Professional Documents
Culture Documents
محاضرات في مقياس العلم والأخلاق - السنة الثالثة علم الاجتماع
محاضرات في مقياس العلم والأخلاق - السنة الثالثة علم الاجتماع
يُ َعدُّ ال ِعلم من أه ّم ُمق ّ ِومات ال ُمجتمعات ،وسببا ً في بنائها ،وتقدُّمها ،كما أنَّه يُساعد على
وامل ال ُمؤ ِدّية إلى الفَ ْقر ،والجهل ،واأل ُ ّمية ،والرجعيّة،
تقدُّم الدُّول الناميّة ،ويمسح ال َع ِ
والتي تُعتبَر من أسباب تنامي الدُّول ،وتأ ُّخرها فِكريّاً ،فال ِعلم من األمور الضروريّة،
والواجب توافرها في حياة اإلنسان ،كالطعام ،والشراب ،ومن الجدير بالذكر َّ
أن ال ِعلم
يُساهِم في إنتاج وسائل تُم ِ ّكن اإلنسان من ُموا َكبة العصور ،واألزمنة ال ُمخت ِلفة،
شرق يعود بالنفع عليه ،وعلى أقاربهِ ،علما ً َّ
بأن وتُساعده على ِبناء ُمستقبل باهر ،و ُم ِ
ي ،وهو :ال ِعلم ال َمنقول خالل األزمنة عبر األجيال
ال ِعلم يَنقسِم إلى قس َمينِ :علم تاريخ ّ
سبة لحظيّاً ،أو في ال ُمستقبَل ،إذ إنَّه
ال ُمخت ِلفة ،وهو ليس نوعا ً من أنواع العُلوم ال ُمكت َ
عموماً ،أ َّما ال ِعلم ِّ
السن ُ تواجد بالفعل بالتزا ُمن مع وجود اآلباء ،واألجداد ،وكبار
ُم ِ
عاصر ،فهو :ال ِعلم الالزم توا ُجده؛ ليتم َّكن الفرد من الوصول إلى
الحديث ،أو ال ُم ِ
أهدافه ،وغاياته في الحياة ،و ُمسايرة ال ُمجت َمع؛ لكي يتعلَّم اإلنسان العيش ،والتعايُش
عارف اإلنسان ،ومعلوماته الراسخة حول المجاالت فيه ،كما أنَّه يزيد من ُ
علوم ،و َم ِ
ال ُمخت ِلفة]١[.
َخصائص ال ِعلم :لل ِعلم خصائص عديدة تجعله ُمه ّما ً لجميع البشر ،ومنها :
التجدُّد :ال ِعلم يُج ِدّد نفسه باستمرار؛ أي إذا شابهُ خطأ فإنَّه يُ ِ ّ
صحح نفسه بنفسه.
عرفة ال ِعلميّة شاملة ،بمعنى أنَّه يُمكن قبولها في حاالت -الشموليّة واليقينَّ :
إن ال َم ِ
أن ال ِعلم شاملٌ ،وقضاياه تُطبَّق على الظواهر جميعها.
الظاهرة جميعها ،وهذا يعني َّ
الخاصية تزيد من سيطرة اإلنسان على واقعه ،وتُم ِ ّكنه من فَ ْهم
ِّ الدقَّة والتجريد :هذه
القوانين ال ُمتع ِلّقة بالواقع أكثر فأكثر ،ومن الجدير بالذكر َّ
أن ال ِعلم يلجأ إلى
الرياضيّات؛ ليتم َّكن من تحقيق الدقَّة ،والتجريد.
"[1].ومن ذلك :ال ُخلُق وهي السجية؛ ألن صاحبه قد قُدِّر عليه
َّ
والطبع ،والمروءة وقال الفيروزآبادي" :ال ُخلق :بالض ِ ّم ،وبضمتين :السجية
"[2].والدين
َو ِإنَّكَ لَ َعلَى ُخلُق ﴿ :وقال ابن منظور" :ال ُخلُق :الخليقة؛ أعني :الطبيعة ،وفي التنزيل
.القلم ،]4 :والجمع :أخالق ،ال يُكسَّر على غير ذلك[﴾ َع ِظيم
ق الفاجر ،وفي الحديث(( :ليس وال ُخ ْلق وال ُخلُق :السَّجيَّة -يقال :خا ِل ِ
ص المؤمن وخا ِل ِ
)).في الميزان أثقل من ُحسْن الخلق
وال ُخلُق :بضم الالم وسكونها ،وهو الدين والطبع والسجية ،وحقيقته أنه لصورة
صة بها ،بمنزلة الخ َْلق لصورته
اإلنسان الباطنة ،وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المخت َّ
الظاهرة وأوصافها ومعانيها ،ولهما أوصاف حسنة وقبيحة ،والثواب والعقاب يتعلَّقان
أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة؛ ولهذا
بأوصاف الصورة الباطنة َ
موضع
ِ "[3].تكررت األحاديث في َمدْح ُحسْن ال ُخلُق في غير
َّ
،قال العالمة الراغب )بضمها( وال ُخلق )بفتح الخاء( وفي التفريق بين الخ َْلق
صرم،
صرم وال ُّ
شرب ،وال َّ األصفهاني" :والخ َْلق وال ُخ ْلق في األصل واحد كال َّ
شرب وال ُّ
ص ال ُخ ْلق بالقوى ص الخ َْلق بالهيئات واألشكال والصور ال ُم َ
دركة بالبصر ،و ُخ َّ لكن ُخ َّ
دركة بالبصيرة
"[4].والسجايا ال ُم َ
:األخالق شر ًعا
االستخدام الشرعي للفظ "ال ُخلُق" ،لم
َ عند النظر واالستقراء لنصوص الشارع تجد أن
كثيرا عن الوضع اللغوي لهذه الكلمة
.يختلف ً
أي :ما هذا الذي جئتنا به إال عادة األولين يُل ِفّقون ِمثْلَه ويدعون إليه ،أو ما هذا الذي "
نحن عليه من الحياة والموت إال عادة قديمة لم يزل الناس عليها ،أو ما هذا الذي نحن
"[6].عليه من الدين إال عادة األولين الذين تقدَّمونا من اآلباء وغيرهم
ف ُخلُق األولين هنا بمعنى دِينهم وعادتهم وأخالقهم ومذهبهم ،وهذا مرو ٌّ
ي عن ابن
والفراء وابن األعرابي ومحمد بن يزيد وغيرهم ][7عباس رضي هللا عنه وقتادة
َّ [8].
