You are on page 1of 191

‫غادة الكرمل‬

‫في بقعة جميلة هادئة من جبل الكرمل الشامخ المهيب القائم في‬
‫أبدع مدن فلسطين ) حيفا ( شاد البناءون منزل أقرب إلى القصور‬
‫بفخامته و روعته و ضخامة أعمدته الرخامية و شرفاته العالية و‬
‫ردهاته الفسيحة و غرفه المتعددة و قاعاته الواسعة‪ ،‬و قد افتن من‬
‫طلوا جدرانه فيما أتوه من مناظر بديعة تحاكي الطبيعة في أروع‬
‫صورها و اجلي معانيها‪ ،‬والناظر إليها يرى السهل و الجبل و النهر و‬
‫الشجر و الراعي و الغنم و الطير المحلق في غمار السحب‪ ،‬و قد‬
‫أطلت من السقوف المطلية بزرقة هادئة ثريات فضية باهرة تتلأل‬
‫تللؤ النجوم في قبة السماء‪.‬‬
‫و مما يجذب عين الناظر في أبهاء ذلك القصر أبوابه الهائلة ذات‬
‫المقابض الكروية المذهبة و قد حفر خشبها برسوم زخرفيه تتخللها‬
‫نحلت نحاسية صفراء فتبدو للعين و هي تلمع بشعاع ذهب يخاطف‬
‫كأقراص شموس صغيرة‪.‬‬
‫و لم يغفل صاحب القصر عن تجميل هذا الممر الطويل الواسع‪ ،‬فأقام‬
‫على جانبيه قفصين بديعين كبيرين ضم كل منهما بين قضبانه طيرا‬
‫من طيور الطاووس و تلتهما أقفاص أصغر حجما للعنادل والببغاوات‪،‬‬
‫و قامت أشجار السرو النحيلة الباسقة حول ذلك القصر و حديقته‬
‫الغناء فبدت وسط سكون الليل كعذارى حسناوات انتصبن بأعوادهن‬
‫الفارعات يتنسمن شذى الزهر المعطر ويملن النظر من جنة القصر‬
‫الفيحاء‪.‬‬

‫وأقام في هذا الفردوس ) شكري بك ( و زوجته ) ظريفة ( و ابنة أخيه‬


‫) سعاد ( _ أرملة ولدهما المتوفى‪.‬‬

‫و كانت لهما ابنة اسمها) هدى (خصص لها أبوها جناحا في القصر‪ ،‬و‬
‫أما وحيدهما) وليد ( فقد بعثا به إلى انجلترا يتلقى علومه هناك‪.‬‬

‫سكنت هذه األسرة الثرية قصرها بعد أن فرغ البناءون من إعداده و‬


‫تنسيقه‪ ،‬و كان فصل الربيع قد بدأينسج أثوابه و يجود بعبق أنفاسه‪،‬‬
‫فازدهرت البساتين ترفل في ثياب أنيقة بيضاء من زهراللوز و‬
‫المشمش و التفاح ينبعث عبرها مع نسمات الليل و تباشير الصباح‪ ،‬و‬
‫تحررتالطيور الشجية من أوكارها على اختلف فصائلها و ألوانها و‬
‫انطلقت تشدو مرفرفة بين األحراج و البساتين‪.‬‬

‫سارت أيام الربيعحلوة ناعمة بعليل نسيمها و أريج أزهارها و أسرة‬


‫شكري بك تنعم بحياتها آمنة مطمئنة‪،‬إلى أن انقضى هذا الفصل‬
‫المزدهر و اقبل بعده الصيف بلياليه المقمرة و ثمارهالناضجة‪ ،‬و إذا‬
‫البساتين تنزع عنها ثيابها البيضاء و تلبس األشجار غلئلها الخضراءتنوء‬
‫أغصانها تحت عبئ ثمارها كعرائس أثقلتها الحلي و الدمالج فتهتز و‬
‫تتمايل لتطرحللمواطنين ما أغدقه عليهم المولى العظيم من نعمه‪،‬‬
‫فيؤكل منها و يصدر ويباع‪.‬‬

‫و كان من أجمل مايصافح العين حين تنقشع ظلمة الليل عن جبين‬


‫البكور فتيات القرى و قد سرن إلى المغارسو الحقول جماعات‬
‫بوجوههن الصبيحة و قاماتهن الرشيقة و قد شددن خصورهن‬
‫اللدنةالنحيلة بشملت ملونة فوق ثيابهن الطويلة المطرزة و أخذن‬
‫سللهن لقطف الثمار أوانعطفن بجرارهن للستقاء‪.‬‬

‫و مضى شطر من الصيفو األسرة هادئة هانئة‪.‬‬


‫و ذات أمسية منأمسيات هذا الفصل‪ ،‬جلست ) نجلء ( في شرفة بيتها‬
‫الصغير المواجهة لذلك القصر الشاهقالبديع تحيك بعض الثياب‪ ،‬و هي‬
‫أرملة في نحو الخمسين من عمرها‪ ،‬مهيبة الطلعة‪ ،‬طويلةالقامة‪،‬‬
‫عاقلة رزينة‪ ،‬لم يستطع الدهر بأحداثه أن ينكر عليها ما كانت تتمتع به‬
‫منجمال عارم في عهد شبابها‪.‬‬
‫و كانت لها ابنةوحيدة تعيش معها اسمها ) سلمى ( هي كل ما فازت‬
‫به من عوادي الحياة و أنياب الزمان‪،‬بعد أن فقدت زوجها و ولدها‪.‬‬

‫و كانت الفتاة صبيةهيفاء دون العشرين على جانب عظيم من‬


‫الجمال‪ ،‬مات أبوها و هو يدافع عن وطنه في موقعةنشبت بين العرب‬
‫و اليهود‪ ،‬في ثورة عام ‪ 1936‬و اقتدى به أخوها‪ ،‬فانتهت حياته على‬
‫حبللمشنقة شهيد وطنه‪ ،‬و باتت الفتاة منذ ذلك الحين يتيمة ل تعرف‬
‫إل أمها التي تعيشفي كنفها‪.‬‬
‫و لما كانت) نجلء( حائكة ماهرة‪ ،‬فقد استطاعت أن تعيش في‬
‫بحبوحة من الرزق‪ ،‬و أغدقت على صغيرتها الحليو الثياب‪ ،‬و ربتها‬
‫تربية كريمة‪ ،‬جمعت بين تعليم اللغة العربية و بعض اللغات األخرى‪،‬و‬
‫منها العبرية‪ ،‬و بين الدين و الثقافة‪ ،‬و فن الرسم الذي برعت فيه‬
‫براعة فذة‪ ،‬حتىإذا أتمت الفتاة دراستها انصرفت إلى الرسم و‬
‫التصوير‪ ،‬الفن الذي شغفت به‪ ،‬و كانتلها لوحات رائعة تعود عليها‬
‫بأرباح وافرة‪.‬‬
‫و كان يساعدها فيبيعها جارها ) حامد ( و هو رجل وقور جاوز سن‬
‫الشباب‪ ،‬و عرف بين الناس بحسن السيرة ودماثة الخلق‪ ،‬و كان‬
‫صديقا لوالد الفتاة‪ ،‬فكان يتفقدها و أمها‪ ،‬و يسهل لها السبللبيع‬
‫لوحاتها‪ ،‬فكلما أعدت لوحة جديدة حملها إلى دكانه وسط السوق‬
‫ليعرضها علىاألثرياء من العرب و اليهود ثم يعود إلى الفتاة و أمها‬
‫بحفنة من النقود‪.‬‬
‫سارت حياةاألم و ابنتها على هذا المنوال صافية رائقة ل يعكرها سوى‬
‫الفراغ الذي خلفهالشهيدان الراحلن في نفسيهما و حياتهما‪.‬‬

‫في هذه األمسية جلستسلمى تتابع رسم لوحتها‪ ،‬و كانت الشمس قد‬
‫آذنت بالمغيب‪ ،‬فأرسلت خيوطها الذهبيةالضاربة إلى الحمرة تنسج‬
‫منها حلتها الوردية و تنحدر بها على وجه مياه البحرالرقراقة الزرقاء‪.‬‬
‫فانصرفت الفتاةبنظراتها إلى ذلك المنظر البديع تستلهم من الطبيعة‬
‫أجمل صورها و تقدمها في لوحتهاوسط إطار رائع خلب‪.‬‬
‫و مر إذ ذاك عن كثب منبيت ) نجلء ( و ابنتها فتى مديد القامة‪ ،‬وسيم‬
‫الطلعة‪ ،‬قمحي اللون‪ ،‬تتألق عيناهالسوداويان ببريق القوة و الشباب‪،‬‬
‫و تنطبع على محياه الجميل دلئل الشهامة و النبل‪،‬و كانت سنه ل‬
‫تتجاوز بضع و عشرون عاما‪ ،‬و أول ما يسترعي الناظر إليه بنوع خاص‬
‫جمالرجولته و قوة شخصيته‪.‬‬
‫و لمح تلك الغادةالحسناء و هي مكبة على لوحتها‪ ،‬تتابع فيها رسمها و‬
‫قد تهدلت خصلت شعرها الفاحمة واستقرت واحدة منها فوق جبينها‬
‫الساطع و تناثر بعضها حول جيدها الطويل‪ .‬أما شفتاهاالمطبقتان فقد‬
‫حاكت بلونهما حمرة الشفق األرجوانية‪ ،‬و راحت عيناها تومضان من‬
‫بينأهدابها الغزيرة السوداء بوميض ساحر خلب كلما انتقلت بنظراتها‬
‫ما بين لوحتها و بينمنظر الطبيعة البديع‪.‬‬
‫و لم تشعر بالفتى الذيبهره جمالها فتسمر مبهوتا في مكانه مسلوب‬
‫اللب مبهور األنفاس‪ .‬و همس في نفسه وعيناه شاخصتان إلى الفتاة‪:‬‬
‫"أهناك بالله لوحة أجمل من هذه يمكن أن تصورها تلكالغادة على‬
‫طبيعتها هذه" ؟‬

‫و كانت الشمس قداحتجبت تماما و بدأ الغروب ينشر أجنحته على‬


‫الكون و يطوي من تحتها الفضاء‪ ،‬فألقتالفتاة بريشتها‪ ،‬و ارتدت‬
‫برأسها إلى ظهر مقعدها تمعن النظر فيما أنتجته عبقريتها منالهام‬
‫الطبيعة و جللها في ساعة الغروب‪.‬‬

‫فتراجع الفتى و استدارعلى عقبيه و هو يشعر نحو الفتاة بشعور‬


‫غريب أشبه بالجاذبية‪ ،‬و سار في طريقه إلى ذلكالقصر المواجه لبيت‬
‫الفتاة و ولج بابه‪.‬‬

‫كان هذا الشاب هو) وليد ( ابن مالك القصر ) شكري بك(قد عاد من‬
‫انجلترا بعد أن درس الحقوق هناك‪ ،‬وكانت قاعة القصر في تلك الليلة‬
‫بالذات تعج باألقارب و األصدقاء حفاوةبعودته‪.‬‬

‫و لبس المنزل الكبيرحالة رائعة من البهجة و المرح تراقصت من‬


‫حوله األنوار الساطعة و ترنمت الصباياباألغنيات الشائعة تنبعث‬
‫أصواتهن من نوافذ القصر مع حلقات الفضاء رخيمة صافية‬
‫كرنينالفضة الخالصة‪.‬‬

‫و انتصبت الولئمتقدم فيها األطعمة و الحلوى و الفاكهة من كل شكل‬


‫و لون‪ ،‬فأكل القوم و شربوا و بلغمرحهم مداه‪.‬‬

‫و تطلع أهل المنازللصغيرة المجاورة إلى ذلك المنزل الشامخ الذي‬


‫يداني بهيئته القصور العالية و هويسبح في أشعة من األنوار المالقة‪ ،‬و‬
‫تهامس بعضهم عن الثروة التي نزلت على صاحبه منذعهد قريب حتى‬
‫عاش هذه العيشة المغمورة بالترف و الرفاهية‪ ،‬و قالت سلمى لمها‬
‫و هيترنو بعينها الجميلتين إلى ذلك القصر و أضوائه المتللئة و تطرق‬
‫إذنيها أنغامالموسيقى و الغناء المنبعثة من نوافذه‪ " :‬انظري يا أماه‬
‫القوم في هرج و مرج واليهود يعدون الحصون و يحكمون لها البناء"‪.‬‬
‫و قبل أن تجيبهاأمها بشيء التفت إليها حامد الذي جاء و زوجته‬
‫لزيارتهما و قال‪ " :‬أين هي الحصون والستعدادات يا بنيتي"‪.‬؟‬

‫تحولت الفتاةبنظراتها إليه و قالت و هي تشير بسبابتها إلى بناء أشبه‬


‫ببرج هائل يقع على سفحالجبل‪ " :‬تلك القلعة يا عماه التي أعدها‬
‫اليهود لتكون حصنا لهم في األيام المقبلة"‪.‬‬

‫و قال الرجل في شيءمن الدهشة‪ " :‬و لكنها يا بنيتي هي كما تعلمين‬
‫سوق للخضراوات اتخذها اليهود لهم"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬أي سوق هذهالتي ل منفذ لها سوى هذه الكوى الصغيرة‬
‫المثبتة في أعلى جدرانها السميكة؟"‪.‬‬

‫و قالت نجلء مؤيدةقول فتاتها‪ " :‬نعم يا أخي حامد‪ ،‬أن حصون اليهود‬
‫كثيرة و هم ل يغفلون عنها‪ ،‬و ليهملون إنشاءها‪ ،‬و لو أدرك صاحب‬
‫هذا القصر من الذين أعماهم الجشع‪ ،‬و أغراهم المالفضاعة جرمهم‪ ،‬و‬
‫هول ما يقدمون عليه طلبا للثراء و ما له من العواقب الوخيمة‬
‫علىالبلد و أهلها األبرياء لفضلوا حياة البؤس و الفقر على النغماس‬
‫في الترف و اللذات"‪.‬‬

‫فصمت حامد برهة‪ ،‬مالبث بعدها أن قال‪ " :‬أو تعتقدين يا أختاه أن‬
‫شكري بك جمع ثروته هذه عن طريق غيركريمة؟ "‪...‬و استدرك قائل‪:‬‬
‫" ل أظن ذلك "‪.‬‬

‫فصمتت نجلء و لمتجب بشيء‪ ،‬بينما ردت سلمى قائلة‪ " :‬أتظن يا‬
‫عماه أن ثروة هذا الرجل نزلت عليه منالسماء؟"‪.‬‬

‫قال حامد‪ " :‬أناشخصيا ل استطيع أن اجزم في أمره "‪ ،‬و استطرد‬
‫يقول‪ " :‬و ماذا يضيرنا يا بنيتي ويضير الناس أن يحيا شكري بك و‬
‫غيره حياة رغد و ترف ما داموا ل يتعرضون لغيرهمباألذى"‪.‬‬
‫قالت الفتاة بحدة‪" :‬ما هذا الذي اسمعه منك يا عماه‪ ،‬كيف ل يضيرنا‬
‫و يؤذينا إن يكون بين المواطنينخائنون‪ ،‬يبيعون دينهم و وطنهم من‬
‫اجل حفنة من الذهب؟ ل ‪ ،‬إنهم بعملهم هذا يفسحونالمجال لليهود‬
‫الذين يفدون من الغرب و جميع األقطار أفرادا و جماعات‪ ،‬ليغدقوا‬
‫علىأولئك الحمقى ذهبا و يشترون به البلد‪ ،‬و يغضب لذلك أمناء‬
‫فلسطين األحرار‪ ،‬فتضطربالحياة المنة‪ ،‬و تندلع الثورات‪ ،‬و تحول‬
‫ارض البلد إلى مذابح و براكين دامية ترويثراها دماء الشهداء من‬
‫أبنائها‪ ،‬و بذلك يدفع القوم األبرياء أرواحهم و دمهم ثمناألمثال هذا‬
‫الترف و الثراء‪ ،‬و يذبح منهم من يذبح في المعارك التي تنشب بينهم‬
‫و بيناليهود‪ ،‬و يشنق منهم من يشنق بأيدي المستعمرين الذين‬
‫يطاردون الثوار و المجاهدين‪،‬فتبيت األطفال يتامى‪ ،‬و األمهات ثكلى‬
‫بأبنائها‪ ،‬و ترمل الزوجات‪ ،‬كما حدث في ثورةعام ‪ 1936‬يوم أن ذبح‬
‫األنذال اليهود أبي و هو يدافع عن وطنه في موقعة نشأت بينهم وبين‬
‫العرب‪.‬‬

‫ثم شنق النجليزأخي و غيره من الشبان و المجاهدين‪ ،‬و قد كنت‬


‫طفلة غريرة يومئذ‪ ،‬و لكن أمي حدثتنيبكل شيء‪.‬‬

‫فإن لبثت هذه حالنايمدنا اليهود بالذهب و نمدهم باألرواح و الدماء‪،‬‬


‫خارت قوانا و قويت عزائمهم‪ ،‬و ثبتتبل ريب أقدامهم و اتسعت‬
‫مطامعهم‪ ،‬و يجيء يوم يطالبوننا فيه بالجلء عن أرضنا وديارنا"‪.‬‬

‫و صمتت و قد غشيت عينيها الدموع‪ ،‬و غمغمت قائلة و هي تعاود‬


‫النظر إلى ذلك القصر الحافل‪ " :‬سيدفع هذاالرجل صاحب اللقب‬
‫األجوف‪ ،‬حياته ثمنا لفداحة جرمه كما حدث ألمثاله من قبله"‪.‬‬

‫فبهت حامد و قال‪ " :‬ما كنت اعلم أن شكري بك كذلك‪ ،‬هدئي روعك‬
‫يا بنيتي واتركي األمر لله يقتص من أولئكاألشرار"‪.‬‬
‫قلب هائم‬

‫أصبح وليد‪ ،‬نجل شكري بك‪ ،‬منذ اكتحلت عيناه برؤية تلك الصبية‬
‫الحسناء )سلمى( منطويا على نفسه‪ ،‬دائب التفكير في أمرها‪ ،‬و لم‬
‫يكن بمقدوره أن يقصي طيفها الجميل على ناظره‪ ،‬أو يسلو تينك‬
‫العينين المنيرتين ذواتي األهداب التي يترامى ظلها إلى الخدين مع ما‬
‫يتجلى في وجه صاحبتهما من جمال و روعة‪.‬‬

‫و اضطرمت بين ضلوعه عاطفة مشبوبة بحبها أشقته و عذبته‪ ،‬و رأى‬
‫أن الحياة ل تطيب له إل أن كانت تلك الصبية بجانبه ‪ ،‬فقرر أن‬
‫يخطبها‪ ،‬و لكنه كان يعلم لو أفضى بمثل هذا النبأ لوالدته فلن تتقبله‬
‫بالرضي أو السرور بل انه سيجلب عليها نقمتها لرغبتها في تزويجه‬
‫ممن تربطه بهن صلة القربى‪ ،‬و لن تتورع من أن تدفعها أنانيتها إلى‬
‫تحريض أبيه كي يقف حائل دون هذا الزواج‪ ،‬و لذا اثر أن يذهب إلى‬
‫ابنة عمه سعاد‪-‬أرملة أخيه المتوفى‪ ، -‬ليفضي إليها بما في‬
‫نفسهفمضى إليها في حجرتها‪ ،‬فاستقبلته هاشة باسمة و دعته‬
‫للجلوس و أخذت هي مكانها إلى مقعد قبالته‪ ،‬و لحظت عليه قلقه و‬
‫تبدل حاله و ابتدرته بقولها‪":‬ما وراءك يا ابن العم؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬إنني لست في خير حال يا ابنة عمي‪ ،‬و ها أنا ذا لم أجد غيرك‬
‫ألفضي له ما بنفسي"‪.‬‬

‫قالت بحنان األخت الكبرى‪" :‬اخبرني بالله ما في ضميرك؟"‬

‫صمت لحظة ثم قال‪ " :‬جئت ألسألك عما تعرفين من أمر تلك الفتاة‬
‫الحسناء التي تقطن ذلك البيت القريب منا"‪.‬‬

‫فابتسمت سعاد و قالت‪ " :‬أتقصد غادة الكرمل؟"‬


‫قال‪" :‬وهل هذا هو اسمها؟"‬

‫قالت‪ " :‬هذا ما لقبها به أهل الحي ألنها أجمل فتيات الجبل‪ ،‬أما اسمها‬
‫الحقيقي فهو )سلمى(‪ " ..‬و استطردت و البتسامة ما زالت على‬
‫شفتيها ‪ " :‬ترى هل أصابت تلك الغادة هوى من نفسك حتى طرا‬
‫عليك مثل هذا التبدل؟"‬

‫قال "نعم فهل قصصت علي ما تعرفينه من أمرها؟"‬

‫أدركت سعاد أن ابن عمها عازم على طلب يد الفتاة‪ ،‬فأطرقت برهة‬
‫صامتة ساكنة خيل للفتى أنها دهرا ثم اندفع قائل‪ " :‬ما الخبر يا ابنة‬
‫عمي‪ ،‬أمخطوبة هي؟"‬

‫قالت و هي ترفع رأسها ببطء من إطراقها‪ " :‬ل ليست مخطوبة ألحد‪،‬‬
‫و لكني أرى الطريق إليها وعرا"‪.‬‬

‫فامتقع لونه و قال‪ " :‬إني ل افهم ما تقولين‪ ،‬هل هناك ما يشوب‬
‫سمعتها ؟ "‬

‫فهزت رأسها سلبا و قالت ‪ " :‬بل هي عذراء طاهرة كالملئكة‪ ،‬تعيش‬
‫مع أمها عيشة شريفة ل تشوبها شائبة‪ ،‬و هما المثل األعلى عند أهل‬
‫الحي بحسن السيرة و طهارة الذيل"‪.‬‬

‫عاوده هدوؤه و قال‪ " :‬إذا كنت تعنين إن والدي سيعترضان على هذا‬
‫الزواج‪ ،‬فلن يهمني ساعتئذ غضبهما أو رضاهما؟ و ليس لزاما علي أن‬
‫اربط حياتي بحياة من يريد أهلي أن تكون شريكة لعمري‪ ،‬و أتزوج‬
‫الفتاة التي يحبها لي غيري"‪.‬‬

‫قالت سعاد‪ " :‬ليس هذا كل ما هنالك يا ابن عمي‪ ،‬بل اخشي أل‬
‫ترضى بك الفتاة"‪.‬‬

‫فبهت الشاب و لم يجد ما يقوله‪ ،‬و تساءل في نفسه‪ " :‬ترى أي عيب‬
‫تراه ابنة عمي بي حتى تلقاني بمثل هذه الصفعة ؟"‪.‬‬
‫و كأنما أدركت سعاد ما دار بخلده‪ ،‬فهتفت به "عسى أن ل تكون‬
‫أخطأت فهمي يا ابن العم"‬

‫فرفع عينيه إليها و قال‪ " :‬لست افهم منك سوى أني لست للفتاة‬
‫بأهل"‪.‬‬

‫قالت‪ ":‬بلى لست أرى من هو أكثر أهل منك لها‪ ،‬و لكنك ل تعلم أن‬
‫والد الفتاة استشهد و هو يدافع عن وطنه في ثورة عام ‪ ،1936‬و‬
‫مات الميتة الشريفة التي ماتها زوجي‪ ،‬أخوك و كذلك أخوها‪ ،‬و اليوم‬
‫بدأ الناس يتهامسون عن الثروة التي ينعم بها والدك و يقرنون اسمه‬
‫بما ل يشرفك"‪.‬‬

‫فما كادت سعاد تتم قولها حتى رأت ابن عمها يثب على قدميه و‬
‫يصيح قائل‪" :‬و هل حذا أبي حذو أولئك الخائنين؟"‪.‬‬

‫فأشارت إليه بالصمت و تلفتت حولها و همست‪ ":‬هذا ما يردده بعض‬


‫الناس"‪.‬‬

‫قالت ذلك و ما لبثت أن ندمت على ما فرط منها و هي ترى احتقان‬


‫وجه ابن عمها و تجهمه‪ ،‬و خشيت أن يقدم على عمل يرتكبه في حق‬
‫أبيه تكون هي سببه‪ ،‬فاستدركت تقول‪ ":‬أنا شخصيا ل أثق فيما يقال‬
‫من هذا القبيل‪ ،‬و أكبر ضني أن عمي بريء من تلك التهم التي تلصق‬
‫به‪ ،‬و ل تنس أن هناك من الناس من هم اقدر من الشياطين في‬
‫الحسد و الهمس و إطلق األقاويل‪ ،‬و المعروف أن عمي قضي شطرا‬
‫من عمره تاجرا‪ ،‬و ل غرابة في أن يضرب الحظ ضربته مع التجار‬
‫فتدر عليهم تجارتهم أرباحا طائلة تتكون منها ثروة هائلة"‪.‬‬

‫همس الفتى و هو بين الشك و اليقين من أمر أبيه‪ " :‬هذا ما أنبأني به‬
‫في رسائله حين كنت بالخارج‪،‬و كثيرا ما حدثني عن النجاح الساحق‬
‫الذي أحرزته تجارته‪ ،‬و األرباح الطائلة التي أصابها من وراء ذلك‪ ،‬و لذا‬
‫لم يدهشني حين عدت إلى الوطن أن أرى مظاهر الترف و النعم‬
‫تغمره"‪.‬‬

‫قالت و هي تختلس إلى وجهه نظرة خاطفة‪ " :‬هذه هي الحقيقة‪ ،‬و‬
‫لكني كنت أخشى أن تطرق أذنك تلك الشائعات فآثرت أن تسمعها‬
‫مني لتكون على بينة من أمر تلك التي يقرنها الناس باسم أبيك"‪.‬‬
‫عاد الهدوء إلى نفس الفتى و قال‪ " :‬و على أية حال فسرعان ما‬
‫ينجلي األمر و يظهر لنا الحق من الباطل‪ ،‬و والله لو صح ما يردده‬
‫القوم عن أبي فل بد أن انتصف لوطني"‪.‬‬

‫اصطكت ركبتا المرأة و قالت تدير دفة الحديث معه‪ ،‬و تحاول أن تعيد‬
‫إليه هدوء نفسه‪ " :‬دع عنك ثرثرة القوم و مزاعمهم يا ابن العم‪ ،‬و‬
‫حدثني ماذا أنت فاعل بشأن سلمى؟"‪.‬‬

‫تبسم و قال‪ " :‬رأيي أن ابعث بك إليها تخطبينها"‪.‬‬

‫فذعرت سعاد و قالت‪ ":‬هل تنوي أن تجلب على راسي نقمة‬


‫والديك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ماذا تقترحين؟"‪.‬‬

‫قالت‪ ":‬اذهب لوالدتك و افض لها بما في نفسك و اطلب إليها أن‬
‫تذهب لبيت الفتاة و تخطبها لك من أمها‪ ،‬أو اذهب أنت بنفسك و‬
‫اطلبها من أمها‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أنت تعلمين أن أمي ل توافقني لو طلبت إليها ذلك ألن الخيلء‬
‫و الغرور يجثمان على بصيرتها و يملكان عليها مشاعرها‪ ،‬فهي شديدة‬
‫التعالي و الكبرياء إلى درجة ل تطاق‪ ،‬و كذلك أختي‪ ،‬لعتقادهما أنه‬
‫ليس هناك من بين مخلوقات الله من توازيهما حسبا و نسبا و منزلة‪،‬‬
‫و كما تعلمين أن أمي تسعى تارة لتزويجي من ابنة أختها التي ل تلئم‬
‫نفسي‪ ،‬و أخرى من ابنة أخيها تلك الفتاة اللعوب التي تشبه الغانيات‪،‬‬
‫ثم تقاليد البلد ل تسوغ لي أن اذهب بنفسي و اطرق باب الفتاة طالبا‬
‫يدها كما تقولين"‪.‬‬

‫فحنت عليه و حسبت للصدمة في نفسه ألف حساب لو اعرضت‬


‫الفتاة عنه و أبت أن تتخذه زوجا لها‪.‬‬

‫و كانت سعاد ترى في ابن عمها الشهامة و النبل و كمال الرجولة و‬


‫خيمتها‪ ،‬و تمكنت لو تجمعه الصدفة بالفتاة عسى أن تصيب مزاياه‬
‫هذه هوى من نفسها كما فعلت به‪ ،‬فليس شيء بين عجائب الدنيا أن‬
‫الحب يفوق في معجزته و ل غلبة لسلطانه‪.‬‬
‫و مر بذهنها في تلكاللحظة خاطر و قالت‪":‬ليس لك إل العم حامد فهو‬
‫بمثابة أب للفتاة و أخ لمها‪ ،‬فامض إليه في متجره‪ ،‬و اطلب شراء‬
‫لوحة من لوحاتها‪ ،‬و لتر بعد ذلك ما يكون من أمر‪".‬‬

‫أبرقت أساريره و قال‪ " :‬سأذهب إليه في الحال"‪.‬‬


‫قصة مصورة‬

‫طرق باب نجلء طارق ذات صباح‪ ،‬فمضت سلمى تستطلع األمر‪ ،‬و إذا‬
‫العم حامد يبتدرها بقوله‪ " :‬هناك مشتر جاءني أمس يرغب في شراء‬
‫لوحة زيتية‪ ،‬و لما كنت أعلم أنك لم تنتهي بعد من إتمام لوحتك‬
‫األخيرة رأيت أن اصحبه إلى هنا ليراها‪ ،‬و نتقاضى منه عربونا كي ل‬
‫تكون اللوحة من حق آخر سواه"‪.‬‬

‫فبهتت الفتاة و قالت‪ " :‬و لكنك تعلم يا عماه أننا ل نستقبل الغرباء‬
‫من الرجال في دارنا‪ ،‬فلم أقدمت على ذلك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ألن الصفقة كانت رابحة فأردت أن احتجز الرجل"‪.‬‬

‫فأجابت بلهجة تنم عن عدم الرتياح‪ " :‬نحتجزه؟"‪.‬‬

‫قال "نعم‪ ،‬فإني حين رأيته يرفل في مظاهر النعمة و الترف قلت له‬
‫أن اللوحة ثمينة و ل يقل ثمنها عن خمسين جنيها‪..‬فلم يعترض أو‬
‫يناقش‪ ،‬فخفت أن أضيعه‪ ،‬و ما عليك من كونه غريب فقد سمعته‬
‫يقول من تلقاء نفسه أنه سيصحب معه إحدى قريباته‪ ،‬و هو إلى هذا‬
‫شهم كريم الخلق كما يبدو لي"‪.‬‬

‫فقطعت الفتاة كلمه و قالت‪ " :‬و إن يكن شهما كريما يا عماه فإننا ل‬
‫نحب أن نتعرض أللسنة الناس"‪.‬‬

‫و هنا صاح حامد بصبر نافذ و قال‪ " :‬ليس هناك ما يعاب يا بنية ما‬
‫دامت سترافق الرجل شقيقته أو قريبته و ما دمت معهما؟"‪.‬‬
‫و هنا أقبلت نجلء على صوت حامد تسأله الخبر‪ ،‬فقص عليها األمر‪،‬‬
‫فصمتت برهة ثم قالت‪ ":‬كان من األفضل أل تجيء به إلى هنا‪ ،‬و لكن‬
‫مادمت قد أعطيته قول و أخذ على نفسه وعدا و ستكون معه من‬
‫ترافقه من أهله فل باس في ذلك"‪.‬‬

‫قال و هو يهم بالنصراف‪ ":‬سنكون هنا عند األصيل"‪.‬‬

‫و انصرفت بعد ذلك كل من الفتاة و أمها لشأنهما‪ ،‬حتى إذا انتصف‬


‫النهار تناولتا غذاءهما‪ ،‬ثم أخذت سلمى مكانها أمام لوحتها تعمل على‬
‫إتمامها‪ ،‬و انقضى وقت غير قصير و هي مكبة على عملها‪ .‬و إنها‬
‫لكذلك إذ طرق بابها قادم‪ ،‬فألقت بريشتها و نهضت قائمة و هي‬
‫تقول‪ " :‬ل بد انه العم حامد قد جاء بالمشتري"‪.‬‬

‫و مضت إلى الباب ففتحته و بدا لها حامد ماثل في عتبته‪ ،‬و ابتدرها‬
‫بقوله‪ " :‬لقد طلب إلي المشتري أن أتقدمه و رفيقته لستأذن لهما"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ليتفضل"‪.‬‬

‫فدخل العم حامد و في إثره شاب جميل الصورة‪ ،‬تلوح عليه مخايل‬
‫العزة و الشرف‪ ،‬و بصحبته سيدة عرفت سلمى أنها سعاد التي تعيش‬
‫في كنف عمها صاحب القصر المنيف‪ ،‬و ل بد أن يكون هذا الشاب‬
‫الذي ترافقه ابن عمها نجل ذلك الثري‪ ،‬فلقيتهما لقاءا فاترا و قادتهما‬
‫إلى حجرة الستقبال‪ ،‬و إذ أخذ كل مجلسه ابتدرتها سعاد بالسؤال عن‬
‫والدتها‪ ،‬فأجابت باقتضاب‪ ":‬إنها في خير حال"‪.‬‬

‫و كانت سلمى ترتدي ثوبا أرجوانيا تتخلله خيوط دقيقة خضراء أضفى‬
‫عليها رونقا خلبا‪ ،‬و قد انحسر من أعلى الصدر عن عنق عاجي‬
‫طويل‪ ،‬كما انحسرت أكمامه عن زنديها حتى المرفقين‪ ،‬و أما شعرها‬
‫األسود الغزير فقد جمعته و ضمته بأشرطة حريرية خضراء و تركته‬
‫ينسدل فوق كتفيها و ظهرها رجراجا لمعا في لون الليل الفاحم‪.‬‬
‫فازداد إعجابا بها‪ ،‬إل أنه أدرك جفاف لهجتها التي تنم عن عدم الرضا‬
‫بلقائهما‪ ،‬فشعر باأللم يعصر قلبه‪ ،‬و لمع في ذهنه كوميض الشهب ما‬
‫كان قد سمعه من ابنة عمه عن أبيه‪ ،‬فركض دمه حاميا في عروقه‪ ،‬و‬
‫اربد وجهه حتى بان عليه تجهمه‪ ،‬و لحظت سعاد ذلك و فهمت ما‬
‫يجول بخاطره لما رأته من انقلب سحنته‪ ،‬و خشيت أن يمتد به‬
‫شوطه‪ ،‬فتداركت الموقف و التفتت إلى سلمى و قالت‪ " :‬ل بد أن‬
‫العم حامد قد حدثك برغبة ابن عمي في شراء لوحة من لوحاتك"‪.‬‬
‫قالت‪" :‬نعم"‪ .‬و استطردت تقول و هي تشير إلى لوحتها و كأنها‬
‫تتعجل انصرافهما‪:‬‬

‫‪ ".‬فليتفضل و يلق نظرة على اللوحة ليرى فيها رأيه"‬

‫قالت ذلك و نهضت فمشت إلى ركن من الحجرة حيث وضعت لوحتها‬
‫فوق منضدة تناثر من حولها بعض الورق و أدوات الرسم و أنابيب‬
‫الدهان‪ ،‬و تبعها الشاب إلى هناك ووقفت أمامه بقامتها المديدة و‬
‫عودها الرشيق تعرض عليه لوحتها‪ ،‬و أقبلت سعاد لتشاهد اللوحة‬
‫المعروضة‪ ،‬و قال الشاب بصوت هادئ و هو يمعن النظر في اللوحة و‬
‫يرى دقة الرسم فيها و فخامة تصويرها‪ " :‬بديعة رائعة"‪.‬‬

‫فصمتت الفتاة و لم تقل شيئا‪ ،‬بينما تدخل حامد قائل‪ " :‬و إن لم‬
‫تشترها اليوم فقدتها إلى األبد"‪.‬‬

‫قال وليد و هو يتبادل نظرة خاطفة مع ابنة عمه‪ " :‬بل ستكون من‬
‫نصيبي إن شاء الله"‪.‬‬

‫فابتسمت سعاد لمغزى كلمه‪ ،‬و أدركت مرماه‪ ،‬بينما راح هو يجول‬
‫بنظراته بين أدوات الرسم عسى أن يعثر على لوحة أو كتاب ألحد‬
‫الفنانين يفتح به بابا للحديث مع هذه الفتاة النفور‪ ،‬و لما لم يجد شيئا‬
‫من هذا التفت إليها و قال‪ " :‬أل يوجد لديك لوحة أخرى؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬كل"‪.‬‬

‫فادخل يده في جيب سترته و أخرج منها حافظة نقوده و رفع نظره‬
‫إليها‪ ،‬و تفرس في وجهها الجميل و قال‪ " :‬كم تطلبين يا سيدتي ثمنا‬
‫للوحتك هذه؟"‪.‬‬
‫فلما سمع حامد يبادر بسؤال الفتاة عن الثمن خشي أن تفسد الصفقة‬
‫بمساومته فقال مسرعا‪ " :‬قلت يا ولدي إن الثمن لهذه اللوحة ل يقل‬
‫عن خمسين جنيها"‪.‬‬

‫فالتفت إليه الفتى و قال‪ " :‬أذكر ذلك تماما يا سيدي‪ ،‬و لكني آثرت‬
‫أن اسأل صاحبتها فربما يكون لها رأي آخر في ثمن لوحتها هذه بعد‬
‫أن سكبت فيها جهدها و فنها"‪.‬‬

‫ذهل حامد و هو يستمع لهذا القول‪ ،‬و أدرك أن الشاب على استعداد‬
‫لشراء تلك اللوحة مهما بلغ ثمنها‪ ،‬فتبادل الشيخ نظرة سريعة مع‬
‫سلمى و قال‪ " :‬صدقت يا ولدي فلربما يكون لصاحبتها رأي آخر في‬
‫ثمن لوحتها"‪.‬‬

‫و هنا قالت الفتاة بلهجة هادئة‪ " :‬لست من ذوي الجشع‪ ،‬و ان هذا‬
‫الثمن كفاءة جهدي‪ ،‬و لن أتقاضى مليما واحدا يزيد على ذلك"‪.‬‬

‫أسف حامد لضياع الفرصة‪ ،‬على حين سر الشاب من جوابها و إن كان‬


‫يعلم ما ترمي إليه بقولها هذا عن ذوي المطامع الواسعة‪ ،‬و ما لبث أن‬
‫بسط لها يده بالخمسين جنيها‪ ،‬فتناولتها منه و قالت‪ " :‬غدا في مثل‬
‫هذا الوقت يمكنك استلم اللوحة من متجر العم حامد إذ أنها تحتاج‬
‫لبعض التنسيقات في ألوانها"‪.‬‬

‫أحنى لها رأسه راضيا‪ ،‬ثم لحت منه التفاتة شاهد عند ركن المنضدة‬
‫بعض رسوم لم يكن قد رآها من قبل‪ ،‬فقال مخاطبا الفتاة‪ " :‬أرى‬
‫هناك بعض الرسوم‪ ،‬فهل سمحت لي بمشاهدتها؟"‪.‬‬

‫قالت بعد لحظة صمت‪ " :‬تلك قصة مصورة ل أظنها تروقك يا‬
‫سيدي"‪.‬‬

‫فأثار جوابها فضوله و قال‪ " :‬و لم ل؟"‪ .‬و استطرد‪ ":‬أكون شاكرا لو‬
‫تفضلت و شرحت لي طرفا من تلك القصة"‪.‬‬

‫تألقت عيناها كمن تتحفز للوثوب و هي تصعده بنظرة فاحصة نفذت‬


‫الى قلبه و قالت‪:‬‬
‫"لك ما تشاء يا سيدي" و استطردت قائلة و هي تبسط أمامه بعض‬
‫المناظر و الرسوم قائلة‪ " :‬تبدأ القصة بهذا المنظر‪ ،‬و هو كما ترى‬
‫صورة ألسرة فلسطينية عربية هانئة بحياتها‪ ،‬آمنة في أرضها‪ ،‬ثم هذا‬
‫المنظر حين داهمها هذا اليهودي لينغص عليها هناءتها و يطالبها بالجلء‬
‫عن المكان الذي تعيش فيه و ينبئها أن األرض أصبحت ملكه بعد أن‬
‫اشتراها من صاحبها المواطن‪ ،‬و المنظر الثالث يبين لنا كيف تصدت‬
‫تلك األسرة لليهودي و كذبت قوله‪ ،‬فمضى يعرض لها وثيقة البيع و‬
‫الشراء التي تخول له حق التصرف في األرض مدموغة بإمضاء العربي‬
‫صاحب األرض األسبق‪.‬‬

‫و يأتي منظر رابع حافل باألنقاض و األطلل‪ ،‬فترى فيه كيف تحولت‬
‫تلك القطعة من األرض إلى مستعمرة يهودية و خنادق و استحكامات‪،‬‬
‫أما المنظر الخامس فيبين لنا كيف سارت تلك العائلة مهزومة كاسفة‬
‫البال بعد أن كانت آمنة في أرضها مرفوعة الرأس‪ ،‬و أخيرا ترى‬
‫منظرا يصور هذا المواطن الجشع تتألق عيناه شرا و يفرك كفيه‬
‫باسما و هو يتلقى كيس الذهب من يد اليهودي ثمنا ألرضه ووطنه و‬
‫دينه"‪.‬‬
‫و صمتت لحظة ألقت خللها على الشاب نظرة صارمة اخترقت‬
‫أضلعه‪ ،‬إل انه لم يغضب‪ ،‬و أدهشها أن رأته يتبسم ابتسامة هادئة و‬
‫إن كان العرق يكلل جبهته‪ ،‬و التقت عينه بعينها و كانت أجمل و أقسى‬
‫عينين رآهما في حياته‪..‬و لبثا برهة يحدق كل منهما في وجه الخر‪ ،‬و‬
‫قد بدت له كأنها خصم عنيد يتحفز لمبارزته و هو يراها منتصبة أمامه‬
‫كالرمح‪ ،‬و لم تلبث أن قالت بلهجة غاضبة ل تخلو من التهكم‪ ":‬ما‬
‫قولك في هذا المواطن و ما أقدم عليه نحو أهله و وطنه؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نذل وضيع‪ ،‬و لص األمة‪ .‬يتقاضى ذهبا ليتجر باألرواح و يسفك‬
‫الدماء"‪.‬‬

‫أدهشها قوله و ما يشوب لهجته من الحماسة‪ ،‬و لم يلبث أن قال‪" :‬‬


‫هل لي أن أسألك يا سيدتي‪ ،‬لم تعتقدين أن مثل تلك القصة ل‬
‫تروقني؟"‪.‬‬
‫قالت بصرامة و هي ترميه بنظرة ملتهبة و تزوي ما بين حاجبيها‬
‫المخمليين‪ " :‬ذلك ألن األبناء يقتدون بالباء"‪.‬‬

‫أدرك أنها تحتقره و تزدريه لما يردده الناس عن أبيه و تفاهة شأنه في‬
‫عين المواطنين‪ ،‬و لو أنها أغمدت في صدره خنجرا ماضيا لما آلمته‬
‫الطعنة مثل ما آلمته كلماتها و هي تنزل عليه كالسهام المتتالية تخترق‬
‫صدره‪ ،‬و قال و هو يهم بالنصراف‪ " :‬حقا األبناء يقتدون بالباء‪ ،‬و لكن‬
‫ليس في كل الحالت"‪.‬‬

‫فصمتت و لم تحر جوابا‪ ،‬و أشعرها شحوبه و امتقاع لونه بالنصر عليه‪،‬‬
‫و حياها بأدب جم و انصرف هو و ابنة عمه و هو يشعر بأن نظراتها‬
‫مازالت تلهب قوله‪ ،‬قالت سعاد و هي تسير الى جانبه بعد أن غادرا‬
‫دار سلمى‪ " :‬أ مازلت تفكر في الزواج منها؟"‪.‬‬
‫فالتفت إليها و قال‪ " :‬و هل بدا لك منها ما ل يجعلها جديرة‬
‫بحبي؟‪..‬إن حبي لها تضاعف و ازداد‪ ،‬فمن كان لها مثل حماستها‬
‫لبلدها‪ ،‬و نبل شعورها و رقة إحساسها ووفائها لثرى أبيها و أخيها فل‬
‫عتب عليها لو تصدت لمن تلوك سيرة أبيه السنة الناس"‪.‬‬

‫قالت ابنة عمه تخفف عنه‪ " :‬ما احسبها إل كانت قاسية معك بل‬
‫رفق"‪.‬‬

‫أطلق زفرة من أعماقه و قال‪ " :‬و كانت رائعة أيضا بل هوادة‪ ،‬فبالله‬
‫ما كان أجملها و هي تشيح بوجهها عني في نبل و احتشام‪ ،‬و ل أظنها‬
‫راضية بي لو أقدمت على طلب يديها‪ ،‬و كيف ل و شتان ما بين أبي و‬
‫أبيها؟"‪.‬‬

‫و سكت و قد كست وجهه مسحة من األلم‪ ،‬و لحظت سعاد الكآبة‬


‫التي اتشحت بها ملمحه‪ ،‬و عظم عليها أن يقهر ابن عمها في حبه و‬
‫هو شهم كريم أمين ألرضه مخلص لوطنه‪ ،‬فالتفتت إليه و قالت تزيل‬
‫عنه كآبته‪ " :‬ل أريد لك الهم و اليأس يا ابن العم‪ ،‬و إذا كان هناك ما‬
‫يباعد بين أبيك و أبيها‪ ،‬كما تقول‪ ،‬فهناك ما يشرفك بأخيك الذي سجل‬
‫لنا فخرا كأخيها‪ ،‬فكلهما مات ميتة شريفة و قدم عنقه الى حبل‬
‫المشنقة دفاعا عن الوطن‪ ،‬و سأعود في الغد الى دار حبيبتك ألخطبها‬
‫لك من أمها و ليكن ما يكون من سخط والديك علي"‪.‬‬

‫تمتاز مدينة »حيفا« عن شقيقاتها من مدن فلسطين ببهاء رونقها‪،‬‬


‫فهي تجمع من المناظر الطبيعية الخلبة ما ل يتوافر في المدن‬
‫األخرى‪ ،‬ففيها البحر و الميناء و الجبل الشامخ و السهول الشاسعة‬
‫الفيحاء‪ ،‬و إذا ما بدا الظلم يدب في أرجائها رأيتها قد ازدهرت‬
‫بأنوارها من كل جنب فتتحول بمنظرها البديع إلى شطرين لمعين‬
‫سهلي و جبلي‪ ،‬فالجبل يبدو لسكان األراضي السهلية كقبة هائلة‬
‫مرصعة يخلب بريقها األبصار‪ ،‬و يطل سكان الجبل على األراضي‬
‫السهلية فيرونها تسبح بأنوارها كبساط رحيب تتألق عليه فصوص‬
‫ماسية براقة‪.‬‬

‫و كان ذات ليلة من الليالي المقمرة البديعة أن جلست نجلء في‬


‫شرفة بيتها القائم عند سفح الجبل تتناول عشاءها مع وحيدتها و كانت‬
‫تبدو صامتة ساكنة على غير عادتها فكأن خاطرا جديدا طرأ عليها‪.‬‬

‫و لم تلحظ الفتاة صمت والدتها و سكونها حتى فرغتا من طعامهما و‬


‫رفعت المائدة و تحولت سلمى إلى السور المحيط بالشرفة و اتكأت‬
‫بمرفقيها الى حافته‪ ،‬و كان الليل ساكنا و النسيم رطبا و مياه البحر‬
‫رقراقة تتلأل على صفحتها الهادئة أنوار البواخر و الميناء‪ ،‬و أشرقت‬
‫النجوم تتألق في السماء‪ ،‬و سطع القمر يرسل أشعته الفضية على‬
‫جبل الكرمل و أحراجه و ينحدر بها على وجه المدينة الجميلة كما‬
‫ينحدر النقاب الفضي الرقيق على وجه العروس الحسناء‪.‬‬

‫وقفت الفتاة تسرح طرفها مع أشعة القمر الساطعة و ترنو بعينيها‬


‫الجميلتين إلى المدينة المتألقة بأنوارها و بهائها‪ ،‬و بينما هي غارقة في‬
‫تأملتها إذ شعرت بأمها تضع يدها برفق فوق عاتقها و تهمس لها‬
‫بحنان األم الرؤوم التي أثكلها الدهر و طحنتها النوازل‪ " :‬لدي ما‬
‫أحدثك به يا سلمى فأصغي إلي يا بنيتي الحبيبة"‪.‬‬

‫استدارت الفتاة برأسها إلى أمها و قالت‪ " :‬كلي إصغاء يا أماه‪،‬‬
‫حدثيني بما تبغين قوله"‪.‬‬

‫قالت و هي تمسك بيدها إلى أريكة قريبة عند ركن الشرفة‪ " :‬هيا‬
‫اجلسي و لنتحدث بهدوء"‪.‬‬

‫واستطردت و هي تأخذ مكانها إلى جانبها‪ " :‬هل تدرين السبب الذي‬
‫جاءت من أجله سعاد هذا اليوم؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬كل و قد أدهشني أن أراها تعود لزيارتنا بمثل هذه السرعة"‪.‬‬

‫صمتت األم لحظة ثم قالت‪ " :‬إنما جاءت لتخطبك لبن عمها الذي‬
‫ابتاع لوحتك"‪.‬‬

‫فارتجفت الفتاة و قالت‪ " :‬و بماذا أجبتها يا أماه؟"‪.‬‬

‫قالت األم بعد صمت قصير‪ " :‬لم أشأ أن أجيبها بشيء قبل أن أسألك‬
‫رأيك"‪.‬‬

‫قالت الفتاة‪ " :‬و هل األمر يحتاج لسؤال و تفكير؟"‪.‬‬

‫نطقت بهذه الكلمات و اللوم و العتاب باديان في عينيها‪ ،‬فأجابتها أمها‬


‫قائلة‪ " :‬ل غرابة يا بنيتي في أن أسألك رأيك"‪.‬‬

‫قالت الفتاة‪ " :‬أترضين بهذا الزواج لو قبلته لنفسي؟"‪.‬‬

‫ألقت نجلء بيدها على كتف وحيدتها و قالت‪ " :‬أعلم تماما ما ترمين‬
‫إليه‪ ،‬و لكنا أيضا ل نعلم من أمر الفتى ما يجعلنا نعرض عنه‪ ،‬و ما ذنبه‬
‫هو فيما جناه أبوه؟"‪.‬‬

‫قالت الفتاة و هي تكاد تثور‪ " :‬كفانا ما نعلمه من شأن أبيه"‪.‬‬

‫صمتت نجلء لحظة ثم تنهدت و قالت‪ " :‬و أخوه يا بنيتي‪،‬ألم تنته حياته‬
‫على حبل المشنقة كما انتهت حياة أخيك‪ ،‬فذهب كلهما شهيد‬
‫وطنه؟"‪.‬‬
‫و غصت األم الثكلى بريقها و هي تنطق بهذه الكلمات و غشي الدمع‬
‫عينيها و انحدر سخيا حارا يغسل وجهها و شرقت الفتاة بدموعها و‬
‫قالت‪ " :‬نعم‪ ،‬أخي‪ ،‬لهفي عليه ووا‪...‬أسفاه على أبي‪..‬ان روحيهما‬
‫تصرخان استنكارا من مثل هذا الزواج‪ ،‬و سيربد وجهي خجل أمام الله‬
‫و الناس‪ ،‬و يعيب علي القوم أن أزف الى هذا الفتى الذي انحدر من‬
‫صلب أبيه"‪.‬‬

‫و طفرت الدموع من عينيها و قالت و هي تستجمع شتات نفسها‪" :‬‬


‫قولي لتلك المرأة أن عادت لسؤالك بهذا الشأن ‪ ،‬إن ذلك لن يكون‪ ،‬و‬
‫ليبحث ابن عمها عمن تلئمه"‪.‬‬

‫فربتت أمها على كتفها بحنان و همست و الدموع تجول في عينيها‪" :‬‬
‫هدئي من روعك يا حبيبتي‪ ،‬و لن يكون إل ما تشائين‪ ،‬و لسنا بحاجة‬
‫إلى ذاك الفتى و أبيه ما دمت تنفرين منه و ل ترضين به‪ ،‬و ما حدثتك‬
‫بشأنه إل لما سمعت عن كرم خلقه و نبله و حماسته ألهله ووطنه"‪.‬‬

‫غمغمت الفتاة و هي تكفكف دموعها‪ " :‬ذلك شأن كل خاطب راغب‪،‬‬


‫و لو أمطنا عنهم اللثام لوجدناهم على غير ما يقولون"‪.‬‬

‫تناهى إلى أذن وليد إعراض سلمى عنه و رفضها الزواج منه‪ ،‬و كانت‬
‫صدمة لها صداها في نفسه إل أنه تلقاها بصبر و جلد‪ ،‬و لم يكن األمر‬
‫مفاجأة له‪ ،‬بل ذلك ما كان يتوقعه بعد الذي شاهده من نفورها و‬
‫ازدرائها إياه‪ ،‬و رأى من الخير له أن يعمل ما في وسعه ليقصيها عن‬
‫ذهنه‪ ،‬و بذل في ذلك جهده ليأخذ نفسه على نسيانها و اصطبر للمر‬
‫صبر الجدب على لظى الهاجرة‪ ،‬مما أثر في صحته فذوت نضارة‬
‫وجهه‪ ،‬و اضمحل جسمه و ساء حاله‪ ،‬و عاف كل منظر و لون من‬
‫ألوان الحياة و استبد به الهم استبدادا كاد يقتله‪ ،‬فشق عليه أن تقهره‬
‫عواطف قلبه فل يستطيع كبح جماحها‪ ،‬و كره في نفسه الضعف و‬
‫ثارت فيه أنفته و عزته‪ ،‬فانصرف لشأنه‪ ،‬و افتتح مكتبا فخما للمحاماة‬
‫في قلب المدينة‪ ،‬و تابع عمله بدقة و نشاط‪،‬‬
‫و تولى أكثر من قضية أحرز في كل منها نجاحا باهرا‪ ،‬و لم تنقض عليه‬
‫شهور قلئل حتى لمع اسمه‪ ،‬و عرفه الناس محاميا ماهرا له جرأته و‬
‫قدرته‪ ،‬و اشتغل بالسياسة‪ ،‬و أمد المجاهدين سرا بالعتاد و المال‪ ،‬و‬
‫والده يلبيه مذعنا لكل مطلب‪ ،‬متظاهرا بالحماسة و الخلص حتى‬
‫تألق اسم الفتى بين المواطنين و أحبه القوم و اخلصوا له‪ ،‬و طغى‬
‫اسمه على سيرة أبيه‪ ،‬حتى كاد الناس ينسون ذلك األب‪ ،‬و لكن‬
‫الجشع و المرض إذ تمكن احدها من إنسان كلهما داء يستحيل برؤه‪،‬‬
‫فسرعان ما تذمر األب من مسلك ابنه‪ ،‬و شعر مع مرور األيام انه‬
‫يثقل كاهله بمطالبه‪ ،‬و اعتبر سلوكه ذاك عبثا و ارتجال و أنه قد حذا‬
‫حذو أخيه الراحل في عقوقه و عصيانه‪ ،‬و هو الذي كان قد أرسله‬
‫ليقضي شطرا من عمره في الخارج‪ ،‬و تلقى علومه في قلب‬
‫العاصمة النجليزية‪ ،‬و في اكبر جامعاتها و اختلط بأهلها و أبنائها‪،‬‬
‫فكيف لم يغير كل هذا من نفسه‪ ،‬و كيف يعود ليقف ضد آرائه و‬
‫مبادئه‪.‬‬

‫و لمعت أمام األب صفقة جديدة ذهبية تتألق لناظره في يقظته و‬


‫منامه توشك أن تفلت منه إن لم يبادر إلى إتمامها‪ ،‬و استقر رأيه على‬
‫أن يتمها و ليكن بعد ذلك ما يكون‪.‬‬

‫ذلك هو الرأي الذي انتهى إليه و عزم على تنفيذه و لو أطبقت السماء‬
‫على األرض‪ ،‬فالذهب معدن ل يستهان به‪ ،‬و لكن رأى أن يتخذ أول‬
‫سياسة ناعمة مع ولده يأمن بها جانبه و ليلهيه بأمر يصرفه عنه‪،‬‬
‫فدعاه يوما الى حجرته و قال‪ " :‬اجلس يا ولدي ألحدثك بما أراه اليوم‬
‫قد أصبح ضروريا لك"‪.‬‬

‫و لقد كان شكري بك رجل قوي الشخصية مديد القامة جميل المحيى‪،‬‬
‫ذا عينين سوداويتين نافذتين‪ ،‬ورث عنه ابناه قوة شخصيته و جمال‬
‫رجولته‪ ،‬إل أن الله عصمهما من أن يرثا جشعه و استهتاره‪.‬‬

‫و إذ اخذ الفتى مكانه على مقعد أمام والده ابتدره هذا قائل‪ " :‬أنت‬
‫تعلم يا بني أنني رجل على أبواب الشيخوخة‪ ،‬و سيأتي يوم ترث فيه‬
‫كل ما تملكه يداي‪ ،‬و لست أتمنى قبل أن يطويني الثرى أكثر من أن‬
‫أراك أبا كريما بعد أن رأيتك رجل مكتمل و محاميا ناجحا"‪.‬‬

‫صمت الفتى و لم يحد جوابا‪ ،‬و تمثلت لبصره صورة تلك الفتاة‬
‫الحسناء التي شغف بها و أعرضت عنه‪ ،‬و دخلت عليهما في تلك‬
‫اللحظة أمه تجر جسمها المترهل فوق ساقيها القصيرتين و تنوء تحت‬
‫عبئ الحلي التي تزين بها معصميها و جيدها و قد أثقلت أذنيها بقرط‬
‫ماسي يوازي بيض الحمام في شكله و حجمه‪ ،‬و تراكمت المساحيق‬
‫تلطخ تجاعيد وجهها و تصبغ شفتيها بلون احمر قان‪ .‬و كانت في إثرها‬
‫ابنتها و وحيدتها )هدى( و هي فتاة ورثت عن أمها غطرستها و خيلئها‪،‬‬
‫و عن أبيها جشعه‪ ،‬كانت مادية النفس تنظر إلىالحياة و طيبها و الدنيا‬
‫و ربيعها نظرة المربي المستغل‪ ،‬و ترى في الرياض و أزاهيرها و‬
‫أفنانها بثمارها و عناقيدها رؤيتها لمجوهراتها و متاعها‪،‬‬
‫من حيث القيمة و المنفعة فل يفتنها شيء من جمال الكائنات مثل‬
‫افتتانها بالمال و اعتزازها به‪ ،‬و الذي يسترعي انتباه الناظر إليها حين‬
‫تقع العين عليها‪ ،‬شموخ أنفها و اعتدادها بنفسها و غرورها بذاتها‪ ،‬فل‬
‫تصادق إل من رأتها بمثل ميولها و أهوائها‪ ،‬و ل يحظى بإعجابها و‬
‫احترامها إل من كان له ثراء و بذخ مثل بذخها و ثرائها‪ ،‬ل يستدر دمعها‬
‫حال حزينة و ل يبلغ سويدائها سهم تتأثر به من سهام البؤس و الشقاء‬
‫التي تراها في الناس‪ ،‬و هي إلى جانب ذلك ليست بجميلة و ل ذكية‪،‬‬
‫كانت قصيرة القامة ممتلئة األرداف‪ ،‬بيضاء اللون ذات شعر أحمر و‬
‫جبين بارز في وجه مستدير غير جذاب و ل مستملح‪ ،‬و قد فاضت‬
‫بلدة حسها على بلدة ذهنها فكستها لونا من الخشونة و الجمود و‬
‫التفكير المحدود الذي يدور حول محور واحد‪ ،‬محور نفسها‪ ،‬و الظهور‬
‫بمظهر األغنياء المترفين‪ ،‬ألنه يهمها أكثر ما يهمها من شؤون الدنيا و‬
‫فهم معناها شغفها و تعلقها بضوضاء الحياة و مباهجها‪ ،‬بحفلت أنسها‬
‫و مجامع السمر فيها‪ ،‬و إل فما أمر مذاق الحياة لديها و أثقل مؤونتها‬
‫لو لم تبق على ثوبها هذا المزركش الضاحك‪.‬‬

‫و حين دخلت هدى و أمها على أبيها و أخيها أقبلت األم على ولدها‬
‫هاتفة‪ " :‬ما لي أرى وحيدنا صامتا ل يحرك ساكنا"‪.‬‬

‫فضحك أبوه و قال‪ " :‬دعيه يفكر و يختار لنفسه شريكة حياته‪ ،‬لقد‬
‫عرضت عليه الزواج"‪.‬‬

‫فهتفت األم و هي تتعثر بألفاظها‪ " :‬و هل هناك من هي أصلح من ابنة‬


‫خاله ليتخذها زوجة له و رفيقة لحياته؟"‪.‬‬

‫فرفع الشاب عينيه إلى أمه و تفرس في وجهها الملطخ بالمساحيق و‬


‫قال‪ " :‬كل يا أماه لن تكون تلك زوجتي و ل رفيقة لحياتي"‪.‬‬
‫فبهتت أمه و قال أبوه‪ " :‬و لم ل يا ولدي؟ فهي فتاة عصرية و مثقفة‬
‫و‪"...‬‬

‫فقاطعه قائل‪ " :‬إن أمثال تلك الفتاة من المتكلفات بألفاظهن‪،‬‬


‫المتصنعات بحركاتهن و ملبسهن‪ ،‬هي طبقة من النساء ل تروقني قط‬
‫و ل تستهويني أبدا"‪.‬‬

‫قالت ظريفة بعد صمت قصير‪ " :‬على رسلك يا ولدي‪ ،‬فإن لم ترض‬
‫بابنة خالك فهناك غيرها من قريباتك و في مقدمتهن ابنة خالتك‪ ،‬فهي‬
‫تختلف عن األولى في طباعها و عاداتها و لست أرى من هي اكثر منها‬
‫ملءمة لك"‪.‬‬

