Professional Documents
Culture Documents
الكبيرة في علم الكلام
الكبيرة في علم الكلام
)1توفيق بن عامر ،منزلة أصول الدين بين سائر العلوم الشرعيّة ،ص ص 11.-11
55
ومن خالف المعتزلة في خلق القرآن والرؤية والتشبيه والقدر وأ ّن
صاحب الكبيرة ال مؤمن وال كافر لكن فاسق فليس منهم ،ومن وافقهم
فيما ذكرنا فهو منهم وإن خالفهم فيما سوى ذكرنا م مّ ا اختلف فيه
المسلمون ]...[ .ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير
أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئ مّ ة الجور وأ ّن أصحاب
الكبائر مخ ل ّ دون في النار وأ ّن اإلمامة جائزة ف ي غير قريش فهو
ي وإن خالفهم فيما عدا ذلك م مّ ا اختلف فيه المسلمون « . 2
خارج ّ
ما نالحظه إذن ،من خالل قول ابن حزم ,أنّ مسألة الكبائر من المسائل
الثابتة في أغلب مقاالت اإلسالميّين ,بل هي أصل من أصول تلك المقاالت ،فهي
تمسّ جوهر الديانة أي اإليمان .من هنا كان تناظر المسلمين في إشكاليّة اإليمان
واألعمال.
.Iاإليـــــمــــان و األعـــــمــــال:
تندرج إشكاليّة اإليمان واألعمال في إطار القضايا الخالفيّة التي دارت حولها
ّ
وتتلخص في القول في مسؤوليّة اإلنسان عن ذنوبه ,أي هل أنّ مناظرات المتكلّمين.
الكبيرة مخرجة عن اإليمان .تطلّبت هذه المسألة تحديدا لمفهوم اإليمان وطبيعته ال
عند المتكلّمين فقط بل كذلك لدى الفقهاء.
إنّ القول في اإليمان هو المح ّدد األساسي لمصير اإلنسان األخروي ،فالتكفير
بالكبيرة يحكم على صاحبها بالخلود في النار وعدم استحقاق الشفاعة باإلضافة إلى ما
يستتبع الخرو ُج عن الملّة من معامالت في الهيئة االجتماعيّة ،فالكافر ال يصلّى عليه
56
وال يدفن في مقابر المسلمين وال يستقضى وال ُتقبل شهادته وال يُصاهر وال يت ّم
التعامل التجاريّ معه.
ُتطرح القضيّة ،عموما ،في إطار المماهاة بين اإلسالم واإليمان أو التمييز
بينهما مع التأكيد على أنّ أحدهما ال يص ّح إال ّ باآلخر .كما أنّ المسألة مرتبطة بالقول
في زيادة اإليمان ونقصانه باألعمال أو أنّ اإليمان " إذا كان ت ّم وإذا عدم خال ".
تطرح مثل هذه االختالفات إشكاليّة مفهوميّة عميقة تمسّ جوهر الديانة ويرتبط بها
الجزاء األخرويّ إلى جانب األسماء الشرعيّة في المعاش.
والحقيقة أنّ بحوثا عديدة حاولت التطرّ ق إلى مثل تلك المسائل ،وهي في
معظمها بحوث استشراقيّة اهتمّت بمسألة اإليمان واألعمال من زاوية نظر تاريخيّة
ّ
ولخصت ما نقف عليه في كتب الفرق والمقاالت.
ّ
ونمثل على تلك البـحوث بـمقـال للويس قـاردي ) (Louis Gardetوسـمه
بـ" األسماء واألحكام ,إشكاليّة اإليمان واألعمال في اإلسالم" .26ث ّم أعاد نشره في
ولخصه في مقال "إيمان" في دائرة المعارف كتابه " هللا ،ومصير اإلنسان "ّ .25
اإلسالميّة .24خصّص قاردي القسم األوّ ل من مقاله لمعالجة المسألة المفهوميّة
المتعلّقة باإليمان فوسمه بـ "حقيقة اإليمان" .22وح ّدد اإلطار العام الّذي يطرح فيه
إشكاليّته وهو » :ما الّذي يجعل اإلنسان مؤمنا أمام هللا وفي نظر الناس؟ وهل إنّ
57
اإليمان واإلسالم شيء واحد؟ وما هي نتائج ذلك في الدنيا واآلخرة؟« .ويؤ ّكد أنّ هذه
القضايا ذات محمل سياسيّ باعتبار أنّ الفرق الكالميّة م ّتفقة على أنّ » للمسلم فقط
حق قيادة المجتمع اإلسالمي« .ويدعّم رأيه بما وقع بعد معركة صفّين من انقسام بين
ّ
المسلمين وخاصّة نشأة الخوارج الّذين اعتبروا ك ّل كبيرة خروجا عن اإليمان مشيرا
بذلك ،ضمنيّا على األق ّل ،إلى مسألة تحكيم عليّ الذي اعتبر كبيرة نافية لإليمان
وبذلك تسقط شرعيّة خالفته بعد تحكيمه .وبعد ذلك يح ّدد المواقف الكبرى التي نشأت
في صلب المجتمع اإلسالمي:
-الموقف المعتزلي الذي يكاد يماهي الموقف الخارجي.
الموقف الحنفي الماتريدي المح ّدد لإليمان بالشهادة باللسان.
-الموقف األشعري ,ويؤ ّكد على تع ّدد فروعه.
-موقف المرجئة الفاصل بين اإليمان واألعمال على اإلطالق والمح ّدد
لإليمان بالمعرفة.
-الموقف الشيعي المنقسم إلى إيمان ظاهر وآخر باطن.
58
والحقيقة أنّ االقتصار على ربط مشغل اإليمان واألعمال بالعوامل السياسيّة
سمة مشتركة بين الدراسات االستشراقيّة لعلم الكالم ،22بل تواصلت أيضا في بعض
الدراسات العربيّة اإلسالميّة ،وهي قليلة .ومن ذلك ما يذهب إليه حسن حـنـفي في
كتـابه " من الـعقـيدة إلى الثورة " الـّذي وسم الجزء الـخامـس مـنـه بـ " التاريخ
المتعيّن (اإليمان والعمل واإلمامة) ".
يعالج حنفي مسألة اإليمان واألعمال في إطار ما يسمّيه "الشعور" فيح ّدد له
أبعادا أربعة هي المعرفة والتصديق واإلقرار والعمل .وبعد ربط عالقات معقّدة
ثنائيّة وثالثيّة ورباعيّة بين تلك األبعاد ،وهي عالقات أشبه باالحتماالت الرياضيّة،
يصل في نهاية المطاف إلى اإلقرار بأنّ » االختيار الرباعي هو األمثل أل ّنه هو
الذي يوحّ د بين أبعاد الشعور األربعة ,فاإليمان هو العمل« .22ويؤ ّكد هذه النتيجة
التي وصل إليها فيقول في صياغة ال تختلف عمّا كتبه المتكلّمون المجادلون » :ويقرّ
العقل أنّ فعل الواجبات هو الدين ،وأنّ الدين هو اإلسالم ،وأنّ اإلسالم هو اإليمان
وبالتالي يكون فعل الواجبات هو اإليمان .كما يعني اإليمانُ الصال َة نظرا للتوحيد
[كذا] بين اإليمان واألعمال .وإنّ قاطع الطريق ليس بمؤمن ،أي قطع الطريق ليس
من اإليمان .كما أنّ الزاني ال يزني وهو مؤمن نظرا الرتباط [كذا] الفعل باإليمان.
)28حسن حنفي ،من العقيدة إلى الثورة ،ج ( 1اإليمان والعمل واإلمامة ) ،ص 12.
59
وبأ ّنه لو كان العمل جزءا من اإليمان لكان اإليمان 03
أمّا االعتراض بواو العطف
منافيا للظلم إلخراج العمل من اإليمان ،فمردود عليه بأ ّنه لو لم يكن العمل من
اإليمان لما ص ّح إطالق اإليمان على العمل .كما أنّ اإليمان في الشرع ليس التصديق
فحسب وإال ّ لما كان بضعا وسبعين شعبة أعالها ال إله إال ّ هللا وأدناها إماطة األذى
عن الطريق« .01ث ّم يل ّح حنفي على المحمل السياسيّ للقول في اإليمان واألعمال» :
فإخراج العمل عن اإليمان كلّية [ ]...هو تبرئة للح ّكام وتجاهل ألفعالهم واالكتفاء
ّ
يتجزأ [كذا] من بأقوالهم ح ّتى ال تحاسبهم األمّة .في حين أنّ إدخال األعمال كجزء ال
حقيقة اإليمان هو مراقبة على الح ّكام والمحكومين ومحاسبتهم على أفعالهم .أمّا جعل
األعمال مجرّ د أجزاء عرضيّة لإليمان ال يلزم من عدمها عدمه [ ]...فهي محاوالت
لتحقيق نوع من المصالحة بين الخصوم السياسيّين ،وتظ ّل أقرب إلى رأي السلطة
القائمة التي ُتخرج العمل من اإليمان«.02
ما الحظناه في ما يذهب إليه حنفي ,باإلضافة إلى محاولة دمج مسألة اإليمان
واألعمال بالكليّة في الشأن السياسي ,الخلط الّذي ي ّتضح في نسبة القول بأنّ األعمال
خارجة عن اإليمان على اإلطالق إلى " بعض الخوارج " وأنّ الهدف من ذلك كما
يقول » :تبرئة الح ّكام وتجاهل ألفعالهم« .00ووجه الخلط أنّ ك ّل الخوارج ال
يفصلون مطلقا بين اإليمان واألعمال ،كما أ ّنهم ّ
مثلوا دائما فرقا معارضة للسلطة
ومك ّفرين لمخالفيهم .والغريب أنّ حنفي نفسه يذكر ذلك عند تصنيفه للخوارج ضمن
ما يسمّيه » جماعة االضطهاد« ،أي المناوئين للسلطة.06
)63الواضح ّ
أن "الواو" في حديث الرسول » ال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
«...ليست واو عطف بل هي واو الحال.
)61المرجع السابق ،ص ص 12.-16
)62المرجع السابق ،ص 12.
)66أنظر الهامش ،86ص 12من المرجع السابق.
)62أنظر الهامش ،112ص 92من المرجع السابق.