َو ِإنَّكَ ﴿ :قوله -ج َّل وعال -مخاطبًا سيد الخ َْلق محمدًا صلى هللا عليه وسلم :الثاني
].القلمَ ﴾[4 :ل َع َلى ُخلُق َع ِظيم
قال الطبري" :يقول -تعالى ِذ ْكره -لنبيِّه محمد صلى هللا عليه وسلم :وإنك يا محمد،
لعلى أدب عظيم ،وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه به ،وهو اإلسالم وشرائعه ،وبنحو الذي
".قلنا في ذلك قال أهل التأويل
﴾؛ ُخلُق َع ِظيم ﴿ :ثم نقَل عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد والضحاك قولهم في تفسير
[9].أي :دين عظيم ،وهو اإلسالم
))[13].ومنه :قوله صلى هللا عليه وسلم(( :البِ ُّر ُحسْن ال ُخلُق
و ُحسْن ال ُخلُق هو التخلق بأخالق الشريعة ،والتأدب بآداب هللا التي أدَّب بها عبادَه في
"[14].كتابه ،وقد قيل" :إن الدين كله ُخلُق
))[15].ومنه :قوله صلى هللا عليه وسلم(( :أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا
:األخالق في االصطالح
:في االصطالح تُطلَق األخالق باعتبارين :أحدهما عام ،واآلخر أخص منه
عرف ال ُخلُقَ بقوله" :ال ُخلُق عبارة عن هيئة في
فمن العام ما ذكره الغزالي حين َّ
النفس راسخة ،عنها تَصدُر األفعال بسهولة ويُسر من غير حاجة إلى ِف ْكر
"[17].ورويَّة
فاألخالق هيئة ثابتة راسخة ُمست ِقرة في ن ْفس اإلنسان غير عارضة طارئة ،فهي تُم ِثّل
تتكرر كلما حانت فرصتها ،فإن كان الصفة عارضة فليست جديرة
عادة لصاحبها َّ
بأن تُس َّمى ُخلُقًا ،ف َمن بذل المال مرة أو مرتين ال يقال :إنه كريم سخي ،كما ينبغي
عدم التكلف في صدور الفعل بحيث يَصد ُر بشكل تلقائي من غير تردُّد وبصورة
َع ْفوية ،ال تخضع للحساب والمراجعة وتقليب الرأي وإعمال ال ِفكر ،وال يُق َ
صد بذلك
أن يكون العمل ال إراديًّا ،وإنما المقصد أنه من شدة تلقائيَّة العمل وتَ ُ
سارع أدائه تكون
[18].مساحة التفكير في األداء ضئيلة ،بحيث تتالشى أمام تسارع العمل
وينبغي التنبه إلى أن الصفات المستقرة في النفوس ليست كلها من قبيل األخالق ،بل
صلَة لها بال ُخلُق ،ولكن الذي َي ِ
فصل األخالق ويُم ِيّزها عن منها غرائز ودوافع ال ِ
جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلةً للمدح أو للذم ،فبذلك يتميَّز ال ُخلُق
عن الغريزة ذات المطالب المكافئة لحاجات اإلنسان الفطرية ،فإن الغريزة المعتدلة
[19].ذات آثار في السلوك ،إال أن هذه اآلثار ليست مما يُح َمد اإلنسان أو يُذَم عليه
وبهذا اإلطالق يشمل ال ُخلُق الحسن والقبيح ،والمحمود والمذموم ،وإن كان َيغ ِلب إذا
.أُط ِلق عن التقييد إلى ال ُخلُق الحسن
قال الطاهر بن عاشورُ " :خلُق بضمتين :فهو السجيَّة المتم ِ ّكنة في النَّ ْفس ،باعثة على
سِر بالقوى النفسية ،وهو تفسير قاصر ،فيشمل
عمل يُنا ِسبها من خير أو شر ،وقد ف ّ
ضم إليهطبائع الخير وطبائع الشر؛ ولذلك ال يعرف أحد النوعين من اللفظ إال بقيد يُ َ
فيقالُ :خلق حسن ،ويقال في ضده :سوء ال ُخلُق ،أو ُخلُق ذميم ،فإذا أُط ِلق عن التقييد
انصرف إلى ال ُخلُق الحسن" ،ثم قال" :وال ُخلُق في اصطالح الحكماءَ :ملَكة؛ أي:
كيفية راسخة في النفس؛ أي :متم ِ ّكنة في ال ِف ْكر ،تَصد ُر بها عن النفس أفعا ُل صاحبها
.بدون تأ ُّمل
مؤت ِلفة من انطباع فِ ْكري إما ِج ِبلي )أي :طبائع نفسية( ف ُخلُق المرء مجموعة غرائز
مرن ال ِفكر عليه وتقلُّده إياه الستحسانه إياه
في أصل ِخ ْلقته ،وإما َكسْبي ناشئ عن تَ ُّ
جربة ن ْفعه ،أو عن تقليد ما يُشاهِده من بواعث محبة ما شاهد ،وينبغي أن يُس َّمى
عن تَ ِ
اختيارا من قول أو عمل لذاته ،أو لكونه من سيرة َمن يحبه ويقتدي به ،ويُس َّمى
ً
.تقليدًا ،ومحاولته تُس َّمى تخلُّقًا
أما اإلطالق األخص لكلمة ال ُخلُق في االصطالح ،فيُطلَق على التمسُّك بأحكام الشرع
.وآدابه فعالً وتر ًكا
))[21].ومن ذلك قول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم(( :البِ ُّر ُحسْن ال ُخلُق
َو ِإنَّكَ لَ َعلَى ُخلُق ﴿ -:وقول عائشة رضي هللا عنها في تفسير قول هللا -عز وجل
" [22].القلم" :]4 :كان ُخلُقه القرآن[﴾ َع ِظيم
.وقد سبق بيانه عند الحديث عن المعنى الشرعي؛ فال حاجة لإلطالة بإعادته
الفلسفة ،كما نعرفها ،عبارة عن تفكير وتساؤل .ال أكثر وال أقل .الفيلسوف عندما
يتساءل ،ال يبحث عن إجابة قاطعة ،فال توجد هناك إجابة قاطعة .إنما يدعوك للتفكير
.واستخدام العقل
هذه التساؤالت تساعدنا في إيجاد معنى لمفهومي الصح والخطأ ،وتعمق فهمنا لطبيعة
الحياة السليمة والجيدة ،وتهدينا لما يجب فعله أو تجنبه في هذه الحياة المليئة
.باألسرار
في هذه الحياة ،هل يوجد واجب أخالقي علينا اإللتزام به؟ وهل هناك أخالقيات
مطلقة ال يمكن المساس بها؟ أم هي مجرد أشياء نسبية ،تعتمد على العصر والمكان
والثقافة وفهم الشخص نفسه؟ وهل هناك سبب ما ،يدفعنا للتمسك بها والعض عليها
بالنواجز؟
أهم أعمال أفالطون ،ومؤلفه الذي يعتبر من أفضل الروائع األدبية العالمية ،هو كتاب
"الجمهورية" .يبدأ في أوله بمناقشة موضوع أسماه "ديكايوسين" .يترجم في معظم
الحاالت على أنه يعني "العدالة" .لكن الترجمة األقرب للصواب هي "األخالق".
.األخالق هنا بمعناها األكثر شموال واتساعا
في أول فصل من كتاب جمهورية أفالطون ،يفاجئنا السفسطائي ثراسيماخوس بقوله
أن األخالق ما هي إال مجموعة قرارات وقيود ،يفرضها أصحاب السلطة والقوة على
.شعوبهم البائسة
هذه القرارات والقيود ،ال تصب دائما في صالح الشعوب ،لكنها بالتأكيد تكون في
صالح الحاكم المفتري الظالم صاحب القوة المطلقة .عندما يطالبنا أولي األمر والنهي
بالحجاب والنقاب لنسائنا ،ويصرون على تطبيق الحدود ،ويأمروننا بطاعة الحاكم،
واإللتزام باألمانة والصدق ،ال يكون ذلك لسواد عيون المواطنين ،أو حبا في
.الفضيلة ،ولكن لما فيه من مصلحة للذين يتربعون على عرش السلطة
لكن العظيم سقراط يخبرنا ،أثناء حواره مع ثراسيماخوس ،بأن األخالق ال تصب
بالضرورة في مصلحة األقوى .فيصر ثراسيماخوس على رأية ،بأن التمسك
.باألخالق مصيبة ،وليست من مصلحة الشخص بصفة عامة
الرجل المرتشي يكسب أكثر من الرجل األمين .النصاب والمزور يدفعان ضرائب
أقل من الرجل الصادق .المنافق يبلغ أسمى المراكز والمناصب .التلميذ الغشاش ينجح
بدون حق .التاجر يكسب الباليين من احتكار السلعة .السياسي ،بإخفاء الحقائق ،يفوز
باالنتخابات ،وبإظهارها ،ينتهي مستقبله السياسي ،إلخ .إننا دائما نجد الشخص الغير
.متمسك باألخالق ،هو الفائز .يكسب أكثر من زميله المستمسك بها
هنا ،وجب على سقراط أن يثبت العكس .كان عليه إثبات أن التمسك باألخالق شئ
مفيد مفعوله أكيد .وعدم التمسك باألخالق ،أمر قميء رديء غير مربح .هذا عمل ال
يقدر عليه سوى فيلسوف مثل سقراط .فتعالوا معي لكي نرى ماذا يقوله سقراط في
.هذا الموضوع
في نهاية الفصل األول من كتاب الجمهورية ،الحق سقراط ثراسيماخوس باألسئلة،
مما جعله يترك المشهد غاضبا .مشكلة األخالق ،كما أثارها ثراسيماخوس ،لم تغادر
المشهد معه .لكنها بقيت وتفاقمت .الباب الثاني يبدأ بمناقشة ثالثة أنواع من فعل
:الصح ،أو فعل الخير .هي:
-.فعل الخير لذاته ،مثل فعل أشياء تعطينا البهجة والمتعة
يقول سقراط أن ما جاء بالبند الثالث السابق ،هو كل ما يعنيه باألخالق .لكن معظم
الناس تعتقد أن تعريف األخالق ينطبق على البند الثاني فقط ،أي طلبا للخير أو تجنبا
.للضرر
يشرح لنا جلوكون ،أحد رفاق سقراط ،فكرة األخالق عند العامة .يذكر لنا حكاية
الخاتم السحري الذي يجعل اإلنسان مخفي عن األنظار .فيقول بما معناه ،أن من
.يمتلك الخاتم السحري ،يستطيع أن يهرب من عاقبة فعله
فمثال ،يستطيع حامل الخاتم السحري إغراء الملكة وقتل الملك واالستيالء على
الحكم .أي واحد منا سوف يفعل نفس الشئ ،إذا أتيحت له الفرصة .العبيط فقط هو من
يقول "ال" أمام هذه الفرصة .إذا لمنا من يفعل ذلك ،فهذا ألننا نشعر بالغيرة ،أو ألننا
.ال نريد أن نبدو أشرارا أمام اآلخرين
هنا يأتي رفيق آخر من رفاق سقراط ،أديمانتوس ،ليؤيد كالم جلوكون ،ويقول بأن
األخالق هي بالتأكيد البند الثاني .الناس تفعل الفعل األخالقي ،ألنها تبغي الفائدة من
.ورائه
تقوم بشعائر األديان ،لكي تدخل الجنة .تلبس النساء النقاب ،ويرتدي الرجال الجلباب
ويطلقون اللحية ،لكي يكسبوا احترام الناس وثقتها .األخالق هنا سلع نقايضها بشئ
.آخر
هذا الرأي تبناه الحقا ميكافيللي .فهو يقول بصراحة ووضوح في كتابه "األمير" ،أنه
ليس من الضروري لألمير أن يكون رحيما أو مؤمنا أو أمينا أو إنسانيا أو أخالقيا في
أفعاله ،لكن من الضروري أن يظهر أمام الرعية على أنه يتسم ويتحلى بكل هذه
.الصفات .المهم الفائدة وليس الفعل نفسه
إلى هنا وسقراط يبدو لنا أنه يواجه مدافع ودانات من العيار الثقيل .فماذا يفعل وكيف
يجيب؟ لقد فعل ما قد يفعله الكثير منا في مثل هذا الموقف .لقد قام بتغيير الموضوع،
.أو هكذا يبدو لنا
هنا يعترف سقراط أن المشكلة أصبحت معقدة ،والتفاصيل أصبحت كثيرة متشعبة
غير واضحة ،تحتاج معها إلى مجهر أو عدسة مكبرة .ثم يقدم لنا نظرية تصاحبنا في
".معظم كتاب "الجمهورية
نظرية سقراط تنقسم إلى قسمين .األول ،يقول بأن مشكلة األخالق يمكن أن تحل
عندما نفهم طبيعة النفس البشرية .الثاني ،يقول بأن فهم طبيعة النفس البشرية تكون
.ممكنة ،عندما نقوم بدراسة المدينة أو المجتمع
البحث عن المدينة الفاضلة يقودنا إلى فهم النفس الفاضلة أو المثالية .من هنا يمكننا
تعريف األخالق ،وماذا نعني بفعل الخير ،وبذلك يمكننا اإلجابة على السؤال :لماذا
يجب علينا أن نتمسك باألخالق ،دون أن نستخدمها كأداة لتحقيق مصلحتنا الشخصية؟
يقول أفالطون أن سقراط قد توصل إلى النتيجة اآلتية :المدينة الفاضلة تتكون من
ثالث طبقات متباينة .الطبقة األولى ،هي طبقة الحكام الحكماء الدارسين للفلسفة.
