You are on page 1of 48

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫وصلى هللا وسلم على سيدنا محمد وعلى آله‬


‫وصحبه وسلم تسليما كثيرا‬

‫بحث لنيل شهادة اإلجازة في مادة الدراسات العربية‬


‫تحت عنوان‪ :‬األنساق الثقافية في شعر الرثاء األندلسي‪{ -‬نونية أبي البقاء الرندي نموذجا}‬

‫من إعداد الطالب‪ :‬عبد اللطيف بلعبدية‬


‫تحت إشراف األستاذ‪ :‬د‪ .‬عبد الفتاح شهيد‬
‫الموسم الدراسي ‪2020_2019‬‬
‫عناصر البحث‬

‫‪ -1‬إهداء‬
‫‪ -2‬مقدمة‬
‫‪ -3‬فصل نظري‬
‫‪-4‬ملحق حول الحضارة األندلسية‬
‫‪ -5‬فصل تطبيقي‬
‫‪-6‬تركيب وخاتمة‬

‫‪ -1‬إهداء‬
‫إلى روح والدي العزيز رحمه هللا واسكنه فسيح جناته وجعله في أعلى عليين مع النبيين‬
‫والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا‪ .‬فقد كان رحمه هللا حريصا على أن‬
‫أحفظ كتاب هللا وأن أحصل على درجة علمية رفيعة وشاء هللا أال يتحقق مراده إال بعد‬
‫وفاته؛‬
‫إلى روح والدتي الغالية رحمها هللا وجعلها من حور الجنة؛‬
‫إلى كل من علمني حرفا فصرت له عبدا‪ ،‬إلى أستاذي العزيز المشرف على هذا البحث‪،‬‬
‫الدكتور عبد الفتاح شهيد‪ ،‬وقد آنسنا فيه من نبل األخالق ورصانة العلم وتواضع النفس‬
‫ونزاهة الضمير ما يجعلنا مدينين له وشاكرين لفضله بعد فضل هللا تعالى؛‬
‫إلى من أضناه طلب العلم‪ ،‬إلى كل المدرسين وطلبة العلم الذين بهم تحيى األمم؛‬
‫إلى كل الصابرين والمحتسبين من أصحاب القضايا العادلة؛‬
‫إلى كل إنسان غيور على قضايا اإلنسان في كل أبعادها وتجلياتها أهدي هذا العمل‬
‫المتواضع‪.‬‬
‫‪ -2‬مقدمة‬

‫ظهر النقد الثقافي كبديل للنقد األدبي في الدراسات النقدية الحديثة في إطار التفاعل بين األدب‬
‫والدراسات الثقافية التي غدت سمة العصر الحديث نظرا إلمالءات العصر ومستلزماته من‬
‫تواصل وانفتاح حضاري غذته روح العولمة وضرورة الحوار بين الحضارات‪ .‬جاء إذن‬
‫النقد الثقافي كرديف لما بعد البنيوية ولما بعد الحداثة‪ ،‬وإن اعتبار النقد الثقافي امتدادا للنقد‬
‫األدبي وتطويرا له في إطار التراكم المعرفي والقطيعة اإلبستمولوجية التي تعرفها كل العلوم‪،‬‬
‫لم يمنع الرواد العرب في ميدان النقد الثقافي من القول بموت النقد األدبي وبلوغه سن اليأس‪.‬‬
‫إن الفارق بين النقد األدبي والنقد الثقافي يكمن أساسا في أن الثاني يخرج الدراسة من قطب‬
‫أدبي‪-‬أدبي إلى قطب أدبي‪-‬ثقافي‪ ،‬ثم إن األول إن كان يرى موضوع الدراسة مقتصرا على‬
‫النص األدبي ال غير‪ ،‬فإن الثاني يهتم بكل النصوص الثقافية كيفما كانت تجلياتها بما فيها‬
‫النصوص األدبية وقد أخذ على عاتقه سبر أغوار النصوص األدبية وقراءة ما بين السطور‬
‫معتبرا إياها حادثة ثقافية تنم عن مجموعة من األنساق الثقافية التي تثقن التستر وراء ستار‬
‫الجمالي والبالغي‪.‬‬
‫إن النقد الثقافي هو تمرد على المؤسسة وقيودها وانفتاح على ما هو جماهيري وغير نخبوي‬
‫ينظر إلى الثقافة وفعلها‪ ،‬كيف مررت إلينا أنساقها في غفلة منا فصارت جزءا من هويتنا‬
‫وموجهة لخطاباتنا‪ .‬اليهمه الوقوف مع أدبية األدب بقدر ما يسعى جاهدا الستكناه ما انغرس‬
‫في كيان المبدع بال وعي منه فمر آمنا مطمئنا يستره العمى الثقافي فينكتب حينها في إبداع‬
‫الكاتب مشكال بذلك مفهوم المؤلف المزدوج‪.‬‬
‫شكل التراث األدبي األندلسي موضوعا خصبا للدراسة النقدية الحديثة وخصوصا الجانب‬
‫الشعري منه‪ ،‬وكما أن شعر الرثاء شكل ثروة شعرية تنطوي على الجمالي كما تنطوي على‬
‫الثقافي لما حواه هذا الضرب من قيم عبر من خاللها الشاعر عن المصاب الجلل والرزء‬
‫الفادح الذي تكبدته األمة اإلسالمية في هذا الثغر السليب الذي لم يعد ذكره إال كطيف الخيال‬
‫لكن جرحه غائر ال يكاد يندمل مهما اتسعت الهوة الزمنية بيننا وبينه‪ .‬وألن النقد الثقافي يعد‬
‫من فنون النقد الحديثة فإننا سنروم في هذه الدراسة تحليل نونية أبي البقاء الرندي‪ ،‬وهي‬
‫واحدة من أشهر مرثيات األندلس‪ ،‬تحليال وفق منهجية النقد الثقافي‪.‬‬
‫إن اختيارنا لهذه القصيدة كموضوع للدراسة تبرره عدة أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬شدة تعلقنا بهذا القطر السليب وبما أضافه أهله للحضارة العربية اإلسالمية من‬
‫مكتسبات وخصوصا على مستوى األدب العربي بشقيه الشعر والنثر وقد ولد لدينا‬
‫هذا التعلق بعد دراسة وحدة األدب األندلسي حيث وقفنا فيها على مراحل التقليد‬
‫والتجديد في األدب األندلسي‪.‬‬
‫‪ -2‬اعتقادنا أن شعر رثاء المدن والممالك كفن مستحدث من حيث الغرض‪ ،‬كفيل على أن‬
‫يحوي أكبر قدر من األنساق المضمرة ألن الشاعر سيبكي كل مظاهر التفوق والتميز‬
‫التي حظي بها أهل األندلس‪ ،‬سيبكي جمال الطبيعة والعمران‪ ،‬سيبكي التفوق العلمي‬
‫والنبوغ الفكري وأخيرا سيبكي الدنيا والدين‪.‬‬
‫‪ -3‬مناسبة القصيدة وهي أواخر عهد األندلس تزامنا مع نهاية حكم الموحدين مما يجعلها‬
‫شاهدة على عصرها‪ ،‬معبرة عن النكبة في شموليتها‪.‬‬
‫وقد جاء بحثنا هذا موسوما ب " األنساق الثقافية في شعر الرثاء األندلسي‪{ -‬نونية أبي البقاء‬
‫الرندي نموذجا}"‪ ،‬وكانت خطة البحث كما يلي‪ :‬إهداء ومقدمة ثم فصل نظري ثم فصل‬
‫تطبيقي فخاتمة‪ .‬وقد تناولنا في هذا الفصل النظري مفهوم النسق بين اللغة واالصطالح‪،‬‬
‫ثم وقفنا مع مفهوم النقد الثقافي ومرتكزاته‪ ،‬هذا وقد أفدنا في هذا الفصل النظري من بحث‬
‫جامعي عبارة عن مذكرة لنيل شهادة الماستر من جامعة محمد خيضر بسكرة‪ ،‬كلية اآلداب‬
‫واللغات‪ ،‬قسم اآلداب واللغة العربية‪ ،‬من إعداد الطالبين‪ :‬لعبيدي ونوال دريهم‪ ،‬تحت عنوان‪:‬‬
‫األنساق الثقافية عند الشاعرين ابن الحداد وابن زيدون‪ ،‬وبعد المدخل النظري تناولنا فصال‬
‫تطبيقيا استكنهنا فيه األنساق المضمرة وقد استلهمنا في سبر أغوار األنساق المضمرة على‬
‫مضمون وشكل القصيدة وبالتحديد البنية الضمائرية التي غاب فيها صوت األنا الشاعرة‪.‬‬
‫أضف إلى ذلك أن اهتمامنا باألنساق كان اهتماما مزدوجا حيث تتبعنا أنساق األنا كما تتبعنا‬
‫نسق ثقافي محوري يحرك اآلخر المعتدي مثلما يمسك بتالبيب النص الشعري وهو نسق‬
‫البطش‪ .‬كما أرفقنا هذا البحث بملحق عن الحضارة األندلسية يتموضع بين نهاية الفصل‬
‫النظري وبداية الفصل التطبيقي تناولنا فيه بعض مظاهر الحضارة األندلسية وبعض الشعراء‬
‫المرموقين كما عرفنا فيه بالشاعر وبسياق القصيدة قيد الدراسة ثم أكملنا هذه الدراسة بخاتمة‬
‫وتركيب‪.‬‬
‫‪ -3‬فصل نظري‬

‫‪-1‬النسق الثقافي بين الداللة واالستعمال النقدي‬


‫‪ -2‬مفهوم النقد الثقافي ومرتكزاته‬

‫‪-1‬النسق الثقافي بين الداللة واالستعمال النقدي‬


‫أ‪-‬التعريف اللغوي‬
‫تشير المعاجم القديمة إلى أن النسق من كل شيء‪ :‬ما كان على نظام واحد عام في األشياء‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ونسقته نسقا ونسقته تنسيقا وتقول‪ :‬انتسقت هذه األشياء بعضها إلى بعض أي تنسقت''‬
‫أما في لسان العرب فقد جاء التعريف بنوع من التفصيل في قوله‪« :‬النسق من كل شيء ما‬
‫كان على طريقة نظام واحد عام في األشياء‪ ،‬ونسقه نظمه على السواء‪ ،‬وانتسق هو وتناسق‪،‬‬
‫واالسم النسق‪ ،‬وقد انتسقت هذه األشياء بعضها إلى بعض‪ ،‬أي تنسقت‪ ،‬والنحويون يسمون‬
‫)‪(2‬‬
‫حروف العطف حروف النسق ألن الشيء إذا عطفت عليه شيئا بعده جرى مجرى واحدا"‬
‫ويظهر من التعريفين السابقين أن النسق هو انتظام الشيء وفق طريقة واحدة‪ ،‬وتبعا لذلك يكون‬
‫معنى النسق الذي جمعه أنساق في اللغة العربية‪ ،‬نظام األشياء وتتابعها وعطفها على بعضها‬
‫وهكذا تحدد داللة النسق لغويا بنظام األشياء او تتتابعها وتتاليها في نظام واحد‪.‬‬
‫أما في اليونانية القديمة (‪ )système‬التنظيم والتركيب والمجموع ومن تم تحيل هذه الكلمة على‬
‫النظام والعناصر واألجزاء‪ ،‬ومن تم "فالنسق عبارة عن نظام بنيوي كلي جامع والمالحظ أن‬
‫المعنى اللغوي في المعاجم األجنبية ال يخرج عن إطار التنظيم والترابط أيضا‪.‬‬

‫ب‪-‬النسق اصطالحا‬
‫شكل مصطلح النسق مفهوما أساسيا في الممارسة النقدية الحديثة حيث أفاد منه النقد الثقافي كآلية‬
‫تمكنه من الغوص في المكنونات الثقافية التي تضمرها النصوص األدبية‪.‬‬
‫إن أول من استعمل هذا المصطلح هو اللساني السويسري فرديناند دو سوسير‪ ،‬حيث عرف اللغة‬
‫بقوله‪" :‬اللغة نسق من العالمات يعبر عن األفكار‪ ،‬ولهذا فهي مشابهة لنسق الكتابة وأبجدية الصم‬
‫والشعائر الرمزية وصيغ المجاملة وإلشارات العسكرية ولكنها أعظم أهمية من هذه األنساق"‪.‬‬
‫أما علماء الغرب الذين جاؤوا بعد سوسير‪ ،‬فإنهم استعملوا البنية ألنهم وجدوا أن الجمع والتأليف‬
‫الوحدات اللغوية شبيه بفعل البناء‪ ،‬لذا فإن مفهوم النسق اصطالحا ينطوي على مستوى معين من‬
‫مفهوم النظام‪ ،‬وفي الوقت نفسه ينطوي على مستوى معين من مفهوم األجزاء‪ ،‬وعليه فإننا نقر‬
‫بوجود تعالق بين البنية والنسق والنظام‪.‬‬
‫إن ما جاء به النقد الغربي من أفكار حول مفهوم البنية والنسق والنظام ال يبتعد كثيرا عما توصل‬
‫إليه علماء اللغة العرب ويحضرنا في هذا الباب جهود البالغي الجرجاني في نظرية النظم " أن‬
‫تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله‪ ،‬وتعرف مناهجه التي‬
‫(‪)3‬‬
‫نهجت‪ ،‬فال تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك‪ ،‬فال تخل بشيء منها‪".‬‬

‫‪ 1‬الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ ،‬تحقيق عبد الحميد هنداوي‪ ،‬ج‪-4‬دار الكتب العلمية بيروت لبنان‪ ،‬ط‪1424 1‬ه‪2003،‬م‪ ،‬ص‪218‬‬
‫‪ 2‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬باب القاف‪ ،‬دار صادر بيروت‪ ،‬ص‪-352 ،353‬‬
‫‪ 3‬عبد القاهر الجرجاني‪ ،‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬تعليق السيد محمد رشيد رضا‪ ،‬دار المعرفة بيروت ط‪ 2001 ،1‬ص ‪336‬‬
‫إن االنطباع حول تقارب كل من البنية والنسق والنظام هو ما نلمسه كذلك عند علماء اللسان‬
‫العرب المحدثين كما عند صالح فضل حيث يقول في تعريفه للبنية "هي الطريقة التي تتكيف بها‬
‫األجزاء لتكون كال سواء كان جسما حيا أو معدنيا أو قوال لغويا‪ ،‬ويقول أيضا‪ :‬ربما يكون تعريف‬
‫(‪)1‬‬
‫البنية عموما بانها كل مكون من ظواهر متماسكة‪ ،‬يتوقف كل منها على ما عداه"‬
‫وقد اهتم الغذامي في كتابه الخطيئة والتكفير بالمفاهيم البنيوية ولم ينظر إلى البنية كأجزاء مستقلة‪،‬‬
‫بل كهيكل مترابط وهو ما يعرف عنده بالشمولية فهي تعني التماسك الداخلي للوحدة‪ ،‬بحيث تصبح‬
‫كاملة في ذاتها‪.‬‬
‫أما عند علماء االجتماع فإن بارسونز تالكوت يرى بأن النسق «نظام ينطوي على أفراد فاعلين‬
‫تتحدد عالقتهم بمواقفهم وأدوارهم التي تنبع من الرموز المشتركة والمقررة ثقافيا في إطار هذا‬
‫النسق وعلى نحو يغدو معه النسق أوضح من مفهوم البناء االجتماعي"(‪ ،)2‬وعليه فالنسق عنصر‬
‫مشترك بين أفراد المجتمع الواحد الذين تربطهم ثقافة واحدة‪ ،‬فهو نظام يخضع له الجميع‪ ،‬وإجماال‬
‫فإن النسق الذي جمعه أنساق يمكن حصره في تتابع األشياء في نظام واحد‪ ،‬ولكن الدارسين نظروا‬
‫لهذا المفهوم انطالقا من خلفياتهم األبستمولوجية ‪ ،‬فهناك من نظر له من خلفيته اللسانية‪ ،‬وآخر‬
‫عرفه حسب نظرته الفلسفية‪ ،‬وهناك من استعار المصطلح في مجال األنثروبولوجيا كالعالم كلود‬
‫ليفي شتراوس الذي يعتبر البنية «نسقا يتألف من عناصر من شأن أي تحول يعرض للواحد منها‪،‬‬
‫(‪) 3‬‬
‫أن يحدث تحوال في باقي العناصر األخرى"‬
‫ج‪-‬تعريف النسق الثقافي‬
‫في ميدان النقد الحديث‪ ،‬ناقشت المناهج النقدية الجديدة منذ الشكالنيين الروس إلى‬
‫البنيويين أمر النسق المغلق والنسق المفتوح‪ ،‬أي هل تتم دراسة الخطاب في ضوء مرجعيا ته‬
‫التاريخية أو االجتماعية أو النفسية أو األخالقية أم تدرس أدبيته‪ ،‬األسلوبية والتركيبية والداللية‬
‫بمعزل عن تلك المرجعيات؟ وقد مالت البنيوية نحو الطرح الثاني‪ ،‬فاالهتمام بمفهوم النسق يعزى‬
‫إلى تحول بؤرة اهتمام التحليل البنيوي عن الذات أو الوعي الفردي من حيث ما يشكالنه من‬
‫مصدر للمعنى‪ ،‬إلى التركيز على أنظمة الشفرات النسقية التي تنزاح فيها الذات عن المركز‪ ،‬لذلك‬
‫فإنه في البنيوية يرتبط مفهوم النسق ارتباطا وثيقا بمفهوم الذات المزاحة عن المركز‪.‬‬
‫وقد شجعت المقاربات السردية واللسانيات البنيوية الخطاب النقدي على البحث عن النسق األدبي‬
‫انطالقا من فكرة الكلية والعالقة التي تجمع عناصر النص األدبي وتجدر اإلشارة أن النسق في‬
‫تدرجه من مفهومه اللساني إلى حموالته األدبية‪ ،‬ظل مفهوما شكليا يعنى بنظام التركيب‬
‫الخارجي‪ ،‬فهو مع كونه معيارا من معايير النظر إلى النص األدبي في مناهج النقد الحديثة‪ ،‬إال‬
‫أنه ظل يعني الشكل التعبيري للنص أو قواعد التعبير ومواصفاته في داخل جنس أدبي ما‪ .‬وإذا‬
‫ما غادرنا المعنى العام للنسق‪ ،‬للحديث عن معناه الخاص في النقد الثقافي سنجد أن النقد الثقافي‬

‫‪ 1‬صالح فضل‪ ،‬نظرية البنائية في النقد األدبي‪ ،‬منشورات دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دط‪ ،‬دت‪ ،‬ص‪-176‬‬
‫‪ 2‬عبد الرحمن طه‪ ،‬اللسان و الميزان أوالتكوثر العقلي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،1998 ،1‬ص‪34‬‬
‫‪ 3‬عز الدين المناصرة‪ ،‬علم الشعريات‪ ،‬قراءة مونتاجية في أدبية األدب‪ ،‬دار مجالوي‪ ،‬عمان ط‪2007 ،1‬م‪ ،‬ص‪540‬‬
‫استثمر ذلك المفهوم العام اللساني واألدبي للنسق ولكنه اتجه به وجهة أخرى غير الوجهة‬
‫المعروفة ‪.‬فالنسق على وفق النقد الثقافي هو نسق ثقافي ‪ ،‬ال يتمثل في اللغة وال يتمثل في تركيبة‬
‫النص األدبي ونظامه الذي يشترك فيه مع أبناء جنسه‪ ،‬لكنه نسق داللي يمثلُه مضمونُ النص‬
‫الثقافي وحموالته الثقافية فالنسق الثقافي تشكله مجموعة من القيم المتقنعة خلف ظاهر النصوص‬
‫والخطابات والممارسات‪ ،‬إنه مجال مشبع بالمعاني واألفكار والعقائد وأنماط ا لعالقات‬
‫االجتماعية والتطلعات والمؤثرات الفاعلة كافة التي تشكل الهوية العامة والذاكرة الجمعية‬
‫لمجتمع من المجتمعات‪ ،‬ومن هنا تتجلى أهمية النقد الثقافي في اإلحاطة بحموالت هذا النسق‬
‫الثقافي وهي حموالت توسم بكونها كثيرة متنوعة ومركبة من عناصر إيجابية وسلبية‪ ،‬تتجلى في‬
‫شكل أحكام أو رغبات كما تتمظهر في أساليب الرفض والذم والتجنيس واإلكراه أو في أساليب‬
‫القبول واالحتفاء والتمجيد ‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن كل مجتمع له تركيبته الثقافية التي تحدد األنماط الوجودية ألفراده‪ ،‬وتتجلى هذه‬
‫التركيبة من خالل الخطاب الذي ينتجه اإلنسان حيث تتجلى عبر مجموعة من األنساق التي توسم‬
‫بالثقافية ولقد استخدم كلي فورد غيريتس مصطلح النسق الثقافي حيث وجه بحثه إلى النظر في‬
‫األنظمة االجتماعية الحاكمة لألفراد والجماعات‪ ،‬بوصفها أنساقا ثقافية كالدين واإليديولوجيا‪،‬‬
‫فمهوم النسق عنده يتجاوز مفهوم البناء االجتماعي إذ عد الثقافة "مجموعة من األنظمة المحسوسة‬
‫(‪)1‬‬
‫وسلوكيات اإلنسان ‪،‬والتقاليد االجتماعية"‬

‫أما الناقد عبد هللا الغذامي‪ ،‬فيعرف مصطلح النسق الثقافي في قوله‪« :‬واألنساق الثقافية هذه أنساق‬
‫تاريخية وأزلية وراسخة ولها الغلبة دائما‪ ،‬وعالمتها هي اندفاع الجمهور إلى استهالك المنتوج‬
‫الثقافي المنطوي على هذا النوع من األنساق‪ ،‬وقد يكون ذلك في األغاني‪ ،‬أو في األزياء أو‬
‫الحكايات واألمثال مثلما هو في األشعار‪ ،‬واإلشاعات والنكث‪ ،‬كل هذه الوسائل هي حيل بالغية‬
‫جمالية تعتمد المجاز‪ ،‬وينطوي تحتها نسق ثقافي‪ ،‬ونحن نستقبله لتوافقه السري‪ ،‬وتواطئه مع نسق‬
‫قديم منغرس فينا"(‪. )2‬إنه أيضا فضاء مشبع بالمعاني الدينية واالجتماعية والسياسية الخاصة‬
‫بمجتمع ما‪ ،‬وعليه فالضامن في رصده هو توارده وتكرار ظهوره داخل ثقافة مجتمع ما‪.‬‬
‫أما كلود ليفي شتراوس فقد نقل مصطلح النسق إلى المحيط الثقافي ليطرح فكرة أن األبنية‬
‫االجتماعية الملموسة‪ ،‬والظواهر االجتماعية المختلفة إنما هي محكومة ببنيات وقوانين خفية كامنة‬
‫(‪) 3‬‬
‫في الالوعي اإلنساني‪ ،‬وهو ما يقتضي بحثا صريحا في البنيات الثابتة في العقل نفسه"‬

