Professional Documents
Culture Documents
الأصول النصيّة
الأصول النصيّة
الــــفـــصل ّ
األصــــول الـــنــصـــ ّيـــة
المالحظ في تقسيم ونسنك للذنب إلى هذه األنواع الثالثة ،أ ّنه تقسيم قائم
باألساس على الجزاء األخرويّ للذنب ،ولع ّل ذلك أدخل في المباحث الكالميّة،
5
التي سنتعرّض لها في قسم الحق من البحث ،لذلك رأينا الوقوف ،في هذا
المستوى ،على اآليات الناصّة على الكبائر بصريح اللفظ دون الحديث عن
المسائل المتعلّقة بها سواء من ناحية الجزاء أو غير ذلك.
لقد نصّت عديد اآليات بوضوح على نوعين من الذنوب ,وميّزتهما عن
بعضهما البعض ،وهما الكبائر والصغائر .وهذه اآليات ﴿ :إِنْ َتجْ َتنِبوا َك َبائ َِر َما
ُت ْن َه ْونَ َع ْن ُه ن َك ّفرْ َع ْنك ْم َس ّي َئاتِك ْم َون ْدخ ِْلك ْم َم ْد َخالً َك ِريمًا ﴾ .6وكذلكَ ﴿:ووضِ َع
ب الَ ال َه َذا ال ِك َتا ِون َيا َو ْيلَ َت َنا َم ِ ِين م ْش ِفق َ
ِين ِممَّا فِيه َو َيقول َ ال ِك َتاب َف َت َرى المجْ ِرم َ
ون َك َبائ َِر اإلِ ْث ِم
ِين َيجْ َتنِب َ ير ًة إِالَّ أَحْ َ
صا َها ﴾ .7وأيضاَ ﴿ :والذ َ ِير ًة َوالَ َك ِب َ
صغ َ ي َغادِر َ
ون َك َبائ َِر ِين َيجْ َتنِب َ
ون ﴾ .8وأيضا اآلية ﴿ :الذ َ ِش َوإِ َذا َما َغضِ بوا ه ْم َي ْغفِر َ َوال َف َواح ِ
اإل ْث ِم َوال َف َواح ِ
ِش إالَّ ال ّل َم َم ﴾.9
لع ّل األمر الذي يهمّنا هنا ،والّذي نخرج به من عرضنا لهذه النصوص
القرآنيّة ،ذلك التمييز الصريح بين صغائر الذنوب وكبائرها .والمالحظ أ ّننا ال
نقف في هذه اآليات على أيّ تخصيص أليّ ذنب بأ ّنه من الكبائر ،فقد « بقي لفظ
" الكبيرة " لفظا عامّا ال يح ّدد أيّ ذنب بعينه .إ ّنه لم يصبح بعد لفظا تقنيّا
[اصطالحيّا] » .11إنّ اآليات التي عرضناها ،ال تق ّدم لنا أيّ تحديد ،وال تنصّ
)3النساء 51./2
)7الكهف 21./18
)8الشورى 57./22
)1النجم 52./35
Ralph Stehly ; « Un Problème de théologie islamique : la )11
notion des fautes
graves (KABĀ’IR) ». in REI (1977) , 45, pp 165-181
6
بوضوح على أيّ نوع من العقاب .ومن هذه المنطلقات نرى سمة الغموض
الشديدة التي تحيط بمفهوم الكبيرة إذا ما أردنا االنطالق في معالجته من النصّ
القرآني ذاته ،نظرا إلى اإلجمال الذي حفّ بذلك المفهوم ولهذا الغرض نحاول
البحث في الكبائر انطالقا من الحديث النبوي ,لعلّه يفصّل ما جاء مج َمالً.
على عكس ما رأيناه في القرآن من إجمال فيما يتعلّق باآليات المصرّ حة
بالكبيرة ،فإ ّننا نظفر بالعديد من األحاديث النبويّة التي تح ّدد عددا من الذنوب
الموصوفة بأ ّنها من الكبائر .ونشير إلى أنّ الكبائر لم يفرد لها كتاب خاصّ في
مجاميع الحديث ،بل كانت ّ
موزعة على مختلف األبواب حسب ما تقتضيه مناسبة
إيراد الحديث.
