You are on page 1of 89

‫مفهوم التصوف‬

‫وأنواعه في‬
‫الميزان الشرعي‬
‫)‪The Concept and Types of Mysticism (Sofism‬‬

‫)‪In The View Islamic Religion ( Shariah‬‬

‫إعداد‬
‫الدكتور‪ /‬محمود يوسف الشوبكي‬
‫أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب الفكرية‬
‫في كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بغزة‬

‫بحث مقدم للنشر في مجلة الجامعة الإسلامية بغزة‬

‫‪1‬‬
‫رمضان ‪1422‬هـ – ديسمرب ‪2001‬م‬

‫مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي‬


‫ملخص البحث‬

‫التصـ ـ ـ ــوف من املوضـ ـ ـ ــوعات ذات الشـ ـ ـ ــيوع الزمـ ـ ـ ــاين واملكـ ـ ـ ــاين‪،‬‬
‫وللتعرف عليه ال بد من دراسة مبادئه وأساسياته ‪.‬‬
‫ومن خلال هذا البحث نتعرف على التصوف وأهميته‬
‫وموضوعه والغاية منه‪.‬‬
‫كما نتعرف على نشأة التصوف‪ ،‬والأطوار التي مر‬
‫بها‪ ،‬والمؤثرات والأفكار والمعتقدات التي أثرت فيه‪،‬‬
‫وموقف العلماء منه ‪.‬‬
‫إضافة إلى التعرف على مراتب الصوفية وألقابهم‪،‬‬
‫وعلوم الصوفية ومصادر المعرفة عندهم‪ ،‬وأقسام التصوف‬
‫‪2‬‬
. ‫وأبرز رجالاته في كل قسم‬

The Concept and Types of Mysticism (Sofism)

In The View Islamic Religion ( Shariah)

Abstract

Sufism (Mysticism) is one of the widespread topics whether in


terms of time or place. To shed more light on the principles and Fundam-
entals of sufism, Mysticism should be thoroughly investingated this
study .
Throughout this study the importance, subject-matter, goals and
definition of sufism are outlined. Moreover, the origin of Sufism and the
Phases in which it developed are stated.
In addition, the thoughts and beliefs which affect sufism are
discussed. Attituedes of scholars to Sufism will also be cited and
commented on .
Finally, the ranks and titles of Sufism, Sufi Sciences, and their
sources of knowledge, divisions of Sufism, and the most prominent
Scholars of every division are stated.
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫مقدمة‬
‫إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره‬
‫ وأشهد ًاأن لا إله إلا الله وحده لا شريك‬،‫ونتوب إليه‬
. ‫ وأشهد أن محمد عبده ورسوله‬،‫له‬
: ‫أما بعد‬
‫ وخير الهدي هدي‬،‫فإن خير الحديث كلام الله تعالى‬
‫ وإن كل محدثة‬،‫ وإن شر الأمور محدثاتها‬،  ‫سيدنا محمد‬
‫َّت‬ ‫بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالةُّي في َّل‬
‫ُق‬ ‫َمُن‬. ‫النار‬
‫َن‬ ‫َي َأ َه‬
‫َوَأْنُتْما ُمْسي ُم آَن وا ا وا‬ ‫ ّاا ا‬ ‫َّن‬:‫َتُم ُت‬‫تعالى‬‫َا‬ ‫َو‬ ‫َّلَه َحَّققالُتَق الله‬
‫الله‬
‫ويقولْن َنْف‬  ‫اَي َأُّيَه ل َّن وُس َّتُقل َرَّبُكْم ِذَّل و‬
‫َخَلَقُكْم‬ ‫ال‬
‫ِل‬
‫ا ي‬ ‫َّث‬
‫ِإ‬
‫َوَخَلَق ا ا ال ا ا وا‬ ‫ِتِه‬  : ‫تعالى‬
‫ْنَها َزْوَجَها َوَب ْنُهَما َجالًاِذ َّنَك يًرَّلا َو ِمَساًء ٍس‬ ‫َّل َّل‬ ‫َو َّتَد‬
‫ا‬
‫َأْرَحاَمَّل ِثال َه َكِناَنَّت‬ ‫َواِحُقٍةوا ال َه ِما ي َتَساَءُلوَن ِم َوالُّي ِر‬
‫ُق‬ ‫ِإ َن َمُن‬ ‫ًا ِبِه َي َأ َه‬ ‫ ِذ‬ ‫َعَلْيُكْم َر يًبا‬
‫َّل‬
‫وا اَلُكْم وا‬ ‫آ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬  : ‫أيض‬ ‫وقال‬
‫َه َوُقِقُل َقْو ًا َس ًد ُيْص ْح َلُكْم َأْعَم ِذَلُكْم َوَيْغ ْر‬
‫ا‬ ‫يا‬ ‫و وا ل‬ ‫ال‬
‫ِف‬ ‫ِل‬ ‫ِد‬
3
‫َّل‬
‫َه َوَرُس َلُه َفَقْد َف َز َفْوًز َع ًم‬ ‫ُذُن َبُكْم َّنَوَمْن ُي ْع‬
‫ا ي ا‪. ‬‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ال‬ ‫و‬
‫ِظ‬
‫إ الحكم على الشيء فرع عن تصوره‪ ،‬ولا يمكن تصور‬ ‫ِط‬
‫الشيء إلا بعد التعرف عليه من خلال معرفة مقدماته‬
‫وأساسياته‪ ،‬وهذا البحث مقدمات في التصوف‪ ،‬ضمنته أهم‬
‫الموضوعات التي يحتاج إليها الدارسون للتصوف ‪.‬‬
‫وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة مباحث ‪:‬‬
‫المبحث الأول‪ :‬في تعريف التصوف واشتقاقه وقبول التسمية‬
‫أو رفضها ‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬تحدثت فيه عن نشأة التصوف والأطوار‬
‫التي مر بها عبر التاريخ‪ ،‬والمؤثرات والأفكار التي‬
‫تأثر بها ‪.‬‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬وفيه مراتب الصوفية وألقابهم‬
‫ومصطلحاتهم‪ ،‬وعلومهم هل هي كسبية أو وهبية ‪ ،‬وموقف‬
‫العلماء من التصوف ‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬وهو في أقسام التصوف‪ ،‬وأبرز رجالات‬
‫التصوف في كل قسم من أقسامه‪.‬‬
‫وحرصت في ذلك كله على الاختصار الذي لا يخل‬
‫بالمعنى مع تفسير عبارات الصوفية الغامضة وتوضيحها ‪.‬‬
‫أسأل الله تعالى أن يرزقني الإخلاص في القول ًا‬
‫يعصمني من الزلل وأن يجعل بحثي هذا جهد‬ ‫ًا‬ ‫والعمل وأن‬ ‫ًا‬
‫مخلص له مقبول عنده‪ ،‬كما أسأله سبحانه أن أكون قد‬
‫وفقت في تحقيق الغرض الذي كتبته لأجله ‪.‬‬

‫والله ولي التوفيق ‪،،،‬‬


‫أهمية دراسة التصوف ‪:‬‬
‫قد يتساءل بعض الناس ما دام التصوف يشتمل في‬
‫كثير من الأحيان على البدع والضلال والإنحراف فما هي‬
‫ندرسه؟ فأقول ‪ :‬إن لدراسة‬
‫أهمية هذه الدراسة ولماذا ًا‬
‫وأسباب ًالها وجاهة ومن ذلك( ) ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫التصوف أهمية خاصة ‪ً ،‬ا‬
‫‪ -1‬إن التصوف يمثل جزء كبير في تراث المسلمين وفي‬
‫‪ )?(1‬بتصـرف عـن أصـول التصـوف‪ /‬عبـد اهلل حسني زروق‪ ،‬املركز القومي لإلنتاج اإلعالمي‪،‬‬
‫‪1995‬م – ‪1415‬هـ‪ ،‬ص‪. 9-7‬‬
‫‪4‬‬
‫تاريخهم فالدارس للحضارة الإسلامية وللتاريخ الإسلامي‬
‫سوف يواجه بمساحة واسعة لهذا الجانب البارز في حياة‬
‫المسلمين باختلاف الأزمنة والأمكنة لذا لا بد من‬
‫سليمه من سقيمه ‪.‬‬
‫ًا‬ ‫على‬
‫دراسته والتعرف عليه والوقوف ًا‬
‫‪ -2‬كان التصوف ولا يزال أسلوب ومنهج يدين به الكثير‬
‫من الناس على مستوى الأفراد والجماعات ويتمثل ذلك‬
‫بالطرق الصوفية المنتشرة في كثير من بلاد المسلمين‪،‬‬
‫فلا بد من دراسة ذلك لبيان النافع من الضار والهدى من‬
‫الضلال‪ ،‬ولإصلاح ما يمكن إصلاحه من ذلك ورفض ما لا‬
‫سبيل لقبوله‪ ،‬ولدراسة النظرات الصوفية المختلفة ونقدها‬ ‫ًا‬
‫نقد بناءً ‪.‬‬
‫‪ -3‬يرى كثير من الناس أن التصوف يمثل الجانب الروحي‬
‫عند المسلمين ويزعم بعضهم أنه السبيل لتحقيق سعادة‬
‫الإنسان ولقبوله حلول ذات الله تعالى فيه أو اتحاده به‬
‫أو ليصبح الإنسان الكامل الذي دعا إليه الجيلي في‬
‫كتابه الإنسان الكامل ‪.‬‬
‫وهو السبيل إلى صحة الإنسان النفسية وعلاجه من‬
‫أمراض القلوب‪ ،‬كما أنه يقود إلى معرفة أسرار الوجود‬
‫النفوس ‪.‬‬
‫ًا‬ ‫وخفايا‬
‫المجتمعات الغربية والإسلامية‬ ‫ًا‬ ‫الناس في‬
‫‪ -4‬إن كثير من ًا‬
‫يجدون في التصوف أي كان طريق للهرب من الحياة‬
‫المادية المتخمة بالشهوات إلى الزهد والبعد عن‬
‫للمتمردين على‬
‫الماديات‪ ،‬وقد جعل ذلك جاذبية خاصة ًا‬
‫الحياة المادية والبعد عن الرذائل طمع فيما عند الله‬
‫عز وجل ‪.‬‬
‫وإن كان السبيل القويم في ذلك هو طريقة الموازنة‬
‫بين متطلبات الجسد وتطلعات الروح وليس الانغماس في‬
‫وأفطر وقم ونم‬ ‫َّن‬
‫بالكلية‪ ،‬قال ‪ " : ‬صم ًا‬ ‫ًا‬ ‫الترف أو تركه‬
‫لعينك عليك حق وإن لزوجك‬ ‫ًا‬ ‫لجسدك عليك حق ‪ ،‬وإن‬
‫ًا‬ ‫فإ‬
‫عليك حق ‪ ،‬وإن لزورك عليك حق "( )‪.‬‬
‫‪2‬‬

‫‪ )?(2‬صحيح البخاري فتح الباري ‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬حديث رقم ‪ ،1975‬كتاب الصوم‪ ،‬باب حق‬
‫اجلسد يف الصوم ‪.218-4/217 .‬‬
‫‪5‬‬
‫‪ -5‬للناس توجهات مختلفة فبعضهم مالوا إلى النظرية‬
‫العقلية وهم الفلاسفة والمتكلمون وبعضهم الآخر مالوا‬
‫إلى النظرية المادية التجريبية وهم التجريبيون‬
‫والدهريون‪ ،‬واهتم الفقهاء بالأحكام الشرعية والصوفية‬
‫إلى النظرية الوجدانية القلبية أو الباطنية‪،‬‬ ‫ومالوا ًا‬
‫فاستكمال لدراسة النظريات المختلفة لا بد من دراسة‬
‫ًا‬ ‫التصوف ‪.‬‬
‫‪ -6‬يرى كثير من الناس في التصوف طريق للهرب من أعباء‬
‫نتيجة الفشل‬‫الحياة ومشكلات العمل‪ ،‬وعزلة عن الناس ًا‬
‫الاجتماعي‪ ،‬وتكاليف الحياة الأسرية‪ ،‬وطريق أسهل للكسب‬
‫وخاصة صوفية الأرزاق ‪.‬‬
‫‪ -7‬كما جيد بعضهم يف التصوف طريقًا للهرب من التكــاليف الشــرعية‬
‫والواجبات الدينية وطريقًا لإلباحية واملنكرات ‪.‬‬
‫‪ -8‬يجد كثير ممن يسعى ًاإلى ًاالتقديس وإلى جمع الأتباع‬
‫والخدم في التصوف طريق سهل ‪ ،‬وذلك لما يعمقه كثير من‬
‫مشايخ الصوفية في المريدين من ضرورة الطاعة المطلقة‬
‫للشيخ وخدمته وتقديمه على كل شيء ‪ً .‬ا‬
‫‪ -9‬وبعص الساسة يجدون في التصوف طريق لجلب الاتباع عن‬
‫طريق مشايخ الطرق الصوفية لما لهم عليهم من سلطان‬
‫كبير‪ً،‬ا كما يجدون في اللجوء إلى المشايخ في الليل‬
‫تكفير عما اقترفته أيديهم من معاصي في النهار ‪ً.‬ء‬
‫سوا في‬ ‫‪ -10‬تشتمل كتب الصوفية على كثير من الغرائب ًا‬
‫الألفاظ أو القصص أو الأخبار وهذا يستهوي كثير من‬
‫الناس‪ ،‬فلا بد من دراسة التصوف لنخلص من ذلك كله إلى‬
‫إحقاق الحق وإبطال الباطل ‪.‬‬
‫‪ -11‬إذا رأى بعضهم أن التصوف حق لا باطل فيه ولا بد‬
‫منه‪ ،‬فنحن ندرسه لاقتفاء حقه‪ ،‬وإذا رأى بعضهم أن‬
‫التصوف باطل لا حق فيه فنحن ندرسه لتجنب باطله‬
‫والتحذير منه ورضي الله عن حذيفة بن اليمان الذي كان‬
‫يقول‪ " :‬كان الناس يسألون رسول الله ‪ ‬عن الخير وكنت‬

‫‪6‬‬
‫أسأله عن الشر مخافة أن يدركني "(‪. )3‬‬
‫نبين ذلك‬
‫لذا يجب علينا أن نبحث في التصوف وأن ًا‬
‫للناس وخاصة للمتخصصين وأن ننصح من اختاره طريق وأن‬
‫نبين له ما ينبغي أن يكون عليه من الحق وما يجب أن‬
‫يبتعد عنه من الباطل ‪.‬‬

‫* موضوعه وثمرته ‪:‬‬


‫إن غاية التصوف أن يرتقي بالإنسان إلى تهذيب‬
‫السلوك الإنساني‪ ،‬وكيفية السمو والإرتقاء بالنفس‬
‫البشرية بالتزكية والتصفية‪ ،‬عن طريق علاج أمراض القلوب‪،‬‬
‫وتصحيح المفاهيم والتصورات‪ ،‬وتقويم الجوارح وفق ضوابط‬
‫الشريعة‪ ،‬والسمو الأخلاقي عن ملذات الدنيا وشهواتها‬
‫للفوز برضى الله تعالى‪ ،‬ونيل سعادة الدارين ‪.‬‬
‫ويسعى المتصوف إلى الوصول إلى مرتبة المراقبة‬
‫وإلى مرتبة الإحسان حتى يكون رقيبه منه ورقيبه فيه‬
‫ورقيبه عليه وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه‬
‫فإن الله يراه ‪.‬‬
‫* فضله ‪:‬‬
‫للتصوف فضل عظيم فهو " من أشرف العلوم لتعلقه‬
‫بمعرفة الله تعالى "(‪ )4‬وليس ذلك فحسب ‪ ،‬بل هو يتصل‬
‫َّل‬ ‫َّت‬ ‫َّل‬ ‫ُّب‬
‫الرسولْبُكْم‪ ‬قالُه‬
‫متابعة ُيْح‬
‫ربه عنَن طريقَه َف ُع‬ ‫الإنسان‬
‫ُكْنُتْم ُت‬ ‫بصحة عبادةُقْل ْن‬
‫ال‬ ‫ا وي‬ ‫و ال‬ ‫تعالى ‪ :‬‬
‫ِب‬ ‫ِب ِن‬ ‫ِح‬ ‫ِإ‬

‫‪ )?(3‬صحيح البخاري فتح الباري ‪ ،‬حديث رقم ‪ ، 3606‬كتاب املناقب‪ ،‬باب عالمات النبوة يف‬
‫اإلسالم ‪.6/615 ،‬‬
‫‪ )?(4‬جمموع الفتاوى ‪. 28-11/27‬‬
‫‪7‬‬
‫َفَمْن‬
‫ُيْش ْكيقول َب‪َ‬د‬
‫تعالى َاحيث‬
‫لله ًح َو‬
‫العبادة ًا َص‬ ‫طريق َرإخلاص‬
‫َك‪َ(‬ن) َيْرُجوعن َق َء‬
‫‪5‬‬
‫َفْلَيْعَمْل َعَم‬
‫ا‬ ‫ل ا ا ل‬ ‫و ا‬ ‫ا‬
‫ِر ِبِع ِة‬ ‫ِل‬ ‫َر َأَحًدا‪ِ(‬ل‪ِّ . )6‬بِه‬
‫ِّبِه وكذلك لأنه يقوم على أصول خمس(‪ )7‬وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬تقوى الله في السر والعلن ‪.‬‬
‫‪ -2‬اتباع السنة في الأقوال والأفعال ‪.‬‬
‫‪ -3‬الإعراض عن الخلق ‪.‬‬
‫‪ -4‬الرضا بما قسم الله تعالى ‪.‬‬
‫‪ -5‬الرجوع إلى الله في السر والعلن ‪.‬‬

‫المبحث الأول‬
‫التعريف بالتصوف‬
‫تعريف التصوف في اللغة ‪:‬‬
‫‪ -‬ورد في الصحاح أن الصوف للشاة ‪ ،‬ويقال كبش صاف أي‬
‫كثير الصوف ‪.‬‬
‫‪ -‬وصاف السهم عن الهدف مال وعدل ‪ ،‬والمضارع منه يصوف‬
‫ويصيف(‪. )8‬‬
‫‪ -‬ويرى صاحب المصباح المنير أن كلمة صوفية كلمة مولدة‬
‫لا يشهد لها قياس ولا اشتقاق في اللغة العربية(‪. )9‬‬
‫وعلى هذا تكون كلمة تصوف مبتدعة محدثة وغير معروفة‬
‫عند العرب الأوائل ولا في عصر الرسول ‪ ‬وأصحابه‬
‫رضي الله عنهم أجمعين ‪.‬‬
‫أصل كلمة صوفية واشتقاقها ‪-:‬‬
‫إن الذين تحدثوا عن التصوف والصوفية اختلفوا في‬
‫‪ )?(5‬آل عمران ‪ :‬اآلية ‪. 31‬‬
‫‪ )?(6‬الكهف ‪ :‬اآلية ‪. 110‬‬
‫‪ )?(7‬انظر ‪ :‬ابن تيمية وموقفـه مـن أهـم الفرق والديانات ‪ :‬د‪ .‬حممد حرب‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1407‬هـ‪1987-‬م‪ ،‬ص‪. 178‬‬
‫‪ )?(8‬انظـر ‪ :‬الصحـاح للجوهري ‪ ،1389 ، 4/1388‬مطابع دار الكتاب العريب ‪ ،‬والقاموس‬
‫احمليط ‪ ،3/169‬ولسان العرب ‪ ، 103-11/102‬ومعجم مقاييس اللغة ‪. 3/322‬‬
‫‪ )?(9‬املصباح املنري ‪ ،‬املطبعة العثمانية ‪. 1/161‬‬
‫‪8‬‬
‫واشتقاقها وكذلك اختلفوا في نسبة الصوفية‬ ‫الكلمة ًا‬
‫أصل ًا‬
‫اختلاف كبير ‪ ،‬وإن المؤيدين والمعارضين للتصوف لم‬
‫الصوفيين أنفسهم لم‬ ‫ًا‬ ‫يتفقوا على نسبة للتصوف‪ ،‬كما أن‬
‫يتفقوا على شي من ذلك ‪ ،‬وأحاول جاهد ذكر أقوالهم في‬
‫ذلك وأدلتهم ٍء‬
‫والاعتراضات على ذلك ‪.‬‬
‫‪ - 1‬ذهب الكلاباذي إلى أن أصل الصوفية ينتسبون إلى‬
‫الصفاء وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم‬
‫وضياء قلوبهم(‪. )10‬‬
‫والذي ذهب إلى ذلك نظر إلى حال الصوفية الأوائل‬
‫القشيري أن هذه‬ ‫ولم ينظر إلى الاشتقاق اللغوي لذلك يرى ًا‬
‫النسبة غير صحيحة لغة لأننا لو نسبنا أحد إلى الصفاء‬
‫لقلنا صفائي(‪. )11‬‬
‫كما أن صفاء القلوب ونقائها ومعرفة الباطن لا‬
‫ذلك ُهَوتزكية‬ ‫يعلمه إلا الله عز وجل‪ ،‬وادعاء ُّك‬
‫َأْعَلُم‬ ‫الصوفيةُفَسُكْم‬
‫َأ‬ ‫ُتَز‬ ‫َّت‬
‫وا ن‬ ‫لأنفسهمَق والله عز وجل يقول ‪‬فلا‬
‫َمْن‬
‫ا ى‪)12(‬‬
‫ورضـي اهلل عنهم‬ ‫وخيـار النـاس من أصـحاب رسـول اهلل ‪‬‬ ‫ِب‬
‫مل يكن أحدهم ليزكي نفسه بل كان يعمل العمــل ويســأل اهلل القبــول‬
‫وخيشى عدم القبول ‪.‬‬
‫وقـد قـال زكي مبـارك إن نسبـة التصـوف إلـى‬
‫الصفـاء ليس إلا حذلقـة مـن بعـض الصوفيـة(‪. )13‬‬
‫‪ - 2‬وقال آخرون إن الصوفية نسبة إلى أهل الصفة وهم‬
‫جماعة من أصحاب رسول الله ‪ ‬كانوا ينزلون في مكان خلف‬
‫الحجرات في المسجد النبوي وعرف المكان باسمهم وكانوا‬
‫متفرغين للعبادة وللمجاورة وهم فقراء المهاجرين الذين‬
‫ليس لهم مأوى ‪.‬‬
‫‪ )?(10‬التعرف ملذهب أهل التصوف ‪ ،‬ط دار الكتب العلمية ‪ -‬بريوت ‪ ، .‬ص‪24‬‬
‫‪ )?(11‬الرسالة القشريية ‪ ،‬ط دار الكتاب العريب ‪ -‬بريوت ‪ ، .‬ص‪ ،127‬ص‪127‬‬
‫‪ )?(12‬النجم ‪ :‬اآلية ‪. 32‬‬
‫‪ )?(13‬التصوف اإلسالمي ‪ ،‬زكي مبارك‪ ،‬ط ‪ ،‬املكتبة العصرية – لبنان‪ ،‬ص‪. 54‬‬
‫‪9‬‬
‫بالنظر إلى الاشتقاق‬ ‫وهذا الكلام لا يستقيم َّف‬
‫ُص‬ ‫ُص‬
‫اللغوي لأن النسبة إلى أهل ال ة في وليس ًا صوفي(‪. )14‬‬
‫ثم إن مكان أهل الصفة لم يكن مخصص للعبادة بل‬
‫كانوا يذهبون للعبادة والصلاة في المسجد مع رسول الله‬
‫ولا عمل‬‫‪ ، ‬وكان النزلاء ينزلون فيه حيث لا ًا مأوى ًالهم ًة‬
‫وبيت وزوج ترك‬ ‫ًا‬ ‫يرتزقون منه فكان أحدهم إذا وجد عمل‬
‫مكان الصفة وذهب إلى عمله وهو ليس خاص بأحد بل هو‬
‫مكان لعامة المسلمين وآحادهم ‪.‬‬
‫ًا‬
‫ولم يكن انتسابهم إليه شرف لذلك كانوا يزيدون‬
‫وينقصون وكان بعضهم لا يطول مقامه فيه بل بحسب ما‬
‫يتيسر له العمل والبيت ‪ .‬وكان رسول الله ‪ ‬يرسل إليهم‬
‫َّف‬ ‫بما يكون عنده من طعام ‪.‬‬
‫ُص‬
‫وادعاء بعض المتصوفة أن اشتقاق التسمية من ة‬
‫المسجد إنما يهدف إلى ربط نشأة التصوف بعهد النبي ‪‬‬
‫وكأن النبي قد أقرهم على منهجهم في الاعتزال والتجرد‬
‫والتواكل وهذا مخالف لسنته ‪ ‬في التوكل والجد‬
‫والاجتهاد وطلب الرزق‪ ،‬وسنته وتعاليمه خير شاهد على‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫‪ - 3‬وقيل إن التصوف نسبة إلى الاتصاف بالصفات الحميدة‬
‫وترك الصفات الذميمة(‪ )15‬ويرى عبد ًاالله الأمين أن هذه‬
‫النسبة لم تلق من الاستحسان ‪ ،‬فضل عن عدم الاستقامة‬
‫العلمية ما ًاحصرها في نطاق الرأي الضعيف الذي لم ينظر‬
‫إليه تاريخي (‪. )16‬‬
‫والنسبة إلى الصفات ليس صوفي بل صفاتي‪،‬‬
‫والصفاتية(‪ )17‬المراد بها مثبتةُ الصفات فالبعض يطلقها‬
‫على المشبهة ويطلقها المؤولة والنفاة على كل من أثبت‬
‫‪ )?(14‬تلبيس إبليس ‪ :‬ابن اجلوزي ‪ ،‬ط دار الوعي‪ ،‬ص‪. 183‬‬
‫‪ )?(15‬نشأة التصوف اإلسالمي ‪ :‬د‪.‬إبراهيم بسيوين‪ ،‬ط ‪ ،‬دار املعارف مبصر عام ‪ ،1969‬ص‬
‫‪. 11‬‬
‫‪ )?(16‬دراسات يف الفرق واملذاهب القدمية واملعاصرة ‪ :‬عبد اهلل األمني‪ ،‬دار احلقيقة – بريوت‪ ،‬ط‪1‬‬
‫‪ ،1986-1406 ،‬ص‪. 239‬‬
‫‪10‬‬
‫الصفات بما فيهم السلف الصالح ‪.‬‬
‫‪ - 4‬نسبة الصوفية إلى " سوفيا " اليونانية ومعناها‬
‫الحكمة‪ ،‬والقائلين بذلك حجتهم أن القوم كانوا طالبين‬
‫للحكمة حريصين عليها فأطلقت عليهم الكلمة وعربت أو‬
‫حرفت فأصبحت صوفية وصوفي(‪. )18‬‬
‫وأكد البيروني َّدهذه النسبة لأن فكرة القول‬
‫بالوحدة ظهرت فيهم ور هذا القول زكي مبارك في كتابه‬
‫التصوف الإسلامي ‪.‬وأكد محمود عبد الرؤوف القاسم على هذه‬
‫النسبة بالنظر إلى المعتقدات الفلسفية التي يعتقدها‬
‫الصوفية‪ .‬ومن حيث ظهورها في زمن الترجمة في نهاية‬
‫القرن الثاني والقرن الثالث الهجريين‪ .‬وإنها نشأت في‬
‫العراق بلد الترجمة وفي زمنها وهو الزمن الذي تفشت فيه‬
‫الكلمات اليونانية واستعملت في مختلف الفنون(‪. )19‬‬
‫ولكن الصوفية أنفسهم لا يقبلوًان أن ينسبوا إلى‬
‫اليونان لما يجعل للخصوم عليهم سبيل حيث ينسبونهم إلى‬
‫الفكر اليوناني القديم بما فيه من ضلالات وانحرافات ‪.‬‬
‫ولأن الكلمة اليونانية " سوفيا " قصد بها فلاسفة‬
‫اليونان المنهج الذي قوامه البحث النظري المجرد في‬
‫الوجود للوقوف على حقائقه ومهيته مما لا يتصل بالسلوك‬
‫العملي إلا قليل‪ ،‬أما التصوف الإسلامي فإنه ذو طابع‬
‫عملي(‪. )20‬‬
‫‪ - 5‬وقيل نسبة إلى الصوفانة وهي نبات أي بقلة زغباء‬
‫‪ )?(17‬انظر ‪ :‬امللل والنحـل للشهـرستانـي ‪ ،‬حتقيـق ‪ :‬حممـد سيـد كيالين ‪ ،‬شركة ومطبعة مصطفى‬
‫البايب احلليب‪ ،‬مصر‪ ،‬ط ‪ ،1/92 ،1976-1396‬نشأة الفكر الفلسفي‪ /‬علي سامي النشار‪ ،‬دار‬
‫املعارف‪ ،‬ط‪. 1/265 ، 2‬‬
‫‪ )?(18‬انظر ‪ :‬نشأة الفلسفة الصوفية ‪ :‬عرفان عبد احلميد‪ ،‬ص‪ ،108‬ط‪ ، 8‬املكتب اإلسالمي ينقل‬
‫عن نيكلسون مؤلف دائرة معارف القرن العشرين‪.‬‬
‫‪ )?(19‬الكشف عـن حقيقـة الصوفيـة ألول مـرة فـي التاريـخ ‪ :‬حممود عبد الرؤوف القاسم‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1408‬هـ – ‪1987‬م‪ ،‬ص‪. 749-739‬‬
‫‪ )?(20‬انظـر ‪ :‬أصـول التصوف ‪ :‬د‪ .‬عبد اهلل حسن زروق ‪ ،‬املركز القومي لإلنتاج اإلعالمي ‪ ،‬إبريل‬
‫‪1995‬م‪ ،‬ذي القعدة ‪1415‬هـ ‪ ،‬ص‪. 22‬‬
‫‪11‬‬
‫قصيرة صحراوية وذلك لاكتفائهم بالقليل من الطعام ولو‬
‫من نبات الصحراء وهذا غير سليم بمقتضى اللغة لأنه لو‬
‫نسب إليها لقيل صوفاني وليس صوفي(‪. )21‬‬
‫ولو سألت الصوفية عن هذه النسبة فلن يقر بها‬
‫أحد‪ ،‬هـذا إذا علم معنى الصوفانة فإن عامتهم‬
‫يجهلونها ‪.‬‬
‫‪ - 6‬وقيل أنهم ينتسبون إلى الصفوة باعتبارهم صفوة الله‬
‫من خلقه وأنهم النخبة المصطفاة من الأمة ‪ .‬وهذا القول‬
‫مردود لأنهم لو نسبوا إلى الصفوة لقيل في اشتقاق اللغة‬
‫ًا‬ ‫صفوي(‪. )22‬‬
‫‪ - 7‬قيل أيض أنهم منسوبون إلى الصف الأول المقـدم‬
‫وجل وهذا غير‬‫فـي الصلاة والمقدم بين يدي الله عز َص‬
‫مستقيم لغة‪ ،‬فلو نسبوا إلى الصف لقيل فِّي( )‪.‬‬
‫‪23‬‬

‫‪ - 8‬وقيل إنه نسبة إلى رجل جاهلي يقال له صوفة ـ وهو‬


‫الغوث بن مر بن آد بن طنجة ابن إلياس بن مضر‪ ،‬وذلك أن‬
‫أم الغوث نذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة وتجعلنه ربيط‬
‫الكعبة فكان أول من انفرد لخدمة الكعبة وتبعه أناس في‬
‫الجاهلية فمن تشبه به فهم الصوفية(‪. )24‬‬
‫‪ -‬وهـذه النسبة مستبعدة لأن الصوفية لا يقبلون أن‬
‫ينتسبوا إلى رجل جاهلي أو قبيلة جاهلية ‪.‬‬
‫‪ -‬ولو صحت هذه النسبة لكان الانتساب إلى الإسلام أولى‬
‫من الانتساب إلى الجاهلية والشرك ‪.‬‬
‫‪ -‬ولو صحت هذه النسبة لكانت معروفة في عهد الصحابة‬
‫والتابعين رضي الله عنهم ‪.‬‬
‫‪ -‬كما أن هذه القبيلة وهؤلاء القوم غير مشهورين ولا‬
‫‪ )?(21‬تلبيس إبليس ‪ ،161‬دار الكتب العلمية‪ ،‬وانظر ‪ :‬لسان العرب ط بوالق األوىل‪،11/102‬‬
‫‪.‬‬
‫( ) جمموع الفتاوي ‪. 11/6‬‬
‫‪? 22‬‬