.وهي طبقة تماثل فضيلة الحكمة عند الفرد
الطبقة الثانية ،هي طبقة الجند أو الحراس ،التي تحمي المدينة في الداخل والخارج.
هذه الطبقة يجب أن تكون على علم بشئ من الفلسفة ،حتى تستطيع أن تفرق بين
العدو والصديق .من يثبت منهم أنه قد أتقن الفلسفة ،يستطيع أن يرتقي إلى طبقة
.الحكام .وهي طبقة تشبه فضيلة الشجاعة عند الفرد
أخيرا ،طبقة الحرفيين والصناع والزراع .وهي تتكون من غالبية المجتمع ،لكنها
غير قادرة على الحكم ،ألنها ال تعلم شيئا عن الفلسفة .يجب على هذه الطبقة أن تمتثل
للقوانين التي تُفرض عليها من الطبقة الحاكمة .امتثال طبقة الحرفيين هذه ،تمثل
.فضيلة اعتدال الشهوات عند الفرد
بما أن المدينة أو المجتمع ،صورة مكبرة للنفس البشرية ،كما يقول سقراط ،لذلك
.يمكننا القول بأن النفس البشرية تتكون من ثالثة أشياء أيضا .العقل والروح والشهوة
العقل دائما نجده معارضا للشهوة ،التي تعتبر الجانب الحيواني في النفس .هي تسمى
"الهي" عند فرويد .فرويد قسم النفس أيضا إلى ثالثة أقسام" :األنا األعظم"" ،األنا"،
"".الهي
هذا ليس بالمستغرب ،إذا علمنا أن فرويد كان قد تأثر تأثرا بالغا بكتاب الجمهورية
ألفالطون .العجيب أنه قد جاء بكتاب الجمهورية بأن الرغبات المكبوته تظهر في
صورة أحالم ،قال سقراط هذا قبل فرويد بما يزيد على ألفي عام .فهل هناك جديد
تحت الشمس؟
يقول الفيلسوف العظيم البريطاني ألفريد نورث وايتهد " :تاريخ الفلسفة ،ماهو إال
".تعليق وشرح لكتاب جمهورية أفالطون
األعجب ،أن كتاب جمهورية أفالطون كان يدرس هو وفلسفة أرسطو بالمدارس
والجامعات المصرية ،أيام عصر النهضة وحكم البطالمة الذي استمر أكثر من 300
.سنة قبل الميالد ،وقبل دخول المسيحية واإلسالم مصر
كنت أتمنى أن يكون أولي األمر فينا وأعضاء مجلس الشعب واللجنة المشكلة لوضع
الدستور المصري الجديد على علم بأصول الفلسفة أو يكونوا ،على األقل ،قد قرأوا
".وفهموا كتاب "جمهورية أفالطون
يقول سقراط أنه إذا تغلبت الشهوة على الروح ،أصبح اإلنسان شهواني الطبع .وإذا
تغلب العقل على الروح ،أصبح اإلنسان عقالني .فضيلة العقل هي الحكمة ،وفضيلة
.النفس هي الشجاعة ،وفضيلة الشهوة هي االعتدال
إذا تحكم العقل في جميع مكونات النفس الثالثة ،تكون النتيجة هي األخالق والكمال
والفضيلة .عندها يصبح واضحا للفرد لماذا يجب أن يسلك طريق األخالق ،ولماذا
.عليه أن يلتزم بها
لماذا يجب علينا أن نفعل الفعل األخالقي؟ ألن العكس سوف يؤدي إلى الفوضى
والخلط .العكس سوف يخلق صراعا بين العقل والشهوة داخل النفس ،وهذا ال يستقيم
.مع السالم الداخلي للفرد
نبل اإلنسان وفضيلته ،تتطلب السالم الداخلي ،وانتصار العقل على الشهوة ،وعلى
الجزء الحيواني من النفس .وتتطلب أن يأخذ اإلنسان في اعتباره مصالح اآلخرين،
.وليس مصالحه الشخصية فقط
هنا يقول أفالطون على لسان جلوكون ،أن الفضيلة للنفس ،هي مثل الصحة والجمال
.للبدن .العكس يعني المرض والقبح والضعف
لنعود اآلن إلى تساؤل ثراسيماخوس .هل من األفضل أن ال نتمسك باألخالق؟ وهل
األخالق للنفس فعال ،مثل الصحة للبدن؟ لكي نجاوب على هذا السؤال ،سوف نرجع
.إلى موضوع الفرد والمدينة مرة أخرى
بالنسبة للفرد والمدينة ،العدالة واألخالق تنبع من مبادئ عقالنية ال دينية .هذه هي
أصول األخالق عند الغرب حاليا ،التي صاغها فالسفة التنوير .المساواة وحقوق
المرأة وحقوق اإلنسان وتحرير العبيد ،جاءت كلها ألسباب عقالنية .ألن الغرب وجد
.أنها منطقية تساعد على سالم المجتمع واستقراره
لو اعتمدنا ،بالنسبة لألخالق ،على التعاليم الدينية فقط ،فلن تتم المساواة بين البشر،
ولن تأخذ المرأة باقي حقوقها ،ولن يتحرر العبيد .الخليفة العباسي ،المتوكل ،كانت
.لديه 3000جارية ،وطأهن جميعا
الفرد يتمسك باألخالق عندما يتفهم المبادئ العقالنية التي تؤيدها .هذا الفهم ،يجعله
.يسيطر على شهواته وغرائزه البهيمية
التمسك باألخالق بسبب التعاليم الدينية فقط ،والخوف من عذاب جهنم ،والطمع في
الجنة والحور العين ،دون أسباب عقالنية ،قد يجعل اإلنسان يعيد تفسير وتأويل
.التعاليم الدينية بما يوافق مصلحته الشخصية أو مصلحة الحاكم
إصرار الرجل على أنه أفضل من المرأة ،ومن ثم ،له كل الحق في الزواج عليها
وطالقها وتشريدها هي وعيالها ،وسجنها وطمس معالمها بالنقاب .موقف اإلخوان
.والسلفيين من قضايا الدستور وحقوق األقليات والمرأة ،هو خير دليل على ذلك
كل هذا يمكن فهمه بالنسبة لسلوك الفرد ،لكنه شئ محير بالنسبة للمدينة .معظم الناس
في مدينة أفالطون بطبيعتهم أشرار .سواء لبسوا الجلباب القصير وأطالوا اللحية
وحفوا الشارب ،أو لم يفعلوا ذلك .هم جميعا ،ال يستطيعون بمفردهم اكتشاف األسباب
.العقالنية ،التي تدعوهم للتمسك باألخالق الحميدة
األخالق يجب أن تكون موضوعة على أسس عقالنية ال دينية .فهي ليس لها قوة في
حد ذاتها ،تفرضها على الجميع .لذلك يجب أن تُفرض األخالق والعدل في المدينة
.الفاضلة على الجميع بسلطة علوية
يقول سقراط أن التمسك باألخالق هو من صميم مصلحة الفرد ،حتى وإن لم يفهم
معظم األفراد ذلك .إذا رأينا أحدا يفعل فعال ال أخالقيا ،فهو يفعل ذلك ألنه ال يعرف
.مصلحته الحقيقية
يقول سقراط ،األخالق والفضيلة عبارة عن معرفة .إذا عرفت معنى الخير ،سوف
تفعل الخير .الناس تفعل الشر ألنها ال تعرف .الناس ال تفعل الشر باختيارها .فعل
الشر هو الجهل بعينه .األخالق هنا ليست لها عالقة بالجنة والحور عين ،وال بالنار
.والسعير .إنما عبارة عن معرفة وجهل فقط
الناس تسرق وتقتل وتبحث عن الشهرة والمجد ،ألنها تعتقد أن هذا هو الطريق
للسعادة .لكنهم ال يعرفون معنى السعادة .وال يعرفون أنفسهم وما يسعدهم .لذلك ،كما
يقول سقراط ،من المهم أن تعرف نفسك .فالحياة الغير مفهومة والخالية من البحث
.والتساؤل ال تستحق أن تعاش
وأخيرا ،هل قرأتم أو سمعتم تعبيرا أجمل أو أروع من تعبير" :الفضيلة للنفس مثل
