You are on page 1of 40

‫الـــــفـــصــل الــثــالــث‬

‫الكبـــيرة فــي عـــلم الكالم‬

‫الحظنا من قبل أ ّن النصوص التأسيس ي ّ ة ( القرآن والحديث ) لم‬


‫تم ّد نا بمفهوم دقيق للكبيرة ‪ ،‬ولع ل ّ هذا األمر من األسباب المه مّ ة التي‬
‫تب ّر ر تع ّد د تعريفات المسلمين للكبائر واختالفها‪ .‬وك ن ّ ا أشرنا سابقا‬
‫إلى أ ّن التنظير الحق تاريخ ي ّ ا بالنسبة إلى المشاغل العمل ي ّ ة‬
‫المحكومة بالظرف ي ّ ة واآلن ي ّ ة ‪ ،‬لذلك فإ ّن المؤ ل ّ فات التي نجد فيها‬
‫ي للكبيرة هي مؤ ل ّ فات متأ ّخ رة عن‬
‫محاوالت لوضع تحديد مفهوم ّ‬
‫االنشغال بمسألة الذنب ‪ ،‬والتناظر في مسؤول ي ّ ة اإلنسان عن أفعاله‬
‫ص ة ما تع ل ّ ق منه ا بالذنوب الكبائر‪.‬‬
‫وخا ّ‬

‫ي باألساس ‪ ،‬دارت حوله مناظرات‬


‫إ ّن الكبيرة مشغل كالم ّ‬
‫المسلمين‪ ,‬فإلى جانب المشغل السياسي الذي يمكن أن نختزله في‬
‫قض ي ّ ة اإلمامة ‪ ،‬فإ ّن القول في مسألة الكبيرة واسم صاحبها وحكم‬
‫مرتكبها يبقى » إحدى القضايا األساس ي ّ ة التي نشب حولها الخالف بل‬
‫اعتب رت أحد األسباب الرئيس ي ّ ة لنشأة المذاهب والفرق الكالم ي ّ ة « ‪. 1‬‬
‫إ ّن نظرنا في كتب المقاالت والعقائد يؤ كّ د هذا الرأي ‪ ،‬ومن ذلك ما‬
‫يذهب إليه ابن حزم ( ت ‪ 654‬هـ) حين يل ّخ ص األصول التي قامت‬
‫عليها الفرق اإلسالم ي ّ ة ‪ ،‬يقول‪ » :‬من قال إ ّن أعمال الجسد إيمان‬
‫[‪ ]...‬وأ ّن مؤمنا يكفر بشيء من أعمال الذنوب ‪ ،‬وأ ّن مؤمنا بقلبه‬
‫ول سانه يخلد في النار فليس مرجئ ي ّ ا ‪ ،‬ومن وافقهم على أقوالهم هاهنا‬
‫ي‪.‬‬
‫وخالفهم فيما عدا ذلك من ك ل ّ ما اختلف المسلمون فيه فهو مرجئ ّ‬

‫‪ )1‬توفيق بن عامر‪ ،‬منزلة أصول الدين بين سائر العلوم الشرعيّة‪ ،‬ص ص ‪11.-11‬‬

‫‪55‬‬
‫ومن خالف المعتزلة في خلق القرآن والرؤية والتشبيه والقدر وأ ّن‬
‫صاحب الكبيرة ال مؤمن وال كافر لكن فاسق فليس منهم ‪ ،‬ومن وافقهم‬
‫فيما ذكرنا فهو منهم وإن خالفهم فيما سوى ذكرنا م مّ ا اختلف فيه‬
‫المسلمون‪ ]...[ .‬ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير‬
‫أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئ مّ ة الجور وأ ّن أصحاب‬
‫الكبائر مخ ل ّ دون في النار وأ ّن اإلمامة جائزة ف ي غير قريش فهو‬
‫ي وإن خالفهم فيما عدا ذلك م مّ ا اختلف فيه المسلمون « ‪. 2‬‬
‫خارج ّ‬

‫ما نالحظه إذن‪ ،‬من خالل قول ابن حزم‪ ,‬أنّ مسألة الكبائر من المسائل‬
‫الثابتة في أغلب مقاالت اإلسالميّين‪ ,‬بل هي أصل من أصول تلك المقاالت‪ ،‬فهي‬
‫تمسّ جوهر الديانة أي اإليمان‪ .‬من هنا كان تناظر المسلمين في إشكاليّة اإليمان‬
‫واألعمال‪.‬‬

‫‪ .I‬اإليـــــمــــان و األعـــــمــــال‪:‬‬

‫تندرج إشكاليّة اإليمان واألعمال في إطار القضايا الخالفيّة التي دارت حولها‬
‫ّ‬
‫وتتلخص في القول في مسؤوليّة اإلنسان عن ذنوبه‪ ,‬أي هل أنّ‬ ‫مناظرات المتكلّمين‪.‬‬
‫الكبيرة مخرجة عن اإليمان‪ .‬تطلّبت هذه المسألة تحديدا لمفهوم اإليمان وطبيعته ال‬
‫عند المتكلّمين فقط بل كذلك لدى الفقهاء‪.‬‬

‫إنّ القول في اإليمان هو المح ّدد األساسي لمصير اإلنسان األخروي‪ ،‬فالتكفير‬
‫بالكبيرة يحكم على صاحبها بالخلود في النار وعدم استحقاق الشفاعة باإلضافة إلى ما‬
‫يستتبع الخرو ُج عن الملّة من معامالت في الهيئة االجتماعيّة‪ ،‬فالكافر ال يصلّى عليه‬

‫‪ )2‬ابن حزم‪ ،‬الفصل في الملل واألهواء والنحل‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.98‬‬

‫‪56‬‬
‫وال يدفن في مقابر المسلمين وال يستقضى وال ُتقبل شهادته وال يُصاهر وال يت ّم‬
‫التعامل التجاريّ معه‪.‬‬

‫ُتطرح القضيّة‪ ،‬عموما‪ ،‬في إطار المماهاة بين اإلسالم واإليمان أو التمييز‬
‫بينهما مع التأكيد على أنّ أحدهما ال يص ّح إال ّ باآلخر‪ .‬كما أنّ المسألة مرتبطة بالقول‬
‫في زيادة اإليمان ونقصانه باألعمال أو أنّ اإليمان " إذا كان ت ّم وإذا عدم خال "‪.‬‬
‫تطرح مثل هذه االختالفات إشكاليّة مفهوميّة عميقة تمسّ جوهر الديانة ويرتبط بها‬
‫الجزاء األخرويّ إلى جانب األسماء الشرعيّة في المعاش‪.‬‬

‫والحقيقة أنّ بحوثا عديدة حاولت التطرّ ق إلى مثل تلك المسائل‪ ،‬وهي في‬
‫معظمها بحوث استشراقيّة اهتمّت بمسألة اإليمان واألعمال من زاوية نظر تاريخيّة‬
‫ّ‬
‫ولخصت ما نقف عليه في كتب الفرق والمقاالت‪.‬‬

‫ّ‬
‫ونمثل على تلك البـحوث بـمقـال للويس قـاردي )‪ (Louis Gardet‬وسـمه‬
‫بـ" األسماء واألحكام‪ ,‬إشكاليّة اإليمان واألعمال في اإلسالم"‪ .26‬ث ّم أعاد نشره في‬
‫ولخصه في مقال "إيمان" في دائرة المعارف‬ ‫كتابه " هللا‪ ،‬ومصير اإلنسان "‪ّ .25‬‬
‫اإلسالميّة‪ .24‬خصّص قاردي القسم األوّ ل من مقاله لمعالجة المسألة المفهوميّة‬
‫المتعلّقة باإليمان فوسمه بـ "حقيقة اإليمان"‪ .22‬وح ّدد اإلطار العام الّذي يطرح فيه‬
‫إشكاليّته وهو‪ » :‬ما الّذي يجعل اإلنسان مؤمنا أمام هللا وفي نظر الناس؟ وهل إنّ‬

‫‪Louis Gardet, les noms et les statuts, le problème de la foi et )22‬‬


‫‪des œuvres en Islam, in Studia Islamica V (1956), pp 61-123.‬‬

‫‪Dieu et la destinée de l’Homme, Paris 1967, Chapitre )21‬‬


‫‪premier« La nature (haqīqa) de la foi », pp 353-407.‬‬

‫‪Article « Īmān », in EI2 , Tome III, pp 1199-1202. )21‬‬


‫‪ )22‬المقال المذكور‪ ،‬ص ص ‪96.-16‬‬

‫‪57‬‬
‫اإليمان واإلسالم شيء واحد؟ وما هي نتائج ذلك في الدنيا واآلخرة؟«‪ .‬ويؤ ّكد أنّ هذه‬
‫القضايا ذات محمل سياسيّ باعتبار أنّ الفرق الكالميّة م ّتفقة على أنّ » للمسلم فقط‬
‫حق قيادة المجتمع اإلسالمي«‪ .‬ويدعّم رأيه بما وقع بعد معركة صفّين من انقسام بين‬
‫ّ‬
‫المسلمين وخاصّة نشأة الخوارج الّذين اعتبروا ك ّل كبيرة خروجا عن اإليمان مشيرا‬
‫بذلك‪ ،‬ضمنيّا على األق ّل‪ ،‬إلى مسألة تحكيم عليّ الذي اعتبر كبيرة نافية لإليمان‬
‫وبذلك تسقط شرعيّة خالفته بعد تحكيمه‪ .‬وبعد ذلك يح ّدد المواقف الكبرى التي نشأت‬
‫في صلب المجتمع اإلسالمي‪:‬‬
‫‪ -‬الموقف المعتزلي الذي يكاد يماهي الموقف الخارجي‪.‬‬
‫الموقف الحنفي الماتريدي المح ّدد لإليمان بالشهادة باللسان‪.‬‬
‫‪ -‬الموقف األشعري‪ ,‬ويؤ ّكد على تع ّدد فروعه‪.‬‬
‫‪ -‬موقف المرجئة الفاصل بين اإليمان واألعمال على اإلطالق والمح ّدد‬
‫لإليمان بالمعرفة‪.‬‬
‫‪ -‬الموقف الشيعي المنقسم إلى إيمان ظاهر وآخر باطن‪.‬‬

‫إنّ هذه التحديدات هامّة لمعرفة مقاالت اإلسالميّين في اإليمان‪ .‬ولكن‬


‫اختالف المسلمين في اإليمان راجع‪ ،‬حسب قاردي‪ ،‬إلى العوامل السياسيّة فقط التي‬
‫تولّدت عن التحكيم وبالتالي ظهور مقالة الخروج التي استوجبت مقاالت را ّدة عليها‪،‬‬
‫وليس هناك إشارة إلى أنّ اختالف المسلمين في تحديد مفهوم اإليمان وطبيعته‪ ،‬بل‬
‫علم الكالم جملة ناتج كذلك عن فهم مخصوص للقرآن في المقام األوّ ل وللمنسوبات‬
‫إلى الرسول ثانيا‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫والحقيقة أنّ االقتصار على ربط مشغل اإليمان واألعمال بالعوامل السياسيّة‬
‫سمة مشتركة بين الدراسات االستشراقيّة لعلم الكالم‪ ،22‬بل تواصلت أيضا في بعض‬
‫الدراسات العربيّة اإلسالميّة‪ ،‬وهي قليلة‪ .‬ومن ذلك ما يذهب إليه حسن حـنـفي في‬
‫كتـابه " من الـعقـيدة إلى الثورة " الـّذي وسم الجزء الـخامـس مـنـه بـ " التاريخ‬
‫المتعيّن (اإليمان والعمل واإلمامة) "‪.‬‬

‫يعالج حنفي مسألة اإليمان واألعمال في إطار ما يسمّيه "الشعور" فيح ّدد له‬
‫أبعادا أربعة هي المعرفة والتصديق واإلقرار والعمل‪ .‬وبعد ربط عالقات معقّدة‬
‫ثنائيّة وثالثيّة ورباعيّة بين تلك األبعاد‪ ،‬وهي عالقات أشبه باالحتماالت الرياضيّة‪،‬‬
‫يصل في نهاية المطاف إلى اإلقرار بأنّ » االختيار الرباعي هو األمثل أل ّنه هو‬
‫الذي يوحّ د بين أبعاد الشعور األربعة‪ ,‬فاإليمان هو العمل«‪ .22‬ويؤ ّكد هذه النتيجة‬
‫التي وصل إليها فيقول في صياغة ال تختلف عمّا كتبه المتكلّمون المجادلون‪ » :‬ويقرّ‬
‫العقل أنّ فعل الواجبات هو الدين‪ ،‬وأنّ الدين هو اإلسالم‪ ،‬وأنّ اإلسالم هو اإليمان‬
‫وبالتالي يكون فعل الواجبات هو اإليمان‪ .‬كما يعني اإليمانُ الصال َة نظرا للتوحيد‬
‫[كذا] بين اإليمان واألعمال‪ .‬وإنّ قاطع الطريق ليس بمؤمن‪ ،‬أي قطع الطريق ليس‬
‫من اإليمان‪ .‬كما أنّ الزاني ال يزني وهو مؤمن نظرا الرتباط [كذا] الفعل باإليمان‪.‬‬

‫‪ )29‬أنظر مثال‪T. Izutsu, The concept of belief in islamic :‬‬


‫‪theology.‬والكتاب مخصّص بأكمله لبيان اختالفات المسلمين في مفهوم اإليمان لذلك‬
‫ال نحيل على صفحات بعينها‪ .‬وأنظر كذلك‪Wensinck, The muslim creed, :‬‬
‫‪(Chapter III, Faith, works and will), pp 36-57.‬‬
‫كما نشير هنا إلى كتاب آخر نحسبه ها ّما وهو ‪J. Van Ess, Theologie und‬‬
‫‪Gesellscahft, im 2. und 3. jahrahundert Hidschra. Berlin/ New‬‬
‫‪York,‬‬ ‫‪1990-1997.‬‬

‫‪ )28‬حسن حنفي‪ ،‬من العقيدة إلى الثورة‪ ،‬ج ‪ ( 1‬اإليمان والعمل واإلمامة )‪ ،‬ص ‪12.‬‬

‫‪59‬‬
‫وبأ ّنه لو كان العمل جزءا من اإليمان لكان اإليمان‬ ‫‪03‬‬
‫أمّا االعتراض بواو العطف‬
‫منافيا للظلم إلخراج العمل من اإليمان‪ ،‬فمردود عليه بأ ّنه لو لم يكن العمل من‬
‫اإليمان لما ص ّح إطالق اإليمان على العمل‪ .‬كما أنّ اإليمان في الشرع ليس التصديق‬
‫فحسب وإال ّ لما كان بضعا وسبعين شعبة أعالها ال إله إال ّ هللا وأدناها إماطة األذى‬
‫عن الطريق«‪ .01‬ث ّم يل ّح حنفي على المحمل السياسيّ للقول في اإليمان واألعمال‪» :‬‬
‫فإخراج العمل عن اإليمان كلّية [‪ ]...‬هو تبرئة للح ّكام وتجاهل ألفعالهم واالكتفاء‬
‫ّ‬
‫يتجزأ [كذا] من‬ ‫بأقوالهم ح ّتى ال تحاسبهم األمّة‪ .‬في حين أنّ إدخال األعمال كجزء ال‬
‫حقيقة اإليمان هو مراقبة على الح ّكام والمحكومين ومحاسبتهم على أفعالهم‪ .‬أمّا جعل‬
‫األعمال مجرّ د أجزاء عرضيّة لإليمان ال يلزم من عدمها عدمه [‪ ]...‬فهي محاوالت‬
‫لتحقيق نوع من المصالحة بين الخصوم السياسيّين‪ ،‬وتظ ّل أقرب إلى رأي السلطة‬
‫القائمة التي ُتخرج العمل من اإليمان«‪.02‬‬

‫ما الحظناه في ما يذهب إليه حنفي‪ ,‬باإلضافة إلى محاولة دمج مسألة اإليمان‬
‫واألعمال بالكليّة في الشأن السياسي‪ ,‬الخلط الّذي ي ّتضح في نسبة القول بأنّ األعمال‬
‫خارجة عن اإليمان على اإلطالق إلى " بعض الخوارج " وأنّ الهدف من ذلك كما‬
‫يقول‪ » :‬تبرئة الح ّكام وتجاهل ألفعالهم«‪ .00‬ووجه الخلط أنّ ك ّل الخوارج ال‬
‫يفصلون مطلقا بين اإليمان واألعمال‪ ،‬كما أ ّنهم ّ‬
‫مثلوا دائما فرقا معارضة للسلطة‬
‫ومك ّفرين لمخالفيهم‪ .‬والغريب أنّ حنفي نفسه يذكر ذلك عند تصنيفه للخوارج ضمن‬
‫ما يسمّيه » جماعة االضطهاد«‪ ،‬أي المناوئين للسلطة‪.06‬‬