‫‪ )?(23‬جمموع الفتاوي ‪. 11/6‬‬


‫‪ )?(24‬تلبيس إبليس ‪ ،161‬دار الكتب العلمية‪ ،‬وانظر ‪ :‬لسان العرب ‪ ،‬ط بوالق األوىل‪11/102‬‬
‫‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫معروفين لا عند المسلمين ولا عند متصوفيهـم وإن‬
‫كـان ابن الجوزي رحمه الله يميل إلى صحة ذلك إلا‬
‫أن ابن تيمية رحمه الله ضعف هذه النسبة(‪. )25‬‬
‫‪ -9‬وذهب قوم إلى أن الصوفية نسبة إلى الصوف وذلك لأن‬
‫النسبة إلى الصوف صوفي وممن رجح هذا القول شيخ‬
‫الإسـلام بـن تيميـة رحمه الله في الفتاوي‬
‫والسهروردي(‪ )26‬وابن خلدون(‪ )27‬وحجتهم(‪ )28‬على صحة هذه‬
‫النسبة ‪:‬‬
‫‪ -‬إن الصوف لباس الأنبياء وخاصة سيدنا محمد وعيسى‬
‫عليهما السلام وهو لباس الصحابة رضي الله عنهم‬
‫والتابعين والصوفية المتقدمين رحمهم الله تعالى ‪.‬‬
‫التواضع والخمول والذل‬‫‪ -‬وإن لبس الصوف هو أقرب إلى ًا‬
‫يقول ابو فراس الحمداني مخاطب سيف الدولة ‪.‬‬
‫ونحن في‬ ‫يا واسع الدار كيف توسعها‬
‫صخرة نزلزلها‬
‫ثيابنا‬ ‫يا ناعـم الثوب كيف تبدله‬
‫الصوف ما نبدلهـا(‪)29‬‬
‫‪ -30‬وإن الصوفية كانوا يعرفون هذه النسبة فقد دخل أبو‬
‫محمد بن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن بشار وعليه‬
‫جبة صوف فقال له أبو الحسن‪ :‬يا أبا محمد صوف قلبك أو‬
‫جسمك(‪ )31‬وقال النضر بن شميل لبعض الصوفية تبيع جبتك‬

‫‪ )?(25‬الفتاوي ‪ ، 11/6،7‬وتلبيس إبليس ‪. 161‬‬


‫‪ )?(26‬عوارف املعارف للسهروردي‪ ،‬مطبعة السعادة ‪. 1/211‬‬
‫‪ )?(27‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ط‪ ، 4‬ص‪. 468‬‬
‫‪)?(28‬انظر‪ :‬كتاب التجانية‪ ،‬دراسة يف ضوء الكتاب والسنة‪ :‬علي بن حممد دخيل اهلل دار طيبة‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬ص‪. 22،23‬‬
‫‪ )?(29‬ديوان أيب فراس‪ ،‬ص‪ ،243‬دار صادر بريوت ‪.‬‬
‫‪30‬‬

‫‪ )?(31‬تلبيس إبليس ‪. 198‬‬


‫‪13‬‬
‫الصوف ؟ فقال إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد(‪)32‬‬
‫‪.‬‬
‫‪ " -‬وإن نسبتهم إلى لبس الصوف تنبئ عن تقللهم من‬
‫النفس بالهوى من‬
‫الدنيا وزهدهم فيما تدعوا إليه ًا‬
‫الملبوس الناعم‪ ،‬ويكون اللابس خشن مثل الملبوس في‬
‫خشونته ‪.‬‬
‫وأولى‬
‫‪ -‬وإن لبس الصوف أمر ظاهر والحكم بالظاهر أسلم ًا‬
‫في نسبتهم إلى حال أو مقام لأنه أمر باطن ‪ ،‬وأيض‬
‫لأن القول بأنهم صوفية للبسهم الصوف أبعد عن الرياء‬
‫وأقرب للتواضع ‪.‬‬
‫‪ -‬وإن هذا الرأي قد سلم مما توجه إلى غيره من‬
‫الآراء فإنه يوافق قواعد اللغة من حيث النسبة‬
‫والاشتقاق لأنه يقال تقمص لمن لبس القميص وتصوف إذا‬
‫لبس الصوف(‪. )33‬‬
‫ويرد عليهم بعدة أمور ‪:‬‬
‫‪ " -‬بأن لبس الصوف ليس فيه فضيلة وليس في الانتساب‬
‫إليه شرف وذلك لأن الرسول ‪ ‬كان يلبس الصوف‬
‫والقطن والكتان وقد جاء في البخاري(‪ )34‬عن أنس "‬
‫كان أحب الثياب إلى رسول الله ‪ ‬أن يلبس الحبرة‬
‫وجاء في شرحها لابن حجر في فتح الباري قال ابن‬
‫بطال‪ :‬إن الحبرة بردة من برود اليمن تصنع من‬
‫قطن‪،‬وتكون مزينة ‪،‬من التحبير وهو التزيين ‪.‬‬

‫‪ )?(32‬املرجع السابق ‪. 182‬‬


‫‪ )?(33‬دراسات يف التصوف اإلسالمي‪ :‬طه عبد السالم خضري وحممد مصطفى‪ ،‬ص‪. 7-6‬‬
‫‪ )?(34‬أخرجه البخاري ‪ ،‬حديث رقم ‪ ، 5813‬كتاب اللباس ‪ ،‬باب الربود واحلربة والشملة‬
‫( الفتح ‪) 10/277‬‬
‫(‪ )5‬زاد املعاد ‪ ،‬ابن قيم اجلوزية ‪ ،‬حتقيق شعيب وعبد القادر األرنائوط ‪ ،‬ط‪ 1‬مؤسسة الرسالة ‪،‬‬
‫بريوت ‪1399 ،‬هـ ‪1979 -‬م ‪. 1/144‬‬
‫(‪ )6‬أخرجـه أبو داود مراجعة حممد حمي الدين عبد احلميد ‪ ،‬دار الفكر ‪ ،‬حديث رقم ‪، 474‬‬
‫كتاب اللباس ‪ ،‬باب يف السواد ‪. 4/54 ،‬‬
‫‪14‬‬
‫‪ -‬بل قد أورد ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد‬
‫المعاد(‪ )5‬عن عائشة رضي الله عنها أنها جعلت للنبي‬
‫‪ ‬بردة سوداء فلبسها فلما عرق ووجد ريح الصوف‬
‫قذفها ‪ ،‬قال وكان يعجبه الريح الطيبة(‪ .)6‬وهذه‬
‫الأحاديث يقلب للصوف ظهر المجن ‪.‬‬
‫‪ -‬وأما قولهم بأن عيسى عليه السلام كان لا يلبس إلا‬
‫الصوف فهو قول مأخوذ من مصادر غير صحيحة ومن كتب‬
‫أهل الكتاب المحرفة ‪.‬‬
‫‪ -‬إن لبس الصوف هو لبس الرهبان وأهل الصوامع ‪ ،‬ولا‬
‫رهبانية في الإسلام وكثير من الزهاد الأوائل كان‬
‫يذم لبس الصوف لذلك ‪.‬‬
‫فـي تلبيس إبليس"( ) بأن‬
‫‪35‬‬
‫ومـن ذلـك مـا ورد ًا‬
‫حماد بن أبي سليمان رأى رجل عليه ثوب صوف فقال له "‬
‫ضع عنك نصرانيتك هذه " ‪.‬‬
‫وقال أبو العالية لرجل آخر لبس الصوف " إنما هذه‬
‫ًا‬ ‫ثياب الرهبان "‪.‬‬
‫ورأى سفيان الثوري رجل لبس الصوف فقال " لباسك‬
‫هذا بدعة " ‪.‬‬
‫وينكر ابن الجوزي أن يكون للمرقعة الصوفية أصل‬
‫في السنة وهي التي يزعمون أن النبي عليه السلام ألبسها‬
‫لعلي رضي الله عنه ‪.‬‬
‫‪ -‬ولم يرد أن أبا بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم‬
‫كانوا مختصين بلبس الصوف دون غيره من الثياب ‪.‬‬
‫‪ -‬إن لبس الصوف مدعاة إلى التظاهر بالتنسك والتقشف‬
‫والزهد وهذا من الرياء فقد قال محمد بن محمد ًاالكتاني‬
‫لأصحاب المرقعات " إخواني إن كان لباسكم موافق‬
‫لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس عليها وإن كانت‬
‫مخالفة لسرائركم فقد هلكتم ورب الكعبة(‪. )36‬‬
‫‪ )?( 35‬تلبيس إبليس ‪ :‬ابن اجلوزي‪. 194،195،196 ،‬‬
‫ج‬
‫‪ )?(36‬املرجع السابق ‪. 190‬‬
‫‪15‬‬
‫‪ -‬وقال الجنيد إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن‬
‫باطنه خراب(‪. )37‬‬
‫‪ -‬ورحم الله ابن الجوزي الذي عاب على الذين خربوا‬
‫بواطنهم وتظاهروا بالزهد والتقشف فقال " كان الزهد‬
‫في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب " ‪ ،‬وكان‬
‫الزهد حرقة فصار اليوم خرقة ‪ " ،‬ويحك صوف قلبك لا‬
‫جسمك وأصلح نيتك لا مرقعتك "(‪. )38‬‬
‫َعَل القشيري في الرسالة القشيرية(‪ )39‬أن‬
‫‪ -‬ويرى الإمام‬
‫التصوف اسم م على طائفة الصوفية بغض النظر عن اشتقاق‬
‫الكلمة ًةوالأصل الذي أخذت عنه‪ .‬والذي أراه أن التصوف‬
‫نشأ نشأ إسلامية مستقاة من النصوص الشرعية في الزهد‬
‫وترك الدنيا وملذاتها‪ ،‬ثم مع مر الأيام تأثر بعض‬
‫الصوفية وأصحاب الطرق بالفكر الغريب المستقى من الفلسفة‬
‫اليونانية والأديان القديمة وذاك ما سنبينه عند الحديث‬
‫عن نشأة التصوف وتأثره بالفكر الغريب ‪.‬‬
‫والراجح في هذه الأقوال هو نسبتهم إلى الصوف‬
‫لأنه حكم بالظاهر وتصح لغة ‪،‬أو قول الإمام القشيري وهو‬
‫من أوائل الصوفية فهو أعلم بشؤونهم ‪.‬‬
‫معنى التصوف اصطالحًا ‪:‬‬
‫إذا أردنا أن نعرف التصوف في الاصطلاح فلا بد من‬
‫الرجوع إلى أقوال الصوفية في ماهية التصوف وكذلك أقوال‬
‫أصحاب الطرق ‪.‬‬
‫ومنـذ نشأة الصوفية إلى يومنا هـذا حـدث في‬
‫التصوف تشعبـات كثيرة وانحرافات عن منهج الأوائـل‬
‫وكثـرت أقوالهم فـي حقيقـة التصوف إلى ما يزيد على ألف‬
‫الأقـوال يشيـر إلـى أهم جانب‬‫قول‪ ،‬وكل قول مـن هـذه ًء‬
‫في التصوف عند قائله سوا بالنظر إلى الطريقـة أو‬
‫الخلق أو الغاية‪ ،‬أو بالنظـر إلـى حاجـة الصوفـي أو‬
‫‪ )?(37‬الرسالة القشريية دار الكتاب العريب‪. ،127‬‬
‫‪ )?(38‬نقًال عن عبد الرمحن دمشقية أبوحامد الغزايل والتصوف‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬ط‪ ، 2‬ص‪. 132‬‬
‫‪ )?(39‬انظر ‪ :‬الرسالة القشريية‪ ،‬ص‪. 183‬‬
‫‪16‬‬
‫مـن حوله وبالنظر إلى حاله والخطأ الذي يريد أن يقومه‬
‫ولا تخلو أقوالهم من جانـب في الجوانـب التاليـة(‪-: )40‬‬
‫ًا‬ ‫‪ -1‬التصوف بمعنى الزهد ‪:‬‬
‫‪ -‬قال سمنون‪ :‬التصوف أن لا تملك شيئ ولا يملكك‬
‫شيء(‪. )41‬‬
‫‪ -‬وقال معروض الكرخي‪ :‬التصوف الأخذ بالحقائق واليأس‬
‫مما في أيدي الخلائق(‪. )42‬‬
‫‪ -‬وقال النوري‪ :‬التصوف من لا يتعلق بشي ولا يتعلق به‬
‫ٍء‬ ‫شيء ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال ذو النون المصري‪ :‬الصوفي من لا يتعبه طلب ولا‬
‫يزعجه سلب(‪. )43‬‬
‫‪ -2‬التصوف بمعنى الأخلاق ‪:‬‬
‫‪ -‬قال أبو محمد الجريري‪ :‬التصوف الدخول في كل خلق سني‬
‫ُخ‬ ‫دنى‪.‬‬
‫والخروج من كل خلق ُخ‬
‫‪ -‬وقال الكتاني‪ :‬التصوف لق فمن زاد عليك في ال لق‬
‫زاد عليك في الصفاء(‪. )44‬‬
‫‪ -3‬التصوف بمعنى الصفاء ‪:‬‬
‫‪ -‬قال سهل بن عبد الله‪ :‬الصوفي من صفا من الكدر ‪،‬‬
‫وامتلأ من الفكر ‪ ،‬وانقطع إلى الله عن البشر واستوى‬
‫عنده الذهب والمدر ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال بشر الحافي‪ :‬الصوفي من صفا لله قلبه ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الشبلي‪ :‬التصوف الجلوس مع الله بلا هم( ) ‪.‬‬
‫‪45‬‬

‫‪ )?(40‬انظر فـي هـذا املوضـوع ‪ :‬كتاب مدخل إىل التصوف اإلسالمي ‪ :‬د‪ .‬السيد عقيل بن على‬
‫املهديل‪ ،‬ط‪ ،2‬دار احلديث‪ ،‬ص‪. 80-62‬‬
‫‪ )?(41‬الرسالة القشريية ‪. 2/552‬‬
‫‪ )?(42‬عوارف املعارف ‪. 313‬‬
‫‪ )?(43‬مدخل اىل التصوف ‪،‬املهديل ص ‪67‬‬
‫‪ )?(44‬السابق ص‪. 69‬‬
‫‪ )?(45‬السابق ص ‪. 70‬‬
‫‪17‬‬
‫‪ -4‬التصوف بمعنى المجاهدة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الجنيد‪ :‬التصوف عنوة لا صلح فيها ‪ .‬والمراد‬
‫بالعنوة الجد والتعب والمراغمة ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال عمرو بن عثمان المكي‪ :‬التصوف أن يكون العبد في‬
‫كل وقت بما هو أولى به في الوقت(‪. )46‬‬
‫‪ -5‬التصوف التزام بالشريعة ‪:‬‬
‫‪ -‬قال أبو حفص‪ :‬حسن آداب الظاهر عنوان حسن آداب‬
‫الباطن لأن النبي ‪ ‬قال "لو خشع قلبه لخشعت جوارحه"‬
‫‪.‬‬
‫‪ -‬وقال الجنيد‪ :‬التصوف بيت والشريعة بابه ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال محمد بن أحمد المقرئ‪ :‬التصوف استقامة الأحوال‬
‫مع الله ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال أبو عمر بن الجنيد‪ :‬التصوف الصبر تحت الأمر‬
‫والنهي(‪. )47‬‬
‫‪ -6‬التصوف بمعنى التسليم الكامل لله ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي‪ :‬التصوف الإعراض عن‬
‫الاعتراض ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال رويم‪ :‬التصوف استرسال النفس مع الله تعالى على‬
‫ما يريده ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال أبو يعقوب المزايلي عن التصوف‪ :‬حال تضمحل فيه‬
‫معالم الإنسانية(‪. )48‬‬
‫‪ -7‬التصوف بمعنى الإخلاص " الغاية وجه الله " ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الجنيد‪ :‬التصوف أن تكون مع الله تعالى بلا‬
‫علاقة ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال ذو النون المصري‪ :‬أهل التصوف هم قوم آثروا‬
‫الله عز وجل على كل شيء ‪ ،‬فآثرهم الله على كل‬
‫شيء ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال أبو الحسين النوري‪ :‬التصوف ترك نصيب النفس‬
‫‪ )?(46‬السابق ص‪. 71‬‬
‫‪ )?(47‬السابق ص‪. 72‬‬
‫‪ )?(48‬السابق ص ‪. 73‬‬
‫‪18‬‬
‫جملة ليكون الحق نصيبها(‪. )49‬‬
‫‪ -8‬التصوف بمعنى الارتباط الروحي بالله ‪:‬‬
‫‪ -‬قال أبو نصر الحصري‪ :‬الصوفي الذي لا تقله أرض ولا‬
‫تظله سماء ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال أبو الحسن الخرقاني‪ :‬ليس الصوفي بمرقعته‬
‫وسجادته ‪ ،‬ولا برسومه وعاداته بل الصوفي من لا وجود‬
‫له ُن‪.‬‬
‫‪ -‬و سب إلى الجنيد قوله‪ :‬التصوف هو أن يميتك الحق‬
‫عنك ويحييك به(‪. )50‬‬
‫‪ -9‬التصوف ترك التكلف والشكليات ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الجنيد‪ :‬إذا رأيت الصوفي يعنى بظاهره فاعلم أن‬
‫باطنه خراب ‪.‬‬
‫وقال حماد ًاالدينوري‪ :‬التصوف أن تظهر الغنى وأن تؤثر أن‬
‫تكون مجهول حتى لا يعرفك الخلق وأن تكف عن كل ما لا‬
‫خير فيه(‪. )51‬‬
‫‪ -10‬التصوف بمعنى الطريق المخصوص للسالكين ‪:‬‬
‫‪ -‬قال الجنيد‪ :‬الصوفية هم أهل بيت واحد ‪ ،‬لا يدخل‬
‫فيهم غيرهم ‪.‬‬
‫‪ -‬وقال أبو سليمان الداراني‪ :‬التصوف أن تجري على ًا‬
‫الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق وأن يكون دائم مع‬
‫الحق على حال لا يعلمها إلا هو(‪. )52‬‬
‫وبالنظر في الأقوال المتقدمة نجد أن كل تعريف من‬
‫تعريفات أئمة التصوف والمنتسبين إليه يشير إلى جانب من‬
‫الجوانب‪ ،‬وهذه الجوانب مجتمعة تشير إلى جوانب عظيمة من‬
‫جوانب هذا الدين فالتصوف السني ينبغي أن يتوفر فيه‬
‫جميع ما ذكر من زهد وإخلاص ومجاهدة وخلق كريم وتسليم‬
‫لرب العالمين والتزام بشرعه وترك للتكلف‪ ،‬وأن يلتزم‬
‫‪ )?(49‬السابق ص‪. 74‬‬
‫‪ )?(50‬السابق ص‪. 76‬‬
‫‪ )?(51‬السابق ص‪. 77‬‬
‫‪ )?(52‬السابق ص‪. 79‬‬
‫‪19‬‬
‫المنتسب إلى الله تعالى بالعبادة الدائمة لله عز وجل‬
‫كما أمر‪ ،‬والبعد عن كل ما نهى الشارع عنه‪ ،‬وعن البدع‬
‫المضلة وعن الفكر الغريب والفلسفات الباطلة ‪.‬‬
‫وي ‪// /‬ترجح ل ‪// /‬دينا بع ‪// /‬د ع ‪// /‬رض تل ‪// /‬ك التعريف ‪// /‬ات تعري ‪// /‬ف ابن‬
‫خل‪// /‬دون للتص‪// /‬وف ألن‪// /‬ه ي‪// /‬دل دالل‪// /‬ة واض‪// /‬حة على مع‪// /‬اني التص‪// /‬وف‬
‫المتع ‪//‬ددة وعلى أح ‪//‬وال الص ‪//‬وفية واهتمام ‪//‬اتهم وه ‪//‬و " العك ‪//‬وف على‬
‫العب ‪// /‬ادة واالنقط ‪// /‬اع إلى اهلل تع ‪// /‬الى واإلع ‪// /‬راض عن زخ ‪// /‬رف ال ‪// /‬دنيا‬
‫والزه‪//‬د فيم‪//‬ا يقب‪//‬ل علي‪//‬ه الجمه‪//‬ور من ل‪//‬ذة وم‪//‬ال وج‪//‬اه‪ ،‬واإلنف‪//‬راد‬
‫عن الخلق في الخلوة للعبادة "(‪. )53‬‬
‫مصطلح التصوف بين القبول والرفض ‪:‬‬
‫ذهب صاحب كتاب " أبو حامد الغزالي والتصوف "‬
‫(‪ )54‬إلى وجوب إلغاء كلمة التصوف وذلك لأنها محدثة ولم‬
‫تكن معروفة في عهد الرسول ‪ ‬وأصحابه‪ ،‬ولأن الإمام ابن‬
‫تيميـة رحمـه الله حين قيل له إن ابن سينا من فلاسفة‬
‫الإسلام فقال " ليس للإسلام فلاسفة " (‪. )55‬‬
‫وذكر مآخذ كثيرة وانحرافات وقع فيها ًا الصوفية‬
‫وقال إن في إلغاء الكلمة سلامة للدين وحفظ للناس من‬
‫ًا‬ ‫خطرها ‪.‬‬
‫وقـال إذا قبلنـا التسميـة فتحنـا بابـ للشـر‬
‫بـأن يقـال معتزلة الإسلام وشيوعيـة الإسـلام ‪‬الخ ‪.‬‬
‫وأقول بأن كلمة التصوف وهي كلمة معروفة منذ‬
‫أواخر القرن الثاني وشاعت في القرن الثالـث للهجـرة‬
‫إلـى يومنـا هذا وقد ملئت بها الكتب والمكتبات ولا‬
‫يملك أحد إلغاءها ولا يستطيع ذلك إن أراده ‪.‬‬
‫وقد استعمل كلمة التصوف شيخ الإسلام ابن تيمية‬

‫‪ )?(53‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬دار القلم ‪ ،‬ط‪1984 ، 5‬م – ‪1419‬هـ ‪ ،‬ص‪. 467‬‬
‫‪ )?(54‬انظر‪ :‬أبو حامد الغزايل والتصوف‪/‬عبد الرمحن بن حممد دمشقية ‪. 140-133‬‬
‫‪ )?(55‬جمموع الفتاوي ‪. 9/186‬‬
‫‪20‬‬
‫ًا‬
‫وامتدح بعض من أئمة التصوف‪ ،‬وتكلم في ألفاظهم‬
‫المستعملة ‪ ،‬ورد على المنحرفين منهم ‪ ،‬وقال نقبل ما‬
‫عندهم من حق ونحثهم عليه ونرد باطلهم ونزجرهم عنه ‪.‬‬
‫على‬
‫وكل اسم تسمى به جماعة ما لم يكن يدل ًا‬
‫الباطل ومرتبط به منذ نشأته‪ ،‬وما لم يكن مرتبط بفكر‬
‫عبرة بالاسم ويهمني المسمى فإذا كان المسمى‬ ‫غريب فلا ًا‬
‫برمته باطل وجب نبذهًا وإلا نقبل الاسم ونقوِّم المسمى‬
‫فليس التصوف كله باطل ‪.‬‬
‫فإن كنـت لا أشجـع علـى التصوف ولا أحث عليه‬
‫السلف َر َك‬ ‫بعقيدة َل َس‬ ‫ولا أقبل الانتساب إليه وأدين الله َّل ْدُع‬
‫ى ي‬ ‫الصالحين فإني أعمل بقولـه تعالـى ‪ :‬ا‬
‫اْل ْكَم َواْلَمْو َظ ا ًّظْلَحَسَن َوَجا ْلُهْم ا يُّض َي ِإَأْحَسُن‪ِ‬ب( ِل‬
‫‪ِّ ،)56‬ب‬
‫َاْنَف ِه ْن َحْو َك‬ ‫ُكْنَت َف ا َغِةَّنيَظ اِدْلَقْل ِبل ِت‬ ‫وقولـه‪ِ:‬ة ‪َ‬وَلْو ِع ِة‬
‫وا َأ َّا َتْع ُل‪.)57(‬‬ ‫َعَل‬ ‫َقْو‬ ‫ُن‬ ‫َشَن‬ ‫ُكْم‬ ‫َم‬ ‫َيْج‬ ‫َا‬ ‫َو‬
‫ِب ِح‬
‫ى ِمل ِل وا‬ ‫آ ِب‬ ‫ِل‬ ‫وقال تعالى ‪  :‬ل َّت‬
‫ِد‬ ‫ٍم‬ ‫ْقَو‬ ‫ْع ُل ُهَو َأْقَرُب‬
‫ل ىِر‪. )58(‬‬ ‫ا وا‬
‫ِل‬ ‫ِد‬

‫‪ )?(56‬النحل ‪ :‬اآلية ‪. 125‬‬


‫‪ )?(57‬آل عمران ‪ :‬اآلية ‪. 159‬‬
‫‪ )?(58‬املائدة ‪ :‬اآلية ‪. 8‬‬
‫‪21‬‬
‫المبحث الثاني‬
‫نشأة التصوف وأطواره‬
‫نشأة التصوف ‪:‬‬
‫ًا‬
‫لم يكن التصوف معروف في عهد رسول الله ‪‬‬
‫وأصحابه رضي الله عنهم ولا في عصر التابعين رحمهم الله‬
‫‪ ،‬وإن كانت حقيقته معروفة ‪ ،‬لأن جل ما يصبوا إليه‬
‫الله عنهم ثم إلى‬ ‫المرء هو الانتساب إلى الصحابة رضي ًا‬
‫التابعين رحمهم الله وكفى بالمر شرف أن ينتسب إلى‬
‫محمد ‪ ‬وإلى أصحابه رضي الله ِءعنهم بالاتباع ‪.‬‬
‫وفي القرن الأول لم يكن يعرف اسم التصوف‪ ،‬بل كان‬
‫والنساك والبكائينًا وليس ًاباسم‬
‫أهله يعرفون باسم الزهاد ًا‬
‫الصوفية‪ ،‬وكان اعتقادهم صافي وإيمانهم نقي خالص وما‬
‫كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة‪،‬‬
‫وهرعوا إلى الكهوف والمغاور ورؤوس الجبال حيث الوحدة‬
‫الصافية والانعزال عن صخب الحياة المادية(‪. )59‬‬
‫ثم بعد مضي عصر الصحابة والتابعين وفي أواخر‬
‫القرن الثاني الهجري بدأ لفظ الصوفية يظهر ‪ ،‬وقد نقل‬
‫التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد‬
‫بن حنبل رحمه الله (‪164‬ـ‪241‬هـ) وأبو سليمان الداراني‬
‫المتوفى سنة ‪215‬هـ وقيل إن أول من بني دويرة للصوفيـة‬
‫هو بعض أصحـاب عبد الواحد بن زيد المتوفى بعد الخمسين‬
‫ومائة للهجرة ‪ ‬وهـو مـن أصحاب الحسن البصري وكان ذلك‬
‫في البصرة (وإن أول من عرف باسم صوفي في المجتمع‬
‫الإسلامي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى قبل منتصف القرن‬
‫الثاني الهجري) (‪( )60‬ويقول عمر رضا كحالة ورد لفظ‬
‫‪ )?(59‬انظـر ‪ :‬ابن تيمية وموقفه من أهم الفرق والديانات يف عصره حممد حريب ‪ ،‬عامل الكتب ‪ ،‬ط‬
‫‪1407 ، 1‬هـ – ‪1987‬م ‪ ،‬ص‪. 182‬‬
‫‪ )?(60‬الكشف عن حقيقة الصوفية ألول مرة يف التاريخ ‪ :‬حممود عبد الرؤوف القاسم‪ ،‬ص‪،745‬‬
‫ويف كتابه الفلسفة اإلسالمية وملحقاهتا املطبوع يف دمشق‪ ،‬عام ‪. 1974-394‬‬
‫‪22‬‬
‫ًا‬ ‫ًا‬
‫(الصوفي) لقب مفرد في النصف الثاني للهجرة إذ نعت به‬
‫جابر بن حيان الكوفي وأما صيغة الجمع (الصوفية) فإنها‬
‫ظهرت فيما انتهى إليه عمر رضا كحالة عام ‪199‬هـ)(‪. )61‬‬

‫األطوار التي مر بها التصوف ‪:‬‬


‫إذا أهملنا ظهور اللفظ ونظرنا إلى حقيقة التصوف‬
‫وهو والترفع عن الملذات فنستطيع أن ندخل عصر الصحابة‬
‫رضي الله عنهم في ذلك فيكون هو الطور الأول ‪.‬‬
‫الطور األول ‪ :‬طور التسامي عن الحياة المادية ‪:‬‬
‫ويكون هذا الطور هو عصر الصحابة وهو يتناول‬
‫القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني عصر كبار‬
‫التابعين ‪ ،‬وهذا العصر مليء بأخبار زهد الصحابة رضي‬
‫الله عنهم‪ ،‬وأبرز رجال هذا الطور الخلفاء الراشدون ‪،‬‬
‫أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ‪،‬وكذلك عبد الله بن عباس ‪،‬‬
‫وأبو عبيدة رضي الله عنهم وغيرهم كثير فهم الذين كان‬
‫يتنزل القرآن بين ظهرانيهم ويتلوه عليهم سيد ُّد‬
‫البشر‬
‫ْنَي‬ ‫َوَم ْلَحَي ُة‬
‫الصلاةْلُغُرو السلام قال تعالى ‪ ‬ا ا ا ال ا‬ ‫عليه َمَت ُع‬
‫ّا‬
‫ا ا و ‪ ) ( ‬ويبين لهم الرسول ‪ ‬ويأمرهم‬ ‫‪62‬‬
‫ل‬
‫ِإقائلا "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ( )‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫ِر‬
‫وإذا رجعنا إلى كتاب حياة الصحابة للكندهلوي‬
‫ونظرنا في زهد الرسول ‪ ‬وزهدأصحابه رضي الله عنهم‬
‫لوجدنا ترفعهم عن الدنيا وتزودهم فيها للآخرة ما يفوق‬
‫الوصف ‪.‬‬

‫‪ )?(61‬دراسـات فـي الفـرق واملذاهـب القدمية املعاصرة ‪ :‬عبد اهلل األمني‪ ،‬ص‪ ، 243‬جمموع فتاوى‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ ، 29-11/5‬املنقد من الضالل للغزايل ‪ ،‬ص‪. 216-215‬‬
‫‪ )?(62‬احلديد ‪ :‬اآلية ‪. 20‬‬
‫‪ )?(63‬أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب الرقاق‪ ،‬باب قول النيب "كن يف الدنيا كأنك غريب" حديث رقم (‬
‫‪ )6416‬فتح الباري ‪.11/233‬‬
‫‪23‬‬
‫واملالحـ ـ ــظ أن عصـ ـ ــر الصـ ـ ــحابة رضـ ـ ــي اهلل عنهم كـ ـ ــان عصـ ـ ــر‬
‫الت ــوازن بني متطلب ــات ال ــروح ومتطلب ــات اجلس ــد‪ ،‬وبني ال ــدنيا واآلخ ــرة‪،‬‬
‫وبني اخللـ ــوة واملخالطـ ــة‪ ،‬فهم مـ ــع تـ ــرفعهم عن االخنراط واالنغمـ ــاس يف‬
‫مت ــاع ال ــدنيا إّال أهنم مل يعزف ــوا عن ال ــدنيا بالكلي ــة ألن اإلس ــالم ي ــدعو‬
‫إىل التوازن والتوسط يف األمور مجيعها بال إفراط وال تفريط ‪.‬‬
‫ولم يدع الإسلام إلى الغلو والتنطع ولا إلى‬
‫نصوص‬
‫َم‬ ‫هناك‬
‫التفرغ َّلالكاملَّد للزهد والاعتكاف عن الجهاد بل ُّدَو ْبَت‬
‫يا‬ ‫تعالى‪  :‬ا‬
‫ْنَي‬ ‫الاتجاه َومنهاَت ‪َ:‬س َنقال َبَك ْن‬
‫هذا َآ َرَة‬
‫تخالف َر‬ ‫كثيرة ُه‬
‫َت َك‬
‫ِغ ِف‪64‬‬
‫ال ًاا‪) ( ‬‬ ‫ي‬ ‫لا ن‬ ‫آ ا ال ال ا ال‬
‫لجسدك ِمعليك حق ‪ ،‬وإن‬ ‫ًا‬
‫قال ‪ " : ‬صم وأفطر ِخوقم ونم فإن ِص‬
‫ًا‬
‫لعينك عليك حق ‪ ،‬وإن لزوجك عليك حق "(‪. )65‬‬
‫وحين دخل النبي ‪ ‬المسجد‪ ،‬فإذا حبل ممدود بين‬
‫ساريتين‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا الحبل ؟ قالوا لزينب‪ ،‬إذا فترت‬
‫أمسكت به‪ ،‬فقال النبي ‪ : ‬لا … حلوه … ليصل أحدكم‬
‫نشاطه‪ ،‬فإذا فتر فليقعد "(‪. )66‬‬
‫الطور الثاني‪ :‬طور التشبه بالسابقين ‪:‬‬
‫وهذا الطور يبدأ في النصف الثاني من القرن‬
‫الثاني الهجري والقرن الثالث‪ .‬وامتاز هذا الطور بالحرص‬
‫على الاتباع دون الابتداع وعلى رأس هذا الطور ظهر‬
‫إبراهيم بن أدهم ت ‪ 161‬هـ وهو يغزو في بلاد الروم ‪.‬‬
‫‪ -‬وأبو سليمان داوود بن نصر الطائي ت ‪165‬هـ وقد‬
‫انشغل بالعلم والفقه واشتهر بالخلوة والعبادة( ) ‪.‬‬
‫‪67‬‬

