You are on page 1of 44

‫جامعة محمد الصديق بن يحي‪ -‬جيجل‪-‬‬

‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬

‫قسم علم االجتماع‬

‫محاضرات في مقياس العلم‬


‫واألخالق‬
‫موجهة لطلبة السنة الثالثة علم االجتماع‬

‫إعداد األستاذ ‪/‬بودرمين عبد الفتاح‬

‫السنة الجامعية ‪2021/2020:‬‬


‫توطئة ‪:‬‬

‫يُ َعدُّ ال ِعلم من أه ّم ُمق ّ ِومات ال ُمجتمعات‪ ،‬وسببا ً في بنائها‪ ،‬وتقدُّمها‪ ،‬كما أنَّه يُساعد على‬
‫وامل ال ُمؤ ِدّية إلى الفَ ْقر‪ ،‬والجهل‪ ،‬واأل ُ ّمية‪ ،‬والرجعيّة‪،‬‬
‫تقدُّم الدُّول الناميّة‪ ،‬ويمسح ال َع ِ‬
‫والتي تُعتبَر من أسباب تنامي الدُّول‪ ،‬وتأ ُّخرها فِكريّاً‪ ،‬فال ِعلم من األمور الضروريّة‪،‬‬
‫والواجب توافرها في حياة اإلنسان‪ ،‬كالطعام‪ ،‬والشراب‪ ،‬ومن الجدير بالذكر َّ‬
‫أن ال ِعلم‬
‫يُساهِم في إنتاج وسائل تُم ِ ّكن اإلنسان من ُموا َكبة العصور‪ ،‬واألزمنة ال ُمخت ِلفة‪،‬‬
‫شرق يعود بالنفع عليه‪ ،‬وعلى أقاربه‪ِ ،‬علما ً َّ‬
‫بأن‬ ‫وتُساعده على ِبناء ُمستقبل باهر‪ ،‬و ُم ِ‬
‫ي‪ ،‬وهو‪ :‬ال ِعلم ال َمنقول خالل األزمنة عبر األجيال‬
‫ال ِعلم يَنقسِم إلى قس َمين‪ِ :‬علم تاريخ ّ‬
‫سبة لحظيّاً‪ ،‬أو في ال ُمستقبَل‪ ،‬إذ إنَّه‬
‫ال ُمخت ِلفة‪ ،‬وهو ليس نوعا ً من أنواع العُلوم ال ُمكت َ‬
‫عموماً‪ ،‬أ َّما ال ِعلم‬ ‫ِّ‬
‫السن ُ‬ ‫تواجد بالفعل بالتزا ُمن مع وجود اآلباء‪ ،‬واألجداد‪ ،‬وكبار‬
‫ُم ِ‬
‫عاصر‪ ،‬فهو‪ :‬ال ِعلم الالزم توا ُجده؛ ليتم َّكن الفرد من الوصول إلى‬
‫الحديث‪ ،‬أو ال ُم ِ‬
‫أهدافه‪ ،‬وغاياته في الحياة‪ ،‬و ُمسايرة ال ُمجت َمع؛ لكي يتعلَّم اإلنسان العيش‪ ،‬والتعايُش‬
‫عارف اإلنسان‪ ،‬ومعلوماته الراسخة حول المجاالت‬ ‫فيه‪ ،‬كما أنَّه يزيد من ُ‬
‫علوم‪ ،‬و َم ِ‬
‫ال ُمخت ِلفة‪]١[.‬‬

‫األول‪ ،‬ث ّم السكون جاءت مصدراً لمادَّة (ع‪،‬ل‪،‬م) التي‬


‫َمفهوم ال ِعلم ال ِعلم بكسر َّ‬
‫عرف ال ِعلم لُغةً بأنَّه‪ :‬نقيض الجهل‪ ،‬وهو أيضاً‪ :‬إدراك الشيء على‬
‫عرفة‪ ،‬ويُ َّ‬
‫معناها ال َم ِ‬
‫سبة‪،‬‬ ‫جازماً‪ ،‬أ َّما ال ِعلم اصطالحا ً فهو‪ :‬مجموعة ال َم ِ‬
‫عارف ال ُمكت َ‬ ‫ما هو عليه إدراكا ً ِ‬
‫وهي بعكس الجهل‪ ،‬واألُميّة‪ ،‬وقد قال بعض أهل ال ِعلم َّ‬
‫إن ال ِعلم واض ٌح أكثر من‬
‫تعريفه‪ ،‬ومن الجدير بالذكر أنَّه ت ّم تعريف ال ِعلم بمفاهيم أُخرى‪ ،‬فهو‪ :‬مجموعة‬
‫عرف‬
‫راجع ال ِعلميّة‪ ،‬ويُ َّ‬
‫تكاملة من النظريّات الدقيقة‪ ،‬والمعلومات التي تزخر بها ال َم ِ‬
‫ُم ِ‬
‫أيضا ً بأنَّه‪ :‬مجموعة من ال ُمعلومات ال ِعلميّة ال ُمتوارثة‪ ،‬أو أنَّه‪ :‬مجموعة المبادئ‪،‬‬
‫والقواعد التي تشرح بعض الظواهر‪ ،‬والعالقات القائمة بينها‪ ،‬أو أنَّه‪َ :‬منب ٌع لجميع‬
‫أنواع العُلوم‪ ،‬و ُمختلَف تطبيقاتها‪.‬‬

‫َخصائص ال ِعلم‪ :‬لل ِعلم خصائص عديدة تجعله ُمه ّما ً لجميع البشر‪ ،‬ومنها ‪:‬‬

‫التجدُّد‪ :‬ال ِعلم يُج ِدّد نفسه باستمرار؛ أي إذا شابهُ خطأ فإنَّه يُ ِ ّ‬
‫صحح نفسه بنفسه‪.‬‬

‫‪ -‬التنظيم‪ :‬من أه ّم خصائص ال ِعلم أنَّه يُرتِّب األفكار‪ ،‬ويُ ِ ّ‬


‫نظمها‪ ،‬فهو يحرص على أن‬
‫تكون القضايا العلميّة ال ُمتع ِلّقة به كاملة‪ ،‬و ُمترا ِبطة‪ ،‬ومن الجدير بالذكر أنَّه عند‬
‫ترتيب األفكار‪ ،‬وتنظيمها‪ ،‬ال يترك الفرد أفكاره ُح َّرة طليقة‪ ،‬بل إنَّه يبذل جهداً من‬
‫والتحري عن‬
‫ِّ‬ ‫أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن بالطريقة التي يُف ِ ّكر فيها‪ .‬البحث‬
‫ي لألفراد ِعلما ً ّإال إذا ت ّم توجيهه نحو‬
‫عل العقل ّ‬
‫ال ُمسبِّبات‪ :‬ال يُمكن أن يكون التفا ُ‬
‫حاولة فهمها‪ ،‬وتعليلها‪ ،‬وال يُمكن توضيح تلك الظواهر‪ ،‬وفهمها ّإال إذا‬
‫الظواهر‪ ،‬و ُم َ‬
‫أن البحث عن ُمس ِبّباتها يُ ِ ّ‬
‫عزز ال ُميول‬ ‫وامل ال ُمس ِبّبة لها‪ ،‬كما َّ‬ ‫تم َّكن الفرد من َم ِ‬
‫عرفة ال َع ِ‬
‫عزز طريقة التح ُّكم في تلك الظواهر بشكل أفضل‪.‬‬
‫ي لدى اإلنسان‪ ،‬كما يُ ِ ّ‬
‫الفطر ّ‬
‫عرفة ال ِعلميّة‬
‫تطور ال ِعلم؛ فال َم ِ‬ ‫الخاصية ُّ‬
‫الطرق ال َمسؤولة عن ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫التراكُميّة‪ :‬ت ُ ِ‬
‫وضّح هذه‬
‫شبيهة بالبناء؛ حيث تح ُّل النظريّات ال ِعلميّة الجديدة مح َّل النظريّات ال ِعلميّة القديمة‪،‬‬
‫سرعة عجلة الحضارة‪ ،‬ومن الجدير بالذكر أنَّه ال يلزم العُلماء‬‫وبهذه الطريقة تزداد ُ‬
‫البدء من الصفر في تفسير الظواهر‪ ،‬أو ح ِلّها‪ ،‬بل إنَّهم يبدؤون من المكان الذي وصل‬
‫إليه العُلماء السابقون‪.‬‬

‫عرفة ال ِعلميّة شاملة‪ ،‬بمعنى أنَّه يُمكن قبولها في حاالت‬ ‫‪ -‬الشموليّة واليقين‪َّ :‬‬
‫إن ال َم ِ‬
‫أن ال ِعلم شاملٌ‪ ،‬وقضاياه تُطبَّق على الظواهر جميعها‪.‬‬
‫الظاهرة جميعها‪ ،‬وهذا يعني َّ‬
‫الخاصية تزيد من سيطرة اإلنسان على واقعه‪ ،‬وتُم ِ ّكنه من فَ ْهم‬
‫ِّ‬ ‫الدقَّة والتجريد‪ :‬هذه‬
‫القوانين ال ُمتع ِلّقة بالواقع أكثر فأكثر‪ ،‬ومن الجدير بالذكر َّ‬
‫أن ال ِعلم يلجأ إلى‬
‫الرياضيّات؛ ليتم َّكن من تحقيق الدقَّة‪ ،‬والتجريد‪.‬‬

‫خص اإلنسان وحده دون غيره‪ ،‬وهو‬ ‫إنساني عالَ ّ‬


‫مي‪ :‬فالعُلوم نشاط يَ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬ال ِعلم نشاط‬
‫صة به يت ّم نَ ْشرها‬ ‫ليس موضوعا ً فرديّاً‪ ،‬أو شخصيّاً‪ ،‬بل َّ‬
‫إن الحقائق‪ ،‬والنظريّات الخا َّ‬
‫جرد ُ‬
‫ظهورها‪ .‬ال ِعلم له أدواته‬ ‫عارف َمشاعاً‪ ،‬و ُملكا ً للجميع ب ُم َّ‬
‫عالَميّاً‪ ،‬فتُصبِح ال َم ِ‬
‫صة به؛ وذلك لجمع‬
‫ي نشاط يجب أن يمتلك أدوات‪ ،‬وأجهزة خا َّ‬
‫صة به‪ :‬فال ِعلم كأ ّ‬
‫الخا َّ‬
‫وتتطور‬
‫َّ‬ ‫المعلومات‪ ،‬وقياسها‪ .‬ال ِعلم يُؤ ِثّر في ال ُمجت َمع‪ ،‬ويتأثَّر فيه‪ :‬فال ُمجتمعات تتأثَّر‪،‬‬
‫ويتطور بتأثير من الظروف السائدة في ال ُمجتمعات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بتأثير ال ِعلم‪ ،‬كما َّ‬
‫أن ال ِعلم ينمو‪،‬‬

‫أه ّمية ال ِعلم ‪َّ :‬‬


‫إن ال ِعلم من أه ّم األمور التي يجب على اإلنسان طلبها‪ ،‬والبحث عنها‪،‬‬
‫والسعي إليها؛ َّ‬
‫ألن شرف نيله يعود على صاحبه بالنفع‪ ،‬وتزداد أه ّميته‪ ،‬وفضله عند‬
‫الشخص الساعي إليه‪ِ ،‬علما ً َّ‬
‫بأن اإلنسان الساعي إلى ال ِعلم‪ ،‬والتقدُّم يتميَّز بارتفاع‬
‫نزلة الحقيقيّة لل ِعلم‪ ،‬وكُ ّل إنسان يُحبّ أن يُقال عنه إنَّه ذو‬
‫مكانته‪ ،‬ف ُك ّل إنسان يَعلم ال َم ِ‬
‫ِعلم‪ ،‬وال يرضى أن يُلقَّب بالجاهل‪.‬‬
‫إن أه ّمية ال ِعلم في اإلسالم تتجلَّى في ِعدَّة أمور‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أه ّمية ال ِعلم في اإلسالم‪َّ :‬‬
‫يُعتبَر ال ِعلم من األمور التي تُساهِم بشكل كبير في َم ِ‬
‫عرفة ال ُهدى؛ حيث ينجو العباد به‬
‫من الضياع‪ ،‬والشقاء في الحياة الدنيا‪ ،‬وفي اآلخرة‪ ،‬وقد د َّل على ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫فمن ِخالل ال ِعلم‪ ،‬والتعلُّم َّ‬
‫يتعرف‬ ‫علَ ْي ِه ْم َو َال هُ ْم يَ ْحزَ نُونَ ) ‪ِ ،‬‬ ‫اي فَ َال خ َْو ٌ‬
‫ف َ‬ ‫(فَ َمن تَبِ َع هُدَ َ‬
‫الفرد على األسباب التي تُؤ ِدّي إلى رضا هللا تعالى‪ ،‬ونيل الفضل‪ ،‬والثواب في كال‬
‫الدارين‪ ،‬كما يعلم أيضا ً كيف يَسلَم من َ‬
‫سخط هللا‪ ،‬وغَضبه‪َّ .‬‬
‫إن العُلوم هي أصل‬
‫أن ُك ّل ال ِعبادات التي يُؤدّيها العبد غير َمقبولة ّإال إذا كانت‬
‫ال ِعبادات؛ ويتبيَّن ذلك في َّ‬
‫ي محمد ‪-‬صلَّى هللا عليه وسلَّم‪ ،-‬و َم ِ‬
‫عرفة ذلك‬ ‫خَا ِلصةً لوجه هللا تعالى‪ ،‬وتا ِبعة ل ُ‬
‫سنَّة النب ّ‬
‫أوامر هللا‪ ،‬ونواهيه ال‬
‫عرفة ِ‬ ‫تستلزم قدراً كبيراً من ال ِعلم‪ ،‬ومن الجدير بالذكر َّ‬
‫أن َم ِ‬
‫ورفَع من َمكانتِهم‪َّ .‬‬
‫إن‬ ‫تكتمل ّإال بال ِعلم‪َّ .‬‬
‫إن هللا يُحبُّ ِعباده العُلَماء‪ ،‬وقد أثنى عليهم‪َ ،‬‬
‫ال ِعلم يُع ِلّم اإلنسان كيفيّة دَ ْفع َمكائد الشيطان‪ ،‬و َمكائد األعداء‪ ،‬كما َيدلُّه أيضا ً على‬
‫الطريق الذي يُم ِ ّكنه من النجاة من فِتَن الدنيا ‪.‬‬

