Professional Documents
Culture Documents
الاستقرار في المغرب هو استقرار الأسعار
الاستقرار في المغرب هو استقرار الأسعار
رغم أن المغرب قد يبدو مستقرًا ،إال أن التاريخ يشير إلى أن هذا االستقرار لن يستمر ،وأن المزاج
الشعبي في الشارع يمكن أن يتغير بسرعة بسبب معدالت التضخم المرتفعة.
مثل الواليات المتحدة وأوروبا ،شهد المغرب بدوره ارتفاًعا في معدالت التضخم مؤخًر ا ،مسجلة معدال
وصل 6.4في المائة خالل يوليو ،2022وهو تضخم قادم من الخارج ،يسمى ب”التضخم المستورد”.
تنظر الحكومة بتخوف كبير إلى هذا الوضع الذي ما ينفك يتطور ،ال سيما وأن المغرب نجح في السابق
في تجنب التضخم المتفشي في منطقة الشرق األوسط وشمال إفريقيا والذي أثر على جزء كبير منها خالل
العقد الماضي .فبفضل سياسته النقدية المتينة ،تمكن البلد من إبقاء التضخم عند الحد األدنى في الماضي،
لكن الوضع تغير اآلن ،كما أن السياسة النقدية المحلية غير قادرة على مواجهة العوامل الخارجية التي
أدت إلى االرتفاع األخير في األسعار.
بعد اجتماع حكومي في نهاية مايو ،2022قال الوزير المنتدب لدى وزيرة االقتصاد والمالية ،المكلف
بالميزانية في لقاء صحفيإن التضخم وصل إلى 4.1في المائة في نهاية أبريل .2022وفي وقت سابق من
شهر مارس ،بعد اجتماعه الفصلي ،قال والي بنك المغرب أن معدل التضخم السنوي سيصل إلى 4.7في
المائة في عام .2022ومنذ ذلك الحين ،واصل البنك المركزي توقع معدل تضخم أعلى مما تتوقعه
الحكومة ،حيث صرح الوالي بعد االجتماع الفصلي في يونيو أنه يتوقع أن يصل التضخم السنوي إلى 5
في المائة .لكن في حين رفع مجلس االحتياطي الفيدرالي األمريكي أسعار الفائدة للحد من التضخم ،لم
يحذو البنك المركزي المغربي حذوه ،وبدًال من ذلك أبقى معدل الفائدة المركزي ثابتا .في الواقع ،يواجه
المغرب تضخًم ا مستورًدا ولن يؤدي رفع سعر الفائدة إال إلى عرقلة االستثمار الخاص ورفع معدالت
البطالة.
تواجه الحكومة المغربية وضعا صعبا ،حيث يصاحب ارتفاع التضخم تباطؤ في النمو االقتصادي .في
مارس ،توقع بنك المغرب معدل نمو بنسبة 0.7في المائة لعام ،2022قبل تعديل تقديراته في يونيو إلى
حوالي 1في المائة .ويمثل هذا انخفاًضا حاًدا مقارنة بمعدل النمو الذي بلغ 7.9في المائة في عام .2021
تبدو األرقام بين معدل التضخم ومعدل النمو معكوسة ،حيث في الوقت الذي يرتفع فيه التضخم ،يتراجع
النمو االقتصادي ،وهذا ما يجعل االستقرار االجتماعي على المحك.
لقد استفاد المغرب من استقرار نسبي على مدى العقدين الماضيين بفضل سياسة نقدية متينة أبقت معدالت
التضخم المحلية دون 2في المائة معظم السنوات .ساعدت هذه السياسة النقدية في الحفاظ على االستقرار
السياسي واالجتماعي النسبي للمغرب خالل فترة االنتفاضات االجتماعية في معظم أنحاء الشرق األوسط
وشمال إفريقيا .وقد منح هذا النجاح الوالي الحالي لبنك المغرب ،عبد اللطيف الجواهري ،لقب رجل
االستقرار ،مقارنة بنظرائه في المنطقة ،التي عصفت بكثير من بلدانها موجات تضخم هائلة .لقد أبقت
المقاربة القائمة على عدم التسامح مع التضخم الوالي على رأس البنك المركزي لفترة طويلة.