الجمال للبدن" .هذا التعبير جاء في جمهورية أفالطون منذ أكثر من 2300سنة .قبل
.المسيحية وقبل اإلسالم
الفلسفة ،كما نعرفها ،عبارة عن تفكير وتساؤل .ال أكثر وال أقل .الفيلسوف عندما
يتساءل ،ال يبحث عن إجابة قاطعة ،فال توجد هناك إجابة قاطعة .إنما يدعوك للتفكير
.واستخدام العقل
هذه التساؤالت تساعدنا في إيجاد معنى لمفهومي الصح والخطأ ،وتعمق فهمنا لطبيعة
الحياة السليمة والجيدة ،وتهدينا لما يجب فعله أو تجنبه في هذه الحياة المليئة
.باألسرار
في هذه الحياة ،هل يوجد واجب أخالقي علينا اإللتزام به؟ وهل هناك أخالقيات
مطلقة ال يمكن المساس بها؟ أم هي مجرد أشياء نسبية ،تعتمد على العصر والمكان
والثقافة وفهم الشخص نفسه؟ وهل هناك سبب ما ،يدفعنا للتمسك بها والعض عليها
بالنواجز؟
أهم أعمال أفالطون ،ومؤلفه الذي يعتبر من أفضل الروائع األدبية العالمية ،هو كتاب
"الجمهورية" .يبدأ في أوله بمناقشة موضوع أسماه "ديكايوسين" .يترجم في معظم
الحاالت على أنه يعني "العدالة" .لكن الترجمة األقرب للصواب هي "األخالق".
.األخالق هنا بمعناها األكثر شموال واتساعا
في أول فصل من كتاب جمهورية أفالطون ،يفاجئنا السفسطائي ثراسيماخوس بقوله
أن األخالق ما هي إال مجموعة قرارات وقيود ،يفرضها أصحاب السلطة والقوة على
.شعوبهم البائسة
هذه القرارات والقيود ،ال تصب دائما في صالح الشعوب ،لكنها بالتأكيد تكون في
صالح الحاكم المفتري الظالم صاحب القوة المطلقة .عندما يطالبنا أولي األمر والنهي
بالحجاب والنقاب لنسائنا ،ويصرون على تطبيق الحدود ،ويأمروننا بطاعة الحاكم،
واإللتزام باألمانة والصدق ،ال يكون ذلك لسواد عيون المواطنين ،أو حبا في
.الفضيلة ،ولكن لما فيه من مصلحة للذين يتربعون على عرش السلطة
لكن العظيم سقراط يخبرنا ،أثناء حواره مع ثراسيماخوس ،بأن األخالق ال تصب
بالضرورة في مصلحة األقوى .فيصر ثراسيماخوس على رأية ،بأن التمسك
.باألخالق مصيبة ،وليست من مصلحة الشخص بصفة عامة
الرجل المرتشي يكسب أكثر من الرجل األمين .النصاب والمزور يدفعان ضرائب
أقل من الرجل الصادق .المنافق يبلغ أسمى المراكز والمناصب .التلميذ الغشاش ينجح
بدون حق .التاجر يكسب الباليين من احتكار السلعة .السياسي ،بإخفاء الحقائق ،يفوز
باالنتخابات ،وبإظهارها ،ينتهي مستقبله السياسي ،إلخ .إننا دائما نجد الشخص الغير
.متمسك باألخالق ،هو الفائز .يكسب أكثر من زميله المستمسك بها
هنا ،وجب على سقراط أن يثبت العكس .كان عليه إثبات أن التمسك باألخالق شئ
مفيد مفعوله أكيد .وعدم التمسك باألخالق ،أمر قميء رديء غير مربح .هذا عمل ال
يقدر عليه سوى فيلسوف مثل سقراط .فتعالوا معي لكي نرى ماذا يقوله سقراط في
.هذا الموضوع
في نهاية الفصل األول من كتاب الجمهورية ،الحق سقراط ثراسيماخوس باألسئلة،
مما جعله يترك المشهد غاضبا .مشكلة األخالق ،كما أثارها ثراسيماخوس ،لم تغادر
المشهد معه .لكنها بقيت وتفاقمت .الباب الثاني يبدأ بمناقشة ثالثة أنواع من فعل
:الصح ،أو فعل الخير .هي
.فعل الخير لذاته ،مثل فعل أشياء تعطينا البهجة والمتعة 1-
.فعل الخير لعواقبه أو تجنبا لضرر ما ،مثل تناول الدواء 2-
.فعل الخير لذاته وأيضا لعواقبه ،مثل الحفاظ على الصحة 3-
يقول سقراط أن ما جاء بالبند الثالث السابق ،هو كل ما يعنيه باألخالق .لكن معظم
الناس تعتقد أن تعريف األخالق ينطبق على البند الثاني فقط ،أي طلبا للخير أو تجنبا
.للضرر
يشرح لنا جلوكون ،أحد رفاق سقراط ،فكرة األخالق عند العامة .يذكر لنا حكاية
الخاتم السحري الذي يجعل اإلنسان مخفي عن األنظار .فيقول بما معناه ،أن من
.يمتلك الخاتم السحري ،يستطيع أن يهرب من عاقبة فعله
فمثال ،يستطيع حامل الخاتم السحري إغراء الملكة وقتل الملك واالستيالء على
الحكم .أي واحد منا سوف يفعل نفس الشئ ،إذا أتيحت له الفرصة .العبيط فقط هو من
يقول "ال" أمام هذه الفرصة .إذا لمنا من يفعل ذلك ،فهذا ألننا نشعر بالغيرة ،أو ألننا
.ال نريد أن نبدو أشرارا أمام اآلخرين
هنا يأتي رفيق آخر من رفاق سقراط ،أديمانتوس ،ليؤيد كالم جلوكون ،ويقول بأن
األخالق هي بالتأكيد البند الثاني .الناس تفعل الفعل األخالقي ،ألنها تبغي الفائدة من
.ورائه
تقوم بشعائر األديان ،لكي تدخل الجنة .تلبس النساء النقاب ،ويرتدي الرجال الجلباب
ويطلقون اللحية ،لكي يكسبوا احترام الناس وثقتها .األخالق هنا سلع نقايضها بشئ
.آخر
هذا الرأي تبناه الحقا ميكافيللي .فهو يقول بصراحة ووضوح في كتابه "األمير" ،أنه
ليس من الضروري لألمير أن يكون رحيما أو مؤمنا أو أمينا أو إنسانيا أو أخالقيا في
أفعاله ،لكن من الضروري أن يظهر أمام الرعية على أنه يتسم ويتحلى بكل هذه
.الصفات .المهم الفائدة وليس الفعل نفسه
إلى هنا وسقراط يبدو لنا أنه يواجه مدافع ودانات من العيار الثقيل .فماذا يفعل وكيف
يجيب؟ لقد فعل ما قد يفعله الكثير منا في مثل هذا الموقف .لقد قام بتغيير الموضوع،
.أو هكذا يبدو لنا
هنا يعترف سقراط أن المشكلة أصبحت معقدة ،والتفاصيل أصبحت كثيرة متشعبة
غير واضحة ،تحتاج معها إلى مجهر أو عدسة مكبرة .ثم يقدم لنا نظرية تصاحبنا في
".معظم كتاب "الجمهورية
نظرية سقراط تنقسم إلى قسمين .األول ،يقول بأن مشكلة األخالق يمكن أن تحل
عندما نفهم طبيعة النفس البشرية .الثاني ،يقول بأن فهم طبيعة النفس البشرية تكون
.ممكنة ،عندما نقوم بدراسة المدينة أو المجتمع
البحث عن المدينة الفاضلة يقودنا إلى فهم النفس الفاضلة أو المثالية .من هنا يمكننا
تعريف األخالق ،وماذا نعني بفعل الخير ،وبذلك يمكننا اإلجابة على السؤال :لماذا
يجب علينا أن نتمسك باألخالق ،دون أن نستخدمها كأداة لتحقيق مصلحتنا الشخصية؟
يقول أفالطون أن سقراط قد توصل إلى النتيجة اآلتية :المدينة الفاضلة تتكون من
ثالث طبقات متباينة .الطبقة األولى ،هي طبقة الحكام الحكماء الدارسين للفلسفة.