‫‪ 1‬سعد علي جعفر المرعب‪ ،‬النسق األنثوي في ديوان علية بنت المهدي‪ ،‬مجلة مركز بابل للدراسات اإلنسانية‪ ،‬م‪ ،8‬ع‪ ،2018 ،4‬ص‪54‬‬
‫‪ 2‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬ص‪76‬‬
‫‪ 3‬سعد علي جعفر المرعب‪ ،‬النسق األنثوي في ديوان علية بنت المهدي‪ ،‬ص‪55‬‬
‫ويمكن تحديد النسق الثقافي بأنه تلك العناصر المترابطة والمتفاعلة كالفنون واألخالق والدين‬
‫والسياسة والعادات األخرى التي يكتسبها اإلنسان في مجتمع معين‪ ،‬وعليه فإن رصده مشروط‬
‫بوجوده داخل مجتمع ما‪.‬‬
‫د‪-‬أنواع األنساق الثقافية‬
‫تتعدد األنساق الثقافية داخل المجتمع حيث يمكن أن نحصر مجموعة من األنساق المتداخلة‬
‫والمتفاعلة والمنضوية تحت نظام شمولي أعم هو النسق االجتماعي؛ وهكذا نميز النسق الديني‬
‫واألخالقي والفني واإليديولوجي وغيرها من األنساق‪ .‬إال أنه في عالم النقد ومن حيث الكيف فإننا‬
‫إزاء نوعين من األنساق حيث نسجل أن هذه األنساق تتعالى وتبرز‪ ،‬وتارة تأفل وتختفي مشكلة‬
‫بذلك نوعين بارزين هما النسق الظاهر والمضمر‪.‬‬
‫يمكن رصد النسق الثقافي من خالل تمظهرين‪ :‬النسق الظاهر المعلن واآلخر النسق المضمر‬
‫الخفي‪ ،‬وهما متالزمان‪ ،‬متعارضان‪ ،‬متناقضان ومتجادالن داخل النصوص الثقافية ال يكاد‬
‫أحدهما يفارق اآلخر‪ ،‬والوظيفة النسقية هي النتيجة الحتمية لهذا التعارض والتناقض‪ .‬فهي ال‬
‫تحدث داخل النص الثقافي إال عندما يتعارض نسقان من أنساق الخطاب‪ ،‬أحدهما ظاهر واآلخر‬
‫مضمر‪ ،‬ويكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر ومدار االهتمام في النقد الثقافي هو النسق‬
‫المضمر‪ ،‬أما النسق الظاهر فال يعد سوى وسيلة يهتدى بها للكشف عن المضمر التاوي خلفه‪،‬‬
‫وتزداد أهمية الظاهر بقدر ما يتضمن من إلماح أو إيحاء بالنسق المضمر الكامن المخالف‬
‫للظاهر‪ ،‬لذا فالنقد الثقافي يعنى عناية فائقة بالنسق المضمر‪ ،‬ويتوجس من خطورته‪ ،‬وتكمن‬
‫خطورته في كونه كامنا حيث يمارس تأثيره دون رقيب‪ ،‬متوسال بالعمى الثقافي لضمان ديمومته‬
‫وفاعليته‬
‫‪1‬د‪-‬النسق الظاهر‬
‫إن النص األدبي يشكل مادة خاما وللقارئ كامل الحرية في تحليلها وتطويعها وفق المنتوج الثقافي‬
‫البارز والكامن داخلها وهذا هو رأي كرين بالت حيث يقول" إذا أردنا قراءة نص ما‪ ،‬علينا أن‬
‫نستعيد القيم الثقافية التي امتصها النص األدبي وبهذه الطريقة أعلن كرين بالت فاعلية الثقافة‬
‫حيث تتحول إثرها الخطابات إلى حوادث نسقية"(‪ )1‬وبالتالي ما على القارئ في تحليله الثقافي‬
‫للنصوص سوى استجواب هذه النصوص من خالل ما بدا له من أنساق ومن هنا يظهر لنا جليا‬
‫أن النسق الثقافي له تمظهران في النصوص الثقافية‪ ،‬هما النسق الظاهر المعلن واآلخر هو النسق‬
‫الخفي المضمر‪ .‬إن النسق الظاهر في النص األدبي مثال هو ما تقوله اللغة بكل مستوياتها الصوتية‬
‫والفونولوجية والصرفية والتركيبة والداللية والتداولية‪ .‬إن البحث في النسق الظاهر هو البحث‬
‫في معنى النص وفي جماليته وفي شكله وبنيته‪ ،‬وفي هذه الحال ال يتجاوز هذا البحث على مستوى‬
‫الداللة موضوعين هما في واقع األمر من صلب اهتمامه من حيث موضوع الداللة وهما الداللة‬
‫المباشرة والضمنية أو الحرفية وا لمجازية‪ .‬وهذا الحد من البحث هو أقصى ما يجود به النسق‬

‫‪ 1‬يوسف عليمات‪ ،‬النسق الثقافي قراءة في أنساق الشعر العربي القديم‪ ،‬عالم الكتاب الحديث‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪1430 ،1‬ه‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪8‬‬
‫الظاهر الذي يبقى في ميزان النقد الثقافي قاصرا وعاجزا ال حول له وال قوة‪ .‬إال أن ما ينبغي‬
‫التأكيد عليه هو أن النسق الظاهر وإن لم يحفل به في الخطاب النقدي إال أنه يعد وسيلة للكشف‬
‫عن النسق المضمر الثاوي خلفه‪.‬‬
‫‪2‬د‪-‬النسق المضمر‬
‫يعد النسق المضمر مفهوما مركزيا في مشروع النقد الثقافي‪ ،‬إنه "عبارة عن أقنعة تختفي من‬
‫تحتها األنساق‪ ،‬وتتوسل بها لعملها الترويضي"‪ ،1‬كما يمكن أن يكون للنسق المضمر مفهوم آخر‬
‫أيضا ال يبتعد عن هذا المفهوم بأنه "كل داللة نسقية مختبئة تحت غطاء الجمالي ومتوسلة بهذا‬
‫الغطاء لتغرس ما هو جمالي في الثقافة"‪ .2‬إن النسق الثقافي يتحرك وفق خاصة التخفي والتستر‪،‬‬
‫وبما أنه مدار االهتمام في النقد الثقافي فقد عني به أيما عناية" فالنسق الثقافي خطر وتكمن‬
‫خطورته في كونه كامنا حيث يمارس تأثيره دون رقيب وهو يتوسل بالعمى الثقافي لضمان‬
‫ديمومته و فاعليته "‪ 3‬وهذا النوع ليس من صنع المؤلف مهما بلغ حذقه ومهارته ومهما حضر‬
‫وعيه‪ ،‬لذلك فهو يتقن االختباء متوسال في ذلك عبارات مختلفة ذات صبغة جمالية في الغالب‬
‫األعم وعليه فإن النسق من حيث هو داللة مضمرة‪ ،‬فإن هذه الداللة ليست مصنوعة من مؤلف‪،‬‬
‫ولكنها منكتبة ومنغرسة في الخطاب ومؤلفاتها الثقافية‪ ،‬ومستهلكوها جماهير اللغة من كتاب‬
‫وقراء‪ ،‬يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير‪ ،‬والنساء مع الرجال والمهمش مع المسود"(‪ )4‬يملك‬
‫هذا النسق قدرة هائلة على التخفي خلف أقنعة كثيرة أهمها «قناع الجمالية اللغوية‪ ،‬وعبر البالغة‬
‫وجمالياتها تمر األنساق آمنة مطمئنة من تحت هذه المظلة الوارفة‪ ،‬وتعبر العقول واألزمنة‪ ،‬فاعلة‬
‫(‪) 5‬‬
‫ومؤثرة"‬
‫إن اهتمام النقد الثقافي بالنسق المضمر حول وظيفة النقد من نقد النصوص والعناية بجمالياتها‬
‫األسلوبية والبنائية الى استخراج األنساق المطمورة فيها‪.‬‬
‫والنسق المضمر كما تشير المعاجم العربية ترتبط داللته باإلضمار واإلخفاء من أضمر األمر‬
‫أخفاه ولكن هذا اإلضمار ال يعني غياب المضمر أو إنهاء وجوده كما أن االخفاء قد يكون مقصودا‬
‫وقد ال يكون كذلك‪ ،‬وفي النسق الثقافي كثيرا ما يكون اإلضمار غير مقصود‪.‬‬
‫إن الركيزة اللغوية باعتبارها معلومة مقولية معضدة بمعلومة خارج مقولية هي ما يتكئ عليه‬
‫الدارسون في مهمتهم لسبر أغوار النصوص األدبية من حيث حموالتها الثقافية‪ ،‬والغذامي‬
‫يستند كثيرا فيى هذا االتجاه في تحليالته لألنساق المضمرة بالتمظهرات النحوية والمعجمية‬
‫النصية‪ .‬إن دراسة األنساق اللغوية داخل نصوص الثقافة مهمة جدا إلدراك األنساق الثقافية سواء‬
‫ظاهرها ومضمرها‪ ،‬فاللغة تمنح الثقافة معناها الجوهري ‪ ،‬فالنسق اللغوي ايديولوجيا‪ ،‬ومؤسسة‬

‫‪ 1‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪78‬‬


‫‪ 2‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬عبد النبي صطيف‪ ،‬نقد ثقافي أم نقد أدبي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪33‬‬
‫‪ 3‬عبد هللا إبراهيم‪ ،‬المطابقة واالختالف‪ ،‬بحث في نقد المركزيات الثقافية‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،2004 ،1‬‬
‫ص‪541‬‬
‫‪ 4‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪79‬‬
‫ا‪ 5‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪79‬‬
‫لالتصال الجمعي‪ ،‬وإطار لنظام الخطاب داخل الثقافة‪ ،‬فالمقاربة اللغوية‪-‬الثقافية هي ما يسمح‬
‫بفهم أعمق لألنساق اللغوية بماهيتها المزيفة المعلنة‪ ،‬وبأيدولوجيتها الحقيقية المضمرة ‪ ،‬والحال‬
‫هذه فإن المتلقي وهو يحاول رصد النسق المضمر واستخراجه قد يواجه بعض الصعوبة ما لم‬
‫يتسلح بترسانة من الكفاءات منها الكفاءة األلسنية أي المعلومات المتعلقة بالنظام اللغوي والكفاءة‬
‫الموسوعية أي المتعلقة بالسياق الخارج عن الكالم‪ ،‬والكفاءة البالغية التداولية التواصلية‪ ،‬أي‬
‫قوانين الخطاب والكفاءة المنطقية‪ .‬فالمعلومات الداخلية القولية واألخرى الخارجية غير القولية‬
‫التي توفرها تلك الكفاءات تقدم للمتلقي معلومات مهمة جدا في تعرف األنساق الثقافية المضمرة‬
‫واالستدالل عليها وتحليلها ‪ .‬لقد أوجد النقد الثقافي‪ ،‬نوعه الخاص من القراءة وهو ما تمثل بمسمى‬
‫القراءة الثقافية إنها القراءة التي تتعدى حدود النظر إلى األدب بوصفه قيمة جمالية صرفة‪ ،‬وتوسع‬
‫مفهوم النص من فضاءات اللغة والبالغة والبناء المؤثر‪ ،‬الى فضاء السياق الثقافي بتنوعاته؛ وهذا‬
‫ما يحررها من منطلقات القراءة النصية الصرفة التي أوجدتها النظريات النقدية المعاصرة التي‬
‫عرفت بالداخلية أو النصية غير أن هذا التحرر ال يعني بالضرورة االستغناء عن اتجاهات القراءة‬
‫المتعارف عليها في النقد الحداثي أو إلغاءها كلية‪ ،‬بل يعني اإلفادة منها بوصفها مرحلة مهمة من‬
‫مراحل تطور معالجة النص ال ينبغي الركون إليها وإنما تجاوزها بالتحرك نحو مستويات الداللة‬
‫الثقافية للمعنى‪" .‬فالقراءة الثقافية ال تبحث عن معنى يكمن في قلب الشاعر كما قال القدماء‪ ،‬وال‬
‫عن معنى في بنية النص كما يرى البنيويون الغربيون‪ ،‬وال عن معنى عند القارئ كما يرى‬
‫الحداثيون‪ ،‬بل تبحث عن داللة تنجم عن التفاعل الخالق بين عناصر الثقافة والعناصر األدبية‬
‫داخل النص‪ 1".‬والقراءة الثقافية تتحدد بشيء من الدقة والوضوح إذا ما قورنت بالقراءة األدبية‪،‬‬
‫فإذا كانت القراءة األدبية ينظر إليها بكونها عالقة بين قارئ ونص تهدف إلى المتعة الجمالية‪ ،‬أو‬
‫إلى الكشف عن المكونات الجمالية لهذا النص‪ ،‬فإن القراءة الثقافية هي عالقة بين كل ما يمكن‬
‫أن يكون موضوعا للمعرفة والفهم والقراءة من نصوص وبشر وعادات وتقاليد وأزياء ورؤى‬
‫تمثل ثقافة ذلك القارئ‪ ،‬أو مكونات ثقافة أُخرى؛ واذا كانت معايير النوع األدبي والجماعات‬
‫التأويلية وأفق الفهم‪ ،‬هي ما يوجه القراءة األدبية‪ ،‬فإن القراءة الثقافية يحكمها ما يسميه عبد هللا‬
‫الغذامي باألنساق الثقافية ‪ .‬فالقارئ الثقافي يتعامل مع البشر واألشياء وكل النصوص ذات‬
‫الحموالت الثقافية من حوله من خالل األنساق الثقافية التي يدركها ويعيشها‪ ،‬أي أنها حسب‬
‫منظور النقد الثقافي‪ ،‬وسيلة لمقاربة النصوص الثقافية مقاربة معرفية في ضوء سياقاتها التاريخية‬
‫والثقافية التي أنتجتها‪ ،‬باعتبار‪ ،‬أن النصوص تتضمن في بناها أنساقا مضمرة ومخاتلة قادرة‬
‫على المراوغة والتقنع‪ ،‬وال يمكن الوصول إليها وال إلى دالالتها إال بالتوسل بتصور كلي لطبيعة‬
‫البنى التركيبية لثقافة المجتمع‪ .‬فالنص األدبي من وجهة نظر هذا النوع من القراءة يغدو داال‬
‫على الثقافة‪ ،‬وهو كذلك خزان ثقافي يختزل السلوكيات والممارسات والمفاهيم الثقافية السائدة في‬
‫عصر المبدع والعصور السابقة فيى لغة مراوغة ال تستقر على معنى‪ .‬إن التمكن من الثقافة‬
‫ومكوناتها ومعرفتها معرفة دقيقة يجعل القراءة الثقافية قادرة على القيام بمهامها حينما تشتغل‬
‫على النصوص الثقافية كما يجعلها قريبة جدا من تحقيق ما تطمح إليه من وراء تناولها لهذه‬

‫‪ 1‬عبد هللا حبيب التميمي‪ ،‬سحر كاظم حمزة الشجيري‪ ،‬دونية المرأة في المجتمع الجاهلي وفوقيتها في الشعر‪ ،‬مجلة بابل للعلوم اإلنسانية‪ ،‬م‪،22‬‬
‫ع‪ ،2014 ،4‬ص‪319‬‬
‫النصوص‪ ،‬و نقطة البداية الحقيقية في التحليل الثقافي ألي خطاب‪ ،‬هي مساءلة البنى الثقافية‬
‫العميقة التي صاغت رؤية المؤلف داخل الخطاب وتحليلها‪ ،‬لهذا تعول القراءة الثقافية كثيرا على‬
‫معرفة القارئ بالثقافة وامتدادها داخل النصوص‪ ،‬وتنيط بها دورا مهما في تأويل المعنى‪ ،‬فالقارئ‬
‫ينطلق من اإللمام بعصور النصوص ومؤلفيها‪ ،‬ألن ذلك ييسر له مهمة كشف األنساق‬ ‫إذن‬
‫أكثر مما لو فقد القارئ ذلك اإللمام‪ .‬والمؤلف في قاموس القراءة الثقافية يعد مبدعا قادرا على‬
‫فهم سياقات الثقافة ووظائفها وذلك لتماسه مع تاريخها و مفرداتها‪ ،‬لذلك فإن معرفة التكوين الثقافي‬
‫للمبدع‪ ،‬وانتمائه الطبقي واالجتماعي‪ ،‬إضافة إلى سياقات عالقاته واحتكاكه مع المؤسسة‬
‫األيديولوجية أو الدينامية الفكرية في عصره لها من األهمية ما يبوئها مكان الكشف عن التغلغل‬
‫النسقي في الخطاب األدبي حيث يصبح المؤلف حلقة الوصل بين الثقافة والنص‪ ،‬والمعبر الذي‬
‫تتسلل من خالله كل مضامين الثقافة لتسقر في النص‪ ،‬فالثقافة والمؤلف والنص تشكل اهتمام‬
‫القارئ عند شروعه بقراءته الثقافية وصوال إلى استنباط المعنى الذي يروم الوقوف عليه‪ .‬ولكي‬
‫يتسنى للقارئ هذا األمر البد له من معرفة باللغة وإلمام بنسقيتها‪ ،‬فإحاطة القارئ باللغة وبآليات‬
‫اشتغالها يعد الركيزة األساسية من آليات القراءة الثقافية والقراءة األدبية كذلك‪ ،‬فاللغة أساس‬
‫المعنى‪ ،‬واللغة هي أول عتبة يلجها الناقد ويتكئ على أسرارها ونظامها وحيثياتها وجزئياتها‬
‫وكلياتها للتعرف على النص وهي مربض الفرس في اشتغاله على النصوص وعلى اللغة قبل كل‬
‫شيء يعول القارئ كثيرا في الوصول إلى مضامين الثقافة وحموالتها النسقية‪.‬‬
‫إن ما تجدر اإلشارة إليه هو أن القراءة الثقافية تستدعي كثيرا نشاط القارئ‪ ،‬وحيث أن القارئ‬
‫مكيف الذوق‪ ،‬فهو يقرأ في النص وفق ذوقه قبوال ورفضا ومن ثم يؤول مكونات النص بحسب‬
‫توجهاته‪ .‬وهذا ما يذهب إليه عبد الفتاح كليطو إذ يقول" القارئ يقرأ النص انطالقا من اهتمامات‬
‫تخصه أو تخص الجماعة التي ينتمي إليها‪ .‬القارئ يهدف دائما من خالل قراءاته إلى غاية إلى‬
‫‪1‬‬
‫غرض"‬
‫وأخيرا في هذا الباب إذا كان النسق المضمر في النقد الثقافي هو نسق مركزي كونه منغرسا في كل‬
‫ثقافة بطريقة مهيمنة‪ ،‬وكانت مهمة النقد الثقافي هي تتبع هذه األنساق واستخراجها من بين ركام األبنية‬
‫الجمالية والفنية والمضامين الصريحة والمباشرة في النصوص‪ ،‬حيث يتعلق األمر بقراءة ما بين‬
‫السطور وإظهار المضمر وكشف المستور‪ ،‬فما هو إذن النقد الثقافي وما هي أهم مرتكزاته وهو‬
‫يتصدى لهذه المهمة؟‬
‫‪ -2‬مفهوم النقد الثقافي ومرتكزاته‬
‫برز النقد الثقافي في إطار مشروع نقدي تفاعلي قاده األمريكي فينسنت ليت(‪،2)V.LEITCH‬‬
‫حيث نظر إلى األشكال النقدية السائدة من النقد الجمالي والفني والسيميائي والبنيوي التفكيكي‬
‫كأشكال متجاوزة ومستنفذة لرصيدها المعرفي إزاء التحوالت والمعارف الثقافية التي أصبح‬
‫‪ 1‬المنهجية في األدب والعلوم اإلنسانية‪ ،‬عبد الفتاح كليطو‪ ،‬دار توبقال الدار البيضاء ‪ -‬المغرب‪ ،‬ط‪2‬‬
‫‪.89 :1993‬‬
‫‪ )Vincent. b. leitch( 2‬فنسنت ب ليتش ناقد أمريكي ‪ ،‬أول من دعا سنة ‪ 1985‬إلى مشروع نقدي ‪ ،‬يحرر النقد المعاصر من نفق النقد‬
‫الشكالني ‪ ،‬و يم ّكن النقاد من تناول مختلف أوجه الثقافة ‪ ،‬السيما التي أهملها النقد األدبي‪ .‬ينظر‪ :‬أنسام محمد راشد‪ ،‬النقد الثقافي من فوكو إلى‬
‫عبد هللا الغذامي‪ ،‬مجلة كلية التربية ابن رشد‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،2014 ،‬ص‪18_17 :‬‬
‫يعيشها العالم وهكذا تشكلت اإلرهاصات األولى لبروز النقد الثقافي في ثمانينيات القرن الماضي‬
‫خصوصا مع كتابه الموسوم ب"النقد األدبي األمريكي" سنة ‪ 1988‬حيث استعمل هذا المصطلح‬
‫وجعل ه رديفا لمصطلح ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية‪ ،‬ليجعل مهمته "تمكين النقد من الخروج‬
‫(‪)1‬‬
‫من نفق الشكالنية و النقد الشكالني الذي حصر الممارسات النقدية داخل إطار األدب"‬
‫نشير أن النقد الثقافي ظهر في الغرب كرد فعل على النظرية الجمالية والبنيوية اللسانية‬
‫والسيميائية النصية وفوضى التفكيك وعدميته‪ ،‬وذلك باتجاهاته المختلفة؛ الماركسية الجديدة‬
‫والمادية الثقافية والتاريخانية الجديدة وما بعد الكولونيالية‪ ،‬والنقد النسوي‪ ،‬وقد ارتبط النقد الثقافي‬
‫على مستوى التحليل بمجموعة من العلوم اإلنسانية كالتاريخ وعلم النفس وعلم االجتماع والفلسفة أو علوم‬
‫اإلعالم والحضارة‪.‬‬

‫أ‪-‬ماهية النقد الثقافي‬


‫إن النقد الثقافي هو نقد لألنساق المضمرة حيث يهتم بالدرجة األساس بحموالت النصوص‬
‫الثقافية وما تحويه من أنساق‪ .‬تميزت الساحة النقدية المعاصرة باالعتماد على جملة من‬
‫المناهج السياقية والنسقية التي بحثت من خاللها النظريات النقدية عن دراسة تقترب أكثر‬
‫من النص وخطابه المتميز بمتنه إال أنه قبل نهاية القرن العشرين‪ ،‬بدأ النقد يحاول التملص‬
‫والتحرر من هذه المناهج بحثا عن التغيير وعن طريقة أخرى قادرة على مواكبة النصوص‬
‫على اختالف أشكالها وأنواعها‪ .‬ويعد النقد الثقافي أحد هذه المناهج الجديدة‪ ،‬فهو بالموازاة مع‬
‫النقد األدبي يبحث في البنى الثقافية المضمرة متجاوزا الوقوف عند جمالية النصوص‪،‬‬
‫وسميت هذه المرحلة بما بعد البنيوية ‪.‬ففي هذا الصدد تقاطع النقد الثقافي في مقاربته‬
‫للنصوص مع العديد من المعارف والعلوم مثل‪ :‬الفلسفة‪ ،‬التحليل النفسي‪ ،‬علم االجتماع‬
‫األنثروبولوجيا‪ ،‬علم العالمة‪ ،‬نظرية األدب‪ ،‬الجمالية وغيرها‪.‬‬
‫ب‪-‬تعريف المصطلح‬
‫مفهوم النقد الثقافي لغة‬
‫يتكون المصطلح من مركب إضافي يخصص النقد باعتباره عمال تقويميا حيث يحصره في‬
‫ميدان الثقافة ومن هنا جاز لنا أن نبحث في معنى الثقافة نفسها كي تكتمل الفكرة اللغوية عن هذا‬
‫المركب اإلضافي‪.‬‬
‫ورد معنى الثقافة في بعض المعاجم العربية كما يلي "ثقف الرجل‪ ،‬ثقافة بمعنى صار حاذقا‪،‬‬
‫وثقف الشيء حذقه والثقاف ما تسوى به الرماح‪ ،‬ورد في حديث عائشة تصف أباها أبا بكر‬
‫رضي هللا تعالى عنهما قولها وأقام أودها بثقافة‪ ،‬أي أنه سوى عوج المسلمين‪ 2 ".‬وعرفها بعض‬
‫النقاد العرب بأنها "اإلضافة البشرية للطبيعة التي تحيط بها سواء كانت إضافة خارجية في‬
‫إعادة تشكيل الطبيعة أم تعديل فيها "‪.3‬فالثقافة هي كل ما يتصل بحياة الفرد في مجتمعه وما‬

