Professional Documents
Culture Documents
وداع مع الأصيل
وداع مع الأصيل
في بقعة جميلة هادئة من جبل الكرمل الشامخ المهيب القائم في
أبدع مدن فلسطين ) حيفا ( شاد البناءون منزل أقرب إلى القصور
بفخامته و روعته و ضخامة أعمدته الرخامية و شرفاته العالية و
ردهاته الفسيحة و غرفه المتعددة و قاعاته الواسعة ،و قد افتن من
طلوا جدرانه فيما أتوه من مناظر بديعة تحاكي الطبيعة في أروع
صورها و اجلي معانيها ،والناظر إليها يرى السهل و الجبل و النهر و
الشجر و الراعي و الغنم و الطير المحلق في غمار السحب ،و قد
أطلت من السقوف المطلية بزرقة هادئة ثريات فضية باهرة تتلأل
تللؤ النجوم في قبة السماء.
و مما يجذب عين الناظر في أبهاء ذلك القصر أبوابه الهائلة ذات
المقابض الكروية المذهبة و قد حفر خشبها برسوم زخرفيه تتخللها
نحلت نحاسية صفراء فتبدو للعين و هي تلمع بشعاع ذهب يخاطف
كأقراص شموس صغيرة.
و لم يغفل صاحب القصر عن تجميل هذا الممر الطويل الواسع ،فأقام
على جانبيه قفصين بديعين كبيرين ضم كل منهما بين قضبانه طيرا
من طيور الطاووس و تلتهما أقفاص أصغر حجما للعنادل والببغاوات،
و قامت أشجار السرو النحيلة الباسقة حول ذلك القصر و حديقته
الغناء فبدت وسط سكون الليل كعذارى حسناوات انتصبن بأعوادهن
الفارعات يتنسمن شذى الزهر المعطر ويملن النظر من جنة القصر
الفيحاء.
و كانت لهما ابنة اسمها) هدى (خصص لها أبوها جناحا في القصر ،و
أما وحيدهما) وليد ( فقد بعثا به إلى انجلترا يتلقى علومه هناك.
في هذه األمسية جلستسلمى تتابع رسم لوحتها ،و كانت الشمس قد
آذنت بالمغيب ،فأرسلت خيوطها الذهبيةالضاربة إلى الحمرة تنسج
منها حلتها الوردية و تنحدر بها على وجه مياه البحرالرقراقة الزرقاء.
فانصرفت الفتاةبنظراتها إلى ذلك المنظر البديع تستلهم من الطبيعة
أجمل صورها و تقدمها في لوحتهاوسط إطار رائع خلب.
و مر إذ ذاك عن كثب منبيت ) نجلء ( و ابنتها فتى مديد القامة ،وسيم
الطلعة ،قمحي اللون ،تتألق عيناهالسوداويان ببريق القوة و الشباب،
و تنطبع على محياه الجميل دلئل الشهامة و النبل،و كانت سنه ل
تتجاوز بضع و عشرون عاما ،و أول ما يسترعي الناظر إليه بنوع خاص
جمالرجولته و قوة شخصيته.
و لمح تلك الغادةالحسناء و هي مكبة على لوحتها ،تتابع فيها رسمها و
قد تهدلت خصلت شعرها الفاحمة واستقرت واحدة منها فوق جبينها
الساطع و تناثر بعضها حول جيدها الطويل .أما شفتاهاالمطبقتان فقد
حاكت بلونهما حمرة الشفق األرجوانية ،و راحت عيناها تومضان من
بينأهدابها الغزيرة السوداء بوميض ساحر خلب كلما انتقلت بنظراتها
ما بين لوحتها و بينمنظر الطبيعة البديع.
و لم تشعر بالفتى الذيبهره جمالها فتسمر مبهوتا في مكانه مسلوب
اللب مبهور األنفاس .و همس في نفسه وعيناه شاخصتان إلى الفتاة:
"أهناك بالله لوحة أجمل من هذه يمكن أن تصورها تلكالغادة على
طبيعتها هذه" ؟
كان هذا الشاب هو) وليد ( ابن مالك القصر ) شكري بك(قد عاد من
انجلترا بعد أن درس الحقوق هناك ،وكانت قاعة القصر في تلك الليلة
بالذات تعج باألقارب و األصدقاء حفاوةبعودته.
و قال الرجل في شيءمن الدهشة " :و لكنها يا بنيتي هي كما تعلمين
سوق للخضراوات اتخذها اليهود لهم".
قالت " :أي سوق هذهالتي ل منفذ لها سوى هذه الكوى الصغيرة
المثبتة في أعلى جدرانها السميكة؟".
و قالت نجلء مؤيدةقول فتاتها " :نعم يا أخي حامد ،أن حصون اليهود
كثيرة و هم ل يغفلون عنها ،و ليهملون إنشاءها ،و لو أدرك صاحب
هذا القصر من الذين أعماهم الجشع ،و أغراهم المالفضاعة جرمهم ،و
هول ما يقدمون عليه طلبا للثراء و ما له من العواقب الوخيمة
علىالبلد و أهلها األبرياء لفضلوا حياة البؤس و الفقر على النغماس
في الترف و اللذات".
فصمت حامد برهة ،مالبث بعدها أن قال " :أو تعتقدين يا أختاه أن
شكري بك جمع ثروته هذه عن طريق غيركريمة؟ "...و استدرك قائل:
" ل أظن ذلك ".
فصمتت نجلء و لمتجب بشيء ،بينما ردت سلمى قائلة " :أتظن يا
عماه أن ثروة هذا الرجل نزلت عليه منالسماء؟".
قال حامد " :أناشخصيا ل استطيع أن اجزم في أمره " ،و استطرد
يقول " :و ماذا يضيرنا يا بنيتي ويضير الناس أن يحيا شكري بك و
غيره حياة رغد و ترف ما داموا ل يتعرضون لغيرهمباألذى".
قالت الفتاة بحدة" :ما هذا الذي اسمعه منك يا عماه ،كيف ل يضيرنا
و يؤذينا إن يكون بين المواطنينخائنون ،يبيعون دينهم و وطنهم من
اجل حفنة من الذهب؟ ل ،إنهم بعملهم هذا يفسحونالمجال لليهود
الذين يفدون من الغرب و جميع األقطار أفرادا و جماعات ،ليغدقوا
علىأولئك الحمقى ذهبا و يشترون به البلد ،و يغضب لذلك أمناء
فلسطين األحرار ،فتضطربالحياة المنة ،و تندلع الثورات ،و تحول
ارض البلد إلى مذابح و براكين دامية ترويثراها دماء الشهداء من
أبنائها ،و بذلك يدفع القوم األبرياء أرواحهم و دمهم ثمناألمثال هذا
الترف و الثراء ،و يذبح منهم من يذبح في المعارك التي تنشب بينهم
و بيناليهود ،و يشنق منهم من يشنق بأيدي المستعمرين الذين
يطاردون الثوار و المجاهدين،فتبيت األطفال يتامى ،و األمهات ثكلى
بأبنائها ،و ترمل الزوجات ،كما حدث في ثورةعام 1936يوم أن ذبح
األنذال اليهود أبي و هو يدافع عن وطنه في موقعة نشأت بينهم وبين
العرب.
فبهت حامد و قال " :ما كنت اعلم أن شكري بك كذلك ،هدئي روعك
يا بنيتي واتركي األمر لله يقتص من أولئكاألشرار".
قلب هائم
أصبح وليد ،نجل شكري بك ،منذ اكتحلت عيناه برؤية تلك الصبية
الحسناء )سلمى( منطويا على نفسه ،دائب التفكير في أمرها ،و لم
يكن بمقدوره أن يقصي طيفها الجميل على ناظره ،أو يسلو تينك
العينين المنيرتين ذواتي األهداب التي يترامى ظلها إلى الخدين مع ما
يتجلى في وجه صاحبتهما من جمال و روعة.
و اضطرمت بين ضلوعه عاطفة مشبوبة بحبها أشقته و عذبته ،و رأى
أن الحياة ل تطيب له إل أن كانت تلك الصبية بجانبه ،فقرر أن
يخطبها ،و لكنه كان يعلم لو أفضى بمثل هذا النبأ لوالدته فلن تتقبله
بالرضي أو السرور بل انه سيجلب عليها نقمتها لرغبتها في تزويجه
ممن تربطه بهن صلة القربى ،و لن تتورع من أن تدفعها أنانيتها إلى
تحريض أبيه كي يقف حائل دون هذا الزواج ،و لذا اثر أن يذهب إلى
ابنة عمه سعاد-أرملة أخيه المتوفى ، -ليفضي إليها بما في
نفسهفمضى إليها في حجرتها ،فاستقبلته هاشة باسمة و دعته
للجلوس و أخذت هي مكانها إلى مقعد قبالته ،و لحظت عليه قلقه و
تبدل حاله و ابتدرته بقولها":ما وراءك يا ابن العم؟".
قال " :إنني لست في خير حال يا ابنة عمي ،و ها أنا ذا لم أجد غيرك
ألفضي له ما بنفسي".
صمت لحظة ثم قال " :جئت ألسألك عما تعرفين من أمر تلك الفتاة
الحسناء التي تقطن ذلك البيت القريب منا".
قالت " :هذا ما لقبها به أهل الحي ألنها أجمل فتيات الجبل ،أما اسمها
الحقيقي فهو )سلمى( " ..و استطردت و البتسامة ما زالت على
شفتيها " :ترى هل أصابت تلك الغادة هوى من نفسك حتى طرا
عليك مثل هذا التبدل؟"
أدركت سعاد أن ابن عمها عازم على طلب يد الفتاة ،فأطرقت برهة
صامتة ساكنة خيل للفتى أنها دهرا ثم اندفع قائل " :ما الخبر يا ابنة
عمي ،أمخطوبة هي؟"
قالت و هي ترفع رأسها ببطء من إطراقها " :ل ليست مخطوبة ألحد،
و لكني أرى الطريق إليها وعرا".
فامتقع لونه و قال " :إني ل افهم ما تقولين ،هل هناك ما يشوب
سمعتها ؟ "
فهزت رأسها سلبا و قالت " :بل هي عذراء طاهرة كالملئكة ،تعيش
مع أمها عيشة شريفة ل تشوبها شائبة ،و هما المثل األعلى عند أهل
الحي بحسن السيرة و طهارة الذيل".
عاوده هدوؤه و قال " :إذا كنت تعنين إن والدي سيعترضان على هذا
الزواج ،فلن يهمني ساعتئذ غضبهما أو رضاهما؟ و ليس لزاما علي أن
اربط حياتي بحياة من يريد أهلي أن تكون شريكة لعمري ،و أتزوج
الفتاة التي يحبها لي غيري".
قالت سعاد " :ليس هذا كل ما هنالك يا ابن عمي ،بل اخشي أل
ترضى بك الفتاة".
فبهت الشاب و لم يجد ما يقوله ،و تساءل في نفسه " :ترى أي عيب
تراه ابنة عمي بي حتى تلقاني بمثل هذه الصفعة ؟".
و كأنما أدركت سعاد ما دار بخلده ،فهتفت به "عسى أن ل تكون
أخطأت فهمي يا ابن العم"
فرفع عينيه إليها و قال " :لست افهم منك سوى أني لست للفتاة
بأهل".
قالت ":بلى لست أرى من هو أكثر أهل منك لها ،و لكنك ل تعلم أن
والد الفتاة استشهد و هو يدافع عن وطنه في ثورة عام ،1936و
مات الميتة الشريفة التي ماتها زوجي ،أخوك و كذلك أخوها ،و اليوم
بدأ الناس يتهامسون عن الثروة التي ينعم بها والدك و يقرنون اسمه
بما ل يشرفك".
فما كادت سعاد تتم قولها حتى رأت ابن عمها يثب على قدميه و
يصيح قائل" :و هل حذا أبي حذو أولئك الخائنين؟".
همس الفتى و هو بين الشك و اليقين من أمر أبيه " :هذا ما أنبأني به
في رسائله حين كنت بالخارج،و كثيرا ما حدثني عن النجاح الساحق
الذي أحرزته تجارته ،و األرباح الطائلة التي أصابها من وراء ذلك ،و لذا
لم يدهشني حين عدت إلى الوطن أن أرى مظاهر الترف و النعم
تغمره".
قالت و هي تختلس إلى وجهه نظرة خاطفة " :هذه هي الحقيقة ،و
لكني كنت أخشى أن تطرق أذنك تلك الشائعات فآثرت أن تسمعها
مني لتكون على بينة من أمر تلك التي يقرنها الناس باسم أبيك".
عاد الهدوء إلى نفس الفتى و قال " :و على أية حال فسرعان ما
ينجلي األمر و يظهر لنا الحق من الباطل ،و والله لو صح ما يردده
القوم عن أبي فل بد أن انتصف لوطني".
اصطكت ركبتا المرأة و قالت تدير دفة الحديث معه ،و تحاول أن تعيد
إليه هدوء نفسه " :دع عنك ثرثرة القوم و مزاعمهم يا ابن العم ،و
حدثني ماذا أنت فاعل بشأن سلمى؟".
قالت ":اذهب لوالدتك و افض لها بما في نفسك و اطلب إليها أن
تذهب لبيت الفتاة و تخطبها لك من أمها ،أو اذهب أنت بنفسك و
اطلبها من أمها.
قال " :أنت تعلمين أن أمي ل توافقني لو طلبت إليها ذلك ألن الخيلء
و الغرور يجثمان على بصيرتها و يملكان عليها مشاعرها ،فهي شديدة
التعالي و الكبرياء إلى درجة ل تطاق ،و كذلك أختي ،لعتقادهما أنه
ليس هناك من بين مخلوقات الله من توازيهما حسبا و نسبا و منزلة،
و كما تعلمين أن أمي تسعى تارة لتزويجي من ابنة أختها التي ل تلئم
نفسي ،و أخرى من ابنة أخيها تلك الفتاة اللعوب التي تشبه الغانيات،
ثم تقاليد البلد ل تسوغ لي أن اذهب بنفسي و اطرق باب الفتاة طالبا
يدها كما تقولين".
طرق باب نجلء طارق ذات صباح ،فمضت سلمى تستطلع األمر ،و إذا
العم حامد يبتدرها بقوله " :هناك مشتر جاءني أمس يرغب في شراء
لوحة زيتية ،و لما كنت أعلم أنك لم تنتهي بعد من إتمام لوحتك
األخيرة رأيت أن اصحبه إلى هنا ليراها ،و نتقاضى منه عربونا كي ل
تكون اللوحة من حق آخر سواه".
فبهتت الفتاة و قالت " :و لكنك تعلم يا عماه أننا ل نستقبل الغرباء
من الرجال في دارنا ،فلم أقدمت على ذلك؟".
قال "نعم ،فإني حين رأيته يرفل في مظاهر النعمة و الترف قلت له
أن اللوحة ثمينة و ل يقل ثمنها عن خمسين جنيها..فلم يعترض أو
يناقش ،فخفت أن أضيعه ،و ما عليك من كونه غريب فقد سمعته
يقول من تلقاء نفسه أنه سيصحب معه إحدى قريباته ،و هو إلى هذا
شهم كريم الخلق كما يبدو لي".
فقطعت الفتاة كلمه و قالت " :و إن يكن شهما كريما يا عماه فإننا ل
نحب أن نتعرض أللسنة الناس".
و هنا صاح حامد بصبر نافذ و قال " :ليس هناك ما يعاب يا بنية ما
دامت سترافق الرجل شقيقته أو قريبته و ما دمت معهما؟".
و هنا أقبلت نجلء على صوت حامد تسأله الخبر ،فقص عليها األمر،
فصمتت برهة ثم قالت ":كان من األفضل أل تجيء به إلى هنا ،و لكن
مادمت قد أعطيته قول و أخذ على نفسه وعدا و ستكون معه من
ترافقه من أهله فل باس في ذلك".
و مضت إلى الباب ففتحته و بدا لها حامد ماثل في عتبته ،و ابتدرها
بقوله " :لقد طلب إلي المشتري أن أتقدمه و رفيقته لستأذن لهما".
فدخل العم حامد و في إثره شاب جميل الصورة ،تلوح عليه مخايل
العزة و الشرف ،و بصحبته سيدة عرفت سلمى أنها سعاد التي تعيش
في كنف عمها صاحب القصر المنيف ،و ل بد أن يكون هذا الشاب
الذي ترافقه ابن عمها نجل ذلك الثري ،فلقيتهما لقاءا فاترا و قادتهما
إلى حجرة الستقبال ،و إذ أخذ كل مجلسه ابتدرتها سعاد بالسؤال عن
والدتها ،فأجابت باقتضاب ":إنها في خير حال".
و كانت سلمى ترتدي ثوبا أرجوانيا تتخلله خيوط دقيقة خضراء أضفى
عليها رونقا خلبا ،و قد انحسر من أعلى الصدر عن عنق عاجي
طويل ،كما انحسرت أكمامه عن زنديها حتى المرفقين ،و أما شعرها
األسود الغزير فقد جمعته و ضمته بأشرطة حريرية خضراء و تركته
ينسدل فوق كتفيها و ظهرها رجراجا لمعا في لون الليل الفاحم.
فازداد إعجابا بها ،إل أنه أدرك جفاف لهجتها التي تنم عن عدم الرضا
بلقائهما ،فشعر باأللم يعصر قلبه ،و لمع في ذهنه كوميض الشهب ما
كان قد سمعه من ابنة عمه عن أبيه ،فركض دمه حاميا في عروقه ،و
اربد وجهه حتى بان عليه تجهمه ،و لحظت سعاد ذلك و فهمت ما
يجول بخاطره لما رأته من انقلب سحنته ،و خشيت أن يمتد به
شوطه ،فتداركت الموقف و التفتت إلى سلمى و قالت " :ل بد أن
العم حامد قد حدثك برغبة ابن عمي في شراء لوحة من لوحاتك".
قالت" :نعم" .و استطردت تقول و هي تشير إلى لوحتها و كأنها
تتعجل انصرافهما:
قالت ذلك و نهضت فمشت إلى ركن من الحجرة حيث وضعت لوحتها
فوق منضدة تناثر من حولها بعض الورق و أدوات الرسم و أنابيب
الدهان ،و تبعها الشاب إلى هناك ووقفت أمامه بقامتها المديدة و
عودها الرشيق تعرض عليه لوحتها ،و أقبلت سعاد لتشاهد اللوحة
المعروضة ،و قال الشاب بصوت هادئ و هو يمعن النظر في اللوحة و
يرى دقة الرسم فيها و فخامة تصويرها " :بديعة رائعة".
فصمتت الفتاة و لم تقل شيئا ،بينما تدخل حامد قائل " :و إن لم
تشترها اليوم فقدتها إلى األبد".
قال وليد و هو يتبادل نظرة خاطفة مع ابنة عمه " :بل ستكون من
نصيبي إن شاء الله".
فابتسمت سعاد لمغزى كلمه ،و أدركت مرماه ،بينما راح هو يجول
بنظراته بين أدوات الرسم عسى أن يعثر على لوحة أو كتاب ألحد
الفنانين يفتح به بابا للحديث مع هذه الفتاة النفور ،و لما لم يجد شيئا
من هذا التفت إليها و قال " :أل يوجد لديك لوحة أخرى؟".
فادخل يده في جيب سترته و أخرج منها حافظة نقوده و رفع نظره
إليها ،و تفرس في وجهها الجميل و قال " :كم تطلبين يا سيدتي ثمنا
للوحتك هذه؟".
فلما سمع حامد يبادر بسؤال الفتاة عن الثمن خشي أن تفسد الصفقة
بمساومته فقال مسرعا " :قلت يا ولدي إن الثمن لهذه اللوحة ل يقل
عن خمسين جنيها".
فالتفت إليه الفتى و قال " :أذكر ذلك تماما يا سيدي ،و لكني آثرت
أن اسأل صاحبتها فربما يكون لها رأي آخر في ثمن لوحتها هذه بعد
أن سكبت فيها جهدها و فنها".
ذهل حامد و هو يستمع لهذا القول ،و أدرك أن الشاب على استعداد
لشراء تلك اللوحة مهما بلغ ثمنها ،فتبادل الشيخ نظرة سريعة مع
سلمى و قال " :صدقت يا ولدي فلربما يكون لصاحبتها رأي آخر في
ثمن لوحتها".
و هنا قالت الفتاة بلهجة هادئة " :لست من ذوي الجشع ،و ان هذا
الثمن كفاءة جهدي ،و لن أتقاضى مليما واحدا يزيد على ذلك".
أحنى لها رأسه راضيا ،ثم لحت منه التفاتة شاهد عند ركن المنضدة
بعض رسوم لم يكن قد رآها من قبل ،فقال مخاطبا الفتاة " :أرى
هناك بعض الرسوم ،فهل سمحت لي بمشاهدتها؟".
قالت بعد لحظة صمت " :تلك قصة مصورة ل أظنها تروقك يا
سيدي".
فأثار جوابها فضوله و قال " :و لم ل؟" .و استطرد ":أكون شاكرا لو
تفضلت و شرحت لي طرفا من تلك القصة".
و يأتي منظر رابع حافل باألنقاض و األطلل ،فترى فيه كيف تحولت
تلك القطعة من األرض إلى مستعمرة يهودية و خنادق و استحكامات،
أما المنظر الخامس فيبين لنا كيف سارت تلك العائلة مهزومة كاسفة
البال بعد أن كانت آمنة في أرضها مرفوعة الرأس ،و أخيرا ترى
منظرا يصور هذا المواطن الجشع تتألق عيناه شرا و يفرك كفيه
باسما و هو يتلقى كيس الذهب من يد اليهودي ثمنا ألرضه ووطنه و
دينه".
و صمتت لحظة ألقت خللها على الشاب نظرة صارمة اخترقت
أضلعه ،إل انه لم يغضب ،و أدهشها أن رأته يتبسم ابتسامة هادئة و
إن كان العرق يكلل جبهته ،و التقت عينه بعينها و كانت أجمل و أقسى
عينين رآهما في حياته..و لبثا برهة يحدق كل منهما في وجه الخر ،و
قد بدت له كأنها خصم عنيد يتحفز لمبارزته و هو يراها منتصبة أمامه
كالرمح ،و لم تلبث أن قالت بلهجة غاضبة ل تخلو من التهكم ":ما
قولك في هذا المواطن و ما أقدم عليه نحو أهله و وطنه؟".
قال " :نذل وضيع ،و لص األمة .يتقاضى ذهبا ليتجر باألرواح و يسفك
الدماء".
أدرك أنها تحتقره و تزدريه لما يردده الناس عن أبيه و تفاهة شأنه في
عين المواطنين ،و لو أنها أغمدت في صدره خنجرا ماضيا لما آلمته
الطعنة مثل ما آلمته كلماتها و هي تنزل عليه كالسهام المتتالية تخترق
صدره ،و قال و هو يهم بالنصراف " :حقا األبناء يقتدون بالباء ،و لكن
ليس في كل الحالت".
فصمتت و لم تحر جوابا ،و أشعرها شحوبه و امتقاع لونه بالنصر عليه،
و حياها بأدب جم و انصرف هو و ابنة عمه و هو يشعر بأن نظراتها
مازالت تلهب قوله ،قالت سعاد و هي تسير الى جانبه بعد أن غادرا
دار سلمى " :أ مازلت تفكر في الزواج منها؟".
فالتفت إليها و قال " :و هل بدا لك منها ما ل يجعلها جديرة
بحبي؟..إن حبي لها تضاعف و ازداد ،فمن كان لها مثل حماستها
لبلدها ،و نبل شعورها و رقة إحساسها ووفائها لثرى أبيها و أخيها فل
عتب عليها لو تصدت لمن تلوك سيرة أبيه السنة الناس".
قالت ابنة عمه تخفف عنه " :ما احسبها إل كانت قاسية معك بل
رفق".
أطلق زفرة من أعماقه و قال " :و كانت رائعة أيضا بل هوادة ،فبالله
ما كان أجملها و هي تشيح بوجهها عني في نبل و احتشام ،و ل أظنها
راضية بي لو أقدمت على طلب يديها ،و كيف ل و شتان ما بين أبي و
أبيها؟".
استدارت الفتاة برأسها إلى أمها و قالت " :كلي إصغاء يا أماه،
حدثيني بما تبغين قوله".
قالت و هي تمسك بيدها إلى أريكة قريبة عند ركن الشرفة " :هيا
اجلسي و لنتحدث بهدوء".
واستطردت و هي تأخذ مكانها إلى جانبها " :هل تدرين السبب الذي
جاءت من أجله سعاد هذا اليوم؟".
قالت " :كل و قد أدهشني أن أراها تعود لزيارتنا بمثل هذه السرعة".
صمتت األم لحظة ثم قالت " :إنما جاءت لتخطبك لبن عمها الذي
ابتاع لوحتك".
قالت األم بعد صمت قصير " :لم أشأ أن أجيبها بشيء قبل أن أسألك
رأيك".
ألقت نجلء بيدها على كتف وحيدتها و قالت " :أعلم تماما ما ترمين
إليه ،و لكنا أيضا ل نعلم من أمر الفتى ما يجعلنا نعرض عنه ،و ما ذنبه
هو فيما جناه أبوه؟".
صمتت نجلء لحظة ثم تنهدت و قالت " :و أخوه يا بنيتي،ألم تنته حياته
على حبل المشنقة كما انتهت حياة أخيك ،فذهب كلهما شهيد
وطنه؟".
و غصت األم الثكلى بريقها و هي تنطق بهذه الكلمات و غشي الدمع
عينيها و انحدر سخيا حارا يغسل وجهها و شرقت الفتاة بدموعها و
قالت " :نعم ،أخي ،لهفي عليه ووا...أسفاه على أبي..ان روحيهما
تصرخان استنكارا من مثل هذا الزواج ،و سيربد وجهي خجل أمام الله
و الناس ،و يعيب علي القوم أن أزف الى هذا الفتى الذي انحدر من
صلب أبيه".
فربتت أمها على كتفها بحنان و همست و الدموع تجول في عينيها" :
هدئي من روعك يا حبيبتي ،و لن يكون إل ما تشائين ،و لسنا بحاجة
إلى ذاك الفتى و أبيه ما دمت تنفرين منه و ل ترضين به ،و ما حدثتك
بشأنه إل لما سمعت عن كرم خلقه و نبله و حماسته ألهله ووطنه".
تناهى إلى أذن وليد إعراض سلمى عنه و رفضها الزواج منه ،و كانت
صدمة لها صداها في نفسه إل أنه تلقاها بصبر و جلد ،و لم يكن األمر
مفاجأة له ،بل ذلك ما كان يتوقعه بعد الذي شاهده من نفورها و
ازدرائها إياه ،و رأى من الخير له أن يعمل ما في وسعه ليقصيها عن
ذهنه ،و بذل في ذلك جهده ليأخذ نفسه على نسيانها و اصطبر للمر
صبر الجدب على لظى الهاجرة ،مما أثر في صحته فذوت نضارة
وجهه ،و اضمحل جسمه و ساء حاله ،و عاف كل منظر و لون من
ألوان الحياة و استبد به الهم استبدادا كاد يقتله ،فشق عليه أن تقهره
عواطف قلبه فل يستطيع كبح جماحها ،و كره في نفسه الضعف و
ثارت فيه أنفته و عزته ،فانصرف لشأنه ،و افتتح مكتبا فخما للمحاماة
في قلب المدينة ،و تابع عمله بدقة و نشاط،
و تولى أكثر من قضية أحرز في كل منها نجاحا باهرا ،و لم تنقض عليه
شهور قلئل حتى لمع اسمه ،و عرفه الناس محاميا ماهرا له جرأته و
قدرته ،و اشتغل بالسياسة ،و أمد المجاهدين سرا بالعتاد و المال ،و
والده يلبيه مذعنا لكل مطلب ،متظاهرا بالحماسة و الخلص حتى
تألق اسم الفتى بين المواطنين و أحبه القوم و اخلصوا له ،و طغى
اسمه على سيرة أبيه ،حتى كاد الناس ينسون ذلك األب ،و لكن
الجشع و المرض إذ تمكن احدها من إنسان كلهما داء يستحيل برؤه،
فسرعان ما تذمر األب من مسلك ابنه ،و شعر مع مرور األيام انه
يثقل كاهله بمطالبه ،و اعتبر سلوكه ذاك عبثا و ارتجال و أنه قد حذا
حذو أخيه الراحل في عقوقه و عصيانه ،و هو الذي كان قد أرسله
ليقضي شطرا من عمره في الخارج ،و تلقى علومه في قلب
العاصمة النجليزية ،و في اكبر جامعاتها و اختلط بأهلها و أبنائها،
فكيف لم يغير كل هذا من نفسه ،و كيف يعود ليقف ضد آرائه و
مبادئه.
ذلك هو الرأي الذي انتهى إليه و عزم على تنفيذه و لو أطبقت السماء
على األرض ،فالذهب معدن ل يستهان به ،و لكن رأى أن يتخذ أول
سياسة ناعمة مع ولده يأمن بها جانبه و ليلهيه بأمر يصرفه عنه،
فدعاه يوما الى حجرته و قال " :اجلس يا ولدي ألحدثك بما أراه اليوم
قد أصبح ضروريا لك".
و لقد كان شكري بك رجل قوي الشخصية مديد القامة جميل المحيى،
ذا عينين سوداويتين نافذتين ،ورث عنه ابناه قوة شخصيته و جمال
رجولته ،إل أن الله عصمهما من أن يرثا جشعه و استهتاره.
و إذ اخذ الفتى مكانه على مقعد أمام والده ابتدره هذا قائل " :أنت
تعلم يا بني أنني رجل على أبواب الشيخوخة ،و سيأتي يوم ترث فيه
كل ما تملكه يداي ،و لست أتمنى قبل أن يطويني الثرى أكثر من أن
أراك أبا كريما بعد أن رأيتك رجل مكتمل و محاميا ناجحا".
صمت الفتى و لم يحد جوابا ،و تمثلت لبصره صورة تلك الفتاة
الحسناء التي شغف بها و أعرضت عنه ،و دخلت عليهما في تلك
اللحظة أمه تجر جسمها المترهل فوق ساقيها القصيرتين و تنوء تحت
عبئ الحلي التي تزين بها معصميها و جيدها و قد أثقلت أذنيها بقرط
ماسي يوازي بيض الحمام في شكله و حجمه ،و تراكمت المساحيق
تلطخ تجاعيد وجهها و تصبغ شفتيها بلون احمر قان .و كانت في إثرها
ابنتها و وحيدتها )هدى( و هي فتاة ورثت عن أمها غطرستها و خيلئها،
و عن أبيها جشعه ،كانت مادية النفس تنظر إلىالحياة و طيبها و الدنيا
و ربيعها نظرة المربي المستغل ،و ترى في الرياض و أزاهيرها و
أفنانها بثمارها و عناقيدها رؤيتها لمجوهراتها و متاعها،
من حيث القيمة و المنفعة فل يفتنها شيء من جمال الكائنات مثل
افتتانها بالمال و اعتزازها به ،و الذي يسترعي انتباه الناظر إليها حين
تقع العين عليها ،شموخ أنفها و اعتدادها بنفسها و غرورها بذاتها ،فل
تصادق إل من رأتها بمثل ميولها و أهوائها ،و ل يحظى بإعجابها و
احترامها إل من كان له ثراء و بذخ مثل بذخها و ثرائها ،ل يستدر دمعها
حال حزينة و ل يبلغ سويدائها سهم تتأثر به من سهام البؤس و الشقاء
التي تراها في الناس ،و هي إلى جانب ذلك ليست بجميلة و ل ذكية،
كانت قصيرة القامة ممتلئة األرداف ،بيضاء اللون ذات شعر أحمر و
جبين بارز في وجه مستدير غير جذاب و ل مستملح ،و قد فاضت
بلدة حسها على بلدة ذهنها فكستها لونا من الخشونة و الجمود و
التفكير المحدود الذي يدور حول محور واحد ،محور نفسها ،و الظهور
بمظهر األغنياء المترفين ،ألنه يهمها أكثر ما يهمها من شؤون الدنيا و
فهم معناها شغفها و تعلقها بضوضاء الحياة و مباهجها ،بحفلت أنسها
و مجامع السمر فيها ،و إل فما أمر مذاق الحياة لديها و أثقل مؤونتها
لو لم تبق على ثوبها هذا المزركش الضاحك.
و حين دخلت هدى و أمها على أبيها و أخيها أقبلت األم على ولدها
هاتفة " :ما لي أرى وحيدنا صامتا ل يحرك ساكنا".
فضحك أبوه و قال " :دعيه يفكر و يختار لنفسه شريكة حياته ،لقد
عرضت عليه الزواج".
قالت ظريفة بعد صمت قصير " :على رسلك يا ولدي ،فإن لم ترض
بابنة خالك فهناك غيرها من قريباتك و في مقدمتهن ابنة خالتك ،فهي
تختلف عن األولى في طباعها و عاداتها و لست أرى من هي اكثر منها
ملءمة لك".
قال و هو ينهض من مقعده " :لن تكون هذه و ل تلك ،و لست راغبا
في الزواج في الوقت الحاضر ،و متى عزمت على ذلك سأختار
ساعتئذ لنفسي الفتاة التي تروقني و تشاركني حياتي".
قال ذلك و مضى إلى حجرته ،و لم يكن والده ليعلم شيئا من أمر تلك
الغادة الجميلة التي غزت قلب ولده ،و كذلك أمه و أخته ،و حز في
نفوسهم إعراضه عما يريدون له ،و مالت هدى على أمها حين رأت
أخاها ينصرف من حضرتهم تهمس في أذنها " :ل تدعي أبي يغفل عنه
فيخرج بذلك عن إرادتنا و يتزوج بمن هي دوننا مقاما و من هي غريبة
عنا ليخجلنا بها أمام األهل و األصدقاء بينما هناك مئات الفتيات من
أهلنا و معارفنا يتمنين الزواج منه ليعشن و ينعمن بالحياة يوما في
أبهاء قصرنا".
فربتت أمها على يدها و همست لها " :اطمئني يا فتاتي الغالية فلن
ندعه يتصرف في زواجه كما يريد إل إن كان خارجا عن طاعتنا و نأى
بعيشه بعيدا عنا".
عاد شكري بك ذات يوم إلى قصره عند الظهيرة ليتناول غداءه
كعادته ،و إذا بامرأته تلقاه جزعة مهرولة و هي تلهث بأنفاسها و تتعثر
بألفاظها و تقول له " :لقد جاء وليد منذ لحظة و سألني عنك و لم أره
قط في مثل الحالة التي رأيته عليها اليوم ،كان مكفهر الوجه ،مقطب
الجبين و عيناه تكادان تقدحان شررا ،و بادرني بالسؤال عنك و هو
ينتفض غضبا ،فلما قلت له أنك لم تعد بعد،رأيته يتحول عائدا من حيث
أتى ،و عبثا حاولت أن أفهم منه سر تجهمه إل أني لم احظ منه
بطائل".
امتقع لون شكري بك و هو يستمع لقول امرأته ،و فهم السر في
غضب ولده و أدرك أن وراء األكمة ما وراءها ،و هو الذي كان قد أتى
على صفقة جديدة فرغ منها و قبض ثمنها باألمس القريب.
ذهلت المرأة و قالت " :ما معنى كل هذا؟ كلكما يفر عائدا من حيث
أتى...و لم ل تنتظره هنا حتى يعود؟".
ثم مضى و هو يغمغم و يسرع الخطى " :إن هذا البن جلب لي من
المتاعب ما يفوق طاقتي".
انقضت ساعات طويلة دون أن يعود األب و ل ولده ،و قلقت كل من
ربة القصر و ابنتها و أرملة ولدها ،و سهرت النسوة الثلث في شرفة
البيت يرقبن الطريق بقلق شديد و صبر نافذ ،و قد تملكهن خوف
عظيم لذلك السكون الرهيب ،حتى إذا ما أطبق الظلم و بلغت
الساعة العاشرة و النصف مساءا طرق مسامعهم وقع نعال تدنو
منهن ،و بدا لهن رب القصر يخطو بخطاه ناحيتهن ،فابتدرنه في صوت
واحد يسألنه عن ولده؟ قال بلهجة متزنة هادئة " :لم أره قط و لم
أترك موضعا إل و بحثت فيه عنه".
هدأ روع امرأته و ابنته و هما تستمعان لقوله و عاودهما مرحهما ،و لم
تكونا من الحذاقة و الذكاء لتعلل السر في غضب ولدهما.
