الغاضبة أمامها لتجيبها ‪ :‬أنا حرة‬
‫أرتدي ما أريد وإن كان األمر كهذا فأنا أعتقد أن لباسك عبارة عن كارثة‬
‫بشرية حقيقة مع شعرك الذي يبدو انه تعرض لصعقة كهربائية ‪ ..‬لذلك‬
‫عزيزتي تعلمي أن تتقبلي الناس كما هم ‪..‬وطريقة لباس أحدهم ليس لها‬
‫عالقة بعقل هذا الشخص ‪..‬‬
‫صرخت بها الفتاة ‪ :‬اخرج قبل أن أطلب من األمن طردك أو أن أصل‬
‫لمرحلة رفع دعوة ضدك فأنت ال تعلمين ان هناك العديد من المنظمات‬
‫النسوية تدعمني وال يحق ألحد مهاجمتي‬
‫ابتسمت لها كرمل بشماتة لتقف متجهة نحو الباب وسالم ترافقها تحاول‬
‫كتم ضحكاتها لكن كرمل وقفت عند باب الصالة لتقول بصوت مسموع‬
‫للجميع ‪ :‬ال تدعي الحرية قبل أن تفهمي معناها‬
‫لتسمع ضحك ات الجميع تتردد من خلفها وهي تتابع سيرها بعيدا عن باب‬
‫الصالة نحو ردهة الفندق لتتعالى ضحكات سالم من خلفها ‪ :‬نصر محقق‬
‫التفت لها بغضب ‪ :‬لتوقفي تفكيرك بمثل هؤالء الناس ‪ ..‬أنهم كالقطيع حقا‬
‫همهم في الحياة التغني بحياة األوربيين وحريتهم ولكنهم في الحقيقة ال‬
‫يملكون واحد بالمئة من أفكار هؤالء الناس ‪ ..‬ويتشدقون بالقول لماذا نحن‬
‫دول عالم ثالث وهم السبب االساسي بكوننا مجتمع ثالث وأحيانا عاشر ‪.‬‬
‫ما كادت أن تنهي جملتها لتسمع تصفيق يعلو من خلفها لتنظر لمصدر‬
‫الصوت والسيد يوسف يقف مبتسما وهو يتأملها قائال ‪ :‬لقد كنت منبهرا من‬
‫كلماتك للفتاة بالداخل‬
‫عضت شفتها بحرج لتخفض نظراتها ويوسف يقترب منهما ‪ :‬من الجيد‬
‫مقابلتكما مرة أخرى‬
‫ابتسمت له سالم وكرمل التي أجابته ‪ :‬فرصة سعيدة لنا أيضا ‪ ..‬لم كن‬
‫أعلم أنك تهتم بمثل هذه الندوات‬
‫ارتفعت ضحكة يوسف مجيبا ‪ :‬أنا صاحب الفندق وبالصدقة كنت قريب‬
‫من الصالة وسمعت نقاشك معها في الواقع أنا أرى هذه الفئة من الناس هم‬
‫الشباب المغتر بنفسه وأنه يقوم بإنجاز مهم لحياته والناس وكنت أعتقد أنني‬
‫الوحيد الذي يملك هذه الفكرة عنهم لكن ها أنا أجد من يناصرني ‪.‬‬
‫أومأت له بموافقة ليتابع ‪ :‬بما أنكما في فندقي هل يمكنني دعوتكما لفنجان‬
‫قهوة في المقهى هنا ؟‬
‫حاولت أن تعترض ليقاطعها قبل أن تتكلم ‪ :‬ونتابع حديثنا عن السيف فأنا‬
‫لم أتلقى منك أي رد‬
‫عضت خدها من الداخل وعينيها تلتقي بعيني سالم التي أومأت لها‬
‫بالموافقة لتوافق على طلبه تتجهان معه نحو المقهى ‪.‬‬
‫سألها بعد أن قدم النادل لها ولصديقتها القهوة ‪ :‬لماذا لم تثبت لها ان‬
‫الحجاب فرض إسالمي ؟‬
‫ابتسمت له كرمل لتسأله بثقة ‪ :‬برأيك لو أنها تهتم بتعاليم الدين وفروضه‬
‫هل كانت ستخلعه من األساس ؟‬
‫تنهدت قائلة ‪ :‬أكثر شيء يوجع القلب هو أن تجادل المسلم في دينه وتحاول‬
‫أن تقنعه أن ما يعتنقه هو الصحيح ‪ ..‬في حين أنه من المفروض أن نناقش‬
‫الغير مسلمين في ديننا ونقربهم منه ‪.‬‬
‫صمت يتأملها بحجابها الخمري وسترتها الشتوية التي تصل لركبتها مع‬
‫حذائها العالي الرقبة قائال ‪ :‬رغم أن طريقة لبسك ال تبدو أنك متشددة‬
‫ولكنك كنت تدافعين عن ارتداء الحجاب بضراوة‬
‫ابتسمت رغم أنه كان يعتقد أنها ستغضب بسبب كلماته لكنها قالت ببساطة‬
‫‪ :‬هناك مبادئ ثابتة في الدين وفي العقل ‪ ..‬ربما ال يكون لباسي ملتزم‬
‫ولكنه في نفس الوقت ليس كاشف أو حتى ملفت لجسدي ‪ ..‬وربما يكون‬
‫لدي هفوات كثيرة أيضا ولكن المبدأ لدي ثابت والفرض ال يمكن اللعب به‬
‫كما أشاء ‪ ..‬األشخاص مثل هذه المدعوة ندى يشوهون الدين ومعتقداته وال‬
‫سيما الحجاب ‪ ..‬صدقني ليس لدي أي مشكلة بأي إنسانة تخلع الحجاب في‬
‫النهاية أنا لن أتحاسب عنها ولكن مشكلتي بهؤالء الذين يبررون فعلتهم‬
‫ويفسرون الدين ويضعونه تحت اسم العادة والمجتمع ‪ ..‬هي اآلن ولالسف‬
‫تعتبر شخصية عامة ورميها لمثل هذا السم مشكلة كبيرة ‪ ..‬كنت أراقب‬
‫الفتيات في الداخل معظمهن صغيرات في السن واألغلب بدا متأثر بقولها‬
‫أنه سلطة مجتمع وعادات بالية ليس لها عالقة بالدين ‪ ..‬منظره مقرف‬
‫علينا أن نتخلى عنه ‪..‬‬
‫قاطعها متسائال ‪ :‬لكنك لم تثبتي أنه شيء ديني بحت ‪ ..‬اثبتي لها ثقافة تقبل‬
‫األخر هل تعتقدين ان كلماتك ستترك أثر بهؤالء الفتيات ؟‬
‫أومأت له بثقة ‪ :‬بالطبع ‪ ..‬حين تخاطب عقل المراهق تخاطبه بأكثر شيء‬
‫يعتنقه ومراهقين هذه األيام ال يتأثرون بالدين في كثير من األحيان والتغني‬
‫بالحرية والفكر هو السائد ‪ ..‬لذلك أعالج السم بالسم نفسه ‪ ..‬معظمهن ال‬
‫يجرأن على خلعه بسبب أهاليهم ‪ .‬المجتمع الذي ما زال يتحكم بنا ‪ ..‬الناس‬
‫‪ ..‬ولكن عندما تزرع داخلهم فكرة أنه حتى ارتدائه نوع من أنواع الحرية‬
‫والناس لن تأخذ فكرك بسبب قطعة قماش ومن يدعي الحرية يجب ان‬
‫يتقبل الجميع سوف يقتنعون أنه ليس شيء مكروه النظر به أوال وبعدها‬
‫ربما يصلون لقناعة أنه فرض ال يمكن التخلي عنه وليس إجبار وعادات‬
‫وتقاليد ‪.‬‬
‫رفع فنجان القهوة واالقتناع بدا واضحا عليه فمنطقها صحيح نوعا ما ‪..‬‬
‫ال يمكنك أن تناقش الملحد باإلثبات الديني فهو يحتاج إلى النقاش بالحجة‬
‫والبرهان العقلي الذي ال يؤمن بسواه وهؤالء نفس المبدأ ‪ ..‬ال يمكنك أن‬
‫تناقشه بشيء يعتقد أنه يكبلنا ‪..‬‬

‫الجيل الجديد الذي اصبح على احتكاك في الغرب يريد ان يقتنع بالدين‬
‫وتعاليمه وأن ديننا اإلسالمي ال ينفي الحرية بل هو الدين الذي يعزز العقل‬
‫وحرية الفكر ‪ ..‬هو من يحافظ على األخالق والقيم ‪ ..‬ومن هنا عليك ان‬
‫تناقشه بما هو متأثر به وبعدها تنتقل إلى مرحلة ترسيخ الدين فيه ‪ ..‬كم‬
‫الوضع أصبح كارثي ‪ ..‬وكأنه ال تكفينا الحروب والدماء بل وصل األمر‬
‫بهم على زعزعة الدين في النفوس ومحاولة لجعلهم يهجرونها ‪..‬‬
‫اعتذرت سالم منهما لتجيب على مكالمة أتتها ليبقى هو معها فيقول ‪ :‬هل‬
‫تسمحين لي بسؤال ؟‬
‫أومأت له بنعم ليسألها ‪ :‬لماذا تحملين اسم فلسطيني بحت وأنت شامية‬
‫األصل ؟‬
‫ارتفعت ابتساماتها والتي بالمناسبة لفتت نظره فقد كانت محملة بالثقة‬
‫والقوة لتجيبه ‪ :‬أنني شامية األصل من جهة أمي وأبي ولكن أبي كان مغرم‬
‫بالشاعر محمود درويش لدرجة الهوس بكل كلماته وأشعاره وعندما ولدت‬
‫أراد أن يطلق علي اسم ريتا تيمنا باسم حبيبته ولكن امي اعترضت بشدة‬
‫وهي تقول له لن تسمي ابنتي على اسم امرأة صهيونية وهكذا نشب‬
‫خالف بينهما لينهيه والدي باسم كرمل وقد كان اسم المجلة التي أسسها‬
‫محمود درويش وعندما كادت أمي أن تعترض اخبرها أن معناه هو جنة‬
‫هللا فأعجبها وهكذا تم األمر‬
‫تأملها بابتسامة هادئة ليهمس بصوت وصل مسامعها ‪ :‬كرمل شامة الحسن‬
‫الفلسطيني‬
‫لم ترد عليه لتلتزم الصمت لثواني ثم تعيد كسره قائلة ‪ :‬بالنسبة لموضوع‬
‫السيف لقد سألت أمي عن األمر واخبرتني أن معظم العائالت ما زالت في‬
‫دمشق ومن الصعب الوصول إليها تحت ظروف الحرب وإيضا ليس هناك‬
‫أمل لبيع مثل هكذا أرث ولكن هناك عائلتين قد هاجروا ربما يكون‬
‫التواص معهم أسهل ويمكنك المحاولة معهم وهي ال تعرف أين هم لكنها‬
‫أخبرتني باالسماء فقط ‪ ..‬عائلة الشامي وعائلة مارديني ‪..‬‬
‫قاطعها متسائال ‪ :‬وكيف سأصل لهما مع تشتت الشعب السوري الكبير هذا‬
‫؟‬
‫هزت رأسها بعدم معرفة لتقول وكأن فكرة خطرت على بالها ‪ :‬لقد قلت‬
‫أنك تواصلت مع أحد صناع السيوف الدمشقية ‪ ..‬فلماذا ال تجرب سؤاله‬
‫عن هذه العوائل ربما يعرف أحدهم‬
‫أومأ لها بالموافقة على اقتراحها ليسألها مرة أخرى ‪ :‬هل تعرفين شيء عن‬
‫تلك السيوف أقصد قصص عنها وعن صناعتها ‪ ..‬فحسب ما عرفته عنك‬
‫أن لديك مخزون كبير من المعلومات عن كل ما هو دمشقي عريق ؟‬
‫صمتت لعدة دقائق وكأنها تحاول تجميع معلوماتها لتقول له أخيرا ‪ :‬أعلم‬
‫القليل فقط ‪ ..‬فالسيف الدمشقي مازال يحتفظ بسره لليوم فبعض الخبراء‬
‫قاموا ببعض األبحاث عنه واستغربوا وجود ذلك المعدن المستخدم‬
‫بصناعته في ذلك الوقت ‪ ..‬لقد كان معدن مختلف عما عرفه القدماء‬
‫بصناعة السيوف من الحديد أو النحاس ليأتي السيف الدمشقي بوزن خفيف‬
‫ومرونة عجيبة ‪ ..‬حتى أن بعضهم كان يقول يمكن طيه بسهولة ‪..‬لدرجة‬
‫أنهم اطلقوا مصطلح الدمشقة على هذا األسلوب الخاص من الصناعة ‪..‬‬
‫قاطعها متسائال ‪ :‬ولكن ما هذا المعدن الذي جعل السيف مرن لهذه الدرجة‬
‫؟‬
‫أجابته ‪ :‬ليس معدن واحد بل معدنين ‪ ..‬حيث يتحد معدن أسود يحوي نسبة‬
‫عالية من الكربون وأخر أبيض نسبة الكربون فيه منخفضة ‪ ..‬والمميز أن‬
‫هذين المعدنين يحافظان على خصائصهما لذلك يظهر السيف الدمشقي‬
‫مرن وخفيف الوزن‪ ..‬حاد شديد القطع ومقاوم لالهتراء حيث أن المقاتل‬
‫ال يتعب من وزنه في المعارك عكس ما كان متعارف عليه قديما ‪ ..‬إضافة‬
‫لشيء مميز جدا أن السيوف الدمشقية منحنية الشكل أو مموجة‬
‫عاد يسألها ‪ :‬هل هناك عالمة مميزة للهذه السيوف ؟‬
‫صمتت تفكر لتجيبه ‪ :‬بصراحة ال أعرف ‪..‬كل معلوماتي أن أشهرها‬
‫يسمى الجوهر الدمشقي ‪.‬‬
‫لم يجبها وكأنه يفكر بكلماتها لتقول بعد أن فطنت لشيء ‪ :‬تذكرت وأن‬
‫أشهر من صنع تلك السيف هو أسد هللا الدمشقي فقد كانت سيوفه تشبه‬
‫حراشف السمك غير أنه يملك نقش خاص يختم به سيوفه على شكل زهرة‬
‫بالجانب االيمن لنصل السيف مع جملة "عمل أسد الدين الدمشقي"‬
‫ارتفع الفضول على مالمحه وهو يحدث نفسه بصوت مسموع ‪ :‬هل سأجد‬
‫واحد من أعماله يا ترى ؟‬
‫ليأتي له الجواب منها فورا ‪ :‬ال أعتقد ألنه ال يوجد سوى سيفين بنقشه‬
‫واسمه واحد في متحف في روسيا واألخر في متحف دمشق ألنه أصبح‬
‫يستخدم ختم على شكل رأس أسد بدل من اسمه على السيوف التي يصنعها‬
‫‪.‬‬
‫ه ّم بسؤالها عن شيء لكن الصوت الذي كان موجها نحوهما جعله يتوقف‬
‫فقد كانت نفسها الفتاة التي تجادلت معها منذ قليل وهي تقول ‪ :‬أنت أيتها‬
‫الوقحة‬
‫رفعت كرمل نظرات عدم اكتراث نحوها لتتابع الفتاة ‪ :‬كيف سمحت لنفسك‬
‫بمقاطعتي منذ قليل ‪ ..‬أال تعرفين كم منظمة هنا تدعمني ومستعدة لطردك‬
‫من هذه األراضي كلها‬
‫أجابتها بهدوء قاتل ‪ :‬إذن ؟‬
‫كتم ضحكته بصعوبة وهو يراقب الفتاة تكاد تنفجر من الغيظ وكرمل ترفع‬
‫فنجانها بهدوء وكأن ال أحد أمامها وتلك تهدد ‪ :‬سوف تندمين على طريقتك‬
‫هذا ‪ ..‬سوف اجعلك زائرة دائمة في المحاكم هنا ‪..‬‬
‫قاطعت كرمل تهديداتها وهي تضع فنجانها بصرامة على الطاولة وعينيها‬
‫تركزان على الفتاة لتقول بشراسة ‪ :‬إن كنت تقدرين على جعلي أندم لماذا‬
‫ترمين تهديداتك هنا ‪ ..‬أال تعلمين أن من يتحدث كثيرا ال يملك شيئا ؟‬
‫الضعفاء فقط من يملكون الكثير من الكالم ‪ ..‬لذلك وبما أنك تملكين كثيرا‬
‫من الكالم والتهديدات أنصحك بعمل فيديو ونشره على قناتك وصب‬
‫غضبك فيه ‪ ..‬صدقيني سيجلب لك كثيرا من المشاهدات وبهذا تكسبين‬
‫نقود ومعجبين وأنا أريح رأسي من صوتك المزعج‬
‫حاولت أن تتكلم الفتاة لكن وكأن شيء أمسك لسانها أو أن الكلمات ضاعت‬
‫منها لترفع أصابعها نحوها بوعيد تغادر مسرعة المكان كله ‪ ..‬وضحكات‬
‫يوسف تعلو على إثرها ليعلق ‪ :‬لم أكن أعتقد أنك مبدعة باالستفزاز‬
‫تنهدت بقلة حيلة ‪ :‬ال أبدا ولكنها غير قادرة على الرد أو حتى المناقشة ‪..‬‬
‫ربما لديها الكثير من المتابعين والناس التي تدعم تحررها كما تسميه‬
‫ولكنها ال تجرؤ على المواجهة ‪ ..‬لذلك تصرخ وتهدد فقط ‪.‬‬
‫هز رأسه بتفهم لتلتفت حولها تبحث عن سالم التي اختفت لمدة طويلة وهي‬
‫تسأل ‪ :‬لكن أين اختفت سالم لقد تأخرنا كثيرا ‪.‬‬
‫‪..........................................‬‬

‫الفصل الثالث‬
‫ابتعدت عن الطاولة حيث كان يجلس يوسف وكرمل لتجيب على مكالمة‬
‫والدها ‪ ..‬فهذا طبعه القلق الدائم ‪ ..‬والخوف الزائد عليها منذ ما حدث معها‬
‫في سوريا وهي تشعر به يبالغ بحرصه ولكنها تتقبل هذا برحابة صدر ‪..‬‬
‫فهو أن كان يتصرف ذلك فهو تعبير عن الخوف والقلق حتى عندما أتوا‬
‫إلى هناك لم يتغير الحال معها ‪ ..‬بقي يتفقدها أكثر من مرة طالما هي‬
‫خارج المنزل وها هو يبدأ سلسة األسئلة المعتادة ‪ ..‬هل أزعجك أحدهم ‪..‬‬
‫انتبه جيدا في طريق العودة ‪ ..‬كوني حذرة من إشارات المرور ‪ ..‬ال تترك‬
‫كرمل حتى تصل إلى باب المنزل ‪ ..‬كانت تبتسم وهي تردد أسئلته من‬
‫دون صوت لتجيبه أخيرا ‪ :‬أبي أنا بخير ‪ ..‬وما زالنا في الفندق لقد انتهت‬
‫الندوة منذ قليل فقط ‪ ...‬وكرمل معي ولن تتركني حتى تضع يدي في يدك‬
‫أغلقت السماعة بعد سماعها لدعوات والدها بالحفظ والصون وبعد‬
‫أشخاص السوء عنها وعن صديقتها لتلتفت تنوي التوجه نحو المقهى ولكن‬
‫اقتراب حسام منها سمرها في مكانها ‪ ..‬كان يسير بثقة قاصدا إياها يرسم‬
‫على شفتيه ابتسامة واثقة تتناسب مع حضوره القوي ليقول ‪ :‬لم أكن أتوقع‬
‫أن أراك في فندقنا ؟‬
‫أنزلت رأسها حرجا بسبب نظراته المركزة عليها بشكل خاص لتجيبه‬
‫بصوت منخفض ‪ :‬كنت أنا وكرمل هنا وقابلنا السيد يوسف ليصر علينا‬
‫الحتساء القهوة معه‬
‫نظر نحوها وكأنه مستغرب من وقوفها هنا لتخبره مبررة سبب تواجدها‬
‫وهي تحرك يدها الممسكة بالهاتف ‪ :‬تركتهما ألنني كنت بحاجة لإلجابة‬
‫على والدي ‪.‬‬
‫اومأ لها بتفهم يسألها ‪ :‬هل كل شيء بخير لقد سمعت عن مشكلة حصلت‬
‫لدى إحدى األناس اللذين استأجروا صالة الفندق للندوة التي قلت أنكم جئتم‬
‫لحضورها ‪.‬‬
‫ضحكت بصوت مسموع لتأسره ضحكاتها وهي تجيبه ‪ :‬أنها كرمل كانت‬
‫تتجادل مع إحداهن ‪..‬‬
‫لترسم مالمح حزن مصطنع وهي تكمل ‪ :‬حتى تم طردنا‬
‫شاركها الضحكات ليفطن على مكان وقوفهما ليشير قائال ‪ :‬دعينا نذهب‬
‫إليهما ‪..‬‬
‫هزت رأسها موافقة لتسير بجانبه وما زال محتفظا بابتسامته التي بدأت‬
‫تجذبها منذ رأته أول مرة عند باب منزلها ‪..‬‬
‫اقترب حسام وسالم من طاولة يوسف ليالحظا وجود فتاة تصرخ بوجه‬
‫كرمل التي كانت غير مبالية فتهمس سالم قربه ‪ :‬إنها نفس الفتاة من الندوة‬
‫‪.‬‬
‫تابع سيره لتغادر الفتاة قبل أن يصال وكرمل تسأل عن سالم التي اقتربت‬
‫مجيبة ‪ :‬أنا هنا ‪ ..‬كنت أتحدث مع والدي وكان يعطيني التعليمات كعادته ‪.‬‬
‫لم تجبها كرمل ليسأل يوسف بفضول ‪ :‬هل هناك أي مشكلة ؟‬
‫فتتبرع كرمل باإلجابة ‪ :‬ال شيء مهم أنه والد سالم حريص جدا ويظل‬
‫طوال الوقت فكره منشغال بها لذلك األنسة ال تخرج إال بمرافقة وكنت‬
‫ضحيتها اليوم ‪.‬‬
‫كان دور حسام بالسؤال من بعد إلقاء التحية عليها وعلى صديقه ‪ :‬ضحية‬
‫ماذا ‪ ..‬ثم لماذا كانت تصرخ هذه الفتاة ‪..‬‬
‫التفت ليوسف ليخبره ‪ :‬لقد أخبرونا عن وجود مشكلة في الندوة وإحداهن‬
‫طلبت محاسبة من تسبب بدخول فتاة غير مرحب بها في الداخل ‪.‬‬
‫ابتسم يوسف وهو ينقل نظراته نحو كرمل ثم سالم ثم حسام ليجيبه ‪ :‬هذه‬
‫هي الفتاة ‪ ..‬حاسبها‬
‫نظر حسام نحوها بصدمة ال يفهم ما يحدث لتجيبه سالم بنبرة ضاحكة ‪:‬‬
‫لقد تشاجرت كرمل مع تلك الفتاة بسبب موضوع الحجاب فتلك تصر على‬
‫أنه شيء غير راق واألنسة هنا لم تترك األمر يمر هكذا فتم طردنا باحترام‬
‫قاطعتها صديقتها ممتعضة ‪ :‬ألست أنت السبب ‪ ..‬باهلل عليك سالم كيف‬
‫لشخص مثلك أن يتعلق بمثل هؤالء الناس ‪ ..‬وتضيعين وقتك على‬
‫مقاطعهم التافهة‬
‫أجابتها سالم بدفاع بريء ‪ :‬قلت لك أنني أكرهها ولكن صدقيني ليس جميع‬
‫اليوتيوبر أشخاص تافهين بعضهم يقدم محتوى جيد ‪ ..‬أنت منحازة جدا‬
‫وتنظرين بالعموم‬
‫تأملتها كرمل لتقول ‪ :‬حسنا هناك شخص أو أثنان جيد ولكن األغلبية مثل‬
‫تلك الفتاة ‪ ..‬يلعبون بعقول الناس ويفرضون فكرهم الهادم للمجتمع والدين‬
‫حتى العقل ‪.‬‬
‫نظرت نحو حسام ويوسف المراقبان بصمت لتقول بإقرار ‪ :‬باهلل عليكم‬
‫هؤالء أصبحوا الناس المؤثرة والقيادية في مجتمعنا‬
‫قاطعها حسام قائال ‪ :‬في الحقيقة اللوم ال يقوم عليهم فقط ‪ ..‬هم مجرد‬
‫أشخاص يعرضون محتوى والفعل األساسي يعود للمتلقي ‪ ..‬المجتمع كله‬
‫تغير ومعاييره اختلفت ‪ ..‬ما كنا نبغضه أمس أصبحنا نتقبله اليوم برحابة‬
‫صدر‬
‫أكملت عنه كرمل قائلة ‪ :‬بالضبط وهذا أكثر ما يزعج في األمر ‪ ..‬خذ‬
‫مثاال سالم أنا متأكدة أنها ال تتبع أفكارهم بل أيضا تبغض الكثير منهم‬
‫لكنها تعرف الكل على األقل تتابع بعضهم ‪ ..‬لماذا ؟؟ لتضيع بعض الوقت‬
‫ولكنها ال تعلم أن حركتها البسيطة هذه تعتبر مساهمة في انتشارهم ‪ ..‬نعم‬
‫هي لن تهتم بهرائهم ولكن غيرها يهتم ويأخذ به‬
‫تأفأفت سالم باعتراض لترتفع ابتسامة حسام المتسلية بمنظرها ونظرات‬
‫يوسف التي تراقب صديقه بفضول واستغراب ليجيب عنها ‪ :‬صدقيني‬
‫األمر ال يهمهم كثيرا أن كانوا مؤثرين أو ال ‪ ..‬الموضوع كله بالنسبة لهم‬
‫مجرد ربح‬
‫قاطعته سالم متسائلة ‪ :‬ربح ؟‬
‫أومأ لها ليتابع ‪ :‬ربح باإلضافة إلى الشهرة طبعا ‪ ..‬الموضوع أسهل بكثير‬
‫مما نتخيل فأن تحصل على أالف الدوالرات من دون مجهود أو حتى‬
‫محصل علمي هو أمر خيالي بالنسبة للجميع ‪ ..‬كل ما تحتاجه هو ضغطة‬
‫زر فقط وفي ثواني تنتشر على مستوى العالم ويمكنك أن تدخل إلى بيوت‬
‫أناس لم تكن تتخيلهم في حياتك ‪ ..‬وبذلك حققت عدة أمور بسهولة ‪ ..‬دخل‬
‫ممتاز وشهرة ضاربة إضافة إال أنك قد تصل لمرحلة التأثير بالناس ‪..‬‬
‫ونحن نتلقى كل ما يفعلون ببساطة أن أعجبنا أو حتى أن كرهنا في‬
‫الحالتين نحن نتلقى ما يقدمون وهم يقبضون على كل هذا وردود فعلنا هو‬
‫اخر همهم ‪ ..‬أو حتى نوع ما يقدمون ليس مهم ‪ ..‬طالما وجوههم موجودة‬
‫في كل مكان وكل برنامج فال بأس‬
‫صمتت قليال وهي تفكر في كلماته ‪ ..‬نعم هي تحب التنقل بين مقاطع‬
‫هؤالء المشاهير على مواقع التواصل ولكنها لم تفكر من قبل بهذا المنظور‬
‫‪ ..‬األمر بالنسبة لها مجرد تسلية فقط ‪ ..‬مقطع تراه ثم تتجاوزه بسهولة ‪..‬‬
‫ولكن األمر يبدو أعقد مما تتخيل لتقول ‪ :‬بصراحة لم أفكر بهذا من قبل‬
‫كنت أخذ األمور بأبسط من هذا‬
‫قاطعها يوسف ‪ :‬ليس فقط أنت سالم جميعنا ينجذب لهم احيانا ‪ ..‬أنا من‬
‫األشخاص رغم وصول سني ألواخر الثالثين وأرى هذه األمور سخيفة‬
‫لكنها تجذبني احيانا ‪ ..‬انظر لها على أنها شيء ال يستحق الوجود ‪ ..‬لماذا‬
‫نقدم هكذا مواضيع بل لماذا تحتوى على هذا الكم الهائل من المشاهدات ‪..‬‬
‫ولكن اآلن مع كالم حسام أصبحت أفكر كم شخص مثلي ؟ فيبدو أن أكثر‬
‫من نصف تلك المشاهدات تأتيهم من أناس مثلنا ‪ ..‬يرفضون نهجهم ولكنه‬
‫يتابعه ليرفضه ‪ ..‬وفي خضم رفضنا هذا هو يتوسع ويتمدد وحسابه البنكي‬
‫يكبر ‪ ..‬لذلك نحن نغذيهم دون أن نشعر‬
‫تابع حسام كالم صديقه ‪ :‬كما نغذي األمراض الخبيثة داخلنا وال نشعر بها‬
‫‪ ..‬الكثير من األورام في جسد اإلنسان تكبر وتتغذى على أجسادنا ولكن ال‬
‫نعلم بها لنصدم باأللم بطريقة مفاجأة لنسعى بسرعة للتخلص من هذه‬
‫األورام حتى لو تأملنا أو خسرنا شيء من أنفسنا وهكذا هم يتغذون بنا دون‬
‫الشعور وحين يتضخمون يصبح اقتالعهم من حياتنا كاقتالع أي ورم‬
‫خبيث ‪ ..‬ربما يسبب ألم أو ربما يفقدنا عضو من جسدنا مقابل له ‪..‬‬
‫تنهدت كرمل ‪ :‬وال أعلم ماذا سنخسر مقابل استئصالهم من حياتنا ‪.‬‬
‫ليصمت الجميع وكأن الجواب مخيف ‪ ..‬واألمر بالفعل مخيف كيف يمكننا‬
‫التخلص من هذا الجيل الذي يسوده الضياع ويعيش على عقدة الغرب ‪..‬‬
‫تلك العقدة التي يأخذون منها قشورها ويتركون جوهرها دون حتى‬
‫المساس بها ‪ ...‬عقدة رمت أنيابها علينا نحن ‪ ..‬أصبحنا محكومين بوسائل‬
‫التواصل والناس عليها ‪ ..‬حيث هؤالء األشخاص من يفتون بالدين‬
‫وبالعادات والصح والخطأ في حياتنا ‪ ..‬وهنا تكمن الطامة الكبرى ‪ ..‬حين‬