‫تعريف العلم‪: -‬‬


‫ما العلم ؟ هل هو مجموعة حقائق ثابتة ‪ ،‬هل هو مفاهيم ومبادئ ؟ هل هو طريقة‬
‫تفكير ؟‬
‫لقد اختلفت اآلراء حول تعريف العلم فال يكاد يوجد تعريف محدد ومقنن لمفهوم العلم‬
‫الختالف وجهات النظر حول طبيعة العلم ‪ ،‬فمنهم من يرى أن العلم هو هيكل من‬
‫المعلومات ومنهم من يرى أنه طريقة في البحث والتفكير في حين يرى طرف ثالث‬
‫أن العلم مزيج من المعرفة وطريقة البحث واتجاه التفكير ‪ ،‬ويرى طرف رابع أن‬
‫العلم يتضمن القيم أو األخالقيات إضافة إلى المادة والطريقة ‪ ،‬ومن أجل التوصل إلى‬
‫تحديد دقيق لمفهوم العلم يجب أن تؤخذ وجهات النظر األربع بنظر االعتبار‪.‬‬
‫لقد تعددت تعريفات العلم واصبح من غير الممكن تحديد صياغة واحدة لهذا المفهوم‬
‫‪ ،‬لذا سنتطرق فيما يلي الى مجموعة من التعريفات المختلفة للعلم وهي ‪:‬‬
‫ال ِع ْلـ ُم‪ ،‬هو كل نوع من العلوم و المعارف و التطبيقات‪.‬‬
‫هو نشاط انساني يهدف الى زيادة قدرة سيطرة االنسان على الظواهر الطبيعية‬
‫والبيولوجية‪.‬‬
‫هو طريقة لحل المشكالت‪.‬‬
‫هو مجموعة حقائق ثابتة تم التوصل اليها بالتجريب ?‪ .‬هو طريقة موضوعية سليمة‬
‫تعتمد على التفكير واستغالل الخبرات السابقة وفرض الفروض وتجريبها والوصول‬
‫الى نتيجة دقيقة ال تعتمد على تحيز مسبق ‪.‬‬
‫وهو مجموع مسائل وأصول كليّة تدور حول موضوع معين أو ظاهرة محددة وتعالج‬
‫بمنهج معين وينتهي إلى النظريات والقوانين‪.‬‬
‫ويعرف ‪ :‬بانه البحث عن الحقيقة الموضوعية المستمدة من المالحظة‪.‬‬
‫و بتعريف أكثر تحديدًا‪ ،‬ال ِع ْلـ ُم هو منظومة من المعارف المتناسقة التي يعتمد في‬
‫تحصيلها على المنهج العلمي دون سواه‪ ،‬أو مجموعة المفاهيم المترابطة التي نبحث‬
‫عنها ونتوصل إليها بواسطة هذه الطريقة‪.‬‬
‫ومما سبق نستنتج ان مفهوم العلم في جميع المجاالت يبقى واحداً ‪ ،‬اال ان المجال‬
‫الذي يبحث فيه هذا العلم هو الذي يختلف ‪ ،‬فهو يبحث في ظواهر الكون الحية وغير‬
‫الحية باستخدام الطريقة العلمية في حالة العلوم الطبيعية ‪ ،‬ويبحث في الظواهر‬
‫النفسية للفرد والمجتمع باستخدام الطريقة العلمية ايضا َ في حالة العلوم االنسانية‪.‬‬
‫*وتشمل العلوم الطبيعية (الشاملة كالفيزياء والكيمياء أو المتخصصة كعلم األحياء‬
‫أو علم األرض ‪ ،‬وعلم النجوم والفضاء‪).‬‬
‫*اما العلوم اإلنسانية أو البشرية وهي التي تدرس اإلنسان ومجتمعاته (علوم‬
‫اجتماعية) وعلم النفس وعلم االقتصاد‪.‬‬
‫*والعلوم الطبية والعلوم الهندسية‪.‬‬
‫لذلك يمكن اعتبار العلم ‪ (( :‬هرم معرفي متدرج قاعدته الحقائق العلمية وقمته األفكار‬
‫األساسية ‪ ،‬تم بناؤه نتيجة البحث والتفكير وتحكمه قيم ويسعى لتحقيق خمسة أهداف‬
‫هي الفهم والوصف والتفسير والتنبؤ والضبط أو التحكم‪)) .‬‬
‫ويمكن تعريف العلم أيضا ً بأنه ‪ :‬مادة او معلومات نحصل عليها بطريقة معينة‬
‫موضوعية تسمى التفكير العلمي ‪.‬‬
‫والتفكير الموضوعي ‪ :‬يتضمن عمليات عقلية حركية غير جامدة ديناميكية ‪ ،‬ويمكن‬
‫وضعها في خطوات متسلسلة يعتمد بعضها على البعض االخر ويختلف عددها حسب‬
‫فلسفة الشخص المصنف والطريقة العلمية في التفكير توضح ذلك‪.‬‬

‫طرق متقدمة في التفكير االنساني‪:‬‬


‫من الطرق التي استخدمها االنسان ويستخدمها اليوم ضمن حدود وظروف معينة ‪ ،‬ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫اوالً ‪ :‬طريقة التفكير القياسي او االستنباطي او االستنتاجي ‪:Deductive‬‬
‫‪Thinking :‬‬
‫وهي عملية عقلية يتم فيها االنتقال من العام الى الخاص ومن الكليات الى الجزئيات ‪،‬‬
‫كأن يتوصل الطالب من ( تعميم ) علمي معروف – المعادن تتمدد بالحرارة – الى‬
‫نتائج جزئية خاصة – النحاس يتمدد بالحرارة ‪ .‬وهذا يعني ان ما يصدق على الكل‬
‫يصدق ايضا َ على الجزء ‪ ،‬وهذا االسلوب على الرغم اهميته قد يوقع الفرد في الخطأ‬
‫ومن هنا استخدم االنسان التفكير االستقرائي‪.‬‬
‫ثانيا ً ‪ :‬طريقة التفكير االستقرائي ‪Inductive Thinking :‬‬
‫وهي عملية عقلية يتم فيها االنتقال من الخاص الى العام او من الجزئيات ( االمثلة )‬
‫الى العموميات كأن يتوصل الطالب من مالحظاته لحقائق ( امثلة ) معينة حاالت‬
‫فردية منفصلة ( الحديد يتمدد بالحرارة ‪ ،‬النحاس يتمدد بالحرارة ‪ ،‬الرصاص يتمدد‬
‫بالحرارة ‪ ) ...‬الى تعميم علمي – المعادن تتمدد بالحرارة ‪.‬يتضمن عكس التفكير‬
‫القياسي ‪ ،‬على الرغم ان هذا التفكير يوصلنا الى بعض اشكال المعرفة العلمية او‬
‫تعلمها ‪ ،‬اال ان صحتها قد تحتمل الخطأ او الصواب الن الكل او التعميم يعتمد على‬
‫مدى تجانس الكل او المجتمع موضوع البحث او الدراسة ‪ ،‬ومن هنا استخدم االنسان‬
‫الباحث الطريقة العلمية في البحث والتفكير‪.‬‬
‫‪2.‬الطريقة العلمية‪:Scientific Method :‬‬
‫تعد مساعد الطلبة الكتساب الطريقة العلمية هدفا ً اساسيا ً في تدريس العلوم المختلفة ‪،‬‬
‫وذلك انطالقا ً من مبدأ ان العلم ‪ :‬مادة وطريقة ‪ ،‬أي معرفة وطريقة منهجية في‬
‫التفكير والبحث العلمي ‪ ،‬ولكي يكتسب الطالب االسلوب العلمي في تفكيره ودراسته ‪،‬‬
‫البد له من ممارسة وتطبيق خطوات الطريقة العلمية ال حفظها على ظهر قلب‪.‬‬

‫*خطوات الطريقة العلمية‬


‫او العناصر االساسية المشتركة في الطريقة العلمية لحل المشكالت التي ملخصها ما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫أ ‪-‬الشعور( الحس ) بالمشكلة‪.‬‬
‫ب ‪-‬تحديد المشكلة ‪ ،‬وصياغتها في صورة ( اجرائية ) قابلة للحل او بصيغة سؤال‬
‫(موقف مشكل ) او في صورة تقريرية‬
‫ت ‪ -‬جمع البيانات و المعلومات ذات الصلة بالمشكلة ( المدروسة او المبحوثة‪) .‬‬
‫ث ‪-‬وضع احسن الفرضيات ( او التفسيرات ) لحل المشكلة‪.‬‬
‫ج ‪-‬اختبار الفرضية ( او الفرضيات المؤقتة المحتملة ) بأية وسيلة علمية‪.‬‬
‫ح ‪-‬الوصول الى حل المشكلة‪.‬‬
‫خ ‪-‬استخدام ( الفرضية ) كأساس للتعميم في مواقف اخرى مشابهة ‪.‬‬
‫والطريقة العلمية بخطواتها السابقة هي التي يؤمل ان يكتسبها الطالب ويمارسها‬
‫عمليا ً ‪ ،‬وهي التي يستخدمها الباحث ( العالم ) في تقصي العلم واكتشاف حقائقه‬
‫ومفاهيمه ومبادئه ‪.‬وباختصار فإن الطريقة العلمية هي ‪ :‬طريقة لحل المشكالت‬
‫بمعنى انها طريقة لحل المشكلة علميا ً ‪ .‬وعليه اذا علم الطلبة او (اكتسبوا) الطريقة‬
‫العلمية فإنهم عندئذ سيستخدمونها في حل المشكالت التي تواجههم حتى ولو وضعوا‬
‫في مواقف حياتية ال خبرة لهم فيها ‪.‬‬
‫س ‪ //‬اذكر عدد من االمثلة في مجال اختصاصك توضح فيها كيفية تطبيقك لخطوات‬
‫الطريقة العلمية في التفكير ؟‬
‫يتأثر تدريس العلوم في المرحلة االبتدائية كما هو في المراحل االخرى بمدى فهم‬
‫المعلم لطبيعة العلم وهناك اراء مختلفة حول طبيعة العلم لذا من الضروري مناقشة‬
‫اآلراء على اساس ان معرفة هذه اآلراء تساعد في توجيه تدريس العلوم بطريقة‬
‫افضل‪.‬‬
‫ويمكن تلخيص اآلراء المختلفة حول طبيعة العلم‪:‬‬
‫العلم بناء من المعرفة‪:‬‬
‫ان مفهوم العلم هو جسم منظم من المعرفة العلمية يشتمل على الحقائق والمفاهيم‬
‫والمبادئ والتعميمات والقوانين والنظريات العلمية ‪ .‬وتقوم النظريات العلمية بمهمة‬
‫وصف الظواهر واالحداث الطبيعية وتفسيرها والتنبؤ بها ‪ ،‬وهذا الرأي يعطي‬
‫اهتماما ً واضحا ً للجانب النظري للعلم ‪.‬‬
‫س ‪ :‬إذا كنا ننظر للعلم على أنه بناء معرفي أو هيكل من المعلومات ‪ ،‬فما هي النتائج‬
‫السلبية المترتبة على وجهة النظر هذه ؟‬
‫ج ‪ /‬سوف يكون لذلك نتائج سلبية عديدة يمكن إيجازها بما يأتي ‪:‬‬
‫‪1-‬يصبح الهدف الرئيس من تدريس العلوم هو تزويد التالميذ بالمعلومات المختلفة‬
‫التي يتكون منها العلم فقط‪.‬‬
‫‪2-‬تكون طريقة المحاضرة أو الطريقة اإللقائية هي الشائعة في تدريس العلوم مع‬
‫إهمال الطرائق األخرى ‪ ،‬ويكون دور المعلم هو الملقّن ويكون دور الطالب سلبي في‬
‫إثناء العملية التعليمية‪.‬‬
‫‪3-‬تبنى مناهج العلوم على المفهوم الضيق للمنهج ‪ ،‬حيث ستكون المناهج وفقا" لهذه‬
‫النظرة قاصرة فقط على المحتوى المعرفي أو المادة الدراسية ‪ ،‬وتهمل العناصر‬
‫األساسية األخرى في بناء مناهج العلوم على اعتبار ان المعرفة العلمية نتاج العلماء‬
‫وثمرة جهودهم‪.‬‬
‫يصبح الكتاب المدرسي هو المصدر الوحيد للمعلم والتالميذ في عمليتي التعليم‬
‫والتعلم دون االستعانة بالمصادر األخرى والوسائل التعليمية المتعددة‬
‫تصبح المعرفة العلمية ثابتة مطلقة في صحتها وبالتالي غير قابلة للتعديل أو التغيير‬
‫وهذا يخالف النظرة الحديثة عنها‪.‬‬
‫ينظر للتقويم على أنه وسيلة لمعرفة حفظ وتذكر المعلومات لدى التلميذ ‪ ،‬وسوف‬
‫ير ّكز على العمليات العقلية الدنيا ‪ ،‬وال يتناول قياس قدرات التفكير عنده او مدى‬
‫امتالكه لعمليات العلم ومهاراته‪.‬‬
‫العلم طريقة في البحث والتفكير‪:‬‬
‫يعد العلم على وفق هذا الرأي طريقة منظمة في البحث واالستقصاء واالستكشاف ‪.‬‬
‫واما المعرفة العلمية فهي نسيج متكامل من الحقائق والمفاهيم والمبادئ والتعميمات‬
‫والقوانين والنظريات العلمية التي يكونها العالم نتيجة النشغاله بالعلم وطرقه‬
‫وعملياته ‪ .‬لذلك اقترح روبرت جانييه منهاجا ً لتدريس العلوم اطلق عليه اسم العلم‬
‫منحى عملياتي وركز االهتمام فيه على تدريس مهارات عمليات العلم ‪.‬‬
‫س ‪ :‬ماذا نقصد بعمليات العلم ؟‬
‫ج‪ /‬عمليات العلم ‪ :‬هي قدرات ومهارات عقلية يكتسبها المتعلم في إثناء تعلمه مشابهة‬
‫لألنشطة التي يقوم بها العلماء إثناء التوصل إلى نتائج العلم والحكم على هذه النتائج ‪،‬‬
‫وقد قامت الرابطة األمريكية لتقدم العلوم بتحديد عمليات العلم بثالث عشرة عملية‬
‫وصنفتها إلى نوعين هما ‪ :‬عمليات العلم األساسية وعمليات العلم المتكاملة‪.‬‬
‫وان ما نعنيه بعمليات العلم األساسية ‪ :‬هي تلك العمليات البسيطة الواقعة في قاعدة‬
‫التنظيم الهرمي لعمليات العلم والتي تستخدم مع تالميذ الصفوف الدراسية األولية‬
‫لسهولة اكتسابها ‪ ،‬وتشمل تلك العمليات ‪ :‬المالحظة ‪ ،‬التصنيف ‪ ،‬القياس ‪ ،‬االتصال‬
‫‪ ،‬التنبؤ ‪ ،‬االستنتاج ‪ ،‬استخدام عالقات الزمان والمكان ‪ ،‬استخدام األرقام‪.‬‬
‫أما عمليات العلم المتكاملة ‪ :‬هي عمليات متقدمة وأعلى مستوى من عمليات العلم‬
‫األساسية موتضم تلك العمليات خمس عمليات هي ‪ :‬تفسير البيانات ‪ ،‬التعريف‬
‫اإلجرائي ‪ ،‬ضبط المتغيرات ‪ ،‬فرض الفروض ‪ ،‬التجريب ‪.‬‬
‫النظرة المزدوجة للعلم محتوى معرفي وطريقة تفكير ‪:‬‬
‫يركز هذا التعريف على شقي العلم مادة وطريقة أي ان للعلم وجهين متكاملين وهما‬
‫المادة النظرية ( المعرفة العلمية ) والطريقة ( المنهج العلمي ) ‪ ،‬وينطلق هذا‬
‫التعريف من مبدأ اهمية ( المعرفة ) لتقدم العلوم وبناء المعرفة العلمية التراكمية‪،‬‬
‫وكذلك من اهمية ( الطريقة ) في الوصول الى تلك المعرفة ‪ ،‬فالعلم له شقان او‬
‫وجهان متالزمان ‪ ( :‬المادة والطريقة ) ال يمكن الحدهما ان ينمو او يترعرع بمعزل‬
‫عن االخر ‪ ،‬وعليه ‪ ،‬وكتطبيق تربوي في تدريس العلوم ‪ ،‬ينبغي على معلم العلوم‬
‫اظهار الصورة العقلية للعلم الذي يدرسه بمادته وطريقته سواء في اساليب تدريسه ام‬
‫في وسائل قياسه وتقويمه لتعلم الطلبة‪.‬‬