‫قال و هو ينهض من مقعده‪ " :‬لن تكون هذه و ل تلك‪ ،‬و لست راغبا‬
‫في الزواج في الوقت الحاضر‪ ،‬و متى عزمت على ذلك سأختار‬
‫ساعتئذ لنفسي الفتاة التي تروقني و تشاركني حياتي"‪.‬‬

‫قال ذلك و مضى إلى حجرته‪ ،‬و لم يكن والده ليعلم شيئا من أمر تلك‬
‫الغادة الجميلة التي غزت قلب ولده‪ ،‬و كذلك أمه و أخته‪ ،‬و حز في‬
‫نفوسهم إعراضه عما يريدون له‪ ،‬و مالت هدى على أمها حين رأت‬
‫أخاها ينصرف من حضرتهم تهمس في أذنها‪ " :‬ل تدعي أبي يغفل عنه‬
‫فيخرج بذلك عن إرادتنا و يتزوج بمن هي دوننا مقاما و من هي غريبة‬
‫عنا ليخجلنا بها أمام األهل و األصدقاء بينما هناك مئات الفتيات من‬
‫أهلنا و معارفنا يتمنين الزواج منه ليعشن و ينعمن بالحياة يوما في‬
‫أبهاء قصرنا"‪.‬‬

‫فربتت أمها على يدها و همست لها‪ " :‬اطمئني يا فتاتي الغالية فلن‬
‫ندعه يتصرف في زواجه كما يريد إل إن كان خارجا عن طاعتنا و نأى‬
‫بعيشه بعيدا عنا"‪.‬‬
‫عاد شكري بك ذات يوم إلى قصره عند الظهيرة ليتناول غداءه‬
‫كعادته‪ ،‬و إذا بامرأته تلقاه جزعة مهرولة و هي تلهث بأنفاسها و تتعثر‬
‫بألفاظها و تقول له‪ " :‬لقد جاء وليد منذ لحظة و سألني عنك و لم أره‬
‫قط في مثل الحالة التي رأيته عليها اليوم‪ ،‬كان مكفهر الوجه‪ ،‬مقطب‬
‫الجبين و عيناه تكادان تقدحان شررا‪ ،‬و بادرني بالسؤال عنك و هو‬
‫ينتفض غضبا‪ ،‬فلما قلت له أنك لم تعد بعد‪،‬رأيته يتحول عائدا من حيث‬
‫أتى‪ ،‬و عبثا حاولت أن أفهم منه سر تجهمه إل أني لم احظ منه‬
‫بطائل"‪.‬‬

‫امتقع لون شكري بك و هو يستمع لقول امرأته‪ ،‬و فهم السر في‬
‫غضب ولده و أدرك أن وراء األكمة ما وراءها‪ ،‬و هو الذي كان قد أتى‬
‫على صفقة جديدة فرغ منها و قبض ثمنها باألمس القريب‪.‬‬

‫و شاهدت سعاد ما اعترى وجه عمها من شحوب و امتقاع و لم تكن‬


‫بحاجة إلى الشرح و المزيد لتفهم السر في غضب البن و فزع األب‪،‬‬
‫و صمت الرجل لحظة ما لبث بعدها أن التفت إلى زوجته قائل و هو‬
‫يهم بالنصراف‪ " :‬سأمضي لستطلع أمره و ل تقلقي لو لم أعد‬
‫الليلة‪ ،‬فلدي عمل يشغلني"‪.‬‬

‫ذهلت المرأة و قالت‪ " :‬ما معنى كل هذا؟ كلكما يفر عائدا من حيث‬
‫أتى‪...‬و لم ل تنتظره هنا حتى يعود؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ليس لدي وقت يسمح لي بانتظاره"‪.‬‬

‫ثم مضى و هو يغمغم و يسرع الخطى‪ " :‬إن هذا البن جلب لي من‬
‫المتاعب ما يفوق طاقتي"‪.‬‬

‫ثم ركب سيارته و انطلق بها بأقصى سرعته‪.‬‬

‫انقضت ساعات طويلة دون أن يعود األب و ل ولده‪ ،‬و قلقت كل من‬
‫ربة القصر و ابنتها و أرملة ولدها‪ ،‬و سهرت النسوة الثلث في شرفة‬
‫البيت يرقبن الطريق بقلق شديد و صبر نافذ‪ ،‬و قد تملكهن خوف‬
‫عظيم لذلك السكون الرهيب‪ ،‬حتى إذا ما أطبق الظلم و بلغت‬
‫الساعة العاشرة و النصف مساءا طرق مسامعهم وقع نعال تدنو‬
‫منهن‪ ،‬و بدا لهن رب القصر يخطو بخطاه ناحيتهن‪ ،‬فابتدرنه في صوت‬
‫واحد يسألنه عن ولده؟ قال بلهجة متزنة هادئة‪ " :‬لم أره قط و لم‬
‫أترك موضعا إل و بحثت فيه عنه"‪.‬‬

‫فجزعت النساء الثلث و هن يستمعن لقوله‪ ،‬فأشار عليهم بالصمت و‬


‫هو يقول‪ " :‬أل تتريثن حتى أفرغ من كلمي؟ و بعد‪ ،‬ليس هناك ما‬
‫يبعث للقلق أو الفزع فهو ليس طفل‪ ،‬و قد تناهى إلي على لسان أحد‬
‫أصدقائه أنه كان مزمعا السفر لمهمة عاجلة تتعلق بعمله‪ ،‬فأدركت‬
‫بذلك أنه كان يبغي لقائي عاجل لحاجته الى نقود ل غير"‪.‬‬

‫هدأ روع امرأته و ابنته و هما تستمعان لقوله و عاودهما مرحهما‪ ،‬و لم‬
‫تكونا من الحذاقة و الذكاء لتعلل السر في غضب ولدهما‪.‬‬

‫و لكن سعاد كانت أكثر حذقا و أشد ذكاء من أن تصدق زعم عمها‪ ،‬و‬
‫تملكها فزع شديد أن عمها هذا له كلمته و مكانته لدى الحكومة‬
‫المستعمرة للبلد و خشيت أن يكون قد أقدم على عمل ضد ولده‬
‫ليزيله من طريقه كي يتسنى له تسيير أموره عن حرية وسعة‪.‬‬

‫و لقد صدقت سعاد في حدسها‪ ،‬فلم يكد ينقضي ذلك النهار حتى كان‬
‫ابن عمها في طريقه إلى منفاه يرافقه جنديان بريطانيان إلى‬
‫معتقلت "صرفند"‪ ،‬و هي ضاحية بالقرب من بلدة "اللد"‪ ،‬و قاداه‬
‫على حجرة عارية إل من سرير حديدي منخفض يعلوه فراش خشن و‬
‫وسادة من القش و غطاء ل يقيه شر البرد‪ ،‬و كان الفصل خريفا و‬
‫الشتاء و زمهريره على األبواب‪ ،‬و وقف الشاب يجيل الطرف في‬
‫أرجاء الحجرة الباردة التي اقتيد إليها على حين أحنى مرافقاه‬
‫البريطانيان قامتهما يحييانه في شيء من التهكم و هما يقولن‪" :‬‬
‫طاب يومك أيها الفتى الشجاع"‪.‬‬

‫و قفل عائدين بعد أن أوصدا عليه باب الحجرة‪ ،‬و لم يلحقا به أذى‬
‫إكراما ألبيه الذي طلب إلى الحكومة اعتقاله فقط و وعدها بالتعاون‬
‫معها في القبض على أعوان ولده و أنصاره من المواطنين المجاهدين‬
‫األحرار‪.‬‬
‫دارت دورة األيام و افتقد المواطنون فتاهم الباسل األمين‪ ،‬و سرعان‬
‫ما سرى بينهم نبأ اعتقاله فهاج القوم و ماجوا‪ ،‬و شاهد شكري بك‬
‫بعين رأسه الجموع الحاشدة تلتف حول قصره في ساعات الليل و‬
‫أطراف النهار متسائلة عن ولده الذي أحبهم و أحبوه‪ ،‬و اخلصوا له‬
‫إخلصه لهم‪ ،‬و ادر الرجل الخطر الذي يتهدده لو علم أولئك القوم أن‬
‫ولده اعتقل بإيعاز منه‪ ،‬و بدأ الخوف يتسرب إلى قلبه‪.‬‬

‫و لم تزل تلك حاله من الفزع و القلق حتى كان ذات ليلة عائدا الى‬
‫بيته ففوجئ بأحدهم يبرز له من بين شجيرات السرو المحيطة بقصره‬
‫و يتقدم منه شاهرا مسدسه في وجهه‪ ،‬و كان فتى ل يتجاوز العشرين‬
‫من عمره‪ ،‬ربع القامة نحيل الجسم خاطبه بلهجة صارمة قائل‪ " :‬ل‬
‫تظننا غافلين عما تجنيه يداك و ما ترتكبه في حق ابنك و الوطن"‪.‬‬

‫فانتفض و قال و قد أذهلته المفاجأة‪ " :‬ماذا تبغي بقولك هذا‪ .‬إني‬
‫لست فاهما ما تقول؟"‪.‬‬

‫و أجابه الفتى بحدة‪ " :‬بل أنت تفهم تماما ما اعني و ما أقول‪ ،‬و الذي‬
‫نريده منك أن تعمل أول على إطلق سراح ولدك ثم نرى بعد ذلك ما‬
‫سيكون من أمرك"‪.‬‬

‫قال و هو ينظر إلى فوهة المسدس المصوبة إلى صدره‪ " :‬و هل‬
‫أدخر وسعا في مسعاي لطلق سراح ولدي"‪.‬‬

‫قال الفتى بصرامة‪" :‬ذلك هراء و كذب و نفاق‪ ،‬و اعلم إن لم يعد إلينا‬
‫في خلل أيام قلئل ستكون حياتك اقصر من أيام اعتقاله"‪.‬‬

‫قال ذلك و دس مسدسه في جيبه و شد منطقته من حول وسطه و‬


‫كانت عامرة بطلقات الرصاص ثم لوى وجهه مشيحا عنه و سار ماضيا‬
‫في سبيله بعد أن رماه بنظرة هائلة و وعيد هربت لها الدماء من وجه‬
‫الرجل المسمر في مكانه‪ ،‬و اشتد اصفراره حتى شابه في لونه‬
‫اصفرار الموتى و أيقن انه هالك ل محالة إن لم يبادر بالهرب‪.‬‬

‫و صعد قصره و هو يترنح و يجر قدميه جرا في مسيره و يفكر فيما‬


‫عسى أن يفعله لينجو بجلده‪ ..‬و وطد العزم على الرحيل خارج البلد‪،‬‬
‫فمضى يتفقد جواز سفره لعداده‪ ،‬غير أنه لم يجده قط‪ ،‬فتجهم وجهه‬
‫و أدرك أن ابنه قد استولى عليه كي يمنعه من الهرب يوم أن عاد‬
‫غاضبا يسأل عنه‪،‬‬
‫فاستشاط غضبا و كاد يذهب ما بقي في رأسه من الصواب و حسب‬
‫للمر ألف حساب بعد أن انكشف أمره للعيان فيما اقترفه ضد ولده و‬
‫وطنه‪.‬‬

‫و ارتعد خوفا ممن يهدد حياته من أولئك المجاهدين‪ ،‬و اندفع يشي بهم‬
‫ليأمن شرهم و كان قد عرف الكثير منهم‪ ،‬فانحدر بعمله هذا من سيئ‬
‫إلى أسوأ إذ لم تكن الحكومة لتهمل مثل هذا الصيد الثمين‪ ،‬و مضت‬
‫تنصب شباكها و تحكم النطاق من حولهم كما هي العادة كلما‬
‫اضطربت الحال و ثار المواطنون لحقهم و أرضهم‪ ،‬و ألقت القبض‬
‫على الكثير منهم لترغمهم على العتراف بما لديهم و ما عليهم‪.‬‬
‫و شعر شكري بك في تلك اللحظة بفداحة جرمه‪،‬فتضاعف ذعره و‬
‫غشيت وجهه تلك المسحة التي تغشى وجوه المنذرين بعقاب شديد‪،‬‬
‫فتحول إلى امرأته و أهل بيته يشير عليهن بحزم أمتعتهن و أن يرافقنه‬
‫إلى مدينة "يافا" من فلسطين‪ ،‬و راح ينشد الهرب من ذلك الخطر‬
‫المحدق به‪ ،‬و بات أي مكان في نظره خيرا من البقاء في مدينة‬
‫"حيفا" و القامة في ذلك القصر المنيف‪.‬‬

‫و رحل هو و أسرته عند الغروب إلى مدينة "يافا" و استقبلتهم المدينة‬


‫الكبيرة الجميلة في نحو التاسعة مساء‪ ،‬و نزلوا فندقا من فنادقها‪ ،‬و‬
‫هم يبالغون في التستر و إخفاء أمرهم‪ ،‬حتى إذا ما انقضى على ذلك‬
‫أيام قلئل استطاع شكري بك أن ينتقل هو و أهل بيته إلى منزل‬
‫صغير منعزل استأجره لنفسه في حي "العجمي" يقع على شاطئ‬
‫البحر عند بقعة نائية عن عيون الناس‪ ،‬و أوصى كل من امرأته و ابنته‬
‫و ابنة أخيه أن ينكرن وجوده معهن لو سأل عنه سائل‪.‬‬

‫و كاد يشعر ببعض الراحة و الستقرار في ذلك البيت الضيق العتيق‬


‫لول أن طرق بابهم يوما طارق عند الغروب فمضت امرأته تستطلع‬
‫األمر‪ ،‬و سألت من خلف الباب دون أن تفتحه‪ ":‬من الطارق؟"‪.‬‬

‫فأجابها رجل يسألها عن زوجها‪ ،‬فارتاعت و قالت‪ ":‬إنه غائب عن الدار‬


‫منذ أسبوع فمن تكون أنت؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نحن اثنان من شباب يافا المجاهد"‪.‬‬

‫عادت لسؤاله و هي ترتعد‪ " :‬ماذا تريدان من زوجي؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬إننا ل نبتغي منه شيئا سوى أن نرحب بقدومه الى بلدنا و نحييه‬
‫برصاصتين أو ثلث نهذب بها جمجمته‪ ،‬و بعد‪ ،‬فنحن هنا مرابطان‬
‫ننتظر عودته و لو طال بنا النتظار دهرا‪ ،‬و أما أنتن أهل بيته فل‬
‫تخشين بأسا و سنحافظ عليكن محافظتنا على أهلنا و ذوينا"‪.‬‬

‫فذعرت المرأة و كاد قلبها يقف عن النبض و هي تستمع لهذا القول‬


‫من وراء بابها‪ ،‬و انكفأت راجعة إلى زوجها مهرولة جزعة‪ ،‬و قصت‬
‫عليه همسا ما سمعته ممن قرع عليهم بابهم‪.‬‬

‫و ما لبث أن طرق مسامعها و زوجها خفق نعال تدور حول المنزل‪ ،‬و‬
‫قضاها شكري بك ليلة ليلء لم يغمض فيها جفن و لم يعرف النوم الى‬
‫عينه سبيل‪ ،‬و انقضت ثلثة أيام كان خللها نهبا موزعا بين الخوف و‬
‫المرض الذي تملكه فجأة‪ ،‬و لم يكن يجرؤ أن يطل من نافذة بيته و‬
‫يغادر مكانه منه‪ ،‬و كان برد الشتاء قارسا يرزح فوق صدره و المنزل‬
‫العتيق عاريا تماما إل من رقعة حصير بالية و ثلثة فرش مهلهلة جاءت‬
‫بها إليهم امرأة عجوز فقيرة تقطن بالقرب منهم إذ لم يتسن لهم‬
‫شراء حاجتهم من األثاث بعد أن فوجئوا بالمجاهدين يحاصرونهم‪.‬‬

‫و ازداد مرض شكري بك و طالت أيام سجنه وسط جدران ذلك البيت‬
‫الصغير و اضمحل جسمه و نفذ آخر درهم من النقود التي كانت في‬
‫حوزته‪ ،‬و لم تكن لديه الجرأة أو القوة ليتغلب على مرضه و خوفه و‬
‫يمضي إلى أحد المصارف فيأخذ حاجته من رصيده فيها‪ ،‬حتى‬
‫اضطرت امرأته إلى الطواف في سوق المدينة تعرض بعض حليها‬
‫على الصاغة ليبتاعوها منها‪ ،‬و انحدرت صحة زوجها من سيئ الى‬
‫أسوأ حتى أصبح جثة بل حراك ينظر و ل يبصر‪ ،‬يسمع و ل يعي‪ .‬و‬
‫اشتدت به الحال ذات يوم فما نطق بحرف و ما نزل أمعائه زاد و ل‬
‫شراب‪.‬‬

‫و راح يحرك يديه بجهد و إعياء طالبا معونة األرض و رحمة السماء‬
‫عسى أن يقضي الله قضاءه به و يخرجه من حياته التعسة الشقية‬
‫ليهنأ بضجعة الموت األبدية‪.‬‬

‫و التفت النسوة الثلث يبكين حاله و يتألمن للمه‪ ،‬و رأينه يتطلع‬
‫إليهن يحاول النطق فل يسعفه الحال و يحرك شفتيه بإجهاد كمن يريد‬
‫أن يقول شيئا‪ ،‬فأكبت عليه امرأته تسأله مطلبه‪ ،‬غير أنها ما لبثت أن‬
‫رأته قد أسبل جفنيه و جمدت ملمحه‪ ،‬فارتاعت و هتفت منادية به‬
‫فلم يجبها أحد و ما سمعت لبعلها حسا‪...‬‬
‫فولولت باكية و ندبته طويل‪ ،‬و نظرت سعاد إلى عمها بنظرة طويلة‬
‫دامعة فيها ألم و فيها رثاء و فيها حسرة أن تنتهي حياة الرجل الثري‬
‫صاحب القصر الباذخ بين جدران هذا البيت الضيق العتيق‪ ،‬و على‬
‫فراش بال و رقعة من حصير‪ ،‬و بكت النسوة الثلث‪ ،‬و ودعنه الى‬
‫مقره األخير في مقبرة العجمي بيافا‪ ،‬و لم يشعر به أحد‪ ،‬و لم يأبه‬
‫بموته أحد‪.‬‬
‫عادت النسوة الثلث إلى مدينة "حيفا"‪ ،‬و كان في استقبالهن األقارب‬
‫و األصدقاء‪ ،‬و ما إن ولجن باب القصر حتى ولولن باكيات يندبن رب‬
‫القصر و ما قاساه من آلم‪ ،‬و ولولت معهن النسوة من قريباتهن و‬
‫تصاعدت أصوات العويل و النحيب يتجاوب صداها في أجواز الفضاء‪ ،‬و‬
‫هرع حشد من الناس حول القصر يستطلعون الخبر‪ ،‬و اندفعت نجلء‬
‫إلى شرفة دارها تتبعها ابنتها و إحدى جاراتها حين طرق مسامعهن‬
‫ولولة النساء و عويلهن‪ ،‬و ما دار بخلدهن قط أن يكون رب القصر قد‬
‫فارق الحياة الدنيا‪ ،‬و هتفت الجارة و يدها على قلبها‪ " :‬وبله ل بد أنه‬
‫وليد قد قضى نحبه في معتقله من شدة التعذيب كما حدث لغيره من‬
‫الشباب"‪.‬‬

‫فالتفتت إليها سلمى مضطربة و قالت و قد علها الصفرار‪ " :‬و لم ل‬


‫يكون ذاك أبوه قد قضى عليه المجاهدون في مدينة )يافا( لتهوره و‬
‫خيانته؟"‪.‬‬

‫و قالت نجلء‪ " :‬معاذ الله أن يكون ذلك الفتى النبيل‪ ،‬حفظ الله شبابه‬
‫و أعاده الى الديار سليما معافى"‪.‬‬

‫و صمتت الفتاة و قد ابيضت شفتاها و غاصت الدماء من وجهها و هي‬


‫تنظر الى الجموع الحاشدة حول القصر عسى أن يأتي أحدهم ناحية‬
‫بيتها فتستطلعه الخبر‪ ،‬و إنها لكذلك إذا بامرأة مقنعة قد اتشحت‬
‫بالسواد من قمة رأسها الى أخمص قدميها تنطلق من بين الجمع‬
‫الحاشد و الدموع تغسل وجهها الهزيل الشاحب‪ ،‬و مرت عن كثب من‬
‫بيت نجلء و هي تنتحب و الدمع يسيل من مآقيها مدرارا‪.‬‬

‫فهرعت إليها نجلء تفتح لها بابها و تدعوها للدخول‪ ،‬فقبلت المرأة‬
‫دعوتها و دلفت الى الداخل متهالكة على أول مقعد صادفها‪ ،‬و‬
‫انخرطت في البكاء‪ ،‬تنشج نشيجا موجعا‪ ،‬فجيء لها بكوب ماء و بكت‬
‫النسوة لبكائها و سألنها مصابها‪.‬‬
‫جمعت المرأة أنفاسها و قالت و دمعها يهدر بغزارة‪ " :‬كان ولدي و‬
‫وحيدي من بين أولئك الذين وشى بهم ذلك الغادر‪ ،‬فاعتقله النجليز‬
‫مع إخوانه المجاهدين و ساموه مر العذاب‪ ،‬و لقد كان عزمه و عناده‬
‫أقوى شكيمة من جبروت سياطهم و وسائل التعذيب التي أنزلوها به‪،‬‬
‫فانتزعوا أسنانه‪ ،‬و قصوا أذنيه‪ ،‬و ألهبوا جسده النحيل بالسياط‪ ،‬و‬
‫كلما أعادوا عليه الكرة نزعوا عنه ثيابه الداخلية للتصاقها بجسمه من‬
‫أثر السياط التي مزقت لحمه‪ ،‬و لبثت تلك حاله الى أن قضى نحبه و‬
‫أعادوه لي جثة ممزقة دامية"‪.‬‬

‫و اختنق صوتها و أجهشت بالبكاء‪ ،‬و كان مشهدها بهزالها و عينيها‬


‫المقروحتين و لوعتها على ولدها يقطع نياط القلب‪ ،‬و كان ولدها هو‬
‫ذاك الفتى النحيل الذي تصدى لشكري بك ذات ليلة شاهرا مسدسه‬
‫في وجهه متوعدا مهددا‪.‬‬

‫و انخرطت النساء معها في البكاء‪ ،‬و تذكرت نجلء ساعتئذ ولدها و‬


‫زوجها فانتقض عليها جرحها‪ ،‬و لم تملك نفسها من النتحاب بصوت‬
‫مسموع‪ ،‬و نظرت سلمى الى أمها بعينين باكيتين و ألقت برأسها الى‬
‫صدرها‪.‬‬

‫و راحت النسوة يهدئن من روع المرأة المرزأة بوحيدها فصمتت هذه‬


‫تمسح وجهها بمنديلها المرتوي من دموعها‪ ،‬و انحدرت بعينيها‬
‫المقرحتين الى أهداب ثوبها و قالت‪ " :‬لقد أراد الله بهذا الغادر الخزي‬
‫و العار‪ ،‬و كتب لشهدائنا حسن الثواب"‪.‬‬
‫بعد انقضاء شهرين على موت شكري بك‪ ،‬فوجئ أهل الحي بمركبة‬
‫يجرها جواد أشهب تقف عند البوابة الخارجية للقصر و ينزل منها‬
‫فتاهم األمين )وليد( الذي افتقدوه طويل يعود إليهم بعد أن أطلق‬
‫سراحه‪ ،‬و كان يبدو هزيل شاحبا‪ ،‬فهرع القوم للقائه و استقبلوه‬
‫استقبال حافل‪ ،‬هاتفين بحياته و حياة الوطن‪.‬‬
‫و أطلت نسوة القصر من عليائه متشحات بالسواد‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫أبصرن به انتحبن باكيات بكاء امتزجت فيه دموع الفرح بدموع الحزن‪.‬‬

‫و صعد وليد بيته وسط الهتاف و التهليل‪ ،‬فاحتضنته أمه باكية‪ ،‬و عانقته‬
‫أخته منتحبة‪ ،‬فطيب خاطرهما‪ ،‬و جاءت سعاد لتحييه فشدت على يده‬
‫مصافحة بحنان األخت الرؤوم‪ ،‬و ازدحمت الدموع في مآقيها و‬
‫انحدرت فوق وجنتيها‪ ،‬فربت على كتفها و أخذ مكانه فوق أول مقعد‬
‫صادفه‪ ،‬و كان العياء يبدو واضحا على وجهه‪.‬‬

‫و أحاط به أهله‪ ،‬و التفت ألمه قائل و رأسه فوق ظهر مقعده‪ " :‬إيه يا‬
‫أماه كيف الحال؟"‪.‬‬

‫قالت و صوتها يتلجلج‪ " :‬لقد مات أبوك يا وليد"‪.‬‬

‫قال بلهجة هادئة‪ " :‬ليرحمه الله و يغفر له"‪.‬‬

‫فعادت و قالت‪ " :‬لقد قاسى كثيرا على فراش الموت يا ولدي"‪.‬‬

‫أجابها بصوت هادئ و رأسه على ظهر مقعده‪ ،‬و قد أرخى جفنيه‪ " :‬ل‬
‫أظنه قاسى ما قاساه ضحاياه من الشهداء يا أماه"‪.‬‬

‫صمتت لحظة و قد صدمتها كلماته و عادت تقول‪ " :‬و لكنك ل تعلم يا‬
‫ولدي ما فعله به أهل مدينة يافا‪ ،‬لقد قاسى على يدهم أشد العذاب"‪.‬‬

‫فقاطعها قائل و هو يشعر برعشة باردة تسري في أوصاله‪ " :‬أما كان‬
‫أوفر حظا من أولئك الشهداء الذين مثلت بهم الحكومة و هم أحياء"‪.‬‬

‫و التفتت سعاد إلى امرأة عمها و همست في أذنها‪ ":‬ما كان يجب أن‬
‫تلقيه بمثل هذا القول‪ ،‬و هو كما ترين منهوك القوى شاحب اللون"‪.‬‬
‫سكتت األم على مضض‪ ،‬و تحولت سعاد إلى ابن عمها و قالت له‬
‫بعطف و حنان‪ " :‬هيا لتستريح‪ ،‬فأنت ل بد متعب"‪.‬‬

‫قال و هو يهم بالنهوض‪ " :‬ل بد أني مريض‪ ،‬فالحياة كانت قاسية في‬
‫المعتقل‪ ،‬و كان البرد شديدا‪ ،‬و قد سلخت ليالي فيه بل دثار"‪.‬‬

‫ثم نهض متثاقل إلى حجرته‪ ،‬و انحدرت دمعة من عين سعاد و هي‬
‫تتبعه بنظرها و ترى شحوبه و هزاله‪ ،‬و بعد قليل لحقت به أمه فرأته‬
‫يرتجف في فراشه و أسنانه تصطك فبادرت بدعوة الطبيب‪.‬‬

‫جيء لوليد بالطبيب‪ ،‬و بعد أن فحصه مليا‪ ،‬أشار عليه أل يبرح فراشه‪،‬‬
‫و انتابته حمى قاسية ألزمته الفراش ثلثة أسابيع‪ ،‬و بات القصر الكبير‬
‫يعج باألهل و األصدقاء للستفسار عن حالته‪.‬‬
‫و في األسبوع الرابع كان قد أبل بعض البلل‪ ،‬و سمح له بمغادرة‬
‫الفراش و الجلوس في شرفة البيت ليمل رئتيه من الهواء العليل‪.‬‬

‫و ذات يوم كان وليد يجلس في الشرفة و قد أسند رأسه إلى ظهر‬
‫مقعده في استرخاء‪ ،‬و أحاط به جمع من أهله و قريباته يحادثنه و‬
‫يتوددن إليه‪ ،‬و ل سيما من كانت تنشده لبنتها‪ ،‬و هو صامت ل يبدي‬
‫حراكا‪ ،‬و لحت منه التفاتة إلى بيت سلمى‪ ،‬و لمحته سعاد و هو يمعن‬
‫في النظر إليه‪ ،‬و ما لبث أن أطلق زفرة من أعماقه دلت على ما‬
‫يعتمل في نفسه‪ ،‬فاقتربت بكرسيها منه‪ ،‬و قالت هامسة‪ " :‬أراك‬
‫تسرح الطرف هنا و هناك بنظرات تائهة ملتاعة‪ ،‬ترى مالخبر؟"‪.‬‬

‫زفر و قال‪ " :‬كيف حال الجميلة القاسية‪ ،‬و ما أخبارها؟"‪.‬‬

‫قالت ضاحكة‪ " :‬ألم تبرأ بعد من حبها؟"‪.‬‬


‫قال‪ " :‬كل و الله يا سعاد‪ ،‬و ل أظنني أبرأ منه أبد الدهر"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬كنت أظنك نسيتها"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لم تكن المدة التي قضيتها بعيدا عن هذا المكان‪ ،‬و ما قاسيته‬
‫و ألم بي من حوادث‪ ،‬كافيا لينسيني إياها و يمنع قلبي من الوثوب‬
‫كلما تراءى طيفها لناظري"‪.‬‬

‫و هنا أقبلت أمه تدعو الحاضرين لتناول الغداء‪ ،‬و تطلب إليه أن ينتقل‬
‫الى قاعة الطعام ليتناول غداءه مع ضيوفهم‪.‬‬

‫أجابها قائل‪ " :‬أرى أن تبعثي بطعامي الى هنا يا أماه‪ ،‬فالجو بديع‪ ،‬و‬
‫يطيب لي أن أتناول غدائي في الشرفة"‪.‬‬

‫لم تأنس أمه برأيه‪ ،‬و لكنها لم تشأ أن تجادله‪ ،‬و مضت لتبعث إليه‬
‫بطعامه‪ ،‬و ما كاد يخلو بنفسه حتى شاعت عيناه نحو بيت سلمى و‬
‫قال هامسا لنفسه‪ " :‬كم أشتاق أن أراها و أتحدث إليها و أبثها لواعج‬
‫قلبي‪ ،‬إني بحاجة إلى نظرة صارمة ملتهبة من تينك العينين الوضيئتين‬
‫لترد الحرارة إلى بدني و تسري في أطرافي المثلجة‪ ،‬و لكن أنى لي‬
‫ذلك‪ ،‬لقد فاقت أنفتها و رقة حساسيتها سحرها و جمالها"‪.‬‬

‫وليد و سلمى‬

‫نهضت سلمى ذات صباح ضيقة الصدر‪ ،‬تشعر بالمللة و السأم‪ ،‬و‬
‫لبثت طوال يومها منقبضة النفس‪ ،‬و عند األصيل طلبت إلى أمها أن‬
‫تصطحبها في نزهة تسيران بين المروج و تحت شعاع الشمس الدافئة‬
‫عسى أن ينعشها السير و النسيم‪ ،‬فأجابتها أمها‪ " :‬إنني متأهبة لزيارة‬
‫جارتنا‪ ،‬فهي مريضة كما تعلمين و يجب أن أعودها فهيا معي إليها و‬
‫من هناك ل بأس أن تسيري برفقة ابنتها ثم تعودي لتوافيني عندها"‪.‬‬

‫رحبت الفتاة باقتراح أمها‪ ،‬و تهيأت للخروج‪ ،‬فارتدت ثوبا رماديا أنيقا و‬
‫ألقت على منكبيها دثارا أرجوانيا جميل الشكل منسوجا من خيوط‬
‫صوفية ناعمة و قد جمعت شعرها و ضفرته ضفيرتين جعلتهما إلى‬
‫األمام من جانبي العنق فاسترسلت غدائرها السوداء فوق صدرها‪ ،‬و‬
‫سارت مع أمها إلى بيت جارتها‪ ،‬و من هناك اصطحبت ابنة الجارة‬
‫لترافقها في نزهتها‪ ،‬و هي طفلة ل تعدو السابعة من عمرها‪ .‬و بعد أن‬
‫مشتا شوطا طلبت الطفلة إلى سلمى أن تجلسا فوق العشب و بين‬
‫األزهار البرية‪ ،‬فلبتها و جلست معها عند بقعة تكتنفها أشجار باسقة‪ ،‬و‬
‫تشرف على مروج جميلة واسعة‪ ،‬و راحت الصغيرة تلهو من حولها و‬
‫تقطف األزهار التي انتشرت فوق أرض الجبل‪.‬‬

‫و افتتحت سلمى كتابا كان في يدها‪ ،‬و أنشأت تتصفحه‪ ،‬و عادت‬
‫الكفلة إليها بباقة زهر جميلة األلوان‪ ،‬و جلست بجانبها تعنى بأزهارها‪،‬‬
‫و ما لبثت أن ألقت برأسها الصغير إلى ركبتيها و تمددت فوق‬
‫الحشائش‪ ،‬ثم ما لبثت أن أغمضت عينيها و ذهبت تغط في نوم‬
‫عميق‪ ،‬فهمست سلمى باسمة و هي ترنو إلى وجهها الصغير‪ " :‬يا لك‬
‫من رفيقة كسول"‪.‬‬

‫و ما كادت تتم جملتها حتى طرق مسامعها وقع أقدام تنتقل بين‬
‫األشجار القريبة منها‪ ،‬فارتعدت فرائصها‪ ،‬و تلفتت حولها‪ ،‬فشملتها‬
‫الدهشة حين رأت نفسها وجها لوجه أمام وليد‪ ،‬و حين التقت عينه‬
‫بعينها حياها بانحناءة خفيفة‪ ،‬فردت التحية‪ ،‬و صمتت خافضة الطرف‬
‫دون أن تحول عينيها عن صفحة كتابها و قد صبغ الحياء وجهها‪ ،‬فهاج‬
‫شوقه المكبوت بين ضلوعه‪ ،‬و تمهل في خطاه و هو يرى تلك النظرة‬
‫الصارمة التي طالما مزقت صدره‪ ،‬و قد اختفت تماما و حلت محلها‬
‫نظرة وديعة هادئة‪ ،‬و لما أصبح على مقربة منها‪،‬‬
‫أمسك عن المسير و خاطبها قائل‪ " :‬كنت أود أن أمضي إلى متجر‬
‫العم حامد عقب عودتي من المعتقل ألسأله عما إذا كان هناك لوحة‬
‫جديدة أشتريها‪ ،‬إل أن المرض أقعدني شهرا كامل"‪.‬‬

‫فسرت إلى يدها رعدة باردة ارتجف معها كتابها‪ ،‬و قالت بصوت‬
‫خافت و هي مازالت على إطراقها‪ " :‬هنيئا لك إبللك من مرضك يا‬
‫سيدي"‪.‬‬

‫قال بشيء من العتب‪ " :‬أراك تهنئيني بحسن حالي"‪.‬‬

‫فلذت بالصمت‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أمازلت تنفرين مني يا سلمى‪...‬لقد كنت على حق حين‬


‫صددتني‪ ،‬و لكني كنت إذ ذاك أجهل الكثير من أمر أبي‪ ،‬و مهما بذلت‬
‫اليوم من جهد في خدمة وطني‪ ،‬فسأضل أشعر بالخجل مما جنته‬
‫يداه‪ ،‬حتى يجيء يوم أغسل به ما فرط منه بدمي‪ ،‬و ستفخرين بي‬
‫ساعتئذ‪ ،‬و تقولين كان لي زوج أمين روى ثرى بلده بدمه‪ ،‬و مات ميتة‬
‫شريفة شهيد وطنه‪.‬‬

‫فما كاد يتم قوله‪ ،‬حتى رآها تنتفض و الدموع تتناثر من بين أهدابها‬
‫محبات الماس‪ ،‬فهتف بها‪ " :‬يا الله أتبكين و عهدي بك شجاعة؟"‪.‬‬

‫فزاد قوله هذا دموعها انهمارا‪ ،‬و قال‪ " :‬أيؤلمك وجودي يا سلمى؟ هل‬
‫أمضي ليتسنى لك استعادة هدوئك؟"‬

‫فهزت رأسها و همست من بين دموعها‪ " :‬كل‪ ،‬إن وجودك ل يؤلمني‬
‫قط"‪.‬‬

‫هدأت نفسه و أخذ مجلسا فوق الحشائش أمامها‪ ،‬و وقع نظره على‬
‫الكتاب الذي بيدها‪ ،‬فأمسك به و قلب بعض صفحاته‪ ،‬ثم رفع عينيه‬
‫إليها باسما و قال‪ " :‬تلك لغة فرنسية فهل تجيدينها؟"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬نعم"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و النجليزية؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬و النجليزية"‪.‬‬

‫و استطردت و على شفتيها ابتسامة حلوة‪ " :‬و أجيد العبرية أيضا لغة‬
‫خصومنا األلداء"‪.‬‬

‫فضحك و قال‪ " :‬و كيف ذلك؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ل تعصب في العلم‪ ،‬فمن تعلم لغة قوم أمن من مكرهم"‪.‬‬

‫و لحظ وليد أنها تبدو قلقة و تجيل الطرف هنا و هناك‪ ،‬فهتف بها‬
‫باسما‪ " :‬مالي أراك تتلفتين يمنة يسرة كغزال جازع ينشد الهرب؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬أخشى أن تتلقفنا األقاويل و تلوكنا األلسن‪ ،‬و هذا ما ل أريده‬
‫لنا"‪.‬‬

‫قال بلهفة‪ " :‬غدا نعلن خطبتنا و لن يكون بعد ذلك ما نخشاه"‪.‬‬

‫قالت في دهشة‪ " :‬ماذا؟‪..‬أو في مثل هذه السرعة؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل يدهشك مني يا سلمى أن أحيا حياة سريعة‪ ،‬فعجلة الزمن‬
‫تدور و ل تتوقف‪ ،‬و تطوي بدورها أعمارنا دون أن تنتظر و ل تتمهل‪ ،‬و‬
‫حالة البلد تشعرني بدنو أجلي"‪.‬‬

‫همست ضارعة‪ " :‬أتوسل إليك ل تنغص هناءتنا بهذا القول"‪.‬‬


‫فأحس بكلمتها و قد دبت في نفسه دبيب الشفاء في الجسد المكدود‪،‬‬
‫و سرت نشوتها في رأسه فأثملته حلوتها‪ ،‬و نظر إليها بعين والهة و‬
‫قلب خافق و قال‪ " :‬ألست حالما يا سلمى أن أسمع منك هذا‬
‫القول؟"‪.‬‬

‫أطرقت هنيهة‪ ،‬ثم رفعت رأسها و صوبت فيه بصرها و قالت و قد‬
‫بانت لوعة الحب في جبينها‪ " :‬كن رحيما بحالي و أبعد شبح الموت‬
‫عن ناظري‪ ،‬و ل تجعل له ذكرا يمر على لسانك"‪ .‬و استطردت تقول‬
‫و هي تستجمع شمل أنفاسها‪ " :‬وداعا لقد آن لي أن أمضي"‪.‬‬

‫فشد على يدها مودعا و قال‪ ":‬أستودعك الله و إلى اللقاء"‪.‬‬

‫ثم افترقا و سار كل في سبيله‪.‬‬

‫بين وليد و أمه‬

‫عاد وليد إلى بيته منشرح الصدر و إمارات السعادة ظاهرة على‬
‫وجهه‪ ،‬و إذ ولج فناء القصر سمع جلبة في الداخل‪ ،‬فسأل الخدم‪" :‬من‬
‫هناك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬هن صويحبات سيدتي جئن لزيارتها"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬حسنا إلي بقدح من القهوة"‪.‬‬

‫فمضت الصبية تعد له طلبه و أخذ هو وجهته إلى الشرفة‪ ،‬فطالعته‬


‫سعاد‪ ،‬فابتدرها بالتحية و استطرد باسما‪ " :‬أراك منفردة عن ذاك‬
‫الجمع الصاخب؟"‪.‬‬

‫و لحظت سعاد ما يبدو عليه من انشراح صدره و بريق عينيه‪ ،‬عدا ما‬
‫لمسته في نبرة صوته التي تنم عن سروره‪ ،‬و جاءته الخادم بقدح من‬
‫القهوة‪ ،‬فتناوله و أخذ رشفة منه‪ ،‬ثم التفت إلى سعاد التي كانت‬
‫ترقبه خلسة و قال‪ " :‬أما آن لك يا ابنة العم أن تخلعي عنك ثياب‬
‫الحزن على أخي الشهيد‪ ،‬و قد مضى على وفاته ما يزيد على سبع‬
‫سنين؟"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬إن حزننا قد تجدد اليوم بوفاة أبيك"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و إلى متى ينبغي أن تلزمي هذه األردية المصبوغة بالسواد؟"‪.‬‬

‫قالت و هي ترمقه بنظرة فاحصة من ركن عينها‪ " :‬ذلك إلى أن تتزوج‬
‫و تدخل السرور إلى قلوبنا"‪.‬‬

‫تبسم و قال‪ ":‬هبي إذن أنني طلبت إليك أن تعودي الى دار سلمى و‬
‫تخطبيها إلي‪ ،‬فهل تفعلين؟"‪.‬‬

‫قالت باسمة‪" :‬لله أنت يا ابن العم"‪.‬‬

‫قال و قد تلألت ابتسامته تللؤ األشعة على قمم الجبال‪ " :‬فلنجرب‬
‫مرة أخرى و ل نيأس"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬أخشى زراية حبيبتك بعد الذي كان‪ ،‬أخشى منها أكثر ما‬
‫أخشاه أن تلهبني بسهم من سهام عينيها سخطا و احتقارا‪ ،‬فتردني‬
‫على أعقابي أجر ورائي أذيال الخيبة و الفشل‪ ،‬فلو أنها فعلت هذا فما‬
‫تراك فاعل؟"‪.‬‬
‫أغرب في الضحك و قال‪ " :‬ل أظنها فاعلة في هذه المرة‪ ،‬و سأتحدث‬
‫الليلة إلى أمي لتذهبا معا و تخطباها"‪.‬‬

‫قالت و هي تمعن النظر في وجهه الضاحك‪ " :‬قل الحقيقة و ل تخفي‬


‫عني شيئا‪ ،‬فما الذي طرأ عليك حتى دخل على نفسك كل هذا‬
‫الحبور؟ إني أراك تتكلم عن حبيبتك بثقة من أمرها"‪.‬‬

‫تهلل و قال‪ " :‬كل ما هنالك أني لمحتها الن و أنا في طريقي إلى هنا‬
‫تقف في شرفة دارها‪ ،‬فهاج شوقي إليها"‪.‬‬

‫قالت ضاحكة و قد صدقته في زعمه‪ " :‬ما أغرب أساليب القلب‪ ،‬و‬
‫هل مجرد لمحة يمكن أن ترد إليك سعادتك و تسبغ عليك كل هذا‬
‫السرور؟‪..‬ترى كيف تكون حالك لو أصبحت تلك الغادة زوجك؟"‪.‬‬

‫قال و عيناه تلمعان ببريق السعادة‪ " :‬لن يكون ساعتئذ من هو أسعد‬
‫مني على وجه البسيطة"‪.‬‬

‫قالت و هي تهم بالنصراف لتعود إلى قاعة الضيوف حيث امرأة عمها‬
‫و زائراتها‪ " :‬أتمنى لك التوفيق"‪.‬‬

‫جلس وليد و أهله بعد أن خل المنزل الكبير بهم حول مائدة العشاء‬
‫يتناولون طعامهم‪ ،‬و لحظت األم ما يلوح على ولدها من الغبطة و‬
‫النشراح‪ ،‬فالتفتت إليه قائلة‪ " :‬لقد جدد السير و النسيم نشاطك هذا‬
‫اليوم"‪.‬‬

‫قال و وجهه يفيض بشرا و عيناه تتألقان‪ " :‬نعم يا أماه‪ ،‬فالجو كان‬
‫بديعا و النسيم عليل‪ ،‬و كل ما صدفني في يومي هذا كان رائعا و‬
‫جميل‪ ،‬رد إلي نشاطي و قواي"‪.‬‬
‫صمتت لحظة ثم قالت‪ " :‬لقد سألت عنك خالتك و ابنة خالتك‪ ،‬حين‬
‫كنت في نزهتك"‪.‬‬

‫قال‪" :‬حقا؟‪..‬و كيف هما؟"‪.‬‬

‫انتعشت أمه بلهجته المرحة و ما يتألق به وجهه من النشراح‪ ،‬و هي‬


‫التي عهدت به النفور و النقباض كلما لمحت بابنة خالته و غيرها ممن‬
‫وقع اختيارها عليهن فتوسمت في األمر خيرا‪ ،‬و ظنت أن األزمة قد‬
‫انفرجت‪ ،‬و سيرضى ابنها بمن تريدها زوجة له‪ ،‬و وطنت النفس على‬
‫محادثته بما يجول بخاطرها حين يفرغون من طعامهم‪ ،‬و لما رفعت‬
‫المائدة‪ ،‬و انتقلوا جميعا الى قاعة الجلوس‪ ،‬بدأت األم بالكلم مع‬
‫ولدها قائلة‪ " :‬أما آن لي يا ولدي أن أفرح بك و تكتحل عيناي برؤية‬
‫ابن لك؟‪..‬لقد كانت هذه أمنية أبيك قبل أن يطويه الردى‪ ،‬لكنك‬
‫أعرضت عن الزواج في حياته‪ ،‬كأن األقدار أبت عليه فرحته بك و‬
‫ضنت بما تاقت إليه نفسه"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ليكن ما تشائين يا أماه و سيحقق الله بي أمانيك‪ ،‬و لن ينقضي‬
‫وقت طويل حتى أكون أبا إن شاء الله"‪.‬‬

‫قالت بلهفة و قد زادها قوله ثقة و طمأنينة‪ " :‬و أيهن السعيدة التي‬
‫وقع اختيارك عليها من قريباتك؟"‪.‬‬

‫قال بهدوء‪ " :‬أما قريباتي و غيرهن ممن ترغبين‪ ،‬فل أظنني عازما‬
‫على إحداهن‪ ،‬و فتاتي قد اخترتها لنفسي"‪.‬‬

‫صدمت أمه لقوله و بانت البغتة في جبينها‪ ،‬و قالت بلهجة تنم عن‬
‫عدم الرضا و التعالي‪ " :‬و من تكون تلك التي أردتها لنفسك؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ل أظنك تجهلينها و هي تقيم بالقرب منا"‪.‬‬

‫فتطاولت أخته بعنقها‪ ،‬و اشتاقت أمه لسماع اسمها‪ ،‬و قالت بخيلءها‬
‫و غرورها‪ " :‬ل أظنني أعرف من بين أهل الحي من هي أهل لك"‪.‬‬

‫فتطلع إليها مستخفا و قال‪ " :‬و لم؟ و من أنا؟ و من هو أبي؟ و من‬
‫جدي حتى نرتفع عن خلق الله و نعتبر األشراف دوننا مقاما؟"‪.‬‬

‫فنظرت إليه أمه حانقة و قالت‪ " :‬كأني بك تعتبر لفتاتك شرفا ليس‬
‫لنا"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم‪ ،‬ليت لي شرف أهلها و أبيها‪ ،‬و ليت بين قريباتي من هي‬
‫في مثل نبلها و احتشامها‪ ،‬و ثقافتها و رقة إحساسها‪ ،‬و أما جمالها‬
‫فلندعه جانبا"‪.‬‬

‫فاشتد حسد األم و ابنتها و قالت األم‪ ":‬قل لي من هي‪ ،‬لقد نفذ‬
‫صبري"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬هي سلمى ابنة عبد الله الشهيد"‪.‬‬

‫بغتت األم و قالت بلهجة النف المترفع‪ " :‬عساها تلك الفتاة اليتيمة‬
‫التي تعيش في كنف أمها؟"‪.‬‬

‫قال‪" :‬نعم‪ ،‬إنها هي"‪.‬‬

‫قالت و هي تنتفض غضبا‪ " :‬و ما الذي نعرفه عنها حتى تنزلها من‬
‫نفسك تلك المنزلة العليا‪ ،‬و تحلها من قلبك مقاما ساميا دونه اهلك و‬
‫عشيرتك؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ألم يكفيك يا أماه ما عرفته عنها؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ما كنت ألومك لو اخترت فتاتك من أسرة في مثل حسبنا و‬
‫نسب آبائنا و أجدادنا"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لو كان ألجدادنا أصل شريف ما كان هذا حالنا اليوم‪ ،‬و لكان‬
‫شرف أصلنا رادعا لنا"‪.‬‬

‫قالت و قد تضاعف حنقها و أغاظها قوله و تعريضه بآبائه و نسب‬


‫أجداده‪ " :‬أنت تعلم يا وليد أنني و أباك تربطنا صلة القرابة قبل أن‬
‫يربطنا الزواج‪ ،‬و لذا لن أسمح لك بمثل هذا التعريض بحسبنا و نسب‬
‫أجدادنا من أجل فتاة فقيرة يتيمة ل نعرف لها أصل و ل نسبا"‪.‬‬

‫قال‪" :‬تلك الفتاة الفقيرة اليتيمة قد خلف لها أبوها مع فقرها وساما‪،‬‬
‫و خلف لي أبي مع ثرائي عارا‪ ،‬و حسبناها بل أصل ألن أسرتها ل‬
‫تحمل لقبا أجوف‪ ،‬و ل حسبا موهوما‪،‬‬
‫و ل أجدادا نقرأ سيماهم في وجوه ذريتهم و أبنائهم‪ ،‬فمنهم خائن‬
‫جشع‪ ،‬و مرب مستغل‪ ،‬و أخ يحقد على أخيه‪ ،‬و أب يشي بولده‪ ،‬و‬
‫هناك من تسعى لرضاء غرورها و خيلئها‪ ،‬أو لشباع جشعها و أنانيتها‪،‬‬
‫و من فاقت بنات الهوى في لهوها و تبرجها‪ ،‬إن الله قد عصم تلك‬
‫الفتاة الفقيرة اليتيمة و أهلها من مثل هذه الصفات التي اشتهرت بها‬
‫األسر الحسيبة النسيبة التي تتحدثين عنها"‪.‬‬

‫نظرت إليه أمه شرزا و قالت‪ " :‬هاأنتذا تتنكر لنا قبل أن يتم الزواج"‪.‬‬

‫قال‪" :‬كل‪ ،‬ما أنا بمتنكر لكم قط‪ ،‬إنما أردت بذلك أن أقدم لك مرآه‬
‫تريك حقيقة حالنا‪ ،‬ألنك تتعالين على الناس و تحتقرينهم‪ ،‬و لو أمطنا‬
‫اللثام لبانت لنا الحقيقة المرة‪ ،‬التي ل تحمل لبسا و ل تأويل‪ ،‬و لخجلنا‬
‫لمجرد ذكر اسمنا‪ ،‬و لثرنا النزواء على التعالي و الكبرياء"‪.‬‬
‫هزت األم رأسها و قالت‪ " :‬لقد نسيت أنك محامي ماهر‪ ،‬فمن الخير‬
‫لي أن أكف على جدالك"‪.‬‬

‫فتحول عنها و التفت إلى أخته و إذا هي مطرقة و قد رقصت أرنبة‬


‫أنفها غضبا‪ ،‬و لبس وجهها مسحة تنم عن مدى حنقها البالغ‪ ،‬فتجاهل‬
‫منها ذلك‪ ،‬و قال لها ملطفا‪ " :‬إيه يا هدى‪ ،‬هل تعرفين تلك الفتاة؟"‪.‬‬

‫فازداد وجهها تجهما‪ ،‬و قالت و هي تمعن في إطراقتها و بصوت ينذر‬


‫بعاصفة من البكاء‪ " :‬أعرفها معرفة سطحية"‪.‬‬

‫قال‪" :‬ما رأيك فيها؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ل رأي لي ما دمت أجهل الكثير من أمرها"‪.‬‬

‫كظم غيظه و قال‪ " :‬أل يسرك يا أخية أن تكون لك صديقة في مثل‬
‫سنك‪ ،‬تعيش إلى جانبك و تؤنس وحدتك؟"‪.‬‬

‫سكتت و لم تجب بشيء‪ ،‬و غشي الدمع عينيها‪ ،‬فتحولت أمها إليها و‬
‫راحت تربت على كتفها و قد انهمرت دموعهما‪.‬‬

‫تألمت سعاد و كانت ترقب الموقف في صمت و سكون‪ ،‬و قال الفتى‬
‫و قد انقبضت نفسه‪ " :‬ما هذا؟ أفي مأتم نحن؟‪..‬و هل يجمل بكما أن‬
‫تتقبل نبأ زواجي بهذه الدموع‪ ،‬و هذا التجهم و العبوس؟‪..‬و بعد‪ ،‬فماذا‬
‫يضيركما لو أنني تزوجت من أريد ما دامت حقوقكما عندي‬
‫محفوظة؟‪..‬و إنك يا أماه منذ لحظة تلحين في الزواج و تشتاقين‬
‫لرؤية ولد‪..‬أكان ذلك توددا و مجاملة ألرضى بمن تريدينها شريكة لي؟‬
‫إنها حياتي و أنا صاحبها و ليس ألحد عليها حساب"‪.‬‬
‫قالت و هي تلتقط دموعها‪ " :‬و إذن فأنت مصر على هذا الزواج؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل تبذلي جهدا و ل تحاولي مستحيل"‪.‬‬

‫قالت بشيء من التهكم‪ " :‬أظنك لن تتوانى عن بيع هذا القصر لتدفعه‬
‫مهرا لعروسك تلك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل تهزئي بي‪ ،‬فالقصر قصركم‪ ،‬و عروسي ليست جشعة‪ ،‬و‬
‫لست بالمتهور‪ ،‬و لو حق لي بيع هذا القصر ما أصبحت عليه‪ ،‬و‬
‫أللحقته بما ورثت عن أبي"‪.‬‬

‫فاضطربت و اتسعت حدقاتها و قالت‪ " :‬ما تراك فاعل بما ورثت عن‬
‫أبيك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أرجعتها ألصحابها الذين سلبت منهم"‪.‬‬

‫قالت و قد غل الدم في عروقها‪ " :‬أفصح يا بني‪ ،‬ماذا حدث لعقلك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أبدا و الله‪ ،‬أنا أكلمك بكامل قواي العقلية"‪.‬‬

‫هتفت‪ " :‬رباه ماذا يعني هذا الولد؟ قل لي يا بني ماذا سولت لك‬
‫نفسك حتى أضعت ثروتك التي ورثتها عن أبيك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬قلت لك إنها ليست بثروتي و ل ثروة أبي‪ ،‬بل ثروة أولئك‬
‫الشهداء الذين وهبوا أرواحهم دفاعا عن أرضهم‪ ،‬فرددتها ألسرهم‬
‫الثكلى بهم"‪.‬‬

‫قالت و هي تترنح ترنح الخاسر المغلوب‪ " :‬و إذن فأنت اليوم ل تملك‬
‫سوى ثيابك؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬نعم‪ ،‬و لك أيضا أن تلقي بي من باب قصرك متى شئت"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬كأنك ل ترضى لنفسك بما لك من حق في هذا القصر؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم"‪.‬‬

‫قالت ساخرة‪ " :‬و هل تعتقد أن وسامتك و جمال عينيك كافيان‬


‫لترضى بك عروس اليوم؟"‪.‬‬

‫تأملها مليا و قال‪ " :‬أرى أني أصبحت ل أساوي عندك مثقال ذرة دون‬
‫ثروتي؟‪ . "..‬و استطرد‪ " :‬و لكن هبني أنني عدلت الن عن القتران‬
‫بسلمى و تقدمت طالبا يد ابنة أختك أو غيرها ممن تربطني بهن صلة‬
‫القربى‪ ،‬فهل يرضين بي"‪.‬‬

‫سكتت األم و لم تجب بشي‪ ،‬و أحس بحرجها فعاد لسؤالها‪ " :‬ما بالك‬
‫ل تجيبين يا أماه؟ و عهدي بك منذ لحظة قد شننت حربا شعواء على‬
‫تلك الفتاة و أهلها كي أتحول عنها و أقترن بمن تريدين"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ذلك ما ل أستطيع أن أجزم به"‪.‬‬

‫قال و على شفتيه ابتسامة ساخرة‪ " :‬يا للسمو"‪.‬‬

‫فقطعت كلمه قائلة‪ " :‬و لم ل تسل نفسك عما إذا كانت عروسك من‬
‫السمو بحيث ترضى بك خاوي الوفاض‪ ،‬بعد أن كانت تعتقد كما يعتقد‬
‫سائر الناس‪ ،‬أنك الشاب الثري الذي يرفل في الترف و تغمره‬
‫النعم؟"‪.‬‬

‫تبسم في تيه و افتخار و قال‪ " :‬إن عروسي كذلك‪ ،‬إن تلك الفتاة التي‬
‫تتعالين على أهلها و عليها صدتني غنيا و رفضت قربي أنفة منها و‬
‫تعاليا"‪.‬‬
‫حدقت فيه دهشة و قالت‪ " :‬ماذا؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل يدهشك ذلك‪ ،‬و اسألي سعاد تنبئك بأمرها‪ ،‬ثم ألم أقل لك‬
‫إن الغرور و الخيلء يجثمان على بصيرتنا‪ ،‬في حين يرانا الناس على‬
‫حقيقتنا؟"‪.‬‬

‫قالت و الدهشة مازالت فاغرة فاها‪ " :‬و ما الذي يحملك على تسميتها‬
‫عروسك ما دامت لم ترضى بك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ذلك سببه الثروة المغتصبة‪ ،‬التي يتنازع عليها أقاربي‪ ،‬و ألنها‬
‫كانت تجهل أمري‪ ،‬و اليوم و قد انجلى لها موقفي فل أظنها إل راضية‬
‫بي‪ ،‬و غدا سترافقين ابنة عمي إلى دارها لتخطباها من أمها"‪.‬‬

‫تنهدت و قالت‪ " :‬ليس لي إل أن أرضى بما ارتضيته لنفسك‪ ،‬فأنت‬


‫ابن صعب المراس‪ ،‬و غدا سنخطب لك الفتاة من أمها"‪.‬‬
‫سذاجةعجوز‬

‫فوجئت نجلء و سلمى ذات يوم بزيارة جارتها نفيسة‪ ،‬و هي امرأة‬
‫أرملة و عجوز متداعية‪ ،‬فرحبتا بها‪ ،‬و جلست المرأة و في قبضتها‬
‫رزمة من الورق‪ ،‬و ابتدرتها نجلء قائلة‪ " :‬ماذا تم في قضيتك مع‬
‫أقارب زوجك يا أختاه؟"‪.‬‬

‫قالت المرأة لهثة‪ " :‬هذا ما دفعني إليك هذا الصباح‪ ،‬و لقد وجدت‬
‫محاميا ماهرا لكنه يهودي‪ ،‬و لما كنت ل أعرف الفرنجية‪ ،‬رأيت أن آتي‬
‫إليك و أصطحب معي سلمى لتتفاهم معه"‪.‬‬

‫التفتت إليها سلمى و قالت‪ " :‬و لم لم توكلي محاميا عربيا يا خالة‬
‫يدرس قضيتك و يترفق بحالك؟"‪.‬‬

‫قالت المرأة‪ " :‬لقد جربت ذلك يا بنيتي‪ ،‬و لكن أحدا لم يأبه ألمري و‬
‫رقة حالي و يتم أولدي‪ ،‬و بعد فإن ذلك المحامي بارع جدا‪ ،‬و قد رأيته‬
‫أمس رأي العين و هو يقف في ساحة القضاء يهزها ببراعته و لباقته و‬
‫لقد كانت موكلته امرأة في مثل حالي‪ ،‬و أسرت إلي أنه لم يتقاض‬
‫منها درهما واحدا رأفة بحالها"‪.‬‬

‫قالت سلمى مستخفة قولها‪ " :‬ل شك أن موكلته هذه يهودية مثله‪ ،‬و‬
‫إل ما عطف عليها‪ ،‬و أما أنت فسيصليك نارا حامية لكونك عربية"‪.‬‬
‫قالت المرأة يائسة‪ " :‬ل تضيقي علي السبيل يا بنية"‪.‬‬

‫و قالت نجلء ضاحكة‪ " :‬دعيها و شأنها يا سلمى‪ ،‬لقد شقيت المسكينة‬
‫مع أقارب زوجها في سبيل ميراث أبنائها‪ ،‬دعيها يا بنيتي تضرب آخر‬
‫سهم لها فهي صاحبة الحق في القضية و الله نصير أهل الحق‪ ،‬هيا‬
‫استعدي لمرافقتها إلى محاميها"‪.‬‬

‫قالت الفتاة‪ " :‬حسنا‪ ،‬سأسير معها في الحال‪ ،‬و نرى ما سيكون من‬
‫أمر ذلك المحامي اليهودي معها‪ ،‬و استطردت تخاطبها‪ " :‬هل لك‬
‫بقدح من القهوة يا خالة قبل أن نمضي لشأننا؟"‪.‬‬

‫قالت المرأة‪ " :‬ل يا بنيتي‪ ،‬فما بي حاجة إلى طعام أو شراب‪ ،‬و لن‬
‫يهدأ لي بال إل متى فرغت من هذه المهمة‪ ،‬فهيا بنا"‪.‬‬

‫و انصرفت الفتاة تتأهب لمرافقة العجوز إلى المحامي‪ ،‬و بعد أن‬
‫فرغت من إعداد نفسها‪ ،‬التفتت إلى المرأة و قالت تسألها‪ " :‬أل يقيم‬
‫ذلك المحامي في حي )الهدار( يا خالة؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ربما كان ذلك يا بنيتي‪ ،‬و لكن الذي أعرفه أن له مكتبا في‬
‫شارع الملوك"‪.‬‬

‫فصمتت الفتاة و سارت مع رفيقتها هذه إلى حيث تقودها‪ ،‬و لما بلغتا‬
‫قلب المدينة‪ ،‬توجهتا الى شارع )الملوك(‪ .‬و هنا رأت سلمى رفيقتها‬
‫تشير على أحد األبنية الشاهقة و هي تقول‪ " :‬ها هو مكتب المحامي"‪.‬‬

