Professional Documents
Culture Documents
ورقة البحث
ورقة البحث
-1إهداء
-2مقدمة
-3فصل نظري
-4ملحق حول الحضارة األندلسية
-5فصل تطبيقي
-6تركيب وخاتمة
-1إهداء
إلى روح والدي العزيز رحمه هللا واسكنه فسيح جناته وجعله في أعلى عليين مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .فقد كان رحمه هللا حريصا على أن
أحفظ كتاب هللا وأن أحصل على درجة علمية رفيعة وشاء هللا أال يتحقق مراده إال بعد
وفاته؛
إلى روح والدتي الغالية رحمها هللا وجعلها من حور الجنة؛
إلى كل من علمني حرفا فصرت له عبدا ،إلى أستاذي العزيز المشرف على هذا البحث،
الدكتور عبد الفتاح شهيد ،وقد آنسنا فيه من نبل األخالق ورصانة العلم وتواضع النفس
ونزاهة الضمير ما يجعلنا مدينين له وشاكرين لفضله بعد فضل هللا تعالى؛
إلى من أضناه طلب العلم ،إلى كل المدرسين وطلبة العلم الذين بهم تحيى األمم؛
إلى كل الصابرين والمحتسبين من أصحاب القضايا العادلة؛
إلى كل إنسان غيور على قضايا اإلنسان في كل أبعادها وتجلياتها أهدي هذا العمل
المتواضع.
-2مقدمة
ظهر النقد الثقافي كبديل للنقد األدبي في الدراسات النقدية الحديثة في إطار التفاعل بين األدب
والدراسات الثقافية التي غدت سمة العصر الحديث نظرا إلمالءات العصر ومستلزماته من
تواصل وانفتاح حضاري غذته روح العولمة وضرورة الحوار بين الحضارات .جاء إذن
النقد الثقافي كرديف لما بعد البنيوية ولما بعد الحداثة ،وإن اعتبار النقد الثقافي امتدادا للنقد
األدبي وتطويرا له في إطار التراكم المعرفي والقطيعة اإلبستمولوجية التي تعرفها كل العلوم،
لم يمنع الرواد العرب في ميدان النقد الثقافي من القول بموت النقد األدبي وبلوغه سن اليأس.
إن الفارق بين النقد األدبي والنقد الثقافي يكمن أساسا في أن الثاني يخرج الدراسة من قطب
أدبي-أدبي إلى قطب أدبي-ثقافي ،ثم إن األول إن كان يرى موضوع الدراسة مقتصرا على
النص األدبي ال غير ،فإن الثاني يهتم بكل النصوص الثقافية كيفما كانت تجلياتها بما فيها
النصوص األدبية وقد أخذ على عاتقه سبر أغوار النصوص األدبية وقراءة ما بين السطور
معتبرا إياها حادثة ثقافية تنم عن مجموعة من األنساق الثقافية التي تثقن التستر وراء ستار
الجمالي والبالغي.
إن النقد الثقافي هو تمرد على المؤسسة وقيودها وانفتاح على ما هو جماهيري وغير نخبوي
ينظر إلى الثقافة وفعلها ،كيف مررت إلينا أنساقها في غفلة منا فصارت جزءا من هويتنا
وموجهة لخطاباتنا .اليهمه الوقوف مع أدبية األدب بقدر ما يسعى جاهدا الستكناه ما انغرس
في كيان المبدع بال وعي منه فمر آمنا مطمئنا يستره العمى الثقافي فينكتب حينها في إبداع
الكاتب مشكال بذلك مفهوم المؤلف المزدوج.
شكل التراث األدبي األندلسي موضوعا خصبا للدراسة النقدية الحديثة وخصوصا الجانب
الشعري منه ،وكما أن شعر الرثاء شكل ثروة شعرية تنطوي على الجمالي كما تنطوي على
الثقافي لما حواه هذا الضرب من قيم عبر من خاللها الشاعر عن المصاب الجلل والرزء
الفادح الذي تكبدته األمة اإلسالمية في هذا الثغر السليب الذي لم يعد ذكره إال كطيف الخيال
لكن جرحه غائر ال يكاد يندمل مهما اتسعت الهوة الزمنية بيننا وبينه .وألن النقد الثقافي يعد
من فنون النقد الحديثة فإننا سنروم في هذه الدراسة تحليل نونية أبي البقاء الرندي ،وهي
واحدة من أشهر مرثيات األندلس ،تحليال وفق منهجية النقد الثقافي.
إن اختيارنا لهذه القصيدة كموضوع للدراسة تبرره عدة أمور:
-1شدة تعلقنا بهذا القطر السليب وبما أضافه أهله للحضارة العربية اإلسالمية من
مكتسبات وخصوصا على مستوى األدب العربي بشقيه الشعر والنثر وقد ولد لدينا
هذا التعلق بعد دراسة وحدة األدب األندلسي حيث وقفنا فيها على مراحل التقليد
والتجديد في األدب األندلسي.
-2اعتقادنا أن شعر رثاء المدن والممالك كفن مستحدث من حيث الغرض ،كفيل على أن
يحوي أكبر قدر من األنساق المضمرة ألن الشاعر سيبكي كل مظاهر التفوق والتميز
التي حظي بها أهل األندلس ،سيبكي جمال الطبيعة والعمران ،سيبكي التفوق العلمي
والنبوغ الفكري وأخيرا سيبكي الدنيا والدين.
-3مناسبة القصيدة وهي أواخر عهد األندلس تزامنا مع نهاية حكم الموحدين مما يجعلها
شاهدة على عصرها ،معبرة عن النكبة في شموليتها.
وقد جاء بحثنا هذا موسوما ب " األنساق الثقافية في شعر الرثاء األندلسي{ -نونية أبي البقاء
الرندي نموذجا}" ،وكانت خطة البحث كما يلي :إهداء ومقدمة ثم فصل نظري ثم فصل
تطبيقي فخاتمة .وقد تناولنا في هذا الفصل النظري مفهوم النسق بين اللغة واالصطالح،
ثم وقفنا مع مفهوم النقد الثقافي ومرتكزاته ،هذا وقد أفدنا في هذا الفصل النظري من بحث
جامعي عبارة عن مذكرة لنيل شهادة الماستر من جامعة محمد خيضر بسكرة ،كلية اآلداب
واللغات ،قسم اآلداب واللغة العربية ،من إعداد الطالبين :لعبيدي ونوال دريهم ،تحت عنوان:
األنساق الثقافية عند الشاعرين ابن الحداد وابن زيدون ،وبعد المدخل النظري تناولنا فصال
تطبيقيا استكنهنا فيه األنساق المضمرة وقد استلهمنا في سبر أغوار األنساق المضمرة على
مضمون وشكل القصيدة وبالتحديد البنية الضمائرية التي غاب فيها صوت األنا الشاعرة.
أضف إلى ذلك أن اهتمامنا باألنساق كان اهتماما مزدوجا حيث تتبعنا أنساق األنا كما تتبعنا
نسق ثقافي محوري يحرك اآلخر المعتدي مثلما يمسك بتالبيب النص الشعري وهو نسق
البطش .كما أرفقنا هذا البحث بملحق عن الحضارة األندلسية يتموضع بين نهاية الفصل
النظري وبداية الفصل التطبيقي تناولنا فيه بعض مظاهر الحضارة األندلسية وبعض الشعراء
المرموقين كما عرفنا فيه بالشاعر وبسياق القصيدة قيد الدراسة ثم أكملنا هذه الدراسة بخاتمة
وتركيب.
-3فصل نظري
ب-النسق اصطالحا
شكل مصطلح النسق مفهوما أساسيا في الممارسة النقدية الحديثة حيث أفاد منه النقد الثقافي كآلية
تمكنه من الغوص في المكنونات الثقافية التي تضمرها النصوص األدبية.
إن أول من استعمل هذا المصطلح هو اللساني السويسري فرديناند دو سوسير ،حيث عرف اللغة
بقوله" :اللغة نسق من العالمات يعبر عن األفكار ،ولهذا فهي مشابهة لنسق الكتابة وأبجدية الصم
والشعائر الرمزية وصيغ المجاملة وإلشارات العسكرية ولكنها أعظم أهمية من هذه األنساق".
أما علماء الغرب الذين جاؤوا بعد سوسير ،فإنهم استعملوا البنية ألنهم وجدوا أن الجمع والتأليف
الوحدات اللغوية شبيه بفعل البناء ،لذا فإن مفهوم النسق اصطالحا ينطوي على مستوى معين من
مفهوم النظام ،وفي الوقت نفسه ينطوي على مستوى معين من مفهوم األجزاء ،وعليه فإننا نقر
بوجود تعالق بين البنية والنسق والنظام.
إن ما جاء به النقد الغربي من أفكار حول مفهوم البنية والنسق والنظام ال يبتعد كثيرا عما توصل
إليه علماء اللغة العرب ويحضرنا في هذا الباب جهود البالغي الجرجاني في نظرية النظم " أن
تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله ،وتعرف مناهجه التي
()3
نهجت ،فال تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك ،فال تخل بشيء منها".
1الخليل بن أحمد الفراهيدي ،تحقيق عبد الحميد هنداوي ،ج-4دار الكتب العلمية بيروت لبنان ،ط1424 1ه2003،م ،ص218
2ابن منظور ،لسان العرب ،باب القاف ،دار صادر بيروت ،ص-352 ،353
3عبد القاهر الجرجاني ،دالئل اإلعجاز ،تعليق السيد محمد رشيد رضا ،دار المعرفة بيروت ط 2001 ،1ص 336
إن االنطباع حول تقارب كل من البنية والنسق والنظام هو ما نلمسه كذلك عند علماء اللسان
العرب المحدثين كما عند صالح فضل حيث يقول في تعريفه للبنية "هي الطريقة التي تتكيف بها
األجزاء لتكون كال سواء كان جسما حيا أو معدنيا أو قوال لغويا ،ويقول أيضا :ربما يكون تعريف
()1
البنية عموما بانها كل مكون من ظواهر متماسكة ،يتوقف كل منها على ما عداه"
وقد اهتم الغذامي في كتابه الخطيئة والتكفير بالمفاهيم البنيوية ولم ينظر إلى البنية كأجزاء مستقلة،
بل كهيكل مترابط وهو ما يعرف عنده بالشمولية فهي تعني التماسك الداخلي للوحدة ،بحيث تصبح
كاملة في ذاتها.
أما عند علماء االجتماع فإن بارسونز تالكوت يرى بأن النسق «نظام ينطوي على أفراد فاعلين
تتحدد عالقتهم بمواقفهم وأدوارهم التي تنبع من الرموز المشتركة والمقررة ثقافيا في إطار هذا
النسق وعلى نحو يغدو معه النسق أوضح من مفهوم البناء االجتماعي"( ،)2وعليه فالنسق عنصر
مشترك بين أفراد المجتمع الواحد الذين تربطهم ثقافة واحدة ،فهو نظام يخضع له الجميع ،وإجماال
فإن النسق الذي جمعه أنساق يمكن حصره في تتابع األشياء في نظام واحد ،ولكن الدارسين نظروا
لهذا المفهوم انطالقا من خلفياتهم األبستمولوجية ،فهناك من نظر له من خلفيته اللسانية ،وآخر
عرفه حسب نظرته الفلسفية ،وهناك من استعار المصطلح في مجال األنثروبولوجيا كالعالم كلود
ليفي شتراوس الذي يعتبر البنية «نسقا يتألف من عناصر من شأن أي تحول يعرض للواحد منها،
() 3
أن يحدث تحوال في باقي العناصر األخرى"
ج-تعريف النسق الثقافي
في ميدان النقد الحديث ،ناقشت المناهج النقدية الجديدة منذ الشكالنيين الروس إلى
البنيويين أمر النسق المغلق والنسق المفتوح ،أي هل تتم دراسة الخطاب في ضوء مرجعيا ته
التاريخية أو االجتماعية أو النفسية أو األخالقية أم تدرس أدبيته ،األسلوبية والتركيبية والداللية
بمعزل عن تلك المرجعيات؟ وقد مالت البنيوية نحو الطرح الثاني ،فاالهتمام بمفهوم النسق يعزى
إلى تحول بؤرة اهتمام التحليل البنيوي عن الذات أو الوعي الفردي من حيث ما يشكالنه من
مصدر للمعنى ،إلى التركيز على أنظمة الشفرات النسقية التي تنزاح فيها الذات عن المركز ،لذلك
فإنه في البنيوية يرتبط مفهوم النسق ارتباطا وثيقا بمفهوم الذات المزاحة عن المركز.