و لكن سعاد كانت أكثر حذقا و أشد ذكاء من أن تصدق زعم عمها ،و
تملكها فزع شديد أن عمها هذا له كلمته و مكانته لدى الحكومة
المستعمرة للبلد و خشيت أن يكون قد أقدم على عمل ضد ولده
ليزيله من طريقه كي يتسنى له تسيير أموره عن حرية وسعة.
و لقد صدقت سعاد في حدسها ،فلم يكد ينقضي ذلك النهار حتى كان
ابن عمها في طريقه إلى منفاه يرافقه جنديان بريطانيان إلى
معتقلت "صرفند" ،و هي ضاحية بالقرب من بلدة "اللد" ،و قاداه
على حجرة عارية إل من سرير حديدي منخفض يعلوه فراش خشن و
وسادة من القش و غطاء ل يقيه شر البرد ،و كان الفصل خريفا و
الشتاء و زمهريره على األبواب ،و وقف الشاب يجيل الطرف في
أرجاء الحجرة الباردة التي اقتيد إليها على حين أحنى مرافقاه
البريطانيان قامتهما يحييانه في شيء من التهكم و هما يقولن" :
طاب يومك أيها الفتى الشجاع".
و قفل عائدين بعد أن أوصدا عليه باب الحجرة ،و لم يلحقا به أذى
إكراما ألبيه الذي طلب إلى الحكومة اعتقاله فقط و وعدها بالتعاون
معها في القبض على أعوان ولده و أنصاره من المواطنين المجاهدين
األحرار.
دارت دورة األيام و افتقد المواطنون فتاهم الباسل األمين ،و سرعان
ما سرى بينهم نبأ اعتقاله فهاج القوم و ماجوا ،و شاهد شكري بك
بعين رأسه الجموع الحاشدة تلتف حول قصره في ساعات الليل و
أطراف النهار متسائلة عن ولده الذي أحبهم و أحبوه ،و اخلصوا له
إخلصه لهم ،و ادر الرجل الخطر الذي يتهدده لو علم أولئك القوم أن
ولده اعتقل بإيعاز منه ،و بدأ الخوف يتسرب إلى قلبه.
و لم تزل تلك حاله من الفزع و القلق حتى كان ذات ليلة عائدا الى
بيته ففوجئ بأحدهم يبرز له من بين شجيرات السرو المحيطة بقصره
و يتقدم منه شاهرا مسدسه في وجهه ،و كان فتى ل يتجاوز العشرين
من عمره ،ربع القامة نحيل الجسم خاطبه بلهجة صارمة قائل " :ل
تظننا غافلين عما تجنيه يداك و ما ترتكبه في حق ابنك و الوطن".
فانتفض و قال و قد أذهلته المفاجأة " :ماذا تبغي بقولك هذا .إني
لست فاهما ما تقول؟".
و أجابه الفتى بحدة " :بل أنت تفهم تماما ما اعني و ما أقول ،و الذي
نريده منك أن تعمل أول على إطلق سراح ولدك ثم نرى بعد ذلك ما
سيكون من أمرك".
قال و هو ينظر إلى فوهة المسدس المصوبة إلى صدره " :و هل
أدخر وسعا في مسعاي لطلق سراح ولدي".
قال الفتى بصرامة" :ذلك هراء و كذب و نفاق ،و اعلم إن لم يعد إلينا
في خلل أيام قلئل ستكون حياتك اقصر من أيام اعتقاله".
و ارتعد خوفا ممن يهدد حياته من أولئك المجاهدين ،و اندفع يشي بهم
ليأمن شرهم و كان قد عرف الكثير منهم ،فانحدر بعمله هذا من سيئ
إلى أسوأ إذ لم تكن الحكومة لتهمل مثل هذا الصيد الثمين ،و مضت
تنصب شباكها و تحكم النطاق من حولهم كما هي العادة كلما
اضطربت الحال و ثار المواطنون لحقهم و أرضهم ،و ألقت القبض
على الكثير منهم لترغمهم على العتراف بما لديهم و ما عليهم.
و شعر شكري بك في تلك اللحظة بفداحة جرمه،فتضاعف ذعره و
غشيت وجهه تلك المسحة التي تغشى وجوه المنذرين بعقاب شديد،
فتحول إلى امرأته و أهل بيته يشير عليهن بحزم أمتعتهن و أن يرافقنه
إلى مدينة "يافا" من فلسطين ،و راح ينشد الهرب من ذلك الخطر
المحدق به ،و بات أي مكان في نظره خيرا من البقاء في مدينة
"حيفا" و القامة في ذلك القصر المنيف.
قال " :إننا ل نبتغي منه شيئا سوى أن نرحب بقدومه الى بلدنا و نحييه
برصاصتين أو ثلث نهذب بها جمجمته ،و بعد ،فنحن هنا مرابطان
ننتظر عودته و لو طال بنا النتظار دهرا ،و أما أنتن أهل بيته فل
تخشين بأسا و سنحافظ عليكن محافظتنا على أهلنا و ذوينا".
و ما لبث أن طرق مسامعها و زوجها خفق نعال تدور حول المنزل ،و
قضاها شكري بك ليلة ليلء لم يغمض فيها جفن و لم يعرف النوم الى
عينه سبيل ،و انقضت ثلثة أيام كان خللها نهبا موزعا بين الخوف و
المرض الذي تملكه فجأة ،و لم يكن يجرؤ أن يطل من نافذة بيته و
يغادر مكانه منه ،و كان برد الشتاء قارسا يرزح فوق صدره و المنزل
العتيق عاريا تماما إل من رقعة حصير بالية و ثلثة فرش مهلهلة جاءت
بها إليهم امرأة عجوز فقيرة تقطن بالقرب منهم إذ لم يتسن لهم
شراء حاجتهم من األثاث بعد أن فوجئوا بالمجاهدين يحاصرونهم.
و ازداد مرض شكري بك و طالت أيام سجنه وسط جدران ذلك البيت
الصغير و اضمحل جسمه و نفذ آخر درهم من النقود التي كانت في
حوزته ،و لم تكن لديه الجرأة أو القوة ليتغلب على مرضه و خوفه و
يمضي إلى أحد المصارف فيأخذ حاجته من رصيده فيها ،حتى
اضطرت امرأته إلى الطواف في سوق المدينة تعرض بعض حليها
على الصاغة ليبتاعوها منها ،و انحدرت صحة زوجها من سيئ الى
أسوأ حتى أصبح جثة بل حراك ينظر و ل يبصر ،يسمع و ل يعي .و
اشتدت به الحال ذات يوم فما نطق بحرف و ما نزل أمعائه زاد و ل
شراب.
و راح يحرك يديه بجهد و إعياء طالبا معونة األرض و رحمة السماء
عسى أن يقضي الله قضاءه به و يخرجه من حياته التعسة الشقية
ليهنأ بضجعة الموت األبدية.
و التفت النسوة الثلث يبكين حاله و يتألمن للمه ،و رأينه يتطلع
إليهن يحاول النطق فل يسعفه الحال و يحرك شفتيه بإجهاد كمن يريد
أن يقول شيئا ،فأكبت عليه امرأته تسأله مطلبه ،غير أنها ما لبثت أن
رأته قد أسبل جفنيه و جمدت ملمحه ،فارتاعت و هتفت منادية به
فلم يجبها أحد و ما سمعت لبعلها حسا...
فولولت باكية و ندبته طويل ،و نظرت سعاد إلى عمها بنظرة طويلة
دامعة فيها ألم و فيها رثاء و فيها حسرة أن تنتهي حياة الرجل الثري
صاحب القصر الباذخ بين جدران هذا البيت الضيق العتيق ،و على
فراش بال و رقعة من حصير ،و بكت النسوة الثلث ،و ودعنه الى
مقره األخير في مقبرة العجمي بيافا ،و لم يشعر به أحد ،و لم يأبه
بموته أحد.
عادت النسوة الثلث إلى مدينة "حيفا" ،و كان في استقبالهن األقارب
و األصدقاء ،و ما إن ولجن باب القصر حتى ولولن باكيات يندبن رب
القصر و ما قاساه من آلم ،و ولولت معهن النسوة من قريباتهن و
تصاعدت أصوات العويل و النحيب يتجاوب صداها في أجواز الفضاء ،و
هرع حشد من الناس حول القصر يستطلعون الخبر ،و اندفعت نجلء
إلى شرفة دارها تتبعها ابنتها و إحدى جاراتها حين طرق مسامعهن
ولولة النساء و عويلهن ،و ما دار بخلدهن قط أن يكون رب القصر قد
فارق الحياة الدنيا ،و هتفت الجارة و يدها على قلبها " :وبله ل بد أنه
وليد قد قضى نحبه في معتقله من شدة التعذيب كما حدث لغيره من
الشباب".
و قالت نجلء " :معاذ الله أن يكون ذلك الفتى النبيل ،حفظ الله شبابه
و أعاده الى الديار سليما معافى".
فهرعت إليها نجلء تفتح لها بابها و تدعوها للدخول ،فقبلت المرأة
دعوتها و دلفت الى الداخل متهالكة على أول مقعد صادفها ،و
انخرطت في البكاء ،تنشج نشيجا موجعا ،فجيء لها بكوب ماء و بكت
النسوة لبكائها و سألنها مصابها.
جمعت المرأة أنفاسها و قالت و دمعها يهدر بغزارة " :كان ولدي و
وحيدي من بين أولئك الذين وشى بهم ذلك الغادر ،فاعتقله النجليز
مع إخوانه المجاهدين و ساموه مر العذاب ،و لقد كان عزمه و عناده
أقوى شكيمة من جبروت سياطهم و وسائل التعذيب التي أنزلوها به،
فانتزعوا أسنانه ،و قصوا أذنيه ،و ألهبوا جسده النحيل بالسياط ،و
كلما أعادوا عليه الكرة نزعوا عنه ثيابه الداخلية للتصاقها بجسمه من
أثر السياط التي مزقت لحمه ،و لبثت تلك حاله الى أن قضى نحبه و
أعادوه لي جثة ممزقة دامية".
و صعد وليد بيته وسط الهتاف و التهليل ،فاحتضنته أمه باكية ،و عانقته
أخته منتحبة ،فطيب خاطرهما ،و جاءت سعاد لتحييه فشدت على يده
مصافحة بحنان األخت الرؤوم ،و ازدحمت الدموع في مآقيها و
انحدرت فوق وجنتيها ،فربت على كتفها و أخذ مكانه فوق أول مقعد
صادفه ،و كان العياء يبدو واضحا على وجهه.
و أحاط به أهله ،و التفت ألمه قائل و رأسه فوق ظهر مقعده " :إيه يا
أماه كيف الحال؟".
فعادت و قالت " :لقد قاسى كثيرا على فراش الموت يا ولدي".
أجابها بصوت هادئ و رأسه على ظهر مقعده ،و قد أرخى جفنيه " :ل
أظنه قاسى ما قاساه ضحاياه من الشهداء يا أماه".
صمتت لحظة و قد صدمتها كلماته و عادت تقول " :و لكنك ل تعلم يا
ولدي ما فعله به أهل مدينة يافا ،لقد قاسى على يدهم أشد العذاب".
فقاطعها قائل و هو يشعر برعشة باردة تسري في أوصاله " :أما كان
أوفر حظا من أولئك الشهداء الذين مثلت بهم الحكومة و هم أحياء".
و التفتت سعاد إلى امرأة عمها و همست في أذنها ":ما كان يجب أن
تلقيه بمثل هذا القول ،و هو كما ترين منهوك القوى شاحب اللون".
سكتت األم على مضض ،و تحولت سعاد إلى ابن عمها و قالت له
بعطف و حنان " :هيا لتستريح ،فأنت ل بد متعب".
قال و هو يهم بالنهوض " :ل بد أني مريض ،فالحياة كانت قاسية في
المعتقل ،و كان البرد شديدا ،و قد سلخت ليالي فيه بل دثار".
ثم نهض متثاقل إلى حجرته ،و انحدرت دمعة من عين سعاد و هي
تتبعه بنظرها و ترى شحوبه و هزاله ،و بعد قليل لحقت به أمه فرأته
يرتجف في فراشه و أسنانه تصطك فبادرت بدعوة الطبيب.
جيء لوليد بالطبيب ،و بعد أن فحصه مليا ،أشار عليه أل يبرح فراشه،
و انتابته حمى قاسية ألزمته الفراش ثلثة أسابيع ،و بات القصر الكبير
يعج باألهل و األصدقاء للستفسار عن حالته.
و في األسبوع الرابع كان قد أبل بعض البلل ،و سمح له بمغادرة
الفراش و الجلوس في شرفة البيت ليمل رئتيه من الهواء العليل.
و ذات يوم كان وليد يجلس في الشرفة و قد أسند رأسه إلى ظهر
مقعده في استرخاء ،و أحاط به جمع من أهله و قريباته يحادثنه و
يتوددن إليه ،و ل سيما من كانت تنشده لبنتها ،و هو صامت ل يبدي
حراكا ،و لحت منه التفاتة إلى بيت سلمى ،و لمحته سعاد و هو يمعن
في النظر إليه ،و ما لبث أن أطلق زفرة من أعماقه دلت على ما
يعتمل في نفسه ،فاقتربت بكرسيها منه ،و قالت هامسة " :أراك
تسرح الطرف هنا و هناك بنظرات تائهة ملتاعة ،ترى مالخبر؟".
قال " :لم تكن المدة التي قضيتها بعيدا عن هذا المكان ،و ما قاسيته
و ألم بي من حوادث ،كافيا لينسيني إياها و يمنع قلبي من الوثوب
كلما تراءى طيفها لناظري".
و هنا أقبلت أمه تدعو الحاضرين لتناول الغداء ،و تطلب إليه أن ينتقل
الى قاعة الطعام ليتناول غداءه مع ضيوفهم.
أجابها قائل " :أرى أن تبعثي بطعامي الى هنا يا أماه ،فالجو بديع ،و
يطيب لي أن أتناول غدائي في الشرفة".
لم تأنس أمه برأيه ،و لكنها لم تشأ أن تجادله ،و مضت لتبعث إليه
بطعامه ،و ما كاد يخلو بنفسه حتى شاعت عيناه نحو بيت سلمى و
قال هامسا لنفسه " :كم أشتاق أن أراها و أتحدث إليها و أبثها لواعج
قلبي ،إني بحاجة إلى نظرة صارمة ملتهبة من تينك العينين الوضيئتين
لترد الحرارة إلى بدني و تسري في أطرافي المثلجة ،و لكن أنى لي
ذلك ،لقد فاقت أنفتها و رقة حساسيتها سحرها و جمالها".
وليد و سلمى
نهضت سلمى ذات صباح ضيقة الصدر ،تشعر بالمللة و السأم ،و
لبثت طوال يومها منقبضة النفس ،و عند األصيل طلبت إلى أمها أن
تصطحبها في نزهة تسيران بين المروج و تحت شعاع الشمس الدافئة
عسى أن ينعشها السير و النسيم ،فأجابتها أمها " :إنني متأهبة لزيارة
جارتنا ،فهي مريضة كما تعلمين و يجب أن أعودها فهيا معي إليها و
من هناك ل بأس أن تسيري برفقة ابنتها ثم تعودي لتوافيني عندها".
رحبت الفتاة باقتراح أمها ،و تهيأت للخروج ،فارتدت ثوبا رماديا أنيقا و
ألقت على منكبيها دثارا أرجوانيا جميل الشكل منسوجا من خيوط
صوفية ناعمة و قد جمعت شعرها و ضفرته ضفيرتين جعلتهما إلى
األمام من جانبي العنق فاسترسلت غدائرها السوداء فوق صدرها ،و
سارت مع أمها إلى بيت جارتها ،و من هناك اصطحبت ابنة الجارة
لترافقها في نزهتها ،و هي طفلة ل تعدو السابعة من عمرها .و بعد أن
مشتا شوطا طلبت الطفلة إلى سلمى أن تجلسا فوق العشب و بين
األزهار البرية ،فلبتها و جلست معها عند بقعة تكتنفها أشجار باسقة ،و
تشرف على مروج جميلة واسعة ،و راحت الصغيرة تلهو من حولها و
تقطف األزهار التي انتشرت فوق أرض الجبل.
و افتتحت سلمى كتابا كان في يدها ،و أنشأت تتصفحه ،و عادت
الكفلة إليها بباقة زهر جميلة األلوان ،و جلست بجانبها تعنى بأزهارها،
و ما لبثت أن ألقت برأسها الصغير إلى ركبتيها و تمددت فوق
الحشائش ،ثم ما لبثت أن أغمضت عينيها و ذهبت تغط في نوم
عميق ،فهمست سلمى باسمة و هي ترنو إلى وجهها الصغير " :يا لك
من رفيقة كسول".
و ما كادت تتم جملتها حتى طرق مسامعها وقع أقدام تنتقل بين
األشجار القريبة منها ،فارتعدت فرائصها ،و تلفتت حولها ،فشملتها
الدهشة حين رأت نفسها وجها لوجه أمام وليد ،و حين التقت عينه
بعينها حياها بانحناءة خفيفة ،فردت التحية ،و صمتت خافضة الطرف
دون أن تحول عينيها عن صفحة كتابها و قد صبغ الحياء وجهها ،فهاج
شوقه المكبوت بين ضلوعه ،و تمهل في خطاه و هو يرى تلك النظرة
الصارمة التي طالما مزقت صدره ،و قد اختفت تماما و حلت محلها
نظرة وديعة هادئة ،و لما أصبح على مقربة منها،
أمسك عن المسير و خاطبها قائل " :كنت أود أن أمضي إلى متجر
العم حامد عقب عودتي من المعتقل ألسأله عما إذا كان هناك لوحة
جديدة أشتريها ،إل أن المرض أقعدني شهرا كامل".
فسرت إلى يدها رعدة باردة ارتجف معها كتابها ،و قالت بصوت
خافت و هي مازالت على إطراقها " :هنيئا لك إبللك من مرضك يا
سيدي".
فلذت بالصمت.
فما كاد يتم قوله ،حتى رآها تنتفض و الدموع تتناثر من بين أهدابها
محبات الماس ،فهتف بها " :يا الله أتبكين و عهدي بك شجاعة؟".
فزاد قوله هذا دموعها انهمارا ،و قال " :أيؤلمك وجودي يا سلمى؟ هل
أمضي ليتسنى لك استعادة هدوئك؟"
فهزت رأسها و همست من بين دموعها " :كل ،إن وجودك ل يؤلمني
قط".
هدأت نفسه و أخذ مجلسا فوق الحشائش أمامها ،و وقع نظره على
الكتاب الذي بيدها ،فأمسك به و قلب بعض صفحاته ،ثم رفع عينيه
إليها باسما و قال " :تلك لغة فرنسية فهل تجيدينها؟".
قالت" :نعم".
و استطردت و على شفتيها ابتسامة حلوة " :و أجيد العبرية أيضا لغة
خصومنا األلداء".
قالت " :ل تعصب في العلم ،فمن تعلم لغة قوم أمن من مكرهم".
و لحظ وليد أنها تبدو قلقة و تجيل الطرف هنا و هناك ،فهتف بها
باسما " :مالي أراك تتلفتين يمنة يسرة كغزال جازع ينشد الهرب؟".
قالت " :أخشى أن تتلقفنا األقاويل و تلوكنا األلسن ،و هذا ما ل أريده
لنا".
قال بلهفة " :غدا نعلن خطبتنا و لن يكون بعد ذلك ما نخشاه".
قال " :ل يدهشك مني يا سلمى أن أحيا حياة سريعة ،فعجلة الزمن
تدور و ل تتوقف ،و تطوي بدورها أعمارنا دون أن تنتظر و ل تتمهل ،و
حالة البلد تشعرني بدنو أجلي".
أطرقت هنيهة ،ثم رفعت رأسها و صوبت فيه بصرها و قالت و قد
بانت لوعة الحب في جبينها " :كن رحيما بحالي و أبعد شبح الموت
عن ناظري ،و ل تجعل له ذكرا يمر على لسانك" .و استطردت تقول
و هي تستجمع شمل أنفاسها " :وداعا لقد آن لي أن أمضي".
عاد وليد إلى بيته منشرح الصدر و إمارات السعادة ظاهرة على
وجهه ،و إذ ولج فناء القصر سمع جلبة في الداخل ،فسأل الخدم" :من
هناك؟".
و لحظت سعاد ما يبدو عليه من انشراح صدره و بريق عينيه ،عدا ما
لمسته في نبرة صوته التي تنم عن سروره ،و جاءته الخادم بقدح من
القهوة ،فتناوله و أخذ رشفة منه ،ثم التفت إلى سعاد التي كانت
ترقبه خلسة و قال " :أما آن لك يا ابنة العم أن تخلعي عنك ثياب
الحزن على أخي الشهيد ،و قد مضى على وفاته ما يزيد على سبع
سنين؟".
قال " :و إلى متى ينبغي أن تلزمي هذه األردية المصبوغة بالسواد؟".
قالت و هي ترمقه بنظرة فاحصة من ركن عينها " :ذلك إلى أن تتزوج
و تدخل السرور إلى قلوبنا".
تبسم و قال ":هبي إذن أنني طلبت إليك أن تعودي الى دار سلمى و
تخطبيها إلي ،فهل تفعلين؟".
قال و قد تلألت ابتسامته تللؤ األشعة على قمم الجبال " :فلنجرب
مرة أخرى و ل نيأس".
قالت " :أخشى زراية حبيبتك بعد الذي كان ،أخشى منها أكثر ما
أخشاه أن تلهبني بسهم من سهام عينيها سخطا و احتقارا ،فتردني
على أعقابي أجر ورائي أذيال الخيبة و الفشل ،فلو أنها فعلت هذا فما
تراك فاعل؟".
أغرب في الضحك و قال " :ل أظنها فاعلة في هذه المرة ،و سأتحدث
الليلة إلى أمي لتذهبا معا و تخطباها".
تهلل و قال " :كل ما هنالك أني لمحتها الن و أنا في طريقي إلى هنا
تقف في شرفة دارها ،فهاج شوقي إليها".
قالت ضاحكة و قد صدقته في زعمه " :ما أغرب أساليب القلب ،و
هل مجرد لمحة يمكن أن ترد إليك سعادتك و تسبغ عليك كل هذا
السرور؟..ترى كيف تكون حالك لو أصبحت تلك الغادة زوجك؟".
قال و عيناه تلمعان ببريق السعادة " :لن يكون ساعتئذ من هو أسعد
مني على وجه البسيطة".
قالت و هي تهم بالنصراف لتعود إلى قاعة الضيوف حيث امرأة عمها
و زائراتها " :أتمنى لك التوفيق".
جلس وليد و أهله بعد أن خل المنزل الكبير بهم حول مائدة العشاء
يتناولون طعامهم ،و لحظت األم ما يلوح على ولدها من الغبطة و
النشراح ،فالتفتت إليه قائلة " :لقد جدد السير و النسيم نشاطك هذا
اليوم".
قال و وجهه يفيض بشرا و عيناه تتألقان " :نعم يا أماه ،فالجو كان
بديعا و النسيم عليل ،و كل ما صدفني في يومي هذا كان رائعا و
جميل ،رد إلي نشاطي و قواي".
صمتت لحظة ثم قالت " :لقد سألت عنك خالتك و ابنة خالتك ،حين
كنت في نزهتك".
قال " :ليكن ما تشائين يا أماه و سيحقق الله بي أمانيك ،و لن ينقضي
وقت طويل حتى أكون أبا إن شاء الله".
قالت بلهفة و قد زادها قوله ثقة و طمأنينة " :و أيهن السعيدة التي
وقع اختيارك عليها من قريباتك؟".
قال بهدوء " :أما قريباتي و غيرهن ممن ترغبين ،فل أظنني عازما
على إحداهن ،و فتاتي قد اخترتها لنفسي".
صدمت أمه لقوله و بانت البغتة في جبينها ،و قالت بلهجة تنم عن
عدم الرضا و التعالي " :و من تكون تلك التي أردتها لنفسك؟".
قال " :ل أظنك تجهلينها و هي تقيم بالقرب منا".
فتطاولت أخته بعنقها ،و اشتاقت أمه لسماع اسمها ،و قالت بخيلءها
و غرورها " :ل أظنني أعرف من بين أهل الحي من هي أهل لك".
فتطلع إليها مستخفا و قال " :و لم؟ و من أنا؟ و من هو أبي؟ و من
جدي حتى نرتفع عن خلق الله و نعتبر األشراف دوننا مقاما؟".
فنظرت إليه أمه حانقة و قالت " :كأني بك تعتبر لفتاتك شرفا ليس
لنا".
قال " :نعم ،ليت لي شرف أهلها و أبيها ،و ليت بين قريباتي من هي
في مثل نبلها و احتشامها ،و ثقافتها و رقة إحساسها ،و أما جمالها
فلندعه جانبا".
فاشتد حسد األم و ابنتها و قالت األم ":قل لي من هي ،لقد نفذ
صبري".
بغتت األم و قالت بلهجة النف المترفع " :عساها تلك الفتاة اليتيمة
التي تعيش في كنف أمها؟".
قالت و هي تنتفض غضبا " :و ما الذي نعرفه عنها حتى تنزلها من
نفسك تلك المنزلة العليا ،و تحلها من قلبك مقاما ساميا دونه اهلك و
عشيرتك؟".
قال " :ألم يكفيك يا أماه ما عرفته عنها؟".
قالت " :ما كنت ألومك لو اخترت فتاتك من أسرة في مثل حسبنا و
نسب آبائنا و أجدادنا".
قال " :لو كان ألجدادنا أصل شريف ما كان هذا حالنا اليوم ،و لكان
شرف أصلنا رادعا لنا".
قال" :تلك الفتاة الفقيرة اليتيمة قد خلف لها أبوها مع فقرها وساما،
و خلف لي أبي مع ثرائي عارا ،و حسبناها بل أصل ألن أسرتها ل
تحمل لقبا أجوف ،و ل حسبا موهوما،
و ل أجدادا نقرأ سيماهم في وجوه ذريتهم و أبنائهم ،فمنهم خائن
جشع ،و مرب مستغل ،و أخ يحقد على أخيه ،و أب يشي بولده ،و
هناك من تسعى لرضاء غرورها و خيلئها ،أو لشباع جشعها و أنانيتها،
و من فاقت بنات الهوى في لهوها و تبرجها ،إن الله قد عصم تلك
الفتاة الفقيرة اليتيمة و أهلها من مثل هذه الصفات التي اشتهرت بها
األسر الحسيبة النسيبة التي تتحدثين عنها".
نظرت إليه أمه شرزا و قالت " :هاأنتذا تتنكر لنا قبل أن يتم الزواج".
قال" :كل ،ما أنا بمتنكر لكم قط ،إنما أردت بذلك أن أقدم لك مرآه
تريك حقيقة حالنا ،ألنك تتعالين على الناس و تحتقرينهم ،و لو أمطنا
اللثام لبانت لنا الحقيقة المرة ،التي ل تحمل لبسا و ل تأويل ،و لخجلنا
لمجرد ذكر اسمنا ،و لثرنا النزواء على التعالي و الكبرياء".
هزت األم رأسها و قالت " :لقد نسيت أنك محامي ماهر ،فمن الخير
لي أن أكف على جدالك".
كظم غيظه و قال " :أل يسرك يا أخية أن تكون لك صديقة في مثل
سنك ،تعيش إلى جانبك و تؤنس وحدتك؟".
سكتت و لم تجب بشيء ،و غشي الدمع عينيها ،فتحولت أمها إليها و
راحت تربت على كتفها و قد انهمرت دموعهما.
تألمت سعاد و كانت ترقب الموقف في صمت و سكون ،و قال الفتى
و قد انقبضت نفسه " :ما هذا؟ أفي مأتم نحن؟..و هل يجمل بكما أن
تتقبل نبأ زواجي بهذه الدموع ،و هذا التجهم و العبوس؟..و بعد ،فماذا
يضيركما لو أنني تزوجت من أريد ما دامت حقوقكما عندي
محفوظة؟..و إنك يا أماه منذ لحظة تلحين في الزواج و تشتاقين
لرؤية ولد..أكان ذلك توددا و مجاملة ألرضى بمن تريدينها شريكة لي؟
إنها حياتي و أنا صاحبها و ليس ألحد عليها حساب".
قالت و هي تلتقط دموعها " :و إذن فأنت مصر على هذا الزواج؟".
قالت بشيء من التهكم " :أظنك لن تتوانى عن بيع هذا القصر لتدفعه
مهرا لعروسك تلك؟".
قال " :ل تهزئي بي ،فالقصر قصركم ،و عروسي ليست جشعة ،و
لست بالمتهور ،و لو حق لي بيع هذا القصر ما أصبحت عليه ،و
أللحقته بما ورثت عن أبي".
فاضطربت و اتسعت حدقاتها و قالت " :ما تراك فاعل بما ورثت عن
أبيك؟".
هتفت " :رباه ماذا يعني هذا الولد؟ قل لي يا بني ماذا سولت لك
نفسك حتى أضعت ثروتك التي ورثتها عن أبيك؟".
قال " :قلت لك إنها ليست بثروتي و ل ثروة أبي ،بل ثروة أولئك
الشهداء الذين وهبوا أرواحهم دفاعا عن أرضهم ،فرددتها ألسرهم
الثكلى بهم".
قالت و هي تترنح ترنح الخاسر المغلوب " :و إذن فأنت اليوم ل تملك
سوى ثيابك؟".
قال " :نعم ،و لك أيضا أن تلقي بي من باب قصرك متى شئت".
تأملها مليا و قال " :أرى أني أصبحت ل أساوي عندك مثقال ذرة دون
ثروتي؟ . "..و استطرد " :و لكن هبني أنني عدلت الن عن القتران
بسلمى و تقدمت طالبا يد ابنة أختك أو غيرها ممن تربطني بهن صلة
القربى ،فهل يرضين بي".
سكتت األم و لم تجب بشي ،و أحس بحرجها فعاد لسؤالها " :ما بالك
ل تجيبين يا أماه؟ و عهدي بك منذ لحظة قد شننت حربا شعواء على
تلك الفتاة و أهلها كي أتحول عنها و أقترن بمن تريدين".
فقطعت كلمه قائلة " :و لم ل تسل نفسك عما إذا كانت عروسك من
السمو بحيث ترضى بك خاوي الوفاض ،بعد أن كانت تعتقد كما يعتقد
سائر الناس ،أنك الشاب الثري الذي يرفل في الترف و تغمره
النعم؟".
تبسم في تيه و افتخار و قال " :إن عروسي كذلك ،إن تلك الفتاة التي
تتعالين على أهلها و عليها صدتني غنيا و رفضت قربي أنفة منها و
تعاليا".
حدقت فيه دهشة و قالت " :ماذا؟".
قال " :ل يدهشك ذلك ،و اسألي سعاد تنبئك بأمرها ،ثم ألم أقل لك
إن الغرور و الخيلء يجثمان على بصيرتنا ،في حين يرانا الناس على
حقيقتنا؟".
قالت و الدهشة مازالت فاغرة فاها " :و ما الذي يحملك على تسميتها
عروسك ما دامت لم ترضى بك؟".
قال " :ذلك سببه الثروة المغتصبة ،التي يتنازع عليها أقاربي ،و ألنها
كانت تجهل أمري ،و اليوم و قد انجلى لها موقفي فل أظنها إل راضية
بي ،و غدا سترافقين ابنة عمي إلى دارها لتخطباها من أمها".
فوجئت نجلء و سلمى ذات يوم بزيارة جارتها نفيسة ،و هي امرأة
أرملة و عجوز متداعية ،فرحبتا بها ،و جلست المرأة و في قبضتها
رزمة من الورق ،و ابتدرتها نجلء قائلة " :ماذا تم في قضيتك مع
أقارب زوجك يا أختاه؟".
قالت المرأة لهثة " :هذا ما دفعني إليك هذا الصباح ،و لقد وجدت
محاميا ماهرا لكنه يهودي ،و لما كنت ل أعرف الفرنجية ،رأيت أن آتي
إليك و أصطحب معي سلمى لتتفاهم معه".
التفتت إليها سلمى و قالت " :و لم لم توكلي محاميا عربيا يا خالة
يدرس قضيتك و يترفق بحالك؟".
قالت المرأة " :لقد جربت ذلك يا بنيتي ،و لكن أحدا لم يأبه ألمري و
رقة حالي و يتم أولدي ،و بعد فإن ذلك المحامي بارع جدا ،و قد رأيته
أمس رأي العين و هو يقف في ساحة القضاء يهزها ببراعته و لباقته و
لقد كانت موكلته امرأة في مثل حالي ،و أسرت إلي أنه لم يتقاض
منها درهما واحدا رأفة بحالها".
قالت سلمى مستخفة قولها " :ل شك أن موكلته هذه يهودية مثله ،و
إل ما عطف عليها ،و أما أنت فسيصليك نارا حامية لكونك عربية".
قالت المرأة يائسة " :ل تضيقي علي السبيل يا بنية".
و قالت نجلء ضاحكة " :دعيها و شأنها يا سلمى ،لقد شقيت المسكينة
مع أقارب زوجها في سبيل ميراث أبنائها ،دعيها يا بنيتي تضرب آخر
سهم لها فهي صاحبة الحق في القضية و الله نصير أهل الحق ،هيا
استعدي لمرافقتها إلى محاميها".
قالت الفتاة " :حسنا ،سأسير معها في الحال ،و نرى ما سيكون من
أمر ذلك المحامي اليهودي معها ،و استطردت تخاطبها " :هل لك
بقدح من القهوة يا خالة قبل أن نمضي لشأننا؟".
قالت المرأة " :ل يا بنيتي ،فما بي حاجة إلى طعام أو شراب ،و لن
يهدأ لي بال إل متى فرغت من هذه المهمة ،فهيا بنا".
و انصرفت الفتاة تتأهب لمرافقة العجوز إلى المحامي ،و بعد أن
فرغت من إعداد نفسها ،التفتت إلى المرأة و قالت تسألها " :أل يقيم
ذلك المحامي في حي )الهدار( يا خالة؟".
قالت " :ربما كان ذلك يا بنيتي ،و لكن الذي أعرفه أن له مكتبا في
شارع الملوك".
فصمتت الفتاة و سارت مع رفيقتها هذه إلى حيث تقودها ،و لما بلغتا
قلب المدينة ،توجهتا الى شارع )الملوك( .و هنا رأت سلمى رفيقتها
تشير على أحد األبنية الشاهقة و هي تقول " :ها هو مكتب المحامي".
ثم مشتا إليه ،و صعدتا سلما أدى بهما إلى مكتب فخم ،تتصل به قاعة
مستطيلة جميلة ،فرشت أرضها ببساط أنيق ،تتوسطه منضدة رشيقة،
عليها إناء زجاجي ،يحمل باقة زهر طيبة الرائحة ،و في الركن الخر
من المكان وضع مقعدان وثيران تقابلهما أريكة فخمة مكسوة جلدا
بني اللون ،ارتمت العجوز عليها ،و أخذت سلمى مكانها إلى جانبها ،و
راحت المرأة بعد ذلك تعد أوراقها استعدادا لعرضها على محاميها،
على حين أخذت سلمى تتشاغل بقراءة إحدى الصحف ريثما يأتي
المحامي إلى مكتبه ،و بينما هي كذلك إذ سمعت العجوز تقول همسا:
" ها هو ذا قد جاء يا سلمى".
فرفعت الفتاة عينيها عن الصحيفة التي في يدها ،و نظرت إلى حيث
تشير المرأة ،و كم كانت دهشتها حين رأت نفسها أمام وليد يسير
باتجاه مكتبه ،و لم يكن هو قد رآها بعد ،و التفتت سلمى إلى العجوز
متسائلة " :ما هذا الذي تقولين يا خالة؟..و هل هذا الشاب هو
محاميك اليهودي؟".
فدهشت الفتاة ،و اعترتها على الرغم منها هزة جمعت بين الذهول و
الخوف معا ،و قبل أن تجيب المرأة بشيء ،كان وليد قد لمحها ،فخف
إليها و هو في دهشة من أمرها ،و ما يبدو عليها من الوجل و
الضطراب و قال " :ما لك يا حبيبتي؟..و ما الذي جاء بك الى هنا يا
سلمى؟".
قالت و هي تنظر الى وجهه بإمعان " :إنما رافقت هذه الخالة إلى هنا،
و هي تقول مؤكدة أنك يهودي".