‫‪ )63‬الواضح ّ‬
‫أن "الواو" في حديث الرسول » ال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‬
‫‪ «...‬ليست واو عطف بل هي واو الحال‪.‬‬
‫‪ )61‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص ‪12.-16‬‬
‫‪ )62‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪12.‬‬
‫‪ )66‬أنظر الهامش ‪ ،86‬ص ‪ 12‬من المرجع السابق‪.‬‬
‫‪ )62‬أنظر الهامش ‪ ،112‬ص ‪ 92‬من المرجع السابق‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫وعندما يشير حسن حنفي إلى أنّ مسائل الحكم باإليمان أو الكفر على‬
‫صاحب الذنب مستندة إلى فهم النصّ وتأويله‪ ،‬يذهب إلى أنّ ذلك التأويل ناتج عن‬
‫موقف المؤوّ ل من السلطة السياسيّة‪ » :‬والحقيقة أ ّنه ال يُوجد حكم واحد لمرتكب‬
‫الكبيرة بل تتع ّدد األحكام طبقا للمواقف السياسيّة وللموقع في السلطة‪ .‬وإنّ الحجج‬
‫النقليّة أو العقليّة والحجج المضا ّدة كلّها قراءات في النصّ وإسقاط من الموقع عليه‪,‬‬
‫سواء الموقع من السلطة أو الموقع من المعارضة‪ .‬إنّ التكفير سالح مزدوج بين‬
‫السلطة وخصومها«‪.05‬‬

‫ال يمكن أن ننكر أهميّة العوامل السياسيّة واالجتماعيّة في بلــورة مقاالت‬


‫المسلمين في اإليمان والكفر‪ .‬ولكن ال يجب أن نهمل الناحية الدينيّة‪ .‬لقد كان اختالف‬
‫المسلمين في أصول الديانة ال في فـروعها‪ .‬كما أنّ » المشهود ممّا روته أخبار‬
‫ْ‬
‫أضحوا يدينون بكيف ّية‬ ‫العقائد والمقاالت أنّ أهل القرنين ‪ 2‬و‪ 0‬هـ‪ 2 /‬و‪ 2‬م قد‬
‫ْ‬
‫وسعوا إلى تطبيقه استنادا إلى ذلك‬ ‫اعتقاد«‪ ،04‬أي أ ّنهم فهموا النصّ فهمًا مخصوصا‬
‫الفهم مش ّكلين بذلك " العقيدة اإلســالميّة "‪ .‬مـن هذه المنـطـلقـات » تد ّل مفاهيم الكفر‬
‫واإليمان في اعتقادات المسلمين على صدق ك ّل فرقة من ناحية إلخالصها في‬
‫العبادة‪ ،‬وعلى أنّ ك ّل مقالة إسهام في صنع العقيدة اإلسالميّة في التاريخ ال في‬
‫التنظير االفتراضي من ناحية ثانية«‪.02‬‬

‫إنّ فهم المسلمين لإليمان مؤسّس على النصّ في المقام األوّ ل لذلك نحاول‬
‫النفاذ إليه انطالقا من القرآن ومن المنسوبات إلى الرسول لتبيّن مفهوم اإليمان من‬
‫األصلين اللّذين بُنيت عليهما العقيدة اإلسالميّة‪ .‬ويسمح هذا األمر بعد ذلك بالنظر‬

‫‪ )61‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪112.‬‬


‫‪ )61‬المنصف بن عبد الجليل‪ ،‬الفرقة الهامشيّة في اإلسالم‪ ،‬ص ‪212.‬‬
‫‪ )62‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪222.‬‬

‫‪61‬‬
‫في تحوّ الت المفهوم إثر تو ّقف الوحي ووفاة الرسول‪ ،‬وخاصّة في بداية الدولة‬
‫الناشئة زمن الخلفاء األوائل‪.‬‬

‫مفهوم اإليمان من خالل بوادر العقيدة اإلسالم ّية‪:‬‬ ‫‪)1‬‬

‫إنّ انطالقنا في تحديد مفهوم اإليمان من بوادر العقيدة اإلسالميّة ليس انتقائيّا‬
‫وال إقصائيّا بل ألنّ البوادر ّ‬
‫تمثل الدعامة األساسيّة أو النواة التي بُنيت عليها بقيّة‬
‫الديانة‪ .‬لذلك نتساءل عن تلك النواة في القرآن وفي الحديث النبويّ‪.‬‬

‫أ) من القرآن‪:‬‬
‫من المعروف أنّ القرآن كانت له سيرة تجاوزت العشرين سنة‪ ,‬هي فترة‬
‫الوحي‪ ,‬وذلك قبل أن يتش ّكل مصحفا إماما في عهد الخليفة الثالث‪ .‬وما يهمّنا هو‬
‫البحث عن مفهوم لإليمان كما تبيّنه بدايات الوحي اإلسالمي‪.‬‬

‫تختلف الروايات في شأن أوّ ل ما نزل على النبيّ من الوحي‪ .‬وقد جمع‬
‫البالذري (ت ‪ 222‬هـ) بعض األخبار المبيّنة لبدايات الوحي اإلسالمي‪ ،‬فكانت تلك‬
‫األخبار تشير إلى الفاتحة أو إلى اآليات األولى من المدثر أو إلى مطلع سورة‬
‫العلق‪ .02‬وجاء في "الفهرست" البن النديم (ت بعد ‪ 023‬هـ) من خبر محمّد بن‬
‫نعمان بن بشير‪ » :‬أوّ ل ما نزل من القرآن على النبيّ (ص) " اقرأ باسم ربّك الذي‬
‫خلق" إلى قوله " ما لم يعلم "‪ ,‬ث ّم " نون والقلم "‪ ،‬ث ّم " يا أيّها المزمل " وآخرها‬
‫بطريق م ّكة‪ ،‬ث ّم " المدثر«‪.02‬‬

‫‪ )69‬البالذري‪ ،‬أنساب األشراف‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ص ‪113.-131‬‬


‫‪ )68‬ابن النديم‪ ،‬الفهرست‪ ،‬ص ‪62.‬‬

‫‪62‬‬
‫ليس مشغلنا البحث في أوّ ل ما نزل على النبيّ بل النظر في تلك اآليات التي‬
‫اعتبرت من بوادر الوحي ومحاولة استخراج األصول المشتركة بينها‪ .‬وما نالحظه‬
‫أنّ اآليات المشار إليها في األخبار تنصّ على مبدإ اإليمان بإله واحد‪ .‬إنّ التوحيد هو‬
‫األصل الجامع لما اعتبر من بوادر الوحي‪ .‬والتوحيد‪ ،‬كما يعرّ فه الجرجاني‪ » ،‬ثالثة‬
‫أشياء‪ :‬معرفة هللا تعالى بالربوبيّة‪ ،‬واإلقرار بالوحدانيّة‪ ،‬ونفي األنداد عنه جملة«‪.63‬‬
‫وهذه األمور الثالثة هي التي تؤ ّكد عليها مختلف ما اعتبره المسلمون أولى اآليات‬
‫النازلة‪ .‬كما نالحظ أنّ اإليمان بإله واحد ال يتعلّق بأعمال ظاهرة بقدر تعلّقه بما "‬
‫وقر في القلب " من اعتقاد في جهة تعبّد‪ .‬لذلك فإنّ معنى الربوبيّة هو المعنى‬
‫المتكرّ ر في ك ّل اآليات التي أشرنا إليها‪:‬‬
‫العالَمِينَ ﴾‪.61‬‬ ‫ب َ‬ ‫الحمْ ُد ِ‬
‫هلل َر ِّ‬ ‫‪َ ﴿-‬‬
‫ُون َما أ ْن َ‬
‫ت ِبن ِْع َم ِة َر ِّب َك ِب َمجْ ُنون﴾‪.62‬‬ ‫طر َ‬ ‫‪ ﴿ -‬ن َوال َقلَم َو َما َيسْ ُ‬
‫ِ‬
‫ب الَ إلَ َه إالَّ ه ُُو َفا َّتخ ِْذهُ‬
‫ش ِر ِق َوال َم ْغ ِر ِ‬
‫ب ال َم ْ‬‫‪َ ﴿ -‬و ْاذ ُكرْ َر َّب َك َو َت َب َّتـ ْل إلَ ْي ِه َت ْبتِيالً‪َ .‬ر ُّ‬
‫َوكِيالً ﴾‪.60‬‬
‫‪َ ﴿ -‬يا أ ُّي َها ال ُم َّدثِرُ قُ ْم َفأ َ ْنذِرْ َو َر َّب َك َف َك ِّب ْر َوثِ َيا َب َ‬
‫ك َف َطهِّرْ َو ِ‬
‫الر ْج َز َفاهْ ُج ْر﴾‪.66‬‬
‫‪ ﴿ -‬ا ْق َرأ بِ ْ‬
‫اس ِم َر ِّب َك الَّذِي َخلَ َق ﴾‪.65‬‬

‫إنّ التأكيد على معنى الربوبيّة واإلقرار بإله واحد في هذه اآليات مدعوم‬
‫بالتأكيد على حقيقة البعث‪ ،‬وهي حقيقة تنفي عبثيّة التوحيد‪ .‬ولكن األه ّم إجابتها عن‬
‫تساؤالت الجاهليّ المتعلّقة بمشغل أساسيّ ظهر في معتقداته كما في شعره وهو‬

‫‪ )23‬الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪26.‬‬


‫‪ )21‬الفاتحة ‪2./1‬‬
‫‪ )22‬القلم ‪2.-1/19‬‬
‫‪ )26‬المزمل ‪8.-9 /26‬‬
‫‪ )22‬المدثر ‪1.-1 /22‬‬
‫‪ )21‬العلق ‪1. /81‬‬

‫‪63‬‬
‫مصيره بعد الموت‪ .‬وهذا األمر ي ّتضح إذا نظرنا فيما ُذكر بعد اآليات التي‬
‫عرضناها‪.‬‬

‫إنّ المصير األخرويّ في بوادر الوحي اإلسالمي يرتبط باإليمان باعتباره‬


‫اعتقادا في جهة تعبّد وإقرارا ذاتيّا بناحية علم دون نصّ على أيّ نوع من األعمال‬
‫الظاهرة‪ .‬ويبدو أنّ األمر طبيعيّ باعتبار أنّ الوحي شهد سيرة ال يمكن أن نفصلها‬
‫عن مجتمع التل ّقي‪ .‬ولع ّل في خبر البخاري ما يبيّن ذلك‪ » :‬ح ّدثنا إبراهيم بن موسى‪,‬‬
‫أخبرنا هشام ابن يوسف أنّ جُ ريج أخبرهم‪ ،‬وأخبرني يوسف بن ماهك قال إ ّني عند‬
‫عائشة أ ّم المؤمنين‪ ،‬رضي هللا عنها‪ ،‬إذ جاءها عراقيّ فقال‪ :‬أيّ الكفن خير؟ قالت‬
‫ويحك وما يضرّ ك؟ قال‪ :‬يا أ ّم المؤمنين أريني مصحفك‪ .‬قالت‪ :‬لم؟ قال‪ :‬لعلّي أؤلّف‬
‫القرآن عليه فإ ّنه يُقرأ غير مؤلّف‪ .‬قالت‪ :‬وما يضرّك أيّه قرأت قبل‪ ،‬إ ّنما نزل أوّ ل ما‬
‫نزل منه سورة من المفصّل فيها ذكر الج ّنة والنار حتىّ إذا ثبت الناس إلى اإلسالم‬
‫نزل الحالل والحرام‪ .‬ولو نزل أوّ ل شيء‪ :‬ال تشربوا الـخـمر لـقـالوا‪ :‬ال نـدع الخـمر‬
‫أبـدا‪ .‬ولو نـزل‪ :‬ال تـزنوا لـقـالوا‪ :‬ال نـدع الـزنا أبدا [‪.64«]...‬‬

‫ب) من الحديث النبوي‪:‬‬


‫من الصعب تحديد بوادر العقيدة اإلسالميّة من خالل الحديث النبوي‪ ،‬فالسيرة‬
‫النبويّة أوسع بكثير ممّا ُنسب إلى الرسول من أحاديث‪ .‬كما أنّ المجاميع ال تح ّدد‬
‫الفترة التي قيلت فيها األحاديث وال مناسباتها‪ .‬لذلك وجب النظر في األقوال المرويّة‬
‫عن الرسول لمحاولة استخراج مفهوم لإليمان في زمن النبوّ ة الذي على أساسه تتح ّدد‬
‫األسماء الشرعيّة وبالتالي كيفيّة معاملة المذنب في الهيئة االجتماعيّة وكذلك مصيره‬
‫األخرويّ ‪.‬‬

‫‪ )21‬البخاري‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب تأليف القرآن‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫يبدو أنّ " حديث جبريل " قد أصبح مرجعا بالنسبة إلى المسلمين في تحديد‬
‫مفهوم اإليمان وتمييزه عن اإلسالم‪ .‬ونشير إلى أنّ الحديث الّذي يت ّم اعتماده عادة هو‬
‫الخطاب ال الذي نقله أبو هريرة‪ ،‬ففي الروايتين اختالفات‬ ‫ّ‬ ‫الذي رواه عمر بن‬
‫جوهريّة‪ .‬ولع ّل عرض الحديثين يبيّن الفروق بينهما‪.‬‬

‫جاء في صحيح البخاري‪ » :‬ح ّدثنا مس ّدد قال‪ :‬ح ّدثنا إسماعيل ابن إبراهيم‪،‬‬
‫أخبرنا أبو حيّان التيميّ ‪ ،‬عن أبي ُزرْ عة‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬كان النبيّ (ص)‬
‫بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال‪ :‬ما اإليمان؟ قال‪ " :‬اإليمان أن تؤمن باهلل‬
‫ومالئكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث "‪ .‬قال‪ :‬ما اإلسالم؟ قال‪ " :‬اإلسالم أن تعبد‬
‫هللا وال تشرك به وتقيم الصالة وتؤ ّدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان "‪ .‬قال‪ :‬ما‬
‫اإلحسان؟ قال‪ " :‬أن تعبد هللا كأ ّنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإ ّنه يراك"‪ .‬قال‪ :‬متى‬
‫الساعة؟ قال‪ " :‬ما المسؤول عنها أعلم من السائل‪ .‬وسأخبرك عن أشراطها‪ :‬إذا‬
‫ولدت األمة ربّها‪ ،‬وإذا تطاول رعاةُ اإلبل البه ُم في البنيان‪ ،‬في خمس ال يعلمهنّ إال ّ‬
‫هللا "‪ .‬ث ّم تال النبيّ (ص) ﴿ إنَّ هللاَ عِ ْندَ هُ عِ ْل ُم ال َّسا َع ِة ﴾[ لقمان ‪ ]06/02‬اآلية‪ ،‬ث ّم أدبر‪،‬‬
‫فـقال‪ " :‬ر ّدوه "‪ .‬فلم يروا شيئا‪ ،‬فقال‪ " :‬هـذا جبريل جاء يعـلّم الـناس ديـنهم"‪ .‬قال‬
‫أبو عبد هللا‪ :‬جعل ذلك كلّه من اإليمان«‪ .62‬في هذا الحديث نقص إذا ما قُورن‬
‫ّ‬
‫الخطاب قـال‪ » :‬بينما نحن عند رسول‬ ‫بحديـث رواه مسلم جاء فـيه أنّ عمر بن‬
‫هللا(ص) ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب‪ ،‬شديد سواد الشعر‪ ،‬ال‬
‫يُرى عليه أثر السفر‪ ،‬وال يعرفه م ّنا أحد ح ّتى جلس إلى النبيّ (ص)‪ .‬فأسند ركبته إلى‬
‫ركبته‪ ،‬ووضع كفّيه على فخذيه وقال‪ :‬يا محمّد‪ ،‬أخبرني عن اإلسالم‪ .‬فقال رسول‬
‫هللا(ص)‪ " :‬اإلسالم أن تشهد أن ال إله إال ّ هللا وأنّ محمّدا رسول هللا‪ ,‬وتقيم الصالة‪،‬‬
‫وتؤتي الزكاة‪ ،‬وتصوم رمضان‪ ،‬وتح ّج البيت إن استطعت إليه سبيال "‪ .‬قال‪:‬‬
‫َ‬
‫صدقت‪ .‬قال‪ :‬فعجبنا له يسأله ويص ّدقه‪ .‬قال‪ :‬فأخبرني عن اإليمان‪ .‬قال‪ " :‬أن تؤمن‬