وقد شجعت المقاربات السردية واللسانيات البنيوية الخطاب النقدي على البحث عن النسق األدبي
انطالقا من فكرة الكلية والعالقة التي تجمع عناصر النص األدبي وتجدر اإلشارة أن النسق في
تدرجه من مفهومه اللساني إلى حموالته األدبية ،ظل مفهوما شكليا يعنى بنظام التركيب
الخارجي ،فهو مع كونه معيارا من معايير النظر إلى النص األدبي في مناهج النقد الحديثة ،إال
أنه ظل يعني الشكل التعبيري للنص أو قواعد التعبير ومواصفاته في داخل جنس أدبي ما .وإذا
ما غادرنا المعنى العام للنسق ،للحديث عن معناه الخاص في النقد الثقافي سنجد أن النقد الثقافي
1صالح فضل ،نظرية البنائية في النقد األدبي ،منشورات دار اآلفاق الجديدة ،بيروت ،دط ،دت ،ص-176
2عبد الرحمن طه ،اللسان و الميزان أوالتكوثر العقلي ،المركز الثقافي العربي ،ط ،1998 ،1ص34
3عز الدين المناصرة ،علم الشعريات ،قراءة مونتاجية في أدبية األدب ،دار مجالوي ،عمان ط2007 ،1م ،ص540
استثمر ذلك المفهوم العام اللساني واألدبي للنسق ولكنه اتجه به وجهة أخرى غير الوجهة
المعروفة .فالنسق على وفق النقد الثقافي هو نسق ثقافي ،ال يتمثل في اللغة وال يتمثل في تركيبة
النص األدبي ونظامه الذي يشترك فيه مع أبناء جنسه ،لكنه نسق داللي يمثلُه مضمونُ النص
الثقافي وحموالته الثقافية فالنسق الثقافي تشكله مجموعة من القيم المتقنعة خلف ظاهر النصوص
والخطابات والممارسات ،إنه مجال مشبع بالمعاني واألفكار والعقائد وأنماط ا لعالقات
االجتماعية والتطلعات والمؤثرات الفاعلة كافة التي تشكل الهوية العامة والذاكرة الجمعية
لمجتمع من المجتمعات ،ومن هنا تتجلى أهمية النقد الثقافي في اإلحاطة بحموالت هذا النسق
الثقافي وهي حموالت توسم بكونها كثيرة متنوعة ومركبة من عناصر إيجابية وسلبية ،تتجلى في
شكل أحكام أو رغبات كما تتمظهر في أساليب الرفض والذم والتجنيس واإلكراه أو في أساليب
القبول واالحتفاء والتمجيد .
ومن المعلوم أن كل مجتمع له تركيبته الثقافية التي تحدد األنماط الوجودية ألفراده ،وتتجلى هذه
التركيبة من خالل الخطاب الذي ينتجه اإلنسان حيث تتجلى عبر مجموعة من األنساق التي توسم
بالثقافية ولقد استخدم كلي فورد غيريتس مصطلح النسق الثقافي حيث وجه بحثه إلى النظر في
األنظمة االجتماعية الحاكمة لألفراد والجماعات ،بوصفها أنساقا ثقافية كالدين واإليديولوجيا،
فمهوم النسق عنده يتجاوز مفهوم البناء االجتماعي إذ عد الثقافة "مجموعة من األنظمة المحسوسة
()1
وسلوكيات اإلنسان ،والتقاليد االجتماعية"
أما الناقد عبد هللا الغذامي ،فيعرف مصطلح النسق الثقافي في قوله« :واألنساق الثقافية هذه أنساق
تاريخية وأزلية وراسخة ولها الغلبة دائما ،وعالمتها هي اندفاع الجمهور إلى استهالك المنتوج
الثقافي المنطوي على هذا النوع من األنساق ،وقد يكون ذلك في األغاني ،أو في األزياء أو
الحكايات واألمثال مثلما هو في األشعار ،واإلشاعات والنكث ،كل هذه الوسائل هي حيل بالغية
جمالية تعتمد المجاز ،وينطوي تحتها نسق ثقافي ،ونحن نستقبله لتوافقه السري ،وتواطئه مع نسق
قديم منغرس فينا"(. )2إنه أيضا فضاء مشبع بالمعاني الدينية واالجتماعية والسياسية الخاصة
بمجتمع ما ،وعليه فالضامن في رصده هو توارده وتكرار ظهوره داخل ثقافة مجتمع ما.
أما كلود ليفي شتراوس فقد نقل مصطلح النسق إلى المحيط الثقافي ليطرح فكرة أن األبنية
االجتماعية الملموسة ،والظواهر االجتماعية المختلفة إنما هي محكومة ببنيات وقوانين خفية كامنة
() 3
في الالوعي اإلنساني ،وهو ما يقتضي بحثا صريحا في البنيات الثابتة في العقل نفسه"
1سعد علي جعفر المرعب ،النسق األنثوي في ديوان علية بنت المهدي ،مجلة مركز بابل للدراسات اإلنسانية ،م ،8ع ،2018 ،4ص54
2عبد هللا الغذامي ،النقد الثقافي ،ص76
3سعد علي جعفر المرعب ،النسق األنثوي في ديوان علية بنت المهدي ،ص55
ويمكن تحديد النسق الثقافي بأنه تلك العناصر المترابطة والمتفاعلة كالفنون واألخالق والدين
والسياسة والعادات األخرى التي يكتسبها اإلنسان في مجتمع معين ،وعليه فإن رصده مشروط
بوجوده داخل مجتمع ما.
د-أنواع األنساق الثقافية
تتعدد األنساق الثقافية داخل المجتمع حيث يمكن أن نحصر مجموعة من األنساق المتداخلة
والمتفاعلة والمنضوية تحت نظام شمولي أعم هو النسق االجتماعي؛ وهكذا نميز النسق الديني
واألخالقي والفني واإليديولوجي وغيرها من األنساق .إال أنه في عالم النقد ومن حيث الكيف فإننا
إزاء نوعين من األنساق حيث نسجل أن هذه األنساق تتعالى وتبرز ،وتارة تأفل وتختفي مشكلة
بذلك نوعين بارزين هما النسق الظاهر والمضمر.
يمكن رصد النسق الثقافي من خالل تمظهرين :النسق الظاهر المعلن واآلخر النسق المضمر
الخفي ،وهما متالزمان ،متعارضان ،متناقضان ومتجادالن داخل النصوص الثقافية ال يكاد
أحدهما يفارق اآلخر ،والوظيفة النسقية هي النتيجة الحتمية لهذا التعارض والتناقض .فهي ال
تحدث داخل النص الثقافي إال عندما يتعارض نسقان من أنساق الخطاب ،أحدهما ظاهر واآلخر
مضمر ،ويكون المضمر ناقضا وناسخا للظاهر ومدار االهتمام في النقد الثقافي هو النسق
المضمر ،أما النسق الظاهر فال يعد سوى وسيلة يهتدى بها للكشف عن المضمر التاوي خلفه،
وتزداد أهمية الظاهر بقدر ما يتضمن من إلماح أو إيحاء بالنسق المضمر الكامن المخالف
للظاهر ،لذا فالنقد الثقافي يعنى عناية فائقة بالنسق المضمر ،ويتوجس من خطورته ،وتكمن
خطورته في كونه كامنا حيث يمارس تأثيره دون رقيب ،متوسال بالعمى الثقافي لضمان ديمومته
وفاعليته
1د-النسق الظاهر
إن النص األدبي يشكل مادة خاما وللقارئ كامل الحرية في تحليلها وتطويعها وفق المنتوج الثقافي
البارز والكامن داخلها وهذا هو رأي كرين بالت حيث يقول" إذا أردنا قراءة نص ما ،علينا أن
نستعيد القيم الثقافية التي امتصها النص األدبي وبهذه الطريقة أعلن كرين بالت فاعلية الثقافة
حيث تتحول إثرها الخطابات إلى حوادث نسقية"( )1وبالتالي ما على القارئ في تحليله الثقافي
للنصوص سوى استجواب هذه النصوص من خالل ما بدا له من أنساق ومن هنا يظهر لنا جليا
أن النسق الثقافي له تمظهران في النصوص الثقافية ،هما النسق الظاهر المعلن واآلخر هو النسق
الخفي المضمر .إن النسق الظاهر في النص األدبي مثال هو ما تقوله اللغة بكل مستوياتها الصوتية
والفونولوجية والصرفية والتركيبة والداللية والتداولية .إن البحث في النسق الظاهر هو البحث
في معنى النص وفي جماليته وفي شكله وبنيته ،وفي هذه الحال ال يتجاوز هذا البحث على مستوى
الداللة موضوعين هما في واقع األمر من صلب اهتمامه من حيث موضوع الداللة وهما الداللة
المباشرة والضمنية أو الحرفية وا لمجازية .وهذا الحد من البحث هو أقصى ما يجود به النسق
1يوسف عليمات ،النسق الثقافي قراءة في أنساق الشعر العربي القديم ،عالم الكتاب الحديث ،عمان ،ط1430 ،1ه2009 ،م ،ص8
الظاهر الذي يبقى في ميزان النقد الثقافي قاصرا وعاجزا ال حول له وال قوة .إال أن ما ينبغي
التأكيد عليه هو أن النسق الظاهر وإن لم يحفل به في الخطاب النقدي إال أنه يعد وسيلة للكشف
عن النسق المضمر الثاوي خلفه.
2د-النسق المضمر
يعد النسق المضمر مفهوما مركزيا في مشروع النقد الثقافي ،إنه "عبارة عن أقنعة تختفي من
تحتها األنساق ،وتتوسل بها لعملها الترويضي" ،1كما يمكن أن يكون للنسق المضمر مفهوم آخر
أيضا ال يبتعد عن هذا المفهوم بأنه "كل داللة نسقية مختبئة تحت غطاء الجمالي ومتوسلة بهذا
الغطاء لتغرس ما هو جمالي في الثقافة" .2إن النسق الثقافي يتحرك وفق خاصة التخفي والتستر،
وبما أنه مدار االهتمام في النقد الثقافي فقد عني به أيما عناية" فالنسق الثقافي خطر وتكمن
خطورته في كونه كامنا حيث يمارس تأثيره دون رقيب وهو يتوسل بالعمى الثقافي لضمان
ديمومته و فاعليته " 3وهذا النوع ليس من صنع المؤلف مهما بلغ حذقه ومهارته ومهما حضر
وعيه ،لذلك فهو يتقن االختباء متوسال في ذلك عبارات مختلفة ذات صبغة جمالية في الغالب
األعم وعليه فإن النسق من حيث هو داللة مضمرة ،فإن هذه الداللة ليست مصنوعة من مؤلف،
ولكنها منكتبة ومنغرسة في الخطاب ومؤلفاتها الثقافية ،ومستهلكوها جماهير اللغة من كتاب
وقراء ،يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير ،والنساء مع الرجال والمهمش مع المسود"( )4يملك
هذا النسق قدرة هائلة على التخفي خلف أقنعة كثيرة أهمها «قناع الجمالية اللغوية ،وعبر البالغة
وجمالياتها تمر األنساق آمنة مطمئنة من تحت هذه المظلة الوارفة ،وتعبر العقول واألزمنة ،فاعلة
() 5
ومؤثرة"
إن اهتمام النقد الثقافي بالنسق المضمر حول وظيفة النقد من نقد النصوص والعناية بجمالياتها
األسلوبية والبنائية الى استخراج األنساق المطمورة فيها.