لو حاولنا حصر الذنوب التي تصرّ ح المرويّات عن الرسول بأ ّنها من
الكبائر لعددناها إحدى عشرة كبيرة هي :الشرك ،وعقوق الوالدين ،وقتل النفس،
وشهادة الزور ،واليمين الغموس ،والزنا ،والسحر ،وأكل مال اليتيم ،والتولّي
يوم الزحف ،وقذف المحصنات ،وأكل الربا .وإذا ما حاولنا تصنيف هذه الكبائر
ّ
تتوزع على مجموعتين كبيرتين ،وذلك حسب بصفة مبدئيّة ،فإ ّننا نرى أ ّنها
طبيعتها ،األولى ّ
يمثلها الشرك وهو ذنب عقائديّ صرف يمسّ في الواقع باطن
اإلنسان ،فهو يتعلّق بالفرد بقطع النظر عن ِتبعات هذا الذنب في الهيئة
االجتماعيّة .أمّا المجموعة الثانية فتشمل بقيّة الذنوب ،وتخصّ العالقات
اإلنسانيّة ،أي إ ّنها تح ّدد نوعا من النظام االجتماعي يق ّنن المعامالت ويش ّكل في
جوهره نمطا أخالقيّا.11
)11أنظر مثل هذا الرأي فيToshihiko Izutsu , "The concept of belief :
in islamc theology", p36
7
إنّ هذه المحرّ مات لم تكن مجموعة في حديث واحد ,وإ ّنما جاءت متفرّ قة
بين ع ّدة أحاديث ،منها ما تكرّ ر ومنها ما ال نجده إالّ في حديث واحد .وما
نالحظه في هذا السياق أنّ األحاديث الناصّة على الكبائر عديدة ولكن الكبائر
ور َن بتع ّدد األحاديث.12
عددها محدود إذا ما ق ِ
إذا نظرنا بعد ذلك في هذه األحاديث نالحظ أنّ فيها عرضا للكبائر في
شكل " قوائم " تختلف فيما بينها في عدد الذنوب المصرّ ح بها .وعلى ذلك يمكن
أن نقسّم تلك القوائم إلى صنفين :قوائـم قصيرة تع ّد ثالث كبائر أو أربعا،
وقائمتين طويلتين ،األولى سباعيّة ونقصد بها " حديث الموبقات " الذي رواه أبو
هريرة ،وهو حديث سنعود إليه الحقا بتفصيل أوفى ،أمّا الثانية فتض ّم تسع كبائر.
8
أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟ " .إنّ هذه األسئلة لم يكن المراد منها معرفة ماهية الكبيرة،
ولم تكن طلبا لتحديد مفهوميّ ،وإ ّنما كانت سؤاال الغاية منه تحديد الذنوب التي
تعتبر من الكبائر ،ولعلّه استفسار جاء بعدما صرّ ح النصّ القرآنيّ بلفظ الكبيرة
دون أن يصف به أيّ ذنب معيّن.