‫ي (ص) عن اإليمان واإلسالم‬


‫‪ )22‬البخاري‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب سؤال جبريل النب َّ‬
‫واإلحسان وعلم الساعة وبيان النب ّي (ص) له‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫باهلل‪ ،‬ومالئـكتـه‪ ،‬وكـتـبه‪ ،‬ورسـله‪ ،‬واليـوم اآلخر‪ ،‬وتؤمن بالقدر خيره وشرّ ه "‪.‬‬
‫[‪.62«]...‬‬

‫بغضّ النظر عن االختالفات بين الروايتين‪ ،‬فإ ّننا نستطيع اإلقرار أنّ‬
‫الحديثين قد قيال في فترة متأ ّخرة من الدعوة‪ .‬فحديث أبي هريرة‪ ،‬مع فرض سالمته‬
‫المطلقة‪ ،‬كان في السنوات األخيرة من حياة الرسول باعتبار دخول الراوي في‬
‫اإلسالم بعد السنة السابعة للهجرة‪ .‬وإلى جانب ذلك فإنّ اعتبار صيام رمضان مثال‬
‫ّ‬
‫متأخر ألنّ النصّ عليه في القرآن كان في سورة مدنيّة‪،‬‬ ‫ركنا من أركان اإلسالم‬
‫ِب َعلَى‬
‫ص َيا ُم َك َما ُكت َ‬
‫ِب َعلَ ْي ُك ُم ال ِّ‬ ‫ونعني بذلك سورة البقرة‪َ ﴿ :‬يا أ َّي َها الَّذ َ‬
‫ِين آ َم ُنوا ُكت َ‬
‫ِين مِنْ َق ْب ِل ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َت َّت ُق َ‬
‫ون ﴾‪.62‬‬ ‫الَّذ َ‬

‫ّ‬
‫وحث الرسول له على‬ ‫ونقف في مجاميع الحديث على خبر وفاة أبي طالب‬
‫النطق بالشهادتين‪ .‬جاء في صحيح مسلم‪ » :‬وح ّدثني حرملة بن يحيى ال ُّتجيبيّ ‪،‬‬
‫أخبرنا عبد هللا بن وهب‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني يونس‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني سعيد‬
‫ابن المسيّب‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬لمّا حضرت أبا طالب الوفاة‪ ،‬جاءه رسول هللا(ص)‪.‬‬
‫فوجد عنده أبا جهل‪ ،‬وعبد هللا ابن أبي أميّة بن المغيرة‪ .‬فقال رسول هللا (ص)‪" :‬‬
‫ً‬
‫كلمة أشهد لك بها عند هللا "‪ .‬فقال أبو جهل وعبد هللا ابن‬ ‫يا ع ّم‪ ،‬قل‪ :‬ال إله إال ّ هللا‪،‬‬
‫المطلب؟ فلم يزل رسول هللا(ص) يعرضها‬ ‫ّ‬ ‫أميّة‪ :‬يا أبا طالب‪ ،‬أترغب عن ملّة عبد‬
‫عليه ويُعيد له تلك المقالة‪ ،‬ح ّتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم‪ :‬هو على ملّة عبد‬
‫ّ‬
‫المطلب‪ ،‬وأبى أن يقول‪ :‬ال إله إال ّ هللا‪ .‬فقال رسول هللا(ص)‪ " :‬أما وهللا ألستغفرنّ‬
‫ان لِل َّن ِبيِّ َوالَّذ َ‬
‫ِين آ َم ُنوا أنْ َيسْ َت ْغ ِفرُوا‬ ‫لك ما لم أُنه عنك "‪ .‬فأنزل هللا ّ‬
‫عز وجلّ‪َ ﴿ :‬ما َك َ‬

‫‪ )29‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان ووجوب اإليمان‬
‫بإثبات قدر هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ )28‬البقرة ‪196. /2‬‬

‫‪66‬‬
‫ِيم﴾‪ .53‬وأنزل‬ ‫الجح ِ‬ ‫ل ِْل ُم ْش ِرك َ‬
‫ِين َولَ ْو َكا ُنوا أولِي قُرْ َبى مِنْ َبعْ ِد َما َت َبي ََّن لَ ُه ْم أ َّن ُه ْم أصْ َحابُ َ‬
‫ْت َولَكِنَّ هللاَ‬ ‫هللا تعالى في أبي طالب‪ ,‬فقال لرسول هللا (ص)‪ ﴿ :‬إ َّن َ‬
‫ك الَ َت ْهدِي َمنْ أحْ َبب َ‬
‫َي ْهدِي َمنْ َي َشا ُء َوهْ َو أعْ لَ ُم ِبال ُم َّتق َ‬
‫ِين ﴾ ‪.52«51‬‬

‫لقد تو ّفي أبو طالب في السنة العاشرة بعد الـبعـثـة النبويّة‪ ،‬أي فـيما يـسـمّى "‬
‫عام الحزن " لموته وموت خديجة‪ .‬وفي الخبر ما يد ّل على أنّ النطق بالشهادتين‬
‫مخلّص من العقاب‪ .‬فاإلقرار بالتوحيد يُخرج من الكفر إلى اإليمان‪.50‬‬

‫يبدو من خالل أحاديث كثيرة أنّ اإليمان قد اخ ُتزل في الشهادتين وفي‬


‫اإلقرار بالتوحيد‪ .‬ولع ّل أحاديث عصمة الدماء بالشهادة دليل على ذلك‪ .‬روى مسلم‪:‬‬
‫» ح ّدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى وأحمد ابن عيسى‪ ،‬قال أحمد‪ :‬ح ّدثنا‪ .‬وقال‬
‫اآلخران‪ :‬أخبرنا ابن وهب قال‪ :‬أخبرني يُونس‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬قال‪ :‬ح ّدثني سعيد‬
‫بن المسيّب أنّ أبا هريرة أخبره أنّ رسول هللا (ص) قال‪ " :‬أُمِرت أن أقاتل الناس‬
‫ح ّتى يقولوا‪ :‬ال إله إال ّ هللا‪ .‬فمن قال‪ :‬ال إله إالّ هللا عصم م ّني ماله ونفسه إال ّ بحقّه‬
‫وحسابه على هللا"«‪ .56‬ويـتـدعّم هذا األمر بما جـاء في صـحـيح الـبخاري‪ » :‬ح ّدثنا‬
‫أبو عاصم‪ ،‬عن ابن جُ ريْج‪ ،‬عن الزهريّ ‪ ،‬عن عطاء بن يزيد‪ ،‬عن عُبيْد هللا بن‬
‫عديّ ‪ ،‬عن المقداد بن األسود‪ .‬وح ّدثني إسحاق‪ ،‬ح ّدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد‪،‬‬

‫‪ )13‬التوبة ‪116. /8‬‬


‫‪ )11‬القصص‪11. /29‬‬
‫‪ )12‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب الدليل على صحّة إسالم من حضره الموت‪ ،‬ما لم‬
‫يشرع في النزع‪ ،‬وهو الغرغرة‪ .‬ونسخ جواز االستغفار للمشركين‪ .‬والدليل على أنّ‬
‫من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم‪ .‬وال ينقذه من ذلك شيء من الوسائل‪.‬‬
‫أن اآليتين الواردتين في الخبر مدنيّتان‪ .‬فاآلية األولى من‬ ‫‪ )16‬ينبغي أن نالحظ هنا ّ‬
‫سورة التوبة وهي من السور المدنيّة‪ .‬و اآلية الثانية من سورة القصص وهي م ّكية في‬
‫معظمها إالّ اآليات من الثانية والخمسين إلى التاسعة والخمسين فهي مدنيّة‪.‬‬
‫‪ )12‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب األمر بقتال الناس حتّى يقولوا ال إله إالّ هللا مح ّمد‬
‫رسول هللا ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫ح ّدثنا ابن أخي ابن شهاب‪ ،‬عن ع ّم قال‪ :‬أخبرني عطاء بن يزيد الليثيّ ‪ ،‬ث ّم الجُندعيّ ‪،‬‬
‫أنّ عبيد هللا بن عديّ بن الخيار أخبره أنّ المقداد بن عمرو الكنديّ ‪ ،‬وكان حليفا لبني‬
‫ُزهرة وكان ممّن شهد بدرا مع رسول هللا (ص)‪ ،‬أخبره أ ّنه قال لرسول هللا (ص)‪:‬‬
‫أرأيت إنْ لقيت رجال من الك ّفار فاقتتلنا فضرب إحدى يديّ بالسيف فقطعها‪ ,‬ث ّم الذ‬
‫م ّني بشجرة فقال‪ :‬أسلمت هلل‪ ،‬آ أقتله يا رسول هللا بعد أن قالها؟ فقال رسول‬
‫هللا(ص)‪ " :‬ال تق ُت ْله "‪ .‬فقال‪ :‬يا رسول هللا إ ّنه قطع إحدى يديّ ‪ ،‬ث ّم قال ذلك بعد ما‬
‫قطعها‪ .‬فقال رسول هللا (ص)‪ " :‬ال تقتله‪ ،‬فإن قتلته فإ ّنه بمنزلتك قبل أن تقتله‪ ،‬وإ ّنك‬
‫بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال "«‪.55‬‬

‫والحقيقة أنّ األحاديث في هذا المعنى كثيرة ال يمكن أن نجمعها كلّها‪ ،‬ولكن‬
‫نورد هنا ما يد ّل على التمييز بين اإليمان واألعمال في المرويّات عن الرسول‪.‬‬
‫شار‪ ،‬قال ابن المث ّنى‪ :‬ح ّدثنا محمّد ابن‬
‫روى مسلم‪ » :‬وح ّدثنا محمّد بن المث ّنى وابن ب ّ‬
‫جعفر‪ ،‬ح ّدثنا شعبة‪ ،‬عن واصل األحدب‪ ،‬عن المعرور بن سُويْد‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا ذرّ‬
‫يح ّدث عن النبيّ (ص) أ ّنه قال‪ " :‬أتاني جبريل‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬فب ّشرني أ ّنه من مات‬
‫من أمّتك ال يُشرك باهلل شيئا دخل الج ّنة‪ .‬قلت‪ :‬وإنْ زنى وإنْ سرق؟ قال‪ :‬وإنْ زنى‬
‫وإنْ سرق "«‪.54‬‬

‫ي ّتضح أنّ اإليمان من خالل بوادر العقيدة اإلسالميّة إقرارٌ بإله واحد‪ ،‬أمّا بقيّة‬
‫ما يجب اإليمان به واالعتقاد فيه فقد كان على التدريج وتبع سيرة هي سيرة مجادلة‬
‫ّ‬
‫متأخرة من زمن الدعوة‪.‬‬ ‫مجتمع التل ّقي‪ ،‬إلى أن جُ معت األصول االعتقاديّة في آية‬
‫ب الَّذِي َن َّز َل َعلَى‬ ‫هلل َو َرسُولِ ِه َوال ِك َتا ِ‬ ‫ونعني بذلك اآلية‪َ ﴿ :‬يا أ ُّي َها الَّذ َ‬
‫ِين آ َم ُنوا‪ ,‬آ ِم ُنوا ِبا ِ‬
‫ب الَّذِي أ ْن ِز َل مِنْ َق ْبلُ‪َ .‬و َمنْ َي ْكفُرْ ِبا ِ‬
‫هلل َو َمالَ ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َورُ ُسلِ ِه َوال َي ْو ِم‬ ‫َرسُولِ ِه َوال ِك َتا ِ‬

‫‪ )11‬البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب ‪12.‬‬


‫ّ‬
‫‪ )11‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب من مات ال يشرك باهلل شيئا دخل الجنة‪ ،‬ومن مات‬
‫مشركا دخل النار‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ضالَالً َبع ً‬
‫ِيدا﴾‪ .52‬ولكن تبقى الشهادة عاصمة للدم والمال باعتبار أنّ‬ ‫اآلخ ِِر َف َق ْد َ‬
‫ض َّل َ‬
‫اإليمان إقرار ذاتيّ ‪ ,‬أمّا األعمال فهي إشهاد الناس على " ما وقر في القلب " ح ّتى‬
‫يُعامل معاملة المؤمن في االجتماع‪ .‬جاء في صحيح مسلم‪ » :‬ح ّدثنا أبو بكر بن أبي‬
‫شيبة‪ ،‬ح ّدثنا أبو خالد األحمر‪ .‬وح ّدثنا أبو ُكريْب وإسحاق ابن إبراهيم‪ ،‬عن أبي‬
‫معاوية‪ ،‬كالهما عن األعمش‪ ،‬عن أبي ظبيان‪ ،‬عن أسامة ابن زيد‪ ،‬وهذا حديث ابن‬
‫أبي شيبة‪ ،‬قال‪ :‬بعثنا رسول هللا (ص) في سريّة‪ ،‬فصبّحنا الحُ رُقات من جُهيْنة‬
‫فأدركت رجال‪ ,‬فقال‪ :‬ال إله إالّ هللا‪ .‬فطعنته فوقع في نفسي من ذلك‪ .‬فذكرته للنبيّ‬
‫(ص) فقال‪ " :‬أ قال ال إله إالّ هللا وقتلته؟ "‪ .‬قال‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬إ ّنما قالها خوفا‬
‫من السالح‪ .‬قال‪ " :‬أ فال شققت عن قلبه ح ّتى تعلم أ قالها أم ال؟ " فما زال يكرّ رها‬
‫عليّ ح ّتى تم ّنيت أ ّني أسلمت يومئذ‪.52«]...[ .‬‬

‫لقد ت ّم تأويل هذه األصول في عهد قريب من زمن النبوّ ة‪ ،‬ونعني بذلك ما‬
‫يسمّى " عهد الخالفة الراشدة "‪ .‬وحُ ّددت مرجعيّة مختلفة للحكم باإليمان أو الكفر‪،‬‬
‫هي مرجعيّة القول في الذنب وخاصّة ما ُع ّد كبيرا منه‪.‬‬

‫تحوالت مفهوم اإليمان‪:‬‬


‫‪ّ )2‬‬

‫أ) قتال مانعي الزكاة وإشكال ّية الردّ ة‪:‬‬

‫‪ )12‬النساء ‪161. /2‬‬


‫ّ‬
‫‪ )19‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ,‬باب من مات ال يشرك باهلل شيئا دخل الجنة ومن مات‬
‫مشركا دخل النار‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫لن نخوض هنا في القضايا التي يطرحها مفهوم الر ّدة كما ترسّخ في الفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فقد كانت تلك القضايا موضوع بحوث سابقة أفدنا منها كثيرا‪ ،52‬بل‬
‫نحاول بيان تحوّ ل مرجعيّة المسلمين في تحديدهم لمفهوم اإليمان‪.‬‬

‫نؤ ّكد في البداية على أنّ خالفة أبي بكر لم تكن من األمور التي أجمع‬
‫المسلمون على قبولها‪ .‬وما حدث في سقيفة بني ساعدة من اختالفات وامتناع مثل‬
‫سعد بن عبادة وقيس بن سعد عن البيعة‪ ،‬ومبايعة عليّ بن أبي طالب َكرها دليل على‬
‫ذلك‪.43‬‬

‫ُ‬
‫اصطلح‬ ‫إنّ ما وقع في عهد الخليفة األوّ ل من حروب مانعي الزكاة التي‬
‫عليها بـ " حروب الر ّدة " يدعو إلى إعادة نظر أل ّنها تبيّن التحوّ الت الطارئة على‬
‫المجتمع اإلسالمي األوّ ل في ما يتعلّق بنظرته إلى مفهوم اإليمان‪.‬‬