60
وعندما يشير حسن حنفي إلى أنّ مسائل الحكم باإليمان أو الكفر على
صاحب الذنب مستندة إلى فهم النصّ وتأويله ،يذهب إلى أنّ ذلك التأويل ناتج عن
موقف المؤوّ ل من السلطة السياسيّة » :والحقيقة أ ّنه ال يُوجد حكم واحد لمرتكب
الكبيرة بل تتع ّدد األحكام طبقا للمواقف السياسيّة وللموقع في السلطة .وإنّ الحجج
النقليّة أو العقليّة والحجج المضا ّدة كلّها قراءات في النصّ وإسقاط من الموقع عليه,
سواء الموقع من السلطة أو الموقع من المعارضة .إنّ التكفير سالح مزدوج بين
السلطة وخصومها«.05
إنّ فهم المسلمين لإليمان مؤسّس على النصّ في المقام األوّ ل لذلك نحاول
النفاذ إليه انطالقا من القرآن ومن المنسوبات إلى الرسول لتبيّن مفهوم اإليمان من
األصلين اللّذين بُنيت عليهما العقيدة اإلسالميّة .ويسمح هذا األمر بعد ذلك بالنظر
61
في تحوّ الت المفهوم إثر تو ّقف الوحي ووفاة الرسول ،وخاصّة في بداية الدولة
الناشئة زمن الخلفاء األوائل.
إنّ انطالقنا في تحديد مفهوم اإليمان من بوادر العقيدة اإلسالميّة ليس انتقائيّا
وال إقصائيّا بل ألنّ البوادر ّ
تمثل الدعامة األساسيّة أو النواة التي بُنيت عليها بقيّة
الديانة .لذلك نتساءل عن تلك النواة في القرآن وفي الحديث النبويّ.
أ) من القرآن:
من المعروف أنّ القرآن كانت له سيرة تجاوزت العشرين سنة ,هي فترة
الوحي ,وذلك قبل أن يتش ّكل مصحفا إماما في عهد الخليفة الثالث .وما يهمّنا هو
البحث عن مفهوم لإليمان كما تبيّنه بدايات الوحي اإلسالمي.
تختلف الروايات في شأن أوّ ل ما نزل على النبيّ من الوحي .وقد جمع
البالذري (ت 222هـ) بعض األخبار المبيّنة لبدايات الوحي اإلسالمي ،فكانت تلك
األخبار تشير إلى الفاتحة أو إلى اآليات األولى من المدثر أو إلى مطلع سورة
العلق .02وجاء في "الفهرست" البن النديم (ت بعد 023هـ) من خبر محمّد بن
نعمان بن بشير » :أوّ ل ما نزل من القرآن على النبيّ (ص) " اقرأ باسم ربّك الذي
خلق" إلى قوله " ما لم يعلم " ,ث ّم " نون والقلم " ،ث ّم " يا أيّها المزمل " وآخرها
بطريق م ّكة ،ث ّم " المدثر«.02
62
ليس مشغلنا البحث في أوّ ل ما نزل على النبيّ بل النظر في تلك اآليات التي
اعتبرت من بوادر الوحي ومحاولة استخراج األصول المشتركة بينها .وما نالحظه
أنّ اآليات المشار إليها في األخبار تنصّ على مبدإ اإليمان بإله واحد .إنّ التوحيد هو
األصل الجامع لما اعتبر من بوادر الوحي .والتوحيد ،كما يعرّ فه الجرجاني » ،ثالثة
أشياء :معرفة هللا تعالى بالربوبيّة ،واإلقرار بالوحدانيّة ،ونفي األنداد عنه جملة«.63
وهذه األمور الثالثة هي التي تؤ ّكد عليها مختلف ما اعتبره المسلمون أولى اآليات
النازلة .كما نالحظ أنّ اإليمان بإله واحد ال يتعلّق بأعمال ظاهرة بقدر تعلّقه بما "
وقر في القلب " من اعتقاد في جهة تعبّد .لذلك فإنّ معنى الربوبيّة هو المعنى
المتكرّ ر في ك ّل اآليات التي أشرنا إليها:
العالَمِينَ ﴾.61 ب َ الحمْ ُد ِ
هلل َر ِّ َ ﴿-
ُون َما أ ْن َ
ت ِبن ِْع َم ِة َر ِّب َك ِب َمجْ ُنون﴾.62 طر َ ﴿ -ن َوال َقلَم َو َما َيسْ ُ
ِ
ب الَ إلَ َه إالَّ ه ُُو َفا َّتخ ِْذهُ
ش ِر ِق َوال َم ْغ ِر ِ
ب ال َم َْ ﴿ -و ْاذ ُكرْ َر َّب َك َو َت َب َّتـ ْل إلَ ْي ِه َت ْبتِيالًَ .ر ُّ
َوكِيالً ﴾.60
َ ﴿ -يا أ ُّي َها ال ُم َّدثِرُ قُ ْم َفأ َ ْنذِرْ َو َر َّب َك َف َك ِّب ْر َوثِ َيا َب َ
ك َف َطهِّرْ َو ِ
الر ْج َز َفاهْ ُج ْر﴾.66
﴿ -ا ْق َرأ بِ ْ
اس ِم َر ِّب َك الَّذِي َخلَ َق ﴾.65
إنّ التأكيد على معنى الربوبيّة واإلقرار بإله واحد في هذه اآليات مدعوم
بالتأكيد على حقيقة البعث ،وهي حقيقة تنفي عبثيّة التوحيد .ولكن األه ّم إجابتها عن
تساؤالت الجاهليّ المتعلّقة بمشغل أساسيّ ظهر في معتقداته كما في شعره وهو
63
مصيره بعد الموت .وهذا األمر ي ّتضح إذا نظرنا فيما ُذكر بعد اآليات التي
عرضناها.
64
يبدو أنّ " حديث جبريل " قد أصبح مرجعا بالنسبة إلى المسلمين في تحديد
مفهوم اإليمان وتمييزه عن اإلسالم .ونشير إلى أنّ الحديث الّذي يت ّم اعتماده عادة هو
الخطاب ال الذي نقله أبو هريرة ،ففي الروايتين اختالفات ّ الذي رواه عمر بن
جوهريّة .ولع ّل عرض الحديثين يبيّن الفروق بينهما.
جاء في صحيح البخاري » :ح ّدثنا مس ّدد قال :ح ّدثنا إسماعيل ابن إبراهيم،
أخبرنا أبو حيّان التيميّ ،عن أبي ُزرْ عة ،عن أبي هريرة قال :كان النبيّ (ص)
بارزا يوما للناس فأتاه جبريل فقال :ما اإليمان؟ قال " :اإليمان أن تؤمن باهلل
ومالئكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث " .قال :ما اإلسالم؟ قال " :اإلسالم أن تعبد
هللا وال تشرك به وتقيم الصالة وتؤ ّدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان " .قال :ما
اإلحسان؟ قال " :أن تعبد هللا كأ ّنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإ ّنه يراك" .قال :متى
الساعة؟ قال " :ما المسؤول عنها أعلم من السائل .وسأخبرك عن أشراطها :إذا
ولدت األمة ربّها ،وإذا تطاول رعاةُ اإلبل البه ُم في البنيان ،في خمس ال يعلمهنّ إال ّ
هللا " .ث ّم تال النبيّ (ص) ﴿ إنَّ هللاَ عِ ْندَ هُ عِ ْل ُم ال َّسا َع ِة ﴾[ لقمان ]06/02اآلية ،ث ّم أدبر،
فـقال " :ر ّدوه " .فلم يروا شيئا ،فقال " :هـذا جبريل جاء يعـلّم الـناس ديـنهم" .قال
أبو عبد هللا :جعل ذلك كلّه من اإليمان« .62في هذا الحديث نقص إذا ما قُورن
ّ
الخطاب قـال » :بينما نحن عند رسول بحديـث رواه مسلم جاء فـيه أنّ عمر بن
هللا(ص) ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ،شديد سواد الشعر ،ال
يُرى عليه أثر السفر ،وال يعرفه م ّنا أحد ح ّتى جلس إلى النبيّ (ص) .فأسند ركبته إلى
ركبته ،ووضع كفّيه على فخذيه وقال :يا محمّد ،أخبرني عن اإلسالم .فقال رسول
هللا(ص) " :اإلسالم أن تشهد أن ال إله إال ّ هللا وأنّ محمّدا رسول هللا ,وتقيم الصالة،
وتؤتي الزكاة ،وتصوم رمضان ،وتح ّج البيت إن استطعت إليه سبيال " .قال:
َ
صدقت .قال :فعجبنا له يسأله ويص ّدقه .قال :فأخبرني عن اإليمان .قال " :أن تؤمن
65
باهلل ،ومالئـكتـه ،وكـتـبه ،ورسـله ،واليـوم اآلخر ،وتؤمن بالقدر خيره وشرّ ه ".
[.62«]...
بغضّ النظر عن االختالفات بين الروايتين ،فإ ّننا نستطيع اإلقرار أنّ
الحديثين قد قيال في فترة متأ ّخرة من الدعوة .فحديث أبي هريرة ،مع فرض سالمته
المطلقة ،كان في السنوات األخيرة من حياة الرسول باعتبار دخول الراوي في
اإلسالم بعد السنة السابعة للهجرة .وإلى جانب ذلك فإنّ اعتبار صيام رمضان مثال
ّ
متأخر ألنّ النصّ عليه في القرآن كان في سورة مدنيّة، ركنا من أركان اإلسالم
ِب َعلَى
ص َيا ُم َك َما ُكت َ
ِب َعلَ ْي ُك ُم ال ِّ ونعني بذلك سورة البقرةَ ﴿ :يا أ َّي َها الَّذ َ
ِين آ َم ُنوا ُكت َ
ِين مِنْ َق ْب ِل ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َت َّت ُق َ
ون ﴾.62 الَّذ َ
ّ
وحث الرسول له على ونقف في مجاميع الحديث على خبر وفاة أبي طالب
النطق بالشهادتين .جاء في صحيح مسلم » :وح ّدثني حرملة بن يحيى ال ُّتجيبيّ ،
أخبرنا عبد هللا بن وهب ،قال :أخبرني يونس ،عن ابن شهاب ،قال :أخبرني سعيد
ابن المسيّب ،عن أبيه ،قال :لمّا حضرت أبا طالب الوفاة ،جاءه رسول هللا(ص).
فوجد عنده أبا جهل ،وعبد هللا ابن أبي أميّة بن المغيرة .فقال رسول هللا (ص)" :
ً
كلمة أشهد لك بها عند هللا " .فقال أبو جهل وعبد هللا ابن يا ع ّم ،قل :ال إله إال ّ هللا،
المطلب؟ فلم يزل رسول هللا(ص) يعرضها ّ أميّة :يا أبا طالب ،أترغب عن ملّة عبد
عليه ويُعيد له تلك المقالة ،ح ّتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم :هو على ملّة عبد
ّ
المطلب ،وأبى أن يقول :ال إله إال ّ هللا .فقال رسول هللا(ص) " :أما وهللا ألستغفرنّ
ان لِل َّن ِبيِّ َوالَّذ َ
ِين آ َم ُنوا أنْ َيسْ َت ْغ ِفرُوا لك ما لم أُنه عنك " .فأنزل هللا ّ
عز وجلَّ ﴿ :ما َك َ
)29مسلم ،كتاب اإليمان ،باب بيان اإليمان واإلسالم واإلحسان ووجوب اإليمان
بإثبات قدر هللا سبحانه وتعالى.