‫‪ 1‬ينظر‪ :‬سمير خليل‪ ،‬النقد الثقافي في الدراسات النقدية العربية‪ ،‬مجلة اآلفاق العربية‪ ،‬ع ‪ ،2011 ،04-03‬ص ‪ 13‬و‪14‬‬
‫‪ 2‬ابن منظور ‪:‬لسان العرب‪ ،‬مج‪ ، 9‬مادة ثقف‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان )د‪.‬ت(‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫‪ 3‬محمد عبد المطلب ‪:‬النقد األدبي‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة ط‪ ، 1‬القاهرة ‪ 2003‬م‪ ،‬ص‪90.‬‬
‫يترابط بالرقي والتقدم في البنية التحتية والفوقية ‪.‬أما تايلور إدوار فيرى أن الثقافة هي "كل‬
‫مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون واألخالق والقانون والعرف وغير ذلك من‬
‫اإلمكانات والعادات التي يكتسبها اإلنسان باعتباره عضوا في مجتمعه "‪1.‬فهي في تصوره‬
‫مكتسبة وتمثل حصيلة المعارف المرتبطة بحياة الفرد اليومية‪ .‬في حين أن المفكر الجزائري‬
‫مالك بن نبي يعتبرها مشكلة من الصفات الخلقية والقيم االجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ والدته‬
‫وهي تتجلى أي الصفات الخلقية والقيم االجتماعية‪ ،‬من خالل سلوكه في المجتمع‪ ،‬وأنها ذات‬
‫مكون تاريخي حيث يقول "هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها ‪:‬من عقلية‬
‫ابن خلدون وروحانية الغزالي أو عقلية ديكارت أو رو حانية جندارك‪ ،‬هذا هو معنى الثقافة في‬
‫التاريخ "‪. 2‬فهي ما ثلة في األفكار العقلية والروحانية التي تشكلت عبر األزمنة والتاريخ ‪ ،‬قديمة‬
‫قدم اإلنسان نفسه‪ .‬وفي نفس السياق يعتبرها محمد عبد المطلب "اإلضافة الخارجية لإلنسان‬
‫إلى الطبيعة وتتمثل في العادات‪ ،‬التقاليد‪ ،‬المهارات واإلبداعات وداخلية وهو غريزي‪ ،‬فطري‬
‫وبيولوجي‪ 3 ".‬أما عند الغرب فإن روبرت بيرستيد يرى أن الثقافة " كل مركب يتألف من كل‬
‫‪4‬‬
‫ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو تملكه كأفراد في المجتمع‪".‬‬
‫ونخلص إلى كون الثقافة عبارة عن تلك االخالق والقيم والعادات والتقاليد واالعراف والدين‬
‫وكل ما له عالقة بحياة اإلنسان حيث يتجلى كل ذلك في حياته اليومية‪.‬‬
‫مفهوم النقد الثقافي اصطالحا‬
‫يجسد النقد الثقافي أحد المناهج واالتجاهات النقدية التي ظهرت مع نهايات القرن العشرين وهي‬
‫تبشر بأفكار جديدة حول النقد عموما واألدبي خصوصا ‪.‬أما مكمن الجدة في هذا االتجاه فهو‬
‫االهتمام بالثقافة وقضاياها المتشعبة والمتعددة ويتسم بكونه نشاطا فكريا يستوعب كل الثقافات‬
‫على اختالف أنواعها و يعتبر أدورنوه وفينيس ليتش من أهم رواده‪ .‬ويعرف بنقد ما بعد البنيوية‪،‬‬
‫وله تسميات أخرى من قبيل‪ :‬النقد الحضاري‪ ،‬النقد الفاحص والنقد السياسي‪ .‬كما يحفل بدراسة‬
‫األفكار الثقافية التي أغفلها النقد األدبي في دراساته‪.‬‬
‫ويعرفه آرثر أيزابرجر "مهمة متداخلة مترابطة متجاورة متعددة يشمل نظرية األدب والجمال‬
‫والنقد والفلسفة وكل الثقافات التي تميز المجتمع المعاصر "‪.5‬فهو مشروع يشمل أفكارا تتقاطع‬
‫مع الفلسفة وكل النظريات األدبية‪ ،‬العلمية والفنية كبديل عن النقد األدبي ‪.‬واعتبره فانديك "‬
‫ظاهرة ثقافية تهتم بالدراسات السياقية التداولية والنفسية االجتماعية والبحث في عالقة المجتمع‬
‫بالنص األدبي وفهمه وتأويله‪ 6".‬ومنه فإن النقد الثقافي هو تتبع األثر االجتماعي والتاريخي‬
‫للنص في المجتمع والوقوف على مدى تفاعل بنيته ثقافيا ومن ثمة فهو أحد علوم اللغة وحقول‬
‫األلسنية مهمته اكتناه األنساق الثقافية المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته‬
‫وأنماطه وصيغه تلك األنساق المخبوءة تحت أقنعة البالغي‪ /‬الجمالي‪.‬‬

‫‪ 1‬مجموعة من الكتاب ‪:‬نظرية الثقافة‪ ،‬ترجمة ‪:‬السيد الصاوي‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلدب‪) ،‬د‪.‬ط(‪ ،‬الكويت‪ ، 1997‬ص‪8‬‬
‫‪ 2‬مالك بن نبي ‪:‬مشكلة الثقافة‪ ،‬ترجمة ‪:‬عبد الصبور شاهين‪ )،‬د‪.‬ط(‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت دمشق‪ 2000 ،‬م‪ ،‬ص ‪75‬‬
‫‪ 3‬محمد عبد المطلب‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪90‬‬
‫‪ 4‬مجموعة من الكتاب‪ ،‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪8‬‬
‫‪ 5‬آرثر أيزابرجر ‪:‬النقد الثقافي تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية‪ ،‬ترجمة ‪:‬وفاء ابراهيم رمضان بسطا ويس‪ ،‬المشروع القومي للترجمة‪، 1‬‬
‫القاهرة ‪2003‬م‪ ،‬ص‪30‬‬
‫‪ 6‬يوسف عليمات ‪:‬التحليل الثقافي‪ ،‬الشعر الجاهلي نموذجا‪ ،‬المطابع المركزية‪ ،‬ط‪ ، 1‬األردن‪ ، 2004‬ص‪.33‬‬
‫ج‪-‬تطبيقات النقد الثقافي في الوسط العربي‬
‫تعتبر جهود الناقد السعو دي عبد هللا الغذامي في كتابه )المرأة واللغة( الذي أصدره سنة ‪1997‬‬
‫ارهاصات أولية للخروج بالنقد العربي من دائرة الجمالية إلى معالجة قضية انتقال الكتابة من‬
‫العنصر الذكوري إلى العنصر النسوي حيث شكل هذا اإلشكال قضية العصر‪ ،‬حيث تناولتها‬
‫الد راسات النقدية على اختالف توجهاتها ومشاربها الفكرية‪ .‬وهكذا حاول الغذامي االهتمام بما‬
‫أهمله النقد األدبي مثل األدب النسوي‪ ،‬بينما يظهر منهجه النقدي الثقافي من خالل كتابه‪،‬‬
‫المعنون " النقد الثقافي‪ ،‬دراسة في األنساق الثقافية العربية "الذي أحدث رجة قوية في الساحة‬
‫النقدية حيث تبنى مشروعا نقديا تجديديا‪ ،‬إذ عكف على دراسة نصوص شعرية من العصر‬
‫القديم مرورا بالحديث ومن ثم رصد تفاعل هذه النصوص مع البنية الثقافية واالجتماعية‬
‫لعصرها‪ .‬وهكذا تساءل الغذامي في مقدمة كتابه حول الشعر العربي القديم هل فيه سوى‬
‫الجمالية؟ هل يتوفر على أنساق ثقافية؟ كما استوقفه مصطلح الشاعر الفحل وطغيانه في ذاكرة‬
‫الموسوعة العربية وهل في الشعر شيء آخر غير األدبية؟ يحاول الغذامي من خالل كتابه هذا‬
‫أن يؤسس لنقد جديد يعتمد على تتبع األنساق الثاوية خلف الخطاب الشعري في ديوان العرب‬
‫الذي أثر على شخصيتنا وسلوكياتنا االجتماعية والثقافية وبعمله هذا تجاوز نطاق اللغة والجمالية‪.‬‬
‫فحاول البحث في ثنايا النص األدبي عن تيمات تجسد عالقة الذات العربية بالثقافة والمجتمع‬
‫من خالل دراسة نصوص شعرية لكل من المتنبي‪ ،‬أبي تمام‪ ،‬نزار قباني وأدونيس بعيدا عن‬
‫الجمالية ومساءلة هذه النصوص وما تخفيه بنياتها من أنساق ثقافية‪ .‬فكانت تجربته هذه طريقة‬
‫جديدة تبحث بعمق بنية النص‪ .‬وله عدة مقاالت ذات الصلة منها"النقد الثقافي‪ ،‬رؤيا جديدة‪ ،‬سنة‬
‫‪2001‬م‪ ،‬و"النقد الثقافي‪ ،‬الفكرة والمنهج سنة‪ 2001‬وثقافة الصورة ‪ 2004‬م ‪.‬هذه الرؤيا‬
‫الجديدة للنقد تضمنها كتاب مشترك بين الغذامي الناقد السوري عبد النبي اصطيف بعنوان "نقد‬
‫ثقافي أم نقد أدبي" فيه يطرح الغذامي قضية أفول نجم النقد األدبي‪ ،‬كونه ال يستطيع مواكبة‬
‫المتغير الثقافي واالجتماعي في النص األدبي المعاصر فقد بلغ حد اليأس والموت‪ .‬ويستمر عبد‬
‫هللا الغذامي في منهجه الجديد بتوجيه األنظار واالهتمامات نحو البرامج التلفزيونية بالتحليل‬
‫والدراسة لمصطلح النخبوي والشعبي ودورهما في تكوين البرامج التلفزيونية من خالل كتابه‬
‫المعنون ب " الثقافة التلفزيونية‪ ،‬سقوط النخبة وبروز الشعبي"‪ .‬كما عزز هذا المشهد النقدي‬
‫بإصدار كتاب "تحوالت النقد الثقافي" للناقد عبد القادر الرباعي تعرض فيه بالدرس والتحليل‬
‫إلى تطور النقد الثقافي في العالم مشبها إياه بكل ما يحتويه من أنساق مختلفة بقوس قزح بألوانه‬
‫المتعددة التي تشير إ لى الخاصية الفسيفسائية للنقد الجديد والمعاصر"معتمدا على منهج كل من‬
‫إستيهوب وتيري إيغلتون في النقد الثقافي وموقفهما من موت النقد األدبي‪ .‬وقدم يوسف عليمات‬
‫دراسة تطبيقية عنوانها "جماليات التحليل الثقافي "‪ ،‬حيث يصرح أن هذه الدراسة تنزح نحو‬
‫رؤية جديدة لنماذج نصية للشعر العربي القديم مثل امرئ القيس‪ ،‬النابغة الذبياني‪ ،‬عروة بن‬
‫الورد كما التفت إلى شعراء الصعاليك على رأسهم الشنفري‪ ،‬وقف من خاللها على جماليات‬
‫األنساق الثقافية الجاثمة داخل البنيات مع تكشف معانيها ودالالتها ووظائفها ‪ .‬فشكل كتابه‬
‫محاولة التأسيس لمنهج نقدي ثقافي جديد يبحث في جوهر بنية النص من وجهة ثقافية والكشف‬
‫عن ماهية ودور القيم والنظم الفكرية والثقافية في الشعر العربي‪.‬‬
‫د‪-‬خصائص النقد الثقافي‬
‫(‪)1‬‬
‫حدد ليتش للنقد الثقافي ثالث خصائص ينبغي أن يرتكز عليها‪:‬‬
‫‪ -‬الخروج من غطاء التصنيف المؤسساتي واالهتمام بما هو غير جمالي في عرف المؤسسة‪،‬‬
‫سواء أكان خطابا أم ظاهرة‪.‬‬
‫‪ -‬إفادته من مناهج المؤسسة في تأويل النصوص ودراستها من حيث الخلفية التاريخية وإفادته من‬
‫الموقف الثقافي النقدي والمؤسساتي‪.‬‬
‫‪-‬إن الذي يميز النقد ما بعد البنيوي هو تركيزه على أنظمة الخطاب وأنظمة اإلفصاح النصوصي‪.‬‬
‫فالنقد الثقافي انطالقا من هذه الخصائص ال يرفض األشكال النقدية األخرى ولكن يرفض هيمنة‬
‫المؤسسة األدبية‪ ،‬متوسال في ذلك بالتوسع والشمولية واالكتشاف واالنفتاح على جماليات أخرى‬
‫غير الجماليات األدبية المعروفة‪.‬‬
‫أما في عالمنا العربي فإن الناقد السعودي عبد هللا الغذامي يعد من المنظرين للنقد الثقافي متبنيا بذلك‬
‫فكرة ليتش ومعتبرا " النقد الثقافي آلية جديدة لقراءة النصوص" وهو بعد ذلك يعلن موت النقد‬
‫األدبي ووالدة النقد الثقافي إذ يقول" وأنا أرى أن النقد األدبي كما نعهده ومدارسه القديمة والحديثة‬
‫قد بلغ حد النضج أو سن اليأس‪ ،‬حتى لم يعد قادرا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي‬
‫(‪)2‬‬
‫الضخم الذي نشهده اآلن عالميا وعربيا"‬
‫وهكذا يحدد هذا الناقد الضرورة الملحة الداعية لظهور النقد الثقافي بعد أن استنفدت المناهج النقدية‬
‫األخرى كل ما لديها أوكادت ليحمل هذا النقد في طياته بذور نظرية جديدة ال تعنى فقط بكشف النقد‬
‫(‪)3‬‬
‫"الجمالي كما هو في النقد األدبي‪ ،‬وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البالغي والجمالي"‬
‫وبناء عليه يمكن أن نخلص إلى أن النقد الثقافي ينظر إلى النص األدبي كحادثة ثقافية تمتزج فيها‬
‫كل الجوانب الثقافية للمجتمع وهكذا فالناقد الثقافي مطالب بالغوص في أعماق النص والوقوف على‬
‫مكنوناته وخباياه‪ ،‬وعدم االقتصار على سطحية العمل‪ .‬ويعرف الغذامي النقد الثقافي بأنه "فرع من‬
‫فروع النقد النصوصي العام ومن تم فهو أحد علوم اللغة‪ ،‬وحقول األلسنية معني بنقد األنساق‬
‫المضمرة‪ ،‬التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه"(‪ )4‬وهكذا ينظر الغذامي‬
‫إلى النص كحدث ثقافي ال يقرأ لجماليته وال لذاته وإنما بوصفه حامل أنساق مضمرة تستعصي‬
‫رؤيتها عبر القراءة السطحية ألنها تتقنع خلف سحر الظاهر الجمالي وتبعا لذلك فإن وظيفة النقد‬
‫هي اكتشاف األنساق المخبوءة تحت غطاء الجمالي سواء اكان النص أدبيا أم غير أدبي‪.‬‬
‫"والنقد الثقافي في مهمته هذه يستند على ثالث دالالت‪:‬‬

‫‪ 1‬يوسف عليمات جماليات التحليل الثقافي (الشعر الجاهلي نموذجا) ص‪34‬‬


‫‪ 2‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬عبد النبي ا صطيف‪ ،‬نقد ثقافي أم نقد أدبي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬دمشق‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص ‪12‬‬
‫‪ 3‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬قراءة في األنساق الثقافية العربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،2005 ،3‬ص‪83‬‬
‫‪ 4‬عبد هللا الغذامي‪ ،‬النقد الثقافي‪ ،‬قراءة في األنساق الثقافية العربية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،2005 ،3‬ص‪83‬‬
‫‪-‬الداللة الحرفية المباشرة التقريرية؛‬
‫‪-‬الداللة اإليحائية المجازية الرمزية؛‬
‫‪-‬الداللة النسقية الثقافية‪.‬‬
‫'' أما الداللتان األولى والثانية فتدخالن ضمن حدود الوعي المباشر‪ ،‬في حين تدخل الثالثة في إطار‬
‫المغيب والمضمر‪ ،‬وهذا ما راهن عليه الغذامي وهو يدرس الشعر الجاهلي في إطار النقد‬
‫(‪)1‬‬
‫الثقافي"‬
‫ومن خالل هذه الدالالت الثالث فإن النقد الثقافي اتخذ مجموعة من المفاهيم واألدوات اإلجرائية‬
‫شكل منها مرتكزاته كما سنرى في الفقرة الموالية‪.‬‬
‫ه‪-‬مرتكزات النقــــد الثقافي‬
‫كما هو الشأن بالنسبة لكل حقل علمي فإن النقد الثقافي اتخذ مجموعة من الثوابت والمفاهيم النظرية‬
‫والتطبيقية‪ ،‬وهي بمثابة مرتكزات فكرية ومنهجية‪ ،‬البد أن ينطلق منها الباحث أو الدارس لمقاربة‬
‫النصوص والخطابات فهما وتفسيرا وتأويال‪ .‬وتتمثل هذه المفاهيم والمرتكزات في العناصر التالية‪:‬‬
‫الوظيفة النسقية‬
‫يؤكد الغذامي على ضرورة ربط النقد الثقافي بالنسقية‪ ،‬فإذا كانت وظائف اللغة عند رومان ياكبسون‬
‫قد حددت في ست وظائف لستة عناصر‪ ،‬الوظيفة الجمالية للرسالة‪ ،‬والوظيفة االنفعالية للمرسل‪،‬‬
‫والوظيفة التأثيرية للمتلقي‪ ،‬والوظيفة المرجعية للمرجع‪ ،‬والوظيفة الحفاظية للقناة‪ ،‬والوظيفة‬
‫الوصفية للغة‪ .‬فقد حان الوقت إلضافة الوظيفة النسقية للعنصر النسقي وهي الوظيفة السابعة‪.‬‬
‫ويفسر هذه الوظيفة النسقية كون النقد الثقافي يهتم بالمضمر في النصوص والخطابات‪ ،‬ويستقصي‬
‫الالوعي النصي‪ ،‬وينتقل دالليا من الدالالت الحرفية والتضمينية إلى الدالالت النسقية‪.‬‬
‫الداللــــة النسقية‬
‫يستند النقد الثقافي إلى ثالث دالالت‪ :‬الداللة المباشرة الحرفية‪ ،‬والداللة اإليحائية المجازية‬
‫الرمزية‪ ،‬والداللة النسقية الثقافية‪ .‬وإذا سلمنا كما يقول الغذامي‪ ،‬بإضافة عنصر سابع إلى عناصر‬
‫الرسالة الستة‪ ،‬وسميناه بالعنصر النسقي‪ ،‬فهو سيصبح مصدر الداللة النسقية‪ ،‬وحاجتنا إلى الداللة‬
‫النسقية هي بيت القصيد‪ ،‬إذ إن ما درجنا على معرفته من دالالت لغوية لم تعد شاهدة على كل ما‬
‫تخبئه اللغة من مخزون داللي‪ ،‬فالداللة الصريحة هي الداللة المعهودة في التداول اللغوي‪ ،‬إلى‬
‫مفهوم أما الداللة الضمنية فهي أقصى ما وصل إليه الدرس النقدي األدبي‪ ،‬أما الداللة التي نحن‬
‫بصددها هنا فهي الداللة النسقية‪ ،‬وستكون نوعا ثالثا يضاف إلى الدالالت تلك‪ .‬والداللة النسقية هي‬
‫قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي‪ .‬ونحن نسلم بوجود‬
‫الداللتين الصريحة والضمنية‪ ،‬وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر‪ ،‬كما في الصريحة‪ ،‬أو الوعي‬