‫يتحكم السفيه بأسس الحياة يصبح الميزان مختل وكل المعايير تكون خاطئة‬
‫‪.‬‬
‫أخرجته سالم من تفكيرها قائلة ‪ :‬بمناسبة المجتمع لقد تأخرنا سيدتي‬
‫الكريمة ‪..‬‬
‫لتنظر نحو الرجلين المراقبين دون أي تعليق ‪ :‬أنا أشكرك سيد يوسف على‬
‫القهوة‬
‫أومأ لها مجيبا ‪ :‬بل أنا أشكرك بفضلك حصلت على بعض المعلومات من‬
‫األنسة كرمل ‪.‬‬
‫لتبتسم له بخجل وكرمل تجيب ‪ :‬أنا مستعدة ألي سؤال ‪ ..‬بالمناسبة أنا‬
‫اعمل قريبا من هنا في مركز عالج ذوي االحتياجات الخاصة إن كنت‬
‫تحتاج ألي إجابة تجدني هناك ‪.‬‬
‫لتغادرا المكان ونظراتهما تراقبان كل واحد منه عقله يبدو مشوش بشيء‬
‫‪ ..‬ليقر يوسف ‪ :‬يبدو أن جارتك أثرت بك‬
‫نظر نحوه حسام دون فهم لترتفع ابتسامة يوسف وهو يتابع ‪ :‬بالمناسبة أنها‬
‫مناسبة جدا لك ‪ ...‬هادئة وخجولة وبسيطة واعتقد هذا ما أثار إعجابك لها‬
‫تنهد حسام فها هو صديقه صاحب النظرة الثاقبة والتحليل المخيف لن‬
‫يخفى عنه شيء ليجيبه ‪ :‬ال أنكر أنها لفتت انتباهي ولكن هذا ال يعني شيء‬
‫‪.‬‬
‫أوقفه يوسف بصدمة متسائال ‪ :‬كيف ال يعني شيء ‪ ..‬حسام ألن تتجاوز‬
‫ذلك األمر بعد ؟‬
‫تنهد حسام بتعب فهذا الموضوع ال يريد أن يتذكره أبدا وال سيما مع‬
‫يوسف الذي يعرف كل تفصيلة من تفاصيله ‪.‬‬
‫لكن يوسف لم يحترم صمته وعدم رغبته بالكالم ليتابع ‪ :‬أنت تقول دائما‬
‫أنك تريد تجاوز تلك الذكريات ولكن ما أراه أنك من يدفن نفسه بتلك‬
‫القوقعة وكأن الكون توقف مع تلك األيام ‪ ..‬يا صديقي أن الحياة تعطينا‬
‫فرص قليلة ونحن إما أن نتمسك بتلك الفرصة أو نرفضها دون وعي‬
‫وعندما تبتعد نجلس ونتحسر على ضياعها ‪ ..‬وها أنا أخبرك اآلن أن‬
‫ظهور سالم وهو فرصة لك‬
‫نظر له بعدم فهم مرددا ‪ :‬فرصة ؟‬
‫أومأ له متابعا ‪ :‬نعم فرصة وفرصة تستحق ان تستغلها ‪ ..‬ربما كنت أبالغ‬
‫قليال ولكن الفتاة تبدو معجبة بك ونظراتها كانت واضحة فعند حديث كرمل‬
‫عنها كانت تنظر لك لتعرف ردة فعلك على كالم صديقتها‬
‫قاطعه ‪ :‬هذا أمر عادي من البديهي أن تراقب ردة فعلنا ‪.‬‬
‫صحح يوسف كالم صديقه ‪ :‬ردة فعلك أنت فقط ‪ ..‬فرغم أنني كنت جالسا‬
‫أيضا ولكنها لم تنظر لي أبدا لم تفكر أن تعرف ردة فعلي وتركيزها كان‬
‫منصب عليك فقط ‪.‬‬
‫أجابه ببساطة ‪ :‬ربما ألنني جارهم وهناك عالقة تربطني مع والدها ‪.‬‬
‫لم يجبه يوسف لدقائق وهو يراقب مالمح وجهه ‪ ..‬كان نفس األسى‬
‫الماضي يلمع في عينيه ‪ ..‬من قال أن الحب والفرح من يجعل العين تبرق‬
‫وتلمع فهو مخطأ الحزن واأللم يظهر جلي في نظراتنا ايضا ‪ ..‬لمعة غريبة‬
‫مميزة مختلفة عن كل المشاعر التي قد تمر في حياة اإلنسان وخاصة أن‬
‫كان ما يمر به هو نفسه الذي عاشه حسام ‪ ..‬هو ال يلومه على تعنته هذا‬
‫ورفضه القاطع بخوض أي عالقة في حياته ‪ ..‬بل رفضه أيضا زيارة‬
‫العراق ولو لمرة واحدة ‪ ..‬كان يعطيه كثيرا من الفرص ليعود لوطنه ولو‬
‫أليام قليلة ولكن حسام في كل مرة يبقى في بيته ويعتكف العالم كله ‪ ..‬حتى‬
‫وصل األمر أن يعرض عليه فكرة زيارة بغداد سويا لكنه أيضا رفضها‬
‫بصرامة وأخبره أن كان يحب القيام بأي سياحة فليفعل ذلك بنفسه ‪..‬‬
‫هي عقدة البلد ‪ ..‬تلك العقدة التي أصبح على يقين أنها في قلب كل مواطن‬
‫عربي وال سيما المغتربين منهم ‪ ..‬نعم نكبر على أمجاد بالدنا وإنجابها‬
‫ألبطال خاضوا وقاموا ببطوالت جبارة ولكن حين نحاول أن نعيش‬
‫نتصادم مع واقعنا ‪ ..‬أحيانا نعاقب وأحيانا نخضع والمحظوظ فينا يهرب‬
‫ويعيش خارج بالده ‪ ..‬ال ليس خارجها بل يحمل بالده داخله إلى بالد‬
‫أخرى ال ينتمي لها ولكنه يحاول أن يتعايش معها ‪ ..‬لقد فهم هذه الحقيقة‬
‫بعد تعرفه على حسام وكالمه على ما عاشه ‪ ..‬حتى تعاطف والده رحمه‬
‫هللا مع حسام كان نقطة فارقة بتعلقه ببلده هو أيضا ‪ ..‬لقد كان اجتماع‬
‫سوري فلسطيني عراقي على الحزن واأللم ‪ ..‬فأمه السورية كانت تحمل‬
‫وجع بالدها الذي ولألسف عاشته عن بعد ووالده الذي ذاق مرارة التغربة‬
‫مرورا بحسام الذي قرر بنفسه أن يتغرب عن بالده ألن الموت شوقا‬
‫أفضل بكثير من الموت ذال ‪.‬‬
‫‪............................................................‬‬
‫"لماذا أعتقد أنك معجبة بجارك ؟"‬
‫قالتها كرمل لصديقتها التي تسير قربها وتبدو سارحة البال بشكل واضح ‪..‬‬
‫توقفت سالم عن السير وهي تتأمل رفيقتها لتجيبها ‪ :‬ربما ولكن هذا لن‬
‫يغير شيء‬
‫عضت كرمل شفتها بندم لفتحها هكذا حديث حساس بالنسبة لسالم لتقترب‬
‫منها قائلة ‪ :‬سالم وجود بعض التشوهات فينا ليس نهاية الكون‬
‫ابتسمت لها والدموع تجتمع في عينيها ‪ :‬بالنسبة لي ولك نعم ولكن بالنسبة‬
‫لكل هذا العالم حولنا‬
‫قاطعتها كرمل من جديد ‪ :‬سالم هذا العالم نحن من نصنع قوانينه ‪ ..‬إن‬
‫بقيت تفكرين بحكم البعض عنك لن تتقدمي وال خطوة إلى األمام ‪.‬‬
‫أجابتها ‪ :‬موضوعنا ليس حكم الناس عني ‪ ..‬وال كالمهم أيضا ‪ ...‬ولكن‬
‫هو تعامل هؤالء الناس معي وكأنني شخص ناقص ‪ ..‬ال يستحق الحياة‬
‫اعترضت كرمل ‪ :‬كلنا نستحق الحياة ‪.‬‬
‫أومأت لها صديقتها تغلق الموضوع ألنها تعلم أن كرمل لن تقتنع بكالمها‬
‫‪ ..‬نعم رغم حب كرمل الكبير لها وتعاطفها معها ولكن لن يشعر أحدهم‬
‫بألمك رغم ما يحمله لك من مشاعر وتعاطف ‪ ..‬الناس يحكمون عليك من‬
‫الخارج فقط ‪ ..‬أنت لست سوى أداة تخضع ألحكامهم الجيدة والسيئة منها‬
‫‪..‬‬
‫‪...........................................................‬‬
‫أغلق الباب خلفه فحاله تغير جدا بعد حديث يوسف معه اليوم حتى والد‬
‫سالم الذي كان مرحبا به كما اعتاد لم يستطع أن يتفاعل معه وعلل ذلك‬
‫أنه متعب قليال ‪ ..‬يوسف اليوم أمسك ألمه من منبته ‪ ..‬قال أفكاره بصوت‬
‫عال ‪ ..‬هو يحاول أن ينسى ‪ ..‬ال يريد أن يعود لتلك الذكريات ولكن هذه‬
‫الذكريات لم تفارقه ابدا ‪ ..‬نعم لقد تجاوز األمر قليال بعد أن استقر هنا في‬
‫المانيا ولكن هذا لم ينسيه تلك الليالي التي عاشها في تلك الزنزانة ‪..‬‬
‫أغمض عينيه وتلك الذكرى تعود من جديد ‪ ..‬الحرب على العراق ‪..‬‬
‫اجتياح الجنود األمريكان لمنبع الحضارة والعراقة ‪ ...‬لقد دنسوا وطنه‬
‫بأحذيتهم القذرة ‪ ..‬لطخوا قداسة تلك البالد بوجودهم فيها ‪ ..‬حتى هواء‬
‫بغداد النقي تحول ألخر مسموم ‪ ..‬أسود قاتم كقلوبهم ‪ ...‬زرعوا الفتنة‬
‫والموت في كل حي من أحياء بغداد ‪ ..‬استبدلوا هارون الرشيد وعدله ‪..‬‬
‫ازدهاره وعلمه ‪ ..‬النور الذي نبت في سماء بغداد لسنين طويلة على يده‬
‫بالظالم والحزن ‪ ..‬الجهل والتخلف ‪ ..‬باعوا الموت ألهل بلده وهم اشتروا‬
‫بسهولة وبأبخس األسعار ‪ ...‬هم جلبوا الموت لبالده و أهل بلده تفننوا به ‪..‬‬
‫وتركوا في عقول شباب العراق الكثير من الذكريات التي من المستحيل‬
‫أن تنسى ‪ ..‬الكثير من الذل والحزن الذي يحتاج لمعجزة ربانية حتى‬
‫يتجاوزوه ‪ ..‬وال سيما ألشخاص مثله ‪ ..‬في بداية االحتالل األمريكي‬
‫للعراق كان شاهد فقط ‪ ..‬يرى الدمار والموت ويخزنه في قلبه وعقله ‪..‬‬
‫حتى شاءت األقدار وأصبح هو إحدى الضحايا لتلك األيدي ‪ ..‬كان هناك‬
‫فرق كبير بين أن تكون شاهد وأن تكون ضحية ‪ ...‬الشاهد تغلب عليه‬
‫مشاعر الحزن بينما الضحية يغرق ما بين أمواج الحزن واأللم على نفسه‬
‫‪ ..‬الضحية تشعر بالقهر ألنها ضحية وفي نفس الوقت الخجل ألنها ترى‬
‫الحزن في عيون الشاهد عليها ‪..‬‬
‫وهو كان االثنين سويا في البداية شاهد ثم ارتقى للضحية ‪ ..‬وكأن المحتل‬
‫يخبره أننا لن نحرمك من شيء ‪ ..‬سوف نجعلك تعيش كل شعور غير جيد‬
‫في هذا العالم ‪ ..‬كان يعيش داخل هذه الدوامة لسنوات طويلة ‪ ..‬حتى بعد‬
‫تعرفه على يوسف رغم أن هذه المعرفة ساعدته كثيرا ‪ ..‬كان يوسف هو‬
‫المرسى الذي أمسكه وحماه من تلك األمواج التي بقيت تلطمه لسنوات‬
‫عديدة ‪ ..‬نعم ربما تجاوز أمر الكوابيس والنظرة المتشائمة للعالم‪ ..‬أصبح‬
‫قادر على الضحك من قلبه ولكنه لم يتخلص من الغصة ‪ ..‬غصة الوطن ‪..‬‬
‫وجع البلد التي تولد وتعيش وتكبر فيها ثم تكون وذمة في روحك ال تذكرك‬
‫إال بالعذاب والصراخ ‪..‬‬
‫تنهد بتعب وهو يمسح وجهه بيديه محاوال إخراج هذه األفكار من رأسه‬
‫ليتذكرها بسماحها وبرائتها ‪ ..‬تبدو مختلفة تماما عن كرمل القوية صاحبة‬
‫الرأي والشخصية التي تفرض نفسها ببساطة ‪ ..‬سالم كانت كما اسمها ‪..‬‬
‫ناعمة هادئة تبعث في النفس شعور بالسكينة ‪..‬‬
‫اتسعت ابتسامته فهي تشبه والدها كثيرا رجل هادئ رغم أنه فقد ابنه وابنه‬
‫الثاني بقي في األردن بعيدا عنه لكنه لم يسمعه مرة يشتكي ‪ ..‬لم يكن يائس‬
‫من قبل ‪ ..‬كان كثير الحمد والشكر هلل ‪ ..‬مقتنعا بقدره ‪ .‬هو ال ينكر تعلقه‬
‫بهذه العائلة وكأنه تكمل فراغاته التي تبدو كثيرة ‪ ..‬وهي كانت تجذبه‬
‫بطريقة غريبة وكأنه مركز الجاذبية ‪ ..‬خجلها كان شيء جديد عليه ‪...‬‬
‫عينيها ذات اللون األخضر الغامق وكأنها غابات تبعث في الروح الطمأنينة‬
‫والتأمل في إبداع الخالق ‪ ..‬كان اسمها يليق بها جدا ‪ ..‬سالم وفيها الكثير‬
‫من السالم ‪.‬‬
‫‪...............................................‬‬
‫سأله يوسف بخبث ‪ :‬هل فكرت باألمر ؟‬
‫جالت نظراته إلى صديقه والذي فهم ما يرمي له ولكنه ادعى عدم الفهم‬
‫ليجيبه بسؤال ‪ :‬فكرت بماذا ؟‬
‫ارتفعت ابتسامة يوسف وهو يتابع ‪ :‬وأي أمر مهم اآلن غير أمر سالم ؟‬
‫لم يجبه ليتابع ‪ :‬انظر لي حسام أن الفتاة جيدة جدا لك وأنت تعرف عائلتها‬
‫وقلت أن والدها رجل تقي ومتفهم جدا ‪.‬‬
‫تنهد حسام ليقول ‪ :‬يوسف أنهم عائالت شامية وأنت تعلم كما معظم الناس‬
‫تعلم أن هذه العائالت ال تزوج بناتها إال من نفس مدينتهم وهم كثيرون‬
‫الحرص على تلك األمور ‪.‬‬
‫قاطعه يوسف بخبث ‪ :‬إذن وصل األمر بك للتفكير بالزواج ‪.‬‬
‫أجابه حسام ‪ :‬كفاك مكر يوسف ‪ ..‬ونعم إن وافقت على فكرتك فلن‬
‫يجمعني بها سوى عالقة علنية فأنا أعرف أهمية تلك األمور بالنسبة لهم‬
‫وإيضا أنا لن أخوض معها أي عالقة سرية وال سيما بعد معرفتي بوالدها‬
‫فأنا ببساطة لن أخون ذلك الرجل الذي يرحب بي كأنني أحد أبنائه ويدعي‬
‫لي في كل يوم يراني به ‪ ..‬هذا ليس من شيمي ‪.‬‬
‫ابتسم يوسف لتفكير صديقه قائال ‪ :‬هذه هي الشهامة العراقية التي عرفناها‬
‫عنكم طوال عمرنا ‪..‬‬
‫قاطعه من جديد ‪ :‬األمر ال يتعلق بجنسية معينة ‪ ..‬األمر يعود للشخص‬
‫نفسه في كل بلد هناك الجيد والسيء فيها وأنا لن أكون ذلك السيء أبدا ‪.‬‬
‫تحرك يوسف من مكانه ليربت على كتف حسام مقترحا ‪ :‬في رأي أن‬
‫تفاتح والدها في األمر وليكن الموضوع خطوبة ومنها تتعرف عليها وهي‬
‫تعرفك جيدا وبذلك ال تكون تسرعت وال ظلمت نفسك وفي الوقت نفسه لن‬
‫تخون أمانة معرفتك بهذا الرجل الطيب ‪.‬‬
‫نظر له حسام وكأنه تائه يحتاج أي دعم مهما كان بسيط ليخبره يوسف بثقة‬
‫‪ :‬ال تتردد صديقي وخذ األمور ببساطة ‪ ..‬ثم ال تخف تلك العادات اختلفت‬
‫مع كل هذه األهوال التي مرت في حياة السوريين وإن رفضوك رغم أنني‬
‫استبعد هذا االحتمال عندها تكون قد حاولت اغتنام الفرصة وبهذا تبتعد عن‬
‫الندم في المستقبل ‪ ..‬لذلك تشجع وال تفكر كثيرا ‪.‬وال تنسى أن أمي سورية‬
‫وتزوجت أبي الفلسطيني فقد تكون ما تصدره لنا المسلسالت كاذب وغير‬
‫واقعي ‪.‬‬
‫أومأ له حسام وهو يفكر بطريقة مناسبة يفاتح بها العم محمد بهذا األمر ‪.‬‬
‫‪........................................‬‬
‫كان يفكر بأمر صديقه ويتمنى من كل قلبه أن تنجح خطوة ارتباطه بسالم‬
‫فكل ما يحتاجه حسام هو امرأة مثلها في حياته ‪ ..‬فشخصية حسام ال تحتاج‬
‫إال فتاة كسالم تحمل لحياته الهدوء وأقل شعور باألمان ‪..‬‬
‫رفع صوت مكبر الصوت بالسيارة وكلمات محمود درويش تجتاحه مع‬
‫صوت عود مارسيل خليفة وهو يغني لريتا ‪ ..‬هذه عادة مكتسبة أيضا ‪..‬‬
‫والده كان يحب هذه األغنية كثيرا برأيه أن محمود درويش بطل ليس له‬
‫مثيل فهو قد تخلى عن قلبه وعشقه من أجل الوطن فال حب يعلو فوق حب‬
‫الوطن وال كرامة تسمو فوق كرامة البلد ‪..‬ومع ذلك خطت أنامله أروع‬
‫األشعار في الحب والفراق والوطن أيضا ‪ ..‬ارتفعت ابتسامته وهو يتذكر‬
‫تلك الصديقة لسالم كرمل ‪ ..‬ذلك االسم الفلسطيني الخالص الذي يعبر عن‬
‫كل جمال بلده وحسنه ‪ ..‬جنة هللا على األرض كما يسميها أهلها ‪ .‬وكالمها‬
‫عن عشق والدها لمحمود درويش وأشعاره حتى انتهى األمر بأن يحملها‬
‫اسم من اختيار درويش نفسه ‪ ..‬كانت غريبة تحمل عبق الشام ورائحة‬
‫فلسطين ‪ ..‬دماء شامية خالصة معجونة باسم فلسطيني مميز ‪..‬‬
‫ارتفعت نظرته باستغراب وهو يراها واقفة عند إشارة المرور وفي يديها‬
‫العديد من األكياس ‪ ..‬هي الصدفة مرة أخرى وكأن هذه الصدف تتفنن‬
‫باختيار أوقات لتجمعه معها ‪ ..‬أوقف سيارته لينزل نحوها وهي غير‬
‫مدركة لوجوده لكنها انتبهت أخيرا وارتفعت ابتسامتها تدريجا حين اقترب‬
‫منها قائال ‪ :‬أنسة كرمل صدفة أخرى جميلة‬
‫أجابته بهزة بسيطة من رأسها ليتابع ‪ :‬هل تحتاجين توصيلة ؟‬
‫رفعت عينيها إليه لترفض بسرعة لكنه اعترض على رفضها بأدب قائال ‪:‬‬
‫في الواقع عرضي هذا ورائه أمر مهم فإن لم يكن لديك أي حرج أنا‬
‫أرغب بالحديث معك بأمر مهم‬
‫تأملته لثوان وكأنها تناقش األمر مع عقلها بالرفض أو القبول لتجيبه أخيرا‬
‫‪ :‬حسنا ال بأس بذلك ‪.‬‬
‫مد يده إليها ليحمل عنها أكياسها وهو يشير لها باتجاه سيارته ‪..‬‬
‫نظر لألكياس ثم لها ليسأل ‪ :‬كأنني أرى أعواد خشبية عدة هل تصنعين‬
‫منها الموزاييك ؟‬
‫ابتسمت له ‪ :‬نعم ‪..‬يوجد هنا محل موزاييك ألشخاص شوام وهم أيضا‬
‫يملكون ورشة يصنعون بها أعمالهم ‪ ..‬وأنا أخذ من عندهم هذه األعواد‬
‫وحين أجمعها بالشكل الذي أريده يساعدونني بقصها أيضا ‪.‬‬
‫أومأ بتفهم ‪ :‬كنت مستغربا المرة الماضية حين قلت أنه مجموعة من‬
‫األعواد تجمعونها في قطعة هندسية ‪.‬‬
‫ابتسمت لتتابع ‪ :‬في الماضي كان كل هذا يصنع يدويا ولكن اآلن تقدمت‬
‫األلة وأصبح األمر أسهل ومبدأ صناعة الموزاييك يقوم على ثبات اليد‬
‫والنظرة الثاقبة بتشكيل الشكل النهائي للقطعة المراد تصنيعها ‪ ..‬والشكر‬
‫ألصحاب هذه الورشة لم يعترضوا على طلباتي منهم بل ساعدوني بقص‬
‫القطعة النهائية ‪.‬‬
‫وصل عند سيارته ليضع أغراضها في المقعد الخلفي ثم يفتح لها باب‬
‫المقعد األمامي ليسألها من جديد بعد أن أغلق بابه ‪ :‬هل هذه الحرفة قديمة‬
‫جدا كقدم صناعة السيوف ؟‬
‫أومأت له ‪ :‬هي قديمة أيضا اعتقد أنها تعود للقرن التاسع عشر ‪..‬‬
‫وصاحب الفضل الكبير على هذه الحرفة يدعى جرجي بيطار هو من‬
‫طورها وكان المساهم األول على انتشارها ‪.‬‬
‫أتذكر هذا الفن بشكل كبير فالسفارة السورية في بون كانت عبارة عن‬
‫تحفة فنية ال مثيل لها ‪..‬‬
‫ابتسمت مجيبة ‪ :‬نعم اتذكر صورها السفارة السورية في العاصمة األلمانية‬
‫القديمة من أعرق األبنية في هذه المدينة ‪ ..‬قد بنيت على الطراز األموي‬
‫وقطع الموزاييك منتشرة فيها ‪.‬‬
‫تابع طريقه دون أن يعلق عليها لتكمل هي ‪ :‬ولكن تلك السفارة لم تكن أول‬
‫بناء أوربي يضم أعمال هذه الحرفة‬
‫نظر لها يحثها على المتابعة لتتابع ‪ :‬فجرجي بيطار قدم خزانة خشبية‬
‫مصنوعة من الموزاييك لبابا الفاتيكان والذي أعجب بها بشكل كبير وبدقة‬
‫صنعها حتى أنه أعطى البيطار وساما ذهبيا ليشكره على هذا العمل ‪.‬‬
‫فغر فمه بصدمة ليردد ‪ :‬حقا ؟‬
‫أومأت وهي تكمل وقبلها صنع خمسين قطعة للسلطان عبد الحميد الثاني‬
‫بعد أن طلب منه والي دمشق أن يصنع هدية تناسب السلطان وبالفعل عبد‬
‫الحميد أعجب بعمله جدا وأعطاه وسام المجيدي الخامس وميدالية افتخار ‪.‬‬
‫نظر لها يتأملها بعد أن توقف عند إشارة المرور وهي تتحدث عن تاريخ‬
‫الحرف في بالدها تبدو شغوفة جدا ‪ ..‬وتندمج بسرعة وكأن جل همها هو‬
‫أن تزرع عشق بالدها في قلب من تحادثه ‪ ..‬كانت تحمل لواء بالدها في‬
‫قلبها وعينيها التي تشع فخرا عندما تتحدث عن الماضي ‪ ..‬الماضي فقط‬
‫وكأننا كعرب ال يحق لنا إال أن نفتخر بماضينا ‪.‬‬
‫قاطعت تأمله لها وكأن الحرج أصابها لتسأله ‪ :‬ولكن ما األمر الذي كنت‬
‫تريد أن تحادثني به ؟‬
‫‪.....................................................................‬‬

‫الفصل الرابع‬
‫شكر النادل على القهوة التي طلبها لهما فبعد أن سألته عن األمر المهم‬
‫طلب منها الجلوس بإحدى المقاهي وهي وافقت باستغراب واألمر يزيدها‬
‫فضول لتنظر له تحثه على الكالم والقلق بدأ يتأكلها ليقول أخيرا ‪ :‬حسنا‬
‫األمر له عالقة بصديقتك سالم‬
‫رفعت نظراتها نحوه بعدم فهم ليتابع ‪ :‬أن حسام يبدو معجبا بها ولديه النية‬
‫بالتقدم لخطبتها ولكنه يخشى الرفض‬
‫قاطعته متسائلة ‪ :‬ولماذا يخشاه ؟‬
‫شرب من كأس الماء أمامه مجيبا ‪ :‬كلنا نعرف أهمية الزواج لدى العائالت‬
‫الشامية وكيف أنهم يكونون متمهلون جدا بهذا األمر وخاصة أن هناك أمر‬
‫معروف عنهم أنهم ال يتزوجون إال من عائالت شامية عريقة مثلهم ‪..‬‬
‫بينما حسام كما تعرفين عراقي وهذا سبب توقعه للرفض ‪.‬‬
‫ارتفعت ابتسامتها ‪ :‬إن كان األمر هكذا أخبره أن ال يقلق ‪ ..‬الناس قد‬
‫تجاوزت هذا األمر في السنوات األخيرة وال سيما بعد العدد الكبير لالجئين‬
‫وتشتت السوريين على خارطة العالم أصبح األمر أبسط من قبل وال سيما‬
‫لدى العم محمد فهو يرى أن الشخص بنفسه وليس بعائلته وأصله وفصله‬
‫‪ ..‬فكل إنسان يكون ذاته واحترامه بين الناس ودائما يردد إذا دين هللا يقول‬
‫ال فرق بين عربي وأعجمي إال بالتقوى فمن أنا حتى أتجاوز شريعة هللا‬
‫بهذا ابن فالن وذلك من تلك العائلة متناسيا شخصه وصفاته‬
‫ابتسم براحة ‪ :‬كالمه يستحق أن ترفع له القبعة ‪.‬‬
‫أومأت قائلة ‪ :‬رغم أن كلماتها ما هي إال شريعتنا التي يجب أن نقتدي بها‬
‫ولكن في هذا الزمن أصبح من يتبع الطريق السليم وتعاليم ديننا حالة نادرة‬
‫تدعو إلى االستغراب‬
‫أجابها ‪ :‬أعتقد أن األمر يعود بسبب الفهم الخاطئ للدين وانتشار العادة‬
‫التي لألسف الشديد غطت على الدين بل تجاوزته إيضا ‪.‬‬
‫نظرت له لعدة ثوان لتسأله ‪ :‬هل يمكن أن أسألك سؤال ؟‬
‫أومأ لها يحثها على األمر لتقول ‪ :‬كيف لك أن تتحدث العربي بطالقة رغم‬
‫أنني فهمت أنك مولود هنا وتحمل الجنسية األلمانية أيضا‬
‫ابتسم وهو يرتشف قهوته ‪ :‬يعود الفضل ألمي ‪ ..‬فهي كانت مصرة أن‬
‫تتحدث معي بالعربية دائما وحين أجيبها باأللمانية أو أسألها تتصرف‬
‫وكأنها لم تسمع ‪ ..‬وهكذا كبرت وأنا أتحدث األلمانية في المدرسة والبيت‬
‫العربية ما بين اللهجة السورية من أمي والفلسطينية من أبي‬
‫أكلمت تسأله ‪ :‬وسبب اهتمامك بالسيوف الدمشقية ‪.‬؟‬
‫هذه المرة اعتدل في جلسته ليجيبها ‪ :‬لقد كبرت على حديث أبي عن أمجاد‬
‫صالح الدين وفتحه لبيت المقدس وانتصاراته التي أعادت القدس ألحضان‬
‫العرب حيث تنتمي حقا ‪ ..‬كان دائما مصر على أننا البالد العربية واحدة‬
‫مهما تقسمنا وكل هذه التقسيمات غريبة عننا ‪..‬‬
‫نظر إلى الطريق عبر الحائط الزجاجي بالمقهى وكأنه يحاول أن يتذكر‬
‫وهي تراقبه ليكمل ‪ :‬كان يقول هذا صالح الدين األيوبي بطل على مر‬
‫العصور كان عراقي األصل وكبر وتربى في ربوع الشام ليحرر األقصى‬
‫بسيفه الشامي األصيل ‪ ..‬أال يعبر هذا عن وحدتنا مهما حاولوا أن يقسموننا‬
‫‪ ..‬وذلك سليمان الحلبي ابن حلب الذي اغتال قائد الحملة الفرنسية على‬
‫مصر ‪ ..‬كبر وتربى في سوريا لينتصر ألهله وأشقائه في مصر ‪ ..‬وأيضا‬