)28البقرة 196. /2
66
ِيم﴾ .53وأنزل الجح ِ ل ِْل ُم ْش ِرك َ
ِين َولَ ْو َكا ُنوا أولِي قُرْ َبى مِنْ َبعْ ِد َما َت َبي ََّن لَ ُه ْم أ َّن ُه ْم أصْ َحابُ َ
ْت َولَكِنَّ هللاَ هللا تعالى في أبي طالب ,فقال لرسول هللا (ص) ﴿ :إ َّن َ
ك الَ َت ْهدِي َمنْ أحْ َبب َ
َي ْهدِي َمنْ َي َشا ُء َوهْ َو أعْ لَ ُم ِبال ُم َّتق َ
ِين ﴾ .52«51
لقد تو ّفي أبو طالب في السنة العاشرة بعد الـبعـثـة النبويّة ،أي فـيما يـسـمّى "
عام الحزن " لموته وموت خديجة .وفي الخبر ما يد ّل على أنّ النطق بالشهادتين
مخلّص من العقاب .فاإلقرار بالتوحيد يُخرج من الكفر إلى اإليمان.50
67
ح ّدثنا ابن أخي ابن شهاب ،عن ع ّم قال :أخبرني عطاء بن يزيد الليثيّ ،ث ّم الجُندعيّ ،
أنّ عبيد هللا بن عديّ بن الخيار أخبره أنّ المقداد بن عمرو الكنديّ ،وكان حليفا لبني
ُزهرة وكان ممّن شهد بدرا مع رسول هللا (ص) ،أخبره أ ّنه قال لرسول هللا (ص):
أرأيت إنْ لقيت رجال من الك ّفار فاقتتلنا فضرب إحدى يديّ بالسيف فقطعها ,ث ّم الذ
م ّني بشجرة فقال :أسلمت هلل ،آ أقتله يا رسول هللا بعد أن قالها؟ فقال رسول
هللا(ص) " :ال تق ُت ْله " .فقال :يا رسول هللا إ ّنه قطع إحدى يديّ ،ث ّم قال ذلك بعد ما
قطعها .فقال رسول هللا (ص) " :ال تقتله ،فإن قتلته فإ ّنه بمنزلتك قبل أن تقتله ،وإ ّنك
بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال "«.55
والحقيقة أنّ األحاديث في هذا المعنى كثيرة ال يمكن أن نجمعها كلّها ،ولكن
نورد هنا ما يد ّل على التمييز بين اإليمان واألعمال في المرويّات عن الرسول.
شار ،قال ابن المث ّنى :ح ّدثنا محمّد ابن
روى مسلم » :وح ّدثنا محمّد بن المث ّنى وابن ب ّ
جعفر ،ح ّدثنا شعبة ،عن واصل األحدب ،عن المعرور بن سُويْد ،قال :سمعت أبا ذرّ
يح ّدث عن النبيّ (ص) أ ّنه قال " :أتاني جبريل ،عليه السالم ،فب ّشرني أ ّنه من مات
من أمّتك ال يُشرك باهلل شيئا دخل الج ّنة .قلت :وإنْ زنى وإنْ سرق؟ قال :وإنْ زنى
وإنْ سرق "«.54
ي ّتضح أنّ اإليمان من خالل بوادر العقيدة اإلسالميّة إقرارٌ بإله واحد ،أمّا بقيّة
ما يجب اإليمان به واالعتقاد فيه فقد كان على التدريج وتبع سيرة هي سيرة مجادلة
ّ
متأخرة من زمن الدعوة. مجتمع التل ّقي ،إلى أن جُ معت األصول االعتقاديّة في آية
ب الَّذِي َن َّز َل َعلَى هلل َو َرسُولِ ِه َوال ِك َتا ِ ونعني بذلك اآليةَ ﴿ :يا أ ُّي َها الَّذ َ
ِين آ َم ُنوا ,آ ِم ُنوا ِبا ِ
ب الَّذِي أ ْن ِز َل مِنْ َق ْبلَُ .و َمنْ َي ْكفُرْ ِبا ِ
هلل َو َمالَ ِئ َك ِت ِه َو ُك ُت ِب ِه َورُ ُسلِ ِه َوال َي ْو ِم َرسُولِ ِه َوال ِك َتا ِ
68
ضالَالً َبع ً
ِيدا﴾ .52ولكن تبقى الشهادة عاصمة للدم والمال باعتبار أنّ اآلخ ِِر َف َق ْد َ
ض َّل َ
اإليمان إقرار ذاتيّ ,أمّا األعمال فهي إشهاد الناس على " ما وقر في القلب " ح ّتى
يُعامل معاملة المؤمن في االجتماع .جاء في صحيح مسلم » :ح ّدثنا أبو بكر بن أبي
شيبة ،ح ّدثنا أبو خالد األحمر .وح ّدثنا أبو ُكريْب وإسحاق ابن إبراهيم ،عن أبي
معاوية ،كالهما عن األعمش ،عن أبي ظبيان ،عن أسامة ابن زيد ،وهذا حديث ابن
أبي شيبة ،قال :بعثنا رسول هللا (ص) في سريّة ،فصبّحنا الحُ رُقات من جُهيْنة
فأدركت رجال ,فقال :ال إله إالّ هللا .فطعنته فوقع في نفسي من ذلك .فذكرته للنبيّ
(ص) فقال " :أ قال ال إله إالّ هللا وقتلته؟ " .قال :قلت :يا رسول هللا ،إ ّنما قالها خوفا
من السالح .قال " :أ فال شققت عن قلبه ح ّتى تعلم أ قالها أم ال؟ " فما زال يكرّ رها
عليّ ح ّتى تم ّنيت أ ّني أسلمت يومئذ.52«]...[ .
لقد ت ّم تأويل هذه األصول في عهد قريب من زمن النبوّ ة ،ونعني بذلك ما
يسمّى " عهد الخالفة الراشدة " .وحُ ّددت مرجعيّة مختلفة للحكم باإليمان أو الكفر،
هي مرجعيّة القول في الذنب وخاصّة ما ُع ّد كبيرا منه.
69
لن نخوض هنا في القضايا التي يطرحها مفهوم الر ّدة كما ترسّخ في الفكر
اإلسالمي ،فقد كانت تلك القضايا موضوع بحوث سابقة أفدنا منها كثيرا ،52بل
نحاول بيان تحوّ ل مرجعيّة المسلمين في تحديدهم لمفهوم اإليمان.
نؤ ّكد في البداية على أنّ خالفة أبي بكر لم تكن من األمور التي أجمع
المسلمون على قبولها .وما حدث في سقيفة بني ساعدة من اختالفات وامتناع مثل
سعد بن عبادة وقيس بن سعد عن البيعة ،ومبايعة عليّ بن أبي طالب َكرها دليل على
ذلك.43
ُ
اصطلح إنّ ما وقع في عهد الخليفة األوّ ل من حروب مانعي الزكاة التي
عليها بـ " حروب الر ّدة " يدعو إلى إعادة نظر أل ّنها تبيّن التحوّ الت الطارئة على
المجتمع اإلسالمي األوّ ل في ما يتعلّق بنظرته إلى مفهوم اإليمان.
يميّز عبد الرازق بين اإليمان باهلل ورسوله واالمتناع عن دفع الزكاة إلى أبي
بكر عينا فيقول » :ولع ّل جميعهم لم يكونوا في الواقع مرت ّدين ،كفروا باهلل ورسوله،
بل كان فيهم من بقي على إسالمه ولك ّنه رفض أن ينض ّم إلى وحدة أبي بكر لسبب ما
)18نحيل بالخصوص على بحث آمال قرامي ،قضيّة الر ّدة في الفكر اإلسالمي (
بحث لنيل شهادة التع ّمق في البحث ,مرقونة بكليّة اآلداب بمنّوبة .)1886ونشير إلى
أنّه ت ّم نشر الجزء الثاني من هذا البحث بعنوان " قضيّة الر ّدة في الفكر اإلسالمي
الحديث " ،تونس ،دار الجنوب 1881.
)13أنظر مثل هذه األخبار في :ابن قتيبة ،اإلمامة والسياسة ،ج ،1ص ص 18.-2
70
من غير أن يرى في ذلك حرجا عليه وال غضاضة في دينه .وما كان هؤالء من
ك مرت ّدين ]...[ .ولع ّل بعض أولئك الّذين حاربهم أبو بكر أل ّنهم رفضوا أن
غير ش ّ
يؤ ّدوا إليه الزكاة لم يكونوا يريدون بذلك أن يرفضوا الدين ،وأن يكفروا به ،ولك ّنهم
ال غير رفضوا اإلذعان لحكومة أبي بكر كما رفض غيرهم من ِجلّة المسلمين .فكان
بديهيّا أن يمنعوا الزكاة عنه أل ّنهم ال يعترفون به وال يخضعون لسلطانه
وحكومته«.41
هكذا يشير عبد الرازق إلى قضيّة تصنيفيّة هامّة ينبغي الوعي بها عند حديثنا
عن " المرت ّدين " في عهد أبي بكر .فهناك صنف أوّ ل ممّن أظهروا إسالمهم في
عهد النبيّ ث ّم تحلّلوا منه وانقلبوا على أعقابهم راجعين إلى ما كانوا عليه من عقائد.
وصنف ثان وهو من الّذين بقوا على دينهم ولم يدخلوا اإلسالم ولك ّنهم التزموا بعهود
وأحالف عقدوها مع النبيّ فلمّا ُتو ّفي تحلّلوا ممّا عقدوه .أمّا الصنف الثالث فهم الّذين
امتنعوا عن أداء الزكاة إلى أبي بكر ال أل ّنهم رفضوها أصال بل ألنّ أداء الزكاة إليه
ّ
يمثل اعترافا بخالفته وقد رجّ حوا غيره عليه.
