You are on page 1of 16

‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫الحمد لل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول الل وعلى آله وصحبه ومن وااله‪ ،‬أما بعد‪.‬‬
‫فضل كتاب اهلل تعالى‬
‫ال شك أن أجمل اللحظات التي يعيشها اإلنسان في هذه الحياة؛ هي األوقات التي يعيشها مع كتاب‬
‫ٍ‬
‫بأوصاف‬ ‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬هذا القرآن كالم الل سبحانه وتعالى‪ ،‬الذي وصفه اهلل سبحانه وتعالى‬
‫متعددة‪:‬‬
‫ب فِي ِه ُهدًى لِّلْ ُمتَّ ِقي َن" البقرة‪.٢:‬‬
‫َاب ََل َريْ َ‬
‫ك ال ْ ِكت ُ‬
‫‪.1‬وصفه بأنه هدى‪" :‬ذََٰل ِ َ‬
‫َاب مُبِي ٌن يَ ْه ِدي بِ ِه َّ‬
‫اهللُ مَ ِن اتَّبَ َع‬ ‫‪ .2‬ووصفه الل سبحانه وتعالى بأنه نور‪" :‬ق َ ْد َجاءَ ُك ْم ِم َن َّ‬
‫اهللِ نُو ٌر َو ِكت ٌ‬
‫الس ََل ِم" المائدة‪. ١٥:‬‬
‫ض َوانَهُ ُسبُ َل َّ‬
‫ِر ْ‬
‫َاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْ َ‬
‫ك ُمبَا َر ٌك لِّيَ َّدب َّ ُروا آيَاتِ ِه" ص‪. ٢٩:‬‬ ‫كتاب مبارك‪ِ " :‬كت ٌ‬
‫ٌ‬ ‫‪ .3‬ووصفه الل سبحانه وتعالى بأنه‬
‫فهذا الكتاب بهذه األوصاف الجميلة ينبغي على المسلم أن يهتم به أبلغ اإلهتمام‪ ،‬وأن يجعله أولى‬
‫أولوياته وأعلى اهتماماته‪ ،‬ولذلك الل سبحانه وتعالى أنزله علينا من أجل أن نتدبره‪ ،‬ومن أجل أن نتعلمه‪،‬‬
‫ومن أجل أن نعلم ما جاء فيه؛ فهو رسالةٌ من الل سبحانه وتعالى إلى عباده‪.‬‬
‫الرسول ﷺ رغبنا في كثي ٍر من األحاديث الصحيحة‪ ،‬في تعلم هذا الكتاب وفي مدارسته وفي حفظه‪،‬‬
‫ولذلك قال رسول الل ﷺ‪َ " :‬خيْ ُر ُك ْم مَن تَعَلَّ َم ال ُق ْرآ َن وعَلَّ َمه" رواه البخاري‪ ،‬فالخيرية تكون لهذا اإلنسان الذي‬
‫يهتم بكتاب الل سبحانه وتعالى تعل ًما وتعلي ًما‪.‬‬
‫والرسول ﷺ رغب في ذلك ً‬
‫أيضا في الحديث عندما ذكر للصحابة الكرام‪ ،‬فقال ﷺ لصحابته‪:‬‬
‫يق"‪ ،‬مكان في المدينة؛ سوق‪" ،‬فَيَأْتِ َي منه" أي يرجع‬
‫حا َن‪ ،‬أ َ ْو إلى ال َع ِق ِ‬
‫وم إلى ب ُ ْط َ‬ ‫"أَيُّ ُك ْم يُ ِح ُّ َ‬
‫ب أ ْن يَ ْغ ُد َو ُك َّل يَ ٍ‬
‫ذلك‪ ،‬قا َل‪:‬‬
‫ب َ‬ ‫منه "بنَاقَتَيْ ِن َك ْومَا َويْ ِن" عظيمتين‪" ،‬في غي ِر إث ْ ٍم‪َ ،‬و ََل ق َ ْط ِع َر ِح ٍم؟" فقالوا‪ :‬يا َرسو َل اللِ‪ ،‬ن ُ ِح ُّ‬
‫"أَفَل يَ ْغدُو أ َ َح ُد ُك ْم إلى ال َم ْسجِ ِد فَيَعْلَ ُم‪ ،‬أ َ ْو يَ ْق َرأ ُ آيَتَيْ ِن ِمن ِكت ِ‬
‫َاب اهللِ َع َّز َو َج َّل‪َ ،‬خيْ ٌر له ِمن نَاقَتَيْ ِن‪َ ،‬وث َ ََل ٌ‬
‫ث‬
‫ث‪َ ،‬وأ َ ْرب َ ٌع َخيْ ٌر له ِمن أ َ ْرب َ ٍع‪َ ،‬و ِم ْن أ َ ْعدَا ِد ِه َّن ِم َن اإلبِ ِل" رواه مسلم‪.‬‬
‫َخيْ ٌر له ِمن ث َ ََل ٍ‬

‫َاب أَنزَلْنَاهُ‬
‫فهذا يدل على فضيلة مدارسة كتاب الل سبحانه وتعالى‪ ،‬والل سبحانه وتعالى قال‪ِ " :‬كت ٌ‬
‫اب" ص‪ ،٢٩:‬والل سبحانه وتعالى قال‪" :‬أَف َ ََل يَتَ َدب َّ ُرو َن ال ْ ُق ْرآ َن َول َ ْو‬ ‫ك مُبَا َر ٌك لِّيَ َّدب َّ ُروا آيَاتِ ِه َولِيَتَ َذ َّك َر أُولُو ْاْلَلْبَ ِ‬‫إِلَيْ َ‬
‫يرا" النساء‪ ، ٨٢:‬وقال سبحانه وتعالى‪" :‬أَف َ ََل يَتَ َدب َّ ُرو َن ال ْ ُق ْرآ َن أ َ ْم عَلَ َٰى‬
‫اهلل ل َ َو َجدُوا فِي ِه ا ْختِ ََلفًا َكثِ ً‬‫َكا َن ِم ْن ِعن ْ ِد َغيْ ِر َّ ِ‬

‫حري بالمؤمن أن يعطي كتاب اهلل سبحانه وتعالى اهتمامًا بال ًغا من الحفظ‬ ‫ٌ‬ ‫وب أَق ْ َفال ُ َها" محمد‪ ، ٢٤:‬لذلك‬ ‫قُلُ ٍ‬

‫‪2‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫والمدارسة والتعلم والعمل‪ ،‬فالبد أن يتبع العلم العمل‪ ،‬وذلك ألن النبي ﷺ عندما أخبر أن أهل القرآن‬
‫هم أهل الل وخاصته‪ ،‬كما جاء في الحديث الصحيح؛ عن النبي ﷺ أنه قال‪" :‬إ َّن َّهللِ أَهْلي َن م َن النَّاس"‬
‫وخاصتُهُ" صححه األلباني‪ ،‬وأهل القرآن ليس هم‬
‫َّ‬ ‫القرآن ‪ ،‬أ َ ْه ُل َّ‬
‫اهللِ‬ ‫ِ‬ ‫اللِ‪ ،‬مَن هُم؟" قا َل‪" :‬هُم أ َ ْه ُل‬
‫قالوا‪" :‬يا رسو َل ه‬

‫الحفظة فقط‪ ،‬وإنما أهل القرآن هم الذين يحفظون ويتدبرون‪ ،‬ويعملون بما جاء في كتاب الل سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬كما وردت اآلثار في ذلك‪.‬‬
‫فلذلك ينبغي على المسلم أن يهتم بكتاب الل سبحانه وتعالى‪ ،‬كما قال عثمان رضي الل عنه‪" :‬والل‬
‫لو سلمت قلوبنا ما شبعت من كالم ربنا" نعم‪ ،‬لو سلمت هذه القلوب ال تفتر أبدًا وال تشبع أبدًا من كالم‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬لما فيه من الجمال‪ ،‬ولما فيه من العطاء‪ ،‬ولما فيه من الخير والبركة‪ ،‬التي جعلها الل‬
‫سبحانه وتعالى في هذا القرآن العظيم‪ .‬نبدأ بفضل الل سبحانه وتعالى‪ ،‬ومنته وعونه وتوفيقه في مدارسة‬
‫جزء عم‪ ،‬وهو الجزء األخير من هذا القرآن الكريم‪.‬‬
‫لماذا جزء ع ّم؟‬
‫كثير منا في أحيانه وأوقاته‪ ،‬وذلك ألنه اشتمل على قصار‬
‫كثير منا في قراءته‪ ،‬ويردده ٌ‬
‫جزء عم يستهله ٌ‬
‫قكثير من المسلمين يستهل هذا الجزء وهذه السور في صالته‪ ،‬في تالوته‪ ،‬وهو أول السور وهو‬
‫ٌ‬ ‫السور‪،‬‬
‫وتعالى‪ ،‬يبدأ بحفظ جزء عم‬
‫ه‬ ‫كثير من المسلمين‪ ،‬أكثر من بدأ في حفظ كالم ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫أول جزء يحفظه ٌ‬
‫وتعالى عندما رتب القرآن هذا الترتيب الجزئي وترتيب السور‪ ،‬جعل جزء‬
‫ه‬ ‫لسهولته ويسره‪ٰ .‬ه‬
‫والل سبحانه‬
‫وتعالى في التسعة وعشرين جزءًا‪ ،‬جمع ٰه‬
‫الل‬ ‫ه‬ ‫عم هو آخر الترتيب المصحفي‪ ،‬وبث فيه ما أراده ٰه‬
‫الل سبحانه‬
‫وتعالى أن يختصرها للمسلم‪ ،‬فكأن ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫ه‬ ‫فيه أصول اإلسالم‪ ،‬وقواعد الدين التي أراد ٰه‬
‫الل سبحانه‬
‫وتعالى في التسعة وعشرين‬
‫ه‬ ‫جمع ما تاله في كتاب ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫وتعالى أراد من المسلم أن يستجمع‪ ،‬وأن يُ ه‬
‫ه‬
‫ملخص لقواعد الدين‪ ،‬وأصول اإلسالم التي أرادها ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫ٌ‬ ‫جزءًا في هذا الجزء الكريم‪ ،‬فكأنه‬
‫وتعالى في كتابه الكريم‪.‬‬
‫ه‬
‫لى وعونه في مدارسة هذه السور العظيمة‪.‬‬ ‫نبدأ بتوفيق ٰه‬
‫الل سبحانه وتعا ه‬