‫ثم مشتا إليه‪ ،‬و صعدتا سلما أدى بهما إلى مكتب فخم‪ ،‬تتصل به قاعة‬
‫مستطيلة جميلة‪ ،‬فرشت أرضها ببساط أنيق‪ ،‬تتوسطه منضدة رشيقة‪،‬‬
‫عليها إناء زجاجي‪ ،‬يحمل باقة زهر طيبة الرائحة‪ ،‬و في الركن الخر‬
‫من المكان وضع مقعدان وثيران تقابلهما أريكة فخمة مكسوة جلدا‬
‫بني اللون‪ ،‬ارتمت العجوز عليها‪ ،‬و أخذت سلمى مكانها إلى جانبها‪ ،‬و‬
‫راحت المرأة بعد ذلك تعد أوراقها استعدادا لعرضها على محاميها‪،‬‬
‫على حين أخذت سلمى تتشاغل بقراءة إحدى الصحف ريثما يأتي‬
‫المحامي إلى مكتبه‪ ،‬و بينما هي كذلك إذ سمعت العجوز تقول همسا‪:‬‬
‫" ها هو ذا قد جاء يا سلمى"‪.‬‬

‫فرفعت الفتاة عينيها عن الصحيفة التي في يدها‪ ،‬و نظرت إلى حيث‬
‫تشير المرأة‪ ،‬و كم كانت دهشتها حين رأت نفسها أمام وليد يسير‬
‫باتجاه مكتبه‪ ،‬و لم يكن هو قد رآها بعد‪ ،‬و التفتت سلمى إلى العجوز‬
‫متسائلة‪ " :‬ما هذا الذي تقولين يا خالة؟‪..‬و هل هذا الشاب هو‬
‫محاميك اليهودي؟"‪.‬‬

‫قالت المرأة مستفسرة‪" :‬نعم يا بنيتي‪ ،‬و ما الغرابة في ذلك؟"‪.‬‬

‫فدهشت الفتاة‪ ،‬و اعترتها على الرغم منها هزة جمعت بين الذهول و‬
‫الخوف معا‪ ،‬و قبل أن تجيب المرأة بشيء‪ ،‬كان وليد قد لمحها‪ ،‬فخف‬
‫إليها و هو في دهشة من أمرها‪ ،‬و ما يبدو عليها من الوجل و‬
‫الضطراب و قال‪ " :‬ما لك يا حبيبتي؟‪..‬و ما الذي جاء بك الى هنا يا‬
‫سلمى؟"‪.‬‬

‫قالت و هي تنظر الى وجهه بإمعان‪ " :‬إنما رافقت هذه الخالة إلى هنا‪،‬‬
‫و هي تقول مؤكدة أنك يهودي"‪.‬‬

‫فلما سمع كلمها أدرك الباعث على اضطرابها‪ ،‬و لم يملك نفسه أن‬
‫أطلق ضحكة مرحة تجاوب صدى رنينها في أرجاء المكان‪ ،‬و ما لبث‬
‫أن قال‪ " :‬يا للبلهاء الجميلة‪ ،‬يا الله صدقتي أنني يهودي؟"‪.‬‬

‫قالت تلهث‪" :‬كل و الله لم أصدق ذلك‪ ،‬و إني أجن لو تصورتك‬
‫يهوديا"‪.‬‬
‫فأتاها بكوب ماء و التفت إلى العجوز التي كانت منهمكة تعد أوراقها و‬
‫خاطبها قائل‪ " :‬هل لي أن أسألك يا سيدتي عما جعلك تقولين أنني‬
‫يهودي؟"‪.‬‬

‫ردت العجوز فرحة‪ " :‬حمدا لله على أنك عربي يا ولدي‪ ،‬و ما كان‬
‫اعتقادي ذلك إل لكوني رأيتك باألمس تتحدث الى امرأة أجنبية برطانة‬
‫أجنبية ل أعرفها"‪.‬‬

‫ضحك ثانية‪ ،‬و دهشت سلمى لسماع قول المرأة‪ ،‬و غمغمت هامسة‬
‫في نفسها‪ " :‬يا له من أمر عجيب"‪.‬‬

‫ثم التفتت إليها قائلة‪ " :‬كيف ذلك يا خالة‪..‬ألم تصحبيني إلى هنا ألني‬
‫أجيد الفرنجية؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬بلى"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬وهل أنا يهودية إذن؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬كل يا بنيتي فليس هذا وحده الذي جعلني أقول أن ولدي هذا‬
‫يهودي"‪.‬‬

‫فحدقت بها الفتاة ‪ ،‬و قال وليد للمرأة و هو يرقب دهشة سلمى و‬
‫اضطرابها‪ " :‬قولي بالله يا سيدتي و عجلي في القول‪ ،‬فهذه خطيبتي‬
‫لن تتورع عن أن تطعني بمدية لو صح لها أنني يهودي محتال عليها"‪.‬‬

‫قالت العجوز و هي تتعثر بجمع أوراقها‪ " :‬رويدكما علي يا ولدي؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬كل لن نمهلك أبدا"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬حسنا‪ .‬سأسرد لك األسباب التي جعلتني أعتقد أنك غير‬
‫عربي"‪ .‬و استطردت و هي ترفع عينيها المتعبتين‪ " :‬حين رأيتك أمس‬
‫تقف أمام القضاء و عليك رداء الرهبان‪ ،‬و كنت قد سمعتك تتكلم‬
‫الفرنجية‪ ،‬لم يبق عندي بعد ذلك أدنى شك بأنك يهودي عريق"‪.‬‬

‫فما كادت العجوز تتم قولها حتى أغرب وليد في الضحك‪ ،‬و التفتت‬
‫سلمى إليها و قالت‪ " :‬و كيف ذلك بالله؟‪..‬راهب‪..‬و يهودي‪..‬و محام‪..‬و‬
‫رطانة‪..‬و ما هذا الخلط يا خالة الذي كدت به أفقد صوابي؟"‪.‬‬

‫قالت العجوز متسائلة‪ " :‬و ذاك الثوب األسود الذي كان ولدي هذا‬
‫يرتديه أمام القضاء و هو أشبه بثياب القساوسة و الرهبان؟"‪.‬‬

‫ضحكت الفتاة و قالت‪ " :‬ذلك رداء المحاماة يا خالة‪ ،‬و كل محامي‬
‫يرتديه أمام القضاء"‪.‬‬

‫قالت ذلك و التفتت إلى وليد فرأته يضحك من سذاجة المرأة‪،‬‬


‫فضحكت معه‪ ،‬و قالت العجوز‪ " :‬اضحكا يا ولدي‪ ،‬فلعله صباح جميل‪،‬‬
‫و فأل يبشر بالخير و الفوز"‪.‬‬

‫ثم ما لبثت أن اشتركت معهما في ضحكة عالية بانت لها في أعلى‬


‫لثتها سن بارزة لم يبق لها الدهر على سواها‪.‬‬

‫و التفت وليد على سلمى و همس في أذنها‪ " :‬هذا جزاؤك‪ ،‬إنك تنقبين‬
‫على العجائز‪ ،‬تنشدين مصادقتهن‪ ،‬و ليس ببعيد أن تأتيك يوما عجوز‬
‫تتسلط على عقلك‪ ،‬فتبيتين مصدقة لكل هذر و هرف يدور حولك"‪.‬‬

‫قابلت قوله هذا بالبتسام و التفتت الى المرأة التي كانت منهمكة في‬
‫إعداد أوراقها‪ ،‬و خاطبتها قائلة‪ " :‬هيا يا خالة حدثي محاميك هذا‬
‫العربي الكريم بما تبتغين‪ ،‬فباستطاعتك الن أن تتفاهمي معه دون‬
‫حاجتك إلي"‪.‬‬
‫اتجهت المرأة نحو المحامي الشاب‪ ،‬و قالت‪" :‬سامحني بالله يا ولدين‬
‫أفتكون خطيب ابنتنا هذه و أنا في جهل من أمرك؟"‪.‬‬

‫قالت ذلك و راحت تبسط له قضيتها و تشرح أمرها‪ ،‬و لما فرغت من‬
‫سرد مشكلتها‪ ،‬أدخل الطمأنينة إلى قلبها الواهي‪ ،‬فانبسط وجهها و‬
‫توسمت في األمر خيرا‪ ،‬شكرته و رفعت يديها المعروقتين الى السماء‬
‫داعية له بالتوفيق و النجاح"‪.‬‬

‫و تأهبت سلمى للعودة حين رأت المرأة قد فرغت من مهمتها‪ ،‬فحيت‬


‫خطيبها و عادت أدراجها‪.‬‬
‫اقترن وليد بسلمى‪ ،‬و أوقف من حنانه عليها و عنايته بها ما ل يمكن‬
‫ألب أو أخ أن يوقفه على ابنته أو أخته‪ ،‬و أولها دلل و حبا قلما تنالهما‬
‫زوجة من زوجها‪ ،‬و لكنه على الرغم من ذلك كان يعجب لتقهقر‬
‫صحتها و ذبول لونها مع مرور األيام‪ ،‬و لم يغب عن عينه تلك المسحة‬
‫الرقيقة من األسى التي كانت تغشى عينيها الجميليتين على الرغم من‬
‫البتسامة الحلوة التي تلقاه بها و ل تفارق شفتيها‪ ،‬و كان إذ سألها عن‬
‫مبعث ذبولها و سر انحرافها طوقت عنقه بساعديها و أجابته‪ " :‬إنني‬
‫في خير حال و سعيدة بك الى أقصى ما تكون السعادة"‪.‬‬

‫فكانت مثل هذه الهمسات الحلوة التي تسكبها في أذنه ترجع إلى‬
‫نفسه الطمأنينة‪ ،‬و يقنع بما يسمعه منها و يراه من تدللها عليه دلل و‬
‫حبا‪ ،‬و لو أنه أماط اللثام عما تخفيه وراء تلك البتسامة العذبة‪ ،‬و ما‬
‫تنطوي عليه جوانحها‪ ،‬لرأى قلبها النبيل يذوب بين ضلوعها ذوبان‬
‫الشمعة المضيئة في ظلمة أركان بيتها‪ ،‬و ذلك لما تتجرعه من‬
‫الهانات‪ ،‬و قساوة القول الذي يفوق بمرارته الحنظل على أيدي أهله‪.‬‬

‫و هكذا سارت حياتها على هذا المنوال‪ ،‬فشوط تقطعه سعيدة هانئة‬
‫في ظل زوجها بجانبها‪ ،‬و شوط تتقهقر فيه كئيبة‪ ،‬لما تلقاه من أمه و‬
‫أخته اللتين استخدمتا غلظتهما و جحود قلبيهما كمعول لتحطيمها و‬
‫إذللها و ما من ذنب اقترفته في حقهما حتى تلقى منهما مثل هذا‬
‫الجزاء القاسي‪ ،‬و عبثا حاولت كسب قلبيهما بالتودد و اللين‪ ،‬إل أنها‬
‫لم تلمس من وراء ذلك إل الخفاق و المقت و النفور‪ ،‬فتلبث على‬
‫صمتها متذرعة بالصبر و اليمان‪ ،‬و ما كان لها من عزاء لهذا الشقاء‬
‫المحدق بها إل زوجها الكريم الذي يبادلها حبا و إخلصا بإخلص‪.‬‬

‫و لم تغفل سعاد الطيبة القلب المهذبة الحس أمر سلمى و ما تقاسيه‬


‫من مرارة بين أهل زوجها‪ ،‬و أدركت أن ابن عمها يجهل كل ما يلحق‬
‫بزوجه حرصا منها على راحته و هدوء باله‪،‬‬
‫فكبرت سلمى في عين سعاد و تضاعف حبها لها‪ ،‬و كثيرا ما كانت‬
‫ترفه عنها و تعود على امرأة عمها و ابنة عمها بالعتب و اللئمة‬
‫لقسوتهما‪ ،‬و لكنهما لم تعبآ لقولها‪.‬‬

‫و لبثت تلك حالها الى أن فوجئت يوما بزيارة جارتها القديمة نفيسة‬
‫تلك العجوز التي رافقتها مرة الى مكتب زوجها ليتولى قضيتها فلقيتها‬
‫بالترحاب و قادتها الى حجرتها‪ ،‬و إذ أخذت المرأة مجلسها ابتدرتها‬
‫سلمى بالسؤال عما صارت إليه قضيتها فنظرت إليها العجوز ضاحكة‬
‫م تسألي زوجك الكريم؟‪..‬أم أن هذا القصر البديع‬ ‫و قالت‪ " :‬و لم ل م‬
‫أنساك حالنا حتى لم نعد نرى شمس وجهك و ضياء عينيك‪ ،‬و إني لتية‬
‫الساعة من عند أمك و هي عاتبة عليك و قلقة من أجلك فقد مضى‬
‫عشرون يوما دون أن تسعد بزيارتك على الرغم من أن زوجك ل يلبث‬
‫يتفقدها في ذهابه و إيابه"‪.‬‬

‫فشعرت بالخجل و هي تتلقى هذا العتاب‪ ،‬و ذكرت أيامها السالفة‬


‫بجانب أمها و هناءتها بين جدران بيتها المتواضع‪ ،‬و ما صارت إليه اليوم‬
‫حياتها الزاخرة بالهانات و ما تقاسيه من مرارة العيش بين أبهاء هذا‬
‫القصر الشامخ‪ ،‬حتى أصبح في نظرها أشبه بثكنة حربية تقوده تلك‬
‫الشمطاء التي تشبه بغلظتها و جحودها سجانات العصور القديمة‪.‬‬
‫و حدقت بها زائرتها و هي مطرقة صامتة‪ ،‬و لم تلبث أن هتفت بها‪" :‬‬
‫أي بنيتي ما هذه الظلمة القاتمة التي تجثم حول عينيك؟‪..‬ثم هذا‬
‫الذبول الذي ل عهد لك بمثله يا سلمى‪ ،‬فهل تشكين ما يكدر عليك‬
‫عيشك يا حبيبتي؟"‪.‬‬

‫انتبهت الصبية لنفسها‪ ،‬و قالت و هي تصحو من تألماتها‪ " :‬ليس بي‬
‫من شيء يا خالة‪ ،‬و كل ما هناك أنني أشعر بتوعك خفيف هذين‬
‫اليومين‪ ،‬فاحملي تحياتي ألمي و طمئنيها علي‪ ،‬و سأمضي لزيارتها في‬
‫صباح الغد إن شاء الله"‪.‬‬

‫قالت المرأة و قد صدقتها في زعمها‪ " :‬حمدا لله على سلمتك يا‬
‫بنيتي و جعل غدا مباركا يا سلمى‪ ،‬فهو يوم جلستنا في قضيتنا‪ ،‬فادعي‬
‫لنا بالفوز و التوفيق و ليأخذ الله بيد وكيلنا الكريم و ينصرنا على‬
‫الظالمين المغتصبين حقنا"‪.‬‬

‫قالت و هي تزفر‪ " :‬ل تيأسي من رحمة الله يا خالة"‪.‬‬

‫ثم قامت و جاءت لزائرتها بقدح من القهوة و قدمت لها مما لديها من‬
‫الفاكهة و الحلوى‪ ،‬فشكرتها العجوز و قضت في زيارتها فترة من‬
‫الوقت‪ ،‬أنست بها الفتاة و نسيت كربها‪ ،‬و كل من حولها‪ ،‬إلى أن‬
‫استأذنت المرأة بالنصراف فنهضت بنهوضها و مشت معها الى الباب‬
‫تشيعها و هي تحملها ألمها السلم‪.‬‬

‫و إذ عادت سلمى أدراجها الى حجرتها التقت بهدى و أمها تقفان في‬
‫ساحة القصر حول الحوض الرخامي المصقول‪ ،‬و كانت هدى تجلس‬
‫الى حافته و تعبث بمياهه محاولة المساك بإحدى أسماكه النادرة‪ .‬و‬
‫لما شاهدت سلمى مارة عن كثب منهما‪ ،‬التفتت ألمها قائلة بصوت‬
‫مسموع‪ " :‬لعمري يا أماه إن تلك المرأة البائسة أصلح ما تكون‬
‫صديقة لنجلء و ابنتها"‪.‬‬
‫فالتفتت إليها سلمى على إثر قولها و لم يثر ذلك القول غضبها كثيرا‬
‫إذ كانت أذناها تمتلئان بألذع منه‪ ،‬و أجابتها قائلة‪ " :‬ل تصدقي يا هدى‬
‫أنني اسمح لفتاة في مثل سني أن تعمل على إهانتي‪ ،‬فكفاني ما‬
‫ألقاه من غيرك‪ ،‬و إذ كنت تعتبرين نفسك ذات سلطان علي‪ ،‬فذلك‬
‫وهم منك‪ ،‬و إن هذا الذي أراه و أسمعه منك ل يصدر عن فتاة لها مثل‬
‫احتشامك و ثقافتك و حسب آبائك و أجدادك"‪.‬‬

‫ثم صدفت عنها و مضت في سبيلها دون أن تترك لها فرصة الرد‬
‫عليها‪ ،‬و هنا التفتت هدى لمها و قالت‪ " :‬لعمري إنها ينبوع من الجرأة‬
‫ل ينضب له معين‪ ،‬و علمها علم اليقين أنها فتاة مجردة من الكثير‪ ،‬فل‬
‫ثروة و ل اسم و ل مكانة لها و ألهلها‪ ،‬و على الرغم من ذلك فهي‬
‫تعرف كيف تصيغ سهمها في قالب من التعبير المنمق"‪.‬‬

‫و عادت سلمى الى حجرتها و هي تشعر بضيق صدرها و حاجتها الى‬


‫البكاء‪ ،‬و إنها لدقائق إذ فوجئت بزوجها يدخل عليها يحمل بيده دمية‬
‫جميلة في حجم الطفل المولود قدمها إليها و هو يقول باسما‪ " :‬لقد‬
‫راقني شكلها فاشتريتها لك"‪.‬‬

‫مرت بشفتيها ابتسامة باهتة و قالت‪ " :‬أظنك تحن الى طفل يمل‬
‫عليك فراغ حياتك"‪.‬‬

‫ثم أخذتها منه ووضعتها فوق منضدة في ركن الغرفة و ما كادت‬


‫تستدير من مكانها حتى هبت من النافذة نسمة لعبت بطرف الستارة‬
‫القريبة من مكان الدمية فالتفت حولها و جذبتها إلى األرض فهشمتها‪.‬‬

‫فاستدرات و رأتها و هي ملقاة في حجم الطفل و اجزاؤها مقسمة‬


‫الى قطع شتى فاقشعر بدنها لمشهدها‪ ،‬و حولت عنها و همست‬
‫لزوجها‪ " :‬أبعد عن ناظري هذه الدمية المقطعة فمنظرها يبعث‬
‫التشاؤم الى نفسي و يدب الرعب في قلبي"‪.‬‬
‫قال و هو يغالب رعشة خفيفة سرت في أطرافه ل يدري لها كنها‪" :‬‬
‫ليكن ما تشائين و لنبعد هذه الدمية عن ناظرينا"‪.‬‬

‫قال ذلك و جمع شتاتها و أعادها الى صندوقها و تطلع وليد الى وجه‬
‫زوجته و تفرس في تلك الطبقة الرقيقة من األسى التي تغشى عينيها‬
‫الجميلتين دله عليها ذبول جفنيها المسبلة على نظرة صافية خالية من‬
‫كل مرح و انشراح و أمعن النظر فيما يعتري وجهها الجميل من‬
‫انحراف يدل على مبلغ آلمها المنطوية عليها ضلوعها إل أنها آلم و‬
‫انحراف ل يخلوان من رقة محببة للنفوس هاجت لها عواطفه الجياشة‬
‫فتناول يدها بين كفيه و قال‪ " :‬إن أمرك يشغلني و يبعث القلق الى‬
‫نفسي"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬اطرح عنك هذه الهواجس و ائذن لي أن امضي لزيارة أمي‪،‬‬
‫فانزل عليها ضيفة بضعة أيام أروح بها عن نفسي فلقد مضى وقت‬
‫طويل لم أرها فيه"‪.‬‬

‫قال‪" :‬ل اعتراض لي على ذلك"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬إذن سأسير الن إلى هناك"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و لكن غدا هو يوم زفاف أختي يا سلمى أل ترين أن وجودك‬
‫بيننا في حفل الزفاف ضروريا؟"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬ل أظن ذلك"‪.‬‬

‫فاطرق إطراقا طويل و قد جال بخاطره ما لم تكن تعلم به و لم‬


‫يخطر لها على بال‪ .‬فلما رأته على تلك الحال قالت‪:‬‬
‫" ما بك؟"‪.‬‬
‫رفع رأسه من إطراقه و قال‪ " :‬ل حيلة لي فيما أراده الله‪ ،‬لقد عقد‬
‫ألختي على هذا الشاب الذي ارتضاه لها أبواها حين كنت استكمل‬
‫دراستي في الخارج و لول ذلك لما ارتضيت لها بمثل هذا الزواج أبدا"‪.‬‬

‫فحدقت به دهشة و قالت‪ " :‬أفصح يا وليد‪ ،‬أهو من تلك الشرمذة التي‬
‫تتجر باألرواح و تتقاضى ذهبا ثمنا لسفك دماء أبناء الوطن؟"‪.‬‬

‫زفر زفرة حرى و قال‪ " :‬ذاك عمه‪ ،‬فقد نشط هذا الرجل في تجارة‬
‫األراضي و إغراق بعض الملك ببيع أراضيهم بما يدفعه لهم من مبالغ‬
‫باهظة في المتر الواحد من األرض ‪ ،‬فكان أصحاب األرض من هؤلء‬
‫يضطر إلى بيع أرضه هربا و تخلصا من أعباء الضريبة الفادحة التي‬
‫تفرضها حكومة البلد على أصحاب األراضي كي تجبرهم علي بيع‬
‫أراضيهم بعد أن تكلفهم الضريبة ما يفوق طاقتهم و يذهب برمقهم‪ ،‬و‬
‫يأتي عندئذ واحد من سواعد الستعمار و أعداء الله و الوطن أمثال‬
‫ذلك الرجل فيشتري األرض من صاحبها ثم ل يلبث أن يبيعها بدوره‬
‫إلى الوكالة اليهودية و يتقاضى الثمن على ذلك سخيا‪ :‬واحد من ألف‬
‫واحد‪ ،‬يتخذ من هذه المهنة المزرية عمل و احتكارا فيجر بعمله هذا‬
‫على البلد و أهلها خرابا و وبال‪ ،‬إن السعداء اليوم من هؤلء المدمرين‬
‫سيشقون غدا و سيشقى معهم األبرياء و يحصد هؤلء ما زرع أولئك‪،‬‬
‫بل سيشقى من لم يولد بعد‪ ،‬و يرضع الرضيع من مرارة ثدي هذه‬
‫الجناية الحابل بالنابل و يذهب الطائع بجريرة العاصي و البريء‬
‫بجريمة الجاني"‪.‬‬

‫مرت براحتها على جبينها و قالت‪ " :‬و ماذا عن خطيب أختك هذا؟"‪.‬‬

‫قال‪ ":‬ذلك ما عرفته عن عمه و أما هو فلم نسمع عنه شيئا من هذا‬
‫القبيل إل انه نذل دنيء يعشق جمع المال من أية سبيل‪ ،‬و ل غضاضة‬
‫عنده في مهنة عمه و ل اعتراض له على ذلك‪ ،‬لذا تألق نجمه في‬
‫نفس عروسه و نال رضا أبويها‪ ،‬و من كان هذا خلقه ليس ببعيد أن‬
‫يحذو حذو عمه"‪.‬‬

‫قالت ساخرة‪ " :‬ما كنت اعلم بهذه المزايا التي من أجلها تفاخر أختك‬
‫بخطيبها هذا"‪ .‬و استطردت‪ " :‬إن أمر هؤلء القوم لعجيب أن يبيعوا‬
‫السعادة و الستقرار ليشتروا بثمنها التشتيت و الدمار حبا منهم في‬
‫جمع المال و كنز خزائنهم بالذهب و الماس و طمعا في زينة الحياة‬
‫الدنيا دار الزوال‪ ،‬و استماتة بمباهجها الفانية و مجامعها الحافلة‪ ،‬و‬
‫أغراضها الزائلة‪ ،‬فل استفاقة منهم و ل حساب أن تعض نواجذ الدهر‬
‫يوما على ما جمعوا باطل فما يصحون من ثمالتهم إل و هم‬
‫الخاسرون‪ ،‬فل بحاضرهم يسعدون‪ ،‬و ل بماضيهم يدركون‪ ،‬و ل هم بعد‬
‫ذلك عند ربهم بمكرمين"‪.‬‬

‫فعاد الى إطراقه و هو يشعر بالخجل و النقباض فأحست ما بنفسه و‬


‫رأت أن تزيل عنه كآبته فتناولت يده بين كفيها و قالت و على ثغرها‬
‫ابتسامة حلوة‪ " :‬لك عندي نبأ عظيم"‪.‬‬

‫فرفع عينيه إليها و قال و هو يبادلها البتسام‪ " :‬ترى ما هو ذلك؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬سأغدو أما"‪.‬‬

‫فاتسعت ابتسامته و قال‪ " :‬ما أسعدني و أنا أراك أم أولدي"‪.‬‬


‫و فيما هما كذلك إذا بالخادم تندفع نحو سلمى و تهمس في أذنها‬
‫ببضع كلمات شحب لها لونها‪ ،‬فسألها زوجها ما الخبر؟ قالت‬
‫مضطربة‪" :‬إن أمي مريضة"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لربما يكون األمر توعكا خفيفا فل ترتاعي هكذا؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬و لكن البنية تقول أنها محمومة و ملزمة فراشها"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل بأس‪ ،‬امضي إليها و عسى أن تجديها يخير"‪.‬‬

‫فتحولت و ارتدت ثيابها على عجل و مضت إلى أمها تستطلع أمرها‪ ،‬و‬
‫إذ أقبلت عليها رأتها ساكنة في فراشها و قد ألمت بها حمى شديدة‬
‫تلون لها لونها فارتاعت و جعلت تتفقدها و تسهر على راحتها و خدمتها‬
‫و قد مضت بضعة أيام على تلك الحال و حالة المريضة تزداد سوءا و‬
‫البنة تتفانى في خدمة أمها وتذرف الدموع السخية جزعا عليها‬
‫متضرعة إلى الله أن يشفيها و يرد إليها عافيتها ولكن حالة العليلة‬
‫أخذت في التقهقر‪ ،‬و لم يكد ينقضي أسبوع رابع حتى كانت قد فارقت‬
‫الحياة و صعدت روحها إلى بارئها‪ .‬و كانت صدمة لها أثرها في نفس‬
‫فتاتها‪ ،‬فبكتها و نعتها نعيا جميل‪ ،‬و أقبل عليها زوجها و كانت قاعدة‬
‫مطرقة خاشعة خشوع العابد أمام محرابه و دموعها تنحدر فوق خديها‬
‫بل عناء متساقطة فوق صدرها كسيل طل منهمر‪ ،‬فأثر منظرها في‬
‫نفسه و طفر من عينيه‪ ،‬و دنا منها و قلبه يذوب عطفا و ألما لما يراه‬
‫من صمتها و جمودها‪ ،‬فلم تشعر به إل و هو يضع يده برفق فوق‬
‫عاتقها و يهتف بها قائل في همس‪ " :‬ل حيلة في قضاء الله يا حبيبتي‪،‬‬
‫فخففي عنك‪ ،‬و ليرحم الله تلك الروح الطاهرة و جعل مثواها الجنان‪،‬‬
‫و ليكن صبرك عليها كريما يا سلمى"‪.‬‬

‫فزاد قوله هذا دموعها انهمارا‪ ،‬فواساها و أحسن عزاءها‪ ،‬ثم اقترح‬
‫عليها أن يعود بها إلى بيتها‪.‬‬

‫فأطاعته و عادت معه و نفسها تفيض حزنا و لوعة لفقدانها صدر أمها‬
‫الحنون‪ ،‬و قد أخذت منها الصدمة مأخذها‪ ،‬فذبل لونها و كثر شرودها و‬
‫انطواؤها على نفسها و ألم بها من المتعاض ما يلم بنفس الغريب‬
‫النازل موطن غير موطنه و ديار و قوم غير داره و أهله‪.‬‬

‫فاكتأبت و استوحشت‪ ،‬و نظرت للحياة نظرة المسافر المنقطع في‬


‫أرض ل عهد له بها و ل شأن له بشؤونها و أهلها‪.‬‬

‫و لم يغفل زوجها عما نالها من حزن‪ ،‬و أسف لموت أمها‪ ،‬فانصرف‬
‫إليها يغمرها بعطفه و يضاعف من عنايته بها و حنانه عليها‪ ،‬و ما ترك‬
‫نادرة و ل قصة طريفة إل و قصها عليها و أطرفها بها ليسري عنها‪ ،‬و‬
‫فاجأها غداة يوم حامل جواز سفرهما و همس لها قائل‪" :‬لقد أعددت‬
‫لك رحلة ممتعة أجدها ضرورية لنا فهيئي نفسك و لنأخذ سمتنا إلى‬
‫جبل لبنان"‪.‬‬

‫رفعت نظرها إلى وجهه و تفرست فيه صامتة‪ ،‬و قرأ هو ترددا في‬
‫عينيها فهتف بها ضارعا‪ " :‬بربك ل تعترضي على ذلك يا سلمى فكلنا‬
‫متعب و بحاجة الى الترفيه عن نفسه"‪.‬‬

‫فأطرقت صامتة‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أل تجيبين؟"‪.‬‬

‫غمغمت و هي مطرقة تلعب سوارها حول معصمها‪ " :‬لك ما تشاء"‪.‬‬

‫قال و هو يضمها إلى صدره‪ " :‬سنبدأ رحلتنا في صباح الغد إن شاء‬
‫الله"‪.‬‬

‫قضت سلمى و وليد بضعة أسابيع في ربوع لبنان‪ ،‬و حين عادا إلى‬
‫أرض الوطن استقبلتهما سعاد بالشوق و العتاب لهذه الغيبة الطويلة‪،‬‬
‫فبادلتها سلمى التحية و األشواق‪ ،‬و أنشأت تحدثها عن رحلتها و تصف‬
‫لها جمال الكوخ األنيق الذي أمضت فيه تلك المدة‪ ،‬و ما يكتنفه من‬
‫المناظر الطبيعية الخلبة التي تعشقها و تهيم بأنغامها‪،‬‬
‫و الثانية تستمع إليها باسمة‪ ،‬بينما انصرف وليد إلى أمه يحدثها و‬
‫يسألها عن صحتها و أحوالها‪.‬‬

‫و فيما هم كذلك‪ ،‬إذ طرق مسامعهم صوت صبية تتعالى من الخارج‬


‫جذلة ضاحكة و من بينها عويل امرأة‪ ،‬فنهضت سلمى على إثر ذلك‬
‫مندفعة الى سور الشرفة تستطلع األمر‪ ،‬و إذ أطلت برأسها من‬
‫فوقه‪ ،‬طالعها جمع من الغلمان يحيطون بامرأة عجوز في أسمال بالية‬
‫يتقاذفونها بالحجارة بين ضحك و مرح‪ ،‬و هي تصيح مولولة‪ ،‬فأثار هذا‬
‫المنظر شفقتها و نادت بأكبرهم‪ ،‬و كان ل يتعدى الثانية عشر من‬
‫عمره قائلة‪ " :‬ما هذا؟"‪.‬‬

‫و تبعها زوجها و أهله مستطلعين الخبر‪ ،‬و أجابها الغلم فقال‪ " :‬هي‬
‫امرأة يهودية مجنونة نلهو بقذفها بالحجارة الصغيرة"‪.‬‬

‫قالت و قد علها الصفرار‪ " :‬ليس عملكم هذا من شيم النسانية و‬


‫هي امرأة عاجزة عن أمر نفسها‪ ،‬فهيا أخلو سبيلها و دعوها و شانها"‪.‬‬

‫رد آخر فقال‪ " :‬و لكنها يهودية يا أختاه"‪.‬‬

‫و صاح وليد بالغلمان قائل‪ " :‬تفرقوا عنها أيها الخوان فهي امرأة و‬
‫قاصرة و ليس من عادتنا نحن العرب تعذيب النساء"‪.‬‬

‫فاستمع إليه الصبية و تفرق حشدهم عن المرأة‪ ،‬و التفت وليد بعد‬
‫ذلك إلى سلمى فرآها صامتة واجمة تشيع تلك اليهودية بعينين يترقرق‬
‫الدمع في إنسانيهما و وجه شاحب ممتقع‪ ،‬و أحس بيدها و هو يمسك‬
‫بها باردة كالثلج‪ ،‬فهتف بها و كان يعلم مدى حساسيتها‪ " :‬يا رقيقة‬
‫الشعور أتتأثرين بكل أمر و تبكين لكل حال‪ ،‬و إن كان صاحبه من‬
‫أعدائنا األلداء؟"‪.‬‬

‫همست‪ " :‬عفوا يا وليد‪ ،‬فليس من شيء بين عاهات الدنيا أفظع من‬
‫أن يصبح النسان مجنونا عاجزا عن نفسه"‪.‬‬

‫قال ضاحكا و هو يمسك بيدها و يجذبها عن سور الشرفة‪ " :‬هيا من‬
‫هنا و اطرحي عنك أمر تلك العجوز"‪.‬‬

‫مرت بعد ذلك بضعة شهور وضعت بعدها سلمى غلما جميل أطلقت‬
‫عليه اسم )خالد(فكان عزاؤها و سلوتها في ساعات وحدتها‪،‬‬
‫و زاد من فرحتها به أنه كان شديد الشبه بأبيه أدعج العينين جميل‬
‫المحيى‪ ،‬و ما كاد يبلغ الرابعة من عمره حتى بدا حاد الذهن فصيح‬
‫اللسان طليقه شديد التعلق بأمه‪ ،‬فكانت سعادة أبويه به ل تقدر‪،‬‬
‫فأخذا يعملن على تربيته و نشأته النشأة التي يريدانها له‪ ،‬فيستجيب‬
‫لهما و يردد ما يسمعه منهما ترديدا ببغاويا ساذجا لما هو عليه من‬
‫حداثة السن‪.‬‬

‫و جلست سلمى ذات يوم تعد لوحة زيتية بعد أن عاودها الحنين إلى‬
‫هوايتها القديمة‪ ،‬ووقف زوجها من خلفها يرقبها و هي تغمس ريشتها‬
‫في ألوان الزيت وتجريها فوق لوحتها بمهارة و إتقان‪ ،‬و فيما هما‬
‫كذلك إذ طرقت مسمعيهما صرخة مدوية ندت على شفتي ولدهما‪،‬‬
‫فقفزا على أثرها يستطلعان أمره‪ ،‬و إذا بسعاد تحمله فوق ذراعيها‬
‫تقبله و تهدئ من روعه‪ ،‬و دموعه الغزيرة تغسل وجهه الصغير‪،‬‬
‫فأخذته أمه إلى صدرها و اندفع أبوه يسأل عما أبكاه؟‬

‫ردت سعاد ضاحكة‪ " :‬كل ما هنالك أنه شاهد الدجاجة و هي تذبح‬
‫فذعر و انخرط في البكاء لمرآها و هي تتخبط بدمها"‪.‬‬

‫فأنشأت أمه تقبله و تسكن من روعه‪ ،‬و داعبه أبوه ضاحكا‪ " :‬أجبان‬
‫أنت يا خالد حتى أراك تبكي لمجرد أن ترى الدجاجة و هي تذبح؟"‪.‬‬

‫قال و قد سكن روعه و راح يمر براحتيه الصغيرتين فوق خديه يمسح‬
‫عنهما دموعه‪ " :‬إنما بكيت متوجعا على تلك المسكينة و هي تتلقى‬
‫سكين الذابح فوق عنقها الصغير فيسيل دمها و تتلوى ملتاعة تتخبط‬
‫بدمائها من شدة األلم"‪.‬‬

‫فضحك وليد لقول ولده و أخذه فوق ذراعه يسكن من روعه و هو‬
‫يقول‪ " :‬لقد ورثت عن أمك رقة حاشيتها"‪.‬‬
‫تقسيم فلسطين‬

‫هكذا كانت سلمى و وليد‪...‬و كان ذلك في أوائل عام ‪ ،1947‬و كانت‬
‫فلسطين في ذلك الحين في عصر تحول و اضطراب‪ ،‬فإن اليهود ‪ -‬و‬
‫هم األعداء األلداء ألهل البلد الفلسطينيين‪ -‬قد قويت شوكتهم‪ ،‬و‬
‫اتسعت مطامعهم‪ ،‬و بات لديهم من الذخيرة و األسلحة التي نظموا‬
‫بها صفوفهم بعد الحرب العالمية الثانية ما ل يمتلك مثلها عرب‬
‫فلسطين‪ ،‬و أخذوا يلقون بالقذائف النارية على رأس المستعمر للبلد‪،‬‬
‫مطالبين بجلئه عن أرض فلسطين‪ ،‬و إنشاء دولة مستقلة لبني‬
‫إسرائيل بين حشد من العرب و المسلمين‪ ،‬و في أرض مغتصبة من‬
‫أهلها العرب األصليين تحت مزاعم و مطامع واسعة ل يقبلها العقل و‬
‫ل يرضاها الضمير‪.‬‬

‫و في هذه الونة تبدل الحال‪ ،‬بين عرب فلسطين و يهود األفرنج‪ ،‬فقد‬
‫انصرف هؤلء يشنون حملتهم على رأس المستعمر وحده دون أن‬
‫يتعرضوا ألعدائهم أهل البلد أو يحتكوا بهم‪ ،‬كي ل ينشب بينهم و بين‬
‫عدوهم خصام قبل األوان‪ ،‬و ثورات و مذابح هم في غنى عنها‪ ،‬و ازداد‬
‫هجوم اليهود و تضاعفت حملتهم ضد النجليز‪ ،‬فدمروا المكاتب‬
‫الحكومية و الفنادق الكبرى بنزلئها‪ ،‬و نسفوا السكك الحديدية و قطر‬
‫الجيوش البريطانية بجنودها و قتلت العصابات اليهودية أبناء النجليز و‬
‫خطفت كبار حكامهم ليل من وسط فراشهم‪ ،‬و المستعمر البريطاني‬
‫للبلد صامت مذعن تحت وطأة هجماتهم‪ ،‬منكس الرأس خزيا‬
‫لضرباتهم‪ ،‬و أهل البلد من عرب فلسطين في حيرة و قلق من أمر‬
‫ذينك الطرفين نحو البلد و أهلها‪ ،‬يقدرون العواقب و يخشون أن ينال‬
‫اليهود بغيتهم في أرضهم‪ ،‬و لبثوا يترقبون و حرب اليهود من النجليز‬
‫سجال‪ ،‬حتى كان اليوم الذي أسفرت فيه النتيجة عن السياسة‬
‫الموضوعة لمصير البلد و أهلها يوم ‪ 7‬نوفمبر ‪ 1947‬حين أذيع على‬
‫المل نبأ تقسيم أرض " فلسطين " بين أهلها العرب‪ ،‬و اليهود الدخلء‪.‬‬

‫و كان األمر لعرب فلسطين أشبه بلطمة فولذية نزلت بهم فدارت‬
‫معها رؤوسهم و التفوا أسرابا و جماعات في قلق و همس‪ ،‬و قد علت‬
‫الكآبة جبين نسائهم و تجلى الغضب و الحماسة في وجوه رجالهم‪،‬‬
‫لعلمهم أن مطامع اليهود ل تقف عند هذا الحد لو أنشئت لهم دولة في‬
‫جزء من فلسطين‪ ،‬بل سرعان ما يطالبون بالبقية من األرض و لربما‬
‫تمتد مطامعهم الى أكثر من ذلك‪.‬‬

‫و هم الذين قد جاءوا من أقاصي أوروبا و من أجناس شتى الى بلد‬


‫لم يطئوا ثراها من قبل لينشئوا اليوم فيها دولتهم‪ ،‬و بين قوم يختلفون‬
‫عنهم دينا و مبدأ و جنسا و خلقا‪.‬‬

‫قضت سلمى يومها كئيبة باكية حين أذيع نبأ تقسيم بلدها و لبثت في‬
‫مخدعها تنتظر عودة زوجها و طفلها ساكن في حجرها‪ ،‬و طال بها‬
‫الوقت و ملت النتظار‪ ،‬و غلب النعاس صغيرها فنام إلى صدرها‬
‫فحملته إلى فراشه و لبثت تترقب عودة زوجها‪ ،‬و كانت الشمس قد‬
‫غابت وراء خدرها و بدأ الليل ينسج خيوطه و يدب حالكا في األجواء‪ ،‬و‬
‫تراكم الظلم و زوجها ما زال غائبا عن الدار‪.‬‬

‫فتملكها جزع عظيم و ركبت الهواجس رأسها‪ ،‬و تحولت الى الشرفة‬
‫مرة و الى النافذة مرة أخرى ترقب الطريق بنظرات كلها قلق و‬
‫تساؤل‪ ،‬و رأت القوم في الخارج غادين و رائحين أفرادا و جماعات‬
‫بحركات غير عادية‪ ،‬و قد تكاثر جمعهم هنا و هناك‪ ،‬و اختفت اليهود‬
‫من األحياء العربية و نزحت متسللة إلى أحيائها و كان ذلك علمة‬
‫التحفز للهجوم‪.‬‬

‫و بينما كانت سلمى غارقة في هواجسها‪ ،‬طرق مسامعها وقع خطوات‬


‫زوجها بالقرب من حجرتها و هي تتباعد شيئا فشيئا‪ ،‬فاختلج قلبها في‬
‫صدرها‪ ،‬و رابها أمره فما لبثت أن تحولت مندفعة إلى باب حجرتها‪،‬‬
‫فسمعت عندئذ وقع أقدامه تتنقل في حجرة مكتبه المجاورة لمخدعها‪،‬‬
‫فهرعت إلى هناك و اقتحمت عليه بابه‪ ،‬و ما كادت عينيها تقع عليه‬
‫حتى انخلع قلبها هلعا و عل الصفرار وجهها‪ ،‬ثم ما لبثت أن ضرجته‬
‫الدماء بحمرة قانية‪ ،‬حين شاهدت زوجها بلباس جديد غير الذي تعودت‬
‫أن تراه فيه‪ ،‬و قد وقف بقامته المديدة يشد حزاما جلديا حول وسطه‬
‫عامرا بالطلقات النارية‪ ،‬و على رأسه كوفيه بيضاء و من فوقها‬
‫العقال‪ ،‬و قد برقت عينه و تجلت فيهما الحماسة‪ ،‬و رأت في يمناه‬
‫مسدسا يهم بوضعه في جرابه الجلدي عند جنبه‪ ،‬و آخر فوق المنضدة‬
‫أمامه‪.‬‬

‫فلما سمع صرير باب الحجرة‪ ،‬رفع عينيه ليرى زوجه ماثلة أمامه‪،‬‬
‫مسمرة في مكانها تنتفض و تشرق بدموعها‪ ،‬فهش لها باسما‬
‫فاندفعت إليه و الدمع يمل مآقيها و ينحدر فوق خديها و قد تشبثت به‬
‫و عل شهيقها‪ ،‬فلبث صامتا يحنو عليها و هي ترتجف و العبرات تخنقها‪،‬‬
‫حتى إذا ما هدأ ثائرها قليل‪ ،‬سكنت برأسها إلى كتفه و همست ‪:‬‬
‫"وليد"‪.‬‬

‫قال بصوت أكثر همسا‪ " :‬نعم"‪.‬‬

‫م تسألني عن سبب بكائي؟"‪.‬‬


‫قالت‪ " :‬لم ل م‬

‫قال‪ " :‬لست بحاجة على هذا السؤال يا سلمى"‪.‬‬

‫قالت و دمعها يسيل من عينيها مدرارا‪" :‬إني أخاف عليك يا وليد و أنا‬
‫أراك تتأهب لصد هجمات العدو‪ ،‬و مجابهة قذائفه و مدافعه‪،‬‬
‫بمسدسيك هذين"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل بد من ذلك يا حبيبتي و اذكري قول الله تعالى في كتابه‬
‫العزيز‪) :‬كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله(‪ .‬و بعد‪ ،‬فليس‬
‫هذا شأني وحدي يا سلمى‪ ،‬بل هو شأن كل مجاهد منا نحو وطنه‪ ،‬و‬
‫الدفاع عن أرضه و قتال عدوه حتى النهاية‪ ،‬فمبدؤنا الذي بنينا عليه‬
‫إيماننا‪ ،‬و شددنا به عزيمتنا هو مجابهة عدونا و صد هجماته بما نمتلكه‬
‫منى أمثال هذا السلح الخفيف ما دمنا ل نرضى ألنفسنا غير الحرية و‬
‫الكرامة‪ ،‬فإن كتب لنا الفوز و أحرزنا النصر‪ ،‬كنا بذلك قد تغلبنا على‬
‫أعدائنا و عشنا موفوري الكرامة مرفوعي الرأس‪ ،‬و إن غلبنا فالموت‬
‫خير لنا من الحياة"‪.‬‬

‫فصمتت تستمع إليه مطرقة برأسها إلى صدره‪ ،‬و شعر عندئذ بدمعها‬
‫الغزير يتساقط سخيا فوق ذراعه‪ ،‬فرفع وجهها لناظره و قال و هو‬
‫يرى احتقان وجهها و ذبول أجفانها و تكسر أهدابها‪ " :‬أتبغين يا زوجتي‬
‫إضعاف عزيمتي عن الجهاد بإرسال هذه الدموع"‪.‬‬

‫أمسكت عن إرسال دمعها‪ ،‬و هزت رأسها و هي ل تقوى على النطق‪،‬‬


‫ثم همست بصوت تخنقه الدموع‪ " :‬أتلومني على ذلك يا وليد و أنا‬
‫أقف منك هذا الموقف في مثل هذه الساعة؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل لوم و ل عتاب لما يكون من وداع األحباب يا سلمى‪ ،‬إنما‬
‫أبغي منك أن تزوديني بما يعينني على أمري و يشد من أزري في‬
‫ساعة الجهاد"‪.‬‬

‫قالت و قلبها يخفق بين ضلوعها كالطائر المجروح‪" :‬فليشدد المولى‬


‫عزيمتنا على قهر عدونا‪ ،‬و صان الله لنا كرامتنا و حريتنا في أرض‬
‫بلدنا‪ ،‬و أعادك إلي سالما من ساحة الوغى و منتصرا ظافرا"‪.‬‬
‫نطقت بهذه الكلمات األخيرة و أمسكت شفتيها بين أسنانها‪ ،‬محاولة‬
‫جهدها حبس دمعها‪ ،‬فشعر بقلبه ينفطر حبا و حنانا عليها‪،‬و التقت عينه‬
‫بعينها و هي ممسكة بإجهاد عنان دمعها‪ ،‬حتى إذا ما شعرت بالزمام‬
‫يكاد يفلت منها هتفت ضارعة و العبرات تخنقها‪ " :‬اعذرني يا وليد و ل‬
‫تلمني لضعفي"‪.‬‬

‫فلمع دمعه في عينه عند سماعه قولها‪ ،‬و قال‪ " :‬إني ألشعر بما‬
‫تشعرين‪ ،‬و ما زلت أغالب دمعي من وقت طويل‪ ،‬فإن عدت إليك بعد‬
‫القتال مظفرا سالما لله فما أسعدنا‪ ،‬و إن قدر لي أن أكون من‬
‫الشهداء و كتب علينا الفراق‪ ،‬فإني أوصيك خيرا بنفسك و بإبننا‬
‫المحبوب‪ ،‬فأنشئيه كما عهدتك على التربية الصالحة‪ ،‬فهو تذكاري‬
‫الغالي عندك‪ ،‬و ل أظنه يختلف عن أبيه خلقا و مبدأ عند كبره‪ ،‬و ل‬
‫يقل عنه حنانا و عطفا عليك"‪.‬‬

‫قالت بعزم و ثبات‪ " :‬بل ستعود إلي و إلى ابنك سالما بإذن الله‪،‬‬
‫فينشأ خالد في رعايتك و تحت ظل حنانك و عطفك"‪.‬‬

‫فسكت قليل ثم خطر له أن يطلعها على شيء تجهله عسى أن يخفف‬


‫ذلك من آلم صدرها‪ ،‬فما لبث أن أمسك بيدها و قال‪ " :‬هيا بنا"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬إلى أين؟"‪.‬‬

‫قال و هو يتقدمها‪ " :‬اتبعيني ألطلعك على ما تجهلينه من أمري"‪.‬‬


‫قال ذلك و مشى و هي في إثره‪ ،‬حتى إذا اجتازا قاعة القصر و صحنه‬
‫و أوشكا أن ينزل الحديقة رأته قد توقف قليل و التفت إليها قائل‪" :‬هل‬
‫الخدم نيام؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬نعم‪ ،‬و كذلك أهلك جميعا"‪.‬‬


‫قال‪ " :‬حسنا هيا بنا"‪.‬‬

‫و أمسك بيدها و مشيا يخترقان الظلم و يتحسسان طريقهما بين‬


‫األشجار‪ ،‬حتى إذا قطعا في المسير بضعة أمتار‪ ،‬انعطفا إلى ممر‬
‫ضيق أدى بهما إلى سياج الحديقة المحكمة السد بأشجار السرو‬
‫الباسقة‪.‬‬

‫فتوقف بها عند ركن هناك أمام غللة رقيقة خضراء من النباتات‬
‫المتسلقة‪ ،‬و ما لبث أن استل من منطقته خنجرا‪ ،‬و راح يعمل على‬
‫تقويض تلك النباتات بخفة البرق‪ ،‬و هي ترقبه بصمت و دهشة‪ ،‬و‬
‫مازال بالنباتات يقوضها حتى انفرجت طبقتها عن باب خشبي صغير‬
‫محكم الغلق بمزلج حديدي أخذ يحركه دافعا من خلفه ذلك الباب‬
‫الصغير بصمت و حذر و إذا هما أمام قبو عميق ل تزيد مساحته على‬
‫خمسة أمتار مربعة و كان الظلم فيه دامسا حالكا يكتنفه من جميع‬
‫أركانه‪ ،‬فبدا لهما كالهوة السحيقة التي ل قرار لها‪.‬‬

‫و هنا التفت وليد إلى زوجته و أومأ لها كي تتقدمه‪ ،‬ففعلت‪ ،‬و إذ همت‬
‫بنزول الدرجات المؤدية إلى أرض المكان‪ ،‬أمسك بيدها و دلفا معا إلى‬
‫الداخل‪ ،‬فزلت قدمها عند إحدى الدرجات‪ ،‬فأمسكها من ذراعها‪،‬‬
‫فهمست‪ " :‬أل تحمل معك شمعة تنير بها المكان؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ليس للشمع و النار مكان هنا يا سلمى‪ ،‬و حسبك الن أن‬
‫تدركي أننا وسط كومة من القذائف و المتفجرات"‪.‬‬

‫قالت و هي تحس بشيء من الرتياح‪ " :‬أحقا ما تقول؟"‪.‬‬

‫قال و قد أمسك بحبل مدلى من سقف المكان و جذبه ففتحت كوة‬


‫مستديرة أرسلت لهما بصيصا من النور‪ " :‬انظري الن فيما حولك‬
‫ليتأكد لك صدق قولي"‪.‬‬
‫همست و هي تجيل الطرف في أرجاء القبو فترى صناديق مكدسة‬
‫مختلفة األحجام‪ " :‬متى شيدت هذا السرداق المجهول و أودعت فيه‬
‫هذه الذخيرة؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬بل أبي هو الذي شيد هذا المكان مع قصره‪ ،‬و لربما أراد به‬
‫ملجأ أو مخبأ ل أدري‪ ،‬و قد اكتشفته بعد موته‪ ،‬فخصصته لذخيرتي‬
‫التي ترين"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬و هل يملك كل مجاهد مقدار هذه الذخيرة يا وليد؟"‪.‬‬

‫قال بمرارة‪ " :‬ليت األمر كذلك يا سلمى حتى ل نبقي لليهود أثرا"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬و هل هذه القذائف المعدودة تراها كافية لمجابهة أسلحة‬
‫العدو؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬الله معنا‪ ،‬و شيء خير من ل شيء‪ ،‬و أمثال هذه الذخيرة التي‬
‫ترينها هنا‪ ،‬و إن لم تكن كافية لمجابهة أسلحة عدونا‪ ،‬تمكننا من إلقاء‬
‫الرعب في قلبه‪ ،‬و جزء منها أراه كافيا لنسف الجسر الموصل بيننا و‬
‫بينه‪ ،‬عند وادي روشيما حيث أعددت مكمني عند رأس الوادي‬
‫استعدادا لذلك"‪.‬‬

‫فانتفضت و قالت جزعة‪ " :‬ويله‪ ،‬ماذا؟‪..‬وادي روشيما‪..‬أجعلت مكمنك‬


‫عنده و هو متصل بالحي اليهودي )هدار( و يفصلك تماما عن أحيائنا‬
‫العربية‪ ،‬ستكون بهذا في متناول يد العدو‪ ،‬و هدفا سهل لقذائفه و‬
‫رشاش مدافعه؟"‪.‬‬

‫قال مشجعا‪ " :‬اطمئني و ل تجزعي‪ ،‬فل بد لنا من ذلك يا سلمى‪ ،‬كي‬
‫نتمكن من دحره و صد هجماته عن األحياء العربية"‪.‬‬
‫و أحس بيدها في يده و قد بدت باردة كالثلج‪ ،‬فأحب أن يداعبها‬
‫ليخرجها عن انقباضها‪ ،‬فاستطرد يقول‪ " :‬إن مكمني معد بين خمائل‬
‫من األشجار المتشابكة التي ل تمكن اليهود من كشفه قط إل إن‬
‫وشيت بي"‪.‬‬

‫فانتفضت انتفاضة شديدة‪ ،‬و اصفر لونها‪ ،‬و حركت شفتيها اللتين‬
‫شابهتا بلونهما البرد الناصع محاولة النطق‪ ،‬فخانتها األلفاظ‪ ،‬و ارتج‬
‫عليها فلم تنطق بحرف واحد‪ ،‬و لبثت تحدق به و قد جمدت حدقتاها‬
‫في محجريهما‪ ،‬فتألم من نفسه و هو يشهد امتقاعها و جمودها على‬
‫بصيص الضوء المرسل من كوة القبو‪ ،‬و ندم على ما فرط منه‪ ،‬و هو‬
‫يحسب نفسه يداعبها بذلك القول‪ ،‬فما لبث أن همس لها معتذرا و‬
‫يده ممسكة بيدها‪ " :‬سامحيني يا سلمى‪ ،‬فما كنت أعلم أنك ستتأثرين‬
‫إلى هذا الحد‪ ،‬و يأخذ كلمي من نفسك هذا المأخذ"‪.‬‬

‫قال بصوت يرتجف‪ " :‬أما كان األجدر بك يا وليد أن تغمد خنجرك في‬
‫صدري‪ ،‬فتدفن بذلك سرك تحت قدميك بدل من أن تسمعني مثل هذا‬
‫القول؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬عفوا يا سلمى‪ ،‬و بترت اليد التي تمسك بسوء‪ ،‬و لو كنت أدرك‬
‫أنك ستحملين كلمي محمل الجد‪ ،‬ما أقدمت عليه‪ ،‬فهل وهبت لي‬
‫الصفح و عفوت عما بدر مني؟"‪.‬‬

‫قالت بصوت خافت‪ " :‬لك ما شئت"‪.‬‬

‫فأمسك بذراعها و قال‪ " :‬هيا بنا نغادر هذا المكان‪ ،‬فالرطوبة هنا‬
‫شديدة‪ ،‬و إني ألخشى تأثيرها عليك"‪.‬‬

‫فأمسكت بيده و سارت معه صامتة إلى أن ولجا عتبة القبو‪ ،‬فأغلقا‬
‫بابه كما كان و صعدا إلى الحديقة و مشيا بين أشجارها‪ .‬و قطع حبل‬
‫الصمت المخيم عليها إذ قال‪ " :‬أمازلت متأثرة مني؟"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬كل"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ما لي إذن أراك تسيرين بجانبي صامتة ساكنة على غير‬
‫عادتك‪ ،‬على الرغم من أننا في ساعة وداع و فراق؟"‪.‬‬

‫فتمهلت في سيرها و زفرت قائلة‪ " :‬لقد كنت أفكر في أمر هذا‬
‫الفراق"‪.‬‬

‫و استطردت بعد لحظة صمت‪ " :‬أل يمكنني أن أحظى برؤيتك في‬
‫فترات من الوقت؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل أستطيع أن أعدك بشيء‪ ،‬و األمر في ذلك يتوقف على‬
‫ظروفي كما تعلمين"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ل بد لي من الوقوف على أحوالك و التقاط أخبارك ليطمئن‬


‫قلبي"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬إذا لم أجد لدي وقتا يمكنني من مغادرة مكمني و الوصول‬
‫إليك‪ ،‬سأبعث بمن يحمل لك شارة الطمئنان و يأتيني منك بالسلم"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬و هل وطنت النفس على المسير الليلة؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬سأمكث هنا ساهرا‪ ،‬حتى إذا ما انتصف الليل‪ ،‬قدم إلينا رهط‬
‫من المجاهدين الذين وضعوا أنفسهم تحت قيادتي‪ ،‬ليقوموا بنقل تلك‬
‫الذخيرة و توزيعها على أماكننا‪ ،‬ثم ألحق بهم عند مطلع الفجر"‪.‬‬

‫انتصف الليل و عاد وليد إلى مخدعه‪ ،‬و كانت سلمى مسهدة ساهرة‬
‫لم يغمض لها جفن‪ ،‬و لم تذق للنوم طعما‪ ،‬و رأسها مسرح لشتى‬
‫الهواجس و األفكار و عيناها مثبتتان على وجه زوجها و هو مضطجع‬
‫بفراشه متظاهر بالنوم‪ ،‬و كلهما غارق في بحر أفكاره‪.‬‬

‫كان وليد مسهدا يفكر في أمر ذي بال‪ ،‬و يستحث ذاكرته في البحث‬
‫عن شخص معين يعتمد عليه ليكل إليه أمر أسرته لو كتب له‬
‫الستشهاد في ساحة القتال‪ ،‬و حرص أل يفاتح زوجه بما يجول‬
‫بخاطره رحمة بها و شفقة عليها‪ ،‬و مضى يسائل نفسه‪ ،‬عما يكون من‬
‫أمرها مع أمه القاسية الجحود لو صح حدسه؟‪.‬‬

‫و أسعفته الذاكرة فجأة حين تمثل لبصره شخص العم حامد‪ ،‬الصديق‬
‫القديم ألسرة زوجه‪ ،‬فهو رفيق أبويها و أنيسها منذ الصغر‪ ،‬و ليس‬
‫هناك ما يشغله عن تفقد حالها و طفلها‪ ،‬بعد أن اجتاز سن الشباب و‬
‫لم تعد تساعده قواه الواهية كي يمضي اليوم نحو ساحة الجهاد‪.‬‬

‫فشعر ببعض الرتياح لهذا الخاطر الذي هدته إليه نفسه‪ ،‬و كانت إذ‬
‫ذاك بشائر الفجر قد لحت‪ ،‬و بدأ النهار يزيح عن وجهه نقاب الليل‬
‫الحالك‪.‬‬

‫فهم بالنهوض من فراشه‪ ،‬و إذا به يسمع سلمى تهتف قائلة‪ " :‬ترى‬
‫ماذا يدور في خلدك يا وليد؟"‪.‬‬

‫فدهش لسؤالها و قال‪ " :‬أمسهدة أنت يا سلمى؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬نعم"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و لم؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬لنفس السبب الذي سهدك"‪.‬‬

‫قال مغالطا‪ " :‬لم أكن و إني لمستيقظ الساعة من نوم عميق"‪.‬‬
‫فهزت رأسها بإعياء و مرت بشفتيها ابتسامة شاحبة‪ ،‬ما لبثت بعدها‬
‫أن التفتت إليه قائلة‪ " :‬أيذكرك هذا الفجر بيوم معين من أيامنا الخالية‬
‫يا وليد؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬يوم أذكره جيدا و ل أنساه‪ ،‬و هو أول فجر استقبلناه معا في‬
‫صبيحة اليوم التالي لزواجنا"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬هو ذاك"‪.‬‬

‫ثم نهضت و مشت إلى خزانة ثيابها تناولت منها مجلدا صغيرا‪ ،‬و‬
‫تحولت عائدة إلى زوجها و قالت و هي تودعه جيب سترته‪ " :‬إليك‬
‫بهذا المصحف الشريف يا وليد‪ ،‬فاحتفظ به ليقيك ببركته األشرار‪ ،‬و‬
‫يحميك لبنك‪ ،‬و يردك إلي"‪.‬‬

‫ثم همست في أذنه‪ " :‬لقد أغدقت علي كثيرا من الهدايا و العطاء‪،‬‬
‫دون أن أتمكن من إعطائك شيئا‪ ،‬سوى هذا القلب الذي وهبته خالصا‬
‫لك"‪.‬‬

‫قال ‪ " :‬هو عندي أثمن من كنوز الدنيا و مباهجها‪ ،‬و منه أتخذ عدتي‬
‫أنازل بها عدوي و أفسد عليه حوله و قوته"‪.‬‬

‫ثم خشي عليها التخاذل لو طال بهما ذلك الموقف‪ ،‬فودعها وداعا‬
‫حارا‪ ،‬ثم تحول حيث كان ابنه راقدا يغط في نومه‪ ،‬فأكب عليه و قبله‪،‬‬
‫و مضى الى حجرة أمه‪ ،‬فمكث عندها بضع دقائق غادر بعدها الدار‪.‬‬

‫و لبثت سلمى ترقب زوجها من نافذتها إلى أن توارى آخر أثر من‬
‫ظله‪.‬‬

‫وطد وليد نفسه على مقابلة العم حامد‪ ،‬ليحدثه بشأن أهل بيته‪ ،‬فأتى‬
‫إليه في دكانه‪ ،‬فتلقاه هذا بالترحاب‪ ،‬و بادره بالسؤال عن سلمى‪،‬‬
‫فقال‪ " :‬أتيتك ألحدثك بشأنها‪ ،‬و أوصيك بها و بطفلها"‪.‬‬