ّ
ممثلي الصنف األوّ ل فقط كانوا أهل ر ّدة ،وإ ّنما التبس الدين ّي ي ّتضح أنّ
بالسياسيّ » .دونك خالد بن الوليد ،مع مالك بن نويرة ،أحد أولئك الّذين سم ّْوهم
مرت ّدين ،وهو الّذي أمر خالد فضُربت عنقُه ،ث ّم أُخذت رأسُه بعد ذلك فجُ علت أثفية
القدر .يعلن مالك في صراحة واضحة إلى خالد أ ّنه ال يزال على اإلسالم ولك ّنه ال
يؤ ّدي الزكاة إلى صاحب خالد (أبي بكر) .كان ذلك إذن نزاعا غير دينيّ .كان نزاعا
بين مالك ،المسلم الثابت على دينه ولك ّنه من تميم ،وبين أبي بكر القرشيّ ،الناهض
71
بدولة عربيّة أئمّتها من قريش .كان نزاعا في ملوكيّة ملك ،ال في قواعد دين وال في
أصول إيمان«.42
لقد لمّح عبد الرازق بالعودة إلى النعرة القبليّة وصرّ ح بالمرجعيّة السياسيّة ال
الدينيّة في حرب أبي بكر لمانعي الزكاة .وهذا ما تضمّنته ثنايا خبر رواه مسلم» :
ح ّدثنا قتيبة بن سعيد ،ح ّدثنا ليث بن سعد ،عن عُقيْل ،عن الزهريّ قال :أخبرني عُبيْد
هللا بن عبد هللا ابن عتبة بن مسعود ،عن أبي هريرة قال :لمّا تو ّفي رسول هللا (ص)
ّ
الخطاب ألبي بكر: واس ُتخلف أبو بكر بعده ،وكفر من كفر من العرب ،قال عمر بن
كيف تقاتل الناس وقد قال رسول هللا (ص) " :أُمرت أن أقاتل الناس ح ّتى يقولوا :ال
إله إال ّ هللا ،فمن قال :ال إله إال ّ هللا ،فقد عصم م ّني ماله ونفسه إال ّ بح ّقه وحسابه على
هللا "؟ فقال أبو بكر :وهللا ألقاتلنّ من فرّ ق بين الصالة والزكاة ،فإنّ الزكاة ّ
حق
المال .وهللا لو منعوني عِ قاال كانوا يؤ ّدونه إلى رسول هللا (ص) لقاتلتهم على منعه.
عز وج ّل قد شرح صدر أبي ّ
الخطاب :فوهللا ما هو إالّ أن رأيت هللا ّ فقال عمر بن
ّ
الحق«.40 بكر للقتال ،فعرفت أ ّنه
إنّ في محاجّ ة عمر ألبي بكر داللة على أنّ اإليمان مختزل في الشهادة.
ولكن في موقف أبي بكر إشارة إلى تأوّ ل للعقيدة اإلسالميّة التي بيّنتها النصوص
التأسيسيّة ،وحمل لها على الجزء ،بل إنّ التأسيس لشوكة جعل الدينيّ يُدمج في
ً
مبايعة كان السياسي فأصبحت طاعة الخليفة إيما ًنا ،فمن اعترف به وأ ّدى إليه الزكاة
مستح ّل الدم والمال.
َ مؤمنا معصومًا دمه وماله .ومن امتنع عن ذلك كان كافرا
72
إنّ األبعاد السياسيّة ،وتأويل أركان الديانة ودعاماتها ،وتحوّ الت مفهوم
اإليمان تتجلّى أكثر كلّما ّ
تأخرنا في التاريخ .لقد كان مقتل عثمان مترجما لذلك
االنزياح وللقول في اإليمان على أساس القول في مقترف الذنب وخاصّة الكبير منه.
لقد كانت مقاضاة وفود مصر لعثمان مستندة إلى النصّ فكان ر ّده على
مجادليه » :ال أنزع قميصا قمّصنيه هللا ّ
عز وج ّل وأكرمني به وخصّني به على
غيري .ولكن أتوب وأنزع وال أعود لشيء عابه المسلمون ،فإ ّني وهللا الفقير إلى هللا
الخائف منه« .42إنّ في ر ّد عثمان داللة على أنّ الخالفة ّ
حق إلهيّ فأصبح الخروج
على وليّ األمر خروجا عن إرادة هللا ومشيئته فغدت الخالفة مح ّددا للحكم باإليمان
والكفر .وفي المقابل اعتبرت أعمال عثمان إحداثا بل كفرا ،وهذا ما يوضّحه خبر
أن سورة يونس هي العاشرة في المصحف الذي بين أيدينا وهو )12نالحظ هنا ّ
أن المصحف اإلمام كما رتّبه عثمان لم يكن مح ّل
المصحف العثماني .وهذا يعني ّ
إجماع المسلمين .والسورة هي السابعة في مصحف عبد هللا بن مسعود والثامنة في
مصحف أب ّي بن كعب ،حسب ما رواه ابن النديم ،أنظر :الفهرست ،ص ص 21.-68
)11يونس 18. /13
)11الطبري ،تاريخ األمم والملوك ،م ،2ص 111.
)12المصدر السابق ،م ،2ص 112.
73
الطبري عن عبد هللا بن ساعدة .فبعد أن ُك ّفر الخليفة المب ّشر بالج ّنة بإحداثه » لبث
عثمان بعد ما قُتل ليلتين ال يستطيعون دفنه .ث ّم حمله أربعة [ .]...فلمّا وُ ضع ليُصلّى
عليه ،جاء نفر من األنصار يمنعونهم الصالة عليه [ ،]...ومنعوهم أن يُدفن بالبقيع.
فقال أبو جهم :ادفنوه ،فقد صلّى هللا عليه ومالئكته .فقالوا :ال وهللا ال يُدفن في مقابر
حشّ كوكب [ مقبرة كانت لليهود]«.42
المسلمين أبدا .فدفـنوه في ِ
لقد ُك ّفر عثمان بأعماله ،وعُومل معاملة الكافر ،فلم يُص ّل عليه ولم يُدفن في
مقابر المسلمين .أصبح القول في اإليمان والكفر ملتبسا بالمشغل السياسي ،ولكن
مستندا إلى النصّ في المقام األوّ ل .ولع ّل ك ّل ذلك يزداد وضوحا مع ما اصطلح عليه
بالفتنة الكبرى وبروز مقالة المح ّكمة األولى في صاحب الذنب وإرسائها لمرجعيّة
جديدة لإليمان بل للديانة برمّتها.
علي:
ّ ج) تحكيم
لمّا علمت عائشة باستخالف عليّ قالت » :وهللا ليت أنّ هذه انطبقت على هذه
إنْ ت ّم األمر لصاحبك .ر ّدوني ،ر ّدوني .فانصرفت إلى م ّكة وهي تقول :قُتل وهللا
عثمان مظلوما ،وهللا ألطلبنّ بدمه .فقال لها ابن أ ّم كالب :ولم؟ فوهللا إنّ أوّ ل من أمال
حرفه ألنتِ .ولقد كنت تقولين :اقتلوا نعثال فقد كفر .قالت :إ ّنهم استتابوه ث ّم قتلوه ،وقد
قلت وقالوا ،وقولي األخير خير من قولي األوّ ل«.42
إ ّنها بوادر الفتنة والثأر من قتلة عثمان ،ومن عليّ أيضا نظرا إلى ا ّتهامه
بإيواء القتلة .فكانت موقعة الجمل ،ث ّم تلتها موقعة صفّين إلى أن قال معاوية لعمرو
ابن العاص » :يا عمرو ،ألم تزعم أ ّنك ما وقعت في أمر ّ
قط إالّ وخرجت منه؟ قال:
بلى .قال :أفال تخرج مّما ترى؟ قال :وهللا ألدعوّ نهم إنْ شئت إلى أمر أفرّ ق به جمعهم
74
أعطوكه اختلفوا ،وإنْ منعوكه اختلفوا .قال معاوية:
ْ ويزداد جمعك إليك اجتماعا ،إنْ
وما ذلك؟ قال عمرو :تأمر بالمصاحف فترتفع ث ّم تدعوهم إلى ما فـيها .فوهللا لئن قـبله
ليفترقـنّ جماعته .ولئن ر ّده ليُكفـّر ّنه أصحابه« .23ولمّا قبل عليّ التحكيم قال
الخارجون عليه :إ ّنه ح ّكم الرجال في كتاب هللا .وانتهى األمر بما قاله ابن ملجم
مفاخرا » :لقد أحددت سيفي بكذا وكذا ،وسممته بكذا وكذا ،وضربت به عليّا ضربة
لو كانت بأهل المصر ألتت عليهم«.21
ومن رحم الفتنة وما سبقها من أحداث بعد وفاة النبيّ أيضا ظهرت المقاالت
وافترق المسلمون واختلفوا في اإليمان والكفر .فكانت المح ّكمة األولى ومنها انشعبت
مقاالت الخوارج الكثيرة في الهجرة واألطفال واالستعراض والمحنة وكلّها تدور
ّ
وحظه من اإليمان .واستوجبت هذه المقاالت ر ّدا فانفردت حول صاحب الكبيرة
المرجئة برأي لها في صاحب الكبيرة .كما ظهرت بوادر التشيّع وتفرّ ع حسب القول
في عليّ ودرجة الغلوّ فيه .وظهرت القدريّة وأدلت بمقاالتها في الذنب واإليمان،
ومنها خرجت المعتزلة التي تزعّم أحمد بن حنبل ( ت 262هـ) الر ّد عليها فك ّفرها.
هكذا ارتبط القول في اإليمان بمسألة الكبيرة .واقتتل المسلمون على إيمانهم
الذي داخله المشغل السياسي » .فعلى الرغم من حديث األعرابيّ المنسوب إلى
الرسول في شرح اإليمان ،واإلقرار بكفاية الشهادة في عصم الدماء ،فإنّ أبا بكر قتل
الممتنعين عن أداء الزكاة ،واعتبرهم مرت ّدين ]...[ .ضاع مرجع الكفر واإليمان بين
وفود األمصار وعثمان فقاضوه بسورة يونس ،ور ّد هو من الكتاب ح ّتى إذا حقّقوا
إثما قتلوه به ،وع ّدوه بمنزلة المرت ّد بإبداعه .ولم تنصرف المح ّكمة األولى حين ف ّتشت
75
عثمان وعليّا ذبحته وبقرت بطن زوجته مقيمة حكم
َ في مقالة ابن خباب ،فإذا صوّ ب
هللا ،ألنّ صاحب الكبيرة كافر«.22
أشرنا سابقا إلى أنّ القرآن والمنسوبات إلى الرسول لم تنصَّ على اسم
صاحب الكبيرة وال حكمه ،وهذا ما يؤ ّكد على أنّ إشكاليّة األسماء واألحكام ،كما
ترسّخت في الفكر اإلسالمي ،فه ٌم للنصّ واعتقاد فيه بكيفيّة.