إنّ سمة المحاورة هذه التي صبغت األحاديث المصرّ حة بالكبائر ،قد
تضعنا أمام إشكال البحث في ظروف قول الحديث ،وهو إشكال يصعب تناوله
أل ّننا في الواقع ال نملك ما يدلّنا على ظرفيّة ورود األحاديث .فالكتب القليلة التي
ّ
ونمثل على تلك حاولت التعرّض لمثل هذا الموضوع ال تم ّدنا بالشيء الكثير،
المؤلّفات بكتاب " أسباب ورود الحديث " للسيوطي ،حيث يحتوي هذا الكتاب
على ثمان وتسعين مناسبة فقط ،وهو عدد ضعيف إذا ما قورن بعدد المرويّات
عن الرسول التي تع ّد باآلالف .كما أنّ البحث في مناسبات قول األحاديث كان
في شرح 14
متأخرا تاريخيّا كما يقرّ بذلك السيوطي بقوله « :وقال ابن المل ّقن
ّ
ّ
المتأخرين من أهل الحديث شرع في تصنيف أسباب العمدة :واعلم أنّ بعض
في 15 ّ
العطار ّ
المتأخرين وعزاه ابن الحديث ،كذا عزاه الشيخ ّ
عز الدين لبعض
17
شرحه إلى ابن الجوزي ،16وسمعت من يذكر أنّ عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ
ص ّنف فيه تصنيفا قدر العمدة » .18ورغم تلك المحاوالت ،ومحاولة السيوطي
معها ،فإ ّننا « قد افتقدنا ،مثلما افتقدت ك ّل األجيال اإلسالميّة منذ زمن التابعين،
معرفة خصائص هذا الخطاب [ الخطاب النبوي] :الظروف الدقيقة الحا ّفة به،
والشخص أو األشخاص المعنيّين والغايات المراد بلوغها أو المشار إليها[،]...
9
وافتقدنا كذلك النبرة التي استعملت فيه والدالّة على الرضا أو الغضب ،على
النصح أو التنبيه أو التقريع ...إلخ ،ممّا ال تد ّل عليه األلفاظ وحدها ».19
10
الموبقات " قيل يا رسول هللا وما هنّ ؟ قال " :الشرك باهلل ،والسحر ،وقتل النفس
بالحق ،وأكل مال اليتيم ،وأكل الربا ،والتولّي يوم الزحف،
ّ التي حرّ م هللا إالّ
وقذف المحصنات الغافالت المؤمنات " ». 23
ونظرا إلى المشغل الكالميّ الذي يبحث فيه ونسنك ،فإ ّنه لم يتو ّقف عند
هذين الحديثين اللّذيْن بنى عليهما المرحلتين ،فك ّل ما أراده هو بيان أنّ الحديث
النبويّ قد ميّز بين الكبائر والصغائر .24لذلك ال يق ّدم لنا حججه في اعتبار أنّ
الحديث األوّ ل أسبق تاريخيّا من الثاني ،أو أ ّنه أسبق من غيره من األحاديث
المصرّ حة بالكبائر .وال نحسب أنّ الحجج تاريخيّة وقطعيّة ،ونذهب إلى أ ّنها
منطقيّة ،باعتبار أنّ الحديث األوّ ل يشمل ثالث كبائر فحسب أمّا الثاني فيض ّم
سبعا ،وبذلك يكون التبرير بالتدرّ ج في محاورة مجتمع الدعوة .كما يمكن أن
ننطلق في التأريخ للحديثين من نظرنا في الرواة ،فالحديث األوّ ل رواه عبد هللا
ابن مسعود وهو من السابقين في اإلسالم ،أمّا "حديث الموبقات" ،مع فرض
صحّ ته المطلقة في نسبته إلى الرسول والثقة التامّة في سلسلة سنده ،فإ ّنه ال يمكن
أن يكون قد قِيل قبل السنة السابعة للهجرة ،باعتبار أنّ راويه ،وهو أبو هريرة،
قد أسلم بعيْد غزوة خـيبر وأدرك الرسول عندها .ولكـن من ناحية ثانـية فـإنّ
حديث ابن مسعود قد نصّ على تراتبيّة بين الكبائر ،ممّا قد يعني ،بالنسبة إلينا،
أ ّنه الحق باعتبار أ ّنه جاء أخصّ من الحديث الثاني من هذه الزاوية .ولك ّننا
نالحظ ،إلى جانب ذلك ،أنّ ما نهي عنه فيه كان مرتبطا ببعض ما تورده األخبار
عن المجتمع الجاهليّ ،فاألصنام المعبودة هي في الواقع وسائط بين اإلنسان
)25مسلم ,كتاب اإليمان ،باب بيان الكبائر وأكبرها .وأخرجه البخاري في كتاب
الوصايا ،باب قوله تعالى [ النساء ]11 /2ولكن مع تقديم أكل الربا على أكل مال
اليتيم ،والروايتان بإسناد واحد.