والنسق المضمر كما تشير المعاجم العربية ترتبط داللته باإلضمار واإلخفاء من أضمر األمر
أخفاه ولكن هذا اإلضمار ال يعني غياب المضمر أو إنهاء وجوده كما أن االخفاء قد يكون مقصودا
وقد ال يكون كذلك ،وفي النسق الثقافي كثيرا ما يكون اإلضمار غير مقصود.
إن الركيزة اللغوية باعتبارها معلومة مقولية معضدة بمعلومة خارج مقولية هي ما يتكئ عليه
الدارسون في مهمتهم لسبر أغوار النصوص األدبية من حيث حموالتها الثقافية ،والغذامي
يستند كثيرا فيى هذا االتجاه في تحليالته لألنساق المضمرة بالتمظهرات النحوية والمعجمية
النصية .إن دراسة األنساق اللغوية داخل نصوص الثقافة مهمة جدا إلدراك األنساق الثقافية سواء
ظاهرها ومضمرها ،فاللغة تمنح الثقافة معناها الجوهري ،فالنسق اللغوي ايديولوجيا ،ومؤسسة
1عبد هللا حبيب التميمي ،سحر كاظم حمزة الشجيري ،دونية المرأة في المجتمع الجاهلي وفوقيتها في الشعر ،مجلة بابل للعلوم اإلنسانية ،م،22
ع ،2014 ،4ص319
النصوص ،و نقطة البداية الحقيقية في التحليل الثقافي ألي خطاب ،هي مساءلة البنى الثقافية
العميقة التي صاغت رؤية المؤلف داخل الخطاب وتحليلها ،لهذا تعول القراءة الثقافية كثيرا على
معرفة القارئ بالثقافة وامتدادها داخل النصوص ،وتنيط بها دورا مهما في تأويل المعنى ،فالقارئ
ينطلق من اإللمام بعصور النصوص ومؤلفيها ،ألن ذلك ييسر له مهمة كشف األنساق إذن
أكثر مما لو فقد القارئ ذلك اإللمام .والمؤلف في قاموس القراءة الثقافية يعد مبدعا قادرا على
فهم سياقات الثقافة ووظائفها وذلك لتماسه مع تاريخها و مفرداتها ،لذلك فإن معرفة التكوين الثقافي
للمبدع ،وانتمائه الطبقي واالجتماعي ،إضافة إلى سياقات عالقاته واحتكاكه مع المؤسسة
األيديولوجية أو الدينامية الفكرية في عصره لها من األهمية ما يبوئها مكان الكشف عن التغلغل
النسقي في الخطاب األدبي حيث يصبح المؤلف حلقة الوصل بين الثقافة والنص ،والمعبر الذي
تتسلل من خالله كل مضامين الثقافة لتسقر في النص ،فالثقافة والمؤلف والنص تشكل اهتمام
القارئ عند شروعه بقراءته الثقافية وصوال إلى استنباط المعنى الذي يروم الوقوف عليه .ولكي
يتسنى للقارئ هذا األمر البد له من معرفة باللغة وإلمام بنسقيتها ،فإحاطة القارئ باللغة وبآليات
اشتغالها يعد الركيزة األساسية من آليات القراءة الثقافية والقراءة األدبية كذلك ،فاللغة أساس
المعنى ،واللغة هي أول عتبة يلجها الناقد ويتكئ على أسرارها ونظامها وحيثياتها وجزئياتها
وكلياتها للتعرف على النص وهي مربض الفرس في اشتغاله على النصوص وعلى اللغة قبل كل
شيء يعول القارئ كثيرا في الوصول إلى مضامين الثقافة وحموالتها النسقية.
إن ما تجدر اإلشارة إليه هو أن القراءة الثقافية تستدعي كثيرا نشاط القارئ ،وحيث أن القارئ
مكيف الذوق ،فهو يقرأ في النص وفق ذوقه قبوال ورفضا ومن ثم يؤول مكونات النص بحسب
توجهاته .وهذا ما يذهب إليه عبد الفتاح كليطو إذ يقول" القارئ يقرأ النص انطالقا من اهتمامات
تخصه أو تخص الجماعة التي ينتمي إليها .القارئ يهدف دائما من خالل قراءاته إلى غاية إلى
1
غرض"
وأخيرا في هذا الباب إذا كان النسق المضمر في النقد الثقافي هو نسق مركزي كونه منغرسا في كل
ثقافة بطريقة مهيمنة ،وكانت مهمة النقد الثقافي هي تتبع هذه األنساق واستخراجها من بين ركام األبنية
الجمالية والفنية والمضامين الصريحة والمباشرة في النصوص ،حيث يتعلق األمر بقراءة ما بين
السطور وإظهار المضمر وكشف المستور ،فما هو إذن النقد الثقافي وما هي أهم مرتكزاته وهو
يتصدى لهذه المهمة؟
-2مفهوم النقد الثقافي ومرتكزاته
برز النقد الثقافي في إطار مشروع نقدي تفاعلي قاده األمريكي فينسنت ليت(،2)V.LEITCH
حيث نظر إلى األشكال النقدية السائدة من النقد الجمالي والفني والسيميائي والبنيوي التفكيكي
كأشكال متجاوزة ومستنفذة لرصيدها المعرفي إزاء التحوالت والمعارف الثقافية التي أصبح
1المنهجية في األدب والعلوم اإلنسانية ،عبد الفتاح كليطو ،دار توبقال الدار البيضاء -المغرب ،ط2
.89 :1993
)Vincent. b. leitch( 2فنسنت ب ليتش ناقد أمريكي ،أول من دعا سنة 1985إلى مشروع نقدي ،يحرر النقد المعاصر من نفق النقد
الشكالني ،و يم ّكن النقاد من تناول مختلف أوجه الثقافة ،السيما التي أهملها النقد األدبي .ينظر :أنسام محمد راشد ،النقد الثقافي من فوكو إلى
عبد هللا الغذامي ،مجلة كلية التربية ابن رشد ،قسم اللغة العربية ،2014 ،ص18_17 :
يعيشها العالم وهكذا تشكلت اإلرهاصات األولى لبروز النقد الثقافي في ثمانينيات القرن الماضي
خصوصا مع كتابه الموسوم ب"النقد األدبي األمريكي" سنة 1988حيث استعمل هذا المصطلح
وجعل ه رديفا لمصطلح ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ،ليجعل مهمته "تمكين النقد من الخروج
()1
من نفق الشكالنية و النقد الشكالني الذي حصر الممارسات النقدية داخل إطار األدب"
نشير أن النقد الثقافي ظهر في الغرب كرد فعل على النظرية الجمالية والبنيوية اللسانية
والسيميائية النصية وفوضى التفكيك وعدميته ،وذلك باتجاهاته المختلفة؛ الماركسية الجديدة
والمادية الثقافية والتاريخانية الجديدة وما بعد الكولونيالية ،والنقد النسوي ،وقد ارتبط النقد الثقافي
على مستوى التحليل بمجموعة من العلوم اإلنسانية كالتاريخ وعلم النفس وعلم االجتماع والفلسفة أو علوم
اإلعالم والحضارة.
1ينظر :سمير خليل ،النقد الثقافي في الدراسات النقدية العربية ،مجلة اآلفاق العربية ،ع ،2011 ،04-03ص 13و14
2ابن منظور :لسان العرب ،مج ، 9مادة ثقف ،دار صادر ،بيروت ،لبنان )د.ت( ،ص.19
3محمد عبد المطلب :النقد األدبي ،الهيئة العامة لقصور الثقافة ط ، 1القاهرة 2003م ،ص90.
يترابط بالرقي والتقدم في البنية التحتية والفوقية .أما تايلور إدوار فيرى أن الثقافة هي "كل
مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون واألخالق والقانون والعرف وغير ذلك من
اإلمكانات والعادات التي يكتسبها اإلنسان باعتباره عضوا في مجتمعه "1.فهي في تصوره
مكتسبة وتمثل حصيلة المعارف المرتبطة بحياة الفرد اليومية .في حين أن المفكر الجزائري
مالك بن نبي يعتبرها مشكلة من الصفات الخلقية والقيم االجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ والدته
وهي تتجلى أي الصفات الخلقية والقيم االجتماعية ،من خالل سلوكه في المجتمع ،وأنها ذات
مكون تاريخي حيث يقول "هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها :من عقلية
ابن خلدون وروحانية الغزالي أو عقلية ديكارت أو رو حانية جندارك ،هذا هو معنى الثقافة في
التاريخ ". 2فهي ما ثلة في األفكار العقلية والروحانية التي تشكلت عبر األزمنة والتاريخ ،قديمة
قدم اإلنسان نفسه .وفي نفس السياق يعتبرها محمد عبد المطلب "اإلضافة الخارجية لإلنسان
إلى الطبيعة وتتمثل في العادات ،التقاليد ،المهارات واإلبداعات وداخلية وهو غريزي ،فطري
وبيولوجي 3 ".أما عند الغرب فإن روبرت بيرستيد يرى أن الثقافة " كل مركب يتألف من كل
4
ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو تملكه كأفراد في المجتمع".
ونخلص إلى كون الثقافة عبارة عن تلك االخالق والقيم والعادات والتقاليد واالعراف والدين
وكل ما له عالقة بحياة اإلنسان حيث يتجلى كل ذلك في حياته اليومية.
مفهوم النقد الثقافي اصطالحا
يجسد النقد الثقافي أحد المناهج واالتجاهات النقدية التي ظهرت مع نهايات القرن العشرين وهي
تبشر بأفكار جديدة حول النقد عموما واألدبي خصوصا .أما مكمن الجدة في هذا االتجاه فهو
االهتمام بالثقافة وقضاياها المتشعبة والمتعددة ويتسم بكونه نشاطا فكريا يستوعب كل الثقافات
على اختالف أنواعها و يعتبر أدورنوه وفينيس ليتش من أهم رواده .ويعرف بنقد ما بعد البنيوية،
وله تسميات أخرى من قبيل :النقد الحضاري ،النقد الفاحص والنقد السياسي .كما يحفل بدراسة
األفكار الثقافية التي أغفلها النقد األدبي في دراساته.
ويعرفه آرثر أيزابرجر "مهمة متداخلة مترابطة متجاورة متعددة يشمل نظرية األدب والجمال
والنقد والفلسفة وكل الثقافات التي تميز المجتمع المعاصر ".5فهو مشروع يشمل أفكارا تتقاطع
مع الفلسفة وكل النظريات األدبية ،العلمية والفنية كبديل عن النقد األدبي .واعتبره فانديك "
ظاهرة ثقافية تهتم بالدراسات السياقية التداولية والنفسية االجتماعية والبحث في عالقة المجتمع
بالنص األدبي وفهمه وتأويله 6".ومنه فإن النقد الثقافي هو تتبع األثر االجتماعي والتاريخي
للنص في المجتمع والوقوف على مدى تفاعل بنيته ثقافيا ومن ثمة فهو أحد علوم اللغة وحقول
األلسنية مهمته اكتناه األنساق الثقافية المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته
وأنماطه وصيغه تلك األنساق المخبوءة تحت أقنعة البالغي /الجمالي.