‫فارتعد الشيخ و قال‪ " :‬لست أدري لقولك هذا معنى يا ولدي"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أنت تعلم يا عماه ما نحن فيه اليوم من شأن البلد‪ ،‬و ما تطلبه‬
‫حالة الجهاد"‪.‬‬

‫فقطع الرجل كلمه قائل‪ " :‬أماض أنت للقتال؟"‪.‬‬

‫تبسم وليد و وضع يده برفق فوق عاتق العم حامد و قال‪ " :‬أيبدو ذلك‬
‫غريبا منا يا عماه‪ ،‬و نحن أبناء البلد؟ و طالما سمعت عن خوضك‬
‫المعارك مع والد سلمى في كل ثورة نشبت بيننا و بين اليهود‪ ،‬أم أنها‬
‫الشيخوخة الواهية تضعف العزيمة‪ ،‬و تذهب بفتوة القلب و قوته؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و لكن الحال اليوم قد تبدل عن سالفه يا ولدي‪ ،‬و ما عادت‬
‫الخناجر و المدى و المسدسات الخفيفة تمكننا من قتال عدونا‪ ،‬و هو‬
‫يملك اليوم أحدث السلح و أمضاه"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نحن على الله متوكلون‪ ،‬بما لدينا من العزيمة القوية و الرجال‬
‫األشداء"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬إعلم يا ولدي‪ ،‬إن الشدة و البطش ل يكونان إل بالسلح‪ ،‬و‬
‫أبطال بل عتاد أخشى عليهم سوء العاقبة"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬مهما يكن من أمر‪ ،‬فمن العار علينا أن نقف مكتوفي األيدي‬
‫أمام شرذمة من اليهود جاءتنا من الغرب و من أجناس شتى‪ ،‬جمعهم‬
‫الطمع في أرضنا و الرغبة في طردنا و احتلل مكاننا من ديارنا‪ ،‬فيجب‬
‫علينا القتال حتى النهاية‪ ،‬فإما الحياة الحرة‪ ،‬و إما الموت الشريف"‪.‬‬
‫قال حامد بعد لحظة صمت‪ " :‬قل لي إذن أين وجهتك و مكان‬
‫مكمنك‪ ،‬كي يمكنني التصال بك و الطمئنان عليك"‪.‬‬

‫صمت وليد لحظة قال بعدها‪ " :‬لست أدري بعد أين ستكون وجهتي و‬
‫ل المكان الذي سأتخذه لمكمني"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬هب يا ولدي أن الحال قد اشتد بيننا و بين اليهود‪ ،‬و اندلعت‬
‫النيران و أصبح هناك خطر يهدد نساءنا و أطفالنا لو أطبق اليهود‬
‫بمدافعهم على أحيائنا العربية‪ ،‬و أنت كما تعلم أننا و هم يضمنا بلد‬
‫واحد‪ ،‬و تفصلنا أزقة و منعطفات‪ ،‬و حربنا معهم حرب شوارع و أحياء‪،‬‬
‫كلنا هدفه تمزيق خصمه و إبادته ليتمكن من طرده و احتلل مكانه‪،‬‬
‫فماذا أنا فاعل مع أهل بيتك في مثل هذه الحال و أنت تقاتل بعيدا‬
‫عنا‪ ،‬و في بقعة مجهولة؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬سأتصل بك فيما بعد‪ ،‬و نرى ما سيكون من أمر"‪.‬‬

‫ثم نهض و سلم على الشيخ مكررا له وصيته بزوجه و طفله‪...‬‬

‫الجهاد‬

‫بعد أن أذيع نبأ التقسيم‪ ،‬أخذ العرب يتأهبون‪ ،‬و انتشر الشباب‬
‫الفلسطيني المجاهد هنا و هناك في كل بقعة و قرية من أرضهم‪ ،‬و‬
‫كان اليهود يومئذ يملكون قطاعا حصينا و أسلحة موفورة‪ ،‬و كان‬
‫الصراع بين الطرفين عنيفا‪ ،‬و شهدت مدينة حيفا مأساة دامية‪ ،‬حيث‬
‫كان اليهود يملكون معظم األراضي في قمة جبل الكرمل‪ ،‬فأحكموا‬
‫فيها حصونهم‪ ،‬و نظموا صفوفهم‪ ،‬و سددوا مدافعهم إلى األودية التي‬
‫كان يقطنها العرب من أهل المدينة في ذلك الحين‪.‬‬

‫و شاهد العرب هذه الستعدادات الهائلة المسلطة فوق رؤوسهم من‬


‫أعلى القمة فلم يهنوا و لم ييأسوا‪ ،‬و ثارت في نفوسهم حمية البسالة‬
‫و الوطنية‪ ،‬و سرعان ما شمرت السواعد و شدت المسدسات مع‬
‫المناطق الجلدية المحشوة بالطلقات النارية حول خصورهم‪ ،‬و تقلدوا‬
‫الخناجر و المدى‪ ،‬و نظموا أنفسهم في كل ثغر من أحيائهم العربية‪ ،‬و‬
‫منهم من اعتلى أسطح العمارات الشاهقة و أخذوا من أكياس الرمل‬
‫مكامن لهم ساهرين وراءها تحفزا لصد هجمات عدوهم‪.‬‬

‫غربت شمس نهار اليوم الثالث للتقسيم‪ ،‬و تبادلت بغروبها الطلقات‬
‫النارية بين العرب و اليهود‪ ،‬تئز متتالية و ل تتوقف‪ ،‬و أدار اليهود‬
‫فوهات مدافعهم و أمطروا العرب وابل من قذائفها‪ ،‬فتلقاها هؤلء‬
‫بالثبات دون أن يتزحزحوا قيد شعرة من أماكنهم‪.‬‬

‫و انقضى الليل بأكمله و الحرب بين الطرفين سجال‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫أصبح الصباح لزم كل مكانه يعد عدته لكرة أخرى عند الغروب‪.‬‬

‫و تتابعت الليالي و ازداد معها هدير المدافع و أزيز الرصاص‪ ،‬و‬


‫سيارات السعاف غادية و رائحة تقوم بنقل القتلى و الجرحى‪ ،‬و‬
‫األطباء العرب ساهرون يستقبلون الجرحى من المجاهدين لسعافهم‬
‫و تضميد جراحهم‪ ،‬و المصفحات البريطانية سائرة وسط المدينة‬
‫المقاتلة ترقب فيها الموقف بصمت و سكون‪.‬‬

‫راح وليد يقاتل و يصد هجمات العدو من وراء مكمنه عند رأس )وادي‬
‫روشيما( و يمطر اليهود وابل من الرصاص و القذائف اليدوية كلما‬
‫حاولوا النزول بمدافعهم إلى األحياء العربية‪ ،‬فيدحرهم هو و رجاله و‬
‫يردونهم على أعقابهم خاسرين‪.‬‬

‫و تكرر هجوم اليهود عند رأس ذلك الوادي و تكررت معه خسائرهم‬
‫في عتادهم و رجالهم‪ ،‬حتى عيل صبرهم و ضاقت حيلتهم و أيقنوا أن‬
‫هناك خنادق يكمن عندها رجال أشداء‪ ،‬فأجمعوا الرأي على نسفهم‬
‫باأللغام الثقيلة و شق طريق فيها تمكنهم من الوصول بأسلحتهم إلى‬
‫األحياء العربية‪.‬‬

‫و ذات يوم قرب الظهيرة فوجئ وليد و هو وراء مكمنه بمشاهدة أربع‬
‫عربات عند منعطف الطريق المؤدي الى حي )الهدار( اليهودي و على‬
‫بعد بضعة أمتار من مكانه تقف‪ ،‬ثم ينزل منها رجال مدججون بالسلح‬
‫و بكامل ملبسهم العربي مع الكوفية و العقال‪.‬‬

‫و راحوا يتعاونون على نقل أربعة براميل ضخمة حملوها معهم و كانت‬
‫أشبه ما تكون بالحيتان الصغيرة‪ ،‬و لونها أشبه بلون األلومونيوم و‬
‫جعلوا يعملون على بثها عند رأس الوادي تدريجيا‪.‬‬

‫لبث وليد في مكمنه يرقبهم بصمت و سكون كي يستدرجهم بعتادهم‬


‫ناحيته‪ ،‬و قد أدرك غرض هؤلء اليهود المتنكرين في زي المجاهدين‪،‬‬
‫حتى إذا رآهم قد تقدموا قليل و كادوا يهمون بإشعال ألغامهم‪ ،‬صاح‬
‫بهم صيحة هائلة بددت سكون الفضاء و ارتعدت لها فرائصهم و‬
‫ارتبكوا في أمرهم‪ ،‬و طرق دوي صيحته آذان رجاله‪ ،‬فخرجوا من‬
‫مكانهم و هو في مقدمتهم شاهرين سلحهم و صيحات تهليل و تكبير‬
‫تتصاعد من أعماقهم‪ ،‬و التحم الفريقان بالسلح األبيض وجها لوجه‬
‫في معركة دامية توالت عليها النجدات لكل من الفريقين‪ ،‬و شهدت‬
‫تلك البقعة مجزرة حمراء مروعة كانت الغلبة فيها للعرب‪ ،‬بعد أن قتل‬
‫منهم من قتل و جرح من جرح‪ ،‬و استولى المجاهدون على عتاد‬
‫اليهود و ما جاءوا به من األلغام و األسلحة التي خلفوها وراءهم‪.‬‬

‫وقف وليد يجيل الطرف بين جثث قتلى اليهود و يمعن في النظر إلى‬
‫تلك األلغام التي اغتنمها هو و رجاله و هي تبرق تحت شعاع الشمس‪،‬‬
‫و كان يضع كفه عند كتفه اليسرى‪ ،‬و الدماء تنزف من بين أنامله‪ ،‬و‬
‫إذا بأحد رجاله يصيح به من الخلف قائل‪ " :‬لله درك أيها البطل‬
‫المغوار‪ ،‬أجريح أنت و تقف هادئا ساكن البال؟"‪.‬‬

‫التفت إليه باسما و قال‪ " :‬ترى هل تأمل مني أن أشق جيبي و أولول‬
‫ولولة النساء؟"‪.‬‬

‫تبسم رفيقه و قال‪ " :‬ل‪ ،‬بل أرى أن آتيك بمن يضمد لك جرحك فهناك‬
‫عربات السعاف تقف عند الساحة المنخفضة منا‪ ،‬تقوم بنقل شهدائنا‬
‫و تحمل معها من يضمد الجراح"‪.‬‬

‫فاعترض عليه قائل‪ " :‬ل أريد أحدا يأتي إلينا فيكشف مكاننا‪ ،‬و سأسير‬
‫على قدمي لتضميد جرحي‪ ،‬ثم أعود في الحال"‪.‬‬

‫قال ذلك و مشى قليل في طريق منحدر أدى به الى ساحة رملية‬
‫تزخر بعدد غير قليل من القتلى و الجرحى العرب‪ ،‬و قد اختلطت‬
‫الرمال بمنهل دمائهم فتلبدت فوق جروحهم‪ ،‬و فتيات السعاف‬
‫منبثات هنا و هناك يعملن على تضميد الجرحى و إسعاف المصابين‪ ،‬و‬
‫نقل الشهداء الى داخل سيارات السعاف لتسير بهم الى مقرهم‬
‫األخير‪.‬‬

‫و لحت منه التفاتة في أرجاء تلك الساحة التي ارتوى ثراها من دماء‬
‫أبنائها‪ ،‬شاهد فيها غادة هيفاء خفق لها قلبه‪ ،‬تقوم بتضميد الجرحى و‬
‫ترتدي ثوبا ناصع البياض ذا أكمام طويلة عليه شارة السعاف و محكم‬
‫الغلق من عند الصدر بأزرار صدفية بيضاء متصلة حتى العنق و قد‬
‫جمعت شعرها و ضمته بأشرطة بيضاء‪ ،‬فبدت بلباسها هذا البسيط و‬
‫حمرة خديها الطبيعية أشبه بتلميذة يانعة بارعة الجمال و قد تجلت‬
‫الحماسة في عينيها‪ ،‬و جعلت تتنقل في خفة الظبية بين أكناف تلك‬
‫الساحة باحثة عن الجرحى لتعمل على إسعافهم‪.‬‬

‫فمشى إليها و جعل يرقبها و هي مكبة على جريح من رجاله تضمد له‬
‫جراح يمناه‪ ،‬و لبثت منهمكة في عملها دون أن تشعر بزوجها الذي‬
‫وقف يرقبها بعين الحب و العجاب‪ ،‬حتى إذا ما رآها فرغت من تضميد‬
‫جرح رفيقه‪،‬دنا منها و هتف بها همسا‪ " :‬هل من دواء لجريحك هذا‬
‫أيتها الفتاة؟"‪.‬‬

‫تنبهت جوارحها لسماع ذاك الصوت الحبيب إلى قلبها‪ ،‬و تحولت‬
‫برأسها إلى مصدره لترى زوجها يقف خلفها و الدماء تنزف من كتفه‪،‬‬
‫فانخلع قلبها هلعا لمشهده و لمع الدمع في عينها‪ ،‬و قال همسا و عينه‬
‫في عينها‪ " :‬حذار من البكاء‪..‬و نحن كما ترين في ساحة قتال و وسط‬
‫حشد من الناس‪ ،‬فهيا لتضميد جرحي الطفيف بصمت و سكون و كأننا‬
‫غريبان"‪.‬‬

‫قال ذلك و أومأ لها بطرف خفي كي تتبعه عند أصل شجرة استند‬
‫إليها‪ ،‬فخطت نحوه و ركبتاها تصطكان و الدموع تمل مآقيها‪ ،‬و إذ دنت‬
‫منه همست و هي ترتجف‪ " :‬هل جراحك طفيفة حقا كما تقول؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لو لم تكن كذلك‪ ،‬ما استطعت الوقوف و المسير على قدمي"‪.‬‬

‫فأقبلت عليه و جعلت تمسح عنه دمه بأنامل مرتعشة‪ ،‬و هو يرقبها في‬
‫صمت ل يخلو من العجاب‪ ،‬ثم ما لبث أن قال‪ " :‬متى عهد إليك بهذه‬
‫المهمة فأحسنت القيام بها؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬منذ نشبت المعارك فأريقت فيها الدماء"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬عمل نبيل قمت به نحو أهلك و بلدك‪ ،‬و لكن أخشى العاقبة"‪.‬‬

‫ثم صمت هنيهة و قال‪ " :‬ما أخبار حبيبنا خالد؟ عسى أن يكون في‬
‫خير حال؟"‪.‬‬
‫أشرق و جهها و قال‪ " :‬إنه في خير و عافية‪ ،‬دائب الحركة‪ ،‬ل يكف‬
‫عن السؤال عنك‪ ،‬و عما أدى لبعدك عنا‪ ،‬و قد تنقضي فترات طويلة‬
‫يلجأ فيها الى الشرفة مرة‪ ،‬و إلى النافذة أخرى‪ ،‬يرقب عودتك إلى‬
‫الدار‪ ،‬إلى أن يمل النتظار فيتحول بعده للهوه و لعبه"‪.‬‬

‫هز رأسه باسما مشتاقا و قال‪ " :‬كم أنا في شوق لرؤيته‪ ،‬فقبليه عني‪،‬‬
‫و منيه بعودتي إليه و اجتماع شملنا من جديد"‪.‬‬

‫قالت بصوت خافت‪ " :‬ذلك ما ابتهل الى الله أن يحققه"‪.‬‬

‫ألقى على ساعته نظرة‪ ،‬ثم مد لها يده مصافحا و هو يقول‪ " :‬لقد‬
‫مضى الوقت و آن لي المضي إلى مكمني‪ ،‬فوداعا‪ ،‬و شكرا لتضميدك‬
‫جرحي"‪.‬‬

‫قالت عاتبة و يدها في يده تصافحه‪ " :‬أو تشكرني على تلك الضمادة‪،‬‬
‫كما لو كنت غريبة عنك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬كل و الله‪ ،‬إنما قلت ذلك ألني شعرت بكثير من الرتياح بعد أن‬
‫أحكمت لي الرباط فوق الجرح"‪.‬‬

‫قال ذلك و شد يدها مودعا‪ ،‬قالت بصوت مبحوح‪ " :‬أستودعك الله"‪.‬‬

‫فحياها و مضى لشأنه‪ ،‬و وقفت ترقبه و هو صاعد إلى رأس الوادي‬
‫حيث مكمنه‪ ،‬و ما إن رأته يكاد يتوارى عن ناظرها‪ ،‬حتى وثب قلبها‬
‫وشعرت بانقباض شديد في صدرها‪ ،‬فخطت ناحيته و هي تتعثر بذيلها‪،‬‬
‫و هتفت به همسا‪:‬‬
‫" وليد"‪.‬‬

‫فاستدار إليها في الحال‪ ،‬و رآها ترتجف و الدموع تغشى عينيها‪،‬‬


‫فتحول عائدا إليها و قال‪ " :‬ما بالك تبكين يا حبيبتي؟"‪.‬‬
‫همست‪ " :‬بربك هل بقيت معي هنيهة أخرى"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬كنت أود أن أبقى أكثر من هنيهة‪ ،‬لول أني أخشى حدوث هجوم‬
‫جديد تتعرضين لوابل رصاصه‪ ،‬و دوي قذائفه"‪.‬‬

‫قالت و سيل دموعها يهدر فوق خديها‪ " :‬أل أخاف عليك ذلك؟ إني‬
‫أكون أهدأ بال لو لم تجعل مكمنك عند رأس الوادي بالحي اليهودي‬
‫)هدار("‪.‬‬

‫قال‪ " :‬اطمئني و ل تجزعي‪ ،‬و لو لم نتخذ من تلك البقعة مكمن لنا‪،‬‬
‫ما تمكنا من دحر عدونا و قهره‪ ،‬و أنت إنما شاهدت اليوم أرض تلك‬
‫الساحة العامرة بالشهداء و الجرحى بعد معركة دامية بيننا و بينه"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ذلك ما يخيفني‪ ،‬فهجمات اليهود لن تنتهي ما دام لديهم ما‬
‫يمطروننا به من القذائف و غيرها من السلح"‪.‬‬

‫قال يخفف عنها‪ " :‬لقد أراد الله بنا خيرا يا سلمى‪ ،‬فنصرنا على عدونا‬
‫بعد تلك المعركة الحمراء‪ ،‬و لعلك ل تدرين ما اغتنمناه اليوم من‬
‫األسلحة التي خلفها اليهود وراءهم‪ ،‬عدا أربعة ألغام ثقيلة أرادوا بها‬
‫نسفنا"‪.‬‬

‫قالت ساخطة و قد جف دمعها و برقت حدقتاها‪ " :‬نسفهم الله و بدد‬


‫شملهم"‪.‬‬

‫تبسم و قال‪ " :‬أما و قد هدأ روعك‪ ،‬فسيري بحراسة الله‪ ،‬وألمض أنا‬
‫لشأني‪ ،‬و سأبعث إليك بين يوم و آخر برسول ليطمئنك علي"‪.‬‬

‫و قبل أن تهم بالنصراف‪ ،‬مدت يدها إلى جيب ردائها سحبت منه‬
‫منديل ناصع البياض‪ ،‬أخذت تحكم ربطه فوق ضمادة جرحه‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬
‫" احتفظ بهذا المنديل تذكارا يذكرك بي و أنت مقيم بعيدا عني‪ ،‬فعليه‬
‫حروف دقيقة من إسمك مع شعار أتفاءل به رسمته على ركن منه"‪.‬‬

‫فصافحها بحرارة و قال مودعا‪ " :‬سيري بعون الله و احملي ألهلنا‬
‫السلم"‪.‬‬

‫و شعر عندئذ بكفها بين راحتيه كقطعة من الجمر تكاد تصلي كفيه‪ ،‬و‬
‫حمرة قانية صبغت وجهها‪ ،‬و لبثت في مكانها تنظر إليه طويل و تتردد‬
‫في المسير‪ ،‬و شعور محموم يضطرم بين ضلوعها فيتنازعها بالقدام‬
‫و الحجام‪ ،‬فشعر بمثل شعورها‪ ،‬و لبث يرنو إليها صامتا و عواطف‬
‫شتى متضاربة تعتمل في أعماقه‪ ،‬و انقضت فترة من الوقت و هما‬
‫على ذلك الوضع‪ ،‬يتبادلن النظرات بصمت و سكون‪ ،‬ثم ما لبثت أن‬
‫جذبت يدها برفق من يده و همست و عينها شاخصة إلى عينه‪" :‬‬
‫أستودعك الله"‪.‬‬

‫رد بصوت أكثر همسا‪ " :‬أستودعك الله يا سلمى"‪.‬‬


‫قلق و بلبل‬

‫ما برح العم حامد يتفقد حال سلمى و أهل زوجها و هن مقيمات في‬
‫ذلك القصر الحصين عند سفح الجبل‪ ،‬و يقوم بواجبه نحوهن عمل‬
‫بوصية وليد إليه‪ ،‬و كما يجب أن تكون الثقة و الصداقة بين الناس‬
‫الكرام‪.‬‬

‫و سلمى تزداد أنسا به و ارتياحا إليه كلما جاءها بأنباء جديدة يحدثها‬
‫عن أحوال البلد و الجهاد و كانت المعارك مستمرة ليل و نهار بين‬
‫عرب فلسطين و يهود الفرنج‪ ،‬ل تنتهي و ل تتوقف‪ ،‬و أزيز الرصاص و‬
‫هدير المدافع و دوي القنابل تصم الذان‪.‬‬

‫و تحولت مدينة حيفا إلى شبه قطعة من الجمر‪ ،‬يرى الناظر لهيب‬
‫القذائف يتطاير مع شظاياها من جميع أنحائها‪ ،‬و جداول من الدماء‬
‫تكتسحها فتسيل فوق ثراها مدرارا‪.‬‬

‫و تضاعفت حملت اليهود‪ ،‬و تكررت هجماتهم بما لديهم من الذخيرة و‬


‫األسلحة الحديثة‪ ،‬و كل ذلك و سلمى لم ينعدم أملها في فوز العرب و‬
‫نصرهم‪ ،‬و لبثت تعيش على إيمانها بالظفر‪ ،‬و كان وليد ل يفتأ يبعث‬
‫لها بين يوم و آخر رسول يحمل لها السلم و يطمئنها على أحواله‬
‫بكتاب مختوم بخطه يتضمن شارة الطمئنان ببضع كلمات موجزة‪ ،‬و‬
‫ما كانت تلمح رسول زوجها آتيا ببشائره إليها‪ ،‬حتى تخر ساجدة لله‬
‫شكرا‪ ،‬و تبتهل إليه أن ينصر قومها على أعدائهم‪ ،‬و يعيد إليها زوجها‬
‫من حومة الوغى مظفرا سالما‪.‬‬

‫و لم تزل تلك حالها‪ ،‬حتى جاء يوم انتظرت فيه رسول زوجها في‬
‫ميعاده‪ ،‬فلم يأت‪ ،‬و انقضت بضعة أيام أخرى لم تر خللها أدنى إشارة‬
‫منه‪ ،‬و لم تسمع عنه خبرا‪ ،‬فغاص قلبها بين ضلوعها فزعا على حياته‪،‬‬
‫و تملكها جزع شديد و ركبت الهواجس رأسها‪ ،‬و سعاد تهدئ من حدة‬
‫روعها‪ ،‬و ل تقل عنها قلقا و خوفا‪.‬‬

‫و جاء العم حامد ذات صباح يتفقد سلمى و أهل زوجها كعادته‪ ،‬فرآها‬
‫شاحبة ممتقعة و غيوم قاتمة تجثم حول عينيها‪ ،‬فاستغرب أمرها و هو‬
‫الذي عهدها في كل مرة زارها فيها منشرحة الصدر نشيطة المال‪،‬‬
‫فسألها ما بها؟‪...‬قالت‪ " :‬إنني في قلق عظيم من أجل وليد"‪.‬‬

‫قال مستغربا‪ " :‬هل من أنباء جديدة تناهت إليك بشأن زوجك‪،‬‬
‫فأفزعتك و حملت الهواجس الى راسك؟"‪.‬‬

‫قالت‪" :‬ل"‪.‬‬

‫فدهش للمر‪ ،‬و ما كان يعلم أن سلمى على اتصال بزوجها طوال‬
‫غيابه عن بيته حتى انقطعت أخباره عنها فقال‪ " :‬لقد مضت أسابيع و‬
‫زوجك يقاتل بعيدا عنك‪ ،‬و كنت أعهدك منشرحة الصدر هادئة البال‪،‬‬
‫فما بالك اليوم كئيبة النفس منقبضة الصدر يا بنيتي؟"‪.‬‬

‫فصمتت و لم تجب‪ ،‬و أطرقت ساكنة دون أن تذكر له السبب الذي‬


‫أدى الى قلقها حرصا منها على كتمان أمر زوجها و المكان الذي يقاتل‬
‫منه على الرغم من ثقتها الكبيرة في الشيخ الصديق )حامد(‪.‬‬

‫و أدرك هو أن خواطر جديدة استبدت بها‪ ،‬فبلبلت أفكارها و قوضت‬


‫آمالها‪ ،‬فتأثر لحالها‪ ،‬و قال يريد إنقاذها من ضيقها و انقباضها‪" :‬‬
‫تحدثي بما يريبك و يفزعك يا سلمى‪ ،‬و أنا اليوم في مكان أبيك و ما‬
‫يصعب عليك يسهل علي يا بنيتي‪ ،‬و قد وقفت نفسي لحمايتك و تفقد‬
‫أحوالك‪ ،‬فما بالك تخفين عني هواجسك و ما يضيق له صدرك؟"‪.‬‬

‫احمر وجهها حياء و قالت‪ " :‬لقد كنت لي كاألب الرحيم منذ أمد بعيد يا‬
‫عماه و ليس ذلك علي بجديد‪ ،‬و لكن ماذا عسى أن أقول في أمور‬
‫أجهلها بشأن زوجي"‪.‬‬

‫قال مشفقا عليها‪ " :‬ليتني أعرف مقره‪ ،‬ألخترق النيران فأطير إليه و‬
‫أعود فآتيك بأنبائه"‪.‬‬
‫ارتدت بنظراتها إليه على إثر قوله دون شعور منها‪ ،‬و قد التمعت‬
‫عيناها كمن تبغي التصريح بشيء‪ ،‬ثم عادت فأطرقت دون أن تنبس‬
‫ببنت شفة‪ ،‬فأدهشه أمرها و قال‪ " :‬ما بالك تترددين في‬
‫الكلم؟‪..‬أعالمة أنت بمكان زوجك و مكمنه؟"‪.‬‬

‫رفعت رأسها ببطء من إطراقتها و قالت بلهجة ثابتة النبرات‪ " :‬كل يا‬
‫عماه ليس لي علم البتة بمكان زوجي و ل مكمنه"‪.‬‬

‫صمت و قد صدقها في زعمها‪ ،‬و لبست وجهه مسحة من الشفقة و‬


‫العطف الشديد عليها و أخذ يطمئنها و يهدئ من حدة قلقها و روعها‪،‬‬
‫ثم ما لبث أن نهض يهم بمغادرتها‪ ،‬فنهضت بنهوضه تحييه و تحمله‬
‫لزوجه السلم‪ ،‬و بينما هي في ذلك إذ تفاجأ بأم زوجها تقف أمامها و‬
‫تسألها‪ " :‬ألم يأت رسول بعد من ولدنا؟"‪.‬‬

‫شعرت سلمى عندئذ بالحرج‪ ،‬و أجابتها‪ " :‬ل"‪.‬‬

‫فأحس حامد أن سلمى عالمة بمكان زوجها‪ ،‬و أنها عمدت إلى كتمان‬
‫أمره‪ ،‬فتأثر و قال عاتبا‪ " :‬ما دمت عالمة يا بنيتي بمقر زوجك‪ ،‬فلم ل‬
‫تخبريني بذلك فامضي إليه و أعود إليك بأنبائه‪ ،‬و أنا أراك مروعة‬
‫الخاطر تحملين هما و قلقا يشغل بالك؟"‪.‬‬

‫أجابته قائلة‪ " :‬لو كنت أعلم بمقر زوجي ألنفذت إليه من يستطلع‬
‫أمره"‪.‬‬

‫ما كادت ظريفة تسمع سلمى تنطق بعبارتها األخيرة حتى امتعضت‬
‫وهاجمتها قائلة‪ " :‬ما هذا التضليل‪ ،‬و ما معنى كتمانك المكان الذي‬
‫يقاتل منه ولدنا؟‪..‬هيا اذكري للرجل مكانه ليمضي إليه يستطلع أمره‬
‫فيأتينا بأنبائه"‪.‬‬

‫أجابتها بهدوء و هي تسرح طرفها في الفضاء البعيد من فجوة النافذة‪:‬‬


‫" ل بل أنت واهمة يا سيدتي‪ ،‬ل علم لي البتة بمقر وليد"‪.‬‬

‫كست وجهها مسحة غضب و قالت حانقة‪ " :‬لقد ظل ابني سواء‬
‫السبيل‪ ،‬فتزوج بمن لم يثمر حبه في نفسها‪ ،‬فما أسرع أن نسيته‪ ،‬و‬
‫أنا أراك اليوم تقفين منه هذا الموقف حين بعد عنك‪ ،‬فل تكلفين‬
‫نفسك عناء السؤال عنه و السعي لستطلع أمره‪ ،‬و لو أدرك ذلك‬
‫البن الذي عصى إرادتي ما أنت عليه من الجحود ألعرض عنك و ما‬
‫قبل الزواج منك"‪.‬‬

‫فما إن سمعتها سلمى توجه إليها هذا القول اللذع‪ ،‬حتى أنت أنينا‬
‫موجعا و هتفت مستعطفة و هي تمد إليها يدها بتوسل‪ " :‬أواه كفى‬
‫بالله لقد شطرت قلبي"‪.‬‬

‫فرمتها بنظرة ملتهبة‪ ،‬و قبل أن تهم بمهاجمتها ثانية‪ ،‬تدخل حامد‬
‫مشفقا على سلمى و قال مخاطبا ظريفة‪ " :‬يمكنك تصديقها يا‬
‫أختاه"‪.‬‬

‫التفتت إليه و قالت ساخطة‪ " :‬و ما دليلك على صدق قولها؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لو كانت سلمى عالمة بمكان زوجها لما أخفت أمره عني"‪.‬‬

‫و كانت سلمى تستمع لقوله و الدموع تتناثر من بين أهدابها‪ ،‬بينما‬


‫انتقلت ظريفة منصرفة إلى حجرتها و آيات الغضب تقطر من محياها‬
‫العتيق‪.‬‬

‫و تحول حامد بعد الى سلمى و خاطبها مواسيا‪ " :‬طيبي نفسا يا بنيتي‬
‫و اصبري فان الله مع الصابرين‪ ،‬و عسى أن تأتينا إشارة من زوجك‬
‫عما قريب"‪.‬‬

‫فلما سمعت كلمه دفنت وجهها بين راحتيها و أجهشت بالبكاء‪ ،‬و هرع‬
‫طفلها الى صدرها يقبلها و يسائلها عن سبب بكائها؟ فتتهرب من‬
‫الجابة حتى إذا ما سكن روعها قليل‪ ،‬حياها الشيخ و استأذنها‬
‫باللنصراف‪.‬‬

‫و التقى حامد بسعاد و ظريفة عند ساحة القصر‪ ،‬سمع األولى تقول‪" :‬‬
‫و لكن ثقي يا امرأة عمي أن سلمى على جهل من أمر زوجها و‬
‫مكمنه‪ ،‬و إل ما كتمت أمره عني"‪.‬‬
‫سار حامد إلى دكانه عند سوق المدينة فأدركه بعد مشقة‪ ،‬و شظايا‬
‫القنابل تتطاير في الفضاء فتفتك بالمارة‪.‬‬

‫فلما وصله أخذ مجلسه داخل دكانه و اتكأ برأسه إلى راحة يده و راح‬
‫يستعيد بمخيلته ما شاهده من أمر سلمى و فزعها على حياة زوجها‬
‫بعد انقطاع أخباره عنها‪ ،‬و إصرارها على كتمان أمره‪.‬‬

‫فهز رأسه معجبا بشهامة الصبية و شجاعتها‪ ،‬و همس يحدث نفسه‪" :‬‬
‫لو كان لسائر نساء العرب في فلسطين خلق هذه الفتاة‪ ،‬ما كان هذا‬
‫حالهم مع أعدائهم‪ ،‬هناك نسوة ل يهمهن في شؤون الحياة إل جمع‬
‫المال إرضاء لغرورهن و خيلئهن و قد يدفعن رجالهن إلى بيع أراضيهم‬
‫لليهود‪ ،‬ليتوافر لهن الثراء و إحياء الحفلت مختالت بالذهب و الماس‪،‬‬
‫متفاخرات متعاليات‪ ،‬شأن الحيوان األعجم الذي ل يفقه من أمور‬
‫الدنيا إل ملء معدته فيزأر بعدها جذل طروبا‪ ،‬دون أن يهمه من أي‬
‫نوع كانت فريسته التي أتى بها لسد جوعه‪ ،‬و قد يكون الحيوان‬
‫معذورا فيما يقدم عليه فهو يسعى للتقاط قوته‪ ،‬ل لزوال وطنه و‬
‫أرضه التي يعيش فيها مع فصيله و أولده"‪.‬‬

‫و بينما كان الشيخ غارقا في بحر أفكاره‪ ،‬إذ بصوت يقرئه السلم‪،‬‬
‫فرفع بصره من إطراقه ليرى شابا ماثل أمامه فارع العود‪ ،‬قوي‬
‫البنيان‪ ،‬ملثما بكوفية بيضاء‪ ،‬و قد شد من فوقها العقال‪ ،‬فلم تظهر‬
‫من ملمح وجهه إل عيناه السوداوان الحادتان‪.‬‬

‫فدهش حامد و صاح و هو ل يكاد يصدق عينيه‪ " :‬مرحى‪ ،‬أهذا أنت يا‬
‫وليد؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم و كيف أهل بيتي؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬هن في خير حال‪ ،‬و لكن انقطاع إخبارك عنهن سبب لهن كثيرا‬
‫من الفزع"‪.‬‬

‫قال ذلك و راح يصف له حال زوجه و بالها‪ ،‬فتأثر و قال‪ " :‬لقد‬
‫استشهد الرسول الذي كان يقوم بالتصال بينهن و بيني‪ ،‬فتعذر علي‬
‫بعد ذلك التصال بهن و قد انتهزت الن هذه الفرصة القصيرة بعد‬
‫خروجنا من معركة دامية فأتيتك أسألك أحوال أهلي كي تطمئنهن‬
‫علي"‪.‬‬

‫ذهل حامد و قال‪ " :‬هل معنى ذلك أنك ستعود سريعا إلى جبهة‬
‫القتال؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و كيف ل يا عماه؟ و أنت ترى هجمات اليهود ل تنتهي‪ ،‬و ل‬
‫تتوقف على حال؟ و قد يكون من العسير علي التصال بك بعد اليوم‬
‫ألن المعارك تزداد اشتعال بيننا و بين العدو‪ ،‬فأوصيك أن تعمل على‬
‫ترحيل أهل بيتي إذا دنا منه الخطر‪ ،‬و قل ذلك لسلمى عن لساني"‪.‬‬

‫قال حامد‪ " :‬أل تنوي الوصول الى بيتك فتقابل أهلك لتطمئن القلوب‬
‫عليك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬إن الوقت ل يأذن بذلك‪ ،‬و ها أنذا قد أتيتك فبلغهن األمر و‬
‫أقرئهن السلم"‪.‬‬

‫قال حامد‪ " :‬و لكن هذا ليس كافيا منك يا ولدي و أنت أعلم الناس‬
‫بقلب زوجك‪ ،‬و قد وصفت لك حالها و ما أصابها من كرب و انزعاج‬
‫حين انقطعت أخبارك عنها‪ ،‬و سلمى لن تستمع إلي و لن ترضى‬
‫بالرحيل عن هذه األرض و أنت تقاتل فيها‪ ،‬و قد تحسب أنك قد‬
‫استشهدت‪ ،‬و يكون حينئذ من العسير نقلها و طفلها إلى خارج البلد‬
‫ما لم تعطني علمة منك احملها إليها تشهد على سلمتك و اجتماعي‬
‫بك بعد انقطاع أخبارك عنها‪ ،‬و تمكنني من إقناعها و حملها على‬
‫الرحيل لو رأيت هناك ما يهدد سلمة أهل بيتك"‪.‬‬

‫فكر وليد فيما سمعه من كلم حامد‪ ،‬و لم يلبث أن دس يده في جيبه‬
‫و أخرج منه منديل‪ ،‬دفع به الى الشيخ قائل‪ " :‬إليك بهذا المنديل‬
‫فاحمله علمة مني الى سلمى تشهد على لقائك بي"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أواثق أنت من أن زوجتك ستقتنع بهذا المنديل؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم‪ ،‬فهو هديتها إلي‪ ،‬و عليه شعار كتبته بيدها"‪.‬‬
‫قال الشيخ و هو يطوي المنديل و يودعه جيبه‪ " :‬الن يمكنني أن‬
‫أعدك بالعتماد علي"‪.‬‬

‫فشكره و سلم عليه مودعا‪ ،‬و غادره و هو يكرر وصيته بأهله‪.‬‬

‫لبثت سلمى على ما هي عليه من الهم و القلق و راحت تترقب عودة‬


‫حامد إليها‪ ،‬عسى أن يأتيها بنبأ عن زوجها يدخل الطمأنينة إلى قلبها و‬
‫يزيل ما بها‪..‬و لكن الرجل لم يأت ليتفقدها كعادته‪ ،‬و انقضت بضعة‬
‫أيام لم تر خللها أثرا للشيخ العطوف‪ .‬ترى هل هو مريض؟ هل أصابته‬
‫شضية قنبلة‪ ،‬أو رصاصة طائشة أودت بحياته؟‪.‬‬

‫فتعاظم كربها‪ ،‬و ضاق صدرها‪ ،‬و زاد همها تلك الحمى المفاجئة التي‬
‫ألمت بسعاد فأقعدتها ملزمة فراشها‪ ،‬حتى لم تجد بدا من إطلق‬
‫األعنة لدموعها‪ ،‬و ل تدري كم من الوقت مضى عليها و هي ساكنة‬
‫برأسها إلى راحة يدها تذرف الدموع الغزار فتتساقط إلى حجرها‬
‫سخينة حارة تبلل رداءها‪ .‬و بينما هي كذلك إذ طرق مسامعها خفق‬
‫نعال تسير إليها تشبه خطوات حامد‪ ،‬فانتبهت لنفسها‪ ،‬و أجالت‬
‫الطرف فيما حولها‪ ،‬فرأت الظلم مخيما و طفلها قد نام بجانبها متكئا‬
‫برأسه الصغير الى ركبتها‪ ،‬فحملته حانية عليه و أودعته فراشه و‬
‫أسلبت عليه غطاءه‪.‬‬
‫ثم دلفت الى قاعة البيت تستطلع أمر القادم و إذا هي ترى حامدا‬
‫يسير عند فناء القصر متوكئا على عصاه‪ ،‬و ضمادة ضخمة حول ساقه‬
‫اليسرى‪ ،‬حتى إذا وقع بصره عليها لحظت انبساط وجهه‪ ،‬فخفق‬
‫قلبها‪ ،‬و حدثتها نفسها أن هناك نبأ سارا قد أتاها به‪.‬‬
‫فهرعت إليه حافية القدم‪ ،‬و وقفت أمامه تسأله سر انبساطه قائلة‬
‫بلهفة‪:‬‬
‫" ما وراءك يا عماه؟"‪.‬‬
‫تبسم الشيخ و قال‪ " :‬ما ورائي إل الخير يا بنيتي"‪.‬‬
‫قال ذلك و وقف يلتقط أنفاسه و هو يتكئ على عكازته فألحت عليه‬
‫بالسؤال و هي ل تطيق صبرا على النتظار فقالت‪ " :‬قل بربك ما‬
‫وراءك يا عماه؟"‪.‬‬
‫قال و ابتسامته تزداد اتساعا‪ ":‬رويدك يا سلمى ريثما استجمع قواي‬
‫الحائرة و أفضي إليك ببشرى أتيتك بها"‪.‬‬
‫احمر وجهها و أطرقت قليل و قلبها يخفق بعنف بين أضلعها‪ ،‬كما يدق‬
‫الطير بأجنحته داخل قضبان قفصه في حالة سروره و خوفه‪ ،‬فلما‬
‫رآها مرتبكة قال‪ ":‬أبشري يا سلمى‪ ،‬لقد احتل العرب تلك القلعة‬
‫القائمة عند سفح الجبل بعد أن حاصروا اليهود فيها و اشتبكوا معهم‬
‫في معركة دامية ثلثة أيام"‪.‬‬
‫فحدقت به دهشة و قالت و قد كاد النبأ ينسيها أمر زوجها‪ " :‬هل احتل‬
‫العرب تلك القلعة الحصينة و تمكنوا من الستيلء عليها و طرد اليهود‬
‫منها؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬نعم يا بنيتي‪ ،‬فهنيئا لنا على ذلك"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬أواثق أنت يا عماه من صدق الخبر؟"‪.‬‬

‫ضحك و قال‪ ":‬هل يبدو لك األمر غريبا يا سلمى؟"‪.‬‬


‫قالت‪ " :‬ليس األمر بغريب‪ ،‬و لكن كيف تسنى للعرب الوصول الى‬
‫تلك القلعة القائمة على سفح الجبل و في قلب الحي اليهودي )هدار(‬
‫و هم ل يملكون المدافع مثل و القذائف التي تمكنهم من الزحف إليها‬
‫و محاصرة اليهود فيها و هي كالبرج الهائل المنيع تزخر بالعتاد و‬
‫السلح الحديث؟"‪.‬‬
‫عاد فضحك حتى بانت نواجذه و قال‪ " :‬ل عجب من فتح الله و نصره‬
‫يا سلمى‪ ،‬فالحرب كر وفر يا بنيتي و أساليبها تسير في سير مهارة‬
‫قوادها"‪.‬‬
‫رددت و هي شبه ذاهلة‪ ":‬حمدا لله‪ ،‬حمدا لله"‪.‬‬
‫قال و هو يرمقها بنظرة ضاحكة‪ ":‬و ما بالك ل تسأليني عمن يكون‬
‫قائد تلك الحملة التي سجلت لنا هذا الفوز؟"‪.‬‬
‫تطلعت إليه و تفرست في وجهه و كادت تفهم مرماه‪ ،‬فلما طال‬
‫صمتها‪ ،‬دس يده في جيب سرواله و أخرجها قائل و هو يدفع لها‬
‫بمنديلها‪ " :‬إنه صاحب هذا المنديل"‪.‬‬
‫فحالما وقع بصرها على المنديل‪ ،‬أمسكت به و هتفت و الدموع تتناثر‬
‫من عينيها لعظم فرحها‪ " :‬من الذي جاءك بهذا المنديل يا عماه؟"‪.‬‬
‫قال ضاحكا‪ " :‬هو صاحبه فهل تعرفينه؟"‪.‬‬
‫همست و دموع الفرح تزداد انهمارا فوق خديها‪ ":‬وليد‪...‬هل هو في‬
‫خير و سلم؟"‪.‬‬
‫قال بحنان‪ ":‬نعم‪ ،‬فحمدا لله على ذلك يا بنيتي‪ ،‬و قد بعث إلي برسول‬
‫إلى حانوتي‪ ،‬فلما لم يجدني رسوله هناك عاد فأرسله إلى بيتي‬
‫يدعوني لملقاته عاجل فغادرت فراشي متحامل على آلم ساقي و‬
‫كنت أصبت فيها برصاصة طائشة عقب زيارتي األخيرة لك‪ ،‬و لبيت‬
‫نداء زوجك و سرت مع رسوله حيث قادني إلى تلك القلعة‪ ،‬و لما‬
‫قابلته هناك حياني شاكرا‪ ،‬و كان يبدو قلقا كأن خاطرا هاما يشغل‬
‫باله‪ ،‬و أسر في أذني همسا فقال‪ " :‬رجائي أن تمضي إلى زوجتي في‬
‫الحال فتعود إلي بها‪ ،‬وقل لها أنني أنشد لقاءها لشأن هام يجب أن‬
‫أطلعها عليه قبل أن يأتي الغد"‪.‬‬
‫استغربت سلمى األمر‪ ،‬و تساءلت في قرارتها‪ " :‬ترى ما الذي طرأ‬
‫على زوجها حتى انه يطلب لقاءها عاجل و الوقت ليل؟‪...‬هل هناك‬
‫حدث هام أدى إلى ذلك؟‪...‬و ما عسى يكون؟"‪ .‬و لمع في ذهنها‬
‫كوميض الشهب أمر كان قد أطلعها عليه زوجها‪..‬‬
‫القبو المظلم الذي كشف لها سره‪..‬الذخيرة التي أودعها داخله‪ ،‬ترى‬
‫مازال هناك شيء منها يريد نقله إليه؟‪..‬أم جاء بذخيرة جديدة يبغي‬
‫حفظها داخل القبو الذي ل يعرف طريقه أحد غيرها و هو الن بحاجة‬
‫إلى معونتها في هذا الشأن؟‪..‬نعم‪ ،‬ل بد من ذلك و إل ما أرسل في‬
‫طلبها ليل‪ ،‬و كان الشيخ ينظر إليها و قد استغرب أمرها لطول صمتها‪،‬‬
‫و ما كان ليعلم بما يجول بخاطرها‪ ،‬فما لبث أن قال متسائل و هو‬
‫يترنح فوق عكازه‪ " :‬هل تبغين المسير الليلة إلى زوجك يا بنيتي‬
‫تستطلعين أمره‪ ،‬أم انك ترين تأجيل ذلك إلى الغد فامضي أنا إلى‬
‫داري ألستريح؟"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬و كيف ذلك يا عماه؟ و زوجي ينشد لقائي عاجل قبل أن يأتي‬
‫الغد كما تقول؟"‪.‬‬
‫ذلك ما قاله لي‪ ،‬و إني أراك صامتة كأنك تترددين في المسير"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬ل بل كنت أفكر كيف السبيل إلى القلعة‪ ،‬و قد يكتشف اليهود‬
‫أمرنا فيفتكون بنا و نحن نخترق أحياءهم؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ل عليك منهم فالليل بهيم‪ ،‬و اليوم سبت من سبوت هذا الشهر‬
‫و الغالبية من اليهود ملزمة بيوتها فارتدي لباس السعاف و سوف‬
‫أسير بك في طريق من بين األحراج ينتهي بنا إلى القلعة في غير عناء‬
‫و دون أن يكتشف أمرنا األعداء"‪.‬‬
‫لعجبت سلمى بشجاعة الشيخ و قالت‪ " :‬استأذنك لحظة يا عماه ريثما‬
‫ارتدي ثوب السعاف‪ ،‬فنسير معا على بركة الله"‪.‬‬
‫قالت ذلك و تحولت عائدة إلى مخدعها و لبث هو ينتظرها عند صحن‬
‫القصر‪ ،‬و شرعت في ارتداء ثيابها على عجل و قبل أن تمضي لشانها‬
‫ألقت نظرة على طفلها و هو نائم في سريره فقبلته و أحكمت‬
‫غطاءه‪ ،‬ثم غادرت حجرتها بخفة و حذر‪ ،‬و كان أهل الدار نياما‪،‬‬
‫فمشت إلى حجرة سعاد و ولجت بابها برفق مخافة إزعاجها و اقتربت‬
‫من فراشها فراتها تهذي و هي تصارع الحمى التي أخذت تلهب‬
‫جسدها فتحسست جبهتها المحمومة فشعرت بحرارتها كقطعة من‬
‫الجمر تكاد تصلي كفها‪ ،‬فاكبت عليها و همست لها برفق و حنان‪ " :‬قد‬
‫حان موعد تناولك الدواء يا أختاه"‪.‬‬
‫فغمغمت هذه بكلمات غير مفهومة و حولت وجهها تتلوى من شدة‬
‫األلم‪ ،‬فتحولت سلمى إلى منضدة عند ركن الحجرة صفت عليها بضع‬
‫زجاجات من الدواء أمسكت بإحداها وعادت بها إلى العليلة و سكبت‬
‫لها ملعقة منها جرعتها إياها ثم أصلحت لها الوسادة و أراحت رأسها‬
‫من فوقها و أحكمت من حولها غطاءها‪،‬‬
‫و بعد أن اطمأنت عليها و هي تراها تسبل جفنيها بشيء من الرتياح‬
‫تسللت حثيثا من جانب سريرها‪ ،‬و مشت إلى حيث أن حامد ينتظرها‬
‫عند فناء القصر‪ ،‬فلما لمحها مقبلة عليه تحامل و نهض يسير بخطى‬
‫وئيدة متوكئا على عصاه‪.‬‬
‫سار حامد و سلمى وسط الظلم يخترقان أحراج جبل الكرمل‬
‫الشامخ ليعبرا الطريق إلى القلعة دون أن يشعر بهما اليهود‪ ،‬و كان‬
‫الظلم حالكا‪ ،‬و هواء الليل يهب باردا مع تجاوب دوي القنابل و أزيز‬
‫الرصاص‪ ،‬و لما قطعا شوطا في المسير بين األحراج و الوهاد و‬
‫أوشكا أن يعبرا إلى حي ) الهدار( لحت لهما أنوار المنازل اليهودية‬
‫تنبعث من نوافذها و كواها و الشوارع الواسعة تكاد تكون خالية إل من‬
‫رجال منبثين هنا و هناك مدججين بالسلح‪ ،‬فأجفلت سلمى قليل و‬
‫توقفت عن المسير و هي تشعر ببرودة في أطرافها‪ ،‬فأدرك حامد ما‬
‫يخالجها من شعور فالتفت إليها و قال‪ " :‬ل تخافي و أنت معي يا‬
‫سلمى‪ ،‬و حذار أن تتكلمي العربية لو اعترض احدهم طريقنا بل كوني‬
‫و كأنك ممرضة و أنا أحد مرضاك‪ ،‬و سأتظاهر بالعياء الشديد وكأني‬
‫ل أقوى على الكلم‪ ،‬و ها هي ذي القلعة أمامنا و على بعد أمتار منا‪،‬‬
‫فل نلبث أن نصلها و نلج باب األمان"‪.‬‬
‫هزت رأسها مستجيبة كلمه‪ ،‬و قبل أن يتابعها سيرهما شاهدت سلمى‬
‫أمرا من رفيقها الشيخ كاد يضحكها‪ ،‬أخرج من رأسه قلنسوة بالة و‬
‫ثبتها فوق رأسه‪ ،‬ثم أومأ لها فسارت بجانبه‪.‬‬
‫و مازال كذلك حتى انعطفا إلى ممر فاجأهما عنده يهودي يحمل مدفعا‬
‫من وزن خفيف )ستن(‪ ،‬و ما لبث أن صوب فوهته إلى ناحيتهما‬
‫فتجلدت سلمى و خاطبته بالعبرية قائلة أنها ممرضة و مكلفة بتوصيل‬
‫مريضها الشيخ الى داره‪.‬‬
‫أيقن اليهودي أن الفتاة الماثلة أمامه لبد يهودية‪ ،‬و هو يسمعها تتكلم‬
‫العبرية بطلقة و إتقان‪ ،‬و إن كان ل يفقهها إل لماما‪ ،‬فما لبث أن‬
‫اعتذر لها بالفرنسية فقال‪ " :‬يؤسفني أنني ل أجيد اللغة العبرية لكوني‬
‫يهوديا فرنسي األصل"‪...‬ثم استطرد‪" :‬ترى هل تفهمين قولي؟"‪.‬‬
‫أجابته بالفرنسية و بلهجة يشوبها الجفاء ‪ " :‬أفهم قولك تماما"‪.‬‬
‫فتبسم هذا و مضى يتفرس في وجهها الجميل و ما يشع من ضياء‬
‫عينيها‪ ،‬ثم قال بلغته الفرنسية‪ " :‬أيهودية فرنسية أنت؟"‪.‬‬

‫قالت و هي تنتزع الكلمات بين شفتيها انتزاعا‪ " :‬نعم"‪ .‬و استطردت‪:‬‬
‫" هل سمحت لي بالمرور مع مريضي هذا؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬و ما بال رفيقك ل يتكلم؟"‪.‬‬
‫و لما كانت سلمى سريعة الخاطر لماحة الذكاء أجابته على الفور‪" :‬‬
‫هو يهودي عربي من قبل العراق‪ ،‬فل العبرية يجيدها و ل الفرنسية‬
‫يفقهها"‪.‬‬
‫غمغم بالفرنسية و هو ينظر إلى الشيخ شزرا‪ " :‬يهودي عربي ل‬
‫يستحق عناية حسناء مثلك"‪.‬‬
‫ثم عاود النظر إليها و قال‪ " :‬هل لي أن أرى بطاقتك الشخصية؟"‪.‬‬
‫قالت دون ارتباك وهي تتحسس جيوبها‪ " :‬ل أظنني حاملتها هذا‬
‫اليوم"‪.‬‬
‫فحنا رأسه باسما و قال و هو يتنحى عن طريقها‪ " :‬ل تنسي حمل‬
‫بطاقتك الشخصية بعد اليوم"‪.‬‬
‫فهزت رأسها علمة اليجاب‪ ،‬و إذ همت بالمسير استوقفها قائل و هو‬
‫يدفع لها بقصاصة ورق صفراء‪ " :‬إليك بهذه التذكرة كإشارة تسهل لك‬
‫سبيل المرور لو اعترضك احد ما دمت ل تحملين معك بطاقتك"‪.‬‬
‫فتناولتها منه صامتة و سارت تتابع سيرها مع رفيقها الشيخ‪ ،‬و ما كادا‬
‫يقطعان مسافة قصيرة حتى أدركا باب القلعة الشامخة‪ ،‬فتنفست‬
‫الفتاة الصعداء و التفتت إلى حامد قائلة‪ " :‬ها نحن قد وصلنا عتبة‬
‫األمان يا عماه"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬نعم يا بنيتي‪ ،‬فهيا نعجل بالصعود"‪.‬‬
‫قال ذلك و سار أمامها و هي تتبعه‪ ،‬و لم تلبث أن طرق مسامعها‬
‫أصوات متعالية يخالطها رنين ضحكات مجنونة يتجاوب صداها في‬
‫أرجاء القلعة الشامخة‪ ،‬فهمت بالشيخ و سألته‪ " :‬ما هذه الجلبة يا‬
‫عماه؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ل بد أنهم أسرى اليهود يحتفلون بيوم السبت"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬أتعلم مكان زوجي من هذا البناء الشاهق؟"‪.‬‬
‫ضحك و قال‪ " :‬و كيف ل؟‪..‬ألم أقابله هذا الصباح؟‪ "..‬و استطرد و هو‬
‫يشير بسبابته الى أحد األبواب الضخمة‪ " :‬يمكننا أن نجده داخل هذه‬
‫الحجرة"‪.‬‬