فلما سمع كلمها أدرك الباعث على اضطرابها ،و لم يملك نفسه أن
أطلق ضحكة مرحة تجاوب صدى رنينها في أرجاء المكان ،و ما لبث
أن قال " :يا للبلهاء الجميلة ،يا الله صدقتي أنني يهودي؟".
قالت تلهث" :كل و الله لم أصدق ذلك ،و إني أجن لو تصورتك
يهوديا".
فأتاها بكوب ماء و التفت إلى العجوز التي كانت منهمكة تعد أوراقها و
خاطبها قائل " :هل لي أن أسألك يا سيدتي عما جعلك تقولين أنني
يهودي؟".
ردت العجوز فرحة " :حمدا لله على أنك عربي يا ولدي ،و ما كان
اعتقادي ذلك إل لكوني رأيتك باألمس تتحدث الى امرأة أجنبية برطانة
أجنبية ل أعرفها".
ضحك ثانية ،و دهشت سلمى لسماع قول المرأة ،و غمغمت هامسة
في نفسها " :يا له من أمر عجيب".
ثم التفتت إليها قائلة " :كيف ذلك يا خالة..ألم تصحبيني إلى هنا ألني
أجيد الفرنجية؟".
قالت " :كل يا بنيتي فليس هذا وحده الذي جعلني أقول أن ولدي هذا
يهودي".
فحدقت بها الفتاة ،و قال وليد للمرأة و هو يرقب دهشة سلمى و
اضطرابها " :قولي بالله يا سيدتي و عجلي في القول ،فهذه خطيبتي
لن تتورع عن أن تطعني بمدية لو صح لها أنني يهودي محتال عليها".
قالت " :حسنا .سأسرد لك األسباب التي جعلتني أعتقد أنك غير
عربي" .و استطردت و هي ترفع عينيها المتعبتين " :حين رأيتك أمس
تقف أمام القضاء و عليك رداء الرهبان ،و كنت قد سمعتك تتكلم
الفرنجية ،لم يبق عندي بعد ذلك أدنى شك بأنك يهودي عريق".
فما كادت العجوز تتم قولها حتى أغرب وليد في الضحك ،و التفتت
سلمى إليها و قالت " :و كيف ذلك بالله؟..راهب..و يهودي..و محام..و
رطانة..و ما هذا الخلط يا خالة الذي كدت به أفقد صوابي؟".
قالت العجوز متسائلة " :و ذاك الثوب األسود الذي كان ولدي هذا
يرتديه أمام القضاء و هو أشبه بثياب القساوسة و الرهبان؟".
ضحكت الفتاة و قالت " :ذلك رداء المحاماة يا خالة ،و كل محامي
يرتديه أمام القضاء".
و التفت وليد على سلمى و همس في أذنها " :هذا جزاؤك ،إنك تنقبين
على العجائز ،تنشدين مصادقتهن ،و ليس ببعيد أن تأتيك يوما عجوز
تتسلط على عقلك ،فتبيتين مصدقة لكل هذر و هرف يدور حولك".
قابلت قوله هذا بالبتسام و التفتت الى المرأة التي كانت منهمكة في
إعداد أوراقها ،و خاطبتها قائلة " :هيا يا خالة حدثي محاميك هذا
العربي الكريم بما تبتغين ،فباستطاعتك الن أن تتفاهمي معه دون
حاجتك إلي".
اتجهت المرأة نحو المحامي الشاب ،و قالت" :سامحني بالله يا ولدين
أفتكون خطيب ابنتنا هذه و أنا في جهل من أمرك؟".
قالت ذلك و راحت تبسط له قضيتها و تشرح أمرها ،و لما فرغت من
سرد مشكلتها ،أدخل الطمأنينة إلى قلبها الواهي ،فانبسط وجهها و
توسمت في األمر خيرا ،شكرته و رفعت يديها المعروقتين الى السماء
داعية له بالتوفيق و النجاح".
فكانت مثل هذه الهمسات الحلوة التي تسكبها في أذنه ترجع إلى
نفسه الطمأنينة ،و يقنع بما يسمعه منها و يراه من تدللها عليه دلل و
حبا ،و لو أنه أماط اللثام عما تخفيه وراء تلك البتسامة العذبة ،و ما
تنطوي عليه جوانحها ،لرأى قلبها النبيل يذوب بين ضلوعها ذوبان
الشمعة المضيئة في ظلمة أركان بيتها ،و ذلك لما تتجرعه من
الهانات ،و قساوة القول الذي يفوق بمرارته الحنظل على أيدي أهله.
و هكذا سارت حياتها على هذا المنوال ،فشوط تقطعه سعيدة هانئة
في ظل زوجها بجانبها ،و شوط تتقهقر فيه كئيبة ،لما تلقاه من أمه و
أخته اللتين استخدمتا غلظتهما و جحود قلبيهما كمعول لتحطيمها و
إذللها و ما من ذنب اقترفته في حقهما حتى تلقى منهما مثل هذا
الجزاء القاسي ،و عبثا حاولت كسب قلبيهما بالتودد و اللين ،إل أنها
لم تلمس من وراء ذلك إل الخفاق و المقت و النفور ،فتلبث على
صمتها متذرعة بالصبر و اليمان ،و ما كان لها من عزاء لهذا الشقاء
المحدق بها إل زوجها الكريم الذي يبادلها حبا و إخلصا بإخلص.
و لبثت تلك حالها الى أن فوجئت يوما بزيارة جارتها القديمة نفيسة
تلك العجوز التي رافقتها مرة الى مكتب زوجها ليتولى قضيتها فلقيتها
بالترحاب و قادتها الى حجرتها ،و إذ أخذت المرأة مجلسها ابتدرتها
سلمى بالسؤال عما صارت إليه قضيتها فنظرت إليها العجوز ضاحكة
م تسألي زوجك الكريم؟..أم أن هذا القصر البديع و قالت " :و لم ل م
أنساك حالنا حتى لم نعد نرى شمس وجهك و ضياء عينيك ،و إني لتية
الساعة من عند أمك و هي عاتبة عليك و قلقة من أجلك فقد مضى
عشرون يوما دون أن تسعد بزيارتك على الرغم من أن زوجك ل يلبث
يتفقدها في ذهابه و إيابه".
انتبهت الصبية لنفسها ،و قالت و هي تصحو من تألماتها " :ليس بي
من شيء يا خالة ،و كل ما هناك أنني أشعر بتوعك خفيف هذين
اليومين ،فاحملي تحياتي ألمي و طمئنيها علي ،و سأمضي لزيارتها في
صباح الغد إن شاء الله".
قالت المرأة و قد صدقتها في زعمها " :حمدا لله على سلمتك يا
بنيتي و جعل غدا مباركا يا سلمى ،فهو يوم جلستنا في قضيتنا ،فادعي
لنا بالفوز و التوفيق و ليأخذ الله بيد وكيلنا الكريم و ينصرنا على
الظالمين المغتصبين حقنا".
ثم قامت و جاءت لزائرتها بقدح من القهوة و قدمت لها مما لديها من
الفاكهة و الحلوى ،فشكرتها العجوز و قضت في زيارتها فترة من
الوقت ،أنست بها الفتاة و نسيت كربها ،و كل من حولها ،إلى أن
استأذنت المرأة بالنصراف فنهضت بنهوضها و مشت معها الى الباب
تشيعها و هي تحملها ألمها السلم.
و إذ عادت سلمى أدراجها الى حجرتها التقت بهدى و أمها تقفان في
ساحة القصر حول الحوض الرخامي المصقول ،و كانت هدى تجلس
الى حافته و تعبث بمياهه محاولة المساك بإحدى أسماكه النادرة .و
لما شاهدت سلمى مارة عن كثب منهما ،التفتت ألمها قائلة بصوت
مسموع " :لعمري يا أماه إن تلك المرأة البائسة أصلح ما تكون
صديقة لنجلء و ابنتها".
فالتفتت إليها سلمى على إثر قولها و لم يثر ذلك القول غضبها كثيرا
إذ كانت أذناها تمتلئان بألذع منه ،و أجابتها قائلة " :ل تصدقي يا هدى
أنني اسمح لفتاة في مثل سني أن تعمل على إهانتي ،فكفاني ما
ألقاه من غيرك ،و إذ كنت تعتبرين نفسك ذات سلطان علي ،فذلك
وهم منك ،و إن هذا الذي أراه و أسمعه منك ل يصدر عن فتاة لها مثل
احتشامك و ثقافتك و حسب آبائك و أجدادك".
ثم صدفت عنها و مضت في سبيلها دون أن تترك لها فرصة الرد
عليها ،و هنا التفتت هدى لمها و قالت " :لعمري إنها ينبوع من الجرأة
ل ينضب له معين ،و علمها علم اليقين أنها فتاة مجردة من الكثير ،فل
ثروة و ل اسم و ل مكانة لها و ألهلها ،و على الرغم من ذلك فهي
تعرف كيف تصيغ سهمها في قالب من التعبير المنمق".
مرت بشفتيها ابتسامة باهتة و قالت " :أظنك تحن الى طفل يمل
عليك فراغ حياتك".
قال ذلك و جمع شتاتها و أعادها الى صندوقها و تطلع وليد الى وجه
زوجته و تفرس في تلك الطبقة الرقيقة من األسى التي تغشى عينيها
الجميلتين دله عليها ذبول جفنيها المسبلة على نظرة صافية خالية من
كل مرح و انشراح و أمعن النظر فيما يعتري وجهها الجميل من
انحراف يدل على مبلغ آلمها المنطوية عليها ضلوعها إل أنها آلم و
انحراف ل يخلوان من رقة محببة للنفوس هاجت لها عواطفه الجياشة
فتناول يدها بين كفيه و قال " :إن أمرك يشغلني و يبعث القلق الى
نفسي".
قالت " :اطرح عنك هذه الهواجس و ائذن لي أن امضي لزيارة أمي،
فانزل عليها ضيفة بضعة أيام أروح بها عن نفسي فلقد مضى وقت
طويل لم أرها فيه".
قال " :و لكن غدا هو يوم زفاف أختي يا سلمى أل ترين أن وجودك
بيننا في حفل الزفاف ضروريا؟".
فحدقت به دهشة و قالت " :أفصح يا وليد ،أهو من تلك الشرمذة التي
تتجر باألرواح و تتقاضى ذهبا ثمنا لسفك دماء أبناء الوطن؟".
زفر زفرة حرى و قال " :ذاك عمه ،فقد نشط هذا الرجل في تجارة
األراضي و إغراق بعض الملك ببيع أراضيهم بما يدفعه لهم من مبالغ
باهظة في المتر الواحد من األرض ،فكان أصحاب األرض من هؤلء
يضطر إلى بيع أرضه هربا و تخلصا من أعباء الضريبة الفادحة التي
تفرضها حكومة البلد على أصحاب األراضي كي تجبرهم علي بيع
أراضيهم بعد أن تكلفهم الضريبة ما يفوق طاقتهم و يذهب برمقهم ،و
يأتي عندئذ واحد من سواعد الستعمار و أعداء الله و الوطن أمثال
ذلك الرجل فيشتري األرض من صاحبها ثم ل يلبث أن يبيعها بدوره
إلى الوكالة اليهودية و يتقاضى الثمن على ذلك سخيا :واحد من ألف
واحد ،يتخذ من هذه المهنة المزرية عمل و احتكارا فيجر بعمله هذا
على البلد و أهلها خرابا و وبال ،إن السعداء اليوم من هؤلء المدمرين
سيشقون غدا و سيشقى معهم األبرياء و يحصد هؤلء ما زرع أولئك،
بل سيشقى من لم يولد بعد ،و يرضع الرضيع من مرارة ثدي هذه
الجناية الحابل بالنابل و يذهب الطائع بجريرة العاصي و البريء
بجريمة الجاني".
مرت براحتها على جبينها و قالت " :و ماذا عن خطيب أختك هذا؟".
قال ":ذلك ما عرفته عن عمه و أما هو فلم نسمع عنه شيئا من هذا
القبيل إل انه نذل دنيء يعشق جمع المال من أية سبيل ،و ل غضاضة
عنده في مهنة عمه و ل اعتراض له على ذلك ،لذا تألق نجمه في
نفس عروسه و نال رضا أبويها ،و من كان هذا خلقه ليس ببعيد أن
يحذو حذو عمه".
قالت ساخرة " :ما كنت اعلم بهذه المزايا التي من أجلها تفاخر أختك
بخطيبها هذا" .و استطردت " :إن أمر هؤلء القوم لعجيب أن يبيعوا
السعادة و الستقرار ليشتروا بثمنها التشتيت و الدمار حبا منهم في
جمع المال و كنز خزائنهم بالذهب و الماس و طمعا في زينة الحياة
الدنيا دار الزوال ،و استماتة بمباهجها الفانية و مجامعها الحافلة ،و
أغراضها الزائلة ،فل استفاقة منهم و ل حساب أن تعض نواجذ الدهر
يوما على ما جمعوا باطل فما يصحون من ثمالتهم إل و هم
الخاسرون ،فل بحاضرهم يسعدون ،و ل بماضيهم يدركون ،و ل هم بعد
ذلك عند ربهم بمكرمين".
قالت " :و لكن البنية تقول أنها محمومة و ملزمة فراشها".
فتحولت و ارتدت ثيابها على عجل و مضت إلى أمها تستطلع أمرها ،و
إذ أقبلت عليها رأتها ساكنة في فراشها و قد ألمت بها حمى شديدة
تلون لها لونها فارتاعت و جعلت تتفقدها و تسهر على راحتها و خدمتها
و قد مضت بضعة أيام على تلك الحال و حالة المريضة تزداد سوءا و
البنة تتفانى في خدمة أمها وتذرف الدموع السخية جزعا عليها
متضرعة إلى الله أن يشفيها و يرد إليها عافيتها ولكن حالة العليلة
أخذت في التقهقر ،و لم يكد ينقضي أسبوع رابع حتى كانت قد فارقت
الحياة و صعدت روحها إلى بارئها .و كانت صدمة لها أثرها في نفس
فتاتها ،فبكتها و نعتها نعيا جميل ،و أقبل عليها زوجها و كانت قاعدة
مطرقة خاشعة خشوع العابد أمام محرابه و دموعها تنحدر فوق خديها
بل عناء متساقطة فوق صدرها كسيل طل منهمر ،فأثر منظرها في
نفسه و طفر من عينيه ،و دنا منها و قلبه يذوب عطفا و ألما لما يراه
من صمتها و جمودها ،فلم تشعر به إل و هو يضع يده برفق فوق
عاتقها و يهتف بها قائل في همس " :ل حيلة في قضاء الله يا حبيبتي،
فخففي عنك ،و ليرحم الله تلك الروح الطاهرة و جعل مثواها الجنان،
و ليكن صبرك عليها كريما يا سلمى".
فزاد قوله هذا دموعها انهمارا ،فواساها و أحسن عزاءها ،ثم اقترح
عليها أن يعود بها إلى بيتها.
فأطاعته و عادت معه و نفسها تفيض حزنا و لوعة لفقدانها صدر أمها
الحنون ،و قد أخذت منها الصدمة مأخذها ،فذبل لونها و كثر شرودها و
انطواؤها على نفسها و ألم بها من المتعاض ما يلم بنفس الغريب
النازل موطن غير موطنه و ديار و قوم غير داره و أهله.
و لم يغفل زوجها عما نالها من حزن ،و أسف لموت أمها ،فانصرف
إليها يغمرها بعطفه و يضاعف من عنايته بها و حنانه عليها ،و ما ترك
نادرة و ل قصة طريفة إل و قصها عليها و أطرفها بها ليسري عنها ،و
فاجأها غداة يوم حامل جواز سفرهما و همس لها قائل" :لقد أعددت
لك رحلة ممتعة أجدها ضرورية لنا فهيئي نفسك و لنأخذ سمتنا إلى
جبل لبنان".
رفعت نظرها إلى وجهه و تفرست فيه صامتة ،و قرأ هو ترددا في
عينيها فهتف بها ضارعا " :بربك ل تعترضي على ذلك يا سلمى فكلنا
متعب و بحاجة الى الترفيه عن نفسه".
فأطرقت صامتة.
قال و هو يضمها إلى صدره " :سنبدأ رحلتنا في صباح الغد إن شاء
الله".
قضت سلمى و وليد بضعة أسابيع في ربوع لبنان ،و حين عادا إلى
أرض الوطن استقبلتهما سعاد بالشوق و العتاب لهذه الغيبة الطويلة،
فبادلتها سلمى التحية و األشواق ،و أنشأت تحدثها عن رحلتها و تصف
لها جمال الكوخ األنيق الذي أمضت فيه تلك المدة ،و ما يكتنفه من
المناظر الطبيعية الخلبة التي تعشقها و تهيم بأنغامها،
و الثانية تستمع إليها باسمة ،بينما انصرف وليد إلى أمه يحدثها و
يسألها عن صحتها و أحوالها.
و تبعها زوجها و أهله مستطلعين الخبر ،و أجابها الغلم فقال " :هي
امرأة يهودية مجنونة نلهو بقذفها بالحجارة الصغيرة".
و صاح وليد بالغلمان قائل " :تفرقوا عنها أيها الخوان فهي امرأة و
قاصرة و ليس من عادتنا نحن العرب تعذيب النساء".
فاستمع إليه الصبية و تفرق حشدهم عن المرأة ،و التفت وليد بعد
ذلك إلى سلمى فرآها صامتة واجمة تشيع تلك اليهودية بعينين يترقرق
الدمع في إنسانيهما و وجه شاحب ممتقع ،و أحس بيدها و هو يمسك
بها باردة كالثلج ،فهتف بها و كان يعلم مدى حساسيتها " :يا رقيقة
الشعور أتتأثرين بكل أمر و تبكين لكل حال ،و إن كان صاحبه من
أعدائنا األلداء؟".
همست " :عفوا يا وليد ،فليس من شيء بين عاهات الدنيا أفظع من
أن يصبح النسان مجنونا عاجزا عن نفسه".
قال ضاحكا و هو يمسك بيدها و يجذبها عن سور الشرفة " :هيا من
هنا و اطرحي عنك أمر تلك العجوز".
مرت بعد ذلك بضعة شهور وضعت بعدها سلمى غلما جميل أطلقت
عليه اسم )خالد(فكان عزاؤها و سلوتها في ساعات وحدتها،
و زاد من فرحتها به أنه كان شديد الشبه بأبيه أدعج العينين جميل
المحيى ،و ما كاد يبلغ الرابعة من عمره حتى بدا حاد الذهن فصيح
اللسان طليقه شديد التعلق بأمه ،فكانت سعادة أبويه به ل تقدر،
فأخذا يعملن على تربيته و نشأته النشأة التي يريدانها له ،فيستجيب
لهما و يردد ما يسمعه منهما ترديدا ببغاويا ساذجا لما هو عليه من
حداثة السن.
و جلست سلمى ذات يوم تعد لوحة زيتية بعد أن عاودها الحنين إلى
هوايتها القديمة ،ووقف زوجها من خلفها يرقبها و هي تغمس ريشتها
في ألوان الزيت وتجريها فوق لوحتها بمهارة و إتقان ،و فيما هما
كذلك إذ طرقت مسمعيهما صرخة مدوية ندت على شفتي ولدهما،
فقفزا على أثرها يستطلعان أمره ،و إذا بسعاد تحمله فوق ذراعيها
تقبله و تهدئ من روعه ،و دموعه الغزيرة تغسل وجهه الصغير،
فأخذته أمه إلى صدرها و اندفع أبوه يسأل عما أبكاه؟
ردت سعاد ضاحكة " :كل ما هنالك أنه شاهد الدجاجة و هي تذبح
فذعر و انخرط في البكاء لمرآها و هي تتخبط بدمها".
فأنشأت أمه تقبله و تسكن من روعه ،و داعبه أبوه ضاحكا " :أجبان
أنت يا خالد حتى أراك تبكي لمجرد أن ترى الدجاجة و هي تذبح؟".
قال و قد سكن روعه و راح يمر براحتيه الصغيرتين فوق خديه يمسح
عنهما دموعه " :إنما بكيت متوجعا على تلك المسكينة و هي تتلقى
سكين الذابح فوق عنقها الصغير فيسيل دمها و تتلوى ملتاعة تتخبط
بدمائها من شدة األلم".
فضحك وليد لقول ولده و أخذه فوق ذراعه يسكن من روعه و هو
يقول " :لقد ورثت عن أمك رقة حاشيتها".
تقسيم فلسطين
هكذا كانت سلمى و وليد...و كان ذلك في أوائل عام ،1947و كانت
فلسطين في ذلك الحين في عصر تحول و اضطراب ،فإن اليهود -و
هم األعداء األلداء ألهل البلد الفلسطينيين -قد قويت شوكتهم ،و
اتسعت مطامعهم ،و بات لديهم من الذخيرة و األسلحة التي نظموا
بها صفوفهم بعد الحرب العالمية الثانية ما ل يمتلك مثلها عرب
فلسطين ،و أخذوا يلقون بالقذائف النارية على رأس المستعمر للبلد،
مطالبين بجلئه عن أرض فلسطين ،و إنشاء دولة مستقلة لبني
إسرائيل بين حشد من العرب و المسلمين ،و في أرض مغتصبة من
أهلها العرب األصليين تحت مزاعم و مطامع واسعة ل يقبلها العقل و
ل يرضاها الضمير.
و في هذه الونة تبدل الحال ،بين عرب فلسطين و يهود األفرنج ،فقد
انصرف هؤلء يشنون حملتهم على رأس المستعمر وحده دون أن
يتعرضوا ألعدائهم أهل البلد أو يحتكوا بهم ،كي ل ينشب بينهم و بين
عدوهم خصام قبل األوان ،و ثورات و مذابح هم في غنى عنها ،و ازداد
هجوم اليهود و تضاعفت حملتهم ضد النجليز ،فدمروا المكاتب
الحكومية و الفنادق الكبرى بنزلئها ،و نسفوا السكك الحديدية و قطر
الجيوش البريطانية بجنودها و قتلت العصابات اليهودية أبناء النجليز و
خطفت كبار حكامهم ليل من وسط فراشهم ،و المستعمر البريطاني
للبلد صامت مذعن تحت وطأة هجماتهم ،منكس الرأس خزيا
لضرباتهم ،و أهل البلد من عرب فلسطين في حيرة و قلق من أمر
ذينك الطرفين نحو البلد و أهلها ،يقدرون العواقب و يخشون أن ينال
اليهود بغيتهم في أرضهم ،و لبثوا يترقبون و حرب اليهود من النجليز
سجال ،حتى كان اليوم الذي أسفرت فيه النتيجة عن السياسة
الموضوعة لمصير البلد و أهلها يوم 7نوفمبر 1947حين أذيع على
المل نبأ تقسيم أرض " فلسطين " بين أهلها العرب ،و اليهود الدخلء.
و كان األمر لعرب فلسطين أشبه بلطمة فولذية نزلت بهم فدارت
معها رؤوسهم و التفوا أسرابا و جماعات في قلق و همس ،و قد علت
الكآبة جبين نسائهم و تجلى الغضب و الحماسة في وجوه رجالهم،
لعلمهم أن مطامع اليهود ل تقف عند هذا الحد لو أنشئت لهم دولة في
جزء من فلسطين ،بل سرعان ما يطالبون بالبقية من األرض و لربما
تمتد مطامعهم الى أكثر من ذلك.
قضت سلمى يومها كئيبة باكية حين أذيع نبأ تقسيم بلدها و لبثت في
مخدعها تنتظر عودة زوجها و طفلها ساكن في حجرها ،و طال بها
الوقت و ملت النتظار ،و غلب النعاس صغيرها فنام إلى صدرها
فحملته إلى فراشه و لبثت تترقب عودة زوجها ،و كانت الشمس قد
غابت وراء خدرها و بدأ الليل ينسج خيوطه و يدب حالكا في األجواء ،و
تراكم الظلم و زوجها ما زال غائبا عن الدار.
فتملكها جزع عظيم و ركبت الهواجس رأسها ،و تحولت الى الشرفة
مرة و الى النافذة مرة أخرى ترقب الطريق بنظرات كلها قلق و
تساؤل ،و رأت القوم في الخارج غادين و رائحين أفرادا و جماعات
بحركات غير عادية ،و قد تكاثر جمعهم هنا و هناك ،و اختفت اليهود
من األحياء العربية و نزحت متسللة إلى أحيائها و كان ذلك علمة
التحفز للهجوم.
فلما سمع صرير باب الحجرة ،رفع عينيه ليرى زوجه ماثلة أمامه،
مسمرة في مكانها تنتفض و تشرق بدموعها ،فهش لها باسما
فاندفعت إليه و الدمع يمل مآقيها و ينحدر فوق خديها و قد تشبثت به
و عل شهيقها ،فلبث صامتا يحنو عليها و هي ترتجف و العبرات تخنقها،
حتى إذا ما هدأ ثائرها قليل ،سكنت برأسها إلى كتفه و همست :
"وليد".
قالت و دمعها يسيل من عينيها مدرارا" :إني أخاف عليك يا وليد و أنا
أراك تتأهب لصد هجمات العدو ،و مجابهة قذائفه و مدافعه،
بمسدسيك هذين".
قال " :ل بد من ذلك يا حبيبتي و اذكري قول الله تعالى في كتابه
العزيز) :كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله( .و بعد ،فليس
هذا شأني وحدي يا سلمى ،بل هو شأن كل مجاهد منا نحو وطنه ،و
الدفاع عن أرضه و قتال عدوه حتى النهاية ،فمبدؤنا الذي بنينا عليه
إيماننا ،و شددنا به عزيمتنا هو مجابهة عدونا و صد هجماته بما نمتلكه
منى أمثال هذا السلح الخفيف ما دمنا ل نرضى ألنفسنا غير الحرية و
الكرامة ،فإن كتب لنا الفوز و أحرزنا النصر ،كنا بذلك قد تغلبنا على
أعدائنا و عشنا موفوري الكرامة مرفوعي الرأس ،و إن غلبنا فالموت
خير لنا من الحياة".
فصمتت تستمع إليه مطرقة برأسها إلى صدره ،و شعر عندئذ بدمعها
الغزير يتساقط سخيا فوق ذراعه ،فرفع وجهها لناظره و قال و هو
يرى احتقان وجهها و ذبول أجفانها و تكسر أهدابها " :أتبغين يا زوجتي
إضعاف عزيمتي عن الجهاد بإرسال هذه الدموع".
قال " :ل لوم و ل عتاب لما يكون من وداع األحباب يا سلمى ،إنما
أبغي منك أن تزوديني بما يعينني على أمري و يشد من أزري في
ساعة الجهاد".
فلمع دمعه في عينه عند سماعه قولها ،و قال " :إني ألشعر بما
تشعرين ،و ما زلت أغالب دمعي من وقت طويل ،فإن عدت إليك بعد
القتال مظفرا سالما لله فما أسعدنا ،و إن قدر لي أن أكون من
الشهداء و كتب علينا الفراق ،فإني أوصيك خيرا بنفسك و بإبننا
المحبوب ،فأنشئيه كما عهدتك على التربية الصالحة ،فهو تذكاري
الغالي عندك ،و ل أظنه يختلف عن أبيه خلقا و مبدأ عند كبره ،و ل
يقل عنه حنانا و عطفا عليك".
قالت بعزم و ثبات " :بل ستعود إلي و إلى ابنك سالما بإذن الله،
فينشأ خالد في رعايتك و تحت ظل حنانك و عطفك".
فتوقف بها عند ركن هناك أمام غللة رقيقة خضراء من النباتات
المتسلقة ،و ما لبث أن استل من منطقته خنجرا ،و راح يعمل على
تقويض تلك النباتات بخفة البرق ،و هي ترقبه بصمت و دهشة ،و
مازال بالنباتات يقوضها حتى انفرجت طبقتها عن باب خشبي صغير
محكم الغلق بمزلج حديدي أخذ يحركه دافعا من خلفه ذلك الباب
الصغير بصمت و حذر و إذا هما أمام قبو عميق ل تزيد مساحته على
خمسة أمتار مربعة و كان الظلم فيه دامسا حالكا يكتنفه من جميع
أركانه ،فبدا لهما كالهوة السحيقة التي ل قرار لها.
و هنا التفت وليد إلى زوجته و أومأ لها كي تتقدمه ،ففعلت ،و إذ همت
بنزول الدرجات المؤدية إلى أرض المكان ،أمسك بيدها و دلفا معا إلى
الداخل ،فزلت قدمها عند إحدى الدرجات ،فأمسكها من ذراعها،
فهمست " :أل تحمل معك شمعة تنير بها المكان؟".
قال " :ليس للشمع و النار مكان هنا يا سلمى ،و حسبك الن أن
تدركي أننا وسط كومة من القذائف و المتفجرات".
قال " :بل أبي هو الذي شيد هذا المكان مع قصره ،و لربما أراد به
ملجأ أو مخبأ ل أدري ،و قد اكتشفته بعد موته ،فخصصته لذخيرتي
التي ترين".
قال بمرارة " :ليت األمر كذلك يا سلمى حتى ل نبقي لليهود أثرا".
قالت " :و هل هذه القذائف المعدودة تراها كافية لمجابهة أسلحة
العدو؟".
قال " :الله معنا ،و شيء خير من ل شيء ،و أمثال هذه الذخيرة التي
ترينها هنا ،و إن لم تكن كافية لمجابهة أسلحة عدونا ،تمكننا من إلقاء
الرعب في قلبه ،و جزء منها أراه كافيا لنسف الجسر الموصل بيننا و
بينه ،عند وادي روشيما حيث أعددت مكمني عند رأس الوادي
استعدادا لذلك".
قال مشجعا " :اطمئني و ل تجزعي ،فل بد لنا من ذلك يا سلمى ،كي
نتمكن من دحره و صد هجماته عن األحياء العربية".
و أحس بيدها في يده و قد بدت باردة كالثلج ،فأحب أن يداعبها
ليخرجها عن انقباضها ،فاستطرد يقول " :إن مكمني معد بين خمائل
من األشجار المتشابكة التي ل تمكن اليهود من كشفه قط إل إن
وشيت بي".
فانتفضت انتفاضة شديدة ،و اصفر لونها ،و حركت شفتيها اللتين
شابهتا بلونهما البرد الناصع محاولة النطق ،فخانتها األلفاظ ،و ارتج
عليها فلم تنطق بحرف واحد ،و لبثت تحدق به و قد جمدت حدقتاها
في محجريهما ،فتألم من نفسه و هو يشهد امتقاعها و جمودها على
بصيص الضوء المرسل من كوة القبو ،و ندم على ما فرط منه ،و هو
يحسب نفسه يداعبها بذلك القول ،فما لبث أن همس لها معتذرا و
يده ممسكة بيدها " :سامحيني يا سلمى ،فما كنت أعلم أنك ستتأثرين
إلى هذا الحد ،و يأخذ كلمي من نفسك هذا المأخذ".
قال بصوت يرتجف " :أما كان األجدر بك يا وليد أن تغمد خنجرك في
صدري ،فتدفن بذلك سرك تحت قدميك بدل من أن تسمعني مثل هذا
القول؟".
قال " :عفوا يا سلمى ،و بترت اليد التي تمسك بسوء ،و لو كنت أدرك
أنك ستحملين كلمي محمل الجد ،ما أقدمت عليه ،فهل وهبت لي
الصفح و عفوت عما بدر مني؟".
فأمسك بذراعها و قال " :هيا بنا نغادر هذا المكان ،فالرطوبة هنا
شديدة ،و إني ألخشى تأثيرها عليك".
فأمسكت بيده و سارت معه صامتة إلى أن ولجا عتبة القبو ،فأغلقا
بابه كما كان و صعدا إلى الحديقة و مشيا بين أشجارها .و قطع حبل
الصمت المخيم عليها إذ قال " :أمازلت متأثرة مني؟".
قالت " :كل".
قال " :ما لي إذن أراك تسيرين بجانبي صامتة ساكنة على غير
عادتك ،على الرغم من أننا في ساعة وداع و فراق؟".
فتمهلت في سيرها و زفرت قائلة " :لقد كنت أفكر في أمر هذا
الفراق".
و استطردت بعد لحظة صمت " :أل يمكنني أن أحظى برؤيتك في
فترات من الوقت؟".
قال " :ل أستطيع أن أعدك بشيء ،و األمر في ذلك يتوقف على
ظروفي كما تعلمين".
قال " :إذا لم أجد لدي وقتا يمكنني من مغادرة مكمني و الوصول
إليك ،سأبعث بمن يحمل لك شارة الطمئنان و يأتيني منك بالسلم".
قال " :سأمكث هنا ساهرا ،حتى إذا ما انتصف الليل ،قدم إلينا رهط
من المجاهدين الذين وضعوا أنفسهم تحت قيادتي ،ليقوموا بنقل تلك
الذخيرة و توزيعها على أماكننا ،ثم ألحق بهم عند مطلع الفجر".
انتصف الليل و عاد وليد إلى مخدعه ،و كانت سلمى مسهدة ساهرة
لم يغمض لها جفن ،و لم تذق للنوم طعما ،و رأسها مسرح لشتى
الهواجس و األفكار و عيناها مثبتتان على وجه زوجها و هو مضطجع
بفراشه متظاهر بالنوم ،و كلهما غارق في بحر أفكاره.
كان وليد مسهدا يفكر في أمر ذي بال ،و يستحث ذاكرته في البحث
عن شخص معين يعتمد عليه ليكل إليه أمر أسرته لو كتب له
الستشهاد في ساحة القتال ،و حرص أل يفاتح زوجه بما يجول
بخاطره رحمة بها و شفقة عليها ،و مضى يسائل نفسه ،عما يكون من
أمرها مع أمه القاسية الجحود لو صح حدسه؟.
و أسعفته الذاكرة فجأة حين تمثل لبصره شخص العم حامد ،الصديق
القديم ألسرة زوجه ،فهو رفيق أبويها و أنيسها منذ الصغر ،و ليس
هناك ما يشغله عن تفقد حالها و طفلها ،بعد أن اجتاز سن الشباب و
لم تعد تساعده قواه الواهية كي يمضي اليوم نحو ساحة الجهاد.
فشعر ببعض الرتياح لهذا الخاطر الذي هدته إليه نفسه ،و كانت إذ
ذاك بشائر الفجر قد لحت ،و بدأ النهار يزيح عن وجهه نقاب الليل
الحالك.
فهم بالنهوض من فراشه ،و إذا به يسمع سلمى تهتف قائلة " :ترى
ماذا يدور في خلدك يا وليد؟".
قال مغالطا " :لم أكن و إني لمستيقظ الساعة من نوم عميق".
فهزت رأسها بإعياء و مرت بشفتيها ابتسامة شاحبة ،ما لبثت بعدها
أن التفتت إليه قائلة " :أيذكرك هذا الفجر بيوم معين من أيامنا الخالية
يا وليد؟".
قال " :يوم أذكره جيدا و ل أنساه ،و هو أول فجر استقبلناه معا في
صبيحة اليوم التالي لزواجنا".
ثم نهضت و مشت إلى خزانة ثيابها تناولت منها مجلدا صغيرا ،و
تحولت عائدة إلى زوجها و قالت و هي تودعه جيب سترته " :إليك
بهذا المصحف الشريف يا وليد ،فاحتفظ به ليقيك ببركته األشرار ،و
يحميك لبنك ،و يردك إلي".
ثم همست في أذنه " :لقد أغدقت علي كثيرا من الهدايا و العطاء،
دون أن أتمكن من إعطائك شيئا ،سوى هذا القلب الذي وهبته خالصا
لك".
قال " :هو عندي أثمن من كنوز الدنيا و مباهجها ،و منه أتخذ عدتي
أنازل بها عدوي و أفسد عليه حوله و قوته".
ثم خشي عليها التخاذل لو طال بهما ذلك الموقف ،فودعها وداعا
حارا ،ثم تحول حيث كان ابنه راقدا يغط في نومه ،فأكب عليه و قبله،
و مضى الى حجرة أمه ،فمكث عندها بضع دقائق غادر بعدها الدار.
و لبثت سلمى ترقب زوجها من نافذتها إلى أن توارى آخر أثر من
ظله.
وطد وليد نفسه على مقابلة العم حامد ،ليحدثه بشأن أهل بيته ،فأتى
إليه في دكانه ،فتلقاه هذا بالترحاب ،و بادره بالسؤال عن سلمى،
فقال " :أتيتك ألحدثك بشأنها ،و أوصيك بها و بطفلها".