‫‪3‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫سورة النبأ‬
‫معنى اَلستعاذة والبسملة‬
‫يم * ال َّ ِذي‬
‫الر ِحي ِم‪َ " :‬ع َّم يَت ََساءَلُو َن * َع ِن النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬ ‫بالل من الشيطان الرجيم‪ ،‬بِ ْس ِم ه‬
‫اللِ ه‬
‫الر ْح َهم ِن ه‬ ‫أعوذ ٰه‬

‫وتعالى لعباده عندما‬


‫ه‬ ‫ختَلِ ُفو َن * َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن * ث ُ َّم َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن" النبأ‪ ، ٥-١:‬شرع ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫ُه ْم فِي ِه مُ ْ‬
‫وتعالى‪" :‬ف َ ِإذَا ق َ َرأ ْ َ‬
‫ت ال ْ ُق ْرآ َن‬ ‫ه‬ ‫وتعالى‪ ،‬كما جاء في قوله سبحانه‬
‫ه‬ ‫يقرأون كتابه‪ ،‬أن يستعيذوا ٰه‬
‫بالل سبحانه‬
‫يم" النحل‪ ، ٩٨:‬وذهلك ألن الشيطان هو أصل الشرور والضالالت‪ ،‬واإلنسان‬
‫الرجِ ِ‬ ‫الشيْ َط ِ‬
‫ان َّ‬ ‫استَ ِع ْذ بِ َّ‬
‫اهللِ ِم َن َّ‬ ‫فَ ْ‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ه‬ ‫يحتمي بجناب ٰه‬
‫الل سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فالمسلم يستعيذ ٰه‬
‫بالل‪،‬‬ ‫َٰ‬ ‫"اَلستعاذة"‪ :‬هي طلب ال ِع َوذ‪ ،‬وطلب الحماية‪ ،‬والتحصن َّٰ‬
‫باهلل سبحانه‬
‫وتعالى من هذا الشيطان الرجيم‪ ،‬والشيطان هو من َش َطن‬
‫ه‬ ‫يطلب اللجئ والحماية‪ ،‬والتحصن ٰه‬
‫بالل سبحانه‬
‫أي بَعُد‪ ،‬فهو بَعُد وعتى وتمرد‪.‬‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ه‬ ‫بمعنى مفعول‪ ،‬أي مرجوم‪ ،‬وهو المطرود من رحمة ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫ه‬ ‫على وزن فعيل‪،‬‬
‫و"الرجيم" ه‬
‫واَلستعاذة باتفاق العلماء ليست آية من القرآن‪ ،‬ول هذلك لم تكتب في المصاحف‪ ،‬يبدأ المسلم بطلب‬
‫وتعالى من هذا الشيطان‪ ،‬الذي هو عدو اإلنسان األول‪ ،‬الذي يصرف‬
‫ه‬ ‫التحصن‪ ،‬والحماية ٰه‬
‫بالل سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫ه‬ ‫الل‪ ،‬عن فهم كتاب ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫اإلنسان عن تالوة كتاب ٰه‬
‫اهلل‪ ،‬متبر ًكا مستعينًا َّٰ‬
‫باهلل سبحانه وتعالى‪،‬‬ ‫الل ابتدائي‪ ،‬أو أبدأ بسم َّٰ‬
‫يم" بسم ٰه‬
‫الر ِح ِ‬
‫الر ْح ََٰم ِن َّ‬ ‫"بِ ْس ِم َّ ِ‬
‫اهلل َّ‬
‫الل سبحانه وتعالى‪َّٰ ،‬‬
‫"اهلل"‪ :‬هو‬ ‫وتعالى‪ ،‬وهو أخص أسماء ٰه‬
‫َٰ‬ ‫على ذات الرب سبحانه‬ ‫ولفظ الجاللة َّٰ‬
‫"اهلل" عل ٌم َٰ‬
‫اإللهه المعبود بحق‪.‬‬
‫"الر ْح ََٰم ِن" هو الذي له‬
‫وتعالى يدالن أو يتضمنان صفة الرحمة؛ َّ‬
‫ه‬ ‫يم" اسمان ٰهلل سبحانه‬
‫الر ِح ِ‬
‫"الر ْح ََٰم ِن َّ‬
‫َّ‬
‫صلِّي عَلَيْ ُك ْم‬
‫يم" الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين " ُه َو ال َّ ِذي يُ َ‬
‫"الر ِح ِ‬
‫الرحمة العامة‪ ،‬أي بجميع خلقه‪َّ ،‬‬
‫األحزاب‪.٤٣:‬‬ ‫ات إِلَى النُّو ِر َو َكا َن بِال ْ ُم ْؤ ِمنِي َن َر ِحي ًما"‬
‫خ ِر َج ُكم مِّ َن ال ُّظلُ َم ِ‬
‫َومَ ََلئِ َكتُهُ لِيُ ْ‬
‫النبأ العظيم‬
‫" َع َّم يَت ََساءَلُو َن" هذا استفهام استنكاري لهؤالء المشركين الذين يسأل بعضهم ً‬
‫بعضا‪َ " ،‬ع َّم" أصلها‬
‫"عن ما"‪ ،‬وأدغمت النون في الميم‪ ،‬ثم حذفت األلف تخفي ًفا‪ ،‬فصارت " َع َّم يَت ََساءَلُو َن" يتساءل هؤالء‬

‫يم"‪" ،‬النَّبَإِ"‪ :‬الخبر‪" ،‬ال ْ َع ِظ ِ‬


‫يم"‪ :‬الفظيع الهائل‪ ،‬الذي‬ ‫بعضا عن ماذا؟ " َع ِن النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬
‫المشركين يسأل بعضهم ً‬

‫‪4‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫ال يحق لهم أن يختلفوا فيه‪ ،‬وأن يسألوا عنه؛ ألنه نبأ عظيم بيِّن واضح لكل من أراد أن يتذكر‪ ،‬أراد‬
‫الهداية‪.‬‬
‫وتعالى‬
‫ه‬ ‫ختَلِ ُفو َن" وجاء هذا الجواب في صورة الجملة اإلسمية‪ ،‬لم يقل ٰه‬
‫الل سبحانه‬ ‫"ال َّ ِذي ُه ْم فِي ِه مُ ْ‬
‫الذي يختلفون فيه‪ ،‬وإنما قال‪" :‬ال َّ ِذي ُه ْم فِي ِه مُ ْ‬
‫ختَلِ ُفو َن" فجاء بهذا السياق‪ ،‬أي سياق الجملة اإلسمية الذي‬
‫على اَلستمرار والتمادي‪ ،‬والغلو في هذا االختالف‪ ،‬كأنه شىء طبع في نفوسهم وتمادوا في غيهم‪.‬‬
‫يدل َٰ‬
‫يم * ال َّ ِذي ُه ْم فِي ِه مُ ْ‬
‫ختَلِ ُفو َن" يختلفون في هذا النبأ العظيم‪ ،‬الذي هو يوم‬ ‫" َع َّم يَت ََساءَلُو َن * َع ِن النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬
‫القيامة‪ ،‬الذي هو البعث‪ ،‬يختلفون فيه بين مصدٰقٍ ومُك ٰذب‪ ،‬وقيل‪" :‬النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬
‫يم"‪ :‬هو محمد ﷺ؛‬
‫فاختلفوا فيه بين مك ٰذب ومصدٰق‪ ،‬من قال هو ساحر‪ ،‬من قال هو مجنون‪.‬‬
‫يم" هو القرآن؛ "ق ُ ْل ُه َو نَبَأ ٌ َع ِظي ٌم‪ ،‬أَنتُ ْم َعنْهُ ُم ْع ِر ُ‬
‫ضو َن" ص‪ ،68-67:‬بين من اتهم أن القرآن‬ ‫وقيل‪" :‬النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬
‫هذا أساطير األولين‪ ،‬أو أن الرسول ﷺ تعلمه من بشر‪ ،‬لكن أكثر المفسرين على أن "النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬
‫يم" ‪-‬‬
‫وذلك لداللة السياق ‪ -‬أنه البعث‪ ،‬وهو يوم القيامة والنشور والقيام إلى الل سبحانه وتعالى للحساب‪.‬‬
‫ختَلِ ُفو َن‪َ ،‬ك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن‪ ،‬ث ُ َّم َك ََّل َسيَ ْعلَ ُمو َن‪َ " ،‬ك ََّل" أداة زجر‬
‫يم‪ ،‬ال َّ ِذي ُه ْم فِي ِه مُ ْ‬
‫" َع َّم يَت ََساءَلُو َن‪َ ،‬ع ِن النَّبَ ِإ ال ْ َع ِظ ِ‬
‫"سيَعْلَ ُمو َن" حقيقة هذا التكذيب‪،‬‬
‫"سيَعْلَ ُمو َن" عاقبة تكذيبهم‪َ ،‬‬
‫ونهي‪ ،‬وتدل على الوعيد والتهديد‪َ ،‬‬
‫"سيَعْلَ ُمو َن" صدق ما جاء به من اإلخبار بالبعث والقيامة والنشور‪.‬‬
‫"سيَعْلَ ُمو َن" كذلك صدق النبي ﷺ‪ ،‬و َ‬
‫و َ‬
‫" َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن‪ ،‬ث ُ َّم َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن"‪.‬‬
‫بعض العلماء قال‪ :‬أن هذا التكرار للتأكيد‪ ،‬ولكن في الحقيقة "ث ُ َّم" حرف عطف يفيد الترتيب‬
‫والتراخي والمغايرة‪ ،‬لو أراد الل سبحانه وتعالى التأكيد لقال‪َ " :‬ك هال َسيَعْلَ ُمو َن * َك هال َسيَعْلَ ُمو َن"‪ ،‬وإنما‬
‫قال‪َ " :‬ك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن‪ ،‬ث ُ َّم َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن"‪ ،‬فهناك مغايرة بين العلم األول والعلم الثاني‪ .‬قال العلماء‪َ " :‬ك ََّل‬
‫"سيَعْلَ ُمو َن" أن يوم القيامة حق‪،‬‬
‫"سيَعْلَ ُمو َن" صدق النبي ﷺ‪ ،‬و َ‬
‫َسيَعْلَ ُمو َن" عند وفاتهم‪ ،‬عند نزع أرواحهم‪َ ،‬‬
‫كثير في القرآن الكريم؛ أن اإلنسان عندما تأتيه مالئكة الموت يعلم علم‬
‫وأن البعث والنشور حق‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫اليقين بأن الل سبحانه وتعالى حق‪ ،‬وأن القيامة حق‪ ،‬وأن الرسول ﷺ حق " َحت ََّٰى إِذَا َجاءَ أ َ َح َد ُه ُم ال ْ َم ْو ُ‬
‫ت‬
‫ت َك ََّل إِن َّ َها َكلِ َمةٌ ُه َو قَائِلُ َها َو ِمن َو َرائِ ِهم ب َ ْر َز ٌخ إِل َ َٰى يَ ْو ِم‬
‫حا فِي َما ت َ َر ْك ُ‬ ‫ُون * لَعَلِّي أ َ ْع َم ُل َ‬
‫صا ل ِ ً‬ ‫قَا َل َر ِّ‬
‫ب ا ْرجِ ع ِ‬
‫يُبْ َعثُو َن" المؤمنون‪ ،100 _99:‬ألنه يعلم علم اليقين‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫ح َر فَأ َتْبَ َع ُه ْم فِ ْر َع ْو ُن َو ُجنُودُهُ ب َ ْغيًا‬