‫مكونات العلم‪: -‬‬


‫س ‪ :‬ما المكونّات الرئيسة للعلم ؟‬
‫ج‪ /‬لتبسيط الدراسة واإلفادة منها في تدريس العلوم يمكن القول أن العلم يتضمن ثالثة‬
‫مكونات رئيسة هي كاآلتي‪:‬‬
‫المكون األول ‪ :‬نتائج العلم ‪:‬‬
‫ّ‬
‫تتضمن نتائج العلم كال" من‪:‬‬
‫الحقائق العلمية‬
‫المفاهيم العلمية‬
‫‪.‬المبادئ والقواعد العلمية‬
‫القوانين العلمية‬
‫النظريات العلمية‪.‬‬
‫المكـــون الثاني ‪ :‬عمـليات العلـم‪:‬‬
‫ّ‬
‫تتضمن عمليات العلم كال" من‪:‬‬
‫عمليات العلم األساسية ‪.‬‬
‫عمليات العلم المتكاملة‪.‬‬
‫المكون الثالث ‪ :‬أخالقيات أو ضوابط العلم‪:‬‬
‫ّ‬
‫يتم الحكم على المعلومات الجديدة في ضوء عدد من المعايير المتفق عليها وهي ‪:‬‬
‫القابلية لالختبار ‪ Testability:‬ال تضاف أي معلومة إلى رصيد المعرفة العلمية اال‬
‫بعد اختبار مصداقيتها‪.‬‬
‫الموضوعية ‪ Objectivity :‬وهي عكس الذاتية ‪ ،‬وتعني انتزاع الذات من الموقف‬
‫أو من الظاهرة أو من الحدث موضوع الدراسة‪.‬‬
‫العالمية ‪ Universality :‬المعرفة العلمية ليس لها دين أو وطن أو جنس أو عرق‬
‫وهذا يتطلب بالضرورة تبادل المعرفة العلمية بين العلماء‪.‬‬
‫األمانة العلمية ‪ Scientific Honesty :‬أن األمانة العلمية تقتضي أن يتوخى العالم‬
‫الدقة في وصف وتسجيل األحداث والمالحظات والظواهر ‪ ،‬وأن يرجع العالم‬
‫المعرفة العلمية إلى مكتشفيها ‪ ،‬وبهذا يحقق األمانة العلمية الموضوعية‪.‬‬
‫البحث عن المسببات وااليمان بان لكل حادث سببا ً ‪ ،‬والبحث عن االدلة لتكوين‬
‫القرارات ‪ ،‬واتساع االفق وتفتح الذهنية ‪ ،‬وااليمان بالعلم ودوره في حل المشكالت ‪،‬‬
‫وتحمل المسؤولية‪.‬‬

‫ثانيا ‪ :‬األخالق في اللغة والشرع واالصطالح ‪:‬‬

‫‪:‬تعريف األخالق لغة‬


‫ال ُخلُق في لغة العرب‪ :‬هو َّ‬
‫الطبْع والسجيَّة‪ ،‬وقيل‪ :‬المروءة والدِّين‪ ،‬قال العالمة ابن‬
‫‪.‬فارس‪" :‬الخاء والالم والقاف أصالن‪ :‬أحدهما تقدير الشيء‪ ،‬واآلخر مالمسة الشيء‬

‫األديم للسقاء‪ ،‬إذا قدَّرتَه‪ ،‬قال‬


‫َ‬ ‫‪:‬فأما األول‪ ،‬فقولهم‪َ :‬خلَقتُ‬
‫ت فَ ْريتُها‬
‫لم يَحْ شِم الخالقا ِ‬
‫ب‬
‫س َر ُ‬
‫ولم يَ ِغض من نِطافها ال َّ‬
‫‪:‬وقال زهير‬
‫وألنت تفري ما خلقتَ وبع‬
‫ض القوم يخلُ ُ‬
‫ق ثم ال يَفري‬ ‫ُ‬

‫‪"[1].‬ومن ذلك‪ :‬ال ُخلُق وهي السجية؛ ألن صاحبه قد قُدِّر عليه‬

‫َّ‬
‫والطبع‪ ،‬والمروءة‬ ‫وقال الفيروزآبادي‪" :‬ال ُخلق‪ :‬بالض ِ ّم‪ ،‬وبضمتين‪ :‬السجية‬
‫‪"[2].‬والدين‬

‫َو ِإنَّكَ لَ َعلَى ُخلُق ﴿ ‪:‬وقال ابن منظور‪" :‬ال ُخلُق‪ :‬الخليقة؛ أعني‪ :‬الطبيعة‪ ،‬وفي التنزيل‬
‫‪.‬القلم‪ ،]4 :‬والجمع‪ :‬أخالق‪ ،‬ال يُكسَّر على غير ذلك[﴾ َع ِظيم‬

‫ق الفاجر‪ ،‬وفي الحديث‪(( :‬ليس‬ ‫وال ُخ ْلق وال ُخلُق‪ :‬السَّجيَّة ‪ -‬يقال‪ :‬خا ِل ِ‬
‫ص المؤمن وخا ِل ِ‬
‫‪)).‬في الميزان أثقل من ُحسْن الخلق‬

‫وال ُخلُق‪ :‬بضم الالم وسكونها‪ ،‬وهو الدين والطبع والسجية‪ ،‬وحقيقته أنه لصورة‬
‫صة بها‪ ،‬بمنزلة الخ َْلق لصورته‬
‫اإلنسان الباطنة‪ ،‬وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المخت َّ‬
‫الظاهرة وأوصافها ومعانيها‪ ،‬ولهما أوصاف حسنة وقبيحة‪ ،‬والثواب والعقاب يتعلَّقان‬
‫أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة؛ ولهذا‬
‫بأوصاف الصورة الباطنة َ‬
‫موضع‬
‫ِ‬ ‫‪"[3].‬تكررت األحاديث في َمدْح ُحسْن ال ُخلُق في غير‬
‫َّ‬

‫‪ ،‬قال العالمة الراغب )بضمها( وال ُخلق )بفتح الخاء( وفي التفريق بين الخ َْلق‬
‫صرم‪،‬‬
‫صرم وال ُّ‬
‫شرب‪ ،‬وال َّ‬ ‫األصفهاني‪" :‬والخ َْلق وال ُخ ْلق في األصل واحد كال َّ‬
‫شرب وال ُّ‬
‫ص ال ُخ ْلق بالقوى‬ ‫ص الخ َْلق بالهيئات واألشكال والصور ال ُم َ‬
‫دركة بالبصر‪ ،‬و ُخ َّ‬ ‫لكن ُخ َّ‬
‫دركة بالبصيرة‬
‫‪"[4].‬والسجايا ال ُم َ‬

‫والخيم قال القرطبي‪" :‬وحقيقة ال ُخلُق في اللغة هو ما يأخذ‬


‫وفي التفريق بين ال ُخلُق ِ‬
‫كالخ ْلقة فيه‪ ،‬وأما ما ُ‬
‫طبِع عليه من‬ ‫اإلنسانُ به نفسه من األدب يُس َّمى ُخلُقًا؛ ألنه يسير ِ‬
‫السَّجيَّة والطبيعة‪ ،‬ال واحد له من لفظه‪ ،‬فيكون ال ُخلُق ‪):‬بالكسر( األدب فهو ِ‬
‫الخيم‬
‫‪:‬الطبع المتكلَّف‪ِ ،‬‬
‫والخيم الطبع الغريزي‪ ،‬وقد أوضح ذلك األعشى في شعره فقال‬ ‫َّ‬
‫وإذا ذو الفُضول َ‬
‫ض َّن على المو‬
‫ق‬
‫يمها األخال ُ‬ ‫لى وعادتْ ِ‬
‫لخ ِ‬
‫ُ‬
‫األخالق إلى طبائعها‬ ‫‪"[5].‬أي‪ :‬رجعت‬

‫‪:‬األخالق شر ًعا‬
‫االستخدام الشرعي للفظ "ال ُخلُق"‪ ،‬لم‬
‫َ‬ ‫عند النظر واالستقراء لنصوص الشارع تجد أن‬
‫كثيرا عن الوضع اللغوي لهذه الكلمة‬
‫‪.‬يختلف ً‬

‫‪:‬فقد جاءت كلمة ال ُخلُق في القرآن في موضعين‬


‫‪].‬الشعراء‪ ﴾[137 :‬إِ ْن َهذَا إِ َّال ُخلُ ُق ْاأل َ َّولِينَ ﴿ ‪:‬قوله تعالى على لسان قوم هود ‪:‬األول‬

‫أي‪ :‬ما هذا الذي جئتنا به إال عادة األولين يُل ِفّقون ِمثْلَه ويدعون إليه‪ ،‬أو ما هذا الذي "‬
‫نحن عليه من الحياة والموت إال عادة قديمة لم يزل الناس عليها‪ ،‬أو ما هذا الذي نحن‬
‫‪"[6].‬عليه من الدين إال عادة األولين الذين تقدَّمونا من اآلباء وغيرهم‬

‫ف ُخلُق األولين هنا بمعنى دِينهم وعادتهم وأخالقهم ومذهبهم‪ ،‬وهذا مرو ٌّ‬
‫ي عن ابن‬
‫والفراء وابن األعرابي ومحمد بن يزيد وغيرهم ]‪[7‬عباس رضي هللا عنه وقتادة‬
‫‪َّ [8].‬‬
‫َو ِإنَّكَ ﴿ ‪:‬قوله ‪ -‬ج َّل وعال ‪ -‬مخاطبًا سيد الخ َْلق محمدًا صلى هللا عليه وسلم ‪:‬الثاني‬
‫‪].‬القلم‪َ ﴾[4 :‬ل َع َلى ُخلُق َع ِظيم‬

‫قال الطبري‪" :‬يقول ‪ -‬تعالى ِذ ْكره ‪ -‬لنبيِّه محمد صلى هللا عليه وسلم‪ :‬وإنك يا محمد‪،‬‬
‫لعلى أدب عظيم‪ ،‬وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه به‪ ،‬وهو اإلسالم وشرائعه‪ ،‬وبنحو الذي‬
‫‪".‬قلنا في ذلك قال أهل التأويل‬

‫﴾؛ ُخلُق َع ِظيم ﴿ ‪:‬ثم نقَل عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد والضحاك قولهم في تفسير‬
‫‪[9].‬أي‪ :‬دين عظيم‪ ،‬وهو اإلسالم‬

‫‪[10].‬وقال الماوردي‪ :‬أي إنك على َ‬


‫طبْع كريم‬

‫سنَّة المط َّهرة‪ ،‬فقد استخدمت لفظة ال ُخلُق ً‬


‫كثيرا‪ :‬ومن ذلك قول عائشة رضي‬ ‫أما في ال ُّ‬
‫صف ُخلُق الرسول صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬كان ُخلُقه القرآن‬
‫؛ ]‪))[11‬هللا عنها في و ْ‬
‫س ًكا بالقرآن وبآدابه‪ ،‬وأوامره ونواهيه‪ ،‬وما يَ ِ‬
‫شتمل عليه من المكارم‬ ‫أي‪ :‬متم ِ ّ‬
‫‪[12].‬والمحاسن واأللطاف‬

‫‪))[13].‬ومنه‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬البِ ُّر ُحسْن ال ُخلُق‬

‫و ُحسْن ال ُخلُق هو التخلق بأخالق الشريعة‪ ،‬والتأدب بآداب هللا التي أدَّب بها عبادَه في‬
‫‪"[14].‬كتابه‪ ،‬وقد قيل‪" :‬إن الدين كله ُخلُق‬

‫‪))[15].‬ومنه‪ :‬قوله صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا‬

‫‪"[16].‬قال ابن رسالن‪" :‬ال ُخلُق عبارة عن أوصاف اإلنسان التي يُ ِ‬


‫عامل بها غيره‬
‫وهذه المعاني في حقيقتها ال تُخا ِلف الوض َع اللُّغوي لكلمة ال ُخلُق‪ ،‬وإن ُ‬
‫ص ِبغت بمعنى‬
‫شرعي حين يع ِبّر ُحسْن ال ُخلُق عن االلتزام باآلداب الشرعية الصادرة عن األحكام‬
‫‪.‬القرآنية والتعاليم النبوية خاصة‬

‫‪:‬األخالق في االصطالح‬
‫‪:‬في االصطالح تُطلَق األخالق باعتبارين‪ :‬أحدهما عام‪ ،‬واآلخر أخص منه‬
‫عرف ال ُخلُقَ بقوله‪" :‬ال ُخلُق عبارة عن هيئة في‬
‫فمن العام ما ذكره الغزالي حين َّ‬
‫النفس راسخة‪ ،‬عنها تَصدُر األفعال بسهولة ويُسر من غير حاجة إلى ِف ْكر‬
‫‪"[17].‬ورويَّة‬

‫فاألخالق هيئة ثابتة راسخة ُمست ِقرة في ن ْفس اإلنسان غير عارضة طارئة‪ ،‬فهي تُم ِثّل‬
‫تتكرر كلما حانت فرصتها‪ ،‬فإن كان الصفة عارضة فليست جديرة‬
‫عادة لصاحبها َّ‬
‫بأن تُس َّمى ُخلُقًا‪ ،‬ف َمن بذل المال مرة أو مرتين ال يقال‪ :‬إنه كريم سخي‪ ،‬كما ينبغي‬
‫عدم التكلف في صدور الفعل بحيث يَصد ُر بشكل تلقائي من غير تردُّد وبصورة‬
‫َع ْفوية‪ ،‬ال تخضع للحساب والمراجعة وتقليب الرأي وإعمال ال ِفكر‪ ،‬وال يُق َ‬
‫صد بذلك‬
‫أن يكون العمل ال إراديًّا‪ ،‬وإنما المقصد أنه من شدة تلقائيَّة العمل وتَ ُ‬
‫سارع أدائه تكون‬
‫‪[18].‬مساحة التفكير في األداء ضئيلة‪ ،‬بحيث تتالشى أمام تسارع العمل‬

‫وينبغي التنبه إلى أن الصفات المستقرة في النفوس ليست كلها من قبيل األخالق‪ ،‬بل‬
‫صلَة لها بال ُخلُق‪ ،‬ولكن الذي َي ِ‬
‫فصل األخالق ويُم ِيّزها عن‬ ‫منها غرائز ودوافع ال ِ‬
‫جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلةً للمدح أو للذم‪ ،‬فبذلك يتميَّز ال ُخلُق‬
‫عن الغريزة ذات المطالب المكافئة لحاجات اإلنسان الفطرية‪ ،‬فإن الغريزة المعتدلة‬
‫‪[19].‬ذات آثار في السلوك‪ ،‬إال أن هذه اآلثار ليست مما يُح َمد اإلنسان أو يُذَم عليه‬
‫وبهذا اإلطالق يشمل ال ُخلُق الحسن والقبيح‪ ،‬والمحمود والمذموم‪ ،‬وإن كان َيغ ِلب إذا‬
‫‪.‬أُط ِلق عن التقييد إلى ال ُخلُق الحسن‬

‫قال الطاهر بن عاشور‪ُ " :‬خلُق بضمتين‪ :‬فهو السجيَّة المتم ِ ّكنة في النَّ ْفس‪ ،‬باعثة على‬
‫سِر بالقوى النفسية‪ ،‬وهو تفسير قاصر‪ ،‬فيشمل‬
‫عمل يُنا ِسبها من خير أو شر‪ ،‬وقد ف ّ‬
‫ضم إليه‬‫طبائع الخير وطبائع الشر؛ ولذلك ال يعرف أحد النوعين من اللفظ إال بقيد يُ َ‬
‫فيقال‪ُ :‬خلق حسن‪ ،‬ويقال في ضده‪ :‬سوء ال ُخلُق‪ ،‬أو ُخلُق ذميم‪ ،‬فإذا أُط ِلق عن التقييد‬
‫انصرف إلى ال ُخلُق الحسن"‪ ،‬ثم قال‪" :‬وال ُخلُق في اصطالح الحكماء‪َ :‬ملَكة؛ أي‪:‬‬
‫كيفية راسخة في النفس؛ أي‪ :‬متم ِ ّكنة في ال ِف ْكر‪ ،‬تَصد ُر بها عن النفس أفعا ُل صاحبها‬
‫‪.‬بدون تأ ُّمل‬