فارتعد الشيخ و قال " :لست أدري لقولك هذا معنى يا ولدي".
قال " :أنت تعلم يا عماه ما نحن فيه اليوم من شأن البلد ،و ما تطلبه
حالة الجهاد".
تبسم وليد و وضع يده برفق فوق عاتق العم حامد و قال " :أيبدو ذلك
غريبا منا يا عماه ،و نحن أبناء البلد؟ و طالما سمعت عن خوضك
المعارك مع والد سلمى في كل ثورة نشبت بيننا و بين اليهود ،أم أنها
الشيخوخة الواهية تضعف العزيمة ،و تذهب بفتوة القلب و قوته؟".
قال " :و لكن الحال اليوم قد تبدل عن سالفه يا ولدي ،و ما عادت
الخناجر و المدى و المسدسات الخفيفة تمكننا من قتال عدونا ،و هو
يملك اليوم أحدث السلح و أمضاه".
قال " :نحن على الله متوكلون ،بما لدينا من العزيمة القوية و الرجال
األشداء".
قال " :إعلم يا ولدي ،إن الشدة و البطش ل يكونان إل بالسلح ،و
أبطال بل عتاد أخشى عليهم سوء العاقبة".
قال " :مهما يكن من أمر ،فمن العار علينا أن نقف مكتوفي األيدي
أمام شرذمة من اليهود جاءتنا من الغرب و من أجناس شتى ،جمعهم
الطمع في أرضنا و الرغبة في طردنا و احتلل مكاننا من ديارنا ،فيجب
علينا القتال حتى النهاية ،فإما الحياة الحرة ،و إما الموت الشريف".
قال حامد بعد لحظة صمت " :قل لي إذن أين وجهتك و مكان
مكمنك ،كي يمكنني التصال بك و الطمئنان عليك".
صمت وليد لحظة قال بعدها " :لست أدري بعد أين ستكون وجهتي و
ل المكان الذي سأتخذه لمكمني".
قال " :هب يا ولدي أن الحال قد اشتد بيننا و بين اليهود ،و اندلعت
النيران و أصبح هناك خطر يهدد نساءنا و أطفالنا لو أطبق اليهود
بمدافعهم على أحيائنا العربية ،و أنت كما تعلم أننا و هم يضمنا بلد
واحد ،و تفصلنا أزقة و منعطفات ،و حربنا معهم حرب شوارع و أحياء،
كلنا هدفه تمزيق خصمه و إبادته ليتمكن من طرده و احتلل مكانه،
فماذا أنا فاعل مع أهل بيتك في مثل هذه الحال و أنت تقاتل بعيدا
عنا ،و في بقعة مجهولة؟".
الجهاد
بعد أن أذيع نبأ التقسيم ،أخذ العرب يتأهبون ،و انتشر الشباب
الفلسطيني المجاهد هنا و هناك في كل بقعة و قرية من أرضهم ،و
كان اليهود يومئذ يملكون قطاعا حصينا و أسلحة موفورة ،و كان
الصراع بين الطرفين عنيفا ،و شهدت مدينة حيفا مأساة دامية ،حيث
كان اليهود يملكون معظم األراضي في قمة جبل الكرمل ،فأحكموا
فيها حصونهم ،و نظموا صفوفهم ،و سددوا مدافعهم إلى األودية التي
كان يقطنها العرب من أهل المدينة في ذلك الحين.
غربت شمس نهار اليوم الثالث للتقسيم ،و تبادلت بغروبها الطلقات
النارية بين العرب و اليهود ،تئز متتالية و ل تتوقف ،و أدار اليهود
فوهات مدافعهم و أمطروا العرب وابل من قذائفها ،فتلقاها هؤلء
بالثبات دون أن يتزحزحوا قيد شعرة من أماكنهم.
و انقضى الليل بأكمله و الحرب بين الطرفين سجال ،حتى إذا ما
أصبح الصباح لزم كل مكانه يعد عدته لكرة أخرى عند الغروب.
راح وليد يقاتل و يصد هجمات العدو من وراء مكمنه عند رأس )وادي
روشيما( و يمطر اليهود وابل من الرصاص و القذائف اليدوية كلما
حاولوا النزول بمدافعهم إلى األحياء العربية ،فيدحرهم هو و رجاله و
يردونهم على أعقابهم خاسرين.
و تكرر هجوم اليهود عند رأس ذلك الوادي و تكررت معه خسائرهم
في عتادهم و رجالهم ،حتى عيل صبرهم و ضاقت حيلتهم و أيقنوا أن
هناك خنادق يكمن عندها رجال أشداء ،فأجمعوا الرأي على نسفهم
باأللغام الثقيلة و شق طريق فيها تمكنهم من الوصول بأسلحتهم إلى
األحياء العربية.
و ذات يوم قرب الظهيرة فوجئ وليد و هو وراء مكمنه بمشاهدة أربع
عربات عند منعطف الطريق المؤدي الى حي )الهدار( اليهودي و على
بعد بضعة أمتار من مكانه تقف ،ثم ينزل منها رجال مدججون بالسلح
و بكامل ملبسهم العربي مع الكوفية و العقال.
و راحوا يتعاونون على نقل أربعة براميل ضخمة حملوها معهم و كانت
أشبه ما تكون بالحيتان الصغيرة ،و لونها أشبه بلون األلومونيوم و
جعلوا يعملون على بثها عند رأس الوادي تدريجيا.
وقف وليد يجيل الطرف بين جثث قتلى اليهود و يمعن في النظر إلى
تلك األلغام التي اغتنمها هو و رجاله و هي تبرق تحت شعاع الشمس،
و كان يضع كفه عند كتفه اليسرى ،و الدماء تنزف من بين أنامله ،و
إذا بأحد رجاله يصيح به من الخلف قائل " :لله درك أيها البطل
المغوار ،أجريح أنت و تقف هادئا ساكن البال؟".
التفت إليه باسما و قال " :ترى هل تأمل مني أن أشق جيبي و أولول
ولولة النساء؟".
تبسم رفيقه و قال " :ل ،بل أرى أن آتيك بمن يضمد لك جرحك فهناك
عربات السعاف تقف عند الساحة المنخفضة منا ،تقوم بنقل شهدائنا
و تحمل معها من يضمد الجراح".
فاعترض عليه قائل " :ل أريد أحدا يأتي إلينا فيكشف مكاننا ،و سأسير
على قدمي لتضميد جرحي ،ثم أعود في الحال".
قال ذلك و مشى قليل في طريق منحدر أدى به الى ساحة رملية
تزخر بعدد غير قليل من القتلى و الجرحى العرب ،و قد اختلطت
الرمال بمنهل دمائهم فتلبدت فوق جروحهم ،و فتيات السعاف
منبثات هنا و هناك يعملن على تضميد الجرحى و إسعاف المصابين ،و
نقل الشهداء الى داخل سيارات السعاف لتسير بهم الى مقرهم
األخير.
و لحت منه التفاتة في أرجاء تلك الساحة التي ارتوى ثراها من دماء
أبنائها ،شاهد فيها غادة هيفاء خفق لها قلبه ،تقوم بتضميد الجرحى و
ترتدي ثوبا ناصع البياض ذا أكمام طويلة عليه شارة السعاف و محكم
الغلق من عند الصدر بأزرار صدفية بيضاء متصلة حتى العنق و قد
جمعت شعرها و ضمته بأشرطة بيضاء ،فبدت بلباسها هذا البسيط و
حمرة خديها الطبيعية أشبه بتلميذة يانعة بارعة الجمال و قد تجلت
الحماسة في عينيها ،و جعلت تتنقل في خفة الظبية بين أكناف تلك
الساحة باحثة عن الجرحى لتعمل على إسعافهم.
فمشى إليها و جعل يرقبها و هي مكبة على جريح من رجاله تضمد له
جراح يمناه ،و لبثت منهمكة في عملها دون أن تشعر بزوجها الذي
وقف يرقبها بعين الحب و العجاب ،حتى إذا ما رآها فرغت من تضميد
جرح رفيقه،دنا منها و هتف بها همسا " :هل من دواء لجريحك هذا
أيتها الفتاة؟".
تنبهت جوارحها لسماع ذاك الصوت الحبيب إلى قلبها ،و تحولت
برأسها إلى مصدره لترى زوجها يقف خلفها و الدماء تنزف من كتفه،
فانخلع قلبها هلعا لمشهده و لمع الدمع في عينها ،و قال همسا و عينه
في عينها " :حذار من البكاء..و نحن كما ترين في ساحة قتال و وسط
حشد من الناس ،فهيا لتضميد جرحي الطفيف بصمت و سكون و كأننا
غريبان".
قال ذلك و أومأ لها بطرف خفي كي تتبعه عند أصل شجرة استند
إليها ،فخطت نحوه و ركبتاها تصطكان و الدموع تمل مآقيها ،و إذ دنت
منه همست و هي ترتجف " :هل جراحك طفيفة حقا كما تقول؟".
قال " :لو لم تكن كذلك ،ما استطعت الوقوف و المسير على قدمي".
فأقبلت عليه و جعلت تمسح عنه دمه بأنامل مرتعشة ،و هو يرقبها في
صمت ل يخلو من العجاب ،ثم ما لبث أن قال " :متى عهد إليك بهذه
المهمة فأحسنت القيام بها؟".
قال " :عمل نبيل قمت به نحو أهلك و بلدك ،و لكن أخشى العاقبة".
ثم صمت هنيهة و قال " :ما أخبار حبيبنا خالد؟ عسى أن يكون في
خير حال؟".
أشرق و جهها و قال " :إنه في خير و عافية ،دائب الحركة ،ل يكف
عن السؤال عنك ،و عما أدى لبعدك عنا ،و قد تنقضي فترات طويلة
يلجأ فيها الى الشرفة مرة ،و إلى النافذة أخرى ،يرقب عودتك إلى
الدار ،إلى أن يمل النتظار فيتحول بعده للهوه و لعبه".
هز رأسه باسما مشتاقا و قال " :كم أنا في شوق لرؤيته ،فقبليه عني،
و منيه بعودتي إليه و اجتماع شملنا من جديد".
ألقى على ساعته نظرة ،ثم مد لها يده مصافحا و هو يقول " :لقد
مضى الوقت و آن لي المضي إلى مكمني ،فوداعا ،و شكرا لتضميدك
جرحي".
قالت عاتبة و يدها في يده تصافحه " :أو تشكرني على تلك الضمادة،
كما لو كنت غريبة عنك؟".
قال " :كل و الله ،إنما قلت ذلك ألني شعرت بكثير من الرتياح بعد أن
أحكمت لي الرباط فوق الجرح".
قال ذلك و شد يدها مودعا ،قالت بصوت مبحوح " :أستودعك الله".
فحياها و مضى لشأنه ،و وقفت ترقبه و هو صاعد إلى رأس الوادي
حيث مكمنه ،و ما إن رأته يكاد يتوارى عن ناظرها ،حتى وثب قلبها
وشعرت بانقباض شديد في صدرها ،فخطت ناحيته و هي تتعثر بذيلها،
و هتفت به همسا:
" وليد".
قال " :كنت أود أن أبقى أكثر من هنيهة ،لول أني أخشى حدوث هجوم
جديد تتعرضين لوابل رصاصه ،و دوي قذائفه".
قالت و سيل دموعها يهدر فوق خديها " :أل أخاف عليك ذلك؟ إني
أكون أهدأ بال لو لم تجعل مكمنك عند رأس الوادي بالحي اليهودي
)هدار(".
قال " :اطمئني و ل تجزعي ،و لو لم نتخذ من تلك البقعة مكمن لنا،
ما تمكنا من دحر عدونا و قهره ،و أنت إنما شاهدت اليوم أرض تلك
الساحة العامرة بالشهداء و الجرحى بعد معركة دامية بيننا و بينه".
قالت " :ذلك ما يخيفني ،فهجمات اليهود لن تنتهي ما دام لديهم ما
يمطروننا به من القذائف و غيرها من السلح".
قال يخفف عنها " :لقد أراد الله بنا خيرا يا سلمى ،فنصرنا على عدونا
بعد تلك المعركة الحمراء ،و لعلك ل تدرين ما اغتنمناه اليوم من
األسلحة التي خلفها اليهود وراءهم ،عدا أربعة ألغام ثقيلة أرادوا بها
نسفنا".
تبسم و قال " :أما و قد هدأ روعك ،فسيري بحراسة الله ،وألمض أنا
لشأني ،و سأبعث إليك بين يوم و آخر برسول ليطمئنك علي".
و قبل أن تهم بالنصراف ،مدت يدها إلى جيب ردائها سحبت منه
منديل ناصع البياض ،أخذت تحكم ربطه فوق ضمادة جرحه ،ثم قالت:
" احتفظ بهذا المنديل تذكارا يذكرك بي و أنت مقيم بعيدا عني ،فعليه
حروف دقيقة من إسمك مع شعار أتفاءل به رسمته على ركن منه".
فصافحها بحرارة و قال مودعا " :سيري بعون الله و احملي ألهلنا
السلم".
و شعر عندئذ بكفها بين راحتيه كقطعة من الجمر تكاد تصلي كفيه ،و
حمرة قانية صبغت وجهها ،و لبثت في مكانها تنظر إليه طويل و تتردد
في المسير ،و شعور محموم يضطرم بين ضلوعها فيتنازعها بالقدام
و الحجام ،فشعر بمثل شعورها ،و لبث يرنو إليها صامتا و عواطف
شتى متضاربة تعتمل في أعماقه ،و انقضت فترة من الوقت و هما
على ذلك الوضع ،يتبادلن النظرات بصمت و سكون ،ثم ما لبثت أن
جذبت يدها برفق من يده و همست و عينها شاخصة إلى عينه" :
أستودعك الله".
ما برح العم حامد يتفقد حال سلمى و أهل زوجها و هن مقيمات في
ذلك القصر الحصين عند سفح الجبل ،و يقوم بواجبه نحوهن عمل
بوصية وليد إليه ،و كما يجب أن تكون الثقة و الصداقة بين الناس
الكرام.
و سلمى تزداد أنسا به و ارتياحا إليه كلما جاءها بأنباء جديدة يحدثها
عن أحوال البلد و الجهاد و كانت المعارك مستمرة ليل و نهار بين
عرب فلسطين و يهود الفرنج ،ل تنتهي و ل تتوقف ،و أزيز الرصاص و
هدير المدافع و دوي القنابل تصم الذان.
و تحولت مدينة حيفا إلى شبه قطعة من الجمر ،يرى الناظر لهيب
القذائف يتطاير مع شظاياها من جميع أنحائها ،و جداول من الدماء
تكتسحها فتسيل فوق ثراها مدرارا.
و لم تزل تلك حالها ،حتى جاء يوم انتظرت فيه رسول زوجها في
ميعاده ،فلم يأت ،و انقضت بضعة أيام أخرى لم تر خللها أدنى إشارة
منه ،و لم تسمع عنه خبرا ،فغاص قلبها بين ضلوعها فزعا على حياته،
و تملكها جزع شديد و ركبت الهواجس رأسها ،و سعاد تهدئ من حدة
روعها ،و ل تقل عنها قلقا و خوفا.
و جاء العم حامد ذات صباح يتفقد سلمى و أهل زوجها كعادته ،فرآها
شاحبة ممتقعة و غيوم قاتمة تجثم حول عينيها ،فاستغرب أمرها و هو
الذي عهدها في كل مرة زارها فيها منشرحة الصدر نشيطة المال،
فسألها ما بها؟...قالت " :إنني في قلق عظيم من أجل وليد".
قال مستغربا " :هل من أنباء جديدة تناهت إليك بشأن زوجك،
فأفزعتك و حملت الهواجس الى راسك؟".
قالت" :ل".
فدهش للمر ،و ما كان يعلم أن سلمى على اتصال بزوجها طوال
غيابه عن بيته حتى انقطعت أخباره عنها فقال " :لقد مضت أسابيع و
زوجك يقاتل بعيدا عنك ،و كنت أعهدك منشرحة الصدر هادئة البال،
فما بالك اليوم كئيبة النفس منقبضة الصدر يا بنيتي؟".
احمر وجهها حياء و قالت " :لقد كنت لي كاألب الرحيم منذ أمد بعيد يا
عماه و ليس ذلك علي بجديد ،و لكن ماذا عسى أن أقول في أمور
أجهلها بشأن زوجي".
قال مشفقا عليها " :ليتني أعرف مقره ،ألخترق النيران فأطير إليه و
أعود فآتيك بأنبائه".
ارتدت بنظراتها إليه على إثر قوله دون شعور منها ،و قد التمعت
عيناها كمن تبغي التصريح بشيء ،ثم عادت فأطرقت دون أن تنبس
ببنت شفة ،فأدهشه أمرها و قال " :ما بالك تترددين في
الكلم؟..أعالمة أنت بمكان زوجك و مكمنه؟".
رفعت رأسها ببطء من إطراقتها و قالت بلهجة ثابتة النبرات " :كل يا
عماه ليس لي علم البتة بمكان زوجي و ل مكمنه".
فأحس حامد أن سلمى عالمة بمكان زوجها ،و أنها عمدت إلى كتمان
أمره ،فتأثر و قال عاتبا " :ما دمت عالمة يا بنيتي بمقر زوجك ،فلم ل
تخبريني بذلك فامضي إليه و أعود إليك بأنبائه ،و أنا أراك مروعة
الخاطر تحملين هما و قلقا يشغل بالك؟".
أجابته قائلة " :لو كنت أعلم بمقر زوجي ألنفذت إليه من يستطلع
أمره".
ما كادت ظريفة تسمع سلمى تنطق بعبارتها األخيرة حتى امتعضت
وهاجمتها قائلة " :ما هذا التضليل ،و ما معنى كتمانك المكان الذي
يقاتل منه ولدنا؟..هيا اذكري للرجل مكانه ليمضي إليه يستطلع أمره
فيأتينا بأنبائه".
كست وجهها مسحة غضب و قالت حانقة " :لقد ظل ابني سواء
السبيل ،فتزوج بمن لم يثمر حبه في نفسها ،فما أسرع أن نسيته ،و
أنا أراك اليوم تقفين منه هذا الموقف حين بعد عنك ،فل تكلفين
نفسك عناء السؤال عنه و السعي لستطلع أمره ،و لو أدرك ذلك
البن الذي عصى إرادتي ما أنت عليه من الجحود ألعرض عنك و ما
قبل الزواج منك".
فما إن سمعتها سلمى توجه إليها هذا القول اللذع ،حتى أنت أنينا
موجعا و هتفت مستعطفة و هي تمد إليها يدها بتوسل " :أواه كفى
بالله لقد شطرت قلبي".
فرمتها بنظرة ملتهبة ،و قبل أن تهم بمهاجمتها ثانية ،تدخل حامد
مشفقا على سلمى و قال مخاطبا ظريفة " :يمكنك تصديقها يا
أختاه".
التفتت إليه و قالت ساخطة " :و ما دليلك على صدق قولها؟".
قال " :لو كانت سلمى عالمة بمكان زوجها لما أخفت أمره عني".
و تحول حامد بعد الى سلمى و خاطبها مواسيا " :طيبي نفسا يا بنيتي
و اصبري فان الله مع الصابرين ،و عسى أن تأتينا إشارة من زوجك
عما قريب".
فلما سمعت كلمه دفنت وجهها بين راحتيها و أجهشت بالبكاء ،و هرع
طفلها الى صدرها يقبلها و يسائلها عن سبب بكائها؟ فتتهرب من
الجابة حتى إذا ما سكن روعها قليل ،حياها الشيخ و استأذنها
باللنصراف.
و التقى حامد بسعاد و ظريفة عند ساحة القصر ،سمع األولى تقول" :
و لكن ثقي يا امرأة عمي أن سلمى على جهل من أمر زوجها و
مكمنه ،و إل ما كتمت أمره عني".
سار حامد إلى دكانه عند سوق المدينة فأدركه بعد مشقة ،و شظايا
القنابل تتطاير في الفضاء فتفتك بالمارة.
فلما وصله أخذ مجلسه داخل دكانه و اتكأ برأسه إلى راحة يده و راح
يستعيد بمخيلته ما شاهده من أمر سلمى و فزعها على حياة زوجها
بعد انقطاع أخباره عنها ،و إصرارها على كتمان أمره.
فهز رأسه معجبا بشهامة الصبية و شجاعتها ،و همس يحدث نفسه" :
لو كان لسائر نساء العرب في فلسطين خلق هذه الفتاة ،ما كان هذا
حالهم مع أعدائهم ،هناك نسوة ل يهمهن في شؤون الحياة إل جمع
المال إرضاء لغرورهن و خيلئهن و قد يدفعن رجالهن إلى بيع أراضيهم
لليهود ،ليتوافر لهن الثراء و إحياء الحفلت مختالت بالذهب و الماس،
متفاخرات متعاليات ،شأن الحيوان األعجم الذي ل يفقه من أمور
الدنيا إل ملء معدته فيزأر بعدها جذل طروبا ،دون أن يهمه من أي
نوع كانت فريسته التي أتى بها لسد جوعه ،و قد يكون الحيوان
معذورا فيما يقدم عليه فهو يسعى للتقاط قوته ،ل لزوال وطنه و
أرضه التي يعيش فيها مع فصيله و أولده".
و بينما كان الشيخ غارقا في بحر أفكاره ،إذ بصوت يقرئه السلم،
فرفع بصره من إطراقه ليرى شابا ماثل أمامه فارع العود ،قوي
البنيان ،ملثما بكوفية بيضاء ،و قد شد من فوقها العقال ،فلم تظهر
من ملمح وجهه إل عيناه السوداوان الحادتان.
فدهش حامد و صاح و هو ل يكاد يصدق عينيه " :مرحى ،أهذا أنت يا
وليد؟".
قال " :هن في خير حال ،و لكن انقطاع إخبارك عنهن سبب لهن كثيرا
من الفزع".
قال ذلك و راح يصف له حال زوجه و بالها ،فتأثر و قال " :لقد
استشهد الرسول الذي كان يقوم بالتصال بينهن و بيني ،فتعذر علي
بعد ذلك التصال بهن و قد انتهزت الن هذه الفرصة القصيرة بعد
خروجنا من معركة دامية فأتيتك أسألك أحوال أهلي كي تطمئنهن
علي".
ذهل حامد و قال " :هل معنى ذلك أنك ستعود سريعا إلى جبهة
القتال؟".
قال " :و كيف ل يا عماه؟ و أنت ترى هجمات اليهود ل تنتهي ،و ل
تتوقف على حال؟ و قد يكون من العسير علي التصال بك بعد اليوم
ألن المعارك تزداد اشتعال بيننا و بين العدو ،فأوصيك أن تعمل على
ترحيل أهل بيتي إذا دنا منه الخطر ،و قل ذلك لسلمى عن لساني".
قال حامد " :أل تنوي الوصول الى بيتك فتقابل أهلك لتطمئن القلوب
عليك؟".
قال " :إن الوقت ل يأذن بذلك ،و ها أنذا قد أتيتك فبلغهن األمر و
أقرئهن السلم".
قال حامد " :و لكن هذا ليس كافيا منك يا ولدي و أنت أعلم الناس
بقلب زوجك ،و قد وصفت لك حالها و ما أصابها من كرب و انزعاج
حين انقطعت أخبارك عنها ،و سلمى لن تستمع إلي و لن ترضى
بالرحيل عن هذه األرض و أنت تقاتل فيها ،و قد تحسب أنك قد
استشهدت ،و يكون حينئذ من العسير نقلها و طفلها إلى خارج البلد
ما لم تعطني علمة منك احملها إليها تشهد على سلمتك و اجتماعي
بك بعد انقطاع أخبارك عنها ،و تمكنني من إقناعها و حملها على
الرحيل لو رأيت هناك ما يهدد سلمة أهل بيتك".
فكر وليد فيما سمعه من كلم حامد ،و لم يلبث أن دس يده في جيبه
و أخرج منه منديل ،دفع به الى الشيخ قائل " :إليك بهذا المنديل
فاحمله علمة مني الى سلمى تشهد على لقائك بي".
قال " :نعم ،فهو هديتها إلي ،و عليه شعار كتبته بيدها".
قال الشيخ و هو يطوي المنديل و يودعه جيبه " :الن يمكنني أن
أعدك بالعتماد علي".
فتعاظم كربها ،و ضاق صدرها ،و زاد همها تلك الحمى المفاجئة التي
ألمت بسعاد فأقعدتها ملزمة فراشها ،حتى لم تجد بدا من إطلق
األعنة لدموعها ،و ل تدري كم من الوقت مضى عليها و هي ساكنة
برأسها إلى راحة يدها تذرف الدموع الغزار فتتساقط إلى حجرها
سخينة حارة تبلل رداءها .و بينما هي كذلك إذ طرق مسامعها خفق
نعال تسير إليها تشبه خطوات حامد ،فانتبهت لنفسها ،و أجالت
الطرف فيما حولها ،فرأت الظلم مخيما و طفلها قد نام بجانبها متكئا
برأسه الصغير الى ركبتها ،فحملته حانية عليه و أودعته فراشه و
أسلبت عليه غطاءه.
ثم دلفت الى قاعة البيت تستطلع أمر القادم و إذا هي ترى حامدا
يسير عند فناء القصر متوكئا على عصاه ،و ضمادة ضخمة حول ساقه
اليسرى ،حتى إذا وقع بصره عليها لحظت انبساط وجهه ،فخفق
قلبها ،و حدثتها نفسها أن هناك نبأ سارا قد أتاها به.
فهرعت إليه حافية القدم ،و وقفت أمامه تسأله سر انبساطه قائلة
بلهفة:
" ما وراءك يا عماه؟".
تبسم الشيخ و قال " :ما ورائي إل الخير يا بنيتي".
قال ذلك و وقف يلتقط أنفاسه و هو يتكئ على عكازته فألحت عليه
بالسؤال و هي ل تطيق صبرا على النتظار فقالت " :قل بربك ما
وراءك يا عماه؟".
قال و ابتسامته تزداد اتساعا ":رويدك يا سلمى ريثما استجمع قواي
الحائرة و أفضي إليك ببشرى أتيتك بها".
احمر وجهها و أطرقت قليل و قلبها يخفق بعنف بين أضلعها ،كما يدق
الطير بأجنحته داخل قضبان قفصه في حالة سروره و خوفه ،فلما
رآها مرتبكة قال ":أبشري يا سلمى ،لقد احتل العرب تلك القلعة
القائمة عند سفح الجبل بعد أن حاصروا اليهود فيها و اشتبكوا معهم
في معركة دامية ثلثة أيام".
فحدقت به دهشة و قالت و قد كاد النبأ ينسيها أمر زوجها " :هل احتل
العرب تلك القلعة الحصينة و تمكنوا من الستيلء عليها و طرد اليهود
منها؟".
قال " :نعم يا بنيتي ،فهنيئا لنا على ذلك".
قالت " :أواثق أنت يا عماه من صدق الخبر؟".
قالت و هي تنتزع الكلمات بين شفتيها انتزاعا " :نعم" .و استطردت:
" هل سمحت لي بالمرور مع مريضي هذا؟".
قال " :و ما بال رفيقك ل يتكلم؟".
و لما كانت سلمى سريعة الخاطر لماحة الذكاء أجابته على الفور" :
هو يهودي عربي من قبل العراق ،فل العبرية يجيدها و ل الفرنسية
يفقهها".
غمغم بالفرنسية و هو ينظر إلى الشيخ شزرا " :يهودي عربي ل
يستحق عناية حسناء مثلك".
ثم عاود النظر إليها و قال " :هل لي أن أرى بطاقتك الشخصية؟".
قالت دون ارتباك وهي تتحسس جيوبها " :ل أظنني حاملتها هذا
اليوم".
فحنا رأسه باسما و قال و هو يتنحى عن طريقها " :ل تنسي حمل
بطاقتك الشخصية بعد اليوم".
فهزت رأسها علمة اليجاب ،و إذ همت بالمسير استوقفها قائل و هو
يدفع لها بقصاصة ورق صفراء " :إليك بهذه التذكرة كإشارة تسهل لك
سبيل المرور لو اعترضك احد ما دمت ل تحملين معك بطاقتك".
فتناولتها منه صامتة و سارت تتابع سيرها مع رفيقها الشيخ ،و ما كادا
يقطعان مسافة قصيرة حتى أدركا باب القلعة الشامخة ،فتنفست
الفتاة الصعداء و التفتت إلى حامد قائلة " :ها نحن قد وصلنا عتبة
األمان يا عماه".
قال " :نعم يا بنيتي ،فهيا نعجل بالصعود".
قال ذلك و سار أمامها و هي تتبعه ،و لم تلبث أن طرق مسامعها
أصوات متعالية يخالطها رنين ضحكات مجنونة يتجاوب صداها في
أرجاء القلعة الشامخة ،فهمت بالشيخ و سألته " :ما هذه الجلبة يا
عماه؟".
قال " :ل بد أنهم أسرى اليهود يحتفلون بيوم السبت".
قالت " :أتعلم مكان زوجي من هذا البناء الشاهق؟".
ضحك و قال " :و كيف ل؟..ألم أقابله هذا الصباح؟ "..و استطرد و هو
يشير بسبابته الى أحد األبواب الضخمة " :يمكننا أن نجده داخل هذه
الحجرة".
فخفق قلبها و سارعت في الخطا و الشيخ يتقدمها ،حتى إذا وصل الى
باب الحجرة التي أشار إليها دفعه و أومأ لها كي تتقدمه ففعلت ،و
طالعتها حجرة عارية إل من بضع مقاعد متناثرة ،و كانت الحجرة
شاهقة ذات كوى صغيرة في أعلى جدرانها ،و التفتت سلمى الى
حامد و هي تراه يدلف وراءها و يغلق باب الحجرة من خلفهما و
قالت " :أين وليد يا عماه؟".
قال " :مهل ".
ثم تقدم و وقف عند كوة صغيرة ل تزيد فتحتها على حجم الرأس و
أشار عليها لتطل منها فاقتربت و وقفت عندها ،و قال حامد متسائل:
" ماذا ترين هناك؟".
قالت " :أظنني أرى حرائق من تحتها أنقاض و أطلل".
قال غاضبا " :ذلك ما جنته يدا زوجك و رجاله األنذال".
ارتدت بنظراتها إليه و قالت دهشة و قد اتسعت حدقتاها" :ما هذا
الذي أسمعه منك يا عماه؟".
قال و قد انقلبت سحنته " :حسبك الن أن تدركي أنني يهودي و
اسمي )شمعون( و لست بالعم )حامد( أبدا ،و قد انتحلت تلك
الشخصية المستعارة عشرين عاما ألتمكن من صيد محاربينا و التقاط
أنباء أعدائنا و كشف أسرارهم".
فلو أن نازلة انقضت على رأس الفتاة في تلك اللحظة ما أذهلتها كما
أذهلها أمر ذلك الرجل الماثل أمامها ،و جعلت تحدق به و الدماء
تتسرب من وجهها قطرة قطرة حتى حاكى لونها بياض الجليد الناصع،
و جمدت عيناها في محاجرها ،فلم تطرف كأن روحها تكاد تطل من
مقلتيها ،و أيقنت أنها سقطت في قبضة العدو ل محالة.
و تحول غريمها الذي استدرجها الى تلك القلعة بمكيدته الخبيثة ،و راح
يحل رباط ساقه ،و ما كان هناك أثر ألدنى جرح فيها ،و إذ فرغ من
نزع الضمادة المزعومة استوى واقفا و قد عقد ذراعيه وراء ظهره ،و
شد قامته القصيرة في تحد ،و قال يرميها بنظرة صارمة " :ل يدهشك
يا بنية أن قمت بخدمة بني إسرائيل ،فأنا يهودي عريق من أصل
يمني ،هاجرت الى هذه الديار و معي زوجي و ولدي و أخي ،و قد ذبحا
كلهما بأيدي عرب فلسطين ،فانتقمت لهما".
كان يتكلم و قسماته تهتز غضبا ،و نظر الى سلمى و إذا هي مازالت
في ذهولها و جمودها تحدق به دون حراك ،حتى بدت له كصنم قد من
الرخام ،فصاح بها قائل " :ل تحملقي بي ،و ل تخشي بأسا ،فلست
أبغي بك سوءا،
فأنت حقا فتاة نبيلة و ذكية على الرغم من وقوعك في أسرنا ،إنك
كنت معذورة في تصديقي ،كما أنني مازلت أعطف عليك و أعجب
بخلقك و إن كان بيننا ثأر و دم ،فإن كنت كريمة معنا و لبيت نداءنا،
أرجعتك الى بيتك بسلم و أمان من حيث أتينا ،و إل فأنت المسؤولة
عن أمر نفسك إذا لقينا منك عنادا و إعراضا".
فظلت تردد فيه نظرتها باهتة مشدوهة ثم ما لبثت أن ازدردت ريقها و
قالت و أنفاسها تائهة عن مجراها و قد اصفرت و اشتد امتقاعها " :و
ما الذي تبغونه مني؟".
قال " :الفضاء لنا بمكان زوجك و مكمنه الذي يقاتل منه ،فهو خصم
عنيد فل بد من الهتداء إليه و الخلص من شره".
دارت بها األرض عند سماعها قوله و وقفت دورة الدم في عروقها ،و
نطقت بجهد إذ قالت و هي ترتجف " :و لكنك تعلم أنني أجهل مكان
زوجي الذي يقاتل منه".
تبسم ساخرا " :ذلك هراء ل يصدقه مثلي".
قالت و هي تحاول جهدها حفظ توازنها " :كل ،فأنت مخطئ و ل علم
لي البتة بشيء من أمره".
فدق األرض بقدمه و قال مزمجرا " :ل تعمدي الى التظليل و العناد،
فهناك وسائل أخرى لو استعملتها معك لدفعتك الى الفضاء بأمر
زوجك دون إبطاء".
ففارقها وجلها و اضطرابها لما سمعت تهديده و وعيده و قالت و قد
على الدم في عروقها و كادت تنسى أنها في قبضة عدوها " :و هب
أنني عالمة بمكان زوجي و مقره ،فهل تتوقع مني أن أفشي لك
سره؟".
قال حانقا " :بل ستفضين به".
قالت بإصرار " :ل تطل الموقف و ل تحاول محال ،فأنا ل أخشى
الموت و ل وسائله التي تهددني بها ،و ل تطمع أن تظفر مني بكلمة و
لو قطعتني إربا إربا".
قال بهدوء و على شفتيه ابتسامة بغيضة " :لقد أخطأت فهمي ،فما أنا
مهدد بالموت و ل متوعد لك به ،بل نحن اليوم نطالبك بأحد أمرين لك
فيهما حرية الخيار ،و هما :إما حياة زوجك و إما شرفك"...
قالت و قد طاش صوابها " :كذبت و الله و خسئت أنت و قومك من
يهود أنذال".
أغضبه قوله هذا ،و خطا ناحيتها مهددا و قال " :أتجرئين على سبي و
قومي ،و أنت اليوم أسيرة في قبضتنا و في متناول يدنا؟".
قالت و هي تبتعد عنه مرتدة بخطواتها الى الوراء " :ل تعطل نفسك
بما ل طائل فيه".
نظر إليها مستخفا ،ثم حول وجهه عنها ،و مشى الى باب مغلق عند
ركن الحجرة ،و لم يلبث أن دفعه بقدمه دفعا شديدا ففتح على
مصراعيه ،و التفت إليها قائل و عيناه تلمعان ببريق النصر " :ما رأيك
فيما ينتظرك هنا لو دمت على إصرارك هذا و عنادك؟".
و طالعها هناك جماعة من رجال اليهود ،يلتفون حول مائدة مستديرة
يتناولون عليها الطعام و المدام بين هرج و مرج و رنين ضحكاتهم
المجنونة يتجاوب صداها في أرجاء القاعة التي يجلسون فيها،
فاصطكت ركبتاها ،و اشتد اصفرارها.
رماها بنظرة وقحة و قال" :هاتي ما عندك و اذكري لنا ما تعرفينه من
أمر زوجك؟".
قالت يائسة " :قلت لك إنني أجهل أمره و مقره الذي مضى إليه،
فماذا أنت فاعل بعد ذلك؟".
قال " :ل تماطليني لقد نفذ صبري ،قولي و إل أسلمتك الى جنودنا
في الحال".