‫البطل عز الدين القسام كان سوري األصل ولكنه قتل على يد البريطانيين‬
‫في األراضي الفلسطينية ‪ ..‬حتى القارئ عبد الباسط عبد الصمد صاحب‬
‫الجنسية المصرية نفتخر به كونه قارئ عربي وأغلب الناس ال تعرف‬
‫جنسيته ‪ ..‬كان صوته يجمعنا ويدفع في نفوسنا الخشوع لكلمات هللا التي‬
‫تخرج من شفتيه ‪ ..‬نعم نحن شعوب واحدة إن تركونا لوحدنا دون أن‬
‫يزرعوا فينا العنصرية والبغضة لبعضنا البعض‬
‫قاطعته ‪ :‬معك حق إن عدنا للتاريخ سنجد أننا كنا ننصر بعضنا ونقف إلى‬
‫جانب بعضنا في الوجع والحزن وحتى الفرح ولكن كل شيء تغير اآلن ‪.‬‬
‫أومأ لها ليتابع حديثه ‪ :‬وهذا سبب تمسكي لكل ما هو قديم وعربي ‪ . .‬كنت‬
‫أرى أوطاننا بعيون أبي فقط ومن بين كلماته ‪ ..‬حتى أنه كان يغازل أمي‬
‫قائال أن سيوفكم حررت بلدنا مرة فأنا مدين لك بالعشق ألف مرة‬
‫ابتسمت لكلماته لتقول ‪ :‬لذلك أعطاك اسم يوسف ؟‬
‫هز رأسه باإليجاب ‪ :‬نعم كان يعشق صالح الدين األيوبي لذلك أعطاني‬
‫اسمه ‪ ..‬وبما أنني كبرت على حبه له وتعلقه بالسيوف الدمشقية قررت أن‬
‫اقتني واحد منهم ليكون بمثابة ذكرى لشيء كان له مساحة كبيرة في قلب‬
‫أبي ‪.‬‬
‫ابتسمت له بطريقة غريبة ‪ :‬ستجده بإذن هللا ‪ ..‬اليوم سوف أسأل لك‬
‫شخص ربما سوف يساعدنا في األمر‬
‫قاطعها بلهفة ‪ :‬حقا‬
‫أومأت له لتنظر إلى ساعتها ‪ :‬وبالنسبة للسيد حسام أخبره أال يقلق وليتقدم‬
‫للعم محمد وإن تم األمر سيكون أكثر من سعيد مع سالم فهي فتاة ال‬
‫تعوض حقا ‪.‬‬
‫تأملها وهو يخاطب نفسه ‪ :‬وأنت أيضا فتاة ال تعوضي ‪.‬‬
‫لتقاطع تفكيره ‪ :‬واآلن سوف استأذن منك لقد تأخرت حقا ‪..‬‬
‫ودعها وهو يراقبها تبتعد عن المقهى تحمل أغراضها وشيء ما يشعره أنه‬
‫بحاجة ليلتقي بها مرة أخرى ‪ ..‬هناك شيء فيها يجذبه نحوها ‪ ..‬كانت‬
‫مميزة جدا كالشام والقدس وبغداد تماما ‪..‬‬
‫كانت تجمع جمال الشام وعراقة بغداد وسحر القدس ‪ ..‬وما أجمل أن تجد‬
‫هؤالء المدن في امرأة واحدة ‪.‬‬
‫رفع سماعة الهاتف يطلب رقم صديقه الذي أجابه بسرعة ليقول له يوسف‬
‫‪ :‬ال يوجد أي مشكلة لدى والد سالم فهو ال يعترض على جنسية أحد ويرى‬
‫أن هذه األمور مخالفة للدين ‪.‬‬
‫قاطعه حسام ‪ :‬من أين عرفت هذه المعلومة ؟‬
‫ابتسم له مجيبا ‪ :‬رأيت كرمل اليوم صدفة وسألتها‬
‫همهم ‪ :‬صدفة ؟‬
‫كاد أن يجيبه يوسف لكن حسام أكمل ‪ :‬لماذا أشعر أنك متحمس لفكرة‬
‫ارتباطي بها أكثر مني شخصيا ؟‬
‫علت ضحكته قائال ‪ :‬ألنك تستحق الحياة يا صديقي ‪.‬‬
‫‪........................................................................‬‬
‫كما هي العادة دوما قابل والدها في المسجد فهو لم يغب وال يوم عن أداء‬
‫فريضته هنا ‪ ..‬ابتسم له العم محمد وهو يسأله عن حاله فقد كان يبدو متعبا‬
‫قبل يومين ‪.‬‬
‫رد عليه حسام بخجل نافيا ذلك وعقله يحاول أن يجلب الكلمات المناسبة‬
‫ليفاتحه بالموضوع لينهي العم محمد حيرته قائال ‪ :‬أشعر أن هناك كالم في‬
‫قلبك ‪.‬‬
‫أومأ له بتوتر ليتابع العم ‪ :‬قله يا بني فأن تحبس الكالم داخلك يسبب تعب‬
‫نفسي لك واأللم النفسي يترجم على أجسادنا فتخور قوتنا ونفقد الشغف في‬
‫الحياة ‪.‬‬
‫تنفس حسام بقوة وكأنه يجمع الهواء من حوله ليقف أمام الحديقة التي يطل‬
‫عليها المجمع السكني الذي يجمعهم ‪ :‬تعال نجلس هناك عماه ‪.‬‬
‫أومأ له الرجل ليسير معه وما أن جلسا حتى قال حسام ‪ :‬لقد تربيت أن‬
‫الفتاة جوهرة نادرة يخبأها والدها بين أحضانه حتى تكبر وتصبح المعة‬
‫كما الماس ليهديها لرجل يحلم طوال عمره أن يحافظ على تحفته وهديته‬
‫في هذه الدنيا ‪ ..‬لقد كبرت وفكرة أن البنت يجب الحفاظ عليها وعدم مسها‬
‫بسوء فهي غالية لدى والدها وأنا في يوم من األيام سأكون أب البنة‬
‫سأرفض مسها بجرح وردة ‪ ..‬وألن أبي وأمي زرعوا هذا المبدأ في‬
‫حياتي وليس من شيمي أن أكسر أمانة رجل وثق فيني واعتبرني بيوم من‬
‫االيام كابن له ويدعو لي في كل مناسبة قررت أن أدخل البيت من أوسع‬
‫أبوابه وأطلب يد ابنتك سالم ‪ ..‬أنا أعلم أنك ستقول أنني ال أعرفها ربما‬
‫وهذا صحيح ولهذا أطلب التقدم بخطبتها وبهذا نتعرف على بعضنا بطريقة‬
‫سليمة فال أكون خنت أمانتك وال مسستها بسوء وال أخرج عن العرف‬
‫الذي تربيت وكبرت عليه ‪.‬‬
‫قاطعه العم محمد مبتسما ‪ :‬بعد كل هذه المقدمة أنت ال تترك لي مجال بأي‬
‫رفض أبدا‬
‫هدأ حسام قليال بعد ابتسامة العم المريحة و مشاكسته له ليتابع ‪ :‬أنا أبلغ من‬
‫العمر سبع وثالثين عام بغدادي األصل من عشيرة العبيدي يمكنك أن‬
‫تسأل أي شخص عن عشيرتي ‪ ..‬مقيم هنا منذ خمسة عشر عام وأعمل مع‬
‫صديق فلسطيني يملك فندق ضخم وكما تعلم أملك بيت وسيارة ‪..‬‬
‫قاطعه العم بيده ليوقف كالمه ‪ :‬ال تكمل يا ولدي فأخر همي هو ما تملك‬
‫ماديا ‪ ..‬لقد قلتها منذ قليل أن األب يبحث البنته عن رجل يحميها ‪ ..‬يكون‬
‫ظل وحماية لها ال يظلمها وال يؤذيها ‪..‬‬
‫وكالمك ومعرفتي بك كفيلة لتثبت لي أنك نعم الرجل ولكن هناك أمر‬
‫صغير يجب أن تعرفه وواجبي أن أخبرك به ‪ .‬وبعد كالمي هذا لك كامل‬
‫الحق أن تبقى على طلبك أو تنسحب وصدقني أن انسحبت أنا لن أغضب‬
‫منك أو أحمل بقلبي أي شيء ضدك بل سأتفهمك وستبقى كابن لي ‪.‬‬
‫نظر له حسام والرعب دب في قلبه من كلمات العم ليحثه على الحديث‬
‫الذي قد يغير رأيه وينسحب كما وصفها العم ‪.‬‬
‫‪............................................................................‬‬
‫" أنا أخبرك أن حسام طلب يدي من والدي وأنت تضحكين ؟ "‬
‫نظرت لها كرمل بمكر وهي تتأمل توترها وخوفها الذي يبدو واضحا على‬
‫تحركاتها وطريقة حديثها لتقول ‪ :‬وما المشكلة في طلبه هذا سالم ؟‬
‫توقفت سالم عن الحركة العشوائية التي كانت تفتعلها ‪ :‬المشكلة أنني ال‬
‫أريد الزواج فقط هكذا‬
‫وقفت مقابل لها كرمل ‪ :‬ولماذا ترفضين الزواج أن حسام شخص مناسب‬
‫جدا وأنت معجبة به أيضا ‪.‬‬
‫قاطعتها سالم بغضب ‪ :‬من قال أني معجبة ؟‬
‫ابتسمت صديقتها بخبث ‪ :‬هذا أمر واضح صديقتي وإن كان بسبب وضعك‬
‫ال أعتقد أنه شخص مثله يملك أفكار رجعية مثل تلك ثم أعود وأقول أن‬
‫حالتك لها عالج ‪ ..‬نعم ربما كان مكلف قليال ولكنها ليس ميئوس منها لذلك‬
‫ال تدفني نفسك في الحياة من أجل أوهام أنت من تصنعيها بنفسك ‪.‬‬
‫قاطعتها سالم مرة أخرى قائلة بتصميم ‪ :‬ال أنا أرفض ‪ ..‬ال أريد هذه‬
‫العالقة ‪ ..‬ال أريد رجل يشفق علي أو يقبل بي ألنه على معرفة بأبي‬
‫أوقفتها كرمل عن الكالم ‪ :‬أنت مجنونة سالم ‪ ..‬ال يوجد شخص في هذه‬
‫الحياة يتزوج شفقة ‪.‬‬
‫لم ترد عليها لدقائق وهي تفكر لتقول أخيرا ‪ :‬أال تملكين رقم صديقه‬
‫يوسف ؟‬
‫أومأت لها بنعم لتتابع ‪ :‬اتصلي به واخبريه أنني أريد أن أقابل حسام‬
‫وحدي ألمر مهم ‪.‬‬
‫حاولت كرمل الرفض ولكنها لم تنجح فيبدو أن صديقتها مصرة على‬
‫موقفها ورفضها االرتباط مهما حاولت أن تقنعها لذلك وافقت على طلبها‬
‫لتتصل بيوسف الذي أخبر حسام عن موعد اللقاء الذي وافق بسرعة على‬
‫طلبها ‪.‬‬
‫جلست أمامه والتوتر يتملكها ‪ ..‬ال تعلم ماذا حدث لها لقد كانت واثقة منذ‬
‫قليل حين طلبت لقاء معه ولكن ما أن دخل من باب المقهى حتى ثقتها‬
‫خارت وبدأت تتراجع ‪ ..‬هناك شيء داخلها يخبرها أن تعدل عن فكرتها ‪..‬‬
‫ربما هيمنة وجوده أو ابتسامته الواثقة أو نظراته التي ما عادت تخفي‬
‫إعجابه بها ‪..‬‬
‫ابتلعت ريقها وحسام يقول بلكنة مميزة فيها قليل من اللهجة العراقية‬
‫والبعض من السورية وكأنه يحاول أن يجد لكنة تفهمها وتجمعه بها ولسوء‬
‫حظها وقعت في حبها ‪ :‬لقد طلبت رؤيتي‬
‫أومأت له بخجل لثوان أخرى وهي تتنفس لتغمض عينها وقد استجمعت‬
‫قوتها قائلة ‪ :‬لقد أخبرني أبي بطلبك سيد حسام وأعطاني الوقت ألفكر ‪.‬‬
‫قاطعها ‪ :‬وأنت فكرتي ؟‬
‫عضت شفتها ‪ :‬نعم فكرت وأنا غير موافقة ‪.‬‬
‫نظر لها وكأنه يتوقع جوابها وهذا ما صدمها جدا ‪ ..‬كان هادئا غير ما‬
‫توقعت ‪ ..‬لم تتحرك عضلة في وجهه حتى نظراته لم تتغير ليقول ‪ :‬لي‬
‫الحق بمعرفة سبب الرفض ‪.‬‬
‫تنفست بعمق ‪ :‬ال ليس لك أي حق ‪.‬‬
‫ارتفعت ابتسامته ليبعد فنجان قهوته ويشبك أصابعه أمامها على الطاولة‬
‫قائال ‪ :‬عندما دخلت القوات األمريكية إلى العراق كنت في التاسعة عشر‬
‫من عمري ‪ ..‬كنت شابا طموحا لم يتبقى لي سوى أشهر وأتخرج من‬
‫معهدي وأبدأ حياتي المهنية كما كنت اتوقع ولكن كالعادة المحتل له كالم‬
‫أخر ‪..‬‬
‫فاالحتالل ال يسرق وطنك فقط بل كل سبيل للحياة منك ‪ ..‬المحتل يكره‬
‫الحياة والحب والسعادة ‪ ..‬يأتي ليزرع فيك الذل والقهر يحطم شموخك‬
‫وهذا ما حدث معنا ومعي أنا بالذات ‪ ..‬لم أمسك ورقة تخرجي وأبدا عملي‬
‫باألرقام التي كنت أحبها فاخترت دراسة المحاسبة ‪ ..‬بل فجأة أصبحت‬
‫مجرد رقم ‪.‬‬
‫رفعت نظراتها نحوه ال تفهم ليفسر لها ‪ :‬المعتقل في بالدنا ما هو إال مجرد‬
‫رقم ‪ ..‬ال يحق له إي شيء فالرقم جماد وكذلك كنا نحن بالنسبة لهم ‪.‬‬
‫وأكثر ما يتعطشون له هو مسح كياننا وهويتنا لذلك نصبح أرقام ‪.‬‬
‫عضت على شفتيها تحاول منع شهقتها يكمل بشرود ‪ :‬أبو غريب ‪ ..‬ذلك‬
‫المكان الذي أصبح صفة لأللم والوجع ‪ ..‬هل تعرفين سالم ما هو أبشع‬
‫شيء في الحياة أن تتحول اسم مدينة في بالدك لرمز للموت والقهر ‪..‬‬
‫والمضحك في األمر أن تحمل بلدي اسم محافظة صالح الدين التي تحمل‬
‫اسم بطل لم يسبق لها مثيل على مر التاريخ وتحمل أيضا اسم مدينة أبو‬
‫غريب التي كانت بالنسبة لنا العراقيين كابوس ‪..‬هناك حيث كنا نرى‬
‫الموت أمامنا ‪ ..‬لم أكن أتخيل في حياتي كلها أن الموت ممكن أن يرى‬
‫وأنت حية حتى دخلت المعتقل ‪ ..‬اسم أبو غريب لليوم يترك في قلبي‬
‫الرعب والخوف ‪ ..‬دخلت ذلك المعتقل ومعي أالف العراقيين ‪ ..‬أطفال‬
‫وشباب وشيوخ ‪ ..‬تعرضت لكل نوع من أنواع التعذيب التي قد يتخيلها‬
‫عقلك ‪ ..‬صرخات الشباب ما زالت في أذني لليوم ‪ ..‬صوت كابالت‬
‫الكهرباء يترك في قلبي الرعب ‪ ..‬بقيد أشهر عاري ليس علي سوى بطانية‬
‫وعيني معظم الوقت مغمضة ‪ ..‬هل تعلمين مدى قساوة الفكرة أن تنبهي‬
‫حواسك للحركة والصوت والرائحة لتعرفي ما يحدث ‪ ..‬حافي وعاري‬
‫ألشهر ‪ ..‬عداك عن الضرب والتعذيب والذل ‪..‬‬
‫نظر لها بأسى يسألها ‪ :‬ولكن هل تعلمين ما هو أكثر شيء مؤلم مررت به‬
‫؟‬
‫نظرت له دون كالم وجسدها ينتفض من هول ما يقول ليجيبها ‪ :‬أن‬
‫أتعرض للتعذيب من قبل امرأة ‪.‬‬
‫فتحت عينيها دون وعي وهو يكمل ‪ :‬مجندة أمريكية ال يصل طولها‬
‫لنصفي ك نت اسمع شتائمها دائما ‪ ..‬كانت تتفنن بالتعذيب فينا ‪ ..‬أنثى تذل‬
‫رجولتي ‪ ..‬أنت تعلمين أن العراق كلها عشائر وفي عرفنا النساء‬
‫مصانات يجب حمايتهن هن الطرف األضعف ‪ ..‬هن القوارير ‪ ..‬ولكن‬
‫هناك لم تكن األضعف بل كانت األكثر ظلما وجبروتا ‪ ..‬فرعون على‬
‫هيئة أنثى ‪ ..‬بصراحة ال أعلم كيف يمكن لشخص مثال أن يحمل صفة‬
‫األنوثة اصال ‪ ..‬ألكون دقيقا أكثر ال أعرف كيف لهؤالء الناس أن يكونا‬
‫بشر مثلنا ‪ ..‬كنت أفكر دوما كيف يمكن إلنسان أن يفكر ويتصرف مثلهم‬
‫ال هم جردوا من إنسانيتهم ‪ ..‬هم وحوش على هيئة بشر فقط وهي كانت‬
‫جبارة ظالمة حاقدة ‪ ..‬تضحك على صرخاتنا ‪ ..‬تجد أالف الطرق لتذلنا‬
‫‪..‬وكنت أحد ضحاياها ‪..‬‬
‫صمت وكأنه يحاول أن يجد الكلمات المناسبة ليقولها أمامها ليزفر بقوة‬
‫متابع ‪ :‬كان أصعب شيء تعرضت له هو اإليهام بالغرق ‪.‬‬
‫سألته أخيرا بصوت مشوش ‪ :‬إيهام بالغرق ؟‬
‫أومأ لها متابع ‪ :‬أنها طريقة تعذيب مبتكرة ‪ ..‬نكون مربوطين األيدي‬
‫واألرجل وعينيا مغطاة بقطعة قماش ليضعوننا في حوض استحمام مليء‬
‫بالماء وصوت المياه يكون قريب من إذنك ثم يبدء بالتقطع ‪ ..‬لتشعر وكأنك‬
‫تغرق ‪ ..‬كل شيء يصبح لونه أسود صوت الماء الذي كان عال منذ‬
‫لحظات أصبح متقطع وبطيء عندها تقول أن النهاية اقتربت ولكن المفاجأة‬
‫ال لم يكن سوى وهم ‪ ..‬وهم أنك غرقت ‪ ..‬كانت أصعب األشياء التي‬
‫مررت بها طوال حياتي ‪ ..‬هذا عدا الصلب والصعق بالكهرباء ‪ ..‬ولكن‬
‫هذا كله لم يترك في روحي أثر بقدر أصوات األطفال التي كنت أسمعها‬
‫يوميا ‪ ..‬صوت صراخهم وإذاللهم الجسدي والجنسي ‪ ..‬تعذيبهم وكسر‬
‫اإلرادة فيهم ‪ ..‬محاولة قتل كل نبتة حياة قد توجد داخلنا ‪.‬‬
‫سألته مقاطعة ‪ :‬وكيف خرجت ؟‬
‫ارتفعت ابتسامته مجيبا ‪ :‬بعد ان سرب الصحفي األمريكي صور التعذيب‬
‫التي حدثت في السجن وتسبب األمر بضجة كبيرة تم اإلفراج عن عدد من‬
‫المعتقلين وكنت أنا من بينهم ‪.‬‬
‫سألت مرة أخرى ‪ :‬ولماذا تم اعتقالك ؟‬
‫هذه المرة ضحك بصوت عال ولكنها لم تكن ضحكة بالنسبة لها كانت‬
‫صرخة ألم ‪ ..‬صوت الوجع الذي في داخله ليجيبها ‪ :‬في العراق لم تكن‬
‫بحاجة لسبب لتكون معتقل ‪.‬‬
‫هنا كان الصمت سيد الموقف ‪ ..‬نعم ليس في العراق فقط بل في الوطن‬
‫العربي ‪ ..‬منذ متى ونحن بحاجة لسبب منطقي لتكون معتقل في بالد‬
‫العرب ‪ ..‬لكنهم اخترعوا مصطلح مناسب لهؤالء معتقل رأي ‪ ..‬فحتى‬
‫الرأي في بالدنا تعتقل عليه ‪ ..‬وربما تموت تحت أيديهم فقط ألجل الرأي‬
‫وكأن الفكر والعقل هو ما يخافه هؤالء الناس ‪.‬‬
‫قاطع أفكارها قائال ‪ :‬جسدي يحوي على عالمات كثيرة إلطفاء سجائرهم‬
‫عليه ‪ ..‬وهذا كان فعل اعتيادي لهم هناك ‪ ..‬أنا أخشى صوت الكالب جدا‬
‫بل أحيانا أخاف كطفل صغير من نباح الكالب وهذا أيضا بسبب المعتقل‬
‫فقد كانت هذه أيضا أحدى أنواع تعذيبهم ‪ ..‬حتى أنني تلقيت عضة في‬
‫قدمي من كلب هناك ‪..‬‬
‫سألته بفضول ‪ :‬لم أفهم ؟‬
‫أجابها ‪ :‬يتم وضعنا في غرفة مربوطين األيدي جاثين على األرض مع‬
‫قماشة على عيوننا ويتركون بعض الكالب الشرسة تستمع فينا كوجبة لهم‬
‫‪.‬‬
‫وضعت يدها على فمها تنطق بذهول ‪ :‬يا ألهي ‪.‬‬
‫ليتنهد من جديد وهذه المرة نظراته تحاوط نظراتها ‪ :‬أنا أيضا فيني‬
‫تشوهات سالم ‪ ..‬ربما تشوهات روحي أكبر من جسدي ولكنني لست خال‬
‫منها ‪ ..‬قلت لك هناك عالمات في أنحاء جسدي وصدقيني أنا أكرها أكثر‬
‫من أي شيء فهي عالمات على القهر والذل ‪ ..‬ولكن هذا لم يمنعني من‬
‫المخاطرة وطلب يدك ‪ ..‬وبالنسبة للتشوه في جسدك هو ليس شيء يدعو‬
‫للخجل والرفض بالعكس تماما ما هو إال دليل على دناءة تجار الحرب‬
‫وأعداء اإلنسانية ‪..‬‬
‫قاطعته تسأل ‪ :‬أنت تعرف ؟‬
‫هز رأسه بهدوء يكمل ‪ :‬عندما تحدثت مع والدك في األمر أخبرني وقال‬
‫لي أنني أملك الحق في الرفض أو متابعة هذا األمر‬
‫أخبرته بتشوش وكأنها تثبت كالم والدها‪ :‬لك الحق في الرفض طبعا‬
‫ابتسم وهو يتأمل مالمح وجهها فالصدمة ما زالت تسيطر على نظراتها‬
‫وبعض من الخجل زحف إلى وجنتيها‪ :‬ولماذا أرفض ؟ هذا شيء ال ينقص‬
‫منك شيء بالعكس تماما ‪ ..‬لن أتراجع عن طلبي من أجل شيء سطحي‬
‫كهذا‬
‫تنهدت قائلة ‪ :‬أنني أتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله ‪ ...‬كنت مع أخي األكبر‬
‫في السوق يومها أخبره عن فكرتي الجديدة في الحياكة ‪ ..‬ولألسف ألننا‬
‫نعيش في أطراف دمشق كنا معرضون للقصف في أي لحظة ولسوء‬
‫حظي كانت هذه اللحظة من نصيبنا ‪ ..‬فجاة ومن دون سابق انذار بدأ‬
‫القصف بطريقة همجية ‪ ..‬كان أخي أحمد ممسكا بيدي بقوة يشدني أين ما‬
‫مشى والخوف بادي على نظراته ‪ ..‬كان يخبرني أال أخاف ما هي إال‬
‫نصف ساعة ويتوقف القصف ويعود كل شيء كما هو ‪ ..‬ال أنسى ابدا تلك‬
‫اللحظة وهو يقول لي اقرأي ما تحفظي من القرآن حتى ال تشعري‬
‫بالخوف ‪ ..‬حتى سقطت قذيفة قربنا وكانت صرخاتي عالية لكن هذه القذيفة‬
‫لم تصبنا حتى ابتسم أخي بعد أن زال الغبار‪ :‬يا مدللة ال تخاف بعد أن‬
‫سقطت القذيفة هنا سوف يختارون مكان أخر للقصف نحن أصبحنا في‬
‫أمان اآلن ‪..‬‬
‫وما كاد أن يكمل جملته حتى كانت القذيفة الثانية فوقنا ‪ ..‬وكل ما فعله هو‬
‫ركلي حتى ابتعد ويكون هو الهدف ‪ ..‬لم أشعر بنفس حينها كنت أراقب‬
‫جسده الذي تحول إال أشالء ‪ ..‬لم أشعر بالشظايا التي اخترقت جسدي‬
‫ونزفت بسببها ‪ ...‬كل همي كان وجه أخي الذي مات مبتسما ‪ ..‬كان ممدا‬
‫أمامي والدماء حوله ‪ ..‬فقدت أخي منذ لحظات ‪ ..‬خسرت سندي في هذه‬
‫الحياة ‪ ..‬الذهول سيطر علي حتى انتهى القصف بعد ساعة ‪..‬‬
‫نظرت له والدموع في عينها ‪ ..‬بقيت ساعة كاملة أنزف دون شعور مني‬
‫‪ ..‬بقيت ساعة كاملة وأخي ميت أمامي ال أعرف ماذا أفعل سوى البكاء ‪..‬‬
‫حتى أتى بعض شبان الحي وقاموا بإسعافي وإبالغ أبي بموت أخي ‪ ..‬مات‬
‫أخي وبقيت أنا ‪ ..‬بالطبع مع حالة البالد وحالة أهلي لم أفطن على الشظايا‬
‫التي سببت عالمات واضحة في جسدي وتشوهات واضحة حتى قرر أبي‬
‫السفر لألردن وبعد أن غادرنا فطنت لنفسي أنا أصبحت مشوهة ‪ ..‬وكأن‬
‫الموت والقصف ال يكفينا لتأتي ألسنة الناس وتجلدنا ‪ ..‬ال يفقهون أنك من‬
‫بلد الموت هو عنوانها وفي كل بيت هناك وجع وأسى بل يحاسبوك على‬
‫شيء خارج إرادتك ‪ ..‬لذلك تعرضت لكثير من التعليقات ونظرات الشفقة‬
‫واالشمئزاز من بعضهم ‪ ..‬وتعايشت مع الوضع ‪.‬‬
‫سألها وكأنه إقرار أكثر من سؤال‪ :‬وهذا سبب خوف والدك الزائد عليك؟‬
‫أومأت له‪ :‬نعم ‪ ..‬هو يشعر بالخطر في كل مرة يراني خارجة فيها من‬
‫البيت فهذه القذيفة لم تصبني أنا فقط ‪ ..‬تركت أثر على كل فرد من عائلتي‬
‫وأكثرنا تأثرا كان أبي‬
‫قال لها ‪:‬حتى أنا فقدت أمي بسبب الحرب‬
‫رفعت نظراتها له وهو يقول ‪ :‬بعد أن سربت القنوات األمريكية صور أبو‬
‫غريب أمي تعرضت ألزمة قلبية حادة من خوفها علي وتوفت ‪ ..‬حين‬
‫خرجت من السجن لم أجدها تنتظرني كما كنت أحلم ‪ ..‬لقد وجدت مكانها‬
‫خاليا لترك في روحي وذمة ال يمكن أن تمحى ‪.‬‬
‫مسحت دموعها بظاهر يدها فيبدو أن اإلعجاب ليس الشيء الوحيد الذي‬
‫يجمعها بحسام بل عقدة الوطن أيضا ‪ ..‬كالهما ترك الوطن فيهما وشم‬
‫يصعب نسيانه ‪ ..‬كالهما يعاني بطريقة خاصة ‪ ..‬هو يعاني من الذنب‬
‫لوفاة أمه وذكرياته في المعتقل وهي تعاني من وفاة أخيها أمام أعينها ومن‬
‫ذكرى طبعت على جسدها ‪ ..‬رغم اختالف األوطان ولكن األلم يبقى واحد‬
‫‪ ..‬ربما كان كل واحد منهما ناقص بطريقة ما ولكن حديثهما عن هذا‬
‫النقص اآلن أشعرها انه يمكن أن يكمل كل شخص نقص األخر ‪.‬‬
‫أخبرها ‪ :‬بعد حديثي هذا اتمنى أن تفكري جيدا في عرضي سالم ‪ ..‬أنا‬
‫وأنت يمكن أن نكمل بعضنا ‪ ..‬ربما كل واحد مننا ينقصه شيء وفي كثير‬
‫من األحيان النقص يعوض بالنقص ‪ ..‬وربما يمكنني تعويض ما فقدتيه‬
‫في بالدك وأنت أيضا فتكوني لي موطن ألجأ له وأشعر بأمان به ‪.‬‬
‫هزت رأسها مغيبة وكل تفكيرها مشغول بكالمه لما حدث معه هناك ‪..‬‬
‫استأذنت منه لتعود لبيتها حتى أنها نسيت االتصال بكرمل وإخبارها عما‬
‫جرى بينهما ‪..‬‬
‫دخلت الغرفة لتطلق العنان لدموعها التي حبستها بصعوبة ‪ ..‬كيف له أن‬
‫يتحمل كل هذا العذاب ‪ ..‬هي رأت أخوها ميت ولكنها واثقة أنه في مكان‬
‫أرقى وأفضل من هنا بينما حسام كان يتعذب ويخزن كل ما يتعرض له‪.‬‬
‫سألت نفسها كم شخص مات أمام عينيه تحت التعذيب‪ .‬كيف تمكن من‬
‫النوم في مكان مثل أبو غريب ‪ ..‬لقد رأت الصور التي تم تسريبها في تلك‬
‫الفترة وتذكرها جيدا‪ .‬كيف استطاع أن يتخطى كل تلك العذابات التي‬
‫تركت في روحه بعدما خرج من السجن ‪ ..‬كيف شعر حين علم بوفاة أمه‬
‫بسبب خوفها عليه ‪ ..‬ماذا كانت ردة فعله حين وجد حياته فارغة تماما ‪..‬‬