The muslim creed, pp 39-40. )22
11
والربّ ،فكانت بمثابة الن ّد هلل .كما أنّ من بين ما نعرفه عن ذلك المجتمع مسألة
وأد البنات تطيّرا وخوفا من اإلمالق والفقر .هذا باإلضافة إلى ما ترويه لنا
األخبار من تسيّب جنسيّ إلى غير ذلك .وربّما كان ك ّل ذلك عونا لنا على تحديد
أنّ زمن قول هذا الحديث كان قريبا من العصر الجاهليّ ،فكان نموذجا لما جاء
به الدين التوحيديّ من قلب قيميّ وأخالقيّ ،ونقول ذلك بالرغم من أنّ العديد من
القيم والعادات الجاهليّة قد دعا إليها اإلسالم وكرّ سها بأشكال مختلفة .ولع ّل ك ّل
ذلك يد ّل على كثير من الصواب فيما ذهب إليه ونسنك ،ولكن هذا األمر ،كما
رأينا ،يبقى أمرا غير قطعيّ ،فمحاولة تحديد زمن قول الحديث يبقى موكوال إلى
االحتمال والظنّ ،أمّا ظروف قوله وطريقته فيندرج تحت باب المستحيل،
باإلضافة إلى صعوبة تحديد األشخاص الذين وجّ ه إليهم الخطاب.
)23البخاري ،كتاب األدب ،باب عقوق الوالدين من الكبائر .وأخرجه مسلم في كتاب
اإليمان ،باب بيان الكبائر وأكبرها.
12
شرحهم لألحاديث النبويّة ،ومن ذلك ما ذهب إليه النووي حين يقول ]...[ « :وإن
" أكبر الكبائر " كان المراد مــن جاء في موضع أ ّنها [ ذنوب َ
غير الشرك]
أكبر الكبائر » .26يبدو هذا التبرير مقنعا إلى ح ّد ما إذا ما نظرنا في أحاديث
أخرى فيها نفس الصيغة ،ومن ذلك ما رواه البخاري « :ح ّدثنا إسحاق بن
منصور ،ح ّدثنا عبد الصمد :ح ّدثنا شعبة ،ح ّدثنا عبيد هللا بن أبي بكر :سمع أنسا،
رضي هللا عنه ،عن النبيّ (ص) قال" :الكبائر" وح ّدثنا عمرو ،ح ّدثنا شعبة ،عن
ابن أبي بكر ،عن أنس بن مالك ،عن النبيّ (ص) قال " :أكبر الكبائر :اإلشراك
باهلل ،وقتل النفس ،وعقوق الوالدين ،وقول الزور" أو قال " :وشهادة
الزور" » .27فجعل شهادة الزور من بين أكبر الكبائر ،ولكن من جهة ثانية ،فإنّ
الحديث األوّ ل نلمس فيه تأكيدا على قول الزور ،وهو تأكيد باللفظ وبطريقة القول
كذلك كما ي ّتضح في أحاديث أخرى ،ومن ذلك ما رواه البخاري أيضا « :ح ّدثني
إسحاق :ح ّدثنا خالد الواسطيّ ،عن الجريريّ ،عن عبد الرحمان بن أبي بكرة،
عن أبيه رضي هللا عنه قال :قال رسول هللا(ص) " :أال أنبّئكم بأكبر الكبائر ؟ "
قلنا :بلى ،يا رسول هللا .قال" :اإلشراك باهلل ،وعقوق الوالدين " وكان م ّتكئا
فجلس فقال " :أال وقول الزور وشهادة الزور ،أال وقول الزور وشهادة الزور
" فما زال يقولها ح ّتى قلت :ال يسكت » .28ويذكر ابن حجر العسقالني بمناسبة
شرحه لباب " ما قيل في شهادة الزور " من كـتاب " الشهادات " فـي صـحيح
» قوله " :وجلس وكان م ّتكئا " يشعر بأ ّنه اهت ّم بذلك ح ّتى جلس البـخاري أنّ
بعد أن كان م ّتكئا .ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه .وسبب االهتمام بذلك
كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعا على الناس والتهاون بها أكثر .فإنّ
اإلشراك ينبو عنه قلب المسلم ,والعقوق يصرف عنه الطبع .وأمّا الزور
)23النووي ،المنهاج ،على هامش صحيح مسلم .ج 2م 1ص 238.