‫مؤت ِلفة من انطباع فِ ْكري إما ِج ِبلي )أي‪ :‬طبائع نفسية( ف ُخلُق المرء مجموعة غرائز‬
‫مرن ال ِفكر عليه وتقلُّده إياه الستحسانه إياه‬
‫في أصل ِخ ْلقته‪ ،‬وإما َكسْبي ناشئ عن تَ ُّ‬
‫جربة ن ْفعه‪ ،‬أو عن تقليد ما يُشاهِده من بواعث محبة ما شاهد‪ ،‬وينبغي أن يُس َّمى‬
‫عن تَ ِ‬
‫اختيارا من قول أو عمل لذاته‪ ،‬أو لكونه من سيرة َمن يحبه ويقتدي به‪ ،‬ويُس َّمى‬
‫ً‬
‫‪.‬تقليدًا‪ ،‬ومحاولته تُس َّمى تخلُّقًا‬

‫‪:‬قال سالم بن وابصة‬


‫عليك ِبا ْلقَ ْ‬
‫ص ِد فيما أنتَ فاعلُه‬
‫]‪[20‬إن التخلُّق يأتي دونه ال ُخلُق‬

‫أما اإلطالق األخص لكلمة ال ُخلُق في االصطالح‪ ،‬فيُطلَق على التمسُّك بأحكام الشرع‬
‫‪.‬وآدابه فعالً وتر ًكا‬

‫‪))[21].‬ومن ذلك قول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪(( :‬البِ ُّر ُحسْن ال ُخلُق‬
‫َو ِإنَّكَ لَ َعلَى ُخلُق ﴿ ‪ -:‬وقول عائشة رضي هللا عنها في تفسير قول هللا ‪ -‬عز وجل‬
‫‪" [22].‬القلم‪" :]4 :‬كان ُخلُقه القرآن[﴾ َع ِظيم‬

‫‪.‬وقد سبق بيانه عند الحديث عن المعنى الشرعي؛ فال حاجة لإلطالة بإعادته‬

‫‪ -‬األخالق عند سقراط‬

‫الفلسفة‪ ،‬كما نعرفها‪ ،‬عبارة عن تفكير وتساؤل‪ .‬ال أكثر وال أقل‪ .‬الفيلسوف عندما‬
‫يتساءل‪ ،‬ال يبحث عن إجابة قاطعة‪ ،‬فال توجد هناك إجابة قاطعة‪ .‬إنما يدعوك للتفكير‬
‫‪.‬واستخدام العقل‬

‫هذه التساؤالت تساعدنا في إيجاد معنى لمفهومي الصح والخطأ‪ ،‬وتعمق فهمنا لطبيعة‬
‫الحياة السليمة والجيدة‪ ،‬وتهدينا لما يجب فعله أو تجنبه في هذه الحياة المليئة‬
‫‪.‬باألسرار‬

‫في هذه الحياة‪ ،‬هل يوجد واجب أخالقي علينا اإللتزام به؟ وهل هناك أخالقيات‬
‫مطلقة ال يمكن المساس بها؟ أم هي مجرد أشياء نسبية‪ ،‬تعتمد على العصر والمكان‬
‫والثقافة وفهم الشخص نفسه؟ وهل هناك سبب ما‪ ،‬يدفعنا للتمسك بها والعض عليها‬
‫بالنواجز؟‬

‫أهم أعمال أفالطون‪ ،‬ومؤلفه الذي يعتبر من أفضل الروائع األدبية العالمية‪ ،‬هو كتاب‬
‫"الجمهورية"‪ .‬يبدأ في أوله بمناقشة موضوع أسماه "ديكايوسين"‪ .‬يترجم في معظم‬
‫الحاالت على أنه يعني "العدالة"‪ .‬لكن الترجمة األقرب للصواب هي "األخالق"‪.‬‬
‫‪.‬األخالق هنا بمعناها األكثر شموال واتساعا‬
‫في أول فصل من كتاب جمهورية أفالطون‪ ،‬يفاجئنا السفسطائي ثراسيماخوس بقوله‬
‫أن األخالق ما هي إال مجموعة قرارات وقيود‪ ،‬يفرضها أصحاب السلطة والقوة على‬
‫‪.‬شعوبهم البائسة‬

‫هذه القرارات والقيود‪ ،‬ال تصب دائما في صالح الشعوب‪ ،‬لكنها بالتأكيد تكون في‬
‫صالح الحاكم المفتري الظالم صاحب القوة المطلقة‪ .‬عندما يطالبنا أولي األمر والنهي‬
‫بالحجاب والنقاب لنسائنا‪ ،‬ويصرون على تطبيق الحدود‪ ،‬ويأمروننا بطاعة الحاكم‪،‬‬
‫واإللتزام باألمانة والصدق‪ ،‬ال يكون ذلك لسواد عيون المواطنين‪ ،‬أو حبا في‬
‫‪.‬الفضيلة‪ ،‬ولكن لما فيه من مصلحة للذين يتربعون على عرش السلطة‬

‫لكن العظيم سقراط يخبرنا‪ ،‬أثناء حواره مع ثراسيماخوس‪ ،‬بأن األخالق ال تصب‬
‫بالضرورة في مصلحة األقوى‪ .‬فيصر ثراسيماخوس على رأية‪ ،‬بأن التمسك‬
‫‪.‬باألخالق مصيبة‪ ،‬وليست من مصلحة الشخص بصفة عامة‬

‫الرجل المرتشي يكسب أكثر من الرجل األمين‪ .‬النصاب والمزور يدفعان ضرائب‬
‫أقل من الرجل الصادق‪ .‬المنافق يبلغ أسمى المراكز والمناصب‪ .‬التلميذ الغشاش ينجح‬
‫بدون حق‪ .‬التاجر يكسب الباليين من احتكار السلعة‪ .‬السياسي‪ ،‬بإخفاء الحقائق‪ ،‬يفوز‬
‫باالنتخابات‪ ،‬وبإظهارها‪ ،‬ينتهي مستقبله السياسي‪ ،‬إلخ‪ .‬إننا دائما نجد الشخص الغير‬
‫‪.‬متمسك باألخالق‪ ،‬هو الفائز‪ .‬يكسب أكثر من زميله المستمسك بها‬

‫هنا‪ ،‬وجب على سقراط أن يثبت العكس‪ .‬كان عليه إثبات أن التمسك باألخالق شئ‬
‫مفيد مفعوله أكيد‪ .‬وعدم التمسك باألخالق‪ ،‬أمر قميء رديء غير مربح‪ .‬هذا عمل ال‬
‫يقدر عليه سوى فيلسوف مثل سقراط‪ .‬فتعالوا معي لكي نرى ماذا يقوله سقراط في‬
‫‪.‬هذا الموضوع‬

‫في نهاية الفصل األول من كتاب الجمهورية‪ ،‬الحق سقراط ثراسيماخوس باألسئلة‪،‬‬
‫مما جعله يترك المشهد غاضبا‪ .‬مشكلة األخالق‪ ،‬كما أثارها ثراسيماخوس‪ ،‬لم تغادر‬
‫المشهد معه‪ .‬لكنها بقيت وتفاقمت‪ .‬الباب الثاني يبدأ بمناقشة ثالثة أنواع من فعل‬
‫‪:‬الصح‪ ،‬أو فعل الخير‪ .‬هي‪:‬‬
‫‪ -.‬فعل الخير لذاته‪ ،‬مثل فعل أشياء تعطينا البهجة والمتعة‬

‫فعل الخير لعواقبه أو تجنبا لضرر ما‪ ،‬مثل تناول الدواء‬

‫‪.‬فعل الخير لذاته وأيضا لعواقبه‪ ،‬مثل الحفاظ على الصحة‬

‫يقول سقراط أن ما جاء بالبند الثالث السابق‪ ،‬هو كل ما يعنيه باألخالق‪ .‬لكن معظم‬
‫الناس تعتقد أن تعريف األخالق ينطبق على البند الثاني فقط‪ ،‬أي طلبا للخير أو تجنبا‬
‫‪.‬للضرر‬

‫يشرح لنا جلوكون‪ ،‬أحد رفاق سقراط‪ ،‬فكرة األخالق عند العامة‪ .‬يذكر لنا حكاية‬
‫الخاتم السحري الذي يجعل اإلنسان مخفي عن األنظار‪ .‬فيقول بما معناه‪ ،‬أن من‬
‫‪.‬يمتلك الخاتم السحري‪ ،‬يستطيع أن يهرب من عاقبة فعله‬

‫فمثال‪ ،‬يستطيع حامل الخاتم السحري إغراء الملكة وقتل الملك واالستيالء على‬
‫الحكم‪ .‬أي واحد منا سوف يفعل نفس الشئ‪ ،‬إذا أتيحت له الفرصة‪ .‬العبيط فقط هو من‬
‫يقول "ال" أمام هذه الفرصة‪ .‬إذا لمنا من يفعل ذلك‪ ،‬فهذا ألننا نشعر بالغيرة‪ ،‬أو ألننا‬
‫‪.‬ال نريد أن نبدو أشرارا أمام اآلخرين‬

‫هنا يأتي رفيق آخر من رفاق سقراط‪ ،‬أديمانتوس‪ ،‬ليؤيد كالم جلوكون‪ ،‬ويقول بأن‬
‫األخالق هي بالتأكيد البند الثاني‪ .‬الناس تفعل الفعل األخالقي‪ ،‬ألنها تبغي الفائدة من‬
‫‪.‬ورائه‬

‫تقوم بشعائر األديان‪ ،‬لكي تدخل الجنة‪ .‬تلبس النساء النقاب‪ ،‬ويرتدي الرجال الجلباب‬
‫ويطلقون اللحية‪ ،‬لكي يكسبوا احترام الناس وثقتها‪ .‬األخالق هنا سلع نقايضها بشئ‬
‫‪.‬آخر‬

‫هذا الرأي تبناه الحقا ميكافيللي‪ .‬فهو يقول بصراحة ووضوح في كتابه "األمير"‪ ،‬أنه‬
‫ليس من الضروري لألمير أن يكون رحيما أو مؤمنا أو أمينا أو إنسانيا أو أخالقيا في‬
‫أفعاله‪ ،‬لكن من الضروري أن يظهر أمام الرعية على أنه يتسم ويتحلى بكل هذه‬
‫‪.‬الصفات‪ .‬المهم الفائدة وليس الفعل نفسه‬
‫إلى هنا وسقراط يبدو لنا أنه يواجه مدافع ودانات من العيار الثقيل‪ .‬فماذا يفعل وكيف‬
‫يجيب؟ لقد فعل ما قد يفعله الكثير منا في مثل هذا الموقف‪ .‬لقد قام بتغيير الموضوع‪،‬‬
‫‪.‬أو هكذا يبدو لنا‬

‫هنا يعترف سقراط أن المشكلة أصبحت معقدة‪ ،‬والتفاصيل أصبحت كثيرة متشعبة‬
‫غير واضحة‪ ،‬تحتاج معها إلى مجهر أو عدسة مكبرة‪ .‬ثم يقدم لنا نظرية تصاحبنا في‬
‫‪".‬معظم كتاب "الجمهورية‬

‫نظرية سقراط تنقسم إلى قسمين‪ .‬األول‪ ،‬يقول بأن مشكلة األخالق يمكن أن تحل‬
‫عندما نفهم طبيعة النفس البشرية‪ .‬الثاني‪ ،‬يقول بأن فهم طبيعة النفس البشرية تكون‬
‫‪.‬ممكنة‪ ،‬عندما نقوم بدراسة المدينة أو المجتمع‬

‫البحث عن المدينة الفاضلة يقودنا إلى فهم النفس الفاضلة أو المثالية‪ .‬من هنا يمكننا‬
‫تعريف األخالق‪ ،‬وماذا نعني بفعل الخير‪ ،‬وبذلك يمكننا اإلجابة على السؤال‪ :‬لماذا‬
‫يجب علينا أن نتمسك باألخالق‪ ،‬دون أن نستخدمها كأداة لتحقيق مصلحتنا الشخصية؟‬

‫يقول أفالطون أن سقراط قد توصل إلى النتيجة اآلتية‪ :‬المدينة الفاضلة تتكون من‬
‫ثالث طبقات متباينة‪ .‬الطبقة األولى‪ ،‬هي طبقة الحكام الحكماء الدارسين للفلسفة‪.‬‬
‫‪.‬وهي طبقة تماثل فضيلة الحكمة عند الفرد‬

‫الطبقة الثانية‪ ،‬هي طبقة الجند أو الحراس‪ ،‬التي تحمي المدينة في الداخل والخارج‪.‬‬
‫هذه الطبقة يجب أن تكون على علم بشئ من الفلسفة‪ ،‬حتى تستطيع أن تفرق بين‬
‫العدو والصديق‪ .‬من يثبت منهم أنه قد أتقن الفلسفة‪ ،‬يستطيع أن يرتقي إلى طبقة‬
‫‪.‬الحكام‪ .‬وهي طبقة تشبه فضيلة الشجاعة عند الفرد‬

‫أخيرا‪ ،‬طبقة الحرفيين والصناع والزراع‪ .‬وهي تتكون من غالبية المجتمع‪ ،‬لكنها‬
‫غير قادرة على الحكم‪ ،‬ألنها ال تعلم شيئا عن الفلسفة‪ .‬يجب على هذه الطبقة أن تمتثل‬
‫للقوانين التي تُفرض عليها من الطبقة الحاكمة‪ .‬امتثال طبقة الحرفيين هذه‪ ،‬تمثل‬
‫‪.‬فضيلة اعتدال الشهوات عند الفرد‬
‫بما أن المدينة أو المجتمع‪ ،‬صورة مكبرة للنفس البشرية‪ ،‬كما يقول سقراط‪ ،‬لذلك‬
‫‪.‬يمكننا القول بأن النفس البشرية تتكون من ثالثة أشياء أيضا‪ .‬العقل والروح والشهوة‬

‫العقل دائما نجده معارضا للشهوة‪ ،‬التي تعتبر الجانب الحيواني في النفس‪ .‬هي تسمى‬
‫"الهي" عند فرويد‪ .‬فرويد قسم النفس أيضا إلى ثالثة أقسام‪" :‬األنا األعظم"‪" ،‬األنا"‪،‬‬
‫‪"".‬الهي‬

‫هذا ليس بالمستغرب‪ ،‬إذا علمنا أن فرويد كان قد تأثر تأثرا بالغا بكتاب الجمهورية‬
‫ألفالطون‪ .‬العجيب أنه قد جاء بكتاب الجمهورية بأن الرغبات المكبوته تظهر في‬
‫صورة أحالم‪ ،‬قال سقراط هذا قبل فرويد بما يزيد على ألفي عام‪ .‬فهل هناك جديد‬
‫تحت الشمس؟‬

‫يقول الفيلسوف العظيم البريطاني ألفريد نورث وايتهد ‪" :‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬ماهو إال‬
‫‪".‬تعليق وشرح لكتاب جمهورية أفالطون‬

‫األعجب‪ ،‬أن كتاب جمهورية أفالطون كان يدرس هو وفلسفة أرسطو بالمدارس‬
‫والجامعات المصرية‪ ،‬أيام عصر النهضة وحكم البطالمة الذي استمر أكثر من ‪300‬‬
‫‪.‬سنة قبل الميالد‪ ،‬وقبل دخول المسيحية واإلسالم مصر‬