.وهي طبقة تماثل فضيلة الحكمة عند الفرد
الطبقة الثانية ،هي طبقة الجند أو الحراس ،التي تحمي المدينة في الداخل والخارج.
هذه الطبقة يجب أن تكون على علم بشئ من الفلسفة ،حتى تستطيع أن تفرق بين
العدو والصديق .من يثبت منهم أنه قد أتقن الفلسفة ،يستطيع أن يرتقي إلى طبقة
.الحكام .وهي طبقة تشبه فضيلة الشجاعة عند الفرد
أخيرا ،طبقة الحرفيين والصناع والزراع .وهي تتكون من غالبية المجتمع ،لكنها
غير قادرة على الحكم ،ألنها ال تعلم شيئا عن الفلسفة .يجب على هذه الطبقة أن تمتثل
للقوانين التي تُفرض عليها من الطبقة الحاكمة .امتثال طبقة الحرفيين هذه ،تمثل
.فضيلة اعتدال الشهوات عند الفرد
بما أن المدينة أو المجتمع ،صورة مكبرة للنفس البشرية ،كما يقول سقراط ،لذلك
.يمكننا القول بأن النفس البشرية تتكون من ثالثة أشياء أيضا .العقل والروح والشهوة
العقل دائما نجده معارضا للشهوة ،التي تعتبر الجانب الحيواني في النفس .هي تسمى
"الهي" عند فرويد .فرويد قسم النفس أيضا إلى ثالثة أقسام" :األنا األعظم"" ،األنا"،
"".الهي
هذا ليس بالمستغرب ،إذا علمنا أن فرويد كان قد تأثر تأثرا بالغا بكتاب الجمهورية
ألفالطون .العجيب أنه قد جاء بكتاب الجمهورية بأن الرغبات المكبوته تظهر في
صورة أحالم ،قال سقراط هذا قبل فرويد بما يزيد على ألفي عام .فهل هناك جديد
تحت الشمس؟
يقول الفيلسوف العظيم البريطاني ألفريد نورث وايتهد " :تاريخ الفلسفة ،ماهو إال
".تعليق وشرح لكتاب جمهورية أفالطون
األعجب ،أن كتاب جمهورية أفالطون كان يدرس هو وفلسفة أرسطو بالمدارس
والجامعات المصرية ،أيام عصر النهضة وحكم البطالمة الذي استمر أكثر من 300
.سنة قبل الميالد ،وقبل دخول المسيحية واإلسالم مصر
كنت أتمنى أن يكون أولي األمر فينا وأعضاء مجلس الشعب واللجنة المشكلة لوضع
الدستور المصري الجديد على علم بأصول الفلسفة أو يكونوا ،على األقل ،قد قرأوا
".وفهموا كتاب "جمهورية أفالطون
يقول سقراط أنه إذا تغلبت الشهوة على الروح ،أصبح اإلنسان شهواني الطبع .وإذا
تغلب العقل على الروح ،أصبح اإلنسان عقالني .فضيلة العقل هي الحكمة ،وفضيلة
.النفس هي الشجاعة ،وفضيلة الشهوة هي االعتدال
إذا تحكم العقل في جميع مكونات النفس الثالثة ،تكون النتيجة هي األخالق والكمال
والفضيلة .عندها يصبح واضحا للفرد لماذا يجب أن يسلك طريق األخالق ،ولماذا
.عليه أن يلتزم بها
لماذا يجب علينا أن نفعل الفعل األخالقي؟ ألن العكس سوف يؤدي إلى الفوضى
والخلط .العكس سوف يخلق صراعا بين العقل والشهوة داخل النفس ،وهذا ال يستقيم
.مع السالم الداخلي للفرد
نبل اإلنسان وفضيلته ،تتطلب السالم الداخلي ،وانتصار العقل على الشهوة ،وعلى
الجزء الحيواني من النفس .وتتطلب أن يأخذ اإلنسان في اعتباره مصالح اآلخرين،
.وليس مصالحه الشخصية فقط
هنا يقول أفالطون على لسان جلوكون ،أن الفضيلة للنفس ،هي مثل الصحة والجمال
.للبدن .العكس يعني المرض والقبح والضعف
لنعود اآلن إلى تساؤل ثراسيماخوس .هل من األفضل أن ال نتمسك باألخالق؟ وهل
األخالق للنفس فعال ،مثل الصحة للبدن؟ لكي نجاوب على هذا السؤال ،سوف نرجع
.إلى موضوع الفرد والمدينة مرة أخرى
بالنسبة للفرد والمدينة ،العدالة واألخالق تنبع من مبادئ عقالنية ال دينية .هذه هي
أصول األخالق عند الغرب حاليا ،التي صاغها فالسفة التنوير .المساواة وحقوق
ا لمرأة وحقوق اإلنسان وتحرير العبيد ،جاءت كلها ألسباب عقالنية .ألن الغرب وجد
.أنها منطقية تساعد على سالم المجتمع واستقراره
لو اعتمدنا ،بالنسبة لألخالق ،على التعاليم الدينية فقط ،فلن تتم المساواة بين البشر،
ولن تأخذ المرأة باقي حقوقها ،ولن يتحرر العبيد .الخليفة العباسي ،المتوكل ،كانت
.لديه 3000جارية ،وطأهن جميعا
الفرد يتمسك باألخالق عندما يتفهم المبادئ العقالنية التي تؤيدها .هذا الفهم ،يجعله
.يسيطر على شهواته وغرائزه البهيمية
التمسك باألخالق بسبب التعاليم الدينية فقط ،والخوف من عذاب جهنم ،والطمع في
الجنة والحور العين ،دون أسباب عقالنية ،قد يجعل اإلنسان يعيد تفسير وتأويل
.التعاليم الدينية بما يوافق مصلحته الشخصية أو مصلحة الحاكم
إصرار الرجل على أنه أفضل من المرأة ،ومن ثم ،له كل الحق في الزواج عليها
وطالقها وتشريدها هي وعيالها ،وسجنها وطمس معالمها بالنقاب .موقف اإلخوان
.والسلفيين من قضايا الدستور وحقوق األقليات والمرأة ،هو خير دليل على ذلك
كل هذا يمكن فهمه بالنسبة لسلوك الفرد ،لكنه شئ محير بالنسبة للمدينة .معظم الناس
في مدينة أفالطون بطبيعتهم أشرار .سواء لبسوا الجلباب القصير وأطالوا اللحية
وحفوا الشارب ،أو لم يفعلوا ذلك .هم جميعا ،ال يستطيعون بمفردهم اكتشاف األسباب
.العقالنية ،التي تدعوهم للتمسك باألخالق الحميدة
األخالق يجب أن تكون موضوعة على أسس عقالنية ال دينية .فهي ليس لها قوة في
حد ذاتها ،تفرضها على الجميع .لذلك يجب أن تُفرض األخالق والعدل في المدينة
.الفاضلة على الجميع بسلطة علوية
يقول سقراط أن التمسك باألخالق هو من صميم مصلحة الفرد ،حتى وإن لم يفهم
معظم األفراد ذلك .إذا رأينا أحدا يفعل فعال ال أخالقيا ،فهو يفعل ذلك ألنه ال يعرف
.مصلحته الحقيقية
يقول سقراط ،األخالق والفضيلة عبارة عن معرفة .إذا عرفت معنى الخير ،سوف
تفعل الخير .الناس تفعل الشر ألنها ال تعرف .الناس ال تفعل الشر باختيارها .فعل
الشر هو الجهل بعينه .األخالق هنا ليست لها عالقة بالجنة والحور عين ،وال بالنار
.والسعير .إنما عبارة عن معرفة وجهل فقط
الناس تسرق وتقتل وتبحث عن الشهرة والمجد ،ألنها تعتقد أن هذا هو الطريق
للسعادة .لكنهم ال يعرفون معنى السعادة .وال يعرفون أنفسهم وما يسعدهم .لذلك ،كما
يقول سقراط ،من المهم أن تعرف نفسك .فالحياة الغير مفهومة والخالية من البحث
.والتساؤل ال تستحق أن تعاش
وأخيرا ،هل قرأتم أو سمعتم تعبيرا أجمل أو أروع من تعبير" :الفضيلة للنفس مثل
الجمال للبدن" .هذا التعبير جاء في جمهورية أفالطون منذ أكثر من 2300سنة .قبل
.المسيحية وقبل اإلسالم
يعد الفيلسوف األلماني «فريدريك نيتشه» أكثر الفالسفة جدالً منذ أن وضع كتاباته
المختلفة في نهاية القرن التاسع عشر ،وعلى رأسها« :أبعد من الخير والشر»،
» (Genealogy of Morality).وكتابه «علم األنساب األخالقي