‫فخفق قلبها و سارعت في الخطا و الشيخ يتقدمها‪ ،‬حتى إذا وصل الى‬
‫باب الحجرة التي أشار إليها دفعه و أومأ لها كي تتقدمه ففعلت‪ ،‬و‬
‫طالعتها حجرة عارية إل من بضع مقاعد متناثرة‪ ،‬و كانت الحجرة‬
‫شاهقة ذات كوى صغيرة في أعلى جدرانها‪ ،‬و التفتت سلمى الى‬
‫حامد و هي تراه يدلف وراءها و يغلق باب الحجرة من خلفهما و‬
‫قالت‪ " :‬أين وليد يا عماه؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬مهل "‪.‬‬
‫ثم تقدم و وقف عند كوة صغيرة ل تزيد فتحتها على حجم الرأس و‬
‫أشار عليها لتطل منها فاقتربت و وقفت عندها‪ ،‬و قال حامد متسائل‪:‬‬
‫" ماذا ترين هناك؟"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬أظنني أرى حرائق من تحتها أنقاض و أطلل"‪.‬‬
‫قال غاضبا‪ " :‬ذلك ما جنته يدا زوجك و رجاله األنذال"‪.‬‬
‫ارتدت بنظراتها إليه و قالت دهشة و قد اتسعت حدقتاها‪" :‬ما هذا‬
‫الذي أسمعه منك يا عماه؟"‪.‬‬
‫قال و قد انقلبت سحنته‪ " :‬حسبك الن أن تدركي أنني يهودي و‬
‫اسمي )شمعون( و لست بالعم )حامد( أبدا‪ ،‬و قد انتحلت تلك‬
‫الشخصية المستعارة عشرين عاما ألتمكن من صيد محاربينا و التقاط‬
‫أنباء أعدائنا و كشف أسرارهم"‪.‬‬
‫فلو أن نازلة انقضت على رأس الفتاة في تلك اللحظة ما أذهلتها كما‬
‫أذهلها أمر ذلك الرجل الماثل أمامها‪ ،‬و جعلت تحدق به و الدماء‬
‫تتسرب من وجهها قطرة قطرة حتى حاكى لونها بياض الجليد الناصع‪،‬‬
‫و جمدت عيناها في محاجرها‪ ،‬فلم تطرف كأن روحها تكاد تطل من‬
‫مقلتيها‪ ،‬و أيقنت أنها سقطت في قبضة العدو ل محالة‪.‬‬
‫و تحول غريمها الذي استدرجها الى تلك القلعة بمكيدته الخبيثة‪ ،‬و راح‬
‫يحل رباط ساقه‪ ،‬و ما كان هناك أثر ألدنى جرح فيها‪ ،‬و إذ فرغ من‬
‫نزع الضمادة المزعومة استوى واقفا و قد عقد ذراعيه وراء ظهره‪ ،‬و‬
‫شد قامته القصيرة في تحد‪ ،‬و قال يرميها بنظرة صارمة‪ " :‬ل يدهشك‬
‫يا بنية أن قمت بخدمة بني إسرائيل‪ ،‬فأنا يهودي عريق من أصل‬
‫يمني‪ ،‬هاجرت الى هذه الديار و معي زوجي و ولدي و أخي‪ ،‬و قد ذبحا‬
‫كلهما بأيدي عرب فلسطين‪ ،‬فانتقمت لهما"‪.‬‬
‫كان يتكلم و قسماته تهتز غضبا‪ ،‬و نظر الى سلمى و إذا هي مازالت‬
‫في ذهولها و جمودها تحدق به دون حراك‪ ،‬حتى بدت له كصنم قد من‬
‫الرخام‪ ،‬فصاح بها قائل‪ " :‬ل تحملقي بي‪ ،‬و ل تخشي بأسا‪ ،‬فلست‬
‫أبغي بك سوءا‪،‬‬
‫فأنت حقا فتاة نبيلة و ذكية على الرغم من وقوعك في أسرنا‪ ،‬إنك‬
‫كنت معذورة في تصديقي‪ ،‬كما أنني مازلت أعطف عليك و أعجب‬
‫بخلقك و إن كان بيننا ثأر و دم‪ ،‬فإن كنت كريمة معنا و لبيت نداءنا‪،‬‬
‫أرجعتك الى بيتك بسلم و أمان من حيث أتينا‪ ،‬و إل فأنت المسؤولة‬
‫عن أمر نفسك إذا لقينا منك عنادا و إعراضا"‪.‬‬
‫فظلت تردد فيه نظرتها باهتة مشدوهة ثم ما لبثت أن ازدردت ريقها و‬
‫قالت و أنفاسها تائهة عن مجراها و قد اصفرت و اشتد امتقاعها‪ " :‬و‬
‫ما الذي تبغونه مني؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬الفضاء لنا بمكان زوجك و مكمنه الذي يقاتل منه‪ ،‬فهو خصم‬
‫عنيد فل بد من الهتداء إليه و الخلص من شره"‪.‬‬
‫دارت بها األرض عند سماعها قوله و وقفت دورة الدم في عروقها‪ ،‬و‬
‫نطقت بجهد إذ قالت و هي ترتجف‪ " :‬و لكنك تعلم أنني أجهل مكان‬
‫زوجي الذي يقاتل منه"‪.‬‬
‫تبسم ساخرا‪ " :‬ذلك هراء ل يصدقه مثلي"‪.‬‬
‫قالت و هي تحاول جهدها حفظ توازنها‪ " :‬كل‪ ،‬فأنت مخطئ و ل علم‬
‫لي البتة بشيء من أمره"‪.‬‬
‫فدق األرض بقدمه و قال مزمجرا‪ " :‬ل تعمدي الى التظليل و العناد‪،‬‬
‫فهناك وسائل أخرى لو استعملتها معك لدفعتك الى الفضاء بأمر‬
‫زوجك دون إبطاء"‪.‬‬
‫ففارقها وجلها و اضطرابها لما سمعت تهديده و وعيده و قالت و قد‬
‫على الدم في عروقها و كادت تنسى أنها في قبضة عدوها‪ " :‬و هب‬
‫أنني عالمة بمكان زوجي و مقره‪ ،‬فهل تتوقع مني أن أفشي لك‬
‫سره؟"‪.‬‬
‫قال حانقا‪ " :‬بل ستفضين به"‪.‬‬
‫قالت بإصرار‪ " :‬ل تطل الموقف و ل تحاول محال‪ ،‬فأنا ل أخشى‬
‫الموت و ل وسائله التي تهددني بها‪ ،‬و ل تطمع أن تظفر مني بكلمة و‬
‫لو قطعتني إربا إربا"‪.‬‬
‫قال بهدوء و على شفتيه ابتسامة بغيضة‪ " :‬لقد أخطأت فهمي‪ ،‬فما أنا‬
‫مهدد بالموت و ل متوعد لك به‪ ،‬بل نحن اليوم نطالبك بأحد أمرين لك‬
‫فيهما حرية الخيار‪ ،‬و هما‪ :‬إما حياة زوجك و إما شرفك‪"...‬‬
‫قالت و قد طاش صوابها‪ " :‬كذبت و الله و خسئت أنت و قومك من‬
‫يهود أنذال"‪.‬‬
‫أغضبه قوله هذا‪ ،‬و خطا ناحيتها مهددا و قال‪ " :‬أتجرئين على سبي و‬
‫قومي‪ ،‬و أنت اليوم أسيرة في قبضتنا و في متناول يدنا؟"‪.‬‬
‫قالت و هي تبتعد عنه مرتدة بخطواتها الى الوراء‪ " :‬ل تعطل نفسك‬
‫بما ل طائل فيه"‪.‬‬
‫نظر إليها مستخفا‪ ،‬ثم حول وجهه عنها‪ ،‬و مشى الى باب مغلق عند‬
‫ركن الحجرة‪ ،‬و لم يلبث أن دفعه بقدمه دفعا شديدا ففتح على‬
‫مصراعيه‪ ،‬و التفت إليها قائل و عيناه تلمعان ببريق النصر‪ " :‬ما رأيك‬
‫فيما ينتظرك هنا لو دمت على إصرارك هذا و عنادك؟"‪.‬‬
‫و طالعها هناك جماعة من رجال اليهود‪ ،‬يلتفون حول مائدة مستديرة‬
‫يتناولون عليها الطعام و المدام بين هرج و مرج و رنين ضحكاتهم‬
‫المجنونة يتجاوب صداها في أرجاء القاعة التي يجلسون فيها‪،‬‬
‫فاصطكت ركبتاها‪ ،‬و اشتد اصفرارها‪.‬‬
‫رماها بنظرة وقحة و قال‪" :‬هاتي ما عندك و اذكري لنا ما تعرفينه من‬
‫أمر زوجك؟"‪.‬‬
‫قالت يائسة‪ " :‬قلت لك إنني أجهل أمره و مقره الذي مضى إليه‪،‬‬
‫فماذا أنت فاعل بعد ذلك؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ل تماطليني لقد نفذ صبري‪ ،‬قولي و إل أسلمتك الى جنودنا‬
‫في الحال"‪.‬‬
‫أطرقت حائرة ملتاعة ل تدري ماذا تفعل و هي تشهد إصرار غريمها‪ ،‬و‬
‫بينما هي غارقة في لحج الحيرة و اليأس دوى صوت كقصف الرعد‬
‫من خلف الباب حيث يجلس الجند و يصيح بحامد قائل بالعبرية‪ " :‬ألم‬
‫تنته بعد من أمر تلك الغادة العربية؟"‪.‬‬
‫فانتفضت و التفت إليها شمعون قائل‪ " :‬إنه القائد يتساءل عنك كما‬
‫تسمعين و قد أمهلتك كثيرا و أنت تماطلين و انقضى الوقت دون‬
‫جدوى‪ ،‬و ليس لي بعد ذلك إل أن أتركك فريسة للجنود"‪.‬‬
‫و ما كاد يتم كلمه هذا حتى انفرج الباب و تدفق عند عتبته الجند‬
‫يتسابقون الى دخول الحجرة التي تقف فيها أسيرتهم الحسناء‪،‬‬
‫فذعرت لمشهدهم و التصقت بالجدار و أسنانها تصطك و قد ابيضت‬
‫شفتاها حتى شابهت في لونهما الجليد الناصع‪ ،‬و لحظ شمعون عليها‬
‫ذلك‪ ،‬فاستدار من أمامها بعد أن حدجها ببصره فهمت به تستوقفه‬
‫قائلة و هي ترتجف‪ " :‬مهل يا رجل"‪.‬‬
‫فأشار هذا على الجند بالتريث و التفت إليها قائل‪ " :‬هل قررت‬
‫الفضاء لنا بمكان زوجك‪ ،‬أم رضيت ببيع شرفك؟"‪.‬‬
‫قالت و هي تنتفض و الصفرار يصبغها‪ " :‬سأتحدث"‪.‬‬
‫عاد فأغلق الباب بعد أن حبس الجند وراءه و تحول إليها و قال‪" :‬هناك‬
‫أمر أحذرك منه‪ ،‬ل تلجئي الى تضليلنا‪ ،‬و اعلمي انه لن يطلق سراحك‬
‫إل إن تحققنا من صدق قولك‪ ،‬و إل فستدفعين ثمن كذبك"‪.‬‬
‫قالت بإعياء و هي تترنح برأسها الى الجدار‪ " :‬دع عني مثل هذا‬
‫الكلم؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬متى ذكرت لنا مقره فسأمضي إليه في الحال مع بعض رجالنا‬
‫ثم أعود إليك عاجل فأطلق سراحك‪ ،‬و لن يطول هنا أكثر من نصف‬
‫ساعة‪ ،‬و أقسم على ذلك بديني و توراتي و حبي لولدي و أخي"‪.‬‬
‫قالت و قد خنقتها العبرات‪ " :‬أتريد أن تمضي و رجالك الى حيث‬
‫مكمن زوجي لتفتكوا به غيلة‪ ،‬ثم تعود إلي لتطلق سراحي و يداك‬
‫مخضبة بدمه؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ل تسألي كثيرا يا بنية و ل تطيلي الشرح‪ ،‬و قد يخوننا الوقت‬
‫فل يرضى الخرون بالرفق‪ ،‬فهيا اذكري لنا المكان الذي يقاتل منه‬
‫زوجك‪ ،‬و إل كان شرفك ثمنا لتعودي من حيث أتيت بسلم"‪.‬‬
‫فصمتت و تولها سكون عميق و عيناها تحملقان دون حراك‪ ،‬و كانت‬
‫أطرافها ترتعد لفرط تأثرها‪ ،‬و تعالى في تلك اللحظة طرق عنيف‬
‫على باب الحجرة التي تقف فيها‪ ،‬فارتجفت و ذعرت له من جديد‪ ،‬و‬
‫صاح بها شمعون بصبر نافذ‪ " :‬ماذا تقترحين على الجند الثائر‪ ،‬و قد ل‬
‫ينتك أكثر من اللزم مقسما لك بأغلظ اليمان؟"‪.‬‬
‫ترنحت بجسدها دافعة برأسها الى الجدار الذي استندت إليه‪ ،‬و لبست‬
‫وجهها صفرة كصفرة الموت و غمغمت‪ " :‬اعد مكمنه عند رأس وادي‬
‫روشيما"‪.‬‬
‫دهش و قال‪ " :‬يا لجرأته‪ ،‬إذن فهو قريب منا‪ ،‬و يكاد يكون في‬
‫أحيائنا"‪.‬‬
‫ثم ما لبث أن تجلت على وجهه القبيح ابتسامة توحي بالظفر و‬
‫النتصار‪ ،‬و وقف برهة ينظر الى الصبية و هي مسبلة جفنيها ترتعد في‬
‫وقفتها‪ ،‬ثم مشى صامتا و تركها على حالها تغمغم في شبه غيبوبة‪،‬‬
‫حتى إذا خرج من الحجرة‪ ،‬أغلق بابها وراءه بشدة‪ ،‬فانتفضت انتفاضة‬
‫زلزلت كيانها‪ ،‬و أجالت الطرف فيما حولها‪ ،‬و كأنها تصحو من حلم‬
‫مزعج رهيب‪ ،‬و شعرت بغصة في حلقها و بالعاقبة الدامية تتمثل لها‬
‫فأجهشت تنشج نشيجا موجعا و قد عل شهيقها‪.‬‬
‫وقف شمعون يتحدث الى قائده بعد أن ترك سلمى منفردة في تلك‬
‫الحجرة المجاورة و ابتدره بقوله‪ " :‬لقد حالفنا الحظ فرمينا عصفورين‬
‫بحجر واحد"‪.‬‬
‫قال ذاك و أشار الى الحجرة التي فيها سلمى‪ ،‬ثم شرع يقص عليه ما‬
‫كان من أمره مع الفتاة حتى أرغمها على الفضاء بمكان زوجها و مقر‬
‫مكمنه‪ .‬و استطرد و قد تجلت على شفتيه ابتسامة ساخرة‪ " :‬و هي‬
‫الن واثقة من إطلق سراحها و صيانة شرفها كما وعدتها"‪.‬‬
‫فهز القائد رأسه ساخرا و قد التمعت عيناه الجاحظة ببريق غريب و‬
‫قال‪ " :‬دعها تعلل نفسها بالمال الواهمة فهي صبية فاتنة‪ ،‬و ستكون‬
‫لي قبل كل شيء‪ ،‬أما زوجها فل بد من اغتياله الليلة و سحقه وسط‬
‫مكمنه"‪.‬‬
‫ثم التفت الى جنده و هم مازالوا يشربون و يمرحون‪ ،‬و صاح بهم‬
‫يبلغهم المهمة التي سيسيرون إليها‪ -‬فأقبلوا عليه و التفوا من حوله‬
‫يستمعون ألوامره و بينهم فتى أشقر مديد أزرق العينين يبدو كأنه‬
‫أكثرهم اشتياقا لسماع ما سيقوله القائد‪ ،‬قال‪ " :‬كم من معارك دامية‬
‫نشبت بيننا و بين العدو‪ ،‬كان أكثرها عند أرض تلك البقعة من رأس‬
‫)وادي روشيما( أريقت لها دماء اليهود مدرارا‪ ،‬و كانت الغلبة فيها دوما‬
‫للعرب كلما حاولنا الهجوم و النزول الى أحيائهم و تمزيق أهلهم و‬
‫طردهم‪ ،‬ما أكثر ما لحقنا بسبب ذلك من خسائر في الرجال و العتاد‬
‫اغتنمها منا أولئك األعداء بعد كل هزيمة‪ ،‬و اليوم قد اكتشفنا أن‬
‫مكامن معدة عند رأس الوادي يقودها رجل جريء‪ ،‬و إذا كنا قد دحرنا‬
‫أكثر من مرة‪ ،‬و لحقنا الفشل في كل هجوم أعددناه هناك‪ ،‬فقد دبرت‬
‫لكم اليوم خطة تضمن لنا النجاح دون أن يسفك بها قطرة من‬
‫دمائكم‪ ،‬خطة مبنية على مكيدة تمكنكم من الفتك بذلك الخصم دون‬
‫عناء"‪.‬‬
‫و صمت لحظة مطرقا ببصره‪ ،‬و أوداجه تهتز غضبا‪ ،‬ثم رفع بصره من‬
‫إطراقه و استطرد‪ " :‬ستسيرون الن برفقة شمعون )و أشار الى‬
‫حامد( حتى إذا ما أصبحتم على مقربة من رأس )وادي روشيما(‬
‫تربصتم صامتين و في شبه حلقة مفتوحة عند ثغر الوادي‪ ،‬أما شمعون‬
‫فسيتقدمكم ليستدرج قائد العرب ناحيتكم بنفس المكيدة التي حمل‬
‫بها زوجه على المسير إلينا‪ ،‬و هنا ل تمهلوه و أطبقوا عليه و انقضوا‬
‫عليه انقضاض الصاعقة و قطعوه إربا إربا و خضبوا سلحكم بدمه"‪.‬‬
‫فلما سمعوا كلمه تعالت من بينهم صيحات هتاف و تصفيق و جعلوا‬
‫يتأهبون للمسير‪ ،‬فحياهم و هو يقول‪ " :‬ستجدوني عند رجوعكم في‬
‫حجرة األسيرة الجميلة"‪.‬‬
‫فأدركوا مرماه و ازدادوا حماسة و نشوة و غادروه بين هتاف و صفير‪،‬‬
‫و التفت شمعون الى القائد قبل أن يسير في ركاب الجند و قال‬
‫مغتبطا‪ " :‬اطمئن أيها الصديق‪ ،‬فما من شك في النتصار على ذلك‬
‫الخصم العنيد‪ ،‬و سننفذ الخطة كما شرحتها لنا و آتيك الليلة بقطرات‬
‫من دمه"‪.‬‬
‫تحول القائد اليهودي و مشى الى حيث الحجرة التي بداخلها سلمى‪ ،‬و‬
‫ما لبث أن أدار مفتاحه ببابها ففتح بسهولة‪ .‬و ما إن شاهدته سلمى‬
‫داخل عليها حتى طاش صوابها‪ ،‬و صرخت مستنجدة و هي ترى ذلك‬
‫العملق اليهودي يدنو بخطاه منها‪ ،‬و قد تقلصت عضلت وجهه و قال‬
‫بهدوء و هو يقف أمامها‪ " :‬ما من استغاثة تجديك نفعا يا أسيرتي‬
‫الجميلة"‪.‬‬
‫فتراجعت الى الوراء و هي شبه مجنونة و صرخت قائلة‪ " :‬لقد‬
‫خدعني ذلك النذل للمرة الثانية‪ ،‬مقسما بدينه و توراته و أهله‪..‬أل لعنة‬
‫الله على من ل شرف له و ل دين يدين به‪ ،‬و ل رب يخشى مهابته"‪.‬‬
‫و همت به فبصقت على وجهه و هي تراه يدنو منها عسى أن تثير‬
‫بذلك غضبه فيعالجها برصاصة من فوهة مسدسه ترديها قتيلة‪ ،‬و لكن‬
‫البصق لم يفعل شيئا في نفسه مما ظنت‪ ،‬و جعل يخطو ناحيتها‬
‫بخطى ثابتة وئيدة‪ ،‬و إذا بباب الحجرة يفتح في تلك اللحظة و يدخل‬
‫منه فتى أشقر فارع العود‪ ،‬كانت سلمى قد رأته بين جند اليهود ‪ ،‬و‬
‫رفع مدية في يمناه و هم بالرجل الخر فانقض عليه انقضاض النمر‬
‫الجائع مغمدا سكينه في عنقه‪ ،‬فخر اليهودي العملق يتخبط في دمه و‬
‫يتلوى من شدة األلم‪ ،‬فعاد الفتى و طعنه أخرى في جبينه و راح يعمل‬
‫فيه المدية حتى مزق صدره‪ ،‬و لم يتركه إل بعد أن رآه جثة هامدة‪.‬‬
‫و سلمى مازالت في وقفتها جامدة ل تنبس‪ ،‬تنقل البصر بين الرجلين‪،‬‬
‫بعينين ذاهلتين‪ ،‬و دارت بها األرض‪ ،‬ثم عادت فصحت من ذهولها على‬
‫صوت الفتى و هو يلتفت إليها قائل بلسان عربي فصيح و حبات العرق‬
‫تكلل جبهته‪ " :‬هيا بنا نسرع بالخروج من هذا المكان"‪.‬‬
‫قالت و هي تحملق به و ل تطرف‪ " :‬الى أين؟‪..‬و من أنت؟"‪.‬‬
‫قال يسكن روعها‪ " :‬ل تخافي يا أختاه‪ ،‬و يمكنك الطمئنان الن فأنا‬
‫من المجاهدين العرب‪ ،‬و هيا ألعود بك الى بيتك قبل أن يداهمنا احد‬
‫من أولئك األنذال"‪.‬‬
‫فلبثت تحملق فيه و هي ترتجف‪ ،‬و ركبتاها تصطكان‪ ،‬عاد الفتى يقول‪:‬‬
‫" هيا بنا نعجل بالخروج يا أختاه‪ ،‬فما بالك ل تتحركين‪ ،‬أل تثقين بي؟ "‪.‬‬
‫غمغمت و هي مازالت على جمودها‪ " :‬لم تعد لي ثقة بأحد‪ ،‬و قد‬
‫رأيتك منذ لحظة بين جند اليهود تتعاطون الخمر‪ ،‬و تقرعون‬
‫الكؤوس"‪.‬‬
‫كانت تتكلم و أسنانها تصطك و الشحوب يكسو وجهها فأخذته الشفقة‬
‫بها و قال‪ " :‬ل ألومك لو ساورك ريب من أمري‪..‬إنني عربي مكلف‬
‫أن أتجسس على العدو‪ ،‬و قد اختارني لهذه المهمة قائدنا وليد‪ ،‬فهل‬
‫عجلت معي بالخروج من هنا ألوصلك الى بيتك و أطير بعد ذلك الى‬
‫األخ وليد و أنبهه الى المكيدة التي دبرها اليهود للغدر به؟"‪.‬‬
‫فما إن سمعت كلمه‪ ،‬و ذكر زوجها على لسانه‪ ،‬حتى نسيت نفسها و‬
‫هممت به ضارعة و الدمع يترقرق في مآقيها‪ " :‬إمض إليه أيها‬
‫األخ‪..‬امض إليه في الحال و قص عليه األمر و حذره مكيدتهم‪ ،‬أسرع‬
‫أخي أستحلفك بالله و ل تبطئ"‪.‬‬
‫لمع الدمع في عين الفتى و هو يشهد يأسها و انهمار دمعها و قال‪ " :‬و‬
‫لكن ل استطيع أن أمضي و أخلفك ههنا يا أختاه بين براثن أولئك‬
‫األنذال"‬
‫فالتفتت من حولها و ضربت جبهتها و هي تجهش و تقول‪ " :‬كدت‬
‫أنسى أين أنا‪.‬و آه لي ما أتعسني و أسوأ حظي‪ ،‬إن ضميري لن يغفر‬
‫لي قط كلما تصورت أني غدرت بزوجي"‪.‬‬
‫قال الفتى يهدئ من حدة روعها‪ " :‬ما أنت بغادرة يا أختاه و لكنها‬
‫مشيئة أرغمك عليها ذلك النذل المحتال الذي تظاهر بأنه منا‪ ،‬و الله‬
‫ألقطعنه إربا متى عثرت عليه ألجعلن جلده طعاما للكلب الجائعة‪،‬‬
‫فهيا بنا نسير على بركة الله"‪.‬‬
‫فمشت معه و هي ترتجف‪ ،‬و دمعها يسيل فوق خديها في صمت و‬
‫سكون‪ ،‬حتى إذا أوشكا على الخروج من القلعة شاهدت رجال‬
‫الحرس يقفون ببابها و كلهم مدججون بالسلح‪،‬فأجفلت قليل لمرآهم و‬
‫أدرك رفيقها ما خالجها من شعور فالتفت إليها هامسا‪ " :‬ل تخافي‬
‫هؤلء الكلب إنهم يحسبونني واحدا منهم"‪.‬‬
‫قالت في همس‪ " :‬و أنا؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬دعي األمر لي لو بادر أحدهم بالسؤال بشأنك و لكن رجائي أن‬
‫تكفي عن إرسال دمعك كي ل يتشككوا في أمرنا"‪.‬‬
‫همست‪ " :‬لم أستطع ضبط عنان دمعي"‪.‬‬
‫قال و هو يخرج من جيبه نظارة قاتمة‪ " :‬إليك بهذه النظارة‪ ،‬فثبتيها‬
‫فوق عينيك و احذري ألننا سنستقل سيارة القائد المقتول"‪.‬‬
‫هزت رأسها في استجابة‪ ،‬و سارت بجانبه الى أن ولجا باب القلعة‪،‬‬
‫فلمحهما الحرس و هما يهمان بركوب السيارة‪ ،‬و التقت عين الفتى‬
‫نظراتهم‪ ،‬و قرأ في عيونهم استغرابا و دهشة من أمر رفيقته‪ ،‬فتجاهل‬
‫أمرهم و ابتدرهم بالتحية‪ ،‬ثم مضى يرسل صفيرا خافتا من بين شفتيه‬
‫متظاهرا بالمرح و السرور‪ ،‬فردوا عليه التحية بالمثل‪ ،‬و أقبل عليه‬
‫أحدهم يسأله وجهته مع الفتاة‪:‬‬
‫أجابه و هو يأخذ مكانه أمام عجلة القيادة بأنه مكلف من قبل القائد‬
‫بحملها إلى بيته‪.‬‬
‫قال ذلك و أدار مكيف السيارة‪ ،‬و جلست سلمى في المقعد الخلفي‪،‬‬
‫و من ثم انطلقت بهما السيارة تنهب األرض نهبا مخترقة أحشاء‬
‫الظلم الحالك و دوي القنابل و هدير المدافع تصم له الذان‪ ،‬و قطع‬
‫حبل الصمت بينهما صوت الشاب إذ قال‪ " :‬هل لي أن أسالك يا أختاه‬
‫كيف تمكن ذلك الوغد من حملك على المسير الى ذلك الحصن؟"‪.‬‬
‫قالت بصوت تخنقه الدموع‪ " :‬كان قد زعم لي أن المجاهدين العرب‬
‫قد احتلوا القلعة بقيادة زوجي‪ ،‬فدهشت لذلك و استغربت قوله في‬
‫بادئ األمر لعلمي أن القلعة واقعة في قلب )الهدار( و ليس لدى‬
‫العرب من مدافع تمكنهم من الوصول إليها كما سمعته‪ .‬و لما كانت‬
‫ثقتي بذلك المخادع هي ثقة البنة بأبيها لم يخالجني أدنى ريب في‬
‫قوله‪ ،‬و أضاف الى ذلك )أن زوجي أرسله في طلبي و هو ينشد‬
‫مقابلتي هناك عاجل ألمر هام(‪ ،‬و برهن لي على صدق أقواله إذ دفع‬
‫لي بمنديل أعرفه كنت قد أعطيته لزوجي يدا بيد"‪.‬‬
‫قالت ذلك و اختنق صوتها و أمسكت عن الكلم‪ ،‬ذهل الفتى و قال‪" :‬‬
‫و كيف وصل منديلك الى يد ذلك المحتال؟"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬كان هناك رسول يأتيني من طرف وليد بين يوم و آخر‬
‫يطمئنني عليه‪ ،‬و فجأة انقطعت أخباره عني ‪ ،‬فانتابني قلق شديد‬
‫شهده ذلك الكذاب و ل بد أن زوجي أحس ذلك‪ ،‬فقصد دكان ذلك‬
‫الرجل و كلفه حمل المنديل إلي علمة منه تعيد الطمأنينة الى نفسي‪،‬‬
‫فأخذه هذا و استخدمه في حبك مكيدته التي خدعني بها فأوقعني في‬
‫شراكه و قد سهوت عن المنديل فلبث في قبضته"‪.‬‬
‫كانت تتكلم و أطرافها ترتعد و دمعها ينساب من مآقيها دون عناء‪.‬‬
‫غمغم الفتى و هو يستمع لقولها‪ " :‬ليس من جزاء لذلك األفاق إل أن‬
‫يذبح ذبح الشاة"‪.‬‬
‫همست من بين دموعها‪ " :‬إنني مازلت أخشى غدره و ما أظنه عمد‬
‫الى استبقاء المنديل في حوزته إل لغرض يضمره في نفسه"‪.‬‬
‫قال الفتى و قد ثارت فيه حمية الرجال‪ " :‬خسئ النذل وقومه‪ ،‬و هل‬
‫يجرؤ بعد اليوم على عبور أحيائنا أو الوصول الى دكانه؟ إن في‬
‫فرارك خطرا يهدد حياته لعلمه أنك ستذيعين أمره بين الناس"‪.‬‬
‫فصمتت و لم تقل شيئا‪ ،‬و كانت السيارة قد اقتربت بهما من المنزل‬
‫الكبير فتوقفت عند بوابته الخارجية و إذ همت بمغادرة مكانها من‬
‫السيارة التفتت الى الفتى قائلة و عيناها تمطران الدمع‪ " :‬ليجزك الله‬
‫خيرا أيها األخ األمين"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬ما قمت به إنما هو واجب من الواجبات"‪.‬‬
‫قالت بصوت يرتعش‪ " :‬كيف يمكنني الوقوف على أمر زوجي و‬
‫الطمئنان عليه؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬هاأنذا ماض إليه في الحال أستطلع أمره حتى إذا ما رأيته بخير‬
‫و سلم‪ ،‬عدت إليك ببشراي"‪.‬‬
‫فخفق قلبها و قالت و هي تتعثر بقولها‪ " :‬سر إليه عاجل أيها األخ و‬
‫على بركة الله و عونه"‪.‬‬
‫ثم دفعت بوابة الحديقة و كان الظلم متراكما هناك و السكون سائدا‬
‫و أهل الدار مازالوا نياما كما تركتهم‪ ،‬فأجفلت قليل و هي تهم‬
‫بالدخول و كانت ما تزال مضطربة لهول ما صادفها في ليلتها هذه‪ ،‬ثم‬
‫ما لبثت أن دلفت تشق طريقها من بين األشجار و هي تسرع الخطى‬
‫و تتعثر بذيلها كما لو كانت هناك أشباح من الجن تطاردها‪.‬‬
‫و الفتى مازال واقفا بسيارته عند بوابة القصر الى أن تحقق من‬
‫دخولها‪ ،‬ثم أدار محرك السيارة و انطلق بها كالسهم آخذا وجهته الى‬
‫)وادي روشيما( حيث مكمن بطل قصتنا‪ ،‬عسى أن يدركه قبل وصول‬
‫األعداء إليه‪ ،‬و بينما هو كذلك إذ لمح شبحا لرجل مسن يسير الهوينا‬
‫وسط الظلم و كثيرا ما يشبه بشكله هيئة حامد المزعوم‪.‬‬
‫فأوقف السيارة و صاح مناديا به‪" :‬حامد"‪.‬‬
‫فارتعد هذا و قال‪ " :‬نعم فمن تكون؟"‪.‬‬
‫قال‪" :‬قف عندك"‪.‬‬
‫ثم قفز من باب السيارة و ركض مسرعا اله حتى تقابل‪ ،‬فخاطبه‬
‫ممسكا بتلبيبه‪ " :‬ما الذي جاء بك الى هنا؟"‪.‬‬
‫فتفرس هذا في وجه الشاب و هو آخذ بتلبيبه‪ ،‬و ما كادت تنكشف له‬
‫ملمحه و يراه يعنفه بلسان عربي فصيح حتى تدهورت أنفاسه و أدرك‬
‫أن هذا الذي كان يظنه يهوديا من ملته و قومه‪ ،‬ليس إل عربيا‪ ،‬و‬
‫عرف أن أمره قد انفضح‪ ،‬فجمد دمه في عروقه و ألجم الخوف لسانه‬
‫و تعلقت أنفاسه في حلقه حتى لم يعد يحسن النطق أو يقوى على‬
‫الكلم لشدة وجله و اضطرابه‪ ،‬فعاد الفتى و أمسك بتلبيبه و قال و‬
‫هو يكاد يقتلعه من مكانه‪" :‬ما بالك ل تنبس‪ ،‬فتقول فيم وجودك هنا‬
‫أيها الكلب الدنس؟"‪.‬‬
‫فازدرد ريقه و هو يرتعد بشدة‪ ،‬فما لبث أن صاح به الفتى مزمجرا‪" :‬‬
‫قل غرضك الذي جئت من أجله و ل ترقص هكذا تحت قبضتي و إل‬
‫بقرت بطنك"‪.‬‬
‫ففتح فمه محاول النطق و هو مازال يرتعد و أطرافه تهتز بعنف و قال‬
‫و هو يصوب إليه نظرة واجفة‪ " :‬ما أنا براقص بل هما ركبتاي‬
‫ترتعشان"‪.‬‬
‫أجابه و هو يستل سكينة من منطقته‪ " :‬و فيم الرتعاش؟‪..‬ألكونك‬
‫ستنال جزاءك من حد سكيني هذا؟‪..‬أم انك صدقت أنني نذل منكم‬
‫فأغفر لك خيانتك و غدرك؟"‪.‬‬
‫قال مستجديا و هو يهم بالركوع تحت قدميه‪ " :‬ارحم شيخوختي‪ ،‬فإني‬
‫رجل طاعن في السن و ل أستحق القتل"‪.‬‬
‫فهم به و اقتلعه من ركوعه فأوقفه ثانية و هو يقول غاضبا‪ " :‬و هل‬
‫عرفت الرحمة مع الفتاة التي خدعتها منذ ساعة"‪.‬‬
‫فصعد به نظره مسترحما و هو يرى سكينه تلمع أمام بصره مادا إليه‬
‫يديه ضارعا دون أن يقوى على الكلم‪ ،‬فضرب الفتى على يديه قائل‬
‫بحدة‪ " :‬قل و عجل في القول‪ ،‬ماذا كان من أمر الشاب معكم الذي‬
‫ذهبتم لغتياله أيها األنذال؟‪...‬و ما هو غرضك إذ أراك تتسكع هنا؟"‪.‬‬
‫فلبث على صمته يرتعد‪ ،‬أو لعله كان يبحث عن الجواب فل يجده‪ ،‬و‬
‫هنا دوى في تلك اللحظة انفجار هائل أنار لهيبه المدينة حتى أحالها‬
‫كقطعة من النهار‪ ،‬و لمح الشاب في أثناء ذلك ثياب حامد مخضبة ببقع‬
‫حمراء من الدماء‪ .‬فأسقط في يده و انقض عليه و قد طاش صوابه‬
‫لمشهد الدماء التي تلوث رداءه و حملق فيه و هو يصرخ كالمصعوق‪:‬‬
‫" قتلتموه‪..‬قتلتموه غدرا و غيلة؟‪...‬نفذتم مكيدتكم به فأرقتم دمه‬
‫النبيل؟"‪.‬‬
‫فركع هذا تحت قدمي الفتى و هو يردد‪ " :‬الرحمة الرحمة"‪.‬‬
‫أجابه و هو يرفع يمناه بسكينه و يهوى بها فوق رأسه‪" :‬أتيتك الرحمة‬
‫فإليك بها من حد هذه المدية"‪.‬‬
‫فجأر الثاني على أثر الضربة التي تلقتها جمجمته و سقط يتلوى و‬
‫يخفق في دمه كالثور الذبيح‪ ،‬فصاح به الفتى بصوت كقصف الرعد‪" :‬‬
‫انهض فل أريد موتك عاجل و والله ألذيقنك مر العذاب و أمزقنك شر‬
‫ممزق آخذا بثأر ذلك الرفيق الذي تمكنتم من اغتياله بفضل مكيدتك‬
‫التي نصبتها له و لزوجته حتى أرغمتها على إفشاء أمره‪ ،‬انهض أيها‬
‫األفاق و خذ من حد سكيني الجزاء‪ ،‬لقد أفقدتنا رجل من خيرة‬
‫الرجال"‪.‬‬
‫كان يتكلم و األلفاظ تتسارع الى شفتيه و أعضاؤه تنتفض غضبا و‬
‫عيناه تومضان تحت سبل الظلم حتى تكادا ترسلن شررا‪ ،‬و سكينه‬
‫مشهر في يمناه يلمع ناصعا و قطرات من الدماء عالقة عند حدها‪ ،‬و‬
‫غريمه يتلوى تحت قدميه‪ ،‬فهم به و انقض عليه ثانية و طعنه بين‬
‫عينيه ثم عنقه و صدره‪ ،‬و مازال يعمل فيه المدية حتى مزق لحمه‪.‬‬
‫و قد ألهاه أمره عن شأن نفسه‪ ،‬فلم يلق بال للخطر الذي يتهدده و‬
‫هو يقف في العراء عند سفح الجبل معرضا للطلقات النارية و شظايا‬
‫القذائف التي أخذت تخترق الفضاء فتمر مرور الشهام متطايرة من‬
‫فوق رأسه‪ ،‬و ما لبث أن تحول بخطاه عن القتيل رافعا بصره الى‬
‫السماء بعينين تكادان تدمعان و هو يقول‪ " :‬ليرحم الله شهداءنا"‪.‬‬
‫ثم أطرق برهة خاشعا يتلو فاتحة الكتاب ألرواح إخوانه الشهداء‪ ،‬و ما‬
‫إن أتى على آخر كلمة من السورة الكريمة‪ ،‬حتى أحس بشيء‬
‫كالسهم الحديدي يغوص في صدره‪ ،‬فتخاذل في وقفته و رفع يده الى‬
‫صدره يتحسسه فاصدمت أنامله بما يشبه المدية بين لحمه‪ ،‬فانتزعها‬
‫من موضعها فبان معدنها يلمع لناظره و دمه يقطر من أطرافها‪.‬‬
‫أدرك بذلك أنه أصيب بشظية قنبلة و تقاطرت الدماء تنزف من‬
‫صدره‪ ،‬فسد جرحه براحة يده و جر قدميه مستجمعا قواه عسى أن‬
‫يمكنه المسير الى أول طبيب يصادفه فيعمل على إسعافه‪ ،‬و لكنه ما‬
‫كاد يخطو بضع خطوات حتى شعر بضيق صدره و ثقل أنفاسه فتحامل‬
‫جهده ليتابع سيره‪ ،‬فاشتد عليه الحال حتى أعياه عن المسير‪ ،‬فتلمس‬
‫أصل شجرة ظليلة على مقربة منه جلس إليها مستندا بظهره الى‬
‫جذعها‪ ،‬و لمح أثناء ذلك أشباح رجال يسيرون على بعد أمتار منه على‬
‫رؤوسهم خوذ حديدية و يحملون على أيديهم مدافع رشاشة‪ ،‬و جعلوا‬
‫يتلفتون يمنة و يسرة بحذر شديد‪ ،‬فأدرك من ملبسهم و هيأتهم أنهم‬
‫يهود يبتغون التسلل الى األحياء العربية‪،‬‬
‫فمد يده و أخرج مسدسه من جرابه المثبت حول وسطه و صوب‬
‫فوهته ناحيتهم‪ ،‬و يده األخرى مازالت مثبتة فوق جرحه و لم يلبث أن‬
‫ضغط زناد مسدسه فتطاير رصاصه يئز من حولهم فذعروا و فروا و‬
‫جعلوا يطلقون رشاش مدافعهم على غير هدى‪.‬‬
‫فتبسم لمشهدهم و هم يفرون فرار القطيع‪ ،‬و مازال يطلق الرصاص‬
‫كي يرهبهم حتى تخاذلت أنامله الممسكة بالمسدس فسقط من يده‬
‫و ثقل جفناه فأسبلهما و قد لبست وجه الفتى مسحة ناصعة و مرت‬
‫بشفتيه ابتسامة شاحبة أسلم معها الروح‪.‬‬
‫عادت سلمى الى بيتها‪ ،‬فاندفعت الى فراش طفلها تتفقده بلهفة‪ ،‬و‬
‫كان ل يزال يغط في نومه كما تركته‪ ،‬فأكبت عليه و أخذته بين‬
‫ذراعيها تقبله و تضمه الى صدرها و هي تحس بوحشة و جزع ل عهد‬
‫لها بمثلهما من قبل‪.‬‬

‫و تململ صغيرها برأسه على إثر قبلتها‪ ،‬و ما لبث أن فتح عينيه ليجد‬
‫أمه تضمه إليها‪ ،‬و تبلل وجهه الصغير بدموعها‪ ،‬فلف ذراعه الصغيرة‬
‫حول عنقها‪ ،‬و ألقى وجهه فوق صدرها‪ ،‬و لم تلبث أن سمعته يقول‪" :‬‬
‫أين أبي يا أماه؟"‪.‬‬

‫فزعت سلمى لسؤال طفلها‪ ،‬لما هي عليه من الهواجس و األفكار‪ ،‬و‬


‫أجابته مضطربة‪ " :‬ما بالك تباغتني بسؤالك هذا يا بني الحبيب؟ و أنت‬
‫إنما تعلم أن عزيزنا أباك ذهب لقتال العدو و دحره‪ ،‬و ل يلبث أن يعود‬
‫إلينا في خير حال‪ ،‬فتلقاه كعادتك فرحا برؤيته"‪.‬‬

‫فدفن وجهه في نحرها و رأته يغط في نومه من جديد‪ ،‬فعادت و‬


‫أودعته فراشه و لبثت صابرة تنتظر أوبة الفتى الذي مضى لستطلع‬
‫أمر زوجها بعد أن عمل على إنقاذها من براثن العدو‪ ،‬مؤملة أن يأتيها‬
‫بخبر مفرح يزيل عنها هواجسها و يسكن من حدة روعها‪ ،‬و طال بها‬
‫النتظار‪ ،‬و هجرها النوم في تلك الليلة الليلء‪ ،‬فجعلت تطل من‬
‫النافذة تارة و تصيخ السمح طورا‪ ،‬بأفكار تائهة و عينين محمرتين‬
‫عسى أن ترى رسول قادما إليها من طرف زوجها‪ ،‬أو مناديا ببشراه‬
‫عليها‪ ،‬إل أن شيئا من هذا لم يحدث‪ ،‬فلم تر هناك إل الظلم الدامس‬
‫تخترقه الطلقات و القذائف النارية‪ ،‬فيتردد صدى هديرها في أجواء‬
‫المدينة و هي تنقض انقضاض الصاعقة على األحياء العربية عندما أخذ‬
‫اليهود يمطرون خصومهم بها من أعلى قمة الجبل الشامخ‪.‬‬

‫فضاق صدرها لذلك‪ ،‬و جثت راكعة مستجدية‪ ،‬تتضرع الى ربها و يداها‬
‫مرفوعتان الى خالقها تطلب رحمته تعالى بها‪ ،‬و إنها لكذلك إذ بها‬
‫تسمع قرعا خفيفا على باب حجرتها‪ ،‬فذعرت له لفرط اضطرابها‪ ،‬و‬
‫هتفت و هي ترتجف في ركوعها‪ " :‬من هذا؟"‪.‬‬

‫أجابها صوت فتاة تقول‪ " :‬أنا يا سيدتي"‪.‬‬

‫فأدركت أنها الخادم و أجابتها قائلة‪ " :‬سميحة؟"‪.‬‬

‫قالت الصبية‪ " :‬نعم يا سيدتي"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ادخلي"‪.‬‬


‫و لما دخلت الفتاة مخدع سيدتها و كانت في مثل سنها لقيتها سلمى‬
‫متسائلة‪ " :‬ما وراءك حتى أتيتني في مثل هذه الساعة المتأخرة من‬
‫الليل؟"‪.‬‬

‫كانت سلمى تتكلم و هي تنتزع الكلمات من بين شفتيها انتزاعا و‬


‫العياء الشديد باد عليها‪ ،‬و قالت الصبية و هي تأخذ بيد سيدتها بين‬
‫كفيها و الدموع تتناثر من بين أهدابها‪ " :‬قد أتيت لوداعك و قد أسافر‬
‫الساعة قبل بزوغ الفجر برفقة أمي التي جاءت منذ األمس لتصحبني‬
‫إلى قريتنا بسبب اضطراب الحال في بلدنا"‪.‬‬

‫ردت سلمى بصوت خافت و نفس ذاهلة‪ " :‬أستودعك الله يا صديقتي‬
‫الوفية"‪.‬‬

‫قالت الفتاة و قد كانت مخلصة الود لسيدتها‪ " :‬كذلك قد أتيتك أنبئك‬
‫أمرا"‪.‬‬

‫هتفت سلمى بلهفة‪ " :‬قولي و عجلي في القول يا سميحة"‪.‬‬

‫قالت الفتاة همسا‪ " :‬لقد أتى العم حامد منذ ساعة طارقا باب القصر‬
‫بعنف‪ ،‬فاندفعت استطلع الخبر و إذا به يناولني لفافة قائل بأعلى‬
‫صوته‪ " :‬إليك بهذه اللفافة يا بنية‪ ،‬فسلميها لسيدتك و خبريها أن هذا‬
‫كل ما عرفته عن ولدها المجاهد"‪.‬‬

‫فاستغربت األمر و سألته عنك و كنت قد شاهدتك سائرة برفقته و لم‬


‫تعودي بعد‪ ،‬فأنكر ذلك و تلعثم بالرد‪ ،‬فداخلني ريب من أمره و وطنت‬
‫النفس أل أسلم تلك اللفافة التي جاء بها إل ليدك‪ ،‬و لكن لسوء الحظ‬
‫كانت سيدتي ظريفة قد استيقظت على صياح حامد و نادتني متسائلة‪:‬‬
‫فسبقني هذا بالجواب إليها قائل‪ " :‬هناك لفافة من قبل ولدك تحملها‬
‫إليك هذه الفتاة"‪.‬‬

‫فاستقدمتني إليها و صاحت بي غاضبة‪ " :‬أين سيدتك؟" )تقصدك‬


‫أنت(‪ .‬قلت‪ " :‬نائمة"‪ .‬قالت بحدة‪ " :‬أما كان األجدر بها أن تسهر‬
‫مترقبة رسل زوجها و رسائله بدل من هذا الزعاج الذي ل ينقطع عنا‬
‫ليل و ل نهارا؟"‪..‬ثم ما لبث أن أخذت اللفافة من يدي و قذفت بها‬
‫مغضبة فوق أرض مخدعها و انكفأت راجعة الى فراشها دون أن‬
‫تفضها أو تعيرها اهتماما‪ ،‬و تحولت عائدة الى حجرتي و لبثت قلقة‬
‫مسهدة أترقب عودتك‪ ،‬و لم أشأ أن أذيع ذلك بين أهل الدار لعلمي‬
‫أنك ل بد قد ذهبت لستطلع أمر سيدي ‪ ،‬و مازلت هكذا حتى سمعت‬
‫وقع أقدامك بالقرب من باب حجرتي فجئت أبلغك األمر"‪.‬‬

‫قالت سلمى و قلبها يكاد يقف عن دقاته‪ " :‬نعم‪ ،‬كنت قد ذهبت‬
‫لستطلع أمر زوجي‪ ،‬و لكن ألم تسألي ذلك الرجل عما تحويه تلك‬
‫اللفافة التي أتى بها؟"‪.‬‬

‫قالت الفتاة‪ " :‬لم ينتظر لحظة أو يزيد على ذلك كلمة‪ ،‬بل سلمني‬
‫إياها و مضى يسرع الخطى و يتعثر بأذياله"‪.‬‬

‫قالت سلمى و قد اضطربت أنفاسها حتى كادت تنقطع عن مجراها‪" :‬‬


‫هل وصفت لي شكل تلك اللفافة؟"‪.‬‬

‫قالت الفتاة‪ " :‬لفافة من الورق صغيرة و رطبة لدنة‪ ،‬خيل إلي و أنا‬
‫ألمسها كأنها تحمل خرقة مبتلة"‪.‬‬

‫رددت سلمى بذهول‪ " :‬خرقة‪..‬خرقة مبتلة‪....‬رباه ما معنى هذا؟"‪.‬‬

‫قالت الفتاة بسذاجتها‪ " :‬نعم ل أظنها غير ذلك‪ ،‬فطيبي نفسا و ل‬
‫تقلقي أبدا"‪.‬‬
‫و استطردت تقول و هي تقبل رأس سيدتها التي لبثت شاردة‬
‫مذهولة‪ " :‬استودعك الله"‪.‬‬

‫ثم مضت الى حيث أمها تنتظرها‪ ،‬فسارت معها تتسللن طريقهما‬
‫فوق دابة تقلهما الى قريتهما في أثناء الليل لئل يكتشف أمرهما العدو‪.‬‬

‫لبثت سلمى ساهمة شاردة تفكر في أمر تلك اللفافة التي جاء بها‬
‫الرجل الغادر و ما عسى أن تكون‪ ،‬و قد سمعت الفتاة تشبهها‬
‫بالخرقة المبتلة‪ ،‬فلمع في ذهنها فجأة كوميض البرق )منديلها( الذي‬
‫استبقاه حامد في حوزته‪ ،‬فاندفعت كالسهم الى حجرة ظريفة و‬
‫جعلت تطرق باباها بكلتا يديها و أطرافها ترتعد بشدة لفرط فزعها و‬
‫بلبالها‪ ،‬فتساءلت ظريفة حانقة متأنفة و هي تنهض من فراشها‪ " :‬من‬
‫الطارق؟"‪.‬‬

‫أجابتها لهثة مضطربة‪ " :‬أنا سلمى"‪.‬‬

‫فنهضت ظريفة و نهضت بنهوضها ابنتها التي كانت في ضيافتها و‬


‫تقدمت األولى و فتحت باب مخدعها و رأت سلمى تقف بعتبته محلولة‬
‫الشعر عارية القدم مضطربة األنفاس فتفرست فيها لحظة ما لبثت‬
‫بعدها أن قالت‪ " :‬ما وراءك يا بنية؟"‪.‬‬

‫قالت بأنفاس متقطعة‪ " :‬أين تلك اللفافة التي جاء بها ذلك النذل؟"‪.‬‬

‫و عادت ظريفة و تفرست فيها و قد أذهلها أمرها و هي تشتم الرجل‬


‫الذي طالما عهدتها تجله و تحترمه‪ ،‬و أجابتها قائلة‪ " :‬هل جننت أم‬
‫ماذا؟"‪.‬‬

‫قالت مضطربة‪ " :‬بل أين تلك اللفافة يا سيدتي؟ إلي بها ألستطلع ما‬
‫بداخلها"‪.‬‬

‫فرمقتها بنظرة قاسية و قالت بغلظة‪ " :‬اصغي إلي يا بنية‪ ،‬فأنت اليوم‬
‫مسؤولة عن أمر زوجك‪ ،‬و عليك وحدك مجابهة هذا الزعاج‪ ،‬إني اليوم‬
‫امرأة ل تساعدني أعصابي على احتمال هذا القلق المستمر ليل و‬
‫نهارا‪ ،‬فدعينا لحالنا و امضي أنت الى دار أمك و ليلبث زوجك في‬
‫القتال إلى حيث شاء‪ ،‬و ل أظنني ملومة بعد اليوم لو دعوت ابنتي و‬
‫زوجها للقامة معي في منزلنا هذا"‪.‬‬

‫ردت سلمى و قد اتسعت حدقتاها هلعا‪ " :‬أ أمضي ألقيم منفردة في‬
‫بيتي في مثل هذه الحال المضطربة؟"‪.‬‬

‫أجابتها‪ " :‬و أي ضير في ذلك و زوجك يغضبه أن تقيمي هنا و صهره‬
‫مقيم بيننا‪ ،‬أم ترين أن بقاءك بجانبي أحق و أجدر من ابنتي؟"‪.‬‬

‫ذهلت و لم تجد ما تقوله‪ ،‬و تدخلت هدى التي رقص قلبها فرحا عند‬
‫سماعها قول أمها و قالت باستهزاء‪ " :‬بل هي تعودت حياة القصور يا‬
‫أماه فلم تعد تتمكن من العيش و القامة في بيت صغير كبيت أبيها‬
‫ذاك"‪.‬‬

‫التفتت إليها سلمى و هي مازالت على ذهولها و أجابتها قائلة‪ " :‬لو‬
‫صدقت القول لوجدت نفسك غير محقة في امتلك هذا القصر"‪.‬‬

‫قالت في تهكم أكثر‪ " :‬ترى هل كان هذا القصر ملكا ألبيك؟"‪.‬‬

‫قالت لهثة لشدة انفعالها‪ " :‬ليس هذا وقت الجدال‪ ،‬فأين تلك اللفافة‬
‫التي جاء بها الرجل؟"‪.‬‬

‫أدركت هدى بدهائها مدى اضطراب سلمى و خوفها من تلك الساعة‪،‬‬


‫و لما كانت تكن لها كثيرا من الحقد و الكراهية‪ ،‬أرادت أن تستغل‬
‫الموقف‪ ،‬لتنال مرادها في القامة مع زوجها في قصر أمها‪ ،‬و لتشفي‬
‫غليل حقدها من هذه التي تعتبرها مزاحمتها‪ ،‬فما لبثت أن قالت لها‬
‫بصرامة‪ " :‬ما بالك تماطلين و ل تسمعين‪ ،‬و قد طلبت إليك أمي‬
‫مغادرة قصرها و السير إلى بيت أهلك لتقيمي هناك في انتظار زوجك‬
‫و لتضمن هي راحتها بالبعد عن ضجيجك و صخب ولدك؟"‪.‬‬

‫بهتت و قالت جازعة‪ " :‬أبلغ من قسوتك أن تطالبيني بالجلء عن بيتك‬


‫في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل؟"‪.‬‬

‫قالت باستخفاف‪ " :‬و ماذا في ذلك؟"‪.‬‬

‫التفتت سلمى إلى األم التي كانت ترقب الموقف بعين السخط و‬
‫قالت لها‪ " :‬تكلمي يا سيدتي و افصلي بيننا"‪.‬‬

‫رمقتها بعينين قاسيتين و قالت بخشونة‪ " :‬إني أراك جازعة مضطربة‪.‬‬
‫فإذا كان ذلك مبعثه أنك اشتممت رائحة سوء لحقت بولدي‪ ،‬فاعلمي‬
‫منذ اللحظة أن بيتي ل يتسع لثلث أرامل و ل بد لك أن تمضي إلى‬
‫بيتك في التو و الحال"‪.‬‬

‫قالت مستعطفة‪ " :‬ليس بيتي بالحصين كهذا البيت‪ ،‬و هو معرض‬
‫للقذائف و الطلقات‪ ،‬و إني ألخشى على طفلي من غارة العدو و‬
‫غدره"‪.‬‬

‫و أفاق خالد الطفل على زمجرة جدته و رأته أمه مقبل عليها فأحاطته‬
‫بذراعيها و همت به جدته قائلة‪" :‬دع أمك تذهب لدارها و ابق أنت‬
‫هنا"‪.‬‬

‫فذعر الطفل و أمه و تشبث كلهما بالخر‪ ،‬و قال خالد لجدته و‬
‫ساعداه الصغيران ملتفان حول عنق أمه‪ " :‬لن أدع أمي تذهب وحدها‬
‫و لن أمكث هنا بدونها"‪.‬‬

‫أجابته جدته غاضبة‪ " :‬حسنا فامض معها كما تشاء و لن تمكث أمك‬
‫هنا بعد اليوم قط"‪.‬‬

‫فتحولت أمه إليه و راحت تلبسه ثيابا ثقيلة فوق ملبس نومه و تدثره‬
‫بدثار سميك وقاية له من هواء الليل البارد‪ ،‬ثم حملته و هي ترتجف‪ ،‬و‬
‫إذ همت بالمسير تولها جزع عظيم‪ ،‬و تمثل لها في تلك اللحظة‬
‫شخص شمعون في انقلب سحنته يتوعدها مهددا‪ ،‬فأجفلت و أمسكت‬
‫خطاها و شاعت عيناها إلى حجرة النسانة الطيبة سعاد كمن تنشد بها‬
‫من وحشة الليل و جبروت هؤلء القوم‪ ،‬فعاجلتها هدى التي كانت‬
‫ترقب انصرافها و تتعجله قائلة‪ " :‬ل داعي لزعاج العليلة‪ ،‬هيا امضي‬
‫بصمت و سكون"‪.‬‬

‫نظرت إليها نظرة تقطر دما ثم حنت رأسها و مشت و طفلها محمول‬
‫فوق ذراعيها‪ ،‬و التفتت هدى ألمها هامسة في أذنيها‪ " :‬أين تلك‬
‫اللفافة لتأخذها معها كيل نكون مسؤولتين عنها‪ ،‬إذ ربما تحمل لها‬
‫رسالة من زوجها؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬هي ملقاة مكانها فوق أرض الحجرة"‪.‬‬

‫فتحولت مسرعة إلى مخدع أمها و التقطت اللفافة من على أرضه و‬


‫كرت راجعة بها وراء سلمى و هتفت تستوقفها قائلة‪ " :‬ها هي اللفافة‬
‫التي أقلقتنا من أجلها فإليك بها"‪.‬‬

‫قالت ذلك و قذفت بها تحت قدميها‪ ،‬فالتقطتها سلمى صامتة ثم‬
‫شدت ولدها إلى صدرها وواصلت سيرها مخترقة الظلم و الرعب يمل‬
‫قلبها‪.‬‬
‫هام ذلك الجمال للمرة الثانية يشق طريقه وسط سكون الليل الحالك‬
‫الذي أخذت تبدد صفاءه طلقات الرصاص و دوي القذائف و لهيبها‬
‫فتنير ظلمته و تهدر مدمرة أينما وقعت‪.‬‬

‫أخذت سلمى تتفادى الطلقات المتطايرة فوق رأسها و تضاعف من‬


‫احتضان طفلها و لفه في دثاره‪ ،‬و تسرع الخطى تارة و تتمهل طورا‬
‫كلما اشتد الحال و توالى معه تطاير الشظايا و دوي الرصاص‪..‬و ما‬
‫زالت هكذا حتى أتت عتبة بيتها خائرة منهوكة‪ ،‬فأدارت مفتاحها في‬
‫بابه فصر صريرا رهيبا و انفرج عن مدخله‪ ،‬فاستجمعت شمل أنفاسها‬
‫و دلفت إليه و هي تنتفض فزعا للوحشة السائدة فيه‪ ،‬ثم أحكمت‬
‫إغلق بابها من ورائها و ما كانت قد جاءت بيتها منذ موت أمها‪ ..‬و‬
‫تمثل لها في تلك اللحظة شبح أمها ينتقل في كل ركن من أركانه‪،‬‬
‫فهبت عليها نسمة باردة بعثت الرعشة في أوصالها‪ ،‬و مشت الى‬
‫إحدى الغرف فأضاءت مصباحها و أودعت طفلها سريرا فيها‪ ،‬و أخذت‬
‫تسبل الغطاء بأيد مضطربة‪ ،‬و كان قد ذهب في سبات هادئ‪ ،‬فدنت و‬
‫جلست على طرف الفراش بجواره و جعلت تتلفت حولها بنظرات‬
‫مبعثرة ملتاعة‪ ،‬و وقعت عينها في تلك اللحظة على اللفافة ملقاة‬
‫بجانب فراش طفلها‪ ،‬ففطنت إليها حين لمحتها و هي تكاد تنساها‬
‫لعظم كربها و بلبالها‪ ،‬فما لبثت أن التقطتها بلهفة و راحت تفضها و‬
‫تمزق غلفها بأنامل مضطربة‪ ،‬و ما إن فعلت حتى طالعها منديلها‬
‫بداخلها يقطر دما‪ ،‬ففزعت و ندت عنها صرخة مدوية هتفت بعدها‬
‫بأنين موجع‪ " :‬وا يتم ولداه" ‪ ،‬ثم سقطت مغشيا عليها‪.‬‬
‫أشرقت شمس الصباح تطل بشعاعها الذهبي الضارب إلى الحمرة‬
‫من وراء الكام و تظلل قرصها المخضب سحابة رقيقة بيضاء كما‬
‫يظلل الوشاح الشفاف وجه حسناء يانعة وضيئة الطلعة و قد أدمى‬
‫وجنتيها اللطام‪.‬‬

‫و صحا خالد بصحوة النهار ليجد أمه منكفئة بجوار السرير الذي يعتليه‪،‬‬
‫فهرع إليها يهزها بكلتا يديه الصغيرتين قائل‪ " :‬أماه‪ ،‬لما أنت نائمة هنا‬
‫فوق األرض الباردة؟"‪.‬‬

‫فتحت عينيها على صوت ولدها الحبيب و أخذته بين أحضانها و هي‬
‫ترتجف و صغيرها و يزداد التصاقا بها‪ ،‬ثم راح يسألها ببراءته‪ " :‬لما‬
‫أتينا هذا البيت يا أماه؟"‪.‬‬

‫كظمت دموعها و قالت‪ " :‬أل يسرك العيش معي هنا في هذا البيت‬
‫الصغير يا خالد؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ل بل أنا احبك يا أماه و أحب بيتنا هذا‪ ،‬و لكني أخشى أن يأتي‬
‫أبي الى ذلك البيت الكبير عند جدتي فل يجدنا فيه"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬متى سمعنا بعودة عزيزنا أبيك الى هناك هرعنا إليه"‪.‬‬
‫و رأت طفلها يتمسح برأسه فوق صدرها بدلل و هو يقول‪ " :‬إنني‬
‫جائع و أريد شيئا من الطعام"‪.‬‬

‫فتحاملت منهوكة تهيئ لطفلها طعامه و قواها الخائرة تخونها فتفقدها‬


‫توازنها‪.‬‬
‫تحذير عاجل‬

‫حين سار حامد أو شمعون اليهودي مع رجاله آخذين وجهتهم الى وادي‬
‫)روشيما( حيث مكان وليد و مقر مكمنه كان قد سبقهم إليه شاب‬
‫عربي من المجاهدين يحذره مكيدتهم‪.‬‬

‫و كان هذا الشاب‪ ،‬و يدعى محمدا‪ ،‬جاسوسا ثانيا يعمل لحساب‬
‫إخوانه العرب‪ ،‬و في الوقت نفسه عهد إليه اليهود و هم على ضلل‬
‫من أمره أن يعمل مع الحرس الصهيوني المكلف حراسة القلعة‪،‬‬
‫فيقف عند بابها يستطلع أمر الداخل إليها و الخارج منها‪.‬‬

‫كان يتظاهر بأداء عمله المكلف به من قبل العدو فيلتقط أنباء اليهود‬
‫و يستطلع أمرهم و أحوالهم‪ ،‬و يذهب بأخبارهم الى إخوانه‬
‫المجاهدين‪.‬‬

‫حتى كانت تلك الليلة التي وقف فيها على أمر تلك المكيدة المدبرة‬
‫لغتيال قائده الذي عهد إليه بمهمة التجسس على العدو‪ ،‬فما كاد‬
‫يسمع بذلك حتى غافل من حوله و تسلل من بين الحرس اليهودي‬
‫المنبث حول القلعة و طار كالسهم الى حيث مقر وليد ينبئه األمر‪،‬‬
‫فأدركه كامنا وراء مكمنه‪ ،‬فابتدره بالتحية ثم شرع يقص عليه ما‬
‫سمعه بشأنه‪.‬‬
‫فدهش وليد لذلك و سأله قائل‪ " :‬و كيف تمكن العدو من الوقوف‬
‫على أمري و اكتشاف مقري؟"‪.‬‬

‫قال رفيقه‪ " :‬ذلك ما أعجب له‪ ،‬و بعد‪ ،‬فهناك فتاة جاءت الى القلعة‬
‫برفقة شيخ مسن و يخالجني ريب من أمرها و رفيقها هذا إذ دبرت‬
‫مؤامرة اغتيالك ‪،‬و شاهدت العدو يتهيأ للمسير الى مكمنك عقب‬
‫دخولهما القلعة‪ ،‬و هناك من سمعته يقول أن الفتاة كانت عونا لهم‬
‫في كشف مكانك ألعدائك‪ ،‬و مما يؤكد ذلك أنني رأيت رفيقها الشيخ و‬
‫قد عاد فسار في ركاب العصابة اليهودية يدلهم على السبيل إليك‪ ،‬و‬
‫هم ل بد آتون إلينا بين لحظة و أخرى"‪.‬‬

‫ازداد وليد دهشة و تضاربت على رأسه شتى الخواطر و األفكار‪ ،‬إل‬
‫أن خاطرا واحدا لم يخطر له على بال‪ ،‬أن تكون تلك الفتاة التي‬
‫يتحدث رفيقه بشأنها هي زوجته بعينها‪ ،‬و ما لبث أن ردد مستغربا‪" :‬‬
‫فتاة‪..‬فتاة‪ ..‬من تكون تلك الفتاة؟‪..‬و كيف تسنى لها الوقوف على‬
‫أمري و اكتشاف مقري؟"‪.‬‬

‫قال رفيقه‪ " :‬ذلك ما أجهله"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬هل وصفت لي شكل الفتاة؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬هي غادة هيفاء لم ير الراءون أجمل منها‪ ،‬ملساء البشرة‬
‫وردية اللون سوداء الشعر‪ ،‬نجلء العينين‪ ،‬جيدها طويل‪ ،‬أنفها أشم و‬
‫قدها فارع‪ ،‬أما رفيقها فل يشبهها بشيء و ليس عليه من مهابة‬
‫الرجال مثقال ذرة‪ ،‬فمظهره البالي بهندامه المهلهل و قلنسوته الرثة‬
‫المثبتة فوق رأسه األشيب تشهد على أنه يهودي عتيق‪...‬‬

‫" الغريب أنني رأيته يلج باب القلعة مع رفيقته هذه و فوق ساقه‬
‫اليسرى ضمادة ضخمة‪ ،‬و جعل يسير الهوينا متكئا على عكازته‪ ،‬ثم ما‬
‫لبثت أن شاهدته عائدا على رجليه كالثور‪ ،‬و ل أثر لتلك الضمادة التي‬
‫كانت ملتفة حول ساقه"‪.‬‬

‫فما أتى الشاب على قوله حتى وثب وليد على قدميه و قد طار عقله‪،‬‬
‫و قال رفيقه و قد على دمه في عروقه فسرى ملتهبا في سائر‬
‫أطراف بدنه‪ " :‬هلم فخذ مكاني و إني لماض لنقاذ الفتاة في التو و‬
‫الحال"‪.‬‬

‫ذهل رفيقه و قال‪ " :‬ماذا أسمع؟ أماض الى الموت ليفتك بك‬
‫العدو؟"‪.‬‬

‫قال و هو ينتفض‪ " :‬ل بد لي من المسير الى تلك القلعة و إنقاذ الفتاة‬
‫منها و لو لقيت بذلك حتفي‪ ،‬لقد غرر بها فوقعت في الفخ"‪.‬‬

‫كان يتكلم و أعضاؤه تهتز و العرق يتصبب منه لفرط انفعاله و غضبه‪،‬‬
‫و قال رفيقه و هو على دهشة من أمره‪ " :‬ما معنى أن أراك تسير‬
‫الى العدو بقدم ثابتة قاذفا بنفسك الى التهلكة من أجل فتاة نحن على‬
‫جهل من أمرها‪ ،‬و اليهود كما ترى يتلهفون على صيدك و تمزيق‬
‫لحمك؟"‪.‬‬

‫قال و عيناه تكادان تقدحان شررا‪ " :‬بل الفتاة هي زوجتي و ل بد أن‬
‫يكون هناك من خدعها و استدرجها بمكيدة حيكت من حولها سقطت‬
‫لها في شباك العدو و قبضته‪ ،‬و ل ريب أن هؤلء األنذال قد ضيقوا‬
‫عليها الحناق مما اضطرها الى إفشاء سري"‪.‬‬

‫صعق رفيقه عند سماعه قوله‪ ،‬و هم به قائل‪ " :‬ابق أنت هنا ألعود أنا‬
‫مسرعا فأعمل على إنقاذها‪ ،‬إذ يسهل علي العبور الى داخل القلعة‬
‫كرجل من رجال الحرس الصهيوني"‪.‬‬