1مجموعة من الكتاب :نظرية الثقافة ،ترجمة :السيد الصاوي ،المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلدب) ،د.ط( ،الكويت ، 1997ص8
2مالك بن نبي :مشكلة الثقافة ،ترجمة :عبد الصبور شاهين )،د.ط( ،دار الفكر ،بيروت دمشق 2000 ،م ،ص 75
3محمد عبد المطلب ،المصدر السابق ،ص90
4مجموعة من الكتاب ،المصدر السابق ،ص8
5آرثر أيزابرجر :النقد الثقافي تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية ،ترجمة :وفاء ابراهيم رمضان بسطا ويس ،المشروع القومي للترجمة، 1
القاهرة 2003م ،ص30
6يوسف عليمات :التحليل الثقافي ،الشعر الجاهلي نموذجا ،المطابع المركزية ،ط ، 1األردن ، 2004ص.33
ج-تطبيقات النقد الثقافي في الوسط العربي
تعتبر جهود الناقد السعو دي عبد هللا الغذامي في كتابه )المرأة واللغة( الذي أصدره سنة 1997
ارهاصات أولية للخروج بالنقد العربي من دائرة الجمالية إلى معالجة قضية انتقال الكتابة من
العنصر الذكوري إلى العنصر النسوي حيث شكل هذا اإلشكال قضية العصر ،حيث تناولتها
الد راسات النقدية على اختالف توجهاتها ومشاربها الفكرية .وهكذا حاول الغذامي االهتمام بما
أهمله النقد األدبي مثل األدب النسوي ،بينما يظهر منهجه النقدي الثقافي من خالل كتابه،
المعنون " النقد الثقافي ،دراسة في األنساق الثقافية العربية "الذي أحدث رجة قوية في الساحة
النقدية حيث تبنى مشروعا نقديا تجديديا ،إذ عكف على دراسة نصوص شعرية من العصر
القديم مرورا بالحديث ومن ثم رصد تفاعل هذه النصوص مع البنية الثقافية واالجتماعية
لعصرها .وهكذا تساءل الغذامي في مقدمة كتابه حول الشعر العربي القديم هل فيه سوى
الجمالية؟ هل يتوفر على أنساق ثقافية؟ كما استوقفه مصطلح الشاعر الفحل وطغيانه في ذاكرة
الموسوعة العربية وهل في الشعر شيء آخر غير األدبية؟ يحاول الغذامي من خالل كتابه هذا
أن يؤسس لنقد جديد يعتمد على تتبع األنساق الثاوية خلف الخطاب الشعري في ديوان العرب
الذي أثر على شخصيتنا وسلوكياتنا االجتماعية والثقافية وبعمله هذا تجاوز نطاق اللغة والجمالية.
فحاول البحث في ثنايا النص األدبي عن تيمات تجسد عالقة الذات العربية بالثقافة والمجتمع
من خالل دراسة نصوص شعرية لكل من المتنبي ،أبي تمام ،نزار قباني وأدونيس بعيدا عن
الجمالية ومساءلة هذه النصوص وما تخفيه بنياتها من أنساق ثقافية .فكانت تجربته هذه طريقة
جديدة تبحث بعمق بنية النص .وله عدة مقاالت ذات الصلة منها"النقد الثقافي ،رؤيا جديدة ،سنة
2001م ،و"النقد الثقافي ،الفكرة والمنهج سنة 2001وثقافة الصورة 2004م .هذه الرؤيا
الجديدة للنقد تضمنها كتاب مشترك بين الغذامي الناقد السوري عبد النبي اصطيف بعنوان "نقد
ثقافي أم نقد أدبي" فيه يطرح الغذامي قضية أفول نجم النقد األدبي ،كونه ال يستطيع مواكبة
المتغير الثقافي واالجتماعي في النص األدبي المعاصر فقد بلغ حد اليأس والموت .ويستمر عبد
هللا الغذامي في منهجه الجديد بتوجيه األنظار واالهتمامات نحو البرامج التلفزيونية بالتحليل
والدراسة لمصطلح النخبوي والشعبي ودورهما في تكوين البرامج التلفزيونية من خالل كتابه
المعنون ب " الثقافة التلفزيونية ،سقوط النخبة وبروز الشعبي" .كما عزز هذا المشهد النقدي
بإصدار كتاب "تحوالت النقد الثقافي" للناقد عبد القادر الرباعي تعرض فيه بالدرس والتحليل
إلى تطور النقد الثقافي في العالم مشبها إياه بكل ما يحتويه من أنساق مختلفة بقوس قزح بألوانه
المتعددة التي تشير إ لى الخاصية الفسيفسائية للنقد الجديد والمعاصر"معتمدا على منهج كل من
إستيهوب وتيري إيغلتون في النقد الثقافي وموقفهما من موت النقد األدبي .وقدم يوسف عليمات
دراسة تطبيقية عنوانها "جماليات التحليل الثقافي " ،حيث يصرح أن هذه الدراسة تنزح نحو
رؤية جديدة لنماذج نصية للشعر العربي القديم مثل امرئ القيس ،النابغة الذبياني ،عروة بن
الورد كما التفت إلى شعراء الصعاليك على رأسهم الشنفري ،وقف من خاللها على جماليات
األنساق الثقافية الجاثمة داخل البنيات مع تكشف معانيها ودالالتها ووظائفها .فشكل كتابه
محاولة التأسيس لمنهج نقدي ثقافي جديد يبحث في جوهر بنية النص من وجهة ثقافية والكشف
عن ماهية ودور القيم والنظم الفكرية والثقافية في الشعر العربي.
د-خصائص النقد الثقافي
()1
حدد ليتش للنقد الثقافي ثالث خصائص ينبغي أن يرتكز عليها:
-الخروج من غطاء التصنيف المؤسساتي واالهتمام بما هو غير جمالي في عرف المؤسسة،
سواء أكان خطابا أم ظاهرة.
-إفادته من مناهج المؤسسة في تأويل النصوص ودراستها من حيث الخلفية التاريخية وإفادته من
الموقف الثقافي النقدي والمؤسساتي.
-إن الذي يميز النقد ما بعد البنيوي هو تركيزه على أنظمة الخطاب وأنظمة اإلفصاح النصوصي.
فالنقد الثقافي انطالقا من هذه الخصائص ال يرفض األشكال النقدية األخرى ولكن يرفض هيمنة
المؤسسة األدبية ،متوسال في ذلك بالتوسع والشمولية واالكتشاف واالنفتاح على جماليات أخرى
غير الجماليات األدبية المعروفة.
أما في عالمنا العربي فإن الناقد السعودي عبد هللا الغذامي يعد من المنظرين للنقد الثقافي متبنيا بذلك
فكرة ليتش ومعتبرا " النقد الثقافي آلية جديدة لقراءة النصوص" وهو بعد ذلك يعلن موت النقد
األدبي ووالدة النقد الثقافي إذ يقول" وأنا أرى أن النقد األدبي كما نعهده ومدارسه القديمة والحديثة
قد بلغ حد النضج أو سن اليأس ،حتى لم يعد قادرا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي
()2
الضخم الذي نشهده اآلن عالميا وعربيا"
وهكذا يحدد هذا الناقد الضرورة الملحة الداعية لظهور النقد الثقافي بعد أن استنفدت المناهج النقدية
األخرى كل ما لديها أوكادت ليحمل هذا النقد في طياته بذور نظرية جديدة ال تعنى فقط بكشف النقد
()3
"الجمالي كما هو في النقد األدبي ،وإنما همه كشف المخبوء من تحت أقنعة البالغي والجمالي"
وبناء عليه يمكن أن نخلص إلى أن النقد الثقافي ينظر إلى النص األدبي كحادثة ثقافية تمتزج فيها
كل الجوانب الثقافية للمجتمع وهكذا فالناقد الثقافي مطالب بالغوص في أعماق النص والوقوف على
مكنوناته وخباياه ،وعدم االقتصار على سطحية العمل .ويعرف الغذامي النقد الثقافي بأنه "فرع من
فروع النقد النصوصي العام ومن تم فهو أحد علوم اللغة ،وحقول األلسنية معني بنقد األنساق
المضمرة ،التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه وصيغه"( )4وهكذا ينظر الغذامي
إلى النص كحدث ثقافي ال يقرأ لجماليته وال لذاته وإنما بوصفه حامل أنساق مضمرة تستعصي
رؤيتها عبر القراءة السطحية ألنها تتقنع خلف سحر الظاهر الجمالي وتبعا لذلك فإن وظيفة النقد
هي اكتشاف األنساق المخبوءة تحت غطاء الجمالي سواء اكان النص أدبيا أم غير أدبي.
"والنقد الثقافي في مهمته هذه يستند على ثالث دالالت:
1جميل حمداوي ،النقد الثقافي بين المطرقة والسندان ،مقال نقدي الموقع اإللكتروني ) )http://www.diwanlarab.comبتاريخ
.2012/07/08
النقدي ،كما في الضمنية ،أما الداللة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي ،وتحتاج إلى
أدوات نقدية مدققة تأخذ بمبدإ النقد الثقافي لكي تكتشفها ،ولكي تكتمل منظومة النظر واإلجراء.
وما يهمنا في هذه الدالالت الثالث هي الداللة الثقافية الرمزية التي تكتشف على مستوى الباطن
والمضمر ،فتصبح أهم من الداللتين السابقتين :الحرفية والجمالية.
الجملة الثقافية
على غرار التقسيم الثالثي للداللة ،يعتمد النقد الثقافي على التمييز المنهجي بين ثالث جمل رئيسة،
وهي :الجملة النحوية ذات المدلول التداولي وهو مستوى الداللة األول ،والجملة األدبية ذات المدلول
الضمني والمجازي واإليحائي وهو مستوى الداللة الثاني ،والجملة الثقافية التي هي حصيلة الناتج
الداللي للمعطى النسقي وهو مستوى الداللة الثالث وهو أهم المستويات حسب نظرية النقد الثقافي.
وكشف الجملة الثقافية يأتي عبر العنصر النسقي في الرسالة ،ثم عبر تصور مقولة الداللة النسقية،
وهذه الداللة سوف تتجلى وتتمثل عبر الجملة الثقافية .والجملة الثقافية ليست مقولة كمية تقع كل
واحدة منها مقابل جملة نحوية ،إذ قد نلفي جملة ثقافية واحدة بإزاء ألف جملة نحوية .وهذا يؤكد أن
الجملة الثقافية هي داللة تخزينية ومكثفة.
ويوحي كل هذا أن الجملة الثقافية هي الهدف والمرمى ،وأنها تهدف إلى استكشاف المنطوق الثقافي،
واإلحاطة بالمعنى السياقي الذي يحيل على المرجع الثقافي الخارجي.
المجاز الكلي
يروم النقد الثقافي استخالص المجازات الثقافية الكبرى متجاوزا المجاز البالغي واألدبي ،حيث
يتحول النص أو الخطاب إلى إحاالت على مضمرات ثقافية مجازية ،أي أننا بحاجة إلى كشف
مجازات اللغة الكبرى ،والمضمرة ،ومع كل خطاب لغوي يتواجد مضمر نسقي ،يتوسل بالمجاز،
ليرسخ عبره قيمة داللية غير واضحة المعالم ،ويحتاج كشفها إلى التنقيب في أركيولوجيا النسق
اللغوي ،ومعرفة ما يفعله في ذهنية مستخدم اللغة.