أطرقت حائرة ملتاعة ل تدري ماذا تفعل و هي تشهد إصرار غريمها ،و
بينما هي غارقة في لحج الحيرة و اليأس دوى صوت كقصف الرعد
من خلف الباب حيث يجلس الجند و يصيح بحامد قائل بالعبرية " :ألم
تنته بعد من أمر تلك الغادة العربية؟".
فانتفضت و التفت إليها شمعون قائل " :إنه القائد يتساءل عنك كما
تسمعين و قد أمهلتك كثيرا و أنت تماطلين و انقضى الوقت دون
جدوى ،و ليس لي بعد ذلك إل أن أتركك فريسة للجنود".
و ما كاد يتم كلمه هذا حتى انفرج الباب و تدفق عند عتبته الجند
يتسابقون الى دخول الحجرة التي تقف فيها أسيرتهم الحسناء،
فذعرت لمشهدهم و التصقت بالجدار و أسنانها تصطك و قد ابيضت
شفتاها حتى شابهت في لونهما الجليد الناصع ،و لحظ شمعون عليها
ذلك ،فاستدار من أمامها بعد أن حدجها ببصره فهمت به تستوقفه
قائلة و هي ترتجف " :مهل يا رجل".
فأشار هذا على الجند بالتريث و التفت إليها قائل " :هل قررت
الفضاء لنا بمكان زوجك ،أم رضيت ببيع شرفك؟".
قالت و هي تنتفض و الصفرار يصبغها " :سأتحدث".
عاد فأغلق الباب بعد أن حبس الجند وراءه و تحول إليها و قال" :هناك
أمر أحذرك منه ،ل تلجئي الى تضليلنا ،و اعلمي انه لن يطلق سراحك
إل إن تحققنا من صدق قولك ،و إل فستدفعين ثمن كذبك".
قالت بإعياء و هي تترنح برأسها الى الجدار " :دع عني مثل هذا
الكلم؟".
قال " :متى ذكرت لنا مقره فسأمضي إليه في الحال مع بعض رجالنا
ثم أعود إليك عاجل فأطلق سراحك ،و لن يطول هنا أكثر من نصف
ساعة ،و أقسم على ذلك بديني و توراتي و حبي لولدي و أخي".
قالت و قد خنقتها العبرات " :أتريد أن تمضي و رجالك الى حيث
مكمن زوجي لتفتكوا به غيلة ،ثم تعود إلي لتطلق سراحي و يداك
مخضبة بدمه؟".
قال " :ل تسألي كثيرا يا بنية و ل تطيلي الشرح ،و قد يخوننا الوقت
فل يرضى الخرون بالرفق ،فهيا اذكري لنا المكان الذي يقاتل منه
زوجك ،و إل كان شرفك ثمنا لتعودي من حيث أتيت بسلم".
فصمتت و تولها سكون عميق و عيناها تحملقان دون حراك ،و كانت
أطرافها ترتعد لفرط تأثرها ،و تعالى في تلك اللحظة طرق عنيف
على باب الحجرة التي تقف فيها ،فارتجفت و ذعرت له من جديد ،و
صاح بها شمعون بصبر نافذ " :ماذا تقترحين على الجند الثائر ،و قد ل
ينتك أكثر من اللزم مقسما لك بأغلظ اليمان؟".
ترنحت بجسدها دافعة برأسها الى الجدار الذي استندت إليه ،و لبست
وجهها صفرة كصفرة الموت و غمغمت " :اعد مكمنه عند رأس وادي
روشيما".
دهش و قال " :يا لجرأته ،إذن فهو قريب منا ،و يكاد يكون في
أحيائنا".
ثم ما لبث أن تجلت على وجهه القبيح ابتسامة توحي بالظفر و
النتصار ،و وقف برهة ينظر الى الصبية و هي مسبلة جفنيها ترتعد في
وقفتها ،ثم مشى صامتا و تركها على حالها تغمغم في شبه غيبوبة،
حتى إذا خرج من الحجرة ،أغلق بابها وراءه بشدة ،فانتفضت انتفاضة
زلزلت كيانها ،و أجالت الطرف فيما حولها ،و كأنها تصحو من حلم
مزعج رهيب ،و شعرت بغصة في حلقها و بالعاقبة الدامية تتمثل لها
فأجهشت تنشج نشيجا موجعا و قد عل شهيقها.
وقف شمعون يتحدث الى قائده بعد أن ترك سلمى منفردة في تلك
الحجرة المجاورة و ابتدره بقوله " :لقد حالفنا الحظ فرمينا عصفورين
بحجر واحد".
قال ذاك و أشار الى الحجرة التي فيها سلمى ،ثم شرع يقص عليه ما
كان من أمره مع الفتاة حتى أرغمها على الفضاء بمكان زوجها و مقر
مكمنه .و استطرد و قد تجلت على شفتيه ابتسامة ساخرة " :و هي
الن واثقة من إطلق سراحها و صيانة شرفها كما وعدتها".
فهز القائد رأسه ساخرا و قد التمعت عيناه الجاحظة ببريق غريب و
قال " :دعها تعلل نفسها بالمال الواهمة فهي صبية فاتنة ،و ستكون
لي قبل كل شيء ،أما زوجها فل بد من اغتياله الليلة و سحقه وسط
مكمنه".
ثم التفت الى جنده و هم مازالوا يشربون و يمرحون ،و صاح بهم
يبلغهم المهمة التي سيسيرون إليها -فأقبلوا عليه و التفوا من حوله
يستمعون ألوامره و بينهم فتى أشقر مديد أزرق العينين يبدو كأنه
أكثرهم اشتياقا لسماع ما سيقوله القائد ،قال " :كم من معارك دامية
نشبت بيننا و بين العدو ،كان أكثرها عند أرض تلك البقعة من رأس
)وادي روشيما( أريقت لها دماء اليهود مدرارا ،و كانت الغلبة فيها دوما
للعرب كلما حاولنا الهجوم و النزول الى أحيائهم و تمزيق أهلهم و
طردهم ،ما أكثر ما لحقنا بسبب ذلك من خسائر في الرجال و العتاد
اغتنمها منا أولئك األعداء بعد كل هزيمة ،و اليوم قد اكتشفنا أن
مكامن معدة عند رأس الوادي يقودها رجل جريء ،و إذا كنا قد دحرنا
أكثر من مرة ،و لحقنا الفشل في كل هجوم أعددناه هناك ،فقد دبرت
لكم اليوم خطة تضمن لنا النجاح دون أن يسفك بها قطرة من
دمائكم ،خطة مبنية على مكيدة تمكنكم من الفتك بذلك الخصم دون
عناء".
و صمت لحظة مطرقا ببصره ،و أوداجه تهتز غضبا ،ثم رفع بصره من
إطراقه و استطرد " :ستسيرون الن برفقة شمعون )و أشار الى
حامد( حتى إذا ما أصبحتم على مقربة من رأس )وادي روشيما(
تربصتم صامتين و في شبه حلقة مفتوحة عند ثغر الوادي ،أما شمعون
فسيتقدمكم ليستدرج قائد العرب ناحيتكم بنفس المكيدة التي حمل
بها زوجه على المسير إلينا ،و هنا ل تمهلوه و أطبقوا عليه و انقضوا
عليه انقضاض الصاعقة و قطعوه إربا إربا و خضبوا سلحكم بدمه".
فلما سمعوا كلمه تعالت من بينهم صيحات هتاف و تصفيق و جعلوا
يتأهبون للمسير ،فحياهم و هو يقول " :ستجدوني عند رجوعكم في
حجرة األسيرة الجميلة".
فأدركوا مرماه و ازدادوا حماسة و نشوة و غادروه بين هتاف و صفير،
و التفت شمعون الى القائد قبل أن يسير في ركاب الجند و قال
مغتبطا " :اطمئن أيها الصديق ،فما من شك في النتصار على ذلك
الخصم العنيد ،و سننفذ الخطة كما شرحتها لنا و آتيك الليلة بقطرات
من دمه".
تحول القائد اليهودي و مشى الى حيث الحجرة التي بداخلها سلمى ،و
ما لبث أن أدار مفتاحه ببابها ففتح بسهولة .و ما إن شاهدته سلمى
داخل عليها حتى طاش صوابها ،و صرخت مستنجدة و هي ترى ذلك
العملق اليهودي يدنو بخطاه منها ،و قد تقلصت عضلت وجهه و قال
بهدوء و هو يقف أمامها " :ما من استغاثة تجديك نفعا يا أسيرتي
الجميلة".
فتراجعت الى الوراء و هي شبه مجنونة و صرخت قائلة " :لقد
خدعني ذلك النذل للمرة الثانية ،مقسما بدينه و توراته و أهله..أل لعنة
الله على من ل شرف له و ل دين يدين به ،و ل رب يخشى مهابته".
و همت به فبصقت على وجهه و هي تراه يدنو منها عسى أن تثير
بذلك غضبه فيعالجها برصاصة من فوهة مسدسه ترديها قتيلة ،و لكن
البصق لم يفعل شيئا في نفسه مما ظنت ،و جعل يخطو ناحيتها
بخطى ثابتة وئيدة ،و إذا بباب الحجرة يفتح في تلك اللحظة و يدخل
منه فتى أشقر فارع العود ،كانت سلمى قد رأته بين جند اليهود ،و
رفع مدية في يمناه و هم بالرجل الخر فانقض عليه انقضاض النمر
الجائع مغمدا سكينه في عنقه ،فخر اليهودي العملق يتخبط في دمه و
يتلوى من شدة األلم ،فعاد الفتى و طعنه أخرى في جبينه و راح يعمل
فيه المدية حتى مزق صدره ،و لم يتركه إل بعد أن رآه جثة هامدة.
و سلمى مازالت في وقفتها جامدة ل تنبس ،تنقل البصر بين الرجلين،
بعينين ذاهلتين ،و دارت بها األرض ،ثم عادت فصحت من ذهولها على
صوت الفتى و هو يلتفت إليها قائل بلسان عربي فصيح و حبات العرق
تكلل جبهته " :هيا بنا نسرع بالخروج من هذا المكان".
قالت و هي تحملق به و ل تطرف " :الى أين؟..و من أنت؟".
قال يسكن روعها " :ل تخافي يا أختاه ،و يمكنك الطمئنان الن فأنا
من المجاهدين العرب ،و هيا ألعود بك الى بيتك قبل أن يداهمنا احد
من أولئك األنذال".
فلبثت تحملق فيه و هي ترتجف ،و ركبتاها تصطكان ،عاد الفتى يقول:
" هيا بنا نعجل بالخروج يا أختاه ،فما بالك ل تتحركين ،أل تثقين بي؟ ".
غمغمت و هي مازالت على جمودها " :لم تعد لي ثقة بأحد ،و قد
رأيتك منذ لحظة بين جند اليهود تتعاطون الخمر ،و تقرعون
الكؤوس".
كانت تتكلم و أسنانها تصطك و الشحوب يكسو وجهها فأخذته الشفقة
بها و قال " :ل ألومك لو ساورك ريب من أمري..إنني عربي مكلف
أن أتجسس على العدو ،و قد اختارني لهذه المهمة قائدنا وليد ،فهل
عجلت معي بالخروج من هنا ألوصلك الى بيتك و أطير بعد ذلك الى
األخ وليد و أنبهه الى المكيدة التي دبرها اليهود للغدر به؟".
فما إن سمعت كلمه ،و ذكر زوجها على لسانه ،حتى نسيت نفسها و
هممت به ضارعة و الدمع يترقرق في مآقيها " :إمض إليه أيها
األخ..امض إليه في الحال و قص عليه األمر و حذره مكيدتهم ،أسرع
أخي أستحلفك بالله و ل تبطئ".
لمع الدمع في عين الفتى و هو يشهد يأسها و انهمار دمعها و قال " :و
لكن ل استطيع أن أمضي و أخلفك ههنا يا أختاه بين براثن أولئك
األنذال"
فالتفتت من حولها و ضربت جبهتها و هي تجهش و تقول " :كدت
أنسى أين أنا.و آه لي ما أتعسني و أسوأ حظي ،إن ضميري لن يغفر
لي قط كلما تصورت أني غدرت بزوجي".
قال الفتى يهدئ من حدة روعها " :ما أنت بغادرة يا أختاه و لكنها
مشيئة أرغمك عليها ذلك النذل المحتال الذي تظاهر بأنه منا ،و الله
ألقطعنه إربا متى عثرت عليه ألجعلن جلده طعاما للكلب الجائعة،
فهيا بنا نسير على بركة الله".
فمشت معه و هي ترتجف ،و دمعها يسيل فوق خديها في صمت و
سكون ،حتى إذا أوشكا على الخروج من القلعة شاهدت رجال
الحرس يقفون ببابها و كلهم مدججون بالسلح،فأجفلت قليل لمرآهم و
أدرك رفيقها ما خالجها من شعور فالتفت إليها هامسا " :ل تخافي
هؤلء الكلب إنهم يحسبونني واحدا منهم".
قالت في همس " :و أنا؟".
قال " :دعي األمر لي لو بادر أحدهم بالسؤال بشأنك و لكن رجائي أن
تكفي عن إرسال دمعك كي ل يتشككوا في أمرنا".
همست " :لم أستطع ضبط عنان دمعي".
قال و هو يخرج من جيبه نظارة قاتمة " :إليك بهذه النظارة ،فثبتيها
فوق عينيك و احذري ألننا سنستقل سيارة القائد المقتول".
هزت رأسها في استجابة ،و سارت بجانبه الى أن ولجا باب القلعة،
فلمحهما الحرس و هما يهمان بركوب السيارة ،و التقت عين الفتى
نظراتهم ،و قرأ في عيونهم استغرابا و دهشة من أمر رفيقته ،فتجاهل
أمرهم و ابتدرهم بالتحية ،ثم مضى يرسل صفيرا خافتا من بين شفتيه
متظاهرا بالمرح و السرور ،فردوا عليه التحية بالمثل ،و أقبل عليه
أحدهم يسأله وجهته مع الفتاة:
أجابه و هو يأخذ مكانه أمام عجلة القيادة بأنه مكلف من قبل القائد
بحملها إلى بيته.
قال ذلك و أدار مكيف السيارة ،و جلست سلمى في المقعد الخلفي،
و من ثم انطلقت بهما السيارة تنهب األرض نهبا مخترقة أحشاء
الظلم الحالك و دوي القنابل و هدير المدافع تصم له الذان ،و قطع
حبل الصمت بينهما صوت الشاب إذ قال " :هل لي أن أسالك يا أختاه
كيف تمكن ذلك الوغد من حملك على المسير الى ذلك الحصن؟".
قالت بصوت تخنقه الدموع " :كان قد زعم لي أن المجاهدين العرب
قد احتلوا القلعة بقيادة زوجي ،فدهشت لذلك و استغربت قوله في
بادئ األمر لعلمي أن القلعة واقعة في قلب )الهدار( و ليس لدى
العرب من مدافع تمكنهم من الوصول إليها كما سمعته .و لما كانت
ثقتي بذلك المخادع هي ثقة البنة بأبيها لم يخالجني أدنى ريب في
قوله ،و أضاف الى ذلك )أن زوجي أرسله في طلبي و هو ينشد
مقابلتي هناك عاجل ألمر هام( ،و برهن لي على صدق أقواله إذ دفع
لي بمنديل أعرفه كنت قد أعطيته لزوجي يدا بيد".
قالت ذلك و اختنق صوتها و أمسكت عن الكلم ،ذهل الفتى و قال" :
و كيف وصل منديلك الى يد ذلك المحتال؟".
قالت " :كان هناك رسول يأتيني من طرف وليد بين يوم و آخر
يطمئنني عليه ،و فجأة انقطعت أخباره عني ،فانتابني قلق شديد
شهده ذلك الكذاب و ل بد أن زوجي أحس ذلك ،فقصد دكان ذلك
الرجل و كلفه حمل المنديل إلي علمة منه تعيد الطمأنينة الى نفسي،
فأخذه هذا و استخدمه في حبك مكيدته التي خدعني بها فأوقعني في
شراكه و قد سهوت عن المنديل فلبث في قبضته".
كانت تتكلم و أطرافها ترتعد و دمعها ينساب من مآقيها دون عناء.
غمغم الفتى و هو يستمع لقولها " :ليس من جزاء لذلك األفاق إل أن
يذبح ذبح الشاة".
همست من بين دموعها " :إنني مازلت أخشى غدره و ما أظنه عمد
الى استبقاء المنديل في حوزته إل لغرض يضمره في نفسه".
قال الفتى و قد ثارت فيه حمية الرجال " :خسئ النذل وقومه ،و هل
يجرؤ بعد اليوم على عبور أحيائنا أو الوصول الى دكانه؟ إن في
فرارك خطرا يهدد حياته لعلمه أنك ستذيعين أمره بين الناس".
فصمتت و لم تقل شيئا ،و كانت السيارة قد اقتربت بهما من المنزل
الكبير فتوقفت عند بوابته الخارجية و إذ همت بمغادرة مكانها من
السيارة التفتت الى الفتى قائلة و عيناها تمطران الدمع " :ليجزك الله
خيرا أيها األخ األمين".
قال " :ما قمت به إنما هو واجب من الواجبات".
قالت بصوت يرتعش " :كيف يمكنني الوقوف على أمر زوجي و
الطمئنان عليه؟".
قال " :هاأنذا ماض إليه في الحال أستطلع أمره حتى إذا ما رأيته بخير
و سلم ،عدت إليك ببشراي".
فخفق قلبها و قالت و هي تتعثر بقولها " :سر إليه عاجل أيها األخ و
على بركة الله و عونه".
ثم دفعت بوابة الحديقة و كان الظلم متراكما هناك و السكون سائدا
و أهل الدار مازالوا نياما كما تركتهم ،فأجفلت قليل و هي تهم
بالدخول و كانت ما تزال مضطربة لهول ما صادفها في ليلتها هذه ،ثم
ما لبثت أن دلفت تشق طريقها من بين األشجار و هي تسرع الخطى
و تتعثر بذيلها كما لو كانت هناك أشباح من الجن تطاردها.
و الفتى مازال واقفا بسيارته عند بوابة القصر الى أن تحقق من
دخولها ،ثم أدار محرك السيارة و انطلق بها كالسهم آخذا وجهته الى
)وادي روشيما( حيث مكمن بطل قصتنا ،عسى أن يدركه قبل وصول
األعداء إليه ،و بينما هو كذلك إذ لمح شبحا لرجل مسن يسير الهوينا
وسط الظلم و كثيرا ما يشبه بشكله هيئة حامد المزعوم.
فأوقف السيارة و صاح مناديا به" :حامد".
فارتعد هذا و قال " :نعم فمن تكون؟".
قال" :قف عندك".
ثم قفز من باب السيارة و ركض مسرعا اله حتى تقابل ،فخاطبه
ممسكا بتلبيبه " :ما الذي جاء بك الى هنا؟".
فتفرس هذا في وجه الشاب و هو آخذ بتلبيبه ،و ما كادت تنكشف له
ملمحه و يراه يعنفه بلسان عربي فصيح حتى تدهورت أنفاسه و أدرك
أن هذا الذي كان يظنه يهوديا من ملته و قومه ،ليس إل عربيا ،و
عرف أن أمره قد انفضح ،فجمد دمه في عروقه و ألجم الخوف لسانه
و تعلقت أنفاسه في حلقه حتى لم يعد يحسن النطق أو يقوى على
الكلم لشدة وجله و اضطرابه ،فعاد الفتى و أمسك بتلبيبه و قال و
هو يكاد يقتلعه من مكانه" :ما بالك ل تنبس ،فتقول فيم وجودك هنا
أيها الكلب الدنس؟".
فازدرد ريقه و هو يرتعد بشدة ،فما لبث أن صاح به الفتى مزمجرا" :
قل غرضك الذي جئت من أجله و ل ترقص هكذا تحت قبضتي و إل
بقرت بطنك".
ففتح فمه محاول النطق و هو مازال يرتعد و أطرافه تهتز بعنف و قال
و هو يصوب إليه نظرة واجفة " :ما أنا براقص بل هما ركبتاي
ترتعشان".
أجابه و هو يستل سكينة من منطقته " :و فيم الرتعاش؟..ألكونك
ستنال جزاءك من حد سكيني هذا؟..أم انك صدقت أنني نذل منكم
فأغفر لك خيانتك و غدرك؟".
قال مستجديا و هو يهم بالركوع تحت قدميه " :ارحم شيخوختي ،فإني
رجل طاعن في السن و ل أستحق القتل".
فهم به و اقتلعه من ركوعه فأوقفه ثانية و هو يقول غاضبا " :و هل
عرفت الرحمة مع الفتاة التي خدعتها منذ ساعة".
فصعد به نظره مسترحما و هو يرى سكينه تلمع أمام بصره مادا إليه
يديه ضارعا دون أن يقوى على الكلم ،فضرب الفتى على يديه قائل
بحدة " :قل و عجل في القول ،ماذا كان من أمر الشاب معكم الذي
ذهبتم لغتياله أيها األنذال؟...و ما هو غرضك إذ أراك تتسكع هنا؟".
فلبث على صمته يرتعد ،أو لعله كان يبحث عن الجواب فل يجده ،و
هنا دوى في تلك اللحظة انفجار هائل أنار لهيبه المدينة حتى أحالها
كقطعة من النهار ،و لمح الشاب في أثناء ذلك ثياب حامد مخضبة ببقع
حمراء من الدماء .فأسقط في يده و انقض عليه و قد طاش صوابه
لمشهد الدماء التي تلوث رداءه و حملق فيه و هو يصرخ كالمصعوق:
" قتلتموه..قتلتموه غدرا و غيلة؟...نفذتم مكيدتكم به فأرقتم دمه
النبيل؟".
فركع هذا تحت قدمي الفتى و هو يردد " :الرحمة الرحمة".
أجابه و هو يرفع يمناه بسكينه و يهوى بها فوق رأسه" :أتيتك الرحمة
فإليك بها من حد هذه المدية".
فجأر الثاني على أثر الضربة التي تلقتها جمجمته و سقط يتلوى و
يخفق في دمه كالثور الذبيح ،فصاح به الفتى بصوت كقصف الرعد" :
انهض فل أريد موتك عاجل و والله ألذيقنك مر العذاب و أمزقنك شر
ممزق آخذا بثأر ذلك الرفيق الذي تمكنتم من اغتياله بفضل مكيدتك
التي نصبتها له و لزوجته حتى أرغمتها على إفشاء أمره ،انهض أيها
األفاق و خذ من حد سكيني الجزاء ،لقد أفقدتنا رجل من خيرة
الرجال".
كان يتكلم و األلفاظ تتسارع الى شفتيه و أعضاؤه تنتفض غضبا و
عيناه تومضان تحت سبل الظلم حتى تكادا ترسلن شررا ،و سكينه
مشهر في يمناه يلمع ناصعا و قطرات من الدماء عالقة عند حدها ،و
غريمه يتلوى تحت قدميه ،فهم به و انقض عليه ثانية و طعنه بين
عينيه ثم عنقه و صدره ،و مازال يعمل فيه المدية حتى مزق لحمه.
و قد ألهاه أمره عن شأن نفسه ،فلم يلق بال للخطر الذي يتهدده و
هو يقف في العراء عند سفح الجبل معرضا للطلقات النارية و شظايا
القذائف التي أخذت تخترق الفضاء فتمر مرور الشهام متطايرة من
فوق رأسه ،و ما لبث أن تحول بخطاه عن القتيل رافعا بصره الى
السماء بعينين تكادان تدمعان و هو يقول " :ليرحم الله شهداءنا".
ثم أطرق برهة خاشعا يتلو فاتحة الكتاب ألرواح إخوانه الشهداء ،و ما
إن أتى على آخر كلمة من السورة الكريمة ،حتى أحس بشيء
كالسهم الحديدي يغوص في صدره ،فتخاذل في وقفته و رفع يده الى
صدره يتحسسه فاصدمت أنامله بما يشبه المدية بين لحمه ،فانتزعها
من موضعها فبان معدنها يلمع لناظره و دمه يقطر من أطرافها.
أدرك بذلك أنه أصيب بشظية قنبلة و تقاطرت الدماء تنزف من
صدره ،فسد جرحه براحة يده و جر قدميه مستجمعا قواه عسى أن
يمكنه المسير الى أول طبيب يصادفه فيعمل على إسعافه ،و لكنه ما
كاد يخطو بضع خطوات حتى شعر بضيق صدره و ثقل أنفاسه فتحامل
جهده ليتابع سيره ،فاشتد عليه الحال حتى أعياه عن المسير ،فتلمس
أصل شجرة ظليلة على مقربة منه جلس إليها مستندا بظهره الى
جذعها ،و لمح أثناء ذلك أشباح رجال يسيرون على بعد أمتار منه على
رؤوسهم خوذ حديدية و يحملون على أيديهم مدافع رشاشة ،و جعلوا
يتلفتون يمنة و يسرة بحذر شديد ،فأدرك من ملبسهم و هيأتهم أنهم
يهود يبتغون التسلل الى األحياء العربية،
فمد يده و أخرج مسدسه من جرابه المثبت حول وسطه و صوب
فوهته ناحيتهم ،و يده األخرى مازالت مثبتة فوق جرحه و لم يلبث أن
ضغط زناد مسدسه فتطاير رصاصه يئز من حولهم فذعروا و فروا و
جعلوا يطلقون رشاش مدافعهم على غير هدى.
فتبسم لمشهدهم و هم يفرون فرار القطيع ،و مازال يطلق الرصاص
كي يرهبهم حتى تخاذلت أنامله الممسكة بالمسدس فسقط من يده
و ثقل جفناه فأسبلهما و قد لبست وجه الفتى مسحة ناصعة و مرت
بشفتيه ابتسامة شاحبة أسلم معها الروح.
عادت سلمى الى بيتها ،فاندفعت الى فراش طفلها تتفقده بلهفة ،و
كان ل يزال يغط في نومه كما تركته ،فأكبت عليه و أخذته بين
ذراعيها تقبله و تضمه الى صدرها و هي تحس بوحشة و جزع ل عهد
لها بمثلهما من قبل.
و تململ صغيرها برأسه على إثر قبلتها ،و ما لبث أن فتح عينيه ليجد
أمه تضمه إليها ،و تبلل وجهه الصغير بدموعها ،فلف ذراعه الصغيرة
حول عنقها ،و ألقى وجهه فوق صدرها ،و لم تلبث أن سمعته يقول" :
أين أبي يا أماه؟".
فضاق صدرها لذلك ،و جثت راكعة مستجدية ،تتضرع الى ربها و يداها
مرفوعتان الى خالقها تطلب رحمته تعالى بها ،و إنها لكذلك إذ بها
تسمع قرعا خفيفا على باب حجرتها ،فذعرت له لفرط اضطرابها ،و
هتفت و هي ترتجف في ركوعها " :من هذا؟".
ردت سلمى بصوت خافت و نفس ذاهلة " :أستودعك الله يا صديقتي
الوفية".
قالت الفتاة و قد كانت مخلصة الود لسيدتها " :كذلك قد أتيتك أنبئك
أمرا".
قالت الفتاة همسا " :لقد أتى العم حامد منذ ساعة طارقا باب القصر
بعنف ،فاندفعت استطلع الخبر و إذا به يناولني لفافة قائل بأعلى
صوته " :إليك بهذه اللفافة يا بنية ،فسلميها لسيدتك و خبريها أن هذا
كل ما عرفته عن ولدها المجاهد".
قالت سلمى و قلبها يكاد يقف عن دقاته " :نعم ،كنت قد ذهبت
لستطلع أمر زوجي ،و لكن ألم تسألي ذلك الرجل عما تحويه تلك
اللفافة التي أتى بها؟".
قالت الفتاة " :لم ينتظر لحظة أو يزيد على ذلك كلمة ،بل سلمني
إياها و مضى يسرع الخطى و يتعثر بأذياله".
قالت الفتاة " :لفافة من الورق صغيرة و رطبة لدنة ،خيل إلي و أنا
ألمسها كأنها تحمل خرقة مبتلة".
قالت الفتاة بسذاجتها " :نعم ل أظنها غير ذلك ،فطيبي نفسا و ل
تقلقي أبدا".
و استطردت تقول و هي تقبل رأس سيدتها التي لبثت شاردة
مذهولة " :استودعك الله".
ثم مضت الى حيث أمها تنتظرها ،فسارت معها تتسللن طريقهما
فوق دابة تقلهما الى قريتهما في أثناء الليل لئل يكتشف أمرهما العدو.
لبثت سلمى ساهمة شاردة تفكر في أمر تلك اللفافة التي جاء بها
الرجل الغادر و ما عسى أن تكون ،و قد سمعت الفتاة تشبهها
بالخرقة المبتلة ،فلمع في ذهنها فجأة كوميض البرق )منديلها( الذي
استبقاه حامد في حوزته ،فاندفعت كالسهم الى حجرة ظريفة و
جعلت تطرق باباها بكلتا يديها و أطرافها ترتعد بشدة لفرط فزعها و
بلبالها ،فتساءلت ظريفة حانقة متأنفة و هي تنهض من فراشها " :من
الطارق؟".
قالت بأنفاس متقطعة " :أين تلك اللفافة التي جاء بها ذلك النذل؟".
قالت مضطربة " :بل أين تلك اللفافة يا سيدتي؟ إلي بها ألستطلع ما
بداخلها".
فرمقتها بنظرة قاسية و قالت بغلظة " :اصغي إلي يا بنية ،فأنت اليوم
مسؤولة عن أمر زوجك ،و عليك وحدك مجابهة هذا الزعاج ،إني اليوم
امرأة ل تساعدني أعصابي على احتمال هذا القلق المستمر ليل و
نهارا ،فدعينا لحالنا و امضي أنت الى دار أمك و ليلبث زوجك في
القتال إلى حيث شاء ،و ل أظنني ملومة بعد اليوم لو دعوت ابنتي و
زوجها للقامة معي في منزلنا هذا".
ردت سلمى و قد اتسعت حدقتاها هلعا " :أ أمضي ألقيم منفردة في
بيتي في مثل هذه الحال المضطربة؟".
أجابتها " :و أي ضير في ذلك و زوجك يغضبه أن تقيمي هنا و صهره
مقيم بيننا ،أم ترين أن بقاءك بجانبي أحق و أجدر من ابنتي؟".
ذهلت و لم تجد ما تقوله ،و تدخلت هدى التي رقص قلبها فرحا عند
سماعها قول أمها و قالت باستهزاء " :بل هي تعودت حياة القصور يا
أماه فلم تعد تتمكن من العيش و القامة في بيت صغير كبيت أبيها
ذاك".
التفتت إليها سلمى و هي مازالت على ذهولها و أجابتها قائلة " :لو
صدقت القول لوجدت نفسك غير محقة في امتلك هذا القصر".
قالت في تهكم أكثر " :ترى هل كان هذا القصر ملكا ألبيك؟".
قالت لهثة لشدة انفعالها " :ليس هذا وقت الجدال ،فأين تلك اللفافة
التي جاء بها الرجل؟".
التفتت سلمى إلى األم التي كانت ترقب الموقف بعين السخط و
قالت لها " :تكلمي يا سيدتي و افصلي بيننا".
رمقتها بعينين قاسيتين و قالت بخشونة " :إني أراك جازعة مضطربة.
فإذا كان ذلك مبعثه أنك اشتممت رائحة سوء لحقت بولدي ،فاعلمي
منذ اللحظة أن بيتي ل يتسع لثلث أرامل و ل بد لك أن تمضي إلى
بيتك في التو و الحال".
قالت مستعطفة " :ليس بيتي بالحصين كهذا البيت ،و هو معرض
للقذائف و الطلقات ،و إني ألخشى على طفلي من غارة العدو و
غدره".
و أفاق خالد الطفل على زمجرة جدته و رأته أمه مقبل عليها فأحاطته
بذراعيها و همت به جدته قائلة" :دع أمك تذهب لدارها و ابق أنت
هنا".
فذعر الطفل و أمه و تشبث كلهما بالخر ،و قال خالد لجدته و
ساعداه الصغيران ملتفان حول عنق أمه " :لن أدع أمي تذهب وحدها
و لن أمكث هنا بدونها".
أجابته جدته غاضبة " :حسنا فامض معها كما تشاء و لن تمكث أمك
هنا بعد اليوم قط".
فتحولت أمه إليه و راحت تلبسه ثيابا ثقيلة فوق ملبس نومه و تدثره
بدثار سميك وقاية له من هواء الليل البارد ،ثم حملته و هي ترتجف ،و
إذ همت بالمسير تولها جزع عظيم ،و تمثل لها في تلك اللحظة
شخص شمعون في انقلب سحنته يتوعدها مهددا ،فأجفلت و أمسكت
خطاها و شاعت عيناها إلى حجرة النسانة الطيبة سعاد كمن تنشد بها
من وحشة الليل و جبروت هؤلء القوم ،فعاجلتها هدى التي كانت
ترقب انصرافها و تتعجله قائلة " :ل داعي لزعاج العليلة ،هيا امضي
بصمت و سكون".
نظرت إليها نظرة تقطر دما ثم حنت رأسها و مشت و طفلها محمول
فوق ذراعيها ،و التفتت هدى ألمها هامسة في أذنيها " :أين تلك
اللفافة لتأخذها معها كيل نكون مسؤولتين عنها ،إذ ربما تحمل لها
رسالة من زوجها؟".
قالت ذلك و قذفت بها تحت قدميها ،فالتقطتها سلمى صامتة ثم
شدت ولدها إلى صدرها وواصلت سيرها مخترقة الظلم و الرعب يمل
قلبها.
هام ذلك الجمال للمرة الثانية يشق طريقه وسط سكون الليل الحالك
الذي أخذت تبدد صفاءه طلقات الرصاص و دوي القذائف و لهيبها
فتنير ظلمته و تهدر مدمرة أينما وقعت.
و صحا خالد بصحوة النهار ليجد أمه منكفئة بجوار السرير الذي يعتليه،
فهرع إليها يهزها بكلتا يديه الصغيرتين قائل " :أماه ،لما أنت نائمة هنا
فوق األرض الباردة؟".
فتحت عينيها على صوت ولدها الحبيب و أخذته بين أحضانها و هي
ترتجف و صغيرها و يزداد التصاقا بها ،ثم راح يسألها ببراءته " :لما
أتينا هذا البيت يا أماه؟".
كظمت دموعها و قالت " :أل يسرك العيش معي هنا في هذا البيت
الصغير يا خالد؟".
قال " :ل بل أنا احبك يا أماه و أحب بيتنا هذا ،و لكني أخشى أن يأتي
أبي الى ذلك البيت الكبير عند جدتي فل يجدنا فيه".
قالت " :متى سمعنا بعودة عزيزنا أبيك الى هناك هرعنا إليه".
و رأت طفلها يتمسح برأسه فوق صدرها بدلل و هو يقول " :إنني
جائع و أريد شيئا من الطعام".
حين سار حامد أو شمعون اليهودي مع رجاله آخذين وجهتهم الى وادي
)روشيما( حيث مكان وليد و مقر مكمنه كان قد سبقهم إليه شاب
عربي من المجاهدين يحذره مكيدتهم.
و كان هذا الشاب ،و يدعى محمدا ،جاسوسا ثانيا يعمل لحساب
إخوانه العرب ،و في الوقت نفسه عهد إليه اليهود و هم على ضلل
من أمره أن يعمل مع الحرس الصهيوني المكلف حراسة القلعة،
فيقف عند بابها يستطلع أمر الداخل إليها و الخارج منها.
كان يتظاهر بأداء عمله المكلف به من قبل العدو فيلتقط أنباء اليهود
و يستطلع أمرهم و أحوالهم ،و يذهب بأخبارهم الى إخوانه
المجاهدين.
حتى كانت تلك الليلة التي وقف فيها على أمر تلك المكيدة المدبرة
لغتيال قائده الذي عهد إليه بمهمة التجسس على العدو ،فما كاد
يسمع بذلك حتى غافل من حوله و تسلل من بين الحرس اليهودي
المنبث حول القلعة و طار كالسهم الى حيث مقر وليد ينبئه األمر،
فأدركه كامنا وراء مكمنه ،فابتدره بالتحية ثم شرع يقص عليه ما
سمعه بشأنه.
فدهش وليد لذلك و سأله قائل " :و كيف تمكن العدو من الوقوف
على أمري و اكتشاف مقري؟".