‫بماذا أحس في الدقائق األولى إلطالق صراحه وهروبه من ذلك الجحيم ‪..‬‬
‫وكيف يتعايش مع تلك العالمات التي بقيت أثاراها على جسده ‪..‬‬
‫اقتربت من المرأة أمامها لترفع سترتها وأثر الشظية على بطنها واضح‬
‫جدا لتقول ‪ :‬يبدو أنك أحن بكثير من بعض العالمات على أجساد أناس‬
‫غيري ‪.‬‬
‫هي تتذكر ساعة القصف حين تنظر لجسدها ولكن حسام ماذا يتذكر حين‬
‫ينظر لعالماته ‪ ..‬هل يسمع صراخ المعذبين ‪ .‬أم يتخيل نفسه يغرق ‪ ..‬أو‬
‫ربما يشعر بالكهرباء في أنحاء جسده ‪ ..‬هل يكره رائحة السجائر يا ترى‬
‫‪ ..‬كيف استطاع العيش مع كل هذا الوجع ‪ ..‬أغمضت عينيها تحاول‬
‫السيطرة على دموعها لتمسح خديها لتخرج نحو والدها الذي كان يشاهد‬
‫األخبار في الصالة لتقول ‪ :‬أبي أنا موافقة على الزواج من حسام ‪.‬‬

‫‪...................................................................‬‬
‫‪..‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫أغلق سماعة الهاتف واالبتسامة تزين ثغره لينظر إلى صديقه الجالس‬
‫بفضول أمامه فيزف له الخبر السعيد ‪ :‬لقد وافقت‬
‫ارتفعت ضحكة يوسف براحة فأخيرا حصل حسام على شيء قد يساعده‬
‫في تجاوز ماضيه ‪ :‬مبارك له صديقي‬
‫رد عليه حسام ‪ :‬العقبى لك رغم أنني أشعر أن هناك أمر ما يدور في‬
‫عقلك ‪.‬‬
‫لم يجبه يوسف فكالم صديقه صحيح عقله مشغول بكرمل ‪ ..‬ال ينكر أن‬
‫هناك شيء فيها يعجبه ‪ ..‬يجذبه ‪ ..‬ربما معرفتها بالحرف الدمشقية القديمة‬
‫وطريقة حديثها عنها بكل شغف يجذبه إليها وربما هو اسمها الذي يحمل‬
‫شيء من عبق بالده ‪ ..‬أو شخصيتها القوية وتصالحها مع ذاتها ‪ ..‬وممكن‬
‫أن كل هذه األمور مجتمعة فيها كانت تجعلها امرأة خاصة جدا ‪..‬‬
‫أخرجه حسام من تفكيره قائال ‪ :‬لقد قال العم محمد أنه يمكننا عقد الخطوبة‬
‫هذا الخميس وبعدها نستطيع أن نتعارف إلى بعضنا ‪.‬‬
‫ربت على قدم صديقه ‪ :‬دع هذا األمر لي ‪..‬‬
‫أومأ له حسام بالموافقة ليسأله يوسف ‪ :‬ولكن كيف اقنعتها بالموافقة ؟‬
‫ابتسم حسام بألم ‪ :‬أخبرتها بكل شيء ‪..‬‬
‫علت الصدمة مالمح وجهه فهذا شيء غريب ‪ ..‬حسام كان يرفض رفض‬
‫قاطع التحدث عن فترة اعتقاله ‪ ..‬رغم صداقته القوية معه هو لم يتحدث‬
‫من قبل عن فترة وجوده في أبو غريب وما حدث معه هناك ‪ ..‬وبحسب‬
‫معرفة كل من يعرف قصة هذا السجن استطاع يوسف أن يتخيل ما عاشه‬
‫ولكن أن يتحدث إلى شخص عن ما جرى وهذه كانت خطوة كبيرة وغير‬
‫مسبوقة ‪.‬‬
‫قال حسام‪ :‬أتفهم سبب نظراتك هذه ‪ ..‬حتى أنا لم أكن أخطط لقول شيء‬
‫ولكن حين رأيتها شعرت أنه من حقها أن تعرف الشخص الذي سترتبط به‬
‫لحياتها كلها ‪ ..‬ربما لم ترتق مشاعرنا للحب والهيام بعد ولكن خطوات‬
‫الزواج برأي يجب أن يكون أساسها الصدق واإلخالص ‪ ..‬وأنا أردت أن‬
‫أبدء حياتي معها بالصدق وهذا ما كان ‪.‬‬
‫قاطعه يوسف بمكر‪ :‬أخبرتها بكل شيء من أجل الصدق فقط أو أردت‬
‫أعالمها أن تعرضها لقذيفة في سوريا ليس شيء تخجل منه وكل إنسان في‬
‫حياتنا يملك شيء يخاف أن يكشفه للعلن ؟‬
‫تنهد حسام بقلة حيلة قائال ‪ :‬أن تملك صديقا يمكنه كشفك ببساطة ومعرفة‬
‫ما يدور في عقلك سالح ذو حدين ولكن في أغلب الوقت يكون مزعج ‪.‬‬
‫ارتفعت ضحكات يوسف دون أن يعلق على كلمات صديقه ‪..‬‬
‫‪....................................................‬‬
‫وأخيرا اليوم سوف يبدأ حسام حياة جديدة ‪ ..‬بداية جديدة أساسها السالم‬
‫والمحبة ‪..‬‬
‫فالحياة دائما هكذا تأخذ منك شيء لترده إليك بطريقة أخرى ‪ ..‬وربما هذه‬
‫الخطوة في حياة حسام ما هي إال تعويض من الحياة له ‪ ..‬تعويض له‬
‫ولسالم أيضا ‪ ..‬ففاقد الشيء يعطيه لمن يحب بسخاء ‪ ..‬وهما كانا بحاجة‬
‫لألمان ‪ ..‬افتقدا الشعور به لذلك سيكون العطاء أكبر وأسمى ‪.‬‬
‫كانت كرمل حاضرة أيضا مبتسمة طوال الوقت تساعد سالم وكأنها‬
‫شقيقتها بحق ‪ ..‬وكأن هذه الخطوة حلم لها قبل أن تكون حلما لسالم ‪..‬‬
‫فحين ترى من تحب سعيد سوف تنتقل هذه العدوى لك مؤكد وما أجمل‬
‫العدوى بالسعادة واالستقرار ‪..‬‬
‫تم االتفاق بين الرجال بسرعة وتقبل من الجميع حتى حان موعد دخول‬
‫العريس ليبارك لعروسه ويلبسها خاتمه يحبسها داخل قلبه وحياته ‪ ..‬كان‬
‫خجول جدا كما توقعت أن تراه كرمل وكذلك صديقتها التي كان الخجل‬
‫مسيطر على حركاتها وابتسامتها ‪.‬‬
‫قرب حسام رأسه منها هامسا ‪ :‬مبارك لي ‪.‬‬
‫لم تجبه ليمد لها بقطعة قماش بيضاء يبدو أنها تحمل شيء ما بداخلها‬
‫لترفع نظراتها له أخيرا تسأل ‪ :‬ما هذا ؟‬
‫ابتسم لها بحنان وعينيها الخضراء الغامقة تأسره ليجيبها ‪ :‬لو كنت أعلم‬
‫أنها ستريني أجمل لون عيون كنت أعطيتها لك منذ دهر ‪.‬‬
‫أنزلت رأسها بسرعة ليتابع كالمه ‪ :‬بما أنك أصبحت كنة العراق كان البد‬
‫من عادة عراقية تتمم خطوتنا هذه ‪.‬‬
‫نظرت لقطعة القماش الملفوفة بشكل جميل ذات لون أبيض مطرزة بورود‬
‫بيضاء أيضا لتهمس له ‪ :‬هل يمكنني فتحها ؟‬
‫أومأ لها بنعم ‪ ..‬لتبدأ فتحها بأصابع متوترة وحسام يراقبها حتى تبينت ما‬
‫بداخلها ‪ ..‬كانت لفة من األوراق النقدية مرصوصة بإحكام لم تتبين عددها‬
‫لتعيد نظراتها له بعدم فهم ليجيب على استفسارها ‪ :‬هذه عادة عراقية حيث‬
‫يقدم العريس هدية لعروسه في خطوبتهما ‪.‬‬
‫حاولت أن تعترض ليجيبها ‪ :‬بالطبع ال تفكرين برفض عادات بالدي ؟‬
‫أفلتت منها ضحكة خافتة تجيبه ‪ :‬بالطبع ال ‪ ..‬شكرا لك ‪.‬‬
‫أومأ لها وهو يراقبها مبتسما هانئا ‪.‬‬
‫كانت تقف قريب من الباب تراقب حسام وسالم واالبتسامة تعلو على‬
‫شفتيها لتشعر به يقترب منها ومعه كأس من العصير يمد يده به نحوها‬
‫فتأخذه منه شاكرة إياه ليقف قربها يستند على الحائط مثلما تفعل قائال ‪:‬‬
‫أنهما مناسبان جدا‬
‫أومأت له وعينيها تركز عليهما قائلة ‪ :‬وكأن بغداد تبتسم لدمشق لتبعث‬
‫فيها األمل والحياة ‪.‬‬
‫ابتسم مكمال ‪ :‬لطالما كانت دمشق كالفتاة المدللة لكل العواصم العربية‬
‫وكذلك أهلها كلهم سحر يجذبنا نحوها دون أن ندرك لنرى أنفسنا قد وقعنا‬
‫في السحر الشامي وتغلغل فينا الياسمين الدمشقي ‪.‬‬
‫عضت شفتيها وكأنها فهمت ما يرمي إليه ليتابع ‪ :‬هي دمشق من كانت‬
‫تعلمنا الحب وفنونه لنبحر به ونذوب به ‪ ..‬فليست بغداد فقط من تبتسم لها‬
‫هياما حتى القدس أيضا‬
‫نظرت نحوه بعدم فهم ليفسر ‪ :‬أال تعلمين أن محمود درويش وقع في حب‬
‫شامي من قبل‬
‫قاطعته ‪ :‬ولكن درويش ليس مقدسيا ‪ ..‬ألم تعلم أنه من عكا‬
‫ابتسم بثقة ‪ :‬من البروة تحديدا ‪ ..‬بال أعلم وحين قلت أن القدس وقعت في‬
‫سحر الشام كنت أقصد بالدي كلها ولكنني أحب ذكر اسم القدس ألنني منها‬
‫‪.‬‬
‫لم تجبه واكتفت بتأمله وهو يكمل ‪ :‬وبعد أن وقع درويش بالسحر الدمشقي‬
‫تزوج منها لتكون ابن شقيق نزار قباني هي من سلبت ابن فلسطين قلبه‬
‫وللصدفة كان عمها الشامي األصيل المحمل بعبق الشام قد وقع أسير في‬
‫غرام ابنة بغداد بلقيس ‪ ..‬وكأنهم يتركون لنا رسالة أن تلك البالد ستكون‬
‫واحدة في الحب والحرب معا ‪..‬‬
‫كانت كل كلمة يقولها تترك أثر كبير في قلبها ‪ ..‬وكأنها تمسها شخصيا ‪..‬‬
‫رغم اختياره لهذه القصة وقصة صالح الدين من قبل تصر على ربط‬
‫العراق وسوريا وفلسطين برباط واحد ‪ ..‬تاريخ واحد وقلب واحد ‪ ..‬وهي‬
‫مؤمنة بهذا الشيء ولطالما تبنت هذه الفكرة أيضا ‪ ...‬فمؤكد ليس صدفة أن‬
‫تجتمع هذه البالد على الوجع واألنين ‪ ..‬واآلن على الحب ‪.‬‬
‫قاطع أفكارها يسأل ‪ :‬هل تعلمين ما الرابط األخر بين قصة نزار ومحمود‬
‫؟‬
‫نظرت له باستفهام ليجيبها ‪ :‬أنهما وقعا في الحب من النظرة األولى ‪..‬‬
‫فنزار وقع في حب بلقيس وهو يلقي قصيدته ‪ ..‬ومحمود أيضا وقع في‬
‫غرام رنا في إحدى الندوات التي أقيمت ليلقي الشعر فيها ‪.‬‬
‫ابتسمت كرمل تلقائيا وهي تتذكر قصص هؤالء ‪ ..‬فهي كانت تعشق قصة‬
‫حب نزار قباني وحتى قصة زواج درويش التي ال تخلو من الجنون ‪..‬‬
‫تابع كلماته ‪ :‬وأيضا ‪.‬‬
‫نظرت له وهي تردد في عقلها ‪ :‬هل هناك أيضا ‪ ..‬ألم تنتهي الحكاية هنا ؟‬
‫ويوسف تابع ‪ :‬واالثنان طلبا الزواج بعد لقاء واحد فقط فنزار ظل يسأل‬
‫عن بلقيس الرواي حتى عرف أين تسكن ليطلب زواجها رغم أنه قوبل‬
‫بالرفض في البداية ومحمود الذي رفضت رنا القباني دعوته إلى العشاء‬
‫فما كان منه إال أن يدعوها للزواج في نفس اللحظة ‪.‬‬
‫علت ضحكتها هذه المرة لتقول وكأنه إقرار ‪ :‬أال تعتقد أن حياة الشعراء‬
‫هي األكثر جنونا وجموحا ‪.‬‬
‫اقترب برأسه منها هامسا ‪ :‬ربما هي الروح الشامية من ترفع نسبة الجنون‬
‫في الحب ‪.‬‬
‫رفعت حاجبها معترضا لترتفع ابتسامته وهو يعود برأسه وكأنه يراقب‬
‫العروسين ليهمس ‪ :‬إذن ما رأيك ؟‬
‫نظرت له ‪ :‬رأي بماذا ؟‬
‫انتقلت نظراته نحوها ‪ :‬ببعض الجنون‬
‫سألت ‪ :‬لم أفهم ؟‬
‫ابتسم‪ :‬هل تتزوجين بي ؟‬
‫فتحت عينيها من الصدمة تحاول استيعاب سؤاله ‪ ..‬هل عرض عليها‬
‫الزواج حقا ‪ ..‬هل يقصد ما قصد أم أنه تأثر بالقصة التي كان يسردها‬
‫لكن نظرته كانت واثقة جدا من طلبه لتتنهد بصوت مسموع ترسم على‬
‫شفتيها ابتسامة جذابة تجيبه ‪ :‬لقد نسيت جزء مهما بقصتك تلك ‪.‬‬
‫حثها على المتابعة بنظراته لتقول ‪ :‬نسيت أن تقول أن قصة حب رنا‬
‫ومحمود لم تكتمل ووقع الطالق بينهما ‪.‬‬
‫ابتسم بمكر مجيبا ‪ :‬أن يقع الطالق هذا ال يعني أن الحب انتهى ‪..‬‬
‫والمعروف أن درويش كان غير مناسبا ليكون زوج ‪ ..‬محمود درويش‬
‫مناضل طالب للحرية عاشقا محبا ولكنه لم يقدر أن يكون زوج ‪ ..‬فهذه‬
‫حجة غير مناسبة ‪.‬‬
‫ضحكت هذه المرة بصوت عال ‪ ..‬فهي لن تستطيع أن تهزمه أبدا ‪..‬‬
‫فالتبرير جاهز ولألسف منطقي أيضا ‪..‬‬
‫لتقول أخيرا‪ :‬حتى لو كان كالمك صحيح لكنني بالفعل متزوجة‬
‫عند تصريحها هذا اعتدل في وقفته ‪ ..‬كانت الصدمة تسيطر عليه ‪ ..‬كيف‬
‫متزوجة لم يسمع من قبل ‪ ..‬لم يرى أي خاتم في يديها ‪ ..‬بل قالت أنها‬
‫تعيش مع والدتها فقط بل هو تعرف على أمها منذ قليل أيضا ‪ ..‬حتى سالم‬
‫لم تأت على ذكرى زواج صديقتها من قبل ‪ ..‬كانت تتصرف كفتاة عزباء‬
‫‪ ..‬كيف لها أن أن تكون متزوجة ‪.‬‬
‫كان ينظر لها بصدمة وعدم فهم وابتسامة غريبة ترتسم على شفتيها ونظرة‬
‫حزينة سكنت عينيها ليسألها بهمس ‪ :‬وأين زوجك اآلن فأنا لم أره معك هنا‬
‫؟‬
‫ابتلعت ريقها بصعوبة والحزن بدأ يزحف لعينيها لتجيبه ‪ :‬لقد ابتلعه البحر‬
‫‪.‬‬
‫وتبتعد عنه بهدوء دون حتى أن تلفت له ‪ ..‬ويوسف واقفا جامد في مكانه‬
‫وصدمة أخرى حطت على رأسه ‪ ..‬لم يتوقع أن كرمل أيضا من من عاش‬
‫هكذا تجربة ‪ ..‬كانت تبدو طبيعية ‪ ..‬قوية ‪ ..‬غير حزينة ‪ ..‬حتى أنها كانت‬
‫تساند سالم في محنتها ‪ ..‬تعطيها القوة والدفع ‪ ..‬ليكتشف أنها أيضا ضحية‬
‫‪ ..‬مع اختالف الطرق ولكنها ضحية ‪ ..‬ضحية للوجع والموت والفقدان ‪..‬‬
‫‪..‬‬
‫‪...................................................................................‬‬
‫‪....‬‬
‫اقترب من الجمع الذي بقي بعد أن غادر الضيوف وأصر والد سالم على‬
‫بقائهم على العشاء فوافق بشكر ‪ ..‬كانت االبتسامات هي عنوان الجميع ما‬
‫عدا كرمل التي تبدلت مالمحها وهو التي ما زال الخبر يدور في رأسه‬
‫غير مصدق لما قالته ‪ ..‬جلس قرب حسام الذي سأله بهمس ‪ :‬ماذا حدث ؟‬
‫نظر له يوسف ‪ :‬فيما بعد ‪.‬‬
‫أومأ له صديقه ليقاطعهم والد سالم ‪ :‬العقبى لك ولدي لقد علمت أنك غير‬
‫متزوج ‪.‬‬
‫ابتسم له يوسف شاكرا له وعينيه تحط عليها لتتصرف بعدم اكتراث‬
‫وحسام يقول ‪ :‬السيف الدمشقي يشغل عقل يوسف هذه األيام أكثر من أي‬
‫شيء أخر ‪ ..‬حتى من العمل الذي كان يركز عليه كثيرا ‪.‬‬
‫ابتسم حموه ‪:‬لقد حكت لي الفتيات رغبتك في الحصول على سيف دمشقي‬
‫‪ ..‬هل وفقت بهذا ؟‬
‫تنهد يوسف ليبعدها عن رأسه حاليا ‪ :‬ال أبدا ‪ ..‬فاألسماء التي أعطتني أياها‬
‫كرمل وجدت واحد فقط وقال أنه خرج من سوريا وبقي السيف هناك ومن‬
‫الصعب بيعه حتى لو وجد طريقة ليخرجه من دمشق أمن ‪.‬‬
‫أومأ العم محمدا ليقول ‪ :‬معه حق ‪ ..‬فهذه السيوف هي مهمة جدا لهذه‬
‫العائالت ‪ ..‬حتى أنها أصبحت رمزا مشرفا لتلك العائلة ‪ ..‬لذلك من شبه‬
‫المستحيل أن تجد عائلة تقبل بيعه ‪.‬‬
‫أجابه يوسف ‪ :‬بالضبط هذا ما قاله لي صانع السيوف ولكنه قال أيضا‬
‫يمكن أن تبيعه إحدى العائالت فأنت تعلم أن جيل الشباب ال يهتم كثيرا‬
‫بمثل هذه التحف وبعضهم يراها خردة ال فائدة منها ‪.‬‬
‫تابع حسام كالم صديقه ‪ :‬معك حق لألسف أن هذا الجيل غير مبال لماضيه‬
‫وتاريخه وكل ما يشغل فكره هو التقلد بالغرب ‪.‬‬
‫قاطع كالمه العم محمد ‪ :‬ليس كل الجيل دائما هناك استثناء ولكن أكثر ما‬
‫يؤلم قلبي أن يكون االستثناء هو الشيء الصحيح والمنطقي لقد كثر الفساد‬
‫و الالمبالة فأصبحت سمة العصر ‪ ..‬لكنني مؤمن بأن هناك نور في أخر‬
‫النفق ‪..‬‬
‫انظروا مثال لكم ألستم من هذا الشباب ‪ ..‬ما زلتم تحتفظون بخيركم ‪ ..‬فهذه‬
‫كرمل التي لم تتخل عن ماضيها وعراقتها بل نقلت حرفة الموزييك‬
‫لأللمان ‪..‬‬
‫ليضحك وهو يتابع ‪ :‬رغم أنهم لم يتعلموا منها شيء ولكنها على األقل‬
‫حاولت ولم تستلم وتابعت في عملها وصنع القطع منها ‪.‬‬
‫كما أنها تحفظ كثيرا عن تاريخ دمشق وحرفها وأسرار تلك الحرف ‪..‬‬
‫وهذه سالم رغم أنها ال تعلم الكثير عن الحرف مثل كرمل وشغفها األقمشة‬
‫لكنها برعت في فن الصوف وصنع األغباني ‪..‬‬
‫وأنت أيضا يا يوسف رغم أنك ولدت هنا وتربيت بين أحضان الغرب ما‬
‫زلت محتفظ بعشقك لجذورك الفلسطينية بل تبحث عن سيف دمشقي في‬
‫كل مكان ‪.‬‬
‫ابتسم الجميع ماعدا حسام الذي علق قائال ‪ :‬يبدو أنني الوحيد هنا الذي لم‬
‫يحفظ تاريخه بشيء ‪.‬‬
‫علت الضحكات على كلمات حسام ليعلق عمه ‪ :‬بالطبع ال‪ ..‬يكفي أنك‬
‫محافظ على جذورك العراقية وأصالة بالدك ‪.‬‬
‫ابتسم له حسام ليلتفت نحو خطيبته سائال ‪ :‬ولكن ما هو األغباني ؟‬
‫ابتسمت له سالم لتجيبه ‪ :‬هو قماش أبيض مطرز باللون األبيض أو‬
‫األصفر ‪ ..‬كان من قبل يستخدم من الحرير وأحيانا تستخدم خيوط الذهب‬
‫والفضة للتطريز عليه أما اآلن فيستخدم قماش الكتان وخيوط الحرير ‪.‬‬
‫نظر لها حسام ليقر أخيرا ‪ :‬لطالما سمعت عن جمال دمشق الذي يسرق‬
‫العيون ولكن بعد أن عرفتكم وسمعت كالم كرمل عن السيوف ثم الموزييك‬
‫واآلن عن األغباني صرت أعرف سر السحر في دمشق ‪ ..‬فهي تحمل‬
‫الكثير من الخبايا التي تجعلك متعمق فيها وترغب بمعرفة المزيد عنها ‪..‬‬
‫فكل حرفة دمشقية تحمل الكثير من الجمال والفن ممزوج باإلبداع ‪ ..‬حتى‬
‫أسماء هذه الحرف هي فن بحد ذاته ‪..‬‬
‫قاطعته كرمل ‪ :‬معك حق أسماء هذه الحرف لوحدها حكاية ‪ ..‬موزييك ‪..‬‬
‫التصديف ‪ ..‬األغباني ‪ ..‬البروكار ‪ ..‬الدمشقة ‪ ..‬القيشاني ‪ ..‬العجمي‬
‫وغيرها الكثير‬
‫سألها يوسف ‪ :‬لحظة ‪ ..‬أنا أعرف معظم ما ذكرتيه سابقا وقد تحدثنا عنه‬
‫أيضا ولكن ما هو القيشاني والعجمي فأنا ال أعرفهما ‪.‬‬
‫أجابته ‪ :‬هذه المرة يجب على العم محمد أن يجيب ‪.‬‬
‫ابتسم لها العم محمد قائال بعد أن تأكد أن الجميع انتهوا من طعامهم ‪:‬‬
‫بالطبع سأجيب ولكن ليس قبل أن نشرب الشاي‬
‫أومأ له الجميع وسالم تسأل حسام ‪ :‬لقد سمعت أن الشاي العراقي مختلف‬
‫عن الشاي الذي نشربه ؟‬
‫ابتسم لها مجيبا ‪ :‬الشاي العراقي بحبهان ويكون مخدرا ‪.‬‬
‫نظرت له من دون فهم ليضحك قائال ‪ :‬حب الهال كما تسموه في سوريا ‪.‬‬
‫أجابته‪ :‬لقد فهمت هذه ولكنني لم أفهم كلمة مخدر‬
‫نظر لها يحاول كتم ضحكته يجيب‪ :‬عندما نصنع الشاي وبعد أن يغلي‬
‫نتركه في اإلبريق حتى يتخدر ويصبح أثقل وبعدها نقدمه ‪.‬‬
‫قاطعته قائلة ‪ :‬أال يصبح طعمه مرا هكذا؟‬
‫أجابها هامسا ‪ :‬تذوقيه أوال ثم أحكمي ‪ ..‬ثم أال تعرفين قول نزار بالشاي‬
‫العراقي ؟‬
‫هزت رأسها له ‪ :‬هذا موعد الشاي العراقي المعطر ‪ ..‬والمعتق كالسالفة ‪.‬‬
‫اقترب من مكان جلوسها بجسده الضخم ‪ :‬أليس هذا اعتراف صريح‬
‫وواضح وال يقبل الطعن أن شاينا مميز وله نكهة فريدة من نوعه ‪.‬‬
‫نظرت نحو الطاولة التي فرغت من الجميع عداهما لتبتعد بجسدها عنه‬
‫وهي تجيبه بارتباك ‪ :‬لقد اقتنعت ‪.‬‬
‫لتنتفض واقفة مبتعدة عن مرمى عينيه نحو المطبخ وهو يلحق بالجمع الذي‬
‫غادر دون أن يشعر بأحد منهم ‪..‬‬
‫أمسك منها فنجان الشاي مبتسما وهي خجلة مرتبكة لتبتعد عنه تجلس قرب‬
‫كرمل التي كانت تراقب ما يحدث بينهما بسعادة كبيرة ‪..‬‬
‫قطع نظراتها كالم العم محمد حين بدء بالكالم قائال ‪ :‬أن العجمي هو فن‬
‫رسم دمشقي ‪ ..‬رغم أنه يعرف بالدهان الدمشقي بين صناع الحرفة ولكن‬
‫اسم العجمي هو ما اشتهر وعرف به ‪..‬‬
‫سأله يوسف ‪ :‬وما المميز بهذا الرسم ؟‬
‫ابتسم له العم محمد ‪ :‬المميز به أنه رسم نباتي على الخشب ‪.‬‬
‫نظر للوجوه وقد بان عدم الفهم على معظمهم ليشرح أكثر ‪ :‬أنتم تعلمون‬
‫أن رسم الحيوانات والبشر محرم دينيا ‪ ..‬لذلك في العصر األموي انتشرت‬
‫فكرة الرسوم النباتية والهندسية والخطية ‪.‬‬
‫قاطعه حسام هذه المرة متسائال ‪ :‬الخطية تقصد بها الخط العربي‬
‫المزخرف أليس كذلك ‪.‬‬
‫أوما له ‪ :‬بالضبط وكان يركز على اآليات القرآنية فكانت تلك الرسومات‬
‫تزين جدران كثير من البيوت الشامية ‪ ..‬وحين قرر الخليفة األموي عبد‬
‫الملك بن مروان بناء المسجد األقصى بعث عدد من هؤالء الحرفيين إلى‬
‫القدس وهناك بدأت أول األعمال الزخرفية لهذا الفن اإلسالمي على جدران‬
‫المساجد ‪ ..‬وكانت النتيجة مبهرة جدا ‪..‬‬
‫أوقفه يوسف بحماس ‪ :‬أتقصد أن الزخارف والفسيفساء التي تزين قبة‬
‫الصخرة هي من صنع حرفيين دمشق ‪.‬‬
‫ابتسم له العم ‪ :‬نعم بني وبالطبع كان هناك صناع من أهل فلسطين وحتى‬
‫من العراق أيضا‬
‫نظر يوسف نحو صديقه ثم كرمل التي كانت تراقب الحديث بصمت ليتابع‬
‫العم محمد كالمه ‪ :‬لقد استخدم الفنيون ثالث ألوان رئيسية لهذا العمل‬
‫األخضر واألزرق والذهبي ‪..‬إضافة للخط الكوفي في كتابة اآليات القرآنية‬
‫‪ ..‬وعندما رأى الخليفة النتيجة النهائية كان منبهرا جدا وأمرهم ببناء‬
‫المسجد األموي بدمشق الذي تزينه تلك الرسومات أيضا وبالفعل كان تحفة‬
‫فنية ال يمكن ألحد إال أن يذوب جماال بها ‪.‬‬
‫سألته سالم ‪ :‬ولكن أليس ما يميز هذا الفن أن رسوماته نافرة أبي ؟‬
‫نظر لها ثم للجميع قائال ‪ :‬معك حق فالرسم العجمي أساسه الرسم على لوح‬
‫خشبي حيث رسومات نباتية نافرة تتميز بألوانها التي تبقى محافظة على‬
‫رونقها لمئات السنين ‪ ..‬هذه الحرفة ليومنا هذا يدوية فليس هناك أي ألة‬
‫تستخدم بالعمل بها ‪ ..‬بداية من خط الرسمة على الورق باإلبرة ‪ ..‬ثم خلط‬
‫العجينة إلى الحف والتلوين فكل شيء بهذه الحرف يصنع باليد من أوله‬
‫ألخره ‪..‬‬
‫سأل يوسف من جديد ولكن هذه العجينة التي تجعل اللوحات نافرة مما هي‬
‫مصنوعة ؟‬
‫أجابه ‪ :‬من الجبس والغراء األحمر والسيبداج الذي هو مادة تستخدم في‬
‫أعمال الطالء ‪.‬‬
‫علق حسام ضاحكا ‪ :‬كنت سوف أسألك عنه فأجبت فورا ‪.‬‬
‫ارتفعت ضحكات الجميع على تعليق حسام ليتابع العم محمد ‪ :‬وبهذا أصبح‬
‫هذا الفن من أشهر فنون الرسم اإلسالمي وأجملها على اإلطالق فجذب‬
‫الكثير من األنظار حتى بنيت الكثير من القصور وجلب الحرفيين‬
‫الدمشقيين ليزينوها بفنهم هذا ‪..‬مثل قصر يلدز بتركيا وقصر محمد علي‬
‫في مصر ‪ ..‬حتى أن هناك بعض قاعات في كثير من المتاحف مزينة بهذه‬