‫‪ 1‬جميل حمداوي‪ ،‬النقد الثقافي بين المطرقة والسندان‪ ،‬مقال نقدي الموقع اإللكتروني ‪ ) )http://www.diwanlarab.com‬بتاريخ‬
‫‪.2012/07/08‬‬
‫النقدي‪ ،‬كما في الضمنية‪ ،‬أما الداللة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي‪ ،‬وتحتاج إلى‬
‫أدوات نقدية مدققة تأخذ بمبدإ النقد الثقافي لكي تكتشفها‪ ،‬ولكي تكتمل منظومة النظر واإلجراء‪.‬‬
‫وما يهمنا في هذه الدالالت الثالث هي الداللة الثقافية الرمزية التي تكتشف على مستوى الباطن‬
‫والمضمر‪ ،‬فتصبح أهم من الداللتين السابقتين‪ :‬الحرفية والجمالية‪.‬‬
‫الجملة الثقافية‬
‫على غرار التقسيم الثالثي للداللة‪ ،‬يعتمد النقد الثقافي على التمييز المنهجي بين ثالث جمل رئيسة‪،‬‬
‫وهي‪ :‬الجملة النحوية ذات المدلول التداولي وهو مستوى الداللة األول‪ ،‬والجملة األدبية ذات المدلول‬
‫الضمني والمجازي واإليحائي وهو مستوى الداللة الثاني‪ ،‬والجملة الثقافية التي هي حصيلة الناتج‬
‫الداللي للمعطى النسقي وهو مستوى الداللة الثالث وهو أهم المستويات حسب نظرية النقد الثقافي‪.‬‬
‫وكشف الجملة الثقافية يأتي عبر العنصر النسقي في الرسالة‪ ،‬ثم عبر تصور مقولة الداللة النسقية‪،‬‬
‫وهذه الداللة سوف تتجلى وتتمثل عبر الجملة الثقافية‪ .‬والجملة الثقافية ليست مقولة كمية تقع كل‬
‫واحدة منها مقابل جملة نحوية‪ ،‬إذ قد نلفي جملة ثقافية واحدة بإزاء ألف جملة نحوية‪ .‬وهذا يؤكد أن‬
‫الجملة الثقافية هي داللة تخزينية ومكثفة‪.‬‬
‫ويوحي كل هذا أن الجملة الثقافية هي الهدف والمرمى‪ ،‬وأنها تهدف إلى استكشاف المنطوق الثقافي‪،‬‬
‫واإلحاطة بالمعنى السياقي الذي يحيل على المرجع الثقافي الخارجي‪.‬‬
‫المجاز الكلي‬
‫يروم النقد الثقافي استخالص المجازات الثقافية الكبرى متجاوزا المجاز البالغي واألدبي‪ ،‬حيث‬
‫يتحول النص أو الخطاب إلى إحاالت على مضمرات ثقافية مجازية‪ ،‬أي أننا بحاجة إلى كشف‬
‫مجازات اللغة الكبرى‪ ،‬والمضمرة‪ ،‬ومع كل خطاب لغوي يتواجد مضمر نسقي‪ ،‬يتوسل بالمجاز‪،‬‬
‫ليرسخ عبره قيمة داللية غير واضحة المعالم‪ ،‬ويحتاج كشفها إلى التنقيب في أركيولوجيا النسق‬
‫اللغوي‪ ،‬ومعرفة ما يفعله في ذهنية مستخدم اللغة‪.‬‬
‫والمجاز الكلي هو القناع الذي تتقنع به اللغة لتمرر أنساقها الثقافية دون وعي منا‪ ،‬حتى لكأننا نصاب‬
‫بما ينعته الغذامي بالعمى الثقافي‪ .‬وفي اللغة مجازاتها الكبرى والكلية التي تتطلب منا مناهج وآليات‬
‫غير معهودة كي نكشفها‪ ،‬حيث نسجل قصور األدوات القديمة عن ذلك الكشف‪ ،‬وخطاب الحب مثال‬
‫هو خطاب مجازي كبير‪ ،‬يختبئ من تحته نسق ثقافي‪ ،‬ويتحرك عبر جمل ثقافية غير ملحوظة‪.‬‬
‫ويعني هذا أن النص أو الخطاب الثقافي يتحول إلى استعارات ومجازات كلية تحمل في طياتها‬
‫مدلوالت ومقصديات ثقافية مباشرة وغير مباشرة‪.‬‬
‫التورية الثقافية‬
‫على شاكلة التورية البالغية‪ ،‬تستند التورية الثقافية في النقد الثقافي إلى معنيين‪ :‬معنى قريب غير‬
‫مقصود‪ ،‬ومعنى بعيد مضمر‪ ،‬وهو المقصود‪ .‬ويعني هذا أن التورية الثقافية هي كشف للمضمر‬
‫الثقافي المختبئ وراء السطور‪ .‬وتبعا الختالف مفهوم المجاز الكلي عن المجاز البالغي والنقدي‪،‬‬
‫فإن التورية هي مصطلح دقيق ومحكم‪ ،‬وهو في المتداول يعني وجود معنيين أحدهما قريب واآلخر‬
‫بعيد‪ ،‬والمقصود هو البعيد‪ ،‬وكشفه هو حنكة بالغية متمرسة‪ ،‬وقولنا بالتورية الثقافية يعني أن‬
‫الخطاب يحمل نسقين‪ ،‬ال معنيين‪ ،‬وأحد هذين النسقين واع واآلخر مضمر‪" .‬‬
‫وهكذا‪ ،‬تشكل التورية مفهوما إجرائيا جديدا‪ ،‬بغية تطبيقه على النصوص في ضوء مقاربتها ثقافيا‪.‬‬
‫النسق المضمر‬
‫يتخذ النقد الثقافي من مصطلح النسق المضمر مفهوما مركزيا في إطار المقاربة الثقافية‪ .‬باعتبار‬
‫أن كل ثقافة معينة تحمل في طياتها أنساقا مهيمنة ولها الغلبة‪ ،‬فالنسق الجمالي والبالغي في األدب‬
‫ما هو إال غطاء يتكشف عن أنساق ثقافية مضمرة‪ .‬وبتعبير آخر‪ ،‬ليس في األدب الوظيفة األدبية‬
‫والشعرية وحدها‪ ،‬بل هناك كذلك الوظيفة النسقية التي يتتبعها النقد الثقافي‪ .‬وهذا يدفعنا إلى القول‬
‫بوجود قيم نسقية مضمرة في الخطاب األدبي عموما‪ ،‬والشعري تحديدا‪ ،‬ترسخ نسقا ثقافيا مهيمنا‬
‫يتغلغل فينا بال وعي منا متوسال بغطاء البالغي والجمالي‪.‬‬
‫ويعني هذا أن النقد الثقافي يكشف عن تناقض األنساق وتصارعها‪ ،‬فيتضح بأن هناك نسقا ظاهرا‬
‫يقول شيئا‪ ،‬ونسقا مضمرا غير واع وغير معلن يقول شيئا آخر‪ .‬وهذا المضمر هو الذي يسمى‬
‫بالنسق الثقافي‪ .‬وغالبا ما يتخفى النسق الثقافي وراء النسق الجمالي واألدبي‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فاستخالص‬
‫األنساق الثقافية المضمرة ذات قابلية جماهيرية شعبية‪ ،‬على عكس األنساق النخبوية التي ال تلقى‬
‫شعبية عامة على مستوى االستقبال واالتصال‪ .‬وهذا يحيل على السياق العام لنشأة الدراسات الثقافية‬
‫عموما والنقد الثقافي خصوصا وهو خدمة القيم اإلنسانية وخدمة اإلنسان كيفما كان مستواه‬
‫االجتماعي والطبقي والعرقي واالثني‪ .‬إن قيما مثل‪ :‬قيم الحرية‪ ،‬واالعتراف باآلخر‪ ،‬وتقدير‬
‫المهمش والمؤنث‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واإلنسانية‪ ،‬هي كلها قيم عليا تقول بها كل ثقافة‪ ،‬ولكن تحقيقها عمليا‬
‫وواقعيا هو ما يطرح أكثر من إشكال‪ .‬ونحن حين نتوصل إلى أن الخطاب األدبي الجمالي‪ ،‬الشعري‬
‫وغيره‪ ،‬يقدم في مضمره أنساقا تنسخ هذه القيم وتنقض ما هو في وعي األفراد‪ ،‬فهذا معناه أن في‬
‫الثقافة علال نسقية لم تكتشف‪ ،‬ولم تفضح‪ ،‬ويكون الخطاب متضمنا لها‪ ،‬دون وعي من منتجي‬
‫الخطاب وال من مستهلكيه‪.‬‬
‫ويدل هذا أن المقاربة الثقافية ال تلقي باال لألبنية الجمالية والفنية والمضامين المباشرة‪ ،‬بل ما يعنيها‬
‫هو استكشاف األنساق الثقافية المضمرة‪.‬‬
‫‪‬المؤلف المزدوج‪:‬‬
‫يمكن في إطار ازدواجية مفاهيم النقد الثقافي الحديث في إطار المقاربة الثقافية ‪ -‬بشكل من‬
‫األشكال‪ -‬عن مؤلف مزدوج‪ ،‬الكاتب الجمالي واألدبي الذي ينتج أنساقا أدبية وجمالية فنية ظاهرة‬
‫ومباشرة أو غير مباشرة‪ ،‬وذلك عن طريق الرمزية واإليحائية‪ ،‬وهناك في الكفة األخرى الكاتب‬
‫الثقافي الذي يتمثل في الثقافة نفسها التي تتوارى وراء الظاهر في شكل أنساق مضمرة غير واعية‬
‫‪ .‬يأتي مفهوم المؤلف المزدوج بعد هذه المنظومة االصطالحية لتأكيد أن هناك مؤلفا آخر بإزاء‬
‫المؤلف المعهود‪ ،‬فالثقافة تعمل عمل مؤلف آخر يصاحب المؤلف المعلن‪ ،‬و بالموازاة مع العملية‬
‫اإلبداعية الواعية تتسلل الثقافة لتغرس أنساقها من تحت نظر المؤلف‪ ،‬وبال وعيه إذ يكون المؤلف‬
‫في حالة إبداع كامل اإلبداعية حسب شرط الجميل اإلبداعي‪ ،‬غير أننا سنجد من تحت هذه اإلبداعية‬
‫وفي مضمر النص سنجد نسقا كامنا وفاعال ليس في وعي صاحب النص‪.‬‬
‫‪-4‬ملحق حول الحضارة األندلسية‬

‫‪ -1‬بعض مظاهر ومنجزات الحضارة األندلسية‬


‫امتازت حضارة العرب في األندلس بميلها الشديد إلى العناية باآلداب والعلوم والفنون‪ ،‬فأنشأوا‬
‫المدارس والمكتبات في كل ناحية وترجموا الكتب المختلفة‪ ،‬ودرسوا العلوم الرياضية والفلكية‬
‫والطبيعية والكيمياوية والطبية بنجاح ولم يكن نشاطهم في الصناعة والتجارة أقل من ذلك‪،‬‬
‫فكانوا يصدرون منتجات المناجم ومعامل األسلحة‪ ،‬ومصانع النسائج‪ ،‬والجلود والسكر‬
‫وبرعوا في الزراعة براعتهم في العلوم والصناعات‪ ،‬وال يوجد في األندلس من أعمال الري‬
‫خال ما أتمه العرب‪ ،‬وأدخلوا إلى حقول األندلس زراعة قصب السكر واألرز والقطن‬
‫والموز(‪ .)1‬كما أكثروا من إنشاء الطرق والجسور والفنادق والمشاتي والمساجد في كل‬
‫مكان‪ ،‬وكانت البحرية العربية في األندلس قوية جدا‪ ،‬وبفضلها كانت تتم صالت العرب‬
‫‪ )1‬لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪274‬‬
‫التجارية بجميع مرافئ أوربا وأفريقيا وآسيا‪ ،‬وظل العرب وحدهم سادة البحر المتوسط زمنا‬
‫طويال(‪ ،)1‬فأنشأوا أسطوال ضخما لمواجهة قوة األسطول البيزنطي‪ ،‬ولضمان أمن السواحل‬
‫العربية من هجماتهم‪ ،‬كما اتخذوا من بعض جزره القريبة من السواحل العربية مراكز بحرية‬
‫لألسطول العربي‪ ،‬منها كريت وصقلية‪ ،‬ومالطة‪ ،‬وجزر البليار‪ ،‬وجزر قبرص وسردينيا‪،‬‬
‫فكانت قبرص تحمي شواطئ سوريا‪ ،‬وكريت تحمي شواطئ مصر‪ ،‬كما تحمي صقلية شمال‬
‫أفريقيا‪ ،‬وتحمي جزر البليار األندلس‪ ،‬فأصبحت الشواطئ العربية في أواخر القرن التاسع‬
‫للميالد في مأمن من أي غزو بيزنطي(‪ ،)2‬فازدهرت التجارة مما أدى إلى ازدهار الحياة‬
‫االقتصادية واالجتماعية وتمكين العرب في األندلس من االتصال بالعالم الخارجي‪.‬‬
‫أما فيما يخص النظم السياسية واالدارية والعسكرية والمالية فقد كانت صدى للنظم القائمة‬
‫في العراق والشام‪ ،‬فأقاموا نظام األمارة ثم الخالفة على غرار النظم العربية في المشرق‪،‬‬
‫كما استحدثوا نظام الوزارة والدواوين كتلك التي كانت سائدة أيام الخالفة العباسية في بغداد‪،‬‬
‫لكنهم طوروا في هذه المناصب‪ ،‬وخاصة الوزارة‪ ،‬حيث أصبحت متعددة المناصب ولها‬
‫رئيس وزراء وهو الحاجب‪ .‬كما عرف األندلس نظام األجناد أو (الكور المجندة) التي ينزلها‬
‫الجند ويقابلها الثغور‪ ،‬يحكمها قائد عسكري‪ ،‬فنزل جند دمشق في كورة البيرة‪ ،‬وجند حمص‬
‫في كورة أشبيلية وجند األردن في كورة مالطة‪ ،‬وجند قنسرين في كورة باجة‪ ،‬وبعضهم‬
‫بكورة ندمير‪ ،‬فهذه منازل العرب الشاميين‪ ،‬وبقي العرب والبربر والبلديون شركاءهم)(‪..)3‬‬
‫كما نقل عرب األندلس من المشرق العربي نظام الوزارة وطوروه وقسموا خطتها أصنافا‬
‫وأفردوا لكل صنف وزيرا‪ ،‬فجعلوا لحسبان المال وزيرا‪ ،‬وللترسيل وزيرا‪ ،‬وللنظر في أحوال‬
‫الثغور وزيرا‪ ،‬وهذا التعدد في مناصب الوزراء ال نجده في نظام الوزارة في المشرق العربي‬
‫حيث كانت السلطة مركزة في يد وزير واحد لها رئيس وزراء وهو الحاجب الذي يتصل‬
‫بالخليفة مباشرة(‪ .)4‬وبعد سقوط الدولة العربية األموية‪ ،‬وقيام الدولة العباسية قام العباسيون‬
‫بمطاردة األمويين فاستطاع األمير عبد الرحمن األموي الدخول إلى األندلس ولقب (بالداخل)‬
‫وأعاد تأسيس الدولة األموية في األندلس‪ ،‬فعادت قرطبة تأخذ مكانتها بين عواصم العالم‬
‫المتحضر آنذاك في مجال السياسة والثقافة والعمارة وجميع مظاهر الحياة الحضارية‪،‬‬
‫وصارت مقر الخالفة‪ ،‬وموطن أهل العلم واألدب‪ ،‬فقد عمل األمراء األمويون في األندلس‬
‫على تشجيع العلوم العربية‪ ،‬ونقلوها معهم من المشرق العربي وكان لها أثرها الكبير في‬
‫النهضة األوربية‪.‬‬
‫وكان جامع قرطبة في غاية العظمة في بنائه وهندسته وأصبح أعظم جامعة عربية في أوربا‬
‫في العصر الوسيط‪ ،‬فكان البابا سلفستر الثاني قد تعلم في هذا الجامع يوم كان راهبا كما أن‬

‫‪ ) 1‬نفس المصدر السابق ص‪276‬‬


‫‪ ) 2‬زكريا هاشم‪ :‬فضل الحضارة العربية ص‪253‬‬
‫‪ ) 3‬ابن عذاري‪ :‬البيان المغرب ص‪.33‬‬
‫‪ ) 4‬العبادي‪ :‬في التاريخ العباسي واألندلسي ص‪359‬‬
‫كثيرا من نصارى األندلس كانوا يتلقون علومهم العليا فيه‪ ،‬واستأثر المسجد في األندلس‬
‫بتدريس علوم الشريعة واللغة إضافة إلى العلوم األخرى(‪.)1‬‬
‫وأسس العرب في األندلس الكتاتيب لتعليم الصبيان اللغة العربية وآدابها ومبادئ الدين‬
‫االسالمي‪ ،‬على غرار نظام الكتاتيب في المشرق العربي واتخذوا المؤدبين يعلمون أوالد‬
‫الضعفاء والمساكين اللغة العربية ومبادئ االسالم‪.2‬أما المناهج الدراسية في األندلس فقد أشار‬
‫إليها ابن خلدون بقوله‪" :‬وأما أهل األندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة وجعلوه أصال في‬
‫التعليم فال يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر‪ ،‬والترسل‬
‫وأخذهم بقوانين العربية وحفظها‪ ،‬وتجربة الخط والكتابة‪ ...‬إلى أن يخرج الولد من عمر‬
‫البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعض الشيء في العربية والشعر وأبصر بهما‪ ،‬وبرز في الخط‬
‫والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة"‪)3(.‬‬
‫كما اهتم خلفاء بني أمية في األندلس بتأسيس المكتبات فنقلت من كتب الشرق العربي الشيء‬
‫الكثير من الكتب وشارك الرحالة من األندلسيين في ذلك وقام العلماء وطالب العرب في نقل‬
‫الكتب وأقبلوا على ترجمتها في مختلف صنوف العلم والمعرفة فيذكر ابن جلجل‪ :‬أن الكتب‬
‫الطبية دخلت من المشرق وجميع العلوم على عهد الخليفة الناصر سنة ‪300‬هـ‪350 -‬هـ(‪.)4‬‬
‫وأنشأ المستنصر باهلل ‪366 -350‬هـ‪ 976 -961 /‬مكتبة عظيمة فقد كان عالما منصرفا إلى‬
‫العلم والقراءة واقتناء الكتب النادرة من بغداد ودمشق والقاهرة‪ ،‬وأنشأ مكتبة تحوي على ما‬
‫يربو على ‪ 400‬ألف مصنف في شتى العلوم والفنون‪ ،‬كما أنشأ دارا لنسخ الكتب وأودعها‬
‫بمدينة الزهراء(‪.)5‬‬
‫كما ألف األندلسيون في علوم القرآن والحديث والفقه‪ ،‬وفي القضاء واللغة وآدابها وعلومها‬
‫والمعاجم والتراجم‪ ،‬والتاريخ والسيرة والجغرافية‪ ،‬وألفوا في علوم الطب والحساب والهندسة‬
‫والفلك والكيمياء والمنطق والفالحة والملل والنحل‪ ،‬وفي الفلسفة والموسيقى‪ ،‬بحيث لم يتركوا‬
‫حقال من حقول العلم والمعرفة إال طرقوها‪.‬‬
‫أما على الصعيد األدبي فقد لمع فحول الشعراء واألدباء العرب في األندلس كابن عبد ربه‬
‫وابن حزم وابن زيدون وابن خفاجة وأبي البقاء الرندي‪ ،‬وساهم ازدهار الحياة األدبية في‬
‫انتشا ر اللغة العربية والثقافة العربية والعادات والتقاليد العربية االسالمية في أوربا وقد‬
‫زخرت األلفاظ العربية في اللغة اإلسبانية والقوطية والفرنسية‪ .‬حيث أقبل أهل الذمة من‬
‫األندلسيين على تعلم العربية ويبدو أن االستعراب كان قد سبق االسالم‪ ،‬فقد اختلط أهل الذمة‬
‫بالمسلمين‪ ،‬وأخذوا لغتهم وأسلوبهم في الحياة‪ ،‬وأقبلوا بصورة تدريجية على االسالم وأظهروا‬
‫تفوقا في العربية بل تفوق منهم في الفقه فذكر ابن الفرضي" أنه كان من مسلمة أهل الذمة‬

‫‪ ) 1‬كريم عجيل‪ :‬الحياة العلمية في مدينة بلنسية ص‪.27‬‬


‫‪ ) 2‬ابن عذاري‪ :‬البيان المغرب جـ‪ 2‬ص‪245‬‬
‫‪ ) 3‬ابن خلدون‪ :‬المقدمة جـ‪ 2‬ص‪.1240‬‬
‫‪ )4‬ابن جلجل‪ :‬طبقات األطباء والحكماء ص‪.98‬‬
‫‪ )5‬العبادي‪ :‬في التاريخ العباسي واألندلسي ص‪.420‬‬
‫من مأل أشبيلية علما وبالغة ولسانا حتى شرفت به العرب"(‪)1‬واشتهرت األندلس بالمنشآت‬
‫المعمارية العظيمة‪ ،‬ويعد جامع قرطبة الذي بني في القرن الثاني للهجرة‪ /‬الثامن للميالد‪،‬‬
‫وبعض المباني في طليطلة من آثار الدور األول لفن العمارة العربي في األندلس‪ ،‬كما تعد‬
‫منارة أشبيلية (لعبة الهواء) التي أنشأها الموحدون في القرن السادس للهجرة‪ /‬الثاني عشر‬
‫للميالد والقصر األشبيلي من آثار الدور الوسيط لفن العمارة العربي‪ ،‬كما يعد قصر الحمراء‬
‫في غرناطة الذي شيد في القرن الثامن للهجرة‪ /‬الرابع عشر للميالد عنوانا لما انتهى إليه فن‬
‫العمارة العربي ويرى لوبون أنها تدل باختالف طرازهما على أصالتها العربية(‪.)2‬‬
‫ومن مباني العرب العظيمة في األندلس مدينة الزهراء التي شيدها عبد الرحمن الناصر على‬
‫بعد ثمانية كيلومترات شمال غرب قرطبة على سفح جبل العروس ومازالت تحتفظ باسمها‬
‫العربي في اللغة اإلسبانية‪ ،‬وبنى فيها قصره المشهور بقصر الحمراء‪.‬‬
‫‪-2‬تأثير الحضارة العربية في أوروبا‬
‫إن الحضارة العربية التي نشأت في األندلس‪ ،‬وازدهرت لم تقف عند حدود األندلس فاستمرت‬
‫العالقات االقتصادية والثقافية والحضارية بين األندلس وأوربا وبينها وبين الشرق وبيزنطة‬
‫ولم تنقطع رغم وقوع حروب بحرية وبرية طويلة‪ ،‬فالتبادل التجاري بين أسبانيا العربية وبين‬
‫الشرق وبيزنطة تظل مستمرا‪ ،‬وعن هذه الطرق انتقل التراث الحضاري العربي في العصور‬
‫الوسطى إلى أوربا وال يمكن إدراك أهمية شأن العرب في الغرب إال بتصور حالة أوربا‬
‫حينما أدخلوا الحضارة إليها فيقول لوبون‪ :‬إذا رجعنا إلى القرن التاسع من الميالد وما بعده‪،‬‬
‫حيث كانت الحضارة االسالمية في إسبانيا ساطعة جدا رأينا أن مراكز الثقافة في أوربا كانت‬
‫أبراجا يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم ال يقرأون‪ ،‬وإن أكثر الرجال معرفة كانوا‬
‫من الرهبان المساكين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب األقدمين بخشوع‪،‬‬
‫ودامت همجية أوربا حتى القرن الحادي عشر حين ظهر فيها أناس رأوا أن يرفعوا أكفان‬
‫الجهل الثقيل عنهم فولوا وجوههم شطر العرب الذين كانوا أئمة وحدهم‪ ،‬ولم تكن الحروب‬
‫الصليبية سببا في إدخال العلوم إلى أوربا كما يردد على العموم‪ ،‬وإنما دخلت العلوم أوربا من‬
‫أسبانيا وصقلية وإيطاليا‪ ،‬وذلك أن مكتبا للمترجمين في طليطلة بدأ منذ سنة ‪1130‬م بنقل أهم‬
‫كتب العرب إلى اللغة الالتينية تحت رعاية رئيس األساقفة ريمون‪ ،‬ولم يتوان الغرب في أمر‬
‫هذه الترجمة‪ )3(،‬فقد تدفقت العلوم العربية على أوربا من خالل األندلس بعد أن فتح العرب‬
‫الطريق عبر جبال البرت إلى فرنسا وإيطاليا‪ ،‬حيث عبر العلم والفلسفة العربيان من خالل‬
‫رأس الجسر الثقافي الذي أقيم في شبه جزيرة إيبريا إلى أوربا(‪ ،)4‬وظهر التأثير العربي في‬
‫فن العمارة في األندلس وأوربا‪ ،‬فكان الطراز السائد قبل تحرير أسبانيا هو الطراز القوطي‪،‬‬
‫ولكن أقيمت في األندلس في القرن الثالث عشر والرابع عشر المدن والمساجد والقصور على‬

‫‪ ) 1‬ابن الفرضي‪ :‬تاريخ علماء األندلس ص‪647‬‬


‫‪ ) 2‬لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪283‬‬
‫‪ ) 3‬لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪.567 -566‬‬
‫‪ ) 4‬شاخت‪ :‬تراث العرب ص‪125‬‬
‫الطرز العربية مما يدفعنا على االقرار أن الغرب اقتبس أصول فن عمارته من العرب‪ ،‬إذ‬
‫ليس هناك من مشابهة بين الطراز العربي والطراز القوطي وإن تأثير فن العمارة العربية‬
‫واضح في كثير من الكنائس الفرنسية ككنيسة مدينة (ماغلون) ‪1178‬م‪ ،‬التي كانت ذات‬
‫صالت بالشرق‪ ،‬وكنيسة (كانده) وكنيسة (غاماش)‪ ...‬إلخ‪ ،‬وألمح مسيو شارل بالن إلى ما‬
‫اقتبسه األوروبيون من العرب في فن العمارة بقوله‪ :‬أرى من غير مبالغة فيما ألمة من التأثير‬
‫في أمة وذلك خالفا لما يسار عليه اليوم أن الصليبيين الذين شاهدوا ما اشتمل عليه الفن‬
‫العربي من المشربيات‪ ،‬وشرفة المآذن‪ ،‬واألخاريز أدخلوا إلى فرنسا المراقب والجواسق‬
‫واألبراج واألطناف والسياجات التي استخدمت كثيرا في العمارات المدنية والحربية في‬
‫القرون الوسطى(‪.)1‬‬
‫وأثمرت جهود العرب في تطوير علم الطب وتأثرت ثقافة الغرب الطبية تأثرا عميقا بما‬
‫اقتبسه من العرب في هذا المضمار(‪.)2‬‬
‫والعرب أول من مارسوا عمليات الجراحة في العالم إطالقا‪ ،‬ووضعوا المؤلفات فيها وفي‬
‫طرقها‪ ،‬واألمراض التي يجب استئصالها واآلالت واألدوات التي تستعمل (‪ ،)3‬وهم أول من‬
‫اكتشفوا وسائل التخدير‪ ،‬وأنشأوا المستشفيات‪ ،‬وقسموها قسمين‪ :‬قسم للرجال والنساء‪،‬‬
‫وقسموا كل قسم إلى أقسام على حسب المرض‪ ،‬وأقاموا المعازل لعزل المرضى المصابين‬
‫بأمراض معدية بل أن للمسلمين الفضل في إنشاء المستشفيات المتنقلة(‪.)4‬‬
‫وأما في مجال علم الفلك والهندسة والرياضيات عامة فقد توصل علماء العرب في األندلس‬
‫إلى حقائق علمية رائدة‪ ،‬في علم الفلك (علم الهيئة) منهم صاحب القبلة أبو عبيدة البلنسي‬
‫(‪295‬هـ‪907 -‬م) الذي قال بكروية األرض واختالف المناخ في أنحائها (‪.)5‬‬