‫‪ )?(64‬القصص ‪ :‬اآلية ‪. 77‬‬


‫‪ )?(65‬أخرجـه البخـاري‪ ،‬كتـاب الصـوم‪ ،‬بـاب ‪ :‬حق اجلسـم فـي الصوم ‪ .‬ح ‪ ،2‬ص ‪ ،697‬حديث‬
‫رقم ‪ 1975‬فتح الباري ‪. 218 -4/217‬‬
‫‪ )?(66‬صحيح مسلم ترقيم حممد فواد عبد الباقي‪ ،‬حديث رقم ‪ ،784‬كتاب صالة املسافرين‬
‫وقصرها‪ ،‬باب أمر من نعس يف صالته أو استعجم عليه القرآن‪. 1/541 ،‬‬
‫‪ )?(67‬وفيات األعيان ‪. 1/249‬‬
‫‪24‬‬
‫‪ -‬ومن أعظم الذين ظهروا فـي هـذا العصـر رابعـة بنـت‬
‫إسماعيـل العدوية البصرية أم الخيـر المشهورة بالزهد‬
‫والصلاح الداعية إلى حب الله لذاته وقد توفيـت عـام‬
‫‪185‬هـ (‪. )68‬‬
‫‪ -‬ومن أهم أشعارها في حب الله ‪:‬‬

‫وأبحت‬ ‫***‬ ‫إني جعلتك في الفؤاد محدثي‬


‫جسمي من أراد جلوس‬
‫وحبيب قلبي في‬ ‫فالجسم مني للجليس مؤانس ***‬
‫الفؤاد أنيس(‪)69‬‬

‫ومن أقواهلا املشـ ــهورة مـ ــا عبدتـ ــه خوف ـ ـًا من نـ ــاره وال‬
‫طمع ـًا يف جنتــه فــأكون كــاألجري الســوء عبدتــه حب ـًا لــه وشــوقًا‬
‫إليه(‪. )70‬‬
‫وقالت أيضًا ‪:‬‬

‫وحبـًا‬ ‫***‬ ‫أحبــك حبين حب الهــوى‬


‫ألنـك أه ــل لذاك‬
‫فشغلي‬ ‫***‬ ‫فأما الذي هو حـب الهــوى‬
‫بذكـرك عمـن سـواك‬
‫فكشفـك‬ ‫***‬ ‫أهـل لـه‬ ‫وأمـا الذي أنـت‬
‫للحجـب حتـى أراك‬
‫***‬ ‫فما الحمد في ذا وفـي ذاك لي‬

‫‪ )?(68‬التصوف يف اإلسالم ‪ :‬عمر فروخ ‪ ،‬دار الكتاب العريب – بريوت‪ ،‬سنة ‪1981‬م‪ ،‬ص‪. 62‬‬
‫‪ )?(69‬الكواكب الدرية ‪. 1/109‬‬
‫‪ )?(70‬الكواكب الدرية ‪. 1/109‬‬
‫‪25‬‬
‫ولكـن لك الحمد في ذا وذاك(‪)71‬‬
‫‪ -‬والفضيل بن عياض توفي في مكة ‪187‬هـ ‪ ،‬وشقيق البلخي‬
‫توفي ‪194‬هـ ‪.‬‬

‫الطور الثالث(‪ : )72‬طور دخول الألفاظ الموهمة ‪:‬‬


‫وقد امتد من القرن الثالث إلى أواسط القرن‬
‫الرابع حيث ظهر في هذا الطور أبو يزيد البسطامي ت‬
‫‪261‬هـ وهو أول من تكلم في الفناء وقد قال‪ " :‬لا حال‬
‫للعارف فقد محيت رسومه وفنيت هويته لهوية غيره " وقد‬
‫تكلم بالمكاشفة وأنكر الناس عليه ألفاظه(‪. )73‬‬
‫الطور أبو محمد سهل التستري( ) تًا‬ ‫هذا‬
‫ومن رجال ًا‬
‫‪74‬‬
‫ًا‬
‫‪283‬هـ وكان زاهد معروف وكان يذكر الله بقلبه أحيان‬
‫الإمام أبي الحسن الأشعري لذا‬ ‫دون نطق وكان على عقيدة ًا‬
‫فقد نحى بالزهد منحى كلامي ‪.‬‬
‫الطور الرابع ‪ :‬طور التحرر من التكاليف الشرعية ‪:‬‬
‫وهــذا الطـور بـدأ فـي القـرن الرابـع الهجـري‬
‫الحلاج ت ‪ 309‬هـ‪.‬‬ ‫منصـور ًا‬
‫الحسيـن بن ًا‬
‫ًا‬ ‫وعلـى رأســه‬
‫‪ -‬وكان الحلاج رجل محتال مشعوذ وكان يعرف علم‬
‫الكيمياء وخواص المواد وكان من خداعه أنه يدفن في‬
‫الطرقات أواني فيها ماء وأخرى فيها طعام فإذا طلب ًا‬
‫أحد أتباعه ماءً قال له أحفر هاهنا وإذا طلب طعام‬
‫قال أحفـر هاهنا(‪ )75‬وكان قد سجن في بغداد ثم أخرج‬
‫من السجن وقتل بعد مناظرة العلماء له ‪.‬‬
‫‪ -‬ومن رجال هذا الطور أبو بكر محمد بن موسى الواسطي‬
‫‪ )?(71‬حلية األولياء ‪. 9/348‬‬
‫‪ )?(72‬هذا الطور يعتربه حممد فروخ الطور الثاين وهو التشبه بالسابقني ‪.‬‬
‫‪ )?(73‬القشريي ‪ 17،18‬الشعراين ‪. 1/84‬‬
‫‪ )?(74‬الوفيات ‪. 1/309‬‬
‫‪ )?(75‬ابن األثري ‪ ، 8/129‬وفيات ‪. 2/145‬‬
‫‪26‬‬
‫ت ‪ 331‬هـ وكان يدعو إلى التأمل في الله وعدم ذكره‬
‫باللسان ‪ ،‬ويعتبر ذكر اللسان غفلة * أكثر من غفلة‬
‫اللاهين(‪ )76‬ويعتبر هذا الطور من أخطر الأطوار التي‬
‫مر بها التصوف لأنه أدى إلى ظهور فكرة التخلي عن‬
‫العبادات الظاهرة وإلى التحلل من التكاليف والأوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬وبسببه ظهرت الإباحية التي أثرت فيما بعد‬
‫في كثير من الطرق الصوفية ‪ ،‬حتى أصبحت في عصرنا‬
‫هذا بعض الصوفية يجتمعون في حلقات للذكر بألفاظ‬
‫موهمة وبحركات تؤدي إلى فقد الوعي واختلاط الرجال‬
‫بالنساء أثناء الذكر أعاذنا الله وإياكم من الوقوع‬
‫فيما نهانا الله تعالى عنه ‪.‬‬
‫الطور الخامس‪ :‬تبلور الطرق الصوفية ‪:‬‬
‫وكـان ذلك فـي القـرن الخامـس الهجـري ومـا‬
‫بعـده ومـن أبـرز أعـلام هذه الحقبة محي الدين عبد‬
‫القادر الجيلاني "الجيلي" ويرفع الشعراني نسبه إلى علي‬
‫بن أبي طالب رضي الله عنه ولد الجيلاني سنة ‪471‬هـ ‪‬‬
‫‪ -‬وقيل غير ذلك ‪  -‬في جيـلان وقدم بغداد وهي دار‬
‫التصوف سنة ‪488‬هـ وتوفي سنة ‪561‬هـ وإليه تنسب‬
‫الطريقة القادرية(‪ ،)77‬ونسب إليه أتباعه كثير من‬
‫الكرامات‪ ،‬فقالوا كان يسير في الهواء وعلى رؤوس‬
‫الناس ‪ ،‬وكان يخاطب الجن ويهديهمًا ‪.‬‬
‫ومن مشاهير هذا الطور أيض أحمد بن أبي الحسين‬
‫الرفاعي من بني رفاعة وإليه تنسب الطائفة الرفاعية‬
‫البطائحية نسبة إلى مولد أحمد الرفاعي بالبطائح(‪. )78‬‬
‫وظهرت بعد ذلك الشاذلية ومؤسسها هو أبو الحسن‬
‫*وهذا القول من غرائب الصوفية ألن سيدنا وحبيبنا حممد ‪ ‬وأصحابه رضي اهلل عنهم وسلف‬
‫األمة كانوا يذكرون اهلل بألسنتهم وقد أمرت النصوص الشرعية بذلك " فاذكروني أذكركم " "‬
‫من ذكر اهلل يف مأل ذكره اهلل يف مأل خري من ملئه " ‪.‬‬
‫‪ )?(76‬القشريي ‪. 32‬‬
‫‪ )?(77‬انظر الشعراين ‪. 1/140‬‬
‫‪ )?(78‬املرجع السابق ‪ ،1/156‬ووفيات األعيان ‪. 172-1/171‬‬
‫‪27‬‬
‫علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي نسبة إلى شاذلة‬
‫في تونس توفي سنة ‪. )79( 656‬‬
‫وتنسب إليه الطريقة الشاذلية‪ ،‬وانتشرت طريقته في‬
‫مصر واليمن ومراكش وغرب الجزائر ‪.‬‬
‫وكذلك ظهر في هذا الطور أحمد البدوي‪ ،‬ولد بفارس‬
‫سنة ‪596‬هـ ‪ ،‬ورحل إلى العراق واستقر بمصر بطنطا حتى‬
‫وفاته سنة ‪634‬هـ وهو من أكبر أولياء مصر عند الصوفية‪،‬‬
‫امتاز بالفروسية وانقطع عن العباد وامتنع عن الزواج‪،‬‬
‫وإليه تنسب الطريقة الأحمدية حيث انتشرت طريقته في‬
‫جميع أرجاء مصر ولها فروع متعددة يمتازون بشاراتهم وهي‬
‫العمامة الحمراء(‪. )80‬‬
‫وظهر في هذه الحقبة إبراهيم الدسوقي (‪ )667-623‬هـ‬
‫وإليه تنسب الطريقة الدسوقية التي تقوم على الخروج عن‬
‫حظوظ النفس والهوى‪ ،‬والدعاء إلى المحبة بين الناس‬
‫والتسليم المطلق من المريد للشيخ وعدم استحباب الخلوة‬ ‫ّا‬
‫إل في حضرة الشيخ(‪. )81‬‬
‫وقد صحب ظهور الطرق الصوفية القول بالكرامات‪،‬‬
‫كما ظهرت وفشت البدع كبدع الأذكار والقبوريين ‪.‬‬

‫الطور السادس‪ :‬طور ظهور المجذوبين ‪:‬‬


‫وقد ظهر هؤلاء المجاذيب في القرنين التاسع‬
‫ًا‬ ‫والعاشر الهجريين وهم أقسام ‪:‬‬
‫‪ -1‬منهم المتظاهرون بذلك الذين يخفون أهداف دينية أو‬
‫سياسية لينجوا منًا قبضة السلاطين والشرطة والقضاة‬
‫وأكثر هؤلاء ظهور كان بمصر ‪.‬‬
‫‪ -2‬تطور بعض هؤلاء إلى حالات مرضية نفسية وعصبية دائمة‬
‫أدت بهم إلى اكتئاب دائم وكانوا يؤذون الناس ‪.‬‬
‫‪ -3‬وأناس حصلت لهم أزمات نفسية مؤقتة ‪ ،‬وحين تحصل لهم‬
‫‪ )?(79‬الشعراين ‪. 14-2/13‬‬
‫‪ )?(80‬انظر ‪ :‬املوسوعة امليسرة ‪ ،‬ص‪. 348‬‬
‫‪ )?(81‬املوسوعة امليسرة ‪ ،‬ص‪. 348‬‬
‫‪28‬‬
‫هذه الحالات كانوا يقومون بأعمال جنونية لفقدهم‬
‫الإرادة ‪.‬‬
‫وأمثـال هـؤلاء فـي التاريخ الإسلامي كثيـر‪،‬‬
‫منهـم أبو الخير الكليباني توفي سنة ‪910‬هـ وسمي بذلك‬
‫لأنه كان يأمر الناس بشراء اللحم وإطعامه للكلاب وكان‬
‫توفي بعد سنة ‪920‬هـ وكان‬ ‫يفعل ذلك‪ .‬وأحمد المجذوب ًا‬
‫يقيم عند الباعة ويصرخ قائل يا مالي ومال السلطان ولا‬
‫يتركهم حتى يعطونه من المال والطعام(‪. )82‬‬
‫تأثر الصوفية بالفكر الغريب ‪:‬‬
‫والفلسفـات والأديان‬‫إن الدارس للمذاهبًا والأفكار ًا‬
‫على اختلافها يجـد تقارب و تشابـه بيـن جوانب من‬
‫الفكر الصوفي المنحرف وبيـن تلـك الأفكـار والمذاهـب‬
‫علـى اختلافها ‪.‬‬
‫" ففي عهد الخلافة العباسية في القرن الثالث‬
‫الهجري حين سيطرت حياة البذخ والترف‪ ،‬وانتشار العلوم‪،‬‬‫ًا‬
‫خصوص الفلسفية التي أبرزتها الترجمة‪ ،‬ووضعتها في‬
‫متناول الجميع‪ ،‬ودخلت على الفكر الإسلامي‪ ،‬وفتحت الباب‬
‫على مصراعيه أمام تدفق معتقدات وفلسفات ومذاهب لاهوتية‬
‫غريبة عن الإسلام‪ ،‬كالزرادشتية(‪ )83‬والمانوية(‪)84‬‬

‫‪ )?(82‬لالستزادة عن أحواهلم يراجع طبقات الصوفية للشعراين‪ ،‬اجمللد الثاين‪ ،‬فهو مليء بأخبارهم ‪.‬‬
‫‪ )?(83‬وهم أصحاب احلكيم وزادشت بن يورشب ومقره فارس يعتقدون أن للعامل أصلني النور‬
‫والظلمة يقال هلم كهنة النار يقولون بالعقل الكلي ‪.‬‬
‫‪ )?(84‬أصحاب ماين بن فاتك احلكيم يعتقدون أن العامل مصنوع من أصلني أزليني النور والظلمة‬
‫يقتسمان اخلري والشر والصالح والفساد‪ ،‬ظهرت يف منتصف القرن الثالث امليالدي‪ ،‬امتدت هذه‬
‫الديانة حىت بالد الشام والرتك ‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫والديصانية(‪ )86‬والمرقونية(‪ )87‬وغيرها‪ ،‬وكان‬
‫ًا‬ ‫والمزدكية(‪)85‬‬
‫المجتمع الفكري مزيج من فلسفة اليونان‪ ،‬وزهد الهنود‪،‬‬
‫وزندقة الفرس والشك المسيحي‪ ،‬وانتشر المفسرون‬
‫والمتحدثون والفقهاء والمتكلمون والفلاسفة والملاحدة‪،‬‬
‫وأدت حرية العقل التي دعت إليها المعتزلة إلى البلبلة‬
‫الفكرية"(‪. )88‬‬
‫ومن مظاهر هذا التأثر والتشابه ما يلي ‪:‬‬
‫ًا‬ ‫‪ -1‬تأثر التصوف باليهودية ‪:‬‬
‫كان ما يعرف بالتنبؤ مشهور بين اليهود وكان‬
‫لمتصوفة اليهود مراكز تسمى المسفايات وكانت مراكزهم هذه‬
‫منتشرة في كل البلاد التي تواجد فيها اليهود وفتحها‬
‫الإسلام‪ ،‬وحارب الإسلام الكهانة فكانت تمارس الكهانة‬
‫اليهودية في الغرف المظلمة وحاول هؤلاء الكهنة‬
‫واستطاعوا تعليم الكهانة والتصوف إلى بعض المسلمين‬
‫الذين نشروا هذه الأفكار بدورهم(‪.)89‬‬
‫وقد ظهر أحد الكهان وهوالحارث الدمشقي الذي سمى‬ ‫ًا‬
‫نفسه نبي في زمن عبد الملك ابن مروان(‪. )90‬‬
‫كما يوجد هناك تشابه بين ذكر الصوفية البدعي وما‬
‫دعا إليه العهد القديم حيث جاء فيه " ليبتهج بنو صهيون‬
‫بملكهم ليسبحوا اسمه برقص بدف وعود ليرنموا … هللو‬

‫‪ )?(85‬ظهر مزدك عام ‪484‬م واصل تعاليم ماين ولكنه أيام اإلشرتاكية يف الزوجات واألموال‬
‫ويعتقدون أن أركان الكون ثالثة املاء واألرض والنار‪ ،‬وهلا مدبر اخلري والشر ‪.‬‬
‫‪ )?(86‬وهم أصحاب ديصان قالوا بأصلني النور والظلمة‪ ،‬وأن النو يفعل اخلري قصدًا واختيارًا‪ ،‬وأن‬
‫الظالم يفعل الشر طبعًا واضطرارًا‪ ،‬النور حي عامل قادر فيه اخلري واحلسن‪ ،‬والظالم ميت وعاجز ‪.‬‬
‫‪ )?(87‬وهم أثبتوا أصلني النور والظلمة‪ ،‬مث قالوا بأمٍر ثالث دون النور وفوق الظلمة‪ ،‬والنور هو اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬والزواج عندهم فقط إلنتاج األوالد وما سوى ذلك فهو حرام ‪.‬‬
‫‪ )?(88‬انظر ‪ :‬دعوة التوحيد الدرزية‪ /‬سليمان سليم علم الدين ‪ ،‬ط‪ ، 1‬بريوت ‪1998‬م‪ ،‬ص‬
‫‪. 329‬‬
‫‪ )?(89‬انظر ‪ :‬الكشف عن حقيقة الصوفية‪ /‬حممود عبد الرؤوف قاسم‪ ،‬ص‪. 751-750‬‬
‫‪ )?(90‬السابق‪ ،‬ص‪. 755‬‬
‫‪30‬‬
‫يا‪ ،‬سبحوا الله في قدسه‪ ،‬سبحوه برباب وعود‪ ،‬سبحوه بدف‬
‫ورقص‪ ،‬سبحوه بأوتار ومزمار‪ ،‬سبحوه بسنوج الهتاف "(‪. )91‬‬
‫وكان التنبؤ ظاهرة معروفة لدى اليهود‪ ،‬وكذلك‬
‫الكهانة والتنجيم‪ ،‬وقد ظهر ذلك في الصوفية وإن كان‬
‫بأسماء أخرى مثل المعرفة الصوفية وطرقها التي هي ادعاء‬
‫علم الغيب عن طريق الكشف وغيره ‪.‬‬
‫ولا يخفى على أحد تأثر الشيعة من الفكر اليهودي‬
‫في مسألة تقديس الأئمة وتناسخ الجزء الإلهي في بعض‬
‫البشر وقال بعض فرق الشيعة في علي رضي الله عنه بذلك‬
‫التناسخ‪ ،‬ومن ثم انتقل ذلك من هؤلاء أو أولئك إلى‬
‫التصوف فظهر فيهم الغلو في المشايخ وأصحاب الطرق‬
‫والأولياء ‪.‬‬
‫‪ -2‬تأثر التصوف بالنصرانية ‪:‬‬
‫دخل الإسلام البلدان وخاصة الشام‪ ،‬وكان الرهبان‬
‫منتشرين في الصحاري والجبال حيث يقيمون صوامعهم فتأثر‬
‫أتقياء الأمة وزهادها بهم‪ ،‬وكان في أول الأمر التأثر‬
‫باللباس‪ ،‬وكثرة العبادات من الذكر والصلوات والصيام ‪.‬‬
‫فتأثرت الصوفية بذلك وانتقلت الرهبنة النصرانية مثل‬
‫العزوف عن ملذات الحياة الدنيا وعن الزواج‪ ،‬ولبس‬
‫الثياب البالية والمرقعة إليهم ‪ .‬حتى تسمى بعض أتقيـاء‬
‫الأمـة بالرهبان أمثال الصحابي الجليل أويس القرني رضي‬
‫الله عنه الذي لقب براهب الأمـة‪ ،‬والمردار أحد شيوخ‬
‫المعتزلة سمي براهب المعتزلة‪ ،‬وأبو بكر المخزومي ‪ -‬ت‬
‫‪94‬هـ ‪ -‬راهب قريش‪ ،‬والدارمي ‪ -‬ت ‪243‬هـ ‪ -‬راهب‬
‫الكوفة(‪. )92‬‬
‫ولقـد تمسك كثيـر مـن الصوفيـة بقصص الزهـد‬
‫التـي تنسب إلى المسيح عيسى عليه السلام والحواريين‬
‫والاستشهاد بأعمال الرهبان ورجـال الدين النصارى‪،‬‬

‫‪ )?(91‬العهد القدمي سفر املزامري‪ ،‬مزمور ‪ 149/33‬و ‪. 150-149 , 81‬‬


‫‪ )?(92‬انظر ‪ :‬التصوف اإلسالمي ‪ :‬حسن عاصي ‪ ،‬ط‪1414 ، 1‬هـ – ‪1994‬م‪ ،‬ص‪، 30‬‬
‫والتصوف اإلسالمي ‪ :‬عبد الرمحن بدوي‪ ،‬ص‪. 104‬‬
‫‪31‬‬
‫والصوامع والخلوة ‪.‬‬
‫وكذلك تأثروا بالدعوة إلى التسامح والحب الإلهي‬
‫والمحاسبة الشديدة للنفس وتعذيبها والاعتراف للشيخ ورجل‬
‫الدين بالذنب وطلب العفو والغفران منه(‪. )93‬‬
‫وتأثر التصوف من النصرانية بفكرة المعرفة والشهود‬
‫والتأمل والفناء‪ ،‬ومن ذلك ما ذهب إليه القديس (برنار)‬
‫حيث يرى أن الحياة المسيحية الصوفية تنحصر في اتباع‬
‫طريق النجاة‪ ،‬وطريق النجاة في نظره بأن يقوم العابد‬
‫والتأمل في نفسه ثم في العالم ثم في‬ ‫الزاهد بالبحث ًا‬
‫الإدراك‬
‫ًا‬ ‫الإله‪ ،‬ينتهي أول إلى الشهود والذي هو‬
‫اليقيني البعيد عن أي ريب في الحقيقة‪ ،‬وأخير ينتهي‬
‫إلى الغيبوبة التي يكون الروح فيها شاغرة بنفسها فتسمو‬
‫إلى مرتبة الاستمتاع بالصلة الإلهية‪ ،‬ولعل ذلك الإحساس‬
‫أصل فكرة الفناء ‪.‬‬
‫ويـرى المتألـه (أميرسـون) أن المعرفـة تكـون‬
‫بواسطـة الزهـادة أكثـر منها بواسطة البحث الإنساني‪،‬‬
‫وهي مناهج التأمل المرتبط بالتقدم الروحي ثم تنتهي إلى‬
‫الاتصال بالله(‪. )94‬‬

‫ويبيـن الدكتـور‪ /‬حسن عاصي(‪ )95‬أن التشابـه بيـن‬


‫النصرانية والصوفية في ثلاثة مفاهيم وهي ‪:‬‬
‫أ ) الفقر ‪ :‬وقد ورد ذكره في انجيل لوقا " طوبى لكم‬
‫أيها المساكين فإن لكم ملكوت الله‪ ،‬طوبى لكم أيها‬
‫الجياع الآن فإنكم ستشبعون " ‪. 1/106‬‬
‫ب) التوكل ‪ :‬وهو من مقامات الصوفية وجاء في إنجيل متى‬
‫" لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون ولا لأجسادكم بما‬
‫تلبسون …‪ .‬انظروا إلى طيـر السماء فإنها لا تزرع ولا‬

‫‪ )?(93‬انظر ‪ :‬دعوة التوحيد الدرزية‪ ،‬ص‪ ، 345-342‬وانظر ‪ :‬إحياء علوم الدين فإنه مليء‬
‫بقصص تنسب للمسيح والرهبان‪ ،‬وال يتسع اجملال لسردها ‪.‬‬
‫‪ )?(94‬انظر ‪ :‬ركائز اإلميان بني العقل والقلب ‪ :‬حممد الغزايل ‪ ،‬ص‪. 144‬‬
‫‪ )?(95‬انظر ‪ :‬التصوف اإلسالمي ‪ :‬حسن عاصي ‪ ،‬ص‪. 59‬‬
‫‪32‬‬
‫تحصد ولا تحزن وأبوكم السماوي يقوتها‪ ،‬أفلستم أنتم‬
‫أفضل منها " ‪. 26-6/25‬‬
‫ج) الحب الإلهي ‪ :‬واستدل على ذلك بقوله " العابد يقف‬
‫أمام معبوده‪ ،‬يخاطبه مخاطبة العاشق معشوقه والحبيب‬
‫محبوبه " ‪.‬‬
‫‪ -3‬التأثر بالديانات الهندية ‪:‬‬
‫لقد عرفت الهند الكهانة قبل المسيحية بثمانية‬
‫قرون‪ ،‬وعرف المسلمون الهند في مطلع القرن الثاني‬
‫الهجري عن طريق التجارة‪ ،‬وعن طريق السياحة الهندية‬
‫التي كانت مشتهرة عند الهنود الذين تركوا الدنيا‬
‫والملذات حيث ساحوا في العراق وغيرها من بلاد الإسلام‬
‫" (‪. )96‬‬
‫واملطلــع علــى أديــان اهلنــد جيــد كثيــرًا من الفكـر الشــبيه بـالفكر‬
‫الصويف وهذا بعضًا من ذلك ‪:‬‬
‫أ ) التأمل والحلول ‪:‬‬
‫يوجد تشابه كبير بين معتقدات البراهمة وهم حكماء‬
‫الهنود والصوفية‪ ،‬فإن الكهنة الهنود عن طريق التأمل‬
‫يصبون إلى الوصول إلى الكمال الروحي الذي يؤدي في‬
‫النهاية إلى الحلول في الله تعالى بزعمهم(‪. )97‬‬
‫ب) التناسخ والفناء ‪:‬‬
‫وإن كانت البوذية تأثرت بالبراهمة في فكرة‬
‫الفناء غير أن النرفانا الكبرى هي من الفكر البوذي حيث‬
‫يرى البراهمة أن الروح تخرج إلى جسد آخر ‪ ،‬ولكن‬
‫النرفانا الكبرى تعني الفناء المطلق وهو عودة الروح‬
‫إلى منشئها لتحل في الله تعالى بزعمهم(‪. )98‬‬

‫ج) اليوغا ( تعذيب الجسد ) ‪:‬‬


‫واليوغا الهندية هي عبارة عن رياضات شاقة فيها‬
‫‪ )?(96‬انظر ‪ :‬التصوف اإلسالمي ‪ :‬د‪ .‬حسن عاصي ‪ ،‬ص‪. 52‬‬
‫‪ )?(97‬انظر ‪ :‬أبو حامد الغزايل والتصوف ‪ :‬عبد الرمحن دمشقية ‪ ،‬ص‪. 143‬‬
‫‪ )?(98‬السابق والصفحة ‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫وتحرير النفس من‬
‫ًا‬ ‫تعذيب للجسد للوصول إلى قتل الشهوة‪،‬‬
‫رغباتها وتعويد الجسد على الهدوء‪ ،‬وأحيان يكررون بعض‬
‫الألفاظ (الذكر عندهم) ‪.‬‬
‫د ) وحدة الوجود ‪:‬‬
‫ويعتقدون كما تشير كتبهم القديمة أن جميع أشكال‬
‫الحياة من الحياة الإلهية إلى حياة أصغر الخلائق هي‬
‫ذات واحدة وهي ماثلة في كل مخلوق وهي فكرة (وحدة‬
‫الوجود) (‪. )99‬‬
‫هـ) المظهر العام ‪:‬‬
‫إن الذي يذهب إلى الهند يجد عندهم لباس الخرقة‬
‫والمرقعات‪ ،‬واستعمال السبح ذات الأعداد الكبيرة من‬
‫الأمور المشتهرة بينهم ‪.‬‬
‫و ) القدرات والمعجزات ‪:‬‬
‫يزعم صاحب كتاب بيتنجل في سياق حديثه عن التدين‬
‫الهندي‪ ،‬أن الرجل إذا اشتغل بالرياضات وتهذيب النفس‬
‫يمنح القدرة على ثمانية أشياء وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬التمكن من تلطيف البدن حتى يخفى عن الأعين‪ ،‬وقال‬
‫بهذا كثير من الصوفية حيث زعموا أن الولي عندهم‬
‫الأرض‪ ،‬وبعد قليل في أقصاها وقد‬
‫ًا‬ ‫يشاهد في أدنى‬
‫يشاهد في مكانين مع ‪.‬‬
‫‪ -2‬التمكن من تخفيف البدن حتى يستوي عنده وطء السوائل‬
‫والوحل والتراب ‪.‬‬
‫‪ -3‬التمكن من تعظيمه حتى يُرى في صورة هائلة عجيبة‪،‬‬
‫وهذا ما تزعمه الصوفية من أن أحدهم يكبر حتى يملأ‬
‫الغرفة ‪.‬‬
‫‪ -4‬انطواء المسافات بينه وبين المقاصد الشاسعة‪ ،‬وهذا‬
‫ما يزعمه بعض الصوفية من أن أحدهم يصلي الصبح في‬
‫المدينة والظهر في مكة والعصر في بيت المقدس‪ ،‬أو‬
‫أنه يتحرك في لحظات من نجد إلى عرفة ويرجع وينقل‬
‫لهم أخبار الحجيج ‪.‬‬
‫‪ -5‬التمكن من الإرادات ‪ ،‬أي فعل ما يريد ‪.‬‬
‫‪ )?(99‬التصوف اإلسالمي ‪ :‬د‪ .‬حممد عاص‪ ،‬ص‪ ،52‬دعوة التوحيد الدرزية‪ ،‬ص‪. 335‬‬
‫‪34‬‬
‫ّص‬
‫‪ -6‬التمكن من علم مايروم (يريد) ‪ ،‬أي يح ل العلم الذي‬
‫يريده ‪.‬‬
‫من الترأس على أي طائفة ‪ ،‬أي إذا أراد أن‬‫‪ -7‬التمكن ًا‬
‫تحقيق ذلك ‪.‬‬ ‫يكون رئس على طائفة ما فيستطيع‬
‫‪ -8‬خضوع المرؤوسين وطاعتهم وهذا واضح عند الصوفية‬
‫فيستطيع الشيخ جعل المريد يطيعه طاعة مطلقة حتى وإن‬
‫كانت في معصية الله "(‪. )100‬‬