‫ُنوقشت المسألة مـنذ عشرينيّات القرن العشرين في كـتاب "اإلسالم وأصول‬


‫الحكم " لعليّ عبد الرازق‪ ،‬وذلك في إطار أطروحة كتابه العامّة المتعلّقة بانقالب‬
‫زعامة الرسول الدين ّية إلى زعامة سياسيّة بعد وفاته‪ .‬وكانت مناقشته‪ ،‬على‬
‫اقتضابها‪ ،‬جامعة لما نريد اإلشارة إليه‪.‬‬

‫يميّز عبد الرازق بين اإليمان باهلل ورسوله واالمتناع عن دفع الزكاة إلى أبي‬
‫بكر عينا فيقول‪ » :‬ولع ّل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرت ّدين‪ ،‬كفروا باهلل ورسوله‪،‬‬
‫بل كان فيهم من بقي على إسالمه ولك ّنه رفض أن ينض ّم إلى وحدة أبي بكر لسبب ما‬

‫‪ )18‬نحيل بالخصوص على بحث آمال قرامي‪ ،‬قضيّة الر ّدة في الفكر اإلسالمي (‬
‫بحث لنيل شهادة التع ّمق في البحث‪ ,‬مرقونة بكليّة اآلداب بمنّوبة ‪ .)1886‬ونشير إلى‬
‫أنّه ت ّم نشر الجزء الثاني من هذا البحث بعنوان " قضيّة الر ّدة في الفكر اإلسالمي‬
‫الحديث "‪ ،‬تونس‪ ،‬دار الجنوب ‪1881.‬‬
‫‪ )13‬أنظر مثل هذه األخبار في‪ :‬ابن قتيبة‪ ،‬اإلمامة والسياسة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ص ‪18.-2‬‬

‫‪70‬‬
‫من غير أن يرى في ذلك حرجا عليه وال غضاضة في دينه‪ .‬وما كان هؤالء من‬
‫ك مرت ّدين‪ ]...[ .‬ولع ّل بعض أولئك الّذين حاربهم أبو بكر أل ّنهم رفضوا أن‬
‫غير ش ّ‬
‫يؤ ّدوا إليه الزكاة لم يكونوا يريدون بذلك أن يرفضوا الدين‪ ،‬وأن يكفروا به‪ ،‬ولك ّنهم‬
‫ال غير رفضوا اإلذعان لحكومة أبي بكر كما رفض غيرهم من ِجلّة المسلمين‪ .‬فكان‬
‫بديهيّا أن يمنعوا الزكاة عنه أل ّنهم ال يعترفون به وال يخضعون لسلطانه‬
‫وحكومته«‪.41‬‬

‫هكذا يشير عبد الرازق إلى قضيّة تصنيفيّة هامّة ينبغي الوعي بها عند حديثنا‬
‫عن " المرت ّدين " في عهد أبي بكر‪ .‬فهناك صنف أوّ ل ممّن أظهروا إسالمهم في‬
‫عهد النبيّ ث ّم تحلّلوا منه وانقلبوا على أعقابهم راجعين إلى ما كانوا عليه من عقائد‪.‬‬
‫وصنف ثان وهو من الّذين بقوا على دينهم ولم يدخلوا اإلسالم ولك ّنهم التزموا بعهود‬
‫وأحالف عقدوها مع النبيّ فلمّا ُتو ّفي تحلّلوا ممّا عقدوه‪ .‬أمّا الصنف الثالث فهم الّذين‬
‫امتنعوا عن أداء الزكاة إلى أبي بكر ال أل ّنهم رفضوها أصال بل ألنّ أداء الزكاة إليه‬
‫ّ‬
‫يمثل اعترافا بخالفته وقد رجّ حوا غيره عليه‪.‬‬

‫ّ‬
‫ممثلي الصنف األوّ ل فقط كانوا أهل ر ّدة‪ ،‬وإ ّنما التبس الدين ّي‬ ‫ي ّتضح أنّ‬
‫بالسياسيّ ‪ » .‬دونك خالد بن الوليد‪ ،‬مع مالك بن نويرة‪ ،‬أحد أولئك الّذين سم ّْوهم‬
‫مرت ّدين‪ ،‬وهو الّذي أمر خالد فضُربت عنقُه‪ ،‬ث ّم أُخذت رأسُه بعد ذلك فجُ علت أثفية‬
‫القدر‪ .‬يعلن مالك في صراحة واضحة إلى خالد أ ّنه ال يزال على اإلسالم ولك ّنه ال‬
‫يؤ ّدي الزكاة إلى صاحب خالد (أبي بكر)‪ .‬كان ذلك إذن نزاعا غير دينيّ ‪ .‬كان نزاعا‬
‫بين مالك‪ ،‬المسلم الثابت على دينه ولك ّنه من تميم‪ ،‬وبين أبي بكر القرشيّ ‪ ،‬الناهض‬

‫‪ )11‬عل ّي عبد الرازق‪ ،‬اإلسالم وأصول الحكم‪ ،‬ص ‪129.‬‬

‫‪71‬‬
‫بدولة عربيّة أئمّتها من قريش‪ .‬كان نزاعا في ملوكيّة ملك‪ ،‬ال في قواعد دين وال في‬
‫أصول إيمان«‪.42‬‬

‫لقد لمّح عبد الرازق بالعودة إلى النعرة القبليّة وصرّ ح بالمرجعيّة السياسيّة ال‬
‫الدينيّة في حرب أبي بكر لمانعي الزكاة‪ .‬وهذا ما تضمّنته ثنايا خبر رواه مسلم‪» :‬‬
‫ح ّدثنا قتيبة بن سعيد‪ ،‬ح ّدثنا ليث بن سعد‪ ،‬عن عُقيْل‪ ،‬عن الزهريّ قال‪ :‬أخبرني عُبيْد‬
‫هللا بن عبد هللا ابن عتبة بن مسعود‪ ،‬عن أبي هريرة قال‪ :‬لمّا تو ّفي رسول هللا (ص)‬
‫ّ‬
‫الخطاب ألبي بكر‪:‬‬ ‫واس ُتخلف أبو بكر بعده‪ ،‬وكفر من كفر من العرب‪ ،‬قال عمر بن‬
‫كيف تقاتل الناس وقد قال رسول هللا (ص)‪ " :‬أُمرت أن أقاتل الناس ح ّتى يقولوا‪ :‬ال‬
‫إله إال ّ هللا‪ ،‬فمن قال‪ :‬ال إله إال ّ هللا‪ ،‬فقد عصم م ّني ماله ونفسه إال ّ بح ّقه وحسابه على‬
‫هللا "؟ فقال أبو بكر‪ :‬وهللا ألقاتلنّ من فرّ ق بين الصالة والزكاة‪ ،‬فإنّ الزكاة ّ‬
‫حق‬
‫المال‪ .‬وهللا لو منعوني عِ قاال كانوا يؤ ّدونه إلى رسول هللا (ص) لقاتلتهم على منعه‪.‬‬
‫عز وج ّل قد شرح صدر أبي‬ ‫ّ‬
‫الخطاب‪ :‬فوهللا ما هو إالّ أن رأيت هللا ّ‬ ‫فقال عمر بن‬
‫ّ‬
‫الحق«‪.40‬‬ ‫بكر للقتال‪ ،‬فعرفت أ ّنه‬

‫إنّ في محاجّ ة عمر ألبي بكر داللة على أنّ اإليمان مختزل في الشهادة‪.‬‬
‫ولكن في موقف أبي بكر إشارة إلى تأوّ ل للعقيدة اإلسالميّة التي بيّنتها النصوص‬
‫التأسيسيّة‪ ،‬وحمل لها على الجزء‪ ،‬بل إنّ التأسيس لشوكة جعل الدينيّ يُدمج في‬
‫ً‬
‫مبايعة كان‬ ‫السياسي فأصبحت طاعة الخليفة إيما ًنا‪ ،‬فمن اعترف به وأ ّدى إليه الزكاة‬
‫مستح ّل الدم والمال‪.‬‬
‫َ‬ ‫مؤمنا معصومًا دمه وماله‪ .‬ومن امتنع عن ذلك كان كافرا‬

‫‪ )12‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص ‪128.-129‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ )16‬مـسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب األمر بقـتال الـناس حـتى يـقـولوا ال إله إال هللا مـح ّمد‬
‫رسـول هللا‪...‬‬

‫‪72‬‬
‫إنّ األبعاد السياسيّة‪ ،‬وتأويل أركان الديانة ودعاماتها‪ ،‬وتحوّ الت مفهوم‬
‫اإليمان تتجلّى أكثر كلّما ّ‬
‫تأخرنا في التاريخ‪ .‬لقد كان مقتل عثمان مترجما لذلك‬
‫االنزياح وللقول في اإليمان على أساس القول في مقترف الذنب وخاصّة الكبير منه‪.‬‬

‫ب) قتل عثمان باإلحداث‪:‬‬


‫يذكر الطبري عن أبي سعيد األنصاري خبر قدوم وفد أهل مصر على‬
‫عثمان لمقاضاته‪ » :‬فقالوا له‪ :‬اُدع بالمصحف‪ .‬قال‪ :‬فدعا بالمصحف‪ .‬قال‪ :‬فقالوا له‪:‬‬
‫افتح التاسعة‪ .‬وكانوا يسمّون سورة يونس التاسعة ‪ .46‬قال‪ :‬فقرأها ح ّتى أتى على هذه‬
‫أرأ ْي ُت ْم َما أ ْن َز َل هللاُ لَ ُك ْم مِنْ ِر ْزق َف َج َع ْل ُت ْم ِم ْن ُه َح َرامًا َو َحالَالً قُ ْل أهللاُ أذ َِن‬
‫اآلية‪ ﴿ :‬قُ ْل َ‬
‫ُون﴾‪ .45‬قال‪ :‬قالوا له‪ :‬قف‪ .‬فقالوا له‪ :‬أ رأيت ما حميت الحمى؟ أ‬ ‫هللا َت ْف َتر َ‬
‫لَ ُك ْم أ ْم َعلَى ِ‬
‫هللا أذن لك أم على هللا تفتري؟ قال‪ :‬فقال‪ :‬امضه نزلت في كذا وكذا‪ ]...[ .‬ث ّم أخذوه‬
‫بأشياء لم يكن عنده منها مخرج‪ .‬قال‪ :‬فعرفها فقال‪ :‬أستغفر هللا وأتوب إليه«‪.44‬‬

‫لقد كانت مقاضاة وفود مصر لعثمان مستندة إلى النصّ فكان ر ّده على‬
‫مجادليه‪ » :‬ال أنزع قميصا قمّصنيه هللا ّ‬
‫عز وج ّل وأكرمني به وخصّني به على‬
‫غيري‪ .‬ولكن أتوب وأنزع وال أعود لشيء عابه المسلمون‪ ،‬فإ ّني وهللا الفقير إلى هللا‬
‫الخائف منه«‪ .42‬إنّ في ر ّد عثمان داللة على أنّ الخالفة ّ‬
‫حق إلهيّ فأصبح الخروج‬
‫على وليّ األمر خروجا عن إرادة هللا ومشيئته فغدت الخالفة مح ّددا للحكم باإليمان‬
‫والكفر‪ .‬وفي المقابل اعتبرت أعمال عثمان إحداثا بل كفرا‪ ،‬وهذا ما يوضّحه خبر‬

‫أن سورة يونس هي العاشرة في المصحف الذي بين أيدينا وهو‬ ‫‪ )12‬نالحظ هنا ّ‬
‫أن المصحف اإلمام كما رتّبه عثمان لم يكن مح ّل‬
‫المصحف العثماني‪ .‬وهذا يعني ّ‬
‫إجماع المسلمين‪ .‬والسورة هي السابعة في مصحف عبد هللا بن مسعود والثامنة في‬
‫مصحف أب ّي بن كعب‪ ،‬حسب ما رواه ابن النديم‪ ،‬أنظر‪ :‬الفهرست‪ ،‬ص ص ‪21.-68‬‬
‫‪ )11‬يونس ‪18. /13‬‬
‫‪ )11‬الطبري‪ ،‬تاريخ األمم والملوك‪ ،‬م ‪ ،2‬ص ‪111.‬‬
‫‪ )12‬المصدر السابق‪ ،‬م ‪ ،2‬ص ‪112.‬‬

‫‪73‬‬
‫الطبري عن عبد هللا بن ساعدة‪ .‬فبعد أن ُك ّفر الخليفة المب ّشر بالج ّنة بإحداثه » لبث‬
‫عثمان بعد ما قُتل ليلتين ال يستطيعون دفنه‪ .‬ث ّم حمله أربعة [‪ .]...‬فلمّا وُ ضع ليُصلّى‬
‫عليه‪ ،‬جاء نفر من األنصار يمنعونهم الصالة عليه [‪ ،]...‬ومنعوهم أن يُدفن بالبقيع‪.‬‬
‫فقال أبو جهم‪ :‬ادفنوه‪ ،‬فقد صلّى هللا عليه ومالئكته‪ .‬فقالوا‪ :‬ال وهللا ال يُدفن في مقابر‬
‫حشّ كوكب [ مقبرة كانت لليهود]«‪.42‬‬
‫المسلمين أبدا‪ .‬فدفـنوه في ِ‬

‫لقد ُك ّفر عثمان بأعماله‪ ،‬وعُومل معاملة الكافر‪ ،‬فلم يُص ّل عليه ولم يُدفن في‬
‫مقابر المسلمين‪ .‬أصبح القول في اإليمان والكفر ملتبسا بالمشغل السياسي‪ ،‬ولكن‬
‫مستندا إلى النصّ في المقام األوّ ل‪ .‬ولع ّل ك ّل ذلك يزداد وضوحا مع ما اصطلح عليه‬
‫بالفتنة الكبرى وبروز مقالة المح ّكمة األولى في صاحب الذنب وإرسائها لمرجعيّة‬
‫جديدة لإليمان بل للديانة برمّتها‪.‬‬

‫علي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ج) تحكيم‬
‫لمّا علمت عائشة باستخالف عليّ قالت‪ » :‬وهللا ليت أنّ هذه انطبقت على هذه‬
‫إنْ ت ّم األمر لصاحبك‪ .‬ر ّدوني‪ ،‬ر ّدوني‪ .‬فانصرفت إلى م ّكة وهي تقول‪ :‬قُتل وهللا‬
‫عثمان مظلوما‪ ،‬وهللا ألطلبنّ بدمه‪ .‬فقال لها ابن أ ّم كالب‪ :‬ولم؟ فوهللا إنّ أوّ ل من أمال‬
‫حرفه ألنتِ‪ .‬ولقد كنت تقولين‪ :‬اقتلوا نعثال فقد كفر‪ .‬قالت‪ :‬إ ّنهم استتابوه ث ّم قتلوه‪ ،‬وقد‬
‫قلت وقالوا‪ ،‬وقولي األخير خير من قولي األوّ ل«‪.42‬‬

‫إ ّنها بوادر الفتنة والثأر من قتلة عثمان‪ ،‬ومن عليّ أيضا نظرا إلى ا ّتهامه‬
‫بإيواء القتلة‪ .‬فكانت موقعة الجمل‪ ،‬ث ّم تلتها موقعة صفّين إلى أن قال معاوية لعمرو‬
‫ابن العاص‪ » :‬يا عمرو‪ ،‬ألم تزعم أ ّنك ما وقعت في أمر ّ‬
‫قط إالّ وخرجت منه؟ قال‪:‬‬
‫بلى‪ .‬قال‪ :‬أفال تخرج مّما ترى؟ قال‪ :‬وهللا ألدعوّ نهم إنْ شئت إلى أمر أفرّ ق به جمعهم‬

‫‪ )19‬المصدر السابق‪ ،‬م ‪ ،2‬ص ‪199.‬‬


‫‪ )18‬المصدر السابق‪ ،‬م ‪ ،6‬ص ‪12.‬‬

‫‪74‬‬
‫أعطوكه اختلفوا‪ ،‬وإنْ منعوكه اختلفوا‪ .‬قال معاوية‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ويزداد جمعك إليك اجتماعا‪ ،‬إنْ‬
‫وما ذلك؟ قال عمرو‪ :‬تأمر بالمصاحف فترتفع ث ّم تدعوهم إلى ما فـيها‪ .‬فوهللا لئن قـبله‬
‫ليفترقـنّ جماعته‪ .‬ولئن ر ّده ليُكفـّر ّنه أصحابه«‪ .23‬ولمّا قبل عليّ التحكيم قال‬
‫الخارجون عليه‪ :‬إ ّنه ح ّكم الرجال في كتاب هللا‪ .‬وانتهى األمر بما قاله ابن ملجم‬
‫مفاخرا‪ » :‬لقد أحددت سيفي بكذا وكذا‪ ،‬وسممته بكذا وكذا‪ ،‬وضربت به عليّا ضربة‬
‫لو كانت بأهل المصر ألتت عليهم«‪.21‬‬