‫الرسوم كاللوفر في باريس والمتحف اإلسالمي في ماليزيا ‪.‬‬
‫علقت كرمل على كالمه ‪ :‬أن فنوننا تزين مختلف دول العالم لتثبت لهم أننا‬
‫أهل عراقة وفن ولكنهم ال يعترفون بهذا أبدا ‪ ..‬بل دائما ينظرون لنا كبالد‬
‫أقل منهم ‪.‬‬
‫ليتابع حسام عنها ‪ :‬معك حق فمثال تماثيل الثيران المجنحة التي تعتبر من‬
‫أروع االكتشافات في العراق هي مشتتة في معظم متاحف العالم ‪ ..‬في‬
‫اللوفر والمتحف البريطاني ومتحف اسطنبول حتى في مومباي ‪ ..‬حتى‬
‫المسالت المصرية تزين معظم ساحاتهم ‪ ..‬وكأن بالدهم خلت من األثار‬
‫ليأتوا إلى أثارنا ‪.‬‬
‫قاطعه العم ‪ :‬أبدا هذا يدل أنهم مهما تفاخروا بتقدمهم وحتى تاريخهم يبقى‬
‫تاريخنا أقوى وأشد فخرا مما يملكون ‪ ..‬أنهم ينفون معتقداتهم التي‬
‫ينشرونها بيننا ‪ ..‬إن كنت ترى نفسك األقوى وصاحب الفضل بالعلوم‬
‫والتقدم والتاريخ إذا لماذا تحتفظ بدالئل حضاراتنا لديك وتعطيها التبجيل‬
‫واالهتمام ‪.‬‬
‫أومأ له الجميع ليلتفت حسام لصديقه الصامت ‪ :‬ولكن لماذا تلتزم الصمت‬
‫يوسف فأنا أعلم حبك للخوض بمثل هذه النقاشات ‪.‬‬
‫تنهد يوسف واضعا فنجانه على الطاولة ليقول ‪ :‬أفكر في كالم العم ‪ ..‬هل‬
‫تعلم صديقي كنت أعتقد أن العراق وسوريا وفلسطين يجتمعون بالحرب‬
‫واأللم فقط وبصالح الدين األيوبي وفتحه للقدس ولكنني بدأت أكتشف أنه‬
‫هذه البالد شبت على العطاء المتبادل والثراء بالفن واإلبداع ‪ ..‬لقد كنا‬
‫نجتمع بالجمال والحب قبل أن يضمنا الحزن والموت والدمار والهجرة ‪..‬‬
‫نظر نحو العم محمد وكأنه يسأله ‪ :‬هل يمكن أن قوتنا وتكاتفنا على مر‬
‫األزمان ‪ ..‬اجتماعنا بالجمال واألبهة هي سبب وصولنا لهذا الحزن واأللم‬
‫سويا ؟‬
‫ابتسم له العم بحنان ليجيبه ‪ :‬لطالما كنا يدا واحدة األقرب لبعضنا ‪ ..‬فليس‬
‫فقط صالح الدين والحرب ما يجمعنا ‪ ..‬هل تعلم ان سليمان الحلبي حين‬
‫قتل كليبر قتله بخنجر غزاوي ‪ ..‬اشتراه من غزة ليكتب التاريخ به ‪..‬‬
‫هز يوسف رأسه نافيا ‪ :‬ال لم اسمع بهذا األمر من قبل ‪.‬‬
‫تابع العم حديثه ‪ :‬لم تفرق بيننا الحدود من قبل ‪ ..‬لطالما جمعنا تاريخ‬
‫عريق حضارات سادت األرض قوة وعلم ‪ ..‬وال دين فرق بيننا أيضا ‪..‬‬
‫لطالما تعايش المسلمين والمسيحيين ببالدنا فتجد بيت مسلم وجاره مسيحي‬
‫والحب والوفاق بينهما ‪ ..‬فهناك الكثير من األشوريين في العراق وتربطهم‬
‫عالقات وثيقة مع مسلمي العراق وحتى القدس حين دخلها سيدنا عمر أمر‬
‫ببناء مسجد قرب كنيسة القيامة التي تعتبر من أهم الكنائس في الدين‬
‫المسيحي ولها مكانة كبيرة في قلبوهم وتعظيم كبير كان يريد أن يوضح‬
‫أهمية التعايش بين األديان ‪ ..‬حتى حين دخلها صالح الدين األيوبي فاتحا‬
‫أعطى مفاتيح الكنيسة لعائلة مسلمة ‪ ..‬وليومنا هذه العائلة المسلمة ما زالت‬
‫محتفظة بمفاتيح الكنيسة وتهتم بها ‪..‬‬
‫نحن شعوب خلقت للسالم ‪ ..‬بعيدا عن اختالف األديان والجنسيات والحدود‬
‫التي ابتدعوها بيينا ‪..‬‬
‫قاطعته كرمل ‪ :‬ولكن هذا لم يعد موجود اآلن ‪.‬‬
‫أوقفها بيده ‪ :‬ال بنيتي طالما هناك إنسان عربي على قيد الحياة يجب أن‬
‫نبقى متفائلين أن كل شيء سيعود كما كان وما هذه الفرقة والطائفية التي‬
‫يزرعونها في عقول البعض ما هي إال أدوات حرب خبيثة سيأتي يوم‬
‫ونستفيق منها ‪ ..‬ال يمكن للنبتة أن تموت نهائيا ‪ .‬سيبقى هناك بذرة تنبت‬
‫من جديد وتزدهر ‪.‬‬
‫تابع حسام كالم عمه ‪ :‬نحن شعوب ال تموت بل تمرض فقط ومهما طال‬
‫المرض سيأتي يوم وننهض من جديد ‪.‬‬
‫صمت الجميع ليكسر هذا الصمت يوسف متسائال ‪ :‬وما هو القيشاني ؟‬
‫أجابه العم ‪ :‬لقد حولنا خطوبة صديقك لدرس تاريخي يا ولدي ‪.‬‬
‫ارتفعت ضحكات الجميع وحسام يجيب ‪ :‬بالعكس عمي الحديث شيق جدا‬
‫وأنا مستمع جدا به ‪ ..‬أرجوك تابع كالمك ‪.‬‬
‫ابتسم له عمه ‪ :‬أنا ال مانع لدي بالحديث عن الحرف الشامية حتى الصباح‬
‫ولكن خشيت أن تشعر بالملل مثل حماتك التي أخذت والدة كرمل واختفت‬
‫معها في المطبخ ‪.‬‬
‫ابتسم له حسام نافيا ذلك ليجيب عمه ‪ :‬حسنا إذن القيشاني هو فن الخزف‬
‫الملون ‪ .‬خزف مغطاة بقشرة رقيقة بيضاء عليها رسومات بأربعة ألوان‬
‫ثابتة الفيروزي والكحلي واألخضر واألحمر الغامق ‪.‬‬
‫قاطعه يوسف ‪ :‬نعم لقد تذكرت هذه القطع ‪ ..‬رأيتها في إحدى المعارض‬
‫وكان اللون األزرق مميز جدا ويجذب األنظار بشدة ‪.‬‬
‫اجابه العم ‪ :‬لذلك سمي بالقيشاني فمعنى الكلمة باللغة العربية انظر ‪..‬‬
‫وكأن الحرفيين كانوا يقصدون أن أعمالهم يجب أن تلفت األنظار‪.‬‬
‫علق حسام ‪ :‬إن كان األمر هكذا يجب أن نطلق لقب قيشاني على كل‬
‫الحرف الدمشقية فما هي إال سحر للعيون وجذب لألفئدة ‪.‬‬
‫تابع العم كالمه قائال ‪ :‬لكن ما كان يميز هذه الحرفة أو كما يقال عهنا طين‬
‫ينطق إبداعا ‪.‬‬
‫نطق الجميع بصوت واحد ‪ :‬طين ؟‬
‫أومأ لهم العم مجيبا ‪ :‬نعم أنه يصنع من الطين ‪ ..‬تمزج بعض أنواع معينة‬
‫من األتربة لتشكل عجينة طينية وهي تكون األساس بصنع تلك القطع‬
‫ويدخلها الفرن وبعدها يعود ليرسم عليها ويلونها من جديد ثم يعيدها إلى‬
‫فرنه فيصبح لها تلك الطبقة الزجاجية ليشكلها بالشكل الذي يرغب به ‪.‬‬
‫وهكذا يصنع من الالشيء شيء مبهر ‪ ..‬ومن هنا كانت ميزة القيشاني ‪..‬‬
‫أكملت عنه كرمل ‪ :‬يمكنك أن تبهر العالم بأشياء في نظرهم ال قيمة لها ‪..‬‬
‫كل ما تحتاجه هو يد ماهرة وعقل مبدع فقط ‪.‬‬
‫وقف العم قائال ‪ :‬انتهت معلوماتي لليوم ‪ ..‬دعوني أرى ما تفعله زوجتي ‪..‬‬
‫فاجتماع النساء في المطبخ يولد الكوارث ‪ ..‬فهو مصنع الخطط والتي‬
‫يكون محورها الرجل ‪.‬‬
‫علت ضحكات الجميع وهم يراقبون مغادرة العم محمد بعيدا عنهم ليتنهد‬
‫يوسف مقرا ‪ :‬أن والدك ما هو إال موسوعة علمية ‪.‬‬
‫ابتسمت له سالم دون أن تعلق لينخرط الجميع بهدوء فحسام الذي يتهامس‬
‫مع سالم التي اقتربت تجلس قربه بعد أن غادر والدها ويوسف الذي يتبادل‬
‫أطراف الحديث مع شقيقتها وكرمل التي كانت ما تزال على حالتها تلك ‪..‬‬
‫بعيدة ومنطوية عنه ‪ ..‬رغم أن حديث العم يوسف أخرجه من صدمه‬
‫بكالمها ولكنه لم يمحيه من عقله أبدا ‪ ..‬كيف لم يخطر بباله من قبل أنها‬
‫ستكون متزوجة فقد كانت تبدو بأوائل الثالثين ‪ ..‬ماذا حدث معها يا ترى‬
‫‪ ..‬كيف غرق زوجها ‪ ..‬هل كانت معه أم أنها أتت بعده وربما قبله ‪ ..‬هل‬
‫هناك طريقة لجعلها تحكي ‪ ..‬اإلنسان يفضل أن يحتفظ بألمه لنفسه ‪ ..‬ولكن‬
‫هناك نقطة معينة تجعله يخلع ثوب الكتمان الذي ارتداه لسنوات طويلة ‪..‬‬
‫وشخص واحد فقط ال يخاف من عريه أمامه ‪ ..‬لقد كانت سالم هي‬
‫الشخص المناسب لحسام رغم ثقته أن صديقه لم يحكي لها كل شيء‬
‫بالتفصيل وكل ما عاشه بل اكتفى ببعض القصص العامة ‪ ..‬فهو كان همه‬
‫األول أن يندمج معها بالماضي ليكون لهما مستقبل مشرق ‪ ..‬أما كرمل‬
‫مختلفة جدا عن سالم ‪ ..‬هادئة ‪ ..‬قوية ‪ ..‬ثابتة ‪ ..‬راسخة ‪ ..‬تماما كالوطن‬
‫يمكنه أن يصبر على الحرب ويستقبل السالم في نفس الوقت ‪ ..‬كانت‬
‫كمدينة عانقت الحرب وزينت بطوق من األحزان لتخلق من األلم جمال ال‬
‫يمكن مقاومته ‪..‬‬
‫هل سيأتي يوما ويجعلها تحكي عن قصتها مع البحر أم قصته معه ستنتهي‬
‫حيث بدأت ‪ ..‬ويكون هو كالموج مس شواطئها بقليل من الماء وعاد‬
‫أدراجه إلى البحر الذي يخفي داخله أسرارها ومشاعرها ‪.‬‬
‫‪...................................................................................‬‬
‫‪.‬‬
‫مر أسبوع على خطوبة حسام وسالم ولم يحدث أي شيء جديد فال كرمل‬
‫قابلت يوسف وال يوسف استطاع أن يراها أو حتى أن يتقدم خطوة ببحثه‬
‫عن السيف ‪ ..‬وكأن هذا األسبوع ما هو إال وقت ضائع ال يوجد أي تقدم‬
‫فيه ‪ ..‬عدا التقدم الذي كان في حياة سالم فحسام استطاع التغلغل في قلبها‬
‫وترك بصمته الخاصة دائما ‪ ..‬فكل ما يفعله مميز حتى كلماته لها كانت‬
‫مختلفة ‪...‬حديثه مميز ‪ ...‬وهي كانت سعيدة جدا كانت أنثى أخرى مضيئة‬
‫‪ ..‬فالرجال نوعان واحد يطفئ كل ذرة حياة فيك وأخر يضيء كل أقبية‬
‫روحك المعتمة ‪.‬‬
‫كانت تبتسم وهي تتذكر رسالته األولى لها ‪ ..‬فبعد أن غادر مع يوسف‬
‫وصلتها رسالة منه قائال فيها ‪ :‬كنت اليوم كقصيدة نزارية وأنا ساهري‬
‫الهوى وقع في روعة تفاصيلك الدمشقية ‪.‬‬
‫هل هذا الحب إذن ‪ ..‬هل هذا هو االختيار الصحيح حين كانوا يخبروننا‬
‫عليك باختيار الرجل المناسب لك ‪ ...‬حسام لم يكن الرجل المناسب فقط‬
‫بل الرجل الوحيد الصحيح لها ‪ ..‬طلته البغدادية ‪ ..‬نخيل قامته ‪..‬هيبته‬
‫السومرية ‪ ..‬بابلية ضحكته ‪ ..‬عباسي األخالق والمعرفة ‪ ..‬هل يمكن أن‬
‫يختصر تاريخ بلد كامل في رجل واحد ‪ ..‬كان هو هذا التاريخ والرجل ‪..‬‬
‫تغرق بين دجلة مقلتيه وفرات ابتسامته ‪..‬‬
‫هزتها كرمل من كتفها لتخرج من أفكارها ‪ :‬ما األمر ؟‬
‫نظرت لها كرمل بمكر ‪ :‬الذي أخذ عقلك‬
‫قاطعت سالم جملتها وهي تقترب منها ‪:‬أال تشعرين بالندم ألنك رفضت‬
‫يوسف ؟‬
‫تنهدت صديقتها وهي تتذكر ذلك الحديث األخير الذي دار بينهما لتقول‬
‫أخيرا ‪ :‬لم يكن طلبا للزواج ‪ ..‬كان واضحا أن يمزح معي فقط ‪ ..‬ثم قلت‬
‫لك أنه يعيد أحياء حدث درويش مع زوجته أمامي ‪ ..‬لذلك خفت منه‬
‫وأنهيت الحديث فورا ‪.‬‬
‫تأملتها سالم قائلة ‪ :‬ولكنك اخبرتيه عن زوجك رحمه هللا ‪..‬لماذا فعلت هذا‬
‫‪ ..‬كرمل أن زوجك توفي منذ أربع سنوات لم يكن هناك داع لذكر هذا‬
‫األمر في رفضك له ‪ ..‬حتى لو كان طلبه بين جد وهزل‬
‫لم ترد على كالم رفيقتها لتبتعد عنها متجهة نحو إحدى السيدات األلمانيات‬
‫بالمركز تفتح معها حديث عابر ‪ ..‬فهي ال تملك جواب على سؤال سالم ‪..‬‬
‫فكالمها صحيح ‪ ..‬ما كان عليها أن تأتي بسيرة وفاة زوجها وال سيما‬
‫لشخص كيوسف سوف يتلبسه الفضول ويحاول معرفة ما حدث معها ‪..‬‬
‫ال تعلم ماذا حدث في ذلك اليوم ولكن كل ما تعرفه أن طلبه كان صادم‬
‫وجعل كيانها في حالة فوضى ‪ ..‬هي ليست مستعدة لعالقة جديدة ‪ ..‬كان‬
‫يكفيها ما حدث من قبل ‪ ..‬تمنت وحاولت أن تعيش سعيدة ‪ ..‬خاطرت من‬
‫أجله ‪ ..‬تركت كل شيء خلفها ‪ ..‬بيتها ‪ ..‬ذكرياتها ‪ ..‬حتى أمها لتقبل‬
‫الهجرة معها وماذا كانت النتيجة أنه غادر هذه الحياة وبقيت وحدها ‪..‬‬
‫بقيت هنا في بلد غريب ال تعرف لغته وال أي أحد فيه ‪ ..‬حتى اقترحت‬
‫أمها فكرة أن تبقى هنا وهي من تأتي لها ‪ ..‬رغم أن هذا األمر استغرق‬
‫أكثر من عامين حتى تم ولكنها في الحقيقة عاشت هنا وحيدة لمدة عامين‬
‫تواجه مجتمع كامل وحياة جديدة ‪ ..‬تحمل ألم البعد عن والدتها وخسارة‬
‫زوجها بأبشع الطرق ‪ ..‬لذلك عليها أن تبقى بمنطقة األمان بعيدة عن أي‬
‫عالقة ال تضمن بدايتها وال نهايتها ‪ ..‬هي اكتفت بالعيش مع أمها وبالنسبة‬
‫لها هذه الحياة مستقرة أكثر من كافية لها ‪ ..‬لذلك ال بد أن ترفض يوسف‬
‫إن كان عرضه مزاح أو حقيقة ‪.‬‬
‫‪....................................‬‬

‫الفصل السادس‬
‫حسم أمره اليوم وقرر زيارتها ‪ ..‬ال يملك حجة منطقية ولكنه لم يعد مهتما‬
‫جد باختراع حجة ليحكي معها أو يتقرب منها ‪ ..‬ربما كان عرضه لها في‬
‫خطبة حسام ضرب من الجنون ولكنه كان رغبة حقيقية منه ‪ ..‬كرمل لفتت‬
‫نظره بشكل ال يمكن أن يتخيله ‪ ..‬كانت أنثى برائحة الوطن ‪ ..‬ذلك الوطن‬
‫الذي لم يعرفه رغم أنه انتمى له حتى قبل أن يخلق ‪..‬‬
‫كانت تحمل بين ثناياها وجه تلك األرض التي سمع حكايتها من والده ‪..‬‬
‫وتعشق شوقها من حروفه وللصدفة أتت هي تحمل اسما من تلك األرض‬
‫معجونة بميزات منها رغم أنها لم تكن أبدا جزء منها ‪ ..‬كانت أنثى بوطن‬
‫وأرض وحضارة ‪ ..‬أنثى تجمع الماضي بفتنته والحاضر بوجعه ‪.‬‬
‫كان ينظر حوله محاوال أن يتعرف على المركز الذي أخبرته مسبقا أنها‬
‫تعمل به حتى وجده أخيرا ‪ ..‬دخل المكان بهدوء يحاول أن يلتقط وجودها‬
‫‪ ..‬ارتفعت ابتسامته تدريجا وهو يلمحها ‪ ..‬مميزة بحجابها من بين كل‬
‫هؤالء األلمان ‪ ..‬كانت تجلس قرب رجل عجوز تتحدث معه بأمر ما‬
‫والرجل يبتسم لها ويناقشها مرة ويستمع لها مرة أخرى ‪..‬‬
‫جمع أنفاسه ليتخذ خطوة نحوها وعين الرجل ارتفعت منها إليه ‪ ..‬لتنتبه أن‬
‫هناك ما شغل نظرات العجوز فتلفت لتجده واقفا هناك يمسك نظراته‬
‫الشمسية بين أصابعه وعينيه مثبتة عليها وابتسامة غريبة على شفتيه ‪..‬‬
‫كانت تحسب الحسابات للقائه مرة أخرى ‪ ..‬في وضع أخر كانت قطعت‬
‫عالقتها معه عن طريق الهاتف فمنذ البداية لم يجمعهما شيء سوى طلبه‬
‫المساعدة منها ولكن ليس اآلن وقد أصبح من العائلة تقريبا ‪ ..‬فالعم محمد‬
‫وعائلته بالنسبة لها وألمها من أقرب الناس لهما ‪ ..‬فال تملكان غيرهم في‬
‫هذه البالد وليس من المنطقي أن تقطع كل شيء مع أناس تعتبرهم أقربائها‬
‫بسبب طلبه ‪ ..‬لذلك اختارت أن تنهي الموضوع معه وبشكل مباشر ولكن‬
‫إن عاد إليه هو ‪ ..‬ويبدو أن غيابه تلك األيام ما كان منه إال مراجعة لنفسه‬
‫التي تدعو هللا أن يكون قد توصل لنتيجة أن عرضه ما كان إال تهور‬
‫وبعض من الجنون ‪..‬‬
‫اعتدلت في وقفتها لترسم ابتسامة كاذبة على شفتيها ‪ :‬مرحبا بك ‪.‬‬
‫أومأ لها ‪ :‬هل يمكننا الحديث قليال ؟‬
‫نظرت للعجوز األلماني الذي يتابع ما يدور بينهما دون فهم فقد كان‬
‫حديثهما بالعربية ‪ ..‬ليبتسم لها ثم عادت بنظراتها ليوسف المنتظر ‪ ..‬للتنهد‬
‫وهي تسير أمامه خطوة ليمشي معها وهو يتأمل المكان ‪ :‬المركز جميل‬
‫جدا ‪..‬وال سيما األزهار المنتشرة في كل مكان تبعث في النفس شعور‬
‫باالنتعاش ‪.‬‬
‫قالت له ‪ :‬معك حق ‪ ..‬ما يميز هذه البالد عنا هو اهتمامهم بمثل هذه‬
‫مراكز ‪ .‬إن كان لإليتام أو للعجزة أو ذوي االحتياجات الخاصة ‪.‬‬
‫قاطعها متسائال ‪ :‬ما هو عملك هنا بالضبط ؟‬
‫أجابت ‪ :‬كما ترى المركز هنا لذوي االحتياجات الخاصة حيث يتم تعليمهم‬
‫بعض األعمال اليدوية مثل الحياكة أو الرسم ‪ ..‬أي شيء قد يساعدهم على‬
‫تمضية وقت جميل قد ينفع بشيء ‪ ..‬بالنسبة لي أنا أعملهم بعض األعمال‬
‫الخشبية البسيطة ‪ ..‬حف الخشب أو الحرق عليه إن كان األمر يسمح لهم‬
‫طبعا ‪ ..‬وتلوين رسومات يقوم بها رسام يعمل هنا أيضا ‪..‬‬
‫سألها من جديد ‪ :‬وتعليمهم الموزييك أيضا ؟‬
‫ابتسمت حين وصال إال طاولة خشبية بين األشجار لتشير له أن يجلس‬
‫فتجلس مقابل له لتجيب ‪ :‬بالطبع ال األمر شبه مستحيل مع أوضاعهم‬
‫الصحية رغم أنني أتحدث لهم عنا وأعمل بها أمامهم ولكن وكأن هذه‬
‫المهنة ال تصلح إال للشرقيين ‪ ..‬فهم يجدون فيها صعوبة بالغة وأنها شبه‬
‫مستحيلة ‪ ..‬لذلك نكتفي ببعض األعمال البسيطة ‪..‬‬
‫نظر حوله من جديد ‪ :‬وهل سالم تعمل معك هنا أيضا ‪ ..‬لقد قلت أن‬
‫الصوف من ضمن خيارات التعليم ؟‬
‫ابتسمت ‪ :‬ال هي ال تتقن األلمانية بشكل جيد لذلك كان األمر صعب ولكنها‬
‫تأتي إلى هنا في كثير من األوقات وخاصة بعد عودتها من دروس اللغة‬
‫األلمانية ‪ ..‬تمض بعض الوقت أو تعمل بالصوف مع صف الصوف أو‬
‫تقضي الوقت بالتحدث معي ‪..‬‬
‫همهم لها ليصمت عدة دقائق وهي تصمت معه ‪ ..‬وعينيه ما زالت تدور‬
‫حول المكان لتكسر هذا الصمت قائلة ‪ :‬لماذا أتيت إلى هنا ‪ ..‬هل هناك أمر‬
‫مهم ؟‬
‫توقفت عينيه عن الدوران لتتركز عليها مجيبا ‪ :‬ال يوجد شيء رغبت بأن‬
‫أرى مكان عملك فقط ‪.‬‬
‫مدت شفتيها باستغراب لتتدارك نفسها مجيبة ‪ :‬حسنا إذن أن كان األمر‬
‫هكذا ‪.‬‬
‫سألها بنظرات ماكرة ‪ :‬هل كنت تتوقعين زيارتي لسبب ما ؟‬
‫حاولت كتم الكلمات التي تدور برأسها ‪ ...‬لتسيطر على ردة فعلها منه‬
‫لتقول ببساطة ‪ :‬أن تسأل إن وصلت ألي شيء جديد بالنسبة ألمر السيف ؟‬
‫رفع نظراته لها بعدم فهم لثوان ليقول بعدها ‪ :‬وهل وصلت لشيء جديد ؟‬
‫ابتسمت له وهي تومئ ‪ :‬بالطبع ‪ ..‬والفضل يعود للعم محمد هذه المرة‬
‫اعتدل في جلسته بحماس يشبك أصابعه أمامها على الطاولة لتتابع ‪ :‬لقد‬
‫قال أن له صديق في سوريا كان يحكي له عن بعض أقاربه في مصر‬
‫وكانوا يعملون بهذه المهنة قبل أن يستقروا هناك وعلى حسب كالم صديقه‬
‫كانوا يملكون عدد من السيوف القديمة ‪.‬‬
‫ارتفع األمل فيه ‪ :‬وأخيرا ‪ ..‬ولكن إن كانوا قد استقروا بمصر فربما أنهم‬
‫لم يقدروا على نقل هذه السيوف معهم ‪.‬‬
‫ابتسمت لتجيبه ‪ :‬أنهم في مصر قبل التغريبة السورية لذلك قال العم محمد‬
‫أن األمر سيحتاج لبعض الوقت حتى يستطيع الوصول لهم ‪.‬‬
‫وأخيرا ابتسم بسعادة ‪ :‬ال يهم الوقت المهم أن أصل لنتيجة ‪.‬‬
‫لينظر لها متابع ‪ :‬ال أعلم كيف أشكركم ‪ ..‬لقد أعدتم أحياء ذكرى أبي‬
‫ببحثكم هذا ‪.‬‬
‫أومأت له ‪ :‬دعنا نحصل عليه ثم أشكرنا كما تحب ‪.‬‬
‫علت ضحكته لتجذبها نحوه من غير وعي ليعود للصمت ولكن هذه المرة‬
‫كان يبدو أنه يفتش على كلمات معينة ليقولها وهي كانت منتظرة ليقول ‪:‬‬
‫أتذكر في عام ألفين وأربعة عرض مسلسل سوري اسمه التغريبة‬
‫الفلسطينية ‪..‬‬
‫نظرت له بعدم فهم لكنها لم تعلق ليكمل ‪ :‬لقد كان لهذا المسلسل تأثير كبير‬
‫في حياتي أنا شخصيا ‪ ..‬بصراحة من قبل لم أكن متعلقا كثير بفلسطينيتي‬
‫جدا ‪ ..‬نعم كنت أفخر أنني منها ولكن لم أكن مهتم بالتفاصيل جدا ‪ ..‬أفضل‬
‫الحديث باأللمانية أكثر من العربية رغم أن عربيتي ممتازة ‪ ..‬أفضل العمل‬
‫والعمل فقط ‪ ..‬حتى كان هذا المسلسل الذي كان تعلق أبي به غريب جدا‬
‫وأثار فضولي ‪ ..‬في البداية لم أكن اركز كثيرا معه حتى بدأت أحاديث‬
‫والدي بعد كل حلقة عن ما حدث في الحلقة وتفاعله معها وتعليقه الدائم أن‬
‫كل كلمة في هذه الدراما هي حقيقة ‪ ..‬لقد كان واقعنا هكذا ‪ ..‬كانت‬
‫أراضينا هكذا ‪ ..‬نتعامل هكذا ‪ ..‬وعندما سألت أمي عن هذا المسلسل الذي‬
‫سيطر على أبي لتجيبني أبقى لموعد عرض الحلقة وتابعها معه وبعدها‬
‫أحكم ‪ ..‬وبالفعل قمت كما قالت ‪..‬‬
‫تنهد وهو يستند إلى الكرسي وعينيه عليها ليتابع ‪ :‬وبالفعل بقيت يومها‬
‫وللصدفة كانت الحلقة هي حلقة هجرتهم من البلدة ‪ ..‬طريقة هروب الناس‬
‫من بيوتهم ‪ ..‬وتلك المرأة التي تركت مصاغها في البيت وهربت ليقصف‬
‫البيت بعدها ‪ ..‬حتى سمعت والدي يصرخ في وقت اإلعالن ‪ ..‬هذا األمر‬
‫حدث مع زوجة عمي ‪ ..‬لقد جمعت ذهبها وذهب زوجات أوالدها في‬
‫قطعة قماش واحدة وهي تخبرهم أنها ستحملهم هي لتحافظ عليهم وكل‬
‫امرأة لتلفت ألطفالها وحين بدأ القصف كانت خائفة لتخرج راكضة‬
‫وتركت كل الذهب ملفوف على السرير ‪ ..‬حتى أنها لم تتذكر األمر إال بعد‬
‫وصولنا للمخيم وهنا كان انهيارها ‪ ..‬شقاء عمرها وعمر أوالدها ضاع ‪..‬‬
‫أصبح تحت الركام ‪ ..‬وبقيت عائلة عمي تعيش في تلك الخيمة وزوجة‬
‫عمي تضرب نفسها في كل مرة يشكوا أحدهم من قلة النقود ‪..‬‬
‫كنت جالسا أراقب أبي وهو يحكي لي وألمي القصة ‪ ..‬كان هناك دمعة‬
‫مخبأة في عينيه مع كل كلمة ‪ ..‬قد تبدو القصة للمستمع كرواية أو فيلم أو‬
‫ربما ذكرى ولكن بالنسبة ألبي كانت غصة ‪ ..‬مع كل كلمة كان صوت‬
‫الدمار وكالم الصهاينة يعود لرأسه ‪ ..‬األلم والخذالن ‪ ..‬وجع ‪ ..‬صوته‬
‫كان مغلف بالدموع ‪ ..‬ليصمت فجأة ويعود ليتابع الحلقة ‪ ..‬حتى أتت لقطة‬
‫أخرى لسيدة نسيت طفلها وحملت بدال عنه الوسادة وغادرت مسرعة ‪.‬‬
‫صمت ليبلع غصته ثم تابع ‪ :‬كانت المرة األولى في حياتي التي أبكي فيها‬
‫على مشهد تمثيلي ‪ ..‬كان أبي يتحدث مع لقطات المشهد قائال وهذه السيدة‬