فلقد مثل بحق صدمة للنمط الفكري السائد في عصره ،بما يمكن عده من األسس
الرئيسية لمدارس فكرية أتت من بعده ،وعلى رأسها المدرسة الوجودية ،وإلى حد
كبير مدرسة ما بعد الحداثة .كما أنه كان أيضا ً الفكر الذي تملقه النازيون والفاشيون،
وهو في التقدير منهم براء ،فهو يمثل رأس منحنى فكري جديد ،وذلك رغم أن عمره
لم يمتد ،فمات في ،1900ولكن ليس قبل أن تصيبه جلطة دماغية أودعته على فراش
.الموت إلحدى عشرة سنة
وعلى غير عادة الفالسفة األلمان العظماء الذين سبقوه ،من أمثال «كانط»
و«هيغل» ،فإن «نيتشه» لم يشغل نفسه وفكره بالنظريات المعرفية أو
«األيبستيمولوجية» في سعيه لوضع مفاهيم للحياة ،ولكنه كان أقرب ما يكون
للفيلسوف العملي النفسي األخالقي ،فكتبه تقترب من السهل الممتنع ،باستخدامه
لألفكار الصادمة المغلفة بلغة مبسطة ،ولكنها مركبة المعنى عميقة األثر ،مستخدما ً
الحكم وصانعا ً لألقوال المأثورة المتعمقة
التي يحتاج المرء لقراءتها )ِ (Aphorism
.أكثر من مرة والتفكر فيها لقبولها أو رفضها
ويمكن عد كتابه «علم األنساب األخالقي» أكثر الكتب تعبيراً عن فكره ،فهو كتاب
صادم بكل المعايير ،إذ يبدأ أو ينتهي إلى أن العالم الغربي يفتقر في عصره إلى نقطة
القاسم األخالقي المشترك التي كانت تمثلها المسيحية بصفتها محوراً لصناعة القيم
على مدار قرابة ألفيتين ،ولكنها فقدت رونقها أو جذورها بصفتها مصدراً لألخالق
بسبب العلم الذي جعل العقالنية العلمية منافسا ً شرسا ً لها بصفتها مصدرا ً لألخالق،
وهو ما دفعه لإلعالن صراحة أن المسيحية قد ماتت؛ أي أنها اختفت عن الرادار
.األخالقي أو الفلسفي األوروبي
ومن هذه الفرضية ،قدم «نيتشه» رؤيته لوضعية األخالق وفقا ً له ،فعد أن هناك
».نوعين من األخالق خالل األلفيتين« :أخالق السادة» و«أخالق العبيد
فمن خالل األولى تصنع أنماط األخالق المرتبطة بالطبقات الحاكمة أو المسيطرة
التي تقدر القوة والجمال والشجاعة والنجاح ...إلخ ،والتي تكون لديها ما سماه
«الرغبة في السلطة» التي تعد بالنسبة له المحرك األساسي لطبقة من البشر ،بكل ما
صناع أنماط الحياة التي يفرضونها على
تعنيه كلمة سلطة من مال ونفوذ ...إلخ ،فهم ُ
.باقي المجتمع ،بما في ذلك المفاهيم األخالقية
أما «أخالقيات العبيد» فترتكز إلى مجموعة قيمية أخرى مرتبطة بالطيبة والتعاطف،
وتكريس مفاهيم الحب والتواضع والتسامح والخنوع ...إلخ ،وقد ساهمت المسيحية
في انتشار هذه المنظومة القيمية ،مقابل منظومة القيم األخالقية للسادة ،ولكن األخطر
كان منحها العامة ما كان ضروريا ً لقبول قيم السادة ،حتى إن اختلفت عن قيمها ،على
اعتبار أن الجائزة الكبرى ليست في هذه الدنيا ،وهو ما دفعه للتحقير من شأنها،
مبرراً الفكرة الماركسية بأن «الدين أفيون الشعوب» الذي استخدمته الطبقات الحاكمة
.لفرض الطاعة لها ،ولمنظومتها السلطوية واألخالقية
وبنا ًء على هذا الفكر ،رأي «نيتشه» أهمية أن يهتم المرء بضرورة اتباع ما سماه
«التكرار األبدي»؛ أي أن يتأقلم المرء على الحياة التي يعيشها حتى يجعلها تستحق
.الحياة مهما كانت صعبة ،فيستمتع بأكثر ما يمكن أن تقدمه له
ويرى «نيتشه» أن القيم أو األخالق هي أصعب ما يمكن للمرء أو المجتمع تغييره
ألنها قوية الركيزة عميقة الجذور ،وهي أكثر العوامل تأثيراً على سلوك البشر،
وتحتاج لفترات زمنية كبيرة حتى تترسخ ،ومن ثم صعوبة اقتالعها ،ومن هنا كانت
دعوته الشهيرة إلعادة تقييم قيمنا القائمة ،وصناعة نمط جديد مرتبط باإلنسان
وتاريخه وكينونته ،واضعا ً عبارته الشهيرة «إن اإلنسان يجب أن يتغلب على
اإلنسان» بالدخول في آفاق قيمية أرحب مما هي لدينا ،بما يجعله وفقا ً لوصفه
؛ أي أن اإلنسان بحاجة إلى تطوير قيمه )«» (Oubbermenchالرجل الخارق
.المجردة المستندة إلى تاريخه وسلوكياته ،وليس باألنماط السابقة
وال خالف على أن «نيتشه» كان أثره كبيراً على أجيال من المفكرين الذين تلوه،
ولكن التقدير أنه وقع في الخطأ نفسه الذي يقع فيه كثير من الغربيين اليوم في سعيهم
لصياغة المطلق على تجربتهم التاريخية والقيمية المجردة ،فرفضه ألي دور للدين
المسيحي في التطور التاريخي األوروبي إنما أفقد فكره قدراً كبيرا ً من الشمولية
المطلوبة ،فال خالف على أن القيم األخالقية مسألة تراكمية على مر الزمن ،تؤثر
فيها عوامل كثيرة ،منها السلطة واألبعاد الميتافيزيقية ،خاصة أن التاريخ بقدم لنا
نماذج لعظماء قوم ساهموا في صناعة ما وصفه بـ«أخالقيات العبيد» ،وعلى رأسهم
اإلمبراطور الروماني «ماركوس أوريليوس» ،النموذج العملي والفكري للروائية
الذي اتبع ما وصفه «نيتشه» بـ«أخالقيات العبيد» وهو إمبراطور ،تماما ً مثل الخليفة
.عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز ،وغيرهما
الحقيقة أن فكر «نيتشه» يحتاج منا إلى قدر من الحيطة والحذر والتفكر في آن،
فاإلنسان ليس في صراع مع تاريخه وعوامل صناعته بهدف التجرد منها حتى
يصبح «الرجل الخارق» وفقا ً له ،ولكنه بحاجة إلى التصالح والتفاهم مع تاريخه بعين
على الماضي وعين وعقل على المستقبل لتنظيم إحداثياته اإلنسانية في مسيرته،
.خاصة المتعلقة باألخالق ومفاهيمها
وفي مذهبه األخالقي استبعد مذهب السعادة الشخصية ،ألنه يرد الخير إلى اللذة
والمنفعة ،كما أنه يعجز عن استخراج قانون كلي ضروري من أنواع الحساسية
ضا على مذهب ً
تمييزا بين بواعث الرذيلة ،ولم يوافق أي ً الجزئية المتغيرة ،وال يضع
العاطفة األخالقية مع اعترافه بالفضيلة ً
أوال وبالذات ،ولكنه في الوقت نفسه استبدل
ولم " بالمن فعة الحسية الرضا النفسي ،ولجأ أنصاره إلى العاطفة ليأسهم من العقل
سا للخير والشر
"[2].يقدروا أن العاطفة متغيرة نسبية ال تصلح مقيا ً
إنه مع تسليمه بأن اإلنسان يسعى إلى بلوغ السعادة ،إال أن فكرة السعادة قد بلغت من
عدم التجديد مبلغًا جعل كل إنسان يعجز عن التعبير عما يشتهيه بالرغم من رغبته في
تحقيق السعادة لنفسه ،ذلك ألن العناصر المختلفة للسعادة مستمدة من التجربة ،ومن
ثم فإنه من المستحيل على كائن متناه -وهو اإلنسان -وإن ظن أنه أحكم المخلوقات
وأشدها قوة أن يكون فكرة محددة عما يريده على وجه الدقة من وجوه على هذه
األرض ،فإن أراد الثروة ً
مثال فإنه سرعان ما يتعرض للحسد والدس والوقيعة ،وإذا