قدم الجواهري بخبرة كبيرة إلى البنك المركزي ،وكانت الفترة التي قضاها وزيرًا للمالية بين عامي 1981
و 1986األكثر أهمية .في ذلك الوقت ،كان المغرب على وشك اإلفالس ،وفرض صندوق النقد الدولي
والبنك الدولي برنامج تقويم هيكلي صارم على البالد ،مما أعاد تنظيم االقتصاد والمالية العامة .علمت
دروس الماضي القاسية الوالي الحالي أن استقرار المغرب مرتبط أوًال وقبل كل شيء بضمان استقرار
األسعار وخفض التضخم إلى أدنى المستويات الممكنة.
في الماضي ،أدت األسعار المرتفعة إلى اضطرابات اجتماعية مأساوية في المغرب ،خرجت عن سيطرة
الدولة .في 29مايو ،1981عندما كان الجواهري وزيرا للمالية ،اندلعت احتجاجات دامية أطلق على
ضحاياها لقب “شهداء الكوميرا (الخبز)” ،وسقط ضحايا كثر خاصة في الدار البيضاء ،بعد أن رفعت
الحكومة أسعار المواد الغذائية األساسية مثل الدقيق والسكر والزيت والحليب والزبدة .كانت تلك
االحتجاجات واحدة فقط من عدد من الحاالت التي وضع فيها التضخم االستقرار االجتماعي على المحك.
وخالل العقدين األخيرين ،وعلى الرغم من معدالت التضخم المنخفضة نسبًيا مقارنة بالثمانينيات
والتسعينيات ،إال أن بعض الموجات التضخمية قد زعزعت االستقرار االجتماعي .شهد المغرب ثالث
موجات احتجاجية ضخمة“ :احتجاجات 20فبراير (الربيع العربي المغربي)”،
و”احتجاجات الريف وجرادة“ ،و”حملة المقاطعة االقتصادية“ ،وإن كان لكل سياقها الخاص ،إال أنها كلها
مرتبطة بظاهرة ارتفاع نسبي لألسعار في البالد.
بما أن كل زيادة في األسعار أدت في نهاية المطاف إلى تصاعد االحتجاجات ،فقد تعلم المغرب أهمية
التعامل الفعال مع التضخم .بعد عام ،2010ومع ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 2في المائة ،زادت
التوترات االجتماعية أيًض ا .كانت مداخيل المواطنين وقوتهم الشرائية منخفضة للغاية ،ألن الغالبية
العظمى منهم لم يتمكنوا من االدخار وتنويع مصادر الدخل .أما معظم دخلهم ،وخاصة األجور واألرباح،
فيتم صرفه على األساسيات مثل السكن والنقل والطعام والملبس .حتى الطبقة الوسطى كانت عاجزة بشكل
مزمن على االدخار بسبب قوتها الشرائية الضعيفة ،واعتمادها على الخدمات التعليمية الخاصة ،وارتفاع
أسعار العقارات السكنية في المدن.