قال رفيقه " :ذلك ما أعجب له ،و بعد ،فهناك فتاة جاءت الى القلعة
برفقة شيخ مسن و يخالجني ريب من أمرها و رفيقها هذا إذ دبرت
مؤامرة اغتيالك ،و شاهدت العدو يتهيأ للمسير الى مكمنك عقب
دخولهما القلعة ،و هناك من سمعته يقول أن الفتاة كانت عونا لهم
في كشف مكانك ألعدائك ،و مما يؤكد ذلك أنني رأيت رفيقها الشيخ و
قد عاد فسار في ركاب العصابة اليهودية يدلهم على السبيل إليك ،و
هم ل بد آتون إلينا بين لحظة و أخرى".
ازداد وليد دهشة و تضاربت على رأسه شتى الخواطر و األفكار ،إل
أن خاطرا واحدا لم يخطر له على بال ،أن تكون تلك الفتاة التي
يتحدث رفيقه بشأنها هي زوجته بعينها ،و ما لبث أن ردد مستغربا" :
فتاة..فتاة ..من تكون تلك الفتاة؟..و كيف تسنى لها الوقوف على
أمري و اكتشاف مقري؟".
قال " :هي غادة هيفاء لم ير الراءون أجمل منها ،ملساء البشرة
وردية اللون سوداء الشعر ،نجلء العينين ،جيدها طويل ،أنفها أشم و
قدها فارع ،أما رفيقها فل يشبهها بشيء و ليس عليه من مهابة
الرجال مثقال ذرة ،فمظهره البالي بهندامه المهلهل و قلنسوته الرثة
المثبتة فوق رأسه األشيب تشهد على أنه يهودي عتيق...
" الغريب أنني رأيته يلج باب القلعة مع رفيقته هذه و فوق ساقه
اليسرى ضمادة ضخمة ،و جعل يسير الهوينا متكئا على عكازته ،ثم ما
لبثت أن شاهدته عائدا على رجليه كالثور ،و ل أثر لتلك الضمادة التي
كانت ملتفة حول ساقه".
فما أتى الشاب على قوله حتى وثب وليد على قدميه و قد طار عقله،
و قال رفيقه و قد على دمه في عروقه فسرى ملتهبا في سائر
أطراف بدنه " :هلم فخذ مكاني و إني لماض لنقاذ الفتاة في التو و
الحال".
ذهل رفيقه و قال " :ماذا أسمع؟ أماض الى الموت ليفتك بك
العدو؟".
قال و هو ينتفض " :ل بد لي من المسير الى تلك القلعة و إنقاذ الفتاة
منها و لو لقيت بذلك حتفي ،لقد غرر بها فوقعت في الفخ".
كان يتكلم و أعضاؤه تهتز و العرق يتصبب منه لفرط انفعاله و غضبه،
و قال رفيقه و هو على دهشة من أمره " :ما معنى أن أراك تسير
الى العدو بقدم ثابتة قاذفا بنفسك الى التهلكة من أجل فتاة نحن على
جهل من أمرها ،و اليهود كما ترى يتلهفون على صيدك و تمزيق
لحمك؟".
قال و عيناه تكادان تقدحان شررا " :بل الفتاة هي زوجتي و ل بد أن
يكون هناك من خدعها و استدرجها بمكيدة حيكت من حولها سقطت
لها في شباك العدو و قبضته ،و ل ريب أن هؤلء األنذال قد ضيقوا
عليها الحناق مما اضطرها الى إفشاء سري".
صعق رفيقه عند سماعه قوله ،و هم به قائل " :ابق أنت هنا ألعود أنا
مسرعا فأعمل على إنقاذها ،إذ يسهل علي العبور الى داخل القلعة
كرجل من رجال الحرس الصهيوني".
قال وليد و قد أخذ منه الغضب مأخذا عظيما و ثارت فيه حمية
الشهامة و الغيرة " :أليس من العار أن أكلف غيري ليقوم بإنقاذ
زوجتي و في شرياني عرق ينبض؟"
قال ذلك و راح يخلع عنه سترته و يسرع في نزع كوفيته و عقاله و
يستبدل بهما ملبس رفيقه و سترته المدموغة بشعار الصهيونية كي
يخدع بها العدو و لكيل يكشف أحدهم أمره و هو يجتاز األحياء اليهودية
عابرا الى تلك القلعة الحصين.
و كان رفيقه ينظر إليه صامتا و قد أذهله أن تكون تلك الفتاة عربية
وقعت في أسر اليهود دون أن يفطن إليها فيعمل على إنقاذها ،و فجأة
مر بذهنه كمرور البرق خاطر إذ قال " :رويدك يا صديقي فهناك األخ
سليم رأيته و هو يغافل جند اليهود و يكر راجعا الى القلعة بخطى
سريعة و مسحة من الغضب تعلو جبينه فعجبت ألمره و أنا أشاهد
تجهم وجهه و لم أتمكن من لقائه و سؤاله سر غضبه لكثرة العيون
المنبثة حولنا ،و حسبي الن أن أدرك السبب في تجهمه فهو لبد قد
وقف على شيء من أمر زوجتك فخف لنقاذها من قبضة العدو ،و
أرى أن تتريث في األمر قبل أن تجازف بحياتك فتسلك سبيل وعرا
يهدد سلمتك ،و ل بد أن تصلنا إشارة من األخ سليم بين لحظة و
أخرى ينبئنا فيها نتيجة ذلك".
و لقد كان وليد في شغل شاغل من أمر رفيقه هذا و قوله و هو
يحاول تثبيطه عن خوض هذه المخاطرة المقدم عليها ،و أخذ يسرع
في استبدال ثيابه بثياب رفيقه و يثبت فوق رأسه الخوذة الحديدية بدل
من الكوفية و العقال ليبدو كواحد من رجال الحرس الصهيوني
المكلف بحراسة القلعة فيسهل عليه حينئذ عبورها و إنقاذ زوجه،
لعتقاده أنها مازالت أسيرة بداخلها.
و قال يحدث نفسه و قد تجهم وجهه و احمرت عيناه " :ليت شعري
ما دهاك يا سلمى حتى أراني أسمع بأسرك؟ و كيف تمكن أولئك
األنذال من خداعك و التغرير بك فسرت الى شباكهم بقدم ثابتة و قد
عهدت فيك حدة ذهنك و رجاحة عقلك ،و فطنتك لكل أمر من األمور،
و من يكون ذلك الشيخ الذي غرر بك فسرت برفقته؟".
ثم صمت ينتفض في وقوفه ،و إذ فرغ من استبدال ثيابه التفت الى
رفيقه قائل " :هلم فخذ مكاني و هاأنذا على علم من أمر العدو و
مكيدته".
فقطع كلمه قائل " :أل تتريث و لو لحظة ريثما تصل تلك العصابة الى
هنا لئل تعثر بك و هي في طريقها إلينا؟..و دليلهم الشيخ قد يكتشف
أمرك لو أبصر بك؟".
و ما كاد وليد يسمع صديقه ينطق بذلك حتى ذهل و ترنح في وقفته
ترنح الشاب الثمل ،و قد انكشف له األمر على جليته ،و رأى أن
زوجته غير ملومة بشيء بل هي معذورة فيما سيقت إليه ،و هو الذي
كان قد عهد الى ذلك الخادع بأمرها و أوصاه بها و بطفلها ،و قال و قد
استعظم خداعه " :يا للوغد اللئيم المخادع أعوام و أعوام يسبل على
نفسه ستارا يخفي من وراءه حقيقة أمره عنا ليتسنى له التغلغل بيننا
و التقاط أخبارنا...ترى كم جناية اقترفتها يداه بحقنا و بفضل تستره
هذا؟...إني و الله لخذن منه بالثأر و أذبحه شر ذبحة متى عثرت
عليه".
ثم نادى برجاله فلبوه و خرجوا من مكامنهم للقائه ،فسار إليهم بضع
خطوات ووقف بينهم ينبئهم األمر ،و يحذرهم مكر عدوهم و مكيدته ،و
يسرد عليهم المهمة التي سيمضي بدوره إليها ،فاعترضوا عليه ذلك و
حاولوا ثنيه عن عزمه ،و قال أحدهم " :إنها لمخاطرة تسير إليها ل
نرضى بها قط و ل نوافقك عليها أبدا ،فاختر منا من شئت من الرجال
فننفذها بدل منك و البث أنت هنا بطلنا تقودنا".
قال " :يا إخواني الكرام إني لهذا كنت أكره ،و ما كنت ألتخلف عن
الجهاد لحظة لول أن هناك ما يظطرني الى ذلك ،فمثلي من يعوض
أما الشرف إذا ضاع فالزجاج إذا كسر ل يجبر ،أما الن فاصغوا الى
الخطة التي وضعتها لبادة األعداء الذين هم في طريقهم إلينا".
و صمت لحظة ثم استطرد " :لينقسم جمعكم الى كتلتين ،قسم منكم
يلبث هنا و القسم الخر يكمن بعيدا عند تلك الهضبة المنخفضة ،حتى
إذا ما شاهدتم اليهود قادمين إليكم و هم على ما وقفت عليه من
أمرهم ينون محاصرتكم في مكانكم شبه حلقة ،فدعوهم يفعلون ذلك،
حتى إذا ما تم لهم حصاركم جاء رجالنا الكامنون عند الهضبة و جعلوا
أنفسهم حلقة ثانية يطوقون بها حلقة العدو ،فتصبح حلقة اليهود هي
الوسطى محاصرة وسط طوقين من رجالنا ،قسم منكم يضربها من
الداخل ،و القسم الخر يضربها من الخارج ،و البثوا منقضين عليهم و
أمطروهم وابل من نيران بنادقكم حتى تجتثوا أصلهم فل تتركوا لهم
أثرا.
ثم حياهم و سار مبتعدا في سبيله و صيحات رجاله مازالت تطن في
أذنيه ،و مشى يشق طريقه الى حي ) الهدار( و صدره ميدان تدوي
في أعماقه صيحة ثأر و انتقام و رأسه مسرح لشتى الهواجس و
األفكار فيما عسى أن يكون حال زوجه مع األعداء.
وقف رفيقه ،الذي جاءه يحذره غدر العدو و أنبأه أسر زوجته ،يشيعه
بنظراته و هو يخترق السهل و يمر من بين المنعطفات مرور السهام
الى أن توارى ظله عن ناظره ،فلبث مكانه يشعر بالخوف على حياته
و هو يراه سائرا الى مصير مجهول تحف به األهوال و األخطار ،و
عظم عليه أمره فاخذ اليأس و الحنق يتنازعانه و هز رأسه هامسا
لنفسه " :لقد أبت عليه شهامته أن يتولى تلك المهمة آخر غيره ،و
إني ألراه في إقدامه على هذه المجازفة و اقتحامه ذلك السبيل الوعر
و العدو يطارده متحرقا على صيده و تمزيقه ،كمن يدفع السيف بيمناه
الى قلبه".
و صمت لحظة ثم قال " :و و الله لخذن بالثأر أيها الرفيق قبل أن
يأتي الغد ممن دبر لك خطة الغدر ،و أجعلن حفرتهم عائدة عليهم".
قال ذلك و نظر الى كوفية وليد و عقاله و ما زال في يده ،ثم مشى
بخطى وئيدة مطأطئ الرأس كمن يسير في جنازة عزيز فقده.
و اختار له مكانا يكمن عنده وراء صخرة ناتئة عند سفح الجبل ل تبعد
عن مكان رفاقه سوى بضعة أمتار ،و من هناك راح يرقب الطريق
المؤدي الى حي ) الهدار ( بنظرات حادة تكاد تلتهم الظلم ،و مقلتاه
تقدحان وسط دجنة الليل الحالكة و كأنهما جمرتان من نار ،و بينما هو
كذلك إذ لح لناظره أشباح رجال مدججين بالسلح و قد ثبتت فوق
رؤوسهم خوذ حديدية ،و حملوا على أيديهم مدافعهم الرشاشة و
جعلوا يسيرون بحذر و صمت و هم يخطون الى رأس )وادي روشيما(
حيث مكامن المجاهدين العرب لحصارهم و اغتيال قائدهم.
و أدرك محمد حين أبصر بهم ،و تجلت له معالمهم على بعد أمتار منه،
أنهم األعداء ،و كان يتقدمهم شيخ مسن هو ذلك اليهودي )شمعون( ،و
رآه يشير الى أتباعه بالنتظار بحركة خرساء من يده ريثما يستطلع
الطريق المؤدي الى مكامن المجاهدين ،حتى إذا تحقق من خلوه و
وجود العرب في مكامنهم ،استدرج لهم قائد العرب من كمينه في
حيلة يخدعه بها تمكنه و رجاله من اغتياله و تمزيقه ،فل يلبثون بعد
ذلك أن يحاصروا المجاهدين في مكامنهم ثم يشرعون بقتالهم بغتة
داخل حلقتهم التي سيطوقونهم بها.
كان محمد يرقب حركات العدو من وراء الصخرة التي كمن عندها ،و
ذهنه يعمل بسرعة ،و صيحة انتقام تتصاعد من قلبه الى أذنيه مطالبة
بالثأر من أولئك الغادرين ،و ما إن شهد دليل هؤلء األعداء و هو يبتعد
عنهم ،حتى قفز مسرعا الى حيث تكمن العصابة الصهيونية ،و اقترب
من أحدهم و كان أطولهم قامة و له به سابق معرفة ،و خاطبه
بالنجليزية التي يتقنها ذلك اليهودي – و هو أمريكي الجنسية -فل يفقه
العبرية إل لماما ،همس محمد في أذنه قائل له " :هيا اتبعني أيها
الرفيق ،فدليلنا )شمعون( بعثني في طلبك ،و احذر الكلم لئل يحس
بنا العرب ،فيكتشفوا أمرنا و نحن ل بد على مقربة منهم".
أجابه هذا و عهد به يهوديا مثله " :كيف عرفت مكاننا من هذه البقعة و
أنا لم أرك تسير معنا قبل اللحظة ،و أذكر أني شاهدتك لخر مرة و
أنت ملزم مكانك عند باب قلعتنا مع حرسنا؟".
قال " :ذلك صحيح يا صديقي ،و لكن حدث أن استدعاني القائد األكبر
بعد أن سار ركبكم هذا لحصار العدو و قتاله ،فسرد علي المهمة التي
سرتم إليها ،و سألني أن ألحق بكم عاجل ألمهد لكم السبيل و أكون
عونا لصديقنا شمعون في أداء مهمتنا هذه ،و اكتشاف مكامن العرب
من تلك البقعة التي يممتم شطرها ،ألني أقدم منكم مقاما في هذه
الديار".
كانا يتكلمان همسا و باقي الشلة الثملة في غفلة عنهما ،فلم يعبأ
أحدهم لستطلع األمر الذي يدور بين هذين الثنين ،بل كان كل في
شغل شاغل من أمر مكيدتهم التي أتوا بها لصيد غريمهم قائد العرب
الجريء ،و لبثوا يترقبون عودة دليلهم الشيخ إليهم ،متلهفين على
إشارة يرونها منه ينبئهم بها عن وقوع خصمهم العنيد في الفخ
فيهرعون لذبحه و تمزيقه.
و سار رفيقهم اليهودي دون أن يشعروا به في إثر محمد الذي زعم له
أن دليلهم شمعون بعثه في طلبهم ،و قال اليهودي همسا و هو يتبع
الشاب العربي و لقد لفت نظره تجرد هذا األخير من نصف ثيابه فقال
يسأله " :ما بالك تبدو مجردا من نصف ثيابك؟".
رد محمد فقال " :حدث هذا حين هممت بالمسير زحفا على بطني
أستطلع مكامن العدو ،فما لبث أن انتزعت ثيابي الرسمية عني كيل
أثقل بها كاهلي ،و لكيل يعثر بي أحدهم فيراني بملبسي الصهيوني
فيفتكون بي دون إبطاء".
و ما زال يتبعه حتى أتى محمد مكانه األول عند الصخرة ،فتوقف هناك
و التفت الى اليهودي قائل " :أرى أن تنتظر هنا لحظة ريثما أمضي
فاستطلع لك السبيل قبل أن تجتازه لتكون في مأمن من شر العدو".
فتركه متحول عنه الى أصل شجرة كان قد علق على أحد فروعها
ثياب وليد العربية مع كوفيته و عقاله ،و مكث هناك كامنا وراء جذعها
يرقب حركات شمعون محاذرا أن ل يشعره به ،ثم ما لبث أن رآه
يعود أدراجه الى حيث ينتظره أتباعه فيدعوهم الى التقدم كي يشرع
باستدعاء وليد و استدراجه إليهم.
و هنا تحول محمد فتناول ملبس وليد من فوق فرع الشجرة وكر
راجعا الى حيث ترك اليهودي ينتظر بجانب الصخرة عند سفح الجبل،
حتى إذا ما أقبل عليه ابتدره هذا بقوله " :ما الخبر و قد أراك أبطأت
في العودة إلي؟".
أجابه و هو يتظاهر بالبشر و السرور فقال " :أبشر أيها الصديق ،لقد
تم لنا اغتيال قائد العرب دون عناء و هذا ما أعاقني عن الرجوع إليك
عاجل".
انبسط وجه اليهودي عند سماعه الخبر ،و قال يفرك كفيه جذل
مسرورا " :لقد كتب لخطتنا النجاح منذ البداية كما أرى ،فهل أخبرتني
كيف تم لنا قتل ذلك الخصم العنيد؟".
قال " :لقد كان األمر ميسورا و في غاية السهولة ،إذ التقى دليلنا
شمعون بذلك القائد عفوا و هو يخطر عند سفح الجبل ،فعرفه للحال
حين أبصر به و لم يلبث أن انقض عليه بغتة مطبقا على عنقه بكلتا
يديه ،و ما زال به الى أن قضى عليه خنقا و لم يتركه حتى خمدت
أنفاسه ،و تعاونت معه بعد ذلك في حمله و تركناه ملقى عند قارعة
الطريق جثة هامدة ،دون أن يشعر بنا أحد من رجاله ،و ها هي ذي
ملبسه نزعها شمعون عنه و بعثها إليك لتتنكر بها و تسير إليه في
الحال ،فهو يطلبك عاجل ألمر ينشد استشارتك به قبل أن نشرع
بالقتال بصفتك قائد الحملة ،و أرى أن تعجل بارتداء هذه األردية
العربية من باب الحذر لئل يعثر بك أحدهم و أنت تجتاز الطريق
المؤدي الى رأس الوادي حيث يقف شمعون بانتظارك هناك مع سائر
الرفاق".
ركض الدم في عروق محمد و قال و هو ل يطيق صبرا عن الكلم " :أ
وتظن أن الغلبة ستكون لليهود هذه المرة كما أسمعك تقول؟".
سكت الشاب العربي على مضض ،و لم يشأ أن يجيبه بشيء لئل
يتطور الحال بينهما فينكشف بذلك أمره ألعدائه ،و تفسد خطته التي
يسعى بها في رد مكيدتهم الى نحورهم ،و إل ما توانى عن بقر بطن
غريمه هذا الماثل أمامه و جعل جثته طعاما للنسور و العقبان الجائعة.
ثم سار معه يدله على مكان حامد أو شمعون...و مازال هكذا الى أن
قطعا في المسير بضعة أمتار و أوشكا أن يصل الى ثغر الوادي،
فتوقف محمد إذ ذاك لحظة مشيرا بسبابته الى شبح لرجل مسن
يخطر عند سفح الجبل قائل لليهودي في همس " :ها هو دليلنا يا
صديقي ،سر إليه بصمت و حذر لترى مالذي يبتغيه منك ،و إني
لمنتظر أوامركما مع سائر الرفاق".
ثم انحرف عنه و تركه يسير بخطى حذرة الى حيث يقف اليهودي
العجوز ،بينما طار هو كالسهم ميمما شطره الى مكمنهم عند ) وادي
روشيما( ،و قد شاءت األقدار مناصرته إذ كان وصوله الى هناك في
اللحظة التي يتوقف عليها نجاح خطته هذه أو فشلها ،فما كاد يضع
قدمه وسط كمين قائده الغائب في مهمته ،حتى انبعث صوت حامد
يشق سكون الليل قائل بلسان عربي فصيح و بلهجة الثعلب الذي
يتودد لصيد ثمين ينشد التهامه " :أين أنت من هذه البقاع يا
وليد؟..أمقيم هنا أنت يا ولدي؟ ..و قد أتيت أتلمس طريقي إليك
وسط ظلمة الليل الحالكة".
رد عليه محمد باقتضاب مقلدا صوت وليد فقال " :نعم يا عماه فما
وراءك بالله حتى أتيتني في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل".
قال و هو يتحسس مديته في جيب سرواله " :إن الذي أتى بي الى
هنا يا ولدي و نحن في الهزيع األخير من الليل كما ترى ،أمر هام
أنفذتني به زوجك إليك ،فهل خرجت من مكمنك و جئت ألسرد على
مسامعك رسالة زوجك؟".
أجابه محمد من وراء استحكامه قائل " :لقد أقلقني قولك هذا يا عماه
فانتظرني لحظة و إني لت إليك في الحال".
قال و السرور يغمر قلبه " :حسنا يا ولدي و هاأنذا أقف هنا في
انتظارك".
و سكت محمد بعد ذلك يرقب الموقف في صمت ،و تطاول بعنقه
ينظر الى الطريق الخلفي حيث ترك ذلك اليهودي يسير فيه بعد أن
ألبسه رداء وليد ،و ما كاد يحول رأسه الى هناك حتى شاهد على بعد
أمتار منه شبحا لشاب بكامل لباسه العربي يسير بصمت و حذر و
يتلفت يمنة و يسرة آخذا وجهته الى حيث يقف اليهودي العجوز
فهمس لنفسه وسط مكمنه " :هكذا ترد المكائد أيها األوغاد".
ما كاد شمعون يرى ذلك الشبح يسير ناحيته بقامته المديدة و ردائه
العربي حتى رقص قلبه فرحا ،و لم يكن ليخالجه أدنى ريب من أمر
ذلك الشخص المقبل عليه ،و أيقن بذلك أن الطائر الذي نصب له
شبكة الخداع قد وقع في الفخ ،فلم يعد أمامه إل أن يستعد و رفاقه
لذبحه و تمزيقه ،فما لبث أن التفت الى حيث كان أتباعه كامنين،
ملوحا لهم بإشارة خفية من يده كي يستعدوا للنقضاض على
فريستهم ،ففهم هؤلء مرماه و أيقنوا أن شباكهم قد أتت بصيد ثمين
طالما تشوقوا الى اصطياده ،و أخذوا يتأهبون للنقضاض على غريمهم
و هم يرونه آتيا في طريقه إليهم.
و كان ذلك اليهودي المتنكر بملبس وليد قد أوشك على الوصول الى
رأس الوادي حيث يقف شمعون هناك ،فجعل يخطو ناحيته بحذر شديد
حتى إذا ما بقي بينهما مسافة خمس أقدام ،فوجئ هذا بلطمة فولذية
قاسية تهوى على مؤخرة رأسه باغته بها أحدهم من خلف ظهره ،و إذا
بصاحبه شمعون ينقض عليه مغمدا سكينه في أحشائه ،فجأر على
إثرها مناوها ،و خر ساقطا على األرض يتخبط بدمه ،و راح يحرك يديه
مستغيثا و قد استعصى عليه النطق لفرط آلمه ،و ما زال يستغيث
بحركات من يديه محاول أن يكشف حقيقة أمره لرفاقه ،و لكن
الضعف غلبه فامتنع عن الكلم ،و لم يمهله رفاقه فانقضوا عليه و هم
في جهل من أمره ،انقضاض الصاعقة ،يعملون فيه المدى حتى
خمدت أنفاسه ،و مزقت الحراب لحمه ،و لم يكونوا ليتبينوا أمر
رفيقهم هذا و الليل مسدل نقابه الحالك على الكون يغمره بظلمته
الدامسة.
جزع األطفال لتلك الحال ،و اضطربت النساء ،و تعذر الهدوء على
القوم و تحولت السكينة بينهم الى قلق و بلبال.
و لم تزل تلك الحال حتى كان وقت األصيل ،و أحس العرب فيه بحرج
موقفهم ،إذ نفذت ذخيرتهم و العدو ما زال يمطرهم بوابل قذائفه
الفتاكة و هدير مدافعه تدوي في أرجاء المدينة.
لبست المدينة ثوبا قانيا من الدماء التي أخذت تسيل فرق أرضها
مدرارا تروي ثراها من دماء أهلها.
و تكدست بها جثث الشهداء تمل الشوارع و األحياء ،و كانت مجزرة
حمراء مروعة لم يشهد التاريخ مثلها.
فجزعت سلمى للمر ،و كانت مازالت على جهل من أمر زوجها و
مصيره ،و لبثت تتلقط أخباره كأن حواسها تأبى عليها أن تتصوره ميتا،
فيدب األمل فيها حينا و يتضاءل أحيانا ،ثم ل تلبث أن يتبخر في سحابة
حالكة حتى يغيب فينقطع معه آخر خيط لها من األمل في لقائه،
فتعود هائمة بنفسها في بحر همومها و أحزانها ،فتبكيه بكاء مرا لم
يبكه أحد أحدا.
و باتت صفراء هزيلة لشدة حزنها و نحيبها ،و زادها هول المشهد الذي
تراه في بلدتها و أهلها اصفرارا على اصفرار ،و شاعت عيناها نحو
تلك الجموع المبدد شملها ،فابيض وجهها بياضا شديدا و تقاطرت
حبات العرق الباردة ترصع جبينها ،و هتفت و هي ترتعد و قد تقلصت
أصابعها عند حافة النافذة التي تقف إليها " :رباه..ماذا أرى؟" ..
قالت المرأة و هي تشرق بدموعها " :أجل يا بنيتي ،و لكن ل تبتئسي،
فلن يسمح العرب باغتصاب فلسطين ،و سيأتي يوم يمن الله علينا
بنصره ،فنعود مطالبين بحقنا المغتصب منا ،آخذين بثأرنا من أعدائنا".
تجلت الكآبة من جبين سلمى و غشي الدمع عينيها يتبادر الى السقوط
فينحدر سخيا من مآقيها يغسل وجهها الشاحب بصمت مرير ،فبكت
العجوز لبكائها و تفرست فيها قائلة " :ألست ابنة نجلء؟".
ردت سلمى بصوت خافت " :نعم" .و أضافت قائلة و قد أنست الى
العجوز " :ليتك تمكثين معي يا خالة؟".
فجمدت سلمى مكانها و هي تسمع قول المرأة ،و غاضت الدماء من
وجهها حتى حاكى بلونه الجليد الناصع ،و شاعت عيناها على المرأة
العجوز و هي تجري جازعة مهرولة الى دار ابنتها ،و إنها لكذلك إذ
شاهدت هناك فتاة ل تتجاوز العشرين من عمرها متضخمة البطن يدل
مظهرها على أنها في الشهر األخير من حملها ،تركض مندفعة من
باب بيتها مكشوفة الرأس ،عارية القدم و في أثرها رجل على رأسه
خوذة حديدية و في يده حربة مسلولة براقة الحدين و جعل يركض
وراء الصبية بكل قوته ،حتى إذا ما أدركها أغمد سلحه في بطنها
فبقره و تركها مضرجة بدمها.
و طرق مسامعها في تلك اللحظة خفق نعال غليظة تدب حول بيتها،
يخالطها صليل سلح و همهمة.
فدب الرعب في قلبها ،و همت بطفلها و أخذته بين أحضانها هامسة
في أذنه أل ينبس.
فسكن خالد الى حجر أمه ملتصقا بها ،و جمد الدم في عروق سلمى
و هي تسمع ارتطاما يدب في حديقة دارها و كأن أحدا قفز من فوق
سورها ،فشعرت برعشة شديدة تتمشى في أعضائها و بقلبها يتحدر
الى هوة عميقة ل قرار لها ،و قد تعلقت أنفاسها في جوفها فكتمتها ،و
جعلت تضاعف من شد طفلها الى صدرها و هي ترتعد و أسنانها
تصطك لفرط اضطرابها ،و قد اشتد اصفرارها و جمدت أطرافها.
و تل الرتطام وقع خطوات تلج الى داخل بيتها فل تلبث أن تدنو من
الحجرة التي انكمشت فيها و هي و طفلها ،و كتمت صيحة كادت
تفلت منها ،حين برز لها في عتبتها رجل من اليهود عملق ،خشن
المظهر ،عريض المنكبين كبير الرأس و الوجه ،مدبب اللحية أسودها
صارم الملمح معقوف األنف ،جاحظ العينين أسودهما ،و قد وقف
شعر رأسه األسود على جذوره ،فبدا بمظهره هذا كالوحش جائع
يبحث عن فريسة ،و كان يحمل فوق كتفه غدارة ،و يشهر بيمناه مدية
حادة أشبه بالسيف المسلول.
فصرخ خالد الطفل لهول مظهره دافنا وجهه في صدر أمه ،و لم تكن
أمه أقل فزعا منه و هما يريانه يدنو بخطواته منهما ،ثم توقف قائل
للصبية بصرامة " :الذبح لولدك و ليس لك".
فأنت أنين المطعون و جثت تتحسس جثة ولدها و كانت تختلج بين
يديها و الدماء تنزف من بين أكتافه و رأسه الصغير مدحرج بجوارها و
قد استرخت يداه اللتان كانتا تضرعان إليها منذ لحظة فسكنت الى
جنبه و جفناه مسبلن كأنه ينظر عاتبا على أمه التي لم تتمكن من
إنقاذه.
فأكبت عليه أمه تقبله و تمرغ وجهها بدمه ،و تحتضن جثته الصغيرة و
تلصق بها رأسه المخضب بسيل من دمائه الى أن غسلت الدماء
وجهها فامتزج دمعها بدم ولدها ،حتى لم يعد يتبين الناظر إليها ،أهي
تذرف دما أم دمعا؟ و قد ل يرى إل وجها مخضبا تكسوه طبقة حمراء
من الدماء تقطر مع دموعها من أطراف ذقنها.
بزغ فجر اليوم التالي لمصاب سلمى ،و صحت بصحوة نهاره صاحبة
ذلك القصر تعد عدتها للرحيل و تطوي داخل حقائبها أردية من
الدمقس و الحرير.
و سعاد ما زالت تلزم فراشها على أثر تلك النزلة الصدرية التي ألمت
بها فأقعدتها شدتها مدة أيام لم تدر خللها ما دار حولها بين أهل
القصر و زوج ولدهما.
حتى كان ذلك الصباح الذي اقتحمت فيه امرأة عمها عليها باب
حجرتها قائلة لها باضطراب " :أرى أن تتحاملي على نفسك يا سعاد
بكل ما تستطيعين من قوة لنبرح هذا المكان الى بلد آخر أكثر أمانا و
اطمئنانا ،ثم نعود الى هنا متى هدأت الحال".
قالت هذه و هي تتعثر بالرد " :لقد سقطت المدينة من يد العرب ،و
لم يعد لنا أمل في البقاء بها ،بل أصبح الرحيل ضروريا خشية أن
يداهمنا اليهود على حين غرة فيفتكوا بنا و يجردونا من حلينا و نقودنا
كما حدث أن فعلوا بغيرنا من أهل البلد".
استمعت سعاد لمرأة عمها ،و ما لبثت أن مرت براحتها فوق جبينها
كمن تساءل نفسها :أفي حلم هي أم في يقظة؟..و ردت قائلة " :ماذا
أسمع يا امرأة عمي؟..أسقطت المدينة )حيفا( من أيدينا و استولى
اليهود عليها و أخذوا يطردوننا كما أراك تقولين؟".
أجابت هذه بصبر نافذ " :نعم ،و هيا بنا لنحكم أبواب القصر وإغلق
نوافذه قبل أن نغادره لئل يقتحمه اليهود أثناء غيابنا فيستولوا على ما
بداخله من نفائس و متاع".
امتقع وجه سعاد و زادها الخبر اصفرارا على اصفرار ،و وثبت من
فراشها هزيلة شاحبة تضطرب في وقفتها كغصن تهزه العاصفة ،و
قالت و هي تستند الى قوائم سريرها " :و ماذا عن ابن عمي وليد بعد
أن انقطع رسوله عنا؟".
أجابتها قائلة " :لم نره بعد ذلك قط ،و لم نخبر عنه بحال و ل بد أنه
مقيم عند امرأته بعد أن افترقنا عنها فيأبى لذلك التصال بنا".
ذهلت سعاد لهذا القول ،و قالت مستنكرة " :إن ما تقولينه ليس من
خلق ولدك ،ثم ما الذي حدث حتى افترقت سلمى عنكم و زوجها
يقاتل بعيدا عنها؟".
قالت ظريفة متأففة " :ل يهمك أمرها كثيرا ،كل ما هنالك أنني طلبت
لنفسي الهدوء من صخب ولدها و رسل زوجها التي تدهمنا فل تنقطع
عنا في ليل و ل نهار ،حتى كانت تلك الليلة التي شاهدتها فيها فزعة
مضطربة تخلط في القول و تتعثر باأللفاظ ،و عبثا حاولت و ابنتي أن
نقف منها عن مبعث بلبالها و اضطراب حالها ،فأيقنت بذلك أنها لبد
تكتم عنا أمرا بشأن ولدنا تخشى على نفسها من التصريح به ،و هذا
ما جعلني أطلب إليها النزوح الى دارها تنتظر فيها عودة زوجها ما
دامت قد وافقته على ذلك المصير الذي انتهى إليه".
قالت سعاد عاتبة " :ما كنت آمل يا امرأة عمي أن يبلغ من قسوتك
على زوج ولدك و طفلها هذا الحد من النقمة و الجحود ،و ليس
اضطراب سلمى ذاك معناه أنها أقدمت على ذنب أو جناية ارتكبتها
في حقك و حق ولدك ،حتى تثأري لنفسك منها ،و تعملي على إقصائها
هي و طفلها بعيدا عنا في هذا الظرف المضطرب..إن الذي شاهدته
فيها ،كان دليل على إخلصها لزوجها ،و كتمانها أمره ليس إل حرصا
منها على حياته و هو يقف في جبهة قتال تستلزم مثل ذلك الحذر و
الكتمان و برهانا يشهد على إخلصها له و حفظها سره".
قالت هذه دون اكتراث " :و أي ضير على ابنة نجلء لو أقامت بطفلها
بعيدا عنا ،و أنا ل أجد الراحة و الهدوء بغير هذه الخطوة التي اتخذتها
معها؟ و ابن عمك قد ل يروقه أن تقيم امرأته بيننا ،بعد أن دعوت
صهره للسكن معنا ،مادام ولدنا قد ذهب للقتال و تركنا بمفردنا؟".
فهمت بها امرأة عمها متساءلة و قالت " :الى أين أنت ذاهبة في هذه
الساعة المبكرة؟".
قالت دون أن تلتفت إليها " :الى حيث أرسلت زوج ولدك".
قالت " :عودي الى صوابك يا بنية ،فما زلت محمومة تشكين الضعف،
و لو أصابك برد على حين خروجك في هذا الوقت المبكر من الصبح
ألصبت بمرض ل تبرئين منه".
ردت ظريفة فقالت " :أحذرك ما أنت مقدمة عليه ،و قد تعودين الى
هذا القصر فل تجديننا فيه".
قالت و هي تتابع سيرها " :طيبي نفسا و قري عينا ،فما أنا لكم بعد
اليوم بصاحبة ،و ل لقصركم هذا بعائدة ،فارتحلي مع ابنتك و صهرك
متى شئتم ،و إني لذاهبة الى دار سلمى أنتظر معها عودة زوجها إليها،
و أرى ما كان من أمرها و طفلها في وحدتها ،و في غمرة هذا الظرف
الذي يسود المدينة و أهلها".
مشت سعاد تغادر عتبة ذلك القصر و هي تشعر بنفور ل عهد لها بمثله
نحو امرأة عمها و ابنتها ،و هبت عليها إذ ذاك نسمة باردة من نسمات
الصباح و هي تواجه العراء ارتعشت لها أوصالها المحمومة ،و انتابتها
على أثرها نوبة سعال حادة خارت لها قواها الواهنة ،فتجلدت
مستجمعة شجاعتها و راحت تواصل سيرها في جهد شديد حتى أتت
دار سلمى ،و كان الضعف قد غلبها و بلغ العياء منها مداه ،فاستندت
بجسدها الى سور الحديقة تستجمع شتات أنفاسها و تحبس نوبة
السعال التي انتابتها من جديد فكادت تمزق صدرها.