والمجاز الكلي هو القناع الذي تتقنع به اللغة لتمرر أنساقها الثقافية دون وعي منا ،حتى لكأننا نصاب
بما ينعته الغذامي بالعمى الثقافي .وفي اللغة مجازاتها الكبرى والكلية التي تتطلب منا مناهج وآليات
غير معهودة كي نكشفها ،حيث نسجل قصور األدوات القديمة عن ذلك الكشف ،وخطاب الحب مثال
هو خطاب مجازي كبير ،يختبئ من تحته نسق ثقافي ،ويتحرك عبر جمل ثقافية غير ملحوظة.
ويعني هذا أن النص أو الخطاب الثقافي يتحول إلى استعارات ومجازات كلية تحمل في طياتها
مدلوالت ومقصديات ثقافية مباشرة وغير مباشرة.
التورية الثقافية
على شاكلة التورية البالغية ،تستند التورية الثقافية في النقد الثقافي إلى معنيين :معنى قريب غير
مقصود ،ومعنى بعيد مضمر ،وهو المقصود .ويعني هذا أن التورية الثقافية هي كشف للمضمر
الثقافي المختبئ وراء السطور .وتبعا الختالف مفهوم المجاز الكلي عن المجاز البالغي والنقدي،
فإن التورية هي مصطلح دقيق ومحكم ،وهو في المتداول يعني وجود معنيين أحدهما قريب واآلخر
بعيد ،والمقصود هو البعيد ،وكشفه هو حنكة بالغية متمرسة ،وقولنا بالتورية الثقافية يعني أن
الخطاب يحمل نسقين ،ال معنيين ،وأحد هذين النسقين واع واآلخر مضمر" .
وهكذا ،تشكل التورية مفهوما إجرائيا جديدا ،بغية تطبيقه على النصوص في ضوء مقاربتها ثقافيا.
النسق المضمر
يتخذ النقد الثقافي من مصطلح النسق المضمر مفهوما مركزيا في إطار المقاربة الثقافية .باعتبار
أن كل ثقافة معينة تحمل في طياتها أنساقا مهيمنة ولها الغلبة ،فالنسق الجمالي والبالغي في األدب
ما هو إال غطاء يتكشف عن أنساق ثقافية مضمرة .وبتعبير آخر ،ليس في األدب الوظيفة األدبية
والشعرية وحدها ،بل هناك كذلك الوظيفة النسقية التي يتتبعها النقد الثقافي .وهذا يدفعنا إلى القول
بوجود قيم نسقية مضمرة في الخطاب األدبي عموما ،والشعري تحديدا ،ترسخ نسقا ثقافيا مهيمنا
يتغلغل فينا بال وعي منا متوسال بغطاء البالغي والجمالي.
ويعني هذا أن النقد الثقافي يكشف عن تناقض األنساق وتصارعها ،فيتضح بأن هناك نسقا ظاهرا
يقول شيئا ،ونسقا مضمرا غير واع وغير معلن يقول شيئا آخر .وهذا المضمر هو الذي يسمى
بالنسق الثقافي .وغالبا ما يتخفى النسق الثقافي وراء النسق الجمالي واألدبي .ومن ثم ،فاستخالص
األنساق الثقافية المضمرة ذات قابلية جماهيرية شعبية ،على عكس األنساق النخبوية التي ال تلقى
شعبية عامة على مستوى االستقبال واالتصال .وهذا يحيل على السياق العام لنشأة الدراسات الثقافية
عموما والنقد الثقافي خصوصا وهو خدمة القيم اإلنسانية وخدمة اإلنسان كيفما كان مستواه
االجتماعي والطبقي والعرقي واالثني .إن قيما مثل :قيم الحرية ،واالعتراف باآلخر ،وتقدير
المهمش والمؤنث ،والعدالة ،واإلنسانية ،هي كلها قيم عليا تقول بها كل ثقافة ،ولكن تحقيقها عمليا
وواقعيا هو ما يطرح أكثر من إشكال .ونحن حين نتوصل إلى أن الخطاب األدبي الجمالي ،الشعري
وغيره ،يقدم في مضمره أنساقا تنسخ هذه القيم وتنقض ما هو في وعي األفراد ،فهذا معناه أن في
الثقافة علال نسقية لم تكتشف ،ولم تفضح ،ويكون الخطاب متضمنا لها ،دون وعي من منتجي
الخطاب وال من مستهلكيه.
ويدل هذا أن المقاربة الثقافية ال تلقي باال لألبنية الجمالية والفنية والمضامين المباشرة ،بل ما يعنيها
هو استكشاف األنساق الثقافية المضمرة.
المؤلف المزدوج:
يمكن في إطار ازدواجية مفاهيم النقد الثقافي الحديث في إطار المقاربة الثقافية -بشكل من
األشكال -عن مؤلف مزدوج ،الكاتب الجمالي واألدبي الذي ينتج أنساقا أدبية وجمالية فنية ظاهرة
ومباشرة أو غير مباشرة ،وذلك عن طريق الرمزية واإليحائية ،وهناك في الكفة األخرى الكاتب
الثقافي الذي يتمثل في الثقافة نفسها التي تتوارى وراء الظاهر في شكل أنساق مضمرة غير واعية
.يأتي مفهوم المؤلف المزدوج بعد هذه المنظومة االصطالحية لتأكيد أن هناك مؤلفا آخر بإزاء
المؤلف المعهود ،فالثقافة تعمل عمل مؤلف آخر يصاحب المؤلف المعلن ،و بالموازاة مع العملية
اإلبداعية الواعية تتسلل الثقافة لتغرس أنساقها من تحت نظر المؤلف ،وبال وعيه إذ يكون المؤلف
في حالة إبداع كامل اإلبداعية حسب شرط الجميل اإلبداعي ،غير أننا سنجد من تحت هذه اإلبداعية
وفي مضمر النص سنجد نسقا كامنا وفاعال ليس في وعي صاحب النص.
-4ملحق حول الحضارة األندلسية
-5فصل تطبيقي
قصيدة النونية
1
نونية أبي البقاء الرندي في رثاء األندلس
غر بطيب العيش إنسا ُن فال يُ ُّ لكل شيءٍ إذا ما ت َّم نقصَان
ِّ
س َّرهُ َزمن سا َءتهُ أزما ُنَمن َ هي األمور كما شاهدتها د َُول
وال يدوم على حا ٍل لها شانُ وهذي الدار ال تُبقي على أحد
إذا نَبَتْ مشْرفيّاتٌ و ُخرصانُ الدهر حت ًما ك َّل سابغ ٍة
ُ ق
يُمز ُ
يزن والغمد غمدان كان ابنَ ذي َ ولو
وينتضي ك َّل سيف للفناء ْ
وأينَ منهُم أكالي ٌل وتيجانُ ؟ أينَ الملوك ذَ ُوو التيجان من ٍ
يمن
وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ؟ إرم
وأين ما شاده شدَّا ُد في ٍ
وأين عاد وشداد وقحطا ُن ؟ وأين ما حازه قارون من ذهب
َّ
فكأن القوم ما كانوا حتى قَ َ
ضوا أتى على الك ُِّل أمر ال َمر َّد له
سنا ُن
يف و ْ
كما حكى عن خيال الط ِّ وصار ما كان من ُملكٍ ومن َملِّكٍ
وأ َّم كسرى فما آواه إيوانُ دار الزمانُ على دارا وقاتِّ ِّله
َ
1أثبت المقري قصيدة الرندي في نفح الطيب كما نبه إلى الزيادات التي طرأت عليها ،والقصيدة التي تحقق المقري من نسبتها إلى الرندي تبلغ ثالثة وأربعين
بيتا.
سليمان يو ًما وال َملكَ الدُنيا ُ سبب
ُ س ُهل له كأنما الصَّعب لم ي ْ
وللزمان مسرات وأحزا ُن ِّ نوعة الدهر أنواع ُم َّ ِّ فجائ ُع
سلوان وما لما ح َّل باإلسالم ُ يسهلها ِّ سلوان ث ُ وللحواد ِّ
هوى لَهُ أُحد وانه َّد ثهال ُن دهى الجزيرةَ أمر ال عزا َء لهُ
حتى َخلت منهُ أقطار وبُلدا ُن أصابها العينُ في اإلسالم فامتحنتْ
أين َجيَّا ُن وأين شاطبة أ ْم َ َ سيةً فاسأل بَلَ ْنسيةً ما شأ ُن ُم ْر ِّ
سما فيها لهُ شان عالم قَ ْد َمن ٍ دار العلوم فكم وأين قُ ْرطبة ُ
ذب فَ َّياض ومآلنُ ونهرها ال َع ُ حمص وما تحويه من نُ َزه ُ وأين
عسى البقا ُء إذا لم تَبْقَ أركا ُن أركان البالد فما َ قواعد َّ
كن
ف هيما ُن كما بكى لفراق اإل ْل ِّ تبكي الحنيفيةَ البيضا ُء من أسفٍ
قد أقفرت ولها بالكفر ع ُْم َرا ُن على ديار من اإلسالم خالية
صلبان فيهن إال نواقيس و ُ َّ حيث المساجد قد صارتْ كنائس ما
حتى المنابر ترثي وهي عيدا ُن حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
فالدهر يقظا ُن ُ سنَ ٍة إن كنت في ِّ الدهر موعظة ِّ يا غافالً ولهُ في
غر المر َء أوطا ُن ص تَ ُّ أبَعد ح ْم ٍ وماشيًا مر ًحا يلهيه موطنهُ
وما لها َم َع طو ِّل الدهر نسيا ُن ستْ ما تقدمها تلك المصيبةُ أ ْن َ
أدرك بسيفك أهل الكفر ال كانوا يا أيها الملك البيضاء رايته
السبق عقبا ُن ِّ كأنها في مجال يا راكبين عتاقَ الخي ِّل ضامرةً
النقع نيرا ُن ِّ كأنها في ظالم وف الهن ِّد ُم ْر َهفة وحاملين سيُ َ
لهم بأوطانهم عز وسلطا ُن ع ٍة
وراتعين وراء البحر في َد َ َ
القوم ُركبا ُن ِّ ث فقد سرى بحدي ِّ أعندكم نبأ ِّم ْن أه ِّل أندلس
قتلى وأسرى فما يهتز إنسا ُن كم يستغيث بنا المستضعَفون وهم
وأنت ُم يا عبا َد هللا إخوان ماذا التقاط ُع في اإلسالم بينك ُم
الخير أنصار وأعوا ُن ِّ أم على أال نفوس أ ِّبيات لها همم
طغيا ُن أحال حاله ُم كُ ْفر و ُ عزه ُم قوم بع َد ِّ يا من لذل ِّة ٍ
واليو َم هم في بالد الكفر عبدا ُن باألمس كانُوا ملوكًا في منازلهم
الذل ألوا ُن ب ِّ عليه ُم من ثيا ِّ فلو تراهم حيارى ال دلي َل لهم
األمر واستهوتكَ أحزانُ ُ لهالكَ ولو رأيتَ بُكاهم عن َد بيعه ُم
ق أرواح وأبدا ُن كما تفَ َّر ُ ب أ ُ ٍم وطف ٍل حيل بينهما يا ُر َّ
كأنما هي ياقوت و َم ْرجا ُن الشمس إذ طلعتْ ِّ و َطفلةً مثل حسن
والقلب حيرا ُن ُ والعينُ باكية يقودُها العل ُج للمكروه مكرهة
ب إسالم وإيما ُن إن كان في القل ِّ القلب من كمد ُ يذوب
ُ لمثل هذا
توطئة
سنعتمد من خالل هذه األبيات مقاربة األنساق المضمرة وسنحاول الوقوف على المخبوء
خلف اإلبالغي والبالغي وال يسعنا في عملنا هذا إال التوجس من كل مباشر وسطحي عبر
مساءلة الجمالي والبالغي عما يدور في خلده وهكذا اعتمدنا في مقاربتنا لهذه األنساق على
الجانب المضموني ثم على الجانب الشكلي حيث نلحظ طغيان الغياب والمخاطب والالشخصي
على المستوى الضمائري .إن ما نود أن نؤكده ونقره هو أن هذه الرؤية النسقية التي تراءت لنا
من خالل إعمال الفكر وإطالة التأمل ومساءلة الظاهر عن المضمر ليست هي الوحيدة وال يمكن
أن تكون كذلك .فالنقد الثقافي وهو يعلن عن موت النقد األدبي واستنفاد إمكانياته المعرفية،
ووصوله إلى سن اليأس حيث لم يعد قادرا على اإلتيان بما يجيد ويفيد ،وأنه لم يعد إال مجرد آلية
إلعادة إنتاج خطاب مستهلك بلغت منه الرتابة أيما مبلغ ،وهذا موقف الناقد عبد هللا الغذامي كما
تقدم ،إال أن هذا النقد الثقافي لم ينكر إمكانية إفادته من مفاهيم النقد األدبي خاصة اإلجرائية منها
وهذا ما ذهب إليه ليتش كما تطرقنا إلى ذلك فيما سبق ذكره حيث أكد هذا األخير على إفادة النقد
الثقافي من مناهج المؤسسة رغم تمرده على قيودها ولعل أهم آلية سيستثمرها هذا النقد الجديد
هي التأويل النصوصي.