‫وكذلك قال الل سبحانه وتعالى عن فرعون " َو َجا َو ْزنَا بِبَنِي إ ِْس َرائِي َل الْبَ ْ‬
‫ت بِ ِه بَنُو إ ِْس َرائِي َل َوأَنَا ِم َن ال ْ ُم ْسلِ ِمي َن" يونس‪،90:‬‬ ‫نت أَنَّهُ ََل إِلََٰهَ إ ََِّل ال َّ ِذي آمَن َ ْ‬ ‫َو َع ْد ًوا َحت ََّٰى إِذَا أَدْ َر َكهُ ال ْ َغ َر ُ‬
‫ق قَا َل آمَ ُ‬
‫فأدرك وعلم وقتها أن موسى عليه السالم حق‪ ،‬وأنه رسو ٌل من رب العالمين‪ ،‬فهذا يُسمى "علم اليقين"‬
‫يعلمه اإلنسان عند وفاته‪ ،‬عند نزع روحه‪.‬‬
‫"ث ُ َّم َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن" ثم سيعلم بعد ذلك عين اليقين يوم القيامة‪ ،‬يوم البعث والنشور عندما يعاين‬
‫اإلنسان الجنة والنار‪ ،‬عندما يعاين الحساب‪ ،‬عندما يعاين الصراط‪ ،‬عندما يرى بعينه الصحف المتطايرة‪،‬‬
‫عندما يرى البعث والنشور‪.‬‬
‫فاْلول‪ :‬هو علم اليقين‪ ،‬والثاني‪ :‬هو عين اليقين‪ ،‬علم اليقين‪ :‬يعلمه اإلنسان عند نزع روحه‪ ،‬وعين‬
‫اليقين‪ :‬يعلمه اإلنسان عند قيامه بين يدي رب العالمين يوم القيامة " َك ََّل َسيَعْلَ ُمو َن‪ ،‬ث ُ َّم َك ََّل َسيَعْلَ ُمون"‪.‬‬
‫نعم اهلل الكثيرة‬
‫جع َِل ْاْل َ ْرضَ ِم َهادًا‪َ ،‬والْجِ بَا َل أ َ ْوتَادًا‪َ ،‬و َخلَ ْقنَا ُك ْم أ َ ْز َوا ًجا‪َ ،‬و َجعَلْنَا‬
‫ثم يقول الل سبحانه وتعالى‪" :‬أَل َ ْم ن َ ْ‬
‫َاشا‪َ ،‬وبَنَيْنَا ف َ ْوق َ ُك ْم َسبْعًا ِشدَادًا‪َ ،‬و َجعَلْنَا ِس َرا ًجا َوهَّا ًجا‪،‬‬
‫اسا‪َ ،‬و َجعَلْنَا الن َّ َها َر مَع ً‬
‫ن َ ْومَ ُك ْم ُسبَاتًا‪َ ،‬و َجعَلْنَا اللَّيْ َل لِبَ ً‬
‫ات أَل ْ َفافًا" النبأ‪ ، 16-6:‬الل سبحانه وتعالى يذكر‬ ‫جا ًجا‪ ،‬لِّن ُ ْ‬
‫خ ِر َج بِ ِه َحبًّا َونَبَاتًا‪َ ،‬و َجن َّ ٍ‬ ‫ات َماءً ث َ َّ‬ ‫َوأَنزَلْنَا ِم َن ال ْ ُمع ِ‬
‫ْص َر ِ‬

‫عباده بهذه النعم‪ ،‬وهذه اآليات الكونية العظيمة؛ التي ينبغي على كل عاقل عندما يتأمل فيها يعلم أن الل‬
‫سبحانه وتعالى هو المتفضل‪ ،‬وأنها تن ُ ُم وتدل على حكمة الل وعلى قدرته البالغة الذي أنعم عليكم بهذه‬
‫النعم‪ ،‬والذي منحكم هذه النعم‪ ،‬والذي أحكم هذا اإلحكام وأتقن هذا اإلتقان‪ ،‬أليس هو بقاد ٍر على أن‬
‫يبعثكم بعد موتكم؟!‬
‫جع َِل ْاْل َ ْرضَ ِم َهادًا" أي أما أنعمنا عليكم بهذه النعم الجليلة؟ فجعلنا‬
‫فقال الل سبحانه وتعالى‪" :‬أَل َ ْم ن َ ْ‬
‫لكم األرض مهادًا؛ أي ممهدة مذللة لكم ولمصالحكم‪ ،‬كالمهد يكون للطفل الصغير‪ ،‬يكون مرتب‬
‫وممهد ومذلل ومناسب لهذا الطفل‪.‬‬
‫فالل سبحانه وتعالى جعل هذه األرض " ِم َهادًا" أي مذللة لنا‪ ،‬بسطها الل سبحانه وتعالى‪ ،‬أودع فيها‬
‫جع َِل ْاْل َ ْرضَ ِم َهادًا * َوالْجِ بَا َل أ َ ْوتَادًا"‪ ،‬هذه نعمة‬
‫من المنافع سبحانه وتعالى ما ينتفع به اإلنسان "أَل َ ْم ن َ ْ‬
‫عظيمة‪ ،‬أن الل سبحانه وتعالى جعل الجبال أوتاد لهذه األرض‪ ،‬لئال تميد ولئال تضطرب‪ ،‬نحن نسير على‬
‫هذه األرض ونمشي عليها وهي مستقرة‪ ،‬وال نستشعر بهذه النعمة العظيمة من الل سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫الل سبحانه وتعالى أودع في هذه األرض هذه الجبال التي جعلها أوتاد‪ ،‬األوتاد جمع "وتد"‪ ،‬والوتد هو ما‬
‫تثبت به الخيمة‪ ،‬بيوت العرب من الخيام‪ ،‬تكون لها أعمدة لكن البد لها من أوتاد يثبتون بها هذه الخيام‬
‫حتى ال تطير‪ ،‬وحتى ال تضطرب مع وجود الريح‪ ،‬فالل سبحانه وتعالى جعل لنا هذه الجبال أوتاد‪ ،‬أي‬
‫كاألوتاد‪ ،‬وهذا تشبيهٌ بليغ فعندما حذف الل سبحانه وتعالى أداة التشبيه فلم يقل الجبال كاألوتاد؛ وإنما‬
‫قال الل سبحانه وتعالى‪َ " :‬والْجِ بَا َل أ َ ْوتَادًا"‪ ،‬فهذا تشبيه بليغ‪ ،‬الجبال أوتاد لهذه األرض‪ ،‬تثبت األرض لئال‬
‫تميد‪.‬‬
‫جنس واحد ليسكن كل واح ٍد إلى اآلخر‪ ،‬فتكون الحياة‬
‫ٍ‬ ‫" َو َخلَ ْقن َا ُك ْم أ َ ْز َوا ًجا"‪ :‬أي ذكورا وإناثا‪ ،‬من‬
‫التي ملؤها الرحمة‪ ،‬والمودة بين الزوجين وتنشأ الذرية‪ ،‬وهذا امتنان من الل سبحانه وتعالى‪ ،‬عندما جعل‬
‫الل سبحانه وتعالى لنا أزواج‪ ،‬فهذه ِمنهة وآية من الل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫نعمة النوم‬
‫" َو َجعَلْنَا ن َ ْو َم ُك ْم ُسبَاتًا"‪ ،‬أي راحة لكم وقط ًعا ْلشغالكم‪ ،‬وهذه والل من أعظم النعم‪ ،‬التي يُنعم الل‬
‫وكثير منا ال يستشعر بهذه‬
‫ٌ‬ ‫سبحانه وتعالى بها على اإلنسان تستوجب الشكر واالمتنان لل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫النعمة‪ ،‬النوم نعمة عظيمة‪ ،‬ال يدرك قيمة هذه النعمة إال من ُحرم‪ ،‬من ابتلي باألرق وهو عدم النوم‪ ،‬هناك‬
‫بعض الناس يأتي ويقول‪ :‬أنا سوف أجن‪ ،‬سيطير عقلي من قلة النوم‪ ،‬سبحان الل العظيم‪.‬‬
‫الل سبحانه وتعالى جعل هذا النوم راحةً لهذه األبدان‪ ،‬وجعل هذا النوم قطعًا لالنشغاالت حتى‬
‫يستعيد اإلنسان قواه‪ ،‬عندما يبذل اإلنسان ويسعى في األرض ويعمل‪ ،‬يصيبه الفتور‪ ،‬ويصيبه الوهن‬
‫والتعب‪ ،‬فعندما يدخل في النوم ‪ -‬سبحان الل العظيم ‪ -‬يقوم ويكأن لم يكن قد تعب قبل ذلك‪ ،‬يعود بعد‬
‫حا مستجمعًا لقواه‪ ،‬حتى يُعَاود العمل مرةً أخرى؛ نعمة عظيمة‪.‬‬
‫نومه مستري ً‬
‫ولذلك شرع لنا الرسول ﷺ حينما يستيقظ اإلنسان من نومه‪ ،‬أن يقول‪" :‬الحمد هلل"‪ ،‬يشكر الل‬
‫أموت وأحيا‪ ،‬الحم ُد هلل الذي أحيانا بعد ما أماتَنا وإليه النُّشو ُر" صححه األلباني‪،‬‬
‫ُ‬ ‫سبحانه وتعالى‪" ،‬باسمك اهللُ‬
‫يشكر الل ويحمد الل سبحانه وتعالى على هذه النعمة العظيمة‪ ،‬النوم نعمة جليلة؛ ينبغي على اإلنسان أن‬
‫يستشعرها وأن يستحضرها وأن يشكر الل سبحانه وتعالى عليها‪.‬‬
‫بالفعل مرض األرق وقلة النوم أمر صعب جدًا‪ ،‬يعاني منه بعض الناس‪ ،‬يكاد يُجن اإلنسان إذا لم‬
‫يرزقه الل ويمتن عليه بالنوم‪ ،‬نعمة عظيمة تستوجب الشكر‪ ،‬لذلك قال الل سبحانه وتعالى‪َ " :‬و َجعَلْنَا‬