‫كنت أتمنى أن يكون أولي األمر فينا وأعضاء مجلس الشعب واللجنة المشكلة لوضع‬
‫الدستور المصري الجديد على علم بأصول الفلسفة أو يكونوا‪ ،‬على األقل‪ ،‬قد قرأوا‬
‫‪".‬وفهموا كتاب "جمهورية أفالطون‬

‫يقول سقراط أنه إذا تغلبت الشهوة على الروح‪ ،‬أصبح اإلنسان شهواني الطبع‪ .‬وإذا‬
‫تغلب العقل على الروح‪ ،‬أصبح اإلنسان عقالني‪ .‬فضيلة العقل هي الحكمة‪ ،‬وفضيلة‬
‫‪.‬النفس هي الشجاعة‪ ،‬وفضيلة الشهوة هي االعتدال‬

‫إذا تحكم العقل في جميع مكونات النفس الثالثة‪ ،‬تكون النتيجة هي األخالق والكمال‬
‫والفضيلة‪ .‬عندها يصبح واضحا للفرد لماذا يجب أن يسلك طريق األخالق‪ ،‬ولماذا‬
‫‪.‬عليه أن يلتزم بها‬
‫لماذا يجب علينا أن نفعل الفعل األخالقي؟ ألن العكس سوف يؤدي إلى الفوضى‬
‫والخلط‪ .‬العكس سوف يخلق صراعا بين العقل والشهوة داخل النفس‪ ،‬وهذا ال يستقيم‬
‫‪.‬مع السالم الداخلي للفرد‬

‫نبل اإلنسان وفضيلته‪ ،‬تتطلب السالم الداخلي‪ ،‬وانتصار العقل على الشهوة‪ ،‬وعلى‬
‫الجزء الحيواني من النفس‪ .‬وتتطلب أن يأخذ اإلنسان في اعتباره مصالح اآلخرين‪،‬‬
‫‪.‬وليس مصالحه الشخصية فقط‬

‫هنا يقول أفالطون على لسان جلوكون‪ ،‬أن الفضيلة للنفس‪ ،‬هي مثل الصحة والجمال‬
‫‪.‬للبدن‪ .‬العكس يعني المرض والقبح والضعف‬

‫لنعود اآلن إلى تساؤل ثراسيماخوس‪ .‬هل من األفضل أن ال نتمسك باألخالق؟ وهل‬
‫األخالق للنفس فعال‪ ،‬مثل الصحة للبدن؟ لكي نجاوب على هذا السؤال‪ ،‬سوف نرجع‬
‫‪.‬إلى موضوع الفرد والمدينة مرة أخرى‬

‫بالنسبة للفرد والمدينة‪ ،‬العدالة واألخالق تنبع من مبادئ عقالنية ال دينية‪ .‬هذه هي‬
‫أصول األخالق عند الغرب حاليا‪ ،‬التي صاغها فالسفة التنوير‪ .‬المساواة وحقوق‬
‫المرأة وحقوق اإلنسان وتحرير العبيد‪ ،‬جاءت كلها ألسباب عقالنية‪ .‬ألن الغرب وجد‬
‫‪.‬أنها منطقية تساعد على سالم المجتمع واستقراره‬

‫لو اعتمدنا‪ ،‬بالنسبة لألخالق‪ ،‬على التعاليم الدينية فقط‪ ،‬فلن تتم المساواة بين البشر‪،‬‬
‫ولن تأخذ المرأة باقي حقوقها‪ ،‬ولن يتحرر العبيد‪ .‬الخليفة العباسي‪ ،‬المتوكل‪ ،‬كانت‬
‫‪.‬لديه ‪ 3000‬جارية‪ ،‬وطأهن جميعا‬

‫الفرد يتمسك باألخالق عندما يتفهم المبادئ العقالنية التي تؤيدها‪ .‬هذا الفهم‪ ،‬يجعله‬
‫‪.‬يسيطر على شهواته وغرائزه البهيمية‬

‫التمسك باألخالق بسبب التعاليم الدينية فقط‪ ،‬والخوف من عذاب جهنم‪ ،‬والطمع في‬
‫الجنة والحور العين‪ ،‬دون أسباب عقالنية‪ ،‬قد يجعل اإلنسان يعيد تفسير وتأويل‬
‫‪.‬التعاليم الدينية بما يوافق مصلحته الشخصية أو مصلحة الحاكم‬
‫إصرار الرجل على أنه أفضل من المرأة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬له كل الحق في الزواج عليها‬
‫وطالقها وتشريدها هي وعيالها‪ ،‬وسجنها وطمس معالمها بالنقاب‪ .‬موقف اإلخوان‬
‫‪.‬والسلفيين من قضايا الدستور وحقوق األقليات والمرأة‪ ،‬هو خير دليل على ذلك‬

‫كل هذا يمكن فهمه بالنسبة لسلوك الفرد‪ ،‬لكنه شئ محير بالنسبة للمدينة‪ .‬معظم الناس‬
‫في مدينة أفالطون بطبيعتهم أشرار‪ .‬سواء لبسوا الجلباب القصير وأطالوا اللحية‬
‫وحفوا الشارب‪ ،‬أو لم يفعلوا ذلك‪ .‬هم جميعا‪ ،‬ال يستطيعون بمفردهم اكتشاف األسباب‬
‫‪.‬العقالنية‪ ،‬التي تدعوهم للتمسك باألخالق الحميدة‬

‫األخالق يجب أن تكون موضوعة على أسس عقالنية ال دينية‪ .‬فهي ليس لها قوة في‬
‫حد ذاتها‪ ،‬تفرضها على الجميع‪ .‬لذلك يجب أن تُفرض األخالق والعدل في المدينة‬
‫‪.‬الفاضلة على الجميع بسلطة علوية‬

‫يقول سقراط أن التمسك باألخالق هو من صميم مصلحة الفرد‪ ،‬حتى وإن لم يفهم‬
‫معظم األفراد ذلك‪ .‬إذا رأينا أحدا يفعل فعال ال أخالقيا‪ ،‬فهو يفعل ذلك ألنه ال يعرف‬
‫‪.‬مصلحته الحقيقية‬

‫يقول سقراط‪ ،‬األخالق والفضيلة عبارة عن معرفة‪ .‬إذا عرفت معنى الخير‪ ،‬سوف‬
‫تفعل الخير‪ .‬الناس تفعل الشر ألنها ال تعرف‪ .‬الناس ال تفعل الشر باختيارها‪ .‬فعل‬
‫الشر هو الجهل بعينه‪ .‬األخالق هنا ليست لها عالقة بالجنة والحور عين‪ ،‬وال بالنار‬
‫‪.‬والسعير‪ .‬إنما عبارة عن معرفة وجهل فقط‬

‫الناس تسرق وتقتل وتبحث عن الشهرة والمجد‪ ،‬ألنها تعتقد أن هذا هو الطريق‬
‫للسعادة‪ .‬لكنهم ال يعرفون معنى السعادة‪ .‬وال يعرفون أنفسهم وما يسعدهم‪ .‬لذلك‪ ،‬كما‬
‫يقول سقراط‪ ،‬من المهم أن تعرف نفسك‪ .‬فالحياة الغير مفهومة والخالية من البحث‬
‫‪.‬والتساؤل ال تستحق أن تعاش‬
‫وأخيرا‪ ،‬هل قرأتم أو سمعتم تعبيرا أجمل أو أروع من تعبير‪" :‬الفضيلة للنفس مثل‬
‫الجمال للبدن"‪ .‬هذا التعبير جاء في جمهورية أفالطون منذ أكثر من ‪ 2300‬سنة‪ .‬قبل‬
‫‪.‬المسيحية وقبل اإلسالم‬

‫قصة األخالق عند سقراط‬

‫الفلسفة‪ ،‬كما نعرفها‪ ،‬عبارة عن تفكير وتساؤل‪ .‬ال أكثر وال أقل‪ .‬الفيلسوف عندما‬
‫يتساءل‪ ،‬ال يبحث عن إجابة قاطعة‪ ،‬فال توجد هناك إجابة قاطعة‪ .‬إنما يدعوك للتفكير‬
‫‪.‬واستخدام العقل‬

‫هذه التساؤالت تساعدنا في إيجاد معنى لمفهومي الصح والخطأ‪ ،‬وتعمق فهمنا لطبيعة‬
‫الحياة السليمة والجيدة‪ ،‬وتهدينا لما يجب فعله أو تجنبه في هذه الحياة المليئة‬
‫‪.‬باألسرار‬

‫في هذه الحياة‪ ،‬هل يوجد واجب أخالقي علينا اإللتزام به؟ وهل هناك أخالقيات‬
‫مطلقة ال يمكن المساس بها؟ أم هي مجرد أشياء نسبية‪ ،‬تعتمد على العصر والمكان‬
‫والثقافة وفهم الشخص نفسه؟ وهل هناك سبب ما‪ ،‬يدفعنا للتمسك بها والعض عليها‬
‫بالنواجز؟‬

‫أهم أعمال أفالطون‪ ،‬ومؤلفه الذي يعتبر من أفضل الروائع األدبية العالمية‪ ،‬هو كتاب‬
‫"الجمهورية"‪ .‬يبدأ في أوله بمناقشة موضوع أسماه "ديكايوسين"‪ .‬يترجم في معظم‬
‫الحاالت على أنه يعني "العدالة"‪ .‬لكن الترجمة األقرب للصواب هي "األخالق"‪.‬‬
‫‪.‬األخالق هنا بمعناها األكثر شموال واتساعا‬

‫في أول فصل من كتاب جمهورية أفالطون‪ ،‬يفاجئنا السفسطائي ثراسيماخوس بقوله‬
‫أن األخالق ما هي إال مجموعة قرارات وقيود‪ ،‬يفرضها أصحاب السلطة والقوة على‬
‫‪.‬شعوبهم البائسة‬
‫هذه القرارات والقيود‪ ،‬ال تصب دائما في صالح الشعوب‪ ،‬لكنها بالتأكيد تكون في‬
‫صالح الحاكم المفتري الظالم صاحب القوة المطلقة‪ .‬عندما يطالبنا أولي األمر والنهي‬
‫بالحجاب والنقاب لنسائنا‪ ،‬ويصرون على تطبيق الحدود‪ ،‬ويأمروننا بطاعة الحاكم‪،‬‬
‫واإللتزام باألمانة والصدق‪ ،‬ال يكون ذلك لسواد عيون المواطنين‪ ،‬أو حبا في‬
‫‪.‬الفضيلة‪ ،‬ولكن لما فيه من مصلحة للذين يتربعون على عرش السلطة‬

‫لكن العظيم سقراط يخبرنا‪ ،‬أثناء حواره مع ثراسيماخوس‪ ،‬بأن األخالق ال تصب‬
‫بالضرورة في مصلحة األقوى‪ .‬فيصر ثراسيماخوس على رأية‪ ،‬بأن التمسك‬
‫‪.‬باألخالق مصيبة‪ ،‬وليست من مصلحة الشخص بصفة عامة‬

‫الرجل المرتشي يكسب أكثر من الرجل األمين‪ .‬النصاب والمزور يدفعان ضرائب‬
‫أقل من الرجل الصادق‪ .‬المنافق يبلغ أسمى المراكز والمناصب‪ .‬التلميذ الغشاش ينجح‬
‫بدون حق‪ .‬التاجر يكسب الباليين من احتكار السلعة‪ .‬السياسي‪ ،‬بإخفاء الحقائق‪ ،‬يفوز‬
‫باالنتخابات‪ ،‬وبإظهارها‪ ،‬ينتهي مستقبله السياسي‪ ،‬إلخ‪ .‬إننا دائما نجد الشخص الغير‬
‫‪.‬متمسك باألخالق‪ ،‬هو الفائز‪ .‬يكسب أكثر من زميله المستمسك بها‬

‫هنا‪ ،‬وجب على سقراط أن يثبت العكس‪ .‬كان عليه إثبات أن التمسك باألخالق شئ‬
‫مفيد مفعوله أكيد‪ .‬وعدم التمسك باألخالق‪ ،‬أمر قميء رديء غير مربح‪ .‬هذا عمل ال‬
‫يقدر عليه سوى فيلسوف مثل سقراط‪ .‬فتعالوا معي لكي نرى ماذا يقوله سقراط في‬
‫‪.‬هذا الموضوع‬

‫في نهاية الفصل األول من كتاب الجمهورية‪ ،‬الحق سقراط ثراسيماخوس باألسئلة‪،‬‬
‫مما جعله يترك المشهد غاضبا‪ .‬مشكلة األخالق‪ ،‬كما أثارها ثراسيماخوس‪ ،‬لم تغادر‬
‫المشهد معه‪ .‬لكنها بقيت وتفاقمت‪ .‬الباب الثاني يبدأ بمناقشة ثالثة أنواع من فعل‬
‫‪:‬الصح‪ ،‬أو فعل الخير‪ .‬هي‬

‫‪.‬فعل الخير لذاته‪ ،‬مثل فعل أشياء تعطينا البهجة والمتعة ‪1-‬‬

‫‪.‬فعل الخير لعواقبه أو تجنبا لضرر ما‪ ،‬مثل تناول الدواء ‪2-‬‬
‫‪.‬فعل الخير لذاته وأيضا لعواقبه‪ ،‬مثل الحفاظ على الصحة ‪3-‬‬

‫يقول سقراط أن ما جاء بالبند الثالث السابق‪ ،‬هو كل ما يعنيه باألخالق‪ .‬لكن معظم‬
‫الناس تعتقد أن تعريف األخالق ينطبق على البند الثاني فقط‪ ،‬أي طلبا للخير أو تجنبا‬
‫‪.‬للضرر‬

‫يشرح لنا جلوكون‪ ،‬أحد رفاق سقراط‪ ،‬فكرة األخالق عند العامة‪ .‬يذكر لنا حكاية‬
‫الخاتم السحري الذي يجعل اإلنسان مخفي عن األنظار‪ .‬فيقول بما معناه‪ ،‬أن من‬
‫‪.‬يمتلك الخاتم السحري‪ ،‬يستطيع أن يهرب من عاقبة فعله‬

‫فمثال‪ ،‬يستطيع حامل الخاتم السحري إغراء الملكة وقتل الملك واالستيالء على‬
‫الحكم‪ .‬أي واحد منا سوف يفعل نفس الشئ‪ ،‬إذا أتيحت له الفرصة‪ .‬العبيط فقط هو من‬
‫يقول "ال" أمام هذه الفرصة‪ .‬إذا لمنا من يفعل ذلك‪ ،‬فهذا ألننا نشعر بالغيرة‪ ،‬أو ألننا‬
‫‪.‬ال نريد أن نبدو أشرارا أمام اآلخرين‬

‫هنا يأتي رفيق آخر من رفاق سقراط‪ ،‬أديمانتوس‪ ،‬ليؤيد كالم جلوكون‪ ،‬ويقول بأن‬
‫األخالق هي بالتأكيد البند الثاني‪ .‬الناس تفعل الفعل األخالقي‪ ،‬ألنها تبغي الفائدة من‬
‫‪.‬ورائه‬

‫تقوم بشعائر األديان‪ ،‬لكي تدخل الجنة‪ .‬تلبس النساء النقاب‪ ،‬ويرتدي الرجال الجلباب‬
‫ويطلقون اللحية‪ ،‬لكي يكسبوا احترام الناس وثقتها‪ .‬األخالق هنا سلع نقايضها بشئ‬
‫‪.‬آخر‬