‫أيضا كانت معروفة للجميع في قريتنا ‪ ..‬كانت متزوجة منذ سنوات ولم‬
‫تنجب إال مؤخرا ‪ ..‬كانت تخاف على طفلها كثيرا لذلك تبقيه ملفوف بشكل‬
‫جيدا تحضنه دائما ‪ ..‬وعندما كانت تستعد لتغادر المكان وضعت أبنها بعد‬
‫أن نام على سريرها لتبدل ثيابها ولكن ما حدث بعدها كارثة ‪ ..‬وقعت قذيفة‬
‫قريبة جدا من بيتها حتى غطى الغبار كل مكان حولها ورؤيتها أصبحت‬
‫شبه معدومة لتحمل الوسادة التي ظنت أنه طفلها النائم وهربت وعند‬
‫خروجها سقطت قذيفة أخرى على بيتها ‪..‬وما أن صعدت السيارة حتى‬
‫تبين لها أن ما تحمله لم يكن سوى وسادة وابنها هناك تعرض لقذيفة ‪..‬‬
‫لتصرخ وتولول كالمجانين ‪ ..‬تترجى الناس في السيارة أن يوقفوها فتعود‬
‫‪..‬ولكن الجميع رفض فقط كان الجنود أصبحوا داخل بيوتنا ‪ ..‬وهي لم‬
‫تتوقف تبكي وتلطم وتشتم ‪ ..‬تترجى الناس أن يعيدوها إلى هناك ‪ ..‬كان‬
‫أبي يحكي ويبكي ‪ ..‬يتوقف كل دقيقة ليبتلع غصته وعينيه مثبتة على‬
‫الشاشة وأمي تمسح دموعها بيدها من كلماته وصوت صراخ المرأة القادم‬
‫من الشاشة يملئ الغرفة ‪ ..‬وأنا كنت استمع وأشعر أن هناك جدران تنهار‬
‫في قلبي ‪ ..‬ماذا حدث لهذا الشعب الذي تشرد في كل بقاع األرض ‪ ..‬أنهم‬
‫يبتسمون ‪ ..‬يعيشون ‪ ..‬يعملون ‪ ..‬ولكن في داخل كل واحد فيهم هناك‬
‫وجع ‪ ..‬شعور بالخذالن ‪ ..‬ألم ‪ ..‬رؤية أبي في ذلك الموقف وضعتني أمام‬
‫حقيقة جديدة ‪ ..‬أنه مهما حاولت أن تبتعد عن وطنك سيبقى هذا الوطن‬
‫مركز للجاذبية يسحبك واشما فيك ذكريات ال تمحو ‪ ..‬في أغلبها حزينة ‪..‬‬
‫قاتلة ‪ ..‬وأدركت أن جذوري ستبقى راسخة في تلك األرض حتى ولو لم‬
‫أزرها أبدا ولم أتنفس هوائها ‪..‬ولم أشم رائحة ترابها ‪ ..‬فترابها ممزوج في‬
‫دمي وهوائها مغروس في رئتي ‪ ..‬مهما ابتعدت سأبقى مرتبطا بها ‪.‬‬
‫خرجت من المنزل يومها وصوت ابي المخنوق بالدموع والمشاهد تدور‬
‫في رأسي ‪ ..‬كنت كالمريض الذي أفاق فجأة ويحاول أن يتعرف على كل‬
‫ما حولهم ‪ ..‬ست وخمسين عام ياهلل ‪ ..‬ست وخمسين عام يا رب ‪ ..‬ست‬
‫وخمسين عام من الوجع والظلم ‪ ..‬ست وخمسين عام من الهجرة واأللم ‪..‬‬
‫ست وخمسين عام ولم تمحى أدق التفاصيل من رأس والدي الذي لم يكن‬
‫سوى مراهق وقتها ‪ ..‬دمغت مراهقته بكل أنواع الوجع واأللم والذل ‪..‬‬
‫كنت مشلول الفكر والمشاعر حتى عدت فلسطينيا خالصا ‪ ...‬أنبذ جنسيتي‬
‫األلمانية التي كنت اتفاخر بها ‪ ..‬اشتاق ألحمل جنسية بلد محتل منذ دهر ‪..‬‬
‫بلد لم يخلو تاريخه من الطمع واالحتالل والمقاومة ‪ ..‬أنا ابن تلك األرض‬
‫التي جمعت كل األنبياء ‪ ..‬أنا من تلك األرض التي صلى فيها أنبياء هللا‬
‫سويا وعرج فيها الرسول إلى ربه ‪ ..‬أنا من هناك حيث مهد السيد المسيح‬
‫وأرضه ‪ ..‬من ذلك المكان الذي جمع أنبيائه زكريا ويحيى وعيسى والسيدة‬
‫مريم البتول ‪ ..‬أنا من أرض تفوح بعطر األنبياء وأثرهم ‪ ..‬فهل هناك‬
‫فخر واعتزاز أكبر من هذا ‪ ..‬جذوري تنتمي لتلك الجذور التي بقيت‬
‫راسخة رغم كل التحديات والمصاعب التي مرت عليها ‪ ..‬أنا ابن فلسطين‬
‫وعلي حق االفتخار بهذا ‪.‬‬
‫نظر لها ليجدها تمسح دموعها بسبب كلماته لترتسم ابتسامة على شفتيه‬
‫وهو يتابع ‪ :‬وهكذا عدت عربيا خالصا وتابعت مشاهدة ذلك المسلسل مع‬
‫أبي مستمعا بتعليقاته دائما حتى أتت النهاية مع قصيدة محمود درويش أيها‬
‫المارون ‪ ..‬والتي كان لها أثر أخر وكانت سبب في بحثي عنه ألصبح‬
‫مدمن لقصائده وحياته ‪..‬‬
‫ابتسمت معلقة ‪ :‬كلماته كالسحر لن تستطيع إال أن تقع في غرامها ‪.‬‬
‫أومأ لها ‪ :‬معك حق ‪ ..‬فهو ينطق بما تخبأه جوارحنا ‪ ..‬يعبر عن ما نعجز‬
‫التعبير عنه ‪..‬وال سيما نحن شعوب الشتات والحزن ‪.‬‬
‫رفعت نظراتها إليه وكأنه فهمت سبب قصته ليتابع ‪ :‬كنت أحكي لك تلك‬
‫القصة ليس ألجل شيء غير أنني أريد أن أخبرك أن هناك أشياء قد تجمع‬
‫بيننا حتى لو لم نكن في تجربة واحدة ‪ ..‬حسام وسالم جمعهما تجربة‬
‫مشابه ولكن أنا رغم أنني لم اعش ما عشته أنت وسالم وحسام ولكنني‬
‫عشت وجع أخر ‪ ..‬ألم الوطن دون أراه ‪ ..‬ألم الهجرة دون أن أكون طرفا‬
‫بها ‪ ..‬وجع أن أولد وأنا احمل صفة الجئ مشتت خسر بلده وأرضه ‪ .‬دون‬
‫أي ذنب أو سبب ‪.‬‬
‫انزلت رأسها لألرض دون أن تجيب وهو يكمل ‪ :‬لم أحكي لك كل هذا‬
‫ألجبرك على الكالم أو الموافقة على عرضي ولكن ألعلمك أن كل منا له‬
‫مخاوفه الخاصة ومناطق حمراء في حياته ال يتجاوزها وال يفتح أبوابها‬
‫ابدا ‪ ..‬لقد اقتربت من سن األربعين ولم أتزوج ‪ ..‬كنت أخشى أن أنجب‬
‫طفال يحمل اسم الجئ حتى ولو كنت أحمل جنسية هذا البلد ولكن اسم‬
‫الجئ ليس له عالقة بالوثائق الرسمية ‪ ..‬هو شيء داخلنا ‪ ..‬أمر ينغرس‬
‫كالسكين في قلبك تتذكريه دائما حتى لو حملتي أكثر من جنسية واستقريتي‬
‫بأرقى مكان في العالم ‪ ..‬لهذا كنت رافض للفكرة ‪.‬‬
‫ابتسمت معلقة ‪ :‬يبدو أنك حقا متعلقا بدرويش كثيرا ‪ ..‬حتى بدأت تتخذ‬
‫أرائه في حياتك ‪.‬‬
‫ابتسم لتعليقها ‪ :‬ولكن حين تعرفت عليك تغيرت كل أفكاري ‪ ..‬ما المشكلة‬
‫أن أعيش وأنجب حتى لو حملت ألف صفة تؤذيني من الداخل ‪ ..‬هل‬
‫أخسر وطني وحياتي أيضا ‪ ..‬لقد كان أبي يردد دائما طالما هناك فلسطيني‬
‫في هذا العالم يتنفس ويهتف قلبه باسم بلده سيكون هناك أمل في أن تعود‬
‫إلينا ‪ ..‬ال أعرف لمن سيورث صالح الدين رايته ولكن من المؤكد أن راية‬
‫صالح الدين األيوبي لن تنكس أبدا وسيفه لن يبقى في غمده لوقت طويل‬
‫‪ ..‬فتلك السيوف تبقى حادة لمئات السنين ال تصدأ وال تموت ‪.‬‬
‫بقيت صامتة لعدة دقائق لتتنهد أخيرا وهي ترفع رأسها نحوه ترسم ابتسامة‬
‫مشرقة على شفتيها قائلة ‪ :‬أشكرك على مشاركتك لتلك الذكريات معي ‪..‬‬
‫ربما كالمك صحيح ولكنني أحتاج لوقت حتى استطيع البوح به ‪ ..‬أنا اتفق‬
‫معك أن الوجع يصبح اخف حين نتشاركه ولكن اتخاذ القرار أصعب من‬
‫البوح نفسه ‪.‬‬
‫ابتسم لها ‪ :‬وأنا سأبقى أنتظرك حتى تتخذين هذا القرار ‪.‬‬
‫هزت له رأسها لتنظر لساعتها فتقف معتذرة ‪ :‬أنا أسفة ولكن يجب أن‬
‫أعود للعمل اآلن ‪.‬‬
‫أومأ لها ليقف معها مغادرا المكان وهي تراقبه من الخلف حتى اختفى‬
‫تماما ‪ ...‬لم تعتقد أنه سيقص عليها ما فعل ‪ ..‬كانت تعتقد أن أسلوب حسام‬
‫ال يناسبه وهي التي كانت تظن أنه مجرد عاشق للفنون العربية بسبب‬
‫سحرها ‪ ..‬وحسام الذي استطاع أن يقنع صديقتها بسبب الماضي المشترك‬
‫بينهما أما هي كانت شبه متأكدة أنه ال يوجد هناك أي شيء يجمعها معه‬
‫سوى عشقهما للشرقيات ‪ ..‬ولكن يبدو أن هناك خيط غليظ يجمع كل إنسان‬
‫عربي حرم من وطنه ‪ ..‬خيط ال ينقطع مهما اختلفت األزمان واألسباب ‪.‬‬
‫قاطع تأملها صوت العجوز الذي كانت تجلس معه قبل قدوم يوسف وهو‬
‫يقول لها باأللمانية ‪ :‬أنه معجب بك ‪.‬‬
‫نظرت نحوه دون فهم ليتابع ‪ :‬أقصد الرجل الذي كنت معه منذ قليل ‪ ..‬هو‬
‫معجب بك جدا ‪.‬‬
‫رسمت ابتسامة تلقائية على شفتيها بفعل كلمات الرجل دون أن تجيبه ليظل‬
‫مراقبا اياها بابتسامة وكأن الشهادة على قصة حب جائزة كبيرة أكثر من‬
‫الوقوع بالحب نفسه‬

‫‪.................................................................................‬‬
‫دخلت البيت مساء فبعد زيارة يوسف اليوم وكالمه معها ترك في قلبها اثر‬
‫لم تقدر على تفسيره أبدا ‪ ..‬هي ال تنكر تأثرها الشديد بكلماته ولكن كان‬
‫داخلها شيء أخر ‪ ..‬تعاطف ؟ ربما ولكن أليست مثله من بلد تعبت من‬
‫الموت والتهجير والقصص التي عاشتها وتعرفها ووقعت أمامها أكثر بؤسا‬
‫من التي حكى عنها يوسف ‪ ..‬أو ربما هو الشعور أن هناك شخص أخر‬
‫من بلد أخر عاش ما تعيشه ‪ ..‬أهل فلسطين كانوا السباقين ليلحق بركبهم‬
‫أهل العراق وتنتهي الرحلة في سوريا ‪ ..‬ال فرق بين المتسبب فمن يقتل‬
‫إنسان ألنه يطلب أن يكون حي ال أن يكون ميت وهو على قيد الحياة ‪ ..‬ال‬
‫يستحق أن يكون بشر ‪ ..‬مهما اختلفت األيدي يظل مالك تلك األيدي واحد‬
‫‪ ..‬مجرم دمر أجمل وأعرق البالد والشعوب ‪ ..‬دنسوا أطهر األراضي ‪..‬‬
‫بالد حملت في كل ذرة من ترابها حكاية حضارة قامت عليها وكل شجرة‬
‫غرست فيها شهدت ازدهار لم يسبق ألحد أن عاشه ‪.‬‬
‫تنهدت تزيح عنها تلك األفكار لتبحث عن والدتها لتجدها كما اعتادت ‪..‬‬
‫تجلس في الصالة تشعل البخور وفنجان من القهوة التي تفضل أن تصنعه‬
‫بيدها بعيدا عن اآلالت الكثيرة التي أصبحت منتشرة ‪ ..‬فهي ال تقبل أن‬
‫تشرب القهوة إال بعد أن تصنعها على الموقد النحاسي الصغير الذي‬
‫جعلتها تبحث في نصف محالت برلين لتجده لها ‪..‬‬
‫ارتفعت ابتسامتها وهي تقترب من أمها ‪ :‬هل هناك فنجان لي ؟‬
‫أومأت لها والدتها لتصب لها الفنجان األخر والذي دائما ما تضعه في‬
‫صينيتها ‪ :‬بالطبع دائما هناك المزيد من القهوة ‪.‬‬
‫أخذت منها الفنجان ‪ :‬طقوس القهوة لديك تستحق أن يقال فيها شعر ونثر ‪.‬‬
‫علت ضحكة والدتها وهي ترتشف من فنجانها ‪ :‬أنها عشق قديم ‪ ..‬كبرت‬
‫مع والدك الذي يدمنها ألجد نفسي أدمن ما يدمن واعتاد ما يعتاد ‪ ..‬لذلك ال‬
‫يمكنني أن أستغني عنها فهي دائما تذكرني به ‪.‬‬
‫قاطعتها متسائلة ‪ :‬هل كانت الحياة صعبة بعد أن غادر هذه الحياة ؟‬
‫تنهدت والدتها لتضع فنجانها وتمد يدها المجعدة نحو المبخرة لتعبث‬
‫بالبخار الخارج منها ‪ :‬بالطبع كانت صعبة جدا ‪ ..‬ال يوجد أصعب على‬
‫المرأة من أن تفقد سندها في هذه الحياة ‪ ..‬وال سيما أن كان يجمعها معه‬
‫حب كبير ‪ ..‬كبرت معه ‪ ..‬أنجبت منه أطفال ‪ ..‬عاشت معه تفاصيل كثيرة‬
‫‪ ..‬تشاجرت معه مرات وضحكت مرات ‪ ..‬غضبت منه وصالحها وربما‬
‫هي من تصالحه ‪ ..‬كل تلك التفاصيل تدفعك للشوق والشعور بالوحدة ‪.‬‬
‫لم تجبها كرمل كانت تستمع فقط لتربت أمها على قدمها ‪ :‬لقد فقدت زوجك‬
‫صغيرتي ولكن هذا ال يعني أن تتوقف حياتك عنده ‪.‬‬
‫قاطعتها ابنتها فورا ‪ :‬ها أنت ذا لم تتابعي حياتك بعد أبي ‪.‬‬
‫ابتسمت أمها مجيبة ‪ :‬لقد عشت مع والدك ألكثر من ثالثين عام ‪ ..‬أنجبت‬
‫منه شقيقك وأنت التي كنت فرحة حياتنا وال سيما بعد أن هاجر أخوك إلى‬
‫أمريكيا واستقر بها ‪ ..‬ثالثين عام معه في بيت واحد أنام على صوته وأفيق‬
‫على صورته ‪ ..‬وأبناء من دمه يحملون اسمه ‪ ..‬عشت معه كل المشاعر‬
‫واألحاسيس ‪ ..‬لم يبق لي أي شيء ألعيشه مع غيره ‪ ..‬بينما أنت لم‬
‫تجربي الحياة الزوجية معه أبدا ‪ ..‬خسرت تلك الحياة قبل أن تبدأ صغيرتي‬
‫‪..‬لم تصلي بعد لسنك الثالثين ‪ ..‬ليس هناك أي أثر تركه لك في هذه الحياة‬
‫‪ ..‬كان نسمة هواء بعثرت أوراقك وتركتك وحيدة ‪ ..‬الحياة ال تستحق أن‬
‫تدفني نفسك بها ‪..‬‬
‫عضت كرمل شفتها لتفطن على شيء فتسأل أمها ‪ :‬ما سر حديثك هذا ‪..‬‬
‫هل هناك أمر ال أعلم به ؟‬
‫ابتسمت والدتها وهي تمد يدها للطاولة تمسك فنجانها تشرب منه لتنظر‬
‫البنتها بمكر ‪ :‬دائما هناك أسرار وأسباب لكل حديث يا فتاة ‪.‬‬
‫اعترضت كرمل بفضول ‪ :‬أمي ‪..‬‬
‫ضحكت والدتها وهي تجيبها ‪ :‬أنه يوسف‬
‫نظرت ألمها بعدم فهم ‪ :‬يوسف من ؟‬
‫أعادت أمها نظرات المكر لها مجيبة ‪ :‬يوسف صديق حسام هل نعرف‬
‫يوسف غيره ‪.‬؟‬
‫شعرت بالصدمة لثوان لتتدارك صدمتها متسائلة ‪ :‬ما به ؟‬
‫أجابتها بعد أن تنهدت ‪ :‬لقد طلب يدك من العم محمد ‪..‬‬
‫فتحت عينيها بصدمة ال تستوعب ما قالته أمها لتهمس ‪ :‬متى حدث هذا ؟‬
‫قالت لها ‪ :‬بعد خطبة حسام بيوم ‪ ..‬أخبره بأنه عرف أنك تعتبرين العم‬
‫محمد كعم لك وكان يريد أن يدخل البيوت من ابوابها ‪..‬‬
‫قاطعتها وهي تسأل وكأنها تسأل نفسها ‪ :‬ولماذا لم يخبرني عمي بهذا ؟‬
‫أجابت والدتها ‪ :‬أنا أخبرته أال يخبرك ‪ ..‬فأنا أعرف رايك جيدا بهذا األمر‬
‫وأخبر يوسف به ويوسف قال يعلم بوضعك وبأنك رفضتي عرضه من قبل‬
‫ولكنه مع ذلك مصر على فكرة الزواج منك حتى لو أنتظر ألي وقت ‪.‬‬
‫صمتت كرمل لدقائق تحاول استيعاب ما يحدث ‪ ..‬إذن عرضه لها لم يكن‬
‫مزاح منذ البداية وحديثه كان مقصود ‪ ..‬واليوم حين أتى إليها كان بعد أن‬
‫جعل األمر شبه علني بأخباره أمي والعم محمد ‪ ..‬فالرفض أصبح أصعب‬
‫اآلن ‪ ..‬وال سيما مع وضع والدتها التي تشعر باألسى عليها في كل مرة‬
‫يفتح به موضوع الزواج ‪.‬‬
‫أمسكت أمها يديها لتلفت انتباها هامسة ‪ :‬ما األمر ابنتي ؟ تحدثي بما‬
‫تفكرين به ال تخافي لن أجبرك على شيء رغم أنني اعتقد أن يوسف رجل‬
‫مناسب جدا لك ‪.‬‬
‫نظرت إلى أمها ودمعة تجمعت في عينيها لتقول أخيرا ‪ :‬ال أعرف أمي ‪..‬‬
‫نعم هو رجل جيد ‪ ..‬مثقف ‪ ..‬وسيم ‪ ..‬ويحب عملي جدا ‪ ..‬ويبدو أنه‬
‫معجب بي ايضا ‪ ..‬لقد عرض علي الزواج بطريقة عجيبة جدا وهي من‬
‫أكثر الطرق التي تثير مشاعري ‪ ..‬صادق جدا معي ‪ ..‬ولكنني خائفة ‪ ..‬ال‬
‫أرغب بخسارة أخرى ‪ ..‬لست مستعدة لتجربة مصيرها الفشل من جديد ‪..‬‬
‫لقد رأيت زوجي يموت أمام عيني وال أرغب بأي شيء يفتح جروحي أبدا‬
‫‪ ..‬لقد رفضت يوسف في المرة األولى لكنه اليوم أتى إلى المركز وتحدث‬
‫معي ‪.‬‬
‫سألتها ‪ :‬وبما تحدثتما ؟‬
‫أجابت ‪ :‬تحدث لي عن والديه ‪ ..‬تأثره بما يحدث بفلسطين حتى وإن لم‬
‫يولد فيها ويكبر بين حاراتها ‪ ..‬حدثني عن عقدة الالجئ التي يعيش فيها‬
‫وعدم رغبته بالزواج من قبل ‪ ..‬أمور تخصه هو فقط ولم يأت على ذكر‬
‫الزواج أو رفضي له أبدا ‪.‬‬
‫قاطعتها والدتها مرة أخرى ‪ :‬وما رأيك أنت بكل ما قاله ‪ ..‬هل كان صادق‬
‫؟‬
‫أومأت لها بنعم لتتابع ‪ :‬إذن هو لم يخض التجربة ولكن يعيش نتائجها ‪.‬‬
‫نظرت كرمل في عيني أمها بعدم فهم لتبتسم أمها بحنان قائلة ‪ :‬كرمل أنا‬
‫أعرف سبب رفضك المبدئي لشخص مثل يوسف ‪ ..‬ليس حفاظا على‬
‫ذكرى زوجك فأنا وأنت نعلم أن زواجك لم يكن مبني على الحب من‬
‫األساس وكان اتفاق عادي وزواج لم يكن طويل حتى يتولد حب من خاللها‬
‫‪ ..‬وليس خوفا من النتيجة ‪ ..‬أنت خائفة من االرتباط بشخص عاش في‬
‫الرخاء طوال حياته ‪ ..‬لم يعاني من قبل من جنسيته ‪ ..‬لم يواجه مشكلة‬
‫الوثائق الرسمية ‪ ..‬أوراق اللجوء ‪ ..‬الدخول إلى بلد أجنبي عن طريق‬
‫التهريب ‪ ..‬لم يسمع من قبل جملة تحتاج إلى فيزا لتدخل ذلك المكان ‪..‬‬
‫رجل لم تلطخ مالبسه من قبل بالدماء وخصالت شعره بغبار القصف ‪..‬‬
‫أنت خائفة من االرتباط برجل لم يهرب من قبل خوفا من االعتقال ‪ ..‬لم‬
‫يخرج من بيته تحت القصف ‪ ..‬لم يقعد في الحر لساعات دون كهرباء أو‬
‫يلف نفسه بالكثير من األغطية لعدم توفر التدفئة في الشتاء ‪.‬‬
‫نظرت ألمها كالمصعوقة ‪ .‬كانت كلمات أمها تعريها بشكل ال يمكن وصفه‬
‫‪ ..‬كل كلمة كانت تحط في مكانها ‪ ..‬كل وجهة نظر ورأي أخذته عن‬
‫يوسف ترجمته كلمات أمها‬
‫لتتابع كلماتها ‪ :‬نعم ربما يوسف لم يعش كل هذا ولكنه عاش ما هو أصعب‬
‫وأكثر حزنا ‪ ..‬منذ صغره وهو ال يحمل أي صفة في هذه البالد ‪ ..‬يحمل‬
‫جنسيتها نعم ولكن هل يعامل كابن البلد الذي تنتمي جذوره لهذه األرض ؟‬
‫هو لم يشعر بالقصف والخوف والرعب ولكن هل شعرت في صغرك ان‬
‫طفلة منبوذة من أصدقائك ‪ ..‬في البيت تدعين باسم وفي الخارج اسم أخر ‪.‬‬
‫قاطعتها ‪ :‬ولكن الالجئين في كل مكان أمي ‪.‬‬
‫ابتسمت لها ‪ :‬والبالد التي تعرضت للحروب في كل مكان بنيتي‪ ..‬إن كنت‬
‫ترغبين بأن يحترم الناس ألمك ال تقللي من أالمهم مهما كانت برأيك‬
‫بسيطة وال تستحق ‪.‬‬
‫عضت على شفتيها بخجل ووالدتها تتابع الحديث قائلة ‪ :‬فكري بيوسف من‬
‫ظروف يوسف نفسها وليس من ظروف كرمل ‪ ..‬عندها ستجدينه يحتضن‬
‫ألم لم تتوقعيه من قبل ‪.‬‬
‫غادرت الصالة نحو غرفتها وكلمات أمها تدور في عقلها ‪ ..‬ال تعرف هل‬
‫ظلمته حقا وسخرت من حياته ‪ ..‬تراه رجل ناجح ‪ ..‬غني ‪ ..‬يحمل جواز‬
‫سفر يدخل إلى الكثير من بالد العالم بسهولة ‪ ..‬ليس لديه أي مشكلة‬
‫بالتعامل مع أي أوراق رسمية ‪ ..‬لم يضطر في حياته إلى الهروب من بلد‬
‫لبلد ومن بحر لبحر ‪ ..‬ولكن أليس هذا إجحاف بحق العالم كله ‪ ..‬لماذا‬
‫تنظر للناس من ثقوب قوقعتها هي ‪ ..‬قد يعيش اإلنسان في بلده وبيته وبين‬
‫أهله وحياته مليئة بالمآسي والعثرات ‪..‬‬
‫وهكذا يوسف قد تكون حياته للناس سهلة وفيها مزايا كثيرة ولكن أال يمكن‬
‫أنه عاش أشياء صعبة وفترات من الحرمان إيضا ‪.‬‬
‫تنهدت لترمي نفسها على السرير تحاول أن تقيم األمر من جديد وبعيون‬
‫أخرى غير عيون الحرب التي كانت تخيم على رؤيتها من قبل ‪.‬‬
‫‪............................................................................‬‬
‫أغلق الملف أمامه ليقول وهو يفرك عينيه ‪ :‬هذا أخر ملف علينا دراسته‬
‫صحيح ؟‬
‫أومأ له حسام وهو يغلق قلمه ينظر لصديقه الذي كان يبدو متعب باآلونة‬
‫األخيرة ليقول ‪ :‬نعم أخر ملف ‪ ..‬ولكن ما بك اليوم ؟‬
‫تنهد يوسف وهو يدور في كرسيه ‪ :‬أشعر بالملل فقط ‪.‬‬
‫لملم باقي األوراق ليضعها في ملفها البالستيكي ‪ :‬هل األمر متعلق بكرمل‬
‫؟‬
‫توقف يوسف عن الدوران لينظر في عيني صديقه ‪ :‬يا رجل وجودي هنا‬
‫دون أن أعرف ماذا يحدث معها مزعج جدا ‪ ..‬العم محمد ووالدتها‬
‫أخبراني أن أعطيها مساحتها الخاصة لتفكر وكانا متفائالن جدا ‪.‬‬
‫تنهد ‪ :‬بماذا تفكر ؟ ولماذا كان العم محمد يركز على أن أبتعد وال أحادثها‬
‫من جديد ‪...‬‬
‫أجابه حسام ‪ :‬أن ما مرت به ليس سهال ‪.‬‬
‫أومأ له قائال ‪ :‬أعلم ولهذا أقبل بكل ما يحدث ‪ ..‬فكرة أنها مرت بكل هذا‬
‫تؤلم قلبي ‪ ..‬لم أكن أتوقع أن أقع في حبها هكذا ‪ ..‬رفضها زاد عنادي‬
‫لقربها ‪ ..‬وابتعادها ما هو إال جاذبا لي نحوها أكثر ‪.‬‬
‫ابتسم حسام ‪ :‬انتظر فقط ‪...‬‬
‫هز يوسف رأسه دون أن يدلي بأي كلمة جديدة ليقول حسام وكأنه فطن‬
‫ألمر مهم ‪ :‬بالمناسبة ماذا حدث في أمر السيف ؟‬
‫أجابه ‪ :‬لقد تواصل عمك مع الرجل في دمشق وأخبره أنه سيسأل عن‬
‫عنوان قريبه في مصر ‪.‬‬
‫سأله حسام مندهشا ‪ :‬ولماذا تحتاج العنوان أال يكفي رقم الهاتف ؟‬
‫هز يوسف رأسه نافيا ‪ :‬ال هذه المرة أنا مصرا على الذهاب إلى السيف‬
‫بنفسي لن أجلس هنا وانتظر األمر ‪.‬‬
‫قاطعه مرة أخرى متسائال ‪ :‬كنت قد أخبرتني أن صانع السيوف في دمشق‬
‫أخبرك انه سينصع لك سيف أليس كذلك ؟‬
‫أومأ له بنعم ليكمل ‪ :‬وقد أخبرتني أنه يمكنك طلب آية قرآنية أو جملة أو‬
‫بيت شعر لنقشها على السيف ؟‬
‫أومأ له مرة أخرى وهو ينتظر تفسيرا ألسئلة صديقه الكثيرة ليجيبه ‪ :‬جيد‬
‫‪ ..‬هل يمكنك أن تتصل به اآلن ؟‬
‫نظر له يوسف بعدم فهم ‪ :‬بالطبع ولكن لماذا ؟‬
‫ابتسم له حسام ‪ :‬أريد من أن يصنع لي سيف دمشقي وأنا سأعطيه العبارة‬
‫التي أرغب بنقشها عليه ‪.‬‬
‫ارتفعت ابتسامة صديقه بعد أن فهم األمر ليمسك هاتفه يطلب الصانع‬
‫بسرعة يميله ما يرغب به صديقه ‪.‬‬
‫أغلق الهاتف بعد أن أنهى االتفاق مع السيوفي واتفقا على موعد الشحن‬
‫والثمن ليقول يوسف ‪ :‬لم أكن أتوقع هذا منك يا ابن بغداد ‪.‬‬
‫أجابه حسام ‪ :‬هذا بعض مما عندك يا صديقي ‪.‬‬
‫كاد أن يجيبه لكن رنين هاتفه أوقفه لينظر لهوية المتصل والصدمة تعلو‬
‫وجهه وهو يهمس أمام رفيقه ‪ :‬أنها كرمل ‪.‬‬
‫حثه حسام بسرعة ‪ :‬هيا أجب بسرعة لعله خبر سعيد ‪.‬‬
‫فتح الخط لتقول له ‪ :‬أريد أن أقابلك ‪ ..‬هل يمكن ؟‬
‫أجابها ‪ :‬حاال‬
‫أخبرته ‪ :‬أنا في حديقة فندقك سوف انتظرك هناك ‪.‬‬
‫تسمر واقفا من كلماته ليغلق الخط وهو يتجه نحو الباب وحسام يوقفه‬