‫‪7‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫ن َ ْومَ ُك ْم ُسبَاتًا" أي راحةً لكم‪ ،‬وقطعًا ألشغالكم التي متى تمادت بكم واستمرت؛ أضرت بأبدانكم فجعل‬
‫الل سبحانه وتعالى الليل والنوم يغشى الناس‪ ،‬لتسكن حركاتهم الضارة وتحصل راحتهم التامة‪.‬‬
‫نعمة الليل والنهار‬

‫َاشا" النبأ‪َ " ،11-9 :‬و َجعَلْنَا اللَّيْ َل لِبَ ً‬


‫اسا"‬ ‫اسا * َو َجعَلْنَا الن َّ َها َر مَع ً‬
‫" َو َجعَلْنَا ن َ ْومَ ُك ْم ُسبَاتًا * َو َجعَلْنَا اللَّيْ َل لِبَ ً‬
‫يغشاكم بظَلمه‪ ،‬اللباس هو ما يستر اإلنسان‪ ،‬فالليل هو كاللباس لإلنسان يستر اإلنسان بظالمه‪ ،‬في الليل‬
‫يحتاج اإلنسان إلى قضاء بعض الحاجات‪ ،‬التي ال يحب أن ي هطلع عليها أح ٌد من الناس‪ ،‬بالليل ينام‬
‫اإلنسان وهو نائم قد يتعرى‪ ،‬قد تنكشف عورته‪ ،‬الل سبحانه وتعالى جعل هذا الليل كاللباس له يستره‪،‬‬
‫يستر اإلنسان‪َ " ،‬و َجعَلْنَا الن َّ َها َر مَع ً‬
‫َاشا" جعل ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى النهار للمعاش‪ ،‬يسعى اإلنسان في األرض‬
‫البتغاء الرزق‪ ،‬ويسعى في مصالحه ويقضي حاجاته‪.‬‬
‫نعمة من ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى أن جعل الليل لنا‪ ،‬وجعل لنا النهار‪ ،‬جعل الليل راحة لنا‪ ،‬وجعل النهار‬
‫من أجل أن نسعى فيه ونعيش‪ ،‬هذا والل فض ٌل من ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى ونعمة‪ ،‬لألسف الشديد انقلب‬
‫ليال‪ ،‬والليل‬ ‫كثير من المسلمين إال من رحم ٰه‬
‫الل‪ ،‬جعل النهار ً‬ ‫الحال عند كثير من الناس ومن المسلمين‪ٌ ،‬‬
‫نها ًرا‪ ،‬يسهرون ويتمادون في السهر‪ ،‬ويضيعون ما أوجب ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى عليهم من الواجبات‪ ،‬من‬
‫صالة الفجر وغيرها‪ ،‬ثم ينامون بالنهار‪ ،‬ولذلك يجد اإلنسان اَلضطرابات النفسية‪ ،‬ويجد اإلنسان‬
‫اَلضطراب في بدنه ْلنه خالف هذه السنة الكونية‪.‬‬
‫نعم هذا هو األصل؛ األصل أن ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى جعل الليل للنوم‪ ،‬للراحة‪ ،‬النقطاع األشغال‪،‬‬
‫وجعل النهار للمعاش‪ ،‬لكن إذا كانت هناك حاجة أو ضرورة ال بأس بذلك‪ ،‬لكن ليس هذا هو األصل‪،‬‬
‫كأمر في حراسة حدود‪ ،‬أو ما شابه ذلك‪ ،‬سهر في طلب العلم أو غير ذلك‪ ،‬لكن هذا ليس هو األصل‪،‬‬
‫األصل أن اإلنسان تكون راحته بالليل‪ ،‬ويكون النهار للمعاش‪.‬‬
‫آية خلق السماوات‬
‫اسا * َو َجعَلْنَا الن َّ َها َر َمع ً‬
‫َاشا * َوبَنَيْنَا ف َ ْوق َ ُك ْم َسبْعًا ِشدَادًا" النبأ‪ .١٢-١٠:‬أي سبع سماوات‬ ‫" َو َجعَلْنَا اللَّيْ َل لِبَ ً‬
‫في غاية الشدة‪ ،‬والقوة والصَلبة‪ ،‬وقد أمسكها ٰه‬
‫الل بقدرته وجعلها سق ًفا لألرض‪ ،‬فيها منافع متعددة‪ ،‬زينها‬
‫الل سبحانه وتعالى بهذه النجوم‪ ،‬آية عظيمة من آيات ٰه‬
‫الل‪.‬‬ ‫ٰه‬

‫‪8‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫ما أحوج اإلنسان أن يتأمل في هذه السماء‪ ،‬هو خلق واحد من خلق ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬هذه‬
‫السماوات العظيمة حتى اآلن وحتى قيام الساعة‪ ،‬ال يستطيع اإلنسان مهما تقدم بعلمه ال يستطيع أن‬
‫يحيط بهذا المخلوق‪ ،‬ال يستطيع اإلنسان أن ينتهي إلى أطراف السماوات‪ ،‬إلى أين تنتهي؟ وكيف تكون؟‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا خل ٌق واح ٌد من خلق ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬فما بالكم بالخالق‬ ‫ال يعلم ذلك إال ٰه‬

‫العظيم سبحانه وتعالى؟!‬


‫" َوبَنَيْنَا ف َ ْوق َ ُك ْم َسبْعًا ِشدَادًا" يتأمل اإلنسان في هذه السماء‪ ،‬كيف رفعها ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى بغير‬
‫عمد؟! رفعها ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى مع حجمها العظيم ومع ُس ْمكها‪ ،‬قيل أن ُس ْمك السماء مسيرة خمسمائة‬
‫الل‪ ،‬رفعه ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬جعله سق ًفا لنا بدون أعمدة‪ ،‬آية عظيمة‪،‬‬ ‫الل! خل ٌق عظيم من خلق ٰه‬
‫عام‪ ،‬يا ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى فيها من الزينة‪ ،‬وجعل فيها من النجوم التي جعلها رجو ًما للشياطين‪ ،‬أودع ٰه‬
‫الل‬ ‫أودع ٰه‬

‫سبحانه وتعالى فيها من الكواكب التي ينتفع بها اإلنسان‪.‬‬


‫الل سبحانه وتعالى وذكر من منافع هذه السماوات‪ :‬أن جعل فيها هذه الشمس‪َ " :‬و َجعَلْنَا‬
‫ثم قال ٰه‬

‫ِس َرا ًجا َوهَّا ًجا" نبه بالسراج ه‬


‫على الضوء‪ ،‬نحتاج إلى ضوء الشمس في النهار‪ ،‬حتى نسعى في حياتنا‬
‫ونقضي حاجاتنا‪ ،‬وقال سبحانه وتعالى‪َ " :‬وهَّا ًجا" الوهاج يحمل الحرارة التي ينتفع بها اإلنسان‪ ،‬في طهي‬
‫على النعمة‬ ‫الطعام‪ ،‬في إنضاج ما يحتاج إلى إنضاجه‪ ،‬ينتفع بحرارتها‪ ،‬فنبه ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى بالسراج ه‬
‫بنورها‪ ،‬التي صار ضرورةً للخلق‪ ،‬وبالوهاج وهي حرارة الشمس‪ ،‬ه‬
‫على ما فيها من اإلنضاج والمنافع التي‬
‫يحتاجها اإلنسان‪.‬‬
‫نعمة المطر‬