)27البخاري ،كتاب الديّات ،باب قوله تعالى " :ومن أحياها " ( المائدة .)52/5
)28البخاري ،كتاب األدب ،باب عقوق الوالدين من الكبائر.
13
فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما ،فاحتيج إلى االهتمام بتعظيمه.
وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من اإلشراك قطعا بل لكون مفسدة
الزور متع ّدية إلى غير الشاهد بخالف الشرك فإنّ مفسدته قاصرة غالبا«.29
إذا كان هذا هو رأي القدامى فإنّ ذلك التأكيد يجعلنا نذهب إلى أنّ مثل
هذا الحديث قد قيل في ظرف معيّن ،أو أ ّنه خاصّ بحادثة بعينها أو أ ّنه إجابة عن
تساؤل مح ّدد .وعلى ك ّل فإنّ ذلك يبقى دائما في إطار االحتماالت ال غير.
صة بالحادثة التي قيل فيها
وانطالقا من ذلك تكون صيغة " أكبر الكبائر " خا ّ
الحديث ،وقد ترتبط بذنوب مختلفة في ظروف مغايرة.
إلى جانب ك ّل ما الحظناه إلى ح ّد اآلن نرى ضرورة التأكيد على أنّ ك ّل
األحاديث التي صرّ حت بالكبائر لم تح ّدد أيّ نوع من العقاب الذي يسلّط على
صاحب الكبيرة ،سواء كان عقابا دنيويّا أو أخرويّا ،كما ال تنصّ األحاديث على
صفة صاحب الكبيرة ،فلم ينسب في الحديث النبوي ال إلى اإليمان وال إلى
الكفر وال إلى غيرهما من الصفات .ولكن ،في هذا السياق ،نقف على أحاديث
تؤ ّكد على كِبر الذنب من خالل عدم غفرانه في الدنيا ،ومن ذلك ما رواه مسلم:
« ح ّدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد األيليّ ،قاال :ح ّدثنا ابن وهب عن أبي
صخر ،أنّ عمر بن إسحاق مولى زائدة ح ّدثه عن أبيه ،عن أبي هريرة ،أنّ
رسول هللا(ص) كان يقول " :الصلوات الخمس ،والجمعة إلى الجمعة ،ورمضان
إلى رمضان ،مك ّفرات ما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر" » .31إنّ ما نالحظه من
خالل هذا الحديث هو تمييزه بين الكبائر والصغائر ال من حيث طبيعتها ،بل من
14
حيث تعلّقها بمسألة الغفران ،وهي مسألة جزائيّة باألساس ولك ّنها جاءت دون
أدنى تفصيل أو توضيح .كما تنصّ أحاديث أخرى على عذاب القبر الذي يرتبط،
فيما يهمّنا هنا ،بالكبائر ،ومن ذلك ما رواه البخاري « :ح ّدثنا عثمان قال :ح ّدثنا
جرير ،عن منصور ،عن مجاهد ،عن ابن عبّاس قال :مرّ النبيّ (ص) بحائط من
ّ
يعذبان في قبورهما فقال حيطان المدينة أو م ّكة ،فسمع صوت إنسانين
عذبان ,وما ّ
يعذبان في كبير " ث ّم قال " :بلى ،كان أحدهما ال النبيّ (ص) " :ي ّ
يستتر من بوله ،وكان اآلخر يمشي بالنميمة " ث ّم دعا بجريدة فكسرها كسرتين
فوضع على ك ّل قبر منهما كسرة ،فقيل له :يا رسول هللا لم فعلت هذا؟ قال " :لعلّه
يخ ّفف عنهما ما لم ييبسا " أو " إلى أن ييبسا"«. 31
15
فعلى هذا يكون المراد بهذا ،الزجر والتحذير لغيرهما ،أي ال يتوهّم أحد أنّ
التعذيب ال يكون إال ّ في أكبر الكبائر الموبقات ،فإ ّنه يكون في غيرهما وهللا
أعلم.33» .