‫مثال للتصوف الهندي ‪:‬‬


‫من أمثلة التصوف الهندي (راما كريشنا) وهو رجل‬
‫هندوسي كغيره من جحافل الوثنيين الذين يقدسون الماء‬
‫والتراب والحيوان‪ ،‬ويعد من أعظم نساك الهند حيث كان‬
‫لحياته أثر كبير في تغلغل السمو الروحي أعماق القلوب ‪.‬‬
‫ويقول عنه الأديب الفرنسي الكبير (روما رولان) ‪:‬‬
‫إن راما كريشنا تتويج لجهود آلاف السنين في سبيل ترقية‬
‫الحياة الباطنية لمئات الملايين من الهنود‪ ،‬إذ كان هذا‬
‫الرجل المنعش الوحيد للهند الحديثة(‪. )101‬‬
‫ومما تقدم نتبين تأثر الصوفية بكثير من المعان‬
‫الموجودة في الفلسفة الهندية ولا نستطيع أن ننكر اتصال‬
‫المسلمين بالهند منذ عصر الإسلام الأول كما تقدم ‪.‬‬
‫‪ -4‬التأثر بالفلسفة الصينية ‪ً :‬ا‬
‫ظهرت الحكمة الصينية قديم في القرن السابع قبل‬
‫الميلاد حيث عاش المفكر لأوتسة في ذلك القرن وهو زاهد‬
‫متقشف يرفض المتع البشرية ويريد الإصلاح لقومه‪ ،‬ويدعو‬
‫إلى ترك العمل والتخليًا عن الشهوات وحاجات الجسد‬
‫حكيم الصين ًاالأكبر (كونفوشيوس)‪،‬‬
‫ًا‬ ‫المادية‪ ،‬وقد ًاعاصر أيض‬
‫وقد كان مفكر عمليا ومصلح إجتماعي ( )‪.‬‬
‫‪102‬‬

‫‪ )?(100‬انظر ‪ :‬أبو حامد الغزايل والتصوف‪ ،‬ص‪. 142-141‬‬


‫‪ )?(101‬ركائز اإلميان ‪ :‬حممد الغزايل ‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪،‬ن ط‪ ،1985-1400 ،1‬ص‪. 140‬‬
‫‪ )?(102‬انظر ‪ :‬الصوفية يف اإلسالم ‪ :‬مسيح عاطف الزين ‪ ،‬ص‪ ،35-34‬التصوف يف اإلسالم ‪ :‬عمر‬
‫فروخ‪ ،‬بريوت‪ ،1981 ،‬ص‪. 43‬‬
‫‪35‬‬
‫وحين عجز لاؤتسه (لي آره) عن إصلاح قومه ويئس من‬
‫ذلك نزعًا إلى العزلة والهجرة‪ ،‬وحين طلب منه رجل أن يترك‬
‫له كتاب ترك له كتاب (تأوته) وهذا الإسم يتكون من‬
‫مقطعين ‪( :‬تآو) ومعناها الطريق الروحي (ته) النعمة أو‬
‫اللطف الإلهي ‪.‬‬
‫وهذه الكلمة تآو ذات دلالة صوفية وهي كلمة قديمة‬
‫تشتمل على الأخلاق‪ ،‬وفلسفة الحياة‪ ،‬وعلة الوجود‪ ،‬ونظام‬
‫الطبيعة الخالد (بزعمهم)‪ ،‬وهي عندهم علة العلل المتجلية‬
‫في الخالق والمرئية في العالم ‪.‬‬
‫وقد أكسب لاؤتسه هذه الكلمة معاني جديدة حين زعم‬
‫أن الإنسان يستطيع الإتصال بالتأو عن طريق التجرد من‬
‫الشهوات وعن طريق الرياضة الصوفية وترك الزهو وهجر‬
‫الشعور الذاتي‪ ،‬فبذلك ينجو من شرك المادة (الجسد)‬
‫ويترفع عن حواجز المكان والزمان ويكون بلوغ التآو في‬
‫مراحل ثلاث ‪-:‬‬

‫أ – تزكية النفس وتطهيرها ‪.‬‬


‫ب‪ -‬الإشراق‬
‫ج‪ -‬الإتصال والاتحاد( ) ‪.‬‬
‫‪103‬‬

‫ًء ونلاحظ أن هذه الأفكار والمعاني وجدت في التصوف‬


‫اللطف واعتزال‬
‫سوا بسواء فالعزلة وتعذيب الجسد وفكرة ُم‬
‫الشهـوات والطهارة والتزكية والاتحاد‪ ،‬فقد لئت كتب‬
‫التصوف بها ‪.‬‬
‫كما نلاحظ أن الإشراق الصيني هو فكرة شبيهة‬
‫بالكشف عند الصوفية‪ ،‬كما أن الإتصال والإتحاد شبيه‬
‫بالفناء عند الصوفية ‪.‬‬
‫‪ -5‬التأثر بالفلسفة اليونانية ‪:‬‬
‫لقد كان للفلسفة اليونانية تأثير واضح في التصوف‬

‫‪ ) (103‬انظر ‪ :‬عيون األنباء يف طبقات األطباء ‪ :‬ابن أيب أصيبعة (بريوت) ص‪ 67‬وما بعدها ‪ ،‬نقًال‬
‫?‬

‫عن التصوف اإلسالمي ‪ :‬حسن عاصي‪ ،‬ط‪ ،1‬مؤسسة عز الدين‪ ،‬بريوت‪1414 ،‬هـ‪1994-‬م ‪،‬‬
‫ص‪. 56-55‬‬
‫‪36‬‬
‫وخاصة أن الإفلاطونية الحديثة كان لها شيوع واضح ما‬
‫بين النهرين وفي حران ‪ .‬وكذلك انتشرت في بلاد الشام‬
‫ومصر والعراق وفارس وبعض الهند حين سيطر اليونان‬
‫بقيادة الاسكندر بن فليب المكدوني على تلك البلاد‬
‫وامتزجت ثقافتهم بتلك الثقافات منذ القرن الثالث قبل‬
‫الميلاد(‪. )104‬‬
‫وإن بعض المؤرخين والمتخصصين يرجع الصوفية إلى‬
‫أصل يوناني باعتبارها مأخوذة من كلمة سوفيا وهي بمعنى‬
‫الحكمة باليونانية وهذا ما يعترض عليه الصوفيون ‪.‬‬
‫ومـن أبـرز عناصـر الفكـر اليونانـي الغنوصيـة‪،‬‬
‫والإشراقية وقد أثر ذلك فـي التصوف فقـد دعـا إلى‬
‫التقشف ودعا إلى اتصال النفس بالملأ الأعلـى‪ ،‬إذ يعتقد‬
‫بوجود عالم روحاني نوراني فوق عالم الطبيعة لا يدرك‬
‫العقل حسنه وبهاؤه‪ ،‬ويبلغ الإنسان ذلك العالم إذا‬
‫تطهرت نفسه من علائق هذا العالم المادي‪ ،‬فتغدو زكية‬
‫إذا تبرأت من العجب والتكبر والرياء والحسد(‪. )105‬‬
‫والأفلاطونية الحديثة تحتوي على كثير من الفكر‬
‫الصوفي إن صح التعبير – حيث يعتقدون بنظرية الفيض‬
‫الإلهي وكذلك يقولون بالعقل الأول والنفس الكلية‬
‫والهيولي والنفوس الجزئية وهي من مراتب الوجود عندهم‬
‫وهذا ما يقول به بعض الصوفية كما عند ابن عربي‪،‬‬
‫وكذلك نظرية الكشف والشهود والمعرفة ‪.‬‬
‫ومن الأفكار التي أثرت في التصوف أفكار‬
‫(ديونيسوس) ومن أبرز آرائه ما يسمى (التأله) وهو أن‬
‫المعرفة الحقيقية تحصل بعد تطهير القلب من رجاساته‪،‬‬
‫والتحرر من عبودية الجسد ونبذ الدنيا ولذائذها‪ ،‬والخشوع‬
‫والصمت والتأمل وعند ذلك فقط يصل الإنسان إلى مشاهدة‬
‫الله والإتصال به(‪. )106‬‬

‫‪ )?(104‬الكشف عن حقيقة الصوفية ‪ :‬حممود عبد الرؤوف قاسم‪ ،‬ص‪. 749‬‬


‫‪ )?(105‬عيون األنباء ‪ ،‬ص‪ ، 67‬نقًال عن التصوف اإلسالمي ‪ :‬حسن عاصي ‪ ،‬ص‪. 56-55‬‬
‫‪ )?(106‬انظر ‪ :‬التصوف اإلسالمي ‪ :‬د‪ .‬حسن عاصي ‪ ،‬ص‪. 57‬‬
‫‪37‬‬
‫يونانية‬
‫ًا‬ ‫وكذلك تأثر التصوف بالغنوصية وهي كلمة‬
‫بمعنى المعرفة وتطورت الكلمة حتى أخذت معنى اصطلاحي‬
‫وهو التوصل عن طريق الكشف والذوق إلى المعارف العليا‬
‫دون الإستناد إلى البراهين العقلية(‪. )107‬‬
‫كما نقلت وترجمت إلى العربية كثير من الكتابات‬
‫اليونانية ومنها كتب (إسطفانوس برصديلي) وهو راهب غنوصي‬
‫والسادس قبل الميلاد‬
‫ًا‬ ‫سرياني عاش بين القرنين الخامسًا‬
‫وقد انتشرت ترجمات كتبه انتشار واسع عند ظهور التصوف‬
‫الإسلامي(‪. )108‬‬
‫وهذا يدل دلالة واضحة على تأثر التصوف بالفلسفات‬
‫كانت‬
‫ًا‬ ‫التي‬
‫اليونانية ومن الكلمات والمعاني الكثيرة ًا‬
‫سائدة في الفكر اليوناني‪ ،‬واستعملت استعمال كثير في‬
‫الفكر الصوفي المعرفة‪ ،‬والذوق‪ ،‬والكشف‪ ،‬الأزلية‪،‬‬
‫والحقيقة‪ ،‬وحقيقة الحقائق‪ ،‬والكلمة‪ ،‬والعلة والمعلول ‪،‬‬
‫ووحدة الوجود ‪.‬‬
‫‪ -6‬التأثر بعقائد الفرس ‪:‬‬
‫لقد ظهر في بلاد فارس الفكر الصوفي منذ زمن بعيد‬
‫حيث سادت عندهم فكرة صدور كل شيء عن الله ورجوعه إليه‬
‫وأن الموجود بحق هو الله ‪.‬‬
‫وظهر الزهد والرهبنة في الديانة المانوية‪ ،‬والنهي‬
‫عن ذبح الحيوان في الديانة المزدكية وكذلك ساعد دخول‬
‫الإسلامي على نقل تلك‬
‫ًا‬ ‫عدد كبير من الفرس في الدين‬
‫الأفكار بقصد حسن أو سيء وإن كثير من مشاهير الصوفية‬
‫كانوا من أصول فارسية أمثال إبراهيم ابن أدهم ومعروف‬
‫الكرخي‪ ،‬وشقيق البلخي‪ ،‬وحاتم الأصم‪ ،‬وسهل التستري‪ ،‬وأبو‬
‫يزيد البسطامي والحلاج والسهروردي(‪. )109‬‬
‫ولقد كان الفرس قبل الإسلام يدينون بالزرادشتية‬
‫(الماجوسية) المبنية على وحدة الوجود‪ ،‬منحدرة من اتحاد‬

‫‪ )?(107‬أبو حامد الغزايل والتصوف ‪ :‬عبد الرمحن دمشقية ‪ ،‬ص‪. 138‬‬


‫‪ )?(108‬ركائز اإلميان ‪ :‬حممد الغزايل ‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪،‬ن ط‪ ،1985-1400 ،1‬ص‪. 140‬‬
‫‪ )?(109‬انظر ‪ :‬دعوة التوحيد الدرزية ‪ ،‬ص‪. 346‬‬
‫‪38‬‬
‫أو حلول بين انبثاقات صادرة عن الهين اثنين (النور‬
‫والظلمة) وكان مذهب الأكثرية المجوسية يرجع المبدأين‬
‫(النور والظلمة) إلى كائن أعلى واحد منه انبثق الوجود‪،‬‬
‫ثم جاءت المانوية متفقة مع الزردشتية في أصل‬
‫العقيدة(‪. )110‬‬
‫موقف العلماء من التصوف ‪- :‬‬
‫أ ‪ -‬طائفة من الناس نظرت إلى مساوئ القوم وأغمضت‬
‫العيون عن محاسنها فقالوا بضلال الصوفيـة وردوا كلامهـم‬ ‫ًء‬
‫سوا ما وافق الكتاب والسنة أو خالفهما وهذه الطائفـة‬
‫كمـا يقول ابن القيم (حجبت عن محاسن هذه الطائفة ولطف‬
‫نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات‬
‫وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم) (‪. )111‬‬
‫ب ‪ -‬وطائفة أخرى نظرت إلى محاسن القوم وصدق معاملتهم‬
‫وشفافية نفوسهم وحسن عبادتهم فأقبلت على علوم الصوفية‬
‫وكتبهم وقصائدهم وقصصهم دون تمحيص مغمضة العيون عن‬
‫عيوب القوم ومساوئهم‪ ،‬وهؤلاء كما يقول ابن القيم (حجبوا‬
‫بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم‬
‫وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم ) ‪.‬‬
‫أهل العدلًا‬ ‫ج ‪ -‬وطائفة ثالثة وهم كما يسميهم ابن القيم ًا‬
‫والإنصاف الذين يقبلون من القوم ما يجدونه حسن موافق‬
‫للكتاب والسنة ويردون ما خالف الكتاب والسنة ويردون‬
‫على شطحات القوم ‪ ،‬وهذا الموقف هو الذي يجب أن يقفـه‬
‫كـل مسلـم فلا تحملنا حسنات القوم على قبول خطئهـم‬
‫وتحسينـه‪ .‬كمـا يجـب أن لا تحملنا سيئـات القـوم على‬
‫الذي‬ ‫ُّد‬
‫العدلَفُر ُه‬ ‫الحكم َشْي‬
‫َزْعُتْم‬
‫َّن‬
‫رد حق ذهبوا إليه أو قالواَف ْنبه‪َ،‬تَنبل‬
‫بيننـا َّلهو َّر‬
‫َشَن ُن َقْو و‬
‫َعَل‬ ‫الكتاب والسنة ‪َ ‬و َا َيْجا َم ُكْم ي‬‫ُس‬ ‫َو‬ ‫َل‬
‫ى‬ ‫ِف آ ٍء‬ ‫ال و ‪ِ (112)، ‬إل‬ ‫ى ال‬
‫ٍم‬ ‫ِر‬ ‫ِل‬ ‫ِه‬ ‫ِإ‬

‫‪ )?(110‬انظر ‪ :‬الكشف عن حقيقة الصوفية ‪ :‬حممود عبد الرؤوف القاسم ‪ ،‬ص‪. 749‬‬
‫‪ )?(111‬مدارج السالكني ‪. 2/39،40‬‬
‫‪ )?(112‬النساء ‪ :‬اآلية ‪. 59‬‬
‫‪39‬‬
‫َّت‬ ‫َّا‬
‫ْقَو‬ ‫ُهَو َأْقَرُب‬ ‫ْع ُل‬ ‫َأ َتْع ُل‬
‫ى‪. )113(‬‬ ‫ل‬ ‫وا ا وا‬ ‫ل‬
‫ِل‬ ‫ِد‬ ‫ِد‬

‫فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل العدل والإنصاف‬


‫المتمسكين بكتاب ربهم وسنة نبيه محمد ‪. ‬‬

‫المبحث الثالث‬
‫المراتب والمصطلحات‬
‫مراتب الصوفية وألقابهم(‪: )114‬‬
‫يعتقد الصوفية بأن كبار أوليائهم لهم رتب وألقاب خاصة‬
‫وهذه الرتب والألقاب درجات وهى كالتالي ‪-:‬‬
‫‪ - 1‬الغوث ‪:‬‬
‫ولا يكون إلاغوث واحد وهو في مكة المكرمة ‪ .‬وهو‬
‫الذي يغيث الله به أهل الأرض في رزقهم ونصرهم ‪ ،‬ويطلق‬
‫عليه البعض القطب الغوث(‪. )115‬‬
‫ويرى آخرون(‪ )116‬أن الغوث يطلق على القطب حينما‬
‫يلتجىء إليه الناس والبعض يطلق عليه قطب الأقطاب ‪.‬‬
‫والاعتقاد بالغوث الغائب الحاضر من الشرك‪ ،‬فإن‬
‫الله هو المغيث وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ‪.‬‬
‫ويقول شيخ الإسلام بنّا تيمية رحمه الله إّين لفظ‬
‫الغوث والغياث لا يستحقه إل الله تعالى فهو غ اث‬
‫المستغيثين وعليه فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره‪ ،‬لا‬
‫‪ )?(113‬املائدة ‪ :‬اآلية ‪. 8‬‬
‫‪ )?(114‬التصوف والصوفية ‪ :‬ابن تيمية ‪ ،‬ص‪. 44‬‬
‫‪ )?(115‬الفكر الصويف يف اإلسالم ‪ :‬عبد الرمحن عبد اخلالق ‪ :‬ص‪. 363‬‬
‫‪ )?(116‬التعريفات ‪ :‬للجرجاىن‪ ،‬ص‪. 163‬‬
‫‪40‬‬
‫بملك مقرب ولا نبي مرسل‪ ،‬ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون‬
‫حوائجهم ‪ -‬التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ‪ -‬إليهم‬
‫ونزول الرحمة بهم … فهو كاذب ضال مشرك(‪. )117‬‬
‫‪ - 2‬الأوتاد ‪:‬‬
‫وعددهم أربعة أوتاد ‪ ،‬وهم الذين يثبت الله بهم‬
‫تثبت الجبال الأرض ‪.‬‬
‫الناس كما ًا‬
‫ًا‬ ‫الإيمان في قلوب‬
‫وسمـوا أوتـاد تشبيهـ لهـم بالجبـال التـي‬
‫يثبـت الله بهـا الأرض قـال تعالى ‪‬والجبال أوتادا ‪‬‬
‫(‪. )118‬‬
‫ويكون كل واحد منهم في جانب من جوانب الأرض‬
‫الأربعة أي أنهم في المشرق والمغرب والشمال والجنوب( )‬
‫‪119‬‬

‫‪.‬‬
‫وقال أحد المهاويس‪ :‬إن مصر يحرسها أربعة ولولاهم‬
‫لأصبحت في خبر كان قلت له (والكلام للكاتب)‪ ،‬إحك لي ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬الدسوقي والبدوي يحرسان الوجه البحري والأسيوطي‬
‫والقناوي يحرسان الوجه القبلي ‪.‬‬
‫قلت له ‪ :‬إن الوجه القبلي أكبر من الوجه البحري‬
‫ونحن في حاجـة إلى عدد أكبر من ذلك فقال لي ‪ :‬على كل‬
‫حال يوم الخميس حيث تعقد كل يوم خميس رئاسة رئيسة‬
‫الديوان السيدة زينب‪ ،‬سوف أعرض عليها طلبكم وسوف ألح‬
‫على المجلس أن يلبي طلبكـم يـا صعايـدة(‪ . )120‬إنـه‬
‫كلام يدل على السذاجة وعدم العلم بل الجهل بالخالق‬
‫وبربوبيته على خلقه‪.‬‬
‫‪- 3‬القطب ‪:‬‬
‫والأقطاب عددهم سبعة أقطاب ‪ :‬الواحد قطب وسمـي‬
‫‪ )?(117‬جمموع ـة الرســائل واملســائل‪ ،‬ابن تيميــة ‪ ،‬دار الكتب العلميــة ‪ ،‬بــريوت ‪ ،‬ط‪1412 ، 2‬ه ـ –‬
‫‪1992‬م ‪. 1/59 ،‬‬
‫‪ )?(118‬سورة النبأ‪ ،‬آية ‪. 7‬‬
‫‪ )?(119‬التعريفات ‪ :‬للجرجاىن‪ ،‬ص‪ ، 39‬وانظر ‪ :‬جمموعة الرسائل واملسائل ابن تيمية ‪. 1/62 ،‬‬
‫‪ )?(120‬كرامـات أولي ــاء اهلل الصـاحلني ‪ :‬علي عبــد العـال الطهطــاوي ‪ ،‬مكتب ـة الص ـف القاه ـرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1421‬هـ‪. 1/62 ،1992-‬‬
‫‪41‬‬
‫بذلك لأنه يكون قطب في القطر الموجود فيـه كقطـب‬
‫الرحـى ‪ ،‬وبوجوده تحفظ البلاد ‪ ،‬والمراد بالقطب هو‬
‫الذي يحفظ الله به الشيء كقطب الدين وقطـب القريـة ‪،‬‬
‫وكل من دار عليه أمر من أمور الدنيا أو الدين فهو قطب‬
‫‪.‬‬
‫ويعتبر الجرجانىًا القطب أعلى منزلة عند الصوفية‬
‫لأنه يعتبر الغوث قطب والقطب هو موضع نظر الله في كل‬
‫زمان وهو يسرى في الكون وأعيانه الظاهرة والباطنة‬
‫سريان الروح في الجسد(‪. )121‬‬
‫‪ - 4‬الأبدال " البدلاء "ْا ‪:‬‬
‫ثابتون‬
‫وعددهم أربعون بدل ‪ ،‬وسموا بالأبدال لأنهم ًا‬
‫من حيث العدد كلما توفى أحدهم يسر الله تعالى واحد‬
‫غيره ‪ ،‬وقيل ‪ :‬هم الذين أبدلوا السيئات من أخلاقهم‬
‫وأعمالهم وعقائدهم بالحسنات ‪ ،‬وهم بالشام ‪ ،‬واستدلوا‬
‫كما يذكر ذلك ابن تيميه‬ ‫على ذلك بحديث منقطع الإسناد‪ً -‬ا‬
‫رسول الله ‪ ‬قال‬ ‫ًا‬ ‫وهو عن علي رضى الله عنه مرفوع إلى‬
‫‪( :‬الأبدال يكونون بالشامًا وهم أربعون رجل كلما مات‬
‫رجل أبدل الله مكانه رجل ‪ ،‬يسقى بهم الغيث‪ ،‬وينتصر بهم‬
‫على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب)(‪. )122‬‬
‫البدلاء سبعة رجال‪ً ،‬ا من سافر‬
‫ًا‬ ‫الجرجانى ان‬
‫ويرى ًا‬
‫منهم يترك جسد على صورته حي بحياته‪ ،‬ظاهر بأعمال‬
‫أصله بحيث لا يعرف أحد أنه فقد وذلك هـو البدل لا‬
‫غير‪ ،‬ويقول إن الأربعين الموجودين في الشام هم النجباء‬
‫وليس الأبدال(‪. )123‬‬
‫‪- 5‬النجباء ‪:‬‬
‫وعددهم ثلاثمائة ‪ ،‬وهم في الشام ‪ ،‬وتزعم الصوفية‬
‫أن الأعمال وسؤال الحاجات ترفع إلى الأبدال ثم إلى‬

‫‪ )?(121‬السابق ص‪177‬‬
‫‪ )?(122‬مس ــند اإلم ــام األمحد ‪ ،‬طب ــع ونش ــر دار الف ــك الع ــريب ‪ ،‬ض ــعفه األلب ــاين رمحه اهلل يف ض ــعيف‬
‫اجلامع الصغري رقم ‪. 1405‬‬
‫‪ )?(123‬التعريفات ‪ :‬للجرجاىن‪ ،‬ص‪.239 ، 23‬‬
‫‪42‬‬
‫الأقطاب ثم إلى الأوتاد ثم إلى الغوث الذي يقوم بقضاء‬
‫الحاجات ‪ .‬والنجباء مشغولون بحمل أثقال الخلق وخاصة‬
‫التي لا تفي القوة البشرية بحملها(‪. )124‬‬
‫ويزعم أصحاب هذه المعتقدات أن أصحاب هذه الألقاب‬
‫هم من الأولياء الذين لا تخلو منهم الأرض فهم موجودون‬
‫في كل زمان وفى كل مكان‪ .‬ويعتقد هذه المعتقدات كثير عن‬
‫ًا‬ ‫أصحاب الطرق الصوفية ‪.‬‬
‫* فإذا كان الأمر كذلك فمن حد لهؤلاء الأولياء حد ‪،‬‬
‫والولاية ثابتة بالكتاب والسنة ‪ ،‬فكيف حصرها الصوفية‬
‫في هذه الأعداد والتحديد يحتاج لدليل شرعي ‪.‬‬
‫* ثم إن هذه الألفاظ والمسميات لم ترد على ألسنة‬
‫السلف الصالح ‪ ،‬والذين ذكروهم من الأوائل كابن تيمية‬
‫رحمه الله إنما ذكرهم على سبيل الذم والنقد ‪.‬‬
‫* وإن زعم زاعم أن الأرض لا تخلو من هؤلاء فلم لم‬
‫الرسول محمد صلى الله علية ًاوسلم ‪ ،‬وهو‬ ‫ًا‬ ‫يحدثنا عنهم‬
‫الذي لم يترك خير إلا دلنا عليه ولا شر إلا حذرنا‬
‫ًا‬ ‫منه ‪.‬‬
‫* وهل وجودهم مقتصر على أمة محمد ‪ ‬؟ فان كان مقتصر‬
‫عليها فكيف يزعمون أن الأرض لا تخلو منهم؟ ‪ .‬وان كانوا‬
‫فيمن قبله فأين هم في قوم نوح وإبراهيم وموسى َمو ْمعيسي‬
‫عليهم و علي نبينا أفضل الصلاة و السلام ؟ ول ل‬
‫يحدثنا محمد ‪ ‬عنهم ؟ ‪.‬‬
‫* وكيف هم في الشام و فتحها جاء متأخراً عن عهد رسول‬
‫الله محمد ‪ ‬؟ وقد ذكر رسول الله ‪ ‬فضل الشام وفضل‬
‫اليمن و غيرها من البقاع و لم يذكر في فضل الشام و‬
‫جود هؤلاء الأولياء المزعومين ‪.‬‬
‫* وكيف ترفع حوائج الناس عن طريق هؤلاء ؟ والرسول ‪‬‬
‫يقول " ياًا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا‬
‫تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا ‪ .‬إن‬
‫عنق َبراحلتهَع "( َف ) ‪َ .‬ق ٌب‬
‫أحدكمَذ منَسَأَلَك‬
‫الذي تدعون أقرب إلي َو‬
‫‪125‬‬

‫ي ي‬ ‫اي ي‬ ‫و يقول تعالي ‪  :‬ا‬


‫ِع ِد ِّن ِإِّن ِر‬ ‫ِإ‬
‫‪ )?(124‬السابق ‪ ،‬ص‪. 239‬‬
‫‪43‬‬
‫َّد‬
‫َوْلُيْؤ ُن‬ ‫َفْلَيْسَت ُب‬ ‫َذ َدَع‬ ‫ُأ َّلُب َدْعَوَة‬
‫وا ي‬ ‫ي وا ي‬ ‫ال ا ي ا ا ي‬ ‫َلَعِجيُهْم َيْرُشُد َن‬
‫ِب‬ ‫ِم‬ ‫ِل‬ ‫ِج‬ ‫ِن‬ ‫ِإ‬ ‫ِع‪126‬‬
‫و‪. ) ( ‬‬
‫ثم إن هذه ًاالأسماء على هذا العدد والترتيب‬
‫والطبقات ليست حق في كل زمان‪ ،‬بل يجب القطع بأن هذا‬
‫على عمومه باطل ‪.‬‬
‫فـإن المؤمنيـن يكثـرون تـارة ويقلـون أخـرى‪،‬‬
‫ويقـل فيـه السابقون المقربـون تـارة ويكثـرون أخـرى‪،‬‬
‫وينتقلـون فـي الأمكنـة ليـس مـن شـرط أوليـاء الله‬
‫أهـل الإيمـان والتقـوى‪ ،‬ومـن يدخـل منهـم فـي‬
‫السابقيـن المقربيـن لـزوم مكـان واحـد فـي جميـع‬
‫الأزمنـة ‪.‬‬
‫وقد بعث الله رسوله بالحق وآمن معه بمكة نفر‬
‫قليل كانوا أقل من سبعة ثم أقل من أربعين ثم أقل من‬
‫سبعين ثم أقل من ثلثمائة‪ ،‬فيعلم أنه لم يكن فيهم هذه‬
‫الأعداد ومن الممتنع أن يكون منهم الكفار‪ ،‬ثم إن‬
‫الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها وكان في‬
‫المؤمنين في كل وقت من أولياء الله المتقين بل ّامن‬
‫الصديقين السابقين المقربين من لا يحصى عدده إل رب‬
‫بثلاثة آلاف‪ ،‬ولما‬ ‫ًا‬ ‫العالمين ‪ ،‬لا يحصون ثلاثمائة ولا‬
‫انقرضت القرون الثلاثة الفاضلة كان أيض في القرون‬
‫المتقين بل من السابقين ًاومن‬ ‫الخالية من ًاأولياء ًاالله ًا‬
‫جعل لهم عدد محصور لازم فهو من الظالمين عمد أو‬ ‫ًأ‬
‫خط "(‪. )127‬‬
‫مصطلحات الصوفية ‪-:‬‬
‫‪- 1‬الكشف ‪:‬‬
‫وهـو الاطـلاع علـى مـا وراء الحجـب مـن‬

‫‪)?(125‬أخرجــه مســلم ‪ -‬كتــاب الــذكر والــدعاء ‪ -‬بــاب اســتحباب خفض الصــوت للــذكر ‪ -‬حــديث‬
‫رقم ‪. 4/2076 ، 2704‬‬
‫‪ )?(126‬سورة البقرة آية‪. 186‬‬
‫‪ )?(127‬جمموعة الرسائل واملسائل ‪. 59-1/58 ،‬‬
‫‪44‬‬
‫ًا‬
‫المعانـي الغيبية والأمور الحقيقيـة وجـود أو‬ ‫ًا‬
‫شهـود (‪ )128‬أو هو اطلاع أحد المتحابين المتصافين صاحبه‬
‫علـى باطـن أمـره وسـره(‪. )129‬‬
‫أو هو ما يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض‬
‫الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب(‪ . )130‬ويعني‬
‫اليقيني الذي ينكشف فيه للصوفي‬ ‫ًا‬ ‫هذا أن الكشف هو العلم ًا‬
‫العلوم والمعارف انكشاف تام لا يبقى معه ريب ولا شك‪،‬‬
‫لذلك نجد أن بعض الصوفية جاءوا بمعان جديدة للقرآن‬
‫والسنة والآثار وزعموا أنهم يأخذون ذلك عن الله مباشرة‬
‫الموتى بزعمهم‪ ،‬وقالوا إن علمـاء الشـرائع‬ ‫وليس عن ًا‬
‫يأخـذون ميت عن ميت وهم يأخذون عن الحي الذي لا يموت‬
‫‪.‬‬
‫‪ - 2‬الفيض الإلهي ‪:‬‬
‫وينقسم إلى قسمين ‪:‬‬
‫أحدهما ‪ :‬الفيض الأقدس ‪ :‬وهو تجلى الواحد أو التجلي‬
‫الذاتي الموجب لوجود الأشياء واستعداداتها في الحضرة‬
‫العلمية " في العالم المعقول " ‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬الفيض المقدس‪ :‬وهو تجلى الواحد أو التجلي‬
‫الموجب لظهور الأعيان في الخارج‪.‬‬
‫فالأول ‪ :‬وجودها في العلم والعقل والثاني ‪ :‬وجودها في‬
‫الخارج مع لوازمها وتوابعها(‪. )131‬‬
‫‪ - 3‬وحدة الوجود ‪:‬‬
‫تنس ــب نظري ــة وح ــدة الوج ــود إىل ابن ع ــريب ال ــذي جع ــل اهلل‬
‫واخلل ــق ش ــيئًا واح ــدًا وجع ــل اإلنس ــان واإلل ــه يف مرتب ــة واح ــدة ‪ .‬حيث‬
‫تقوم هذه النظرية يف مدلوهلا البســيط على أن كــل املوجــودات الــيت يف‬
‫الكون رغم كثرهتا وتعددها شيٌء واحـد وهـذا الشـيء هـو اهلل سـبحانه‬
‫‪ )?(128‬التعريفات ‪ :‬للجرجاىن‪ ،‬ص‪. 184‬‬
‫‪ )?(129‬مدارج السالكني ‪ :‬ابن القيم‪. 3/221 ،‬‬
‫‪ )?(130‬بيان تلبيس اجلهمية ‪ :‬ابن تيمية‪. 1/263 ،‬‬
‫‪ )?(131‬التعريفات ‪ :‬للجرجاىن‪ ،‬ص‪. 169‬‬
‫‪45‬‬
‫فاهلل يظهر ويتجلى يف صور متعددة بزعمهم(‪. )132‬‬
‫واملراد هبا أيض ـ ـ ـًا أن اهلل هـ ـ ــو احلق‪ ،‬وليس هن ـ ــاك إال موج ـ ــود‬
‫واحـد هـو املوجـود املطلـق وهـو اهلل فليس غـريه يف الكـون‪ ،‬وأمـا العـامل‬
‫فهــو مظهــر من مظــاهر الــذات اإلهليــة‪ ،‬والعــامل ليس لــه وجــود يف ذاتــه‬
‫ألنه صادر عن اهلل بالتجلي(‪. )133‬‬
‫‪ - 4‬الاتحاد ‪:‬‬
‫يعنـ ــي أن اإلنسـ ــان يتحـ ــد باهلل‪ ،‬وفـ ــي حالـ ــة االحتـ ــاد قـ ــد يفقـ ــد‬
‫الشـيء ذاتيته أو بعض أوصافها أو خصائصها وفيه تكون الذاتان أكــثر‬
‫تداخًال وأكثر قربًا ‪ .‬وتنسب هذه النظرية للبسطامي ‪.‬‬
‫وهـو شهـود الوجـود الواحـد المطلـق ‪ً،‬ا فالكـل‬
‫موجـود ًا بـه‪،‬‬ ‫يتحـد ًابالحـق مـن حيـث كـون كـل شـئ ًا‬
‫معدومـ بنفسـه ‪،‬لا من حيث أن له وجود خاص انحل بـه‬
‫فإنه محال(‪. )134‬‬