‫جا ًجا" المعصرات هي السحاب‪ ،‬يقال‪ :‬امرأةٌ معصر أي قاربت ه‬


‫على‬ ‫ات مَاء ث َ َّ‬ ‫" َوأَنزَلْنَا ِم َن ال ْ ُمع ِ‬
‫ْص َر ِ‬
‫الحيض‪ ،‬أو بلغت سن الحيض ولم تحض بعد‪ ،‬فالمعصرات هي السحابة؛ التي كادت أن تمطر ولم‬
‫كثيرا جدًا‪.‬‬
‫كثيرا متتابعًا‪ً ،‬‬ ‫ات مَاء ث َ َّ‬
‫جا ًجا" ماءًا صبابًا‪ً ،‬‬ ‫تمطر بعد‪َ " ،‬وأَنزَلْنَا ِم َن ال ْ ُمع ِ‬
‫ْص َر ِ‬

‫خ ِر َج بِ ِه َحبًّا َونَبَاتًا" لنخرج بهذا الماء الحبوب‪ ،‬كالبر والشعير‪ ،‬والذرة واألرز‪ ،‬وغير ذلك مما‬
‫"لِن ُ ْ‬
‫يأكله اإلنسان‪ ،‬ونباتًا يشمل جميع النباتات التي ينتفع بها اإلنسان‪ ،‬وكذلك تكون عشبًا للحيوان‪.‬‬
‫ات أَل ْ َفافًا" جمع جنة وهي البستان‪ :‬جنات‪ ،‬بساتين؛ "أَل ْ َفافًا"‪ :‬ملتفة‪ ،‬مجتمعة‬
‫خ ِر َج بِ ِه َحبًّا َونَبَاتًا * َو َجن َّ ٍ‬
‫"لِن ُ ْ‬
‫فيها جميع أصناف الفواكه اللذيذة‪ ،‬فالذي أنعم بهذه النعم العظيمة الجليلة‪ ،‬التي ال يقدر قدرها‪ ،‬وال‬

‫‪9‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫يحصي عددها أحدٌ‪ ،‬كيف تكفرون به؟! وكيف تعرضون عن آياته؟! وكيف ال تشكرونه سبحانه‬
‫ه‬
‫وتعالى؟! كيف تتعنتون وتكذبون البعث والنشور؟! ٰه‬
‫والل سبحانه وتعالى الذي خلق هذه اآليات‪ ،‬وأنعم‬
‫على إعادتكم للحساب والجزاء يوم القيامة‪.‬‬
‫على بعثكم‪ ،‬وقاد ٌر ه‬
‫بهذه النعم قاد ٌر ه‬
‫يوم القيامة‬
‫الصو ِر فَتَأْتُو َن أَف ْ َوا ًجا‬ ‫الل سبحانه وتعالى بعد ذلك‪" :‬إِ َّن يَ ْومَ ال ْ َف ْ‬
‫ص ِل َكا َن ِمي َقاتًا * يَ ْومَ يُن ْ َف ُخ فِي ُّ‬ ‫ثم قال ٰه‬

‫صادًا * لِل َّطا ِغي َن‬ ‫ت َس َرابًا * إِ َّن َج َهن َّ َم َكان َ ْ‬


‫ت ِم ْر َ‬ ‫ت أَب ْ َوابًا * َو ُسيِّ َر ِ‬
‫ت الْجِ بَا ُل ف َ َكان َ ْ‬ ‫الس َماءُ ف َ َكان َ ْ‬
‫ت َّ‬ ‫* َوفُتِ َ‬
‫ح ِ‬
‫مَآَبًا * ََلبِثِي َن فِي َها أ َ ْح َقابًا * ََل يَ ُذوقُو َن فِي َها ب َ ْردًا َو ََل َش َرابًا * إ ََِّل َح ِمي ًما َو َغ َّساقًا * َجزَاءً ِوفَاقًا * إِن َّ ُه ْم َكانُوا‬
‫ََل يَ ْر ُجو َن ِح َسابًا * َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا ِك َّذابًا * َو ُك َّل َش ْي ٍء أ َ ْح َ‬
‫صيْنَاهُ ِكتَابًا * ف َ ُذوقُوا فَلَن ن َّ ِزي َد ُك ْم إ ََِّل َع َذابًا"‬
‫الل سبحانه وتعالى صو ًرا من نعمه وآياته الكونية‪ ،‬ذكر ٰه‬
‫الل تعالى ما يكون في يوم‬ ‫النبأ‪ ٣٠-١٧:‬بعدما ذكر ٰه‬
‫القيامة‪ ،‬الذي يتساءل عنه هؤالء المكذبون‪ ،‬ويختلفون فيه ويجحدون ويعاندون هو يومٌ عظيم‪ٰ ،‬ه‬
‫الل‬
‫سبحانه وتعالى قال‪" :‬إِ َّن يَ ْو َم ال ْ َف ْ‬
‫ص ِل َكا َن ِمي َقاتًا"‪ ،‬يوم القيامة يسمى "يوم الفصل"‪ ،‬ألن ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى‬
‫يفصل فيه بين العباد‪ ،‬يفصل فيه يحكم فيه بين الخلق‪.‬‬
‫وقت محدد‪ ،‬ال يتأخر وال يتقدم‪ ،‬ال يعلمه إال ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى‪،‬‬ ‫"إِ َّن يَ ْو َم ال ْ َف ْ‬
‫ص ِل َكا َن ِمي َقاتًا" أي ذا ٍ‬

‫بوقت محدد‪ ،‬ال يتأخر وال يتقدم‪" ،‬إِ َّن يَ ْومَ ال ْ َف ْ‬


‫ص ِل َكا َن ِمي َقاتًا" ميقات للخلق‪" ،‬يَ ْومَ يُن ْ َف ُخ فِي‬ ‫ٍ‬ ‫هو مؤقت‬
‫الصو ِر فَتَأْتُو َن أَف ْ َوا ًجا" الصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السَلم‪ ،‬إسرافيل هو الملك الموكل‬
‫ُّ‬
‫الصو ِر فَتَأْتُو َن أَف ْ َوا ًجا" تأتون جماعات‪ ،‬جماعات تأتي كل أمه مع نبيها‪،‬‬
‫بالنفخ في الصور‪" ،‬يَ ْومَ يُن ْ َف ُخ فِي ُّ‬
‫"تَأْتُو َن أَف ْ َوا ًجا"‪.‬‬
‫الصو ِر فَتَأْتُو َن أَف ْ َوا ًجا"‪ ،‬يجري فيه من الزعازع والقالقل ما يشيب له المولود‪،‬‬
‫هذا اليوم "يَ ْومَ يُن ْ َف ُخ فِي ُّ‬
‫وتنزعج له القلوب‪ ،‬يشيب له الشعر‪ ،‬فتسير الجبال حتى تكون كالهباء المنثور‪" ،‬إِ َّن يَ ْو َم ال ْ َف ْ‬
‫ص ِل َكا َن ِمي َقاتًا‬
‫ت أَب ْ َوابًا" تفتح السماء وتكون كاألبواب‬
‫الس َماءُ ف َ َكان َ ْ‬
‫ت َّ‬ ‫الصو ِر فَتَأْتُو َن أَف ْ َوا ًجا * َوفُتِ َ‬
‫ح ِ‬ ‫* يَ ْومَ يُن ْ َف ُخ فِي ُّ‬
‫ت"‪ :‬تحركت الجبال‪" ،‬ف َ َكان َ ْ‬
‫ت َس َرابًا"‪ :‬أي‬ ‫"سيِّ َر ِ‬ ‫ت الْجِ بَا ُل ف َ َكان َ ْ‬
‫ت َس َرابًا"‪ُ ،‬‬ ‫لنزول المالئكة منها‪َ " ،‬و ُسيِّ َر ِ‬

‫كانت كالسراب يراه اإلنسان ماء وما هو بماء‪ ،‬فكذلك اإلنسان يرى وينظر إلى الجبال كأنها شيء‪،‬‬
‫وليست بشيء‪ٰ ،‬ه‬
‫الل سبحانه وتعالى ينسفها نس ًفا‪ ،‬يجعلها هباءً منثو ًرا‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫عاقبة الطاغين‬
‫ت ِم ْر َ‬
‫صادًا"‪ ،‬الرصد هو‪ :‬الترقب واَلستعداد‪ ،‬فجهنم مترقبة‬ ‫ت الْجِ بَا ُل ف َ َكان َ ْ‬
‫ت َس َرابًا * إِ َّن َج َهن َّ َم َكان َ ْ‬ ‫" َو ُسيِّ َر ِ‬

‫ومعدة لهؤالء المشركين‪ ،‬ينبغي علينا عندما نسمع ذلك؛ أن يلجأ المسلم إلى ربه‪ ،‬ويستعيذ من جهنم‪،‬‬
‫لذلك شرع لنا رسولنا ﷺ اَلستعاذة من عذاب جهنم في دبر كل صَلة بعد التشهد‪ ،‬يستعيذ المسلم من‬
‫جهنم‪.‬‬
‫"إِ َّن َج َهن َّ َم َكان َ ْ‬
‫ت ِم ْر َ‬
‫صادًا" مرصدة ترقب المشركين‪ ،‬ومعدة لهم تنتظر متى تلتهمهم وتلتقمهم؟ نعوذ‬
‫ً‬
‫ومآال لهؤالء الطاغين‪ ،‬الطغيان‪:‬‬ ‫صادًا * لِل َّطا ِغي َن مَآَبًا" مآبًا‪ :‬أي مرجعًا‬ ‫ٰه‬
‫بالل من جهنم‪" ،‬إِ َّن َج َهن َّ َم َكان َ ْ‬
‫ت ِم ْر َ‬
‫من طغى أي جاوز الحد‪ ،‬فالطغاة هم من جاوزوا حد العبودية‪ ،‬فعلوا ما حرم ٰه‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬وتركوا‬
‫الل سبحانه وتعالى‪ ،‬جاوزوا حدود العبودية ٰهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فلذلك هم طغاة‪.‬‬
‫ما أوجب ٰه‬