‫ومن رحم الفتنة وما سبقها من أحداث بعد وفاة النبيّ أيضا ظهرت المقاالت‬
‫وافترق المسلمون واختلفوا في اإليمان والكفر‪ .‬فكانت المح ّكمة األولى ومنها انشعبت‬
‫مقاالت الخوارج الكثيرة في الهجرة واألطفال واالستعراض والمحنة وكلّها تدور‬
‫ّ‬
‫وحظه من اإليمان‪ .‬واستوجبت هذه المقاالت ر ّدا فانفردت‬ ‫حول صاحب الكبيرة‬
‫المرجئة برأي لها في صاحب الكبيرة‪ .‬كما ظهرت بوادر التشيّع وتفرّ ع حسب القول‬
‫في عليّ ودرجة الغلوّ فيه‪ .‬وظهرت القدريّة وأدلت بمقاالتها في الذنب واإليمان‪،‬‬
‫ومنها خرجت المعتزلة التي تزعّم أحمد بن حنبل ( ت ‪ 262‬هـ) الر ّد عليها فك ّفرها‪.‬‬

‫هكذا ارتبط القول في اإليمان بمسألة الكبيرة‪ .‬واقتتل المسلمون على إيمانهم‬
‫الذي داخله المشغل السياسي‪ » .‬فعلى الرغم من حديث األعرابيّ المنسوب إلى‬
‫الرسول في شرح اإليمان‪ ،‬واإلقرار بكفاية الشهادة في عصم الدماء‪ ،‬فإنّ أبا بكر قتل‬
‫الممتنعين عن أداء الزكاة‪ ،‬واعتبرهم مرت ّدين‪ ]...[ .‬ضاع مرجع الكفر واإليمان بين‬
‫وفود األمصار وعثمان فقاضوه بسورة يونس‪ ،‬ور ّد هو من الكتاب ح ّتى إذا حقّقوا‬
‫إثما قتلوه به‪ ،‬وع ّدوه بمنزلة المرت ّد بإبداعه‪ .‬ولم تنصرف المح ّكمة األولى حين ف ّتشت‬

‫‪ )23‬ابن قتيبة‪ ،‬اإلمامة والسياسة‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪118.‬‬


‫‪ )21‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪116.‬‬

‫‪75‬‬
‫عثمان وعليّا ذبحته وبقرت بطن زوجته مقيمة حكم‬
‫َ‬ ‫في مقالة ابن خباب‪ ،‬فإذا صوّ ب‬
‫هللا‪ ،‬ألنّ صاحب الكبيرة كافر«‪.22‬‬

‫ولّد االختالف في مفهوم اإليمان وطبيعته‪ ،‬بالتبعيّة‪ ،‬إشكاليّة األسماء واألحكام‬


‫التي ّ‬
‫تمثل مقاالت المسلمين في اسم صاحب الكبيرة وحكمه في المعاش والمعاد‪ ،‬فهي‬
‫بذلك تح ّدد جزاءه‪.‬‬

‫أشرنا سابقا إلى أنّ القرآن والمنسوبات إلى الرسول لم تنصَّ على اسم‬
‫صاحب الكبيرة وال حكمه‪ ،‬وهذا ما يؤ ّكد على أنّ إشكاليّة األسماء واألحكام‪ ،‬كما‬
‫ترسّخت في الفكر اإلسالمي‪ ،‬فه ٌم للنصّ واعتقاد فيه بكيفيّة‪.‬‬

‫يذكر األشعري أنّ الخوارج‪ ،‬باستثناء النـجـدات أصحـاب نجدة بن عامر‪» ،‬‬
‫أجمعوا على أنّ ك ّل كبيرة كفر«‪ّ .20‬‬
‫ولخص مقالة األزارقة في األطفال والخروج‬
‫فذكر أ ّنهم » ير ْون أنّ أطفال المشركين في النار‪ ،‬وأنّ حكمهم حكم آبائهم [‪.]...‬‬
‫وزعمت األزارقة أنّ من أقام في دار الكـفر فكافر ال يسعه إالّ الخروج«‪ .26‬كما يح ّدد‬
‫أنّ » من الخوارج طائفة يقولون‪ :‬ما كان من األعمال عليه ح ّد واقع فال يُتع ّدى بأهله‬
‫االسم الّذي لزمهم به الح ّد‪ ،‬وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافرا كالزنا والقذف وهم‬
‫قذفة زناة‪ .‬وما كان من األعمال ليس عليه ح ّد كترك الصالة والصيام فهو كافر‪.‬‬
‫وأزالوا اسم اإليمان في الوجهين جميعا«‪ .25‬واألمثلة على تكفير الخوارج للمذنبين‬
‫ولمخالفيهم في كتب الفرق كثيرة‪ ،‬ونظرتهم إلى اإليمان ح ّددت مقاالتهم‪ .‬إنّ ك ّل‬
‫مخالف بالنسبة إلى الخوارج كافرٌ يُعامل معاملة الخارج عن الملّة في االجتماع‪،‬‬

‫‪ )22‬المنصف بن عبد الجليل‪ ،‬الفرقة الهامشيّة في اإلسالم‪ ،‬ص ص ‪222.-221‬‬


‫‪ )26‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميّين‪ ،‬ص ‪91.‬‬
‫‪ )22‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪98.‬‬
‫‪ )21‬المصدر السابق‪ ،‬ص ص ‪132.-131‬‬

‫‪76‬‬
‫ويُحكم عليه بالخلود في النار‪ .‬لذلك تصبح الدار دارين‪ :‬دار كفر وجبت الهجرة عنها‬
‫اقتداء بهجرة النبيّ ‪ ،‬ودار إيمان حافظ أهلها على إيمانهم ودينهم‪ .‬ولعلّنا ال نغالي إذا‬
‫َ‬
‫مختزل في ارتكاب الذنب أو االمتناع عنه‪ .‬إنّ‬ ‫قلنا إنّ اإليمان بالنسبة إلى الخوارج‬
‫تأويل النصّ تجاوز مرتبة الفهم إلى التأسيس لديانة يُتعبَّد بها‪.‬‬

‫وال تختلف عقيدة المعتزلة عن تصوّ ر الخوارج جوهريّا‪ .‬جاء في "مقاالت"‬


‫األشعري‪ » :‬وأ ّما الوعيد فقول المعتزلة فيه وقول المعتزلة واح ٌد أل ّنهم يقولون إنّ‬
‫أهل الكبائر الّذين يموتون على كبائرهم في النار خالدون فيها مخلّدون‪ .‬غير أنّ‬
‫الخوارج يقولون إنّ مرتكبي الكبائر ممّن ينتحل اإلسالم ّ‬
‫يعذبون عذاب الكافرين‬
‫والمعتزلة يقولون إنّ عذابهم ليس كعذاب الكافرين«‪.24‬‬

‫لقد كانت المعتزلة صاحبة مقالة في اسم صاحب الكبيرة وحكمه‪ ،‬وعلى‬
‫أساس ذلك بنت عقيدتها‪ .‬ولئن كانت أصولها الخمسة مص ّدرة بالتوحيد‪ ،‬كما تبيّن لنا‬
‫كتبهم التي وصلتنا‪ ،‬إالّ أ ّننا نستطيع اإلقرار أنّ أصل المنزلة بين المنزلتين كان‬
‫األصل األسبق تاريخيّا‪ .22‬ويد ّل ما ذكره الشهرستاني على ذلك‪ ،‬فقد أرجع اعتزال‬
‫واصل بن عطاء ّ‬
‫الغزال ( ت ‪ 101‬هـ)‪ ،‬رأس المعتزلة‪ ،‬إلى مسألة القول في صاحب‬
‫الكبيرة‪.22‬‬

‫وي ّتضح التعبّد بالمقالة وتكفير الخصوم في ما ذكره القاضي عبد الجبّار ( ت‬
‫ّ‬
‫متأخري المعتزلة‪ » :‬وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين‪,‬‬ ‫‪ 615‬هـ)‪ ،‬وهو أحد‬
‫فقال إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة األوثان والمجوس وغيرهم فإ ّنه يكون‬

‫‪ )21‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪122.‬‬


‫‪ )22‬أنظر‪ :‬المنصف بن عبد الجليل‪ ،‬الفرقة الهامشيّة في اإلسالم‪ ،‬ص ‪61.‬‬
‫‪ )29‬الشهرستاني‪ ،‬الملل والنحل‪ ،‬ص ص ‪69.-62‬‬

‫‪77‬‬
‫كافرا«‪ .22‬في هذا القول ر ّد على مقاالت الخوارج‪ .‬ولكن في " شرح األصول‬
‫الخمسة " ردود على ك ّل المخالفين‪ ،‬ومن بينهم المرجئة‪ .‬يقول القاضي عبد الجبّار‪:‬‬
‫» الفاسق يستح ّق العقوبة من هللا تعالى وأ ّنه ال ينفعه ثواب إيمانه باهلل تعالى ورسوله‬
‫بعد ارتكابه الكبيرة إال ّ إذا تاب«‪.23‬‬

‫تقوم مقاالت المرجئة كذلك على القول في حكم صاحب الكبيرة واسمه‪ ،‬وهو‬
‫قول مستند إلى نظرتها إلى اإليمان الّذي نفت عنه التبعيض‪ ،‬أي الزيادة والنقصان‬
‫باألعمال‪ .‬ويح ّدد الشهرستاني اإلرجاء بقوله‪ » :‬اإلرجاء على معنيين‪ :‬أحدهما بمعنى‬
‫التأخير [‪ .]...‬والثاني إعطاء الرجاء‪ .‬أمّا إطالق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى‬
‫ّ‬
‫يؤخرون العمل على النيّة والعقد‪ .‬وأمّا بالمعنى الثاني‬ ‫األوّ ل فصحيح‪ ،‬أل ّنهم كانوا‬
‫فظاهر‪ ،‬فإ ّنهم كانوا يقولون‪ :‬ال تضرّ مع اإليمان معصية‪ ،‬كما ال تنفع مع الكفر‬
‫طاعة‪ .‬وقيل‪ :‬اإلرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة‪ ،‬فال يُقضى عليه‬
‫بحكم ما في الدنيا‪ ،‬من كونه من أهل الج ّنة أو من أهل النار [‪ .]...‬وقيل‪ :‬اإلرجاء‬
‫تأخير عليّ ‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬عن الدرجة األولى إلى الرابعة‪ .‬فعلى هذا المرجئة‬
‫والشيعة فرقتان متقابلتان«‪.21‬‬

‫ما يهمّنا في هذا القول التأكي ُد في معنى اإلرجاء على عدم القطع في شأن‬
‫ّ‬
‫مؤخر عن االعتقاد‪ .‬بذلك يرجع حكم صاحب‬ ‫صاحب الكبيرة باعتبار أنّ العمل‬
‫الكبيرة إلى المشيئة اإللهيّة‪ ،‬إذ اإليمان معرفة هللا والمحبّة له والخضوع له‪ ،‬وإنْ كان‬
‫ت ّم وإذا عدم خال‪.22‬‬

‫‪ )28‬القاضي عبد الجبّار‪ ،‬شرح األصول الخمسة‪ ،‬ص ‪.121‬‬


‫‪ )93‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪128.‬‬
‫‪ )91‬الشهرستاني‪ ،‬الملل والنحل‪ ،‬ص ‪112.‬‬
‫‪ )92‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميّين‪ ،‬ص ‪166.‬‬

‫‪78‬‬
‫كما يبيّن قول الشهرستاني السابق أنّ المرجئة قد تتقابل مع الشيعة في مسألة‬
‫القول في عليّ ‪ .‬والحقيقة أنّ الشيعة كذلك أصحاب قول في اإليمان والكفر كما توضّح‬
‫مصادرهم التي بين أيدينا‪ .‬لقد اخ ُتزل اإليمان عند الشيعة في معرفة اإلمام واإلقرار‬
‫بالوالية‪ .‬يذكر ال ُكليْني عن زرارة عن أبي جعفر أ ّنه قال‪ » :‬ذروة األمر وسلمه‬
‫َ‬
‫ومفتاحه وباب األشياء ورضا الرحمان الطاع ُة لإلمام بعد معرفته‪ ]...[ .‬أمّا لو أنّ‬
‫رجال قام ليله وصام نهاره وتص ّدق بجميع ماله وح ّج جميع دهره ولم يعرف َوالية‬
‫وليّ هللا فيواليه ويكون جميع أعماله بداللته إليه‪ ،‬ما كان له على هللا‪ّ ،‬‬
‫عز وج ّل‪ٌّ ،‬‬
‫حق‬
‫في ثوابه وال كان من أهل اإليمان«‪ .20‬وإلى جانب عدم معرفة اإلمام المُخرج من‬
‫اإليمان‪ ،‬فإنّ التكفير قد يكون باألعمال أيضا‪ » :‬سألنا أبا عبد هللا عليه السالم عن‬
‫الكبائر فقال‪ :‬هنّ في كتاب عليّ سبع‪ :‬الكفر باهلل وقتل النفس وعقوق الوالدين وأكل‬
‫الربا بعد البيّنة وأكل مال اليتيم ظلما والفرار من الزحف والتعرّب بعد الهجرة‪ .‬قال‪:‬‬
‫قلت‪ :‬فهذا أكبر المعاصي؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم‬
‫ترك الصالة؟ قال‪ :‬ترك الصالة‪ .‬قلت‪ :‬فما عددت ترك الصالة في الكبائر‪ .‬فقال‪ :‬أيّ‬
‫شيء أوّ ل ما قلت لك؟ قلت‪ :‬الكفر‪ .‬قال‪ :‬فإنّ تارك الصالة كافر‪ ،‬يعني من غير‬
‫الملّة«‪.26‬‬

‫لقد كانت مقاالت اإلسالميّين مستندة في مناظراتها حول مفهوميْ اإليمان‬


‫ك في أنّ أهل العقائد اإلسالم ّية ي ّدعون العمل بالكتاب‬
‫والكفر إلى النصّ ‪ ،‬و» ال ش ّ‬
‫والس ّنة‪ ،‬وهم في جميع ما يقولون أهل تفسير للنصّ القرآني واحتجاج باآليات‬
‫الكثيرة«‪ .25‬فعبّر ك ّل مجادل في أصول الدين عن إيمانه كما فهمه‪ ،‬وع ّد نفسه مخلصا‬
‫للدين‪ ،‬وخصمه المخالف له خارجا عن الملّة‪ .‬وقد ا ّتضح ذلك في مقالة الخروج كما‬
‫في عقائد المعتزلة‪ ،‬ومن قبلها في قتال مانعي الزكاة ومقتل ك ّل من عثمان وعليّ‬

‫‪ )96‬الكليني‪ ،‬أصول كافي‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪119.‬‬


‫‪ )92‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪219.‬‬
‫‪ )91‬المنصف بن عبد الجليل‪ ،‬الفرقة الهامشيّة في اإلسالم‪ ،‬ص ‪222.‬‬

‫‪79‬‬
‫بالتجرّؤ على الدين واإلحداث‪ ،‬فكان لما وقع في عهد "الخالفة الراشدة" وفي‬
‫خصومات المتكلّمين أثرٌ في مذاهب الفقهاء إلى ح ّد أنّ الخيط أصبح رفيعا بين المتكلّم‬
‫والفقيه‪.‬‬

‫يع ّد األشعري أبا حنيفة ( ت ‪ 153‬هـ) من المرجئة‪ » :‬والفرقة التاسعة من‬


‫المرجئة‪ :‬أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أنّ اإليمان المعرفة باهلل واإلقرار باهلل‬
‫والمعرفة بالرسول واإلقرار بما جاء من عند هللا في الجملة دون التفسير‪ .‬وذكر أبو‬
‫عثمان اآلدمي أ ّنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبي عثمان الشمزيّ بم ّكة‪ ،‬فسأله عمر‬
‫فقال له‪ :‬أخبرني عمّن زعم أنّ هللا سبحانه حرّ م أكل الخنزير أ ّنه ال يدري لع ّل‬
‫الخنزير الّذي حرّ مه هللا ليس هي هذه العين‪ .‬فقال‪ :‬مؤمن‪ .‬فقال له عمر‪ :‬فإ ّنه قد زعم‬
‫أنّ هللا فرض الح ّج إلى الكعبة غير أ ّنه ال يدري لعلّها كعبة غير هذه بمكان كذا‪ .‬فقال‪:‬‬
‫هذا مؤمن‪ .‬قال‪ :‬فإنْ قال اعلم أنّ هللا سبحانه بعث محمّدا وأ ّنه رسول هللا غير أ ّنه ال‬
‫يدري لعلّه هو الزنجيّ ‪ .‬قال‪ :‬هذا مؤمن«‪.24‬‬