‫‪ - 5‬الحلول ‪:‬‬
‫احللـ ــول يعـ ــين أن اهلل تعـ ــاىل حـ ــل يف مجيـ ــع أجـ ــزاء الكـ ــون يف‬
‫البحـ ــار واجلبـ ــال والصـ ــخور واألشـ ــجار واإلنسـ ــان واحليـ ــوان ‪ .‬مـ ــع بقـ ــاء‬
‫عنصـ ــر كـ ــل من الطـ ــرفني – اللـ ــذين حـ ــل أحـ ــدمها يف اآلخـ ــر – على‬
‫حالتــه األوىل فمن زعم أن اإللــه حــل يف البقــرة فــإن البقــرة مــا زالت‬

‫‪ )?(132‬انظر ‪ :‬أصول التصوف‪ ،‬عبد اهلل زروق ‪ ،‬ص‪. 78‬‬


‫‪ )?(133‬املعجم الفلس ــفى ‪ :‬مجي ــل ص ــليبا ‪ ،2/569‬والفك ــر الص ــويف ‪ :‬عب ــد ال ــرمحن عب ــد اخلالق‪ ،‬ص‬
‫‪. 115‬‬
‫‪ )?(134‬السابق ‪ ، 1/35‬التعريفات‪ ،‬ص ‪ ، 8‬أصول التصوف ‪ :‬عبد اهلل زروق ‪ ،‬ص‪. 77‬‬
‫‪46‬‬
‫هي هي حتلب وتؤدي وظائفها كما هي(‪. )135‬‬
‫الفرق بين الحلول واالتحاد ووحدة الوجود ‪:‬‬
‫احلل ــول يع ــين وج ــود ش ــيء داخ ــل ش ــيء آخ ــر دون أن يفق ــد أح ــدمها‬
‫طبيعت ــه أو هويت ــه أو ذاتيت ــه أو ماهيت ــه فتح ــل ال ــذات اإلهلي ــة يف ال ــذات‬
‫اإلنسانية فيحل على حد تعبريهم الالهوت يف الناسوت ‪.‬‬
‫أم ــا االحتاد فيك ــون أك ــثر قربـ ـًا وامتزاجـ ـًا وت ــداخًال‪ ،‬وق ــد يفق ــد‬
‫الشيء املمتزج ذاته أو بعض صفاته وخصائصه ‪.‬‬
‫أمــا وحــدة الوجــود فتعــين أن اهلل هــو املوجــود ومــا ســواه فنــاء‬
‫وأن األش ــياء يف األص ــل كله ــا ش ــيء واح ــد ولكن ــه ق ــد يظه ــر مبظ ــاهر‬
‫متعددة فيظهر اهلل تعاىل يف صور الكائنات املتعددة(‪. )136‬‬
‫‪ -6‬الوقت ‪:‬‬
‫يقول أبو على الدقاق ‪ " :‬الوقت ما أنت فيه ‪"،‬‬
‫فإن كنت في سرور فوقتك السرور ‪ ،‬وكذلك الحزن ‪ ،‬ويعنى‬
‫هذا أن الوقت هو الحاضر ‪ ،‬وكما يقال الوقت بين زمانين‬
‫أي الماضي والمستقبل ‪.‬‬
‫لـذا يرون التفكير في الوقت الماضي هو ضياع وقت‬
‫حاضر‪ ،‬والانشغال بالمستقبل " الغيب " كذلك ‪.‬‬
‫ويرون الموت هو ضياع الوقت ‪ ،‬لأن العمر وقت وقيل‬
‫في هذا المعنى ‪:‬‬
‫***‬ ‫ليس من مات فاستراح بميت‬
‫إنما الميت ميت الأحياء(‪)137‬‬
‫وقال الجرجانى ‪ :‬الوقت عبارة عن حالك ‪ ،‬وهو ما‬
‫‪ )?(135‬انظـر‪ :‬حقـائق عن التصـوف‪ :‬عبـد القـادر عيسـى‪ ،‬املطبعـة الوطنيـة – عمـان‪ ،‬ط ‪1401 ،4‬ه ـ‬
‫– ‪1981‬م‪ ،‬ص‪ . 540‬التصوف يف امليزان ‪ :‬مصطفى غلوش ‪ ،‬ص‪. 67‬‬
‫‪ )?(136‬انظر ‪ :‬التصوف يف امليزان ‪ ،‬د‪ .‬مصطفى علوش ‪ ،‬دار هنضة مصر القاهرة ‪ ،‬ص‪. 67‬‬
‫وأصول التصوف ‪ :‬عبد اهلل حسن زروق ‪ ،‬ص‪. 76‬‬
‫‪ )?(137‬الرسالة القشريية ‪ :‬ص‪. 55،56‬‬
‫‪47‬‬
‫وهذا بنفس المعنى الذي ذهب إليه‬ ‫يقتضيه استعدادك(‪)138‬‬
‫الدقاق ‪.‬‬
‫‪ - 7‬المقام ‪:‬‬
‫والمراد بالمقام المنزلة التي يقيم عليها المتأدب‬
‫‪ ،‬وهو ما يشتغل به العبد من الآداب والمعاملات‬
‫والمجاهدات في ظاهره وباطنه وشرطه ألا يرتقى إلى مقام‬
‫آخر حتى يستوفى ما هو فيه ‪ ،‬فإنه من لا قناعة له لا‬
‫يصح له التوكل ‪ ،‬ومن لا توكل له لا يصح له التسليم ‪،‬‬
‫ومن لا توبة له لا تصح له الإنابة ‪ ،‬ومن لا ورع له لا‬
‫يصح له الزهد(‪. )139‬‬
‫ومن أمثلة المقام التوبة والصبر والشكر والزهد‬
‫والخوف والرجاء والتوكل والرضا ‪ ،‬فقد كان مقام آدم‬
‫عليه السلام التوبة ‪ ،‬ومقام نوح عليه السلام الزهد ‪،‬‬
‫ومقام إبراهيم عليه السلام التسليم ‪ ،‬ومقام موسى عليه‬
‫السلام الإنابة ‪ ،‬ومقام داوود عليه السلام الحزن ‪،‬‬
‫ومقام عيسى عليه السلام الرجاء ‪ ،‬ومقام يحيى عليه‬
‫السلام الخوف ‪ ،‬ومقام محمد ‪‬الذكر(‪. )140‬‬
‫ونحن لا نقرهم على هذا فإن الأنبياء عليهم‬
‫السلام كانوا يقيمون على جميع الأحوال سالفة الذكر ‪.‬‬
‫‪ - 8‬الحال ‪:‬‬
‫والحال معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا‬
‫اجتلاب ولا اكتساب ‪ ،‬مثل طرب أو حزن أو بسط أو قبض ‪،‬‬
‫أو شوق أو انزعاج أو هيبة(‪. )141‬‬
‫وقيل إن الحال تدوم ‪ ،‬وقيل إنها عرضة للزوال ‪ً ،‬ا‬
‫والصواب أن الحال قابلة ًاللزوال ‪ ،‬قبل زوالها تسمى حال‬
‫‪ ،‬وعندما تزول تسمى وارد ‪ ،‬والوارد هـو كل ما يرد‬
‫على القلب من المعاني الغيبية ‪ ،‬من غير تعمد ‪.‬‬

‫‪ )?(138‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪. 254‬‬


‫‪ )?(139‬الرسالة‪ ،‬ص‪ ،57‬املوسوعة امليسرة‪ ،‬ص‪. 346‬‬
‫‪ )?(140‬كشف احملجوب للهجويري ‪ ،‬ص‪. 616‬‬
‫‪ )?(141‬انظر ‪ :‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪. 249 ، 81‬‬
‫‪48‬‬
‫فالأحوال مواهب ‪ ،‬والمقامات مكاسب ‪ ،‬والأحوال‬
‫تأتى من الجود ‪ ،‬والمقامات تحصل ببذل المجهود(‪.)142‬‬
‫وعلى ذلك فالمقام ثابت ومستقر بخلاف الحال فإنه متغير‬
‫ومتحول وزائل وقد يتصف‬
‫المريد به في وقت دون ًاآخر فإذا تكرر حدوثه‬
‫للمريد فقد يستقر ويصبح مقام ‪.‬‬
‫ومن أمثلة الحال ‪ :‬المحبة والشوق والأنس والقبض‬
‫والبسط والبقاء والفناء والمكاشفة والمشاهدة والغيبة‬
‫والحضور ‪.‬‬
‫ملاحظة‪:‬نلاحظ أن الهجويري ذكر الخوف والحزن في المقامات‬
‫وهي في الحقيقة أحوال لأنها غير متكلفة ‪.‬‬
‫‪ - 9‬القبض والبسط ‪:‬‬
‫وهما حالتان تردان على العبد ‪ ،‬تقربان من الخوف‬
‫والرجاء ‪ ،‬أو يسببهما الخوف والرجاء ‪ ،‬بمعنى أن العبد‬
‫يرتقى من حال الخوف والرجاء إلى حال القبض والبسط ‪.‬‬
‫يقول الجنيد‪ :‬الخوف من الله يقبضني‪ ،‬و الرجاء‬
‫منه يبسطني ‪.‬‬
‫و الخوف و الرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو‬
‫محبوب ‪ ،‬والقبض و البسط يتعلقان بأمر حاضر في الوقت‬
‫ويغلب علي قلب العارف من وارد غيبي(‪. )143‬‬
‫‪ -10‬التواجد والوجد والوجود ‪:‬‬
‫التواجد استدعاء الوجد بنوع من الاختيار ‪ ،‬وليس لصاحبه‬
‫كمال الوجد لأنه غير متكلف ‪.‬‬
‫والمواجيد جمع وجد ‪ ،‬والوجد ما يصادف القلب ‪ ،‬ويرد‬
‫عليهًا بلا تكلف ولا تصنع ‪ ،‬وقيل هي بروق تلمع ثم تخمد‬
‫سريع والوجود فقدان العبد بمحاق (بزوال) أوصاف البشرية‬
‫ووجود الحق لأنه لا بقاء للبشرية عند ظهور سلطان‬
‫الحقيقة(‪ ، )144‬فالتواجد بداية ‪ ،‬الوجود نهاية ‪،‬‬

‫‪ )?(142‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين ‪ ،‬ص‪ ، 172‬الرسالة القشريية‪ ،‬ص‪. 59 ،58‬‬


‫‪ )?(143‬الرسالة القشرييه‪ ،‬ص‪ ، 67‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪.169‬‬
‫‪ )?(144‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪. 270‬‬
‫‪49‬‬
‫والوجد واسطة بين البداية والنهاية ‪.‬‬
‫يقول الحسين النورى ‪ :‬أنا منذ عشرين سنة بين‬
‫الوجد والفقد ‪ ،‬إذا وجدت ربى فقدت قلبي ‪ ،‬وإذا وجدت‬
‫قلبي فقدت ربى ‪0‬‬
‫وفى هذا المعنى يقول الشاعر ‪0‬‬
‫*** بما يبدو‬ ‫َّي وجودي أن أغيب عن الوجود‬
‫عل من الشهود‬
‫والوجد والتواجد هو نتيجة سماع شيء مثير للوجدان‬
‫كالقرآن والمدائح والغناء ‪ ،‬فعند السماع يحصل لهم‬
‫‪،‬وتمايل ورقص وحركات بهلوانية حتى يفعل‬
‫ًا‬ ‫هيجان وثوران‬
‫الواحد منهم أفعال لا يستطيعها في غير هيجانه (حضوره)‬
‫ًا‬ ‫‪.‬‬
‫يقال إن جهم الدقي في حال هيجانه أخذ شجرة‬
‫فاقتلعها من جذورها(‪. )145‬‬
‫‪ -11‬الفناء والبقاء ‪:‬‬
‫والفناء هو سقوط الصفات الذميمة ‪ ،‬والبقاء بروز‬
‫الأوصاف المحمودة ‪ ،‬والفناء والبقاء متلازمان‪ ،‬فمن فني‬
‫عن شهوته بقى بإخلاصه وعبوديته ‪ ،‬ومن فني عن الدنيا‬
‫بزهده‬

‫فيها بقى بصدق إنابته(‪ . )146‬وفناء الجهل ببقاء العلم ‪،‬‬


‫وفناء المعصيـة ببقـاء الطاعـة وفناء الغفلة ببقاء‬
‫الذكر(‪. )147‬‬
‫والفناء مقرون بالبقاء ‪ ،‬و هو أن تثبت إلهية‬
‫الحق تعالى في قلبك ‪ ،‬و تنفي إلهية ما سواه وبمحبته‬
‫عن محبة ما سواه ‪ ،‬و بخشيته عن خشية ما سواه فالنفي‬

‫‪ )?(145‬الرسالة القشريية ‪ ،‬ص‪. 34‬‬


‫‪ )?(146‬الرسالة القشرييه‪ ،‬ص‪ ، 67‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪. 169‬‬
‫‪ )?(147‬اللمع للسراج ‪ -‬دار الكتب احلديثه ‪ -‬نشره عبد احلليم حممود سنه ‪ ،1960‬ص‪. 284‬‬
‫‪50‬‬
‫هو الفناء والإثبات هو البقاء ومن بقي بطاعته عن طاعة‬
‫ما سواه هو البقاء وحقيقته أن يفنى بعبادة الله عن‬
‫عبادة ما سواه(‪. )148‬‬
‫‪ -12‬الغَيبة والحضور ‪:‬‬
‫و الغيبة هي غيبة القلب عن علم ما يجرى من‬
‫أحوال الخلق لانشغال الحس بما ورد عليـه مـن تذكر ثواب‬
‫أو عقاب روي أن الربيع بن خيثم كان يذهب إلى ابن‬
‫مسعود رضي الله عنـه فرأى الحديدة المحماة في كير أحد‬
‫الحدادين فغشي عليه ‪،‬فلما أفاق من غيبته " حضر " سئل‬
‫عن ذلك فقال ‪ :‬تذكرت كون أهل النار في النار ‪.‬‬
‫وسبب ترك أبي حفص النيسابورى الحداد حرفته أنه‬
‫سمع أية من القران ‪ ،‬فورد على قلبه وارد غفل فيه عن‬
‫إحساسه فأدخل يده في النار و أخرج الحديدة المحماة دون‬
‫أن يتألم‪ ،‬فلما رأى ما ظهر علية ترك حرفته ‪.‬‬
‫فالغيبة تكون عن الخلق و الحضور بالحق ‪ ،‬لتغلب‬
‫ذكر الله على قلبه(‪ )149‬والسكر هو الإحسـاس بالانبسـاط‬
‫حـال غيبتـه و إن كان سكره مستوفيا لم يشعر بشيء حال‬
‫سكره ‪ ،‬و الصحو هو الإفاقة من السكر الذي كان فيه ‪.‬‬
‫و السكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد ‪0‬‬
‫‪ -13‬المحاضرة و المكاشفة و المشاهدة ‪:‬‬
‫المحاضـرة حضور القلب عن دوام الفكر وتواتر‬
‫البرهان واستيلاء سلطان الذكر‪ ،‬والمكاشفة حضوره بنعت‬
‫البيان بغير افتقار إلى التأمل ودوام الفكر والمشاهدة‬
‫حضور الحق‬
‫من غير بقاء تهمة " شك " والمعنى أن تتوالى أنوار‬
‫التجلي على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو‬
‫قدر تتابع البرق واتصاله في الليلة الظلماء فتصبح كضوء‬
‫النهار فكذلك القلب إذا دام به التجلي فإنه يرى الحق‬
‫من غيرًا شك ‪ .‬لذا قال النوري‪ :‬لا يصح للعبد المشاهدة ما‬
‫دام حي ‪.‬‬
‫‪ )?(148‬مدارج السالكني ‪ :‬ابن القيم‪ ،‬ط املنار‪. 3/312 ،‬‬
‫‪ )?(149‬الرسالة القيشريه‪ ،‬ص‪ ،70 ، 69‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪. 163‬‬
‫‪51‬‬
‫وقال الجنيد صاحب المحاضرة مربوط بآياته ‪ ،‬و‬
‫صاحب المكاشفة مبسوط بصفاته ‪ ،‬وصاحب المشاهدة ملقى‬
‫بذاته‪ ،‬صاحب المحاضرة يهديه عقله ‪ ،‬و صاحب المكاشفة‬
‫يدنيه علمه وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته(‪. )150‬‬
‫وسئـل الشبلـى عـن المشاهـدة فقـال ‪ :‬مـن أيـن‬
‫لنا مشاهدة الحق وإن الحق لنا شاهد(‪ )151‬وقال‬
‫الجرجانى ‪ :‬المحاضرة حضور القلب مـع الحـق في الاستفاضة‬
‫من أسمائه تعالى(‪. )152‬‬
‫ونستطيع أن نجمل ذلك فنقول المحاضرة حضور القلب‬
‫نتيجة الفكر والتأمل‪ ،‬والمكاشفة أن تنكشف له الغيوب‬
‫تفكر ولا تأمل‪،‬‬
‫ًا‬ ‫فتحصل له المعرفة والمعلومات دون‬
‫المشاهدة أن يشاهد العبد الغيوب عيان ‪.‬‬
‫‪ -14‬الشريعة والحقيقة ‪:‬‬
‫الشريعة أمر بالتزام العبودية ‪ ،‬والحقيقة مشاهدة‬
‫الربوبية فكل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبولة‬
‫وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة‪ ،‬فالشريعة‬
‫جاءت بتكليف الخلق‪ ،‬والحقيقة إنباء عن تعريف الحق‪،‬‬
‫فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده‪ ،‬فالشريعة قيام‬
‫بما أمر‪ ،‬والحقيقة شهود لما قضى وقدر‪ ،‬وأخفى وأظهر( )‬
‫‪153‬‬

‫‪.‬‬
‫ويقول الهجويري ‪ :‬الشريعة بدون حقيقة رياء‪،‬‬
‫والحقيقة بدون شريعة نفاق والشريعة مكاسب والحقيقة‬
‫مواهب(‪. )154‬‬
‫يقول أبو على الدقاق‪ " :‬إياك نعبد " حفظ للشريعة‬
‫" وإياك نستعين " إقرار بالحقيقة ويذهب البعض إلى أن‬
‫‪ )?(150‬انظــر ‪ :‬الرســالة القيشــرية ص‪ ، 75‬احلركــة الصــوفية يف اإلســالم ‪ ،‬د‪ .‬حممــد علي أبــو ريــان ‪،‬‬
‫دار املعرفة اجلامعية ‪ ، 1995 ،‬ص‪. 140‬‬
‫‪ )?(151‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪. 48‬‬
‫‪ )?(152‬التعريفات ‪ :‬للجرجاين‪ ،‬ص‪. 205‬‬
‫‪ )?(153‬الرسالة للقشريي‪ ،‬ص‪. 82‬‬
‫‪ )?(154‬كشف احملجوب للهجويري ‪ ،‬ص‪. 627‬‬
‫‪52‬‬
‫الشريعة علوم الظاهر المستمدة من الكتاب والسنة(‪)155‬‬
‫وعلم الحقيقة هو علم الباطن وهو العلم اللدنى المستمد‬
‫تعالىَلُدَّنكعلمْلًمالخضر عليه السلام إذ قال تعالى ‪:‬‬
‫ْن‬ ‫الله‬
‫ُه‬ ‫ْمَن‬
‫من َّل‬
‫َوَع‬
‫ا‪ . )156(‬لذا نجد الصوفية عن طريق‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬
‫ِع‬
‫علم الحقيقـة( ) نسخوا الشريعة بغير حق ‪.‬‬
‫‪157‬‬ ‫ِم‬

‫‪ -15‬الحقيقة المحمدية ‪:‬‬


‫تعني أن النور المحمدي أشرق قبل أن يكون الخلق‪،‬‬
‫ومنه خلق الكون وما حوى ‪ ،‬فهو أول شيء فاض عن الله‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ثم ما زال يظهر ويتسلسل هذا النور في‬
‫محمدَء ‪ ، ‬فكان محمد‬ ‫الأنبياء إلى أن وصل إلى النبي ُب‬
‫خاتم الأنبياء بهذا المعنى ولذا دى به الأمر وختم‪،‬‬
‫وكان محمد ‪ ‬أكمل تجلى خلقي ظهر فيه الحق فهوًا الإنسان‬
‫الكامل الذي حاز خلاصة الكون كله وأصبح مقابل للذات‬
‫الإلهية(‪. )158‬‬
‫علوم الصوفية بني اهلبة واالكتساب ‪:‬‬
‫املراد بالعلوم الوهبيـة هـي العلوم اليت حيصلها اإلنسان بال جهد وذلك‬
‫بتحصيلها مـن اهللَّلتعالـى مباشـرة ‪َّ،‬نوبعضهـم يسميهـا العلـوم اللدنيـة مستدليـن‬
‫ْلًم‬ ‫َوَع ْمَن ُه ْن َلُد‬
‫ا‪. ‬‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫بقوله تعاىل‪ :‬‬
‫ِع‬ ‫ِم‬
‫واملراد بـ ــالعلوم الكسـ ــبية هي الـ ــيت حيصـ ــلها اإلنسـ ــان عن طريـ ــق التعلم والقـ ــراءة‬
‫والكتابة وعن طريق التلقي من املشايخ والعلماء ‪.‬‬
‫والناظر يف كتب الصوفية األوائل والكتب اليت تتحدث عنهم جيد‬
‫كثريًا من األقوال املنسوبة لشيوخهم تبني أن علومهم من قبيل الكسبية املستمدة‬

‫‪ )?(155‬الرسالة للقشريي ‪ ،‬ص‪. 83‬‬


‫‪ )?(156‬سورة الكهف ّاية ‪.، 65‬‬
‫‪ )?(157‬وانظر ‪ ،‬املوسوعة امليسرة يف األديان واملذاهب ‪ ،‬ص‪. 345‬‬
‫‪ )?(158‬انظر ‪ :‬دعوة التوحيد الدرزية ‪ ،‬ص‪. 388‬‬
‫‪53‬‬
‫من الكتاب والسنة فمن أقوال شيوخهم ‪:‬‬
‫قول القشريي‪ " :‬اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على‬
‫أصول صحيحة يف التوحيد ‪ ،‬وصانوا هبا عقائدهم من البدع ودانوا مبا وجدوا‬
‫عليه السلف وأهل السنة " وقال سهل بن عبد اهلل التسرتي رمحه اهلل ‪ " :‬كل‬
‫وجد ال يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل " ‪.‬‬
‫وقال اجلنيد بن حممد ‪ " :‬من مل يقرأ القرآن ويكتب احلديث ال يقتدى‬
‫به يف هذا الشأن ألن علمنا مقيد بالكتاب والسنة‪ " .‬وقال ‪ " :‬الطرق كلها‬
‫مسدودة عن اخللق إال من اقتفى أثر الرسول ‪. )159(" ‬‬
‫وقال أبو محزة البغدادي‪ " :‬ال دليل على الطريق إىل اهلل إال مبتابعة‬
‫الرسول ‪ ‬يف أحواله وأقواله وأفعاله " ‪.‬‬
‫هذه األقوال تدل على ما كان عليه أولئك الشيوخ ومتقدمو الصوفية‬
‫ولكن الذين جاءوا بعدهم ومتأخروهم أدخلوا أمورًا على التصوف ختالف ما‬
‫كان عليه أوائلهم ‪.‬‬
‫وحقيقة " التصوف إميان مث علم مث عمل ‪ ،‬وذلك يكون متقدم على‬
‫علوم الصوفية بالضرورة …… فأما العلم السابق عن العمل فكسيب يأيت من‬
‫جانب اإلنسان وما يبذله يف حتصيله من جهد ويقوم على الدليل والربهان ‪.‬‬
‫أما العلم احلاصل بعده – فهو العلم الوهيب – وهو ما يطلق عليه‬
‫الصوفية اسم (املعرفة) أو العرفان ‪ .‬الذي حتصل فيه املشاهدة والعيان فيتميز أنه‬
‫وهبي من لدن اهلل تعاىل"(‪. )160‬‬
‫وإىل هذه يشري اإلمام أبو حامد الغزايل إىل العلم الكسيب والوهيب‬

‫‪ )?(159‬االســتقامة‪ :‬ابن تيميــة ‪ ،97-1/82‬نق ـًال عن جملــة البحــوث العلميــة واإلفتــاء‪ ،‬الريــاض‪ ،‬عــدد‬
‫‪ ، 41‬سنة ‪1415‬هـ ص‪. 157‬‬
‫‪ )?(160‬دراسات يف التصوف‪ :‬د‪ .‬طه عبد السالم خضري ‪ ،‬د‪ .‬حممد مصطفى‪ ،‬ص‪. 27‬‬
‫‪54‬‬
‫فيقول‪ " :‬أما العلم فهو العلم باألمور الدنيوية واآلخروية واحلقائق العقلية‬
‫…… وهي تتحصل له ‪-‬أي العلوم الكسبية – بالتجارب والفكر ‪ ،‬والناس‬
‫يف هذا مراتب ال حتصى يتفاوت اخللق فيها بكثرة املعلومات وقلتها وبشرف‬
‫املعلومات وخستها وبطريق حتصيلها ‪.‬‬
‫مث يتحدث بعد ذلك عن العلوم الوهبية وهي اليت " حتصل لبعض‬
‫القلوب بإهلام إهلي على سبيل املبادأة واملكاشفة …… وهي درجات ……‬
‫وأقصى الرتب رتبة النيب ‪ ‬الذي تنكشف له كل احلقائق أو أكثرها من غري‬
‫اكتساب وتكلف ‪ ،‬بكشف إهلي يف أسرع وقت(‪ .)161‬ويقول عبد احلليم‬
‫حممود ‪ :‬إن املشاهدة الصوفية ليست ثقافة كسبية وال يتأتى التحدث عن‬
‫مصادرها اخلارجية أيًا كانت هذه املصادر … ألن املعرفة الصوفية استمداد من‬
‫مصدر النور واهلداية(‪. )162‬‬
‫من أق ــوال الص ــوفية يف العلم الوه ــيب واعرتاض ــهم على العل ــوم الكس ــبية ق ــول أبي‬
‫يزيــد البســطامي لعلمــاء عصــره‪ :‬أخــذمت علمكم من علمــاء الرســوم ميتـًا عن ميت‬
‫وأخذنا علمنا عن احلي الذي ال ميوت ‪.‬‬
‫وقد أرسل ابن عريب رسالة إىل الفخر الرازي صاحب التفسري يقول‬
‫فيها‪ :‬اعلم يا أخي وفقنا اهلل وإياك أن الرجل ال يكتمل عندنا يف مقام العلم‬
‫حىت يكون علمه عن اهلل عز وجل بال واسطة من نقل أو شيخ(‪. )163‬‬
‫وإذا كان طريق حتصيل العلوم الشرعية املكتسبة هي الكتاب والسنة‬
‫وتلقي العلوم املتعلقة هبما من العلماء كالتفسري وشروح كتب السنن ‪ ،‬فإن‬

‫‪ )?(161‬إحياء علوم الدين‪ :‬للغزايل‪ ،‬ت ‪505‬هـ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص‪ ، 8‬باختصار دار الفكر بريوت ‪.‬‬
‫‪ )?(162‬حاشية املنقذ من الضالل ‪ :‬للغزايل‪ ،‬ص ‪. 241‬‬
‫‪ )?(163‬الطبقـات الكب ــرى‪ :‬أبــو املواهب عبــد الوهــاب الشــعراين‪ ،‬ط‪ ، 1‬دار الكتب العلميــة‪ ،‬بــريوت‪،‬‬
‫ط‪ ،1418 – 997 ، 1‬ص‪. 11‬‬
‫‪55‬‬
‫طريق حتصيل العلوم الوهبية تكون عن طريق ‪-:‬‬
‫‪ -1‬الكشف‪ :‬ويقول عنه الغزالي‪ :‬هو العلم اليقيين الذي تنكشف فيه العلوم‬
‫انكشافًا ال يبقى معه ريب وال يقارنه إمكان الغلط والوهم وال يتسع‬
‫القلب لتقدير ذلك(‪ )164‬وهو كما سبق تعريفه االطالع على ما وراء‬
‫احلجب من املعاين الغيبية ‪.‬‬
‫‪ -2‬الذوق‪ :‬وهو نور عرفاين يقذفه احلق بتجليه يف قلوب أوليائه ويفرقون به‬
‫بني احلق والباطل من غري أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غريه(‪. )165‬‬
‫‪ -3‬الوجد‪ :‬وهو ما يصادف القلب دون تكلف ‪.‬‬
‫‪ -4‬اإللهام‪ :‬وهو ما يلقى يف الروع بطريق الفيض أو هو ما وقع يف القلب من‬
‫علم(‪. )166‬‬
‫أو هو اإلطالع على أسرار الغيب بعني البصرية يف عامل املثال بال شك‬
‫وال شبهة اطالعًا غيبيًا(‪. )167‬‬
‫‪ -5‬الفراسة‪ :‬وهي معرفة حال اإلنسان عن طريق النظر إليه وذلك بقياس حاله‬
‫على أمثاله من خالل التجربة أو من خالل ما يراه الناظر ‪ ،‬أو من خالل‬
‫ما جيده يف نفسه‪ ،‬أو هي قدرة املؤمن التقي على توسم اخلري أو الشر مبن‬
‫حوله من األشخاص والكائنات ‪ .‬ويستدلون على ذلك باحلديث (اتق‬
‫فراسة املؤمن فإنه ينظر بنور اهلل) (‪. )168‬‬

‫‪ )?(164‬املنقذ من الضالل ‪ :‬للغزايل‪ ،‬ص‪. 90 – 89‬‬


‫‪ )?(165‬التعريفات‪ ،‬ص‪. 104‬‬
‫‪ )?(166‬التعريفات‪ ،‬ص‪. 34‬‬
‫‪ )?(167‬جامع األصول يف األولياء ‪ :‬أمحد الكمشخانوي‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ص‪. 206‬‬
‫‪ )?(168‬أخرجه الطرباين‪ /‬املـعجم الكبري للطرباين ‪ ، 8/102‬رقم الـحديث ‪ ، 7497‬وقال اهليثمي يف‬
‫جممع الزوائد‪ ،‬إسناده حسن ‪. 10/268‬‬
‫‪56‬‬
‫‪ -6‬الرؤى المنامية‪ :‬واستدلوا على ذلك بقوله ‪( ‬رؤيا املؤمن جزء من ستة‬
‫وأربعني جزءًا من النبوة)(‪ )169‬ويف رواية الرؤيا الصاحلة ‪.‬‬
‫وقال رسول اهلل ‪ " : ‬مل يبق من مبشرات النبوة إال الرؤيا الصاحلة‪،‬‬
‫يراها املسلم‪ ،‬أو ُترى له "(‪. )170‬‬
‫وهذه األمور مجيعها عرضة للوقوع يف اخلطأ لذا جيب أن يكون‬
‫الفاصل يف ذلك هو الكتاب والسنة ‪ ،‬ألن كل علم حيصل لإلنسان من غري‬
‫طريقهما قد يكون من قبيل الضالل والباطل واألحوال الشيطانية واألوهام‬
‫والتخيالت ‪.‬‬
‫ولقد دخل للتصوف كثري من البدع والضالالت بسبب الكشف‬
‫والرؤية واإلهلام ……‬