‫هذا الرأي تبناه الحقا ميكافيللي‪ .‬فهو يقول بصراحة ووضوح في كتابه "األمير"‪ ،‬أنه‬
‫ليس من الضروري لألمير أن يكون رحيما أو مؤمنا أو أمينا أو إنسانيا أو أخالقيا في‬
‫أفعاله‪ ،‬لكن من الضروري أن يظهر أمام الرعية على أنه يتسم ويتحلى بكل هذه‬
‫‪.‬الصفات‪ .‬المهم الفائدة وليس الفعل نفسه‬
‫إلى هنا وسقراط يبدو لنا أنه يواجه مدافع ودانات من العيار الثقيل‪ .‬فماذا يفعل وكيف‬
‫يجيب؟ لقد فعل ما قد يفعله الكثير منا في مثل هذا الموقف‪ .‬لقد قام بتغيير الموضوع‪،‬‬
‫‪.‬أو هكذا يبدو لنا‬

‫هنا يعترف سقراط أن المشكلة أصبحت معقدة‪ ،‬والتفاصيل أصبحت كثيرة متشعبة‬
‫غير واضحة‪ ،‬تحتاج معها إلى مجهر أو عدسة مكبرة‪ .‬ثم يقدم لنا نظرية تصاحبنا في‬
‫‪".‬معظم كتاب "الجمهورية‬

‫نظرية سقراط تنقسم إلى قسمين‪ .‬األول‪ ،‬يقول بأن مشكلة األخالق يمكن أن تحل‬
‫عندما نفهم طبيعة النفس البشرية‪ .‬الثاني‪ ،‬يقول بأن فهم طبيعة النفس البشرية تكون‬
‫‪.‬ممكنة‪ ،‬عندما نقوم بدراسة المدينة أو المجتمع‬

‫البحث عن المدينة الفاضلة يقودنا إلى فهم النفس الفاضلة أو المثالية‪ .‬من هنا يمكننا‬
‫تعريف األخالق‪ ،‬وماذا نعني بفعل الخير‪ ،‬وبذلك يمكننا اإلجابة على السؤال‪ :‬لماذا‬
‫يجب علينا أن نتمسك باألخالق‪ ،‬دون أن نستخدمها كأداة لتحقيق مصلحتنا الشخصية؟‬

‫يقول أفالطون أن سقراط قد توصل إلى النتيجة اآلتية‪ :‬المدينة الفاضلة تتكون من‬
‫ثالث طبقات متباينة‪ .‬الطبقة األولى‪ ،‬هي طبقة الحكام الحكماء الدارسين للفلسفة‪.‬‬
‫‪.‬وهي طبقة تماثل فضيلة الحكمة عند الفرد‬

‫الطبقة الثانية‪ ،‬هي طبقة الجند أو الحراس‪ ،‬التي تحمي المدينة في الداخل والخارج‪.‬‬
‫هذه الطبقة يجب أن تكون على علم بشئ من الفلسفة‪ ،‬حتى تستطيع أن تفرق بين‬
‫العدو والصديق‪ .‬من يثبت منهم أنه قد أتقن الفلسفة‪ ،‬يستطيع أن يرتقي إلى طبقة‬
‫‪.‬الحكام‪ .‬وهي طبقة تشبه فضيلة الشجاعة عند الفرد‬

‫أخيرا‪ ،‬طبقة الحرفيين والصناع والزراع‪ .‬وهي تتكون من غالبية المجتمع‪ ،‬لكنها‬
‫غير قادرة على الحكم‪ ،‬ألنها ال تعلم شيئا عن الفلسفة‪ .‬يجب على هذه الطبقة أن تمتثل‬
‫للقوانين التي تُفرض عليها من الطبقة الحاكمة‪ .‬امتثال طبقة الحرفيين هذه‪ ،‬تمثل‬
‫‪.‬فضيلة اعتدال الشهوات عند الفرد‬
‫بما أن المدينة أو المجتمع‪ ،‬صورة مكبرة للنفس البشرية‪ ،‬كما يقول سقراط‪ ،‬لذلك‬
‫‪.‬يمكننا القول بأن النفس البشرية تتكون من ثالثة أشياء أيضا‪ .‬العقل والروح والشهوة‬

‫العقل دائما نجده معارضا للشهوة‪ ،‬التي تعتبر الجانب الحيواني في النفس‪ .‬هي تسمى‬
‫"الهي" عند فرويد‪ .‬فرويد قسم النفس أيضا إلى ثالثة أقسام‪" :‬األنا األعظم"‪" ،‬األنا"‪،‬‬
‫‪"".‬الهي‬

‫هذا ليس بالمستغرب‪ ،‬إذا علمنا أن فرويد كان قد تأثر تأثرا بالغا بكتاب الجمهورية‬
‫ألفالطون‪ .‬العجيب أنه قد جاء بكتاب الجمهورية بأن الرغبات المكبوته تظهر في‬
‫صورة أحالم‪ ،‬قال سقراط هذا قبل فرويد بما يزيد على ألفي عام‪ .‬فهل هناك جديد‬
‫تحت الشمس؟‬

‫يقول الفيلسوف العظيم البريطاني ألفريد نورث وايتهد ‪" :‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬ماهو إال‬
‫‪".‬تعليق وشرح لكتاب جمهورية أفالطون‬

‫األعجب‪ ،‬أن كتاب جمهورية أفالطون كان يدرس هو وفلسفة أرسطو بالمدارس‬
‫والجامعات المصرية‪ ،‬أيام عصر النهضة وحكم البطالمة الذي استمر أكثر من ‪300‬‬
‫‪.‬سنة قبل الميالد‪ ،‬وقبل دخول المسيحية واإلسالم مصر‬

‫كنت أتمنى أن يكون أولي األمر فينا وأعضاء مجلس الشعب واللجنة المشكلة لوضع‬
‫الدستور المصري الجديد على علم بأصول الفلسفة أو يكونوا‪ ،‬على األقل‪ ،‬قد قرأوا‬
‫‪".‬وفهموا كتاب "جمهورية أفالطون‬

‫يقول سقراط أنه إذا تغلبت الشهوة على الروح‪ ،‬أصبح اإلنسان شهواني الطبع‪ .‬وإذا‬
‫تغلب العقل على الروح‪ ،‬أصبح اإلنسان عقالني‪ .‬فضيلة العقل هي الحكمة‪ ،‬وفضيلة‬
‫‪.‬النفس هي الشجاعة‪ ،‬وفضيلة الشهوة هي االعتدال‬

‫إذا تحكم العقل في جميع مكونات النفس الثالثة‪ ،‬تكون النتيجة هي األخالق والكمال‬
‫والفضيلة‪ .‬عندها يصبح واضحا للفرد لماذا يجب أن يسلك طريق األخالق‪ ،‬ولماذا‬
‫‪.‬عليه أن يلتزم بها‬
‫لماذا يجب علينا أن نفعل الفعل األخالقي؟ ألن العكس سوف يؤدي إلى الفوضى‬
‫والخلط‪ .‬العكس سوف يخلق صراعا بين العقل والشهوة داخل النفس‪ ،‬وهذا ال يستقيم‬
‫‪.‬مع السالم الداخلي للفرد‬

‫نبل اإلنسان وفضيلته‪ ،‬تتطلب السالم الداخلي‪ ،‬وانتصار العقل على الشهوة‪ ،‬وعلى‬
‫الجزء الحيواني من النفس‪ .‬وتتطلب أن يأخذ اإلنسان في اعتباره مصالح اآلخرين‪،‬‬
‫‪.‬وليس مصالحه الشخصية فقط‬

‫هنا يقول أفالطون على لسان جلوكون‪ ،‬أن الفضيلة للنفس‪ ،‬هي مثل الصحة والجمال‬
‫‪.‬للبدن‪ .‬العكس يعني المرض والقبح والضعف‬

‫لنعود اآلن إلى تساؤل ثراسيماخوس‪ .‬هل من األفضل أن ال نتمسك باألخالق؟ وهل‬
‫األخالق للنفس فعال‪ ،‬مثل الصحة للبدن؟ لكي نجاوب على هذا السؤال‪ ،‬سوف نرجع‬
‫‪.‬إلى موضوع الفرد والمدينة مرة أخرى‬

‫بالنسبة للفرد والمدينة‪ ،‬العدالة واألخالق تنبع من مبادئ عقالنية ال دينية‪ .‬هذه هي‬
‫أصول األخالق عند الغرب حاليا‪ ،‬التي صاغها فالسفة التنوير‪ .‬المساواة وحقوق‬
‫ا لمرأة وحقوق اإلنسان وتحرير العبيد‪ ،‬جاءت كلها ألسباب عقالنية‪ .‬ألن الغرب وجد‬
‫‪.‬أنها منطقية تساعد على سالم المجتمع واستقراره‬

‫لو اعتمدنا‪ ،‬بالنسبة لألخالق‪ ،‬على التعاليم الدينية فقط‪ ،‬فلن تتم المساواة بين البشر‪،‬‬
‫ولن تأخذ المرأة باقي حقوقها‪ ،‬ولن يتحرر العبيد‪ .‬الخليفة العباسي‪ ،‬المتوكل‪ ،‬كانت‬
‫‪.‬لديه ‪ 3000‬جارية‪ ،‬وطأهن جميعا‬

‫الفرد يتمسك باألخالق عندما يتفهم المبادئ العقالنية التي تؤيدها‪ .‬هذا الفهم‪ ،‬يجعله‬
‫‪.‬يسيطر على شهواته وغرائزه البهيمية‬

‫التمسك باألخالق بسبب التعاليم الدينية فقط‪ ،‬والخوف من عذاب جهنم‪ ،‬والطمع في‬
‫الجنة والحور العين‪ ،‬دون أسباب عقالنية‪ ،‬قد يجعل اإلنسان يعيد تفسير وتأويل‬
‫‪.‬التعاليم الدينية بما يوافق مصلحته الشخصية أو مصلحة الحاكم‬
‫إصرار الرجل على أنه أفضل من المرأة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬له كل الحق في الزواج عليها‬
‫وطالقها وتشريدها هي وعيالها‪ ،‬وسجنها وطمس معالمها بالنقاب‪ .‬موقف اإلخوان‬
‫‪.‬والسلفيين من قضايا الدستور وحقوق األقليات والمرأة‪ ،‬هو خير دليل على ذلك‬

‫كل هذا يمكن فهمه بالنسبة لسلوك الفرد‪ ،‬لكنه شئ محير بالنسبة للمدينة‪ .‬معظم الناس‬
‫في مدينة أفالطون بطبيعتهم أشرار‪ .‬سواء لبسوا الجلباب القصير وأطالوا اللحية‬
‫وحفوا الشارب‪ ،‬أو لم يفعلوا ذلك‪ .‬هم جميعا‪ ،‬ال يستطيعون بمفردهم اكتشاف األسباب‬
‫‪.‬العقالنية‪ ،‬التي تدعوهم للتمسك باألخالق الحميدة‬

‫األخالق يجب أن تكون موضوعة على أسس عقالنية ال دينية‪ .‬فهي ليس لها قوة في‬
‫حد ذاتها‪ ،‬تفرضها على الجميع‪ .‬لذلك يجب أن تُفرض األخالق والعدل في المدينة‬
‫‪.‬الفاضلة على الجميع بسلطة علوية‬

‫يقول سقراط أن التمسك باألخالق هو من صميم مصلحة الفرد‪ ،‬حتى وإن لم يفهم‬
‫معظم األفراد ذلك‪ .‬إذا رأينا أحدا يفعل فعال ال أخالقيا‪ ،‬فهو يفعل ذلك ألنه ال يعرف‬
‫‪.‬مصلحته الحقيقية‬

‫يقول سقراط‪ ،‬األخالق والفضيلة عبارة عن معرفة‪ .‬إذا عرفت معنى الخير‪ ،‬سوف‬
‫تفعل الخير‪ .‬الناس تفعل الشر ألنها ال تعرف‪ .‬الناس ال تفعل الشر باختيارها‪ .‬فعل‬
‫الشر هو الجهل بعينه‪ .‬األخالق هنا ليست لها عالقة بالجنة والحور عين‪ ،‬وال بالنار‬
‫‪.‬والسعير‪ .‬إنما عبارة عن معرفة وجهل فقط‬

‫الناس تسرق وتقتل وتبحث عن الشهرة والمجد‪ ،‬ألنها تعتقد أن هذا هو الطريق‬
‫للسعادة‪ .‬لكنهم ال يعرفون معنى السعادة‪ .‬وال يعرفون أنفسهم وما يسعدهم‪ .‬لذلك‪ ،‬كما‬
‫يقول سقراط‪ ،‬من المهم أن تعرف نفسك‪ .‬فالحياة الغير مفهومة والخالية من البحث‬
‫‪.‬والتساؤل ال تستحق أن تعاش‬
‫وأخيرا‪ ،‬هل قرأتم أو سمعتم تعبيرا أجمل أو أروع من تعبير‪" :‬الفضيلة للنفس مثل‬
‫الجمال للبدن"‪ .‬هذا التعبير جاء في جمهورية أفالطون منذ أكثر من ‪ 2300‬سنة‪ .‬قبل‬
‫‪.‬المسيحية وقبل اإلسالم‬