أمام هذه األحاديث وتأويل الفقهاء لها ال يمكننا الخروج بأيّة نتيجة
قطعيّة ،فتبقى النصوص مجلبة تأويل وحمّالة أوجه لدى المسلمين وعلماء الدين
بالخصوص .وما نو ّد التأكيد عليه هنا ،أ ّننا تعاملنا إلى ح ّد اآلن مع المنسوبات
إلى الرسول مع افتراض صحّ تها التامّة في متونها كما في سالسل إسنادها ،ولكنّ
وقوفنا على التضارب في الحديثين األخيرين وهما لنفس الراوي ,ونقصد ابن
عبّاس ،باإلضافة إلى حديث ثالث بروايته كذلك ويختلف عن سابقيْه ،فيه تر ّدد
بين اعتبار عدم التس ّتر من البول والنميمة من الكبائر أم ال .34قد يجعلنا ك ّل ذلك،
نرى ضرورة العودة إلى األحاديث المصرّ حة بالكبائر ،والتي ذكرنا بعضها
سابقا في هذا الفصل ،وذلك بغية الوقوف عليها من جديد لتفحّص كيفيّات
رواياتها بالخصوص.
16
وثمن الكلب وكسب األمة ،ولعن الواشمة والمستوشمة ،وآكل الربا وموكِله ،ولعن
المصوِّ َر« .35إذا ما غضضنا الطرف عن القسم األوّ ل من الخبر الّذي فيه نهي
عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب األمة ،واقتصرنا على القسم الثاني الّذي اقترن
36
بالوشم والربا والتصوير ،نالحظ أنّ هذه المحرّ مات تساوت في فيه اللعن
درجة تحريمها ،ولمّا كان الربا من الكبائر المصرّ ح بها ،كما رأينا في األحاديث
التي أوردناها سابقا ،يكون الوشم والتصوير،بالقياس ،من الكبائر كذلك .قد يبدو
لنا ذلك منطقيّا ولكن حديثا آخر يخ ّل بذلك المنطق ،وهو حديث للراوي عينه
يكرّ ر نفس الخبر بصيغة مخـتلفة » :ح ّدثنا أبو الوليد :ح ّدثنا شعبة ,عن عون بن
أبي جحيفة قال :رأيت أبي اشترى عبدا حجّ اما فأمر بمحاجمه فكسرت ،فسألته،
فقال :نهى النبيّ (ص) عن ثمن الكلب وثمن الدم ونهى عن الواشمة والموشومة،
وآكل الربا وموكله ولعن المصوّ ر« .37في هذا الحديث ،كما نالحظ ،اقترن اللعن
بالمصوّ ر فقط ،في حين كان أكل الربا ضمن المنهيّ عنه فحسب ،وكذلك الوشم.
فإذا سلّمنا بأنّ الربا من الكبائر ،فهل يمكن أن نعتبر النهي واللعن على درجة
واحدة؟ الواضح أنّ ذلك ال يجوز باعتبار أنّ في اللعن معنى سخط هللا وغضبه
وإخراج الملعون من رحمته ،أمّا النهي فال يحتمل معناه ذلك .وأمام هذا التر ّدد
بين اللعن والنهي تبرز لنا ثالثة احتماالت :األوّ ل هو إخراج جميع ما ورد ذكره
في الخبرين عن إطار الكبائر ،وهو احتمال مستبعد باعتبار ورود ذكر الربا وهو
مندرج ضمن األحاديث التي صرّ حت بقائمة من الكبائر .أمّا االحتمال الثاني فهو
إدراج ك ّل ما ذكر ضمن الكبائر .وهذا أيضا مستبعد نظرا إلى أنّ النهي عن أمر
ما ال يقوم دليال كافيا على كبر الذنب .أمّا االحتمال الثالث الّذي نرجّ حه فيتعلّق
برواية الخبر نفسها التي نلمس فيها اضطرابا يتأ ّكد إذا ما نظرنا في صيغ أخرى
17
مختلفة لنفس الخبرين المذكورين ،ومن ذلك ما يرويه البخاري » :ح ّدثنا سليمان
بن حرب :ح ّدثنا شعبة ،عن عون ابن أبي جحيفة قال :رأيت أبي فقال :إنّ
النبيّ (ص) نهى عن ثمن الدم ،وثمن الكلب ،وآكل الربا وموكله ،والواشمة
والمستوشمة« .38في هذا الخبر ال نجد نصّا باللعن كما ال نجد نهيا عن التصوير
وال لعنا للمصوّ رين.