لقد ارتبط مفهوم التأويل في بداية التأسيس بالتأويل الرمزي أو الباطني الذي كان يهتم بتفسير
الكتب المقدسة ،ثم تطور ليشمل الثورة المنهجية التي رافقت تحول الوعي النقدي .وبما أن
وظيفة النقد الثقافي هي اكتشاف األنساق المضمرة في النصوص األدبية ،وإعادة قراءتها
بوصفها حادثة ثقافية ،فإنها أدعى إلى استعمال التأويل ِتبعا للتصورات التي تقدمها القراءات
المختلفة للنسق فيختلف معناه و ْفقا لتأويالتها ،ألن الكشف عن األنساق المضمرة إنما يتجه إلى
تأويل النص باعتباره بُنية ثقافية تمارس سلطة الهيمنة وتوجيه الخطاب .فالتأويل هو استجالء
الغموض في نص أو خطاب معين أو تحويل معناه من لغة ألخرى أو إضفاء معنى محدد عليه
قصد إدراكه .وحتى بالعودة إلى المعنى اللغوي للتأويل نجد اللفظة مأخوذة من آل وأول وهو
الرجوع ويقال :أول الكالم تأويال :أي إذا تدبره ،وقدره برده إلى أصله ،أي داللته الحقيقية.
وعليه يمكن االستنتاج أن التأويل هو إعادة إنتاج النص الخطابي بإخضاعه لمجموع التفاعالت
المحيطة به والمؤثرة فيه من أجل الوصول إلى الحقيقة ،وبما أن األنساق الثقافية هي قراءة
ثقافية للنص الخطابي فإنه يمكن االعتماد بشكل كبير على الجهد التأويلي واالستنباطي للكشف
عن األنساق الثقافية المضمرة.
إن القارئ ال غنى له عن آلية التأويل سواء أتصدى لقراءة نص معاصر أم نص قديم قراءة
ثقافية .وإذا كان القارئ في قراءته الثقافية للنصوص الحديثة أو المعاصرة يحتاج إلى وعي
بالمؤلف والثقافة واللغة وهي هنا مشتركة ،أي بتعبير آخر هناك موافقة بين شفرة النص
الثقافية ومرجعيات القارئ الثقافية ،فاألمر يتطلب وعيا فائقا من القارئ عندما ما تختلف
شفرة النص الثقافية مع مرجعياته وال تتوافق معها بفعل الزمن ،كأن يباشر القارئ المعاصر
قراءة النص القديم قراءة ثقافية.
أوال على مستوى المضمون
نسق الجهل والتراخي وقلة الحزم
يطالعنا الشاعر في مستهل قصيدته بمسلمات حكمية كل ما يقال عنها أنها مستقاة من قاموس
التجربة ومن مرجعياته الدينية التي تنبئ عن تشبع شاعرنا بالرؤية الدينية للحياة والوجود،
فالحياة الدنيا وفق هذا التصور ال تعدو كونها قنطرة عبور نحو حياة أبدية وهكذا خاطبنا
القرآن الكريم "(يا أيها الناس إن وعد هللا حق فال تغرنكم الحياة الدنيا وال يغرنكم باهلل
الغرور)( )1وهكذا فاإلنسان على المستوى الفردي مندوب إلى المسارعة في االستجابة لنداء
الحق واللحاق بركب الصالحين الذين يسارعون في الخيرات والمنافسة في األعمال الحسنة
(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم أحسن عمال)(.)2واأليام جعلها هللا دوال بين معسكر
الكفر ومعسكر اإليمان وهكذا تكون القاعدة الكونية يوم لك ويوم عليك سارية المفعول وفق
هذا اإلعالن (وتلك األيام نداولها بين الناس)( )3فالدنيا سنها خداع كما يقال في المثل الدارج
فما تخفي بابتسامتها إال وجها عبوسا قمطريرا وما تفرش حريرها إال على بسط الشوك إنها
شبيهة بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد هللا عنده فوفاه
حسابه وقبل هذا اللقاء الجلل فإنه يكتوي بتقلباتها ويرى بأم عينيه فعلها بأهلها فأين الملوك
ذوو الهامات التي كانت تخر لها الجبابرة ،فأين الملك والمملوك وأين الظالم والمظلوم وأين
القاتل والمقتول ،دارت عليهم رحى الدهر وجرت عليهم سنة هللا في خلقه (كل من عليها فان
ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام)( .)4وإلذكاء هذه الرؤية المتشبعة بحقيقة (المؤمن يتزود
والكافر يتمتع)( ،)5فإن الشاعر عاد إلى التاريخ سواء التاريخ الحقيقي كتاريخ الفرس والروم
وعاد وقحطان أو التاريخ األسطوري كتاريخ حمير مع البطل سيف بن ذي يزن كما وردت
أ خباره في السير الشعبية ،عاد إليه ليستقي شهادات حية عن مصير ملوك مألوا الدنيا جورا
وطغيانا أو عدال وإحسانا كحال نبي هللا سليمان ،انقضى عهدهم وانطوت مشيداتهم واندثرت
حضاراتهم وعاد الحديث عنهم كما يحكي المستيقظ من حلمه عن أطياف عرضت له وهو
وسنان .إن هذه الحقائق التي أطلت علينا من خالل أشكال بالغية توزعت ما بين االستعارة
المكنية في قوله:
إذا نبت مشرفيات وخرصان) ،حيث شبه ( يمزق الدهر حتما كل سابغة
الدهر بإنسان وحذف المشبه به وذكر إحدى لوازمه وهو مزق وما بين الجناس كما في قوله:
وأين ما ساسه في الفرس ساسانُ ) ،وقوله إرم
(وأين ما شاده شدَّا ُد في ٍ
سنانُ)يف و ْ
كما حكى عن خيال الط ِّ (وصار ما كان من ُملكٍ ومن َملِّكٍ
والطباق كما في قوله:
س َّرهُ َزمن سا َءتهُ أزمان( ،ما الذي
َمن َ (هي األمور كما شاهدتها د َُول
توارى خلف هذه المباهج الفنية؟ ألم يتستر خلفها نسق الجهل بالسنن الكونية؟ إن حكام األندلس
أقل ما يقال عنهم وهم في غفلتهم سادرون بينما العدو يتربص الفرصة لإلجهاز عليهم ،أنهم
مغرورون ،ركنوا إلى الدعة والسكينة مطمئنين إلى الحياة الدنيا مأخوذين بزينتها ،متلذذين
بشعراء وصف الطبيعة الغناء وبشعر النسيب والهثين خلف جمال األندلس األخاذ مفتونين
بطبيعة تسبي القلوب ،لم يخطر ببالهم قانون (حتى إذا أخذت األرض زخرفها وازينت وظن
أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليال أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن باألمس)(،)6
وكان حالهم حال من ذمه القرآن وهو يقرر (إن الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين
نعم بعد أن أخبر الشاعر أن مصيبة األندلس ناسخة راسخة ،حيث لم يعد بد في كونها أجل
المصائب التي اجتاحت دار اإلسالم وأن األيام غير قادرة على محو جرحها من الذاكرة
الجمعية ،فإذا كانت األيام قادرة على طمر اآلالم واألحزان فإن أحزان األندلس وجراحاتها
هي التي ستخيم على مستقبل األيام وستعلو مسحة الحزن على فقدها وجه األيام فال ترى فيما
يستقبل من الزمان ثغرا باسما وال وجها ناضرا وهكذا تنهد شاعرنا المجروح:
وما لها َم َع طو ِّل الدهر ستْ ما تقدمها تلك المصيبةُ أ ْن َ
نسيا ُن
بعد عرض هذه الحقيقة المرة ركب الشاعر أسلوبا إنشائيا توزع بين النداء واالستفهام متوجها
إلى جيران األندلس المسلمين مثنيا عليهم بما يملكون من وسائل القوة التي تتراوح بين الخيل
السريعة والسيوف المرهفة والفرسان البواسل وذاكرا إياهم بما يتنعمون فيه من الرخاء والعز
والسلطان:
السبق
ِّ كأنها في مجال ق الخي ِّل ضامرةً يا راكبين عتا َ
عقبا ُن
كأنها في ظالم النقعِّ وف الهن ِّد ُم ْر َهفة ًوحاملين سيُ َ
نيرانُ
لهم بأوطانهم ع ٍة
وراتعين وراء البحر في َد َ َ
عز وسلطانُ
ثم بادر الشاعر إلى سؤالهم ،إن كان عندهم خبر بما حل باألندلس وهل عندهم نبأ من أنباء
الدائرة التي دارت عليها ،وهل بلغهم استصراخها ليختم تساؤله بمدى استعدادهم لتقديم يد
المساعدة إلخوانهم في األندلس ونصرتهم.
إن الجو العام السياسي الذي خيم في المغرب وهو المقصود عند الشاعر في هذه المرحلة من
القصيدة يشي بأن كل هذه األساليب التي عمد إليها الشاعر تنم عن التعريض بموقف المغرب
حينئذ من قضية األندلس الذي طبعه الخذالن حيث لم تكثرت الدولة المرينية لما حل باألندلس
ولم تهب لنجدتها كما فعلت الدولة المرابطية التي استطاعت باستماثتها أن تزيد في عمر
األندلس ما يربو على قرنين من الزمان وكأن لسان حال المغرب يقول "هذي تروسي أدفع
بها عن عرضي وإن ديس عرضي أحمي تروسي".