سعى إلى المزيد من المعرفة والبصيرة ،فربما أدى ذلك إلى أن يزيد بصره نفاذًا إلى
ً
طويال، عمرا
فمن يضمن له الشرور التي تتوارى عنه في حالته الراهنة ،وإذا اشتهى ً
وكذلك في طلبه للصحة ،فربما كان اعتالل الجسد أال يكون شقاء طويل األجل؟
عاص ًما من إفراط كان سببًا في وهن الصحة الكاملة "إنه على الجملة عاجز عن أن
يحدد بيقين تام ،وبمقتضى مبدأ من المبادئ ما يمكن أن يوفر له السعادة الحقة ،ألنه
سيحتاج حينئذ إلى المعرفة الكلية التي تحيط بكل شيء ،وإذن فليس في استطاعة
اإلنسان لكي يحصل على السعادة أن يراعي في أفعاله مبادئ محددة وإنما عليه أن
"[3].يتبع نصائح تجريبية
لقد كان كانط في مقدمة القائلين بوجهة النظر المثالية ،فأراد أن يحرر السلوك
األخالقي من قيود الميول واألهواء ،ولهذا استبعد اللذة والمنفعة والسعادة غاية
قصوى ألفعال اإلنسان اإلرادية ،إذ جعل الباعث يقوم في اإلرادة نفسها ،وبذلك
[4].ارتدت عنده األخالقية إلى مبدأ الواجب
ويقدم لنا بعض الواجبات بحعسب تقسيمها إلى واجبات نحو أنفسنا وواجبات نحو
:غيرنا وهي
لنضرب ً
مثال حالة رجل بلغ به اليأس حدًا قرر معه أن يضع حدًا لحياته ،فإذا ما 1-
بحثنا إن كان من الممكن أن يصير فعله قانونًا طبيعيًا عا ًما؟
والمشكلة حينئذ هي أنه هل يمكن أن يتحول مبدأ حب الذات هنا إلى قانون طبيعي
ولكن الإلنسان سرعان ما يدرك أن الطبيعة التي يهدف قانونها إلى تحطم " عام؟
الحياة عن طريق اإلحساس الذي تقوم وظيفته على دفع عجلة التطور في الحياة ،إنما
تناقض نفسها بنفسها وال يمكن أن تحتفظ تبعًا لذلك بما يجعلها طبيعية ،وأن من
المستحيل على تلك المسلمة أن تصبح قانونًا طبيع ًيا ،وأنها نتيجة لذلك كله تناقض
أي أن االنتحار يستحيل أن يصبح قانونًا ]"[5المبدأ األعلى للواجب مناقضة تامة
.طبيعيًا
حالة امرئ احتاج إلى اقتراض مبلغ من المال بينما يعلم أنه لن :الحالة الثانية 2-
يتمكن من سداده ،وتتنازعه الرغبة في عدم السداد ،ولكن سرعان ما يقف في وجهه
.وازع الضمير لينبهه إلى تحريم االلتجاء إلى هذه الطريقة لحل ضائقته المالية
ً
عادال ،فإنه لن يصبح بأي حال من األحوال قانونًا طبيعيًا وحتى إذا كان هذا المبدأ
عا ًما "وذلك ألن التسليم بقانون عام مؤداه أن كل إنسان يعتقد أنه في ضائقة يستطيع
أن يعد بما يخطر على باله ،مع النية المعقودة على عدم الوفاء بهذا الوعد سيجعل
ً
مستحيال ،إذ لن يصدق أمرا
الوعد نفسه والغاية التي يطمع في تحقيقها عن طريقه ً
"[6].أحد ما يبذل له من وعود
يتمتع بكثير من المواهب ويحتاج معها إلى التثقيف والتهذيب ولكنه :أمر ثالث 3-
يهملها ساع ًيا وراء اللذات ً
بدال من بذل الجهد في تنمية استعدادته الفطرية وتحسينها،
ثم سرعان ما يتبين له أن نزعته الطبيعية إلى التمتع باللذات ال تتفق مع ما يسمى
بالواجب .كما ال يمكن أن تصبح قانونًا طبيعيًا عا ًما "ذلك ألنه بما هو كائن عاقل،
يريد بالضرورة أن تنمى جميع ملكاته لكونها نافعة له ،وألنها أعطت له ليبلغ ألوانًا
"[7].عديدة من الغايات واألهداف
الذي توافرت له أسباب الحياة الرغدة فإنه ينظر إلى من حوله من :أما الرابع 4-
المكافحين دون أن يمد لهم يد المساعدة مع مقدرته على ذلك ،بل ال يرغب في تحقيق
السعادة لهم بمعاونتهم بالمال أو الوقوف إلى جانبهم في أوقات الشدة إن مجرد إرادة
أن يتحول ذلك التصرف إلى قانون طبيعي عام تناقض نفسها بنفسها "فقد يحدث في
كثير من الحاالت أن يحتاج مثل هذا اإلنسان إلى حب اآلخرين وعطفهم ،وأن يجد
نفسه محرو ًما من كل أمل في الحصول على المساعدة التي يتمناها ،إذ يحول بينه
"[8].وبينها ذلك القانون الطبيعي المنبثق من إرادته ذاتها
:ومن هنا نستطع أن نتبين أفعال الواجب التي يحددها كانط على النحو التالي
إن محافظة اإلنسان على حياته واجب ،واإلحسان واجب ،وتأمين اإلنسان لسعادته
عدوا واجب
[9].الذاتية واجب غير مباشر ،ومحبة الجار ولو كان ً
خيرا إال إذا صدرت عن واجب ،ال عن ميل
وهكذا فإن األفعال اإلنسانية ال تكون ً
مباشر أو رغبة في تحقيق مصلحة شخصية ،فإذا أدى اإلنسان واجبًا -كإنقاذ غريق -
فإنه لكى يصبح تصرفه أخالقيًا ينبغي أن يكون باعث الواجب من بين عدة بواعث
هو الكافي لإلقدام على الفعل ،ومع إقرار العواطف النبيلة كعامل مساعد إلتيان
ضا "فإن العالم يفتقد من اتخاذ
األفعال الخيرة فإن غرسها في النفس يعد واجبًا أي ً
السعادة غاية مباشرة ألفعالنا .إن علينا واجبًا غير مباشر يقضي بالبحث عن
"[10].سعادتنا
:تعريف الواجب
ولكن ما هو تعريف كانط للواجب؟
"[11].إنه يصفه بأنه "ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون
واإلنسان ليس في حاجة إلى علم وال فلسفة لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل لكي
وخيرا
ً ذلك ألن المبادئ ] ،[13وإن معظم أفعالنا تتفق مع الواجب][12يكون أمينًا
خالصة من كل عنصر تجرييي ،وأنه ال يمكن أن " األخالقية هي مبادئ قبلية بحتة
"[14].نجدها أو نجد أقل جزء منها إال في تصورات العقل الخالصة
ومن السهل علينا أن نفرق بين األفعال التي تصدر عن شعور بالواجب واألخرى
التي تنبع عن حرص أناني على المصلحة .مثال ذلك أن التاجر الفطن يتحاشى رفع
سعره ويحافظ على مستوى سعر ثابت للجميع بحيث يستطيع أن يشتري بها الطفل
وأي إنسان آخر ،وهنا ال محيص من االعتراف بأنه يعامل المشترين بأمانة ،ولكن ال
يكفي هذا لالستدالل عن صدور فعله التزا ًما بمبادئ الواجب ،ألن مصلحته قد
اقتضت ذلك ،وال نستطيع افتراض أنه يتصرف مع عمالئه بوحي من عاطفته نحوهم
"وإذن فلم يصدر هذا السلوك ال عن واجب ،وال عن ميل مباشر ،بل كان الباعث
"[15].عليه هو المصلحة الذاتية وحدها
وعلى العكس من ذلك -كما تبين لنا آنفًا أن محافظة اإلنسان على حياته واجب
بالرغم من إحساسه أحيانًا بالتعاسة والهزيمة والهوان وتمني الموت ،فمحافظته على
.حياته بالرغم من كل هذه الظروف صادر عن مسلمة ذات مضمون أخالقي
وكذلك اإلنسان الذي يحسن إلى الغير منفلتًا من همومه الذاتية التي تقضي على كل
مشاركة وجدانية لآلخرين ،وصرفه معاونتهم عن االنشغال بشقائه الشخصي فإن
تصرفه هذا يصدر عن شعور بالواجب .وكذلك يأتي تأمين اإلنسان لسعادته من قبيل
الواجب بطريق غير مباشر "ذلك ألن عدم رضا المرء عن حاله وتزاحم الهموم