من الواضح أنّ اإلشكال يكمن في رواية الخبر ،كما نالحظ أنّ هذه
األخبار التي سقناها ليست مرفوعة إلى النبيّ باللفظ وإ ّنما هي مرويّات بالمعنى،
صة في مثل هذه الحاالت التي ذكرنا ،فالفرق مثال بين
وهو أمر مه ّم للغاية خا ّ
النهي واللعن كبير ج ّدا قد يغيّر الحكم الشرعي خاصّة إذا ما نظرنا إلى تبعات
ذلك الحكم في الهيئة االجتماعيّة أو كذلك فيما يتعلّق بالجزاء األخروي .ولع ّل
األمر يزداد خطورة حين يتعلّق األمر بمسألة اإليمان ،فقد نجد بعض األعمال
مقترنة بإحدى الكبائر المصرّ ح بها ،وتلتقي معها في صفة نفي اإليمان عن
مرتكبها ،ومن ذلك ما رواه مسلم » :ح ّدثنا حرملة بن يحيى بن عبد هللا بن
ج ِيبي ،أنبأنا ابن وهب ،أخبرني يونس ،عن ابن شهاب ،قال سمعت أبا
عمران الت ِ
سلمة بن عبد الرحمان وسعيد بن المسيَّب يقوالن :قال أبو هريرة :إنّ رسول
هللا(ص) قال " :ال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،وال يسرق السارق حين
يسرق وهو مؤمن ،وال يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " قال ابن شهاب:
فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمان أنّ أبا بكر كان يح ّدثهم هؤالء
عن أبي هريرة ،ث ّم يقول :وكان أبو هريرة يلحق معهنّ " :وال ينتهب ن ْه َب ًة ذات
شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن "« .39وقبل أن
18
نورد األسباب الرئيسيّة التي دعتنا إلى النظر في هذا الحديث نشير بسرعة إلى
أنّ نفي اإليمان فيه ليس جملة بل هو تعبير عن عدم كمال اإليمان كما يبيّن ذلك
ابن حجر العسقالني بقوله » :قيد نفي اإليمان بحالة ارتكابه لها .ومقتضاه أ ّنه ال
يستمرّ بعد فراغه .هذا هو الظاهر« .41أمّا نظرنا فيه فكان أوّ ال أل ّنه نصّ على
ثالثة أعمال اقترنت بكبيرة مصرّ ح بها :أمّا األعمال فهي السرقة وشرب الخمر
والنهبة ،والكبيرة هي الزنا ،وقد تساوت كلّها في درجة حرمتها بنفي تمام اإليمان
عن مرتكبها .ولكن ما يثير االنتباه في الخبر هو ما أضافه ابن شهاب من كون
أنّ أبا هريرة كان ي ْلحق النهبة ،أي إنّ ذلك ليس ممّا يذكره الرسول ،وهو ما
يؤ ّكده النووي في شرحه لهذا الحديث بقوله » :فظاهر هذا الكالم [ أي إضافة
النبي(ص) بل هو
ّ ابن شهاب] أنّ قوله :وال ينتهب ،إلى آخره ،ليس من كالم
من كالم أبي هريرة(ر) موقوف عليه« .41ولع ّل مثل هذا األمر يزيد من تعميق
ك في المرويّات عن الرسول ،ال من حيث روايتها بالمعنى دون اللفظ فقط،
الش ّ
فهذا األمر يوشك أن يكون قطعيّا ،بل كذلك من حيث صحّ ة نسبتها إلى الرسول