‫قال وليد و قد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما و ثارت فيه حمية‬
‫الشهامة و الغيرة‪ " :‬أليس من العار أن أكلف غيري ليقوم بإنقاذ‬
‫زوجتي و في شرياني عرق ينبض؟"‬

‫قال ذلك و راح يخلع عنه سترته و يسرع في نزع كوفيته و عقاله و‬
‫يستبدل بهما ملبس رفيقه و سترته المدموغة بشعار الصهيونية كي‬
‫يخدع بها العدو و لكيل يكشف أحدهم أمره و هو يجتاز األحياء اليهودية‬
‫عابرا الى تلك القلعة الحصين‪.‬‬

‫و كان رفيقه ينظر إليه صامتا و قد أذهله أن تكون تلك الفتاة عربية‬
‫وقعت في أسر اليهود دون أن يفطن إليها فيعمل على إنقاذها‪ ،‬و فجأة‬
‫مر بذهنه كمرور البرق خاطر إذ قال‪ " :‬رويدك يا صديقي فهناك األخ‬
‫سليم رأيته و هو يغافل جند اليهود و يكر راجعا الى القلعة بخطى‬
‫سريعة و مسحة من الغضب تعلو جبينه فعجبت ألمره و أنا أشاهد‬
‫تجهم وجهه و لم أتمكن من لقائه و سؤاله سر غضبه لكثرة العيون‬
‫المنبثة حولنا‪ ،‬و حسبي الن أن أدرك السبب في تجهمه فهو لبد قد‬
‫وقف على شيء من أمر زوجتك فخف لنقاذها من قبضة العدو‪ ،‬و‬
‫أرى أن تتريث في األمر قبل أن تجازف بحياتك فتسلك سبيل وعرا‬
‫يهدد سلمتك‪ ،‬و ل بد أن تصلنا إشارة من األخ سليم بين لحظة و‬
‫أخرى ينبئنا فيها نتيجة ذلك"‪.‬‬

‫و لقد كان وليد في شغل شاغل من أمر رفيقه هذا و قوله و هو‬
‫يحاول تثبيطه عن خوض هذه المخاطرة المقدم عليها‪ ،‬و أخذ يسرع‬
‫في استبدال ثيابه بثياب رفيقه و يثبت فوق رأسه الخوذة الحديدية بدل‬
‫من الكوفية و العقال ليبدو كواحد من رجال الحرس الصهيوني‬
‫المكلف بحراسة القلعة فيسهل عليه حينئذ عبورها و إنقاذ زوجه‪،‬‬
‫لعتقاده أنها مازالت أسيرة بداخلها‪.‬‬

‫و قال يحدث نفسه و قد تجهم وجهه و احمرت عيناه‪ " :‬ليت شعري‬
‫ما دهاك يا سلمى حتى أراني أسمع بأسرك؟ و كيف تمكن أولئك‬
‫األنذال من خداعك و التغرير بك فسرت الى شباكهم بقدم ثابتة و قد‬
‫عهدت فيك حدة ذهنك و رجاحة عقلك‪ ،‬و فطنتك لكل أمر من األمور‪،‬‬
‫و من يكون ذلك الشيخ الذي غرر بك فسرت برفقته؟"‪.‬‬

‫ثم صمت ينتفض في وقوفه‪ ،‬و إذ فرغ من استبدال ثيابه التفت الى‬
‫رفيقه قائل‪ " :‬هلم فخذ مكاني و هاأنذا على علم من أمر العدو و‬
‫مكيدته"‪.‬‬

‫فقطع كلمه قائل‪ " :‬أل تتريث و لو لحظة ريثما تصل تلك العصابة الى‬
‫هنا لئل تعثر بك و هي في طريقها إلينا؟‪..‬و دليلهم الشيخ قد يكتشف‬
‫أمرك لو أبصر بك؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و ما أخافني من أولئك األنذال‪..‬و ما أدرى دليلهم الشيخ بي و‬


‫أنا أتنكر بهذا الزي الصهيوني؟"‪.‬‬
‫قال‪ " :‬بل ذلك الشيخ هو جاسوس خطر كما تبين لي‪ ،‬و أكبر الظن‬
‫أنه يعرفك حق المعرفة و إل ما استطاع خداع زوجتك و استقدامها‬
‫معه الى هناك‪ ،‬و قد سمعتها تدعوه و هما يلجان معا عتبة القلعة‬
‫) بالعم حامد( و رأيت آخر من رجال اليهود و هو يناديه باسم‬
‫)شمعون(‪ ،‬فعجبت لذلك و خالجني ريب من أمره و هممت بأحدهم‬
‫فسألته أمر ذلك الشيخ متظاهرا بعدم الكتراث‪ ،‬فقيل لي أنه يهودي‬
‫عربي من أصل يمني‪ ،‬و قد سهوت أن أقص عليك هذا في بادئ األمر‬
‫لنشغالي بمؤامرة أولئك األنذال‪ ،‬و ما أدهشني بعده إذ سمعتك تقول‬
‫أن الفتاة التي رافقته هي زوجتك"‪.‬‬

‫و ما كاد وليد يسمع صديقه ينطق بذلك حتى ذهل و ترنح في وقفته‬
‫ترنح الشاب الثمل‪ ،‬و قد انكشف له األمر على جليته‪ ،‬و رأى أن‬
‫زوجته غير ملومة بشيء بل هي معذورة فيما سيقت إليه‪ ،‬و هو الذي‬
‫كان قد عهد الى ذلك الخادع بأمرها و أوصاه بها و بطفلها‪ ،‬و قال و قد‬
‫استعظم خداعه‪ " :‬يا للوغد اللئيم المخادع أعوام و أعوام يسبل على‬
‫نفسه ستارا يخفي من وراءه حقيقة أمره عنا ليتسنى له التغلغل بيننا‬
‫و التقاط أخبارنا‪...‬ترى كم جناية اقترفتها يداه بحقنا و بفضل تستره‬
‫هذا؟‪...‬إني و الله لخذن منه بالثأر و أذبحه شر ذبحة متى عثرت‬
‫عليه"‪.‬‬

‫ثم نادى برجاله فلبوه و خرجوا من مكامنهم للقائه‪ ،‬فسار إليهم بضع‬
‫خطوات ووقف بينهم ينبئهم األمر‪ ،‬و يحذرهم مكر عدوهم و مكيدته‪ ،‬و‬
‫يسرد عليهم المهمة التي سيمضي بدوره إليها‪ ،‬فاعترضوا عليه ذلك و‬
‫حاولوا ثنيه عن عزمه‪ ،‬و قال أحدهم‪ " :‬إنها لمخاطرة تسير إليها ل‬
‫نرضى بها قط و ل نوافقك عليها أبدا‪ ،‬فاختر منا من شئت من الرجال‬
‫فننفذها بدل منك و البث أنت هنا بطلنا تقودنا"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬يا إخواني الكرام إني لهذا كنت أكره‪ ،‬و ما كنت ألتخلف عن‬
‫الجهاد لحظة لول أن هناك ما يظطرني الى ذلك‪ ،‬فمثلي من يعوض‬
‫أما الشرف إذا ضاع فالزجاج إذا كسر ل يجبر‪ ،‬أما الن فاصغوا الى‬
‫الخطة التي وضعتها لبادة األعداء الذين هم في طريقهم إلينا"‪.‬‬

‫و صمت لحظة ثم استطرد‪ " :‬لينقسم جمعكم الى كتلتين‪ ،‬قسم منكم‬
‫يلبث هنا و القسم الخر يكمن بعيدا عند تلك الهضبة المنخفضة‪ ،‬حتى‬
‫إذا ما شاهدتم اليهود قادمين إليكم و هم على ما وقفت عليه من‬
‫أمرهم ينون محاصرتكم في مكانكم شبه حلقة‪ ،‬فدعوهم يفعلون ذلك‪،‬‬
‫حتى إذا ما تم لهم حصاركم جاء رجالنا الكامنون عند الهضبة و جعلوا‬
‫أنفسهم حلقة ثانية يطوقون بها حلقة العدو‪ ،‬فتصبح حلقة اليهود هي‬
‫الوسطى محاصرة وسط طوقين من رجالنا‪ ،‬قسم منكم يضربها من‬
‫الداخل‪ ،‬و القسم الخر يضربها من الخارج‪ ،‬و البثوا منقضين عليهم و‬
‫أمطروهم وابل من نيران بنادقكم حتى تجتثوا أصلهم فل تتركوا لهم‬
‫أثرا‪.‬‬

‫و أما دليلهم الشيخ فل يفوتنكم و حاولوا جهدكم في القبض عليه حيا و‬


‫احتجزوه ريثما أعود إليكم لحساب بيني و بينه أود تسويته معه‪ ،‬فهو‬
‫يهودي متنكر بيننا منذ أعوام طوال‪ ،‬زاعما أنه عربي منا ليمكنه‬
‫التغلغل بيننا و استراق أخبارنا و الطلع على أمورنا و أحوالنا‪ ،‬و أما‬
‫إذا قدر لي أل أعود إليكم فاذبحوه ذبح الشاة و اثأروا ألنفسكم من‬
‫مكره و خداعه‪ ،‬و اذكروا أخاكم شهيد الحق و الوطن"‪.‬‬

‫ثم حياهم و سار مبتعدا في سبيله و صيحات رجاله مازالت تطن في‬
‫أذنيه‪ ،‬و مشى يشق طريقه الى حي ) الهدار( و صدره ميدان تدوي‬
‫في أعماقه صيحة ثأر و انتقام و رأسه مسرح لشتى الهواجس و‬
‫األفكار فيما عسى أن يكون حال زوجه مع األعداء‪.‬‬

‫وقف رفيقه‪ ،‬الذي جاءه يحذره غدر العدو و أنبأه أسر زوجته‪ ،‬يشيعه‬
‫بنظراته و هو يخترق السهل و يمر من بين المنعطفات مرور السهام‬
‫الى أن توارى ظله عن ناظره‪ ،‬فلبث مكانه يشعر بالخوف على حياته‬
‫و هو يراه سائرا الى مصير مجهول تحف به األهوال و األخطار‪ ،‬و‬
‫عظم عليه أمره فاخذ اليأس و الحنق يتنازعانه و هز رأسه هامسا‬
‫لنفسه‪ " :‬لقد أبت عليه شهامته أن يتولى تلك المهمة آخر غيره‪ ،‬و‬
‫إني ألراه في إقدامه على هذه المجازفة و اقتحامه ذلك السبيل الوعر‬
‫و العدو يطارده متحرقا على صيده و تمزيقه‪ ،‬كمن يدفع السيف بيمناه‬
‫الى قلبه"‪.‬‬

‫و صمت لحظة ثم قال‪ " :‬و و الله لخذن بالثأر أيها الرفيق قبل أن‬
‫يأتي الغد ممن دبر لك خطة الغدر‪ ،‬و أجعلن حفرتهم عائدة عليهم"‪.‬‬
‫قال ذلك و نظر الى كوفية وليد و عقاله و ما زال في يده‪ ،‬ثم مشى‬
‫بخطى وئيدة مطأطئ الرأس كمن يسير في جنازة عزيز فقده‪.‬‬

‫و اختار له مكانا يكمن عنده وراء صخرة ناتئة عند سفح الجبل ل تبعد‬
‫عن مكان رفاقه سوى بضعة أمتار‪ ،‬و من هناك راح يرقب الطريق‬
‫المؤدي الى حي ) الهدار ( بنظرات حادة تكاد تلتهم الظلم‪ ،‬و مقلتاه‬
‫تقدحان وسط دجنة الليل الحالكة و كأنهما جمرتان من نار‪ ،‬و بينما هو‬
‫كذلك إذ لح لناظره أشباح رجال مدججين بالسلح و قد ثبتت فوق‬
‫رؤوسهم خوذ حديدية‪ ،‬و حملوا على أيديهم مدافعهم الرشاشة و‬
‫جعلوا يسيرون بحذر و صمت و هم يخطون الى رأس )وادي روشيما(‬
‫حيث مكامن المجاهدين العرب لحصارهم و اغتيال قائدهم‪.‬‬

‫و أدرك محمد حين أبصر بهم‪ ،‬و تجلت له معالمهم على بعد أمتار منه‪،‬‬
‫أنهم األعداء‪ ،‬و كان يتقدمهم شيخ مسن هو ذلك اليهودي )شمعون(‪ ،‬و‬
‫رآه يشير الى أتباعه بالنتظار بحركة خرساء من يده ريثما يستطلع‬
‫الطريق المؤدي الى مكامن المجاهدين‪ ،‬حتى إذا تحقق من خلوه و‬
‫وجود العرب في مكامنهم‪ ،‬استدرج لهم قائد العرب من كمينه في‬
‫حيلة يخدعه بها تمكنه و رجاله من اغتياله و تمزيقه‪ ،‬فل يلبثون بعد‬
‫ذلك أن يحاصروا المجاهدين في مكامنهم ثم يشرعون بقتالهم بغتة‬
‫داخل حلقتهم التي سيطوقونهم بها‪.‬‬

‫فأمسك الرجال اليهود عن المسير استجابة لشارة دليلهم‪ ،‬و تركهم‬


‫هذا الثعلب العجوز ينتظرونه كامنين عند أصل دوحة فينانة متشعبة‬
‫األغصان‪ ،‬و سار هو يستطلع الطريق عند رأس الوادي ليمهد لقومه‬
‫السبيل الى اجتيازه‪.‬‬

‫كان محمد يرقب حركات العدو من وراء الصخرة التي كمن عندها‪ ،‬و‬
‫ذهنه يعمل بسرعة‪ ،‬و صيحة انتقام تتصاعد من قلبه الى أذنيه مطالبة‬
‫بالثأر من أولئك الغادرين‪ ،‬و ما إن شهد دليل هؤلء األعداء و هو يبتعد‬
‫عنهم‪ ،‬حتى قفز مسرعا الى حيث تكمن العصابة الصهيونية‪ ،‬و اقترب‬
‫من أحدهم و كان أطولهم قامة و له به سابق معرفة‪ ،‬و خاطبه‬
‫بالنجليزية التي يتقنها ذلك اليهودي – و هو أمريكي الجنسية‪ -‬فل يفقه‬
‫العبرية إل لماما‪ ،‬همس محمد في أذنه قائل له‪ " :‬هيا اتبعني أيها‬
‫الرفيق‪ ،‬فدليلنا )شمعون( بعثني في طلبك‪ ،‬و احذر الكلم لئل يحس‬
‫بنا العرب‪ ،‬فيكتشفوا أمرنا و نحن ل بد على مقربة منهم"‪.‬‬

‫أجابه هذا و عهد به يهوديا مثله‪ " :‬كيف عرفت مكاننا من هذه البقعة و‬
‫أنا لم أرك تسير معنا قبل اللحظة‪ ،‬و أذكر أني شاهدتك لخر مرة و‬
‫أنت ملزم مكانك عند باب قلعتنا مع حرسنا؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬ذلك صحيح يا صديقي‪ ،‬و لكن حدث أن استدعاني القائد األكبر‬
‫بعد أن سار ركبكم هذا لحصار العدو و قتاله‪ ،‬فسرد علي المهمة التي‬
‫سرتم إليها‪ ،‬و سألني أن ألحق بكم عاجل ألمهد لكم السبيل و أكون‬
‫عونا لصديقنا شمعون في أداء مهمتنا هذه‪ ،‬و اكتشاف مكامن العرب‬
‫من تلك البقعة التي يممتم شطرها‪ ،‬ألني أقدم منكم مقاما في هذه‬
‫الديار"‪.‬‬

‫قال اليهودي و قد أثمله قول محدثه‪ " :‬صدقت و أحسنت أيها‬


‫الصديق‪..‬هيا بنا الى شمعون دون أن يحس بنا العدو"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬بل ريب‪ .‬فهيا بنا"‪.‬‬

‫كانا يتكلمان همسا و باقي الشلة الثملة في غفلة عنهما‪ ،‬فلم يعبأ‬
‫أحدهم لستطلع األمر الذي يدور بين هذين الثنين‪ ،‬بل كان كل في‬
‫شغل شاغل من أمر مكيدتهم التي أتوا بها لصيد غريمهم قائد العرب‬
‫الجريء‪ ،‬و لبثوا يترقبون عودة دليلهم الشيخ إليهم‪ ،‬متلهفين على‬
‫إشارة يرونها منه ينبئهم بها عن وقوع خصمهم العنيد في الفخ‬
‫فيهرعون لذبحه و تمزيقه‪.‬‬

‫و سار رفيقهم اليهودي دون أن يشعروا به في إثر محمد الذي زعم له‬
‫أن دليلهم شمعون بعثه في طلبهم‪ ،‬و قال اليهودي همسا و هو يتبع‬
‫الشاب العربي و لقد لفت نظره تجرد هذا األخير من نصف ثيابه فقال‬
‫يسأله‪ " :‬ما بالك تبدو مجردا من نصف ثيابك؟"‪.‬‬

‫رد محمد فقال‪ " :‬حدث هذا حين هممت بالمسير زحفا على بطني‬
‫أستطلع مكامن العدو‪ ،‬فما لبث أن انتزعت ثيابي الرسمية عني كيل‬
‫أثقل بها كاهلي‪ ،‬و لكيل يعثر بي أحدهم فيراني بملبسي الصهيوني‬
‫فيفتكون بي دون إبطاء"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬أحسنت صنعا بذلك"‪.‬‬

‫و ما زال يتبعه حتى أتى محمد مكانه األول عند الصخرة‪ ،‬فتوقف هناك‬
‫و التفت الى اليهودي قائل‪ " :‬أرى أن تنتظر هنا لحظة ريثما أمضي‬
‫فاستطلع لك السبيل قبل أن تجتازه لتكون في مأمن من شر العدو"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬حسنا تفعل‪ ،‬هاأنذا أقف هنا ريثما تعود"‪.‬‬

‫فتركه متحول عنه الى أصل شجرة كان قد علق على أحد فروعها‬
‫ثياب وليد العربية مع كوفيته و عقاله‪ ،‬و مكث هناك كامنا وراء جذعها‬
‫يرقب حركات شمعون محاذرا أن ل يشعره به‪ ،‬ثم ما لبث أن رآه‬
‫يعود أدراجه الى حيث ينتظره أتباعه فيدعوهم الى التقدم كي يشرع‬
‫باستدعاء وليد و استدراجه إليهم‪.‬‬

‫و هنا تحول محمد فتناول ملبس وليد من فوق فرع الشجرة وكر‬
‫راجعا الى حيث ترك اليهودي ينتظر بجانب الصخرة عند سفح الجبل‪،‬‬
‫حتى إذا ما أقبل عليه ابتدره هذا بقوله‪ " :‬ما الخبر و قد أراك أبطأت‬
‫في العودة إلي؟"‪.‬‬

‫أجابه و هو يتظاهر بالبشر و السرور فقال‪ " :‬أبشر أيها الصديق‪ ،‬لقد‬
‫تم لنا اغتيال قائد العرب دون عناء و هذا ما أعاقني عن الرجوع إليك‬
‫عاجل"‪.‬‬

‫انبسط وجه اليهودي عند سماعه الخبر‪ ،‬و قال يفرك كفيه جذل‬
‫مسرورا‪ " :‬لقد كتب لخطتنا النجاح منذ البداية كما أرى‪ ،‬فهل أخبرتني‬
‫كيف تم لنا قتل ذلك الخصم العنيد؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لقد كان األمر ميسورا و في غاية السهولة‪ ،‬إذ التقى دليلنا‬
‫شمعون بذلك القائد عفوا و هو يخطر عند سفح الجبل‪ ،‬فعرفه للحال‬
‫حين أبصر به و لم يلبث أن انقض عليه بغتة مطبقا على عنقه بكلتا‬
‫يديه‪ ،‬و ما زال به الى أن قضى عليه خنقا و لم يتركه حتى خمدت‬
‫أنفاسه‪ ،‬و تعاونت معه بعد ذلك في حمله و تركناه ملقى عند قارعة‬
‫الطريق جثة هامدة‪ ،‬دون أن يشعر بنا أحد من رجاله‪ ،‬و ها هي ذي‬
‫ملبسه نزعها شمعون عنه و بعثها إليك لتتنكر بها و تسير إليه في‬
‫الحال‪ ،‬فهو يطلبك عاجل ألمر ينشد استشارتك به قبل أن نشرع‬
‫بالقتال بصفتك قائد الحملة‪ ،‬و أرى أن تعجل بارتداء هذه األردية‬
‫العربية من باب الحذر لئل يعثر بك أحدهم و أنت تجتاز الطريق‬
‫المؤدي الى رأس الوادي حيث يقف شمعون بانتظارك هناك مع سائر‬
‫الرفاق"‪.‬‬

‫أمسك اليهودي بالرداء العربي الذي جاءه به محدثه و هو شبه مسحور‬


‫لهول الخبر الذي سمعه عن قائد العرب و قتله‪ ،‬و قد التمعت عيناه‬
‫الضيقة الزرقاء‪ ،‬وسط الظلم خرزتين من الزجاج تتلألن على جانبي‬
‫أنفه‪ ،‬و قال دهشا مبهوتا‪ " :‬إن ما أتى به ذلك الصديق العجوز‬
‫شمعون أمر يستحق تمجيده‪ ،‬و علينا و قد قتل القائد أن نسحق رجاله‬
‫و نكسرهم شر كسرة‪ ،‬كما تكسر فروع الشجر عن أرومتها"‪.‬‬

‫ركض الدم في عروق محمد و قال و هو ل يطيق صبرا عن الكلم‪ " :‬أ‬
‫وتظن أن الغلبة ستكون لليهود هذه المرة كما أسمعك تقول؟"‪.‬‬

‫أجابه اليهودي فقال‪ " :‬وكيف ل يا صاحبي؟‪..‬و قد أفقدنا أولئك األعداء‬


‫قائدهم الذي ألفوا القتال معه و السير تحت قيادته الماهرة‪ ،‬فأصبحوا‬
‫اليوم بدونه مفككين في جبهتهم‪ ،‬فروعا بل أصل يسندهم‪ ،‬بل هم أكثر‬
‫من ذلك‪ ،‬باتوا بفقدانهم رجلهم الذي يقودهم‪ ،‬كمن يخوض معركة في‬
‫ساحة الوغى ممتطيا جوادا بل عنان يحفظ توازنه‪ ،‬فل يلبث أن يسقط‬
‫الفارس من علياء صهوة جواده هذا لتدوسه النعال و تلوكه األرض"‪.‬‬

‫سكت الشاب العربي على مضض‪ ،‬و لم يشأ أن يجيبه بشيء لئل‬
‫يتطور الحال بينهما فينكشف بذلك أمره ألعدائه‪ ،‬و تفسد خطته التي‬
‫يسعى بها في رد مكيدتهم الى نحورهم‪ ،‬و إل ما توانى عن بقر بطن‬
‫غريمه هذا الماثل أمامه و جعل جثته طعاما للنسور و العقبان الجائعة‪.‬‬

‫و لبث مؤمل صابرا ما يأتي به القدر مع أولئك اللصوص‪ ،‬و أمسك‬


‫اليهودي بملبس وليد و شرع يلبسها و أنامله تتعثر و تضطرب و هو‬
‫يضع الكوفية فوق رأسه محاول تثبيتها و شد العقال فوقها‪ ،‬فتقدم‬
‫محمد لمساعدته في تثبيت الكوفية و العقال فوق رأسه متظاهرا هو‬
‫الخر بالرتباك‪ ،‬زاعما أنه حديث العهد بمثل هذا الرداء‪ ،‬و أخذ يحول‬
‫له أطراف الكوفية الى ما وراء ظهره ليبدو بها ملثما فل يظهر من‬
‫ملمحه سوى عينيه‪ ،‬حتى إذا ما فرغ من لثامه و كامل ملبسه همس‬
‫في أذنه‪ " :‬هيا بنا الى دليلنا العجوز‪ ،‬لقد طال به أمد انتظارك و حذار‬
‫أن تنبس يا صاحبي لئل تفسد خطتنا فيكتشف العرب أمرنا لو سمعوا‬
‫لغتنا‪ ،‬و دع شمعون يشير عليك بما يبتغيه منك بحذر و صمت‪ ،‬و‬
‫لنسرع بعد ذلك بالهجوم على عدونا و قتاله"‪.‬‬

‫ثم سار معه يدله على مكان حامد أو شمعون‪...‬و مازال هكذا الى أن‬
‫قطعا في المسير بضعة أمتار و أوشكا أن يصل الى ثغر الوادي‪،‬‬
‫فتوقف محمد إذ ذاك لحظة مشيرا بسبابته الى شبح لرجل مسن‬
‫يخطر عند سفح الجبل قائل لليهودي في همس‪ " :‬ها هو دليلنا يا‬
‫صديقي‪ ،‬سر إليه بصمت و حذر لترى مالذي يبتغيه منك‪ ،‬و إني‬
‫لمنتظر أوامركما مع سائر الرفاق"‪.‬‬

‫ثم انحرف عنه و تركه يسير بخطى حذرة الى حيث يقف اليهودي‬
‫العجوز‪ ،‬بينما طار هو كالسهم ميمما شطره الى مكمنهم عند ) وادي‬
‫روشيما(‪ ،‬و قد شاءت األقدار مناصرته إذ كان وصوله الى هناك في‬
‫اللحظة التي يتوقف عليها نجاح خطته هذه أو فشلها‪ ،‬فما كاد يضع‬
‫قدمه وسط كمين قائده الغائب في مهمته‪ ،‬حتى انبعث صوت حامد‬
‫يشق سكون الليل قائل بلسان عربي فصيح و بلهجة الثعلب الذي‬
‫يتودد لصيد ثمين ينشد التهامه‪ " :‬أين أنت من هذه البقاع يا‬
‫وليد؟‪..‬أمقيم هنا أنت يا ولدي؟‪ ..‬و قد أتيت أتلمس طريقي إليك‬
‫وسط ظلمة الليل الحالكة"‪.‬‬

‫رد عليه محمد باقتضاب مقلدا صوت وليد فقال‪ " :‬نعم يا عماه فما‬
‫وراءك بالله حتى أتيتني في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل"‪.‬‬

‫قال و هو يتحسس مديته في جيب سرواله‪ " :‬إن الذي أتى بي الى‬
‫هنا يا ولدي و نحن في الهزيع األخير من الليل كما ترى‪ ،‬أمر هام‬
‫أنفذتني به زوجك إليك‪ ،‬فهل خرجت من مكمنك و جئت ألسرد على‬
‫مسامعك رسالة زوجك؟"‪.‬‬

‫أجابه محمد من وراء استحكامه قائل‪ " :‬لقد أقلقني قولك هذا يا عماه‬
‫فانتظرني لحظة و إني لت إليك في الحال"‪.‬‬

‫قال و السرور يغمر قلبه‪ " :‬حسنا يا ولدي و هاأنذا أقف هنا في‬
‫انتظارك"‪.‬‬
‫و سكت محمد بعد ذلك يرقب الموقف في صمت‪ ،‬و تطاول بعنقه‬
‫ينظر الى الطريق الخلفي حيث ترك ذلك اليهودي يسير فيه بعد أن‬
‫ألبسه رداء وليد‪ ،‬و ما كاد يحول رأسه الى هناك حتى شاهد على بعد‬
‫أمتار منه شبحا لشاب بكامل لباسه العربي يسير بصمت و حذر و‬
‫يتلفت يمنة و يسرة آخذا وجهته الى حيث يقف اليهودي العجوز‬
‫فهمس لنفسه وسط مكمنه‪ " :‬هكذا ترد المكائد أيها األوغاد"‪.‬‬

‫ما كاد شمعون يرى ذلك الشبح يسير ناحيته بقامته المديدة و ردائه‬
‫العربي حتى رقص قلبه فرحا‪ ،‬و لم يكن ليخالجه أدنى ريب من أمر‬
‫ذلك الشخص المقبل عليه‪ ،‬و أيقن بذلك أن الطائر الذي نصب له‬
‫شبكة الخداع قد وقع في الفخ‪ ،‬فلم يعد أمامه إل أن يستعد و رفاقه‬
‫لذبحه و تمزيقه‪ ،‬فما لبث أن التفت الى حيث كان أتباعه كامنين‪،‬‬
‫ملوحا لهم بإشارة خفية من يده كي يستعدوا للنقضاض على‬
‫فريستهم‪ ،‬ففهم هؤلء مرماه و أيقنوا أن شباكهم قد أتت بصيد ثمين‬
‫طالما تشوقوا الى اصطياده‪ ،‬و أخذوا يتأهبون للنقضاض على غريمهم‬
‫و هم يرونه آتيا في طريقه إليهم‪.‬‬

‫و كان ذلك اليهودي المتنكر بملبس وليد قد أوشك على الوصول الى‬
‫رأس الوادي حيث يقف شمعون هناك‪ ،‬فجعل يخطو ناحيته بحذر شديد‬
‫حتى إذا ما بقي بينهما مسافة خمس أقدام‪ ،‬فوجئ هذا بلطمة فولذية‬
‫قاسية تهوى على مؤخرة رأسه باغته بها أحدهم من خلف ظهره‪ ،‬و إذا‬
‫بصاحبه شمعون ينقض عليه مغمدا سكينه في أحشائه‪ ،‬فجأر على‬
‫إثرها مناوها‪ ،‬و خر ساقطا على األرض يتخبط بدمه‪ ،‬و راح يحرك يديه‬
‫مستغيثا و قد استعصى عليه النطق لفرط آلمه‪ ،‬و ما زال يستغيث‬
‫بحركات من يديه محاول أن يكشف حقيقة أمره لرفاقه‪ ،‬و لكن‬
‫الضعف غلبه فامتنع عن الكلم‪ ،‬و لم يمهله رفاقه فانقضوا عليه و هم‬
‫في جهل من أمره‪ ،‬انقضاض الصاعقة‪ ،‬يعملون فيه المدى حتى‬
‫خمدت أنفاسه‪ ،‬و مزقت الحراب لحمه‪ ،‬و لم يكونوا ليتبينوا أمر‬
‫رفيقهم هذا و الليل مسدل نقابه الحالك على الكون يغمره بظلمته‬
‫الدامسة‪.‬‬

‫و إذا تم لهم ذبحه و قتله شر قتلة‪ ،‬تفرقوا لحصار المجاهدين و‬


‫تطويقهم في مكامنهم‪ ،‬و أسرع شمعون الى الجثة الذبيح و هي تسبح‬
‫في بحر من الدماء ممسكا بمنديل سلمى الذي استبقاه معه‪ ،‬و ما‬
‫لبث أن غمسه بدم القتيل اليهودي و تحول عائدا يركض كالسهم الى‬
‫دار وليد ليسلم أمه ذلك المنديل الذي اعتقد أنه خضبه بدمائه‪.‬‬

‫و ما زال سائرا في طريقه الى أن أتى قصر أهل وليد‪ ،‬فأعطى‬


‫المنديل للخادم لتسلمه الى سيدتها وكر راجعا يستطلع أمر رفاقه‪ ،‬و‬
‫ما تم بشأنهم مع أعدائهم‪ ،‬و لبث يخطر فرحا طروبا‪ ،‬حتى كان أن‬
‫التقى بذلك الفتى العربي األشقر و الذي عمل على إنقاذ سلمى‬
‫فأحال ضحكته عويل و فرحه عزاء و قتله شر قتلة‪.‬‬

‫تأهب اليهود لقتال المجاهدين بعد أن ذبحوا رفيقهم و هم على غير‬


‫بينة من أمره‪ ،‬و شرعوا يطوقون العرب بحلقة تمكنهم من تضييق‬
‫الخناق عليهم و الفتك بهم دون عناء‪.‬‬

‫و المجاهدون العرب كامنون يرقبون حركات عدوهم تاركين له فرصة‬


‫تطويقهم‪ ،‬ليتسنى لهم بعد ذلك تنفيذ خطتهم‪ ،‬كما سبق أن شرحها‬
‫لهم قائدهم قبل أن يغادرهم‪ ،‬و تم كل شيء و شرع اليهود بضرب‬
‫العرب بطوق من نار تنفثه فوهات مدافعهم مؤملين النصر في هذه‬
‫المرة و النزول الى األحياء العربية لحتللها‪ ،‬و لكن أملهم سرعان ما‬
‫تضاءل و خاب حين فوجئوا بطوق حديدي يحاصر حلقتهم‪.‬‬
‫و ما لبث المجاهدون أن خرجوا من مكامنهم و جعلوا أنفسهم حلقة‬
‫ثالثة داخل حلقة عدوهم‪ ،‬فشعر اليهود بأنفسهم محاصرين وسط‬
‫طوقين من نار‪ ،‬و أحسوا بضيق األمر و حرج الموقف‪ ،‬و تمنوا النجدة‬
‫أو الفرار فلم يسعفهم ذلك و صاروا كفيران جازعة أفلت منها الزمام‬
‫داخل مصيدة محكمة‪ ،‬و ما زال العرب بهم يمطرونهم وابل من‬
‫رصاص بنادقهم و قذائفهم اليدوية حتى أتوا عليهم‪ ،‬فقتل منهم من‬
‫قتل‪ ،‬و أسر منهم من أسر‪ ،‬و كان ضوء الفجر قد بدأ يبدد سكون‬
‫الليل‪ ،‬و تساءل المجاهدون عن قائدهم؟ و لكنهم علموا بعد بحث أنه‬
‫لم يعد بعد‪ ،‬فقلقوا لذلك‪ ،‬و لبثوا يترقبون عودته إليهم على أحر من‬
‫الجمر‪.‬‬
‫الكارثة‬

‫طلعت شمس اليوم التالي العشرين من ابريل عام ‪ 1948‬يوما كان‬


‫مشهده عظيما شديد الهول‪ .‬في ذلك اليوم حمى الوطيس بين‬
‫الخصمين العرب و اليهود‪ ،‬و اشتدت المعارك و اندلعت ألسنة النيران‬
‫تزأر مزمجرة يتطاير شرر لهيبها متصاعدا من األحياء اليهودية عند‬
‫القمة الشامخة في جبل الكرمل‪ ،‬فينحدر على وجه المدينة األنيقة‬
‫ليشوه جمالها و يسري في أرجائها يكتسحها فيدمر بيوتها على رؤوس‬
‫أهلها و يمزق أربابهم‪.‬‬

‫جزع األطفال لتلك الحال‪ ،‬و اضطربت النساء‪ ،‬و تعذر الهدوء على‬
‫القوم و تحولت السكينة بينهم الى قلق و بلبال‪.‬‬

‫و اشتدت الحال‪ ،‬و حشد العرب من أهل المدينة كل ما لديهم من قوة‬


‫لمقاومة ذلك العدوان الهائل‪ ،‬و صده في حزم و ثبات‪..‬و أمطروا‬
‫العدو عارضا من القذائف اليدوية و طلقات الرصاص‪ ،‬و مدافع اليهود‬
‫تهدر و ل تتوقف‪ ،‬فتنقض على العرب بقذائفها انقضاض الصاعقة‬
‫فتفتك بهم و تدمر أرجاءهم‪ ،‬فتحيلها الى ركام و أطلل‪.‬‬

‫و لم تزل تلك الحال حتى كان وقت األصيل‪ ،‬و أحس العرب فيه بحرج‬
‫موقفهم‪ ،‬إذ نفذت ذخيرتهم و العدو ما زال يمطرهم بوابل قذائفه‬
‫الفتاكة و هدير مدافعه تدوي في أرجاء المدينة‪.‬‬

‫و شعر اليهود حينئذ بموقف العرب حين استنجدوا بإخوانهم القرويين‬


‫من أهل )الطيرة( فلبى هؤلء النداء في الحال و اندفعوا لنجدتهم بما‬
‫لديهم من األسلحة‪ ،‬كالبنادق و طلقات الرصاص‪ ،‬و لكن النجليز حالوا‬
‫دون وصول هذه النجدة‪ ،‬فلم يتمكن أولئك القرويون من العبور الى‬
‫قلب المدينة و إسعاف إخوانهم العرب من أهلها‪ ،‬و اشتبكوا لذلك مع‬
‫النجليز في معركة سجلتها دماؤهم الدفاقة على ثرى ضواحي‬
‫المدينة‪.‬‬

‫و انتهى األمر دون أن يتمكن أولئك القرويون من نجدة إخوانهم و‬


‫العبور الى مدينة )حيفا(‪ ،‬و أحس اليهود آذ ذاك رجحان كفتهم‪ ،‬فزحفوا‬
‫بأسلحتهم يتقدمون من األحياء العربية‪ ،‬و أمطروا العرب وابل هائل من‬
‫رشاش مدافعهم و ضاعفوا من رميهم بالقذائف الفتاكة‪ ،‬و كانت‬
‫المقاومة من قبل العرب في هذه المرة ل تزيد على بضع طلقات‪،‬‬
‫هي آخر ما بقيت في فوهات بنادقهم‪.‬‬

‫فتشجع اليهود لذلك و أخذوا يواصلون زحفهم و يتقدمون بأسلحتهم‬


‫أكثر فأكثر‪ ،‬و ما زالوا هكذا حتى تمكنوا من عبور األحياء العربية‪.‬‬

‫و اشتبك الفريقان إذ ذاك في القتال وجها لوجه‪ ،‬فاليهود يقاتلون‬


‫بأحدث السلح و أمضاه و العرب يقاومون العدوان بأيد عزلء إل من‬
‫عصا غليظة يشهرونها في وجوه حاملي المدافع الرشاشة الحديثة‪ ،‬فل‬
‫يلبثون أن يتساقطوا تحت وابل مدافع عدوهم‪.‬‬

‫و تعالى بكاء األطفال لتلك الحال‪ ،‬يخالطه ولولة األمهات و هم يرون‬


‫اليهود يقتحمون عليهم بيوتهم لطردهم منها‪ ،‬و الفتك بهم‪.‬‬

‫لبست المدينة ثوبا قانيا من الدماء التي أخذت تسيل فرق أرضها‬
‫مدرارا تروي ثراها من دماء أهلها‪.‬‬

‫و تكدست بها جثث الشهداء تمل الشوارع و األحياء‪ ،‬و كانت مجزرة‬
‫حمراء مروعة لم يشهد التاريخ مثلها‪.‬‬

‫أحست سلمى و هي منكمشة بطفلها داخل دارها بأصوات مروعة‬


‫يتردد صداها فيمل الفضاء عويل و بكاء فانخلع قلبها هلعا‪ ،‬و اندفعت‬
‫الى نافذة دارها تطل منها تستطلع الخبر‪.‬‬
‫و ما إن فعلت‪ ،‬حتى اقشعر بدنها لهول المشهد الذي طالعها‪ ،‬شاهدت‬
‫هناك حشدا من الناس ما بين شيخ ضرير‪ ،‬و عجوز عجفاء‪ ،‬و طفل‬
‫باك‪ ،‬و فتاة قاصرة‪ ،‬و النساء يندبن مولولت و هن يهرعن بأطفالهم‬
‫الى شاطئ البحر حفاة األقدام هربا من العدوان اليهودي الشنيع‪ ،‬و‬
‫لهيب النيران يتصاعد وهاجا في قلب األحياء العربية و موسيقى حالمة‬
‫تنبعث من األحياء اليهودية‪ ،‬و قد ساد السكون المدينة الشهيدة‪ ،‬فلم‬
‫يعد هناك صوت ألية طلقة أو قذيفة سوى تلك األنغام يخالطها عويل و‬
‫بكاء‪.‬‬

‫فجزعت سلمى للمر‪ ،‬و كانت مازالت على جهل من أمر زوجها و‬
‫مصيره‪ ،‬و لبثت تتلقط أخباره كأن حواسها تأبى عليها أن تتصوره ميتا‪،‬‬
‫فيدب األمل فيها حينا و يتضاءل أحيانا‪ ،‬ثم ل تلبث أن يتبخر في سحابة‬
‫حالكة حتى يغيب فينقطع معه آخر خيط لها من األمل في لقائه‪،‬‬
‫فتعود هائمة بنفسها في بحر همومها و أحزانها‪ ،‬فتبكيه بكاء مرا لم‬
‫يبكه أحد أحدا‪.‬‬

‫و باتت صفراء هزيلة لشدة حزنها و نحيبها‪ ،‬و زادها هول المشهد الذي‬
‫تراه في بلدتها و أهلها اصفرارا على اصفرار‪ ،‬و شاعت عيناها نحو‬
‫تلك الجموع المبدد شملها‪ ،‬فابيض وجهها بياضا شديدا و تقاطرت‬
‫حبات العرق الباردة ترصع جبينها‪ ،‬و هتفت و هي ترتعد و قد تقلصت‬
‫أصابعها عند حافة النافذة التي تقف إليها‪ " :‬رباه‪..‬ماذا أرى؟" ‪..‬‬

‫و ما هذا اللهيب المندلع في أحيائنا‪..‬و هذه الكتل البشرية المهرولة‬


‫الى الشواطئ تخضب أرديتها الدماء القانية‪..‬إلهي أحلت الكارثة‬
‫فسقطت المدينة؟‪..‬‬

‫و جمدت في وقفتها و لبثت شاخصة بعينيها ترقب الموقف فل‬


‫تطرف‪ ،‬و مرت عن كثب منها في تلك اللحظة امرأة عجوز مقنعة‬
‫تتعثر بذيلها و هي تخطر جازعة مهرولة‪.‬‬

‫فانتبهت سلمى إليها و هتفت بها من نافذتها‪ ،‬إذ قالت مستفسرة و‬


‫هي ترتجف‪ " :‬ما هنالك يا خالة؟"‪.‬‬
‫التفتت المرأة إليها و أجابتها لهثة و هي تتعثر بألفاظها‪" :‬‬
‫اليهود‪..‬اليهود يا بنيتي‪..‬يقتحمون البيوت العربية فيفتكون بأهلها بعد أن‬
‫سقطت المدينة من يد العرب لنفاذ ذخيرتهم‪...‬و ذلك اللهيب‬
‫المتصاعد من هناك‪...‬أوقد فيه اليهود جثث الشهداء وقاية من‬
‫األمراض بعد أن تكدست جموعها متراكمة تمل الشوارع و األحياء‬
‫ففاق عددها آلف اللف‪.‬‬

‫صعقت سلمى لسماعها الخبر و قالت و أنفاسها تكاد تنقطع عن‬


‫مجراها‪ " :‬ويله أسقطت المدينة في أيدي اليهود؟"‪.‬‬

‫قالت المرأة و هي تشرق بدموعها‪ " :‬أجل يا بنيتي‪ ،‬و لكن ل تبتئسي‪،‬‬
‫فلن يسمح العرب باغتصاب فلسطين‪ ،‬و سيأتي يوم يمن الله علينا‬
‫بنصره‪ ،‬فنعود مطالبين بحقنا المغتصب منا‪ ،‬آخذين بثأرنا من أعدائنا"‪.‬‬

‫تجلت الكآبة من جبين سلمى و غشي الدمع عينيها يتبادر الى السقوط‬
‫فينحدر سخيا من مآقيها يغسل وجهها الشاحب بصمت مرير‪ ،‬فبكت‬
‫العجوز لبكائها و تفرست فيها قائلة‪ " :‬ألست ابنة نجلء؟"‪.‬‬

‫ردت سلمى بصوت خافت‪ " :‬نعم"‪ .‬و أضافت قائلة و قد أنست الى‬
‫العجوز‪ " :‬ليتك تمكثين معي يا خالة؟"‪.‬‬

‫قالت العجوز مضطربة‪ " :‬ل بد لي من المسير ألرى ما صارت إليه‬


‫حال ابنتي في هذه الساعة الرهيبة‪ ،‬فهي تقيم في ذاك البيت القريب‬
‫منا‪ ،‬و إني لجازعة عليها من غارة العدو و عدوانه الغادر‪ ،‬و زوجها ل بد‬
‫قد ذهب للقتال"‪.‬‬

‫قالت ذلك و همت بالمسير‪ ،‬فطرق مسامعهما صوت امرأة تستغيث‬


‫بأعلى صوتها‪ ،‬فقرعت العجوز صدرها بكلتا يديها و قالت مندفعة تجاه‬
‫دار ابنتها‪ " :‬ويله ابنتي إن الصوت صوتها‪ ،‬فل بد قد داهمها في‬
‫وحدتها اليهود"‪.‬‬

‫فجمدت سلمى مكانها و هي تسمع قول المرأة‪ ،‬و غاضت الدماء من‬
‫وجهها حتى حاكى بلونه الجليد الناصع‪ ،‬و شاعت عيناها على المرأة‬
‫العجوز و هي تجري جازعة مهرولة الى دار ابنتها‪ ،‬و إنها لكذلك إذ‬
‫شاهدت هناك فتاة ل تتجاوز العشرين من عمرها متضخمة البطن يدل‬
‫مظهرها على أنها في الشهر األخير من حملها‪ ،‬تركض مندفعة من‬
‫باب بيتها مكشوفة الرأس‪ ،‬عارية القدم و في أثرها رجل على رأسه‬
‫خوذة حديدية و في يده حربة مسلولة براقة الحدين و جعل يركض‬
‫وراء الصبية بكل قوته‪ ،‬حتى إذا ما أدركها أغمد سلحه في بطنها‬
‫فبقره و تركها مضرجة بدمها‪.‬‬

‫و ما إن شاهدت المرأة العجوز مذبح ابنتها الشابة على مرأى منها و‬


‫الجنين يطل من أحشائها مخضبا بدمه‪ ،‬حتى سقطت على وجهها‬
‫مغشيا عليها‪ ،‬و ربما لفظت آخر أنفاسها في سقطتها هذه‪...‬‬

‫و مادت األرض تحت قدمي سلمى لذلك المشهد المروع فأسبلت‬


‫جفنيها مرتمية فوق أرض الحجرة التي تقف فيها‪ ،‬و راحت في شبه‬
‫غيبوبة‪ ،‬و استمرت على ذلك فترة ثم انتفضت انتفاض الطائر المذبوح‬
‫و فتحت عينيها تجيل الطرف من حولها و كأنها في دوامة حالكة‬
‫السواد‪ ،‬و شيئا فشيئا رجعت إليها نفسها حين سمعت صوت طفلها و‬
‫هو يلهو من حولها مع قطة جميلة أخذ يداعبها بكرة صغيرة راح‬
‫يتقاذفها في أركان الحجرة‪.‬‬

‫و طرق مسامعها في تلك اللحظة خفق نعال غليظة تدب حول بيتها‪،‬‬
‫يخالطها صليل سلح و همهمة‪.‬‬

‫فدب الرعب في قلبها‪ ،‬و همت بطفلها و أخذته بين أحضانها هامسة‬
‫في أذنه أل ينبس‪.‬‬

‫فسكن خالد الى حجر أمه ملتصقا بها‪ ،‬و جمد الدم في عروق سلمى‬
‫و هي تسمع ارتطاما يدب في حديقة دارها و كأن أحدا قفز من فوق‬
‫سورها‪ ،‬فشعرت برعشة شديدة تتمشى في أعضائها و بقلبها يتحدر‬
‫الى هوة عميقة ل قرار لها‪ ،‬و قد تعلقت أنفاسها في جوفها فكتمتها‪ ،‬و‬
‫جعلت تضاعف من شد طفلها الى صدرها و هي ترتعد و أسنانها‬
‫تصطك لفرط اضطرابها‪ ،‬و قد اشتد اصفرارها و جمدت أطرافها‪.‬‬

‫و تل الرتطام وقع خطوات تلج الى داخل بيتها فل تلبث أن تدنو من‬
‫الحجرة التي انكمشت فيها و هي و طفلها‪ ،‬و كتمت صيحة كادت‬
‫تفلت منها‪ ،‬حين برز لها في عتبتها رجل من اليهود عملق‪ ،‬خشن‬
‫المظهر‪ ،‬عريض المنكبين كبير الرأس و الوجه‪ ،‬مدبب اللحية أسودها‬
‫صارم الملمح معقوف األنف‪ ،‬جاحظ العينين أسودهما‪ ،‬و قد وقف‬
‫شعر رأسه األسود على جذوره‪ ،‬فبدا بمظهره هذا كالوحش جائع‬
‫يبحث عن فريسة‪ ،‬و كان يحمل فوق كتفه غدارة‪ ،‬و يشهر بيمناه مدية‬
‫حادة أشبه بالسيف المسلول‪.‬‬

‫فصرخ خالد الطفل لهول مظهره دافنا وجهه في صدر أمه‪ ،‬و لم تكن‬
‫أمه أقل فزعا منه و هما يريانه يدنو بخطواته منهما‪ ،‬ثم توقف قائل‬
‫للصبية بصرامة‪ " :‬الذبح لولدك و ليس لك"‪.‬‬

‫و ما لبث أن هم بالطفل فاقتلعه من حجر أمه رافعا سكينه فوق‬


‫عنقه‪ ،‬فصرخ خالد صرخة مفزعة مادا يده الصغيرة ضارعا يطلب‬
‫نجدة أمه‪.‬‬

‫و اندفعت في األم في تلك اللحظة قوة هائلة طاش معها صوابها‪،‬‬


‫فثارت من مكانها ثورة الليث الهائج‪ ،‬و همت بالرجل ناشبة أظفارها‬
‫في وجهه كلبوة كادت تفقد شبلها الوحيد‪ ،‬فعاجلها بضربة قاسية من‬
‫كعب غدارته سددها الى صدرها ارتدت على أثرها الى الوراء ساقطة‬
‫فوق أرض الحجرة‪.‬‬

‫إل أن الضربة لم تمنعها من الوثوب ثانية و عادت فهجمت على الرجل‬


‫الوحش تخلص ولدها من جبروت سكينه‪ ،‬و الطفل ينتفض تحت قبضته‬
‫و يصرخ مستنجدا بأمه و يداه ممدودتان إليها بضراعة تفتت األكباد و‬
‫هو يرى سكين الذابح‪ ،‬صارخا في فزع شديد‪ " :‬أماه‪.‬أماه‪..‬خذيني إليك‬
‫يا أماه"‪.‬‬

‫إل أن الوحش سرعان ما ركل األم بعيدا و هي تحاول تخليص ولدها‬


‫من بين يديه‪ ،‬و قطع على الطفل صوته بضربة قاسية من حد سكينه‬
‫هوى بها في وحشية و نذالة فوق عنقه الصغير فصرخ صرخة ألم سال‬
‫لها دمه‪ ،‬ثم عاجله بضربة أخرى أشد و أقسى أخمد بها أنفاسه‪ ،‬و‬
‫تدحرج لها رأسه الجميل تحت قدمي أمه‪.‬‬

‫فأنت أنين المطعون و جثت تتحسس جثة ولدها و كانت تختلج بين‬
‫يديها و الدماء تنزف من بين أكتافه و رأسه الصغير مدحرج بجوارها و‬
‫قد استرخت يداه اللتان كانتا تضرعان إليها منذ لحظة فسكنت الى‬
‫جنبه و جفناه مسبلن كأنه ينظر عاتبا على أمه التي لم تتمكن من‬
‫إنقاذه‪.‬‬

‫فأكبت عليه أمه تقبله و تمرغ وجهها بدمه‪ ،‬و تحتضن جثته الصغيرة و‬
‫تلصق بها رأسه المخضب بسيل من دمائه الى أن غسلت الدماء‬
‫وجهها فامتزج دمعها بدم ولدها‪ ،‬حتى لم يعد يتبين الناظر إليها‪ ،‬أهي‬
‫تذرف دما أم دمعا؟ و قد ل يرى إل وجها مخضبا تكسوه طبقة حمراء‬
‫من الدماء تقطر مع دموعها من أطراف ذقنها‪.‬‬

‫و وقف السفاك يرقبها متلذذا و هي تئن على ولدها و يشتفي بمرآها‪،‬‬


‫ثم تركها على حالها و مضى يبحث له عن فريسة غيرها يروي من‬
‫دمائها نفسه الظمأى الجائعة‪.‬‬

‫بزغ فجر اليوم التالي لمصاب سلمى‪ ،‬و صحت بصحوة نهاره صاحبة‬
‫ذلك القصر تعد عدتها للرحيل و تطوي داخل حقائبها أردية من‬
‫الدمقس و الحرير‪.‬‬

‫و سعاد ما زالت تلزم فراشها على أثر تلك النزلة الصدرية التي ألمت‬
‫بها فأقعدتها شدتها مدة أيام لم تدر خللها ما دار حولها بين أهل‬
‫القصر و زوج ولدهما‪.‬‬

‫حتى كان ذلك الصباح الذي اقتحمت فيه امرأة عمها عليها باب‬
‫حجرتها قائلة لها باضطراب‪ " :‬أرى أن تتحاملي على نفسك يا سعاد‬
‫بكل ما تستطيعين من قوة لنبرح هذا المكان الى بلد آخر أكثر أمانا و‬
‫اطمئنانا‪ ،‬ثم نعود الى هنا متى هدأت الحال"‪.‬‬

‫فركت سعاد عينيها و الحمى مازالت تلهب جسدها و قالت ذاهلة‬


‫تساءل امرأة عمها‪ " :‬و فيم الرحيل يا امرأة عمي؟"‪.‬‬

‫قالت هذه و هي تتعثر بالرد‪ " :‬لقد سقطت المدينة من يد العرب‪ ،‬و‬
‫لم يعد لنا أمل في البقاء بها‪ ،‬بل أصبح الرحيل ضروريا خشية أن‬
‫يداهمنا اليهود على حين غرة فيفتكوا بنا و يجردونا من حلينا و نقودنا‬
‫كما حدث أن فعلوا بغيرنا من أهل البلد"‪.‬‬

‫استمعت سعاد لمرأة عمها‪ ،‬و ما لبثت أن مرت براحتها فوق جبينها‬
‫كمن تساءل نفسها‪ :‬أفي حلم هي أم في يقظة؟‪..‬و ردت قائلة‪ " :‬ماذا‬
‫أسمع يا امرأة عمي؟‪..‬أسقطت المدينة )حيفا( من أيدينا و استولى‬
‫اليهود عليها و أخذوا يطردوننا كما أراك تقولين؟"‪.‬‬

‫أجابت هذه بصبر نافذ‪ " :‬نعم‪ ،‬و هيا بنا لنحكم أبواب القصر وإغلق‬
‫نوافذه قبل أن نغادره لئل يقتحمه اليهود أثناء غيابنا فيستولوا على ما‬
‫بداخله من نفائس و متاع"‪.‬‬

‫امتقع وجه سعاد و زادها الخبر اصفرارا على اصفرار‪ ،‬و وثبت من‬
‫فراشها هزيلة شاحبة تضطرب في وقفتها كغصن تهزه العاصفة‪ ،‬و‬
‫قالت و هي تستند الى قوائم سريرها‪ " :‬و ماذا عن ابن عمي وليد بعد‬
‫أن انقطع رسوله عنا؟"‪.‬‬

‫أجابتها قائلة‪ " :‬لم نره بعد ذلك قط‪ ،‬و لم نخبر عنه بحال و ل بد أنه‬
‫مقيم عند امرأته بعد أن افترقنا عنها فيأبى لذلك التصال بنا"‪.‬‬

‫ذهلت سعاد لهذا القول‪ ،‬و قالت مستنكرة‪ " :‬إن ما تقولينه ليس من‬
‫خلق ولدك‪ ،‬ثم ما الذي حدث حتى افترقت سلمى عنكم و زوجها‬
‫يقاتل بعيدا عنها؟"‪.‬‬

‫قالت ظريفة متأففة‪ " :‬ل يهمك أمرها كثيرا‪ ،‬كل ما هنالك أنني طلبت‬
‫لنفسي الهدوء من صخب ولدها و رسل زوجها التي تدهمنا فل تنقطع‬
‫عنا في ليل و ل نهار‪ ،‬حتى كانت تلك الليلة التي شاهدتها فيها فزعة‬
‫مضطربة تخلط في القول و تتعثر باأللفاظ‪ ،‬و عبثا حاولت و ابنتي أن‬
‫نقف منها عن مبعث بلبالها و اضطراب حالها‪ ،‬فأيقنت بذلك أنها لبد‬
‫تكتم عنا أمرا بشأن ولدنا تخشى على نفسها من التصريح به‪ ،‬و هذا‬
‫ما جعلني أطلب إليها النزوح الى دارها تنتظر فيها عودة زوجها ما‬
‫دامت قد وافقته على ذلك المصير الذي انتهى إليه"‪.‬‬

‫قالت سعاد عاتبة‪ " :‬ما كنت آمل يا امرأة عمي أن يبلغ من قسوتك‬
‫على زوج ولدك و طفلها هذا الحد من النقمة و الجحود‪ ،‬و ليس‬
‫اضطراب سلمى ذاك معناه أنها أقدمت على ذنب أو جناية ارتكبتها‬
‫في حقك و حق ولدك‪ ،‬حتى تثأري لنفسك منها‪ ،‬و تعملي على إقصائها‬
‫هي و طفلها بعيدا عنا في هذا الظرف المضطرب‪..‬إن الذي شاهدته‬
‫فيها‪ ،‬كان دليل على إخلصها لزوجها‪ ،‬و كتمانها أمره ليس إل حرصا‬
‫منها على حياته و هو يقف في جبهة قتال تستلزم مثل ذلك الحذر و‬
‫الكتمان و برهانا يشهد على إخلصها له و حفظها سره"‪.‬‬

‫قالت هذه دون اكتراث‪ " :‬و أي ضير على ابنة نجلء لو أقامت بطفلها‬
‫بعيدا عنا‪ ،‬و أنا ل أجد الراحة و الهدوء بغير هذه الخطوة التي اتخذتها‬
‫معها؟ و ابن عمك قد ل يروقه أن تقيم امرأته بيننا‪ ،‬بعد أن دعوت‬
‫صهره للسكن معنا‪ ،‬مادام ولدنا قد ذهب للقتال و تركنا بمفردنا؟"‪.‬‬

‫قالت سعاد و قد بان الغضب في جبينها‪ " :‬ذلك كل ما هنالك‪ ،‬أنك‬


‫سعيت ألمنية طالما تاقت نفسك و نفس ابنتك لتحقيقها"‪.‬‬

‫ثم سكتت تنتفض و هي ترمي امرأة عمها بنظرة شرزاء ثم أشاحت‬


‫بوجهها و اجتذبت دثارا من حافة فراشها ألقته على منكبيها و خطت‬
‫متحاملة على نفسها تغالب آلم الحمى التي تعتري جسدها‪.‬‬

‫فهمت بها امرأة عمها متساءلة و قالت‪ " :‬الى أين أنت ذاهبة في هذه‬
‫الساعة المبكرة؟"‪.‬‬

‫قالت دون أن تلتفت إليها‪ " :‬الى حيث أرسلت زوج ولدك"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬عودي الى صوابك يا بنية‪ ،‬فما زلت محمومة تشكين الضعف‪،‬‬
‫و لو أصابك برد على حين خروجك في هذا الوقت المبكر من الصبح‬
‫ألصبت بمرض ل تبرئين منه"‪.‬‬

‫قالت غاضبة‪ " :‬ذلك أفضل من أن أكون شريكتك في عملك تجاه‬


‫سلمى و طردك إياها لتحيى فريدة بين جدران بيتها‪ ،‬و ما من أحد‬
‫يتفقدها و طفلها‪ ،‬و زوجها يقاتل بعيدا عنها فل تدري شيئا من أمره‪ ،‬و‬
‫ما آلت إليه حاله"‪.‬‬

‫ردت ظريفة فقالت‪ " :‬أحذرك ما أنت مقدمة عليه‪ ،‬و قد تعودين الى‬
‫هذا القصر فل تجديننا فيه"‪.‬‬

‫قالت و هي تتابع سيرها‪ " :‬طيبي نفسا و قري عينا‪ ،‬فما أنا لكم بعد‬
‫اليوم بصاحبة‪ ،‬و ل لقصركم هذا بعائدة‪ ،‬فارتحلي مع ابنتك و صهرك‬
‫متى شئتم‪ ،‬و إني لذاهبة الى دار سلمى أنتظر معها عودة زوجها إليها‪،‬‬
‫و أرى ما كان من أمرها و طفلها في وحدتها‪ ،‬و في غمرة هذا الظرف‬
‫الذي يسود المدينة و أهلها"‪.‬‬

‫مشت سعاد تغادر عتبة ذلك القصر و هي تشعر بنفور ل عهد لها بمثله‬
‫نحو امرأة عمها و ابنتها‪ ،‬و هبت عليها إذ ذاك نسمة باردة من نسمات‬
‫الصباح و هي تواجه العراء ارتعشت لها أوصالها المحمومة‪ ،‬و انتابتها‬
‫على أثرها نوبة سعال حادة خارت لها قواها الواهنة‪ ،‬فتجلدت‬
‫مستجمعة شجاعتها و راحت تواصل سيرها في جهد شديد حتى أتت‬
‫دار سلمى‪ ،‬و كان الضعف قد غلبها و بلغ العياء منها مداه‪ ،‬فاستندت‬
‫بجسدها الى سور الحديقة تستجمع شتات أنفاسها و تحبس نوبة‬
‫السعال التي انتابتها من جديد فكادت تمزق صدرها‪.‬‬

‫و شاعت عيناها نحو باب البيت و كان يبدو نصف مفتوح‪ ،‬فسارت‬
‫تلتمس طريقها إليه حتى أتته‪ ،‬و كان السكون هناك موحشا أشبه‬
‫بسكون القبور يخيم على البيت الصغير‪ ،‬ووحشة سائدة تكتنفه كما لو‬
‫كان مكانا مهجورا لم يسكنه قبل اليوم ساكن‪ ،‬و لم تطأ أرضه قدم‬
‫إنسان‪ ،‬فاستغربت سعاد أمر ذلك الصمت المطبق‪ ،‬و أرهفت أذنيها و‬
‫هي تقف في عتبته‪ ،‬فلم تسمع حركة و ل نأمة‪ ،‬و ما رأت شبحا و ل‬
‫ظل لنسان يخطر داخله‪.‬‬