‫في الخبر‪ ،‬إنْ ص ّح‪ ،‬داللة على أنّ أبا حنيفة يفصل اإليمان عن األعمال‬
‫تماما‪ ،‬وإنْ بدت تلك األعمال منافية لما تعارف عليه المسلمون‪ ،‬ولما نصّت عليه‬
‫النصوص التأسيسيّة‪ .‬وهذا باإلضافة إلى ما نقف عليه في " الفقه األكبر "‪ ,‬المنسوب‬
‫إلى أبي حنيفة‪ ،‬من آراء مترجمة عن إقراره بمقاالت المرجئة‪ » :‬وال نك ّفر مسلما‬
‫بذنب من الذنوب وإنْ كانت كبيرة إذا ل ْم يستحلّها‪ .‬وال نزيل عنه اسم اإليمان ونس ّميه‬
‫مؤمنا حقيقة«‪.22‬‬

‫وام ُتحِن أحمد بن حنبل ح ّتى يقول بخلق القرآن على رأي المعتزلة‪ ،‬فأعلن أنّ‬
‫القائل بذلك كافر‪ ،‬وكانت العقيدة الحنبليّة الخصم األل ّد للمعتزلة‪ .‬وألّف تقيّ الدين ابن‬

‫‪ )91‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميّين‪ ،‬ص ص ‪168.-169‬‬


‫‪ )92‬أبو حنيفة‪ ،‬الفقه األكبر‪ ،‬ص ‪2.‬‬

‫‪80‬‬
‫تيميّة كتاب " اإليمان " فانتصب را ّدا فيه على مقاالت اإلسالميّين في اإليمان‪،‬‬
‫ومنتـصرً ا إلى رأي ابن حـنبل قـار ًنا اإليمان باألعمال‪ » :‬فإذا كان القلب صالحا بما‬
‫فيه من اإليمان علما وعمال قلبيّا‪ ،‬لزم ضرورة صالح الجسد بالقول الظاهر والعمل‬
‫باإليمان المطلق‪ ،‬كما قال أهل الحديث‪ :‬قول وعمل‪ :‬قول باطن وظاهر‪ ،‬وعمل باطن‬
‫وظاهر‪ .‬والظاهر تابع للباطن الزم له متى صلح الباطن صلح الظاهر‪ ،‬وإنْ فسد‬
‫فسد«‪.22‬‬

‫لقد ترسّخ في الفكر الس ّني ما عبّر عنه ّ‬


‫الغزالي حين يقول‪ » :‬ال يبعد أنْ يع ّد‬
‫العمل من اإليمان أل ّنه مكمّل له و متمّم‪ ،‬كما يُقالُ‪ :‬الرأس و اليدان من اإلنسان‪.‬‬
‫كونه إنسا ًنا بعدم الرأس وال يخرج عنه بكونه مقطوع اليد‬ ‫ومعلوم أ ّنه يخرج عن ْ‬
‫[‪ ]...‬فالتصديق بالقلب من اإليمان كالرأس من وجود اإلنسان ْإذ ينعدم بعدمه‪ ،‬وبقيّة‬
‫الطاعات كاألطراف بعضها أعلى من بعض‪ .‬وقد قال (ص)‪ " :‬ال يزني الزاني حين‬
‫يزني وهو مؤمن "‪ .‬والصحابة‪ ،‬رضي هللا عنهم‪ ،‬ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في‬
‫الخروج عن اإليمان بالزنا‪ ،‬ولكن معناه غير مؤمن ح ًّقا إيمانا تامّا كامال«‪.22‬‬

‫لقد ّ‬
‫مثل اختالف المسلمين في اسم صاحب الكبيرة وحكمه سببا مباشرً ا في‬
‫مراجعة مفهوم اإليمان سواء لدى المتكلّمين أو الفقهاء‪ .‬وبقي ذلك االختالف مستندا‬
‫إلى النصّ في المقام األوّ ل‪ .‬ومن هنا يمكن أن نفهم ما ق ّدم به األشعري لمقاالته‪» :‬‬
‫اختلف الناس بعد نبيّهم(ص) في أشياء كثيرة ضلّل فيها بعضهم بعضا‪ ،‬وبرئ بعضهم‬
‫من بعض فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشت ّتين‪ ،‬إالّ أنّ اإلسالم يجمعهم ويشتمل‬
‫عليهم«‪.23‬‬

‫‪ )99‬ابن تيميّة‪ ،‬اإليمان‪ ،‬ص ‪122.‬‬


‫‪ )98‬الغ ّزالي‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬م ‪ ،1‬ج ‪ ،1‬ص ‪213.‬‬
‫‪ )83‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميّين‪ ،‬ص ص ‪2.-1‬‬

‫‪81‬‬
‫وإنْ ك ّفر المسلمون بعضهم بعضا فإ ّنهم ا ّتفقوا على وجوب التوبة من ك ّل‬
‫الذنوب صغيرها وكبيرها‪ ،‬وطلب الغفران ح ّتى ال يُعا َمل المذنب معاملة الكافر في‬
‫الهيئة االجتماعيّة‪ ،‬ويكون له أمل النجاة في اآلخرة‪.‬‬

‫‪ . II‬الشفاعة‪:‬‬
‫ّ‬
‫تمثل الشفاعة إحدى المسائل الخالفيّة في الفكر اإلسالمي‪ ،‬كما أ ّنها وثيقة‬
‫الصلة بنظرة المسلمين إلى الذنب وجزاء المذنبين وهي إلى ذلك مرتبطة بع ّدة مفاهيم‬
‫تمثل المرحلة األخيرة في تحديد المـصـير‬‫كالتوبة والغفران‪ .‬والحقيقة أنّ الشفاعة ّ‬
‫األخـرويّ ‪ ،‬وهـي كما يحـ ّددها الجرجاني‪ » :‬السؤال في التجاوز عن الذنوب من‬
‫الّذي وقع الجناية في ح ّقه«‪ .21‬ولئن حرص المسلمون على تفريع الذنوب إلى ما هو‬
‫حق اإلله‪ ،‬مثل الشرك وترك العبادات المفروضة‪ ،‬وإلى ما هو في ّ‬
‫حق الناس عند‬ ‫في ّ‬
‫تعلّق األمر بالمعامالت والشأن االجتماعيّ ‪ ،‬لئن حرص المسلمون على ذلك فإ ّنه‬
‫يمكن التأكيد على أنّ الذنوب في جملتها في ّ‬
‫حق هللا باعتبار أنّ الذنب مخالفة لألوامر‬
‫اإلله ّية وخروج عن طاعة اإلله‪ .‬ولمّا كانت الذنوب في ّ‬
‫حق هللا أصبحت الشفاعة‬
‫عالقة واسطة بينه وبين شفيع قصد الغفران وعدم المؤاخذة بالذنب‪ .‬سنحاول إذن أن‬
‫ننظر في مفهوم الشفاعة وما يتعلّق به في الفكر اإلسالمي‪ ،‬وننطلق في ذلك من‬
‫محاولة النظر في النصوص التأسيسيّة لبيان كيفيّة تعبير تلك النصوص عن الشفاعة‬
‫وذلك قبل التعرّ ض إلى اختالف المسلمين فيها‪.‬‬

‫النص‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ )1‬الشفاعة في‬
‫* في القرآن‪:‬‬

‫‪ )81‬الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪.161‬‬

‫‪82‬‬
‫لقد تكرّ رت اآليات القرآنيّة المثيرة صراحة لمفهوم الشفاعة‪ .22‬ويمكن أن‬
‫نميّز في النصّ القرآني بين ثالثة أصناف من اآليات المتعلّقة بهذا المفهوم‪:‬‬
‫أ) الصنف األوّ ل ينفي الشفاعة وينكرها على اإلطالق‪ ،‬والحقيقة أنّ أغلب‬
‫اآليات تندرج في هذا السياق‪ .‬ومن ذلك‪َ ﴿ :‬وا ّتــقــُوا َي ْـومًـا ال تـَجْ ِزي نــَ ْفسٌ َعنْ َن ْفس‬
‫رُون ﴾‪.20‬‬
‫ص َ‬ ‫اع ٌة َوال ُه ْم يُــن ْـ َ‬‫شــَيْئا وال ُي ْق َب ُل ِم ْن َها َع ْد ٌل َوال تـَ ْنفـَـ ُع َها شـَ َف َ‬
‫ب) أمّا الصنف الثاني من اآليات ففيه إثبات مشروط للشفاعة‪ ،‬فهي ال تكون‬
‫إالّ من هللا أو أ ّنها على األق ّل ال تكون إالّ بإذنه‪ .‬وفي هذا اإلطار كانت اآلية‪ ﴿ :‬هللا ُ‬
‫ش َما‬‫العرْ ِ‬ ‫ت َواألَرْ َ‬
‫ض َو َما َبيـْ َن ُه َما فِي سِ ّت ِة أَيـَّام ثـ ُ ّم اسْ تـ َ َوى َع َلى َ‬ ‫الّذِي خـَلـَ َق ال َّس َم َاوا ِ‬
‫ون﴾‪ .26‬أمّا اآلية التي تبيّن أنّ هللا قد‬ ‫َل ُك ْم مِنْ ُدو ِن ِه مِنْ َولِيٍٍِّ َوالَ َشفِيع أ َفال تـَتـَ َذ َّكرُ َ‬
‫اع ُة إالّ لِـ َمنْ أذ َِن لَ ُه َ‬
‫الرحْ َمانُ َو َرضِ َ‬
‫ـي‬ ‫يأذن بالشفاعة فهي‪ ﴿ :‬يـَ ْو َمئِذ ال تـَ ْنـفـَعُ الشـَفـَ َ‬
‫لَ ُه قـَ ْوالً﴾‪.25‬‬
‫ج) بالنسبة إلى الصنف الثالث فإنّ لفظ الشفاعة فيه غير ظاهـر بل ُتؤوّ ل‬
‫اآليات ويُستخرج منها معنى الشفاعة واألمر متعلّق هنا بتأويل آيتين يت ّم اعتمادهما‬
‫إلثبات شفاعة الرسول ألمّته يوم القيامة‪ .‬اآلية األولى هي‪َ ﴿ :‬وم َِن اللـَي ِْل فـَ َت َهجـ ّ ْد بِ ِه‬
‫ُودا﴾‪ .24‬أمّا اآلية الثانية التي ت ّم تأويلها‬ ‫َنا ِفلَ ًة لـَ َك َع َسى أَنْ َيب َْعثـَ َك َربــ ُّ َك َمقـَامـًا َمحْ م ً‬
‫" المقام المحمود" بمقام‬ ‫ضى﴾‪ .22‬لقد فُسّر‬
‫ك َر ّبـ ُ َك فـَتـَرْ َ‬ ‫فهي‪َ ﴿ :‬ولَ َس ْو َ‬
‫ف يُعْ طِ ي َ‬
‫الشفاعة كما تبيّنه إحدى روايات البخاري » ح ّدثني إسماعيل بن إبان‪ ،‬ح ّدثنا أبو‬
‫األحوص‪ ،‬عن آدم بن عليّ قال‪ :‬سمعت ابن عمر‪ ،‬رضي هللا عنهما‪ ،‬يقول‪ :‬إنّ الناس‬

‫‪ )82‬انظر مح ّمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم‪ ،‬ما ّدة (ش‪-‬‬
‫ف‪-‬ع)‪.‬‬
‫‪ )86‬البقرة ‪ .126 /2‬وانظر كذلك‪ :‬البقرة ‪ 29 /2‬و‪ ،212‬النساء ‪ ،91 /2‬األعراف ‪/2‬‬
‫‪ ،16‬الشعراء ‪ ،133 /21‬غافر ‪ ،19 /23‬المدثر ‪.29 /22‬‬
‫‪ )82‬السجدة ‪.2 /62‬‬
‫‪ )81‬طه ‪.138 /23‬‬
‫‪ )81‬اإلسراء ‪.28 /12‬‬
‫‪ )82‬الضحى ‪.1 /86‬‬

‫‪83‬‬
‫يصيرون يوم القيامة ّ‬
‫حثا‪ ،‬ك ّل أمّة تتبع نبيّها يقولون‪ :‬يا فالن اشفع‪ ،‬ح ّتى تنتهي‬
‫الشفاعة إلى النبيّ (ص)‪ ،‬فذلك يوم يبعثه هللا المقام المحمود«‪.22‬‬

‫إنّ نظرنا في الشفاعة من خالل النصّ القرآني يبيّن مدى سلبيّة المفهوم‪،22‬‬
‫أي إ ّنها منفيّة في أغلب اآليات التي ورد فيها ذكرها‪ .‬ولع ّل هذه السلبيّة تزداد‬
‫وضوحا إذا ما تمّت المقارنة بين مفهوم الشفاعة في القرآن ونظيره في المرويّات‬
‫عن الرسول‪.‬‬

‫* في الحديث‪:‬‬
‫قد يكون من المستحيل في هذا اإلطار الضيّق أن نعرض ك ّل المنسوبات إلى‬
‫الرسول المتعلّقة بشفاعته ألمّته في اآلخرة‪ .‬ولكن يمكن القول إجماال إنّ تلك‬
‫األحاديث تبرز مدى تميّز النبيّ محمّد عن بقيّة األنبياء‪ ،‬والمرويّات في هذا المعنى‬
‫كثيرة‪ .‬جاء في صحيح مسلم‪ » :‬ح ّدثني الحكم بن موسى‪ ،‬أبو صالح‪ ،‬ح ّدثنا ِه ْق ُل‪،‬‬
‫يعني ابن زياد‪ ،‬عن األوزاعيّ ‪ ،‬ح ّدثني أبو عمّار‪ ،‬ح ّدثني عبد هللا بن فرّ وخ‪ ،‬ح ّدثني‬
‫ّ‬
‫ينشق‬ ‫أبو هريرة قال‪ :‬قال رسول هللا (ص)‪ " :‬أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة‪ ،‬وأوّ ل من‬
‫عنه القبر‪ ،‬وأوّ ل شافع وأوّ ل مشفّع"«‪.133‬‬

‫يبيّن الحديث‪ ،‬إلى جانب أفضليّة رسول اإلسالم‪ ،‬أنّ النبيّ محمّد ليس الشافع‬
‫الوحيد بل هو أوّ ل الشفعاء‪ ،‬وهو أمر يناقض ما جاء في مرويّات أخرى ُع ّدت صحيحة‬
‫تقصر الشفاعة عليه دون غيره من األنبياء والرسل‪ ،‬وقد ورد هذا المعنى في حديث‬
‫اشتهر بحديث الشفاعة‪ .‬يذكر البخاري في صحيحه‪ » :‬ح ّدثنا سليمان بن حرب‪ ،‬ح ّدثنا‬