يذكر األشعري أنّ الخوارج ،باستثناء النـجـدات أصحـاب نجدة بن عامر» ،
أجمعوا على أنّ ك ّل كبيرة كفر«ّ .20
ولخص مقالة األزارقة في األطفال والخروج
فذكر أ ّنهم » ير ْون أنّ أطفال المشركين في النار ،وأنّ حكمهم حكم آبائهم [.]...
وزعمت األزارقة أنّ من أقام في دار الكـفر فكافر ال يسعه إالّ الخروج« .26كما يح ّدد
أنّ » من الخوارج طائفة يقولون :ما كان من األعمال عليه ح ّد واقع فال يُتع ّدى بأهله
االسم الّذي لزمهم به الح ّد ،وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافرا كالزنا والقذف وهم
قذفة زناة .وما كان من األعمال ليس عليه ح ّد كترك الصالة والصيام فهو كافر.
وأزالوا اسم اإليمان في الوجهين جميعا« .25واألمثلة على تكفير الخوارج للمذنبين
ولمخالفيهم في كتب الفرق كثيرة ،ونظرتهم إلى اإليمان ح ّددت مقاالتهم .إنّ ك ّل
مخالف بالنسبة إلى الخوارج كافرٌ يُعامل معاملة الخارج عن الملّة في االجتماع،
76
ويُحكم عليه بالخلود في النار .لذلك تصبح الدار دارين :دار كفر وجبت الهجرة عنها
اقتداء بهجرة النبيّ ،ودار إيمان حافظ أهلها على إيمانهم ودينهم .ولعلّنا ال نغالي إذا
َ
مختزل في ارتكاب الذنب أو االمتناع عنه .إنّ قلنا إنّ اإليمان بالنسبة إلى الخوارج
تأويل النصّ تجاوز مرتبة الفهم إلى التأسيس لديانة يُتعبَّد بها.
لقد كانت المعتزلة صاحبة مقالة في اسم صاحب الكبيرة وحكمه ،وعلى
أساس ذلك بنت عقيدتها .ولئن كانت أصولها الخمسة مص ّدرة بالتوحيد ،كما تبيّن لنا
كتبهم التي وصلتنا ،إالّ أ ّننا نستطيع اإلقرار أنّ أصل المنزلة بين المنزلتين كان
األصل األسبق تاريخيّا .22ويد ّل ما ذكره الشهرستاني على ذلك ،فقد أرجع اعتزال
واصل بن عطاء ّ
الغزال ( ت 101هـ) ،رأس المعتزلة ،إلى مسألة القول في صاحب
الكبيرة.22
وي ّتضح التعبّد بالمقالة وتكفير الخصوم في ما ذكره القاضي عبد الجبّار ( ت
ّ
متأخري المعتزلة » :وأمّا من خالف في المنزلة بين المنزلتين, 615هـ) ،وهو أحد
فقال إنّ حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة األوثان والمجوس وغيرهم فإ ّنه يكون
77
كافرا« .22في هذا القول ر ّد على مقاالت الخوارج .ولكن في " شرح األصول
الخمسة " ردود على ك ّل المخالفين ،ومن بينهم المرجئة .يقول القاضي عبد الجبّار:
» الفاسق يستح ّق العقوبة من هللا تعالى وأ ّنه ال ينفعه ثواب إيمانه باهلل تعالى ورسوله
بعد ارتكابه الكبيرة إال ّ إذا تاب«.23
تقوم مقاالت المرجئة كذلك على القول في حكم صاحب الكبيرة واسمه ،وهو
قول مستند إلى نظرتها إلى اإليمان الّذي نفت عنه التبعيض ،أي الزيادة والنقصان
باألعمال .ويح ّدد الشهرستاني اإلرجاء بقوله » :اإلرجاء على معنيين :أحدهما بمعنى
التأخير [ .]...والثاني إعطاء الرجاء .أمّا إطالق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى
ّ
يؤخرون العمل على النيّة والعقد .وأمّا بالمعنى الثاني األوّ ل فصحيح ،أل ّنهم كانوا
فظاهر ،فإ ّنهم كانوا يقولون :ال تضرّ مع اإليمان معصية ،كما ال تنفع مع الكفر
طاعة .وقيل :اإلرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة ،فال يُقضى عليه
بحكم ما في الدنيا ،من كونه من أهل الج ّنة أو من أهل النار [ .]...وقيل :اإلرجاء
تأخير عليّ ،رضي هللا عنه ،عن الدرجة األولى إلى الرابعة .فعلى هذا المرجئة
والشيعة فرقتان متقابلتان«.21
ما يهمّنا في هذا القول التأكي ُد في معنى اإلرجاء على عدم القطع في شأن
ّ
مؤخر عن االعتقاد .بذلك يرجع حكم صاحب صاحب الكبيرة باعتبار أنّ العمل
الكبيرة إلى المشيئة اإللهيّة ،إذ اإليمان معرفة هللا والمحبّة له والخضوع له ،وإنْ كان
ت ّم وإذا عدم خال.22
78
كما يبيّن قول الشهرستاني السابق أنّ المرجئة قد تتقابل مع الشيعة في مسألة
القول في عليّ .والحقيقة أنّ الشيعة كذلك أصحاب قول في اإليمان والكفر كما توضّح
مصادرهم التي بين أيدينا .لقد اخ ُتزل اإليمان عند الشيعة في معرفة اإلمام واإلقرار
بالوالية .يذكر ال ُكليْني عن زرارة عن أبي جعفر أ ّنه قال » :ذروة األمر وسلمه
َ
ومفتاحه وباب األشياء ورضا الرحمان الطاع ُة لإلمام بعد معرفته ]...[ .أمّا لو أنّ
رجال قام ليله وصام نهاره وتص ّدق بجميع ماله وح ّج جميع دهره ولم يعرف َوالية
وليّ هللا فيواليه ويكون جميع أعماله بداللته إليه ،ما كان له على هللاّ ،
عز وج ّلٌّ ،
حق
في ثوابه وال كان من أهل اإليمان« .20وإلى جانب عدم معرفة اإلمام المُخرج من
اإليمان ،فإنّ التكفير قد يكون باألعمال أيضا » :سألنا أبا عبد هللا عليه السالم عن
الكبائر فقال :هنّ في كتاب عليّ سبع :الكفر باهلل وقتل النفس وعقوق الوالدين وأكل
الربا بعد البيّنة وأكل مال اليتيم ظلما والفرار من الزحف والتعرّب بعد الهجرة .قال:
قلت :فهذا أكبر المعاصي؟ قال :نعم .قلت :فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم
ترك الصالة؟ قال :ترك الصالة .قلت :فما عددت ترك الصالة في الكبائر .فقال :أيّ
شيء أوّ ل ما قلت لك؟ قلت :الكفر .قال :فإنّ تارك الصالة كافر ،يعني من غير
الملّة«.26
79
بالتجرّؤ على الدين واإلحداث ،فكان لما وقع في عهد "الخالفة الراشدة" وفي
خصومات المتكلّمين أثرٌ في مذاهب الفقهاء إلى ح ّد أنّ الخيط أصبح رفيعا بين المتكلّم
والفقيه.
في الخبر ،إنْ ص ّح ،داللة على أنّ أبا حنيفة يفصل اإليمان عن األعمال
تماما ،وإنْ بدت تلك األعمال منافية لما تعارف عليه المسلمون ،ولما نصّت عليه
النصوص التأسيسيّة .وهذا باإلضافة إلى ما نقف عليه في " الفقه األكبر " ,المنسوب
إلى أبي حنيفة ،من آراء مترجمة عن إقراره بمقاالت المرجئة » :وال نك ّفر مسلما
بذنب من الذنوب وإنْ كانت كبيرة إذا ل ْم يستحلّها .وال نزيل عنه اسم اإليمان ونس ّميه
مؤمنا حقيقة«.22
وام ُتحِن أحمد بن حنبل ح ّتى يقول بخلق القرآن على رأي المعتزلة ،فأعلن أنّ
القائل بذلك كافر ،وكانت العقيدة الحنبليّة الخصم األل ّد للمعتزلة .وألّف تقيّ الدين ابن
80
تيميّة كتاب " اإليمان " فانتصب را ّدا فيه على مقاالت اإلسالميّين في اإليمان،
ومنتـصرً ا إلى رأي ابن حـنبل قـار ًنا اإليمان باألعمال » :فإذا كان القلب صالحا بما
فيه من اإليمان علما وعمال قلبيّا ،لزم ضرورة صالح الجسد بالقول الظاهر والعمل
باإليمان المطلق ،كما قال أهل الحديث :قول وعمل :قول باطن وظاهر ،وعمل باطن
وظاهر .والظاهر تابع للباطن الزم له متى صلح الباطن صلح الظاهر ،وإنْ فسد
فسد«.22
لقد ّ
مثل اختالف المسلمين في اسم صاحب الكبيرة وحكمه سببا مباشرً ا في
مراجعة مفهوم اإليمان سواء لدى المتكلّمين أو الفقهاء .وبقي ذلك االختالف مستندا
إلى النصّ في المقام األوّ ل .ومن هنا يمكن أن نفهم ما ق ّدم به األشعري لمقاالته» :
اختلف الناس بعد نبيّهم(ص) في أشياء كثيرة ضلّل فيها بعضهم بعضا ،وبرئ بعضهم
من بعض فصاروا فرقا متباينين وأحزابا متشت ّتين ،إالّ أنّ اإلسالم يجمعهم ويشتمل
عليهم«.23
81
وإنْ ك ّفر المسلمون بعضهم بعضا فإ ّنهم ا ّتفقوا على وجوب التوبة من ك ّل
الذنوب صغيرها وكبيرها ،وطلب الغفران ح ّتى ال يُعا َمل المذنب معاملة الكافر في
الهيئة االجتماعيّة ،ويكون له أمل النجاة في اآلخرة.