‫‪-3‬الحضارة األندلسية من الفتح إلى السقوط في مرآة الشعر‬


‫تعد الحضارة األندلسية مرحلة هامة من تاريخ الحضارة اإلسالمية عموما‪ ،‬كونها شكلت‬
‫مركزا إشعاعيا ومنارة ألقت بظاللها على العالم العربي وأوروبا حيث شكل التالقح الغربي‬
‫العربي في إبانها نقطة البداية الحقيقية للحضارة األوروبية المعاصرة‪ .‬وإذا سلمنا بأن‬
‫حضارة األندلس بدأت من البداوة إلى أوج الرقي واالزدهار لتنتهي باألفول والسقوط‪ ،‬جاز‬
‫لنا أن نقول بأن الشعر األندلسي واكب كل هذه المراحل من حياة األندلس وصورها تصويرا‬
‫صادقا وانعكست مظاهر الثقافة األندلسية في ثنايا الشعر فعبر الشعراء عن حياة األندلس‬
‫وهي تنتشي بعهد الفتح األول كما عبروا عنها وهي تتجرع مرارة الفرقة والخالف وتساقط‬

‫‪ ) 1‬لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪.573 -572‬‬


‫‪ ) 2‬شريف‪ :‬دراسات في الحضارة العربية ترجمة شلبي ص‪80‬‬
‫‪ ) 3‬عبد الرزاق نوفل‪ :‬المسلمون والعلم الحديث ص‪.64‬‬
‫‪ ) 4‬المصدر السابق ص‪.65‬‬
‫‪ ) 5‬ابن الفرضي‪ :‬تاريخ علماء األندلس جـ‪ 2‬ص‪.126‬‬
‫حصونها تباعا في أيدي المتربصين من األعداء‪ .‬سنقف في هذا الملحق مع أهم العصور‬
‫والفترات التي مرت باألندلس ثم نقف مع بعض شعراء األندلس المرموقين مع بعض‬
‫انتاجاتهم الشعرية‪.‬‬

‫العصور التي مرت باألندلس‬


‫‪-‬أوال‪ :‬عصر الوالة‪ ،‬وهو ذلك العصر الذي يبدأ بالفتح اإلسالمي سنة (‪93‬ه‪712-‬م)‪ ،‬وينتهي‬
‫بقيام دولة بني أمية وينتهي بقيام دولة بني أمية في األندلس على يد عبد الرحمن الداخل سنة‬
‫(‪138‬ه‪755-‬م)‪.‬‬
‫ويسمى هذا العصر بعصر الوالة لكون األندلس كانت تحكم فيه بوساطة وال يعينه خليفة دمشق‬
‫وأحيانا يعينه حاكم شمال إفريقيا‪.‬‬
‫‪-‬ثانيا‪ :‬العصر األموي ويبدأ بتأسيس عبد الرحمن الداخل لدولة بني أمية في األندلس‪ ،‬تلك‬
‫الدولة التي تبلغ ذروة مجدها في عهد عبد الرحمن الناصر الذي يجعل منها خالفة عظيمة‪.‬‬
‫وينتهي هذا العصر بانتهاء ملك بني امية هناك بعد سلسلة من الخلفاء العاجزين‪ ،‬واختيار‬
‫زعماء قرطبة لنوع من الحكم الجمهوري سنة )‪422‬ه‪1031-‬م(‪.‬‬
‫‪-‬ثالثا‪ :‬عصر ملوك الطوائف‪ ،‬ويبدأ بسقوط الدولة األموية وقيام عدة ممالك مستقلة‪ ،‬تقسمت‬
‫األندلس معها إلى طوائف‪ ،‬وعلى كل طائفة مليك‪ .‬وينتهي هذا العصر باستالء المرابطين على‬
‫األندلس بقيادة يوسف بن تاشفين سنة (‪493‬ه‪1091-‬م(‪.‬‬
‫‪-‬رابعا‪ :‬عصر المرابطين ويبدأ باستالء بن تاشفين وجيوشه اإلفريقية على األندلس‪ ،‬وينتهي‬
‫بحلول الموحدين محل المرابطين في حكم إسبانيا اإلسالمية سنة (‪541‬ه‪1146-‬م(‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬عصر الموحدين‪ ،‬ويبدأ بحكم هؤالء اإلفريقيين‪ ،‬وينتهي بسقوط دولتهم وانتزاع‬
‫المسيحيين اإلسبان للكثرة الغالبة من األقاليم التي كانت في أيدي المسلمين‪ ،‬وحصر الدولة‬
‫اإلسالمية في جزء جنوبي صغير هو مملكة غرناطة وذلك نحو سنة (‪668‬ه‪1269-‬م)‪.‬‬
‫‪ -‬سادسا‪ :‬العصر الغرناطي‪ ،‬ويبدأ بتأسيس مملكة غرناطة على يد ابن األحمر‪ ،‬وينتهي بتسليم‬
‫هذه المدينة لإلسبان سنة (‪898‬ه‪1492-‬م)‪.‬‬
‫من أبرز شعراء األندلس‬
‫‪ ‬يحيى بن حكم الغزال (‪156-250‬ه)‪ ،‬من شعراء العهد األموي كان شاعرا مثقفا ألمعيا‬
‫يقول ما يعتقده بكل جرأة متجاوزا أحيانا حدود الكياسة وكان شعره نقدا الذعا للحياة‬
‫االجتماعية التي يشوبها اللهو والغفلة كما كان يسلط لسانه على قضاة الجور ومن شعره‬
‫في هذا الباب موقفه من فقيه واله القاضي معاذ الشعباني على حسن نية على األحباس ولم‬
‫يكن نزيها في الحفاظ على المال العام‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬
‫وولى امرءا فيما يرى من ذوي العدل‬ ‫يقول لي القاضي معاذ مشاورا‬
‫فقلت وماذا يفعل الدب في النحل‬ ‫فديتك ما ذا تحسب المرء صانعا؟‬
‫ويترك للذبان ما كان من‬ ‫يدق خالياها ويأكل شهدها‬
‫فضل‬
‫‪ ‬ابن زيدون (‪394‬ه‪463-‬ه)‪ ،‬عاصر ملوك الطوائف‪ ،‬موهبة وشخصية أدبية فذة جمع بين‬
‫األدب والسياسة والكياسة‪ ،‬استوزره بنو جهور ومرت به تجارب قاسية منها دخوله‬
‫السجن في قضية حقوقية على يد قاض متشدد ومنها إعجابه باألميرة األموية والدة بنت‬
‫المستكفي‪ ،‬وقد وصفت بالكياسة والذكاء وقوة الشخصية والمشاركة في األدب (نظم‬
‫الشعر)‪ .‬وقد ارتبط اسمه باسمها وفيها نظم كل ما نسب إليه من شعر الغزل والنسيب وقد‬
‫اتسمت عالقتهما بثالث مراحل‪:‬‬
‫‪ .1‬مرحلة الوصل حيث اللقاء بالحبيب وفيها يقول الشاعر‪:‬‬
‫أم لشاكيك طبيب‬ ‫هل لداعيك مجيب‬
‫حاضرا حين يغيب‬ ‫يا قريبا حين ينأى‬
‫زانه منك حبيب‬ ‫كيف يسلوك محب‬
‫‪ .2‬مرحلة القطيعة وفيها بث الشاعر شكواه لعله يجد أذنا صاغية لدى المحبوبة قائال‪:‬‬
‫موثقا في يد المحن‬ ‫يا غزاال أصارني‬
‫لم أذق لذة الوسن‬ ‫إنني مذ هجرتني‬
‫منك أو لحظة عنن‬ ‫ليت حظي إشارة‬
‫فكما شئت فكن‬ ‫ليس لي عنك مذهب‬
‫‪ .3‬أما في المرحلة الثالثة وهي مرحلة اليأس وضياع اآلمال واألحالم فقد نظم الشاعر‬
‫قصيدتين مطلع األولى‪:‬‬
‫وناب عن طيب لقيانا تجافينا‬ ‫أضحى التنائي بديال من تدانينا‬
‫ومطلع الثانية‪:‬‬
‫واألفق طلق ووجه األرض قد راقا‬ ‫إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا‬
‫‪ ‬المعتمد بن عباد (‪ 431‬هـ ‪ 488 -‬هـ ‪1095 - 1040 /‬م) ثالث وآخر ملوك بني عباد كان‬
‫فارسا وإداريا وشاعرا حمل أعباء الحكم بعد وفاة والده سقطت دولته وقتل بعض أبنائه‬
‫ودخل في أسر المرابطين ونفي عن مملكته بإشبيلية إلى أغمات بالمغرب عاش بقية عمره‬
‫سجينا أسيرا وعانى أهله معه معاناة شديدة‪ .‬وقد شكل شعر المعتمد في سجنه اتجاها خاصا‬
‫في شعر األمراء ومن أشهر قصائده التي يرثي فيها حاله وحال أهله بعد تحول النعمة وذهاب‬
‫العافية ما أنشده بمناسبة عيد الفطر وقد جاءت بناته للسالم عليه فقال‪:‬‬
‫فجاءك العيد في أغمات مأسورا‬ ‫فيما مضى كنت باألعياد مسرورا‬
‫يغزلن للناس ما يملكن قطميرا‬ ‫ترى بناتك في األطمار جائعة‬
‫أبصارهن حسيرات مكاسيرا‬ ‫برزن للتسليم نحوك خاشعة‬
‫كأنها لم تطأ مسكا وال كافورا‬ ‫يطأن في الطين واألقدام حافية‬
‫‪ ‬ابن اللبانة (ت‪507‬ه)‪ ،‬ارتبط بالمعتمد بن عباد وبكى دولته وكان مدحه أيام عزه وسلطانه‬
‫ومما قال يرثي دولة بني عباد‪:‬‬
‫على البهاليل من أبناء عباد‬ ‫تبكي السماء بمزن رائح غاد‬
‫وكانت األرض منهم ذات أوتاد‬ ‫على الجبال التي هدت قواعدها‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫وقد خلت قبل حمص أرض بغداد‬ ‫إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا‬
‫ماء السماء أبى سقيا حشا الصادي‬ ‫من لي بكم يا بني ماء السماء إذا‬
‫‪ ‬ابن عبدون (ت‪ 527‬ه)‪ ،‬أديب وكاتب وشاعر من العلماء‪ ،‬اشتهر بقصيدته الرائية التي‬
‫رثى فيها بني األفطس حكام بطليوس ودولتهم وفي مطلعها‪:‬‬
‫فما البكاء على األشباح والصور‬ ‫الدهر يفجع بعد العين باألثر‬
‫عن نومة بين ناب الليث والظفر‬ ‫أنهاك أنهاك ال أنهاك واحدة‬
‫‪ ‬أبو البقاء الرندي (‪601‬ه‪684-‬ه)‪ ،‬وقصيدته النونية التي هي موضوع هذا البحث‪ ،‬من‬
‫شعراء رثاء المدن والممالك الزائلة وقد اشتهر بقصيدته التي رثى فيها عددا كبيرا من‬
‫المدن التي سقطت لزمانه بيد العدو‪ .‬ولقد عبر بصدق عن مشاعر األندلسيين بعد أن مالت‬
‫شمس السيادة العربية اإلسالمية في األندلس إلى المغيب‪ ،‬وصور ما حل بهم من ضروب‬
‫العسف والهوان‪ ،‬وما تبدل من حال األرض ووجه الزمان‪.‬‬
‫والشاعر هو صالح بن يزيد بن صالح ‪ ....‬بن شريف الرندي‪ ،‬وتختلف كنيته بين أبي‬
‫البقاء وأبي الطيب وهو مشهور بأبي البقاء‪ .‬هو أديب وشاعر وناقد قضى معظم أيامه في‬
‫مدينة ُرندة واتصل ببالط بني األحمر بغرناطة‪ ،‬وكان يفد عليهم ويمدحهم وينال جوائزهم‪،‬‬
‫وقد ترجم للرندي‪ ،‬ابن عبد الملك المراكشي في (الذيل والتكملة)‪ ،‬قال في ترجمته" كان‬
‫خاتمة أدباء األندلس‪ ،‬بارع التصرف في منظوم الكالم ومنثوره‪ ،‬فقيها‪ ،‬حافظا‪ ...‬ووصف‬
‫لسان الدين شعر الرندي فقال‪" :‬شعره كثير‪ ،‬سهل المأخذ‪ ،‬عذب اللفظ‪ ،‬غير مؤثر‬
‫للجزالة"‬
‫لقد كان الرندي شخصية مرموقة في عصره‪ ،‬علما وأدبا وشعرا‪ .‬واشتهر أمره في‬
‫األندلس والمغرب‪ ،‬وكانت جوانبه متعددة كما يتضح لنا من تواليفه فمن كتبه (الوافي‬
‫في نظم القوافي) وهو مؤلف نقدي بالغي وله تآليف في العروض والفرائض وغيرها‪.‬‬

‫الجو العام للقصيدة‬


‫منذ أن قامت دويالت الطوائف في األندلس (القرن الخامس الهجري) وقوة األندلسيين‬
‫تتضاءل في الجزيرة أمام ازدياد قوة أعداءهم في الدول المجاورة‪ .‬وقد طال عمر اإلسالم‬
‫في الجزيرة بسبب موجتين قدمت الواحدة تلوى األخرى من المغرب‪ ،‬وهما دولة‬
‫المرابطين ودولة الموحدين ومنذ أن انحلت دولة الموحدين ودب الضعف فيها من أوائل‬
‫القرن السابع والمدن األندلسية تتساقط في أيدي الدول المجاورة في الحملة الصليبية على‬
‫المغرب والتي عاصرت الحمالت الصليبية على المشرق‪ ،‬فسقطت جزيرة ميورقة سنة‬
‫‪227‬ه‪ ،‬والبونت ‪633‬ه‪ ،‬وقرطبة سنة ‪633‬ه‪ ،‬وبلنسية ‪636‬ه‪ ،‬وشاطبة ودانية سنة ‪638‬ه‪،‬‬
‫ولورقة وقرطاجنة سنة ‪640‬ه‪ ،‬وإشبيلية سنة ‪646‬ه‪ ،‬ومرسية سنة ‪648‬ه‪ ،‬وانحصرت‬
‫دولة األندلس في القسم الجنوبي الشرقي من الجزيرة في مملكة غرناطة تحت حكم بني‬
‫األحمر‪.‬‬
‫لقد عاش الشاعر هذه المحنة وكان شاهدا على قتل األندلسيين وسفك دمائهم وارتداد‬
‫المستضعفين منهم‪ ،‬ورأى امحاء الحضارة العربية اإلسالمية في هذه الربوع فأنشأ‬
‫قصيدته مستثيرا الهمم داعيا أهل المغرب ومن وراءهم إلى نجدة تلك البالد المنكوبة‪.‬‬

‫‪ -5‬فصل تطبيقي‬
‫قصيدة النونية‬
‫‪1‬‬
‫نونية أبي البقاء الرندي في رثاء األندلس‬

‫غر بطيب العيش إنسا ُن‬ ‫فال يُ ُّ‬ ‫لكل شيءٍ إذا ما ت َّم نقصَان‬
‫ِّ‬
‫س َّرهُ َزمن سا َءتهُ أزما ُن‬‫َمن َ‬ ‫هي األمور كما شاهدتها د َُول‬
‫وال يدوم على حا ٍل لها شانُ‬ ‫وهذي الدار ال تُبقي على أحد‬
‫إذا نَبَتْ مشْرفيّاتٌ و ُخرصانُ‬ ‫الدهر حت ًما ك َّل سابغ ٍة‬
‫ُ‬ ‫ق‬
‫يُمز ُ‬
‫يزن والغمد غمدان‬ ‫كان ابنَ ذي َ‬ ‫ولو‬
‫وينتضي ك َّل سيف للفناء ْ‬
‫وأينَ منهُم أكالي ٌل وتيجانُ ؟‬ ‫أينَ الملوك ذَ ُوو التيجان من ٍ‬
‫يمن‬
‫وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟‬ ‫إرم‬
‫وأين ما شاده شدَّا ُد في ٍ‬
‫وأين عاد وشداد وقحطا ُن ؟‬ ‫وأين ما حازه قارون من ذهب‬
‫َّ‬
‫فكأن القوم ما كانوا‬ ‫حتى قَ َ‬
‫ضوا‬ ‫أتى على الك ُِّل أمر ال َمر َّد له‬
‫سنا ُن‬
‫يف و ْ‬
‫كما حكى عن خيال الط ِّ‬ ‫وصار ما كان من ُملكٍ ومن َملِّكٍ‬
‫وأ َّم كسرى فما آواه إيوانُ‬ ‫دار الزمانُ على دارا وقاتِّ ِّله‬
‫َ‬

‫‪ 1‬أثبت المقري قصيدة الرندي في نفح الطيب كما نبه إلى الزيادات التي طرأت عليها‪ ،‬والقصيدة التي تحقق المقري من نسبتها إلى الرندي تبلغ ثالثة وأربعين‬
‫بيتا‪.‬‬
‫سليمان‬ ‫يو ًما وال َملكَ الدُنيا ُ‬ ‫سبب‬
‫ُ‬ ‫س ُهل له‬ ‫كأنما الصَّعب لم ي ْ‬
‫وللزمان مسرات وأحزا ُن‬ ‫ِّ‬ ‫نوعة‬ ‫الدهر أنواع ُم َّ‬ ‫ِّ‬ ‫فجائ ُع‬
‫سلوان‬ ‫وما لما ح َّل باإلسالم ُ‬ ‫يسهلها‬ ‫ِّ‬ ‫سلوان‬ ‫ث ُ‬ ‫وللحواد ِّ‬
‫هوى لَهُ أُحد وانه َّد ثهال ُن‬ ‫دهى الجزيرةَ أمر ال عزا َء لهُ‬
‫حتى َخلت منهُ أقطار وبُلدا ُن‬ ‫أصابها العينُ في اإلسالم فامتحنتْ‬
‫أين َجيَّا ُن‬ ‫وأين شاطبة أ ْم َ‬ ‫َ‬ ‫سيةً‬ ‫فاسأل بَلَ ْنسيةً ما شأ ُن ُم ْر ِّ‬
‫سما فيها لهُ شان‬ ‫عالم قَ ْد َ‬‫من ٍ‬ ‫دار العلوم فكم‬ ‫وأين قُ ْرطبة ُ‬
‫ذب فَ َّياض ومآلنُ‬ ‫ونهرها ال َع ُ‬ ‫حمص وما تحويه من نُ َزه‬ ‫ُ‬ ‫وأين‬
‫عسى البقا ُء إذا لم تَبْقَ أركا ُن‬ ‫أركان البالد فما‬ ‫َ‬ ‫قواعد َّ‬
‫كن‬
‫ف هيما ُن‬ ‫كما بكى لفراق اإل ْل ِّ‬ ‫تبكي الحنيفيةَ البيضا ُء من أسفٍ‬
‫قد أقفرت ولها بالكفر ع ُْم َرا ُن‬ ‫على ديار من اإلسالم خالية‬
‫صلبان‬ ‫فيهن إال نواقيس و ُ‬ ‫َّ‬ ‫حيث المساجد قد صارتْ كنائس ما‬
‫حتى المنابر ترثي وهي عيدا ُن‬ ‫حتى المحاريب تبكي وهي جامدة‬
‫فالدهر يقظا ُن‬ ‫ُ‬ ‫سنَ ٍة‬ ‫إن كنت في ِّ‬ ‫الدهر موعظة‬ ‫ِّ‬ ‫يا غافالً ولهُ في‬
‫غر المر َء أوطا ُن‬ ‫ص تَ ُّ‬ ‫أبَعد ح ْم ٍ‬ ‫وماشيًا مر ًحا يلهيه موطنهُ‬
‫وما لها َم َع طو ِّل الدهر نسيا ُن‬ ‫ستْ ما تقدمها‬ ‫تلك المصيبةُ أ ْن َ‬
‫أدرك بسيفك أهل الكفر ال كانوا‬ ‫يا أيها الملك البيضاء رايته‬
‫السبق عقبا ُن‬ ‫ِّ‬ ‫كأنها في مجال‬ ‫يا راكبين عتاقَ الخي ِّل ضامرةً‬
‫النقع نيرا ُن‬ ‫ِّ‬ ‫كأنها في ظالم‬ ‫وف الهن ِّد ُم ْر َهفة‬ ‫وحاملين سيُ َ‬
‫لهم بأوطانهم عز وسلطا ُن‬ ‫ع ٍة‬
‫وراتعين وراء البحر في َد َ‬ ‫َ‬
‫القوم ُركبا ُن‬ ‫ِّ‬ ‫ث‬ ‫فقد سرى بحدي ِّ‬ ‫أعندكم نبأ ِّم ْن أه ِّل أندلس‬
‫قتلى وأسرى فما يهتز إنسا ُن‬ ‫كم يستغيث بنا المستضعَفون وهم‬
‫وأنت ُم يا عبا َد هللا إخوان‬ ‫ماذا التقاط ُع في اإلسالم بينك ُم‬
‫الخير أنصار وأعوا ُن‬ ‫ِّ‬ ‫أم على‬ ‫أال نفوس أ ِّبيات لها همم‬
‫طغيا ُن‬ ‫أحال حاله ُم كُ ْفر و ُ‬ ‫عزه ُم‬ ‫قوم بع َد ِّ‬ ‫يا من لذل ِّة ٍ‬
‫واليو َم هم في بالد الكفر عبدا ُن‬ ‫باألمس كانُوا ملوكًا في منازلهم‬
‫الذل ألوا ُن‬ ‫ب ِّ‬ ‫عليه ُم من ثيا ِّ‬ ‫فلو تراهم حيارى ال دلي َل لهم‬
‫األمر واستهوتكَ أحزانُ‬ ‫ُ‬ ‫لهالكَ‬ ‫ولو رأيتَ بُكاهم عن َد بيعه ُم‬
‫ق أرواح وأبدا ُن‬ ‫كما تفَ َّر ُ‬ ‫ب أ ُ ٍم وطف ٍل حيل بينهما‬ ‫يا ُر َّ‬
‫كأنما هي ياقوت و َم ْرجا ُن‬ ‫الشمس إذ طلعتْ‬ ‫ِّ‬ ‫و َطفلةً مثل حسن‬
‫والقلب حيرا ُن‬ ‫ُ‬ ‫والعينُ باكية‬ ‫يقودُها العل ُج للمكروه مكرهة‬
‫ب إسالم وإيما ُن‬ ‫إن كان في القل ِّ‬ ‫القلب من كمد‬ ‫ُ‬ ‫يذوب‬
‫ُ‬ ‫لمثل هذا‬