‫فاضطربت للمر أشد اضطراب و هي تعلم أن خالدا ل يطيب له مثل‬


‫هذا السكون البغيض المخيم على ذلك المكان الذي يضمه و أمه‪ ،‬و‬
‫حدثتها نفسها عن أشياء كثيرة إل شيئا واحدا لم يخطر لها في بال‪ ،‬و‬
‫هو أن يكون خالد العزيز قد غدا في عداد األموات‪ ،‬فلم تعد تسمع‬
‫صوته و حديثه بعد اليوم قط‪.‬‬

‫حدثتها نفسها أن تكون سلمى قد ارتحلت عن المدينة بعد‬


‫سقوطها‪..‬ثم خطر لها أن تكون نائمة مع طفلها فلم يحسا بمجيئها‪ ،‬و‬
‫لكن كيف يكون ذلك و هي ترى باب دارها مفتوحا؟‪..‬فقلقت و‬
‫اضطربت و ما لبثت أن هتفت و هي تعبر الى دخل الدار‪" :‬‬
‫سلمى‪..‬خالد‪..‬أين أنتما؟"‪.‬‬

‫فلم يجبها إل صدى صوتها ضعيفا واهيا بين الجدران‪ ،‬و لحت منها‬
‫التفاتة نحو إحدى الحجرات شاهدت فيها قطة بيضاء رابضة عند بابها‬
‫تلحس شعرها الطويل فتزيل عنه قطرات من الدماء‪.‬‬

‫فلم تلق لها سعاد بال‪ ،‬و سارت الى تلك الحجرة التي ترابط عندها‬
‫القطة موقنة أن سلمى و خالدا بداخلها‪ ،‬و كان باب الحجرة غير‬
‫محكم الغلق فتقدمت و دفعته و ما كادت تفعل ذلك حتى طالعها‬
‫مشهد كاد هوله يذهب بصوابها‪ ،‬فصرخت صرخة مدوية‪ ،‬و سقطت‬
‫على وجهها عند باب الحجرة مغشيا عليها‪.‬‬

‫رأت هناك سلمى تجلس فوق أرض الحجرة محلولة الشعر تكسو‬
‫وجهها طبقة داكنة من الدماء حتى لم يعد ظاهرا من معالم وجهها إل‬
‫عينان جامدتان في محاجرهما ل تتحولن و ل تطرفان‪ ،‬كأنهما عينا‬
‫ميت ل حياة فيهما‪ ،‬و جثة طفلها ممدة في حجرها بما فيها رأسه‬
‫المقطوع‪ ،‬و قد تلبد شعره الناعم بمنهل دمائه فجفت عليه و يبست‬
‫خصلته‪ ،‬و أمه شاخصة إليه تنظر الى وجهه المخضب بجمود رهيب‬
‫فل تئن و ل تنبس‪ ،‬و قد جف دمعها و جفت معه الدماء التي غسلت‬
‫منذ األمس وجهها حتى أحالته كقطعة لحم حمراء‪ ،‬و خبا بريق عينيها و‬
‫غشيتهما ظلمة قاتمة تنساب من حولها كما تغشى السحب السوداء‬
‫كوكبين وضيئين فتحيلهما الى عتمة داكنة تحجب شعاع نورهما و قد‬
‫نكست رأسها فوق جيدها الطويل كما تنكس الراية في يوم مشؤوم‪.‬‬

‫عادت سعاد و فتحت عينيها من غشيتها لترى ذلك المشهد الرهيب‪ ،‬لم‬
‫تلبث أن أدركها الغماء ثانية‪ ،‬فانكفأت بوجهها عند عتبة الحجرة التي‬
‫تجلس فيها الشابة المنكوبة بولدها الذبيح‪ ،‬و قطتها الوفية ل تلبث‬
‫تأتيها بين حين و آخر تتمسح بردائها و تموء مواء موجعا كمن تشاركها‬
‫مصابها و تقبل على خالد الطفل الشهيد في حجر أمه تلحس الدماء‬
‫عن يده الصغيرة التي طالما حملتها و داعبتها فغدت اليوم مثلجة‬
‫باردة يكسوها الشحوب‪.‬‬

‫و سعاد ما زالت مطروحة فوق األرض الباردة ذاهبة في إغماء شديد‬


‫لم تصح منه إل على صوت انفجار هائل زلزل بهديره أركان البيت‪،‬‬
‫ففتحت عينيها و دارت بهما يمنة و يسرة و هي ترتجف لفرط آلمها‪ ،‬و‬
‫قد ألفت نفسها بين سحب كثيفة سوداء من الدخان لم تر من بينها إل‬
‫الظلم الدامس‪ ،‬فضغطت صدرها بكلتا يديها و هتفت بصوت ضعيف‬
‫خافت‪ " :‬سلمى أين أنت يا أختاه من هذه الظلمة التي تكتنف‬
‫المكان؟"‪.‬‬

‫و رددت قولها هذا دون أن تسمع الجواب‪ ،‬و شعرت بعده بثقل‬
‫أنفاسها و آلم صدرها تتضاعف و تزداد‪ ،‬و انتابها على أثره نوبة حادة‬
‫من السعال كادت تختنق لها من سحب الدخان التي ازدحمت من‬
‫حولها فغطت المكان و أحست بدوار شديد عابت معه فلم تدر ما‬
‫صارت إليه حالها من بعده‪.‬‬

‫على الشاطئ‬

‫أطل الناس بعيونهم الملبدة بسحب الدموع و هم يسيرون الى‬


‫الشاطئ ليبحروا الى بلد آخر يعصمهم من العدوان اليهودي بعد‬
‫سقوط مدينتهم‪ ،‬و بعد أن استولى اليهود على بيوتهم‪ ،‬و ذبحوا‬
‫أطفالهم و بقروا بطون الحوامل من نساءهم و أخرجوهم من بيوتهم‬
‫و ديارهم قسرا و عنوة بجبروت سلحهم‪ ،‬و ساقوهم الى الشواطئ‬
‫مجروحين منكوبين يهاجرون الى حيث يشاءون‪.‬‬

‫تطلع هؤلء المشردون الى حيث دوى انفجار هائل‪ ،‬فشاهدوا هناك‬
‫حرائق تندلع من مكان ذلك القصر الشاهق المنيف‪ ،‬الذي طالما‬
‫عهدوه شامخا مرابطا عند سفح الجبل‪ ،‬لقد تداعى و انهار كما تنهار‬
‫الربى و الجبال فتحول الى ركام و أطلل مما فيه من رياش فاخر و‬
‫طنافر و أثاث‪.‬‬

‫و كانت امرأة تقف بحقائبها عند الشاطئ في انتظار المركب الذي‬


‫سيقلها الى حيث تشاء‪ ،‬كما لو كانت ذاهبة لقضاء رحلة ممتعة تعود‬
‫بعدها الى الديار و الوطن موفورة الكرامة مرفوعة الرأس‪ ،‬ل منكوبة‬
‫بوطنها و أهلها مطرودة من بلدها‪ ،‬فلما رأت الحرائق عل صراخها‪ ،‬و‬
‫عرفها القوم المثخنون بالجراح أنها صاحبة ذلك القصر تولول عند‬
‫رؤيتها انهياره‪ ،‬و بجانبها ابنتها تقرع صدرها‪.‬‬

‫فهمت بها من بين الجمع الحاشد صبية في مثل سنها مقروحة العينين‬
‫متشحة بالسواد تقول لها و هي تشهد ولولتها و عويلها‪ " :‬ل تبكي يا‬
‫فتاة فليس قصر أبيك هذا أثمن من خسارة الديار‪ ،‬و نكبتك فيه ل‬
‫تفوق نكبة األمهات بأطفالها الذبيحة في أيدي األعداء‪ ،‬و ل توانيها‬
‫قطرة من قطرات الدماء‪ ،‬فاستجمعي حواسك و انظري فيما حولك‬
‫من األنين و الجراح‪ ،‬و اندبي إذا شئت هذه الجموع من أهلك"‪.‬‬

‫و صمتت هدى متماسكة على مضض دون أن تجرؤ على الكلم بين‬
‫هذه الكتل المجروحة‪ ،‬و أخذ الصفرار يعلو وجه زوجها لتلك الخسارة‬
‫التي لحقتهم‪.‬‬

‫و أقبل على أثر ذلك صبي عربي في نحو الثانية عشرة من عمره‬
‫يركض بأقصى سرعته الى الشاطئ الحافل بالمنكوبين العرب‪ ،‬متلفتا‬
‫ما بين لحظة و أخرى الى الوراء و صاح بين الناس‪ " :‬قد أتيتكم و الله‬
‫بنبأ"‪.‬‬

‫رد شيخ ضرير فقال‪ " :‬قل بالله يا بني ما وراءك و عجل في الكلم"‪.‬‬

‫قال الغلم مشيرا الى القصر المنهار‪ " :‬كان اليهود قد احتلوا ذلك‬
‫القصر منذ الصباح‪ ،‬و حشدوا فيه جمعا من شعبهم نساء و أطفال و‬
‫عجائز و شيوخا يعزفون و يرقصون احتفال بسقوط المدينة‪ ،‬و تعالى‬
‫هتافهم و تعالى معه رنين ضحكاتهم نشوى ثملة تخترق الفضاء‪ ،‬و‬
‫مازالت هذه حالهم حتى أتاهم شاب عربي و هم في غمرة سرورهم‪،‬‬
‫فأحال هناءهم الى عزاء و دمرهم شر مدمر‪.‬‬

‫رأيته مديد القامة‪ ،‬قوي البنيان يرتدي الكوفية و العقال‪ ،‬في عينه‬
‫دمعة غضب و في جبينه صيحة ثأر و انتقام‪ ،‬و قد أخذ يسرع الخطى‬
‫ثم وثب من فوق سور الحديقة في ذلك القصر وثبة األسد المهاج قائل‬
‫لي حين أبصر بي‪ :‬امض بعيدا يا أخي عن هذا المكان‪.‬‬

‫ثم دلف يشق طريقه بين أشجار الحديقة بخطى ثابتة سريعة دون‬
‫خوف أو وجل‪ ،‬و كمنت بعيدا أرقب مشهد النفجار و أتوقع رؤية ذلك‬
‫العربي‪ ،‬و لكن وا أسفاه لقد تداعى القصر و انهار دون أن أرى‬
‫للشاب أثرا بعد ذلك و لم أتبين شبحه من بين سحب الدخان التي‬
‫ملت الفضاء كثيفة سوداء"‪.‬‬

‫صاحت ربة القصر بالغلم قائلة و هي تحاول جهدها ضبط أعصابها‪":‬‬


‫هل سردت علي أوصاف ذلك العربي الذي قام بنسف قصرنا و‬
‫تدميره؟"‪.‬‬

‫رد الغلم فقال‪ " :‬بل يمكنك يا خالة أن تفهمي أن ذلك العربي شاء‬
‫نسف اليهود و تدميرهم قبل أن يشاء لقصرك الخراب‪ ،‬و أما ملمحه‬
‫فلم أتبين منها أكثر مما ذكرت ألنه كان ملثما بالكوفية حتى العينين"‪.‬‬

‫لم يطل الكلم بين ظريفة و الغلم‪ ،‬إذ لمحت المراكب مقبلة تتجه‬
‫الى الشواطئ و في مقدمتها مركب كبير هائل عليه علم منكس جاء‬
‫مع غيره من السفن لحمل أولئك المنكوبين الى أوطان غير أوطانهم‪،‬‬
‫و الى أجواء لم يتعودوا حرها و ل بردها‪ ،‬و هجرة ل يعلم إل الله متى‬
‫يعودون منها‪ ،‬و كم يطول عمرها و أمدها‪.‬‬

‫مرت هذه الخواطر في نفوس تلك الجموع المجروحة‪ ،‬و هم يرون‬


‫ذلك المركب الضخم آخذا طريقه إليهم يشق صفحة المياه بتؤدة و‬
‫بطء و كأنه مقدم على عمل مجبر عليه‪ ،‬و ما زال يدنو و العلم العربي‬
‫منكس على مقدمته حتى انتهى الى الشاطئ فرمى مراسيه عليه‪ ،‬و‬
‫هم ربانه بنقل أولئك المنكوبين إليه و الى غيره من السفن التي‬
‫جاءت لحملهم‪.‬‬
‫و تعالت أصوات النحيب من جديد و الناس يلقون آخر نظرة على‬
‫الوطن الشهيد‪ ،‬ناحت العجائز الثكلى بأبنائهن‪ ،‬و ولولت النساء‬
‫المفجوعات في أزواجهن‪ ،‬و ندبت الصبايا فلذات أكبادهن‪ ،‬و بكى‬
‫الشيوخ يستروحون آخر نسمة من األرض العزيزة التي طوت في‬
‫جوفها الشهداء من أبنائهم و كانت ساعة مشهدها لعظيم اربد لها وجه‬
‫السماء فأرسلت رذاذا في صيف ذلك النهار على رؤوس أولئك‬
‫البؤساء تبكيهم و ترثى لحالهم‪.‬‬

‫أقلعت المراكب تشق طريقها فوق سطح البحر بعد أن حملت ذاك‬
‫الحشد المجروح‪ ،‬و ساد السكون تلك الجموع إل من أنين موجع‬
‫يتصاعد من قلوب ممزقة‪ ،‬و قد اختلط بزفيف الريح‪ ،‬و تلطم أمواج‬
‫البحر و هي تصفع المراكب و الصخور‪ ،‬و همت بالربان امرأة شيخة‪،‬‬
‫واهية القوى محنية الظهر مقنعة بالسواد‪ ،‬تسأله بسذاجة‪ " :‬أ سترسو‬
‫بنا الى شاطئ يافا‪ ،‬أم عكا يا ولدي؟"‪.‬‬

‫رد الربان‪ " :‬ليت األمر كذلك يا خالة‪ ،‬فالبلد الساحلية من أرض‬
‫الوطن أشبه بقطعة جمر تتقاذفها قنابل اليهود من كل جنب و ناحية‪،‬‬
‫و لم يبق من مكان هادئ بأرضنا فلسطين‪ ،‬إل الجزء الجنوبي‪ ،‬و أما‬
‫مدينة )يافا( فوا أسفاه"‪.‬‬

‫قطع عليه القوم قوله قائلين بصوت واحد‪ " :‬و ماذا عن مدينة يافا؟"‪.‬‬

‫هز الربان رأسه أسفا كما يفعل الطبيب حين ييأس من حال مريضه و‬
‫قال‪ " :‬إن يافا العزيزة هي اليوم في دورها األخير‪ ،‬فحين مروري‬
‫مساء أمس بشاطئها رأيت قنابل ) المورتر( المضادة و هي تتقاذفها‬
‫متتالية في كل نواحيها‪ ،‬فتنقض بين أرجائها انقضاض الصاعقة‪ ،‬تفتك‬
‫بأهلها و تدمر بيوتهم‪ ،‬أخذ اليهود يمطرونهم بها من معقلهم في )تل‬
‫أبيب( فتمزقهم شر ممزق كما حدث أن فعل األنذال بمدينتنا )حيفا(‪.‬‬
‫و الحال هنا‪ ،‬هو اليوم كالحال هناك في نقص الذخيرة لدى العرب‪.‬‬

‫" و سقوط مدينتنا )حيفا( كان له أثره األكبر في نفوس أهل المدينة‬
‫الشقيقة )يافا(‪ .‬إن النساء من أهالي )يافا( يبتن اليوم مع أطفالهن في‬
‫العراء على شواطئ البحر‪ ،‬تتقاذفهم الرياح‪ ،‬فتهب عليهم عاتية هوجاء‬
‫تحمل ذرات الرمال و رذاذ األمواج تصفع بها وجوههم و تلفح أجساد‬
‫صغارهم‪ ،‬و من بينهم العجائز و الشيوخ و النساء و األطفال و الصبية‪،‬‬
‫جميعهم ينتظرون رحمة الله و أمره تعالى بهم"‪.‬‬

‫و صمت الربان يرسل بصره على صفحة مياه البحر و الكآبة تعلو‬
‫جبينه‪ ،‬و قد عاد السكون فساد السفينة الكبيرة إل من زفرات حارة و‬
‫آهات عميقة ترسلها تلك النفوس الجريحة‪ ،‬و ما لبث أن تغلب على‬
‫ذلك األنين الموجع صوت امرأة تولول محاولة النزول الى مياه البحر‬
‫كمن أصابها مس من الجنون‪.‬‬

‫فاشرأبت ناحيتها األعناق تستطلع أمرها و إذا هي صاحبة القصر تقرع‬


‫صدرها و تصرخ قائلة بأعلى صوتها‪ " :‬تبا له من يوم مضطرب‬
‫مشؤوم‪ ،‬نسيت في غمرته المحمومة حقائبي المكدسة بثيابي‬
‫الفاخرة‪ ،‬ملقاة عند رمال الشاطئ‪ ،‬تعسا لها من ساعة شغلت بها عن‬
‫أمر نفسي باختيار المركب الذي سأصعد إليه"‪.‬‬

‫ثم صمتت فجأة كما لو بوغتت بنازلة نزلت بها شلت كيانها‪ ،‬فوجمت و‬
‫دارت و أدبرت حول نفسها‪ ،‬فما قامت من جمودها حتى عثرت بحاجز‬
‫السفينة فتهاوت بجسدها مستندة إليه‪ ،‬و استمرت على ذلك فترة‬
‫ذاهلة مبهوتة‪ ،‬و فجأة اختلف شأنها فثارت ثورة هائلة انبعثت من‬
‫مكامن نفسها‪ ،‬فجعلت تلطم وجهها‪ ،‬فل تلبث أن تقرع صدرها بكلتا‬
‫يديها و تغمغم بصوت مبحوح ل يكاد يسمع‪ ،‬و عيناها تحملقان على‬
‫الشاطئ البعيد‪ " :‬هناك‪ ،‬هناك نسيت حقيبة من ضمن الحقائب كنت‬
‫أودعت فيها كل ما أملكه من مجوهرات و نقود تركتها ملقاة عند‬
‫رمال الشاطئ غنيمة ثمينة لليهود"‪.‬‬

‫كانت ظريفة تردد هذه األقوال و قد تشعث شعرها‪ ،‬و شاعت عيناها‬
‫في الفضاء كمجنونة فقدت عقلها‪ ،‬و هي ترى نفسها ل تملك سوى‬
‫الرداء الذي يستر جسدها‪ ،‬و القوم في عجب من أمرها‪ ،‬ينظرون إليها‬
‫و ل يفقهون من أي طينة هذه المرأة التي شغلت في اختيار أفخم‬
‫مركب تبحر عليه يليق بمقامها و قدرها‪ ،‬كما هو الرأي عندها‪ ،‬و ما‬
‫لبثوا أن تركوها و شأنها شاخصة الى الشاطئ بعينين جاحظتين‪.‬‬

‫دارت دورة الزمن‪ ،‬و كان قد مضى على تلك النكبة التي حلت بمدينة‬
‫حيفا و أهلها ستة شهور‪ ،‬و كان قد أعقبها أكثر من نكبة نزلت بأكثر‬
‫من مدينة من مدن فلسطين‪ ،‬و هاجر الناس على أثرها من بلدهم بعد‬
‫أن عمل اليهود على طردهم و الستيلء على بيوتهم و اغتصاب‬
‫أموالهم‪.‬‬

‫ساروا متفرقين هنا و هناك بين األقطار العربية و بين البقية الباقية‬
‫من أرضهم فلسطين‪ ،‬فباتوا مشتتين مبددا شملهم‪ ،‬و تفرقت أسرهم‪،‬‬
‫و أصبحت الخيام قصورهم و العراء فرشهم‪ ،‬يتوسدون التراب‪ ،‬و‬
‫يلتحفون ظل السماء داخل خيام ل تحجب عنهم حرارة الشمس و ل‬
‫تقيهم برودة الشتاء‪ ،‬صابرين لحكم األقدار‪ ،‬مؤملين العودة الى الديار‪.‬‬

‫كان مدير المكتب الخاص بالمهاجرين الفلسطينيين جالسا وراء مكتبه‬


‫في العاصمة اللبنانية )بيروت( حين استأذنه شاب يطلب مقابلته‪ ،‬فلباه‬
‫و أذن له بلقائه‪ ،‬و ما لبث أن دخل عليه شاب مديد القامة مبتور‬
‫الذراع اليمنى‪ ،‬يعلوه غبار السفر‪ ،‬و تظلل وجهه سحابة رقيقة من‬
‫األسى الدفين في عينيه السوداوين مع ما يكسو وجهه من شحوب و‬
‫امتقاع‪.‬‬

‫و كان منهوكا يبدو عليه التعب و العياء‪ ،‬تفرس المدير لمكتب شؤون‬
‫المهاجرين الفلسطينيين في وجه الشاب الماثل أمامه‪ ،‬و قد بدا عليه‬
‫األسى لحاله‪ ،‬فهم به مرحبا و دعاه للجلوس يسأله مطلبه‪.‬‬

‫فشكره‪ ،‬و إذ أخذ مكانه على مقعد إزاءه مد له يسراه بورقة صغيرة‬
‫و هو يقول‪ " :‬أكون شاكرا لو أفدتني عما إذا كانت هذه األسماء مدونة‬
‫عندكم في سجل المهاجرين الفلسطينيين؟"‪.‬‬

‫أمسك المدير بالورقة من يد الشاب الممدودة إليه و ألقى عليها نظرة‬


‫ما لبث بعدها أن رفع بصره و عاد فتفرس وجه الشاب من جديد قائل‪:‬‬
‫" أمن أبناء فلسطين أنت؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم‪ ،‬و أولئك هم أهلي‪ ،‬قطعت زمنا في البحث عنهم‪ ،‬طفت‬
‫األقطار العربية طالبا مكانهم منها‪ ،‬و لكني لم أعثر لهم على أثر‪ ،‬حتى‬
‫انتهى بي المطاف الى بلدكم هذا )لبنان("‪.‬‬

‫قال‪ " :‬لحظة واحدة أفيدك بعدها بالجواب"‪.‬‬

‫ثم تحول عنه فاستدعى أحد موظفيه طلب إليه أن يقوم له بالبحث‬
‫بين سجلت المهاجرين عن تلك األسماء التي جاء بها الشاب‪.‬‬

‫أخذ الموظف المسؤول الورقة و غاب بها فترة عاد بعدها الى مديره‬
‫قائل له‪ " :‬لقد وجدت هناك ثلثة من تلك األسماء محررة في‬
‫سجلتنا"‪.‬‬

‫فنزل هذا الخبر على الشاب نزول الغيث في التربة القاحلة‪ ،‬فأحس‬
‫بالراحة و السكينة‪ ،‬و قال للموظف المسؤول‪ " :‬هل أفدتني عنوان‬
‫أهلي من أرضكم ألسير إليه؟"‪.‬‬

‫فلباه في الحال‪ ،‬فشكره و سار في سبيله‪ ،‬و استقل مركبة طلب الى‬
‫سائقها أن يحمله الى العنوان الموضح لديه‪.‬‬

‫آمال ضائعة‬

‫أرسل وليد طرفه في الفضاء البعيد و همس يحدث نفسه و المركبة‬


‫من تحته تطوي األرض و تنهبها نهبا‪ " :‬ترى كيف ستلقاني سلمى بعد‬
‫هذا الفراق الطويل‪ ،‬عدت إليها من بعده بذراع واحدة و األخرى‬
‫مبتورة؟‪..‬و ما هو حالها بعد تلك النكبة التي حلت بوطنها و المذابح‬
‫التي ألحقتها اليهود األنذال بقومها؟‪ .‬و عهدي بها مرهفة الحس‪،‬‬
‫سريعة التأثر‪،‬رقيقة الشعور‪ ،‬و ابني الحبيب‪ ،‬عله نما و كبر خلل هذه‬
‫المدة التي افترقنا فيها؟ لله كم أنا في ظمأ لسماع حديثه و في شوق‬
‫لرؤيته‪..‬و سعاد ابنة عمي‪ ،‬تلك النسانة النبيلة الشعور الكريمة الخلق‪،‬‬
‫ترى ما حالها اليوم بعد تلك الكارثة التي عمت البلد و أهلها؟‪...‬و أمي‬
‫و أختي ترى ما شعورهما بعد أن افترقتا عن قصرهما المنيف؟‪..‬و ما‬
‫عسى أن تقول حين أخبرهما بانهياره و أنني دمرته على رأس من كان‬
‫فيه من اليهود؟‪..‬كل ذلك سنتحدث به عند اللقاء و إني ألسال الله أن‬
‫أجدهم جميعا في خير حال"‪.‬‬

‫و سكت ليرى المركبة قد توقفت به عند إحدى الضواحي اللبناينة و‬


‫الحوذى يخاطبه قائل‪ " :‬قد وصلنا الى المكان المقصود من هذه‬
‫الضاحية"‪.‬‬

‫نزل وليد من المركبة و سار في طريقه بعد أن نفذ الحوذي أجره‪ ،‬و‬
‫كم كانت دهشته و هو يرى نفسه أمام ذلك الوكر الجميل الذي قضى‬
‫و زوجته فيه أياما شاعرية هانئة في الماضي السعيد يوم أن سافر بها‬
‫الى جبل لبنان على أثر موت أمها‪.‬‬

‫هزته الذكرى‪ ،‬و تسمر في وقفته ينظر الى البيت الصغير‪ ،‬و كان يبدو‬
‫كما عهده بحديقته الصغيرة الملتفة حوله بورودها و زهورها‪ ،‬و الغللة‬
‫الرقيقة من النباتات التي تكسو جداره‪ ،‬و شجرة الجوز الهائلة ما‬
‫زالت قائمة على جانب من سوره‪.‬‬

‫كل ذلك حرك الكثير من الشوق الكامن في نفسه‪ ،‬فوقف ساكنا‬


‫يستعيد الذكرى بحلوها و مرها‪ ،‬و يستروح شذى الزهر عبقا معطرا‬
‫ترسله ألنفه جنة البيت الصغير مع النسيم العليل كتحية ترحب بقدومه‬
‫الى أرضها‪.‬‬
‫فأطرق هامسا لنفسه ‪ " :‬ل بد أن سلمى الحبيبة قد أتت هذا البيت‬
‫الذي ضمنا يوما لتحيى فيه على ذكراي بعد أن يئست من وجودي‬
‫حيا"‪.‬‬

‫ثم رفع رأسه و لحت منه التفاتة شاهد فيها امرأة تسير ميممة شطر‬
‫ذلك البيت بخطى وئيدة‪ ،‬تجر قدميها جرا في مسيرها و تبدو مهزولة‬
‫مضغضغة‪ ،‬تحمل بيدها سلة صغيرة فيها بعض أنواع الخضروات‪.‬‬

‫شخص وليد بعينيه الى تلك المرأة و هي تسير الهوينا متحاملة على‬
‫نفسها تقتلع قدميها اقتلعا في مسيرها‪ ،‬و قال يحدث نفسه و قد‬
‫اتسعت حدقتاه‪ " :‬أليست هي ابنة عمي سعاد؟‪..‬و إن هذه التي أراها‬
‫تبدو أضعف منها كثيرا و لكن الشبه بينهما شديد"‪.‬‬

‫و صمت برهة يتفرس فيها‪ ،‬و ما لبث أن انتقل و سار في مواجهتها‪ ،‬و‬
‫إذا هي سعاد بعينها‪ ،‬و ما كانت قد لمحته و هو يسرع الخطى ناحيتها‪،‬‬
‫مادا إليها يسراه مسلما‪..‬و ما كاد بصرها يقع عليه حتى هزت المفاجأة‬
‫كيانها‪ ،‬و أقبلت عليه و هي تردد بصوت مبحوح‪ " :‬أخي‪..‬أخي‪..‬ابن‬
‫عمي وليد‪..‬حمدا لله على سلمتك يا أخي"‪.‬‬

‫و انهمرت الدموع من عينيها تغسل وجهها الشاحب و هي ترى ذراعه‬


‫المبتورة‪ ،‬و خانتها قدماها الهزيلتان فكادت تنكفئ على وجهها لول أن‬
‫تداركها وليد‪ .‬و أخذ بسلتها الصغيرة فحملها عنها‪ ،‬و قد هاله ما هي‬
‫عليه من الضعف و الهزال قال هامسا و العبرات تخنقه‪ " :‬أجميعكم‬
‫في خير يا سعاد؟"‪.‬‬

‫هزت رأسها أن " نعم" و هي ل تقوى على الكلم لختناقها بالبكاء‪ ،‬و‬
‫لم تشأ أن تحطم قلبه مرة واحدة فتباغته بما ينتظره من أخبار سيئة‬
‫لحقت بفلذة كبده‪ ،‬و غيره ممن يحبهم‪ ،‬قال و قد انبسط وجهه‬
‫لسلمة أهله‪ " :‬حمدا لله‪ ،‬فذلك ما كنت أرجوه من ربي بعد الذي حل‬
‫بنا"‪.‬‬
‫ثم استدرك فقال‪ " :‬مالي أراك على هذه الحال من الضعف و الهزال‬
‫يا ابنة عمي؟"‪.‬‬

‫أجابته بصوت خائر و الدموع تمل مآقيها‪ " :‬ليس الذي مر بنا حلما من‬
‫األحلم يا وليد‪ ،‬بل كانت هناك مآس شهدناها بأهلنا تكاد قسوتها تذيب‬
‫الصخور و تصهر الحديد"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬صدقت"‪.‬‬

‫و استطرد‪ " :‬هيا بنا الى بقية أهلنا‪ ،‬فالشوق لرؤيتهم قد بلغ و الله‬
‫مني مداه"‪.‬‬

‫فأطرقت دون أن تنتقل خطوة من مكانها‪ ،‬و راح دمعها يتساقط‬


‫بغزارة فوق صدرها‪ ،‬فتفرس بها و قال و قد امتقع لونه‪ " :‬قولي يا‬
‫سعاد ما هنالك و اصدقيني القول و ل تخفي عني أمرا ل بد لي من‬
‫الطلع عليه عاجل أو آجل"‪.‬‬

‫فلما سمعت قوله‪ ،‬رفعت بصرها الى وجهه محاولة النطق فخانتها‬
‫األلفاظ و ارتج عليها فعادت الى صمتها و إطراقها‪ ،‬فاضطرب لذلك‬
‫أشد اضطراب و قال يضغط قلبه براحة يده‪ " :‬تكلمي يا سعاد‪ ،‬فما‬
‫بقي للصبر في قلبي مكان"‪.‬‬

‫استجمعت شجاعتها و قالت و الدمع ينساب فوق وجنتيها الشاحبتين‪:‬‬


‫" حدث أن ألم بحبيبنا خالد مرض لم يحتمل شدته توفاه الله على‬
‫أثره"‪.‬‬

‫قالت ذلك و لم تشأ أن تذكر له الحقيقة المؤلمة بمصرع ولده رحمة‬


‫به و شفقة عليه‪ ،‬و تمثل لبصرها في تلك اللحظة خالد الطفل الشهيد‬
‫ذبيحا في حجر أمه‪ ،‬فأجهشت و قد عل شهيقها‪.‬‬
‫و نزل الخبر على األب الشاب نزول الصاعقة‪ ،‬فأطرق للمر ساكنا له‬
‫سكونا عميقا موجعا ل تتخلله حركة و ل نأمة‪ ،‬و قد ازدحم الدمع يمل‬
‫مآقيه فل يلبث أن ينحدر فوق وجهه‪ ،‬و مرت به فترة‪ ،‬صامتا ملتاعا‪ ،‬و‬
‫ابنة عمه ترقبه باكية الى أن رأته يرفع بصره إليها قائل بصوت تخنقه‬
‫الدموع‪ " :‬و سلمى‪ ،‬ما حالها بعد أن فقدت ولدها الحبيب؟"‪.‬‬

‫قالت تطيب نفسه‪ " :‬ل بأس بها‪ ،‬و إن كانت الصدمة قد أثرت في‬
‫صحتها فأدركها الهزال"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬خذيني إليها بالله يا سعاد"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬هيا بنا فهي مقيمة هناك في ذاك البيت الصغير"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و أمي أليست مقيمة معكما؟"‪.‬‬

‫أجابت بشيء من النفور و قد تجلت الكآبة في جبينها‪ " :‬كل‪..‬و ل ندري‬


‫مكانها في أرض الله الواسعة"‪.‬‬

‫قال دهشا و الدمع مازال يبلل عينيه‪ " :‬كيف ذلك يا سعاد؟‪..‬ألم‬
‫تهاجرن معا؟"‪.‬‬

‫قالت باقتضاب‪ " :‬كل"‪.‬‬

‫و سكتت تلتقط دموعها‪ ،‬و سكت هو و األسى يعصر قلبه لفقدان‬


‫ولده‪ ،‬و مشى ميمما شطر البيت الصغير و يتعجل الخطى إليه‪ ،‬و‬
‫سعاد تسير بجانبه حتى إذا ما أصبحا على مقربة منه‪ ،‬أمسكت سعاد‬
‫عن المسير حيث انتابتها في تلك اللحظة نوبة سعال حادة جافة نفثت‬
‫لها خيوطا حمراء انسابت من بين شفتيها‪ ،‬فراحت تلتقطها بمنديلها‪ ،‬و‬
‫شاهد وليد الدماء التي نفثتها ابنة عمه مع لعابها‪ ،‬فأدرك أنها مصابة‬
‫بذات الرئة‪.‬‬

‫فشعر بقلبه يذوب شفقة عليها‪ ،‬و أدركت سعاد ما يدور في نفسه‬
‫بشأنها و هي ترى األسى يلبس وجهه‪.‬‬

‫فهمت به قائلة بعد أن التقطت أنفاسها المضطربة‪ " :‬ل يشغلك أمري‬
‫يا ابن العم"‪.‬‬

‫قال‪ ":‬إن حالك يؤلمني يا ابنة عمي‪ ،‬فما الذي ألم بك؟"‪.‬‬

‫سكتت و هي ترى في السكوت راحة فيما عسى أن تقوله عن أسباب‬


‫علتها‪ ،‬و قالت و هي تهم بالمسير‪ " :‬هيا بنا"‪.‬‬

‫قالت ذلك و مشت‪ ،‬و مشى هو بأثرها مطرقا خافض الطرف‪ .‬حتى‬
‫إذا أتيا باب البيت‪ ،‬التفتت سعاد و قالت ممسكة بذراعه‪ " :‬تجلد يا بن‬
‫عمي"‪.‬‬

‫فاصفر الشاب و شحب لونه شحوبا شديدا‪ ،‬و قال مضطربا‪ " :‬انطقي‬
‫بها كلمة يا سعاد‪ ،‬هل ماتت سلمى؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬كل و الله فهي مازالت حية ترزق"‪.‬‬

‫قال و قد اتسعت حدقتاه و اضطربت أنفاسه‪ " :‬هل حسبتني سلمى‬


‫ميتا فاقترنت بغيري؟"‪.‬‬

‫قالت عاتبة‪ " :‬حاشا لله أن تقدم على ذلك"‪.‬‬

‫قال و هو مازال على اضطرابه‪ " :‬إذن ماذا يا سعاد؟ لقد أفزعني‬
‫قولك"‪.‬‬
‫قالت تخبره خبر زوجته‪ ،‬و قد عاد الدمع يلمع في عينيها‪ " :‬إن سلمى‬
‫اليوم غير من عرفتها بعد أن فقدت ولدها‪..‬لقد باتت على أثره هزيلة‬
‫شاحبة عاجزة عن أمر نفسها فل تحس بشيء و ل تشعر بما يدور من‬
‫حولها"‪.‬‬

‫فارتجف للخبر و نظر إليها مبهوتا و قد بردت أطرافه و جف دمعه‬


‫المترقرق في عينيه و لبست وجهه سحابة بيضاء تتناثر عليها حبات‬
‫البرد‪ ،‬و قال بصوت محموم‪ "..‬ماذا أسمع يا سعاد‪ ،‬هل جنت‬
‫سلمى؟"‪.‬‬

‫أطرقت سعاد قائلة بصوت خافت يرتعش‪ " :‬نعم‪ ،‬و قد جئت بها الى‬
‫هذا البيت الذي طالما أحبته و حدثتني عنه في األيام الماضية عسى‬
‫أن ترد لها الذكرى صوابها إل أن هذا لم يغير شيئا من حالها‪ ،‬و لم يرد‬
‫عليها عقلها"‪.‬‬

‫قالت ذلك و انفجرت باكية‪ ،‬و شاعت عينا الشاب الى البيت الذي‬
‫يضم زوجته يتطلع إليه بنظرات تائهة ملتاعة‪ ،‬و ما لبث أن اندفع الى‬
‫بابه‪ ،‬و ما كاد يدلف الى داخله حتى طالعته زوجته الحبيبة تقف في‬
‫أرض الحديقة الصغيرة‪ ،‬عليها رداء أبيض فضفاض تبدو فيه هزيلة‬
‫شاحبة و شعرها الجميل مرسل فوق كتفيها الضامرتين بغدائره‬
‫الطويلة‪ ،‬و كانت تبدو نصف مضفورة‪ ،‬و قد سرحت طرفها في‬
‫السماء تقلب فيها نظرها‪ ،‬كمن تعد نجومها أو تبحث فيها عن عزيز‬
‫فقدته فصعدت روحه مرفرفة الى بارئها‪.‬‬

‫فاندفع إليها ممسكا بيدها‪ ،‬و ل يستطيع الكلم لختناقه بالبكاء‪.‬‬

‫و تطلعت سلمى الى وجه زوجها بعينين صافيتين قد أذبل األسى‬


‫أجفانهما‪ ،‬ثم ما لبثت أن سحبت يدها برفق من يده‪ ،‬و أشاحت عنه و‬
‫هي ل تعرفه‪.‬‬
‫فأفلت عندئذ الزمام من الزوج و أجهش يبكي بكاء الطفل الذي تنكره‬
‫أمه و هتفت به سعاد‪ " :‬كلمها يا وليد‪..‬كلمها يا أخي‪..‬إني أراها قد‬
‫ارتجفت ألول وهلة سمعت فيها نبرة صوتك"‪.‬‬

‫فاستجمع شتات نفسه‪ ،‬و عاد فأمسك بيد زوجه‪ ،‬و خاطبها قائل و‬
‫منهل دموعه يهدر فوق خديه‪ " :‬هاأنذا يا سلمى قد عدت إليك يا‬
‫حبيبتي‪ ،‬أل تعرفينني؟"‪.‬‬

‫و صمت ليراها قد شخصت إليه قليل و هو يقف أمامها‪ ،‬و رعشة‬


‫خفيفة مرت بشفتيها حين سمعت صوته يخاطبها‪ ،‬و ما لبثت أن‬
‫تحولت عنه ساحبة يدها من يده‪ ،‬كمن لم تفقه قوله‪ ،‬و ل عهد لها به‬
‫قبل اليوم‪ ،‬و سارت الى شجرة الجوز القائمة على جانب من‬
‫الحديقة‪ ،‬مستندة بظهرها الى جذعها‪ ،‬و بصرها مسرح في الفضاء‪ ،‬و‬
‫تركت زوجها مسمرا في مكانه ينظر إليها بعينين تبللهما الدموع‪.‬‬

‫قال يخاطبها بصوت ملؤه األسى‪ " :‬يا الله يا سلمى‪ ،‬أراك اليوم‬
‫تنكرينني و تشيحين بوجهك معرضة عني‪ ،‬من غير كلمة أسمعها منك‬
‫تنعشين بها نفسي المحطمة‪ ،‬انظري إلي يا سلمى‪ ،‬و أنا اليوم لم تعد‬
‫لي إل ذراع واحدة و األخرى مبتورة‪ ،‬و ليرحم الله حبيبنا خالد‪ ،‬و يلهمنا‬
‫الصبر و العزاء"‪.‬‬

‫فما إن نطق وليد باسم ولده حتى رأى زوجته قد انتفضت انتفاضة‬
‫شديدة و جعلت تتلفت من حولها بنظرات تائهة مبعثرة‪ ،‬كمن تبحث‬
‫عن شيء ضاع منها‪ ،‬ثم ل تلبث أن ترفع يدها الى جبهتها و تمر‬
‫براحتها فوق جبينها ثم تعود فتضرب كفا بكف‪ ،‬و شفتها بين أسنانها‬
‫تقضمها فتكاد تدميها‪.‬‬

‫و أقبلت سعاد في أثناء ذلك على ابن عمها و هو مسمر في مكانه و‬


‫مشهد زوجه يكاد يذهب برشده هامسة في أذنه‪ " :‬قل لها ما شئت‬
‫من القول يا وليد عدا أن تذكر خالدا"‪.‬‬

‫قال و عيناه تدمعان و ل تتحولن عن سلمى‪ " :‬أو هكذا حالها دائما‬
‫صامتة شاردة ل تنبس؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬بل كثيرا ما تنتابها ثورة بكاء جامحة تنساب معها األلفاظ من‬
‫بين شفتيها تسابق انهمار دمعها"‪.‬‬

‫قال يلهث بأنفاسه‪ " :‬أريدها تبكي‪ ،‬ليتها تثور‪..‬إن هذا الحزن البليغ‬
‫الصامت يكاد يقتلها"‪.‬‬

‫قالت سعاد‪ " :‬إن هذا الضيق‪ ،‬و ذاك الرتباك اللذين يبدوان عليها الن‬
‫هما نذير ثورة تكاد تنتابها فاذهب أنت لتستريح من عناء السفر‪ ،‬و‬
‫دعني ألمرها"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬و أي راحة هذه التي أطلبها لنفسي؟"‪.‬‬

‫قالت سعاد تخفف عنه‪ " :‬هون عليك‪ ،‬فليس هذا حالها دائما‪ ،‬بل كثيرا‬
‫ما تنقضي عليها أيام تكون فيها عاكفة تمارس هوايتها المعهودة في‬
‫رسم اللوحات على مناظر مختلفة‪ ،‬و قد أعدت من اللوحات الزيتية‬
‫منذ هاجرنا الى هذه الديار حتى الن أربعا‪ ،‬كانت جميعها مثال الروعة‬
‫و التقان"‪.‬‬

‫قال دهشا‪ " :‬كيف ذلك يا سعاد و هذه حالها؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬ل يدهشك هذا منها‪..‬إن المناظر التي سجلتها سلمى في‬
‫لوحاتها تلك كانت جميعها من المناظر الدامية التي تشهد على ما هو‬
‫كامن في نفسها و تأثرت به و انطبعت صورته بمخيلتها‪ ،‬فما عادت‬
‫تذكر في دنياها شيئا سواه‪ ،‬فكانت لوحات ضخمة لها قدرها و قيمتها‬
‫الفنية"‪.‬‬

‫قال بلهفة‪ " :‬و أين تلك اللوحات؟‪..‬إلي بها يا سعاد"‪.‬‬

‫قالت بصوت خافت و هي تطرق برأسها‪ " :‬لقد بيعت يا ابن عمي‪ ،‬و‬
‫من ثمنها انفق اليوم على قوتي و قوت سلمى‪ ،‬بعد أن تركنا ألمك و‬
‫في قصر أبيك كل ما نملكه"‪.‬‬

‫ذهل لقولها و قال‪ " :‬هل لي بذلك أن أفهم يا سعاد أن أمي عملت‬
‫على طرد زوجي؟"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬تلك قصة طويلة سنتحدث بها فيما بعد"‪.‬‬

‫قالت ذلك و رفعت منديلها الى فمها تحبس نوبة السعال التي عصفت‬
‫بها و كانت شديدة حادة في هذه المرة نفثت لها كثيرا من الدماء‬
‫بصقتها بقعا حمراء امتزج معها لعابها‪ ،‬مما أثار حزن ابن عمها و‬
‫شفقته عليها‪،‬‬
‫فخف متحول عنها ليأتيها بقطرة ماء تسكن بها ثورة صدرها‪ ،‬و حين‬
‫عاد إليها بكوب ماء رأى زوجه تدنو من سعاد محملقة في تلك البقع‬
‫الحمراء التي نفثتها رئتاها قائلة و الدمع يترقرق في عينيها‪:‬‬

‫" الدماء‪...‬الدماء هناك شاهدتها تسيل قانية حمراء ملت المكان من‬
‫حولي‪..‬و تقاطرت تسبح بها جثته الصغيرة‪ ،‬انغمست معها خصلت‬
‫شعره الناعمة الجميلة‪..‬فيا الله ما كان أكثره حبا ألمه و ما أكثرني‬
‫حنانا و عطفا عليه‪ ،‬ذلك العزيز الذي اختطفته يد المنية مني‪..‬و‬
‫اثكلتني به و أبعدته عني‪ ،‬جميل يانع قصفته سكين الذابح كما يقصف‬
‫المنجل عنق الزنبقة الشذية‪..‬ليته يعود إلي أو أذهب أنا إليه‪...‬متى و‬
‫أين؟‪..‬أبحث دوما و دوما أبحث عنه‪..‬فل أجده إل أثرا بعد عين‪..‬لبث‬
‫معي هناك و طول الليل‪..‬أضمه و أحنو عليه‪..‬أكلمه فل يرد علي‪..‬قبلته‬
‫و هتفت به و عبثا حاولت‪...‬تحسسته و إذا هو مثلج‪..‬مخضب‬
‫بالدم‪..‬ندبته و ضممته و أنا ل أرضى له الدفن‪..‬فالقبور باردة مظلمة‬
‫أخشى عليه رهبتها و أخشى على نفسي فراقه‪..‬أواه‪ ،‬كم كان فزعا‬
‫جزعا كالطير يكره الذبح‪..‬و كم من طيور أحبها فأطلقها مخافة عليها‬
‫من الذبح‪..‬ولداه‪..‬مد إلي يده الصغيرة ضارعا مستنجدا يصرخ‬
‫مستغيثا‪ ) ..‬أماه‪..‬أماه‪..‬خذيني إليك يا أماه( فسبقتني السكين‬
‫إليه‪..‬قطعت عليه صوته الحبيب الى قلبي‪..‬و تدحرج لها رأسه الجميل‬
‫تحت قدمي‪..‬و نجعت الدماء تنهل من حول عنقه‪..‬و آه لي و لهفي‬
‫عليه‪..‬ليتني لم أكن أمه و ليتني ما ولدته"‪.‬‬

‫و سكتت تنشج نشيجا موجعا و تلتفت ملتاعة باحثة عن ولدها‪ ،‬و‬


‫طاش صواب وليد عند سماعه قولها‪ ،‬و قد انفطر قلبه يقطر دما على‬
‫ولده و هو يسمع بمقتله‪...‬و غاضت الدماء من وجهه و جف معها دمعه‬
‫و ابيضت سحنته‪ ،‬و ود لو يبكي‪ ،‬لكن الدموع خانته‪ ،‬و لبثت عيناه‬
‫جامدتين في محاجرهما ل تتحولن و ل تطرفان‪..‬و هال مظهره هذا‬
‫ابنة عمه فهمت به تهزه من ذراعه قائلة بصوت مجهد‪ " :‬ارجع الى‬
‫نفسك يا ابن عمي‪ ،‬فهذا الجمود الذي يعتريك أخاف عليك أمره"‪.‬‬

‫نظر إليها كالتائه و قال و العرق يبلله‪ " :‬لقد ذبح األنذال ولدي في‬
‫حجر أمه‪ ،‬و قد ذهب هول الجريمة بصوابها"‪.‬‬
‫أطرقت سعاد تشرق بدموعها و هي ل تجد ما تقوله بعد أن انبلجت له‬
‫الحقيقة في مقتل ولده الطفل شر قتلة‪ ،‬و كان الهياج قد بلغ في‬
‫نفس سلمى مداه‪ ،‬فجعلت تكرر قولها عن المذابح و الدماء‪ ،‬و قد‬
‫انتابها ثورة بكاء جامحة كانت تنتفض لها انتفاض الطير الذبيح‪،‬‬
‫فاندفع إليها وليد و هي ترتجف في وقفتها و تلقى رأسها فوق صدره‪.‬‬
‫و مازالت تلك حالها حتى أدركها العياء فنامت‪.‬‬

‫همست سعاد إذ ذاك‪" :‬حمدا لله الذي غلبها النعاس فنامت‪ ،‬و عهدي‬
‫بها أنها لو انتابتها ثورة بكاء كهذه لم تسكت عنها الساعات الطوال‪،‬‬
‫فهيا نودعها فراشها‪ ،‬و امض أنت لتستريح"‪.‬‬

‫و دلف بها الى حجرة هناك كانت حجرتهما في األيام الخالية‪ ،‬يوم أن‬
‫أتيا ذلك الكوخ الجميل فأقاما فيه فترة من الزمان‪ ،‬رأى هناك سريرا‬
‫عليه أغطية بيضاء‪ ،‬و في ركن الحجرة مقعد بجانب منضدة صغيرة‪،‬‬
‫تناثرت عليها أدوات الرسم و أنابيب األلوان‪ ،‬و في الركن الخر أريكة‬
‫متواضعة تغمرها أشعة الشمس المطلة عليها من فجوة النافذة‬
‫القريبة من سرير سلمى‪.‬‬

‫فراح يجيل الطرف فيما حوله‪ ،‬و يرقب سعاد وهي تسبل الغطاء على‬
‫زوجته في مضجعها‪ ،‬و همس يحدث نفسه و عيناه شاخصتان الى‬
‫وجهها الشاحب‪ " :‬يا لضياع تلك النفس الكريمة"‪.‬‬

‫ثم استدار فجذب مقعدها من عند منضدتها‪ ،‬ووضعه بجانب فراشها و‬


‫تهالك فوقه واضعا رأسه المحموم فوق كفه المضطرب مطلقا األعنة‬
‫لذكرياته‪ ،‬و لبث غارقا في أودية خواطره و تأملته‪ ،‬الى أن أيقظه من‬
‫بحر أفكاره وقع خطوات تسير الهوينا‪ ،‬فرفع رأسه ليرى سعاد مقبلة‬
‫عليه تحمل بين يديها الضعيفتين صفحة عليها طبق من الطعام و كوب‬
‫ماء بجانبه رغيف خبز و تفاحة‪.‬‬

‫فخف إليها يحمل عنها ما أتته به‪ ،‬و شكرها قائل‪ " :‬ليس بي حاجة الى‬
‫الطعام يا سعاد"‪.‬‬

‫و كانت سعاد قد لمحت انقباض نفسه‪ ،‬فأغضت قائلة‪ " :‬بل أرى أن‬
‫تأكل و لو قليل‪ ،‬فأنت مقبل من سفر بعيد و قد أدركنا األصيل و أنت‬
‫مازلت بل طعام و ل شراب‪ ،‬هيا خذ طعامك و لو من أجل سلمى"‪.‬‬

‫فغص بريقه و قال مغضيا يحبس دمعه‪ " :‬و سلمى‪ ،‬أل تأكل؟"‪.‬‬
‫قالت‪ " :‬من عادتها أنها ل تقدم على الطعام إل إن أعياها الجوع فتأكل‬
‫منه مضغتين أو ثلثا‪ ،‬ثم ل تلبث أن ترفع يدها عنه‪ ،‬و هذا مما يزيد من‬
‫ضعفها و هزالها‪،‬‬
‫و ليس هناك من يعني بأمرها أكثر من ذلك لكوني أعمل جهدي في‬
‫البتعاد عنها مخافة عليها من العدوى"‪.‬‬

‫ثم استطردت هامسة حين لمحت سلمى تتململ في مرقدها‪ ،‬و تشق‬
‫جفنيها متلفتة حولها‪ " :‬ها هي ذي قد استيقظت‪ ،‬فامض إليها و تناول‬
‫طعامك بجانبها‪ ،‬وسأذهب أنا فآتيها بطبق آخر من الطعام عسى أن‬
‫تقدم عليه معك"‪.‬‬

‫وضع وليد صفحة الطعام على المقعد بجانب سرير زوجته و جلس هو‬
‫على حافة الفراش ممسكا بيدها ينظر إليها متألما لحالها و هي تحدق‬
‫به و ل تعرفه‪ ،‬ثم تحول و أتاها بالطعام‪ ،‬و راح يطعمها كما تطعم األم‬
‫طفلها العزيز‪ ،‬فأطاعته و لم تمانع‪ ،‬و جعلت تأكل من يده كل ما يأتيها‬
‫به‪ ،‬فانتعشت نفسه و هو يلمس منها هذا القبال على الطعام‪ ،‬و ما‬
‫زال بها حتى شبعت فأعرضت فأتاها بالماء فشربت‪ ،‬و صمتت تعبث‬
‫بزر سترته‪ ،‬فهمس لها و يده قابضة على يدها‪ " :‬أل يذكرك هذا‬
‫المكان بشيء يا سلمى؟"‪.‬‬

‫فرفعت بصرها الى وجهه‪ ،‬ثم راحت تتلفت حولها كأنها تبحث عن‬
‫محدثها‪ ،‬فقال يحدث نفسه و األلم يعصر قلبه‪ " :‬وا أسفاه‪ ،‬إنها لم‬
‫تعرفني‪ .‬لقد نسيت ذلك السم و صاحبه‪ ،‬وما كان أجمله من فيها و‬
‫هي تردده بصوتها الصافي الرخيم ) وليد("‪.‬‬

‫و سكت ليراها قد ارتجفت على أثر قوله‪ ،‬و انطلقت عيناها في‬
‫الفضاء و أخذت تهمس‪ " :‬وليد‪..‬وليد‪..‬ذهب بعيدا عني و تركني وحدي‪،‬‬
‫فما رجع إلي‪ ،‬و ما رأيته بعد أن فارقته قط"‪.‬‬
‫فكاد قلبه يثب من بين ضلوعه و هو يراها تردد اسمه‪ ،‬و قال لهثا و‬
‫هو يرفع وجهها بأطراف أنامله‪ " :‬بل هاأنذا بين يديك يا سلمى ‪..‬أنا‬
‫وليد‪..‬حاولي أن تذكريني"‪.‬‬

‫فحدقت به و وجهه بالقرب من وجهها‪ ،‬ثم ما لبثت أن قطبت جبينها‬


‫متراجعة الى الوراء قائلة و قد عاد الدمع يلمع في عينيها‪ " :‬ل‪..‬ل فما‬
‫أنت بزوجي و ل أنا بامرأتك‪ ،‬و ل عهد لي بمثلك‪..‬فمن تكون يا‬
‫رجل؟‪..‬أجلد ذابح أنت أتيتني ظمأ متعطشا لراقة دمي؟‪..‬أغرب عني‬
‫أيها السفاك قد رأيتك باألمس تبقر بطن الصبية بحربتك المسلولة‬
‫حتى أطل الجنين من أحشاء أمه مخضبا بدمه‪..‬لصوص خائنون أنذال‬
‫مغتصبون‪..‬قوم مشردون‪..‬جمعكم الطمع في أرضنا هاجرتم إليها‬
‫قسرا و عنوة‪..‬مطالبين بغير حقكم‪..‬طامعين في غير أرضكم‪..‬معلنين‬
‫علينا حربكم‪..‬تعال‪..‬تعال يا بني الحبيب‪..‬و أرقد في حجري‪ ،‬و حذار أن‬
‫تنبس لئل يسمعنا السفاكون األنذال فيفتكوا بنا على غفلة منا‪ ،‬يا‬
‫خالد‪..‬إني ألسمع هناك ارتطاما دب في حديقة دارنا الخطوات تدنو‬
‫منا‪..‬ويله يا بني‪..‬اصمت و ل تنبس يا حبيبي رجل وحشي يستل‬
‫سكينه‪..‬عملق مشعث الشعر‪..‬قبيح المظهر رهيبه‪."..‬‬

‫ثم صرخت صرخة مدوية و عيناها مثبتتان على وجه زوجها كأنما خيل‬
‫إليها أنه ذلك السفاك قاتل ولدها‪ ،‬ثم ما لبثت أن انكفأت على وجهها‬
‫دافنة رأسها بين وسائد فراشها‪.‬‬

‫وهب الشاب مستويا على قدميه و قد اصفر وجهه حتى حاكى في‬
‫لونه اصفرار وجوه الموتى‪ ،‬و جاءت سعاد تتعثر بخطواتها على أثر‬
‫تلك الصرخة التي ندت عن سلمى و لمحت ابن عمها مسمرا في‬
‫أرض الحجرة ينتفض‪.‬‬

‫فأومأت له أن يغادر مكانه و يدع زوجته منفردة ريثما تهدأ ثائرتها‪،‬‬


‫فمشى في أثر ابنة عمه حيث جاءته بمقعد وضعته له تحت الجوزة‬
‫عند حديقة البيت‪ ،‬فارتمى فوقه ملقيا برأسه الى ظهره مضطرب‬
‫األنفاس مسبل األجفان‪.‬‬

‫و قعدت سعاد بالقرب منه على بساط صغير و جعلت رأسها ملقى‬
‫فوق كفها المهزولة‪ .‬و إذا هي تسمع ابن عمها يساءلها و هو مسبل‬
‫جفنيه و رأسه متكئ الى ظهر مقعده‪ " :‬هل قصصت علي قصة زوجي‬
‫مع أهلي يا ابنة عمي؟"‪.‬‬

‫صمتت سعاد لحظة راحت من بعدها تسرد على مسامع ابن عمها ما‬
‫وقفت عليه من أمر زوجه مع أهله الى أن حملتها مهاجرة بها الى‬
‫أرض لبنان‪ ،‬و هو مصغ إليها صامت إل من آهة حارة يطلقها من‬
‫أعماقه بين آونة و أخرى‪.‬‬

‫ثم أخذت تجاذبه أطراف الحديث‪ ،‬و مازالت به تحادثه و ترفه عنه‬
‫حتى مالت الشمس الى خط المغيب‪ ،‬فهبت عليهما إذ ذاك نسمات‬
‫الغروب بعثت برودتها القشعريرة الى نفس سعاد‪.‬‬

‫فاقترح عليها أن تدلف الى حجرتها و لبث هو جالسا مكانه فوق‬


‫مقعده عند جذع الجوزة و تحت أغصانها الكبيرة المتشابكة الى أن‬
‫أدركه الظلم ينسج خيوطه من حوله ناشرا أجنحته في الفضاء‪ ،‬و قد‬
‫سكنت الطبيعة و هدأ صخب النهار و أدبر فلم يسمع إل زفيف الريح و‬
‫هي تمر عابرة بفروع األشجار‪ ،‬و خشخشة األغصان و حفيف أوراقها‪،‬‬
‫يتلوه خرير المياه و هي تنحدر متسلسلة من منابعها فوق الحصباء‬
‫تخالطها نقنقة الضفادع عند ضفاف الجداول و بين البساتين المترامية‬
‫األطراف‪ ،‬فتذكر سلمى حين كانت تجالسه في مثل تلك الساعة‬
‫عندما سكنا ذلك البيت في سالف األيام‪.‬‬

‫فرفع بصره الى السماء و إذا هي جميلة صافية‪ ،‬قبة زرقاء تتلأل في‬
‫كبدها النجوم فضية مشرقة كأنها أحجار الماس النفيس تتناثر على‬
‫ثوب عرس سماوي اللون شاسع الذيل‪ ،‬و أطل القمر بدرا يسطع‬
‫بنوره كأنه وجه العروس الحسناء صاحبة الرداء المرصع تحيط بقرصه‬
‫كواكبه المتألقة إحاطة الحسان بالغادة الفاتنة‪ ،‬فآلمته الذكرى‪ ،‬و عاد‬
‫خافض الطرف‪ ،‬ثم نهض ليرى حجرة زوجه مضاءة و هي جالسة أمام‬
‫منضدتها تمسك بريشتها و تجري بها فوق لوحة جديدة شرعت‬
‫تصورها‪ ،‬فمشى إليها و وقف بباب الحجرة يرقبها صامتا ساكنا خشية‬
‫من ثورة تنتابها بعد الذي شاهده منها في يومه هذا‪ ،‬و لحظ عليها‬
‫اضطراب أنفاسها و احمرار عينيها و ذبول جفنيها‪ ،‬و رآها تطلق آهة‬
‫رقيقة بين لحظة و أخرى من بين شفتيها و ل تلبث أن تدفن رأسها‬
‫بين راحتيها ثم تعود فتتابع رسمها‪ ،‬فتفرس فيها و حدثته نفسه أنها‬
‫تشكو صداعا يؤلمها تعجز عن ذكره و تفسيره‪.‬‬

‫فقلق لذلك‪ ،‬و مشى إليها يحس جبهتها‪ ،‬و إذا هي ساخنة ملتهبة تكاد‬
‫حرارتها تصلي كفه‪ ،‬فجزع عليها جزعا شديدا أقامه و أقعده‪ ،‬و ود لو‬
‫يمكنه تحويلها عن متابعة رسم لوحتها ليتسنى لها الرقاد و الراحة في‬
‫فراشها و احتار في أمره و هو ل يدري كيف يحسن تصرفه معها دون‬
‫إزعاجها‪ ،‬و من غير أن يثير عليها أعصابها‪..‬و لبث واقفا بجوارها قلقا‬
‫مرتبكا و األسى يمل قلبه‪ ،‬و قد فاضت آلمه‪ ،‬و أشعرته حاله بعجزه‬
‫عن احتمال مصابه‪.‬‬

‫و فيما هو واجم ملتاع يتلمس الصبر و يبحث عن العزاء رآها قد مالت‬


‫برأسها عليه‪ ،‬فما أفاق لنفسه إل و رأسها قد ثقل فوق ذراعه‪ ،‬و رآها‬
‫ذهبت في نوم عميق‪ ،‬فحملها الى الفراش و أسدل عليها غطاءها‪ ،‬و‬
‫قد هجره النوم في تلك الليلة الليلء فاضطجع بجنبه الى األريكة‬
‫المقابلة لسرير زوجه‪ ،‬و عيناه شاخصتان الى وجهها ل تتحولن عنه‪ ،‬و‬
‫لم يلبث يتفقدها بين لحظة و أخرى ساهرا مطلقا األعنة ألفكاره‪ ،‬الى‬
‫أن غلبه النعاس فنام منهوكا نوما عميقا طويل لم يصح منه إل و‬
‫الشمس قد ملت الدنيا شعاعا‪ ،‬فنهض متكاسل و أقبل على زوجه‬
‫يتفقدها و يتحسس جبهتها‪ ،‬و كانت مازالت تغط في نومها‪.‬‬