في أعقاب األزمة المالية العالمية لعام ،2008وقبل اندالع انتفاضات الربيع العربي ،عرفت المدن في
جميع أنحاء البالد ظهور تنسيقياتضد الغالء وتدهور الخدمات االجتماعية .وشهد الشارع المغربي عامي
2008و 2009احتجاجات متواصلة ضد ارتفاع األسعار ،بعد أن بلغ التضخم 3.7في المائة عام ،2008
وهو أعلى مستوى له منذ عام .2000
بين عامي 2000و ،2008حقق االقتصاد المغربي نمًو ا ملحوظا ،حيث تضاعف الدخل السنوي للفرد
منتقال من 1334دوالًرا أمريكًيا في عام 2000إلى 2890دوالًرا أمريكًيا في عام .2008ونتيجة لذلك،
قللت الزيادة في الدخل من تأثير التضخم على االستقرار االجتماعي .وبعد ذلك ،ومنذ عام ،2011ظل
نصيب الفرد من الناتج المحلي اإلجمالي السنوي عند حوالي 3046دوالًرا أمريكًيا ،دون أي تحسن كبير
خالل العقد التالي ،حيث وصل إلى 3058دوالًرا أمريكًيا فقط في عام .2021ويمكن تفسير هذا الركود
إلى حد كبير بضعف النمو االقتصادي في المغرب ،فضًال عن العوامل األخرى التي ذكرت في
تقرير النموذج التنموي الجديد ،وهو تقييم صادر عن لجنة خاصة معنية بالتنمية صدر عام .2021وحدد
هذا التقرير أربعة عوامل رئيسية حدت من النمو:
.1غياب التناسق العمودي بين الرؤية التنموية والسياسات العمومية المتبعة وضعف اإللتقائية بين هذه
السياسات؛
.2بطء التحول الهيكلي لالقتصاد نتيجة التكاليف المرتفعة لعوامل اإلنتاج وعدم االنفتاح على فاعلين جدد
ذوي قدرات على االبتكار والمنافسة؛
.3محدودية قدرة القطاع العمومي على تصميم وتنفيذ خدمات عمومية سهلة الولوج وذات جودة في
المجاالت األساسية للحياة اليومية للمواطنين؛
.4الشعور بضعف الحماية القضائية وعدم القدرة على التوقع مما يحد من المبادرات ،بسبب وجود فجوة
بين بعض القوانين ذات “المناطق الرمادية” والواقع االجتماعي؛ عدالة تعاني من ضعف ثقة المواطنين
ومن جهاز بيروقراطي وسبل انتصاف غير فعالة.
بعد عام 2008سنة األزمة المالية العالمية ،نظًر ا لعدم قدرة االقتصاد المغربي على رفع مستوى الدخل
السنوي للفرد ،أصبحت معدالت التضخم المرتفعة مصدر قلق أكبر .وخالل احتجاجات الربيع
العربي ،تظاهرت “حركة 20فبراير” ضد ارتفاع األسعار .في عام ُ ،2022نظمت مسيرات لالحتفال
بذكرى “حركة 20فبراير” ونظمت احتجاجات ضد األسعار المرتفعة ،كأن التاريخ يعيد نفسه .لكن هذه
المرة ،كانت هناك عوامل أخرى لعبت دوًرا أيًض ا ،وساهمت في معدل التضخم المرتفع :الجفاف،
وتأثيرات كوفيد ،19والحرب الروسية على أوكرانيا ،والتي تسببت في ارتفاع حاد في أسعار الطاقة،
وهناك أيًض ا موجة التضخم الكبيرة التي نشأت في االقتصادات المتقدمة.
أدت أزمة كوفيد ،19إلى جانب ركود الناتج المحلي الفردي السنوي على مدى العقد الماضي ،إلى إرهاق
الطبقتين المتوسطة والعاملة .كما أثرت هذه الوضعية بشكل خاص على العاملين في القطاع غير المهيكل،
الذي يمثل 30في المائة من الناتج المحلي اإلجمالي ،ويشغل 70في المائة من العمالة في البالد .يضع
التضخم في ظل هذه الظروف عبًئا ثقياًل على العائالت والمقاوالت ،ويمكن أن يضعف االستقرار
االجتماعي ،حسب ما يخبرنا به التاريخ البعيد والحديث.
لدى الحكومة الحالية فرصة قصيرة األمد لمعالجة مشكلة التضخم قبل أن تسوء األمور .رغم أن المغرب
قد يبدو مستقرًا ،إال إن التاريخ يشير إلى أن هذا االستقرار لن يستمر ،وأن المزاج الشعبي في الشارع
يمكن أن يتغير بسرعة .وسبق أن انتشرت في المالعب هتافات تطالب برحيل رئيس الحكومة ،بسبب
الظروف الراهنة وبسبب غياب التواصل من طرف الحكومة .إن وقت التصرف والعمل هو اآلن.