القوم
ِّ ث
فقد سرى بحدي ِّ أعندكم نبأ ِّم ْن أه ِّل أندلس
ُركبانُ
قتلى وأسرى فما يهتز كم يستغيث بنا المستضعَفون وهم
إنسا ُن
وهكذا نستشف أن هذا المقطع يتوارى من تحته نسق الخذالن الذي رفضته المرجعية
اإلسالمية معتبرة إياه بعيدا عن مستلزمات األخوة اإليمانية التي تقتضي التعاون في السراء
والضراء واالنضواء تحت حلف موحد يهب كلما دعت الحاجة لنصرة المستغيث درءا للفساد
الذي يلحق باألمة وإبعادا لفتنة األعداء الذين يتربصون بهم الدوائر (والذين كفروا بعضهم
أولياء بعض ،إال تفعلوه تكن فتنة في األرض وفساد كبير)
إن نسق النصرة في المنظومة القيمية اإلسالمية نسق مركزي يتحدد بإزائه نسق الخذالن،
وهو أي الخذالن؛ مذموم يعبر عن ضعف اإليمان وغلبة الشهوات على الروحانيات فكلما
غلبت الشهوة نزع اإلنسان نحو أصله الطيني فصار ثقيال ال يهب لنصرة وال يسارع لنجدة
لذلك عاب القرآن عن المتخلفين عن غزوة تبوك بقوله (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل
هللا اثاقلتم إلى األرض ،أرضيتم بالحياة الدنيا من اآلخرة؟)
إن ما يعضد ما ذهبنا إليه هو استفهام الشاعر في قوله:
وأنت ُم يا عبا َد هللا ماذا التقاط ُع في اإلسالم بينك ُم
إخوان
إن ما ميز العالقات الخارجية بين األندلس والمغرب في حينها هو انشغال كل قطر بإخماد
نار الفتنة الداخلية وترتيب أوراقه وغياب الوحدة والتنسيق من أجل رؤية موحدة للمصير
المشترك فطبعت العالقات بالتقاطع والجفاء وهو من أهم إفرازات الخذالن المسمومة لهذا
تعمقت أزمة الشاعر وهو يتساءل وهو يتساءل في حيرة وحزن عميق:
الخير أنصار وأعوانُ
ِّ أما على أال نفوس أ ِّبيات لها همم
نسق الالغيرة
ويرتدي الرندي مسوح الحكيم ،ويلبس ثياب الواعظ ،فيدعو المسلمين إلى التماسك ونبذ
التقاطع والتخاصم ،كما يدعوهم إلى أخذ العظة والعبرة مما حدث إلخوانهم في األندلس حتى
ال يحدث ذلك في بقعة أخرى من بقاع اإلسالم ،ويستحثهم لنصرة الدين والحفاظ على قواعده
القليلة الباقية في األندلس ،فأخذ يرسم لوحات حزينة تصور مأساة أهل األندلس ،فيصف حال
القوم وما قد انحدروا إليه من ذل بعد عز ،وعبودية بعد سيادة ،وضياع بعد منعة ،هنا يكون
النهوض أوجب والفزع ألزم فالحرمات تنتهك ،وإال فالعجب في افتقاد نفوس تأبى الضيم ،
ومن مسلمين ليسوا على الخير بأعوان.
إنه يستحث اإلخوان ليغيثوا من بدَّل الطغاة من الغزاة حالهم ،فذلوا بعد عزة ،وضعفوا بعد
قوة ،وصاروا عبيدا في ديار كانوا عليها ملوكا ،إنك لو رأيت حيرتهم وهم يكتسون ثياب الذل
والمهانة ،وسمعت بكاءهم لحظة بيعهم بيع الرقيق ،وعرضهم عرض السلع في األسواق
ألفزعك أمرهم وروعك مظهرهم ،وكيف ال تفزع والخطب جلل والمصائب فيهم تتعاقب؟
وليس أشد وأنكى من التفريق بين األم وولدها كما يفرق بين الروح والجسد ،وليس أفظع
وأخزى من أن تساق الفتاة الرخصة الناعمة إلى الفجور مرغمة ،ومدفوعة إليه دفعا ،ال تملك
من أمرها سوى حيرة الحزن ومرارة البكاء ،لمثل هذا يذوب القلب حسرة وألما ،وأسى وأسفا،
هذا إن كان في القلب إسالم وإيمان.
إن الجو السياسي العام كان يدعو إلى اليأس واإلحباط ،لم يكن هناك أمل في أن أهل المغرب
سيهبون مسرعين لنجدة إخوانهم األندلسيين ،بل لم يكن هناك أمل في استعادة البقاع التي
استولى عليها ا لنصارى بقيادة حاكم مملكة قشتالة ،فعمد الشاعر إلى تصوير حالة الذل التي
أصبح عليها أهل الجزيرة فبعد ما كانوا ملوكا معززين صاروا عبادا يباعون في سوق النخاسة
وفرق العدو بين األم وابنها وسيقت العذارى من النساء مكرهات على الفاحشة لقد أبكى
الشاعر كل الدنيا وهو يماثل بين فراق األم وابنها وفراق الروح لجسدها وهو يعلن:
كما تفَ َّر ُ
ق أرواح وأبدا ُن يا ُر َّب أ ُ ٍم وطف ٍل حيل بينهما
صحيح ،إذا كانت لحظة فراق الروح للجسد تجسد حقيقة الموت البيولوجي فإن لحظة فراق
الطفل ألمه تجسد حقيقة الموت في أبعاده الحضارية واإلنسانية التي وسمت حياة األندلس
على آخر عهدها ،فبعد أن كانت األندلس رمزا للحياة والنشاط واألمل والحبور والسرور
صارت رمزا للذبول واألفول وسرى نقع الحمام في أوصالها ودب اليأس في عروقها
وأوصالها.
لقد كان الشاعر على قدر كبير من الصواب وعلى ضرب عال من الدقة وهو يبسط هذه
الحقيقة المحزنة ،حقيقة الموت الذي أناخ بكله وكلكله على حياة األندلسيين حيث تحولت إلى
جحيم ال يطاق واستحالت معه كل فرصة للعودة إلى الماضي التليد كما يستحيل عودة الروح
إذا فارقت جسدها فما يستقبل أهل األندلس إال أيام سود وما ينتظرهم إال مستقبل كالح.
إذا سلمنا بكل هذا فما الذي أخفاه بليغ القول وجميله في هذه المرحلة األخيرة من قصيدته
الرائعة؟
إن الشاعر وهو يصور حقيقة حياة الذل التي انقلب إليها حال أهل األندلس موازاة مع علمه
التام بال جدوى دعوته لنصرة أهل األندلس لم يكن في حقيقة األمر عمله هذا إال إعالنا عن
نسق متوار خلف كل هذا إنه نسق الالغيرة ،حيث ال فائدة من ضرب الحديد البارد.
إن الغيرة نسق اجتماعي مركزي في الحياة العربية منذ العصر الجاهلي ولئن عرف هذا
المفهوم تجاوزا صارخا في العصر الجاهلي وصل به على المستوى االجتماعي إلى وأد
البنات غيرة على العرض ،ثم إلى إضرام نار الحروب غيرة على القبيلة وذلك على المستوى
السياسي ،وإلى بروز غرض الهجاء في الشعر العربي على المستوى الثقافي .فإن هذا المفهوم
عرف تشذيبا وتهذيبا في العصر اإلسالمي فصارت الغيرة المحمودة غيرة على الحرمات
والمقدسات والمحارم التي حرمها الشرع وعلى األعراض ،وقد تبرأ الدين من كل مظاهر
الالغيرة واعتبرها منافية لمكارم األخالق .إن الغيرة في حقيقة األمر هي دليل على اكتمال
اإليمان والرجولة وعلو الكعب في الدين ومؤشر قوي على قوة اإليمان فالذي ليس في قلبه
غيرة على نساء المسلمين أيا كان موقعهن في خريطة الروابط االجتماعية هو في حقيقة األمر
خاوي الوفاض في مضمار الدين وضعيف اإليمان وبعيد كل البعد عن حقيقة المؤمن الصادق
المتشوف لكمال االحسان ،لهذا ختم الشاعر هذه القصيدة بهذا البيت الرائع:
ب إسالم
إن كان في القل ِّ القلب من كمد
ُ يذوب
ُ لمثل هذا
وإيما ُن
نعم لقد كان شاعرنا المفدى محقا وكان على علم أن هذا القلب لن يذوب من كمد فهو قلب ديوث
الغيرة له على أعراض بنات األندلس الالتي حالهن:
كأنما هي ياقوت الشمس إذ طلعتْ
ِّ و َطفلةً مثل حسن
و َم ْرجا ُن
والقلب
ُ والعينُ باكية يقودُها العل ُج للمكروه مكرهة ً
حيرا ُن
نعم لقد كان واثقا بأن هذا الكيان لن يهتز لهذا المشهد المنتهك للعرض والشرف ،لقد كان جازما
جزما قاطعا أن هذا القلب ال يلوي على خير وال يستنير بإسالم وال ينضح بإيمان.
نسق الحضارة
لقد علمنا الشاعر العربي أنه دائم الحنين كثير الشوق صادق الرثاء عظيم التفجع يبكي كل
صغيرة وكبيرة ،فحتى األطالل البالية وحتى الرسوم الدارسة لم تسلم من بكاء الشاعر العربي
يبكيها كما يبكي القبيلة والوطن المسلوب وكما يبكي فراق األحبة ترى ما الذي كان يبكي
شاعرنا في هذه القصيدة وما الذي جعله يتفجع حتى يعلن أن حال قلبه وصل به الحد إلى الذوبان
من هول التجربة التي يعبر عنها،
ب إسالم
إن كان في القل ِّ القلب من كمد
ُ يذوب
ُ لمثل هذا
وإيما ُن
إن الشاعر في حقيقة األمر كان يبكي حضارة متكاملة األبعاد وكانت بالفعل حضارة تستحق
البكاء.
إن الفتح العربي إلسبانيا لم يكن احتالال عسكريا بل كان حدثا حضاريا هاما وحركة تحرير
للشعوب اإلسبانية فقد امتزجت حضارة سابقة كالرومانية والقوطية مع حضارة جديدة هي
الحضارة العربية االسالمية ،ونتج عن هذا المزج والصهر حضارة أندلسية مزدهرة أثرت في
الحياة األوربية وتركت آثارا عميقة مازالت تتراءى مظاهرها بوضوح حتى اليوم .حضارة
ذات أبعاد دينية وسياسية وعلمية:
على مستوى الدين ،إن إعالن الشاعر عن تفجع أحد وثهالن ،في المصاب الجلل أخفى النسق
الديني لألندلس الذي يتقيد بالتعاليم السمحة ونشر الخير والمحبة بين أهل األندلس على اختالف
مشاربهم بدءا بنشر العدل واحترام المعتقد.