على اإلطالق ،وذلك خاصّة إذا وجدنا أحاديث أخرى بنفس المعنى تقريبا وبإسناد
مختلف ال تنصّ على مثل ما رواه أبو هريرة ومن ذلك » :ح ّدثنا محمّد ابن
المث ّنى :أخبرنا إسحاق بن يوسف :أخبرنا الفضيل بن غزوان ،عن عكرمة عن
ابن عبّاس ،رضي هللا عنهما ،قال :قال رسول هللا(ص) " :ال يزني العبد حين
يزني وهو مؤمن ،وال يسرق حين يسرق وهو مؤمن ،وال يشرب حين يشرب
وهو مؤمن ،وال يقتل حين يقتل وهو مؤمن " قال عكرمة :قلت البن عبّاس :كيف
ينزع اإليمان منه؟ قال هكذا ،وشبّك بين أصابعه ،ث ّم أخرجها ،فإن تاب عاد إليه
)21ابن حجر العسقالني ،فتح الباري ،ج ،12ص .23وانظر أيضا ج ,5ص 113
وج ,11ص .522
)21النووي ،المنهاج ,على هامش مسلم ،ج 2م 1ص 251.
19
هكذا ،وشبّك بين أصابعه«.42إنّ اختالف الروايتين كما نالحظ ،قد جلب معه
اختالف الذنوب ،ونبقى من موضعنا مفتقرين ألدوات ترجيح إحدى الروايتين
ّ
تضخم على األخرى .وك ّل ما نستطيع تأكيده هو أنّ هذه الروايات من شأنها أن
عدد الكبائر في ظ ّل إضفاء سمة تقديسيّة على الحديث النبويّ وخاصّة تلك
المرويّات الواردة في الصحيحين ،هذا باإلضافة إلى تنزيه الرواة والدفاع عنهم
وعن ك ّل ما يوردونه من منسوبات إلى الرسول.
لقد حمل حديث ابن عبّاس معه محرّ مات ارتبطت من الناحية الفقهيّة
بشكلين من أشكال الجزاء الدنيوي ،فالزنا والخمر والسرقة ارتبطت بالحدود ،أمّا
القتل فقد اقترن بالقصاص .وإشكاليّة الحدود تبقى من المسائل الدقيقة التي لن
نخوض فيها اآلن باعتبار أ ّننا سن ْفرد لها فصال خاصّا في قسم الحق من هذا
البحث.
بعدما عرضنا لك ّل تلك المنسوبات إلى الرسول والتي نقف فيها على
أحاديث مصرّ حة بالكبائر وأخرى تناولناها ،في هذا السياق ،بالتأويل ،نوجز ما
أمكننا التوصّل إليه إلى ح ّد اآلن في المالحظات المختزلة التالية:
-تع ّدد األحاديث المصرّ حة بالكبائر.
-صيغة األحاديث تد ّل على اقترانها بظروف مخصوصة ،ونعني ما رأيناه من
سمة المحاورة فيها.
-اختالف عدد الكبائر بين األحاديث.
-محدوديّة عدد الكبائر.
)22البخاري ،كتاب المحاربين من أهل الكفر والر ّدة ،باب إثم الزناة .
20
-باستثناء الشرك ،فإنّ بقيّة الكبائر تمسّ الجانب االجتماعي واألخالقي
باألساس.
-وقوفنا على نوع من التراتبيّة فيما بينها.
-غياب التحديد المفهوميّ للكبيرة.
-غياب النصّ على الجزاء األخروي أو الدنيوي لمرتكب الكبيرة.
-غياب النصّ على االسم الشرعيّ لصاحب الكبيرة.
-روايات هذه األحاديث مختلفة وأحيانا متضاربة.
-تعلّق بعض الكبائر بمسألة الحدود.
* * *
21