‫توطئة‬
‫سنعتمد من خالل هذه األبيات مقاربة األنساق المضمرة وسنحاول الوقوف على المخبوء‬
‫خلف اإلبالغي والبالغي وال يسعنا في عملنا هذا إال التوجس من كل مباشر وسطحي عبر‬
‫مساءلة الجمالي والبالغي عما يدور في خلده وهكذا اعتمدنا في مقاربتنا لهذه األنساق على‬
‫الجانب المضموني ثم على الجانب الشكلي حيث نلحظ طغيان الغياب والمخاطب والالشخصي‬
‫على المستوى الضمائري‪ .‬إن ما نود أن نؤكده ونقره هو أن هذه الرؤية النسقية التي تراءت لنا‬
‫من خالل إعمال الفكر وإطالة التأمل ومساءلة الظاهر عن المضمر ليست هي الوحيدة وال يمكن‬
‫أن تكون كذلك‪ .‬فالنقد الثقافي وهو يعلن عن موت النقد األدبي واستنفاد إمكانياته المعرفية‪،‬‬
‫ووصوله إلى سن اليأس حيث لم يعد قادرا على اإلتيان بما يجيد ويفيد‪ ،‬وأنه لم يعد إال مجرد آلية‬
‫إلعادة إنتاج خطاب مستهلك بلغت منه الرتابة أيما مبلغ‪ ،‬وهذا موقف الناقد عبد هللا الغذامي كما‬
‫تقدم‪ ،‬إال أن هذا النقد الثقافي لم ينكر إمكانية إفادته من مفاهيم النقد األدبي خاصة اإلجرائية منها‬
‫وهذا ما ذهب إليه ليتش كما تطرقنا إلى ذلك فيما سبق ذكره حيث أكد هذا األخير على إفادة النقد‬
‫الثقافي من مناهج المؤسسة رغم تمرده على قيودها ولعل أهم آلية سيستثمرها هذا النقد الجديد‬
‫هي التأويل النصوصي‪.‬‬
‫لقد ارتبط مفهوم التأويل في بداية التأسيس بالتأويل الرمزي أو الباطني الذي كان يهتم بتفسير‬
‫الكتب المقدسة‪ ،‬ثم تطور ليشمل الثورة المنهجية التي رافقت تحول الوعي النقدي‪ .‬وبما أن‬
‫وظيفة النقد الثقافي هي اكتشاف األنساق المضمرة في النصوص األدبية‪ ،‬وإعادة قراءتها‬
‫بوصفها حادثة ثقافية‪ ،‬فإنها أدعى إلى استعمال التأويل ِتبعا للتصورات التي تقدمها القراءات‬
‫المختلفة للنسق فيختلف معناه و ْفقا لتأويالتها‪ ،‬ألن الكشف عن األنساق المضمرة إنما يتجه إلى‬
‫تأويل النص باعتباره بُنية ثقافية تمارس سلطة الهيمنة وتوجيه الخطاب‪ .‬فالتأويل هو استجالء‬
‫الغموض في نص أو خطاب معين أو تحويل معناه من لغة ألخرى أو إضفاء معنى محدد عليه‬
‫قصد إدراكه‪ .‬وحتى بالعودة إلى المعنى اللغوي للتأويل نجد اللفظة مأخوذة من آل وأول وهو‬
‫الرجوع ويقال ‪:‬أول الكالم تأويال ‪:‬أي إذا تدبره‪ ،‬وقدره برده إلى أصله‪ ،‬أي داللته الحقيقية‪.‬‬
‫وعليه يمكن االستنتاج أن التأويل هو إعادة إنتاج النص الخطابي بإخضاعه لمجموع التفاعالت‬
‫المحيطة به والمؤثرة فيه من أجل الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬وبما أن األنساق الثقافية هي قراءة‬
‫ثقافية للنص الخطابي فإنه يمكن االعتماد بشكل كبير على الجهد التأويلي واالستنباطي للكشف‬
‫عن األنساق الثقافية المضمرة‪.‬‬
‫إن القارئ ال غنى له عن آلية التأويل سواء أتصدى لقراءة نص معاصر أم نص قديم قراءة‬
‫ثقافية‪ .‬وإذا كان القارئ في قراءته الثقافية للنصوص الحديثة أو المعاصرة يحتاج إلى وعي‬
‫بالمؤلف والثقافة واللغة وهي هنا مشتركة‪ ،‬أي بتعبير آخر هناك موافقة بين شفرة النص‬
‫الثقافية ومرجعيات القارئ الثقافية‪ ،‬فاألمر يتطلب وعيا فائقا من القارئ عندما ما تختلف‬
‫شفرة النص الثقافية مع مرجعياته وال تتوافق معها بفعل الزمن‪ ،‬كأن يباشر القارئ المعاصر‬
‫قراءة النص القديم قراءة ثقافية‪.‬‬
‫أوال على مستوى المضمون‬
‫نسق الجهل والتراخي وقلة الحزم‬
‫يطالعنا الشاعر في مستهل قصيدته بمسلمات حكمية كل ما يقال عنها أنها مستقاة من قاموس‬
‫التجربة ومن مرجعياته الدينية التي تنبئ عن تشبع شاعرنا بالرؤية الدينية للحياة والوجود‪،‬‬
‫فالحياة الدنيا وفق هذا التصور ال تعدو كونها قنطرة عبور نحو حياة أبدية وهكذا خاطبنا‬
‫القرآن الكريم "(يا أيها الناس إن وعد هللا حق فال تغرنكم الحياة الدنيا وال يغرنكم باهلل‬
‫الغرور)(‪ )1‬وهكذا فاإلنسان على المستوى الفردي مندوب إلى المسارعة في االستجابة لنداء‬
‫الحق واللحاق بركب الصالحين الذين يسارعون في الخيرات والمنافسة في األعمال الحسنة‬
‫(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عمال)(‪.)2‬واأليام جعلها هللا دوال بين معسكر‬
‫الكفر ومعسكر اإليمان وهكذا تكون القاعدة الكونية يوم لك ويوم عليك سارية المفعول وفق‬
‫هذا اإلعالن (وتلك األيام نداولها بين الناس)(‪ )3‬فالدنيا سنها خداع كما يقال في المثل الدارج‬
‫فما تخفي بابتسامتها إال وجها عبوسا قمطريرا وما تفرش حريرها إال على بسط الشوك إنها‬
‫شبيهة بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد هللا عنده فوفاه‬
‫حسابه وقبل هذا اللقاء الجلل فإنه يكتوي بتقلباتها ويرى بأم عينيه فعلها بأهلها فأين الملوك‬
‫ذوو الهامات التي كانت تخر لها الجبابرة ‪ ،‬فأين الملك والمملوك وأين الظالم والمظلوم وأين‬
‫القاتل والمقتول‪ ،‬دارت عليهم رحى الدهر وجرت عليهم سنة هللا في خلقه (كل من عليها فان‬
‫ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام)(‪ .)4‬وإلذكاء هذه الرؤية المتشبعة بحقيقة (المؤمن يتزود‬
‫والكافر يتمتع)(‪ ،)5‬فإن الشاعر عاد إلى التاريخ سواء التاريخ الحقيقي كتاريخ الفرس والروم‬
‫وعاد وقحطان أو التاريخ األسطوري كتاريخ حمير مع البطل سيف بن ذي يزن كما وردت‬
‫أ خباره في السير الشعبية ‪ ،‬عاد إليه ليستقي شهادات حية عن مصير ملوك مألوا الدنيا جورا‬
‫وطغيانا أو عدال وإحسانا كحال نبي هللا سليمان‪ ،‬انقضى عهدهم وانطوت مشيداتهم واندثرت‬
‫حضاراتهم وعاد الحديث عنهم كما يحكي المستيقظ من حلمه عن أطياف عرضت له وهو‬
‫وسنان‪ .‬إن هذه الحقائق التي أطلت علينا من خالل أشكال بالغية توزعت ما بين االستعارة‬
‫المكنية في قوله‪:‬‬
‫إذا نبت مشرفيات وخرصان)‪ ،‬حيث شبه‬ ‫( يمزق الدهر حتما كل سابغة‬
‫الدهر بإنسان وحذف المشبه به وذكر إحدى لوازمه وهو مزق وما بين الجناس كما في قوله‪:‬‬
‫وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ )‪ ،‬وقوله‬ ‫إرم‬
‫(وأين ما شاده شدَّا ُد في ٍ‬
‫سنانُ)‬‫يف و ْ‬
‫كما حكى عن خيال الط ِّ‬ ‫(وصار ما كان من ُملكٍ ومن َملِّكٍ‬
‫والطباق كما في قوله‪:‬‬
‫س َّرهُ َزمن سا َءتهُ أزمان( ‪ ،‬ما الذي‬
‫َمن َ‬ ‫(هي األمور كما شاهدتها د َُول‬
‫توارى خلف هذه المباهج الفنية؟ ألم يتستر خلفها نسق الجهل بالسنن الكونية؟ إن حكام األندلس‬
‫أقل ما يقال عنهم وهم في غفلتهم سادرون بينما العدو يتربص الفرصة لإلجهاز عليهم‪ ،‬أنهم‬
‫مغرورون‪ ،‬ركنوا إلى الدعة والسكينة مطمئنين إلى الحياة الدنيا مأخوذين بزينتها‪ ،‬متلذذين‬
‫بشعراء وصف الطبيعة الغناء وبشعر النسيب والهثين خلف جمال األندلس األخاذ مفتونين‬
‫بطبيعة تسبي القلوب‪ ،‬لم يخطر ببالهم قانون (حتى إذا أخذت األرض زخرفها وازينت وظن‬
‫أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن باألمس)(‪،)6‬‬
‫وكان حالهم حال من ذمه القرآن وهو يقرر (إن الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين‬

‫‪ 1‬سورة فاطر اآلية ‪5‬‬


‫‪ 2‬سورة الملك من اآلية ‪2‬‬
‫‪ 3‬سورة آل عمران من اآلية ‪140‬‬
‫‪ 4‬سورة الرحمن اآليتان ‪ 24‬و‪25‬‬
‫‪ 5‬من أقوال موالنا محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح الجيالني قدس هللا سره في المجلس الخامس عشر‪ ،‬الفتح الرباني والفيض الرحماني‬
‫‪ 6‬سورة يونس من اآلية ‪24‬‬
‫هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما يكسبون)(‪ ،)1‬لقد رضي حكام األندلس بدنياهم‬
‫المبتهجة وغفلوا عن إعداد العدة لحماية الثغور اإلسالمية التي كانت على شفا جرف هار‬
‫وتراخوا وقل حزمهم في أن يستعدوا لألسوأ ألن عدوهم كان يتربص فرصة سانحة لمباغتتهم‬
‫واالنقضاض على ملكهم منذ أن وطئت أقدامهم تلك البقعة النائية وهكذا صار حالهم إلى‬
‫تضييع ملك األندلس وتسليم أرض فتحها رجال بدمائهم وفدوها بمهجهم فصدق فيهم قول‬
‫الشاعر‪:‬‬
‫سنانُ)‪،‬‬ ‫يف و ْ‬ ‫كما حكى عن خيال الط ِّ‬ ‫(وصار ما كان من ُملكٍ ومن َم ِّلكٍ‬
‫وهكذا نخلص في مطلع القصيدة إلى نسق الجهل بالسنن الكونية والتراخي وغياب وقلة الحزم‬
‫الذي طبع الحياة السياسية إبان فترة حكم أمراء الفتنة زمن سقوط األندلس‪.‬‬
‫نسق الالمباالة بمصائب األمة‬
‫لقد أحسن الشاعر التخلص من مطلع القصيدة المليء بالحكم والعبر التي تتخذ من وقائع‬
‫التاريخ شهادة حية على دقتها وبعد نظرها‪ ،‬حيث شرع في بسط المصاب الجلل وهو يعلن‬
‫أن فجائع الدهر أنواع منوعة وأن الزمان له مسرات وأحزان ليهيئنا لجو الحزن الذي سيطغى‬
‫على جو القصيدة فيما يأتي كيف ال وهو يخبرنا أن فقد األندلس تأثرت به الطبيعة وتفاعل‬
‫معه جبالن هما ثهالن وأحد حيث دكا من هول الخطب الذي أصاب جزيرة اإلسالم في مقتلها‪،‬‬
‫إن الشاعر أعلن هذه التجربة وهو يحاكي موقفا قرآنيا حين تجلى هللا بنوره للجبل فجعله دكا‬
‫(فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا)‪ ،‬لعل الشاعر وهو يبسط هذه التجربة‬
‫الرائعة التي صورت بدقة متناهية حجم الكارثة التي ألمت باألندلس لم يدر أنه كان يدلنا عن‬
‫نسق مضمر طبع الحياة السياسية هناك وهو الالمباالة بمصائب األمة فالحكام عاشوا على‬
‫إيقاع اللهو والطرب ال يهمهم أسقطت الثغور أم سلبت كل همهم هو الحفاظ على مواطنهم‬
‫وإن كانت عبارة عن قطع مقتطعة من مملكة األندلس الكبرى لقد عاش ملوك الطوائف ضمن‬
‫كيانات مجزأة وهم كل حاكم أن يحفظ كرسي كيانه وإن كان على حساب سقوط كيانات أخرى‬
‫في يد العدو وهذا ما أنكره الشاعر على حكام الفرقة من خالل قوله‪:‬‬
‫غر المر َء‬ ‫ص تَ ُّ‬ ‫حم ٍ‬
‫أبَعد ْ‬ ‫وماشيًا مر ًحا يلهيه موطنهُ‬
‫أوطا ُن‬
‫حيث يؤكد ما ذهبنا إليه في أن ملوك الطوائف اشتغلوا بخويصة أنفسهم غير مكثرتين لما حل‬
‫بباقي ممالك األندلس فانكر عليهم الشاعر هذا التصرف األرعن الذي ينبئ عن أنانية مستعلية‬
‫وتفان في الذاتية ونكران اآلخر ناسين حقيقة المسلمة التي يقرها هذا اإلعالن النبوي (مث ُل‬
‫عضْو ِم ْنهُ تداعى لهُ سا ِئ ُر‬ ‫ْال ُمؤْ ِم ِنين ِفي تو ِاد ِه ْم‪ ،‬وترا ُح ِم ِه ْم‪ ،‬كمث ِل ْالجس ِد ْالو ِ‬
‫احدِ‪ِ ،‬إذا ا ْشتكى ُ‬
‫ْاألعْضا ِء ِب ْال ُح َّمى‪ ،‬والسَّهر)‬
‫نسق الخذالن‬
‫والمرحلة التالية من نونية ابن الرندي هي مرحلة استنفار المسلمين الذين يقيمون في‬
‫شمال افريقية ‪ ،‬وهو ال يقف عند مجرد االستغاثة وإثارة الحماس ‪ ،‬وإنما يستغضب القوم‬
‫ويكاد يسخر من تقاعسهم ‪ ،‬بل إنه يذهب إلى مدى أبعد وهو تقريعهم وتوبيخهم باسم األخوة‬
‫اإلسالمية والرابطة الدينية‪ ،‬فالشاعر ينادي أمراء المسلمين في شمال إفريقية مستنهضا همتهم‬
‫وضاربا على وتر فروسيتهم‪ :‬يا من تمتطون صهوات الخيل الكريمة التي تشبه العقبان سرعة‬

‫‪ 1‬سورة يونس اآلية ‪7‬‬


‫وطيرانا ‪ ،‬وأنتم تحملون السيوف الهندية المرهفة وكأنها وسط النقع نيران مضيئة ‪ ،‬ويا أيها‬
‫المنعمون المطمئنون في أوطانهم ‪ ،‬المتمتعون بعزهم وسلطانهم هل بلغكم خبر إخوانكم‬
‫المسلمين في األندلس ‪ ،‬وقد طارت أحاديث نكبتهم؟ لقد تكررت استغاثات األندلسيين‬
‫المستضعفين بعد أن غلبوا على أمرهم ودارت الدائرة عليهم وشهد ظالم النكبة قتالهم‬
‫وأسراهم‪ ،‬ولكن ما خف أحدكم لنجدتهم وإغاثتهم‪ ،‬وال أرى – إخوة اإلسالم – سببا لهذا التناكر‬
‫والتخاذل فيما بينكم‪ ،‬والدين والحمد هلل قد آخى بينكم‪ ،‬تعال فجاهد فهذا بعض خبرنا لمن كان‬
‫في قلبه إسالم وإيمانُ) (‪)34‬‬

‫نعم بعد أن أخبر الشاعر أن مصيبة األندلس ناسخة راسخة‪ ،‬حيث لم يعد بد في كونها أجل‬
‫المصائب التي اجتاحت دار اإلسالم وأن األيام غير قادرة على محو جرحها من الذاكرة‬
‫الجمعية‪ ،‬فإذا كانت األيام قادرة على طمر اآلالم واألحزان فإن أحزان األندلس وجراحاتها‬
‫هي التي ستخيم على مستقبل األيام وستعلو مسحة الحزن على فقدها وجه األيام فال ترى فيما‬
‫يستقبل من الزمان ثغرا باسما وال وجها ناضرا وهكذا تنهد شاعرنا المجروح‪:‬‬
‫وما لها َم َع طو ِّل الدهر‬ ‫ستْ ما تقدمها‬ ‫تلك المصيبةُ أ ْن َ‬
‫نسيا ُن‬
‫بعد عرض هذه الحقيقة المرة ركب الشاعر أسلوبا إنشائيا توزع بين النداء واالستفهام متوجها‬
‫إلى جيران األندلس المسلمين مثنيا عليهم بما يملكون من وسائل القوة التي تتراوح بين الخيل‬
‫السريعة والسيوف المرهفة والفرسان البواسل وذاكرا إياهم بما يتنعمون فيه من الرخاء والعز‬
‫والسلطان‪:‬‬
‫السبق‬
‫ِّ‬ ‫كأنها في مجال‬ ‫ق الخي ِّل ضامرةً‬ ‫يا راكبين عتا َ‬
‫عقبا ُن‬
‫كأنها في ظالم النقعِّ‬ ‫وف الهن ِّد ُم ْر َهفة ً‬‫وحاملين سيُ َ‬
‫نيرانُ‬
‫لهم بأوطانهم‬ ‫ع ٍة‬
‫وراتعين وراء البحر في َد َ‬ ‫َ‬
‫عز وسلطانُ‬
‫ثم بادر الشاعر إلى سؤالهم‪ ،‬إن كان عندهم خبر بما حل باألندلس وهل عندهم نبأ من أنباء‬
‫الدائرة التي دارت عليها‪ ،‬وهل بلغهم استصراخها ليختم تساؤله بمدى استعدادهم لتقديم يد‬
‫المساعدة إلخوانهم في األندلس ونصرتهم‪.‬‬
‫إن الجو العام السياسي الذي خيم في المغرب وهو المقصود عند الشاعر في هذه المرحلة من‬
‫القصيدة يشي بأن كل هذه األساليب التي عمد إليها الشاعر تنم عن التعريض بموقف المغرب‬
‫حينئذ من قضية األندلس الذي طبعه الخذالن حيث لم تكثرت الدولة المرينية لما حل باألندلس‬
‫ولم تهب لنجدتها كما فعلت الدولة المرابطية التي استطاعت باستماثتها أن تزيد في عمر‬
‫األندلس ما يربو على قرنين من الزمان وكأن لسان حال المغرب يقول "هذي تروسي أدفع‬
‫بها عن عرضي وإن ديس عرضي أحمي تروسي‪".‬‬
‫القوم‬
‫ِّ‬ ‫ث‬
‫فقد سرى بحدي ِّ‬ ‫أعندكم نبأ ِّم ْن أه ِّل أندلس‬
‫ُركبانُ‬
‫قتلى وأسرى فما يهتز‬ ‫كم يستغيث بنا المستضعَفون وهم‬
‫إنسا ُن‬
‫وهكذا نستشف أن هذا المقطع يتوارى من تحته نسق الخذالن الذي رفضته المرجعية‬
‫اإلسالمية معتبرة إياه بعيدا عن مستلزمات األخوة اإليمانية التي تقتضي التعاون في السراء‬
‫والضراء واالنضواء تحت حلف موحد يهب كلما دعت الحاجة لنصرة المستغيث درءا للفساد‬
‫الذي يلحق باألمة وإبعادا لفتنة األعداء الذين يتربصون بهم الدوائر (والذين كفروا بعضهم‬
‫أولياء بعض‪ ،‬إال تفعلوه تكن فتنة في األرض وفساد كبير)‬
‫إن نسق النصرة في المنظومة القيمية اإلسالمية نسق مركزي يتحدد بإزائه نسق الخذالن‪،‬‬
‫وهو أي الخذالن؛ مذموم يعبر عن ضعف اإليمان وغلبة الشهوات على الروحانيات فكلما‬
‫غلبت الشهوة نزع اإلنسان نحو أصله الطيني فصار ثقيال ال يهب لنصرة وال يسارع لنجدة‬
‫لذلك عاب القرآن عن المتخلفين عن غزوة تبوك بقوله (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل‬
‫هللا اثاقلتم إلى األرض‪ ،‬أرضيتم بالحياة الدنيا من اآلخرة؟)‬
‫إن ما يعضد ما ذهبنا إليه هو استفهام الشاعر في قوله‪:‬‬
‫وأنت ُم يا عبا َد هللا‬ ‫ماذا التقاط ُع في اإلسالم بينك ُم‬
‫إخوان‬
‫إن ما ميز العالقات الخارجية بين األندلس والمغرب في حينها هو انشغال كل قطر بإخماد‬
‫نار الفتنة الداخلية وترتيب أوراقه وغياب الوحدة والتنسيق من أجل رؤية موحدة للمصير‬
‫المشترك فطبعت العالقات بالتقاطع والجفاء وهو من أهم إفرازات الخذالن المسمومة لهذا‬
‫تعمقت أزمة الشاعر وهو يتساءل وهو يتساءل في حيرة وحزن عميق‪:‬‬
‫الخير أنصار وأعوانُ‬
‫ِّ‬ ‫أما على‬ ‫أال نفوس أ ِّبيات لها همم‬