‫متسائال عن األمر ليقول وهو خارج دون أن يلتفت له ‪ :‬أنها في الحديقة ‪..‬‬
‫أنا ذاهب لها ‪.‬‬
‫راقبه حسام وهو يسرع في خطواته نحوها ليرفع هاتفه فورا يطلب‬
‫خطيبته ‪ :‬أخبريني عن قرار كرمل فأنا لن انتظر أن تفرغ حديثها مع‬
‫يوسف ‪.‬‬
‫أجابته بعدم فهم ‪ :‬ال أعلم عن هذا شيء ‪ ..‬ثم ان كرمل ترفض التحدث‬
‫معي في األمر وتقول دعيني أتخذ القرار بنفسي ‪.‬‬
‫تنهد بال أمل لتسأل سالم ‪ :‬ولكن هل ذهبت إليه ؟‬
‫أجابها ‪ :‬أجل وطلبت لقائه‬
‫علقت ‪ :‬اتمنى أن توافق وتخرج من الحزن الذي تلف نفسها به ‪ ..‬بالمناسبة‬
‫أنا أصبحت قريبة من الفندق ‪ ..‬دعها تنتظرني بكافة األحوال ‪.‬‬
‫ارتفعت ابتسامة شوق لها فورا ليجيبها‪ :‬أنا انتظرك‬
‫‪..........................................‬‬
‫في الحديقة ‪.‬‬
‫كانت تجلس على إحدى المقاعد الخشبية التي صمتت من جذوع الشجرة‬
‫تراقب األوراق الخضراء من حولها حتى شعرت بوقع أقدامه يقترب منها‬
‫لترفع رأسها نحوه بابتسامة هادئة هامسا ‪ :‬مرحبا‬
‫أجابها ‪:‬أهال بك ‪.‬‬
‫ابتسم له لتعود لتجلس على جذع الشجرة وهو يجلس قربها صامتا وكأنه‬
‫ينتظر البيان الذي سوف تحرره أمامه رغم أن التوتر يسيطر عليه لكنه لم‬
‫يعلق أو يسأل شيء ‪..‬‬
‫ليسمع تنهداتها ثم صوتها قائلة ‪ :‬لقد تم عقد قراني في سوريا ‪ ..‬شاب من‬
‫إحدى العائالت الشامية ‪ ..‬لم أكن أعرف عنه شيء من قبل ولكن هي‬
‫العادة الزواج عن طريق العائالت وأنا كنت أخضع لتلك العادات وأتقبلها‬
‫أيضا ‪ ..‬تم خطبتنا وكان األمر يسير كما المعتاد حتى أتى يوم ألمي قائال‬
‫أنه يريد تعجيل الزواج ألنه قرر الخروج من البلد نحو ألمانيا ‪ ..‬بالطبع‬
‫فالحياة في بلد كسوريا أصبحت مشابه للحياة في الجحيم ‪ ..‬ال عمل ‪ ..‬ال‬
‫كهرباء ‪ ..‬ال ماء ‪ ..‬الموت في كل مكان ‪ ..‬غبار القصف يغطي الغيوم‬
‫والشمس ‪ ..‬فكانت الحياة شبه معدومة هناك ‪ ..‬لذلك وبالنسبة ألي شاب‬
‫فرصة اللجوء أفضل ألف مرة من البقاء تحت حزام الموت ‪..‬‬
‫في البداية كنت رافضة بشكل كبير لتلك الفكرة ‪ ..‬تعلقي بالشام وبأمي‬
‫أيضا ‪ ...‬كيف اتركها وحدها ‪ ..‬ابي مات وأخي مستقرا في أمريكا رغم‬
‫أنه حاول أن يأخذها لعنده لكنها رفضت من أجلي وأتي أنا ببساطة ألتركها‬
‫وحدها ‪ ..‬حتى وصل األمر معي لفسخ الخطوبة لكن أمي رفضت فكما‬
‫هي العادة أيضا تجربة خطوبة فاشلة هي نقطة حمرا في ملفي كفتاة شامية‬
‫‪ ..‬لتحاول أن تقنعني أن فكرته جيدة وله كل الحق بطلبه ‪ ..‬ولماذا ابقى ‪..‬‬
‫علي أن أرى حياتي ‪ ..‬أسس عائلتي وانجب أطفال في بيئة سليمة هادئة‬
‫وجيدة ‪..‬وهكذا بقيت شهر تقنعني بالفكرة حتى اقتنعت ووافقت ‪ ..‬وافقت‬
‫على طلبه وعقدنا القران لنغادر سوريا في نفس اليوم ليال ‪ ..‬من سوريا‬
‫إلى تركيا ومنها عن طريق البحر إلى ألمانيا ‪ ..‬الحلم كما يسميها زوجي‬
‫رحمه هللا ‪.‬‬
‫رغم أن رحلة دخولنا إلى تركيا كانت ال تخلو من المخاطر وضرب‬
‫بالرصاص أيضا ولكننا استطعنا أن ندخل لنجد مجموعة من أصدقائه في‬
‫انتظارنا ‪ ..‬وغادرنا تركيا في أقل من خمسة عشر يوما قضينا معظمها مع‬
‫رفاقه وعائالتهم ‪ ..‬ثم خرجنا ‪ ..‬نحو البحر ‪.‬‬
‫نظرت نحوه لتجده مستمعا بصمت فتكمل بصوت يشبه الهمس ‪ :‬ال بل‬
‫نحو الموت ‪ ..‬كنا جميعا نركب قارب مطاطي صغير دون أي ترتيبات‬
‫للسالمة والمهرب يخبرنا أن األمر بسيط ولن يستغرق وقت طويل ‪ ..‬هكذا‬
‫حتى بدأت الكارثة ‪ ..‬حركة موج عالية بدأت تقذف المركب في جميع‬
‫االتجاهات ليبدأ الخوف يدب في قلوب الجميع وصراخ األطفال يعلو ‪..‬‬
‫كان عددنا على القارب حوالي عشرين شخص ‪ ..‬وفجأة اصبح صفر ‪..‬‬
‫جميعنا رمينا في البحر والقارب صار فارغ يمشي في عرض البحر لوحده‬
‫‪ ..‬حاول الرجال معنا أن يصلوا إليه ولكن موج البحر العالي حال دون‬
‫ذلك ‪ ..‬في خضم كل هذا كنت أبحث عن زوجي بين الوجوه ‪ ..‬أريد أن‬
‫أمسك به فقد شعرت أن الموت قريب مني ال محالة ‪ ..‬لكنني لم اجده ‪..‬‬
‫بحثت وبحثت ولم أجد أحدا ‪ ..‬حتى سمعت إحدى الرجال يصرخ باسم ابنه‬
‫الذي اختفى أيضا ألخبره أن زوجي ايضا اختفى ‪ ..‬بقينا ساعات في الماء‬
‫دون فائدة ‪ ..‬بحث الرجال عن الطفل وزوجي ولكن لن يجدوا أحد ليقرر‬
‫أحدهم السباحة ‪ .‬لم يكن امامي إال أن أسير مع الجمع الذي بدأ يتفرق أيضا‬
‫‪ ..‬حاولت السباحة بصعوبة فأنا ال أجيدها ‪ ..‬حتى ساعدني الشبان الذين‬
‫كانوا معنا ‪ ..‬لنصل أخيرا وبطريقة عجيبة إلى الشاطئ وخفر السواحل‬
‫حولنا ‪ ..‬أخبرهم الرجل عن ابنه وعن زوجي ‪ ..‬وبعد أقل من نصف ساعة‬
‫عاد خفر السواحل ومعهم جثتين ‪ ..‬جثة لرجل وكان زوجي وجثة الطفل‬
‫الصغير الذي بدأت والدته تولول وتبكي عليه وأنا التي صدمت ‪ ..‬كان‬
‫يقول أرض الحلم أمامنا ولكنها اآلن لم تكن سوى مقبرة له ‪..‬سافر من‬
‫دمشق كل تلك المسافة ليدفن هنا ‪ ..‬لتضم جسده هذه التربة التي لم يألفها‬
‫من قبل ‪ ..‬تاركا خلفه زوجة لم يعيش معها وال يوم ‪ ..‬لم يفرح بزواجه‬
‫منها ‪ ..‬وكأنها نذير شؤم عليه فقد أفقدته حياته وبقيت هي غريبة في أرض‬
‫غريبة ‪..‬‬
‫وجدت نفسي وحيدة فحتى صديقه الذي دخل معي أخذ عائلته وأسس حياته‬
‫‪ ..‬كان يسأل عني في البداية ولكن مع االيام خف السؤال واختفى تدريجيا‬
‫من حياتي هو وأسرته ألبقى وحيدة ‪ ..‬ضائعة ‪ ..‬ال أعرف أحد وال أجيد‬
‫اللغة ‪ ..‬قررت العودة لسوريا ولكن كيف أعود وأنا ال أملك نقود وال‬
‫أوراق وال أي شيء فقد اتلفوا جميعا في البحر ‪ ..‬تحدثت مع أمي وأخي ‪..‬‬
‫وكان صعب جدا عليه أن يأتي ألي أو حتى يأخذني إليه فأنا بال أوراق‬
‫حاليا ‪ ..‬لتقترح امي أن تأتي إلي هنا ‪ ..‬لم أكن أعلم أن كالمها هذا لم يكن‬
‫سوى حبة مسكن لي ألستطيع أن أقف على قدمي ‪ ..‬فوافق أخي على‬
‫االقتراح وشجعتني أمي على القبول ‪ ..‬وهكذا مرت األيام ألجد نفسي‬
‫انخرطت في المدرسة أتعلم اللغة وأعيش مفردي انتظر أمي التي بدأت‬
‫معركة جديدة في تنظيم األوراق وإيجاد طريقة تأتي بها إلى هنا ‪ ..‬فسنها‬
‫ال يسمح لها بالخروج عن طريق التهريب ‪ ..‬ليخبرها أخي أن تسافر إلى‬
‫األردن وهناك تعرفت على عائلة العم محمد وبمساعدة أخي ومعرفته‬
‫لبعض األشخاص ذو النفوذ استطاع أن يحصل لها على طلب لجوء لتأتي‬
‫إلى هنا أخيرا بعد عامين من المحاوالت ‪.‬‬

‫توقفت عن الكالم ونظراتها تركز عليه تحاول البحث عن أي ردة فعل قد‬
‫تظهر على مالمحه لكنها لم تجد شيء لتتنهد بصوت عال وكأنها تحاول‬
‫جذب الهواء من كل مكان حولها لتقول له أخيرا ‪ :‬عندما أخبرتني عن‬
‫طلبك لم أكن أعلم كيف أفسر لك رفضي ألنني نفسي لم أكن أقدر أن‬
‫أفسره ‪ ..‬عشت سنوات صعبة في سوريا ثم هنا ‪ ...‬فقدت زوجي قبل أن‬
‫أبدأ معه ‪ ..‬عشت بعيدة عن عائلتي وحيدة هنا ‪..‬وحين استقرت حياتي‬
‫ووجدت أسرة لي هنا دخلت أنت حياتي بحبك للشرقيات وشغفك في‬
‫ماضي مدينتي ‪ ..‬تعلقك بمحمود درويش الذي كبرت على أحاديث أبي‬
‫عنه يوميا ‪ ..‬حتى عرضك علي كان يتضمن األشياء التي أميل لها ‪..‬‬
‫ولكن هناك أشياء لم أقدر على تجاوزها فيك ‪.‬‬
‫قاطعها يوسف للمرة األولى منذ بدأت حديثها ‪ :‬مثل أنني لم أجرب الحرب‬
‫ولم أواجه الصعوبات ؟‬
‫تجمدت حدقتيها بفعل سؤاله الذي لم يكن سوى جواب ال تجرأ على نطقه‬
‫‪..‬لتهز رأسها بنعم ‪.‬‬
‫ليبتسم لها بثقة قائال ‪ :‬كما توقعت ‪.‬‬
‫سألته هامسة ‪ :‬توقعت ؟‬
‫أومأ لها ليفسر ‪ :‬نعم كرمل ‪ ..‬فتاة تربت على كلمات درويش المفعمة‬
‫بالحرية والوطنية ‪ ..‬تعشقت تاريخ مدينتها وحفظت كل أسرارها ‪..‬‬
‫واجهت الموت وخاطرت بحياتها نحو بلد أخر من أجل واجبها الزوجي‬
‫فقط ‪ ..‬ثم مات رجلها أمام عينيها بطريقة ال يمكن وصفها بشيء ‪ ..‬هذا‬
‫كله كان يفسر لي رفضك ‪ ..‬وبصراحة أنا ال ألومك أبدا ‪ ..‬فمن ينظر‬
‫لحالي رجل غني مستقل في حياته وعمله أملك جنسية من أقوى الجنسيات‬
‫في العالم ‪ ..‬بينما أنت فتاة تحمل بعض األوراق وجواز سفر مؤقت ‪..‬‬
‫عانت ‪ ..‬رأت الموت أكثر من مرة ‪ ..‬كانت مفارقة واضحة جدا وأنا ال‬
‫ألومك عليها ‪.‬‬
‫قاطعته هامسة ‪ :‬وهذا سبب حديثك معي في المركز ؟‬
‫أومأ ‪ :‬بالطبع ‪ ..‬كنت أرغب أن أوضح لك أن هناك كثيرين عاشوا وضع‬
‫صعب ‪ ..‬بكوا في صمت حتى لو كانوا شاهدين على هذا األلم ولكنه‬
‫يمسهم بطريقة أو أخرى ‪ ..‬وأنا كنت هذه الفئة ‪ ..‬كنت شاهد على الضحية‬
‫والتي هي أبي ‪ ..‬الضحية التي فقدتى سنوات مراهقتها بين نزوح وفقد‬
‫لوطنه ‪ ..‬شاهد على ذكرى حفرت في عقله وقلبه وكل ذرة حياة فيه ‪.‬‬
‫صمتت لثوان لتنظر أمامها تحاول تجنب نظراته ‪ :‬أنا أسفة ‪.‬‬
‫حرك جسده نحوها وهناك تفسيرا واحدا يدور في عقله العتذارها ‪ ..‬لتكمل‬
‫‪ :‬أنا آسفة لنظرتي السيئة لك ‪ ..‬آسفة ألنني ظننت أن ألمنا لم يسبق على‬
‫بشر من قبلنا ‪ ..‬آسفة ألنني استهنت بهجرتك منذ ولدت وعيشك مع صفة‬
‫الجئ منذ أن كنت في بطن أمك ‪.‬‬
‫ارتفعت ابتسامته تدريجيا ‪ :‬إن كان أسفك لن يصل لجملة آسفة أنا أرفض‬
‫االرتباط بك فسوف أقبل كل اعتذاراتك بصدر رحب ‪.‬‬
‫ضحكت بخفة وهي تهز رأسها ‪ :‬ال لن أرفض طلبك ‪.‬‬
‫تنهد براحة أخيرا فها هو قد حصل على موافقتها ليقول من جديد ‪ :‬لدي‬
‫شرط ‪.‬‬
‫رفعت حاجبها نحوه بعدم فهم ليفسر ‪:‬لقد أخبرني العم محمد أنه سيحصل‬
‫لي على عنوان الرجل في مصر ‪ ..‬وأنا أريد أن تكوني معي بهذه الرحلة‬
‫‪..‬‬
‫حاولت أن تعترض ليوقفها بيده ‪ :‬أنا لن أرى ذلك السيف ذو مئات السنين‬
‫وحدي ‪..‬ستكونين معي شاهدين على حب أبي ألمي ‪.‬‬
‫ابتسمت هذه المرة ابتسامة نقية خالصة ومرتاحة تجيبه ‪ :‬موافقة ‪.‬‬
‫ابتسم ليفطن على شيء أخر ‪ :‬هل تحملين ورقة ؟‬
‫أومأت له بعدم فهم وهي تخرج ورقة بيضاء من حقيبتها ويده تنسل إلى‬
‫جيب سترته يخرج قلمه منها ممسكا الورقة من يديها يمزقها قطعتين‬
‫لينظر في عينيها بعدم فهم وهو يقول ‪ :‬إن كان عرضي على الطريقة‬
‫الدرويشية فيجب أن نتابع كل الطقوس ‪.‬‬
‫فهمت ما يرمي إليه لتبتسم وهي تمسك منه القلم والورقة لتكتب ‪ :‬أحب‬
‫دمشق القديمة ‪ ..‬ساعات الغروب ‪ ..‬المطر ‪ ..‬محمود درويش ‪ ..‬أغاني‬
‫فيروز ‪..‬الموزييك والسيوف الدمشقية‬
‫أعطته القلم ليكتب في ورقته ‪ :‬أحب السيوف الدمشقية ‪.‬وأحبك أنت فأنت‬
‫الوطن الذي أبحث عنه ‪.‬‬
‫ليعطيها ورقته ويأخذ منها ورقتها ‪.‬‬
‫وضعت ورقته في حقيبتها وهو أعاد القلم مع ورقتها إلى سترته لتعلق ‪:‬‬
‫من كان يعتقد أن أفعل ما فعله محمود درويش حين عرض الزواج على‬
‫رنا القباني ‪..‬‬
‫أبتسم ‪ :‬كنت دوما أتخيل ردة فعل زوجته حين مزق الورقة التي كانت معه‬
‫وطلب منها أن تكتب ما تحب وهو سيفعل المثل ولم أكن أتخيل أن أفعلها‬
‫مع إحداهن ‪ ...‬ولكن اللمعة التي رأيتها في عينيك وأنت تكتبين كانت‬
‫تستحق ‪.‬‬
‫نظرت له تتأمل مالمحه وعينيه تراقب الورود حولهما لتبتسم فها هي‬
‫أخيرا اتخذت القرار الصحيح في حياتها وقررت الشخص الذي ستتابع‬
‫معها بقية حياتها ‪.‬‬
‫قاطع نظراتهما صوت سالم التي اقتربت‪ :‬أرجوكما أخبراني أنه خبر‬
‫سعيد‪.‬‬
‫ابتسم لها يوسف وهو يقف مرحبا بها‪ :‬بالطبع سعيد‬
‫ضحكت بحماس وهي تركض نحو كرمل تحتضنها تبارك لها ثم ليوسف‬
‫لتقطع كرمل سيل المباركات وهي تنظر للحقيبة الورقية التي تحملها قائلة‪:‬‬
‫انتهيت من صنعه‬
‫أومأت لها سالم بنعم ويوسف يتسائل‪ :‬صنع ماذا؟‬
‫ارتفع المكر على نظرات كرمل مجيبة‪ :‬أين حسام هل هو هنا؟‬
‫هز رأسه‪ :‬أنه في المكتب‬
‫أمسكت يد صديقتها‪ :‬خذنا إليه لتعرف ما األمر ‪.‬‬
‫مشى الثالثة وسالم خجلة كانت تخطط أن تعطيه الثوب لوحدها معه ولكن‬
‫مع إصرار كرمل وفضول حسام أصبح األمر صعب بالنسبة لها ‪ ..‬كانت‬
‫تعض شفتيها بتوتر وال سيما حين استقبلهم حسام وهو يسأل‪ :‬أخبرني ماذا‬
‫حدث؟‬
‫أجابه يوسف‪ :‬سوف اتزوج قبلك يا صديقي‬
‫ارتسمت السعادة على مالمح حسام الذي فعل كما فعلت خطيبته منذ دقائق‬
‫ليبدأ بالثرثرة والضحك والمباركات حتى قاطعه يوسف وهو ينظر للفتاتين‪:‬‬
‫هيا دعوني أرى‬
‫توقف حسام بعدم فهم‪ :‬ترى ماذا؟‬
‫اقترب من صديقه بنظرات خبيثة‪ :‬ال أعلم خطيبتك قد صنعت شيء ويبدو‬
‫شيء مهم ألن كرمل كانت متحمسة جدا لذلك أتينا إلى هنا ‪.‬‬
‫نظر إلى سالم ليتقرب منها خطوة ثم إلى يدها التي مدتها نحوه تعطيه‬
‫الحقيبة والخجل بدأ يزحف إلى وجنتيها ليأخذ منها تلك الحقيبة يفتحها ليجد‬
‫قطعة قماش بيضاء اللون ‪.‬فيرفع بصره نحوها بعدم فهم فتقول ‪ :‬أخرجه‬
‫وأنظر‬
‫فعل ما قالت ليضع الحقيبة بعيدة ليرى تلك القطعة فيجدها ثوب عربي ذو‬
‫لون أبيض كريمي فيها يلمع بلمعة خفيفة ليتبين له أنه من الحرير على‬
‫أكمامه وأطرافه تطريز بخيط أبيض وتلك التطريزات تبدو كرسمة‬
‫زخرفية رائعة تجذب األنظار‬
‫ليعلق يوسف باندهاش‪ :‬هل هذا هو األغباني ؟‬
‫أومأت له سالم‪ :‬نعم هذه هو لكنني وجدت قماش حريري أبيض لذلك‬
‫استخدمته ولحسن حظي وجدت خيوط حريرية بيضاء أيضا‪.‬‬
‫اقترب من صديقه ليلتمس القماش ‪ :‬أنها رائعة الجمال‪ ..‬أنت مبدعة‪.‬‬
‫ابتسمت له بخجل دون أن تعلق لينظر إليها حسام بنظرات مليئة باالمتنان‬
‫والحب‪ :‬ال أعلم بماذا أعلق؟‬
‫أنزلت رأسها بخجل ‪ :‬أتمنى أن يكون مقاسك‪ ..‬لقد قدرت قياساتك تقدير‬
‫اقترب منها خطوة‪ :‬حتى لو لم يكن مقاسي سوف احتفظ به ‪.‬‬
‫قاطع كالمهما يوسف الذي وجهه كالمه لكرمل ‪:‬هل تحتاجين لقياساتي‬
‫لتصنعي لي ثوبا مثله ‪.‬‬
‫ضحكت كرمل تجيبه‪ :‬أنا ال أجيد عمل اإلبرة ‪ ..‬ثم أن سالم طرزت تلك‬
‫الخيوط بيدها ‪..‬‬
‫بدت على مالمحه خيبة األمل لتكمل‪ :‬يمكنني أن أصنع لك صينية من‬
‫الموزييك ‪.‬‬
‫أومأ موافقا على اقتراحها‪ :‬فكرة مغرية جدا‪.‬‬
‫الفصل السابع‬
‫لم تكن تتخيل أن تكون األمور بهذه السرعة فلم يكد مر شهر على حديثها‬
‫مع يوسف في حديقة فندقه وها هي اآلن زوجته رسميا ‪ ..‬تحمل اسمه وهو‬
‫يحمل قلبها ‪ ..‬لقد كان يتغلغل فيها بهدوء ودقة دون أي مقاومة منها ‪..‬‬
‫اكتشفت فيه خالل هذا الشهر كم هو رجل يستحق كل الحب والتقدير ‪..‬‬
‫حتى والدتها أعجبت به وبأفكارها ورقيه ‪ ..‬حياتها وحياة سالم تغيرت‬
‫كثيرا خالل األشهر الماضية ‪ ..‬من فتاتين يلفهما أثر الحرب في بالدهم‬
‫لتدخل رجلين ماسحين تلك الراء اللعينة ويصبح الحب هو من يحوطهم‬
‫ويغطي بظالله على كل بقعة ألم مرتا بها ‪..‬‬
‫كانت ترى سالم التي تبدلت من بنت ال تثق بنفسها أو أي عمل تقوم به إلى‬
‫أخرى متفائلة بكل شيء ‪ ..‬مبتسمة على الدوام ‪ ..‬بدأت تحب نفسها بعيون‬
‫حسام الذي أحبها دون قيد أو شرط ‪ ..‬حتى أنه رفض فكرتها حين اقترحت‬
‫أن تقوم بعملية تجميل ألثار الشظايا في جسدها ‪ ..‬رغب بها كما هي‬
‫بجروحها وابتساماتها ‪ ..‬فتلك األثار لن تغير من قيمتها بقلبه ونظرته لها‬
‫وهي اقتنعت بكلماته ‪ .‬كانت تتوقع أن سالم لم تقبل برأيه ولكنها ولصدمة‬
‫الجميع كانت مقتنعة جدا بما قال ‪ ...‬حتى أنها لم تعد تخجل من إظهار تلك‬
‫الندوب أمامها أو أما شقيقتها األصغر ‪ ..‬نعم لقد تبدلت الحياة واختلفت كليا‬
‫‪ ..‬فحين ننظر إلى نواقصنا بحب سنجد أن هللا أرسلها لنا بتعويض أكبر ‪..‬‬
‫هو الرضا ‪ ..‬وهي كانت راضية عن حياتها أخيرا ‪ ..‬تلك السنين العجاف‬
‫التي عاشتها حملت معها أمطار غزيرة وسنوات ستكون مزهرة بإذن هللا ‪.‬‬
‫شعرت بيد يوسف الذي أمسك يدها لتبتسم له قائال ‪ :‬مبارك لك سيدة كرمل‬
‫الكسواني ‪.‬‬
‫ابتسمت بفخر فما أجمل أن تحملي اسم الرجل الذي تحبين لتهمس ‪ :‬شكرا‬
‫لك ‪.‬‬
‫نظر إلى ساعته ليعلق ‪ :‬هيا بنا لنلحق بالطائرة إلى القاهرة ‪.‬‬
‫نظرت حولها ألمها وسالم وحسام حتى العم محمد وزوجته كانا حاضرين‬
‫لتقول ‪ :‬أليس الوقت مبكرا ؟‬
‫أجابها حسام ‪ :‬ال يجب أن تصال قبل فترة من إقالع الطائرة ‪ ..‬ثم أن‬
‫رحلتكما لن تطول أكثر من أسبوع ‪.‬‬
‫علق يوسف ‪ :‬نعم نعم فهناك خائن حدد موعد زفافه ليضعنا في موقف‬
‫صعب ‪.‬‬
‫ارتفعت الضحكات لتقترب من أمها تحتضنها بدموع واألخرى تدعو لها‬
‫بالسعادة والفرح وكرمل تهمس لوالدتها ‪ :‬أدعي لي أماه ‪.‬‬
‫ابتسمت والدتها من بين دموعها ‪ :‬دائما بنيتي ‪ ..‬لتكن السعادة من نصيبك‬
‫‪..‬‬
‫ابتعدت تودع اآلخرين ويوسف يحتضن حماته مودعا إياها ليسمك بيد‬
‫كرمل بعد أن فرغ الجميع من الوداع نحو المطار ‪.‬‬
‫مضت الرحلة بسالسة وها هما اآلن على األراضي المصرية ‪ ..‬همست‬
‫كرمل وهي تراقب القاهرة من السيارة التي اتخذاها نحو الفندق واألهرام‬
‫واضحة لعينيها ‪ :‬أنها أم الدنيا ‪.‬‬
‫ابتسم لها يوسف وهو يراقب ما كانت تراقبه ليقر ‪ :‬مصر المحروسة التي‬
‫تضم جماال لم يسبق ألي بلد أن ضمه ‪.‬‬
‫أومأت له بصمت حتى وصال إلى الفندق ويوسف يطلب أحد األرقام من‬
‫هاتف الفندق ليجيب عليه صوت رجولي ‪ :‬السيد خالد ‪.‬‬
‫أجابه الرجل بنعم ليتابع يوسف كالمه ‪ :‬أنا أدعى يوسف وقد حصلت على‬
‫رقمك من قريبك أحمد في دمشق ‪ ..‬هل يمكنني زيارتك غدا لدي أمر ما‬
‫أرغب بالحديث معك به ‪.‬‬
‫أجابه الرجل ‪ :‬أهال وسهال بك في أي وقت ‪.‬‬
‫ابتسم يوسف لزوجته المنتظرة بفضول ليقول ‪ :‬حسنا إذن غدا الساعة‬
‫الواحدة ظهرا‬
‫قاطعه الرجل ‪ :‬أرسل لك العنوان ؟‬
‫أجابه ‪ :‬ال أنا أملكه ولكن العنوان الذي لدي هو عنوان محلك لذلك زيارتي‬
‫ستكون لمحلك ال بيتك ‪.‬‬
‫وافق الرجل على طلبه ليغلق الخط بابتسامة منتصرة قائال ‪ :‬وأخيرا ‪.‬‬
‫ابتسمت له كرمل بسعادة لتعلق ‪ :‬هيا نأكل إذن واريد أن أنام فغدا يوما‬
‫طويل‬
‫أومأ لها زوجها ممسكا يدها نحو طاولة الطعام في الغرفة ‪.‬‬
‫في اليوم التالي كان يوسف وكرمل في حي الحسين في القاهرة ‪ ..‬تحديدا‬
‫في خان الخليلي ‪ ..‬نظرت نحو المكان بإعجاب كبير لتعلق ‪ :‬يشبه أسواق‬
‫دمشق القديمة ‪.‬‬
‫ابتسم لها ليمسك الورقة بين يديه يقف قرب إحدى المحالت هناك ليسأله‬
‫عن المحل المقصود والرجل يساعده في الطريق ليشكره يوسف متجها‬
‫حيث أخبره الرجل ‪ ..‬ورغم بحثه عن مكان محل السيد خالد لم يفته مراقبة‬
‫المكان حوله والمحالت المنتشرة حوله بما تحمل من فضيات ونحاسيات‬
‫وعطور واألشياء التراثية لقول ‪ :‬إن لم نحصل على السيف سوف نحصل‬
‫على حملة تسوق ال تفوت ‪.‬‬
‫اقتربت منه كرمل ممسكا يده ‪ :‬دعنا نكون متفائلين ‪.‬‬
‫لم تكد تنهي جملتها حتى وقف يوسف أمام محل للنحاسيات لينظر لالسم ثم‬
‫الورقة التي بيده قائال ‪ :‬اعتقد أننا وصلنا ‪.‬‬
‫ليجد فعال رجل يقف وكأنه ينتظر زائرا ما ليقترب منه ‪ :‬السيد خالد ؟‬
‫أومأ الرجل ‪ :‬وأنت السيد يوسف ‪ ..‬خشيت أن تضيع في الزحام أو ال‬
‫تعرف العنوان لذلك فضلت أن انتظرك هنا ‪.‬‬
‫مد له يده مرحبا به ثم أومأ لكرمل برأسه لترد عليه بهزة خفيفة من رأسها‬
‫يدخلهما إلى دكانه وهي تراقب القطع المتناثرة حولها ‪ ..‬ما بين لون ذهبي‬
‫يخطف األبصار ولن فضي يسحر القلوب ‪ ..‬كانت مدهوشة جدا فمنذ أن‬
‫غادرت سوريا لم تزر سوقا شعبيا ومحالت القطع القديمة في ألمانيا كلها‬
‫على الطراز الحديث أما هنا شعرت وكأنها في دمشق للحظات ‪ ..‬ولهجة‬
‫الرجل الممزوجة بين الشامية والمصرية كانت مميزة جدا لتشعر براحة‬
‫كبيرة ‪.‬‬
‫قاطع تأملها صوت الرجل لها ‪ :‬تفضلي ‪.‬‬
‫رفعت رأسها لتجده يمد بيده بصينية عليها كؤوس من الشاي لتأخذ واحد‬
‫منه تشكره وهو يقول ‪ :‬لقد تحدث معي قريبي ليلة أمس وأخبرني بشكل‬
‫عابر عن سبب طلبك رؤيتي ‪.‬‬
‫أجابه يوسف ‪ :‬السيف الدمشقي ‪.‬‬