‫المبحث الرابع‬
‫أقسام التصوف‬
‫لقد قسم شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل التصوف إىل قسمني‪ :‬وكل‬
‫قسم ينقسم إىل ثالثة أقسام‪ ،‬حيث جعل القسم األول منها بالنظر إىل جهة‬
‫العمل ثالثة أقسام ‪ ،‬وبالنظر إىل جهة االعتقاد ثالثة أخرى ‪.‬‬

‫‪ )?(169‬أخرجــه البخ ــاري عن عب ــادة بن الصــامت‪ ،‬كت ــاب التعب ــري‪ ،‬ب ــاب الرؤي ــا الصــاحلة رقم احلديث‬
‫‪ ،6987‬فتح الباري ‪. 12/373‬‬
‫‪ )?(170‬أخرجه مسلم‪ ،‬كتاب الصـالة ‪ ،‬بـاب النهي عن قـراءة القـرآن يف الركـوع والسـجود‪ ،‬حـديث‬
‫رقم ‪. 1/348 ، 479‬‬
‫‪57‬‬
‫فالثالثة األولى منها كما يلي(‪-: )171‬‬
‫‪ -1‬صوفية الحقائق‪ :‬والتصوف عندهم عبارة عن حقائق وأحوال وحدود‬
‫وسرية‪ ،‬ومن لوازم التصوف عندهم صفاء الباطن والظاهر ‪ ،‬وصفاء‬
‫الباطن بالبعد عن األمراض القلبية ‪ ،‬كالبغض واحلقد واحلسد ……‬
‫وصفاء الظاهر بكثرة العبادات والنوافل والبعد عن امللذات والشهوات ‪.‬‬
‫وهم أفضل الناس بعد األنبياء ‪ ،‬وذلك حلرصهم على متابعة الرسول ‪‬‬
‫وهم درجات ومقامات حبسب عبادهتم والتزامهم ‪.‬‬
‫‪ -2‬صوفية األرزاق‪ :‬وهم الذين تركوا السعي على الرزق وكسب املعاش‬
‫واكتفوا مبا جيود به الناس عليهم من الصدقات ‪ ،‬وعليهم توقف األوقاف‬
‫اخلريية ‪ ،‬وتبىن هلم التكايا ‪ ،‬وبعضهم يعزف عن الزواج ‪ ،‬وهم حريصون‬
‫على الزهد والعبادة وتظهر عليهم الذلة واملسكنة خبالف أرباب صوفية‬
‫احلقائق الذين يكسبون أرزاقهم بالعمل والسعي وراء الرزق ‪.‬‬
‫‪ -3‬صوفية الرسم‪ :‬وهم قوم اقتصروا على االنتساب إىل الصوفية ‪ ،‬وتزيوا‬
‫بزي الصوفية ‪ ،‬وحرصوا على لبس املرقعات ‪ ،‬وهم ال يلتزمون بطريقة‬
‫صوفية وال يتابعون شيوخهم ‪ ،‬وال حيرصون على العبادات وال يزهدون‬
‫يف الدنيا كسابقيهم ‪.‬‬
‫والناظر إليهم يظنهم زهادًا ‪ ،‬ومن تعامل معهم ونظر إىل أعماهلم ‪،‬‬
‫وجدهم ليسوا من التصوف يف شيء ‪.‬‬
‫وأما الثالثة األخرى ‪ " ،‬أي من جهة االعتقاد " فهم كما‬
‫يلي(‪: )172‬‬
‫‪ -1‬السلفية ‪ :‬وهم الزهاد الذين آمنوا مبا آمن به السلف وساروا على هنجهم‬
‫‪ )?(171‬انظر ‪ :‬الصوفية والفقراء ‪ :‬البن تيمية‪ ،‬ص‪. 24،25‬‬
‫‪ )?(172‬انظر ‪ :‬االستقامة ‪ :‬البن تيمية‪. 88-1/82 ،‬‬
‫‪58‬‬
‫‪ .‬حيث قال عنهم ابن تيمية رمحه اهلل ‪ :‬والثابت الصحيح عن أكابر‬
‫املشايخ يوافق ما كان عليه السلف وقد نقل عن كثري منهم باألسانيد‬
‫املتصلة ما يدل على متسكهم بالكتاب والسنة وعقيدة السلف وهم أمثال‬
‫اجلنيد بن حممد والفضيل بن عياض وسهل بن عبد اهلل التسرتي وأبو‬
‫سليمان الداراين وغريهم كثري ‪.‬‬
‫‪ -2‬األشعرية‪ :‬ويقصد هبم الذين سلكوا طريق أبي احلسن األشعري من مشايخ‬
‫الصوفية القائلني بأن اهلل يتكلم بال حرف وال صوت والذين يؤولون‬
‫الصفات اخلربية ‪ ،‬مع أن بعضًا من مشايخ الصوفية كانوا ينكرون على من‬
‫اتبع طريقة الكّالبية واألشاعرة ‪ ،‬حيث نقل عن القشريي قوله‪ :‬فإن هؤالء‬
‫املشايخ مثل أيب العباس القصاب له من التصانيف املشهورة يف السنة‬
‫وخمالفة طريقة الكالبية واألشعرية ما ليس هذا موضعه ‪ ،‬وكذلك سائر‬
‫شيوخ املسلمني من املتقدمني واملتأخرين ‪ ،‬الذين هلم لسان صدق يف األمة‬
‫‪.‬‬
‫‪ -3‬الحلولية واالتحادية‪ :‬وهم الذين يقولون باحللول واالحتـاد حبيث تكون‬
‫أحد الذاتني وعاًء لألخرى ‪ ،‬وحقيقة مذهبهم أن وجود الكائنات هو عني‬
‫وجود اهلل تعاىل ‪ ،‬وليس وجودها غريه‪ ،‬وال شيء سواه ‪ ،‬ويقصدون أن‬
‫األول هو وجود احلق " احلال " والثاين وجود املخلوق " احملل " ‪ .‬وأمثال‬
‫واحلالج ‪ ،‬وابن سبعني ‪.‬‬
‫َّ‬ ‫هؤالء حمي الدين بن عريب ‪،‬‬
‫وهؤالء القوم يقرب قوهلم من قول اجلهمية الذين يقولون إن اهلل يف‬
‫كل مكان ‪.‬‬
‫ولكين رأيت أن أقسم التصوف إىل ثالثة أقسام بالنظر إىل أعماهلم‬
‫وعقائدهم وسلوكهم خالل التاريخ ‪ ،‬والتقسيم الذي ذهبت إليه دجمت فيه‬
‫مجيع األقسام املتقدمة اليت ذهب إليها شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل تعاىل‬
‫‪59‬‬
‫واألقسام الثالثة هي ‪-:‬‬
‫‪ -1‬التصوف السني‪ :‬ويدخل فيه صوفية احلقائق وصوفية األرزاق والصوفية‬
‫السلفية واألشعرية ألن األشاعرة من أهل السنة وقد أكد ذلك ابن تيمية‬
‫يف أكثر من موضع يف الفتاوي الكربى مع مآخذه على الصوفية‬
‫واألشاعرة ورده على أخطائهم ‪.‬‬
‫‪ -2‬التصوف البدعي‪ :‬ويدخل فيه كثري من صوفية األرزاق وصوفية الرسم ‪،‬‬
‫وكثري من أصحاب الطرق والقبوريني ‪.‬‬
‫‪ -3‬التصوف الفلسفي‪ :‬ويدخل فيه القائلون بوحدة الوجود واحللولية‬
‫واالحتادية ‪.‬‬
‫وقــد يكــون تســمية التصــوف (التصــوف الســين) مثــريًا للجــدل وقــد يعــرتض عليــه‬
‫بعض أهــل العلم اعرتاضــات تــدل على عــدم الرضـا ولكــني اســتمزجته واســتنبطته‬
‫من تقسيمات شيخ اإلسالم ابن تيمية رمحه اهلل ‪.‬‬
‫أوًال‪ :‬التصوف السين ‪:‬‬
‫واملراد هبذا النوع من التصوف هو ما كان قرين الزهد والتقلل من‬
‫متاع الدنيا وملذاهتا وهو امتداد ملا كان عليه رسول اهلل ‪ ‬وأصحابه رضي اهلل‬
‫عنهم‪ ،‬وإن كان هذا الزهد مل يعرف باسم التصوف إال يف أواخر القرن الثاين‬
‫اهلجري فإن أصله ومعناه وحقيقته‬
‫كثري‬
‫كان معروفًا يف زمن رسول اهلل ‪ ، ‬وقد ُّيحث علىَّن ذلك َّنالقرآن الكرميَّل يف ٌّق‬
‫َح‬ ‫َوْعَد‬ ‫ُس‬ ‫َي َأ َه‬
‫ال‬ ‫َّل‬ ‫تعاىل‪  :‬ا ا ال‬
‫َّرَّن ا‬ ‫الكتاب احلكيم قال ُّد‬ ‫من أي َّرَّن‬
‫ِه‬
‫ُر‬ ‫ْلَغُر‬ ‫ِإ‬ ‫ُكْم‬ ‫َيُغ‬ ‫َوَل‬ ‫ْنَي‬ ‫ُة‬ ‫ْلَحَي‬ ‫ُكْم‬ ‫َفَل َتُغ‬
‫ال ا و ‪)173(‬‬ ‫ا ا ال ا ا‬ ‫ا‬
‫ِب ِه‬
‫َّل‬ ‫ُّد‬ ‫‪.‬‬
‫َلْهٌو َوَل ٌب‬ ‫ْنَي‬ ‫ْلَحَي ُة‬ ‫َوَم َه‬
‫ا ا ال ا ا‬ ‫وقال تعاىل‪  :‬ا‬
‫ِع‬ ‫ِإ‬ ‫ِذِه‬
‫‪ )?(173‬فاطر ‪ :‬آية ‪. 5‬‬
‫‪60‬‬
‫َّن َّد‬
‫َن‬ ‫َيْعَلُم‬ ‫ُن‬ ‫َك‬ ‫َلْو‬ ‫ُن‬ ‫ْلَحَيَو‬ ‫َي‬ ‫َل‬ ‫َرَة‬ ‫ْل‬ ‫َر‬ ‫َو‬
‫و ‪. )174(‬‬ ‫ا وا‬ ‫ا ا‬ ‫ال ا ا آ‬
‫ِه‬ ‫ِخ‬ ‫ِإ‬
‫وكذلك كثر ذكر الزهد يف كتب احلديث والسنن وكثرت أبوابه‪،‬‬
‫والناظر فيها جيدها قد اشتملت على أبواب كثرية مثل باب الزهد يف الدنيا ‪،‬‬
‫باب فضل اجلوع ‪ ،‬باب القناعة والعفاف‪ ،‬باب فضل البكاء من خشية اهلل‬
‫…… والناظر يف هذه الكتب جيد كثريًا من األحاديث واآلثار الواردة يف‬
‫الزهد ومن ذلك قوله ‪ " ‬ما الدنيا يف اآلخرة إال مثل ما جيعل أحدكم أصبعه‬
‫يف اليم فلينظر مبا يرجع(‪ )175‬وقوله ‪ " ‬كن يف الدنيا كأنك غريب أو عابر‬
‫سبيل وكان ابن عمر رضي اهلل عنهما يقول‪ " :‬إذا أمسيت فال تنتظر الصباح‬
‫وإذا أصبحت فال تنتظر املساء وخذ من صحتك ملرضك ومن حياتك ملوتك‬
‫"(‪. )176‬‬
‫لذا مل يكن مستغربًا أن يزهد أصحاب حممد ‪ ‬ورضي اهلل عنهم يف‬
‫دنياهم‪ ،‬وال تابعوهم والسلف الصاحلني ‪.‬‬
‫ومل يكن الزهد عن قلة املال وإمنا الزاهد هو من جاءه املال فزهد فيه‬
‫وأنفقه ومل جيعله كل مهه ‪.‬‬
‫مصادر التصوف السني ‪:‬‬
‫‪ -1‬القرآن الكريم ‪:‬‬
‫والقرآن الكرمي هو األساس الذي يستمد منه كل علم شرعي شرعيته‪،‬‬
‫وعليه يعتمد أهـل احلـق فـي التمسك حبقهم‪ .‬كما أن القرآن الكرمي هو الكتاب‬

‫‪ )?(174‬العنكبوت ‪ :‬آية ‪. 64‬‬


‫‪ )?(175‬أخرج ــه مس ــلم ‪ .‬كت ــاب اجلن ــة وص ــفة نعيمه ــا‪ ،‬ب ــاب فن ــاء ال ــدنيا ‪ ،‬ح ــديث رقم ‪، 2858‬‬
‫‪. 4/2139‬‬
‫‪ )?(176‬أخرجه البخاري ‪ .‬عن ابن عمر رضي اهلل عنه‪ ،‬كتـاب الرقـاق‪ ،‬بـاب قـول النـيب كن يف الـدنيا‬
‫كأنك غريب‪ ،‬حديث رقم ‪ ،6416‬فتح الباري ‪. 11/233‬‬
‫‪61‬‬
‫ْلَيْوَم َأْكَمْلُت َلُكْم َنُكْم‬
‫ي‬ ‫اخلامت وهو الكامل الشامل كما قال تعالـى ‪ :‬ا‬
‫ْس َم ًن ‪ِ 177‬د‬ ‫َوَأْتَمْمُت َعَلْيُكْم ْعَم َوَر ُت َلُكْم‬
‫الإ لا ي ا‪. ) ( ‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ِد‬ ‫ِض‬ ‫ِن ِت‬

‫لذلك مل يهمل القرآنَّنالدعوة إىل الزهد والتقلل ُّدمن متاع احلياة الدنيا‬
‫ْنَي َكَم‬ ‫َم َمَثُل ْلَحَي‬
‫ا ا ال َّما ا‬ ‫اليت يضرب هلا مثًال َّسبقوله ‪  :‬ا‬
‫َيْأُكُل‬
‫ا َّزَّي ٍء َّن‬ ‫َأْر‬ ‫ِة‬ ‫ُت‬ ‫َنَب‬ ‫ْخَتَلَط‬
‫َم َّت ِإ‬ ‫َأْنَزْلَن ُه ْن‬
‫ُزْخُرَفَه ِم َو َنْت َوَظ‬ ‫ال‬ ‫ا‬
‫َأْرُض‬ ‫َأَخَذْت‬ ‫َذ‬ ‫فا‬ ‫ا‬
‫َح‬ ‫ُم‬‫ال‬
‫َأْنَع‬ ‫َو‬ ‫َّن ُسا‬
‫ِض‬ ‫ِبِه‬ ‫الُهْم َقا ُر ِءَنى‬ ‫ال ا َّنِم‬
‫َعَلْيَها َأَت َه الَأْمُرَن َلْي ًاا َأْوا َنَه ًر‬ ‫َأْهُلَه َأ‬
‫َكَذ َك لُنَف ُل َآَيا ا‬ ‫َفَجَعْلَنا َه َح ًدا وَكَأْن ِإَلْم اَتْغَن ا ا َأْم ا‬
‫ال ا‬ ‫ال‬ ‫ا ا َّك ي اِد‬
‫ِت‬ ‫ِّص‬ ‫ِب ِس ِل‬ ‫َقْو َيَتَف ُرِصَن‬
‫ُّد‬ ‫و ‪. )178( ‬‬
‫ْنَي َكَم‬ ‫َو ْض ْب َلُهْم َمَثَل ْلَحَي‬ ‫ِل ٍم‬
‫ا ا ال ا ا‬ ‫وقال أيضًاَّس‪  :‬ا‬
‫َنَب ُت َأْرِة َفَأْصَبَح َه ًمٍء‬ ‫ْخَتَلَط‬
‫َم َف َّلِر‬ ‫َأ َزْلَن ُه ْن‬
‫ْلَم يُل ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬
‫ُهُّد َعَلِبِه ُك َشْي ُمْقَتِض ًر‬ ‫ا‬ ‫َتْذُر ُها ِمَي ُح َوَك ِءَن‬
‫ا‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ِش‬
‫ا َح* ُتا ا‬ ‫َّص‬
‫َخْيٌر ْنَد‬ ‫ِد‬ ‫ْلَحَي ال ْنَي ى َو ِّلْلَب ٍءَي ُت‬ ‫ْلَبُن َنال اَنُة ا‬
‫ِّر‬
‫َو و‬
‫ا و ي ا ا ال ا ا ا ا ال ا ا‬
‫ِع‬ ‫ِل‬ ‫ِق‬ ‫َر َك َثَو ًبِز َوَخْيٌر َأَم ِةًا‬
‫ل ‪. )179( ‬‬ ‫اا‬
‫ِّب‬
‫‪ -2‬السنة النبوية ‪:‬‬
‫واملصدر الثاين من مصادر هذا الدين هو السنة النبوية ‪ ،‬لذا فإن الناظر‬
‫يف كتب السنن وىف مشائل النيب ‪ ‬جيدها مليئة بالدعوة إىل الزهد واليك بعض‬
‫املختارات من بستان النبوة الذي يعج وحيفل بوصف الدنيا ودنوها لطالبيها‬
‫وأهنا مزرعة اآلخرة وال تغىن عن اآلخرة شيئًا ‪.‬‬
‫قال ‪ " : ‬إن الدنيا حلوة خضرة‪ ،‬وان اهلل مستخلفكم فيها فينظر‬

‫‪ )?(177‬املائدة ‪ :‬آية ‪. 3‬‬


‫‪ )?(178‬يونس ‪ :‬اآلية ‪. 24‬‬
‫‪ )?(179‬الكهف ‪ :‬اآلية ‪. 46-45‬‬
‫‪62‬‬
‫كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بين إسرائيل كانت يف‬
‫النساء "(‪. )180‬‬
‫وقال‪ :‬فواهلل ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط الدنيا‬
‫عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما‬
‫أهلكتهم " (‪)181‬‬
‫وقال مبينًا تعاسة من متسك هبا وشغل نفسه هبا ‪" 0‬تعس عبد الدينار‬
‫والدرهم والقطيفة واخلميصة إن أعطي رضي وان مل يعط مل يرض " (‪. )182‬‬
‫و قال‪ " :‬لو كانت الدنيا تعدل عند اهلل جناح بعوضة ما سقى كافرًا‬
‫منها شربة ماء " (‪.)183‬‬
‫وكان يقول ‪ :‬آال إن الدنيا ملعونة ‪ ،‬ملعون ما فيها ‪ ،‬إال ذكر اهلل‬
‫تعاىل وما وااله وعامل ومتعلم(‪. )184‬‬
‫ولقد كان حممد ‪ ‬أزهد الناس يف الدنيا ‪ ،‬كيف ال وقد كانت تأتيه‬
‫مرغمة فريدها إىل من هو دونه وينفقها‪ ،‬وقد قال ‪ :‬لو كان يل مثل أحد ذهبًا‬

‫‪ )?(180‬أخرج ــه مس ــلم ‪ .‬عن أيب س ــعيد اخلدري‪ ،‬كت ــاب ال ــذكر وال ــدعاء‪ ،‬ب ــاب أك ــثر أه ــل اجلن ــة‬
‫الفقراء‪ ،‬حديث رقم ‪. 4/2098 ،2742‬‬
‫‪ )?(181‬أخرجـه البخاري‪ .‬كتـاب اجلزيـة‪ ،‬بـاب اجلزيـة واملوادعـة ‪ ،‬حديـث رقم ‪ ،3158‬فتح البـاري‬
‫‪. 258 ،6/257‬‬
‫‪ )?(182‬أخرجه البخاري ‪ .‬كتاب اجلهاد والسري‪ ،‬باب احلراسة يف الغزو ‪ ،‬حــديث رقم ‪ ،2887‬فتح‬
‫الباري ‪.6/8‬‬
‫‪ )?(183‬أخرج ــه احلاكم يف املس ــتدرك على الص ــحيحني يف كت ــاب الرق ــاق‪ ،‬وق ــال ص ــحيح اإلس ــناد‪،‬‬
‫‪ ،342-4/341‬رقم احلديث ‪. 7847‬‬
‫‪ )?(184‬أخرجــه الرتمــذي وقــال حــديث حســن غــريب‪ ،‬كتــاب الزهــد‪ ،‬بــاب مــا جــاء يف هــوان الــدنيا‪،‬‬
‫حديث رقم ‪. 4/561 ،232‬‬
‫‪63‬‬
‫لسرين أن ال متر على ثالث ليال وعندي منه شيء أرصده لدين(‪. )185‬‬
‫ويقـول النعمـان بـن بشيـر رضي اهلل عنه يصـف حـال النبـي ‪ ‬كمـا‬
‫ذكـر ذلك عنه قال ‪ :‬لقد رأيت نبيكم ‪ ، ‬وما جيد من الدقل " ( رديء التمر)‬
‫"ما ميأل به بطنه "(‪. )186‬‬
‫وىف حديث عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه أن رسول اهلل ‪ ‬نام‬
‫على حصري فأثـرّ فـي جنبـه فقـال له أصحابه رضى اهلل عنهم‪ :‬يا رسول اهلل لو‬
‫وطاء‪ .‬فقـال ‪ " :‬مالـي وللدنيـا ؟ مـا أنـا فـي الدنيـا إّال كراكب استظل‬
‫اختذنا لك ً‬
‫حتت شجرة مث راح وتركها " (‪ )187‬وعن عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ " :‬ما‬
‫شبع آل حممد ‪ ‬منذ قدم املدينة من طعام الرب ثالث لياٍل حىت قبض ‪ .‬ويف‬
‫رواية أخرى " ما شبع آل حممد ‪ ‬من خبز شعري يومني متتابعني حىت قبض "‬
‫(‪.)188‬‬
‫وما ترك رسول اهلل ‪ ‬عند موته دينارًا وال درمهًا ‪ ،‬وال عبدًا وال أمًة‬
‫وال شيئًا إال بغلته البيضاء اليت كان يركبها وسالحه ‪ ،‬وأرضًا جعلها البن‬
‫السبيل صدقة " (‪. )189‬‬
‫َلَقْد َك َن َلُكْم‬
‫ا‬ ‫هذا هو رسول اهلل ‪ ‬الذي أمرنا أن نتأسى به ونقتفي أثره ‪‬‬

‫‪ )?(185‬أخرجــه البخــاري يف كتــاب الرقــاق‪ ،‬بــاب قــول النــيب‪ ،‬مــا ُأحب أن يل مثــل أحــد ذهب ـًا‪ ،‬رقم‬
‫احلديث ‪. 4/228 ،6445‬‬
‫‪ )?(186‬أخرجه مسلم ‪ .‬كتاب الزهد والرقاق‪ ،‬حديث رقم ‪. 4/2284 ،2977‬‬
‫‪ )?(187‬أخرج ــه الرتم ــذي وق ــال حس ــن ص ــحيح ‪ .‬كت ــاب الزه ــد‪ ،‬ب ــاب م ــا ج ــاء يف أخ ــذ املال حبق ــه‪،‬‬
‫حديث رقم ‪. 589-4/588 ،2377‬‬
‫‪ )?(188‬أخرجه مسلم‪ ،‬كتاب الزهد والرقاق‪ ،‬حديث رقم ‪. 4/2281 ،2970‬‬
‫‪ )?(189‬أخرجه البخاري ‪ .‬كتاب الوصايا‪ ،‬باب الوصـايا‪ ،‬حـديث رقم ‪ ،2739‬البخـاري مـع الفتح‬
‫‪. 5/356‬‬
‫‪64‬‬
‫َّل‬
‫ْل‬ ‫ْلَيْوَم‬ ‫َو‬ ‫َه‬ ‫ْم ُأْسَوٌة َحَسَنٌة َمْن َك َن َيْرُج‬
‫ا آ ر‪. )190(‬‬ ‫ا‬ ‫و ال‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫ِخ‬ ‫ِل‬ ‫ِف ِه‬
‫‪ -3‬آثار الصحابة والتابعين ‪:‬‬
‫عند الرجوع إىل أحوال الصحابة رضي اهلل عنهم والتابعني نرى فيهم‬
‫التأسي برسول اهلل ‪ ‬برتك متاع الدنيا وزخرفها ‪.‬‬
‫فهذا أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه حني وَّيل اخلالفة دفع كل ما له‬
‫يف بيت مال املسلمني‪ ،‬فلما سئل عن ذلك قال‪ :‬كنت أجتر فيه فلما وليتموين‬
‫شغلتوين عن التجارة(‪ )191‬وحني وَّيل اخلالفة خرج إىل السوق ليعمل فقال له‬
‫الصحابة رضي اهلل عنهم‪ :‬نفرض لك ففرضوا له قوت رجل من املهاجرين ليس‬
‫بأفضلهم وال بأوكسهم‪ ،‬فكان له برداه للصيف والشتاء إن أخلقهما " أي َقِدَم ا‬
‫" وضعهما وأخذ مثلهما وظهره إذا سافر ‪ ،‬ونفقته على أهله كما كان ينفق‬
‫عليهما قبل أن ُيستخلف‪ ،‬فقال أبو بكر رضي اهلل عنه قد رضيت(‪. )192‬‬
‫وكان عمر رضي اهلل عنه على درب رسول اهلل ‪ ‬وصاحبه أيب بكر‬
‫رضي اهلل عنه فحني فتحت عليه الدنيا كلمتاه عائشة وحفصة رضي اهلل عنهما‬
‫يف تغيري جبته اليت كانت فيها اثنتا عشرة رقعة ويقدم له طعام يأكل منه‬
‫وأضيافة‪ ،‬فأبا وقال إن له أسوة بصاحبيه فال جيمع بني ُأدمني إال امللح والزيت‪،‬‬
‫وال أكل حلمًا إال يف كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم(‪ )193‬وملا قدم له ما‬
‫ْذَهْبُتْم َط َب ُكْم‬
‫ي‬ ‫ا‬ ‫بعسل فقال‪ :‬إنه لطِّيب وقال‪  :‬أَ‬ ‫ء قد شيب ُّد‬
‫ِّي ِت ِف‬ ‫َه‬ ‫ْسَتْمَتْعُتْم‬ ‫َو‬ ‫ْنَي‬ ‫َحَي ُكُم‬
‫ا ‪ . )194(‬فأخاف أن تكون حسناتنا‬ ‫ال ا ا‬ ‫ا‬
‫ِب‬ ‫ِت‬

‫‪ )?(190‬املمتحنة ‪ :‬آية ‪. 6‬‬


‫‪ )?(191‬كنز العمال ‪. 3/132‬‬
‫‪ )?(192‬السابق‪. 3/130 ،‬‬
‫‪ )?(193‬منتخب كنز العمال ‪. 4/408‬‬
‫‪ )?(194‬األحقاف ‪ :‬آية ‪. 20‬‬
‫‪65‬‬
‫عجلت لنا فلم يشربه "(‪. )195‬‬
‫ويف البداية والنهاية البن كثري أن علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه‬
‫خرج بسيفه إىل السوق وقال‪ :‬من يشرتي مين سيفي هذا فلو كان عندي أربعة‬
‫دراهم أشرتي هبا إزارًا ما بعته(‪. )196‬‬
‫ورضي اهلل عن أيب الدرداء إذ يقول‪ :‬والذي نفس أيب الدرداء بيده ما‬
‫أحب أن يل اليوم حانوتًا على باب املسجد ‪ ،‬ال خيطئين فيه صالة ‪ ،‬أربح فيه‬
‫كل يوم أربعني دينارًا وأتصدق هبا كلها يف سبيل اهلل ‪ .‬قيل له‪ :‬يا أبا الدرداء‬
‫وما تكره يف ذلك؟ قال‪ :‬شدة احلساب(‪. )197‬‬
‫واملتبع لقصص الصحابة يف احللية ‪ ،‬وكنز العمال ‪ ،‬والبداية والنهاية ‪،‬‬
‫وكتب السنن جيد الشيء الكثري من ذلك وكذلك قصص التابعني ‪.‬‬
‫من أعالم التصوف السين ‪-:‬‬
‫‪ -1‬إبراهيم بن أدهم(‪ )198‬بن منصور البلخي التميمي كنيته أبو اسحق‪ ،‬كان‬
‫أبوه من ملوك * خراسان وكان موسرًا ‪ ،‬وعاش مرتفًا منعمًا ‪ ،‬وقد خرج‬
‫إبراهيم بن أدهم رمحة اهلل عليه للصيد فسمع صوتًا يناديه فالتفت إليه فلم‬
‫ير شيئًا وتكرر ذلك معه ‪ ،‬مث قال له املنادى‪ :‬ما هلذا خلقت وال بذا أمرت‬
‫فعزم أن ال يعصي اهلل تعاىل بعد ذلك ورجع إىل بيته فرتك فرسه وعمد إىل‬
‫أحد رعاة أبيه فأخذ منه جبًة وكساًء وختل عن ثيابه وترك املتع ‪.‬‬