‫االخالق عند فريديريك نيتشه ‪:‬‬

‫يعد الفيلسوف األلماني «فريدريك نيتشه» أكثر الفالسفة جدالً منذ أن وضع كتاباته‬
‫المختلفة في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬وعلى رأسها‪« :‬أبعد من الخير والشر»‪،‬‬
‫‪» (Genealogy of Morality).‬وكتابه «علم األنساب األخالقي‬
‫فلقد مثل بحق صدمة للنمط الفكري السائد في عصره‪ ،‬بما يمكن عده من األسس‬
‫الرئيسية لمدارس فكرية أتت من بعده‪ ،‬وعلى رأسها المدرسة الوجودية‪ ،‬وإلى حد‬
‫كبير مدرسة ما بعد الحداثة‪ .‬كما أنه كان أيضا ً الفكر الذي تملقه النازيون والفاشيون‪،‬‬
‫وهو في التقدير منهم براء‪ ،‬فهو يمثل رأس منحنى فكري جديد‪ ،‬وذلك رغم أن عمره‬
‫لم يمتد‪ ،‬فمات في ‪ ،1900‬ولكن ليس قبل أن تصيبه جلطة دماغية أودعته على فراش‬
‫‪.‬الموت إلحدى عشرة سنة‬
‫وعلى غير عادة الفالسفة األلمان العظماء الذين سبقوه‪ ،‬من أمثال «كانط»‬
‫و«هيغل»‪ ،‬فإن «نيتشه» لم يشغل نفسه وفكره بالنظريات المعرفية أو‬
‫«األيبستيمولوجية» في سعيه لوضع مفاهيم للحياة‪ ،‬ولكنه كان أقرب ما يكون‬
‫للفيلسوف العملي النفسي األخالقي‪ ،‬فكتبه تقترب من السهل الممتنع‪ ،‬باستخدامه‬
‫لألفكار الصادمة المغلفة بلغة مبسطة‪ ،‬ولكنها مركبة المعنى عميقة األثر‪ ،‬مستخدما ً‬
‫الحكم وصانعا ً لألقوال المأثورة المتعمقة‬
‫التي يحتاج المرء لقراءتها )‪ِ (Aphorism‬‬
‫‪.‬أكثر من مرة والتفكر فيها لقبولها أو رفضها‬
‫ويمكن عد كتابه «علم األنساب األخالقي» أكثر الكتب تعبيراً عن فكره‪ ،‬فهو كتاب‬
‫صادم بكل المعايير‪ ،‬إذ يبدأ أو ينتهي إلى أن العالم الغربي يفتقر في عصره إلى نقطة‬
‫القاسم األخالقي المشترك التي كانت تمثلها المسيحية بصفتها محوراً لصناعة القيم‬
‫على مدار قرابة ألفيتين‪ ،‬ولكنها فقدت رونقها أو جذورها بصفتها مصدراً لألخالق‬
‫بسبب العلم الذي جعل العقالنية العلمية منافسا ً شرسا ً لها بصفتها مصدرا ً لألخالق‪،‬‬
‫وهو ما دفعه لإلعالن صراحة أن المسيحية قد ماتت؛ أي أنها اختفت عن الرادار‬
‫‪.‬األخالقي أو الفلسفي األوروبي‬
‫ومن هذه الفرضية‪ ،‬قدم «نيتشه» رؤيته لوضعية األخالق وفقا ً له‪ ،‬فعد أن هناك‬
‫‪».‬نوعين من األخالق خالل األلفيتين‪« :‬أخالق السادة» و«أخالق العبيد‬
‫فمن خالل األولى تصنع أنماط األخالق المرتبطة بالطبقات الحاكمة أو المسيطرة‬
‫التي تقدر القوة والجمال والشجاعة والنجاح‪ ...‬إلخ‪ ،‬والتي تكون لديها ما سماه‬
‫«الرغبة في السلطة» التي تعد بالنسبة له المحرك األساسي لطبقة من البشر‪ ،‬بكل ما‬
‫صناع أنماط الحياة التي يفرضونها على‬
‫تعنيه كلمة سلطة من مال ونفوذ‪ ...‬إلخ‪ ،‬فهم ُ‬
‫‪.‬باقي المجتمع‪ ،‬بما في ذلك المفاهيم األخالقية‬
‫أما «أخالقيات العبيد» فترتكز إلى مجموعة قيمية أخرى مرتبطة بالطيبة والتعاطف‪،‬‬
‫وتكريس مفاهيم الحب والتواضع والتسامح والخنوع‪ ...‬إلخ‪ ،‬وقد ساهمت المسيحية‬
‫في انتشار هذه المنظومة القيمية‪ ،‬مقابل منظومة القيم األخالقية للسادة‪ ،‬ولكن األخطر‬
‫كان منحها العامة ما كان ضروريا ً لقبول قيم السادة‪ ،‬حتى إن اختلفت عن قيمها‪ ،‬على‬
‫اعتبار أن الجائزة الكبرى ليست في هذه الدنيا‪ ،‬وهو ما دفعه للتحقير من شأنها‪،‬‬
‫مبرراً الفكرة الماركسية بأن «الدين أفيون الشعوب» الذي استخدمته الطبقات الحاكمة‬
‫‪.‬لفرض الطاعة لها‪ ،‬ولمنظومتها السلطوية واألخالقية‬
‫وبنا ًء على هذا الفكر‪ ،‬رأي «نيتشه» أهمية أن يهتم المرء بضرورة اتباع ما سماه‬
‫«التكرار األبدي»؛ أي أن يتأقلم المرء على الحياة التي يعيشها حتى يجعلها تستحق‬
‫‪.‬الحياة مهما كانت صعبة‪ ،‬فيستمتع بأكثر ما يمكن أن تقدمه له‬
‫ويرى «نيتشه» أن القيم أو األخالق هي أصعب ما يمكن للمرء أو المجتمع تغييره‬
‫ألنها قوية الركيزة عميقة الجذور‪ ،‬وهي أكثر العوامل تأثيراً على سلوك البشر‪،‬‬
‫وتحتاج لفترات زمنية كبيرة حتى تترسخ‪ ،‬ومن ثم صعوبة اقتالعها‪ ،‬ومن هنا كانت‬
‫دعوته الشهيرة إلعادة تقييم قيمنا القائمة‪ ،‬وصناعة نمط جديد مرتبط باإلنسان‬
‫وتاريخه وكينونته‪ ،‬واضعا ً عبارته الشهيرة «إن اإلنسان يجب أن يتغلب على‬
‫اإلنسان» بالدخول في آفاق قيمية أرحب مما هي لدينا‪ ،‬بما يجعله وفقا ً لوصفه‬
‫؛ أي أن اإلنسان بحاجة إلى تطوير قيمه )‪«» (Oubbermench‬الرجل الخارق‬
‫‪.‬المجردة المستندة إلى تاريخه وسلوكياته‪ ،‬وليس باألنماط السابقة‬
‫وال خالف على أن «نيتشه» كان أثره كبيراً على أجيال من المفكرين الذين تلوه‪،‬‬
‫ولكن التقدير أنه وقع في الخطأ نفسه الذي يقع فيه كثير من الغربيين اليوم في سعيهم‬
‫لصياغة المطلق على تجربتهم التاريخية والقيمية المجردة‪ ،‬فرفضه ألي دور للدين‬
‫المسيحي في التطور التاريخي األوروبي إنما أفقد فكره قدراً كبيرا ً من الشمولية‬
‫المطلوبة‪ ،‬فال خالف على أن القيم األخالقية مسألة تراكمية على مر الزمن‪ ،‬تؤثر‬
‫فيها عوامل كثيرة‪ ،‬منها السلطة واألبعاد الميتافيزيقية‪ ،‬خاصة أن التاريخ بقدم لنا‬
‫نماذج لعظماء قوم ساهموا في صناعة ما وصفه بـ«أخالقيات العبيد»‪ ،‬وعلى رأسهم‬
‫اإلمبراطور الروماني «ماركوس أوريليوس»‪ ،‬النموذج العملي والفكري للروائية‬
‫الذي اتبع ما وصفه «نيتشه» بـ«أخالقيات العبيد» وهو إمبراطور‪ ،‬تماما ً مثل الخليفة‬
‫‪.‬عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز‪ ،‬وغيرهما‬
‫الحقيقة أن فكر «نيتشه» يحتاج منا إلى قدر من الحيطة والحذر والتفكر في آن‪،‬‬
‫فاإلنسان ليس في صراع مع تاريخه وعوامل صناعته بهدف التجرد منها حتى‬
‫يصبح «الرجل الخارق» وفقا ً له‪ ،‬ولكنه بحاجة إلى التصالح والتفاهم مع تاريخه بعين‬
‫على الماضي وعين وعقل على المستقبل لتنظيم إحداثياته اإلنسانية في مسيرته‪،‬‬
‫‪.‬خاصة المتعلقة باألخالق ومفاهيمها‬

‫)فلسفة كانط األخالقية (الواجب(‬


‫في بيئة متدينة إذ كان والداه ينتميان إلى شيعة "م‪ "1724- 1804‬نشأ إمانويل كانط‬
‫بروتستانتية تستمسك بالعقيدة اللوثرية‪ ،‬وتؤمن بأن موضع الدين اإلرادة ال العقل‪،‬‬
‫وأنه البد من أن يؤيد اإليمان بواسطة األعمال‪ ،‬وتنظر إلى المسيحية إلى أنها تقوى‬
‫يرا مصطنعًا أقحم على "علم الكالم المسيحي" ومحبة هلل بينما ترى في الالهوت‬
‫تفس ً‬
‫أردت أن أهدم " المسيحية‪ ،‬وقد تأثر كانط بهذه العقيدة في فلسفته‪ ،‬وقال في فلسفته‬
‫‪"[1].‬العلم بما بعد الطبيعة ألقيم اإليمان‬

‫وفي مذهبه األخالقي استبعد مذهب السعادة الشخصية‪ ،‬ألنه يرد الخير إلى اللذة‬
‫والمنفعة‪ ،‬كما أنه يعجز عن استخراج قانون كلي ضروري من أنواع الحساسية‬
‫ضا على مذهب‬ ‫ً‬
‫تمييزا بين بواعث الرذيلة‪ ،‬ولم يوافق أي ً‬ ‫الجزئية المتغيرة‪ ،‬وال يضع‬
‫العاطفة األخالقية مع اعترافه بالفضيلة ً‬
‫أوال وبالذات‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه استبدل‬
‫ولم " بالمن فعة الحسية الرضا النفسي‪ ،‬ولجأ أنصاره إلى العاطفة ليأسهم من العقل‬
‫سا للخير والشر‬
‫‪"[2].‬يقدروا أن العاطفة متغيرة نسبية ال تصلح مقيا ً‬

‫إنه مع تسليمه بأن اإلنسان يسعى إلى بلوغ السعادة‪ ،‬إال أن فكرة السعادة قد بلغت من‬
‫عدم التجديد مبلغًا جعل كل إنسان يعجز عن التعبير عما يشتهيه بالرغم من رغبته في‬
‫تحقيق السعادة لنفسه‪ ،‬ذلك ألن العناصر المختلفة للسعادة مستمدة من التجربة‪ ،‬ومن‬
‫ثم فإنه من المستحيل على كائن متناه ‪ -‬وهو اإلنسان ‪ -‬وإن ظن أنه أحكم المخلوقات‬
‫وأشدها قوة أن يكون فكرة محددة عما يريده على وجه الدقة من وجوه على هذه‬
‫األرض‪ ،‬فإن أراد الثروة ً‬
‫مثال فإنه سرعان ما يتعرض للحسد والدس والوقيعة‪ ،‬وإذا‬
‫سعى إلى المزيد من المعرفة والبصيرة‪ ،‬فربما أدى ذلك إلى أن يزيد بصره نفاذًا إلى‬
‫ً‬
‫طويال‪،‬‬ ‫عمرا‬
‫فمن يضمن له الشرور التي تتوارى عنه في حالته الراهنة‪ ،‬وإذا اشتهى ً‬
‫وكذلك في طلبه للصحة‪ ،‬فربما كان اعتالل الجسد أال يكون شقاء طويل األجل؟‬
‫عاص ًما من إفراط كان سببًا في وهن الصحة الكاملة "إنه على الجملة عاجز عن أن‬
‫يحدد بيقين تام‪ ،‬وبمقتضى مبدأ من المبادئ ما يمكن أن يوفر له السعادة الحقة‪ ،‬ألنه‬
‫سيحتاج حينئذ إلى المعرفة الكلية التي تحيط بكل شيء‪ ،‬وإذن فليس في استطاعة‬
‫اإلنسان لكي يحصل على السعادة أن يراعي في أفعاله مبادئ محددة وإنما عليه أن‬
‫‪"[3].‬يتبع نصائح تجريبية‬

‫لقد كان كانط في مقدمة القائلين بوجهة النظر المثالية‪ ،‬فأراد أن يحرر السلوك‬
‫األخالقي من قيود الميول واألهواء‪ ،‬ولهذا استبعد اللذة والمنفعة والسعادة غاية‬
‫قصوى ألفعال اإلنسان اإلرادية‪ ،‬إذ جعل الباعث يقوم في اإلرادة نفسها‪ ،‬وبذلك‬
‫‪[4].‬ارتدت عنده األخالقية إلى مبدأ الواجب‬

‫ويقدم لنا بعض الواجبات بحعسب تقسيمها إلى واجبات نحو أنفسنا وواجبات نحو‬
‫‪:‬غيرنا وهي‬
‫لنضرب ً‬
‫مثال حالة رجل بلغ به اليأس حدًا قرر معه أن يضع حدًا لحياته‪ ،‬فإذا ما ‪1-‬‬
‫بحثنا إن كان من الممكن أن يصير فعله قانونًا طبيعيًا عا ًما؟‬

‫والمشكلة حينئذ هي أنه هل يمكن أن يتحول مبدأ حب الذات هنا إلى قانون طبيعي‬
‫ولكن الإلنسان سرعان ما يدرك أن الطبيعة التي يهدف قانونها إلى تحطم " عام؟‬
‫الحياة عن طريق اإلحساس الذي تقوم وظيفته على دفع عجلة التطور في الحياة‪ ،‬إنما‬
‫تناقض نفسها بنفسها وال يمكن أن تحتفظ تبعًا لذلك بما يجعلها طبيعية‪ ،‬وأن من‬
‫المستحيل على تلك المسلمة أن تصبح قانونًا طبيع ًيا‪ ،‬وأنها نتيجة لذلك كله تناقض‬
‫أي أن االنتحار يستحيل أن يصبح قانونًا ]‪"[5‬المبدأ األعلى للواجب مناقضة تامة‬
‫‪.‬طبيعيًا‬

‫حالة امرئ احتاج إلى اقتراض مبلغ من المال بينما يعلم أنه لن ‪:‬الحالة الثانية ‪2-‬‬
‫يتمكن من سداده‪ ،‬وتتنازعه الرغبة في عدم السداد‪ ،‬ولكن سرعان ما يقف في وجهه‬
‫‪.‬وازع الضمير لينبهه إلى تحريم االلتجاء إلى هذه الطريقة لحل ضائقته المالية‬
‫ً‬
‫عادال‪ ،‬فإنه لن يصبح بأي حال من األحوال قانونًا طبيعيًا‬ ‫وحتى إذا كان هذا المبدأ‬
‫عا ًما "وذلك ألن التسليم بقانون عام مؤداه أن كل إنسان يعتقد أنه في ضائقة يستطيع‬
‫أن يعد بما يخطر على باله‪ ،‬مع النية المعقودة على عدم الوفاء بهذا الوعد سيجعل‬
‫ً‬
‫مستحيال‪ ،‬إذ لن يصدق‬ ‫أمرا‬
‫الوعد نفسه والغاية التي يطمع في تحقيقها عن طريقه ً‬
‫‪"[6].‬أحد ما يبذل له من وعود‬

‫يتمتع بكثير من المواهب ويحتاج معها إلى التثقيف والتهذيب ولكنه ‪:‬أمر ثالث ‪3-‬‬
‫يهملها ساع ًيا وراء اللذات ً‬
‫بدال من بذل الجهد في تنمية استعدادته الفطرية وتحسينها‪،‬‬
‫ثم سرعان ما يتبين له أن نزعته الطبيعية إلى التمتع باللذات ال تتفق مع ما يسمى‬
‫بالواجب‪ .‬كما ال يمكن أن تصبح قانونًا طبيعيًا عا ًما "ذلك ألنه بما هو كائن عاقل‪،‬‬
‫يريد بالضرورة أن تنمى جميع ملكاته لكونها نافعة له‪ ،‬وألنها أعطت له ليبلغ ألوانًا‬
‫‪"[7].‬عديدة من الغايات واألهداف‬

‫الذي توافرت له أسباب الحياة الرغدة فإنه ينظر إلى من حوله من ‪:‬أما الرابع ‪4-‬‬
‫المكافحين دون أن يمد لهم يد المساعدة مع مقدرته على ذلك‪ ،‬بل ال يرغب في تحقيق‬
‫السعادة لهم بمعاونتهم بالمال أو الوقوف إلى جانبهم في أوقات الشدة إن مجرد إرادة‬
‫أن يتحول ذلك التصرف إلى قانون طبيعي عام تناقض نفسها بنفسها "فقد يحدث في‬
‫كثير من الحاالت أن يحتاج مثل هذا اإلنسان إلى حب اآلخرين وعطفهم‪ ،‬وأن يجد‬
‫نفسه محرو ًما من كل أمل في الحصول على المساعدة التي يتمناها‪ ،‬إذ يحول بينه‬
‫‪"[8].‬وبينها ذلك القانون الطبيعي المنبثق من إرادته ذاتها‬