باستكمال حركة تحرير إ سبانيا استقر العرب والبربر مع سكان البالد ،وكان للسلوك العربي
االنساني أثر كبير في تآلف القلوب إذ لم يلبث العرب أن أنسوا إليهم وحصل التزاوج
والمصاهرة بينهم( )1فنشأت طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة المولدين التي هي خليط من دم
أهل البالد األصليين ودم العرب والبربر ،كما ظهرت طبقة جديدة أخرى هي طبقة المستعربين
وهم اإلسبان المسيحيون الذين ظلوا على ديانتهم المسيحية ،ولكنهم تعربوا بعد دراسة اللغة
العربية وآدابها وثقافتها)2(.وأحسن العرب سياسة سكان إسبانيا ،فقد تركوا لهم كنائسهم
وقوانينهم وأموالهم وحتى المقاضاة إلى قضاة منهم ،ولم يفرضوا عليهم سوى جزية سنوية
صغيرة ،ولم يبق للعرب إال أن يقاتلوا الطبقة األرستقراطية المالكة لألرضين(.)3
وحرص العرب على الوفاء بعهودهم ألهل الذمة حتى في الحاالت التي كان يبدو للمسلمين
أنهم خدعوا فيها ،وقد وفى العرب رغم ذلك فقال الرازي( :فمضوا (العرب) على الوفاء لهم
وكان الوفاء عادتهم)(.)4
والحقيقة أن العرب األولين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إيمان العرب برسالتهم
االنسانية التي كان لها أثرها الكبير في اجتذاب أهل الذمة إلى االسالم واقناعهم بعدالة الدولة
العربية ،وهذا هو السر في إقبال أهل الذمة على الدخول بأعداد كبيرة في االسالم ،وأدى ذلك
إلى دخول كثير من الكلمات االسالمية واستعمالها بألفاظها العربية من قبل سكان األندلس مثل
كلمة هللا ، Alahالقرآن ، Alcoranالحديث ، Hadithاالسالم ،Alislamالفتوة
،Alfateaرمضان ،Ramadanالسنة ،Alsonnaالسالم عليك ،Al-salamalecسورة
،Saurateمؤذن ،Muezzinرب ،Rabبركة ،Barakaابليس ،Elb'isجن ،Djiunحرام
،Haramuزكاة ،Zekkatهجرة ،Hegiraطلسم ،Talisemaوقف ،Wakouf
((5
خراج. Carath
لقد أثر العرب في أخالق الشعوب النصرانية فقد علموهم التسامح الذي هو أثمن صفات
االنسان ،وبلغ حلم عرب األندلس نحو األهلين مبلغا كانوا يسمحون ألساقفتهم أن يعقدوا
مؤتمراتهم الدينية كمؤتمر أشبيلية الذي عقد سنة 782م ،ومؤتمر قرطبة الذي عقد سنة 852م،
وتعد كنائس النصارى الكثيرة التي بنوها أيام الحكم العربي من األدلة على احترام العرب
لمعتقدات األمم التي خضعت لسلطانهم ،فغدا اليهود والنصارى مساوين للمسلمين قادرين مثلهم
()6
على تقلد مناصب الدولة.
لقد كانت مظاهر التدين قوية وجو اإلسالم السمح يخيم على الوجود األندلسي وبلغ بها حد القوة
إلى أن أصابتها العين فخلت من هذا الدين أقطار شتى وبلدان عديدة،
حتى َخلت منهُ أقطار وبُلدا ُن أصابها العينُ في اإلسالم فامتحنتْ
محاكم التفتيش التي تُسمى باإلسبانية ( )La inquisiciónهي المحاكم الكاثوليكية التي ارتكبت
الفظائع بأفعالها وقراراتها ،لم يسلم منها أحد ،حتى اضطر البعض للتظاهر باعتناقهم الديانة
المسيحية نهارا وأما ليال فيؤدُّون سرا تعاليم ديانتهم .لم تكن تحتاج محاكم التفتيش إلى دليل
إلثبات جرم على الُمتهم ،فكان بإمكان أي شخص االفتراء على شخص آخر بأنه ليس مسيحي
لتبدأ محاكم التفتيش عملها من التعذيب والقتل .تفننت تلك المحاكم بأساليب التعذيب وكانت تتم
العملية ببطئ شديد حتى ينال المذنب عقابه وال ينجو من براثِن الموت .فما هي تلك األساليب
عذب بها المسلمون أشد العذاب؟ التي ُ
ناي المشاغبين
كان "ناي المشاغبين" إحدى األساليب المستخدمة لتعذيب الضحايا ،كان يتكون من حلقة كبيرة
يتم وضعها حول رقبة المذنب ،ويوجد حلقات أخرى صغيرة يتم وضع أصابعه بها ،مع تسخين
هذه اآللة مع درجة حرارة تعتمد على مزاج ال ُمع ِذب ،كانت تتسبب هذه اآللة بتسلخات جلدية
عميقة تصل إلى العظام والمفاصل وقد تؤدي في النهاية إلى الموت.
الثور الحديدي
قطعة نحاسية صلبة على شكل ثور ،مفتوحة من جهة واحدة ليتم إدخال الضحية بها ،ثم يتم
ويخرج البُخار من أنفه ،يستمعون إلى
ُ إشعال النار تحته حتى يتحول لون الثور إلى األصفر
صوت صراخ المذنب وهو يُشوى حتى الموت.
الحوض
يتم وضع الشخص في حوض وأمره بالجلوس بوضعية القرفصاء مع إبقاء وجهه ظاهرا ،يتم
طلي وجهه بالحليب والعسل حتى تتغذى عليه الحشرات ،يبقى المذنب غارقا في فضالته حتى
يُج ِهز عليه الدود ويقتله ببطىء شديد.
كاسر األصابع
أداة تتكون من مسامير حديدية يتم وضع األصابع بين فكيها ،يتم إغالقها ببطىء حتى تتهشم
العظام وتتفتت ،ويستمر ال ُمع ِذب بإغالقها حتى تلتقي المسامير العلوية بالسفلية .تتنوع أشكالها
وتتعدد ،فمنها لتهشيم أصابع القدم وآخرى للركبة والكوع.
المخلعة
تم تصميم هذه األداة لخلع كل جزء موجود في جسم الضحية ،فكان يستلقي عليها ويتم ربط
يديه وقدميه ،ثم تُدار األداة من خالل بكرات موجودة على طرف األداة ،ليبدأ جسد ال ُمعذب
بالتمدد بطريقة ال يمكن احتمالها حتى تتمزق العضالت وكل شيء موجود في جسده.
الشوكة الزنديقة
هي عبارة عن طوق يُلف حول الرقبة مع أداة حديدية تشبه الشوكة موجهة نحو الذقن وأخرى
نحو الصدر ،وبهذا لن يستطيع الشخص أن يغفو أو تغمض له عين ،ألنه إن فعل ذلك ستنغرس
بجسده وتهلكه.
القفص ال ُمعَلَّق
بعد أن يتم تعذيب المذنب ويُكتشف أنه لم يلق حتفه بسبب تعذيبه ،يتم نقله إلى القفص ال ُمعلَّق
وهو قفص حديدي يتم وضع الشخص بداخله في العراء وأمام الشمس ليمتص الحديد الحرارة،
وال يتم تقديم الطعام وال الماء له ،إضافة إلى وضع إبر أسفل المذنب على أرضية القفص لتؤلم
قدميه إن أراد أن يريح رأسه على ركبتيه.
وحتى نسلط المزيد من الضوء على القضية وكنا قد أشرنا أن الحقد يختلف عن العداوة ،وألن
المنظومة القيمية اإلسالمية تستعمل مفهوم العداوة الشرعية لهذا وجدنا تحذيرا متكررا من
الشيطان تحت طائلة العداوة األبدية بيننا وبينه "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا" نعم إنها
عداوة تتحول عند المسلم إلى عبادة مقدسة وتترجم إلى سلوك عملي يبدأ بإعالن العداوة ضد
كل مخالف للنهج اإلسالمي " يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم
بالم ودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق" نعم إنها عداوة مسيجة مظبوطة بقيود شرعية وأخالقية
صارمة عنوانها األكبر هو عدم إلقاء المودة للعدو لكنها ال تجيز قتل األبرياء من الشيوخ
واألطفال والنساء كما ال تبيح إهالك الحرث والنسل .إنها عداوة مرحلية ريثما يعود العدو إلى
ال صواب ويدخل تحت عقد "إنما المؤمنون إخوة" فقد جاء في حديث الرسول صلى هللا عليه
وسلم وهو يوصي سراياه ما رواه ابن عباس رضي هللا عنه قال :كان رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم -إذا بعث جيوشه قال( :أ ُ ُ
خرجوا باسم هللا ،تقاتلون في سبيل هللا من كفر باهلل ،ال
تغدروا ،وال تغلوا ،وال تمثلوا ،وال تقتلوا الولدان ،وال أصحاب الصوامع)( .)1ولمعرفة هذه
الحقيقة نقف مع الموقف التاريخي للرسول صلى هللا عليه وسلم حينما دخل مكة فاتحا فسأل
قومه ،وقد كانوا أذاقوه من صنوف العذاب وألوان الهوان ما تخر من هوله الجبال ،ما تظنون
أني فاعل بكم؟ فأجابوا بصوت واحد" أخ كريم بن أخ كريم" فرد المعلم األعظم صلى هللا عليه
وسلم "اذهبوا فأنتم الطلقاء" .نعم هذه هي حقيقة نسق العداوة في العرف الثقافي اإلسالمي شتان
بينها وبين نسق الحقد الذي يغذي نسق البطش وشتان بيننا إذا حكمنا وبينهم إذا ظهروا كما
يقول الشاعر:
حكمنا فكان العدل منا سجية وحكمتم فسال بالدم أبط ُح
وكل إناء بالذي فيه ينض ُح وحسب ُك ُم هذا التفاوت بيننا
أوال على مستوى المضمون
نسق الضمير
لما ذا اختفى ضمير المتكلم وغابت أناة الشاعر وخفت صوته وهو يصور هذه المأساة حيث
يقبع في طيات النص الشعري العديد من األنساق الثقافية عند األنا واآلخر ،نعم غياب األنا
الشاعرة وحضور الهو سواء الهو الضحية أو الهو الجالد في شكل تعبيري خيم على جل
مقاطع القصيدة ،ما سببه؟ أثمة أنساق ثقافية ،نفسية ،اجتماعية يؤشر عليها هذا الصوغ
الضمائري الذي أقصى صوت األنا المباشر في كل مراحل القصيدة؟
-6تركيب وخاتمة
من خالل فصول هذا البحث حاولنا اإللمام بماهية النقد الثقافي واألنساق الثقافية ،كما الغوص
في الرؤية الشعرية عند أبي البقاء الرندي من خالل مرثية األندلس الكبرى قصد اإلحاطة بما
تستضمره من أنساق ثقافية ،وقد توصل البحث إلى ما يلي:
-النقد الثقافي برز كبديل للنقد األدبي الذي استنفد كل أرصدته ولم ولم يعد قادرا على مواكبة
ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية ،ومع هذا النقد الجديد ،تحول مسار النقد من البحث في
الجماليات إلى البحث في األنساق المتوارية خلفها.
-شكل مصطلح النسق مفهوما مركزيا في النقد الثقافي ،فهو عليه مدار البحث ،بحيث يمثل
مجموعة من القيم المترابطة بعضها ببعض والمتسترة خلف النصوص والخطابات
والممارسات الثقافية.
-احتفى الشاعر أبو البقاء الرندي بنكبة األندلس الكبرى وبكاها بكاء صادقا ،انطوت تحته
وانكتبت معه مجموعة من األنساق الثقافية ،كانت شاهدة على انحطاط عصرها وغفلة أهله
وبعدهم عن منهج الرسالة العظيمة كما كانت شاهدة على ضراوة اآلخر وقسوته.
-محاولة الجمع بين هذه األنساق تؤكد أن هذه القصيدة أخفت تحت قناع جمالها وروعة سبكها،
نقدا الذعا لحكام األندلس وأنانيتهم وسياساتهم التفريقية ،كما شكلت تأنيبا لباقي ممالك العالم
اإلسالمي التي عاصرت سقوط األندلس في يد الصليبيين كما أدانت الهمجية البربرية الصليبة.
-األنساق المتوصل إليها هي نتاج تأويالت ال نزعم بأنها وحيدة ،حيث حاول البحث من خاللها
تقديم تحليل ثقافي لما تنطوي عليه نونية أبي البقاء الرندي.