‫‪ )?(195‬حياة الصحابة‪. 2/269 ،‬‬


‫‪ )?(196‬البدآية والنهآية ‪ :‬البن كثري‪. 8/3 ،‬‬
‫‪ )?(197‬كنز العمال‪ ،‬حديث رقم ‪. 727-3/726 ،8588‬‬
‫‪ )?(198‬األعالم ‪ :‬للزركلى ‪ ،1/31‬حلية األولياء ‪ ، 7/367‬فوات الوفيات ‪. 1/3‬‬
‫* حبث بعض املستش ــرقني فلم جيد ملك ـًا يف بلخ إمسه أدهم فش ــكك في ــه ‪ .‬ب ــل نفى أن يك ــون هن ــاك‬
‫متصوف مسلم يدعى إبراهيم بن أدهم بل زعم أن قصته ملفقة على قصـة بــوذا‪ ،‬ولعـل املراد أن أبــوه‬
‫من ملوك خراسان‪ ،‬أي من امللوك واملوسرين هبا ‪ .‬انظر ‪ :‬املوسوعة الصوفية‪ ،‬ص‪. 16‬‬
‫‪66‬‬
‫خرج إىل العراق واىل الشام طلبًا للعمل وللرزق احلالل وجتول فيها‬
‫وكان يأكل مـن عمل يده ‪ ،‬كان يعمل باحلصاد وجني الثمار وحفظ البساتني‬
‫واحلمل والطحن ‪ ،‬وكان إذا أهنـى عملـه قبـل أن ينـام ينادي يف الناس من يريد‬
‫أن يطحن ؟ فيأتيه الناس فيطحن هلم بال كراء ‪.‬‬
‫أخذ عن كثري من علماء العراق واحلجاز ‪ ،‬وكان قد تفقه ‪ ،‬وكان‬
‫يشرتك مع الغزاة يف قتال الروم ‪ 0‬وكان يتكلم الفصحة وال يلحن يف العربية ‪،‬‬
‫وكان إذا وقف سفيان الثوري يف جملسه يعظ أوجز خمافة الزلل‪.‬‬
‫كان يلبس يف الشتاء فروًا ال قميص حتته‪ ،‬وىف الصيف ال يتعمم وال‬
‫حيتذي‪ ،‬وكان يصوم يف السفر واإلقامة ‪.‬‬
‫وملـا سئل كم لك يف الشام ؟ قال‪ :‬أربعة وعشرون عامًا ‪ ،‬وملا سئل ما جاء‬
‫بك إليها قال ‪ :‬ألشبع من خبز احلالل ‪0‬‬
‫عمل يف أحد البساتني سنني ‪ ،‬فجاءه صاحب البستان وطلب منه‬
‫رمانًا حلوًا فجاءه به فوجده حامضًا فقال له ‪ :‬تأكل فاكهتنا سنني وال متيز‬
‫احللو من احلامض ‪ .‬فأقسم أنه ما أكل فاكهتهم وال مييز احللو من احلامض ‪0‬‬
‫وجاءه عبد ألبيه حيمل له عشرة آالف درهم ‪ ،‬وخيربه أن أباه قد مات‬
‫يف بلخ وخلف له ماًال كثريًا‪ ،‬فاعتق العبد ووهبه الدراهم ومل يعبأ مبال أبيه‪0‬‬
‫هذا هو إبراهيم بن أدهم الذي ترك الدنيا ومتاعها طلبًا لبحبوحة اجلنة وقد‬
‫ت ـ ــوىف رمحه اهلل س ـ ــنه ‪161‬ه ـ ـ ـ –‪ 778‬م ‪ 0‬وأخب ـ ــاره كث ـ ــرية وفيه ـ ــا اختالف يف‬
‫مسكنه ونسبته ووفاته ‪.‬‬
‫‪ -2‬عبد اهلل بن المبارك(‪: )199‬‬
‫هو عبد اهلل بن املبارك بن واضح احلنظلي بالوالء التميمي املروزي ‪ ،‬يكىن‬
‫بأيب عبد الرمحن وهو شيخ اإلسالم ‪ ،‬كان من الربانيني يف العلم املوصوفني‬
‫‪ )?(199‬اإلعالم للزركلى ‪ ، 4/115‬احللية ‪ ، 171 - 162 /8‬تاريخ بغداد ‪. 159-152 /10‬‬
‫‪67‬‬
‫باحلفظ املذكورين بالزهد وقد مجع احلديث والفقه والعربية ‪ ،‬وأيام الناس‬
‫والشجاعة والتجارة‪ ،‬واحملبة عند الفرق‪ ،‬كان من سكان خراسان ولد سنة‬
‫‪ 118‬هـ‪ ،‬مسع سفيان الثوري وشعبه واألوزاعي والليث بن سعد‪ ،‬أفىن عمره يف‬
‫األسفار حاجًا وتاجرًا وجماهدًا ‪ ،‬كان سخيًا ‪ ،‬وكان يقضي الدين عن املدينني‪،‬‬
‫ويسعى يف فك احملبوس‪ ،‬له كتاب يف اجلهاد وهو أول من صنف فيه ‪.‬‬
‫مات هبيت على الفرات منصرفًا من غزو الروم سنة ‪181‬هـ ‪.‬‬
‫قال األوزاعى ‪ :‬لو رأيت ابن املبارك لقرت عينك ‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري ‪ :‬لو جهدت جهدي أن أكون يف السنة ثالثة أيام‬
‫على ما عليه ابن املبارك مل أقدر ‪.‬‬
‫قال ابن املبارك ‪ :‬زيادة دنياكم بنقصان آخرتكم ‪ ،‬وزيادة آخرتكم بنقصان‬
‫دنياكم ‪ .‬وكان يقول‪ :‬أحب الصاحلني ولست منهم ‪ ،‬وأبغض الطاحلني وأنا شٌر‬
‫منهم ‪.‬‬
‫من منطق في‬ ‫وقال ‪ :‬الصمت أزين للفتـى‬
‫غيـر حينه‬
‫في القول‬ ‫والصدق أجمل بالفتى‬
‫عندي من يمينه‬
‫وسئل ابن املبارك َمْن الناس ؟ قال العلماء‪ :‬فمن امللوك ؟ قال‪ :‬الزهاد‬
‫‪ .‬فمن سفلة الناس ؟ قال‪ :‬الذين يعيشون بدينهم ‪.‬‬
‫‪ -3‬الفضيل بن عياض(‪: )200‬‬
‫الفضيل بن عياض التميمي من بين يربوع ولد خبراسان ‪ ،‬قدم الكوفة‬
‫وهو كبري كان ثقة ثبتًا فاضًال عابدًا ورعًا ‪ ،‬وكان من شدة اخلوف حنيفًا ‪.‬‬
‫‪ )?(200‬الطبقــات الكــربى ‪ ،5/500‬رقم الرتمجة ‪ ، 1249‬حليــة األوليــاء‪ ،‬املكتبــة الســلفية ‪-8/84‬‬
‫‪ ، 139‬تذكرة احلفاظ ‪ ،1/245‬رقم الرتمجة ‪. 232‬‬
‫‪68‬‬
‫كان كثري احلديث ومسع احلديث من منصور بن املعتمــر وغــريه ‪ ،‬وروى عنــه ابن‬
‫املبارك والشافعي وبشر احلايف وغـريهم ‪ .‬مث تعبـد وانتقـل إىل مكـة وكـان ال يقبـل‬
‫هدايا الدولة‪.‬‬
‫وتوىف مبكة املكرمة سنة ‪187‬هـ يف خالفة هارون الرشيد وكان ذلك‬
‫يوم عاشوراء‪ ،‬وقد نيف على الثمانني عامًا ‪ .‬قال هارون الرشيد ‪ :‬ما رأيت يف‬
‫العلماء أهيب من مالك وال أورع من الفضيل ‪ .‬وقال إبراهيم بـن األشعت ‪:‬‬
‫كان الفضيل إذا ذكر اهلل ‪ ،‬أو‬
‫ُذكر عنده ‪ ،‬أو مسع القرآن ظهر به من اخلوف واحلزن وفاضت عيناه‬
‫وبكي حىت يرمحه من حبضرته ‪ .‬وقال‪ :‬كنا إذا خرجنا مع الفضيل يف جنازة‬
‫يعظ ويذكر ويبكي كأنه يودع أصحابه ذاهب إىل اآلخرة فإذا وصلنا املقربة‬
‫جلس كأنه بني املوتى ‪.‬‬
‫قال عبد اهلل بن املبارك ‪ :‬إذا مات الفضيل ارتفع احلزن ‪.‬‬
‫وللفضيل أقوال كثيرة في كتب التراجم منها ‪:‬‬
‫" من جلس مع صاحب بدعة مل يعط احلكمة "‬
‫" ليس من عبد ُأعطي شيئًا من الدنيا إال كان نقصانًا له من الدرجات يف اجلنة‬
‫"‬
‫" ليست الدار دار إقامة وإمنا ُأهبط آدم إليها عقوبة "‬
‫" لو خريت الخرتت أن أعيش كلبًا وأموت كلبًا وال أرى يوم القيامة "‬
‫وكان رمحه اهلل يكثر من صالة الليل فيلقى إليه حصيـر فإذا غلبته عيناه‬
‫استلقى عليه مث يفيق يصلي ……‬
‫‪ -4‬معروف الكرخي(‪: )201‬‬

‫‪ )?(201‬األعالم ‪ ،7/269‬طبقات الصوفية‪ ،‬ط‪ ، 3‬مطبعة املدين‪1406 ،‬هـ‪1986-‬م‪ ،‬ص‪90-83‬‬


‫‪ ،‬وفيـ ــات األعيـ ــان‪ ،‬دار الثقاف ــة‪ ،‬ب ــريوت‪ ،‬حتقي ــق‪ :‬إحس ــان عب ــاس‪ ،233-5/231 ،‬ترمجة رقم‬
‫‪69‬‬
‫هو معروف بن فريوز " الفريزان " الكرخى أبو حمفوظ ولد يف كرخ‬
‫بغداد ونشأ فيها‪ ،‬كان أبواه نصرانيين فأسلماه إىل مؤدهبم فكان يقول له‪ :‬قل‬
‫ثالث ثالثة فيقول ‪ :‬بل هو الواحد فيضربه معلمه ضربًا مربحًا فهرب وأسلم‬
‫على يد على بن موسى الكاظم ‪ 0‬وكان أبواه يقوالن ليته يرجع على أي دين‬
‫فنتبعه فرجع إليهما مسلمًا فأسلما ‪.‬وكان موىل من موايل علي بن موسى‬
‫الكاظم وكان حيجبه فكثر الزحام فضغطه الناس فتكسرت أضالعه فمات‬
‫ببغداد سنة ‪200‬هـ ‪.‬‬
‫ملا حضرته الوفاة قيل له‪ :‬أوصى‪ .‬فقال‪ :‬أوصى بقميصي إذا مت‬
‫فتصدقوا به أريد أن أخرج منها عريانًا كما دخلتها ‪.‬‬
‫وقربه ببغداد مشهور ويزار ويستشفع به ويتربك به ويستسقى به "‬
‫وهذا ال يصح " وكان رمحه اهلل مشهورًا بالصالح مستجاب الدعوة حريصًا‬
‫على احلق ‪ ،‬ذات يوم مر بسقاء يقول رحم اهلل من يشرب وكان صائمًا فشرب‬
‫طمعًا بربكة دعائه ‪ .‬قال رجل ملعروف الكرخى ‪ :‬ما شكرت معرويف‪ .‬فقال‪:‬‬
‫وقع معروفك من غري حمتسب عند غري شاكر ‪ 0‬وقال معروف الكرخى ‪" :‬‬
‫طلب اجلنة بال عمل ذنب من الذنوب ‪ ،‬وانتظار الشفاعة بال سبب نوع من‬
‫الغرور وارجتاء رمحة من ال يطاع جهل ومحق "‬
‫ثانيًا ‪ :‬التصوف البدعى ‪:‬‬
‫وهذا التصوف خليط من التصوف اإلسالمي والتصوف اجلاهلي‪ ،‬وقد‬
‫يكون رجاله أهل علم وأصحاب نوايا حسنة ‪ ،‬وأثرت فيهم العادات السائدة‬
‫يف عصرهم وخاصة ما فيها من بدع ‪.‬‬
‫بعضهم حاول إصالح الطرق فلم يستطع فاضطروا إىل تأويل أعماهلم‬
‫اليت هي يف الظاهر خمالفة لكتاب اهلل تعاىل وسنة رسوله ‪ ‬ليومهوا الناس بأهنا‬
‫‪. 729‬‬
‫‪70‬‬
‫ال تعارض النصوص الشرعية وليسلموا من الطعون واالنتقادات املوجهة إليهم ‪.‬‬
‫وهؤالء القوم ليس لهم تطلع إلقامة دين اهلل تعالى في األرض بل هم‬
‫يشغلون أنفسهم بأمور أهمها ‪-:‬‬
‫‪ -1‬االشتغال باألذكار واألوراد وغالبًا مـا تكـون طريقتهـم فـي الذكـر غري‬
‫مطابقة للسنـة بـل تشتمـل على بعض البدع ‪ ،‬كأن يكون الذكر بصورة‬
‫مجاعيـة ‪ ،‬ويسبق بعضهـم بعضـًا ممـا جيعـل املسبـوق يتـرك بعض الكلمات‬
‫التـي ختـل باملعىن‪ ،‬إضافـة إىل احلركات املصطنعـة اليت حيدثوهنا أثنـاء الذكـر‬
‫مـن التمايـل والقفـز والرتاقص ‪.‬‬
‫كما أن أورادهم غالبًا ما تشتمل على االستشفاع والتوسل باألولياء‬
‫والصاحلني واالستعانة باملقبورين ‪ ،‬واالستغاثة هبم والتوجه إليهم بالدعاء ‪.‬‬
‫‪ -2‬التربية والتزكية عن طريق النوافل‪ ،‬فهم غالبًا حيرصون على اإلكثار من‬
‫صيام التطوع فبعضهم يتحرى صيام املندوبات والبعض يصوم زيادة على‬
‫ذلك ‪ 0‬وكذلك الصلوات فهم يكثرون من صالة النافلة وقيام الليل بل‬
‫جيعلوا لكل ليلة قيامًا خمصوصًا وتالوة خمصوصة‪ ،‬وال جيوز ختصيص يوم أو‬
‫ليلة بعبادة خمصوصة إال بدليل ‪.‬‬
‫‪ -3‬البيعة يهتم كثري من أصحاب الطرق الصوفية البدعية بأخذ البيعة من‬
‫املريد وتكون البيعة على الطاعة املطلقة لشيخه‪ ،‬دون االعرتاض عليه‪0‬‬
‫والطاعة املطلقة ال تصح إال للمعصوم عليه السالم وكل بيعة لغريه‬
‫جيب أن تكون مقيدة يف حدود عدم املعصية هلل تعاىل ورسوله ‪ ‬فإنه " ال‬
‫طاعة يف معصية اهلل إمنا الطاعة يف املعروف "(‪. )202‬‬
‫أبرز ما مييز هذا النوع من التصوف هو الوقوع يف البدع ‪.‬‬
‫‪ )?(202‬أخرج ـ ــه مس ـ ــلم‪ ،‬كت ـ ــاب اإلم ـ ــارة‪ ،‬ب ـ ــاب وج ـ ــوب طاع ـ ــة األم ـ ــراء‪ ،‬ح ـ ــديث رقم ‪،1840‬‬
‫‪. 3/1469‬‬
‫‪71‬‬
‫أقسام البدعة ‪:‬‬
‫البدعة تنقسم إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة ‪:‬‬
‫‪ -1‬البدعة الحسنة أو السنة الحسنة وهي تكون يف اجلوانب احلياتية والتقدم‬
‫العلمي التجرييب وىف األمور اليت ختضع للمصاحل املرسلة "املصاحل العامة‬
‫اليت ال نص فيها " كعمل صندوق للصدقات وبناء املستشفيات واملدارس‬
‫التعليمية وما شابه ذلك ‪.‬‬
‫‪ -2‬البدعة السيئة وهى كل حمدثة يف دين اهلل تعاىل لقوله ‪ " ‬إياكم‬
‫وحمدثات األمور فإهنا ضاللة "(‪. )203‬‬

‫وقد وقع الصوفية يف كثري من البدع والشركيات منها ‪.‬‬


‫ما يكون من غالة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح األولياء‬
‫تتصرف بعد املوت فيقضون احلاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم‬
‫وحيفظون من التجأ إليهم والذ حبماهم‪ ،‬فإن هذه من خصائص الربوبية(‪. )204‬‬
‫والذين جيعلون مع اهلل ندًا يدعونه كما يدعو اهلل تعاىل ويسألونه الشفاعة‬
‫كما يسألون اهلل تعاىل ‪ ،‬وحيبونه كما حيبون اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫وقد حذر ‪ ‬مما هو أدىن من ذلك فحني قيل له عليه السالم " ما شاء‬
‫اهلل وشئت " ‪ .‬قال‪ :‬أجعلتىن هلل عدًال (ندًا) ؟ بل ما شاء اهلل وحده(‪. )205‬‬
‫ومن ذلك أيضًا التربك باألماكن واألشخاص واألشجار وغري ذلك ‪،‬‬

‫‪ )?(203‬أخرجـ ــه الرتمـ ــذي‪ ،‬كتـ ــاب العلم‪ ،‬بـ ــاب م ــا ج ــاء يف األخ ــذ بالسـ ــنة‪ ،‬ح ــديث رقم ‪،2676‬‬
‫‪.. 5/44‬‬
‫‪ )?(204‬تيسري العزيز احلميد‪ ،‬ص‪. 28‬‬
‫‪ )?(205‬أخرجه أمحد عن ابن عباس‪ ،‬حديث رقم ‪. 1/282 ،1844‬‬
‫‪72‬‬
‫وقد طلب أصحاب حممد ‪ ‬ورضي اهلل عنهم شيئًا من ذلك وهم حديثو عهد‬
‫بكفر وذلك حني خرجوا لغزوة حنني فمروا " بشجرة " بسدرة للمشركني‬
‫يعكفون عندها وينوطون هبا أسلحتهم يقال هلا ذات أنواط قالوا‪ :‬اجعل لنا‬
‫شجرة كذات أنواط‪ ،‬فقال رسول اهلل ‪ " : ‬اهلل أكرب إهنا السنن‪ ،‬قلتم والذي‬
‫ْجَعْل َلَن َل ًا َكَم َلُهْم‬
‫ا‬ ‫ا ه‬ ‫نفسي بيده كماَّنقالت بنو إسرائيل ملوسى ‪‬ا‬
‫ِإ‬ ‫َهٌة َق َل ُكْم َقْوٌم َتْجَهُل‬
‫ون‪ ، )206(‬إهنا السنن لرتكنب سنن من كان‬ ‫ا‬ ‫آ‬
‫‪ِ 207‬إ‬ ‫ِل‬
‫قبلكم" ( ) ‪.‬‬
‫ومن ذلك الذبح لألولياء والصاحلني ‪ ،‬وتقدمي القرابني هلم ‪ ،‬والذبح عند‬
‫قبورهم ‪ 0‬وقد هنى اهلل تعاىل عن ذلك وحذر من الوقوع يف ذلك سيدنا حممد‬
‫َّل‬ ‫َّن‬ ‫‪. ‬‬
‫َر‬ ‫َوُنُس َوَمْحَي َوَمَم‬ ‫َص‬ ‫ُقْل‬
‫اي‬ ‫اي‬ ‫ي‬ ‫لا ي‬ ‫وقال تعاىل ‪ :‬‬
‫ِت ِل ِه ِّب‬ ‫َش ِإ َك ِت ‪ِ 208‬ك‬ ‫ْلَع َل َن‬
‫ا ا ي لا ري له‪. ) ( ‬‬
‫َفَص َر َك َو ْنَحْر‬ ‫ِم‬
‫ا ‪ )209( ‬وقال ‪ " ‬لعن اهلل من ذبح لغري‬ ‫وقال تعاىل ‪ :‬‬
‫ِّل ِل ِّب‬
‫اهلل‪ ،‬ولعن اهلل من لعن والده ‪ ،‬ولعن اهلل من أوى حمدثًا ‪ ،‬ولعن اهلل من غري منار‬
‫األرض " (‪. )210‬‬
‫وقــد هنى ‪ ‬عن الــذبح عنــد األوثــان أو يف أمــاكن يقــام فيهــا عيــد جــاهلي وذلــك‬
‫حني ُس ئل عن رج ــل نــذر أن يــذبح إبًال بأحــد األمــاكن فقــال ‪ : ‬هــل كــان فيــه‬
‫وثن من أوثان اجلاهلية يعبد ؟ فقالوا ‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬فهل كان فيها عيد من أعيــادهم‬
‫‪ )?(206‬األعراف ‪ :‬آية ‪. 138‬‬
‫‪ )?(207‬أخرجه أمحد يف مسنده عن أيب واقد الليثي‪ ،‬حديث رقم ‪.. 5/258 ،21956‬‬
‫‪ )?(208‬سورة األنعام ‪:‬اآلية ‪. 162‬‬
‫‪ )?(209‬الكوثر‪ :‬اآلية ‪. 271‬‬
‫‪ )?(210‬أخرج ـ ــه مس ـ ــلم ‪ ،‬كت ـ ــاب األض ـ ــاحي‪ ،‬ب ـ ــاب حترمي ال ـ ــذبح لغ ـ ــري اهلل‪ ،‬ح ـ ــديث رقم ‪،1978‬‬
‫‪. 3/1567‬‬
‫‪73‬‬
‫؟ قالوا‪ :‬ال‪ ،‬فقـال رسـول اهلل ‪ : ‬أوف بنـذرك‪ ،‬فإنـه ال وفـاء لنـذر يف معصـية اهلل‬
‫وال فيما ال ميلك ابن آدم" (‪. )211‬‬
‫ومنهــا االســتعاذة بــاملقبورين والصــاحلني من األوليــاء الــذين ال ميلكــون ألنفســهم‬
‫ض ــرًا وال نفعـ ـًا ‪ .‬واالس ــتعاذة معناه ــا االلتج ــاء واالعتص ــام والتح ــرز واهلرب من‬
‫شيٍء ختافه إىل من يعصمك منه(‪. )212‬‬
‫ِم‬
‫وقـ ــد أمرنـ ــا املوىل عـ ــز وجـ ــل أن نسـ ــتعيذ بـ ــه قـ ــال تعـ ــاىل‪َ:‬و ِإَّم ا َيْنَز َغَّن َك ْن‬
‫الَّش ْيَطاِن َنْز ٌغ َفاْسَتِعْذ ِبالَّلِه ِإَّنُه ُه َو الَّس ِم يُع اْلَعِليُم ‪ )213( ‬وقــال أيضـًا‪:‬‬
‫‪َ‬و ُق ْل َر ِّب َأُع وُذ ِب َك ِم ْن َه َم َز اِت الَّش َياِط ين َو َأُع وُذ ِب َك َر ِّب َأْن‬
‫َيْح ُض ُر وِن ‪ ) ( ‬وق ــال‪ُ:‬ق ْل َأُع وُذ ِب َر ِّب اْلَف َل ِق ‪ ) ( ‬و‪ُ‬ق ْل َأُع وُذ‬
‫‪215‬‬ ‫‪214‬‬

‫ِبَر ِّب الَّناِس ‪. )216(‬‬


‫ومنه ـ ـ ــا االس ـ ـ ــتغاثة بغ ـ ـ ــري اهلل تع ـ ـ ــاىل واالس ـ ـ ــتغاثة طلب الغ ـ ـ ــوث إلزال ـ ـ ــة الش ـ ـ ــدة‬
‫كاالستنصــار طلب النصــرة ‪ ،‬واالســتغاثة متتــاز عن الــدعاء بأهنا ال تكــون إال من‬
‫املكروب قال تعاىل‪ِ :‬إْذ َتْس َتِغيُثوَن َر َّبُك ْم َفاْسَتَج اَب َلُك ْم ‪. )217( ‬‬
‫فقد وقع كثٌري من الصوفية والعــوام يف ذلــك فمنهم من يـدعو شـيخه عنـد اشـتداد‬
‫الكروب فيقول‪ :‬يا علي ‪ ،‬ويا عبــد القــادر ‪ ،‬ويــا بــدوي …… وأدى الغلــو إىل‬
‫أكثر من ذلك منهم من يسأهلم اجلنة وغفران الزالت …… حىت زعم أحدهم‬

‫‪ )?(211‬أخرجــه أبــو داود‪ ،‬كتــاب األميان والنــذور‪ ،‬بــاب مــا يــؤمر بــه من الوفــاء بالنــذر‪ ،‬حــديث رقم‬
‫‪.3/238 ،3313‬‬
‫‪ )?(212‬تيسري العزيز احلميد ‪. 187‬‬
‫‪ )?(213‬فصلت‪ :‬اآلية ‪. 36‬‬
‫‪ )?(214‬املؤمنون‪ :‬اآلية ‪. 98-97‬‬
‫‪ )?(215‬الفلق‪ :‬اآلية ‪. 1‬‬
‫‪ )?(216‬الناس‪ :‬اآلية ‪. 1‬‬
‫‪ )?(217‬األنفال‪ :‬اآلية ‪. 9‬‬
‫‪74‬‬
‫أن ش ــيخة جيلس عن ــد الن ــار فال ي ــدع أح ــدًا اس ــتغاثه ي ــدخلها …… ونس ــجوا‬
‫كثــريًا من القص ــص املكذوبــة فزعم ــوا أن فالن ـًا اســتغاث شــيخه فأغاثــه ‪ ،‬أو دع ــا‬
‫َأَض ُّل ِم َّم ْد ُعو ِم ُدوِن‬ ‫‪218‬‬
‫ْن‬ ‫ْن َي‬ ‫الــويل الفالين فأجابــه أو فــرج كربتــه( )‪َ‬و َمْن‬
‫الَّلِه َمْن َال َيْس َتِج يُب َلُه ِإَلى َيْو ِم اْلِق َياَم ِة‪. )219(‬‬
‫وممن وقع يف ذلك البوصريي حيث قال ‪:‬‬
‫سواك عند حلول‬ ‫يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به‬
‫الحادث العمم‬
‫إذ الكريـم تحلـى باسم‬ ‫وال يضيق رسول اهلل جاهك بي‬
‫منتقم‬
‫محمدًا وهو أوفى الخلق‬ ‫فإن لـي ذمـة منه بتسميتي‬
‫بالذمم‬
‫فضًال وإال فقل يا زلة‬ ‫إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي‬
‫القدم(‪)220‬‬
‫فقد وقع البوصيري بأخطاء كثيرة في أشعاره هذه منها ‪-:‬‬
‫‪ -1‬إنــه نفى أن يكــون لــه مالذ إذا حلت بــه اخلطــوب إال الرســول عليــه الســالم‬
‫وليس ذلك إال هلل‪.‬‬
‫‪ -2‬تض ـرع للرس ـول علي ـه الســالم ونــاداه ودعــاه وطلب منــه أمــورًا ال تطلب إال‬
‫من اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -3‬طلب منـه الشــفاعة عنـدما يريـد اهلل تعـاىل االنتقـام وال مينـع ذلـك أحـد ‪ .‬قـال‬
‫ِق‬ ‫ِه ِل‬
‫تعــاىل لســيدنا حممــد ‪َ :‬أَفَمْن َح َّق َعَلْي َك َم ُة اْلَع َذ اِب َأَف َأْنَت ُتن ُذ َمْن‬
‫‪ )?(218‬انظر‪ :‬تيسري العزيز احلميد ‪. 185‬‬
‫‪ )?(219‬األحقاف‪ :‬اآلية ‪. 5‬‬
‫‪ )?(220‬تيسري العزيز العمد ‪. 187‬‬
‫‪75‬‬
‫ِفي الَّناِر ‪. )221( ‬‬
‫‪ -4‬ادعى أن ل ــه ذم ــة ألن امسه حمم ــد وه ــذا غ ــري ص ــحيح ألن ــه ليس بني الرس ــول‬
‫علي ــه الس ــالم ومن امسه حمم ــد ذم ــة إال بالطاع ــة‪ ،‬وكم من الطغ ــاة من مساه أهل ــه‬
‫مبحمد ‪.‬‬
‫‪ -5‬زعم أنـ ــه ال خالص لـ ــه إّال إذا تفضـ ــل عليـ ــه الرسـ ــول ‪ ‬وأخـ ــذ بيـ ــده يـ ــوم‬
‫القيامة‪ ،‬واخلالص والنجاة يوم القيامة تكون بفضل اهلل عليه ‪.‬‬
‫وكذلك الربعي وقع يف شيء من ذلك يف قوله ‪:‬‬
‫يهون‬ ‫كيما‬ ‫أرجوك في سكرات الموت أن تشهدني‬
‫إذ األنفاس في صعد‬
‫فكـن أنيس وحيـد فيه‬ ‫وإن نزلُت ضريح ـًا ال أنيس بــه‬
‫منفرد‬
‫وقال أيضًا ‪:‬‬
‫يـا موئلـي يا مالذي‬ ‫يـا سيـدي يا رسول اهلل يا أملي‬
‫يـوم يلقاني‬
‫جودًا ورجح بفضل‬ ‫هبني بجاهـك مـا قدمت من زلل‬
‫منك ميزانــي‬
‫من الخطوب‬ ‫واسمع دعائي واكشف ما يساورني‬
‫ونفّس كل أحزانــي‬
‫عندي وإن بعدت داري‬ ‫فأنت أقرب من ترجـى عواطفـه‬
‫و أوطاني(‪)222‬‬

‫‪ )?(221‬الزمر‪ :‬اآلية ‪. 19‬‬


‫‪ )?(222‬تيسري العزيز احلميد ‪. 191‬‬
‫‪76‬‬
‫فقد وقع البرعي بأبياته هذه في أخطاء عدة منها ‪-:‬‬
‫‪ -1‬انــه يســتغيث بالرســول عليــه الســالم ويطلب حضــوره عنــد موتــه ليهــون عليــه‬
‫سكرات املوت وهذا ليس إال هلل عز وجل ‪.‬‬
‫‪ -2‬وطلب من الرس ــول علي ــه الس ــالم أن ي ــؤنس وحش ــته يف ق ــربه وليس للعب ــد‬
‫أنيس إال العمل الصاحل ‪.‬‬
‫‪ -3‬وطلب من ــه أن ي ــرجح ميزان ــه ي ــوم القيامـ ــة وال ي ــرجح امليزان إال اإلخالص‬
‫والعمل الصاحل‬
‫‪ -4‬وطلب منه عليه السالم أن يكشف عنه الضر والكربات ويهــون عليــه احلزن‬
‫واخلطوب ‪.‬‬
‫‪ -5‬وهو الذي يرجو عاطفة الرسول ‪ ‬مهما بعدت الـدار … والرسـول ‪ ‬ال‬
‫يرجى بعد موته‪.‬‬
‫‪ -6‬زعم أن الرس ــول ‪ ‬ه ــو أق ــرب من ي ــرجى‪ ،‬واهلل تع ــاىل ه ــو الق ــريب اجمليب‬
‫وليس احلبيب حممد عليه السالم بعد وفاته ‪.‬‬
‫ومن األخطاء اليت وقع فيها القــوم التوسـل(‪ )223‬والتوسـل هــو اختاذ الوسـيلة وهي‬
‫الطريقة اليت توصل إىل املطلوب " املرغوب" ‪.‬‬
‫الوسائل نوعان كونية وشرعية ‪-:‬‬
‫‪ -1‬الوس‪//‬يلة الكوني‪//‬ة‪ :‬وهي كــل ســبب طــبيعي يوصــل إىل املقصــود خبلقتــه الــيت‬
‫خلقه اهلل هبا ويؤدي إىل املطلــوب مبا أودعــه اهلل فيـه من سـنن كاملاء فهـو الوسـيلة‬
‫إىل ري الظم ــآن والطع ــام ه ــو الوســيلة حلص ــول الش ــبع للج ــائع ‪ ،‬واملالبس حتف ــظ‬
‫اإلنســان من حــرارة الشــمس وبــرد الشــتاء‪ ،‬واســتعمال الزراعــة والــري للحصــول‬

‫‪ )?(223‬انظـر‪ :‬كتاب التوسل‪ ،‬أنواعـه وأحكامـه‪ :‬حممد عيد العبــاس‪ ،‬املكتب اإلســالمي‪ ،‬بــريوت‪ ،‬ط‪5‬‬
‫‪1406 ،‬هـ – ‪1986‬م ‪،‬‬
‫ص ‪17‬ـ‪. 24‬‬
‫‪77‬‬
‫على الغذاء والزواج وسيلة حلصول الذرية وهي مشرتكة بيـن املؤمن والكــافر من‬
‫غ ــري تفري ــق … ويش ــرتط الس ــتعماهلا ش ــرطان أن تك ـ ـون مباحـ ـًة ش ــرعًا‪ ،‬وثبت‬
‫بالتجربة وغالب الظن حتقق املطلوب هبا ‪.‬‬
‫‪ -2‬والوس ‪//‬يلة الش ‪//‬رعية‪ :‬وهي ك ــل س ــبب يوص ــل إىل املقص ــود عن طري ــق م ــا‬
‫ش ــرعه اهلل تع ــاىل وبين ــه يف كتاب ــه وس ــنة نبي ــه وهي خاص ــة ب ــاملؤمن املتب ــع أم ــر اهلل‬
‫ورسوله ‪. ‬‬
‫‪ -‬فالوضــوء والغســل والــتيمم وســيلة حلصــول الطهــارة ‪ ،‬واالمتنــاع عن الطعــام‬
‫وسيلة حلصول الصيام والنطق بالشهادتني والعمل مبضموهنا وسيلة حلصــول‬
‫مرضاة اهلل تعاىل والفوز برمحتـه ودخـول اجلنـة‪ ،‬وإتبـاع السـيئة احلسـنة وسـيلة‬
‫إىل حمو الس ــيئة‪ ،‬وق ــول ال ــدعاء املأثور بع ــد األذان وس ــيلة إىل ني ــل الش ــفاعة‪،‬‬
‫وص ــلة ال ــرحم وس ــيلة لط ــول العم ــر وس ــعة ال ــرزق ‪ .‬ويش ــرتط فيه ــا ثبوهتا‬
‫بالشرع احلنيف ‪.‬‬
‫فهذه القضايا السابقة حتقق تلـك الغايـات واملقاصـد عن طريـق الشـرع وحـده‪ ،‬ال‬
‫عن طريـق العلم والتجربـة أو احلواس‪ ،‬فنحن مل نعلم أن صـلة الــرحم تطيـل العمــر‬
‫وتوســع الــرزق إال من قولــه ‪ " : ‬من أحب أن يبســط لــه يف رزقــه وينســأ لــه يف‬
‫أجله فليصل رمحه "(‪. )224‬‬
‫التوسل المشروع ال يتم إال بأحد أنواع ثالثة ‪-:‬‬
‫‪ -1‬التوسل باسم من أمساء اهلل تعاىل أو صفة من صفاته ‪.‬‬
‫‪ -2‬التوسل بعمل صاحل قام به الداعي ‪.‬‬
‫‪ -3‬التوسل بدعاء رجل صاحل(‪. )225‬‬