. IIالشفاعة:
ّ
تمثل الشفاعة إحدى المسائل الخالفيّة في الفكر اإلسالمي ،كما أ ّنها وثيقة
الصلة بنظرة المسلمين إلى الذنب وجزاء المذنبين وهي إلى ذلك مرتبطة بع ّدة مفاهيم
تمثل المرحلة األخيرة في تحديد المـصـيركالتوبة والغفران .والحقيقة أنّ الشفاعة ّ
األخـرويّ ،وهـي كما يحـ ّددها الجرجاني » :السؤال في التجاوز عن الذنوب من
الّذي وقع الجناية في ح ّقه« .21ولئن حرص المسلمون على تفريع الذنوب إلى ما هو
حق اإلله ،مثل الشرك وترك العبادات المفروضة ،وإلى ما هو في ّ
حق الناس عند في ّ
تعلّق األمر بالمعامالت والشأن االجتماعيّ ،لئن حرص المسلمون على ذلك فإ ّنه
يمكن التأكيد على أنّ الذنوب في جملتها في ّ
حق هللا باعتبار أنّ الذنب مخالفة لألوامر
اإلله ّية وخروج عن طاعة اإلله .ولمّا كانت الذنوب في ّ
حق هللا أصبحت الشفاعة
عالقة واسطة بينه وبين شفيع قصد الغفران وعدم المؤاخذة بالذنب .سنحاول إذن أن
ننظر في مفهوم الشفاعة وما يتعلّق به في الفكر اإلسالمي ،وننطلق في ذلك من
محاولة النظر في النصوص التأسيسيّة لبيان كيفيّة تعبير تلك النصوص عن الشفاعة
وذلك قبل التعرّ ض إلى اختالف المسلمين فيها.
النص:
ّ )1الشفاعة في
* في القرآن:
82
لقد تكرّ رت اآليات القرآنيّة المثيرة صراحة لمفهوم الشفاعة .22ويمكن أن
نميّز في النصّ القرآني بين ثالثة أصناف من اآليات المتعلّقة بهذا المفهوم:
أ) الصنف األوّ ل ينفي الشفاعة وينكرها على اإلطالق ،والحقيقة أنّ أغلب
اآليات تندرج في هذا السياق .ومن ذلكَ ﴿ :وا ّتــقــُوا َي ْـومًـا ال تـَجْ ِزي نــَ ْفسٌ َعنْ َن ْفس
رُون ﴾.20
ص َ اع ٌة َوال ُه ْم يُــن ْـ َشــَيْئا وال ُي ْق َب ُل ِم ْن َها َع ْد ٌل َوال تـَ ْنفـَـ ُع َها شـَ َف َ
ب) أمّا الصنف الثاني من اآليات ففيه إثبات مشروط للشفاعة ،فهي ال تكون
إالّ من هللا أو أ ّنها على األق ّل ال تكون إالّ بإذنه .وفي هذا اإلطار كانت اآلية ﴿ :هللا ُ
ش َماالعرْ ِ ت َواألَرْ َ
ض َو َما َبيـْ َن ُه َما فِي سِ ّت ِة أَيـَّام ثـ ُ ّم اسْ تـ َ َوى َع َلى َ الّذِي خـَلـَ َق ال َّس َم َاوا ِ
ون﴾ .26أمّا اآلية التي تبيّن أنّ هللا قد َل ُك ْم مِنْ ُدو ِن ِه مِنْ َولِيٍٍِّ َوالَ َشفِيع أ َفال تـَتـَ َذ َّكرُ َ
اع ُة إالّ لِـ َمنْ أذ َِن لَ ُه َ
الرحْ َمانُ َو َرضِ َ
ـي يأذن بالشفاعة فهي ﴿ :يـَ ْو َمئِذ ال تـَ ْنـفـَعُ الشـَفـَ َ
لَ ُه قـَ ْوالً﴾.25
ج) بالنسبة إلى الصنف الثالث فإنّ لفظ الشفاعة فيه غير ظاهـر بل ُتؤوّ ل
اآليات ويُستخرج منها معنى الشفاعة واألمر متعلّق هنا بتأويل آيتين يت ّم اعتمادهما
إلثبات شفاعة الرسول ألمّته يوم القيامة .اآلية األولى هيَ ﴿ :وم َِن اللـَي ِْل فـَ َت َهجـ ّ ْد بِ ِه
ُودا﴾ .24أمّا اآلية الثانية التي ت ّم تأويلها َنا ِفلَ ًة لـَ َك َع َسى أَنْ َيب َْعثـَ َك َربــ ُّ َك َمقـَامـًا َمحْ م ً
" المقام المحمود" بمقام ضى﴾ .22لقد فُسّر
ك َر ّبـ ُ َك فـَتـَرْ َ فهيَ ﴿ :ولَ َس ْو َ
ف يُعْ طِ ي َ
الشفاعة كما تبيّنه إحدى روايات البخاري » ح ّدثني إسماعيل بن إبان ،ح ّدثنا أبو
األحوص ،عن آدم بن عليّ قال :سمعت ابن عمر ،رضي هللا عنهما ،يقول :إنّ الناس
)82انظر مح ّمد فؤاد عبد الباقي ،المعجم المفهرس أللفاظ القرآن الكريم ،ما ّدة (ش-
ف-ع).
)86البقرة .126 /2وانظر كذلك :البقرة 29 /2و ،212النساء ،91 /2األعراف /2
،16الشعراء ،133 /21غافر ،19 /23المدثر .29 /22
)82السجدة .2 /62
)81طه .138 /23
)81اإلسراء .28 /12
)82الضحى .1 /86
83
يصيرون يوم القيامة ّ
حثا ،ك ّل أمّة تتبع نبيّها يقولون :يا فالن اشفع ،ح ّتى تنتهي
الشفاعة إلى النبيّ (ص) ،فذلك يوم يبعثه هللا المقام المحمود«.22
إنّ نظرنا في الشفاعة من خالل النصّ القرآني يبيّن مدى سلبيّة المفهوم،22
أي إ ّنها منفيّة في أغلب اآليات التي ورد فيها ذكرها .ولع ّل هذه السلبيّة تزداد
وضوحا إذا ما تمّت المقارنة بين مفهوم الشفاعة في القرآن ونظيره في المرويّات
عن الرسول.
* في الحديث:
قد يكون من المستحيل في هذا اإلطار الضيّق أن نعرض ك ّل المنسوبات إلى
الرسول المتعلّقة بشفاعته ألمّته في اآلخرة .ولكن يمكن القول إجماال إنّ تلك
األحاديث تبرز مدى تميّز النبيّ محمّد عن بقيّة األنبياء ،والمرويّات في هذا المعنى
كثيرة .جاء في صحيح مسلم » :ح ّدثني الحكم بن موسى ،أبو صالح ،ح ّدثنا ِه ْق ُل،
يعني ابن زياد ،عن األوزاعيّ ،ح ّدثني أبو عمّار ،ح ّدثني عبد هللا بن فرّ وخ ،ح ّدثني
ّ
ينشق أبو هريرة قال :قال رسول هللا (ص) " :أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ،وأوّ ل من
عنه القبر ،وأوّ ل شافع وأوّ ل مشفّع"«.133
يبيّن الحديث ،إلى جانب أفضليّة رسول اإلسالم ،أنّ النبيّ محمّد ليس الشافع
الوحيد بل هو أوّ ل الشفعاء ،وهو أمر يناقض ما جاء في مرويّات أخرى ُع ّدت صحيحة
تقصر الشفاعة عليه دون غيره من األنبياء والرسل ،وقد ورد هذا المعنى في حديث
اشتهر بحديث الشفاعة .يذكر البخاري في صحيحه » :ح ّدثنا سليمان بن حرب ،ح ّدثنا
)89البخاري ،كتاب تفسير القرآن ،باب قوله " :عسى أن يبعثك ربّك مقاما محمودا".
)88انظر Wensinck, article « shafā’a », in EI2, Tome IX, pp 183-
184.
)133مسلم ،كتاب الفضائل ،باب تفضيل نبيّنا (ص) على جميع الخالئق.
84
حمّاد بن زيد ،ح ّدثنا معبد بن هالل الع َنزيّ قال :اجتم َعنا ناسٌ من أهل البصرة فذهبنا
إلى أنس بن مالك ،وذهبنا معنا بثابت إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة ،فإذا هو في
قصره فوافقناه يصلّى الضحى ،فاستأذ ّنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه .فقلنا لثابت :ال
تسأله عن شيء أوّ ل من حديث الشفاعة .فقال :ح ّدثنا محمّد (ص) قال " :إذا كان يوم
القيامة ماج الناس بعضهم في بعض .فيأتون آدم فيقولون :اشفع لنا إلى ربّك .فيقول:
لست لها ،ولكن عليكم بإبراهيم فإ ّنه خليل الرحمان .فيأتون إبراهيم فيقول :لست لها،
ولكن عليكم بموسى فإ ّنه كليم هللا .فيأتون موسى فيقول :لست لها ،ولكن عليكم بعيسى
فإ ّنه روح هللا وكلمته .فيأتون عيسى فيقول :لست لها ،ولكن عليكم بمحمّد (ص).
فيأتونني فأقول :أنا لها .فأستأذن على ربّي فيُؤذن لي ويُلهمني محامدَ أحمده بها ال
تحضرني اآلن ،فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدا ،فيُقال :يا محمّد ،ارفع رأسك
وس ْل ُتع َط واشفع ُتش ّفع .فأقول :يا ربّ ،أمّتي أمّتي .فيُقال :انطلق فأخرج
وق ْل يُسمع لك َ
منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان .فأنطلق فأفعل [ .131«]...وهكذا في
المرّ ة الثانية والثالثة إلى أن يخرج ك ّل من أقرّ بوحدانيّة هللا ولم يبق في النار إالّ من
ّ
حق عليه الخلود.