‫‪ )89‬البخاري‪ ،‬كتاب تفسير القرآن‪ ،‬باب قوله‪ " :‬عسى أن يبعثك ربّك مقاما محمودا"‪.‬‬
‫‪ )88‬انظر ‪Wensinck, article « shafā’a », in EI2, Tome IX, pp 183-‬‬
‫‪184.‬‬
‫‪ )133‬مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب تفضيل نبيّنا (ص) على جميع الخالئق‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫حمّاد بن زيد‪ ،‬ح ّدثنا معبد بن هالل الع َنزيّ قال‪ :‬اجتم َعنا ناسٌ من أهل البصرة فذهبنا‬
‫إلى أنس بن مالك‪ ،‬وذهبنا معنا بثابت إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة‪ ،‬فإذا هو في‬
‫قصره فوافقناه يصلّى الضحى‪ ،‬فاستأذ ّنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه‪ .‬فقلنا لثابت‪ :‬ال‬
‫تسأله عن شيء أوّ ل من حديث الشفاعة‪ .‬فقال‪ :‬ح ّدثنا محمّد (ص) قال‪ " :‬إذا كان يوم‬
‫القيامة ماج الناس بعضهم في بعض‪ .‬فيأتون آدم فيقولون‪ :‬اشفع لنا إلى ربّك‪ .‬فيقول‪:‬‬
‫لست لها‪ ،‬ولكن عليكم بإبراهيم فإ ّنه خليل الرحمان‪ .‬فيأتون إبراهيم فيقول‪ :‬لست لها‪،‬‬
‫ولكن عليكم بموسى فإ ّنه كليم هللا‪ .‬فيأتون موسى فيقول‪ :‬لست لها‪ ،‬ولكن عليكم بعيسى‬
‫فإ ّنه روح هللا وكلمته‪ .‬فيأتون عيسى فيقول‪ :‬لست لها‪ ،‬ولكن عليكم بمحمّد (ص)‪.‬‬
‫فيأتونني فأقول‪ :‬أنا لها‪ .‬فأستأذن على ربّي فيُؤذن لي ويُلهمني محامدَ أحمده بها ال‬
‫تحضرني اآلن‪ ،‬فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدا‪ ،‬فيُقال‪ :‬يا محمّد‪ ،‬ارفع رأسك‬
‫وس ْل ُتع َط واشفع ُتش ّفع‪ .‬فأقول‪ :‬يا ربّ ‪ ،‬أمّتي أمّتي‪ .‬فيُقال‪ :‬انطلق فأخرج‬
‫وق ْل يُسمع لك َ‬
‫منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان‪ .‬فأنطلق فأفعل [‪ .131«]...‬وهكذا في‬
‫المرّ ة الثانية والثالثة إلى أن يخرج ك ّل من أقرّ بوحدانيّة هللا ولم يبق في النار إالّ من‬
‫ّ‬
‫حق عليه الخلود‪.‬‬

‫من هنا يظهر أنّ الشفاعة ميزة لمحمّد على بقيّة األنبياء‪ ،‬فهي دعوة اختزنها‬
‫الرسول أو أرجأها إلى يوم القيامة رحمة بأمّته وشفقة عليها كما تبيّن ذلك مرويّات‬
‫أخرى‪ » :‬ح ّدثنا يونس بن عبد األعلى‪ ،‬أنبأنا عبد هللا بن وهب‪ ،‬قال‪ :‬أخبرني مالك‬
‫بن أنس‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن سلمة بن عبد الرحمان‪ ،‬عن أبي هريرة أنّ رسول هللا‬
‫(ص) قال‪ " :‬لك ّل نبيّ دعوة يدعوها فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة ألمّتي يوم‬
‫القيامة "«‪ .132‬بهذا الحديث األخير يتدعّم تميّز محمّد على بقيّة الرسل خاصّة أنّ‬
‫القرآن يؤ ّكد على أنّ هللا قد أهلك أقواما سابقة بأعمالهم وظلمهم لألنبياء ولكن أيضا‬

‫‪ )131‬البخاري‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب كالم الربّ ع ّز وج ّل يوم القيامة مع األنبياء‬


‫وغيرهم‪ ،‬واختصرنا الحديث لطوله‪.‬‬
‫‪ )132‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب اختباء النب ّي (ص) دعوة الشفاعة أل ّمته‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫بسبب دعوة نبيّ ما على قومه كقوم نوح وصالح وهود ولوط وغيرهم‪ .‬روى مسلم‬
‫حديثا من أفراده‪ » :‬ح ّدثني يونس ابن عبد األعلى الصدفي‪ ،‬أنبأنا ابن وهب قال‪:‬‬
‫أخبرني عمرو بن الحارث أنّ بكر بن سوادة ح ّدثه عن عبد الرحمان بن جُبيْر‪ ،‬عن‬
‫عبد هللا بن عمرو بن العاص أنّ النبيّ (ص) تال قول هللا تعالى في إبراهيم ﴿ َربِّ‬
‫إنــَّهـُنّ أضْ لَ ْل َن كـَثِيرً ا م َِن ال َن ِ‬
‫اس فـَ َمنْ َت ِب َعنِي فـَإنـ َّ ُه ِم ّني﴾‬
‫‪130‬‬
‫اآلية‪ ،‬وقال عيسى عليه‬
‫الع ِزي ُز َ‬
‫الحكِي ُم ﴾‪،136‬‬ ‫ت َ‬ ‫السالم‪ ﴿ :‬إنْ تـ ُ َع ِّذ ْب ُه ْم فـَإنـّـَ ُه ْم عِ َبا ُد َك وإنْ تـَغ ْـفِرْ لَ ُه ْم فإ ّن َك أ ْن َ‬
‫عز وجلّ‪ :‬يا جبريل اذهب إلى‬ ‫فرفع يديه وقال‪ " :‬الله ّم أمّتي‪ ،‬أمّتي " وبكى‪ .‬فقال هللا ّ‬
‫محمّد‪ ،‬وربّك أعلم‪ْ ،‬‬
‫فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السالم فسأله‪ .‬فأخبره رسول‬
‫هللا (ص) بما قال‪ ،‬وهو أعلم‪ ،‬فقال هللا‪ :‬يا جبريل اذهب إلى محمّد فقلْ‪ :‬إ ّنا سنرضيك‬
‫في أمّتك وال نسوءك«‪.135‬‬

‫استنادا إلى هذه األحاديث وأضرابها ترسّخ في الفكر اإلسالمي الس ّني‬
‫بالخصوص أمران على األقلّ‪ :‬األوّ ل أنّ شفاعة محمّد ألمّته ّ‬
‫حق ثابت ال ريب فيه‬
‫وأ ّنه مقتصر عليه دون غيره من األنبياء والخالئق‪ .‬وهذا يفضي إلى األمر الثاني‬
‫المتعلّق بتفضيل رسول اإلسالم على كا ّفة المخلوقات واألنبياء والرسل ممّا جعل‬
‫الشفاعة المحمّديّة جانبا هامّا استغلّه المسلمون لمحاجّ ة غير المسلمين وإبراز أفضليّة‬
‫اإلسالم ورسوله إلى جانب مسألة ختم النبوّ ة وح ّتى أميّة محمّد وبشريّته التي‬
‫اندرجت في سياقات جداليّة تمجيديّة‪.134‬‬

‫ومن ناحية أخرى تبيّن أحاديث عديدة أنّ الشـفاعة تـكـون للمذنـبيـن وهي‬
‫تلي عقابهم فيخرجون بها ممّا هم فيه من عذاب‪ ،‬روى مسلم‪ » :‬وح ّدثنا أبو الربيع‪،‬‬

‫‪ )136‬إبراهيم ‪.61 /12‬‬


‫‪ )132‬المائدة ‪.119 /1‬‬
‫‪ )131‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب دعاء النب ّي (ص) أل ّمته وبكائه شفقة عليهم‪.‬‬
‫‪ )131‬انظر في هذا الشأن‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ ،‬الفكر اإلسالمي في الر ّد على‬
‫النصارى إلى نهاية القرن الرابع‪ /‬العاشر‪ ،‬ص ص ‪.138-219‬‬

‫‪86‬‬
‫ح ّدثنا حمّاد بن زيد‪ ،‬قال‪ :‬قلت لعمرو بن زيد‪ :‬أ سمعت جابر بن عبد هللا يح ّدث عن‬
‫رسول هللا (ص)‪ " :‬أنّ هللا يُخرج قوما من النار بالشفاعة"؟ قال‪ :‬نعم«‪ .132‬وقد‬
‫ترتبط الشفاعة ببعض الحاالت الخاصّة فال تؤ ّدي إلى الخروج من النار مطلقا بل‬
‫التخفيف من العذاب فقط‪ .‬ورد في صحيح مسلم‪ » :‬وح ّدثنا عُبيْد هللا ابن عمر‬
‫القواريريّ ومح ّمد بن أبي بكر المقدميّ ومحمّد بن عبد الملك األمويّ قالوا‪ :‬ح ّدثنا أبو‬
‫َعوانة‪ ،‬عن عبد الملك بن عُميْر‪ ،‬عن عبد هللا بن الحارث بن نوفل‪ ،‬عن العبّاس بن‬
‫ّ‬
‫المطلب أ ّنه قال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬هل نفعت أبا طالب بشيء‪ ،‬فإ ّنه كان يحوطك‬ ‫عبد‬
‫ويغضب لك؟ قال‪ " :‬نعم‪ .‬هو في ضحضاح من نار‪ ،‬ولوال أنا لكان في الدرك‬
‫األسفل من النار«‪.132‬‬

‫ولكن ما نشير إليه هنا أنّ روايات واردة في مجاميع الحديث النبويّ تؤ ّكد أنّ‬
‫الرسول ال يملك ألقربائه يوم القيامة شيئا ومن ذلك ما أثبته البخاري في صحيحه ‪:‬‬
‫» ح ّدثنا أبو اليمان‪ ،‬أخبرنا شعيب‪ ،‬عن الزهري قال‪ :‬أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو‬
‫سلمة بن عبد الرحمان أنّ أبا هريرة رضي هللا عنه قال‪ :‬قام رسول هللا (ص) حين‬
‫ِين﴾‪ ،132‬قال‪ " :‬يا معشر قريش‪ ،‬أو‬ ‫ك األقـْ َربـ َ‬ ‫أنزل هللا ّ‬
‫عز وج ّل ﴿ َوأنـْذِرْ عَشِ َ‬
‫يرتـَ َ‬
‫كلمة نحوها‪ ،‬اشتروا أنفسكم ال أغني عنكم من هللا شيئا‪ .‬يا بني عبد مناف ال أغني‬
‫المطلب ال أغني عنك من هللا شيئا‪ .‬يا صفيّة‬ ‫ّ‬ ‫عنكم من هللا شيئا‪ .‬يا عبّاس بن عبد‬
‫عمّة رسول هللا ال أغني عنك من هللا شيئا‪ .‬ويا فاطمة بنت محمّد سليني ما شئت من‬
‫مالي ال أغني عنك من هللا شيئا "‪ .‬تابعه أصبغ‪ ،‬عن ابن وهب‪ ،‬عن يونس‪ ،‬عن ابن‬
‫شهاب«‪.113‬‬

‫‪ )132‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها‪.‬‬


‫‪ )139‬مسلم‪ ،‬كتاب اإليمان‪ ،‬باب شفاعة النب ّي (ص) ألبي طالب والتخفيف عنه بسببه‪.‬‬
‫‪ )138‬الشعراء ‪.212 /21‬‬
‫‪ )113‬البخاري‪ ،‬كتاب الوصايا‪ ،‬باب هل يدخل النساء والولد في األقارب‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫رغم هذا الحديث األخير فإنّ الشفاعة تأخذ صبغة إيجابيّة في المنسوبات إلى‬
‫الرسول‪ ،‬ويظ ّل التأكيد على إثباتها سمة غالبة وذلك خالفا لما الحظناه من نفيها في‬
‫أغلب اآليات القرآنيّة التي تعرّ ضت لها‪ .‬وفي إطار هذا الجدل بين اإلثبات والنفي‬
‫يمكن أن نتو ّقع أنّ مواقف المسلمين من الشفاعة ستكون متضاربة بين مثبتة للشفاعة‬
‫إذا ت ّم االستناد إلى الحديث ومنكرة إذا كان القول فيها معتمدا على النصّ القرآني‪.‬‬

‫في هذا اإلطار يمكن تقسيم مواقف المسلمين من الشفاعة إلى قسمين كبيرين‪:‬‬
‫األوّ ل مثبت يمثــّله ك ّل من الس ّنة والشيعة‪ ،‬والثاني منكر يمثـّله الخوارج والمعتزلة‪.‬‬
‫إالّ أ ّنه يمكن تفريع ك ّل من القسمين تفريعا داخليّا وهو ما سنحاول بيانه‪.‬‬

‫‪ )1‬إثبات الشفاعة‪:‬‬
‫* الموقف الس ّني‪:‬‬
‫إنّ استناد أهل الس ّنة إلى الحديث النبوي لبلورة العديد من المفاهيم المؤسّسة‬
‫لعقيدتهم جعلتهم يثبتون الشفاعة ويدعون إلى اإليمان بها فكانت من التصوّ رات‬
‫األساسيّة التي جادلوا بها مخالفيهم من الفرق والنحل‪ ،‬فكان تأكيد الس ّنة على ثبات‬
‫الشفاعة وعلى أ ّنها للموحّدين المذنبين وناظروا غيرهم من أصحاب المقاالت في‬
‫جوازها ألصحاب الكبائر‪ .‬وفي هذا اإلطار يبدو أنّ مقالة أبي الحسن األشعري (ت‬
‫‪ 026‬هـ) في الشفاعة هي التي ترسّخت في الفكر اإلسالمي الس ّني‪ .‬فقد جاء في "‬
‫اإلبانة "‪ » :‬ويُقال لهم‪ :‬قد أجمع المسلمون أنّ لرسول هللا (ص) شفاعة‪ ،‬فلمن‬
‫الشفاعة؟ هي للمذنبين المرتكبين الكبائر‪ ،‬أو للمؤمنين المخلصين؟ فإنْ قالوا‪ :‬للمذنبين‬
‫المرتكبين الكبائر وافقوا‪ .‬وإنْ قالوا للمؤمنين المب ّشرين بالج ّنة الموعودين بها‪ ،‬قيل‬
‫لهم‪ :‬فإذا كانوا بالج ّنة موعودين وبها مب ّشرين‪ ،‬وهللا ّ‬
‫عز وج ّل ال يخلف وعده‪ ،‬فما‬
‫معنى الشفاعة لقوم ال يجوز عندكم أن ال يدخلهم هللا ج ّناته؟ [‪ ]...‬فإنْ سألوا عن قول‬

‫‪88‬‬
‫ضى﴾‪ .111‬فالجواب عن ذلك‪ :‬إال ّ لمن‬
‫ُون إال ّ لِ َمنْ ارْ تـ َ َ‬ ‫هللا ّ‬
‫عز وجلّ‪َ ﴿ :‬والَ يـَش ْـفـَع َ‬
‫ارتضى فهم يشفعون له‪ .‬وقد رُوي أنّ شفاعة النبيّ (ص) ألهل الكبائر‪ .‬ورُوي عن‬
‫النبيّ (ص)‪ " :‬إنّ المذنبين يخرجون من النار"«‪.112‬‬

‫حق وأ ّنها للمذنبين بل ألصحاب‬‫يؤ ّكد قول األشعري على أنّ شفاعة النبيّ ّ‬
‫ّ‬
‫الممثل لرأي أهل الس ّنة بصفة عامّة‪ .‬وي ّتضح‬ ‫الكبائر بالخصوص‪ .‬وهذا القول هو‬
‫ذلك من خالل موقف أبي المعالي عبد الملك الجويني حـيث يقول‪ » :‬إذا ثبت جواز‬
‫الغفران وقد شهدت له شواهد من الكتاب والس ّنة‪ ،‬لم نذكرها لشهرتها‪ ،‬فيتر ّتب على‬
‫ّ‬
‫الحق أنّ الشفاعة‬ ‫وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم‪ .‬فمذهب أهل‬ ‫ّ‬ ‫ذلك تشفيع الشفعاء‬
‫ّ‬
‫حق‪ .‬وقد أنكرها منكرو الغفران‪ ،‬ومن جوّ ز الصفح والعفو بدءا من هللا تعالى فال‬
‫يمنع الشفاعة‪ .‬ومنهم من يمنعها على مصيره إلى تجويز الغفران وذلك نهاية في‬
‫الجهل ال يلتزمها ذو تحصيل‪ ]...[ .‬فإذا ثبت جواز التشفيع عقال فقد شهدت له سنن‬
‫بلغت االستفاضة فمن رامها ألفاها منقولة‪ ،‬ث ّم هي مصرّ حة بالتشفيع في أهل الكبائر‬
‫[‪ .]...‬فإذا شهد العقل بالجواز وعضدته شواهد السمع فال يبقى بعد ذلك لإلنكار‬
‫مضطرب‪ ،‬وفيما ذكرناه ر ّد على فئة صاروا إلى أنّ الشفاعة ترفع الدرجات وال‬
‫ّ‬
‫تحط السيّئات«‪.110‬‬