‫‪:‬ومن هنا نستطع أن نتبين أفعال الواجب التي يحددها كانط على النحو التالي‬
‫إن محافظة اإلنسان على حياته واجب‪ ،‬واإلحسان واجب‪ ،‬وتأمين اإلنسان لسعادته‬
‫عدوا واجب‬
‫‪[9].‬الذاتية واجب غير مباشر‪ ،‬ومحبة الجار ولو كان ً‬
‫خيرا إال إذا صدرت عن واجب‪ ،‬ال عن ميل‬
‫وهكذا فإن األفعال اإلنسانية ال تكون ً‬
‫مباشر أو رغبة في تحقيق مصلحة شخصية‪ ،‬فإذا أدى اإلنسان واجبًا ‪ -‬كإنقاذ غريق ‪-‬‬
‫فإنه لكى يصبح تصرفه أخالقيًا ينبغي أن يكون باعث الواجب من بين عدة بواعث‬
‫هو الكافي لإلقدام على الفعل‪ ،‬ومع إقرار العواطف النبيلة كعامل مساعد إلتيان‬
‫ضا "فإن العالم يفتقد من اتخاذ‬
‫األفعال الخيرة فإن غرسها في النفس يعد واجبًا أي ً‬
‫السعادة غاية مباشرة ألفعالنا‪ .‬إن علينا واجبًا غير مباشر يقضي بالبحث عن‬
‫‪"[10].‬سعادتنا‬

‫‪:‬تعريف الواجب‬
‫ولكن ما هو تعريف كانط للواجب؟‬
‫‪"[11].‬إنه يصفه بأنه "ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون‬

‫واإلنسان ليس في حاجة إلى علم وال فلسفة لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل لكي‬
‫وخيرا‬
‫ً‬ ‫ذلك ألن المبادئ ]‪ ،[13‬وإن معظم أفعالنا تتفق مع الواجب]‪[12‬يكون أمينًا‬
‫خالصة من كل عنصر تجرييي‪ ،‬وأنه ال يمكن أن " األخالقية هي مبادئ قبلية بحتة‬
‫‪"[14].‬نجدها أو نجد أقل جزء منها إال في تصورات العقل الخالصة‬

‫ومن السهل علينا أن نفرق بين األفعال التي تصدر عن شعور بالواجب واألخرى‬
‫التي تنبع عن حرص أناني على المصلحة‪ .‬مثال ذلك أن التاجر الفطن يتحاشى رفع‬
‫سعره ويحافظ على مستوى سعر ثابت للجميع بحيث يستطيع أن يشتري بها الطفل‬
‫وأي إنسان آخر‪ ،‬وهنا ال محيص من االعتراف بأنه يعامل المشترين بأمانة‪ ،‬ولكن ال‬
‫يكفي هذا لالستدالل عن صدور فعله التزا ًما بمبادئ الواجب‪ ،‬ألن مصلحته قد‬
‫اقتضت ذلك‪ ،‬وال نستطيع افتراض أنه يتصرف مع عمالئه بوحي من عاطفته نحوهم‬
‫"وإذن فلم يصدر هذا السلوك ال عن واجب‪ ،‬وال عن ميل مباشر‪ ،‬بل كان الباعث‬
‫‪"[15].‬عليه هو المصلحة الذاتية وحدها‬

‫وعلى العكس من ذلك ‪ -‬كما تبين لنا آنفًا أن محافظة اإلنسان على حياته واجب‬
‫بالرغم من إحساسه أحيانًا بالتعاسة والهزيمة والهوان وتمني الموت‪ ،‬فمحافظته على‬
‫‪.‬حياته بالرغم من كل هذه الظروف صادر عن مسلمة ذات مضمون أخالقي‬

‫وكذلك اإلنسان الذي يحسن إلى الغير منفلتًا من همومه الذاتية التي تقضي على كل‬
‫مشاركة وجدانية لآلخرين‪ ،‬وصرفه معاونتهم عن االنشغال بشقائه الشخصي فإن‬
‫تصرفه هذا يصدر عن شعور بالواجب‪ .‬وكذلك يأتي تأمين اإلنسان لسعادته من قبيل‬
‫الواجب بطريق غير مباشر "ذلك ألن عدم رضا المرء عن حاله وتزاحم الهموم‬
‫العديدة عليه ومعيشته وسط حاجات لم يتم إشباعها قد تكون إغراء قويًا له على أن‬
‫ولكن البد من أن تكون قاعدة تحقيق السعادة مصحوبة ]‪"[16‬يدوس على واجباته‬
‫بأضرار تلحق ببعض الميول؛ ويصدر التصرف إذن ال عن ميل بل عن إحساس‬
‫‪[17].‬بالواجب‬

‫‪ :‬ومن هذا يتضح أن السمات الرئيسية للواجب تتحدد وفقا للقواعد الثالث اآلتية‬
‫أنه تشريع كلي وقاعدة شحاملة‪ ،‬وتكمن قيمة الواجب في صميم الواجب نفسه ‪:‬أولها‬
‫بصرف النظر عن أية منفعة أو فائدة أو كسب مادي‪ ،‬وعلى هذا فإن اإلنسان هو‬
‫الكائن الوحيد الذي يفعل مع معرفته بأن "قيمة الفضيلة إنما تزيد كلما كلفتنا الكثير‪،‬‬
‫‪"[18].‬دون أن تعود علينا بأي كسب‬

‫أن الواجب منزه عن كل غرض‪ ،‬فال يطلب لتحقيق المنفعة أو بلوغ السعادة ‪:‬الثانية‬
‫وإنما ينبغي أن يطلب لذاته‪ ،‬أي ينبغي أن نؤدي واجبنا "فليست األخالق هي المذهب‬
‫الذي يعلمنا كيف نكون سعداء بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين‬
‫‪"[19].‬بالسعادة‬

‫للواجب أنه قاعدة غير مشروطة لفعل‪ ،‬أي أنه قانون سابق‪ ،‬أو حكم ‪:‬والسمة الثالثة‬
‫‪[20].‬أولي سابق على التجربة‬

‫‪:‬ويشترط للواجب شرطين هما الحرية وازدواج الطبيعة البشرية‬


‫‪:‬الحرية وازدواج الطبيعة البشرية‬
‫يذهب كانط إلى القول بأن االلتزام الخلقي مرتبط ارتبا ً‬
‫طا وثيقًا بالشعور بالحرية‪،‬‬
‫وينبغي علينا أن نوضح كيف وصل هذا الفيلسوف إلى فكرته عن الحرية بتحليله‬
‫‪.‬للطبيعة البشرية وإثبات ازدواجها‬

‫إن الحديث عن مصدر اإللزام في فلسفته وثيق الصلة بفلسفته الميتافيزيقة في تصور‬
‫‪:‬الكون‪ .‬فالعالم عنده عالمان‬
‫‪.‬عالم األشياء كما هي في ذاتها ‪:‬أحدهما‬

‫هو عالم األشياء التي تبدو لنا وهو يختلف عن األول‪ ،‬مثال ذلك أن ‪:‬والعالم الثاني‬
‫الرجل الذي ولد على عينيه منظار أزرق اللون ً‬
‫مثال يرى كل شيء مصطبغًا بهذا‬
‫اللون‪ ،‬وكذلك العقل‪ ،‬فإنه يضيف إلى األشياء صفات الكم والكيف كون الشيء علة أو‬
‫حيزا من المكان أو الزمان "بهذا ال ندرك قط شيئًا على حقيقته‪ ،‬وإنما‬ ‫ً‬
‫معلوال‪ ،‬يشغل ً‬
‫‪"[21].‬ندركه كما يبدو لنا‬

‫واإلنسان ال يخرج عن نطاق العالم الذي أنشأه وصوره له عقله أو على األقل ساهم‬
‫‪.‬في إنشائه‬
‫وبالمقارنة بين العالم واإلنسان‪ ،‬فإن لإلنسان بدوره مظهرين أحدهما‪ :‬يتمثل في ذاته‬
‫‪.‬التجريبية التي تربطه بعالم األشياء كما تبدو‬

‫واإلنسان بهذه الصفة له طبيعة مزدوجة أي يخضع مع غيره من المخلوقات لقوانين‬


‫والعومل الجبرية تتصل باستعداداته "أي الطبيعي" العلية التي تحكم العالم الفيزيقي‬
‫السيكلوجية والفسيولوجية والجنس الذي انحدر عنه‪ ،‬والطبقة المنتمي إليها والبيئة‬
‫التي نشأ فيها والتربية التي تدرج بها‪ ،‬ولكن مع هذا‪ ،‬فإن اإلنسان ليس كالجماد‬
‫والحيوانات التي ال تستطيع بطبيعتها أن تتصرف على غير الذي تصرفت عليه ً‬
‫فعال‪،‬‬
‫وإنما هو يتميز عنهما ‪ -‬كما يتميز عن الظواهر الطبيعية ‪ -‬بظاهرة ينفرد بها دون‬
‫غيره من الكائنات‪ ،‬ألنه الكائن الوحيد الذي يعد من جهة خاض ًعا للسنن الطبيعية‬
‫ً‬
‫كامال ويعد من جانب آخر مزود بدوافع ورغبات تملي عليه ما يأتيه‬ ‫ونظمها خضو ًعا‬
‫هو " أن يفعله‪ ،‬أي أن اإلنسان وحده "بما ينبغي" من تصرفات‪ .‬إنه يتميز بالشعور‬
‫‪"[22].‬الذي يشعر بإلزام يوجب عليه أن يتصرف وفقًا لمبدأ‬

‫وهنا يبدو المظهر الثاني لإلنسان‪ ،‬وهو انتماؤه إلى عالم الحقائق في ذاتها‪ ،‬وحينما‬
‫متحررا من آثار الوراثة‬
‫ً‬ ‫يشعر اإلنسان باإللزام الخلقي‪ ،‬إنما يستلهمه من مثل أعلى‬
‫صا من الجانب‬
‫وقيود البيئة ومواضعات الظروف‪ ،‬متجردًا عن العالم الطبيعي‪ ،‬متخل ً‬
‫وعندئذ يتصرف " الذي يربطه بالعالم كما يبدو‪ ،‬مرتفعًا إلى عالم الحقائق في ذاتها‬
‫ككائن أخالقي‪ ،‬فيخضع سلوكه لمبدأ الواجب‪ ،‬ويزاول أفعاله بإرادة حرة‪ ،‬وال يتقيد‬
‫‪"[23].‬بغير نفسه التي تعتنق مبدأً أخالقيًا تدين له بالوالء‬

‫‪:‬نقد المذهب‬
‫يتجاهل كانط الغالبية من البشر بمكوناتهم المذهبية والعاطفية الذين يسعون‬
‫بتصرفاتهم وسلوكهم إلى غايات تختلط فيها األهداف بتحقيق منافع أو بحث عن‬
‫سعادة‪ ،‬أو تحكم أعمالهم دوافع الرجاء أو الخوف‪ ،‬وتتعدد واجباتهم بتعدد األحوال‬
‫‪.‬والعالقات‬

‫إن قانون الواجب الصارم يصلح فقط لقلة خاصة من ذوي اإلرادات الحديدية الذين ال‬
‫الواجب فحسب‪ ،‬حتى لو أدى ذلك إلى تضحيات بالمال " يحققون من سلوكهم إال عمل‬
‫‪".‬والوقت والراحة وغيرها‬

‫المجرد عن "شكله المحض" إن هذه الصيغة الكانطية التي تقيم اإللزام على أساس‬
‫‪.‬هذه الصيغة يصعب االنقياد لها في كل األحوال ]‪[24‬مادته‬

‫ويقول الدكتور دراز "الواجب الكلي العام‪ ،‬فلنقبله‪ ،‬ولكن ينبغي أن نفرق بين درجات‬
‫‪:‬كثيرة من العمومية فإن لها امتدادًا بقدر ما لها من مفاهيم‬
‫الواجب األبوي واألموي‪ ،‬والزوجي‪ ،‬والبنوك‪ ،‬واجبات الرياسة والصداقة والمواطن‬
‫‪".‬واإلنسان واجب العمل وواجب التفكير وواجب المحبة‬

‫وهل من حقنا أن نقول لرئيس أن يعامل من هم أعلى منه رتبة " ويتساءل بعد ذلك‬
‫معاملته لمرؤسيه؟ وأن نطلب إلى زوج أن يعامل كل نساء الدنيا كما يعامل زوجته‬
‫‪"[25].‬والعكس؟‬

‫ثم يطرح لنا البديل في تنفيذ أوامر الشرع ونواهيه وهي التي تجعل المؤمن ال يذعن‬
‫للواجب "كفكرة" أو "ككائن عقلي" ولكنه يذعن له من حيث هو صادر عن هللا تعالى‬
‫الذي زودنا بالعقل وأودع فيه الحقائق األولى‪ ،‬بما في ذلك الحقيقة األخالقية في المقام‬
‫‪.‬األول‬
‫‪.‬‬
‫ثالثا ‪:‬العــــــلم واألخـــــــــــــالق‬

‫العلم من أهم ركائز المجتمعات وعناصر نهضة األمم والشعوب كونه يبني األفراد‬
‫والمجتمعات ويسهل لهم أمور حياتهم‪ ،‬أما األخالل فهي تحصن الفرد وتقوي‬
‫المجتمعات وتحميها‪.‬‬

‫العالقة بين العلم واألخالق عالقة تكاملية قال أثر طيب للعلم بدون أخالق وال أخالق‬
‫صر ويرشد ألنه العين المبصرة لألخالق‪.‬‬
‫صحيحة من غير علم يب ّ‬

‫فاألخالق والقيم هما الوعاء الحافظة والراعية للعلم وتترتب على اقتران العلم‬
‫باألخالق آثار إيجابية تعم األفراد والمجتمعات على حد سواء منها قوة شخصية الفرد‬
‫حامل العلم وثقة الناس به وبعلمه وتشجيع الناس على طلب العلم‪ ،‬والبحث عنه‬
‫وعلو هيبته لوجود نماذج متعددة من العلماء‬
‫ّ‬ ‫وتتبعه وكذلك قوة تماسك المجتمع‬
‫المتسربلين باألخالق في علمهم‪.‬‬

‫فأنت تجد العالم الصادق في علمه أيا ً كان تخصص مجال علمه‪ ،‬فكل العلوم متى‬
‫قيدت وحفّت باألخالق فإنها حتما ً ستعود بالنفع على الجميع كعلوم الطلب والهندسة‬
‫وغيرها‪.‬‬
‫وال ننسى تشجيع روح التنافس بالمجتمع نتيجة ما يراه الناس من خلق العلماء والناس‬
‫بفطرتهم السوية وسجاياهم الحسنة تميل نفوسهم إلى تقليد وتتبع اإلنسان السوي‬
‫الناجح في حياته النافع لغيره‪ ،‬ومن ذلك أيضا ً ريادة األمم وعلو شأنها وذلك باقتران‬
‫العلم باألخالق وكذلك فإن لتجرد العلم من األخالق الحسنة آثاراً وخيمة تعود على‬
‫األفراد والمجتمعات على حد سواء منها عدم ثقة الناس بحامل العلم لما وجدوا فيه من‬
‫أخالق سيئة ذميمة وتنفير الناس من طلب العلم والبحث عنه وعدم االكتراث بحملته‬
‫ووجود انتشار الضرر كأثر مباشر النتزاع صفة األخالق كالصدق واألمانة من‬
‫العالم وكطبيب يفتقر إلى األمانة أو مدرس يُؤثر نفسه على غيره على حساب المبادئ‬
‫والقيم ويضحي بالصدق من أجل مصلحته الشخصية‪ ،‬وكذلك قتل روح الهمة‬
‫والتنافس لطلب العلم في المجتمع لنفور الناس من النماذج التي يرونها في طالب‬
‫العلم والعلماء وتسمم العالقات االجتماعية وتفكك المجتمعات وفي المحصلة النهائية‬
‫بتقهقر األمم والشعوب وأفول نجمها نتيجة ألزمة لتراكم األخطاء المترتبة على‬
‫العلماء بسبب غياب وارع األخالق لديهم ‪.‬‬

‫وأخيرا ً فإن العلم واألخالق جناحين يحلق بهما الفرد والمجتمع على حد سواء وال‬
‫ينفع التحليق بأحدهما دون اآلخر‪.‬‬

You might also like