و شاعت عيناها نحو باب البيت و كان يبدو نصف مفتوح ،فسارت
تلتمس طريقها إليه حتى أتته ،و كان السكون هناك موحشا أشبه
بسكون القبور يخيم على البيت الصغير ،ووحشة سائدة تكتنفه كما لو
كان مكانا مهجورا لم يسكنه قبل اليوم ساكن ،و لم تطأ أرضه قدم
إنسان ،فاستغربت سعاد أمر ذلك الصمت المطبق ،و أرهفت أذنيها و
هي تقف في عتبته ،فلم تسمع حركة و ل نأمة ،و ما رأت شبحا و ل
ظل لنسان يخطر داخله.
فلم يجبها إل صدى صوتها ضعيفا واهيا بين الجدران ،و لحت منها
التفاتة نحو إحدى الحجرات شاهدت فيها قطة بيضاء رابضة عند بابها
تلحس شعرها الطويل فتزيل عنه قطرات من الدماء.
فلم تلق لها سعاد بال ،و سارت الى تلك الحجرة التي ترابط عندها
القطة موقنة أن سلمى و خالدا بداخلها ،و كان باب الحجرة غير
محكم الغلق فتقدمت و دفعته و ما كادت تفعل ذلك حتى طالعها
مشهد كاد هوله يذهب بصوابها ،فصرخت صرخة مدوية ،و سقطت
على وجهها عند باب الحجرة مغشيا عليها.
رأت هناك سلمى تجلس فوق أرض الحجرة محلولة الشعر تكسو
وجهها طبقة داكنة من الدماء حتى لم يعد ظاهرا من معالم وجهها إل
عينان جامدتان في محاجرهما ل تتحولن و ل تطرفان ،كأنهما عينا
ميت ل حياة فيهما ،و جثة طفلها ممدة في حجرها بما فيها رأسه
المقطوع ،و قد تلبد شعره الناعم بمنهل دمائه فجفت عليه و يبست
خصلته ،و أمه شاخصة إليه تنظر الى وجهه المخضب بجمود رهيب
فل تئن و ل تنبس ،و قد جف دمعها و جفت معه الدماء التي غسلت
منذ األمس وجهها حتى أحالته كقطعة لحم حمراء ،و خبا بريق عينيها و
غشيتهما ظلمة قاتمة تنساب من حولها كما تغشى السحب السوداء
كوكبين وضيئين فتحيلهما الى عتمة داكنة تحجب شعاع نورهما و قد
نكست رأسها فوق جيدها الطويل كما تنكس الراية في يوم مشؤوم.
عادت سعاد و فتحت عينيها من غشيتها لترى ذلك المشهد الرهيب ،لم
تلبث أن أدركها الغماء ثانية ،فانكفأت بوجهها عند عتبة الحجرة التي
تجلس فيها الشابة المنكوبة بولدها الذبيح ،و قطتها الوفية ل تلبث
تأتيها بين حين و آخر تتمسح بردائها و تموء مواء موجعا كمن تشاركها
مصابها و تقبل على خالد الطفل الشهيد في حجر أمه تلحس الدماء
عن يده الصغيرة التي طالما حملتها و داعبتها فغدت اليوم مثلجة
باردة يكسوها الشحوب.
و رددت قولها هذا دون أن تسمع الجواب ،و شعرت بعده بثقل
أنفاسها و آلم صدرها تتضاعف و تزداد ،و انتابها على أثره نوبة حادة
من السعال كادت تختنق لها من سحب الدخان التي ازدحمت من
حولها فغطت المكان و أحست بدوار شديد عابت معه فلم تدر ما
صارت إليه حالها من بعده.
على الشاطئ
تطلع هؤلء المشردون الى حيث دوى انفجار هائل ،فشاهدوا هناك
حرائق تندلع من مكان ذلك القصر الشاهق المنيف ،الذي طالما
عهدوه شامخا مرابطا عند سفح الجبل ،لقد تداعى و انهار كما تنهار
الربى و الجبال فتحول الى ركام و أطلل مما فيه من رياش فاخر و
طنافر و أثاث.
فهمت بها من بين الجمع الحاشد صبية في مثل سنها مقروحة العينين
متشحة بالسواد تقول لها و هي تشهد ولولتها و عويلها " :ل تبكي يا
فتاة فليس قصر أبيك هذا أثمن من خسارة الديار ،و نكبتك فيه ل
تفوق نكبة األمهات بأطفالها الذبيحة في أيدي األعداء ،و ل توانيها
قطرة من قطرات الدماء ،فاستجمعي حواسك و انظري فيما حولك
من األنين و الجراح ،و اندبي إذا شئت هذه الجموع من أهلك".
و صمتت هدى متماسكة على مضض دون أن تجرؤ على الكلم بين
هذه الكتل المجروحة ،و أخذ الصفرار يعلو وجه زوجها لتلك الخسارة
التي لحقتهم.
و أقبل على أثر ذلك صبي عربي في نحو الثانية عشرة من عمره
يركض بأقصى سرعته الى الشاطئ الحافل بالمنكوبين العرب ،متلفتا
ما بين لحظة و أخرى الى الوراء و صاح بين الناس " :قد أتيتكم و الله
بنبأ".
رد شيخ ضرير فقال " :قل بالله يا بني ما وراءك و عجل في الكلم".
قال الغلم مشيرا الى القصر المنهار " :كان اليهود قد احتلوا ذلك
القصر منذ الصباح ،و حشدوا فيه جمعا من شعبهم نساء و أطفال و
عجائز و شيوخا يعزفون و يرقصون احتفال بسقوط المدينة ،و تعالى
هتافهم و تعالى معه رنين ضحكاتهم نشوى ثملة تخترق الفضاء ،و
مازالت هذه حالهم حتى أتاهم شاب عربي و هم في غمرة سرورهم،
فأحال هناءهم الى عزاء و دمرهم شر مدمر.
رأيته مديد القامة ،قوي البنيان يرتدي الكوفية و العقال ،في عينه
دمعة غضب و في جبينه صيحة ثأر و انتقام ،و قد أخذ يسرع الخطى
ثم وثب من فوق سور الحديقة في ذلك القصر وثبة األسد المهاج قائل
لي حين أبصر بي :امض بعيدا يا أخي عن هذا المكان.
ثم دلف يشق طريقه بين أشجار الحديقة بخطى ثابتة سريعة دون
خوف أو وجل ،و كمنت بعيدا أرقب مشهد النفجار و أتوقع رؤية ذلك
العربي ،و لكن وا أسفاه لقد تداعى القصر و انهار دون أن أرى
للشاب أثرا بعد ذلك و لم أتبين شبحه من بين سحب الدخان التي
ملت الفضاء كثيفة سوداء".
رد الغلم فقال " :بل يمكنك يا خالة أن تفهمي أن ذلك العربي شاء
نسف اليهود و تدميرهم قبل أن يشاء لقصرك الخراب ،و أما ملمحه
فلم أتبين منها أكثر مما ذكرت ألنه كان ملثما بالكوفية حتى العينين".
لم يطل الكلم بين ظريفة و الغلم ،إذ لمحت المراكب مقبلة تتجه
الى الشواطئ و في مقدمتها مركب كبير هائل عليه علم منكس جاء
مع غيره من السفن لحمل أولئك المنكوبين الى أوطان غير أوطانهم،
و الى أجواء لم يتعودوا حرها و ل بردها ،و هجرة ل يعلم إل الله متى
يعودون منها ،و كم يطول عمرها و أمدها.
أقلعت المراكب تشق طريقها فوق سطح البحر بعد أن حملت ذاك
الحشد المجروح ،و ساد السكون تلك الجموع إل من أنين موجع
يتصاعد من قلوب ممزقة ،و قد اختلط بزفيف الريح ،و تلطم أمواج
البحر و هي تصفع المراكب و الصخور ،و همت بالربان امرأة شيخة،
واهية القوى محنية الظهر مقنعة بالسواد ،تسأله بسذاجة " :أ سترسو
بنا الى شاطئ يافا ،أم عكا يا ولدي؟".
رد الربان " :ليت األمر كذلك يا خالة ،فالبلد الساحلية من أرض
الوطن أشبه بقطعة جمر تتقاذفها قنابل اليهود من كل جنب و ناحية،
و لم يبق من مكان هادئ بأرضنا فلسطين ،إل الجزء الجنوبي ،و أما
مدينة )يافا( فوا أسفاه".
قطع عليه القوم قوله قائلين بصوت واحد " :و ماذا عن مدينة يافا؟".
هز الربان رأسه أسفا كما يفعل الطبيب حين ييأس من حال مريضه و
قال " :إن يافا العزيزة هي اليوم في دورها األخير ،فحين مروري
مساء أمس بشاطئها رأيت قنابل ) المورتر( المضادة و هي تتقاذفها
متتالية في كل نواحيها ،فتنقض بين أرجائها انقضاض الصاعقة ،تفتك
بأهلها و تدمر بيوتهم ،أخذ اليهود يمطرونهم بها من معقلهم في )تل
أبيب( فتمزقهم شر ممزق كما حدث أن فعل األنذال بمدينتنا )حيفا(.
و الحال هنا ،هو اليوم كالحال هناك في نقص الذخيرة لدى العرب.
" و سقوط مدينتنا )حيفا( كان له أثره األكبر في نفوس أهل المدينة
الشقيقة )يافا( .إن النساء من أهالي )يافا( يبتن اليوم مع أطفالهن في
العراء على شواطئ البحر ،تتقاذفهم الرياح ،فتهب عليهم عاتية هوجاء
تحمل ذرات الرمال و رذاذ األمواج تصفع بها وجوههم و تلفح أجساد
صغارهم ،و من بينهم العجائز و الشيوخ و النساء و األطفال و الصبية،
جميعهم ينتظرون رحمة الله و أمره تعالى بهم".
و صمت الربان يرسل بصره على صفحة مياه البحر و الكآبة تعلو
جبينه ،و قد عاد السكون فساد السفينة الكبيرة إل من زفرات حارة و
آهات عميقة ترسلها تلك النفوس الجريحة ،و ما لبث أن تغلب على
ذلك األنين الموجع صوت امرأة تولول محاولة النزول الى مياه البحر
كمن أصابها مس من الجنون.
ثم صمتت فجأة كما لو بوغتت بنازلة نزلت بها شلت كيانها ،فوجمت و
دارت و أدبرت حول نفسها ،فما قامت من جمودها حتى عثرت بحاجز
السفينة فتهاوت بجسدها مستندة إليه ،و استمرت على ذلك فترة
ذاهلة مبهوتة ،و فجأة اختلف شأنها فثارت ثورة هائلة انبعثت من
مكامن نفسها ،فجعلت تلطم وجهها ،فل تلبث أن تقرع صدرها بكلتا
يديها و تغمغم بصوت مبحوح ل يكاد يسمع ،و عيناها تحملقان على
الشاطئ البعيد " :هناك ،هناك نسيت حقيبة من ضمن الحقائب كنت
أودعت فيها كل ما أملكه من مجوهرات و نقود تركتها ملقاة عند
رمال الشاطئ غنيمة ثمينة لليهود".
كانت ظريفة تردد هذه األقوال و قد تشعث شعرها ،و شاعت عيناها
في الفضاء كمجنونة فقدت عقلها ،و هي ترى نفسها ل تملك سوى
الرداء الذي يستر جسدها ،و القوم في عجب من أمرها ،ينظرون إليها
و ل يفقهون من أي طينة هذه المرأة التي شغلت في اختيار أفخم
مركب تبحر عليه يليق بمقامها و قدرها ،كما هو الرأي عندها ،و ما
لبثوا أن تركوها و شأنها شاخصة الى الشاطئ بعينين جاحظتين.
دارت دورة الزمن ،و كان قد مضى على تلك النكبة التي حلت بمدينة
حيفا و أهلها ستة شهور ،و كان قد أعقبها أكثر من نكبة نزلت بأكثر
من مدينة من مدن فلسطين ،و هاجر الناس على أثرها من بلدهم بعد
أن عمل اليهود على طردهم و الستيلء على بيوتهم و اغتصاب
أموالهم.
ساروا متفرقين هنا و هناك بين األقطار العربية و بين البقية الباقية
من أرضهم فلسطين ،فباتوا مشتتين مبددا شملهم ،و تفرقت أسرهم،
و أصبحت الخيام قصورهم و العراء فرشهم ،يتوسدون التراب ،و
يلتحفون ظل السماء داخل خيام ل تحجب عنهم حرارة الشمس و ل
تقيهم برودة الشتاء ،صابرين لحكم األقدار ،مؤملين العودة الى الديار.
و كان منهوكا يبدو عليه التعب و العياء ،تفرس المدير لمكتب شؤون
المهاجرين الفلسطينيين في وجه الشاب الماثل أمامه ،و قد بدا عليه
األسى لحاله ،فهم به مرحبا و دعاه للجلوس يسأله مطلبه.
فشكره ،و إذ أخذ مكانه على مقعد إزاءه مد له يسراه بورقة صغيرة
و هو يقول " :أكون شاكرا لو أفدتني عما إذا كانت هذه األسماء مدونة
عندكم في سجل المهاجرين الفلسطينيين؟".
قال " :نعم ،و أولئك هم أهلي ،قطعت زمنا في البحث عنهم ،طفت
األقطار العربية طالبا مكانهم منها ،و لكني لم أعثر لهم على أثر ،حتى
انتهى بي المطاف الى بلدكم هذا )لبنان(".
ثم تحول عنه فاستدعى أحد موظفيه طلب إليه أن يقوم له بالبحث
بين سجلت المهاجرين عن تلك األسماء التي جاء بها الشاب.
أخذ الموظف المسؤول الورقة و غاب بها فترة عاد بعدها الى مديره
قائل له " :لقد وجدت هناك ثلثة من تلك األسماء محررة في
سجلتنا".
فنزل هذا الخبر على الشاب نزول الغيث في التربة القاحلة ،فأحس
بالراحة و السكينة ،و قال للموظف المسؤول " :هل أفدتني عنوان
أهلي من أرضكم ألسير إليه؟".
فلباه في الحال ،فشكره و سار في سبيله ،و استقل مركبة طلب الى
سائقها أن يحمله الى العنوان الموضح لديه.
آمال ضائعة
نزل وليد من المركبة و سار في طريقه بعد أن نفذ الحوذي أجره ،و
كم كانت دهشته و هو يرى نفسه أمام ذلك الوكر الجميل الذي قضى
و زوجته فيه أياما شاعرية هانئة في الماضي السعيد يوم أن سافر بها
الى جبل لبنان على أثر موت أمها.
هزته الذكرى ،و تسمر في وقفته ينظر الى البيت الصغير ،و كان يبدو
كما عهده بحديقته الصغيرة الملتفة حوله بورودها و زهورها ،و الغللة
الرقيقة من النباتات التي تكسو جداره ،و شجرة الجوز الهائلة ما
زالت قائمة على جانب من سوره.
ثم رفع رأسه و لحت منه التفاتة شاهد فيها امرأة تسير ميممة شطر
ذلك البيت بخطى وئيدة ،تجر قدميها جرا في مسيرها و تبدو مهزولة
مضغضغة ،تحمل بيدها سلة صغيرة فيها بعض أنواع الخضروات.
شخص وليد بعينيه الى تلك المرأة و هي تسير الهوينا متحاملة على
نفسها تقتلع قدميها اقتلعا في مسيرها ،و قال يحدث نفسه و قد
اتسعت حدقتاه " :أليست هي ابنة عمي سعاد؟..و إن هذه التي أراها
تبدو أضعف منها كثيرا و لكن الشبه بينهما شديد".
و صمت برهة يتفرس فيها ،و ما لبث أن انتقل و سار في مواجهتها ،و
إذا هي سعاد بعينها ،و ما كانت قد لمحته و هو يسرع الخطى ناحيتها،
مادا إليها يسراه مسلما..و ما كاد بصرها يقع عليه حتى هزت المفاجأة
كيانها ،و أقبلت عليه و هي تردد بصوت مبحوح " :أخي..أخي..ابن
عمي وليد..حمدا لله على سلمتك يا أخي".
هزت رأسها أن " نعم" و هي ل تقوى على الكلم لختناقها بالبكاء ،و
لم تشأ أن تحطم قلبه مرة واحدة فتباغته بما ينتظره من أخبار سيئة
لحقت بفلذة كبده ،و غيره ممن يحبهم ،قال و قد انبسط وجهه
لسلمة أهله " :حمدا لله ،فذلك ما كنت أرجوه من ربي بعد الذي حل
بنا".
ثم استدرك فقال " :مالي أراك على هذه الحال من الضعف و الهزال
يا ابنة عمي؟".
أجابته بصوت خائر و الدموع تمل مآقيها " :ليس الذي مر بنا حلما من
األحلم يا وليد ،بل كانت هناك مآس شهدناها بأهلنا تكاد قسوتها تذيب
الصخور و تصهر الحديد".
و استطرد " :هيا بنا الى بقية أهلنا ،فالشوق لرؤيتهم قد بلغ و الله
مني مداه".
فلما سمعت قوله ،رفعت بصرها الى وجهه محاولة النطق فخانتها
األلفاظ و ارتج عليها فعادت الى صمتها و إطراقها ،فاضطرب لذلك
أشد اضطراب و قال يضغط قلبه براحة يده " :تكلمي يا سعاد ،فما
بقي للصبر في قلبي مكان".
قالت تطيب نفسه " :ل بأس بها ،و إن كانت الصدمة قد أثرت في
صحتها فأدركها الهزال".
قالت " :هيا بنا فهي مقيمة هناك في ذاك البيت الصغير".
قال دهشا و الدمع مازال يبلل عينيه " :كيف ذلك يا سعاد؟..ألم
تهاجرن معا؟".
فشعر بقلبه يذوب شفقة عليها ،و أدركت سعاد ما يدور في نفسه
بشأنها و هي ترى األسى يلبس وجهه.
فهمت به قائلة بعد أن التقطت أنفاسها المضطربة " :ل يشغلك أمري
يا ابن العم".
قال ":إن حالك يؤلمني يا ابنة عمي ،فما الذي ألم بك؟".
قالت ذلك و مشت ،و مشى هو بأثرها مطرقا خافض الطرف .حتى
إذا أتيا باب البيت ،التفتت سعاد و قالت ممسكة بذراعه " :تجلد يا بن
عمي".
فاصفر الشاب و شحب لونه شحوبا شديدا ،و قال مضطربا " :انطقي
بها كلمة يا سعاد ،هل ماتت سلمى؟".
قال و هو مازال على اضطرابه " :إذن ماذا يا سعاد؟ لقد أفزعني
قولك".
قالت تخبره خبر زوجته ،و قد عاد الدمع يلمع في عينيها " :إن سلمى
اليوم غير من عرفتها بعد أن فقدت ولدها..لقد باتت على أثره هزيلة
شاحبة عاجزة عن أمر نفسها فل تحس بشيء و ل تشعر بما يدور من
حولها".
أطرقت سعاد قائلة بصوت خافت يرتعش " :نعم ،و قد جئت بها الى
هذا البيت الذي طالما أحبته و حدثتني عنه في األيام الماضية عسى
أن ترد لها الذكرى صوابها إل أن هذا لم يغير شيئا من حالها ،و لم يرد
عليها عقلها".
قالت ذلك و انفجرت باكية ،و شاعت عينا الشاب الى البيت الذي
يضم زوجته يتطلع إليه بنظرات تائهة ملتاعة ،و ما لبث أن اندفع الى
بابه ،و ما كاد يدلف الى داخله حتى طالعته زوجته الحبيبة تقف في
أرض الحديقة الصغيرة ،عليها رداء أبيض فضفاض تبدو فيه هزيلة
شاحبة و شعرها الجميل مرسل فوق كتفيها الضامرتين بغدائره
الطويلة ،و كانت تبدو نصف مضفورة ،و قد سرحت طرفها في
السماء تقلب فيها نظرها ،كمن تعد نجومها أو تبحث فيها عن عزيز
فقدته فصعدت روحه مرفرفة الى بارئها.
فاستجمع شتات نفسه ،و عاد فأمسك بيد زوجه ،و خاطبها قائل و
منهل دموعه يهدر فوق خديه " :هاأنذا يا سلمى قد عدت إليك يا
حبيبتي ،أل تعرفينني؟".
قال يخاطبها بصوت ملؤه األسى " :يا الله يا سلمى ،أراك اليوم
تنكرينني و تشيحين بوجهك معرضة عني ،من غير كلمة أسمعها منك
تنعشين بها نفسي المحطمة ،انظري إلي يا سلمى ،و أنا اليوم لم تعد
لي إل ذراع واحدة و األخرى مبتورة ،و ليرحم الله حبيبنا خالد ،و يلهمنا
الصبر و العزاء".
فما إن نطق وليد باسم ولده حتى رأى زوجته قد انتفضت انتفاضة
شديدة و جعلت تتلفت من حولها بنظرات تائهة مبعثرة ،كمن تبحث
عن شيء ضاع منها ،ثم ل تلبث أن ترفع يدها الى جبهتها و تمر
براحتها فوق جبينها ثم تعود فتضرب كفا بكف ،و شفتها بين أسنانها
تقضمها فتكاد تدميها.
قال و عيناه تدمعان و ل تتحولن عن سلمى " :أو هكذا حالها دائما
صامتة شاردة ل تنبس؟".
قالت " :بل كثيرا ما تنتابها ثورة بكاء جامحة تنساب معها األلفاظ من
بين شفتيها تسابق انهمار دمعها".
قال يلهث بأنفاسه " :أريدها تبكي ،ليتها تثور..إن هذا الحزن البليغ
الصامت يكاد يقتلها".
قالت سعاد " :إن هذا الضيق ،و ذاك الرتباك اللذين يبدوان عليها الن
هما نذير ثورة تكاد تنتابها فاذهب أنت لتستريح من عناء السفر ،و
دعني ألمرها".
قالت سعاد تخفف عنه " :هون عليك ،فليس هذا حالها دائما ،بل كثيرا
ما تنقضي عليها أيام تكون فيها عاكفة تمارس هوايتها المعهودة في
رسم اللوحات على مناظر مختلفة ،و قد أعدت من اللوحات الزيتية
منذ هاجرنا الى هذه الديار حتى الن أربعا ،كانت جميعها مثال الروعة
و التقان".
قالت " :ل يدهشك هذا منها..إن المناظر التي سجلتها سلمى في
لوحاتها تلك كانت جميعها من المناظر الدامية التي تشهد على ما هو
كامن في نفسها و تأثرت به و انطبعت صورته بمخيلتها ،فما عادت
تذكر في دنياها شيئا سواه ،فكانت لوحات ضخمة لها قدرها و قيمتها
الفنية".
قالت بصوت خافت و هي تطرق برأسها " :لقد بيعت يا ابن عمي ،و
من ثمنها انفق اليوم على قوتي و قوت سلمى ،بعد أن تركنا ألمك و
في قصر أبيك كل ما نملكه".
ذهل لقولها و قال " :هل لي بذلك أن أفهم يا سعاد أن أمي عملت
على طرد زوجي؟".
قالت ذلك و رفعت منديلها الى فمها تحبس نوبة السعال التي عصفت
بها و كانت شديدة حادة في هذه المرة نفثت لها كثيرا من الدماء
بصقتها بقعا حمراء امتزج معها لعابها ،مما أثار حزن ابن عمها و
شفقته عليها،
فخف متحول عنها ليأتيها بقطرة ماء تسكن بها ثورة صدرها ،و حين
عاد إليها بكوب ماء رأى زوجه تدنو من سعاد محملقة في تلك البقع
الحمراء التي نفثتها رئتاها قائلة و الدمع يترقرق في عينيها:
" الدماء...الدماء هناك شاهدتها تسيل قانية حمراء ملت المكان من
حولي..و تقاطرت تسبح بها جثته الصغيرة ،انغمست معها خصلت
شعره الناعمة الجميلة..فيا الله ما كان أكثره حبا ألمه و ما أكثرني
حنانا و عطفا عليه ،ذلك العزيز الذي اختطفته يد المنية مني..و
اثكلتني به و أبعدته عني ،جميل يانع قصفته سكين الذابح كما يقصف
المنجل عنق الزنبقة الشذية..ليته يعود إلي أو أذهب أنا إليه...متى و
أين؟..أبحث دوما و دوما أبحث عنه..فل أجده إل أثرا بعد عين..لبث
معي هناك و طول الليل..أضمه و أحنو عليه..أكلمه فل يرد علي..قبلته
و هتفت به و عبثا حاولت...تحسسته و إذا هو مثلج..مخضب
بالدم..ندبته و ضممته و أنا ل أرضى له الدفن..فالقبور باردة مظلمة
أخشى عليه رهبتها و أخشى على نفسي فراقه..أواه ،كم كان فزعا
جزعا كالطير يكره الذبح..و كم من طيور أحبها فأطلقها مخافة عليها
من الذبح..ولداه..مد إلي يده الصغيرة ضارعا مستنجدا يصرخ
مستغيثا ) ..أماه..أماه..خذيني إليك يا أماه( فسبقتني السكين
إليه..قطعت عليه صوته الحبيب الى قلبي..و تدحرج لها رأسه الجميل
تحت قدمي..و نجعت الدماء تنهل من حول عنقه..و آه لي و لهفي
عليه..ليتني لم أكن أمه و ليتني ما ولدته".
نظر إليها كالتائه و قال و العرق يبلله " :لقد ذبح األنذال ولدي في
حجر أمه ،و قد ذهب هول الجريمة بصوابها".
أطرقت سعاد تشرق بدموعها و هي ل تجد ما تقوله بعد أن انبلجت له
الحقيقة في مقتل ولده الطفل شر قتلة ،و كان الهياج قد بلغ في
نفس سلمى مداه ،فجعلت تكرر قولها عن المذابح و الدماء ،و قد
انتابها ثورة بكاء جامحة كانت تنتفض لها انتفاض الطير الذبيح،
فاندفع إليها وليد و هي ترتجف في وقفتها و تلقى رأسها فوق صدره.
و مازالت تلك حالها حتى أدركها العياء فنامت.
همست سعاد إذ ذاك" :حمدا لله الذي غلبها النعاس فنامت ،و عهدي
بها أنها لو انتابتها ثورة بكاء كهذه لم تسكت عنها الساعات الطوال،
فهيا نودعها فراشها ،و امض أنت لتستريح".
و دلف بها الى حجرة هناك كانت حجرتهما في األيام الخالية ،يوم أن
أتيا ذلك الكوخ الجميل فأقاما فيه فترة من الزمان ،رأى هناك سريرا
عليه أغطية بيضاء ،و في ركن الحجرة مقعد بجانب منضدة صغيرة،
تناثرت عليها أدوات الرسم و أنابيب األلوان ،و في الركن الخر أريكة
متواضعة تغمرها أشعة الشمس المطلة عليها من فجوة النافذة
القريبة من سرير سلمى.
فراح يجيل الطرف فيما حوله ،و يرقب سعاد وهي تسبل الغطاء على
زوجته في مضجعها ،و همس يحدث نفسه و عيناه شاخصتان الى
وجهها الشاحب " :يا لضياع تلك النفس الكريمة".
فخف إليها يحمل عنها ما أتته به ،و شكرها قائل " :ليس بي حاجة الى
الطعام يا سعاد".
و كانت سعاد قد لمحت انقباض نفسه ،فأغضت قائلة " :بل أرى أن
تأكل و لو قليل ،فأنت مقبل من سفر بعيد و قد أدركنا األصيل و أنت
مازلت بل طعام و ل شراب ،هيا خذ طعامك و لو من أجل سلمى".
فغص بريقه و قال مغضيا يحبس دمعه " :و سلمى ،أل تأكل؟".
قالت " :من عادتها أنها ل تقدم على الطعام إل إن أعياها الجوع فتأكل
منه مضغتين أو ثلثا ،ثم ل تلبث أن ترفع يدها عنه ،و هذا مما يزيد من
ضعفها و هزالها،
و ليس هناك من يعني بأمرها أكثر من ذلك لكوني أعمل جهدي في
البتعاد عنها مخافة عليها من العدوى".
ثم استطردت هامسة حين لمحت سلمى تتململ في مرقدها ،و تشق
جفنيها متلفتة حولها " :ها هي ذي قد استيقظت ،فامض إليها و تناول
طعامك بجانبها ،وسأذهب أنا فآتيها بطبق آخر من الطعام عسى أن
تقدم عليه معك".
وضع وليد صفحة الطعام على المقعد بجانب سرير زوجته و جلس هو
على حافة الفراش ممسكا بيدها ينظر إليها متألما لحالها و هي تحدق
به و ل تعرفه ،ثم تحول و أتاها بالطعام ،و راح يطعمها كما تطعم األم
طفلها العزيز ،فأطاعته و لم تمانع ،و جعلت تأكل من يده كل ما يأتيها
به ،فانتعشت نفسه و هو يلمس منها هذا القبال على الطعام ،و ما
زال بها حتى شبعت فأعرضت فأتاها بالماء فشربت ،و صمتت تعبث
بزر سترته ،فهمس لها و يده قابضة على يدها " :أل يذكرك هذا
المكان بشيء يا سلمى؟".
فرفعت بصرها الى وجهه ،ثم راحت تتلفت حولها كأنها تبحث عن
محدثها ،فقال يحدث نفسه و األلم يعصر قلبه " :وا أسفاه ،إنها لم
تعرفني .لقد نسيت ذلك السم و صاحبه ،وما كان أجمله من فيها و
هي تردده بصوتها الصافي الرخيم ) وليد(".
و سكت ليراها قد ارتجفت على أثر قوله ،و انطلقت عيناها في
الفضاء و أخذت تهمس " :وليد..وليد..ذهب بعيدا عني و تركني وحدي،
فما رجع إلي ،و ما رأيته بعد أن فارقته قط".
فكاد قلبه يثب من بين ضلوعه و هو يراها تردد اسمه ،و قال لهثا و
هو يرفع وجهها بأطراف أنامله " :بل هاأنذا بين يديك يا سلمى ..أنا
وليد..حاولي أن تذكريني".
ثم صرخت صرخة مدوية و عيناها مثبتتان على وجه زوجها كأنما خيل
إليها أنه ذلك السفاك قاتل ولدها ،ثم ما لبثت أن انكفأت على وجهها
دافنة رأسها بين وسائد فراشها.
وهب الشاب مستويا على قدميه و قد اصفر وجهه حتى حاكى في
لونه اصفرار وجوه الموتى ،و جاءت سعاد تتعثر بخطواتها على أثر
تلك الصرخة التي ندت عن سلمى و لمحت ابن عمها مسمرا في
أرض الحجرة ينتفض.
و قعدت سعاد بالقرب منه على بساط صغير و جعلت رأسها ملقى
فوق كفها المهزولة .و إذا هي تسمع ابن عمها يساءلها و هو مسبل
جفنيه و رأسه متكئ الى ظهر مقعده " :هل قصصت علي قصة زوجي
مع أهلي يا ابنة عمي؟".
صمتت سعاد لحظة راحت من بعدها تسرد على مسامع ابن عمها ما
وقفت عليه من أمر زوجه مع أهله الى أن حملتها مهاجرة بها الى
أرض لبنان ،و هو مصغ إليها صامت إل من آهة حارة يطلقها من
أعماقه بين آونة و أخرى.
ثم أخذت تجاذبه أطراف الحديث ،و مازالت به تحادثه و ترفه عنه
حتى مالت الشمس الى خط المغيب ،فهبت عليهما إذ ذاك نسمات
الغروب بعثت برودتها القشعريرة الى نفس سعاد.
فرفع بصره الى السماء و إذا هي جميلة صافية ،قبة زرقاء تتلأل في
كبدها النجوم فضية مشرقة كأنها أحجار الماس النفيس تتناثر على
ثوب عرس سماوي اللون شاسع الذيل ،و أطل القمر بدرا يسطع
بنوره كأنه وجه العروس الحسناء صاحبة الرداء المرصع تحيط بقرصه
كواكبه المتألقة إحاطة الحسان بالغادة الفاتنة ،فآلمته الذكرى ،و عاد
خافض الطرف ،ثم نهض ليرى حجرة زوجه مضاءة و هي جالسة أمام
منضدتها تمسك بريشتها و تجري بها فوق لوحة جديدة شرعت
تصورها ،فمشى إليها و وقف بباب الحجرة يرقبها صامتا ساكنا خشية
من ثورة تنتابها بعد الذي شاهده منها في يومه هذا ،و لحظ عليها
اضطراب أنفاسها و احمرار عينيها و ذبول جفنيها ،و رآها تطلق آهة
رقيقة بين لحظة و أخرى من بين شفتيها و ل تلبث أن تدفن رأسها
بين راحتيها ثم تعود فتتابع رسمها ،فتفرس فيها و حدثته نفسه أنها
تشكو صداعا يؤلمها تعجز عن ذكره و تفسيره.
فقلق لذلك ،و مشى إليها يحس جبهتها ،و إذا هي ساخنة ملتهبة تكاد
حرارتها تصلي كفه ،فجزع عليها جزعا شديدا أقامه و أقعده ،و ود لو
يمكنه تحويلها عن متابعة رسم لوحتها ليتسنى لها الرقاد و الراحة في
فراشها و احتار في أمره و هو ل يدري كيف يحسن تصرفه معها دون
إزعاجها ،و من غير أن يثير عليها أعصابها..و لبث واقفا بجوارها قلقا
مرتبكا و األسى يمل قلبه ،و قد فاضت آلمه ،و أشعرته حاله بعجزه
عن احتمال مصابه.
و إذا مر بباب الحجرة التي فيها سعاد طرق مسامعه أنين خافت
ينبعث من هناك ،فقلق لذلك و تقدم فقرع الباب بأطراف أنامله،
فسمع صوتا واهيا يقول " :أهذا أنت يا ابن العم؟".
قال" :نعم".
فدفع الباب و دلف الى الداخل ،و رأى ابنة عمه منكمشة في فراشها
و قد لفت رأسها بخمار ثقيل و ألقت على منكبيها دثارا أحكمت به لف
جسدها ،و على الرغم من تلك األغطية الثقيلة ،كانت مثلجة األطراف
ترتجف تحت دثارها و أسنانها تصطك ،و قد شحب لونها شحوبا شديدا
ابيضت له شفتاها ،و صفرة داكنة تخالط بياض عينيها ،فهال أمرها
لبن عمها ،حين رآها على تلك الحال ،و قلق لذلك قلقا عظيما ،و
ابتدرها قائل " :أرى أن أدعو لك طبيبا يداوي حالك".
انحدرت بعينيها الى الفراش و قد مرت بشفتيها ابتسامة باهتة " :ل
أظنها إل نهاية العمر قد دنت يا ابن العم فما من طبيب يمكن أن يرد
علي صحتي و ينتشلني من هذا الداء الكامن في صدري".
تأثر لحاها و قال " :بل سيكتب لك الشفاء بإذن الله و ل يأس من
رحمته تعالى يا سعاد".
سكتت مطرقة تعبث بطرف ردائها ،و تحول هو عنها فترة عاد بعدها
يحمل بيده قدحا ،و أقبل عليها قائل " :إليك بهذا القدح الدافئ من
الشاي ليرد الحرارة الى بدنك ريثما آتيك بالطبيب".
فشكرته و تناولت من يده القدح الذي جاءها به و أخذت ترتشفه و
هي تنتفض في فراشها ،و مضى هو يدعو لها طبيبا ،و لم ينقض وقت
قصير حتى عاد يرافقه الطبيب فقاده الى حجرة سعاد.
و لبث وليد عند باب الحجرة منتظرا قرار الطبيب في حالة ابنة عمه،
حتى إذا فرغ هذا من الفحص عن العليلة خرج من مخدعها ،فتلقاه
وليد بالسؤال عما وجده في حالتها ،فهز رأسه آسفا و قال " :إنها في
فترة النهاية ،و خير علج أراه لتسكين آلمها هو النتقال الى مصحات
الجبل تتعاطى علجها هناك تحت إشراف األطباء".
انتقلت سعاد الى مصحات جبل لبنان بعد أن ودعت ابن عمها داعية
لسلمى بالشفاء و قد مكثت هناك أسبوعين لم ينقطع فيهما وليد عن
زيارتها ،و قد لحظ في أثناء ذلك أن حالة ابنة عمه تسير من سيء
الى أسوأ.