‫"َلبِثِي َن فِي َها أ َ ْح َقابًا" ماكثين‬


‫بالل‪َ ،‬‬ ‫"لِل َّطا ِغي َن مَآَبًا" للطاغين مآبًا‪ :‬أي مرجعًا ً‬
‫ومآَل ينتهون إليها والعياذ ٰه‬

‫فيها أحقابًا‪ ،‬أحقابًا جمع " ُحقب" بالضم‪ ،‬أما " ِحقب" بالكسر جمعها ِح َقب‪ ،‬الحقب عند أكثر أهل التفسير‬
‫"َلبِثِي َن فِي َها أ َ ْح َقابًا" كلما انتهى‬
‫حقب بالضم جمعه أحقاب ًا‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫والحقب بالكسر هو سنة‪ ،‬ال ُ‬ ‫هو ثمانين سنة‪،‬‬
‫حقب أتى آخر‪ ،‬أي ال يخرجون منها أب ًدا‪ ،‬بعض األفاضل فهم من هذه اآلية وما شابهها أن النار تنتهي في‬
‫يوم من األيام وتفنى‪ ،‬وهذا يعني قول ضعيف‪ ،‬خالف به جماهير أهل السنة‪ ،‬عامة أهل السنة على أن النار‬
‫َل تفنى أبداً‪ ،‬وأن المشركين والكافرين خالدين مخلدين فيها‪.‬‬
‫"َلبِثِي َن فِي َها أ َ ْح َقابًا" قال العلماء فيها‪َ :‬لبثين أي أحقاباً َل تنتهي‪ ،‬كلما مضى حقب أتى آخر‪ ،‬هذا‬
‫َ‬

‫"َلبِثِي َن فِي َها أ َ ْح َقابًا * ََل يَ ُذوقُو َن فِي َها ب َ ْردًا َو ََل َش َرابًا" بمعنى أن‬
‫قول‪ ،‬وقو ٌل آخر‪ :‬أنها متعلقة بما بعدها‪َ ،‬‬

‫هناك أحقاب متعددة في النار ال يذوقون فيها بردًا‪ ،‬فإذا انتهت هذه األحقاب‪ ،‬يأتي نوع أخر‪ ،‬ولون أخر‬
‫من ألوان العذاب‪ ،‬فهم يلبثون ويمكثون في النار أحقاب ًا متعددة‪ ،‬بهذا الشكل وبهذا اللون من العذاب‪َ ،‬‬
‫"َل‬
‫يَ ُذوقُو َن فِي َها ب َ ْردًا َو ََل َش َرابًا"‪.‬‬
‫"َلبِثِي َن فِي َها أ َ ْح َقابًا * ََل يَ ُذوقُو َن فِي َها ب َ ْردًا َو ََل َش َرابًا" ال يذوقون فيها بردًا‪ ،‬البرد‪ :‬ما يبرد جلودهم‪ ،‬وما‬
‫َ‬

‫يدفع ظمأهم‪ ،‬وال يجدون فيها بردًا أي رو ًحا‪ ،‬راحة‪ ،‬ليس لهم فيها راحة‪ ،‬ال يجدون فيها "ب َ ْردًا" أي ليس‬
‫فيها نو ًما كما قال بعض العلماء‪ ،‬ألن البرد بمعنى النوم‪ ،‬كما يقال‪" :‬أذهب البردُ البردَ" أي اذهب البرد‬

‫‪11‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫النوم‪ ،‬فالكفار ال ينامون في النار وال يستريحون وال يجدون ما يبرد جلودهم‪ ،‬نسأل الل سبحانه وتعالى‬
‫العفو والعافية‪.‬‬
‫" ََل يَ ُذوقُو َن فِي َها ب َ ْردًا َو ََل َش َرابًا * إ ََِّل َح ِمي ًما َو َغ َّساقًا" الحميم‪ :‬هو الماء الحار‪ ،‬الذي يشوي البطون‪،‬‬
‫نسأل الل سبحانه وتعالى العفو والعافية‪ ،‬والغساق‪ :‬هو صديد أهل النار‪ ،‬الذي هو في غاية النتن‬
‫والكراهة‪ ،‬هذا هو شرابهم‪.‬‬
‫"َل يَ ُذوقُو َن فِي َها ب َ ْردًا َو ََل َش َرابًا * إ ََِّل َح ِمي ًما َو َغ َّساقًا" هذه العقوبات وهذا الجزاء " َجزَاءً ِوفَاقًا" أي‬
‫َ‬

‫مواف ًقا ْلعمالهم‪ ،‬هذا الجزاء وفاق ًا لهم على ما عملوا من األعمال‪ ،‬من الشرك والظلم والفجور والكفر‬
‫والعصيان‪.‬‬
‫اهلل سبحانه وتعالى هو أعدل العادلين‪ ،‬اهلل سبحانه وتعالى هو أحكم الحاكمين‪ ،‬اهلل سبحانه وتعالى َل‬
‫يظلم الناس شيئًا‪ ،‬ولكن الناس أنفسهم يظلمون‪ ،‬الل سبحانه وتعالى جعل هذا الجزاء وفاقًا أي موافق‬
‫ألعمالهم‪ ،‬وهذا من رحمته‪ ،‬وهذا من عدله سبحانه وتعالى وحكمته أنه يجزي على الحسنة بعشر‬
‫أمثالها‪ ،‬وال يجزي على السيئة إال بمثلها‪ ،‬فضل وعدل من الل سبحانه وتعالى‪ ،‬فالل سبحانه وتعالى ال‬
‫يظلم مثقال ذرة‪ ،‬ال يظلم مثقال ذرة‪.‬‬
‫" َجزَاءً ِوفَاقًا" أي هذا العذاب وهذا الجزاء موافق تمامًا ألعمالهم‪ ،‬التي عملوها في هذه الحياة‪" ،‬إِن َّ ُه ْم‬
‫َكانُوا ََل يَ ْر ُجو َن ِح َسابًا" ال يخافون من الحساب‪ ،‬ال يخافون يوم القيامة‪ ،‬ال يؤمنون بالبعث وال أن الل‬
‫سبحانه وتعالى سيجازي الخلق بالخير والشر‪ ،‬فلذلك أهملوا العمل لآلخرة‪ ،‬وهذا هو حال كثير من‬
‫الناس؛ عندما يغفل اإلنسان عن الحساب وعن البعث والنشور‪ ،‬عندما يغفل اإلنسان عن الموت وعن‬
‫القبر‪ ،‬عن الجنة وعن النار‪ ،‬فإنه يبعد عن ربه سبحانه وتعالى‪ ،‬ويسهل عليه فعل الذنوب والمعاصي‪ ،‬لكن‬
‫كلما علم اإلنسان وكلما تيقن اإلنسان‪ ،‬وأيقن أن هناك جزاء‪ ،‬وأن هناك حساب‪ ،‬وأن هناك جنة و نار‪،‬‬
‫فإنه يكون دائم الوصال مع الل سبحانه وتعالى‪ ،‬دائم االنقياد ألوامر الل سبحانه وتعالى‪ ،‬دائم الخوف من‬
‫الل سبحانه وتعالى‪" ،‬إِن َّ ُه ْم" هؤالء " َكانُوا ََل يَ ْر ُجو َن ِح َسابًا"‪.‬‬
‫" َو َك َّذبُوا بِآيَاتِنَا ِك َّذابًا" كذبوا بهذه اآليات‪ ،‬هذه المعجزات التي أتى بها رسل الل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫حا‪ ،‬جاءتهم البينات واآليات والمعجزات فعاندوها‪" ،‬وكل شي ٍء‬
‫حا صري ً‬
‫كذبوا بها تكذيبًا شدي ًدا واض ً‬