‫أومأ الرجل ليضع الصينية على الطاولة وعينيه تتجه نحو يوسف ‪ :‬نعم لقد‬
‫قال لي أنك تبحث عن سيف ترغب بشرائه ولكن أنت تعلم أن مثل هذه‬
‫السيوف ال تباع أبدا فهي أرث عائلي ‪.‬‬
‫سيطر التشاؤم على يوسف ليقول ‪ :‬يمكنني دفع أي ثمن ‪ ..‬ال يهمني كم‬
‫سيكون ‪.‬‬
‫صمت الرجل وكأنه يقلب األمر في رأسه ويوسف ينظر إلى زوجته بقلق‬
‫ليقول الرجل أخيرا ‪ :‬تعاليا معي ‪.‬‬
‫وقفت يوسف متسائال ‪ :‬إلى أين ؟‬
‫أجابه ‪ :‬إلى بيتي ‪ ..‬أال ترغب برؤية السيف ؟‬
‫ابتسم يوسف بتفاؤل ‪ :‬بالطبع هيا بنا ‪.‬‬
‫وما هي إال نصف ساعة حتى وصل الرجل ومع كرمل ويوسف أمام‬
‫أحدى البيوت ليفتح الباب يدعوهما إلى الدخول نحو صالة الضيوف ثم‬
‫يعتذر منهما قليال ليبقى الصمت مسيطر عليهما حتى تقطعه كرمل ‪ :‬ال‬
‫تعبس هكذا‬
‫ابتسم لها ليقطع ابتسامته دخول الرجل من جديد وهو يسند عجوز هرم‬
‫بصعوبة بالغة ‪ ...‬وقف اإلثنان والعجوز يرحب بهما ليقول بعد أن جلس‬
‫بصعوبة ‪ :‬أخبرني ولدي عن طلبكما ‪.‬‬
‫أومأ له يوسف ليبتسم العجوز وهو ينظر لولده ‪ :‬اذهب وهات السيف من‬
‫غرفتي ‪.‬‬
‫ليغادر الرجل من جديد تاركا العجوز معهما وهو يسأل ‪ :‬ولكن ما سر‬
‫تعلق شاب مثلك بمثل هذه القطع ‪.‬‬
‫اجابه يوسف ‪ :‬كان تعلق ألبي فيه ولقصة صالح الدين األيوبي وفتحه‬
‫القدس ‪.‬‬
‫علق الرجل ‪ :‬نعم فقد كان صالح الدين يقاتل الصليبين بالسيف الدمشقي‬
‫حتى وصفه ريتشارد بالمهلهل ‪ .‬ولكن ليس فقط صالح الدين من حمله فقد‬
‫عرفه على مر التاريخ أنه أشهر سيف تقلده الخلفاء واألمراء ‪ ..‬فعمر بن‬
‫عبد العزيز ‪ ..‬وهشام بن عبد الملك ‪ ..‬ونجم الدين األيوبي والد صالح‬
‫الدين حتى بعض السالطين المنصور قالوون و السلطان قانصوه الغوري‬
‫‪ .‬فلماذا ذكرت صالح الدين فقط ؟‬
‫ابتسم يوسف بسعادة لثقافة هذا العجوز ووفرة معلوماته ليجيبه ‪ :‬أنا‬
‫فلسطيني األصل من جذور مقدسية ‪ ..‬وتعلقت بقصة السيف ودوره في فتح‬
‫القدس ‪ ..‬لذلك رغبت بالحصول على واحد من أشهر األسلحة التي‬
‫ساهمت بتحرير بالدي في يوما ما ‪.‬‬
‫دمعت عين العجوز فجأة معلقا ‪ :‬السيف ليس وحده السبب يا ولدي ولكنها‬
‫الرجال ‪ ..‬هي من تساهم في النصر أو الخسارة ‪ ..‬فحين كان لنا رجال‬
‫أشداء تقاتل إلعالء كلمة هللا كانت هذه السيوف األداة الرابحة في الحرب‬
‫‪ ..‬أما اآلن فقد تحولت ألدوات زينة نعلقها على جدران منازلنا ‪.‬‬
‫ابتلع يوسف ريقه وكرمل تقول ‪ :‬طالما هناك سيف باقي ال بد أن يظهر‬
‫رجال أشداء يعيدوا أمجادنا يا عم ‪.‬‬
‫ابتسم لها العجوز ‪ :‬أنا سعيد أنني أرى بعض التفاؤل في عيون الشباب ‪.‬‬
‫ليقاطع كالمه دخول ابنه وهو يحمل بين يديه سيف طويل يتميز بانحنائه‬
‫الواضح ليقف يوسف متجها نحو الرجل وعينيه تتأمل السيف بغمده‬
‫المغطى بصفائح من الفضة والمرصعة باألحجار الكريمة والنقوش الجميلة‬
‫‪.‬‬
‫سمع صوت العجوز من خلفه يخاطب أبنه ‪ :‬أعطه السيف ‪.‬‬
‫مد الرجل يده بالسيف ليوسف ليمد يده بارتجاف واضح ولكن ما أن أمسكه‬
‫حتى عاد بنظراته للعجوز قائال ‪ :‬أنه خفيف جدا ‪.‬‬
‫ابتسم له ‪ :‬بالطبع‪ ,‬ألم تكن تعرف أن ميزة هذه السيوف هو خفتها ‪ ..‬وهذا‬
‫كان السر الذي أذهل العالم في ذلك الوقت ‪ ..‬فكيف استطاع الدمشقيين‬
‫صنع مثل هذه السيوف بانحناء واضح ووزن خفيف ال يتعب المقاتل أو‬
‫يسبب األالم بيده وهكذا كانوا يستطيعون أن يحاربوا أليام دون تعب ‪.‬‬
‫كان يوسف يستمع فقط لكلمات العجوز وعينيه مركزة على النقوش التي‬
‫حملت أبيات شعرية ليقرأ بصوت مرتفع ‪:‬الخيل والليل والبيداء تعرفني‬
‫والسيف والرمح والقرطاس والقلم‬
‫ليقول العجوز ‪ :‬هذا يدعو الغمد وهو ما يظهر للناس ويحتضن السيف‬
‫وله األهمية الكبرى بفن هذا الصنعة ‪ ..‬فهو المساحة المهمة للصانع ليظهر‬
‫إبداعه وفنه ‪ ..‬الغمد الذي معك مصنوع من الخشب وملبس بصفائح من‬
‫الفضة واألحجار الكريمة وذلك النقش الذي قرأته منذ لحظات ‪..‬‬
‫صمت قليال ليقول له ‪ :‬هي اسحب السيف من غمده ‪.‬‬
‫تنهد يوسف وهو يسمي باهلل ليمسك السيف من قبضته يسحبه برهبة شديدة‬
‫ليظهر له نصل السيف كان يلمح بشدة وكأنه صنع منذ ساعات فقط ‪.‬‬
‫نظر للعجوز وكأنه ينتظر تفسيره ليجيب ‪ :‬المكان الذي تمسك منه السيف‬
‫اسمه المقبض ومقبض سيفي هذا مصنوع من العظم ومغلف بجلد طبيعي‬
‫‪ ..‬بالطبع تغليفه بالجلد كان شيء أساسي فهكذا يحمي المقاتل ويجنبه األلم‬
‫‪ .‬وتلك تسمى واقية اليد تسمى البلجق وبالطبع يجب أن تكون مقوسة‬
‫لتغطي يد المقاتل وتحميها من ضربات سيوف العدو ‪..‬‬
‫أما النصل ‪.‬‬
‫ارتفعت أنظار يوسف إلى نصله الالمع ليسمع الرجل يقول ‪ :‬هذا هو األهم‬
‫وما يميز السيف الدمشقي فهو حاد جدا ‪..‬مقاوم لالهتراء ‪ ..‬وشديد القطع‬
‫وبالطبع هو مصنوع من الفوالذ الدمشقي العريق ‪..‬‬
‫نظر يوسف نحو كرمل الجالسة تتابع بصمت ثم نحو السيف الذي بين يديه‬
‫ليرفعه قريب إليه ليقرأ ما نقش على نصل السيف ‪ :‬نصر من هللا وفتح‬
‫قريب ‪.‬‬
‫كان يشعر بكثير من المشاعر المتفاوتة ‪ ..‬رؤيته واقعيا للسيف كانت شيء‬
‫ال يقاوم ‪ ..‬سمع الكثير من كرمل عن صفات السيف وأسرار الحديد‬
‫المستخدم بصناعته ‪ ..‬سمع من والده عن بطوالت صالح الدين معه ولكن‬
‫أن يقف حامال السيف بيده كان شعور ال يقدر بثمن ‪..‬‬
‫همس متسائال ‪ :‬كم عمر هذا السيف ؟‬
‫أجابه الرجل‪ :‬سبعمائة عام ‪.‬‬
‫هنا كان مبهورا جدا ‪ ..‬يحمل قطعة أثرية نادرة تعود لمئات من األعوام ‪..‬‬
‫قطعة حافظت على أصالتها ورونقها ‪ ..‬لمعانها وكأنها جديدة ‪ ..‬لم تصدأ‬
‫أبدا ‪ ..‬لم تفقد هيبتها وال فتنتها ‪ ..‬وكأنه يقف أمام تاريخ أجداده وكأنه أمام‬
‫أرضه وماضيه وذكريات أبيه التي لطالما سمعها ‪..‬‬
‫قطعة قد تبدو لكثيرين أنها مجرد زينة قد توضع في بيوتهم وعلى جدرانهم‬
‫ولكنها ال ما هي إال شاهد على تاريخنا ‪ ..‬حين كنا عظماء ‪ ..‬نعم هذا‬
‫السيف شهد عظمة بالدنا وانحدارها أيضا وال يعلم أن كان سيشهد نهضتها‬
‫من جديد ‪..‬‬
‫حرك يديه بالسيف وكأنه يحفر ذكرياته معه ‪ ...‬ألن شيء ما داخله يخبره‬
‫أن هذا العجوز الهرم لن يتنازل عن هذه القطعة بسهولة ‪.‬‬
‫أعاد السيف إلى غمده ليعيده للسيد خالد الذي وضعه على الطاولة ثم جلس‬
‫قرب والده لتسأله كرمل ‪ :‬ولكن كيف تمكنت من إدخال السيف إلى هنا إن‬
‫كان يحمل كل هذا العمر ‪ ..‬أال يحتاج إلى كثير من المعامالت ؟‬
‫أبتسم لها الرجل مجيبا ‪ :‬هذا السيف هنا منذ كنا بلد واحدة ‪.‬‬
‫لم يفهم يوسف كلمات الرجل ليفسر فورا ‪ :‬حين حدثت الوحدة بين سوريا‬
‫ومصر كان ألبي صديق مصري قبل الوحدة أتى إلى سوريا ليعمل في‬
‫مجال التعليم وعندما حدثت الوحدة و أصبحت التعامالت واحدة قرر أبي‬
‫زيارة هذا الصديق ولما أتى إلى هنا أعجب بجمال القاهرة وعز عليه‬
‫فراق صديقه فقرر االستقرار هنا بما أنا بلد واحدة ‪ ...‬حتى حدث‬
‫االنفصال ولكن أبي كان قد أسسه حياته وبدأ عمله ونقل كل شيء يخصه‬
‫من دمشق إلى هنا وكان السيف من ضمنها ‪ ...‬فقرر البقاء هنا فحتى لو‬
‫حدث االنفصال نحن في النهاية عرب سنبقى شعوب واحدة ‪ ..‬وهكذا تابع‬
‫حياته هنا ونحن معه ليموت على هذه األراضي ‪ .‬أما بالنسبة للسيف فكان‬
‫وما زال إرث مهم في عائلتنا ‪.‬‬
‫قاطعه يوسف بخجل ‪ :‬جملتك األخيرة وكأنها إعالم لي بأن ال أسألك ما‬
‫جئت من أجله ‪.‬‬
‫ارتفعت ضحكات الرجل مجيبا ‪ :‬أنت ذكي جدا ‪ ..‬األمر ليس وكأنني أرد‬
‫طلبك يا بني ولكن هذا تاريخ أسرتي ورمزها فمن المستحيل أن أتخلى‬
‫عنه ‪.‬‬
‫أخبره‪ :‬حتى ولو كان ثمنه مبلغ خيالي يمكن أن يساعد عائلتك بطريقة‬
‫كبيرة ‪.‬‬
‫أومأ له العجوز ‪ :‬دعني أسألك شيء ‪ ..‬هل يمكنك أن تتخلى عن أصلك‬
‫الذي كبرت وتربيت على تمجيده ؟‬
‫أجابه ‪ :‬بالطبع ال ‪.‬‬
‫أكمل الرجل ‪ :‬واألمر هو كذلك ‪ ..‬أن هذا السيف هو الماضي الذي كبرت‬
‫وأنا أمجده وأتغنى به ‪ ..‬كان أبي يعتني به وكأنه طفله ‪ ..‬ال يدع أحد‬
‫يقترب منه يزرع حبه فيني وهو يحكي لي عن خباياه وأسراره ‪..‬‬
‫أتذكر لليوم وهو يقول لي قصته التي كان يفضلها‬
‫سألته كرمل ‪ :‬أي قصة ؟‬
‫أجابها هو يعتدل في جلوسه ‪ :‬كان يحكي لي عن االسكندر األكبر وقصته‬
‫مع عقدة غورديان حين أخبرته العرافة أن من يحل هذه العقدة سيكون‬
‫فاتحا آلسيا وحين قرر حلها لم يجد طرفا للحبل فما كان منه إال أن يقطعها‬
‫بضربة من سيفه وإنه لم يكن يستطيع أن يقطع عقدة غورديان لو لم يمتلك‬
‫سيفا دمشقيا ‪ .‬رغم أنها مجرد أسطورة انتشرت لكن كان لها أثر على قلبي‬
‫وتعلقي بهذا السيف وقوته‬
‫علق يوسف بانبهار ‪ :‬حديثك هذا يجعلني محبطا وأنا الذي سأعود خال‬
‫اليدين ‪.‬‬
‫ابتسم له الرجل معلقا ‪ :‬ولم أخبرك بعد أن الشعرة ممكن أن تنشطر إلى‬
‫نصفين إن سقطت على حده ‪ ..‬ويمكنه قطع منديل حريري مرمي في‬
‫الهواء ‪.‬‬
‫اعتدل يوسف في جلسته وهو يشبك أصابعه ببعضها متسائال ‪ :‬أال يوجد‬
‫طريقة إلقناعك ببيعه لي ؟‬
‫هز الرجل رأسه بالرفض وكله ثقة ‪ :‬بالطبع ال هذا شرف عائلتي وال يمكن‬
‫لرجل أن يتخلى عن شرفه مهما كانت الظروف ‪.‬‬
‫‪.........................................‬‬
‫كانت زيارة بنتائج غير مرضية ‪ ..‬رغم سعادته الكبيرة برؤية السيف‬
‫واقعيا وحمله بين يديه حتى أن الرجل أخبره بأنه يمكنه التقاط ما يشاء من‬
‫صور له ولكن هذا لم يكن يرضيه ‪ ..‬كان يرغب بأن تكون هذه القطعة‬
‫ضمن مقتنياته الشخصية ‪..‬‬
‫تنهد بملل ليشعر بيدها على كتفه ليلتفت لها فيرى ابتسامتها نحوه لتنتقل له‬
‫تلقائيا وهي تسأله ‪ :‬أنت حزين ألن زيارتنا كانت دون نتائج ؟‬
‫نظر لألكياس الكثيرة حولهما فبعد انتهاء الزيارة طلبا العودة إلى خان‬
‫الخليلي مع السيد خالد وشراء الكثير من القطع النحاسية والفضية ليجيبها ‪:‬‬
‫لم تكن بال فائدة تماما ‪ ..‬فأنت اشتريت نصف محل السيد خالد ‪.‬‬
‫ضحكت على كلماته معلقة ‪ :‬بعضها لي والبعض األخر لسالم فهي أيضا‬
‫تحب النحاسيات واشتريت ألمي موقد نحاسي لصنع القهوة وأخر لوالدة‬
‫سالم ‪.‬‬
‫ابتسم معلقا ‪ :‬ها أنا أصبحت مسئول عن أغراض منزل السيد حسام أيضا‬
‫‪.‬‬
‫ضحكت معه لتبتلع ضحكتها وهي تمسك يده بيدها ‪ :‬ال تحزن فأنت منذ‬
‫البداية كنت تعلم أن مثل هذا األمر شبه مستحيل ‪ .‬فالسيف بالنسبة لهؤالء‬
‫قطعة أثار نادرة التخلي عنها ضرب من الخيال ‪.‬‬
‫ابتسم معلقا ‪ :‬األمر الغريب أنني لست مستاء ‪ ..‬فكالم الرجل عن تعلقه‬
‫بالسيف زاد إعجابي وتعلقي به ‪ ..‬قطعة مصنوعة من الحديد تترك في‬
‫النفس كل تلك المشاعر والتعلق الغريب ‪ ..‬أمر هذه السيوف عجيب فحتى‬
‫ولو كان استخدامها للزينة فقط فهي تمد بخيط غليظ يمسك قلب الشخص‬
‫لها فيصبح التخلي عنها أمر شبه مستحيل‬
‫وافقت على كلماته مضيفة ‪ :‬أنه كتذكير بالعزة‬
‫نظر نحوها بعدم فهم لتتابع ‪ :‬وجود هذه السيوف بالبيوت الدمشقية ما كان‬
‫إال دليل على عزتنا يوما ما ‪ ..‬قوتنا ‪ .‬فخرنا ‪ ..‬أننا في يوما ما سدنا‬
‫األرض شرفا وعزة ‪..‬كان لنا مكانة مهمة ‪ ..‬محط أنظار القادة والجيوش‬
‫لمعرفة سرنا الذي حفظه الصناع لسنوات طويلة وبقي أمر مجهول‬
‫للكثيرين ‪ ..‬أن تصنع شيء بطريقة غير معروفة ويحمل كل هذه الميزات‬
‫كان شيء جديد بالنسبة للجيوش القديمة ‪ ...‬واالحتفاظ بهذه الذكرى بتلك‬
‫البيوت الشامية العتيقة ما كان إال إضافة لتاريخنا ومهارتنا في كل‬
‫المجاالت ‪ ..‬كما كان العجمي فن إلظهار العبقرية اإلسالمية بالتزيين‬
‫والرسم والموزييك بدمج أنواع الخشب معا في قالب واحد والقيشاني في‬
‫صنع شيء من الشيء ‪ ..‬كان السيف الدمشقي إثبات على القوة فدمشق لم‬
‫تنتج الجمال و الرفاهيات فقط بل كانت بارعة في القتال أيضا كما‬
‫أسوارها العالية والحصينة ‪..‬‬
‫كان يستمع لها باستمتاع وكلماته تهدأ من خيبته بعدم حصوله عما يريد‬
‫ليقول أخيرا ‪ :‬اعتقد أن السيف الدمشقي ما هو إال اختصارا لنا‬
‫نظرت له بعدم فهم ليشرح ‪ :‬نحن نحمل عراقة مثله تماما ‪ ..‬جذورنا‬
‫مغروسة بهذه األرض ال يمكننا أبدا أن ننخلع منها مهما حاولنا وهكذا كان‬
‫هو يملك سر تلك البالد القديمة وفكرة التخلي عنه ما هي إال عار ‪ ..‬ونحن‬
‫أيضا تحولنا من أسياد الحرب إال شواهد فقط ‪ ...‬تدهور حالنا تأثرنا‬
‫بالغرب ‪ ..‬عدنا للوراء ‪ ..‬دفنت مواهبنا وتلك صناعة السيوف تحولت من‬
‫صناعة حربية إلى صناعة جمالية ‪ ..‬من يعمل بها يمكن عدهم على اصابع‬
‫اليد ‪ ..‬ولكن مع هذا يبقى السيف محافظ على أصالته ورونقه ‪ ..‬ونحن‬
‫أيضا سيبقى هنا شيء داخلنا مصقول ‪ ..‬لن يصدأ أبدا ‪ ..‬مهما طالت‬
‫غفوتنا سيأتي يوما نستيقظ به ‪ ..‬سيخرج من داخلنا ذلك الفارس العربي‬
‫على صهوة جواده األصيل يستل السيف من غمده فيعيد التاريخ وأمجاده ‪..‬‬
‫نظرت نحوها تراقب نهر النيل من نافذة المطعم حيث يجلسون إلى الناس‬
‫التي تسير حولهما لتقول ‪ :‬رغم أن هذا صعب جدا ولكن اتمنى ‪.‬‬
‫أمسك يدها ‪ :‬يكفي أنه ليس مستحيل حتى لو كان صعب سوف أبقي هذا‬
‫اإليمان بداخلي ‪ ..‬سوف ابقى على أمل أن ينفض التاريخ غباره عنا يحيي‬
‫فينا خالد بن الوليد وصالح الدين األيوبي ‪ ..‬لقد مرت بالدنا بكثير من األلم‬
‫والمآسي فتحت القدس بعد ثمان وثمانين عام من االحتالل الصليبي لها ‪..‬‬
‫عادت لحضن أهلها حي تنتمي ‪ ..‬حتى بغداد لم تستلم لدمار المغول‬
‫وعادت من جديد لتنجب العلماء والعباقرة ودمشق التي عانت طوال‬
‫تاريخها من الدمار لم تختف وبقيت أقدم عاصمة مأهولة على مر التاريخ‬
‫‪ ..‬نحن بالد خلقت للحياة ومهما حاولوا قتلها لن ينجحوا ‪...‬‬
‫ابتسمت له قائلة ‪ :‬سننفض الغبار عن نفسنا وننهض من جديد ليعود النخيل‬
‫عراقيا والياسمين دمشقيا والزيتون فلسطينيا‪.‬‬
‫أومأ قائال ‪ :‬ربما لم أحصل على سيف قديم ولكن أال يكفي أنني حصلت‬
‫على أنثى تحمل صفات ذلك السيف ‪ ..‬كان والدي محقا فالمرأة ممكن أن‬
‫تكون وطنا وممكن أن تكون سيفا يحميك ألخر العمر ‪.‬‬
‫لم تجبه خجلة ليمسك يدها الحرة يضمها ليديه ‪ :‬أنت وطني وسيفي كرمل ‪.‬‬
‫أبعدت يدها عنه بخجل وهي تنظر حولها فأخر ما ترغب به هو جذب‬
‫األنظار لهما لتقول ‪:‬وها قد انتهينا من زيارتنا األهم هنا ‪ ..‬أال يتبرع السيد‬
‫يوسف ويأخذني برحلة فزيارة القاهرة ال تعوض وأنا لن أكتفي بخان‬
‫الخليلي ‪.‬‬
‫وضع يده على رأسه خاضعا ألوامرها ‪ :‬أنت تأمري ويوسف عليه الطاعة‬
‫‪......................................... .‬‬
‫ربما تكون النهايات ليست كما نرغب أو قد ال تكون مثالية جدا ‪ ..‬أحيانا‬
‫نبحث عن شيء ولكن خالل رحلة بحثنا هذه قد نصادف أمر أهم وأكثر‬
‫إغراء من بحثنا ‪ ..‬قد نخسر الكثير ونفقد الكثير ‪ ..‬ربما نخسر الوطن ‪..‬‬
‫وربما يكون هذا الوطن هو سبب جرحنا الذي ال يندمل ‪ ..‬نتهجر ‪ ..‬نهرب‬
‫‪ ..‬نترك بلدنا كندبة مرافقة لنا أينما ذهبنا ومهما طال الزمن بنا ‪ ..‬ولكن أال‬
‫يمكن أن تكون تلك الندوب حامية لنا ‪ ..‬تقدم لنا العوض ‪..‬‬
‫رغم أن يوسف لم يحصل على سيفه الدمشقي ولم يزر األرض التي يحمل‬
‫اسمها في قلبه ولكنه حصل على امرأة بوطن وحسام الذي ترك وطنه‬
‫داخله ندوب من الصعب نسيانها ‪ ..‬وذمة ال تحمى أبدا ‪ ..‬لتأتي سالم تحمل‬
‫معها كل السالم والدفء أليامه الباردة وروحه الخاوية ‪ ..‬وكذلك سالم‬
‫التي خرجت من بالدها تحمل تشوها في روحها قبل جسدها ‪ ..‬فالتشوهات‬
‫داخلنا أصعب ألف مرة من تشوهات أجسامنا ولألسف في كثير من‬
‫األحيان نحصل على هذا التشوه من الناس ‪ ..‬نظراتهم أرائهم وتدخلهم في‬
‫حياتنا وهي كانت الضحية لهذا النوع ‪ ..‬حتى أتى من يفتح عينيها على‬
‫األخر من البشر ‪ ..‬الجزء الذي من المفروض أن يكون األكثرية ‪..‬‬
‫فشخصيتك هي من تحدد جمالك وليس شكلك الخارجي أو أي حادث قد‬
‫تتعرض له خارج إرادتك ‪ ..‬وليس الناس فقط ولكن نحن في كثير من‬
‫األحيان من ندمر أنفسنا بسبب أرائنا المسبقة ونظراتنا المحدودة ‪ ..‬أن‬
‫تعتقد أنك الشخص الوحيد الذي يعاني ‪ ..‬أن تنظر أللمك كشيء عظيم دون‬
‫أن تفكر بأوجاع غيرك ‪ ..‬بل تراها بسيطة ‪ ..‬هذا خطأ ال يمكنك أن تحكم‬
‫على أحد وأنت لم تعش مشاعره وظروفه ‪.‬وفي النهاية جميعنا نستحق‬
‫الحياة‬
‫‪........................‬‬
‫نظرت له بعدم فهم عن سبب قدومه إلى هنا هامسة ‪ :‬يوسف لماذا أتيت بي‬
‫إلى هنا ‪ ,‬سالم لم تكف عن اتصاالتها ‪.‬‬
‫امسك كتفيها لتصمت قائال ‪ :‬سوف نذهب بسرعة ‪ ..‬ولن يفتنا الزفاف‬
‫ولكن علينا القيام بشيء مهم أوال ‪.‬‬
‫نظرت للمكان الذي وقف به لتسأله ‪ :‬لماذا أتيت إلى هنا ‪ ..‬هل تريد شراء‬
‫هدية لحسام مثال ؟‬
‫رفع حاجبيه ليدخل معها إلى المعرض ليستقبل الرجل بلهجته الشامية ‪:‬‬
‫أهال سيد يوسف‬
‫نظرت نحو الرجل الذي تعرفه جيدا فهو صاحب المعرض والورشة التي‬
‫تعمل بالموزييك وتزودها باألخشاب وتساعدها بقصه دائما ‪.‬‬
‫لتقول بنفاذ صبر ‪ :‬ألن يخبرني أحد ماذا يحدث ؟‬
‫تطوع الرجل بالشرح ‪ :‬أن السيد يوسف طلب مننا أن نصنع له طقم من‬
‫الموزييك وعندما علم أننا نملك عدة أطقم جاهزة فعال قال أنه سيأتي‬
‫بزوجته لتختار ولكنني لم أتوقع أن تكوني تلك الزوجة ‪.‬‬
‫ابتسمت في وجه الرجل بخجل دون أن تعلق على كالمه لتشعر بيد يوسف‬
‫الذي أمسك بيدها والرجل يدلهم على الطريق إلى الداخل ‪..‬‬
‫وقفت تتأمل األرائك والكراسي والطاوالت حولها ‪ ..‬مصنوعة بإتقان وحب‬
‫‪ ..‬رغم أنها صنعت عن موطنها األصلي ولكنها ما زالت تحمل عراقة تلك‬
‫المدينة يكفي أنها صنعت بأيدي شامية تربت وكبرت على هذه المهنة ‪.‬‬
‫كان يوسف ينتظر رأيها لترفع نظراتها إليه أخيرا بعد أن استقرت‬
‫واختارت ما ترغب به ليوافق فورا ثم يسير مع الرجل لينهي كل ما يتعلق‬
‫بالثمن والعنوان الذي يفترض إرسال األغراض إليه وهي تراقب فقط ‪.‬‬
‫ليمد يده إليها أخيرا فتسير نحوه مسرعة ممسكا به يغادران المعرض سويا‬
‫‪ ..‬كانت صامتة تفكر كم هي محظوظة بهذا الرجل لتقف فجأة ويوسف‬
‫يقف معها ينظر نحوها باستغراب لترفع نظراتها نحوه قائلة ‪ :‬أنا احبك كما‬
‫أحب الناصر صالح الدين األيوبي القدس ورهن حياته كلها ليدخلها مبتسما‬
‫فاتحا ‪.‬‬
‫دخل على صوت الزغاريد العالية والمباركات من الجميع ليرى عمه‬
‫ممسكا بيدها وهي ملتفة بحجابها األبيض والوشاح الذي يغطي وجهها‬
‫لترتفع ابتسامته وهو يقترب منها ليراقب عمه الذي أمسك يدها واضعها‬
‫أياها في يديه وهو يقول ‪ :‬تلك أمانتي في الحياة وأنا أنقلها لك ‪ ..‬حافظ‬
‫عليها ‪.‬‬
‫أومأ له وهو يشير له بيده الحرة نحو عينيه ليقترب خطوة من سالم يرفع‬
‫عن وجهها الوشاح وسط تصفيق من الجميع مقبال جبينها متغزال بجمالها‬
‫ليبتعد قليال وهي تنظر له بعدم فهم ويوسف مقتربا منه وفي يديه سيف‬
‫مقوس طويل ‪.‬‬
‫نظرت بعد فهم ليمسك السيف من يد صديقه يقدمه لها فتأخذه منه ليهمس ‪:‬‬
‫اسحبيه من غمده ‪.‬‬
‫ناولت كرمل الواقفة قربها باقة الورد لتحاول فتح السيف لكنها فشلت‬
‫بسبب حجمه الضخم فيقترب حسام منها يساعدها على سحبه ليبعد الغمد‬
‫عنها وهو يريها نصل السيف لتفتح عينيها بدهشة من النقش الذي كان‬
‫يزين نصله فيقول لها ‪ :‬اقرأي ما كتب عليه ‪.‬‬
‫ابتسمت بسعادة والصمت خيم على الجميع ينتظرون أن تقرأ ما كتب عليه‬
‫‪ ..‬لتنظر نحو حسام بابتسامة عاشقة ثم إلى كرمل التي كانت تشجعها لتقرأ‬
‫أخيرا تلك الكلمات المزخرفة المنقوشة بالخط الكوفي المميز ‪ :‬هنا حيث‬
‫ه ََوى العباسي في الهوى األموي ‪.‬‬

‫النهاية‬

You might also like