‫نسق الالغيرة‬
‫ويرتدي الرندي مسوح الحكيم ‪ ،‬ويلبس ثياب الواعظ ‪ ،‬فيدعو المسلمين إلى التماسك ونبذ‬
‫التقاطع والتخاصم ‪ ،‬كما يدعوهم إلى أخذ العظة والعبرة مما حدث إلخوانهم في األندلس حتى‬
‫ال يحدث ذلك في بقعة أخرى من بقاع اإلسالم ‪ ،‬ويستحثهم لنصرة الدين والحفاظ على قواعده‬
‫القليلة الباقية في األندلس‪ ،‬فأخذ يرسم لوحات حزينة تصور مأساة أهل األندلس‪ ،‬فيصف حال‬
‫القوم وما قد انحدروا إليه من ذل بعد عز‪ ،‬وعبودية بعد سيادة ‪ ،‬وضياع بعد منعة‪ ،‬هنا يكون‬
‫النهوض أوجب والفزع ألزم فالحرمات تنتهك‪ ،‬وإال فالعجب في افتقاد نفوس تأبى الضيم ‪،‬‬
‫ومن مسلمين ليسوا على الخير بأعوان‪.‬‬
‫إنه يستحث اإلخوان ليغيثوا من بدَّل الطغاة من الغزاة حالهم‪ ،‬فذلوا بعد عزة‪ ،‬وضعفوا بعد‬
‫قوة‪ ،‬وصاروا عبيدا في ديار كانوا عليها ملوكا‪ ،‬إنك لو رأيت حيرتهم وهم يكتسون ثياب الذل‬
‫والمهانة‪ ،‬وسمعت بكاءهم لحظة بيعهم بيع الرقيق‪ ،‬وعرضهم عرض السلع في األسواق‬
‫ألفزعك أمرهم وروعك مظهرهم‪ ،‬وكيف ال تفزع والخطب جلل والمصائب فيهم تتعاقب؟‬
‫وليس أشد وأنكى من التفريق بين األم وولدها كما يفرق بين الروح والجسد‪ ،‬وليس أفظع‬
‫وأخزى من أن تساق الفتاة الرخصة الناعمة إلى الفجور مرغمة‪ ،‬ومدفوعة إليه دفعا‪ ،‬ال تملك‬
‫من أمرها سوى حيرة الحزن ومرارة البكاء‪ ،‬لمثل هذا يذوب القلب حسرة وألما‪ ،‬وأسى وأسفا‪،‬‬
‫هذا إن كان في القلب إسالم وإيمان‪.‬‬
‫إن الجو السياسي العام كان يدعو إلى اليأس واإلحباط‪ ،‬لم يكن هناك أمل في أن أهل المغرب‬
‫سيهبون مسرعين لنجدة إخوانهم األندلسيين‪ ،‬بل لم يكن هناك أمل في استعادة البقاع التي‬
‫استولى عليها ا لنصارى بقيادة حاكم مملكة قشتالة‪ ،‬فعمد الشاعر إلى تصوير حالة الذل التي‬
‫أصبح عليها أهل الجزيرة فبعد ما كانوا ملوكا معززين صاروا عبادا يباعون في سوق النخاسة‬
‫وفرق العدو بين األم وابنها وسيقت العذارى من النساء مكرهات على الفاحشة لقد أبكى‬
‫الشاعر كل الدنيا وهو يماثل بين فراق األم وابنها وفراق الروح لجسدها وهو يعلن‪:‬‬
‫كما تفَ َّر ُ‬
‫ق أرواح وأبدا ُن‬ ‫يا ُر َّب أ ُ ٍم وطف ٍل حيل بينهما‬
‫صحيح‪ ،‬إذا كانت لحظة فراق الروح للجسد تجسد حقيقة الموت البيولوجي فإن لحظة فراق‬
‫الطفل ألمه تجسد حقيقة الموت في أبعاده الحضارية واإلنسانية التي وسمت حياة األندلس‬
‫على آخر عهدها‪ ،‬فبعد أن كانت األندلس رمزا للحياة والنشاط واألمل والحبور والسرور‬
‫صارت رمزا للذبول واألفول وسرى نقع الحمام في أوصالها ودب اليأس في عروقها‬
‫وأوصالها‪.‬‬
‫لقد كان الشاعر على قدر كبير من الصواب وعلى ضرب عال من الدقة وهو يبسط هذه‬
‫الحقيقة المحزنة‪ ،‬حقيقة الموت الذي أناخ بكله وكلكله على حياة األندلسيين حيث تحولت إلى‬
‫جحيم ال يطاق واستحالت معه كل فرصة للعودة إلى الماضي التليد كما يستحيل عودة الروح‬
‫إذا فارقت جسدها فما يستقبل أهل األندلس إال أيام سود وما ينتظرهم إال مستقبل كالح‪.‬‬
‫إذا سلمنا بكل هذا فما الذي أخفاه بليغ القول وجميله في هذه المرحلة األخيرة من قصيدته‬
‫الرائعة؟‬
‫إن الشاعر وهو يصور حقيقة حياة الذل التي انقلب إليها حال أهل األندلس موازاة مع علمه‬
‫التام بال جدوى دعوته لنصرة أهل األندلس لم يكن في حقيقة األمر عمله هذا إال إعالنا عن‬
‫نسق متوار خلف كل هذا إنه نسق الالغيرة‪ ،‬حيث ال فائدة من ضرب الحديد البارد‪.‬‬
‫إن الغيرة نسق اجتماعي مركزي في الحياة العربية منذ العصر الجاهلي ولئن عرف هذا‬
‫المفهوم تجاوزا صارخا في العصر الجاهلي وصل به على المستوى االجتماعي إلى وأد‬
‫البنات غيرة على العرض‪ ،‬ثم إلى إضرام نار الحروب غيرة على القبيلة وذلك على المستوى‬
‫السياسي‪ ،‬وإلى بروز غرض الهجاء في الشعر العربي على المستوى الثقافي‪ .‬فإن هذا المفهوم‬
‫عرف تشذيبا وتهذيبا في العصر اإلسالمي فصارت الغيرة المحمودة غيرة على الحرمات‬
‫والمقدسات والمحارم التي حرمها الشرع وعلى األعراض‪ ،‬وقد تبرأ الدين من كل مظاهر‬
‫الالغيرة واعتبرها منافية لمكارم األخالق‪ .‬إن الغيرة في حقيقة األمر هي دليل على اكتمال‬
‫اإليمان والرجولة وعلو الكعب في الدين ومؤشر قوي على قوة اإليمان فالذي ليس في قلبه‬
‫غيرة على نساء المسلمين أيا كان موقعهن في خريطة الروابط االجتماعية هو في حقيقة األمر‬
‫خاوي الوفاض في مضمار الدين وضعيف اإليمان وبعيد كل البعد عن حقيقة المؤمن الصادق‬
‫المتشوف لكمال االحسان‪ ،‬لهذا ختم الشاعر هذه القصيدة بهذا البيت الرائع‪:‬‬
‫ب إسالم‬
‫إن كان في القل ِّ‬ ‫القلب من كمد‬
‫ُ‬ ‫يذوب‬
‫ُ‬ ‫لمثل هذا‬
‫وإيما ُن‬
‫نعم لقد كان شاعرنا المفدى محقا وكان على علم أن هذا القلب لن يذوب من كمد فهو قلب ديوث‬
‫الغيرة له على أعراض بنات األندلس الالتي حالهن‪:‬‬
‫كأنما هي ياقوت‬ ‫الشمس إذ طلعتْ‬
‫ِّ‬ ‫و َطفلةً مثل حسن‬
‫و َم ْرجا ُن‬
‫والقلب‬
‫ُ‬ ‫والعينُ باكية‬ ‫يقودُها العل ُج للمكروه مكرهة ً‬
‫حيرا ُن‬
‫نعم لقد كان واثقا بأن هذا الكيان لن يهتز لهذا المشهد المنتهك للعرض والشرف‪ ،‬لقد كان جازما‬
‫جزما قاطعا أن هذا القلب ال يلوي على خير وال يستنير بإسالم وال ينضح بإيمان‪.‬‬
‫نسق الحضارة‬
‫لقد علمنا الشاعر العربي أنه دائم الحنين كثير الشوق صادق الرثاء عظيم التفجع يبكي كل‬
‫صغيرة وكبيرة‪ ،‬فحتى األطالل البالية وحتى الرسوم الدارسة لم تسلم من بكاء الشاعر العربي‬
‫يبكيها كما يبكي القبيلة والوطن المسلوب وكما يبكي فراق األحبة ترى ما الذي كان يبكي‬
‫شاعرنا في هذه القصيدة وما الذي جعله يتفجع حتى يعلن أن حال قلبه وصل به الحد إلى الذوبان‬
‫من هول التجربة التي يعبر عنها‪،‬‬
‫ب إسالم‬
‫إن كان في القل ِّ‬ ‫القلب من كمد‬
‫ُ‬ ‫يذوب‬
‫ُ‬ ‫لمثل هذا‬
‫وإيما ُن‬
‫إن الشاعر في حقيقة األمر كان يبكي حضارة متكاملة األبعاد وكانت بالفعل حضارة تستحق‬
‫البكاء‪.‬‬
‫إن الفتح العربي إلسبانيا لم يكن احتالال عسكريا بل كان حدثا حضاريا هاما وحركة تحرير‬
‫للشعوب اإلسبانية فقد امتزجت حضارة سابقة كالرومانية والقوطية مع حضارة جديدة هي‬
‫الحضارة العربية االسالمية‪ ،‬ونتج عن هذا المزج والصهر حضارة أندلسية مزدهرة أثرت في‬
‫الحياة األوربية وتركت آثارا عميقة مازالت تتراءى مظاهرها بوضوح حتى اليوم‪ .‬حضارة‬
‫ذات أبعاد دينية وسياسية وعلمية‪:‬‬
‫على مستوى الدين‪ ،‬إن إعالن الشاعر عن تفجع أحد وثهالن‪ ،‬في المصاب الجلل أخفى النسق‬
‫الديني لألندلس الذي يتقيد بالتعاليم السمحة ونشر الخير والمحبة بين أهل األندلس على اختالف‬
‫مشاربهم بدءا بنشر العدل واحترام المعتقد‪.‬‬
‫باستكمال حركة تحرير إ سبانيا استقر العرب والبربر مع سكان البالد‪ ،‬وكان للسلوك العربي‬
‫االنساني أثر كبير في تآلف القلوب إذ لم يلبث العرب أن أنسوا إليهم وحصل التزاوج‬
‫والمصاهرة بينهم(‪ )1‬فنشأت طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة المولدين التي هي خليط من دم‬
‫أهل البالد األصليين ودم العرب والبربر‪ ،‬كما ظهرت طبقة جديدة أخرى هي طبقة المستعربين‬
‫وهم اإلسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية‪ ،‬ولكنهم تعربوا بعد دراسة اللغة‬
‫العربية وآدابها وثقافتها‪)2(.‬وأحسن العرب سياسة سكان إسبانيا‪ ،‬فقد تركوا لهم كنائسهم‬
‫وقوانينهم وأموالهم وحتى المقاضاة إلى قضاة منهم‪ ،‬ولم يفرضوا عليهم سوى جزية سنوية‬
‫صغيرة‪ ،‬ولم يبق للعرب إال أن يقاتلوا الطبقة األرستقراطية المالكة لألرضين(‪.)3‬‬
‫وحرص العرب على الوفاء بعهودهم ألهل الذمة حتى في الحاالت التي كان يبدو للمسلمين‬
‫أنهم خدعوا فيها‪ ،‬وقد وفى العرب رغم ذلك فقال الرازي‪( :‬فمضوا (العرب) على الوفاء لهم‬
‫وكان الوفاء عادتهم)(‪.)4‬‬
‫والحقيقة أن العرب األولين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إيمان العرب برسالتهم‬
‫االنسانية التي كان لها أثرها الكبير في اجتذاب أهل الذمة إلى االسالم واقناعهم بعدالة الدولة‬
‫العربية‪ ،‬وهذا هو السر في إقبال أهل الذمة على الدخول بأعداد كبيرة في االسالم‪ ،‬وأدى ذلك‬
‫إلى دخول كثير من الكلمات االسالمية واستعمالها بألفاظها العربية من قبل سكان األندلس مثل‬
‫كلمة هللا ‪ ، Alah‬القرآن ‪ ، Alcoran‬الحديث ‪ ، Hadith‬االسالم ‪ ،Alislam‬الفتوة‬
‫‪ ،Alfatea‬رمضان ‪ ،Ramadan‬السنة ‪ ،Alsonna‬السالم عليك ‪ ،Al-salamalec‬سورة‬
‫‪ ،Saurate‬مؤذن ‪ ،Muezzin‬رب ‪ ،Rab‬بركة ‪ ،Baraka‬ابليس ‪ ،Elb'is‬جن ‪ ،Djiun‬حرام‬
‫‪ ،Haramu‬زكاة ‪ ،Zekkat‬هجرة ‪ ،Hegira‬طلسم ‪ ،Talisema‬وقف ‪،Wakouf‬‬
‫(‪(5‬‬
‫خراج‪. Carath‬‬
‫لقد أثر العرب في أخالق الشعوب النصرانية فقد علموهم التسامح الذي هو أثمن صفات‬
‫االنسان‪ ،‬وبلغ حلم عرب األندلس نحو األهلين مبلغا كانوا يسمحون ألساقفتهم أن يعقدوا‬
‫مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية الذي عقد سنة ‪782‬م‪ ،‬ومؤتمر قرطبة الذي عقد سنة ‪852‬م‪،‬‬
‫وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من األدلة على احترام العرب‬
‫لمعتقدات األمم التي خضعت لسلطانهم‪ ،‬فغدا اليهود والنصارى مساوين للمسلمين قادرين مثلهم‬
‫(‪)6‬‬
‫على تقلد مناصب الدولة‪.‬‬
‫لقد كانت مظاهر التدين قوية وجو اإلسالم السمح يخيم على الوجود األندلسي وبلغ بها حد القوة‬
‫إلى أن أصابتها العين فخلت من هذا الدين أقطار شتى وبلدان عديدة‪،‬‬
‫حتى َخلت منهُ أقطار وبُلدا ُن‬ ‫أصابها العينُ في اإلسالم فامتحنتْ‬

‫‪ 1‬حسين مونس‪ :‬فجر االسالم ص‪421‬‬


‫‪ 2‬العبادي‪ :‬في التاريخ العباسي واالندلسي ص‪.316‬‬
‫‪ 3‬لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪.266‬‬
‫‪ 4‬المقري‪ :‬نفح الطيب جـ‪ 1‬ص‪247‬‬
‫‪ 5‬توفيق عزيز‪ :‬المعجم الفرنسي ذات األصل العربي ص‪ 37‬رسالة متريز غير منشورة جامعة مونبليه الثالثة‪.‬‬
‫‪ 6‬لوبون‪ :‬حضارة العرب ص‪277‬‬
‫نعم لقد شكل سقوط األندلس سياقا تاريخيا للتفسخ الديني واالنحالل العقدي إلى حد بكاء الحنيفية‬
‫بعد رحيلها عن هذا القطر‪ ،‬إن الحنيفية رمز للدين والصراط المستقيم والملة الصحيحة " قل‬
‫(‪)1‬‬
‫صدق هللا فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان المشركين"‬
‫على المستوى السياسي‪ ،‬شكل الوجود اإلسالمي في األندلس طالع يمن على أهل األندلس‪ ،‬إن‬
‫ذكر الملك سيف بن ذي يزن وهو ملك صالح وذكر النبي الملك سليمان عليه السالم في سياق‬
‫الحديث عن كسرى وقارون وشداد وعاد وقحطان وملوك اليمن الذين دارت عليهم رحى الدهر‬
‫في مقابلة بين أهل الصالح وهم قلة وأهل اإلفساد وهم كثرة كان وجها جماليا أضمر نسق‬
‫الحكم اإلسالمي العادل في أهل األندلس حيث أن المصادر التاريخية تجمع على أن أوروبا‬
‫قُبيْل الفتح اإلسالمي لألندلس كانت تعيش فترة من فترات الجهل الفاضح‪ ،‬والتخلف البالغ‪،‬‬
‫فكان الظلم هو القانون السائد‪ ،‬فالحكام يمتلكون األموال وخيرات البالد‪ ،‬والشعوب تعيش في‬
‫بؤس كبير‪ ،‬والحكام بنوا القصور والقالع والحصون‪ ،‬بينما عامة الشعب ال يجد المأوى وال‬
‫السكن‪ ،‬وإنما هم في فقر شديد‪ ،‬بل إنهم يباعون ويشترون مع األرض‪ ،‬وبالنسبة للفرد نفسه‪،‬‬
‫فاألخالق متدنية‪ ،‬والحرمات منتهكة‪ ،‬وبُعد حتى عن مقومات الحياة الطبيعية‪ ،‬فالنظافة‬
‫الشخصية ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬مختفية بالمرة‪ ،‬حتى إنهم كانوا يتركون شعورهم تنسدل على‬
‫وجوههم وال يهذبونها‪ ،‬وكانوا ‪ -‬كما يذكر الرحالة المسلمون الذين جابوا هذه البالد في هذا‬
‫الوقت ‪ -‬ال يستحمون في العام إال مرة أو مرتين‪ ،‬بل يظنون أن هذه األوساخ التي تتراكم على‬
‫أجسادهم هي صحة لهذا الجسد‪ ،‬وهي خير وبركة له!!‪ .‬وكان بعض أهل هذه البالد يتفاهمون‬
‫باإلشارة‪ ،‬فليست لهم لغة منطوقة أصال فضال عن أن تكون مكتوبة‪ ،‬وكانوا يعتقدون بعض‬
‫اعتقادات الهنود والمجوس من إحراق المتوفى عند موته وحرق زوجته معه وهي حية‪ ،‬أو‬
‫حرق جاريته معه‪ ،‬أو من كان يحبه من الناس‪ ،‬والناس يعلمون ذلك ويشاهدون هذا األمر‪،‬‬
‫فكانت أوربا بصفة عامة قبل الفتح اإلسالمي يسودها التخلف والظلم والفقر الشديد‪ ،‬والبعد التام‬
‫المدنية‪...‬‬ ‫أو‬ ‫الحضارة‬ ‫أوجه‬ ‫من‬ ‫وجه‬ ‫أي‬ ‫عن‬
‫لقد شكل التواجد اإلسالمي في األندلس طفرة حضارية غيرت وجه األندلس وكان أهم ما‬
‫تحقق هو النهضة العلمية التي أرخت بظاللها على أوروبا وشكلت بداية نهضتها الحضارية‪،‬‬
‫حيث نسجل أنه‪:‬‬
‫على المستوى العلمي‪ ،‬إن تساؤالت الشاعر حول مصير مجموعة من األمصار األندلسية‪،‬‬
‫ومن بينها قرطبة حيث يقول‪:‬‬
‫عالم قَ ْد َ‬
‫سما فيها لهُ شا ُن‬ ‫من ٍ‬ ‫وأين قُ ْرطبة ُ‬
‫دار العلوم فكم‬
‫لم يكن إال تعبيرا عن الحضارة العلمية السامقة التي أسسها العرب في كل الميادين العلمية حيث‬
‫شكلت االندلس قنطرة عبور للتراث العربي اإلسالمي نحو أوروبا الغارقة في الجهل والظلم‬
‫والتخلف‪ ،‬لقد أسهمت الحضارة األندلسية في تقدم أوروبا وبناء قوتها العسكرية والسياسية‬
‫واالقتصادية والثقافية‪ .‬نعم لقد كان لألندلس الفضل الكبير فيما تعيشه أوروبا اليوم من مظاهر‬
‫الترف الحضاري حتى أنه بإمكاننا أن نطرح السؤال الموضوعي‪ :‬ماذا خسرت أوروبا بطرد‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪ ،‬آية ‪95‬‬


‫المسلمين من األندلس؟ كم تأخرت نهضتها عما هي عليه اآلن؟ بل ماذا خسرت أوروبا بإحراق‬
‫الكتب الع لمية؟ ألم تتأخر نهضتها بقرون؟ نعم كل هذه األسئلة نراها أسئلة يمكن أن تشكل‬
‫موضوعا لبحث علمي متخصص‪.‬‬
‫نسق البطش عند اآلخر‬
‫صحيح أن القصيدة تطالعنا بحال أهل األندلس على المستوى اللغوي الجمالي كما تطالعنا على‬
‫التركيبة الثقافية للمجتمع العربي في األندلس ومحيطها على المستوى الثقافي‪ ،‬لكن استقراءنا‬
‫لنسق الذات الشاعرة الناطقة باسم األندلس ومآسيها من مطلع القصيدة إلى نهايتها لن يعدمنا‬
‫الوقوف على نسق البطش عند العدو المتربص بأهل األندلس‪ .‬فاألندلس كما يقال ولدت ميتة‬
‫فمنذ أن دخلها الفاتحون المسلمون ُح ِكم عليهم بالطرد منها إن اآلخر ال ُم ْغزى لم يستطع االندماج‬
‫في المنظومة القيمية اإلسالمية الفاتحة وكان هذا عنوانا على نسق ثقافي كبير هيمن على حياة‬
‫اآلخر على المستوى العقائدي ومن خالل هذه الهيمنة بات يحس بالمسلمين كسرطان يجب‬
‫استئصاله‪ ،‬تماما كما يحس المجتمع العربي اإلسالمي اليوم تجاه دولة إسرائيل حيث أن العقيدة‬
‫اإلسالمية تتخذ من هذا التواجد موقفا عدائيا ينم عن صراع له جذور في التاريخ كما يستشرف‬
‫حربا مقدسة لها بشارة في المستقبل‪ ،‬لهذا رأينا كيف أن هذا الكيان رغم انغراسه مدة ما يزيد‬
‫على نصف قرن في قلب الوطن العربي لم يستطع الذوبان في المنظومة العربية اإلسالمية‬
‫رغم أنه يخوض هذا الغمار‪ ،‬غمار االندماج‪ ،‬منذ نشأته تحت يافطة ما يسمى بالتطبيع‪ .‬نعم‬
‫هكذا كانت العقيدة الصليبية "المقدسة" عند اآلخر تمنعه من االنصهار في المجتمع الفاتح‬
‫ألسباب دينية وحضارية وثقافية بالدرجة األولى مما يجعلنا نجزم بأن أوروبا الصليبية كانت‬
‫الغربية عند أي فرصة‬ ‫تتحين الفرصة لالنقضاض على الوافد الجديد ومحوه من الخارطة ْ‬
‫سانحة وهذا ما يؤشر على نسق مركزي في ثقافة اآلخر وهو البطش والتنكيل كعنوان كبير‬
‫ينم عن عناوين نسقية صغرى تنضوي تحته لتخدمه أحيانا وتتكامل معه أحيانا أخرى وحسب‬
‫هذا التصور وخدمة لهذه الرؤية النسقية نرى أن أول نسق صغير يخدم هذا العنوان الكبير‪ ،‬أي‬
‫نسق البطش‪ ،‬هو نسق الحقد‪.‬‬
‫لقد استعملنا لفظة الحقد ولم نستعمل لفظة العداوة فما هو الفرق بينهما؟ ال نريد أن ندخل في‬
‫التفاصيل المصطلحاتية حتى ال نزيغ عن جوهر البحث ولكن ال بد من التقيد بشروحات المعاجم‬
‫العربية حتى يتسم بحثنا في هذه النقطة بالعلمية والموضوعية‪ .‬إن الحقد هو إمساك العداوة في‬
‫القلب والتربص لفرصتها‪ ،‬إنها حالة نفسية تعبر عن مريد الشر والعاجز عن إتيانه فيرتد ذلك‬
‫كمدا في النفس وغيظا في القلب ومن شدة هذا الغيظ أن يعض منه حامله األنامل " وإذا خلوا‬
‫عضوا عليكم االنامل من الغيظ‪ ،‬قل موتوا بغيظكم" إنها صورة دقيقة وكناية بليغة عن الحالة‬
‫النفسية التي تصل إلى حد يشرف على الموت إن هذا الحال من االنكسار واإلحساس بالهزيمة‬
‫عند اآلخر ‪ ،‬والذي يعبر عن عدم قبول الوافد الجديد المتمثل في المسلمين ورسالتهم‪ ،‬كان ال‬
‫بد أن يدفع المعسكر الصليبي نحو التخطيط لتغيير الوضع" لصالحه" وهنا نجد أنفسنا بإزاء‬
‫نسق التربص عند اآلخر إن التربص فيه من معاني الغدر والتبييت الشيء الذي ال يُتصور‬
‫فالمتربص شديد الحرص على دائرة تدور على عدوه فيتخلص منه وهنا يمكن الحديث كصورة‬
‫تشبيهية على اإلجهاز على جريح‪ .‬هكذا كان حال اآلخر وهو ينتظر فرصة تاريخية لالنقضاض‬
‫وتصفية الحساب مجسدا حقيقة "ويتربص بكم الدوائر" ‪ ،‬إن الدائرة هي حادثة الدهر التي أتت‬
‫على أهل األندلس ففرقت وحدتهم وأضعفت شوكتهم فأهدت لعدوهم المتربص فرصة ذهبية‬
‫لإلجهاز عليهم واستئصال شفتهم وهذا ما نستشفه تحت غطاء جمالي في قول الشاعر‬
‫فالدهر يقظا ُن‬
‫ُ‬ ‫سنَ ٍة‬
‫إن كنت في ِّ‬ ‫الدهر موعظة‬ ‫ِّ‬ ‫يا غافالً ولهُ في‬
‫إن الدهر اليقظ ليس إال قناعا جماليا يخفي نسقين مضمرين هما نسقا الحقد والتربص وهما‬
‫نسقان ضروريان لخدمة نسق أكبر عند اآلخر وهو نسق البطش‪.‬‬
‫ص ْولة واألخذُ الشديدُ في كل شيء إن البطش كفعل ينم عن نفسية‬ ‫طش‪ :‬التناول بشدة عند ال َّ‬ ‫الب ْ‬
‫حاقدة إذا تمكن صاحبها من عدوه فتك به وهذا ما وصف به هود قومه عاد وهم كانوا عتاة‬
‫جبابرة فقال لهم " وإذا بطشتم بطشتم جبارين"‪ ،‬إن التجبر هو استعمال القوة في غير محلها‬
‫في هذا السياق القرآني فالمتجبر ال يكون حاله إال كحال الذي " إذا تولى سعى في األرض‬
‫ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل وإذا قيل له اتق هللا أخذته العزة باإلثم" إن أخطر ما في هذا‬
‫الموقف هو أن الباطش ينتشي ببطشه ويتلذذ بفتكه تماما كما تلذذ ستالين وهو يُبيذ المسلمين من‬
‫شعبه وكما تلذذ هتلر وهو يحرق العالم ثم كما يتلذذ اليهود اليوم وهم يشنون حرب اإلبادة‬
‫والحصار على شعب فلسطين األعزل‪ .‬هكذا كان حال ألفونسو ومحاكم التفتيش والمشانق وشتى‬
‫أصناف آالت وضروب العذاب التي سجل التاريخ أنها كانت من نصيب األندلسيين كما أن‬
‫البطش ينم عن عدو شرس إذا ظهر على عدوه لم يرقب فيه عهدا وال قرابة " إنهم إن يظهروا‬
‫عليكم ال يرقبوا فيكم إال وال ذمة‪ ".‬نعم هذه الحقيقية القرآنية التي يسوقها عن اآلخر العدو هو‬
‫ما نستخرجه من بين ركام األبنية الجمالية في قول الشاعر‪:‬‬
‫قتلى وأسرى فما يهتز‬ ‫كم يستغيث بنا المستضعَفون وهم‬
‫إنسان‬
‫نعم في الوقت الذي انغرس نسق الخذالن وانبرى من وراء جمالية هذا البيت‪ ،‬انغرس مركب‬
‫من مركبات نسق البطش عند العدو فاستغاثة المستضعفين ما أتت إال على إيقاع سفك دماء‬
‫األبرياء و إيذائهم أشد اإليذاء ويبدأ هذا اإليذاء ماديا يتجسد في القتل واألسر والتنكيل كما في‬
‫البيت السابق ويتحول معنويا مستهدفا العزة والكرامة حيث يقول الشاعر‪:‬‬
‫أحال حاله ُم ُك ْفر و ُ‬
‫طغيا ُن‬ ‫عزه ُم‬
‫قوم بع َد ِّ‬
‫يا من لذل ِّة ٍ‬
‫نعم هذا العدو ال يكفيه القتل والتنكيل الجسدي إنه عدو طاغية متجاوز للحدود حاقد ال يشفي‬
‫غليله إال سلسلة من اإليذاءات المعنوية يبدأها بإذالل العباد والبالد‪ ،‬بإذالل الحاكم والمحكوم‪،‬‬
‫السلطان والرعية كلهم صاروا لديه أسرى متسربلين بدثار العبودية‪ ،‬قابعين وراء أسوار‬
‫الحيرة ال يدرون ما يفعل بهم‪ .‬وهكذا قال الشاعر‪:‬‬
‫واليو َم هم في بالد الكفر‬ ‫باألمس كانُوا ملوكًا في منازلهم‬
‫عبدانُ‬
‫الذل‬
‫ب ِّ‬ ‫عليه ُم من ثيا ِّ‬ ‫فلو تراهم حيارى ال دلي َل لهم‬
‫ألوا ُن‬
‫نعم لقد تفنن هذا العدو في إيذاء أهل األندلس حتى بلغ حد بيعهم في سوق النخاسة في مشهد‬
‫مهول يفرق في البيع بين الطفل وأمه في غياب كل مظاهر الشفقة والرحمة اإلنسانية‪ ،‬إن‬
‫قسوة العدو وحقده الدفين دفن ثقافيا تحت بالغة الشاعر وهو يصور هذا المشهد المهول‪:‬‬
‫لهالكَ األم ُر واستهوتكَ‬ ‫ولو رأيتَ بُكاهم عن َد بيعه ُم‬
‫أحزا ُن‬
‫ق أرواح‬ ‫كما تفَ َّر ُ‬ ‫ب أ ُ ٍم وطف ٍل حيل بينهما‬ ‫يا ُر َّ‬
‫وأبدا ُن‬
‫نعم هذا هو نسق الفتك واإليذاء كما ارتسم تحت الظاهر الجمالي الذي صاغه الشاعر وهو‬
‫ظ من الرجال إلى المكروه من األفعال‬ ‫يصف حال الحسناء يقتادها‪ ،‬رغم أنفها‪ ،‬الشديدُ الغلي ُ‬
‫والدمع مسكوب على خذيها والحيرة بادية على محياها في منظر مفزع يكاد يتفطر منه القلب‬
‫كما جسده الشاعر في قوله‪:‬‬
‫كأنما هي ياقوت‬ ‫الشمس إذ طلعتْ‬
‫ِّ‬ ‫و َطفل ٍة مثل حسن‬
‫و َم ْرجا ُن‬
‫والقلب‬
‫ُ‬ ‫والعينُ باكية‬ ‫ج للمكروه مكرهة ً‬ ‫يقودُها العل ُ‬
‫حيرا ُن‬
‫ب إسالم‬‫إن كان في القل ِّ‬ ‫القلب من كمد‬ ‫ُ‬ ‫يذوب‬
‫ُ‬ ‫لمثل هذا‬
‫وإيما ُن‬
‫ولمعرفة حجم هذا الفتك والبطش الذي تعرض له المسلمون يكفي أن الوثائق التاريخية أجمعت‬
‫على أنه بعد أن سقطت غرناطة التي تُعتبر آخر قالع المسلمين في إسبانيا عام ‪1492‬م‪ ،‬انتهي‬
‫حكم المسلمين الذي دام ثمانية قرون‪ ،‬وبدأت بعد ذلك سنين الدم في األندلس‪ .‬بدأ الظلم‬
‫باالنتشار‪ ،‬لم يسلم أحد منه‪ ،‬طال المسلمين واليهود‪ ،‬بدأ طمس كل أثر بقي بعد المسلمين وتم‬
‫حرق الكتب العلمية والدينية ومنها القرآن الكريم‪ ،‬صدرت األوامر بطردهم أو تحويل ديانتهم‬
‫إلى المسيحية‪ ،‬ومن يرفض ينهالون عليه بأشد أنواع التعذيب‪ ،‬لم يلتزم الجميع باألوامر فبدأ‬
‫البحث عن حل إلخضاع الجميع‪ ،‬فظهرت من هنا الفكرة الدموية التي أزهقت أرواح الماليين‬
‫من األبرياء أال وهي محاكم التفتيش‪.‬‬