‫‪12‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫أحصيناهُ ِكتابًا" كل شيء من قليل وكثير‪ ،‬من خير وشر‪ ،‬حتى الكلمة يحصيها الل سبحانه وتعالى‪" ،‬وكل‬
‫رقيب عتيد" ق‪.١٨.:‬‬
‫ٌ‬ ‫شي ٍء أحصيناه كتابًا"‪" ،‬ما يلفظ من ٍ‬
‫قول إَل لديه‬
‫"كل شي ٍء أحصيناهُ ِكتابا" أي مكتوبًا‪ ،‬قيل‪ :‬مكتوب في اللوح المحفوظ‪ ،‬كل شيء أحصاه الل سبحانه‬
‫وتعالى في اللوح المحفوظ‪ ،‬في هذا الكتاب‪ ،‬وقيل‪" :‬وكل شي ٍء أحصيناه كتابًا" أي تكتبه المَلئكة‪ ،‬كل‬
‫شي ٍء يفعله اإلنسان أو يقوله‪ ،‬ذهابه ومجيئه‪ ،‬أقواله‪ ،‬أفعاله‪ ،‬تُحصيها عليك أيها المسلم مالئكة الل‬
‫سبحانه وتعالى الكرام الكاتبين‪ ،‬حتى إذا ما جئت يوم القيامة ووقفت أمام الل سبحانه وتعالى‪ ،‬الل‬
‫سبحانه وتعالى يأمرك أن تأخذ هذا الكتاب‪ ،‬وتقرأ ما جاء فيه كما قال الل سبحانه وتعالى‪" :‬و ُو ِض َع‬
‫الكتاب َل يُغاد ُر صغيرةً وَل كبيرةً إَل‬
‫ِ‬ ‫َاب فَترى ال ُمجرمي َن مُش ِفقي َن ِمما في ِه ويقولو َن يا ويْلَتَنَا ِ‬
‫مال هذا‬ ‫ِ‬
‫الكت ُ‬
‫اضرا وَل يَظل ُم رب ُّ َ‬ ‫َ‬
‫ك أحدًا" الكهف‪ .٤٩:‬انظر عبد الل ماذا ستجعل في هذا‬ ‫أحصاها وو َجدوا ما َع ِملوا َح ً‬
‫الكتاب؟ ماذا ستجده؟ انظر ماذا تحب أن تجده يوم القيامة من األعمال‪ ،‬من األقوال‪ ،‬وأودعه في هذا‬
‫يوم ال‬
‫الكتاب‪ ،‬واعلم أن ما تفعله من شر سواء فعل أو قول ستجده يوم القيامة‪ ،‬إياك أن تتحسر وتندم في ٍ‬
‫ينفع فيه الندم‪ ،‬وتقول‪ :‬يا ليتني ما فعلت كذا‪ ،‬يا ليتني ما قلت كذا‪.‬‬
‫"و ُك َّل شي ٍء أَحصيناهُ ِكتابًا فذوقوا فلن نَزيدَكم إَل عَذابًا" هذه اآلية هي أشد اآليات على المشركين‪،‬‬
‫كما نُقل ذلك عن عبدالل بن عمر وغيره من الصحابة‪ ،‬هي أشد آية في عذاب الكفار "فذوقوا فلن نزيدكم‬
‫اَل عذابًا"ً‪ ،‬وهي ً‬
‫أيضا من اآليات التي تدل على مذهب أهل السنة والجماعة في خلود أهل النار في النار‪،‬‬
‫إنهم ال يخرجون منها أبدًا‪ ،‬ألن القول بفناء أهل النار أو بفناء النار هذا يستوجب أنهم لم يزيدوا في‬
‫العذاب بل يُخفف ويزول العذاب‪ ،‬قال الل سبحانه وتعالى‪" :‬فذوقوا فلن نَزيدَكم إَل عَذابًا" فهم في‬
‫عذاب دائ ٍم متزايد‪ ،‬نسأل الل سبحانه وتعالى العفو والعافية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عاقبة المتقين‬
‫وكأسا ِدهاقًا *‬
‫ً‬ ‫واعب أَترابًا *‬
‫َ‬ ‫ثم ذكر الل سبحانه وتعالى‪" :‬إ َّن لِلْ ُمتَّ ِقي َن مَفا ًزا * حدائ َق وأعنابًا * و َك‬
‫َل يَسمعو َن فيها ل َ ْغ ًوا وَل ِك َّذابًا * َجزَاءً ِم ْن َرب ِّ َ‬
‫ك َع َطاءً ِح َسابًا" النبأ‪ ،٣٦-٣١:‬لما ذكر الل سبحانه وتعالى حال‬
‫المجرمين‪ ،‬ذكر مآل المتقين‪ ،‬فقال سبحانه وتعالى‪" :‬إ َّن لِلْ ُمتَّ ِقي َن مَفا ًزا" المتقون‪ :‬الذين اتقوا غضب اهلل‬
‫سبحانه وتعالى وسخطه‪ ،‬الذين جعلوا بينهم وبين عذاب اهلل وقاية‪ ،‬الذين ائتمروا بما أمر اهلل وانتهوا عما‬
‫نهى اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬الذين يعملون بطاعة الل على نو ٍر من الل‪ ،‬يرجون ثواب الل وينتهون عن معصية‬

‫‪13‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫الل على نو ٍر من الل‪ ،‬يخافون عقاب الل سبحانه وتعالي‪ ،‬هؤالء الذين أُعدت لهم الجنة "تلك الجنةُ التي‬
‫مريم‪. ٦٣:‬‬ ‫ث ِمن عبادنا مَن كا َن تَقيًا"‬
‫نُو ِر ُ‬
‫"إ َّن للمتقي َن مَفا ًزا" لهم فوز لهم مفازا‪ ،‬لما ذكر الل حال المجرمين ذكر مآل المتقين‪ ،‬فقال‪" :‬إ َّن‬
‫للمتقي َن مَفا ًزا" الذين اتقوا سخط ربهم بالتمسك بطاعته واالنكفاف عن معصيته‪ ،‬لهم "مَفا ًزا" فوز عظيم‬
‫جا وبُعد عن النار‪ ،‬وفي هذا المفاز لهم "حدائ َق وأعناب ًا" الحدائق هي البساتين الجا ِمعَة ألصناف‬
‫ومن ً‬
‫وخص من هذه األشجار األعناب‪ ،‬خص العنب لشرفه وكثرته في هذه‬
‫ه‬ ‫األشجار الزاهية واألنهار‪،‬‬
‫الحدائق‪ ،‬ولما فيها من النفع الذي ينتفع به ِمن الزبيب واألكل الطيب ونحو ذلك‪" ،‬حدائ َق وأعنابًا" تنفجر‬
‫خالل هذه البساتين األنهار‪.‬‬
‫واعب أَترابًا"‪ ،‬كواعب جمع "كاعب"‪ ،‬وهن النواهد‪،‬‬
‫َ‬ ‫ثم قال سبحانه وتعالى‪" :‬حدائ َق وأعنابًا * و َك‬
‫التي لم تنكسر ثديهن‪ ،‬لنضارتهن وشبابهن وقوتهن‪ ،‬أترابًا أي في س ٍن واحدة‪ ،‬ومن عادة األتراب أنهن‬
‫يكن متآلفات‪ ،‬متحابات‪ ،‬مقتربات بعضهن من بعض‪ ،‬في سن واحدة‪ ،‬وأكثر العلماء على أنه هو سن‬
‫وكأسا دهاقًا" كأس خمر‪" ،‬دهاقًا" مملوءة مترعة من الرحيق ومن‬
‫ً‬ ‫"وكواعب أترابًا‬
‫َ‬ ‫الثالث وثالثين سنة‪.‬‬
‫الشراب اللذيذ‪َ" ،‬ل يَسمعو َن فيها ل َ ْغ ًوا وَل ِك َّذابًا" ال يسمعون فيها اللغو‪ ،‬هو الكالم الباطل‪" ،‬وَل كذابًا" ال‬
‫الواقعه‬ ‫إثم‪ ،‬ليس فيها إثم كما قال سبحانه وتعالى‪ََ " :‬ل يَ ْس َمعُو َن فِي َها ل َ ْغ ًوا َو ََل تَأْثِي ًما * إ ََِّل قِ ً‬
‫يَل َس ََلمًا َس ََلمًا"‬
‫‪.25:٢٦‬‬
‫الجنة ليس فيها شيء يضر اإلنسان‪ ،‬حتى األمور المعنوية‪ ،‬وهذا إشارة على أن اإلنسان عندما‬
‫يصاحب أهل الباطل وأهل الفجور الذين يكثرون من السب والشتم والقذف هذا والل عذاب‪ ،‬هذا عذاب‬
‫لإلنسان‪ ،‬عذاب معنوي‪ ،‬لذلك كان من نعيم أهل الجنة "َل يَسمعو َن فيها ل َ ْغ ًوا وَل ِك َّذابًا" هذا " َجزَاءً ِم ْن‬
‫ك َع َطاءً ِح َسابًا"‪.‬‬
‫َرب ِّ َ‬
‫ك َع َطاءً ِح َسابًا"‬
‫الل عز وجل أعطاهم هذا الشراب الجزيل وهذا الفضل وهذا اإلحسان " َجزَاءً ِم ْن َرب ِّ َ‬
‫أي بسبب أعمالهم التي وفقهم الل سبحانه وتعالى لها‪ ،‬عطاءً كافيا كما يقال‪ :‬أعطاني فأحسبني‪ ،‬أي‬
‫اهللُ" اإلنفال‪ ،62:‬أي كافيك الل‪َ "،‬ع َطاءً ِح َسابًا" أي كافيا‪ ،‬ال يتطلعون إلى شي ٍء‬
‫ك َّ‬‫أعطاني فأكفاني‪" ،‬ف َ ِإ َّن َح ْسبَ َ‬
‫بعده‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫اهلل رب السماوات واْلرض‬


‫ات َو ْاْل َ ْر ِ‬
‫ض َومَا‬ ‫الس َما َو ِ‬
‫ب َّ‬‫ثم ختم الل سبحانه وتعالى هذه السورة الكريمة بقوله سبحانه وتعالى‪َّ " :‬ر ِّ‬
‫َ‬
‫ص ًّفا ََّل يَتَ َكلَّ ُمو َن إ ََِّل مَ ْن أ ِذ َن لَهُ َّ‬
‫الر ْح ََٰم ُن‬ ‫وح َوال ْ َم ََلئِ َكةُ َ‬ ‫الر ْح ََٰم ِن ََل يَ ْملِ ُكو َن ِمنْهُ ِخ َطابًا * يَ ْومَ يَ ُقومُ ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫بَيْن َ ُه َما َّ‬
‫خ َذ إِل َ َٰى َرب ِّ ِه مَآبًا * إِنَّآ أَن َذ ْرنَا ُك ْم َع َذاباً ق َ ِريباً يَ ْومَ يَن ُظ ُر ال ْ َم ْرءُ مَا‬ ‫ك الْيَ ْومُ ال ْ َ‬
‫ح ُّق ف َ َمن َشاءَ ات َّ َ‬ ‫ص َوابًا * ذََٰل ِ َ‬
‫َوقَا َل َ‬
‫ت يَدَاهُ َويَ ُقو ُل ال ْ َكافِ ُر يَا لَيْتَني ُك ُ‬
‫نت ت ُ َراباً" النبأ‪ ، ٣٨-٣٧:‬الل عز وجل الذي أعطاهم هذه العطايا‪ ،‬هو ربهم‬ ‫ق َ َّدمَ ْ‬