و أما هي فكانت ل تكاد تلمحه آتيا لزيارتها حتى تتحامل على ألمها و
تلقاه هاشة باسمة و تبتدره بالسؤال عن سلمى؟..فيجيبها محزونا" :
إنها مازالت على حالها ،تهرف و تثور و تبكي ،ثم تنام بعد ذلك
منهوكة".
فتطيب نفسه و تمنيه بشفاء زوجه ،و كانت هذه آخر كلماتها إليه لخر
مرة عادها فيها ،إذ انتقل إليه خبر موتها في صبيحة اليوم التالي لتلك
الزيارة فصدم لذلك صدمة شديدة و هزه الخبر فبكاها بكاء األخ أخته
الرؤوم ذارفا عليها الدمع السخين.
اللوحة الدامية
مرت بضعة أيام على موت سعاد كان فيها وليد كئيبا منطويا على
نفسه يعنى بأمر زوجته دون أن يلقى بال للوحتها التي كانت تبعث
الحمى في أوصالها كلما راحت تتابع فيها رسمها و تصوير مناظرها،
حتى كانت آخر مرة جلست فيها سلمى أمام لوحتها هذه تعمل بعض
اللمسات الطفيفة في ألوانها بعد أن أنهت تصويرها ،و مازالت بها الى
أن فرغت من إعدادها ،فألقت بريشتها جانبا ،تنظر الى لوحتها و
تحملق فيها ،و كانت مصورة تصويرا بارعا ،مثال للروعة و التقان.
رأى هناك صورة ابنه الطفل الشهيد مخضبا بدمه ،و قد انفصل رأسه
عن جثته الصغيرة ،و جفناه كأنهما مسبلن ،و وجهه الجميل لوثته
الدماء و اختلط بخصلت شعره ،و رجل عملق رهيب المظهر يقف
بالقرب من الجثة وسكينه مشهر في يده يقطر من حدها الدم ،و فتاة
حسناء راكعة بجوار جثة طفلها محلولة الشعر تنساب من مآقيها
الدموع تخالطها قطرات من الدماء ،فاصفر الشاب و جمدت عيناه
على صورة ابنه الذبيح ،و طلب البكاء فامتنع عنه و استرسل عرقه و
هم متقاطرا يغسل وجهه و ينضح مرصعا جبهته.
و جعل ينقل بصره متوجعا ملتاعا ما بين وجه سلمى الذي ضرجته
الحمى بحمرة قانية ،و بين لوحتها الهائلة الدامية.
و رآها تتململ برأسها فوق ظهر مقعدها ،مسبلة جفنيها تتأوه و تهذي
باسم زوجها و ولدها ،فجثا بجانبها آخذا بيدها و يبللها بدموعه التي
انفجر بركانها ،و أحس براحتها ساخنة ملتهبة كجمرة تكاد تصلي كفه،
فزاده الحال قلقا ،و خاف عليها وطأة هذه الحرارة المندلعة في
أعضائها فهم بها و أودعها فراشها و انكفأ راجعا يدعو لها طبيبا يعالج
حالها.
و ما لبث أن عاد يرافقه الطبيب ،فقاده الى حيث ترقد زوجته ،و
كانت مازالت غارقة في هذيانها ،تتلوى في فراشها تحت وطأة الحمى
التي أخذت تلهب جسدها النحيل.
و أقبل عليها الطبيب يفحصها فحصا دقيقا ،و كان وليد قد شرح له
حالتها و هذيانها،حتى إذا ما أنهى الطبيب فحصه ،التفت الى وليد الذي
كان يرقبه قلقا ،و قال له " :إنها مصابة بحمى مخية ،و تحتاج الى
سهر و عناية دقيقة و أل تبرح فراشها في أثناء العلج ،خشية من
نكسة تدركها فيسوء حالها".
انقضت على ذلك بضعة أيام ،و سلمى ملزمة فراشها ل تبرحه ،غائبة
في لجة الحمى التي اعترتها ،و زوجها فوق رأسها ل يبرح مكانه ،يعنى
بأمرها و يمدها بالدواء حسب أوامر الطبيب.
و ذكر في تلك الساعة ولده و وطنه و ما آلت إليه حاله ،فزاد ذلك من
ضيق صدره و شقائه ،و تراكمت عليه همومه .فهاج لها وجده مطلقا
األعنة لدموعه ،حتى أدركه التعب فأخذته سنة نام فيها فوق مقعده،
ملقيا برأسه الى ظهره ،فما صحا من غفوته هذه إل على صوت نهنهة
مكتومة..فتح عينيه على أثرها ليجد زوجه جاثية بجوار مقعده ،تهتز و
تضطرب ،و تنظر الى وجهه نظرتها الحبيبة المعهودة ،و يسراها
ممدودة تتحسس يمناه المبتورة.
ذهل في بادئ األمر،حتى كادت المفاجأة تذهب بلبه ،و حسب نفسه
في حلم ل في يقظة لما يراه من غرابة و دهشة ،و عاد و فرك عينيه
كمن يستشهد وجدانه ،فما رأى نفسه بحالم و ل بصره بكاذب ،و لما
رأت هي منه هذا الصمت و الجمود،خيل لها أنه واجد عليها فمدت إليه
يدا هزيلة ضارعة ترتجف و العبرات تخنقها ،فمال عليها و أنهضها من
رقدتها.
فسكنت برأسها الى كتفه ،و همست بصوت مجهد تخنقه الدموع ،و
يدها مازالت تتحسس ذراعه المبتورة " :وليد أحي أنت؟".
ما كاد يسمعها تخاطبه بلهجتها الحبيبة ،حتى ازداد دمعه انهمارا و ألجم
النفعال لسانه لعظم فرحته بها ،و عادت فهمست ترنو الى وجهه و
رأسها متوسد صدره " :هل سامحتني يا وليد؟".
قال متوسل و هو يخشى عليها ذكر الماضي و تأثيره فيها " :ل تعودي
الى ما فات بالله يا سلمى و ل تذكريه أبدا".
قالت بصوتها الواهي الضعيف " :أل تراني أتيت أمرا يخجلني ،و إن
كنت مرغمة فيما أقدمت عليه؟".
قالت بصوت واه " :آه صدقت ،حقا إنني مريضة لما أحسه و أراه من
هزال جسمي و انهيار قواي".
ثم صمتت لحظة تجيل الطرف من حولها ،ثم ما لبثت أن قالت في
همس ":ألسنا في ذلك الكوخ الجميل من أرض لبنان يا وليد؟".
قالت " :و ما الذي دعاك للتخلف عن مواقف القتال و المجيء بي
الى هذا المكان؟".
قالت بصوت محموم " :إني ل أفهم ما تقول ،و إن كنت أرى في
قولك هذا ما يفزعني ،فهل معناه أنا كنا الخاسرين و الغلبة كانت
لليهود المغتصبين".
قال مموها مخافة عليها من الصدمة " :ل ،ل ..إنما أعني بذلك أن
الطبيب وصف لك هواء جبل لبنان و هذا ما جعلني آتي بك الى هنا ،و
ل نلبث أن نعود الى ديارنا متى كتب لك الشفاء".
فتفرست به لحظة ثم هتفت بلهفة " :و خالد ابننا الحبيب ألم تحمله
معنا يا وليد؟".
أغضى لئل ترى دمعه و قال " :بل هو في رحلة الن مع ابنة عمي
سعاد سافرت به الى إحدى الضواحي القريبة منا".
زفرت و قالت عاتبة " :أما كان األجدر أن يلبث ابني بجانبي بدل من
أن تبعده عني و أنا في شدتي هذه؟..و قد أموت قبل عودته إلينا فل
أراه بذلك أبدا".
هزه قولها و قال مضطربا " :إن لقولك هذا وقع السهام في نفسي يا
سلمى ،قترفقي بي و اشفقي على حالي و ل تذكري كلمة الموت
أبدا".
فلما سمعت كلمه ،استعبرت باكية ،و قالت تدفن وجهها في صدره" :
أواه كم قاسيت باحثة عن هذا الصدر الرحيم ألجأ إليه يوم أن همت
في ليلة ليلء يكتنفني الظلم و تتقاذفني الشظايا و ابني محمول فوق
ذراعي و الرعب يخلع قلبي ،أعدو تارة و أتعثر أخرى ،كأن أشباحا
رهيبة مروعة تتأثرني فتكاد تنتزع روحي من بين جنبي".
قالت ذلك و أجهشت تبكي متشبثة به ،كأنما تخشى فراقه لها ،و قد
عل شهيقها فأخذ يسكن من روعها و قلبه يذوب حبا و عطفا عليها ،و
هي تنشج فوق صدره و ترتعش كعصفور تائه كسير الجناح اهتدى الى
عشه بعد أن قطع في سبيله الفيافي و القفار ،فاستكان إليه متعبا
لهث األنفاس.
و سكتت تنظر إليه و يدها على قلبها في انتظار جوابه ،أجاب و كله
جزع عليها لما يراه من أمرها و اضطرابها فقال " :سكني روعك يا
حبيبتي ،و ما هذا الذي تتحدثين به إل أضغاث أوهام تتخيلينها من تأثير
الحمى في نفسك".
سكنت تنظر الى وجهه نظرة التائه الحائر ثم قالت " :و لكن هل أنا
واهمة يا وليد فيما ذكرته عما كان من أمري مع األعداء ،و إرغامي
على الفضاء بأمرك إليهم؟ ثم ذلك الرجل )حامد( إنه يهودي و الله يا
وليد..تلك حقيقة أذكرها فما هي وهم و ل هذيان ،وبعد ،ألم تطردني
أمك في تلك الليلة؟..ثم ابني بربك قل أين هو يا وليد؟".
قال يهدئ روعها " :قلت أنه رافق ابنة عمي سعاد في رحلتها ،فلم
كل هذا الضطراب يا حبيبتي؟".
سكتت تتلفت من حولها كمن لم يقنعها قوله ،ثم قالت تحدث نفسها:
" من لي بمن أهبه عمري على أن يذكر لي الحقيقة التي أجهلها
بابني؟".
قال " :صدق ما أقول و الله يا سلمى ،فخالد و سعاد معا و أقسم
على ذلك".
ثم سكتت و أشاحت بوجهها كأنها تطرد عن ناظرها تلك الرؤيا التي
تتحدث عنها ،و زوجها يرقبها خلسة وأجفا في نكسة تدركها و هو يراها
تطارد الماضي و هي بين مصدقة و مكذبة ،فزاد خوفه و قلقه عليها
صمتهها و جمودها،
كأنما ذهبت في تفكير عميق تستعيد به الذكرى التي يخشى تأثيرها
على عقلها الوليد ابن اللحظة.
و كذلك ظل يتقلب فترة بين القلق و الفزع حتى رآها تعاود النظر الى
وجهه بعينين يترقرق الدمع في إنسانيتهما و تقول " :ما لي أراك كئيبا
مهتما يكسوك الشحوب؟ و هذه الغنة الحزينة التي تلون أوتار صوتك
متخللة نبضاته الجوهرية الصافية؟ و تلك الكآبة التي يتشح بها الجبين؟
و ما بال هذه النظرة الذابلة التي انكسر عليها جفناك في أسى
دفين؟".
قال يرنو عليها " :الحياة الواحدة ل تنقسم الى حياتين يا سلمى لتسير
كل منهما في استقلل عن األخرى ،و الروح ل تمكن تجزئتها الى
جزئين ،كما أن القلب ل يشطر نصفين ،ليعيش النصف منه جذل
طروبا و الخر كئيبا محزونا ،فما بك بي و الذي تشعرين به أشعر به،
فعلتك علتي و ابللك سعادتي ،أنت لي كالهواء الذي أتنسمه و الماء
الذي أستقيه ،و ما أشبهني بتربة خصبة أنت قطرات غيثها ،فلو أن هذا
الغيث انقطع عن تربته الطيبة ،ليبست أرضها و جف طينها و
استحالت بيداء قاحلة جرداء ل ينمو فيها عشب و ل يجري فيها ماء ،و
أما ذراعي هذه المبتورة ،فل يبكيك أمرها يا سلمى ،فهذا أقل ما
أمكنني أن أناله من أوسمة الجهاد".
فلما سمعت قوله أطرقت ،و لحظ أنها ترتعش في جلستها و ركبتاها
تصطكان ،فهم بها قائل " :إنك ترتجفين بشدة يا حبيبتي ،فالزمي
فراشك ليتسنى لك الراحة و الرقاد".
فهزت رأسها و همست " :أتركني بربك قاعدة هنا الى جوارك ،إني
أحن إليك و الى ماضينا في أرضنا و ديارنا حنين الرضيع للثدي بعد
الفطام".
فقبل جبينها و قال " :كم أود أن يطول بنا أمد قعودنا في جلستنا هذه،
لول أني أخشى تأثير ذلك على صحتك".
فأطاعته و انتقلت الى فراشها فأسبل عليها غطاءها ،ثم جلس على
حافة الفراش يحادثها و يده في يدها حتى غلبها النعاس فنامت.
و لما رآها ذهبت تغط في نومها هرع في الحال الى لوحتها تلك التي
تصور مذبح ولدهما ،فأخفاها في ركن قصي من المكان بعيدا عن
ناظريها ريثما ينبلج الصبح فيعمل على إقصائها،
ثم عاد و اضطجع بجنبه الى األريكة المقابلة لسرير زوجته و هو
ينتفض تأثرا لذلك المشهد الدامي الذي يصور مقتل ابنه الطفل ،و ما
لبث أن تهجم وجهه و بكى ولده الذبيح بكاء مرا ،حتى أعياه األمر
فأخذته سنة من النوم استغرق لها في سبات عميق ،لم يصح منه إل
على ملمس أنامل رقيقة تمر على جبهته الشاحبة ،و دمعة ساخنة
ندت على خده تنبهت لها جوارحه ،فهب على أثرها من رقدته ليجد
النهار قد مل الفضاء و زوجه تقف بجانبه تهتز و ترتعش بعودها و تقول
عاتبة " :ويحي يا وليد ،إنك تقتل نفسك من أجلي أيها الحبيب ،أو هكذا
تقضي ليلك بل دثار من أجل أن توفر غطاء لي؟".
قالت " :و هل يهمني أمرك و سلمتك و أنا أراك على هذه الحال من
الشحوب و الهزال؟".
قال يسكن ما بها " :ليس هذا الذي ترينه بي سوى تعب يسير ل يلبث
أن يزول عني فيعاودني نشاطي و قواي".
ثم راح يحادثها ذاهبا معها مذاهب شتى في الحديث ليسري عنها،
فهدأت نفسها للطف حديثه و تقبلته بالرضا و البتسام ،و إذ اطمئن
قلبه عليها انصرف بذهنه الى تلك اللوحة التي أودعها باألمس حجرة
ابنة عمه الراحلة يفكر في إبعادها عن مكان زوجه و التعجيل في
إخراجها خارج البيت ،فنهض قائل " :هل أذنت لي زوجتي الحبيبة
بالنصراف لحظة الى سوق القرية".
مرت بشفتيها ابتسامة هادئة و قالت " :لم ذلك؟".
صمت لحظة ثم قال " :لشراء بعض المأكولت ،فما من يوم شعرت
فيه بالجوع منذ جئت الى هذا المكان مثلما شعرت هذا الصباح
بحاجتي الى الطعام".
قالت و قد صدقته في زعمه " :امض بحراسة الله ،و اشتر لنفسك ما
تشتهيه من ألوان الطعام ،و لول ذلك ما تركتك تبتعد عني لحظة و أنا
أراني أشعر هذا الصباح بانقباض شديد في صدري ل أدري سببه"
تحول إليها و قال " :ليس هناك ما يعوقني عن الرجوع إليك عاجل".
ثم انحنى عليها و قبل جبينها ،فأمسكت بيده تستوقفه قائلة " :متى
ستعود سعاد بخالد إلينا؟".
ازدرد ريقه و تماسك يكاتم نفسه مرارتها و قال محاول جهده أل تلحظ
في غنته ما يعتمل في صدره من األسى و اللوعة " :ل بد أن يصلنا
كتاب من سعاد في وقت قريب تخبرنا فيه موعد قدومها و الحبيب
خالد إلينا".
تنهدت و قالت " :لست أطيق صبرا على ذلك يا وليد فشوقي لبني
بلغ مني مداه ،و إنني قلقة جدا عليه فإن لم نأخذ اليوم أو غدا كتابا
من سعاد أرى أن نكتب إليها نتعجل قدومها هي و خالد الى هنا".
أغضى و قال يخفي لواعج قلبه الجريح " :ليكن ما تشائين ،و رجائي
إليك يا سلمى أن تطمئني و تشاركيني الهتمام بأمرك ،فل تجهدي
أفكارك و ل تبرحي مكانك من فراشك".
همست و هي ترنو بعينيها الجميلتين الى وجهه " :لن أفعل إل ما
تريد".
الكتاب والسائل
و إنها لكذلك إذ سمعت طارقا على بابها يقول " :بريد" ثم لمحت
رقعة بيضاء رقيقة تطل من تحت مفرق الباب تبينتها فإذا هي كتاب
مختوم ،فنفضت عنها غطاءها نفضا ،و هرعت إليها تلتقطها بلهفة و
هي ترتعش و تتعثر بخطواتها لعتقادها أنها ل بد رسالة من سعاد
تحوي أنباء ولدها الحبيب ،و إذ أمسكت بها تقلبها بين يديها رأتها
معنونة بهذه العبارة ) :الى األخت العزيزة سلمى ،حفظها الله(.
فدهشت و قالت تحدث نفسها ":إنه خط هدى أخت زوجي ،فما أسرع
أن نسيناه و ما أعجب أن أراها تدعوني بمثل هذه اللهجة الرقيقة التي
لم أتعودها منها قط ،ثم ما لي أرى الرسالة آتية من بلدة )غزة( كما
يدل ختمها المدموغ على ظهرها".
ثم تحاملت مستوية على قدميها و مشت عائدة الى الباب لتفتحه،
فسمعت الطارق يردد من ورائه هذه الكلمات في وهن و إعياء " :لله
يا أهل الحسان" ،فأدركت أنه سائل مسكين ،فتحولت و جاءته ببعض
كسرات من الخبز و هي تجر قدميها جرا في مسيرها ،و ترتجف
لفرط ضعفها و هزالها ،و ما كادت تفتح بابها لتعطي السائل نصيبه
حتى جمد الدم في عروقها ،و عصفت بها رجفة اهتز لها كيانها فكادت
تهوي على وجهها لهول ما طالعها ،و جحظت عيناها تنظر الى السائل
ببابها فل تتحرك و ل تطرف ،و هي ترى أمامها امرأة مشعثة منهوكة
هي حماتها مقنعة بأسمال رثة بالية ،و تحمل بيدها خرقة مهلهلة على
شكل كيس تقاطرت على جوانبه بقع الطعام و انبعثت منه رائحة
مقيتة تجلب للنفس الصداع ،و قد انتعلت حذاء ممزقا أكله البلى حتى
أطلت أصابعها منه ،و غشيت عينيها سحابة رمد داكنة حمراء ل تكاد
ترفع جفنيها المقروحة حتى تسبلهما ثانية في ألم و إعياء فل تبصر
شيئا مما هو ماثل لناظرها إل في جهد شديد.
و ما كادت تلمح كسرات الخبز بيد سلمى حتى انقضت عليها تلتهمها و
هي تتمتم ":ليجزيك الله خيرا يا بنيتي".
فجمدت نظراتها على الكتاب الواضح ،و جمد الدمع في مآقيها حين
انبلجت لها الحقيقة التي تجهلها من أمر وطنها و أهلها و ولدها،
فسكنت لذلك سكونا عميقا ل تتخلله لفتة و ل حركة سوى أنة طويلة
موجعة ما لبثت بعدها أن رفعت يدها الى قلبها تضغطه براحتها ،و قد
مال عنقها الى السور الذي استندت إليه و تصبب العرق باردا يتقاطر
على جبهتها ،تنظر الى الكتاب المنشور بيدها بأسى و لوعة ،و كان
هذا مضمونه:
قلما يبقى النسان على جهله بعد أن بدل الله خلقه و غير حاله ،و لذا
ل يدهشك مني أن أستهل كتابي هذا بطلب الصفح و المغفرة عما
ارتكبته من حمق في حقك و حق ابن أخي ولدك الحبيب الطفل
الشهيد ،و إن كنت أعلم أنني غير جديرة بهذا الصفح و تلك المغفرة
اللذين أسعى اليوم إليهما.
و لكني اليوم غيري باألمس يا أختاه ،و قد عاقبتني األقدار غدرا بغدر
يا سلمى و ليس ذلك علي بكثير و أنا أذكر موقفي منك في تلك الليلة
التي غادرت فيها الى دارك مع طفلك مما سهل على اليهود األنذال
اقتحام بيتك عليك و ذبح ولدك في حجرك.
أواه..إن قلبي يقطر دما و القلم يرتعش في يدي لذلك الذي حدث
لبن أخي ،و أما الذي حدث لي فتجهلينه و ل تعرفين منه غير تلك
الفتاة الجاهلة المغرورة ،لقد مدت إلي األقدار يدها العادلة فأنزلت
بي العقاب ففقئت عيني على أثر شظية طائشة أصابتني فشوهت
جانبا من وجهي،
و تخلى زوجي عني فتزوج بأخرى غيري بعد آن فقدت ثروتي و عيني،
و نأى بامرأته الجديدة عني لئل يرى دمامتي و قبحي.
و الشتاء تلفني برودته القارسة ،و تبللني أمطاره الغزيرة ،فل عاصم
لي ألجأ إليه بين أركان هذا المخيم العتيق ،فل في الصيف يحجب عني
حرارة الشمس و ل في الشتاء يقيني البرد و المطر ،فغدوت
مستوحشة بل صديق ،جائعة بل طعام ،عليلة بل دواء ،عارية إل من
رداء بال أرقعه حتى صار الرداء الرقاع بأجمعه ،فل أغادر مخيمي و
هذه حالي إل أن أسدل الليل نقابه ،فأتسلل منه تسلل اللصوص
سائلة باحثة عن كسرة خبز أحفظ بها رمقي ،فل أختلف في شأني
هذا عن الكلب الضالة و أنا أراني أهم على وجهي هنا و هناك في
سبيل لقمة أكل و قطرة ماء أسكت بهما أمعائي الخاوية.
و أما أمي فلست أدري أين مقرها اليوم من أرض الله الواسعة ،و ما
الذي حل بها بعد أن افترقت عنها عند شاطئ مدينتنا )حيفا( في أثناء
إقلع السفن التي جاءت لحملنا ،الى بلد غير بلدنا ،و ديار و أهل غير
ديارنا و أهلنا ،و كانت ساعة حافلة بالعويل و النحيب ،ل يزال أنينها
يلهب أذني ،فلم أبصرها بين تلك الجموع حين غبت عنها و ما رأيتها
بعد ذلك قط و ل رأتني ،و ل أظنها اليوم أسعد حال مني إذا كانت على
قيد الحياة ،تستقي مرارة عيشها من المنهل الذي وردته ،ألنها
شاركتني قسوتي بل جرمي.
و ليعلم أمثالنا أن العظمة لله وحدة و أنا كنا في سالف أيامنا و في
أوج مجدنا و سعدنا الموهوم أجدر بالحتقار و الرثاء منا بالتعالي و
الكبرياء ،لذلك العار الذي ارتكبه أبي في حق أهله و وطنه ،حتى أكلنا
اليوم ثمرة ما جنته يداه و أيدي أسلفه من قبله ،فل شفاعة و ل
رحمة لمن هو جشع دنيء و إن كان أبي من بين هؤلء الجشعين.
ليتني أحظى بعفوك ،و ليتك تسمحين لحلمك أن يغفر جهلي ،فتأذني
لي بالقامة الى جانبك أخدمك و أتفقد راحتك فاكفر بذلك عن سيئتي
التي أسلفتها إليك ،و لست أبغي عن ذلك أجرا ،و ل في أمري هذا
مأرب أبتغيه ،و ل أطمع عليه في عيش رغد هنيء ،و إنما أملي أن
أنال صفحك ،قبل أن يوافيني أجلي،
فأغادر بعده للقاء ربي هانئة مرتاحة الضمير ألني أشعر بنهايتي قد
دنت لما أنا فيه من ألم و مرض شديد ،لقد جاهدت كثيرا باحثة عن
مقرك ،حتى اهتديت في آخر األمر الى عنوانك من أرض لبنان،
جاءتني به إحدى اللجئات حين التقت هذه بابنة عمي سعاد هناك
فقصت علي مجمل قصتك ،حتى رجوع أخي إليك و وفاة ابنة عمي
الكريمة رحمها الله و جعل مثواها الجنان.
تحياتي الى أخي الكريم ،و إني ألطلب صفحه و غفرانه ،و أتحرق
شوقا ألجثو باكية يوما تحت قدميه ،أناشده عفوه عن سيئتي تلك التي
أسلفتها إليك و إليه.
و إن كنت ل بد مأخوذة بذنبي و جهلي فإنني أضرع الى الله الكريم أن
يلهمك و أخي الصبر الجميل ،و يمن علي بستر رحمته و يخفف مآبي،
إنني أطلب الخلص من شدتي و آلمي فل اهتدي إليه السبيل ،و أعلل
نفسي بالبقاء فل أجد فيه إل الموت البطيء ،لقد وهن الجسم مني و
ذبلت زهرة عمري ،و غدوت إنسانة يائسة متألمة ل شأن لي في
دنياي هذه يعزيني عن مصابي ،و ل أمل لي في الحياة أعيش عليه،
إنني يائسة من أمري ذاهلة عن نفسي و كل ما حولي ،و قد ينقضي
علي يومان أبيت فيهما بل طعام و ل شراب ،حتى يقتلني الجوع فأنتبه
حينئذ لنفسي.
إنها مشيئة الله أرادها لنا و كارثة عمت البلد نسأل الله عليها الصبر و
العزاء.
المخلصة
هدى
النهاية
أودع وليد لوحة زوجه عند أحد التجار ،و أعجب هذا بها فرغب في
شرائها ،و عرض عليه ثمنا حسنا ،فوافقه و هو يسعى جهده للتخلص
منها في أي حال من األحوال ،ألن مشهدها عائد عليه باللم ،و على
زوجه بالدمار لو عثرت بها بعد أن ارتد إليها رشدها ،و إن كانت تحفة
نادرة لما فيها من براعة الرسم و إتقانه ،و روعة ذلك المشهد الهائل
الدامي ،و دقة تصويره و ألوانه.
تمت الصفقة بين البائع و المشتري ،و حرر هذا صكا تسلمه وليد ثمنا
لتلك اللوحة ،ثم عاد بعد ذلك الى بيته يحمل بيده قرطاسا فيه بعض
الفاكهة و األطعمة الخفيفة ،و حين أصبح على مقربة من البيت لح له
بابه مفتوحا ،و كان قد أحكمه عند خروجه ،فأوجس خيفة على زوجه،
و ساوره ريب و قلق عظيم جعله يسرع الخطى الى البيت حتى أتاه،
فاندفع الى داخله ،و ما كاد يلج عتبته و يدلف إليه حتى طالعته زوجته
مستندة بظهرها الى سور الحديقة ،و قد مال عنقها الى جانب كتفها،
و ابيض وجهها بياضا شديدا حتى صار كالبرد الناصع ،فطاش صوابه
لمشهدها ،و ألقى ما بيده أرضا و اندفع إليها اندفاعا و ما لمحته
يسعى إليها حتى مدت إليه كلتا يديها كمن تتعجل وصوله ،فهرع إليها و
أسندها الى صدره قائل و الصفرار يصبغه " :مالك يا حبيبتي ،و ما
الذي حدث في غيبتي؟".
حركت شفتيها بإجهاد محاولة النطق ،فلم يسعفها الحال ،فرفعت إليه
يدها بكتاب أخته فتحول بعينيه إليه ،مارا على سطوره بنظرة سريعة
ألم فيها بما تضمنه ،و أدرك السبب في ذلك التحول الذي طرأ عليها،
فارتد بنظراته إليها و هتف بها مسترحما " :سلمى ارحمي حالي ،و
أسمعيني صوتك ،فلم يعد لي في دنياي أمل أحيا به سواك ،و ل شيء
في هذه الحياة يعزيني عنك".
سالت على خديها دمعتان كبيرتان و همست ترد عليه بجهد شديد" :
وارحمتاه أيها الحبيب ،كنت أرجو أن أحيا لك أرفه عنك و أسعدك ،و
لكن إرادة الله أقوى من إرادتنا يا وليد ،و ل أظن أن هناك اثنين عاشا
عيشتنا ،و ل تألما آلمنا ،و ل سعدا باجتماعهما مثلما سعدنا و ل أخلص
أحدهما لصاحبه إخلصنا و وفاءنا.
فوداعا يا أحب من أحببت ،و ليهون عليك فقدانك إياي ،و اذكرني إذا
وجدت في ذكراي العزاء ،و تعهد بزيارة قبري كلما اشتقت إلي ،فإن
عظامي تتهلل من أعماق لحدي فرحا بزيارتك.
و إني ألوصيك أن تكتب الى هدى شقيقتك نيابة عني ،و بلغها عزائي و
صفحي ،و امنحها رعايتك و عفوك ،ثم أمك..أمك..إنها و ل شك تلك
المرأة التي."....
و ضعف صوتها عند هذا الحد ،و سكتت تلتقط أنفاسها الواهنة ،و تنظر
الى زوجها و دموعه تنهمر غزيرة من مآقيه تغسل وجهه بصمت أليم.
فأسبلت جفنيها ،و سالت من عينيها دمعتان انحدرتا على جانبي وجهها
فهتف بها يضمها الى صدره و عيناه تمطران دمعا سخينا يتساقط على
وجهها و عنقها " :سلمى ابقي لي أو خذيني معك".
ففتحت عينيها النجلوين تودعه بنظره أخيرة حانية ،و همت بالرد عليه
فامتنع عنها الكلم ،و ذبل جفناها ،فعادت و أسبلتهما ثانية ،و مرت
بشفتيها رجفة خفيفة أسلمت بعدها الروح و سقط رأسها على صدره.
فجمد دمعه في مآقيه ،و لبث شاخصا ينظر إليها فل ينطق ،و ل
يطرف ،و قد برد الدم في عروقه ،و علت جبينه سحابة بيضاء أخذت
بالتساع حتى لبست وجهه ،و تاهت أنفاسه عن مجراها كما لو كانت
روحه تتسرب من بين أضلعه.
و انقضت على ذلك فترة ،و هو على تلك الحال من األلم و الجمود،
ثم استفاق من ذهوله و حملها فوق ذراعه الباقية ،و مشى بها حتى
أتى مخدعها ،فوسدها فراشها و جثا بجانب رأسها صامتا ،ساكنا
سكون العابد في معبده.
و مرت به فترة لم تختلف حاله هذه ،مصفر جامد جمود الصنم الذي
غيرته أحداث الزمن فصوحت رخامه و اغبر لونه ،فما شعر بمرور
ذلك النهار ،و ما صحا من ذهوله إل بعد حين ،فنهض يترنح في وقفته
ترنح المهيض المطعون ،فأعد معدات الدفن و شيعها الى مثواها عند
رابية صغيرة قامت عليها دوحة من الصفصاف متشابكة األغصان،
فأقام تحت ظللها قبرا رشيقا منسقا تنسيقا جميل في تواضع و
ظرف ،و لبث شاخصا الى الضريح يتأمله بصمت و جمود الى أن أدبر
النهار و بدأ الليل يرخي سدوله ،فسطع القمر ،و امتد شعاعه يكتنف
المقبرة بغللته الفضية و ما حولها من السهول و الربى ،فتحول بعد
أن ودع بنظراته التربة العزيزة ،و مشى متثاقل خافض الطرف،
مطأطئ الرأس ،و يسراه على قلبه يكتم أنينه ،حتى ابتعد عن المقبرة
و أتى البيت الذي يسكنه ،فوقف عند بابه يدير فيه مفتاحه ،فصر
صريرا مزعجا و انفرج الباب عن حديقته ،فأمسك عند عتبته لحظة و
هو يرى البيت الذي كان يراه باألمس باسما مزدهرا بورده و زهره و
نبته و غلئل خضرته ،قد غدا كالقفرة الجرداء المهجورة ،و سادت
الوحشة أرضه و جدرانه ،و سقفه و قيعانه،فاكتأب كل ما فيه و ذوى
حزنا و أسفا ،فأن أنينا مكتوما ،و إذ هم بالدخول طرق مسمعه وسط
سكون الليل خفق نعال تسير الهوينا من خلف ظهره ،فسرت في
جسمه رعدة باردة ،و حول وجهه الى مصدر الصوت ،فلحت له امرأة
بائسة منهوكة مقنعة بأسمال رثة بالية ،و كيسها المهلهل محمول على
يدها ،تتعثر بأذيالها و تمشي مشية الذليل المهين و هي تقتلع قدميها
اقتلعا في مسيرها ،فجمدت نظرته عليها و هو يراها شديدة الشبه
بأمه ،و ظل يرمقها بعينيه و هي تتعثر بخطواتها و يتقلب بين الشك و
اليقين من أمرها ،حتى دنت من موضعه مارة عن كثب منه ،هتف" :
أماه".
ثم سقطت عند قدميه ،فأنهضها من عثرتها ،و وقف صامتا ل ينطق
بحرف واحد ،فحدقت األم في ولدها بكل ما تستطيع أن تفعل ،و مدت
يدها فأخذت يده تضمها الى صدرها و تغسلها بدموعها و هي تقول
بمذلة و انكسار " :إنني أمك يا وليد أطلب عفوك يا ولدي".
قال بصوت خافت و هو مازال على إطراقه " :لقد عفوت يا أماه".
ثم تنحى قليل يفسح لها طريقا لتتقدمه بالدخول الى بيته ،فلبثت
مسمرة في وقفتها ،فسألها ما بها؟
قالت " :كنت قد أتيت هذا البيت صباح اليوم أطلب إحسانا ،فلقيتني
صبية فتحت لي و أجزلت لي العطاء".
قال بإعياء " :هي سلمى يا أماه ما لبثت أن فارقت بعد ذلك الحياة ".
ذهلت و قالت بلهجة أسى لم يعهدها ابنها فيها من قبل " :أو ماتت
سلمى؟".
خنقته الدموع و قال " :نعم ماتت شهيدة لفجيعتها بولدها الذبيح".
قال يجر أنفاسه و يجاهد في النطق " :ذلك ما كانت تكرهه سلمى
لكم ،و يكرهه كل مجاهد في سبيل وطنه ،و يخشون حدوثه فيكم ،و
يحاربون من أجله ذوي األطماع الواسعة ،و هؤلء في عبثهم و مجونهم
لهون ،حتى حلت الكارثة ،و عم البلء البلد و أهلها ،فذهب بالعاصي و
الطائع ،و المذنب و البريء".
قالت مستعطفة " :ليغفر الله لنا جهلنا يا ولدي ،أولم تصفح بعد يا
وليد كما تدلني لهجتك الجافة".
ثم دس يده في جيب سترته ،أخرج منها بضع أوراق مالية نثرها بين
يدي أمه قائل " :إليك بهذه الجنيهات ،استعيني بها على قضاء حاجتك،
و هذا صكا كان قد قدمه لي أحد التجار ثمنا لخر لوحات سلمى،
فاعملي على تحويله الى أختي".
قالت بصوت تخنقه الدموع " :و هل أنت على علم بمكان أختك يا
ولدي؟".
قال " :نعم .لقد تلقيت منها كتابا عرفت منه انها تقيم في قطاع غزة
بين اللجئين هناك".
ثم أمسك قلمه بيسراه و بسط أمامه ورقة كتب عليها اسم أخته و
عنوانها ،و دفع بها الى أمه ،و استوى ناهضا ،فشخصت بعينيها إليه و
قالت و هي ترى اصفرار و اضطراب عوده " :ما بك يا ولدي؟ و الى
أين؟".
صمت لحظة التقط فيها أنفاسه المجهدة المبعثرة ،و قال " :سأبحر
الى شاطئ فلسطين أقاتل فيها حتى أقتل".
قالت متأسية " :واثكله ،ليت الردى استل حياتي و ليت المنية
عاجلتني".
قال " :الموت العاجل خير من الموت البطيء يا أماه ،لقد ضاع
وطني ،و ذهب أهلي ،و مات قلبي ،فل تندبي ذهابي و اذكري أن كل
شيء هالك إل وجه الله ،فتعزي بالصبر و الحتمال ،و سامحيني إذا بدا
مني يوما ما أثار وجدك علي".