من هنا يظهر أنّ الشفاعة ميزة لمحمّد على بقيّة األنبياء ،فهي دعوة اختزنها
الرسول أو أرجأها إلى يوم القيامة رحمة بأمّته وشفقة عليها كما تبيّن ذلك مرويّات
أخرى » :ح ّدثنا يونس بن عبد األعلى ،أنبأنا عبد هللا بن وهب ،قال :أخبرني مالك
بن أنس ،عن ابن شهاب ،عن سلمة بن عبد الرحمان ،عن أبي هريرة أنّ رسول هللا
(ص) قال " :لك ّل نبيّ دعوة يدعوها فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة ألمّتي يوم
القيامة "« .132بهذا الحديث األخير يتدعّم تميّز محمّد على بقيّة الرسل خاصّة أنّ
القرآن يؤ ّكد على أنّ هللا قد أهلك أقواما سابقة بأعمالهم وظلمهم لألنبياء ولكن أيضا
85
بسبب دعوة نبيّ ما على قومه كقوم نوح وصالح وهود ولوط وغيرهم .روى مسلم
حديثا من أفراده » :ح ّدثني يونس ابن عبد األعلى الصدفي ،أنبأنا ابن وهب قال:
أخبرني عمرو بن الحارث أنّ بكر بن سوادة ح ّدثه عن عبد الرحمان بن جُبيْر ،عن
عبد هللا بن عمرو بن العاص أنّ النبيّ (ص) تال قول هللا تعالى في إبراهيم ﴿ َربِّ
إنــَّهـُنّ أضْ لَ ْل َن كـَثِيرً ا م َِن ال َن ِ
اس فـَ َمنْ َت ِب َعنِي فـَإنـ َّ ُه ِم ّني﴾
130
اآلية ،وقال عيسى عليه
الع ِزي ُز َ
الحكِي ُم ﴾،136 ت َ السالم ﴿ :إنْ تـ ُ َع ِّذ ْب ُه ْم فـَإنـّـَ ُه ْم عِ َبا ُد َك وإنْ تـَغ ْـفِرْ لَ ُه ْم فإ ّن َك أ ْن َ
عز وجلّ :يا جبريل اذهب إلى فرفع يديه وقال " :الله ّم أمّتي ،أمّتي " وبكى .فقال هللا ّ
محمّد ،وربّك أعلمْ ،
فسله ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السالم فسأله .فأخبره رسول
هللا (ص) بما قال ،وهو أعلم ،فقال هللا :يا جبريل اذهب إلى محمّد فقلْ :إ ّنا سنرضيك
في أمّتك وال نسوءك«.135
استنادا إلى هذه األحاديث وأضرابها ترسّخ في الفكر اإلسالمي الس ّني
بالخصوص أمران على األقلّ :األوّ ل أنّ شفاعة محمّد ألمّته ّ
حق ثابت ال ريب فيه
وأ ّنه مقتصر عليه دون غيره من األنبياء والخالئق .وهذا يفضي إلى األمر الثاني
المتعلّق بتفضيل رسول اإلسالم على كا ّفة المخلوقات واألنبياء والرسل ممّا جعل
الشفاعة المحمّديّة جانبا هامّا استغلّه المسلمون لمحاجّ ة غير المسلمين وإبراز أفضليّة
اإلسالم ورسوله إلى جانب مسألة ختم النبوّ ة وح ّتى أميّة محمّد وبشريّته التي
اندرجت في سياقات جداليّة تمجيديّة.134
ومن ناحية أخرى تبيّن أحاديث عديدة أنّ الشـفاعة تـكـون للمذنـبيـن وهي
تلي عقابهم فيخرجون بها ممّا هم فيه من عذاب ،روى مسلم » :وح ّدثنا أبو الربيع،
86
ح ّدثنا حمّاد بن زيد ،قال :قلت لعمرو بن زيد :أ سمعت جابر بن عبد هللا يح ّدث عن
رسول هللا (ص) " :أنّ هللا يُخرج قوما من النار بالشفاعة"؟ قال :نعم« .132وقد
ترتبط الشفاعة ببعض الحاالت الخاصّة فال تؤ ّدي إلى الخروج من النار مطلقا بل
التخفيف من العذاب فقط .ورد في صحيح مسلم » :وح ّدثنا عُبيْد هللا ابن عمر
القواريريّ ومح ّمد بن أبي بكر المقدميّ ومحمّد بن عبد الملك األمويّ قالوا :ح ّدثنا أبو
َعوانة ،عن عبد الملك بن عُميْر ،عن عبد هللا بن الحارث بن نوفل ،عن العبّاس بن
ّ
المطلب أ ّنه قال :يا رسول هللا ،هل نفعت أبا طالب بشيء ،فإ ّنه كان يحوطك عبد
ويغضب لك؟ قال " :نعم .هو في ضحضاح من نار ،ولوال أنا لكان في الدرك
األسفل من النار«.132
ولكن ما نشير إليه هنا أنّ روايات واردة في مجاميع الحديث النبويّ تؤ ّكد أنّ
الرسول ال يملك ألقربائه يوم القيامة شيئا ومن ذلك ما أثبته البخاري في صحيحه :
» ح ّدثنا أبو اليمان ،أخبرنا شعيب ،عن الزهري قال :أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو
سلمة بن عبد الرحمان أنّ أبا هريرة رضي هللا عنه قال :قام رسول هللا (ص) حين
ِين﴾ ،132قال " :يا معشر قريش ،أو ك األقـْ َربـ َ أنزل هللا ّ
عز وج ّل ﴿ َوأنـْذِرْ عَشِ َ
يرتـَ َ
كلمة نحوها ،اشتروا أنفسكم ال أغني عنكم من هللا شيئا .يا بني عبد مناف ال أغني
المطلب ال أغني عنك من هللا شيئا .يا صفيّة ّ عنكم من هللا شيئا .يا عبّاس بن عبد
عمّة رسول هللا ال أغني عنك من هللا شيئا .ويا فاطمة بنت محمّد سليني ما شئت من
مالي ال أغني عنك من هللا شيئا " .تابعه أصبغ ،عن ابن وهب ،عن يونس ،عن ابن
شهاب«.113
87
رغم هذا الحديث األخير فإنّ الشفاعة تأخذ صبغة إيجابيّة في المنسوبات إلى
الرسول ،ويظ ّل التأكيد على إثباتها سمة غالبة وذلك خالفا لما الحظناه من نفيها في
أغلب اآليات القرآنيّة التي تعرّ ضت لها .وفي إطار هذا الجدل بين اإلثبات والنفي
يمكن أن نتو ّقع أنّ مواقف المسلمين من الشفاعة ستكون متضاربة بين مثبتة للشفاعة
إذا ت ّم االستناد إلى الحديث ومنكرة إذا كان القول فيها معتمدا على النصّ القرآني.
في هذا اإلطار يمكن تقسيم مواقف المسلمين من الشفاعة إلى قسمين كبيرين:
األوّ ل مثبت يمثــّله ك ّل من الس ّنة والشيعة ،والثاني منكر يمثـّله الخوارج والمعتزلة.
إالّ أ ّنه يمكن تفريع ك ّل من القسمين تفريعا داخليّا وهو ما سنحاول بيانه.
)1إثبات الشفاعة:
* الموقف الس ّني:
إنّ استناد أهل الس ّنة إلى الحديث النبوي لبلورة العديد من المفاهيم المؤسّسة
لعقيدتهم جعلتهم يثبتون الشفاعة ويدعون إلى اإليمان بها فكانت من التصوّ رات
األساسيّة التي جادلوا بها مخالفيهم من الفرق والنحل ،فكان تأكيد الس ّنة على ثبات
الشفاعة وعلى أ ّنها للموحّدين المذنبين وناظروا غيرهم من أصحاب المقاالت في
جوازها ألصحاب الكبائر .وفي هذا اإلطار يبدو أنّ مقالة أبي الحسن األشعري (ت
026هـ) في الشفاعة هي التي ترسّخت في الفكر اإلسالمي الس ّني .فقد جاء في "
اإلبانة " » :ويُقال لهم :قد أجمع المسلمون أنّ لرسول هللا (ص) شفاعة ،فلمن
الشفاعة؟ هي للمذنبين المرتكبين الكبائر ،أو للمؤمنين المخلصين؟ فإنْ قالوا :للمذنبين
المرتكبين الكبائر وافقوا .وإنْ قالوا للمؤمنين المب ّشرين بالج ّنة الموعودين بها ،قيل
لهم :فإذا كانوا بالج ّنة موعودين وبها مب ّشرين ،وهللا ّ
عز وج ّل ال يخلف وعده ،فما
معنى الشفاعة لقوم ال يجوز عندكم أن ال يدخلهم هللا ج ّناته؟ [ ]...فإنْ سألوا عن قول
88
ضى﴾ .111فالجواب عن ذلك :إال ّ لمن
ُون إال ّ لِ َمنْ ارْ تـ َ َ هللا ّ
عز وجلَّ ﴿ :والَ يـَش ْـفـَع َ
ارتضى فهم يشفعون له .وقد رُوي أنّ شفاعة النبيّ (ص) ألهل الكبائر .ورُوي عن
النبيّ (ص) " :إنّ المذنبين يخرجون من النار"«.112
حق وأ ّنها للمذنبين بل ألصحابيؤ ّكد قول األشعري على أنّ شفاعة النبيّ ّ
ّ
الممثل لرأي أهل الس ّنة بصفة عامّة .وي ّتضح الكبائر بالخصوص .وهذا القول هو
ذلك من خالل موقف أبي المعالي عبد الملك الجويني حـيث يقول » :إذا ثبت جواز
الغفران وقد شهدت له شواهد من الكتاب والس ّنة ،لم نذكرها لشهرتها ،فيتر ّتب على
ّ
الحق أنّ الشفاعة وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم .فمذهب أهل ّ ذلك تشفيع الشفعاء
ّ
حق .وقد أنكرها منكرو الغفران ،ومن جوّ ز الصفح والعفو بدءا من هللا تعالى فال
يمنع الشفاعة .ومنهم من يمنعها على مصيره إلى تجويز الغفران وذلك نهاية في
الجهل ال يلتزمها ذو تحصيل ]...[ .فإذا ثبت جواز التشفيع عقال فقد شهدت له سنن
بلغت االستفاضة فمن رامها ألفاها منقولة ،ث ّم هي مصرّ حة بالتشفيع في أهل الكبائر
[ .]...فإذا شهد العقل بالجواز وعضدته شواهد السمع فال يبقى بعد ذلك لإلنكار
مضطرب ،وفيما ذكرناه ر ّد على فئة صاروا إلى أنّ الشفاعة ترفع الدرجات وال
ّ
تحط السيّئات«.110
يظهر من القولين أنّ الموقف الس ّني من الشفاعة ،إلى جانب اإلقرار بها
لمقترفي الذنوب من المسلمين المؤمنين ،مندرج في إطار جدل مع المنكرين لها .كما
نالحظ فيما يذكره ك ّل من األشعري والجويني غيابا يكاد يكون كلّيا للقرآن لبيان
ثبوت شفاعة الرسول وهذا طبيعيّ نظرا إلى ما رأيناه من سلبيّة للشفاعة في النصّ
القرآني .كما ي ّتضح أنّ محور الخالف ليس في إثبات الشفاعة أو إنكارها بل فيمن
89
يستح ّقها ،فكان تأكيد الس ّنة على أ ّنها للمذنبين المؤمنين وألصحاب الكبائر خاصّة،
وهذا األمر ال يمكن أن يتناسق مع مقاالت الخوارج والمعتزلة الذين ْ
يرون خلود
صاحب الكبيرة في النار.