‫ات َو ْاْل َ ْر ِ‬
‫ض" سبحانه وتعالى الذي خلقها ودبرها سبحانه وتعالى‪،‬‬ ‫الس َما َو ِ‬
‫ب َّ‬‫رب السماوات واألرض‪َّ " ،‬ر ِّ‬
‫الر ْح ََٰم ِن" الذي رحمته وسعت كل شيء‪ ،‬ونالحظ أن هذا االسم تكرر في هذه السورة‪ ،‬تكرر مرتين‪ ،‬الل‬
‫" َّ‬
‫سبحانه وتعالى هو الرحمن؛ الذي رحم عباده والرحمة العامة‪ ،‬وهو بعباده المؤمنين رحيم‪ ،‬الرحمة‬
‫الخاصة سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ومن دالئل رحمته التي ذكرها الل سبحانه وتعالى في أول السورة أنه جعل لنا األرض مهادا والجبال‬
‫ً‬
‫معاشا‪ ،‬هذا كله والل من رحمة الل سبحانه‬ ‫لباسا والنهار‬
‫أوتادًا‪ ،‬والل سبحانه وتعالى جعل لنا الليل ً‬
‫وتعالى بعباده‪ ،‬الرحمن الذي رحمته وسعت كل شيء‪ ،‬فرباهم ورحمهم ولطف بهم سبحانه وتعالى‬
‫حتى أدركوا ما أدركوا‪.‬‬
‫عظمة اهلل وملكه يوم القيامة‬
‫ثم ذكر الل سبحانه وتعالى عظمته وملكه العظيم يوم القيامة‪ ،‬وأن جميع الخلق كلهم ساكتون في هذا‬
‫َ‬
‫اليوم ال يتكلمون‪" ،‬إ ََِّل مَ ْن أ ِذ َن لَهُ َّ‬
‫الر ْح ََٰم ُن َوقَا َل َ‬
‫ص َوابًا" َل يتكلم أحد إَل بهذين الشرطين‪ ،‬يأذن له اهلل‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬ويكون ما يقول صواب حق ليس فيه باطل‪.‬‬
‫ك الْيَ ْومُ ال ْ َ‬
‫ح ُّق" هذا اليوم يوم يقوم الروح‬ ‫ك الْيَ ْومُ ال ْ َ‬
‫حقُّ" الذي َل مرية فيه‪ ،‬ال يروج فيه الباطل‪" ،‬ذََٰل ِ َ‬ ‫"ذََٰل ِ َ‬
‫وهو جبريل عليه السالم والمالئكة ‪ -‬عموم المالئكة – ص ًفا‪ ،‬خاضعين ذليلين لل سبحانه وتعالى‪ ،‬وهذا‬
‫يدل على عظمة الل‪ ،‬وعلى عظمة هذا اليوم‪.‬‬
‫اَلستعداد لآلخرة‬
‫َ‬
‫ص ًّفا ََّل يَتَ َكلَّ ُمو َن إ ََِّل مَ ْن أ ِذ َن لَهُ َّ‬
‫الر ْح ََٰم ُن‬ ‫وح َوال ْ َم ََلئِ َكةُ َ‬ ‫فلما رغب الل سبحانه وتعالى‪" :‬يَ ْومَ يَ ُقومُ ُّ‬
‫الر ُ‬
‫حا‪ ،‬مرجعًا‬ ‫خ َذ إِل َ َٰى َرب ِّ ِه َمآبًا" فمن شاء اتخذ إلى ربه ً‬
‫عمال صال ً‬ ‫ك الْيَ ْو ُم ال ْ َ‬
‫ح ُّق ف َ َمن َشاءَ ات َّ َ‬ ‫ص َوابًا * ذََٰل ِ َ‬
‫َوقَا َل َ‬

‫‪15‬‬
‫تفسير سورة النبأ‬ ‫المحاضرة (‪)1‬‬ ‫مادة التفسير‬

‫ً‬
‫سبيال وطري ًقا يوصله إلى الل‪ ،‬يرضى الل سبحانه وتعالى به‬ ‫يرجع به إلى الل سبحانه وتعالى‪ ،‬اتخذ إلى ربه‬
‫عنه‪.‬‬
‫"ف َ َمن َشاءَ" هذا دلي ٌل على أن العبد له مشيئة وله إرادة بها يقع فعله‪ ،‬وهذا َل ينافي مشيئة اهلل سبحانه‬
‫وتعالى الشاملة‪ ،‬كما قال الل سبحانه وتعالى‪" :‬ل ِ َم ْن َشاءَ ِمن ْ ُك ْم أ َ ْن يَ ْستَ ِقي َم * َومَا ت َ َشاءُو َن إَِل أ َ ْن يَ َشاءَ َّ‬
‫اهللُ‬
‫ب الْعَال َ ِمي َن" التكوير‪ ،٢٩-٢٨:‬فأنت لك إرادة ولك مشيئة بها يقع فعلك‪ ،‬لذلك تحاسب عن هذه األفعال يوم‬ ‫َر ُّ‬
‫القيامة‪.‬‬
‫خ َذ إِل َ َٰى َرب ِّ ِه مَآبًا" ألن كل ما هو ٍ‬
‫آت قريب‪ ،‬فالل سبحانه وتعالى أنذرنا‬ ‫"ف َ َمن َشاءَ" منكم‪" ،‬ف َ َمن َشاءَ ات َّ َ‬

‫وخوفنا وحذرنا من يوم القيامة‪" ،‬إِنَّآ أَن َذ ْرنَا ُك ْم َع َذاباً ق َ ِريباً"‪ ،‬كما قال الل سبحانه وتعالى‪" :‬اقْت ََر َ‬
‫ب لِلن ّ ِ‬
‫اس‬
‫آت قريب‪ ،‬فيوم القيامة‬ ‫ضو َن" األنبياء‪ ١:‬وقال‪" :‬أَت َ َٰى أ َ ْم ُر َّ ِ‬
‫اهلل" النحل‪ ، 1:‬فكل ما هو ٍ‬ ‫ِح َساب ُ ُه ْم َو ُه ْم فِي َغ ْفلَ ٍة ّم ْع ِر ُ‬
‫قريب‪ ،‬لذلك قال الناظم‪:‬‬
‫يا من بدنيــاه انشغــــل وغـــــــــــــــره طــــول األمــل‬
‫المــــــــــــــــوت يأتـــي بغتـــــة والقبر صندوق العمــــل‬
‫ت يَدَاهُ َويَ ُقو ُل ال ْ َكافِ ُر يَا‬
‫الل سبحانه وتعالى أنذرنا هذا العذاب‪َ " :‬ع َذاب ًا ق َ ِريبًا * يَ ْو َم يَن ُظ ُر ال ْ َم ْرءُ َما ق َ َّد َم ْ‬
‫لَيْتَني ُك ُ‬
‫نت ت ُ َراب ًا" ينظر المرء ويرى ما قدمت يداه‪ ،‬هذا الذي يهمه ويفزعه‪ ،‬ينظر في هذه الدار اإلنسان ماذا‬
‫قدم لهذا اليوم؛ ليوم المعاد؟ "يَ ْو َم يَن ُظ ُر ال ْ َم ْرءُ َما ق َ َّد َم ْ‬
‫ت يَدَاهُ" فانظر يا عبد الل ماذا قدمت لهذا اليوم؟‬
‫اهللَ إِ َّن َّ‬
‫اهللَ‬ ‫ت ل ِ َغ ٍد َوات َّ ُقوا َّ‬
‫س مَّا ق َ َّدمَ ْ‬ ‫لذلك قال الل سبحانه وتعالى‪" :‬يَا أَيُّ َها ال َّ ِذي َن آمَنُوا ات َّ ُقوا َّ‬
‫اهللَ َولْتَن ُظ ْر ن َ ْف ٌ‬
‫الحشر‪. ١٨:‬‬ ‫ير بِ َما ت َ ْع َملُو َن"‬
‫َخبِ ٌ‬
‫" َويَ ُقو ُل ال ْ َكافِ ُر يَا لَيْتَني ُك ُ‬
‫نت ت ُ َراب ًا" يتمنى الكافر يوم القيامة أن يكون ترابًا‪ ،‬ألن الل سبحانه وتعالى‬
‫كما جاء في الحديث الصحيح‪ ،‬يقضي بين البهائم‪ ،‬فيقاد للشاه الجماء من الشاة القرناء‪ ،‬ثم يأمرهم الل‬
‫سبحانه وتعالى أن يكونوا تراب ًا‪ ،‬فيتمنى الكافر أن يكون كالبهائم‪ ،‬لذلك يقول‪" :‬يَا لَيْتَني ُك ُ‬
‫نت ت ُ َرابًا" ‪.‬‬
‫ينبغي للمسلم أن يعمل لهذا اليوم‪ ،‬وينظر ما قدمت يداه‪ ،‬ويحذر أشد الحذر من الندم في هذا اليوم‬
‫الذي َل ينفع فيه الندم‪.‬‬
‫تم بفضل الل سبحانه وتعالى تفسير سورة النبأ والل سبحانه وتعالى الموفق‪ ،‬أقول قولي هذا‪ ،‬واستغفر الل‬
‫خيرا‪.‬‬
‫لي ولكم‪ ،‬وجزاكم الل ً‬

‫‪16‬‬

You might also like