‫‪ )?(224‬أخرجــه البخــاري‪ ،‬كتــاب الــبيوع‪ ،‬بــاب من أحب البســط يف الــرزق‪ ،‬حــديث رقم ‪،2067‬‬
‫‪. 2/10‬‬
‫‪ )?(225‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪. 46‬‬
‫‪78‬‬
‫النوع األول‪ :‬التوسل باسم من أسماء اهلل تعالى أو صفة من صفاته ‪:‬‬
‫ق ــال اهلل تع ــاىل ‪ :‬وهلل األس ‪//‬ماء الحس ‪//‬نى ف ‪//‬ادعوه به ‪//‬ا‪ ‬ومن ــه م ــا ورد يف‬
‫األحـ ــاديث الصـ ــحيحة عن رسـ ــول اهلل ‪ ‬قـ ــال يف أحـ ــد أدعيتـ ــه "اللهم بعلمـ ــك‬
‫الغيب وقــدرتك على اخللــق أحيــين مــا علمت احليــاة خــريًا يل ‪ ،‬وتوفــين إذا كــانت‬
‫الوفاة خريًا يل " (‪. )226‬‬
‫ويف احلديث من كثر مهه فليقل " اللهم إين عبدك ابن عبدك ابن أمتــك ‪ ،‬ناصــييت‬
‫بيدك مـاض َّيف حكمـك عـدل َّيف قضـاؤك أسـألك بكـل اسـم هـو لـك ‪ ،‬مسيت بـه‬
‫نفس ــك أو علمت ــه أح ــدًا من خلق ــك ‪ ،‬أو أنزلت ــه يف كتاب ــك ‪ ،‬أو اس ــتأثرت ب ــه يف‬
‫علم الغيب عنــدك أن جتع ـل القــرآن ربيــع قلــيب ‪ ،‬ونــور صــدري ‪ ،‬وجالء حــزين ‪،‬‬
‫وذهاب مهي " إال أذهب اهلل مهه وحزنه وأبدله مكانه فرجًا "(‪. )227‬‬
‫ويف احلديث ‪ ،‬ك ــان رس ــول اهلل ‪ ‬يق ــول‪ " :‬اللهم إين أع ــوذ بعزت ــك ال إل ــه إال‬
‫أنت أن تضلين "(‪. )228‬‬
‫النوع الثاني ‪ :‬التوسل إلى اهلل بصالح األعمال ‪:‬‬
‫وهــو أن يتوســل اإلنســان بصــاحل أعمالــه إىل اهلل عــز وجــل ألن هنــاك مناســبة بني‬
‫توسـ ــل اإلنسـ ــان إىل اهلل وبني عملـ ــه الصـ ــاحل الـ ــذي أخلص بـ ــه لوجـ ــه اهلل تعـ ــاىل‬
‫والدليل على صحة ذلك مــا ورد يف القــرآن الكــرمي قــال تعــاىل‪:‬اَّلِذ يَن َيُقوُلوَن‬
‫َر َّبَن ا ِإَّنَن ا آَم َّن ا َف اْغِف ْر َلَن ا ُذُنوَبَن ا َو ِقَن ا َع َذ اَب الَّن اِر ‪ )229(‬وق ـ ــال‬
‫‪ )?(226‬أخرجه النسائي‪ ،‬كتـاب السـهو‪ ،‬البـاب نـوع آخـر‪ ،‬حـديث رقم ‪ ،1306‬سـنن النسـائي ‪ ،‬ط‬
‫‪ ،1‬بريوت‪. 3/55 ،1986-1406 ،‬‬
‫‪ )?(227‬أخرجـه احلاكـم يف املستدرك‪ /‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1990-1411 ، 1‬كتــاب‬
‫الدعاء والتكبري‪ ،‬حديث رقم ‪ ، 1877/77‬جملد ‪. 1/590‬‬
‫‪ )?(228‬أخرجه مسلم‪ ،‬كتاب الذكر والدعاء‪ ،‬باب التعوذ من شر ما عمـل‪ ،‬حـديث رقم (‪،)2717‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬تعليق حممد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار إحياء الكتب العربية ‪.4/2086‬‬
‫‪ )?(229‬سورة آل عمران ‪ ،‬اآلية ‪. 16 :‬‬
‫‪79‬‬
‫تع ـ ـ ـ ــاىل‪َ:‬ر َّبَن ا آَم َّن ا ِبَم ا َأْنَز ْلَت َو اَّتَبْعَن ا الَّر ُس وَل َفاْك ُتْبَن ا َم َع‬
‫الَّش اِهِد يَن ‪.)230(‬‬
‫ومــا ورد عن رســول اهلل ‪ ‬أنــه قــال‪ " :‬انطلــق ثالثــة رجــال ممن كــان قبلكم ‪،‬‬
‫فـ ــآواهم املبيت إىل غـ ــار فـ ــدخلوه ‪ ،‬فاحندرت صـ ــخرة من اجلبـ ــل فسـ ــدت عليهم‬
‫الغار ‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬واهلل ال ينجينا من هذه الصخرة إال أن ندعوا اهلل بصاحل أعمالنا ‪.‬‬
‫فقال أحـدهم‪ :‬كــان يل أبـوان شـيخان كبـريان ‪ ،‬وكنت ال أغبـق قبلهمــا أهًال وال‬
‫ماًال ‪ ،‬فعاقين طلُب يومـًا ‪ ،‬فلم أرح عليهمــا حـىت نامــا ‪ ،‬فحلبت هلمــا غبوقهمــا ‪،‬‬
‫فجئتهم ــا ب ــه فوج ــدهتما ن ــائمني ‪ ،‬فتح ــرجت أن أوقظهم ــا ‪ ،‬وك ــرهت أن أغب ــق‬
‫قبلهما أهًال وال مـاًال‪ ،‬فقمت والقـدح بيـدي انتظـر اسـتيقاظهما حـىت بـرق الفجـر‬
‫فاستيقظا فشربا غبوقهما ‪.‬‬
‫اللهم … إن كنت فعلت ذلـ ـ ــك ابتغـ ـ ــاء وجهـ ـ ــك ‪ ،‬فـ ـ ــأفرج عنـ ـ ــا مـ ـ ــا حنن فيـ ـ ــه‬
‫فانفرجت الصخرة انفراجًا ال يستطيعون اخلروج منه ‪.‬‬
‫وقـال الثـاين‪ " :‬اللهم لقـد كـانت يل ابنـة عم ‪ ،‬كـانت أحب النـاس إَّيل ‪ ،‬فراودهتا‬
‫عن نفســها فــامتنعت ‪ ،‬حــىت أملت هبا ســنة من الســنني ‪ ،‬فجــاءتين فأعطيتهــا مائــة‬
‫وعشرين دينارًا على أن ختلي بيين وبني نفسها ففعلت ‪ ،‬حىت إذا قدرت عليهــا ‪،‬‬
‫قـ ـ ــالت‪ :‬ال حيل لـ ـ ــك أن تفض اخلامت إال حبقـ ـ ــه ‪ ،‬فتحـ ـ ــرجُت من الوقـ ـ ــوع عليهـ ـ ــا‬
‫وانصرفت عنها وهي أحب الناس إّيل ‪ ،‬وتركت املال الذي أعطيتها إياه ‪.‬‬
‫اللهم … إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهـك فـأفرج عنـا مـا حنن فيـه فـانفرجت‬
‫الصخرة غري أهنم ال يستطيعون اخلروج ‪.‬‬
‫مث ق ــال الث ــالث‪ " :‬اللهم إين اس ــتأجرت أج ــراء ف ــأعطيتهم أج ــورهم ‪ ،‬غ ــري رج ــل‬
‫واحــد منهم ‪ ،‬تــرك أجــره وذهب ‪ ،‬فثمــرت أجــره ‪ ،‬فجــاءين بعــد حني ‪ ،‬فقــال يــا‬
‫‪ )?(230‬سورة آل عمران ‪ ،‬اآلية ‪. 53 :‬‬
‫‪80‬‬
‫عبــد اهلل أِّد إَّيل أجــريت‪ ،‬فقلت لــه‪ :‬إن أجرتــك هي كــل مــا تــرى من اإلبــل والغنم‬
‫والبقر والرقيـق ‪ ،‬فقـال‪ :‬يـا عبـد اهلل ال تســتهزئ يب ‪ ،‬فقلت‪ :‬إين ال أسـتهزُئ بـك‬
‫‪ ،‬ورويت له القصة ‪ ،‬فأخذ ذلك كله فاستاقه ‪ ،‬ومل يرتك منه شيئًا‪.‬‬
‫اللهم إن كنت فعلت ذلــك ابتغــاء وجهــك ‪ ،‬فــأفرج عنــا مــا حنن فيــه ‪ ،‬فــانفرجت‬
‫الصخرة فخرجوا من الغار ميشون … وهذا حديث صحيح(‪. )231‬‬
‫وه ـ ــذا احلديث ي ـ ــدل على ص ـ ــحة أعم ـ ــاهلم فيه ـ ــا وإن اهلل قبله ـ ــا وقب ـ ــل دع ـ ــاءهم‬
‫وتوسلهم بصاحل أعماهلم ‪.‬‬
‫النوع الثالث ‪ :‬التوسل بدعاء الصالحين ‪:‬‬
‫وهو كأن يقع املسلم يف ضيق شديد أو حتل به مصيبة كبـرية ويعلم من‬
‫نفسه التفريط يف جنب اهلل تعاىل فيحب أن يتقرب إىل اهلل بسبب قوي‪ ،‬فيذهب‬
‫إىل رجل حيث يعتقد فيه الصالح والتقوى والعلم والفضل فيطلب منه أن يدعو‬
‫له ربه أن يكشف عنه الضر ويفرج كربه ‪.‬‬
‫ومن ذلــك توســل عمــر بن اخلطــاب رضــي اهلل عنــه بــدعاء العبــاس رضــي اهلل عنــه‬
‫واالستسقاء به حيث قال‪ " :‬اللهم إّنا كنـا نتوسـل إليـك بنبينـا ‪ ‬فتســقينا ‪ ،‬وإّنا‬
‫نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ‪ ،‬فيسقون "(‪. )232‬‬
‫واملراد أن عمـر رضـي اهلل عنـه كـان يقـول للعبـاس رضـي اهلل عنـه قم فاستسـق لنـا‬
‫ربك فيدعو هلم فيسقيهم اهلل تعاىل ‪.‬‬
‫ومن ذلك أن معاوية رضي اهلل عنه دعا يزيـد بن األسـود يستســقي هلم فـدعا هل ـم‬

‫أخرجه البخاري‪ ،‬كتاب املزارعة‪ ،‬باب إذا زرع مبال قوم ‪ ،‬حديث رقم ‪ ،2333‬فتح )?(‬
‫‪231‬‬

‫‪.‬الباري ‪5/16‬‬
‫‪ )?(232‬أخرجـه البخاري كتـاب اجلمعـة‪ ،‬بـاب سؤال النـاس اإلمـام اإلستسقـاء‪ ،‬حدي ــث رقم ‪،1010‬‬
‫فتح الباري ‪. 2/494‬‬
‫‪81‬‬
‫ودعا الناس فسقاهم اهلل(‪. )233‬‬
‫وأما الشفاعة فهي شبيهة بالتوسل وليس ألحد أن يشفع عنــد اهلل تعــاىل إال بإذنــه‬
‫لقولـ ــه تعـ ــاىل‪َ  :‬مْن َذا اَّل ِذ ي َيْش َف ُع ِع ْن َدُه ِإاَّل ِبِإ ْذِن ه ‪ ، )234(‬ويقـ ــول‬
‫الرسول ‪ ‬عن شفاعته بأن اهلل عز وجل حيد له حـدًا ويقـول لـه اشـفع يف هـؤالء‬
‫فيشفع …… وأما الشفاعة يف الدنيا فيجوز لإلنسان أن يشــفع شــفاعة حســنة‪.‬‬
‫وال تصــح الشــفاعة يف ظلم وال يف حــد من حــدود اهلل لقولــه ‪ ‬ألســامة بن زيــد‬
‫مستنكرًا " أتشفع يف حد من حدود اهلل ‪ ،‬واهلل لو أن فاطمة بنت حممد ســرقت‬
‫لقطع حممد يدها " (‪.)235‬‬
‫والش ـ ــفاعة يف اآلخ ـ ــرة ال تطلب إال من اهلل تع ـ ــاىل فليس ألح ـ ــدنا أن يط ـ ــالب أو‬
‫يرجو الشفاعـة مـن أحــد حــىت من رســول اهلل ‪ ، ‬وإمنا يطلب ذلــك من اهلل تعــاىل‬
‫فيقول اللهم ارزقنا شفاعته‪.‬‬
‫وأمــا مــا ورد يف حــديث الضــرير حني توضــأ وصــلى ركعــتني ‪ ،‬وكــان من دعائــه‬
‫بعــدمها عن حممــد ‪ ‬اللهم شــفع َّيف حممــدًا وشــفعين فيــه ‪ ،‬فــاملراد من قولــه اللهم‬
‫تقبل دعـاءه يل ودعـائي لـه ‪ ،‬فيكـون املراد أيضـًا طلب اسـتجابة دعـاء كـٍل منهمـا‬
‫من اهلل عز وجل ‪.‬‬
‫وأمــا األحــاديث األخــرى الــواردة وتشــمل على الســؤال حبق النــيب ‪ ،‬أو جباه النــيب‬
‫أو حبق الســائلني فال يقــوى منهــا حــديث لدرجــة الصــحة ‪ ،‬فكلهــا بني الضــعيف‬
‫واملوضوع ‪.‬‬
‫من أبرز رجال التصوف البدعي ‪:‬‬

‫‪ )?(233‬أخرجه ابن عساكر بسند صحيح يف تاريخ دمشق ‪.65/113‬‬


‫‪ )?(234‬البقرة ‪ :‬اآلية ‪. 255‬‬
‫‪ )?(235‬أخرجـ ـ ــه مسـ ـ ــلم‪ ،‬كتـ ـ ــاب احلدود‪ ،‬بـ ـ ــاب قطـ ـ ــع السـ ـ ــارق الشـ ـ ــريف‪ ،‬رقم احلديث ‪،1688‬‬
‫‪. 3/1315‬‬
‫‪82‬‬
‫‪ -1‬البوصيري‪ :‬هــو حممــد بن ســعيد بن محاد بن عبــد اهلل الصــنهاجي البوصــريي‬
‫املصـري كنيتـه أبـو عبـد اهلل ولقبـه شـرف الـدين ‪ ،‬وهـو شـاعر مليح املعـاين حسـن‬
‫الديباج ــة‪ .‬والبوص ــريي نس ــبة إىل " أب ــو ص ــري " من أعم ــال ب ــين س ــويف مبص ــر ‪،‬‬
‫وأمه منها ‪ ،‬وأصله من املغرب ‪ ،‬وتـوىف باإلسـكندرية ‪ .‬عـاش بني عـامي ‪–608‬‬
‫‪696‬هـ ‪1296 –1212 ،‬م ‪ .‬له ديوان شعر وأشهر أشعاره الربدة ‪.‬‬
‫ومسيت الربدة هبذا االسم – كمــا زعمــوا ‪ -‬ألن البوصـريي أصـيب بشــلل نصــفي‬
‫‪ ،‬فأنش ــدها ف ــرأى الرس ــول ‪ ‬يف املن ــام ف ــألقى علي ــه بردت ــه ف ــربئ ‪ ،‬وك ــان بعض‬
‫‪236‬‬
‫الفق ـ ــراء إذا م ـ ــرض ق ـ ــرأ ال ـ ــربدة ف ـ ــربئ واهلل أعلم( ) ‪ .‬وه ـ ــذا ال يص ـ ــح ش ـ ــرعًا‬
‫الشتمال الربدة على مغالطات شرعية وعقدية وال يصح عقًال ‪.‬‬
‫‪ -2‬ال‪//‬برعي‪ :‬وهــو عبــد الــرحيم بن أمحد بن علي الــربعي اليمــاين ‪ ،‬وهــو شــاعر‬
‫متصــوف من ســكان اليمن ‪ ،‬درس العلم وأفــىت وَد َّر َس ‪ ،‬لــه ديــوان شــعر مطبــوع‬
‫أك ـ ــثره يف املدائح النبوي ـ ــة ‪ ،‬ينس ـ ــب إىل ب ـ ــرع بتهام ـ ــة ‪ ،‬ت ـ ــوَّيف س ـ ــنة ‪803‬ه ـ ـ ـ –‬
‫‪1400‬م(‪. )237‬‬
‫ثالثًا‪ :‬التصوف الفلسفي (الباطل) ‪:‬‬
‫وهو التصوف الذي اختلط بالفلسـفات القدمية حـىت غلبت عليـه أفكـار الفالسـفة‬
‫كالفلس ــفة اإلش ــراقية والزرادش ــتية وه ــو أيضـ ـًا يش ــتمل على رهباني ــة النص ــاري ‪،‬‬
‫ودردشــة اهلنادكــة ‪ ،‬ودخــل إليــه الشــرك أيضـًا عن طريــق تــأثره بالفلســفة اليونانيــة‬
‫والرومانية والفارسية ‪.‬‬
‫وأصحاب هذا النوع من التصوف حتللـوا من شـريعة اإلسـالم ومبادئـه ووقعـوا يف‬

‫‪ )?(236‬األعـ ــالم‪ :‬لل ــزركلي ‪ ،6/139‬ف ــوات الوفي ــات‪ :‬للكت ــيب‪ ،‬حتقي ــق‪ :‬إحس ــان عب ــاس‪ ،‬ترمجة رقم‬
‫‪ ، 456‬ج‪ ،3‬ص‪ .368‬املوسـ ــوعة الص ــوفية‪ :‬عب ــد املنعم احلف ــين‪ ،‬ط‪ 1412 ،1‬ـ ـ ‪1992‬م‪ ،‬دار‬
‫الرشاد القاهرة‪ ،‬ص‪.7-70‬‬
‫‪ )?(237‬األعالم ‪. 3/343‬‬
‫‪83‬‬
‫جاهلية عمياء حيث وقعوا يف اخلرافات واألكــاذيب وابتعــدوا عن الــدعوة إىل اهلل‬
‫والوع ــظ واإلرش ــاد وانقطع ـوا الس ــتقبال اهلب ــات والن ــذور من جهل ــة الق ــوم(‪.)238‬‬
‫وأبرز األفكار اليت ظهرت عند هؤالء القوم هي وحدة الوجود واحللــول واالحتاد‬
‫واالعتماد على العلوم الكشفية ‪.‬‬
‫واملالح ــظ أن ه ــذا الن ــوع من التص ــوف ال يس ــتمد أص ــوله وأفك ــاره من مص ــادر‬
‫إس ــالمية ل ــذلك قوب ــل مبعارض ــة ش ــديدة من العلم ــاء واألئم ــة ك ــالغزايل يف كتاب ــه‬
‫املنقـذ من الضـالل ‪ ،‬ابن تيميـة يف فتاويـه ‪ ،‬ابن القيم يف مـدارج السـالكني ‪ ،‬وابن‬
‫اجلوزي يف تلبيس إبليس ‪.‬‬
‫من أبرز رجال التصوف الفلسفي ‪-:‬‬
‫‪ -1‬الحّالج(‪: )239‬‬
‫ه ــو احلس ــني بن منص ــور احلالج الفارس ــي ول ــد بف ــارس س ــنة ‪244‬ه ـ ـ البيض ــاوي‬
‫البغــدادي ‪ ،‬جــدُه زاردشــيت ‪ ،‬صوف ـي متكلم ولــه اتصــال بالقرامطــة لــه شــطحات‬
‫كث ــرية ‪ ،‬وأق ــوال سقيمـ ـة منهـ ـا قول ــه " مـ ـا فـ ـي اجلب ــة إال اهلل " " وأن ــا احلق " وال‬
‫يؤمن بفريضة احلج يقول أبو بكر بن الصويل عنه رأيت احلالج وخاطبتـه فرأيـت‬
‫جاهـ ـًال يتعاق ــل وغبي ـًا يتب ــالغ وف ــاجرًا يتزاه ــد …… وك ــان م ــع جهل ــه خبيث ـًا ‪،‬‬
‫وك ــان متش ــددًا وعني ــدًا ومغاليـ ـًا ويكتنف ــه كث ــري من الغم ــوض وق ــد قت ــل مص ــلوبًا‬
‫بفتوى من علماء عصره سنة ‪309‬هـ ‪.‬‬
‫‪ -2‬ابن الفارض(‪: )240‬‬
‫‪ )?(238‬انظر‪ :‬مبادئ اإلسالم‪ :‬للمودودي‪133 ،‬ـ ‪. 134‬‬
‫‪ )?(239‬املنتظم‪ :‬ابن اجلوزي‪ ،164-6/160 ،‬تــاريخ بغــداد ‪ ،8/112‬وفيــات األعيــان ‪-1/405‬‬
‫‪ ،407‬املوسـ ــوعة امليسـ ــرة يف األديـ ــان واملذاهب املعاصـ ــرة‪ ،‬النـ ــدوة العامليـ ــة للشـ ــباب اإلسـ ــالمي يف‬
‫الرياض‪ ،‬ص‪. 343‬‬
‫‪ )?(240‬وفيـات األعيـان ‪ ،127-3/126‬لسـان امليزان ‪ ،319-4/317‬املوسـوعة الصـوفية ‪-311‬‬
‫‪. 313‬‬
‫‪84‬‬
‫هو عمر بن علي بن املرشد بن علي احلموي األصل املصري ولد سنة ‪576‬ه ـ ‪،‬‬
‫شاعر صويف لقب بسلطان العاشـقني اشـتغل بفقـه الشـافعية أخـذ احلديث عن ابن‬
‫عس ــاكر‪ ،‬وأخ ــذ عن ــه احلاف ــظ املن ــذري ‪ ،‬حبب إلي ــه س ــلوك طري ــق الص ــوفية ك ــان‬
‫يعتزل الناس ويأوى إىل املساجد املهجورة واألماكن اخلربة ‪.‬‬
‫توىف بالقاهرة سنة ‪632‬هـ ‪ ،‬وله ديوان شعر وشعره ينعق باالحتاد الصريح ‪.‬‬
‫‪ -3‬ابن عربي(‪: )241‬‬
‫هــو حمي الــدين بن حممــد بن على بن حممــد بن أمحد بن عبــد اهلل الطــائي ‪ ،‬احلامتي‬
‫‪ ،‬صويف ومتكلم وفقيه وأديب ومفسر ‪ ،‬ولد باألندلس سنة ‪560‬ه ـ كـان يلقب‬
‫بالش ــيخ األك ــرب والك ــربيت األمحر‪ ،‬ل ــه أراء س ــقيمة أنكره ــا علي ــه كثـ ـٌري من أه ــل‬
‫عصره واهتموه بالزندقـة وعمل بعضـهم على قتلـه خاصـة يف مصـر‪ ،‬وحـرم الشـيخ‬
‫جالل الدين السيوطي النظر يف كتبه‪ ،‬له مؤلفات كثرية منها الفتوحــات املكيــة ‪،‬‬
‫وفصـ ــوص اِحلَك م ‪ ،‬من أقوالـ ــه‪ :‬الوجـ ــود كلـ ــه واحـ ــد ‪ ،‬وجـ ــود املخلوقـ ــات عني‬
‫وجـ ــود اخلالق ‪ ،‬وجـ ــود اهلل هـ ــو الوجـ ــود احلقيقي ‪ ،‬وجـ ــود العـ ــامل هـ ــو الوجـ ــود‬
‫الومهي‪ ،‬ويبين ابن عـريب على وحـدة الوجـود وحـدة األديـان وغـري فكـرة التوحيـد‬
‫بقولــه ليس يف الوجــود على احلقيقــة إال اهلل وال معبــود يف الواقــع إال اهلل وقــد قــال‬
‫عن نفســه كيــف حيبس من حــل منــه الالهــوت يف الناســوت‪ .‬وكــانت وفاتــه عــام‬
‫‪638‬هـ بدمشق ودفن فيها وله قرب يزار يف أيامنا هذه ‪.‬‬
‫‪ -4‬ابن سبعين(‪: )242‬‬
‫ه ــو عب ــد احلق بن حمم ــد بن نص ــر االش ــبيلي املرس ــى الق ــرمطي ‪ ،‬ول ــد س ــنة ‪614‬‬

‫‪ )?(241‬سري النبالء للذهيب ‪ ،13/231‬فوات الوفيات‪ :‬للكتيب‪ ،440-3/435 ،‬املوسوعة الصوفية‬


‫‪. 291-286‬‬
‫‪ )?(242‬انظــر‪ :‬الطبقــات الكــربى‪ ،‬للشــعراين‪ ،‬ص‪ ، 286‬وفيــات األعيــان ‪ ،1/274‬شــذرات الــذهب‬
‫‪ 5/321‬وما بعدها ‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫وتوىف سنـة ‪ 669‬هجريـًا ‪ ،‬وتوفـى منتحـرًا ‪ ،‬قيـل أنـه فصـد الـدم من يديـه وتركـه‬
‫ينزف حىت تصفى فمات ‪.‬‬
‫وهو صويف وحكيم درس العربية وآداهبا باألندلس ‪.‬‬
‫من أقواله السقيمة " لقد كذب ابن أيب كبشة حني قال ال نيب بعدي ‪.‬‬
‫ومن مؤلفات ــه أس ــرار احلكم ــة – احلروف الوض ــعية يف الص ــور الفلكي ــة – ج ــواهر‬
‫السر املنري ‪.‬‬
‫وال ختل ــو مؤلفات ــه من األق ــوال الباطل ــة ك ــان يك ــثر من الق ــول بوح ــدة الوج ــود يف‬
‫مؤلفاته ومواعظه‪.‬‬
‫‪ -5‬شهاب الدين السهروردي (‪:)243‬‬
‫ه ــو أب ــو الفت ــوح ش ــهاب ال ــدين حيىي بن حبش بن أم ــريك الس ــهروردي‪،‬‬
‫امللقب بالشيخ املقتول‪ ،‬ولد عام ‪549‬هـ يف مدينة ميــديا املعروفــة باســم ســهرورد‬
‫من أعمــال زجنان من فــارس (العــراق العجمي)‪ ،‬تنقــل يف البلــدان‪ ،‬تتلمــذ على يــد‬
‫عبــد الكــرمي اجليلي " اجليالين " شــيخ فخــر الــدين الــرازي‪ ،‬طــالع كتب ابن ســينا‬
‫وتصــوف وتقــرب من امللــك الظــاهر بن الســلطان صــالح الــدين األيــويب وحضــر‬
‫جمالسه ‪.‬‬
‫اختلــف الفقهــاء مــع الســهروردي لقولــه (إن اهلل قــادر على أن خيلــق نبيـًا‬
‫بعـد حممـد ‪ ‬وأمـر صـالح الـدين ابنـه امللـك الظـاهر بقتلـه الحنالل عقيدتـه‪ ،‬وكـان‬
‫ذل ــك ع ــام ‪587‬هـ ـ ‪ ،‬ك ــان مس ــتوى القام ــة ميي ــل إىل مساع املوس ــيقى‪ ،‬حيتق ــر من‬
‫يتقرب إىل السلطان واألهبة الدنيوية‪ ،‬سـليط اللســان‪ ،‬ال حيرتم الفقهـاء والشــيوخ‪،‬‬
‫وكان أحيانًا يرتدي اخلرقـة الصـوفية والثيـاب املهلهلـة؛ وكـان رديء اهليئـة ذريء‬

‫‪ )1(243‬انظ ــر ‪ :‬وفي ــات األعي ــان‪ ،‬أب ــو العب ــاس مشس الدي ــن أمحد بن حمم ــد بن أيب بكــر بن خلكــان ‪،‬‬
‫حتقي ـ ـ ــق ‪ :‬د‪ .‬إحس ـ ـ ــان عب ـ ـ ــاس دار الثقاف ـ ــة ب ـ ـ ــريوت ‪ . 270-6/268‬األعالم لل ـ ـ ــزركلي دار العلم‬
‫للماليني ‪. 8/140‬‬
‫‪86‬‬
‫اخللقة ال يغسل له ثوبًا وال يقص ظفرًا وال شعرًا ‪.‬‬
‫وكان أوحد زمانه يف العلوم احلكمية‪ ،‬جامعًا للفنون الفلسفية بارعـًا يف‬
‫األصول الفقهية‪ ،‬مفرط الذكاء‪ ،‬فصيح العبـارة‪ ،‬علمــه أكــرب من عقلــه‪ ،‬من أقوالــه‬
‫حرام على األجساد املظلمة أن تلج ملكوت السموات ‪.‬‬
‫اللهم خلص لطيفي من هذا العامل الكثيف ‪.‬‬
‫ولــه كثــري من املؤلفــات بعضــها مطبــوع مثــل ‪ :‬هياكــل النــور‪ ،‬رســالة يف‬
‫اعتقاد احلكماء‪ ،‬حكمة اإلشراق وبعضها خمطــوط مثــل ‪ :‬املشــارع واملطارحــات‪،‬‬
‫التلوحيات‪ ،‬مقامات الصوفية‪.‬‬
‫وذكـ ــر ابن خلـ ــدون االختالف يف امسه هـ ــل هـ ــو حيىي أم أمحد أم عمـ ــر‬
‫واملرتجم عنده أنه حيىي وذلك ألن مجاعة من أهل الفن كتبوه هبذا االسم ‪.‬‬

‫الخاتمة‬

‫وبعد … فقد توصلت واحلمد هلل تعاىل إىل النتائج التالية ‪:‬ـ‬
‫أوًال ‪ :‬إن الباحث ال يستطيع أن يقف على تعريف أو اشتقاق متفق عليه بني‬
‫أهل الفن وأصحاب املذاهب الصوفية‪ ،‬بل هم يف ذلك طرق ومذاهب شىت ‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬إن التصوف مر بأطوار شىت وكل فرتة زمنية امتازت عن األخرى‬
‫ببعض املستجدات مع العلم أن األطوار كلها مل تنته بعد بل هنالك من الناس‬
‫من ال زالوا متأثرين بالطور األول‪ ،‬وآخرون متأثرون باألطوار األخرى ‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫ثالثًا ‪ :‬نالحظ من خالل هذا البحث أن الصوفية هلم مصادرهم واملؤثرات‬
‫اليت تأثروا هبا فغالبهم يعترب العلوم وهبيه حيصلون عليها عن طريق الرياضات‬
‫والكشف والذوق والرؤى املنامية‪ ،‬مبتعدين بذلك عن اهلدي النبوي متبعني‬
‫لألفكار واملعتقدات اليت تأثروا هبا ‪.‬‬
‫رابعًا ‪ :‬نتبني أن التصوف والصوفية ليسوا مدرسة واحدة بل هم مدارس وطرق‬
‫ومجاعات متباينة الفكر والتوجه‪ ،‬وإن كان جيمعها كلها البعد عن امللذات‬
‫والشهوات واملتع الزائلة ‪.‬‬
‫خامسًا ‪ :‬ال ميكن أن يعامل مجيع الصوفية معاملة واحدة وال ميكن أن جيمعهم‬
‫حكم عام بل كل واحٍد وكل طريقة منهم تدرس على حدة‪ ،‬حىت نعرف ما‬
‫عندهم من احلق والباطل‪ ،‬ونحكم عليهم بناًء على ذلك‪ ،‬فكلما كانوا أقرب‬
‫إىل السنة كانوا أقرب إىل احلق‪ ،‬وكلما كانوا أبعد عن السنة كانوا أقرب إىل‬
‫الضالل ‪.‬‬
‫وأسأل اهلل عز وجل أن يرينا احلق حقًا ويرزقنا اتباعه‪ ،‬ويرينا الباطل‬
‫باطًال ويرزقنا اجتنابه‪ ،‬وأسأل اهلل العلي القدير أن يهدينا سبل السالم إنه على‬
‫كل شيء قدير ‪.‬‬
‫وأخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني ‪.‬‬

‫د‪.‬‬
‫حممود يوسف‬
‫الشوبكي‬
‫‪24‬‬
‫صفر‬
‫‪1423‬هـ‬
‫‪88‬‬
‫‪7‬‬
‫مايو ‪2002‬م‬

‫‪89‬‬

You might also like