‫فانتعشت نفسه و تنشطت آماله و هو يراها في نوم عميق هادئ بعد‬


‫أن علم من ابنة عمه أنها ل تنام من الليل إل أقله‪ ،‬و ل تقدم على‬
‫الطعام إل لماما‪ .‬و زاد من اطمأنانه عليها‪ ،‬أن رأى الحرارة التي‬
‫اعترتها ليلة األمس قد ذهبت و زالت عنها‪ ،‬فحمد الله على ذلك و‬
‫مضى يعد لها طعام الفطار ريثما تصحو‪.‬‬

‫و إذا مر بباب الحجرة التي فيها سعاد طرق مسامعه أنين خافت‬
‫ينبعث من هناك‪ ،‬فقلق لذلك و تقدم فقرع الباب بأطراف أنامله‪،‬‬
‫فسمع صوتا واهيا يقول‪ " :‬أهذا أنت يا ابن العم؟"‪.‬‬

‫قال‪" :‬نعم"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬تفضل بالدخول"‪.‬‬

‫فدفع الباب و دلف الى الداخل‪ ،‬و رأى ابنة عمه منكمشة في فراشها‬
‫و قد لفت رأسها بخمار ثقيل و ألقت على منكبيها دثارا أحكمت به لف‬
‫جسدها‪ ،‬و على الرغم من تلك األغطية الثقيلة‪ ،‬كانت مثلجة األطراف‬
‫ترتجف تحت دثارها و أسنانها تصطك‪ ،‬و قد شحب لونها شحوبا شديدا‬
‫ابيضت له شفتاها‪ ،‬و صفرة داكنة تخالط بياض عينيها‪ ،‬فهال أمرها‬
‫لبن عمها‪ ،‬حين رآها على تلك الحال‪ ،‬و قلق لذلك قلقا عظيما‪ ،‬و‬
‫ابتدرها قائل‪ " :‬أرى أن أدعو لك طبيبا يداوي حالك"‪.‬‬

‫انحدرت بعينيها الى الفراش و قد مرت بشفتيها ابتسامة باهتة‪ " :‬ل‬
‫أظنها إل نهاية العمر قد دنت يا ابن العم فما من طبيب يمكن أن يرد‬
‫علي صحتي و ينتشلني من هذا الداء الكامن في صدري"‪.‬‬

‫تأثر لحاها و قال‪ " :‬بل سيكتب لك الشفاء بإذن الله و ل يأس من‬
‫رحمته تعالى يا سعاد"‪.‬‬

‫سكتت مطرقة تعبث بطرف ردائها‪ ،‬و تحول هو عنها فترة عاد بعدها‬
‫يحمل بيده قدحا‪ ،‬و أقبل عليها قائل‪ " :‬إليك بهذا القدح الدافئ من‬
‫الشاي ليرد الحرارة الى بدنك ريثما آتيك بالطبيب"‪.‬‬
‫فشكرته و تناولت من يده القدح الذي جاءها به و أخذت ترتشفه و‬
‫هي تنتفض في فراشها‪ ،‬و مضى هو يدعو لها طبيبا‪ ،‬و لم ينقض وقت‬
‫قصير حتى عاد يرافقه الطبيب فقاده الى حجرة سعاد‪.‬‬

‫و لبث وليد عند باب الحجرة منتظرا قرار الطبيب في حالة ابنة عمه‪،‬‬
‫حتى إذا فرغ هذا من الفحص عن العليلة خرج من مخدعها‪ ،‬فتلقاه‬
‫وليد بالسؤال عما وجده في حالتها‪ ،‬فهز رأسه آسفا و قال‪ " :‬إنها في‬
‫فترة النهاية‪ ،‬و خير علج أراه لتسكين آلمها هو النتقال الى مصحات‬
‫الجبل تتعاطى علجها هناك تحت إشراف األطباء"‪.‬‬

‫انتقلت سعاد الى مصحات جبل لبنان بعد أن ودعت ابن عمها داعية‬
‫لسلمى بالشفاء و قد مكثت هناك أسبوعين لم ينقطع فيهما وليد عن‬
‫زيارتها‪ ،‬و قد لحظ في أثناء ذلك أن حالة ابنة عمه تسير من سيء‬
‫الى أسوأ‪.‬‬

‫و أما هي فكانت ل تكاد تلمحه آتيا لزيارتها حتى تتحامل على ألمها و‬
‫تلقاه هاشة باسمة و تبتدره بالسؤال عن سلمى؟‪..‬فيجيبها محزونا‪" :‬‬
‫إنها مازالت على حالها‪ ،‬تهرف و تثور و تبكي‪ ،‬ثم تنام بعد ذلك‬
‫منهوكة"‪.‬‬

‫فتطيب نفسه و تمنيه بشفاء زوجه‪ ،‬و كانت هذه آخر كلماتها إليه لخر‬
‫مرة عادها فيها‪ ،‬إذ انتقل إليه خبر موتها في صبيحة اليوم التالي لتلك‬
‫الزيارة فصدم لذلك صدمة شديدة و هزه الخبر فبكاها بكاء األخ أخته‬
‫الرؤوم ذارفا عليها الدمع السخين‪.‬‬
‫اللوحة الدامية‬

‫مرت بضعة أيام على موت سعاد كان فيها وليد كئيبا منطويا على‬
‫نفسه يعنى بأمر زوجته دون أن يلقى بال للوحتها التي كانت تبعث‬
‫الحمى في أوصالها كلما راحت تتابع فيها رسمها و تصوير مناظرها‪،‬‬
‫حتى كانت آخر مرة جلست فيها سلمى أمام لوحتها هذه تعمل بعض‬
‫اللمسات الطفيفة في ألوانها بعد أن أنهت تصويرها‪ ،‬و مازالت بها الى‬
‫أن فرغت من إعدادها‪ ،‬فألقت بريشتها جانبا‪ ،‬تنظر الى لوحتها و‬
‫تحملق فيها‪ ،‬و كانت مصورة تصويرا بارعا‪ ،‬مثال للروعة و التقان‪.‬‬

‫و ما لبثت أن أشاحت عنها و انكفأت فوق منضدتها تنشج نشيجا‬


‫موجعا‪ ،‬و كان زوجها ساعتئذ غائبا عن الدار‪ ،‬و حين عاد من شأنه‪،‬‬
‫هرع في الحال الى حجرة زوجه يتفقدها كعادته‪ ،‬فرآها غارقة في‬
‫مقعدها مسبلة جفنيها و قد غسلت الدموع وجهها‪ ،‬و حمى ملتهبة‬
‫اندلعت حرارتها تسري في أوصالها و راح صدرها يعلو و يهبط بأنفاس‬
‫مضطربة محمومة غير منتظمة‪.‬‬
‫و ثار قلقه عليها‪ ،‬و وقعت عيناه في تلك اللحظة على اللوحة التي‬
‫أعدتها و أنهت تصويرها‪ ،‬وقف شعر رأسه لهول المنظر الذي طالعه‬
‫فيها‪.‬‬

‫رأى هناك صورة ابنه الطفل الشهيد مخضبا بدمه‪ ،‬و قد انفصل رأسه‬
‫عن جثته الصغيرة‪ ،‬و جفناه كأنهما مسبلن‪ ،‬و وجهه الجميل لوثته‬
‫الدماء و اختلط بخصلت شعره‪ ،‬و رجل عملق رهيب المظهر يقف‬
‫بالقرب من الجثة وسكينه مشهر في يده يقطر من حدها الدم‪ ،‬و فتاة‬
‫حسناء راكعة بجوار جثة طفلها محلولة الشعر تنساب من مآقيها‬
‫الدموع تخالطها قطرات من الدماء‪ ،‬فاصفر الشاب و جمدت عيناه‬
‫على صورة ابنه الذبيح‪ ،‬و طلب البكاء فامتنع عنه و استرسل عرقه و‬
‫هم متقاطرا يغسل وجهه و ينضح مرصعا جبهته‪.‬‬

‫و جعل ينقل بصره متوجعا ملتاعا ما بين وجه سلمى الذي ضرجته‬
‫الحمى بحمرة قانية‪ ،‬و بين لوحتها الهائلة الدامية‪.‬‬

‫و رآها تتململ برأسها فوق ظهر مقعدها‪ ،‬مسبلة جفنيها تتأوه و تهذي‬
‫باسم زوجها و ولدها‪ ،‬فجثا بجانبها آخذا بيدها و يبللها بدموعه التي‬
‫انفجر بركانها‪ ،‬و أحس براحتها ساخنة ملتهبة كجمرة تكاد تصلي كفه‪،‬‬
‫فزاده الحال قلقا‪ ،‬و خاف عليها وطأة هذه الحرارة المندلعة في‬
‫أعضائها فهم بها و أودعها فراشها و انكفأ راجعا يدعو لها طبيبا يعالج‬
‫حالها‪.‬‬

‫و ما لبث أن عاد يرافقه الطبيب‪ ،‬فقاده الى حيث ترقد زوجته‪ ،‬و‬
‫كانت مازالت غارقة في هذيانها‪ ،‬تتلوى في فراشها تحت وطأة الحمى‬
‫التي أخذت تلهب جسدها النحيل‪.‬‬

‫و أقبل عليها الطبيب يفحصها فحصا دقيقا‪ ،‬و كان وليد قد شرح له‬
‫حالتها و هذيانها‪،‬حتى إذا ما أنهى الطبيب فحصه‪ ،‬التفت الى وليد الذي‬
‫كان يرقبه قلقا‪ ،‬و قال له‪ " :‬إنها مصابة بحمى مخية‪ ،‬و تحتاج الى‬
‫سهر و عناية دقيقة و أل تبرح فراشها في أثناء العلج‪ ،‬خشية من‬
‫نكسة تدركها فيسوء حالها"‪.‬‬

‫انقضت على ذلك بضعة أيام‪ ،‬و سلمى ملزمة فراشها ل تبرحه‪ ،‬غائبة‬
‫في لجة الحمى التي اعترتها‪ ،‬و زوجها فوق رأسها ل يبرح مكانه‪ ،‬يعنى‬
‫بأمرها و يمدها بالدواء حسب أوامر الطبيب‪.‬‬

‫و كان شديد القلق عليها دائب السهاد بجوارها‪ ،‬يتحسس رأسها و‬


‫يديها في كل لحظة و أخرى‪ ،‬و يسكب لها الدواء بين شفتيها و هي‬
‫غارقة في هذيانها مسبلة األجفان‪ .‬حتى كان ذات ليلة ساهرا كعادته‬
‫فوق مقعده بجانب فراشها يرنو إليها محزونا لما صارت إليها حالها‪ ،‬و‬
‫كيف أثكلها الدهر و عصفت نوازله بها و هي مازالت في ريعان الصبا‬
‫و عنفوان شبابها‪ ،‬و ذكر أيامه الماضية معها‪ ،‬و حبه و هناءته في ظلها‪،‬‬
‫و السعادة التي تذوقها على يديها‪ ،‬و همساتها الحلوة وغنة صوتها‬
‫الصافية العذبة و تلك البتسامة المشرقة‪.‬‬

‫و ذكر في تلك الساعة ولده و وطنه و ما آلت إليه حاله‪ ،‬فزاد ذلك من‬
‫ضيق صدره و شقائه‪ ،‬و تراكمت عليه همومه‪ .‬فهاج لها وجده مطلقا‬
‫األعنة لدموعه‪ ،‬حتى أدركه التعب فأخذته سنة نام فيها فوق مقعده‪،‬‬
‫ملقيا برأسه الى ظهره‪ ،‬فما صحا من غفوته هذه إل على صوت نهنهة‬
‫مكتومة‪..‬فتح عينيه على أثرها ليجد زوجه جاثية بجوار مقعده‪ ،‬تهتز و‬
‫تضطرب‪ ،‬و تنظر الى وجهه نظرتها الحبيبة المعهودة‪ ،‬و يسراها‬
‫ممدودة تتحسس يمناه المبتورة‪.‬‬

‫ذهل في بادئ األمر‪،‬حتى كادت المفاجأة تذهب بلبه‪ ،‬و حسب نفسه‬
‫في حلم ل في يقظة لما يراه من غرابة و دهشة‪ ،‬و عاد و فرك عينيه‬
‫كمن يستشهد وجدانه‪ ،‬فما رأى نفسه بحالم و ل بصره بكاذب‪ ،‬و لما‬
‫رأت هي منه هذا الصمت و الجمود‪،‬خيل لها أنه واجد عليها فمدت إليه‬
‫يدا هزيلة ضارعة ترتجف و العبرات تخنقها‪ ،‬فمال عليها و أنهضها من‬
‫رقدتها‪.‬‬

‫فسكنت برأسها الى كتفه‪ ،‬و همست بصوت مجهد تخنقه الدموع‪ ،‬و‬
‫يدها مازالت تتحسس ذراعه المبتورة‪ " :‬وليد أحي أنت؟"‪.‬‬

‫ما كاد يسمعها تخاطبه بلهجتها الحبيبة‪ ،‬حتى ازداد دمعه انهمارا و ألجم‬
‫النفعال لسانه لعظم فرحته بها‪ ،‬و عادت فهمست ترنو الى وجهه و‬
‫رأسها متوسد صدره‪ " :‬هل سامحتني يا وليد؟"‪.‬‬

‫قال متوسل و هو يخشى عليها ذكر الماضي و تأثيره فيها‪ " :‬ل تعودي‬
‫الى ما فات بالله يا سلمى و ل تذكريه أبدا"‪.‬‬

‫قالت بصوتها الواهي الضعيف‪ " :‬أل تراني أتيت أمرا يخجلني‪ ،‬و إن‬
‫كنت مرغمة فيما أقدمت عليه؟"‪.‬‬

‫قال و الفرحة تكاد تخرجه عن اتزانه‪ " :‬إني و والله في اشتياق‬


‫لسماع هذه اللهجة الحلوة اشتياق الضرير الى بصيص النور يا سلمى‪،‬‬
‫و المزيد منها يزيدني انتعاشا و انشراحا‪ ،‬و لكني أوثر لك الهدوء و‬
‫السكينة"‪.‬‬

‫قالت بصوت واه‪ " :‬آه صدقت‪ ،‬حقا إنني مريضة لما أحسه و أراه من‬
‫هزال جسمي و انهيار قواي"‪.‬‬

‫ثم صمتت لحظة تجيل الطرف من حولها‪ ،‬ثم ما لبثت أن قالت في‬
‫همس‪ ":‬ألسنا في ذلك الكوخ الجميل من أرض لبنان يا وليد؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم"‪.‬‬

‫قالت‪ " :‬و ما الذي دعاك للتخلف عن مواقف القتال و المجيء بي‬
‫الى هذا المكان؟"‪.‬‬

‫زفر و قال‪ " :‬لم يكن لنا بد من ذلك يا سلمى؟"‪.‬‬

‫قالت بصوت محموم‪ " :‬إني ل أفهم ما تقول‪ ،‬و إن كنت أرى في‬
‫قولك هذا ما يفزعني‪ ،‬فهل معناه أنا كنا الخاسرين و الغلبة كانت‬
‫لليهود المغتصبين"‪.‬‬

‫قال مموها مخافة عليها من الصدمة‪ " :‬ل‪ ،‬ل ‪..‬إنما أعني بذلك أن‬
‫الطبيب وصف لك هواء جبل لبنان و هذا ما جعلني آتي بك الى هنا‪ ،‬و‬
‫ل نلبث أن نعود الى ديارنا متى كتب لك الشفاء"‪.‬‬

‫فتفرست به لحظة ثم هتفت بلهفة‪ " :‬و خالد ابننا الحبيب ألم تحمله‬
‫معنا يا وليد؟"‪.‬‬

‫كظم دموعه و قال‪ " :‬بلى"‪.‬‬

‫قالت مشتاقة‪ " :‬إلي به بالله‪ ،‬فأين هو من هذا المكان؟‪...‬و قد أرهبني‬


‫حلم شاهدته فيه كاد يذهب برشدي"‪.‬‬

‫أغضى لئل ترى دمعه و قال‪ " :‬بل هو في رحلة الن مع ابنة عمي‬
‫سعاد سافرت به الى إحدى الضواحي القريبة منا"‪.‬‬

‫زفرت و قالت عاتبة‪ " :‬أما كان األجدر أن يلبث ابني بجانبي بدل من‬
‫أن تبعده عني و أنا في شدتي هذه؟‪..‬و قد أموت قبل عودته إلينا فل‬
‫أراه بذلك أبدا"‪.‬‬

‫هزه قولها و قال مضطربا‪ " :‬إن لقولك هذا وقع السهام في نفسي يا‬
‫سلمى‪ ،‬قترفقي بي و اشفقي على حالي و ل تذكري كلمة الموت‬
‫أبدا"‪.‬‬
‫فلما سمعت كلمه‪ ،‬استعبرت باكية‪ ،‬و قالت تدفن وجهها في صدره‪" :‬‬
‫أواه كم قاسيت باحثة عن هذا الصدر الرحيم ألجأ إليه يوم أن همت‬
‫في ليلة ليلء يكتنفني الظلم و تتقاذفني الشظايا و ابني محمول فوق‬
‫ذراعي و الرعب يخلع قلبي‪ ،‬أعدو تارة و أتعثر أخرى‪ ،‬كأن أشباحا‬
‫رهيبة مروعة تتأثرني فتكاد تنتزع روحي من بين جنبي"‪.‬‬

‫قالت ذلك و أجهشت تبكي متشبثة به‪ ،‬كأنما تخشى فراقه لها‪ ،‬و قد‬
‫عل شهيقها فأخذ يسكن من روعها و قلبه يذوب حبا و عطفا عليها‪ ،‬و‬
‫هي تنشج فوق صدره و ترتعش كعصفور تائه كسير الجناح اهتدى الى‬
‫عشه بعد أن قطع في سبيله الفيافي و القفار‪ ،‬فاستكان إليه متعبا‬
‫لهث األنفاس‪.‬‬

‫و لم تزل تبكي و تنفث مع دموعها آلم صدرها حتى اشتفت نفسها‪،‬‬


‫فسكنت سكونا عميقا مطرقة برأسها‪ ،‬و عادت ترفع وجهها و تحدق به‬
‫كأن خاطرا هاما طرأ عليها تنبهت له جوارحها‪ ،‬و قالت‪ " :‬اصغ إلي يا‬
‫وليد‪ ،‬تخيل إلي أمورا كثيرة حدثت بعد تلك الليلة ل أكاد أذكرها على‬
‫وجه التحديد‪ ،‬و أظنني شاهدتها هناك و في داري مع إبني‪ ،‬أجل إبني‬
‫أين هو؟"‪.‬‬

‫و سكتت تنظر إليه و يدها على قلبها في انتظار جوابه‪ ،‬أجاب و كله‬
‫جزع عليها لما يراه من أمرها و اضطرابها فقال‪ " :‬سكني روعك يا‬
‫حبيبتي‪ ،‬و ما هذا الذي تتحدثين به إل أضغاث أوهام تتخيلينها من تأثير‬
‫الحمى في نفسك"‪.‬‬

‫سكنت تنظر الى وجهه نظرة التائه الحائر ثم قالت‪ " :‬و لكن هل أنا‬
‫واهمة يا وليد فيما ذكرته عما كان من أمري مع األعداء‪ ،‬و إرغامي‬
‫على الفضاء بأمرك إليهم؟ ثم ذلك الرجل )حامد( إنه يهودي و الله يا‬
‫وليد‪..‬تلك حقيقة أذكرها فما هي وهم و ل هذيان‪ ،‬وبعد‪ ،‬ألم تطردني‬
‫أمك في تلك الليلة؟‪..‬ثم ابني بربك قل أين هو يا وليد؟"‪.‬‬
‫قال يهدئ روعها‪ " :‬قلت أنه رافق ابنة عمي سعاد في رحلتها‪ ،‬فلم‬
‫كل هذا الضطراب يا حبيبتي؟"‪.‬‬

‫سكتت تتلفت من حولها كمن لم يقنعها قوله‪ ،‬ثم قالت تحدث نفسها‪:‬‬
‫" من لي بمن أهبه عمري على أن يذكر لي الحقيقة التي أجهلها‬
‫بابني؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬صدق ما أقول و الله يا سلمى‪ ،‬فخالد و سعاد معا و أقسم‬
‫على ذلك"‪.‬‬

‫فلما سمعت كلمه و قسمه‪ ،‬سكن روعها و تبددت شكوكها و‬


‫هواجسها المتضاربة على رأسها‪ ،‬و رددت بصوت خافت‪ " :‬الحمد‬
‫لله"‪.‬‬

‫و استطردت و هي تمر براحتها فوق جبينها الممتقع‪ " :‬لعن الله‬


‫الشيطان‪ ،‬يا له من حلم مروع"‪.‬‬

‫ثم سكتت و أشاحت بوجهها كأنها تطرد عن ناظرها تلك الرؤيا التي‬
‫تتحدث عنها‪ ،‬و زوجها يرقبها خلسة وأجفا في نكسة تدركها و هو يراها‬
‫تطارد الماضي و هي بين مصدقة و مكذبة‪ ،‬فزاد خوفه و قلقه عليها‬
‫صمتهها و جمودها‪،‬‬
‫كأنما ذهبت في تفكير عميق تستعيد به الذكرى التي يخشى تأثيرها‬
‫على عقلها الوليد ابن اللحظة‪.‬‬

‫و كذلك ظل يتقلب فترة بين القلق و الفزع حتى رآها تعاود النظر الى‬
‫وجهه بعينين يترقرق الدمع في إنسانيتهما و تقول‪ " :‬ما لي أراك كئيبا‬
‫مهتما يكسوك الشحوب؟ و هذه الغنة الحزينة التي تلون أوتار صوتك‬
‫متخللة نبضاته الجوهرية الصافية؟ و تلك الكآبة التي يتشح بها الجبين؟‬
‫و ما بال هذه النظرة الذابلة التي انكسر عليها جفناك في أسى‬
‫دفين؟"‪.‬‬

‫قال يرنو عليها‪ " :‬الحياة الواحدة ل تنقسم الى حياتين يا سلمى لتسير‬
‫كل منهما في استقلل عن األخرى‪ ،‬و الروح ل تمكن تجزئتها الى‬
‫جزئين‪ ،‬كما أن القلب ل يشطر نصفين‪ ،‬ليعيش النصف منه جذل‬
‫طروبا و الخر كئيبا محزونا‪ ،‬فما بك بي و الذي تشعرين به أشعر به‪،‬‬
‫فعلتك علتي و ابللك سعادتي‪ ،‬أنت لي كالهواء الذي أتنسمه و الماء‬
‫الذي أستقيه‪ ،‬و ما أشبهني بتربة خصبة أنت قطرات غيثها‪ ،‬فلو أن هذا‬
‫الغيث انقطع عن تربته الطيبة‪ ،‬ليبست أرضها و جف طينها و‬
‫استحالت بيداء قاحلة جرداء ل ينمو فيها عشب و ل يجري فيها ماء‪ ،‬و‬
‫أما ذراعي هذه المبتورة‪ ،‬فل يبكيك أمرها يا سلمى‪ ،‬فهذا أقل ما‬
‫أمكنني أن أناله من أوسمة الجهاد"‪.‬‬

‫فلما سمعت قوله أطرقت‪ ،‬و لحظ أنها ترتعش في جلستها و ركبتاها‬
‫تصطكان‪ ،‬فهم بها قائل‪ " :‬إنك ترتجفين بشدة يا حبيبتي‪ ،‬فالزمي‬
‫فراشك ليتسنى لك الراحة و الرقاد"‪.‬‬

‫فهزت رأسها و همست ‪ " :‬أتركني بربك قاعدة هنا الى جوارك‪ ،‬إني‬
‫أحن إليك و الى ماضينا في أرضنا و ديارنا حنين الرضيع للثدي بعد‬
‫الفطام"‪.‬‬

‫فقبل جبينها و قال‪ " :‬كم أود أن يطول بنا أمد قعودنا في جلستنا هذه‪،‬‬
‫لول أني أخشى تأثير ذلك على صحتك"‪.‬‬

‫فأطاعته و انتقلت الى فراشها فأسبل عليها غطاءها‪ ،‬ثم جلس على‬
‫حافة الفراش يحادثها و يده في يدها حتى غلبها النعاس فنامت‪.‬‬

‫و لما رآها ذهبت تغط في نومها هرع في الحال الى لوحتها تلك التي‬
‫تصور مذبح ولدهما‪ ،‬فأخفاها في ركن قصي من المكان بعيدا عن‬
‫ناظريها ريثما ينبلج الصبح فيعمل على إقصائها‪،‬‬
‫ثم عاد و اضطجع بجنبه الى األريكة المقابلة لسرير زوجته و هو‬
‫ينتفض تأثرا لذلك المشهد الدامي الذي يصور مقتل ابنه الطفل‪ ،‬و ما‬
‫لبث أن تهجم وجهه و بكى ولده الذبيح بكاء مرا‪ ،‬حتى أعياه األمر‬
‫فأخذته سنة من النوم استغرق لها في سبات عميق‪ ،‬لم يصح منه إل‬
‫على ملمس أنامل رقيقة تمر على جبهته الشاحبة‪ ،‬و دمعة ساخنة‬
‫ندت على خده تنبهت لها جوارحه‪ ،‬فهب على أثرها من رقدته ليجد‬
‫النهار قد مل الفضاء و زوجه تقف بجانبه تهتز و ترتعش بعودها و تقول‬
‫عاتبة‪ " :‬ويحي يا وليد‪ ،‬إنك تقتل نفسك من أجلي أيها الحبيب‪ ،‬أو هكذا‬
‫تقضي ليلك بل دثار من أجل أن توفر غطاء لي؟"‪.‬‬

‫فاستوى ناهضا يتداركها من ذراعها و هي ترتجف في وقفتها‪ ،‬و قال و‬


‫هو يقودها الى الفراش و يجلس معها على حافته‪ " :‬ما كان ينبغي أن‬
‫تبرحي فراشك يا حبيبتي و أنت بأشد الحاجة الى الرقاد و الدثار‪،‬‬
‫فبالله يا سلمى دعيني أعنى بأمرك ليمن الله علي بشفاءك التام"‪.‬‬

‫قالت ‪ " :‬و هل يهمني أمرك و سلمتك و أنا أراك على هذه الحال من‬
‫الشحوب و الهزال؟"‪.‬‬

‫قال يسكن ما بها‪ " :‬ليس هذا الذي ترينه بي سوى تعب يسير ل يلبث‬
‫أن يزول عني فيعاودني نشاطي و قواي"‪.‬‬

‫ثم راح يحادثها ذاهبا معها مذاهب شتى في الحديث ليسري عنها‪،‬‬
‫فهدأت نفسها للطف حديثه و تقبلته بالرضا و البتسام‪ ،‬و إذ اطمئن‬
‫قلبه عليها انصرف بذهنه الى تلك اللوحة التي أودعها باألمس حجرة‬
‫ابنة عمه الراحلة يفكر في إبعادها عن مكان زوجه و التعجيل في‬
‫إخراجها خارج البيت‪ ،‬فنهض قائل‪ " :‬هل أذنت لي زوجتي الحبيبة‬
‫بالنصراف لحظة الى سوق القرية"‪.‬‬
‫مرت بشفتيها ابتسامة هادئة و قالت‪ " :‬لم ذلك؟"‪.‬‬

‫صمت لحظة ثم قال‪ " :‬لشراء بعض المأكولت‪ ،‬فما من يوم شعرت‬
‫فيه بالجوع منذ جئت الى هذا المكان مثلما شعرت هذا الصباح‬
‫بحاجتي الى الطعام"‪.‬‬

‫قالت و قد صدقته في زعمه‪ " :‬امض بحراسة الله‪ ،‬و اشتر لنفسك ما‬
‫تشتهيه من ألوان الطعام‪ ،‬و لول ذلك ما تركتك تبتعد عني لحظة و أنا‬
‫أراني أشعر هذا الصباح بانقباض شديد في صدري ل أدري سببه"‬

‫فسكت و تحول يرتدي سترته و هو يشعر بمثل شعورها و كأن كابوسا‬


‫يرزح فوق صدره‪ ،‬و إذ هم بالمسير نادته قائلة و هي مستلقية في‬
‫الفراش‪ " :‬ل تطل علي الغيبة يا وليد"‪.‬‬

‫تحول إليها و قال‪ " :‬ليس هناك ما يعوقني عن الرجوع إليك عاجل"‪.‬‬

‫ثم انحنى عليها و قبل جبينها‪ ،‬فأمسكت بيده تستوقفه قائلة‪ " :‬متى‬
‫ستعود سعاد بخالد إلينا؟"‪.‬‬

‫ازدرد ريقه و تماسك يكاتم نفسه مرارتها و قال محاول جهده أل تلحظ‬
‫في غنته ما يعتمل في صدره من األسى و اللوعة‪ " :‬ل بد أن يصلنا‬
‫كتاب من سعاد في وقت قريب تخبرنا فيه موعد قدومها و الحبيب‬
‫خالد إلينا"‪.‬‬

‫تنهدت و قالت‪ " :‬لست أطيق صبرا على ذلك يا وليد فشوقي لبني‬
‫بلغ مني مداه‪ ،‬و إنني قلقة جدا عليه فإن لم نأخذ اليوم أو غدا كتابا‬
‫من سعاد أرى أن نكتب إليها نتعجل قدومها هي و خالد الى هنا"‪.‬‬

‫أغضى و قال يخفي لواعج قلبه الجريح‪ " :‬ليكن ما تشائين‪ ،‬و رجائي‬
‫إليك يا سلمى أن تطمئني و تشاركيني الهتمام بأمرك‪ ،‬فل تجهدي‬
‫أفكارك و ل تبرحي مكانك من فراشك"‪.‬‬

‫همست و هي ترنو بعينيها الجميلتين الى وجهه‪ " :‬لن أفعل إل ما‬
‫تريد"‪.‬‬

‫فحياها منصرفا عنها الى حيث وضع لوحتها في الحجرة المجاورة‬


‫فأمسك بها يودعها داخل غلف من الورق دون أن يسمح لنفسه‬
‫بالنظر إليها‪ ،‬ثم تسلل بها مغادرا البيت مغلقا بابه وراءه‪.‬‬

‫الكتاب والسائل‬

‫لبثت سلمى في فراشها ترقب زوجها و هو يسير مبتعدا عنها بهزاله و‬


‫يمينه المبتورة حتى توارى ظله عن ناظريها و لما سمعت صفق الباب‬
‫وراءه‪ ،‬أجهشت تبكي لحاله ما شاء لها أن تبكي و تتألم‪.‬‬

‫و إنها لكذلك إذ سمعت طارقا على بابها يقول‪ " :‬بريد" ثم لمحت‬
‫رقعة بيضاء رقيقة تطل من تحت مفرق الباب تبينتها فإذا هي كتاب‬
‫مختوم‪ ،‬فنفضت عنها غطاءها نفضا‪ ،‬و هرعت إليها تلتقطها بلهفة و‬
‫هي ترتعش و تتعثر بخطواتها لعتقادها أنها ل بد رسالة من سعاد‬
‫تحوي أنباء ولدها الحبيب‪ ،‬و إذ أمسكت بها تقلبها بين يديها رأتها‬
‫معنونة بهذه العبارة‪ ) :‬الى األخت العزيزة سلمى‪ ،‬حفظها الله(‪.‬‬
‫فدهشت و قالت تحدث نفسها‪ ":‬إنه خط هدى أخت زوجي‪ ،‬فما أسرع‬
‫أن نسيناه و ما أعجب أن أراها تدعوني بمثل هذه اللهجة الرقيقة التي‬
‫لم أتعودها منها قط‪ ،‬ثم ما لي أرى الرسالة آتية من بلدة )غزة( كما‬
‫يدل ختمها المدموغ على ظهرها"‪.‬‬

‫ثم صمتت عائدة الى مكانها من فراشها و هي تتقلب بين الدهشة و‬


‫الستغراب من أمر ذلك الكتاب و صاحبته و إذ أخذت مجلسها على‬
‫حافة سريرها و شرعت بفض الرسالة‪ ،‬طرق مسامعها قرع خفيف‬
‫على باب بيتها‪ ،‬فأصغت لحظة هامسة لنفسها‪ " :‬ل بد أنه وليد نسي‬
‫أخذ مفتاحه معه"‪.‬‬

‫ثم تحاملت مستوية على قدميها و مشت عائدة الى الباب لتفتحه‪،‬‬
‫فسمعت الطارق يردد من ورائه هذه الكلمات في وهن و إعياء‪ " :‬لله‬
‫يا أهل الحسان"‪ ،‬فأدركت أنه سائل مسكين‪ ،‬فتحولت و جاءته ببعض‬
‫كسرات من الخبز و هي تجر قدميها جرا في مسيرها‪ ،‬و ترتجف‬
‫لفرط ضعفها و هزالها‪ ،‬و ما كادت تفتح بابها لتعطي السائل نصيبه‬
‫حتى جمد الدم في عروقها‪ ،‬و عصفت بها رجفة اهتز لها كيانها فكادت‬
‫تهوي على وجهها لهول ما طالعها‪ ،‬و جحظت عيناها تنظر الى السائل‬
‫ببابها فل تتحرك و ل تطرف‪ ،‬و هي ترى أمامها امرأة مشعثة منهوكة‬
‫هي حماتها مقنعة بأسمال رثة بالية‪ ،‬و تحمل بيدها خرقة مهلهلة على‬
‫شكل كيس تقاطرت على جوانبه بقع الطعام و انبعثت منه رائحة‬
‫مقيتة تجلب للنفس الصداع‪ ،‬و قد انتعلت حذاء ممزقا أكله البلى حتى‬
‫أطلت أصابعها منه‪ ،‬و غشيت عينيها سحابة رمد داكنة حمراء ل تكاد‬
‫ترفع جفنيها المقروحة حتى تسبلهما ثانية في ألم و إعياء فل تبصر‬
‫شيئا مما هو ماثل لناظرها إل في جهد شديد‪.‬‬

‫و ما كادت تلمح كسرات الخبز بيد سلمى حتى انقضت عليها تلتهمها و‬
‫هي تتمتم‪ ":‬ليجزيك الله خيرا يا بنيتي"‪.‬‬

‫و مشت تتعثر بخطواتها دون أن تنتبه من تكون هذه المحسنة؟ و‬


‫سارت مبتعدة في سبيلها و تركت الصبية مسمرة جامدة في وقفتها و‬
‫هي تغمغم‪ " :‬رباه ماذا أرى؟ الهي أهي أوهام تتراءى لناظري؟ أم‬
‫أنني في األمر حالمة؟"‪.‬‬
‫و مشت السائلة حتى غابت عن ناظرها‪ ،‬و همت سلمى لتلحق بها‬
‫تستوقفها‪ ،‬و تسألها عمن تكون فتتحقق من أمرها‪ ،‬و لكن قواها‬
‫الخائرة خانتها فمنعتها عن المسير و شعرت في تلك اللحظة بتخاذل‬
‫أطرافها و انهيار أعصابها حتى لم تقو ركبتاها على حملها‪ ،‬فتحولت‬
‫مستندة بظهرها الى سور الحديقة و أنفاسها تكاد تنقطع‪.‬‬

‫و كانت رسالة هدى مازالت في يدها‪ ،‬ففطنت إليها و نشرتها بين‬


‫أناملها المرتعشة و أخذت تقرأ ما جاء فيها‪ ،‬و ما كادت تأتي عليها‬
‫حتى أخذت الدماء تتسرب من وجهها قطرة قطرة الى أن حاكى لونها‬
‫رداءها الناصع البياض‪ ،‬و لبثت شاخصة بعينيها الى سطور تلك الرسالة‬
‫التي كشفت لها الستار عن كل ما تجهله من أمر‪.‬‬

‫فجمدت نظراتها على الكتاب الواضح‪ ،‬و جمد الدمع في مآقيها حين‬
‫انبلجت لها الحقيقة التي تجهلها من أمر وطنها و أهلها و ولدها‪،‬‬
‫فسكنت لذلك سكونا عميقا ل تتخلله لفتة و ل حركة سوى أنة طويلة‬
‫موجعة ما لبثت بعدها أن رفعت يدها الى قلبها تضغطه براحتها‪ ،‬و قد‬
‫مال عنقها الى السور الذي استندت إليه و تصبب العرق باردا يتقاطر‬
‫على جبهتها‪ ،‬تنظر الى الكتاب المنشور بيدها بأسى و لوعة‪ ،‬و كان‬
‫هذا مضمونه‪:‬‬

‫أختي العزيزة سلمى‬

‫قلما يبقى النسان على جهله بعد أن بدل الله خلقه و غير حاله‪ ،‬و لذا‬
‫ل يدهشك مني أن أستهل كتابي هذا بطلب الصفح و المغفرة عما‬
‫ارتكبته من حمق في حقك و حق ابن أخي ولدك الحبيب الطفل‬
‫الشهيد‪ ،‬و إن كنت أعلم أنني غير جديرة بهذا الصفح و تلك المغفرة‬
‫اللذين أسعى اليوم إليهما‪.‬‬

‫و لكني اليوم غيري باألمس يا أختاه‪ ،‬و قد عاقبتني األقدار غدرا بغدر‬
‫يا سلمى و ليس ذلك علي بكثير و أنا أذكر موقفي منك في تلك الليلة‬
‫التي غادرت فيها الى دارك مع طفلك مما سهل على اليهود األنذال‬
‫اقتحام بيتك عليك و ذبح ولدك في حجرك‪.‬‬
‫أواه‪..‬إن قلبي يقطر دما و القلم يرتعش في يدي لذلك الذي حدث‬
‫لبن أخي‪ ،‬و أما الذي حدث لي فتجهلينه و ل تعرفين منه غير تلك‬
‫الفتاة الجاهلة المغرورة‪ ،‬لقد مدت إلي األقدار يدها العادلة فأنزلت‬
‫بي العقاب ففقئت عيني على أثر شظية طائشة أصابتني فشوهت‬
‫جانبا من وجهي‪،‬‬

‫و تخلى زوجي عني فتزوج بأخرى غيري بعد آن فقدت ثروتي و عيني‪،‬‬
‫و نأى بامرأته الجديدة عني لئل يرى دمامتي و قبحي‪.‬‬

‫و بت فريدة عليلة‪ ،‬مهزولة لشدة الجوع و البرد الذي يرزح فوق‬


‫صدري داخل مخيمي هذا وسط العراء تنتابه العواصف الهوجاء فتكاد‬
‫تقتلعه و تقتلعني معه‪.‬‬

‫و الشتاء تلفني برودته القارسة‪ ،‬و تبللني أمطاره الغزيرة‪ ،‬فل عاصم‬
‫لي ألجأ إليه بين أركان هذا المخيم العتيق‪ ،‬فل في الصيف يحجب عني‬
‫حرارة الشمس و ل في الشتاء يقيني البرد و المطر‪ ،‬فغدوت‬
‫مستوحشة بل صديق‪ ،‬جائعة بل طعام‪ ،‬عليلة بل دواء‪ ،‬عارية إل من‬
‫رداء بال أرقعه حتى صار الرداء الرقاع بأجمعه‪ ،‬فل أغادر مخيمي و‬
‫هذه حالي إل أن أسدل الليل نقابه‪ ،‬فأتسلل منه تسلل اللصوص‬
‫سائلة باحثة عن كسرة خبز أحفظ بها رمقي‪ ،‬فل أختلف في شأني‬
‫هذا عن الكلب الضالة و أنا أراني أهم على وجهي هنا و هناك في‬
‫سبيل لقمة أكل و قطرة ماء أسكت بهما أمعائي الخاوية‪.‬‬

‫و أما أمي فلست أدري أين مقرها اليوم من أرض الله الواسعة‪ ،‬و ما‬
‫الذي حل بها بعد أن افترقت عنها عند شاطئ مدينتنا )حيفا( في أثناء‬
‫إقلع السفن التي جاءت لحملنا‪ ،‬الى بلد غير بلدنا‪ ،‬و ديار و أهل غير‬
‫ديارنا و أهلنا‪ ،‬و كانت ساعة حافلة بالعويل و النحيب‪ ،‬ل يزال أنينها‬
‫يلهب أذني‪ ،‬فلم أبصرها بين تلك الجموع حين غبت عنها و ما رأيتها‬
‫بعد ذلك قط و ل رأتني‪ ،‬و ل أظنها اليوم أسعد حال مني إذا كانت على‬
‫قيد الحياة‪ ،‬تستقي مرارة عيشها من المنهل الذي وردته‪ ،‬ألنها‬
‫شاركتني قسوتي بل جرمي‪.‬‬

‫و ليعلم أمثالنا أن العظمة لله وحدة و أنا كنا في سالف أيامنا و في‬
‫أوج مجدنا و سعدنا الموهوم أجدر بالحتقار و الرثاء منا بالتعالي و‬
‫الكبرياء‪ ،‬لذلك العار الذي ارتكبه أبي في حق أهله و وطنه‪ ،‬حتى أكلنا‬
‫اليوم ثمرة ما جنته يداه و أيدي أسلفه من قبله‪ ،‬فل شفاعة و ل‬
‫رحمة لمن هو جشع دنيء و إن كان أبي من بين هؤلء الجشعين‪.‬‬

‫لقد فهمت اليوم كل شيء يا سلمى‪ ،‬كنت تكرهينه و تنفرين منه و‬


‫تحسبين له العواقب و الحساب من عمل أولئك السماسرة الذين‬
‫يتقاضون ذهبا ثمنا لدناسة أفعالهم‪ ،‬و لكن إدراكي جاء بعد حين يا‬
‫أختاه‪ ،‬ليت شعري هل يصل صوتي هذا الكسير الى أعماق قلبك‬
‫الطاهر النبيل‪ ،‬فتكتبين إلي كلمة تلطفين بها ما بي؟‬

‫ليتني أحظى بعفوك‪ ،‬و ليتك تسمحين لحلمك أن يغفر جهلي‪ ،‬فتأذني‬
‫لي بالقامة الى جانبك أخدمك و أتفقد راحتك فاكفر بذلك عن سيئتي‬
‫التي أسلفتها إليك‪ ،‬و لست أبغي عن ذلك أجرا‪ ،‬و ل في أمري هذا‬
‫مأرب أبتغيه‪ ،‬و ل أطمع عليه في عيش رغد هنيء‪ ،‬و إنما أملي أن‬
‫أنال صفحك‪ ،‬قبل أن يوافيني أجلي‪،‬‬

‫فأغادر بعده للقاء ربي هانئة مرتاحة الضمير ألني أشعر بنهايتي قد‬
‫دنت لما أنا فيه من ألم و مرض شديد‪ ،‬لقد جاهدت كثيرا باحثة عن‬
‫مقرك‪ ،‬حتى اهتديت في آخر األمر الى عنوانك من أرض لبنان‪،‬‬
‫جاءتني به إحدى اللجئات حين التقت هذه بابنة عمي سعاد هناك‬
‫فقصت علي مجمل قصتك‪ ،‬حتى رجوع أخي إليك و وفاة ابنة عمي‬
‫الكريمة رحمها الله و جعل مثواها الجنان‪.‬‬

‫تحياتي الى أخي الكريم‪ ،‬و إني ألطلب صفحه و غفرانه‪ ،‬و أتحرق‬
‫شوقا ألجثو باكية يوما تحت قدميه‪ ،‬أناشده عفوه عن سيئتي تلك التي‬
‫أسلفتها إليك و إليه‪.‬‬

‫و إن كنت ل بد مأخوذة بذنبي و جهلي فإنني أضرع الى الله الكريم أن‬
‫يلهمك و أخي الصبر الجميل‪ ،‬و يمن علي بستر رحمته و يخفف مآبي‪،‬‬
‫إنني أطلب الخلص من شدتي و آلمي فل اهتدي إليه السبيل‪ ،‬و أعلل‬
‫نفسي بالبقاء فل أجد فيه إل الموت البطيء‪ ،‬لقد وهن الجسم مني و‬
‫ذبلت زهرة عمري‪ ،‬و غدوت إنسانة يائسة متألمة ل شأن لي في‬
‫دنياي هذه يعزيني عن مصابي‪ ،‬و ل أمل لي في الحياة أعيش عليه‪،‬‬
‫إنني يائسة من أمري ذاهلة عن نفسي و كل ما حولي‪ ،‬و قد ينقضي‬
‫علي يومان أبيت فيهما بل طعام و ل شراب‪ ،‬حتى يقتلني الجوع فأنتبه‬
‫حينئذ لنفسي‪.‬‬

‫إنها مشيئة الله أرادها لنا و كارثة عمت البلد نسأل الله عليها الصبر و‬
‫العزاء‪.‬‬

‫المخلصة‬
‫هدى‬

‫النهاية‬

‫أودع وليد لوحة زوجه عند أحد التجار‪ ،‬و أعجب هذا بها فرغب في‬
‫شرائها‪ ،‬و عرض عليه ثمنا حسنا‪ ،‬فوافقه و هو يسعى جهده للتخلص‬
‫منها في أي حال من األحوال‪ ،‬ألن مشهدها عائد عليه باللم‪ ،‬و على‬
‫زوجه بالدمار لو عثرت بها بعد أن ارتد إليها رشدها‪ ،‬و إن كانت تحفة‬
‫نادرة لما فيها من براعة الرسم و إتقانه‪ ،‬و روعة ذلك المشهد الهائل‬
‫الدامي‪ ،‬و دقة تصويره و ألوانه‪.‬‬

‫تمت الصفقة بين البائع و المشتري‪ ،‬و حرر هذا صكا تسلمه وليد ثمنا‬
‫لتلك اللوحة‪ ،‬ثم عاد بعد ذلك الى بيته يحمل بيده قرطاسا فيه بعض‬
‫الفاكهة و األطعمة الخفيفة‪ ،‬و حين أصبح على مقربة من البيت لح له‬
‫بابه مفتوحا‪ ،‬و كان قد أحكمه عند خروجه‪ ،‬فأوجس خيفة على زوجه‪،‬‬
‫و ساوره ريب و قلق عظيم جعله يسرع الخطى الى البيت حتى أتاه‪،‬‬
‫فاندفع الى داخله‪ ،‬و ما كاد يلج عتبته و يدلف إليه حتى طالعته زوجته‬
‫مستندة بظهرها الى سور الحديقة‪ ،‬و قد مال عنقها الى جانب كتفها‪،‬‬
‫و ابيض وجهها بياضا شديدا حتى صار كالبرد الناصع‪ ،‬فطاش صوابه‬
‫لمشهدها‪ ،‬و ألقى ما بيده أرضا و اندفع إليها اندفاعا و ما لمحته‬
‫يسعى إليها حتى مدت إليه كلتا يديها كمن تتعجل وصوله‪ ،‬فهرع إليها و‬
‫أسندها الى صدره قائل و الصفرار يصبغه‪ " :‬مالك يا حبيبتي‪ ،‬و ما‬
‫الذي حدث في غيبتي؟"‪.‬‬

‫حركت شفتيها بإجهاد محاولة النطق‪ ،‬فلم يسعفها الحال‪ ،‬فرفعت إليه‬
‫يدها بكتاب أخته فتحول بعينيه إليه‪ ،‬مارا على سطوره بنظرة سريعة‬
‫ألم فيها بما تضمنه‪ ،‬و أدرك السبب في ذلك التحول الذي طرأ عليها‪،‬‬
‫فارتد بنظراته إليها و هتف بها مسترحما‪ " :‬سلمى ارحمي حالي‪ ،‬و‬
‫أسمعيني صوتك‪ ،‬فلم يعد لي في دنياي أمل أحيا به سواك‪ ،‬و ل شيء‬
‫في هذه الحياة يعزيني عنك"‪.‬‬

‫سالت على خديها دمعتان كبيرتان و همست ترد عليه بجهد شديد‪" :‬‬
‫وارحمتاه أيها الحبيب‪ ،‬كنت أرجو أن أحيا لك أرفه عنك و أسعدك‪ ،‬و‬
‫لكن إرادة الله أقوى من إرادتنا يا وليد‪ ،‬و ل أظن أن هناك اثنين عاشا‬
‫عيشتنا‪ ،‬و ل تألما آلمنا‪ ،‬و ل سعدا باجتماعهما مثلما سعدنا و ل أخلص‬
‫أحدهما لصاحبه إخلصنا و وفاءنا‪.‬‬

‫كانت الحياة هنيئة رائقة في أرضنا و ديارنا‪ ،‬نستقي حلوتها قطرة و‬


‫جرعة‪ ،‬و لم تزل تلك حالنا الى أن اكفهر الجو الصافي و تراكمت فيه‬
‫الغيوم‪ ،‬و عصفت بنا عاصفة عاتية هوجاء تبدد لها شملنا‪ ،‬و امتدت يد‬
‫الدهر فسلبتنا هناءتنا و سعدنا‪ ،‬خمس سنوات و بضعة شهور عشناها‬
‫معا‪ ،‬ثم انقضت اليوم كما تنقضي الثواني و نحن نقف الن موقفنا هذا‬
‫عند نهايتها‪.‬‬

‫فوداعا يا أحب من أحببت‪ ،‬و ليهون عليك فقدانك إياي‪ ،‬و اذكرني إذا‬
‫وجدت في ذكراي العزاء‪ ،‬و تعهد بزيارة قبري كلما اشتقت إلي‪ ،‬فإن‬
‫عظامي تتهلل من أعماق لحدي فرحا بزيارتك‪.‬‬

‫و إني ألوصيك أن تكتب الى هدى شقيقتك نيابة عني‪ ،‬و بلغها عزائي و‬
‫صفحي‪ ،‬و امنحها رعايتك و عفوك‪ ،‬ثم أمك‪..‬أمك‪..‬إنها و ل شك تلك‬
‫المرأة التي‪."....‬‬

‫و ضعف صوتها عند هذا الحد‪ ،‬و سكتت تلتقط أنفاسها الواهنة‪ ،‬و تنظر‬
‫الى زوجها و دموعه تنهمر غزيرة من مآقيه تغسل وجهه بصمت أليم‪.‬‬

‫فأسبلت جفنيها‪ ،‬و سالت من عينيها دمعتان انحدرتا على جانبي وجهها‬
‫فهتف بها يضمها الى صدره و عيناه تمطران دمعا سخينا يتساقط على‬
‫وجهها و عنقها‪ " :‬سلمى ابقي لي أو خذيني معك"‪.‬‬

‫ففتحت عينيها النجلوين تودعه بنظره أخيرة حانية‪ ،‬و همت بالرد عليه‬
‫فامتنع عنها الكلم‪ ،‬و ذبل جفناها‪ ،‬فعادت و أسبلتهما ثانية‪ ،‬و مرت‬
‫بشفتيها رجفة خفيفة أسلمت بعدها الروح و سقط رأسها على صدره‪.‬‬

‫فجمد دمعه في مآقيه‪ ،‬و لبث شاخصا ينظر إليها فل ينطق‪ ،‬و ل‬
‫يطرف‪ ،‬و قد برد الدم في عروقه‪ ،‬و علت جبينه سحابة بيضاء أخذت‬
‫بالتساع حتى لبست وجهه‪ ،‬و تاهت أنفاسه عن مجراها كما لو كانت‬
‫روحه تتسرب من بين أضلعه‪.‬‬

‫و انقضت على ذلك فترة‪ ،‬و هو على تلك الحال من األلم و الجمود‪،‬‬
‫ثم استفاق من ذهوله و حملها فوق ذراعه الباقية‪ ،‬و مشى بها حتى‬
‫أتى مخدعها‪ ،‬فوسدها فراشها و جثا بجانب رأسها صامتا‪ ،‬ساكنا‬
‫سكون العابد في معبده‪.‬‬

‫و مرت به فترة لم تختلف حاله هذه‪ ،‬مصفر جامد جمود الصنم الذي‬
‫غيرته أحداث الزمن فصوحت رخامه و اغبر لونه‪ ،‬فما شعر بمرور‬
‫ذلك النهار‪ ،‬و ما صحا من ذهوله إل بعد حين‪ ،‬فنهض يترنح في وقفته‬
‫ترنح المهيض المطعون‪ ،‬فأعد معدات الدفن و شيعها الى مثواها عند‬
‫رابية صغيرة قامت عليها دوحة من الصفصاف متشابكة األغصان‪،‬‬
‫فأقام تحت ظللها قبرا رشيقا منسقا تنسيقا جميل في تواضع و‬
‫ظرف‪ ،‬و لبث شاخصا الى الضريح يتأمله بصمت و جمود الى أن أدبر‬
‫النهار و بدأ الليل يرخي سدوله‪ ،‬فسطع القمر‪ ،‬و امتد شعاعه يكتنف‬
‫المقبرة بغللته الفضية و ما حولها من السهول و الربى‪ ،‬فتحول بعد‬
‫أن ودع بنظراته التربة العزيزة‪ ،‬و مشى متثاقل خافض الطرف‪،‬‬
‫مطأطئ الرأس‪ ،‬و يسراه على قلبه يكتم أنينه‪ ،‬حتى ابتعد عن المقبرة‬
‫و أتى البيت الذي يسكنه‪ ،‬فوقف عند بابه يدير فيه مفتاحه‪ ،‬فصر‬
‫صريرا مزعجا و انفرج الباب عن حديقته‪ ،‬فأمسك عند عتبته لحظة و‬
‫هو يرى البيت الذي كان يراه باألمس باسما مزدهرا بورده و زهره و‬
‫نبته و غلئل خضرته‪ ،‬قد غدا كالقفرة الجرداء المهجورة‪ ،‬و سادت‬
‫الوحشة أرضه و جدرانه‪ ،‬و سقفه و قيعانه‪،‬فاكتأب كل ما فيه و ذوى‬
‫حزنا و أسفا‪ ،‬فأن أنينا مكتوما‪ ،‬و إذ هم بالدخول طرق مسمعه وسط‬
‫سكون الليل خفق نعال تسير الهوينا من خلف ظهره‪ ،‬فسرت في‬
‫جسمه رعدة باردة‪ ،‬و حول وجهه الى مصدر الصوت‪ ،‬فلحت له امرأة‬
‫بائسة منهوكة مقنعة بأسمال رثة بالية‪ ،‬و كيسها المهلهل محمول على‬
‫يدها‪ ،‬تتعثر بأذيالها و تمشي مشية الذليل المهين و هي تقتلع قدميها‬
‫اقتلعا في مسيرها‪ ،‬فجمدت نظرته عليها و هو يراها شديدة الشبه‬
‫بأمه‪ ،‬و ظل يرمقها بعينيه و هي تتعثر بخطواتها و يتقلب بين الشك و‬
‫اليقين من أمرها‪ ،‬حتى دنت من موضعه مارة عن كثب منه‪ ،‬هتف‪" :‬‬
‫أماه"‪.‬‬

‫فانتفضت المرأة انتفاضة تزايلت لها أعضاؤها‪ ،‬و فتحت عينيها‬


‫المقروحتين بجهد تبحث عن مناديها و تتبينه‪ ،‬حتى إذا ما أبصرت به و‬
‫عرفت فيه ولدها صرخت مندفعة إليه‪ " :‬ولدي‪...‬ولدي"‪.‬‬

‫ثم سقطت عند قدميه‪ ،‬فأنهضها من عثرتها‪ ،‬و وقف صامتا ل ينطق‬
‫بحرف واحد‪ ،‬فحدقت األم في ولدها بكل ما تستطيع أن تفعل‪ ،‬و مدت‬
‫يدها فأخذت يده تضمها الى صدرها و تغسلها بدموعها و هي تقول‬
‫بمذلة و انكسار‪ " :‬إنني أمك يا وليد أطلب عفوك يا ولدي"‪.‬‬

‫قال بصوت خافت و هو مازال على إطراقه‪ " :‬لقد عفوت يا أماه"‪.‬‬

‫ثم تنحى قليل يفسح لها طريقا لتتقدمه بالدخول الى بيته‪ ،‬فلبثت‬
‫مسمرة في وقفتها‪ ،‬فسألها ما بها؟‬

‫قالت‪ " :‬كنت قد أتيت هذا البيت صباح اليوم أطلب إحسانا‪ ،‬فلقيتني‬
‫صبية فتحت لي و أجزلت لي العطاء"‪.‬‬

‫قال بإعياء‪ " :‬هي سلمى يا أماه ما لبثت أن فارقت بعد ذلك الحياة "‪.‬‬

‫ذهلت و قالت بلهجة أسى لم يعهدها ابنها فيها من قبل‪ " :‬أو ماتت‬
‫سلمى؟"‪.‬‬

‫خنقته الدموع و قال‪ " :‬نعم ماتت شهيدة لفجيعتها بولدها الذبيح"‪.‬‬

‫فانتحبت و قالت‪ " :‬واثكله‪ ،‬أو ما سمعته عن ذبح خالد حقيقة؟"‪.‬‬


‫فلم يجب بغير الدموع‪ ،‬ثم دخل البيت و مشيا فيه حتى أتيا الحجرة‬
‫التي كانت تشغلها سلمى‪ ،‬فالتفت وليد لمه قائل‪ " :‬ها هي ذي حوائج‬
‫سلمى و ملبسها‪ ،‬و فرشها و مرافقها و وسادتها مازالت منخفضة‬
‫مكان رأسها‪ ،‬و هذا آخر رداء رأيتها فيه"‪.‬‬

‫و أمسك به يستروح رائحته و يضمه‪ ،‬ثم مشى الى السرير فجلس‬


‫على حافته صامتا مطرقا‪ ،‬و جاءت أمه فجثت تحت قدميه‪ ،‬و قالت‬
‫تنتحب و هي تحس بفداحة جرمها‪ " :‬امنحني السماح و العفو يا ولدي‪،‬‬
‫و ل تنقم علي‪ ،‬و قد انتقم لك القدر مني فجازاني الله بسوء عملي‪،‬‬
‫انظر الى حالي التي صرت إليها يا وليد و لعلك ل تعلم أن أمك غدت‬
‫اليوم نصف ضريرة تجوب الطرقات‪ ،‬سائلة طارقة األبواب‪ ،‬طالبة‬
‫إحسان المحسنين‪ ،‬ل مكان لي الجأ إليه و ل درهم أشتري به دواء‪،‬‬
‫حتى وهن الجسم مني و تملكني الرمد‪ ،‬و كاد ينطفئ بصري‪ ،‬و كم‬
‫عالجت سبيل الخلص فما اهتديت إليه‪ ،‬و ابتهلت راجية الموت فما‬
‫نلته الى أن غدوت في شأني هذا عبرة السابلة من البؤساء‬
‫المساكين‪ ،‬و مهزلة للسعداء الضاحكين"‪.‬‬

‫قال يجر أنفاسه و يجاهد في النطق‪ " :‬ذلك ما كانت تكرهه سلمى‬
‫لكم‪ ،‬و يكرهه كل مجاهد في سبيل وطنه‪ ،‬و يخشون حدوثه فيكم‪ ،‬و‬
‫يحاربون من أجله ذوي األطماع الواسعة‪ ،‬و هؤلء في عبثهم و مجونهم‬
‫لهون‪ ،‬حتى حلت الكارثة‪ ،‬و عم البلء البلد و أهلها‪ ،‬فذهب بالعاصي و‬
‫الطائع‪ ،‬و المذنب و البريء"‪.‬‬

‫قالت مستعطفة‪ " :‬ليغفر الله لنا جهلنا يا ولدي‪ ،‬أولم تصفح بعد يا‬
‫وليد كما تدلني لهجتك الجافة"‪.‬‬

‫قال بصوته المجهد‪ " :‬بل صفحت"‪.‬‬

‫ثم دس يده في جيب سترته‪ ،‬أخرج منها بضع أوراق مالية نثرها بين‬
‫يدي أمه قائل‪ " :‬إليك بهذه الجنيهات‪ ،‬استعيني بها على قضاء حاجتك‪،‬‬
‫و هذا صكا كان قد قدمه لي أحد التجار ثمنا لخر لوحات سلمى‪،‬‬
‫فاعملي على تحويله الى أختي"‪.‬‬

‫قالت بصوت تخنقه الدموع‪ " :‬و هل أنت على علم بمكان أختك يا‬
‫ولدي؟"‪.‬‬

‫قال‪ " :‬نعم‪ .‬لقد تلقيت منها كتابا عرفت منه انها تقيم في قطاع غزة‬
‫بين اللجئين هناك"‪.‬‬

‫ثم أمسك قلمه بيسراه و بسط أمامه ورقة كتب عليها اسم أخته و‬
‫عنوانها‪ ،‬و دفع بها الى أمه‪ ،‬و استوى ناهضا‪ ،‬فشخصت بعينيها إليه و‬
‫قالت و هي ترى اصفرار و اضطراب عوده‪ " :‬ما بك يا ولدي؟ و الى‬
‫أين؟"‪.‬‬

‫صمت لحظة التقط فيها أنفاسه المجهدة المبعثرة‪ ،‬و قال‪ " :‬سأبحر‬
‫الى شاطئ فلسطين أقاتل فيها حتى أقتل"‪.‬‬

‫قالت متأسية‪ " :‬واثكله‪ ،‬ليت الردى استل حياتي و ليت المنية‬
‫عاجلتني"‪.‬‬

‫ثم سكتت تنتحب و قد برح بها األسى فناحت نواح الثكلى‪.‬‬

‫قال‪ " :‬الموت العاجل خير من الموت البطيء يا أماه‪ ،‬لقد ضاع‬
‫وطني‪ ،‬و ذهب أهلي‪ ،‬و مات قلبي‪ ،‬فل تندبي ذهابي و اذكري أن كل‬
‫شيء هالك إل وجه الله‪ ،‬فتعزي بالصبر و الحتمال‪ ،‬و سامحيني إذا بدا‬
‫مني يوما ما أثار وجدك علي"‪.‬‬

‫قالت و هي تتلجلج بالبكاء‪ " :‬أنت لي خير األبناء و أكرمهم علي"‪.‬‬


‫فودعها و مضى آخذا طريقه الى ميناء الشاطئ‪ ،‬و من هناك أبحر‬
‫عائدا الى شاطئ فلسطين‪...‬‬

You might also like