كما نالحظ أنّ في موقف الس ّنة إلحاحا على شفاعة النبيّ محمّد دون غيره
من األنبياء والرسل .ولكن ال يمكن تعميم هذا الرأي ،فرغم حديث الشفاعة الذي
عرضناه والمبيّن لتقلّب المذنب بين األنبياء من آدم إلى عيسى فال يجد ما يرتجي من
الشفاعة ،ويظفر بها عند محمّد فإنّ مثل أبي حنيفة ،وإن أقرّ بأنّ الشفاعة لمرتكبي
الذنوب الكبائر ،يجعلها عامّة لألنبياء جميعهم دون تمييز بين محمّد أو غيره .يقول
في ذلك » :وشفاعة األنبياء ،عليهم السالمّ ،
حق .وشفاعة النبيّ ،عليه الصالة
ٌ
ثابت«.116 العقاب ّ
حق َ والسالم ،للمؤمنين المذنبين وألهل الكبائر منهم المستوجبين
إنّ الشفاعة لدى أهل الس ّنة من خاصيّات األنبياء ،وميزة من مميّزات رسول اإلسالم
فلم تخرج بذلك عن كونها لألنبياء والرسل دون غيرهم ،ولع ّل هذا األمر هو الذي
مثــّل نقطة اختالف جوهريّة بين الموقف الس ّني والموقف الشيعي.
* الموقف الشيعي:
ال يمكن أن ننظر في أيّ قول للشيعة خارج إطار ما يُعتبر عندهم ركن الديانة
األعظم ومقوّ م اإليمان األساسي ونعني بذلك اإلمامة .وال نزعم الب ّتة أ ّننا سنحاول
بيان ذلك المفهوم فهو من األمور المع ّقدة والدقيقة المحتاجة إلى درس طويل ،وك ّل
ك سطحيّة ومخلّة.
محاولة م ّنا لبيانه في هذا المقام ستكون بدون ش ّ
ّ
المتأخرين ،محمّد بن المرتضى يح ّدد أحد الشيعة اإلماميّة اإلثني عشريّة
الكاشاني ( ت 1321هـ) الشفاعة بقوله » :معنى الشفاعة ما قاله بعض العلماء أ ّنه
90
يجعل بعض مقرّ بي حضرة هللاّ ،
عز وج ّل ،وسيلة إليه في مغفرته تعالى لذنوب عبده
وعفوه عن خطاياه أو ازدياده في درجاته .وهذا إ ّنما يُتصوّ ر إذا كان العبد استحكم
نسبته إلى ذلك الشفيع في الدنيا بش ّدة المحبّة له ،أو كثرة المواظبة على االقتداء به،
أو كثرة الذكر له بالصالة والتسليم عليه ،أو تألّمه بفقدانه وحزنه على ذلك أو نحو
ذلك ،فإنّ ذلك كلّه يصير سببا لتنوير القلب والقرب من هللا ّ
عز وج ّل ،وهما بعينهما
مغفرة للذنوب وزيادة في الدرجات وإ ّنما حصال بوسيلة ذلك الشفيع ،بل بوسيلة قربه
عز وجلّ .وهذا معنى اإلذن من هللا .]...[ .يدلّك على ما ُذكر أنّ جميع ما
من هللا ّ
ورد في األخبار من استحقاق شفاعة النبيّ (ص) معلّق بما يتعلّق به من صالة أو
ّ
المؤذن [ .]...وكذا شفاعة غيره من األئمّة المعصومين عليهم زيارة لقبره أو جواب
السالم والعلماء الصالحين«.115
إنّ الشفاعة من المنظور الشيعيّ مرتبطة بالنبيّ ،كما في الموقف الس ّني ،ولكن
باألئمّة كذلك .وهي ال تت ّم إالّ بشروط تح ّددها عالقة الشافع بالمشفوع فيه .وما بدا لنا
الفتا في تلك الشروط التألّ ُم لفقدان الشافع والحزن عليه .إنّ هذا الشرط صدى واضح
مغتصبُو ّ
حق .ولئن ابتدأ َ لتاريخ الشيعة المليء باألحزان واإلحساس بالظلم وبأ ّنهم
والوالية ،فإنّ الحزن قد ّ
األحق بالخالفة َ ذلك التاريخ منذ وفاة الرسول واعتبار عليّ
مثل نقطة انطالق تفجّ ر بعد مقتل الحسين بكربالء في عاشوراء ( 41هـ) الّذي ّ
91
لمراسم العزاء الحسيني .وإ ّنما نذكر هنا ذلك ألنّ الحسين ّ
يمثل رمزا شيعيّا استثنائيّا
بتضحيته بنفسه من أجل شيعته وألجل أن يستقيم اإلسالم بعد أن زاغ خلفاء بني أميّة
ّ
الحق .وهذه الشهادة والبطولة أكسبت الحسين مرتبة الشفيع بالنسبة إلى شيعته عن
يوم القيامة فكان المخلّص في اآلخرة ،كما حاول أن يكون كذلك في الدنيا ،وكان "
المنقذ اإللهيّ " الذي لم يعرفه اإلسالم الس ّني فقد » كان الشيعة أوّ ل من أدخل فكرة
اإلنقاذ اإللهيّ في اإلسالم وأوّ ل من ربطها جدليّا بتراجيديا كربالء ,وأنّ حاملي
الشـفاعة عـند هللا هـم النبيّ الكريم واألئـمّة مـن أهل البيت الـذين يحملون " اللطف
اإللهيّ " وأنّ هللا كان قد اصطفاهم من الخلق من أجل إنقاذ البشريّة يوم القيامة عن
طريق الوالء لهم والشفاعة بواسطتهم« .114كما تذكر بعض األدبيّات الشيعيّة أنّ
المالئكة قدموا إلى كربالء لمساعدة الحسين على جيوش يزيد بن معاوية ،لكن
الحسين رفض ذلك وعبّر عن اصطفاء هللا له منذ أن خلق الكون ليكون شهيدا
وبالتالي شفيعا لشيعته يوم القيامة.112
هكذا يبدو أنّ الشفاعة لدى الشيعة مرتبطة بمن عرف اإلمام الذي ال يخلو منه
زمان ،والذي يجب على ك ّل شخص أن يعرفه وإالّ "مات ميتة جاهليّة" ،أكثر من
ارتباطها بالمذنبين لتبقى اإلمامة الفاصل الكبير بين تصوّ رات الس ّنة وتصوّ رات
الشيعة لك ّل ما يتعلّق بالمفاهيم الدينيّة .صحيح أنّ الموقفان م ّتفقان على إثبات الشفاعة
ولكن الفوارق في التصوّ ر جوهريّة .وتزداد تلك الفوارق في نظرة المسلمين إلى
الشفاعة إذا ما قُورنت مواقف الس ّنة والشيعة من ناحية بمواقف الخوارج والمعتزلة
من ناحية أخرى ،وهم الّذين أنكروا الشفاعة.
92
إنكار الشفاعة: )2
* الموقف الخارجي:
موقف الخوارج من الشفاعة سـيكون تابـعا لنـظرتهم إلى الذنب ومقالـتهم
فيه .112فإذا كان المذنب بالنسبة إليهم يُع ّد كافرا يُعامل معاملة الخارج عن الملّة في
ك أنّ الكافر
االجتماع ويُقطع له بالخلود في النار وبالعذاب كعذاب المشركين ،فال ش ّ
ال شفاعة له .ويمكن انطالقا من ذلك اإلقرار أنّ الخوارج يُنكرون الشفاعة مطلقا.
ولئنْ كان موقف الخوارج من الشفاعة ناتجا عن نظرتهم إلى الذنب وخاصّة
الكبير منه فإ ّنه راجع كذلك إلى استنادهم في مقاالتهم إلى النصّ القرآني دون
المنسوبات إلى الرسول في تشريعهم الخاص بهم وكذلك في تحديد مفاهيمهم،
واعتمادهم على القرآن في أحكامهم سيجعلهم يسيرون وراء النظرة القرآنيّة السلبيّة
إلى الشفاعة.
إنّ الموقف المتش ّدد إزاء المذنب ومرتكب الكبيرة على وجه الخصوص ّ
يؤثر
بالتبعيّة في النظرة إلى الشفاعة لذلك نتوقّع أن يكون موقف المعتزلة أيضا منكرا
للشفاعة باعتبار أ ّنهم حكموا على مقترف الذنب الكبير بالخلود في النار.
)119يمكن الوقوف على مقالة الخوارج في الذنب في كتب الفرق العقائد ومنها:
مقاالت اإلسالميين واختالف المص ّلين ألبي الحسن األشعري.
الفرق بين الفرق لعبد القاهر الغدادي
الملل والنحل لعبد الكريم الشهرستاني
الفصل في الملل واألهواء والنحل ألبي مح ّمد عل ّي بن حزم.
ومن الدراسات الحديثة االستشراقيّة بالخصوص نحيل مثال على:
L.Gardet, Les Noms et les Statuts, Problème de la foi et
des œuvres en Islam, in Studia Islamica 5, (1956), pp 61-
123.
T. Izutsu, The concept of belief in islamic theology,
Tokyo,1965.
A.J. Wensinck, The muslim creed, CUP,1965.
93
* الموقف المعتزلي:
يبدو من كالم األشعري وكذلك الجويني عند تعرّ ضنا للموقف الس ّني من
الشفاعة ،أنّ آراءهما مندرجة ضمن جدال المعتزلة ومناقضة ما يذهبون إليه في
مسألة الشفاعة .وقد ذكر األشعري اختالف المسلمين في الشفاعةَ ،عرضا ،عند
حديثه في دقيق الكالم فيقول » :واختلفوا في شفاعة رسول هللا (ص) هل هي ألهل
الكبائر .فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله .وقال بعضهم :الشفاعة من النبيّ (ص)
للمؤمنين أن يزدادوا في منازلهم من باب التفضيل«.112
الواضح من كالم األشعري أنّ المعتزلة ال ينفُون الشفاعة مطلقا ولك ّنهم
يذهبون إلى أ ّنها تكون للمؤمنين الذين لم يقترفوا الكبائر ،أمّا صاحب الكبيرة فقد
رأينا أ ّنهم يحكمون عليه بالخلود في النار .الشفاعة إذن تكون ألهل الج ّنة بالزيادة في
درجاتهم ومراتبهم .وهنا يبرز الفرق بين المعتزلة والخوارج الذين ْ
نفوا الشفاعة
مطلقا .ولك ّنهم اشتركوا في االعتماد على القرآن في نظرتهم أكثر من المنسوبات إلى
الرسول .يقول األشعري مبرزا تش ّدد المعتزلة في التعامل مع الحديث النبويّ » :
وأجمعت المعتزلة بأجمعها أ ّنه ال يجوز قول النبيّ إالّ بحجّ ة وبرهان وأ ّنه ال تلزم
شرائعه إالّ من شاهد أعالمه وانقطع عذره ممّن بلغه شرائع الرسول (ص) «.123
94