‫يظهر من القولين أنّ الموقف الس ّني من الشفاعة‪ ،‬إلى جانب اإلقرار بها‬
‫لمقترفي الذنوب من المسلمين المؤمنين‪ ،‬مندرج في إطار جدل مع المنكرين لها‪ .‬كما‬
‫نالحظ فيما يذكره ك ّل من األشعري والجويني غيابا يكاد يكون كلّيا للقرآن لبيان‬
‫ثبوت شفاعة الرسول وهذا طبيعيّ نظرا إلى ما رأيناه من سلبيّة للشفاعة في النصّ‬
‫القرآني‪ .‬كما ي ّتضح أنّ محور الخالف ليس في إثبات الشفاعة أو إنكارها بل فيمن‬

‫‪ )111‬األنبياء ‪.29 /21‬‬


‫‪ )112‬األشعري‪ ،‬اإلبانة عن أصول الديانة‪ ،‬ص ‪.91‬‬
‫‪ )116‬الجويني‪ ،‬اإلرشاد إلى قواطع األد ّلة في أصول االعتقاد‪ ،‬ص ص ‪.681-686‬‬

‫‪89‬‬
‫يستح ّقها‪ ،‬فكان تأكيد الس ّنة على أ ّنها للمذنبين المؤمنين وألصحاب الكبائر خاصّة‪،‬‬
‫وهذا األمر ال يمكن أن يتناسق مع مقاالت الخوارج والمعتزلة الذين ْ‬
‫يرون خلود‬
‫صاحب الكبيرة في النار‪.‬‬

‫كما نالحظ أنّ في موقف الس ّنة إلحاحا على شفاعة النبيّ محمّد دون غيره‬
‫من األنبياء والرسل‪ .‬ولكن ال يمكن تعميم هذا الرأي‪ ،‬فرغم حديث الشفاعة الذي‬
‫عرضناه والمبيّن لتقلّب المذنب بين األنبياء من آدم إلى عيسى فال يجد ما يرتجي من‬
‫الشفاعة‪ ،‬ويظفر بها عند محمّد فإنّ مثل أبي حنيفة‪ ،‬وإن أقرّ بأنّ الشفاعة لمرتكبي‬
‫الذنوب الكبائر‪ ،‬يجعلها عامّة لألنبياء جميعهم دون تمييز بين محمّد أو غيره‪ .‬يقول‬
‫في ذلك‪ » :‬وشفاعة األنبياء‪ ،‬عليهم السالم‪ّ ،‬‬
‫حق‪ .‬وشفاعة النبيّ ‪ ،‬عليه الصالة‬
‫ٌ‬
‫ثابت«‪.116‬‬ ‫العقاب ّ‬
‫حق‬ ‫َ‬ ‫والسالم‪ ،‬للمؤمنين المذنبين وألهل الكبائر منهم المستوجبين‬
‫إنّ الشفاعة لدى أهل الس ّنة من خاصيّات األنبياء‪ ،‬وميزة من مميّزات رسول اإلسالم‬
‫فلم تخرج بذلك عن كونها لألنبياء والرسل دون غيرهم‪ ،‬ولع ّل هذا األمر هو الذي‬
‫مثــّل نقطة اختالف جوهريّة بين الموقف الس ّني والموقف الشيعي‪.‬‬

‫* الموقف الشيعي‪:‬‬
‫ال يمكن أن ننظر في أيّ قول للشيعة خارج إطار ما يُعتبر عندهم ركن الديانة‬
‫األعظم ومقوّ م اإليمان األساسي ونعني بذلك اإلمامة‪ .‬وال نزعم الب ّتة أ ّننا سنحاول‬
‫بيان ذلك المفهوم فهو من األمور المع ّقدة والدقيقة المحتاجة إلى درس طويل‪ ،‬وك ّل‬
‫ك سطحيّة ومخلّة‪.‬‬
‫محاولة م ّنا لبيانه في هذا المقام ستكون بدون ش ّ‬

‫ّ‬
‫المتأخرين‪ ،‬محمّد بن المرتضى‬ ‫يح ّدد أحد الشيعة اإلماميّة اإلثني عشريّة‬
‫الكاشاني ( ت‪ 1321‬هـ) الشفاعة بقوله‪ » :‬معنى الشفاعة ما قاله بعض العلماء أ ّنه‬

‫‪ )112‬أبو حنيفة‪ ،‬الفقه األكبر‪ ،‬ص ‪.1‬‬

‫‪90‬‬
‫يجعل بعض مقرّ بي حضرة هللا‪ّ ،‬‬
‫عز وج ّل‪ ،‬وسيلة إليه في مغفرته تعالى لذنوب عبده‬
‫وعفوه عن خطاياه أو ازدياده في درجاته‪ .‬وهذا إ ّنما يُتصوّ ر إذا كان العبد استحكم‬
‫نسبته إلى ذلك الشفيع في الدنيا بش ّدة المحبّة له‪ ،‬أو كثرة المواظبة على االقتداء به‪،‬‬
‫أو كثرة الذكر له بالصالة والتسليم عليه‪ ،‬أو تألّمه بفقدانه وحزنه على ذلك أو نحو‬
‫ذلك‪ ،‬فإنّ ذلك كلّه يصير سببا لتنوير القلب والقرب من هللا ّ‬
‫عز وج ّل‪ ،‬وهما بعينهما‬
‫مغفرة للذنوب وزيادة في الدرجات وإ ّنما حصال بوسيلة ذلك الشفيع‪ ،‬بل بوسيلة قربه‬
‫عز وجلّ‪ .‬وهذا معنى اإلذن من هللا‪ .]...[ .‬يدلّك على ما ُذكر أنّ جميع ما‬
‫من هللا ّ‬
‫ورد في األخبار من استحقاق شفاعة النبيّ (ص) معلّق بما يتعلّق به من صالة أو‬
‫ّ‬
‫المؤذن [‪ .]...‬وكذا شفاعة غيره من األئمّة المعصومين عليهم‬ ‫زيارة لقبره أو جواب‬
‫السالم والعلماء الصالحين«‪.115‬‬

‫بدا لنا نصّ الكاشاني ّ‬


‫ملخصا لما عزمنا على بيانه من موقف الشيعة‪ ،‬اإلماميّة‬
‫خاصّة‪ ،‬من الشفاعة وما يختلف فيه مع موقف الس ّنة‪ .‬والظاهر في النصّ أنّ الشفعاء‬
‫ع ّدة‪ ،‬أي إنّ الشفاعة ليست حكرا على الرسول محمّد‪ .‬كما أنّ الشفاعة ال ترتبط‬
‫بالتجاوز عن المذنبين والغفران لهم بل تتعلّق أيضا بالمؤمنين غير المذنبين الّذين‬
‫تكون لهم الشفاعة زيادة في الدرجات‪.‬‬

‫إنّ الشفاعة من المنظور الشيعيّ مرتبطة بالنبيّ ‪ ،‬كما في الموقف الس ّني‪ ،‬ولكن‬
‫باألئمّة كذلك‪ .‬وهي ال تت ّم إالّ بشروط تح ّددها عالقة الشافع بالمشفوع فيه‪ .‬وما بدا لنا‬
‫الفتا في تلك الشروط التألّ ُم لفقدان الشافع والحزن عليه‪ .‬إنّ هذا الشرط صدى واضح‬
‫مغتصبُو ّ‬
‫حق‪ .‬ولئن ابتدأ‬ ‫َ‬ ‫لتاريخ الشيعة المليء باألحزان واإلحساس بالظلم وبأ ّنهم‬
‫والوالية‪ ،‬فإنّ الحزن قد‬ ‫ّ‬
‫األحق بالخالفة َ‬ ‫ذلك التاريخ منذ وفاة الرسول واعتبار عليّ‬
‫مثل نقطة انطالق‬ ‫تفجّ ر بعد مقتل الحسين بكربالء في عاشوراء (‪ 41‬هـ) الّذي ّ‬

‫‪ )111‬الكاشاني‪ ،‬علم اليقين في أصول الدين‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.896‬‬

‫‪91‬‬
‫لمراسم العزاء الحسيني‪ .‬وإ ّنما نذكر هنا ذلك ألنّ الحسين ّ‬
‫يمثل رمزا شيعيّا استثنائيّا‬
‫بتضحيته بنفسه من أجل شيعته وألجل أن يستقيم اإلسالم بعد أن زاغ خلفاء بني أميّة‬
‫ّ‬
‫الحق‪ .‬وهذه الشهادة والبطولة أكسبت الحسين مرتبة الشفيع بالنسبة إلى شيعته‬ ‫عن‬
‫يوم القيامة فكان المخلّص في اآلخرة‪ ،‬كما حاول أن يكون كذلك في الدنيا‪ ،‬وكان "‬
‫المنقذ اإللهيّ " الذي لم يعرفه اإلسالم الس ّني فقد » كان الشيعة أوّ ل من أدخل فكرة‬
‫اإلنقاذ اإللهيّ في اإلسالم وأوّ ل من ربطها جدليّا بتراجيديا كربالء‪ ,‬وأنّ حاملي‬
‫الشـفاعة عـند هللا هـم النبيّ الكريم واألئـمّة مـن أهل البيت الـذين يحملون " اللطف‬
‫اإللهيّ " وأنّ هللا كان قد اصطفاهم من الخلق من أجل إنقاذ البشريّة يوم القيامة عن‬
‫طريق الوالء لهم والشفاعة بواسطتهم«‪ .114‬كما تذكر بعض األدبيّات الشيعيّة أنّ‬
‫المالئكة قدموا إلى كربالء لمساعدة الحسين على جيوش يزيد بن معاوية‪ ،‬لكن‬
‫الحسين رفض ذلك وعبّر عن اصطفاء هللا له منذ أن خلق الكون ليكون شهيدا‬
‫وبالتالي شفيعا لشيعته يوم القيامة‪.112‬‬

‫هكذا يبدو أنّ الشفاعة لدى الشيعة مرتبطة بمن عرف اإلمام الذي ال يخلو منه‬
‫زمان‪ ،‬والذي يجب على ك ّل شخص أن يعرفه وإالّ "مات ميتة جاهليّة"‪ ،‬أكثر من‬
‫ارتباطها بالمذنبين لتبقى اإلمامة الفاصل الكبير بين تصوّ رات الس ّنة وتصوّ رات‬
‫الشيعة لك ّل ما يتعلّق بالمفاهيم الدينيّة‪ .‬صحيح أنّ الموقفان م ّتفقان على إثبات الشفاعة‬
‫ولكن الفوارق في التصوّ ر جوهريّة‪ .‬وتزداد تلك الفوارق في نظرة المسلمين إلى‬
‫الشفاعة إذا ما قُورنت مواقف الس ّنة والشيعة من ناحية بمواقف الخوارج والمعتزلة‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬وهم الّذين أنكروا الشفاعة‪.‬‬

‫‪ )111‬إبراهيم الحيدري‪ ،‬تراجيديا كربالء‪ ،‬ص ‪.639‬‬


‫‪ )112‬عبد الحسين شرف الدين الموسوي‪ ،‬المجالس الفاخرة‪ ،‬النجف ‪ ,1819‬ص ص‬
‫‪ .93-28‬واألساطير في هذا المعنى كثيرة وتبرز في الكتب الشيعيّة المتعلّقة بمقتل‬
‫الحسين أو كذلك في مراسم العزاء الشعبيّة قديما وحديثا‪ ،‬وكتاب إبراهيم الحيدري كلّه‬
‫في وصف ذلك‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫إنكار الشفاعة‪:‬‬ ‫‪)2‬‬
‫* الموقف الخارجي‪:‬‬
‫موقف الخوارج من الشفاعة سـيكون تابـعا لنـظرتهم إلى الذنب ومقالـتهم‬
‫فيه‪ .112‬فإذا كان المذنب بالنسبة إليهم يُع ّد كافرا يُعامل معاملة الخارج عن الملّة في‬
‫ك أنّ الكافر‬
‫االجتماع ويُقطع له بالخلود في النار وبالعذاب كعذاب المشركين‪ ،‬فال ش ّ‬
‫ال شفاعة له‪ .‬ويمكن انطالقا من ذلك اإلقرار أنّ الخوارج يُنكرون الشفاعة مطلقا‪.‬‬

‫ولئنْ كان موقف الخوارج من الشفاعة ناتجا عن نظرتهم إلى الذنب وخاصّة‬
‫الكبير منه فإ ّنه راجع كذلك إلى استنادهم في مقاالتهم إلى النصّ القرآني دون‬
‫المنسوبات إلى الرسول في تشريعهم الخاص بهم وكذلك في تحديد مفاهيمهم‪،‬‬
‫واعتمادهم على القرآن في أحكامهم سيجعلهم يسيرون وراء النظرة القرآنيّة السلبيّة‬
‫إلى الشفاعة‪.‬‬

‫إنّ الموقف المتش ّدد إزاء المذنب ومرتكب الكبيرة على وجه الخصوص ّ‬
‫يؤثر‬
‫بالتبعيّة في النظرة إلى الشفاعة لذلك نتوقّع أن يكون موقف المعتزلة أيضا منكرا‬
‫للشفاعة باعتبار أ ّنهم حكموا على مقترف الذنب الكبير بالخلود في النار‪.‬‬

‫‪ )119‬يمكن الوقوف على مقالة الخوارج في الذنب في كتب الفرق العقائد ومنها‪:‬‬
‫‪ ‬مقاالت اإلسالميين واختالف المص ّلين ألبي الحسن األشعري‪.‬‬
‫‪ ‬الفرق بين الفرق لعبد القاهر الغدادي‬
‫‪ ‬الملل والنحل لعبد الكريم الشهرستاني‬
‫‪ ‬الفصل في الملل واألهواء والنحل ألبي مح ّمد عل ّي بن حزم‪.‬‬
‫ومن الدراسات الحديثة االستشراقيّة بالخصوص نحيل مثال على‪:‬‬
‫‪ L.Gardet, Les Noms et les Statuts, Problème de la foi et‬‬
‫‪des œuvres en Islam, in Studia Islamica 5, (1956), pp 61-‬‬
‫‪123.‬‬
‫‪ T. Izutsu, The concept of belief in islamic theology,‬‬
‫‪Tokyo,1965.‬‬
‫‪ A.J. Wensinck, The muslim creed, CUP,1965.‬‬

‫‪93‬‬
‫* الموقف المعتزلي‪:‬‬
‫يبدو من كالم األشعري وكذلك الجويني عند تعرّ ضنا للموقف الس ّني من‬
‫الشفاعة‪ ،‬أنّ آراءهما مندرجة ضمن جدال المعتزلة ومناقضة ما يذهبون إليه في‬
‫مسألة الشفاعة‪ .‬وقد ذكر األشعري اختالف المسلمين في الشفاعة‪َ ،‬عرضا‪ ،‬عند‬
‫حديثه في دقيق الكالم فيقول‪ » :‬واختلفوا في شفاعة رسول هللا (ص) هل هي ألهل‬
‫الكبائر‪ .‬فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬الشفاعة من النبيّ (ص)‬
‫للمؤمنين أن يزدادوا في منازلهم من باب التفضيل«‪.112‬‬

‫الواضح من كالم األشعري أنّ المعتزلة ال ينفُون الشفاعة مطلقا ولك ّنهم‬
‫يذهبون إلى أ ّنها تكون للمؤمنين الذين لم يقترفوا الكبائر‪ ،‬أمّا صاحب الكبيرة فقد‬
‫رأينا أ ّنهم يحكمون عليه بالخلود في النار‪ .‬الشفاعة إذن تكون ألهل الج ّنة بالزيادة في‬
‫درجاتهم ومراتبهم‪ .‬وهنا يبرز الفرق بين المعتزلة والخوارج الذين ْ‬
‫نفوا الشفاعة‬
‫مطلقا‪ .‬ولك ّنهم اشتركوا في االعتماد على القرآن في نظرتهم أكثر من المنسوبات إلى‬
‫الرسول‪ .‬يقول األشعري مبرزا تش ّدد المعتزلة في التعامل مع الحديث النبويّ ‪» :‬‬
‫وأجمعت المعتزلة بأجمعها أ ّنه ال يجوز قول النبيّ إالّ بحجّ ة وبرهان وأ ّنه ال تلزم‬
‫شرائعه إالّ من شاهد أعالمه وانقطع عذره ممّن بلغه شرائع الرسول (ص) «‪.123‬‬

‫‪ )118‬األشعري‪ ،‬مقاالت اإلسالميّين واختالف المص ّلين‪ ،‬ص ‪.222‬‬


‫‪ )123‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.221‬‬

‫‪94‬‬

You might also like