‫محاكم التفتيش التي تُسمى باإلسبانية (‪ )La inquisición‬هي المحاكم الكاثوليكية التي ارتكبت‬
‫الفظائع بأفعالها وقراراتها‪ ،‬لم يسلم منها أحد‪ ،‬حتى اضطر البعض للتظاهر باعتناقهم الديانة‬
‫المسيحية نهارا وأما ليال فيؤدُّون سرا تعاليم ديانتهم‪ .‬لم تكن تحتاج محاكم التفتيش إلى دليل‬
‫إلثبات جرم على الُمتهم‪ ،‬فكان بإمكان أي شخص االفتراء على شخص آخر بأنه ليس مسيحي‬
‫لتبدأ محاكم التفتيش عملها من التعذيب والقتل‪ .‬تفننت تلك المحاكم بأساليب التعذيب وكانت تتم‬
‫العملية ببطئ شديد حتى ينال المذنب عقابه وال ينجو من براثِن الموت‪ .‬فما هي تلك األساليب‬
‫عذب بها المسلمون أشد العذاب؟‬ ‫التي ُ‬

‫‪ ‬ناي المشاغبين‬
‫كان "ناي المشاغبين" إحدى األساليب المستخدمة لتعذيب الضحايا‪ ،‬كان يتكون من حلقة كبيرة‬
‫يتم وضعها حول رقبة المذنب‪ ،‬ويوجد حلقات أخرى صغيرة يتم وضع أصابعه بها‪ ،‬مع تسخين‬
‫هذه اآللة مع درجة حرارة تعتمد على مزاج ال ُمع ِذب‪ ،‬كانت تتسبب هذه اآللة بتسلخات جلدية‬
‫عميقة تصل إلى العظام والمفاصل وقد تؤدي في النهاية إلى الموت‪.‬‬
‫‪ ‬الثور الحديدي‬
‫قطعة نحاسية صلبة على شكل ثور‪ ،‬مفتوحة من جهة واحدة ليتم إدخال الضحية بها‪ ،‬ثم يتم‬
‫ويخرج البُخار من أنفه‪ ،‬يستمعون إلى‬
‫ُ‬ ‫إشعال النار تحته حتى يتحول لون الثور إلى األصفر‬
‫صوت صراخ المذنب وهو يُشوى حتى الموت‪.‬‬

‫‪ ‬الحوض‬
‫يتم وضع الشخص في حوض وأمره بالجلوس بوضعية القرفصاء مع إبقاء وجهه ظاهرا‪ ،‬يتم‬
‫طلي وجهه بالحليب والعسل حتى تتغذى عليه الحشرات‪ ،‬يبقى المذنب غارقا في فضالته حتى‬
‫يُج ِهز عليه الدود ويقتله ببطىء شديد‪.‬‬

‫‪ ‬كاسر األصابع‬
‫أداة تتكون من مسامير حديدية يتم وضع األصابع بين فكيها‪ ،‬يتم إغالقها ببطىء حتى تتهشم‬
‫العظام وتتفتت‪ ،‬ويستمر ال ُمع ِذب بإغالقها حتى تلتقي المسامير العلوية بالسفلية‪ .‬تتنوع أشكالها‬
‫وتتعدد‪ ،‬فمنها لتهشيم أصابع القدم وآخرى للركبة والكوع‪.‬‬

‫‪ ‬المخلعة‬
‫تم تصميم هذه األداة لخلع كل جزء موجود في جسم الضحية‪ ،‬فكان يستلقي عليها ويتم ربط‬
‫يديه وقدميه‪ ،‬ثم تُدار األداة من خالل بكرات موجودة على طرف األداة‪ ،‬ليبدأ جسد ال ُمعذب‬
‫بالتمدد بطريقة ال يمكن احتمالها حتى تتمزق العضالت وكل شيء موجود في جسده‪.‬‬

‫‪ ‬الشوكة الزنديقة‬
‫هي عبارة عن طوق يُلف حول الرقبة مع أداة حديدية تشبه الشوكة موجهة نحو الذقن وأخرى‬
‫نحو الصدر‪ ،‬وبهذا لن يستطيع الشخص أن يغفو أو تغمض له عين‪ ،‬ألنه إن فعل ذلك ستنغرس‬
‫بجسده وتهلكه‪.‬‬

‫‪ ‬كرسي محاكم التفتيش‬


‫جاء ال ُمسمى نتيجة الستخدامه بكثرة من قِبل محاكم التفتيش‪ ،‬كانت األداة عبارة عن كرسي‬
‫مثبت في كل جزء منه عدد مهول من المسامير‪ ،‬يتم تثبيت الضحية عليه لتخترق المسامير‬
‫كامل جسده‪ ،‬ولم يكتفوا بذلك بل يتم وضع أثقال فوقه ليضمنوا أن المسامير قد استقرت في‬
‫أعضاءه‪.‬‬

‫‪ ‬القفص ال ُمعَلَّق‬
‫بعد أن يتم تعذيب المذنب ويُكتشف أنه لم يلق حتفه بسبب تعذيبه‪ ،‬يتم نقله إلى القفص ال ُمعلَّق‬
‫وهو قفص حديدي يتم وضع الشخص بداخله في العراء وأمام الشمس ليمتص الحديد الحرارة‪،‬‬
‫وال يتم تقديم الطعام وال الماء له‪ ،‬إضافة إلى وضع إبر أسفل المذنب على أرضية القفص لتؤلم‬
‫قدميه إن أراد أن يريح رأسه على ركبتيه‪.‬‬

‫وحتى نسلط المزيد من الضوء على القضية وكنا قد أشرنا أن الحقد يختلف عن العداوة‪ ،‬وألن‬
‫المنظومة القيمية اإلسالمية تستعمل مفهوم العداوة الشرعية لهذا وجدنا تحذيرا متكررا من‬
‫الشيطان تحت طائلة العداوة األبدية بيننا وبينه "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا" نعم إنها‬
‫عداوة تتحول عند المسلم إلى عبادة مقدسة وتترجم إلى سلوك عملي يبدأ بإعالن العداوة ضد‬
‫كل مخالف للنهج اإلسالمي " يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم‬
‫بالم ودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق" نعم إنها عداوة مسيجة مظبوطة بقيود شرعية وأخالقية‬
‫صارمة عنوانها األكبر هو عدم إلقاء المودة للعدو لكنها ال تجيز قتل األبرياء من الشيوخ‬
‫واألطفال والنساء كما ال تبيح إهالك الحرث والنسل‪ .‬إنها عداوة مرحلية ريثما يعود العدو إلى‬
‫ال صواب ويدخل تحت عقد "إنما المؤمنون إخوة" فقد جاء في حديث الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم وهو يوصي سراياه ما رواه ابن عباس رضي هللا عنه قال‪ :‬كان رسول هللا ‪ -‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ -‬إذا بعث جيوشه قال‪( :‬أ ُ ُ‬
‫خرجوا باسم هللا‪ ،‬تقاتلون في سبيل هللا من كفر باهلل‪ ،‬ال‬
‫تغدروا‪ ،‬وال تغلوا‪ ،‬وال تمثلوا‪ ،‬وال تقتلوا الولدان‪ ،‬وال أصحاب الصوامع)(‪ .)1‬ولمعرفة هذه‬
‫الحقيقة نقف مع الموقف التاريخي للرسول صلى هللا عليه وسلم حينما دخل مكة فاتحا فسأل‬
‫قومه‪ ،‬وقد كانوا أذاقوه من صنوف العذاب وألوان الهوان ما تخر من هوله الجبال‪ ،‬ما تظنون‬
‫أني فاعل بكم؟ فأجابوا بصوت واحد" أخ كريم بن أخ كريم" فرد المعلم األعظم صلى هللا عليه‬
‫وسلم "اذهبوا فأنتم الطلقاء"‪ .‬نعم هذه هي حقيقة نسق العداوة في العرف الثقافي اإلسالمي شتان‬
‫بينها وبين نسق الحقد الذي يغذي نسق البطش وشتان بيننا إذا حكمنا وبينهم إذا ظهروا كما‬
‫يقول الشاعر‪:‬‬
‫حكمنا فكان العدل منا سجية وحكمتم فسال بالدم أبط ُح‬
‫وكل إناء بالذي فيه ينض ُح‬ ‫وحسب ُك ُم هذا التفاوت بيننا‬
‫أوال على مستوى المضمون‬
‫نسق الضمير‬
‫لما ذا اختفى ضمير المتكلم وغابت أناة الشاعر وخفت صوته وهو يصور هذه المأساة حيث‬
‫يقبع في طيات النص الشعري العديد من األنساق الثقافية عند األنا واآلخر‪ ،‬نعم غياب األنا‬
‫الشاعرة وحضور الهو سواء الهو الضحية أو الهو الجالد في شكل تعبيري خيم على جل‬
‫مقاطع القصيدة‪ ،‬ما سببه؟ أثمة أنساق ثقافية‪ ،‬نفسية‪ ،‬اجتماعية يؤشر عليها هذا الصوغ‬
‫الضمائري الذي أقصى صوت األنا المباشر في كل مراحل القصيدة؟‬

‫‪ 1‬رواه اإلمام أحمد‬


‫نود بداية قبل كل شيء التأكيد على أن دراستنا هذه ال يعنيها الغوص في ظاهرة االلتفات‬
‫وهي ظاهرة بالغية تتأرجح بين استعمال ضمير وآخر‪ ،‬وإنما قضيتنا األساسية هي هذه‬
‫الضمائر المستعملة ما الذي أضمره استعمالها من أنساق ثقافية؟‬
‫ففي هذا اإلطار نتساءل سؤاال فنيا وهو سؤال يبدو موضوعيا‪ :‬ألم يكن بوسع الشاعر استعمال‬
‫ضمير المتكلم لرثاء األندلس وبكائها‪ ،‬نعم لقد استعمل العديد من شعراء العرب ضمير المتكلم‬
‫في شعرهم للداللة على حرقة الذات الشاعرة المكتوية بفراق المحبوب كان من كان في مراتب‬
‫األواصر االجتماعية والروابط األسرية ‪ ،‬كما استعمله بعض شعراء األندلس في رثاء الممالك‬
‫الزائلة‪ ،‬فهذا ابن عبدون مثال وهو قريب العهد من شاعرنا يرثي بني األفطس حكام بط ْلي ْوس‬
‫فيطالعنا بقو له موجها حكمته إلى الجاهل الغافل المغرور السادر في نومه والمغرق في أمنته‬
‫قائال‪:‬‬
‫فما البكاء على األشباح والصور‬ ‫الدهر يفجع بعد العين باألثر‬
‫عن نومة بين ناب الليث والظفر‬ ‫أنهاك أنهاك ال أنهاك واحدة‬
‫نعم لقد برزت أناة الشاعر ابن عبدون هنا من خالل فعل األمر الدال على القوة الموازية‬
‫للحضور‪ ،‬وإذا عدنا إلى النونية موضوع الدراسة وجدنا أن الشاعر يطالعنا بمسلمة حكمية‬
‫عبر الضمير الالشخصي الذي يشبه إلى حد كبير صوت سارد عليم ال يشارك الحدث‪ ،‬لكن‬
‫له خبرة بكل التفاصيل حيث يعلنها حقيقة ثابتة ال جدال في صحتها قائال‪:‬‬
‫غر بطيب العيش‬
‫فال يُ ُّ‬ ‫صانُ‬
‫لكل شيءٍ إذا ما ت َّم نق َ‬
‫ِّ‬
‫إنسا ُن‬
‫غاب ضمير الشاعر وحضر نسق القوة‪ ،‬قوة الحقيقة الثابتة التي ال جدال فيها قوة التجربة‬
‫الشاعرة تجربة سالحها اإليمان بأن دوام الحال من المحال بل هي قوة المنظومة العقدية‬
‫الدينية التي يتشبع بها الشاعر وينهل من مرجعياتها اليقينية التي ال غبار عليها لذلك فغياب‬
‫األناة الشاعرة لم يكن إال مؤشرا على قوة هذه المنظومة من خالل شطر البيت األول‪ ،‬وهو‬
‫في هذا غياب تام يوازيه حضور سارد عليم يبسط الحقيقة بقوة كما هي‪ ،‬غير شاك وال متردد‬
‫تحت غطاء حكم مطلق تعلن عنه األداة التعميمية "لكل" أما غيابه الجزئي من خالل فعل‬
‫النهي‪ ،‬حيث أن فعل النهي "فال يغتر" وإن لم يبرز فيه ضمير األنا على مستوى التركيب‬
‫اللغوي فهو في حقيقة األمر حاضر على مستوى التركيب السياقي فالناهي له حضور في‬
‫السياق الخطابي وإن كان له غياب في السياق اللغوي وهذا الغياب الجزئي في حقيقة األمر‪،‬‬
‫يزيد في قوة الحقيقة المبسوطة حقيقة الحكمة الثابتة والسنة الكونية الجارية‪ ،‬وألن الحكمة‬
‫كونية و هي ضالة كل عاقل وألنها مشتركة كان األولى أن يبسطها الشاعر هكذا وفق هذا‬
‫الحياد الضمائري مما زاد من قوة نسق المنظومة الحكمية اإلسالمية التي ال يمكن الطعن‬
‫فيها‪ .‬وهكذا تستمر األنساق في االستقواء كلما غابت الذات الشاعرة لتؤكد مجموعة أخرى‬
‫من اإلثباتات التي نعد منها إثبات التاريخ‪ ،‬فالتاريخ مدرسة اإلنسانية الكبرى التي ينهل منها‬
‫معارفه وتفسيراته لكل األحداث التي تربكه وتورطه في حيرة‪ ،‬فلوال التاريخ لمات اإلنسان‬
‫أسى ولقضى شاعرنا وهو يعاين ما حل بأهل األندلس‪ ،‬نعم التاريخ شاهد على هزيمة اإلنسان‬
‫كائنا من كان‪ ،‬شاهد على ضعفه وفقره وحاجته وأهم حاجة تاريخية عند اإلنسان هي‬
‫االستمرار فكم من حضارة عفا عنها الدهر ولم تعد إال ضربا من األحالم‪،‬‬
‫يف‬
‫كما حكى عن خيال الط ِّ‬ ‫وصار ما كان من ُملكٍ ومن َملِّكٍ‬
‫سنا ُن‬‫و ْ‬
‫نعم التاريخ مصدر شهادة ال يجوز الطعن فيها مثلما هو مصدر عزاء للشاعر رغم انه‬
‫يعلنها مدوية‪:‬‬
‫هوى لَهُ أُحد وانه َّد‬ ‫دهى الجزيرةَ أمر ال عزا َء لهُ‬
‫ثهالنُ‬
‫نعم صار التاريخ مصدر عزاء قوي مثلما كان مصدر شهادة قوي‪.‬‬
‫نخلص إذن أن غياب أنا الشاعر جزئيا أو كليا لم يكن في حقيقة األمر سوى تعضيدا وتقوية‬
‫لنسق الحكمة والتاريخ والعزاء في المصاب األكبر الذي ألم بالشاعر ومن خالله األمة‪.‬‬

‫‪-6‬تركيب وخاتمة‬
‫من خالل فصول هذا البحث حاولنا اإللمام بماهية النقد الثقافي واألنساق الثقافية‪ ،‬كما الغوص‬
‫في الرؤية الشعرية عند أبي البقاء الرندي من خالل مرثية األندلس الكبرى قصد اإلحاطة بما‬
‫تستضمره من أنساق ثقافية‪ ،‬وقد توصل البحث إلى ما يلي‪:‬‬
‫‪-‬النقد الثقافي برز كبديل للنقد األدبي الذي استنفد كل أرصدته ولم ولم يعد قادرا على مواكبة‬
‫ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية‪ ،‬ومع هذا النقد الجديد‪ ،‬تحول مسار النقد من البحث في‬
‫الجماليات إلى البحث في األنساق المتوارية خلفها‪.‬‬
‫‪ -‬شكل مصطلح النسق مفهوما مركزيا في النقد الثقافي‪ ،‬فهو عليه مدار البحث‪ ،‬بحيث يمثل‬
‫مجموعة من القيم المترابطة بعضها ببعض والمتسترة خلف النصوص والخطابات‬
‫والممارسات الثقافية‪.‬‬
‫‪-‬احتفى الشاعر أبو البقاء الرندي بنكبة األندلس الكبرى وبكاها بكاء صادقا‪ ،‬انطوت تحته‬
‫وانكتبت معه مجموعة من األنساق الثقافية‪ ،‬كانت شاهدة على انحطاط عصرها وغفلة أهله‬
‫وبعدهم عن منهج الرسالة العظيمة كما كانت شاهدة على ضراوة اآلخر وقسوته‪.‬‬
‫‪-‬محاولة الجمع بين هذه األنساق تؤكد أن هذه القصيدة أخفت تحت قناع جمالها وروعة سبكها‪،‬‬
‫نقدا الذعا لحكام األندلس وأنانيتهم وسياساتهم التفريقية‪ ،‬كما شكلت تأنيبا لباقي ممالك العالم‬
‫اإلسالمي التي عاصرت سقوط األندلس في يد الصليبيين كما أدانت الهمجية البربرية الصليبة‪.‬‬
‫‪-‬األنساق المتوصل إليها هي نتاج تأويالت ال نزعم بأنها وحيدة‪ ،‬حيث حاول البحث من خاللها‬
‫تقديم تحليل ثقافي لما تنطوي عليه نونية أبي البقاء الرندي‪.‬‬

You might also like