العديدة عليه ومعيشته وسط حاجات لم يتم إشباعها قد تكون إغراء قويًا له على أن
ولكن البد من أن تكون قاعدة تحقيق السعادة مصحوبة ]"[16يدوس على واجباته
بأضرار تلحق ببعض الميول؛ ويصدر التصرف إذن ال عن ميل بل عن إحساس
[17].بالواجب
:ومن هذا يتضح أن السمات الرئيسية للواجب تتحدد وفقا للقواعد الثالث اآلتية
أنه تشريع كلي وقاعدة شحاملة ،وتكمن قيمة الواجب في صميم الواجب نفسه :أولها
بصرف النظر عن أية منفعة أو فائدة أو كسب مادي ،وعلى هذا فإن اإلنسان هو
الكائن الوحيد الذي يفعل مع معرفته بأن "قيمة الفضيلة إنما تزيد كلما كلفتنا الكثير،
"[18].دون أن تعود علينا بأي كسب
أن الواجب منزه عن كل غرض ،فال يطلب لتحقيق المنفعة أو بلوغ السعادة :الثانية
وإنما ينبغي أن يطلب لذاته ،أي ينبغي أن نؤدي واجبنا "فليست األخالق هي المذهب
الذي يعلمنا كيف نكون سعداء بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين
"[19].بالسعادة
للواجب أنه قاعدة غير مشروطة لفعل ،أي أنه قانون سابق ،أو حكم :والسمة الثالثة
[20].أولي سابق على التجربة
إن الحديث عن مصدر اإللزام في فلسفته وثيق الصلة بفلسفته الميتافيزيقة في تصور
:الكون .فالعالم عنده عالمان
.عالم األشياء كما هي في ذاتها :أحدهما
هو عالم األشياء التي تبدو لنا وهو يختلف عن األول ،مثال ذلك أن :والعالم الثاني
الرجل الذي ولد على عينيه منظار أزرق اللون ً
مثال يرى كل شيء مصطبغًا بهذا
اللون ،وكذلك العقل ،فإنه يضيف إلى األشياء صفات الكم والكيف كون الشيء علة أو
حيزا من المكان أو الزمان "بهذا ال ندرك قط شيئًا على حقيقته ،وإنما ً
معلوال ،يشغل ً
"[21].ندركه كما يبدو لنا
واإلنسان ال يخرج عن نطاق العالم الذي أنشأه وصوره له عقله أو على األقل ساهم
.في إنشائه
وبالمقارنة بين العالم واإلنسان ،فإن لإلنسان بدوره مظهرين أحدهما :يتمثل في ذاته
.التجريبية التي تربطه بعالم األشياء كما تبدو
وهنا يبدو المظهر الثاني لإلنسان ،وهو انتماؤه إلى عالم الحقائق في ذاتها ،وحينما
متحررا من آثار الوراثة
ً يشعر اإلنسان باإللزام الخلقي ،إنما يستلهمه من مثل أعلى
صا من الجانب
وقيود البيئة ومواضعات الظروف ،متجردًا عن العالم الطبيعي ،متخل ً
وعندئذ يتصرف " الذي يربطه بالعالم كما يبدو ،مرتفعًا إلى عالم الحقائق في ذاتها
ككائن أخالقي ،فيخضع سلوكه لمبدأ الواجب ،ويزاول أفعاله بإرادة حرة ،وال يتقيد
"[23].بغير نفسه التي تعتنق مبدأً أخالقيًا تدين له بالوالء
:نقد المذهب
يتجاهل كانط الغالبية من البشر بمكوناتهم المذهبية والعاطفية الذين يسعون
بتصرفاتهم وسلوكهم إلى غايات تختلط فيها األهداف بتحقيق منافع أو بحث عن
سعادة ،أو تحكم أعمالهم دوافع الرجاء أو الخوف ،وتتعدد واجباتهم بتعدد األحوال
.والعالقات
إن قانون الواجب الصارم يصلح فقط لقلة خاصة من ذوي اإلرادات الحديدية الذين ال
الواجب فحسب ،حتى لو أدى ذلك إلى تضحيات بالمال " يحققون من سلوكهم إال عمل
".والوقت والراحة وغيرها
المجرد عن "شكله المحض" إن هذه الصيغة الكانطية التي تقيم اإللزام على أساس
.هذه الصيغة يصعب االنقياد لها في كل األحوال ][24مادته
ويقول الدكتور دراز "الواجب الكلي العام ،فلنقبله ،ولكن ينبغي أن نفرق بين درجات
:كثيرة من العمومية فإن لها امتدادًا بقدر ما لها من مفاهيم
الواجب األبوي واألموي ،والزوجي ،والبنوك ،واجبات الرياسة والصداقة والمواطن
".واإلنسان واجب العمل وواجب التفكير وواجب المحبة
وهل من حقنا أن نقول لرئيس أن يعامل من هم أعلى منه رتبة " ويتساءل بعد ذلك
معاملته لمرؤسيه؟ وأن نطلب إلى زوج أن يعامل كل نساء الدنيا كما يعامل زوجته
"[25].والعكس؟
ثم يطرح لنا البديل في تنفيذ أوامر الشرع ونواهيه وهي التي تجعل المؤمن ال يذعن
للواجب "كفكرة" أو "ككائن عقلي" ولكنه يذعن له من حيث هو صادر عن هللا تعالى
الذي زودنا بالعقل وأودع فيه الحقائق األولى ،بما في ذلك الحقيقة األخالقية في المقام
.األول
.
ثالثا :العــــــلم واألخـــــــــــــالق
العلم من أهم ركائز المجتمعات وعناصر نهضة األمم والشعوب كونه يبني األفراد
والمجتمعات ويسهل لهم أمور حياتهم ،أما األخالل فهي تحصن الفرد وتقوي
المجتمعات وتحميها.
العالقة بين العلم واألخالق عالقة تكاملية قال أثر طيب للعلم بدون أخالق وال أخالق
صر ويرشد ألنه العين المبصرة لألخالق.
صحيحة من غير علم يب ّ
فاألخالق والقيم هما الوعاء الحافظة والراعية للعلم وتترتب على اقتران العلم
باألخالق آثار إيجابية تعم األفراد والمجتمعات على حد سواء منها قوة شخصية الفرد
حامل العلم وثقة الناس به وبعلمه وتشجيع الناس على طلب العلم ،والبحث عنه
وعلو هيبته لوجود نماذج متعددة من العلماء
ّ وتتبعه وكذلك قوة تماسك المجتمع
المتسربلين باألخالق في علمهم.
فأنت تجد العالم الصادق في علمه أيا ً كان تخصص مجال علمه ،فكل العلوم متى
قيدت وحفّت باألخالق فإنها حتما ً ستعود بالنفع على الجميع كعلوم الطلب والهندسة
وغيرها.
وال ننسى تشجيع روح التنافس بالمجتمع نتيجة ما يراه الناس من خلق العلماء والناس
بفطرتهم السوية وسجاياهم الحسنة تميل نفوسهم إلى تقليد وتتبع اإلنسان السوي
الناجح في حياته النافع لغيره ،ومن ذلك أيضا ً ريادة األمم وعلو شأنها وذلك باقتران
العلم باألخالق وكذلك فإن لتجرد العلم من األخالق الحسنة آثاراً وخيمة تعود على
األفراد والمجتمعات على حد سواء منها عدم ثقة الناس بحامل العلم لما وجدوا فيه من
أخالق سيئة ذميمة وتنفير الناس من طلب العلم والبحث عنه وعدم االكتراث بحملته
ووجود انتشار الضرر كأثر مباشر النتزاع صفة األخالق كالصدق واألمانة من
العالم وكطبيب يفتقر إلى األمانة أو مدرس يُؤثر نفسه على غيره على حساب المبادئ
والقيم ويضحي بالصدق من أجل مصلحته الشخصية ،وكذلك قتل روح الهمة
والتنافس لطلب العلم في المجتمع لنفور الناس من النماذج التي يرونها في طالب
العلم والعلماء وتسمم العالقات االجتماعية وتفكك المجتمعات وفي المحصلة النهائية
بتقهقر األمم والشعوب وأفول نجمها نتيجة ألزمة لتراكم األخطاء المترتبة على
العلماء بسبب غياب وارع األخالق لديهم .
وأخيرا ً فإن العلم واألخالق جناحين يحلق بهما الفرد والمجتمع على حد سواء وال
ينفع التحليق بأحدهما دون اآلخر.